الثلاثاء، 4 أكتوبر 2022

ج11.وج12.مفاتيح الغيب للرازي

 

 ج11.وج12.مفاتيح الغيب للرازي

ج11.وج12.مفاتيح الغيب ـ ترقيم الشاملة موافق للمطبوع
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي الشافعي

وفي تعلق هذه الآية بما قبلها وجهان الأول أنه تعالى لما ذكر أنه يغني كلاً من سعته وأنه واسع أشار إلى ما هو كالتفسير لكونه واسعاً فقال وَاللَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ يعني من كان كذلك فإنه لا بدّ وأن يكون واسع القدرة والعلم والجود والفضل والرحمة الثاني أنه تعالى لما أمر بالعدل والإحسان إلى اليتامى والمساكين بيّن أنه ما أمر بهذه الأشياء لاحتياجه إلى أعمال العباد لأن مالك السماوات والأرض كيف يعقل أن يكون محتاجاً إلى عمل الإنسان مع ما هو عليه من العضف والقصور بل إنما أمر بها رعاية لما هو الأحسن لهم في دنياهم وأخراهم
ثم قال تعالى وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللَّهَ وفيه مسائل
المسأالة الأولى المراد بالآية أن الأمر بتقوى الله شريعة عامة لجميع الأمم لم يلحقها نسخ ولا تبديل بل هو وصية الله في الأولين والآخرين
المسألة الثانية قوله مِن قَبْلِكُمْ فيه وجهان الأول أنه متعلق بوصينا يعني ولقد وصينا من قبلكم الذين أوتوا الكتاب والثاني أنه متعلق بأوتوا يعني الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وصيناهم بذلك وقوله وَإِيَّاكُمْ بالعطف على الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ والكتاب اسم للجنس يتناول الكتب السماوية والمراد اليهود والنصارى
المسألة الثالثة قوله أَنِ اتَّقُواْ اللَّهَ كقولك أمرتك الخير قال الكسائي يقال أوصيتك أن أفعل كذا وأن تفعل كذا ويقال ألم آمرك أن ائت زيداً وأن تأتي زيداً قال تعالى أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ( الأنعام 14 ) وقال إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبّ هَذِهِ الْبَلْدَة ِ ( النمل 91 )
ثم قال تعالى وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيّاً حَمِيداً قوله وَإِن تَكْفُرُواْ عطف على قوله اتَّقُواْ اللَّهَ والمعنى أمرناهم وأمرناكم بالتقوى وقلنا لهم ولكم إن تكفروا فإن لله ما في السموات وما في الأرض وفيه وجهان الأول أنه تعالى خالقهم ومالكهم والمنعم عليهم بأصناف النعم كلها فحق كل عاقل أن يكون منقاداً لأوامره ونواهيه يرجو ثوابه ويخاف عقابه والثاني أنكم إن تكفروا فإن لله ما في سمواته وما في أرضه من أصناف المخلوقات من يعبده ويتقيه وكان مع ذلك غنياً عن خلقهم وعن عبادتهم ومستحقاً لأن يحمد لكثرة نعمه وإن لم يحمده أحد منهم فهو في ذاته محمود سواء حمدوه أو لم يحمدوه
ثم قال تعالى وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً
فإن قيل ما الفائدة في تكرير قوله وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ
قلنا إنه تعالى ذكر هذه الكلمات في هذه الآية ثلاث مرات لتقرير ثلاثة أمور فأولها أنه تعالى قال وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مّن سَعَتِهِ ( النساء 130 ) والمراد منه كونه تعالى جواداً متفضلاً فذكر عقيبه قوله وَاللَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ والغرض تقرير كونه واسع الجود والكرم وثانيها قال وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ والمراد منه أنه تعالى منزّه عن طاعات المطيعين وعن ذنوب المذنبين فلا يزذاذ جلاله بالطاعات ولا ينقص بالمعاصي والسيئات فذكر عقيبه قوله فَإِنَّ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ

والغرض منه تقرير كونه غنياً لذاته عن الكل وثالثها قال وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِاخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذالِكَ قَدِيراً والمراد منه أنه تعالى قادر على الإفناء والإيجاد فإن عصيتموه فهو قادر على إعدامكم وإفنائكم بالكلية وعلى أن يوجد قوماً آخرين يشتغلون بعبوديته وتعظيمه فالغرض ههنا تقدير كونه سبحانه وتعالى قادراً على جميع المقدورات وإذا كان الدليل الواحد دليلاً على مدلولات كثيرة فإنه يحسن ذكر ذلك الدليل ليستدل به على أحد تلك المدلولات ثم يذكره مرة أخرى ليستدل به على الثاني ثم يذكره ثالثاً ليستدل به على المدلول الثالث وهذه الإعادة أحسن وأولى من الاكتفاء بذكر الدليل مرة واحدة لأن عند إعادة ذكر الدليل يخطر في الذهن ما يوجب العلم بالمدلول فكان العلم الحاصل بذلك المدلول أقوى وأجلى فظهر أن هذا التكرير في غاية الحسن والكمال وأيضاً فإذا أعدته ثلاث مرات وفرعت عليه في كل مرة إثبات صفة أخرى من صفات جلال الله تنبه الذهن حينئذٍ لكون تخليق السموات والأرض دالاً على أسرار شريفة ومطالب جليلة فعند ذلك يجتهد الإنسان في التفكر فيها والاستدلال بأحوالها وصفاتها على صفات الخالق سبحانه وتعالى ولما كان الغرض الكلي من هذا الكتاب الكريم صرف العقول والأفهام عن الاشتغال بغير الله إلى الاستغراق في معرفة الله وكان هذا التكرير مما يفيد حصول هذا المطلوب ويؤكده لا جرم كان في غاية الحسن والكمال وقوله وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذالِكَ قَدِيراً معناه أنه تعالى لم يزل ولا يزال موصوفاً بالقدرة على جميع المقدورات فإن قدرته على الأشياء لو كانت حادثة لافتقر حدوث تلك القدرة إلى قدرة أخرى ولزم التسلسل
ثم قال تعالى مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالاْخِرَة ِ والمعنى أن هؤلاء الذين يريدون بجهادهم الغنيمة فقط مخطئون وذلك لأن عند الله ثواب الدنيا والآخرة فلم اكتفى بطلب ثواب الدنيا مع أنه كان كالعدم بالنسبة إلى ثواب الآخرة ولو كان عاقلاً لطلب ثواب الآخرة حتى يحصل له ذلك ويحصل له ثواب الدنيا على سبيل التبع
فإن قيل كيف دخل الفاء في جوب الشرط وعنده تعالى ثواب الدنيا والآخرة سواء حصلت هذه الإرادة أو لم تحصل
قلنا تقرير الكلام فعند الله ثواب الدينا والآخرة له إن أراده الله تعالى وعلى هذا التقدير يتعلق الجزاء بالشرط
ثم قال وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً يعني يسمع كلامهم أنهم لا يطلبون من الجهاد سوى الغنيمة ويرى أنهم لا يسعون في الجهاد ولا يجتهدون فيه إلا عند توقع الفوز بالغنيمة وهذا كالزجر منه تعالى لهم عن هذه الأعمال
يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءِ للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالاٌّ قْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً

في الآية مسائل
المسألة الأولى في اتصال الآية بما قبلها وجوه الأول أنه لما تقدم ذكر النساء والنشوز والمصالحة بينهن وبين الأزواج عقبه بالأمر بالقيام بأداء حقوق الله تعالى وبالشهادة لإحياء حقوق الله وبالجملة فكأنه قيل إن اشتغلت بتحصيل مشتهياتك كنت لنفسك لا لله وءن اشتغلت بتحصيل مأمورات الله كنت ( صلى الله عليه وسلم ) لا لنفسك ولا شك أن هذا المقام أعلى وأشرف فكانت هذه الآية تأكيداً لما تقدم من التكاليف الثاني أن الله تعالى لما منع الناس عن أن يقصروا عن طلب ثواب الدنيا وأمرهم بأن يكونوا طالبين لثواب الآخرة ذكر عقيبه هذه الآية وبين أن كمال سعادة الإنسان في أن يكون قوله لله وفعله لله وحركته لله وسكونه لله حتى يصير من الذين يكونون في آخر مراتب الإنسانية وأول مراتب الملائكة فأما إذا عكس هذه القضية كان مثل البهيمة التي منتهى أمرها وجدان علف أو السبعالذي غاية أمره إيذاء حيوان الثالث أنه تقدم في هذه السورة أمر الناس بالقسط كما قال وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِى الْيَتَامَى ( النساء 3 ) وأمرهم بالإشهاد عن دفع أموال اليتامى إليهم وأمرهم بعد ذلك ببذل النفس والمال في سيل الله وأجرى في هذه السورة قصة طعمة بن أبيرق واجتماع قومه على الذب عنه بالكذب والشهادة على اليهودي بالباطل ثم إنه تعالى أمر في هذه الآيات بالمصالحة مع الزوجة ومعلوم أن ذلك أمر من الله لعباده بأن يكونوا قائمين بالقسط شاهدين لله على كل أحد بل وعلى أنفسهم فكانت هذه الآية كالمؤكد لكل ما جرى ذكره في هذه السورة من أنواع التكاليف
المسألة الثانية القوام مبالغة من قائم والقسط العدل فهذا أمر منه تعالى لجميع المكلفين بأن يكونوا مبالغين في اختيار العدل والاحتراز عن الجور والميل وقوله شُهَدَاء للَّهِ أي تقيمون شهاداتكم لوجه الله كما أمرتم بإقامتها ولو كانت الشهادة على أنفسكم أو آبائكم أو أقاربكم وشهادة الإنسان على نفسه لها تفسيران الأول أن يقر نفسه لأن الإقرار كالشهادة في كونه موجباً إلزام الحق والثاني أن يكون المراد وإن كانت الشهادة وبالاً على أنفسكم وأقاربكم وذلك أن يشهد على من يتوقع ضرره من سلطان ظالم أو غيره
المسألة الثالثة في نصب شُهَدَاء ثلاثة أوجه الأول على الحال من قَوَّامِينَ والثاني أنه خبر على أن كُونُواْ لها خبران والثالث أن تكون صفة لقوامين
المسألة الرابعة إنما قدم الأمر بالقيام بالقسط على الأمر بالشهادة لوجوه الأول أن أكثر الناس عادتهم أنهم يأمرون غيرهم بالمعروف فإذا آل الأمر إلى أنفسهم تركوه حتى أن أقبح القبيح إذا صدر عنهم كان في محل المسامحة وأحسن الحسن وإذا صدر عن غيرهم كان في محل المنازعة فالله سبحانه نبّه في هذه الآية على سوء هذه الطريقة وذلك أنه تعالى أمرهم بالقيام بالقسط أولاً ثم أمرهم بالشهادة على الغير ثانياً تنبيهاً على أن الطريقة الحسنة أن تكون مضايقة الإنسان مع نفسه فوق مضايقته مع الغير الثاني أن القيام بالقسط عبارة عن دفع ضرر العقاب عن الغير وهو الذي عليه الحق ودفع الضرر عن النفس مقدم على دفع

الضرر عن الغير الثالث أن القيام بالقسط فعل والشهادة قول والفعل أقوى من القول
فإن قيل ءنه تعالى قال شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَائِكَة ُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِمَاً بِالْقِسْطِ ( آل عمران 18 ) فقدم الشهادة على القيام بالقسط وههنا قدم القيام بالقسط فما الفرق
قلنا شهادة الله تعالى عبارة عن كونه تعالى خالقاً للمخلوقات وقيامه بالقسط عبارة عن رعاية القوامين بالعدل في تلك المخلوقات فيلزم هناك أن تكون الشهادة مقدمة على القيام بالقسط أما في حق العباد فالقيام بالقسط عبارة عن كونه مراعياً للعدل وميايناً للجور ومعلوم أنه ما لم يكون الإنسان كذلك لم تكن شهادته على الغير مقبولة فثبت أن الواجب في قوله شَهِدَ اللَّهُ أن تكون تلك الشهادة مقدمة على القيام بالقسط والواجب ههنا أن تكون الشهادة متأخرة عن القيام بالقسط ومن تأمل علم أن هذه الأسرار مما لا يمكن الوصول إليها إلا بالتأييد الإلهي والله أعلم
ثم قال تعالى إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا أي إن يكن المشهود عليه غنياً أو فقيراً فلا تكتموا الشهادة إما لطلب رضا الغنى أو الترحم على الفقير فالله أولى بأمورهما ومصالحهما وكان من حق الكلام أن يقال فالله أولى به لأن قوله إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً في معنى أن يكن أحد هذين إلا أنه بنى الضمير على الرجوع إلى المعنى دون اللفظ أي الله أولى بالفقير والغني وفي قراءة أبي فالله أولى بهم وهو راجع إلى قوله أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالاْقْرَبِينَ وقرأ عبد الله إن يكن غني أو فقير على ( كان ) التامة
ثم قال تعالى فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ والمعنى اتركوا متابعة الهوى حتى تصيروا موصوفيه بصفة العدل وتحقيق الكلام أن العدل عبارة عن ترك متابعة الهوى ومن ترك أحد النقيضين فقد حصل له الآخر فتقدير الآية فلا تتبعوا الهوى لأجل أن تعدلوا يعني اتركوا متابعة الهوى لأجل أن تعدلوا
ثم قال تعالى وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً وفي الآية قراءتان قرأ الجمهور وَإِن تَلْوُواْ بواوين وقرأ ابن عامر وحمزة تلوا وأما قراءة تلووا ففيه وجهان أحدهما أن يكون بمعنى الدفع والاعراض من قولهم لواه حقه إذا مطله ودفعه الثاني أن يكون بمعنى التحريف والتبديل من قولهم لوى الشيء إذا فتله ومنه يقال التوى هذا الأمر إذا تعقد وتعسر تشبيهاً بالشيء المنفتل وأما تلوا ففيه وجهان الأول أن ولاية الشيء إقبال عليه واشتغال به والمعنى أن تقبلوا عليه فتتموه أو تعرضوا عنه فإن الله كان بما تعلمون خبيراً فيجازى المسحن المقبل بإحسانه والمسيء المعرض بإساءته والحاصل إن تلووا عن إقامتها أو تعرضوا عن إقامتها والثاني قال الفرّاء والزجاج يجوز أن يقال تلوا أصله تلووا ثم قبلت الواو همزة ثم حذفت الهمزة وألقيت حركتها على الساكن الذي قبلها فصار وَإِن تَلْوُواْ وهذا أضعف الوجهين وأما قوله فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْلَمُونَ خَبِيراً فهو تهديد ووعيد للمذنبين ووعد بالإحسان للمطيعين
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ ءَامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِى نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِى أَنَزلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً بَعِيداً

وفي مسائل
المسألة الأولى في اتصال هذه الآية بما قبلها وجهان الأول أنها متصلة بقوله كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ وذلك لأن الإنسان لا يكون قائماً بالقسط إلا إذا كان راسخ القدم في الإسمان بالأشياء المذكورة في هذه الآية وثانيهما أنه تعالى لما بيّن الأحكام الكثيرة في هذه السورة ذكر عقيبها آية الأمر بالإيمان
المسألة الثانية أعلم أن ظاهر قوله تعالى خَبِيراً يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ ءامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ مشعر بأنه أمر بتحصيل الحاصل ولا شك أنه محال فلهذا السبب ذكر المفسرون في وجوهاً وهي منحصرة في قولين الأول أن المراد بقوله تعالى ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ المسلمون ثم في تفسير الآية تفريعاً على هذا القول وجوه الأول أن المراد منه يا أيها الذين آمنوا دوموا على الإيمان واثبتوا عليه وحاصله يرجع إلى هذا المعنى يا أيها الذين آمنوا في الماضي والحاضر آمنوا في المستقبل ونظيره قوله فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إله إِلائَ اللَّهِ ( محمد 19 ) مع أنه كان عالماً بذلك وثانيها يا أيها الذين آمنوا على سبيل التقليد آمنوا على سبيل الاستدلال وثالثها يا أيها الذين آمنوا بحسب الاستدلالات الجميلة آمنوا بحسب الدلائل التفصيلية ورابعها يا أيها الذين آمنوا بالدلائل التفصيلية بالله وملائكته وكتبه ورسله آمنوا بأن كنه عظمة الله لا تنتهي إليه عقولكم وكذلك أحوال الملائكة وأسرار الكتب وصفات الرسل لا تنتهي إليها على سبيل التفصيل عقولنا وخامسها روي أن جماعة من أحبار اليهود جاؤوا إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقالوا يا رسول الله إنا نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراة وعزير ونكفر بما بمواه من الكتب والرسل فقال ( صلى الله عليه وسلم ) بل آمنوا بالله وبرسله وبمحمد وبكتابه القرآن وبكل كتاب كان قبله فقالوا لا نفعل فنزلت هذه الآية فكلهم آمنوا
القول الثاني أن المخاطبين بقوله ءامَنُواْ ليس هم المسلمون وفي تفسير الآية تفريعاً على هذا القول وجوه الأول أن الخطاب مع اليهود والنصارى والتقدير يا أيها الذين آمنوا بموسى والتوراة وعيسى والإنجيل آمنوا بمحمد والقرآن وثانيها أن الخطاب مع المنافقين والتقدير يا أيها الذين آمنوا باللسان رمنوا بالقلب ويتأكد هذا بقوله تعالى مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ ءامَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ ( المائدة 41 ) وثالثها أنه خطاب مع الذين آمنوا وجه النهار وكفروا آخره والتقدير يا أيها الذين آمنوا وجه النهار آمنوا أيضاً آخره ورابعها أنه خطاب للمشركين تقديره يا أيها الذين آمنوا بالّلات والعزى آمنوا بالله وأكثر العلماء رجّحوا القول الأول لأن لفظ المؤمن لا يتناول عند الإطلاق إلا المسلمين
المسألة الثالثة قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وَالْكِتَابِ الَّذِى نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِى أَنَزلَ على ما لم يسم فاعله والباقون ( نزل وأنزل ) بالفتح فمن ضم فحجته قوله تعالى لِتُبَيّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ وقال في آية أخرى وَالَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مّن رَّبّكَ ( الأنعام 114 ) ومن فتح فحجته قوله إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ وقوله وَأَنزَلْنَا الذّكْرِ وقال بعض العلماء كلاهما حسن إلا أن الضم إفخم كما في قوله وَقِيلَ ياأَرْضُ أَرْضُ ابْلَعِى مَاءكِ ( هود 44 )

المسألة الرابعة اعلم أنه أمر في هذه الآية بالإيمان بأربعة أشياء أولها بالله وثانيها برسوله وثالثها بالكتاب الذي نزل على رسوله ورابعها بالكتاب الذي أنزل من قبل وذكر في الكفر أموراً خمسة فأولها الكفر بالله وثانيها الكفر بملائكته وثالثها الكفر بكتبه ورابعها الكفر برسله وخامسها الكفر باليوم الآخر
ثم قال تعالى فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً بَعِيداً وفي الآية سؤالات
السؤال الأول لم قدم في مراتب الإيمان ذكر الرسول على ذكر الكتاب وفي مراتب الكفر قلب القضية
الجواب لأن في مرتبة النزول من معرفة الخالق إلى الخلق كان الكتاب مقدماً على الرسول وفي مرتبة العروج من الخلق إلى الخالق يكون الرسول مقدماً على الكتاب
السؤال الثاني لم ذكر في مراتب الإيمان أموراً ثلاثة الإيمان بالله وبالرسول وبالكتب وذكر في مراتب الكفر أموراً خمسة الكفر بالله وبالملائكة وبالكتب وبالرسل وباليوم الآخر
والجواب أن الإيمان بالله وبالرسل وبالكتب متى حصل فقد حصل الإيمان بالملائكة واليوم الآخر لا محالة إذ ربما ادعى الإنسان أنه يؤمن بالله وبالرسل وبالكتب ثم إنه ينكر الملائكة وينكر اليوم الآخر ويزعم أنه يجعل الآيات الواردة في الملائكة وفي اليوم الآخر محمولة على التأويل فلما كان هذا الاحتمال قائماً لا جرم نص أن منكر الملائكة ومنكر القيامة كافر بالله
السؤال الثالث كيف قيل لأهل الكتب وَالْكِتَابِ الَّذِى أَنَزلَ مِن قَبْلُ مع أنهم ما كانوا كافرين بالتوراة والإنجيل بل مؤمنين بهما
والجواب عنه من وجهين الأول أنهم كانوا مؤمنين بهما فقط وما كانوا مؤمنين بكل ما أنزل من الكتب فأمروا أن يؤمنوا بكل الكتب المنزلة الثاني أن إيمانهم ببعض الكتب دون البعض لا يصح لأن طريق الإيمان هو المعجزة فإذا كانت المعجزة حاصلة في الكل كان ترك الإيمان بالبعض طعناً في المعجزة وإذا حصل الطعن في المعجزة امتنع التصديق بشيء منها وهذا هو المراد بقوله تعالى وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذالِكَ سَبِيلاً أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً ( النساء 150 151 )
السؤال الرابع لم قال نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَأَنزَلَ مِنَ قَبْلُ
والجواب قال صاحب ( الكشاف ) لأن القرآن نزل مفرقاً منجماً في عشرين سنة بخلاف الكتب قبله وأقول الكلام في هذا سبق في تفسير قوله تعالى نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاة َ وَالإِنجِيلَ مِن قَبْلُ ( آل عمران 3 4 )
السؤال الخامس قوله وَالْكِتَابِ الَّذِى أَنَزلَ مِن قَبْلُ لفظ مفرد وأي الكتب هو المراد منه
الجواب أنه اسم جنس فيصلح للعموم

إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً
فيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما أمر بالإيمان ورغب فيه بين فساد طريقة من يكفر بعد الإيمان فذكر هذه الآية
واعلم أن فيها أقوالاً كثيرة الأول أن المراد منه الذين يتكرر منهم الكفر بعد الإيمان مرات وكرات فإن ذلك يدل على أنه لا وقع للإيمان في قلوبهم إذ لو كان للإيمان وقع ورتبة في قلوبهم لما تركوه بأدنى سبب ومن لا يكون للإيمان في قلبه وقع فالظاهر أنه لا يؤمن بالله إيماناً صحيحاً معتبراً فهذا هو المراد بقوله لَّمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وليس المراد أنه لو أتى بالإيمان الصحيح لم يكن معتبراً بل المراد منه الاستبعاد والاستغراب على الوجه الذي ذكرناه وكذلك نرى الفاسق الذي يتوب ثم يرجع ثم يتوب ثم يرجع فإنه لا يكاد يرجى منه الثبات والغالب أنه يموت على الفسق فكذا ههنا الثاني قال بعضهم اليهود آمنوا بالتوراة وبموسى ثم كفروا بعزير ثم آمنوا بداود ثم كفروا بعيسى ثم ازدادوا كفراً عند مقدم محمد عليه الصلاة والسلام الثالث قال آخرون المراد المنافقون فالإيمان الأول إطهارهم الإسلام وكفرهم بعد ذلك هو نفاقهم وكون باطنهم على خلاف ظاهرهم والإيمان الثاني هو أنهم كلما لقوا جمعاً من المسلمين قالوا إنا مؤمنون والكفر الثاني هو أنهم إذا دخلوا على شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤون وازديادهم في الكفر هو جدهم واجتهادهم في استخراج أنواع المكر والكيد في حق المسلمين وإظهار الإيمان قد يسمى إيماناً قال تعالى وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ( البقرة 221 ) قال القفال رحمة الله عليه وليس المراد بيان هذا العدد بل المراد ترددهم كما قال مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذالِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء ( النساء 143 ) قال والذي يدل عليه قوله تعالى بعد هذه الآية بَشّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً الرابع قال قوم المراد طائفة من أهل الكتاب قصدوا تشكيك المسلمين فكانوا يظهرون الإيمان تارة والكفر أخرى على ما أخبر الله تعالى عنهم أنهم قالوا وَقَالَت طَّائِفَة ٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ءامِنُواْ بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَجْهَ ( آل عمران 72 ) وقوله ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً معناه أنهم بلغوا في ذلك إلى حد الاستهزاء والسخرية بالإسلام
المسألة الثانية دلّت الآية على أنه قد يحصل الكفر بعد الإيمان وهذا يبطل مذهب القائلين بالموافاة وهي أن شرط صحة الإسلام أن يموت على الإسلام وهم يجيبون عن ذلك بأنا نحمل الإيمان على إظهار الإيمان
المسألة الثالثة دلت الآية على أن الكفر يقبل الزيادة والنقصان فوجب أن يكون الإيمان أيضاً كذلك لأنهما ضدان متنافيان فإذا قبل أحدهما التفاوت فكذلك الآخر وذكروا في تفسير هذه الزيادة وجوهاً

الأول أنهم ماتوا على كفرهم الثاني أنهم ازدادوا كفراً بسبب ذنوب أصابوها حال كفرهم وعلى هذا التقدير لما كانت إصابة الذنوب وقت الكفر زيادة في الكفر فكذلك إصابة الطاعات وقت الإيمان يجب أن تكون زيادة في الإيمان الثالث أن الزيادة في الكفر إنما حصلت بقولهم إِنَّمَا نَحْنُ ( البقرة 14 ) وذلك يدل على الاستهزاء بالدين أعظم درجات الكفر وأقوى مراتبه
ثم قال تعالى كُفْراً لَّمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وفيه سؤالان الأول أن الحكم المذكور في هذه الآية إما أن يكون مشروطاً بما قبل التوبة يأو بما بعدها والأول باطل لأن الكفر قبل التوبة غير مذكور على الإطلاق وحينئذ تضيع هذه الشرائط المذكورة في هذه الآية والثاني أيضاً باطل لأن الكفر بعد التوبة مغفورة ولو كان ذلك بعد ألف مرة فعلى كلا التقديرين فالسؤال لازم
والجواب عنه من وجوه الأول أنا لا نحمل قوله إِنَّ الَّذِينَ على الاستغراق بل نحمله على المعهود السابق والمراد به أقوام معينون علم الله تعالى منهم أنهم يموتون على الكفر ولا يتوبون عنه قط فقوله لَّمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ إخبار عن موتهم على الكفر وعلى هذا التقدير زال السؤال الثاني أن الكلام خرج على الغالب المعتاد وهو أن كل من كان كثير الانتقال من الإسلام إلى الكفر لم يكن للإسلام في قلبه وقع ولا عظم والظاهر من حال مثل هذا الإنسان أنه يموت على الكفر على ما قررناه الثالث أن الحكم المذكور في الآية مشروط بعدم التوبة عن الكفر وقول السائل إن على هذا التقدير تضيع الصفات المذكورة
قلنا إن إفرادهم بالذكر يدل على كفرهم أفحش وخيانتهم أعظم وعقوبتهم في القيامة أقوى فجرى هذا مجرى قوله وَإِذَا أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ ( الأحزاب 7 ) خصهما بالذكر لأجل التشريف وكذلك قوله وَمَلَئِكَتُهُ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ( البقرة 98 )
السؤال الثاني في قوله لِيَغْفِرَ لَهُمْ اللام للتأكيد فقوله لَّمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ يفيد نفي التأكيد وهذا غير لائق بهذا الموضع إنما اللائق به تأكيد النفي فما الوجه فيه
والجواب أن نفي التأكيد إذا ذكر على سبيل التهكم كان المراد منه المبالغة في تأكيد النفي
ثم قال تعالى وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً قال أصحابنا هذا يدل على أنه سبحانه وتعالى لم يهد الكافر إلى الإيمان خلافاً للمعتزلة وهم أجابوا عنه بأنه محمول على المنع من زيادة اللطف أو على أنه تعالى لا يهديه في الآخرة إلى الجنة
ثم قال تعالى بَشّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً
واعلم أن من حمل الآية المتقدمة على المنافقين قال إنه تعالى بيّن أنه لا يغفر لهم كفرهم ولا يهديهم إلى الجنة ثم قال وكما لا يوصلهم إلى دار الثواب فإنه مع ذلك يوصلهم إلى أعظم أنواع العقاب وهو المراد من قوله بَشّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً وقوله بُشّرَ تهكم بهم والعرب تقول تحيتك الضرب وعتابك السيف

ثم قال تعالى
الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّة َ فَإِنَّ العِزَّة َ للَّهِ جَمِيعاً
الَّذِينَ نصب على الذم بمعنى أريد الذين أو رفع بمعنى هم الذين واتفق المفسرون على أن المراد بالذين يتخذون المنافقون وبالكافرين اليهود وكان المنافقون يوالونهم ويقول بعضهم لبعض إن أمر محمد لا يتم فيقول اليهود بأن العزة والمنعة لهم
ثم قال تعالى أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّة َ قال الواحدي أصل العزة في اللغة الشدة ومنه قيل للأرض الصلبة الشديدة غزاز ويقال قد استعز المرض على المريض إذا اشتد مرضه وكاد يأن يهلك وعز الهم اشتد ومنه عز على أن يكون كذا بمعنى اشتد وعز الشيء إذا قل حتى لا يكاد يوجد لأنه اشتد مطلبه واعتز فلان بفلان إذا اشتد ظهره به وشاة عزوز التي يشتد حلبها ويصعب والعزة القوة منقولة من الشدة لتقارب معنييهما والعزيز القوي المنيع بخلاف الذليل
إذا عرفت هذا فنقول إن المنافقين كانوا يطلبون العزة والقوة بسبب اتصالهم باليهود ثم إنه تعالى أبطل عليهم هذا الرأي بقوله فَإِنَّ العِزَّة َ للَّهِ جَمِيعاً
فإن قيل هذا كالمناقض لقوله وَلِلَّهِ الْعِزَّة ُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ( المنافقين 8 )
قلنا القدرة الكاملة لله وكل من سواه فباقداره صار قادراً وبإعزازه صار عزيزاً فالعزة الحاصلة للرسول عليه الصلاة والسلام وللمؤمنين لم تحصل إلا من الله تعالى فكان الأمر عند التحقيق أن العزة جميعاً لله ثم قال تعالى
وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِى الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءَايَاتِ اللَّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِى جَهَنَّمَ جَمِيعاً
قال المفسرون إن المشركين كانوا في مجالسهم يخوضون في ذكر القرآن ويستهزئون به فأنزل الله تعالى وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِى ءايَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ ( الأنعام 68 ) وهذه الآية نزلت بمكة ثم إن أحبار اليهود بالمدينة كانوا يفعلون مثل فعل المشركين والقاعدون معهم والموافقون لهم على ذلك الكلام هم المنافقون فقال تعالى مخاطباً للمنافقين إنه قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِى الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءايَاتِ اللَّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا

والمعنى إذا سمعتم الكفر بآيات الله والاستهزاء بها ولكن أوقع فعل السماع على الآيات والمراد به سماع الاستهزاء قال الكسائي وهو كما يقال سمعت عبدالله يلام وعندي فيه وجه آخر وهو أن يكون المعنى إذا سمعتم آيات الله حال ما يكفر بها ويستهزأ بها وعلى هذا التقدير فلا حاجة إلى ما قال الكسائي فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غير الكفر والاستهزاء
ثم قال إِنَّكُمْ إِذاً مّثْلُهُمْ
والمعنى أيها المنافقون أنتم مثل أولئك الأحبار في الكفر قال أهل العلم هذا يدل على أن من رضي بالكفر فهو كافر ومن رضي بمنكر يراه وخالط أهله وإن يباشر كان في الإثم بمنزلة المباشر بدليل أنه تعالى ذكر لفظ المثل ههنا هذا إذا كان الجالس راضياً بذلك الجلوس فأما إذا كان ساخطاً لقولهم وإنما جلس على سبيل التقية والخوف فالأمر ليس كذلك ولهذه الدقيقة قلنا بأن المنافقين الذين كانوا يجالسون اليهود وكانوا يطعنون في القرآن والرسول كانوا كافرين مثل أولئك اليهود والمسلمون الذين كانوا بالمدينة كانوا بمكة يجالسون الكفار الذين كانوا يطعنون في القرآن فإنهم كانوا باقين على الإيمان والفرق أن المنافقين كانوا يجالسون اليهود مع الاختيار والمسلمين كانوا يجالسون الكفار عند الضرورة
ثم إنه تعالى حقق كون المنافقين مثل الكافرين في الكفر فقال إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِى جَهَنَّمَ جَمِيعاً
يريد كما أنهم اجتمعوا على الاستهزاء بآيات الله في الدنيا فكذلك يجتمعون في عذاب جهنم يوم القيامة وأراد جامع بالتنوين لأنه بعد ما جمعهم ولكن حذف التنوين استخفافاً من اللفظ وهو مراد في الحقيقة
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً
إعلم أن قوله الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ أما بدل من الذين يتخذون وإما صفة للمنافقين وإما نصب على الذم وقوله يَتَرَبَّصُونَ أي ينتظرون ما يحدث من خير أو شر فإن كان لكم فتح أي ظهور على اليهود قالوا للمؤمنين ألم نكن معكم أي فأعطونا قسماً من الغنيمة وإن كان للكافرين يعني اليهود نصيب أي ظفر على المسلمين قالوا ألم نستحوذ عليكم يقال استحوذ على فلان أي غلب عليه وفي تفسير هذه

الآية وجهان الأول أن يكون بمعنى ألم نغلبكم ونتمكن من قتلكم وأسركم ثم لم نفعل شيئاً من ذلك ونمنعكم من المسلمين بأن ثبطناهم عنكم وخيلنا لهم ما ضعفت به قلوبهم وتوانينا في مظاهرتهم عليكم فهاتوا لنا نصيباً مما أصبتم الثاني أن يكون المعنى أن أولئك الكفار واليهود كانوا قد هموا بالدخول في الإسلام ثم إن المنافقين حذروهم عن ذلك وبالغوا في تنفيرهم عنه وأطعموه أنه سيضعف أمر محمد وسيقوى أمركم فإذا اتفقت لهم صولة على المسلمين قال المنافقون ألسنا غلبنانكم على رأيكم في الدخول في الإسلام ومنعناكم منه وقلنا لكم بأنه سيضعف أمره ويقوى أمركم فلما شاهدتم صدق قولنا فادفعوا إلينا نصيباً مما وجدتم والحاصل أن المنافقين يمنون على الكافرين بأنا نحن الذين أرشدناكم إلى هذه المصالح فادفعوا إلينا نصيباً مما وجدتم
فإن قيل لم سمي ظفر المسلمين فتحاً وظفر الكفار نصيباً
قلنا تعظيماً لشأن المؤمنين واحتقاراً لحظ الكافرين لأن ظفر المؤمنين أمر عظيم تفتح له أبواب السماء حتى تنزل الملائكة بالفتح على أولياء الله وأما ظفر الكافرين فما هو إلا حظ دنيء ينقضي ولا يبقى منه إلا الذم في الدنيا والعقوبة في العاقبة
ثم قال تعالى فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ أي بين المؤمنين والمنافقين والمعنى أنه تعالى ما وضع السيف في الدنيا عن المنافقين بل آخر عقابهم إلى يوم القيامة
ثم قال وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً وفيه قولان الأول وهو قول علي عليه السلام وابن عباس رضي الله عنهما أن المراد به في القيامة بدليل أنه عطف على قوله فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ الثاني أن المراد به في الدنيا ولكنه مخصوص بالحجة والمعنى أن حجة المسلمين غالبة على حجة الكل وليس لأحد أن يغلبهم بالحجة والدليل الثالث هو أنه عام في الكل إلا ما خصه الدليل وللشافعي رحمه الله مسائل منها أن الكافر إذا استولى على مال المسلم وأحرزه بداء الحرب لم يملكه بدلالة هذه الآية ومنها أن الكافر ليس له أن يشتري عبداً مسلماً بدلالة هذه الآية ومنها أن المسلم لا يقتل بالذمي بدلالة هذه الآية
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَواة ِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً
قوله تعالى إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ قد مرّ تفسير الخداع في سورة البقرة في قوله يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ ءامَنُوا ( البقرة 9 ) قال الزجاج في تفسير هذه الآية يُخَادِعُونَ اللَّهَ أي يخادعون رسول الله أي يظهرون له الإيمان ويبطنون الكفر كما قال إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ ( الفتح 10 ) وقوله وَهُوَ أي مجازيهم بالعقاب على خداعهم قال ابن عباس رضي الله عنهما إنه تعالى خادعهم الآخرة وذلك أنه تعالى يعطيهم نوراً كما يعطي المؤمنين فإذا وصلوا إلى الصراط انطفأ نورهم وبقوا في الظلمة ودليله قوله تعالى مُهْتَدِينَ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِى اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ ( البقرة 17 )
ثم قال تعالى إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ يعني وإذا قاموا إلى الصلاة مع المسلمين قاموا

كسالى أي متثاقلين متباطئين وهو معنى الكسل في اللغة وسبب ذلك الكسل أنهم يستثقلونها في الحال ولا يرجون بها ثواباً ولا من تركها عقاباً فكان الداعي للترك قوياً من هذه الوجوه والداعي إلى الفعل ليس إلا خوف الناس والداعي إلى الفعل متى كان كذلك وقع الفعل على وجه الكسل والفتور قال صاحب ( الكشاف ) قرىء كُسَالَى بضم الكاف وفتحها جمع كسلان كسكارى في سكران
ثم قال تعالى يُرَاءونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً والمعنى أنهم لا يقومون إلى الصلاة إلا لأجل الرياء والسمعة لا لأجل الدين
فإن قيل ما معنى المرآة وهي مفاعلة من الرؤية
قلنا إن المرائي يريهم عمله وهم يرونه استحسان ذلك العمل وفي قوله وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً وجوه الأول أن المراد بذكر الله الصلاة والمعنى أنهم لا يصلون إلا قليلاً لأنه متى لم يكن معهم أحد من الأجانب لم يصلوا وإذا كانوا مع الناس فعند دخول وقت الصلاة يتكلقون حتى يصيروا غائبين عن أعين الناس الثاني أن المراد بذكر الله أنهم كانوا في صلاتهم لا يذكرون الله إلا قليلاً وهو الذي يظهر مثل التكبيرات فأما الذي يخفى مثل القراءة والتسبيحات فهم لا يذكرونها الثالث المراد أنهم لا يذكرون الله في جميع الأوقات سواء كان ذلك الوقت وقت الصلاة أو لم يكن وقت الصلاة إلا قليلاً نادراً قال صاحب ( الكشاف ) وهكذا نرى كثيراً من المتظاهرين بالإسلام ولو صحبته الأيام والليالي لم تسمع منه تهليلة ولا تسبيحة ولكن حديث الدنيا يستغرق به أيامه وأوقاته لا يفتر عنه الرابع قال قتادة إنما قيل إلا قليلاً لأن الله تعالى لم يقبله وما رده الله تعالى فكثيره قليل وما قبله الله فقليله كثير ثم قال تعالى
مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذالِكَ لاَ إِلَى هَاؤُلا ءِ وَلاَ إِلَى هَاؤُلا ءِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً
وفيه مسائل
المسألة الأولى مذبذبين إما حال من قوله يراؤن أو من قوله لاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً ( النساء 142 ) ويحتمل أن يكون منصوباً على الذم
المسألة الثانية مذبذبين أي متحيرين وحقيقة المذبدب الذي يذب عن كلا الجانبين أي يرد ويدفع فلا يقر في جانب واحد إلا أن الذبذبة فيها تكرير وليس في الذب فكان المعنى كلما مال إلى جانب ذب عنه
وأعلم أن السبب في ذلك أن الفعل يتوقف على الداعي فإن كان الداعي إلى الفعل هو الأغراض المتعلقة بأحوال هذا العالم كثر التذبذب والاضطراب لأن منافع هذا العالم وأسبابه متغيرة سريعة التبدل وإذا كان الفعل تبعاً للداعي والداعي تبعاً للمقصود ثم إن المقصود سريع التبدل والتغير لزم وقوع التغير في

الميل والرغبة وربما تعارضت الدواعي والصوارف فيبقى الإنسان في الحيرة والتردد أما من كان مطلوبه في فعله إنشاء الخيرات الباقية واكتساب السعادات الروحانية وعلم أن تلك المطالب أمور باقية بريئة عن التغير والتبدل لا جرم كان هذا الإنسان ثابتاً راسخاً فلهذا المعنى وصف الله تعالى أهل الإيمان بالثبات فقال يُثَبّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( إبراهيم 27 ) وقال أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ( الرعد 28 ) وقال أَحَدٌ يأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّة ُ ( الفجر 26 )
المسألة الثالثة قرأ ابن عباس مُّذَبْذَبِينَ بكسر الذال الثانية والمعنى يذبذبون قلوبهم أو دينهم أو رأيهم بمعنى يتذبذبون كما جاء صلصل وتصلصل بمعنى وفي مصحف عبد الله بن مسعود متذبذبين وعن أبي جعفر مذبذبين بالدال المهملة وكأن المعنى أنهم تارة يكونون في دبة وتارة في أخرى فلا يبقون على دبة واحدة والدبة الطريقة وهي التي تدب فيها الدواب
المسألة الرابعة قوله بَيْنَ ذالِكَ أي بين الكفر والإيمان أو بين الكافرين والمؤمنين وكلمة ذالِكَ يشار به إلى الجماعة وقد تقدم تقريره في تفسير قوله عَوَانٌ بَيْنَ ذالِكَ ( البقرة 68 ) وذكر الكافرين والمؤمنين قد جرى في هذه القصة عند قوله الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ( النساء 139 ) وإذا جرى ذكر الفريقين فقد جرى ذكر الكفر والإيمان قال قتادة معنى الآية ليسوا مؤمنين مخلصين ولا مشركين مصرحين بالشرك
المسألة الخامسة احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الحيرة في الدين إنما تحصل بإيجاد الله تعالى وقالوا إن قوله مُّذَبْذَبِينَ يقتضي فاعلاً قد ذبذبهم وصيرهم متحيرين مترددين وذلك ليس باختيار العبد فإن الإنسان إذا وقع في قلبه الدواعي المتعارضة الموجبة للتردد والحيرة فلو أراد أن يدفع ذلك التردد عن نفسه لم يقدر عليه أصلاً ومن رجع إلى نفسه وتأمل في أحواله علم أن الأمر كما ذكرنا وإذا كانت تلك الذبذبة لا بدّ لها من فاعل وثبت أن فاعلها ليس هو العبد ثبت أن فاعلها هو الله تعالى فثبت أن الكل من الله تعالى
فإن قيل قوله تعالى لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء يقتضي ذمهم على ترك طريقة المؤمنين وطريقة الكافرين وذلك يقتضي أنه تعالى ما ذمهم على طريقة الكفار وإنه غير جائز
قلنا ءن طريقة الكفار وإن كانت خبيثة إلا أن طريقة النفاق أخبث منها ولذلك فإنه تعالى ذم الكفار في أول سورة البقرة في آيتين وذم المنافقين في بضع عشرة آية وما ذاك إلا أن طريقة النفاق أخبث من طريقة الكفار فهو تعالى إنما ذمهم لا لأنهم تركوا الكفر بل لأنهم عدلوا عنه إلى ما هو أخبث منه
ثم قال تعالى وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً واحتج أصحابنا بهذه الآية على قولهم من وجهين الأول أن ذكر هذا الكلام عقيب قوله مُّذَبْذَبِينَ يدل على أن تلك الذبذبة من الله تعلى وإلا لم يتصل هذا الكلام بما قبله والثاني أنه تصريح بأن الله تعالى تعالى أضله عن الدين قالت المعتزلة معنى هذا الإضلال سلب الألطاف أو هو عبارة عن حكم الله عليه بالضلال أو هو عبارة عن أن الله تعالى يضله يوم القيامة عن طريق الجنة وهذه الوجوه قد تكلمنا عليها مراراً

يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً
قوله تعالى سَبِيلاً يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ
أعلم أنه تعالى لما ذم المنافقين بأنهم مرة إلى الكفرة ومرة إلى المسلمين من غير أن يستقروا مع أحد الفريقين نهى المسلمين في هذه الآية أن يفعلوا مثل فعلهم فقال سَبِيلاً يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ والسبب فيه أن الأنصار بالمدينة كان لهم في بني قريظة رضاع وحلف ومودة فقالوا لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من نتولى فقال المهاجرين فنزلت هذه الآية
والوجه الثاني ما قاله القفال رحمه الله وهو أن هذا نهي للمؤمنين عن موالاة المنافقين يقول قد بينت لكم أخلاق المنافقين ومذاهبهم فلا تتخذوا منهم أولياء
ثم قال تعالى أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً
فإن حملنا الآية الأولى على أنه تعالى نهى المؤمنين عن موالاة الكفار كان معنى الآية أتريدون أن تجعلوا لله سلطاناً مبيناً على كونكم منافقين والمراد أتريدن أن تجعلوا لأهل دين الله وهم الرسول وأمته وإن حملنا الآية الأولى على المنافقين كان المعنى أتريدون أن تجعلوا لله عليكم في عقابكم حجة بسبب موالاتكم للمنافقين ثم قال تعالى
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِى الدَّرْكِ الاٌّ سْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً
وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الليث الدرك أقصى قعر الشيء كالبحر ونحوه فعلى هذا المراد بالدرك الأسفل أقصى قعر جهنم وأصل هذا من الإدراك بمعنى اللحوق ومنه إدراك الطعام وإدراك الغلام فالدرك ما يلحق به من الطبقة وظاهره أن جهنم طبقات والظاهر أن أشدها أسفلها قال الضحاك الدرج إذا كان بعضها فوق بعض والدرك إذا كان بعضها أسفل من بضع
المسألة الثانية قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم فِى الدَّرْكِ بسكون الراء والباقون بفتحها قال الزجاج هما لغتان مثل الشمع والشمع إلا أن الاختيار فتح الراء لأنه أكثر استعمالاً قال أبو حاتم جمع الدرك أدراك كقولهم جمل وأجمل وفرس وأفرس وجمع الدرك أدرك مثل فلس وأفلس وكلب وأكلب
المسألة الثالاثة قال ابن الأنباري إنه تعالى قال في صفة المنافقين إنهم في الدرك الأسفل وقال في آل فرعون النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً ( غافر 46 ) فأيهما أشد عذاباً المنافقون أم آل فرعون وأجاب بأنه يحتمل أن أشد العذاب إنما يكون في الدرك الأسفل وقد اجتمع فيه الفريقان
المسألة الرابعة لما كان المنافق أشد عذاباً من الكافر لأنه مثله في الكفر وضم إليه نوع آخر من

الكفر وهو الاستهزاء بالإسلام وبأهله وبسبب أنهم لما كانوا يظهرون الإسلام يمكنهم الاطلاع على أسرار المسلمين ثم يخبرون الكفار بذلك فكانت تتضاعف المحنة من هؤلاء المنافقين فلهذه الأسباب جعل الله عذابهم أزيد من عذاب الكفار
ثم قال تعالى وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً وهذا تهديد لهم واحتج أصحابنا بهذا على إثبات الشفاعة في حق الفساق من أهل الصلاة قالوا إنه تعالى خصّ المنافقين بهذا التهديد ولو كان ذلك حاصلاً في حق غير المنافقين لم يكن ذلك زجراً عن النفاق من حيث أنه نفاق وليس هذا استدلالاً بدليل الخطاب بل وجه الاستدلال فيه أنه تعالى ذكره في معرض الزجر عن النفاق فلو حصل ذلك مع عدمه لم يبق زجراً عنه من حيث إنه نفاق ثم قال تعالى
إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللَّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ فَأُوْلَائِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً
وأعلم أن هذه الآية فيها تغليظات عظيمة على المنافقين وذلك لأنه تعالى شرط في إزالة العقاب عنهم أموراً أربعة أولها التوبة وثانيها إصلاح العمل فالتوبة عن القبيح وإصلاح العمل عبارة عن الإقدام على الحسن وثالثها الاعتصام بالله وهو أن يكون غرضه من التوبة وإصلاح العمل طلب مرضاة الله تعالى لا طلب مصلحة الوقت لأنه لو كان مطلوبه جلب المنافع ودفع المضار لتغير عن التوبة وإصلاح العمل سريعاً أما إذا كان مطلوبه مرضاة الله تعالى وسعادة الآخرة والاعتصام بدين الله بقي على هذه الطريقة ولم يتغير عنها ورابعها الإخلاص والسبب فيه أنه تعالى أمرهم أولاً بترك القبيح وثانياً بفعل الحسن وثالثاً أن يكون غرضهم في ذلك الترك والفعل طلب مرضاة الله تعالى ورابعاً أن يكون ذلك الغرض وهو طلب مرضاة الله تعالى خالصاً وأن لا يمتزج به غرض آخر فإذا حصلت هذه الشرائط الأربعة فعند ذلك قال فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ولم يقل فأولئك مؤمنون ثم أوقع أجر المؤمنين في التشريف لإنضمام المنافقين إليهم فقال وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً وهذه القرائن دالة على أن حال المنافق شديد عند الله تعالى
مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءَامَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً
فيه مسائل
المسألة الأولى أيعذبكم لأجل التشفي أم لطلب النفع أم لدفع الضرر كل ذلك محال في حقه لأنه تعالى غنى لذاته عن الحاجات منزّه عن جلب المنافع ودفع المضار وإنما المقصود منه حمل

مفاتيح الغيب ـ شركة التراث

المكلفين على فعل الاحسن والاحتراز عن القبيح فإذا أتيتم بالحسن وتركتم القبيح فكيف يليق بكرمه أن يعذبكم
المسألة الثانية قالت المعتزلة دلت هذه الآية على قولنا وذلك لأنها دالة على أنه سبحانه ما خلق خلقاً لأجل التعذيب والعقاب فإن قوله مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءامَنْتُمْ صريح في أنه لم يخلق أحداف لغرض التعذيب وأيضاً الآية تدل على أن فاعل الشكر والإيمان هو العبد وليس ذلك فعلاً لله تعالى وإلا لصار التقدير ما يفعل الله بعذابكم إذا خلق الشكر والإيمان فيكم ومعلوم أن هذا غير منتظم وقد سبق الجواب عن هذه الكلمات
المسألة الثالثة قال أصحابنا دلت هذه الآية على أنه لا يعذب صاحب الكبيرة لأنا نفرض الكلام فيمن شكر ورمن ثم أقدم على الشرب أو الزنا فهذا وجب أن لا يعاقب بدليل قوله تعالى مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءامَنْتُمْ فإن قالوا لا نسلم أن صاحب الكبيرة نؤمن قلنا ذكرنا الوجوه الكثيرة في هذا الكتاب على أنه مؤمن
المسألة الرابعة في تقدم الشكر على الإيمان وجهان الأول أنه على التقديم والتأخير أي إن آمنتم وشكرتم لأن الإيمان مقدم على سائر الطاعات الثاني إذا قلنا الواو لا توجب الترتيب فالسؤال زائل الثالث أن الإنسان إذا نظر في نفسه رأى النعمة العظيمة حاصلة في تخليقها وترتيبها فيشكر شكراً مجملاً ثم إذا تمم النظر في معرفة المنعم آمن به ثم شكر شكراً مفصلاً فكان ذلك الشكر المجمل مقدماً على الإيمان فلهذا قدمه عليه في الذكر
ثم قال وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً لأنه تعالى لما أمرهم بالشكر سمى جزاء الشكر شكراً على سبيل الاستعارة فالمراد من الشاكر في حقه تعالى كونه مثيباً على الشكر والمراد من كونه عليماً أنه عالم بجميع الجزئيات فلا يقع الغلط له ألبتة فلا جرم يوصل الثواب إلى الشاكر والعقاب إلى المعرض
لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّو ءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً
في الآية مسائل
المسألة الأولى في كيفية النظم وجهان الأول أنه تعالى لما هتك ستر المنافقين وفضحهم وكان هتك التسر غير لائق بالرحيم الكريم ذكر تعالى ما يجري مجرى العذر في ذلك فقال لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوء مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ يعني أنه تعالى لا يحب إظهار الفضائح والقبائح إلا في حق من عظم ضرره وكثر مكره وكيده فعند ذلك يجوز إظهار فضائحه ولهذا قال عليه الصلاة والسلام ( أذكروا الفاسق بما فيه كي تحذره الناس ) وهؤلاء المنافقون قد كان كثر مكرهم وكيدهم وظلمهم في حق المسلمين وعظم ضررهم فلهذا المعنى ذكر الله فضائحهم وكشف أسرارهم الثاني أنه تعالى ذكر في هذه الآية المتقدمة أن هؤلاء المنافقين إذا تابوا أخلصوا صاروا من المؤمنين فيحتمل أنه كان يثوب بعضهم ويخلص في توبته

ثم لا يسلم بعد ذلك من التعيير والذم من بعض المسلمين بسبب ما صدر عنه في الماضي من النفاق فبين تعالى في هذه الآية أنه تعالى لا يحب هذه الطريقة ولا يرضى بالجهر بالسوء من القول إلا من ظلم نفسه وأقام على نفاقه فإنه لا يكره ذلك
المسألة الثانية قالت المعتزلة دلت الآية على أنه تعالى لا يريد من عباده فعل القبائح ولا يخلقها وذلك لأن محبة الله تعالى عبارة عن إرادته فلما قال لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوء مِنَ الْقَوْلِ علمنا أنه لا يريد ذلك وأيضاً لو كان خالقاً لأفعال العباد لكان مريداً لها ولو كان مريداً لها لكان قد أحب إيجاد الجهر بالسوء من القول وإنه خلاف الآية
والجواب المحبة عندنا عبارة عن إعطاء الثواب على الفعل وعلى هذا الوجه يصح أن يقال إنه تعالى أراده ولكنه ما أحبه والله أعلم
المسألة الثالثة قال أهل العلم إنه تعالى لا يحب الجهر بالسوء من القول ولا غير الجهر أيضاً ولكنه تعالى إنما ذكر هذا الوصف لأن كيفيته الواقعة أوجبت ذلك كقوله إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ ( النساء 94 ) والتبين واجب في الطعن والإقامة فكذا ههنا
المسألة الرابعة في قوله إَلاَّ مَن ظَلَمَ قولان وذلك لأنه إما ى ن يكون استثناءً منقطعاً أو متصلاً
القول الأول أنه استثناء متصل وعلى هذا التقدير ففيه وجهان الأول قال أبو عبيدة هذا من باب حذف المضاف على تقدير إلا جهر من ظلم ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه الثاني قال الزجاج المصدر ههنا أقيم مقام الفاعل والتقدير لا يحب الله المجاهر بالسوء إلا من ظلم
القول الثاني إن هذا الاستثناء منقطع والمعنى لا يحب الله الجهر بالسوء من القول لكن المظلوم له أن يجهر بظلامته
المسألة الخامسة المظلوم ماذا يفعل فيه وجوه الأول قال قتادة وابن عباس لا يحب الله رفع الصوت بما يسوء غيره إلا المظلوم فإن له أن يرفع صوته بالدعاء على من ظلمه الثاني قال مجاهد إلا أن يخبر بظلم ظالمه له الثالث لا يجوز إظهار الأحوال المتسورة المكتومة لأن ذلك يصير سبباً لوقوع الناس في الغيبة ووقوع ذلك الإنسان في الريبة لكن من ظلم فيجوز إظهار ظلمه بأن يذكر أنه سرق أو غصب وهذا قول الأصم الرابع قال الحسن إلا أن ينتصر من ظالمه قيل نزلت الآية في أبي بكر رضي الله عنه فإن رجلاً شتمه فسكت مراراً ثم رد عليه فقام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال أبو بكر شتمني وأنت جالس فلما رددت عليه قمت قال إن ملكاً كان يجيب عنك فلما رددت عليه ذهب ذلك الملك وجاء الشيطان فلم أجلس عند مجيء الشيطان فنزلت هذه الآية
المسألة السادسة قرأ جماعة من الكبار الضحاك وزيد بن أسلم وسعيد بن جبير إَلاَّ مَن ظَلَمَ بفتح الظاء وفيه وجهان الأول أن قوله لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوء مِنَ الْقَوْلِ كلام تام وقوله إَلاَّ مَن ظَلَمَ كلام منقطع عما قبله والتقدير لكن من ظلم فدعوه وخلوه وقال الفرّاء والزجاج يعني لكن من ظلم نفسه فإنه يجهر بالسوء من القول ظلماً واعتداء الثاني أن يكون الاستثناء متصلاً والتقدير إَلاَّ مَن

ظَلَمَ فإنه يجوز الجهر بالسوء من القول معه
ثم قال وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً وهو تحذير من التعدي في الجهر المأذون فيه ويعني فليتق الله ولا يقل إلا الحق ولا يقذف مستوراً بسوء فإنه يصير عاصياً لله بذلك وهو تعالى سميع لما يقوله عليم بما يضمره
إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تُخْفُوهْ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُو ءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً
أعلم أن معاقد الخيرات على كثرتها محصورة في أمرين صدق مع الحق وخلق مع الخلق والذي يتعلق بالخلق محصور في قسمين إيصال نفع إليهم ودفع ضرر عنهم فدخل في هاتين الكلمتين جميع أنواع الخير وأعمال البر
ثم قال تعالى فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً وفيه وجوه الأول أنه تعالى يعفو عن الجانبين مع قدرته على الانتقام فعليكم أن تقتدوا بسنة الله تعالى وهو قول الحسن الثاني أن الله كان عفواً لمن عفا قديراً على إيصال الثواب إليه الثالث قال الكلبي إن الله تعالى أقدر على عفو ذنوبك منك على عفو صاحبك
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذالِكَ سَبِيلاً أُوْلَائِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً
أعلم أنه تعالى لما تكلم على طريقة المنافقين عاد يتكلم على مذاهب اليهود والنصارى ومناقضاتهم وذكر في آخر هذه السورة من هذا الجنس أنواعاً
النوع الأول من أباطيلهم إيمانهم ببعض الأنبياء دون البعض فقال إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ فإن اليهود آمنوا بموسى والتوراة وكفروا بعيسى والإنجيل والنصارى آمنوا بعيسى والإنجيل وكفروا بمحمد والقرآن وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرّقُواْ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ أي يريدون أن يفرقوا بين الإيمان بالله ورسله وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذالِكَ سَبِيلاً أي بين الإيمان بالكل وبين الكفر بالكل سبيلاً أي واسطة وهي الإيمان بالبعض دون البعض
ثم قال تعالى أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وفيه مسائل

المسألة الأولى في خبر ءانٍ قولان أحدهما أنه محذوف كأنه قيل جمعوا المخازي والثاني هو قوله أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ والأول أحسن لوجهين أحدهما أنه أبلغ لأنه إذا حذف الجواب ذهب الوهم كل مذهب من العيب وإذا ذكر بقي مقتصراً على المذكور والثاني أنه رأس الآية والأحسن أن لا يكون الخبر منفصلاً عن المبتدأ
المسألة الثانية أنهم إنما كانوا كافرين حقاً لوجهين الأول أن الدليل الذي يدل على نبوّة البعض ليس إلاّ المعجز وإذا كان دليلاً على النبوّة لزم القطع بأنه حيث حصل حصلت النبوّة فإن جوزنا في بعض المواضع حصول المعجز بدون الصدق تعذر الاستدلال به على الصدق وحينئذ يلزم الكفر بجميع الأنبياء فثبت أن من لم يقبل نبوّة أحد منهم لزمه الكفر بجميعهم
فإن قيل هب أنه يلزمهم الكفر بكل الأنبياء ولكن ليس إذا توجه بعض الالزامات على الإنسان لزم أن يكون ذلك الإنسان قائلاً به فإلزام الكفر غير والتزام الكفر غير والقوم لما لم يلتزموا ذلك فيكف يقضى عليهم بالكفر
قلنا الإلزام إذا كان خفياً بحيث يحتاج فيه إلى فكر وتأمل كان الأمر فيه كما ذكرتم أما إذا كان جلياً واضحاً لم يبقَ بين الالزام والالتزام فرق والثاني وهو أن قبول بعض الأنبياء أن كان لأجل الانقياد لطاعة الله تعالى وحكمه وجب قبول الكل وإن كان لطلب الرياسة كان ذلك في الحقيقة كفراً بكل الأنبياء
المسألة الثالثة في قوله حَقّاً وجهان الأول أنه انتصب على مثل قولك زيد أخوك حقاً والتقدير أخبرتك بهذا المعنى إخباراً حقاً والثاني أن يكون التقدير أولئك هم الكافرون كفراً حقاً طعن الواحدي فيه وقال الكفر لا يكون حقاً بوجه من الوجوه
والجواب أن المراد بهذا الحق الكامل المعنى أولئك هم الكافرون كفراً كاملاً ثابتاً حقاً يقيناً
وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُوْلَائِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً
واعلم أنه تعالى لما ذكر الوعيد أردفه بالوعد فقال وَالَّذِينَ ءامَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً وفي الآية مسائل
المسألة الأولى إنما قال وَلَمْ يُفَرّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ مع أن التفريق يقتضي شيئين فصاعداً إلاّ أن أحداً لفظ يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث ويدل عليه وجهان الأول صحة الاستثناء والثاني قوله تعالى لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مّنَ النّسَاء ( الأحزاب 32 )
إذا عرفت هذا فتقدير الآية ولم يفرقوا بين أثنين منهم أو بين جماعة
المسألة الثانية تمسك أصحابنا بهذه الآية في إثبات العفو وعدم الاحباط فقالوا إنه تعالى وعد من آمن بالله ورسله بأن يؤتيهم أجورهم والمفهوم منه يؤتيهم أجورهم على ذلك الإيمان وإلاّ لم تصلح هذه

الآية لأن تكون ترغيباً في الإيمان وذلك يوجب القطع بعدم الإحباط والقطع بالعفو وبالإخراج من النار بعد الإدخال فيها
المسألة الثالثة قرأ عاصم في رواية حفص يُؤْتِيهِمْ بالياء والضمير راجع إلى اسم الله والباقون بالنون وذلك أولى لوجهين أحدهما أنه أفخم والثاني أنه مشاكل لقوله وَأَعْتَدْنَا ( الأحزاب 31 )
المسألة الرابعة قوله تعالى سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ معناه أن إيتاءها كائن لا محالة وإن تأخر فالغرض به توكيد الوعد وتحقيقه لا كونه متأخراً
ثم قال وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً والمراد أنه وعدهم بالثواب ثم أخبرهم بعد ذلك بأنه يتجاوز عن سيئاتهم ويعفو عنها ويغفرها
يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السَّمَآءِ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذالِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهِ جَهْرَة ً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَة ُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذالِكَ وَءَاتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُّبِيناً وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِى السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً
اعلم أن هذا هو النوع الثاني من جهالات اليهود فإنهم قالوا إن كنت رسولاً من عند الله فائتنا بكتاب من السماء جملة كما جاء موسى بالألواح وقيل طلبوا أن ينزل عليهم كتاباً من السماء إلى فلان وكتاباً إلى فلان بأنك رسول الله وقيل كتاباً نعاينه حين ينزل وإنما اقترحوا ذلك على سبيل التعنت لأن معجزات الرسول كانت قد تقدمت وحصلت فكان طلب الزيادة من باب التعنت
ثم قال تعالى فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذالِكَ وإنما أسند السؤال إليهم وإن وجد من آبائهم في أيام موسى عليه السلام وهم النقباء السبعون لأنهم كانوا على مذهبهم وراضين بسؤالهم ومشاكلين لهم في التعنت
واعلم أن المقصود من الآية بيان ما جبلوا عليه من التعنت كأنه قيل إن موسى لما نزل عليه كتاب من السماء لم يكتفوا بذلك القدر بل طلبوا منه الرؤية على سبيل المعاينة وهذا يدل على أن طلب هؤلاء لنزول الكتاب عليهم من السماء ليس لأجل الاسترشاد بل لمحض العناد
ثم قال تعالى فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذالِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللَّهِ جَهْرَة ً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَة ُ بِظُلْمِهِمْ وهذه

القصة قد فسرناها في سورة البقرة واستدلال المعتزلة بهذه الآية على نفي الرؤية قد أجبنا عنه هناك
ثم قال تعالى ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ والمعنى بيان كمال جهالاتهم وإصرارهم على كفرهم فإنهم ما اكتفوا بعد نزول التوراة عليهم بطلب الرؤية جهرة بل ضموا إليه عبادة العجل وذلك يدل على غاية بعدهم عن طلب الحق والدين والمراد بالبينات من قوله مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ أمور أحدها أنه تعالى جعل ما أراهم من الصاعقة بينات فإن الصاعقة وإن كانت شيئاً واحداً إلاّ أنها كانت دالة على قدرة الله تعالى وعلى علمه وعلى قدمه وعلى كونه مخالفاً للأجسام والأعراض وعلى صدق موسى عليه السلام في دعوى النبوّة وثانيها أن المراد بالبينات إنزال الصاعقة وإحياؤهم بعد ما أماتهم وثالثها أنهم إنما عبدوا العجل من بعد أن شاهدوا معجزات موسى عليه السلام التي كان يظهرها في زمان فرعون وهي العصا واليد البيضاء وفلق البحر وغيرها من المعجزات القاهرة والمقصود من ذلك الكلام أن هؤلاء يطلبون منك يا محمد أن تنزل عليهم كتاباً من السماء فاعلم يا محمد أنهم لا يطلبونه منك إلاّ عناداً ولجاجاً فإن موسى قد أنزل الله عليه هذا الكتاب وأنزل عليه سائر المعجزات القاهرة ثم أنهم طلبوا الرؤية على سبيل العناد وأقبلوا على عبادة العجل وكل لذلك يدل على أنهم مجبولون على اللجاج والعناد والبعد عن طريق الحق
ثم قال فَعَفَوْنَا عَن ذالِكَ يعني لم نستأصل عبدة العجل يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن يعني أن قوم موسى وإن كانوا قد بالغوا في إظهار اللجاج والعناد معه لكنا نصرناه وقويناه فعظم أمره وضعف خصمه وفيه بشارة للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) على سبيل التنبيه والرمز بأن هؤلاء الكفار وإن كانوا يعاندونه فإنه بالآخرة يستولي عليهم ويقهرهم ثم حكى تعالى عنهم سائر جهالاتهم وإصرارهم على أباطيلهم فأحدها أنه تعالى رفع فوقهم الطور بميثاقهم وفيه وجوه الأول أنهم أعطوا الميثاق على أن لا يرجعوا عن الدين ثم رجعوا عنه وهموا بالرجوع فرفع الله فوقهم الطور حتى يخافوا فلا ينقضوا الميثاق الثاني أنهم امتنعوا عن قبول شريعة التوراة فرفع الله الجبل فوقهم حتى قبلوا وصار المعنى ورفعنا فوقهم الطور لأجل أن يعطوا الميثاق بقبول الدين الثالث أنهم أعطوا الميثاق على أنهم إن هموا بالرجوع عن الدين فالله يعذبهم بأي نوع من أنواع العذاب أراد فلما هموا بترك الدين أظل الله الطور عليهم وهو المراد من قوله وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وثانيها قوله وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً ومضى بيانه في سورة البقرة وثالثها قوله وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِى السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مّيثَاقاً غَلِيظاً وفيه مسائل
المسألة الأولى لاَ تَعْدُواْ فِى السَّبْتِ فيه وجهان الأول لا تعدوا باقتناص السمك فيه قال الواحدي يقال عدا عليه أشد العداء والعدو والعدوان أي ظلمه وجاوز الحد ومنه قوله فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْواً ( الأنعام 108 ) الثاني لا تعدوا في السبت من العدو بمعنى الحضر والمراد النهي عن العمل والكسب يوم السبت كأنه قال لهم اسكنوا عن العمل في هذا اليوم واقعدوا في منازلكم فأنا الرزاق
المسألة الثانية قرأ نافع لاَ تَعْدُواْ ساكنة العين مشددة الدال وأراد لا تعتدوا وحجته قوله وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِى السَّبْتِ ( البقرة 65 ) فجاء في هذه القصة بعينها افتعلوا ثم أدغم التاء في الدال لتقاربهما ولأن الدال تزيد على التاء في الجهر وكثير من النحويين ينكرون الجمع بين الساكنين إذا

كان الثاني منهما مدغماً ولم يكن الأول حرف لين نحو دابة وشابة وقيل لهم ويقولون إن المد يصير عوضاً عن الحركة وروى ورش عن نافع لاَ تَعْدُواْ بفتح العين وتشديد الدال وذلك لأنه لما أدغم التاء في الدال نقل حركتها إلى العين والباقون تَعْدُواْ بضم الدال وسكون العين حقيقة
المسألة الثالثة قال القفال الميثاق الغليط هو العهد المؤكد غاية التوكيد وذلك بين فيما يدعونه من التوراة ثم قال تعالى
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مَّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَأايَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الاٌّ نْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً
وفيه مسائل
المسألة الأولى في متعلق الباء في قوله فَبِمَا نَقْضِهِم قولان الأول أنه محذوف تقديره فيما نقضهم ميثاقهم وكذا لعنادهم وسخطنا عليهم والحذف أفخم لأن عند الحذف يذهب الوهم كل مذهب ودليل المحذوف أن هذه الأشياء المذكورة من صفات الذم فيدل على اللعن الثاني أن متعلق الباء هو قوله فَبِظُلْمٍ مّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ( النساء 160 ) وهذا قول الزجاج ورغم أن قوله فَبِظُلْمٍ مّنَ الَّذِينَ هَادُواْ بدل من قوله فِيمَا نَقْضِهِم
واعلم أن القول الأول أولى ويدل عليه وجهان أحدهما أن من قوله فَبِمَا نَقْضِهِم مّيثَاقَهُمْ إلى قوله فَبِظُلْمٍ الآيتين بعيد جداً فجعل أحدهما بدلاً عن الآخر بعيد الثاني أن تلك الجنايات المذكورة عظيمة جداً لأن كفرهم بالله وقتلهم الأنبياء وإنكارهم للتكليف بقولهم قلوبنا غلف أعظم الذنوب وذكر الذنوب العظيمة إنما يليق أن يفرع عليه العقوبة العظيمة وتحريم بعض المأكولات عقوبة خفيفة فلا يحسن تعليقه بتلك الجنايات العظيمة
المسألة الثانية اتفقوا على أن ( ما في قوله فَبِمَا نَقْضِهِم مّيثَاقَهُمْ صلة زائدة والتقدير فبنقضهم ميثاقهم وقد استقصينا هذه المسألة في تفسير قوله فَبِمَا رَحْمَة ٍ مّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ( آل عمران 159 )
المسألة الثالثة أنه تعالى أدخل حرف الباء على أمور أولها نقض الميثاق وثانيها كفرهم بآيات الله والمراد منه كفرهم بالمعجزات وقد بينا فيما تقدم أن من أنكر معجزة رسول واحد فقد أنكر جميع معجزات الرسل فلهذا السبب حكم الله عليهم بالكفر بآيات الله وثالثها قتلهم الأنبياء بغير حق وذكرنا تفسيره في سورة البقرة ورابعها قولهم قُلُوبُنَا غُلْفٌ وذكر القفال فيه وجهين أحدهما أن غلفا جمع غلاف والأصل غلف بتحريك اللام فخفف بالتسكين كما قيل كتب ورسل بتسكين التاء والسين والمعنى على هذا أنهم قالوا قلوبنا غلف أي أوعية للعلم فلا حاجة بنا إلى علم سوى ما عندنا فكذبوا الأنبياء بهذا القول والثاني أن غلفا جمع أغلف وهو المتغطى بالغلاف أي بالغطاء والمعنى على هذا أنهم قالوا قلوبنا في أغطية فهي لا تفقه ما تقولون نظيره ما حكى الله في قوله وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّة ٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ ( فصلت 5 )

ثم قال تعالى بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ
فإن حملنا الآية المتقدمة على التأويل الأول كان المراد من هذه الآية أنه تعالى كذبهم في ادعائهم أن قلوبهم أوعية للعلم وبيّن أنه تعالى طبع عليها وختم عليها فلا يصل أثر الدعوة والبيان إليها وهذا يليق بمذهبنا وإن حملنا الآية المتقدمة على التأويل الثاني كان المراد من هذه الآية أنه تعالى كذبهم في ادعائهم أن قلوبهم في الأكنة والأغطية وهذا يليق بمذهب المعتزلة إلاّ أن الوجه الأول أولى وهو المطابق لقوله بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ
ثم قال فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً أي لا يؤمنون إلاّ بموسى والتوراة وهذا إخبار منهم على حسب دعواهم وزعمهم وإلاّ فقد بيّنا أن من يكفر برسول واحد وبمعجزة واحدة فإنه لا يمكنه الإيمان بأحد من الرسل البتة
وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً
وخامسها قوله وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً
اعلم أنهم لما نسبوا مريم إلى الزنا لإنكارهم قدرة الله تعالى على خلق الولد من دون الأب ومنكر قدرة الله على ذلك كافر لأنه يلزمه أن يقول كل ولد ولد فهو مسبوق بوالد لا إلى أول وذلك يوجب القول بقدم العالم والدهر والقدح في وجود الصانع المختار فالقوم لا شك أنهم أولاً أنكروا قدرة الله تعالى على خلق الولد من دون الأب وثانياً نسبوا مريم إلى الزنا فالمراد بقوله وَبِكُفْرِهِمْ هو إنكارهم قدرة الله تعالى وبقوله وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً نسبتهم إياها إلى الزنا ولما حصل التغير لا جرم حسن العطف وإنما صار هذا الطعن بهتاناً عظيماً لأنه ظهر عند ولادة عيسى عليه السلام من الكرامات والمعجزات ما دلّ على براءتها من كل عيب نحو قوله وَهُزّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَة ِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً ( مريم 25 ) ونحو كلام عيسى عليه السلام حال كونه طفلاً منفصلاً عن أمه فإن كل ذلك دلائل قاطعة على براءة مريم عليها السلام من كل ريبة فلا جرم وصف الله تعالى طعن اليهود فيها بأنه بهتان عظيم وكذلك وصف طعن المنافقين في عائشة بأنه بهتان عظيم حيث قال سُبْحَانَكَ هَاذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ( النور 16 ) وذلك يدل على أن الروافض الذين يطعنون في عائشة بمنزلة اليهود الذين يطعنون في مريم عليها السلام
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَاكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً
وسادسها قوله تعالى وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ
وهذا يدل على كفر عظيم منهم لأنهم قالوا فعلنا ذلك وهذا يدل على أنهك كانوا راغبين في قتله مجتهدين في ذلك فلا شك أن هذا القدر كفر عظيم
فإن قيل اليهود كانوا كافرين بعيسى أعداء له عامدين لقتله يسمونه الساحر ابن الساحرة والفاعل ابن

الفاعلة فكيف قالوا إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله
والجواب عنه من وجهين الأول أنهم قالوه على وجه الاستهزاء كقول فرعون إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ( الشعراء 27 ) وكقول كفار قريش لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وَقَالُواْ يأَيُّهَا الَّذِى نُزّلَ عَلَيْهِ الذّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ( الحجز 6 ) والثاني أنه يجوز أن يضع الله الذكر الحسن مكان ذكرهم القبيح في الحكاية عنهم رفعاً لعيسى عليه السلام عما كانوا يذكرونه به
ثم قال تعالى وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَاكِن شُبّهَ لَهُمْ
واعلم أنه تعالى لما حكى عن اليهود أنهم زعموا أنهم قتلوا عيسى عليه السلام فالله تعالى كذبهم في هذه الدعوى وقال وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَاكِن شُبّهَ لَهُمْ وفي الآية سؤالان
السؤال الأول قوله شُبّهَ مسند إلى ماذا إن جعلته مسنداً إلى المسيح فهو مشبّه به وليس بمشبه وإن أسندته إلى المقتول فالمقتول لم يجر له ذكر
والجواب من وجهين الأول أنه مسند إلى الجار والمجرور وهو كقولك خيل إليه كأنه قيل ولكن وقع لهم الشبه الثاني أن يسند إلى ضمير المقتول لأن قوله وَمَا قَتَلُوهُ يدل على أنه وقع القتل على غيره فصار ذلك الغير مذكوراً بهذا الطريق فحسن إسناد شُبّهَ إليه
السؤال الثاني أنه إن جاز أن يقال أن الله تعالى يلقي شبه إنسان على إنسان آخر فهذا يفتح باب السفسطة فإنا إذا رأينا زيداً فلعله ليس بزيد ولكنه ألقى شبه زيد عليه وعند ذلك لا يبقى النكاح والطلاق والملك وثوقاً به وأيضاً يفضي إلى القدح في التواتر لأن خبر التواتر إنما يفيد العلم بشرط انتهائه في الآخرة إلى المحسوس فإذا جوزنا حصول مثل هذه الشبهة في المحسوسات توجه الطعن في التواتر وذلك يوجب القدح في جميع الشرائع وليس لمجيب أن يجيب عنه بأن ذلك مختص بزمان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لأنا نقول لو صح ما ذكرتم فذاك إنما يعرف بالدليل والبرهان فمن لم يعلم ذلك الدليل وذلك البرهان وجب أن لا يقطع بشيء من المحسوسات ووجب أن لا يعتمد على شيء من الأخبار المتواترة وأيضاً ففي زماننا إن انسدت المعجزات فطريق الكرامات مفتوح وحينئذ يعود الاحتمال المذكور في جميع الأزمنة وبالجملة ففتح هذا الباب يوجب الطعن في التواتر والطعن فيه يوجب الطعن في نبوّة جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فهذا فرع يوجب الطعن في الأصول فكان مردوداً
والجواب اختلفت مذاهب العلماء في هذا الموضع وذكروا وجوهاً
الأول قال كثير من المتكلمين إن اليهود لما قصدوا قتله رفعه الله تعالى إلى السماء فخاف رؤساء اليهود من وقوع الفتنة من عوامهم فأخذوا إنساناً وقتلوه وصلبوه ولبسوا على الناس أنه المسيح والناس ما كانوا يعرفون المسيح إلاّ بالاسم لأنه كان قليل المخالطة للناس وبهذا الطريق زال السؤال لا يقال إن النصارى ينقلون عن أسلافهم أنهم شاهدوه مقتولاً لأنا نقول إن تواتر النصارى ينتهي إلى أقوام قليلين لا يبعد اتفاقهم على الكذب
والطريق الثاني أنه تعالى ألقى شبهه على إنسان آخر ثم فيه وجوه الأول أن اليهود لما علموا أنه

حاضر في البيت الفلاني مع أصحابه أمر يهوذا رأس اليهود رجلاً من أصحابه يقال له طيطايوس أن يدخل على عيسى عليه السلام ويخرجه ليقتله فلما دخل عليه أخرج الله عيسى عليه السلام من سقف البيت وألقى على ذلك الرجل شبه عيسى فظنوه هو فصلبوه وقتلوه الثاني وكلوا بعيسى رجلاً يحرسه وصعد عيسى عليه السلام في الجبل ورفع إلى السماء وألقى الله شبهه على ذلك الرقيب فقتلوه وهو يقول لست بعيسى الثالث أن اليهود لما هموا بأخذه وكان مع عيسى عشرة من أصحابه فقال لهم من يشتري الجنة بأن يلقى عليه شبهي فقال واحد منهم أنا فألقى الله شبه عيسى عليه فأخرج وقتل ورفع الله عيسى عليه السلام الرابع كان رجل يدعي أنه من أصحاب عيسى عليه السلام وكان منافقاً فذهب إلى اليهود ودلهم عليه فلما دخل مع اليهود لأخذه ألقى الله تعالى شبهه عليه فقتل وصلب وهذه الوجوه متعارضة متدافعة والله أعلم بحقائق الأمور
ثم قال تعالى أَعْلَمُ أَنَّ فِى قَوْلُهُ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ قولين الأول أنهم هم النصارى وذلك لأنهم بأسرهم متفقون على أن اليهود قتلوه إلا أن كبار فرق النصارى ثلاثة النسطورية والملكانية واليعقوبية
أما النسطورية فقد زعموا أن المسيح صلب من جهة ناسوته لا من جهة لاهوته وأكثر الحكماء يرون ما يقرب من هذا القول قالوا لأنه ثبت أن الإنسان ليس عبارة عن هذا الهيكل بل هو إما جسم شريف منساب في هذا البدن وءما جوهر روحاني مجرد في ذاته وهو مدبر في هذا البدن فالقتل إنما ورد على هذا الهيكل وأما النفس التي هي في الحقيقة عيسى عليه السلام فالقتل ما ورد عليه لا يقال فكل إنسان كذلك فما الوجه لهذا التخصيص لأنا نقول إن نفسه كانت قدسية علوية سماوية شديدة الاشراق بالأنوار الإلهية عظيمة القرب من أرواح الملائكة والنفس متى كانت كذلك لم يعظم تألمها بسبب القتل وتخريب البدن ثم إنها بعد الانفصال عن ظلمة البدن تتخلص إلى فسحة السموات وأنوار عالم الجلال فيعظم بهجتها وسعادتها هناك ومعلوم أن هذه الأحوال غير حاصلة لكل الناس بل هي غير حاصلة من مبدأ خلقة آدم عليه السلام إلى قيام القيامة إلا لأشخاص قليلين فهذا هو الفائدة في تخصيص عيسى عليه السلام بهذه الحالة
وأما الملكانية فقالوا القتل والصلب وصلا إلى الاهوت بالإحساس والشعور لا بالمباشرة
وقالت اليعقوبية القتل واللصلب وقعا بالمسيح الذي هو جوهر متولد من جوهرين فهذا هو شرح مذاهب النصارى في هذا الباب وهو المراد من قوله وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِى شَكّ مّنْهُ
القول الثاني أن المراد بالذين اختلفوا هم اليهود وفيه وجهان الأول أنهم لما قتلوا الشخص المشبه به كان الشبه قد ألقى على وجهه ولم يلق عليه شبه جسد عيسى عليه السلام فلما قتلوه ونظروا إلى بدنه قالوا الوجه وجه عيسى والجسد جسد غيره الثاني قال السدي إن اليهود حبسوا عيسى مع عشرة من

الحواريين في بيت فدخل عليه رجل من اليهود ليخرجه ويقتله فألقى الله شبه عيسى عليه ورفع إلى السماء فأخذوا ذلك الرجل وقتلوه على أنه عيسى عليه السلام ثم قالوا إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا وإن كان صاحبنا فأين عيسى فذلك اختلافهم فيه
المسألة الثانية احتج نفاة القياس بهذه الآية وقالوا العمل بالقياس اتباع للظن واتباع الظن مذموم في كتاب الله بدليل أنه إنما ذكره في معرض الذم ألا ترى أنه تعالى وصف اليهود والنصارى ههنا في معرض الذم بهذا فقال مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنّ وقال في سورة الأنعام في مذمة الكفار إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ لا يَخْرُصُونَ ( الأنعام 116 ) وقال في آية أخرى وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ الْحَقّ شَيْئاً ( يونس 36 ) وكل ذلك يدل على أن اتباع الظن مذموم
والجواب لا نسلم أن العمل بالقياس اتباع الظن فإن الدليل القاطع لما دل على العمل بالقياس كان الحكم المستفاد من القياس معلوماً لا مظنوناً وهذا الكلام له غور وفيه بحث
ثم قال تعالى وَمَا قَتَلُوهُ بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ
واعلم أن هذا اللفظ يحتمل وجهين أحدهما يقين عدم القتل والآخر يقين عدم الفعل فعلى التقدير الأول يكون المعنى أنه تعالى أخبر أنهم شاكون في أنه هل قتلوه أم لا ثم أخبر محمداً بأن اليقين حاصل بأنهم ما قتلوه وعلى التقدير الثاني يكون المعنى أنهم شاكون في أنه هل قتلوه أم لا ثم أخبر محمداً بأن اليقين حاصل بأنهم ما قتلوه وعلى التقدير الثاني يكون المعنى أنهم شاكون في أنه هل قتلوه ثم أكد ذلك بأنهم قتلوا ذلك الشخص الذي قتلوه لا على يقين أنه عيسى عليه السلام بلحين ما قتلوه كانوا شاكين في أنه هل هو عيسى أم لا والاحتمال الأول أولى لأنه تعالى قال بعده بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وهذا الكلام إنما يصح إذا تقدم القطع واليقين بعدم القتل
أما قوله بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ أبو عمرو والكسائي بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ بإدغام اللام في الراء والباقون بترك الإدغام حجتهما قرب مخرج اللام من الراء والراء أقوى من اللام بحصول التكرير فيها ولهذا لم يجز إدغام الراء في اللام لأن الأنقص يدغم في الأفضل وحجة الباقين أن الراء واللام حرفان من كلمتين فالأولى ترك الإدغام
المسألة الثانية المشبهة احتجوا بقوله تعالى بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ في إثبات الجهة
والجواب المراد الرفع إلى موضع لا يجرى فيه حكم غير الله تعالى كقوله وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الامُورُ ( البقرة 210 ) وقال تعالى وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ( النساء 100 ) وكانت الهجرة في ذلك الوقت إلى المدينة وقال إبراهيم إِنّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبّى ( الصافات 99 )
المسألة الثالثة رفع عيسى عليه السلام إلى السماء ثابت بهذه الآية ونظير هذه الآية قوله في آل عمران إِنّي مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَى َّ وَمُطَهّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( آل عمران 55 ) واعلم أنه تعالى لما ذكر عقيب

ما شرح أنه وصل إلى عيسى أنواع كثيرة من البلاء والمحنة أنه رفعه إليه دل ذلك على أن رفعه إليه أعظم في باب الثواب من الجنة ومن كل ما فيها من اللذات الجسمانية وهذه الآية تفتح عليك باب معرفة السعادات الروحانية
ثم قال تعالى وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً
والمراد من العزة كمال القدرة ومن الحكمة كمال العلم فنبجه بهذا على أن رفع عيسى من الدنيا إلى السموات وإن كان كالمعتذر على البشر لكنه لا تعذر فيه بالنسبة إلى قدرتي وإلى حكمتي وهو نظير قوله تعالى سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً ( الإسراء 1 ) فإن الإسراء وإن كان متعذراً بالنسبة إلى قدرة محمد إلا أنه سهل بالنسبة إلى قدرة الحق سبحانه ثم قال تعالى
وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَة ِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً
واعلم أنه تعالى لما ذكر فضائح اليهود وقبائح أفعالهم وشرح أنهم قصدوا قتل عيسى عليه السلام وبيّن أنه ما حصل لهم ذلك المقصود وأنه حصل لعيسى أعظم المناصب وأجل المراتب بيّن تعالى أن هؤلاء اليهود الذين كانوا مبالغين في عداواته لا يخرج أحد منهم من الدنيا إلا بعد أن يؤمن به فقال وَإِن مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ
واعلم أن كلمة ءانٍ بمعنى ( ما ) النافية كقوله وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا ( مريم 71 ) فصار التقدير وما أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به ثم إنا نرى أكثر اليهود يموتون ولا يؤمنون بعيسى عليه السلام
والجواب من وجهين الأول ما روي عن شهر بن حوشب قال قال الحجاج إني ما قرأتها إلا وفي نفسي منها شيء يعني هذه الآية فإني أضرب عنق اليهودي ولا أسمع منه ذلك فقلت إن اليهودي إذا حضره الموت ضربت الملائكة وجهه ودبره وقالوا يا عدو الله أتاك عيسى نبيّاً فكذبت به فيقول آمنت أنه عبدالله وتقول للنصراني أتاك عيسى نبياً فزعمت أنه هو الله وابن الله فيقول آمنت أنه عبدالله فأهل الكتاب يؤمنون به ولكن حيث لا ينفعهم ذلك الإيمان فاستوى الحجاج جالساً وقال عمن نقلت هذا فقلت حدّثني به محمد بن علي بن الحنفية فأخذ ينكت في الأرض بقضيب ثم قال لقد أخذتها من عين صافية وعن ابن عباس أنه فسّره كذلك فقال له عكرمة فإن خر من سفق بيت أو احترق أو أكله سبع قال يتكلم بها في الهواء ولا تخرج روحه حتى يؤمن به ويدل عليه قراءة أُبي إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ بضم النون على معنى وإن منهم أحد إلا سيؤمنون به قبل موتهم لأن أحداً يصلح للجميع قال صاحب ( الكشاف ) والفائدة في أخبار الله تعالى بإيمانهم بعيسى قبل موتهم أنهم متى علموا أنه لا بدّ من الإيمان به لا محالة فلأن يؤمنوا به حال ما ينفعهم ذلك الإيمان أولى من أن يؤمنوا به حال ما لا ينفعهم ذلك الإيمان
والوجه الثاني في الجواب عن أصل السؤال أن قوله قَبْلَ مَوْتِهِ أي قبل موت عيسى والمراد أن

أهل الكتاب الذين يكونون موجودين في زمان نزوله لا بدّ وأن يؤمنوا به قال بعض المتكلمين إنه لا يمنع نزوله من السماء إلى الدنيا إلا أنه إنما ينزل عند ارتفاع التكاليف أو بحيث لا يعرف إذ لو نزل مع بقاء التكاليف على وجه يعرف أنه عيسى عليه السلام لكان إما أن يكون نبياً ولا نبي بعد محمد عليه الصلاة والسلام أو غير نبي وذلك غير جائز على الأنبياء وهذا الاشكال عندي ضعيف لأن انتهاء الأنبياء إلى مبعث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فعند مبعثه انتهت تلك المدة فلا يبعد أن يصير بعد نزوله تبعاً لمحمد عليه الصلاة والسلام
ثم قال تعالى وَيَوْمَ الْقِيَامَة ِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً قيل يشهد على اليهود أنهم كذبوه وطعنوا فيه وعلى النصارى أنهم أشركوا به وكذلك كل نبي شاهد على أمته ثم قال تعالى
فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً
واعلم أنه تعالى لما شرح فضائح أعمال اليهود وقبائح الكافرين وأفعالهم ذكر عقيبه تشديده تعالى عليهم في الدنيا وفي الآخرة أما تشديده عليهم في الدنيا فهو أنه تعالى حرّم عليهم طيبات كانت محللة لهم قبل ذلك كما قال تعالى في موضع آخر وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا ( الأنعام 146 ) ثم إنه تعالى بيّن ما هو كالعلة الموجبة لهذه التشديدات
واعلم أن أنواع الذنوب محصورة في نوعين الظلم للخلق والإعراض عن الدين الحق أما ظلم الخلق فإليه الإشارة بقوله وَبِصَدّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ثم إنهم مع ذلك في غاية الحرص في طلب المال فتارة يحصلونه بالربا مع أنهم نهوا عنه وتارة بطريق الرشوة وهو المراد بقوله وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ ونظيره قوله تعالى سَمَّاعُونَ الْكَذِبَ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ( المائدة 43 ) فهذه الأربعة هي الذنوب الموجبة للتشديد عليهم في الدنيا وفي الآخرة أما التشديد في الدنيا فهو الذي تقدنم ذكره من تحريم الطيبات عليهم وأما التشديد في الآخرة فهو المراد من قوله وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً
واعلم أنه تعالى لما وصف طريقة الكفار والجهال من اليهود وصف طريقة المؤمنين منهم
لَّاكِنِ الرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَواة َ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَواة َ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً

في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن المراد من ذلك عبدالله بن سلام وأصحابه الراسخون في العلم الثابتون فيه وهم في الحقيقة المستدلون بأن المقلد يكون بحيث إذا شكك يشك وأما المستدل فإنه لا يتشكك البتة فالراسخون هم المستدلون والمؤمنون يعني المؤمنين منهم أو المؤمنين من المهاجرين والأنصار وارتفع الراسخون على الابتداء و يُؤْمِنُونَ خبره وأما قوله وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَواة َ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَواة َ ففيه أقوال الأول روي عن عثمان وعائشة أنهما قالا إن في المصحف لحناً وستقيمه العرب بألسنتها
واعلم أن هذا بعيد لأن هذا المصحف منقول بالنقل المتواتر عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فكيف يمكن ثبوت اللحن فيه الثاني وهو قول البصريين أنه نصب على المدح لبيان فضل الصلاة قالوا إذا قلت مررت بزيد الكريم فلك أن تجر الكريم لكونه صفة لزيد ولك أن تنصبه على تقدير أعني وءن شئت رفعت على تقدير هو الكريم وعلى هذا يقال جاءني قومك المطعمين في المحل والمغيثون في الشدائد والتقدير جاءني قومك أعني المطعمين في المحل وهم المغيثون في الشدائد فكذا ههنا تقدير الآية أعني المقيمين اللاة وهم المؤتون الزكاة طعن الكسائي في هذا القول وقال النصب على المدح إنما يكون بعد تمام الكلام وههنا لم يتم الكلام لأن قوله لَّاكِنِ الرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ منتظر للخبر والخبر هو قوله أُوْلَائِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً
والجواب لا نسلم أن الكلام لا يتم إلا عند قوله أُوْلَائِكَ لأنا بينا أن الخبر هو قوله يُؤْمِنُونَ وأيضاً لم لا يجوز الاعتراض بالمدح بين الاسم والخبر وما الدليل على امتناعه فهذا القول هو المعتمد في هذه الآية
والقول الثالث وهو اختيار الكسائي وهو أن المقيمين خفض بالعطف على ( ما ) في قوله بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ والمعنى والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالمقيمين الصلاة ثم عطف على قوله وَالْمُؤْمِنُونَ قوله وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَواة َ والمراد بالمقيمين الصلاة الأنبياء وذلك لأنه لم يخل شرع أحد منهم من الصلاة قال تعالى في سورة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بعد ذكر أعداداً منهم وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّة ً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ ( الأنبياء 73 ) وقيل المراد بالمقيمين الصلاة الملائكة الذين وصفهم الله بأنهم الصافون وهم المسبحون وأنهم يسبِّحون الليل والنهار لا يفترون فقوله يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يعني يؤمنون بالكتب وقوله وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَواة َ يعني يؤمنون بالرسل الرابع جاء في مصحف عبدالله بن مسعود إِلَى الصَّلَواة ِ بالواو وهي قراءة مالك بن دينار والجحدري وعيسى الثقفي
المسألة الثانية اعلم أن العلماء على ثلاثة أقسام الأول العلماء بأحكام الله تعالى فقط والثاني العلماء بذات الله وصفات الله فقط والثالث العلماء بأحكام الله وبذات الله أما الفريق الأول فهم العالمون بأحكام الله وتاليفه وشرائعه وأما الثاني فهم العالمون بذات الله وبصفاته الواجبة والجائزة والممتنعة وأما الثالث فهم الموصوفون بالعاملين وهم أكابر العلماء وإلى هذه الأقسام الثلاثة أشار النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله ( جالس العلماء وخالط الحكماء ورافق الكبراء )
وإذا عرفت هذا فنقول إنه تعالى وصفهم

بكونهم راسخين في العلم ثم شرح ذلك فبيّن أولاً كونهم عالمين بأحكام الله تعالى وعاملين بتلك الأحكام فأما علمهم بأحكام الله فهو المراد من قوله وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وأما عملهم بتلك الأحكام فهو المراد بقوله وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَواة َ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَواة َ وخصهما بالذكر لكونهما أشرف الطاعات لأن الصلاة أشرف الطاعات البدينة والزكاة أشرف الطاعات المالية ولما شرح كونهم عالمين بأحكام الله وعاملين بها شرح بعد ذلك كونهم عالمين بالله وأشرف المعارف العلم بالمبدأ والمعاد فالعلم بالمبدأ هو المراد بقوله وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والعلم بالمعاد هو المراد من قوله وَالْيَوْمِ الاْخِرِ ولما شرح هذه الأقسام ظهر كون هؤلاء المذكورين عالمين بأحكام الله تعالى وعاملين بها وظهر كونهم عالمين بالله وبأحوال المعاد وإذا حصلت هذه العلوم والمعارف ظهر كونهم راسخين في العلم لأن الإنسان لا يمكنه أن يتجاوز هذا المقام في الكمال وعلو الدرجة ثم أخبر عنهم بقوله أُوْلَائِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً
إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَآ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالاٌّ سْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَءَاتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّة ٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما حكى أن اليهود سألوا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أن ينزل عليهم كتاباً من السماء وذكر تعالى بعده أنهم لا يطلبون ذلك لأجل الاسترشاد ولكن لأجل العناد وللجاج وحكى أنواعاً كثيرة من فضائحهم وقبائحهم وامتد الكلام إلى هذا المقام شرع الآن في الجواب عن تلك الشبهة فقال إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيّينَ مِن بَعْدِهِ والمعنى أنا توافقنا على نبوّة نوح وإبراهيم وإسماعيل وجميع المذكورين في هذه الآية وعلى أن الله تعالى أوحى إليهم ولا طريق إلى العلم بكونهم أنبياء الله ورسله إلا ظهور المعجزات عليهم ولكل واحد منهم نوع آخر من المعجزات على التعيين وما أنزل الله على كل واحد من أنواع المعجزات عليهم علمنا أن هذه الشبهة زائلة وأن إصرار اليهود على طلب هذه المعجزة باطل وتحقيق القول فيه أن

إثبات المدلول يتوقف على ثبوت الدليل ثم إذا حصل الدليل وتم فالمطالبة بدليل آخر تكون طلباً للزيادة وإظهاراً للتعنت واللجاج والله سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فلا اعتراض عليه لأحد بأنه لم أعطى هذا الرسول هذه المعجزة وذلك الرسول الآخر معجزاً آخر وهذا الجواب المذكور ههنا هو الجواب المذكور في قوله تعالى وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الاْرْضِ يَنْبُوعًا ( الإسراء 90 ) إلى قوله قُلْ سُبْحَانَ رَبّى هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً ( الإسراء 93 ) يعني أنك إنما ادعيت الرسالة والرسول لا بدّ له من معجزة تدلّ على صدقه وذلك قد حصل وأما أن تأتي بكل ما يطلب منك فذاك ليس من شرط الرسالة فهذا جواب معتمد عن الشبهة التي أوردها اليهود وهو المقصود الأصلي من هذه الآية
المسألة الثانية قال الزجاج الإيحاء الإعلام على سبيل الخفاء قال تعالى فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبّحُواْ بُكْرَة ً وَعَشِيّاً ( مريم 11 ) أي أشار إليهم وقال وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيّينَ أَنْ ءامِنُواْ بِى ( المائدة 111 ) وقال وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ( النحل 68 ) وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمّ مُوسَى ( القصص 7 ) والمراد بالوحي في هذه الآيات الثلاثة الإلهام
المسألة الثالثة قالوا إنما بدأ تعالى بذكر نوح لأنه أول نبي شرع الله تعالى على لسانه الأحكام والحلال والحرام ثم قال تعالى وَالنَّبِيّينَ مِن بَعْدِهِ ثم خصّ بعض النبيّين بالذكر لكونهم أفضل من غيرهم كقوله وَمَلئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ( البقرة 98 )
واعلم أن الأنبياء المذكورين في هذه الآية سوى موسى عليه السلام إثنا عشر ولم يذكر موسى معهم وذلك لأن اليهود قالوا إن كنت يا محمد نبياً فأتنا بكتاب من السماء دفعة واحدة كما أتى موسى عليه السلام بالتوراة دفعة واحدة فالله تعالى أجاب عن هذه الشبهة بأن هؤلاء الأنبياء الأثنى عشر كلهم كانوا أنبياءً ورسلاً مع أن واحداً منهم ما أتى بكتاب مثل التوراة دفعة واحدة ثم ختم ذكر الأنبياء بقوله وَءاتَيْنَا دَاوُودُ زَبُوراً يعني أنكم اعترفتم بأن الزبور من عند الله ثم إنه ما نزل على داود دفعة واحدة في ألواح مثل ما نزلت التوراة دفعة واحدة على موسى عليه السلام في الألواح فدل هذا على أن نزول الكتاب لا على الوجه الذي نزلت التوراة لا يقدح في كون الكتاب من عند الله وهذا إلزام حسن قوي
المسألة الرابعة قال أهل اللغة الزبور الكتاب وكل كتاب زبور وهو مفعول بمعنى مفعول كالرسول والركوب والحلوب وأصله من زبرت بمعنى كتبت وقد ذكرنا ما فيه عند قوله جَاءوا بِالْبَيّنَاتِ وَالزُّبُرِ ( آل عمران 184 )
المسألة الخامسة قرأ حمزة زَبُوراً بضم الزاي في كل القرآن والباقون بفتحها حجة حمزة أن الزبور مصدر في الأصل ثم استعمل في المفعول كقولهم ضرب الأمير ونسج فلان فصار اسماً ثم جمع على زبر كشهود وشهد والمصدر إذا أقيم مقام المفعول فإنه يجوز جمعه كما يجمع الكتاب على كتب فعلى هذا الزبور الكتاب والزبر بضم الزاي الكتب أما قراءة الباقين فهي أولى لأنها أشهر والقراءة بها أكثر
ثم قال تعالى وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ

وأعلم أنه انتصب قوله رُسُلاً بمضمر يفسره قوله قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ والمعنى أنه تعالى إنما ذكر أحوال بعض الأنبياء في القرآن والأكثرون غير مذكورين على سبيل التفصيل
ثم قال وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً والمراد أنه بعث كل هؤلاء الأنبياء والرسل وخص موسى عليه السلام بالتكلم معه ولم يلزم من تخصيص موسى عليه السلام بهذا التشريف الطعن في نبوّة سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فكذلك لم يلزم من تخصيص موسى بإنزال التوراة عليه دفعة واحدة طعن فيمن أنزل الله عليه الكتاب لا على هذا الوجه وعن إبراهيم ويحيى بن وثاب أنهما قرأ وَكَلَّمَ اللَّهُ بالنصب وقال بعضهم وكلم الله معناه وجرح الله موسى بأظفار المحن ومخالب الفتن وهذا تفسير باطل
ثم قال تعالى رُّسُلاً مُّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّة ٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً وفيه مسائل
المسألة الأولى في انتصاب قوله رُسُلاً وجوه الأول قال صاحب ( الكشاف ) الأوجه أن ينتصب على المدح والثاني أنه انتصب على البدل من قوله وَرُسُلاً الثالث أن يكون التقدير أوحينا إليهم رسلاً فيكون منصوباً على الحال والله أعلم
المسألة الثانية أعلم أن هذا الكلام أيضاً جواب عن شبهة اليهود وتقريره أن المقصود من بعثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أن يبشروا الخلق على اشتغالهم بعبودية الله وأن ينذروهم على الإعراض عن العبودية فهذا هو المقصود الأصلي من البعثة فإذا حصل هذا المقصود فقد كمل الغرض وتمّ المطلوب وهذا المقصود الأصلي حاصل بإنزال الكتاب المشتمل على بيان هذا المطلوب ومن المعلوم أنه لا يختلف حال هذا المطلوب بأن يكون ذلك الكتاب مكتوباف في الألواح أو لم يكن وبأن يكون نازلاً دفعة واحدة أو منجماً مفرقاً بل لو قيل إن إنزال الكتاب منجماً مفرقاً أقرب إلى المصلحة لكان أولى لأن الكتاب إذا نزل دفعة واحدة كثرت التكاليف وتوجهت بأسرها على المكلفين فيثقل عليهم قبولها ولهذا السبب أصر قوم موسى عليه السلام على التمرد ولم يقبلوا تلك التكاليف أما إذا نزل الكتاب منجماً مفرقاً لم يكن كذلك بل ينزل التكاليف شيئاً فشيئاً وجزءاً فجزءاً فحينئذٍ يحصل الانقياد والطاعة من القوم وحاصل هذا لجواب أن المقصود من بعثة الرسل وإنزال الكتب هو الإعذار والإنذار وهذا المقصود حاصل سواء نزل الكتاب دفعة واحدة أو لم يكن كذلك فكان اقتراح اليهود في أنزال الكتاب دفعة واحدة اقتراحاً فاسداً وهذا أيضاً جواب عن تلك الشبهة في غاية الحسن ثم ختم الآية بقوله وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً يعني هذا الذي يطلبونه من الرسول أمر هين في القدرة ولكنكم طلبتموه على سبيل اللجاج وهو تعالى عزيز وعزته تقتضي أن لا يجاب المتعنت إلى مطلوبه فكذلك حكمته تقتضي هذا الامتناع لعلمه تعالى بأنه لو فعل ذلك لبقوا مصرين على لجاجهم وذلك لأنه تعالى أعطى موسى عليه السلام هذا التشريف ومع ذلك فقومه بقوا معه على المكابرة والإصرار وللجاج والله أعلم
المسألة الثالثة احتج أصحابنا بهذه الآية على أن وجوب معرفة الله تعالى لا يثبت إلا بالسمع قالوا لأن قوله لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّة ٌ بَعْدَ الرُّسُلِ يدل على أن قبل البعثة يكون للناس حجة في ترك الطاعات والعبادات ونظيره قوله تعالى وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ( الإسرار 15 ) وقوله وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ ءايَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى ( طه 134 )

المسألة الرابعة قالت المعتزلة دلت هذه الآية على أن العبد قد يحتج على الرب وأن الذي يقوله أهل السنة من أنه تعالى لا اعتراض عليه في شيء وأن له أن يفعل ما يشاء كما يشاء ليس بشيء قالوا لأن قوله لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّة ٌ بَعْدَ الرُّسُلِ يقتضي أن لهم على الله حجة قبل الرسل وذلك يبطل قول أهل السنة
والجواب المراد لئلا يكون للناس على لله حجة أي ما يشبه الحجة فيما بينكم قالت المعتزلة وتدل هذه الآية أيضاً على أن تكليق ما لا يطاق غير جائز لأن عدم إرسال الرسل إذا كان يصلح عذراً فبأن يكون عدم المكنة والقدرة صالحاً لأن يكون عذراً كان أولى وجوابه المعرضة بالعلم والله أعلم
لَّاكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَة ُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً
وفي الآية مسألتان
المسألة الأولى أعلم أن قوله لَكِنِ لا يبتدأ به لأنه استدراك على ما سبق وفي ذلك المستدرك قولان الأول أن هذه الآيات بأسرها جواب عن قوله يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مّنَ السَّمَاء ( النساء 153 ) وهذا الكلام يتضمن أن هذا القرآن ليس كتاباً نازلاً عليهم من السماء فكأنه قيل إنهم وإن شهدوا بأن القرآن لم ينزل عليه من السماء لكن الله يشهد بأنه نازل عليه من السماء الثاني أنه تعالى لما قال إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ( النساء 163 ) قال القوم نحن لا نشهد لك بذلك فنزل لَّاكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ
المسألة الثانية شهادة الله إنما عرفت بسبب أنه أنزل عليه هذا القرآن البالغ في الفصاحة في اللفظ والشرف في المعنى إلى حيث عجز الأولون والآخرون عن معارضته فكان ذلك معجزاً وإظهار المعجزة شهادة بكون المدعي صادقاً ولما كانت شهادته إنما عرفت بواسطة إنزال القرآن لا جرم قال لَّاكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أي يشهد لك بالنبوّة بواسطة هذا القرآن الذي أنزله إليك
ثم قال تعالى أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وفيه مسألتان
المسألة الأولى أنه تعالى لما قال يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ بين صفة ذلك الإنزال وهو أنه تعالى أنزله بعلم تام وحكمة بالغة فصار قوله أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ جارياً مجرى قول القائل كتبت بالقلم وقطعت بالسكين والمراد من قوله أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وصف القرآن بغاية الحسن ونهاية الكمال وهذا مثل ما يقال في الرجل المشهور بكمال الفشل والعلم إذا صنف كتاباً واستقصى في تحريره إنه إنما صنف هذا بكمال علمه وفضله يعني أنه اتخذ جملة علومه آلة ووسيلة إلى تصنيف هذا الكتاب فيدل ذلك على وصف ذلك التصنيف بغاية الجودة ونهاية الحسن فكذا ههنا والله أعلم

المسألة الثانية قال أصحابنا دلت الآية على أن لله تعالى علماً وذلك لأنها تدل على إثبات علم الله تعالى ولو كان علمه نفس ذاته لزم إضافة الشيء إلى نفسه وهو محال
ثم قال وَالْمَلَئِكَة ُ يَشْهَدُونَ وإنما تعرف شهادة الملائكة له بذلك لأن ظهور المعجز على يده يدل على أنه تعالى شهد به بالنبوة وإذا شهد الله له بذلك فقد شهدت الملائكة لا محالة بذلك لما ثبت في القرآن أنهم لا يسبقونه بالقول والمقصود كأنه قيل يا محمد إن كذبك هؤلاء اليهود فلا تبال بهم فإن الله تعالى وهو إله العالمين يصدقك في ذلك وملائكة السموات السبع يصدقونك في ذلك ومن صدقه ربّ العالمين وملائكة العرش والكرسي والسموات السبع أجمعون لم يلتفت إلى تكذيب أخس الناس وهم هؤلاء اليهود
ثم قال تعالى وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً والمعنى وكفى الله شهيداً وقد سبق الكلام في مثل هذا
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّواْ ضَلَالاَ بَعِيداً إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً وَكَانَ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً
أعلم أن هذا من صفات اليهود الذين تقدم ذكرهم والمراد أنهم كفروا بمحمد وبالقرآن وصدوا غيرهم عن سبيل الله وذلك بإلقاء الشبهات في قلوبهم نحو قولهم لو كان رسولاً لأتى بكتابه دفعة واحدة من السماء كما نزلت التوراة على موسى وقولهم إن الله تعالى ذكر في التوراة أن شريعة موسى لا تبدل ولا تنسخ إلى يوم القيامة وقولهم إن الأنبياء لا يكونون إلا من ولد هارون وداود وقوله قَدْ ضَلُّواْ ضَلَالاَ بَعِيداً وذلك لأن أشد الناس ضلالاً من كان ضالاً ويعتقد في نفسه أنه محق ثم إنه يتوسل بذلك الضلال إلى اكتساب المال والجاه ثم إنه يبل كنه جهده في إلقاء غيره في مثل ذلك الضلال فهذا الإنسان لا شك أنه قد بلغ في الضلال إلى أقصى الغايات وأعظم النهايات فلهذا قال تعالى في حقهم قَدْ ضَلُّواْ ضَلَالاَ بَعِيداً ولما وصف تعالى كيفية ضلالهم ذكر بعده وعيدهم فقال إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ محمداً بكتمان ذكر بعثته وصلموا عوامهم بإلقاء الشبهات في قلوبهم لَّمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ
وأعلم أنا إن حملنا قوله إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ على المعهود السابق لم يحتج إلى إضمار شرط في هذا الوعيد لأنا نحمل الوعيد في الآية على أقوام علم الله منهم أنهم يموتون على الكفر وإن حملناه على الاستغراق أضمرنا فيه شرط عدم التوبة ثم قال وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ
ثم قال تعالى خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً والمعنى أنه تعالى لا يهديهم يوم القيامة إلى الجنة بل يهديهم إلى طريق جهنم وَكَانَ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً انتصب خالدين على الحال والعامل فيه معنى لا ليهديهم لأنه

بمنزلة نعاقبهم خالدين وانتصب أَبَدًا على الظرف وكان ذلك على الله يسيراً والمعنى لا يتعذر عليه شيء فكان إيصال الألم إليهم شيئاً بعد شيء إلى غير النهاية يسيراً عليه وإن كان معتذراً على غيره
ياأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَأامِنُواْ خَيْراً لَّكُمْ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ والأرض وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً
أعلم أنه تعالى لما أجاب عن شبهة اليهود على الوجوه الكثيرة وبيّن فساد طريقتهم ذكر خطاباً عاماً يعمهم ويعم غيرهم في الدعوة إلى دين محمد عليه الصلاة والسلام فقال يَسِيراً يأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقّ مِن رَّبّكُمْ وهذا الحق فيه وجهان الأول أنه جاء بالقرآن القرآن معجز فيلزم أنه جاء بالحق من ربه والثاني أنه جاء بالدعوة إلى عبادة الله والاعراض عن غيره والعقل يدل على أن هذا هو الحق فيلزم أنه جاء بالحق من ربه
ثم قال تعالى يأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ يعين فآمنوا يكن ذلك الإيمان خيراً لكم مما أنتم فيه أي أحمد عقبة من الكفر وإن تكفروا فإن الله غني عن إيمانكم لأنه مالك السموات والأرض وخالقهما ومن كان كذلك لم يكن محتاجاً إلى شيء ويحتمل أن يكون المراد فإن ( صلى الله عليه وسلم ) ما في السموات والأرض ومن كان كذلك كان قادراً على إنزال العذاب الشديد عليكم لو كفرتم ويحتمل أن يكون المراد أنكم إن كفرتم فله ملك السموات والأرض وله عبيد يعبدونه وينقادون لأمره وحكمه
ثم قال تعالى وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً أي عليماً لا يخفى عليه من أعمال عباده المؤمنين والكافرين شيء و حَكِيماً لا يضيع عمل عامل منهم ولا يسوي بين المؤمن والكافر والمسيء والمحسن وهو كقوله أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِى الاْرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ( ص 28 )

يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا لن يستنكف المسيح أن يكون عبد لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته فسيحشرهم إليه جميعا فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا
واعلم أنه تعالى لما أجاب عن شبهات اليهود تكلم بعد ذلك مع النصارى في هذه الآية والتقدير يا أهل الكتاب من النصارى لا تغلوا في دينكم أي لا تفرطوا في تعظيم المسيح وذلك لأنه تعالى حكى عن اليهود أنهم يبالغون في الطعن في المسيح وهؤلاء النصارى يبالغون في تعظيمه وكلا طرفي قصدهم ذميم فلهذا قال النصارى لا تغلوا في دينكم وقوله ولا تقولوا على الله إلا الحق يعني لا تصفوا الله بالحلول والاتحاد في بدن الإنسان أو روحه ونزهوه عن هذه الأحوال ولما منهم عن طريق الغلو أرشدهم إلى طريق الحق وهو أن المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وعبده
وأما وقوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه
فاعلم أنا فسرنا الكلمة في قوله تعالى إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح آل عمران 45 والمعنى أنه وجد بكلمة الله وأمره من غير واسطة ولا نطفة كما قال إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون آل عمران 59 وأما قوله وروح منه ففيه وجوه الأول أنه جرت عادة الناتس أنهم إذا وصفوا شيئا بغاية الطهارة والنظافة قالوا إنه روح فلما كان عيسى لم يتكون من نطفة الأب وإنما تكون من نفخة جبريل عليه السلام لا جرم وصف بأنه روح والمراد من قوله منه التشريف والتفضيل كما يقال هذه نعمة من الله والمراد كون تلك النعمة كاملة شريفة الثاني أنه كانم سببا لحياة الخلق في أديانهم ومن كان كذلك وصف بأنه روح قال تعالى في صفة القرآن وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا الشورى 52 الثالث روح منه أي رحمة منه قيل في تفسير قوله تعالى وأيدهم بروح منه المجادلة 22 أي برحمة منه وقال عليه الصلاة والسلام { إنما رحمة مهداة } فلما كان عيسى رحمة من الله على الخلق من حيث أنه كان يرشدهم إلى مصالحهم في دينهم ودنياهم لا جرم سمي روحا منه الرابع أن الروح هو النفخ في كلام العرب فإن الروح والريح متقاربان فالروح عبارة عن نفخة جبريل وقوله منه يعني أن ذلك النفخ من جبريل كان بأمر الله وإذنه فهو منه وهذا كقوله فنفخنا فيها من روحنا الخامس قوله روح أدخل التنكير في لفظ روح وذلك يفيد التعظيم فكان المعنى وروح من الأرواح الشريفة القدسية العالية وقوله منه إضافة لذلك الروح إلى نفسه لأجل التشريف والتعظيم

ثم قال تعالى فآمنوا بالله ورسله أي أن عيسى من رسل الله فآمنوا به كإيمانكم بسائر الرسل ولا تجعلوه إلها
ثم قال ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خير لكم زفيه مسألتان
المسألة الأولى المعنى ولا تقولوا إن الله سبحانه واحد بالجواهر ثلاثة بالأقانيم
واعلم أن مذهب النصارى مجهول جدا والذي يتحصل منه أهم أثبوت ذاتا موصوفة بصفات ثلاثة إلا أنهم وإن سموها صفات فهي في الحقيقة ذوات بدليل أنهم يجوزون عليها الحلول في عيسى وفي مريم بأنفسها وإلا لما جوزوا عليها أن تحل في الغير وأن تفارق ذلك الغير مرة أخرى فهم وإن كانوا يسمونها بالصفات غلا أنهم في الحقيقة يثبتون دوات متعددة قائمة بأنفسها وذلك محض الكفر فلهذا المعنى قال تعالى ولا تقولوا ثلاثة انتهوا فأما إن حملنا الثلاثة على أنهم يثبتون صفات ثلاثة فهذا لا يمكن إنكاره وكيف لا نقول ذلك وإنا نقول هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام العالم الحي القادر المريد ونفهم من كل واحد من هذه الألفاظ غير ما نفهمه من اللفظ الآخر ولا معنى لتعدد الصفات إلا ذلك فلو كان القول بتعدد الصفات كفرا لزم رد جميع القرآن ولزم رد العقل من حيث أنا نعلم بالضرورة أن المفهوم من كونه تعالى عالما غير المفهوم من كونه تعالى قادرا أو حيا
المسألة الثانية قوله ثلاثة خبر مبتدأ محذوف ثم اختلفوا في تعيين ذلك المبتدأ على وجوه الأول ما ذكرناه أي ولا تقولوا الأقاليم ثلاثة الثاني قال الزجاج ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة وذلك لأن القرآن يدل على أن النصارى يقولون إن الله والمسيح ومريم ثلاثة آلهة والدليل عليه قوله تعالى أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله المائدة 116 الثالث قال الفراء ولا تقولوا هم ثلاثة كقوله سيقولون ثلاثة الكهف 22 زذلك لأن عيسى بن مريم مع الله تعالى بهذه العبارة يوهم كونهما ألهين وبالجملة فلا نرى مذهبا في الدنيا أشد ركاكة وبعدا عن العقل من مذهب النصارى
ثم قال تعالى انتهوا خير لكم وقد ذكرنا وجه انتصابه عند قوله فآمنوا خيرا لكم النساء 170
ثم أكد التوحيد بقوله إنما الله إله واحد ثم نزه نسه عن الولد بقوله سبحانه أن يكون له ولد ودلائل تنزيه الله عن الولد فد ذكرناها في سورة آل عمران وفي سورة مريم على الاستقصاء وقرأ الحسن إن يكون بكسر الهمزة من أن ورفع النون من يكون أي سبحانه ما يكون له ولد وعلى هذا التقدير فالكلام جملتان
ثم قال تعالى له ما في السموات والأرض
واعلم أنه سبحانه في كل موضع نزه نفسه عن الولد ذكر كونه ملكا ومالكا لما في السموات وما في الأرض فقال في مريم إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا مريم 93 والمعنى من كان مالكا لكل السموات والأرض ولكل ما فيها كان مالكا لعيسى ولمريم لأنهما كانا في السموات وفي الأرض وما كانا أعظم من عيرهما في الذوات والصفات وإذا كان مالكا لما هو أعظم منهما فبأن يكون مالكا

لهما أولى وإذا كانا مملوكين له فكيف مع هذا توهم كونهما له ولدا وزوجة
ثم قال وكفى بالله وكيلا والمعنى أن الله سبحانه كاف في تدبير المخلوقات وفي حفظ المحدثات فلا حاجة معه إلى القول بإثبات إله آخر وهو إشارة إلى ما يذكره المتكلمون من أنه سبحانه لما كان عالما بجميع المعلومات قادرا على كل المقدورات كان كافيا في الإلهية ولو فرضنا إلها معه آخر معه لكان معطلا لا فائدة فيه وذلك نقص والناقص لا يكون إلها
ثم قال تعالى لن يستنكف المسيح أن يكون عبد لله ولا الملائكة المقربون وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الزجاج لن يستنكف أي لن يأنف وأصله في اللغة من نكفت الدمع إذا نحيته بأصبعك عن خدك فتأويل لن يستنكف أي لن يتنغص ولن يمتنع وقال الأزهري سمعت المنذري يقول سمعت أبا العباس وقد سئل عن الاستنكاف فقال هو من النكف يقال ما عليه في هذا الأمر من نكف ولا وكف والنكف أن يقال له سوء واستنكف إذا وفع ذلك السوء عنه
المسألة الثانية روي أن وفد نجران قالوا لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لم تعيب صاحبنا قال ومن صاحبكم قالوا عيسى قال وأي سيء قلت قالوا تقول إنه عبد الله ورسوله قال إنه ليس بعار أن يكون عبد الله فنزلت هذه الآية وأنا أقول إنه تعالى لما أقام الحجة القاطعة على أن عيسى عبد الله ولا يجوز أن يكون ابنا له أشار بعده إلى حكاية شبهتهم وأجاب عنها وذلك لأن الشبهة التي عليها يعولون في إثبات أنه ابن الله هو أنه كان يخبر عن المغيبات لأنهم مطلعون على اللوح المحفوظ وأعلى حالا منه في القدرة لأن ثمانية منهم حملوا العرش على عظمته ثم إن الملائكة مع كمال حالهم في العلوم والقدرة لن يستنكفوا عن عبودية الله فكيف يستنكف المسيح عن عبوديته بسبب هذا القدر القليل الذي كان معه من العلم والقدرة وإذا حملنا الآية على ما ذكرناه صارت هذه الآيات متناسبة متتابعة ومناظرة شريفة كاملة فكان حمل الآية على هذا الوجه أولى
المسألة الثالثة استدل المعتزلة بهذه الآية على أن الملك أفضل من البشر وقد ذكرنا استدلالهم بها في تفسير قوله وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم البقرة 34 وأجبنا عن هذا الاستدلال بوجوه كثيرة والذي نقول ههنا إنا نسلن أن اطلاع الملائكة على المغيبات أكثر من اطلاع البشر عليها ونسلم أن قدرة الملائكة على التصرف في هذا العالم أشد من قدرة البشر كيف ويقال إن جبريل قلع مدائن قوله لوط بريشة واحدة من جناحه إنما النزاع في أن ثواب طاعات الملائكة أكثر أم ثواب طاعات البشر وهذه الآية لا تدل على ذلك البتة وذلك لأن النصارى إنما أثبتوا إلهية عيسى بسبب أنه أخبر عن الغيوب وأتى بخوارق العادات فإيراد الملائكة لأجل إبطال هذه الشبهة إنما يستقيم إذا كانت الملائكة أقوى حالا في هذا العلم وفي هذه القدرة من البشر ونحن نقول بموجبه فأما أن يقال المراد من الآية تفضيل الملائكة على المسيح في كثرة الثواب على الطاعات فذلك مما لا يناسب هذا الموضع ولا يليق به فظهر أن هذا الاستدلال إنما قوي في الأوهام لأن الناس ما لخصوا محل النزاع والله أعلم
المسألة الرابعة في الآية سؤال وهو أن الملائكة معطوفون على المسيح فيصير التقدير ولا

الملائكة المقربون في أن يكونوا عبيدا لله وذلك غير جائز
والجواب فيه وجهان أحدهما أن يكون المراد ولا كل واحد من المقربين والثاني أن يكون المراد ولا الملائكة المقربون أن يكونوا عبيدا فحذف ذلك لدلالة قول عبدا لله عليه على طريق الإيجاز
المسألة الخامسة قرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه عبيد الله على التصغير
المسألة السادسة قوله ولا الملائكة المقربون يدل على أن طبقات الملائكة مختلفة في الدرجة والفضيلة فالأكابر منهم مثل جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل وحملة العرش وقد شرحنا طبقاتهم في سورة البقرة في تفسير قوله وإذا قال ربك للملائكة البقرة 30
ثم قال تعالى ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا والمعنى أن من استنكف عن عبادة الله واستكبر عنها فإن الله يحشرهم إليه أي يجمعهم إليه يوم القيامة حيث لا يملكون لأنفسهم شيئا
واعلم أنه تعالى لما ذكر أنه يحشر هؤلاء المستنكفين المستكبرين لم يذكر ما يفعل بهم بل ذكر أولا ثواب المؤمنين المطيعين
فقال فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله ثم ذكر آخرا عقاب المستنكفين المستكبرين
فقال وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا والمعنى ظاهر لا إشكال فيه وإنما قدم ثواب المؤمنين على عقاب المستنكفين لأنهم إذا رأوا أولا ثواب المطيعين ثم شاهدوا بعده عقاب أنفسهم كان ذلك أعظم في الحسرة
يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِى رَحْمَة ٍ مَّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً
واعلم أنه تعالى لما أورد الحجة على جميع الفرق من المنافقين والكفار واليهود والنصارى وأجااب عن جميع شبهاتهم عمم الخطاب ودعا جميع الناس إلى الاعتراف برسالة محمد عليه الصلاة والسلام فقال نَصِيراً يَأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمْ بُرْهَانٌ مّن رَّبّكُمْ والبرهان هو محمد عليه الصلاة والسلام وإنما سماه برهاناً لأن حرفته إقامة البرهان على تحقيق الحق وإبطال الباطل والنور المبين هو القرآن وسماه نوراً لأنه سبب لوقوع نور الإيمان في القلب ولما قرر على كل العالمين كون محمد رسولاً وكون القرآن كتاباً حقاً أمرهم بعد ذلك أن يتمسكوا بشريعة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ووعدهم عليه بالثواب فقال فَأَمَّا الَّذِينَ ءامَنُواْ بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ والمراد آمنوا بالله في ذاته وصفاته وأفعاله وأحكامه وأسمائه واعتصموا به أي بالله في أن يثبتهم على الإيمان ويصونهم عن نزع الشيطان ويدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطاً مستقيماً فوعد بأمور ثلاثة الرحمة

والفضل والهداية قال ابن عباس الرحمة الجنة والفضل ما يتفضل به عليهم مما لا عين رأت ولا أذن سمعت وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُّسْتَقِيماً يريد ديناً مستقيماً
وأقول الرحمة والفضل محمولان على ما في الجنة من المنفعة والتعظيم وأما الهداية فالمراد منها السعادات الحاصلة بتجلي أنوار عالم القدس والكبرياء في الأرواح البشرية وهذا هو السعادة الروحانية وأخر ذكرها عن القسمين الأولين تنبيهاً على أن البهجة الروحانية أشرف من اللذات الجسمانية
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِى الْكَلَالَة ِ إِن امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَآ وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُوا إِخْوَة ً رِّجَالاً وَنِسَآءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الاٍّ نثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَى ْءٍ عَلِيمٌ
إعلم أنه تعالى تكلم في أول السورة في أحكام الأموال وختم آخرها بذلك ليكون الآخر مشاكلاً للأول ووسط السورة مشتمل على المناظرة مع الفرق المخالفين للدين قال أهل العلم إن الله تعالى أنزل في الكلالة آيتين إحداهما في الشتاء وهي التي في أول هذه السورة والأخرى في الصيف وهي هذه الآية ولهذا تسمى هذه الآية آية الصيف وقد ذكرنا أن الكلالة اسم يقع على الوارث وعلى الموروث فإن وقع على الوارث فهو من سوى الوالد والولد وإن وقع على الموروث فهو الذي مات ولا يرثه أحد الوالدين ولا أحد من الأولاد ثم قال إِن امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ ارتفع امرؤ بمضمر يفسره الظاهر ومحل لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ الرفع على الصفة أي إن هلك امرؤ غير ذي ولد
واعلم أن ظاهر هذه الآية فيه تقييدات ثلاث الأول أن ظاهر الآية يقتضي أن الأخت تأخذ النصف عند عدم الولد فأما عند وجود الولد فإنها لا تأخذ النصف وليس الأمر كذلك بل شرط كون الأخت تأخذ النصف أن لا يكون للميت ولد ابن فإن كان له بنت فإن الأخت تأخذ النصف الثاني أن ظاهر الآية يقتضي أنه إذا لم يكن للميت ولد فإن الأخت تأخذ النصف وليس كذلك بل الشرط أن لا يكون للميت ولد ولا والد وذلك أن الأخت لا ترث مع الوالد بالإجماع الثالث أن قوله وَلَهُ أُخْتٌ المراد منه الأخت من الأب والأم أو من الأب لأن الأخت من الأم والأخ من الأم قد بيّن الله حكمه في أول السورة بالإجماع
ثم قال تعالى وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَا وَلَدٌ يعني أن الأخ يستغرق ميراث الأخت إذا لم يكن للأخت ولد إلاّ أن هذا الأخ من الأب والأم أو من الأب أما الأخ من الأم فإنه لا يستغرق الميراث
ثم قال تعالى فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَة ً رّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظّ الاْنثَيَيْنِ

وهذه الآية دالة على أن الأخت المذكورة ليست هي الأخت من الأم فقط وروي أن الصديق رضي الله عنه قال في خطبته ألا أن الآية التي أنزلها الله في سورة النساء في الفرائض فأولها في الولد والوالد وثانيها في الزوج والزوجة والإخوة من الأم والآية التي ختم بها سورة النساء أنزلها في الأخوة والأخوات من الأب والأم والآية التي ختم بها سورة الأنفال أنزلها في أولي الأرحام
ثم قال تعالى يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وفيه وجوه الأول قال البصريون المضاف هاهنا محذوف وتقديره يبين الله لكمم كراهة أن تضلوا إلاّ أنه حذف المضاف كقوله وَاسْئَلِ الْقَرْيَة َ ( يوسف 82 ) الثاني قال الكوفيون حرف النفي محذوف والتقدير يبين الله لكم لئلا تضلوا ونظيره قوله إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أَن تَزُولاَ ( فاطر 41 ) أي لئلا تزولا الثالث قال الجرجاني صاحب ( النظم ) يبين الله لكم الضلالة لتعلموا أنها ضلالة فتجنبوها
ثم قال تعالى وَاللَّهُ بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ فيكون بيانه حقاً وتعريفه صدقاً
واعلم أن في هذه الصورة لطيفة عجيبة وهي أن أولها مشتمل على بيان كمال قدرة الله تعالى فإنه قال تُفْلِحُونَ يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَة ٍ ( النساء 1 ) وهذا دال على سعة القدرة وآخرها مشتمل على بيان كمال العلم وهو قوله وَاللَّهُ بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ وهذان الوصفان هما اللذان بهما تثبت الربوبية والإل هية والجلالة والعزة وبهما يجب على العبد أن يكون مطيعاً للأوامر والنواهي منقاداً لكل التكاليف
قال المصنف فرغت من تفسير هذه السورة يوم الثلاثاء ثاني عشر جمادى الآخرة من سنة خمس وتسعين وخمسمائة

سورة المائدة
مدنية وآياتها مائة وعشرون
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَة ُ الاٌّ نْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّى الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ
عَلِيمٌ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ في الآية مسائل
المسألة الأولى يقال وفى بالعهد وأوفى به ومنه وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ ( البقرة 177 ) والعقد هو وصل الشيء بالشيء على سبيل الاستيثاق والأحكام والعهد إلزام والعقد التزام على سبيل الأحكام ولما كان الإيمان عبارة عن معرفة الله تعالى بذاته وصفاته وأحكامه وأفعاله وكان من جملة أحكامه أنه يجب على جميع الخلق إظهار الانقياد لله تعالى في جميع تكاليفه وأوامره ونواهيه فكان هذا العقد أحد الأمور المعتبرة في تحقق ماهية الإيمان فلهذا قال عَلِيمٌ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ يعني يا أيها الذين التزمتم بإيمانكم أنواع العقود والعهود في إظهار طاعة الله أوفوا بتلك العقود وإنما سمى الله تعالى هذه التكاليف عقوداً كما في هذه الآية لأنه تعالى ربطها بعباده كما يربط الشيء بالشيء بالحبل الموثق
واعلم أنه تعالى تارة يسمي هذه التكاليف عقوداً كما في هذه الآية وكما في قوله وَلَاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الاْيْمَانَ ( المائدة 89 ) وتارة عهوداً قال تعالى وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ( البقرة 40 ) وقال وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الاْيْمَانَ ( النحل 91 ) وحاصل الكلام في هذه الآية أنه أمر بأداء التكاليف فعلاً وتركاً

المسألة الثانية قال الشافعي رحمه الله إذا نذر صوم يوم العيد أو نذر ذبح الولد لغا وقال أبو حنيفة رحمه الله بل يصح حجة أبي حنيفة أنه نذر الصوم والذبح فيلزمه الصوم والذبح بيان الأول أنه نذر صوم يوم العيد ونذر ذبح الولد وصوم يوم العيد ماهية مركبة من الصوم ومن وقوعه في يوم العيد وكذلك ذبح الولد ماهية مركبة من الذبح ومن وقوعه في الولد والآتي بالمركب يكون آتياً بكل واحد من مفرديه فملتزم صوم يوم العيد وذبح الولد يكون لا محالة ملتزماً للصوم والذبح
إذا ثبت هذا فنقول وجب أن يجب عليه الصوم والذبح لقوله تعالى أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ولقوله تعالى لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ ( الصف 2 ) ولقوله يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ( الإنسان 7 ) ولقوله عليه الصلاة والسلام ( ف بنذرك ) أقصء ما في الباب أنه لغا هذا النذر في خصوص كون الصوم واقعاً في يوم العيد وفي خصوص كون الذبح واقعاً في الولد إلاّ أن العام بعد التخصيص حجة وحجة الشافعي رحمه الله أن هذا نذر في المعصية فيكون لغواً لقوله عليه الصلاة والسلام ( لا نذر في معصية الله )
المسألة الثالثة قال أبو حنيفة رحمه الله خيار المجلس غير ثابت وقال الشافعي رحمه الله ثابت حجة أبي حنيفة أنه لما انعقد البيع والشراء وجب أن يحرم الفسخ لقوله تعالى أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ وحجة الشافعي تخصيص هذا العموم بالخبر وهو قوله عليه الصلاة والسلام ( المتبايعان بالخيار كل واحد منهما ما لم يتفرقا )
المسألة الرابعة قال أبو حنيفة رحمه الله الجمع بين الطلقات حرام وقال الشافعي رحمه الله ليس بحرام حجة أبي حنيفة أن النكاح عقد من العقود لقوله تعالى وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَة َ النّكَاحِ ( البقرة 235 ) فوجب أن يحرم رفعه لقوله تعالى أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ترك العمل به في الطلقة الواحدة بالإجماع فيبقى فيما عداها على الأصل والشافعي رحمه الله خصص هذا العموم بالقياس وهو أنه لو حرم الجمع لما نفذ وقد نفذ فلا يرحم
قوله تعالى أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَة ُ الاْنْعَامِ
إعلم أنه تعالى لما قرر بالآية الأولى على جميع المكلفين أنه يلزمهم الانقياد لجميع تكاليف الله تعالى وذلك كالأصل الكلي والقاعدة الجميلة شرع بعد ذلك في ذكر التكاليف المفصلة فبدأ بذكر ما يحل وما يحرم من المطعومات فقال أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَة ُ الاْنْعَامِ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قالوا كل حي لا عقل له فهو بهيمة من قولهم استبهم الأمر على فلان ءذا أشكل وهذا باب مبهم أي مسدود الطريق ثم اختص هذا الاسم بكل ذات أربع في البر والبحر والأنعام هي الإبل والبقر والغنم قال تعالى وَالاْنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْء إلى قوله وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ ( النحل 5 8 ) ففرق تعالى بين الأنعام وبين الخيل والبغال والحمير وقال تعالى مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ ( يس 71 72 ) وقال وَمِنَ الانْعَامِ حَمُولَة ً وَفَرْشًا كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ

إلى قوله ثَمَانِيَة َ أَزْواجٍ مّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ وإلى قوله وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ ( للأنعام 142 144 ) قال الواحدي رحمه الله ولا يدخل في اسم الأنعام الحافر لأنه مأخوذ من نعومة الوطء
إذا عرفت هذا فنقول في لفظ الآية سؤالات الأول أن البهيمة اسم الجنس والأنعام اسم النوع فقوله بَهِيمَة ُ الاْنْعَامِ يجري مجرى قول القائل حيوان الإنسان وهو مستدرك الثاني أنه تعالى لو قال أحلت لكم الأنعام لكان الكلام تاماً بدليل أنه تعالى قال في آية أخرى وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الاْنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ( الحج 30 ) فأي فائدة في زيادة لفظ البهيمة في هذه الآية الثالث أنه ذكر لفظ البهيمة بلفظ الوحدان ولفظ الأنعام بلفظ الجمع فما الفائدة فيه
والجواب عن السؤال الأول من وجهين الأول أن المراد بالبهيمة وبالأنعام شيء واحد وإضافة البهيمة إلى الأنعام للبيان وهذه الإضافة بمعنى مِنْ كخاتم فضة ومعناه البهيمة من الأنعام أو للتأكد كقولنا نفس الشيء وذاته وعينه الثاني أن المراد بالبهيمة شيء وبالأنعام شيء آخر وعلى هذا التقدير ففيه وجهان الأول أن المراد من بهيمة الأنعام الظباء وبقر الوحش ونحوها كأنهم أرادوا ما يماثل الأنعام ويدانيها من جنس البهائم في الاجترار وعدم الأنياب فأضيفت إلى الأنعام لحصول المشابهة الثاني أن المراد ببهيمة الأنعام أجنة الأنعام روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن بقرة ذبحت فوجد في بطنها جنين فأخذ ابن عباس بذنبها وقال هذا من بهيمة الأنعام وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنها أجنة الأنعام وذكاته ذكاة أمه
واعلم أن هذا الوجد يدل على صحة مذهب الشافعي رحمه الله في أن الجنين مذكى بذكاة الأم
المسألة الثانية قالت الثنوية ذبح الحيوانات إيلام والإيلام قبيح والقبيح لا يرضى به الإل ه الرحيم الحكيم فيمتنع أن يكون الذبح حلالاً مباحاً بحكم الله قالوا والذي يحقق ذلك أن هذه الحيوانات ليس لها قدرة عن الدفع عن أنفسها ولا لها لسان تحتج على من قصد إيلامها والإيلام قبيح إلاّ أن إيلام من بلغ في العجز والحيرة إلى هذا الحد أقبح
واعلم أن فرق المسلمين افترقوا فرقاً كثيرة بسبب هذه الشبهة فقالت المكرمية لا نسلم أن هذه الحيوانات تتألم عند الذبح بل لعلّ الله تعالى يرفع ألم الذبح عنها وهذا كالمكابرة في الضروريات وقالت المعتزلة لا نسلم أن الإيلام قبيح مطلقاً بل إنما يقبح إذا لم يكن مسبوقاً بجناية ولا ملحقاً بعوض وهاهنا الله سبحانه يعوض هذه الحيوانات في الآخرة بأعواض شريفة وحينئذ يخرج هذا الذبح عن أن يكون ظلماً قالوا والذي يدل على صحة ما قلناه ما تقرر في العقول أنه يحسن تحمل ألم الفصد والحجامة للطلب الصحة فإذا حسن تحمل الألم القليل لأجل المنفعة العظيمة فكذلك القول في الذبح وقال أصحابنا إن الاذن في ذبح الحيوانات تصرف من الله تعالى في ملكه والمالك لا اعتراض عليه إذا تصرف في ملك نفسه والمسألة طويلة مذكورة في علم الأصول والله أعلم
المسألة الثالثة قال بعضهم قوله أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَة ُ الاْنْعَامِ مجملل لأن الإحلال إنما يضاف إلى الأفعال وهاهنا أضيف إلى الذات فتعذر إجراؤه على ظاهره فلا بدّ من إضمار فعل وليس إضمار بعض

الأفعال أولى من بعض فيحتمل أن يكون المراد إحلال الانتفاع بجلدها أو عظمها أو صوفها أو لحمها أو المراد إحلال الانتفاع بالأكل ولا شك أن اللفظ محتمل للكل فصارت الآية مجملة إلاّ أن قوله تعالى وَالاْنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْء وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ( النحل 5 ) دل على أن المراد بقوله أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَة ُ الاْنْعَامِ إباحة الانتفاع بها من كل هذه الوجوه
واعلم أنه تعالى لما ذكر قوله أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَة ُ الاْنْعَامِ ألحق به نوعين من الاستثناء الأول قوله إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ واعلم أن ظاهر هذا الاستثناء مجمل واستثناء الكلام المجمل من الكلام المفصل يجعل ما بقي بعد الاستثناء مجملاً أيضاً إلاّ أن المفسرين أجمعوا على أن المراد من هذا الاستثناء هو المذكور بعد هده الآية وهو قوله حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة ُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَة ُ وَالْمَوْقُوذَة ُ وَالْمُتَرَدّيَة ُ وَالنَّطِيحَة ُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ( المائدة 3 ) ووجه هذا أن قوله أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَة ُ الاْنْعَامِ يقتضي إحلالها لهم على جميع الوجوه فبيّن الله تعالى أنها إن كانت ميتة أو موقوذة أو متردية أو نطيحة أو افترسها السبع أو ذبحت على غير اسم الله تعالى فهي محرمة
النوع الثاني من الاستثناء قوله تعالى غَيْرَ مُحِلّى الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وفيه مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى لما أحل بهيمة الأنعام ذكر الفرق بين صيدها وغير صيدها فعرفنا أن ما كان منها صيداً فإنه حلال في الإحلال فون الإحرام وما لم يكن صيداً فإنه حلال في الحالين جميعاً والله أعلم
المسألة الثانية قوله وَأَنتُمْ حُرُمٌ أي محرمون أي داخلون في الإحرام بالحج والعمرة أو أحدهما يقال أحرم بالحج والعمرة فهو محرم وحرم كما يقال أجنب فهو مجنب وجنب ويستوي فيه الواحد والجمع يقال قوم حرم كما يقال قوم جنب قال تعالى وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ ( المائدة 65 )
وأعلم أنا إذا قلنا أحرم الرجل فله معنيان الأول هذا والثاني أنه دخل الحرم فقوله وَأَنتُمْ حُرُمٌ يشتمل على الوجهين فيحرم الصيد على من كان في الحرم كما يحرم على من كان محرماً بالحج أو العمرة وهو قول الفقهاء
المسألة الثالثة أعلم أن ظاهر لآية يقتضي أن لصيد حرام على المحرم ونظير هذه الآية قوله تعالى وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ فإن إِذَا للشرط والمعلق بكلمة الشرط على الشيء عدم عند عدم ذلك الشيء إلا أنه تعالى بيّن في آية أخرى أن المحرم على المحرم إنما هو صيد البر لا صيد البحر قال تعالى أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَة ِ وَحُرّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً ( المائدة 96 ) فصارت هذه الآية بياناً لتلك الآيات المطلقة
المسألة الرابعة انتصب غَيْرِ على الحال من قوله أُحِلَّتْ لَكُمْ كما تقول أحل لكم الطعام غير معتدين فيه قال الفرّاء هو مثل قولك أحل لك الشيء لا مفرطاً فيه ولا متعدياً والمعنى أحلت لكم بهيمة

الأنعام إلا أن تحلوا الصيد في حال الإحرام فإنه لا يحل لكم ذلك إذ كنتم محرمين
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ والمعنى أنه تعالى أباح الأنعام في جميع الأحوال وأباح الصيد في بعض الأحوال دون بعض فلو قال قائل ما السبب في هذا التفصيل والتخصيص كان جوابه أي يقال أنه تعالى مالك الأشياء وخالقها فلم يكن على حكمه اعتراض بوجه من الوجوه وهذا هو الذي يقوله أصحابنا أن علة حسن التكليف هي الربوبية والعبودية لا ما يقوله المعتزلة من رعاية المصالح
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللَّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْى َ وَلاَ الْقَلَائِدَ وَلا ءَامِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ آلْعِقَابِ
قوله تعالى حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ اللَّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْى َ وَلاَ
أعلم أنه تعالى لما حرم الصيد على المحرم في الآية الأولى أكد ذلك بالنهي في هذه الآية عن مخالفة تكاليف الله تعالى فقال يُرِيدُ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ اللَّهِ
وأعلم أن الشعائر جمع والأكثرون على أنها جمع شعيرة وقال ابن فارس واحدها شعارة والشعيرة فعيلة بمعنى مفعلة والمشعرة المعلمة والأشعار الأعلام وكل شيء أشعر فقد أعلم وكل شيء جعل علماً على شيء أن علم بعلامة جاز أن يسمى شعيرة فالهدي الذي يهدى إلى مكة يسمى شعائر لأنهت معلمة بعلامات دالة على كونها هدايا واختلف المفسرون في المراد بشعائر الله وفيه قولان الأول قوله لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ اللَّهِ أي لا تخلوا بشيء من شعائر الله وفرائضه التي حدها لعباده وأوجبها عليهم وعلى هذا القول فشعائر الله عام في جميع تكاليفه غير مخصوص بشيء معين ويقرب منه قول الحسن شعائر الله دين الله والثاني أن المراد منه شيء خاص من التكاليف وعلى هذا القول فذكروا وجوهاً الأول المراد لا تحلوا ما حرّم الله عليكم في حال إحرامكم من الصيد والثاني قال ابن عباس إن المشركين كانوا يحجون البيت ويهدون الهدايا ويعظمون المشاعر وينحرون فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم فأنزل الله تعالى لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ اللَّهِ الثالث قال الفراء كانت عامة العرب لا يرون الصفا والمروة من شعائر الحج ولا يطوفون بهما فأنزل الله تعالى لا تستحلوا ترك شيء من مناسك الحج وائتوا بجميعها على سبيل الكمال والتما الرابع قال بعضهم الشعائر هي الهدايا تطعن في أسنامها وتقلد ليعلم أنها هدى وهو قول أبي عبيدة قال ويدل عليه قوله تعالى وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مّن شَعَائِرِ اللَّهِ ( الحج 36 ) وهذا عندي ضعيف لأنه تعالى ذكر شعائر الله ثم عطف عليها الهدى والعطوف يجب أن يكون مغايراً للمعطوف عليه
ثم قال تعالى وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ أي لا تحلو الشهر الحرام بالقتال فيه
وأعلم أن الشهر الحرام هو الشهر الذي كانت العرب تعظمه وتحرم القتال فيه قال تعالى إِنَّ عِدَّة َ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَة ٌ حُرُمٌ ( التوبة 36 ) فقيل هي ذو العقدة وذو الحجة والمحرم ورجب فقوله وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ يجوز أن يكون إشارة إلى

جميع هذه الأشهر كما يطلق اسم الواحد على الجنس ويجوز أن يكون المراد هو رجب لأنه أكمل الأشهر الأربعة في هده الصفة
ثم قال تعالى وَلاَ الْهَدْى َ قال الواحدي الهدي ما أهدي إلى بيت الله من ناقة أو بقرة أو شاة واحدها هدية بتسكين الدال ويقال أيضاً هدية وجمعها هدى قال الشاعر
حلفت برب مكة والمصلى
وأعناق الهدى مقلدات ونظير هذه الآية قوله تعالى هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَة ِ ( المائدة 95 ) وقوله وَالْهَدْى َ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ( الفتح 25 )
ثم قال تعالى وَلاَ الْقَلَائِدَ والقلائد جمع قلادة وهي التي تشد على عنق العبير وغيره وهي مشهورة وفي التفسير وجوه الأول المراد منه الهدى ذوات القلائد وعطفت على الهدي مبالغة في التوصية بها لأنها أشرف الهدي كقوله وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ( البقرة 98 ) كأنه قيل والقلائد منها خصوصاً الثاني أنه نهى عن التعرض لقلائد الهدي مبالغة في النهي عن التعرض للهدي على معنى ولا تحلوا قلائدها فضلاً عن أن تحلوها كما قال وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ ( النور 31 ) فهنى عن إبداء الزينة مبالغة في النهي عن إبداء مواضعها الثالث قال بعضهم كانت العرب في الجاهلية موظبين على المحاربة إلا في الأشهر الحرم فمن وجد في غير هذه الأشهر الحرم أصيب منه إلا أن يكون مشعراً بدنة أو بقرة من لحاء شجر الحرم أو محرماً بعمرة إلى البيت فحينئذٍ لا يتعرض له فأمر الله المسلمين بتقرير هذا المعنى
ثم قال وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ أي قوماً قاصدين المسجد الحرام وقرأ عبد الله ولا آمي البيت الحرام على الإضافة
ثم قال تعالى يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّن رَّبّهِمْ وَرِضْواناً وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حميد بن قيس الأعرج تَبْتَغُونَ بالتاء على خطاب المؤمنين
المسألة الثانية في تفسير الفضل والرضوان وجهان الأول يبتغون فضلاً من ربهم بالتجارة المباحة لهم في جحهم كقوله لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ ( البقرة 198 ) قالوا نزلت في تجاراتهم أيام الموسم والمعنى لا تمنعوهم فإنما قصدوا البيت لإصلاح معاشهم ومعادهم فابتغاء الفضل للدنيا وابتغاء الرضوان للآخرة قال أهل العلم إن المشركين كانوا يقصدون بحجهم ابتغاء رضوان الله وإن كانوا لا ينالون ذلك فلا يبعد أن يحصل لهم بسبب هذا القصد نوع من الحرمة

والوجه الثاني أن المراد بفضل الله الثواب وبالرضون أن يرضى عنهم وذلك لأن الكافر وإن كان لا ينال الفضل والرضوان لكنه يظن أنه بفعله طالب لهما فيجوز أن يوصف بذلك بناءً على ظنه قال تعالى وَانظُرْ إِلَى إِلَاهِكَ ( طه 97 ) وقال ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ( الدخان 49 )
المسألة الثالثة ااختلف الناس فقال بعضهم هذه الآية منسوخة لأن قوله لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ اللَّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ يقتضي حرمة القتال في الشهر الحرام وذلك منسوخ بقوله اقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ( التوبة 5 ) قوله وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ يقتضي حرمة منع المشركين عن المسجد الحرام وذلك منسوخ بقوله فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَاذَا ( البقرة 28 ) وهذا قول كثير من المفسرين كابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة وقال الشعبي لم ينسخ من سورة المائدة إلا هذه الآية وقال قوم آخرون من المفسرين هذه الآية غير منسوخة وهؤلاء لهم طريقان الأول أن الله تعالى أمرن في هذه الآية أن لا نخيف من يقصد بيته من المسلمين وحرم علينا أخذ الهدى من المهدين إذا كانوا مسلمين والدليل عليه أول الآية وآخرها أما أول الآية فهو قوله لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ اللَّهِ وشعائر الله إنما تليق بنسك المسلمين وطاعاتهم لا بنسك الكفار وأما رخر ااية فهو قوله يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّن رَّبّهِمْ وَرِضْواناً وهذا إنما يليق بالمسلم لا بالكافر الثاني قال أبو مسلم الأصفهاني المراد بالآية الكفار الذين كانوا في عهد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فلما زال العهد بسورة براءة زال ذلك الحظر ولزم المراد بقوله تعالى فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَاذَا
ثم قال تعالى وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وفي مسائل
المسألة الأولى قريء وإذا أحللتم يقال حل المحرم وأحل وقريء بكسر الفاء وقيل هو بدل من كسر الهمزة عند الابتداء
المسألة الثانية هذه الآية متعلقة بقوله غَيْرَ مُحِلّى الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ ( المائدة 1 ) يعني لما كان المانع من حل الاصطياد هو الإحرام فإذا زال الاحرام وجب أن يزول المنع
المسألة الثالثة ظاهر الأمر وإن كان للوجوب إلا أنه لا يفيد ههنا إلا بالإباحة وكذا في قوله فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَواة ُ فَانتَشِرُواْ فِى الاْرْضِ ( الجمعة 10 ) ونظيره قول القائل لا تدخلن هذه الدار حتى تؤدي ثمنها فإذا أديت فادخلها أي فإذا أديت فقد أبيح لك دخولها وحاصل الكلام أنا إنما عرفنا أن الأمر ههنا لم يفد الوجوب بدليل منفصل والله أعلم
ثم قال تعالى وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال القفال رحمه الله هذا معطوف على قوله لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ اللَّهِ إلى قوله وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ يعني ولا تحملنكم عداوتكم لقوم من أجل أنهم صدوكم عن المسجد الحرام على أن تعتدوا فتمنعوهم عن المسجد الحرام فإن الباطل لا يجوز أن يعتدى به وليس للناس أن يعين بعضهم بعضاً على العدوان حتى إذا تعدى واحد منهم على الآخر تعدى ذلك الآخر عليه لكن الواجب أن يعين بعضهم بعضاً على ما فيه البر والتقوى فهذا هو المقصود من الآية

المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) جَرَمَ يجري مجرى كسب في تعديه تارة إلى مفعول واحد وتارة إلى إثنين تقول جرم ذنباً نحو كسبه وجرمته ذنباً نحو كسبته إياه ويقال أجرمته ذنباً على نقل المتعدي إلى مفعول بالهمزة إلى مفعولين كقولهم أكسبته ذنباً وعليه قراءة عبد الله وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ بضم الياء وأول المفعولين على القراءتين ضمير المخاطبين والثاني أن تعتدوا والمعنى لا يكسبنكم بغض قوم لأن صدوكم الاعتداء ولا يحملنكم عليه
المسألة الثالثة الشنآن البغض يقال شنأت الرجل أشنؤه شنأ ومشنأ
ومشنأة وشنآنا بفتح الشين وكسرها ويقال رجل شنآن وامرأة شنآنة مصروفان ويقال شنآن بغير صرف وفعلان قد جاء وصفاً وقد جاء مصدراً
المسألة الرابعة قرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وإسماعيل عن نافع بجزم النون الأولى والباقون بالفتح قالوا والفتح أجود لكثرة نظائرها في المصادر كالضربان والسيلان والغليان والغشيان وأما بالسكون فقد جاء في الأكثر وصفاً قال الواحدي ومما جاء مصدراً كقولهم لويته حقه ليانا وشنان في قول أبي عبيدة وأنشد للأحوص
وإن غاب فيه ذو الشنان وفندا
فقوله ذو الشنان على التخفيف كقولهم إني ظمان وفلان ظمان بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على ما قبلها
المسألة الخامسة قرأ ابن كثير وأبو عمرو أَن صَدُّوكُمْ بكسر الألف على الشرط والجزاء والباقون بفتح الألف يعني لأن صدوكم قال محمد بن جرير الطبري وهذه القراءة هي الاختيار لأن معنى صدهم إياهم عن المسجد الحرام منع أهل مكة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنين يوم الحديبية عن العمرة وهذه السورة نزلت بعد الحديبية وكان هذا الصد متقدماً لا محالة على نزول هذه الآية
ثم قال تعالى وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ آلْعِقَابِ والمراد منه التهديد والوعيد يعني اتقوا الله ولا تستحلوا شيئاً من محارمه إن الله شديد العقاب لا يطيق أحد عقابه
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة ُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَة ُ وَالْمَوْقُوذَة ُ وَالْمُتَرَدِّيَة ُ وَالنَّطِيحَة ُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالاٌّ زْلاَمِ ذالِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِى مَخْمَصَة ٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
قوله تعالى حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة ُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَة ُ وَالْمَوْقُوذَة ُ وَالْمُتَرَدّيَة ُ وَالنَّطِيحَة ُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ
إعلم أنه تعالى قال في أول السورة أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَة ُ ( المائدة 1 ) ثم ذكر فيه استثناء أشياء تتلى عليكم فههنا ذكر الله تعالى تلك الصور المستثناة من ذلك العموم وهي أحد عشر نوعاً الأول الميتة وكانوا

يقولون إنكم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله
وأعلم أن تحريم الميتة موافق لما في العقول لأن الدم جوهر لطيف جداً فإذا مات الحيوان حتف أنفه احتبس الدم في عروقه وتعفن وفسد وحصل من أكله مضار عظيمة والثاني الدم قال صاحب ( الكشاف ) كانوا يملؤون المعي من الدم ويشوونه ويطعمونه المعي من الدم ويشوونه ويطعمونه الضيف فالله تعالى حرم ذلك عليهم والثالث لحم الخنزير قال أهل العلم الغذاء يصير جزءاً من جوهر المغتذي فلا بدّ أن يحصل للمغتذي أخلاق وصفات من جنس ما كان حاصلاً في الغذاء والخنزير مطبوع على حرص عظيم ورغبة شديدة في المشتهيات فحرم أكله على الإنسان لئل يتكيف بتلك الكيفية وأما الشاة فإنها حيوان في غاية السلامة فكأنها ذات عارية عن جميع الأخلاق فلذلك لا يحصل للإنسان بسبب أكل لحمها كيفية أجنبية عن أحوال الإنسان الرابع ما ى هل لغير الله به والإهلال رفع الصوت ومنه يقال أهل فلان بالحج إذا لبى به ومنه استهل الصبي وهو صراخة إذا ولد وكانوا يقولون عند الذبح باسم اللآت والعزى فحرم الله تعالى ذلك والخامس المنخنقة يقال خنقة فاختنق والخنق والاختناق انعصار الحلق
وأعلم أن المنخنقة على وجوه منها أن أهل الجاهلية كانوا يخنقون الشاة فإذا ماتت أكلوها ومنها ما يخنق بحبل الصائد ومنها ما يدخل رأسها بين عودين في شجرة فتختنق فتموت وبالجملة فبأي وجه اختنقت فهي حرام
وأعلم أن هذه المنخنقة من جنس الميتة لأنها لما ماتت وما سال دمها كانت كالميت حتف أنفه والسادس الموقوذة وهي التي ضربت إلى أن ماتت يقال وقذها وأوقذها إذا ضربها إلى أن ماتت ويدخل في الموقوذة ما رمي بالندق فمات وهي أيضاً في معنى الميتة وفي معنى المنخنقة فءنها ماتت ولم يسل دمها السابع المتردية والمتردي هو الواقع في الردى وهو الهلاك قال تعالى لِلْعُسْرَى وَمَا يُغْنِى عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى ( الليل 11 ) أي وقع في النار ويقال فلان تردى من السطح فالمتردية هي التي تسقط من جبل أو موضع مشرف فتموت وهذا أيضاً من الميتة لأنها ماتت وما سال منها الدم ويدخل فيه ما إذا أصابه سهم وهو في الجبل فسقط على الأرض فإنه يحرم أكله لأنه لا يعلم أنه مات بالتردي أو بالسهم والثامن النطيحة وهي المنطوحة إلى أن ماتت وذلك مثل شاتين تناطحا إلى أن ماتا أو مات أحدهما وهذا أيضاً داخل في الميتة لأنها ماتت من غير سيلان الدم
وأعلم أن دخول الهاء في هذه الكلمات الأربع أعني المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة إنما كان لأنها صفات لموصوف مؤنث وهو الشاة كأنه قيل حرمت عليكم الشاة المنخنقة والموقوذة وخصت الشاة لأنها من أعم ما يأكله الناس والكلام يخرج على الأعم الأغلب ويكون المراد هو الكل
فإن قيل لم أثبت الهاء في النطيحة مع أنها كانت في الأصل منطوحة فعدل بها إلى النطيحة وفي مثل هذا الموضع تكون الهاء محذوفة كقولهم كف خضيب ولحية دهين وعين كحيل
قلنا إنما تحذف الهاء من الفعلية إذا كانت صفة لموصوف يتقدمها فإذا لم يذكر الموصوف وذكرت الصفة وضعتها موضع الموصوف تقول رأيت قتيلة بني فلان بالهاء لأنك إن لم تدخل الهاء لم يعرف أرجل هو أو امرأة فعلى هذا إنما دخلت الهاء في النطيحة لأنها صفة لمؤنث غير مذكور وهو الشاة والتاسع قوله

وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ذَكَّيْتُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى السبع اسم يقع على ما له ناب ويعدو على الإنسان والدواب ويفترسها مثل الأسد وما دونه ويجوز التخفيف في سبع فيقال سبع وسبعة وفي رواية عن أبي عمرون السبع بسكون الباء وقرأ ابن عباس وأكيل السبع
المسألة الثانية قال قتادة كان أهل الجاهلية إذا جرح السبع شيئاً فقتله وأكل بعضه أكلوا ما بقي فحرمه الله تعالى وفي الآية محذوف تقديره وما أكل منه السبع لأن ما أكله السبع فقد نفذ ولا حكم له وإنما الحكم للباقي
المسألة الثالثة أصل الذكاء في اللغة إتمام الشيء ومنه الذكاء في الفهم وهو تمامه ومنه الذكاء في السن وقيل جري المذكيات غلاب أي جري المسنات التي قد أسنت وتأويل تمام السن النهاية في الشباب فإذا نقص عن ذلك أو زاد فلا يقال له الذكاء في السن ويقال ذكيت النار أي أتممت إشعالها
إذا عرفت هذا الأصل فنقول الاستثناء المذكور في قوله إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ فيه أقوال الأول أنه استثناء من جميع ما تقدم من قوله وَالْمُنْخَنِقَة ُ إلى قوله وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ وهو قول عي وابن عباس والحسن وقتادة فعلى هذا أنك إن أدركت ذكاته بأن وجدت له عيناً تطرف أو ذنباً يتحرك إو رجلاً تركض فاذبح فإنه حلال فإنه لولا بقاء الحياة فيه لما حصلت هذه الأحوال فلما وجدتها مع هذه الأحوال دل على أن الحياة بتمامها حاصلة فيه
والقول الثاني أن هذا الاستثناء مختص بقوله وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ
والقول الثالث أنه استثناء منقطع كأنه قيل لكن ما ذكيتم من غير هذا فهو حلال
والقول الرابع أنه استثناء من التحريم لا من المحرمات يعني حرم عليكم ما مضى إلا ما ذكيتم فإنه لكم حلال وعلى هذا التقدير يكون الاستثناء منقطعاً أيضاً العاشر من المحرمات المذكورة في هذه الآية قوله تعالى وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وفيه مسألتان
المسألة الأولى النصب يحتمل أن يكون جمعاً وأن يكون واحداً فإن قلنا إنه جمع ففي واحده ثلاثة أوجه الأول أن واحده نصاب فقولنا نصاب ونصب كقولنا حما وحمر الثاني أن واحده النصب فقولنا نصب ونصب كقولنا سقف وسقف ورهن ورهن وهو قول ابن الأنباري والثالث أن واحدة النصبة قال الليث النصب جمع النصبة وهي علامة تنصب لقوم أما إن قلنا أن النصب واحد فجمعه أنصاب قفولنا نصب وأنصاب كقولنا طنب وأطناب قال الأزهري وقد جعل الأعشى النصب واحداً فقال
ولا النصب المنصوب لا تنسكنه
لعاقبة والله ربك فاعبدا المسألة الثانية من الناس من قال النصب هي الأوثان وهذا بعيد لأن هذا معطوف على قوله وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وذلك هو الذبح على اسم الأثان ومن حق المعطوف أن يكون مغايراً للمعطوف عليه وقال ابن جريج النصب ليس بأصنام فإن الأصنام أحجار مصورة منقوشة وهذه النصب أحجار كانوا

ينصبونها حول الكعبة وكانوا يذبحون عندها للأصنام وكانوا يلطخونها بتلك الدماء ويضعون اللحوم عليها فقال المسلمون يا رسول الله كان أهل الجاهلية يعظنون البيت بالدم فنحن أحق أن نعظمه وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لم ينكره فأنزل الله تعالى لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا ( الحج 37 )
واعلم أن مَا في قوله وَمَا ذُبِحَ في محل الرفع لأنه عطف على قوله حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة ُ إلى قوله وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ
واعلم أن قوله وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ فيه وجهان أحدهما وما ذبح على اعتقاد تعظيم النصب والثاني وما ذبح للنصب و ( اللام ) و ( على ) يتعاقبان قال تعالى فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ( الواقعة 91 ) أي فسلام عليك منهم وقال وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ( الإسراء 7 ) أي فعليها
النوع الحادي عشر قوله تعالى وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالاْزْلاَمِ قال القفال رحمه الله ذكر هذا في جملة المطاعم لأنه مما أبدعه أهل الجاهلية وكان موافقاً لما كانوا فعلوه في المطاعم وذلك أن الذبح على النصب إنما كان يقع عند البيت وكذا الاستقسام بالأزلام كانوا يوقعونه عند البيت إذا كانوا هناك وفيه مسألتان
المسألة الأولى في الآية قولان الأول كان أحدهم إذا أراد سفراً أو غزواً أو تجارة أو نكاحاً أو أمراً آخر من معاظم الأمور ضرب بالقداح وكانوا قد كتبوا على بعضها أمرني ربي وعلى بعضها نهاني ربي وتركوا بعضها خالياً عن الكتابة فإن خرج الأمر أقدم على الفعل وإن خرج النهي أمسك وإن خرج الغفل أعاد العمل مرة أخرى فمعنى الاستقسام بالأزلام طلب معرفة الخير والشر بواسطة ضرب القداح الثاني قال المؤرخ وكثير من أهل اللغة الاستقسام هنا هو الميسر المنهى عنه والأزلام قداح الميسر والقول الأول اختيار الجمهور
المسألة الثانية الأزلام القداح واحدها زلم ذكره الأخفش وإنما سميت القداح بالأزلام لأنها زلمت أي سويت ويقال رجل مزلم وامرأة مزلمة إذا كان خفيفاً قليل العلائق ويقال قدح مزلم وزلم إذا ظرف وأجيد قده وصنعته وما أحسن ما زلم سهمه أي سواه ويقال لقوائم البقر أزلام شبهت بالقداح للطافتها
ثم قال تعالى ذالِكُمْ فِسْقٌ وفيه وجهان الأول أن يكون راجعاً إلى الاستقسام بالأزلام فقط ومقتصراً عليه والثاني أن يكون راجعاً إلى جميع ما تقدم ذكره من التحليل والتحريم فمن خالف فيه راداً على الله تعالى كفر
فإن قيل على القول الأول لم صار الاستقسام بالأزلام فسقاً أليس أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان يحب الفأل وهذا أيضاً من جملة الفأل فلم صار فسقاً
قلنا قال الواحدي إنما يحرم ذلك لأنه طلب لمعرفة الغيب وذلك حرام لقوله تعالى وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً ( لقمان 34 ) وقال قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ ( النمل 65 ) وروى أبو الدرداء عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( من تكهن أو استقسم أو تطير طيرة ترده عن سفره لم ينظر إلى الدرجات العلى من الجنة يوم القيامة )
ولقائل أن يقول لو كان طلب الظن بناء على الإمارات المتعارفة طلباً لمعرفة الغيب لزم أن يكون علم

التعبير غيباً أو كفراً لأنه طلب للغيب ويلزم أن يكون التمسك بالفأل كفراً لأنه طلب للغيب ويتعين أن يكون أصحاب الكرامات المدعون للإلهامات كفاراً ومعلوم أن ذلك كله باطل وأيضاً فالآيات إنما وردت في العلم والمستقسم بالأزلام نسلم أنه لا يستفيد من ذلك علماً وإنما يستفيد من ذلك ظناً ضعيفاً فلم يكن ذلك داخلاً تحت هذه الآيات وقال قوم آخرون أنهم كانوا يحملون تلك الأزلام عند الأصنام ويعقدون أن ما يخرج من الأمر والنهي على تلك الأزلام فبإرشاد الأصنام وإعانتهم فلهذا السبب كان ذلك فسقاً وكفراً وهذا القول عندي أولى وأقرب
قوله تعالى الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ
اعلم أنه تعالى لما عدد فيما مضى ما حرّمه من بهيمة الأنعام وما أحله منها ختم الكلام فيها بقوله ذالِكُمْ فِسْقٌ والغرض منه تحذير المكلفين عن مثل تلك الأعمال ثم حرضهم على التمسك بما شرع لهم بأكمل ما يكون فقال الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ أي فلا تخافوا المشركين في خلافكم إياهم في الشرائع والأديان فإني أنعمت عليكم بالدولة القاهرة والقوة العظيمة وصاروا مقهورين لكم ذليلين عندكم وحصل لهم اليأس من أن يصيروا قاهرين لكم مستولين عليكم فإذا صار الأمر كذلك فيجب عليكم أن لا تلتفتوا إليهم وأن تقبلوا على طاعة الله تعالى والعمل بشرائعه وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قوله الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فيه قولان الأول أنه ليس المراد هو ذلك اليوم بعينه حتى يقال إنهم ما يئسوا قبله بيوم أو يومين وإنما هو كلام خارج على عادة أهل اللسان معناه لا حاجة بكم الآن إلى مداهنة هؤلاء الكفار لأنكم الآن صرتم بحيث لا يطمع أحد من أعدائكم في توهين أمركم ونظيره قوله كنت بالأمس شاباً واليوم قد صرت شيخاً ولا يريد بالأمس اليوم الذي قبل يومك ولا باليوم يومك الذي أنت فيه
والقول الثاني أن المراد به يوم نزول هذه الآية وقد نزلت يوم الجمعة وكان يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع سنة عشر والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) واقف بعرفات على ناقته العضباء
المسألة الثانية قوله يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فيه قولان الأول يئسوا من أن تحللوا هذه الخبائث بعد أن جعلها الله محرمة والثاني يئسوا من أن يغلبوكم على دينكم وذلك لأنه تعالى كان قد وعد بإعلاء هذا الدين على كل الأديان وهو قوله تعالى لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ ( التوبة 33 ) ( الفتح 28 ) ( الصف 9 ) فحقق تلك النصرة وأزال الخوف بالكلية وجعل الكفار مغلوبين بعد أن كانوا غالبين ومقهورين بعد أن كانوا قاهرين وهذا القول أولى

المسألة الثالثة قال قوم الآية دالة على أن التقية جائزة عند الخوف قالوا لأنه تعالى أمرهم بإظهار هذه الشرائع وإظهار العمل بها وعلل ذلك بزوال الخوف من جهة الكفار وهذا يدل على أن قيام الخوف يجوز تركها
ثم قال تعالى الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسْلاَمَ دِيناً وفيه مسائل
المسألة الأولى في الآية سؤال وهو أن قوله الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ يقتضي أن الدين كان ناقصاً قبل ذلك وذلك يوجب أن الدين الذي كان ( صلى الله عليه وسلم ) مواظباً عليه أكثر عمره كان ناقصاً وأنه إنما وجد الدين الكامل في آخر عمره مدة قليلة
واعلم أن المفسرين لأجل الاحتراز عن هذا الاشكال ذكروا وجوهاً الأول أن المراد من قوله أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ هو إزالة الخوف عنهم وإظهار القدرة لهم على أعدائهم وهذا كما يقول الملك عندما يستولي على عدوه ويقهره قهراً كلياً اليوم كمل ملكنا وهذا الجواب ضعيف لأن ملك ذلك الملك كان قبل قهر العدو ناقصاً الثاني أن المراد إني أكملت لكم ما تحتاجون إليه في تكاليفكم من تعلم الحلال والحرام وهذا أيضاً ضعيف لأنه لو لم يكمل لهم قبل هذا اليوم ما كانوا محتاجين إليه من الشرائع كان ذلك تأخيراً للبيان عن وقت الحاجة وأنه لا يجوز الثالث وهو الذي ذكره القفال وهو المختار أن الدين ما كان ناقصاً البتة بل كان أبداً كاملاً يعني كانت الشرائع النازلة من عند الله في كل وقت كافية في ذلك الوقت إلا أنه تعالى كان عالماً في أول وقت المبعث بأن ما هو كامل في هذا اليوم ليس بكامل في الغد ولا صلاح فيه فلا جرم كان ينسخ بعد الثبوت وكان يزيد بعد العدم وأما في رخر زمان المبعث فأنزل الله سريعة كاملة وحكم ببقائها إلى يوم القيامة فالشرع أبداً كان كاملاً إلا أن الأول كمال إلى زمان مخصوص والثاني كمال إلى يوم القيامة فلأجل هذا المعنى قال الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
المسألة الثانية قال نفاة القياس دلت الآية على أن القياس بالطل وذلك لأن الآية دلت على أنه تعالى قد نص على الحكم في جميع الوقائع إذ لو بقي بعضها غير مبين الحكم لم يكن الدين كاملاً وإذا حصل النص في جميع الوقائع فالقياس إن كان على وفق ذلك النص كان عبثاً وإن كان على خلافه كان باطلاً
أجاب مثبتو القياس بأن المراد بإكمال الدين أنه تعالى بيّن حكم جميع الوقائع بعضها بالنص وبعضها بأن بين طريق معرفة الحكم فيها على سبيل القياس فإنه تعالى لما جعل الوقائع قسمين أحدهما التي نص على أحكامها والقسم الثاني أنواع يمكن استنباط الحكم فيها بواسطة قياسها على القسم الأول ثم أنه تعالى لما أمر بالقياس وتعبد المكلفين به كان ذلك في الحقيقة بياناً لكل الأحكام وإذا كان كذلك كان ذلك إكمالاً للدين قال نفاة القياس الطريق المقتضية لإلحاق غير المنصوص بالمنصوص إما أن تكون دلائل قاطعة أو غير قاطعة فإن كان القسم الأول فلا نزاع في صحته فإنا نسلم أن القياس المبني على المقدمات اليقينية حجة إلا أن مثل هذا القياس يكون المصيب فيه واحداً والمخالف يكون مستحقاً للعقاب وينقض

قضاء القاضي فيه وأنتم لا تقولون بذلك وءن كان الحق هو القسم الثاني كان ذلك تمكيناً لكل أحد أن يحكم بما غلب على ظنه من غير أن يعلم أنه هل هو دين الله أم لا وهل هو الحكم الذي حكم به الله أم لا ومعلوم أن مثل هذا لا يكون إكمالاً للدين بل يكون ذلك إلقاء للخلق في ورطة الظنون والجهالات قال مثبتو القياس إذا كان تكليف كل مجتهد أن يعمل بمقتضى ظنه كان ذلك إكمالاً للدين ويكون كل مكلف قاطعاً بأنه عامل بحكم الله فزال السؤال
المسألة الثالثة قال أصحابنا هذه الآية دالة على بطلان قول الرافضة وذلك لأنه تعالى بيّن أن الذين كفروا يئسوا من تبديل الدين وأكد ذلك بقوله فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ فلو كانت إماة علي بن أبي طالب رضي الله عنه منصوصاً عليها من قبل الله تعالى وقبل رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) نصاً واجب الطاعة لكان من أراد إخفاءه وتغييره آيساً من ذلك بمقتضى هذه الآية فكان يلزم أن لا يقدر أحد من الصحابة على إنكار ذلك النص وعلى تغييره وإخفائه ولما لم يكن الأمر كذلك بل لم يجر لهذا النص ذكر ولا ظهر منه خبر ولا أثر علمنا أن ادعاء هذا النص كذب وأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ما كان منصوصاً عليه بالإمامة
المسألة الرابعة قال أصحاب الآثار إنه لما نزلت هذه الآية على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لم يعمر بعد نزولها إلا أحداً وثمانين يوماً أو اثنين وثمانين يوماً ولم يحصل في الشريعة بعدها زيادة ولا نسخ ولا تبديل البتة وكان ذلك جارياً مجرى أخبار النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن قرب وفاته وذلك إخبار عن الغيب فيكون معجزاً ومما يؤكد ذلك ما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) لما قرأ هذه الآية على الصحابة فرحوا جداً وأظهروا السرور العظيم إلا أبا بكر رضي الله عنه فإنه بكى فسئل عنه فقال هذه الآية على عدل على قرب وفاة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فإنه ليس بعد الكمال إلا الزوال فكان ذلك دليلاً على كمال علم الصديق حيث وفق من هذه الآية على سر لم يقف عليه غيره
المسألة الخامسة قال أصحابنا دلت الآية على أن الدين لا يحصل إلا بخلق الله تعالى وإيجاده والدليل عليه أنه أضاف إكمال الدين إلى نفسه فقال الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ولن يكون إكمال الدين منه إلا وأصله أيضاً منه
واعلم أنا سواء قلنا الدين عبارة عن العمل أو قلنا إنه عبارة عن المعرفة أو قلنا إنه عبارة عن مجموع الاعتقاد والاقرار والفعل فالاستدلال ظاهر
وأما المعتزلة فإنهم يحملون ذلك على إكمال بيان الدين وإظهار شرائعه ولا شك أن الذي ذكروه عدول عن الحقيقة إلى المجاز
ثم قال تعالى وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى ومعنى أتممت عليكم نعمتي بإكمال أمر الدين والشريعة كأنه قال اليوم أكملت لكم دينكم أتممت عليكم نعمتي بسبب ذلك الاكمال لأنه لا نعمة أتم من نعمة الإسلام
واعلم أن هذه الآية أيضاً دالة على أن خالق الإيمان هو الله تعالى وذلك لأنا نقول الدين الذي هو الإسلام نعمة وكل نعمة فمن الله فيلزم أن يكون دين الإسلام من الله
إنما قلنا إن الإسلام نعمة لوجهين الأول الكلمة المشهورة على لسان الأمة وهي قولهم الحمد لله على نعمة الإسلام

والوجه الثاني أنه تعالى قال في هذه الآية الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى ذكر لفظ النعمة مبهمة والظاهر أن المراد بهذه النعمة ما تقدم ذكره وهو الدين
فإن قيل لم لا يجوز أن يكون المراد بإتمام النعمة جعلهم قاهرين لأعدائهم أو المراد به جعل هذا الشرع بحيث لا يتطرق إليه نسخ
قلنا أما الأول فقد عرف بقوله الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فحمل هذه الآية عليه أيضاً يكون تكريراً
وأما الثاني فلأن إبقاء هذا الدين لما كان إتماماً للنعمة وجب أن يكون أصل هذا الدين نعمة لا محالة فثبت أن دين الإسلام نعمة
وإاذ ثبت هذا فنقول كل نعمة فهي من الله تعالى والدليل عليه قوله تعالى وَمَا بِكُم مّن نّعْمَة ٍ فَمِنَ اللَّهِ وإذا ثبت هاتان المقدمتان لزم القطع بأن دين الإسلام إنما حصل بتخليق الله تعالى وتكوينه وإيجاده
ثم قال تعالى وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسْلاَمَ دِيناً والمعنى أن هذا هو الدين المرضى عند الله تعالى ويؤكده قوله تعالى وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ
ثم قال تعالى فَمَنِ اضْطُرَّ فِى مَخْمَصَة ٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
وهذا من تمام ما تقدم ذكره في المطاعم التي حرمها الله تعالى يعني أنها وإن كانت محرمة إلا أنها تحل في حالة الاضطرار ومن قوله ذالِكُمْ فِسْقٌ إلى هاهنا اعتراض وقع في البين والغرض منه تأكيد ما ذكر من معنى التحريم فإن تحريم هذه الخبائث من جملة الدين الكامل والنعمة التامة والإسلام الذي هو الدين المرضي عند الله تعالى ومعنى اضطر أصيب بالضر الذي لا يمكنه الامتناع معه من الميتة والمخمصة المجاعة قال أهل اللغة الخمص والمخمصة خلو البطن من الطعام عند الجوع وأصله من الخمص الذي هو ضمور البطن يقال رجل خميص وخمصان وامرأة خميصة وخمصانة والجمع خمائص وخمصانات وقوله غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ أي غير متعمد وأصله في اللغة من الجنف الذي هو الميل قال تعالى فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا ( البقرة 182 ) أي ميلاً فقوله غير مُتَجَانِفٍ أي غير مائل وغير منحرف ويجوز أن ينتصب غَيْرِ بمحذوف مقدر على معنى فتناول غير متجانف ويجوز أن ينصب بقوله اضْطُرَّ ويكون المقدر متأخراً على معنى فمن اضطر غير متجانف لاثم فتناول فإن الله غفور رحيم ومعنى الإثم هاهنا في قول أهل العراق أن يأكل فوق الشبع تلذذاً وفي قول أهل الحجاز أن يكون عاصياً بسفره وقد استقصينا الكلام في هذه المسألة في تفسير سورة البقرة في قوله فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ ( البقرة 173 ) وقوله فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ يعني يغفر لهم أكل المحرم عندما اضطر إلى أكله ورحيم بعباده حيث أحل لهم ذلك المحرم عند احتياجهم إلى أكله
يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ

قوله تعالى يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيّبَاتُ وهذا أيضاً متصل بما تقدم من ذكر المطاعم والمآكل وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) في السؤال معنى القول فلذلك وقع بعده مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ كأنه قيل يقولون لك ماذا أحل لهم وإنما لم يقل ماذا أحل لنا حكاية لما قالوه
واعلم أن هذا ضعيف لأنه لو كان هذا حكاية لكلامهم لكانوا قد قالوا ماذا أحل لهم ومعلوم أن هذا باطل لأنهم لا يقولون ذلك بل إنما يقولون ماذا أحل لنا بل الصحيح أن هذا ليس حكاية لكلامهم بعبارتهم بل هو بيان لكيفية الواقعة
المسألة الثانية قال الواحدي مَاذَا إن جعلته اسماً واحداً فهو رفع بالابتداء وخبره أَحَلَّ وإن شئت جعلت مَا وحدها اسماً ويكون خبرها ذَا و أَحَلَّ من صلة ذَا لأنه بمعنى ما الذي أحل لهم
المسألة الثالثة أن العرب في الجاهلية كانوا يحرمون أشياء من الطيبات كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام فهم كانوا يحكمون بكونها طيبة إلا أنهم كانوا يحرمون أكلها لشبهات ضعيفة فذكر تعالى أن كل ما يستطاب فهو حلال وأكد هذه الآية بقوله قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَة َ اللَّهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرّزْقِ ( الأعراف 32 ) وبقوله وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَئِثَ ( الأعراف 157 )
واعلم أن الطيب في اللغة هو المستلذ والحلال المأذون فيه يسمى أيضاً طيباً تشبيهاً بما هو مستلذ لأنهما اجتمعا في انتفاء المضرة فلا يمكن أن يكون المراد بالطيبات هاهنا المحللات وإلا لصار تقدير الآية قل أحل لكم المحلللات ومعلوم أن هذا ركيك فوجب حمل الطيبات على المستلذ المشتهى فصار التقدير أحل لكم كل ما يستلذ ويشتهى
ثم اعلم أن العبرة في الاستلذاذ والاستطابة بأهل المروءة والأخلاق الجميلة فإن أهل البادية يستطيبون أكل جميع الحيوانات ويتأكد دلالة هذه الآيات بقوله تعالى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً ( البقرة 29 ) فهذا يقتضي التمكن من الانتفاع بكل ما في الأرض إلا أنه أدخل التخصيص في ذلك العموم فقال وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَئِثَ ( الأعراف 157 ) ونص في هذه الآيات الكثيرة على إباحة المستلذات والطيبات فصار هذا أصلاً كبيراً وقانون مرجوعاً إليه في معرفة ما يحل ويحرم من الأطعمة منها أن لحم الخيل مباح عند الشافعي رحمه الله وقال أبو حنيفة رحمه الله ليس بمباح حجة الشافعي رحمه الله أنه مستلذ مستطاب والعلم به ضروري وإذا كان كذلك وجب أن يكون حلالاً لقوله أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيّبَاتُ ومنها أن متروك التسمية عند الشافعي رحمه الله مباح وعند أبي حنيفة حرام حجة الشافعي رحمه الله أنه مستطاب مستلذ فوجب أن يحل لقوله أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيّبَاتُ ويدل أيضاً على صحة قول الشافعي رحمه الله في هاتين المسألتين قوله تعالى إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ استثنى المذكاة بما بيّن اللبة والصدر وقد حصل ذلك في الخيل فوجب أن تكون مذكاة فوجب أن تحل لعموم قوله إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ ( المائدة 3 ) وأما في متروك التسمية فالذكاة أيضاً حاصلة لأنا أجمعنا على أنه لو ترك التسمية ناسياً فهي مذكاة وذلك يدل على أن ذكر الله تعالى باللسان ليس حزءاً من ماهية الذكاة وإذا كان كذلك كان الإتيان بالذكاة بدون الإتيان بالتسمية ممكناً فنحن مثلكم فيما إذا وجد ذلك وإذا حصلت الذكاة دخل تحت قوله إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ ومنها أن لحم الحمر الأهلية

مباح عند مالك وعند بشر المريسي وقد احتجا بهايتن الآيتين إلا أنا نعتمد في تحريم ذلك على ما روي عن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أنه حرم لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر
ثم قال تعالى وَمَا عَلَّمْتُمْ مّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلّبِينَ تُعَلّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ وفيه مسائل
المسألة الأولى في هذه الآية قولان الأول أن فيها إضماراً والتقدير أحل لكم الطيبات وصيد ما علمتم من الجوارح مكلبين فحذف الصيد وهو مراد في الكلام لدلالة الباقي عليه وهو قوله فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ الثاني أن يقال إن قوله وَمَا عَلَّمْتُمْ مّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلّبِينَ ابتداء كلام وخبره هو قوله فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وعلى هذا التقدير يصح الكلام من غير حذف وإضمار
المسألة الثانية في الجوارح قولان أحدهما أنها الكواسب من الطير والسباع واحدها جارحة سميت جوارح لأنها كواسب من جرح واجترح إذا اكتسب قال تعالى الَّذِينَ اجْتَرَحُواْ السَّيّئَاتِ ( الجاثية 21 ) أي اكتسبوا وقال وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ( الأنعام 60 ) أي ما كسبتم والثاني أن الجوارح هي التي تجرح وقالوا أن ما أخذ من الصيد فلم يسل منه دم لم يحل
المسألة الثالثة نقل عن ابن عمر والضحاك والسدي أن ما صاده غير الكلاب فلم يدرك ذكاته لم يجز أكله وتمسكوا بقوله تعالى مُكَلّبِينَ قَالُواْ لاِنْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مّنَ الْجَوَارِحِ يدخل فيه كل ما يمكن الاصطياد به كالفهد والسباع من الطير مثل الشاهين والباشق والعقاب قال الليث سئل مجاهد عن الصقر والبازي والعقاب والفهد وما يصطاد به من السباع فقال هذه كلها جوارح وأجابوا عن التمسك بقوله تعالى مُكَلّبِينَ من وجوه الأول أن المكلب هو مؤدب الجوارح ومعلمها أن تصطاد لصاحبها وإنما اشتق هذا الاسم من الكلب لأن التأديب أكثر ما يكون في الكلاب فاشتق منه هذا اللفظ لكثرته في جنسه الثاني أن كل سبع فإنه يسمى كلباً ومنه قوله عليه الصلاة والسلام ( اللّهم سلط عليه كلباً من كلابك فأكله الأسد ) الثالث أنه مأخوذ من الكلب الذي هو بمعنى الضراوة يقال فلان كلب بكذا إذا كان حريصاً عليه والرابع هب أن المذكور في هذه الآية إباحة الصيد بالكلب لكن تخصيصه بالذكر لا ينفي حل غيره بدليل أن الاصطياد بالرمي ووضع الشبكة جائز وهو غير مذكور في الآية والله أعلم
المسألة الرابعة دلت الآية على أن الاصطياد بالجوارح إنما يحل إذا كانت الجوارح معلمة لأنه تعالى قال وَمَا عَلَّمْتُمْ مّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلّبِينَ تُعَلّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ وقال ( صلى الله عليه وسلم ) لعدي بن حاتم ( إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل ) قال الشافعي رحمه الله والكلب لا يصير معلماً إلاّ عند أمور وهي إذا أرسل استرسل وإذا أخذ حبس ولا يأكل وإذا دعاه أجابه وإذا أراده لم يفر منه فإذا فعل ذلك مرات فهو معلم ولم يذكر رحمه الله فيه حداً معيناً بل قال أنه متى غلب على الظن أنه تعلم حكم به قال لأن الاسم إذا لم يكن معلوماً من النص أو الاجماع وجب الرجوع فيه إلى العرف وهو قول أبي حنيفة رحمه الله في أظهر الروايات وقال الحسن البصري رحمه الله يصير معلماً بمرة واحدة وعن أبي حنيفة رحمه الله في رواية أخرى أنه يصير معلماً بتكرير ذلك مرتين وهو قول أحمد رحمه الله وعن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله أنه يصير معلماً بثلاث مرات

المسألة الخامسة الكلاب والمكلب هو الذي يعلم الكلاب الصيد فمكلب صاحب التكليب كمعلم صاحب التعليم ومؤدب صاحب التأديب قال صاحب ( الكشاف ) وقرىء مكلبين بالتخفيف وأفعل وفعل يشتركان كثيراً
المسألة السادسة انتصاب مكلبين على الحال من عَلِمْتُمُ
فإن قيل ما فائدة هذه الحال وقد استغنى عنها بعلمتم
قلنا فائدتها أن يكون من يعلم الجوارح نحريراً في علمه مدرباً فيه موصوفاً بالتكليب وتعلمونهن حال ثانية أو استئناف والمقصود منه المبالغة في اشتراط التعليم
ثم قال تعالى اللَّهُ فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وفيه مسألتان
المسألة الأولى اعمل أنه إذا كان الكلب معلماً ثم صاد صيداً وجرحه وقتله وأدركه الصائد ميتاً فهو حلال وجرح الجارحة الكذبح وكذا الحكم في سائر الجوارح المعلمة وكذا في السهم والرمح أما إذا صاده الكلب فجثم عليه وقتله بالفم من غير جرح فقال بعضهم لا يجوز أكله لأنه ميتة وقال آخرون يحل لدخوله تحت قوله فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وهذا كله إذا لم يأكل فإن أكل منه فقد اختلف فيه العلماء فعند ابن عباس وطاوس والشعبي وعطاء والسدي أنه لا يحل وهو أظهر أقوال الشافعي قالوا لأنه أمسك الصيد على نفسه والآية دلت على أنه إنما يحل إذا أمسكه على صاحبه ويدل عليه أيضاً ما روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال لعدي ابن حاتم ( إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله فإن أدركته ولم يقتل فاذبح واذكر اسم الله عليه وإن أدركته وقد قتل ولم يأكل فكل فقد أمسك عليك وإن وجدته قد أكل فلا تطعم منه شيئاً فإنما أمسك على نفسه وقال سلمان الفارسي وسعد بن أبي وقاص وابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهم إنه يحل وإن أكل وهو القول الثاني للشافعي رحمه الله واختلفوا في البازي إذا أكل فقال قائلون إنه لا فرق بينه وبين الكلب فإن أكل شيئاً من الصيد لم يؤكل ذلك الصيد وهو مروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقال سعيد بن جبير وأبو حنيفة والمزني يؤكل ما بقي من جوارح الطير ولا يؤكل ما بقي من الكلب الفرق أنه يمكن أن يؤدب الكلب على الأكل بالضرب ولا يمكن أن يؤدب البازي على الأكل
المسألة الثانية وقال سلمان الفارسي وسعد بن أبي وقاص وابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهم إنه يحل وإن أكل وهو القول الثاني للشافعي رحمه الله واختلفوا في البازي إذا أكل فقال قائلون إنه لا فرق بينه وبين الكلب فإن أكل شيئاً من الصيد لم يؤكل ذلك الصيد وهو مروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقال سعيد بن جبير وأبو حنيفة والمزني يؤكل ما بقي من جوارح الطير ولا يؤكل ما بقي من الكلب الفرق أنه يمكن أن يؤدب الكلب على الأكل بالضرب ولا يمكن أن يؤدب البازي على الأكل
المسألة الثانية مِنْ في قوله مِمَّا أَمْسَكْنَ فيه وجهان الأول أنه صلة زائدة كقوله كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ ( الأنعام 141 ) والثاني أنه للتبعيض وعلى هذا التقدير ففيه وجهان الأول أن الصيد كله لا يؤكل فإن لحمه يؤكل أما عظمه ودمه وريشه فلا يؤكل الثاني أن المعنى كلوا مما تبقى لكم الجوارح بعد أكلها منه فالآية دالة على أن الكلب إذا أكل من الصيد كانت البقية حلالاً قالوا وإن أكله من الصيد لا يقدح في أنه أمسكه على صاحبه لأن صفة الإمساك هو أن يأخذ الصيد ولا يتركه حتى يذهب وهذا المعنى حاصل سواء أكل منه أو لم يأكل منه
ثم قال تعالى وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وفيه أقوال الأول أن المعنى سم الله إذا أرسلت كلبك وروي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( إذا أسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل ) وعلى هذا التقدير فالضمير في قوله عَلَيْهِ عائد إلى مَا عَلَّمْتُمْ مّنَ الْجَوَارِحِ أي سموا عليه عند إرساله

القول الثاني الضمير عائد إلى ما أمسكن يعني سموا عليه إذا أدركتم ذكاته الثالث أن يكون الضمير عائداً إلى الأكل يعني واذكروا اسم الله على الأكل روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال لعمر بن أبي سلمة ( سم الله وكل مما يليك )
واعلم أن مذهب الشافعي رحمه الله أن متروك التسمية عامداً يحل أكله فإن حملنا هذه الآية على الوجه الثالث فلا كلام وإن حملناه على الأول والثالني كان المراد من الأمر الندب توفيقاً بينه وبين النصوص الدالة على حله وسنذكر هذه المسألة إن شاء الله تعالى في تفسير قوله وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ( الأنعام 121 )
ثم قال تعالى وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ أي واحذروا مخالفة أمر الله في تحليل ما أحله وتحريم ما حرمه
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِى أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِى الاٌّ خِرَة ِ مِنَ الْخَاسِرِينَ
قوله تعالى الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيّبَاتُ
اعلم أنه تعالى أخبر في هذه الآية المتقدمة أنه أحل الطيبات وكان المقصود من ذكره الأخبار عن هذا الحكم ثم أعاد ذكره في هذه الآية والغرض من ذكره أنه قال الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى فبين أنه كما أكمل الدين وأتمم النعمة في كل ما يتعلق بالدين فكذلك أتم النعمة في كل ما يتعلق بالدنيا ومنها إحلال الطيبات والغرض من الاعادة رعاية هذه النكتة
ثم قال تعالى وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وفي المراد بالطعام هاهنا وجوه ثلاثة الأول أنه الذبائح يعني أنه يحل لنا أكل ذبائح أهل الكتاب وأما المجوس فقد سن فيهم سنة أهل الكتاب في أخذ الجزية منهم دون أكل ذبائحهم ونكاس نسائهم وعن علي رضي الله عنه أنه استثنى نصارى بني تغلب وقال ليسوا على النصرانية ولم يأخذوا منها إلاّ شرب الخمر وبه أخذ الشافعي رحمه الله وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن ذبائح نصارى العرب فقال لا بأس به وبه أخذوا أبو حنيفة رحمه الله
والوجه الثاني أن المراد هو الخبز والفاكهة وما لا يحتاج فيه إلى الذكاة وهو منقول عن بعض أئمة الزيدية والثالث أن المراد جميع المطعومات والأكثرون على القول الأول ورجحوا ذلك من وجوه أحدها أن الذبائح هي التي تصير طعاماً بفعل الذابح فحمل قوله وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ على الذبائح أولى وثانيها أن ما سوى الذبائح فهي محللة قبل أن كانت لأهل الكتاب وبعد أن صارت لهم فلا يبقى لتخصيصها بأهل الكتاب فائدة وثالثها ما قبل هذه الآية في بيان الصيد والذبائح فحمل هذه الآية على الذبائح أولى

ثم قال تعالى وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ أي ويحل لكم أن تطعموهم من طعامكم لأنه لا يمتنع أن يحرم الله أن نطعمهم من ذبائحنا وأيضاً فالفائدة في ذكر ذلك أن إباحة المناكحة غير حاصلة في الجانبين وإباحة الذبائح كانت حاصلة في الجانبين لا جرم ذكر الله تعالى ذلك تنبيهاً على التمييز بين النوعين
ثم قال تعالى وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وفي المحصنات قولان أحدهما أنها الحرائر والثاني أنها العفائف وعلى التقدير الثاني يدخل فيه نكاح الأمة والقول الأول أولى لوجوه أحدها أنه تعالى قال بهد هذه الآية الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ ومهر الأمة لا يدفع إليها بل إلى سيدها وثانيها أنا بينا في تفسير قوله تعالى وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ( النساء 25 ) أن نكاح الأمة إنما يحل بشرطين عدم طول الحرة وحصول الخوف من العنت وثالثها أن تخصيص العفائف بالحل يدل ظاهراً على تحريم نكاح الزانية وقد ثبت أنه غير محرم أما لو حملنا المحصنات على الحرائر يلزم تحريم نكاح الأمة ونحن نقول به على بعض التقديرات ورابعها أنا بينا أن اشتقاق الاحصان من التحصن ووصف التحصن في حق الحرة أكثر ثبوتاً منه في حق الأمة لما بينا أن الأمة وإن كانت عفيفة إلاّ أنها لا تخلو من الخروج والبروز والمخالطة مع الناس بخلاف الحرة فثبت أن تفسير المحصنات بالحرائر أولى من تفسيرها بغيرها
ثم قال تعالى وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى ذهب أكثر الفقهاء إلى أنه يحل التزوج بالذمية من الليهود والنصارى وتمسكوا فيه بهذه الآية وكان ابن عمر رضي الله عنهما لا يرى ذلك ويحتج بقوله وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ( البقرة 221 ) ويقول لا أعلم شركاً أعظم من قولها إن ربها عيسى ومن قال بهذا القول أجابوا عن التمسك بقوله تعالى وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ بوجوه الأول أن المراد الذين آمنوا منهم فإنه كان يحتمل أن يخطر ببال بعضهم أن اليهودية إذا آمنت فهل يجوز للمسلم أن يتزوج بها أم لا فبيّن تعالى بهذه الآية جواز ذلك والثاني روي عن عطاء أنه قال إنما رخص الله تعالى في الزوج بالكتابية في ذلك الوقت لأنه كان في المسلمات قلة وأما الآن ففيهن الكثرة العظيمة فزالت الحاجة فلا جرم زالت الرخصة والثالث الآيات الدالة على وجوب المباعدة عن الكفار كقوله لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء ( الممتحنة 1 ) و قوله لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَة ً مّن دُونِكُمْ ( آل عمران 118 ) ولأن عند حصول الزوجية ربما قويت المحبة ويصير ذلك سبباً لميل الزوج إلى دينها وعند حدوث الولد فربما مال الولد إلى دينها وكل ذلك إلقاء للنفس في الضرر من غير حاجة الرابع قوله تعالى في خاتمة هذه الآية وَمَن يَكْفُرْ بِالإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِى الاْخِرَة ِ مِنَ الْخَاسِرِينَ وهذا من أعظم الكافرات عن التزوج بالكافرة فلو كان المراد بقوله تعالى وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إباحة التزوج بالكتابية لكان ذكر هذه الآية عقيبها كالتناقض وهو غير جائز
المسألة الثانية إن قلنا المراد بالمحصنات الحرائر لم تدخل الأمة الكتابية تحت الآية وإن قلنا المراد بالمحصنات العفائف دخلت وعلى هذا البحث وقع الخلاف بين الشافعي وأبي حنيفة فعند

الشافعي لا يجوز التزوج بالأمة الكاتبية قال لأنه اجتمع في حقها نوعان من النقصان الكفر والرق وعند أبي حنيفة رحمه الله يجوز وتمسك بهذه الآية بناء على أن المراد بالمحصنات العفائف وقد سبق الكلام فيه
المسألة الثالثة قالل سعيد بن المسب والحسن وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يدخل فيه الذميات والحربيات فيجوز التزوج بكلهن وأكثر الفقهاء على أن ذلك مخصوص بالذمية فقط وهذا قول ابن عباس فإنه قال من نساء أهل الكتاب من يحل لنا ومنهن من لا يحل لنا وقرأ قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ إلى قوله حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَة َ عَن يَدٍ ( التوبة 29 ) فمن أعطى الجزية حل ومن لم يعط لم يحل
المسألة الرابعة اتفقوا على أن المجوس قد سن بهم سنة أهل الكتاب في أخذ الجزية منهم دون أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم وروي عن ابن المسيب أنه قال إذا كان المسلم مريضاً فأمر المجوسي أن يذكر الله ويذبح فلا بأس وقال أبو ثور وإن أمرة بذلك في الصحة فلا بأس
المسألة الخامسة قال الكثير من الفقهاء إنما يحل نكاح الكتابية التي دانت بالتوراة والإنجيل قبل نزول القرآن قالوا والدليل عليه قوله وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ فقوله مِن قَبْلِكُمْ يدل على أن من دان الكتاب بعد نزول الفرقان خرج عن حكم الكتاب
ثم قال تعالى الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ وتقييد التحليل بإيتاء الأجور يدل على تأكد وجوبها وأن من تزوج امرأة وعزم على أن لا يعطيها صداقها كان في صورة الزاني وتسمية المهر بالأجر يدل على أن الصداق لا يتقدر كما أن أقل الأجر لا يتقدر في الإجارات
ثم قال تعالى مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِى قال الشعبي الزنا ضربان السفاح وهو الزنا على سبيل الإعلان واتخاذ الخدن وهو الزنا في السر والله تعالى حرّمهما في هذه الآية وأباح التمتع بالمرأة على جهة الاحصان وهو التزوج
ثن قال تعالى أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وفيه مسائل
المسألة الأولى في تعلق هذه الآية بما قبلها وجهان الأول أن المقصود منه الترغيب فيما تقدم من التكاليف والأحكام يعني ومن يكفر بشرائع الله وبتكاليفه فقد خاب وخسر في الدنيا والآخرة والثاني قال القفال المعنى أن أهل الكتاب وإن حصلت لهم في الدنيا فضيلة المناكحة وإباحة الذبائح في الدنيا إلاّ أن ذلك لا يفرق بينهم وبين المشركين في أحوال الآخرة وفي الثواب والعقاب بل كل من كفر بالله فقد حبط عمله في الدنيا ولم يصل إلى شيء من السعادات في الآخرة البتة
المسألة الثانية قوله وَمَن يَكْفُرْ بِالإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ فيه إشكال وهو أن الكفر إنما يعقل بالله ورسوله فأما الكفر بالإيمان فهو محال فلهذا السبب اختلف المفسرون على وجوه الأول قال ابن عباس ومجاهد وَمَن يَكْفُرْ بِالإيمَانِ أي ومن يكفر بالله إنما حسن هذا المجاز لأنه تعالى رب الإيمان ورب الشيء قد يسمى باسم ذلك الشيء على سبيل المجاز والثاني قال الكلبي وَمَن يَكْفُرْ بِالإيمَانِ أي بشهادة

أن لا إله إلاّ الله فجعل كلمة التوحيد إيماناً فإن الإيمان بها لما كان واجباً كان الإيمان من لوازمها بحسب أمر الشرع وإطلاق اسم الشيء على لازمه مجاز مشهور والثالث قال قتادة إن ناساً من المسلمين قالوا كيف نتزوج نساءهم مع كونهم على غير دينناا فأنزل الله تعالى هذه الآية أي ومن يكفر بما نزل في القرآن فهو كذا وكذا فسمى القرآن إيماناً لأنه هو المشتمل على بيان كل ما لا بدّ منه في الإيمان
المسألة الثالثة القائلون بالاحباط قالوا المراد بقوله وَمَن يَكْفُرْ بِالإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ أي عقاب كفره يزيل ما كان حاصلاً له من ثواب إيمانه والذين ينكرون القول بالاحباط قالوا معناه أن عمله الذي أتى به بعد ذلك الإيمان فقد هلك وضاع فإنه إنما يأتي بتلك الأعمال بعد الإيمان لاعتقاده أنها خير من الإيمان فإذا لم يكن الأمر كذلك بل كان ضائعاً باطلاً كانت تلك الأعمال باطلة في أنفسها فهذا هو المراد من قوله فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ
المسألة الرابعة قوله تعالى وَهُوَ فِى الاْخِرَة ِ مِنَ الْخَاسِرِينَ مشروط بشرط غير مذكور في الآية وهو أن يموت على ذلك الكفر إذ لو تاب عن الكفر لم يكن في الآخرة من الخاسرين والدليل على أنه لا بدّ من هذا الشرط قوله تعالى وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ ( البقرة 217 ) الآية
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلواة ِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَاكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
ثم قال تعالى الْخَاسِرِينَ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلواة ِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ
اعلم أنه تعالى افتتح السورة بقوله يا أيها الذين آمنوا أوفوا باللعقود ( المائدة 1 ) وذلك لأنه حصل بين الرب وبين العبد عهد الربوبية وعهد العبودية فقوله بِكُلّ شَى ْء عَلِيمٌ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ طلب تعالى من عباده أن يفوا بعهد العبودية فكأنه قيل إل هنا العهد نوعان عهد الربوبية منك وعهد العبودية منا فأنت أولى بأن تقدم الوفاء بعهد الربوبية والإحسان فقال تعالى نعم أنا أوفي أولاً بعهد الربوبية والكرم ومعلوم أن منافع الدنيا محصورة في نوعين لذات المطعم ولذات المنكح فاستقصى سبحانه في بيان ما يحل ويحرم من المطاعم والمناكح ولما كانت الحاجة إلى المطعوم فوق الحاجة إلى المنكوح لا جرم قدم بيان المطعوم على المنكوح وعند تمام هذا البيان كأنه يقول قد وفيت بعهد الربوبية فيما يطلب في الدنيا من المنافع واللذات فاشتغل أنت في الدنيا بالوفاء بعهد العبودية ولما كان أعظم الطاعات بعد الإيمان الصلاة وكانت الصلاة لا يمكن إقامتها إلاّ بالطهارة لا جرم بدأ تعالى بذكر شرائط الوضوء فقال الْخَاسِرِينَ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلواة ِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أعلم أن المراد بقوله يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا ليس نفس القيام ويدل عليه وجهان الأول أنه لو كان المراد ذلك لزم تأخير الوضوء عن الصلاة وأنه باطل بالإجماع الثاني أنهم أجمعوا على أنه لو غسل الأعضاء قبل الصلاة قاعداً أو مضطجعاً لكان قد خرج عن العهدة بل المراد منه إذا شمرتم

للقيام إلى الصلاة وأردتم ذلك وهذا وإن كان مجازاً إلا أنه مشهور متعارف ويدل عليه وجهان الأول أن الإرادة الجازمة سبب لحصول الفعل وإطلاق اسم السبب على المسبب مجاز مشهور الثاني قوله تعالى الرّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النّسَاء ( النساء 34 ) وليس المراد منه القيام الذي هو الانتصاب يقال فلان قائم بذلك الأمر قال تعالى قَائِمَاً بِالْقِسْطِ ( آل عمران 18 ) وليس المراد منه ألبتة الانتصاب بل المراد كونه مريداً لذلك الفعل متهيئاً له مستعداً لإدخاله في الوجود فكذا ههنا قوله يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا معناه إذا أردتم أداء الصلاة والاشتغال بإقامتها
المسألة الثانية قال قوم الأمر بالوضوء تبع للأمر بالصلاة وليس ذلك تكليفاً مستقلاً بنفسه واحتجوا بأن قوله يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ جملة شرطية الشرط فيها القيام إلى الصلاة والجزاء الأمر بالغسل والمعلق على الشيء بحرف الشرط عدم عند عدم الشرط فهذا يقتضي أن الأمر بالوضوء تبع للأمر بالصلاة وقال آخرون المقصود من الوضوء الطهارة والطهارة مقصودة بذاتها بدليل القرآن والخبر أما القرآن فقوله تعالى في آخر الآية وَلَاكِن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ وأما الحديث فقوله عليه الصلاة والسلام ( بني الدين على النظافة ) وقال ( أمتي غر محجلون من آثار الوضوء يوم القيامة ) ولأن الأخبار الكثيرة واردة في كون الوضوء سبباً لغفران الذنوب والله أعلم
المسألة الثالثة قال داود يجب الوضوء لكل صلاة وقال أكثر الفقهاء لا يجب احتج داود بهذه الآية من وجهين لأول أن ظاهر لفظ الآية يدل على ذلك فإن قوله يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا إما أن يكون المراد منه قياماً واحداً وصلاة واحدة فيكون المراد منه الخصوص أو يكون المراد منه العموم والأول باطل لوجوه الأول أن على هذا التقدير تصير الآية مجملة لأن تعيين تلك المرة غير مذكور في الآية وحمل الآية على الإجمال إخراج لها عن الفائدة وذلك خلاف الأصل وثانيها أنه يصح إدخال الاستثناء عليه ومن شأنه إخراج ما لولاه لدخل وذلك يوجب العموم وثالثها أن الأمة مجمعة على أن الأمر بالوضوء غير مقصور في هذه الآية على مرة واحدة ولا على شخص واحد وإذا بطل هذا وجب حمله على المعموم عند كل قيام إلى الصلاة إذ لو لم تحمل هذه الآية على هذا المحمل لزم احتياج هذه الآية في دلالتها على ما هو مراد لله تعالى إلى سائر الدلائل فتصير هذه الآية وحدها مجملة وقد بينا أنه خلاف الأصل فثبت بما ذكرنا أن ظاهر هذه الآية يدل على وجوب الووء عند كل قيام إلى الصلاة
الوجه الثاني أنا نستفيد هذا العموم من إيماء اللفظ وذلك لأن الصلاة اشتغال بخدمة المعبود والاتشغال بالخدمة يجب أن يكون مقوناً بأقصى ما يقدر العبد عليه من التعظيم ومن وجوه التعظيم كونه آتياً بالخدمة حال كونه في غاية النظافة ولا شك أن تجديد الوضوء عند كل قيام إلى الصلاة مبالغة في النظافة ومعلوم أن ذكر الحكم عقيب الوصف يدل على كون ذلك الحكم معللاً بذلك الوصف المناسب وذلك يقتضي عموم الحكم لعمومه فيلزم وجو الوضوء عند كل قيام إلى الصلاة ثم قال داود ولا يجوز أن يقال ورد في القراءة الشاذة إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون أو يقال إنا نترك ظاهر هذه الآية لورود خبر الواحد على خلافه قال أما القراءة الشاذة فمردودة قطعاً لأنا إن جوزنا ثبوت قرآن غير منقول بالتواتر لزم الطعن في كل القرآن وهو أن يقال إن القرآن كان أكثر مما هو الآن بكثير إلا أنه لم ينقل وأيضاً فلأن

معرفة أحوال الوضوء من أعظم ما عم به البلوى ومن أشد الأمور التي يحتاج كل أحد إلى معرفتها فلو كان ذلك قرآناً لامتنع بقاؤه في حيز الشذوذ وأما التمسك بخبر الواحد فقال هذا يقتضي نسخ القررن بالخبر وذلك لا يجوز قال الفقهاء ءن كلمة إِذَا لا تفيد العموم بدليل أنه لو قال لامرأته إذا دخلت الدار فأنت طالق فدخلت مرة طلقت ثم لو دخلت ثانياً لم تطلق ثانياً وذلك يدل على أن كلمة إِذَا لا تفيد العموم وأيضاً أن السيد إذ قال لعبده إذا دخلت السوق فادخل على فلان وقل له كذا وكذا فهذا لا يفيد الأمر بالفعل إلا مرة واحدة
وأعلم أن مذهب داود في مسألة الطلاق غير معلوم فلعله يلتزم العموم وأيضاً فله أن يقول إنا قد دللنا على أن كلمة إِذَا في هذه الآية تفيد العموم لأن التكاليف الواردة في القرآن مبناها على التكرير وليس الأمر كذلك في الصور التي ذكرتم فإن القرائن الظاهرة دلت على أنه ليس مبني الأمر فيها على التكرير وأما الفقهاء فإنهم استدولا على صحة قولهم بما روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يتوضأ لكل صلاة إلا يوم الفتح فإنه صلى الصلوات كلها بوضوء واحد قال عمر رضي الله عنه فقلت له في ذلك فقال عمداً فعلت ذلك يا عمر
أجاب داود بأنا ذكرنا أن خبر الواحد لا ينسخ القرآن وأيضاً فهذا الخبر يدل على أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان مواظباً على تجديد الوضوء لكل صلاة وهذا يقتضي وجوب ذلك علينا لقوله تعالى فَاتَّبَعُوهُ ( سبأ 20 ) بقي أن يقال قد جاء في هذا الخبر أنه ترك ذلك يوم الفتح فنقول لما وقع التعارض فالترجيح معنا من وجوه الأول هب أن التجديد لكل صلاة ليس بواجب لكنه مندوب والظاهر أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) كان يزيد في يوم الفتح في الطاعات ولا ينقص منها لأن ذلك اليوم هو يوم إتمام النعمة عليه وزيادة النعمة من الله تناسب زيادة الطاعات لا نقصانها والثاني أن الاحتياط لا شك أنه من جانبنا فيكون راجحاً لقوله عليه الصلاة والسلام ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ) الثالث أن ظاهر القرآن أولى من خبر الواحد والرابع أن دلالة القرآن على قولنا لفظية ودلالة الخبر الذي رويتم على قولكم فعلية والدلالة القولية أقوى من الدلالة الفعلية لأن الدلالة القولية غنية عن الفعلية ولا ينعكس فهذا ما في هذه المسألة والله أعلم
والأقوى في إثبات المذهب المشهور أن يقال لو وجب الوضوء لكل صلاة لكان الموجب للوضوء هو القيام إلى الصلاة ولم يكن لغيره تأثير في إيجاب الوضوء لكن ذلك باطل لأنه تعالى قال في آخر هذه الآية أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُمْ مّن الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ ( النساء 43 ) أوجب التيمم على المتغوط والمجامع إذا لم يجد الماء وذلك يدل على كون كل واحد منهما سبباً لوجوب الطهارة عند وجود الماء وذلك يقتضي أن يكون وجوب الوضوء قد يكون بسبب آخر سوى القيام إلى الصلاة وذلك يدل على ما قلناه
المسألة الرابعة اختلفوا في أن هذه الآية هل تدل على كون الوضوء شرطاً لصحة الصلاة والأصح أنها تدل عليه من وجيهن الأول أنه تعالى علق فعل الصلاة على الطهور بالماء ثم بيّن أنه متى عدم لا تصح إلا بالتيمم ولو لم يكن شرطاً لما صح ذلك الثاني أنه تعالى إنما أمر بالصلاة مع الوضوء فالآتي بالصلاة بدون الوضوء تارك للمأمور به وتارك المأمور به يستحق العقاب ولا معنى للبقاء في عهدة التكليف إلا ذلك فإذا ثبت هذا ظهر كون الوضوء شرطاً لصحة الصلاة بمقتضى هذه الآية
المسألة الخامسة قال الشافعي رحمه الله النيّة شرط لصحة الوضوء والغسل وقال أبو حنيفة رحمه

الله ليس كذلك
وأعلم أن كل واحد منهما يستدل لذلك بظاهر هذه الآية
أما الشافعي رحمه الله فإنه قال الوضوء مأمور به وكل مأمور به يجب أن يكون منوياً فالوضوء يجب أن يكون منوياً وإذا ثبت هذا وجب أن يكون شرطاً لأنه لا قائل بالفرق وإنما قلنا إن الوضوء مأمور به لقوله فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ ( المائدة 6 ) ولا شك أن قوله فاغْسِلُواْ وَامْسَحُواْ أمر وإنما قلنا إن كل مأمور به أن يكون منوياً لقوله تعالى وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ ( البينة 5 ) واللام في قوله لِيَعْبُدُواْ ظاهر للتعليل لكن تعليل أحكام الله تعالى محال فوجب حمله على الباء لما عرف من جواز إقامة حروف الجر بعضها مقام بعض فيصير التقدير وما أمروا إلا بأن يعبدوا الله مخلصين له الدين والإخلاص عبارة عن النية الخالصة ومتى كانتالنية الخالصة معتبرة كان أصل النية معتبراً وقد حققنا الكلام في هذا الدليل في تفسير قوله تعالى وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ فليرجع إليه في طلب زيادة الاتقان فثبت بما ذكرنا أن كل وضوء مأمور به وثبت أن كل مأمور به يجب أن يكون منوياً مخصوص في بعض الصور لكنا إنما أثبتنا هده المقدمة بعموم النص والعام حجة في غير محل التخصيص
وأما أبو حنيفة رحمه الله فإنه احتج بهذه الآية على أن النية ليست شرطاً لصحة الوضوء فقال إنه تعالى أوجب غسل الأعضاء الأربعة في هذه الآية ولم يوجب النية فيها فإيجاب النية زيادة على النص والزيادة على النص نسخ ونسخ القرآن بخبر الواحد وبالقياس لا يجوز
وجوابنا إنا بينا أنه إنما أوجبنا النية في الوضوء بدلالة القرآن
المسألة السادسة قال الشافعي رحمه الله الترتيب شرط لصحة الوضوء وقال مالك وأبو حنيفة رحمهما الله ليس كذلك احتج الشافعي رحمه الله بهذه الآية على قوله من وجوه الأول أن قوله يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى يقتضي وجوب الابتداء بغسل الوجه لأن الفاء للتعقيب وإذا وجب الترتيب في هذا العضو وجب في غيره لأنه لا قائل بالفرق
فإن قالوا فاء التعقيب إنما دخلت في جملة هذه الأعمال فجرى الكلام مجرى أن يقال إذا قمتم إلى الصلاة فأتوا بمجموع هذه الأفعال
قلنا فاء التعقيب إنما دخلت على الوجه لأن هذه الفاء ملتصقة بذكر الوجه ثم ءن هذه الفاء بواسطة دخولها على الوجه دخلت على سائر الأعمال وعلى هذا دخول الفاء في غسل الوجه أصل ودخولها على مجموع هذه الأفعال تبع لدخولها على غسل الوجه ولا منافاة بين إيجاب تقديم غسل الوجه وبين إيجاب مجموع هذه الأفعال فنحن اعتبرنا دلالة هذه الفاء في الأصل والتبع وأنتم ألغيتموها في الأصل واعتبرتموها في التبع فكان قولنا أولى
والوجه الثاني أن نقول وقعت البداءة في الذكر بالوجه فوجب أن تقع البداءة به في العمل لقوله

فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ( هود 112 ) ولقوله عليه الصلاة والسلام ( ابدؤا بما بدأ الله ) وهذا الخبر وإن ورد في قصة الصفا والمروة إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب أقصى ما في الباب أنه مخصوص في بعض الصور لكن العام حجة في غير محل التخصيص والثالث أنه تعالى ذكر هذه الأعضاء لا على وفق الترتيب المعتبر في الحس ولا على وفق الترتيب المعتبر في الشرع وذلك يدل على أن الترتيب واجب بيان المقدمة الأولى أن الترتيب المعتبر في الحس أن يبدأ من الرأس نازلاً إلى القدم أو من القدم صاعداً إلى الرأس والترتيب المذكور في الآية ليس كذلك وأما الترتيب المعتبر في لاشرع فهو أن يجمع بين الأعضاء المغسولة ويفرد الممسوحة عنها والآية ليست كذلك فإنه تعالى أدرج الممسوح في أثناء المغسولات إذ ثبت هد فنقول هذا يدل على أن الترتيب واجب والدليل عليه أن إهمال الترتيب في الكلام مستقبح فوجب تنزيه كلام الله تعالى عنه ترك العمل به فيما إذا صار ذلك محتملاً للتنبيه على أن ذلك الترتيب واجب فيبقى في غير هذه الصورة على وفق الأصل الرابع أن إيجاب الوضوء غير معقول المعنى وذلك يقتضي وجوب الإتيان به على الوجه الذي ورد في النص بيان المقام الأول من وجوه أحدها أن الحدث يخرج من موضع والغسل يجب من موضع آخر وهو خلاف المعقول وثانيها أن أعضاء المحدث طاهرة لقوله تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ( التوبة 28 ) وكلمة ءنما للحصر وقوله عليه الصلاة والسلام ( المؤمن لا ينجس حياً ولا ميتاً وتطهير الطاهر محال وثالثها أن الشرع أقام التيمم مقام الوضوء ولا شك أنه ضد النظافة والوضاءة وخاسمها أن الماء الكدر العفن يفيد الطهارة وماء الورد لا يفيدها فثبت بهذا أن الوضوء غير معقول المعنى وإذ ثبت هذ وجب الاعتماد فيه على مورد النص لاحتمال أن يكون الترتيب المذكور معتبراً إما لمحض التعبد أو لحكم خفية لا نعرفها فلهذا السبب أوجبنا رعاية الترتيب المعتبر المذكور في أركان الصلاة بل ههنا أولى لأنه تعالى لما ذكر أركان الصلاة في كتابه مرتبة وذكر أعضاء الوضوء في هذه الآية مرتبة فلما وجب الترتيب هناك فههنا أولى
واحتج أبو حنيفة رحمه الله بهذه الآية على قوله فقال الواو لا توجب الترتيب فكانت الآية خالية عن إيجاب الترتيب فلو قلنا بوجوب الترتيب كان ذلك زيادة على النص وهو نسخ وهو غير جائز
وجوابنا أنا بينا دلالة الآية على وجوب الترتيب من جهات أخر غير التمسك بأن الواو توجب الترتيب والله أعلم
المسألة السابعة موالاة أفعال الوضوء ليست شرطاً لصحته في القول الجديد للشافعي رحمه الله وهو قول أبي حنيفة رحمه الله وقال مالك رحمه الله إنه شرط لنا أنه تعالى أوجب هذه الأعمال ولا شك أن إيجابها قدر مشترك بين إيجابها على سبيل الموالاة وإيجابها على سبيل التراخي ثم إنه تعالى حكم في آخر هذه الآية بأن هذا القدر يفيد حصول الطهارة وهو قوله وتطهير الطاهر محال وثالثها أن الشرع أقام التيمم مقام الوضوء ولا شك أنه ضد النظافة والوضاءة وخاسمها أن الماء الكدر العفن يفيد الطهارة وماء الورد لا يفيدها فثبت بهذا أن الوضوء غير معقول المعنى وإذ ثبت هذ وجب الاعتماد فيه على مورد النص لاحتمال أن يكون الترتيب المذكور معتبراً إما لمحض التعبد أو لحكم خفية لا نعرفها فلهذا السبب أوجبنا رعاية الترتيب المعتبر المذكور في أركان الصلاة بل ههنا أولى لأنه تعالى لما ذكر أركان الصلاة في كتابه مرتبة وذكر أعضاء الوضوء في هذه الآية مرتبة فلما وجب الترتيب هناك فههنا أولى
واحتج أبو حنيفة رحمه الله بهذه الآية على قوله فقال الواو لا توجب الترتيب فكانت الآية خالية عن إيجاب الترتيب فلو قلنا بوجوب الترتيب كان ذلك زيادة على النص وهو نسخ وهو غير جائز
وجوابنا أنا بينا دلالة الآية على وجوب الترتيب من جهات أخر غير التمسك بأن الواو توجب الترتيب والله أعلم
المسألة السابعة موالاة أفعال الوضوء ليست شرطاً لصحته في القول الجديد للشافعي رحمه الله وهو قول أبي حنيفة رحمه الله وقال مالك رحمه الله إنه شرط لنا أنه تعالى أوجب هذه الأعمال ولا شك أن إيجابها قدر مشترك بين إيجابها على سبيل الموالاة وإيجابها على سبيل التراخي ثم إنه تعالى حكم في آخر هذه الآية بأن هذا القدر يفيد حصول الطهارة وهو قوله وَلَاكِن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ فثبت أن الوضوء بدون الموالاة يفيد حصول الطهارة فوجب أن نقول بجواز الصلاة بها لقوله عليه الصلاة والسلام ( مفتاح الصلاة الطهارة )
المسألة الثامنة قال أبو حنيفة رحمه الله الخارج من غير السبيلين ينقض الوضوء وقال الشافعي

رحمه الله لا ينقض احتج أبو حنيفة رحمه الله بهذه الآية فقال ظاهرها يقتضي لإتيان بالوضوء لكل صلاة على ما بينا ذلك فيما تقدم ترك العمل به عندما لم يخرج الخارج النجس من البدن فيبقى معمولاً به عند خروج الخارج النجس والشافعي رحمه الله عول على ما روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) احتجم وصلّى ولم يزد على غسل أثر محاجمه
المسألة التاسعة قال مالك رحمه الله لا وضوء في الخارج من السبيلين إذا كان غير معتاد وسلم في دم الاستحاضة وقال ربيعة لا وضوء أيضاً في دم الاستحضانة لنا التمسك بعموم الآية
المسألة العاشرة قال أبو حنيفة رحمه الله القهقهة في الصلاة المشتملة على الركوع والسجود تنقض الوضوء وقال الباقون لا تنقض ولأبي حنيفة رحمه الله التمسك بعموم الآية على ما قررناه
المسألة الحادية عشرة قال الشافعي رحمه الله لمس المرأة ينقض الوضوء وقال أبو حنيفة رحمه الله لا ينقضه للشافعي أن يتمسك بعموم الآية وهذا العموم متأكد بظاهر قوله تعالى أَوْ لَامَسْتُمُ النّسَاء وحجة الخصم خبر واحد أو قياس فلا يصير معارضاً له
المسألة الثانية عشرة مس الفرج ينقض الوضوء عند الشافعي رحمه الله وقال أبو حنيفة رحمه الله لا ينقضه للشافعي رحمه الله أن يتمسك بعموم الآية وهذا العموم متأكد بقوله عليه الصلاة والسلام ( من مسّ ذكره فليتوضأ ) والخبر الذي يتمسك به الخصم على خلاف عموم الآية فكان الترجيح معنا
المسألة الثالثة عشرة لو كان على بدنه أو وجهه نجاسة فغسلها ونوى الطهارة عن الحدث بذلك الغسل هل يصح وضوؤه ما رأيت هذه المسألة موضوعة في كتب أصحابنا والذي أقوله إنه يكفي لأنه أمر بالغسل في قوله فاغْسِلُواْ وقد أتى به فيخرج عن العهدة لأنه عند احتياجه إلى التبرد والتنظف لو نوى فإنه يصح وضوؤه كذا ههنا وأيضاً قال عليه الصلاة والسلام ( لكل امريء ما نوى ) وهذا الإنسان نوى فيجب أن يحصل له المنوي والله أعلم
المسألة الرابعة عشر لو وقف تحت ميزاب حتى سال عليه الماء ونوى رفع الحدث هل يصح وضوؤه أم لا يمكن أن يقال لا يصح لأنه أمر بالغسل والغسل عمل وهو لم يأت بالعمل ويمكن أن يقال يصح لأن الغسل عبارة عن الفعل المفضي إلى الإنغسال والوقوف تحت الميزاب يفضي إلى الإنغسال فكان ذلك الوقوف غسلاً
المسألة الخامسة عشرة إذا غسل هذه الأعضاء ثم بعد ذلك تقضرت الجلدة عنها فلا شك أن ما ظهر تحت الجلدة غير مغسول إنما المغسول هو تلك الجلدة وقد تقلصت وسقطت
المسألة السادسة عشرة الغسل عبارة عن إمرار الماء على العضو فلو رطب هذه الأعضاء ولكن ما سال الماء عليها لم يكف لأن الله تعالى أمر بإمرا الماء على العضو وفي غسل الجنابة احتمال أن يكفي ذلك والفرق أن المأمور به في الوضوء الغسل وذلك لا يحصل إلا عند إمرار الماء وفي الجناية المأمور به الطهر وهو قوله وَلَاكِن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ وذلك حاصل بمجرد الترطيب
المسألة السابعة عشرة لو أخذ الثلج وأمره على وجهه فإن كان الهواء حاراً يذيب الثلج ويسيل

جاز وإن كان بخلافه لم يجز خلافاً لمالك والأوزاعي لنا أن قوله فاغْسِلُواْ يقتضي كونه مأموراً بالغسل وهذا لا يسمى غسلاً فوجب أن لا يجزى ء
المسألة الثامنة عشرة التثليث في أعمال الوضوء سنة لا واجب إنما الواجب هو المرة الواحدة والدليل عليه أنه تعالى أمر بالغسل فقال فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ وماهية الغسل تدخل في الوجود بالمرة الواحدة ثم إنه تعالى رتب على هذا القدر حصول الطهارة فقال وَلَاكِن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ فثبت أن المرة الواحدة كافية في صحة الوضوء ثم تأكد هذا بما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) توضأ مرة مرة ثم قال هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به
المسألة التاسعة عشرة السواك سنة وقال داود واجب ولكن تركه لا يقدح في الصلاة لنا أن السواك غير مذكور في الآية ثم حكم بحصول الطهارة بقوله وَلَاكِن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ وإذا حصلت الطهارة حصل جواز الصلاة لقوله عليه الصلاة والسلام ( مفتاح الصلاة الطهارة )
المسألة العشرون التسمية في أول الوضوء سنة وقال أحمد وإسحاق واجبة وإن تركها عامداً بطلت الطهارة لنا أن التسمية غير مذكورة في الآية ثم حكم بحصول الطهارة وقد سبق تقرير هذه الدلالة ثم تأكد هذا بما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( من توضأ فذكر اسم الله عليه كان طهوراً لجميع بدنه ومن توضأ ولم يذكر اسم الله عليه كان طهوراً لأعضاء وضوئه )
المسألة الحادية والعشرون قال بعض الفقهاء تقديم غسل اليدين على الوضوء واجب وعندنا أنه سنة وليس بواجب والاستدلال بالآية كما قررناه في السواك وفي التسمية
المسألة الثانية والعشرون حد الوجه من مبدأ سطح الجبهة إلى منتهى الذقن طولاً ومن الأذن إلى الأذن عرضاً ولفظ الوجه مأخوذ من المواجهة فيجب غسل كل ذلك
المسألة الثالثة والعشرون قال ابن عباس رضي الله عنهما يجب إيصال الماء إلى داخل العين وقال الباقون لا يجب حجة ابن عباس أنه وجب غسل كل الوجه لقوله فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ والعين جزء من الوجه فوجب أن يجب غسله حجة الفقهاء أنه تعالى قال في آخر الآية مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مّنْ حَرَجٍ ولا شك أن في إدخال لماء في العين حرجاً والله أعلم
المسألة الرابعة والعشرون المضمضة والاستنشاق لا يجبان في الوضوء والغسل عند الشافعي رحمه الله وعند أحمد وإسحاق رحمهما الله واجبان فيهما وعند أبي حنيفة رحمه الله واجب في الغسل غير واجب في الوضوء لنا أنه تعالى أوجب غسل الوجه والوجه هو الذي يكون مواجهاً وداخل الأنف والفم غير مواجه فلا يكون من الوجه
إذ ثبت هذا فنقول إيصال الماء إلى الأعضاء الأربعة يفيد الطهارة لقوله وَلَاكِن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ والطهارة تفيد جواز الصلاة كما بيناه
المسألة الخامسة والعشرون غسل البياض الذي بين العذار والأذن واجب عند أبي حنيفة ومحمد والشافعي رحمهم الله وقال أبو يوسف رحمه الله لا يجب لنا أنه من الوجه والوجه يجب غسله بالآية

ولأنا أجمعنا على أنه يجب غسله قبل نبات الشعر فحيلولة الشعر بينه وبين الوجه لا تسقط كالجبهة لما وجب غسلها قبل نبات شعر الحاجب وجب أيضاً بعده
المسألة السادسة والعشرون قال الشافعي رحمه الله يجب إيصال الماء إلى ما تحت اللحية الخفيفة وقال أبو حنيفة رحمه الله لا يجب لنا أن قوله تعالى فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ يوجب غسل الوجه والوجه اسم للجلدة الممتدة من الجبهة إلى الذقن ترك العمل به عند كثافة اللحية عملاً بقوله وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ ( الحج 78 ) وعند خفة اللحية لم يحصل هذا الحرج فكانت الآية دالة على وجوب غسله
المسألة السابعة والعشرون هل يجب إمرار الماء على ما نزل من اللحية عن حد الوجه وعلى الخارج منها إلى الأذنين عرضاً للشافعي رحمه الله فيه قولان أحدهما أنه يجب والثاني أنه لا يجب وهو قول مالك وأبي حنيفة والمزني حجة الشافعي رحمه الله أنا توافقنا على أن في اللحية الكثيفة لا يجب إيصال الماء إلى منابت الشعور وهي الجلد وإنما أسقطنا هذا التكليف لأنا أقمنا ظاهر اللحية مقام جلدة الوجه في كونه وجهاً وإذا كان ظاهر اللحية يسمى وجهاً والوجه يجب غسله بالتمام بدليل قوله فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ لزم بحكم هذا الدليل إيصال الماء إلى ظاهر جميع اللحية
المسألة الثامنة والعشرون لو نبت للمرأة لحية يجب إيصال الماء إلى جلدة الوجه وإن كانت تلك اللحية كثيفة وذلك لأن ظاهر الآية يدل على وجوب غسل الوجه والوجه عبارة عن الجلدة الممتدة من مبدأ الجبهة إلى منتهى الذقن تركنا العمل به في حق الرجال دفعاً للحرج ولحية المرأة نادرة فتبقى على الأصل
واعلم أنه يجب إيصال الماء إلى ما تحت الشعر الكثيف في خمسة مواضع العنفقة والحاجبان والشاربان والعذاران وأهداب العين لأن قوله فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ يدل على وجوب غسل كل جلد الوجه ترك العمل به في اللحية الكثيفة دفعاً للحرج وهذه الشعور خفيفة فلا حرج في إيصال الماء إلى الجلدة فوجب أن تبقى على الأصل
المسألة التاسعة والعشرون قال الشعبي ما أقبل من الأذن معدود من الوجه فيجب غسله مع الوجه وما أدبر منه فهو معدود من الرأس فيمسح وعندنا الأذن ليست البتة من الوجه إذ الوجه ما به المواجهة والأذن ليست كذلك
المسألة الثلاثون قال الجمهور غسل اليدين إلى المرفقين واجب معهما وقال مالك وزفر رحمهما الله لا يجب غسل المرفقين وهذا الخلاف حاصل أيضاً في قوله وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ حجة زفر أن كلمة إِلَى لانتهاء الغاية وما يجعل غاية للحكم يكون خارجاً عنه كما في قوله ثُمَّ أَتِمُّواْ الصّيَامَ إِلَى الَّيْلِ ( البقرة 187 ) فوجب أن لا يجب غسل المرفقين
والجواب من وجهين الأول أن حد الشيء قد يكون منفصلاً عن المحدود بمقطع محسوس وهاهنا يكون الحد خارجاً عن المحدود وهو كقوله ثُمَّ أَتِمُّواْ الصّيَامَ إِلَى الَّيْلِ فإن النهار منفصل عن الليل انفصالاً محسوساً لأن انفصال النور عن الظلمة محسوس وقد لا يكون كذلك كقولك بعتك هذا الثوب من هذا الطرف إلى ذلك الطرف فإن طرف الثوب غير منفصل عن الثوب بمقطع محسوس

إذا عرفت هذا فنقول لا شك أن امتياز المرفق عن الساعد ليس له مفصل معين وإذا كان كذلك فليس إيجاب الغسل إلى جزء أولى من إيجابه إلى جزء آخر فوجب القول بإيجاب غسل كل المرفق
الوجه الثاني من الجواب سلمنا أن المرفق لا يجب غسله لكن المرفق اسم لما جاوز طرف العظم فإنه هو المكان الذي يرتفق به أي يتكأ عليه ولا نزاع في أن ما وراء طرف العظم لا يجب غسله وهذا الجواب اختيار الزجاج والله أعلم
المسألة الحادية والثلاثون الرجل إن كان أقطع فإن كان أقطع مما دون المرفق وجب عليه غسل ما بقي من المرفق لأن قوله فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ يقتضي وجوب غسل اليدين إلى المرفقين فإذا سقط بعضه بالقطع وجب غسل الباقي بحكم الآية وأما إن كان أقطع مما فوق المرفقين لم يجب شيء لأن محل هذا التكليف لم يبق أصلاً وأما إذا كان أقطع من المرفق قال الشافعي رحمه الله يجب إمساس الماء لطرف العظم وذلك لأن غسل المرفق لما كان واجباً والمرفق عبارة عن ملتقى العظمين فإذا وجب إمساس الماء لملتقى العظمين وجب إمساس الماء لطرف العظم الثاني لا محالة
المسألة الثانية والثلاثون تقديم اليمنى على اليسرى مندوب وليس بواجب وقال أحمد هو واجب لنا أنه تعالى ذكر الأيدي والأرجل ولم يذكر فيه تقديم اليمنى على اليسرى وذلك يدل على أن الواجب هو غسل اليدين بأي صفة كان والله أعلم
المسألة الثالثة والثلاثون السنة أن يصب الماء على الكف بحيث يسيل الماء من الكف إلى المرفق فإن صب الماء على المرفق حتى سال الماء إلى الكف فقال بعضهم هذا لا يجوز لأنه تعالى قال وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ فجعل المرافق غاية الغسل فجعله مبدأ الغسل خلاف الآية فوجب أن لا يجوز وقال جمهور الفقهاء أنه لا يخل بصحة الوضوء إلا أنه يكون تركاً للسنة
المسألة الرابعة والثلاثون لو نبت من المرفق ساعدان وكفان وجب غسل الكل لعموم قوله وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ كما أنه لو نبت على الكف أصبع زائدة فإنه يجب غسلها بحكم هذه الآية
المسألة الخامسة والثلاثون قوله تعالى إِلَى الْمَرَافِقِ يقتضي تحديد الأمر لا تحديد المأمور به يعني أن قوله فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ أكر بغسل اليدين إلى المرفقين فإيجاب الغسل محدود بهذا الحد فبقي الواجب الواجب هو هذا القدر فقط أما نفس الغسل فغير محدود بهذا الحد لأنه ثبت بالأخبار أن تطويل الغرة سنة مؤكدة
المسألة السادسة والثلاثون قال الشافعي رحمه الله الواجب في مسح الرأس أقل شيء يسمى مسحاً للرأس وقال مالك يجب مسح الكل وقال أبو حنيفة رحمه الله الواجب مسح ربع الرأس حجة الشافعي أنه لو قال مسحت المنديل فهذا لا يصدق إلا عند مسحه بالكلية أما لو قال مسحت يدي بالمنديل فهذا يكفي في صدقه مسح اليدين بجزء من أجزاء ذلك المنديل
إذا ثبت هذا فنقول قوله وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ يكفي في العمل به مسح اليد بجزء من أجزاء الرأس ثم ذلك الجزء غير مقدر في الآية فإن أوجبنا تقديره بمقدار معين لم يمكن تعيين ذلك المقدار إلا بدليل

مغاير لهذه الآية فيلزم صيرورة الآية مجملة وهو خلاف الأصل وإن قلنا أنه يكفي فيه إيقاع المسح على أي جزء كان من أجزاء الرأس كانت الآية مبينة مفيدة ومعلوم أن حمل الآية على محمل تبقى الآية معه مفيدة أولى من حملها على محمل تبقى الآية معه مجملة فكان المصير إلى ما قلناه أولى وهذا استنباط حسن من الآية
المسألة السابعة والثلاثون لا يجوز الاكتفاء بالمسح على العمامة وقال الأوزاعي والثوري وأحمد يجوز لنا أن الآية دالة على أنه يجب المسح على الرأس ومسح العمامة ليس مسحاً للرأس واحتجبوا بما روي أنه عليه الصلاة والسلام مسح على العمامة
جوابنا لعله مسح قدر الفرض على الرأس والبقية على العمامة
المسألة الثامنة والثلاثون اختلف الناس في مسح الرجلين وفي غسلهما فنقل الفقال في تفسيره عن ابن عباس وأنس بن مالك وعكرمة والشعبي وأبي جعفر محمد بن علي الباقر أن الواجب فيهما المسح وهو مذهب الإمامية من الشيعة وقال جمهور الفقهاء والمفسرين فرضهما الغسل وقال داود الأصفهاني يجب الجمع بينهما وهو قول الناصر للحق من أئمة الزيدية وقال الحسن البصري ومحمد بن جرير الطبري المكلف مخير بين المسح والغسل
حجة من قال بوجوب المسح مبني على القراءتين المشهورتين في قوله وَأَرْجُلَكُمْ فقرأ ابن كثير وحمزة وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر عنه بالجر وقرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية حفص عنه بالنصب فنقول أما القراءة بالجر فهي تقتضي كون الأرجل معطوفة على الرؤوس فكما وجب المسح في الرأس فكذلك في الأرجل
فإن قيل لم لا يجوز أن يقال هذا كسر على الجوار كما في قوله جحر ضب خرب وقوله
كبير أناس في بجاد مزمل
قلنا هذا باطل من وجوه الأول أن الكسر إنما يصار إليه حيث يحصل الأمن من الالتباس كما في قوله جحر ضب خرب فإن من المعلوم بالضرورة أن الخرب لا يكون نعتاً للضب بل للجحر وفي هذه الآية الأمن من الالتباس غير حاصل وثالثها أن الكسر بالجوار إنما يكون بدون حرف العطف وأما مع حرف العطف فلم تتكلم به العرب وأما القراءة بالنصب فقالوا أيضاً إنها توجب المسح وذلك لأن قوله وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ فرؤوسكم في النصب ولكنها مجرورة بالباء فإذا عطفت الأرجل على الرؤوس جاز في الأرجل النصب عطفاً على محل الرؤوس والجر عطفاً على الظاهر وهذا مذهب مشهور للنحاة
إذا ثبت هذا فنقول ظهر أنه يجوز أن يكون عامل النصب في قوله وَأَرْجُلَكُمْ هو قوله وَامْسَحُواْ ويجوز أن يكون هو قوله فاغْسِلُواْ لكن العاملان إذا اجتمعا على معمول واحد كان إعمال الأقرب أولى فوجب أن يكون عامل النصب في قوله وَأَرْجُلَكُمْ هو قوله وَامْسَحُواْ فثبت أن قراءة وَأَرْجُلَكُمْ

بنصب اللام توجب المسح أيضاً فهذا وجه الاستدلال بهذه الآية على وجوب المسح ثم قالوا ولا يجوز دفع ذلك بالأخبار لأنها بأسرها من باب الآحاد ونسخ القرآن بخير الواحد لا يجوز
واعلم أنه لا يمكن الجواب عن هذا إلا من وجهين الأول أن الأخبار الكثيرة وردت بإيجاب الغسل والغسل مشتمل على المسح ولا ينعكس فكان الغسل أقرب إلى الاحتياط فوجب المصير إليه وعلى هذا الوجه يجب القطع بأن غسل الرجل يقوم مقام مسحها والثاني أن فرض الرجلين محدود إلى الكعبين والتحديد إنما جاء في الغسل لا في المسح والقوم أجابوا عنه بوجهين الأول أن الكعب عبارة عن العظم الذي تحت مفصل القدم وعلى هذا التقدير فيجب المسح على ظهر القدمين والثاني أنهم سلموا أن الكعبين عبارة عن العظمين الناتئين من جانبي الساق إلا أنهم التزموا أنه يجب أن يمسح ظهور القدمين إلى هذين الموضعين وحينئذ لا يبقى هذا السؤال
المسألة التاسعة والثلاثون مذهب جمهور الفقهاء أن الكعبين عبارة عن العظمين الناتئين من جانبي الساق وقالت الإمامية وكل من ذهب إلى وجوب المسح إن الكعب عبارة عن عظم مستدير مثل كعب البقر والغنم موضوع تحت عظم الساق حيث يكون مفصل الساق والقدم وهو قول محمد بن الحسن رحمه الله وكان الأصمعي يختار هذا القول ويقول الطرفان الناتئان يسميان المنجمين هكذا رواه القفال في تفسيره
حجة الجمهور وجوه الأول أنه لو كان الكعب ما ذكره الإمامية لكان الحاصل في كل رجل كعباً واحداً فكان ينبغي أن يقال وأرجلكم إلى الكعاب كما أنه لما كان الحاصل في كل يد مرفقاً واحداً لا جرم قال وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ والثاني أن العظم المستدير الموضوع في المفصل شيء خفي لا يعرفه إلا المشرحون والعظمان الناتئان في طرفي الساق محسوسان معلومان لكل أحد ومناط التكاليف العامة يجب أن يكون أمراً ظاهراً لا أمراً خفياً الثالث روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( ألصقوا الكعب بالكاعب ) ولا شك أن المراد ما ذكرناه الرابع أن الكعب مأخوذ من الشرف والارتفاع ومنه جارية كاعب إذا نتأ ثدياها ومنه الكعب لكل ما له ارتفاع
حجة الإمامية أن اسم الكعب واقع على العظم المخصوص الموجود في أرجل جميع الحيوانات فوجب أن يكون في حق الإنسان كذلك وأيضاً المفصل يسمى كعباً ومنه كعوب الرمح لمفاصله وفي وسط القدم مفصل فوجب أن يكون الكعب هو هو
والجواب أن مناط التكاليف الظاهرة يجب أن يكون شيئاً ظاهراً والذي ذكرناه أظهر فوجب أن يكون الكعب هو هو
المسألة الأربعون أثبت جمهور الفقهاء جواز المسح على الخفين وأطبقت الشيعة والخوارج على إنكاره واحتجوا بأن ظاهر قوله تعالى وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ يقتضي إما غسل الرجلين أو مسحهما والمسح على الخفين ليس مسحاً للرجلين ولا غسلاً لهما فوجب أن لا يجوز بحكم نص هذه الآية ثم قالوا إن القائلين بجواز المسح على الخفين إنما يعولون على الخبر لكن الرجوع إلى القرآن أولى من الرجوع إلى هذا الخبر ويدل عليه وجوه الأول أن نسخ القرآن بخبر الواحد لا يجوز والثاني أن هذه الآية في سورة المائدة وأجمع المفسرون على أن هذه السورة لا منسوخ فيها ألبتة إلا قوله

تعالى يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ اللَّهِ ( المائدة 2 ) فإن بعضهم قال هذه الآية منسوخة وإذا كان كذلك امتنع القول بأن وجوب غسل الرجلين منسوخ والثالث خبر المسح على الخفين بتقدير أنه كان متقدماً على نزول الآية كان خبر الواحد منسوخاً بالقرآن ولو كان بالعكس كان خبر الواحد ناسخاً للقرآن ولا شك أن الأول أولى لوجوه الأول أن ترجيح القرآن المتواتر على خبر الواحد أولى من العكس وثانيها أن العمل بالآية أقرب إلى الاحتياط وثالثها أنه قد روي عنه ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( إذا روي لكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله فإن وافقه فاقبلوه وإلا فردوه ) وذلك يقتضي تقديم القرآن على الخبر ورابعها أن قصة معاذ تقتضي تقديم القرآن على الخبر
الوجه الرابع في بيان ضعف هذا الخبر أن العلماء اختلفوا فيه فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لأن تقطع قدماي أحب إليّ من أن أمسح على الخفين وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لأن أمسح على جلد حمار أحبّ إلي من أن أمسح على الخفين وأما مالك فإحدى الروايتين عنه أنه أنكر جواز المسح على الخفين ولا نزاع أنه كان في علم الحديث كالشمس الطالعة فلولا أنه عرف فيه ضعفاً وإلا لما قال ذلك والرواية الثانية عن مالك أنه ما أباح المسح على الخفين للمقيم وأباحه للمسافر مهما شاء من غير تقدير فيه
وأما الشافعي وأبو حنيفة وأكثر الفقهاء فإنهم جوزوه للمسافر ثلاثة أيام بلياليها من وقت الحدث بعد اللبس وقال الحسن البصري ابتداؤه من وقت لبس الخفين وقال الأوزاعي وأحمد يعتبر وقت المسح بعد الحدث قالوا فهذا الاختلاف الشديد بين الفقهاء يدل على أن الخبر ما بلغ مبلغ الظهور والشهرة وإذا كان كذلك وجب القول بأن هذه الأقوال لما تعارضت تساقطت وعند ذلك يجب الرجوع إلى ظاهر كتاب الله تعالى الخامس أن الحاجة إلى معرفة جواز المسح على الخفين حاجة عامة في حق كل المكلفين فلو كان ذلك مشروعاً لعرفه الكل ولبلغ مبلغ التواتر ولما لم يكن الأمر كذلك ظهر ضعفه فهذا جملة كلام من أنكر المسح على الخفين
وأما الفقهاء فقالوا ظهر عن بعض الصحابة القول به ولم يظهر من الباقين إنكار فكان ذلك إجماعاً من الصحابة فهذا أقوى ما يقال فيه وقال الحسن البصري حدّثني سبعون من أصحاب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أنه مسح على الخفين وأما إنكار ابن عباس رضي الله عنهما فروي أن عكرمة روى ذلك عنه فلما سئل ابن عباس عنه فقال كذب علي وقال عطاء كان ابن عمر يخالف الناس في المسح على الخفين لكنه لم يمت حتى وافقهم وأما عائشة رضي الله عنها فروي أن شريح بن هانيء قال سألتها عن مسح الخفين فقالت اذهب إلى علي فاسأله فإنه كان مع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في أسفاره قال فسألته فقال امسح وهذا يدل على أن عائشة تركت ذلك الإنكار
المسألة الحادية والأربعون رجل مقطوع اليدين والرجلين سقط عنه هذان الفرضان وبقي عليه غسل الوجه ومسح الرأس فإن لم يكن معه من يوضئه أو ييممه يسقط عنه ذلك أيضاً لأن قوله تعالى وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ مشروط بالقدرة عليه لا محالة فإذا فاتت القدرة سقط التكليف فهذا جملة ما يتعلق من المسائل بآية الوضوء

قوله تعالى وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ قال الزجاج معناه فتطهروا إلا أن التاء تدغم في الطاء لأنهما من مكان واحد فإذا أدغمت التاء في الطاء سكن أول الكلمة فزيد فيها ألف الوصل ليبتدأ بها فقيل اطهروا
واعلم أنه تعالى لما ذكر كيفية الطهارة الصغرى ذكر بعدها كيفية الطهارة الكبرى وهي الغسل من الجناية وفيه مسائل
المسألة الأولى لحصول الجناية سببان الأول نزول المني قال عليه الصلاة والسلام ( إنما الماء من الماء ) والثاني التقاء الختانين وقال زيد بن ثابت ومعاذ وأبو سعيد الخدري لا يجب الغسل إلا عند نزول الماء لنا قوله عليه الصلاة والسلام ( إذا التقى الختانان وجب الغسل )
واعلم أن ختان الرجل هو الموضع الذي يقطع منه جلدة القلفة وأمات ختان المرأة فاعلم أن شفريها محيطان بثلاثة أشياء ثقبة في أسفل الفرج وهو مدخل الذكر ومخرج الحيض والولد وثقبة أخرى فوق هذه مثل إحليل الذكر وهي مخرج البول لا غير والثالث فوق ثقبة البول موضع ختانها وهناك جلدة رقيقة قائمة مثل عرف الديك وقطع هذه الجلدة هو ختانها فإذا غابت الحشفة حاذى ختانها ختانه
المسألة الثانية قوله فَاطَّهَّرُواْ أمر على الاطلاق بحيث لم يكن مخصوصاً بعضو معين دون عضو فكان ذلك أمراً بتحصيل الطهارة في كل البدن على الاطلاق ولأن الطهارة لما كانت مخصوصة ببعض الأعضاء لا جرم ذكر الله تعالى تلك الأعضاء على التعيين فههنا لما لم يذكر شيئاً من الأعضاء على التعيين علم أن هذا الأمر أمر بطهارة كل البدن
واعلم أن هذا التطهير هو الاغتسال كما قال في موضع آخر وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُواْ ( النساء 43 )
المسألة الثالثة الدلك غير واجب في الغسل وقال مالك رحمه الله واجب لنا أن أقوله فَاطَّهَّرُواْ أمر بتطهير البدن وتطهير البدن لا يعتبر فيه الدلك بدليل أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما سئل عن الاغتسال من الجناية قال ( أما أنا فأحثي على رأسي ثلاث حثيات خفيفات من الماء فإذا أنا قد طهرت ) أثبت حصول الطهارة بدون الدلك فدل على أن التطهير لا يتوقف على الدلك
المسألة الربعة لا يجوز للجنب مس المصحف وقال داود يجوز لنا قوله فَاطَّهَّرُواْ فدل على أنه ليس بطاهر وإلا لكان ذلك أمراً بتطهير الطاهر وإنه غير جائز وإذا لم يكن طاهراً لم يجز له مس المصحف لقوله تعالى لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ ( الواقعة 79 )
المسألة الخامسة لا يجب تقديم الوضوء على الغسل وقال أبو ثور وداود يجب لنا أن قوله فَاطَّهَّرُواْ أمر بالتطهير والتطهير حاصل بمجرد الاغتسال ولا يتوقف على الوضوء بدليل قوله عليه الصلاة والسلام ( أما أنا فأحثي على رأسي ثلاث حثيات فإذا أنا قد طهرت )
المسألة السادسة قال الشافعي رحمه الله المضمضة والاستنشاق غير واجبين في الغسل وقال أبو

حنيفة رحمه الله هما واجبان
حجة الشافعي قوله عليه الصلاة والسلام ( أما أنا فأحثي على رأسي ثلاث حثيات فإذا أنا قد طهرت )
وحجة أبي حنيفة الآية والخبر أما الآية فقوله تعالى فَاطَّهَّرُواْ وهذا أمر بأن يطهروا أنفسهم وتطهير النفس لا يحصل إلا بتطهير جميع أجزاء النفس ترك العمل به في الأجزاء الباطنة التي يتعذر تطهيرها وداخل الفم والأنف يمكن تطهيرهما فوجب بقاؤهما تحت النص وأما الخبر فقوله عليه الصلاة والسلام ( بلوا الشعر وانقوا البشرة ) فإن تحت كل شعرة جنابة ) فقوله ( بلوا الشعر ) يدخل فيه الأنف لأن في داخله شعراً وقوله ( وانقوا البشرة ) يدخل فيه جلدة داخل الفم
المسألة الرابعة شعر الرأس إن كان مفتولاً لا مشدوداً بعضه ببعض نظر فإن كان ذلك يمنع من وصول الماء إلى جلدة الرأس وجب نقضه وقال مالك لا يجب وإن كان لا يمنع لم يجب وقال النخعي يجب لنا أن قوله فَاطَّهَّرُواْ عبارة عن إيصال الماء إلى جميع أجزاء البدن فإن كان شد بعض الشعور بالبعض مانعاً منه وجب إزالة ذلك الشد ليزول ذلك المانع فإن لم يكن مانعاً منه لم يجب إزالته لأن ما هو المقصود قد حصل فلا حاجة إليه
المسألة الثامنة قال الأكثرون لا ترتيب في الغسل وقال إسحاق تجب البداءة بأعلى البدن لنا أن قوله فَاطَّهَّرُواْ أمر بالتطهير المطلق وذلك حاصل بإيصال الماء إلى كل البدن فإذا حصل التطهير وجب أن يكون كافياً في الخروج عن العهدة
قوله تعالى وَإِنْ كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُمْ مّن الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النّسَاء ( النساء 43 ) وفيه مسائل
المسألة الأولى يجوز للمريض أن يتيمم لقوله تعالى وَإِنْ كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ ولا يجوز أن يقال إنه شرط فيه عدم الماء لأن عدم الماء يبيح التيمم فلا معنى لضمه إلى المرض وإنما يرجع قوله فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء إلى المسافر
المسألة الثانية المرض على ثلاثة أقسام أحدها أن يخاف الضرر والتلف فههنا يجوز التيمم بالاتفاق الثاني أن لا يخاف الضرر ولا التلف فههنا قال الشافعي لا يجوز التيمم وقال مالك وادود يجوز وحجتهما أن قوله وَإِنْ كُنتُم مَّرْضَى يتناول جميع أنواع المرض الثالث أن يخاف الزيادة في العلة وبطء المرض فههنا يجوز له التيمم على أصح قولي الشافعي رحمه الله وبه قال مالك وأبو حنيفة رحمهما الله والدليل عليه عموم قوله وَإِنْ كُنتُم مَّرْضَى الرابع أن يخاف بقاء شين على شيء من أعضائه قال في ( الجديد ) لا يتيمم قال في ( القديم ) يتيمم وهو الأصح لأنه هو المطابق للآية
المسألة الثالثة إن كان المرض المانع من استعمال الماء حاصلاً في بعض جسده دون بعض فقال الشافعي رحمه الله إنه يغسل ما لا ضرر عليه ثم يتيمم وقال أبو حنيفة رحمه الله إن كان أكثر البدن صحيحاً غسل الصحيح دون التيمم وإن كان أكثره جريحاً يكفيه التيمم حجة الشافعي رحمه الله الأخذ

بالاحتياط وحجة أبي حنيفة رحمه الله أن الله تعالى جعل المرض أحد أسباب جواز التيمم والمرض إذا كان حالاً في بعض أعضائه فهو مريض فكان داخلاً تحت الآية
المسألة الرابعة لو ألصق على موضع التيمم لصوقاً يمنع وصول الماء إلى البشرة ولا يخاف من نزع ذلك اللصوق التلف قال الشافعي رحمه الله يلزمه نزع اللصوق عند التيمم حتى يصل التراب إليه وقال الأكثرون لا يجب حجة الشافعي رعاية الاحتياط وحجة الجمهور أن مدار الأمر في التيمم على التخفيف وإزالة الحرج على ما قال تعالى وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ ( الحج 87 ) فإيجاب نزع للصوق حرج فوجب أن لا يجب
المسألة الخامسة يجوز التيمم في السفر القصير وقال بعض المتأخرين من أصحابنا لا يجوز لنا أن قوله تعالى أَوْ عَلَى سَفَرٍ مطلق وليس فيه تفصيل أن السفر هل هو طويل أو قصير ولقائل أن يقول أنا إذا قلنا السفر الطويل والقصير سببان للرخصة لكون لفظ السفر مطلقاً وجب أن نقول المرض الخفيف والشديد سببان للرخصة لكون لفظ المرض مطلقاً ويدل أيضاً على أن السفر القصير يبيح التيمم ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه انصرف من قومه فبلغ موضعاً مشرفاً على المدينة فدخل وقت العصر فطلب الماء للوضوء فلم يجد فجعل يتيمم فقال له مولاه أتتيمم وها هي تنظر إليك جدران المدينة ا فقال أو أعيش حتى أبلغها وتيمم وصلّى ودخل المدينة والشمس حية بيضاء وما أعاد الصلاة
المسألة السادسة المسافر إذا كان معه ماء ويخاف الاعطش جاز له أن يتيمم لقوله تعالى في آخر الآية مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مّنْ حَرَجٍ ولأن فرض الوضوء سقط عنه إذا أضر بماله لدليل أنه إذا لم يجد الماء إلا بثمن كثير لم يجب عليه الوضوء فإذا أضر بنفسه كان أولى
المسألة السابعة إذا كان معه ماء وكان حيوان آخر عطشاناً مشرفاً على الهلاك يجوز له التيمم لأن ذلك الماء واجب الصرف إلى ذلك الحيوان لأن حق الحيوان مقدم على الصلاة ألا ترى أنه يجوز له قطع الصلاة عند إشراف صبي أو أعمى على غرق أو حرق فإذا كان كذلك كان ذلك الماء كالمعدوم فدخل حينئذٍ تحت قوله فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ
المسألة الثامنة إذ لم يكن معه ماء ولكن كان مع غيره ماء ولا يمكنه أن يشتري إلا بالغبن الفاحش جاز التيمم له لأن قوله وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ ( الحج 78 ) رفع عنه تحمل الغبن الفاحش وحينئذٍ يكون كالفاقد للماء فيدخل تحت قوله فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ وكذا القول إذا كن واجداً لثمن المثل ولم يكن به إليه حاجة ضرورية فهنا يجب شراء الماء
المسألة التاسعة إذا وهب منه ذلك الماء هل يجوز له التيمم قال أصحابنا يجوز له التيمم ولا يجب عليه قبول ذلك الماء لأن المنة في قبول الهبة شاقة وأنا أتعجب منهم فإنهم لما جعلوا هذا القدر من الحرج سبباً لجواز التيمم فلم لم يجدوا خوف زيادة الألم في المرض سبباً لجواز التيمم
المسألة العاشرة إذا أعير منه الدول والرشاء فههنا الأكثرون قالوا لا يجوز له التيمم لأن المنة في هذه الإعارة قليلة وكان هذا الإنسان واجداً للماء من غير حرج فلم يجز له التيمم لأن قوله تعالى فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ

دليل على أنه يشترط لجواز التيمم عدم وجدان الماء
المسألة الحادية عشرة قوله أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُمْ مّن الْغَائِطِ كناية عن قضاء الحاجة وأكثر العلماء ألحقوا به كل ما يخرج من السبيلين سواء كان معتاداً أو نادراً لدلالة الأحاديث عليه
المسألة الثانية عشرة قال الشافعي رحمه الله الاستنجاء واجب إما بالماء وءما بالأحجار وقال أبو حنيفة رحمه الله غير واجب
حجة الشافعي قوله فليستنج بثلاثة أحجار وحجة أبي حنيفة أنه تعالى قال أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُمْ مّن الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ أوجب عند المجيء من الغائط الوضوء أو التيمم ولم يوجب غسل موضع الحد وذلك يدل على أنه غير واحب
المسألة الثالثة عشرة لمس المرأة ينقض الوضوء عند الشافعي رحمه الله ولا ينقض عند أبي حنيفة رحمه الله
المسألة الرابعة عشرة ظاهر قوله أَوْ لَامَسْتُمُ النّسَاء يدل على انتقاض وضوء اللامس أما انتقاض وضوء الملموس فغير مأخوذ من الآية بل ءنما أخذ من الخبر أو من القياس الجلي
قوله تعالى فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيّباً وفيه مسائل وهي محصورة في نوعين أحدهما الكلام في أن الماء المطهر ما هو والثاني الكلام في أن التيمم كيف هو
أما النوع الأول ففيه مسائل
المسألة الأولى الوضوء بلماء المسخن جاز ولا يكره وقال مجاهد يكره لنا وجهان الأول قوله تعالى فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ والغسل عبارة عن إمرار المء على العضو وقد أتى به فيخرج عن العهدة الثاني أنه قال فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ علق جواز التيمم بفقدان الماء وههنا لم يحصل فقدان الماء فوجب أن لا يجوز التيمم
المسألة الاثانية قال أصحابنا الماء إذا قصد تشميسه في الإناء كره الوضوء به وقال أبو حنيفة وأحمد رحمهما الله لا يكره حجة أصحابنا ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( من اغتسل بماء مشمس فأصابه وضع فلا يلومن إلا نفسه ) ومن أصحابنا من قال لا يكره ذلك من جهة الشرع بل من جهة الطب وحجة أبي حنيفة رحمه الله أنه أمر بالغسل في قوله فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وهذا غسل فيكون كافياً الثاني أنه واجد للماء فلم يجز له التيمم
المسألة الثالثة لا يكره الوضوء بما فضل عن وضوء المشرك وكذا لا يكره الوضوء بالماء الذي يكون في أواني المشركين وقال أحمد وإسحاق لا يجوز لنا أنه أمر بالغسل وقد أتى به ولأنه واجد للماء فلا يتيمم وروى أنه عليه الصلاة والسلام توضأ من مزادة مشركة وتوضأ عمر رضي الله عنه من ماء في جرة نصرانية

المسألة الرابعة يجوز الوضوء بماء البحر وقال عبد الله بن عمرو بن العاص لا يجوز لنا أنه أمر بالغسل وقد أتى به ولأن شرط جواز التيمم عدم الماء ومن وجد ماء البحر فقد وجد الماء
المسألة الخامسة قال الشافعي رحمه الله لا يجوز الوضوء بنبيذ التمر وقال أبو حنيفة رحمه الله يجوز ذلك في السفر حجة الشافعي قوله فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ أوجب الشارع عند عدم الماء التيمم وعند الخصم يجوز له الترك للتيمم بل يجب وذلك بأن يتوضأ بنبيذ التمر فكان ذلك على خلاف الآية فإن تمسكوا بقصة الجن قلنا قيل إن ذلك كان ماء نبذت فيه تميرات لإزالة الملوحة وأيضاً فقصة الجن كانت بمكة وسورة المائدة آخر ما نزل من القرآن فجعل هذا ناسخاً لذلك أولى
المسألة السادسة ذهب الأوزاعي والأصم إلى أنه يجوز الوضوء والغسل بجميع المائعات الطاهرة وقال الأكثرون لا يجوز لنا أن عند عدم الماء أوجب الله التيمم وتجويز الوضوء بسائر المائعات يبطل ذلك احتجوا بأن قوله تعالى فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ أمر بمطلق الغسل وإمرار المائع على العضو يسمى غسلاً كقول الشاعر
فيا حسنها إذ يغسل الدمع كحلها
وإذا كان الغسل اسماً للقدر المشترك بين ما يحصل بالماء وبين ما يحصل بسائر المائعات كان قوله فاغْسِلُواْ إذناً في الوضوء بكل المائعات
قلنا هذا مطلق والدليل الذي ذكرناه مقيد وحمل المطلق على المقيد هو الواجب
لمسألة السابعة قال الشافعي رحمه الله الماء المتغير بالزعفران تغيراً فاحشاً لا يجوز الوضوء به وقال بو حنيفة رحمه ا يجوز حجة الشافعي أن مثل هذا الماء لا يسمى ماء على الإطلاق قواجده غير واجد للكاء فوجب أن يجب عليه التيمم وحجة أبي حنيفة رحمه الله أو واجده واجد للماء لأن الماء المتغير بالزعفران ماى موصوف بصفة معينة فكان أصل الماى موجوداً لا محالة فواجده يكون واجداً للماء فوجب أن لا يجوز التيمم لقوله تعالى فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ علق جواز التيمم بعدم الماء
المسألة الثامنة الماء الذي تغير وتعفن بطول المكث طاهر طهور لدليل قوله تعالى فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ علق جواز التيمم على عدم الماء وهذا الماء المتعفن ماء فوجب أن لا يجوز التيمم عند وجوده
المسألة التاسعة قال مالك وداود الماء المتسعمل في الوضوء يبقى طاهراً طهوراً وهو قول قديم للشافعي رحمه الله والقول الجديد للشافعي أنه لم يبق طهوراً ولكنه طاهر وهو قول محمد بن الحسن وقال أبو حنيفة رحمه الله في أكثر الروايات أنه نجس حجة مالك أن جواز التيمم معلق على عدم وجدان الماء وهو قوله فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ وواجد الماء المستعمل واجد للماء فوجب أن لا يجوز التيمم وإذا لم يجز التيمم جاز له التوضوء لأنه لا قائل بالفرق وأيضاً قال تعالى وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُوراً ( الفرقان 48 ) والطهور هو الذي يتكرر منه هذا الفعل كالضحوك والقتول والأكول والشروب والتكرار إنما يحصل إذا كان المستعمل في الطهارة يجوز استعماله فيها مرة أخرى
المسألة العاشرة قال مالك الماء إذا وقعت فيه نجاسة ولم يتغير الماء بتلك النجاسة بقي طاهراً

طهوراً سواء كان قليلاً أو كثيراً وهو قول أكثر الصحابة والتابعين وقال الشافعي رحمه الله إن كان أقل من القلتين ينجس وقال أبو حنيفة إن كان أقل من عشرة في عشرة ينجس حجة مالك أن الله جعل في هذه الآية عدم الماء شرطاً لجواز لتيمم وواجد هذا الماء الذي فيه النزاع واجد للماء فوجب أن لا يجوز له التيمم أقصى ما في الباب أن يقال هذا المعنى موجود عند صيرورة الماء القليل متغيراً إلا أنا نقول العام حجة في غير محل التخصيص وأيضاً قوله تعالى فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ أمر بمطلق الغسل ترك العمل به في سائر المائعات وفي الماء القليل الذي تغير بالنجاسة فيبقى حجة في الباقي وقال مالك رحمه الله ثم تأيد التمسك بهذه الآية بقوله عليه الصلاة والسلام ( خلق الماى طهوراً لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو ريحه أو لونه ) ولا يعارض هذا بقوله عليه الصلاة والسلام ( إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثاً ) لأن القرآن أولى من خبر الواحد والمنطوق أولى من المفهوم
المسألة الحادية عشرة يجوز الوضوء بفضل ماء الجنب وقال أحمد وإسحاق لا يجوز بفضل ماء المرأة إذا خلت به وهو قول الحسن وسعيد بن المسيب لنا قوله تعالى فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ وواجد هذا الماء فلم يجز له التيمم وإذا لم يجز له ذلك جاز له الوضوء لأنه لا قائل بالفرق
المسألة الثانية عشرة أسار السباع طاهرة مطهرة وكذا سؤر الحمار وقال أبو حنيفة رحمه الله نجسة لنا أن واجد هذا السؤر واجد للماء فلم يجز له التيمم ولأن قوله فاغْسِلُواْ يتناول جميع أنواع الماء على ما تقدم تقرير هذين الوجهين
المسألة الثالثة عشرة الماء إذا بلغ قلتين ووقعت فيه نجاسة مغيرة بقي طاهراف مطهورة عند الشافعي رحنه الله وقال أبو حنيفة رحمه الله ينجس لنا أنه واجد للماء فلم يجز له لتيمم ولأنه أمر بالغسل وقد أتى به فخرج عن العهدة
المسألة الرابعة عشرة الماء الذي تفتتت الأوراق فيه للناس فيه تفاصيل لكن هذه الآية دالة على كونه طاهراً مطهراً ما لم يزل عنه اسم الماء المطلق وبالجملة فهذه الآية دالة على أنه كلما بقي اسم الماىء المطلق كان طاهراف مطهوراً
النوع الثاني من المسائل المستخرجة من هذه الآية من مسائل التيمم
المسألة الأولى قال الشافعي وأبو حنيفة والأكثرون رحمهم الله لا بدّ في التيمم من النية وقال زفر رحمه الله لا يجب لنا قوله تعالى فَتَيَمَّمُواْ والتيمم عبارة عن القصد فدل على أنه لا بدّ من لنية
المسألة الثانية قال الشافعي وأبو حنيفة يجب تيمم اليدين إلى المرفقين وعن علي وابن عباس إلى الرسغين وعن مالك إلى الكوعين وعن الزهري إلى الآباط
لنا اليد اسم لهذا العضو إلى الإبط فقوله فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ يقتضي المسح إلى الإبن تركنا العمل بهذا النص في العضدين لأنا نعلم أن التيمم بدل عن الوضوء ومبناه على التخفيف بدليل أن الواجب تطهير أعضاء أربعة في الوضوء وفي التيمم الواجب تطهير عضوين وتأكد هذا المعنى بقوله تعالى في آية التيمم مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مّنْ حَرَجٍ فإذا كان العضدان غير معتبرين في

الوضوء فبأن لا يكونا معتبرين في التيمم أولى وإذا خرج العضدان عن ظاهر النص بهذا الدليل بقي اليدان إلى المرفقين فيه فالحاصل أنه تعالى إنما ترك تقييد التيمم في اليدين بالمرفقين لأنه بدل عن الوضوء فتقييده بهما في الوضوء يغني عن ذكر هذا التقييد في التيمم
المسألة الثالثة يجب استيعاب العضوين في التيمم ونقل الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه إذا يمم الأكثر جاز
لنا قوله فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مّنْهُ والوجه واليد اسم لجملة هذين العضوين وذلك لا يحصل إلا بالاستيعاب ولقئل أن يقول قد ذكرتم في قوله تعالى وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ أن الباء تفيد التبغيض فكذا ههنا
المسألة الرابعة قال الشافعي رحمه الله إذا وضع يده على الأرض فما لم يعلق بيده شيء من الغبار لم يجزه وهو قول أبي يوسف رحمه لله وقال أبو حنيفة ومالك رحمهما الله يجزئه
لنا قوله تعالى فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مّنْهُ وكلمة مِنْهُ تدل على التمسح بشيء من ذلك التراب كما أن من قال فلان يمسح من الدن أفاد هذا المعنى وقد بالغنا في تقرير هذا في تفسير آية التيمم من سورة النساء والله أعلم
المسألة الخامسة قال الشافعي رحمه الله لا يجوز التيمم إلا بالتراب الخالص وهو قول أبي يوسف رحمه اا وقال أبو حنيفة رحمه الله يجوز بالتراب وبالرمل وبالخزف المدقوق والجص والنورة والزرنيخ
لنا ما روي أن ابن عباس قال الصعيد هو التراب وأيضاً التيمم طهارة غير معقولة المعنى فوجب الاقتصار فيه على مورد النص والنص المفصل إنما ورد في التراب قال عليه الصلاة والسلام ( التراب طهور المسلم ولو لم يجد الماء عشر حجج ) وقال ( جعلت لي الأرض مسجداً وتربها طهوراً ) والله أعلم
المسألة السادسة لو وقف على مهب الرياح فسفت الرياح التراب عليه فأمر يده عليه أو لم يمر ظاهر مدهب الشافعي رحمه الله أنه لا يكفي وقال بعض المحققين يكفي لأنه لما وصل الغبار إلى أعضائه ثم أمر الغبار على تلك الأعضاء فقد قصد إلى استعمال الصعيد الطيب في أعضائه فكان كافياً
المسألة السابعة المذهب أنه إذا يممه غيره صح وقيل لا يصح لأن قوله فَتَيَمَّمُواْ أمر له بالفعل ولم يوجد
المسألة الثامنة قال الشافعي رحمه الله لا يجوز التيمم إلا بعد دخول وقت الصلاة وقال أبو حنيفة رحمه الله يجوز
لنا قوله تعالى يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا إلى قوله فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ والقيام إلى الصلاة إنما يكون بعد دخول وقتها
والمسألة التاسعة إذا ضرب رجله حتى ارتفع عنه غبار قال أبو حنيفة رحمه الله يجوز له أن يتيمم وقال أبو يوسف رحمه الله لا يجوز حجة أبي يوسف قوله تعالى فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيّباً والغبار المنفصل عن

التراب لا يقال إنه صعيد طيب فوجب أن لا يجزى
المسألة العاشرة لا يجوز التيمم بتراب نجس لقوله تعالى فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيّباً والنجس لا يكون طيباً
المسألة الحادية عشرة قال الشافعي رحمه الله المسافر إذا لم يجد الماء بقربه لم يجز له التيمم إلا بعد الطلب عن اليمين واليسار وإن كان هناك وادٍ هبط إليه وإن كان جبل صعده وقال أبو حنيفة رحمه الله إذا غلب على ظنه عدم الماء لم يجب طلبه
لنا قوله تعالى فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ جعل عدم وجدان الماء شرطاً لجواز التيمم وعدم الوجدان مشروط بتقديم الطلب فدل هذا على أنه لا بدّ من تقديم الطلب
المسألة الثانية عشرة لا يصح الطلب إلاّ بعد دخول وقت الصلاة فإن طلب قبله يلزمه الطلب ثانياً بعد دخول الوقت إلاّ أن يحصل عنده يقين أن الأمر بقي كما كان ولم يتغير
لنا قوله تعالى يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا إلى قوله فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ فقوله يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا عبارة عن دخول الوقت فوجب أن يكون قوله فَلَمْ تَجِدُواْ عبارة عن عدم الوجدان بعد دخول الوقت وعدم الوجدان بعد دخول الوقت مشروط بحصول الطلب بعد دخول الوقت فعلمنا أنه لا بدّ من الطلب بعد دخول الوقت
المسألة الثالثة عشرة لا خلاف في جواز التيمم بدلاً عن الوضوء وأما التيمم بدلاً عن الغسل في حق الجنب فعن علي وابن عباس جوازه وهو قال أكثر الفقهاء وعن عمر وابن مسعود أنه لا يجوز
لنا أن قوله إما أن يكون مختصاً بالجماع أو يدخل فيه الجماع فوجب جواز التيمم بدلاً عن الغسل لقوله أَوْ لَامَسْتُمُ النّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيّباً
المسألة الرابعة عشرة قال الشافعي رحمه الله لا يجمع بالتيمم بين فرضين وإن لم يحدث كما في الوضوء وقال أحمد يجمع بين الفوائت ولا يجمع بين صلاتي وقتين
حجة الشافعي قوله تعالى يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إلى قوله وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُم مّنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النّسَاء
وجه الاستدلال به أن ظاهره يقتضي الأمر بكل وضوء عند كل صلاة إن وجد الماء وبالتيمم إن فقد الماء ترك العمل به في الوضوء لفعل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيبقى في التيمم على مقتضى ظاهر الآية
المسألة الخامسة عشرة قال الشافعي رحمه الله إذا لم يجد الماء في أول الوقت ويتوقع وجدانه في آخر الوقت جاز له التيمم في أول الوقت وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى بل يؤخر الصلاة إلى آخر الوقت
حجة الشافعي قوله يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا إلى قوله فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء وقوله يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا ليس المراد منه القيام إلى الصلاة بل المراد دخول وقت الصلاة وهذا يدل على أن عند دخول الوقت إذا لم يجد الماء جاز له التيمم

المسألة السادسة عشرة إذا وجد الماء بعد التيمم وقبل الشروع في الصلاة بطل تيممه وقال أبو موسى الأشعري والشعبي لا يبطل
لنا قوله تعالى الْخَاسِرِينَ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلواة ِ إلى قوله فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ شرط عدم وجدان الماء بجواز الشروع في الصلاة بالتيمم ومن وجد الماء بعد التيمم وقبل الشروع في الصلاة فقد فاته هذا الشرط فوجب أن لا يجوز له الشروع في الصلاة بذلك التيمم
المسألة السابعة عشرة لو فرغ من الصلاة ثم وجد الماء لا يلزمه إعادة الصلاة قال طاوس يلزمه
لنا قوله تعالى الْخَاسِرِينَ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلواة ِ إلى قوله فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ جوّز له الشروع في الصلاة بالتيمم عند عدم وجدان الماء وقد حصل ذلك فوجب أن يكون سبباً لخروجه عن عهدة التكليف لأن الإتيان بالمأمور به سبب للأجزاء
المسألة الثامنة عشرة لو وجد الماء في أثناء الصلاة لا يلزمه الخروج منها وبه قال مالك وأحمد خلافاً لأبي حنيفة والثوري وهو اختيار المزني وابن شريح
لنا أن عدم وجدان الماء يقتضي جواز الشروع في الصلاة بحكمم التيمم على ما دلّت الآية عليه فقد انعقدت عليه صلاته صحيحة فإذا وجد الماء في أثناء الصلاة فنقول ما لم يبطل صلاته لا يصير قادراً على استعمال الماء وما لم يصر قادراً على استعمال الماء لا تبطل صلاته فيتوقف كل واحد منهما على الآخر فيكون دوراً وهو باطل والله أعلم
المسألة التاسعة عشرة لو نسي الماء في رحله وتيمم وصلّى ثم علم وجود الماء لزمه الإعادة على أحد قولي الشافعي رحمه الله وهو قول أحمد وأبي يوسف والقول الثاني أنه لا يلزمه وهو قول مالك وأبي حنيفة حجة القول الثاني أنه عاجز عن الماء لأن عدم الماء كما أنه سبب للعجز عن استعمال الماء فكذلك النسيان سبب للعجز فثبت أنه عند النسيان عاجز فيه فيدخل تحت قوله فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ وحجة القول الأول أنه غير معذور في ذلك النسيان
المسألة العشرون إذا ضل رحله في الرحال ففيه الخلاف المذكور والأولى أن لا تجب الإعادة
المسألة الحادية والعشرون إذا نسي كون الماء في رحله ولكنه استقصى في الطلب فلم يجده وتيمم وصلّى ثم وجده فالأكثرون على أنه تجب الإعادة لأن العذر ضعيف وقال قوم لا تجب الإعادة لأنه لما استقصى في الطلب صار عاجزاً عن استعمال الماء فدخل تحت قوله فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً
المسألة الثانية والعشرون لو صلّى بالتيمم ثم وجد ماء في بئر بجنبه يمكن استعمال ذلك الماء فإن كان قد علمه أولاً ثم نسيه فهو كما لو نسي الماء في رحله وإن لم يكن عالماً بها قط فإن كان عليها علامة ظاهرة لزمه الإعادة وإن لم يكن عليها علامة فلا إعادة لأنه عاجز عن استعمال الماء فدخل تحت قوله فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً فهذا جملة الكلام في المسائل الفقهية المستنبطة من هذه الآية وهي مائة مسألة وقد كتبناها في موضع ما كان معنا شيء من الكتب الفقهية المعتبرة وكان القلب مشوشاً بسبب

استيلاء الكفار على بلاد المسلمين فنسأل الله تعالى أن يكفينا شرهم وأن يجعل كدنا في استنباط أحكام الله من نص الله سبباً لرجحان الحسنات على السيآت أنه أعز مأمول وأكرم مسؤول
قوله تعالى مَا يُرِيدُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مّنْ حَرَجٍ وَلَاكِن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى دلّت الآية على أنه تعالى مريد وهذا متفق عليه بين الأئمة إلاّ أنهم اختلفوا في تفسير كونه مريداً فقال الحسن النجار أنه مريد بعمنى أنه غير مغلوب ولا مكره وعلى هذا التقدير فكونه تعالى مَّرِيداً صفة سلبية ومنهم من قال إنه صفة ثبوتية ثم اختلفوا فقال بعضهم معنى كونه مريداً لأفعال نفسه أنه دعاه الداعي إلى أيجادها ومعنى كونه مريداً لأفعال غيره أنه دعاه الداعي إلى الأمر بها وهو قول الجاحظ وأبي قاسم الكعبي وأبي الحسين البصري من المعتزلة وقال الباقون كونه مريداً صفة زائدة على العلم وهو الذي سميناه بالداعي ثم منهم من قال إنه مريد لذاته وهذه هي الرواية الثانية عن الحسن النجار وقال آخرون إنه مريد بإرادة ثم قال أصحابنا مريد بإرادة قديمة قالت المعتزلة البصرية مريد بإرادة محدثة لا في محله وقالت الكرامية مريد بإرادة محدثة قائمة بذاته والله أعلم
المسألة الثانية قالت المعتزلة دلت الآية على أن تكليف ما لا يطاق لا يوجد لأنه تعالى أخبر أنه ما جعل عليكم في الدين من حرج ومعلوم أن تكليف ما لا يطاق أشد أنواع الحرج قال أصحابنا لما كان خلاف المعلوم محال الوقوع فقد لزمكم ما ألزمتموه علينا
المسألة الثالثة اعلم أن هذه الآية أصل كبير معتبر في الشرع وهو أن الأصل في المضار أن لا تكون مشروعة ويدل عليه هذه الآية فإنه تعالى قال مَّا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ ( الحج 78 ) ويدل عليه أيضاً قوله تعالى يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ( البقرة 185 ) ويدل عليه من الأحاديث قوله عليه السلام ( لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ) ويدل عليه أيضاً أن دفع الضرر مستحسن في العقول فوجب أن يكون الأمر كذلك في الشرع لقوله عليه السلام ( ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن ) وأما بيان أن الأصل في المنافع الإباحة فوجوه أحدها قوله تعالى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً ( البقرة 29 ) وثانيها قوله أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيّبَاتُ ( المائدة 4 ) وقد بينا أن المراد من الطيبات المستلذات والأشياء التي ينتفع بها وإذا ثبت هذان الأصلان فعند هذا قال نفاة القياس لا حاجة البتة أصلاً إلى القياس في الشرع لأن كل حادثة تقع فحكمها المفصل إن كان مذكوراً في الكتاب والسنة فذاك هو المراد وإن لم يكن كذلك فإن كان من باب المضار حرمناه بالدلائل الدالة على أن الأصل في المضار الحرمة وإن كان من باب المنافع إبحناه بالدلائل الدالة على إباحة المنافع وليس لأحد أن يقدح في هذين الأصلين بشيء من الأقسية لأن القياس المعارض لهذين

الأصلين يكون قياساً واقعاً في مقابلة النص وأنه مردود فكان باطلاً
المسألة الرابعة قوله وَلَاكِن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ اختلفوا في تفسير هذا التطهير فقال جمهور أهل النظر من أصحاب أبي حنيفة رحمه الله إن عند خروج الحدث تنجس الأعضاء نجاسة حكمية فالمقصود من هذا التطهير إزالة تلك النجاسة الحكمية وهذا الكلام عندنا بعيد جداً ويدل عليه وجوه الأول قوله تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ( التوبة 28 ) وكلمة إِنَّمَا للحصر وهذا يدل على أن المؤمن لا تنجس أعضاؤه البتة الثاني قوله عليه السلام ( المؤمن لا ينجس حياً ولا ميتاً ) فهذا الحديث مع تلك الآية كالنص الدال على بطلان ما قالوه الثالث أجمعت الأمة على أن بدن المحدث لو كان رطباً فأصابه ثوب لم يتنجس ولو حمله إنسان وصلّى لم تفسد صلاته وذلك بدل على أنه لا نجاسة في أعضاء المحدث الرابع أن الحدث لو كان يوجب نجاسة الأعضاء الأربعة ثم كان تطهير الأعضاء الأربعة يوجب طهارة كل الأعضاء لوجب أن لا يختلف ذلك باختلاف الشرائع ومعلوم أنه ليس الأمر كذلك الخامس أن خروج النلجاسة من موضع كيف يوجب تنجس موضع آخرا السادس أن قوله وَلَاكِن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ مذكور عقيب التيمم ومن المعلوم بالضرورة أن التيمم زيادة في التقدير وإزالة الوضاءة والنظافة وأنه لا يزيل شيئاً من النجاسات أصلاً السابع أن المسح على الخفين قائم مقام غسل الرجلين ومعلوم أن هذا المسح لا يزيل شيئاً البتة عن الرجلين الثامن أن الذي يراد زواله إن كان من جملة الأجسام فالحس يشهد ببطلان ذلك وإن كان من جملة الإعراض فهو محال لأن انتقال الأعراض محال فثبت بهذه الوجوه أن الذي يقوله هؤلاء الفقهاء بعيد
الوجه الثاني في تفسير هذا التطهير أن يكون المراد منه طهارة القلب عن صفة التمرد عن طاعة الله تعالى وذلك لأن الكفر والمعاصي نجاسة للأرواح فإن النجاسة إنما كانت نجاسة لأنها شيء يراد نفيه وإزالته وتبعيده والكفر المعاصي كذلك فكانت نجاسات روحانية وكما أن إزالة النجاسات الجسمانية تسمى طهارة فكذلك إزالة هذه العقائد الفاسدة والأخلاق الباطلة تسمى طهارة ولهذا التأويل قال الله تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فجعل رأيهم نجاسة وقال إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً ( الأحزاب 33 ) فجعل براءتهم عن المعاصي طهارة لهم وقال في حق عيسى عليه السلام إِنّي مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَى َّ وَمُطَهّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( آل عمران 55 ) فجعل خلاصه عن طعنهم وعن تصرفهم فيه تطهيراً له
وإذا عرفت هذا فنقول إنه تعالى لما أمر العبد بإيصال الماء إللى هذه الأعضاء المخصوصة وكانت هذه الأعضاء طاهرة لم يعرف العبد في هذا التكليف فائدة معقولة فلما انقاد لهذا التكليف كان ذلك الانقياد لمحض إظهار العبودية والانقياد للربوبية فكان هذا الانقياد قد أزال عن قلبه آثار التمرد فكان ذلك طهارة فهذا هو الوجه الصحيح في تسمية هذه الأعمال طهارة وتأكد هذا بالأخبار الكثيرة الواردة في أن المؤمن إذا غسل وجهه خرت خطاياه من وجهه وكذا القول في يديه ورأسه ورجائه
واعلم أن هذه القاعدة التي قررناها أصل معتبر في مذهب الشافعي رحمه الله وعليه يخرج كثير من المسائل الخلافية في أبواب الطهارة والله أعلم

أما قوله وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ ففيه وجهان الأول أن الكلام متعلق بما ذكر من أول السورة إلى هنا وذلك لأنه تعالى أنعم في أول السورة بإباحة الطيبات من المطاعم والمناكح ثم إنه تعالى ذكر بعده كيفية فرض الوضوء فكأنه قال إنما ذكرت ذلك لتتم النعمة المذكورة أولاً وهي نعمة الدنيا والنعمة المذكورة ثانياً وهي نعمة الدين الثاني أن المراد وليتم نعمته عليكم أي بالترخص في التيمم والتخفيف في حال السفر والمرض فاستدلوا بذلك على أنه تعالى يخفف عنكم يوم القيامة بأن يعفو عن ذنوبكم ويتجاوز عن سيئاتكم
ثم قال تعالى لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ والكلام في ( لعل ) مذكور في أول سورة البقرة في قوله تعالى لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( البقرة 21 ) والله أعلم
وَاذْكُرُواْ نِعْمَة َ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِى وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ
إعلم أٌّ ه تعالى لما ذكر هذا التكليف أردفه بما يوجب عليهم القبول والانقياد وذلك من وجهين الأول كثرة نعمة الله عليهم وهو المراد من قوله وَاذْكُرُواْ نِعْمَة َ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ومعلوم أن كثرة النعم توجب على المنعم عليه الاشتغال بخدمة المنعم والانقياد لأوامره ونواهيه وفيه مسألتان
المسألة الأولى إنما قال وَاذْكُرُواْ نِعْمَة َ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ولم يقل نعم الله عليكم لأنه ليس المقصود منه التأمل في إعداد نعم الله بل المقصود منه التأمل في جنس نعم الله لأن هذا الجنيس جنس لا يقدر غير الله عليه فمن الذي يقدر على إعطاء نعمة الحياة والصحة والعقل والهداية والصون عن الآفات والإيصال إلى جميع الخيرات في الدنيا والآخرة فجنس نعمة الله جنس لا يقدر عليه غير الله فقوله تعالى وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ المراد التأمل في هذا النوع من حيث أنه ممتاز عن نعمة غيره وذلك الامتياز هو أنه لا يقدر عليه غيره ومعلوم أن النعمة متى كانت على هذا الوجه كان وجوب الاشتغال بشكرها أتم وأكمل
المسألة الثانية قوله وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ مشعر بسبق النسيان فكيف يعقل نسيانها مع أنها متواترة متوالية علينا في جميع الساعات والأوقات إلاّ أن الجواب عنه أنها لكثرتها وتعاقبها صارت كالأمر المعتاد فصارت غلبة ظهورها وكثرتها سبباً لوقوعها في محل النيسان ولهذا المعنى قال المحققون إنه تعالى إنما كان باطناً لكونه ظاهراً وهو المراد من قولهم سبحان من احتجب عن العقول بشدة ظهوره واختفى عنها بكمال نوره
السبب الثاني من الأسباب التي توجب عليهم كونهم منقادين لتكاليف الله تعالى هو الميثاق الذي واثقهم به والمواثقة المعاهدة التي قد أحكمت بالعقد على نفسه وهذه الآية مشابهة لقوله في أول السورة عَلِيمٌ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ( المائدة 1 ) وللمفسرين في تفسير هذا الميثاق وحوه الأول أن المراد هو المواثيق التي

جرت بين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وبينهم في أن يكونوا على السمع والطاعة في المحبوب والمكروه مثل مبايعته مع الأنصار في أول الأمر ومبايعته عامة المؤمنين تحت الشجرة وغيرهما ثم إنه تعالى أضاف الميثاق الصادر عن الرسول إلى نفسه كما قال إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ ( الفتح 10 ) وقال مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ( النساء 80 ) ثم إنه تعالى أكد ذلك بأن ذكرهم أنهم التزموا ذلك وقبلوا تلك التكاليف وقالوا سمعنا وأطعنا ثم حذرهم من نقض تلك العهود والمواثيق فقال وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ يعني لا تنقضوا تلك العهود ولا تعزموا بقلوبكم على نقضها فإنه إن خطر ذلك ببالكم فالله يعلم بذلك وكفى به مجازياً والثاني قال ابن عباس رضي الله عنهما هو الميثاق الذي أخذه الله تعالى على بني إسرائيل حين قالوا آمنا بالتوراة وبكل ما فيها فلما كان من جملة ما في التوراة البشارة بمقدم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لزمهم الإقرار بمحمد عليه الصلاة والسلام والثالث قال مجاهد والكلبي ومقاتل هو الميثاق الذي أخذه الله تعالى منهم حين أخرجهم من ظهر آدم عليه السلام وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم
فإن قيل على هذا القول أن بني آدم لا يذكرون هذا العهد والميثاق فكيف يؤمرون بحفظه
قلنا لما أخبر الله تعالى بأنه كان ذلك حاصلاً حصل القطع بحصوله وحينئذ يحسن أن يأمرهم بالوفاء بذلك العهد الرابع قال السيد المراد بالميثاق الدلائل العقلية والشرعية التي نصبها الله تعالى على التوحيد والشرائع وهو اختيار أكثر المتكلمين
يَاأَيُّهَآ الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
قوله تعالى الصُّدُورِ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ هذا أيضاً متصل بما قبله والمراد حثهم على الانقياد لتكاليف الله تعالى
واعلم أن التكاليف وإن كثرت إلاّ أنها محصورة في نوعين التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلق الله فقوله كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ إشارة إلى النوع الأولل وهو التعظيم لأمر الله ومعنى القيام لله هو أن يقوم لله بالحق في كل ما يلزمه القيام به من إظهار العبودية وتعظيم الربوبية وقوله شُهَدَاء بِالْقِسْطِ إشارة إلى الشفقة على خلق الله وفيه قولان الأول قال عطاء يقول لا تحاب في شهادتك أهل ودك وقرابتك ولا تمنع شهادتك أعداءك وأضدادك الثاني قال الزجاج المعنى تبينون عن دين الله لأن الشاهد يبين ما يشهد عليه
ثم قال تعالى وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ أي لا يحملنكم بغض قوم على أن لا تعدلوا وأراد أن لا تعدلوا فيهم لكنه حذف للعلم وفي الآية قولان الأول أنها عامة والمعنى لا يحملنكم بغض قوم على أن تجوروا عليهم وتجاوزوا الحد فيهم بل اعدلوا فيهم وإن أساءوا إليكم وأحسنوا إليهم

وإن بالغوا في إيحاشكم فهذا خطاب عام ومعناه أمر الله تعالى جميع الخلق بأن لا يعاملوا أحداً إلاّ على سبيل العدل والانصاف وترك الميل والظلم والاعتساف والثاني أنها مختصة بالكفار فإنها نزلت في قريش لما صدوا المسلمين عن المسجد الحرام
فإن قيل فعلى هذا القول كيف يعقل ظلم المشركين مع أن المسلمين أمروا بقتلهم وسبي ذراريهم وأخذ أموالهم
قلنا يمكن ظلمهم أيضاً من وجوه كثيرة منها أنهم إذا أظهروا الإسلام لا يقبلونه منهم ومنها قتل أولادهم الأطفال لاغتمام الآباء ومنها إيقاع المثلة بهم ومنها نقض عهودهم والقول الأول أولى
ثم قال تعالى اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى فنهاهم أولاً عن أن يحملهم البغضاء على ترك العدل ثم استأنف فصرح لهم بالأمر بالعدل تأكيداً وتشديداً ثم ذكر لهم علة الأمر بالعدل وهو قوله هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ونظيره قوله وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ( البقرة 237 ) أي هو أقرب للتقوى وفيه وجهان الأول هو أقرب إلى الاتقاء من معاصي الله تعالى والثاني هو أقرب إلى الاتقاء من عذاب الله وفيه تنبيه عظيم على وجوب العدل مع الكفار الذين هم أعداء الله تعالى فما الظن بوجوبه مع المؤمنين الذين هم أولياؤه وأحباؤه
ثم ذكر الكلام الذي يكون وعداً مع المطيعين ووعيداً للمذنبين وهو قوله تعالى وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ يعني أنه عالم بجميع المعلومات فلا يخفى عليه شيء من أْوالكم
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَة ٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ
ثم ذكر وعد المؤمنين فقال تعاللى وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَة ٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ فالمغفرة إسقاط السيئات كما قال فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ اللَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ( الفرقان 70 ) والأجر العظيم إيصال الثواب وقوله لَهُم مَّغْفِرَة ٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ فيه وجوه الأول أنه قال أولاً وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فكأنه قيل وأي شيء وعدهم فقال لَهُم مَّغْفِرَة ٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ الثاني التقدير كأنه قال وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقال لهم مغفرة وأجرٌ عظيم والثالث أجرى قوله وَعْدُ مجرى قال والتقدير قال الله في الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم والرابع أن يكون وَعْدُ واقعاً على جملة لَهُم مَّغْفِرَة ٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ أي وعدهم بهذا المجموع
فإن قيل لم أخبر عن هذا الوعد مع أنه لو أخبر بالموعود به كان ذلك أقوى
قلنا بل الأخبار عن كون هذا الوعد وعد الله أقوى وذلك لأنه أضاف هذا الوعد إلى الله تعالى فقال وَعَدَ اللَّهُ والإله هو الذي يكون قادراً على جميع المقدورات عالماً بجميع المعلومات غنياً عن كل الحاجات وهذا يمتنع الخلف في وعده لأن دخول الخلف إنما يكون إما للجهل حيث ينسى وعده وإما للعجز حيث لا يقدر على الوفاء بوعده وإما للبخل حيث يمنعه البخل عن الوفاء بالوعد وإما للحاجة فإذا كان الإله هو الذي يكون منزّهاً عن كل هذه الوجوه كان دخول الخلف في وعده محالاً فكان الإخبار عن

هذا الوعد أوكد وأقوى من نفس الأخبار عن الموعود به وأيضاً فلأن هذا الوعد يصل إليه قبل الموت فيفيده السرور عن سكرات الموت فتسهل بسببه تلك الشدائد وبعد الموت يسهل عليه بسببه البقاء في ظلمة القبر وفي عرصة القيامة عند مشاهدة تلك الأهوال
وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِأايَاتِنَآ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ
ثم ذكر بعد ذلك وعيد الكفار فقال وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ
هذه الآية نص قاطع في أن الخلود ليس إلا للكفار لأن قوله أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ يفيد الحصر والمصاحبة تقتضي الملازمة كما يقال أصحاب الصحراء أي الملازمون لها
يَاأَيُّهَآ الَّذِينَ ءَامَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَة َ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ
وقوله تعالى الْجَحِيمِ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَة َ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى في سبب نزول هذه الآية وجهان الأول أن المشركين في أول الأمر كانوا غالبين والمسلمين كانوا مقهورين مغلوبين ولقد كان المشركون أبداً يريدون أيقاع البلاء والقتل والنهب بالمسلمين والله تعالى كن يمنعهم عن مطلوبهم إلى أن قوي الإسلام وعظمت شوكة المسلمين فقال تعالى اذْكُرُواْ نِعْمَتِى اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ وهو المشركون أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ بالقتل والنهب والنفي فكف الله تعالى بلطفه ورحمته أيدي الكفار عنكم أيها المسلمون ومثل هذا الأنعام العظيم يوجب عليكم أن تتقوا معاصيه ومخالفته
ثم قال تعالى وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أي كونوا مواظبين على طاعة الله تعالى ولا تخافوا أحداً في إقامة طاعات الله تعالى
الوجه الثاني أن هذه الآية نزلت في واقعة خاصة ثم فيه وجوه الأول قال ابن عباس والكلبي ومقاتل كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعث سرية إلى بني عامر فقتلوا ببئر معونة إلا ثلاثة نفر أحدهم عمرو بن امية الضمري وانصرف هو وآخر معه إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ليخبراه خبر القوم فلقيا رجلين من بني سليم معهما أمان من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقتلاهما ولم يعلما أن معهما أمانا فجاء قومهما يطلبون الدية فخرج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلى حتى دخلوا على بني النضير وقد كانوا عاهدوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على ترك القتال وعلى أن يعينوه في الديات فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) رجل من أصحابي أصاب رجلين معهما أمان مني فلزمني ديتهما فأريد أن تعينوني فقالوا أجلس حتى نطعمك ونعطيك ما تريد ثم خموا بالفتك برسول الله وبأصحابه فنزل جبريل وأخبره بذلك فقام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في الحال مع أصحابه وخرجوا فقال اليهود إن قدورنا تغلي فأعلمهم الرسول أنه قد نزل عليه الوحي بما عزموا عليه قال عطاء توامروا على أن يطرحوا عليه رحاً أو حجراً وقيل بل

ألقوا فأخذه جبريل عليه السلام والثاني قال آخرون إن الرسول نزل منزلاً وتفرق الناس عنه وعلق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سلاحه بشجرة فجاء إعرابي وسل سيف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال من يمنعك مني فقال لا أحد ثم صاح رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بأصحابه فأخبرهم وأبى أن يعاقبه وعلى هذين القولين فالمراد من قوله اذْكُرُواْ نِعْمَتِى اللَّهِ عَلَيْكُمْ تذكير نعمة الله عليهم بدفع الشر والمكروه عن نبيّهم فأنه لو حصل ذلك لكان من أعظم المحن والثالث روي أن المسلمين قاموا ءلى صلاة الظهر بالجماعة وذلك بعسفان فلما صلوا ندم المشركون وقالوا ليتنا أوقعنا بهم في أثناء صلاتهم فقيل لهم إن للمسلمين بعدها صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وآبائهم يعنون صلاة العصر فهموا بأن يوقعوا بهم إذ قامو إليه فنزل جبريل عليه السلام بصلاة الخوف
المسألة الثانية يقال بسط إليه لسانه إذا شتمه وبسط إليه يده إذا بطش به ومعنى بسط اليد مده إلى المطبوش به ألا ترى أن قولهم فلان بسيط الباع ومديد الباع بمعنى واحد فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ أي منعها أن تصل إليكم
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِى إِسْرَاءِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَى ْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللَّهُ إِنِّى مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلواة َ وَءَاتَيْتُمْ الزَّكَواة َ وَءَامَنتُمْ بِرُسُلِى وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذالِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ
قوله تعالى وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِى إِسْراءيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَى ْ عَشَرَ نَقِيباً وفيه مسائل
المسألة الأولى أعلم أن في اتصال هذه الآية بما قبلها وجوهاً الأول أنه تعالى خاطب المؤمنين فيما تقدم فقال وَاذْكُرُواْ نِعْمَة َ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِى وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ اللَّهَ وَأَطَعْنَا ( المئدة 7 ) ثم ذكر الآن أنه أخذ الميثاق من بني إسرائيل لكنهم نقضوه وتركوا الوفاء به فلا تكونوا أيها المؤمنون مثل أولئك اليهود في هذا الخلق الذميم لئلا تصيروا مثلهم فيما نزل بهم من اللعن والذلة والمسكنة والثاني أنه لما ذكر قوله اذْكُرُواْ نِعْمَتِى اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ ( المائدة 11 ) وقد ذكرنا في بعض الروايات أن هذه الآية نزلت في اليهود وأنهم أرادوا أيقاع الشر برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلم ذكر الله تعالى ذلك أتبعه بذكر فضائحهم وبيان أنهم أبداً كانوا مواظبين على نقض العهود والمواثيق الثالث أن الغرض من الآيات المتقدمة ترغيب المكلفين في قبول التكاليف وترك التمرد والعصيان فذكر تعالى أنه كلف من كان قبل المسلمين كما كلفهم ليعلموا أن عادة الله في التكليف والالزام غير مخصوصة بهم بل هي عادة جارية له مع جميع عباده
المسألة الثانية قال الزجاج النقيب فعيل أصله من النقب وهو الثقب الواسع يقال فلان نقيب القوم لأنه ينقب عن أحوالهم كما ينقب عن الأسرار ومنه المناقب وهي الفضائل لأنها لا تظهر إلا بالتنقيب عنها ونقبت الحائط أي بلغت في النقب إلى آخرة ومنه النقبة السراويل بغير رجلين لأنه قد بولغ في فتحها ونقبها ويقال كلب نقيب وهو أن ينقب حنجرته لئلا يرتفع صوت نباحه وإنما يفعل ذلك البخلاء من العرب لئلا يطرقهم ضيف

إذ عرفت هذا فنقول النقيب فعيل والفعيل يحتمل الفاعل والمفعول فإن كان بمعنى الفاعل فهو الناقب عن أحوال القوم المفتش عنها وقال أبو مسلم النقيب ههنا فعيل بمعنى مفعول يعني اختارهم على بهم ونظيره أنه يقال للمضروب ضريب وللمقتول قتيل وقال الأصم هم المنظور إليهم والمسند إليهم أمور القوم وتدبير مصالحهم
المسألة الثالثة أن بني إسرائيل كانوا اثنى عشر سبطاً فاختار الله تعالى من كل سبط رجلاً يكون نقيباً لهم وحاكماً فيهم وقال مجاهد والكلبي والسدي أن النقباء بعثوا إلى مدينة الجبارين الذين أمر موسى عليه السلام بالقتال معهم ليقفوا على أحوالهم ويرجعوا بذلك إلى نبيهم موسى عليه السلام أن يحدثوهم فنكثوا الميثاق إلا كالب بن يوفنا من سبط يهوذا ويوشع بن نون من سبط إفراثيم بن يوسف وهما اللذان قال الله تعالى فيهما قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ ( المائدة 23 ) الآية
قوله تعالى وَقَالَ اللَّهُ إِنّى مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلواة َ وَءاتَيْتُمْ أَشَقُّ وَمَا لَهُم مّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ مَّثَلُ الْجَنَّة ِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ وفيه مسائل
المسألة الأولى في الآية حذف والتقدير وقال الله لهم إني معكم إلا أنه حذف ذلك لاتصال الكلام بذكرهم
المسألة الثانية قوله إِنّى مَعَكُمْ خطاب لمن فيه قولان الأول أنه خطاب للنقباء أي وقال الله للنقباء إني معكم والثاني أنه خطاب لكل بني إسرائيل وكلاهما محتمل إلا أن الأول أولى لأن الضمير يكون عائداً إلى أقرب المذكورات وأقرب المذكور هنا النقباء والله أعلم
المسألة الثالثة أن الكلام قد تم عند قوله وَقَالَ اللَّهُ إِنّى مَعَكُمْ والمعنى إني معكم بالعلم والقدرة فأسمع كلامكم وأرى أفعالكم وأعلم ضمائركم وأقدر على إيصال الجزاء إليكم فقوله إِنّى مَعَكُمْ مقدمة معتبرة جداً في الترغيب والترهيب ثم لما وضع الله تعالى هذه المقدمة الكلية ذكر بعدها جملة شرطية والشرط فيها مركب من أمور خمسة وهي قوله لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلواة َ وَءاتَيْتُمْ الزَّكَواة َ وَءامَنتُمْ بِرُسُلِى وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً والجزاء هو قوله لاكَفّرَنَّ عَنْكُمْ وذلك إشارة إلى إزالة العقاب وقوله لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ وهو إشارة إلى إيصال الثواب وفي الآية سؤالات

السؤال الأول لم أخر الإيمان بالرسل عن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مع أنه مقدم عليها
والجواب أن اليهود كانوا مقرين بأنه لا بدّ في حصول النجاة من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة إلا أنهم كانوا مصرين على تكذيب بعض الرسلد فذكر بعد إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة أنه لا بدّ من الإيمان بجميع الرسل حتى يحصل المقصود وإلا لم يكن لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة تأثير في حصول النجاة بدون الإيمان بجميع الرسل
والسؤال الثاني ما معنى التعزيز الجواب قال الزجاج العزز في اللغة الرد وتأويل عززت فلاناً أي فعلت به ما يرده عن القبيح ويزجره عنه ولهذا قال الأكثرون معنى قوله وَعَزَّرْتُمُوهُمْ أي نصرتموهم وذلك لأن من نصر إنساناً فقد رد عنه أعداءه قال ولو كان التعزيز هو التوقير لكان قوله وَتُعَزّرُوهُ وَتُوَقّرُوهُ ( الفتح 9 ) تكراراً
والسؤال الثالث قوله وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً دخل تحت إيتاء الزكاة فما الفائدة في الإعادة
والجواب المراد بإيتاء الزكاة الواجبات وبهذا الاقراض الصدقات المندوبة وخصها بالذكر تنبيهاً على شرفها وعلو مرتبتها قال الفرّاء ولو قال وأقرضتم الله إقراضاً حسناً لكان صواباً أيضاً إلا أنه قد يقام الإسم مقام المصدر ومثله قوله فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ ( آل عمران 37 ) ولم يقل يتقبل وقوله وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا ولم يقل إنباتاً
ثم قال تعالى فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذالِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ أي أخطأ الطريق المستقيم الذي هو الدين الذي شرعه الله تعالى لهم
فإن قيل من كفر قبل ذلك أيضاً فقد ضل سواء السبيل
قلنا أجل ولكن الضلال بعده أظهر وأعظم لأن الكفر إنما عظم قبحه لعظم النعمة المكفورة فإذا زادت النعمة زاد قبح الكفر وبلغ النهاية القصوى
فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَة ً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظَّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَآئِنَة ٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
ثم قال تعالى فَبِمَا نَقْضِهِم مّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وفيه مسألتان
المسألة الأولى في نقضهم الميثاق وجوه الأول بتكذيب الرسل وقتل الأنبياء الثاني بكتمانهم صفة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) الثالث مجموع هذه الأمور
المسألة الثانية في تفسير ( اللعن ) وجوه الأول قال عطاء لعناهم أي أخر جناهم من رحمتنا الثاني قال الحسن ومقاتل مسخناهم حتى صاروا قردة وخنازير قال ابن عباس ضربنا الجزية عليهم

ثم قال تعالى وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَة ً يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّواضِعِهِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكساي ( قسية ) بتشديد الياء بغير ألف على وزن فعلية والباقون بالألف والتخفيف وفي قوله ( قسية ) وجهان أحدهما أن تكون القسية بمعنى القاسية إلا أن القسي أبلغ من القاسي كما يقال قادر وقدير وعالم وعليم وشاهد وشهيد فكما أن القدير أبلغ من القادر فكذلك القسي أبلغ من القاسي الثاني أنه مأخوذ من قولهم درهم قسي على وزن شقي أي فاسد رديء قال صاحب ( الكشاف ) وهو أيضاً من القسوة لأن الذهب والفضة الخالصين فيهما لين والمغشوش فيه يبس وضلابة وقرىء ( قسية ) بكسر القاف للاتباع
المسألة الثانية قال أصحابنا وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَة ً أي جعلناها نائبة عن قبول الحق منصرفة عن الانقياد للدلائل وقالت المعتزلة وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَة ً أي أخبرنا عنها بأنها صارت قاسية كما يقال فلان جعل فلاناً فاسقاً وعدلاً
ثم أنه تعالى ذكر بعض ما هو من نتائج تلك القسوة فقال يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّواضِعِهِ وهذا التحريف يحتمل التأويل الباطل ويحتمل تغيير اللفظ وقد بينا فيما تقدم أن الأول أولى لأن الكتاب المنقول بالتواتر لا يتأتى فيه تغيير اللفظ
ثم قال تعالى وَنَسُواْ حَظَّا مّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ قال ابن عباس تركوا نصيباً مما أمروا به في كتابهم وهو الإيمان بمحمد ( صلى الله عليه وسلم )
ثم قال تعالى وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَة ٍ مّنْهُمْ وفي الخائنة وجهان الأول أن الخائنة بمعنى المصدر ونظيره كثير كالكافية والعافية وقال تعالى فَأُهْلِكُواْ بِالطَّاغِيَة ِ ( الحاقة 5 ) أي بالطغيان وقال لَّيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَة ٌ ( الواقعة 2 ) أي كذب وقال لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَة ً ( الغاشية 11 ) أي لغواً وتقول العرب سمعت راغية الإبل وثاغية الشاء يعنون رغاءها وثغاءها وقال الزجاج ويقال عافاه الله عافية والثاني أن يقال الخائنة صفة والمعنى تطلع على فرقة خائنة أو نفس خائنة أو على فعلة ذات خيانة وقيل أراد الخائن والهاء للمبالغة كعلامة ونسابة قال صاحب ( الكشاف ) وقرىء على خيانة منهم
ثم قال تعالى إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمُ وهم الذين آمنوا كعبد الله بن سلام وأصحابه وقيل يحتمل أن يكون هذا القليل من الذين بقوا على العهد ولم يخونوا فيه
ثم قال فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ وفيه قولان الأول أنه منسوخ بآية السيف وذلك لأنه عفو وصفح عن الكفار ولا شك أنه منسوخ بآية السيف
والقول الثاني أنه غير منسوخ وعلى هذا القول ففي الآية وجهان أحدهما المعنى فاعف عن مذنبهم ولا تؤاخذهم بما سلف منهم والثاني أنا إذا حملنا القليل عن الكفار منهم الذين بقوا على الكفر فسرنا هذه الآية بأن المراد منها أمر الله رسوله بأن يعفو عنهم ويصفح عن صغائر زلاتهم ما داموا باقين على العهد وهو قول أبي مسلم
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وفيه وجهان الأول قال ابن عباس إذا عفوت فأنت

محسن وإذا كنت محسناً فقد أحبك الله والثاني أن المراد بهؤلاء المحسنين هم المعنيون بقوله إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمُ وهم الذين نقضوا عهد الله والقول الأول أولى لأن صرف قوله إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ على القول الأول إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه هو المأمور في هذه الآية بالعفو والصفح وعلى القول الثاني إلى غير الرسول ولا شك أن الأول أولى
وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَة َ وَالْبَغْضَآءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ
والمراد أن سبيل الصنارى مثل سبيل اليهود في نقض المواثيق من عند الله وإنما قال وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى ولم يقل ومن النصارى وذلك لأنهم إنما سموا أنفسهم بهذا الاسم ادعاء لنصرة الله تعالى وهم الذين قالوا لعيسى نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ ( آل عمران 52 ) فكان هذا الاسم في الحقيقة اسم مدح فبيّن الله تعالى أنهم يدعون هذه الصفة ولكنهم ليسوا موصوفين بها عند الله تعالى وقوله أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ أي مكتوب في الإنجيل أن يؤمنوا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وتنكير الحظ في الآية يدل على أن المراد به حظ واحد وهو الذي ذكرناه من الإيمان بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وإنما خص هذا الواحد بالذكر مع أنهم تركوا الكثير مما أمرهم الله تعالى به لأن هدا هو المعظم والمهم وقوله بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَة َ وَالْبَغْضَاء أي ألصقنا العداوة والبغضاء بهم يقال أغرى فلان بفلان إذا ولع به كأنه ألصق به ويقال لما التصق به ويقال لما التصق به الشيء الغراء وفي قوله بَيْنَهُمْ وجهان أحدهما بين اليهود والنصارى والثاني بين فرق النصارى فءن بعضهم يكفر بعضاً إلى يوم القيامة ونظيره قوله أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ( الأنعام 65 ) وقوله وَسَوْفَ يُنَبّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ وعيد لهم
يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ

وأعلم أنه تعالى لما حكى عن اليهود وعن النصارى نقضهم العهد وتركهم ما أمروا به دعاهم عقيب ذلك إلى الإيمان بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فقال مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ والمراد بأهل الكتاب اليهود والنصارى وإنما وحد الكتاب لأنه خرج الجنس ثم وصف الرسول بأمرين الأول أنه يبين لهم كثيراً مما كانوا يخفون قال ابن عباس أخفوا صفة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وأخفوا أمر الرجم ثم إن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بيّن ذلك لهم وهذا معجز لأنه عليه الصلاة والسلام لم يقرأ كتاباً ولم يتعلم علماً من أحد فلما أخبرهم بأسرار ما في كتابهم كان ذلك إخباراً عن الغيب فيكون معجزاً
والوصف الثاني للرسول قوله وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ أي لا يظهر كثيراً مما تكتمونه أنتم وإنما لم يظهره لأنه لا حاجة إلى إظهاره في الدين والفائدة في ذكر ذلك أنهم يعلمون كون الرسول عالماً بكل ما يخفونه فيصير ذلك داعياً لهم إلى ترك الإخفاء لئلا يفتضحوا
ثم قال تعالى قَدْ جَاءكُمْ مّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ وفيه أقوال الأول أن المراد بالنور محمد وبالكتاب القرآن والثاني أن المراد بالنور الإسلام وبالكتاب القرآن الثالث النور والكتاب هو القرآن وهذا ضعيف لأن العطف يوجب المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه وتسمية محمد والإسلام والقرآن بالنور ظاهرة لأن النور الظاهر هو الذي يتقوى به البصر على إدراك الأشياء الظاهرة والنور الباطن أيضاً هو الذي تتقوى به البصيرة على إدراك الحقائق والمعقولات
يَهْدِى بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
ثم قال تعالى يَهْدِى بِهِ اللَّهُ أي بالكتاب المبين مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ من كان مطلوبه من طلب الدين اتباع الدين الذي يرتضيه الله تعالى فأما من كان مطلوبه من دينه تقرير ما ألفه ونشأ عليه وأخذخ من أسلافه مع ترك النظر والاستدلال فمن كان كذلك فهو غير متبع رضوان الله تعالى
ثم قال تعالى سُبُلَ السَّلَامِ أي طرق السلامة ويجوز أن يكون على حذف المضاف أي سبل دار السلام ونظيره قوله وَالَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ ( محمد 4 5 ) ومعلوم أنه ليس المراد هداية الإسلام بل الهداية إلى طريق الجنة
ثم قال وَيُخْرِجُهُمْ مّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ أي من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان وذلك أن الكفر يتحير فيه صاحبه كما يتحير في الظلام ويهتدي بالإيمان إلى طرق الجنة كما يهتدي بالنور وقوله بِإِذْنِهِ أي بتوفيقه والباء تتعلق بالاتباع أي اتبع رضوانه بإذنه ولا يجوز أن تتعلق بالهداية ولا بالإخراج لأنه لا معنى له فدل ذلك على أنه لا يتبع رضوان الله إلاّ من أراد الله منه ذلك
وقوله تعالى وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ وهو الدين الحق لأن الحق واحد لذاته ومتفق من جميع جهاته وأما الباطل ففيه كثرة وكلها معوجة
لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِى الأرض جَمِيعاً وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدِيرٌ

وقوله تعالى لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ في الآية سؤال وهو أن أحداً من النصارى لا يقول إن الله هو المسيح ابن مريم فكيف حكى الله عنهم ذلك مع أنهم لا يقولون به
وجوابه أن كثيراً من الحلولية يقولون إن الله تعالى قد يحل في بدن إنسان معين أو في روحه وإذا كان كذلك فلا يبعد أن يقال إن قوماً من النصارى ذهبوا إلى هذا القول بل هذا أقرب مما يذهب إليه النصارى وذلك لأنهم يقولون أن أقنوم الكلمة اتحد بعيسى عليه السلام فأقنوم الكلمة إما أن يكون ذاتاً أو صفة فإن كان ذاتاً فذات الله تعالى قد حلت في عيسى واتحدت بعيسى فيكون عيسى هو الإل ه على هذا القول وإن قلنا إن الأقنوم عبارة عن الصفة فانتقال الصفة من ذات إلى ذات أخرى غير معقول ثم بتقدير انتقال أقنوم العلم عن ذات الله تعالى إلى عيسى يلزم خلو ذات الله عن العلم ومن لم يكن عالماً لم يكن إل هاً فحينئذ يكون الإل ه هو عيسى على قولهم فثبت أن النصارى وإن كانوا لا يصرحون بهذا القول إلاّ أن حاصل مذهبهم ليس إلاّ ذلك
ثم أنه سبحانه احتج على فساد هذا المذهب بقوله قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِى الاْرْضِ جَمِيعاً وهذه جملة شرطية قدم فيها الجزاء على الشرط والتقدير إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعاً فمن الذي يقدر على أن يدفعه عن مراده ومقدوره وقوله فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي فمن يملك من أفعال الله شيئاً والملك هو القدرة يعني فمن الذي يقدر على دفع شيء من أفعال الله تعالى ومنع شيء من مراده وقوله وَمَن فِى الاْرْضِ جَمِيعاً ( المعارج 14 ) يعني أن عيسى مشاكل لمن في الأرض في الصورة والخلقة والجسمية والتركيب وتغيير الصفات والأحوال فلما سلمتم كونه تعالى خالقاً للكل مدبراً للكل وجب أن يكون أيضاً خالقاً لعيسى
ثم قال تعالى وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إنما قال وَمَا بَيْنَهُمَا بعد ذكر السماوات والأرض ولم يقل بينهن لأنه ذهب بذلك مذهب الصنفين والنوعين
ثم قال يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَى ْء قَدِيرٌ وفيه وجهان الأول يعني يخلق ما يشاء فتارة يخلق الإنسان من الذكر والأنثى كما هو معتاد وتارة لا من الأب والأم كما في خلق آدم عليه السلام وتارة من الأم لا من الأب كما في حق عيسى عليه السلام والثاني يخلق ما يشاء يعني أن عيسى إذا قدر صورة الطير من الطين فالله تعالى يخلق فيه اللحمية والحياة والقدرة معجزة لعيسى وتارة يحيى الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص معجزة له ولا اعتراض على الله تعالى في شيء من أفعاله
وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ
قوله تعالى وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ وفيه سؤال وهو أن اليهود لا يقولون ذلك البتة فكيف نقل هذا القول عنهم وأما النصارى فإنهم يقولون ذلك في حق عيسى لا في حق

أنفسهم فكيف يجوز هذا النقل عنهم
أجاب المفسرون عنه من وجوه الأول أن هذا من باب حذف المضاف والتقدير نحن أبناء رسل الله فأضيف إلى الله ما هو في الحقيقة مضاف إلى رسل الله ونظيره قوله إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ ( الفتح 10 ) والثاني أن لفظ الابن كما يطلق على ابن الصلب فقد يطلق أيضاً على من يتخذ ابناً واتخاذه ابناً بمعنى تخصيصه بمزيد الشفقة والمحبة فالقوم لما ادعوا أن عناية الله بهم أشد وأكمل من عنايته بكل ما سواهم لا جرم عبر الله تعالى عن دعواهم كمال عناية الله بهم بأنهم ادعوا أنهم أبناء الله الثالث أن اليهود لما زعموا أن عزيراً ابن الله والنصارى زعموا أن المسيح ابن الله ثم زعموا أن عزيراً والمسيح كانا منهم صار ذلك كأنهم قالوا نحن أبناء الله ألا ترى أن أقارب الملك إذا فاخروا إنساناً آخر فقد يقولون نحن ملوك الدنيا ونحن سلاطين العالم وغرضهم منه كونهم مختصين بذلك الشخص الذي هو الملك والسلطان فكذا هاهنا والرابع قال ابن عباس إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) دعا جماعة من اليهود إلى دين الإسلام وخوفهم بعقاب الله تعالى فقالوا كيف تخوفنا بعقاب الله ونحن أبناء الله وأحباؤه فهذه الرواية إنما وقعت عن تلك الطائفة وأما النصارى فإنهم يتلون في الإنجيل الذي لهم أن المسيح قال لهم اذهب إلى أبي وأبيكم وجملة الكلام أن اليهود والنصارى كانوا يرون لأنفسهم فضلاً على سائر الخلق بسبب أسلافهم الأفاضل من الأنبياء حتى انتهوا في تعظيم أنفسهم إلى أن قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه
ثم انه تعالى أبطل عليهم دعواهم وقال قُلْ فَلِمَ يُعَذّبُكُم بِذُنُوبِكُم وفيه سؤال وهو أن حاصل هذا الكلام أنهم لو كانوا أبناء الله وأحباءه لما عذبهم لكنه عذبهم فهم ليسوا أبناء الله ولا أحباءه والاشكال عليه أن يقال إما أن تدعوا أن الله عذبهم في الدنيا أو تدعوا أنه سيعذبهم في الآخرة فإن كان موضع الالزام عذاب الدنيا فهذا لا يقدح في ادعائهم كونهم أحباء الله لأن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) كان يدعي أنه هو وأمته أحباء الله ثم أنهم ما خلوا عن محن الدنيا انظروا إلى وقعة أحد وإلى قتل الحسن والحسين وإن كان موضع الالزام هو أنه تعالى سيعذبهم في الآخرة فالقوم ينكرون ذلك ومجرد إخبار محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ليس بكاف في هذا الباب إذ لو كان كافياً لكان مجرد إخباره بأنهم كذبوا في ادعائهم أنهم أحباء الله كافياً وحينئذ يصير هذا الاستدلال ضائعاً
والجواب من وجوه الأول أن موضع الالزام هو عذا الدنيا والمعارضة بيوم أحد غير لازمة لأنه يقول لو كانوا أبناء الله وأحباءه لما عذبهم الله في الدنيا ومحمد عليه الصلاة والسلام ادعى أنه من أحباء الله ولم يدع أنه من أبناء الله فزال السؤال الثاني أن موضع الالزام هو عذاب الآخرة واليهود والنصارى كانوا معترفين بعذاب الآخرة كما أخبر الله تعالى عنهم أنهم قالوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَة ً ( البقرة 80 ) والثالث المراد بقوله قُلْ فَلِمَ يُعَذّبُكُم بِذُنُوبِكُم فلم مسخكم فالمعذب في الحقيقة اليهود الذين كانوا قبل اليهود المخاطبين بهذا الخطاب في زمان الرسول عليه الصلاة والسلام إلاّ أنهم لما كانوا من جنيس أولئك المتقدمين حسنت هذه الإضافة وهذا الجواب أولى لأنه تعالى لم يكن ليأمر رسوله عليه الصلاة والسلام أن يحتج عليهم بشيء لم يدخل بعد في الوجود فإنهم يقولون لا نسلم أنه تعالى يعذبنا بل الأولى أن يحتج عليهم عليهم بشيء قد وجد وحصل حتى يكون الاستدلال به قوياً متيناً

ثم قال تعالى بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء يعني أنه ليس لأحد عليه حق يوجب عليه أن يغفر له وليس لأحد عليه حق يمنعه من أن يعذبه بل الملك له يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد
واعلم أنا بينا أن مراد القوم من قولهم نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ كمال رحمته عليهم وكمال عنايته بهم
وإذا عرفت هذا فمذهب المعتزلة أن كل من أطاع الله واحترز عن الكبائر فإنه يجب على الله عقلاً إيصال الرحمة والنعمة إليه أبد الآباد ولو قطع عنه بعد ألوف سنة في الآخرة تلك النعم لحظة واحدة لبطلت إل هيته ولخرج عن صفة الحكمة وهذا أعظم من قول اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه وكما أن قوله يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء إبطال لقول اليهود فبأن يكون إبطالاً لقول المعتزلة أولى وأكمل
ثم قال تعالى وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بمعنى من كان ملكه هكذا وقدرته هكذا فكيف يستحق البشر الضعيف عليه حقاً واجباً وكيف يملك الإنسان الجاهل بعبادته الناقصة ومعرفته القليلة عليه ديناً إنها كبرت كلمة تخرج من أفواههم أن يقولون إلا كذباً
ثم قال تعالى وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ أي وإليه يؤول أمر الخلق في الآخرة لأنه لا يملك الضر والنفع هناك إلا هو كما قال وَالاْمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ( الانفطار 19 )
يَأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَة ٍ مَّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدِيرٌ
وفيه مسائل
المسألة الأولى في قوله يُبَيّنُ لَكُمْ وجهان الأول أن يقدر المبين وعلى هذا التقدير ففيه وجهان أحدهما أن يكون ذلك المبين هو الدين والشرائع وإنما حسن حذفه لأن كل أحد يعلم أن الرسول إنما أرسل لبيان الشرائع وثانيها أن يكون التقدير يبين لكم ما كنتم تخفون وإنما حسن حذفه لتقدم ذكره
الوجه الثاني أن لا يقدر المبين ويكون المعنى يبين لكم البيان وحذف المفعول أكمل لأن على هذا التقدير يصير أعم فائدة
المسألة الثانية قوله يُبَيّنُ لَكُمْ في محل النصب على الحال أي مبيناً لكم
المسألة الثالثة قوله عَلَى فَتْرَة ٍ مَّنَ الرُّسُلِ قال ابن عباس يريد على انقطاع من الأنبياء يقال فتر الشيء يفتر فتوراً إذا سكنت حدته وصار أقل مما كان عليه وسميت المدة التي بين الأنبياء فترة لفتور الدواعي في العمل بتلك الشرائع
واعلم أن قوله عَلَى فَتْرَة ٍ متعلق جَاءكُمْ أي جاءكم على حين فتور من إرسال الرسل قيل كان بين عيسى ومحمد عليهما السلام ستمائة سنة أو أقل ألأ أكثر وعن الكلبي كان بين موسى وعيسى

عليهما السلام ألف وسبعمائة سنة وألفا نبي وبين عيسى ومحمد عليهما السلام أربعة من الأنبياء ثلاثة من بني إسرائيل وواحد من العرب وهو خالد بن سنان العبسي
المسألة الرابعة الفائدة في بعثة محمد عليه الصلاة والسلام عند فترة من الرسل هي أن التغيير والتحريف قد تطرق إلى الشرائع المتقدمة لتقادم عهدها وطول زمانها وبسبب ذلك اختلط الحق بالباطل والصدق بالكذب وصار ذلك عذراً ظاهر في اعراض الخلق عن العبادات لأن لهم أن يقولوا يا إل هنا عرفنا أنه لا بدّ من عبادتك ولكنا ما عرفنا كيف نعبد فبعث الله تعالى في هذا الوقت محمداً عليه الصلاة والسلام إزالة لهذا العذر وهو أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ يعني إنما بعثنا إليكم الرسول في وقت الفترة كراهة أن تقولوا ما جاءنا في هذا الوقت من بشير ولا نذير
ثم قال تعالى فَقَدْ جَاءكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ فزالت هذه العلة وارتفع هذا العذر
ثم قال وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ والمعنى أن حصول الفترة يوجب احتياج الخلق إلى بعثة الرسل والله تعالى قادر على كل شيء فكان قادراً على البعثة ولكا كان الخلق محتاجين إلى البعثة والرحيم الكريم قادراً على البعثة وجب في كرمه ورحمته أن يبعث الرسل إليهم فالمراد بقوله وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ الإشارة إلى الدلالة التي قررناها
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَة َ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً وَءَاتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن الْعَالَمِينَ
واعلم أن وجه الاتصال هو أن الواو في قوله وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ واو عطف وهو متصل بقوله وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِى إِسْراءيلَ ( المائدة 12 ) كأنه قيل أخذ عليهم الميثاق وذكرهم موسى نعم الله تعالى وأمرهم بمحاربة الجبارين فخالفوا في القول في الميثاق وخالفوه في محاربة الجبارين وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى منّ عليهم بأمور ثلاثة أولها قوله إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاء لأنه لم يبعث في أمة ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء فمنهم السبعون الذين اختارهم موسى من قومه فانطلقوا معه إلى الجبل وأيضاً كانوا من أولاد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم وهؤلاء الثلاثة بالاتفاق كانوا من أكابر الأنبياء وأولاد يعقوب أيضاً كانوا على قول الأكثرين أنبياء والله تعالى أعلم موسى أنه لا يبعث الأنبياء إلاّ من ولد بعقوب ومن ولد إسماعيل فهذا الشرف حصل بمن مضى من الأنبياء وبالذين كانوا حاضرين مع موسى وبالذين أخبر الله موسى أنه سيبعثهم من ولد يعقوب وإسماعيل بعد ذلك ولا شك أنه شرف عظيم وثانيها قوله وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً وفيه وجوه أحدها قال السدي يعني وجعلكم أحراراً تملكون أنفسكم بعد ما

كنتم في أيدي القبط بمنزلة أهل الجزية فينا ولا يغلبكم على أنفسكم غالب وثانيها أن كل من كان رسولاً ونبياً كان ملكاً لأنه يملك أمر أمته ويملك التصرف فيهم وكان نافذ الحكم عليهم فكان ملكاً ولهذا قال تعالى فَقَدْ ءاتَيْنَا ءالَ إِبْراهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ وَءاتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً ( النساء 54 ) وثالثها أنه كان في أسلافهم وأخلافهم ملوك وعظماء وقد يقال فيمن حصل فيهم ملوك أنتم ملوك على سبيل الاستعارة ورابعها أن كل من كان مستقلاً بأمر نفسه ومعيشته ولم يكن محتاجاً في مصالحه إلى أحد فهو ملك قال الزجاج الملك من لا يدخل عليه أحد إلاّ بإذنه وقال الضحاك كانت منازلهم واسعة وفيها مياه جارية وكانت لهم أموال كثيرة وخدم يقومون بأمرهم ومن كان كذلك كان ملكاً
والنوع الثالث من النعم التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية قوله وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَة َ وذلك لأنه تعالى خصهم بأنواع عظيمة من الاكرام أحدها أنه تعالى فلق البحر لهم وثانيها أنه أهلك عدوهم وأورثهم أموالهم وثالثها أنه أنزل عليهم المن والسلوى ورابعها أنه أخرج لهم المياه العذبة من الحجر وخامسها أنه تعالى أظلل فوقهم الغمام وسادسها أنه لم يجتمع لقوم الملك والنبوّة كما جمع لهم وسابعها أنهم في تلك الأيام كانوا هم العلماء بالله وهم أحباب الله وأنصار دينه
واعلم أن موسى عليه السلام لما ذكرهم هذه النعمة وشرحها لهم أمرهم بعد ذلك بمجاهدة العدو فقال
يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأرض المُقَدَّسَة َ الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ
فيه مسائل
المسألة الأولى روي أن إبراهيم عليه السلام لما صعد جبل لبنان قال له الله تعالى انظر فما أدركه بصرك فهو مقدس وهو ميراث لذريتك وقيل لما خرج قوم موسى عليه السلام من مصر وعدهم الله تعالى إسكان أرض الشام وكان بنو إسرائيل يسمون أرض الشام أرض المواعيد ثم بعث موسى عليه السلام اثنى عشر نقيباً من الأمناء ليتجسسوا لهم عن أحوال تلك الأراضي فلما دخلوا تلك البلاد رأوا أجساماً عظيمة هائلة قال المفسرون لما بعث موسى عليه السلام النقباء لأجل التجسس رآهم واحد من أولئك الجبارين فأخذهم وجعلهم في كمه مع فاكهة كان قد حملها من بستانه وأتى بهم الملك فنثرهم بين يديه وقال متعجباً للملك هؤلاء يريدون قتالنا فقال الملك ارجعوا إلى صاحبكم وأخبروه بما شاهدتم ثم انصرف أولئك النقباء إلى موسى عليه السلام فأخبروه بالواقعة فأمرهم أن يكتموا ما عاهدوه فلم يقبلوا قوله إلا رجلان منهم وهما يوشع بن نون وكالب بن يوفنا فإنهما سهلا الأمر وقالا هي بلاد طيبة كثيرة النعم والأقوام وإن كانت أجسادهم عظيمة إلا أن قلوبهم ضعيفة وأما العشرة الباقية فقد أوقعوا الجبن في قلوب الناس حتى أظهروا الامتناع من غزوهم فقالوا لموسى عليه السلام إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَا أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ( المائدة 24 ) فدعا موسى عليه السلام عليهم فعاقبهم الله تعالى بأن أبقاهم في التيه أربعين سنة قالوا وكانت مدة غيبة النقباء للتجسس أربعين يوماً فعوقبوا بالتيه أربعين سنة ومات أولئك العصاة في التيه وأهلك النقباء العشرة في التيه بعقوبات غليظة ومن الناس من قال إن موسى وهارون عليهما السلام ماتا أيضاً في التيه ومنهم من قال إن موسى عليه السلام بقي وخرج معه يوشع وكالب وقاتلوا الجبارين وغلبوهم

ودخلوا تلك البلاد فهذه هي القصة والله أعلم بكيفية الأمور
المسألة الثانية الأرض المقدسلا هي الأرض المطهرة طهرت من الآفات قال المفسرون طهرت من الشرك وجعلت مسكناً وقراراً للأنبياء وهذا فيه نظر لأن تلك الأرض لما قال موسى عليه الصلاة والسلام ادْخُلُوا الاْرْضَ المُقَدَّسَة َ ما كانت مقدسة عن الشرك وما كانت مقراً للأنبياء ويمكن أن يجاب بأنها كانت كذلك فيما قبل
المسألة الثالثة اختلفوا في تلك الأرض فقال عكرمة والسدي وابن زيد هي أريحا وقال الكلبي دمشق وفلسطين وبعض الأردن وقيل الطور
المسألة الرابعة في قوله كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وجوه أحدها كتب في اللوح المحفوظ أنها لكم وثانيها وهبها الله لكم وثالثها أمركم بدخولها
فإن قيل لم قال كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ثم قال فَإِنَّهَا مُحَرَّمَة ٌ عَلَيْهِمْ ( المائدة 26 )
والجواب قال ابن عباس كانت هبة ثم حرمها عليهم بشؤم تمردهم وعصيانهم وقيل اللفظ وإن كان عاماً لكن المراد هو الخصوص فصار كأنه مكتوب لبعضهم وحرام على بعضهم وقيل إن الوعد بقوله كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ مشروط بقيد الطاعة فلما لم يوجد الشرط لا جرم لم يوجد المشروط وقيل إنها محرمة عليهم أربعين سنة فلما مضى الأربعون حصل ما كتب
المسألة الخامسة في قوله كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ فائدة عظيمة وهي أن القوم وإن كانوا جبارين إلا أن الله تعالى لما وعد هؤلاء الضعفاء بأن تلك الأرض لهم فإن كانوا مؤمنين مقرين بصدق موسى عليه السلام علموا قطعاً أن الله ينصرهم عليهم ويسلطهم عليهم فلا بدّ وأن يقدموا على قتالهم من غير جبن ولا خوف ولا هلع فهذه هي الفائدة من هذه الكلمة
ثم قال وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ وفيه وجهان الأول لا ترجعوا عن الدين الصحيح إلى الشك في نبوّة موسى عليه السلام وذلك لأنه عليه السلام لما أخبر أن الله تعالى جعل تلك الأرض لهم كان هذا وعداً بأن الله تعالى ينصرهم عليهم فلو لم يقطعوا بهذه النصرة صاروا شاكين في صدق موسى عليه السلام فيصيروا كافرين بالإلهية والنبوّة
والوجه الثاني المراد لا ترجعوا عن الأرض التي أمرتم بدخولها إلى الأرض التي خرجتم عنها يروى أن القوم كانوا قد عزموا على الرجوع إلى مثر وقوله فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ فيه وجوه أحدها خاسرين في الآخرة فإنه يفوتكم الثواب ويلحقكم العقاب وثانيها ترجعون إلى الذل وثالثها تموتون في التيه ولا تصلون إلى شيء من مطالب الدنيا ومنافع الآخرة
قَالُوا يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ

ثم أخبر الله تعالى عنهم أنهم قَالُواْ يأَبَانَا مُوسَى أَنِ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وفي تفسير الجبارين وجهان الأول الجبار فعال من جبره على الأمر بمعنى أجبره عليه وهو العاتي الذي يجبر الناس على ما يريد وهذا هو اختيار الفرّاء والزجاج قال الفرّاء لم أسمع فعالاً من أفعل إلا في حرفين وهما جبار من أجبر ودراك من أدرك والثاني أنه مأخوذ من قولهم نخلة جبارة إذا كانت طويلة مرتفعة لا تصل الأيدي إليها ويقال رجل جبار إذا كان طويلاً عظيماً قوياً تشبيهاً بالجبار من النخل والقوم كانوا في غاية القوة وعظم الأجسام بحث كانت أيدي قوم موسى ما كانت تصل إليهم فسموهم جبارين لهذا المعنى
ثم قال القوم وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا داخِلُونَ وإنما قالوا هذا على سبيل الاستبعاد كقوله تعالى وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّة َ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِى سَمّ الْخِيَاطِ ( الأعراف 40 )
ثم قال تعالى
قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى هذا الرجلان هما يوشع بن نون وكالب بن يوفنا وكانا من الذين يخافون الله وأنعم الله عليهما بالهداية والثقة بعون الله تعالى والاعتماد على نصرة الله قال القفال ويجوز أن يكون التقدير قال رجلان من الذين يخافهم بنو إسرائيل وهم الجبارون وهما رجلان منهم أنعم الله عليهما بالإيمان فآمنا وقالا هذا القول لقوم موسى تشجيعاً لهم على قتالهم وقراءة من قرأ يَخَافُونَ بالضم شاهدة لهذا الوجه
المسألة الثانية في قوله أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا وجهان الأول أنه صفة لقوله رَجُلاَنِ والثاني أنه اعتراض وقع في البين يؤكد ما هو المقصود من الكلام
المسألة الثالثة قوله ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ مبالغة في الوعد بالنصر والظفر كأنه قال متى دخلتم باب بلدهم انهزموا ولا يبقى منهم نافخ نار ولا ساكن دار فلا تخافوهم والله أعلم
المسألة الرابعة إنما جزم هذان الرجلان في قولهما فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ لأنهما كانا جازمين بنبوّة موسى عليه السلام فلما أخبرهم موسى عليه السلام بأن الله قال ادْخُلُوا الاْرْضَ المُقَدَّسَة َ الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ( المائدة 21 ) لا جرم قطعاً بأن النصرة لهم والغلبة حاصلة في جانبهم ولذلك ختموا كلامهم بقولهم وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ يعني لما وعدكم الله تعالى النصر فلا ينبغي أن تصيروا خائفين من شدة قوتهم وعظم أجسامهم بل توكلوا على الله في حصول هذا النصر لكم إن كنتم مؤمنين مقرين بوجود الإل ه القادر ومؤمنين بصحة نبوّة موسى عليه السلام
ثم قال تعالى
قَالُواْ يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ

وفي قوله اذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ وجوه الأول لعلّ القوم كانوا مجسمة وكانوا يجوزون الذهاب والمجيء على الله تعالى الثاني يحتمل أن لا يكون المراد حقيقة الذهاب بل هو كما يقال كلمته قذهب يجيبني يعني يردي أن يجيبني فكأنهم قالوا كن أنت وربك مردين لقتالهم والثالث التقدير اذهب أنت وربك معين لك بزعمك فأضمر خبر الابتداء
فإن قيل إذا أضمرنا الخبر فكيف يجعل قوله فَقَاتِلا خبراً أيضاً
قلنا لا يمتنع خبر بعد خبر والرابع المراد بقوله وَرَبُّكَ أخوه هارون وسموه رباً لأنه كان أكبر من موسى قال المفسرون قولهم اذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ إن قالوه على وجه الذهاب من مكان إلى مكان فهو كفر وإن قالوه على وجه التمرد عن الطاعة فهو فسق ولقد فسقوا بهذا الكلام بدليل قوله تعالى في هذه القصة فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ( المائدة 26 ) والمقصود من هذه القصة شرح خلاف هؤلاء اليهود وشدة بغضهم وغلوهم في المنازعة مع أنبياء الله تعالى منذ كانوا
قَالَ رَبِّ إِنِّى لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِى وَأَخِى فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ
ثم إنه تعالى حكى عن موسى عليه السلام أنه لما سمع منهم هذا الكلام قَالَ رَبّ إِنّى لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِى وَأَخِى ذكر الزجاج في إعراب قوله وَأَخِى وجهين الرفع والنصب أما الرفع فمن وجهين أحدهما أن يكون نسقاً على موضع إِنّى والمعنى أنا لا أملك إلا نفسي وأخي كذلك ومثله قوله أَنَّ اللَّهَ بَرِىء مّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ( التوبة 3 ) والثاني أن يكون عطفاً على الضمير في أَمْلِكُ وهو ( أنا ) والمعنى لا أملك أنا وأخي إلا أنفسنا وأما النصب فمن وجهين أحدهما أن يكون نسقاً على الياء والتقدير إني وأخي لا نملك إلا أنفسنا والثاني أن يكون أَخِى معطوفاً على نَفْسِى فيكون المعنى لا أملك إلا نفسي ولا أملك إلا أخي لأن أخاه إذا كان مطيعاً له فهو مالك طاعته
فإن قيل لم قال لا أملك إلا نفسي وأخي وكان معه الرجلان المذكوران
قلنا كأنه لم يثق بهما كل الوثوق لما رأى من إطباق الأكثرين على التمرد وأيضاً لعلّه إنما قال ذلك تقليلاً لمن يوافقه وأيضاً يجوز أن يكون المراد بالأخ من يواخيه في الدين وعلى هذا التقدير فكانا داخلين في قوله وَأَخِى
ثم قال فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ يعني فافصل بيننا وبينهم بأن تحكم لنا بما نستحق وتحكم عليهم بما يستحقون وهو في معنى الدعاء عليهم ويحتمل أن يكون المراد خلصنا من صحبتهم وهو كقوله وَنَجّنِى مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( القصص 21 )
ثم إنه تعالى قال
قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَة ٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَة ً يَتِيهُونَ فِى الأرض فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله فَإِنَّهَا أي الأرض المقدسة محرمة عليهم وفي قوله أَرْبَعِينَ سَنَة ً قولان أحدهما أنها منضصوبة بالتحريم أي الأرض المقدسة محرمة عليهم أربعين سنة ثم فتح الله تعالى تلك الأرض لهم من غير محاربة هكذا ذكره الربيع بن أنس

والقول الثاني أنها منصوبة بقوله يَتِيهُونَ فِى الاْرْضِ أي بقوا في تلك الحالة أربعين سنة وأما الحرمة فقد بقيت عليهم وماتوا ثم إن أولادهم دخلوا تلك البلدة
المسألة الثانية يحتمل أن موسى عليه السلام لما قال في دعائه على القوم فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ( المائدة 25 ) لم يقصد بدعائه هذا الجنس من العذاب بل أخف منه فلما أخبره الله تعالى بالتيه علم أنه يحزن بسبب ذلك فعزاه وهون أمرهم عليه فقال فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ قال مقاتل إن موسى لما دعا عليهم أخبره الله تعالى بأحوال التيه ثم إن موسى عليه السلام أخبر قومه بذكل فقالوا له لم دعوت علينا وندم موسى على ما عمل فأوحى الله تعالى إليه لا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ وجائز أن يكون ذلك خطاباً لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) أي لا تحزن على قوم لم يزل شأنهم المعاصي ومخالفة الرسل والله أعلم
المسألة الثالثة اختلف الناس في أن موسى وهارون عليهما السلام هل بقيا في التيه أم لا فقال قوم إنهما ما كانا في التيه قالوا ويدل عليه وجوه الأول أنه عليه السلام دعا الله يفرق بينه وبين القوم الفاسقين ودعوات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مجابة وهذا يدل على أنه عليه السلام ما كان معهم في ذلك الموضع والثاني أن ذلك التيه كان عذاباً والأنبياء لا يعذبون والثالث أن القوم إنما عذبوا بسبب أنهم تمردوا وموسى وهارون ما كانا كذلك فكيف يجوز أن يكونا مع أولئك الفاسقين في ذلك العذاب وقال آخرون إنهما كانا مع القوم في ذلك التيه إلا أنه تعالى سهل عليهما ذلك العذاب كما سهل النار على إبراهيم فجعلها برداً وسلاماً ثم القائلون بهذا القول اختلفوا في أنهما هل ماتا في التيه أو خرجا منه فقال قوم إن هارون مات في التيه ثم مات موسى بعده بسنة وبقي يوشع بن نون وكان ابن أخت موسى ووصيه بعد موته وهو الذي فتح الأرض المقدسة
وقيل إنه ملك الشأم بعد ذلك وقال آخرون بل بقي موسى بعد ذلك وخرج من التيه وحارب الجبارين وقهرهم وأخذ الأرض المقدسة والله أعلم
المسألة الرابعة قوله فَإِنَّهَا مُحَرَّمَة ٌ عَلَيْهِمْ الأكثرون على أنه تحريم منع لا تحريم تعبد وقيل يجوز أيضاً أن يكون تحريم تعبد فأمرهم بأن يمكثوا في تلك المفازة في الشدة والبلية عقاباً لهم على سوء صنيعهم
المسألة الخامسة اختلفوا في التيه فقال الربيع مقدار ستة فراسخ وقيل تسعة فراسخ في ثلاثين فرسخاً وقيل ستة في اثنى عشر فرسخاً وقيل كانوا ستمائة ألف فارس
فإن قيل كيف يعقل بقاء هذا الجمع العظيم في هذا القدر الصغيرل من المفازة أربعين سنة بحيث لا يتفق لأحد منهم أن يجد طريقاً إلى الخروج عنها ولو أنهم وضعوا أعينهم على حركة الشمس أو الكواكب لخرجوا منها ولو كانوا في البحر العظيم فكيف في المفازة الصغيرة
قلنا فيه وجهان الأول أن انخراق العادات في زمان الأنبياء غير مستبعد إذ لو فتحنا باب الاستبعاد لزم الطعن في جميع المعجزات وإنه باطل الثاني إذا فسرنا ذلك التحريم بتحريم التعبد فقد زال السؤال لاحتمال أن الله تعالى حرّم عليهم الرجوع إلى أوطانهم بل أمرهم بالمكث في تلك المفازة أربعين سنة مع المشقة والمحنة جزاءً لهم على سوء صنيعهم وعلى هذا التقدير فقد زال الاشكال

المسألة السادسة يقال تاه يتيه تيهاً وتيهاً وتوها والتيه أعمها والتيهاء الأرض التي لا يهتدى فيها قال الحسن كانوا يصبحون حيث أمسوا ويمسون حيث أصبحوا وكانت حركتهم في تلك المفازة على سبيل الاستدارة وهذا مشكل فإنهم إذا وضعوا أعينهم على مسير الشمس ولم ينعطفوا ولم يرجعوا فإنهم لا بدّ وأن يخرجوا عن المفازة بل الأولى حمل الكلام على تحريم التعبد على ما قررناه والله أعلم
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَى ْ ءْادَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الاٌّ خَرِ قَالَ لاّقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ
المسألة الأولى في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوه الأول أنه تعالى قال فيما تقدم الْجَحِيمِ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَة َ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ ( المائدة 11 ) فذكر تعالى أن الأعداء يريدون إيقاع البلاء والمحنة بهم لكنه تعالى يحفظهم بفضله ويمنع أعداءهم من إيصال الشر إليهم ثم إنه تعالى لأجل التسلية وتخفيف هذه الأحوال على القلب ذكر قصصاً كثيرة في أن كل من خصه الله تعالى بالنعم العظيمة في الدين والدنيا فإن الناس ينازعونه حسداً وبغياً فذكر أولاً قصة النقباء الاثني عشر وأخذ الله تعالى الميثاق منهم ثم إن اليهود نقضوا ذلك الميثاق حتى وقعوا في اللعن والقساوة وذكر بعده شدة إصرار النصارى على كفرهم وقولهم بالتثليث بعد ظهور الدلائل القاطعة على فساد ما هم عليه وما ذاك إلا لحسدهم لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فيما آتاه الله من الدين الحق ثم ذكر بعده قصة موسى في محاربة الجبارين وإصرار قومه على التمرد والعصيان ثم ذكر بعده قصة موسى في محاربة الجبارين وإصرار قومه على التمرد والعصيان ثم ذكر بعده قصة ابنى آدم أن أحدهما قتل الآخر حسداً منه على أن الله تعالى قبل قربانه وكل هذه القصص دالة على أن كل ذي نعمة محسود فلما كانت نعم الله على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أعظم النعم لا جرم لم يبعد اتفاق الأعداء على استخراج أنواع المكر والكيد في حقه فكان ذكر هذه القصص تسلية من الله تعالى لرسوله ( صلى الله عليه وسلم ) لما هم قوم من اليهود أن يمكروا به وأن يوقعوا به آفة ومحنة والثاني أن هذا متعلق بقوله دَابَّة ٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاء قَدِيرٌ وَمَا أَصَابَكُمْ مّن مُّصِيبَة ٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ ( المائدة 15 ) وهذه القصة وكيفية إيجاب القصاص عليها من أسرار التوراة والثالث أن هذه القصة متعلقة بما قبلها وهي قصة محاربة الجبارين أي اذكر لليهود حديث ابني آدم ليعلموا أن سبيل أسلافهم في الندامة والحسرة الحاصلة بسبب إقدامهم على المعصية كان مثل سبيل ابني آدم في إقدام أحدهما على قتل الآخر والرابع قيل هذا متصل بقوله حكاية عن اليهود والنصارى نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ( المائدة 18 ) أي لا ينفعهم كونهم من أولاد الأنبياء مع كفرهم كما لم ينتفع ولد آدم عند معصيته بكون أبيه نبياً معظماً عند الله تعالى الخامس لما كفر أهل الكتاب بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) حسداً أخبرهم الله تعالى بخبر ابن آدم وأن الحسد أوقعه في سوء العاقبة والمقصود منه التحذير عن الحسد
المسألة الثانية قوله وَاتْلُ عَلَيْهِمْ فيه قولان أحدهما واتل على الناس والثاني واتل على أهل

الكتاب وفي قوله ابْنَى ْ ءادَمَ قولان الأول أنهما ابنا آدم من صلبه وهما هابيل وقابيل وفي سبب وقوع المنازعة بينهما قولان أحدهما أن هابيل كان صاحب غنم وقابيل كان صاحب زرع فقرب كل واحد منهما قرباناً فطلب هابيل أحسن شاة كانت في غنمه وجعلها قرباناً وطلب قابيل شر حنطة في زرعه فجعلها قرباناً ثم تقرب كل واحد بقربانه إلى الله فنزلت نار من السماء فاحتملت قربان هابيل ولم تحمل قربان قابيل فعلم قابيل أن الله تعالى قبل قربان أخيه ولم يقبل قربانه فحسده وقصد قتله وثانيهما ما روي أن آدم عليه السلام كان يولد له في كل بطن غلام وجارية وكان يزوج البنت من بطن الغلام من بطن آخر فولد له قابيل وتوأمته وبعدهما هابيل وتوأمته وكانت توأمة قابيل أحسن الناس وجهاً فأراد آدم أن يزوجها من هابيل فأبى قابيل ذلك وقال أن أحق بها وهو أحق بأخته وليس هذا من الله تعالى وإنما هو رأيك فقال آدم عليه السلام لهما قربا قرباناً فأيكما قبل قربانه زوجتها منه فقبل الله تعالى قربان هابيل بأن أنزل الله تعالى على قربانه ناراً فقتله قابيل حسداً له
والقول الثاني وهو قول الحسن والضحاك أن ابنى قوله تعالى في آخر القصة مِنْ أَجْلِ ذالِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِى إِسْراءيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى الاْرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ( المائدة 32 ) إذ من الظاهر أن صدور هذا الذنب من أحد ابنى آدم لا يصلح أن يكون سبباً لإيجاب القصاص على بني إسرائيل أما لما أقدم رجل من بني إسرائيل على مثل هذه المعصية أمكن جعل ذلك سبباً لإيجاب القصاص عليهم زجراً لهم عن المعاودة إلى مثل هذا الذنب ومما يدل على ذلك أيضاً أن المقصود من هذه القصة بيان إصرار اليهود أبداً من قديم الدهر على التمرد والحسد حتى بلغ بهم شدة الحسد إلى أن أحدهما لما قبل الله قربانه حسده الآخر وأقدم على قتله ولا شك أنها رتبة عظيمة في الحسد فإنه لما شاهد أن قربان مقبول عند الله تعالى فذلك مما يدعوه إلى حسن الاعتقاد فيه والمبالغة في تعظيمه فلما أقدم على قتله وقتله مع هذه الحالة دل ذلك على أنه كان قد بلغ في الحسد إلى أقصى الغايات وإذا كان المراد من ذكر هذه القصة بيان أن الحسد دأب قديم في بني إسرائيل وجب أن يقال هذان الرجلان كانا من بني إسرائيل
واعلم أن القول الأول هو الذي اختاره أكثر أصحاب الأخبار وفي الآية أيضاً ما يدل عليه لأن الآية تدل على أن القاتل جهل ما يصنع بالمقتول حتى تعلم ذلك من عمل الغراب ولو كان من بني إسرائيل لما خفي عليه هذا الأمر وهو الحق والله أعلم
المسألة الثالثة قوله بِالْحَقّ فيه وجوه الأول بالحق أي تلاوة متلبسة بالحق والصحة من عند الله تعالى والثاني أي تلاوة متلبسة بالصدق والحق موافقة لما في التوراة والإنجيل الثالث بالحق أي بالغرض الصحيح وهو تقبيح الحسد لأن المشركين وأهل الكتاب كانوا يحسدون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ويبعون عليه الرابع بالحق أي ليعتبروا به لا ليحملوه على اللعب والباطل مثل كثير من الأقاصيص التي لا فائدة فيها وإنما هي لهو الحديث وهذا يدل على أن المقصود بالذكر من الأقاصيص والقصص في القرآن العبرة لا مجرد الحكاية ونظيره قوله تعالى لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَة ٌ لاّوْلِى الالْبَابِ ( يوسف 111 )
ثم قال تعالى إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً وفيه مسائل

المسألة الأولى إذ نصب بماذا فيه قولان الأول أنه نصب بالنبأ أي قصتهم في ذلك الوقت الثاني يجوز أن يكون بدلاً من النبأ أي واتل عليهم من النبأ نبأ ذلك الوقت على تقدير حذف المضاف
المسألة الثانية القربان اسم لما يتقرب به إلى الله تعالى من ذبيحة أو صدقة ومضى الكلام على القربان في سورة آل عمران
المسألة الثالثة تقدير الكلام وهو قوله إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً قرب كل واحد منهما قربانا إلا أنه جمعهما في الفعل وأفرد الاسم لأنه يستدل بفعلهما على أن لكل واحد قربانا وقيل إن القربان اسم جنس فهو يصلح للواحد والعدد وأيضاً فالقربان مصدر كالرجحان والعدوان والكفران والمصدر لا يثنى ولا يجمع
ثم قال تعالى فَتُقُبّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الاْخَرِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قيل كانت علامة القبول أن تأكله النار وهو قول أكثر المفسرين وقال مجاهد علامة الرد أن تأكله النار والأول أولى لاتفاق أكثر المفسرين عليه وقيل ما كان في ذلك الوقت فقير يدفع إليه ما يتقرب به إلى الله تعالى فكانت النار تنزل من السماء فتأكله
المسألة الثانية إنما صار القربانين مقبولاً والآخر مردوداً لأن حصول التقوى شرط في قبول الأعمال قال تعالى هاهنا حكاية عن المحق إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ وقال فيما أمرنا به من القربان بالبدن لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَاكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ ( الحج 37 ) فأخبر أن الذي يصل إلى حضرة الله ليس إلا التقوى والتقوى من صفات القلوب قال عليه الصلاة والسلام ( التقوى هاهنا ) وأشار إلى القلب وحقيقة التقوى أمور أحدها أن يكون على خوف ووجل من تقصير نفسه في تلك الطاعة فيتقى بأقصى ما يقدر عليه عن جهات التقصير وثانيها أن يكون في غاية الاتقاء من أن يأتي بتلك الطاعة لغرض سوى طلب مرضاة الله تعالى وثالثها أن يتقي أن يكون لغير الله فيه شركة وما أصعب رعاية هذه الشرائطا وقيل في هذه القصة إن أحدهما جعل قربانه أحسن ما كان معه والآخر جعل قربانه أردأ ما كان معه وقيل إنه أضمر أنه لا يبالي سواء قبل أو لم يقبل ولا يزوج أخته من هابيل وقيل كان قابيل ليس من أهل التقوى والطاعة فلذلك لم يقبل الله قربانه
ثم حكى الله تعالى عن قابيل أنه قال لهابيل اقتلنك فقال هابيل قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ وفي الكلام حذف والتقدير كأن هابيل قال لم تقتلني قال لأن قربانك صار مقبولاً فقال هابيل وما ذنبي إنما يتقبل الله من المتقين وقيل هذا من كلام الله تعالى لنبيّه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) اعتراضاً بين القصة كأنه تعالى بيّن لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) أنه إنما لم يقبل قربانه لأنه لم يكن متقياً ثم حكى تعالى عن الأخ المظلوم أنه قال
لَئِن بَسَطتَ إِلَى َّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِى مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِى َ إِلَيْكَ لاًّقْتُلَكَ إِنِّى أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ
والسؤال الأول وهو أنه لم لم يدفع القاتل عن نفسه مع أن الدفع عن النفس واجب وهب أنه ليس بواجب فلا أقل من أنه ليس بحرام فلم قال إِنّى أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ

والجواب من وجوه الأول يحتمل أن يقال لاح للمقتول بأمرات تغلب على الظن أنه يريد قتلهد فذكر له هذا الكلام على سبيل الوعظ والنصيحة يعني أنا لا أجوز من نفسي أن أبدأك بالقتل الظلم العدوان وإنما لا أفعله خوفاً من الله تعالى وإنما ذكر له هذا الكلام قبل إقدام القاتل على قتله وكان غرضه منه تقبيح القتل العمد في قلبه ولهذا يروى أن قابيل صبر حتى نام هابيل فضرب رأسه بحجر كبير فقتله
والوجه الثاني في الجواب أن المذكور في الآية قوله مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِى َ إِلَيْكَ لاِقْتُلَكَ يعني لا أبسط يدي إليك لغرض قتلك وإنما أبسط يدي إليك لغرض الدفع وقال أهل العلم الدافع عن نفسه يجب عليه أن يدفع بالأيسر فالأيسر وليس له أن يقصد القتل بل يجل عليه أن يقصد الدفع ثم إن لم يندفع إلا بالقتل جاز له ذلك
الوجه الثالث قال بعضهم المقصود بالقتل إن أراد أن يستسلم جاز له ذلك وهكذا فعل عثمان رضي الله تعالى عنه وقال النبي عليه الصلاة والسلام لمحمد بن مسلمة ( ألق كمك على وجهك وكن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل )
الوجه الرابع وجوب الدفع عن النفس أمر يجوز أن يختلف باختلاف الشرائع وقال مجاهد ءن الدفع عن النفس ما كان مباحاً في ذلك الوقت
السؤال الثاني لم جاء الشرط بلفظ الفعل والجزاء بلفظ اسم الفاعل وهو قوله لَئِن بَسَطتَ إِلَى َّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِى مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ
والجواب ليفيد أنه لا يفعل ما يكتسب به هذا الوصف الشنيع ولذلك أكده بالباء المؤكد للنفي ثم قال تعالى
إِنِّى أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِى وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَآءُ الظَّالِمِينَ
وفيه سؤالان
الأول كيف يعقل أن يبوء القاتل بإثم المقتول مع أنه تعالى قال وَلاَ تَزِرُ وازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى ( فاطر 18 )
والجواب من وجهين الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما وابن مسعود والحسن وقتادة رضي الله عنهم معناه تحمل إثم قتلي وإثمك الذي كان منك قبل قتلي وهذا بحذف المضاف والثاني قال الزجاج معناه ترجع إلى الله فلم قال إِنّى أُرِيدُ أَن تَبُوء بِإِثْمِى وَإِثْمِكَ
والجواب من وجوه الأول قد ذكرنا أن هذا الكلام إنما دار بينهما عندما غلب على ظن المقتول أنه

يريد قتله وكان ذلك قبل إقدام القاتل على إيقاع القتل به وكأنه لما وعظه ونصحه قال له وإن كنت لا تنزجر عن هذه الكبيرة بسبب هذه النصيحة فلا بدّ وأن تترصد قتلي في وقت أكون غافلاً عنك وعاجزاً عن دفعك فحينئذٍ لا يمكنني أن أدفعك عن قتلي إلا إذا قتلتك ابتداءً بمجرد الظن والحسبان وهذا مني كبيرة ومعصية وإذا دار الأمر بين أن يكون فاعل هذه المعصية أنا وبين أن يكون أنت فأنا أحب أن تحصل هذه الكبيرة لك لا لي ومن المعلوم أن إرادة صدور الذنب من الغير في هذه الحالة وعلى هذا الشرط لا يكون حراماً بل هو عين الطاعة ومحض الاخلاص
والوجه الثاني في الجواب أن المراد إني أريد أن تبوء بعقوبة قتلي ولا شك أنه يجوز للمظلوم أن يريد من الله عقاب ظالمه والثالث روي أن الظالم إذا لم يجد يوم القيامة ما يرضي خصمه أخذ من سيئات المظلوم وحمل على الظالم فعلى هذا يجوز أن يقال إني أريد أن تبوأ بإثمي في أنه يحمل عليك يوم القيامة إذا لم تجد ما يرضيني وبإثمك في قتلك إياي وهذا يصلح جواباً عن السؤال الأول والله أعلم ثم قال تعالى
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ
ثم قال المفسرون سهلت له نفسه قتل أخيه ومنهم من قال شجعته وتحقيق الكلام أن الإنسان إذا تصور من القتل العمد العدوان كونه من أعظم الكبائر فهذا الاعتقاد يصير صارفاً له عن فعله فيكون هذا الفعل كالشيء العاصي المتمرد عليه الذي لا يعطيه بوجه ألبتة فإذا أوردت النفس أنواع وساوسها صار هذا الفعل سهلاً عليه فكأن النفس جعلت بوساوسها العجيبة هذا الفعل كالمطيع له بعد أن كان كالعاصي المتمرد عليه فهذا هو المراد بقوله فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ قالت المعتزلة لو كان خالق الكل هو الله تعالى لكان ذلك التزيين والتطويع مضافاً إلى الله تعالى لا إلى النفس
وجوابه أنه لما أسندت الأفعال إلى الدواعي وكان فاعل تلك الدواعي هو الله تعالى فكان فاعل الأفعال كلها هو الله تعالى
ثم قال تعالى فَقَتَلَهُ قيل لم يدر قابيل كيف يقتل هابيل فظهر له إبليس وأخذ طيراً وضرب رأسه بحجر فتعلم قابيل ذلك منه ثم إنه وجد هابيل نائماً يوماً فضرب رأسه بحجر فمات وعن عبد الله عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها ) وذلك أنه أول من سن القتل
ثم قال تعالى فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ قال ابن عباس خسر دنياه وآخرته أما الدنيا فهو أنه أسخط والديه وبقي مذموماً إلى يوم القيامة وأما الآخرة فهو العقاب العظيم قيل إن قابيل لما قتل أخاه هرب إلى عدن من أرض اليمن فأتاه إبليس وقال إنما أكلت النار قربان هابيل لأنه كان يخدم النار ويعبدها فإن عبدت النار أيضاً حصل مقصودك فبنى بيت نار وهو أول من عبد النار وروي أن هابيل قتل وهو ابن عشرين سنة وكان قتله عند عقبة حراء وقيل بالبصرة في موضع المسجد الأعظم وروي أنه لما قتله اسود جسد وكان أبيض فسأله آدم عن أخيه فقال ما كنت عليه وكيلاً فقال بل قتلته ولذلك اسود جسدك ومكث آدم بعده مائة سنة لم يضحك قط قال صاحب ( الكشاف ) يروى أنه رثاه بشعر قال وهو كذب بحت وما الشعر إلا منحول ملحون والأنبياء معصومون عن الشعر وصدق صاحب ( الكشاف ) فيما قال فإن ذلك الشعر في غاية الركاكة لا يليق بالحمقى من المعلمين فكيف ينسب إلى من جعل الله علمه حجة على الملائكة

ثم قال تعالى
فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِى الأرض لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِى سَوْءَة َ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَاذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَة َ أَخِى فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى قيل لما قتله تركه لا يدري ما يصنع به ثم خاف عليه السباع فحمله في جراب على ظهره سنة حتى تغير فبعث الله غراباً وفيه وجوه الأول بعث الله غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما الآخر فحفر له بمنقاره ورجليه ثم ألقاه في الحفرة فتعلم قابيل ذلك من الغراب الثاني قال الأصم لما قتله وتركه بعث الله غراباً يحثو التراب على المقتول فلما رأى القاتل أن الله كيف يكرمه بعد موته ندم وقال يا ويلتى الثالث قال أبو مسلم عادة الغراب دفن الأشياء فجاء غراب فدفن شيئاً فتعلم ذلك منه
المسألة الثانية لِيُرِيَهُ فيه وجهان الأول ليريه الله أو ليريه الغراب أي ليعلمه لأنه لما كان سبب تعلمه فكأنه قصد تعليمه على سبيل المجاز
المسألة الثالثة مِنْ أَخِيهِ عورة أخيه وهو ما لا يجوز أن ينكشف من جسده والسوأة الفضيحة لقبحها وقيل سوأة أخيه أي جيفة أخيه
ثم قال تعالى قَالَ يَاءادَمُ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَاذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءة َ أَخِى فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ وفيه مسائل
المسألة الأولى لا شك أن قوله يا ويلتى كلمة تحسر وتلهف وفي الآية احتمالان الأول أنه ما كان يعلم كيف يدفن المقتول فلما تعلم ذلك من الغراب علم أن الغراب أكثر علماً منه وعلم أنه إنما أقدم على قتل أخيه بسبب جهله وقلة معرفته فندم وتلهف وتحسر على فعله الثاني أنه كان عالماً بكيفية دفنه فإنه يبعد في الإنسان أن لا يهتدي إلى هذا القدر من العلمل إلا أنه لما قتله تركه بالعراء استخفافاً به ولما رأى الغراب يدفن الغراب الآخر رق قلبه وقال إن الغراب جاء وكان يحثي التراب على المقتول فلما رأى أن الله أكرمه حال حياته بقبول قربانه وأكرمه بعد مماته بأن بعث هذا الغراب ليدفنه تحت الأرض علم أنه عظيم الدرجة عند الله فتلهف على فعله وعلم أنه لا قدرة له على التقرب إلى أخيه إلا بأن يدفنه في الأرض فلا جرم قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب
المسألة الثانية قوله يا ويلتى اعتراف على نفسه باستحقاق العذاب وهي كلمة تستعمل عند وقوع الداهية العظيمة ولفظها لفظ النداء وكأن الويل غير حاضر له فناداه ليحضره أي أيها الويل احضر فهذا أوان حضورك وذكر يا زيادة بيان كما في قوله يا ويلتى أأكد ( هود 72 ) والله أعلم
المسألة الثالثة لفظ الندم وضع للزوم ومنه سمي النديم نديماً لأنه يلازم المجلس وفيه سؤال

وهو أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( الندم توبة ) فلما كان من النادمين كان من التائبين فلم لم تقبل توبته
أجابوا عنه من وجوه أحدها أنه لما لم يعلم الدفن إلا من الغراب صار من النادمين على حمله على ظهره سنة والثاني أنه صار من النادمين على قتل أخيه لأنه لم ينتفع بقتله وسخط عليه بسببه أبوه وإخوته فكان ندمه لأجل هذه الأسباب لا لكونه معصية والثالث أن ندمه كان لأجل أنه تركه بالعراء استخفافاً به بعد قتله فلما رأى أن الغراب لما قتل الغراب دفنه ندم على قساوة قلبه وقال هذا أخي وشقيقي ولحمه مختلط بلحمي ودمه مختلط بدمي فإذا ظهرت الشفقة من الغراب على الغراب ولم تظهر مني على أخي كنت دون الغراب في الرحمة والأخلاق الحميدة فكان ندمه لهذه الأسباب لا لأجد الخوف من الله تعالى فلا جرم لم ينفعه ذلك الندم ثم قال تعالى
مِنْ أَجْلِ ذالِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِى إِسْرَاءِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى الأرض فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالّبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ بَعْدَ ذالِكَ فِى الأرض لَمُسْرِفُونَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ مِنْ أَجْلِ ذالِكَ أي بسبب فعلته
فإن قيل عليه سؤالان الأول ى ن قوله مِنْ أَجْلِ ذالِكَ أي من أجل ما مرّ من قصة قابيل وهابيل كتبنا على بني إسرائيل القصاص وذاك مشكل فإنه لا مناسبة بين واقعة قابيل وهابيل وبين وجوب القصاص على بني إسرائيل الثاني أن وجوب القصاص حكم ثابت في جميع الأمم فما فائدة تخصيصه ببني إسرائيل
والجواب عن الأول من وجهين أحدهما قال الحسن هذا القتل إنما وقع في بني إسرائيل لا بين ولدي آدم من صلبه وقد ذكرنا هذه المسألة فيما تقدم والثاني أنا نسلم أن هذا القتل وقع بين ولدي آدم من صلبه ولكن قوله مِنْ أَجْلِ ذالِكَ ليس إشارة إلى قصة قابيل وهابيل بل هو إشارة إلى ما مر ذكره في هذه القصة من أنواع المفاسد الحاصلة بسبب القتل الحرام منها قوله فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( المائدة 30 ) ومنها قوله فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ( المائدة 31 ) فقوله فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ إشارة إلى أنه حصلت له خسارة الدين والدنيا وقوله فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ إشارة إلى أنه حصل من قلبه أنواع الندم والحسرة والحزن مع أنه لا دفع له ألبتة فقوله مِنْ أَجِدُ ذالِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِى إِسْراءيلَ أي من أجد ذلك الذي ذكرنا في أثناء القصة من أنواع المفاسد المتولدة من القتل العمد العدوان شرعنا القصاص من حق القاتل وهذا جواب حسن والله أعلم
وأما السؤال الثاني والجواب عنه أن وجوب القصاص في حق القاتل وإن كان عاماً في جميع لأديان والملل إلا أن التشديد المذكور ههنا في حق بني إسرائيل غير ثابت في جميع الأديان لأنه تعالى حكم ههنا

بأن قتل النفس الواحدة جار مجرى قتل جميع الناس ولا شك في أن المقصود منه المبالغة في شرح عقاب القتل العمد العدوان والمقصود من شرح هذه المبالغة أن اليهود مع علمهم بهذه المبالغة العظيمة أقدموا على قتل الأنبياء والرسل وذلك يدل على غاية قساوة قلوبهم ونهاية بعدهم عن طاعة الله تعالى ولما كان الغرض من ذكر هذه القصص تسلية الرسول عليه الصلاة والسلام في الواقعة التي ذكرنا أنهم عزموا على الفتك برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وبأكابر أصحابه كان تخصيص بني إسرائيل في هذه القصة بهذه المبالغة العظيمة مناسباً للكلام ومؤكداً للمقصود
المسألة الثانية قرىء ( من أجل ذلك ) بحذف الهمزة وفتح النوق لالقاء حركتها عليها وقرأ أبو جعفر ( من أجل ذلك ) بكسر الهمزة وهي لغة فإذا خفف كسر النون ملقياً لكسر الهمزة عليها
المسألة الثالثة قال القائلون بالقياس دلت الآية على أن أحكام الله تعالى قد تكون معللة بالعلل وذلك لأنه تعالى قال مِنْ أَجْلِ ذالِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِى إِسْراءيلَ كذا وكذا وهذا تصريح بأن كتبة تلك الأحكام معللة بتلك المعاني المشار إليها بقوله مِنْ أَجْلِ ذالِكَ والمعزلة أيضاً قالوا دلت هذه الآية على أن أحكام الله تعالى معللة بمصالح العباد ومتى ثبت ذلك امتنع كونه تعالى خالقاً للكفر والقبائح فيهم مريداً وقوعها منهم لأن خلق القبائح وإرادتها تمنع من كونه تعالى مراعياً للمصالح وذلك يبطل التعليل المذكور في هذه الآية
قال أصحابنا القول بتعليل أحكام الله تعالى محال لوجوه أحدها أن العلة إن كانت قديمة لزم قدم المعلول وإن كانت محدثة وجب تعليلها بعلة أخرى ولزم التسلسل وثانيها لو كان معللاً بعلة فوجود تلك العلة وعدمها بالنسبة إلى الله تعالى إن كان على السوية امتنع كونه علة وإن لم يكن على السوية فأحدهما به أولى وذلك يقتضي كونه مستفيداً تلك الأولوية من ذلك الفعل فيكون ناقصاً لذاته مستكملاً بغيره وهو محال وثالثها أنه قد ثبت توقف الفعل على الوداعي ويمتنع وقوع التسلسل في الدواعي بل يجب انتهاؤها إلى الداعية الأولى التي حدثت في العبد لا من العبد بل من الله وثبت أن عند حدوث الداعية يجب الفعل وعلى هذا التقدير فالكل من الله وهذا يمنع من تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه فثبت أن ظاهر هذه الآية من المتشابهات لا من المحاكمات والذي يؤكد ذلك قوله تعالى قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِى الاْرْضِ جَمِيعاً ( المائدة 17 ) وذلك نص صريح في أنه يحسن من الله كل شيء ولا يتوقف خلقه وحكمه على رعاية المصالح
المسألة الرابعة قوله أَوْ فَسَادٍ فِى الاْرْضِ قال الزجاج إنه معطوف على قوله نَفْسٌ والتقدير من قتل نفساً بغير نفس أو بغير فساد في الأرض وإنما قال تعالى ذلك لأن القتل يحل لأسباب كثيرة منها القصاص وهو المراد بقوله مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى الاْرْضِ ومنها الكفر مع الحراب ومنها الكفر بعد الإيمان ومنها قطع الطريق وهو المراد بقوله تعالى بعد هذه الآية إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ( المائدة 33 ) فجمع تعالى كل هذه الوجوه في قوله أَوْ فَسَادٍ فِى الاْرْضِ
المسألة الخامسة قوله فكأنما قتل الناس جميعاً وفيه إشكال وهو أن قتل النفس الواحدة كيف يكون مساوياً لقتل جميع الناس فإن من الممتنع أن يكون الجزء مساوياً للكل وذكر المفسرون بسبب هذا

السؤال وجوهاً من الجواب وهي بأسرها مبنية على مقدمة واحدة وهي أن تشبيه أحد الشيئين بالآخر لا يقتضي الحكم بمشابهتهما من كل الوجوه لأن قولنا هذا يشبه ذاك أعم من قولنا ءنه يشبهه من كل الوجوه أو من بعض الوجوه وإذا ظهرت صحة هذه المقدمة فنقول الجواب من وجوه الأول المقصود من تشبيه قتل النفس الواحدة بقتل النفوس المبالغة في تعظيم أمر القتل العمد العدوان وتفخيم شأنه يعني كما أن قتل كل الخلق أمر مستعظم عند كل أحد فكذلك يجب أن يكون قتل الإنسان الواحد مستعظماً مهيباً فالمقصود مشاركتهما في الاستعظام لا بيان مشاركتهما في مقدار الاستعظام وكيف لا يكون مستعظماً وقد قال تعالى وفيه إشكال وهو أن قتل النفس الواحدة كيف يكون مساوياً لقتل جميع الناس فإن من الممتنع أن يكون الجزء مساوياً للكل وذكر المفسرون بسبب هذا السؤال وجوهاً من الجواب وهي بأسرها مبنية على مقدمة واحدة وهي أن تشبيه أحد الشيئين بالآخر لا يقتضي الحكم بمشابهتهما من كل الوجوه لأن قولنا هذا يشبه ذاك أعم من قولنا ءنه يشبهه من كل الوجوه أو من بعض الوجوه وإذا ظهرت صحة هذه المقدمة فنقول الجواب من وجوه الأول المقصود من تشبيه قتل النفس الواحدة بقتل النفوس المبالغة في تعظيم أمر القتل العمد العدوان وتفخيم شأنه يعني كما أن قتل كل الخلق أمر مستعظم عند كل أحد فكذلك يجب أن يكون قتل الإنسان الواحد مستعظماً مهيباً فالمقصود مشاركتهما في الاستعظام لا بيان مشاركتهما في مقدار الاستعظام وكيف لا يكون مستعظماً وقد قال تعالى وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً ( النساء 93 )
الوجه الثاني في الجواب هو أن جميع الناس لو علموا من إنسان واحد أنه يقصد قتلهم بأجمعهم فلا شك أنهم يدفعونه دفعاً لا يمكنه تحصيل مقصوده فكذلك إذا علموا منه أنه يقصد قتل إنسان واحد معين يجب أن يكون جدهم واجتهادهم في منعه عن قتل ذلك الإنسان مثل جدهم واجتهادهم في الصورة الأولى
الوجه الثالث في الجواب وهو أنه لما أقدم على القتل العمد العدوان فقد رجّح داعية الشهوة والغضب على داعية الطاعة ومتى كان الأمر كذلك كان هذا الترجيح حاصلاً بالنسبة إلى كل واحد فكان في قلبه أن كل أحد نازعه في شيء من مطالبه فإنه لو قدر عليه لقتله ونيّة المؤمن في الخيرات خير من عمله فكذلك نيّة المؤمن في الشرور شر من عمله فيصير المعنى ومن يقتل إنساناً قتلاً عمداً عدواناً فكأنما قتل جميع الناس وهذه الأجوبة الثلاثة حسنة المسألة السادسة قوله وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً المراد من إحياء النفس تخليصها عن المهلكات مثل الحرق والغرق والجوع المفرط والبرد والحر المفرطين والكلام في أن إحياء النفس الواحدة مثل إحياء النفوس على قياس ما قررناه في أن قتل النفس الواحدة مثل قتل النفوس
ثم قال تعالى وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالّبَيّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مّنْهُمْ بَعْدَ ذالِكَ فِى الاْرْضِ لَمُسْرِفُونَ
والمعنى أن كثيراً من اليهود بعد ذلك أي بعد مجيء الرسل وبعد ما كتبنا عليهم تحريم القتل لمسرفون يعني في التقل لا يبالون بعظمته
إِنَّمَا جَزَآءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الأرض فَسَاداً أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض ذالِكَ لَهُمْ خِزْى ٌ فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى الاٌّ خِرَة ِ عَذَابٌ عَظِيمٌ
اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية الأولى تغليظ الإثم في قتل النفس بغير قتل نفس ولا فساد في الأرض أتبعه ببيان أن الفساد في الأرض الذي يوجب القتل ما هو فإن بعض ما يكون فساداً في الأرض لا يوجب قتل فقال إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وفي الآية مسائل

المسألة الأولى في أول الآية سؤال وهو أن المحاربة مع الله تعالى غير ممكنة فيجب حمله على المحاربة مع أولياء الله والمحاربة مع الرسل ممكنة فلفظة المحاربة إذا نسبت إلى الله تعالى كان مجازاً لأن المراد منه المحاربة مع أولياء الله وإذا نسبت إلى الرسول كانت حقيقة فلفظ يحاربون في قوله إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يلزم أن يكون محمولاً على المجاز والحقيقة معاً وذلك ممتنع فهذا تقرير السؤال
وجوابه من وجهين الأول أنا نحمل المحاربة على المخالفة الأمر والتكليف والتقدير إنما جزاء الذين يخالفون أحكام الله وأحكام رسوله ويسعون في الأرض فساداً كذا وكذا والثاني تقدير الكلام إنما جزاء الذين يحاربون أولياء الله تعالى وأولياء رسوله كذا وكذا وفي الخبر أن الله تعالى قال ( من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة )
المسألة الثانية من الناس من قال هذا الوعيد مختص بالكفار ومنهم من قال إنه في فساق المؤمنين أما الأولون فقد ذكروا وجوها الأول أنها نزلت في قوم من عرينة نزلوا المدينة مظهرين للإسلام فمرضت أبدانهم واصفرت ألوانهم فبعثهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى إبل الصدقة ليشربوا من أبوالها وألبانها فيصحوا فلما وصلوا إلى ذلك الموضع وشربوا وصحوا قتلوا الرعاة وساقوا الإبل وارتدوا فبعث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في أثرهم وإمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وتركوا هناك حتى ماتوا فنزلت هذه الآية نسخاً لما فعله الرسول فصارت تلك السنة مسنوخة بهذا القرآن وعند الشافعي رحمه الله لما لم يجز نسخ السنة بالقرآن كان الناسخ لتلك السنة سنة أخرى ونزل هذا القرآن مطابقاً للسنة الناسخة والثاني أن الآية نزلت في قوم أبي برزة الأسلمي وكان قد عاهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فمر قوم من كنانة يريدون الإسلام وأبو برزة غائب فقتلوهم وأخذوا أموالهم الثالث أن هذه الآية في هؤلاء الذين حكى الله تعالى عنهم من بني إسرائيل أنهم بعد أن غلظ الله عليهم عقاب القتل العمد العدوان فهم مسرفون في القتل مفسدون في الأرض فمن أتى منهم بالقتل والفساد في الأرض فجزاؤهم كذا وكذا
والوجه الرابع أن هذه الآية نزلت في قطاع الطريق من المسلمين وهذا قول أكثر الفقهاء قالوا والذي يدل على أنه لا يجوز حمل الآية على المرتدين وجوه أحدها أن قطع المرتد لا يتوقف على المحاربة ولا على إظهار الفساد في دار الإسلام والآية تقتضي ذلك وثانيها لا يجوز الاقتصار في المرتد على قطع اليد ولا على النفي والآية تقتضي ذلك وثالثها أن الآية تقتضي سقوط الحد بالتوبة قبل القدرة وهو قوله إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ ( المائدة 34 ) والمرتد يسقط حذه بالتوبة قبل القدرة وبعدها فدل ذلك على أن الآية لا تعلق لها بالمرتدين ورابعها أن الصلب غير مشروع في حق المرتد وهو مشروع هاهنا فوجب أن لا تكون الآية مختصة بالمرتد وخامسها أن قوله الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الاْرْضِ فَسَاداً يتناول كل من كان موصوفاً بهذه الصفة سواء كان كافراً أو مسلماً أقصى ما في الباب أن يقال الآية نزلت في الكفار لكنك تعلم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب
المسألة الثالثة المحاربون المذكورون في هذه الآية هم القوم الذين يجتمعون ولهلم منعة ممن أرادهم بسبب أنهم يحمي بعضهم بعضاً ويقصدون المسلمين في أرواحهم ودمائهم وإنما اعتبرنا القوة والشوكة لأن

قاطع الطريق إنما يمتاز عن السارق بهذا القيد واتفقوا على أن هذه الحالة إذا حصلت في الصحراء كانوا قطاع الطريق فأما لو حصلت في نفس البلدة فقال الشافعي رحمه الله إنه يكون أيضاً ساعياً في الأرض بالفساد ويقام عليه هذا الحد قال وأراهم في المصر إن لم يكونوا أعظم ذنباً فلا أقل من المساواة وقال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله إذا حصل ذلك في المصر فإنه لا يقام عليه الحد وجه قول الشافعي رحمه الله النص والقياس أما النص فعموم قوله تعالى إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الاْرْضِ فَسَاداً ومعلوم أنه إذا حصل هذا المعنى في البلد كان لا محالة داخلاً تحت عموم هذا النص وأما القياس فهو أن هذا حد فلا يختلف في المصر وغير المصر كسائر الحدود وجه قول أبي حنيفة رحمه الله أن الداخل في المصر يلحقه الغوث في الغالب فلا يتمكن من المقاتلة فصار في حكم السارق
المسألة الرابعة قوله أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الاْرْضِ للعلماء في لفظ أَوْ في هذه الآية قولان الأول أنها للتخيير وهو قول ابن عباس في رواية علي بن أبي طلحة وقول الحسن وسعيد بن المسيب ومجاهد والمعنى أن الإمام إن شاء قتل وإن شاء صلب وإن شاء قطع الأيدي والأرجل وإن شاء نفى أي واحد من هذه الأقسام شاء فعل وقال ابن عباس في رواية عطاء كلمة أَوْ هاهنا ليست للتخيير بل هي لبيان أن الأحكام تختلف باختلاف الجنايات فمن اقتصر على القتل قتل ومن قتل وأخذ المال قتل وصلب ومن اقتصر على أخذ المال قطع يده ورجله من خلاف ومن أخاف السبل ولم يأخذ المال نفي من الأرض وهذا قول الأكثرين من العلماء وهو مذهب الشافعي رحمه الله والذي يدل على ضعف القول الأول وجهان الأول أنه لو كان المراد من الآية التخيير لوجب أن يمكن الإمام من الاقتصار على النفي ولما أجمعوا على أنه ليس له ذلك علمنا أنه ليس المراد من الآية التخيير والثاني أن هذا المحارب إذا لم يقتل ولم يأخذ المال فقد همّ بالمعصية ولم يفعل وذلك لا يوجب القتل كالعزم على سائر المعاصي فثبت أنه لا يجوز حمل الآية على التخيير فيجب أن يضمر في كل فعل على حدة فعلاً على حدة فصار التقدير أن يقتلوا أن قتلوا أو يصلبوا إن جمعوا بين أخذ المال والقتل أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إن اقتصروا على أخذ المال أو ينفوا ممن الأرض إن أخافوا السبل والقياس الجلي أيضاً يدل على صحة ما ذكرناه لأن القتل العمد العدوان يوجب القتل فغلظ ذلك في قاطع الطريق وصار القتل حتماً لا يجوز العفو عنه وأخذ المال يتعلق به القطع في غير قاطع الطريق فغلظ ذلك في قاطع الطريق بقطع الطرفين وإن جمعوا بين القتل وبين أخد المال جمع في حقهم بين القتل وبني الصلب لأن بقاءه مصلوباً في ممر الطريق يكون سبباً لاشتهار إيقاع هذه العقوبة فيصير ذلك زاجراً لغيره عن الاقدام على مثل هذه المعصية وأما إن اقتصر على مجرد الإخافة اقتصر الشرع منه على عقوبة خفيفة وهي النفي من الأرض
المسألة الخامسة قال أبو حنيفة رحمه الله إذا قتل وأخذ المال فالإمام مخير فيه بين ثلاثة أشياء أن يقتلهم فقط أو يقتلهم ويقطع أيديهم وأرجلهم قبل القتل أو يقتلهم ويصلبهم وعند الشافعي رحمه الله لا بدّ من الصلب وهو قول أبي يوسف رحمه الله
حجة الشافعي رحمه الله أنه تعالى نص على الصلب كما نص على القتل فلم يجز إسقاط الصلب

كما لم يجز إسقاط القتل ثم اختلفوا في كيفية الصلب فقيل يصلب حياً ثم بطنه برمح حتى يموت وقال الشافعي رحمه الله يقتل ويصلى عليه ثم يصلب
المسألة السادسة اختلفوا في تفسير النفي من الأرض قال الشافعي رحمه الله معناه إن وجد هؤلاء المحاربين قتلهم وصلبهم وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وإن لم يجدهم طلبهم أبداً حتى إذا قدر عليهم فعل بهم ما ذكرناه وبه قال أحمد وإسحاق رحمهما الله وقال أبو حنيفة رحمه الله النفي من الأرض هو الحبس وهو اختيار أكثر أهل اللغة قالوا ويدل علليه أن قوله أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الاْرْضِ إما أن يكون المراد النفي من جميع الأرض وذلك غير ممكن مع بقاء الحياة وإما أن يكون إخراجه من تلك البلدة إلى بلدة أخرى وهو أيضاً غير جائز لأن الغرض من هذا النفي دفع شره عن المسلمين فلو أخرجناه إلى بلد آخر لاستضر به من كان هناك من المسلمين وإما أن يكون المراد إخراجه إلى دار الكفر وهو أيضاً غير جائز لأن إخراج المسلم إلى دار الكفر تعريض له بالردة وهو غير جائز ولما بطل الكل لم يبق إلاّ أن يكون المراد من النفي نفيه عن جميع الأرض إلاّ مكان الحبس قالوا والمحبوس قد يسمى منفياً من الأرض لأنه لا ينتفع بشيء من طيبان الدنيا ولذاتها ولا يرى أحداً من أحبابه فصار منفياً عن جميع اللذات والشهوات والطيبات فكان كالمنفي في الحقيقة ولما حبسوا صالح بن عبد القدوس على تهمة الزندقة في حبس ضيق وطال لبثه هنالك ذكر شعراً منه قوله
خرجان عن الدنيا وعن وصل أهلها
فلسنا من الأحيا ولسنا من الموتى إذا جاءنا السجان يوماً لحاجة
عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا قال الشافعي رحمه الله هذا النفي المذكور في الآية محمول على وجهين الأول أن هؤلاء المحاربين إذا قتلوا وأخذوا المال فالإمام إن أخذهم أقام عليهم الحد وإن لم يأخذهم طلبهم أبداً فكونهم خائفين من الإمام هاربين من بلد إلى بلد هو المراد من النفي الثاني القوم الذين يحضرون الواقعة ويكثرون جمع هؤلاء المحاربين ويخيفون المسلمين ولكنهم ما قتلوا وما أخذوا المال فالإمام إن أخذهم أقام عليهم الحد وإن لم يأخذهم طلبهم أبداً فيقوم الشافعي هاهنا إن الإمام يأخذهم ويعزرهم ويحبسهم فالمراد بنفيهم عن الأرض هو هذا الحبس لا غير والله أعلم
ثم قال تعالى ذالِكَ لَهُمْ خِزْى ٌ فِى الدُّنْيَا أي فضيحة وهوان وَلَهُمْ فِى الاْخِرَة ِ عَذَابٌ عَظِيمٌ
قالت المعتزلة الآية دالة على القطع بوعيد الفساق من أهل الصلاة ودالة على أن قتلهم قد أحبط ثوابهم لأنه تعالى حكم بأن ذلك لهم خزي في الدنيا والآخرة وذلك يدل على كونهم مستحقين للذم وكونهم مستحقين للذم في الحال يمنع من بقاء استحاقهم للمدح والتعظيم لما أن ذلك جمع بين الضدين وإذا كان الأمر كذلك ثبت القول بالقطع بوعيد الفساق وثبت القول بالإحباط

والجواب لا نزاع بيننا وبينكم في أن هذا الحد إنما يكون واقعاً على جهة الخزي والاستخفاف إذا لم تحصل التوبة فأما عند حصول التوبة فإن هذا الحد لا يكون على جهة الخزي والاستخفاف بل يكون على جهة الامتحان فإذا جاز لكم أن تشترطوا هذا الحكم بعدم التوبة لدليل دل على اعتبار هذا الشرط فنحن أيضاً نشرط هذا الحكم بشرط عدم العفو وحينئذ لا يبقى الكلام إلاّ في أنه هل دلّ هذا الدليل على أنه تعالى يعفو عن الفساق أم لا وقد ذكرنا هذه المسألة بالاستقصاء في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى بَلَى مَن كَسَبَ سَيّئَة ً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( البقرة 81 ) ثم قال تعالى
إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
قال الشافعي رحمه الله تعالى لما شرح ما يجب على هؤلاء المحاربين من الحدود والعقوبات استثنى عنه ما إذا تابوا قبل القدرة عليهم وضبط هذا الكلام أن ما يتعلق من تلك الأحكام بحقوق الله تعالى فإنه يسقط بعد هذه التوبة وما يتعلق منها بحقوق الآدميين فإنه لا يسقط فهؤلاء المحاربون إن قتلوا إنساناً ثم تابوا قبل القدرة علليهم كان ولي الدم على حقه في القصاص والعفو إلا أنه يزول حتم القتل بسبب هذه التوبة وإن أخذ مالاً وجب عليه رده ولم يكن عليه قطع اليد أو الرجل وأما إذا تاب بعد القدرة فظاهر الآية أن التوبة لا تنفعه وتقام الحدود عليه قال الشافعي رحمه الله تعالى ويحتمل أن يسقط كل حد الله بالتوبة لأن ماعزاً لما رجم أظهر توبته فلما تمموا رجمه ذكروا ذلك لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال ( هلا تركتموه ) أو لفظ هذا معناه وذلك يدل على أن التوبة تسقط عن المكلف كل ما يتعلق بحق الله تعالى
يَأأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيهِ الْوَسِيلَة َ وَجَاهِدُواْ فِى سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في النظم وجهان الأول اعلم أنا قد بينا أنه تعالى لما أخبر رسوله أن قوماً من اليهود هموا أن يبسطوا أيديهم إلى الرسول وإلى إخوانه من المؤمنين وأصحابه بالغدر والمكر ومنعهم الله تعالى عن مرادهم فعند ذلك شرح للرسول شدة عيتهم على الأنبياء وكمال إصرارهم على إيذائهم وامتد الكلام إلى هذا الموضع فعند هذا رجع الكلام إلى المقصود الأول وقال رَّحِيمٌ يَئَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَة َ كأنه قيل قد عرفتم كمال جسارة اليهود على المعاصي والذنوب وبعدهم عن الطاعات التي هي الوسائل للعبد إلى الرب فكونوا يا أيها المؤمنون بالضد من ذلك وكونوا متقين عن معاصي الله متوسلين إلى الله بطاعات الله
الوجه الثاني في النظم أنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ( المائدة 18 ) أي نحن أبناء أنبياء الله فكان افتخارهم بأعمال آبائهم فقال تعالى يا أيها الذين آمنوا ليكن مفاخرتكم بأعمالكم لا بشرف آبائكم وأسلافكم فاتقوا وابتغوا إليه اللوسيلة والله أعلم

المسألة الثانية اعلم أن مجامع التكليف محصورة في نوعين لا ثالث لهما أحدهما ترك المنهيات وإليه الإشارة بقوله اتَّقُواْ اللَّهَ وثانيهما فعل المأمورات وإليه الإشارة بقوله تعالى وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَة َ ولما كان ترك المنهيات مقدماً على فعل المأمورات بالذات لا جرم قدمه تعالى عليه في الذكر وإنما قلنا إن الترك مقدم على الفعل لأن الترك عبارة عن بقاء الشيء على عدمه الأصلي والفعل هو الايقاع والتحصيل ولا شك أن عدم جميع المحدثات سابق على وجودها فكان الترك قبل الفعل لا محالة
فإن قيل ولم جعلت الوسيلة مخصوصة بالفعل مع أنا نعلم أن ترك المعاصي قد يتوسل به إلى الله تعالى
قلنا الترك إبقاء الشيء على عدمه الأصلي وذلك العدم المستمر لا يمكن التوسل به إلى شيء البتة فثبت أن الترك لا يمكن أن يكون وسيلة بل من دعاه داعي الشهورة إلى فعل قبيح ثم تركه لطلب مرضاة الله تعالى فهاهنا يحصل الوسل بذلك الامتناع إلى الله تعالى إلا أن ذلك الامتناع من باب الأفعال ولهذا قال المحققون ترك الشيء عبارة عن فعل ضده
إذا عرفت هذا فنقول إن الترك والفعل أمران معتبران في ظاهر الأفعال فالذي يجب تركه هو المحرمات والذي يجب فعله هو الواجبات ومعتبران أيضاً في الأخلاق فالذي يجب حصوله هو الأخلاق الفاضلة والذي يجب تركه هو الأخلاق الذميمة ومعتبران أيضاً في الأفكار فالذي يجب فعله هو الفتكر في الدلائل الدالة على التوحيد والنبوّة والمعاد والذي يجب تركه هو الالتفات إلى الشبهات ومعتبران أيضاً في مقام التجلي فالفعل هن الاستغراق في الله تعالى والترك هو الالتفات إلى غير الله تعالى وأهل الرياضة يسمون الفعل والترك بالتحلية والتخلية وبالمحو والصحو وبالنفي والاثبات وبالفناء والبقاء وفي جميع المقامات النفي مقدم على الاثبات ولذلك كان قولنا ( لا إل ه إلاّ الله ) النفي مقدم فيه إلى الاثبات
المسألة الثالثة الوسيلة فعلية من وسل إليه إذا تقرب إليه قال لبيد الشاعر
أرى الناس لا يدرون ما قدر أمرهم
ألاكل ذي لب إلى الله واسل أي متوسل فالوسيلة هي التي يتوسل بها إلى المقصود قالت التعليمية دلت الآية على أنه لا سبيل إلى الله تعالى إلا بمعلم يعلمنا معرفته ومرشد يرشدنا إلى العلم به وذلك لأنه أمر بطلب الوسيلة إليه مطلقاً والإيمان به من أعظم المطالب وأشرف المقاصد فلا بدّ فيه من الوسيلة
وجوابنا أنه تعالى إنما أمر بابتغاء الوسيلة إليه بعد الإيمان به والإيمان به عبارة عن المعرفة به فكان هذا أمراً بابتغاء الوسيلة إليه بعد الإيمان وبعد معرفته فيمتنع أن يكون هذا أمراً بطلب الوسيلة إليه في معرفته فكان المراد طلب الوسيلة إليه في تحصيل مرضاته وذلك بالعبادات والطاعات
ثم قال تعالى وَجَاهِدُواْ فِى سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ واعلم أنه تعالى لما أمر بترك ما لا ينبغي بقوله اتَّقُواْ اللَّهَ وبفعل ما ينبغي بقوله وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَة َ وكل واحد منهما شاق ثقيل على النفس والشهوة فإن النفس لا تدعو إلا إلى الدنيا واللذات المحسوسة والعقل لا يدعو إلا إلى خدمة الله وطاعته والاعراض عن المحصوصات وكان بين الحالتين تضاد وتناف ولذلك فإن العلماء ضربوا المثل في مظان

تطلب الدنيا والآخرة بالضرتين وبالضدين وبالمشرق والمغرب وبالليل والنهار وإذا كان كذلك كان الانقياد لقوله تهالى اتَّقُواْ اللَّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَة َ من أشق الأشياء على النفس وأشدها ثقلاً على الطبع فلهذا السبب أردف ذلك التكليف بقوله وَجَاهِدُواْ فِى سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وهذه الآية آية شريفة مشتملة على أسرار روحانية ونحن نشير هاهنا إلى واحد منها وهو أن من يعبد الله تعالى فريقان منهم من يعبد الله لا لغرض سوى الله ومنهم من يعبده لغرض آخر
والمقام الأول هو المقام الشريف العالي وإليه الإشارة بقوله وَجَاهِدُواْ فِى سَبِيلِهِ أي من سبيل عبوديته وطريق الاخلاص في معرفته وخدمته
والمقام الثاني دون الأول وإليه الإشارة بقوله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ والفلاح اسم جامع للخلاص عن المكروه والفوز بالمحبوب
واعلم أنه تعالى لما أرشد المؤمنين في هذه الآية إلى معاقد جميع الخيرات ومفاته كل السعادات أتبعه بشرح حال الكفار وبوصف عاقبة من لم يعرف حياة ولا سعادة إلا في هذه الدار وذكر من جملة تلك الأمور الفظيعة نوعين
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِى الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَة ِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ
أحدهما قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَة ِ مَا وفيه مسائل
فإن قيل لم وحد الراجع في قوله لِيَفْتَدُواْ بِهِ مع أن المذكور السابق بيان ما في الأرض جميعاً ومثله
قلنا التقدير كأنه قيل ليفتدوا بذلك المذكور
المسألة الثانية قوله وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ يحتمل أن يكون في موضع الحال ويحتمل أن يكون عطفاً على الخبر
المسألة الثالثة المقصود من هذا الكلام التمثيل للزوم العذاب لهم فإنه لا سبيل لهم إلى الخلاص منه وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( يقال للكافر يوم القيامة أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت تفتدي به فيقول نعم فيقال له قد سئلت أيسر من ذلك فأبيت )

النوع الثاني من الوعيد المذكور في هذه الآية
قوله يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ وفيه مسألتان
المسألة الأولى إرادتهم الخروج تحتمل وجهين الأول أنهم قصدوا ذلك وطلبوا المخرج منها كما قال تعالى كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَا أُعِيدُواْ فِيهَا ( السجدة 2 )
قيل إذا رفعهم لهب النار إلى فوق فهناك يتمنون الخروج وقيل يكادون يخرجون من النار لقوة النار ودفعها للمعذبين والثاني أنهم تمنوا ذلك وأرادوه بقلوبهم كقوله تعالى في موضع آخر رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا ( المؤمنون 107 ) ويؤكد هذا الوجه قراءة من قرأ يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ بضم الياء
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذا الآية على أنه تعالى يخرج من النار من قال ( لا إله إلا الله ) على سبيل الإخلاص قالوا لأنه تعالى جعل هذا المعنى من تهديدات الكفار وأنواع ما خوفهم به من الوعيد الشديد ولولا أن هذا لامعنى مختص بالكفار وإلا لم يكن لتخصيص الكفار به معنى والله أعلم ومما يؤيد هذا الذي قلناه قوله وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ وهذا يفيد الحصر فكان المعنى ولهم عذاب مقيم لا لغيرهم كما أن قوله لَكُمْ دِينَكُمْ ( المائدة 3 ) أي لكم لا لغيركم فكذا ههنا
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَة ُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
في اتصال الآية بما قبلها وجهان الأول أنه تعالى لما أوجب في الآية المتقدمة قطع الأيد والأرجل عند أخذ المال على سبيل المحاربة بيّن في هذه الآية أن أخذ المال على سبيل السرقة يوجب قطع الأيدي والأرجل أيضاً والثاني أنه لما ذكر تعظيم أمر القتل حيث قال مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى الاْرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ( المائدة 32 ) ذكر بعد هذا الجنايات التي تبيح القتل والإيلام فذكر أولاً قطع الطريق وثانياً أمر السرقة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أختلف النحويون في الرفع في قوله وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَة ُ على وجوه الأول وهو قول سيبويه والأخفش أن قوله وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَة ُ مرفوعان بالابتداء والخبر محذوف والتقدير فيما يتلى عليكم السارق والسارقة أي حكمهما كذا وكذا القول في قوله دالزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما ( النور 2 ) وفي قوله ( النور 2 ) وفي قوله وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَئَاذُوهُمَا ( النساء 16 ) وقرأ عيسى بن عمر وَالسَّارِقُ

وَالسَّارِقَة ُ بالنصب ومثله الزَّانِيَة ُ وَالزَّانِى والاختيار عند سيبويه النصب في هذا قال لأن قول القائل زيداً فاضربه أحسن من قولك زيد فاضربه وأيضاً لا يجوز أن يكون فاطعوا خبر المبتدأ لأن خبر المبتدأ لا يدخل عليه الفاء
والقول الثاني وهو اختيار الفراء أن الرفع أولى من النصب لأن الألف واللام في قوله مُّقِيمٌ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَة ُ يقومان مقام ( الذي ) فصار التقدير الذي سرق قاقطعوا يده وعلى هذا التقدير حسن إدخال حرف الفاء على الخبر لأنه صار جزاء وأيضاً النصب إنما يحسن إذا أردت سارقاً بعينه أو سارقة بعينها فأما إذا أردت توجيه هذا الجزاء على كل من أتى بهذا الفعل فالرفع أولى وهذا القول اختاره الزجاج وهو المعتمد
ومما يدل على أن المراد من الآية الشرط والجزاء وجوه الأول أن الله تعالى صرّح بذلك وهو قوله جَزَاء بِمَا كَسَبَا وهذا دليل على أن القطع شرع جزاء على فعل السرقة فوجب أن يعم الجزاء لعموم الشرط والثاني أن السرقة جناية والقطع عقوبة وربط العقوبة بالجناية مناسب وذكر الحكم عقيب الوصف المناسب يدل على أن الوصف علة لذلك الحكم والثالث أنا لو حملنا الآية على هذا الوجه كانت الآية مفيدة ولو حملناها على سارق معين صارت مجملة غير مفيدة فكان الأول أولى
وأما القول الذي ذهب إليه سيبويه فليس بشيء ويدل عليه وجوه الأول أنه طعن في القررن المنقول بالتواتر عن الرسول عليه الصلاة والسلام وعن جميع الأمة وذلك باطل قطعاً فإن قال لا أقول إن القراءة بالرفع غير جائزة ولكني أقول القراءة بالنصب أولى فنقول وهذا أيضاً رديء لأن ترجيح القراءة التي لم يقرأ بها عيسى بن عمر على قراءة الرسول وجميع الأمة في عهد الصحابة والتابعين أمر منكر وكلام مردود والثاني أن القراءة بالنصب لو كانت أولى لوجب أن يكون في القراء من قرأ ( واللذين يأتيانها منكم ) بالنصب ولما لم يوجد في القراء أحد قرأ كذلك علمنا سقوط هذا القول
الوجه الثالث أنا إذا قلنا وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَة ُ مبتدأ وخبره هو الذي نضمره وهو قولنا فيما يتلى عليكم فحينئذٍ قد تمت هذه الجملة بمتداها وخبرها فبأي شيء تتعلق الفاء في قوله فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا فإن قال الفاء تتعلق بالفعل الذي دلّ عليه قوله وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَة ُ يعني أنه إذا أتى بالسرقة فاقطعوا يديه فنقول إذا احتجت في آخر الأمر إلى أن تقول السارق والسارقة تقديره من سرق فاذكر هذا أولاً حتى لا تحتاج إلى الإضمار الذي ذكرته والرابع أنا إذا اخترنا القراءة بالنصب لم يدل ذلك على كون السرقة علة لوجوب القطع وإذا اخترنا القراءة بالرفع أفادت الآية هذا المعنى ثم هذا المعنى متأكد بقوله جَزَاء بِمَا كَسَبَا فثبت أن القراءة بالرفع أولى الخامس أن سيبويه قال هم يقدمون الأهم فالأهم والذي هم بشأنه أعنى فالقراءة بالرفع تقتضي تقديم ذكر كونه سارقاً على ذكر وجوب القطع وهذا يقتضي أن يكون أكبر العناية مصروفاً إلى شرح ما يتلعق بحال السارق من حيث إنه سارق وأما القراءة بالنصب فإنها تقتضي أن تكون العناية ببيان القطع أتم من العناية بكونه سارقاً ومعلوم أنه ليس كذلك فءن المقصود في هذه الآية بيان تقبيح السرقة والمبالغة في الزجر عنها فثبت أن القراءة بالرفع هي المتعينة قطعاً والله أعلم
المسألة الثانية قال كثير من المفسرين الأصوليين هذه الآية مجملة من وجوه أحدها أن الحكم

معلق على السرقة ومطلق السرقة غير موجب للقطع بل لا بدّ وأن تكون هذه السرقة سرقة لمقدار مخصوص من المال وذلك القدر غير مذكور في الآية فكانت مجملة وثانيها أنه تعالى أوجب قطع الأيدي وليس فيه بيان أن الواجب قطع الأيدي الأيمان والشمائل وبالاجماع لا يجب قطعهما معاً فكانت الآية مجملة وثالثها أن اليد اسم يتناول الأصابع فقط ألا ترى أنه لو حلف لا يمس فلاناً بيده فمسه بأصابعه فإنه يحنث في يمينه فاليد اسم يقع على الأصابع وحدها ويقع على الأصابع مع الكف ويقع على الأصابع والكف والسعدين إلى المرفقين ويقع على كل ذلك إلى المنكبين وإذا كان لفظ اليد محتملاً لكل هذه الأقسام والعيين غير مذكور في هذه الآية فكانت مجملة ورابعها أن قوله فَاقْطَعُواْ خطاب مع قوم فيحتمل أن يكون هذا التكليف واقعاً على مجموع الأمة وأن يكون واقعاً على طائفة مخصوصة منهم وأن يكون واقعاً على شخص معين منهم وهو إمام الزمان كما يذهب إليه الأكثرون ولما لم يكن التعيين مذكوراً في الآية كانت الآية مجملة فثبت بهذه الوجوه أن هذه الآية مجملة على الإطلاق هذا تقرير هذا المذهب
وقال قوم من المحققين الآية ليست مجملة ألبتة وذلك لأنا بينا أن الألف واللام في قوله وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَة ُ قائمام مقام ( الذي ) والفاء في قوله فَاقْطَعُواْ للجزاء فكان التقدير الذي سرق فاقطعوا يده ثم تأكد هذا بقوله تعالى جَزَاء بِمَا كَسَبَا وذلك الكسب لا بدّ وأن يكون المراد به ما تقدم ذكره وهو السرقة فصار هذا دليلاً على أن مناط الحكم ومتعلقه هو ماهية السرقة ومقتضاه أن يعم الجزاء فيما حصل هذا الشرط اللهم إلا إذا قام دليل منفصل يقتضي تخصيص هذا العام وءما قوله ( الأيدي ) عامة فنقول مقتضاه قطع الأيدي لكنه لما انعقد الاجماع على أنه لا يجب قطعهما معاً ولا الاتبداء باليد اليسرى أخرجناه عن العموم
وأما قوله لفظ اليد دائر بين أشياء فنقول لا نسلم بل اليد اسم لهذا العضو إلى المنكب ولهذا السبب قال تعالى فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ ( المائدة 6 ) فلولا دخول العضدين في هذا الاسم وإلا لما احتيج إلى التقيد بقوله إِلَى الْمَرَافِقِ فظاهر الآية يوجب قطع اليدين من المنكبين كما هو قول الخوارج إلا أنا تركنا ذلك لدليل منفصل
وأما قوله رابعا يحتمل أن يكون الخطاب مع كل واحد وأن يكون مع واحد معين
قلنا ظاهره أنه خطاب مع كل أحد ترك العمل به فيما صار مخصوصاً بدليل منفصل فيبقى معمولاً به في الباقي
والحاصل أنا نقول الآية عامة فصارت مخصوصة بدلائل منفصلة في بعض الصور فتبقى حجة فيما عداها ومعلوم أن هذا القول أولى من قول من قال إنها مجملة فلا تفيد فائدة أصلاً
المسألة الثالثة قال جمهور الفقهاء القطع لا يجب إلا عند شرطين قدر النصاب وأن تكون السرقة من الحرز وقال ابن عباس وابن الزبير والحسن البصري القدر غير معتبر فالقطع واجب في سرقة القليل والكثير والحرز أيضاً غير معتبر وهو قول داود الأصفهاني وقول الخوارج وتمسكوا في المسألة بعموم الآية كما قررناه فإن قوله وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَة ُ يتناول السرقة سواء كانت قليلة أو كثيرة وسواء سرقت من

الحرز أو من غير الحرز
إذا ثبت هذا فنقول لو ذهبنا إلى التخصيص لكان ذلك إما بخبر الواحد أو بالقياس وتخصيص عموم القرآن بخبر الواحد وبالقياس غير جائز وحجة جمهور الفقهاء أنه لا حاجة بنا إلى القول بالتخصيص بل نقول إن لفظ السرقة لفظة عربية ونحن بالضرورة نعلم أن أهل اللغة لا يقولون لمن أخذ حبة من حنطة الغير أو تبنة واحدة أو كسرة صغيرة من خبز إنه سرق ماله فعلمنا أن أخذ مال الغير كيفما كان لا يسمى سرقة وأيضاً السرقة مشتقة من مسارقة عين المالك وإنما يحتاج إلى مسارقة عين المالك لو كان المسروق أمراً يكون متعلق الرغبة في محل الشح والضنة حتى يرغب السارق في أخذه ويتضايق المسروق منه في دفعه إلى الغير ولهذا الطريق اعتبرنا في وجوب القطع أخذ المال من حرز المثل لأن ما لا يكون موضوعاً في الحرز لا يحتاج في أخذه إلى مسارقة الأعين فلا يسمى أخذه سرقة وقال داود نحن لا نوجب القطع في سرقة الحبة الواحدة ولا في سرقة التبنة الواحدة بل في أقل شيء يجري فيه الشح والضنة وذلك مقادير القلة والكثرة غير مضبوطة فربما استحقر الملك الكبير لآلافاً مؤلفة وربما استعظم الفقير طسوجاً ولهذا قال الشافعي رحمه الله لو قال لفلان على مال عظيم ثم فسر بالحبة يقبل قوله فيه لاحتمال أنه كان عظيماً عنده لغاية فقره وشدة احتياجه إليه ولما كانت مقادير القلة والكثرة غير مضبوطة وجب بناء الحكم على أقل ما يسمى مالاً وليس لقائل أن يستبعد ويقول كيد يجوز قطع اليد في سرقة الطسوجة الواحدة لأن الملحدة قد جعلوا هذا طعناً في الشريعة فقالوا اليد لما كانت قيمتها خمسمائة دينار من الذهب فكيف تقطع لأجل القليل من المال ثم إنا أجبنا عن هذا الطعن بأن الشرع إنما قطع يده بسبب أنه تحمل الدناءة والخساسة في سرقة ذلك القدر القليل فلا يبعد أن يعاقبه الشرع بسبب تلك الدناءة بهذه العقوبة العظيمة وإذا كان هذا الجواب مقبولاً من الكل فليكن أيضاً مقبولاً منا في إيجاب القطع في القليل والكثير قال ومما يدل على أنه لا يجوز تخصيص عموم القرآن ههنا بخبر الواحد وذلك لأن القائلين بتخصيص هذا العموم اختلفوا على وجوه فقال الشافعي رحمه لله يجب القطع في ربع دينار وروي فيه قوله عليه الصلاة والسلام ( لا قطع إلا ربع دينار ) وقال أو حنيفة رحمه الله لا يجوز القطع إلا في عشرة دراهم مضروبة وروي فيه قوله عليه الصلاة والسلام ( لا قطع إلا في ثمن المجن ) والظاهر أن ثمن المجن لا يكون أقل من عشرة دراهم وقال مالك وأحمد وإسحاق إنه مقدر بثلاثة دراهم أو ربع دينار وقال ابن أبي ليلى مقدر بخمسة دراهم وكل واحد من هؤلاء المجتهدين يطعن في الخبر الذي يرويه الآخر وعلى هذا التقدير فهذه المخصصات صارت متعارضة فوجب أن لا يلتفت إلى شيء منها ويرجع في معرفة حكم الله تعالى إلى ظاهر القرآن قال وليس لأحد أن يقول إن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على أنه لا يجب القطع إلا في مقدار معين قال لأن الحسن البصري كان يوجب القطع بمطلق السرقة وكان يقول احذر من قطع يدك بدرهم ولو كان الاجماع منعقداً لما خالف الحسن البصري فيه مع قربه من زمان الصحابة وشدة احتياطه فيما يتعلق بالدين فهذا تقرير مذهب الحسن البصري وداود الأصفهاني
وأما الفقهاء فإنهم اتفقوا على أنه لا بدّ في وجوب القطع من القدر ثم قال الشافعي رحمه الله القطع في ربع دينار فصاعداً وهو نصاب السرقة وسائر الأشياء تقوم به وقال أبو حنيفة والثوري لا يجب القطع

في أقل من عشرة دارهم مضروبة ويقوم غيرها بها وقال مالك رحمه الله ربع دينار أو ثلاثة دراهم وقال ابن أبي ليلى خمسة دراهم
حجة الشافعي رحمه الله أن ظاهر قوله وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَة ُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا يوجب القطع في القليل والكثير إلا أن الفقهاء توافقوا فيما بينهم على أنه لا يجب القطع فيما دون ربع دينار فوجب أن يبقى في ربع دينار فصاعداً على ظاهر النص ثم أكد هذ بما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال ( لا قطع إلا في ربع دينار )
وأما الذي تمسك به أبو حنيفة رحمه الله من قوله عليه الصلاة والسلام ( لا قطع إلا في ثمن المجن ) فهو ضعيف لوجهين الأول أن ثمن المجن مجهول فتخصيص عموم القرآن بخبر واحد مجمل مجهول المعنى لا يجوز الثاني أنه إن كان ثمن المجن مقدراً بعشرة دراهم كان التخصيص الحاصل بسببه في عموم قوله تعالى وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَة ُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا أكثر من التخصيص الحاصل في عموم هذه الآية بقوله عليه الصلاة والسلام ( لا قطع إلا في ربع دينار ) فكان الترجيح لهذا الجانب
المسألة الرابعة قال الشافعي رحمه الله الرجل إذا سرق أولاً قطعت يده اليمنى وفي الثانية رجله اليسرى وفي الثالثة يده اليسرى وفي الرابعة رجله اليمنى وقال أبو حنيفة والثوري لا يقطع في المرة الثالثة والرابعة
واحتج الشافعي رحمه الله بهذه الآية من وجيهن الأول أن السرقة علة لوجوب القطع وقد وجدت في المرة الثالثة فوجب القطع في المرة الثالثة أيضاً إنما قلنا إن السرقة علة لوجوب القطع لقوله وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَة ُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا وقد بيّنا أن المعنى الذي سرق فاقطعوا يده وأيضاً الفاء في قوله فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا يدل على أن القطع وجب جزاء على تلك السرقة فالسرقة علة لوجوب القطع ولا شك أن السرقة حصلت في المرة الثالثة فما هو الموجب للقطع حاصل في المرة الثالثة فلا بدّ وأن يترتب عليه موجبه ولا يجوز أن يكون موجبه هو القطع في المرة الأولى لأن الحكم لا يسبق العلة وذلك لأن القطع وجب بالسرقة الأولى فلم يبق إلا أن تكون السرقة في المرة الثالثة توجب قطعاً آخر وهو المطلوب والثاني أنه تعالى قال فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا ولفظ الأيدي لفظ جمع وأقله ثلاثة والظاهر يقتضي وجوب قطع ثلاثة من الأيدي في السارق والسارقة ترك العمل به ابتداء فيبقى معمولاً به عند السرقة الثالثة
فإن قالوا إن ابن مسعود قرأ فاقطعوا أيمانهما فكان هذا الحكم مختصاً باليمين لا في مطلق الأيدي والقراءة الشاذة جارية مجرى خبر الواحد
قلنا القراءة الشاذة لا تبطل لقراءة المتواترة فنحن نتمسك بالقراءة المتواترة في إثبات مذهبنا وأيضاً القراءة الشذة ليست بحجة عندنا لأنا نقطع أنها ليست قرآناً إذ لو كانت قرآناً لكانت متواترة فإنا لو جوزنا أن لا ينقل شيء من القرآن إلينا على سبيل التواتر انفتح باب طعن الروافض والملاحدة في القرآن ولعلّه كان في القررن آيات دالة على إمامة علي بن أبي طالب رضي الله عنه نصاً وما نقلت إلينا ولعلّه كان فيه آيات دالة على نسخ أكثر هذه الشرائع وما نقلت إلينا ولما كان ذلك باطلاً بأنه لو كان قرآناً لكان متواتراً فلما لم يكن متواتراً قطعنا أنه ليس بقرآن فثبت أن لاقراءة الشاذة ليست بحجة ألبتة

المسألة الخامسة قال الشافعي رحمه الله أغرم السارق ما سرق وقال أبو حنيفة والثوري وأحمد وإسحاق لا يجمع بين القطع والعزم فإن غرم فلا قطع وإن قطع فلا غرم وقال مالك رحمه لله يقطع بكل حال وأما الغرم فليزمه إن كان غنياً ولا يلزمه إن كان فقيراً
حجة الشافعي رحمه الله أن الآية دلت على أن السرقة توجب القطع وقوله عليه الصلاة والسلام ( على اليد ما أخذت حتى تؤديه ) يوجب الضمان وقد احتج الأمران في هذه السرقة فوجب أن يحب القطع والضمان فلو ادعى مدع أن الجمع ممتنع كان ذلك معارضة وعليه الدليل على أنا نقول ءن حد الله لا يمنع حق العباد بدليل أنه يجتمع الجزاء والقيمة في الصيد المملوك وبدليل أنه لو كان المسروق باقياً وجب رده بالإجماع ويدل عليه أيضاً أن المسروق كان باقياً على ملك المالك إلى وقت قطع يد السارق بالاتفاق فعند حصول القطع إما أن يحصل الملك فيه مقتصراً على وقت القطع أو مسنداً إلى أول زمان السرقة والأول لا يقول به الخصم والثاني يقتضي أن يقال إنه حدث الملك فيه من وقت القطع في الزمان الذي كان سابقاً على ذلك الوقت وهذا يقتضي وقوع الفعل في الزمان الماضي وهذا محال
حجة أبي حنيفة رحمه الله أنه تعالى حكم بكون هذا القطع جزاء والجزاء هو الكافي فدل ذلك على أن هذا القطع كاف في جناية السرقة وإذا كان كافياً وجب أن لا يضم الغرم إليه
والجواب لو كان الأمر كما قلتم لوجب أن لا يلزم رد المسروق عند كونه قائماً والله أعلم بالصواب
المسألة السادسة قال الشافعي رحمه الله السيد يملك إقامة الحد على المماليك وقال أبو حنيفة رحمه الله لا يملك
حجة الشافعي أن قوله فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا عام في حق الكل لأن هذا الخطاب ليس فيه ما يدل على كونه مخصوصاً بالبغض دون البعض ولما عم الكل دخل فيه المولى أيضاً ترك العمل به في حق غير الإمام والمولى فوجب أن يبقى معمولاً به في حق الإمام والمولى
المسألة السابعة احتج المتكلمون بهذه الآية في أنه يجب على الأمة أن ينصبوا لأنفسهم إماماً معيناً والدليل عليه أنه تعالى أوجب بهذه الآية إقامة الحد على السراق والزناة فلا بدّ من شخص يكون مخاطباً بهذا الخطاب وأجمعت الأمة على أنه ليس لآحاد الرعية إقامة الحدود على الجناة بل أجمعوا على أنه لا يجوز إقامة الحدود على الأحرار الجناة إلا للإمام فلما كان هذا التكليف تكليفاً جازماً ولا يمكن الخروج عن عهدة هذا التكليف إلا عند وجود الإمام وما لا يتأتى الواجب إلا به وكان مقدوراً للمكلف فهو واجب فلزم القطع بوجوب نصب الإمام حينئذٍ
المسألة الثامنة قال المعتزلة قوله نَكَالاً مّنَ اللَّهِ يدل على أنه إنما أقيم عليه هذا الحد على سبيل الاستخفاف والإهانة وإذا كان الأمر كذلك لزم القطع بكونه مستحقاً للاستخفاف والذم والإهانة ومتى كان لأمر كذلك امتنع أن يقال إنه بقي مستحقاً للمدح والتعظيم لأنهما ضدان والجمع بينهما محال وذلك يدل على أن عقاب الكبير يحبط ثواب الطاعات
وأعلم أنا قد ذكرنا الدلائل الكثيرة في بطلان القول بالإحباط في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى ( دلا تبطلوا صداقاتكم بالمن والأذى ( البقرة 264 )

فلا نعيدها ههنا
ثم الجواب عن كلام المعتزلة أنا أجمعنا على أن كون الحد واقعاً على سبيل التنكيل مشروط بعدم التوبة فبتقدير أن يدل دليل على حصول العفو من الله تعالى لزم القطع بأن إقامة الحد لا تكون أيضاً على سبيل التنكيل بل تكون على سبيل الامتحان لكنا ذكرنا الدلائل الكثيرة على العفو
المسألة التاسعة قالت المعتزلة قوله ( البقرة 264 ) فلا نعيدها ههنا
ثم الجواب عن كلام المعتزلة أنا أجمعنا على أن كون الحد واقعاً على سبيل التنكيل مشروط بعدم التوبة فبتقدير أن يدل دليل على حصول العفو من الله تعالى لزم القطع بأن إقامة الحد لا تكون أيضاً على سبيل التنكيل بل تكون على سبيل الامتحان لكنا ذكرنا الدلائل الكثيرة على العفو
المسألة التاسعة قالت المعتزلة قوله جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مّنَ لِلَّهِ يدل على تعليل أحكام الله فإن الباء في قوله بِمَا كَسَبَا صريح في أن القطع إنما وجب معللاً بالسرقة
وجوابه ما ذكرناه في هذه السورة في قوله مِنْ أَجْلِ ذالِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِى إِسْراءيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ ( المائدة 32 )
المسألة العاشرة قوله جَزَاء بِمَا كَسَبَا قال الزجاج جزاء نصب لأنه مفعول له والتقدير فاقطعوهم لجزاء فعلهم وكذلك نَكَالاً مّنَ اللَّهِ فإن شئت كانا منصوبين على المصدر الذي دلّ عليه فَاقْطَعُواْ والتقدير جازوهم ونكلوا بهم جزاء بما كسبا نكالاً من الله
أما قوله وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ فالمعنى عزيز في انتقامه حكيم في شرائعه وتكاليفه قال الأصمعي كنت أقرأ سورة المائدة ومعي أعرابي فقرأت هذه الآية فقلت وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ سهواً فقال الأعرابي كلام من هذا فقلت كلام الله قال أعد فأعدت والله غفورٌ رحيم ثم تنبهت فقلت وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ فقال الآن أصبت فقلت كيف عرفت قال يا هذا عزيزٌ حكيم فأمر بالقطع فلو غفر ورحم لما أمر بالقطع فلو غفر ورحم لما أمر بالقطع ثم قال تعالى
فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى دلّت الآية على أن من تاب فإن الله يقبل توبته فإن قيل قوله وَأَصْلَحَ يدل على أن مجرّد التوبة غير مقبول
قلنا المراد من قوله وَأَصْلَحَ أي يتوب بنية صالحة صادقة وعزيمة صحيحة خالية عن سائر الأغراض
المسألة الثانية إذا تاب قبل القطع تاب الله عليه وهل يسقط عنه الحد قال بعض العلماء التابعين يسقط عنه الحد لأن ذكر الغفور الرحيم في آخر هذه الآية يدل على سقوط العقوبة عنه والعقوبة المذكورة في هذه الآية هي الحد فظاهر الآية يقتضي سقوطها وقال الجمهور لا يسقط عنه هذا الحد بل يقام عليه على سبيل الإمتحان
المسألة الثالثة دلّت الآية على أن قبول التوبة غير واجب على الله تعالى لأنه تعالى تمدح بقبول التوبة والتمدح إنما يكون بفعل التفضل والإحسان لا بأداء الواجبات ثم قال تعالى
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ والأرض يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدِيرٌ

واعلم أنه تعالى لما أوجب قطع اليد وعقاب الآخرة على السارق قبل التوبة ثم ذكر أنه يقبل توبته إن تاب أردفه ببيان أن له أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فيعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء وإنما قدم التعذيب على المغفرة لأنه في مقابلة تقدم السرقة على التوبة قال الواحدي الآية واضحة للقدرية في التعديل والتجويز وقولهم بوجوب الرحمة للمطيع ووجوب العذاب للعاصي على الله وذلك لأن الآية دالة على أن الرحمة مفوضة إلى المشيئة والوجوب ينافي ذلك
وأقول فيه وجه آخر يبطل قولهم وذلك لأنه تعالى ذكر أولاً قوله أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ثم رتب عليه قوله يُعَذّبُ مَن يَشَاء وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وهذا يدل على أنه إنما حسن منه التعذيب تارة والمغفرة أخرى لأنه مالك الخلق وربهم وإل ههم وهذا هو مذهب أصحابنا فإنهم يقولون إنه تعالى يحسن منه كل ما يشاء ويريد لأجل كونه مالكاً لجميع المحدثات والمالك له أنه يتصرف في ملكه كيف شاء وأراد أما المعتزلة فإنهم يقولون حسن هذه الأفعال من الله تعالى ليس لأجل كونه إل هاً للخلق ومالكاً لهم بل لأجل رعاية المصالح والمفاسد وذلك يبطله صريح هذه الآية كما قررناه
ياأَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِى الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا ءَامَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ ءَاخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَاذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُوْلَائِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِى الدُّنْيَا خِزْى ٌ وَلَهُمْ فِى الاٌّ خِرَة ِ عَذَابٌ عَظِيمٌ
قوله تعالى قَدِيرٌ يأَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِى الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ ءامَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ
اعمل أنه تعالى لما بيّن بعض التكاليف والشرائع وكان قد علم من بعض الناس كونهم متسارعين إلى الكفر لا جرم صبر رسوله على تحمل ذلك وأمره بأن لا يحزن لأجل ذلك فقال قَدِيرٌ يأَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِى الْكُفْرِ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى خاطب محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله يا أيها النبي في مواضع كثيرة وما خاطبه

بقوله يا أيها الرسول إلا في موضعين أحدهما ههنا والثاني قوله يَعْمَلُونَ يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ ( المائدة 67 ) وهذا الخطاب لا شك أنه خطاب تشريف وتعظيم
المسألة الثانية قرىء لاَ يَحْزُنكَ بضم الياء ويسرعون والمعنى لا تهتم ولا تبال بمسارعة المنافقين في الكفر وذلك بسبب احتيالهم في استخراج وجوه الكيد والمكر في حق المسلمين وفي مبالغتهم في موالاة المشركين فإني ناصرك عليهم وكافيك شرهم يقال أسرع فيه الشيب وأسرع فيه الفساد بمعنى وقع فيه سريعاً فكذلك مسارعتهم في الكفر عبارة عن إلقائهم أنفسهم فيه على أسرع الوجوه متى وجدوا فيه فرصة وقوله مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ ءامَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ فيه تقديم وتأخير والتقدير من الذين قالوا بأفواههم آمنا ولم تؤمن قلوبهم ولا شك أن هؤلاء هم المنافقون
ثم قال تعالى وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ ءاخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى ذكر الفرّاء والزجاج ههنا وجهين الأول أن الكلام إنما يتم عند قوله وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ ثم يبتدأ الكلام منقوله سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ ءاخَرِينَ وتقدير الكلام لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من المنافقين ومن اليهود ثم بعد ذلك وصف الكل بكونهم سماعين لقوم آخرين
الوجه الثاني أن الكلام تمّ عند قوله وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ ثم ابتدأ من قوله وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ وعلى هذا التقدير فقوله سَمَّاعُونَ صفة محذوف والتقدير ومن الذين هادوا قوم سماعون وقيل خبر مبتدأ محذوف يعني هم سماعون
المسألة الثانية ذكر الزجاج في قوله سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ وجهين الأول أن معناه قابلون للكذب والسمع يستعمل ويراد منه القبول كما يقال لا تسمع من فلان أي لا تقبل منه ومنه ( سمع الله لمن حمده ) وذلك الكذب الذي يقبلونه هو ما يقوله رؤساؤهم من الأكاذيب في دين الله تعالى في تحريف التوراة وفي الطعن في محمد ( صلى الله عليه وسلم )
والوجه الثاني أن المراد من قوله سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ نفس السماع واللام في قوله لِلْكَذِبِ لام كي أي يسمعون منك لكي يكذبوا عليك وأما قوله سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ ءاخَرِينَ فالمعنى أنهم أعين وجواسيس لقوم آخرين لم يأتوك ولم يحضروا عندك لينقلوا إليهم أخبارك فعلى هذا التقدير قوله سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أي سماعون إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لأجل أن يكذبوا عليه بأن يمزجوا ما سمعوا منه بالزيادة والنقصان والتبديل والتغيير سماعون من رسول الله لأجل قوم آخرين من اليهود وهم عيون ليبلغوهم ما سمعوا منه
ثم إنه تعالى وصف هؤلاء اليهود بصفة أخرى فقال يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَواضِعِهِ أي من بعد أن وضعه الله مواضعه أي فرض فروضه وأحل حلاله وحرّم حرامه قال المفسرون إن رجلاً وامرأة من أشراف أهل خيبر زنيا وكان حد الزنا في التوراة الرجم فكرهت اليهود رجمهما لشرفهما فأرسلوا قوماً إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ليسألوه عن حكمه في الزانيين إذا أحصنا وقالوا إن أمركم بالجلد فاقبلوا وإن أمركم بالرجم فاحذروا ولا تقبلوا فلما سألوا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) عن ذلك نزل جبريل بالرجم فأبوا أن يأخذوا به فقال له جبريل

عليه السلام اجعل بينك وبينخم ( ابن صوريا ) فقال الرسول هل تعرفون شاباً أمرد أبيض أعور يسكن فدك يقال له ابن صوريا قالوا نعم وهو أعلم يهودي على وجه الأرض فرضوا به حكماً فقال له الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ( أنشدك الله الذي لا إل ه إلا هو الذي فلق البحر لموسى ورفع فوقكم الطور وأنجاكم وأغرق آل فرعون والذي أنزل عليكم كتابه وحلاله وحرامه هل تجدون فيه الرجم على من أحصن ) قال ابن صوريا نعم فوثبت عليه سفلة اليهود فقال خفت إن كذبته أن ينزل علينا العذاب ثم سأل رسول الله عن أشياء كان يعرفها من علاماته فقال ابن صوريا أشهد أن إل ه إلا الله وأنك رسول الله النبي الأمي العربي الذي بشّر به المرسلون ثم أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالزانيين فرجما عند باب مسجده
إذا عرفت القصة فنقول قوله يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَواضِعِهِ أي وضعوا الجلد مكان الرجم
وقوله تعالى يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَاذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ أي إن أمركم محمد بالجلد فاقبلوا وإن أمركم بالرجم فلا تقبلوا
واعلم أن مذهب الشافعي رحمه الله أن الثيب الذمي يرجم قال لأنه صح عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه أمر برجمه فإن كان الأمر برجم الثيب الذمي من دين الرسول فقد ثبت المقصود وإن كان إنما أمر بذلك بناء على ما ثبت في شريعة موسى عليه السلام وجب أن يكون ذلك مشروعاً في ديننا ويدل عليه وجهان الأول أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لما أفتى على وفق شريعة التوراة في هذه المسألة كان الإقتداء به في ذلك واجباً لقوله فَاتَّبَعُوهُ ( الأعراف 58 ) والثاني أن ما كان ثابتاً في شرع موسى عليه السلام فالأصل بقاؤه إلى طريان الناسخ ولم يوجد في شرعنا ما يدل على نسخ هذا الحكم فوجب أن يكون باقياً وبهذا الطريق أجمع العلماء على أن قوله تعالى وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ( المائدة 45 ) حكمه باق في شرعنا
ولما شرح الله تعالى فضائح هؤلاء اليهود قال وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً
واعلم أن لفظ الفتنة محتمل لجميع أنواع المفاسد إلا أنه لما كان هذا اللفظ مذكوراً عقيب أنواع كفرهم التي شرحها الله تعالى وجب أن يكون المراد من هذه الفتنة تلك الكفريات التي تقدم ذكرها وعلى هذا التقدير فالمراد ومن يرد الله كفره وضلالته فلن يقدر أحد على دفع ذلك عنه
ثم أكد تعالى هذا فقال أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهّرَ قُلُوبَهُمْ
قال أصحابنا دلّت هذه الآية على أن الله تعالى غير مريد إسلام الكافر وأنه لم يطهر قلبه من الشك والشرك ولو فعل ذلك لآمن وهذه الآية من أشد الآيات على القدرية أما المعتزلة فإنهم ذكروا في تفسير الفتنة وجوهاً أحدها أن الفتنة هي العذاب قال تعالى عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ( الذاريات 13 ) أي يعذبون فالمراد ههنا أنه يريد عذابه لكفره ونفاقه وثانيها الفتنة الفضيحة يعني ومن يرد الله فضيحته الثالث فتنته إضلاله والمراد من الأضلال الحكم بضلاله وتسميته ضالاً ورابعها الفتنة الاختبار يعني من يرد الله اختباره فيما يبتليه من التكاليف ثم إنه يتركها ولا يقوم بأدائها فلن تملك له من الله ثواباً ولا نفعاً
وأما قوله أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهّرَ قُلُوبَهُمْ فذكروا فيه وجوهاً أحدها لم يرد الله أن يمد قلوبهم بالألطاف لأنه تعالى علم أنه لا فائدة في تلك الألطاف لأنها لا تنجع في قلوبهم وثانيها لم يرد الله

أن يطهر قلوبهم عن الحرج والغم والوحشة الدالة على كفرهم وثالثها أن هذا استعارة عن سقوط وقعه عند الله تعالى وأنه غير ملتفت إليه بسبب قبح أفعاله وسوء أعماله والكلام عن هذه الوجوه قد تقدم مراراً
ثم قال تعالى لَهُمْ فِى الدُّنْيَا خِزْى ٌ وخزي المنافقين هتك سترهم باطلاع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) على كذبهم وخوفهم من القتل وخزي اليهود فضيحتهم بظهور كذبهم في كتمان نص الله تعالى في إيجاب الرجم وأخذ الجزية منهم
وَلَهُمْ فِى الاْخِرَة ِ عَذَابٌ عَظِيمٌ وهو الخلود في النار
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ
ثم قال تعالى سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي السحت بضم السين والحاء حيث كان وقرأ ابن عامر ونافع وعاصم وحمزة برفع السين وسكون الحاء على لفظ المصدر من سحته ونقل صاحب ( الكشاف ) السحت بفتحتين والسحت بكسر السين وسكون الحاء وكلها لغات
المسألة الثانية ذكروا في لفظ السحت وجوهاً قال الزجاج أصله من سحته إذا استأصله قال تعالى فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ ( طه 61 ) وسميت الرشا التي كانوا يأخذونها بالسحت إما لأن الله تعالى يسحتهم بعذاب أي يستأصلهم أو لأنه مسحوت البركة قال تعالى يَمْحَقُ اللَّهُ الْرّبَوااْ ( البقرة 276 ) الثاني قال الليث إنه حرام يحصل منه العار وهذا قريب من الوجه الأول لأن مثل هذا الشيء يسحت فضيلة الإنسان ويستأصلها والثالث قال الفرّاء أصل السحت شدة الجوع يقال رجل مسحوت المعدة إذا كان أكولاً لا يلقى إلا جائعاً أبداً فالسحت حرام يحمل عليه شدة الشره كشره من كان مسحوت المعدة وهذا أيضاً قريب من الأول لأن من كان شديد الجوع شديد الشره فكأنه يستأصل كل ما يصل إليه من الطعام ويشتهيه
إذا عرفت هذا فنقول السحت الرشوة في الحكم ومهر البغي وعسب الفحل وكسب الحجام وثمن الكلب وثمن الخمر وثمن الميتة وحلوان الكاهن والاستئجار في المعصية روي ذاك عن عمر وعثمان وعلي وابن عباس وأبي هريرة ومجاهد وزاد بعضهم ونقص بعضهم وأصله يرجع إلى الحرام الخسيس الذي لا يكون فيه بركة ويكون في حصوله عار بحيث يخفيه صاحبه لا محالة ومعلوم أن أخذ الرشوة كذلك فكان سحتاً لا محالة
المسألة الثالثة في قوله سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ وجوه الأول قال الحسن كان الحاكم في بني إسرائيل إذا أتاه من كان مبطلاً في دعواه برشوة سمع كلامه ولا يلتفت إلى خصمه فكان يسمع الكذب ويأكل السحت الثاني قال بعضهم كان فقراؤهم يأخذون من أغنيائهم مالاً ليقيموا على ما هم عليه من اليهودية فالفقراء كانوا يسمعون أكاذيب الأغنياء ويأكلون السحت الذي يأخذونه منهم الثالث سماعون للأكاذيب التي كانوا ينسبونها إلى التوراة أكالون للربا لقوله تعالى وَأَخْذِهِمُ الرّبَا ( النساء 161 )
ثم قال تعالى فَانٍ جَاءوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ثم إنه تعالى خيّره بين الحكم فيهم

والاعراض عنهم واختلفوا فيه على قولين الأول أنه في أمر خاص ثم اختلف هؤلاء فقال ابن عباس والحسن ومجاهد والزهري أنه في زنا المحصن وأن حده هو الجلد والرجم الثاني أنه في قتيل قتل من اليهود في بني قريظة والنضير وكان في بني النضير شرف وكانت ديتهم دية كاملة وفي قريظة نصف دية فتحاكموا إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فجعل الدية سواء الثالث أن هذا التخيير مختص بالمعاهدين الذين لا ذمة لهم فإن شاء حكم فيهم وإن شاء أعرض عنهم
القول الثاني أن الآية عاملاة في كل من الكفار ثم اختلفوا فمنهم من قال الحكم ثابت في سائر الأحكام غير منسوخ وهو قول النخعي والشعبي وقتادة وعطاء وأبي بكر الأصم وأبي مسلم ومنهم من قال إنه منسوخ بقوله تعالى وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ( المائدة 49 ) وهو قول ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة ومذهب الشافعي أنه يجب على حاكم المسلمين أن يحكم بين أهل الذمة إذا تحاكموا إليه لأن في إمضاء حكم الإسلام عليهم صغاراً لهم فأما المعاهدون الذين لهم مع المسلمين عهد إلى مدة فليس بواجب على الحاكم أن يحكم بينهم بل يتخير في ذلك وهذا التخيير الذي في هذه الآية مخصوص بالمعاهدين
ثم قال تعالى وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً والمعنى أنهم كانوا لا يتحاكمون إليه إلا لطلب الأسهل والأخف كالجلد مكان الرجم فإذا أعرض عنهم وأبى الحكومة لهم شق عليهم إعراضه عنهم وصاروا أعداء له فبيّن تعالى أنه لا تضره عداوتهم له
ثم قال تعالى وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ
أي فاحكم بينهم بالعدل والاحتياط كما حكمت بالرجم
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاة ُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذالِكَ وَمَآ أُوْلَائِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ
ثم قال تعالى وَكَيْفَ يُحَكّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاة ُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ وفيه مسألتان
المسألة الأولى هذا تعجيب من الله تعالى لنبيّه عليه الصلاة والسلام بتحكيم اليهود إياه بعد علمهم بما في التوراة من حد الزاني ثم تركهم قبول ذلك الحكم فعدلوا عما يعتقدونه حكماً حقاً إلى ما يعتقدونه باطلاً طلباً للرخصة فلا جرم ظهر جهلهم وعنادهم في هذه الواقعة من وجوه أحدها عدولهم عن حكم كتابهم والثاني رجوعهم إلى حكم من كانوا يعتقدون فيه أنه مبطن والثالث إعراضهم عن حكمه بعد أن حكموه فبيّن الله تعالى حال جهلهم وعنادهم لئلا يغتر بهم مغتر أنهم أهل كتاب الله ومن المحافظين على أمر الله وههنا سؤالان
السؤال الأول قوله فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ما موضعه من الاعراب
الجواب إما أن ينصب حالاً من التوراة وهي مبتدأ خبرها عِندَهُمُ وإما أن يرتفع خبراً عنها كقولك وعندهم التوراة ناطقة بحكم الله تعالى وءما أن لا يكون له محل ويكون المقصود أن عندهم ما يغنيهم عن التحكيم كما تقول عندك زيد ينصحك ويشير عليك بالصواب فما تصنع بغيره
السؤال الثاني لم أنث التوراة والجواب الأمر فيه مبني على ظاهر اللفظ
المسألة الثانية احتج جماعة من الحنفية بهذه الآية على أن حكم التوراة وشرائع من قبلنا لازم علينا ما

لم ينسخ وهو ضعيف ولو كان كذلك لكان حكم التوراة كحكم القرآن في وجوب طلب الحكم منه لكن الشرع نهى عن النظر فيها بل المراد هذا الأمر الخاص وهو الرجم لأنهم طلبوا الرخصة بالتحكيم
ثم قال تعالى ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذالِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ قوله ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ معطوف على قوله يُحَكّمُونَكَ وقوله ذالِكَ إشارة إلى حكم الله الذي في التوراة ويجوز أن يعود إلى التحكيم وقوله وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ فيه وجوه الأول أي وما هم بالمؤمنين بالتوراة وإن كانوا يظهرون الإيمان بها والثاني ما أولئك بالمؤمنين إخبار بأنهم لا يؤمنون أبداً وهو خبر عن المستأنف لا عن الماضي الثالث أنهم وإن طلبوا الحكم منك فما هم بمؤمنين بك ولا بمعتقدين في صحة حكمك وذلك يدل على أنه لا إيمان لهم بشيء وأن كل مقصودهم تحصيل مصالح الدنيا فقط

بداية الجزء الثانى عشر من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32

إِنَّآ أَنزَلْنَا التَّوْرَاة َ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالاٌّ حْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِأايَاتِى ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ
قوله تعالى إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاة َ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالاْحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء
اعلم أن هذا تنبيه من الله تعالى لليهود المنكرين لوجوب الرجم وترغيب لهم في أن يكونوا كمتقدميهم من مسلمي أحبارهم والأنبياء المبعوثين إليهم وفيه مسائل
المسألة الأولى العطف يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه فوجب حصول الفرق بين الهدى والنور فالهدى محمول على بيان الأحكام والشرائع والتكاليف والنور بيان للتوحيد والنبوة والمعاد قال الزجاج فِيهَا هُدًى أي بيان الحكم الذي جاؤا يستفتون فيه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وَنُورٌ بيان أن أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حق
المسألة الثانية احتج القائلون بأن شرع من قبلنا لازم علينا إلا إذا قام الدليل على صيرورته منسوخاً بهذه الآية وتقريره أنه تعالى قال إن في التوراة هدى ً ونوراً والمراد كونه هدى ً ونوراً في أصول الشرع وفروعه ولو كان منسوخاً غير معتبر الحكم بالكلية لما كان فيه هدى ٌ ونور ولا يمكن أن يحمل الهدى والنور على ما يتعلق بأصول الدين فقط لأنه ذكر الهدى والنور ولو كان المراد منهما معاً هو ما يتعلق بأصول الدين لزم التكرار وأيضاً أن هذه الآية إنما نزلت في مسألة الرجم فلا بدّ وأن تكون الأحكام الشرعية داخلة في الآية لأنا وإن اختلفنا في أن غير سبب نزول الآية هل يدخل فيها أم لا لكنا توافقنا على أن سبب نزول الآية يجب أن يكون داخلاً فيها
المسالة الثالثة قوله يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ يريد النبيّين الذين كانوا بعد

موسى وذلك أن الله تعالى بعث في بني إسرائيل ألوفاً من الأنبياء ليس معهم كتاب إنما بعثهم بإقامة التوراة حتى يحدوا حدودها ويقوموا بفرائضها ويحلوا حلالها ويحرموا حرامها
فإن قيل كل نبي لا بدّ وأن يكون مسلماً فما الفائدة في قوله النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ
قلنا فيه وجوه الأول المراد بقوله دأسلموا أي انقادوا لحكم التوراة فإن من الأنبيار من لم تكن شريعته شريعة التوراة والذين كانوا منقادين لحكم التوراة هم الذين كانوا من مبعث موسى إلى مبعث عيسى عليهما السلام الثاني قال الحسن والزهري وعكرمة وقتادة والسدي يحتمل أن يكون المراد بالنبيين الذين أسلموا هو محمد عليه الصلاة والسلام وذلك لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) حكم على اليهوديين بالرجم وكان هذا حكم التوراة وإنما ذكر بلفظ الجمع تعظيماً له كقوله تعالى أي انقادوا لحكم التوراة فإن من الأنبيار من لم تكن شريعته شريعة التوراة والذين كانوا منقادين لحكم التوراة هم الذين كانوا من مبعث موسى إلى مبعث عيسى عليهما السلام الثاني قال الحسن والزهري وعكرمة وقتادة والسدي يحتمل أن يكون المراد بالنبيين الذين أسلموا هو محمد عليه الصلاة والسلام وذلك لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) حكم على اليهوديين بالرجم وكان هذا حكم التوراة وإنما ذكر بلفظ الجمع تعظيماً له كقوله تعالى إِنَّ إِبْراهِيمَ كَانَ أُمَّة ً ( النحل 120 ) وقوله أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ ( النساء 45 ) وذلك لأنه كان قد اجتمع فيه من خصالل الهير ما كان حاصلاً لأكثر الأنبياء الثالث قال ابن الأنباري هذا رد على اليهود والنصارى لأن بعضهم كانوا يقولون الأنبياء كلهم يهود أو نصارى فقال تعالى يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ يعني الأنبياء ما كانوا موصوفين باليهودية والنصرانية بل كانوا مسلمين لله منقادين لتكاليفه الرابع المراد بقوله النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ يعني الذين كان مقصودهم من الحكم بالتوراة الإيمان والإسلام وإظهار أحكام الله تعالى والانقياد لتكاليفه والغرض من التنبيه على قبح طريعة هؤلاء اليهود المتأخرين فإن غرضهم من ادعاء الحكم بالتوراة أخذ الرشوة واستتباع العوام
المسألة الرابعة قوله لِلَّذِينَ هَادُواْ فيه وجهان الأول المعنى أن النبيين إنما يحكمون بالتوراة للذين هادوا أي لأجلهم وفيما بينهم والثاني يجوز أن يكون المعنى على القديم والتأخير على معنى إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ً ونور للذين هادوا يحكم بها النبيون الذين أسلموا
المسألة الخامسة أما الربانيون فقد تقدم تفسيره وأما الأحبار فقال ابن عباس هم الفقهاء واختلف أهل اللغة في واحده قال الفرّاء إنما هو ( حبر ) بكسر الحاء يقال ذلك للعالم وإنما سمي بهذا الاسم لمكان الحبر الذي يكتب به وذلك أنه يكون صاحب كتب وكان أبو عبيدة يقول حبر بفتح الحاء قال الليث هو حبر وحبر بكسر الحاء وفتحها وقال الأصمعي لا أدري أهو الحبر أو الحبر وأما اشتقاقه فقال قوم أصله من التحبير وهو التحسين وفي الحديث ( يخرج رجل من النار ذهب حبره وسبره ) أي جماله وبهاؤه والمحبر للشيء المزين ولما كان العلم أكل أقسام الفضيلة والجمال والمنقبة لا جرم سمي العالم به وقال آخرون اشتقاقه من الحبر الذي يكتب به وهو قول الفرّاء والكسائي وأبي عبيدة والله أعلم
المسألة السادسة دلّت الآية على أنه يحكم بالتوراة النبيون والربانيون والأحبار وهذا يقتضي كون الربانيين أعلى حالاً من الأحبار فثبت أن يكون الربانيون كالمجتهدين والأحباء كآحاد العلماء
ثم قال بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللَّهِ وفيه مسألتان

المسألة الأولى حفظ كتاب الله على وجهين الأول أن يحفظ فلا ينسى الثاني أن يحفظ فلا يضيع وقد أخذ الله على العلماء حفظ كتابه من هذين الوجهين أحدهما أن يحفظون في صدورهم ويدرسوه بألسنتهم والثاني أن لا يضيعوا أحكامه ولا يهملوا شرائعه
المسألة الثانية الباء في قوله بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللَّهِ فيه وجهان الأول أن يكون صلة الأحبار على معنى العلماء بما استحفظوا الثاني أن يكون المعنى يحكمون بما استحفظوا وهو قول الزجاج
ثم قال تعالى وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء أي هؤلاء النبيون والربانيون والأحبار كانوا شهداء على أن كل ما في التوراة حق وصدق ومن عند الله فلا جرم كانوا يمضون أحكام التوراة ويحفظونها عن التحريف والتغيير
ثم قال تعالى فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِى
واعلم أنه تعالى لما قرر أن النبيين والربانيين والأحبار كانوا قائمين بإمضاء أحكام التوراة من غير مبالاة خاطب اليهود الذين كانوا في عصر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ومنعهم من التحريف والتغيير
واعلم أن إقدام القوم على التحريف لا بدّ وأن يكون لخوف ورهبة أو لطمع ورغبة ولما كان الخوف أقوى تأثيراً من الطمع قدم تعالى ذكره فقال فَلاَ تَخْشَوُاْ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ والمعنى إياكم وأن تحرفوا كتابي للخوف من الناس والملوك والأشراف فتسقطوا عنهم الحدود الواجبة عليهم وتستخرجوا الحيل في سقوط تكاليف الله تعالى عنهم فلا تكونوا خائفين من الناس بل كونوا خائفين مني ومن عقابي
ولما ذكر أمر الرهبة ابتعه بأمر الرغبة فقال وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً أي كما نهيتكم عن تغيير أحكامي لأجل الخوف والرهبة فكذلك أنهاكم عن التغيير والتبديل لأجل الطمع في المال والجاه وأخذ الرشوة فإن كل متاع الدنيا قليل والرشوة التي تأخذونها منهم في غاية القلة والرشوة لكونها سحتاً تكون قليلة البركة والبقاء والمنفعة فكذلك المال الذي تكتسبونه قليل من قليل ثم أنتم تضيعون بسببه الدين والثواب المؤبد والسعادات التي لا نهاية لها
ويحتمل أيضاً أن يكون إقدامهم على التحريف والتبديل لمجموع الأمرين للخوف من الرؤساء ولأخذ الرشوة من العامة ولما منعهم الله من الأمرين على ما في كل واحد منهما من الدناءة والسقوط كان ذلك برهاناً قاطعاً في المنع من التحريف والتبديل

ثم إنه أتبع هذا البرهان الباهر بالوعيد الشديد فقال وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ وفليه مسألتان
المسألة الأولى المقصود من هذا الكلام تهديد اليهود في ءقدامهم على تحريف حكم الله تعالى في حد الزاني المحصن يعني أنهم لما أنكروا حكم الله المنصوص عليه في التوراة وقالوا إنه غير واجب فهم كافرون على الاطلاق لا يستحقون اسم الإيمان لا بموسى والتوراة ولا بمحمد والقرآن
المسألة الثانية قالت الخوارج كل من عصى الله فهو كافر وقال جمهور الأئمة ليس الأمر كذلك أما الخوارج فقد احتجوا بهذه الآية وقالوا إنها نص في أن كل من حكم بغير ما أنزل الله فهو كافر وكل من أذنب فقد حكم بغير ما أنزل الله فوجب أن يكون كافراً
وذكر المتكلمون والمفسرون أجوبة عن هذه الشبهة الأول أن هذه الآية نزلت في اليهود فتكون مختصة بهم وهذا ضعيف لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ومنهم من حاول دفع هذا السؤال فقال المراد ومن لم يحكم من هؤلاء الذين سبق ذكرهم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون وهذا أيضاً ضعيف لأن قوله وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ كلام أدخل فيه كلمة مِنْ في معرض الشرط فيكون للعموم وقول من يقول المراد ومن لم يحكم بما أنزل الله من الذين سبق ذكرهم فهو زيادة في النص وذلك غير جائز الثاني قال عطاء هو كفر دون كفر وقال طاوس ليس بكفر ينقل عن الملة كمن يكفر بالله واليوم الآخر فكأنهم حملوا الآية على كفر النعمة لا على كفر الدين وهو أيضاً ضعيف لأن لفظ الكفر إذا أطلق انصرف إلى الكفر في الدين والثالث قال ابن الأنباري يجوز أن يكون المعنى ومن لم يحكم بما أنزل الله فقد فعل فعلاً يضالهي أفعال الكفار ويشبه من أجل ذلك الكافرين وهذا ضعيف أيضاً لأنه عدولل عن الظاهر والرابع قال عبد العزيز بن يحيى الكناني قوله بِمَا أنزَلَ اللَّهُ صيغة عموم فقوله وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ معناه من أتى بضد حكم الله تعالى في كل ما أنزل الله فأولئك هم الكافرون وهذا حق لأن الكافر هو الذي أتى بضد حكم الله تعالى في كل ما أنزل الله أما الفاسق فإنه لم يأت بضد حكم الله إلاّ في القليل وهو العمل أما في الاعتقاد والاقرار فهو موافق وهذا أيضاً ضعيف لأنه لو كانت هذه الآية وعيداً مخصوصاً بمن خالف حكم الله تعالى في كل ما أنزل الله تعالى لم يتناول هذا الوعيد اليهود بسبب مخالفتهم حكم الله في الرجم وأجمع المفسرون على أن هذا الوعيد يتناول اليهود بسبب مخالفتهم حكم الله تعالى في واقعة الرجم فيدل على سقوط هذا الجواب والخامس قال عكرمة قوله وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ إنما يتناول من أنكر بقلبه وجحد بلسانه أما من عرف بقلبه كونه حكم الله وأقر بلسانه كونه حكم الله إلا أنه أتى بما يضاده فهو حاكم بما أنزل الله تعالى ولكنه تارك له فلا يلزم دخوله تحت هذه الآية وهذا هو الجواب الصحيح والله أعلم

وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالاٌّ نْفَ بِالاٌّ نْفِ وَالاٍّ ذُنَ بِالاٍّ ذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَة ٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
ثم قال تعالى وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص
والمعنى أنه تعالى بيّن في التوراة أن حكم الزاني المحصن هو الرجم واليهود غيروه وبدلوه وبيّن في هذه الآية أيضاً أنه تعالى بيّن في التوراة أن النفس بالنفس وهؤلاء اليهود غيروا هذا الحكم أيضاً ففضلوا بني النضير على بني قريظة وخصصوا إيجاب القود ببني قريظة دون بني النضير فهذا هو وجه النظم من الآية وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ الكسائي العين والأنف والأذن والسن والجروح كلها بالرفع وفيه وجوه أحدها العطف على محل أن النفس لأن المعنى وكتبنا عليهم فيها النفس بالنفس لأن معنى كتبنا قلنا وثانيها أن الكتابة تقع على مثل هذه الجمل تقول كتبت ( الحمد لله ) وقرأت ( سورة أنزلناها ) وثالثها أنها ترتفع على الاستئناف وتقديره أن النفس مقتولة بالنفس والعين مفقوءة بالعين ونظيره قوله تعالى في هذه السورة إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ ( البقرة 62 ) وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عممرو بنصف الكل سوى الجروح فإنه بالرفع فالعين والأنف والأذن نصب عطفاً على النفس ثم الجروح مبتدأ و وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ خبره وقرأ نافع وعاصم وحمزة كلها بالنصب عطفاً لبعض ذلك على بعض وخبر الجميع قصاص وقرأ نافع الأذن بسكون الذال حيث وقع والباقون بالضم مثقلة وهما لغتان
المسألة الثانية قال ابن عباس يريد وفرضنا عليهم في التوراة أن النفس بالنفس يريد من قتل نفساً بغير قود قيد منه ولم يجعل الله له دية في نفس ولا جرح إنما هو العفو أو القصاص وعن ابن عباس كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة فنزلت هذه الآية وأما الأطراف فكل شخصين جرى القصاص بينهما في النفس جرى القصاص بينهما في جميع الأطراف إذا تماثلا في السلامة وإذا امتنع القصاص في النفس امتنع أيضاً في الأطراف ولما ذكر الله تعالى بعض الأعضاء عمم الحكم في كلها فقال بِالسِنّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ وهو كل ما يمكن أن يقتص منه مثل الشفتين والذكر والأنثيين والأنف والقدمين واليدين وغيرها فأما ما لا يمكن القصاص فيه من رض في لحم أو كسر في عظم أو جراحة في بطن يخاف منه التلف ففيه أرش وحكومة
واعلم أن هذه الآية دالة على أن هذا كان شرعاً في التوراة فمن قال شرع من قبلنا يلزمنا إلا ما نسخ بالتفصيل قال هذه الآية حجة في شرعنا ومن أنكر ذلك قال إنها ليست بحجة علينا
المسألة الثالثة قِصَاصٌ هاهنا مصدر يراد به المفعول أي والجروح متقاصة بعضها ببعض

ثم قال تعالى فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَة ٌ لَّهُ الضمير في قوله لَهُ يحتمل أن يكون عائداً إلى العافي أو إلى المعفو عنه أما الأول فالتقدير أن المجروح أو ولي المقتول إذا عفا كان ذلك كفارة له أي للعافي ويتأكد هذا بقوله تعالى في آية القصاص 3 في سورة البقرة وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ( البقرة 237 ) ويقرب منه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم كان إذا خرج من بيته تصدق بعرضه على الناس ) وروى عبادة بن الصامت أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( من تصدق من جسده بشيء كفر الله تعالى عنه بقدره من ذنوبه ) وهذا قول أكثر المفسرين
والقول الثاني أن الضمير في قوله فَهُوَ كَفَّارَة ٌ لَّهُ عائد إلى القاتل والجارح يعني أن المجنى عليه إذا عفا عن الجاني صار ذلك العفو كفارة للجاني يعني لا يؤاخذه الله تعالى بعد ذلك العفو وأما المجنى عليه الذي عفا فأجره على الله تعالى
ثم قال تعالى وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ وفيه سؤال وهو أنه تعالى قال أولاً فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ( المائدة 44 ) وثانياً هُمُ الظَّالِمُونَ والكفر أعظم من الظلم فلما ذكر أعظم التهديدات أولاً فأي فائدة في ذكر الأخف بعده
وجوابه أن الكفر من حيث أنه إنكار لنعمة المولى وجحود لها فهو كفر ومن حيث إنه يقتضي إبقاء النفس في العقاب الدائم الشديد فهو ظلم على النفس ففي الآية الأولى ذكر الله ما يتعلق بتقصيره في حق الخالق سبحانه وفي هذه الآية ذكر ما يتعلق بالتقصير في حق نفسه
وَقَفَّيْنَا عَلَى ءاثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَوْرَاة ِ وَءَاتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاة ِ وَهُدًى وَمَوْعِظَة ً لِّلْمُتَّقِينَ
قفيته مثل عقبته إذا اتبعته ثم يقال عقبته بفلان وقفيته به فتعديه إلى الثاني بزيادة الباء
فإن قيل فأين المفعول الأول في الآية

قلنا هو محذوف والظرف وهو قوله عَلَى ءاثَارِهِمْ كالساد مسده لأنه إذا قفى به على أثره فقد قفى به إياه والضمير في ءاثَارِهِمْ للنبيّين في قوله يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ ( المائدة 44 ) وهاهنا سؤالات
السؤال الأول أنه تعالى وصف عيسى ابن مريم بكونه مصدقاً لما بين يديه من التوراة وإنما يكون كذلك إذا كان عمله على شريعة التوراة ومعلوم أنه لم يكن كذلك فإن شريعة عيسى عليه السلام كانت مغايرة لشريعة موسى عليه السلام فلذلك قال في آخر هذه الآية وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ ( المائدة 47 ) فكيف طريق الجمع بين هذين الأمرين
والجواب معنى كون عيسى مصدقاً للتوراة أنه أقر بأنه كتاب منزّل من عند الله وأنه كان حقاً واجب العمل به قبل ورود النسخ
السؤال الثاني لم كرر قوله مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ والجواب ليس فيه تكرار لأن في الأول أن المسيح يصدق التوراة وفي الثاني الإنجيل يصدق التوراة
السؤال الثالث أنه تعالى وصف الإنجيل بصفات خمسة فقال فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاة ِ وَهُدًى وَمَوْعِظَة ً لّلْمُتَّقِينَ وفيه مباحثات ثلاثة أحدها ما الفرق بين هذه الصفات الخمسة وثانيها لم ذكر الهدى مرتين وثالثها لم خصصه بكونه موعظة للمتقين
والجواب على الأول أن الإنجيل هدى بمعنى أنه اشتمل على الدلائل الدالة على التوحيد والتنزيه وبراءة الله تعالى عن الصاحبة والولد والمثل والضد وعلى النبوّة وعلى المعاد فهذا هو المراد بكونه هدى ً وأما كونه نوراً فالمراد به كونه بياناً للأحكام الشرعية ولتفاصيل التكاليف وأما كونه مصدقاً لما بين يديه فيمكن حمله على كونه مبشراً بمبعث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وبمقدمه وأما كونه هدى ً مرة أخرى فلأن اشتماله على البشارة بمجيء محمد ( صلى الله عليه وسلم ) سبب لاهتداء الناس إلى نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ولما كان أشد وجوه المنازعة بين المسلمين وبين اليهود والنصارى في ذلك لا جرم أعاده الله تعالى مرة أخرى تنبيهاً على أن الإنجيل يدل دلالة ظاهرة على نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فكان هذى في هذه اللمسألة التي هي أشد المسائل احتياجاً إلى البيان والتقرير وأما كونه موعظة فلاشتمال الإنجيل على النصائح والمواعظ والزواجر البليغة المتأكدة وإنما خصها بالمتقين لأنهم هم الذين ينتفعون بها كما في قوله هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2 )
السأال الرابع قوله في صفة الإنجيل وَمُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ عطف على ماذا
الجواب أنه عطف على محل فِيهِ هُدًى ومحله النصب على الحال والتقدير وآتيناه الإنجيل حال كونه هدى ً ونوراً ومصدقاً لما بين يديه

وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ
ثم قال تعالى وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ قرأ حمزة وَلْيَحْكُمْ بكسر اللام وفتح الميم جعل اللام متعلقة بقوله وَقَفَّيْنَا عَلَى ( المائدة 46 ) لأن إيتاء الإنجيل إنزال ذلك عليه فكان المعنى آتيناه الإنجيل ليحكم وأما الباقون فقرؤا بجزم اللام والميم على سبيل الأمر وفيه وجهان الأول أن يكون التقدير وقلنا ليحكم أهل الإنجيل فيكون هذا إخباراً عما فرض عليهم في ذلك الوقت من الحكم بما تضمنه الإنجيل ثم حذف القول لأن ما قبله من قوله وَكَتَبْنَا وَقَفَّيْنَا يدل عليه وحذف القول كثير كقوله تعالى وَالمَلَائِكَة ُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ( الرعد 23 ) أي يقولون سلام عليكم والثاني أن يكون قوله وَلْيَحْكُمْ ابتداء أمر للنصارى بالحكم في الإنجيل
فإن قيل كيف جاز أن يؤمروا بالحكم بما في الإنجيل بعد نزول القرآن
قلنا الجواب عنه من وجوه الأول أن المراد ليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه من الدلائل الدالة على نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهو قول الأصم والثاني وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه مما لم يصر منسوخاً بالقرآن والثالث المراد من قوله وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ زجرهم عن تحريف ما في الإنجيل وتغييره مثل ما فعله اليهود من إخفاء أحكام التوراة فالمعنى بقوله وَلْيَحْكُمْ أي وليقر أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه على الوجه الذي أنزله الله فيه من غير تحريف ولا تبديل
ثم قال تعالى وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ واختلف المفسرون فمنهم من جعل هذه الثلاثة أعني قوله ( الكافرون والظالمون الفاسقون ) صفت لموصوف واحد قال القفال وليس في إفراد كل واحد من هذه الثلاثة بلفظ ما يوجب القدح في المعنى بل هو كما يقال من أطاع الله فهو المؤمن من أطاع الله فهو البر من أطاع الله فهو المتقي لأن كل ذلك صفات مختلفة حاصلة لموصوف واحد وقال آخرون الأول في الجاحد والثاني والثالث في المقر التارك وقال الأصم الأول والثاني في اليهود والثالث في النصارى
وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَة ً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّة ً وَاحِدَة ً وَلَاكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِى مَآ ءَاتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ
ثم قال تعالى وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وهذا خطاب مع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فقوله وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ أي القرآن وقوله مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ أي كل كتاب نزل من السماء سوى القرآن
وقوله وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فيه مسائل

المسألة الأولى في المهيمن قولان الأول قال الخليل وأبو عبيدة يقال قد هيمن إذا كان رقيباً على الشيء وشاهداً عليه حافظاً قال حسّان فإن الكتاب مهيمن لنبينا
والحق يعرفه ذوو الألبب
والثاني قالوا الأصل في قولنا آمن يؤمن فهو مؤمن أأمن يؤامن فهو مؤامن بهمزتين ثم قبلت الأولى هاء كما في هرقت وأرقت وهياك وإياك وقبلت الثانية ياء فصار مهيمناً فلهذا قال المفسرون وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ أي أميناً على الكتب التي قبله
المسألة الثانية إنما كان القرآن مهيمناً على الكتب لأنه الكتاب الذي لا يصير مسنوخاً ألبتة ولا يتطرق إليه البتديل والتحريف على ما قال تعالى إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ( الحجر 9 ) وإذا كان كذلك كانت شهادة القرآن على أن التوراة والإنجيل والزبور حق صدق باقية أبداً فكانت حقيقة هذه الكتب معلومة أبداً
المسألة الثالثة قال صاحب ( الكشاف ) قرىء وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ بفتح الميم لأنه مشهود عليه من عند الله تعالى بأن يصونه عن التحريف والتبديل لما قررنا من الآيات ولقوله لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ ( فصلت 42 ) والمهيمن عليه هو الله تعالى
ثم قال تعالى فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ يعني فاحكم بين اليهود بالقرآن والوحي الذي نزله الله تعالى عليك
وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقّ وفيه مسائل
المسألة الأولى وَلاَ تَتَّبِعِ يريد ولا تنحرف ولذلك عداه بعن وكأنه قيل ولا تنحرف عما جاءك من الحق متبعاً أهواءهم
المسألة الثانية روي أن جماعة من اليهود قالوا تعالوا نذهب إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لعلنا نفتنه عن دينه ثم دخلوا عليه وقالوا يا محمد قد عرفت أنا أحبار اليهود وأشرافهم وإنا إن اتبعناك اتبعك كل اليهود وإن بيننا وبين خصومنا حكومة فنحاكمهم إليك فاقض لنا ونحن نؤمن بك فأنزل الله تعالى هذه الآية
المسألة الثالثة تمسك من طعن في عصمة الأنبياء بهذه الآية وقال لولا جواز المعصية عليهم وإلا لما قال وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقّ
والجواب أن ذلك مقدور له ولكن لا يفعله لمكان النهي وقيل الخطاب له والمراد غيره

ثم قال تعالى لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَة ً وَمِنْهَاجاً وفيه مسائل
المسألة الأولى لفظ ( الشرعة في اشتقاقه وجهان الأول معنى شرع بين وأوضح قال ابن لسكيت لفظ الشرع مصدر شرعت الإهاب إذا شققته وسلخته الثاني شرع مأخوذ من الشروع في الشيء وهو الدخول فيه والشريعة في كلام العرب المشرعة التي يشرعها الناس فيشربون منها فالشريعة فعلية بمعنى المعفولة وهي الأشياء التي أوجب الله تعالى على المكلفين أن يشرعوا فيها وأما المنهاج فهو الطريق الواضح يقال نهجب لك الطريق وأنهجب لغتان
المسألة الثانية احتج أكثر العلماء بهذه الآية على أن شرع من قبلنا لا يلزمنا لأن قوله لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَة ً وَمِنْهَاجاً يدل على أنه يجب أن يكون كل رسول مستقلاً بشريعة خاصة وذلك ينفي كون أمة أحد الرسل مكلفة بشريعة الرسول الآخر
المسألة الثالثة وردت آيات دالة على عدم التباين في طريقة الأنبياء والرسل وآيات دالة على حصول التباين فيها
أما النوع الأول فقوله شَرَعَ لَكُم مّنَ الِدِينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً ( الشورى 13 ) إلى قوله أَنْ أَقِيمُواْ الدّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ ( الشورى 13 ) وقال أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ( الأنعام 90 )
وأما النوع الثاني فهو هذه الآية وطريق الجمع أن نقول النوع الأول من الآيات مصروف إلى ما يتعلق بأصول الدين والنوع الثاني مصروف إلى ما يتعلق بفروع الدين
المسألة الرابعة الخطاب في قوله لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَة ً وَمِنْهَاجاً خطاب للأمم الثلاث أمة موسى وأمة عيسى وأمة محمد عليهم السلام بدليل أن ذكر هؤلاء الثلاثة قد تقدم في قوله إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاة َ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ( المائدة 44 ) ثم قال وَقَفَّيْنَا عَلَى ءاثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ( المائدة 46 ) ثم قال وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ ( المائدة 48 )
ثم قال لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَة ً وَمِنْهَاجاً يعني شرائع مختلفة للتوراة شريعة وللإنجيل شريعة وللقرآن شريعة
المسألة الخامسة قال بعضهم الشرعة والمنهاج عبارتان عن معنى واحد والتكرير للتأكيد والمراد بهما الدين وقال آخرون بينهما فرق فالشرعة عبارة عن مطلق الشريعة والطريقة عبارة عن مكارم الشريعة وهي المراد بالمنهاج فالشريعة أول والطريقة رخر وقال المبرد الشريعة ابتداء الطريقة والطريقة المنهاج المستمر وهذا تقرير ما قلناه والله أعلم بأسرار كلامه
ثم قال تعالى وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّة ً واحِدَة ً أي جماعة متفقة على شريعة واحدة أو ذوي أمة واحدة أي دين واحد لا اختلاف فيه قال الأصحاب هذا يدل على أن الكل بمشيئة الله تعالى والمعتزلة حملوه على مشيئة الالجاء
ثم قال تعلى وَلَاكِن لّيَبْلُوَكُمْ فِيمَا ءاتَاكُمُ من الشرائع المختلفة هل تعملون بها منقادين لله خاضعين لتكاليف الله أم تتبعون الشبه وتقصرون في العمل

فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ أي فابدروها وسابقوا نحوها
إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً استئناف في معنى التعليل لاستباق الخيرات
فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فيخربكم بما لا تشكون معه من الجزاء الفاصل بين محقكم ومبطلكم وموفيكم ومقصركم في العمل والمراد أن الأمر سيؤول إلى ما يزول معه الكشوك ويحصل مع اليقين وذلك عند مجازاة المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته
وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ
ثم قال تعالى وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ يَتَّبِعُ أَهْوَاءهُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى فإن قيل قوله وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ معطوف على ماذا
قلنا على الْكِتَابِ في قوله وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ ( المائدة 48 ) كأنه قيل وأنزلنا إليك أن أحكم و ءانٍ وصلت بالأمر لأنه فعل كسائر الأفعال ويجوز أن يكون معطوفاً على قوله بِالْحَقّ ( المائدة 48 ) أي أنزلناه بالحق وبأن أحكم وقوله وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ قد ذكرنا أن اليهود اجتمعوا وأرادوا إيقاعه في تحريف دينه فعصمه الله تعالى عن ذلك
المسألة الثانية قالوا هذه الآية ناسخة للتخيير في قوله فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ( المائدة 42 )
المسألة الثالثة أعيد ذكر الأمة بالحكم بعد ذكره في الآية الأولى إما للتأكيد وءما لأنهما حكمان أمر بهما جميعاً لأنهم احتكموا إليه في زنا المحصن ثم احتكموا في قتيل كان فيهم
ثم قال تعالى وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ
قال ابن عباس يريد به يردوك إلى أنوائهم فإن كل من صرف من الحق إلى الباطل فقد فتن ومنه قوله وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ ( الإسرار 73 ) والفتنة ههنا في كلامهم التي تميل عن الحق وتلقى في الباطل وكان ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( أعوذ بك من فتنة المحيا ) قال هو أن يعدل عن الطريق قال أهل العلم هذه الآية تدل على أن الخطأ والنسيان جائزان على الرسول لأن الله تعالى قال وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ والتعمد في مثل هذا غير جائز على الرسول فلم يبق إلا الخطأ والنسيان
ثم قال تعالى فَإِن تَوَلَّوْاْ أي فإن لم يقبلوا حكمك فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وفيه مسألتان

المسألة الأولى المراد يبتليهم بجزاء بعض ذنوبهم في الدنيا وهو أن يسلطك عليهم ويعذبهم في الدنيا بالقتل والجلاء وإنما خصّ الله تعالى بعض الذنوب لأن القوم جوزوا في الدنيا ببعض ذنوبهم وكان مجازاتهم بالبعض كافياً في إهلاكهم والتدمير عليهم والله أعلم
المسألة الثانية دلت الآية على أن الكل بإرادة الله تعالى لأنه لا يريد أن يصيبهم ببعض ذنوبهم إلا وقد أراد ذنوبهم وذلك يدل على أنه تعالى مريد للخير والشر
ثم قال تعالى وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ لمتمردون في الكفر معتدون فيه يعني أن التولي عن حكم الله تعالى من التمرد العظيم ولاعتداء في الكفر
أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّة ِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ
ثم قال تعالى أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّة ِ يَبْغُونَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن عامر تبغون بالتاء على الخطاب والباقون بالياء على المغايبة وقرأ المسلمي لَفَاسِقُونَ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّة ِ برفع الحكم على الابتداء وإيقاع يَبْغُونَ خبراً وإسقاط الاراجع عنه لظهوره وقرأ قتادة تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّة ِ والمراد أن هذا الحكم الذي يبغونه إنما يحكم به حكام بالجاهلية فأرادوا بشهيتهم أن يكون محمد خاتم النبيّيين حكماً كأولئك الحكام
المسألة الثانية في الآية وجهان الأول قال مقاتل كانت بين قريظة والنضير دماء قبل أن يبعث الله محمداً عليه الصلاة والسلام فلما بعث تحاكموا إليه فقالت بنو قريظة بنو النضير إخواننا أبونا واحد وديننا واحد وكتابنا واحد فإن قتل بنو النضير منا قتيلاً أعطونا سبعين وسقاً من تمر وإن قتلنا منهم واحداً أخذوا منا مائة وأربعين وسقاً من تمر وأروش جراحاتهم فاقض بيننا وبينهم فقال عليه السلام فإني أحكم أن دم القرظي وفاء من دم النضري ودم النضري وفاء من دم القرظي ليس لأحدهما فضل على الآخر في دم ولا عقل ولا جراحة فغضب بنو النضير وقالوا لا نرضى بحكمك فإنك عدو لنا فأنزل الله تعالى هذه الآية أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّة ِ يَبْغُونَ يعني حكمهم الأول وقيل إنهم كانوا إذا وجب الحكم على ضعفائهم ألزموهم إياه وإذا وجب على أقويائهم لم يأخذوهم به فمنعهم الله تعالى منه بهذه الآية الثاني أن المراد بهذه الآية أن يكون تعييراً لليهود بأنهم أهل كتاب وعلم مع أنهم يبغون حكم الجاهلية التي هي محض الجهل وصريح الهوى
ثم قال تعالى وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ اللام في قوله لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ للبيان كاللام في هَيْتَ لَكَ ( يوسف 23 ) أي هذا الخطاب وهذا الاستفهام لقوم يوقنون فإنهم هم الذين يعرفون أنه لا أحد أعدل من الله حكماً ولا أحسن منه بياناً

يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
أعلم أنه تمّ الكلام عند قوله أَوْلِيَاء ثم ابتدا فقال بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وروي أن عبادة بن الصامت جاء إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فتبرأ عنده من موالاة اليهود فقال عبد الله بن أبي لكني لا أتبرأ منهم لأني أخاف الدوائر فنزلت هذه الآية ومعنى لا تتخذوهم أولياء أي لا تعتمدوا على الاستنصار بهم ولا تتوددوا إليهم
ثم قال وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ قال ابن عباس يريد كأنه مثلهم وهذا تغليظ من الله وتشديد في وجوب مجانية المخالف في الدين ونظيره قوله وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنّى ( البقرة 249 )
ثم قال إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ روي عن أبي موسى الأشعري أنه قال قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه إن لي كاتباً نصرانياً فقال مالك قاتلك الله ألا اتخذت حنيفاً أما سمعت قول الله تعالى يُوقِنُونَ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء قلت له فينه ولي كتابته فقال لا أكرمهم إذا أهانهم الله ولا أعزهم إذ أذلهم الله ولا أدينهم إذ أبعدهم الله قلت لا يتم أمر البصرة إلا به فقال مات النصراني والسلام يعني هب أنه قد مات فما تصنع بعده فما تعمله بعد موته فاعمله الآن واستغن عنه بغيره
فَتَرَى الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَة ٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِى َ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَآ أَسَرُّواْ فِى أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ
ثم قال تعالى فَتَرَى الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَة ٌ
وأعلم أن المراد بقوله الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ المنافقون مثل عبد الله بن ابي وأصحابه وقوله يسارعون فيهم أي يسارعون في مودة اليهود ونصارى نجران لأنهم كانوا أهل ثروة وكانوا يعينونهم على مهماتهم ويقرضونهم ويقول المنافقون إنما نخالطهم لأنا نخشى أن تصيبنا دائرة قل الواحدي رحمه الله الدائرة من دوائر الدهر كالدولة وهي التي تدور من قوم إلى قوم والدائرة هي التي تخشى كالهزيمة والحوادث الخوفة فالدوائر تدور والدوائل تدول قال الزجاج أي نخشى أن لا يتم الأمر لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فيدور الأمر كما كان قبل ذلك
ثم قال تعالى فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين

قال المفسرون ( عسى ) من الله واجب لأن الكريم إذا أطمع في خير فعله فهو بمنزلة الوعد لتعلق النفس به ورجائها له والمعنى فعسى الله أن يأتي بالفتح لرسول الله على أعدائه وإظهار المسلمين على أعدائهم أو أمر من عنده يقطع أصل اليهود أو يخرجهم عن بلادهم فيصبح المنافقون نادمين على ما حدثوا به أنفسهم وذلك لأنهم كانوا يشكون في أمر الرسول ويقولون لا نظن أنه يتم له أمره والأظهر أن تصير الدولة والغلبة لأعدائه وقيل أو أمر من عنده يعني أن يؤمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بإظهار أسرار المنافقين وقتلهم فيندموا على فعالهم
فإن قيل شرط صحة التقسيم أن يكون ذلك بين قسمين متنافيين وقوله عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِى بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مّنْ عِندِهِ ليس كذلك لأن الاتيان بالفتح داخل في قوله أَوْ أَمْرٍ مّنْ عِندِهِ
قلنا قوله أَوْ أَمْرٍ مّنْ عِندِهِ معناه أو أمر من عنده لا يكون للناس فيه فعل ألبتة كبني النضير الذين طرح الله في قلوبهم الرعب فأعطوا بأيديهم من غير محاربة ولا عسكر ثم قال تعالى
وَيَقُولُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَهُؤُلا ءِ الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ
فيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر يِقُولُ بغير واو وكذلك هي في مصاحف أهل الحجاز والشام والباوقن بالواو وكذلك هي في مصاحف أهل العراق قال الواحدي رحمه الله وحدف الواو ههن كإثباتها وذلك لأن في الجملة المعطوفة ذكراً من المعطوف عليها فإن الموصوف بقوله يُسَارِعُونَ فِيهِمْ ( المائدة 52 ) هم الذين قال فيهم المؤمنون أَهُاؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللَّهِ فلما حصل في كل واحدة من الجملتين ذكر من الأخرى حصن العطف بالواو وبغير الواو ونظيره قوله تعالى سَيَقُولُونَ ثَلَاثَة ٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَة ٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ لما كان في كل واحدة من الجملتين ذكر ما تقدم أغنى ذلك عن ذكر الواو ثم قال وَيَقُولُونَ سَبْعَة ٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ( الكهف 22 ) فأدخل الواو فدل ذلك على أن حذف الواو وذكرها جائز وقال صاحب ( الكشاف ) حذف الواو على تقدير أنه جواب قائل يقول فماذا يقول المؤمنون حينئذٍ فقيل يقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا واختلفوا في قراءة هذه الآية من وجه آخر فقرأ أبو عمروا وَيَقُولُ الَّذِينَ ءامَنُواْ نصبا على معنى وعسى أن يقول الذين آمنوا وأما من رفع فإنه جعل الواو لعطف جملة على جملة ويدل على قراءة الرفع قراءة من حذف الواو
المسألة الثانية الفائدة في أن المؤمنين يقولون هذا القول هو أنهم يتعجبون من حال المنافقين عندما أظهروا الميل إلى موالاة اليهود والنصارى وقالوا إنهم يقسمون بالله جهد أيمانهم معنا ومن أنصارنا

فالآن كيف صاروا موالين لأعدائنا محبين للاختلاط بهم والاعتضاد بهم
المسألة الثالثة قوله حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ يحتمل أن يكون من كلام المؤمنين ويحتمل أن يكون من كلام الله تعالى والمعنى ذهب ما أظهروه من الإيمان وبطل كل خير عملوه لأجل أنهم الآن أظهروا موالاة اليهود والنصارى فأصبحوا خاسرين في الدنيا والآخرة فإنه لما بطلت أعمالهم بقيت عليهم المشقة في الإتيان بتلك الأعمال ولم يحصل لهم شيء من ثمراتها ومنافعها بل استحقوا اللعن في الدنيا والعقاب في الآخرة
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّة ٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّة ٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَة َ لا ئِمٍ ذالِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
فيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن عامر ونافع يَرْتَدِدْ بدالين والباقون بدال واحدة مشددة والأول لإظهار التضعيف والثاني للإدغام قال الزجاج إظهار الدالين هو الأصل لأن الثاني من المضاعف إذا سكن ظهر التضعيف نحو قوله إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ ( آل عمران 140 ) ويجوز في اللغة إن يمسكم
المسألة الثانية روى صاحب ( الكشاف ) أنه كان أهل الردة إحدى عشرة فرقة ثلاث في عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
بنو مدلج ورئيسهم ذو الحمار وهو الأسود العنسي وكان كاهناً ادعى النبوّة في اليمن واستولى على بلادها وأخرج عمال رسول الله فكتب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى معاذبن جبل وسادات اليمن فأهلكه الله على يد فيروز الديلمي بيته فقتله وأخبر رسول الله بقتله ليلة قتل فسر المسلمون وقبض رسول الله من الغد وأتى خبره في آخر شهر ربيع الأول
وبنو حنيفة قوم مسيلمة ادعى النبوّة وكتب إلى رسول الله من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله أما بعد فإن الأرض نصفها لي ونصفها لك فأجابه الرسول من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين فحاربه أبو بكر بجنود المسلمين وقتل

على يدي وحشي قاتل حمزة وكان يقول قتلت خير الناس في الجاهلية وشر الناس في الإسلام أراد في جاهليتي وفي إسلامي
وبنو أسد قوم طليحة بن خويلد ادعى النبوّة فبعث إليه رسول الله خالداً فانهزم بعد القتال إلى الشام ثم أسلم وحسن إسلامه
وسبع في عهد أبي بكر فزارة قوم عيينة بن حصن وغطفان قوم قرة بن سلمة القشيري وبنو سليم قوم الفجاءة بن عبد يا ليل وبنو يربوع قوم مالك بن نويرة وبعض بني تميم قوم سجاح بنت المنذر التي ادعت النبوّة وزوجت نفسها من مسيلمة الكذاب وكندة قوم الأشعث بن قيس وبنو بكر بن وائل بالبحرين قوم الحطم بن زيد وكفى الله أمرهم على يد أبي بكر وفرقة واحدة في عهد عمر غسان قوم جبلة بن الأيهم وذلك أن جبلة أسلم على يد عمر وكان يطوف ذات يوم جاراً رداءه فوطىء رجل طرف ردائه فغضب فلطمه فتظلم إلى عمر فقضى له بالقصاص عليه إلا أن يعفو عنه فقال أن أشتريها بألف فأبى الرجل فلم يزل يزيد في الفداء إلى أن بلغ عشرة آلاف فأبى الرجل إلا القصاص فاستنظر عمر فأنظره عمر فهرب إلى الروم وارتد
المسألة الثالثة معنى الآية يا أيها الذين آمنوا من يتول منكم الكفار فيرتد عن دينه فليعلم أن الله تعالى يأتي بأقوام آخرين ينصرون هذا الدين على أبلغ الوجوه وقال الحسن رحمه الله علم الله أن قوماً يرجعون عن الإسلام بعد موت نبيّهم فأخبرهم أنه سيأتي بقوم يحبهم ويحبونه وعلى هذا التقدير تكون هذه الآية إخباراً عن الغيب وقد وقع المخبر على وفقه فيكون معجزاً
المسألة الرابعة اختلفوا في أن أولئك القوم من هم فقال علي بن أبي طالب والحسن وقتادة والضحاك وابن جريح هم أبو بكر وأصحابه لأنهم هم الذين قاتلوا أهل الردة وقالت عائشة رضي الله عنها مات رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وارتدت العرب واشتهر النفاق ونزل بأبي مالو نزل بالجبال الراسيات لهضابها وقال السدي نزلت الآية في الأنصار لأنهم هم الذين نصروا الرسول وأعانوه على إظهار الدين وقال نجاهد نزلت في أهل اليمن وروي مرفوعاً أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما نزلت هذه الآية أشار إلى أبي موسى الأشعري وقال هم قوم هذا وقال آخرون هم الفرس لأنه روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما سئل عن هذه الآية ضرب بيده على عاتق سلمان وقال هذا وذووه ثم قال ( لو كان الدين معلقاً بالثريا لناله رجال من أبناء فارس ) وقال قوم إنها نزلت في علي عليه السلام ويدل عليه وجهان الأول أنه عليه السلام لما دفع الراية إلى علي عليه السلام يوم خيبر قال ( لأدفعن الراية غداً إلى رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ) وهذا هو الصفة المذكورة في الآية
والوجه الثاني أنه تعالى ذكر بعد هذه الآية قوله إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلواة َ وَيُؤْتُونَ الزَّكَواة َ وَهُمْ رَاكِعُونَ ( المائدة 55 ) وهذه الآية في حق علي فكان الأولى جعل ما قبلها أيضاً في حقه فهذه جملة الأقوال في هذه الآية
ولنا في هذه الآية مقامات
المقام الأول أن هذه الآية من أدل الدلائل على فساد مذهب الإمامية من الروافض وتقرير مذهبهم

أن الذين أقرنا بخلافة أبي بكر وإمامته كلهم كفروا وصاروا مرتدين لأنهم أنكروا النص الجلي على إمامة علي عليه السلام فنقول ( لو كان كذلك لجاء الله تعالى بقوم يحاربهم ويقهرهم ويردهم ويبطل شوكتهم فلو كان الذين نصبوا أبا بكر للخلافة كذلك لوجب بحكم الآية أن يأتي الله بقوم يقهرهم ويبطل مذهبهم ولما لم يكن الأمر كذلك بل الأمر بالضد فإن الروافض هم المقهورون الممنوعون عن إظهار مقالاتهم الباطلة أبداً منذ كانوا علمنا فساد مقالتهم ومذهبهم وهذا كلام ظاهر لمن أنصف
المقام الثاني أنا ندعي أن هذه الآية يجب أن يقال إنها نزلت في حق أبي بكر رضي الله عنه والدليل عليه وجهان الأول أن هذه الآية مختصة بمحاربة المرتدين وأبو بكر هو الذي تولى محاربة المرتدين على ما شرحنا ولا يمكن أن يكون المراد هو الرسول عليه السلام لأنه لم يتفق له محاربة المرتدين ولأنه تعالى قال فَسَوْفَ يَأْتِى اللَّهُ وهذا للاستقبال لا للحال فوجب أن يكون هؤلاء القوم غير موجودين في وقت نزول هذا الخطاب
فإن قيل هذا لازم عليكم لأن أبا بكر رضي الله عنه كان موجوداً في ذلك الوقت
قلنا الجواب من وجهين الأول أن القوم الذين قاتل بهم أبو بكر أهل الردة ما كانوا موجودين في الحال والثاني أن معنى الآية أن الله تعالى قال فسوف يأتي الله بقوم قادرين متمكنين من هذا الحراب وأبو بكر وإن كان موجوداً في ذلك الوقت إلا أنه ما كان مستقلاً في ذلك الوقت بالحراب والأمر والنهي فزال السؤال فثبت أنه لا يمكن أن يكون المراد هو الرسول عليه الصلاة والسلام ولا يمكن أيضاً أن يكون المراد هو علي عليه السلام لأن علياً لم يتفق له قتال مع أهل الردة فكيف تحمل هذه الآية عليه
فإن قالوا بل كان قتاله مع أهل الردة لأن كل من نازعه في الإمامة كان مرتداً
قلنا هذا باطل من وجهين الأول أن اسم المرتد إنما يتناول من كان تاركاً للشرائع الإسلامية والقوم الذين نازعوا علياً ما كانوا كذلك في الظاهر وما كان أحد يقول إنه إنما يحاربهم لأجل أنهم خرجوا عن الإسلام وعلي عليه السلام لم يسمهم ألبتة بالمرتدين فهذا الذي يقوله هؤلاء الروافض لعنهم الله بهت على جميع المسلمين وعلى علي أيضاً الثاني أنه لو كان كل من نازعه في الإمامة كان مرتداً لزم في أبي بكر وفي قومه أن يكونوا مرتدين ولو كان كذلك لوجب بحكم ظاهر الآية أن يأتي الله بقوم يقهرونهم ويردونهم إلى الدين الصحيح ولما لم يوجد ذلك ألبتة علمنا أن منازعة علي في الإمامة لا تكون ردة وإذا لم تكن ردة لم يمكن حمل الآية على علي لأنها نازلة فيمن يحارب المرتدين ولا يمكن أيضاً أن يقال إنها نازلة في أهل اليمن أو في أهل فارس لأنه لم يتفق لهم محاربة مع المرتدين وبتقدير أن يقال اتفقت لهم هذه المحاربة ولكنهم كانوا رعية وأتباعاً وأذنابا وكان الرئيس المطاع الأمر في تلك الواقعة هو أبو بكر ومعلوم أن حمل الآية على من كان أصلاً في هذه العبادة ورئيساً مطاعاً فيها أولى من حملها على الرعية والأتباع والأذناب فظهر بما ذكرنا من الدليل الظاهر أن هذه الآية مختصة بأبي بكر
والوجه الثاني في بيان أن هذه الآية مختصة بأبي بكر هو أنا نقول هب أن علياً كان قد حارب

المرتدين ولكن محاربة أبي بكر مع المرتدين كانت أعلى حالاً وأكثر موقعاً في الإسلام من محاربة علي مع من خالفه في الإمامة وذلك لأنه علم بالتواتر أنه ( صلى الله عليه وسلم ) لما توفي اضطربت الأعراب وتمردوا وأن أبا بكر هو الذي قهر مسيلمة وطليحة وهو الذي حارب الطوائف السبعة المرتدين وهو الذي حارب مانعي الزكاة ولما فعل ذلك استقر الإسلام وعظمت شوكته وانبسطت دولته أما لما انتهى الأمر إلى علي عليه السلام فكان الإسلام قد انبسط في الشرق والغرب وصار ملوك الدنيا مقهورين وصار الإسلام مستولياً على جميع الأديان والملل فثبت أن محاربة أبي بكر رضي الله عنه أعظم تأثيراً في نصرة الإسلام وتقويته من محاربة علي عليه السلام ومعلوم أن المقصود من هذه الآية تعظيم قوم يسعون في تقوية الدين ونصرة الإسلام ولما كان أبو بكر هو المتولي لذلك وجب أن يكون هو المراد بالآية
المقام الثالث في هذه الآية وهو أنا ندعي دلالة هذه الآية على صحة إمامة أبي بكر وذلك لأنه لما ثبت بما ذكرنا أن هذه الآية مختصة به فنقول إنه تعالى وصف الذين أرادهم بهذه الآية بصفات أولها أنه يحبهم ويحبونه
فلما ثبت أن المراد بهذه الآية هو إبو بكر ثبت أن قوله يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ وصف لأبي بكر ومن وصفه الله تعالى بذلك يمتنع أن يكون ظالماً وذلك يدل على أنه كان محقاً في إمامته وثانيها قوله أَذِلَّة ٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّة ٍ عَلَى الْكَافِرِينَ وهو صفة أبي بكر أيضاً الدليل الذي ذكرناه ويؤكده ما روي في الخبر المستفيض أنه عليه الصلاة والسلام قال ( ارحم أمتي بأمتي أبو بكر ) فكان موصوفاً بالرحمة والشفقة على المؤمنين وبالشدة مع الكفار ألا ترى أن في أول الأمر حين كان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في مكة وكان في غاية الضعف كيف كان يذب عن الرسول عليه الصلاة والسلام وكيف كان يلازمه ويخدمه وما كان يبالي بأحد من جبابرة الكفار وشياطينهم وفي آخر الأمر أعني وقت خلافته كيف لم يلتفت إلى قول أحد وأصر على أنه لا بدّ من المحاربة مع مانعي الزكاة حتى آل الأمر إلى أن خرج إلى قتال القوم وحده حتى جاء أكابر الصحابة وتضرعوا إليه ومنعوه من الذهاب ثم لما بلغ بعث العسكر إليهم انهزمة وجعل الله تعالى ذلك مبدأ لدولة الإسلام فكان قوله أَذِلَّة ٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّة ٍ عَلَى الْكَافِرِينَ لا يليق إلا به وثالثها قوله يُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَة َ لائِمٍ فهذا مشترك فيه بين أبي بكر وعلي إلا أن حظ أبي بكر فيه أتم وأكمل وذلك لأن مجاهدة أبي بكر مع الكفار كانت في أول البعث وهناك الإسلام كان في غاية الضعف والكفر كان في غاية القوة وكان يجاهد الكفار بمقدار قدرته ويذب عن رسول الله بغاية وسعه وأما علي عليه السلام فإنه إنما شرع في الجهاد يوم بدر وأُحد وفي ذلك الوقت كان الإسلام قوياً وكانت العساكر مجتمعة فثبت أن جهاد أبي بكر كان أكمل من جهاد علي من وجهين الأول أنه كان متقدماً عليه في الزمان فكان إفضل لقوله تعالى لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ( الحديد 10 ) والثاني أن جهاد أبي بكر كان في وقت ضعف الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وجهاد علي كان في وقت القوة ورابعها قوله ذالِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وهذا لائق بأبي بكر لأنه متأكد بقوله تعالى وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَة ِ ( النور 22 ) وقد بينا أن هذه الآية في أبي بكر ومما يدل على أن جميع هذه الصفات لأبي بكر أنا بينا بالدليل أن هذه الآية لا بدّ وأن تكون في أبي بكر ومتى كان الأمر كذلك كانت هذه الصفات لا بدّ وأن تكون

لأبي بكر وإذا ثبت هذا وجب القطع بصحة إمامته إذ لو كانت إمامته باطلة لما كانت هذه الصفات لائقة به
فإن قيل لم لا يجوز أن يقال إنه كان موصوفاً بهذه الصفات حال حياة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ثم بعد وفاته لما شرع في الإمامة زالت هذه الصفات وبطلت
قلنا هذا باطل قطعاً لأنه تعالى قال فَسَوْفَ يَأْتِى اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ فأثبت كونهم موصوفين بهذه الصفة حال إتيان الله بهم في المستقبل وذلك يدل على شهادة الله له بكونه موصوفاً بهذه الصفات حال محاربته مع أهل الردة وذلك هو حال إمامته فثبت بما ذكرنا دلالة هذه الآية على صحة إمامته أما قول الروافض لعنهم الله إن هذه الآية في حق علي رضي الله عنه بدليل أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال يوم خيبر ( لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ) وكان ذلك هو علي عليه السلام فنقول هذا الخبر من باب الآحاد وعندهم لا يجوز التمسك به في العمل فكيف يجوز التمسك به في العلم وأيضاً إن إثبات هذه الصفة لعلي لا يوجب انتفاءها عن أبي بكر وبتقدير أن يدل على ذلك لكنه لا يدل على انتفاء ذلك المجموع عن أبي بكر ومن جملة تلك الصفات كونه كراراً غير فرار فلما انتفى ذلك عن أبي بكر لم يحصل مجموع تلك الصفات له فكفى هذا في العمل بدليل الخطاب فأما انتفاء جميع تلك الصفات فلا دلالة في اللفظ عليه فهو تعالى إنما أثبت هذه الصفة المذكورة في هذه الآية حال اشتغاله بمحاربة المرتدين بعد ذلك فهب أن تلك الصفة ما كانت حاصلة في ذلك الوقت فلم يمنع ذلك من حصولها في الزمان المستقبل ولأن ما ذكرناه تمسك بظاهر القرآن وما ذكروه تمسك بالخبر المذكور المنقول بالآحاد ولأنه معارض بالأحاديث الدالة على كون أبي بكر محباً لله ولرسوله وكون الله محباً له وراضياً عنه قال تعالى في حق أبي بكر وَلَسَوْفَ يَرْضَى ( الليل 21 ) وقال عليه الصلاة والسلام ( إن الله يتجلى للناس عامة ويتجلى لأبي بكر خاصة ) وقال ( ما صب الله شيئاً في صدري إلا وصبه في صدر أبي بكر ) وكل ذلك يدل على أنه كان يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله
وأما الوجه الثاني وهو قولهم الآية التي بعد هذه الآية دالة على إمامة علي فوجب أن تكون هذه الآية نازلة في علي فجوابنا أنا لا نسلم دلالة الآية التي بعد هذه الآية على إمامة على وسنذكر الكلام فيه إن شاء الله تعالى فهذا ما في هذا الموضع من البحث والله أعلم
أما قوله تعالى يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ فتحقيق الكلام في المحبة ذكرناه في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى وَالَّذِينَ ءامَنُواْ أَشَدُّ حُبّا لِلَّهِ ( البقرة 165 ) فلا فائدة في الإعادة وفيه دقيقة وهي أنه تعالى قدم محبته لهم على محبتهم له وهذا حق لأنه لولا أن الله أحبهم وإلا لما وفقهم حتى صاروا محبين له
ثم قال تعالى أَذِلَّة ٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّة ٍ عَلَى الْكَافِرِينَ وهو كقوله أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ ( الفتح 29 ) قال صاحب ( الكشاف ) أذلة جمع ذليل وأما ذلول فجمعه ذلل وليس المراد بكونهم أذلة هو أنهم مهانون بل المراد المبالغة في وصفهم بالرفق ولين الجانب فإن من كان ذليلاً عند إنسان فإنه ألبتة لا يظهر شيئاً من التكبر والترفع بل لا يظهر إلا الرفق واللين فكذا ههنا فقوله أَعِزَّة ٍ عَلَى الْكَافِرِينَ أي يظهرون الغلطة والترفع على الكافرين وقيل يعازونهم أي يغالبونهم من قولهم عزه يعزه إذا غلبه كأنهم

مشدون عليهم بالقهر والغلبة
فإن قيل هلا قيل أذلة للمؤمنين أعزة على الكافرين
قلنا فيه وجهان أحدهما أن يضمن الذل معنى الرحمة والشفقة كأنه قيل راحمين عليهم مشفقين عليهم على وجه التذلل والتواضع والثاني أنه تعالى ذكر كلمة عَلَى حتى يدل على علو منصبهم وفضلهم وشرفهم فيفيد أن كونهم أذلة ليس لأجل كونهم ذليلين في أنفسهم بل ذاك التذلل إنما كان لأجل أنهم أرادوا أن يضموا إلى علو منصبهم فضيلة التواضع وقرىء ( أذلة وأعزة ) بالنصب على الحال
ثم قال تعالى يُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أي لنصرة دين الله وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَة َ لائِمٍ وفيه وجهان الأول أن تكون هذه الواو للحال فإن المنافقين كانوا يراقبون الكفار ويخافون لومهم فبيّن الله تعالى في هذه الآية أن من كان قوياً في الدين فإنه لا يخاف في نصرة دين الله بيده ولسانه لومة لائم الثاني أن تكون هذه الواو للعطف والمعنى أن من شأنهم أن يجاهدوا في سبيل الله لا لغرض آخر ومن شأنهم أنهم صلاب في نصرة الدين لا يبالون بلومة اللائمين واللومة المرة الواحدة من اللوم والتنكير فيها وفي اللائم مبالغة كأنه قيل لا يخافون قط من لوم أحد من اللائمين
ثم قال تعالى ذالِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء فقوله ذالِكَ إشارة إلى ما تقدم ذكره من وصف القوم بالمبة والذلة والعة والمجاهدة وانتفاء خوف اللومة الواحدة فبيّن تعالى أن كل ذلك بفضله إحسانه وذلك صريح في أن طاعات العباد مخلوقة لله تعالى والمعتزلة يحملون اللفظ على فعل الالطاف وهو بعيد لأن فعل الألطاف عام في حق الكل فلا بدّ في التخصيص من فائدة زائدة
ثم قال تعالى وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ فالواسع إشارة إلى كمال القدرة والعليم إشارة إلى كمال العلم ولما أخبر الله تعالى أنه سيجيء بأقوام هذا شأنهم وصفتهم أكد ذلك بأنه كامل القدرة فلا يعجز عن هذا الموعود كامل العلم فيمتنع دخول الخلف في أخباره ومواعيده
إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلواة َ وَيُؤْتُونَ الزَّكَواة َ وَهُمْ رَاكِعُونَ
وجه النظم أنه تعالى لما نهى في الآيات المتقدمة عن موالاة الكفار أمر في هذه الآية بموالاة من يجب موالاته وقال إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ أي المؤمنون الموصوفون بالصفات المذكورة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في قوله وَالَّذِينَ ءامَنُواْ قولان الأول أن المراد عامة المؤمنين وذلك لأن عبادة بن الصامت لما تبرأ من اليهود وقال أنا بريء إلى الله من حلف قريظة والنضير وأتولى الله ورسوله نزلت هذه الآية يعلى وفق قوله وروي أيضاً أن عبدالله بن سلام قال يا رسول الله إن قومنا قد هجرونا وأقسموا أن لا يجالسونا ولا نستطيع مجالسة أصحابك لبعد المنازل فنزلت هذه الآية فقال

رضينا بالله ورسوله وبالمؤمنين أولياء فعلى هذا الآية عامة في حق كل المؤمنين فكل من كان مؤمناً فهو ولي كل المؤمنين ونظيره قوله تعالى وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ( التوبة 71 ) وعلى هذا فقوله الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلواة َ وَيُؤْتُونَ الزَّكَواة َ صفة لك المؤمنين والمراد بذكر هذه الصفلات تمييز عن المنافقين لأنهم كانوا يدعون الإيمان إلا أنهم ما كانوا مداومين على الصلوات والزكوات قال تعالى في صفة صلاتهم وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلَواة َ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى ( التوبة 54 ) وقال يُرَاءونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً ( النساء 142 ) وقال في صفة زكاتهم أَشِحَّة ً عَلَى الْخَيْرِ ( الأحزاب 19 ) وأما قوله وَهُمْ رَاكِعُونَ ففيه على هذا القول وجوه الأول قال أبو مسلم المراد من الركوع الخضوع يعني ( أنهم يصلون ويزكون وهم منقادون خاضعون لجميع أوامر الله ونواهيه والثاني أن يكون المراد من شأنهم إقامة الصلاة وخص الركوع بالذكر تشريفاً له كما في قوله وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ ( البقرة 43 ) والثالث قال بعضهم إن أصحابه كانوا عند نزول هذه الآية مختلفون في هذه الصفات منهم من قد أتم الصلاة ومنهم من دفع المال إلى الفقير ومنهم من كان بعد في الصلاة وكان راكعاً فلما كانوا مختلفين في هذه الصفات لا جرم ذكر الله تعالى كل هذه الصفات
القول الثاني أن المراد من هذه الآية شخص معين وعلى هذا ففيه أقوال روى عكرمة أن هذه الآية نزلت في أبي بكر رضي الله عنه والثاني روى عطاء عن ابن عباس أنها نزلت في علي بن أبي طالب عليه السلام روي أن عبدالله بن سلام قال لما نزلت هذه الآية قلت يا رسول أنا رأيت علياً تصدق بخاتمه على محتاج وهو راكع فنحن نتولاه وروي عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال صليت مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوماً صلاة الظهر فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد فرفع السائل يده إلى السماء وقال الّلهم أشهد أني سألت في مسجد الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فما أعطاني أحد شيئاً وعلي عليه السلام كان راكعاً فأومأ إليهخ بخنصره اليمنى وكان فيها خاتم فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم بمرأى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال ( الّلهم إن أخي موسى سألك ) فقال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى إلى قوله وَأَشْرِكْهُ فِى أَمْرِى ( طه 25 32 ) فأنزلت قرآناً ناطقاً سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً ( القصص 35 ) الّلهم وأنا محمد نبيّك وصفيك فاشرح لي صدري ويسر لي أمري واجعل لي وزيراً من أهلي علياً أشدد به ظهري قال أبو ذر فوالله ما أتم رسول الله هذه الكلمة حتى نزل جبريل فقال يا محمد إقرأ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ إلى أخرها فهذا مجموع مع يتعلق بالروايات في هذه المسألة
المسألة الثانية قالت الشيعة هذه الآية دالة على أن الإمام بعد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هو علي بن ابي طالب وتقريره أن نقول هذه الآية دالة على أن المراد بهذه الآية إمام ومتى كان الأمر كذلك وجب أن يكون ذلك الإمام هو علي بن ابي طالب
بيان المقام الأول أن الولي في اللغة قد جاء بمعنى الناصر والمحب كما في قوله وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ( التوبة 71 ) وجاء بمعنى المتصرف قال عليه الصلاة والسلام ( أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها ) فنقول ههنا وجهان الأول أن لفظ الولي جاء بهذين المعنيين ولم يعين الله مراده ولا منافاة بين المعنيين فوجب حمله عليهما فوجب دلالة الآية على أن المؤمنين المذكورين في

الآية متصرفون في الأمة الثاني أن نقول الولي في هذه الآية لا يجوز أن يكون بمعنى الناصر فوجب أن يكون بمعنى المتصرف وإنما قلنا إنه لا يجوز أن يكون بمعنى الناصر لأن الولاية المذكورة في هذه الآية غير عامة في كل المؤمنين بدليل أنه تعالى ذكر بكلمة إِنَّمَا للحصر كقوله إِنَّمَا اللَّهُ إِلَاهٌ واحِدٌ ( النساء 171 ) والولاية المذكورة في هذه الآية ليست بمعنى النصرة وإذا لم تكن بمعنى النصرة كانت بمعنى التصرف لأنه ليس للولي معنى سوى هذين فصار تقدير الآية إنما المتصرف فيكم أيها المؤمنون هو الله ورسوله والمؤمنون الموصوفون بالصفة الفلانية وهذا يقتضي أن المؤمنين الموصوفين بالصفات المذكورة في هذه لآية متصرفون في جميع الأمة ولا معنى للإمام إلا الإنسان الذي يكون متصرفاً في كل الأمة فثبت بما ذكرنا دلالة هذه الآية على أن الشخص المذكور فيها يجب أن يكون إمام الأمة
أما بيان المقام الثاني وهو أنه لما ثبت ما ذكرنا وجب أن يكون ذلك الإنسان هو علي بن ابي طالب وبيانه من وجوه الأول أن كل من أثبت بهذه الآية إمامة شخص قال إن ذلك الشخص هو علي وقد ثبت بما قدمنا دلالة هذه الآية على إمامة شخص فوجب أن يكون ذلك الشخص هو علي ضرورة أنه لا قائل بالفرق والثاني تظاهرت الروايات على أن هذه الآية نزلت في حق علي ولا يمكن المصير إلى قول من يقول ءنها نزلت في أبي بكر رضي الله عنه لأنها لو نزلت في حقه لدلت على إمامته وأجمعت الأمة على أن هذه الآية لا تدل على إمامته فبطل هذا القول والثالث أن قوله وَهُمْ رَاكِعُونَ لا يجوز جعله عطفاً على ما تقدم لأن الصلاة قد تقدمت والصلاة مشتملة على الركوع فكانت إعادة ذكر الركوع تكراراً فوجب جعله حالاً أي يؤتون الزكاة حال كونهم ءاكعين وأجمعوا على أن إيتاء الزكاة حال الركوع لم يكن إلا في حق علي فكانت الآية مخصوصة به ودالة على إمامته من الوجه الذي قررناه وهذا حاصل استدلال القوم بهذه الآية على إمامة علي عليه السلام
والجواب أما حمل لفظ الولي على الناصر وعلى المتصرف معاً فغير جائز لما ثبت في أصول الفقه أنه لا يجوز حمل اللفظ المشترك على مفهومية معاً
أما الوجه الثاني فنقول لم لا يجوز أن يكون المراد من لفظ الولي في هذه الآية الناصر والمحب ونحن نقيم الدلالة على أن حمل لفظ الولي على هذا المعنى أولى من حمله على معنى المتصرف ثم نجيب عما قالوه فنقول الذي يدل على أن حمله على الناصر أولى وجوه الأول أن اللائق بما قبل هذه الآية وبما بعدها ليس إلا هذا المعنى أما ما قبل هذه لآية فلأنه تعالى قال يُوقِنُونَ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء ( المائدة 51 ) وليس المراد لا تتخذوا اليهود والنصارى أئمة متصرفين في أرواحكم وأموالكم لأن بطلان هذا كالمعلوم بالضرورة بل المراد لا تتخذوا اليهود والنصارى أحباباً وأنصاراً ولا تخالطوهم ولا تعاضدوهم ثم لما بالغ في النهي عن ذلك قال إنما وليكم الله ورسوله والمؤمنون والموصوف والظاهر أن الولاية المأمور بها ههنا هي المنهي عنها فيما قبل ولما كانت الولاية المنهي عنها فيما قبل هي الولاية بمعنى النصرة كانت الولاية المأمور بها هي الولاية بمعنى النصرة وأما ما بعد هذه الآية فهي قوله

الْغَالِبُونَ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم ( المائدة 57 ) فأعاد النهي عن اتخاذ اليهود والنصارى والكفار أولياء ولا شك أن الولاية المنهي عنها هي الولاية بمعنى النصرة فكذلك الولاية في قوله إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ يجب أن تكون هي بمعنى النصرة وكل من أنصف وترك التعصب وتأمل في مقدمة الآية وفي مؤخرها قطع بأن الولي في قوله إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ ليس إلا بمعنى الناصر والمحب ولا يمكن أن يكون بمعنى الإمام لأن ذلك يكون إلقاء كلام أجنبي فيما بين كلامين مسوقين لغرض واحد وذلك يكون في غاية الركاكة والسقوط ويجب تنزيه كلام الله تعالى عنه
الحجة الثانية أنا لو حملنا الولاية على التصرف والإمامة لما كان المؤمنون المذكورين في الآية موصوفين بالولاية حال نزول الآية لأن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ما كان نافذ التصرف حال حياة الرسول والآية تقتضي كون هؤلاء المؤمنون موصوفين بالولاية في الحال أما لو حملنا الولاية على المحبة والنصرة كانت الولاية حاصلة في الحال فثبت أن حمل الولاية على المحبة أولى من حملها على التصرف والذي يؤكد ما قلناه أنه تعالى منع المؤمنين من اتخاذ اليهود والنصارى أولياء ثم أمرهم بموالاة هؤلاء المؤمنين فلا بدّ وأن تكون موالاة هؤلاء المؤمنين حاصلة في الحال حتى يكون النفي والإثبات متواردين على شيء واحد ولما كانت الولاية بمعنى التصرف غير حاصلة في الحال امتنع حمل الآية عليها
الحجة الثالثة أنه تعالى ذكر المؤمنين الموصوفين في هذه الآية بصيغة الجمع في سبعة مواضع وهي قوله وَالَّذِينَ ءامَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلواة َ وَيُؤْتُونَ الزَّكَواة َ وَهُمْ رَاكِعُونَ وحمل ألفاظ الجمع وإن جاز على الواحد على سبيل التعظم لكنه مجاز لا حقيقة والأصل حمل الكلام على الحقيقة
الحجة الرابعة أنا قد بينا بالبرهان البين أن الآية المتقدمة وهي قوله خَاسِرِينَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ ( المائدة 54 ) إلى آخر الآية من أقوى الدلائل على صحة إمامة أبي بكر فلو دلّت هذه الآية على صحة إمامة علي بعد الرسول لزم التناقض بين الآيتين وذلك باطل فوجب القطع بأن هذه الآية لا دلالة فيها على أن علياً هو الإمام بعد الرسول
الحجة الخامسة أن علي بن أبي طالب كان أعرف بتفسير القرآن من هؤلاء الروافض فلو كانت هذه الآية دالة على إمامته لاحتج بها في محفل من المحافل وليس للقوم أن يقولوا إنه تركه للتقية لإنهم ينقلون عنه أنه تمسك يوم الشورى بخبر الغدير وخبر المباهلة وجميع فضائله ومناقبه ولم يتمسك ألبتة بهذه الآية في إثبات امامته وذلك يوجب القطع بسقوط قول هؤلاء الروافض لعنهم الله
الحجة السادسة هب أنها دالة على إمامة علي لكنا توافقنا على أنها عند نزولها ما دلت على حصول الإمامة في الحال لأن علياً ما كان نافذ التصرف في الأمة حال حياة الرسول عليه الصلاة والسلام فلم يبق إلا أن تحمل الآية على أنها تدل على أن علياً سيصير إماماً بعد ذلك ومتى قالوا ذلك فنحن نقول بموجبه ونحمله على إمامته بعد أبي بكر وعمر وعثمان إذ ليس في الآية ما يدل على تعيين الوقت فإن قالوا الأمة في هذه الآية على قولين منهم من قال إنها لا تدل على إمامة علي ومنهم من قال ءنها تدل على إمامته وكل من قال بذلك قال إنها تدل على إمامته بعد الرسول من غير فصل فالقول بدلالة الآية على ءمامة علي

لا على هذا الوجه قول ثالث وهو باطل لأنا نجيب عنه فنقول ومن الذين أخبركم أنه ما كان أحد في الأمة قال هذا القول فإن من المحتمل بل من الظاهر أنه منذ استدل مستدل بهذه الآية على إمامة علي فإن السائل يورد على ذلك لاستدلال هذا السؤال فكان ذكر هذا الاحتمال وهذا السؤال مقروناً بذكر هذا الاستدلال
الحجة السابعة أن قوله إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لا شك أنه خطاب مع الأمة وهم كانوا قاطعين بأن المتصرف فيهم هو الله ورسوله وإنما ذكر الله تعالى هذا الكلام تطييباً لقول المؤمنين وتعريفاً لهم بأنه لا حاجة بهم إلى اتخاذ الأحباب والأنصار من الكفار وذلك لأن من كان الله ورسوله ناصراً له ومعيناً له فأي حاجة به إلى طلب النصرة والمحبة من اليهود والنصارى وإذا كان كذلك كان المراد بقوله إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ هو الولاية بمعنى النصرة والمحبة ولا شك أن لفظ الولي مذكور مرة واحدة فلما أريد به ههنا معنى النصرة امتنع أن يراد به معنى التصرف لما ثبت أنه لا يجوز استعمال اللفظ المشترك في مفهوميه معاف
الحجة الثامنة أنه تعالى مدح المؤمنين في الآية المتقدمة بقوله يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّة ٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّة ٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ( المائدة 54 ) فإذا حملنا قوله إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ على معنى المحبة والنصرة كان قوله إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ يفيد فائدة قوله يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّة ٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّة ٍ عَلَى الْكَافِرِينَ وقوله يُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ( المائدة 54 ) يفيد فائدة قوله يُقِيمُونَ الصَّلواة َ وَيُؤْتُونَ الزَّكَواة َ وَهُمْ رَاكِعُونَ ( المائدة 55 ) فكانت هذه الآية مطابقة لما قبلها مؤكدة لمعناها فكان ذلك أولى فثبت بهذه الوجوه أن الولاية المذكورة في هذه الآية يجب أن تكون بمعنى النصرة لا بمعنى التصرف
أما الوجه الذي عولوا عليه وهو أن الولاية المذكورة في الآية غير عامة والولاية بمعنى النصرة عامة فجوابه من وجهين
الأول لا نسلم أن الولاية المذكورة في الآية غير عامة ولا نسلم أن كلمة إِنَّمَا للحصر والدليل عليه قوله إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء ( يونس 24 ) ولا شك أن الحياة الدنيا لها أمثال أخرى سوى هذا المثل وقال إِنَّمَا الْحَيَواة ُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ( محمد 36 ) ولا شك أن اللعب واللهو قد يحصل في غيرها الثاني لا نسلم أن الولاية بمعنى النصرة عامة في كل المؤمنين وبيانه أنه تعالى قسم المؤمنين قسمين أحدهما الذين جعلهم مولياً عليهم وهم المخاطبون بقوله إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ والثاني الأولياء وهم المؤمنون الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون فإذا فسرنا الولاية ههنا بمعنى النصرة كان المعنى أنه تعالى جعل أحد القسمين أنصاراً للقسم الثاني ونصرة القسم الثاني غير حاصلة لجميع المؤمنين ولو كان كذلك لزم في القسم الذي هم المنصورون أن يكونوا ناصرين لأنفسهم وذلك محال فثبت أن نصرة أحد قسمي الأمة غير ثابتة لكل الأمة بل مخصوصة بالقسم الثاني من الأمة فلم يلزم من كون الولاية المذكورة في هذه الآية خاصة أن لا تكون بمعنى النصرة وهذا جواب حسن دقيق لا بدّ من التأمل فيه
وأما استدلالهم بأن الآية نزلت في حق علي فهو ممنوع فقد بينا أن أكثر المفسرين زعموا أنه في

حق الأمة والمراد أن الله تعالى أمر المسلم أن لا يتخذ الحبيب والناصر إلا من المسلمين ومنهم من يقول إنها نزلت في حق أبي بكر
وأما استدلالهم بأن الآية مختصة بمن أدى الزكاة في الركوع وذلك هو علي بن أبي طالب فنقول هذا أيضاً ضعيف من وجوه الأول أن الزكاة اسم للواجب لا للمندوب بدليل قوله تعالى وَإِذْ أَخَذْنَا ( البقرة 43 ) فلو أنه أدى الزكاة الواجبة في حال كونه في الركوع لكان قد أخر أداء الزكاة الواجب عن أول أوقات الوجوب وذلك عند أكثر العلماء معصية وأنه لا يجوز إسناده إلى علي عليه السلام وحمل الزكاة على الصدقة النافلة خلاف الأصل لما بينا أن قوله وَإِذْ أَخَذْنَا ظاهرة يدل على أن كل ما كان زكاة فهو واجب الثاني هو أن اللائق بعلي عليه السلام أن يكون مستغرق القلب بذكر الله حال ما يكون في الصلاة والظاهر أن من كان كذلك فإنه لا يتفرغ لاستماع كلام الغير ولفهمه ولهذا قال تعالى الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ الْعَالِمُونَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( آل عمران 191 ) ومن كان قبله مستغرقاً في الفكر كيف يتفرغ لاستماع كلام الغير الثالث أن دفع الخاتم في الصلاة للفقير ولم يكن له مال تجب الزكاة فيه ولذلك فإنهم يقولون إنه لما أعطى ثلاثة أقراص نزل فيه سورة أَهْلُ أَتَى ( الإنسان 1 ) وذلك لا يمكن إلا إذا كان فقيراً فأما من كان له مال تجب فيه الزكاة يمتنع أن يستحق المدح العظيم المذكور في تلك السورة على إعطاء ثلاثة أقراص وإذا لم يكن له مال تجب فيه الزكاة امتنع حمل قوله وَيُؤْتُونَ الزَّكَواة َ وَهُمْ رَاكِعُونَ عليه
الوجه الخامس هب أن المراد بهذه الآية هو علي بن أبي طالب لكنه لم يتم الاستدلال بالآية إلا إذا تم أن المراد بالولي هو المتصرف لا الناصر والمحب وقد سبق الكلام فيه
المسألة الثالثة أعلم أن الذين يقولون المراد من قوله وَيُؤْتُونَ الزَّكَواة َ وَهُمْ رَاكِعُونَ هو أنهم يؤتون الزكاة حال كونهم راكعين احتجوا بالآية على أن العمل القليل لا يقطع الصلاة فإنه دفع الزكاة إلى السائل وهو في الصلاة ولا شك أنه نوى إيتاء الزكاة وهو في الصلاة فدل ذلك على أن هذه الأعمال لا تقطع الصلاة وبقي في الآية سؤالان
السؤال الأول المذكور في الآية هو الله تعالى ورسوله والمؤمنون فلم لم يقل إنما أولياؤكم
والجواب أصل الكلام إنما وليكم الله فجعلت الولاية لله على طريق الأصالة ثم نظم في سلك إثباتها له إثباتها لرسول الله والمؤمنين على سبيل التبع ولو قيل إنما أولياؤكم الله ورسوله والذين آمنوا لم يكن في الكلام أصل وتبع وفي قراءة عبد الله إنما مولاكم الله
السؤال الثاني الَّذِينَ يُقِيمُونَ ما محله
الجواب الرفع على البدل من الَّذِينَ كَفَرُواْ أو يقال هم الذين يقيمون أو النصب على المدح والغرض من ذكره تمييز المؤمن المخلص عمن يدعي الإيمان ويكون منافقاً لأن ذلك الإخلاص إنما يعرف بكونه مواظباً على الصلاة في حال الركوع أي في حال الخضوع والخشوع والإخبات لله تعالى

وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ
فيه مسألتان
المسألة الأولى الحزب في اللغة أصحاب الرجل الذين يكونون معه على رأيه وهم القوم الذين يجتمعون لأمر حزبهم وللمفسرين عبارات قال الحسن جند الله وقال أبو روق أولياء الله وقال أبو العالية شيعة الله وقال بعضهم أنصار الله وقال الأخفش حزب الله الذين يدينون بدينه ويطيعونه فينصرهم
المسألة الثانية قوله فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ جملة واقعة موقع خبر المبتدأ والعائ غير مذكور لكونه معلوماً والتقدير فهو غالب لكونه من جند الله وأنصاره
يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَآءَ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ
أعلم أنه تعالى نهى في الآية المتقدمة عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياى وساق الكلام في تقريره ثم ذكر ههنا النهي العام عن موالاة جميع الكفار وهو هذه الآية وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ أبو عمرون والكسائي الْكُفَّارِ بالجر عطفاً على قوله مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ومن الكفار والباقون بالنصب عطفاً على قوله الَّذِينَ اتَّخَذُواْ بتقدير ولا الكفار
المسألة الثانية قيل كان رفاعة بن زيد وسويد بن الحرث أظهر الإيمان ثم نافقا وكان رجال من المسلمين يوادونهما فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية
المسألة الثالثة هذه الآية تقتضي امتياز أهل الكتاب عن الكفار لأن العطف يقتضي المغايرة وقوه لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ( البينة 1 ) صريح في كونهم كفاراً وطريق التوفيق بينهما أن كفر المشركين أعظم وأغلظ فنحن لهذا السبب نخصصهم باسم الكفر والله أعلم
المسألة الرابعة معنى تلاعبهم بالدين واستهزائهم إظهارهم ذلك باللسان مع الإصرار على الكفر في القلب ونظيره قوله تعالى في سورة البقرة وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ ( البقرة 14 ) والمعنى أن القوم لما اتخذوا دينكم هزواً وسخرية فلا تتخذوهم أولياء وأنصاراً وأحباباً فإن ذلك الأمر الخارج عن العقل والمروءة

وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَواة ِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذالِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ
لما حكى في الآية الأولى عنهم أنهم اتخذوا دين المسلمين هزواً ولعباً ذكر ههنا بعض ما يتخذونه من هذا الدين هزواً ولعباً فقال مُّؤْمِنِينَ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَواة ِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً وفيه مسائل
المسألة الأولى الضمير في قوله اتَّخَذُوهَا للصلاة أو المناداة
قيل كان رجل من النصارى بالمدينة إذا سمع المؤذن بالمدينة يقول أشهد أن محمداً رسول الله يقول احرق الكاذب فدخلت خادمته بنار ذات ليلة فتطايرت منها شرارة البيت فاحترق البيت واحترق هو وأهله
وقيل كان منادي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ينادي للصلاة وقام المسلمون إليها فقالت اليهود قاموا لا قاموا صلوا لا صلوا على طريق الاستهزاء فنزلت الآية
وقيل كان المنافقون يتضاحكون عند القيام إلى الصلاة تنفيراً للناس عنها
وقيل قالوا يا محمد لقد أبدعت شيئاً لم يسمع فيما مضى فإن كنت نبياً فقد خالفت فيما أحدثت جميع الأنبياء فمن أين لك صياح كصياح العير فأنزل الله هذه الآية
المسألة الثانية قالوا دلت الآية على ثبوت الأذان بنص الكتاب لا بالمنام وحده
المسألة الثالثة قوله هُزُواً وَلَعِباً أمران وذلك لأنهم عند إقامة الصلاة يقولون هذه الأعمال التي أتينا بها استهزاءً بالمسلمين وسخرية منهم فإنهم يظنون أنا على دينهم مع أنا لسنا كذلك ولما اعتقدوا أنه ليس فيها فائدة ومنفعة في الدين والدنيا قالوا إنها لعب
ثم قال تعالى ذالِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ أي لو كان لهم عقل كامل لعلموا أن تعظيم الخالق المنعم وخدمته مقرونة بغاية التعظيم لا يكون هزواً ولعباً بل هو أحسن أعمال العباد وأشرف أفعالهم ولذلك قال بعض الحكماء أشرف الحركات الصلاة وأنفع السكنات الصيام
قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ
أعلم أن وجه النظم أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم اتخذوا دين الإسلام هزواً ولعباً قال لهم ما الذين تنقمون من هذا الدين وما الذي تجدون فه مما يوجب اتخاذه هزواً ولعباً وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ الحسن هَلْ تَنقِمُونَ بفتح القاف والفصيح كسرها يقال نقمت الشيء ونقمته بكسر القاف وفتحها إذا أنكرته وللمفسرين عبارات هل تنقمون منا هل تعيبون هل تنكرون هل

تكرهون قال بعضهم سمي العقاب نقمة لأنه يجب على ما ينكر من الفعل وقال آخرون الكراهة التي يتبعها سخط من الكاره تسمى نقمة لأنها تتبعها النقمة التي هي العذاب فعلى القول الأول لفظ النقمة موضوع أولاً للمكروه ثم سمي العذاب نقمة لكونه مكروهاً وعلى القول الثاني لفظ النقمة موضوع للعذاب ثم سمي المنكر والمكروه نقمة لأنه يتبعه العذاب
المسألة الثانية معنى الآية أنه يقول لأهل الكتاب لم اتخذتم هذا الدين هزواً ولعباً ثم قال على سبيل التعجب هل تجدون في هذا الدين إلا الإيمان بالله والإيمان بما أنزل على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والإيمان بجميع الأنبياء الذين كانوا قبل محمدا يعني أن هذا ليس مما ينقم أما الإيمان بالله فهو رأس جميع الطاعات وأما الإيمان بمحمد وبجميع الأنبياء فهو الحق والصدق لأنه إذا كان الطريق إلى تصديق بعض الأنبياء في ادعاء الرسالة والنبوّة هو المعجز ثم رأينا أن المعجز حصل على يد محمد عليه الصلاة والسلام وجب الإقرار بكونه رسولاً فأما الإقرار بالبعض وإنكار البعض فذلك كلام متناقض ومذهب باطل فثبت أن الذي نحن عليه هو الدين الحق والطريق المستقيم فلم تنقموه عليناا قال ابن عباس إن نفراً من اليهود أتوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فسألوه عمن يؤمن به من الرسل فقال أؤمن بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل إلى قوله ونحن له مسلمون فلما ذكر عيسى جحدوا نبوّته وقالوا والله ما نعلم أهل دين أقل حظاً في الدنيا والآخرة منكم ولا ديناً شراً من دينكم فأنزل الله تعالى هذه الآية وما بعدها
وأما قوله وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ فالقراءة العامة ءانٍ بفتح الألف وقرأ نعيم بن ميسرة ءانٍ بالكسر وفي الآية سؤالات
السؤال الأول كيف ينقم اليهود على المسلمين مع كون أكثر اليهود فاسقين
والجواب من وجوه الأول قوله وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ تخصيص لهم بالفسق فيدل على سبيل التعريض أنهم لم يتبعوهم على فسقهم فكان المعنى وما تنقمون منا إلا أن آمنا وما فسقنا مثلكم الثاني لما ذكر تعالى ما ينقم اليهود عليهم من الإيمان بجميع الرسل وليس ذلك ببما ينعم ذكر في مقابله فسقهم وهو مما ينقم ومثل هذا حسن في الازدواج يقول القائل هل تنقم مني إلا أني عفيف وأنك فاجر وأني غني وأنت فقير فيحسن ذلك لإتمام المعنى على سبيل المقابلة والثالث أن يكون الواو بمعنى ( مع ) أي وما تنقمون منا إلا الإيمان بالله مع أن أكثركم فاسقون فإن أحد الخصمين إذا كان موصوفاً بالصفات الذميمة واكتسب الثاني شيئاً كثيراً من الصفات الحميدة كان اكتسابه للصفات الحميدة مع كون خصمه مكتسباً للصفات الذميمة أشد تأثيراً في وقوع البغض والحسد في قلب الخصم والرابع أن يكون على تقدير حذف المضاف أي واعتقاد أنكم فاسقون الخامس أن يكون التقدير وما تنقمون منا إلا بأن آمنا بالله وبأن أكثركم فاسقون يعني بسبب فسقكم نقمتم الإيمان علينا السادس يجوز أن يكون تعليلاً معطوفاً على تعليل محذوف كأنه قيل وما تنقمون منا إلا الإيمان لقلة إنصافكم ولأجل أن أكثركم فاسقون
السؤال الثاني اليهود كلهم فساق وكفار فلم خص الأكثر بوصف الفسق
والجواب من وجهين الأول يعني أن أكثركم إنما يقولون ما يقولون ويفعلون ما يفعلون طلباً للرياسة والجاه وأخذ الرشوة والتقرب إلى الملوك فأنتم في دينكم فساق لا عدول فإن الكافر والمبتدع قد

يكون عدل دينه وقد يكون فاسق دينه ومعلوم أن كلهم ما كانوا كذلك فلذلك خصّ أكثرهم بهذا الحكم والثاني ذكر أكثرهم لئلا يظن أن من آمن منهم داخل في ذلك
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذالِكَ مَثُوبَة ً عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَة َ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَائِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ السَّبِيلِ
فيه مسائل
المساألة الأولى قوله مّن ذالِكَ إشالرة إلى المنقم ولا بدّ من حذف المضاف وتقديره بشر من أهل ذلك لأنه قال مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ ولا يقال الملعون شر من ذلك الدين بل يقال إنه شر ممن له ذلك الدين
فإن قيل فهذا يقتضي كون الموصوفين بذلك الدين محكوماً عليهم بالشر ومعلوم أنه ليس كذلك
قلنا إنما خرج الكلام على حسب قولهم واعتقادهم فإنهم حكموا بأن اعتقاد ذلك الدين شر فقيل لهم هب أن الأمر كذلك ولكن لعنة الله وغضبه ومسخ الصور شر من ذلك
المسألة الثانية مَثُوبَة ً نصب على التمييز ووزنها مفعلة كقولك مقولة ومجوزة وهو بمعنى المصدر وقد جاءت مصادر على مفعول كالمعقول والميسور
فإن قيل المثوبة مختصة بالإحسان فكيف جاءت في الإساءة
قلنا هذا على طريقة قوله فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( آل عمران 21 ) وقول الشاعر
تحية بينهم ضرب وجيع
المسألة الثالثة مِنْ في قوله مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ يحتمل وجهين الأول أنه في محل الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف فإنه لما قال قُلْ هَلْ أُنَبّئُكُمْ بِشَرّ مّن ذالِكَ فكأن قائلاً قال من ذلك فقيل هو من لعنه الله ونظيره قوله تعالى قُلْ أَفَأُنَبّئُكُم بِشَرّ مّن ذالِكُمُ النَّارُ ( الحج 72 ) كأنه قال هو النار الثاني يجوز أن يكون في موضع خفض بدلاً من ( شر ) والمعنى أنبئكم بمن لعنه الله
المسألة الرابعة اعلم أنه تعالى ذكر من صفاتهم أنواعاً أولها أنه تعالى لعنهم وثانيها أنه غضب عليهم وثالثها أنه جعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت قال أهل التفسير عنى بالقردة أصحاب السبت وبالخنازير كفار مائدة عيسى وروي أيضاً أن المسخين كانا في أصحاب السبت لأن شبانهم مسخوا قردة ومشايخهم مسخوا خنازير
المسألة الخامسة ذكر صاحب ( الكشاف ) في قوله وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أنواعاً من القرآات أحدها قرأ

أُبي وعبدوا الطاغوت وثانيها قرأ ابن مسعود ومن عبدوا وثالثها وعابد الطاغوت عطفاً على القردة ورابعها وعابدي وخامسها وعباد وسادسها وعبد وسابعها وعبد بوزن حطم وثامنها وعبيد وتاسعها وعبد بضمتين جميع عبيد وعاشرها وعبدة بوزن كفرة والحادي عشر وعبد وأصله عبدة فحذفت التاء للإضافة أو خهو كخدم في جمع خادم والثاني عشر عبد والثالث عشر عباد والرابع عشر وأعبد والخامس عشر وعبد الطاغوت على البناء للمفعول وحذف الراجع بمعنى وعبد الطاغوت فيهم أو بينهم والسادس عشر وعبد الطاغوت بمعنى صار الطاغوت معبوداً من دون الله تعالى كقولك أمر إذا صار أميراً والسابع عشر قرأ حمزة عبد الطاغزت بفتح العين وضم الباء ونصب الدال وجر الطاغوت وعابوا هذه القراءة على حمزة ولحنوه ونسبوه إلى ما لا يجوز ذكره وقال قوم إنها ليست بلحن ولا خطأ وذكروا فيها وجوهاً الأول أن العبد هو العبد إلا أنهم ضموا الباء للمبالغة كقولهم رجل حذر وفطن للبليغ في الحذر والفطنة فتأويل عبد الطاغوت أنه بلغ الغاية في طاعة الشيطان وهذا أحسن الوجوه الثاني أن العبد والعبد لغتان كقوللهم سبع وسبع والثالث أن العبد جمعه عباد والعباد جمعه عبد كثمار وثمر ثم استثلقوا ضمتين متواليتين فأبدلت الأولى بالفتحة الرابع يحتمل أنه أراد أعبد الطاغوت فيكون مثل فلس وأفلس ثم حذفت الهمزة ونقلت حركتها إلى العين الخامس يحتمل أنه أراد وعبدة الطاغوت كما قريء ثم حذف الهاء وضم الباء لئلا يشتبه بالفعل
المسألة السادسة قوله وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ قال الفرّاء تأويله وجعلل منهم القردة ومن عبد الطاغوت فعلى هذا الموصول محذوف
المسألة السابعة احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الكفر بقضاء الله قالوا لأن تقدير الآية وجعل الله منهم من عبد الطاغوت وإنما يعقل معنى هذا الجعل إذا كان هو الذي جعل فيهم تلك العبادة إذ لو كان جعل تلك العبادة منهم لكان الله تعالى ما جعلهم عبدة الطاغوت بل كانوا هم الذين جعلوا أنفسهم كذلك وذلك على خلاف الآية قالت المعتزلة معناه أنه تعالى حكم عليهم بذلك ووصفهم به كقوله وَجَعَلُواْ الْمَلَئِكَة َ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً ( الزخرف 19 ) والكلام فيه قد تقدم مراراً
المسألة الثامنة قيل الطاغوت العجل وقيل الطاغوت الأحبار وكل من أطاع أحداً في معصية الله فقد عبده
ثم قال تعالى أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً أي أولئك الملعونون الممسوخون شر مكاناً من المؤمنين وفي لفظ المكان وجهان الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما لأن مكانهم سقر ولا مكان أشد شراً منه والثاني أنه أضعف الشر في اللفظ إلى المكان وهو في الحقيقة لأهله وهو من باب الكناية كقولهم فلان طويل النجاد كثير الرماد ويرجع حاصله إلى الإشارة إلى الشيء بذكر لوازمه وتوابعه
ثم قال وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ أي عن قصد السبيل والدين الحق قال المفسرون لما نزلت هذه الآية عبر المسلمون أهل الكتاب وقالوا يا إخوان القردة والخنازير فافتضحوا ونكسوا رؤوسهم

وَإِذَا جَآءُوكُمْ قَالُوا ءَامَنَّا وَقَدْ دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ
فيه مسائل
المسألة الأولى قالوا نزلت هذه الآية في ناس من اليهود كانوا يدخلون على الرسول عليه الصلاة والسلام ويظهرون له الإيمان نفاقاً فأخبره الله عزّ وجلّ بشأنهم وأنهم يخرجون من مجلسك كما دخلوا لم يتعلق بقلبهم شيء من دلائلك وتقريراتك ونصائحك وتذكيراتك
المسألة الثانية الباء في قوله دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ خَرَجُواْ بِهِ يفيد بقاء الكفر معهم حالتي الدخول والخروج من غير نقصان ولا تغيير فيه البتة كما تقول دخل زيد بثوبه وخرج به أي بقي ثوبه حال الخروج كما كان حال الدخول
المسألة الثالثة ذكر عند الدخول كلمة قَدْ فقال وَقَدْ دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وذكر عند الخروج كلمة هُمْ فقال وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ قالوا الفائدة في ذكر كلمة ( قد ) تقريب الماضي من الحال والفائدة في ذكر كلمة ( هم ) التأكيد في إضافة الكفر إليهم ونفى أن يكون من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في ذلك فعل أي لم يسمعوا منك يا محمد عند جلوسهم معك ما يوجب كفراً د فتكون أنت الذي ألقيتهم في الكفر بل هم الذين خرجوا بالكفر باختيار أنفسهم
المسألة الرابعة قالت المعتزلة إنه تعالى أضاف الكفر إليهم حالتي الدخول والخروج على سبيل الذم وبالغ في تقرير تلك الاضافة بقوله وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ فدل هذا على أنه من العبد لا من الله
والجواب المعارضة بالعلم والداعي
ثم قال تعالى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ والغرض منه المبالغة فيما في قلوبهم من الجد والاجتهاد في المكر بالمسلمين والكيد بهم والبغض والعداوة لهم ثم قال تعالى
وَتَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
المسارعة في الشيء الشروع فيه بسرعة قيل الإثم الكذب والعدوان الظلم وقيل الإثم ما يختص بهم والعدوان ما يتعداهم إلى غيرهم وأما أكل السحت فهو أخذ الرسوة وقد تقدم الاستقصاء في

تفسير السحت وفي الآية فوائد
الفائدة الأولى أنه تعالى قال وَتَرَى كَثِيراً مّنْهُمْ والسبب أن كلهم ما كان يفعل ذلك بل كان بعضهم يستحيي فيترك
الفائدة الثانية أن لفظ المسارعة إنما يستعملل في أكثر الأمر في الخير قال تعالى يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْراتِ ( آل عمران 114 ) وقال تعالى نُسَارِعُ لَهُمْ فِى الْخَيْراتِ ( المؤمنون 56 ) فكان اللائق بهذا الموضع لفظ العجلة إلا أنه تعالى ذكر لفظ المسارعة لفائدة وهي أنهم كانوا يقدمون على هذه المنكرات كأنهم محقون فيه
الفائدة الثالثة لفظ الاثم يتناول جميع المعاصي والمنهيات فلما ذكر الله تعالى بعده العدوان وأكل السحت دلّ هذا على أن هذين النوعين أعظم أنواع المعصية والإثم ثم قال تعالى
لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالاٌّ حْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ
معنى لَوْلاَ هاهنا التخصيص والتوبيخ وهو بمعنى هلا والكلام في تفسير الربانيين والأحبار قد تقدم قال الحسن الربانيون علماء أهل الإنجيل والأحبار علماء أهل التوراة وقال غيره كله في اليهود لأنه متصل بذكرهم والمعنى أن الله تعالى استبعد من علماء أهل الكتاب أنهم ما نهوا سفلتهم وعوامهم عن المعاصي وذلك يدل على أن تارك النهي عن المنكر بمنزلة مرتكبه لأنه تعالى ذم الفريقين في هذه الآية على لفظ واحد بل نقول إن ذم تارك النهي عن المنكر بمنزلة مرتكبه لأنه تعالى ذم الفريقين في هذه الآية على لفظ واحد بل نقول إن ذم تارك النهي عن المنكر أقوى لأنه تعالى قال في المقدمين على الإثم والعدوان وأكل السحت لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( المائدة 62 ) وقال في العلماء التاركين للنهي عن المنكر لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ والصنع أقوى من العمل لأن العمل إنما يسمى صناعة إذا صار مستقراً راسخاً متمكناً فجعل جرم العاملين ذنباً غير راسخ وذنب التاركين للنهي عن المنكر ذنباً راسخاً والأمر في الحقيقة كذلك لأن المعصية مرض الروح وعلاجه العلم بالله وبصفاته وبأحكامه فإذا حصل هذا العلم وما زالت المعصية كان مثل المرض الذي شرب صاحبه الدواء فما زال فكما أن هناك يحصل العلم بأن المرض صعب شديد لا يكاد يزول فكذلك العالم إذا أقدم على المعصية دلّ على أن مرض القلب في غاية القوة والشدة وعن ابن عباس هي أشد آية في القرآن وعن الضحاك ما في القرآن آية أخوف عندي منها والله أعلم
وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَة ٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَة َ وَالْبَغْضَآءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الأرض فَسَاداً وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ
قوله تعالى وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَة ٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ
اعلم أن في الآية مسائل

المسألة الأولى في هذا الموضع إشكال وهو أن الله تعالى حكى عن اليهود أنهم قالوا ذلك ولا شك في أن الله تعالى صادق في كل ما أخبر عنه ونرى اليهود مطبقين متفقين على أنا لا نقول ذلك ولا نعتقده البتة وأيضاً المذهب الذي يحكى عن العقلاء لا بدّ وأن يكون معلوم البطلان بضرورة العقل والقول بأن يد الله مغلولة قول باطل ببديهة العقل لأن قولنا ( الله ) اسم لموجود قديم وقادر على خلق العالم وإيجاده وتكوينه وهذا الموجود يمتنع أن تكون يده مغلولة وقدرته مقيدة وقاصرة وإلا فكيف يمكنه مع اللقدرة الناقصة حفظ العالم وتدبيره
إذا ثبت هذا فنقول حصل الاشكال الشديد في كيفية تصحيح هذا النقل وهذه الرواية فنقول عندنا فيه وجوه الأول لعلّ القوم إنما قالوا هذا على سبيل الإلزام فإنهم لما سمعوا قاوله تعالى مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ( البقرة 245 ) قالوا لو احتاج إلى القرض لكان فقيراً عاجزاً فلما حكموا بأن الإل ه الذي يستقرض شيئاً من عباده فقير مغلول اليدين لا جرم حكى الله عنهم هذا الكلام الثاني لعلّ القوم لما رأوا أصحاب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في غاية الشدة والفقر والحاجة قالوا على سبيل السخرية والاستهزاء إن إل ه محمد فقير مغلول اليد فلما قالوا ذلك حكى الله عنهم هذا الكلام الثالث قال المفسرون اليهود كانوا أكثر الناس مالاً وثروة فلما بعث الله محمداً وكذبوا به ضيق الله عليهم المعيشة فعند ذلك قالت اليهود يد الله مغلولة أي مقبوضة عن العطاء على جهة الصفة بالبخل والجاهل إذا وقع في البلاء والشدة والمحنة يقول مثل هذه الألفاظ الرابع لعلّه كان فيهم من كان على مذهب الفلسفة وهو أنه تعالى مموجب لذاته وأن حدوث الحوادث عنه لا يمكن إلا على نهج واحد وسنن واحد وأنهه تعالى غير قادر على إحداث الحوادث على غير الوجوه التي عليها تقع فعبروا عن عدم الاقتدار على التغيير والتبديل بغل اليد الخامس قال بعضهم المراد هو قول اليهود إن الله لا يعذبنا إلا بقدر الأيام التي عبدنا العجل فيها إلا أنهم عبروا عن كونه تعالى غير معذب لهم إلا في هذا القدر من الزمان بهذه العبارة الفاسدة واستوجبوا اللعن بسبب فساد العبارة وعدم رعاية الأدب وهذا قول الحسن فثبت أن هذه الحكاية صحيحة على كل هذه الوجوه والله أعلم
المسألة الثانية غل اليد وبسطها مجاز مشهور عن البخل والجود ومنه قوله تعالى وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَة ً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ ( الإسراء 29 ) قالوا والسبب فيه أن اليد آلة لأكثر الأعمال لا سيما لدفع المال ولإنفاقه فأطلقوا اسم السبب على المسبب وأسندوا الجود والبخل إلى اليد والبنان والكف والأنامل فقيل للجواد فياض الكف مبسوط اليد وبسط البنان تره الأنامل ويقال للبخيل كز الأصابع مقبوض الكف جعد الأنامل
فإن قيل فلما كان قوله يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَة ٌ المراد منه البخل وجب أن يكون قوله غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ المراد منه أيضاً البخل لتصح المطابقة والبخل من الصفات المذمومة التي نهى الله تعالى عنها فكيف يجوز أن يدعو عليهم بذلك
قلنا قوله يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَة ٌ عبارة عن عدم المكنة من البذل والإعطاء ثم إن عدم المكنة من الاعطاء تارة يكون لأجلل البخل وتارة يكون لأجل الفقر وتارة يكون لأجل العجز فكذلك قوله غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ دعاء

عليهم بعدم القدرة والمكنة سواء حصل ذلك بسبب العجز أو الفقر أو البخل وعلى هذا التقدير فإنه يزول الاشكال
المسألة الثالثة قوله غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ فيه وجهان الأول أنه دعاء عليهم والمعنى أنه تعالى يعلمنا أن ندعو عليهم بهذا الدعاء كما علمنا الاسثناء في قوله لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ ءامِنِينَ ( الفتح 27 ) وكما علمنا الدعاء عللى المنافقين في قوله فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ( البقرة 10 ) وعلى أبي لهب في قوله تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ ( المسد 1 ) الثاني أنه إخبار قال الحسن غلت أيديهم في نار جهنم على الحقيقة أي شدت إلى أعناقهم جزاءً لهم على هذا القول
فإن قيل فإذا كان هذا الغل إنما حكم به جزاءً لهم على هذا القول فكان ينبغي أن يقال فغلت أيديهم
قلنا حذف العطف وإن كان مضمراً إلا أنه حذف لفائدة وهي أنه لما حذف كان قوله غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ كالكلام المبتدأ به وكون الكلام مبتدأ به يزيده قوة ووثاقة لأن الابتداء بالشيء يدل على شدة الاهتمام به وقوة الاعتناء بتقريره ونظير هذا الموضع في حذف فاء التعقيب قوله تعالى وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَة ً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا ( البقرة 67 ) ولم يقل فقالوا أتتخذنا هزواً وأما قوله وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ قال الحسن عذبوا في الدنيا بالجزية وفي الآخرة بالنار
ثم قال تعالى بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ
واعلم أن الكلام في هذه الآية من المهمات فإن الآيات الكثيرة من القرآن ناطقة بإثبات اليد فتارة المذكور هو اليد من غير بيان العدد قال تعالى يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ( الفتح 10 ) وتارة بإثبات اليدين لله تعالى منها هذه الآية ومنها قوله تعالى لإبليس الملعون مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَى َّ ( ص 75 ) وتارة بإثبات الأيدي قال تعالى أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعاماً ( ي س 71 )
إذا عرفت هذا فنقول اختلفت الأمة في تفسير يد الله تعالى فقالت المجسمة إنها عضو جسماني كما في حق كل أحد واحتجوا عليه بقوله تعالى لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ ءاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ ( الأعراف 195 ) وجه الاستدلال أنه تعالى قدح في إل هية الأصنام لأجل أنها ليس لها شيء من هذه الأعضاء فلو لم تحصل لله هذه الأعضاء لزم القدح في كونه إل هاً ولما بطل ذلك وجب إثبات هذه الأعضاء له قالوا وأيضاً اسم اليد موضوع لهذا العضو فحمله على شيء آخر ترك للغة وإنه لا يجوز
واعلم أن الكلام في إبطال هذا القول مبني على أنه تعالى ليس بجسم والدليل عليه أن الجسم لا ينفك عن الحركة والسكون وهما محدثان وما لا ينفك عن المحدث فهو محدث ولأن كل جسم فهو متناه في المقدار وكل ما كان متناهياً في المقدار فهو محدث ولأن كل جسم فهو مؤلف من الأجزاء وكل ما كان كذلك كان قابلاً للتركيب والانحلال وكل ما كان كذلك افتقر إلى ما يركّبه ويؤلفه وكل ما كان كذلك فهو محدث فثبت بهذه الوجوه أنه يمتنع كونه تعالى جسماً فيمتنع أن تكون يده عضواً جسمانياً

وأما جمهور الموحدين فلهم في لفظ اليد قولان الأول قول من يقول القرآن لما دلّ على إثباب اليد لله تعالى آمنا به والعقل لما دل على أنه يمتنع أن تكون يد الله عبارة عن جسم مخصوص وعضو مركب من الأجزاء والأبعاض آمنا به فأما أن اليد ما هي وما حقيقتها فقد فوضنا معرفتها إلى الله تعالى وهذا هو طريقة السلف
وأما المتكلمون فقالوا اليد تذكر في اللغة على وجوه أحدها الجارحة وهو معلوم وثانيها النعمة قوله لفلان عندي يد أشكره عليها وثالثها القوة قال تعالى أُوْلِى الاْيْدِى وَالاْبْصَارِ ( ص 45 ) فسروه بذوي القوى والعقول وحكى سيبويه أنهم قالوا لا يد لك بهذا والمعنى سلب كمال القدرة ورابعها الملك يقال هذه الضيعة في يد فلان أي في ملكه قال تعالى الَّذِى بِيَدِهِ عُقْدَة ُ النّكَاحِ ( البقرة 237 ) أي يملك ذلك وخامسها شدة العناية والاختصاص قال تعالى لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَى َّ ( ص 75 ) والمراد تخصيص آدم عليه السلام بهذا التشريف فإنه تعالى هو الخالق لجميع المخلوقات ويقال يدي لك رهن بالوفاء إذا ضمن له شيئاً
إذا عرفت هذا فنقول اليد في حق الله يمتنع أن تكون بمعنى الجارحة وأما سائر المعاني فكلها حاصلة وههنا قول آخر وهو أن أبا الحسن الأشعري رحمه الله زعم في بعض أقواله أن اليد صفة قائمة بذات الله تعالى وهي صفة سوى القدرة من شأنها التكوين على سبيل الاصطفاء قال والذي يدل عليه أنه تعالى جعل وقوع خلق آدم بيديه علة لكرامة آدم واصطفائه فلو كانت اليد عبارة عن القدرة لامتنع كونه علة للاصطفاء لأن ذلك حاصل في جميع المخلوقات فلا بدّ من إثبات صفة أخرى وراء القدرة يقع بها الخلق والتكوين على سبيل الاصطفاء وأكثر العلماء زعموا أن اليد في حق الله تعالى عبارة عن القدرة وعن النعمة
فإن قيل إن فسرتم اليد في حق الله تعالى بالقدرة فهذا مشكل لأن قدرة الله تعالى واحدة ونص القرآن ناطق بإثبات اليدين تارة وبإثبات الأيدي أخرى وإن فسرتموها بالنعمة فنص القرآن ناطق بإثبات اليدين ونعم الله غير محدودة كما قال تعالى وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا ( إبراهيم 34 ) ( النحل 18 )
والجواب إن اخترنا تفسير اليد بالقدرة كان الجواب عن الاشكال المذكور أن القوم جعلوا قولهم يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَة ٌ كناية عن البخل فأجيبوا على وفق كلامهم فقيل بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ أي ليس الأمر على ما وصفتموه به من البخل بل هو جواد على سبيل الكمال فإن من أعطى بيده أعطى على أكمل الوجوه وأما إن اخترنا تفسير اليد بالنعمة كان الجواب عن الاشكال المذكور من وجهين الأول أنه نسبة بحسب الجنس ثم يدخل تحت كل واحد من الجنسين أنواع لا نهاية لها فقيل نعمتاه نعمة الدين ونعمة الدينا أو نعمة الظاهر ونعمة الباطن أو نعمة النفع ونعمة الدفع أو نعمة الشدة ونعمة الرخاء الثاني أن المراد بالنسبة المبالغة في وصف النعمة ألا ترى أن قولهم ( لبيك ) معناه إقامة على طاعتك بعد إقامة وكذلك ( سعديك ) معناه مساعدة بعد مساعدة وليس المراد منه طاعتين ولا مساعدتين فكذلك الآية المعنى فيها أن النعمة متظاهرة متتابعة ليست كما ادعى من أنها مقبوضة ممتنعة
ثم قال تعالى يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء أي يرزق ويخلق كيف يشاء إن شاء قتر وإن شاء وسع وقال وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِى الاْرْضِ وَلَاكِن يُنَزّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء ( الشورى 27 ) وقال يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَنْ يَشَاء وَيَقَدِرُ ( الرعد 26 )

وقال قل الّلهم مالك الملك إلى قوله قل الّلهم مالك الملك إلى قوله إلى قوله وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ ( آل عمران 26 )
واعلم أن هذه الآية رد على المعتزلة وذلك لأنهم قالوا يجب على الله تعالى إعطاء الثواب للمطيع ويجب عليه أن لا يعاقبه ويجب عليه أن لا يدخل العاصي الجنة ويجب عليه عند بعضهم أن يعاقبه فهذا المنع والحجر والقيد يجري مجرى الغل فهم في الحقيقة قائلون بأن يد الله مغلولة وأما أهل السنة فهم القائلون بأن الملك ملكه وليس لأحد عليه استحقاق ولا لأحد عليه اعتراض كما قال قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِى الاْرْضِ جَمِيعاً ( المائدة 17 ) فقوله سبحانه بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء لا يستقيم إلا على المذهب والمقالة والحمد لله على الدين القويم والصراط المستقيم
ثم قال تعالى بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء لا يستقيم إلا على المذهب والمقالة والحمد لله على الدين القويم والصراط المستقيم
ثم قال تعالى لا يستقيم إلا على المذهب والمقالة والحمد لله على الدين القويم والصراط المستقيم
ثم قال تعالى وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وفيه مسألتان
المسألة الأولى المراد بالكثير علماء اليهود يعني ازدادوا عند نزول ما أنزل إليك من ربك من القرآن والحجج شدة في الكفر وغلواً في الانكار كما يقال ما زادتك موعظتي إلا شراً وقيل إقامتهم على الكفر زيادة منهم في الكفر
المسألة الثانية قال أصحابنا دلّت الآية على أنه تعالى لا يراعي مصالح الدين والدنيا لأنه تعالى لما علم أنهم يزدادون عند إنزال تلك الآيات كفراً وضلالاً فلو كانت أفعاله معللة برعاية المصالح للعباد لامتنع عليه إنزال تلك الآيات فلما أنزلها علمنا أنه تعالى لا يراعي مصالح العباد ونظيره قوله فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ ( التوبة 125 )
فإن قالوا علم الله تعالى من حالهم أنهم سواء أنزلها أو لم ينزلها فإنهم يأتون بتلك الزيادة من الكفر فلهذا حسن منه تعالى إنزالها
قلنا فعلى هذا التقدير لم يكن ذلك الازدياد لأجل إنزال تلك الآيات وهذا يقتضي أن تكون إضافة ازدياد اكفر إلى إنزال تلك الآيات باطلاً وذلك تكذيب لنص القرآن
ثم قال تعالى وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَة َ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ
واعلم أن اتصال هذه الآية بما قبلها هو أنه تعالى بيّن أنهم إنما ينكرون نبوته بعد ظهور الدلائل على صحتها لأجل الحسد ولأجل حب الجاه والتبع والمال والسيادة
ثم إنه تعالى بيّن أنهم لما رجحوا الدنيا على الآخرة لا جرم أن الله تعالى كما حرمهم سعادة الدين فكذلك حرمهم سعادة الدينا لأن كل فريق منهم بقي مصراً على مذهبه ومقالته يبالغ في نصرته ويطعن في كل ما سواه من المذاهب والمقالات تعظيماً لنفسه وترويجاً لمذهبه فصار ذلك سبباً لوقوع الخصومة الشديدة بين فرقهم وطوائفهم وانتهى الأمر فيه إلى أن بعضهم يكفر بعضاً ويغزو بعضهم بعضاً وفي قوله وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَة َ وَالْبَغْضَاء قولان الأول المراد منه ما بين اليهود والنصارى من العداوة لأنه جرى ذكرهم في قوله لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى ( المائدة 51 ) وهو قول الحسن ومجاهد الثاني أن المراد وقوع العداوة

بين فرق اليهود فإن بعضهم جبرية وبعضهم قدرية وبعضهم موحدة وبعضهم مشبهة وكذلك بين فرق النصارى كالملكانية والنسطورية واليعقوبية
فإن قيل فهذا المعنى حاصل بتمامه بين فرق المسلمين فكيف يمكن جعله عيباً على اليهود والنصارى
قلنا هذه البدع إنما حدثت بعد عصر الصحابة والتابعين أما في ذلك الزمان فلم يك شيء من ذلك حاصلاً فلا جرم حسن من الرسول ومن أصحابه جعل ذلك عيباً على اليهود والنصارى
ثم قال تعالى كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ
وهذا شرح نوع آخر من أنواع المحن عن اليهود وهو أنهم كلما هموا بأمر من الأمور رجعوا خائبين خاسرين مقهورين ملعونين كما قال تعالى ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلَّة ُ أَيْنَمَا ثُقِفُواْ ( آل عمران 112 ) قال قتادة لا تلقى اليهود ببلدة إلا وجدتم من أذل الناس
ثم قال تعالى وَيَسْعَوْنَ فِى الاْرْضِ فَسَاداً أي ليس يحصل في أمرهم قوة من العزة والمنعة إلا أنهم يسعون في الأرض فساداً وذلك بأن يخدعوا ضعيفاً ويستخرجوا نوعاً من المكر والكيد على سبيل الخفية وقيل إنهم لما خالفوا حكم التوراة سلّط عليهم بختنصر ثم أفسدوا فسلّط عليهم بطرس الرومي ثم أفسدوا فسلّط عليهم المجوس ثم أفسدوا فسلّط عليهم المسلمين
ثم قال تعالى وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ وذلك يدل على أن الساعي في الأرض بالفساد ممقوت عند الله تعالى ثم قال تعالى
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ ءَامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلاٌّ دْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ
واعلم أنه تعالى لما بالغ في ذمهم وفي تهجين طريقتهم بين أنهم لو آمنوا واتقوا لوجدوا سعادات الآخرة والدنيا أما سعادات الآخرة فهي محصورة في نوعين أحدهما رفع العقاب والثاني إيصال الثواب أما رفع العقاب فهو المراد بقوله لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ وأما إيصال الثواب فهو المراد بقوله سَيّئَاتِهِمْ وَلاْدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ
فإن قيل الإيمان وحده سبب مستقل باقتضاء تكفير السيآت وإعطاء الحسنات فلم ضم إليه شرط التقوى

قلنا المراد كونه آتياً بالإيمان لغرض التقوى والطاعة لا لغرض آخر من الأغراض العاجلة مثل ما يفعله المنافقون ثم قال تعالى
وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاة َ وَالإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لاّكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّة ٌ مُّقْتَصِدَة ٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ
واعلم أنه تعالى لما بيّن في الآية الأولى أنهم لو آمنوا لفازوا بسعادات الآخرة بيّن في هذه الآية أيضاً أنهم لو آمنوا لفازوا بسعادات الدنيا ووجدوا طيباتها وخيراتها وفي إقامة التوراة والإنجيل ثلاثة أوجه أحدها أن يعملوا بما فيها من الوفاء بعهود الله فيها ومن الاقرار باشتمالها في الدلائل الدالة على بعثة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وثانيها إقامة التوراة إقامة أحكامها وحدودها كما يقال أقام الصلاة إذا قام بحقوقها ولا يقال لمن لم يوف بشرائطها أنه أقامها وثالثها أقاموها نصب أعينهم لئلا يزلوا في شيء من حدودها وهذه الوجوه كلها حسنة لكن الأول أحسن
وأما قوله تعالى وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ ففيه قولان الأول أنه القرآن والثاني أنه كتب سائر الأنبياء مثل كتاب شعياء ومثل كتاب حيقوق وكتاب دانيال فإن هذه الكتب مملوءة من البشارة بمبعث محمد عليه الصلاة والسلام
وأما قوله تعالى لاَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم فاعلم أن اليهود لما أصروا على تكذيب محمد عليه الصلاة والسلام أصابهم القحط والشدة وبلغوا إلى حيث قالوا يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَة ٌ فالله تعالى بيّن أنهم لو تركوا ذلك الكفر لانقلب الأمر وحصل الخصب والسعة وفي قوله لاَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم وجوه الأول أن المراد منه المبالفة في شرح السعة والخصب لا أن هناك فوقا وتحتا والمعنى لأكلوا أكلاً متصلاً كثيراً وهو كما تقول فلان في الخير من فرقه إلى قدمه تريد تكاثف الخير وكثرته عنده الثاني أن الأكل من فوق نزول القطر ومن تحت الأرجل حصول النبات كما قال تعالى في سورة الأعراف وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مّنَ السَّمَاء وَالاْرْضِ ( الأعراف 96 ) الثالث الأكل من فوق كثرة الأشجار المثمرة ومن تحت الأرجل الزروع المغلة والرابع المراد أن يرزقهم الجنان اليانعة الثمار فيجتنون ما تهدل من رؤوس الشجر ويلتقطون ما تساقط على الأرض من تحت أرجلهم والخامس يشبه أن يكون هذا إشارة إلى ما جرى على اليهود من بني قريظة وبني النضير من قطع نخيلهم وإفساد زروعهم وإجلائهم عن أوطانهم
ثم قال تعالى مّنْهُمْ أُمَّة ٌ مُّقْتَصِدَة ٌ معنى الاقتصاد في اللغة الاعتدال في العمل من غير غلو ولا تقصير وأصله القصد وذلك لأن من عرف مطلوبه فإنه يكون قاصداً له على الطريق المستقيم من غير انحراف ولا اضطراب أما من لم يعرف موضع مقصوده فإنه يكون متحيراً تارة يذهب يميناً وأخرى يساراً فلهذا السبب جعل الاقتصاد عبارة عن العمل المؤدي إلى الغرض ثم في هذه الأمة المقتصدة قولان أحدهما أن المراد منها الذين آمنوا من أهل الكتاب كعبدالله بن سلام من اليهود والنجاشي من النصارى فهم على القصد من دينهم وعلى المنهج المستقيم منه ولم يميلوا إلى طرفي الافراط والتفريط والثاني المراد منها الكفار من أهل الكتاب الذين يكونون عدولاً في دينهم ولا يكون فيهم عناد

شديد ولا غلظة كاملة كما قال وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدّهِ إِلَيْكَ ( آل عمران 75 )
ثم قال تعالى وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ وفيه معنى التعجب كأنه قيل وكثير منهم ما أسوأ عملهم والمراد منهم الأجلاف المذمومون المبغضون الذين لا يؤثر فيهم الدليل ولا ينجع فيهم القول
يَأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ
قوله تعالى يَعْمَلُونَ يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ أمر الرسول بأن لا ينظر إلى قلة المقتصدين وكثرة الفاسقين ولا يخشى مكروههم فقال بَلَغَ أي واصبر على تبليغ ما أنزلته إليك من كشف أسرارهم وفضائح أفعالهم فإن الله يعصمك من كيدهم ويصونك من مكرهم وروى الحسن عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( إن الله بعثني برسالته فضقت بها ذرعاً وعرفت أن الناس يكذبوني واليهود والنصارى وقريش يخوفوني فلما أنزل الله هذه الآية زال الخوف بالكلية ) وروي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان أيام إقامته بمكة يجاهر ببعض القرآن ويخفي بعضه إشفاقاً على نفسه من تسرع المشركين إليه وإلى أصحابه فلما أعز الله الإسلام وأيده بالمؤمنين قال له يَعْمَلُونَ يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ أي لا تراقبن أحداً ولا تترك شيئاً مما أنزل إليك خوفاً من أن ينالك مكروه
ثم قال تعالى وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع رسالاته في هذه الآية وفي الأنعام حَيْثُ يَجْعَلُ ( الأنعام 124 ) على الجمع وفي الأعراف النَّاسِ بِرِسَالَاتِي ( الأتراف 144 ) على الواحد وقرأ حفص عن عاصم على الضد ففي المائدة والأنعام على الواحد وفي الأعراف على الجمع وقرأ ابن كثير في الجميع على الواحد وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم كله على الجمع
حجة من جمع أن الرسل يبعثون بضروب من الرسالات وأحكام مختلفة في الشريعة وكل آية أنزلها الله تعالى على رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) فهي رسالة فحسن لفظ الجمع وأما من أفرد فقال القرآن كله رسالة واحدة وأيضاً فإن لفظ الواحد قد يدل على الكثرة وإن لم يجمع كقوله وَادْعُواْ ثُبُوراً كَثِيراً ( الفرقان 14 ) فوقع الاسم الواحد على الجمع وكذا ههنا لفظ الرسالة وإن كان واحداً إلا أن المراد هو الجمع
المسألة الثانية لقائل أن يقول إن قوله وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ معناه فإن لم تبلغ رسالته فما بلغت رسالته فأي فائدة في هذا الكلام
أجاب جمهور المفسرين بأن المراد أنك ءن لم تلغ واحداً منها كنت كمن لم يبلغ شيئاً منها وهذا الجواب عندي ضعيف لأن من أتى بالبعض وترك البعض لو قيل إنه ترك الكل لكان كذباً ولو قيل أيضاً إن مقدار الجرم في ترك البعض مثل مقدار الجرم في ترك الكل فهو أيضاً محال ممتنع فسقط هذا الجواب

والأصح عندي أن يقال إن هذا خرج على قانون قوله
أنا أبو النجم وشعري شعري
ومعناه أن شعري قد بلغ في الكمال والفصاحة إلى حيث متى قيل فيه إنه شعري فقد انتهى مدحه إلى الغاية التي لا يمكن أن يزاد عليها فهذا الكلام يفيد المبالغة التامة من هذا الوجه فكذا ههنا فإن لم تبلغ تنبيهاً على غاية التهديد والوعيد والله أعلم
المسألة الثالثة ذكر المفسرون في سبب نزول الآية وجوهاً الأول أنها نزلت في قصة الرجم والقصاص على ما تقدم في قصة اليهود الثاني نزلت في عيب اليهود واستهزائهم بالدين والنيبي سكت عنهم فنزلت هذه الآية الثالث لما نزلت آية التخيير وهو قوله قَدِيراً ياأَيُّهَا النَّبِى ُّ قُل لاْزْواجِكَ ( الأحزاب 28 ) فلم يعرضها عليهن خوفاً من اختيارهن الدينا فنزلت الرابع نزلت في أمر زيد وزينب بنت جحش قالت عائشة رضي الله عنها من زعم أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كتم شيئاً من الوحي فقد أعظم الفرية على الله والله تعالى يقول يَعْمَلُونَ يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلّغْ ولو كتم رسول الله شيئاً من الوحي لكتم قوله وَتُخْفِى فِى نِفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ ( الأحزاب 37 ) الخامس نزلت في الجهاد فإن المنافقين كانوا يكرهونه فكان يمسك أحياناً عن حثهم على الجهاد السادس لما نزل قوله تعالى وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ ( الأنعام 108 ) سكت الرسول عن عيب آلهتهم فنزلت الآية وقال بَلَغَ يعني معايب آلهتهم ولا تخفها عنهم والله يعصمك منهم السابع نزلت في حقوق المسلمين وذلك لأنه قال في حجة الوداع لما بين الشرائع والمناسك ( هل بلغت ) قالوا نعم قال عليه الصلاة والسلام ( الّلهم فاشهد ) الثامن روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) نزل تحت شجرة في بعض أسفاره وعلق سيفه عليها فأتاه أعرابي وهو نائم فأخذ سيفه واخترطه وقال يا محمد من يمنعك مني فقال ( الله ) فرعدت يد الأعرابي وسقط السيف من يده وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه فأنزل الله هذه الآية وبين أنه يعصمه من الناس التاسع كان يهاب قريشاً واليهود والنصارى فأزال الله عن قلبه تلك الهيبة بهذه الآية العاشر نزلت الآية في فضل علي بن أبي طالب عليه السلام ولما نزلت هذه الآية أخذ بيده وقال ( من كنت مولاه فعلي مولاه الّلهم وال من والاه وعاد من عاداه ) فلقيه عمر رضي الله عنه فقال هنيئاً لك يا ابن طالب أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة وهو قول ابن عباس والبراء بن عازب ومحمد بن علي
واعلم أن هذه الروايات وإن كثرت إلا أن الأولى حمله على أنه تعالى آمنه من مكر اليهود والنصارى وأمره بإظهار التبليغ من غير مبالاة منه بهم وذلك لأن ما قبل هذه الآية بكثير وما بعدها بكثير لما كان كلاماً مع اليهود والنصارى امتنع إلقاء هذه الآية الواحدة في البين على وجه تكون أجنبية عما قبلها وما بعدها
المسألة الرابعة في قوله وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ سؤال وهو أنه كيف يجمع بين ذلك وبين ما روي أنه عليه الصلاة والسلام شج وجهه يوم أحد وكسرت رباعيته
والجواب من وجيهن أحدهما أن المراد بعصمه من القتل وفين التنبيه على أنه يجب عليه أن

يحتمل كل ما دون النفس من أنواع البلاء فما أشد تكليف الأنبياء عليهم الصلاة والسلاما وثانيها أنها نزلت بعد يوم أحد
وأعلم أن المراد من النَّاسِ ههنا الكفار بدليل قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ
ومعناه أنه تعالى لا يمكنهم مما يريدون وعن أنس رضي الله عنه كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يحرسه سعد وحذيفة حتى نزلت هذه الآية فأخرج رأسه من قبة أدم وقال ( انصرفوا يا أيها الناس فقد عصمني الله من الناس )
قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَى ْءٍ حَتَّى تُقِيمُواْ التَّوْرَاة َ وَالإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ مَّآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ
وأعلم أنه تعالى لما أمره بالتبليغ سواء طاب للسامع أو ثقل عليه أمر بأن يقول لأهل الكتاب هذا الكلام وإن كان مما يشق عليهم جداً فقال قُلْ ياأَهْلَ أَهْلِ الْكِتَابِ من اليهود والنصارى لَسْتُمْ عَلَى شَى ْء من الدين ولا في أيديكم شيء من الحق والصواب كما تقول هذا ليس بشيء إذا أردت تحقيره وتصغير شأنه
وقوله حَتَّى تُقِيمُواْ التَّوْرَاة َ وَالإنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مّن رَّبّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مّنْهُمْ مَّا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً
وهذا مذكور فيما قبل والتكرير للتأكيد
ثم قال تعالى فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ وفيه وجهان الأول لا تأسف عليهم بسبب زيادة طغيانهم وكفرهم فإن ضرر ذلك راجع إليهم لا إليك ولا إلى المؤمنين الثاني لا تتأسف بسبب نزول اللعن والعذاب عليهم فإنهم من الكافرين المستحقين لذلك روى ابن عباس أنه جاء جماعة من اليهود وقالوا يا محمد ألست تقر أن التوراة حق من الله تعالى قال بلى قالوا فإنا مؤمنون بها ولا نؤمن بغيرها فنزلت هذه الآية
إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
قد تقدم تفسير هذه الآية في سورة البقرة وبقي ههنا مسائل

المسألة الأولى ظاهر الأعراب يقتضي أن يقال والصائبين وهكذا قرأ أبي بن كعب وابن مسعود وابن كثير وللنحويين في علة القراءة المشهورة وجوه الأول وهو مذهب الخليل وسيبويه ارتفع الصائبون بالابتداء علي نية التأخير كأنه قيل إن الذين رمنوا والذين هادوا والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والصائبون كذلك فحذف خبره والفائدة في عدم عطفهم على من قبلهم هو أن الصائبين أشد الفرق المذكورين في هذه الآية ضلالاً فكأنه قيل كل هؤلاء الفرق إن آمنوا بالعمل الصالح قبل الله توبتهم وأنزل ذنبهم حتى الصائبون فإنهم إن آمنوا كانوا أيضاً كذلك
الوجه الثاني وهو قول الفراء أن كلمة ءانٍ ضعيفة في العمل ههنا وبيانه من وحوه الأول أن كلمة ءانٍ إنما تعمل كلونها مشابهة للفعل ومعلوم أن المشابهة بين الفعل وبين الحرف ضعيفة الثاني أنها وإن كانت تعمل لكن إنما تعلم في اللاسم فقط أما الخبر فإنه بقي مرفوعاً بكونه خبر المبتدأ وليس لهذا الحرف في رفع الخبر تأثير وهذا مذهب الكوفيين وقد بيناه بلادليل في سورة البقرة في تفسير قوله إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ ( البقرة 6 ) الثالث أنها ءنما يظهر أثرها في بعض الأسماء أما الأسماء التي لا يتغير حالها عند اختلاف العوامل فلا يظهر أثر هذا الحرف فيها والأمر ههنا كذلك لأن الاسم ههنا هو قوله الَّذِينَ وهذه الكلمة لا يظهر فيها أثر الرفع والنصب والخفض
إذا ثبت هذا فنقول إنه إذا كان اسم ءانٍ بحيث لا يظهر فيه أثر الإعراب فالذي يعطف عليه يجوز النصب على إعمال هذا الحرف والرفع على إسقاط عمله فلا يجوز أن يقال إن زيداً وعمرو قائمان لأن زيداً ظهر فيه أثر الإعراب لكن إنما يجوز أن يقال إن هؤلاء وإخوتك يكرموننا وإن هذا نفسه شجاع وإن قطام وهند عندنا والسبب في جواز ذلك أن كلمة ءانٍ كانت في الأصل ضعيفة العمل وإذا صارت بحيث لا يظهر لها أثر في اسمها صارت في غاية الضعف فجاز الرفع بمقتضى الحكم الثابت قبل دخول هذا الحرف عليه وهو كونه مبتدأ فهذا تقرير قول الفراء وهو مذهب حسن وأولى من مذهب البصريين لأن الذي قالواه يقتضي أن كلام الله على الترتيب الذي ورد عليه ليس بصحيح وإنما تحصل الصحة عند تفكيل هذا النظم وأما على قول الفراء فلا حاجة إليه فكان ذلك أولى
المسألة الثانية قال بعض النحويين لا شك أن كلمة ( إن ) من العوامل الداخلة على المبتدأ والخبر وكون المبتدأ مبتدأ والخبر خبراً وصف حقيقي ثابت حال دخول هذا الحرف وقبله وكونه مبتدأ يقتضي الرفع
إذا ثبت هذا فنقول المعطوف على اسم ( إن ) يجوز انتصابه بناء على إعمال هذا الحرف ويجوز ارتفاعه أيضاً لكونه في الحقيقة مبتدأ محدثً عنه ومخبراً عنه
طعن صاحب ( الكشاف ) فيه وقال إنما يجوز ارتفاعه على العطف على محل ( إن واسمها ) بعد ذكر الخبر وتقول إن زيداً منطلق وعمراً وعمرون بالنصب على اللفظ والرفع على موضع ( إن ) واسمها لأن الخبر قد تقدم وأما قبل ذلك الخبر فهو غير جائز لأنا لو رفعناه على محل ( إن واسمها ) لكان العامل في خبرهما هو المبتدأ ولو كان كذلك لكان العامل في خبرهما هو الابتداء لأن الابتداء هو المؤثر في المبتدأ والخبر معاً وحينئذٍ يلزم الخبر المتأخر أن يكون مرفوعاً بحرف ( إن ) وبمعنى الاتبداء فيجتمع على المرفوع

الواحد رافعان مختلفان وأنه محال
وأعلم أن هذا الكلام ضعيف وبيانه من وجوه الأول أن هذه الأشياء التي تسميها االنحويون رافعة وناصبة ليس معناها أنها كذلك لذواتها أو لأعيانها فإن هذا لا يقوله عاقل بل المراد أنها معرفات بحسب الوضع والاصطلاح لهذه الحركات واجتماع المعرفات الكثيرة على الشيء الواحد غير محال ألا ترى أن جميع أجزاء المحدثات دالة على وجود الله تعالى
والوجه الثاني في ضعف هذا الجواب أنه بناه على أن كلمة ( أن ) مؤثرة في نصب الإسم ورفع الخبر والكوفيون ينكرون ذلك ويقولن لا تأثير لهذا الحرف في رفع الخبر ألبتة وقد أحكمنا هذه المسألة في سورة البقرة
والوجه الثالث وهو أن الأشياء الكثيرة إذا عطف بعضها على البعض فالخبر الواحد لا يكون خبراً عنها لأن الخبر عن الشيء عبارة عن تعريف حاله وبيان صفته ومن المحال أن يكون حال الشيء وصفته عين حال الآخر وصفته لامتناع قيام الصفة الواحدة بالذوات المختلفة
وإذا ثبت هذا ظهر أن الخبر وإن كان في اللفظ واحداً إلا أنه في التقدير متعدد وهو لا محالة موجود بحسب التقدير والنية وإذا حصل التعدد في الحقيقة لم يمتنع كون البعض مرتفعاً بالحرف والبعض بالابتداء وبهذا التقدير لم يلزم اجتماع الرافعين على مرفوع واحد والذي يحقق ذلك أنه سلم أن بعد ذكر الاسم وخبره جاز الرفع والنصب في المعطوف عليه ولا شك أن هذا المعطوف إنما جاز ذلك فيه لأنا نضمر له خبراً وحكمنا بأن ذلك الخبر المضمر مرتفع بالاتبداء
وإذا ثبت هذا فنقول إن قبل ذكر الخبر إذ عطفنا اسماً على حكم صريح العقل أنه لا بدّ من الحكم بتقدير الخبر وذلك إنما يحصل بإضمار الأخبار الكثيرة وعلى هذا التقدير يسقط ما ذكر من الالتزام والله أعلم
المسألة الثالثة أنه تعالى لما بيّن أن أهل الكتاب ليسوا على شيء ما لم يؤمنوا بين أن هذا الحكم عام في الكل وأنه لا يحصل لأحد فضيلة ولا منقبة إلا إذا آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً وذلك لأن الإنسان له قوتان القوة النظرية والقوة العملية أما كمال القوة النظرية فليس إلا بأن يعرف الحق وأما كمال القوة العملية فليس إلا بأن يعمل الخير وأعظم المعارف شرفاً معرفة أشرف الموجودات وهو الله سبحانه وتعالى وكمال معرفته إنما يحصل بكونه قادراً على الحشر والنشر فلا جرم كان أفضل المعارف هو الإيمان بالله واليوم لآخر وأفضل الخيرات في الأعمال أمران المواظبة على الأعمال المشعرة بتعظيم المعبود والسعي في إيصال النفع إلى الخلق كما قال عليه الصلاة والسلام ( التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله ) ثم بيّن تعالى أن كل من أتى بهذا الإيمان وبهذا العمل فإنه يرد القيامة من غير خوف ولا حزن والفائدة في ذكرهما أن الخوف يتعلق بالمستقبل والحزن بالماضي فقال لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ بسبب ما يشاهدون من أهوال القيامة وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ بسبب ما فاتهم من طيبات الدنيا لأنهم وجدوا أموراً أعظم أشرف وأطيب مما كانت لهم حاصلة في الدنيا ومن كان كذلك فإنه لا يحزن طيبات الدنيا

فإن قيل كيف يمكن خلو المكلف الذي لا يكون معصوماً عن أهوال القيامة
والجواب من وجيهن الأول أنه تعالى شرط ذلك بالعمل الصالح ولا يكون آتياً بالعمل الصالح إلا إذا كان تاركاً لجميع المعاصي والثاني أنه إن حصل خوف فذلك عارض قليل لا يعتد به
المسألة الرابعة قالت المعتزلة أنه تعالى شرط عدم الخوف وعدم الحزن بالإيمان والعمل الصالح والمشروط بشيء عدم عند عدم الشرط فلزم أن من لم يأت مع الإيمان بالعمل الصالح فإنه يحصل له الخوف والحزن وذلك يمنع من العفو عن صاحب الكبيرة
والجواب أن صاحب الكبيرة لا يقطع بأن الله يعفو عنه لا محالة فكان الخوف والحزن حاصلاً قبل إظهار العفو
المسألة الخامسة أنه تعالى قال في أول الآية إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ ثم قال في آخر الآية مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ وفي هذا التكرير فائدتان الأولى أن المنافقين كانوا يزعمون أنهم مؤمنون فالفائدة في هذا التكرير إخراجهم عن وعد عدم الخوف وعدم الحزن
الفائدة الثانية أنه تعالى أطلق لفظ الإيمان والإيمان يدخل تحته أقسام وأشرفها الإيمان بالله واليوم لآخر فكانت الفائدة في الإعادة التنبيه على أن هذين القسمين أشرف أقسام الإيمان وقد ذكرنا وجوهاً كثيرة في قوله ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وكلها صالحة لهذا الموضع
المسألة السادسة لراجع إلى اسم ءانٍ محذوف والتقدير من آمن منهم إلا أنه حسن الحذف لكونه معلوماً والله أعلم
لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِى إِسْرَاءِيلَ وَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ
أعلم أن المقصود بيان عتو بني إسرائيل وشدة تمردهم عن الوفاء بعهد الله وهو متعلق بما افتتح الله به السورة وهو قوله أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ( المائدة 1 ) فقال لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِى إِسْراءيلَ يعني خلقنا الدلائل وخلقنا العقل الهادي إلى كيفية الاستدلال وأرسلنا إليهم رسلاً بتعريف الشرائع والأحكام وقوله كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُهُمْ

جملة شرطية وقعت صفة لقوله رُسُلاً والراجع محذوف والتقدير كلما جاءهم رسول منهم بما لا تهوى أنفسهم أي بما يخالف أهواءهم وما يضاد شهواتهم من مشاق التكليف
وههنا سؤالات
الأول أي جواب الشرط فإن قوله فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ لا يصلح أن يكون جواباً لهذا الشرط لأن الرسول الواحد لا يكون فريقين
والجواب أن جواب الشرط محذوف وإنما جاز حدفه لأن الكلام المذكور دليل عليه والتقدير كلما جاءهم رسول ناصبوه ثم ءنه قيل فكيف ناصبوه فقيل فريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون وقوله الرسول الواحد لا يكون فريقين فنقول إن قوله كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ يدل على كثرة الرسل فلا جرم جعلهم فريقين
السؤال الثاني لم ذكر أحد الفعلين ماضياً والآخر مضارعاً
والجواب أنه تعالى بيّن أنهم كيف كانوا يكذبون عيسى وموسى في كل مقام وكيف كانوا يتمردون على أوامره وتكاليفه وأنه عليه السلام إنما توفى في التيه في قول بعضهم لشؤم تمردهم عن قبول قوله في مقاتلة الجبارين
وأما القتل فهو ما اتفق لهم في حق زكريا ويحيى عليهما السلام وكانوا قد قصدوا أيضاً قتل عيسى وءن كان الله منعهم عن مرادهم وهم يزعمون أنهم قتلوه فذكر التكذيب بلفظ الماضي هنا إشارة إلى معاملتهم مع موسى عليه السلام لأنه قد انقضى من ذلك الزمان أدوار كثيرة وذكر القتل بلفظ المضارع إشارة إلى معاملتهم مع زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام لكون ذلك الزمان قريباً فكان كالحاضر
السؤال الثالث ما الفائدة في تقديم المفعول في قوله تعالى فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ
والجواب قد عرفت أن التقديم إنما يكون لشدة العناية فالتكذيب والقتل وإن كانا منكرين إلا أن تكذيب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وقتلهم أقبح فكان التقديم لهذه الفائدة
وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَة ٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ
ثم قال تعالى وَحَسِبُواْ أَن لا تَكُونَنَّ فِتْنَة ً في الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي وأبو عمرون أَن لا تَكُونَ فِتْنَة ٌ برفع نون ( تكون ) والباقون بالنصب وذكر الواحدي لهذا تقريراً حسناً فقال الأفعال على ثلاثة أضرب فعل يدل علي ثبات الشيء واستقراره

نحو العلم والتيقن والتبين فما كان مثل هذا يقع بعده ( أن ) الثقيلة ولم يقع بعده ( أن ) الخفيفة الناصبة للفعل وذلك لأن النثقيلة تدل على ثبات الشيء واستقراره فإذا كان العلم يدل على الاستقرار والثبات و ( إن ) الثقيلة تفيد هذا المعنى حصلت بينهما موافقة ومجانسة ومثاله من القرآن قوله تعالى وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ( النور 25 ) أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ لِلَّهِ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَة َ عَنْ عِبَادِهِ ( التوبة 104 ) أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ( العلق 14 ) والباء زائدة
والضرب الثاني فعل يدل على خلاف الثبات والاستقرار نحو أطمع وأخاف وأرجو فهذا لا يستعمل فيه إلا الخفيفة الناصبة للفعل قال تعالى وَالَّذِينَ أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى ( الشعراء 82 ) تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ ( الأنفال 26 ) فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا ( الكهف 80 )
والضرب الثالث فعل يحذو مرة إلى هذا القبيل ومرة أخرى إلى ذلك القبيل نحو حسب وأخواتها فتارة تستعمل بمعنى أطمع وأرجو فيما لا يكون ثابتاً ومستقراً وتارة بمعنى العلم فيما يكو مستقراً
إذا عرفت هذا فنقول يمكن إجراء الحسبان ههنا بحيث يفيد الثبات والاستقرار لأن القوم كانوا جازمين بأنهم لا يقعون بسبب ذلك التكذيب والقتل في الفتنة والعذاب ويمكن إجراؤه بحيث لا يفيد هذا الثبات من حيث إنهم كانوا يكذبون ويقتلون بسبب حفظ الجاه والتبع فكانوا بقلوبهم عارفين بأن ذلك خطأ ومعصية وإذا كان اللفظ محتملاً لكل واحد من هذين المعنيين لا جرم ظهر الوجه صحة كل واحدة من هاتين القراءتين فمن رفع قوله أَن لا تَكُونُ كان المعنى أنه لا تكون ثم خففت المشددة وجعلت ( لا ) عوضاً من حدف الضمير فلو قلت علمت أن يقول بالرفع لم يحسن حتى تأتي بما يكون عوضاً من حذف الضمير نحو السين وسوف وقد كقوله عِلْمٌ إِنَّ ( المزمل 20 ) ووجه النصب ظاهر
ثم قال الواحدي وكلا الوجهين قد جاء به القرآن فمثل قراءة من نصب وأوقع بعده الخفيفة قوله الْكَاذِبِينَ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا ( العنكبوت 4 ) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُواْ السَّيّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ ( الجاثية 21 ) الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ ( العنكبوت 1 2 ) ومثل قراءة من رفع أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُم ( الزخرف 80 ) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ ( المؤمنون 55 ) أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ ( القيامة 3 ) فهذه مخففة من الثقيلة لأن الناصبة للفعل لا يقع بعدها ( لن ) ومثل المذهبين في الظن قوله تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ ( القيامة 25 ) إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا ( البقرة 230 ) ومن الرفع قوله وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الإِنسُ وَالْجِنُّ ( الجن 5 ) وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً ( الجن 7 ) فأن ههنا الخفيفة من الشديدة كقوله عَلِمَ أَن سَيَكُونُ ( المزمل 20 ) لأن ( أن ) الناصبة للفعل لا تجتمع مع لن لأن ( لن ) تفيد التأكيد و ( أن ) الناصبة تفيد عدم الثبات كما قررناه
المسألة الثانية أن باب حسب من الأفعال التي لا بدّ لها من مفعولين إلا أن قوله أَن لا تَكُونَ فِتْنَة ٌ جملة قامت مقام مفعولي حسب لأن معناه وحسبوا الفتنة غير نامزلة بهم
المسألة الثالثة ذكر المفسرون في ( الفتنة ) وجوهاً وهي محصورة في عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ثم عذاب الدنيا أقسام منها القحط ومنه الوباء ومنها القتل ومنها العداوة ومنها البغضاء فيما بينهم ومنها الادبار والنحوسة وكل ذلك قد وقع بهم وكل واحد من المفسرين حمل الفتنة على واحد من هذه الوجوه

وأعلم أن حسبانهم أن لا تقع فتنة يحتمل وجهين الأول أنهم كانوا يعتقدون أن النسخ ممتنع على شرع موسى عليه السلام وكانوا يعتقدون أن الواجب عليهم في كل رسول جاء بشرع آخر أنه يجب عليهم تكذيبه وقتله والثاني أنهم وإن اعتقدوا في أنفسهم كونهم مخطئين في ذلك التكذيب والقتل إلا أنهم كانوا يقولن نحن أبناء الله وأحباؤه وكانوا يعتقدون أن نبوّة أسلافهم وآبائهم تدفع عنهم العقاب الذي يستحقونه بسبب ذلك القتل والتكذيب
ثم قال تعالى فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مّنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ
فيه مسائل
المسألة الأولى الآية دالة على أن عماهم وصممهم عن الهداية إلى الحق حصل مرتين
واختلف المفسرون في المراد بهاتين على وجوه الأول المراد أنهم عموا وصموا في زمان زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام ثم تاب الله على بعضهم حيث وفق بعضهم للإيمان به ثم عموا وصموا كثير منهم في زمان ممحمد عليه الصلاة والسلام فأن أنكرلوا نبوّته ورسالته وإنما قال كَثِيرٌ مّنْهُمْ لأن أكثر اليهود وإن أصروا على الكفر بمحمد عليه الصلاة والسلام إلا أن جمعاً منهم آمنوا به مثل عبد الله بن سلام وأصحابه الثاني عموا وصموا حين عبدوا العجل ثم تابوا عنه فتاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثير منهم بالتعنت وهو طلبهم رؤية الله جهرة ونزول الملائكة الثالث قال القفال رحمه الله تعالى ذكر الله تعالى في سورة بني إسرائيل ما يجوز أن يكون تفسيراً لهذه الآية فقال وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِى إِسْراءيلَ فِى الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِى الاْرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً فَإِذَا جَآء وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلَالَ الدّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّة َ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا ( الإسراء 4 6 ) فهذا في معنى فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثم قال فَإِذَا جَاء وَعْدُ الاْخِرَة ِ لِيَسُوءواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّة ٍ وَلِيُتَبّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا ( الإسراء 7 ) فهذا في معنى قوله ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مّنْهُمْ الرابع أن قوله فَعَمُواْ وَصَمُّواْ إنما كان برسول أرسل إليهم مثل داود وسليمان وغيرهما فآمنوا به فتاب الله عليهم ثم وقعت فترة فعموا وصموا مرة أخرى
المسألة الثانية قريء وَصَمُّواْ ثُمَّ بالضم على تقدير عماهم الله وصمهم الله أي رماهم وضربهم بالعمى والصمم كما تقول نزكته إذا ضربته بالنزك وهو رمح قصير وركبته إذا ضربته بركبتك
المسألة الثالثة في قوله ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مّنْهُمْ وجوه الأول على مذهب من يقول من العرب ( أكلوني البراغيث ) والثاني أن يكون كَثِيرٌ مّنْهُمْ بدلاً عن الضمير في قوله ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ والإبدال كثير في القرآن قال تعالى الَّذِى أَحْسَنَ كُلَّ شَى ْء خَلَقَهُ ( السجدة 7 ) وقال وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ( آل عمران 97 ) وهذا الإبدال هاهنا في غاية الحسن لأنه لو قال عموا وصموا لأوهم ذلك أن كلهم صاروا كذلك فلما قال كَثِيرٌ مّنْهُمْ دل على أن ذلك حاصل للأكثر لا للكل الثالث أن قوله كَثِيرٌ مّنْهُمْ خبر مبتدأ محذوف والتقدير هم كثير منهم
المسألة الرابعة لا شك أن المراد بهذا العمى والصمم الجهل والكفر فنقول إن فاعل هذا الجهل

هو الله تعالى أو العبد والأول يبطل قوله المعتزلة والثاني باطل لأن الإنسان لا يختار البتة تحصيل الجهل والكفر لنفسه
فإن قالوا إنما اختاروا ذلك لأنهم ظنوا أنه علم
قلنا حاصل هذا أنهم إنما اختاروا هذا الجهل لسبق جهل آخر إلا أن الجهالات لا تتسلسل بل لا بدّ من انتهائها إلى الجهل الأول ولا يجوز أن يكون فاعله هو العبد لما ذكرناه فوجب أن يكون فاعله هو الله تعالى
ثم قال تعالى وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ أي من قتل الأنبياء وتكذيب الرسل والمقصود منه التهديد
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِى إِسْرَاءِيلَ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبُّى وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّة َ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ
قوله تعالى لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِى بَنِى إِسْراءيلَ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبّى وَرَبَّكُمْ
اعلم أنه تعالى لما استقصى الكلام مع اليهود شرع هاهنا في الكلام مع النصارى فحكى عن فريق منهم أنهم قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وهذا هو قول اليعقوبية لأنهم يقولون إن مريم ولدت إل هاً ولعلّ معنى هذا المذهب أنهم يقولون إن الله تعالى حل في ذات عيسى واتحد بذات عيسى ثم حكلى تعالى عن المسيح أنه قال وهذا تنبيه على ما هو الحجة القاطعة على فساد قول النصارى وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام لم يفرق بين نفسه وبين غيره في أن دلائل الحدوث ظاهرة عليه
ثم قال تعالى إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّة َ وَمَأْوَاهُ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ومعناه ظاهر واحتج أصحابنا على أن عقاب الفساق لا يكون مخلداً قالوا وذلك لأنه تعالى جعل أعظم أنواع الوعيد والتهديد في حق المشركين هو أن الله حرم عليهم الجنة وجعل مأواهم النار وأنه ليس لهم ناصر ينصرهم ولا شافع يشفع لهم فلو كان حال الفساق من المؤمنين كذلك لما بقي لتهديد المشركين على شركهم بهذا الوعيد فائدة
لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَة ٍ وَمَا مِنْ إِلَاهٍ إِلاَّ إِلَاهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
ثم قال تعالى لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَة ٍ وفيه مسألتان
المسألة الأولى ثَلَاثَة ً كسرت بالإضافة ولا يجوز نصبها لأن معناه واحد ثلاثة أما إذا قلت رابع ثلاثة فههنا يجوز الجر والنصب لأن معناه الذي صير الثلاثة أربعة بكونه فيهم

المسألة الثانية في تفسير قول النصارى ثَالِثُ ثَلَاثَة ٍ طريقان الأول قول بعض المفسرين وهو أنهم أرادوا بذلك أن الله ومريم وعيسى آلهة ثلاثة والذي يؤكد ذلك قوله تعالى للمسيح قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى وَأُمّى َ إِلَاهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ ( المائدة 116 ) فقوله ثَالِثُ ثَلَاثَة ٍ أي أحد ثلاثة آلهة أو واحد من ثلاثة آلهة والدليل على أن المراد ذلك قوله تعالى في الرد عليهم وَمَا مِنْ إِلَاهٍ إِلاَّ إِلَاهٌ واحِدٌ وعلى هذا التقدير ففي الآية إضمار إلا أنه حذف ذكر الآلهة لأن ذلك معلوم من مذاهبهم قال الواحدي ولا يكفر من يقول إن الله ثالث ثلاثة إذا لم يرد به ثالث ثلاثة آلهة فإنه ما من شيئين إلا والله ثالثهما بالعلم لقوله تعالى مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَة ٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَة ٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ ( المجادلة 7 )
والطريق الثاني أن المتكلمين حكوا عن النصارى أنهم يقولون جوهر واحد ثلاثة أقانيم أب وابن وروح القدس وهذه الثلاثة إل ه واحد كما أن الشمس اسم يتناول القرص والشعاع والحرارة وعنوا بالأب الذات وبالابن الكلمة وبالروح الحياة وأثبتوا الذات والكلمة والحياة وقالوا إن الكلمة التي هي كلام الله اختلطت بجسد عيسى عيسى اختلاط الماء بالخمر واختلاط الماء باللبن وزعموا أن الأب إل هة والابن إل ه والروح إل ه والكل إل ه واحد
واعلم أن هذا معلوم البطلان ببديهة العقل فإن الثلاثة لا تكون واحداً والواحد لا يكون ثلاثة ولا يرى في الدنيا مقالة أشد فساداً وأظهر بطلاناً من مقالة النصارى
ثم قال تعالى وَمَا مِنْ إِلَاهٍ إِلاَّ إِلَاهٌ واحِدٌ في مِنْ قولان أحدهما أنها صلة زائدة والتقدير وما إل ه إلا إل ه واحد والثاني أنها تفيد معنى الاستغراق والتقدير وما في الوجود من هذه الحقيقة إلا فرد واحد
ثم قال تعالى وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قال الزجاج معناه ليمسن الذين أقاموا على هذا الدين لأن كثيراً منهم تابوا عن النصرانية ثم قال تعالى
أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
قال الفرّاء هذا أمر في لفظ الاستفهام كقوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ ( المائدة 91 ) في آية تحريم الخمر
مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَة ٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الاٌّ يَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ
ثم قال تعالى مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدّيقَة ٌ أي ما هو إلا رسول من جنس الرسلل الذين خلوا من قبله جاء بآيات من الله كما أتوا بأمثالها فإن كان الله أبرأ الأكمه والأبرص وأحيا الموتى على يده فقد أحيا العصا وجعلها حية تسعى وفلق على يد موسى وإن كان

خلقه من غير ذكر فقد خلق آدم من غير ذكر ولا أنثى وَأُمُّهُ صِدّيقَة ٌ وفي فسير ذلك وجوه أحدها أنها صدقت بآيات ربها وبكل ما أخبر عنه ولدها قال تعالى في صفتها وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبَّهَا وَكُتُبِهِ ( التحريم 12 ) وثانيها أنه تعالى قال فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً ( مريم 17 ) فلما كلمها جبريل وصدقته وقع عليها اسم الصديقة وثالثها أن المراد بكونها صديقة غاية بعدها عن المعاصي وشدة جدها واجتهادها في إقامة مراسم العبودية فإن الكامل في هذه الصفة يسمى صديقاً قال تعالى فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ النَّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ ( النساء 69 )
ثم قال تعالى كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ
واعلم أن المقصود من ذلك الاستدلال على فساد قول النصارى وبيانه من وجوه الأول أن كل من كان له أم فقد حدث بعد أن لم يكن وكل من كان كذلك كان مخلوقاً لا إل هاً والثاني أنهما كانا محتاجين لأنهما كانا محتاجين إلى الطعام أشد الحاجة والإل ه هو الذي يكون غنياً عن جميع الأشياء فكيف يعقل أن يكون إل هاً الثالث قال بعضهم إن قوله كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ كناية عن الحدث لأن من أكل الطعام فإنه لا بدّ وأن يحدث وهذا عندي ضعيف من وجوه الأول أنه ليس كل من أكل أحدث فإن أهل الجنة يأكلون ولا يحدثون الثاني أن الأكل عبارة عن الحاجة إلى الطعام وهذه الحاجة من أقوى الدلائل على أنه ليس بإل ه فأي حاجة بنا إلى جعله كناية عن شيء آخر الثالث أن الإل ه هو القادر على الخلق والايجاد فلو كان إل هاً لقدر على دفع ألم الجوع عن نفسه بغير الطعام والشراب فما لم يقدر على دفع الضرر عن نفسه كيف يعقل أن يكون إل هاً للعالمين وبالجملة ففساد قول النصارى أظهر من أن يحتاج فيه إلى دليل
ثم قال تعالى انْظُرْ كَيْفَ نُبَيّنُ لَهُمُ الاْيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ يقال أفكه يأفكه إفكاً إذا صرفه والإفك الكذب لأنه صرف عن الحق وكل مصروف عن الشيء مأفوك عنه وقد أفكت الأرض إذا صرف عنها المطر ومعنى قوله أَنَّى يُؤْفَكُونَ أنى يصرفون عن الحق قال أصحابنا الآية دلت على أنهم مصروفون عن تأمل الحق والإنسان يمتنع أن يصرف نفسه عن الحق والصدق إلى الباطل والجهل والكذب لأن العاقل لا يختار لنفسه ذلك فعلمنا أن الله سبحانه وتعالى هو الذي صرفهم عن ذلك ثم قال تعالى
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
وهذاا دليل آخر على فساد قول النصارى وهو يحتمل أنواعاً من الحجة أن اليهود كانوا يعادونه ويقصدونه بالسوء فما قدر على الاضرار بهم وكان أنصاره وصحابته يحبونه فما قدر على إيصال نفع من منافع الدنيا إليهم والعاجز عن الاضرار والنفع كيف يعقل أن يكون إل هاً الثاني أن مذهب النصارى أن اليهود صلبوه ومزقوا أضلاعه ولما عطش وطلب الماء منهم صبوا الخل في منخريه ومن كان في الضعف هكذا كيف يعقل أن يكون إل هاً الثالث أن إل ه العالم يجب أن يكون غنياً عن كل ما سواه ويكون كل ما سواه محتاجاً إليه فلو كان عيسى كذلك لامتنع كونه مشغولاً بعبادة الله تعالى لأن الإل ه لا يعبد شيئاً إنما العبد هو الذي يبعد الإل ه ولما عرف بالتواتر كونه كان مواظباً على الطاعات والعبادات علمنا أنه إنما كان يفعلها لكونه محتاجاً في تحصيل المنافع ودفع المضار إلى غيره ومن كان كذلك كيف يقدر على إيصال المنافع إلى العباد ودفع المضار

عنهم وإذا كان كذلك كان عبداً كسائر العبيد وهذا هو عين الدليل الذي حكاه الله تعالى عن إبراهيم علليه السلام حيث قال لأبيه لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً ( مريم 42 )
ثم قال تعالى وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ والمراد منه التهديد يعني سميع بكفرهم عليم بضمائرهم
قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِى دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُوا أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السَّبِيلِ
قوله تعالى قُلْ ياأَهْلَ أَهْلِ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِى دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقّ
اعلم أنه تعالى لما تكلم أولاً على أباطيل النصارى وأقام الدليل القاهر على بطلانها وفسادها فعند ذلك خاطب مجموع الفريقين بهذا الخطاب فقال قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِى دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقّ والغلو نقيض التقصير ومعناه الخروج عن الحد وذلك لأن الحق بين طرفي الافراط والتفريط ودين الله بين الغلو والتقصير وقوله غَيْرَ الْحَقّ صفة المصدر أي لا تغلوا في دينكم غلواً غير الحق أي غلواً باطلاً لأن الغلو في الدين نوعان غلو حق وهو أن يبالغ في تقريره وتأكيده وغلو باطل وهو أن يتكلف في تقرير الشبه وإخفاء الدلائل وذلك الغلو هو أن اليهود لعنهم الله نسبوه إلى الزنا وإلى أنه كذاب والنصارى ادعوا فيه الإل هية
ثم قال تعالى وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاء وفيه مسألتان
المسألة الأولى الأهواء هاهنا المذاهب التي تدعو إليها الشهوة دون الحجة قال الشعبي ما ذكر الله لفظ الهوى في القرآن إلا ذمه قال بِالْحَقّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ( ص 26 ) وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى ( طه 16 ) وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى ( النجم 3 ) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَاهَهُ هَوَاهُ ( الجاثية 23 ) قال أبو عبيدة لم نجد الهوى يوضع إلا في موضع الشر لا يقال فلان يهوى الخير إنما يقال يريد الخير ويحبه وقال بعضهم الهوى إل ه يعبد من دون الله وقيل سمي الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه في النار وأنشد في ذم الهوى
إن الهوى لهو الهوان بعينه
فإذا هويت فقد لقيت هوانا وقال رجل لابن عباس الحمد لله الذي جعل هواي على هواك فقال ابن عباس كل هوى ضلالة
المسألة الثانية أنه تعالى وصفهم بثلاث درجات في الضلال فبين أنهم كانوا ضالين من قبل ثم ذكر أنهم كانوا مضلين لغيرهم ثم ذكر أنهم استمروا على تلك الحالة حتى أنهم الآن ضالون كما كانوا ولا نجد حالة أقرب إلى العبد من الله والقرب من عقاب الله تعالى من هذه الحالة نعوذُ بالله منها ويحتمل أن يكون المراد أنهم ضلوا وأضلوا ثم ضلوا بسبب اعتقادهم في ذلك الاضلال أنه إرشاد إلى الحق ويحتمل أن يكون المراد بالضلال الأول الضلال عن الدين وبالضلال الثاني الضلال عن طريق الجنة
واعلم أنه تعالى لما خاطب أهل الكتاب بهذا الخطاب وصف أسلافهم فقال تعالى

لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْرَاءِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذالِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْراءيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودُ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ
قال أكثر المفسرين يعني أصحاب السبت وأصحاب المائدة أما أصحاب السبت فهو أن قوم داود وهم أهل ( ايلة ) لما اعتدوا في السبت بأخذ الحيتان على ما ذكر الله تعالى هذه القصة في سورة الأعراد قال داود اللّهم العنهم واجعلهم آية فمسخوا قردة وأما أصحاب المائدة فإنهم لما أكلوا من المائدة ولم يؤمنوا قال عيسى اللّهم العنهم كما لعنت أصحاب السبت فأصبحوا خنازير وكانوا خمسة آلاف رجل ما فيهم امرأة ولا صبي قال بعض العلماء إن اليهود كانوا يفتخرون بأنا من أولاد الأنبياء فذكر الله تعالى هذه الآية لتدل على أنهم ملعونون على ألسنة الأنبياء وقيلل أن داود وعيسى عليهما السلام بشرا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ولعنا من يكذبه وهو قول الأصم
ثم قال تعالى ذالِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ والمعنى أن ذلك اللعن كان بسبب أنهم يعصون ويبالغون في ذلك العصيان
كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ
ثم أنه تعالى فسّر المعصية والاعتداء بقوله
كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ وللتناهي هاهنا معنيان أحدهما وهو الذي عليه الجمهور أنه تفاعل من النهي أي كانوا لا ينهى بعضهم بعضاً روى ابن مسعود عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( من رضي عمل قوم فهو منهم ومن كثر سواد قوم فهو منهم )
والمعنى الثاني في التناهي أنه بمعنى الانتهاء يقال انتهى عن الأمر وتناهى عنه إذا كف عنه
ثم قال تعالى لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ اللام في لَبِئْسَ لام القسم كأنه قال أقسم لبئس ما كانوا يفعلون وهو ارتكاب المعاصي والعدوان وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
فإن قيل الانتهاء عن الشيء بعد أن صار مفعولاً غير ممكن فلم ذمهم عليه

قلنا الجواب عنه من وجوه الأول أن يكون المراد لا يتناهون عن معاودة منكر فعلوه الثاني لا يتناهون عن منكر أرادوا فعله وأحضروا آلاته وأدواته الثالث لا يتناهون عن الاصرار على منكر فعلوه
تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِى الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ
ثم قال تعالى تَرَى كَثِيراً مّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ
اعلم أنه تعالى لما وصف أسلافهم بما تقدم وصف الحاضرين منهم بأنهم يتولون الكفار وعبدة الأوثان والمراد منهم كعب بن الأشرف وأصحابه حين استجاشوا المشركين على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وذكرنا في قوله تعاللى وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ سَبِيلاً ( النساء 51 )
ثم قال تعالى لَبِئْسَ مَّالِ قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أي بئس ما قدموا من العمل لمعادهم في دار الآخرة
وقوله تعالى أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِى الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ محل ءانٍ رفع تقول بئس رجلا زيد ورفعه كرفع زيد وفي زيد وجهان الأول أن يكون مبتدأ ويكون ( بئس ) وما عملت فيه خبره والثاني أن يكون خبر مبتدأ محذوف كأنه لما قال بئس رجلا قتل ما هو فقال زيد أي هو زيد
وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالْلهِ والنَّبِى ِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَآءَ وَلَاكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ
ثم قال تعالى وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالْلهِ والنَّبِى ّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَاكِنَّ كَثِيراً مّنْهُمْ فَاسِقُونَ والمعنى لو كانوا يؤمنون بالله والنبي وهو موسى عليه السلام فلما فعلوا ذلك ظهر أنه ليس مرادهم تقرير دين موسى عليه السلام بل مرادهم الرياسة والجاه فيسعون في تحصيله بأي طريق قدروا عليه فلهذا وصفهم الله تعالى بالفسق فقال وَلَاكِنَّ كَثِيراً مّنْهُمْ فَاسِقُونَ وفيه وجه آخر ذكره القفال وهو أن يكون المعنى ولو كان هؤلاء المتولون من المشركين يؤمنون بالله وبمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ما اتخذهم هؤلاء اليهود أولياء وهذا الوجه حسن في الكلام ما يدفعه
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَة ً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّة ً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذالِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ
قوله تعالى لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَة ً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّة ً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى
أعلم أنه تعالى لما ذكر من أحوال أهل الكتاب من اليهود والصنارى ما كذره ذكر في هذه الآية أن اليهود في غاية العدواة مع المسلمين ولذلك جعلهم قرناء للمشركين في شدة العدواة بل نبه على أنهم أشد في العدواة من المشركين من جهة أنه قدم ذكرهم على ذكر المشركين ولعمري أنهم كذلك وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( ما خلا يهوديان بمسلم إلا هما بقتله وذكر الله تعالى أن النصارى ألين عريكة من اليهود وأقرب إلى المسلمين منهم

وههنا مسألتان
الأولى قال ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء والسدي المراد به النجاشي وقومه الذين قدموا من الحبشة على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) آمنوا به ولم يرد جميع النصارى مع ظهور عداوتهم للمسلمين وقال آخرون مذهب اليهود أنه جيب عليهم إيصال الشر إلى من يخالفهم في الدين بأي طريق كان فإن قدروا على القتل فذاك وإلا فبغصب المال أو بالسرقة أو بنوع من المكر والكيد والحيلة وأما النصارى فليس مذهبهم ذاك بل الإيذاء في دينهم حرام فهذا هو وجه التفاوت
المسألة الثانية المقصود من بيان هذا التفاوت تخفيف أمر اليهود على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) واللام في قوله وذكر الله تعالى أن النصارى ألين عريكة من اليهود وأقرب إلى المسلمين منهم
وههنا مسألتان
الأولى قال ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء والسدي المراد به النجاشي وقومه الذين قدموا من الحبشة على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) آمنوا به ولم يرد جميع النصارى مع ظهور عداوتهم للمسلمين وقال آخرون مذهب اليهود أنه جيب عليهم إيصال الشر إلى من يخالفهم في الدين بأي طريق كان فإن قدروا على القتل فذاك وإلا فبغصب المال أو بالسرقة أو بنوع من المكر والكيد والحيلة وأما النصارى فليس مذهبهم ذاك بل الإيذاء في دينهم حرام فهذا هو وجه التفاوت
المسألة الثانية المقصود من بيان هذا التفاوت تخفيف أمر اليهود على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) واللام في قوله لَتَجِدَنَّ لام القسم والتقدير قسما إنك تجد اليهود والمشركين أشد الناس عدواة مع المؤمنين وقد شرحت لك أن هذا التمرد والمعصية عادة قديمة لهم ففرغ خاطرك عنهم ولا تبال بمكرهم وكيدهم
ثم ذكر تعالى سبب هذا التفاوت فقال ذالِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ وفي الآية مسألتان
الأولى علة هذا التفاوت أن اليهود مخصوصن بالحرص الشديد على الدنيا والدليل عليه قوله تعالى وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَواة ٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ ( البقرة 96 ) فقرنهم في الحرص بالمشركين المنكرين للمعاد والحرص معدن الأخرلاق الذميمة لأن من كان حريصاً على الدنيا طرح دينه في طلب الدنيا وأقدم على كل محظور ومنكر بطلب الدنيا فلا جرم تشتد عداوته مع كل من نال مالاً أو جاهاً وأما النصارى فإنهم في أكثر الأمر معرضون عن الدنيا مقبلون على العبادة وترك طلب الرياسة والتكبر والترفع وكل من كان كذلك فإنه لا يحسد الناس ولا يؤذيهم ولا يخاصمهم بل يكون لين العريكة في طلب الحق سهل الانقياد له فهذا هو الفرق بين هذين الفريقين في هذا الباب وهو المراد بقوله تعالى ذالِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ
وههنا دقيقة نافعة في طلب الدين وهو أن كفر النصارى أغلظ من كفر اليهود لأن النصارى ينازعون في الإلهيات وفي النبوّات واليهود لا ينازعون إلا في النبوات ولا شك في أن الأول أغلظ ثم إن النصارى مع غلظ كفرهم لما لم يشتد حرصهم على طلب الدنيا بل كان في قلبهم شيء من الميل إلى الآخرة شرّفهم الله بقوله وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّة ً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى وأما اليهود مع أن كفرهم أخف في جنب كفر النصارى طردهم وخصهم الله بمزيد اللعن وما ذاك إلا بسبب حرصهم على الدنيا وذلك ينبهك على صحة قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( حب الدنيا رأس كل خطيئة )
المسألة الثانية القس والقسيس اسم لرئيس النصارى والجمع القسيسون وقال عروة بن الزبير صنعت النصارى الإنجيل وأدخلت فيه م ليس منه وبقي واحد من علمائهم على الحق والدين وكان سمه قسيساً فمن كان على هديه ودينه فهو قسيس قال قطرب القس والقسيس العالم بلغة الروم وهذا مما وقع الوفاق فيه بين اللغتين وأما الرهبان فهو جمع راهب كركبان وراكب وفرسان وفارس وقال بعضهم لرهبان واحد وجمعه رهابين كقربان وقرابين وأصله من الرهبة بمعنى المخافة

فإن قيل كيف مدحهم الله تعالى بذلك مع قوله وَرَهْبَانِيَّة ً ابتَدَعُوهَا ( الحديد 27 ) وقوله عليه لصلاة والسلام ( لا رهبانية في الإسلام )
قلنا إن ذلك صار ممدوحاً في مقابلة طريقة اليهود في القساوة والغلظة ولا يلزم من هذا القدر كونه ممدوحاً على الإطلاق
وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَآ ءَامَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ
ثم قال تعالى وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ الضمير في قوله سَمِعُواْ يرجع إلى القسيسين والرهبان الذين آمنوا منهم وَمَا أَنَزلَ يعني القرآن إلى الرسول يعني محمداً عليه الصلاة والسلام قال ابن عباس يريد النجاشي وأصحابه وذلك لأن جعفر الطيار قرأ عليهم سورة مريم فأخذ النجاشي تبنة من الأرض وقال والله ما زاد على ما قال في الإنجيل مثل هذا وما زالوا يبكون حتى فرغ جعفر من لقراءة وأما قوله تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ ففيه وجهان الأول المراد أن أعينهم تمتلىء من الدمع حتى تفيض لأن الفيض أن يمتلىء الإناء وغيره حتى يطلع ما فيه من جوانبه الثاني أن يكون المراد المبالغة في وصفهم بالبكاء فجعلت أعينهم كأنها تفيض بأنفسها
وأما قوله تعالى مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقّ أي مما نزل على محمد وهو الحق
فإن قيل أي فرق بين ( من ) وبين ( من ) في قوله مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقّ
قلنا الأولى لابتداء الغاية والتقدير أن فيض الدمع إنما ابتدىء من معرفة الحق وكان من أجله وبسببه والثانية للتبغيض يعني أنهم عرفوا بعض الحق وهو القرآن فأبكاهم الله فكيف لو عرفوا كله
وأما قوله تعالى يَقُولُونَ رَبَّنَا ءامَنَّا أي بما سمعنا وشهدنا أنه حق فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ وفيه وجهان الأول يريد أمة محمد عليه الصلاة والسلام الذين يشهدون بالحق وهو مأخوذ من قوله تعالى وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ ( البقرة 143 ) والثاني أي مع كل من شهد من أنبيائك ومؤمني عبادك بأنك لا إله غيرك وأما قوله تعالى
وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَآءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ

ففيه مسألتان
الأولى قال صاحب ( الكشاف ) محل لاَ نُؤْمِنُ النصب على الحال بمعنى غير مؤمنين كقولك قائماً والواو في قوله وَنَطْمَعُ واو الحال
فإن قيل فما العامل في الحال الأولى والثانية
قلنا العامل في الأولى ما في اللام من معنى الفعل كأنه قيل أي شيء حصل لنا حال كوننا غير مؤمنين وفي الثاني معنى هذا الفعل ولكن مقيداً بالحال الأولى لأنك لو أزلته وقلت وما لنا نطمع لم يكن كلاماً ويجوز أن يكون وَنَطْمَعُ حالاً من لاَ نُؤْمِنُ على أنهم أنكروا على أنفسهم أنهم لا يوحدون الله ويطمعون مع ذلك أن يصحبوا الصالحين وأن يكون معطوفاً على قوله لاَ نُؤْمِنُ على معنى وما لنا نجمع بين التثليث وبين الطمع في صحبة الصالحين
المسألة الثانية تقدير الآية ويدخلنا ربنا مع القوم الصالحين جنته ودار رضوانه قال تعالى لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ ( الحج 59 ) إلا أنه حسن الحذف لكونه معلوماً ثم قال تعالى
فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذالِكَ جَزَآءُ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِأايَاتِنَآ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ
وفي مسائل
المسألة الأولى ظاهر الآية يدل على أنهم إنما استحقوا ذلك الثواب بمجرد القول لأنه تعالى قال فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُواْ وذلك غير ممكن لأن مجرد القول لا يفيد الثواب
وأجابوا عنه من وجهين الأول أنه قد سبق من وصفهم ما يدل على إخلاصهم فيما قالوا وهو المعرفة وذلك هو قوله مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقّ ( المائدة 83 ) فلما حصلت المعرفة والإخلاص وكمال الانقياد ثم انضاف إليه القول لا جرم كمل الإيمان الثاني روى عطء عن ابن عباس أنه قال قوله بِمَا قَالُواْ يريد بما سألوا يعني قولهم فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ( المائدة 83 )
المسألة الثانية الآية دالة على أن المؤمن الفاسق لا يبقى مخلداً في النار وبيانه من وجهين الأول أنه تعالى قال وَذالِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ وهذا الإحسان لا بدّ وأن يكون هو الذي تقدم ذكره من المعرفة وهو قوله مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقّ ( المائدة 83 ) ومن الاقرار به وهو قوله فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُواْ وإذ كان كذلك فهذه الآية دالة على أن هذه المعرفة وهذا الاقرار يوجب أن يحصل له هذا الثواب وصاحب الكبيرة له هذه المعرفة وهذا الاقرار فوجب أن يحصل له هذا الثواب فأما أن ينقل من الجنة إلى النار وهو باطل بالإجماع أو يقال يعاقب على ذنبه ثم ينقل إلى الجنة وذلك هو المطلوب
الثاني هو أنه تعالى قال وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ فقوله أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ يفيد الحصر أي أولئك أصحاب الجحيم لا غيرهم والمصاحب للشيء هو الملازم له الذي لا ينفك عنه فهذا يقتضي تخصيص هذا الدوام بالكفار فصارت هذه الآية من هذين الوجهين من أقوى الدلائل على أن الخلود في النار لا يحصل للمؤمن الفاسق

ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ
أعلم أن الله تعالى لما استقصى في المناظرة مع اليهود والنصارى عاد بعده إلى بيان الأحكام وذكر جملة منها
النوع الأول ما يتعلق بحل المطاعم والمشارب واللذات فقال الْجَحِيمِ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُحَرّمُواْ طَيّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى الطيبات اللذيذات التي تشتهيها النفوس وتميل إليها القلوب وفي الآية قولان الأول روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) وصف يوم القيامة لأصحابه في بيات عثمان بن مظعون وبالغ وأشبع الكلام في الإنذار والتحذير فعزموا على أن يرفضوا الدنيا ويحرموا على أنفسهم المطاعم الطيبة والمشارب اللذيذة وأن يصوموا النهار ويقوموا الليل وأن لا يناموا على الفرش ويخصوا أنفسهم ويلبسوا المسوح ويسيحوا في الأرض فأخبر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بذلك فقالوا لهم ( إني لم أومر بذلك إن لأنفسكم عليكم حقاً فصوموا وأفطروا وقوموا وناموا فإني أقوم وأنام وأصوم وأفطر آكل اللحم والدسم وآتي النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني ) وبهذا الكلام ظهر وجه النظم بين هذه الآية وبين ما قبلها وذلك لأنه تعالى مدح النصارى بأن منهم قسيسين ورهباناً وعادتهم الاحتراز عن طيبات الدنيا ولذاتها فلما مدحهم أوهم ذلك المدح ترغيب المسلمين في مثل تلك الطريقة فذكر تعالى عقيب هذه الآية إزالة لذلك الوهم ليظهر للمسلمين أنهم ليسوا مأمورين بذلك
فإن قيل ما الحكمة في هذا النهي فإن من المعلوم أن حب الدنيا مستول على الطبع والقلوب فإذا توسع الإنسان في اللذات والطيبات اشتد ميله إليها وعظمت رغبته فيه وكلما كانت تلك النعم أكثر وأدوم كان ذلك الميل أقوى وأعظم وكلما ازداد الميل قوة ورغبة ازداد حرصه في طلب الدنيا واستغراقه في تحصيلها وذلك يمنعه عن الاستغراق في معرفة الله وفي طاعته ويمنعه عن طلب سعادات الآخرة وأما إذا أعرض عن لذات الدنيا وطيباتها فكلم كان ذلك الإعراض أتم وأدوم كان ذلك الميل أضعف والرغبة أقل وحينئذٍ تتفرغ النفس لطلب معرفة الله تعالى والاستغراق في خدمته وإذا كان الأمر كذلك فما الحكمة في نهي الله تعالى عن الرهبانية
والجواب عنه من وجوه الأول أن الرهبانية المفرطة والاحتراز التام عن الطيبات واللذات مما يوقع الضعف في الأعضاء الرئيسية التي هي القلب والدماغ وإذا وقع الضعف فيهما اختلت الفكرة وتشوش العقل ولا شك أن أكمل السعادت وأعظم القربات إنما هو معرفة الله تعالى فإذا كانت الرهبانية الشديد

مما يوقع الخلل في ذلك بالطريق الذي بيناه لا جرم وقع النهي عنها والثاني وهو أن حاصل ما كذرتم أن اشتغال النفس بطلب اللذات الحسية يمنعها عن الاستكمال بالسعادات العقلية وهذا ملسم لكن في حق النفوس الضعيفة أما النفوس المتسعلية الكاملة فإنها لا يكون استعمالها في الأعمال لحسية مانعاً لها من الاستكمال بالسعادات العقلية فإنا نشاهد النفوس قد تكنن ضعيفة بحيث متى اشتغلت بمهم امتنع عليها الاشتغال بمهم آخر وكلما كانت النفس أقوى كانت هذه الحالة أكمل وإذا كان كذلك كانت الرهبانية الخالصة دليلاً على نوع من الضعف والقصور وإنما الكمال في الوفاء بلجهتين والاستكمال في الناس الثالث وهو أن من استوفى اللذات الحسية كان غرضه منها الاستعانة بها على استيفاء اللذات العقلية فإن ريضته ومجاهدته أتم من رياضة من أعرض عن للذات الحسية لأن صرف حصة النفس إلى جانب الطاعة أشق وأشد من الاعراض عن حصة النفس بالكلية فكان الكمال في هذا أتم الربع وهو أن الرهبانية التامة توجب خراب الدنيا وانقطاع الحرث والنسل وأما ترك الرهبانية مع المواظبة على المعرفة والمحبة والطاعات فإنه يفيد عمارة الدنيا والآخرة فكانت هذه الحالة أكمل فهذا جملة الكلام في هذا الوجه
القول الثاني في تفسير هذه الآية ما ذكره القفال وهو أنه تعالى قال في أول السورة أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ فبيّن أنه كما لا يجوز استحلال المحرم كذلك لا يجوز تحريم المحلل وكانت العرب تحرم من الطيبات ما لم يحرمه الله تعالى وهي البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وقد حكى الله تعالى ذلك في هذه السورة وفي سورة الأنعام وكانوا يحللون الميتة والدم وغيرهما فأمر الله تعالى أن لا يحرموا ما أحل الله ولا يحللوا ما حرمه الله تعالى حتى يدخلوا تحت قوله يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ ( المائدة 1 )
المسألة الثانية قوله لاَ تُحَرّمُواْ طَيّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ يحتمل وجوهاً أحدها لا تعتقدوا تحريم ما أحل الله تعالى لكم وثانيها لا تظهروا باللسان تحريم ما أحله الله لكم وثالثها لا تجتنبوا عنها اجتناباً شبيه لاجتناب من المحرمات فهذه الوجوه الثلاثة محمولة على الاعتقاد والقول والعمل ورابعها لا تحرموا على غيركم بالفتوى وخامسها لا تلتزموا تحريمها بنذر أو يمين ونظير هذه الآية قوله تعالى عِلْمَا ياأَيُّهَا النَّبِى ُّ لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ( التحريم 1 ) وسادسها أن يخلط المغصوب بالمملوك خلطاً لا يمكنه التمييز وحينئذٍ يحرم الكل فذلك الخلط سبب لتحريم ما كن حلالاً له وكذلك القول فيما إذا خلط النجس بالطاهر والآية محتملة لكل هذه الوجوه ولا يبعد حملها على الكل والله أعلم
المسألة الثالثة قوله وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ( البقرة 190 ) فيه وجوه الأول أنه تعالى جعل تحريم الطيبات اعتداءً وظلماً فنهى عن الاعتداء ليدخل تحته النهي عن تحريمها والثاني أنه لما أباح الطيبات حرم الإسراف فيها بقوله تعالى وَلاَ تَعْتَدُواْ ونظيره قوله تعالى كُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ ( الأعراف 31 ) الثالث يعني لما أحل لكم الطيبت فاكتفوا بهذه المحللات ولا تتعدوها إلى ما حرم عليكم
ثم قال تعالى
وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ

وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله الْمُعْتَدِينَ وَكُلُواْ صيغة أمر وظاهرها للوجوب لا أن المراد ههنا الإباحة والتحليل واحتج أصحاب الشافعي به في أن التطوع لا يلزم بالشروع وقالوا ظاهر هذه الآية يقتضي إباحة الأكل على الاطلاق فيتناول ما بعد الشروع في الصوم غايته أن خص في بعض الصور إلا أن العام حجة في غير محل التخصيص
المسألة الثانية قوله حَلَالاً طَيّباً يحتمل أن يكون متعلقاً بالأكل وأن يكون متعلقاً بالمأكول فعلى الأول يكون التقدير كلوا حلالاً طيباً مما رزقكم الله وعلى التقدير الثاني كلوا من الرزق الذي يكون حلالاً طيباً أما على التقدير الأول فإنه حجة المعتزلة على أن الرزق لا يكون إلا حلالاً وذلك لأن الآية على هذا التقدير دالة على الاذن في أكل كل ما رزق الله تعالى وإنما يأذن الله تعالى في أكل الحلال فيلزم أن يكون كل ما كان رزقاً كان حلالاً وأما على التقدير الثاني فإنه حجة لأصحابنا على الرزق قد يكون حراماً لأنه تعالى خصص إذن الأكل بالرزق الذي يكون حلالاً طيباً ولولا أن الرزق قد لا يكون حلالاً وإلا لم يكن لهذا التخصيص والتقييد فائدة
المسألة الثالثة لم يقل تعالى كلوا ما رزقكم لكن قال كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ لِلَّهِ وكلمة ( من ) للتبعيض فكأنه قال اقتصروا في الأكل على البعض وأصرفوا البقية إلى الصدقات والخيرات لأنه إرشاد إلى ترك لإسراف كما قال وَلاَ تُسْرِفُواْ ( الأنعام 141 ) ( الأعراف 31 )
المسألة الرابعة وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ يدل على أنه تعالى قد تكفل برزق كل أحد فإنه لو لم يتكفل برزقه لم قال كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وإذا تكفل الله برزقه وجب أن لا يبالغ في الطلب وأن يعول على وعد الله تعالى وإحسانه فإنه أكرم من أن يخلف الوعد ولذلك قال عليه الصلاة والسلام ( ألا فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ) أما قوله وَاتَّقُواْ اللَّهَ فهو تأكيد للتوصية بما أمر به زاده توكيداً بقوله تعالى أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ لأن الإيمان به يوجب التقوى في الانتهاء إلى ما أمر به وعما نهى عنه
لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِى أَيْمَانِكُمْ وَلَاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الاٌّ يْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَة ِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَة ٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَة ِ أَيَّامٍ ذالِكَ كَفَّارَة ُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذالِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
النوع الثاني من الأحكام المذكورة في هذا الموضع قوله تعالى لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِالَّلغْوِ فِى أَيْمَانِكُمْ
قد ذكرنا أنه تعالى بيّن في هذا الموضع أنواعاً من الشرائع والأحكام بقي أن يقال أي مناسبة بين هذا الحكم وبين ما قبله حتى يحسن ذكره عقيبه فنقول قد ذكرنا أن سبب نزول الآية الأولى أن قوماً من الصحابة حرّموا على أنفسهم المطاعم والملابس واختاروا الرهبانية وحلفوا على ذلك فلما نهاهم الله تعالى عنها قالوا يا رسول الله فكيف نصنع بأيماننا أنزل الله هذه الآية

واعلم أن الكلام في أن يمين اللغو ما هو قد سبق على الاستقصاء في سورة البقرة في تفسير قوله يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِالَّلغْوِ فِى أَيْمَانِكُمْ وَلَاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ( البقرة 225 ) فلا وجه للاعادة
ثم قال تعالى وَلَاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الاْيْمَانَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم عَقَّدتُّمُ بتشديد القاف بغير ألف وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم عَقَّدتُّمُ بتخفيف القاف بغير ألف وقرأ ابن عامر عاقدتم بالألف والتخفيف قال الواحدي يقال عقد فلان اليمين والعهد والحبل عقداً إذا وكده وأحكمه ومثل ذلك أيضاً عقد بالتشديد إذا وكد ومثله أيضاً عاقد بالألف
إذا عرفت هذا فنقول أما من قرأ بالتخفيف فإنه صالح للقليل والكثير يقال عقد زيد يمينه وعقدوا أيمانهم وأما من قرأ بالتشديد فاعلم أن أبا عبيدة زيف هذه القراءة وقال التشديد للتكرير مرة بعد مرة فالقراءة بالتشديد توجب سقوط الكفارة عن اليمين الواحدة لأنها لم تتكرر
وأجاب الواحدي رحمه الله عنه من وجهين الأول أن بعضهم قال عقد بالتخفيف والتشديد واحد في المعنى الثاني هب أنها تفيد التكرير كما في قوله وَغَلَّقَتِ الاْبْوَابَ ( يوسف 23 ) إلا أن هذا التكرير يحصل بأن يعقدها بقلبه ولسانه ومتى جمع بين القلب واللسان فقد حصل التكرير أما لو عقد اليمين بأحدهما دون الآخر لم يكن معقداً وأما من قرأ بالألف فإنه من المفاعلة التي تختص بالواحد مثل عافاه الله وطارقت النعل وعاقبت اللص فتكون هذه القراءة كقراءة من خفف
المسألة الثانية ( ما ) مع الفعل بمنزلة المصدر والتقدير ولكن يؤاخذكم بعقدكم أو بتعقيدكم أو بمعاقدتكم الأيمان
المسألة الثالثة في الآية محذوف والتقدير ولكن يؤاخذكم بما عقدتم إذا حنثتم فحذف وقت المؤاخذة لأنه كان معلوماً عندهم أو بنكث ما عقدتم فحذف المضاف وأما كيفية استدلال الشافعي بهذه الآية على أن اليمين الغموس توجب الكفارة فقد ذكرناها في سورة البقرة
ثم قال تعالى فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَة ِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَة ٍ

واعلم أن الآية دالة على أن الواجب في كفارة اليمين أحد الأمور الثلاثة على التخيير فإن عجز عنها جميعاً فالواجب شيء آخر وهو الصوم
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى معنى الواجب المخير أنه لا يجب عليه الإتيان بكل واحد من هذه الثلاثة ولا يجوز له تركها جميعاً ومتى أتى بأي واحد شاء من هذه الثلاثة فإنه يخرج عن العهدة فإذا اجتمعت هذه القيود الثلاثة فذاك هو الواجب المخير ومن الفقهاء من قال الواحد لا بعينه وهذا الكلام يحتمل وجهين الأول أن يقال الواجب عليه يأن يدخل في الوجود واحداً من هذه الثلاثة لا بعينه وهذامحال في العقول لأن الشيء الذي لا يكون معيناً في نفسه يكون ممتنع الوجود لذاته وما كان كذلك فإنه لا يراد به التكليف الثاني أن يقال الواجب عليه واحد معين في نفسه وفي علم الله تعالى إلا أنه مجهول العين عند الفاعل وذلك أيضاً محال لأن كون ذلك الشيء واجباً بعينه في علم الله تعالى هو أنه لا يجوز تركه بحال وأجمعت الأمة على أنه يجوز له تركه بتقدير الإتيان بغيره والجمع بين هذين القولين جمع بين النفي والإثبات وهو محال وتمام الكلام فيه مذكور في أصول الفقه
المسألة الثانية قال الشافعي رحمه الله نصيب كل مسكين مد وهو ثلثا من وهو قول ابن عباس وزيد بن ثابت وسعيد بن المسيب والحسن والقاسم وقال أبو حنيفة رحمه الله الواجب نصف صاع من الحنطة وصاع من غير الحنطة
حجة الشافعي أنه تعالى لم يذكر في الاطعام قوله مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ وهذا الوسط إما أن يكون المراد منه ما كان متوسطاً في العرف أو ما كان متوسطاً في الشرع فإن كان المراد ما كان متوسطاً في العرف فثلثا من الحنطة إذاجعل دقيقاً أو جعل خبزاً فإنه يصير قريباً من المن وذلك كاف في قوت اليوم الواحد ظاهراً وإن كان المراد ما كان متوسطاً في الشرع فلم يرد في الشرع له مقدار إلا في موضع واحد وهو ما روي في خبر المفطر في نهار رمضان أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أمره بإطعام ستين مسكيناً من غير ذكر مقدار فقال الرجل ما أجد فأتي النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعرق فيه خمسة عشر صاعاً فقال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أطعم هذا وذلك يدل على تقدير طعام المسكين بربع الصاع وهو مد ولا يلزم كفارة الحلف لأنها شرعت بلفظ الصدقة مطلقة عن التقدير بإطعام الأهل فكان قدرها معتبراً بصدقة الفطر وقد ثبت بالنص تقديرها بالصاع لا بالمد
وحجة أبي حنيفة رحمه الله أنه تعالى قال مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ والأوسط هو الأعدل والذي ذكره الشافعي رحمه الله هو أدنى ما يكفي فأما الأعدل فيكون بإدام وهكذا روي عن ابن عباس رحمهما الله مد معه إدامه والإدام يبلغ قيمته قيمة مد آخر أو يزيد في الأغلب
أجاب الشافعي رحمه الله بأن قوله مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ يحتمل أن يكون المراد التوسط في القدر فإن الإنسان ربما كان قليل الأكل جداً يكفيه الرغيف الواحد وربما كان كثير الأكل فلا يكفيه المنوان إلا أن المتوسط الغالب أنه يكفيه من الخبز ما يقرب من المن ويحتمل أن يكون المراد التوسط في القيمة لا يكون غالباً كالسكر ولا يكون خسيس الثمن كالنخالة والذرة والأوسط هو الحنطة والتمر والزبيب

والخبز ويحتمل أن يكون المراد الأوسط في الطيب واللذاذة ولما كان اللفظ محتملاً لكل واحد من الأمرين فنقول يجب حمل اللفظ على ما ذكرناه لوجيهين الأول أن الإدام غير واجب بالإجماع فلم يبق إلا حمل اللفظ على التوسط في قدر الطعام الثاني أن هذا القدر واجب بيقين والباقي مشكوك فيه لأن اللفظ لا دلالة فيه عليه فأوجبنا اليقين وطرحنا الشك والله أعلم
المسألة الثانية قال الشافعي رحمه الله الواجب تمليك الطعام وقال أبو حنيفة رحمه الله إذا غدى أو عشى عشرة مساكين جاز
حجة الشافعي أن الواجب في هذه الكفارة أحد الأمور الثلاثة إما الاطعام أو الكسوة أو الاعتاق ثم أجمعنا على أن الواجب في الكسوة التمليك فوجب أن يكون الواجب في الاطعام هو التمليك
حجة أبي حنيفة أن الآية دلّت على أن الواجب هو الاطعام والعغدية والتعشية هما إطعام بدليل قوله تعالى وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبّهِ ( الإنسان 8 ) وقال مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ وإطعام الأهل يكون بالتمكين لا بالتمليك ويقال في العرف فلان يطعم الفقراء إذا كان يقدم الطعام إليهم ويمكنهم من أكله وإذا ثبت أنه أمر بالاطعام وجب أن يكون كافياً
أجاب الشافعي رضي الله عنه أن الواجب إما المد أو الأزيد والتغدية والتعشية قد تكون أقل من ذلك فلا يخرج عن العهدة إلا باليقين والله أعلم
المسألة الرابعة قال الشافعي رحمه الله لا يجزئه إلا طعام عشرة وقال أبو حنيفة رحمه الله لو أطعم مسكيناً واحداً عشرة أيام جاز
حجة الشافعي رحمه الله أن مدار هذا الباب على التعبد الذي لا يعقل معناه وما كان كذلك فإنه يجب الاعتماد فيه على مورد النص
المسألة الخامسة الكسوة في اللغة معناها اللباس وهو كل ما يكتسى به فأما التي تجزى في الكفارة فهو أقل ما يقع عليه اسم الكسوة إزار أو رداء أو قميص أو سراويل أو عمامة أو مقنعة ثوب واحد لكل مسكين وهو قول ابن عباس والحسن ومجاهد وهو مذهب الشافعي رحمه الله
المسألة السادسة المراد بالرقبة الجملة وقيل الأصل في هذا المجاز أن الأسير في العرب كان يجمع يداه إلى رقبته بحبل فإذا أطلق حل ذلك الحبل فسمي الاطلاق من الرقبة فك الرقبة ثم جرى ذلك على العتق ومذهب أهل الظاهر أن جميت الرقبات تجزيه وقال الشافعي رحمه الله الرقبة المجزية في الكفارة كل رقبة سليمة من عيب يمنع من العمل صغيرة كانت أو كبيرة ذكراً أو أنثى بعد أن تكون مؤمنة ولا يجوز إعتاق الكافرة في شيء من الكفارات ولا إعتاق المكاتب ولا شرء القريب وهذه المسائل قد ذكرناها في آية الظهار
المسألة السابعة لقائل أن يقول أي فائدة لتقديم الاطعام على العتق مع أن العتق أفضل لا محالة
قلنا له وجوه أحدها أن المقصود منه التنبيه على أن هذه الكفارة وجبت على التخيير لا على الترتيب لأنها لو وجبت على الترتيب لوجبت البداءة بالأغلظ وثانيها قدم الاطعام لأنه أسهل لكون الطعام أعم

وجوداً والمقصود منه التنبيه على أنه تعالى يراعي التخفيف والتسهيل في التكاليف وثالثها أن الاطعام أفضل لأن الحر الفقير قد لا يجد الطعام ولا يكون هناك من يعطيه الطعام فيقع في الضر أما العبد فإنه يجب على مولاه إطعامه وكسوته
ثم قال تعالى فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَة ِ أَيَّامٍ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الشافعي رحمه الله إذا كان عنده قوته وقوت عياله يومه وليلته ومن الفضل ما يطعم عشرة مساكين لزمته الكفارة بالاطعام وإن لم يكن عنده هذا القدر جاز له الصيام وعند أبي حنيفة رحمه الله يجوز له الصيام إذا كان عنده من المال ما لا يجب فيه الزكاة فجعل من لا زكاة عليه عادماً
حجة الشافعي رحمه الله أنه تعالى علق جواز الصيام على عدم وجدان هذه الثلاثة والمعلق على الشرط عدم عند عدم الشرط فعند عدم وجدان هذه الثلاثة وجب أن لا يجوز الصوم تركنا العمل به عند وجدان قوت نفسه وقت عياله يوماً وليلة لأن ذلك كالأمر المضطر إليه وقد رأينا في الشرع أنه متى وقع التعارض في حق النفس وحق الغير كان تقديم حق النفس واجباً فوجب أن تبقى الآية معمولاً بها في غير هذه الصورة
المسألة الثانية قال الشافعي رحمه الله في أصح قوليه أنه يصوم ثلاثة أيام إن شاء متتابعة وإن شاء متفرقة
وقال أبو حنيفة يجب التتابع
حجة الشافعي أنه تعالى أوجب صيام ثلاثة أيام والآتي بصوم ثلاثة أيام على التفرق آت بصوم ثلاثة أيام فوجب أن يخرج عن العهدة
حجة أبي حنيفة رحمه الله ما روي في قراءة أُبي بن كعب وابن مسعود فصوم ثلاثة أيام متتابعات وقراءتهما لا تختلف عن روايتهما
والجواب أن القراءة الشاذة مردودة لأنها لو كانت قرآناً لنقلت نقلاً متواتراً إذ لو جوزنا في القرآن أن لا ينقل على التواتر لزم طعن الروافض والملاحدة في القرآن وذلك باطل فعلمنا أن القراءة الشاذة مردودة فلا تصلح لأن تكون حجة وأيضاً نقل في قراءة أُبي بن كعب أنه قرأ ( فعدة من أيام أُخر متتابعات ) مع أن التتابع هناك ما كان شرطاً وأجابوا عنه بأنه روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن رجلاً قال له علي أيام من رمضان أفأقضيها متفرقات فقال عليه الصلاة والسلام ( أرأيت لو كان عليك دين فقضيت الدرهم فالدرهم أما كان يجزيك قال بلى قال فالله أحق أن يعفو وأن يصفح )
قلنا فهذا الحديث وإن وقع جواباً عن هذا السؤال في صوم رمضان إلا أن لفظه عام وتعليله عام في جميع الصيامات وقد ثبت في الأصول أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فكان ذلك من أقوى الدلائل على جواز التفريق ههنا أيضاً
المسألة الثالثة من صام ستة أيام عن يمينين أجزأه سواء عين إحدى الثلاثتين لإحدى اليمينين أو لا والدليل عليه أنه تعالى أوجب صيام ثلاثة أيام عليه وقد أتى بها فوجب أن يخرج عن العهدة

ثم قال تعالى ذالِكَ كَفَّارَة ُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ قوله ذالِكَ إشارة إلى ما تقدم ذكره من الطعام والكسوة وتحرير الرقبة أي ذلك المذكور كفارة أيمانكم إذا حلفتم وخنثتم لأن الكفارة لا تجب بمجرد الحلف إلا أنه حذف ذكر الحنث لكونه معلوماً كما قال فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّة ٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ( البقرة 184 ) أي فأفطر
احتج الشافعي بهذه الآية على أن التكفير قبل الحنث جائز فقال الآية دلّت على أن كل واحد من الأشياء الثلاثة كفارة لليمين عند وجود الحلف فإذا أداها بعد الحلف قبل الحنث فقد أدى الكفارة عن ذلك اليمين وإذا كان كذلك وجب أن يخرج عن العهدة قال وقوله إِذَا حَلَفْتُمْ فيه دقيقة وهي التنبيه على أن تقديم الكفارة قبل اليمين لا يجوز وأما بعد اليمين وقبل الحنث فإنه يجوز
ثم قال تعالى وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ وفيه وجهان الأول المراد منه قللوا الأيمان ولا تكثروا منها قال كثير قليل الألا يا حافظ ليمينه
وإن سبقت منه الألية برت
فدل قوله ( وإن سبقت منه الألية ) على أن قوله ( حافظ ليمينه ) وصف منه له بأنه لا يحلف الثاني واحفظوا أيمانكم إذا حلفتم عن الحنث لئلا تحتاجوا إلى التفكير واللفظ محتمل للوجهين إلا أن على هذا التقدير يكون مخصوصاً بقوله عليه السلام ( من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير ثم ليكفر عن يمينه )
ثم قال تعالى كَذالِكَ يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ والمعنى ظاهر والكلام في لفظ لعلّ تقدم مراراً
يَ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالاٌّ نصَابُ وَالاٌّ زْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
اعلم أن هذا هو النوع الثالث من الأحكام المذكورة في هذا الموضع ووجه اتصاله بما قبله أنه تعالى قال فيما تقدم لاَ تُحَرّمُواْ طَيّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ إلى قوله وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالاً طَيّباً ( المائدة 87 88 ) ثم لما كان من جملة الأمور المستطابة الخمر والميسر لا جرم أنه تعالى بيّن أنهما غير داخلين في المحللات بل في المحرمات
واعلم أنا قد ذكرنا في سورة البقرة معنى الخمر والميسر وذكرنا معنى الأنصاب والأزلام في أول هذه السورة عند قوله وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ( المائدة 3 ) فمن أراد الاستقصاء فعليه بهذه المواضع
وفي اشتقاق لفظ الخمر وجهان الأول سميت الخمر خمراً لأنها خامرت العقل أي خالطته فسترته والثاني قال ابن الأعرابي تركت فاختمرت أي تغير ريحها والميسر هو قمارهم في الجزور والأنصاب هي آلهتهم التي نصبوها يعبدونها والأزلام سهام مكتوب عليها خير وشر
واعلم أنه تعالى وصف هذه الأقسام الأربعة بوصفين الأول قوله وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ( المائدة 3 ) فمن أراد الاستقصاء فعليه بهذه المواضع
وفي اشتقاق لفظ الخمر وجهان الأول سميت الخمر خمراً لأنها خامرت العقل أي خالطته فسترته والثاني قال ابن الأعرابي تركت فاختمرت أي تغير ريحها والميسر هو قمارهم في الجزور والأنصاب هي آلهتهم التي نصبوها يعبدونها والأزلام سهام مكتوب عليها خير وشر
واعلم أنه تعالى وصف هذه الأقسام الأربعة بوصفين الأول قوله ( المائدة 3 ) فمن أراد الاستقصاء فعليه بهذه المواضع
وفي اشتقاق لفظ الخمر وجهان الأول سميت الخمر خمراً لأنها خامرت العقل أي خالطته فسترته والثاني قال ابن الأعرابي تركت فاختمرت أي تغير ريحها والميسر هو قمارهم في الجزور والأنصاب هي آلهتهم التي نصبوها يعبدونها والأزلام سهام مكتوب عليها خير وشر
واعلم أنه تعالى وصف هذه الأقسام الأربعة بوصفين الأول قوله رِجْسٌ والرجس في اللغة كل ما استقذر من عمل يقال رجس الرجل رجساً ورجس إذا عمل عملاً قبيحاً وأصله من الرجس بفتح الراء

وهو شدة الصوت يقال سحاب رجاس إذا كان شديد الصوت بالرعد فكان الرجس هو العمل الذي يكون قوي الدرجة كامل الرتبة في القبح
الوصف الثاني قوله مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ وهذا أيضاً مكمل لكونه رجساً لأن الشيطان نجس خبيث لأنه كافر والكافر نجس لقوله إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ( التوبة 28 ) والخبيث لا يدعو إلا إلى الخبيث لقوله الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ ( النور 26 ) وأيضاً كل ما أضيف إلى الشيطان فالمراد من تلك الإضافة المبالغة في كمال قبحه قال تعالى فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَاذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ( القصص 15 ) ثم إنه تعالى لما وصف هذه الأربعة بهذين الوصفين قال فَاجْتَنِبُوهُ أي كونوا جانباً منه والهاء عائدة إلى ماذا فيه وجهان الأول أنها عائدة إلى الرجس والرجس واقع على الأربعة المذكورة فكان الأمر بالاجتناب متناولاً للكل الثاني أنها عائدة إلى المضاف المحذوف كأنه قيل إنما شأن الخمر والميسر أو تعاطيهما أو ما أشبه ذلك ولذلك قال رِجْسٌ مّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ
واعلم أنه تعالى لما أمر باجتناب هذه الأشياء ذكر فيها نوعين من المفسدة فالأول ما يتعلق بالدنيا وهو قوله
إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَة َ وَالْبَغْضَآءَ فِى الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَواة ِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ
واعلم أنا نشرح وجه العداوة والبغضاء أولاً في الخمر ثم في الميسر
أما الخمر فاعلم أن الظاهر فيمن يشرب الخمر أنه يشربها مع جماعة ويكون غرضه من ذلك الشرب أن يستأنس برفقائه ويفرح بمحادثتهم ومكالمتهم فكان غرضه من ذلك الاجتماع تأكيد الألفة والمحبة إلا أن ذلك في الأغلب ينقلب إلى الضد لأن الخمر يزيل العقل وإذا زال العقل استولت الشهوة والغضب من غير مدافعة العقل وعند استيلائهما تحصل المنازعة بين أولئك الأصحاب وتلك المنازعة ربما أدت إلى الضرب والقتل والمشافهة بالفحش وذلك يورث أشد العداوة والبغضاء فالشيطان يسول أن الاجتماع على الشرب يوجب تأكيد الألفة والمحبة وبالآخرة انقلب الأمر وحصلت نهاية العداوة والبغضاء
وأما الميسر ففيه بإزاء التوسعة على المحتاجين الأجحاف بأرباب الأموال لأن من صار مغلوباً في القمار مرة دعاه ذلك إلى اللجاج فيه عن رجاء أنه ربما صار غالباً فيه وقد يتفق أن لا يحصل له ذلك إلى أن لا يبقى له شيء من المال وإلى أن يقامر على لحيته وأهله وولده ولا شك أنه بعد ذلك يبقى فقيراً مسكيناً ويصير من أعدى الأعداء لأولئك الذين كانوا غالبين له فظهر من هذا الوجه أن الخمر والميسر سببان عظيمان في إثارة العداوة والبغضاء بين الناس ولا شك أن شدة العداوة والبغضاء تفضي إلى أحوال مذمومة من الهرج والمرج والفتن وكل ذلك مضاد لمصالح العالم

فإن قيل لم جمع الخمر والميسر مع الأنصاب والأزلام ثم أفردهما في آخر الآية
قلنا لأن هذه الآية خطاب مع المؤمنين بدليل أنه تعالى قال تَشْكُرُونَ يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ( المائدة 90 ) والمقصود نهيهم عن الخمر والميسر وإظهار أن هذه الأربعة متقاربة في القبح والمفسدة فلما كان المقصود من هذه الآية النهي عن الخمر والميسر وإنما ضم الأنصاب والأزلام إلى الخمر والميسر تأكيداً لقبح الخمر والميسر لا جرم أفردهما في آخر الآية بالذكر
أما النوع الثاني من المفاسد الموجودة في الخمر والميسر المفاسد المتعلقة بالدين وهو قوله تعالى وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَواة ِ فنقول أما أن شرب الخمر يمنع عن ذكر الله فظاهر لأن شرب الخمور يورث الطرب واللذة الجسمانية والنفس إذا استغرقت في اللذات الجسمانية غفلت عن ذكر الله تعالى وأما أن الميسر مانع عن ذكر الله وعن الصلاة فكذلك لأنه إن كان غالباً صار استغراقه في لذة الغلبة مانعاً من أن يخطر بباله شيء سواه ولا شك أن هذه الحالة مما تصد عن ذكر الله وعن الصلاة
فإن قيل الآية صريحة في أن علة تحريم الخمر هي هذه المعاني ثم إن هذه المعاني كانت حاصلة قبل تحريم الخمر مع أن التحريم ما كان حاصلاً وهذا يقدح في صحة هذا التعليل
قلنا هذا هو أحد الدلائل على أن تخلف الحكم عن العلة المنصوصة لا يقدح في كونها علة
ولما بيّن تعالى اشتمال شرب الخمر واللعب بالميسر على هذه المفاسد العظيمة في الدين
قال تعالى فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ روي أنه لما نزل قوله تعالى حَدِيثاً يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلَواة َ وَأَنتُمْ سُكَارَى ( النساء 43 ) قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه اللّهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً فلما نزلت هذه الآية قال عمر انتهينا يا رب
واعلم أن هذا وإن كان استفهاماً في الظاهر إلا أن المراد منه هو النهي في الحقيقة وإنما حسن هذا المجاز لأنه تعالى ذم هذه الأفعال وأظهر قبحها للمخاطب فلما استفهم بعد ذلك عن تركها لم يقدر المخاطب إلا على الاقرار بالترك فكأنه قيل له أتفعله بعد ما قد ظهر من قبحه ما قد ظهر فصار قوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ جارياً مجرى تنصيص الله تعالى على وجوب الانتهاء مقروناً بإقرار الملكف بوجوب الانتهاء
واعلم أن هذه الآية دالة على تحريم شرب الخمر من وجوه أحدها تصدير الجملة بإنما وذلك لأن هذه الكلمة للحصر فكأنه تعالى قال للا رجس ولا شيء من عمل الشيطان إلا هذه الأربعة وثانيها أنه تعالى قرن الخمر والميسر بعبادة الأوثان ومنه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( شارب الخمر كعابد الوثن ) وثالثها أنه تعالى أمر بالاجتناب وظاهر الأمر للوجوب ورابعها أنه قال لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ جعل الاجتناب من الفلاح وإذا كان الاجتناب فلاحاً كان الارتكاب خيبة وخامسها أنه شرح أنواع المفاسد المتولدة منها في الدنيا والدين وهي وقوع التعادي والتباغض بين الخلق وحصول الاعراض عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة وسادسها قوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ وهو من أبلغ ما ينتهي به كأنه قيل قد تلي عليكم ما فيها من أنواع المفاسد والقبائح فهل أنتم منتهون مع هذه الصوارف أم أنتم على ما كنتم عليه حين لم توعظوا بهذه المواعظ وسابعها أنه تعالى قال بعد ذلك

وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ
وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فظاهره أن المراد وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فيما تقدم ذكره من أمرهما بالاجتناب عن الخمر والميسر وقوله وَاحْذَرُواْ أي احذروا عن مخالفتها في هذه التكاليف وثامنها قوله
فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ وهذا تهديد عظيم ووعيد شديد في حق من خالف في هذا التكليف وأعرض فيه عن حكم الله وبيانه يعني أنكم إن توليتم فالحجة قد قامت عليكم والرسول قد خرج عن عهدة التبليغ والاعذار والانذار فأما ما وراء ذلك من عقاب من خالف هذا التكليف وأعرض عنه فذاك إلى الله تعالى ولا شك أنه تهديد شديد فصار كل واحد من هذه الوجوه الصمانية دليلاً قاهراً وبرهاناً باهراً في تحريم الخمر
واعلم أن من أنصف وترك الاعتساف علم أن هذه الآية نص صريح في أن كل مسكر حرام وذلك لأنه تعالى لما ذكر قوله إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَة َ وَالْبَغْضَاء فِى الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَواة ِ ( المائدة 91 ) قال بعده فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ فرتب النهي عن شرب الخمر على كون الخمر مشتملة على تلك المفاسد ومن المعلوم في بدائه العقول أن تلك المفاسد إنما تولدت من كونها مؤثرة في السكر وهذا يفيد القطع بأن علة قوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ هي كون الخمر مؤثراً في الاسكار وإذا ثبت هذا وجب القطع بأن كل مسكر حرام ومن أحاط عقله بهذا التقدير وبقي مصراً على قوله فليس لعناده علاج والله أعلم
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَواْ وَءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَءَامَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى روي أنه لما نزلت آية تحريم الخمر قالت الصحابة إن إخواننا كانوا قد شربوا الخمر يوم أحد ثم قتلوا فكيف حالهم فنزلت هذه الآية والمعنى لا إثم عليهم في ذلك لأنهم شربوها حال ما كانت محللة وهذه الآية مشابهة لقوله تعالى في نسخ القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ( البقرة 143 ) أي إنكم حين استقبلتم بيت المقدس فقد استقبلتموه بأمري فلا أضيع ذلك كما قال فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى ( آل عمران 195 )

المسألة الثانية الطعام في الأغلب من اللغة خلاف الشراب فكذلك يجب أن يكون الطعم خلاف الشرب إلا أن اسم الطعام قد يقع على المشروبات كما قال تعالى وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنّى ( البقرة 249 ) وعلى هذا يجوز أن يكون قوله جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ أي شربوا الخمر ويجوز أن يكون معنى الطعم راجعاً إلى التلذذ بما يؤكل ويشرب وقد تقول العرب تطعم تطعم أي ذق حتى تشتهي وإذا كان معنى الكلمة راجعاً إلى الذوق صلح للمأكول والمشروب معاً
المسألة الثالثة زعم بعض الجهال أنه تعالى لما بيّن في الخمر أنها محرّمة عندما تكون موقعة للعداوة والبغضاء وصادة عن ذكر الله وعن الصلاة بيّن في هذه الآية أنه لا جناح على من طعمها إذا لم يحصل معه شيء من تلك المفاسد بل حصل معه أنواع المصالح من الطاعة والتقوى والاحسان إلى الخلق قالوا ولا يمكن حمله على أحوال من شرب الخمر قبل نزول آية التحريم لأنه لو كان المراد ذلك لقال ما كان جناح على الذين طعموا كما ذكر مثل ذلك في آية تحويل القبلة فقال وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ( البقرة 143 ) ولكنه لم يقل ذلك بل قال لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ إلى قوله لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ ءامَنُواْ ولا شك أن إذا للمستقبل لا للماضي
واعلم أن هذا القول مردود بإجماع كل الأمة وقولهم إن كلمة إذا للمستقبل لا للماضي
قجوابه ما روى أبو بكر الأصم أنه لما نزل تحريم الخمر قال أبو بكر يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وقد شربوا الخمر وفعلوا القمار وكيف بالغائبين عنا في البلدان لا يشعرون أن الله حرّم الخمر وهم يطعمونها فأنزل الله هذه الآيات وعلى هذا التقدير فالحل قد ثبت في الزمان المستقبل عن وقت نزول هذه الآية لكن في حق الغائبين الذين لم يبلغهم هذا النص
المسألة الرابعة أنه تعالى شرط لنفي الجناح حصول التقوى والايمان مرتين وفي المرة الثالثة حصول التقوى والاحسان واختلفوا في تفسير هذه المراتب الثلاث على وجوه الأول عمل الاتقاء والثاني دوام الاتقاء والثبات عليه والثالث اتقاء ظلم العباد مع ضم الاحسان إليه
القول الثاني أن الأول اتقاء جميع المعاصي قبل نزول هذه الآية والثاني اتقاء الخمر والميسر وما في هذه الآية الثالث اتقاء ما يحدث تحريمه بعد هذه الآية وهذا قول الأصم القول الثالث اتقاء الكفر ثم الكبائر ثم الصغائر القول الرابع ما ذكره القفال رحمه الله تعالى قال التقوى الأولى عبارة عن الاتقاء من القدح في صحة النسخ وذلك لأن اليهود يقولون النسخ يدل على البداء فأوجب على المؤمنين عند سماع تحريم الخمر بعد أن كانت مباحة أن يتقوا عن هذه الشبهة الفاسدة والتقوى اللثانية الإتيان بالعمل المطابق لهذه الآية وهي الاحتراز عن شرب الخمر والتقوى الثالثة عبارة عن المداومة على التقوى المذكورة في الأولى والثانية ثم يضم إلى هذه التقوى الإحسان إلى الخلق
والقول الخامس أن المقصود من هذا التكرير التأكيد والمبالغة في الحث على الايمان والتقوى فإن قيل لم شرط رفع الجناح عن تناول المطعومات بشرط الايمان والتقوى مع أن المعلوم أن من لم يؤمن ومن لم يتق ثم تناول شيئاً من المباحات فإنه لا جناح عليه في ذلك التناول بل عليه جناح في ترك الإيمان وفي ترك التقوى إلا أن ذلك لا تعلق له بتناول ذلك المباح فذكر هذا الشرط في هذا المعرض غير جائز

قلنا ليس هذا للاشتراط بل لبيان أن أولئك الأقوام الذين نزلت فيهم هذه الآية كانوا على هذه الصفة ثناء عليهم وحمداً لأحوالهم في الايمان والتقوى والاحسان ومثاله أن يقال لك هل على زيد فيما فعل جناح وقد علمت أن ذلك الأمر مباح فتقول ليس على أحد جناح في المباح إذا اتقى المحارم وكان مؤمناً محسناً تريد أن زيداً إن بقي مؤمناً محسناً فإنه غير مؤاخذ بما فعل
ثم قال تعالى وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ والمعنى أنه تعالى لما جعل الاحسان شرطاً في نفي الجناح بيَّن أن تأثير الإحسان ليس في نفي الجناح فقط بل وفي أن يحبه الله ولا شك أن هذه الدرجة أشرف الدرجات وأعلى المقامات وقد تقدم تفسير محبة الله تعالى لعباده
يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَى ْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذالِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ
قوله تعالى الْمُحْسِنِينَ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَى ْء مّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ
اعلم أن هذا نوع آخر من الأحكام ووجه النظم أنه تعالى كما قال لاَ تُحَرّمُواْ طَيّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ( المائدة 87 ) ثم استثنى الخمر والميسر عن ذلك فكذلك استثنى هذا النوع من الصيد عن المحلالات وبين دخوله في المحرمات
وهاهنا مسائل
المسألة الأولى اللام في قوله لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ لام القسم لأن اللام والنون قد يكونان جواباً للقسم وإذا ترك القسم جيء بهما دليلاً على القسم
المسألة الثانية الواو في قوله لَيَبْلُوَنَّكُمُ مفتوحة لالتقاء الساكنين
المسألة الثالثة ليبلونكم أي ليختبرن طاعتكم من ممعصيتكم أي ليعاملنكم معاملة المختبر
المسألة الرابعة قال مقاتل بن حيّان ابتلاهم الله بالصيد وهم محرمون عام الحديبية حتى كانت الوحش والطير تغشاهم في رحالهم فيقدرون على أخذها بالأيدي وصيدها بالرماح وما رأوا مثل ذلك قط فنهاهم الله عنها ابتلاءً قال الواحدي الذي تناله الأيدي من الصيد الفراخ والبيض وصغار الوحش والذي تناله الرماح الكبار وقال بلعضهم هذا غير جائز لأن الصيد اسم للمتوحش الممتنع دون ما لم يمتنع
المسألة الخامسة معنى التقليل والتصغير في قوله بِشَى ْء مّنَ الصَّيْدِ أن يعلم أنه ليس بفتنة من الفتن العظام التي كون التكليف فيها صعباً شاقاً كالابتلاء ببذل الأرواح والأموال وإنما هو ابتلاء سهل فإن الله تعالى امتحن أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بصيد البركما امتحن بني إسرائيل بصيد البحر وهو صيد السمك

المسألة السادسة من في قوله مّنَ الصَّيْدِ للتبعيض من وجهين أحدهما المراد صيد البر دون البحر والثاني صيد الاحرام دون صيد الاحلال وقال الزجاج يحتمل أن تكون للتبيين كقوله فَاجْتَنِبُواْ الرّجْسَ مِنَ الاْوْثَانِ ( الحج 30 )
المسألة السابعة أراد بالصيد المفعول بدليل قوله تعالى تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ والصيد إذا كان بمعنى المصدر يكون حدثاً وإنما يوصف بنيل اليد والرماح ما كان عينا
ثم قال تعالى لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ وفيه مسائل
المسألة الأولى أن هذا مجاز لأنه تعالى عالم لم يزل ولا يزال واختلفوا في معناه فقيل نعاملكم معاملة من يطلب أن يعلم وقيل ليظهر المعلوم وهو خوف الخائف وقيل هذا على حذف المضاف والتقدير ليعلم أولياء الله من يخافه بالغيب
المسألة الثانية قوله بِالْغَيْبِ فيه وجهان الأول من يخافه حال إيمانه بالغيب كما ذكر ذلك في أول كتابه وهو قوله يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ( البقرة 3 ) الثاني من يخاف بالغيب أي يخافه بإخلاص وتحقيق ولا يختلف الحال بسبب حضور أحد أو غيبته كما في حق المنافقين الذين إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم
المسألة الثالثة الباء في قوله بِالْغَيْبِ في محل النصب بالحال والمعنى من يخافه حال كونه غائباً عن رؤيته ومثل هذا قوله مَّنْ خَشِى َ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ ( ق 33 ) وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ ( الأنبياء 49 ) وأما معنى الغيب فقد ذكرناه في قوله الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ( البقرة 3 )
ثم قال تعالى فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذالِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ والمراد عذاب الآخرة والتعزيز في الدنيا قال ابن عباس هذا العذاب هو أن يضرب بطنه وظهره ضرباً وجيعاً وينزع ثيابه قال القفال وهذا جائز لأن اسم العذاب قد يقع على الضرب كما سمى جلد الزانيين عذاباً فقال وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَة ٌ ( النور 2 ) وقال فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ( النساء 25 ) وقال حاكياً عن سليمان في الهدهد لاعَذّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً ( النمل 21 )
يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَة ِ أَوْ كَفَّارَة ٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذالِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ
قوله تعالى أَلِيمٌ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وفيه مسائل
المسألة الأولى المراد بالصيد قولان الأول أنه الذي توحش سواء كان مأكولاً أو لم يكن فعلى هذا المحرم إذا قتل سبعاً لا يؤكل لحمه ضمن ولا يجب به قيمة شاة وهو قول أبي حنيفة رحمه الله وقال

زفر يجب بالغاً ما بلغ
والقول الثاني أن الصيد هو ما يؤكل لحمه فعلى هذا لا يجب الضمان البتة في قتل السبع وهو قول الشافعي رحمه الله وسلم أبو حنيفة رحمه الله أنه لا يجب الضمان في قتل الفواسق الخمس وفي قتل الذئب حجة الشافعي رحمه الله القرآن والخبر أما القرآن فهو أن الذي يحرم أكله ليس بصيد فوجب أن لا يضمن إنما قلنا إنه ليس بصيد لأن الصيد ما يحل أكله لقوله تعالى بعد هذه الآية أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَة ِ وَحُرّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً ( المائدة 96 ) فهذا يقتضي حل صيد البحر بالكلية وحل صيد البر خارج وقت الاحرام فثبت أن الصيد ما يحل أكله والسبع لا يحل أكله فوجب أن لا يكون صيداً وإذا ثبت أنه ليس بصيد وجب أن لا يكون مضموناً لأن الأصل عدم الضمان تركنا العمل به في ضمان الصيد بحكم هذه الآية فبقي فيما ليس بصيد على وفق اوصل وأما الخبر فهو الحديث المشهور وهو قوله عليه السلام ( خمس فواسق لا جناح على المحرم أن يقتلهن في الحل والحرم الغراب والحدأة والحية والعقرب والكلب العقور ) وفي رواية أخرى والسبح الضاري والاستدلال به من وجوه أحدها أن قوله والسبع الضاري نص في المسألة وثانيها أنه عليه السلام وصفها بكونها فواسق ثم حكى بحل قتلها والحكم المذكور عقيب الوصف المناسب مشعر بكون الحكم معلالاً بذلك الوصف وهذا يدل على أن كونها فواسق علة لحل قتلها ولا معنى لكونها فواسق إلا كونها مؤذية وصفة الايذاء في السباع أقوى فوجب جوا ( قتلها وثالثها أن الشارع خصها بإباحة القتل وإنما خصها بهذا الحكم لاختصاصها بمزيد الايذاء وصفة الايذاء في السباع أتم فوجب القول بجواز قتلها وإذا ثبت جواز قتلها وجب أن لا تكون مضمونة لما بيناه في الدليل الأول
حجة أبي حنيفة رحمه الله أن السبع صيد فيدخل تحت قوله لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وإنما قلنا إنه صيد لقول الشاعر
ليث تربى ربية فاصطيدا
ولقول علي عليه السلام فصيد الملوك أرانب وثعالب
وإذا ركبت فصيدي الأبطال
والجواب قد بينا بدلالة الآية أن ما يحرم أكله ليس بصيد وذلك لا يعارضه شعر مجهول وأما شعر علي عليه السلام فغير وارد لأن عندنا الثعلب حلال
المسألة الثانية حرم جمع حرام وفيه ثلاثة أقوال الأول قيل حرم أي محرمون بالحج وقيل وقد دخلتم الحرم وقيل هما مرادان بالآية وهل يدخل فيه المحرم بالعمرة فيه خلاف
اللمسألة الثالثة قوله لاَ تَقْتُلُواْ يفيد المنع من القتل ابتداء والمنع منه تسبباً فليس له أن يتعرض إلى الصيد ما دام محرماً لا بالسلاح ولا بالجوارح من الكلاب والطيور سواء كان الصيد صيد الحل أو صيد الحرم وأما الحلال فله أن يتصيد في الحل وليس له أن يتصيد في الحرم وإذا قلنا وَأَنتُمْ حُرُمٌ يتناول الأمرين أعني من كان محرماً ومن كان داخلاً في الحرم كانت الآية دالة على كل هذه الأحكام

ثم قال تعالى وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمّداً فَجَزَاء مّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ عاصم وحمزة والكسائي فجزاء بالتنوين ومثل بالرفع والمعنى فعليه جزاء مماثل للمقتول من الصيد فمثل مرفوع لأنه صفة لقوله فَجَزَاء قال ولا ينبغي إضافة جزاء إلى المثل ألا ترى أنه ليس عليه جزاء مثل ما قتل في الحقيقة إنما عليه جزاء الملقتول لا جزاء مثلل المقتول الذي لم يقتله وقوله تعالى مِنَ النَّعَمِ يجوز أن يكون صفة للنكرة التي هي جزاء والمعنى فجزاء من النعم مثل ما قتل وأما سائر القراء فهم قرؤا فَجَزَاء مّثْلُ على إضافة الجزاء إلى المثل وقالوا إنه وإن كان الواجب عليه جزاء المقتول لا جزاء مثله فإنهم يقولون أنا أكرم مثلك يريدون أنا أكرمك ونظيره قوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ْء ( الشورى 11 ) والتقدير ليس هو كشيء وقال أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِى النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ ( الأنعام 122 ) والتقدير كمن هو في الظلمات وفيه وجه آخر وهو أن يكون المعنى فجزاء مثل ما قتل من النعم كقولك خاتم فضة أي خاتم من فضة
المسألة الثانية قال سعيد بن جبير المحرم إذا قتل الصيد خطأ لا يلزمه شيء وهو قول داود وقال جمهور الفقهاء يلزمه الضمان سواء قتل عمداً أو خطأ حجة داود أن قوله تعالى وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمّداً مذكور في معرض الشرط وعند عدم الشرط يلزم عدم المشروط فوجب أن لا يجب الجزاء عند فقدان العمدية قال والذي يؤكد هذا أنه تعالى قال في آخر الآية وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ والانتقام إنما يكون في العمد دون الخطأ وقوله وَمَنْ عَادَ المراد منه ومن عاد إلى ما تقدم ذكره وهذا يقتضي أن الذي تقدم ذكره من القتل الموجب للجزاء هو العمد لا الخطأ وحجة الجمهور قوله تعالى وَحُرّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً ( المائدة 96 ) ولما كان ذلك حرامالً بالاحرام صار فعله محظوراً بالاحرام فلا يسقط حكمه بالخطأ والجهل كما في حلق الرأس وكما في ضمان مال المسلم فإنه لما ثبتت الحرمة لحق المالك لم يتبدل ذلك بكونه خطأ أو عمداً فكذا هاهنا وأيضاً يحتجون بقوله عليه السلام في الضبع كبش إذا قتله المحرم وقول الصحابة في الظبي شاة وليس فيه ذكر العمد
أجاب داود بأن نص القرآن خير من خبر الواحد وقول الصحابي والقياس
المسألة الثالثة ظاهر الآية يدل على أنه يجب أن يكون جزاء الصيد مثل المقتول إلا أنهم اختلفوا في المثل فقال الشافعي ومحمد بن الحسن الصيد ضربان منه ما له مثل ومنه ما لا مثل له فما له مثل يضمن بمثله من النعم وما لا مثل له يضمن بالقيمة وقال أبو حنيفة وأبو يوسف المثل الواجب هو القيمة
وحجة الشافعي القرآن والخبر والإجماع والقياس أما القرآن فقوله تعالى وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمّداً فَجَزَاء مّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ والاستدلال به من وجوه أربعة الأول أن جماعة من القراء قرؤا فَجَزَاء بالتنوين ومعناه فجزاء من النعم مماثل لما قتل فمن قال إنه مثله في القيمة فقد خالف النص وثانيها أن قوماً آخرين قرؤا فَجَزَاء مّثْلُ مَا قَتَلَ بالإضافة والتقدير فجزاء ما قتل من النعم أي فجزاء مثل ما قتل يجب أن يكون من النعم فمن لم يوجبه فقد خالف النص ثالثها قراءة ابن مسعود فَجَزَاؤُهُ مّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ وذلك صريح فيما قلناه ورابعها أن قوله تعالى يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَة ِ صريح في أن ذلك الجزاء الذي يحكم به ذوا عدل منهم يجب أن يكون هدياً بالغ الكعبة

فإن قيل إنه يشري بتلك القيمة هذا الهدى
قلنا النص صريح في أن ذلك الشيء الذي يحكم به ذوا عدل يجب أن يكون هدياً وأنتم تقولون الواجب هو القيمة ثم إنه يكون بالخيار إن شاء اشترى بها هدياً يهدي إلى الكعبة وإن شاء لم يفعل فكان ذلك على خلاف النص وأما الخبر فما روى جابر بن عبد ا أنه سأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن الضبع أصيد هو فقال نعم وفيه كبش إذا أخذه المحرم وهذا نص صريح وأما الاجماع فهو أن الشافعي رحمه الله قال تظاهرت الروايات عن علي وعمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وابن عباس وابن عمر في بلدان مختلفة وأزمان شتى أنهم حكموا في جزاء الصيد بالمثل من النعم فحكموا في النعامة ببدنة وفي حمار الوحش ببقرة وفي الضبع بكبش وفي الغزال بعنز وفي الظبي بشاة وفي الأرنب بجفرة وفي رواية بعناق وفي الضب بسخلة وفي اليربوع بجفرة وهذا يدل على أنهم نظروا إلى أقرب الأشياء شبهاً بالصيد من النعم لا بالقيمة ولا حكموا بالقيمة لاختلف باختلاف الأسعار والظبي هو الغزال الكبير الذكر والغزال هو الأنثى واليربوع هو الفأرة الكبيرة تكون في الصحراء والجفرة الأنثى من أولاد المعز إذا انفصلت عن أمها والذكر جفر والعنق الأنثى من أولاد المعز إذا قويت قبل تمام الحول وأما القياس فهو أن المقصود من الضمان جزاء الهالك ولا شك أن المماثلة كلما كانت أتم كان الجزاء أتم فكان الايجب أولى حجة ابي حنيفة رحمه الله تعالى لا نزاع أن الصيد المقتول إذا لم يكن له مثل فإنه يضمن بالقيمة فكان المراد بالمثل في قوله فَجَزَاء مّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ هو القيمة في هذه الصورة فوجب أن يكون في سائر الصور كذلك لأن اللفظ الواحد لا يجوز حمله إلا على المعنى الواحد
والجواب أن حقيقة المماثلة أمر معلوم والشارع أوجب رعاية المماثلة فوجب رعايتها بأقصى الامكان فإن أمكنت رعايتها في الصورة وجب ذلك وإن لم يكن رعايتها إلا بالقيمة وجب الاكتفاء بها للضرورة
المسألة الرابعة جماعة محرمون قتلوا صيداً قال الشافعي رحمه الله لا يجب عليهم إلا جزاء وحداً وهو قول أحمد وإسحاق وقال أبو حنيفة ومالك والثوري رحمهم الله يجب على كل واحد منهم جزاء واحد حجة الشافعي رحمه الله أن الآية دلت على وجوب المثل ومثل الواحد واحد وأكد هذا بما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال بمثل قولنا حجة أبي حنيفة رحمه الله أن كل واحد منهم قاتل فوجب أن يجب على كل وحد منهم جزاء كامل بيان الأول أن جماعة لو حلف كل واحد منهم أن لا يقتل صيداً فقتلوا صيداً واحداً لزم كل واحد منهم كفارة وكذلك القصاص المتعلق بالقتل يجب على جماعة يقتلون واحداً وإذا ثبت أن كل واحد منهم قاتل وجب أن يجب على كل واحد منهم جزاء كامل لقوله تعالى وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمّداً فَجَزَاء مّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ فقوله وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمّداً صيغة عموم فيتناول كل القاتلين أجاب الشافعي رحمه الله بأن القتل شيء واحد فيمتنع حصوله بتمامه بأكثر من قاعل واحد فإذا اجتمعوا حصل بمجموع أفعالهم قتل واحد وإذا كان كذلك امتنع كون كل واحد منهم قاتلاً في الحقيقة وإذا ثبت أن كل واحد منهم ليس بقاتل لم يدخل تحت هذه لآية وأما قتل الجماعة بالواحد فذاك ثبت على سبيل التعبد وكذ القول في إيجاب الكفارات المتعددة
المسألة الخامسة قال الشافعي رحمه الله المحرم إذا دل غيره على صيد فقتله المدلول عليه لم

يضمن الدال الجزاء وقال أبو حنيفة رحمه الله يضمن حجة الشفعي أو وجوب الجزاء معلق بالقتل في هذه الآية والدلالة ليست بقتل فوجب أن لا يجب الضمان ولأنه بدل المتلف فلا يجب بالدالة ككفارة القتل والدية وكالدلالة على مال المسلم حجة أبي حنيفة رحمه الله أنه سئل عمر عن هذه المسألة فشاور عبد الرحمن بن عوف فأجمعا على أن عليه الجزاء وعن ابن عباس أنه أوجب الجزاء على الدال أجاب الشافعي رحمه الله بأن نص القرآن خير من أثر بعض الصحابة
المسألة السادسة قال الشافعي رحمه الله إن جرح ظبياً فنقص من قيمته العشر فعليه عشر قيمة الشاة وقال داود لا يضمن ألبتة سوى القتل وقال المزني عليه شاة حجة داود أن الآية دالة على أن شرط وجوب الجزاء هو القتل فإذا لم يوجد القتل وجب أن لا يجب الجزاء ألبتة وجوابه أن المعلق على القتل وجوب مثل المقتول وعندنا أن هذا لا يجب عند عدم القتل فسقط قوله
المسألة السابعة إذا رمى من الحل والصيد في الحل فمر في السهم طائفة من الحرم قال الشافعي رحمه الله يحرم وعليه والجزاء وقال أبو حنيفة لا يحرم حجة الشافعي أن سبب الذبح مركب من أجزاء بعضها مباح وبعضها محرم وهو المرور في الحرم وما اجتمع الحرام والحلال إلا وغلب الحرام الحلال لا سيما في الذبح الذي الأصل فيه الحرمة وحجة أبي حنيفة رضي الله عنه أن قوله تعالى لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ نهى له عن الاصطياد حال كونه في الحرم فلما لم يوجد واحد من هذين الأمرين وجب أن لا تحصل الحرمة
المسألة الثامنة الحلال إذا اصطاد صيداً وأدخله الحرم لزمه الارسال وإن ذبحه حرم ولزمه الجزاء وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله وقا الشافعي رحمه الله وقال اشفعي رحمه الله يحل وليس عليه ضمان حجة الشافعي قوله تعالى أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَة ُ الاْنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلّى الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ ( المائدة 1 ) وحجة أبي حنيفة قوله تعالى لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ نهى عن قتل الصيد حال كونه محرماً وهذا يتناول الصيد الذي اصطاده في الحل والذي اصطاده في الحرم
المسألة التاسعة إذا قتل المحرم صيداً وأدى جزاءه ثم قتل صيداً آخر لزمة جزاء آخر وقال داود لا يجب حجة الجمهور أن قوله تعالى وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمّداً فَجَزَاء مّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ظاهره يقتضي أن علة وجوب الجزاء هو القتل فوجب أن يتكرر الحكم عند تكرر العلة
فإن قيل إذا قال الرجل لنسائه من دخل منكن الدار فهي طالق فدخلت واحدة مرتين لم يقع إلا طلاق واحد
قلنا الفرق أن القتل علة لوجوب الجزاء فيلزم تكرر الحكم عند تكرر العلة أما ههنا دخول الدار شرط لوقوع الطلاق فلم يلزم تكرر الحكم عند تكرر الشرط حجة داود قوله تعالى وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ جعل جزاء العائد الانتقام لا الكفارة
المسألة العاشرة قال الشافعي رحمه الله إذا أصاب صيداً أعور أو مكسور اليد أو الرجل فداه بمثله والصحيح أحب إليّ وعلى هذا الكبير أولى من الصغير ويفدى الذكر بالذكر والأنثى بالأنثى والأولى أن

لا بغير لأن نص القرآن إيجاب المثل والأنثى وإن كانت أفضل من الذكر من حيث إنها تلد فالذكر أفضل من الأنثى لأن لحمه أيب وصورته أحسن
ثم قال تعالى يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس يريد يحكم في جزاء الصيد رجلان صالحان ذوا عدل منكم أي من أهل ملتكم ودينكم فقيهان عدلان فينظران إلى أشبه الأشباه به من النعم فيحكمان به واحتج به من نصر قول أبي حنيفة رحمه الله في إيجاب القيمة فقال التقويم هو المحتاج إلى النظر والاجتهاد وأما الخلقة والصورة فظاهرة مشاهدة لا يحتاج فيها إلى الاجتهاد
وجوابه أن وجوه المشهابهة بين النعم وبين الصيد مختلفة وكثيرة فلا بد من الاجتهاد في تمييز الأقوى من الأضعف والذي يدل على صحة ما ذكرنا أنه قال ميمون بن مهران جاء أعرابي إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال إني أصبت من الصيد كذا وكذا فسأل أبو بكر رضي الله عنه أبي بن كعب فقال الأعرابي أتيتك أسألك وأنت تسأل غيرك فقال أبو بكر رضي الله عنه وما أنكرت من ذلك قال الله تعالى يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ فشاورت صاحبي فإذا اتفقنا على شيء أمرناك به وعن قبيضة بن جابر أنه حين كان محرماً ضرب ظبياً فمات فسأل عمر بن الخطاب رضي لله عنه وكان بجنبه عبد الرحمن بن عوف فقال عمر لعبد الرحمن ما ترى قال عليه شاة قال وأنا أرى ذلك فقال إذهب قاهد شاة قال قبيصة فخرجت إلى صاحبي وقلت له إن أمير المؤمنين لم يدر ما يقول حتى سأل غيره قال ففاجأني عمر وعلاني بالدرة وقال أتقتل في الحرم وتسفه الحكم قال الله تعالى يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ فأنا عمر وهذا عبد الرحمن بن عوف
المسألة الثانية قال الشافعي رحمه الله الذي له مثل ضربان فما حكمت فيه الصحابة بحكم لا يعدل عنه إلى غيره لأنه شاهدوا التنزيل وحضروا التأويل وما لم يحكم فيه الصحابة يرجع فيه إلى اجتهاد عدلين فينظر إلى الأجناس الثلاثة من الأنعام فكل ما كان أقرب شبهاً به يوجبانه وقال مالك يجب التحكيم فيما حكمت به الصحابة وفيما لم تحكم به حجة الشافعي رحمه الله الآية دلت على أنه يجب أن يحكم به ذوا عدل فإذا حكم به إثنان من الصحابة فقد دخل تحت الآية ثم ذاك أولى لما ذكرنا أنهم شاهدوا التنزيل وحضروا التأويل
المسألة الثالثة قال الشافعي رحمه الله يجوز أن يكون القاتل أحد العدلين إذا كان أخطأ فيه فإن تعمد لا يجوز لأنه يفسق به وقال مالك لا يجوز كما في تقويم المتلفات حجة الشافعي رحمه الله أنه تعالى أوجب أن يحكم به ذوا عدل وإذا صدر عنه القتل خطأ كان عدلاً فإذا حكم به هو وغيره فقد حكم به ذوا عدل وأيضاً روي أن بعض الصحابة أوطأ فرسه ظبياً فسأل عمر عنه فقال عمر احكمد فقال أنت عدل يا أمير المؤمنين فاحكم فقال عمر رضي الله عنه إنما أمرتك أن تحكم وما أمرتك أن تزكيني فقال أرى فيه جدياً جمع الماء والشجر فقال افعل ما ترى وعلى هذا التقدير قال أصحابنا يجوز أن يكونا قاتلين
المسألة الرابعة لو حكم عدلان بمثل وحكم عدلان رخران بمثل آخر فيه وجهان أحدهما

يتخير والثاني يأخذ بالأغلظ
المسألة الخامسة قال بعض مثبتي القياس دلت الآية على أن العمل بالقياس والاجتهاد جائز لأنه تعالى فوّض تعيين المثل إلى اجتهاد الناس وظنونهم وهذا ضعيف لأنه لا شك أن الشارع تعبدنا بالعمل بالظن في صور كثيرة منها الاجتهاد في القبلة ومنها العمل بشهادة الشاهدين ومنها العمل بتقويم المقومين في قيم المتلفات وأروش الجنايات ومنها العمل بتحكيم الحكام في تعيين مثل المصيد المقتول كما في هذه الآية ومنها عمل العامي بالفتوى ومنها العمل بالظن في مصالح الدنيا إلا أنا نقول إن ادعيتم أن تشبيه صورة شرعية بصورة شرعية في الحكم الشرعي هو عين هذه المسائل التي عددناها فذلك باطل في بديهة العقل وإن سلمتم المغايرة لم يلزم من كون الظن حجة في تلك الصور كونه حجة في مسألة القياس إلا إذا قسنا هذه المسألة على تلك المسائل وذلك يقتضي إثبات القياس بالقياس وهو باطل وأيضاً فالفرق ظاهر بين البابين لأن في جميع الصور المذكورة الحكم إنما ثبت في حق شخص واحد في زمان واحد في واقعة واحدة وأما الحكم الثابت بالقياس فإنه شرع عام في حق جميع المكلفين باق على وجه الدهر والتنصيص على أحكام الأشخاص الجزئية متعذر وأما التنصيص على الأحكام الكلية والشرائع العامة الباقية إلى آخر الدهر غير متعذر وأما التنصيص عى الأحكام الكلية والشرائع العامة الباقية إلى آخر الدهر غير متعذر فظهر الفرق والله أعلم
ثم قال تعالى هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَة ِ وفيه مسائل
المسألة الأولى في الآية وجهان الأول أن المعنى يحكمان به هدياً يساق إلى الكعبة فينحر هناك وهذا يؤكد قول من أوجب المثل من طريق الخلقة لأنه تعالى لم يقل يحكمان به شيئاً يشتري به هدي وإنما قال يحكمان به هدياً وهذا صريح في أنهما يحكمان بالهدي لا غير الثاني أن يكون المعنى يحكمان به شيئاً يشتري به ما يكون هدياً وهذا بعيد عن ظاهر اللفظ والحق هو الأول وقوله هَدْياً نصب على الحال من الكناية في قوله بِهِ والتقدير يحكم بذلك المثل شاة أو بقرة أو بدنة فالضمير في قوله بِهِ عائد إلى المثل والهدي حال منه وعند التفظن لهذين الاعتبارين فمن الذي يرتاب في أو الواجب هو المثل من طريق الخلقة والله أعلم
المسألة الثانية قوله بَالِغَ الْكَعْبَة ِ صفة لقوله هَدْياً لأن إضافته غير حقيقية تقديره بالغا الكعبة لكن التنوين قد حذف استخفافاً ومثله عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا ( الأحقاف 24 )
المسألة الثالثة سميت الكعبة كعبة لارتفاعها وتربعها والعرب تسمي كل بيت مربع كعبة والكعبة إنما أريد بها كل الحرم لأن الذبح والنحر لا يقعان في الكعبة ولا عندها ملازقاً لها ونظير هذه الآية قوله ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ( الحج 33 )
المسألة الرابعة معنى بلوغه الكعبة أن يذبح بالحرم فإن دفع مثل الصيد المقتول إلى الفقراء حياً لم يجز بل يجب عليه ذبحه في الحرم وإذا ذبحه في الحرم قال الشافعي رحمه الله يجب عليه أن يتصدق به في الحرم أيضاً وقال أبو حنيفة رحمه الله له أن يتصدق به حيث شاء وسلم الشافعي أن له أن يصوم حيث شاء لأنه لا منفعة فيه لمساكين الحرم

حجة الشافعي أن نفس الذبح إيلام فلا يجوز أن يكون قربة بل القربة هي إيصال اللحم إلى الفقراء فقوله هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَة ِ يوجب إيصال تلك الهدية إلى أهل الحرم والكعبة
وحجة أبي حنيفة رحمه الله أنها لما وصلت إلى الكعبة فقد صارت هدياً بالغ الكعبة فوجب أن يخرج عن العهدة
ثم قال تعالى أَوْ كَفَّارَة ٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذالِكَ صِيَاماً وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وابن عامر أَوْ كَفَّارَة ٌ طَعَامُ على إضافة الكفارة إلى الطعام والباقون أَوْ كَفَّارَة ٌ بالرفع والتنوين طعام بالرفع من غير التنوين أما وجه القراءة الأولى فهي أنه تعالى لما خير المكلف بين ثلاثة أشياء الهدي والصيام والطعام حسنت الإضافة فكأنه قيل كفارة طعام لا كفارة هدي ولا كفارة صيام فاستقامت الإضافة لكون الكفارة من هذه الأشياء وأما وجه قراءة من قرأ أَوْ كَفَّارَة ٌ بالتنوين فهو أنه عطف على قوله فَجَزَاء و طَعَامُ مَسَاكِينَ عطف بيان لأن الطعام هو الكفارة ولم تضف الكفارة إلى الطعام لأن الكفارة ليست للطعام وإنما الكفارة لقتل الصيد
المسألة الثانية قال الشافعي ومالك وأبو حنيفة رحمهم الله كلمة أَوْ في هذه الآية للتخيير وقال أحمد وزفر إنها للترتيب
حجة الأولين أن كلمة ( أو ) في أصل اللغة للتخيير والقول بأنها للترتيب ترك للظاهر
حجة الباقين أن كلمة ( أو ) قد تجيء لا لمعنى للتخيير كما في قوله تعالى أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مّنْ خِلَافٍ ( المائدة 33 ) فإن المراد منه تخصيص كل واحد من هذه الأحكام بحالة معينة فثبت أن هذا اللفظ يحتمل الترتيب فنقول والدليل دل على أن المراد هو الترتيب لأن الواجب ههنا شرع على سبيل التغليظ بدليل قوله لّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ والتخيير ينافي التغليظ
والجواب أن إخراج المثل ليس أقوى عقوبة من إخراج الطعام فالتخيير لا يقدح في القدر الحاصل من العقوبة في إيجاب المثل
المسألة الثالثة إذا قتل صيداً له مثل قال الشافعي رحمه الله هو مخير بين ثلاثة أشياء إن شاء أخرج المثل وإن شاء قوم المثل بدراهم ويشتري بها طعاماً ويتصدق به وإن شاء صام وأما الصيد الذي لا مثل له فهو مخير فيه بين شيئين بين أن يقوم الصيد بالدراهم ويشتري بتلك الدراهم طعاماً ويتصدق به وبين أن يصوم فعلى ما ذكرنا الصيد الذي له مثل إنما يشتري الطعام بقمية مثله وقال أبو حنيفة ومالك رحمهما الله إنما يشتري الطعام بقيمته حجة الشافعي أن المثل من النعم هو الجزاء والطعام بناء عليه فيعدل به كما يعدل عن الصوم بالطعام وأيضاً تقويم مثل الصيد أدخل في الضبط من تقويم نفس الصيد وحجة أبي حنيفة رحمه الله أن مثل المتلف إذا وجب اعتبر بالمتلف لا بغيره ما أمكن والطعام إنما وجب مثلاً للمتلف فوجب أن يقدر به
المسألة الرابعة اختلفوا في موضع التقويم فقال أكثر الفقهاء إنما يقوم في المكان الذي قتل الصيد فيه وقال الشعبي يقوم بمكة بثمن مكة لأنه يكفر بها

المسألة الخامسة قال الفراء العدل ما عادل الشيء من غير جنسه والعدل المثل تقول عندي عدل غلامك أو شاتك إذا كان عندك غلام يعدل غلاماً أو شاة تعدل شاة أما إذا أردت قيمته من غير جنسه نصبت العين فقلت عدل وقال أبو الهيثم العدل المثل والعدل القيمة والعدل اسم حمل معدول بحمل آخر مسوى به والعدل تقويمك الشيء بالشيء من غير جنسه وقال الزجاج وابن الأعرابي العدل والعدل سواء وقوله صِيَاماً نصب على التمييز كنا تقول عندي رطلان عسلا وملء بيت قتا والأصل فيه إدخال حرف من فيه فإن لم يذكر نصبته تقول رطلان من العسل وعدل ذلك من الصيام
المسألة السادسة مذهب الشافعي رضي الله عنه أنه يصوم لكل مد يوماً وهو قول عطاء ومذهب أبي حنيفة رحمه الله أنه يصوم لكل نصف صاع يوماً والأصل في هذه المسألة أنهما توافقا على أن الصوم مقدر بطعام يوم إلا أن طعام اليوم عند الشافعي مقدر بالمد وعند أبي حنيفة رحمه الله مقدر بنصف صاع على ما ذكرناه في كفارة اليمين
المسألة السابعة زعم جمهور الفقهاء أن الخيار في تعيين أحد هذه الثلاثة إلى قاتل الصيد وقال محمد بن الحسن رحمه الله إلى الحكمين حجة الجمهور أنه تعالى أوجب على قاتل الصيد أحد هذه الثلاثة على التخيير فوجب أن يكون قاتل الصيد مخيراً بين أيها شاء وحجة محمد رحمه الله أنه تعالى جعل الخياة إلى الحكمين فقال يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ هَدْياً أي كذا وكذا
وجوابنا أن تأويل الآة فَجَزَاء مّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ أَوْ كَفَّارَة ٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذالِكَ صِيَاماً وأما الاذي يحكم به ذوا عدل فهو تعيين المثل إما في القيمة أو في الخلقة
ثم قال تعالى لّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ وفيه مسألتان
المسألة الأولى الوبال في اللغة عبارة عما فيه من الثقل والمكروه يقال مرعى وبيل إذا كان فيه وخامة وماء وبيل إذا لم يستمر أو الطعام الوبيل الذي يثقل على المعدة فلا ينهضم قال تعالى فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً ( المزمل 16 ) أي ثقيلا
المسألة الثانية إنما سمى الله تعالى ذلك وبالا لأنه خيره بين ثلاثة أشياء اثنان منها توجب تنقيص المال وهو ثقيل على الطبع وهما الجزاء بالمثل والاطعام والثالث يوجب إيلام البدن وهو الصوم وذلك أيضاً ثقيل على الطبع والمعنى أنه تعالى أوجب على قاتل الصيد أحد هذه الأشياء التي كل واحد منها ثقيل على الطبع حتى يحترز عن قتل الصيد في الحرم وفي حال الإحرام
ثم قال تعالى عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى في الآية وجهان الأول عفا الله عما مضى في الجاهلية وعما سلف قبل التحريم في الإسلام
القول الثاني وهو قول من لا يوجب الجزاء إلا في المرة الأولى أما في المرة الثانية فإنه لا يوجب الجزاء عليه ويقول إنه أعظم من أن يكفره التصدق بالجزاء فعلى هذا المراد عفا الله عمال سلف في المرة الأولى بسبب أداء الجزاء ومن عاد إليه مرة ثانية فلا كفارة لجرمه بل ينتقم الله منه وحجة هذا القول أن

الفاء في وقله فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ فاء الجزاء والجزاء هو الكافي فهذا يقتضي أن هذا الانتقام كاف في هذا الذنب وكونه كافياً يمنع من وجوب شيء آخر وذلك يقتضي أن لا يجب الجزاء عليه
المسألة الثانية قال سيبويه في قوله وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وفي قوله وَمَن كَفَرَ فَأُمَتّعُهُ قَلِيلاً ( البقرة 126 ) وفي قوله فَمَن يُؤْمِن بِرَبّهِ فَلاَ يَخَافُ ( الجن 13 ) إن في هذه الآيات إضماراً مقدراً والتقدير ومن عاد فهو ينتقم الله منه ومن كفر فأنا أمتعه ومن يؤمن بربه فهو لا يخاف وبالجملة فلا بدّ من إضمار مبتدأ يصير ذلك الفعل خبراً عنه والدليل عليه أن الفعل يصير بنفسه جزاء فلا حاجة إلى إدخال حرف الجزاء عليه فيصير إدخال حرف الفاء على الفعل لغواً أما إذا أضمرنا المبتدأ احتجنا إلى إدخال حرف الفاء عليه ليرتبط بالشرط فلا تصير الفاء لغواً والله أعلم
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَة ِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ
قوله تعالى أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَة ِ وفيه مسائل
المسألة الأولى المراد بالصيد المصيد وجملة ما يصاد من البحر ثلاثة أجناس الحيتان وجميع أنواعها حلال والضفادع وجميع أنواعها حرام واختلفوا فيما سوى هذين فقال أبو حنيفة رحمه الله إنه حرام وقال ابن أبي ليلى والأكثرون إنه حلال وتمسكوا فيه بعموم هذه الآية والمراد بالبحر جميع المياه والأنهار
المسألة الثانية أنه تعالى عطف طعام البحر على صيده والعطف يقتضي المغايرة وذكروا فيه وجوهاً
الأول وهو الأحسن ما ذكره أبو بكر الصديق رضي الله عنه أن الصيد ما صيد بالحيلة حال حياته والطعام ما يوجد مما لفظه البحر أو نضب عنه الماء من غير معالجة في أخذه هذا هو الأصح مما قيل في هذا الموضع
والوجه الثاني أن صيد البحر هو الطري وأما طعام البحر فهو الذي جعل مملحاً لأنه لما صار عتيقاً سقط اسم الصيد عنه وهو قول سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب ومقاتل والنخعي وهو ضعيف لأن الذي صار مالحاً فقد كان طرياً وصيداً في أول الأمر فيلزم التكرار والثالث أن الاصطياد قد يكون للأكل وقد يكون لغيره مثل اصطياد الصدف لأجل اللؤلؤ واصطياد بعض الحيوانات البحرية لأجل عظامها وأسنانها فقد حصل التغاير بين الاصطياد من البحر وبين الأكل من طعام البحر والله أعلم
المسألة الثالثة قال الشافعي رحمه الله السمكة الطافية في البحر محللة وقال أبو حنيفة رحمه الله محرّمة حجة الشافعي القرآن والخبر أما القرآن فهو أنه يمكن أكله فيكون طعاماً فوجب أن يحل لقوله تعالى أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ وأما الخبر فقوله عليه السلام في البحر ( هو الطهور ماؤه الحل ميتته )=

ج12. مفاتيح الغيب ـ ترقيم الشاملة موافق للمطبوع
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي الشافعي

المسألة الرابعة قوله للسيارة يعني أحلّ لكم صيد البحر للمقيم والمسافر فالطري للمقيم والمالح للمسافر
المسألة الخامسة في انتصاب قوله أَرْسَاهَا مَتَاعاً لَّكُمْ وجهان الأول قال الزجاج انتصب لكونه مصدراً مؤكداً إلا أنه لما قيل أُحِلَّ لَكُمُ كان دليلاً على أنه منعم به كما أنه لما قيل حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ( النساء 23 ) كان دليلاً على أنه كتب عليهم ذلك فقال كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ( النساء 24 ) الثاني قال صاحب ( الكشاف ) انتصب لكونه مفعولاً له أي أحل لكم تمتيعاً لكم
ثم قال تعالى وَحُرّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً
وفيه مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى ذكر تحريم الصيد على المحرم في ثلاثة مواضع من هذه السورة من قوله غَيْرَ مُحِلّى الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ ( المائدة 1 ) إلى قوله وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ ( المائدة 2 ) ومن ثوله لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ( المائدة 95 ) إلى قوله وَحُرّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً
المسألة الثانية صيد البحر هو الذي لا يعيش إلا في الماء أما الذي لا يعيش إلا في البر والذي يمكنه أن يعيش في البر تارة وفي البحر أخرى فذاك كله صيد البر فعلى هذا السلحفاة والسرطان والضفدع وطير الماء كل ذلك من صيد البر ويجب على قاتله الجزاء
المسألة الثالثة اتفق المسلمون على أن المحرم عليه الصيد واختلفوا في الصيد الذي يصيده الحلال هل يحل للمحرم فيه أربعة أقوال الأول وهو قول علي وابن عباس وابن عمر وسعيد بن جبير وطاوس وذكره الثوري وإسحاق أنه يحرم عليه بكل حال وعولوا فيه على قوله وَحُرّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وذلك لأن صيد البر يدخل فيه ما اصطاده المحرم وما اصطاده الحلال وكل ذلك صيد البر وروى أبو داود في ( سننه ) عن حميد الطويل عن إسحاق بن عبدالله بن الحرث عن أبيه قال كان الحرث خليفة عثمان على الطائف فصنع لعثمان طعاماً وصنع فيه الحجل واليعاقيل ولحوم الوحش فبعث إلى علي بن أبي طالب عليه السلام فجاءه الرسول فجاء فقالوا له كل فقال علي أطعمونا قوتاً حلالاً فإنا حرم ثم قال علي عليه السلام أنشد الله من كان ههنا من أجع أتعلمون أن رسول الله أهدى إليه رجل حمار وحش وهو محرم فأبى أن يأكله فقالوا نعم
والقول الثاني أن لحم الصيد مباح للمحرم بشرط أن لا يصطاده المحرم ولا يصطاد له وهو قول الشافعي رحمه الله والحجة فيه ما روى أبو داود في ( سننه ) عن جابر قال سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصاد لكم )
والقول الثالث أنه إذا صيد للمحرم بغير إعانته وإشارته حل له وهو قول أبي حنيفة رحمه الله روي عن أبي قتادة أنه اصطاد حمار وحش وهو حلال في أصحاب محرمين له فسألوا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) عنه فقال ( هل أشرتم هل أعنتم فقالوا لا فقال هل بقي من لحمه شيء أوجب الإباحة عند عدم الإشارة والاعانة من غير تفصيل

واعلم أن هذين القولين مفرعان على تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد والثاني في غاية الضعف
ثم قال تعالى وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ والمقصود منه التهديد ليكون المرء مواظباً على الطاعة محترزاً عن المعصية
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَة َ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْى َ وَالْقَلَائِدَ ذالِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأرض وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَى ْءٍ عَلِيمٌ
قوله تعالى جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَة َ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْى َ وَالْقَلَائِدَ
اعلم أن اتصال هذه الآية بما قبلها هو أن الله تعالى حرّم في الآية المتقدمة الاصطياد على المحرم فبين أن الحرم كما أنه سبب لأمن الوحش والطير فكذلك هو سبب لأمن الناس عن الآفات والمخافات وسبب لحصول الخيرات والسعادات في الدنيا والآخرة وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن عامر قَيِّماً بغير ألف ومعناه المبالغة في كونه قائماً بإصلاح مهمات الناس كقوله تعالى دِينًا قِيَمًا ( الأنعام 161 ) والباقون بالألف وقد استقصينا ذلك في سورة النساء
المسألة الثانية جَعَلَ فيه قولان الأول أنه بين وحكم الثاني أنه صير فالأول بالأمر والتعريف والثاني بخلق الدواعي في قلوب الناس لتعظيمه والتقرب إليه
المسألة الثالثة سميت الكعبة كعبة لارتفاعها يقال للجارية إذا نتأ ثديها وخرج كاعب وكعاب وكعب الإنسان يسمى كعباً لنتوه من الساق فالكعبة لما ارتفع ذكرها في الدنيا واشتهر أمرها في العالم سميت بهذا الاسم ولذلك فإنهم يقولون لمن عظم أمره فلان علا كعبه
المسألة الرابعة قوله قِيَاماً لّلنَّاسِ أصله قوام لأنه من قام يقوم وهو ما يستقيم به الأمر ويصلح ثم ذكروا ههنا في كون الكعبة سبباً لقوام مصالح الناس وجوهاً الأول أن أهل مكة كانوا محتاجين إلى حضور أهل الآفاق عندهم ليشتروا منهم ما يحتاجون إليه طول السنة فإن مكة بلدة ضيقة لا ضرع فيها ولا زرع وقلما يوجد فيها ما يحتاجون إلي فالله تعالى جعل الكعبة معظمة في القلوب حتى صار أهل الدنيا راغبين في زيارتها فيسافرون إليها من كل فج عميق لأجل التجارة ويأتون بجميع المطالب والمشتهيات فصار ذلك سبباً لاسباغ النعم على أهل مكة الثاني أن العرب كانوا يتقاتلون ويغيرون إلا في الحرم فكان أهل الحرم آمنين على أنفسهم وعلى أموالهم حتى لو لقي الرجل قاتل أبيه أو ابنه في الحرم لم يتعرض له ولو جنى الرجل أعظم الجنايات ثم التجأ إلى الحرم لم يتعرض له ولهذا قال تعالى أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءامِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ( العنكبوت 67 ) الثالث أن أهل مكة صاروا بسبب الكعبة أهل الله وخاصته وسادة الخلق إلى يوم القيامة وكل أحد يتقرب إليهم ويعظمهم الرابع أنه تعالى جعل الكعبة قواماً للناس في دينهم بسبب ما جعل فيها من المناسك العظيمة والطاعات الشريفة وجعل تلك المناسك سبباً لحط الخطيآت ورفع الدرجات وكثرة الكرامات

واعلم أنه لا يبعد حمل الآية على جميع هذه الوجوه وذلك لأن قوام المعيشة إما بكثرة المنافع وهو الوجه الأول الذي ذكرناه وإما بدفع المضار وهو الوجه الثاني وءما بحصول الجاه والرياسة وهو الوجه الثالث وإما بحصول الدين وهو الوجه الرابع فلما كانت الكعبة سبباً لحصول هذه الأقسام الأربعة وثبت أن قوام المعيشة ليس إلا بهذه الأربعة ثبت أن الكعبة سبب لقوام الناس
المسألة الخامسة المراد بقوله قِيَاماً لّلنَّاسِ أي لبعض الناس وهم العرب وإنما حسن هذا المجاز لأن أهل كل بلد إذا قالوا الناس فعلوا كذا وصنعوا كذا فإنهم لا يريدون إلا أهل بلدتهم فلهذا السبب خوطبوا بهذا الخطاب على وفق عادتهم
المسألة السادسة اعلم أن الآية دالة على أنه تعالى جعل أربعة أشياء سبباً لقيام الناس وقوامهم الأول الكعبة وقد بيثنا معنى كونها سبباً لقيام الناس وأما الثاني فهو الشهر الحرام ومعنى كونه سبباً لقيام الناس هو أن العرب كان يقتل بعضهم بعضاً في سائر الأشهر ويغير بعضهم على بعض فإذا دخل الشهر الحرام زال الخوف وقدروا على الأسفار والتجارات وصاروا آمنين على أنفسهم وأموالهم وكانوا يحصلون في الشهر الحرام من الأقوات ما كان يكفيهم طول السنة فلولا حرمة الشهر الحرام لهلكوا وتفانوا من الجوع والشدة فكان الشهر الحرام سبباً لقوام معيشتهم في الدنيا أيضاً فهو سبب لاكتساب الثواب العظيم بسبب إقامة مناسك الحج
واعلم أنه تعالى أراد بالشهر الحرام الأشهر الحرم الأربعة إلا أنه عبّر عنها بلفظ الواحد لأنه ذهب به مذهب الجنس وأما الثالث فهو الهدي وهو إنما كان سبباً لقيام الناس لأن الهدي ما يهدى إلى البيت ويذبح هناك ويفرق لحمه على الفقراء فيكون ذلك نسكاً للمهدي وقواماً لمعيشة الفقراء وأما الرابع فهو القلائد والوجه في كونها قياماً للناس أن من قصد البيت في الشهر الحرام لم يتعرض له أحد ومن قصده من غير الشهر الحرلاام ومعه هدي وقد قلده وقلد نفسه من لحاء شجرة الحرم لم يتعرض له أحد حتى أن الواحد من العرب يلقى الهدي مقلداً ويموت من الجوع فلا يتعرض له البتة ولم يتعرض لها صاحبها أيضاً وكل ذلك إنما كان لأن الله تعالى أوقع في قلوبهم تعظيم البيت الحرام فكل من قصده أو تقرب إليه صار آمناً من جميع الآفات والمخافات فلما ذكر الله تعالى أنه جعل الكعبة البيت الحرام قياماً للناسي ذكر بعده هذه الثلاثة وهي الشهر الحرام والهدي والقلائد لأن هذه الثلاثة إنما صارت سبباً لقوام المعيشة لانتسابها إلى البيت الحرام فكان ذلك دليلاً على عظمة هذا البيت وغاية شرفه
ثم قال تعالى ذالِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلّ شَى ْء عَلِيمٌ
والمعنى أنه تعالى لما علم في الأزل أن مقتضى طباع العرب الحرص الشديد على القتل والغارة وعلم أنه لو دامت بهم هذه الحالة لعجزوا عن تحصيل ما يحتاجون إليه من منافع المعيشة ولأدى ذلك إلى فنائهم وانقطاعهم بالكلية دبر في ذلك تدبيراً لطيفاً وهو يأنه ألقى في قلوبهم اعتقاداً قوياً في تعظيم البيت الحرام وتعظيم مناسكه فصار ذلك سبباً لحصول الأمن في البلد الحرام وفي الشهر الحرام فلما حصل الأمن في هذا المكان وفي هذا الزمان قدروا على تحصيل ما يحتاجون إليه في هذا الزمان وفي هذا المكان فاستقامت مصالح معاشهم ومن المعلوم أن مثل هذا التدبير لا يمكن إلا إذا كان تعالى في الأزل

عالماً بجميع المعلومات من الكليات والجزئيات حتى يعلم أن الشر غالب على طباعهم وأن ذلك يفضي بهم إلى الفناء وانقطاع النسل وأنه لا يمكن دفع ذلك إلا بهذا الطريق اللطيف وهو إلقاء تعظيم الكعبة في قلوبهم حتى يصير ذلك سبباً لحصول الأمان في بعض الأمكنة وفي بعض الأزمنة فحينئذ تستقيم مصالح معاشهم في ذلك المكان وفي ذلك الزمان وهذا هو بعينه الدليل الذي تمسك به المتكلمون على كونه تعالى عالماً فإنهم يقولون إن أفعاله محكمة متقنة مطابقة للمصالح وكل من كان كذلك كان عالماً ومن المعلوم أن إلقاء تعظيم الكعبة في قلوب العرب لأجل أن يصير ذلك سبباً لحصول الأمن في بعض الأمكنة وفي بعض الأزمنة ليصير ذلك سبب اقتدارهم على تحصيل مصالح المعيشة فعل في غاية الاتقان والاحكام فيكون ذلك دليلاً قاهراً وبرهاناً باهراً على أن صانع العالم سبحانه وتعالى عالم بجميع المعلومات فلا جرم قال ذلك لّتَعْلَمُواْ أي ذلك التدبير اللطيف لأجل أن تتفكروا فيه فتعلموا أنه تدبير لطيف وفعل محكم متقن فتعلموا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ثم إذا عرفتم ذلك عرفتم أن علمه سبحانه وتعالى صفة قديمة أزلية واجبة الوجود وما كان كذلك امتنع أن يكون مخصوصاً بالبعض دون البعض فوجب كونه متعلقاً بجميع المعلومات وإذا كان كذلك كان الله سبحانه عالماً بجميع المعلومات فلذلك قال وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلّ شَى ْء عَلِيمٌ فما أحسن هذا الترتيب في هذا التقدير والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
لما ذكر الله تعالى أنواع رحمته بعباده ذكر بعده أنه شديد العقاب لأن الإيمان لا يتم إلا بالرجاء والخوف كما قال عليه الصلاة والسلام ( لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا ) ثم ذكر عقيبه ما يدل على الرحمة وهو كونه غفوراً رحيماً وذلك يدل على أن جانب الرحمة أغلب لأنه تعالى ذكر فيما قبل أنواع رحمته وكرمه ثم ذكر أنه شديد العقاب ثم ذكر عقيبه وصفين من أوصاف الرحمة وهو كونه غفوراً رحيماً وهذا تنبيه على دقيقة وهي أن ابتداء الخلق والإيجاد كان لأجل الرحمة والظاهر أن الختم لا يكون إلا على الرحمة ثم قال تعالى
مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ
واعلم أنه تعالى لما قدم الترهيب والترغيب بقوله أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( المائدة 98 ) أتبعه بالتكليف بقوله مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلَاغُ يعني أنه كان مكلفاً بالتبليغ فلما بلغ خرج عن العهدة وبقي الأمر من جانبكم وأنا عالم بما تبدون

وبما تكتمون فإن خالفتم فاعلموا أن الله شديد العقاب وإن أطعتم فاعلموا أن الله غفور رحيم
قُل لاَّ يَسْتَوِى الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَة ُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُواْ اللَّهَ ياأُوْلِى الاٌّ لْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
ثم قال تعالى قُل لاَّ يَسْتَوِى الْخَبِيثُ وَالطَّيّبُ
اعلم أنه تعالى لما زجر عن المعصية ورغب في الطاعة بقوله اعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( المائدة 98 ) ثم أتبعه بالتكليف بقوله مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلَاغُ ( المائدة 99 ) ثم أتبعه بالترغيب في الطاعة والتنفير عن المعصية بقوله وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ( المائدة 99 ) أتبعه بنوع آخر من الترغيب في الطاعة والتنفير عن المعصية فقال قُل لاَّ يَسْتَوِى الْخَبِيثُ وَالطَّيّبُ وذلك لأن الخبيث والطيب قسمان أحدهما الذي يكون جسمانياً وهو ظاهر لكل أحد والثاني الذي يكون روحانياً وأخبث الخبائث الروحانية الجهل والمعصية وأطيب الطيبات الروحانية معرفة الله تعالى وطاعة الله تعالى وذلك لأن الجسم الذي يلتصق به شيء من النجاسات يصير مستقذراً عند أرباب الطباع السليمة فكذلك الأرواح العارفة بالله تعالى المواظبة على خدمة الله تعالى فإنها تصير مشرقة بأنوار المعارف الإلهية مبتهجة بالقرب من الأرواح المقدسة الطاهرة وكما أن الخبيث والطبيب في عالم الجسمانيات لا يستويان فكذلك في عالم الروحانيات لا يستويان بل المباينة بينهما في عالم الروحانيات أشد لأن مضرة خبث الخبيث الجسماني شيء قليل ومنفعته طيبة مختصرة وأما خبث الخبيث الروحاني فمضرته عظيمة دائمة أبدية وطيب الطيب الروحاني فمنفتعه عظيمة دائمة أبدية وهو القرب من جوار رب العالمين والانخراط في زمرة الملائكة المقربين والمرافقة من النبيّين والصدّيقين والشهداء الصالحين فكان هذا من أعظم وجوه الترغيب في الطاعة والتنفير عن المعصية
ثم قال تعالى وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَة ُ الْخَبِيثِ يعني أن الذي يكون خبيثاً في عالم الرحانيات قد يكون طيباً في عالم الجسمانيات ويكون كثير المقدار وعظيم اللذة إلا أنه مع كثرة مقداره ولذاذة متناوله وقرب وجدانه سبب للحرمان من السعادات الباقية الأبدية السرمدية التي إليها الإشارة بقوله وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ( الكهف 46 ) وإذا كان الأمر كذلك فالخبيث ولو أعجبك كثرته يمتنع أن يكون مساوياً للطيب الذي هو المعرفة والمحبة والطاعة والابتهاج بالسعادات الروحانية والكرامات الربانية
ولما ذكر تعالى هذه الترغيبات الكثيرة في الطاعة والتحذيرات من المعصية أتبعها بوجه آخر يؤكدها فقال تعالى فَاتَّقُواْ اللَّهَ ياأُوْلِى أُوْلِى الاْلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي فاتقوا الله بعد هذه البيانات الجلية والتعريفات القوية ولا تقدموا على مخالفته لعلّكم تصيرون فائزين بالمطالب الدنيوية والدينية العاجلة والآجلة
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْءَانُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ
قوله تعالى تُفْلِحُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ في الآية مسائل
المسألة الأولى في اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه الأول أنه تعالى لما قال مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلَاغُ ( المائدة 99 ) صار التقدير كأنه قال ما بلغه الرسول إليكم فخذوه وكونوا منقادين له وما لم يبلغه الرسول إليك

فلا تسألوا عنه ولا تخوضوا فيه فإنكم أن خضتم فيما لا تكليف فيه عليكم فربما جاءكم بسبب ذلك الخوض الفاسد من التكاليف ما يثقل عليكم ويشق عليكم الثاني أنه تعالى لما قال مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلَاغُ وهذا ادعاء منه للرسالة ثم إن الكفار كانوا يطالبونه بعد ظهور المعجزات أخر على سبيل التعنت كما قال تعالى حاكياً عنهم وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الاْرْضِ يَنْبُوعًا ( الإسرار 90 ) إلى قوله قُلْ سُبْحَانَ رَبّى هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً ( الإسرار 93 ) والمعنى إني رسول أمرت بتبليغ الرسالة والشرائع والأحكام اليكم والله تعالى قد أقام الدلالة على صحة دعواي في الرسالة بإظهار أنواع كثيرة من المعجزات فبعد ذلك طلب الزيادة من باب التحكم وذلك ليس في وسعي ولعل إظهارها يوجب ما يسوءكم مثل أنها لو ظهرت فكل من خالف بعد ذلك استوجب العقاب في الدنيا ثم إن المسلمين لما سمعوا الكفار يطالبون الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بهذه المعجزات وقع في قلوبهم ميل إلى ظهورها فعرفوا في هذه الآية أنهم لا ينبغي أن يطلبوا ذلك فربما كان ظهورها يوجب ما يسوءهم
الوجه الثالث أن هذا متصل بقوله وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ( المائدة 99 ) فاتركوا الأمور على ظواهرنا ولا تسألوا عن أحوال مخيفة إن تبد لكم تسؤكم
المسألة الثانية أشياء جمع شيء وأنها غير متصرفة وللنحويين في سبب امتناع الصرف وجوه الأول قال الخليل وسيبويه قولنا شيء جمعه في الأصل شيآء على وزن فعلاء فاستثقلوا اجتماع الهمزتين في آخره فنقلوا الهمزة الأولى التي هي لام الفعل إلى أول الكلمة فجاءت لفعاء وذلك يوجب منع الصرف لثلاثة أوجه واحد منها مذكور وإثنان خطرا ببالي
أما الأول وهو المذكور فهو أن الكلمة لما كانت في الأصل على وزن فعلاء مثل حمراء لا جرم لم تنصرف كما لم ينصرف حمراء والثاني ى نها لما كانت في الأصل شيآء ثم جعلت أشياء كان ذلك تشبيهاً بالمعدول كما في عامر وعمر وزافر وزفر والعدل أحد أسباب منع الصرف الثالث وهو إنا لما قطعنا الحرف الأخير منه وجعلناه أوله والكلمة من حيث إنها قطع منها الحرف الأخير صارت كنصف الكلمة ونصف الكلمة لا يقبل الاعراب ومن حيث إن ذلك الحرف الذي قطعناه منها ما حذفناه بالكلية بل ألصقناه بأولها كانت الكلمة كأنها باقية بتمامها فلا جرم منعناه بعض وجوه الاعراب دون البعض تنبيهاً على هذه الحالة فهذا ما خطر بالبال في هذا المقام
الوجه الثاني في بيان السبب في منع الصرف ما ذكره الأخفش والفراء وهو أن أشياء وزنه أفعلاء كقوله أصدقاء وأصفياء ثم إنهم استثقلوا اجتماع الياء والهمزتين فقدموا الهمزة فلما كان أشياء في الأصل أشيياء على وزن أصدقاء وأفعلاء وكان ذلك مما لا يجري فيه الصرف فكذا ههنا
الوجه الثالث ما ذكره الكسائي وهو أن أشياء على وزن أفعال إلا أنهم لم يصرفوه لكونه شبيهاً في الظاهر بحمراء وصفراء وألزمه الزجاج أن لا ينصرف أسماء وأبناء وعندي أن سؤال الزجاج ليس بشيء لأن للكسائي أن يقول القياس يقتضي ذلك في أبناء وأسماء إلا أنه ترك العمل به للنص لأن النص أقوى من القياس ولم يوجد النص في لفظ أشياء فوجب الجري فيه على القياس ولأن المحققين من النحويين اتفقوا على أن العلل النحوية لا توجب الاطراد ألا ترى أنا إذا قلنا الفاعلية توجب الرفع لزمنا أن نحكم

بحصول الرفع في جميع المواضع كقولنا جاءني هؤلاء وضربني هذا بل نقول القياس ذلك فيعمل به إلا إذا عارضه نص فكذا القول فيما أورده الزجاج على الكسائي
المسألة الثالثة روى أنس أنهم سألوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأكثروا المسألة فقام على المنبر فقال ( سلوني فوالله لا تسألوني عن شيء ما دمت في مقامي هذا إلا حدثتكم به ) فقام عبد الله بن حذافة السهمي وكان يطعن في نسبه فقال يا نبي الله من أبي فقال ( أبوك حذافة بن قيس ) وقال سراقة بن مالك ويروي عكاشة بن محصن يا رسول الله الحج علين في كل عام فأعرض عنه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى أعاد مرتين أو ثلاثة فقال عليه الصلاة والسلام ( ويحك وما يؤمنك أن أقول نعم والله لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت لتركتم ولو تركتم لكفرتم فاتركوني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم فإذا أمرتكم بشيء فائتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ) وقام آخر فقال يا رسول الله أين أبي فقال ( في النار ) ولما اشتد غضب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قام عمر وقال رضينا بالله رباً وبالاسلام ديناً وبمحمد نبياً فأنزل الله تعالى هذه الآية
وأعلم أن السؤال عن الأشياء ربما يؤدي إلى ظهور أحوال مكتومة يكره ظهورها وربما ترتبت عليه تكاليف شاقة صعبة فالأولى بالعاقل أن يسكت عما لا تكليف عليه فيه ألا ترى أن الذي سأل عن أبيه فإنه لم يأمن أن يلحقه الرسول عليه الصلاة والسلام بغير أبيه فيفتضح وأما السائل عن الحج فقد كاد أن يكون ممن قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيه ( ءن أعظم المسلمين في المسلمين جرماً من كان سبباً لتحريم حلال إذ لم يؤمن أن يقول في الحج إيجاب في كل عام ) وكان عبيد بن عمير يقول إن الله أحل وحرم فما أحل فاستحلوه وما حرم فاجتنبوه وترك بين ذلك أشياء لم يحللها ولم يحرمها فذلك عفو من الله تعالى ثم يتلو هذه الآية وقال أبو ثعلبة الخشني ءن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها وحدَّ حدوداً فلا تعتدوها وعفا عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها
ثم قال تعالى يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن وفيه وجوه الأول أنه بيّن بالآية الأولى أن تلك الأشياء التي سألوا عنها أن أبديت لهم ساءتهم ثم بين بهذه الآية أنهم إن سألوا عنها أبديت لهم فكان حاصل الكلام أنهم إن سألوا عنها أبديت لهم وإن أبديت لهم ساءتهم فيلزم من مجموع المقدمتين أنهم إن سألوا عنها ظهر لهم ما يسوءهم ولا يسرهم والوجه الثاني في تأويل الآية أن السؤال على قسمين أحدهما السؤال عن شيء لم يجز ذكره في الكتاب والسنة بوجه من الوجوه فهذا السؤال منهى عنه بقوله لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ
والنوع الثاني من السؤال السؤال عن شيء نزل به لقرآن لكن السامع لم يفهمه كما ينبغي فههنا

السؤال واجب وهو المراد بقوله يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن والفائدة في ذكر هذا القسم أنه لما منع في الآية الأولى من السؤال أوهم أن جميع أنواع السؤال ممنوع منه فذكر ذلك تمييزاً لهذا القسم عن ذلك القسم
فإن قيل قوله وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا هذا الضمير عائد إلى الأشياء المذكورة في قوله لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء فكيف يعقل في أَشْيَاء بأعيانها أن يكون السؤال عنها ممنوعاً وجائزاً معاً
قلنا الجواب عنه من وجهين الأول جائز أن يكون السؤال عنها ممنوعاً قبل نزول القرآن بها ومأموراً به بعد نزول القرآن بها والثاني أنهما وإن كانا نوعين مختلفين إلا أنهما في كون كل واحد منهما مسؤولاً عنه شيء واحد فلهذا حسن اتحاد الضمير وإن كانا في الحقيقة نوعين مختلفين
الوجه الثالث في تأويل الآية إن قوله لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء دل على سؤالاتهم عن تلك الأشياء فقوله وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا أي وإن تسألوا عن تلك السؤالات حين ينزل القرآن لكم أن تلك السؤالات هل هي جائزة أم لا والحاصل أن المراد من هذه الآية أنه يجب السؤال أولاً وأنه هل يجوز السؤال عن كذا وكذا أم لا
ثم قال تعالى عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وفيه وجوه الأول عفا الله عما سلف من مسائلكم وإغضابكم للرسول بسببها فلا تعودوا إلى مثلها الثاني ى نه تعالى ذكر أن تلك الأشياء التي سألوا عنها إن أبديت لهم ساءتهم فقال عَفَا اللَّهُ عَنْهَا يعني عما ظهر عند تلك السؤالات مما يسؤكم ويثقل ويشق في التكليف عليكم الثالث في الآية تقديم وتأخير والتقدير لا تسألوا عن أشياء عفا الله عنها في الآية إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وهذا ضعيف لأن الكلام إذا اسقام من غير تغيير النظم لم يجز المصير إلى التقديم والتأخير وعلى هذا الوجه فقوله عَفَا اللَّهُ عَنْهَا أي أمسك عنها وكف عن ذكرها ولم يكلف فيها بشيء وهذا كقوله عليه الصلاة والسلام ( عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق ) أي خففت عنكم بإسقاطها
ثم قال تعالى وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ وهذه الآية تدل على أن المراد من قوله عفا الله عنها ما كذرناه في الوجه الأول ثم قال تعالى
قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ
قال المفسرون يعني قوم صالح سألوا الناقة ثم عقروها وقوم موسى قالوا
قال المفسرون يعني قوم صالح سألوا الناقة ثم عقروها وقوم موسى قالوا أَرِنَا اللَّهِ جَهْرَة ً ( النساء 153 ) فصار ذلك وبالاً عليهم وبنو إسرائيل قَالُواْ لِنَبِى ّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ قال تعالى فما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلاً منهم و و قَالُواْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ ( البقرة 246 247 ) فسألوها ثم كفروا بها وقوم عيسى سألوا عن أشياء فلعلّكم إن أعطيتم سؤلكم ساءكم ذلك فإن قيل إنه تعالى قال أولاً لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء ( المائدة 101 ) ثم قال ههنا قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مّن قَبْلِكُمْ وكان الأولى أن يقول قد سأل عنها قوم فما السبب في ذلك

قلنا الجواب من وجهين الأول أن السؤال عن الشيء عبارة عن السؤال عن حالة من أحواله وصفة من صفاته وسؤال الشيء عبارة عن طلب ذلك الشيء في نفسه يقال سألته درهماً أي طلبت منه الدرهم ويقال سألته عن الدرهم أي سألته عن صفة الدرهم وعن نعته فالمتقدمون إنما سألوا من الله إخراج الناقة من الصخرة وإنزال المائدة من السماء فهم سألوا نفس الشيء وأما أصحاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فهم ما سألوا ذلك وإنما سألوا عن أحوال الأشياء وصفاتها فلما اختلف السؤالان في النوع اختلفت العبارة أيضاً إلا أن كلا القسمين يشتركان في وصف واحد وهو أنه خوض في الفضول وشروع فيما لا حاجة إليه وفيه خطر المفسدة والشيء الذي لا يحتاج إليه ويكون فيه خطر المفسدة يجب على العاقل الاحتراز عنه فبيّن تعالى أن قوم محمد عليه السلام في السؤال عن أحوال الأشياء مشابهون لأولئك المتقدمين في سؤال تلك الأشياء في كون كل واحد منهما فضولاً وخوضاً فيما لا فائدة فيه
الوجه الثاني في الجواب أن الهاء في قوله قَدْ سَأَلَهَا غير عائدة إلى الأشياء التي سألوا عنها بل عائدة إلى سؤالاتهم عن تلك الأشياء والتقدير قد سأل تلك السؤالات الفاسدة التي ذكرتموها قوم من قبلكم فلما أجيبوا عنها أصبحوا بها كافرين
مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَة ٍ وَلاَ سَآئِبَة ٍ وَلاَ وَصِيلَة ٍ وَلاَ حَامٍ وَلَاكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ
قوله تعالى مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَة ٍ وَلاَ سَآئِبَة ٍ وَلاَ وَصِيلَة ٍ وَلاَ حَامٍ في الآية مسائل
المسألة الأولى أعلم أنه تعالى لما منع الناس من البحث عن أمور ما كلفوا بالبحث عنها كذلك منعهم عن التزام أمور ما كلفوا التزامها ولما كان الكفار يحرمون على أنفسهم الانتفاع بهذه الحيوانات وإن كانوا في غاية الاحتياج إلى الانتفاع بها بيّن تعالى أن ذلك باطل فقال مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَة ٍ وَلاَ سَآئِبَة ٍ وَلاَ وَصِيلَة ٍ وَلاَ حَامٍ
المسألة الثانية أعلم أنه يقال فعل وعمل وطفق وجعل وأنشأ وأقبل وبعضها أعم من بعض وأكثرها عموماً فعل لأنه واقع على أعمال الجوارح وأعمال القلوب أما إنه واقع على أعمال الجوارح فظاهر وأما إنه واقع على أعمال القلوب فدليل عليه قوله تعالى لَوْ شَآء اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَى ْء نَّحْنُ وَلا ءابَاؤُنَا إلى قوله كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ( النحل 35 ) وأما عمل فإنه أخص من فعل لأنه لا يقع إلا على أعمال الجوارح ولا يقع على الهم والعزم والقصد والدليل عليه قوله عليه السلام ( نية المؤمن خير من عمله ) جعل النية خيراً من العمل فلو كانت النية عملاً لزم كون النية خيراً من نفسها وأما جعل فله وجوه أحدها الحكم ومنه قوله وَجَعَلُواْ الْمَلَئِكَة َ الَّذِينَ عَمَّ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً ( الزخرف 19 ) وثانيها الخلق ومنه قوله وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ( الانعام 1 ) وثالثها بمعنى التصيير

ومه قوله إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْءاناً عَرَبِيّاً ( الزخرف 3 )
إذا عرفت هذا فنقول قوله مَّا جَعَلَ اللَّهُ أي ما حكم الله بذلك ولا شرع ولا أمر به
المسألة الثالثة أنه تعالى ذكر ههنا أربعة أشياء أولها البحيرة وهي فعلية من البحر وهو الشق يقال بحر ناقته إذا شق أذنها وهي بمعنى المفعول قال أبو عبيدة والزجاج الناقة إذا نتجت خمسة أبطن وكان آخرها ذكراً شقوا أذن الناقة وامتنعوا من ركوبها وذبحها وسبوها لآلهتهم ولا يجز لها وبر ولا يحمل على ظهرها ولا تطرد من ماء ولا تمنع عن مرعى ولا ينتفع بها وإذا لقيها المعبي لم يركبها تحريجاً
وأما السائبة فهي فاعلة من ساب إذا جرى على وجه الأرض يقال ساب الماء وسابت الحية فالسائبة هي التيتركت حتى تسيب إلى حيث شاءت وهي المسيبة كعيشة راضية بمعنى مرضية وذكروا فيها وجوهاً أحدها ما ذكره أبو عبيدة وهو أن الرجل كان إذا مرض أو قدم من سفر أو نذر نذراً أو شكر نعمة سيب بعيراً فكان بمنزلة البحيرة في جميع ما حكموا لها وثانيها قال الفراء إذا ولدت الناقة عشرة أبطن كلهن إناث سيبت فلم تركب ولم تحلب ولم يجز لها وبر ولم يشرب لبنها إلا ولد أو ضيف وثالثها قال ابن عباس السائبة هي التي تسيب للأصنام أي تعتق لها وكان الرجل يسيب من ماله ما يشاء فيجيء به إلى السدنة وهم خدم آلهتهم فيطعمون من لبنها أبناء السبيل ورابعها السائبة هو العبد يعتق على أن يكون عليه ولاء ولا عقل ولا ميراث
أما الوصيلة فقال المفسرون إذا ولدت الشاة أنثى فهي لهم وإن ولدت ذكراً فهو لآلهتهم وإن ولدت ذكراً وأنثى قالوا وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم فالوصيلة بمعنى الموصولة كأنها وصلت بغيرها ويجوز أن تكون بمعنى الواصلة لأنها وصلت أخاها وأما الحام فيقال حماه يحميه إذا حفظه وفيه وجوه أحدها الفحل إذا ركب ولد ولده قيل حمى ظهره أي حفظه عن الركوب فلا يركب ولا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا مرعى إلى أن يموت فحينئذٍ تأكله الرجال والنساء وثانيها إذا نتجت الناقة عشرة أبطن قالوا حمت ظهرها حكاه أبو مسلم وثالثها الحامهو الفحل الذي يضرب في الإبل عشر سنين فيخلى وهو من الأنعام التي حرمت ظهورها وهو قول السدي
فإن قيل إذا جاز إعتاق العبيد هذه البهائم من الذبح والاتعاب والايلام
قلنا الإنسان مخلوق لخدمة الله تعالى وعبوديته فإذا تمرد عن طاعة الله تعالى عوقت بضرب الرق عليه فإذا أزيل الرق عنه تفرغ لعبادة الله تعالى فكان ذلك عبادة مستحسنة وأما هذه الحيوانات فإنها مخلوقة لمنافع المكلفين فتركها وإهمالها يقتضي فوات منفعة على مالكها من غير أن يحصل في مقابلتها فائدة فظهر الفرق وأيضاً الإنسان إذا كان عبداً فأعتق قدر على تحصيل مصالح نفسه وأما البهيمة إذا أعتقت وتركت لم تقدر على رعاية مصالح نفسها فوقعت في أنواع من المحنة أشد وأشق مما كانت فيها حال ما كانت مملوكة فظهر الفرق
ثم قال تعالى وَلَاكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ

قال المفسرون إن عمرو بن لحي الخزاعي كان قد ملك مكة وكان أول من غير دين إسماعيل فاتخذ الأصنام ونصب الأوثان وشرع البحيرة والسائبة والوصيلة والحام قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( فلقد رأيته في النار يؤذي أهل النار بريح قصبه ) والقصب المعا وجمعه الاقصاب ويروي يجر قصبه في النار قال ابن عباس قوله وَلَاكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يريد عمرو بن لحي وأصحابه يقولون على الله هذه الأكاذيب والأباطيب في تحريمهم هذه الأنعام والمعنى أن الرؤساء يفترون على الله على الكذب فأما الأتباع والعوام فأكثرهم لا يعقلون فلا جرم يفترون على الله هذه الأكاذيب من أولئك الرؤساء ثم قال تعالى
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَاءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ ءَابَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ
والمعنى معلوم وهو رد على أصحاب التقليد وقد استقصينا الكلام فيه في مواضع كثيرة
وأعلم أن الواو في قوله وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ واو الحال قد دخلت عليها همزة الإنكار وتقديره أحسبهم ذلك ولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون
وأعلم أن الاقتداء إنما يجوز بالعالم المهتدي وإنما يكون عالماً مهتدياً إذا بنى قوله على الحجة والدليل فإذا لم يكن كذلك لم يكن عالماً مهتدياً فوجب أن لا يجوز الاقتداء به
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يِاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ شَهَادَة ُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّة ِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ أَوْ ءَاخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِى الأرض فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَة ُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلواة ِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِى بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَة َ اللَّهِ إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ الاٌّ ثِمِينَ
قوله تعالى يَهْتَدُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ
في الآية مسائل
المسألة الأولى لما بين أنواع التكاليف والشرائع والأحكام ثم قال مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ( المائدة 99 ) إلى قوله وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا ( المائدة 104 ) فكأنه تعالى قال إن هؤلاء الجهال مع ما تقدم من أنواع المبالغة في الاعذار والانذار والترغيب والترهيب لم ينتفعوا بشيء منه بل بقوا مصرين على جهلهم مجدين على جهالاتهم وضلالتهم فلا تبالوا أيها المؤمنون بجهالتهم وضلالتهم بل كونوا منقادين لتكاليف الله مطيعين لأوامره ونواهيه فلا يضركم ضلالتهم

وجهالتهم فلهذا قال يَهْتَدُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ
المسألة الثانية قوله عَلَيْكَ أَنفُسَكُمْ أي احفظوا من ملابسة المعاصي والاصرار على الذنوب قال النحويون عليك وعندك ودونك من جملة أسماء الأفعال تقول العرب عليك وعندك ودونك فيعدونها إلى المفعول ويقيمونها مقام الفعل وينصبون بها فيقال عليك زيداً كأنه قيل خذ زيداً فقد علاك أي أشرف عليك وعندك زيداً أي حضرك فخذه ودونك أي قرب منك فخذه فهذه الأحرف الثلاثة لا اختلاف بين النحويين في إجازة النصب بها ونقل صاحب ( الكشاف ) عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ بالرفع عن نافع
المسألة الثالثة ذكروا في سبب النزول وجوها أحدها ما روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما قبل من أهل الكتاب الجزية ولم يقبل من العرب إلا الإسلام أو السيف عير المنافقون المؤمنين بقبول الجزية من بعض الكفار دون البعض فنزلت هذه الآية أي لا يضركم ملامة اللائمين إذا كنتم على الهدى وثانيها أن المؤمنين كان يشتد عليهم بقاء الكفار في كفرهم وضلالتهم فقيل لهم عليكم أنفسكم وما كلفتم من إصلاحها والمشي بها في طريق الهدى لا يضركم ضلال الضالين ولا جهل الجاهلين وثالثها أنهم كانوا يغتمون لعشائرهم لما ماتوا على الكفر فنهوا عن ذلك والأقرب عندي أنه لما حكى عن بعضهم أنه إذا قيل لهم تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا ( المائدة 104 ) ذكر تعالى هذه الآية والمقصود منها بيان أنه لا ينبغي للمؤمنين أن يتشبهوا بهم في هذه الطريقة الفاسدة بل ينبغي أن يكونوا مصرين على دينهم وأن يعلموا أنه لا يضرهم جهل أولئك الجاهلين إذا كانوا راسخين في دينهم ثابتين فيه
المسألة الرابعة فإن قيل ظاهر هذه الآية يوهم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غير واجب
قلنا الجواب عنه من وجوه الأول وهو الذي عليه أكثر الناس إن الآية لا تدل على ذلك بل توجب أن المطيع لربه لا يكون مؤاخذاً بذنوب العاصي فأما وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فثابت بالدلائل خطب الصديق رضي الله عنه فقال إنكم تقرؤن هذه الآية يَهْتَدُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ وتضعونها غير موضعها وإني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( إن الناس إذا رأوا المنكر فلم ينكروه يوشك أن يعمهم الله بعقاب )
والوجه الثاني في تأول الآية ما روي عن ابن مسعود وابن عمر أنهما قالا قوله عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ يكون هذا في آخر الزمان قال ابن مسعود لما قرئت عليه هذه الآية ليس هذا بزمانها ما دامت قلوبكم واحدة ولم تلبسوا شيعاً ولم يذق بعضكم بأس بعض فأمروا وانهوا فإذا اختلفت القلوب والأهواء وألبستم شيعاً ووكل كل امرىء ونفسه فعند ذلك جاء تأويل هذه الآية وهذا القول عندي ضعيف لأن قوله ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ خطاب عام وهو أيضاً خطاب مع الحاضرين فكيف يخرج الحاضر ويخص الغائب
والوجه الثالث في تأويل الآية مال ذهب إليه عبد الله بن المبارك قال هذه أوكد آية في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنه قال عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ يعني عليكم أهل دينكم ولا يشركم من ضل من الكفار وهذا كقوله فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ( البقرة 54 ) يعني أهل دينكم فقوله عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ يعني بأن يعظ

بعضكم بعضاً ويرغب بعضكم بعضاً في الخيرات وينفره عن القبائح والسيئات والذي يؤكد ذلك ما بينا أن قوله عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ معناه احفظوا أنفسكم فكان ذلك أمراً بأننحفظ أنفسنا فإن لم يكن ذلك الحفظ إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان ذلك واجباً
والوجه الرابع أن الآية مخصوصة بالكفار الذين علم أنه لا ينفعهم الوعظ ولا يتركون الكفر بسبب الأمر بالمعروف فهاهنا لا يجب على الإنسان أن يأمرهم بالمعروف والذي يؤكد هذا القول ما ذكرنا في سبب النزول أن الآية نازلة في المنافقين حيث عيروا المسلمين بأخذ الجزية من أهل الكتاب دون المشركين
الوجه الخامس أن الآية مخصوصة بما إذا خاف الإنسان عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على نفسه أو على عرضه أو على ماله فهاهنا عليه نفسه لا تضره ضلالة من ضل ولا جهالة من جهل وكان ابن شبرمة يقول من فر من اثنين فقد فر ومن فر من ثلاثة فلم يفر
الوجه السادس لا يضركم إذا اهتديتم فأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر ضلال من ضل فلم يقبل ذلك
الوجه السابع عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ من أداء الواجبات التي من جملتها الأمر بالمعروف عند القدرة فإنلم يقبلوا ذلك فلا ينبغي أن تستوحشوا من ذلك فإنكم خرجتم عن عهدة تكليفكم فلا يضركم ضلال غيركم
والوجه الثامن أنه تعالى قال لرسوله فَقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ ( النساء 84 ) وذلك لا يدل على سقوط الأمر بالمعروف عن الرسول فكذا هاهنا
المسألة الخامسة قريء لا يضركم بفتح الراء مجزوماً على جواب قوله عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ وقريء بضم الراء وفيه وجهان أحدهما على وجه الخبر أي ليس يضركم من ضل والثاني أن حقها الفتح على الجواب ولكن ضمت الراء اتباعاً لضمة الضاد
ثم قال تعالى إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً يريد مصيركم ومصير من خالفكم فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يعني يجازيكم بأعمالكم
يا أيها الذين آمنوا شهداة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية
اعلم أنه تعالى لما أمر بحفظ النفس في قوله عليكم أنفسكم أمر بحفظ المال في قوله يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم وفيه مسألتان
المسألة الأولى اتفقوا على أن سبب نزول هذه الآية تميما الداري وأخاه عديا كان نصرانيين خرجا

إلى الشام ومعهما بديل عمرو بن العاص وكان مسلما مهاجرا خرجوا للتجارة فلما قدموا الشام مرض بديل فكتب كتابا فيه نسخة جميع ما معه وألقاه فيما بين الأقمشة ولم يخبر صاحبه بذلك ثم أوصى إليهما وأمرهما أن يدفعا متاعه إذا رجعا إلى أهله ومات بديل فأخذا من متاعه إناء من فضة منقوشا بالذهب ثلثمائة مثقال ودفعا باقي المتاع إلى أهله لما قدما ففتشوا فوجدوا الصحيفة وفيها ذكر الإناء فقالوا لتميم وعدي أين الإناء فقالا لا ندري والذي دفع إلينا دفعناه إليكم فرفعوا الواقعة إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأنزل الله تعالى هذه الآية
المسألة الثانية قوله شهادة بينكم يعني شهادة ما بينكم وما بينكم كناية عن التنازع والتشاجر وإنما أضاف الشهادة إلى التنازع لأن الشهود إنما يحتاج إليهم عند وقوع التنازع وحذف ما من قوله شهادة بينكم جائز لظهوره ونظيره قوله هذا فراق بيني وبينك الكهف 78 أي ما بيني وبينك وقوله لقد تقطع بينكم الأنعام 94 في قراءة من نصب وقوله إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية يعني الشهادة المحتاج إليها عند حضور الموت وحين الوصية بدل من قوله إذا حضر أحدكم لأن زمان حضور الموت هو زمان حضور الوصية فعرف ذلك الرمان بهذين الأمرين الواقعين فيه كما يقال ائتني إذا زالت الشمس حين صلاة الظهر والمراد بحضور الموت مشارفته وظهور أمارات وقوعه كقوله كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية البقرة 180 قالوا وقوله إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية دليل على وجوب الوصية لأنه تعالى جعل زمان حضور الموت غير زمان الوصية وهذا إنما يكون إذا كانا متلازمين وإنما تحصل هذه الملازمة عند وجوب الوصية
ثم قال تعالى اثنان ذو عدل منكم وفيه مسألتان
المسألة الأولى في الآية حذف والمراد أن يشهد ذوا عدل منكم وتقدير الآية شهادة ما بينكم عند الموت الموصوف هي أن يشهد اثنان ذو عدل منكم وإنما حسن هذا الحذف لكونه معلوما
المسألة الثانية اختلف المفسرون في قوله منكم على قولين الأول وهو قول عامة المفسرين أن المراد اثنان ذوا عدل منكم يا معشر المؤمنين أي من أهل دينكم وملتكم وقوله أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض يعني أو شهادة آخرين من غير أهل دينكم وملتكم إذا كنتم في السفر فالعدلان المسلمان صالحان للشهادة في الحضر والسفر وهذا قول ابن عباس وأبي موسى الأشعري وسعيد بن

جبير وسعيد بن المسيب وشريح ومجاهد وابن سيرين وابن جريج قالوا إذا كان الإنسان في الغربة ولم يجد مسلما يشهده على وصيته جاز له أن يشهد اليهودي أو النصراني أو المجوسي أو عابد الوثن أو أي كافر كان وشهادتهم مقبولة ولا يجوز شهادة الكافرين على المسلمين إلا في هذه الصورة قال الشعبي رحمه الله مرض رجل من المسلمين في الغربة فلم يجد أحدا من المسلمين يشهده على وصيته فأشهد رجلين من أهل الكتاب فقدما الكوفة وأتيا أبا موسى الأشعري وكان واليا عليها فأخبراه بالواقعة وقدما تركته ووصيته فقال أبو موسى هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام ثم حلفهما في مسجد الكوفة بعد العصر بالله أنهما ما كذبا ولا بدلا وأجاز شهادتهما ثم إن القائلين بهذا القول منهم من قال هذا الحكم بقي محكما ومنهم من قال صار منسوخا
القول الثاني وهو قول الحسن والزهري الفقهاؤ أن قوله ذوا عدل منكم أي من أقاربكم وقوله أو آخران من غيركم أي من الأجانب إن أنتم ضربتم في الأرض أي أن توقع الموت في السفر ولم يكن معهم أحد من أقاربكم فاستشهدوا أجنبيين على الوصية وجعل الأقارب أولا لأنهم أعلم بأحوال الميت وهم به أشفق وبورثته أرحم وأرأف واحتج الذاهبون إلى القول الأول على صحة قولهم بوجوه
الحجة الأولى أنه تعالى قال في أول الآية يا أيها الذين آمنوا فعمم بهذا الخطاب جميع المؤمنين فلما قال بعده أو آخران من غيركم كان المراد أو آخران من جميع المؤمنين لا محالة
الحجة الثانية أنه تعالى قال أو لآخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض وهذا يدل على أن جواز الاستشهاد بهذين الآخرين مشروط بكون المستشهد في السفر فلو كان هذان الشاهدان مسلمين لما كان جواز الاستشهاد بهما مشروطا بالسفر لأن استشهاد المسلم جائز في السفر والحضر
الحجة الثالثة الآية دالة على وجوب الحلف على هذين الشاهدين من بعد الصلاة وأجمع المسلمون على أن الشاهد المسلم لا يجب عليه الحلف فعلمنا أن هذين الشاهدين ليسا من المسلمين
الحجة الرابعة أن سبب نزول هذه الآية ما ذكرناه من شهادة النصاريين على بديل وكان مسلما
الحجة الخامسة ما روينا أن أبا موسى الأشعري قضى بشهادة اليهوديين بعد أن حلفهما وما أنكر عليه أحد من الصحابة فكان ذلك إجماعا
الحجة السادسة إنا إنما نجيز إشهاد الكافرين إذا لم نجد أحدا من المسلمينن والضرورات قد تبيح المحذورات ألا ترى أنه تعالى أجاز التيمم والقصر في الصلاة والافطار في رمضان وأكل الميتة في حال الضرورة والضرورة حاصلة في هذه المسألة لأن المسلم إذا قرب أجله في الغربة ولم يجد مسلما يشهده على نفسه ولم تكن شهادة الكفار مقبولة فإنه يضيع أكثر مهماته فإنه ربما وجبت عليه زكوات وكفارات وما أداها وربما كان عنده ودائع أو ديون كانت في ذمته وكما تجوز شهادة النساء فيما يتعلق بأحوال النساء كالحيض والحبل والولادة والاستهلال لأجل أنه لا يمكن وقوف الرجال على هذه الاحوال فاكتفينا فيها بشهادة النساء لأجل الضرورة فكذا ههنا وأما قول من يقول بأن هذا الحكم صار منسوخا فبعيد لاتفاق أكثر الأمة على أن سورة المائدة من آخر ما نزل من القرآن وليس فيها منسوخ واحتج القائلون بالقول الثاني بقوله وأشهدوا ذوي عدك منكم الطلاق 2 والكافر لا يكون عدلا

أجاب الأولون عنه لم لا يجوز ان يكون المراد بالعدل من كان عدلا في الاحتراز عن الكذب لا بد من كان عدلا في الدين والاعتقاد والدليل عليه أنا أجمعنا على قبول شهادة أهل الأهواء والبدع مع أنهم ليسوا عدولا في مذاهبهم ولكنهم لما كانوا عدولا في الاحتراز عن الكذب قبلنا شهادتهم فكذا ههنا سلمنا أن الكافر ليس بعدل إلا أن قوله وأشهدوا ذوي عدل منكم عام وقول في هذه الآية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض خاص فإنه أوجب شهادة العدل الذي يكون منا في الحضر واكتفى بشهادة من لا يكون منا في السفر فهذه الآية خاصة والآية التي ذكرتموها عامة والخاص مقدم على العام لا سيما إذا كان الخاص متأخرا في النزول ولا شك أن سورة المائدة متأخرة فكان تقديم هذه الآية الخاصة على الآية العامة التي ذكرتموها واجبا بالاتفاق والله أعلم
ثم قال تعالى أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابكم مصيبة الموت
وفيه مسألتان
المسألة الأولى قوله أو آخران عطف على قوله اثنان والتقدير شهادة بينكم أن يشهد اثنان منكم أو آخران من غيركم
المسألة الثانية قوله إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابكم مصيبة الموت المقصود منه بيان أن جواز الاستشهاد بآخرين من غيرهم مشروط بما إذا كان المستشهد مسافرا ضاربا في الأرض وحضرت علامات نزول الموت به
ثم قال تعالى وتحسبونهما من بعد الصلاة وفيه مسألتان
المسألة الأولى تحسبونهما أي توقفونهما كما يقول الرجل مر بي فلان على فرس فحبس علي دابته أي أوقفها وحبست الرجل في الطريق أكلمه أي أوقفته
فإن قيل ما موقع تحبسونهما
قلنا هو استئناف كأنه قيل كيف نعمل إن حصلت الريبة فيهما فقيل تحبسونهما
المسألة الثانية قوله من بعد الصلاة فيه أقوال الأول قال ابن عباس من بعد صلاة أهل دينهما والثاني قال عامة المفسرين من بعد صلاة العصر
فإن قيل كيف عرف أن المراد هو صلاة العصر مع أن المذكور هو الصلاة المطلقة
قلنا إنما عرف هذا التعيين بوجوه أحدها أن هذا الوقت كان معروفا عندهم بالتحليف بعدها فالتقييد بالمعروف المشهور أغنى عن التقييد باللفظ وثانيها ما روي أنه لما نزلت هذه الآية صلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) صلاة العصر ودعا بعدي وتميم فاستحلفهما عند المنبر فصار فعل الرسول دليلا على التقييد وثالثها أن جميع أهل الأديان يعظمون هذا الوقت ويذكرون الله فيه ويحترزون عن الحلف الكاذب وأهل الكتاب يصلون لطلوع الشمس وغروبها
والقول الثالث قال الحسن المراد بعد الظهر أو بعد العصر لأن أهل الحجاز كانوا يقعدون للحكومة بعدهما

القول الرابع أن المراد بعد أداء الصلاة أي صلاة كانت من التحليف بعد إقامة الصلاة هو أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر فكان احتراز الحالف عن الكذب في ذلك الوقت أتم وأكمل والله أعلم
المسألة الثالثة قال الشافعي رحمه الله الأيمان تغلظ في الدماء والطلاق والعتاق والمال إذا بلغ مائتي درهم في الزمان والمكان فيحلف بعد العصر بمكة بين الركن والمقام وبالمدينة عند المنبر وفي بيت المقدس عند الصخرة وفي سائر البلدان في أشرف المساجد وقال أبو حنيفة رحمه الله يحلف من غير أن يختص الحلف بزمان أو مكان وهذا على خلاف الآية ولأن المقصود منه التهويل والتعظيم ولا شك أن الذي ذكره الشافعي رضي الله عنه أقوى
ثم قال تعالى فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى وفيه مسائل
المسألة الأولى الفاء في قوله فيقسمان بالله للجزاء يعني تحسبونهما فيقدمان لأجل ذلك الحبس على القسم قوله وإن ارتبتم اعتراض بين القسم والمقسم عليه والمعنى إن ارتبتم في شأنهما واتهمتموهما فحلفوهما وبهذا يحتج من يقول الآية نازلة في إشهاد الكفار لأن تحليف الشاهد المسلم غير مشروع ومن قال الآية نازلة في حق المسلم قال إنها منسوخة وعن علي عليه السلام أنه كان يحلف الشاهد والراوي عند التهمة
المسألة الثالثة قوله لا نشتري به ثمنا يعني يقسمان بالله أنا لا نبيع عهد الله بشيء من الدنيا قائلين لا نشتري به ثمنا وهو كقوله إن الذين يشرون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا آل عمران 77 أي لا نأخذ ولا نستبدل ومن باع شيئا فقد اشترى ثمنه وقوله ولو كان ذا قربى أي لا نبيع عهد الله بشيء من الدنيا ولو كان ذلك الشيء حبوة ذي قربى أو نفسه وخص ذا القربى بالذكر لأن الميل إليهم أتم والمداهنة بسببهم أعظم وهو كقوله كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين أو الأقربين النساء 135
ثم قال تعالى ولا نكتم شهادة الله وفيه مسألتان
المسألة الأولى هذا عطف على قوله لا نشتري به ثمنا يعني أنهما يقسمان حال ما يقولان لا نشتري به ثمنا ولا نكتم شهادة الله أي الشهادة التي أمر الله بحفضها وإظهارها
المسألة الثانية نقل عن الشعبي أنه وقف على قوله شهادة ثم ابتدأ الله بالمد على طرح حرف القسم وتعويض حرف الاستفهام منه وروي عنه بغير مد على ما ذكره سيبويه أن منهم من يقول الله لقد كان كذا والمعنى تالله
ثم قال تعالى إنا إذا لمن الآثمين يعني إذا كتمناها كنا من الآثمين

فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّآ إِثْماً فَآخَرَانِ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الاٌّ وْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَآ إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ
ثم قال تعالى فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً قال الليث رحمه الله عثر الرجل يعثر عثوراً إذا هجم على أمر لم يهجم عليه غيره وأعثرت فلاناً على أمري أي أطلعته عليه وعثر الرجل يعثر عثرة إذا وقع على شيء قال أهل اللغة وأصل عثر بمعنى اطلع من العثرة التي هي الوقوع وذلك لأن العاثر إنما يعثر بشيء كان لا يراه فلما عثر به اطلع عليه ونظر ما هو فقيل لكل من اطلع على أمر كان خفياً عليه قد عثر عليه وأعثر غيره إذا أطلعه عليه ومنه قوله تعالى وَكَذالِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ ( الكهف 21 ) أي اطلعنا ومعنى الآية فإن حصل العثور والوقوف على أنهما أتيا بخيانة واستحقا الإثم بسبب اليمين الكاذبة
ثم قال تعالى فَآخَرَانِ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الاْوْلَيَانِ وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن معنى الآية فإن عثر بعدما حلف الوصيان على أنهما استحقا إثماً أي حنثاً في اليمين بكذب في قول أو خيانة في ممال قام في اليمين مقامهما رجلان من قرابة الميت فيحلفان بالله لقد ظهرنا على خيانة الذميين وكذبهما وتبديلهما وما اعتدينا في ذلك وما كذبنا وروي أنه لما نزلت الآية الأولى صلّى رسولل الله ( صلى الله عليه وسلم ) العصر ودعا بتميم وعدي فاستحلفهما عند المنبر بالله الذي لا إل ه إلا هو أنه لم يوجد منال خيانة في هذا المال ولما حلفا خلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سبيلهما وكتما الإناء مدة ثم ظهروا واخلفوا فقيل وجد بمكة
وقيل لما طالت المدة أظهرا الإناء فبلغ ذلك بني سهم فطالبوهما فقالا كنا قد اشتريناه منه فقالوا ألم نقل لكم هل باع صاحبنا شيئاً فقلتما لا فقالا لم يكن عندنا بينة فكرهنا أن نعثر فكتمنا فرفعوا القصة إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأننزل الله تعالى فَإِنْ عُثِرَ الآية فقام عمرو بن العاص والمطلب بن أبي رفاعة السهميان فحلفا بالله بعد العصر فدفع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) الإناء إليهما وإلى أولياء الميت وكان تميم الداري يقول بعدما أسلم صدق الله ورسوله أنا أخذت الإناء فأتوب إلى الله تعالى وعن ابن عباس أنه بقيت تلك الواقعة مخفية إلى أن أسلم تميم الداري فلما أسلم أخبر بذلك وقال حلفت كاذباً وأنا وصاحبي بعنا الإناء بألف وقسمنا الثمن ثم دفع خمسمائة درهم من نفسه ونزع من صاحبه خمسمائة أخرى ودفع الألف إلى موالي الميت
المسألة الثانية قوله فَآخَرَانِ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا أي مقام الشاهدين اللذين هما من غير ملتهما وقوله مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الاْوْلَيَانِ المراد به موالي الميت وقد أكثر الناس في أنه لم وصف موالي الميت بهذا الوصف والأصح عندي فيه وجه واحد وهو أنهم إنما وصفوا بذلك لأنه لما أخذ مالهم فقد استحق

عليهم مالهم فإن من أخذ مال غيره فقد حاول أن يكون تعلقه بذلك المال مستعلياً على تعلق مالكه به فصح أن يوصف المالك بأنه قد استحق عليه ذلك المال
المسألة الثالثة أما قوله الأليان ففيه وجوه الأول أن يكون خبر المبتدأ محذوف والتقدير هما الأليان وذلك لأنه لما قال إِثْماً فَآخَرَانِ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا فكأنه قيل ومن هما فقيل الأوليان والثاني أن يكون بدلاً من الضمير الذي في يقومان والتقدير فيقوم الأوليان والثالث أجاز الأخفش أن يكون قوله الاْوْلَيَانِ صفة لقوله فَآخَرَانِ وذلك لأن النكرة إذا تقدم ذكرها ثم أعيد عليها الذكر صارت معرفة كقوله تعالى كَمِشْكَاة ٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ( النور 35 ) فمصباح نكرة قم قال الْمِصْبَاحُ ثم قال في زُجَاجَة ٍ ثم قال الزُّجَاجَة ُ وهذا مثل قولك رأيت رجلاً ثم يقول إنسان من الرجل فصار بالعود إلى ذكره معرفة الرابع يجوز أن يكون قوله الاْوْلَيَانِ بدلاً من قوله آخران وإبدال المعرفة من النكرة كثير
المسألة الرابعة إنما وصفهما بأنهما أوليان لوجهين الأول معنى الأوليان الأقربان إلى الميت الثاني يجوز أن يكون المعنى الأوليان باليمين والسبب فيه أن الوصيين قد ادعيا أن الميت باع الإناء الفضة فانتقل اليمين إلى موالي الميت لأن الوصيين قد ادعيا أن مورثهما باع الإناء وهما أنكرا ذلك فكان اليمين حقاً لهما وهذا كما أن إنساناً أقر لآخر بدين ثم ادعى أنه قضاه حكم برد اليمين إلى الذي ادعى الدين أولاً لأنه صار مدعى عليه أنه قد استوفاه
المسألة الخامسة القراءة المشهورة للجمهور استحق بضم التاء وكسر الحاء والأليان تثنية الأولى وقد ذكرنا وجهه وقراءة حمزة وعاصم في رواية أبي بكر الأولين بالجمع وهو نعت لجميع الورثة المذكورين في قوله مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ وتقديره من الأولين الذين استحق عليهم مالهم وإنما قيل لهم الأولين من حيث كانوا أولين في الذكر ألا ترى أنه قد تقدم تَعْمَلُونَ يِأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ شَهَادَة ُ بَيْنِكُمْ ( المائدة 106 ) وكذلك اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ ( المائدة 106 ) ذكرا في اللفظ قبل قوله يِأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ شَهَادَة ُ وقرأ حفص وحده بفتح التاء والحاء الأوليان على التثنية ووجهه أن الوصيين اللذين ظهرت خيانتهما هما أولى من غيرهما بسبب أن الميت عينهما للوصاية ولما خانا في مال الورثة صح أن يقال إن الورثة قد استحق عليهم الأوليان أي خان في مالهم الأوليان وقرأ الحسن الأولان ووجهه ظاهر مما تقدم
ثم قال تعالى فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ
والمعنى ظاهر أي وما اعتدينا في طلب هذا المال وفي نسبتهم إلى الخيانة وقوله إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ أي إنا إذا حلفنا موقنين بالكذب معتقدين الزور والباطل
ذالِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَادَة ِ عَلَى وَجْهِهَآ أَوْ يَخَافُوا أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُواْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ
ثم قال تعالى ذالِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَادَة ِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ
والمعنى ذلك الحكم الذي ذكرناه والطريق الذي شرعناه أقرب إلى أن يأتوا بالشهادة على وجهها وأن يأتوا بالشهادة لا على وجهها ولكنهم يخافون أن يحلفوا على ما ذكروه لخوفهم من أن ترد أيمان على الورثة بعد أيمانهم فيظهر كذبهم ويفتضحون فيما بين الناس

ثم قال تعالى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُواْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ
والمعنى اتقوا الله أن تخونوا في اومانات واسمعوا مواقظ الله أي اعملوا بها وأطيعوا الله فيها والله لا يهدي القوم الفاسقين وهو تهديد ووعيد لمن خالف حكم الله وأوامره فهذا هو القول في تفسير هذه الآية التي اتفق المفسرون على أنها في غاية الصعوبة إعراباً ونظماً وحكماً وروى الواحدي رحمه الله في ( البسيط ) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال هذه الآية أعضل ما في هذه السورة من الأحكام والحكم الذي ذكرناه في هذه الآية منسوخ عند أكثر الفقهاء والله أعلم بأسرار كلامه
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ
قوله تعالى يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ
اعلم أن عادة الله تعالى جارية في هذا الكتاب الكريم أنه إذا ذكر أنواعاً كثيرة من الشرائع والتكاليف والأحكام أتبعها إما بالإلهيات وءما بشرح أحوال الأنبياء أو بشرح أحوال القيامة ليصير ذلك مؤكداً لما تقدم ذكره من التكاليف والشرائع فلا جرم لما ذكر فيما تقدم أنواعاً كثيرة من الشرائع أتبعها بوصف أحوال القيامة أولاً ثم ذكر أحوال عيسى أما وصف أحوال القيامة فهو قوله يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ وفيه مسائل
المسألة الأولى في هذه الآية قولان أحدهما أنها متصلة بما قبلها وعلى هذا التقدير ففيه وجهان الأول قال الزجاج تقديره واتقوا الله يوم يجمع الله الرسل ولا يجوز أن ينصب على الظرف لهذا الفعل لأنهم لم يؤمروا بالتقوى في ذلك اليوم ولكن على المفعول له الثاني قال القفال رحمه الله يجوز أن يكون التقدير والله لا يهدي القوم الفاسقين يوم يجمع الله الرسل أي لا يهديهم إلى الجنة كما قال وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ ( النساء 168 169 )
والقول الثاني أنها منقطعة عما قبلها وعلى هذا التقدير ففيه أيضاً وجهان الأول أن التقدير اذكر يوم يجمع الله الرسل والثاني أن يكون التقدير يوم يجمع الله الرسل كان كيت وكيت
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) قوله ماذا منتصب بأجبتم انتصاب مصدره على معنى أي أجابه أجبتم إجابة إنكار أم إجابة إقرار ولو أريد الجواب لقيل بماذا أجبتم فإن قيل وأي فائدة في هذا السؤال قلنا توبيخ قومهم كما أن قوله وَإِذَا الْمَوْءودَة ُ سُئِلَتْ بِأَى ّ ذَنبٍ قُتِلَتْ ( التكوير 8 9 ) المقصود منه توبيخ من فعل ذلك الفعل
المسألة الثالثة ظاهر قوله تعالى قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ يدل على أن الأنبياء لا يشهدون لأممهم والجمع بين هذا وبين قوله تعالى فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّة ٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً ( النساء 41 )

مشكل وأيضاً قوله تعالى وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ( البقرة 143 ) فإذا كانت أمتنا تشهد لسائر الناس فالأنبياء أولى بأن يشهدوا لأممهم بذلك
والجواب عنه من وجوه الأول قال جمع من المفسرين إن للقيامة زلازل وأهوالاً بحيث تزول القلوب عن مواضعها عند مشاهدتها فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام عند مشاهدة تلك الأهوال ينسون أكثر الأمور فهنالك يقولون لا علم لنا فإذا عادت قلوبهم إليهم فعند ذلك يشهدون للأمم وهذا الجواب وإن ذهب إليه جمع عظيم من الأكابر فهو عندي ضعيف لأنه تعالى قال في صفة أهل الثواب لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاْكْبَرُ ( الأنبياء 103 ) وقال أيضاً وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَة ٌ ضَاحِكَة ٌ مُّسْتَبْشِرَة ٌ ( عبس 38 39 ) بل إنه تعالى قال إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ وَلاَ ( البقرة 62 ) فكيف يكون حال الأنبياء والرسل أقل من ذلك ومعلوم أنهم لو خافوا لكانوا أقل منزلة من هؤلاء الذين أخبر الله تعالى عنهم أنهم لا يخافون ألبتة والوجه الثاني أن المراد منه المبالغة في تحقيق فضيحتهم كمن يقول لغيره ما تقول في فلان فيقول أنت أعلم به مني كأنه قيل لا يحتاج فيه إلى الشهادة لظهوره وهذا أيضاً ليس بقوي لأن السؤال إنما وقع عن كل الأمة وكل الأمة ما كانوا كافرين حتى تردي الرسل بالنفي تبكيتهم وفضيحتهم
والوجه الثالث في الجواب وهو الأصح وهو الذي اختاره ابن عباس أنهم إنما قالوا لا علم لنا لأنك تعلم ما أطهروا وما أضمروا ونحن لا نعلم إلا ما أظهروا فعلمك فيهم أنفذ من علمنا فلهذا المعنى نفوا العلم عن أنفسهم لأن علمهم عند الله كلا علم
والوجه الرابع في الجواب أنهم قالوا لا علم لنا إلا أن علمنا جوابهم لنا وقت حياتنا ولا نعلم ما كان منهم بعد وفاتنا والجزاء والثواب إنما يحصلان على الخاتمة وذلك غير معلوم لنا فلهذا المعنى قالوا لا علم لنا وقوله إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ يشهد بصحة هذين الجوابين
الوجه الخامس وهو الذي خطر ببالي وقت الكتابة أنه قد ثبت في علم الأصول أن العلم غير والظن غير والحاصل عند كل أحد من حال الغير إنما هو الظن لا العلم ولهذا قال عليه الصلاة والسلام ( نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر ) وقال عليه الصلاة والسلام ( إنكم لتختصمون لدي ولعلّ بعضكم ألحن بحجته فمن حكمت له بغير حقه فكأنما قطعت له قطعة من النار ) أو لفظ هذا معناه فالأنبياء قالوا لا علام لنا ألبتة بأحوالهم إنما الحاصل عندنا من أحوالهم هو الظن والظن كان معتبراً في الدنيا لأن الأحكام في الدنيا كانت مبنية على الظن وأما الآخرة فلا التفات فيها إلى الظن لأن الأحكام في الآخرة مبنية على حقائق الأشياء وبواطن الأمور فلهذا السبب قالوا لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا ولم يذكروا ألبتة ما معهم من الظن لأن الظن لا عبرة به في القيامة
الوجه السادس أنهم لما علموا أنه سبحانه وتعالى عالم لا يجهل حكيم لا يسفه عادل لا يظلم علموا أن قولهم لا يفيد خيراً ولا يدفع شراً فرأوا أن الأدب في السكوت وفي تفويض الأمر إلى عدل الحي القيوم الذي لا يموت

المسألة الرابعة قريء عَلَّامُ الْغُيُوبِ بالنصب قال صاحب ( الكشاف ) والتقدير أن الكلام قد تمّ بقوله إِنَّكَ أَنتَ أي أنت الموصوف بأوصافك المعروفة من العلم وغيره ثم نصب عَلَّامُ الْغُيُوبِ على الاختصاص أو على النداء أو وصفاً لاسم إن
المسألة الخامسة دلّت على جواز إطلاق لفظ العلام عليه كما جاز إطلاق لفظ الخلاق عليه أما العلاّمة فإنهم أجمعوا على أنه لا يجوز إطلاقها في حقه ولعل السبب ما فيه من لفظ التأنيث
إِذْ قَالَ اللَّهُ ياعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِى عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِى الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ وَالتَّوْرَاة َ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَة ِ الطَّيْرِ بِإِذْنِى فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِى وَتُبْرِى ءُ الاٌّ كْمَهَ وَالاٌّ بْرَصَ بِإِذْنِى وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِى وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِى إِسْرَاءِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَاذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ
قوله تعالى إِذْ قَالَ اللَّهُ ياعِيسَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِى عَلَيْكَ وَعَلَى والِدَتِكَ في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنا بينا أن الغرض من قوله تعالى للرسل مَاذَا أَجَبْتُمُ ( المائدة 109 ) توبيخ من تمرد من أممهم وأشد الأمم افتقاراً إلى التوبيخ والملاملا النصارى الذين يزعمون أنهم أتباع عيسى عليه السلام لأن طعن سائر الأمم كان مقصوراً على الأنبياء وطعن هؤلاء الملاعين تعدى إلى جلال الله وكبريائه حيث وصفوه بما لا يليق بعاقل أن يصف الإل ه به وهو اتخاذ الزوجة والولد فلا جرم ذكر الله تعالى أنه يعدد أنواع نعمه على عيسى بحضرة الرسل واحدة فواحدة والمقصود منه توبيخ النصارى وتقريعهم على سوء مقالتهم فإن كل واحدة من تلك النعم المعدودة على عيسى تدل على أنه عبد وليس بإله والفائدة في هذه الحكاية تنبيه النصارى الذين كانوا في وقت نزول هذه الآية على قبح مقالتهم وركاكة مذهبهم واعتقادهم
المسألة الثانية موضع إِذْ يجوز أن يكون رفعاً بالابتداء على معنى ذاك إذ بقال الله ويجوز أن يكون المعنى اذكر إذ قال الله
المسألة الثالثة خرج قوله إِذَا قَالَ اللَّهُ على لفظ الماضي دون المستقبل وفيه وجوه
الأول الدلالة على قرب القيامة حتى كأنها قد قامت ووقعت وكل آت قريب ويقال الجيش قد أتى إذا قرب إتيانهم قال الله تعالى أَتَى أَمْرُ اللَّهِ ( النحل 1 ) الثاني أنه ورد على حكاية الحال ونظيره قول الرجل لصاحبه كأنك بنا وقد دخلنا بلدة كذا فصنعنا فيها كذا إذ صاح صائح فتركتني وأجبته ونظيره من القرآن قوله تعالى وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ ( سبأ 51 ) وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلَئِكَة ُ ( الأنفال 50 ) وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبّهِمْ ( سبأ 31 ) والوجه في كل هذه الآيات ما ذكرناه من أنه خرج على سبيل الحكاية عن الحال
المسألة الرابعة وَءاتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ يجوز أن يكون عِيسَى في محل الرفع لأنه منادى مفرد وصف بمضاف ويجوز أن يكون في محل النصب لأنه في نية الإضافة ثم جعل الابن توكيداً وكل ما كان مثل هذا

جاز فيه وجهان نحو يا زيد بن عمرو ويا زيد بن عمرو وأنشد النحويون
يا حكم بن المنذر بن الجارود
برفع الأول ونصبه على ما بيناه
المسألة الخامسة قوله نِعْمَتِى عَلَيْكَ أراد الجمع كقوله وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا ( النحل 18 ) وإنما جاز ذلك لأن مضاف يصلح للجنس
واعلم أن الله تعالى فسّر نعمته عليه بأمور أولها قوله إِذَا أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ وفيه وجهان الأول روح القدس هو جبريل عليه السلام الروح جبريل والقدس هو الله تعالى كأنه أضافه إلى نفسه تعظيماً له الثاني أن الأرواح مختلفة بالماهية فمنها طاهرة نورانية ومنها خبيثة ظلمانية ومنها مشرقة ومنها كدرة ومنها خيرة ومنها نذلة ولهذا قال عليه الصلاة والسلام ( الأرواح جنود مجندة ) فالله تعالى خصّ عيسى بالروح الطاهرة النورانية المشرقة العلوية الخيرة ولقائل أن يقول لما دلّت هذه الآية على أن تأييد عيسى إنما حصل من جبريل أو بسبب روحه المختص به قدح هذا في دلالة المعجزات على صدق الرسل لأنا قبل العلم بعصمة جبريل نجوز أنه أعان عيسى عليه السلام على ذلك على سبيل إغواء الخلق وإضلالهم فما لم تعرف عصمة جبريل لا يندفع هذا وما لم تعرف نبوّة عيسى عليه السلام لا تعرف عصمة جبريل فيلزم الدور وجوابه ما ثبت من أصلنا أن الخالق ليس إلا الله وبه يندفع هذا السؤال
وثانيها قوله تعالى تُكَلّمُ النَّاسَ فِى الْمَهْدِ وَكَهْلاً أما كلام عيسى في المهد فهو قوله إِنّى ءاتَانِى َ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِى ( مريم 30 ) وقوله تُكَلّمُ النَّاسَ فِى الْمَهْدِ وَكَهْلاً في موضع الحال والمعنى يكلمهم طفلاً وكهلاً من غير أن يتفاوت كلامه في هذين الوقتين وهذه خاصية شريفة كانت حاصلة له وما حصلت لأحد من الأنبياء قبله ولا بعده
وثالثها قوله تعالى وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ وَالتَّوْرَاة َ وَالإنجِيلَ
وفي الْكِتَابِ قولان أحدهما المراد به الكتابة وهي الخط والثاني المراد منه جنس الكتب فإن الإنسان يتعلم أولاً كتباً سهلة مختصرة ثم يترقى منها إلى الكتب الشريفة وأما الْحِكْمَة َ فهي عبارة عن العلوم النظرية والعلوم العملية ثم ذكر بعده التَّوْرَاة َ وَالإِنجِيلَ وفيه وجهان الأول أنهما خصا بالذكر بعد ذكر الكتب على سبيل التشريف كقوله حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَواتِ والصَّلَواة ِ الْوُسْطَى ( البقرة 238 ) وقوله وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ ( الأحزاب 7 ) والثاني وهو الأقوى أن الاطلاع على أسرار الكتب الإلهية لا يحصل إلا لمن صار بانياً في أصناف العلوم الشرعية والعقلية الظاهرة التي يبحث عنها العلماء فقوله وَالتَّوْرَاة َ وَالإِنجِيلَ إشارة إلى الأسرار التي لا يطلع عليها أحد إلا أكابر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام

ورابعها قوله تعالى وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطّينِ كَهَيْئَة ِ الطَّيْرِ بِإِذْنِى فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِى وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع فَتَكُونُ والباقون عَلَيْهِمْ طَيْراً بغير ألف وطير جمع طائر كضأن وضائن وركب وراكب
المسألة الثانية أنه تعالى ذكر ههنا فَتَنفُخُ فِيهَا وذكر في آل عمران فَأَنفُخُ فِيهِ ( آل عمران 49 )
والجواب أن قوله كَهَيْئَة ِ الطَّيْرِ أي هيئة مثل هيئة الطير فقوله فَتَنفُخُ فِيهَا الضمير للكاف لأنها صفة الهيئة التي كان يخلقها عيسى وينفخ فيها ولا يرجع إلى الهيئة المضاف إليها لأنها ليست من خلقه ولا نفخه في شيء
إذا عرفت هذا فنقول الكاف تؤنث بحسب المعنى لدلالتها على الهيئة التي هي مثل هيئة الطير وتذكر بحسب الظاهر وإذا كان كذلك جاز أن يقع الضمير عنها تارة على وجه التذكير وأخرى على وجه التأنيث
المسألة الثالثة أنه تعالى اعتبر الأذن في خلق الطين كهيئة الطير وفي صيرورته ذلك الشيء طيراً وإنما أعاد قوله بِإِذْنِى تأكيداً لكون ذلك واقعاً بقدرة الله تعالى وتخليقه لا بقدرة عيسى وإيجاده
وخامسها قوله تعالى وَتُبْرِىء الاْكْمَهَ وَالاْبْرَصَ بِإِذْنِى وإبراء الأكمه والأبرص معروف وقال الخليلي الأكه من ولد أعمى والأعمى من ولد بصيرا ثم عمي
وسادسها قوله تعالى وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِى أي وإذ تخرج الموتى من قبورهم أحياء باذني أي بفعلي ذلك عند دعائك وعند قولك للميت أخرج بإذن الله من قبرك وذكر الإذن في هذه الأفاعيل إنما هو على معنى إضافة حقيقة الفعل إلى الله تعالى كقوله وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله ( آل عمران 145 ) أي إلا بخلق الله الموت فيها
وسابعها قوله تعالى وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِى إِسْراءيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيّنَاتِ وفيه مسألتان

المسألة الأولى قوله إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيّنَاتِ يحتمل أن يكون المراد منه هذه البينات التي تقدم ذكرها وعلى هذا التقدير فالألف وللام للعهد ويحتمل أن يكون المراد منه جنس البينات
المسألة الثانية روي أنه عليه الصلاة والسلام لما أظهر هذه المعجزات العجيبة قصد اليهود قتله فخلصه الله تعالى منهم حيث رفعه إلى السماء
ثم قال تعالى فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَاذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي سَاحِرٌ بالألف وكذلك في يونس وهود والصف وقرأ ابن عامر وعاصم في يونس بالألف فقط والباقون سَاحِرٌ فمن قرأ سَاحِرٌ أشار إلى الرجل ومن قرأ سَاحِرٌ أشار به إلى ما جاء به وكلاهما حسن لأن كل واحد منهما قد تقدم ذكره قال الواحدي رحمه الله والاختيار سَاحِرٌ لجواز وعوعه على الحدث والشخص أما وقوعه على الحدث فظاهر وأما وقوعه على الشخص فتقول هذا سحر وتريد به ذو سحر كما قال تعالى وَلَاكِنَّ الْبِرَّ مَنْ ءامَنَ ( البقرة 177 ) أي ذا البر قال الشاعر
فإنما هي إقبال وإدبار
المسألة الثانية فإن قيل إنه تعالى شرع ههنا في تعديد نعمه على عيسى عليه السلام وقول الكفار في حقه إِنْ هَاذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ليس من النعم فكيف ذكره ههنا
والجواب أن من الأمثال المشهورة أن كل ذي نعمة محسود وطعن الكفار في عيسى عليه السلام بهذا الكلام يدل على أن نعم الله في حقه كانت عظيمة فحسن ذكره عند تعديد النعم للوجه الذي ذكرناه
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ ءَامِنُواْ بِى وَبِرَسُولِى قَالُوا ءَامَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ
وثامنها قوله تعالى وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيّينَ أَنْ ءامِنُواْ بِى وَبِرَسُولِى وقد تقدم تفسير الوحي فمن قال إنهم كانوا أنبياء قال ذلك الوحي هو الوحي الذي يوحى إلى الأنبياء ومن قال إنهم ما كانوا أنبياء قال المراد بذلك الوحي الإلهام والالقاء في القلب كما في قوله تعالى وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ ( القصص 7 ) وقوله وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ( النحل 68 ) وإنما ذكر هذا في معرض تعديد النعم لأن صيرورة الإنسان مقبول القول عند الناس محبوباً في قلوبهم من أعظم نعم الله على الإنسان وذكر تعالى أنه لما ألقى ذلك الوحي في قلوبهم آمنوا وأسلموا وإنما قدم ذكر الإيمان على الإسلام لأن الإيمان صفة القلب والإسلام عبارة عن الإنقياد والخضوع في الظاهر يعني رمنوا بقلوبهم وانقادوا بظواهرهم
فإن قيل إنه تعالى قال في أول الآية اذْكُرْ نِعْمَتِى عَلَيْكَ وَعَلَى والِدَتِكَ ( المائدة 110 ) ثم إن جميع ما ذكره تعالى من النعم مختص بعيسى عليه السلام وليس لأمه بشيء منها تعلق
قلنا كل ما حصل للولد من النعم الجليلة والدرجات العالية فهو حاصل على سبيل الضمن والتبع للأم ولذلك قال تعالى الْفَاسِقِينَ يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ إِذْ قَالَ اللَّهُ ياعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِى عَلَيْكَ ( المائدة 110 ) كان يلبس الشعر ويأكل الشجر ولا يدخر شيئاً لغد ويقول مع كل يوم رزقه ومن لم يكن له بيت فيخرب ولا ولد فيموت أينما أمسى بات

إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ ياعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَة ً مِّنَ السَّمَآءِ قَالَ اتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ
فيه مسائل
المسألة الأولى في قوله إِذَا قَالَ وجهان الأول أوحيت إلى الحواريين إذ قال الحواريون الثاني اذكر إذ قال الحواريون
المسألة الثانية هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ قرأ الكسائي هَلُ تَسْتَطِيعَ بالتاء رَبَّكَ بالنصب وبإدغام اللام في التاء وسبب الادغام أن اللام قريب المخرج من التاء لأنهما من حروف طرف اللسان وأصول الثنايا وبحسب قرب الحرف من الحرف يحسن الإدغام وهذه القراءة مروية عن علي وابن عباس وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت كانوا أعلم بالله من أن يقولوا هل يستطيع وإنما قالوا هل تستطيع أن تسأل ربك وعن معاذ بن جبل أقرأني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هَلُ تَسْتَطِيعَ بالتاء رَبَّكَ بالنصب والباقون يستطيع بالياء ربك برفع الباء وبالإظهار فأما القراءة الأولى فمعناها هل تسطيع سؤال ربك قالوا وهذه القراءة أولى من الثانية لأن هذه القراءة توجب شكهم في استطاعة عيسى والثانية توجب شكهم في استطاعة الله ولا شك أن الأولى أولى وأما القراءة الثانية ففيها إشكال وهو أنه تعالى حكى عنهم أنهم قَالُواْ ءامَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ ( المائدة 111 ) وبعد الإيمان كيف يجوز أن يقال إنهم بقوا شاكين في اقتدار الله تعالى على ذلك
والجواب عنه من وجوه الأول أنه تعالى ما وصفهم بالإيمان والإسلام بل حكى عنهم ادعاءهم لهما ثم أتبع ذلك بقوله حكاية عنهم هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزّلَ عَلَيْنَا مَائِدَة ً مّنَ السَّمَاء فدل ذلك على أنهم كانوا شاكين متوقفين فإن هذا القول لا يصدر عمن كان كاملاً في الإيمان وقالوا ونعلم أن قد صدقتنا وهذا يدل على مرض في القلب وكذلك قول عيسى عليه السلام لهم اتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ يدل على أنهم ما كانوا كاملين في الإيمان
والوجه الثاني في الجواب أنهم كانوا مؤمنين إلا أنهم طلبوا هذه الآية ليحصل لهم مزيد الطمأنينة كما قال إبراهيم عليه السلام وَلَاكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى ( البقرة 260 ) فإن مشاهدة مثل هذه الآية لا شك أنها تورث الطمأنينة ولهذا السبب قالوا وتطمئن قلوبنا
والوجه الثالث في الجواب أن المراد من هذا الكلام استفهام أن ذلك هل هو جائز في الحكمة أم لا وذلك لأن أفعال الله تعالى لما كانت موقوفة على رعاية وجوه الحكمة ففي الموضع الذي لا يحصل فيه شيء من وجوه الحكمة يكون الفعل ممتنعاً فإن المنافي من جهة الحكمة كالمنافي من جهة القدرة وهذا الجواب

يتمشى على قول المعتزلة وأما على قولنا فهو محمول على أن الله تعالى هل قضى بذلك وهل علم وقوعه فإنه إن لم يقض به ولم يعلم وقوعه كان ذلك محالاً غير مقدرو لأن خلاف المعلوم غير مقدور
الوجه الرابع قال السدي هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أي هل يطيعك ربك إن سألته وهذا تفريع على أن استطاع بمعنى أطاع والسين زائدة
الوجه الخامس لعلّ المراد بالرب هو جبريل عليه السلام لأنه كان يربيه ويخصه بأنواع الإعانة ولذلك قال تعالى في أول الآية إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ ( المائدة 110 ) يعني أنك تدعي أنه يريبك ويخصك بأنواع الكرامة فهل يقدر على إنزال مائدة من السماء عليك
والوجه السادس أنه ليس المقصود من هذا السؤال كونهم شاكين فيه بل المقصود تقرير أن ذلك في غاية الظهور كمن يأخذ بيد ضعيف ويقول هل يقدر السلطان على إشباع هذا ويكون غرضه منه أن ذلك أمر جلي واضح لا يجوز لعاقل أن يشك فيه فكذا ههنا
المسألة الثالثة قال الزجاج المائدة فاعلة من ماد يميد إذا تحرك فكأنها تميد بما عليها وقال ابن الأنباري سميت مائدة لأنها عطية من قول العرب ماد فلان فلانا يميده ميداً إذا أحسن إليه فالمائدة على هذا القول فاعلة من الميد بمعنى معطية وقال أبو عبيدة المائدة فاعلة بمعنى مفعولة مثل عيشة راضية وأصلها مميدة ميد بها صاحبها أي أعطيها وتفضل عليه بها والعرب تقول مادني فلان يميدني إذا أحسن إليه
ثم قال تعالى قَالَ اتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وفيه وجهان الأول قال عيسى اتقوا الله في تعيين المعجزة فإنه جار مجرى التعنت والتحكم وهذا من العبد في حضرة الرب جرم عظيم ولأنه أيضاً اقتراح معجزة بعد تقدم معجزات كثيرة وهو جرم عظيم الثاني أنه أمرهم بالتقوى لتصير التقوى سبباً لحصول هذا المطلوب كما قال وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ ( الطلاق 2 3 ) وقال رَّحِيمٌ يَئَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَة َ ( المائدة 35 ) وقوله إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ يعني إن كنتم مؤمنين بكونه سبحانه وتعالى قادراً على إنزال المائدة فاتقوا الله لتصير تقواكم وسيلة إلى حصول هذا المطلوب
ثم قال تعالى
قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ
والمعنى كأنهم لما طلبوا ذلك قال عليس لهم إنه قد تقدمت المعجزات الكثيرة فاتقوا الله في طلب

هذه المعجزة بعد تقدم تلك المعجزات القاهرة فأجابوا وقالوا إنا لا نطلب هذه المائدة لمجرد أن تكون معجزة بل لمجموع أمور كثيرة أحدها أنا نريد أن نأكل منها فإن الجوع قد غلبنا ولا نجد طعاماً آخر وثانيها أنا وإن علمنا قدرة الله تعالى بالدليل ولكنا إذا شاهدنا نزول هذه المائدة ازداد اليقين وقيت الطمأنينة وثالثها أنا وإن علمنا قدرة الله تعالى بالدليل ولكنا إذا شاهدنا نزول هذه المائدة ازداد اليقين وقويت الطمأنينة وثالثها أنا وءن علمنا بسائر المعجزات صدقك ولكن إذا شاهدنا هذه المعجزة ازداد اليقين والعرفان وتأكدت الطمأنينة ورابعها أن جميع تلك المعجزات التي أوردتها كانت معجزات أرضية وهذه معجزة سماوية وهي أعجب وأعظم فإذا شاهدناها كنا عليها من الشاهدين نشهد عليها عند الذين لم يحضروها من بني إسرائيل ونكون عليها من الشاهدي لله بكمال القدرة ولك بالنبوة ثم قال تعالى
قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَة ً مِّنَ السَّمَآءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لاًّوَّلِنَا وَءَاخِرِنَا وَءَايَة ً مِّنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى أما الكلام في اللَّهُمَّ فقد تقدم بالاستقصاء في سورة آل عمران في قوله قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء ( آل عمران 26 ) فقوله قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء ( آل عمران 26 ) فقوله ( آل عمران 26 ) فقوله اللَّهُمَّ نداء وقوله رَبَّنَا نداء ثان وأما قوله تَكُونُ لَنَا صفة للمائدة وليس بجواب للأمر وفي قراءة عبد الله تَكُنْ لأنه جعله جواب الأمر قال الفراء وما كان من نكرة قد وقع عليها أمر جاز في الفعل بعده الجزم والرفع ومثاله قوله تعالى فَهَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِى ( مريم 5 6 ) بالجزم والرفع فَأَرْسِلْهِ مَعِى َ رِدْءاً يُصَدّقُنِى ( القصص 34 ) بالجزم والرفع وأما قوله عِيداً لاِوَّلِنَا وَءاخِرِنَا أي نتخذ اليوم الذي تنزل فيه المائدة عيداً نعظمه نحن ومن يأتي بعدنا ونزلت يوم الأحد فاتخذه النصارى عيداً والعيد في اللغة اسم لما عاد إليك في وقت معلوم واشتقاقه من عاد يعود فأصله هو العود فسمي العيد عيداً لأنه يعود كل سنة بفرح جديد وقوله قَالَ عِيسَى أي دلالة على توحيدك وصحة نبوة رسولك وَارْزُقْنَا أي وارزقنا طعاماً نأكله وأنت خير الرازقين
المسألة الثانية تأمل في هذا الترتيب فإن الحواريين لما سألوا المائدة ذكروا في طلبها أغراضاً فقدموا ذكر الأكل فقالوا نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا ( المائدة 113 ) وأخروا الأغراض الدينية الروحانية فأما عيسى فإنه لما طلب المائدة وذكر أغراضه فيها قدم الأغراض الدينية وأخر غرض الأكل حيث قال وَارْزُقْنَا وعند هذا يلوح لك مراتب درجات الأرواح في كون بعضها روحانية وبعضها جسمانية ثم إن عيسى عليه السلام لشدة صفاء دينه وإشراق روحه لما ذكر الزرق بقوله وَارْزُقْنَا لم يقف عليه بل انتقل من الرزق إلى الرزاق فقال وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ فقوله رَبَّنَا ابتداء منه بذكر الحق سبحانه وتعالى وقوله أُنزِلَ عَلَيْنَا انتقال من الذات إلى الصفات وقوله تَكُونُ لَنَا عِيداً لاِوَّلِنَا إشارة إلى ابتهاج الروح بالنعمة لا من حيث إنها نعمة بل من حيث إنها صادرة عن المنعم وقوله الشَّاهِدِينَ قَالَ عِيسَى إشارة إلى كون هذه المائدة دليلاً لأصحاب النظر والاستدلال وقوله وَارْزُقْنَا إشارة إلى حصة النفس وكل ذلك نزول من حضرة الجلال فانظر كيف ابتدأ بالأشرف فالأشرف نازلاً إلى الأدون فالأدون ثم قال وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ وهو عروج مرة أخرى من الخلق إلى الخالق ومن غير الله إلى الله ومن الأخس إلى الأشرف وعند ذلك تلوح لك شمة من كيفية عروج الأرواح المشرقة النورانية الإلهية ونزولها اللهم اجعلنا من أهله

المسألة الثالثة في قراءة زيد يَكُونُ لَنَا عِيداً لاِوَّلِنَا وَءاخِرِنَا والتأنيث بمعنى الآية ثم قال تعالى
قَالَ اللَّهُ إِنِّى مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّى أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ الْعَالَمِينَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن عامر وعاصم ونافع مُنَزّلُهَا بالتشديد والباقون بالتخفيف وهما لغتان نزل وأنزل وقيل بالتشديد أي منزلها مرة بعد أخرى وبالتخفيف مرة واحدة
المسألة الثانية فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ أي بعد إنزال المائدة فَإِنّى أُعَذّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذّبُهُ أَحَداً مّنَ الْعَالَمِينَ قال ابن عباس يعني مسخهم خنازير وقيل قردة وقيل جنساً من العذاب لا يعذب به غيرهم قال الزجاج ويجوز أن يكون ذلك العذاب معجلاً لهم في الدنيا ويجوز أن يكون مؤخراً إلى الآخرة وقوله مّن الْعَالَمِينَ يعني عالمي زمانهم
المسألة الثالثة قيل إنهم سألوا عيسى عليه السلام هذا السؤال عند نزولهم في مفازة على غير ماء ولا طعام ولذلك قالا نريد أن نأكل منها
المسألة الرابعة اختلفوا في أن عيسى عليه السلام هل سأل المائدة لنفسه أو سألها لقومه وإن كان قد أضافها إلى فنسه في الظاهر وكلاهما محتمل والله أعلم
المسألة الخامسة اختلفوا في أنه هل نزلت المائدة فقال الحسن ومجاهد ما نزلت واحتجوا عليه بوجهين الأول أن القوم لما سمعوا قوله أُعَذّبُهُ عَذَاباً أَحَداً مّن الْعَالَمِينَ استغفروا وقالوا لا نريدها الثاني أنه وصف المائدة بكونها عيداً لأولهم وآخرهم فلو نزلت لبقي ذلك العيد إلى يوم القيامة وقال الجمهور الأعظم من المفسرين أنها نزلت لأنه تعالى قال إِنّى مُنَزّلُهَا عَلَيْكُمْ وهذا وعد بالإنزال جزماً من غير تعليق على شرط فوجب حصول هذا النزول
والجواب عن الأول أن قوله فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنّى أُعَذّبُهُ شرط وجزاء لا تعلق له بقوله إِنّى مُنَزّلُهَا عَلَيْكُمْ
والجواب عن الثاني أن يوم نزولها كان عيداً لهم ولمن بعدهم ممن كان على شرعهم
المسألة السادسة روي أن عيسى عليه السلام لما أراد الدعاء لبس صوفاً ثم قال اللهم أنزل علينا فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين غمامة فوقها وأخرى تحتها وهم ينظرون إليها حتى سقطت بين أيديهم فبكى عليه السلام وقال اللهم اجعلني من الشاكرين اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها مثلة وعقوبة وقال لهم

ليقم أحسنكم عملاً يكشف عنها ويذكر اسم الله عليها ويأكل منها فقال شمعون رأس الحواريين أنت أولى بذلك فقام عيسى وتوضأ وصلى وبكى ثم كشف المنديل وقال بسم الله خير الرازقين فإذا سمكة مشوية بلا شوك ولا فلوس تسيل دسماً وعند رأسها ملح وعند ذنبها خل وحولها من ألوان البقول ما خلا الكراث وإذا خمسة أرغفة على واحد منها زيتون وعلى الثاني عسل وعلى الثالث سمن وعلى الرابع جبن وعلى الخامس قديد فقال شمعون يا روح الله أمن طعام الدينا أمن طعام الآخرة فقال ليس منهما ولكنه شيء اخترعه الله بالقدرة العالية كلوا ما سألتم واشكروا يمددكم الله ويزيدكم من فضله فقال الحواريون يا روح الله لو أريتنا من هذه الآية آية أخرى فقال يا سمكة احيي بإذن الله فاضطربت ثم قال لها عودي كما كنت فعادت مشوية ثم طارت المائدة ثم عصوا من بعدها فمسخوا قردة وخنازير
وَإِذْ قَالَ اللَّهُ ياعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَءَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى وَأُمِّى َ إِلَاهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِى أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ
فيه مسائل
المسألة الأولى هذا معطوف على قوله إِذْ قَالَ اللَّهُ ياعِيسَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِى عَلَيْكَ ( المائدة 110 ) وعلى هذا القول فهذا الكلام إنما يذكره لعيسى يوم القيامة ومنهم من قال إنه تعالى قال هذا الكلام لعيسى عليه السلام حين رفعه إليه وتعلق بظاهر قوله وَإِذْ قَالَ اللَّهُ وإذ تستعمل للماضي والقول الأول أصح لأن الله تعالى عقب هذه القصة بقوله هَاذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ( المائدة 119 ) والمراد به يوم القيامة وأما التمسك بكلمة إذ فقد سبق الجواب عنه
المسألة الثانية في قوله قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى وَأُمّى َ إِلَاهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ سؤالان أحدهما أن الاستفهام كيف يليق بعلام الغيوب وثانيهما أنه كان عالماً بأن عيسى عليه السلام لم يقل ذلك فلم خاطبه به فإن قلتم الغرض منه توبيخ النصارى وتقريعهم فنقول إن أحداً من النصارى لم يذهب إلى القول بإلهية عيسى ومريم مع القول ينفي إلهية الله تعالى فكيف يجوز أن ينسب هذا القول إليهم مع أن أحداً منهم لم يقل به
والجواب عن السؤال الأول أنه استفهام على سبيل الإنكار
والجواب عن السؤال الثاني أن الإله هو الخالق والنصارى يعتقدون أن خالق المعجزات التي ظهرت على يد عيسى ومريم هو عيسى عليه السلام ومريم والله تعالى ما خلقها ألبتة وإذا كان كذلك فالنصارى قد قالوا إن خالق تلك المعجزات هو عيسى ومريم والله تعالى ليس خالقها فصح أنهم أثبتوا في حق بعض

الأشياء كون عيسى ومريم إلهين له مع أن الله تعالى ليس إلهاً له فصح بهذ التأويل هذه الحكاية والرواية
ثم قال تعالى قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِى أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقّ أما قوله سُبْحَانَكَ فقد فسرناه في قوله سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا ( البقرة 32 )
وأعلم أن الله تعالى لما سأل عيسى أنك هل قلت كذا لم يقل عيسى بأني قلت أو ما قلت بل قال ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق وهذا ليس بحق ينتج أنه ما يكون لي أن أقول هذا الكلام لأن هذا يجري مجرى دعوى الطهارة والنزاهة والمقام مقام الخضوع والتواضع ولم يقل بأني قلته بل فوض ذلك إلى عمله المحيط بالكل
فقال إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ وهذا مبالغة في الأدب وفي إظهار الذل والمسكنة في حضرة الجلال وتفويض الأمور بالكلية إلى الحق سبحانه
ثم قال تعالى تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى المفسرون ذكروا فيه عبارات تعلم ما أخفي ولا أعلم ما تخفي وقيل تعلم ما عندي ولا أعلم ما عندك وقيل تعلم ما في غيبي ولا أعلم ما في غيبك وقيل تعلم ما كان مني في الدنيا ولا أعلم ما كان منك في الآخرة وقيل تعلم ما أقول وأفعل ولا أعلم ما تقول وتفعل
المسألة الثانية تمسكت المجسمة بهذه الآية وقالوا النفس هو الشخص وذلك يقتضي كونه تعالى جسماً
والجواب من وجهين الأول أن النفس عبارة عن الذات يقال نفس الشيى وذاته بمعنى واحد والثاني أن المراد تعلم معلومي ولا أعلم معلومك ولكنه ذكر هذا الكلام على طريق المطابقة والمشاكلة وهو من فصيح الكلام
ثم قال تعالى إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ وهذا تأكيد للجملتين المتقدمتين أعني قوله إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ وقوله تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ
مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِى بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّى وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ شَهِيدٌ
ثم قال تعالى حكاية عن عيسى مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِى بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبّى وَرَبَّكُمْ أن مفسرة والمفسر هو الهاء في به الراجع إلى القول المأمور به والمعنى ما قلت لهم إلا قولاً أمرتني به إلا أنه وضع القول موضع الأمر نزولاً على موجب الأدب الحسن لئلا يجعل نفسه وربه أمرين معاً ودلّ على

الأصل بذكر أن المفسرة
ثم قال تعالى وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ أي كنت أشهد على ما يفعلون ما دمت مقيماً فيهم
فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى والمراد منه وفاة الرفع إلى السماء من قوله إِنّي مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَى َّ ( آل عمران 55 )
كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ قال الزجاج الحافظ عليهم المراقب لأحوالهم
وَأَنتَ عَلَى كُلّ شَى ْء شَهِيدٌ يعني أنت الشهيد لي حين كنت فيهم وأنت الشهيد عليهم بعد مفارقتي لهم فالشهيد الشاهد ويجوز حمله على الرؤية ويجوز حمله على العلم ويجوز حمله على الكلام بمعنى الشهادة فالشهيد من أسماء الصفات الحقيقية على جميع التقديرات ثم قال تعالى
إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
فيه مسائل
المسألة الأولى معنى الآية ظاهر وفيه سؤال وهو أنه كيف جاز لعيسى عليه السلام أن يقول وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ والله لا يغفر الشرك
والجواب عنه من وجوه الأول أنه تعالى لما قال لعيسى عليه السلام قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى وَأُمّى َ إِلَاهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ ( المائدة 116 ) علم أن قوماً من النصارى حكوا هذا اللكلام عنه والحاكي لهذا الكفر عنه لا يكون كافراً بل يكون مذنباً حيث كذب في هذه الحكاية وغفران الذنب جائز فلهذا المعنى طلب المغفرة من الله تعالى والثاني أنه يجوز على مذهبنا من الله تعالى أن يدخل الكفار الجنة وأن يدخل الزهاد والعباد النار لأن الملك ملكه ولا اعتراض لأحد عليه فذكر عيسى هذا الكرم ومقصوده منه تفويض الأمور كلها إلى الله وترك التعرض والاعتراض بالكلية ولذلك ختم الكلام بقوله فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يعني أنت قادر على ما تريد حكيم في كل ما تفعل لا اعتراض لأحد عليك فمن أنا والخوض في أحوال الربوبية وقوله إن الله لا يغفر الشرك فنقول غفرانه جائز عندنا وعند جمهور البصريين من المعتزلة قالوا لأن العقاب حق الله على المذنب وفي إسقاطه منفعة للمذنب وليس في إسقاطه على الله مضرة فوجب أن يكون حسناً بل دلّ الدليل السمعي في شرعنا على أنه لا يقع فلعل هذا الدليل السمعي ما كان موجوداً في شرع عيسى عليه السلام
الوجه الثالث في الجواب أن القوم قالوا هذا الكفر فعيسى عليه السلام جوّز أن يكون بعضهم قد تاب عنه فقال ءانٍ علمت أن أولئك المعذبين ماتوا على الكفر فلك أن تعذبهم بسبب أنهم عبادك وأنت قد حكمت على كل من كفر ممن عبادك بالعقوبة وإن تغفر لهم علمت أنهم تابوا عن الكفر وأنت حكمت على من تاب عن الكفر بالمغفرة
الوجه الرابع أنا ذكرنا أن من الناس من قال إن قول الله تعالى لعيسى أَءنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى وَأُمّى َ إِلَاهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ ( المائدة 116 ) إنما كان عند رفعه إلى السماء لا في يوم القيامة وعلى هذا القول فالجواب سهل

لأن قوله إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ يعني ان توفيتهم على هذا الكفر وعذبتهم فإنهم عبادك فلك ذاك وان أخرجتهم بتوفيقك من ظلمة الكفر إلى نور الايمان وغفرت لهم ما سلف منهم فلك أيضاً ذاك على هذا التقدير فلا إشكال
المسألة الثانية احتج بعض الأصحاب بهذه الآية على شفاعة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في حق الفساق قالوا لأن قول عيسى عليه السلام إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ليس في حق أهل الثواب لأن التعذيب لا يليق بهم وليس أيضاً في حق الكفار لأن قوله وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لا يليق بهم فدل على أن ذلك ليس إلا في حق الفساق من أهل الايمان وإذا ثبت شفاعة الفساق في حق عيسى عليه السلام ثبت في حق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بطريق الأولى لأنه لا قائل بالفصل
المسألة الثالثة روى الواحدي رحمه الله أن في مصحف عبد الله ( وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم سمعت شيخي ووالدي رحمه الله يقول العَزِيزُ الحَكِيمُ هاهنا أولى من الغفور الرحيم لأن كونة غفوراً رحيماً يشبه الحالة الموجبة للمغفرة والرحمة لكل محتاج وأنا العزة والحكمة فهما لا يوجبان المغفرة فإن كونه عزيزاً يقتضي أنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وأنه لا اعتراض عليه لأحد فإذا كان عزيزاً متعالياً عن جميع جهات الاستحقاق ثم حكم بالمغفرة كان الكرم هاهنا أتم مما إذا كان كونه غفوراً رحيماً يوجب المغفرة والرحمة فكانت عبارته رحمه الله أن يقول عز عن الكل ثم حكم بالرحمة فكان هذا أكمل وقال قوم آخرون إنه لو قال فإنك أنت الغفور الرحيم أشعر ذلك بكونه شفيعاً لهم فلما قال فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ دل ذلك على أن غرضه تفويض الأمر بالكلية إلى الله تعالى وترك التعرض لهذا الباب من جميع الوجوه
قَالَ اللَّهُ هَاذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً رَّضِى َ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
ثم قال تعالى قَالَ اللَّهُ هَاذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى أجمعوا على أن المراد بهذا اليوم يوم القيامة والمعنى أن صدقهم في الدنيا ينفعهم في القيامة والدليل على أن المراد ما ذكرنا أن صدق الكفار في القيامة لا ينفعهم ألا ترى أن إبليس قال إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ( إبراهيم 22 ) فلم ينفعه هذا الصدق وهذا الكلام تصديق من الله تعالى لعيسى في قوله مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِى بِهِ ( المائدة 117 )
المسألة الثانية قرأ جمهور القرّاء يَوْمٍ بالرفع وقرأ نافع بالنصب واختاره أبو عبيدة فمن قرأ بالرفع قال الزجاج التقدير هذا اليوم يوم منفعة الصادقين وأما النصب ففيه وجوه الأول على أنه ظرف لقال والتقدير قال الله هذا القول لعيسى يوم ينفع الثاني أن يكون التقدير هذا الصدق واقع يوم ينفع

الصادقين صدقهم ويجوز أن تجعل ظروف الزمان أخباراً عن الأحداث بهذا التأويل كقولك القتال يوم السبت والحج يوم عرفة أي واقع في ذلك اليوم والثالث قال الفرّاء يَوْمٍ أضيف إلى ما ليس باسم فبني على الفتح كما في يومئذ قال البصريون هذا خطأ لأن الظرف إنما يبنى إذا أضيف إلى المبنى كقول النابغة
على حين عاتبت المشيب على الصبا
بنى ( حين ) لإضافته إلى المبنى وهو الفعل الماضي وكذلك قوله يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ ( الإنفطار 19 ) بني لإضافته إلى ( لا ) وهي مبنية أما هنا فالإضافة إلى معرب لأن ينفع فعل مستقبل والفعل المستقبل معرب فالإضافة إليه لا توجب البناء والله أعلم
ثم قال تعالى لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِى َ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
اعلم أنه تعالى لما أخبر أن صدق الصادقين في الدنيا ينفعهم في القيامة شرح كيفية ذلك النفع وهو الثواب وحقيقة الثواب أنها منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم فقوله لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ إشارة إلى المنفعة الخالصة عن الغموم والهموم وقوله خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إشارة إلى الدوام واعتبر هذه الدقيقة فإنه أينما ذكر الثواب قال خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وأينما ذكر عقاب الفساق من أهل الايمان ذكر لفظ الخلود ولم يذكر معه التأبيد وأما قوله تعالى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ فهو إشارة إلى التعظيم هذا ظاهر قول المتكلمين وأما عند أصحاب الأرواح المشرقة بأنوار جلال الله تعالى فتحت قوله رّضِى َ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ أسرار عجيبة لا تسمح الأقلام بمثلها جعلنا الله من أهلها وقوله ذالِكَ الْفَوْزُ الجمهور على أن قوله يَفْعَلْ ذالِكَ عائد إلى جملة ما تقدم من قوله لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي إلى قوله وَرَضُواْ عَنْهُ وعندي أنه يحتمل أن يكون ذلك مختصاً بقوله رَّضِى َ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ فإنه ثبت عند أرباب الألباب أن جملة الجنة بما فيها بالنسبة إلى رضوان الله كالعدم بالنسبة إلى الوجود وكيف والجنة مرغوب الشهوة والرضوان صفة الحق وأي مناسبة بينهما وهذا الكلام يشمئز منه طبع المتكلم الظاهري ولكن كل ميسر لما خلق له ثم قال تعالى
للَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدِيرٌ
قيل إن هذا جواب عن سؤال مقدر كأنه قيل من يعطيهم ذلك الفوز العظيم فقيل الذي له ملك السماوات والأرض وفي هذه الخاتمة الشريفة أسرار كثيرة ونحن نذكر القليل منها فالأول أنه تعالى قال للَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا فِيهِنَّ ولم يقل ومن فيهن فغلب غير العقلاء والسبب فيه التنبيه على أن كل المخلوقات مسخرون في قبضة قهره وقدرته وقضائه وقدره وهم في ذلك التسخير كالجمادات التي لا قدرة لها وكالبهائم التي لا عقل لها فعلم الكل بالنسبة إلى علمه كلا علم وقدرة الكل بالنسبة إلى قدرته كلا قدرة والثاني أن مفتتح السورة كان بذكر العهد المنعقد بين الربوبية والعبودية فقال عَلِيمٌ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ( المائدة 1 ) وكمال حال المؤمن في أن يشرع في العبودية وينتهي إلى الفناء المحض عن نفسه بالكلية فالأول هو الشريعة وهو البداية والآخر هو الحقيقة وهو النهاية فمفتتح السورة من الشريعة ومختتمها بذكر كبرياء الله وجلاله وعزته وقدرته وعلوه وذلك هو الوصول إلى مقام الحقيقة فما أحسن

المناسبة بين ذلك المفتتح وهذا المختتما والثالث أن السورة اشتملت على أنواع كثيرة من العلوم فمنها بيان الشرائع والأحكام والتكاليف ومنها المناظرة مع اليهود في إنكارهم شريعة محمد عليه الصلاة والسلام ومنها المناظرة مع النصارى في قولهم بالتثليث فختم السورة بهذه النكتة الوافية بإثبات كل هذه المطالب فإنه قال للَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا فِيهِنَّ ومعناه أن كل ما سوى الحق سبحانه فانه ممكن لذاته موجود بإيجاده تعالى وإذا كان الأمر كذلك كان مالكاً لجميع الممكنات والكائنات موجداً لجميع الأرواح والأجساد وإذا ثبت هذا لزم منه ثبوت كل المطالب المذكورة في هذه السورة وأما حسن التكليف كيف شاء وأراد فذاك ثابت لأنه سبحانه لما كان مالكاً للكل كان لله أن يتصرف في الكل بالأمر والنهي والثواب والعقاب كيف شاء وأراد فصح القول بالتكليف على أي وجه أراده الحق سبحانه وتعالى وأما الرد على اليهود فلأنه سبحانه لما كان مالك الملك فله بحكم المالكية أن ينسخ شرع موسى ويضع شرع محمد عليهما الصلاة والسلام وأما الرد على النصارى فلأن عيسى ومريم داخلان فيما سوى الله لأنا بينا أن الموجد إما أن يكون هو الله تعالى أو غيره وعيسى ومريم لا شك في كونهما داخلين في هذا القسم فإذا دلنا على أن كل ما سوى الله تعالى ممكن لذاته موجود بإيجاد الله كائن بتكوين الله كان عيسى ومريم عليهما السلام كذلك ولا معنى للعبودية إلا ذلك فثبت كونهما عبدين مخلوقين فظهر بالتقرير الذي ذكرناه أن هذه الآية التي جعلها الله خاتمة لهذه السورة برهان قاطع في صحة جميع العلوم التي اشتملت هذه السورة عليها والله أعلم بأسرار كلامه

سورة الأنعام
مكية إلا الآيات 20 و 23 و 91 و 93 و 114 و 141 و 151 و 152 و 153
فمدنية وآياتها 165 نزلت بعد سورة الحجر
قال ابن عباس رضي الله عنه إنها مكيّة نزلت جملة واحدة فامتلأ منها الوادي وشيعها سبعون ألف ملك ونزلت الملائكة فملؤوا ما بين الأخشبين فدعا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) الكتاب وكتبوها من ليلتهم إلا ست آيات فانها مدنيات قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ( الأنعام 151 ) إلى آخر الآيات الثلاث وقوله وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ( الأنعام 91 ) الآية وقوله وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً ( الأنعام 93 ) وعن أنس قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما نزل علي سورة من القرآن جملة غير سورة الأنعام وما اجتمعت الشياطين لسورة من القرآن جمعها لها وقد بعث بها إليّ مع جبريل مع خمسين ملكاً أو خمسين ألف ملك يزفونها ويحفونها حتى أقروها في صدري كما أقر الماء في الحوض ولقد أعزني الله وإياكم بها عزاً لا يذلنا بعده أبداً فيها دحض حجج المشركين ووعد من الله لا يخلفه ) وعن ابن المنكدر لما نزلت سورة الأنعام سبّح رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال ( لقد شيع هذه السورة من الملائكة ما سد الأفق )
قال الأصليون هذه السورة اختصت بنوعين من الفضيلة أحدهما أنها نزلت دفعة واحدة والثاني أنها شيعها سبعون ألفاً من الملائكة والسبب فيه أنها مشتملة على دلائل التوحيد والعدل والنبوّة والمعاد وإبطال مذاهب المبطلين والملحدين وذلك يدل على أن علم الأصول في غاية الجلالة والرفعة وأيضاً فإنزال ما يدل على الأحكام قد تكون المصلحة أن ينزله الله تعالى قدر حاجتهم وبحسب الحوادث والنوازل وأما ما يدل على علم الأصول فقد أنزله الله تعالى جملة واحدة وذلك يدل على أن تعلم علم الأصول واجب على الفور لا على التراخي

الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ
اعلم أن الكلام المستقصى في قوله الْحَمْدُ للَّهِ قد سبق في تفسير سورة الفاتحة ولا بأس بأن نعيد بعض تلك الفوائد وفيه مسائل
المسألة الأولى في الفرق بين المدح والحمد والشكر
اعلم أن المدح أعم من الحمد والحمد أعم من الشكر
أما بيان أن المح أعم من الحمد فلأن المدح يحصل للعاقل ولغير العاقل ألا ترى أنه كما يحسن مدح الرجل اللعاقل على أنواع فضائله فكذلك قد يمدح اللؤلؤ لحسن شكله ولطافة خلقته ويمدح الياقوت على نهاية صفائه وصقالتها فيقال ما أحسنه وما أصفاه وأما الحمد فانه لا يحصل إلا للفاعل المختار على ما يصدر منه من الإنعام والإحسان فثبت أن المدح أعم من الحمد
وأما بيان أن الحمد أعم من الشكر فون الحمد عبارة عن تعظيم الفاعل لأجل ما صدر عنه من الإنعام سواء كان ذلك الإنعام واصلاً إليك أو إلى غيرك وأما الشكر فهو عبارة عن تعظيمه لأجل إنعام وصل إليك وحصل عندك فثبت بما ذكرنا أن المدح أعم من الحمد وهو أعم من الشكر
إذا عرفت هذا فنقول إنما لم يقل المدح لله ونا بينا أن المدح كما يحصل للفاعل المختار فقد يحصل لغيره أما الحمد فانه لا يحصل إلا للفاعل المختار فكان قوله الْحَمْدُ للَّهِ تصريحاً بأن المؤثر في وجود هذا العالم فاعل مختار خلقه بالقدرة والمشيئة وليس علة موجبة له إيجاب العلة لمعلولها ولا شك أن هذه الفائدة عظيمة في الدين وإنما لم يقل الشكر لله لأنا بينا أن الشكر عبارة عن تعظيمة بسبب انعام صدر منه ووصل إليك وهذا مشعر بأن العبد إذا ذكر تعظيمه بسبب ما وصل إليه من النعمة فحينئذ يكون المطلوب الأصلي به وصول النعمة إليه وهذه درجة حقيرة فأما إذا قال الحمد لله فهذا يدل على أن العبد حمده لأجل كونه مستحقاً للحمد لا لخصوص أنه تعالى أوصل النعمة إليه فيكون الاخلاص أكمل واستغراق القلب في مشاهدة نور الحق أتم وانقطاعه عما سوى الحق أقوى وأثبت
المسألة الثانية الحمد لفظ مفرد محلى بالألف واللام فيفيد أصل الماهية

إذا ثبت هذا فنقول قوله الْحَمْدُ للَّهِ يفيد أن هذه الماهية لله وذلك يمنع من ثبوت الحمد لغير الله فهذا يقتضي أن جميع أقسام الحمد والثناء والتعظيم ليس إلا لله سبحانه
فإن قيل إن شكر المنعم واجب مثل شكر الأستاذ على تعليمه وشكر السلطان على عدله وشكر المحسن على إحسانه كما قال عليه الصلاة والسلام ( من لم يشكر الناس لم يشكر الله )
قلنا المحمود والمشكور في الحقيقة ليس إلا الله وبيانه من وجوه الأول صدور الاحسان من العبد يتوقف على حصول داعية الاحسان في قلب العبد وحصول تلك الداعية في القلب ليس من العبد وإلا لافتقر في حصولها إلى داعية أخرى ولزم التسلسل بل حصولها ليس إلا من الله سبحانه فتلك الداعية عند حصولها يجب الفعل وعند زوالها يمتنع الفعل فيكون المحسن في الحقيقة ليس إلا الله فيكون المستحق لكل حمد في الحقيقة هو الله تعالى وثانيها أن كل من أحسن من المخلوقين إلى الغير فإنه إنما يقدم على ذلك الإحسان إما لجلب منفعة أو دفع مضرة أما جلب المنفعة فانه يطمع بواسطة ذلك الإحسان بما يصير سبباً لحصول السرور في قلبه أو مكافأة بقليل أو كثير في الدنيا أو وجدان ثواب في الآخرة وأما دفع المضرة فهو أن الإنسان إذا رأى حيواناً في ضر أو بلية فإنه يرق قلبه عليه وتلك الرقة ألم مخصوص يحصل في القلب عند مشاهدة وقوع ذلك الحيوان في تلك المضرة فإذا حاول إنقاذ ذلك الحيوان من تلك المضرة زالت تلك الرقة عن القلب وصار فارغ القلب طيب الوقت فذلك الإحسان كأنه سبب أفاد تخليص القلب عن ألم الرقة الحسيّة فثبت أن كل ما سوى الحق فإنه يستفيد بفعل الإحسان إما جلب منفعة أو دفع مضرة أما الحق سبحانه وتعالى فإنه يحسن ولا يستفيد منه جلب منفعة ولا دفع ممضرة وكان المحسن الحقيقي ليس إلا الله تعالى فبهذا السبب كان المستحق لكل أقسام الحمد هو الله فقال الْحَمْدُ للَّهِ وثالثها أن كل إحسان يقدم عليه أحد من الخلق فالانتفاع به لا يكمل إلا بواسطة إحسان الله ألا ترى أنه لولا أن الله تعالى خلق أنواع النعمة وإلا لم يقدر الإنسان على إيصال تلك الحنطة والفواكه إلى الغير وأيضاً فلولا أنه سبحانه أعطى الإنسان الحواس الخمس التي بها يمكنه الانتفاع بتلك النعم وإلا لعجز عن الانتفاع بها ولولا أنه سبحانه أعطاه المزاج الصحي والبنية السليمة وإلا لما أمكنه الانتفاع بها فثبت أن كل إحسان يصدر عن محسن سوى الله تعالى فإن الانتفاع به لا يكمل إلا بواسطة إحسان الله تعالى وعند هذا يظهر أنه لا محسن في الحقيقة إلا الله ولا مستحق للحمد إلا الله فلهذا قال الْحَمْدُ للَّهِ ورابعها أن الانتفاع بجميع النعم لا يمكن إلا بعد وجود المنتفع بعد كونه حياً قادراً عالماً ونعمة الوجود والحياة والقدرة والعلم ليست إلا من الله سبحانه والتربية الأصلية والأرزاق المختلفة لا تحصل إلا من الله سبحانه من أول الطفولية إلى آخر العمر ثم إذا تأمل الإنسان في آثار حكمة الرحمن في خلق الإنسان ووصل إلى ما ألأدع الله تعالى في أعضائه من أنواع المنافع والمصالح علم أنها بحر لا ساحل له كما قال تعالى وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا ( إبراهيم 34 ) فبتقدير أن نسلم أن العبد يمكنه أن ينعم على الغير إلا أن نعم العبد كالقطرة ونعم الله لا نهاية لها أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً فلهذا السبب كان المستحق للحمد المطلق والثناء المطلق ليس إلا الله سبحانه فلهذا قال الْحَمْدُ للَّهِ
المسألة الثالثة إنما قال الْحَمْدُ للَّهِ ولم يقل أحمد الله لوجوه أحدها أن الحمد صفة القلب

وربما احتاج الإنسان إلى أن يذكر هذه اللفظة حال كونه غافلاً بقلبه عن استحضار معنى الحمد والثناء فلو قال في ذلك الوقت أحمد الله كان كاذباً واستحق عليه الذم والعقاب حيث أخبر عن دعوى شيء مع أنه ما كان موجوداً أما إذا قال الحمد لله فمعناه أن ماهية الحمد وحقيقته مسلمة لله تعالى وهذا الكلام حق وصدق سواء كان معنى الحمد والثناء حاضراً في قلبه أو لم يكن وكان تكلمه بهذا الكلام عبادة شريفة وطاعة رفيعة فظهر الفرق بين هذين اللفظين وثانيها روي أنه تعالى أوحى إلى داود عليه السلام يأمره بالشكر فقال داود يا رب وكيف أشكرك وشكري لك لا يحصل إلا أن توفقني لشكرك وذلك التوفيق نعمة زائدة وإنها توجب الشكر لي أيضاً وذلك يجر إلى ما لا نهاية له ولا طاقة لي بفعل ما لا نهاية له فأوحى الله تعالى إلى داود لما عرفت عجزك عن شكري فقد شكرتني
إذا عرفت هذا فنقول لو قال العبد أحمد الله كان دعوى أنه أتى بالحمد والشكر فيتوجه عليه ذلك السؤال أنما لو قال الحمد لله فليس فيه ادعاء أن العبد أتى بالحمد والثناء بل ليس فيه إلا أنه سبحانه مستحق للحمد والثناء سواء قدر على الإتيان بذلك الحمد أو لم يقدر عليه فظهر التفاوت بين هذني اللفظين من هذا الوجه وثالثها أنه لو قال أحمد الله كان ذلك مشعراً بأنه ذكر حمد نفسه ولم يذكر حمد غيره أما إذا قال الحمد لله فقد دخل فيه حمده وحمد غيره من أول خلق العالم إلى آخر استقرار المكلفين في درجات الجنان ودركات النيران كما قال تعالى دَعْواهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ ( يونس 10 ) فكان هذا الكلام أفضل وأكمل
المسألة الرابعة اعلم أن هذه الكلمة مذكورة في أول سور خمسة أولها الفاتحة فقال الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ ( الفاتحة 2 ) وثانيها في يأول هذه السورة فقال الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الأنعام 1 ) والأول أعم لأن العالم عبارة عن كل موجود سوى الله تعالى فقوله الحمد لله ربّ العالمين يدخل فيه كل موجود سوى الله تعالى أما قوله الحمد لله ربّ العالمين يدخل فيه كل موجود سوى الله تعالى أما قوله يدخل فيه كل موجود سوى الله تعالى أما قوله الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لا يدخل فيه إلا خلق السموات والأرض والظلمات والنور ولا يدخل فيه سائر الكائنات والمبدعات فكان التحميد المذكور في أول هذه السورة كأنه قسم من الأقسام الداخلة تحت التحميد المذكور في سورة الفاتحة وتفصيل لتلك الجملة وثالثها سورة الكهف فقال الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ ( الكهف 1 ) وذلك أيضاً تحميد مخصوص بنوع خاص من النعمة وهو نعمة العلم والمعرفة والهداية والقرآن وبالجملة النعم الحاصلة بواسطة بعثة الرسل ورابعها سورة سبأ وهي قوله الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ( سبأ 1 ) وهو أيضاً قسم من الأقسام الداخلة تحت قوله الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ وخامسها سورة فاطر فقال الْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( فاطر 1 ) وظاهر أيضاً أنه قسم من الأقسام الداخلة تحت قوله الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ فظهر أن الكلام الكلي التام هو التحميد المذكور في أول الفاتحة وهو قوله الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ وذلك لأن كل موجود فهو إما واجب الوجود لذاته وإما ممكن الوجود لذاته وواجب الوجود لذاته واحد وهو الله سبحانه وتعالى وما سواه ممكن وكل ممكن فلا يمكن دخوله في الوجود إلا بإيجاد الله تعالى وتكوينه والوجود نعمة فالإيجاد إنعام وتربية فلهذا السبب قال الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ وأنه تعالى المربي لكل ما سواه والمحسن إلى كل ما سواه فذلك الكلام هو الكلام الكلي الوافي

بالمقصود أما التحميدات المذكورة في أوائل هذه السور فكان كل واحد منها قسم من أقسام ذلك التحميد ونوع من أنواعه
فإن قيل ما الفرق بين الخالق وبين الفاطر والرب وأيضاً لم قال ههنا خُلِقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بصيغة فعل الماضي وقال في سورة فاطر الْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بصيغة اسم الفاعل
فنقول في الجواب عن الأول الخلق عبارة عن التقدير وهو في حق الحق سبحانه عبارة عن علمه النافذ في جميع الكليات والجزئيات الواصل إلى جميع ذوات الكائنات والممكنات وأما كونه فاطراً فهو عبارة عن الإيجاد والابداع فكونه تعالى خالقاً إشارة إلى صفة العلم وكونه فاطراً إشارة إلى صفة القدرة وكونه تعالى رباً ومربياً مشتمل على الأمرين فكان ذلك أكمل
والجواب عن الثاني أن الخلق عبارة عن التقدير وهو في حق الله تعالى عبارة عن علمه بالمعلومات والعمل بالشيء سصح تقدمه على وجود المعلوم ألا ترى أنه يمكننا أن نعلم الشيء قبل دهوله في الوجود أما إيجاد الشيء فإنه لا يحصل إلا حال وجود الأثر بناء على مذهبنا أن القدرة إنما تؤثر في وجود المقدور حال وجود المقدور فلهذا السبب قال خُلِقَ السَّمَاوَاتِ والمراد أنه كان عالماً بها قبل وجودها وقال فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ والمراد أنه تعالى إنما يكون فاطراً لها وموجداً لها عند وجودها
المسألة الخامسة في قوله الْحَمْدُ للَّهِ قولان الأول المراد منه احمدوا الله تعالى وإنما جاء على صيغة الخبر لفوائد إحداها أن قوله الْحَمْدُ للَّهِ يفيد تعليم اللفظ والمعنى ولو قال احمدوا لم يحصل مجموع هاتين الفائدتين وثانيها أنه يفيد أنه تعالى مستحق الحمد سواء حمده حامد أو لم يحمده وثالثها أن المقصود منه ذكر الحجة فذكره بصيغة الخبر أولى
والقول الثاني وهو قول أكثر المفسرين معناه قولوا الحمد لله قالوا والدليل على أن المراد منه تعليم العباد أنه تعالى قال في أثناء السورة إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وهذا الكلام لا يليق ذكره إلا بالعباد والمقصود أنه سبحانه لما أمر بالحمد وقد تقرر في العقول أن الحمد لا يحسن إلا على الإنعام فحينئذ يصير هذا الأمر حاملاً للمكلف على أن يتفكر في أقسام نعم الله تعالى عليه ثم إن تلك النعم يستدل بذكرها على مقصودين شريفين أحدهما أن هذه النعم قد حدثت بعد أن كانت معدومة فلا بدّ لها من محدث ومحصل وليس ذلك هو العبد لأن كل أحد يريد تحصيل جميع أنواع النعم لنفسه فلو كان حصول النعم للعبد بواسطة قدرة العبد واختياره لوجب أن يكون كل واحد واصلأْ إلى جميع أقسام النعم إذ لا أحد إلا وهو يريد تحصيل كل النعم لنفسه ولما ثبت أنه لا بدّ لحدوث هذه النعم من محدث وثبت أن ذلك المحدث ليس هو العبد فوجب الاقرار بمحدث قاهر قادر وهو الله سبحانه وتعالى
والنوع الثاني من مقاصد هذه الكلمة أن القلوب مجبولة على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها فإذا أمر الله تعالى العبد بالتحميد وكان الأمر بالتحميد مما يحمله على تذكر أنواع نعم الله تعالى صار ذلك التكليف حاملاً للعبد على تذكر أنواع نعم الله عليه ولما كانت تلك النعم كثيرة خارجة عن الحد والاحصاء صار تذكر تلك النعم موجبة رسوخ حب الله تعالى في قلب العبد فثبت أن تذكيرالنعم يفيد

هاتين الفائدتين الشريفتين إحداهما الاستدلال بحدوثها عن الاقرار بوجود الله تعالى وثانيهما أن الشعور بكونها نعماً يوجب ظهور حب الله في القلب ولا مقصود من جميع العبادات إلا هذان الأمران فلهذا السبب وقع الابتداء في هذا الكتاب الكريم بهذه الكلمة فقال الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ
واعلم أن هذه الكلمة بحر لا ساحل له لأن العالم اسم لكل ما سوى الله تعالى وما سوى الله إما جسم أو حال فيه أو لا جسم ولا حال فيه وهو الأرواح ثم الأجسام إما فلكية وءما عنصرية أما الفلكيات فأولها العرش المجيد ثم الكرسي الرفيع ويجب على العاقل أن يعرف أن العرش ما هو وأن الكرسي ما هو وأن يعرف صفاتهما وأحوالهما ثم يتأمل أن اللوح المحفوظ والقلم والرفرف والبيت المعمور وسدرة المنتهى ما هي وأن يعرف حقائقها ثم يتفكر في طبقات السموات وكيفية اتساعها وأجرامها وأبعادها ثم يتأمل في الكواكب الثابتة والسيارة ثم يتأمل في عالم العناصر الأربعة والمواليد الثلاثة وهي المعادن والنبات والحيوان ثم يتأمل في كيفية حكمة الله تعالى في خلقه الأشياء الحقيرة والضعيفة كالبق والبعوض ثم ينتقل منها إلى معرفة أجناس الأعراض وأنواعها القريبة والبعيدة وكيفية المنافع الحاصلة من كل نوع من أنواعها ثم ينتقل منها إلى تعرف مراتب الأرواح السفلية والعلوية والعرشية والفلكية ومراتب الأرواح المقدسة عن علائق الأجسام المشار إليها بقوله وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ ( الأنبياء 19 ) فإذا استحضر مجموع هذه الأشياء بقدر القدرة والطاقة فقد حضر في عقله ذرة من معرفة العالم وهو كل ما سوى الله تعالى ثم عند هذا يعرف أن كل ما حصل لها من الوجود وكمالات الوجود في ذواتها من صفاتها وأحوالها وعلائقها فمن إيجاد الحق ومن جوده ووجوده فعند هذا يعرف من معنى قوله الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ ذرة وهذا بحر لا ساحل له وكلام لا آخر له والله أعلم
المسألة السادسة إنا وإن ذكرنا أن قوله الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ أُجري مجرى قوله قولوا الحمد لله ربّ العالمين فإنما ذكرناه لأن قوله في أثناء السورة إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ لا يليق إلا بالعبد فلهذا السبب افتقرنا هناك إلى هذا الاضمار أما هذه السورة وهي قوله الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فلا يبعد أن يكون المراد منه ثناء الله تعالى به على نفسه
وإذا ثبت هذا فنقول إن هذا يدل من بعض الوجوه على أنه تعالى منزّه عن الشبيه في اللذات والصفات والأفعال وذلك لأن قوله الْحَمْدُ للَّهِ جار مجرى مدح النفس وذلك قبيح في الشاهد فلما أمرنا بذلك دلّ هذا على أنه لا يمكن قياس الحق على الخلق فكما أن هذا قبيح من الخلق مع أنه لا يقبح من الحق فكذلك ليس كل ما يقبح من الخلق وجب أن يقبح من الحق وبهذا الطريق وجب أن يبطل كلمات المعتزلة في أن ما قبح منا وجب أن يقبح من الله
إذا عرفت بهذا الطريق أن أفعاله لا تشبه أفعال الخلق فكذلك صفاته لا تشبه صفات الخلق وذاته لا تشبه ذوات الخلق وعند هذا يحصل التنزيه المطلق والتقديس الكامل عن كونه تعالى مشابهاً لغيره في الذات والصفات والأفعال فهو الله سبحانه واحد في ذاته لا شريك له في صفاته ولا نظير له واحد في أفعاله لا شبيه له تعالى وتقدس والله أعلم

أما قوله سبحانه الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ففيه مسألتان الأولى في السؤالات المتوجهة على هذه الآية وهي ثلاثة
السؤال الأول أن قوله الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ جار مجرى ما يقال جاءني الرجل الفقيه فإن هذا يدل على وجود رجل آخر ليس بفقيه وإلا لم يكن إلى ذكر هذه الصفة حاجة كذا ههنا قوله الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ يوهم أن هناك إلهاً لم يخلق السموات والأرض وإلا فأي فائدة في هذه الصفة
والجواب أنا بينا أن قوله ( الله ) جار مجرى اسم العلم فإذا ذكر الوصف لاسم العلم لم يكن المقصود من ذكر الصوف التمييز بل تعريف كون ذلك المعنى المسمى موصوفاً بتلك الصفة مثاله إذا قلنا الرجل العالم فقولنا الرجل اسم الماهية والماهية تتناول الأشخاص المذكورين الكثيرين فكان المقصود ههنا من ذكر الوصف تمييز هذا الرجل بهذا الاعتبار عن سائر الرجال بهذه الصفة أما إذا قلنا زيد العالم فلفظ زيد اسم علم وهو لا يفيد إلا هذه الذات المعينة لأن أسماء الأعلام قائمة مقام الإشارات فإذا وصفناه بالعلمية امتنع أن يكون المقصود منه تمييز ذلك الشخص عن غيره بل المقصود منه تعريف كون ذلك المسمى موصوفاً بهذه الصفة ولما كان لفظ ( الله ) من باب أسماء الأعلام لا جرم كان الأمر على ما ذكرناه والله أعلم
السؤال الثاني لم قدم ذكر السماء على الأرض مع أن ظاهر التنزيل يدل على أن خلق الأرض مقدم على خلق السماء والجواب السماء كالدائرة والأرض كالمركز وحصول الدائرة يوجب تعين المركز ولا ينعكس فإن حصول المركز لا يوجب تعين الدائرة لإمكان أن يحيط بالمركز الواحد دوائر لا نهاية لها فلما كانت السماء متقدمة على الأرض بهذا الاعتبار وجب تقديم ذكر السماء على الأرض بهذا الاعتبار
السؤال الثالث لم ذكر السماء بصيغة الجمع والأرض بصيغة الواحد مع أن الأرضين أيضاً كثيرة بدليل قوله تعالى وَمِنَ الاْرْضِ مِثْلَهُنَّ ( الطلاق 12 )
والجواب أن السماء جارية مجرى الفاعل والأرض مجرى القابل فلو كانت المساء واحدة لتشابه الأثر وذلك يخل بمصالح هذا العالم أما لو كانت كثيرة اختلفت الاتصالات الكوكبية فحصل بسببها الفصول الأربعة وسائر الأحوال المختلفة وحصل بسبب تلك الاختلافات مصالح هذا العالم أما الأرض فهي قابلة للأثر والقابل الواحد كاف في القبول وأما دلالة الآية المذكورة على تعدد الأرضين فقد بينا في تفسير تلك الآية كيفية الحال فيها والله أعلم
المسألة الثانية اعلم أن المقصود من هذه الآية ذكر الدلالة على وجود الصانع وتقريره أن أجرام السموات والأرض تقدرت في أمور مخصوصة بمقادير مخصوصة وذلك لا يمكن حصوله إلا بتخصيص الفاعل المختار أما بيان المقام الأول فمن وجوه الأول أن كل فلك مخصوص اختص بمقدار معين مع جواز أن يكون الذي كان حاصلاً مقداراً أزيد منه أو أنقص منه والثاني أن كل فلك بمقدار مركب من

أحزاء والجزء الداخل كان يمكن وقوعه خارجاً وبالعكس فوقوع كل واحد منها في حيزه الخاص أمر جائز والثالث أن الحركة والسكون جائزان على كل الأجسام بدليل أن الطبيعة الجسمية واحدة ولوازم الأمور الواحدة بالحركة دون السكون اختصاص بأمر ممكن والرابع أن كل حركة فإنه يمكن وقوعها أسرع مما وقع وأبطأ مما وقع فاختصاص تلك الحركة المعينة بذلك القدر المعين من السرعة والبطء اختصاص بأمر ممكن والخامس أن كل حركة وقعت متوجهة إلى جهة فإنه يمكن وقوعها متوجهة إلى سائر الجهات فاختصاصها بالوقوع على ذلك الوجه الخاص اختصاص بأمر ممكن والسادس أن كل فلك فإنه يوجد جسم آخر إما أعلى منه وإما أسفل منه وقد كان وقوعه على خلاف ذلك الترتيب أمراً ممكناً بدليل أن الأجسام لما كانت متساوية في الطبيعة الجسمية فكل ما صحّ على بعضها صح على كلها فكان اختصاصه بذلك الحيز والترتيب أمراً ممكناً والسابع وهو أن لحركة كل فلك أولاً لأن وجو حركة لا أول لها محال لأن حقيقة الحركة انتقال من حالة إلى حالة وهذا الانتقال يقتضي كونها مسبوقة بالغير والأول ينافي المسبوقية بالغير والجمع بينهما محال فثبت أن لكل حركة أولاً واختصاص ابتداء حدوثه بذلك الوقت دون ما قبله وما بعده اختصاص بأمر ممكن والثامن هو أن الأجسام لما كانت متساوية في تمام الماهية كان اتصاف بعضها بالفلكية وبعضها بالعنصرية دون العكس اختصاصاً بأمر ممكن والتاسع وهو أن حركاتها فعل لفاعل مختار ومتى كان كذلك فلها أول بيان المقام الأول أن المؤثر فيها لو كان علة موجبة بالذات لزم من دوام تلك العلة دوام آثارها فيلزم من دوام تلك العلة دوام كل واحد من الأجزاء المتقومة في هذه الحركة ولما كان ذلك محالاً ثبت أن المؤثر فهيا ليس علة موجبة بالذات بل فاعلاً مختاراً وإذا كان كذلك وجب كون ذلك الفاعل متقدماً على هذه الحركات وذلك يوجب أن يكون لها بداية العاشر أنه ثبت بالدليل أنه حصل خارج العالم خلاء لا نهاية له بدليل أنا نعلم بالضرورة أنا لو فرضنا أنفسنا واقفين على طرف الفلك الأعلى فإنا نميز بين الجهة التي تلي قدامنا وبين الجهة التي تلي خلفنا وثبوت هذا الامتياز معلوم بالضرورة وإذا كان كذلك ثبت أنه حصل خارج العالم خلاء لا نهاية له وإذا كان كذلك فحصول هذا العالم في هذا الحيز الذي حصل فيه دون سائر الأحياز أمر مكن فثبت بهذه الوجوه العشرة أن أجرام السموات والأرضين مختلفة بصفات وأحوال فكان يجوز في العقل حضول أضدادها ومقابلاتها فوجب أن لا يحصل هذا الاختصاص الخاص إلا لمرجح ومقدر وإلا فقد ترجح أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح وهو محال
وإذا ثبت هذا فنقول إنه لا معنى للخلق إلا التقدير فلما دل العقل على حصول التقدير من هذه الوجوه العشرة وجب حصول الخلق من هذه الوجوه العشرة فلهذا المعنى قال الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ والله أعلم ومن الناس من قال المقصود من ذكر السموات والأرض والظلمات والنور التنبيه على ما فيها من المنافع
واعلم أن منافع السموات أكثر من أن تحيط بجزء من أجزائها المجلدات وذلك لأن السموات بالنسبة إلى مواليد هذا العالم جارية مجرى الأب والأرض بالنسبة إليها جارية مجرى الأم فالعلل الفاعلة سماوية

والعلل القابلة أرضية وبها يتم أمر المواليد الثلاثة والاستقصاء في شرح ذلك لا سبيل له
أما قوله وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ففيه مسائل
المسألة الأولى لفظ جَعَلَ يتعدى إلى مفعول واحد إذا كان بمعنى أحدث وأنشأ كقوله تعالى وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ وإلى مفعولين إذا كان بمعنى صير كقوله وَجَعَلُواْ الْمَلَئِكَة َ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً ( الزخرف 19 ) والفرق بين الخلق والجعل أن الخلق فيه معنى التقدير وفي الجعل معنى التضمين والتصيير كإنشاء شيء من شيء وتصيير شيء شيئاً ومنه قوله تعالى وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ( الأعراف 189 ) وقوله وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا ( الرعد 38 ) وقوله أَجَعَلَ الاْلِهَة َ إِلَيْهَا واحِداً ( ص 5 ) وإنما حسن لفظ الجعل ههنا لأن النور والظلمة لما تعاقبا صار كأنه كل واحد منهما إنما تولد من الآخر
المسألة الثانية في لفظ الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ قولان الأول أن المراد منهما الأمران المحسوسان بحس البصر والذي يقوي ذلك أن اللفظ حقيقة فيهما وأيضاً هذان الأمران إذا جعلا مقرونين بذكر السموات والأرض فإنه لا يفهم منهما إلا هاتان الكيفيتان المحسوستان والثاني نقل الواحدي عن ابن عباس أنه قال وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ أي ظلمة الشرلاك والنفاق والكفر والنور يريد نور الإسلام والإيمان والنبوّة واليقين ونقل عن الحسن أنه قال يعني الكفر والإيمان ولا تفاوت بين هذين القولين فكان قول الحسن كالتلخيص لقول ابن عباس ولقائل أن يقول حمل اللفظ على الوجه الأول أولى لما ذكرنا أن الأصل حمل اللفظ على حقيقته ولأن الظلمات والنور إذا كان ذكرهما مقروناً بالسموات والأرض لم يفهم منه إلا ما ذكرناه قال الواحدي والأولى حمل اللفظ عليهما معاً وأقول هذا مشكل لأنه حمل اللفظ على مجازه واللفظ الواحد بالاعتبار الواحد لا يمكن حمله على حقيقته ومجازه معاً
المسألة الثالثة إنما قدم ذكر الظلمات على ذكر النور لأجل أن الظلمة عبارة عن عدم النور عن الجسم الذي من شأنه قبول النور وليست عبارة عن كيفية وجودية مضادة للنور والدليل عليه أنه إذا جلس إنسان بقرب السراج وجلس إنسان آخر بالبعد منه فإن البعيد يرى القريب ويرى ذلك الهواء صافياً مضيئاً وأما القريب فإنه لا يرى البعيد ويرى ذلك الهواء مظلماً فلو كانت الظلمة كيفية وجودية لكانت حاصلة بالنسبة إلى هذين الشخصين المذكورين وحيث لم يكن الأمر كذلك علمنا أن الظلمة ليست كيفية وجودية
وإذ ثبت هذا فنقول عدم المحدثات متقدم على وجودها فالظلمة متقدمة في التقدير والتحقق على النور فوجب تقديمها في اللفظ ومما يقوي ذلك ما يروى في الأخبار الإلهية أنه تعالى خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره
المسألة الرابعة لقائل أن يقول لم ذكر الظلمات بصيغة الجمع والنور بصيغة الواحد فنقول أما من حمل الظلمات على الكفر والنور على الإيمان فكلامه ههنا ظاهر لأن الحق واحد والباطل كثير وأما من حملها على الكيفية المحسوسة فالجواب أن النور عبارة عن تلك الكيفية الكاملة القوية ثم إنها تقبل التناقص قليلاً قليلاً وتلك المراتب كثيرة فلهذا السبب عبّر عن الظلمات بصيغة الجمع

أما قوله تعالى ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ
فأعلم أن العدل هو التسوية يقول عدل الشيء بالشيء إذا سواه به ومعنى يَعْدِلُونَ يشركون به غيره
فإن قيل على أي شيء عطف قوله ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ
قلنا يحتمل أن يكون معطوفاً على قوله الْحَمْدُ للَّهِ على معنى أن الله حقيق بالحمد على كل ما خلق لأنه ما خلقه إلا نعمة ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ فيكفرون بنعمته ويحتمل أن يكون معطوفاف على قوله خُلِقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ على معنى أن خلق هذه الأشياء العظيمة التي لا يقدر عليها أحد سواه ثم إنهم يعدلون به جماداً لا يقدر على شيء أصلاً
فإن قيل فما معنى ثم
قلنا الفائدة فيه استبعاد أن يعدلوا به بعد وضوح آيات قدرته والله أعلم
هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ
اعلم أن هذا الكلام يحتمل أن يكون المراد منه ذكر دليل آخر من دلائل إثبات الصانع تعالى ويحتمل أن لا يكون المراد منه ذكر الدليل على صحة المعاد وصحة الحشر
أما الوجه الأول فتقريره أن الله تعالى لما استدل بخلقه السموات والأرض وتعاقب الظلمات والنور على وجود الصانع الحكيم أتبعه بالاتسدلال بخلقه الإنسان على إثبات هذا المطلوب فقال هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن طِينٍ والمشهور أن المراد منه أنه تعالى خلقهم من آدم وآدم كان مخلوقاً من طين فهلذا السبب قال هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن طِينٍ وعندي فيه وجه آخر وهو أن الإنسان مخلوق من المني ومن دم الطمث وهما يتوالدان من الدم والدم إنما يتولد من الأغذية والأغذية إما يحوانية وإمانباتية فإن كانت حيوانية كان الحال في كيفية تولد ذلك الحيوان كالحال في كيفية تولد الإنسان فبقي أن تكون نباتية فثبت أن الإنسان مخلوق من الأغذية النباتية ولا شك أنها متولدة من الطين فثبت أن كل إنسان متولد من الطين وهذا الوجه عندي أقرب إلى الصواب
إذا عرفت هذا فنقول هنا الطين قد تولدت النطفة منه بهذا الطريق المذكور ثم تولد من النطفة أنواع الأعضاء المختلفة في الصفة والصورة واللون والشكل مثل القلب والدماغ والكبد وأنواع الأعضاء البسيطة كالعظام والغضاريف والرباطات والأوتار وغيرها وتولد الصفات المختلفة في المادة المتشابهة لا يمكن إلا بتقدير مقدر حكيم ومدبر رحيم وذلك هو المطلوب

وأما الوجه الثاني وهو أن يكون المقصود من هذا الكلام تقرير أمر المعاد فنقول لما ثبت أن تخليق بدن الإنسان إنما حصل لأن الفاعل الحكيم والمقدر الرحيم رتب حلقة هذه الأعضاء على هذه الصفات المختلفة بحكمته وقدرته وتلك القدرة والحكمة باقية بعد موت الحيوان فيكون قادراً على إعادتها وإعادة الحياة فيها وذلك يدل على صحة القول بالمعاد
وأما قوله تعالى ثُمَّ قَضَى أَجَلاً ففيه مباحث
المبحث الأول لفظ القضاء قد يرد بمعنى الحكم والأمر قال تعالى دوقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ( الأسرار 23 ) وبمعنى الخبر والاعلام قال تعالى ( الأسرار 23 ) وبمعنى الخبر والاعلام قال تعالى وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِى إِسْراءيلَ فِى الْكِتَابِ ( الإسرار 4 ) وبمعنى صفة الفعل إذا تم قال تعالى فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ ( فصلت 12 ) ومنه قولهم قضى فلان حاجة فلان وأما الأجل فهو في اللغة عبارة عن الوقت المضروب لانقضاء الأمد وأجل الإنسان هو الوقت المضروب لانقضاء عمره وأجل الدين محله لانقضاء التأخير فيه وأصله من التأخير يقال أجل الشيء يأجل أجولاً وهو آجل إذا تأخر والآجل نقيض العاجل
إذا عرفت هذا فقوله ثُمَّ قَضَى أَجَلاً معناه أنه تعالى خصص موت كل واحد بوقت معين وذلك التخصيص عبارة عن تعلق مشيئته بإيقاع ذلك الموت دي ذلك الوقت ونظير هذه الآية قوله تعالى ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذالِكَ ( المؤمنون 15 )
وأما قوله تعالى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ
فاعلم أن صريح هذه الآية يدل على حصول أجلين لكل إنسان واختلف المفسرون في تفسيرهما على وجوه الأول قال أبو مسلم قوله ثُمَّ لَهُمْ أَجَلاً المراد منه آجال الماضين من الخلق وقوله وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ المراد منه آجال الباقين من الخلق فهو خص هذا الأجل الثاني بكونه مسمى عنده لأن الماضين لما ماتوا صارت آجالهم معلومة أما الباقون فهم بعد لم يموتوا فلم تصر آجالهم معلومة فلهذا المعنى قال وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ والثاني أن الأجل الأول هو أجل الموت والأجل المسمى عند الله هو أجل القيامة لأن مدة حياتهم في الآخرة لا آخرة لها ولا انقضاء ولا يعلم أحد كيفية الحال في هذا الأجل إلا الله سبحانه وتعالى والثالث الأجل الأول ما بين أن يخلق إلى أن يموت والثاني ما بين الموت والبعث وهو البرزخ والرابع أن الأول هو النوم والثاني الموت والخامس أو الأجل الأول مقدار ما انقضى من عمر كل أحد والأجل الثاني مقدار ما بقي من عمر كل أحد والسادس وهو قول حكماء الإسلام أن لكل إنسان أجلين أحدهما الآجال الطبيعية والثاني الآجال الاخترامية أما الآجال الطبيعية فهي التي لو بقي ذلك المزاج مصوناً من العوارض الخارجية لانتهت مدة بقائه إلى الوقت الفلاني وأما الآجال الاخترامية فهي التي تحصل بسبب من الأسباب الخارجية كالغرق والحرق ولدغ الحشرات وغيرها من الأمور المعضلة وقوله مُّسمًّى عِندَهُ أي معلوم عنده أو مذكور اسمه في اللوح المحفوظ ومعنى عنده شيبه بما يقول الرجل في المسألة عندي أن الأمر كذا وكذا أي هذا اعتقادي وقولي
فإن قيل المبتدأ النكرة إذا كان خبره ظرفاً وجب تأخيره فلم جاز تقديمه في قوله وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ

قلنا لأنه تخصص بالصفة فقارب المعرفة كقوله وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مّن مُّشْرِكٍ ( البقرة 221 )
وأما قوله ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ فنقول المرية والامتراء هو الشك
وأعلم أنا إن قلنا المقصود من ذكر هذا الكلام الاستدلال على وجود الصانع كان معناه أن بعد ظهور مثل هذه الحجة الباهرة أنتم تمترون في صحة التوحيد وإن كان المقصود تصحيح القول بالمعاد فكذلك والله أعلم
وَهُوَ اللَّهُ فِى السَّمَاوَاتِ وَفِى الأرض يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ
واعلم أنا إن قلنا إن المقصود من الآية المتقدمة إقامة الدليل على وجود الصانع القادر المختار
قلنا المقصود من هذه الآية بيان كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات فإن الآيتين المتقدمتين يدلان على كمال القدرة وهذه الآية تدل على كمال العلم وحينئذٍ يكمل العلم بالصفات المعتبرة في حصول الإلهية وإن قلنا المقصود من الآية المتقدمة إقامة الدلالة على صحة المعاد فالمقصود من هذه الآية تكميل ذلك البيان وذلك لأن منكري المعاد إنما أنكروه لأمرين أحدهما أنهم يعتقدون أن المؤثر في حدوث بدن الإنسان هو امتزاج الطبائع وينكرون أن يكون المؤثر فيه قادراً مختاراً والثاني أنهم يسلمون ذلك إلا أنهم يقولون إنه غير عالم بالجزئيات فلا يمكنه تمييز المطيع من العاصي ولا تمييز أجزاء بدن زيد عن أجزاء بدن عمرون ثم إنه تعالى أثبت بالآيتين المتقدمتين كونه تعالى قادراً ومختاراً لا علة موجبة وأثبا بهذه الآية كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات وحينئذٍ تبطل جميع الشبهات التي عليها مدار القول بإنكار المعاد وصحة الحشر والنشر فهذا هو الكلام في نظم الآية وههنا مسائل
المسألة الأولى القائلون بأن الله تعالى مختص بالمكان تمسكوا بهذه الآية وهو قوله وَهُوَ اللَّهُ فِى السَّمَاوَاتِ وذلك يدل على أن الإله مستقر في السماء قالوا ويتأكد هذا أيضاً بقوله تعالى مَّن فِى السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ ( الملك 16 ) قالوا ولا يلزمنا أن يقال فيلزم أن يكون في الأرض لقوله تعالى في هذه الآية وَهُوَ اللَّهُ فِى السَّمَاوَاتِ وَفِى الاْرْضِ وذلك يقتضي حصوله تعالى في المكانين معاً وهو محال لأنا نقول أجمعنا على أنه ليس بموجود في الأرض ولا يلزم من ترك العمل بأحد الظاهرين ترك العمل بالظاهر الآخر من غير دليل فوجب أن يبقى ظاهر قوله وَهُوَ اللَّهُ فِى السَّمَاوَاتِ على ذلك الظاهر ولأن من القراء من وقف عند قوله وَهُوَ اللَّهُ فِى السَّمَاوَاتِ ثم يبتدىء فيقول وَفِى الاْرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ والمعنى أنه سبحانه يعلم سرائركم الموجودة في الأرض فيكون قوله فِى الاْرْضِ صلة لقوله سِرَّكُمْ هذا تمام الكلام
وأعلم أنا نقيم الدلالة أولاً على أنه لا يمكن حمل هذا الكلام على ظاهره وذلك من وجوه الأول أنه تعالى قال في هذه السورة قُل لّمَن مَّا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ قُل لِلَّهِ ( الأنعام 12 ) فبيّن بهذه الآية أن كل

ما في السموات والأرض فهو ملك لله تعالى ومملوك له فلو كان الله أحد الأشيء الموجودة في السموات لزم كونه ملكاً لنفسه وذلك محال ونظير هذه الآية قوله في سورة طه لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ( طه 6 ) فإن قالوا قوله قُل لّمَن مَّا فِى السَّمَاء والاْرْضِ هذا يقتضي أن كل ما في السموات فهو لله إلا أن كلمة ما مختصة بمن لا يعقل فلا يدخل فيها ذات الله تعالى
قلنا لا نسلم والدليل عليه قوله وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا وَالاْرْضِ وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ( الشمس 5 7 ) ونظيره وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ( الكافرون 3 ) ولا شك أن المراد بكلمة ما ههنا هو الله سبحانه والثاني أن قوله وَهُوَ اللَّهُ فِى السَّمَاوَاتِ إما أن يكون المراد منه أنه موجود في جميع السموات أو المراد أنه موجود في سماء واحدة والثاني ترك للظاهر والأول على قسمين لأنه ءما أن يكون الحاصل منه تعالى في أحد السموات عين ما حصل منه في سائر السموات أو غيره والأول يقتضي حصول المتحيز الواحد في مكانين وهو باطل ببديهة العقل والثاني يقتضي كونه تعالى مركباً من الأجزاء والأبعاض وهو محال والثالث أنه لو كان موجوداً في المسوات لكان محدوداً متنايهاً وكل ما كان كذلك كان قبوله للزيادة والنقصان ممكناً وكل ما كان كذلك كان اختصاصه بالمقدار المعين لتخصيص مخصص وتقدير مقدر وكل ما كان كذلز فهو محدث والرابع أنه لو كان في السموات فهل يقدر على خلق عالم آخر فوق السموات أو لا يقدر والثاني يوجب تعجيزه والأول يقتضي أنه تعالى لو فعل ذلك لحصل تحت هذا العالم والقوم ينكرون كونه تحت العالم والخامس أنه تعالى قال وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنتُمْ ( الحديد 4 ) وقال وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ( ق 16 ) وقال وَهُوَ الَّذِى فِى السَّماء إِلَاهٌ وَفِى الاْرْضِ إِلَاهٌ ( الزخرف 84 ) وقال فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ( البقرة 115 ) وكل ذلك يبطل القول بالمكان والجهة ( صلى الله عليه وسلم ) تعالى فثبت بهذه الدلائل أنه لا يمكن حمل هذا الكلام على ظاهره فوجب التأويل وهو من وجوه الأول أن قوله وَهُوَ اللَّهُ فِى السَّمَاوَاتِ وَفِى الاْرْضِ يعني وهو الله في تدبير السموات والارض كما يقال فلان في أمر كذا أي في تدبيره وإصلاح مهماته ونظيره قوله تعالى وَهُوَ الَّذِى فِى السَّماء إِلَاهٌ وَفِى الاْرْضِ إِلَاهٌ والثاني أن قوله وَهُوَ اللَّهُ كلام تام ثم ابتدأ وقال فِي السَّمَاوَاتِ وَفِى الاْرْضِ يَعْمَلُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ والمعنى إله سبحانه وتعالى يعلم في السموات سرائر الملائكة وفي الأرض يعلم سرائر الإنس والجن والثالث أن يكون الكلام على التقديم والتأخير والتقدير وهو الله يعلم في السموات وفي الأرض سركم وجهركم ومما يقوي هذه التأويلات أن قولنا وهو الله نظير قولنا هو الفاضل العالم وكلمة هو إنما تذكر ههنا لإفادة الحصر وهذه الفائدة إنما تحصل إذا جعلنا لفظ الله اسماً مشتقاً فأما لو جعلناه اسم علم شخص قائم مقام التعيين لم يصح إدخال هذه اللفظة عليه وإذا جعلنا قولنا الله لفظاً مفيداً صار معناه وهو المعبود في السماء وفي الأرض وعلى هذا التقدير يزول السؤال والله أعلم
المسألة الثانية المراد بالسر صفات القلوب وهي الدواعي والصوارف والمراد بالجهر أعمال الجوارح وإنما قدم ذكر السر على ذكر الجهر لأن المؤثر في الفعل هو مجموع القدرة مع الداعي فالداعية التي هي من باب السر هي المؤثرة في أعمال الجوارح المسماة بالجهر وقد ثبت أن العلم بالعلة علة للعلم بالمعلول والعلة متقدمة على المعلول والمتقدم بالذات يجب تقديمه بحسب اللفظ

المسألة الثالثة قوله وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ فيه سؤال وهو أن الأفعال إما أفعال القلوب وهي المسماة بالسر وإما أعمال الجوارح وهي المسماة بالجهر فالأفعال لا تخرج عن السر والجهر فكان قوله وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ يقتضي عطف الشيء على نفسه وأنه فاسد
والجواب يجب حمل قوله مَا تَكْسِبُونَ على ما يستحقه الإنسان على فعله من ثواب وعقاب والحاصل أنه محمول على المكتسب كما يقال هذا المال كسب فلان أي مكتسبه ولا يجوز حمله على نفس الكسب وإلا لزم عطف الشيء على نفسه على ما ذكرتموه في السؤال
المسألة الرابعة الآية تدل عى كون الإنسان مكتسباً للفعل والكسب هو الفعل المفضي إلى اجتلاب نفع أو دفع ضر ولهذا السبب لا يوصف فعل الله بأنه كسب لكونه تعالى منزهاً عن جلب النفع ودفع الضرر والله أعلم
وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ ءَايَة ٍ مِّنْ ءَايَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ
اعلم أنه تعالى لما تكلم أولاً في التوحيد وثانياً في المعاد وثالثاً فيما يقرر هذين المطلوبين ذكر بعده ما يتعلق بتقرير النبوة وبدأ فيه بأن بين كون هؤلاء الكفار معرضين عن تأمل الدلائل غير ملتفتين إليها وهذه الآية تدل على أن التقليد باطل والتأمل في الدلائل واجب ولولا ذلك لما ذم الله المعرضين عن الدلائل قال الواحدي رحمه الله من في قوله مّنْ ءايَة ٍ لاستغراق الجنس الذي يقع في النفي كقولك ما أتاني من أحد والثانية وهي قوله مّنْ ءايَة ٍ مّنْ للتبعيض والمعنى وما يظهر لهم دليل قط من الأدلة التي يجب فيها النظر والاعتبار إلا كانوا عنه معرضين
فَقَدْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ
أعلم أنه تعالى رتب أحوال هؤلاء الكفار على ثلاث مراتب فالمرتبة الأولى كونهم معرضين عن التأمل في الدلائل والتفكر في البينات والمرتبة الثانية كونهم مكذبين بها وهذه المرتبة أزيد مما قبلها لأن المعرض عن الشيء قد لا يكون مكذباً به بل يكون غافلاً عنه غير متعرض له فإذا صار مكذباً به فقد زاد على الأعراض والمرتبة الثالثة كونهم مستهزئين بها لأن المكذب بالشيء قد لا يبلغ تكذيبه به إلى حد الاستهزاء فإذا بلغ إلى هذا الحد فقد بلغ الغاية القصوى في الانكار فبين تعالى أن أولئك الكفار وصلوا إلى هذه المراتب الثلاثة على هذا الترتيب واختلفوا في المراد بالحق فقيل إنه المعجزات قال ابن مسعود انشق القمر بمكة وانفلق فلقتين فذهبت فلقة وبقيت فلقة وقيل إنه القرآن وقيل إنه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وقيل إنه الشرع الذي أتى به محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والأحكام التي جاء بها محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وقيل إنه الوعد والوعيد الذي يرغبهم به تارة ويحذرهم بسببه أخرى والأولى دخول الكل فيه

وأما قوله تعالى فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاء مَا كَانُواْ بِهِ المراد منه الوعيد والزجر عن ذلك الاستهزاء فيجب أن يكون المراد بالأنباء الأنباء لا نفس الأنباء بل العذاب الذي أبنأ الله تعالى به ونظيره قوله تعالى لّلْعَالَمِينَ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ ( ص 88 ) والحكيم إذا توعد فربما قال ستعرف نبأ هذا الأمر إذ نزل بك ما تحذره وإنما كان كذلك لأن الغرض بالخبر الذي هو الوعيد حصول العلم بالعقاب الذي ينزل فنفس العقاب إذا نزل يحقق ذلك الخبر حتى تزول عنه الشبهة ثم المراد من هذ العذاب يحتمل أن يكون عذاب الدنيا وهو الذي ظهر يوم بدر ويحتمل أن يكون عذاب الآخرة
أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِى الأرض مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَآءَ عَلَيْهِم مَّدْرَاراً وَجَعَلْنَا الاٌّ نْهَارَ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً ءَاخَرِينَ
اعلم أن الله تعالى لما منعهم عن ذلك الإعراض والتكذيب والاستهزاء بالتهديد والوعيد أتبعه بما يجري مجرى الموعظة والنصيحة في هذا الباب فوعظهم بسائر القرون الماضية كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وقوم شعيب وفرعون وغيرهم
فإن قيل ما القرن قلنا قال الواحدي القرن القوم المقترنون في زمان من الدهر فالمدة التي يجتمع فيها قوم ثم يفترقون بالموت فهي قرن لأن الذين يأتون بعدهم أقوام آخرون اقترنوا فهم قرن آخر والدليل عليه قوله عليه السلام ( خير القرون قرني ) واشتقاقه من الأقران ولما كان أعمار الناس في الأكثر الستين والسبعين والثمانين لا جرم قال بعضهم القرن هو الستون وقال آخرون هو السبعون وقال قوم هو الثمانون والأقرب أنه غير مقدر بزمان معين لا يقع فيه زيادة ولا نقصان بل المراد أهل كل عصر فإذا انقضى منهم الأكثر قيل قد انقضى القرن
واعلم أن الله تعالى وصف القرون الماضية بثلاثة أنواع من الصفات
الصفة الأولى قوله مَّكَّنَّاهُمْ فِى الاْرْضِ مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ قال صاحب ( الكشاف ) مكن له في الأرض جعل له مكاناً ونحوه في أرض له ومنه قوله تعالى إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى الاْرْضِ ( الكهف 84 ) أَوَ لَمْ نُمَكّن لَّهُمْ ( القصص 57 ) وأما مكنته في الأرض فمعناه أثبته فيها ومنه قوله تعالى وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ ( الأحقاف 26 ) ولتقارب المعنيين جمع الله بينهما في قوله مَّكَّنَّاهُمْ فِى الاْرْضِ مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ والمعنى لم نعط أهل مكة مثل ما أعطينا عاداً وثمود وغيرهم من البسطة في الأجسام والسعة في الأموال والاستظهار بأسباب الدنيا
والصفة الثانية قوله وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مَّدْرَاراً يريد الغيث والمطر فالسماء معناه المطر ههنا والمدرار الكثير الدر وأصله من قولهم در اللبن إذا أقبل على الحالب منه شيء كثير فالمدرار يصلح أن

يكون من نعت السحاب ويجوز أن يكون من نعت المطر يقال سحاب مدرار إذا تتابع أمطاره ومفعال يجيء في نعت يراد المبالغة فيه قال مقاتل مُّدْرَاراً متتابعاً مرة بعد أخرى ويستوي في المدرار المذكر والمؤنث
والصفة الثالثة قوله وَجَعَلْنَا الاْنْهَارَ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمْ والمراد منه كثرة البساتين
واعلم أن المقصود من هذه الأوصاف أنهم وجدوا من منافع الدنيا أكثر مما وجده أهل مكة ثم بيّن تعالى أنهم مع مزيد العز في الدنيا بهذه الوجوه ومع كثرة العدد والبسطة في المال والجسم جرى عليهم عند الكفر ما سمعتم وهذا المعنى يوجب الاعتبار والانتباه من نوم الغفلة ورقدة الجهالة بقي هاهنا سؤالات
السؤال الأول ليس في هذا الكرم إلا أنهم هلكوا إلا أن هذا الهلاك غير مختص بهم بل الأنبياء والمؤمنون كلهم أيضاً قد هلكوا فكيف يحسن إيراد هذا الكلام في معرض الزجر عن الكفر مع أنه مشترك فيه بين الكافر وبين غيره
والجواب ليس المقصود مننه الزجر بمجرد الموت والهلاك بل المقصود أنهم باعوا الدين بالدنيا ففاتهم وبقوا في العذاب الشديد بسبب الحرمان عن الدين وهذا المعنى غير مشترك فيه بين الكافر والمؤمن
السؤال الثاني كيف قال أَلَمْ يَرَوْاْ مع أن القوم ما كانوا مقرين بصدق محمد عليه السلام فيما يخبر عنه وهم أيضاً ما شاهدوا وقائع الأمم السالفة
والجواب أن أقاصيص المتقدمين مشهورة بين الخلق فيبعد أن يقال إنهم ما سمعوا هذه الحكايات ولمجرد سماعها يكفي في الاعتبار
والسؤال الثالث ما الفائدة في ذكر إنشاء قرن آخرين بعدهم
والجواب أن الفائدة هي التنبيه على أنه تعالى لا يتعاظمه أن يهلكهم ويخلي بلادهم منهم فإنه قادر على أن ينشىء مكانهم قوماً آخرين يعمر بهم بلادهم كقوله وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا ( الشمس 15 ) والله أعلم
وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِى قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَاذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ
اعلم أن الذين يتمردون عن قبولل دعوة الأنبياء طوائف كثيرة فالطائفة الأولى الذين بالغوا في حب الدنيا وطلب لذاتها وشهواتها إلى أن استغرقوا فيها واغتنموا وجدانها فصار ذلك مانعاً لهم عن قبول دعوة الأنبياء وهم الذين ذكرهم الله تعالى في الآية المتقدمة وبين أن لذات الدنيا ذاهبة وعذاب الكفر باق وليس من العقل تحممل العقاب الدائم لأجل اللذات المنقرضة الخسيسة والطائفة الثانية الذين يحملون معجزات

الأنبياء عليهم السلام على أنها من باب السحر لا من باب المعجزة هؤلاء الذين ذكرهم الله تعالى في هذه الآية وهاهنا مسائل
المسألة الأولى بيّن الله تعالى في هذه الآية أن هؤلاء الكفار لو أنهم شاهدوا نزول كتاب من السماء دفعة واحدة عليك يا محمد لم يؤمنوا به بل حملوه على أنه سحر ومخرقة والمراد من قوله فِى قِرْطَاسٍ أنه لو نزل الكتاب جملة واحدة في صحيفة واحدة فرأوه ولمسوه وشاهدوه عياناً لطعنوا فيه وقالوا إنه سحر
فإن قيل ظهور الكتاب ونزوله من السماء هل هو من باب المعجزات أم لا فإن لم يكن من باب المعجزات لم يكن إنكارهم لدلالته على النبوّة منكراً ولا يجوز أن يقال أنه من باب المعجزات لأن الملك يقدر على إنزاله من السماء وقبل الايمان بصدق الأنبياء والرسل لم تكن عصمة الملائكة معلومة وقبل الإيمان بالرسل لا شك أنا نجوز أن يكون نزول ذلك الكتاب من السماء من قبل بعض الجن والشياطين أو من قبل بعض الملائكة الذين لم تثبت عصمتهم وإذا كان هذا التجويز قائماً فقد خرج نزول الكتاب من السماء عن كونه دليلاً على الصدق
قلنا ليس المقصود ما ذكرتم بل المقصود أنهم إذا رأوه بقوا شاكين فيه وقالوا إنما سكرت أبصارنا فإذا لمسوه بأيديهم فقد يقوى الادراك البصري بالادراك اللمسي وبلغ الغاية في الظهور والقوة ثم هؤلاء يبقون شاكين في أن ذلك الذي رأوه ولمسوه هل هو موجود أم لا وذلك يدل على أنهم بلغوا في الجهالة إلى حد السفسطة فهذا هو المقصود من الآية لا ما ذكرتم والله أعلم
المسألة الثانية قال القاضي دلت هذه الآية على أنه لا يجوز من الله تعالى أن يمنع العبد لطفاً علم أنه لو فعله لآمن عنده لأنه بيّن أنه إنما لا ينزل هذا الكتاب من حيث إنه لو أنزله لقالوا هذا القول ولا يجوز أن يخبر بذلك إلا والمعلوم أنهم لو قبلوه وآمنوا به لأنزله لا محالة فثبت بهذا وجوب اللطف ولقائل أن يقول أن قوله لو أنزل الله عليهم هذا الكتاب لقالوا هذا القول لا يدل على أنه تعلى ينزله عليهم لو لم يقولوا هذا القول إلا على سبيل دليل الخطاب وهو عنده ليس بحجة وأيضاً فليس كل مما فعله الله وجب عليه ذلك وهذه الآية إن دلّت فإنما تدل على الوقوع لا على وجوب الوقوع والله أعلم
وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِى َ الاٌّ مْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ
اعلم أن هذا النوع الثالث من شبه منكري النبوّات فإنهم يقولون لو بعث الله إلى الخلق رسولاً لوجب أن يكون ذلك الرسول واحداً من الملائكة فإنهم إذا كانوا من زمرة الملائكة كانت علومهم أكثر وقدرتهم أشد ومهابتهم أعظم وامتيازهم عن الخلق أكمل والشبهات والشكوك في نبوّتهم ورسالتهم أقل

والحكيم إذا أراد تحصيل مهم فكل شيء كان أشد إفضاءً إلى تحصيل ذلك المطلوب كان أولى فلما كان وقوع الشبهات في نبوّة الملائكة أقل وجب لو بعث الله رسولاً إلى الخلق أن يكون ذلك الرسول من الملائكة هذا هو المراد من قوله تعالى وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ
واعلم أنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة من وجهين أما الأول فقوله وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِى َ الاْمْرُ ومعنى القضاء الإتمام والإلزام وقد ذكرنا معاني القضاء في سورة البقرة ثم هاهنا وجوه الأول أن إنزال الملك على البشر آية باهرة فبتقدير إنزال الملك على هؤلاء اللكفار فربما لم يؤمنوا كما قال وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَئِكَة َ إلى قوله مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ ( الأنعام 111 ) وإذا لم يؤمنوا وجب إهلاكهم بعذاب الاستئصال فإن سنّة الله جارية بأن عند ظهور الآية الباهرة إن لم يؤمنوا جاءهم عذاب الاستئصال فهاهنا ما أنزل الله تعالى الملك إليهم لئلا يستحقوا هذا العذاب والوجه الثاني أنهم إذا شاهدوا الملك رهقت أرواحهم من هول ما يشهدون وتقريره أن الآدمي إذا رأى الملك فإما أن يراه على صورته الأصلية أو على صورة البشر فإن كان الأول لم يبقَ الآدمي حياً ألا ترى أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لما رأى جبريل عليه السلام على صورته الأصلية غشي عليه وإن كان الثاني فحينئذ يكون المرئي شخصاً على صورة البشر وذلك لا يتفاوت الحال فيه سواء كان هو في نفسه ملكاً أو بشراً ألا ترى أن جميع الرسل عاينوا الملائكة في صورة البشر كأضياف إبراهيم وأضياف لوط وكالذين تسوروا المحراب وكجبريل حيث تمثل لمريم بشراً سوياً والوجه الثالث أن إنزال الملك آية باهرة جارية مجرى الالجاء وإزالة الاختيار وذلك مخل بصحة التكليف الوجه الرابع أن إنزال الملك وإن كان يدفع الشبهات المذكورة إلا أنه يقوي الشبهات من وجه آخر وذلك لأن أي معجزة ظهرت عليه قالوا هذا فعلك فعلته باختيارك وقدرتك ولو حصل لنا مثل ما حصل لك من القدرة والقوة والعلم لفعلنا مثل ما فعلته أنت فعلمنا أن إنزال الملك وإن كان يدفع الشبهة من الوجوه المذكورة لكنه يقوي الشبهة من هذه الوجوه
وأما قوله ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ فالفائدة في كلمة ثُمَّ التنبيه على أن عدم الانظار أشد من قضاء الأمر لأن مفاجأة الشدة أشد من نفس الشدة وأما الثاني فقوله وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً أي لجعلناه في صورة البشر والحكمة فيه أمور أحدها أن الجنس إلى الجنس أميل وثانيها أن البشر لا يطيق رؤية الملك وثالثها ان طاعات الملائكة قوية فيستحقرون طاعة البشر وربما لا يعذرونهم في الاقدام على المعاصي ورابعها أن النبوّة فضل من الله فيختص بها من يشاء من عباده سواء كان ملكاً أو بشراً
ثم قال وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ قال الواحدي يقال لبست الأمر على القوم ألبسه لبساً إذا شبهته عليهم وجعلته مشكلاً وأصله من التستر بالثوب ومنه لبس الثوب لأنه يفيد ستر النفس والمعنى أنا إذا جعلنا الملك في صورة البشر فهم يظنون كون ذلك الملك بشراً فيعود سؤالهم أنا لا نرضى برسالة هذا الشخص وتحقيق الكلام أن الله لو فعل ذلك لصار فعل الله نظيراً لفعلهم في التلبيس وإنما كان ذلك تلبيساً لأن الناس يظنون أنه بشر مع أنه ليس كذلك وإنما كان فعلهم تلبيساً لأنهم يقولون للقومهم إنه بشر مثلكم والبشر لا يكون رسولاً من عند الله تعالى

وَلَقَدِ اسْتُهْزِى ءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ
اعلم أن بعض الأقوام الذين كانوا يقولون إن رسول الله يجب أن يكون ملكاً من الملائكة كانوا يقولون هذا الكلام على سبيل الاستهزاء وكان يضيق قلب الرسول عند سماعه فذكر ذلك ليصير سبباً للتخفيف عن القلب لأن أحداً ما يخفف عن القلب المشاركة في سبب المحنة والغم فكأنه قيل له إن هذه الأنواع الكثيرة من سوء الأدب التي يعاملونك بها قد كانت موجودة في سائر القرون مع أنبيائهم فلست أنت فريداً في هذا الطريق وقوله فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ الآية ونظيره قوله وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيّىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ ( فاطر 43 ) وفي تفسيره وجوه كثيرة لأهل اللغة وهي بأسرها متقاربة قال النضر وجب عليهم قال الليث ( الحيق ) ما حاق بالإنسان من مكر أو سوء يعمله فنزل ذلك به يقول أحاق الله بهم مكرهم وحاق بهم مكرهم وقال الفرّاء ( حاق بهم ) عالد عليهم وقيل ( حاق بهم ) حل بهم ذلك وقال الزجاج ( حاق ) أي أحاط قال الأزهري فسّر الزجاج ( حاق ) بمعنى أحاط وكان مأخذخ من الحوق وهو ما استدار بالكمرة وفي الآية بحث آخر وهو أن لفظة ( ما ) في قوله مَّا كَانُوا بِهِ فيها قولان الأول أن المراد به القرآن والشرع وهو ما جاء به محمد عليه السلام وعلى هذا التقدير فتصير هذه الآية من باب حذف المضاف والتقدير فحاق بهم عقاب ما كانوا به يستهزؤن
والقول الثاني أن المراد به أنهم كانوا يستهزؤن بالعذاب الذي كان يخوفهم الرسول بنزوله وعلى هذا التقدير فلا حاجة إلى هذا الإضمار
قُلْ سِيرُواْ فِى الأرض ثُمَّ انْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الْمُكَذِّبِينَ
اعلم أنه تعالى كما صبر رسوله بالآية الأولى فكذلك حذر القوم بهذه الآية وقال لرسوله قل لهم لا تغتروا بما وجدتم من الدنيا وطيباتها ووصلتم إليه من لذاتها وشهواتها بل سيروا في الأرض لتعرفوا صحة ما أخبركم الرسول عنه من نزول العذاب على الذين كذبوا الرسل في الأزمنة السالفة فإنكم عند السير في الأرض والسفر في البلاد لا بدّ وأن تشاهدوا تلك الآثار فيكمل الاعتبار ويقوى الاستبصار
فإن قيل ما الفرق بين قوله الاْرْضِ فَانظُرُواْ ( آل عمران 137 ) وبين قوله ثُمَّ انْظُرُواْ
قلنا قوله فَانظُرُواْ يدل على أنه تعالى جعل النظر سبباً عن السير فكأنه قيل سيروا لأجل النظر ولا تسيروا سير الغافلين

وأما قوله سِيرُواْ فِى الاْرْضِ ثُمَّ انْظُرُواْ فمعناه إباحة السير في الأرض للتجارة وغيرها من المنافع وإيجاب النظر في آثار الهالكين ثم نبّه الله تعالى على هذا الفرق بكلمة ثُمَّ لتباعد ما بين الواجب والمباح والله أعلم
قُل لِّمَن مَّا فِى السَّمَاوَاتِ والأرض قُل للَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة َ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ لاَ رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن المقصود من تقرير هذه الآية تقرير إثبات الصانع وتقرير المعاد وتقرير النبوّة وبيانه أن أحوال العالم العلوي والسفلي يدل على أن جميع هذه الأجسام موصوفة بصفات كان يجوز عليها اتصافها بأضدادها ومقابلاتها ومتى كان كذلك فاختصاص كل جزء من الأجزاء الجسمانية بصفته المعينة لا بدّ وأن يكون لأجل أن الصانع الحكيم القادر المختار خصّه بتلك الصفة المعينة فهذا يدل على أن العالم مع كل ما فيه مملوك لله تعالى
وإذا ثبت هذا ثبت كونه قادراً على الاعادة والحشر والنشر لأن التركيب الأول إنما حصل لكونه تعالى قادراً على كل الممكنات عالماً بكل المعلومات وهذه القدرة والعلم يمتنع زوالهما فوجب صحة الاعادة ثانياً وأيضاً ثبت أنه تعالى ملك مطاع والملك المطاع من له الأمر والنهي على عبيده ولا بد من مبلغ وذلك يدل على أن بعثة الأنبياء والرسل من الله تعالى إلى الخلق غير ممتنع فثبت أن هذه الآية وافية بإثبات هذه المطالب الثلاثة ولما سبق ذكر هذه المسائل الثلاثة ذكر الله بعدها هذه الآية لتكون مقررة لمجموع تلك المطالب من الوجه الذي شرحناه والله أعلم
المسألة الثانية قوله تعالى قُل لّمَن مَّا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ سؤال وقوله قُل لِلَّهِ جواب فقد أمره الله تعالى بالسؤال أولاً ثم بالجواب ثانياً وهذا إنما يحسن في الموضع الذي يكون الجواب قد بلغ في الظهور إلى حيث لا يقدر على إنكاره منكر ولا يقدر على دفعه دافع ولما بينا أن آثار الحدوث والإمكان ظاهرة في ذوات جميع الأجسام وفي جميع صفاتها لا جرم كان الاعتراف بأنها بأسرها ملك لله تعالى وملك له ومحل تصرفه وقدرته لا جرم أمره بالسؤال أولاً ثم بالجواب ثانياً ليدل ذلك على أن الاقرار بهذا المعنى مما لا سبيل إلى دفعه البتة وأيضاً فالقوم كانوا معترفين بأن كل العالم ملك لله وملكه وتحت تصرفه وقهره وقدرته بهذا المعنى كما قال وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ( لقمان 25 ) ثم إنه

تعالى لما بيّن بهذا الطريق كممال إلاهيته وقدرته ونفاذ تصرفه في عالم المخلوقات بالكلية أردفه بكمال رحمته وإحسانه إلى الخلق فقال كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة َ فكأنه تعالى قال إنه لم يرض من نفسه بأن لا ينعم ولا بأن يعد بالإنعام بل أبداً ينعم وأبداً يعد في المستقبل بالإنعام ومع ذلك فقد كتب على نفسه ذلك وأوجبه إيجاب الفضل والكرم واختلفوا في المراد بهذه الرحمة فقال بعضهم تلك الرحمة هي أنه تعالى يمهلهم مدة عمرهم ويرفع عنهم عذاب الاستئصال ولا يعالجلهم بالعقوبة في الدنيا وقيل إن المراد أنه كتب على نفسه الرحمة لمن ترك التكذيب بالرسل وتاب وأناب وصدقهم وقبل شريعتهم
واعلم أنه جاءت الأخبار الكثيرة في سعة رحمة الله تعالى عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( لما فرغ الله من الخلق كتب كتاباً أن رحمتي سبقت غضبي )
فإن قيل الرحمة هي إرادة الخير والغضب هو إرادة الانتقام وظاهر هذا الخبر يقتضي كون إحدى الإرادتين سابقة على الأخرى والمسبوق بالغير محدث فهذا يقتضي كون إرادة الله تعالى محدثة
قلنا المراد بهذا السبق سبق الكثرة لا سبق الزمان وعن سلمان أنه تعالى لما خلق السماء والأرض خلق مائة رحمة كل رحمة ملء ما بين السماء والأرض فعنده تسع وتسعون رحمة وقسم رحمة واحدة بين الخلائق فبها يتعاطفون ويتراحمون فإذا كان آخر الأمر قصرها على المتقين
أما قوله لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ ففيه أبحاث الأول ( اللام ) في قوله لَيَجْمَعَنَّكُمْ لام قسم مضمر والتقدير والله ليجمعنكم
البحث الثاني اختلفوا في أن هذا الكلام مبتدأ أو متعلق بما قبله فقال بعضهم أنه كلام مبتدأ وذلك لأنه تعالى بيّن كمال إلهيته بقوله قُل لّمَن مَّا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ قُل لِلَّهِ ثم بيّن تعالى أنه يرحمهم في الدنيا بالامهال ودفع عذاب الاستئصال وبيّن أنه يجمعهم إلى يوم القيامة فقوله كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة َ أنه يمهلهم وقوله لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ أنه لا يمهلهم بل يحشرهم ويحاسبهم على كل ما فعلوا
والقول الثاني أنع متعلق بما قبله والتقدير كتب ربكم على نفسه الرحمة وكتب ربكم على نفسه ليجمعنكم إلى يوم القيامة
وقيل أنه لما قال كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة َ فكأنه قيل وما تلك الرحمة فقيل إنه تعالى لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ وذلك لأنه لولا خوف العذاب يوم الققيامة لحصل الهرج والمرج ولارتفع الضبط وكثر الخبط فصار التهديد بيوم القيامة من أعظم أسباب الرحمة في الدنيا فكان قوله لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ كالتفسير لقوله كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة َ
البحث الثالث أن قوله قُل لّمَن مَّا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ قُل لِلَّهِ كلام ورد على لفظ الغيبة وقوله لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ كلام ورد على سبيل المخاطبة والمقصود منه التأكيد في التهديد كأنه قيل لما علمتم أن كل ما في السماوات والأرض لله وملكه وقد علمتم أن الملك الحكيم لا يهمل أمر رعيته ولا

يجوز في حكمته أن يسوي بين المطيع والعاصي وبين المشتغل بالخدمة والمعرض عنها فهلا علمتم أنه يقيم القيامة ويحضر الخلائق ويحاسبهم في الكل
البحث الرابع ان كلمة إِلَى في قوله إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ فيها أقوال الأول أنها صلة والتقدير ليجمعنكم يوم القيامة وقيل إِلَى بمعنى في أي ليجمعنكم في يوم القيامة
وقيل فيه حذف أي ليجمعنكم إلى المحشر في يوم القيامة لأن الجمع يكون إلى المكان لا إلى الزمان وقيل ليجمعنكم في الدنيا بخلقكم قرناً بعد قرن إلى يوم القيامة
أما قوله الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ففيه أبحاث الأول في هذه الآية قولان الأول أن قوله الَّذِينَ موضعه نصب على البدل من الضمير في قوله لَيَجْمَعَنَّكُمْ والمعنى ليجعن هؤلاء المشركين الذين خسروا أنفسهم وهو قول الأخفش والثاني وهو قول الزجاج أن قوله الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم رفع بالابتداء وقوله فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ خبره لأن قوله لَيَجْمَعَنَّكُمْ مشتمل على الكل على الذين خسروا أنفسهم وعلى غيرهم ( والفاء ) في قوله فَهُمُ يفيد معنى الشرط والجزاء كقولهم الذي يكرمني فله درهم لأن الدرهم وجب بالاكرام فكان الاكرام شرطاً والدرهم جزاء
فإن قيل ظاهر اللفظ يدل على أن خسرانهم سبب لعدم إيمانهم والأمر على العكس
قلنا هذا يدل على أن سبق القضاء بالخسران والخذلان هو الذي حملهم على الامتناع من الايمان وذلك عين مذهب أهل السنّة
وَلَهُ مَا سَكَنَ فِى الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ والأرض وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّى أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ قُلْ إِنِّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن أحسن ما قيل في نظم هذه الآية ما ذكره أبو مسلم رحمه الله تعالى فقال ذكر في الآية الأولى السموات والأرض إذ لا مكان سواهما وفي هذه الآية ذكر الليل والنهار إذ لا زمان سواهما فالزمان والمكان ظرفان للمحدثات فأخبر سبحانه أنه مالك للمكان والمكانيات ومالك للزمان والزمانيات وهذا بيان في غاية الجلالة

وأقول ههنا دقيقة أخرى وهو أن الابتداء وقع بذكر المكان والمكانيات ثم ذكر عقيبه الزمان والزمانيات وذلك لأن المكان والمكانيات أقرب إلى العقول والأفكار من الزمان والزمانيات لدقائق مذكورة في العقليات الصرفة والتعليم الكامل هو الذي يبدأ فيه فالأظهر مترقيا إلى الأخفى فالأخفى فهذا ما يتعلق بوجه النظم
المسألة الثانية قوله وله ما سكن في الليل والنهار يفيد الحصر والتقدير هذه الأشياء له لا لغيره وهذا هو الحق لأن كل موجود إما واجب لذاته وإما ممكن لذاته فالواجب لذاته ليس إلا الواحد وما سوى ذلك الواحد ممكن والممكن لا يوجد إلا بإيجاد الواجب لذاته وكل ما حصل بإيجاده وتكوينه كان ملكا له فثبت أن ما سوى ذلك الموجود الواجب لذاته فهو ملكه ومالكه فلهذا السبب قال وله ما سكن في الليل والنهار
المسألة الثالثة في تفسير هذا السكون قولان الأول أن المراد منه الشيء الذي سكن بعد أن تحرك فعلى هذا المراد كل ما استقر في الليل والنهار من الدواب وجملة الحيوانات في البر والبحر وعلى هذا التقدير قالوا في الآية محذوف والتقدير وله ما سكن وتحرك في الليل والنهار كقوله تعالى سرابيل تقيكم الحر النحل 81 أراد الحر والبرد فاكتفى بذكر أحدهما عن الآخر لأنه يعرف ذلك بالقرينة المذكورة كذلك هنا حذف ذكر الحركة لأن ذكر السكون يدل عليه
والقول الثاني أنه ليس المراد من هذا السكون ما هو ضد الحركة بل المراد منه السكون بمعنى الحلول كما يقال فلان يسكن بلد كذا إذا كان محله فيه ومنه قوله تعالى وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم إبراهيم 45 وعلى هذا التقدير كان المراد وله كل ما حصل في الليل والنهار والتقدير كل ما في الوقت والزمان سواء كان متحركا أو ساكنا وهذا التفسير أولى وأكمل والسبب فيه أن كل ما دخل تحت الليل والنهار حصل في الزمان فقد صدق عليه أن انقضى الماضي وسيجيء المستقبل وذلك مشعر بالتغير وهو الحدوث والحدوث ينافي الأزلية والدوام فكل ما مر به الوقت ودخل تحت الزمان فهو محدث وكل حادث فلا بد له من محدث وفاعل ذلك الفعل يجب أن يكون متقدما عليه والمتقدم على الزمان يجب أن يكون مقدما على الوقت والزمان فلا تجري عليه الأوقات ولا تمر به الساعات ولا يصدق عليه أن كان وسيكون
واعلم أنه تعالى لما بين فيما سبق أنه مالك للمكان وجملة المكانيات ومالك للزمان وجملة الزمانيات بين أنه سميع عليم يسمع نداء المحتاجين ويعلم حاجات المضطرين والمقصود منه الرد على من يقول الإله تعالى موجب بالذات فنبه على أنه وإن كان مالكا لكل المحدثات لكنه فاعل مختار يسمع ويرى ويعلم السر وأخفى ولما قرر هذه المعاني قال قل أغير الله أتخذ وليا
واعلم انه فرق بين أن يقال أغير الله أتخذ وليا وبين أن يقال أتخذ غير الله وليا لأن الانكار إنما حصل على اتخاذ غير الله وليا لا على اتخاذ الولي وقد عرفت أنهم يقدمون الأهم فالأهم الذي هم بشأنه أعني فكان قوله قل أغير الله أتخذ وليا أولى من العبارة الثانية ونظيره قوله تعالى أفغير الله تأمروني أعبد الزمر 64 وقوله تعالى الله أذن لكم يونس 59

ثم قال فاطر السموات والأرض وقرئ فاطر السموات بالجر صفة لله وبالرفع على إضمار هو والنصب على المدح وقرأ الزهري فطر السموات وعن ابن عباي ما عرفت فاطر السموات حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما أنا فطرتها أي ابتدأتها وقال ابن الأنباري أصل الفطر شق الشيء عند ابتدائه فقوله فاطر السموات والأرض يريد خالقهما ومنشئهما بالتركيب الذي سبيله أن يحصل فيه الشق والتأليف عند ضم الأشياء إلى بعض فلما كان الشق جاز أن يكون في حال شق إصلاح وفي حال أخرى شق إفساد ففاطر السموات من الاصلاح لا غير وقوله هل ترى من فطور الملك 3 و إذا السماء انفطرت الانفطار 1 من الإفساد وأصلهما واحد
ثم قال تعالى وهو يطعم ولا يطعم أي وهو الرزاق لغيره ولا يرزقه أحد
فإن قيل كيف فسرت الاطعام بالرزق وقد قال تعالى ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون الذاريات 57 والعطف يوجب المغايرة
قلنا لا شك في حصول المغايرة بينهما إلا أنه قد يحسن جعل أحدهما كناية عن الآخر لشدة ما بينهما من المقاربة ~ والمقصود من الآية أن المنافع كلها من عنده ولا يجوز عليه الانتفاع وقرئ ولا يطعم بفتح الياء وروى ابن المأمون عن يعقوب وهو يطعم ولا يطعم على بناء الأول للمفعول والثاني للفاعل وعلى هذا التقدير فالضمير عائد إلى المذكور في قوله أغير الله وقرأ الأشهب وهو يطعم ولا يطعم على بنائهما للفاعل وفسر بأن معناه وهو يطعم ولا يستطعم وحكى الأزهري أطعمت بمعنى استطعمت ويجوز أن يكون المعنى وهو يطعم تارة ولا يطعم أخرى على حسب المصالح كقوله وهو يعطي ويمنع ويبسط ويقدر ويغني ويفقر
واعلم أن المذكور في صدر الآية هو المنع من اتخاذ غير الله تعالى وليا واحتج عليه بأنه فاطر السموات والأرض وبأنه يطعم ولا يطعم ومتى كان الأمر كذلك امتنع اتخاذ غيره وليا أما بيان أنه فاطر السموات والأرض فلأنا بينا أن ما سوى الواحد ممكن لذاته والممكن لذاته لا يقع موجودا إلا بإيجاد غيره فنتج أن ما سوى الله فهو حاصل بإيجاده وتكوينه فثبت أنه سبحانه هو الفاطر لكل ما سواه من الموجودات وأما بيان أنه يطعم ولا يطعم فظاهره لأن الاطعام عبارة عن إيصال المنافع وعدم الاستطعام عبارة عن عدم الانتفاع ولما كان واجبا لذاته كان لا محالة غنيا ومتعاليا عن الانتفاع بشيء آخر فثبت بالبرهان صحة أنه تعالى فاطر السموات والأرض وصحة أن يطعم ولا يطعم وإذا ثبت هذا امتنع في العقل اتخاذ غيره وليا لأن ما سواه محتاج في ذاته وفي جميع صفاته وفي جميع ما تحت يده والحق سبحانه هو الغني لذاته الجواد لذاته وترك الغني الجواد والذهاب إلى الفقير المحتاج ممنوع عنه في صريح العقل
وإذا عرفت هذا فنقول قد سبق في هذا الكتاب بيان أن الولي معناه الأصلي في اللغة هو القريب وقد ذكرنا وجوه الاشتقاقات فيه فقوله قل أغير الله أتخذ وليا يمنع من القرب من غير الله تعالى فهذا يقتضي تنزيه القلب عن الالتفات إلى غير الله تعالى وقطع العلائق عن كل ما سوى الله تعالى
ثم قال تعالى قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم والسبب أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سابق أمته في الإسلام

لقوله وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين الأنعام 163 ولقول موسى سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين الأعراف 143
ثم قال ولا تكونن من المشركين ومعناه أمرت بالإسلام ونهيت عن الشرك ثم إنه تعالى لما بين كون رسوله مأمورا بالإسلام ثم عقبه بكونه منهيا عن الشرك قال بعده إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم والمقصود أني إن خالفته في هذا الأمر والنهي صرت مستحقا للعذاب العظيم
فإن قيل قوله قل إني أخاف غن عصيت ربي عذاب يوم عظيم يدل على أنه عليه السلام كان يخاف على نفسه من الكفر والعصيان ولولا أن ذلك جائز عليه لما كان خائفا
والجواب أن الآية لا تدل على أنه خاف على نفسه بل الآية تدل على أنه لو صدر عنه الكفر والمعصية فإنه يخاف وهذا القدر لا يدل على حصول الخوف ومثاله قولنا إن كانت الخمسة زوجا كانت منقسمة بمتساويين وهذا يدل على أن الخمسة زوج ولا على كونها منقسمة بمتساويين والله أعلم
وقوله تعالى إني أخاف قرأ ابن كثير ونافع إني بفتح الياء وقرأ أبو عمرو والباقون بالإرسال
مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه قرأ أبو بكر عن عاصم وحمزة والكسائي يُصْرَفْ بفتح الياء وكسر الراء وفاعل الصرف على هذه القراءة والضمير العائد إلى ربي من قوله إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى ( الأنعام 15 ) والتقدير من يصرف هو عنه يومئذ العذاب وحجة هذه القراءة قوله فَقَدْ رَحِمَهُ فلما كان هذا فعلاً مسنداً إلى ضمير اسم الله تعالى وجب أن يكون الأمر في تلك اللفظة الأخرى على هذا الوجه ليتفق الفعلان وعلى هذا التقدير صرف العذاب مسنداً إلى الله تعالى وتكون الرحمة بعد ذلك مسندة إلى الله تعالى وأما الباقون فإنهم قرؤا مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ على فعل ما لم يسم فاعله والتقدير من يصرف عنه عذاب يومئذ وإنما حسن ذلك لأنه تعالى أضاف الغذاب إلى اليوم في قوله عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( الإنعام 15 ) فلذلك أضاف الصرف إليه والتقدير من يصرف عنه عذاب ذلك اليوم
المسألة الثانية ظاهر الآية يقتضي كون ذلك اليوم مصروفاً وذلك محال بل المراد عذاب ذلك اليوم وحسن هذا الحذف لكونه معلوماً
المسألة الثالثة دلّت الآية على أن الطاعة لا توجب الثواب والمعصية لا توجب العقاب لأنه تعالى قال مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ أي كل من صرف الله عنه العذاب في ذلك اليوم فقد رحمه وهذا إنما يحسن لو كان ذلك الصرف واقعاً على سبيل التفضل أما لو كان واجباً مستحقاً لم يحسن أن يقال فيه إنه رحمه ألا ترى أن الذي يقبح منه أن يضرب العبد فإذا لم يضربه لا يقال إنه رحمه أما إذا حسن منه أن

يضربه ولم يضربه فإنه يقال إنه رحمه فهذه الآية تدل على أن كل عقاب انصرف وكل ثواب حصل فهو ابتداء فضل وإحسان من الله تعالى وهو موافق لما يروى أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ) والذي نفسي بيده ما من الناس أحد يدخل الجنة بعمله قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته ) ووضع يده فوق رأسه وطول بها صوته
المسألة الرابعة قال القاضي الآية تدل على أن من لم يعاقب في الآخرة ممن يصرف عنه العقاب فلا بد من أن يثاب وذلك يبطل قول من يقول إن فيمن يصرف عنه العقاب من المكلفين من لا يثاب لكنه يتفضل عليه
فإن قيل أليس من لم يعاقبه الله تعالى ويتفضل عليه فقد حصل له الفوز المبين وذلك يبطل دلالة الآية على قولكم
قلنا هذا الذي ذكرتموه مدفوع من وجوه الأول أن التفضل يكون كالابتداء من قبل الله تعالى وليس يكون ذلك مطلوباً من الفعل والفوز هو الظفر بالمطلوب فلا بدّ وأن يفيد أمراً مطلوباً والثاني أن الفوز المبين لا يجوز حمله على التفضل بل يجب حمله على ما يقتضي مبالغة في عظم النعمة وذلك لا يكون إلا ثواباً والثالث أن الآية معطوفة على قوله إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( الأنعام 15 ) والمقابل للعذاب هو الثواب فيجب حمل هذه الرحمة على الثواب
واعلم أن هذا الاستدلال ضعيف جداً وضعفه ظاهر فلا حاجة فيه إلى الاستقصاء والله أعلم
وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدُيرٌ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن هذا دليل آخر في بيان أنه لا يجوز للعاقل أن يتخذ غير الله ولياً وتقريره أن الضر اسم للألم والحزن والخوف وما يفضي إليها أو إلى أحدها والنفع اسم للذة والسرور وما يفضي إليهما أو إلى أحدهما والخير اسم للقدر المشترك بين دفع الضر وبين حصول النفع فإذا كان الأمر كذلك فقد ثبت الحصر في أن الإنسان إما أن يكون في الضر أو في الخير لأن زوال الضر خير سواء حصل فيه اللذة أو لم تحصل وإذا ثبت هذا الحصر فقد بيّن الله تعالى أن المضار قليلها وكثيرها لا يندفع إلا بالله والخيرات لا يحصل قليلها وكثيرها إلا بالله والدليل على أن الأمر كذلك أن الموجود إما واجب لذاته وإما ممكن لذاته أما الواجب لذاته فواحد فيكون كل ما سواه ممكناً لذاته والممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد الواجب

لذاته وكل ما سوى الحق فهو إنما حصل بإيجاد الحق وتكوينه فثبت أن اندفاع جميع المضار لا يحصل إلا به وحصول جميع الخيرات والمنافع لا يكون إلا به فثبت بهذا البرهان العقلي البين صحة ما دلّت الآية عليه
فإن قيل قد نرى أن الإنسان بدفع المضار عن نفسه بماله وبأعوانه وأنصاره وقد يحصل الخير له بكسب نفسه وبإعانة غيره وذلك يقدح في عموم الآية وأيضاً فرأس المضار هو الكفر فوجب أن يقال إنه لم يندفع إلا بإعانة الله تعالى ورأس الخيرات هو الإيمان فوجب أن يقال أنه لم يحصل إلا بإيجاد الله تعالى ولو كان الأمر كذلك لوجب أن لا يستحق الإنسان بفعل الكفر عقاباً ولا يفعل الإيمان ثواباً وأيضاً فإنا نرى أن الإنسان ينتفع بأكل الدواء ويتضرر بتناول السموم وكل ذلك يقدح في ظاهر الآية
والجواب عن الأول أن كل فعل يصدر عن الإنسان فإنما يصدر عنه إذا دعاه الداعي إليه لأن الفعل بدون الداعي محال وحصول تلك الداعية ليس إلا من الله تعالى وعلى هذا التقدير فيكون الكل من الله تعالى وهكذا القول في كل ما ذكرتموه من السؤالات
المسألة الثانية أنه تعالى ذكر إمساس الضر وإمساس الخير إلا أنه ميّز الأول عن الثاني بوجيهين الأول أنه تعالى قدم ذكر إمساس الضر على ذكر إمساس الخير وذلك تنبيه على أن جميع المضار لا بدّ وأن يحصل عقبيها الخير والسلامة والثاني أنه قال في إمساس الضر فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وذكر في إمساس الخير فَهُوَ عَلَى كُلّ شَى ْء قَدُيرٌ فذكر في الخير كونه قادراً على جميع الأشياء وذلك يدل على أن إرادة الله تعالى لايصال الخيرات غالبة على إرادته لايصال المضار وهذه الشبهات بأسرها دالة على أن إرادة الله تعالى جانب الرحمة غالب كما قال ( سبقت رحمتي غضبي )
وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ
فيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن صفات الكماب محصورة في القدرة والعلم فإن قالوا كيف أهملتم وجوب الوجود
قلنا ذلك عين الذات لا صفة قائمة بالذات لأن الصفة القائمة بالذات مفتقرة إلى الذات والمفتقر إلى الذات مفتقر إلى الغير فيكون ممكناً لذاته واجباً بغيره فيلزم حصول وجوب قبل الوجوب وذلك محال فثبت أنه عين الذات وثبت أن الصفات التي هي الكمالات حقيقتها هي القدرة والعلم فقوله وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ إشارة إلى كمال القدرة وقوله وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ إشارة إلى كمال العلم وقوله وَهُوَ الْقَاهِرُ يفيد الحصر ومعناه أنه لا موصوف بكمال القدرة وكمال العلم إلا الحق سبحانه وعند هذا يظهر أنه لا كامل إلا هو وكل من سواه فهو ناقص
إذا عرفت هذا فنقول أما دلالة كونه قاهراً على القدرة فلأنا بينا أن ما عدا الحق سبحانه ممكن بالوجود لذاته والممكن لذاته لا يترجح وجوده على عدمه ولا عدمه على وجوده إلا بترجيحه وتكوينه وإيجاده وإبداعه فيكون في الحقيقة هو الذي قهر الممكنات تارة في طرف ترجيح الوجود على العدم وتارة في طرف ترجيح العدم على الوجود ويدخل في هذا الباب كونه قاهراً لهم بالموت والفقر والاذلال ويدخل فيه

كل ما ذكره الله تعالى في قوله قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ ( آل عمران 26 ) إلى آخر الآية وأما كونه حكيماً فلا يمكن حمله ههنا على العلم لأن الخبير إشارة إلى العلم فيلزم التكرار أنه لا يجوز فوجب حمله على كونه محكماً في أفعاله بمعنى أن أفعاله تكون محكمة متقنة آمنة من وجوه الخلل والفساد والخبير هو العالم بالشيء المروي قال الواحدي وتأويله أنه العالم بما يصح أن يخبر به قال والخبر علمك بالشيء تقول لي به خبر أي علم وأصله من الخبر لأنه طريق من طرق العلم
المسألة الثانية المشبهة استدلوا بهذه الآية على أنه تعالى موجود في الجهة التي هي فوق العالم وهو مردود ويدل عليه وجوه الأول أنه لو كان موجوداً فوق العالم لكان إما أن يكون في الصغر بحيث لا يتميز جانب منه من جانب وإما أن يكون ذاهباً في الأقطار متمدداً في الجهات والأول يقتضي أن يكون في الصغر والحقارة كالجوهر الفرد فلو جاز ذلك فلم لا يجوز أن يكون إله العالم بعض الذرات المخلوطة بالهباآت الواقعة في كوة البيت وذلك لا يقوله عاقل وإن كان الثاني كان متبعضاً متجزئاً وذلك على الله محال والثاني أنه إما أن يكون غير متناه من كل الجهات وحينئذ يصح عليه الزيادة والنقصان وكل ما كان كذلك كان اختصاصه بمقداره المعين لتخصيص مخصص فيكون محدثاً أو يكون متناهياً من بعض الجوانب دون البعض فيكون الجانب الموصوف بكونه متناهياً غير الجانب الموصوف بكونه غير متناه وذلك يوجب القسمة والتجزئة والثالث إما أن يفسر المكان بالسطح الحاوي أو بالبعد والخلاء فإن كان الأول فنقول أجسام العالم متناهية فخارج العالم لا خلا ولا ملا ولا مكان ولا حيث ولا جهة فيمتنع حصول ذات الله تعالى فيه وإن كان الثاني فنقول الخلاء متساوي الأجزاء في حقيقته وإذا كان كذلك فلو صحّ حصول الله في جزء من أجزاء ذلك الخاء لصح حصوله في سائر الأجزاء ولو كان كذلك لكان حصوله فيه بتخصيص مخصص وكل ما كان واقعاً بالفاعل المختار فهو محدث فحصول ذاته في الجزء محدث وذاته لا تنفك عن ذلك الحصول وما لا ينفك عن المحدث فهو محدث فيلزم كون ذاته محدثة ومفتقر إلى الموجد ويكون موجده قبله فيكون ذات الله تعالى قد كانت موجودة قبل وجود الخلاء والجهة والحيث والحيز
وإذا ثبت هذا فبعد الحيز والجهة والخلاء وجب أن تبقى ذات الله تعالى كما كانت وإلا فقد وقع التغيير في ذات الله تعالى وذلك محال
وإذا ثبت هذا وجب القول بكونه منزهاً عن الأحياز والجهات في جميع الأوقات والخامس أنه ثبت أن العالم كرة
وإذا ثبت هذا فالذي يكون فوق رؤوس أهل الري يكون تحت أقدام قوم آخرين
وإذا ثبت هذا فإما أن يقال إنه تعالى فوق أقوام بأعيانهم أو يقال إنه تعالى فوق الكل والأول باطل لأن كونه فوقاً لبعضهم يوجب كونه تحتاً لآخرين وذلك باطل والثاني يوجب كونه تعالى محيطاً بكرة الفلك فيصير حاصل الأمر إلى أن إله العالم هو فلك محيط بجميع الأفلاك وذلك لا يقوله مسلم والسادس هو أن لفظ الفوقية في هذه الآية مسبوق بلفظ وملحوق بلفظ آخر أما أنها مسبوقة فلأنها مسبوقة بلفظ القاهر

والقاهر مشعر بكمال القدرة وتمام المكنة وأما أنها ملحوقة بلفظ فلأنها ملحوقة بقوله عِبَادِهِ وهذا اللفظ مشعر بالمملوكية والمقدورية فوجب حمل تلك الفوقية على فوقية القدرة لا على فوقية الجهة
فإن قيل ما ذكرتموه على الضد من قولكم إن قوله وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ دل على كمال القدرة فلو حملنا لفظ الفوق على فوقية القدرة لزم التكرار فوجب حمله على فوقية المكان والجهة
قلنا ليس الأمر كما ذكرتم لأنه قد تكون الذات موصوفة بكونها قاهرة للبعض دون البعض وقوله فَوْقَ عِبَادِهِ دل على أن ذلك القهر والقدرة عام في حق الكل والسابع وهو أنه تعالى لما ذكر هذه الآية رداً على من يتخذ غير الله ولياً والتقدير كأنه قال إنه تعالى فوق كل عباده ومتى كان الأمر كذلك امتنع اتخاذ غير الله ولياً وهذه النتيجة إنما يحسن ترتيبها على تلك الفوقيات كان المراد من تلك الفوقية الفوقية بالقدرة والقوة أما لو كان المراد منها الفوقية بالجهة فإن ذلك لا يفيد هذا المقصود لأنه لا يلزم من مجرد كونه حاصلاً في جهة فوق أن يكون التويل عليه في كل الأمور مفيداً وأن يكون الرجوع إليه في كل المطالب لازماً أما إذا حملنا ذلك على فوقية القدرة حسن ترتيب هذه النتيجة عليه فظهر بمجموع ما ذكرنا أن المراد ما ذكرناه لا ما ذكره أهل التشبيه والله أعلم
قُلْ أَى ُّ شَى ْءٍ أَكْبَرُ شَهَادة ً قُلِ اللَّهِ شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِى َ إِلَى َّ هَاذَا الْقُرْءَانُ لاٌّ نذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ ءَالِهَة ً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَاهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِى بَرِى ءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى أعلم أن الآية تدل على أن أكبر الشهادات وأعظمها شهادة الله تعالى ثم بيّن أن شهادة الله حاصلة إلا أن الآية لم تدل على أن تلك الشهادة حصلت في إثبات أي المطالب فنقول يمكن أن يكون المراد حصول شهادة الله في ثبوت نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ويمكن أن يكون المراد حصول هذه الشهادة في ثبوت وحدانية الله تعالى
أما الاحتمال الأول فقد روى ابن عباس أن رؤساء أهل مكة قالوا يا محمد ما وجد الله غيرك رسولاً وما نرى أحداً يصدقك وقد سألنا اليهود والنصارى عنك فزعموا أنه لا ذكر لك عندهم بالنبوة فأرنا من يشهد لك بالنبوة فأنزل الله تعالى هذه الآية وقال قل يا محمد أي شيء أكبر شهادة من الله حتى يعترفوا بالنبوة فإن أكبر الأشياء شهادة هو الله سبحانه وتعالى فإذا اعترفوا بذلك فقل إن الله شهيد لي بالنبوة لأنه أوحي إليّ هذا القرآن وهذا القرآن معجز لأنكم أنتم الفصحاء والبلغاء وقد عجزتم عن معارضته فإذا كان معجزاً كان إظهار الله إياه على وفق دعواي شهادة من الله على كوني صادقاً في دعواي والحاصل أنهم طلبوا شاهداً

مقبول القول يشهد على نبوته فبين تعالى أن أكبر الأشياء شهادة هو لله ثم بيّن أنه شهد له بالنبوة وهو المراد من قوله قُلْ أَى ُّ شَى ْء أَكْبَرُ شَهَادة ً قُلِ اللَّهِ شَهِيدٌ فهذا تقرير واضح
وأما الاحتمال الثاني وهو أن يكون المراد حصول هذه الشهادة في وحدانية الله تعالى
فاعلم أن هذا الكلام يجب أن يكون مسبوقاً بمقدمة وهي أنا نقول المطالب على أقسام ثلاثة منها ما يمتنع إثباته بالدلائل السمعية فإن كل ما يتوقف صحة السمع على صحته امتنع إثباته بالسمع وإلا لزم الدور ومنها ما يمتنع إثباته بالعقل وهو كل شيء يصح وجوده ويصح عدمه عقلاً فلا امتناع في أحد الطرفين أصلاً فالقطع على أحد الطرفين يعينه لا يمكن إلا بالدليل السمعي ومنها ما يمكن إثباته بالعقل والسمع معاً وهو كل أمر عقلي لا يتوقف على العلم به فلا جرم أمكن إثباته بالدلائل السمعية
إذا عرفت هذا فنقول قوله قُلِ اللَّهُ شَهِيدًا بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ في إثبات الوحدانية والبراءة عن الشركاء والاضداد والأنداد والأمثال والأشباه
ثم قال قُلْ أَى ُّ شَى ْء أَكْبَرُ شَهَادة ً قُلِ اللَّهِ شَهِيدٌ أي إن القول بالتوحيد هو الحق الواجب وأن القول بالشرك باطل مردود
المسألة الثانية نقل عن جهم أنه ينكر كونه تعالى شيئاً
واعلم أنه لا ينازع في كونه تعالى ذاتاً موجوداً وحقيقة إلا أنه ينكر تسميته اعالى بكونه شيئاً فيكون هذا خلافاً في مجرد العبارة واحتج الجمهور على تسمية الله تعالى بالشيء بهذه الآية وتقريره أنه قال أي الأشياء أكبر شهادة ثم ذكر في الجواب عن هذا السؤال قوله قُلِ اللَّهُ وهذا يوجب كونه تعالى شيئاً كما أنه لو قال أي الناس أصدق فلو قيل جبريل كان هذا الجواب خطأ لأن جبريل ليس من الناس فكذا ههنا
فإن قيل قوله قُلِ اللَّهِ شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ كلام تام مستقبل بنفسه لا تعلق له بما قبله لأن قوله اللَّهِ مبتدأ وقوله شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ خبره وهو جملة تامة مستقلة بنفسها لا تعلق لها بما قبلها
قلنا الجواب في وجهين الأول أن نقول قوله قُلْ أَى ُّ شَى ْء أَكْبَرُ شَهَادة ً لا شك أنه سؤال ولا بدّ له من جواب إما مذكور وإما محذوف
فإن قلنا الجواب محذوف فنقول هذا على خلاف الدليل وأيضاً فبتقدير أن يكون الجواب محذوفاً إلا أن ذلك المحذوف لا بدّ وأن يكون أمراً يدل المذكور عليه ويكون لائقاً بذلك الموضع
والجواب اللائق بقوله أَى ُّ شَى ْء أَكْبَرُ شَهَادة ً هو أن يقال هو الله ثم يقال بعده اللَّهِ شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ وعلى هذا التقدير فيصح الاستدلال بهذه الآية أيضاً على أنه تعالى يسمى باسم الشيء فهذا تمام تقرير هذا الدليل

وفي المسألة دليل رخر وهو قوله تعالى كُلُّ شَى ْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ( القصص 88 ) والمراد بوجهه ذاته فهذا يدل على أنه تعالى استثنى ذات نفسه من قوله كُلّ شَى ْء والمستثنى يجب أن يكون داخلاً تحت المستثنى منه فهذا يدل على أنه تعالى يسمى باسم الشيء واحتج جهم على فساد هذا الاسم بوجوه الأول قوله تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ْء ( الشورى 11 ) والمراد ليس مثل مثله شيء وذات كل شيء مثل مثل نفسه فهذا تصريح بأن الله تعالى لا يسمى باسم الشيء ولا يقال الكاف زائدة والتقدير ليس مثله شيء لأن جعل كلمة من كلمات القرآن عبثاً باطلاً لا يليق بأهل الدين المصير إليه إلا عند الضرورة الشديدة والثاني قوله تعالى دالله خالق كل شيء ( الرعد 16 ) ولو كان تعالى مسمى بالشيء لزم كونه خالقاً لنفسه وهو محال لا يقال هذا عام دخله التخصيص لأنا نقول إدخال التخصيص إنما يجوز في صورة نادرة شاذة لا يؤبه بها ولا يلتفت إليها فيجري وجودها مجرى عدمها فيطلق لفظ الكل على الأكثر تنبيهاً على أن البقية جارية مجرى العدم ومن المعلوم أن الباري تعالى لو كان مسمى باسم الشيء لكان هو تعالى أعظم الأشياء وأشرفها وإطلاق لفظ الكل مع أن يكون هذا القسم خارجاً عنه يكون محض كذب ولا يكون من باب التخصيص الثالث التمسك بقوله ( الرعد 16 ) ولو كان تعالى مسمى بالشيء لزم كونه خالقاً لنفسه وهو محال لا يقال هذا عام دخله التخصيص لأنا نقول إدخال التخصيص إنما يجوز في صورة نادرة شاذة لا يؤبه بها ولا يلتفت إليها فيجري وجودها مجرى عدمها فيطلق لفظ الكل على الأكثر تنبيهاً على أن البقية جارية مجرى العدم ومن المعلوم أن الباري تعالى لو كان مسمى باسم الشيء لكان هو تعالى أعظم الأشياء وأشرفها وإطلاق لفظ الكل مع أن يكون هذا القسم خارجاً عنه يكون محض كذب ولا يكون من باب التخصيص الثالث التمسك بقوله وَاللَّهُ الاسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ( الأعراف 180 ) والاسم إنما يحسن لحسن مسماه وهو أن يدل على صفة من صفات الكمال نعت من نعوت الجلال ولفظ الشيء أعم الأشياء فيكون مسماه حاصلاً في أحسن الأشياء وفي أرذلها ومتى كان كذلك لم يكن المسمى بهذا اللفظ صفة من صفات الكمال ولا نعتاً من نعوت الجلال فوجب أن لا يجوز دعوة الله تعالى بهذا الاسم لأن هذا الاسم لما لم يكن من الأسماء الحسنى والله تعالى أمر بأن يدعى الأسماء الحسنى وجب أن لا يجوز دعاء الله تعالى بهذا الاسم وكل من منع من دعاء الله بهذا الاسم قال إن هذا اللفظ ليس اسماً من أسماء الله تعالى ألبتة الرابع أن اسم الشيء يتناول المعدوم فوجب أن لا يجوز إطلاقه على الله تعالى بيان الأول قوله تعالى وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَى ْء إِنّى فَاعِلٌ ذالِكَ غَداً ( الكهف 23 ) سمى الشيء الذي سيفعله غداً باسم الشيء في الحال والذي سيفعله غداف يكون معدوماً في الحال فدل ذلك على أن اسم الشيء يقع على المعدوم
وإذا ثبت هذا فقولنا إنه شيء لا يفيد امتياز ذاته عن سائر الذوات بصفة معلومة ولا بخاصة متميزة ولا يفيد كونه موجوداً فيكون هذا لفظاً لا يفيد فائدة في حق الله تعالى ألبتة فكان عبثاً مطلقاً فوجب أو لا يجوز إطلاقه على الله تعالى
والجواب عن هذه الوجوه أن يقال لما تعارضت الدلائل
فنقول لفظ الشيء أعم الألفاظ ومتى صدق الخاص صدق العام فمتى صدق فيه كونه ذاتاً وحقيقة وجب أن يصدق عليه كونه شيئاً وذلك هو المطلوب والله أعلم
أما قوله قُلْ أَى ُّ شَى ْء أَكْبَرُ شَهَادة ً قُلِ اللَّهِ شَهِيدٌ فالمراد أنه تعالى أوحى إليّ هذا القرآن لأنذركم به وهو خطاب لأهل مكة وقوله دومن بلغ ذ عطف على المخاطبين من أهل مكة أي لأنذركم به وأنذر كل من بلغه القرآن من العرب والعجم وقيل من الثقلين وقيل من بلغه إلى يوم القيامة وعن سعيد بن جبير من بلغه القرآن فكأنما رأى محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) وعلى هذا التفسير فيحصل في الآية حذف والتقدير وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغه هذا القرآن إلا أن هذا العائد محذوف لدلالة الكلام عليه

كما يقال الذي رأيت زيد والذي ضربت عمرو وفي تفسير قوله وَمَن بَلَغَ قول آخر وهو أن يكون قوله وَمَن بَلَغَ أي ومن احتلم وبلغ حد التكليف وعند هذا لا يحتاج إلى إضمار العائد إلا أن الجمهور على القول الأول
أما قوله قُلْ أَى ُّ شَى ْء أَكْبَرُ شَهَادة ً قُلِ اللَّهِ شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِى َ إِلَى َّ هَاذَا الْقُرْءانُ لاِنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ فنقول فيه بحثان
البحث الأول قرأ ابن كثير ( أينكم ) بهمزة وكسرة بعدها خفيفة مشبهة ياء ساكنة بلا مدة وأبو عمرو وقالون عن نافع كذلك إلا أنه يمد والباقون بهمزتين بلا مد
والبحث الثاني أن هذا استفهام معناه الجحد والانكار قال لفراء ولم يقل آخر لأن الآلهة جمع والجمع يقع عليه التأنيث كما قال وَاللَّهُ الاْسْمَاء الْحُسْنَى ( الأعراف 180 ) وقال فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الاْولَى ( طه 51 ) ولم يقل الأول ولا الأولين وكل ذلك صواب
ثم قال تعالى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَاهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ
واعلم أن هذا الكلام دال على إيجاب التوحيد والبراءة عن الشرك من ثلاثة أوجه أولها قوله قُل لاَّ أَشْهَدُ أي لا أشهد بما تذكرونه من إثبات الشركاء وثانيها قوله قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَاهٌ واحِدٌ وكلمة إِنَّمَا تفيد الحصر ولفظ الواحد صريح في التوحيد ونفي الشركاء وثالثها قوله إِنَّنِى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ وفيه تصريح بالبراءة عن إثبات الشركاء فثبت دلالة هذه الآية على إجاب التوحيد بأعظم طرق البيان وأبلغ وجوه التأكيد قال العلماء المستحب لمن أسلم ابتداء أن يأتي بالشهادتين ويتبرأ من كل دين سوى دين الإسلام ونص الشافعي رحمه الله على استحباب ضم التبري إلى الشهادة لقوله وَإِنَّنِى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ عقيب التصريح بالتوحيد
الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
اعلم أنا روينا في الآية الأولى أن الكفار سألوا اليهود والنصارى عن صفة محمد عليه الصلاة والسلام فأنكروا دلالة التوراة والإنجيل على نبوته فبيّن الله تعالى في الآية الأولى أن شهادة الله على صحة نبوته كافية في ثبوتها وتحققها ثم بيّن في هذه الآية أنهم كذبوا في قولهم أنا لا نعرف محمداً عليه الصلاة والسلام لأنهم يعرفونه بالنبوّة والرسالة كما يعرفون أبناءهم لما روي أنه لما قدم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) المدينة قال عمر لعبد الله بن سلام أنزل الله على نبيه هذه الآية فكيف هذه المعرفة فقال يا عمر لقد عرفته فيكم حين رأيته كما أعرف ابني ولأنا أشد معرفة بمحمد مني يا بني لأني لا أدري ما صنع النساء وأشهد أنه حق من الله تعالى

وأعلم أن ظاهر هذه الآية يقتضي أن يكون علمهم بنبوة محمد عليه السلام مثل علمهم بأبنائهم وفيه سؤال وهو أن يقال المكتوب في التوراة والإنجيل مجرد أنه سيخرج نبي في آخر الزمان يدعو الخلق إلى الدين الحق أو المكتوب فيه هذا المعنى مع تعين الزمان والمكان والنسب والصفة والحلية والشكل فإن كان الأول فذلك القدر لا يدل على أن ذلك الشخص هو محمد عليه السلام فكيف يصح أن يقال علمهم بنوته مثل علمهم بنبوة أبنائهم وإن كان الثاني وجب أن كيون جميع اليهود والنصارى عالمين بالضرورة من التوراة والإنجيل بكون محمد عليه الصلاة والسلام نبياً من عند الله تعالى والكذب على الجمع العظيم لا يجوز لأنا نعلم بالضرورة أن التوراة والإنجيل حال ظهور الرسول عليه الصلاة والسلام أو يقال إنه ما بقيت هذه التفاصيل في التوراة والإنجيل في وقت ظهوره لأجل أن التحريف قد تطرق إليهما قبل ذلك والأول باطل لاْن إخفاء مثل هذه التفاصيل التامة في كتاب وصل إلى أهل الشرق والغرب ممتنع والثاني أيضاً باطل لأن على هذا التقدير لم يكن يهود ذلك الزمان ونصارى ذلك الزمان عالمين بنبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) علمهم بنبوة أبنائهم وحينئذٍ يسقط هذا الكلام
والجواب عن الأول أن يقال المراد ب الَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ اليهود والنصارى وهم كانوا أهلاً للنظر والاستدلال وكانوا قد شاهدوا ظهور المعجزات على الرسول عليه الصلاة والسلام فعرفوا بواسطة تلك المعجزات كونه رسولاً من عند الله والمقصود من تشبيه إحدى المعرفتين بالمعرفة الثانية هذا القدر الذي ذكرناه
أما قوله الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ففيه قولان الأول أن قوله دالذين صفة للذين الأولى فيكون عاملهما واحداً ويكون المقصود وعيد المعاندين الذين يعرفون ويجحدون والثاني أن قوله الذين خسروا أنفسهم ابتداء وقوله صفة للذين الأولى فيكون عاملهما واحداً ويكون المقصود وعيد المعاندين الذين يعرفون ويجحدون والثاني أن قوله الذين خسروا أنفسهم ابتداء وقوله فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ خبره وفي قوله الَّذِينَ خَسِرُواْ وجهان الأول أنهم خسروا أنفسهم بمعنى الهلاك الدائم الذي حصل لهم بسبب الكفر والثاني جاء في التفسير أنه ليس من كافر ولا مؤمن إلا وله منزلة في الجنة فمن كفر صارت منزلته إلى من أسلم فيكون قد خسر نفسه وأهله بأن ورث منزلة غيره
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِأايَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ
اعلم أنه تعالى لما حكم على أولئك المنكرين بالخسران في الآية الأولى بيّن في هذه الآية سبب ذلك الخسران وهو أمران أحدهما أن يفترى على الله كذباً وهذا الافتراء يحتمل وجوهاً الأول أن كفرا

مكة كانوا يقولون هذه الأصنام شركاء الله والله سبحانه وتعالى أمرهم بعبادتها والتقرب إليها وكانوا أيضاً يقولون الملائكة بنات الله ثم نسبوا إلى الله تحريم البحائر والسوائب وثانيها أن اليهود والنصارى كانوا يقولون حصل في التوراة والإنجيل أن هاتين الشريعتين لا يتطرق إليهما النسخ والتغيير وأنهما لا يجيء بعدهما نبي وثالثها ما ذكره الله تعالى في قوله وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَة ً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا ءابَاءنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ( الأعراف 28 ) ورابعها أن اليهود كانوا يقولون نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ( المائدة 18 ) وكانوا يقولون لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَة ً ( البقرة 80 ) وخامسها أن بعض الجهال منهم كان يقول إن الله فقير ونحن أغنياء وأمثال هذه الأباطيل التي كانوا ينسبونها ألى الله كثيرة وكلها افتراء منهم على الله
والنوع الثاني من أسباب خسرانهم تكذيبهم بآيات الله والمراد منه قدحهم في معجزات محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وطعنهم فيها وإنكارهم كون القرآن معجزة قاهرة بينة ثم إنه تعالى لما حكى عنهم هذين الأمرين قال إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ أي لا يظفرون بمطالبهم في الدنيا وفي الآخرة بل يبقون في الحرمان والخذلان
وأما قوله وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ففي ناصب قوله وَيَوْمَ أقوال الأول أنه محذوف وتقديره وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ كان كيت وكيت فترك ليبقى على الابهام الذي هو أدخل في التخويف والثاني التقدير اذكر يوم نحشرهم والثالث أنه معطوف على محذوف كأنه قيل لا يفلح الظالمون أبداً ويوم نحشرهم
وأما قوله ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَاؤُهُمْ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ فالمقصود منه التقريع والتبكيت لا السؤال ويحتمل أن يكون معناه أين نفس الشركاء ويحتمل أن يكون المراد أين شفاعتهم لكم وانتفاعكم بهم وعلى كلا الوجهين لا يكون الكلام إلا توبيخاً وتقريعاً في نفوسهم أن الذي كانوا يظنونه مأيوس عنه وصار ذلك تنبيهاً لهم في دار الدنيا على فساد هذه الطريقة والعائد على الموصول من قوله الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ محذوف والتقدير الذين كنتم تزعمون أنهم شفعاء فحذف مفعول الزعم لدلالة السؤال عليه قال ابن عباس وكل زعم في كتاب الله كذب
ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ
أعلم أن ههنا مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن عامر وحفص عن عاسم ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ بالتاء المنقطة من فوق وفتنتهم بالرفع وقرأ حمزة والكسائي ثُمَّ لَمْ يَكُنِ بالياء وفتنتهم بالنصب وأما القراءة بالتاء المنقطة من فوق ونصب الفتنة فههنا قوله أن قالوا في محل الرفع لسكونه اسم تكن وإنما أنث لتأنيث الخبر كقوله من كانت أمك

أو لأن ما قالوا فتنة في المعنى ويجوز تأويل إلا أن قالوا لا مقالتهم وأما القراءة بالياء المنقطة من تحت ونصب فتنتهم فههنا قوله أن قالوا في محل الرفع لكونه اسم يكن وفتنتهم هو الخبر قال الواحدي الاختيار قراءة من جعل أن قالوا الاسم دون الخبر لأن أن إذا وصلت بالفعل لم توصف فأشبهت بامتناع وصفها المضمر فكما أن المظهر والمضمر إذا اجتمعا كان جعل المضمر اسماً أولى من جعله خبراً فكذا ههنا تقول كنت القائم فجعلت المضمر اسماً والمظهر خبراً فكذا ههنا ونقول قراءة حمزة والكسائي والله ربنا بنصب قوله ربنا لوجيهن أحدهما بإضمار أعني وأذكر والثاني على النداء أي والله يا ربنا والباقون بكسر الباء على أنه صفة لله تعالى
المسألة الثانية قال الزجاج تأويل هذه الآية حسن في اللغة لا يعرفه إلا من عرف معاني الكلام وتصرف العرب في ذلك وذلك أن الله تعالى بيّن كون المشركين مفتونين بشركهم متهالكين على حبه فاعلم في هذه الآية أنه لم يكن افتتانهم بشركهم وإقامتهم عليه إلا أن تبرؤا منه وتباعدوا عنه فحلفوا أنهم ما كانوا مشركين ومثاله أن ترى إنساناً يحب عارياً مذموم الطريقة فإذا وقع في محنة بسببه تبرأ منه فيقال له ما كانت محبتك لفلان إلا أن انتفيت منه فالمراد بالفتنة ههنا افتتانهم بالأوثان ويتأكد هذا الوجه بما روى عطاء عن ابن عباس أنه قال ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ معناه شركهم في الدنيا وهذا القول راجع إلى حذف المضاف لأن المعنى ثم لم تكن عاقبة فتنتهم إلا البراءة ومثله قولك ما كانت محبتك لفلان إلا أن فررت منه وتركته
المسألة الثالثة ظاهر الآية يقتضي أنهم حلفوا في القيامة على أنهم ما كانوا مشركين وهذا يقتضي إقدامهم على الكذب يوم القيامة وللناس فيه قولان الأول وهو قول أبي علي الجبائي والقاضي أن أهل القيامة لا يجوز إقدامهم على الكذب واحتجا عليه بوجوه الأول أن أهل القيامة يرعفون الله تعالى بالاضطرار إذ لو عرفون بالاستدلال لصار موقف القيامة دار التكليف وذلك باطل وإذا كانوا عارفين بالله على سبيل الاضطرار وجب أن يكونوا ملجئين إلى أن لا يفعلوا القبيح بمعنى أنهم يعلمون أنهم لو راموا فعل القبيح لمنعهم الله منه لأن مع زوال التكليف لو لم يحصل هذا المعنى لكان ذلك إطلاقهم في فعل القبيح وأنه لا يجوز فثبت أن أهل القيامة يعلمون الله بالاضطرار وثبت أنه متى كان كذلك كانوا ملجئين إلى ترك القبيح وذلك يقتضي أنه لا يقدم أحد من أهل القيامة على فعل القبيح
فإن قيل لم لا يجوز أن يقال ءنه لا يجوز منهم فعل القبيح إذ كانوا عقلاء إلا أنا نقول لم لا يجوز أن يقال إنه وقع منهم هذا الكذب لأنهم لما عاينوا أهوال القيامة اضطربت عقولهم فقالوا هذا القول الكذب عند اختلال عقولهم أو يقال إنهم نسوا كونهم مشركين في الدنيا
والجواب عن الأول أنه تعالى لا يجوز أن يحشرهم ويورد عليهم التوبيخ بقوله أَيْنَ شُرَكَاؤُهُمْ ( الأنعام 22 ) ثم يحكي عنهم ما يجري مجرى الاعتذار مع أنهم غير عقلاء لأن هذا لا يليق بحكمة الله تعالى وأيضاً فالمكلفون لا بدّ وأن يكونوا عقلاء يوم القيامة ليعلموا أنهم بما يعاملهم الله به غير مظلومين
والجواب عن الثاني أن النسيان لما كانوا عليه في دار الدنيا مع كمال العقل بعيد لأن العاقل لا

يجوز أن ينسى مثل هذه الأحوال وءن بعد العهد وإنما يجوز أن ينسى اليسير من الأمور ولولا أن الأمر كذلك لجوزنا أن يكون العاقل قد مارس الولايات العظيمة دهراً طويلاً ومع ذلك فقد نسيه ومعلوم أن تجويزه يوجب السفسطة
الحجة الثانية أن القوم الذين أقدموا على ذلك الكذب إما أن يقال إنهم ما كانوا عقلاء أو كانوا عقلاء فإن قلنا إنهم ما كانوا عقلاء فهذا باطل لأنه لا يليق بحكمة الله تعالى أن يحكي كلام المجانين في معرض تمهيد العذر وإن قلنا إنهم كانوا عقلاء فهم يعلمون أن لله تعالى عالم بأحوالهم مطلع على أفعالهم ويعلمون أن تجويز الكذب على الله محال وأنهم لا يستفيدون بذلك الكذب إلا زيادة المقت والغضب وإذا كان الأمر كذلك امتنع إقدامهم في مثل هذه الحالة على الكذب
الحجة الثالثة أنهم لو كذبوا في موقف القيامة ثم حلفوا على ذلك الكذب لكانوا قد أقدموا على هذين النوعين من القبح والذنب وذلك يوجب العقاب فتصير الدار الآخرة دار التكليف وقد أجمعوا على أنه ليس الأمر كذلك وأما إن قيل إنهم لا يستحقون على ذلك الكذب وعلى ذلك الحلف الكاذب عقاباً وذماً فهذا يقتضي حصول الاذن من الله تعالى في ارتكاب القبائح والذنوب وأنه باطل فثبت بهذه الوجوه أنه لا يجوز إقدام أهل القيامة على القبيح والكذب
وإذا ثبت هذا فعند ذلك قالوا يحمل قوله وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ أي ما كنا مشركين في اعتقادنا وظنوننا وذلك لأن القوم كانوا يعتقدون في أنفسهم أنهم كانوا موحدين متباعدين من الشرك
فإن قيل فعلى هذا التقدير يكونون صادقين فيما أخبروا عنه لأنهم أخبروا بأنهم كانوا غير مشركين عد أنفسهم فلماذا قال الله تعالى انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ولنا أنه ليس تحت قوله انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أنهم كذبوا فيما تقدم ذكره من قوله وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ حتى يلزمنا هذا السؤال بل يجوز أن يكون المراد انظر كيف كذبوا على أنفسهم في دار الدنيا في أمور كانوا يخبرون عنها كقولهم إنهم على صواب وإن ما هم عليه ليس بشرك والكذب يصح عليهم في دار الدنيا وإنما ينفى ذلك عنهم في الآخرة والحاصل أن المقصود من قوله تعالى انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ اختلاف الحالين وأنهم في دار الدنيا كانوا يكذبون ولا يحترزون عنه وأنهم في الآخرة يحترزون عن الكذب ولكن حيث لا ينفعهم الصدق فلتعلق أحد الأمرين بالآخر أظهر الله تعالى للرسول ذلك وبين أن القوم لأجل شركهم كيف يكون حالهم في الآخرة عند الاعتذار مع أنهم كانوا في دار الدنيا يكذبون على أنفسهم ويزعمون أنهم على صواب هذا جملة كلام القاضي في تقرير القول الذي اختاره أبو علي الجبائي
والقول الثاني وهو قول جمهور المفسرين أن الكفار يكذبون في هذا القول قالوا والدليل على أن الكفار قد يكذبون في القيامة وجوه الأول أنه تعالى حكى عنهم أنهم يقولون رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ( المؤمنون 107 ) مع أنه تعالى أخبر عنهم بقوله وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ( الإنعام 28 ) والثاني قوله تعالى يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهِ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَى ْء أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ ( المجادلة 18 ) بعد قوله وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ ( المجادلة 14 ) فشبّه كذبهم في الآخرة بكذبهم في الدنيا والثالث قوله تعالى حكاية عنهم قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ( الكهف 19 ) وكل

ذلك يدل على إقدامهم في بعض الأوقات على الكذب والرابع قوله حكاية عنهم وَنَادَوْاْ يامَالِكُ مَالِكَ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ( الزخرف 77 ) وقد علموا أنه تعالى لا يقضي عليهم بالخلاص والخامس أنه تعالى في هذه الآية حكى عنهم أَنَّهُمْ قَالُواْ وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ وحمل هذا على أن المراد ما كنا مشركين في ظنوننا وعقائدنا مخالفة للظاهر ثم حمل قوله بعد ذلك انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ على أنهم كذبوا في الدنيا يوجب فك نظم الآية وصرف أول الآية إلى أحوال القيامة وصرف آخرها إلى أحوال الدنيا وهو في غاية البعد أما قوله إما أن يكونوا قد كذبوا حال كمال العقل أو حال نقصان العقل فنقول لا يبعد أي يقال إنهم حال ما عاينوا أهوال القيامة وشاهدوا موجبات الخوف الشديد اختلت عقولهم فذكروا هذا الكلام في ذلك الوقت وقوله كيف يليق بحكمة الله تعالى أن يحكى عنهم ما ذكروه في حال اضطراب العقول فهذا يوجب الخوف الشديد عند سماع هذا الكلام حال كونهم في الدنيا ولا مقصود من تنزيل هذه الآيات إلا ذلك وأما قوله ثانياً المكلفون لا بدّ أن يكونوا عقلاء يوم القيامة فنقول اختلال عقولهم ساعة واحدة حال ما يتكلمون بهذا الكلام لا يمنع من كمال عقولهم في سائر الأوقات فهذا تمام الكلام في هذه المسألة والله أعلم
أما قوله تعالى انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ فالمراد إنكارهم كونهم مشركين وقوله وَضَلَّ عَنْهُم عطف على قوله كَذَّبُواْ تقديره وكيف ضل عنهم ما كانوا يفترون بعبادته من الأصنام فلم تغن عنهم شيئاً وذلك أنهم كانوا يرجون شفاعتها ونصرتها لهم
وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّة ً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءَاذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ ءَايَة ٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّى إِذَا جَآءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَاذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الاٌّ وَّلِينَ
اعلم أنه تعالى لما بيّن أحوال الكفار في الآخرة أتبعه بما يوجب اليأس عن إيمان بعضهم فقال وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس حضر عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أبو سفيان والوليد بن المغيرة والنضر بن الحرث وعقبة وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وأُمية وأبي ابنا خلف والحرث بن عامر وأبو جهل واستمعوا إلى حديث الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا للنضر ما يقول محمد فقال لا أدري ما يقول لكني أراه يحرك شفتيه ويتكلم بأساطير الأولين كالذي كنت أحدثكم به عن أخبار القرون الأولى وقال أبو سفيان إني لا أرى بعض ما يقول حقاً فقال أبو جهل كلا فأنزل الله تعالى وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّة ً أَن يَفْقَهُوهُ والأكنة جمع كنان وهو ما وقى شيئاً وستره مثل عنان وأعنة والفعل منه كننت وأكننت وأما قوله أَن يَفْقَهُوهُ فقال الزجاج موضع ءانٍ نصب على أنه مفعول له والمعنى وجعلنا على قلوبهم أكنة لكراهة أن يفقهوه فلما حذفت ( اللام ) نصبت الكراهة ولما حذفت الكراهة انتقل نصبها إلى ( أن ) وقوله وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ قال

ابن السكيت الوقر الثقل في الأذن
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى قد يصرف عن الإيمان ويمنع منه ويحول بين الرجل وبينه وذلك لأن هذه الآية تدل على أنه جعل القلب في الكنان الذي يمنعه عن الإيمان وذلك هو المطلوب قالت المعتزلة لا يمكن إجراء هذه الآية على ظاهرها ويدل عليه وجوه الأول أنه تعالى إنما أنزل القرآن ليكون حجة للرسول على الكفار لا ليكون حجة للكفار على الرسول ولو كان المراد من هذه الآية أنه تعالى منع الكفار عن الإيمان لكان لهم أن يقولوا للرسول لما حكم الله تعالى بأنه منعنا من الإيمان فلم يذمنا على ترك الإيمان ولم يدعونا إلى فعل الإيمان الثاني أنه تعالى لو منعهم من الإيمان ثم دعاهم إليه لكان ذلك تكليفاً للعاجز وهو منفي بصريح العقل وبقوله تعالى لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ( البقرة 286 ) الثالث أنه تعالى حكى صريح هذا الكلام عن الكفار في معرض الذم فقال تعالى وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّة ٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ ( فصلت 5 ) وقال في آية أخرى وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ ( البقرة 88 ) وإذا كان قد حكى الله تعالى هذا المذهب عنهم فلي معرض الذم لهم امتنع أن يذكره هاهنا في معرض التقريع والتوبيخ وإلا لزم التناقض والرابع أنه لا نزاع أن القوم كانوا يفهمون ويسمعون ويعقلون والخامس أن هذه الآية وردت في معرض الذم لهم على ترك الإيمان ولو كان هذا الصد والمنع من قبل الله تعالى لما كانوا مذمومين بل كانوا معذورين والسادس أن قوله حَتَّى إِذَا لَكَِّرِهُونَ يُجَادِلُونَكَ يدل على أنهم كانوا يفقهون ويميزون الحق من الباطل وعند هذا قالوا لا بد من التأويل وهو من وجوه الأول قال الجبائي إن القوم كانوا يستمعون لقراءة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ليتوسلوا بسماع قراءته إلى معرفة مكانه بالليل فيقصدوا قتله وإيذاءه فعند ذلك كان الله سبحانه وتعالى يلقي على قلوبهم النوم وهو المراد من الأكنة ويثقل أسماعهم عن استماع تلك القراءة بسبب ذلك النوم وهو المراد من قوله وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ والثاني أن الإنسان الذي علم الله منه أنه لا يؤمن وأنه يموت على الكفر فإنه تعالى يسم قلبه بعلامة مخصوصة يستدل الملائكة برؤيتها على أنه لا يؤمن فصارت تلك العلامة دلالة على أنهم لا يؤمنون
وإذا ثبت هذا فنقول لا يبعد تسمية تلك العلامة بالكنان والغطاء المانع مع أن تلك العلامة في نفسها ليست مانعة عن الإيمان
والتأويل الثالث أنهم لما أصروا على الكفر وعاندوا وصمموا عليه فصار عدولهم عن الإيمان والحالة هذه كالكنان المانع عن الإيمان فذكر الله تعالى الكنان كناية عن هذا المعنى
والتأويل الرابع أنه تعالى لما منعهم الالطاف التي إنما تصلح أن تفعل بمن قد اهتدى فأخلاهم منها وفوض أمرهم إلى أنفسهم لسوء صنيعهم لم يبعد أن يضيف ذلك إلى نفسه فيقول وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّة ً
والتأويل الخامس أن يكون هذا الكلام ورد حكاية لما كانوا يذكرونه من قولهم وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّة ٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ ( فصلت 5 )
والجواب عن الوجوه التي تمسكوا بها في بيان أنه لا يمكن حمل الكنان والوقر على أن الله تعالى منعهم عن الإيمان وهو أن نقول بل البرهان العقلي الساطع قائم على صحة هذا المعنى وذلك لأن العبد

الذي أتى بالكفر إن لم يقدر على الإتيان بالإيمان فقد صح قولنا إنه تعالى هو الذي حمله على الكفر وصده عن الإيمان وأما إن قلنا إن القادر على الكفر كان قادراً على الإيمان فنقول يمتنع صيرورة تلك القدرة مصدراً للكفر دون الإيمان إلا عند انضمام تلك الداعية وقد عرفت في هذا الكتاب أن مجموع القدرة مع الداعي يوجب الفعل فيكون الكفر على هذا التقدير من الله تعالى وتكون تلك الداعية الجارة إلى الكفر كناناً للقلب عن الإيمان ووقراً للسمع عن استماع دلائل الإيمان فثبت بما ذكرنا أن البرهان العقلي مطابق لما دل عليه ظاهر هذه الآية
وإذا ثبت بالدليل العقلي صحة ما دل عليه ظاهرة هذه الآية وجب حمل هذه الآية عليه عملاً بالبرهان وبظاهر القرآن والله أعلم
المسألة الثالثة أنه تعالى قال وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ فذكره بصيغة الإفراد ثم قال عَلَى قُلُوبِهِمْ فذكره بصيغة الجمع وإنما حسن ذلك لأن صيغة ( من ) واحد في اللفظ جمع في المعنى
وأما قوله تعالى وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ قال بان عباس وإن يروا كل دليل وحجة لا يؤمنوا بها لأجل أن الله تعالى جعل على قلوبهم أكنة وهذه الآية تدل على فساد التأويل الأول الذي نقلناه عن الجبائي ولأنه لو كان المراد من قوله تعالى وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّة ً إلقاء النوم على قلوب الكفار لئلا يمكنهم التوسل بسماع صوته على وجدان مكانه لما كان قوله وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ لائقاً بهذا الكلام وأيضاً لو كان المراد ما ذكره الجبائي لكان يجب أن يقال وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يسمعوه لأن المقصود الذي ذكره الجبائي إنما يحصل بالمنع من سماع صوت الرسول عليه السلام أما المنع من نفس كلامه ومن فهم مقصوده فلا تعلق له بما ذكره الجبائي فظهر سقوط قوله والله أعلم
أما قوله تعالى حَتَّى إِذَا لَكَِّرِهُونَ يُجَادِلُونَكَ فاعلم أن هذا الكلام جملة أخرى مرتبة على ما قبلها و حَتَّى في هذا الموضع هي التي يقع بعدها الجمل والجملة هي قوله إِذَا لَكَِّرِهُونَ يُجَادِلُونَكَ يقول الذين كفروا ويجادلونك في موضع الحال وقوله يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تفسير لقوله يُجَادِلُونَكَ والمعنى أنه بلغ بتكذيبهم الآيات إلى أنهم يجادلونك ويناكرونك وفسّر مجادلتهم بأنهم يقولون إِنْ هَاذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الاْوَّلِينَ قال الواحدي وأصل الأساطير من السطر وهو أن يجعل شيئاً ممتداً مؤلفاً ومنه سطر الكتاب وسطر من شجر مغروس قال ابن السكيت يقال سطر وسطر فمن قال سطر فجمعه في القليل أسطر والكثير سطور ومن قال سطر فجمعه أسطار والأساطير جمع الجمع وقال الجبائي واحد الأساطير أسطور وأسطورة وأسطير وأسطيرة وقال الزجاج واحد الأساطير أسطورة مثل أحاديث وأحدوثة وقال أبو زيد الأساطير من الجمع الذي لا واحد له مثل عباديد ثم قال الجمهور أساطير الأولين ما سطره الأولون قال ابن عباس معناه أحاديث الأولين التي كانوا يسطرونها أي يكتبونها فأما قول من فسر الأساطير بالترهات فهو معنى وليس مفسراً ولما كانت أساطير الأولين مثل حديث رستم واسفنديار كلاماً لا فائدة فيه لا جرم فسرت أساطير الأولين بالترهات
المسألة الرابعة اعلم أنه كان مقصود القوم من ذكر قولهم إِنْ هَاذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الاْوَّلِينَ القدح في كون القرآن معجزاً فكأنهم قالوا إن هذا الكلام من جنس سائر الحكايات المكتوبة والقصص المذكورة

للأولين وإذا كان هذا من جنس تلك الكتب المشتملة على حكايات الأولين وأقاصيص الأقدمين لمل يكن معجزاً خارقاً للعادة وأجاب القاضي عنه بأن قال هذا السؤال مدفوع لأنه يلزم أن يقال لو كان في مقدوركم معارضته لوجب أن تأتوا بتلك المعارضة وحيث لم يقدروا عليها ظهر أنها معجزة ولقائل أن يقول كان للقوم أن يقولوا نحن وإن كنا أرباب هذا اللسان العربي إلا أنا لا نعرف كيفية تصنيف الكتب وتأليفها ولسنا أهلاً لذلك ولا يلزم من عجزنا عن التصنيف كون القرآن معجزاً أنا بينا أنه من جنس سائر الكتب المشتملة عللى أخبار الأولين وأقاصيص الأقدمين
واعلم أن الجواب عن هذا السؤال سيأتي في الآية المذكورة بعد ذلك
وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ
في الآية مسائل
اللمسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما بيّن أنهم طعنوا في كون القرآن معجزاً بأن قالوا إنه من جنس أساطير الأولين وأقاصيص الأقدمين بين في هذه الآية أنهم ينهون عنه وينأون عنه وقد سبق ذكر القرآن وذكر محمد عليه السلام فالضمير في قوله عَنْهُ محتمل أن يكون عائداً إلى القرآن وأن يكون عائداً إلى محمد عليه الصلاة والسلام فلهذا السبب اختلف المفسرون فقال بعضهم وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ أي عن القرآن وتدبره والاستماع له وقال آخرون بل المراد ينهون عن الرسول
واعلم أن النهي عن الرسول عليه السلام محال بل لا بدّ وأن يكون المراد النهي عن فعل يتعلق به عليه الصلاة والسلام وهو غير مذكور فلا جرم حصل فيه قولان منهم من قال المراد أنهم ينهون عن التصديق بنبوّته والإقرار برسالته وقال عطاء ومقاتل نزلت في أبي طالب كان ينهى قريشاً عن إيذاء النبي عليه الصلاة والسلام ثم يتباعد عنه ولا يتبعه على دينه
والقول الأول أشبه لوجهين الأول أن جميع الآيات المتقدمة على هذه الآية تقتضي ذم طريقتهم فكذلك قوله وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ ينبغي أن يكون محمولاً على أمر مذموم فلو حملناه على أن أبا طالب كان ينى عن إيذائه لما حصل هذا النظم والثاني أنه تعالى قال بعد ذلك وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ يعني به ما تقدم ذكره ولا يليق ذلك بأن يكون المراد من قوله وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ النهي عن أذيته لأن ذلك حسن لا يوجب الهلاك
فإن قيل إن قوله وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ يرجع إلى قوله وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ لا إلى قوله يَنْهَوْنَ عَنْهُ لأن المراد بذلك أنهم يبعدون عنه مفارقة دينه وترك الموافقة له وذلك ذم فلا يصح ما رجحتم به هذا القول

قلنا إن ظاهر قوله وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ يرجع إلى كل ما تقدم ذكره لأنه بمنزلة أن يقال إن فلاناً يبعد عن الشيء الفلاني وينفر عنه ولا يضر بذلك إلا نفسه فلا يكون هذا الضرر متعلقاً بأحد الأمرين دون الآخر
المسألة الثانية اعلم أن أولئك الكفار كانوا يعاملون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بنوعين من القبيح الأول إنهم كانوا ينهون الناس عن قبول دينه والاقرار بنبوته والثاني كانوا ينأون عنه والنأي البعد يقال نأى ينأى إذا بعد ثم قال وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ قال ابن عباس أي وما يهلكون إلا أنفسهم بسبب تماديهم في الكفر وغلوهم فيه وما يشعرون أنهم يهلكون أنفسهم ويذهبونها إلى النار بما يرتكبون من الكفر والمعصية والله أعلم
وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِأايَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر صفة من ينهى عن متابعة الرسول عليه الصلاة والسلام وينأى عن طاعته بأنهم يهلكون أنفسهم شرح كيفية ذلك الهلاك بهذه الآية وفيها مسائل
المسألة الأولى قوله وَلَوْ تَرَى يقتضي لله جواباً وقد حذف تفخيماً للأمر وتظيماً للشأن وجاز حذفه لعلم المخاطب به وأشباهه كثيرة في القرآن والشعر ولو قدرت الجواب كان التقدير لرأيت سوء منقلبهم أو لرأيت سوء حالهم وحذف الجواب في هذه الأشياء أبلغ في المعنى من إظهاره ألا ترى أنك لو قلت لغلامك والله لئن قمت إليك وسكت عن الجواب ذهب بفكره إلى أنواع المكروه من الضرب والقتل والكسر وعظم الخوف ولم يدر أي الأقسام تبغي ولو قلت والله لئن قمت إليك لأضربنك فأتيت بالجواب لعلم أنك لم تبلغ شيئاً غير الضرب ولا يخطر بباله نوع من المكروه سواه فثبت أن حذف الجواب أقوى تأثيراً في حصول الخوف ومنهم من قال جواب لَوْ مذكور من بعض الوجوه والتقدير ولو ترى إذ وقفوا على النار ينوحون ويقولون يا ليتنا نرد ولا نكذب
المسألة الثانية قوله وُقِفُواْ يقال وقفته وقفاً ووقفته وقوفاً كما يقال رجعته رجوعاً قال الزجاج ومعنى وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ يحتمل ثلاثة أوجه الأول يجوز أن يكون قد وقفوا عندها وهم يعاينونها فهم موقوفون على أن يدخلوا النار والثاني يجوز أن يكونوا وقفوا عليها وهي تحتهم بمعنى أنهم وقفوا فوق النار على الصراط وهو جسر فوق جهنم والثالث معناه عرفوا حقيقتها تعريفاً من قولك وقفت فلاناً على كلام فلان أي علمته معناه وعرفته وفيه وجه رابع وهم أنهم يكونون في جوف النار وتكون

النار محيطة بهم ويكونون غائصين فيها وعلى هذا التقدير فقد أقيم ( على ) مقام ( في ) وإنما صح على هذا التقدير أن يقال وقفوا على النار لأن النار دركات وطبقات وبعضها فوق بعض فيصح هناك معنى الاستعلاء
فإن قيل فلماذا قال وَلَوْ تَرَى وذلك يؤذن بالاستقبال ثم قال بعده إذط وقفوا وكلمة إِذْ للماضي ثم قال بعده فقالوا وهو يدل على الماضي
قلنا أن كلمة ( إذ تقام مقام ( إذا ) إذا أراد المتكلم المبالغة في التكرير والتوكيد وإزالة الشبهة لأن الماضي قد وقع واستقر فالتعبير عن المستقبل باللفظ الموضوع للماضي يفيد المبالغة من هذا الاعتبار
المسألة الثالثة قال الزجاج الإمالة في النار حسنة جيدة لأن ما بعد الألف مكسور وهو حرف الراء كأنه تكرر في اللسان فصارت الكسرة فيه كالكسرتين
أما قوله تعالى فَقَالُواْ يالَيْتَنَا يالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذّبَ بِئَايَاتِ رَبّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ففيه مسائل
المسألة الأولى قوله لَنَا أَوْ نُرَدُّ يدل على أنهم قد تمنوا أن يردوا إلى الدنيا فأما قوله وَلاَ نُكَذّبَ بِئَايَاتِ رَبّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ففيه قولان أحدهما أنه داخل في التمني والتقدير أنهم تمنوا أن يردوا إلى الدنيا ولا يكونوا مكذبين وأن يكونوا مؤمنين
فإن قالوا هذا باطل لأنه تعالى حكم عليهم بكونهم كاذبين بقوله في آخر الآية وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ والمتمني لا يوصف بكونه كاذباً
قلنا لا نسلم أن المتمني لا يوصف بكونه كاذباً لأن من أظهر التمني فقد أخبر ضمناً كونه مريداً لذلك الشيء فلم يبعد تكذيبه فيه ومثاله أن يقول الرجل ليت الله يرزقني مالاً فأحسن إليك فهذا تمن في حكم الوعد فلو رزق مالاً ولم يحسن إلى صاحبه لقيل إنه كذب في وعده
القول الثاني أن التمني تمّ عند قوله لَنَا أَوْ نُرَدُّ وأما قوله وَلاَ نُكَذّبَ بِئَايَاتِ رَبّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فهذا الكلام مبتدأ وقوله تعالى في آخر الآية وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ عائد إليه وتقدير الكلام يا ليتنا نرد ثم قالوا ولو رددنا لم نكذب بالدين وكنا من المؤمنين ثم إنه تعالى كذبهم وبيّن أنهم لو ردوا لكذبوا ولأعرضوا عن الإيمان
المسألة الثانية قرأ ابن عامر نرد ونكذب بالرفع في الثلاثة فحصل من هذا أنهم اتفقوا على الرفع في قوله نُرَدُّ وذلك لأنه داخلة في التمني لا محالة فأما الذين رفعوا قوله وَلاَ نُكَذّبَ وَنَكُونَ ففيه وجهان الأول أن يكون معطوفاً على قوله نُرَدُّ فتكون الثلاثة داخل في التمني فعلى هذا قد تمنوا الرد وأن لا يكذبوا وأن يكونوا من المؤمنين
والوجه الثاني أن يقطع ولا نكذب وما بعده عن الأول فيكون البقدير يا ليتنا نرد ونحن لا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين فهم ضمنوا أنهم لا يكذبون بتقدير حصول الرد والمعنى يا ليتنا نرد

ونحن لا نكذب بآيات ربنا رددنا أو لم نرد أي قد عاينا وشاهدنا ما لا نكذب معه أبداً قال سيبويه وهو مثل قولك دعني ولا أعود فههنا المطلوب بالسؤال تركه فأما أنه لا يعود فغير داخل في الطلب فكذا هنا قوله لَنَا أَوْ نُرَدُّ الداخل في هذا التمني الرد فأما ترك التكذيب وفعل الإيمان فغير داخل في التمني بل هو حاصل سواء حصل الرد أو لم يحصل وهذان الوجهان ذكرهما الزجاج والنحويون قالوا الوجه الثاني أقوى وهو أن يكون الرد داخلاً في التمني ويكون ما بعده إخباراً محضاً واحتجوا عليه بأن الله كذبهم في الآية الثانية فقال وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ والمتمني لا يجوز تكذيبه وهذا اختيار أبي عمرو وقد احتج على صحة قوله بهذه الحجة إلا أنا قد أجبنا عن هذه الحجة وذكرنا أنها ليست قوية وأما من قرأ وَلاَ نُكَذّبَ وَنَكُونَ بالنصب ففيه وجوه الأول بإضمار ( أن ) على جواب التمني والتقدير يا ليتنا نرد وأن لا نكذب والثاني أن تكون الواو مبدلة من الفاء والتقدير يا ليتنات نرد فلا نكذب فتكون الواو ههنا بمنزلة الفاء في قولن لَوْ أَنَّ لِى كَرَّة ً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ( الزمر 58 ) ويتأكد هذا الوجه بما روي أن ابن مسعود كان يقرأ فَلا نُكَذّبَ بالفاء على النصب والثالث أن يكون معناه الحال والتقدير يا ليتنا نرد غير مكذبين كما تقول العرب لا تأكل السمك وتشرب اللبن أي لا تأكل السمك شارباً للبن
واعلم أن على هذه القراءة تكون الأمور الثلاثة داخلة في التمني وأما أن المتمن كيف يجوز تكذيبه فقد سبق تقريره وأما قراءة ابن عامر وهي أنه كان يرفع وَلاَ نُكَذّبَ وينصب وَنَكُونَ فالتقدير أنه يجعل قوله وَلاَ نُكَذّبَ داخلاً في التمني بمعنى أنا إن رددنا غير مكذبين نكن من المؤمنين والله أعلم
المسألة الثالثة قوله فَقَالُواْ يالَيْتَنَا يالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذّبَ لا شبهة في أن المراد تمني ردهم إلى حالة التكليف لأن لفظ الرد إذا استعمل في المستقبل من حال إلى حال فالمفهوم منه الرد إلى الحالة الأولى والظاهر أن من صدر منه تقصير ثم عاين الشدائد والأحوال بسبب ذلك التقصير أنه يتمنى الرد إلى الحالة الأولى ليسعى في إزالة جميع وجوه التقصيرات ومعلوم أن الكفار قصروا في دار الدنيا فهم يتمنون العود إلى الدنيا لتدارك تلك التقصيرات وذلك التدارك لا يحصل بالعود إلى الدينا فقط ولا بترك التكذيب و لا بعمل الإيمان بل إنما يحصل التدارك بمجموع هذه الأمور الثلاثة فوجب إدخال هذه الثلاثة تحت التمني
فإن قيل كيف يحسن منهم تمني الرد مع أنهم يعلمون أن الرد يحصل لا ألبتة
والجواب من وجوه الأول لعلّهم لم يعلموا أن الرد لا يحصل والثاني أنهم وإن علموا أن ذلك لا يحصل إلا أن هذا العلم لا يمنع من حصول إرادة الرد كقوله تعالى يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ ( المائدة 37 ) وكقوله أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ( الأعراف 50 ) فلما صح أن يريدوا هذه الأشياء مع العلم بأنها لا تحصل فبأن يتمنوه أقرب لأن باب التمني أوسع لأنه يصح أن يتمنى ما لا يصح أن يريد من الأمور الثلاثة الماضية
ثم قال تعالى بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وفيه مسائل
المسألة الأولى معنى بَلِ ههنا رد كلامهم والتقدير أنهم ما تمنوا العود إلى الدينا وترك التكذيب وتحصيل الإيمان لأجل كونهم راغبين في الإيمان بل لأجل خوفهم من العقاب الذي شاهدوه

وعاينوه وهذا يدل على أن الرغبة في الإيمان والطاعة لا تنفع إلا إذا كانت تلك الرغبة رغبة فيه لكونه إيماناً وطاعة فأما الرغبة فيه لطلب الثواب والخوف من العقاب فغير مفيد
المسألة الثانية المراد من الآية أنه طهر لهم في الآخرة ما أخفوه في الدنيا وقد اختلفوا في ذلك الذي أخفوه على وجوه الأول قال أبو روق إن المشركين في بعض مواقف القيامة يجحدون الشرك فيقولون وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ فينطق الله جوارحهم فتشهد عليهم بالكفر فذلك حين بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل قال الواحدي وعلى هذا القول أهل التفسير الثاني قال المبرد بدا لهم وبال عقائدهم وأعمالهم وسوء عاقبتها وذلك لأن كفرهم ما كان بادياً ظاهراً لهم لأن مضار كفرهم كانت خفية فلما ظهرت يوم القيامة لا جرم قال الله تعالى بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ الثالث قال الزجاج بدا للأتباع ما أخفاه الرؤساء عنهم من أمر البعث والنشور قال والدليل على صحة هذا القول أنه تعالى ذكر عقيبه وَقَالُواْ إِنْ هِى َ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ ( الأنعام 29 ) وهذا قول الحسن الرابع قال بعضهم هذه الآية في المنافقين وقد كانوا يسرون الكفر ويظهرون الإسلام وبدا لهم يوم القيامة وظهر بأن عرف غيرهم أنهم كانوا من قبل منافقين الخامس قيل بدا لهم ما كان علماؤهم يخفون من جحد نبوّة الرسول ونعته وصفته في الكتب والبشارة به وما كانوا يحرفونه من التوراة مما يدل على ذلك
واعلم أن اللفظ محتمل لوجوه كثيرة والمقصود منها بأسرها أنه ظهرت فضيحتهم في الآخرة وانهتكت أستارهم وهو معنى قوله تعالى لَقَادِرٌ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ( الطارق 9 )
ثم قال تعالى وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ والمعنى أنه تعالى لو ردهم لم يحصل منهم ترك التكذيب وفعل الإيمان بل كانوا يستمرون على طريقتهم الأولى في الكفر التكذيب
فإن قيل إن أهل القيامة قد عرفوا الله بالضرورة وشاهدوا أنواع العقاب والعذاب فلو ردهم الله تعالى إلى الدنيا فمع هذه الأحوال كيف يمكن أن يقال إنهم يعودون إلى الكفر بالله وإلى معصية الله
قلنا قال القاضي تقرير الآية وَلَوْ رُدُّواْ إلى حالة التكليف وإنما يحصل الرد إلى هذه الحالة لو لم يحصل في القيامة معرفة الله بالضرورة ولم يحصل هناك مشاهدة الأهوال وعذاب جهنم فهذا الشرط يكون مضمراً لا محالة في الآية إلا أنا نقول هذا الجواب ضعيف لأن المقصود من الآية بيان غلوهم في الاصرار على الكفر وعدم الرغبة في الإيمان ولو قدرنا عدم معرفة الله تعالى في القيامة وعدم مشاهدة أهوال القيامة لم يكن في إصرار القوم على كفرهم الأول مزيد تعجب لأن إصرارهم على الكفر يجري مجرى إصرار سائر الكفار على الكفر في الدنيا فعلمنا أن الشرط الذي ذكره القاضي لا يمكن اعتباره ألبتة
إذا عرفت هذا فنقول قال الواحدي هذه الآية من الأدلة الظاهرة على فساد قول المعتزلة وذلك لأن الله تعالى أخبر عن قوم جرى عليهم قضاؤه في الأزل بالشرك وذلك القضاء السابق فيهم وإلا فالعاقل لا يرتاب فيما شاهد ثم قال تعالى وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ وفيه سؤال وهو أن يقال إنه لم يتقدم ذكر خبر حتى يصرف هذا التكذيب إليه

والجواب أنا بينا أن منهم من قال الداخل في التمني هو مجرد قوله لَنَا أَوْ نُرَدُّ أما الباقي فهو إخبار ومنهم من قال بل الكل داخل في التمني لأن إدخال التكذيب في التمني أيضاً جائز لأن التمني يدل على الاخبار على سبيل الضمن والصيرورة كقول القائل ليت زيداً جاءنا فكنا نأكل ونشرب ونتحدث فكذا ههنا والله أعلم
وَقَالُوا إِنْ هِى َ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ
اعلم أنه حصل في الآية قولان الأول أنه تعالى ذكر في الآية الأولى أنه بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل فبين في هذه الآية أن ذلك الذي يخفونه هو أمر المعاد والحشر والنشر وذلك لأنهم كانوا ينكرونه ويخفون صحته ويقولون ما لنا إلا هذه الحياة الدنيوية وليس بعد هذه الحياة لا ثواب ولا عقاب والثاني أن تقدير الآية ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ولأنكروا الحشر والنشر وقالوا إِنْ هِى َ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ
وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَاذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ
فيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم في الآية الأولى إنكارهم للحشر والنشر والبعث والقيامة بيّن في هذه الآية كيفية حالهم في القيامة فقال وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبّهِمْ واعلم أن جماعة من المشبهة تمسكوا بهذه الآية وقالوا ظاهر هذه الآية يدل على أن أهل القيامة يقفون عند الله وبالقرب منه وذلك يدل على كونه تعالى بحث يحضر في مكان تارة ويغيب عنه تارة أخرى
واعلم أن هذا خطأ وذلك لأن ظاهر الآية يدل على كونهم وافقين على الله تعالى كما يقف أحدنا على الأرض وذلك يدل على كونه مستعلياً على ذات الله تعالى وأنه بالاتفاق باطل فوجب المصير إلى التأويل وهو من وجوه
التأويل الأول هو أن يكون المراد وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى ما وعدهم ربهم من عذاب الكافرين وثواب المؤمنين وعلى ما أخبرهم به من أمر الآخر
التأويل الثاني أن المراد من هذا الوقوف المعرفة كما يقول الرجل لغيره وفقت على كلامك أي عرفته
التأويل الثالث أن يكون المراد أنهم وقفوا لأجل السؤال فخرج الكلام مخرج ما جرت به العادة

من وقوف العبد بين يدي سيده والمقصود منه التعبير عن المقصود بالألفاظ الفصيحة البليغة
المسألة الثانية المقصود من هذه الآية أنه تعالى حكى عنهم في الآية الأولى أنهم ينكرون القيامة والبعث في الدينا ثم بيّن أنهم في الآخرة يقرون به فيكون المعنى أن حالهم في هذا الإنكار سيؤل إلى الإقرار وذلك لأنهم شاهدوا القيامة والثواب والعقاب قال الله تعالى أَلَيْسَ هَاذَا بِالْحَقّ
فإن قيل هذا الكلام يدل على أنه تعالى يقول لهم أليس هذا بالحق وهو كالمناقض لقوله تعالى وَلاَ يُكَلّمُهُمُ اللَّهُ ( البقرة 174 ) والجواب أن يحمل قوله وَلاَ يُكَلّمُهُمُ أي لا يكلمهم بالكلام الطيب النافع وعلى هذا التقدير يزول التناقض ثم إنه تعالى بيّن أنه إذا قال لهم أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا المقصود أنهم يعترفوتن بكونه حقاً مع القسم واليمين ثم إنه تعالى يقول لهم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون وخص لفظ الذوق لأنهم في كل حال يجدونه وجدان الذائق في قوة الاحساس وقوله بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ أي بسبب كفركم واعلم أنه تعالى ما ذكر هذا الكلام احتجاجاً على صحة القول بالحشر والنشر لأن ذلك الدليل قد تقدم ذكره في أول السورة في قوله هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً ( الأنعام 2 ) على ما قررناه وفسرناه بل المقصود من هذه الآية الردع والزجر عن هذا المذهب والقول
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَآءَتْهُمُ السَّاعَة ُ بَغْتَة ً قَالُواْ ياحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن المقصود من هذه الآية شرح حالة أخرى من أحوال منكري البعث والقيامة وهي أمران أحدهما حصول الخسران والثاني حمل الأوزار العظيمة
أما النوع الأول وهو حصول الخسران فتقريره أنه تعالى بعث جوهر النفس الناطقة القدسية الجسماني وأعطاه هذه الآلات الجسمانية والأدوات الجسدانية وأعطاه العقل والتفكر أجل أن يتوصل باستعمال هذه الآلات والأدوات إلى تحصيل المعارف الحقيقية والأخلاق الفاضلة التي يعظم منافعها بعد الموت فإذا استعمل الإنسان هذه الآلات والأدوات والقوة العقلية والقوة الفكرية في تحصيل هذه اللذات الدائرة والسعادات المنقطعة ثم انتهى الإنسان إلى آخر عمره فقد خسر خسراناً مبيناً لأن رأس المال قد فنى والربح الذي ظن أنه هو المطلوب فنى أيضاً وانقطع فلم يبق في يده لا من رأس المال أثر ولا من الربح شيء فكان هذا هو الخسران المبين وهذا الخسران إنما يحصل لمن كان منكراً للبعث والقيامة وكان يعتقد أن منتهى السعادات ونهاية الكمالات هو هذه السعادات العاجلة الفانية أما من كان مؤمناً بالبعث والقيامة فإنه لا يغتر

بهذه السعادات الجسمانية ولا يكتفي بهذه الخيرات العاجلة بل يسعى في إعداد الزاد ليوم المعاد فلم يحصل له الخسران فثبت بما ذكرنا أن الذين كذبوا بلقاء الله وأنكروا البعث والقيامة قد خسروا خسراناً مبيناً وأنهم عند الوصول إلى موقف القيامة يتحسرون على تفريطهم في تحصيل الزاد ليوم المعاد
والنوع الثاني من وجوه خسرانهم أنهم يحملون أوزارهم على ظهورهم وتقرير الكلام فيه أن كمال السعادة في الاقبال على الله تعالى والاشتغال بعبوديته والاجتهاد في حبه وخدمته وأيضاً في الانقطاع عن الدنيا وترك محبتها وفي قطع العلاقة بين القلب وبينها فمن كان منكراً للبعث والقيامة فإنه لا يسعى في إعداد الزاد لموقف القيامة ولا يسعى في قطع العلاقة بين القلب وبين الدنيا فإذا مات بقي كالغريب في عالم الروحانيات وكالمنقطع عن أحبابه وأقاربه الذين كانوا في عالم الجسمانيات فيحصل له الحسرات العظيمة بسبب فقدان الزاد وعدم الاهتداء إلى المخالطة بأهل ذلك العالم ويحصل له الآلام العظيمة بسبب الانقطاع عن لذات هذا العالم والامتناع عن الاستسعاد بخيرات هذا العالم فالأول هو المراد من قوله قَالُواْ يأَبَانَا ياحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا والثاني هو المراد من قوله وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ فهذا تقرير المقصود من هذه الآية
المسألة الثانية المراد من الخسران فوت الثواب العظيم وحصول العقاب العظيم وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللَّهِ المراد منه الذين أنكروا البعث والقيامة وقد بالغنا في شرح هذه الكلمة عند قوله الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُوا رَبّهِمْ ( البقرة 46 ) وإنما حسنت هذه الكناية أن موقف القيامة موقف لا حكم فيه لأحد إلا لله تعالى ولا قدرة لأحد على النفع والضر والرفع والخفض إلا لله وقوله حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ اللَّهِ بَغْتَة ً اعلم أن كلمة ( حتى ) غاية لقوله كَذَّبُواْ لا لقوله قَدْ خَسِرَ لأن خسرانهم لا غاية له ومعنى ( حتى ) ههنا أن منتهى تكذيبهم الحسرة يوم القيامة والمعنى أنهم كذبوا إلى أن ظهرت الساعة بغتة
فإن قيل إنما يتحسرون عند موتهم
قلنا لما كان الموت وقوعاً في أحوال الآخرة ومقدماتها جعل من جنس الساعة وسمي باسمها ولذلك قال عليه السلام ( من مات فقد قامت قيامته ) والمراد بالساعة القيامة وفي تسمية يوم القيامة بهذا الاسم وجوه الأول أن يوم القيامة يسمى الساعة لسرعة الحساب فيه كأنه قيل ما هي إلا ساعة الحساب الثاني الساعة هي الوقت الذي تقوم القيامة سميت ساعة لأنها تفجأ الناس في ساعة لا يعلمها أحد إلا الله تعالى ألا ترى أنه تعالى قال بَغْتَة ً والبغت والبغتة هو الفجأة والمعنى أن الساعة لا تجيء إلا دفعة لأنه لا يعلم أحد متى يكون مجيئها وفي أي وقت يكون حدوثها وقوله بَغْتَة ً انتصابه على الحال بمعنى باغتة أو على المصدر كأنه قيل بغتتهم الساعة بغتة ثم قال تعالى قَالُواْ يأَبَانَا قال الزجاج معنى دعاء الحسرة تنبيه للناس على ما سيحصل لهم من الحسرة والعرب تعبر عن تعظيم أمثال هذه الأمور بهذه اللفظة كقوله تعالى خَامِدُونَ ياحَسْرَة ً عَلَى الْعِبَادِ ( يس 30 ) و نَفْسٌ ياحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطَتُ فِى جَنبِ اللَّهِ ( الزمر 56 ) قَالَتْ ياوَيْلَتَا ءأَلِدُ ( هود 72 ) وهذا أبلغ من أن يقال الحسرة علينا في تفريطنا ومثله فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ ( يوسف 84 ) تأويله يا أيها الناس تنبهوا على ما وقع بي من الأسف فوقع النداء على غير المنادى في الحقيقة وقال سيبويه إنك إذا قلت يا عجباه فكأنك قلت يا عجب احضر وتعال فإن هذا زمانك

إذا عرفت هذا فنقول حصل للنداء ههنا تأويلان أحدهما أن النداء للحسرة والمراد منه تنبيه المخاطبين وهو قول الزجاج والثاني أن المنادى هو نفس الحسرة على معنى أن هذا وقتك فاحضري وهو قول سيبويه وقوله عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا فيه بحثان
البحث الأول قال أبو عبيدة يقال فرطت في الشيء أي ضيعته فقوله فَرَّطْنَا أي تركنا وضيعنا وقال الزجاج فرطنا أي قدمنا العجز جعله من قولهم فرط فلان إذا سبق وتقدم وفرط الشيء إذا قدمه قال الواحدي فالتفريط عنده تقديم التقصير
والبحث الثاني أن الضمير في قوله فِيهَا إلى ماذا يعود فيه وجوه الأول قال ابن عباس في الدنيا والسؤال عليه أنه لم يجر للدنيا ذكر فكيف يمكن عود هذا الضمير إليها وجوابه أن العقل دل على أن موضع التقصير ليس إلا الدنيا فحسن عود الضمير إليها لهذا المعنى الثاني قال الحسن المراد يا حسرتنا على ما فرطنا في الساعة والمعنى على ما فرطنا في إعداد الزاد للساعة وتحصيل الأهبة لها والثالث أن تعود الكناية إلى معنى ما في قوله مَّا فَرَّطْنَا أي حسرتنا على الأعمال والطاعات التي فرطنا فيها والرابع قال محمد بن جرير الطبري الكناية تعود إلى الصفقة لأنه تعالى لما ذكر الخسران دل ذلك على حصول الصفقة والمبايعة
ثم قال تعالى وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ فاعلم أن المراد من قولهم يا حسرتنا على ما فرطنا فيها إشارة إلى أنهم لم يحصلوا لأنفسهم ما به يستحقون الثواب وقوله وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ إشارة إلى أنهم حصلوا لأنفسهم ما به استحقوا العذاب العظيم ولا شك أن ذلك نهاية الخسران قال ابن عباس الأوزار الآثام والخطايا قال أهل اللغة الوزر الثقل وأصله من الحمل يقال وزرت الشيء أي حملته أزره وزرا ثم قيل للذنوب أوزار لأنها تثقل ظهر من عملها وقوله وَلاَ تَزِرُ وَازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى ( فاطر 18 ) أي لا تحمل نفس حاملة قال أبو عبيدة يقال للرجل إذا بسط ثوبه فجعل فيه المتاع أحمل وزرك وأوزار الحرب أثقالها من السلاح ووزير السلطان الذي يزر عنه أثقال ما يسند إليه من تدبير الولاية أي يحمل قال الزجاج وهم يحملون أوزارهم أي يحملون ثقل ذنوبهم واختلفوا في كيفية حملهم الأوزار فقال المفسرون إن المؤمن إذا خرج من قبره استقبله شيء هو أحسن الأشياء صورة وأطيبها ريحاً ويقول أنا عملك الصالح طالما ركبتك في الدنيا فاركبني أنت اليوم فذلك قوله يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً ( مريم 85 ) قالوا ركباناً وأن الكافر إذا خرج من قبره استقبله شيء هو أقبح الأشياء صورة وأخبثها ريحاً فيقول أنا عملك الفاسد طالما ركبتني في الدنيا فأنا أركبك اليوم فذلك قوله وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ وهذا قول قتادة والسدي وقال الزجاج الثقل كما يذكر في المنقول فقد يذكر أيضاً في الحال والصفة يقال ثقل على خطاب فلان والمعنى كرهته فالمعنى أنهم يقاسون عذاب ذنوبهم مقاساة ثقل ذلك عليهم وقال آخرون معنى قوله وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ أي لا تزايلهم أوزارهم كما تقول شخصل نصب عيني أي ذكرك ملازم لي
ثم قال تعالى أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ والمعنى بئس الشيء الذي يزرونه أي يحملونه والاستقصاء في تفسير هذا اللفظ مذكور في سورة النساء في قوله وَسَاء سَبِيلاً ( سورة النساء 22 )

وَمَا الْحَيَواة ُ الدُّنْيَآ إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الاٌّ خِرَة ُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن المنكرين للبعث والقيامة بعظم رغبتهم في الدنيا وتحصيل لذاتها فذكر الله تعالى هذه الآية تنبيهاً على خساستها وركاكتها
واعلم أن نفس هذه الحياة لا يمكن ذمها لأن هذه الحياة العاجلة لا يصح اكتساب السعادات الأخروية إلا فيها فلهذا السبب حصل في تفسير هذه الآية قولان
القول الأول أن المراد منه حياة الكافر قال ابن عباس يريد حياة أهل الشرك والنفاق والسبب في وصف حياة هؤلاء بهذه الصفة أن حياة المؤمن يحصل فيها أعمال صالحة فلا تكون لعباً ولهواً
والقول الثاني ى ن هذا عام في حياة المؤمن والكافر والمراد منه اللذات الحاصلة في هذه الحياة والطيبات المطلوبة في هذه الحياة وإنما سماها باللعب واللهو لأن الإنسان حال اشتغاله باللعب واللهو يلتذ به ثم عند انقراضه وانقضائه لا يبقى منه إلا الندامة فكذلك هذه الحياة لا يبقى عند انقراضها إلا الحسرة والندامة
واعلم أن تسمية هذه الحياة باللعب واللهو فيه وجوه الأول أن مدة اللهو واللعب قليلة سريعة الإنقضاء والزوال ومدة هذه الحياة كذلك الثاني أن اللعب واللهو لا بدّ وأن ينساقا في أكثر الأمر إلى شيء من المكارة ولذات الدنيا كذلك الثالث أن اللعب واللهو إنما يحصل عند الاغترار بظواهر الأمور وأما عند التأمل التام والكشف عن حقائق الأمور لا يبقى اللعب واللهو أصلاً وكذلك اللهو واللعب فإنهما لا يصلحان إلا للصبيان والجهال المغفلين أما العقلاء والحصفاء فقلما يحصل لهم خوض في اللعب واللهو فكذلك الالتذاذ بطيبات الدنيا والانتفاع بخيراتها لا يحصل إلا للمغفلين الجاهلين بحقائق الأمور وأما الحكماء المحققون فإنهم يعلمون أن كل هذه الخيرات غرور وليس لها في نفس الأمر حقيقة معتبرة الرابع أن اللعب واللهو ليس لهما عاقبة محمودة فثبت بمجموع هذه الوجوه أن اللذات والأحوال الدنيوية لعب ولهو وليس لهما حقيقة معتبرة ولما بين تعالى ذلك قال بعده وَلَلدَّارُ الاْخِرَة ُ خَيْرٌ لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ وصد الآخرة بكونها خيراً ويدل على أن الأمر كذلك حصول التفات بين أحوال الدنيا وأحوال الآخرة في أمور أحدها أن خيرات الدنيا خسيسة وخيرات الآخرة شريفة بيان أن الأمر كذلك وجوه الأول أن خيرات الدنيا ليست إلا قضاء الشهوتين وهو في نهاية الخساسة بدليل أن الحيوانات الخسيسة تشارك الإنسان فيه بل ربما كان أمر تلك الحيوانات فيها أكمل من أمر الإنسان فإن الجمل أكثر أكلاً والديك والعصفور أكثر وقاعاً والذئب أقوى على الفساد والتمزيق والعقرب أقوى على الايلام ومما يدل على خساستها أنها لو كانت شريفة لكان الإكثار منها يوجب زيادة الشرف فكان يجب أن يكون الإنسان

الذي وقف كل عمره على الأكل والوقاع أشرف الناس وأعلاهم درجة ومعلوم بالبديهة أنه ليس الأمر كذلك بل مثل هذا الإنسان يكون ممقوتاً مستقذراً مستحقراً يوصف بأنه بهيمة أو كلب أو أخس ومما يدل على ذلك أن الناس لا يفتخرون بهذه الأحوال بل يخفونها ولذلك كان العقلاء عند الاشتغال بالوقاع يختفون ولا يقدمون على هذه الأفعال بمحضر من الناس وذلك يدل على أن هذه الأفعال لا توجب الشرف بل النقص ومما يدل على ذلك أيضاً أن الناس إذا شتم بعضهم بعضاً لا يذكرون فيه إلا الألفاظ الدالة على الوقاع ولولا أن تلك اللذة من جنس النقصانات وإلا لما كان الأمر كذلك ومما يدل عليه أن هذه اللذات ترجع حقيقتها إلى دفع الآلام ولذلك فإن كل من كان أشد جوعاً وأقوى حاجة كان التذاذه بهذه الأشياء أكمل له وأقوى وإذا كان الأمر كذلك ظهر أنه لا حقيقة لهذه اللذات في نفس الأمر ومما يدل عليه أيضاً أن هذه اللذات سريعة الاستحالة سريعة الزوال سريعة الانقضاء فثبت بهذه الوجوه الكثيرة خساسة هذه اللذات وأما السعادات الروحانية فإنها سعادات شريفة عالية باقية مقدسة ولذلك فإن جميع الخلق إذا تخيلوا في الإنسان كثرة العلم وشدة الانقباض عن اللذات الجسمانية فإنهم بالطبع يعظمونه ويخدمونه ويعدون أنفسهم عبيداف لذلك الإنسان وأشقياء بالنسبة إليه وذلك يدل على شهادة الفطرة الأصلية بخساسة اللذات الجسمانية وكمال مرتبة اللذات الروحانية
الوجه الثاني في بيان أن خيرات الآخرة أفضل من خيرات الدنيا وهو أن نقول هب أن هذين النوعين تشاركا في الفضل والمنقبة إلا أن الوصول إلى الخيرات الموعودة في عد القيامة معلوم قطعاً وأما الوصول إلى الخبرات الموعودة في غد الدنيا فغير معلوم بل ولا مظنون فكم من سلطان قاهر في بكرة اليوم صار تحت التراب في آخر ذلك اليوم وكم من أمير كبير أصبح في الملك والإمارة ثم أمسى أسيراً حقيراً وهذا التفاوت أيضاً يوجب المباينة بين النوعين
الوجه الثالث هب أنه وجد الإنسان بعد هذا اليوم يوماً آخر في الدنيا إلا أنه لا يدري هل يمكنه الانتفاع بما جمعه من الأموال والطيبات واللذات أم لا أما كل ما جمعه من موجبات السعادات فإنه يعلم قطعاً أنه ينتفع به في الدار الآخرة
الوجه الرابع هب أنه ينتفع بها إلا أن انتفاعه بخيرات الدنيا لا يكون خالياً عن شوائب المكروهات وممازجة المحرمات الخوفات ولذلك قيل من طلب ما لم يخلق أتعب نفسه ولم يرزق فقيل وما هو يا رسول الله قال ( سرور يوم بتمامه )
الوجه الخامس هب أنه ينتفع بتلك الأموال والطيبات في الغد إلا أن تلك المنافع منقرضة ذاهبة باطلة وكلما كانت تلك المنافع أقوى وألذ وأكمل وأفضل كانت الأحزان الحاصلة عند انقراضها وانقضائها أقوى وأكمل كما قال الشاعر المتنبي
أشد الغم عندي في سرور
تيقن عنه صاحبه انتقالا

فثبت بما ذكرنا أن سعادات الدنيا وخيراتها موصوفة بهذه العيوب العظيمة والنقصانات الكاملة وسعادات الآخرة مبرأة عنها فوجب القطع بأن الآخرة أكمل وأفضل وأبقى وأتقى وأحرى وأولى
المسألة الثانية قرأ ابن عامر وَلَدَارُ الاْخِرَة ِ بإضافة الدار إلى الآخرة والباقون وَلَلدَّارُ الاْخِرَة ُ على جعل الآخرة نعتاً للدار أما وجه قراءة ابن عامر فهو أن الصفة في الحقيقة مغايرة للموصوف فصحت الإضافة من هذا الوجه ونظيره قولهم بارحة الأولى ويوم الخميس وحق اليقين وعند البصرين لا تجوز هذه الإضافة قالوا لأن الصفة نفس الموصوف وإضافة الشيء إلى نفسه ممتنعة
واعلم أن هذا بناء على أن الصفة نفس الموصوف وهو مشكل لأنه يعقل تصور الموصوف منفكاً عن الصفة ولو كان الموصوف عين الصفة لكان ذلك محالاً ولقولهم وجه دقيق يمكن تقريره إلا أنه لا يليق بهذا المكان ثم إن البصريين ذكروا في تصحيح قراءة ابن عامر وجهاً رخر فقالوا لم يجعل الآخرة صفة للدار لكنه جعلها صفة للساعة فكأنه قال ولدار الساعة الآخرة
فإن قيل فعلى هذا التقدير الذي ذكرتم تكون قد أقيمت الآخرة التي هي الصفة مقام الموصوف الذي هو الساعة وذلك قبيح قلنا لا يقبح ذلك إذا كانت الصفة قد استعملت استعمال الأسماء ولفظ الآخرة قد استعمل الأسماء والدليل عليه قوله وَلَلاْخِرَة ُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الاْولَى ( الضحى 4 ) وأما قراءة العامة فهي ظاهرة لأنها تقتضي جعل الآخرة صفة للدار وذلك هو الحقيقة ومتى أمكن إجراء الكلام على حقيقته فلا حاجة إلى العدول عنه والله أعلم
المسألة الثالثة اختلفوا في المراد بالدار الآخرة على وجوه قال ابن عباس هي الجنة وإنها خير لمن اتقى الكفر والمعاصي وقال الحسن المراد نفس الآخرة خير وقال الأصم التمسك بعمل الآخرة خير وقال آخرون نعيم الآخرة من نعيم الدنيا من حيث إنها باقية دائمة مصونة عن الشوائب آمنة من الانقضاء والانقراض
ثم قال تعالى لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ فبيّن أن هذه الخيرية إنما تحصل لمن كان من المتقين من المعاصي والكبائر فأما الكافر والفاسق فلاا لأن الدنيا بالنسبة إليه خير من الآخرة على ما قال عليه السلام ( الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر )
ثم قال أَفَلاَ تَعْقِلُونَ قرأ نافع وابن عامر أَفَلاَ تَعْقِلُونَ بالتاء ههنا وفي سورة الأعراف ويوسف ويس وقرأ حفص عن عاصم في يس بالياء والباقي بالتاء وقرأ عاصم في وراية يحيى في يوسف بالتاء والباقي بالياء وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي وعاصم في رواية الأعش والبرجمي جميع ذلك بالياء قال الواحدي من قرأ بالياء معناه أفلا يعقلون الذين يتقون أن الدار الآخرة خير لهم من هذه الدار فيعملون لما ينالون به الدرجة الرفيعة والنعيم الدائم فلا يفترون في طلب ما يوصل إلى ذلك ومن قرأ بالتاء فالمعنى قل لهم أفلا تعقلون أيها المخاطبون أن ذلك خير والله أعلم

قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِى يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَاكِنَّ الظَّالِمِينَ بِأايَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن طوائف الكفار كانوا فرقاً كثيرين فمنهم من ينكر نبوته لأنه كان ينكر رسالة البشر ويقول يجب أن يكون رسول الله من جنس الملائكة وقد ذكر الله تعالى في هذه السورة شبهة هؤلاء وأجاب عنها ومنهم من يقول إن محمداً يخبرنا بالحشر والنشر بعد الموت وذلك محال وكانوا يستدلون بامتناع الحشر والنشر على الطعن في رسالته وقد ذكر الله تعالى ذلك وأجاب عنه بالوجوه الكثيرة التي تقدم ذكرها ومنهم من كان يشافهه بالسفاهة وذكر ما لا ينبغي من القول وهو الذي ذكره الله تعالى في هذه الآية واختلفوا في أن ذلك المحزن ما هو فقيل كانوا يقولن إنه ساحر وشاعر وكاهن ومجنون وهو قول الحسن وقيل إنهم كانوا يصرحون بأنهم لا يؤمنون به ولا يقبلون دينه وشريعته وقيل كانوا ينسبونه إلى الكذب والافتعال
المسألة الثانية قرأ نافع لَيَحْزُنُكَ بضم الياء وكسر الزاي والباقون بفتح الياء وضم الزاي وهما لغتان يقال حزنني كذا وأحزنني
المسألة الثالثة قرأ نافع والكسائي فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذّبُونَكَ خفيفة والباقون يكذبونك مشددة وفي هاتين القراءتين قولان الأول ى ن بينهما فرقاً ظاهراً ثم ذكروا في تقرير الفرق وجيهن أحدهما كان الكسائي يقرأ بالتخفيف ويحتج بأن العرب تقول كذبت الرجل إذا نسبته إلى الكذب وإلى صنعه الأباطيل من القول وأكذبته إذا أخبرت أن الذي يحدث به كذب وإن لم يكن ذلك بافتعاله وصنعه قال الزجاج معنى كذبته قلت له كذبت ومعنى أكذبته أن الذي أتى به كذب في نفسه من غير ادعاء أن ذلك القائل تكلف ذلك الكذب وأتى به على سبيل الافتعال والقصد فكأن القوم كانوا يعتقدون أن محمداً عليه السلام ما ذكر ذلك على سبيل الافتعال والترويح بل تخيل صحة تلك النبوة وتلك الرسالة إلا أن ذلك الذي تخيله فهو في نفسه باطل والفرق الثاني قال أبو علي يجوز أن يكون معنى لاَ يُكَذّبُونَكَ أي لا يصادفونك كاذباً لأنهم يعرفونك بالصدق والأمانة كما يقال أحمدت الرجل إذا أصبته محموداً فأحببته وأحسنت محمدته إذا صادفته على هذه الأحوال
والقول الثاني أنه لا فرق بين هاتين القراءتين قال أبو علي يجوز أن يكون معنى القراءتين واحداً لأن معنى التفعيل النسبة إلى الكذب بأن يقول له كذبت كما تقول ذنبته وفسقته وخطأته أي قلت له فعلت هذه الأشياء وسقيته ورعيته أي قلت له سقاك الله ورعاك وقد جاء في هذا المعنى أفعلته قالوا أسقيته أي قلت له سقاك الله قال ذو الرمة

وأسقيه حتى كاد مما أبثه
تكلمني أحجاره وملاعبه
أي أنسبه إلى السقيا بأن أقول سقاك الله فعلى هذا التقدير يكون معنى القراءتين واحداً إلا إن فعلت إذا أرادوا أن يسبوه إلى أمر أكثر من أفعلت
المسألة الرابعة ظاهر هذه الآية يقتضي أنهم لا يكذبون محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ولكنهم يجحدون بآيات الله واختلفوا في كيفية الجمع بين هذين الأمرين على وجوه
الوجه الأول أن القوم ما كانوا يكذبونه في السر ولكنهم كانوا يكذبونه في العلانية ويجحدون القرآن والنبوة ثم ذكروا لتصحيح هذا الوجه روايات إحداها أن الحرث بن عامر من قريش قال يا محمد والله ما كذبتنا قط ولكنا إن اتبعناك نتخطف من أرضنا فنحن لا نؤمن بك لهذا السبب وثانيها روي أن الأخنس بن شريق قال لأبي جهل يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب فإنه ليس عندنا أحد غيرنا فقال له والله إن محمداً لصادق وما كذب قط ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجاجة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش فنزلت هذه الآية
إذا عرفت هذا فنقول معنى الآية على هذا التقدير أن القوم لا يكذبونك بقلوبهم ولكنهم يجحدون نبوتك بألسنتهم وظاهر قولهم وهذا غير مستبعد ونظيره قوله تعالى في قصة موسى وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً ( النمل 14 )
الوجه الثاني في تأويل الآية أنهم لا يقولون إنك أنت كذاب لأنهم جربوك الدهر الطويل والزمان المديد وما وجدوا منك كذباً ألبتة وسموك بالأمين فلا يقولون فيك إنك كاذب ولكن جحدوا صحة نبوتك ورسالتك إما لأنهم اعتقدوا أن محمداً عرض له نوع خبل ونقصان فلأجله تخيل من نفسه كونه رسولاً من عند الله وبهذا التقدير لا ينسبونه إلى الكذب أو لأنهم قالوا إنه ما كذب في سائر الأمور بل هو أمين في كلها إلا في هذا الوجه الواحد
الوجه الثالث في التأويل أنه لما ظهرت المعجزات القاهرة على وفق دعواه ثم إن القوم أصروا على التكذيب فالله تعالى قال له إن القوم ما كذبوك وإنما كذبوني ونظيره أن رجلاً إذا أهان عبداً لرجل آخر فقال هذا الآخر أيها العبد إنه ما أهانك وءنما أهانني وليس المقصود منه نفي الإهانة عنه بل المقصود تعظيم الأمر وتفخيم الشأن وتقريره أن إهانة ذلك العبد جارية مجرى إهانته ونظيره قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ ( الفتح 10 )
والوجه الرابع في التأويل وهو كلام خطر بالبال هو أن يقال المراد من قوله فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذّبُونَكَ أي لا يخصونك بهذا التكذيب بل ينكرون دلالة المعجزة على الصدق مطلقاً وهو المراد من قوله وَلَاكِنَّ الظَّالِمِينَ بِئَايَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ والمراد أنهم يقولون في كل معجزة إنها سحر وينكرون دلالة المعجزة على الصدق على الإطلاق فكان التقدير إنهم لا يكذبونك على التعيين بل القوم يكذبون جميع الأنبياء والرسل والله أعلم

وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ
في الآية مسألتان
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى أزال الحزن عن قلب رسوله في الآية الأولى بأن بين أن تكذيبه يجري مجرى تكذيب الله تعالى فذكر في هذه الآية طريقاً آخر في إزالة الحزن عن قلبه وذلك بأن بين أن سائر الأمم عاملوا أنبياءهم بمثل هذه المعاملة وأن أولئك الأنبياء صبروا على تكذيبهم وإيذائهم حتى أتاهم النصر والفتح والظفر فأنت أولى بالتزام هذه الطريقة لأنك مبعوث إلى جميع العالمين فاصبر كما صبروا تظفر كما ظفروا ثم أكد وقوى تعالى هذا الوعد بقوله ولا مبدل لكلمات الله يعني أن وعد الله إياك بالنصر حق وصدق ولا يمكن تطرق الخلف والتبديل إليه ونظيره قوله تعالى ) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ ( الصفات 171 ) وقوله كَتَبَ اللَّهُ لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى ( المجادلة 21 ) وبالجملة فالخلف في كلام الله تعالى محال وقوله وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ أي خبرهم في القرآن كيف أنجيناهم ودمرنا قومهم قال الأخفش مِنْ ههنا صلة كما تقول أصابنا من مطر وقال غيره لا يجوز ذلك لأنها لا تزاد في الواجب وإنما تزاد مع النفي كما تقول ما أتاني من أحد وهي ههنا للتبعيض فإن الواصل إلى الرسول عليه السلام قصص بعض الأنبياء لا قصص كلهم كما قال تعالى مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ( غافر 78 ) وفاعل ( جاء ) مضمر أضمر لدلالة المذكور عليه وتقديره ولقد جاءك نبأ من نبأ المرسلين
المسألة الثاني قوله تعالى دولا مبدل لكلمات الله يدل على قولنا في خلق الأفعال لأن كل ما أخبر الله عن وقوعه فذلك الخبر ممتنع التغير وإذا امتنع تطرق التغير إلى ذلك الخبر امتنع تطرق التغير إلى المخبر عنه فإذا أخبر الله عن بعضهم بأنه يموت على الكفر كان ترك الكفر منه محالاً فكان تكليفه بالإيمان تكليفاً بما لا يطاق ولله أعلم
يدل على قولنا في خلق الأفعال لأن كل ما أخبر الله عن وقوعه فذلك الخبر ممتنع التغير وإذا امتنع تطرق التغير إلى ذلك الخبر امتنع تطرق التغير إلى المخبر عنه فإذا أخبر الله عن بعضهم بأنه يموت على الكفر كان ترك الكفر منه محالاً فكان تكليفه بالإيمان تكليفاً بما لا يطاق ولله أعلم
وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِن اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِى َ نَفَقاً فِى الأرض أَوْ سُلَّماً فِى السَّمَآءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِأايَة ٍ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ

في الآية مسائل
المسألة الأولى المروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الحرث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف أتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في نفر من قريش فقالوا يا محمد ائتنا من عند الله كما كانت الأنبياء تفعل فانا نصدق بك فأبى الله أن يأتيهم بها فأعرضوا عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فشق ذلك عليه فنزلت هذه الآية والمعنى وإن كان كبر عليك إعراضهم عن الإيمان بك وصحة القرآن فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فافعل
فالجواب محذوف وحسن هذا الحذف لأنه معلوم في النفوس والنفق سرب في الأرض له مخلص إلى مكان رخر ومنه نافقاء اليربوع لأن اليربوع يثقب الأرض إلى العقر ثم يصعد من ذلك العقر إلى وجه الأرض من جانب آخر فكأنه ينفق الأرض نفقاً أي يجعل له منفذاً من جانب آخر ومنه أيضاً سمي المنافق منافقاً لأنه يضمر غير ما يظهر كالنافقاء الذي يتخذه اليربوع وأما السلم فهو مشتق من السلامة وهو الشيء الذي يسلمك إلى مصعدك والمقصود من هذا الكلام أن يقطع الرسول طعمه عن إيمانهم وأن لا يتأذى بسبب إعراضهم عن الإيمان وإقبالهم على الكفر
المسألة الثانية قوله تعالى دلو شاء الله لجمعهم على الهدى تقديره ولو شاء الله هداهم لجمعهم على الهدى وحيثما جمعهم على الهدى وجب أن يقال إنه ما شاء هداهم وذلك يدل على أنه تعالى لا يريد الإيمان من الكافر بل يريد إبقاءه على الكفر والذي يقرب هذا الظاهر أن قدرة الكافر على الكفر إما أن تكون صالحة للإيمان أو غير صالحة له فإن لم تكن صالحة له فالقدرة على الكفر مستلزمة للكفر وغير صالحة للإيمان فخالق هذه القدرة يكون قد أراد هذا الكفر منه لا محالة وأما إن كانت هذه القدرة كما أنها صلحت للكفر فهي أيضاً صالحة للإيمان فلما ساتوت نسبة القدرة إلى الطرفين امتنع رجحان أحد الطرفين على الآخر إلا لداعية مرجحة وحصول تلك الداعية ليس من العبد وإلا وقع التسلسل فثبت أن خالق تلك الداعية هو الله تعالى وثبت أن مجموع القدرة مع الداعية الحاصلة موجب للفعل فثبت أن خالق مجموع تلك القدرة مع تلك الداعية المستلزمة لذلك الكفر مريد لذلك الكفر وغير مريد لذلك الإيمان فهذا البرهان اليقيني قوي ظاهر بهذه الآية ولا بيان أقوى من أن يتطابق البرهان مع ظاهر القرآن قالت المعتزلة المراد لولو شاء الله أن يلجئهم إلى الإيمان لجمعهم علي قال القاضي والالجاء هو أن يعلمهم أنهم لو حالولوا غير الإيمان لمنعهم منه وحينئذٍ يمتنعون من فعل شيء غير الإيمان ومثاله أن أحدنا لو حصل بحضرة السلطان وحضر هناك من حشمه الجمع العظيم وهذا الرجل علم أنه لو هم بقتل السلطان لقتلوه في الحال فإن هذا العلم يصير مانعاً له من قصد قتلك ذلك السلطان ويكون ذلك سبباً لكونه ملجأ إلى ترك ذلك الفعل فكذا ههنا
إذا عرفت الالجاء فنقول إنه تعالى إنما ترك فعل هذا الالجاء لأن ذلك يزيل تكليفهم فيكون ما يقع منهم كأن لم يقع وإنما أراد تعالى أن ينتفعوا مبا يختارونه من قبل أنفسهم من جهة الوصلة إلى الثواب وذلك لا يكون إلا اختياراً
والجواب أنه تعالى أراد منهم الاقدام على الإيمان حال كون الداعي إلى الإيمان وإلى الكفر على

السوية أو حال حصول هذا الرجحان والأول تكليف ما لا يطاق لأن الأمر بتحصيل الرجحان حال حصول الاستواء تكليف بالجمع بين النقيضين وهو محال وإن كان الثاني فالطرف الراجح يكون واجب الوقوع والطرف المرجوح يكون ممتنع الوقوع وكل هذه الأقسام تنافي ما ذكروه من المكنة والاختيار فسقط قولهم بالكلية والله أعلم
المسألة الثالثة قوله تعالى في آخر الآية تقديره ولو شاء الله هداهم لجمعهم على الهدى وحيثما جمعهم على الهدى وجب أن يقال إنه ما شاء هداهم وذلك يدل على أنه تعالى لا يريد الإيمان من الكافر بل يريد إبقاءه على الكفر والذي يقرب هذا الظاهر أن قدرة الكافر على الكفر إما أن تكون صالحة للإيمان أو غير صالحة له فإن لم تكن صالحة له فالقدرة على الكفر مستلزمة للكفر وغير صالحة للإيمان فخالق هذه القدرة يكون قد أراد هذا الكفر منه لا محالة وأما إن كانت هذه القدرة كما أنها صلحت للكفر فهي أيضاً صالحة للإيمان فلما ساتوت نسبة القدرة إلى الطرفين امتنع رجحان أحد الطرفين على الآخر إلا لداعية مرجحة وحصول تلك الداعية ليس من العبد وإلا وقع التسلسل فثبت أن خالق تلك الداعية هو الله تعالى وثبت أن مجموع القدرة مع الداعية الحاصلة موجب للفعل فثبت أن خالق مجموع تلك القدرة مع تلك الداعية المستلزمة لذلك الكفر مريد لذلك الكفر وغير مريد لذلك الإيمان فهذا البرهان اليقيني قوي ظاهر بهذه الآية ولا بيان أقوى من أن يتطابق البرهان مع ظاهر القرآن قالت المعتزلة المراد لولو شاء الله أن يلجئهم إلى الإيمان لجمعهم علي قال القاضي والالجاء هو أن يعلمهم أنهم لو حالولوا غير الإيمان لمنعهم منه وحينئذٍ يمتنعون من فعل شيء غير الإيمان ومثاله أن أحدنا لو حصل بحضرة السلطان وحضر هناك من حشمه الجمع العظيم وهذا الرجل علم أنه لو هم بقتل السلطان لقتلوه في الحال فإن هذا العلم يصير مانعاً له من قصد قتلك ذلك السلطان ويكون ذلك سبباً لكونه ملجأ إلى ترك ذلك الفعل فكذا ههنا
إذا عرفت الالجاء فنقول إنه تعالى إنما ترك فعل هذا الالجاء لأن ذلك يزيل تكليفهم فيكون ما يقع منهم كأن لم يقع وإنما أراد تعالى أن ينتفعوا مبا يختارونه من قبل أنفسهم من جهة الوصلة إلى الثواب وذلك لا يكون إلا اختياراً
والجواب أنه تعالى أراد منهم الاقدام على الإيمان حال كون الداعي إلى الإيمان وإلى الكفر على السوية أو حال حصول هذا الرجحان والأول تكليف ما لا يطاق لأن الأمر بتحصيل الرجحان حال حصول الاستواء تكليف بالجمع بين النقيضين وهو محال وإن كان الثاني فالطرف الراجح يكون واجب الوقوع والطرف المرجوح يكون ممتنع الوقوع وكل هذه الأقسام تنافي ما ذكروه من المكنة والاختيار فسقط قولهم بالكلية والله أعلم
المسألة الثالثة قوله تعالى في آخر الآية فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ نهي له عن هذه الحالة وهذا النهي لا يقتضي إقدامه على مثل هذه الحالة كما أن قوله وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ( الأحزاب 48 ) لا يدل على أنه ( صلى الله عليه وسلم ) أطاعهم وقبل دينهم والمقصود أنه لا ينبغي أن يشتد تحسرك على تكذيبهم ولا يجوز أن تجزع من إعراضهم عنك فإنك لو فعلت ذلك قرب حالك من حال الجاهل والمقصود من تغليظ الخطاب التبعيد والزجر له عن مثل هذه الحالة والله أعلم
إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ
اعلم أنه تعالى بيّن السبب في كونهم بحيث لا يقبلون الإيمان ولا يتركون الكفر فقال إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ يعني أن الذين تحرص على أن يصدقوك بمنزلة الموتى الذين لا يسمعون وإنما يستجيب من يسمع كقوله إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى ( النمل 80 ) قال علي بن عيسى الفرق بين يستجيب ويجيب أن يستجيب في قبوله لما دعي إليه وليس كذلك يجيب لأنه قد يجيب بالمخالفة كقول القائل أتوافق في هذا المذهب أم تخالف فيقول المجيب أخالف
وأما قوله وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ففيه قولان الأول أنه مثل لقدرته على إلجائهم إلى الاستجابة والمراد أنه تعالى هو القادر على أن يبعث الموتى من القبور يوم القيامة ثم إليه يرجعون للجزاء فكذلك ههنا أنه تعالى هو القادر على إحياء قلوب هؤلاء الكفار بحياة الإيمان وأنت لا تقدر عليه
والقول الثاني أن المعنى وهؤلاء الموتى يعني الكفرة يبعثهم الله ثم إليه يرجعون فحينئذ يسمعون وأما قبل ذلك فلا سبيل إلى استمعاهم وقريء يَرْجِعُونَ بفتح الياء وأقول لا شك أن الجسد الخالي عن الروح يظهر منه النتن والصديد والقيح وأنواع العفونات وأصلح أحواله أن يدفن تحت التراب وأيضاً الروح الخالية عن العقل يكون صاحبها مجنوناً يستوجب القيد والحبس والعقل بالنسبة إلى الروح كالروح بالنسبة إلى الجسد وأيضاً العقل بدون معرفة الله تعالى وصفاته وطاعته كالضائع الباطل فنسبة التوحيد والمعرفة إلى العقل كنسبة العقل إلى الروح ونسبة الروح إلى الجسد فمعرفة الله ومحبته روح روح الروح فالنفس الخالية عن هذه المعرفة تكون بصفة الأموات فلهذا السبب وصف الله أولئك الكفار المصرين بأنهم الموتى والله أعلم

وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ ءَايَة ٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ ءايَة ً وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
اعلم أن هذا النوع الرابع من شبهات منكري نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك لأنهم قالوال لو كان رسولاً من عند الله فهلا أنزل عليه آية قاهرة ومعجزة باهرة ا
ويروى أن بعض الملحدة طعن فقال لو كان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) قد أتى بآية معجزة لما صح أن يقول أولئك الكفار لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ ءايَة ٌ ولما قال وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ ءايَة ٌ مّن رَّبّهِ
والجواب عنه أن القرآن معجزة قاهرة وبينة باهرة بدليل أنه ( صلى الله عليه وسلم ) تحداهم به فعجزا عن معارضته وذلك يدل على كونه معجزاً
بقي أن يقال فإذا كان الأمر كذلك فكيف قالوا لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ ءايَة ٌ مّن رَّبّهِ
فنقول الجواب عنه من وجوه
الوجه الأول لعلّ القوم طعنوا في كون القرآن معجزاً على سبيل اللجاج والعناد وقالوا إنه من جنس الكتب والكتاب لا يكون من جنس المعجزات كما في التوراة والزبور والإنجيل ولأجل هذه الشبهة طلبوا المعجزة
والوجه الثاني أنهم طلبوا معجزات قاهرة من جنس معجزات سائر الأنبياء مثل فلق البحر واظلال الجبل وإحياء الموتى
والوجه الثالث أنهم طلبوا مزيد الآيات والمعجزات على سبيل التعنت واللجاج مثل إنزال الملائكة وإسقاط السماء كسفاً وسائر ما حكاه عن الكافرين
والوجه الرابع أن يكون المراد ما حكاه الله تعالى عن بعضهم في قوله اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَة ً مّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( الأنفال 32 ) فكل هذه الوجوه مما يحتملها لفظ الآية
ثم إنه تعالى أجاب عن سؤالهم قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزّلٍ ءايَة ً يعني أنه تعالى قادر على إيجاد ما طلبتموه وتحصيل ما اقترحتموه وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ واختلفوا في تفسير هذه الكلمة على وجوه
الوجه الأول أن يكون المراد أنه تعالى لما أنزل آية باهرة ومعجزة قاهرة وهي القرآن كان طلب الزيادة جارياً مجرى التحكم والتعنت الباطل والله سبحانه له الحكم والأمر فإن شاء فعل وإن شاء لم يفعل فإن فاعليته لا تكون إلا بحسب محض المشيئة على قول أهل السنة أو على وفق المصلحة على قول المعتزلة وعلى التقديرين فإنها لا تكون على وفق اقتراحات الناس ومطالباتهم فإن شاء أجابهم إليها وإن شاء لم يجبهم إليها
والوجه الثاني هو أنه لما ظهرت المعجزة القاهرة والدلالة الباهرة الكافية لم يبق لهم عذر ولا علة فبعد ذلك لو أجابهم الله تعالى في ذلك الاقتراح فلعلّهم يقترحون اقتراحاً ثانياً وثالثاً ورابعاً وهكذا إلى ما

لا غاية له وذلك يفضي إلى أن لا يستقر الدليل ولا تتم الحجة فوجب في أول الأمر سد هذا الباب والاكتفاء بما سبق من المعجزة القاهرة والدلالة الباهرة
والوجه الثالث أنه تعالى لو أعطاهم ما طلبوه من المعجزات القاهرة فلو لم يؤمنوا عند ظهورها لاستحقوا عذاب الاستئصال فاقتضت رحمة الله صونهم عن هذا البلاء فما أعطاهم هذا المطلوب رحمة منه تعالى عليهم وإن كان لا يعلمون كيفية هذه الرحمة فلهذا المعنى قال وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
والوجه الرابع أنه تعالى علم منهم أنهم إنما يطلبون هذه المعجزات لا لطلب الفائدة بل لأجل العناد والتعصب وعلم أنه تعالى لو أعطاهم مطلوبهم فهم لا يؤمنون فلهذا السبب ما أعطاهم مطلوبهم لعلمه تعالى أنه لا فائدة في ذلك فالمراد من قوله وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ هو أن القوم لا يعلمون أنهم لما طلبوا ذلك على سبيل التعنت والتعصب فإن الله تعالى لا يعطيهم مطلوبهم ولو كانوا عالمين عاقلين لطلبوا ذلك على سبيل طلب الفائدة وحينئذ كان الله تعالى يعطيهم ذلك المطلوب على أكمل الوجوه والله أعلم
وَمَا مِن دَآبَّة ٍ فِى الأرض وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِى الكِتَابِ مِن شَى ْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى في تقرير وجه النظم فنقول فيه وجهان الأول أنه تعالى بيّن في الآية الأولى أنه لو كان إنزال سائر المعجزات مصلحة لهم لفعلها ولأظهرها إلا أنه لما لم يكن إظهارها مصلحة للمكلفين لا جرم ما أظهرها وهذا الجواب إنما يتم إطا ثبت أنه تعالى يراعي مصالح المكلفين ويتفضل عليهم بذلك فبيّن أن الأمر كذلك وقرره بأن قال وَمَا مِن دَابَّة ٍ فِى الاْرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ في وصلو فضل الله وعنايته ورحمته وإحسانه إليهم وذلك كالأمر المشاهد المحسوس فإذا كانت آثار عنايته واصلة إلى جميع الحيوانات فلو كان في إظهار هذه المعجزات القاهرة مصلحة للمكلفين لفعلها ولأظهرها ولامتنع أن يبخل بها مع ما ظهر أنه لم يبخل على شيء من الحيوانات بمصالحها ومنافعها وذلك يدل على أنه تعالى إنما لم يظهر تلك المعجزات لأن إظهارها يخل بمصالح المكلفين فهذا هو وجه النظم والمناسبة بين هذه الآية وبين ما قبلها والله أعلم
الوجه الثاني في كيفية النظم قال القاضي إنه تعالى لما قدم ذكر الكفار وبين أنهم يرجعون إلى الله ويحشرون بين أيضاً بعده بقوله وَمَا مِن دَابَّة ٍ فِى الاْرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ في أنهم

يحشرون والمقصود بيان أن الحشر والبعث كما هو حاصل في حق الناس فهو أيضاً حاصل في حق البهائم
المسألة الثانية الحيوان إما أن يكون بحيث يدب أو يكون بحيث يطير فجميع ما خلق الله تعالى من الحيوانات فإنه لا يخلو عن هاتين الصفتين إما أن يدب وإما أن يطير وفي الآية سؤالات
السؤال الأول من الحيوان ما لا يدخل في هذين القسمين مثل حيتان البحر وسائر ما يسبح في الماء ويعيش فيه
والجواب لا يبعد أن يوصف بأنها دابة من حيث إنها تدب في الماء أو هي كالطير لأنها تسبح في الماء كما أن الطير يسبح في الهواء إلا أن وصفها بالدبيب أقرب إلى اللغة من وصفها بالطيران
السؤال الثاني ما الفائدة في تقييد الدابة بكونها في الأرض
والجواب من وجهين الأول أنه خص ما في الأرض بالذكر دون ما في السماء احتجاجاً بالأظهر لأن ما في السماء وإن كان مخلوقاً مثلنا فغير ظاهر والثاني أن المقصود من ذكر هذا الكلام أن عناية الله تعالى لما كانت حاصلة في هذه الحيوانات فلو كان إظهار المعجزات القاهرة مصلحة لما منع الله من إظهارها وهذا المقصود إنما يتم بذكر من كان أدون مرتبة من الإنسان لا بذكر من كان أعلى حالاً منه فلهذا المعنى قيد الدابة بكونها في الأرض
السؤال الثالث ما الفائدة في قوله يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ مع أن كل طائر إنما يطير بجناحيه
والجواب فيه من وجوه الأول أن هذا الوصف إنما ذكر للتأكيد كقوله نعجة أنثى وكما يقال كلمته بفي ومشيت إليه برجلي الثاني أنه قد يقول الرجل لعبده طِرْ في حاجتي والمراد الإسراع وعلى هذا التقدير فقد يحصل الطيران لا بالجناح قال الحماسي
طاروا إليه زرافات ووحدانا
ذكر الجناح ليمتحض هذا الكلام في الطير والثالث أنه تعالى قال في صفة الملائكة جَاعِلِ الْمَلَائِكَة ِ رُسُلاً أُوْلِى أَجْنِحَة ٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ( فاطر 1 ) فذكر ههنا قوله وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ ليخرج عنه الملائكة فإنا بينا أن المقصود من هذا الكلام إنما يتم بذكر من كان أدون حالاً من الإنسان لا بذكر من كان أعلى حالاً منه
السؤال الرابع كيف قال إِلاَّ أُمَمٌ مع إفراد الدابة والطائر
والجواب لما كان قوله وَمَا مِن دَابَّة ٍ وَلاَ طَائِرٍ دالاً على معنى الاستغراق ومغنياً عن أن يقول وما من دواب ولا طيور لا جرم حمل قوله إِلاَّ أُمَمٌ على المعنى
السؤال الخامس قوله إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ قال الفرّاء يقال إن كل صنف من البهائم أمة وجاء في الحديث ( لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها ) فجعل الكلاب أمة
إذا ثبت هذا فنقول الآية دلت على أن هذه الدواب والطيور أمثالنا وليس فيها ما يدل على أن هذه

المماثلة في أي المعاني حصلت ولا يمكن أن يقال المراد حصول الممائلة من كل الوجوه وإلا لكان يجب كونها أمثالا لنا في الصورة والخلقة وذلك باطل فظهر أنه لا دلالة على أن تلك المماثلة حصلت في أي الأحوال والأمور فبينوا ذلك
والجواب اختلف الناس في تعيين الأمر الذي حكم الله تعالى فيه بالمماثلة بين البشر وبين الدواب والطيور وذكروا فيه أقوالاً
القول الأول نقل الواحدي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال يريد يعرفونني ويوحدونني ويسبحونني ويحمدونني وإلى هذا القول ذهب طائفة عظيمة من المفسرين وقالوا إن هذه الحيوانات تعرف الله وتحمده وتوحده وتسبحه واحتجوا عليه بقوله تعالى وَأَنْ مِمَّنْ شَى ْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ ( الإسراء 44 ) وبقوله في صفة الحيوانات كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ( النور 41 ) وبما أنه تعالى خاطب النمل وخاطب الهدهد وقد استقصينا في تقرير هذا القول وتحقيقه في هذه الآيات
وعن أبي الدرداء أنه قال أبهمت عقول البهائم عن كل شيء إلا عن أربعة أشياء معرفة الإله وطلب الرزق ومعرفة الذكر والأنثى وتهيوء كل واحد منهما لصاحبه
وروي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( من قتل عصفوراً عبثاً جاء يوم القيامة يعج إلى الله يقول يا رب إن هذا قتلني عبثاً لم ينتفع بي ولم يدعني آكل من خشاش الأرض )
والقول الثاني المراد إلا أمم أمثالكم في كونها أمماً وجماعات وكونها مخلوقة بحيث يشبه بعضها بعضاً ويأنس بعضها ببعض ويتوالد بعضها من بعض كالإنس إلا أن للسائل أن يقول حمل الآية على هذا الوجه لا يفيد فائدة معتبرة لأن كون الحيوانات بهذه الصفة أمر معلوم لكل أحد فلا فائدة في الاخبار عنها
القول الثالث المراد أنها أمثالنا في أن دبرها الله تعالى وخلقها وتكفل برزقها وهذا يقرب من القول الثاني في أنه يجري مجرى الاخبار عما علم حصوله بالضرورة
القول الرابع أراد تعالى أنها أمثالنا في أنها تحشر يوم القيامة يوصل إليها حقوقها كما روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( يقص للجماء من القرناء )
القول السادس ما اخترناه في نظم الآية وهو أن الكفار طلبوا من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الإتيان بالمعجزات القاهرة الظاهرة فبين تعالى أن عنايته وصلت إلى جميع الحيوانات كما وصلت إلى الإنسان ومن بلغت رحمته وفضله إلى حيث لا يبخل به على البهائم كان بأن لا يبخل به على البهائم كان بأن لا يبخل به على الإنسان أولى فدل منع الله من إظهار تلك المعجزات القاهرة على أنه لا مصلحة لأولئك السائلين في إظهارها وأن إظهارها على وفق سؤالهم واقتراحهم يوجب عود الضرر العظيم إليهم

القول السابع ما رواه أبو سليمان الخطابي عن سفيان بن عيينة أنه لما قرأ هذه الآية قال ما في الأرض آدمي إلا وفيه شبه من بعض البهائم فمنهم من يقدم إقدام الأسد ومنهم من يعدو عدو الذئب ومنهم من ينبح نباح الكلب ومنهم من يتطوس كفعل الطاوس ومنهم من يشبه الخنزير فإنه لو ألقي إليه الطعام الطيب تركه وإذا قام الرجل عن رجيعه ولغ فيه فكذلك نجد من الآدميين من لو سمع خمسين حكمة لم يحفظ واحدة منها فإن أخطأت مرة واحدة حفظها ولم يجلس مجلساً إلا رواه عنه
ثم قال فاعلم يا أخي إنك إنما تعاشر البهائم والسباع فبالغ في الحذار والاحتراز فهذا جملة ما قيل في هذا الموضع
المسألة الثالثة ذهب القائلون بالتناسخ إلى أن الأرواح البشرية إن كانت سعيدة مطيعة لله تعالى موصوفة مخالطة عالم الملائكة وأما إن كانت شقية جاهلة عاصية فإنها تنقل إلى أبدان الحيوانات وكلما كانت تلك الأرواح أكثر شقاوة واستحقاقاً للعذاب نقلت إلى بدن حيوان أخس وأكثر شقاء وتعباً واحتجوا على صحة قولهم بهذه الآية فقالوا صريح هذه الآية يدل على أنه لا دابة ولا طائر إلا وهي أمثالنا ولفظ المماثلة يقتضي حصول المساواة في جميع الصفات الذاتية أما الصفات العرضية المفارقة فالمساواة فيها غير معتبرة في حصول المماثلة ثم إن القائلين بهذا القول زادوا عليه وقالوا قد ثبت هذا أن أرواح جميع الحيوانات عارفة بربها وعارفة بما يحصل لها من السعادة والشقاوة وأن الله تعالى أرسل إلى كل جنس منها رسولاً من جنسها واحتجوا عليه بأنه ثبت بهذه الآية أن الدواب والطوير أمم ثم إنه تعالى قال وَإِن مّنْ أُمَّة ٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ ( فاطر 24 ) وذلك تصريح بأن لكل طائفة من هذه الحيوانات رسولاً أرسله الله إليها ثم أكدوا ذلك بقصة الهدهد وقصة النمل وسائر القصص المذكورة في القرآن
واعلم أن القوم بالتناسخ قد أبطلناه بالدلائل الجيدة في علم الأصول وأما هذه الآية فقد ذكرنا ما يكفي في صدق حصول المماثلة في بعض الأمرة المذكورة فلا حاجة إلى إثبات ما ذكره أهل التناسخ والله أعلم
ثم قال تعالى مَّا فَرَّطْنَا فِى الكِتَابِ مِن شَى ْء وفي المراد بالكتاب قولان
القول الأول المراد منه الكتاب المحفوظ في العرش وعالم السماوات المشتمل على جميع أحوال المخلوقات على التفصيل التام كما قال عليه السلام ( جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة )
والقول الثاني أن المراد منه القرآن وهذا أظهر لأن الألف واللام إذا دخلا على الاسم المفرد انصرف إلى المعهود السابق والمعهود السابق من الكتاب عند المسلمين هو القرآن فوجب أن يكون المراد من الكتاب في هذه الآية القرآن
إذا ثبت هذا فلقائل أن يقول كميف قال تعالى مَّا فَرَّطْنَا فِى الكِتَابِ مِن شَى ْء مع أنه ليس فيه تفاصيل علم الطب وتفاصيل علم الحساب ولا تفاصيل كثير من المباحث والعلوم وليس فيه أيضاً تفاصيل مذاهب الناس ودلائلهم في علم الأصول والفروع

والجواب أن قوله مَّا فَرَّطْنَا فِى الكِتَابِ مِن شَى ْء يجب أن يكون مخصوصاً ببيان الأشياء التي يجب معرفتها ولإحاطة بها وبيانه من وجهين الأول أن لفظ التفريط لا يستعمل نفياً وإثباتاً إلا فيما يجب أن يبين لأن أحداً لا ينسب إلى التفريط والتقصير في أن لا يفعل ما لا حاجة إليه وإنما يذكر هذا اللفظ فيما إذا قصر فيما يحتاج إليه الثاني أن جميع آيات القرآن أو الكثير منها دالة بالمطابقة أو التضمن أو الالتزام على أن المقصود من إنزال هذا الكتاب بيان الدين ومعرفة الله ومعرفة أحكام الله وإذا كان هذا التقييد معلوماً من كل القرآن كان المطلق ههنا محمولاً على ذلك المقيد أما قوله إن هذا الكتاب غير مشتمل على جميع علوم الأصول والفروع
فنقول أما علم الأصول فإنه بتمامه حاصل فيه لأن الدلائل الأصلية مذكورة فيه على أبلغ الوجوه فأما روايات المذاهب وتفاصيل الأقاويل فلا حاجة إليها وأما تفاصيل علم الفروع فنقول للعلماء ههنا قولان الأول أنهم قالوا أن القرآن دل على أن الاجماع وخبر الواحد والقياس حجة في الشريعة فكل ما دل عليه أحد الأصول الثلاثة كان ذلك في الحقيقة موجوداً في القرآن وذكر الواحدي رحمه الله لهذا المعنى أمثلة ثلاثة
المثال الأول روي أن ابن مسعود كان يقول مالي لا ألعن من لعنه الله في كتابه يعني الواشمة والمستوشمة والواصلة والمستوصلة وروي أن أمرأة قرأت جميع القرآن ثم أتته فقالت يا بان أم عبد تلوت البارحة ما بين الدفتين فلم أجد فيه لعن الواشمة والمستوشمة فقال لو تلوتيه لوجدتيه قال الله تعالى وَمَا ءاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ( الحشر 7 ) وإن مما أتانا به رسول الله أنه قال لعن الله الواشمة والمستوشمة ) وأقول يمكن وجدان هذا المعنى في كتاب الله بطريق أوضح من ذلك لأنه تعالى قال في سورة النساء وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً لَّعَنَهُ اللَّهُ ( النساء 117 118 ) فحكم عليه باللعن ثم عدد بعده قبائح أفعاله وذكر من جملتها قوله وَلاَمُرَنَّهُمْ الْعَالِمُونَ خَلَقَ اللَّهُ ( النساء 119 ) وظاهر هذه الآية يقتضي أن تغيير الخلق يوجب اللعن
المثال الثاني ذكر أن الشافعي رحمه الله كان جالساً في المسجد الحرام فقال ( لا تسألوني عن شيء إلا أجبتكم فيه من كتاب الله تعالى ) فقال رجل ما تقول في المحرم إذا قتل الزنبور فقال ( لا شيء عليه ) فقال أين هذا في كتاب الله فقال قال الله تعالى وَمَا ءاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ثم ذكر إسناداً إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي ) ثم ذكر إسناداً إلى عمر رضي الله عنه أنه قال للمحرم قتل الزنبور قال الواحدي فأجابه من كتاب الله مستنبطاً بثلاث درجات وأقول ههنا طريق آخر أقرب منه وهو أن الأصل في أموال المسلمين العصمة قال تعالى لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ( البقرة 286 ) وقال وَلاَ يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ ( محمد 36 ) وقال لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَة ً عَن تَرَاضٍ مّنْكُمْ ( النساء 29 ) فنهى عن أكل أموال الناس إلا بطريق التجارة فعند عدم التجارة وجب أن يبقى على أصل الحرمة وهذه العمومات تقتضي أن لا يجب على المحرم الذي قتل الزنبور شيء وذلك لأن التمسك بهذه العمومات يوجب الحكم بمرتبة واحدة
وأما الطريق الذي ذكره الشافعي فهو تمسك بالعموم على أربع درجات أولها التمسك بعموم قوله

وَمَا ءاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ( الحشر 7 ) وأحد الأمور الداخلة تحت هذا أمر النبي عليه السلام بمتابعة الخلفاء الراشدين وثانيها التسمك بعموم قوله عليه الصلاة والسلام ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي ) وثالثها بيان أن عمر رضي الله عنه كان من الخلفاء الراشدين ورابعها الرواية عن عمر أنه لم يوجب في هذه المسألة شيئاً فثبت أن الطريق الذي ذكرناه أقرب
المثال الثالث قال الواحدي روي في حديث العسيف الزاني أن أباه قال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) اقض بيننا بكتاب الله فقال عليه السلام ( والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله ) ثم قضى بالجلد والتغريب على العسيف وبالرجم على المرأة إن اعترفت قال الواحدي وليس للجلد والتغريب ذكر في نص الكتاب وهذا يدل على أن كل ما حكم به النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فهو عين كتاب الله
وأقول هذا المثال حق لأنه تعالى قال لِتُبَيّنَ لِلنَّاسِ مَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ ( النحل 44 ) وكل ما بينه الرسول عليه السلام كان داخلاً تحت هذه الآية فثبت بهذه الأمثلة أن القرآن لما دل على أن الإجماع حجة وأن خبر الواحد حجة وأن القياس حجة فكل حكم ثبت بطريق من هذه الطرق الثلاثة كان في الحقيقة ثابتاً بالقرآن فعند هذا يصح قوله تعالى وَمَا فَرَّطْنَا فِى الكِتَابِ مِن شَى ْء هذا تقرير هذا القول وهو الذي ذهب إلى نصرته جمهور الفقهاء ولقائل أن يقول حاصل هذه الوجه أن القرآن لما دل على خبر الواحد والقياس حجة فكل حكم ثبت بأحد هذين الأصلين كان في الحقيقة قد ثبت بالقرآن إلا أنا نقول حمل قوله مَّا فَرَّطْنَا فِى الكِتَابِ مِن شَى ْء على هذا الوجه لا يجوز لأن قوله مَّا فَرَّطْنَا فِى الكِتَابِ مِن شَى ْء ذكر في معرض تعظيم هذا الكتاب والمبالغة دي مدحه والثناء عليه ولو حملنا هذه الآية على هذا المعنى لم يحصل منه ما يوجب التعظيم وذلك لأنا لو فرضنا أن الله تعالى قال اعملوا بالإجماع وخبر الواحد والقياس كان المعنى الذي ذكروه حاصلاً من هذا اللفظ والمعنى الذي يمكن تحصيله من هذا اللفظ القليل لا يمكن جعله واجباً لمدح القرآن والثناء عليه لسبب اشتمال القرآن عليه لأن هذا إنما يوجب المدح العظيم والثناء التام لو لم يمكن تحصيله بطريق آخر أشد اختصاراً منه فأما لما بينا أن هذا القسم المقصود يمكن حمله وتحصيله باللفظ المختصر الذي ذكرناه علمنا أنه لا يمكن ذكره في تعظيم القرآن فثبت أن هذه الآية مذكورة في معرض تعظيم القرآن وثبت أن المعنى الذي ذكروه لا يفيد تعظيم القرآن فوجب أن يقال إنه لا يجوز حمل هذه الآية على هذا المعنى فهذا أقصى ما يمكن أن يقال في تقرير هذا القول
والقول الثاني في تفسير هذه الآية قول من يقول القرآن وافٍ ببيان جميع الأحكام وتقريره أن الأصل براءة الذمة في حق جميع التكليف وشغل الذمة لا بدّ فيه من دليل منفصل والتنصيص على أقسام ما لم يرد فيه التكليف ممتنع لأن الأقسام التي لم يرد التكليف فيها غير متناهية والتنصيص على ما لا نهاية له محال بل التنصيص إنما يمكن على المتناهي مثلاً لله تعالى ألف تكليف على العباد وذكره في القرآن وأمر محمداً عليه السلام بتبليغ ذلك الألف تكليف آخر ثم أكد هذه الآية بقوله الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ( المائدة 3 ) وبقوله وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ ( الانعام 59 ) فهذا تقرير مذهب هؤلاء والاستقصاء فيه إنما يليق بأصول الفقه والله أعلم

ولنرجع الآن إلى التفسير فنقول قوله مِن شَى ْء قال الواحدي مِنْ زائدة كقوله ما جاء لي من أحد وتقريره ما تركنا في الكتاب شيئاً لم نبينه وأقول كلمة مِنْ للتبعيض فكان المعنى ما فرطنا في الكتاب بعض شيء يحتاج المكلف إليه وهذا هو نهاية المبالغة في أنه تعالى ما ترك شيئاً مما يحتاج الملكف إلى معرفته في هذا الكتاب
وأما قوله ثُمَّ إِلَى رَبّهِمْ يُحْشَرُونَ فالمعنى أنه تعالى يحشر الدواب والطيور يوم القيامة ويتأكد هذا بقوله تعالى وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ( التكوير 5 ) وبما روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( يقتص للجماء من القرناء ) وللعقلاء فيه قولان
القول الأول أنه تعالى يحشر البهائم والطيور لإيصال الأعواض إليها وهو قول المعتزلة وذلك لأن إيصال الآلام إليها من سبق جناية لا يحسن إلا للعوض ولما كان إيصال العوض إليها واجباً فالله تعالى يحشرها ليوصل تلك الأعواض إليها
والقول الثاني قول أصحابنا أن الإيجاب على الله محال بل الله تعالى يحشرها بمجرد الإرادة والمشيئة ومقتضى الإلهية واحتجوا على أن القول بوجوب العوض على الله تعالى محال باطل بأمور
الحجة الأولى أن الوجوب عبارة عن كونه مستلزماً للذم عند الترك وكونه تعالى مستلزماً للذم محال لأنه تعالى كامل لذاته والكامل لذاته لا يعقل كونه مستلزماً للذم بسبب أمر منفصل لأن ما بالذات لا يبطل عنه عروض أمر من الخارج
والحجة الثانية أنه تعالى مالك لكل المحدثات والمالك يحسن تصرفه في ملك نفسه من غير حاجة إلى العوض
والحجة الثالثة أنه لو حسن إيصال الضرر إلى الغير لأجل العوض لوجب أن يحسن منا إيصال المضار إلى الغير لأجل التزام العوض من غير رضاه وذلك باطل فثبت أن القول بالعوض باطل والله أعلم
إذا عرفت هذا فلنذكر بعض التفاريع التي ذكرها القاضي في هذا الكتاب
الفرع الأول قال القاضي كل حيوان استحق العوض على الله تعالى بما لحقه من الآلام وكان ذلك العوض لم يصل إليه في الدنيا فإنه يجب على الله حشره عقلاً في الآخرة ليوفر عليه ذلك العوض والذي لا يكون كذلك فإنه لا يجب حشره عقلاً إلا أنه تعالى أخبر أنه يحشر الكل فمن حيث السمع يقطع بذلك وإنما قلنا أن في الحيوانات من لا يستحق العوض ألبتة لأنها ربما بقيت مدة حياتها مصونة عن الآلام ثم إنه تعالى يميتها من غير إيلام أصلاً فإنه لم يثبت بالدليل أن الموت لا بدّ وأن يحصل معه شيء من الإيلام وعلى هذا التقدير فإنه لا يستحق العوض ألبتة
الفرع الثاني كل حيوان أذن الله تعالى في ذبحه فالعوض على الله وهي أقسام منها ما أذن في ذبحها لأجل الأكل ومنها ما أذن في ذبحها لأجل كونها مؤذية مثل السباع العادية والحشرات المؤذية ومنها آلمها بالأمراض ومنها ما أذن الله في حمل الأحمال الثقيلة عليها واستعمالها في الأفعال الشاقة وأما إذا ظلمها الناس فذلك العوض على ذلك الظالم وإذا ظلم بعضها بعضاً فذلك العوض على ذلك الظالم

فإن قيل إذا ذبح ما لا يؤكل لحمه على وجه التذكية فعلى من العوض
أجاب بأن ذلك ظلم والعوض على الذابح ولذلك نهى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن ذبح الحيوان إلا لمأكلة
الفرع الثالث المراد من العوض منافع عظيم بلغت في الجلالة والرفعة إلى حيث لو كانت هذه البهيمة عاقلة وعلمت أنه لا سبيل لها إلى تحصيل تلك المنفعة إلا بواسطة تحمل ذلك الذبح فإنها كانت ترضى به فهذا هو العوض الذي لأجله يحسن الإيلام والأضرار
الفرع الرابع مذهب القاضي وأكثر معتزلة البصرة أن العوض منقطع قال القاضي وهو قول أكثر المفسرين لأنهم قالوا إنه تعالى بعد توفير العوض عليها يجعلها تراباً وعند هذا يقول الكافر يا ليتني كنت تراباً قال أبو القاسم البخلي يجب أن يكون العوض دائماً واحتج القاضي على قوله بأنه يحسن من الواحد منا أن يلتزم عملاً شاقاً والأجرة منقطعة فعلمنا أن إيصال الألم إلى الغير غير مشروط بدوام الأجرة واحتج البخلي على قوله بأن قال إنه لا يمكن قطع ذلكالعوض إلا بإماتة تلك البهيمة وإماتتها توجب الألم وذلك الألم يوجب عوضاً آخر وهكذا إلى ما لا آخر له
والجواب عنه أنه لم يثبت بالدليل أن الإماتة لا يمكن تحصيلها إلا مع الإيلام والله أعلم
الفرع الخامس أن البهيمة إذا استحقت على بهيمة أخرى عوضاً فإن كانت البهيمة الظالمة قد استحقت عوضاً على الله تعالى فإنه ينقل ذلك العوض إلى المظلوم وإن لم يكن الأمر كذلك فالله تعالى يكمل ذلك العوض فهذا مختصر من أحكام الأعواض على قول المعتزلة والله أعلم
وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِأايَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِى الظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
فيه مسائل
المسألة الأولى في وجه النظم قولان الأول أنه تعالى بين من حال الكفار أنهم بلغوا في الكفر إلى حيث كأن قلوبهم قد صارت ميتة عن قبول الإيمان بقوله إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ( الأنعام 36 ) فذكر هذه الآية تقريراً لذلك المعنى الثاني أنه تعالى لما ذكر في قوله وَمَا مِن دَابَّة ٍ فِى الاْرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ ( الأنعام 38 ) في كونها دالة على كونها تحت تدبير مدبر قديم وتحت تقدير مقدر حكيم وفي أن عناية الله محيطة بهم ورحمته واصلة إليهم قال بعده والمكذبون لهذه الدلائل والمنكرون لهذه العجائب صم لا يسمعون كلاماً ألبتة بكم لا ينطقون بالحق خائضون في ظلمات الكفر غافلون عن تأمل هذه الدلائل

المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الهدى والضلال ليس إلا من الله تعالى وتقريره أنه تعالى وصفهم بكونهم صماً وبكماً وبكونهم في الظلمات وهو إشارة إلى كونهم عمياً فهو بعينه نظير قوله في سورة البقرة صُمٌّ بُكْمٌ عُمْى ٌ ( البقرة 18 )
ثم قال تعالى مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ وهو صريح في أن الهدى والضلال ليسا إلا من الله تعالى قالت المعتزلة الجواب عن هذا من وجوه
الوجه الأول قال الجبائي معناه أنه تعالى يجعلهم صماً وبكماً يوم القيامة عند الحشر ويكونون كذلك في الحقيقة بأن يجعلهم في الآخرة صماً وبكماً في الظلمات ويضلهم بذلك عن الجنة وعن طريقها ويصيرهم إلى النار وأكد القاضي هذا القول بأنه تعالى بين في سائر الآيات أنه يحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً مأواهم جهنم
والوجه الثاني قال الجبائي أيضاً ويحتمل أنهم كذلك في الدنيا فيكون توسعاً من حيث جعلوا بتكذيبهم بآيات الله تعالى في الظلمات لا يهتدون إلى منافع الدين كالصم والبكم الذين لا يهتدون إلى منافع الدنيا فشبههم من هذا الوجه بهم وأجرى عليهم مثل صفاتهم على سبيل التشبيه
والوجه الثالث قال الكعبي قوله صُمٌّ وَبُكْمٌ محمول على الشتم والإهانة لا على أنهم كانوا كذلك في الحقيقة وأما قوله تعالى مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ فقال الكعبي ليس هذا على سبيل المجاز لأنه تعالى وإن أجمل القول فيه ههنا فقد فصله في سائر الآيات وهو قوله وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ( إبراهيم 27 ) وقوله وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ ( البقرة 26 ) وقوله وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى ( محمد 17 ) وقوله يَهْدِى بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ ( المائدة 16 ) وقوله يُثَبّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ ( إبراهيم 27 ) وقوله وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ ( العنكبوت 69 ) فثبت بهذه الآيات أن مشيئة الهدى والضلال وإن كانت مجملة في هذه الآية إلا أنها مخصصة مفصلة في سائر الآيات فيجب حمل هذا المجمل على تلك المفصلات ثم إن المعتزلة ذكروا تأويل هذه الآية على سبيل التفصيل من وجوه الأول أن المراد من قوله الظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ محمول على منع الألطاف فصاروا عندها كالصم والبكم والثاني مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ يوم القيامة عن طريق الجنة وعن وجدان الثواب ومن يشأ أن يهديه إلى الجنة يجعله على صراط مستقيم وهو الصراط الذي يسلكه المؤمنون إلى الجنة
وقد ثبت بالدليل أنه تعالى لا يشاء هذا الاضلال إلا لمن يستحق عقوبة كما لا يشاء الهدى إلا للمؤمنين
وأعلم أن هذه الوجوه التي تكلفها هؤلاء الأقوام إنما يحسن المصير إليها لو ثبت في العقل أنه لا يمكن حمل هذا الكلام على ظاهره وأما لما ثبت بالدليل العقلي القاطع أنه لا يمكن حمل هذا الكلام إلا على ظاهره كان العدول إلى هذه الوجوه المتكلفة بعيداً جداً وقد دللنا على أن الفعل لا يحصل إلا عند حصول الداعي وبينا أن خالق ذلك الداعي هو الله وبينا أن عند حصوله يجب الفعل فهذه المقدمات الثلاثة توجب القطع بأن الكفر والإيمان من الله وبتخليقه وتقديره وتكوينه ومتى ثبت بهذا البرهان القاطع صحة هذا الظاهر كان الذهاب إلى هذه التكلفات فاسداً قطعاً وأيضاً فقد تتبعنا هذه الوجوه بالابطال والنقض في

تفسير قوله خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ( البقرة 7 ) وفي سائر الآيات فلا حاجة إلى الإعادة وأقربها أن هذا الاضلال والهداية معلقان بالمشيئة وعلى ما قالوه فهو أمر واجب على الله تعالى يجب عليه أن يفعله شاء أم أبى والله أعلم
المسألة الثالثة قوله وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِئَايَاتِنَا اختلفوا في المراد بتلك الآيات فمنهم من قال القرآن ومحمد ومنهم من قال يتناول جميع الدلائل والحجج وهذا هو الأصح والله أعلم
قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمْ السَّاعَة ُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَآءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ
أعلم أنه تعالى لما بين غاية جهل أولئك الكفار بين من حالهم أيضاً أنهم إذا نزلت بهم بلية أو محنة يفرزعون إلى الله تعالى ويلجأون إليه ولا يتمردون عن طاعته وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال الفراء للعرب في ( أرأيت ) لغتان إحداهما رؤية العين فإذا قلت للرجل رأيتك كان المراد أهل رأيت نفسك ثم يثنى ويجمع فنقول أرأيتكما أرأيتكم والمعنى الثاني أن تقول أرأيتك وتريد أخبرني وإذا أردت هذا المعنى تركت التاء مفتوحة على كل حال تقول أرأيتك أرأيتكما أرأيتكم أرأيتكن
إذا عرفت هذا فنقول مذهب البصريين أن الضمير الثاني وهو الكاف في قولك أرأيتك لا محل له من الاعراب والدليل قوله تعالى قَالَ أَرَءيْتَكَ هَاذَا الَّذِى كَرَّمْتَ ( الإسرار 62 ) ويقال أيضا أرأيتك زيداً ما شأنه ولو جعلت الكاف محلاً لكنت كأنك تقول أرأيت نفسك زيداً ما شأنه وذلك كلام فاسد فثبت أن الكاف لا محل له من الاعراب بل هو حرف لأجل الخطاب وقال الفراء لو كانت الكاف توكيداً لوقعت التثنية والجمع على التاء كما يقعان عليها عند عدم الكاف فلما فتحت التاء في خطاب الجمع ووقعت علامة الجمع على الكاف دل ذلك على أن الكاف غير مذكور للتوكيد ألا ترى أن الكاف لو سقطت لم يصلح أن يقال لجماعة أرأيت فثبت بهذا انصراف الفعل إلى الكاف وأنها واجبة لازمة مفتقر إليها
أجاب الواحد عنه بأن هذه الحجة تبطل بكاف ذلك وأولئك فإن علامة الجمع تقع عليها مع أنها حرف للخطاب مجرد عن الاسمية والله أعلم
المسألة الثانية قرأ نافع أَرَأَيْتُكُم وأشباه ذلك بتخفيف الهمزة في كل القرآن والكسائي ترك الهمزة في كل القرآن والباقون بالهمزة أما تخفيف الهمزة فالمراد جعلها بين الهمزة والألف على التخفيف القياسي وأما مذهب الكسائي فحسن وبه قرأ عيسى بن عمر وهو

كثير في الشعر وقد تكلمت العرب في مثله بحذف الهمزة للتخفيف كما قالوا وسله وكما أنشد أحمد بن يحيى
وإن لم أقاتل فالبسوني برقعا
بحذف الهمزة أراد فألبسوني بإثبات الهمزة وأما الذين قرأوا بتخفيف الهمزة فالسبب أن الهمزة عين الفعل والله أعلم
المسألة الثالثة معنى الآية أن الله تعالى قال لمحمد عليه السلام قل يا محمد لهؤلاء الكفار إن أتاكم عذاب الله في الدنيا وأتاكم العذاب عند قيام الساعة أترجعون إلى غير الله في دفع ذلك البلاء والضر أو ترجعون فيه إلى الله تعالى ولما كان من المعلوم بالضرورة أنهم إنما يرجعون إلى الله تعالى في دفع البلاء والمحنة لا إلى الأصنام والأوثان لا جرم قال تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ يعني أنكم لا ترجعون في طلب دفع البلية والمحنة إلا إلى الله تعالى
ثم قال فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ أي فيكشف الضر الذي من أجله دعوتم وتنسون ما تشركون به وفيه وجوه الأول قال ابن عباس المراد تتركون الأصنام ولا تدعونهم لعلمكم أنها لا تضر ولا تنفع الثاني قال الزجاج يجوز أن يكون المعنى أنكم في ترككم دعاءهم بمنزلة من قد نسيهم وهذا قول الحسن لأنه قال يعرضون إعراض الناسي ونظيره قوله تعالى حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيّبَة ٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلّ مَكَانٍ ( يونس 22 ) ولا يذكرون الأوثان
المسألة الرابعة هذه الآية تدل على أنه تعالى قد يجيب الدعاء إن شاء وقد لا يجيبه لأنه تعالى قال فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء ولقائل أن يقول إن قوله ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ ( غافر 60 ) يفيد الجزم بحصول الإجابة فكيف الطريق إلى الجمع بين الآيتين
والجواب أن نقول تارة يجزم تعالى بالإجابة وتارة لا يجزم إما بحسب محض المشيئة كما هو قول أصحابنا أو بحسب رعاية المصلحة كما هو قول المعتزلة ولما كان كلا الأمرين حاصلاً لا جرم وردت الآيتان على هذين الوجهين
المسألة الخامسة حاصل هذا الكلام كأنه تعالى يقول لبدة الأوثان إذا كنتم ترجعون عند نزول الشدائد إلى الله تعالى لا إلى الأصنام والأثان فلم تقدمون على عبادة الأصنام التي لا تنتفعون بعبادتها ألبتة وهذا الكلام إنما يفيد لو كان ذكر الحجة والدليل مقبولاً أما لو كان ذلك مردوداً وكان الواجب هو محض التقليد كان هذا الكلام ساقطاً فثبت أن هذه الآية أقوى الدلائل على أن أصل الدين هو الحجة والدليل والله أعلم

وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَآءِ وَالضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَاكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ
اعلم أنه تعالى بين في الآية الأولى أن الكفار عند نزول الشدائد يرجعون إلى الله تعالى ثم بين في هذه الآية أنهم لا يرجعون إلى الله عند كل ما كان من جنس الشدائد بل قد يبقون مصرين على الكفر منجمدين عليه غير راجعين إلى الله تعالى وذلك يدل على مذهبنا من أن الله تعالى إذا لم يهده لم يهتد سواء شاهد الآيات الهائلة أو لم يشاهدها وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في الآية محذوف والتقدير ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك رسلاً فخالفوهم فأخذناهم بالبأساء والضراء وحسن الحذف لكونه مفهوماً من الكلام المذكور وقال الحسن ( البأساء ) شدة الفقر من البؤس ( والضراء ) الأمراض والأوجاع
ثم قال لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ والمعنى إنما أرسلنا الرسل إليهم وإنما سلطنا البأساء والضراء عليهم لأجل أن يتضرعوا ومعنى التضرع التخشع وهو عبارة عن الانقياد وترك التمرد وأصله من الضراعة وهي الذلة يقال ضرع الرجل يضرع ضراعة فهو ضارع أي ذليل ضعيف والمعنى أنه تعالى أعلم نبيه أنه قد أرسل قبله إلى أقوال بلغوا في القسوة إلى أن أخذوا بالشدة في أنفسهم وأموالهم فلم يخضعوا ولم يتضرعوا والمقصود منه التسلية للنبي ( صلى الله عليه وسلم )
فإن قيل أليس قوله بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ يدل على أنهم تضرعوا وههنا يقول قست قلوبهم ولم يتضرعوا
قلنا أولئك أقوام وهؤلاء أقوام آخرون أو نقول أولئك تضرعوا لطلب إزالة البلية ولم يتضرعوا على سبيل الاخلاص لله تعالى فلهذا الفرق حسن النفس والاثبات
ثم قال تعالى فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ معناه نفي التضرع والتقدير فلم يتضرعوا إذ جاءهم بأسنا وذكر كلمة ( لولا ) يفيد أنه ما كان لهم عذر في ترك التضرع إلا عنادهم وقسوتهم وإعجابهم بأعمالهم التي زينها الشيطان لهم والله أعلم
المسألة الثانية احتج الجبائي بقوله لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فقال هذا يدل على أنه تعالى إنما أرسل الرسل إليهم وإنما سلّط البأساء والضرّاء عليهم لإرادة أن يتضرعوا ويؤمنوا وذلك يدل على أنه تعالى أراد الإيمان والطاعة من الكل
والجواب أن كلمة ( لعل ) تفيد الترجي والتمني وذلك في حق الله تعالى محال وأنتم حملتموه على

إرادة هذا المطلوب ونحن نحمله على أنه تعالى عاملهم معاملة لو صدرت عن غير الله تعالى لكان المقصود منه هذا المعنى فإما تعليل حكم الله تعالى ومشيئته فذلك محال على ما ثبت بالدليل ثم نقول إن دلت هذه الآية على قولكم من هذا الوجه فإنها تدل على ضد قولكم من وجه آخر وذلك لأنها تدل على أنهم لم يتضرعوا لقسوة قلوبهم ولأجل أن الشيطان زين لهم أعمالهم
فنقول تلك القسوة إن حصلت بفعلهم احتاجوا في إيجادها إلى سبب آخر ولزم التسلسل وإن حصلت بفعل الله فالقول قولنا وأيضاً هب أن الكفار إنما أقدموا على هذا الفعل القبيح بسبب تزيين الشيطان إلا أن نقول ولم بقي الشيطان مصراً على هذا الفعل القبيح فإن كان ذلك لأجل شيطان آخر تسلسل إلى غير النهاية وإن بطلت هذه المقادير انتهت بالآخرة إلى أن كل أحد إنما يقدم تارة على الخير وأخرى على الشر لأجل الدواعي التي تحصل في قلبه ثم ثبت أن تلك الدواعي لا تحصل إلا بإيجاد الله تعالى فحينئذ يصح قولنا ويفسد بالكلية قولهم والله أعلم
فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَى ْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَة ً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَّنْ إِلَاهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الاٌّ يَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ
واعلم أن هذا الكلام من تمام القصة الأولى فبين الله تعالى أنه أخذهم أولا بالبأساء والضراء لكي لا يتضرعوا ثم بين في هذه الآية أنهم لما نسوا ما ذكروا به من البأساء والضراء فتحنا عليهم أبواب كل شيء ونقلناهم من البأساء والضراء غلى الراحة والرخاء وأنواع الآلاء والنعماء والمقصود أنه تعالى عاملهم بتسليط المكاره والشدائد عليهم تارة فلم ينتفعوا به فنقلهم من تلك الحالة إلى ضدها وهو فتح أبواب الخيرات عليهم وتسهيل موجبات المسرات والسعادات لديهم فلم ينتفعوا به أيضا وهذا كما يفعله الأب المشفق بولده يخاشنه تارة ويلاطفه أخرى طلبا لصلاحه حتى إذا فرحوا بما أوتوا من الخير والنعم لم يزيدوا على الفرح والبطر من غير انتداب لشكر ولا اقدام على اعتذار وتوبة فلا جرم أخذناهم بغتة
واعلم أن قوله فتحنا عليهم أبواب كل شيء معناه فتحنا عليهم أبواب كل شيء كان مغلقا عنهم من الخير حتى إذا فرحوا أي حتى إذا ظنوا أن الذي نزل بهم من البأساء ما كان على سبيل الانتقام من الله ولما فتح الله عليهم أبواب الخيرات ظنوا أن ذلك باستحقاقهم فعند ذلك ظهر أن قلوبهم قست وماتت في هذه الآية مكر بالقوم ورب الكعبة وقال ( صلى الله عليه وسلم ) { إذا رأيت الله يعطي على المعاصي فإن ذلك استدراج من الله تعالى } ثم قرأ هذه الآية قال أهل المعاني وإنما أخذوا في حال الرخاء والراحة ليمون أشد لتحسرهم على ما فاتهم من حال السلامة والعافية وقوله فإذا هم مبلسون أي أيسون من كل خير قال

الفراء المبلس الذي انقطع رجاؤه ولذلك قيل للذي سكت عند انقطاع حجته قد أبلس وقال الزجاج المبلس الشديد الحسرة الحزين والابلاس في اللغة يكون بمعنى اليأس من النجاة عند ورود الهلكة ويكون بمعنى انقطاع الحجة ويكون بمعنى الحيرة بما يرد على النفس من البلية وهذه المعاني متقاربة
ثم قال تعالى فقطع دابر القوم الذين ظلموا الدابر التابع للشيء من خلفه كالولد للوالد يقال دبر فلان القوم يدبرهم دبورا ودبرا إذا كان آخرهم قالل أمية بن أبي الصلت فاستؤصلوا بعذاب حص دابرهم
فما استطاعوا له صرفا ولا انتصرا
وقال أبو عبيدة دابر القوم آخرهم الذي يدبرهم وقال الأصمعي الدابر الأصل يقال قطع الله دابره أي أذهب الله أصله وقوله والحمد لله رب العالمين فيه وجوه الأول معناه أنه تعالى حمد نفسه على أن قطع دابرهم واستأصل شأفتهم لأن ذلك كان جاريا مجرى النعمة العظيمة على أولئك الرسل في إزالة شرهم عن أولئك الأنبياء والثاني أنه تعالى لما علم قسوة قلوبهم لزم أن يقال إنه كلما ازدادت مدة حياتهم ازدادت أنواع كفرهم ومعاصيهم فكانوا يستوجبون به مزيد العقاب والعذاب فكان افناؤهم واماتتهم في تلك الحالة موجبا أن يصيروا مستوجبين لتلك الزيادات من العقاب فكان ذلك جاريا مجرى الإنعام عليهم والثالث أن يكون هذا الحمد والثناء إنما حصل على وجود انعام الله عليهم في أن كلفهم وأزال العذر والعلة عنهم ودبرهم بكل الوجوه الممكنة في التدبير الحسن وذلك بأن أخذهم أولا بالبأساء والضراء ثم نقلهم إلا الآلاء والنعماء وأمهلهم وبعث الأنبياء والرسل إليهم فلما لم يزدادوا إلا انهماكا في الغي والكفر افناهم الله وطهر وجه الأرض من شرهم فكان قوله الحمد لله رب العالمين على تلك النعم الكثيرة المتقدمة
قوله تعالى قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن المقصود من هذا الكلام ذكر ما يدل على وجود الصانع الحكيم المختار وتقريره أن أشرف أعضاء الإنسان هو السمع والبصر والقلب فالأذن محل القوة السامعة والعين محل القوة الباصرة والقلب محل الحياة والعقل والعلم فلو زالت هذه الصفات عن هذه الأعضاء اختل أمر الإنسان وبطلت مصالحه في الدنيا وفي الدين ومن المعلوم بالضرورة أن القادر على تحصيل هذه القوى فيها

وصونها عن الآفات والمخافات ليس إلا الله وإذا كان الأمر كذلك كان المنعم بهذه النعم العالية والخيرات الرفيعة هو الله سبحانه وتعالى فوجب أن يقال المستحق للتعظيم والثناء والعبودية ليس إلا الله تعالى وذلك يدل على أن عبادة الأصنام طريقة باطلة فاسدة
المسألة الثانية ذكروا في قوله وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وجوهاً الأول قال ابن عباس معناه وطبع على قلوبهم فلم يعقلوا الهدى الثاني معناه وأزال عقولكم حتى تصيروا كالمجانين والثالث المراد بهذا الختم الاماتة أي يميت قلوبكم
المسألة الثالثة قوله مَّنْ إِلَاهٌ غَيْرُ اللَّهِ مِنْ رفع بالابتداء وخبره إِلَهٍ و غَيْرِ صفة له وقوله يَأْتِيكُمْ بِهِ هذه الهاء تعود على معنى الفعل والتقدير من إله غير الله يأتيكم بما أخذ منكم
المسألة الرابعة روي عن نافع بِهِ انْظُرْ بضم الهاء وهو على لغة من يقرأ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الاْرْضَ ( القصص 81 ) فحذف الواو لالتقاء الساكنين فصار بِهِ انْظُرْ والباقون بكسر الهاء وقرأ حمزة والكسائي يَصْدِفُونَ باشمام الزاي والباقون بالصاد أي يعرضون عنه يقال صدف عنه أي أعرض والمراد من تصريف الآيات إيرادها على الوجوه المختلفة المتكاثرة بحث يكون كل واحد منها يقوي ما قبل في الايصال إلى المطلوب فذكر تعالى أن مع هذه المبالغة في التفهيم والتقرير والإيضاح والكشف انظر يا محمد أنهم كيف يصدفون ويعرضون
المسألة الخامسة قال الكعبي دلت هذه الآية على أنه تعالى مكنهم من الفهم ولم يخلق فيهم الاعراض والصد ولو كان تعالى هو الخالق لما فيهم من الكفر لم يكن لهذا الكلام معنى واحتج أصحابنا بعين هذه الآية وقالوا إنه تعالى بين أنه بالغ في إظهار هذه الدلالة وفي تقريرها وتنقيجها وإزالة جهات الشبهات عنها ثم إنهم مع هذه المبالغة القاطعة للعذر ما زادوا إلا تمادياً في الكفر والغي والعناد وذلك يدل على أن الهدى والضلال لا يحصلان إلا بهداية الله وإلا بإضلاله فثبت أن هذه الآية دلالتها على قولنا أقوى من دلالتها على قولهم والله أعلم
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَة ً أَوْ جَهْرَة ً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ
اعلم أن الدليل المتقدم كان مختصاً بأخذ السمع والبصر والقلب وهذا عام في جميع أنواع العذاب والمعنى أنه لا دافع لنوع من أنواع العذاب إلا الله سبحانه ولا محصل لخير من الخيرات إلا الله سبحانه فوجب أن يكون هو المعبود بجميع أنواع العبادات لا غيره
فإن قيل ما المراد بقوله بَغْتَة ً أَوْ جَهْرَة ً قلنا العذاب الذي يجيئهم إما أن يجيئهم من غير سبق علامة تدلهم على مجيء ذلك العذاب أو مع سبق هذه العلامة فالأول هو البغتة والثاني هو الجهرة والأول

سماه الله تعالى بالبغتة لأنه فاجأهم بها وسمى الثاني جهرة لأن نفس العذاب وقع بهم وقد عرفوه حتى لو أمكنهم الاحتراز عنه لتحرزوا منه
وعن الحسن أنه قال بَغْتَة ً أَوْ جَهْرَة ً معناه ليلاً أو نهاراً وقال القاضي يجب حمل هذا الكلام على ما تقدم ذكره لأنه لو جاءهم ذلك العذاب ليلاً وقد عاينوا مقدمته لم يكن بغتة ولو جاءهم نهاراً وهم لا يشعرون بمقدمته لم يكن جهرة فأما إذا حملناه على الوجه الذي تقدم ذكره استقام الكلام
فإن قيل فما المراد بقوله هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ مع علمكم بأن العذاب إذا نزل لم يحصل فيه التمييز
قلنا إن الهلاك وإن عم الأبرار والأشرار في الظاهر إلا أن الهلاك في الحقيقة مختص بالظالمين الشريرين لأن الأخيار يستوجبون بسبب نزول تلك المضار بهم أنواعاً عظيمة من الثواب والدرجات الرفيعة عند الله تعالى فذاك وإن كان بلاء في الظاهر إلا أنه يوجب سعادات عظيمة
أما الظالمون فإذا نزل البلاء بهم فقد خسروا الدنيا والآخرة معاً فلذلك وصفهم الله تعالى بكونهم هالكين وذلك تنبيه على أن المؤمن التقي النقي هو السعيد سواء كان في البلاء أو في الآلاء والنعماء وأن الفاسق الكافر هو الشقي كيف دارت قضيته واختلفت أحواله والله أعلم
وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ ءَامَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِأايَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ
اعلم أنه تعالى حكى عن الكفار فيما تقدم أنهم قالوا لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ ءايَة ٌ مّن رَّبّهِ ( الأنعام 37 ) وذكر الله تعلى في جوابهم ما تقدم من الوجوه الكثيرة ثم ذكر هذه الآية والمقصود منها أن الأنبياء والرسل بعثوا مبشرين ومنذرين ولا قدرة لهم على إظهار الآيات وإنزال المعجزات بل ذاك مفوض إلى مشيئة الله تعالى وكلمته وحكمته فقال وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ مبشرين بالثواب على الطاعات ومنذرين بالعقاب على المعاصي فمن قبل قولهم وأتى بالإيمان الذي هو عمل القلب والاصلاح الذي هو عمل الجسد فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ ومعنى المس في اللغة التقاء الشيئين من غير فصل قال القاضي إنه تعالى علل عذاب الكفار بكونهم فاسقين وهذا يقتضي أن يكون كل فاسق كذلك فيقال له هذا معارض بما أنه خص الذين كذبوا بآيات الله بهذا الوعيد وهذا يدل على أن من لم يكن مكذباً بآيات الله أن يلحقه الوعيد أصلاً وأيضاً فهذا يقتضي كون هذا الوعيد معللاً بفسقهم فلم قلتم أن فسق من عرف الله وأقر بالتوحيد والنبوّة والمعاد مساو لفسق من أنكر هذه الأشياء والله أعلم

قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّى مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَى َّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الاٌّ عْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن هذا من بقية الكلام على قوله لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ ءايَة ٌ مّن رَّبّهِ ( الأنعام 37 ) فقال الله تعالى قل لهؤلاء الأقوام إنما بعثت مبشراً ومنذراً وليس لي أن أتحكم على الله تعالى وأمره الله تعالى أن ينفي عن نفسه أموراً ثلاثة أولها قوله لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ اللَّهِ فاعلم أن القوم كانوا يقولون له إن كنت رسولاً من عند الله فاطلب من الله حتى يوسع علينا منافع الدنيا وخيراتها ويفتح علينا أبواب سعادتها فقال تعالى قل لهم إني لا أقول لكم عندي خزائن الله فهو تعالى يؤتي الملك من يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير لا بيدي والخزائن جمع خزانة وهو اسم للمكان الذي يخزن فيه الشيء وخزن الشيء إحرازه بحيث لا تناله الأيدي وثانيها قوله وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ومعناه أن القوم كانوا يقولون له إن كنت رسولاً من عند الله فلا بدّ وأن تخبرنا عما يقع في المستقبل من المصالح والمضار حتى نستعد لتحصيل تلك المصالح ولدفع تلك المضار فقال تعالى قل إني لا أعلم الغيب فكيف تطلبون مني هذه المطالب
والحاصل أنهم كانوا في المقام الأول يطلبون منه الأموال الكثيرة والخيرات الواسعة وفي المقام الثاني كانوا يطلبون منه الاخبار عن الغيوب ليتوسلوا بمعرفة تلك الغيوب إلى الفوز بالمنافع والاجتناب عن المضار والمفاسد وثالثها قوله وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنّى مَلَكٌ ومعناه أن الوقم كانوا يقولون مَّالِ هَاذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِى فِى الاْسْوَاقِ ( الفرقان 7 ) ويتزوج ويخالط الناس فقال تعالى قل لهم إني لست من الملائكة
واعلم أن الناس اختلفوا في أنه ما الفائدة في ذكر نفي هذه الأحوال الثلاثة
فالقول الأول أن المراد منه أن يظهر الرسول من نفسه الواضع لله والخضوع له والاعتراف بعبوديته حتى لا يعتقد فيه مثل اعتقاد النصارى في المسيح عليه السلام
والقول الثاني أن القوم كانوا يقترحون منه إظهار المعجزات القاهرة القوية كقولهم وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الاْرْضِ يَنْبُوعًا ( الإسراء 90 ) إلى آخر الآية فقال تعالى في آخر الآية قُلْ سُبْحَانَ رَبّى هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً ( الإسراء 93 ) يعني لا أدعي إلا الرسالة والنبوّة وأما هذه الأمور التي طلبتموها فلا يكن تحصيلها إلا بقدرة الله فكان المقصود من هذا الكلام إظهار العجز والضعف وأنه لا يستقل بتحصيل هذه المعجزات التي طلبوها منه

والقول الثالث أن المراد من قوله لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ اللَّهِ معناه إني لا أدعي كوني موصوفاً بالقدرة اللائقة بالإله تعالى وقوله وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ أي ولا أدعي كوني موصوفاً بعلم الله تعالى وبمجموع هذين الكلامين حصل أنه لا يدعي الإلهية
ثم قال وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنّى مَلَكٌ وذلك لأنه ليس بعد الإلهية درجة أعلى حالاً من الملائكة فصار حاصل الكلام كأنه يقول لا أدعي الإلهية ولا أدعي الملكية ولكني أدعي الرسالة وهذا منصب لا يمتنع حصوله للبشر فكيف أطبقتم على استنكار قولي ودفع دعواي
المسألة الثانية قال الجبائي الآية دالة على أن الملك أفضل من الأنبياء لأن معنى الكلام لا أدعي منزلة فوق منزلتي ولولا أن الملك أفضل وإلا لم يصح ذلك قال القاضي إن كان الغرض بما نفى طريقة التواضع فالأقرب أن يدل ذلك على أن الملك أفضل وإن كان المراد نفي قدرته عن أفعال لا يقوى عليها إلا الملائكة لم يدل على كونهم أفضل
المسألة الثالثة قوله إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَى َّ ظاهره يدل على أنه لا يعمل إلا بالوحي وهو يدل على حكمين
الحكم الأول
أن هذا النص يدل على أنه ( صلى الله عليه وسلم ) لم يكن يحكم من تلقاء نفسه في شيء من الأحكام وأنه ما كان يجتهد بل جميع أحكامه صادرة عن الوحي ويتأكد هذا بقوله وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْى ٌ يُوحَى ( النجم 3 4 )
الحكم الثاني
إن نفاة القياس قالوا ثبت بهذا النص أنه عليه السلام ما كان يعمل إلا بالوحي النازل عليه فوجب أن لا يجوز لأحد من أمته أن يعملوا إلا بالوحي النازل عليه لقوله تعالى فَاتَّبَعُوهُ ( سبأ 20 ) وذلك ينفي جواز العمل بالقياس ثم أكد هذا الكلام بقوله قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الاْعْمَى وَالْبَصِيرُ وذلك لأن العمل بغير الوحي يجري مجرى عمل الأعمى والعمل بمقتضى نزول الوحي يجري مجرى عمل البصير
ثم قال أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ والمراد منه التنبيه على أنه يجب على العاقل أن يعرف الفرق بين هذين البابين وأن لا يكون غافلاً عن معرفته والله أعلم
وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِّن دُونِهِ وَلِى ٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ

اعلم أنه تعالى لما وصف الرسل بكونهم مبشرين ومنذرين أمر الرسول في هذه الآية بالانذار فقال وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى ( الإنذار ) الاعلام بموضع المخافة وقوله بِهِ قال ابن عباس والزجاج بالقرآن والدليل عليه قوله تعالى قبل هذه الآية إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَى َّ ( الأنعام 50 ) وقال الضحاك وَأَنذِرْ بِهِ أي بالله والأول أولى لأن الانذار والتخويف إنما يقع بالقول وبالكلام لا بذات الله تعالى
وأما قوله الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبّهِمْ ففيه أقوال الأول أنهم الكافرون الذين تقدم ذكرهم وذلك لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان يخوفهم من عذاب الآخرة وقد كان بعضهم يتأثر من ذلك التخويف ويقع في قلبه أنه ربما كان الذي يقوله محمد حقاً فثبت أن هذا الكلام لائق بهؤلاء لا يجوز حمله على المؤمنين لأن المؤمنين يعلمون أنهم يحشرون إلى ربهم والعلم خلاف الخوف والظن ولقائل أن يقول إنه لا يمتنع أن يدخل فيه المؤمنون لأنهم وإن تيقنوا الحشر فلم يتيقنوا العذاب الذي يخاف منه لتجويزهم أن يموت أحدهم على الإيمان والعمل الصالح وتجويز أن لا يموتوا على هذه الحالة فلهذا السبب كانوا خائفين من الحشر بسبب أنهم كانوا مجوزين لحصول العذاب وخائفين منه
والقول الثاني أن المراد منه المؤمنون لأنهم هم الذين يقرون بصحة الحشر والنشر والبعث والقيامة فهم الذين يخافون من عذاب ذلك اليوم
والقول الثالث أنه يتناول الكل لأن لا عاقل إلا وهو يخاف الحشر سواء قطع بحصوله أو كان شاكاً فيه لأنه بالاتفاق غير معلوم البطلان بالضرورة فكان هذا الخوف قائماً في حق الكل ولأنه عليه السلام كان مبعوثاً إلى الكل وكان مأموراً بالتبليغ إلى الكل وخص في هذه الآية الذين يخافون الحشر لأن انتفاعهم بذلك الانذار أكمل بسبب أن خوفهم يحملهم على إعداد الزاد ليوم المعاد
المسألة الثانية المجسمة تمسكوا بقوله تعالى أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبّهِمْ وهذا يقتضي كون الله تعالى مختصاً بمكان وجهة لأن كلمة ( إلى ) لانتهاء الغاية
والجواب المراد إلى المكان الذي جعله ربهم لاجتماعهم وللقضاء عليهم
المسألة الثالثة قوله لَيْسَ لَهُمْ مّن دُونِهِ وَلِى ٌّ وَلاَ شَفِيعٌ قال الزجاج موضع لَّيْسَ نصب على الحال كأنه قيل متخلين من ولي ولا شفيع والعامل فيه يخافون ثم ههنا بحث وذلك لأنه إن كان المراد من الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبّهِمْ الكفار فالكلام ظاهر لأنهم ليس لهم عند الله شفعاء وذلك لأن اليهود والنصارى كانوا يقولون نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ( المائدة 18 ) والله كذبهم فيه وذكر أيضاً في آية أخرى فقال مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ ( غافر 18 ) وقال أيضاً فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَة ُ الشَّافِعِينَ ( المدثر 48 ) وإن كان المراد المسلمين فنقول قوله لَيْسَ لَهُمْ مّن دُونِهِ وَلِى ٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لا ينافي مذهبنا في إثبات الشفاعة للمؤمنين لأن شفاعة الملائكة والرسل للمؤمنين إنما تكون بإذن الله تعالى لقوله مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ( البقرة 255 ) فلما كانت تلك الشفاعة بإذن الله كانت في الحقيقة من الله تعالى

المسألة الرابعة قوله لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ قال ابن عباس معناه وأنذرهم لكي يخافوا في الدنيا وينتهوا عن الكفر والمعاصي قالت المعتزلة وهذا يدل على أنه تعالى أراد من الكفار التقوى والطاعة والكلام على هذا النوع من الاستدلال قد سبق مراراً
وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاة ِ وَالْعَشِى ِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَى ْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَى ْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ
فيه مسائل
المسألة الأولى روي عن عبدالله بن مسعود أنه قال مر الملأ من قريش على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وعنده صهيب وخباب وبلال وعمار وغيرهم من ضعفاء المسلمين فقالوا يا محمد أرضيت بهؤلاء عن قومك أفنحن نكون تبعاً لهؤلاء أطردهم عن نفسك فلعلك إن طردتهم اتبعناك فقال عليه السلام ( ما أنا بطارد المؤمنين ) فقالوا فأقمهم عنا إذا جئنا فإذا أقمنا فأقعدهم معك إن شئت فقال ( نعم ) طمعاً في إيمانهم وروي أن عمر قال له لو فعلت حتى ننظر إلى ماذا يصيرون ثم ألحوا وقالوا للرسول عليه السلام أكتب لنا بذلك كتاباً فدعا بالصحيفة وبعلي ليكتب فنزلت هذه الآية فرمى الصحيفة واعتذر عمر عن مقالته فقال سلمان وخباب فينا نزلت فكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقعد معنا وندنو منه حتى تمس ركبتنا ركبته وكان يقوم عنا إذا أراد القيام فنزل قوله وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم ( الكهف 28 ) فترك القيام عنا إلى أن نقوم عنه وقال ( الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن اصبر نفسي مع قوم من أمتي معكم المحيا ومعكم الممات )
المسألة الثانية احتج الطاعنون في عصمة الأنبياء عليهم السلام بهذه الآية من وجوه الأول أنه عليه السلام طردهم والله تعالى نهاه عن ذلك الطرد فكان ذلك الطرد ذنباً والثاني أنه تعالى قال فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ وقد ثبت أنه طردهم فيلزم أن يقال إنه كان من الظالمين والثالث أنه تعالى حكى عن نوح عليه السلام أنه قال وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( هود 29 ) ثم إنه تعالى أمر محمداً عليه السلام بمتابعة الأنبياء عليهم السلام في جميع الأعمال الحسنة حيث قال أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ( الأنعام 90 ) فبهذا الطريق وجب على محمد عليه السلام أن لا يطردهم فلما طردهم كان ذلك ذنباً والرابع أنه تعالى ذكر هذه الآية في سورة الكهف فزاد فيها فقال تُرِيدُ زِينَة َ الْحَيَواة ِ ( الكهف 28 ) ثم إنه تعالى نهاه عن الالتفات إلى زينة الحياة الدنيا في آية أخرى فقال تَرْضَى وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْواجاً مّنْهُمْ زَهْرَة َ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا ( طه 131 ) فلما نهى عن الالتفات إلى زينة الدنيا ثم ذكر في تلك الآية أنه يريد زينة الحياة الدنيا كان ذلك ذنباً الخامس نقل أن أولئك الفقراء كلما دخلوا على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعد

هذه الواقعة فكان عليه السلانم يقول ( مرحباً بمن عاتبني ربي فيهم ) أو لفظ هذا معناه وذلك يدل أيضاً على الذنب
والجواب عن الأول أنه عليه السلام ما طردهم لأجل الاستخفاف بهم والاستنكاف من فقرهم وإنما عين لجلوسهم وقتاً معيناً سوى الوقت الذي كان يحضر فيه أكابر قريش فكان غرضه منه التلطف في إدخالهم في الإسلام ولعلّه عليه السلام كان يقول هؤلاء الفقراء من المسلمين لا يفوتهم بسبب هذه المعاملة أمر مهم في الدنيا وفي الدين وهؤلاء الكفار فإنه يفوتهم الدين والإسلام فكان ترجيح هذا الجانب أولى فأقصى ما يقال إن هذا الاجتهاد وقع خطأ إلا أن الخطأ في الاجتهاد مغفور وأما قوله ثانياً إن طردهم يوجب كونه عليه السلام من الظالمين
فجوابه أن الظلم عبارة عن وضع الشيء في غير موضعه والمعنى أو أولئك الضعفاء الفقراء كانوا يستحقون التعظيم من الرسول عليه السلام فإذا طردهم عن ذلك المجلس كان ذلك ظلمأْ إلا أنه من باب ترك الأولى والأفضل لا من باب ترك الواجبات وكذا الجواب عن سائر الوجوه فإنا نحمل كل هذه الوجوه على ترك الأفضل والأكمل والأولى والأحرى والله أعلم
المسألة الثالثة قرأ ابن عامر بِالْغَدَاة ِ وَالْعَشِى ّ بالواو وضم الغين وفي سورة الكهف مثله والباقون بالألف وفتح الغين قال أبو علي الفارسي الوجه قراءة العامة بالغدة لأنها تستعمل نكرة فأمكن تعريفها بإدخال لام التعريف عليها فأما ( غدوة ) فمعرفة وهو علم صيغ له وإذا كان كذلك فوجب أن يمتنع إدخال لام التعريف عليه كما يمتنع إدخاله على سائر المعارف وكتبة هذه الكلمة بالواو في المصحف لا تدل على قولهم ألا ترى أنهم كتبوا ( الصلوة ) بالواو وهي ألف فكذا ههنا قال سيبويه ( غدوة وبكرة ) جعل كل واحد منهما اسماً للجنس كما جعلوا أم حبين اسماً لدابة معروفة قال وزعم يونس عن أبي عمرو أنك إذا قلت لقيته يوماً من الأيام غدوة أو بكرة وأنت تريد المعرفة لم تنون فهذه الأشياء تقوي قراءة العامة وأما وجه قراءة ابن عامر فهو أن سيبويه قال زعم الخليل أنه يجوز أن يقال أتيتك اليوم غدوة وبكرة فجعلهما بمنزلة ضحوة والله أعلم
المسألة الرابعة في قوله يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاة ِ وَالْعَشِى ّ قولان الأول أن المراد من الدعاء الصلاة يعني يعبدون ربهم بالصلاة المكتوبة وهي صلاة الصبح وصلاة العصر وهذا قول ابن عباس والحسن ومجاهد
وقيل المراد من الغداة والعشى طرفا النهار وذكر هذين القسمين تنبيهاً على كونهم مواظبين على الصلوات الخمس
والقول الثاني المراد من الدعاء الذكر قال إبراهيم الدعاء ههنا هو الذكر والمعنى يذكرون ربهم طرفي النهار
المسألة الخامسة المجسمة تمسكوا في إثبات الأعضاء لله تعالى بقوله يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وسائر الآيات المناسبة له مثل قوله وَيَبْقَى وَجْهُ رَبّكَ ( الرحمن 27 )
وجوابه أن قوله قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ( الإخلاص 1 ) يقتضي الوجدانية التامة وذلك ينافي التركيب من الأعضاء

والأجزاء فثبت أنه لا بدّ من التأويل وهو من وجهين الأول قوله يُرِيدُونَ وَجْهَهُ المعنى يريدونه إلا أنهم يذكرون لفظ الوجه للتعظيم كما يقال هذا وجه الرأي وهذا وجه الدليل والثاني أن من أحب ذاتاً أحب أن يرى وجهه فرؤية الوجه من لوازم المحبة فلهذا السبب جعل الوجه كناية عن المحبة وطلب الرضا وتمام هذا الكلام تقدم في قوله وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ( البقرة 115 )
ثم قال تعالى مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَى ْء وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مّن شَى ْء اختلفوا في أن الضمير في قوله حِسَابَهُمْ وفي قوله عَلَيْهِمْ إلى ماذا يعود
والقول الأول أنه عائد إلى المشركين والمعنى ما عليك من حساب المشركين من شيء ولا حسابك على المشركين وإنما الله هو الذي يدبر عبيده كما يشاء وأراد والغرض من هذا الكلام أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يتحمل هذا الاقتراح من هؤلاء الكفار فلعلّهم يدخلون في الإسلام ويتخلصون من عقاب الكفر فقال تعالى لا تكن في قيد أنهم يتقون الكفر أم لا فإن الله تعالى هو الهادي والمدبر
القول الثاني أن الضمير عائد إلى الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي وهم الفقراء وذلك أشبه بالظاهر والدليل عليه أن الكناية في قوله فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ عائدة لا محالة إلى هؤلاء الفقراء فوجب أن يكون سائر الكنايات عائدة إليهم وعلى هذا التقدير فذكروا في قوله مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَى ْء قولين أحدهما أن الكفار طعنوا في إيمان أولئك الفقراء وقالوا يا محمد إنهم إنما اجتمعوا عندك وقبلوا دينك لأنهم يجدون بهذا السبب مأكولاً وملبوساً عندك وإلا فهم فارغون عن دينك فقال الله تعالى إن كان الأمر كما يقولون فما يلزمك إلا اعتبار الظاهر وإن كان لهم باطن غير مرضي عند الله فحسابهم عليه لازم لهم لا يتعدى إليك كما أن حسابك عليك لا يتعدى إليهم كقوله وَلاَ تَزِرُ وَازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى ( الأنعام 164 )
فإن قيل أما كفى قوله مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَى ْء حتى ضم إليه قوله وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مّن شَى ْء
قلنا جعلت الجملتان بمنزلة جملة واحدة قصد بهما معنى واحد وهو المعنى في قوله وَلاَ تَزِرُ وَازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى ولا يستقل بهذا المعنى إلا الجملتان جميعاً كأنه قيل لا تؤاخذ أنت ولا هم بحساب صاحبه
القول الثاني ما عليك من حساب رزقهم من شيء فتملهم وتطردهم ولا حساب رزقك عليهم وإنما الرازق لهم ولك هو الله تعالى فدعهم يكونوا عندك ولا تطردهم
وأعلم أن هذه القصة شبيهة بقصة نوح عليه السلام إذ قال له قومه أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الاْرْذَلُونَ ( الشعراء 111 ) فأجابهم نوح عليه السلام و قَالَ وَمَا عِلْمِى بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَى رَبّى لَوْ تَشْعُرُونَ ( الشعراء 112 113 ) وعنوا بقولهم الاْرْذَلُونَ الحاكة والمحترفين بالحرف الخسيسة فكذلك ههنا وقوله فَتَطْرُدَهُمْ جواب النفي ومعناه ما عليك من حسابهم من شيء فتطردهم بمعنى أنه لم يكن عليك حسابهم حتى أنك لأجل ذلك الحساب تطردهم وقوله فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ يجوز أن يكون عطفاً على

قوله فَتَطْرُدَهُمْ على وجه التسبب لأن كونه ظالماً معلوم طردهم ومسبب له وأما قوله فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ففيه قولان الأول فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ لنفسك بهذا الطرد الثاني أن تكون من الظالمين لهم لأنهم لما استوجبوا مزيد التقريب والترحيب كان طردهم ظلماً لهم والله أعلم
وَكَذالِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِّيَقُولوا أَهَاؤُلا ءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ
فيه مسائل
المسألة الأولى أعلم أنه تعالى بيّن في هذه الآية أن كل واحد مبتلى بصاحبه فأولئك الكفار الرؤساء الأغنياء كانوا يحسدون فقراء الصحابة على كونهم سابقين في الإسلام مسارعين إلى قبوله فقالوا لو دخلنا في الإسلام لوجب علينا أن ننقاد لهؤلاء الفقراء المساكين وأن نعترف لهم بالتبعية فكان ذلك يشق عليهم ونظيره قوله تعالى الذّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ ( القمر 25 ) لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ ( الأحقاف 11 ) وأما فقراء الصحابة فكانوا يرون أولئك الكفار في الراحات والمسرات والطيبات والخصب والسعة فكانوا يقولون كيف حصلت هذه الأحوال لهؤلاء مع أنا بقينا في هذه الشدة والضيق والقلة
فقال تعالى وَكَذالِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ فأحد الفريقين يرى الآخر متقدماً عليه في المناصب الدينية والفريق الآخر يرى الفريق الأول متقدماً عليه في المناصب الدنيوية فكانوا يقولون أهذا هو الذي فضله الله علينا وأما المحققون فهم الذين يعلمون أن كل ما فعله الله تعالى فهو حق وصدق وحكمة وصواب ولا اعتراض عليه إما بحكم المالكية على ما هو قول أصحابنا أو بحسب المصلحة على ما هو قول المعتزلة فكانوا صابرين في وقت البلاء شاكرين في وقت الآلاء والنعماء وهم الذين قال الله تعالى ف حقهم أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية في مسألة خلق الأفعال من وجهين الأول أن قوله وَكَذالِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ تصريح بأن إلقاء تلك الفتنة من الله تعالى والمراد من تلك الفتنة ليس إلا اعتراضهم على الله في أن جعل أولئك الفقراء رؤساء في الدين والاعتراض على الله كفر وذلك يدل على أنه تعالى هو الخالق للكفر والثاني أنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا أَهَؤُلاء مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مّن بَيْنِنَا والمراد من قوله مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم هو أنه عليهم بالإيمان بالله ومتابعة الرسول وذلك يدل على أنم هذه المعاني إنما تحصل من الله تعالى لأنه لو كان الموجد للإيمان هو العبد فالله ما من عليه بهذا الإيمان بل العبد هو الذي من على نفسه بهذا الإيمان فصارت هذه الآية دليلاً على قولنا في هذه المسألة من هذين

الوجهين أجاب الجبائي عنه بأن الفتنة في التكليف ما يوجب التشديد وإنما فعلنا ذلك ليقولوا أهؤلاء أي ليقول بعضهم لبعض استفهاماً لا إنكاراً أَهَؤُلاء مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مّن بَيْنِنَا بالإيمان وأجاب الكعبي عنه بأن قال وَكَذالِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ليصبروا أو ليشكروا فكان عاقبة أمرهم أن قالوا أَهَؤُلاء مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مّن بَيْنِنَا على ميثاق قوله فَالْتَقَطَهُ ءالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً ( القصص 8 ) والجواب عن الوجهين أنه عدول عن الظاهر من غير دليل لا سيما والدليل العقلي قائم على صحة هذا الظاهر وذلك لأنه لما كانت مشاهدة هذه الأحوال توجب الأنفة والأنفة توجب العصيان والاصرار على الكفر وموجب الموجب موجب كان الالزام وارداً والله أعلم
المسألة الثالثة في كيفية افتتان البعض بالبعض وجوه الأول أن الغنى والفقر كانا سببين لحصول هذا الافتتان كما ذكرنا في قصة نوح عليه السلام وكما قال في قصة قوم صالح وَقَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا بِالَّذِى ءامَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ( الاعراف 76 ) والثاني ابتلاء الشريف بالوضيع والثالث ابتلاء الذكي بالأبله وبالجملة فصفات الكمال مختلفة متفاوتة ولا تجتمع في إنسان واحد ألبتة بل هي موزعة على الخلق وصفات الكمال محبوبة لذاتها فكل أحد يحسد صاحبه على ما آتاه الله من صفات الكمال
فأما من عرف سر الله تعالى في القضاء والقدر رضي بنصيب نفسه وسكت عن التعرض للخلق وعاش عيشاً طيباً في الدنيا والآخرة والله أعلم
المسألة الرابعة قال هشام بن الحكم إنه تعالى لا يعلم الجزئيات إلا عند حدوثها واحتج بهذه الآية لأن الافتتان هو الاختبار والامتحان وذلك لا يصح إلا لطلب العلم وجوابه قد مر غير مرة

بداية الجزء الثالث عشر من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32

وَإِذَا جَآءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِأايَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة َ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُو ءًا بِجَهَالَة ٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في قوله وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِئَايَاتِنَا فقال بعضهم هو على إطلاقه في كل من هذه صفته وقال آخرون بل نزل في أهل الصفة الذين سأل المشركون الرسول عليه السلام طردهم وإبعادهم فأكرمهم الله بهذا الإكرام وذلك لأنه تعالى نهى الرسول عليه السلام أولاً عن طردهم ثم أمره بأن يكرمهم بهذا النوع من الإكرام قال عكرمة كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إذا رآهم بدأهم بالسلام ويقول ( الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أبدأه بالسلام ) وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن عمر لما اعتذر من مقالته واستغفر الله منها وقال للرسول عليه السلام ما أردت بذلك إلا الخير نزلت هذه الآية وقال بعضهم بل نزلت في قوم أقدموا على ذنوب ثم جاؤه ( صلى الله عليه وسلم ) مظهرين للندامة والأسف فنزلت هذه الآية فيهم والأقرب من هذه الأقاويل أن تحمل هذه الآية على عمومها فكل من آمن بالله دخل تحت هذا التشريف
ولي ههنا إشكال وهو أن الناس اتفقوا على أن هذه السورة نزلت دفعة واحدة وإذا كان الأمر كذلك فكيف يمكن أن يقال في كل واحدة من آيات السورة أن سبب نزولها هو الأمر الفلاني بعينه
المسألة الثانية قوله وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِئَايَاتِنَا مشتمل على أسرار عالية وذلك لأن ما سوى الله تعالى فهو آيات وجود الله تعالى وآيات صفات جلاله وإكرامه وكبريائه وآيات وحدانيته وما سوى الله فلا نهاية له وما لا نهاية له فلا سبيل للعقل في الوقوف عليه على التفصيل التام إلا أن الممكن هو أن يطلع على بعض الآيات ويتوسل بمعرفتها إلى معرفة الله تعالى ثم يؤمن بالبقية على سبيل الإجمال ثم إنه يكون مدة حياته كالسائح في تلك القفار وكالسابح في تلك البحار ولما كان لا نهاية لها فكذلك لا نهاية لترقي العبد في معارج تلك الآيات وهذا مشرع جملي لا نهاية لتفاصيله ثم إن العبد إذا صار موصوفاً بهذه الصفة

فعند هذا أمر الله محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بأن يقول لهم سَلَامٌ عَلَيْكُمُ فيكون هذا التسليم بشارة لحصول السلامة وقوله كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة َ بشارة لحصول الرحمة عقيب تلك السلامة أما السلامة فالنجاة من بحر عالم الظلمات ومركز الجسمانيات ومعدن الآفات والمخالفات وموضع التغييرات والتبديلات وأما الكرامات فبالوصول إلى الباقيات الصالحات والمجردات المقدسات والوصول إلى فسحة عالم الأنوار والترقي إلى معارج سرادقات الجلال
المسألة الثالثة ذكر الزجاج عن المبرد أن السلامة في اللغة أربعة أشياء فمنها سلمت سلاماً وهو معنى الدعاء ومنها أنه اسم من أسماء الله تعالى ومنها الإسلام ومنها اسم للشجر العظيم أحسبه سمي بذلك لسلامته من الآفات وهو أيضاً اسم للحجارة الصلبة وذلك أيضاً لسلامتها من الرخاوة ثم قال الزجاج قوله سَلَامٌ عَلَيْكُمُ السلام ههنا يحتمل تأويلين أحدهما أن يكون مصدر سلمت تسليماً وسلاماً مثل السراح من التسريح ومعنى سلمت عليه سلاماً دعوت له بأن يسلم من الآفات في دينه ونفسه فالسلام بمعنى التسليم والثاني أن يكون السلام جمع السلامة فمعنى قولك السلام عليكم السلامة عليكم وقال أبو بكر بن الأنباري قال قوم السلام هو الله تعالى فمعنى السلام عليكم يعني الله عليكم أي على حفظكم وهذا بعيد في هذه الآية لتنكير السلام في قوله فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ولو كان معرفاً لصح هذا الوجه وأقول كتبت فصولاً مشبعة كاملة في قولنا سلام عليكم وكتبتها في سورة التوبة وهي أجنبية عن هذا الموضع فإذا نقلته إلى هذا الموضع كمل البحث والله أعلم
أما قوله كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة َ ففيه مسائل
المسألة الأولى قوله كتب كذا على فلان يفيد الإيجاب ولكمة ( على ) أيضاً تفيد الإيجاب ومجموعهما مبالغة في الإيجاب فهذا يقتضي كونه سبحانه راحماً لعباده رحيماً بهم على سبيل الوجوب واختلف العقلاء في سبب ذلك الوجوب فقال أصحابنا له سبحانه أن يتصرف في عبيده كيف شاء وأراد إلا أنه أوجب الرحمة على نفسه على سبيل الفضل والكرم وقالت المعتزلة إن كونه عالماً بقبح القبائح وعالماً بكونه غنياً عنها يمنعه من الإقدام على القبائح ولو فعله كان ظلماً والظلم قبيح والقبيح منه محال وهذه المسألة من المسائل الجلية في علم الأصول
المسألة الثانية دلت هذه الآية على أنه لا يمتنع تسمية ذات الله تعالى بالنفس وأيضاً قوله تعالى تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ ( المائدة 116 ) يدل عليه والنفس ههنا بمعنى الذات والحقيقة وأما بمعنى الجسم والدم فالله سبحانه وتعالى مقدس عنه لأنه لو كان جسماً لكان مركباً والمركب ممكن وأيضاً أنه أحد والأحد لا يكون مركباً وما لا يكون مركباً لا يكون جسماً وأيضاً أنه غني كما قال وَاللَّهُ الْغَنِى ُّ والغني لا يكون مركباً وما لا يكون مركباً لا يكون جسماً وأيضاً الأجسام متماثلة في تمام الماهية فلو كان جسماً لحصل له مثل وذلك باطل لقوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ْء ( الشورى 11 ) فأما الدلائل العقلية فكثيرة ظاهرة باهرة قوية جلية والحمد لله عليه
المسألة الثالثة قالت المعتزلة قوله كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة َ ينافي أن يقال إنه تعالى يخلق الكفر في الكافر ثم يعذبه عليه أبد الآباد وينافي أن يقال إنه يمنعه عن الإيمان ثم يأمره حال ذلك المنع

بالإيمان ثم يعذبه على ترك ذلك الإيمان وجواب أصحابنا أنه ضار نافع محيي مميت فهو تعالى فعل تلك الرحمة البالغة وفعل هذا القهر البالغ ولا منافاة بين الأمرين
المسألة الرابعة من الناس من قال إنه تعالى لما أمر الرسول بأن يقول لهم سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة َ كان هذا من قول الله تعالى ومن كلامه فهذا يدل على أنه سبحانه وتعالى قال لهم في الدنيا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة َ وتحقيق هذا الكلام أنه تعالى وعد أقواماً بأنه يقول لهم بعد الموت سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ ( يس 58 ) ثم إن أقواماً أفنوا أعمارهم في العبودية حتى صاروا في حياتهم الدنيوية كأنهم انتقلوا إلى عالم القيامة لا جرم صار التسليم الموعود به بعد الموت في حق هؤلاء حال كونهم في الدنيا ومنهم من قال لا بل هذا كلام الرسول عليه الصلاة والسلام وقوله وعلى التقديرين فهو درجة عالية
ثم قال تعالى أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءا بِجَهَالَة ٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن هذا لا يتناول التوبة من الكفر لأن هذا الكلام خطاب مع الذين وصفهم بقوله وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِئَايَاتِنَا فثبت أن المراد منه توبة المسلم عن المعصية والمراد من قوله بِجَهَالَة ٍ ليس هو الخطأ والغلط لأن ذلك لا حاجة به إلى التوبة بل المراد منه أن تقدم على المعصية بسبب الشهوة فكان المراد منه بيان أن المسلم إذا أقدم على الذنب مع العلم بكونه ذنباً ثم تاب منه توبة حقيقية فإن الله تعالى يقبل توبته
المسألة الثانية قرأ نافع أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ بفتح الألف فَأَنَّهُ غَفُورٌ بكسر الألف وقرأ عاصم وابن عامر بالفتح فيهما والباقون بالكسر فيهما أما فتح الأولى فعلى التفسير للرحمة كأنه قيل كتب ربكم على نفسه أنه من عمل منكم وأما فتح الثانية فعلى أن يجعله بدلاً من الأولى كقوله أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّ مْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ ( المؤمنون 85 ) وقوله كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ ( الحج 4 ) وقوله أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ ( التوبة 63 ) قال أبو علي الفارسي من فتح الأولى فقد جعلها بدلاً من الرحمة وأما التي بعد الفاء فعلى أنه أضمر له خبراً تقديره فله أنه غفور رحيم أي فله غفرانه أو أضمر مبتدأ يكون ( أن ) خبره كأنه قيل فأمره أنه غفور رحيم وأما من كسرهما جميعاً فلأنه لما قال كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة َ فقد تم هذا الكلام ثم ابتدأ وقال أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءا بِجَهَالَة ٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ فدخلت الفاء جواباً للجزاء وكسرت إن لأنها دخلت على مبتدأ وخبر كأنك قلت فهو غفور رحيم إلا أن الكلام بأن أوكد هذا قول الزجاج وقرأ نافع الأولى بالفتح والثانية بالكسر لأنه أبدل الأولى من الرحمة واستأنف ما بعد الفاء والله أعلم
المسألة الثالثة قوله مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءا بِجَهَالَة ٍ قال الحسن كل من عمل معصية فهو جاهل ثم اختلفوا فقيل إنه جاهل بمقدار ما فاته من الثواب وما استحقه من العقاب وقيل إنه وإن علم أن عاقبة ذلك الفعل مذمومة إلا أنه آثر اللذة العاجلة على الخير الكثير الآجل ومن آثر القليل على الكثير قيل في العرف إنه جاهل

وحاصل الكلام أنه وإن لم يكن جاهلاً إلا أنه لما فعل ما يليق بالجهال أطلق عليه لفظ الجاهل وقيل نزلت هذه الآية في عمر حين أشار بإجابة الكفرة إلى ما اقترحوه ولم يعلم بأنها مفسدة ونظير هذه الآية قوله إِنَّمَا التَّوْبَة ُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوء بِجَهَالَة ٍ ( النساء 17 )
المسألة الرابعة قوله تعالى ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فقوله تَابَ إشارة إلى الندم على الماضي وقوله وَأَصْلَحَ إشارة إلى كونه آتياً بالأعمال الصالحة في الزمان المستقبل ثم قال فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ فهو غفور بسبب إزالة العقاب رحيم بسبب إيصال الثواب الذي هو النهاية في الرحمة والله أعلم
وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الاٌّ يَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ قُلْ إِنِّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قُلْ لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَآءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ قُلْ إِنِّى عَلَى بَيِّنَة ٍ مِّن رَّبِّى وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ
قوله تعالى وَكَذَلِكَ نفَصّلُ الاْيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ
المراد كما فصلنا لك في هذه السورة دلائلنا على صحة التوحيد والنبوة والقضاء والقدر فكذلك نميز ونفصل لك دلائلنا وحججنا في تقرير كل حق ينكره أهل الباطل وقوله وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ عطف على المعنى كأنه قيل ليظهر الحق وليستبين وحسن هذا الحذف لكونه معلوماً واختلف القراء في قوله ليستبين فقرأ نافع لتستبين بالتاء وسبيل بالنصب والمعنى لتستبين يا محمد سبيل هؤلاء المجرمين وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ليستبين بالياء مّن سَبِيلٍ بالرفع والباقون بالتاء وسبيل بالرفع على تأنيث سبيل وأهل الحجاز يؤنثون السبيل وبنو تميم يذكرونه وقد نطق القرآن بهما فقال سبحانه بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ( الأعراف 146 ) وقال وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا ( إبراهيم 3 )
فإن قيل لم قال وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ولم يذكر سبيل المؤمنين
قلنا ذكر أحد القسمين يدل على الثاني كقوله سَرَابِيلَ الْقَتْلَى الْحُرُّ ( النحل 81 ) ولم يذكر البرد وأيضاً فالضدان إذا كانا بحيث لا يحصل بينهما واسطة فمتى بانت خاصية أحد القسمين بانت خاصية القسم الآخر والحق والباطل لا واسطة بينهما فمتى استبانت طريقة المجرمين فقد استبانت طريقة المحقين أيضاً لا محالة
قوله تعالى قُلْ إِنّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قُلْ لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَاْ

اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية المتقدمة ما يدل على أنه يفصل الآيات ليظهر الحق وليستبين سبيل المجرمين ذكر في هذه الآية أنه تعالى نهى عن سلوك سبيلهم فقال قُلْ إِنّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَبَيْنَ إِنَّ الَّذِينَ عَلَيْهِمْ مّن شَى ْء فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ وَكَذالِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لّيَقُولواْ أَهَؤُلاء مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِئَايَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة َ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءا بِجَهَالَة ٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَكَذَلِكَ نفَصّلُ الاْيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ قُلْ إِنّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قُلْ لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ ثم قال قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ أي إن اتبعت أهواءكم فأنا ضال وما أنا من المهتدين في شيء والمقصود كأنه يقول لهم أنتم كذلك ولما نفى أن يكون الهوى متبعاً على ما يجب اتباعه بقوله قُلْ إِنّى عَلَى بَيّنَة ٍ مّن رَّبّى أي في أنه لا معبود سواه وكذبتم أنتم حيث أشركتم به غيره
واعلم أنه عليه الصلاة والسلام كان يخوفهم بنزول العذاب عليهم بسبب هذا الشرك والقوم لإصرارهم على الكفر كانوا يستعجلون نزول ذلك العذاب فقال تعالى قل يا محمد مَا عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ يعني قولهم اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَة ً مّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( الأنفال 32 ) والمراد أن ذلك العذاب ينزله الله في الوقت الذي أراد إنزاله فيه ولا قدرة لي على تقديمه أو تأخيره ثم قال إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ وهذا مطلق يتناول الكل والمراد ههنا إن الحكم إلا لله فقط في تأخير عذابهم يَقْضِى الْحَقّ أي القضاء الحق في كل ما يقضي من التأخير والتعجيل وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ أي القاضين وفيه مسألتان
المسألة الأولى احتج أصحابنا بقوله إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ على أنه لا يقدر العبد على أمر من الأمور إلا إذا قضى الله به فيمتنع منه فعل الكفر إلا إذا قضى الله به وحكم به وكذلك في جميع الأفعال والدليل عليه أنه تعالى قال إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ وهذا يفيد الحصر بمعنى أنه لا حكم إلا لله واحتج المعتزلة بقوله يَقْضِى الْحَقّ ومعناه أن كل ما قضى به فهو الحق وهذا يقتضي أن لا يريد الكفر من الكافر ولا المعصية من العاصي لأن ذلك ليس الحق والله أعلم
المسألة الثانية قرأ ابن كثير ونافع وعاصم يَقُصُّ الْحَقَّ بالصاد من القصص يعني أن كل ما أنبأ الله به وأمر به فهو من أقاصيص الحق كقوله نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ( يوسف 3 ) وقرأ الباقون يَقْضِ الْحَقّ والمكتوب في المصاحف ( يقض ) بغير ياء لأنها سقطت في اللفظ لالتقاء الساكنين كما كتبوا سَنَدْعُ الزَّبَانِيَة َ ( العلق 18 ) فما تغن النذر وقوله وقوله يُقْضَى الْحَقّ قال الزجاج فيه وجهان جائز أن يكون الْحَقّ صفة المصدر والتقدير يقض القضاء الحق ويجوز أن يكون يَقْضِ الْحَقّ يصنع الحق لأن كل شيء صنعه الله فهو حق وعلى هذا التقدير الْحَقّ يكون مفعولاً به وقضى بمعنى صنع قال الهذلي وعليهما مسرودتان قضاهما
داود أو صنع السوابغ تبع
أي صنعهما داود واحتج أبو عمرو على هذه القراءة بقوله وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ قال والفصل يكون في القضاء لا في القصص

أجاب أبو علي الفارسي فقال القصص ههنا بمعنى القول وقد جاء الفصل في القول قال تعالى إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وقال الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءايَاتُهُ ( هود 1 ) وقال نُفَصّلُ الآيَاتِ ( الأعراف 32 )
قُل لَّوْ أَنَّ عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِى َ الاٌّ مْرُ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَة ٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّة ٍ فِى ظُلُمَاتِ الأرض وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ
قوله تعالى قُل لَّوْ أَنَّ عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِى َ الاْمْرُ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ
اعلم أن المعنى لَّوْ أَنَّ عِندِى أي في قدرتي وإمكاني مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ من العذاب لَقُضِى َ الاْمْرُ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ لأهلكتكم عاجلاً غضباً لربي واقتصاصاً من تكذيبكم به ولتخلصت سريعاً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ وبما يجب في الحكمة من وقت عقابهم ومقداره والمعنى إني لا أعلم وقت عقوبة الظالمين والله تعالى يعلم ذلك فهو يؤخره إلى وقته والله أعلم
قوله تعالى وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَة ٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ
اعلم أنه تعالى قال في الآية الأولى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ يعني أنه سبحانه هو العالم بكل شيء فهو يعجل ما تعجيله أصلح ويؤخر ما تأخيره أصلح وفي الآية مسائل
المسألة الأولى المفاتح جمع مفتح ومفتح والمفتح بالكسر المفتاح الذي يفتح به والمفتح بفتح الميم الخزانة وكل خزانة كانت لصنف من الأشياء فهو مفتح قال الفراء في قوله تعالى مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَة ِ ( القصص 76 ) يعني خزائنه فلفظ المفاتح يمكن أن يكون المراد منه المفاتيح ويمكن أن يراد منه الخزائن أما على التقدير الأول فقد جعل للغيب مفاتيح على طريق الاستعارة لأن المفاتيح يتوصل بها إلى ما في الخزائن المستوثق منها بالأغلاق والأقفال فالعالم بتلك المفاتيح وكيفية استعمالها في فتح تلك الأغلاق والأقفال يمكنه أن يتوصل بتلك المفاتيح إلى ما في تلك الخزائن فكذلك ههنا الحق سبحانه لما كان عالماً بجميع المعلومات عبر عن هذا المعنى بالعبارة المذكورة وقرىء مفاتيح وأما على التقدير الثاني فالمعنى وعنده خزائن الغيب فعلى التقدير الأول يكون المراد العلم بالغيب وعلى التقدير الثاني المراد منه القدرة على كل الممكنات في قوله بِرازِقِينَ وَإِن مّن شَى ْء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ( الحجر 21 ) وللحكماء في تفسير هذه الآية كلام عجيب مفرع على أصولهم فإنهم قالوا ثبت أن العلم بالعلة علة للعلم

بالمعلول وأن العلم بالمعلول لا يكون علة للعلم بالعلة قالوا وإذا ثبت هذا فنقول الموجود إما أن يكون واجباً لذاته وإما أن يكون ممكناً لذاته والواجب لذاته ليس إلا الله سبحانه وتعالى وكل ما سواه فهو ممكن لذاته والممكن لذاته لا يوجد إلا بتأثير الواجب لذاته وكل ما سوى الحق سبحانه فهو موجود بإيجاده كائن بتكوينه واقع بإيقاعه إما بغير واسطة وإما بواسطة واحدة وإما بوسائط كثيرة على الترتيب النازل من عنده طولاً وعرضاً إذا ثبت هذا فنقول علمه بذاته يوجب عمله بالأثر الأول الصادر منه ثم علمه بذلك الأثر الأول يوجب عمله بالأثر الثاني لأن الأثر الأول علة قريبة للأثر الثاني وقد ذكرنا أن العلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول فبهذا علم الغيب ليس إلا علم الحق بذاته المخصوصة ثم يحصل له من علمه بذاته علمه بالآثار الصادرة عنه على ترتيبها المعتبر ولما كان علمه بذاته لم يحصل إلا لذاته لا جرم صح أن يقال وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ فهذا هو طريقة هؤلاء الفرقة الذين فسروا هذه الآية بناء على هذه الطريقة
ثم اعلم أن ههنا دقيقة أخرى وهي أن القضايا العقلية المحضة يصعب تحصيل العلم بها على سبيل التمام والكمال إلا للعقلاء الكاملين الذين تعودوا الإعراض عن قضايا الحس والخيال وألفوا استحضار المعقولات المجردة ومثل هذا الإنسان يكون كالنادر وقوله وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ قضية عقلية محضة مجردة فالإنسان الذي يقوى عقله على الإحاطة بمعنى هذه القضية نادر جداً والقرآن إنما أنزل لينتفع به جميع الخلق فههنا طريق آخر وهو أن من ذكر القضية العقلية المحضة المجردة فإذا أراد إيصالها إلى عقل كل أحد ذكر لها مثالاً من الأمور المحسوسة الداخلة تحت القضية العقلية الكلية ليصير ذلك المعقول بمعاونة هذا المثال المحسوس مفهوماً لكل أحد والأمر في هذه الآية ورد على هذا القانون لأنه قال أولاً وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ ثم أكد هذا المعقول الكلي المجرد بجزئي محسوس فقال وَيَعْلَمُ مَا فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ وذلك لأن أحد أقسام معلومات الله هو جميع دواب البر والبحر والحس والخيال قد وقف على عظمة أحوال البر والبحر فذكر هذا المحسوس يكشف عن حقيقة عظمة ذلك المعقول
وفيه دقيقة أخرى وهي إنه تعالى قدم ذكر البر لأن الإنسان قد شاهد أحوال البر وكثرة ما فيه من المدن والقرى والمفاوز والجبال والتلال وكثرة ما فيها من الحيوان والنبات والمعادن وأما البحر فإحاطة العقل بأحواله أقل إلا أن الحس يدل على أن عجائب البحار في الجملة أكثر وطولها وعرضها أعظم وما فيها من الحيوانات وأجناس المخلوقات أعجب فإذا استحضر الخيال صورة البحر والبر على هذه الوجوه ثم عرف أن مجموعها قسم حقير من الأقسام الداخلة تحت قوله وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ فيصير هذا المثال المحسوس مقوياً ومكملاً للعظمة الحاصلة تحت قوله وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ ثم إنه تعالى كما كشف عن عظمة قوله وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ بذكر البر والبحر كشف عن عظمة البر والبحر بقوله وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَة ٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وذلك لأن العقل يستحضر جميع ما في وجه الأرض من المدن والقرى والمفاوز والجبال والتلال ثم يستحضركم فيها من النجم والشجر ثم يستحضر أنه لا يتغير حال ورقة إلا والحق سبحانه يعلمها ثم يتجاوز من هذا المثال إلى مثال آخر أشد هيئة منه وهو قوله وَلاَ حَبَّة ٍ فِى ظُلُمَاتِ الاْرْضِ وذلك لأن الحبة في غاية الغصر وظلمات الأرض موضع يبقى أكبر الأجسام وأعظمها

مخفياً فيها فإذا سمع أن تلك الحبة الصغيرة الملقاة في ظمات الأرض على اتساعها وعظمتها لا تخرج عن علم الله تعالى البتة صارت هذه الأمثلة منبهة على عظمة عظيمة وجلالة عالية من المعنى المشار إليه بقوله وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ بحيث تتحير العقول فيها وتتقاصر الأفكار والألباب عن الوصول إلى مباديها ثم إنه تعالى لما قوى أمر ذلك المعقول المحض المجرد بذكر هذه الجزئيات المحسوسة فبعد ذكرها عاد إلى ذكر تلك القضية العقلية المحضة المجردة بعبارة أخرى فقال وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ وهو عين المذكور في قوله وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ فهذا ما عقلناه في تفسير هذه الآية الشريفة العالية ومن الله التوفيق
المسألة الثانية المتكلمون قالوا إنه تعالى فاعل العالم بجواهره وأعراضه على سبيل الإحكام والإتقان ومن كان كذلك كان عالماً بها فوجب كونه تعالى عالماً بها والحكماء قالوا إنه تعالى مبدأ لجميع الممكنات والعلم بالمبدأ يوجب العلم بالأثر فوجب كونه تعالى عالماً بكلها
واعلم أن هذا الكلام من أدل الدلائل على كونه تعالى عالماً بجميع الجزئيات الزمانية وذلك لأنه لما ثبت أنه تعالى مبدأ لكل ما سواه وجب كونه مبدأ لهذه الجزئيات بالأثر فوجب كونه تعالى عالماً بهذه التغيرات والزمانيات من حيث إنها متغيرة وزمانية وذلك هو المطلوب
المسألة الثالثة قوله تعالى وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ يدل على كونه تعالى منزهاً عن الضد والند وتقريره أن قوله وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ يفيد الحصر أي عنده لا عند غيره ولو حصل وجود آخر واجب الوجود لكان مفاتح الغيب حاصلة أيضاً عند ذلك الآخر وحينئذ يبطل الحصر وأيضاً فكما أن لفظ الآية يدل على هذا التوحيد فكذلك البرهان العقلي يساعد عليه وتقريره أن المبدأ لحصول العلم بالآثار والنتائج والصنائع هو العلم بالمؤثر والمؤثر الأول في كل الممكنات هو الحق سبحانه فالمفتح الأول للعلم بجميع المعلومات هو العلم به سبحانه لكن العلم به ليس إلا له لأن ما سواه أثر والعلم بالأثر لا يفيد العلم بالمؤثر فظهر بهذا البرهان أن مفاتح الغيب ليست إلا عند الحق سبحانه والله أعلم
المسألة الرابعة قرىء الاْرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ بالرفع وفيه وجهان الأول أن يكون عطفاً على محل من ورقة وأن يكون رفعاً على الابتداء وخبره إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ كقولك لا رجل منهم ولا امرأة إلا في الدار
المسألة الخامسة قوله إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ فيه قولان الأول أن ذلك الكتاب المبين هو علم الله تعالى لا غير وهذا هو الصواب والثاني قال الزجاج يجوز أن يكون الله جل ثناؤه أثبت كيفية المعلومات في كتاب من قبل أن يخلق الخلق كما قال عز وجل مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَة ٍ فِى الاْرْضِ وَلاَ فِى أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ( الحديد 22 ) وفائدة هذا الكتاب أمور أحدها أنه تعالى إنما كتب هذه الأحوال في اللوح المحفوظ لتقف الملائكة على نفاذ علم الله تعالى في المعلومات وأنه لا يغيب عنه مما في السموات والأرض شيء فيكون في ذلك عبرة تامة كاملة للملائكة الموكلين باللوح المحفوظ لأنهم يقابلون به ما يحدث في صحيفة هذا العالم فيجدونه موافقاً له وثانيها يجوز أن يقال إنه تعالى ذكر ما ذكر من الورقة والحبة تنبيهاً للمكلفين على أمر الحساب وإعلاماً بأنه لا يفوته من كل ما يصنعون في الدنيا شيء لأنه إذا كان

لا يهمل الأحوال التي ليس فيها ثواب ولا عقاب ولا تكليف فبأن لا يهمل الأحول المشتملة على الثواب والعقاب أولى وثالثها أنه تعالى علم أحوال جميع الموجودات فيمتنع تغييرها عن مقتضى ذلك العلم وإلا لزم الجهل فإذا كتب أحوال جميع الموجودات في ذلك الكتاب على التفصيل التام امتنع أيضاً تغييرها وإلا لزم الكذب فتصير كتبة جملة الأحوال في ذلك الكتاب موجباً تاماً وسبباً كاملاً في أنه يمتنع تقدم ما تأخر وتأخر ما تقدم كما قال صلوات الله عليه ( جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة ) والله أعلم
وَهُوَ الَّذِى يَتَوَفَّاكُم بِالَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين كمال علمه بالآية الأولى بين كمال قدرته بهذه الآية وهو كونه قادراً على نقل الذوات من الموت إلى الحياة ومن النوم إلى اليقظة واستقلاله بحفظها في جميع الأحوال وتدبيرها على أحسن الوجوه حالة النوم واليقظة
فأما قوله وَهُوَ الَّذِى يَتَوَفَّاكُم فالمعنى أنه تعالى ينيمكم فيتوفى أنفسكم التي بها تقدرون على الإدراك والتمييز كما قال جل جلاله اللَّهُ يَتَوَفَّى الاْنفُسَ حِينَ مِوْتِهَا وَالَّتِى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِى قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الاْخْرَى إِلَى أَجَلٍ ( الزمر 42 ) فالله جل جلاله يقبض الأرواح عن التصرف بالنوم كما يقبضها بالموت وههنا بحث وهو أن النائم لا شك أنه حي ومتى كان حياً لم تكن روحه مقبوضة البتة وإذا كان كذلك لم يصح أن يقال إن الله توفاه فلا بد ههنا من تأويل وهو أن حال النوم تغور الأرواح الحساسة من الظاهر في الباطن فصارت الحواس الظاهرة معطلة عن أعمالها فعند النوم صار ظاهر الجسد معطلاً عن بعض الأعمال وعند الموت صارت جملة البدن معطلة عن كل الأعمال فحصل بين النوم وبين الموت مشابهة من هذا الاعتبار فصح إطلاق لفظ الوفاة والموت على النوم من هذا الوجه ثم قال وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ يريد ما كسبتم من العمل بالنهار قال تعالى وَمَا عَلَّمْتُمْ مّنَ الْجَوَارِحِ والمراد منها الكواسب من الطير والسباع واحدتها جارحة قال تعالى وَالَّذِينَ اجْتَرَحُواْ أي اكتسبوا وبالجملة فالمراد منه أعمال الجوارح
ثم قال تعالى بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ أي يرد إليكم أرواحكم في النهار والبعث ههنا اليقظة ثم قال لّيَقْضِيَ أَجَلٍ مُّسَمًّى أي أعماركم المكتوبة وهي قوله وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ والمعنى يبعثكم من نومكم إلى أن تبلغوا آجالكم ومعنى القضاء فصل الأمر على سبيل التمام ومعنى قضاء الأجل فصل مدة العمر من غيرها بالموت

واعلم أنه تعالى لما ذكر أنه ينيمهم أولاً ثم يوقظهم ثانياً كان ذلك جارياً مجرى الإحياء بعد الإماتة لا جرم استدل بذلك على صحة البعث والقيامة فقال ثُمَّ إِلَى رَبّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ في ليلكم ونهاركم وفي جميع أحوالكم وأعمالكم
وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَة ً حَتَّى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ
اعلم أن هذا نوع آخر من الدلائل الدالة على كمال قدرة الله تعالى وكمال حكمته وتقريره أنا بينا فيما سبق أنه لا يجوز أن يكون المراد من هذه الآية الفوقية بالمكان والجهة بل يجب أن يكون المراد منها الفوقية بالقهر والقدرة كما يقال أمر فلان فوق أمر فلان بمعنى أنه أعلى وأنفذ ومنه قوله تعالى يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ( الفتح 10 ) ومما يؤكد أن المراد ذلك أن قوله وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ مشعر بأن هذا القهر إنما حصل بسبب هذه الفوقية والفوقية المفيدة لصفة القهر هي الفوقية بالقدرة لا الفوقية بالجهة إذ المعلوم أن المرتفع في المكان قد يكون مقهوراً وتقرير هذا القهر من وجوه الأول إنه قهار للعدم بالتكوين والإيجاد والثاني أنه قهار للوجود بالإفناء والإفساد فإنه تعالى هو الذي ينقل الممكن من العدم إلى الوجود تارة ومن الوجود إلى العدم أخرى فلا وجود إلا بإيجاده ولا عدم إلا بإعدامه في الممكنات والثالث أنه قهار لكل ضده بضده فيقهر النور بالظلمة والظلمة بالنور والنهار بالليل والليل بالنهار وتمام تقريره في قوله قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء ( آل عمران 26 )
وإذا عرفت منهج الكلام فاعلم أنه بحر لا ساحل له لأن كل مخلوق فله ضد فالفوق ضده التحت والماضي ضده المستقبل والنور ضده الظلمة والحياة ضدها الموت والقدرة ضدها العجز وتأمل في سائل الأحوال والصفات لتعرف أن حصول التضاد بينها يقضي عليها بالمقهورية والعجز والنقصان وحصول هذه الصفات في الممكنات يدل على أن لها مدبراً قادراً قاهراً منزهاً عن الضد والند مقدساً عن الشبيه والشكل كما قال وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ والرابع أن هذا البدن مؤلف من الطبائع الأربع وهي متنافرة متباغضة متباعدة بالطبع والخاصة فاجتماعها لا بد وأن يكون بقسر قاسر وأخطأ من قال إن ذلك القاسر هو النفس الإنسانية وهو الذي ذكره ابن سينا في الإشارات لأن تعلق النفس بالبدن إنما يكون بعد حصول المزاج واعتدال الأمشاج والقاهر لهذه الطبائع على الاجتماع سابق على هذا الاجتماع والسابق على حصول الاجتماع مغاير للمتأخر عن حصول الاجتماع فثبت أن القاهر لهذه الطبائع على الاجتماع ليس إلا الله تعالى كما قال وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وأيضاً فالجسد كثيف سفلي ظلماني فاسد عفن والروح لطيف علوي نوراني مشرق باق طاهر نظيف فبينهما أشد المنافرة والمباعدة ثم إنه سبحانه جمع بينهما

على سبيل القهر والقدرة وجعل كل واحد منهما مستكملاً بصاحبه منتفعاً بالآخر فالروح تصون البدن عن العفونة والفساد والتفرق والبدن يصير آلة للروح في تحصيل السعادات الأبدية والمعارف الإلهية فهذا الاجتماع وهذا الانتفاع ليس إلا بقهر الله تعالى لهذه الطبائع كما قال وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وأيضاً فعند دخول الروح في الجسد أعطى الروح قدرة على فعل الضدين ومكنة من الطرفين إلا أنه يمتنع رجحان الفعل على الترك تارة والترك على الفعل أخرى إلا عند حصول الداعية الجازمة الخالية عن المعارض فلما لم تحصل تلك الداعية امتنع الفعل والترك فكان إقدام الفاعل على الفعل تارة وعلى الترك أخرى بسبب حصول تلك الداعية في قلبه من الله يجري مجرى القهر فكان قاهراً لعباده من هذه الجهة وإذا تأملت هذه الأبواب علمت أن الممكنات والمبدعات والعلويات والسفليات والذوات والصفات كلها مقهورة تحت قهر الله مسخرة تحت تسخير الله تعالى كما قال وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ
وأما قوله تعالى وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَة ً فالمراد أن من جملة قهره لعباده إرسال الحفظة عليهم وهؤلاء الحفظة هم المشار إليهم بقوله تعالى لَهُ مُعَقّبَاتٌ مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ( الرعد 11 ) وقوله مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ( ق 18 ) وقوله وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ ( الانفطار 10 11 ) واتفقوا على أن المقصود من حضور هؤلاء الحفظة ضبط الأعمال ثم اختلفوا فمنهم من يقول إنهم يكتبون الطاعات والمعاصي والمباحات بأسرها بدليل قوله تعالى مَا لِهَاذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَة ً وَلاَ كَبِيرَة ً إِلاَّ أَحْصَاهَا ( الكهف 49 ) وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن مع كل إنسان ملكين أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره فإذا تكلم الإنسان بحسنة كتبها من على اليمين وإذا تكلم بسيئة قال من على اليمين لمن على اليسار انتظره لعله يتوب منها فإن لم يتب كتب عليه والقول الأول أقوى لأن قوله تعالى وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَة ً يفيد حفظة الكل من غير تخصيص
والبحث الثاني أن ظاهر هذه الآيات يدل على أن اطلاع هؤلاء الحفظة على الأقوال والأفعال أما على صفات القلوب وهي العلم والجهل فليس في هذه الآيات ما يدل على اطلاعهم عليها أما في الأقوال فلقوله تعالى مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلُهُ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ وأما في الأعمال فلقوله تعالى وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ( الانفطار 10 11 12 ) فأما الإيمان والكفر والإخلاص والإشراك فلم يدل الدليل على اطلاع الملائكة عليها
البحث الثالث ذكروا في فائدة جعل الملائكة موكلين على بني آدم وجوهاً الأول أن المكلف إذا علم أن الملائكة موكلون به يحصون عليه أعماله ويكتبونها في صحائف تعرض على رؤوس الأشهاد في مواقف القيامة كان ذلك أزجر له عن القبائح الثاني يحتمل في الكتابة أن يكون الفائدة فيها أن توزن تلك الصحائف يوم القيامة لأن وزن الأعمال غير ممكن أما وزن الصحائف فممكن الثالث يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد ويجب علينا الإيمان بكل ما ورد به الشرع سواء عقلنا الوجه فيه أو لم نعقل فهذا حاصل ما قاله أهل الشريعة وأما أهل الحكمة فقد اختلفت أقوالهم في هذا الباب على وجوه
الوجه الأول قال المتأخرون منهم وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ومن جملة ذلك القهر أنه خلط الطبائع المتضادة ومزج بين العناصر المتنافرة فلما حصل بينها امتزاج استعد ذلك الممتزج بسبب ذلك الامتزاج

لقبول النفس المدبرة والقوى الحسية والحركية والنطقية فقالوا المراد من قوله وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَة ً تلك النفوس والقوى فإنها هى التي تحفظ تلك الطبائع المقهورة على امتزاجاتها
والوجه الثاني وهو قول بعض القدماء أن هذه النفوس البشرية والأرواح الإنسانية مختلفة بجواهرها متباينة بماهياتها فبعضها خيرة وبعضها شريرة وكذا القول في الذكاء والبلادة والحرية والنذالة والشرف والدناءة وغيرها من الصفات ولكل طائفة من هذه الأرواح السفلية روح سماوي هو لها كالأب الشفيق والسيد الرحيم يعينها على مهماتها في يقظاتها ومناماتها تارة على سبيل الرؤيا وأخرى على سبيل الإلهامات فالأرواح الشريرة لها مبادىء من عالم الأفلاك وكذا الأرواح الخيرة وتلك المبادىء تسمى في مصطلحهم بالطباع التام يعني تلك الأرواح الفلكية في تلك الطبائع والأخلاق تامة كاملة وهذه الأرواح السفلية المتولدة منها أضعف منها لأن المعلول في كل باب أضعف من علته ولأصحاب الطلسمات والعزائم الروحانية في هذا الباب كلام كثير
والقول الثالث النفس المتعلقة بهذا الجسد لا شك في أن النفوس المفارقة عن الأجساد لما كانت مساوية لهذه في الطبيعة والماهية فتلك النفوس المفارقة تميل إلى هذه النفس بسبب ما بينهما من المشاكلة والموافقة وهي أيضاً تتعلق بوجه ما بهذا البدن وتصير معاونة لهذه النفس على مقتضيات طبيعتها فثبت بهذه الوجوه الثلاثة أن الذي جاءت الشريعة الحقة به ليس للفلاسفة أن يمتنعوا عنها لأن كلهم قد أقروا بما يقرب منه وإذا كان الأمر كذلك كان إصرار الجهال منهم على التكذيب باطلاً والله أعلم
أما قوله تعالى حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا فهنا بحثان
البحث الأول أنه تعالى قال اللَّهُ يَتَوَفَّى الاْنفُسَ حِينَ مِوْتِهَا ( الزمر 42 ) وقال الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَواة َ ( الملك 2 ) فهذا النصان يدلان على أن توفي الأرواح ليس إلا من الله تعالى ثم قال قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ ( السجدة 11 ) وهذا يقتضي أن الوفاة لا تحصل إلا من ملك الموت ثم قال في هذه الآية تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا فهذه النصوص الثلاثة كالمتناقضة
والجواب أن التوفي في الحقيقة يحصل بقدرة الله تعالى وهو في عالم الظاهر مفوض إلى ملك الموت وهو الرئيس المطلق في هذا الباب وله أعوان وخدم وأنصار فحسنت إضافة التوفي إلى هذه الثلاثة بحسب الاعتبارات الثلاثة والله أعلم
البحث الثاني من الناس من قال هؤلاء الرسل الذين بهم تحصل الوفاة وهم أعيان أولئك الحفظة فهم في مدة الحياة يحفظونهم من أمر الله وعند مجيء الموت يتوفونهم والأكثرون أن الذين يتولون الحفظ غير الذين يتولون أمر الوفاة ولا دلالة في لفظ الآية تدل على الفرق إلا أن الذي مال إليه الأكثرون هو القول الثاني وأيضاً فقد ثبت بالمقاييس العقلية أن الملائكة الذين هم معادن الرحمة والخير والراحة مغايرون للذين هم أصول الحزن والغم فطائفة من الملائكة هم المسمون بالروحانيين لإفادتهم الروح والراحة والريحان وبعضهم يسمون بالكروبيين لكونهم مبادىء الكرب والغم والأحزان
البحث الثالث الظاهر من قوله تعالى قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ أنه ملك واحد هو

رئيس الملائكة الموكلين بقبض الأرواح والمراد بالحفظة المذكورين في هذه الآية أتباعه وأشياعه عن مجاهد جعل الأرض مثل الطست لملك الموت يتناول من يتناوله وما من أهل بيت إلا ويطوف عليهم في كل يوم مرتين وجاء في الأخبار من صفات ملك الموت ومن كيفية موته عند فناء الدنيا وانقضائها أحوال عجيبة
والبحث الرابع قرأ حمزة توفاه بالألف ممالة والباقون بالتاء فالأول لتقديم الفعل ولأن الجمع قد يذكر والثاني على تأنيث الجمع
أما قوله تعالى وَهُمْ لاَ يُفَرّطُونَ أي لا يقصرون فيما أمرهم الله تعالى به وهذا يدل على أن الملائكة الموكلين بقبض الأرواح لا يقصرون فيما أمروا به وقوله في صفة ملائكة النار لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ يدل على أن ملائكة العذاب لا يقصرون في تلك التكاليف وكل من أثبت عصمة الملائكة في هذه الأحوال أثبت عصمتهم على الإطلاق فدلت هذه الآية على ثبوت عصمة الملائكة على الإطلاق أما قوله تعالى ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقّ ففيه مباحث الأول قيل المردودون هم الملائكة يعني كما يموت بنو آدم يموت أيضاً أولئك الملائكة وقيل بل المردودون البشر يعني أنهم بعد موتهم يردون إلى الله واعلم أن هذه الآية من أدل الدلائل على أن الإنسان ليس عبارة عن مجرد هذه البنية لأن صريح هذه الآية يدل على حصول الموت للعبد ويدل على أنه بعد الموت يرد إلى الله والميت مع كونه ميتاً لا يمكن أن يرد إلى الله لأن ذلك الرد ليس بالمكان والجهة لكونه تعالى متعالياً عن المكان والجهة بل يجب أن يكون ذلك الرد مفسراً بكونه منقاداً لحكم الله مطيعاً لقضاء الله وما لم يكن حياً لم يصح هذا المعنى فيه فثبت أنه حصل ههنا موت وحياة أما الموت فنصيب البدن فبقي أن تكون الحياة نصيباً للنفس والروح ولما قال تعالى ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللَّهِ وثبت أن المرد وهو النفس والروح ثبت أن الإنسان ليس إلا النفس والروح وهو المطلوب
واعلم أن قوله ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مشعر بكون الروح موجودة قبل البدن لأن الرد من هذا العالم إلى حضرة الجلال إنما يكون لو أنها كانت موجودة قبل التعلق بالبدن ونظيره قوله تعالى ارْجِعِى إِلَى رَبّكِ ( الفجر 28 ) وقوله إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً ( يونس 4 ) ونقل عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( خلق الله الأرواح قبل الأجساد بألفي عام ) وحجة الفلاسفة على إثبات أن النفوس البشرية غير موجودة قبل وجود البدن حجة ضعيفة بينا ضعفها في ( الكتب العقلية )
البحث الثاني كلمة ( إلى ) تفيد انتهاء الغاية فقوله إلى الله يشعر بإثبات المكان والجهة لله تعالى وذلك باطل فوجب حمله على أنهم ردوا إلى حيث لا مالك ولا حاكم سواه
البحث الثالث أنه تعالى سمى نفسه في هذه الآية باسمين أحدهما المولى وقد عرفت أن لفظ المولى ولفظ الولي مشتقان من الولي أي القرب وهو سبحانه القريب البعيد الظاهر الباطن لقوله تعالى وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ وقوله مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَة ٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ ( المجادلة 7 ) وأيضاً المعتق يسمى بالمولى وذلك كالمشعر بأنه أعتقهم من العذاب وهو المراد من قوله ( سبقت رحمتي غضبي ) وأيضاً أضاف نفسه إلى العبد فقال مَوْلَاهُمُ الْحَقّ وما أضافهم إلى نفسه وذلك نهاية الرحمة

وأيضاً قال مولاهم الحق والمعنى أنهم كانوا في الدنيا تحت تصرفات الموالي الباطلة وهي النفس والشهوة والغضب كما قال أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَاهَهُ هَوَاهُ ( الجاثية 23 ) فلما مات الإنسان تخلص من تصرفات الموالي الباطلة وانتقل إلى تصرفات المولى الحق
والاسم الثاني الحق واختلفوا هل هو من أسماء الله تعالى فقيل الحق مصدر وهو نقيض الباطل وأسماء المصادر لا تجري على الفاعلين إلا مجازاً كقولنا فلان عدل ورجاء وغياث وكرم وفضل ويمكن أن يقال الحق هو الموجود وأحق الأشياء بالموجودية هو الله سبحانه لكونه واجباً لذاته فكان أحق الأشياء بكونه حقاً هو هو واعلم أنه قرىء الحق بالنصب على المدح كقولك الحمد لله الحق
أما قوله أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ففيه مسائل
المسألة الأولى قوله أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ معناه أنه لا حكم إلا لله ويتأكد ذلك بقوله إن الحكم إلا لله وذلك يوجب أنه لا حكم لأحد على شيء إلا الله وذلك يوجب أن الخير والشر كله يحكم الله وقضائه فلولا أن الله حكم للسعيد بالسعادة والشقي بالشقاوة وإلا لما حصل ذلك
المسألة الثانية قال أصحابنا هذه الآية تدل على أن الطاعة لا توجب الثواب والمعصية لا توجب العقاب إذ لو ثبت ذلك لثبت للمطيع على الله حكم وهو أخذ الثواب وذلك ينافي ما دلت الآية عليه أنه لا حكم إلا لله
المسألة الثالثة احتج الجبائي بهذه الآية على حدوث كلام الله تعالى قال لو كان كلامه قديماً لوجب أن يكون متكلماً بالمحاسبة الآن وقبل خلقه وذلك محال لأن المحاسبة تقتضي حكاية عمل تقدم وأصحابنا عارضوه بالعلم فإنه تعالى كان قبل الخلق عالماً بأنه سيوجد وبعد وجوده صار عالماً بأنه قبل ذلك وجد فلم يلزم منه تغير العلم فلم لا يجوز مثله في الكلام والله أعلم
المسألة الرابعة اختلفوا في كيفية هذا الحساب فمنهم من قال إنه تعالى يحاسب الخلق بنفسه دفعة واحدة لا يشغله كلام عن كلام ومنهم من قال بل يأمر الملائكة حتى أن كل واحد من الملائكة يحاسب واحداً من العباد لأنه تعالى لو حاسب الكفار بنفسه لتكلم معهم وذلك باطل لقوله تعالى في صفة الكفار ولا يكلمهم ( آل عمران 77 ) وأما الحكماء فلهم كلام في تفسير هذا الحساب وهو أنه إنما يتخلص بتقديم مقدمتين
فالمقدمة الأولى أن كثرة الأفعال وتكررها توجب حدوث الملكات الراسخة القوية الثابتة والاستقراء التام يكشف ع ن صحة ما ذكرناه ألا ترى أن كل من كانت مواظبته على عمل من الأعمال أكثر كان رسوخ الملكة التامة على ذلك العمل منه فيه أقوى
المقدمة الثانية إنه لما كان تكرر العمل يوجب حصول الملائكة الراسخة وجب أن يكون لكل واحد من تلك الأعمال أثر في حصول تلك الملكة بل كان يجب أن يكون لكل جزء من أجزاء العمل الواحد أثر بوجه ما في حصول تلك الملكة والعقلاء ضربوا لهذا الباب أمثلة

المثال الأول أنا لو فرضنا سفينة عظيمة بحيث لو ألقي فيها مائة ألف من فإنها تغوص في الماء بقدر شبر واحد فلو لم يلق فيها إلا حبة واحدة من الحنطة فهذا القدر من إلقاء الجم الثقيل في تلك السفينة يوجب غوصها في الماء بمقدار قليل وإن قلت وبلغت في القلة إلى حيث لا يدركها الحس ولا يضبطها الخيال
المثال الثاني أنه ثبت عند الحكماء أن البسائط أشكالها الطبيعية كرات فسطح الماء يجب أن يكون كرة والقسى المشابهة من الدوائر المحيطة بالمركز الواحد متفاوتة فإن تحدب القوس الحاصل من الدائرة العظمى يكون أقل من تحدب القوس المشابهة للأولى من الدائرة الصغرى وإذا كان الأمر كذلك فالكوز إذا ملىء من الماء ووضع تحت الجبل كانت حدبة سطح ذلك الماء أعظم من حدبته عندما يوضع الكوز فوق الجبل ومتى كانت الحدبة أعظم وأكثر كان احتمال الماء بالكوز أكثر فهذا يوجب أن احتمال الكوز للماء حال كونه تحت الجبل أكثر من احتماله للماء حال كونه فوق الجبل إلا أن هذا القدر من التفاوت بحيث لا يفي بإدراكه الحس والخيال لكونه في غاية القلة
والمثال الثالث إن الإنسانين اللذين يقف أحدهما بالقرب من الآخر فإن رجليهما يكونان أقرب إلى مركز العالم من رأسيهما لأن الأجرام الثقيلة تنزل من فضاء المحيط إلى ضيق المركز إلا أن ذلك القدر من التفاوت لا يفي بإدراكه الحس والخيال
فإذا عرفت هذه الأمثلة وعرفت أن كثرة الأفعال توجب حصول الملكات فنقول لا فعل من أفعال الخير والشر بقليل ولا كثير إلا ويفيد حصول أثر في النفس إما في السعادة وإما في الشقاوة وعند هذا ينكشف بهذا البرهان القاطع صحة قوله تعالى فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ شَرّاً يَرَهُ ( الزلزلة 7 8 ) ولما ثبت أن الأفعال توجب حصول الملكات والأفعال الصادرة من اليد فهي المؤثرة في حصول الملكة المخصوصة وكذلك الأفعال الصادرة من الرجل فلا جرم تكون الأيدي والأرجل شاهدة يوم القيامة على الإنسان بمعنى أن تلك الآثار النفسانية إنما حصلت في جواهر النفوس بواسطة هذه الأفعال الصادرة عن هذه الجوارح فكان صدور تلك الأفعال من تلك الجارحة المخصوصة جارياً مجرى الشهادة لحصول تلك الآثار المخصوصة في جوهر النفس وأما الحساب فالمقصود منه معرفة ما بقي من الدخل والخرج ولما بينا أن لكل ذرة من أعمال الخير والشر أثراً في حصول هيئة من هذه الهيئات في جوهر النفس إما من الهيئات الزاكية الطاهرة أو من الهيئات المذمومة الخسيسة ولا شك أن تلك الأعمال كانت مختلفة فلا جرم كان بعضها يتعارض بالبعض وبعد حصول تلك المعارضات بقي في النفس قدر مخصوص من الخلق الحميد وقدر آخر من الخلق الذميم فإذا مات الجسد ظهر مقدار ذلك الخلق الحميد ومقدار ذلك الخلق الذميم وذلك الظهور إنما يحصل في الآن الذي لا ينقسم وهو الآن الذي فيه ينقطع تعلق النفس من البدن فعبر عن هذه الحالة بسرعة الحساب فهذه أقوال ذكرت في تطبيق الحكمة النبوية على الحكمة الفلسفية والله العالم بحقائق الأمور

قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَة ً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَاذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ
اعلم أن هذا نوع آخر من الدلائل الدالة على كمال القدرة الإلهية وكمال الرحمة والفضل والإحسان وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ عاصم وحمزة والكسائي قُلْ مَن يُنَجّيكُمْ بالتشديد في الكلمتين والباقون بالتخفيف قال الواحدي والتشديد والتخفيف لغتان منقولتان من نجا فن شئت نقلت بالهمزة وإن شئت نقلت بتضعيف العين مثل أفرحته وفرحته وأغرمته وغرمته وفي القرآن فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ ( الأعراف 72 ) وفي آية أخرى وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ ءامَنُواْ ( فصلت 18 ) ولما جاء التنزيل باللغتين معاً ظهر استواء القراءتين في الحسن غير أن الاختيار التشديد لأن ذلك من الله كان غير مرة وأيضاً قرأ عاصم في رواية أبي بكر خفية بكسر الخاء والباقون بالضم وهما لغتان وعلى هذا الاختلاف في سورة الأعراف وعن الأخفش في خفية وخفية أنهما لغتان وأيضاً الخفية من الإخفاء والخيفة من الرهب وأيضاً ( لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا من هذه قرأ عاصم وحمزة والكسائي لَّئِنْ أَنجَانَا على المغايبة والباقون لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا على الخطاب فأما الأولون وهم الذين قرؤا على المغايبة فقد اختلفوا قرأ عاصم بالتفخيم والباقون بالأمالة وحجة من قرأ على المغايبة أن ما قبل هذا اللفظ وما بعده مذكور بلفظ المغايبة فأما ما قبله فقوله تَدْعُونَهُ وأما ما بعده فقوله قُلِ اللَّهُ يُنَجّيكُمْ مّنْهَا وأيضاً فالقراءة بلفظ الخطاب توجب الإضمار والتقدير يقولون لئن أنجيتنا والإضمار خلاف الأصل وحجة من قرأ على المخاطبة قوله تعالى في آية أخرى لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَاذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ
المسألة الثانية ظُلُمَاتِ الْبَرّ وَالْبَحْرِ مجاز عن مخاوفهما وأهوالهما يقال لليوم الشديد يوم مظلم ويوم ذو كواكب أي اشتدت ظلمته حتى عادت كالليل وحقيقة الكلام فيه أنه يشتد الأمر عليه ويشتبه عليه كيفية الخروج ويظلم عليه طريق الخلاص ومنهم من حمله على حقيقته فقال أما ظلمات البحر فهي أن تجتمع ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة السحاب ويضاف الرياح الصعبة والأمواج الهائلة إليها فلم يعرفوا كيفية الخلاص وعظم الخوف وأما ظلمات البر فهي ظلمة الليل وظلمة السحاب والخوف الشديد من هجوم الأعداء والخوف الشديد من عدم الاهتداء إلى طريق الصواب والمقصود أن عند اجتماع هذه الأسباب الموجبة للخوف الشديد لا يرجع الإنسان إلا إلى الله تعالى وهذا الرجوع يحصل ظاهراً وباطناً لأن الإنسان في هذه الحالة يعظم إخلاصه في حضرة الله تعالى وينقطع رجاؤه عن كل ما سوى الله تعالى وهو المراد من قوله تَضَرُّعًا وَخُفْيَة ً فبين تعالى أنه إذا شهدت الفطرة السليمة والخلقة الأصلية في هذه الحالة بأنه لا ملجأ إلا

إلى الله ولا تعويل إلا على فضل الله وجب أن يبقى هذا الإخلاص عند كل الأحوال والأوقات لكنه ليس كذلك فإن الإنسان بعد الفوز بالسلامة والنجاة يحيل تلك السلامة إلى الأسباب الجسمانية ويقدم على الشرك ومن المفسرين من يقول المقصود من هذه الآية الطعن في إلهية الأصنام والأوثان وأنا أقول التعلق بشيء مما سوى الله في طريق العبودية يقرب من أن يكون تعلقاً بالوثن فإن أهل التحقيق يسمونه بالشرك الخفي ولفظ الآية يدل على أن عند حصول هذه الشدائد يأتي الإنسان بأمور أحدها الدعاء وثانيها التضرع وثالثها الإخلاص بالقلب وهو المراد من قوله وَخُفْيَة ً ورابعها التزام الاشتغال بالشكر وهو المراد من قوله لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَاذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ثم بين تعالى أنه ينجيهم من تلك المخاوف ومن سائر موجبات الخوف والكرب ثم إن ذلك الإنسان يقدم على الشرك ونظير هذه الآية قوله ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ وقوله ) وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ وبالجملة فعادة أكثر الخلق ذلك إذا شاهدوا الأمر الهائل أخصلوا وإذا انتقلوا إلى الأمن والرفاهية أشركوا به
قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الاٌّ يَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن هذا نوع آخر من دلائل التوحيد وهو ممزوج بنوع من التخويف فبين كونه تعالى قادراً على إيصال العذاب إليهم من هذه الطرق المختلفة وأما إرسال العذاب عليهم تارة من فوقهم وتارة من تحت أرجلهم ففيه قولان الأول حمل اللفظ على حقيقته فنقول العذاب النازل عليهم من فوق مثل المطر النازل عليهم من فوق كما في قصة نوح والصاعقة النازلة عليهم من فوق وكذا الصيحة النازلة عليهم من فوق كما حصب قوم لوط وكما رمى أصحاب الفيل وأما العذاب الذي ظهر من تحت أرجلهم فمثل الرجفة ومثل خسف قارون وقيل هو حبس المطر والنبات وبالجملة فهذه الآية تتناول جميع أنواع العذاب التي يمكن نزولها من فوق وظهورها من أسفل
القول الثاني أن يحمل هذا اللفظ على مجازه قال ابن عباس في رواية عن عكرمة عذاباً من فوقكم أي من الأمراء ومن تحت أرجلكم من العبيد والسفلة أما قوله أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً فاعلم أن الشيع جمع الشيعة وكل قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة والجمع شيع وأشياع قال تعالى كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مّن قَبْلُ ( سبأ 54 ) وأصله من الشيع وهو التبع ومعنى الشيعة الذين يتبع بعضهم بعضاً قال الزجاج قوله يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً

يخلط أمركم خلط اضطراب لا خلط اتفاق فيجعلكم فرقاً ولا تكونون فرقة واحدة فإذا كنتم مختلفين قاتل بعضكم بعضاً وهو معنى قوله وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ عن ابن عباس رضي الله عنهما لما نزل جبريل عليه السلام بهذه الآية شق ذلك على الرسول عليه الصلاة والسلام وقال ( ما بقاء أمتي إن عوملوا بذلك ) فقال له جبريل إنما أنا عبد مثلك فادع ربك لأمتك فسأل ربه أن لا يفعل بهم ذلك فقال جبريل إن الله قد أمنهم من خصلتين أن لا يبعث عليهم عذاباً من فوقهم كما بعثه على قوم نوح ولوط ولا من تحت أرجلهم كما خسف بقارون ولم يجرهم من أن يلبسهم شيعاً بالأهواء المختلفة ويذيق بعضهم بأس بعض بالسيف وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن أمتي ستفترق على ثنتين وسبعين فرقة الناجية فرقة ) وفي رواية أخرى كلهم في الجنة إلا الزنادقة
المسألة الثانية ظاهر قوله أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً هو أنه تعالى يحملهم على الأهواء المختلفة والمذاهب المتنافية وظاهر أن الحق منها ليس إلا الواحد وما سواه فهو باطل فهذا يقتضي أنه تعالى قد يحمل المكلف على الاعتقاد الباطل وقوله وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ لا شك أن أكثرها ظلم ومعصية فهذا يدل على كونه تعالى خالقاً للخير والشر أجاب الخصم عنه بأن الآية تدل على أن الله تعالى قادر عليه وعندنا الله قادر على القبيح إنما النزاع في أنه تعالى هل يفعل ذلك أم لا
والجواب أن وجه التمسك بالآية شيء آخر فإنه قال هُوَ الْقَادِرُ على ذلك وهذا يفيد الحصر فوجب أن يكون غير الله غير قادر على ذلك وهذا الاختلاف بين الناس حاصل وثبت بمقتضى الحصر المذكور أن لا يكون ذلك صادراً عن غير الله فوجب أن يكون صادراً عن الله وذلك يفيد المطلوب
المسألة الثالثة قالت المقلدة والحشوية هذه الآية من أدل الدلائل على المنع من النظر والاستدلال وذلك لأن فتح تلك الأبواب يفيد وقوع الاختلاف والمنازعة في الأديان وتفرق الخلق إلى المذاهب والأديان وذلك مذموم بحكم هذه الآية والمفضي إلى المذموم مذموم فوجب أن يكون فتح باب النظر والاستدلال في الدين مذموماً وجوابه سهل والله أعلم
ثم قال تعالى في آخر الآية انْظُرْ كَيْفَ نُصَرّفُ الاْيَاتِ لَعِلْمٌ يَفْقَهُونَ قال القاضي هذا يدل على أنه تعالى أراد بتصريف هذه الآيات وتقرير هذه البينات أن يفهم الكل تلك الدلائل ويفقه الكل تلك البينات وجوابنا بل ظاهر الآية يدل على أنه تعالى ما صرف هذه الآيات إلا لمن فقه وفهم فأما من أعرض وتمرد فهو تعالى ما صرف هذه الآيات لهم والله أعلم
وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ
الضمير في قوله وَكَذَّبَ بِهِ إلى ماذا يرجع فيه أقوال الأول أنه راجع إلى العذاب المذكور في الآية السابقة وَهُوَ الْحَقُّ أي لا بد وأن ينزل بهم الثاني الضمير في ( به ) للقرآن وهو الحق أي في كونه كتاباً

منزلاً من عند الله الثالث يعود إلى تصريف الآيات وهو الحق لأنهم كذبوا كون هذه الأشياء دلالات ثم قال قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ أي لست عليكم بحافظ حتى أجازيكم على تكذيبكم وإعراضكم عن قبول الدلائل إنما أنا منذر والله هو المجازي لكم بأعمالكم قال ابن عباس والمفسرون نسختها آية القتال وهو بعيد ثم قال تعالى لّكُلّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ والمستقر يجوز أن يكون موضع الاستقرار ويجوز أن يكون نفس الاستقرار لأن ما زاد على الثلاثي كان المصدر منه على زنة اسم المفعول نحو المدخل والمخرج بمعنى الإدخال والإخراج والمعنى أن لكل خبر يخبره الله تعالى وقتاً أو مكاناً يحصل فيه من غير خلف ولا تأخير وإن جعلت المستقر بمعنى الاستقرار كان المعنى لكل وعد ووعيد من الله تعالى استقرار ولا بد أن يعلموا أن الأمر كما أخبر الله تعالى عنه عند ظهوره ونزوله وهذا الذي خوف الكفار به يجوز أن يكون المراد منه عذاب الآخرة ويجوز أن يكون المراد منه استيلاء المسلمين على الكفار بالحرب والقتل والقهر في الدنيا
وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِى ءَايَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
قوله تعالى وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِى ءايَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ
اعلم أنه تعالى قال في الآية الأولى وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ فبين به أن الذين يكذبون بهذا الدين فإنه لا يجب على الرسول أن يلازمهم وأن يكون حفيظاً عليهم ثم بين في هذه الآية أن أولئك المكذبين إن ضموا إلى كفرهم وتكذبيهم الاستهزاء بالدين والطعن في الرسول فإنه يجب الاحتراز عن مقارنتهم وترك مجالستهم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قوله وَإِذَا رَأَيْتَ قيل إنه خطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمراد غيره وقيل الخطاب لغيره أي إذا رأيت أيها السامع الذين يخوضون في آياتنا ونقل الواحدي أن المشركين كانوا إذا جالسوا المؤمنين وقعوا في رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والقرآن فشتموا واستهزؤوا فأمرهم أن لا يقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره ولفظ الخوض في اللغة عبارة عن المفاوضة على وجه العبث واللعب قال تعالى حكاية عن الكفار وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الُخَائِضِينَ وإذا سئل الرجل عن قوم فقال تركتهم يخوضون أفاد ذلك أنهم شرعوا في كلمات لا ينبغي ذكرها ومن الحشوية من تمسك بهذه الآية في النهي عن الاستدلال والمناظرة في ذات الله تعالى وصفاته قال لأن ذلك خوض في آيات الله والخوض في آيات الله حرام بدليل هذه الآية والجواب عنه أنا نقلنا عن المفسرين أن المراد من ( الخوض ) الشروع في آيات الله تعالى على سبيل الطعن والاستهزاء وبينا أيضاً أن لفظ ( الخوض ) وضع في أصل اللغة لهذا المعنى فسقط هذا الاستدلال والله أعلم
المسألة الثانية قرأ ابن عامر يُنسِيَنَّكَ بالتشديد وفعل وأفعل يجريان مجرى واحد كما بينا ذلك في

مواضع وفي التنزيل فَمَهّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً ( الطارق 17 ) والاختيار قراءة العامة لقوله تعالى وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ ( الكهف 63 ) ومعنى الآية إن نسيت وقعدت فلا تقعد بعد الذكرى وقم إذا ذكرت والذكرى اسم للتذكرة قاله الليث وقال الفراء الذكرى يكون بمعنى الذكر وقوله مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يعني مع المشركين
المسألة الثالثة قوله تعالى فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وهذا الإعراض يحتمل أن يحصل بالقيام عنهم ويحتمل بغيره فلما قال بعد ذلك فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى صار ذلك دليلاً على أن المراد أن يعرض عنهم بالقيام من عندهم وههنا سؤالات
السؤال الأول هل يجوز هذا الإعراض بطريق آخر سوى القيام عنهم والجواب الذين يتمسكوا بظواهر الألفاظ ويزعمون وجوب إجرائها على ظواهرها لا يجوزون ذلك والذين يقولون المعنى هو المعتبر جوزوا ذلك قالوا لأن المطلوب إظهار الإنكار فكل طريق أفاد هذا المقصود فإنه يجوز المصير إليه
السؤال الثاني لو خاف الرسول من القيام عنهم هل يجب عليه القيام مع ذلك
الجواب كل ما أوجب على الرسول فعله وجب عليه ذلك سواء ظهر أثر الخوف أو لم يظهر فإنا إن جوزنا منه ترك الواجب بسبب الخوف سقط الاعتماد عن التكاليف التي بلغها إلينا أما غير الرسول فإنه عند شدة الخوف قد يسقط عنه الفرض لأنه إقدامه على الترك لا يفضي إلى المحذور المذكور
المسألة الرابعة قوله وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى يفيد أن التكليف ساقط عن الناسي قال الجبائي إذا كان عدم العلم بالشيء يوجب سقوط التكليف فعدم القدرة على الشيء أولى بأن يوجب سقوط التكليف وهذا يدل على أن تكليف مالا يطاق لا يقع ويدل على أن الاستطاعة حاصلة قبل الفعل لأنها لو لم تحصل إلا مع الفعل لما كانت حاصلة قبل الفعل فوجب أن لا يكون الكافر قادراً على الإيمان فوجب أن لا يتوجه عليه الأمر بالإيمان واعلم أن هذه الكلمات كثر ذكرها في هذا الكتاب مع الجواب فلا نطول الكلام بذكر الجواب والله أعلم
وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَى ْءٍ وَلَاكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَواة ُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِى ٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَآ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ
قال ابن عباس قال المسلمون لئن كنا كلما استهزأ المشركون بالقرآن وخاضوا فيه قمنا عنهم لما قدرنا

على أن نجلس في المسجد الحرام وأن نطوف بالبيت فنزلت هذه الآية وحصلت الرخصة فيها للمؤمنين بأن يقعدوا معهم ويذكرونهم ويفهمونهم قال ومعنى الآية وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ الشرك والكبائر والفواحش مِنْ حِسَابِهِم من آثامهم مّن شَى ْء وَلَاكِن ذِكْرَى قال الزجاج قوله ذِكْرِى يجوز أن يكون في موضع رفع وأن يكون في موضع نصب أما كونه في موضع رفع فمن وجهين الأول ولكن عليكم ذكرى أي أن تذكروهم وجائز أن يكون ولكن الذي تأمرونهم به ذكرى فعلى الوجه الأولى الذكرى بمعنى التذكير وعلى الوجه الثاني الذكرى تكون بمعنى الذكر وأما كونه في موضع النصب فالتقدير ذكروهم ذكرى لعلهم يتقون والمعنى لعل ذلك الذكرى يمنعهم من الخوض في ذلك الفضول
قوله تعالى وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَواة ُ الدُّنْيَا وَذَكّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِى ٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن
اعلم أن هؤلاء هم المذكورون بقوله الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِى ءايَاتِنَا ومعنى ذَرْهُمْ أعرض عنهم وليس المراد أن يترك إنذارهم لأنه تعالى قال بعده وَذَكّرْ بِهِ ونظيره قوله تعالى أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ والمراد ترك معاشرتهم وملاطفتهم ولا يترك إنذارهم وتخويفهم
واعلم أنه تعالى أمر الرسول بأن يترك من كان موصوفاً بصفتين
الصفة الأولى أن يكون من صفتهم أنهم اتخذوا دينهم لعباً ولهواً وفي تفسيره وجوه الأول المراد أنهم اتخذوا دينهم الذي كلفوه ودعوا إليه وهو دين الإسلام لعباً ولهواً حيث سخروا به واستهزؤوا به الثاني اتخذوا ما هو لعب ولهو من عبادة الأصنام وغيرها ديناً لهم الثالث أن الكفار كانوا يحكمون في دين الله بمجرد التشهي والتمني مثل تحريم السوائب والبحائر وما كانوا يحتاطون في أمر الدين البتة ويكتفون فيه بمجرد التقليد فعبر الله تعالى عنهم أنهم اتخذوا دينهم لعباً ولهواً والرابع قال ابن عباس جعل الله لكل قوم عيداً يعظمونه ويصلون فيه ويعمرونه بذكر الله تعالى ثم إن الناس أكثرهم من المشركين وأهل الكتاب اتخذوا عيدهم لهواً ولعباً غير المسلمين فإنهم اتخذوا عيدهم كما شرعه الله تعالى والخامس وهو الأقرب أن المحقق في الدين هو الذي ينصر الدين لأجل أنه قام الدليل على أنه حق وصدق وصواب فأما الذين ينصرونه ليتوسلوا به إلى أخذ المناصب والرياسة وغلبة الخصم وجمع الأموال فهم نصروا الدين للدنيا وقد حكم الله على الدنيا في سائر الآيات بأنها لعب ولهو فالمراد من قوله وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً هو الإشارة إلى من يتوسل بدينه إلى دنياه وإذا تأملت في حال أكثر الخلق وجدتهم موصوفين بهذه الصفة وداخلين تحت هذه الحالة والله أعلم
الصفة الثانية قوله تعالى وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَواة ُ الدُّنْيَا وهذا يؤكد الوجه الخامس الذي ذكرناه كأنه تعالى يقول إنما اتخذوا دينهم لعباً ولهواً لأجل أنهم غرتهم الحياة الدنيا فلأجل استيلاء حب الدنيا على قلوبهم أعرضوا عن حقيقة الدين واقتصروا على تزيين الظواهر ليتوسلوا بها إلى حطام الدنيا
إذا عرفت هذا فقوله وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً معناه أعرض عنهم ولا تبال بتكذيبهم واستهزائهم ولا تقم لهم في نظرك وزناً وَذَكّرْ بِهِ واختلفوا في أن الضمير في قوله بِهِ إلى ماذا يعود

قيل وذكر بالقرآن وقيل إه تعالى قال وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً والمراد الدين الذي يجب عليهم أن يتدينوا به ويعتقدوا صحته فقوله وَذَكّرْ بِهِ أي بذلك الدين لأن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكور والدين أقرب المذكور فوجب عود الضمير إليه أما قوله أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ فقال صاحب ( الكشاف ) أصل الإبسال المنع ومنه هذا عليك بسل أي حرام محظور والباسل الشجاع لامتناعه من خصمه أو لأنه شديد البسور يقال بسر الرجل إذا اشتد عبوسه وإذا زاد قالوا بسل والعابس منقبض الوجه
إذا عرفت هذا فنقول قال ابن عباس تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ أي ترتهن في جهنم بما كسبت في الدنيا وقال الحسن ومجاهد تسلم للمهلكة أي تمنع عن مرادها وتخذل وقال قتادة تحبس في جهنم وعن ابن عباس تُبْسَلَ تفضح و أُبْسِلُواْ فضحوا ومعنى الآية وذكرهم بالقرآن ومقتضى الدين مخافة احتباسهم في نار جهنم بسبب جناياتهم لعلهم يخافون فيتقون ثم قال تعالى لَيْسَ لَهَا أي ليس للنفس مِن دُونِ اللَّهِ وَلِى ٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا أي وإن تفذ كل فداء والعدل الفدية لا يؤخذ ذلك العدل وتلك الفدية منها قال صاحب ( الكشاف ) فاعل يؤخذ ليس هو قوله عَدْلٍ لأن العدل ههنا مصدر فلا يسند إليه الأخذ وأما في قوله وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ فبمعنى المفدى به فصح إسناده إليه فنقول الأخذ بمعنى القبول وارد قال تعالى وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ أي يقبلها وإذا ثبت هذا فيحمل الأخذ ههنا على القبول ويزول السؤال والله أعلم
والمقصود من هذه الآية بيان أن وجوه الخلاص على تلك النفس منسدة فلا ولي يتولى دفع ذلك المحذور ولا شفيع يشفع فيها ولا فدية تقبل ليحصل الخلاص بسبب قبولها حتى لو جعلت الدنيا بأسرها فدية من عذاب الله لم تنفع فإذا كانت وجوه الخلاص هي هذه الثلاثة في الدنيا وثبت أنها لا تفيد في الآخرة البتة وظهر أنه ليس هناك إلا الإبسال الذي هو الارتهان والانغلاق والاستسلام فليس لها البتة دافع من عذاب الله تعالى وإذا تصور المرء كيفية العقاب على هذا الوجه يكاد يرعد إذا أقدم على معاصي الله تعالى ثم إنه تعالى بين ما به صاروا مرتهنين وعليه محبوسين فقال لَهُمْ شَرَابٌ مّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ وذلك هو النهاية في صفة الإيلام والله أعلم
قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِى اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِى الأرض حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلواة َ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ

اعلم أن المقصود من هذه الآية الرد على عبدة الأصنام وهي مؤكدة لقوله تعالى قبل ذلك قُلْ إِنّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فقال قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ اللَّهِ أي أنعبد من دون الله النافع الضار ما لا يقدر على نفعنا ولا على ضرنا ونرد على أعقابنا راجعين إلى الشرك بعد أن أنقدنا الله منه وهدانا للإسلام ويقال لكل من أعرض عن الحق إلى الباطل أنه رجع إلى خلف ورجع على عقبيه ورجع القهقرى والسبب فيه أن الأصل في الإنسان هو الجهل ثم إذا ترقى وتكامل حصل له العلم قال تعالى وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالاْبْصَارَ وَالافْئِدَة َ ( النحل 78 ) فإذا رجع من العلم إلى الجهل مرة أخرى فكأنه رجع إلى أول مرة فلهذا السبب يقال فلان رد على عقبيه
وأما قوله كَالَّذِى اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِى الاْرْضِ فاعلم أنه تعالى وصف هذا الإنسان بثلاثة أنواع من الصفات
الصفة الأولى قوله اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ حمزة استهواه بألف ممالة على التذكير والباقون بالتاء لأن الجمع يصلح أن يذكر على معنى الجمع ويصلح أن يؤنث على معنى الجماعة
المسألة الثانية اختلفوا في اشتقاق كَالَّذِى اسْتَهْوَتْهُ على قولين
القول الأول أنه مشتق من الهوى في الأرض وهو النزول من الموضع العالي إلى الوهدة السافلة العميقة في قعر الأرض فشبه الله تعالى حال هذا الضال به وهو قوله وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء ولا شك أن حال هذا الإنسان عند هويه من المكان العالي إلى الوهدة العميقة المظلمة يكون في غاية الاضطراب والضعف والدهشة
والقول الثاني أنه مشتق من اتباع الهوى والميل فإن من كان كذلك فإنه ربما بلغ النهاية في الحيرة والقول الأول أولى لأنه أكمل في الدلالة على الدهشة والضعف
الصفة الثانية قوله حَيْرَانَ قال الأصمعي يقال حار يحار حيرة وحيراً وزاد الفراء حيراناً وحيرورة ومعنى الحيرة هي التردد في الأمر بحيث لا يهتدي إلى مخرجه ومنه يقال الماء يتحير في الغيم أي يتردد وتحيرت الروضة بالماء إذا امتلأت فتردد فيها الماء واعلم أن هذا المثل في غاية الحسن وذلك لأن الذي يهوي من المكان العالي إلى الوهدة العميقة يهوي إليها مع الاستدارة على نفسه لأن الحجر حال نزوله من الأعلى إلى الأسفل ينزل على الاستدارة وذلك يوجب كمال التردد والتحير وأيضاً فعند نزوله لا يعرف أنه يسقط على موضع يزداد بلاؤه بسبب سقوطه عليه أو يقل فإذا اعتبرت مجموع هذه الأحوال علمت أنك لا تجد مثالاً للمتحير المتردد الخائف أحسن ولا أكمل من هذا المثال
الصفة الثالثة قوله تعالى لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قالوا نزلت هذه الآية في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه فإنه كان يدعو أباه إلى الكفر وأبوه كان يدعوه إلى الإيمان ويأمره بأن يرجع من طريق الجهالة إلى الهداية ومن ظلمة الكفر إلى نور الإيمان وقيل المراد أن لذلك الكافر الضال أصحاباً يدعونه إلى ذلك الضلال ويسمونه بأنه هو الهدى وهذا بعيد والقول الصحيح هو الأول

ثم قال تعالى قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى يعني هو الهدى الكامل النافع الشريف كما إذا قلت علم زيد هو العلم وملك عمرو هو الملك كان معناه ما ذكرناه من تقرير أمر الكمال والشرف
ثم قال تعالى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبّ الْعَالَمِينَ واعلم أن قوله إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى دخل فيه جميع أقسام المأمورات والاحتراز عن كل المنهيات وتقرير الكلام أن كل ما تعلق أمر الله به فإما أن يكون من باب الأفعال وإما أن يكون من باب التروك
أما القسم الأول فإما أن يكون من باب أعمال القلوب وإما أن يكون من باب أفعال الجوارح ورئيس أعمال القلوب الإيمان بالله والإسلام له ورئيس أعمال الجوارح الصلاة وأما الذي يكون من باب التروك فهو التقوى وهو عبارة عن الاتقاء عن كل ما لا ينبغي والله سبحانه لما بين أولاً أن الهدى النافع هو هدى الله أردف ذلك الكلام الكلي بذكر أشرف أقسامه على الترتيب وهو الإسلام الذي هو رئيس الطاعات الروحانية والصلاة التي هي رئيسة الطاعات الجسمانية والتقوى التي هي رئيسة لباب التروك والاحتراز عن كل ما لا ينبغي ثم بين منافع هذه الأعمال فقال وَهُوَ الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ يعني أن منافع هذه الأعمال إنما تظهر في يوم الحشر والبعث والقيامة
فإن قيل كيف حسن عطف قوله وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلواة َ على قوله وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبّ الْعَالَمِينَ
قلنا ذكر الزجاج فيه وجهين الأول أن يكون التقدير وأمرنا فقيل لنا أسلموا لرب العالمين وأقيموا الصلاة
فإن قيل هب أن المراد ما ذكرتم لكن ما الحكمة في العدول عن هذا اللفظ الظاهر والتركيب الموافق للعقل إلى ذلك اللفظ الذي لا يهتدي العقل إلى معناه إلا بالتأويل
قلنا وذلك لأن الكافر ما دام يبقى على كفره كان كالغائب الأجنبي فلا جرم يخاطب بخطاب الغائبين فيقال له وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبّ الْعَالَمِينَ وإذا أسلم وآمن ودخل في الإيمان صار كالقريب الحاضر فلا جرم يخاطب بخطاب الحاضرين ويقال له وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلواة َ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ فالمقصود من ذكر هذين النوعين من الخطاب التنبيه على الفرق بين حالتي الكفر والإيمان وتقريره أن الكافر بعيد غائب والمؤمن قريب حاضر والله أعلم
وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّوَرِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ
اعلم أنه تعالى لما بين في الآيات المتقدمة فساد طريقة عبدة الأصنام ذكر ههنا ما يدل على أنه لا

معبود إلا الله وحده وهو هذه الآية وذكر فيها أنواعاً كثيرة من الدلائل أولها قوله وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بِالْحَقّ أما كونه خالقاً للسموات والأرض فقد شرحنا في قوله الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وأما أنه تعالى خلقهما بالحق فهو نظير لقوله تعالى في سورة آل عمران رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً ( آل عمران 191 ) وقوله وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ ( الأنبياء 16 ) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقّ ( الدخان 39 ) وفيه قولان
القول الأول وهو قول أهل السنة أنه تعالى مالك لجميع المحدثات مالك لكل الكائنات وتصرف للمالك في ملكه حسن وصواب على الإطلاق فكان ذلك التصرف حسناً على الإطلاق وحقاً على الإطلاق
والقول الثاني وهو قول المعتزلة أن معنى كونه حقاً أنه واقع على وفق مصالح المكلفين مطابق لمنافعهم قال القاضي ويدخل في هذه الآية أنه خلق المكلف أولاً حتى يمكنه الانتفاع بخلق السموات والأرض ولحكماء الإسلام في هذا الباب طريقة أخرى وهي أنه يقال أودع في هذه الأجرام العظيمة قوى وخواص يصدر بسببها عنها آثار وحركات مطابقة لمصالح هذا العالم ومنافعه وثانيها قوله وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ في تأويل هذه الآية قولان الأول التقدير وهو الذي خلق السموات والأرض وخلق يوم يقول كن فيكون والمراد من هذا اليوم يوم القيامة والمعنى أنه تعالى هو الخالق للدنيا ولكل ما فيها من الأفلاك والطبائع والعناصر والخالق ليوم القيامة والبعث ولرد الأرواح إلى الأجساد على سبيل كن فيكون
والوجه الثاني في التأويل أن نقول قوله الْحَقّ مبتدأ و يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ ظرف دال على الخبر والتقدير قوله الْحَقّ واقع يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ كقولك يوم الجمعة القتال ومعناه القتال واقع يوم الجمعة والمراد من كون قوله حقاً في ذلك اليوم أنه سبحانه لا يقضي إلا بالحق والصدق لأن أقضيته منزهة عن الجور والعبث وثالثها قوله وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّوَرِ فقوله وَلَهُ الْمُلْكُ يفيد الحصر والمعنى أنه لا ملك في يوم ينفخ في الصور إلا الحق سبحانه وتعالى فالمراد بالكلام الثاني تقريراً لحكم الحق المبرأ عن العبث والباطل والمراد بهذا الكلام تقرير القدرة التامة الكاملة التي لا دافع لها ولا معارض
فإن قال قائل قول الله حق في كل وقت وقدرته كاملة في كل وقت فما الفائدة في تخصيص هذا اليوم بهذين الوصفين
قلنا لأن هذا اليوم هو اليوم الذي لا يظهر فيه من أحد نفع ولا ضر فكان الأمر كما قال سبحانه وَالاْمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ فلهذا السبب حسن هذا التخصيص ورابعها قوله عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ تقديره وهو عالم الغيب والشهادة
واعلم أنا ذكرنا في هذا الكتاب الكامل أنه سبحانه ما ذكر أحوال البعث في القيامة إلا وقرر فيه أصلين أحدهما كونه قادراً على كل الممكنات والثاني كونه عالماً بكل المعلومات لأن بتقدير أن لا يكون قادراً على كل الممكنات لم يقدر على البعث والحشر ورد الأرواح إلى الأجساد وبتقدير أن لا يكون عالماً بجميع الجزئيات لم يصح ذلك أيضاً منه لأنه ربما اشتبه عليه المطيع بالعاصي والمؤمن بالكافر والصديق بالزنديق فلا يحصل المقصود الأصلي من البعث والقيامة أما إذا ثبت بالدليل حصول هاتين

الصفتين كمل الغرض والمقصود فقوله وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّوَرِ يدل على كمال القدرة وقوله عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ يدل على كمال العلم فلا جرم لزم من مجموعهما أن يكون قوله حقاً وأن يكون حكمه صدقاً وأن تكون قضاياه مبرأة عن الجور والعبث والباطل
ثم قال وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ والمراد من كونه حكيماً أن يكون مصيباً في أفعاله ومن كونه خبيراً كونه عالماً بحقائقها من غير اشتباه ومن غير التباس والله أعلم
المسألة الثانية قد ذكرنا في كثير من هذا الكتاب أنه ليس المراد بقوله كُنْ فَيَكُونُ خطاباً وأمراً لأن ذلك الأمر إن كان للمعدوم فهو محال وإن كان للموجود فهو أمر بأن يصير الموجود موجوداً وهو محال بل المراد منه التنبيه على نفاذ قدرته ومشيئته في تكوين الكائنات وإيجاد الموجودات
المسألة الثالثة قوله يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّوَرِ ولا شبهة أن المراد منه يوم الحشر ولاشبهة عند أهل الإسلام أن الله سبحانه خلق قرناً ينفخ فيه ملك من الملائكة وذلك القرن يسمى بالصور على ما ذكر الله تعالى هذا المعنى في مواضع من الكتاب الكريم ولكنهم اختلفوا في المراد بالصور في هذه الآية على قولين
القول الأول أن المراد منه ذلك القرن الذي ينفخ فيه وصفته مذكورة في سائر السور
والقول الثاني إن الصور جمع صورة والنفخ في الصور عبارة عن النفخ في صور الموتى وقال أبو عبيدة الصور جمع صورة مثل صوف وصوفة قال الواحدي رحمه الله أخبرني أبو الفضل العروضي عن الأزهري عن المنذري عن أبي الهيثم أنه قال ادعى قوم أن الصور جمع الصورة كما أن الصوف جمع الصوفة والثوم جمع الثومة وروى ذلك عن أبي عبيدة قال أبو الهيثم وهذا خطأ فاحش لأن الله تعالى قال وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ( غافر 64 ) وقال وَنُفِخَ فِى الصُّورِ ( ي س 51 الزمر 68 ) فمن قرأ ونفخ في الصور وقرأ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ فقد افترى الكذب وبدل كتاب الله وكان أبو عبيدة صاحب أخبار وغرائب ولم يكن له معرفة بالنحو قال الفراء كل جمع على لفظ الواحد المذكر سبق جمعه واحده فواحده بزيادة هاء فيه وذلك مثل الصوف والوبر والشعر والقطن والعشب فكل واحد من هذه الأسماء اسم لجميع جنسه وإذا أفردت واحدته زيدت فيها هاء لأن جمع هذا الباب سبق واحده ولو أن الصوفة كانت سابقة للصوف لقالوا صوفة وصوف وبسرة وبسر كما قالوا غرفة وغرف وزلفة وزلف وأما الصور القرن فهو واحد لا يجوز أن يقال واحدته صورة وإنما تجمع صورة الإنسان صوراً لأن واحدته سبقت جمعه قال الأزهري قد أحسن أبو الهيثم في هذا الكلام ولا يجوز عندي غير ما ذهب إليه وأقول ومما يقوي هذا الوجه أنه لو كان المراد نفخ الروح في تلك الصور لأضاف تعالى ذلك النفخ إلى نفسه لأن نفخ الأرواح في الصور يضيفه الله إلى نفسه كما قال فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى ( الحجر 29 ) وقال فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وقال ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَة َ عَلَقَة ً وأما نفح الصور بمعنى النفخ في القرن فإنه تعالى يضيفه لا إلى نفسه كما قال فَإِذَا نُقِرَ فِى النَّاقُورِ ( المدثر 8 ) وقال وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَمَن فِى الاْرْضِ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ ( الزمر 68 ) فهذا تمام القول في هذا البحث والله أعلم بالصواب

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لاًّبِيهِ ءَازَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً ءَالِهَة ً إِنِّى أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه سبحانه كثيراً يحتج على مشركي العرب بأحوال إبراهيم عليه السلام وذلك لأنه يعترف بفضله جميع الطوائف والملل فالمشركون كانوا معترفين بفضله مقرين بأنهم من أولاده واليهود والنصارى والمسلمون كلهم معظمون له معترفون بجلالة قدره فلا جرم ذكر الله حكاية حاله في معرض الاحتجاج على المشركين
واعلم أن هذا المنصب العظيم وهو اعتراف أكثر أهل العلم بفضله وعلو مرتبته لم يتفق لأحد كما اتفق للخليل عليه السلام والسبب فيه أنه حصل بين الرب وبين العبد معاهدة كما قال أَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ( البقرة 40 ) فإبراهيم وفى بعهد العبودية والله تعالى شهد بذلك على سبيل الإجمال تارة وعلى سبيل التفصيل أخرى أما الإجمال ففي آيتين إحداهما قوله وَإِذَا ابْتَلَى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ( البقرة 124 ) وهذا شهادة من الله تعالى بأنه تمم عهد العبودية والثانية قوله تعالى إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ ( البقرة 131 ) وأما التفصيل فهو أنه عليه السلام ناظر في إثبات التوحيد وإبطال القول بالشركاء والأنداد في مقامات كثيرة
فالمقام الأول في هذا الباب مناظراته مع أبيه حيث قال له لاِبِيهِ ياأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً ( مريم 42 )
والمقام الثاني مناظرته مع قومه وهو قوله فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ ( الأنعام 76 )
والمقام الثالث مناظرته مع ملك زمانه فقال رَبّيَ الَّذِى يُحْى ِ وَيُمِيتُ
والمقام الرابع مناظرته مع الكفارة بالفعل وهو قوله تعالى فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ ( الأنبياء 58 ) ثم إن القوم قالوا حَرّقُوهُ وَانصُرُواْ ءالِهَتَكُمْ ( الأنبياء 68 ) ثم إنه عليه السلام بعد هذه الواقعة بذل ولده فقال إِنّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنّى أَذْبَحُكَ ( الصافات 102 ) فعند هذا ثبت أن إبراهيم عليه السلام كان من الفتيان لأنه سلم قلبه للعرفان ولسانه للبرهان وبدنه للنيران وولده للقربان وماله للضيفان ثم إنه عليه السلام سأل ربه فقال وَاجْعَل لّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الاْخِرِينَ ( الشعراء 84 ) فوجب في كرم الله تعالى أنه يجيب دعاءه ويحقق مطلوبه في هذا السؤال فلا جرم أجاب دعاءه وقبل نداءه وجعله مقبولاً لجميع الفرق والطوائف إلى قيام القيامة ولما كان العرب معترفين بفضله لا جرم جعل الله تعالى مناظرته مع قومه حجة على مشركي العرب
المسألة الثانية اعلم أنه ليس في العالم أحد يثبت لله تعالى شريكاً يساويه في الوجوب والقدرة والعلم والحكمة لكن الثنوية يثبتون إلهين أحدهما حكيم يفعل الخير والثاني سفيه يفعل الشر وأما الاشتغال

بعبادة غير الله ففي الذاهبين إليه كثرة فمنهم عبدة الكواكب وهم فريقان منهم من يقول إنه سبحانه خلق هذه الكواكب وفوض تدبير هذا العالم السفلي إليها فهذه الكواكب هي المدبرات لهذا العالم قالوا فيجب علينا أن نعبد هذه الكواكب ثم إن هذه الأفلاك والكواكب تعبد الله وتطبعه ومنهم قوم غلاة ينكرون الصانع ويقولون هذه الأفلاك والكواكب أجسام واجبة الوجود لذواتها ويمتنع عليها العدم والفناء وهي المدبرة لأحوال هذا العالم الأسفل وهؤلاء هم الدهرية الخالصة وممن يعبد غير الله النصارى الذين يعبدون المسيح ومنهم أيضاً عبدة الأصنام
واعلم أن هنا بحثاً لا بد منه وهو أنه لا دين أقدم من دين عبدة الأصنام والدليل عليه أن أقدم الأنبياء الذين وصل إلينا تواريخهم على سبيل التفصيل هو نوح عليه السلام وهو إنما جاء بالرد على عبدة الأصنام كما قال تعالى حكاية عن قومه أنهم قالوا لاَ تَذَرُنَّ وُدّاً سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً ( نوح 23 ) وذلك يدل على أن دين عبدة الأصنام قد كان موجوداً قبل نوح عليه السلام وقد بقي ذلك الدين إلى هذا الزمان فإن أكثر سكان أطراف الأرض مستمرون على هذا الدين والمذهب الذي هذا شأنه يمتنع أن يكون معلوم البطلان في بديهة العقل لكن العلم بأن هذا الحجر المنحوت في هذه الساعة ليس هو الذي خلقني وخلق السماء والأرض علم ضروري والعلم الضروري يمتنع إطباق الخلق الكثير على إنكاره فظهر أنه ليس دين عبدة الأصنام كون الصنم خالقاً للسماء والأرض بل لا بد وأن يكون لهم فيه تأويل والعلماء ذكروا فيه وجوهاً كثيرة وقد ذكرنا هذا البحث في أول سورة البقرة ولا بأس بأن نعيده ههنا تكثيراً للفوائد
فالتأويل الأول وهو الأقوى أن الناس رأوا تغيرات أحوال هذا العالم الأسفل مربوطة بتغيرات أحوال الكواكب فإن بحسب قرب الشمس وبعدها من سمت الرأس تحدث الفصول الأربعة وبسبب حدوث الفصول الأربعة تحدث الأحوال المختلفة في هذا العالم ثم إن الناس ترصدوا أحوال سائر الكواكب فاعتقدوا ارتباط السعادات والنحوسات بكيفية وقوعها في طوالع الناس على أحوال مختلفة فلما اعتقدوا ذلك غلب على ظنون أكثر الخلق أن مبدأ حدوث الحوادث في هذا العالم هو الاتصالات الفلكية والمناسبات الكوكبية فلما اعتقدوا ذلك بالغوا في تعظيمها ثم منهم من اعتقد أنها واجبة الوجود لذواتها ومنهم من اعتقد حدوثها وكونها مخلوقة للإله الأكبر إلا أنهم قالوا إنها وإن كانت مخلوقة للإله الأكبر إلا أنها هي المدبرة لأحوال هذا العالم وهؤلاء هم الذين أثبتوا الوسائط بين الإله الأكبر وبين أحوال هذا العالم وعلى كلا التقديرين فالقوم اشتغلوا بعبادتها وتعظيمها ثم إنهم لما رأوا أن هذه الكواكب قد تغيب عن الأبصار في أكثر الأوقات اتخذوا لكل كوكب صنماً من الجوهر المنسوب إليه واتخذوا صنم الشمس من الذهب وزينوه بالأحجار المنسوبة إلى الشمس وهي الياقوت والألماس واتخذوا صنم القمر من الفضة وعلى هذا القياس ثم أقبلوا على عبادة هذه الأصنام وغرضهم من عبادة هذه الأصنام هو عبادة تلك الكواكب والتقرب إليها وعند هذا البحث يظهر أن المقصود الأصلي من عبادة هذه الأصنام هو عبادة الكواكب وأما الأنبياء صلوات الله عليهم فلهم ههنا مقامان أحدهما إقامة الدلائل على أن هذه الكواكب لا تأثير لها البتة في أحوال هذا العالم كما قال الله تعالى أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ ( الأعراف 54 ) بعد أن بين في الكواكب أنها مسخرة والثاني أنها بتقدير أنها تفعل شيئاً ويصدر عنها تأثيرات في هذا العالم إلا أن دلائل الحدوث حاصلة فيها فوجب كونها مخلوقة

والاشتغال بعبادة الأصل أولى من الاشتغال بعبادة الفرع والدليل على أن حاصل دين عبدة الأصنام ما ذكرناه أنه تعالى لما حكى عن الخليل صلوات الله عليه أنه قال لأبيه آزر أتتخذ أصناماً آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين فأفتى بهذا الكلام أن عبادة الأصنام جهل ثم لما اشتغل بذكر الدليل أقام الدليل على أن الكواكب والقمر والشمس لا يصلح شيء منها للإلهية وهذا يدل على أن دين عبدة الأصنام حاصله يرجع إلى القول بإلهية هذه الكواكب وإلا لصارت هذه الآية متنافية متنافرة وإذا عرفت هذا ظهر أنه لا طريق إلى إبطال القول بعبادة الأصنام إلا بإبطال كون الشمس والقمر وسائر الكواكب آلهة لهذا العالم مدبرة له
الوجه الثاني في شرح حقيقة مذهب عبدة الأصنام ما ذكره أبو معشر جعفر بن محمد المنجم البلخي رحمه الله فقال في بعض كتبه إن كثيرا من أهل الصين والهند كانوا يثبتون الإله والملائكة إلا أنهم يعتقدون أنه تعالى جسم وذو صورة كأحسن ما يكون من الصور وللملائكة أيضاً صور حسنة إلا أنهم كلهم محتجبون عنا بالسموات فلا جرم اتخذوا صوراً وتماثيل أنيقة المنظر حسنة الرؤيا والهيكل فيتخذون صورة في غاية الحسن ويقولون إنها هيكل الإله وصورة أخرى دون الصورة الأولى ويجعلونها على صورة الملائكة ثم يواظبون على عبادتها قاصدين بتلك العبادة طلب الزلفى من الله تعالى ومن الملائكة فإن صح ما ذكره أبو معشر فالسبب في عبادة الأوثان اعتقاد أن الله تعالى جسم وفي مكان
الوجه الثالث في هذا الباب أن القوم يعتقدون أن الله تعالى فوض تدبير كل واحد من الأقاليم إلى ملك بعينه وفوض تدبير كل قسم من أقسام ملك العالم إلى روح سماوي بعينه فيقولون مدبر البحار ملك ومدبر الجبال ملك آخر ومدبر الغيوم والأمطار ملك ومدبر الأرزاق ملك ومدبر الحروب والمقاتلات ملك آخر فلما اعتقدوا ذلك اتخذوا لكل واحد من أولئك الملائكة صنماً مخصوصاً وهيكلاً مخصوصاً ويطلبون من كل صنم ما يليق بذلك الروح الفلكي من الآثار والتدبيرات وللقوم تأويلات أخرى سوى هذه الثلاثة ذكرناها في أول سورة البقرة ولنكتف ههنا بهذا القدر من البيان والله أعلم
المسألة الثالثة ظاهر هذه الآية يدل على أن اسم والد إبراهيم هو آزر ومنهم من قال اسمه تارح قال الزجاج لا خلاف بين النسابين أن اسمه تارح ومن الملحدة من جعل هذا طعناً في القرآن وقال هذا النسب خطأ وليس بصواب وللعلماء ههنا مقامان
المقام الأول أن اسم والد إبراهيم عليه السلام هو آزر وأما قولهم أجمع النسابون على أن اسمه كان تارح فنقول هذا ضعيف لأن ذلك الإجماع إنما حصل لأن بعضهم يقلد بعضاً وبالآخرة يرجع ذلك الإجماع إلى قول الواحد والاثنين مثل قول وهب وكعب وغيرهما وربما تعلقوا بما يجدونه من أخبار اليهود والنصارى ولا عبرة بذلك في مقابلة صريح القرآن
المقام الثاني سلمنا أن اسمه كان تارح ثم لنا ههنا وجوه
الوجه الأول لعل والد إبراهيم كان مسمى بهذين الاسمين فيحتمل أن يقال إن اسمه الأصلي كان آزر وجعل تارح لقباله فاشتهر هذا اللقب وخفي الاسم فالله تعالى ذكره بالاسم ويحتمل أن يكون بالعكس وهو أن تارح كان اسماً أصلياً وآزر كان لقباً غالباً فذكره الله تعالى بهذا اللقب الغالب

الوجه الثاني أن يكون لفظة آزر صفة مخصوصة في لغتم فقيل إن آزر اسم ذم في لغتهم وهو المخطىء كأنه قيل وإذ قال إبراهيم لأبيه المخطىء كأنه عابه بزيغه وكفره وانحرافه عن الحق وقيل آزر هو الشيخ الهرم بالخوارزمية وهو أيضاً فارسية أصلية
واعلم أن هذين الوجهين إنما يجوز المصير إليهما عند من يقول بجواز اشتمال القرآن على ألفاظ قليلة من غير لغة العرب
والوجه الثالث أن آزر كان اسم صنم يعبده والد إبراهيم وإنما سماه الله بهذا الاسم لوجهين أحدهما أنه جعل نفسه مختصاً بعبادته ومن بالغ في محبة أحد فقد يجعل اسم المحبوب اسماً للمحب قال الله تعالى يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ( الإسراء 71 ) وثانيها أن يكون المراد عابد آزر فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه
الوجه الرابع أن والد إبراهيم عليه السلام كان تارح وآزر كان عماله والعم قد يطلق عليه اسم الأب كما حكى الله تعالى عن أولاد يعقوب أنهم قالوا نَعْبُدُ إِلَاهَكَ وَإِلَاهَ آبَائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ( البقرة 133 ) ومعلوم أن إسمعيل كان عماً ليعقوب وقد أطلقوا عليه لفظ الأب فكذا ههنا واعلم أن هذه التكلفات إنما يجب المصير إليها لو دل دليل باهر على أن والد إبراهيم ما كان اسمه آزر وهذا الدليل لم يوجد البتة فأي حاجة تحملنا على هذه التأويلات والدليل القوي على صحة أن الأمر على ما يدل عليه ظاهر هذه الآية أن اليهود والنصارى والمشركين كانوا في غاية الحرص على تكذيب الرسول عليه الصلاة والسلام وإظهار بغضه فلو كان هذا النسب كذباً لامتنع في العادة سكوتهم عن تكذيبه وحيث لم يكذبوه علمنا أن هذا النسب صحيح والله أعلم
المسألة الرابعة قالت الشيعة إن أحداً من آباء الرسول عليه الصلاة والسلام وأجداده ما كان كافراً وأنكروا أن يقال أن والد إبراهيم كان كافراً وذكروا أن آزر كان عم إبراهيم عليه السلام وما كان والداً له واحتجوا على قولهم بوجوه
الحجة الأولى أن آباء الأنبياء ما كانوا كفاراً ويدل عليه وجوه منها قوله تعالى الَّذِى يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِى السَّاجِدِينَ ( الشعراء 218 219 )
قيل معناه إنه كان ينقل روحه من ساجد إلى ساجد وبهذا التقدير فالآية دالة على أن جميع آباء محمد عليه السلام كانوا مسلمين وحينئذ يجب القطع بأن والد إبراهيم عليه السلام كان مسلماً
فإن قيل قوله وَتَقَلُّبَكَ فِى السَّاجِدِينَ يحتمل وجوهاً أخر أحدها إنه لما نسخ فرض قيام الليل طاف الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) تلك الليلة على بيوت الصحابة لينظر ماذا يصنعون لشدة حرصه على ما يظهر منهم من الطاعات فوجدها كبيوت الزنانير لكثرة ما سمع من أصوات قراءتهم وتسبيحهم وتهليلهم فالمراد من قوله وَتَقَلُّبَكَ فِى السَّاجِدِينَ طوافه صلوات الله عليه تلك الليلة على الساجدين وثانيها المراد أنه عليه السلام كان يصلي بالجماعة فتقلبه في الساجدين معناه كونه فيما بينهم ومختلطاً بهم حال القيام والركوع والسجود وثالثها أن يكون المراد أنه ما يخفى حالك على الله كلما قمت وتقلبت مع الساجدين في الاشتغال بأمور الدين ورابعها المراد تقلب بصره فيمن يصلي خلفه والدليل عليه

قوله عليه السلام ( أتموا الركوع والسجود فإني أراكم من وراء ظهري ) فهذه الوجوه الأربعة مما يحتملها ظاهر الآية فسقط ما ذكرتم
والجواب لفظ الآية محتمل للكل فليس حمل الآية على البعض أولى من حملها على الباقي فوجب أن نحملها على الكل وحينئذ يحصل المقصود ومما يدل أيضاً على أن أحداً من آباء محمد عليه السلام ما كان من المشركين قوله عليه السلام ( لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات ) وقال تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ( التوبة 28 ) وذلك يوجب أن يقال إن أحداً من أجداده ما كان من المشركين
إذا ثبت هذا فنقول ثبت بما ذكرنا أن والد إبراهيم عليه السلام ما كان مشركاً وثبت أن آزر كان مشركاً فوجب القطع بأن والد إبراهيم كان إنساناً آخر غير آزر
الحجة الثانية على أن آزر ما كان والد إبراهيم عليه السلام أن هذه الآية دالة على أن إبراهيم عليه السلام شافه آزر بالغلظة والجفاء ومشافهة الأب بالجفاء لا تجوز وهذا يدل على أن آزر ما كان والد إبراهيم إنما قلنا إن إبراهيم شافه آزر بالغلظة والجفاء في هذه الآية لوجهين الأول أنه قرىء وَإِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ لاِبِيهِ ءازَرَ بضم آزر وهذا يكون محمولاً على النداء ونداء الأب بالاسم الأصلي من أعظم أنواع الجفاء الثاني أنه قال لآزر إِنّى أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ ( الأنعام 74 ) وهذا من أعظم أنواع الجفاء والإيذاء فثبت أنه عليه السلام شافه آزر بالجفاء وإنما قلنا أن مشافهة الأب بالجفاء لا تجوز لوجوه الأول قوله تعالى وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً ( الإسراء 23 ) وهذا عام في حق الأب الكافر والمسلم قال تعالى فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا ( الإسراء 23 ) وهذا أيضاً عام والثاني أنه تعالى لما بعث موسى عليه السلام إلى فرعون أمره بالرفق معه فقال فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ( طه 44 ) والسبب فيه أن يصير ذلك رعاية لحق تربية فرعون فههنا الوالد أولى بالرفق الثالث أن الدعوة مع الرفق أكثر تأثيراً في القلب أما التغليظ فإنه يوجب التنفير والبعد عن القبول ولهذا المعنى قال تعالى لمحمد عليه السلام وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ ( النحل 125 ) فكيف يليق بإبراهيم عليه السلام مثل هذه الخشونة مع أبيه في الدعوة الرابع أنه تعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام الحلم فقال إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ وكيف يليق بالرجل الحليم مثل هذا الجفاء مع الآب فثبت بهذه الوجوه أن آزر ما كان والد إبراهيم عليه السلام بل كان عماً له فأما والده فهو تارح والعم قد يسمى بالأب على ما ذكرنا أن أولاد يعقوب سموا إسمعيل بكونه أباً ليعقوب مع أنه كان عماً له وقال عليه السلام ( ردوا علي أبي ) يعني العم العباس وأيضاً يحتمل أن آزر كان والد أم إبراهيم عليه السلام وهذا قد يقال له الأب والدليل عليه قوله تعالى وَمِن ذُرّيَّتِهِ دَاوُودُ وَسُلَيْمَانَ ( الأنعام 84 ) إلى قوله عِيسَى فجعل عيسى من ذرية إبراهيم مع أن إبراهيم عليه السلام كان جداً لعيسى من قبل الأم وأما أصحابنا فقد زعموا أن والد رسول الله كان كافراً وذكروا أن نص الكتاب في هذه الآية تدل على أن آزر كان كافراً وكان والد إبراهيم عليه السلام وأيضاً قوله تعالى وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْراهِيمَ لاِبِيهِ إلى قوله فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ( التوبة 114 ) وذلك يدل على قولنا وأما قوله وَتَقَلُّبَكَ فِى السَّاجِدِينَ قلنا قد بينا أن هذه الآية تحتمل سائر الوجوه قوله

تحمل هذه الآية على الكل قلنا هذا محال لأن حمل اللفظ المشترك على جميع معانيه لا يجوز وأيضاً حمل اللفظ على حقيقته ومجازه معاً لا يجوز وأما قوله عليه السلام ( لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات ) فذلك محمول على أنه ما وقع في نسبه ما كان سفاحاً أما قوله التغليظ مع الأب لا يليق بإبراهيم عليه السلام قلنا لعله أصر على كفره فلأجل الإصرار استحق ذلك التغليط والله أعلم
المسألة الخامسة قرىء ءازَرَ بالنصب وهو عطف بيان لقوله لاِبِيهِ وبالضم على النداء وسألني واحد فقال قرىء ءازَرَ بهاتين القراءتين وأما قوله وَإِذْ قَالَ مُوسَى لاِخِيهِ هَارُونَ قرىء هَارُونَ بالنصب وما قرىء البتة بالضم فما الفرق قلت القراءة بالضم محمولة على النداء والنداء بالاسم استخفاف بالمنادى وذلك لائق بقصة إبراهيم عليه السلام لأنه كان مصراً على كفره فحسن أن يخاطب بالغلظة زجراً له عن ذلك القبيح وأما قصة موسى عليه السلام فقد كان موسى عليه السلام يستخلف هرون على قومه فما كان الاستخفاف لائقاً بذلك الموضع فلا جرم ما كانت القراءة بالضم جائزة
المسألة السادسة اختلف الناس في تفسير لفظ ( الإله ) والأصح أنه هو المعبود وهذه الآية تدل على هذا القول لأنهم ما أثبتوا للأصنام إلا كونها معبودة ولأجل هذا قال إبراهيم لأبيه وَإِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ وذلك يدل على أن تفسير لفظ ( الإله ) هو المعبود
المسألة السابعة اشتمل كلام إبراهيم عليه السلام في هذه الآية على ذكر الحجة العقلية على فساد قول عبدة الأصنام من وجهين الأول أن قوله وَإِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ يدل على أنهم كانوا يقولون بكثرة الآلهة إلا أن القول بكثرة الآلهة باطل بالدليل العقلي الذي فهم من قوله تعالى لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَة ٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا والثاني أن هذه الأصنام لو حصلت لها قدرة على الخير والشر لكان الصنم الواحد كافياً فلما لم يكن الواحد كافياً دل ذلك على أنها وإن كثرت فلا نفع فيها البتة
المسألة الثامنة احتج بعضهم بهذه الآية على أن وجوب معرفة الله تعالى ووجوب الاشتغال بشكره معلوم بالعقل لا بالسمع قال لأن إبراهيم عليه السلام حكم عليهم بالضلال ولولا الوجوب العقلي لما حكم عليهم بالضلال لأن ذلك المذهب كان متقدماً على دعوة إبراهيم ولقائل أن يقول إنه كان ضلالاً بحكم شرع الأنبياء الذين كانوا متقدمين على إبراهيم عليه السلام
وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ والأرض وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ
المسألة الأولى ( الكاف ) في كذلك للتشبيه وذلك إشارة إلى غائب جرى ذكره والمذكور ههنا فيما قبل هو أنه عليه السلام استقبح عبادة الأصنام وهو قوله إِنّى أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ والمعنى ومثل ما أريناه من قبح عبادة الأصنام نريه ملكوت السموات والأرض وههنا دقيقة عقلية وهي أن نور جلال الله

تعالى لائح غير منقطع ولا زائل البتة والأرواح البشرية لا تصير محرومة عن تلك الأنوار إلا لأجل حجاب وذلك الحجاب ليس إلا الاشتغال بغير الله تعالى فإذا كان الأمر كذلك فبقدر ما يزول ذلك الحجاب يحصل هذا التجلي فقول إبراهيم عليه السلام وَإِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ إشارة إلى تقبيح الاشتغال بعبادة غير الله تعالى لأن كل ما سوى الله فهو حجاب عن الله تعالى فلما زال ذلك الحجاب لا جرم تجلى له ملكوت السموات بالتمام فقوله وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ معناه وبعد زوال الاشتغال بغير الله حصل له نور تجلى جلال الله تعالى فكان قوله وَكَذالِكَ منشأ لهذه الفائدة الشريفة الروحانية
المسألة الثانية لقائل أن يقول هذه الإراءة قد حصلت فيما تقدم من الزمان فكان الأولى أن يقال وكذلك أرينا إبراهيم ملكوت السموات والأرض فلم عدل عن هذه اللفظة إلى قوله وَكَذَلِكَ نُرِى
قلنا الجواب عنه من وجوه الأول أن يكون تقدير الآية وكذلك كنا نرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض فيكون هذا على سبيل الحكاية عن الماضي والمعنى أنه تعالى لما حكى عنه أنه شافه أباه الكلام الخشن تعصباً للدين الحق فكأنه قيل وكيف بلغ إبراهيم هذا المبلغ العظيم في قوة الدين فأجيب بأنا كنا نريه ملكوت السموات والأرض من وقت طفوليته لأجل أن يصير من الموقنين زمان بلوغه
الوجه الثاني في الجواب وهو أعلى وأشرف مما تقدم وهو أنا نقول إنه ليس المقصود من إراءة الله إبراهيم ملكوت السموات والأرض هو مجرد أن يرى إبراهيم هذا الملكوت بل المقصود أن يراها فيتوسل بها إلى معرفة جلال الله تعالى وقدسه وعلوه وعظمته ومعلوم أن مخلوقات الله وإن كانت متناهية في الذوات وفي الصفات إلا أن جهات دلالاتها على الذوات والصفات غير متناهية وسمعت الشيخ الإمام الوالد عمر ضياء الدين رحمه الله تعالى قال سمعت الشيخ أبا القاسم الأنصاري يقول سمعت إمام الحرمين يقول معلومات الله تعالى غير متناهية ومعلوماته في كل واحد من تلك المعلومات أيضاً غير متناهية وذلك لأن الجوهر الفرد يمكن وقوعه في أحياز لا نهاية لها على البدل ويمكن إنصافه بصفات لا نهاية لها على البدل وكل تلك الأحوال التقديرية دالة على حكمة الله تعالى وقدرته أيضاً وإذا كان الجوهر الفرد والجزء الذي لا يتجزأ كذلك فكيف القول في كل ملكوت الله تعالى فثبت أن دلالة ملك الله تعالى وملكوته على نعوت جلاله وسمات عظمته وعزته غير متناهية وحصول المعلومات التي لا نهاية لها دفعة واحدة في عقول الخلق محال فإذن لا طريق إلى تحصيل تلك المعارف إلا بأن يحصل بعضها عقيب البعض لا إلى نهاية ولا إلى آخر في المستقبل فلهذا السبب والله أعلم لم يقل وكذلك أريناه ملكوت السموات والأرض بل قال وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ والاْرْضِ وهذا هو المراد من قول المحققين السفر إلى الله له نهاية وأما السفر في الله فإنه لا نهاية له والله أعلم
المسألة الثالثة الملكوت هو الملك و ( التاء ) للمبالغة كالرغبوت من الرغبة والرهبوت من الرهبة
واعلم أن في تفسيره هذه الإراءة قولين الأول أن الله أراه الملكوت بالعين قالوا إن الله تعالى شق له السموات حتى رأى العرش والكرسي وإلى حيث ينتهي إليه فوقية العالم الجسماني وشق له الأرض إلى حيث ينتهي إلى السطح الآخر من العالم الجسماني ورأى ما في السموات من العجائب والبدائع ورأى ما في باطن الأرض من العجائب والبدائع وعن ابن عباس أنه قال لما أسرى بإبراهيم إلى السماء ورأى ما في

السموات وما في الأرض فأبصر عبداً على فاحشة فدعا عليه وعلى آخر بالهلاك فقال الله تعالى له كف عن عبادي فهم بين حالين إما أن أجعل منهم ذرية طيبة أو يتوبون فأغفر لهم أو النار من ورائهم وطعن القاضي في هذه الرواية من وجوه الأول أن أهل السماء هم الملائكة المقربون وهم لا يعصون الله فلا يليق أن يقال إنه لما رفع إلى السماء أبصر عبداً على فاحشة الثاني أن الأنبياء لا يدعون بهلاك المذنب إلا عن أمر الله تعالى وإذا أذن الله تعالى فيه لم يجز أن يمنعه من إجابة دعائه الثالث أن ذلك الدعاء إما أن يكون صواباً أو خطأً فإن كان صواباً فلم رده في المرة الثانية وإن كان خطأً فلم قبله في المرة الأولى ثم قال وأخبار الآحاد إذا وردت على خلاف دلائل العقول وجب التوقف فيها
والقول الثاني أن هذه الإراءة كانت بعين البصيرة والعقل لا بالبصر الظاهر والحس الظاهر واحتج القائلون بهذا القول بوجوه
الحجة الأولى أن ملكوت السموات عبارة عن ملك السماء والملك عبارة عن القدرة وقدرة الله لا ترى وإنما تعرف بالعقل وهذا كلام قاطع إلا أن يقال المراد بملكوت السموات والأرض نفس السموات والأرض إلا أن على هذا التقدير يضيع لفظ الملكوت ولا يحصل منه فائدة
والحجة الثانية أنه تعالى ذكر هذه الإراءة في أول الآية على سبيل الإجمال وهو قوله مُّبِينٍ وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْراهِيمَ ثم فسرها بعد ذلك بقوله فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً ( الأنعام 76 ) فجرى ذكر هذا الاستدلال كالشرح والتفسير لتلك الإراءة فوجب أن يقال إن تلك الإراءة كانت عبارة عن هذا الاستدلال
والحجة الثالثة أنه تعالى قال في آخر الآية وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءاتَيْنَاهَا إِبْراهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ والرؤية بالعين لا تصير حجة على قومه لأنهم كانوا غائبين عنها وكانوا يكذبون إبراهيم فيها وما كان يجوز لهم تصديق إبراهيم في تلك الدعوى إلا بدليل منفصل ومعجزة باهرة وإنما كانت الحجة التي أوردها إبراهيم على قومه في الاستدلال بالنجوم من الطريق الذي نطق به القرآن فإن تلك الأدلة كانت ظاهرة لهم كما أنها كانت ظاهرة لإبراهيم
والحجة الرابعة أن إراءة جميع العالم تفيد العلم الضروري بأن للعالم إلهاً قادراً على كل الممكنات ومثل هذه الحالة لا يحصل للإنسان بسببها استحقاق المدح والتعظيم ألا ترى أن الكفار في الآخرة يعرفون الله تعالى بالضرورة وليس لهم في تلك المعرفة مدح ولا ثواب وأما الاستدلال بصفات المخلوقات على وجود الصانع وقدرته وحكمته فذاك هو الذي يفيد المدح والتعظيم
والحجة الخامسة أنه تعالى كما قال في حق إبراهيم عليه السلام وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فكذلك قال في حق هذه الأمة سَنُرِيهِمْ ءايَاتِنَا فِى الاْفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ ( فصلت 53 ) فكما كانت هذه الإراءة بالبصيرة الباطنة لا بالبصر الظاهر فكذلك في حق إبراهيم لا يبعد أن يكون الأمر كذلك
الحجة السادسة أنه عليه السلام لما تمم الاستدلال بالنجم والقمر والشمس قال بعده إِنّى وَجَّهْتُ وَجْهِى َ لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الأنعام 79 )

فحكم على السموات والأرض بكونها مخلوقة لأجل الدليل الذي ذكره في النجم والقمر والشمس وذلك الدليل لو لم يكن عاماً في كل السموات والأرض لكان الحكم العام بناء على دليل خاص وأنه خطأ فثبت أن ذلك الدليل كان عاماً فكان ذكر النجم والقمر والشمس كالمثال لإراءة الملكوت فوجب أن يكون المراد من إراءة الملكوت تعريف كيفية دلالتها بحسب تغيرها وإمكانها وحدوثها على وجود الإله العالم القادر الحكيم فتكون هذه الإراءة بالقلب لا بالعين
الحجة السابعة أن اليقين عبارة عن العلم المستفاد بالتأمل إذا كان مسبوقاً بالشك وقوله تعالى وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ كالغرض من تلك الإراءة فيصير تقدير الآية نرى إبراهيم ملكوت السوات والأرض لأجل أن يصير من الموقنين فلما كان اليقين هو العلم المستفاد من الدليل وجب أن تكون تلك الإراءة عبارة عن الاستدلال
الحجة الثامنة أن جميع مخلوقات الله تعالى دالة على وجود الصانع وقدرته باعتبار واحد وهو أنها محدثة ممكنة وكل محدث ممكن فهو محتاج إلى الصانع وإذا عرف الإنسان هذا الوجه الواحد فقد كفاه ذلك في الاستدلال عى الصانع وكأنه بمعرفة هاتين المقدمتين قد طالع جميع الملكوت بعين عقله وسمع بأذن عقله شهادتها بالاحتياج والافتقار وهذه الرؤية رؤية باقية غير زائلة البتة ثم إنها غير شاملة عن الله تعالى بل هي شاغلة للقلب والروح بالله أما رؤية العين فالإنسان لا يمكنه أن يرى بالعين أشياء كثيرة دفعة واحدة على سبيل الكمال ألا ترى أن من نظر إلى صحيفة مكتوبة فإنه لا يرى من تلك الصحيفة رؤية كاملة تامة إلا حرفاً واحداً فإن حدق نظره إلى حرف آخر وشغل بصره به صار محروماً عن إدراك الحرف الأول أو عن إبصاره فثبت أن رؤية الأشياء الكثيرة دفعة واحدة غير ممكنة وبتقدير أن تكون ممكنة هي غير باقية وبتقدير أن تكون باقية هي شاغلة عن الله تعالى ألا ترى أنه تعالى مدح محمداً عليه الصلاة والسلام في ترك هذه الرؤية فقال مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ( النجم 17 ) فثبت بجملة هذه الدلائل أن تلك الإراءة كانت إراءة بحسب بصيرة العقل لا بحسب البصر الظاهر
فإن قيل فرؤية القلب على هذا التفسير حاصلة لجميع الموحدين فأي فضيلة تحصل لإبراهيم بسببها
قلنا جميع الموحدين وإن كانوا يعرفون أصل هذا الدليل إلا أن الاطلاع على آثار حكمة الله تعالى في كل واحد من مخلوقات هذا العالم بحسب أجناسها وأنواعها وأصنافها وأشخاصها وأحوالها مما لا يحصل إلا للأكابر من الأنبياء عليهم السلام ولهذا المعنى كان رسولنا عليه الصلاة والسلام يقول في دعائه ( اللهم أرنا الأشياء كما هي ) فزال هذا الإشكال والله أعلم
المسألة الرابعة اختلفوا في ( الواو ) في قوله وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ وذكروا فيه وجوهاً الأول الواو زائدة والتقدير نرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض ليستدل بها ليكون من الموقنين الثاني أن يكون هذا كلاماً مستأنفاً لبيان علة الإراءة والتقدير وليكون من الموقنين نريه ملكوت السموات والأرض الثالث أن الإراءة قد تحصل وتصير سبباً لمزيد الضلال كما في حق فرعون قال تعالى وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ ءايَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى ( طه 56 ) وقد تصير سبباً لمزيد الهداية واليقين فلما احتملت الإراءة هذين الاحتمالين قال

تعالى في حق إبراهيم عليه السلام إنا أريناه هذه الآيات ليراها ولأجل أن يكون من الموقنين لا من الجاحدين والله أعلم
المسألة الخامسة اليقين عبارة عن علم يحصل بعد زوال الشبهة بسبب التأمل ولهذا المعنى لا يوصف علم الله تعالى بكونه يقيناً لأن علمه غير مسبوق بالشبهة وغير مستفاد من الفكر والتأمل واعلم أن الإنسان في أول ما يستدل فإنه لا ينفك قلبه عن شك وشبهة من بعض الوجوه فإذا كثرت الدلائل وتوافقت وتطابقت صارت سبباً لحصول اليقين وذلك لوجوه الأول أنه يحصل لكل واحد من تلك الدلائل نوع تأثر وقوة فلا تزال القوة تتزايد حتى ننتهي إلى الجزم الثاني أن كثرة الأفعال سبب لحصول الملكة فكثرة الاستدلال بالدلائل المختلفة على المدلول الواحد جار مجرى تكرار الدرس الواحد فكما أن كثرة التكرار تفيد الحفظ المتأكد الذي لا يزول عن القلب فكذا ههنا الثالث أن القلب عند الاستدلال كان مظلماً جداً فإذا حصل فيه الاعتقاد المستفاد من الدليل الأول امتزج نور ذلك الاستدلال بظلمة سائر الصفات الحاصلة في القلب فحصل فيه حالة شبيهة بالحالة الممتزجة من النور والظلمة فإذا حصل الاستدلال الثاني امتزج نوره بالحالة الأولى فيصير الإشراق واللمعان أتم وكما أن الشمس إذا قربت من المشرق ظهر نورها في أول الأمر وهو الصبح فكذلك الاستدلال الأول يكون كالصبح ثم كما أن الصبح لا يزال يتزايد بسبب تزايد قرب الشمس من سمت الرأس فإذا وصلت إلى سمت الرأس حصل النور التام فكذلك العبد كلما كان تدبره في مراتب مخلوقات الله تعالى أكثر كان شروق نور المعرفة والتوحيد أجلى إلا أن الفرق بين شمس العلم وبين شمس العالم أن شمس العالم الجسماني لها في الارتقاء والتصاعد حد معين لا يمكن أن يزاد عليه في الصعود وأما شمس المعرفة والعقل والتوحيد فلا نهاية لتصاعدها ولا غاية لازديادها فقوله وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ إشارة إلى مراتب الدلائل والبينات وقوله وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ إشارة إلى درجات أنوار التجلي وشروق شمس المعرفة والتوحيد والله أعلم
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَاذَا رَبِّى فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الاٌّ فِلِينَ فَلَمَّآ رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَاذَا رَبِّى فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِى رَبِّى لاّكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّآلِّينَ فَلَماَّ رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَة ً قَالَ هَاذَا رَبِّى هَاذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّآ أَفَلَتْ قَالَ ياقَوْمِ إِنِّى بَرِى ءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّى وَجَّهْتُ وَجْهِى َ لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَاوَاتِ والأرض حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ

في هذه الآية مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ عطف على قوله قَالَ إِبْراهِيمُ لاِبِيهِ ءازَرَ وقوله وَكَذَلِكَ نُرِى جملة وقعت اعتراضاً بين المعطوف والمعطوف عليه
المسألة الثانية قال الواحدي رحمه الله يقال جن عليه الليل وأجنه الليل ويقال لكل ما سترته جن وأجن ويقال أيضاً جنه الليل ولكن الاختيار جن عليه الليل وأجنه الليل هذا قول جميع أهل اللغة ومعنى جَنَّ ستر ومنه الجنة والجن والجنون والجان والجنين والمجن والجنن والمجن وهو المقبور والمجنة كل هذا يعود أصله إلى الستر والاستتار وقال بعض النحويين جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ إذا أظلم عليه الليل ولهذا دخلت ( على ) عليه كما تقول في أظلم فأما جنه فستره من غير تضمين معنى أَظْلَمَ
المسألة الثالثة اعلم أن أكثر المفسرين ذكروا أن ملك ذلك الزمان رأى رؤيا وعبرها المعبرون بأنه يولد غلام ينازعه في ملكه فأمر ذلك الملك بذبح كل غلام يولد فحبلت أم إبراهيم به وماأظهرت حبلها للناس فلما جاءها الطلق ذهبت إلى كهف في جبل ووضعت إبراهيم وسدت الباب بحجر فجاء جبريل عليه السلام ووضع أصبعه في فمه فمصه فخرج منه رزقه وكان يتعهده جبريل عليه السلام فكانت الأم تأتيه أحياناً وترضعه وبقي على هذه الصفة حتى كبر وعقل وعرف أن له رباً فسأل الأم فقال لها من ربي فقالت أنا فقال ومن ربك قالت أبوك فقال للأب ومن ربك فقال ملك البلد فعرف إبراهيم عليه السلام جهلهما بربهما فنظر من باب ذلك الغار ليرى شيئاً يستدل به على وجود الرب سبحانه فرأى النجم الذي هو أضوأ النجوم في السماء فقال هذا ربي إلى آخر القصة ثم القائلون بهذا القول اختلفوا فمنهم من قال إن هذا كان بعد البلوغ وجريان قلم التكليف عليه ومنهم من قال إن هذا كان قبل البلوغ واتفق أكثر المحققين على فساد القول الأول واحتجوا عليه بوجوه
الحجة الأولى أن القول بربوبية النجم كفر بالإجماع والكفر غير جائز بالإجماع على الأنبياء
الحجة الثانية أن إبراهيم عليه السلام كان قد عرف ربه قبل هذه الواقعة بالدليل والدليل على صحة ما ذكرناه أنه تعالى أخبر عنه أنه قال قبل هذه الواقعة لأبيه آزر وَإِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ لاِبِيهِ ءازَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً ءالِهَة ً إِنّى ( الأنعام 74 )
الحجة الثالثة أنه تعالى حكى عنه أنه دعا أباه إلى التوحيد وترك عبادة الأصنام بالرفق حيث قال لاِبِيهِ ياأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً ( مريم 42 ) وحكى في هذا الموضع أنه دعا أباه إلى التوحيد وترك عبادة الأصنام بالكلام الخشن واللفظ الموحش ومن المعلوم أن من دعا غيره إلى الله تعالى فإنه يقدم الرفق على العنف واللين على الغلظ ولا يخوض في التعنيف والتغليظ إلا بعد المدة المديدة واليأس التام فدل هذا على أن هذه الواقعة إنما وقعت بعد أن دعا أباه إلى التوحيد مراراً وأطواراً ولا شك أنه إنما اشتغل بدعوة أبيه بعد فراغه من مهم نفسه فثبت أن هذه الواقعة إنما وقعت بعد أن عرف الله بمدة
الحجة الرابعة أن هذه الواقعة إنما وقعت بعد أن أراه الله ملكوت السموات والأرض حتى رأى من فوق العرش والكرسي وما تحتهما إلى ما تحت الثرى ومن كان منصبه في الدين كذلك وعلمه بالله كذلك كيف يليق به أن يعتقد إلهية الكواكب

الحجة الخامسة أن دلائل الحدوث في الأفلاك ظاهرة من خمسة عشر وجهاً وأكثر ومع هذه الوجوه الظاهرة كيف يليق بأقل العقلاء نصيباً من العقل والفهم أن يقول بربوبية الكواكب فضلاً عن أعقل العقلاء وأعلم العلماء
الحجة السادسة أنه تعالى قال في صفة إبراهيم عليه السلام إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ( الصافات 84 ) وأقل مراتب القلب السليم أن يكون سليماً عن الكفر وأيضاً مدحه فقال وَلَقَدْ ءاتَيْنَا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ ( الأنبياء 51 ) أي آتيناه رشده من قبل من أول زمان الفكرة وقوله وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ أي بطهارته وكماله ونظيره قوله تعالى اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ( الأنعام 124 )
الحجة السابعة قوله وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ أي وليكون بسبب تلك الإراءة من الموقنين
ثم قال بعده فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ والفاء تقتضي الترتيب فثبت أن هذه الواقعة إنما وقعت بعد أن صار إبراهيم من الموقنين العارفين بربه
الحجة الثامنة أن هذه الواقعة إنما حصلت بسبب مناظرة إبراهيم عليه السلام مع قومه والدليل عليه أنه تعالى لما ذكر هذه القصة قال وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءاتَيْنَاهَا إِبْراهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ ولم يقل على نفسه فعلم أن هذه المباحثة إنما جرت مع قومه لأجل أن يرشدهم إلى الإيمان والتوحيد لا لأجل أن إبراهيم كان يطلب الدين والمعرفة لنفسه
الحجة التاسعة أن القوم يقولون إن إبراهيم عليه السلام إنما اشتغل بالنظر في الكواكب والقمر والشمس حال ما كان في الغار وهذا باطل لأنه لو كان الأمر كذلك فكيف يقول إِلَاهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ مع أنه ما كان في الغار لا قوم ولا صنم
الحجة العاشرة قال تعالى وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونّى فِى اللَّهِ وكيف يحاجونه وهم بعد ما رأوه وهو ما رآهم وهذا يدل على أنه عليه السلام إنما اشتغل بالنظر في الكواكب والقمر والشمس بعد أن خالط قومه ورآهم يعبدون الأصنام ودعوه إلى عبادتها فذكر قوله لا أُحِبُّ الاْفِلِينَ رداً عليهم وتنبيهاً لهم على فساد قولهم
الحجة الحادية عشر أنه تعالى حكى عنه أنه قال للقوم وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ وهذا يدل على أن القوم كانوا خوفوه بالأصنام كما حكى عن قوم هود عليه السلام أنهم قالوا له إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ ءالِهَتِنَا بِسُوء ( هود 54 ) ومعلوم أن هذا الكلام لا يليق بالغار
الحجة الثانية عشرة أن تلك الليلة كانت مسبوقة بالنهار ولا شك أن الشمس كانت طالعة في اليوم المتقدم ثم غربت فكان ينبغي أن يستدل بغروبها السابق على أنها لا تصلح للآلهية وإذا بطل بهذا الدليل صلاحية الشمس للإلهية بطل ذلك أيضاً في القمر والكوكب بطريق الأولى هذا إذا قلنا إن هذه الواقعة كان المقصود منها تحصيل المعرفة لنفسه أما إذا قلنا المقصود منها إلزام القوم وإلجاؤهم

فهذا السؤال غير وارد لأنه يمكن أن يقال أنه إنما اتفقت مكالمته مع القوم حال طلوع ذلك النجم ثم امتدت المناظرة إلى أن طلع القمر وطلعت الشمس بعده وعلى هذا التقدير فالسؤال غير وارد فثبت بهذه الدلائل الظاهرة أنه لا يجوز أن يقال إن إبراهيم عليه السلام قال على سبيل الجزم هذا ربي وإذا بطل هذا بقي ههنا احتمالان الأول أن يقال هذا كلام إبراهيم عليه السلام بعد البلوغ ولكن ليس الغرض منه إثبات ربوبية الكوكب بل الغرض منه أحد أمور سبعة الأول أن يقال إن إبراهيم عليه السلام لم يقل هذا ربي على سبيل الأخبار بل الغرض منه أنه كان يناظر عبدة الكوكب وكان مذهبهم أن الكوكب ربهم وآلههم فذكر إبراهيم عليه السلام ذلك القول الذي قالوه بلفظهم وعبارتهم حتى يرجع إليه فيبطله ومثاله أن الواحد منا إذا ناظر من يقول بقدم الجسم فيقول الجسم قديم فإذا كان كذلك فلم نراه ونشاهده مركباً متغيراً فهو إنما قال الجسم قديم إعادة لكلام الخصم حتى يلزم المحال عليه فكذا ههنا قال هَاذَا رَبّى والمقصود منه حكاية قول الخصم ثم ذكر غقيبه ما يدل على فساده وهو قوله لا أُحِبُّ الاْفِلِينَ وهذا الوجه هو المتعمد في الجواب والدليل عليه أنه تعالى دل في أول الآية على هذه المناظرة بقوله تعالى وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءاتَيْنَاهَا إِبْراهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ
والوجه الثاني في التأويل أن نقول قوله هَاذَا رَبّى معناه هذا ربي في زعمكم واعتقادكم ونظيره أن يقول الموحد للمجسم على سبيل الاستهزاء أن إلهه جسم محدود أي في زعمه واعتقاده قال تعالى وَانظُرْ إِلَى إِلَاهِكَ الَّذِى ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً ( طه 97 ) وقال تعالى وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِى َ ( القصص 62 ) وكان صلوات الله تعالى عليه يقول ( يا إله الآلهة ) والمراد أنه تعالى إله الآلهة في زعمهم وقال ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ( الدخان 49 ) أي عند نفسك
والوجه الثالث في الجواب أن المراد منه الاستفهام على سبيل الإنكار إلا أنه أسقط حرف الاستفهام استغناء عنه لدلالة الكلام عليه
والوجه الرابع أن يكون القول مضمراً فيه والتقدير قال يقولون هذا ربي وإضمار القول كثير كقوله تعالى وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا ( البقرة 127 ) أي يقولون ربنا وقوله وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَى لِيُقَرّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ( الزمر 3 ) أي يقولون ما نعبدهم فكذا ههنا التقدير إن إبراهيم عليه السلام قال لقومه يقولون هذا ربي أي هذا هو الذي يدبرني ويربيني
والوجه الخامس أن يكون إبراهيم ذكر هذا الكلام على سبيل الاستهزاء كما يقال لذليل ساد قوماً هذا سيدكم على سبيل الاستهزاء
الوجه السادس أنه ( صلى الله عليه وسلم ) أراد أن يبطل قولهم بربوبية الكواكب إلا أنه عليه السلام كان قد عرف من تقليدهم لأسلافهم وبعد طباعهم عن قبول الدلائل أنه لو صرح بالدعوة إلى الله تعالى لم يقبلوه ولم يلتفتوا إليه فمال إلى طريق به يستدرجهم إلى استماع الحجة وذلك بأن ذكر كلاماً يوهم كونه مساعداً لهم على مذهبهم بربوبية الكواكب مع أن قلبه صلوات الله عليه كان مطمئناً بالإيمان ومقصوده من ذلك أن يتمكن من ذكر الدليل على إبطاله وإفساده وأن يقبلوا قوله وتمام التقرير أنه لما يجد إلى الدعوة طريقاً سوى هذا الطريق وكان عليه السلام مأموراً بالدعوة إلى الله كان بمنزلة المكره على كلمة الكفر ومعلوم أن عند الإكراه يجوز

إجراء كلمة الكفر على اللسان قال تعالى إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ( النحل 106 ) فإذا جاز ذكر كلمة الكفر لمصلحة بقاء شخص واحد فبأن يجوز إظهار كلمة الكفر لتخليص عالم من العقلاء عن الكفر والعقاب المؤبد كان ذلك أولى وأيضاً المكره على ترك الصلاة لو صلى حتى قتل استحق الأجر العظيم ثم إذا جاء وقت القتال مع الكفار وعلم أنه لو اشتغل بالصلاة انهزم عسكر الإسلام فههنا يجب عليه ترك الصلاة والاشتغال بالقتال حتى لو صلى وترك القتال أثم ولو ترك الصلاة وقاتل استحق الثواب بل نقول أن من كان في الصلاة فرأى طفلاً أو أعمى أشرف على غرق أو حرق وجب عليه قطع الصلاة لإنقاذ ذلك الطفل أو ذلك الأعمى عن ذلك البلاء فكذا ههنا أن إبراهيم عليه السلام تكلم بهذه الكلمة ليظهر من نفسه موافقة القوم حتى إذا أورد عليهم الدليل المبطل لقولهم كان قبولهم لذلك الدليل أتم وانتفاعهم باستماعه أكمل ومما يقوي هذا الوجه أنه تعالى حكى عنه مثل هذا الطريق في موضع آخر وهو قوله فَنَظَرَ نَظْرَة ً فِى النُّجُومِ فَقَالَ إِنّى سَقِيمٌ فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ ( الصافات 88 90 ) وذلك لأنهم كانوا يستدلون بعلم النجم على حصول الحوادث المستقبلة فوافقهم إبراهيم على هذا الطريق في الظاهر مع أنه كان بريئاً عنه في الباطن ومقصوده أن يتوسل بهذا الطريق إلى كسر الأصنام فإذا جازت الموافقة في الظاهر ههنا مع أنه كان بريئاً عنه في الباطن فلم لا يجوز أن يكون في مسألتنا كذلك وأيضاً المتكلمون قالوا إنه يصح من الله تعالى إظهار خوارق العادات على يد من يدعى الإلهية لأن صورة هذا المدعي وشكله يدل على كذبه فلا يحصل فيه التلبيس بسبب ظهور تلك الخوارق على يده ولكن لا يجوز إظهارها على يد من يدعي النبوة لأنه يوجب التلبيس فكذا ههنا وقوله هَاذَا رَبّى لا يوجب الضلال لأن دلائل بطلانه جلية وفي إظهاره هذه الكلمة منفعة عظيمة وهي استدراجهم لقبول الدليل فكان جائزاً والله أعلم
الوجه السابع أن القوم لما دعوه إلى عبادة النجوم فكانوا في تلك المناظرة إلى أن طلع النجم الدري فقال إبراهيم عليه السلام هَاذَا رَبّى أي هذا هو الرب الذي تدعونني إليه ثم سكت زماناً حتى أفل ثم قال لا أُحِبُّ الاْفِلِينَ فهذا تمام تقرير هذه الأجوبة على الاحتمال الأول وهو أنه صلوات الله عليه ذكر هذا الكلام بعد البلوغ
أما الاحتمال الثاني وهو أنه ذكره قبل البلوغ وعند القرب منه فتقريره أنه تعالى كان قد خص إبراهيم بالعقل الكامل والقريحة الصافية فخطر بباله قبل بلوغه إثبات الصانع سبحانه فتفكر فرأى النجم فقال هَاذَا رَبّى فلما شاهد حركته قال لا أُحِبُّ الاْفِلِينَ ثم إنه تعالى أكمل بلوغه في أثناء هذا البحث فقال في الحال إِنّى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ فهذا الاحتمال لا بأس به وإن كان الاحتمال الأول أولى بالقبول لما ذكرنا من الدلائل الكثيرة على أن هذه المناظرة إنما جرت لإبراهيم عليه السلام وقت اشتغاله بدعوة القوم إلى التوحيد والله أعلم
المسألة الرابعة قرأ أبو عمرو وورش عن نافع رئى بفتح الراء وكسر الهمزة حيث كان وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بكسرهما فإذا كان بعد الألف كاف أو هاء نحو رآك ورآها فحينئذ يكسرها حمزة والكسائي ويفتحها ابن عامر وروى يحيى عن أبي بكر عن عاصم مثل حمزة والكسائي فإذا تلته ألف وصل نحو رأى الشمس ورأى القمر فإن حمزة ويحيى عن أبي بكر ونصر عن الكسائي يكسرون الراء ويفتحون

الهمزة والباقون يقرؤن جميع ذلك بفتح الراء والهمزة واتفقوا في رأوك ورأوه أنه بالفتح قال الواحدي أما من فتح الراء والهمزة فعلته واضحة وهي ترك الألف على الأصل نحو رعى ورمى وأما من فتح الراء وكسر الهمزة فإنه أمال الهمزة نحو الكسر ليميل الألف التي في رأى نحو الياء ترك الراء مفتوحة على الأصل وأما من كسرهما جيمعاً فلأجل أن تصير حركة الراء مشابهة لحركة الهمزة والواحدي طول في هذا الباب في ( كتاب البسيط ) فليرجع إليه والله أعلم
المسألة الخامسة القصة التي ذكرناها من أن إبراهيم عليه السلام ولد في الغار وتركته أمه وكان جبريل عليه السلام يربيه كل ذلك محتمل في الجملة وقال القاضي كل ما يجري مجرى المعجزات فإنه لا يجوز لأن تقديم المعجز على وقت الدعوى غير جائز عندهم وهذا هو المسمى بالإرهاص إلا إذا حضر في ذلك الزمان رسول من الله فتجعل تلك الخوارق معجزة لذلك النبي وأما عند أصحابنا فالإرهاص جائز فزالت الشبهة والله أعلم
المسألة السادسة أن إبراهيم عليه السلام استدل بأفول الكوكب على أنه لا يجوز أن يكون رباً له وخالقاً له ويجب علينا ههنا أن نبحث عن أمرين أحدهما أن الأفول ما هو والثاني أن الأفول كيف يدل على عدم ربوبية الكوكب فنقول الأفول عبارة عن غيبوبة الشيء بعد ظهوره
وإذا عرفت هذا فلسائل أن يسأل فيقول الأفول إنما يدل على الحدوث من حيث إنه حركة وعلى هذا التقدير فيكون الطلوع أيضاً دليلاً على الحدوث فلم ترك إبراهيم عليه السلام الاستدلال على حدوثها بالطلوع وعول في إثبات هذا المطلوب على الأفول
والجواب لا شك أن الطلوع والغروب يشتركان في الدلالة على الحدوث إلا أن الدليل الذي يحتج به الأنبياء في معرض دعوة الخلق كلهم إلى الله لا بد وأن يكون ظاهراً جلياً بحيث يشترك في فهمه الذكي والغبي والعاقل ودلالة الحركة على الحدوث وإن كانت يقينية إلا أنها دقيقة لا يعرفها إلا الأفاضل من الخلق أما دلالة الأفول فإنها دلالة ظاهرة يعرفها كل أحد فإن الكوكب يزول سلطانه وقت الأفول فكانت دلالة الأفول على هذا المقصود أتم وأيضاً قال بعض المحققين الهوى في خطرة الإمكان أفول وأحسن الكلام ما يحصل فيه حصة الخواص وحصة الأوساط وحصة العوام فالخواص يفهمون من الأفول الإمكان وكل ممكن محتاج والمحتاج لا يكون مقطوع الحاجة فلا بد من الانتهاء إلى من يكون منزهاً عن الإمكان حتى تنقطع الحاجات بسبب وجوده كما قال الاوْفَى وَأَنَّ إِلَى رَبّكَ الْمُنتَهَى ( النجم 42 ) وأما الأوساط فإنهم يفهمون من الأفول مطلق الحركة فكل متحرك محدث وكل محدث فهو محتاج إلى القديم القادر فلا يكون الآفل إلهاً بل الأله هو الذي احتاج إليه ذلك الآفل وأما العوام فإنهم يفهمون من الأفول الغروب وهم يشاهدون أن كل كوكب يقرب من الأفول والغروب فإنه يزول نوره وينتقص ضوءه ويذهب سلطانه ويصير كالمعزول ومن يكون كذلك لا يصلح للإلهية فهذه الكلمة الواحدة أعني قوله لا أُحِبُّ الاْفِلِينَ كلمة مشتملة على نصيب المقربين وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال فكانت أكمل الدلائل وأفضل البراهين
وفيه دقيقة أخرى وهو أنه عليه السلام إنما كان يناظرهم وهم كانوا منجمين ومذهب أهل النجوم أن

الكوكب إذا كان في الربع الشرقي ويكون صاعداً إلى وسط السماء كان قوياً عظيماً التأثير أما إذا كان غريباً وقريباً من الأفول فإنه يكون ضعيف التأثير قليل القوة فنبه بهذه الدقيقة على أن الإله هو الذي لا تتغير قدرته إلى العجز وكماله إلى النقصان ومذهبكم أن الكوكب حال كونه في الربع الغربي يكون ضعيف القوة ناقص التأثير عاجزاً عن التدبير وذلك يدل على القدح في إلهيته فظهر على قول المنجمين أن للأفول مزيد خاصية في كونه موجباً للقدح في إلهيته والله أعلم
أما المقام الثاني وهو بيان أن كوكب الكوكب آفلاً يمنع من ربوبيته فلقائل أيضاً أن يقول أقصى ما في الباب أن يكون أفوله دالاً على حدوثه إلا أن حدوثه لا يمنع من كونه رباً لإبراهيم ومعبوداً له ألا ترى أن المنجمين وأصحاب الوسايط يقولون أن الإله الأكبر خلق الكواكب وأبدعها وأحدثها ثم أن هذه الكواكب تخلق النبات والحيوان في هذا العالم الأسفل فثبت أن أفول الكواكب وإن دل على حدوثها إلا أنه لا يمنع من كونها أرباباً للإنسان وآلهة لهذا العالم والجواب لنا ههنا مقامان
المقام الأول أن يكون المراد من الرب والإله الموجود الذي عنده تنقطع الحاجات ومتى ثبت بأفول الكواكب حدوثها وثبت في بداهة العقول أن كل ما كان محدثاً فإنه يكون في وجوده محتاجاً إلى الغير وجب القطع باحتياج هذه الكواكب في وجودها إلى غيرها ومتى ثبت هذا المعنى امتنع كونها أرباباً وآلهة بمعنى أنه تنقطع الحاجات عند وجودها فثبت أن كونها آفلة يوجب القدح في كونها أرباباً وآلهة بهذا التفسير
المقام الثاني أن يكون المراد من الرب والإله من يكون خالقاً لنا وموجداً لذواتنا وصفاتنا فنقول أفول الكواكب يدل على كونها عاجزة عن الخلق والإيجاد وعلى أنه لا يجوز عبادتها وبيانه من وجوه الأول أن أفولها يدل على حدوثها وحدوثها يدل على افتقارها إلى فاعل قديم قادر ويجب أن تكون قادرية ذلك القادر أزلية وإلا لافتقرت قادريته إلى قادر آخر ولزم التسلسل وهو محال فثبت أن قادريته أزلية
وإذا ثبت هذا فنقول الشيء الذي هو مقدور له إنما صح كونه مقدوراً له باعتبار إمكانه والإمكان واحد في كل الممكنات فثبت أن ما لأجله صار بعض الممكنات مقدوراً لله تعالى فهو حاصل في كل الممكنات فوجب في كل الممكنات أن تكون مقدروة لله تعالى
وإذا ثبت هذا امتنع وقوع شيء من الممكنات بغيره على ما بينا صحة هذه المقامات بالدلائل اليقينة في علم الأصول
فالحاصل أنه ثبت بالدليل أن كون الكواكب آفلة يدل على كونها محدثة وإن كان لا يثبت هذا المعنى إلا بواسطة مقدمات كثيرة وأيضاً فكونها في نفسها محدثة يوجب القول بامتناع كونها قادرة على الإيجاد والإبداع وإن كان لا يثبت هذا المعنى إلا بواسطة مقدمات كثيرة ودلائل القرآن إنما يذكر فيها أصول المقدمات فأما التفريع والتفصيل فذاك إنما يليق بعلم الجدل فلما ذكر الله تعالى هاتين المقدمتين على سبيل الرمز لا جرم اكتفى بذكرهما في بيان أن الكواكب لا قدرة لها على الإيجاد والإبداع فلهذا السبب استدل إبراهيم عليه السلام بأفولها على امتناع كونها أرباباً وآلهة لحوادث هذا العالم

الوجه الثاني أن أفول الكواكب يدل على حدوثها وحدوثها يدل على افتقارها في وجودها إلى القادر المختار فيكون ذلك الفاعل هو الخالق للأفلاك والكواكب ومن كان قادراً على خلق الكواكب والأفلاك من دون واسطة أي شيء كان فبأن يكون قادراً على خلق الإنسان أولى لأن القادر على خلق الشيء الأعظم لا بد وأن يكون قادراً على خلق الشيء الأضعف وإليه الإشارة بقوله تعالى لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ( غافر 57 ) وبقوله أَوَلَيْسَ الَذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ فثبت بهذا الطريق أن الإله الأكبر يجب أن يكون قادراً على خلق البشر وعلى تدبير العالم الأسفل بدون واسطة الأجرام الفلكية وإذا كان الأمر كذلك كان الاشتغال بعبادة الإله الأكبر أولى من الاشتغال بعبادة الشمس والنجوم والقمر
الوجه الثالث أنه لو صح كون بعض الكواكب موجدة وخالقة لبقي هذا الاحتمال في الكل وحينئذ لا يعرف الإنسان أن خالقه هذا الكوكب أو ذلك الآخر أو مجموع الكواكب فيبقى شاكاً في معرفة خالقه أما لو عرفنا الكل وأسندنا الخلق والإيجاد والتدبير إلى خالق الكل فحينئذ يمكننا معرفة الخالق والموجد ويمكننا الاشتغال بعبادته وشكره فثبت بهذه الوجوه أن أفول الكواكب كما يدل على امتناع كونها قديمة فكذلك يدل على امتناع كونها آلهة لهذا العالم وأرباباً للحيوان والإنسان والله أعلم فهذا تمام الكلام في تقرير هذا الدليل
فإن قيل لا شك أن تلك الليلة كانت مسبوقة بنهار وليل وكان أفول الكواكب والقمر والشمس حاصلاً في الليل السابق والنهار السابق وبهذا التقرير لا يبقى للأفول الحاصل في تلك الليلة مزيد فائدة
والجواب أنا بينا أنه صلوات الله عليه إنما أورد هذا الدليل على الأقوام الذين كان يدعوهم من عبادة النجوم إلى التوحيد فلا يبعد أن يقال أنه عليه السلام كان جالساً مع أولئك الأقوام ليلة من الليالي وزجرهم عن عبادة الكواكب فبينما هو في تقرير ذلك الكلام إذ وقع بصره على كوكب مضيء فلما أفل قال إبراهيم عليه السلام لو كان هذا الكوكب إلهاً لما انتقل من الصعود إلى الأفول ومن القوة إلى الضعف ثم في أثناء ذلك الكلام طلع القمر وأفل فأعاد عليهم ذلك الكلام وكذا القول في الشمس فهذا جملة ما يحضرنا في تقرير دليل إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه
المسألة السادسة تفلسف الغزالي في بعض كتبه وحمل الكوكب على النفس الناطقة الحيوانية التي لكل كوكب والقمر على النفس الناطقة التي لكل فلك والشمس على العقل المجرد الذي لكل ذلك وكان أبو علي بن سيناء يفسر الأفول بالإمكان فزعم الغزالي أن المراد بأفولها إمكانها في نفسها وزعم أن المراد من قوله لا أُحِبُّ الاْفِلِينَ أن هذه الأشياء بأسرها ممكنة الوجود لذواتها وكل ممكن فلا بد له من مؤثر ولا بد له من الانتهاء إلى واجب الوجود
واعلم أن هذا الكلام لا بأس به إلا أنه يبعد حمل لفظ الآية عليه ومن الناس من حمل الكوكب على الحس والقمر على الخيال والوهم والشمس على العقل والمراد أن هذه القوى المدركة الثلاثة قاصرة متناهية ومدبر العالم مستول عليها قاهر لها والله أعلم
المسألة السابعة دل قوله لا أُحِبُّ الاْفِلِينَ على أحكام

الحكم الأول
هذه الآية تدل على أنه تعالى ليس بجسم إذ لو كان جسماً لكان غائباً عنا أبداً فكان آفلاً أبداً وأيضاً يمتنع أن يكون تعالى ينزل من العرش إلى السماء تارة ويصعد من السماء إلى العرش أخرى وإلا لحصل معنى الأفول
الحكم الثاني
هذه الآية تدل على أنه تعالى ليس محلاً للصفات المحدثة كما تقوله الكرامية وإلا لكان متغيراً وحينئذ يحصل معنى الأفول وذلك محال
الحكم الثالث
تدل هذه الآية على أن الدين يجب أن يكون مبنياً على الدليل لا على التقليد وإلا لم يكن لهذا الاستدلال فائدة البتة
الحكم الرابع
تدل هذه الآية على أن معارف الأنبياء بربهم استدلالية لا ضرورية وإلا لما احتاج إبراهيم إلى الاستدلال
الحكم الخامس
تدل على هذه الآية على أنه لا طريق إلى تحصيل معرفة الله تعالى إلا بالنظر والاستدلال في أحوال مخلوقاته إذ لو أمكن تحصيلها بطريق آخر لما عدل إبراهيم عليه السلام إلى هذه الطريقة والله أعلم
أما قوله تعالى فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَاذَا رَبّى فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِى رَبّى لاَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالّينَ
ففيه مسألتان
المسألة الأولى يقال بزغ القمر إذا ابتدأ في الطلوع وبزغت الشمس إذا بدأ منها طلوع ونجوم بوازغ قال الأزهري كأنه مأخوذ في البزغ وهو الشق كأنه بنوره يشق الظلمة شقاً ومعنى الآية أنه اعتبر في القمر مثل ما اعتبر في الكوكب
المسألة الثانية دل قوله لَئِن لَّمْ يَهْدِنِى رَبّى لاَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالّينَ على أن الهداية ليست إلا من الله تعالى ولا يمكن حمل لفظ الهداية على التمكن وإزاحة الأغدار ونصب الدلائل لأن كل ذلك كان حاصلاً فالهداية التي كان يطلبها بعد حصول تلك الأشياء لا بد وأن تكون زائدة عليها
واعلم أن كون إبراهيم عليه السلام على مذهبنا أظهر من أن يشتبه على العاقل لأنه في هذه الآية أضاف الهداية إلى الله تعالى وكذا في قوله الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ وكذا في قوله وَاجْنُبْنِى وَبَنِى َّ أَن نَّعْبُدَ الاْصْنَامَ

أما قوله فَلَماَّ رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَة ً قَالَ هَاذَا رَبّى هَاذَا أَكْبَرُ ففيه مسائل
المسألة الأولى إنما قال في الشمس هذا مع أنها مؤنثة ولم يقل هذه لوجوه أحدها أن الشمس بمعنى الضياء والنور فحمل اللفظ على التأويل فذكر وثانيها أن الشمس لم يحصل فيها علامة التأنيث فلما أشبه لفظها لفظ المذكر وكان تأويلها تأويل النور صلح التذكير من هاتين الجهتين وثالثها أراد هذا الطالع أو هذا الذي أراه ورابعها المقصود منه رعاية الأدب وهو ترك التأنيث عند ذكر اللفظ الدال على الربوبية
المسألة الثانية قوله هَاذَا أَكْبَرُ المراد منه أكبر الكواكب جرماً وأقواها قوة فكان أولى بالآلهية
فإن قيل لما كان الأفول حاصلاً في الشمس والأفول يمنع من صفة الربوبية وإذا ثبت امتناع صفة الربوبية للشمس كان امتناع حصولها للقمر ولسائر الكواكب أولى وبهذا الطريق يظهر أن ذكر هذا الكلام في الشمس يغني عن ذكره في القمر والكواكب فلم لم يقتصر على ذكر الشمس رعاية للإيجاز والاختصار
قلنا إن الأخذ من الأدون فالأدون مترقياً إلى الأعلى فالأعلى له نوع تأثير في التقرير والبيان والتأكيد لا يحصل من غيره فكان ذكره على هذا الوجه أولى
أما قوله قَالَ يَاءادَمُ قَوْمٌ إِنّى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ فالمعنى أنه لما ثبت بالدليل أن هذه الكواكب لا تصلح للربوبية والإلهية لا جرم تبرأ من الشرك
ولقائل أن يقول هب أنه ثبت بالدليل أن الكواكب والشمس والقمر لا تصلح للربوبية والإلهية لكن لا يلزم من هذا القدر نفي الشريك مطلقاً وإثبات التوحيد فلم فرع على قيام الدليل على كون هذه الكواكب غير صالحة للربوبية الجزم بإثبات التوحيد مطلقاً
والجواب أن القوم كانوا مساعدين على نفي سائر الشركاء وإنما نازعوا في هذه الصورة المعينة فلما ثبت بالدليل أن هذه الأشياء ليست أرباباً ولا آلهة وثبت بالاتفاق نفي غيرها لا جرم حصل الجزم بنفي الشركاء على الإطلاق
أما قوله إِنّى وَجَّهْتُ وَجْهِى َ ففيه مسألتان
المسألة الأولى فتح الياء من وَجْهِى َ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم والباقون تركوا هذا الفتح
المسألة الثانية هذا الكلام لا يمكن حمله على ظاهره بل المراد وجهت عبادتي وطاعتي وسبب جواز هذا المجاز أن من كان مطيعاً لغيره منقاداً لأمره فإنه يتوجه بوجهه إليه فجعل توجيه الوجه إليه كناية عن الطاعة
وأما قوله لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ففيه دقيقة وهي أنه لم يقل وجهت وجهي إلى الذي فطر السموات والأرض بل ترك هذا اللفظ وذكر قوله وَجَّهْتُ وَجْهِى َ لِلَّذِى والمعنى أن توجيه وجه القلب ليس إليه لأنه متعال عن الحيز والجهة بل توجيه وجه القلب إلى خدمته وطاعته لأجل عبوديته فترك كلمة ( إلى ) هنا والاكتفاء بحرف اللام دليل ظاهر على كون المعبود متعالياً عن الحيز والجهة ومعنى فطر أخرجهما

إلى الوجود وأصله من الشق يقال تفطر الشجر بالورق والورد إذا أظهرهما وأما الحنيف فهو المائل قال أبو العالية الحنيف الذي يستقبل البيت في صلاته وقيل إنه العادل عن كل معبود دون الله تعالى
وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّو نِّى فِى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِى وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّى شَيْئاً وَسِعَ رَبِّى كُلَّ شَى ْءٍ عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ
اعلم أن إبراهيم عليه السلام لما أورد عليهم الحجة المذكورة فالقوم أوردوا عليه حججاً على صحة أقوالهم منها أنهم تمسكوا بالتقليد كقولهم إِنَّا وَجَدْنَا ءابَائِنَا عَلَى أُمَّة ٍ ( الزخرف 23 ) وكقولهم للرسول عليه السلام أَجَعَلَ الاْلِهَة َ إِلَهاً واحِداً إِنَّ هَاذَا لَشَى ْء عُجَابٌ ( ص 5 ) ومنها أنهم خوفوه بأنك لما طعنت في إلهية هذه الأصنام وقعت من جهة هذه الأصنام في الآفات والبليات ونظيره ما حكاه الله تعالى في قصة قوم هود إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ ءالِهَتِنَا بِسُوء ( هود 54 ) فذكروا هذا الجنس من الكلام مع إبراهيم عليه السلام
فأجاب الله عن حجتهم بقوله قَالَ أَتُحَاجُّونّى فِى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِى يعني لما ثبت بالدليل الموجب للهداية واليقين صحة قولي فكيف يلتفت إلى حجتكم العليلة وكلماتكم الباطلة
وأجاب عن حجتهم الثانية وهي أنهم خوفوه بالأصنام بقوله وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ لأن الخوف إنما يحصل ممن يقدر على النفع والضر والأصنام جمادات لا تقدر ولا قدرة لها على النفع والضر فكيف يحصل الخوف منها
فإن قيل لا شك أن للطلسمات آثاراً مخصوصة فلم لا يجوز أن يحصل الخوف منها من هذه الجهة
قلنا الطلسم يرجع حاصله إلى تأثيرات الكواكب وقد دللنا على أن قوى الكواكب على التأثيرات إنما يحصل من خلق الله تعالى فيكون الرجاء والخوف في الحقيقة ليس إلا من الله تعالى
وأما قوله إِلاَّ أَن يَشَاء رَبّى ففيه وجوه أحدها إلا أن أذنب فيشاء إنزال العقوبة بي وثانيها إلا أن يشاء أن يبتليني بمحن الدنيا فيقطع عني بعض عادات نعمه وثالثها إلا أن يشاء ربي فأخاف ما تشركون به بأن يحييها ويمكنها من ضري ونفعي ويقدرها على إيصال الخير والشر إلي واللفظ يحتمل كل هذه الوجوه وحاصل الأمر أنه لا يبعد أن يحدث للإنسان في مستقبل عمره شيء من المكاره والحمقى من الناس يحملون ذلك على أنه إنما حدث ذلك المكروه بسبب أنه طعن في إلهية الأصنام فذكر إبراهيم عليه السلام ذلك حتى لو أنه حدث به شيء من المكاره لم يحمل على هذا السبب

ثم قال عليه السلام وَسِعَ رَبّى كُلَّ شَى ْء عِلْماً يعني أنه علام الغيوب فلا يفعل إلا الصلاح والخير والحكمة فبتقدير أن يحدث من مكاره الدنيا فذاك لأنه تعالى عرف وجه الصلاح والخير فيه لا لأجل أنه عقوبة على الطعن في إلهية الأصنام
ثم قال أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ والمعنى أفلا تتذكرون أن نفي الشركاء والأضداد والأنداد عن الله تعالى لا يوجب حلول العقاب ونزول العذاب والسعي في إثبات التوحيد والتنزيه لا يوجب استحقاق العقاب والله أعلم
المسألة الثانية قرأ نافع وابن عامر أَتُحَاجُّونّى خفيفة النون على حذف أحد النونين والباقون على التشديد على الإدغام وأما قوله وَقَدْ هَدَانِى قرأ نافع وابن عامر هَدَانِى بإثبات الياء على الأصل والباقون بحذفها للتخفيف
المسألة الثالثة أن إبراهيم عليه السلام حاجهم في الله وهو قوله لا أُحِبُّ الاْفِلِينَ والقوم أيضاً حاجوه في الله وهو قوله تعالى خبراً عنهم وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونّى فِى اللَّهِ فحصل لنا من هذه الآية أن المحاجة في الله تارة تكون موجبة للمدح العظيم والثناء البالغ وهي المحاجة التي ذكرها إبراهيم عليه السلام وذلك المدح والثناء هو قوله تعالى وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءاتَيْنَاهَا إِبْراهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ وتارة تكون موجبة للذم وهو قوله قَالَ أَتُحَاجُّونّى فِى اللَّهِ ولا فرق بين هذين البابين إلا أن المحاجة في تقرير الدين الحق توجب أعظم أنواح المدح والثناء والمحاجة في تقرير الدين الباطل توجب أعظم أنواع الذم والزجر
وإذا ثبت هذا الأصل صار هذا قانوناً معتبراً فكل موضع جاء في القرآن والأخبار يدل على تهجين أمر المحاجة والمناظرة فهو محمول على تقرير الدين الباطل وكل موضع جاء يدل على مدحه فهو محمول على تقرير الدين الحق والمذهب الصدق والله أعلم
وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَى ُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالاٌّ مْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَائِكَ لَهُمُ الاٌّ مْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ
اعلم أن هذا من بقية الجواب عن الكلام الأول والتقدير وكيف أخاف الأصنام التي لا قدرة لها على النفع والضر وأنتم لا تخافون من الشرك الذي هو أعظم الذنوب وقوله مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فيه

وجهان الأول أن قوله مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً كناية عن امتناع وجود الحجة والسلطان في مثل هذه القصة ونظيره قوله تعالى وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهَا ءاخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ ( المؤمنون 117 ) والمراد منه امتناع حصول البرهان فيه والثاني أنه لا يمتنع عقلاً أن يؤمر باتخاذ تلك التماثيل والصور قبلة للدعاء والصلاة فقوله مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَاناً معناه عدم ورود الأمر به وحاصل هذا الكلام مالكم تنكرون على الأمن في موضع الأمن ولا تنكرون على أنفسكم الأمن في موضع الخوف ولم يقل فأينا أحق بالأمن أنا أم أنتم احترازاً من تزكية نفسه فعدل عنه إلى قوله فَأَى ُّ الْفَرِيقَيْنِ يعني فريقي المشركين والموحدين ثم استأنف الجواب عن السؤال بقوله الَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ وهذا من تمام كلام إبراهيم في المحاجة والمعنى أن الذين حصل لهم الأمن المطلق هم الذين يكونون مستجمعين لهذن الوصفين أولهما الإيمان وهو كمال القوة النظرية وثانيهما وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ وهو كمال القوة العملية
ثم قال أُوْلَئِكَ لَهُمُ الاْمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ اعلم أن أصحابنا يتمسكون بهذه الآية من وجه والمعتزلة يتمسكون بها من وجه آخر أما وجه تمسك أصحابنا فهو أن نقول إنه تعالى شرط في الإيمان الموجب للأمن عدم الظلم ولو كان ترك الظلم أحد أجزاء مسمى الإيمان لكان هذا التقييد عبثاً فثبت أن الفاسق مؤمن وبطل به قول المعتزلة وأما وجه تمسك المعتزلة بها فهو أنه تعالى شرط في حصول الأمن حصول الأمرين الإيمان وعدم الظلم فوجب أن لا يحصل الأمن للفاسق وذلك يوجب حصول الوعيد له
وأجاب أصحابنا عنه من وجهين
الوجه الأول أن قوله وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ المراد من الظلم الشرك لقوله تعالى حكاية عن لقمان إذ قال لابنه يَعِظُهُ يابُنَى َّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( لقمان 13 ) فالمراد ههنا الذين آمنوا بالله ولم يثبتوا لله شريكاً في المعبودية
والدليل على أن هذا هو المراد أن هذه القصة من أولها إلى آخرها إنما وردت في نفي الشركاء والأضداد والأنداد وليس فيها ذكر الطاعات والعبادات فوجب حمل الظلم ههنا على ذلك
الوجه الثاني في الجواب أن وعيد الفاسق من أهل الصلاة يحتمل أن يعذبه الله ويحتمل أن يعفو عنه وعلى كلا التقديرين فالأمن زائل والخوف حاصل فلم يلزم من عدم الأمن القطع بحصول العذاب والله أعلم
وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قوله وَتِلْكَ إشارة إلى كلام تقدم وفيه وجوه الأول أنه إشارة إلى قوله لا أُحِبُّ الاْفِلِينَ

والثاني أنه إشارة إلى أن القوم قالوا له أما تخاف أن تخبلك آلهتنا لأجل أنك شتمتهم فقال لهم أفلا تخافون أنتم حيث أقدمتهم على الشرك بالله وسويتم في العبادة بين خالق العالم ومدبره وبين الخشب المنحوت والصنم المعمول والثالث أن المراد هو الكل
إذا عرفت هذا فنقول قوله وَتِلْكَ مبتدأ وقوله حُجَّتُنَا خبره وقوله إِبْراهِيمَ عَلَى صفة لذلك الخبر
المسألة الثانية قوله وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءاتَيْنَاهَا إِبْراهِيمَ يدل على أن تلك الحجة إنما حصلت في عقل إبراهيم عليه السلام بإيتاء الله وبإظهاره تلك الحجة في عقله وذلك يدل على أن الإيمان والكفر لا يحصلان إلا بخلق الله تعالى ويتأكد هذا أيضاً بقوله نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء فإن المراد أنه تعالى رفع درجات إبراهيم بسبب أنه تعالى آتاه تلك الحجة ولو كان حصول العلم بتلك الحجة إنما كان من قبل إبراهيم لا من قبل الله تعالى لكان إبراهيم عليه السلام هو الذي رفع درجات نفسه وحينئذ كان قوله نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء باطلاً فثبت أن هذا صريح قولنا في مسألة الهدى والضلال
المسألة الثالثة هذه الآية من أدل الدلائل على فساد قول الحشوية في الطعن في النظر وتقرير الحجة وذكر الدليل لأنه تعالى أثبت لإبراهيم عليه السلام حصول الرفعة والفوز بالدرجات العالية لأجل أنه ذكر الحجة في التوحيد وقررها وذب عنها وذلك يدل على أنه لا مرتبة بعد النبوة والرسالة أعلى وأشرف من هذه المرتبة
المسألة الرابعة قرأ عاصم وحمزة والكسائي دَرَجَاتٌ بالتنوين من غير إضافة والباقون بالإضافة فالقراءة الأولى معناها نرفع من نشاء درجات كثيرة فيكون ( من ) في موضع النصب قال ابن مقسم هذه القراءة أدل على تفضيل بعضهم على بعض في المنزلة والرفعة وقال أبو عمرو الإضافة تدل على الدرجة الواحدة وعلى الدرجات الكثيرة والتنوين لا يدل إلا على الدرجات الكثيرة
المسألة الخامسة اختلفوا في تلك الدرجات قيل درجات أعماله في الآخرة وقيل تلك الحجج درجات رفيعة لأنها توجب الثواب العظيم وقيل نرفع من نشاء في الدنيا بالنبوة والحكمة وفي الآخرة بالجنة والثواب وقيل نرفع درجات من نشاء بالعلم واعلم أن هذه الآية من أدل الدلائل على أن كمال السعادة في الصفات الروحانية وفي البعد عن الصفات الجسمانية
والدليل عليه أنه تعالى قال وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءاتَيْنَاهَا إِبْراهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ
ثم قال بعده نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء وذلك يدل على أن الموجب لحصول هذه الرفعة هو إيتاء تلك الحجة وهذا يقتضي أن وقوف النفس على حقيقة تلك الحجة وإطلاعها على إشراقها اقتضت ارتفاع الروح من حضيض العالم الجسماني إلى أعالي العالم الروحاني وذلك يدل على أنه لا رفعة ولا سعادة إلا في الروحانيات والله أعلم
وأما معنى حَكِيمٌ عَلِيمٌ فالمعنى أنه إنما يرفع درجات من يشاء بمقتضى الحكمة والعلم لا بموجب الشهوة والمجازفة فإن أفعال الله منزهة عن العبث والفساد والباطل

وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ وَمِنْ ءابَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ذالِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه أظهر حجة الله تعالى في التوحيد ونصرها وذب عنها عدد وجوه نعمه وإحسانه عليه فأولها قوله وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءاتَيْنَاهَا إِبْراهِيمَ والمراد إنا نحن آتيناه تلك الحجة وهديناه إليها وأوقفنا عقله على حقيقتها وذكر نفسه باللفظ الدال على العظمة وهو كناية الجمع على وفق ما يقوله عظماء الملوك فعلنا وقلنا وذكرنا ولما ذكر نفسه تعالى ههنا باللفظ الدال على العظمة وجب أن تكون تلك العظمة عظمة كاملة رفيعة شريفة وذلك يدل على أن إيتاء الله تعالى إبراهيم عليه السلام تلك الحجة من أشرف النعم ومن أجل مراتب العطايا والمواهب وثانيها أنه تعالى خصه بالرفعة والاتصال إلى الدرجات العالية الرفيعة وهي قوله نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء وثالثها أنه جعله عزيزاً في الدنيا وذلك لأنه تعالى جعل أشرف الناس وهم الأنبياء والرسل من نسله ومن ذريته وأبقى هذه الكرامة في نسله إلى يوم القيامة لأن من أعظم أنواع السرور علم المرء بأنه يكون من عقبه الأنبياء والملوك والمقصود من هذه الآيات تعديد أنواع نعم الله على إبراهيم عليه السلام جزاء على قيامه بالذب عن دلائل التوحيد فقال وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ لصلبه وَيَعْقُوبَ بعده من إسحق
فإن قالوا لم لم يذكر إسمعيل عليه السلام مع إسحق بل أخر ذكره عنه بدرجات قلنا لأن المقصود بالذكر ههنا أنبياء بني إسرائيل وهم بأسرهم أولاد إسحق ويعقوب وأما إسمعيل فإنه ما خرج من صلبه أحد من الأنبياء إلا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ولا يجوز ذكر محمد عليه الصلاة والسلام في هذا المقام لأنه تعالى أمر محمداً عليه الصلاة والسلام أن يحتج على العرب في نفي الشرك بالله بأن إبراهيم لما ترك الشرك وأصر على

التوحيد رزقه الله النعم العظيمة في الدين والدنيا ومن النعم العظيمة في الدنيا أن آتاه الله أولاداً كانوا أنبياء وملوكاً فإذا كان المحتج بهذه الحجة هو محمد عليه الصلاة والسلام امتنع أن يذكر نفسه في هذا المعرض فلهذا السبب لم يذكر إسمعيل مع إسحق
وأما قوله وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ فالمراد أنه سبحانه جعل إبراهيم في أشرف الأنساب وذلك لأنه رزقه أولاداً مثل إسحق ويعقوب وجعل أنبياء بني إسرائيل من نسلهما وأخرجه من أصلاب آباء طاهرين مثل نوح وإدريس وشيث فالمقصود بيان كرامة إبراهيم عليه السلام بحسب الأولاد وبحسب الآباء
أما قوله وَمِن ذُرّيَّتِهِ دَاوُودُ وَسُلَيْمَانَ فقيل المراد ومن ذرية نوح ويدل عليه وجوه الأول أن نوحاً أقرب المذكورين وعود الضمير إلى الأقرب واجب الثاني أنه تعالى ذكر في جملتهم لوطاً وهو كان ابن أخ إبراهيم وما كان من ذريته بل كان من ذرية نوح عليه السلام وكان رسولاً في زمان إبراهيم الثالث أن ولد الإنسان لا يقال أنه ذريته فعلى هذا إسمعيل عليه السلام ما كان من ذرية إبراهيم بل هو من ذرية نوح عليه السلام الرابع قيل إن يونس عليه السلام ما كان من ذرية إبراهيم عليه السلام وكان من ذرية نوح عليه السلام
والقول الثاني أن الضمير عائد إلى إبراهيم عليه السلام والتقدير ومن ذرية إبراهيم داود وسليمان واحتج القائلون بهذا القول بأن إبراهيم هو المقصود بالذكر في هذه الآيات وإنما ذكر الله تعالى نوحاً لأن كون إبراهيم عليه السلام من أولاده أحد موجبات رفعة إبراهيم
واعلم أنه تعالى ذكر أولاً أربعة من الأنبياء وهم نوح وإبراهيم وإسحق ويعقوب ثم ذكر من ذريتهم أربعة عشر من الأنبياء داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهرون وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس وإسمعيل واليسع ويونس ولوطاً والمجموع ثمانية عشر
فإن قيل رعاية الترتيب واجبة والترتيب إما أن يعتبر بحسب الفضل والدرجة وإما أن يعتبر بحسب الزمان والمدة والترتيب بحسب هذين النوعين غير معتبر في هذه الآية فما السبب فيه
قلنا الحق أن حرف الواو لا يوجب الترتيب وأحد الدلائل على صحة هذا المطلوب هذه الآية فإن حرف الواو حاصل ههنا مع أنه لا يفيد الترتيب البتة لا بحسب الشرف ولا بحسب الزمان وأقول عندي فيه وجه من وجوه الترتيب وذلك لأنه تعالى خص كل طائفة من طوائف الأنبياء بنوع من الإكرام والفضل
فمن المراتب المعتبرة عند جمهور الخلق الملك والسلطان والقدرة والله تعالى قد أعطى داود وسليمان من هذا الباب نصيباً عظيماً
والمرتبة الثانية البلاء الشديد والمحنة العظيمة وقد خص الله أيوب بهذه المرتبة والخاصية
والمرتبة الثالثة من كان مستجمعاً لهاتين الحالتين وهو يوسف عليه السلام فإنه نال البلاء الشديد الكثير في أول الأمر ثم وصل إلى الملك في آخر الأمر
والمرتبة الرابعة من فضائل الأنبياء عليهم السلام وخواصهم قوة المعجزات وكثرة البراهين والمهابة

العظيمة والصولة الشديدة وتخصيص الله تعالى إياهم بالتقريب العظيم والتكريم التام وذلك كان في حق موسى وهرون
والمرتبة الخامسة الزهد الشديد والإعراض عن الدنيا وترك مخالطة الخلق وذلك كما في حق زكريا ويحيى وعيسى وإلياس ولهذا السبب وصفهم الله بأنهم من الصالحين
والمرتبة السادسة الأنبياء الذين لم يبق لهم فيما بين الخلق أتباع وأشياع وهم إسماعيل واليسع ويونس ولوط فإذا اعتبرنا هذا الوجه الذي راعيناه ظهر أن الترتيب حاصل في ذكر هؤلاء الأنبياء عليهم السلام بحسب هذا الوجه الذي شرحناه
المسألة الثانية قال تعالى وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا اختلفوا في أنه تعالى إلى ماذا هداهم وكذا الكلام في قوله وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وكذا قوله في آخر الآية ذالِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ
قال بعض المحققين المراد من هذه الهداية الثواب العظيم وهي الهداية إلى طريق الجنة وذلك لأنه تعالى لما ذكر هذه الهداية قال بعدها وَكَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ وذلك يدل على أن تلك الهداية كانت جزاء المحسنين على إحسانهم وجزاء المحسن على إحسانه لا يكون إلا الثواب فثبت أن المراد من هذه الهداية هو الهداية إلى الجنة فأما الإرشاد إلى الدين وتحصيل المعرفة في قلبه فإنه لا يكون جزاء له على عمله وأيضاً لا يبعد أن يقال المراد من هذه الهداية هو الهداية إلى الدين والمعرفة وإنما ذلك كان جزاء على الإحسان الصادر منهم لأنهم اجتهدوا في طلب الحق فالله تعالى جازاهم على حسن طلبهم بإيصالهم إلى الحق كما قال وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ ( العنكبوت 69 )
والقول الثالث أن المراد من هذه الهداية الإرشاد إلى النبوة والرسالة لأن الهداية المخصوصة بالأنبياء ليست إلا ذلك
فإن قالوا لو كان الأمر كذلك لكان قوله وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ يقتضي أن تكون الرسالة جزاء على عمل وذلك عندكم باطل
قلنا يحمل قوله وَكَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ على الجزاء الذي هو الثواب والكرامة فيزول الإشكال والله أعلم
المسألة الثالثة احتج القائلون بأن الأنبياء عليهم السلام أفضل من الملائكة بقوله تعالى بعد ذكر هؤلاء عليهم السلام وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ وذلك لأن العالم اسم لكل موجود سوى الله تعالى فيدخل في لفظ العالم الملائكة فقوله تعالى وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ يقتضي كونهم أفضل من كل العالمين وذلك يقتضي كونهم أفضل من الملائكة ومن الأحكام المستنبطة من هذه الآية أن الأنبياء عليهم السلام يجب أن يكونوا أفضل من كل الأولياء لأن عموم قوله تعالى وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ يوجب ذلك قال بعضهم وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ معناه فضلناه على عالمي زمانهم قال القاضي ويمكن أن يقال المراد وكلاًّ من الأنبياء يفضلون على كل من سواهم من العالمين ثم الكلام بعد ذلك في

أن أي الأنبياء أفضل من بعض كلام واقع في نوع آخر لا تعلق به بالأول والله أعلم
المسألة الرابعة قرأ حمزة والكسائي واللسيع بتشديد اللام وسكون الياء والباقون إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ بلام واحدة قال الزجاج يقال فيه الليسع واليسع بتشديد اللام وتخفيفها
المسألة الخامسة الآية تدل على أن الحسن والحسين من ذرية رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لأن الله تعالى جعل عيسى من ذرية إبراهيم مع أنه لا ينتسب إلى إبراهيم إلا بالأم فكذلك الحسن والحسين من ذرية رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وإن انتسبا إلى رسول الله بالأم وجب كونهما من ذريته ويقال إن أبا جعفر الباقر استدل بهذه الآية عند الحجاج بن يوسف
المسألة السادسة قوله تعالى وَمِنْ ءابَائِهِمْ وَذُرّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ يفيد أحكاماً كثيرة الأول أنه تعالى ذكر الآباء والذريات والأخوان فالآباء هم الأصول والذريات هم الفروع والأخوان فروع الأصول وذلك يدل على أنه تعالى خص كل من تعلق بهؤلاء الأنبياء بنوع من الشرف والكرامة والثاني أنه تعالى قال وَمِنْ ءابَائِهِمْ وكلمة ( من ) للتبعيض
فإن قلنا المراد من تلك الهداية الهداية إلى الثواب والجنة والهداية إلى الإيمان والمعرفة فهذه الكلمة تدل على أنه قد كان في آباء هؤلاء الأنبياء من كان غير مؤمن ولا واصل إلى الجنة أما لو قلنا المراد بهذه الهداية النبوة لم يفد ذلك الثالث أنا إذا فسرنا هذه الهداية بالنبوة كان قوله وَمِنْ ءابَائِهِمْ وَذُرّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ كالدلالة على أن شرط كون الإنسان رسولاً من عند الله أن يكون رجلاً وأن المرأة لا يجوز أن تكون رسولاً من عند الله تعالى وقوله تعالى بعد ذلك وَاجْتَبَيْنَاهُمْ يفيد النبوة لأن الاجتباء إذا ذكر في حق الأنبياء عليهم السلام لا يليق به إلا الحمل على النبوة والرسالة
ثم قال تعالى ذالِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ واعلم أنه يجب أن يكون المراد من هذا الهدى هو معرفة التوحيد وتنزيه الله تعالى عن الشرك لأنه قال بعده وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( الأنعام 88 ) وذلك يدل على أن المراد من ذلك الهدي ما يكون جارياً مجرى الأمر المضاد للشرك
وإذا ثبت أن المراد بهذا الهدى معرفة الله بوحدانيته ثم إنه تعالى صرح بأن ذلك الهدى من الله تعالى ثبت أن الإيمان لا يحصل إلا بخلق الله تعالى ثم إنه تعالى ختم هذه الآية بنفي الشرك فقال وَلَوْ أَشْرَكُواْ والمعنى أن هؤلاء الأنبياء لو أشركوا لحبط عنهم طاعاتهم وعباداتهم والمقصود منه تقرير التوحيد وإبطال طريقة الشرك وأما الكلام في حقيقة الإحباط فقد ذكرناه على سبيل الاستقصاء في سورة البقرة فلا حاجة إلى الإعادة والله أعلم
أُوْلَائِكَ الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّة َ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَاؤُلا ءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ

اعلم أن قوله أُوْلَائِكَ إشارة إلى الذين مضى ذكرهم قبل ذلك وهم الأنبياء الثمانية عشر الذين ذكرهم الله تعالى قبل ذلك ثم ذكر تعالى أنه آتاهم الكتاب والحكم والنبوة
واعلم أن العطف يوجب المغايرة فهذه الألفاظ الثلاثة لا بد وأن تدل على أمور ثلاثة متغايرة
واعلم أن الحكام على الخلق ثلاث طوائف أحدها الذين يحكمون على بواطن الناس وعلى أرواحهم وهم العلماء وثانيها الذين يحكمون على ظواهر الخلق وهم السلاطين يحكمون على الناس بالقهر والسلطنة وثالثها الأنبياء وهم الذين أعطاهم الله تعالى من العلوم والمعارف ما لأجله بها يقدرون على التصرف في بواطن الخلق وأرواحهم وأيضاً أعطاهم من القدرة والمكنة ما لأجله يقدرون على التصرف في ظواهر الخلق ولما استجمعوا هذين الوصفين لا جرم كانوا هم الحكام على الإطلاق
إذا عرفت هذه المقدمة فقوله الْكِتَابَ مِن إشارة إلى أنه تعالى أعطاهم العلم الكثير وقوله وَالْحُكْمَ إشارة إلى أنه تعالى جعلهم حكاماً على الناس نافذي الحكم فيهم بحسب الظاهر وقوله وَالنُّبُوَّة َ إشارة إلى المرتبة الثالثة وهي الدرجة العالية الرفيعة الشريفة التي يتفرع على حصولها حصول المرتبتين المقدمتين المذكورتين وللناس في هذه الألفاظ الثلاثة تفسيرات كثيرة والمختار عندنا ما ذكرناه
واعلم أن قوله الْكِتَابَ مِن يحتمل أن يكون المراد من هذا الإيتاء الابتداء بالوحي والتنزيل عليه كما في صحف إبراهيم وتوراة موسى وإنجيل عيسى عليه السلام وقرآن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ويحتمل أن يكون المراد منه أن يؤتيه الله تعالى فهماً تاماً لما في الكتاب وعلماً محيطاً بحقائقه وأسراره وهذا هو الأولى لأن الأنبياء الثمانية عشر المذكورين ما أنزل الله تعالى على كل واحد منهم كتاباً إلهياً على التعيين والتخصيص
ثم قال تعالى فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء والمرادفان يكفر بهذا التوحيد والطعن في الشرك كفار قريش فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ وفيه مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في أن ذلك القوم من هم على وجوه فقيل هم أهل المدينة وهم الأنصار وقيل المهاجرون والأنصار وقال الحسن هم الأنبياء الثمانية عشر الذين تقدم ذكرهم وهو اختيار الزجاج قال الزجاج والدليل عليه قوله تعالى بعد هذه الآية أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ وقال أبو رجاء يعني الملائكة وهو بعيد لأن اسم القوم قلما يقع على غير بني آدم وقال مجاهد هم الفرس وقال ابن زيد كل من لم يكفر فهو منهم سواء كان ملكاً أو نبياً أو من الصحابة أو من التابعين
المسألة الثانية قوله تعالى فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ يدل على أنه إنما خلقهم للإيمان وأما غيرهم فهو تعالى ما خلقهم للإيمان لأنه تعالى لو خلق الكل للإيمان كان البيان والتمكين وفعل الألطاف مشتركاً فيه بين المؤمن وغير المؤمن وحينئذ لا يبقى لقوله فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ معنى
وأجاب الكعبي عنه من وجهين الأول أنه تعالى زاد المؤمنين عند إيمانهم وبعده من ألطافه وفوائده وشريف أحكامه ما لا يحصيه إلا الله وذكر في الجواب وجهاً ثانياً فقال وبتقدير أن يسوى لكان بعضهم إذا قصر ولم ينتفع صح أن يقال بحسب الظاهر أن لم يحصل له نعم الله كالوالد الذي يسوي بين الولدين في

العطية فإنه يصح أن يقال إنه أعطى أحدهما دون الآخر إذا كان ذلك الآخر ضيعه وأفسده
واعلم أن الجواب الأول ضعيف لأن الألطاف الداعية إلى الإيمان مشتركة فيما بين الكافر والمؤمن والتخصيص عند المعتزلة غير جائز والثاني أيضاً فاسد لأن الوالد لما سوى بين الولدين في العطية ثم إن أحدهما ضيع نصيبه فأي عاقل يجوز أن يقال أن الأب ما أنعم عليه وما أعطاه شيئاً
المسألة الثالثة دلت هذه الآية على أنه تعالى سينصر نبيه ويقوي دينه ويجعله مستعلياً على كل من عاداه قاهراً لكل من نازعه وقد وقع هذا الذي أخبر الله تعالى عنه في هذا الموضع فكان هذا جارياً مجرى الأخبار عن الغيب فيكون معجزاً والله أعلم
أُوْلَائِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى لا شبهة في أن قوله أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ هم الذين تقدم ذكرهم من الأنبياء ولا شك في أن قوله فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ أمر لمحمد عليه الصلاة والسلام وإنما الكلام في تعيين الشيء الذي أمر الله محمداً أن يقتدي فيه بهم فمن الناس من قال المراد أنه يقتدي بهم في الأمر الذي أجمعوا عليه وهو القول بالتوحيد والتنزيه عن كل ما لا يليق به في الذات والصفات والأفعال وسائر العقليات وقال آخرون المراد الاقتداء بهم في جميع الأخلاق الحميدة والصفات الرفيعة الكاملة من الصبر على أذى السفهاء والعفو عنهم وقال آخرون المراد الاقتداء بهم في شرائعهم إلا ما خصه الدليل وبهذا التقدير كانت هذه الآية دليلاً على أن شرع من قبلنا يلزمنا وقال آخرون إنه تعالى إنما ذكر الأنبياء في الآية المتقدمة ليبين أنهم كانوا محترزين عن الشرك مجاهدين بإبطاله بدليل أنه ختم الآية بقوله وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( الأنعام 88 ) ثم أكد إصرارهم على التوحيد وإنكارهم للشرك بقوله فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ
ثم قال في هذه الآية أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ أي هداهم إلى إبطال الشرك وإثبات التوحيد فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ أي اقتد بهم في نفس الشرك وإثبات التوحيد وتحمل سفاهات الجهال في هذا الباب وقال آخرون اللفظ مطلق فهو محمول على الكل إلا ما خصه الدليل المنفصل قال القاضي يبعد حمل هذه الآية على أمر الرسول بمتابعة الأنبياء عليهم السلام المتقدمين في شرائعهم لوجوه أحدها أن شرائعهم مختلفة متناقضة فلا يصح مع تناقضها أن يكون مأموراً بالاقتداء بهم في تلك الأحكام المتناقضة وثانيها أن الهدى عبارة عن الدليل دون نفس العمل

وإذا ثبت هذا فنقول دليل ثبات شرعهم كان مخصوصاً بتلك الأوقات لا في غير ذلك الأوقات فكان الاقتداء بهم في ذلك الهدى هو أن يعلم وجوب تلك الأفعال في تلك الأوقات فقط وكيف يستدل بذلك على اتباعهم في شرائعهم في كل الأوقات وثالثها أن كونه عليه الصلاة والسلام متبعاً لهم في شرائعهم يوجب أن يكون منصبه أقل من منصبهم وذلك باطل بالإجماع فثبت بهذه الوجوه أنه لا يمكن حمل هذه الآية على وجوب الاقتداء بهم في شرائعهم
والجواب عن الأول أن قوله فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ يتناول الكل فأما ما ذكرتم من كون بعض الأحكام متناقضة بحسب شرائعهم فنقول ذلك العام يجب تخصيصه في هذه الصورة فيبقى فيما عداها حجة
وعن الثاني أنه عليه الصلاة والسلام لو كان مأموراً بأن يستدل بالدليل الذي استدل به الأنبياء المتقدمون لم يكن ذلك متابعة لأن المسلمين لما استدلوا بحدوث العالم على وجود الصانع لا يقال إنهم متبعون لليهود والنصارى في هذا الباب وذلك لأن المستدل بالدليل يكون أصيلاً في ذلك الحكم ولا تعلق له بمن قبله البتة والاقتداء والاتباع لا يحصل إلا إذا كان فعل الأول سبباً لوجوب الفعل على الثاني وبهذا التقرير يسقط السؤال
وعن الثالث أنه تعالى أمر الرسول بالاقتداء بجميعهم في جميع الصفات الحميدة والأخلاق الشريفة وذلك لا يوجب كونه أقل مرتبة منهم بل يوجب كونه أعلى مرتبة من الكل على ما سيجيء تقريره بعد ذلك إن شاء الله تعالى فثبت بما ذكرنا دلالة هذه الآية على أن شرع من قبلنا يلزمنا
المسألة الثانية احتج العلماء بهذه الآية على أن رسولنا ( صلى الله عليه وسلم ) أفضل من جميع الأنبياء عليهم السلام وتقريره هو أنا بينا أن خصال الكمال وصفات الشرف كانت مفرقة فيهم بأجمعهم فداود وسليمان كانا من أصحاب الشكر على النعمة وأيوب كان من أصحاب الصبر على البلاء ويوسف كان مستجمعاً لهاتين الحالتين وموسى عليه السلام كان صاحب الشريعة القوية القاهرة والمعجزات الظاهرة وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كانوا أصحاب الزهد وإسماعيل كان صاحب الصدق ويونس صاحب التضرع فثبت إنه تعالى إنما ذكر كل واحد من هؤلاء الأنبياء لأن الغالب عليه كان خصلة معينة من خصال المدح والشرف ثم أنه تعالى لما ذكر الكل أمر محمداً عليه الصلاة والسلام بأن يقتدي بهم بأسرهم فكان التقدير كأنه تعالى أمر محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) أن يجمع من خصال العبودية والطاعة كل الصفات التي كانت مفرقة فيهم بأجمعهم ولما أمره الله تعالى بذلك امتنع أن يقال إنه قصر في تحصيلها فثبت أنه حصلها ومتى كان الأمر كذلك ثبت أنه اجتمع فيه من فصال الخير ما كان متفرقاً فبهم بإسرهم ومتى كان الأمر كذلك وجب أن يقال إنه أفضل منهم بكليتهم والله أعلم
المسألة الثالثة قال الواحدي قوله هُدَى اللَّهِ دليل على أنهم مخصوصون بالهدى لأنه لو هدى جميع المكلفين لم يكن لقوله أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فائدة تخصيص
المسألة الرابعة قال الواحدي الاقتداء في اللغة إتيان الثاني بمثل فعل الأول لأجل أنه فعله روى اللحياني عن الكسائي أنه قال يقال لي بك قدوة وقدوة

المسألة الخامسة قال الواحدي قرأ ابن عامر اقْتَدِهْ بكسر الدال وبشم الهاء للكسر من غير بلوغ ياء والباقون اقْتَدِهْ ساكنة الهاء غير أن حمزة والكسائي يحذفانها في الوصل ويثبتانها في الوقف والباقون يثبتونها في الوصل والوقف
والحاصل أنه حصل الإجماع على إثباتها في الوقف قال الواحدي الوجه الإثبات في الوقف والحذف في الوصل لأن هذه الهاء هاء وقعت في السكت بمنزلة همزة الوصل في الابتداء وذلك لأن الهاء للوقف كما أن همزة الوصل للابتداء بالساكن فكما لا تثبت الهمزة حال الوصل كذلك ينبغي أن لا تثبت الهاء إلا أن هؤلاء الذين أثبتوا راموا موافقة المصحف فإن الهاء ثابتة في الخط فكرهوا مخالفة الخط في حالتي الوقف والوصل فأثبتوا وأما قراءة ابن عامر فقال أبو بكر ومجاهد هذا غلط لأن هذه الهاء هاء وقف فلا تعرب في حال من الأحوال وإنما تذكر ليظهر بها حركة ما قبلها قال أبو علي الفارسي ليس بغلط ووجهها أن تجعل الهاء كناية عن المصدر والتقدير فبهداهم اقتد الاقتداء فيضمر الاقتداء لدلالة الفعل عليه وقياسه إذا وقف أن تسكن الهاء لأن هاء الضمير تسكن في الوقف كما تقول اشتره والله أعلم
أما قوله تعالى قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً فالمراد به أنه تعالى لما أمره بالاقتداء بهدى الأنبياء عليهم السلام المتقدمين وكان من جملة هداهم ترك طلب الأجر في إيصال الدين وإبلاغ الشريعة لا جرم اقتدى بهم في ذلك فقال لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً ولا أطلب منكم مالاً ولا جعلاً إِنْ هُوَ يعني القرإن إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ يريد كونه مشتملاً على كل ما يحتاجون إليه في معاشهم ومعادهم وقوله إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ يدل على أنه ( صلى الله عليه وسلم ) مبعوث إلى كل أهل الدنيا لا إلى قوم دون قوم والله أعلم
وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَى ْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِى جَآءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلاَ ءَابَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ
اعلم أنا ذكرنا في هذا الكتاب أن مدار أمر القرآن على إثبات التوحيد والنبوة والمعاد وأنه تعالى لما حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه ذكر دليل التوحيد وإبطال الشرك وقرر تعالى ذلك الدليل بالوجوه الواضحة شرع بعده في تقرير أمر النبوة فقال وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ حيث أنكروا النبوة والرسالة فهذا بيان وجه نظم هذه الآيات وأنه في غاية الحسن وفي الآية مسائل

المسألة الأولى في تفسير قوله تعالى مَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وجوه قال ابن عباس ما عظموا الله حق تعظيمه وروى عنه أيضاً أنه قال معناه ما آمنوا إن الله على كل شيء قدير وقال أبو العالية ما وصفوه حق صفته وقال الأخفش ما عرفوه حق معرفته وحقق الواحدي رحمه الله ذلك فقال يقال قدر الشيء إذا سبره وحرره وأراد أن يعلم مقداره يقدره بالضم قدراً ومنه قوله عليه السلام ( وإن غم عليكم فاقدروا له ) أي فاطلبوا أن تعرفوه هذا أصله في اللغة ثم قال يقال لمن عرف شيئاً هو يقدر قدره وإذا لم يعرفه بصفاته أنه لا يقدر قدره فقوله وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ صحيح في كل المعاني المذكورة
المسألة الثانية أنه تعالى لما حكى عنهم أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ بين السبب فيه وذلك هو قولهم ما أنزل الله علي بشر من شيء
واعلم أن كل من أنكر النبوة والرسالة فهو في الحقيقة ما عرف الله حق معرفته وتقريره من وجوه الأول أن منكر البعثة والرسالة إما أن يقول إنه تعالى ما كلف أحداً من الخلق تكليفاً أصلاً أو يقول إنه تعالى كلفهم التكاليف والأول باطل لأن ذلك يقتضي أنه تعالى أباح لهم جميع المنكرات والقبائح نحو شتم الله ووصفه بما لا يليق به والاستخفاف بالأنبياء والرسل وأهل الدين والإعراض عن شكر النعم ومقابلة الإنعام بالإساءة ومعلوم أن كل ذلك باطل وإما أن يسلم أنه تعالى كلف الخلق بالأوامر والنواهي فههنا لا بد من مبلغ وشارع ومبين وما ذاك إلا الرسول
فإن قيل لم لا يجوز أن يقال العقل كاف في إيجاب الواجبات واجتناب المقبحات
قلنا هب أن الأمر كما قلتم إلا أنه لا يمتنع تأكيد التعريف العقلي بالتعريفات المشروعة على ألسنة الأنبياء والرسل عليهم السلام فثبت أن كل من منع البعثة والرسالة فقد طعن في حكمة الله تعالى وكان ذلك جهلاً بصفة الإلهية وحينئذ يصدق في حقه قوله تعالى وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ
الوجه الثاني في تقرير هذا المعنى أن من الناس من يقول إنه يمتنع بعثة الأنبياء والرسل لأنه يمتنع إظهار المعجزة على وفق دعواه تصديقاً له والقائلون بهذا القول لهم مقامان
المقام الأول أن يقولوا إنه ليس في الإمكان خرق العادات ولا إيجاد شيء على خلاف ما جرت به العادة
والمقام الثاني الذين يسلمون إمكان ذلك إلا أنهم يقولون إن بتقدير حصول هذه الأفعال الخارقة للعادات لا دلالة لها على صدق مدعي الرسالة وكلا الوجهين يوجب القدح في كمال قدرة الله تعالى
أما المقام الأول فهو أنه ثبت أن الأجسام متماثلة وثبت أن ما يحتمله الشيء وجب أن يحتمله مثله وإذا كان كذلك كان جرم الشمس والقمر قابلاً للتمزق والتفرق
فإن قلنا إن الإله غير قادر عليه كان ذلك وصفاً له بالعجز ونقصان القدرة وحينئذ يصدق في حق هذا القائل أنه ما قدر الله حق قدره
وإن قلنا إنه تعالى قادر عليه فحينئذ لا يمتنع عقلاً انشقاق القمر ولا حصول سائر المعجزات

وأما المقام الثاني وهو أن حدوث هذه الأفعال الخارقة للعادة عند دعوى مدعي النبوة تدل على صدقهم فهذا أيضاً ظاهر على ما مقرر في كتب الأصول فثبت أن كل من أنكر إمكان البعثة والرسالة فقد وصف الله بالعجز ونقصان القدرة وكل من قال ذلك فهو ما قدر الله حق قدره
والوجه الثالث أنه لما ثبت حدوث العالم فنقول حدوثه يدل على أن إله العالم قادر عالم حكيم وأن الخلق كلهم عبيده وهو مالك لهم على الإطلاق وملك لهم على الإطلاق والملك المطاع يجب أن يكون له أمر ونهي وتكليف على عباده وأن يكون له وعد على الطاعة ووعيد على المعصية وذلك لا يتم ولا يكمل إلا بإرسال الرسل وإنزال الكتب فكل من أنكر ذلك فقد طعن في كونه تعالى ملكاً مطاعاً ومن اعتقد ذلك فهو ما قدر الله حق قدره فثبت أن كل من قال ما أنزل الله علي بشر من شيء فهو ما قدر الله حق قدره
المسألة الثالثة في هذه الآية بحث صعب وهو أن يقال هؤلاء الذين حكى الله عنهم أنهم قالوا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ عَلَى َّ بَشَرٍ مّن شَى ْء إما أن يقال إنهم كفار قريش أو يقال إنهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى فإن كان الأول فكيف يمكن إبطال قولهم بقوله تعالى قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِى جَاء بِهِ مُوسَى وذلك لأن كفار قريش والبراهمة كما ينكرون رسالة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فكذلك ينكرون رسالة سائر الأنبياء فكيف يحسن إيراد هذا الإلزام عليهم وأما إن كان الثاني وهو أن قائل هذا القول قوم من اليهود والنصارى فهذا أيضاً صعب مشكل لأنهم لا يقولون هذا القول وكيف يقولونه مع أن مذهبهم أن التوراة كتاب أنزله الله على موسى والإنجيل كتاب أنزله الله على عيسى وأيضاً فهذه السورة مكية والمناظرات التي وقعت بين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وبين اليهود والنصارى كلها مدنية فكيف يمكن حمل هذه الآية عليها فهذا تقرير الإشكال القائم في هذه الآية واعلم أن الناس اختلفوا فيه على قولين
فالقول الأول إن هذه الآية نزلت في حق اليهود وهو القول المشهور عند الجمهور قال ابن عباس إن مالك بن الصيف كان من أحبار اليهود ورؤسائهم وكان رجلاً سميناً فدخل على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى هل تجد فيها إن الله يبغض الحبر السمين وأنت الحبر السمين وقد سمنت من الأشياء التي تطعمك اليهود ) فضحك القوم فغضب مالك بن الصيف ثم التفت إلى عمر فقال ما أنزل الله على بشر من شيء فقال له قومه ويلك ما هذا الذي بلغنا عنك فقال إنه أغضبني ثم إن اليهود لأجل هذا الكلام عزلوه عن رياستهم وجعلوا مكانه كعب بن الأشرف فهذا هو الرواية المشهورة في سبب نزول هذه الآية وفيها سؤالات
السؤال الأول اللفظ وإن كان مطلقاً بحسب أصل اللغة إلا أنه قد يتقيد بحسب العرف ألا ترى أن المرأة إذا أرادت أن تخرج من الدار فغضب الزوج وقال إن خرجت من الدار فأنت طالق فإن كثيراً من الفقهاء قالوا اللفظ وإن كان مطلقاً إلا أنه بحسب العرف يتقيد لتلك المرة فكذا ههنا قوله مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مّن شَى ْء وإن كان مطلقاً بحسب أصل اللغة إلا أنه بحسب العرف يتقيد بتلك الواقعة فكان قوله مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مّن شَى ْء مراده منه أنه ما أنزل الله على بشر من شيء في أنه يبغض الحبر السمين

وإذا صار هذا المطلق محمولاً على هذا المقيد لم يكن قوله مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِى جَاء بِهِ مُوسَى مبطلاً لكلامه فهذا أحد السؤالات
السؤال الثاني أن مالك بن الصيف كان مفتخراً بكونه يهودياً متظاهراً بذلك ومع هذا المذهب البتة أن يقول ما أنزل الله على بشر من شيء إلا على سبيل الغضب المدهش للعقل أو على سبيل لا يمكنه طغيان اللسان ومثل هذا الكلام لا يليق بالله سبحانه وتعالى إنزال القرآن الباقي على وجه الدهر في إبطاله
والسؤال الثالث أن الأكثرين اتفقوا على أن هذه السورة مكية وأنها أنزلت دفعة واحدة ومناظرات اليهود مع الرسول عليه الصلاة والسلام كانت مدنية فكيف يمكن حمل هذه الآية على تلك المناظرة وأيضاً لما نزلت السورة دفعة واحدة فكيف يمكن أن يقال هذه الآية المعينة إنما نزلت في الواقعة الفلانية فهذه هي السؤالات الواردة على هذا القول والأقرب عندي أن يقال لعل مالك بن الصيف لما تأذى من هذا الكلام طعن في نبوة الرسول عليه الصلاة والسلام وقال ما أنزل الله عليك شيئاً البتة ولست رسولاً من قبل الله البتة فعند هذا الكلام نزلت هذه الآية والمقصود منها أنك لما سلمت أن الله تعالى أنزل التوراة على موسى عليه السلام فعند هذا لا يمكنك الإصرار على أنه تعالى ما أنزل علي شيئاً لأني بشر وموسى بشر أيضاً فلما سلمت أن الله تعالى أنزل الوحي والتنزيل على بشر امتنع عليك أن تقطع وتجزم بأنه ما أنزل الله علي شيئاً فكان المقصود من هذه الآية بيان أن الذي ادعاه محمد عليه الصلاة والسلام ليس من قبيل الممتنعات وأنه ليس للخصم اليهودي أن يصر على إنكاره بل أقصى ما في الباب أن يطالبه بالمعجز فإن أتى به فهو المقصود وإلا فلا فإما أن يصر اليهودي على أنه تعالى ما أنزل على محمد شيئاً البتة مع أنه معترف بأن الله تعالى أنزل الكتاب على موسى فذاك محض الجهالة والتقليد وبهذا التقدير يظهر الجواب عن السؤالين الأولين
فأما السؤال الثالث وهو قوله هذه السورة مكية ونزلت دفعة واحدة وكل واحد من هذين الوجهين يمنع من القول بأن سبب نزول هذه الآية مناظرة اليهودي
قلنا القائلون بهذا القول قالوا السورة كلها مكية ونزلت دفعة واحدة إلا هذه الآية فإنها نزلت بالمدينة في هذه الواقعة فهذا منتهى الكلام في تقرير هذا الوجه
والقول الثاني أن قائل هذا القول أعني ما أنزل الله على بشر من شيء قوم من كفار قريش فهذا القول قد ذكره بعضهم
بقي أن يقال كفار قريش ينكرون نبوة جميع الأنبياء عليهم السلام فكيف يمكن إلزام نبوة موسى عليهم وأيضاً فما بعد هذه الآية لا يليق بكفار قريش وإنما يليق باليهود وهو قوله تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلّمْتُمْ وَمَا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ ءابَاؤُكُمْ ( الأنعام 91 ) فمن المعلوم بالضرورة أن هذه الأحوال لا تليق إلا باليهود وهو قول من يقول إن أول الآية خطاب مع الكفار وآخرها خطاب مع اليهود فاسد لأنه يوجب تفكيك نظم الآية وفساد تركيبها وذلك لا يليق بأحسن الكلام فضلاً عن كلام رب العالمين فهذا تقرير الإشكال على هذا القول

أما السؤال الأول فيمكن دفعه بأن كفار قريش كانوا مختلطين باليهود والنصارى وكانوا قد سمعوا من الفريقين على سبيل التواتر ظهور المعجزات القاهرة على يد موسى عليه السلام مثل انقلاب العصا ثعباناً وفلق البحر وإظلال الجبل وغيرها والكفار كانوا يطعنون في نبوة محمد عليه الصلاة والسلام بسبب أنهم كانوا يطلبون منه أمثال هذه المعجزات وكانوا يقولون لو جئتنا بأمثال هذه المعجزات لآمنا بك فكان مجموع هذه الكلمات جارياً مجرى ما يوجب عليهم الاعتراف بنبوة موسى عليه السلام وإذا كان الأمر كذلك لم يبعد إيراد نبوة موسى عليه السلام إلزاماً عليهم في قولهم مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مّن شَى ْء
وأما السؤال الثاني فجوابه أن كفار قريش واليهود والنصارى لما كانوا متشاركين في إنكار نبوة محمد عليه الصلاة والسلام لم يبعد أن يكون الكلام الواحد وارداً على سبيل أن يكون بعضه خطاباً مع كفار مكة وبقيته يكون خطاباً مع اليهود والنصارى فهذا ما يحضرنا في هذا البحث الصعب وبالله التوفيق
المسألة الرابعة مذهب كثير من المحققين أن عقول الخلق لا تصل إلى كنه معرفة الله تعالى البتة ثم إن الكثير من أهل هذا المذهب يحتجون على صحته بقوله تعالى وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ أي وما عرفوا الله حق معرفته وهذا الاستدلال بعيد لأنه تعالى ذكر هذه اللفظة في القرآن في ثلاثة مواضع وكلها وردت في حق الكفار فههنا ورد في حق اليهود أو كفار مكة وكذا القول في الموضعين الآخرين وحينئذ لا يبقى في هذا الاستدلال فائدة والله أعلم
المسألة الخامسة في هذه الآية أحكام
الحكم الأول
أن النكرة في موضع النفي تفيد العموم والدليل عليه هذه الآية فإن قوله مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مّن شَى ْء نكرة في موضع النفي فلو لم تفد العموم لما كان قوله تعالى قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِى جَاء بِهِ مُوسَى إبطالاً له ونقضاً عليه ولو لم يكن كذلك لفسد هذا الاستدلال ولما كان ذلك باطلاً ثبت أن النكرة في موضع النفي تعم والله أعلم
الحكم الثاني
النقض يقدح في صحة الكلام وذلك لأنه تعالى نقض قولهم مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مّن شَى ْء بقوله قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِى جَاء بِهِ مُوسَى فلو لم يدل النقض على فساد الكلام لما كانت حجة الله مفيدة لهذا المطلوب
واعلم أن قول من يقول إبداء الفارق بين الصورتين يمنع من كون النقص مبطلاً ضعيف إذ لو كان الأمر كذلك لسقطت حجة الله في هذه الآية لأن اليهودي كان يقول معجزات موسى أظهر وأبهر من معجزاتك فلم يلزم من إثبات النبوة هناك إثباتها هنا ولو كان الفرق مقبولاً لسقطت هذه الحجة وحيث لا يجوز القول بسقوطها علمنا أن النقض على الإطلاق مبطل والله أعلم

الحكم الثالث
تفلسف الغزالي فزعم أن هذه الآية مبنية على الشكل الثاني من الأشكال المنطقية وذلك لأن حاصله يرجع إلى أن موسى أنزل الله تعالى عليه شيئاً وأحد من البشر ما أنزل الله عليه شيئاً ينتج من الشكل الثاني أن موسى ما كان من البشر وهذا خلف محال وليست هذه الاستحالة بحسب شكل القياس ولا بحسب صحة المقدمة الأولى فلم يبق إلا أنه لزم من فرض صحة المقدمة الثانية وهي قولهم ما أنزل الله على بشر من شيء فوجب القول بكونها كاذبة فثبت أن دلالة هذه الآية على المطلوب إنما تصح عند الاعتراف بصحة الشكل الثاني من الأشكال المنطقية وعند الاعتراف بصحة قياس الخلف والله أعلم
واعلم أنه تعالى لما قال قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِى جَاء بِهِ مُوسَى وصف بعده كتاب موسى بالصفات
فالصفة الأولى كونه نوراً وهدى للناس
واعلم أنه تعالى سماه نوراً تشبيهاً له بالنور الذي به يبين الطريق
فإن قالوا فعلى هذا التفسير لا يبقى بين كونه نوراً وبين كونه هدى للناس فرق وعطف أحدهما على الآخر يوجب التغاير
قلنا النور له صفتان إحداهما كونه في نفسه ظاهراً جلياً والثانية كونه بحيث يكون سبباً لظهور غيره فالمراد من كونه نوراً وهدى هذان الأمران
واعلم أنه تعالى وصف القرآن أيضاً بهذين الوصفين في آية أخرى فقال وَلَاكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا
الصفة الثانية قوله تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وفيه مسائل
المسألة الأول قرأ أبو عمرو وابن كثير يجعلونه على لفظ الغيبة وكذلك يبدونها ويخفون لأجل أنهم غائبون ويدل عليه قوله تعالى لِلْعَالَمِينَ وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مّن شَى ْء فلما وردت هذه الألفاظ على لفظ المغايبة فكذلك القول في البواقي ومن قرأ بالتاء على الخطاب فالتقدير قل لهم تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً والدليل عليه قوله تعالى وَعُلّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ فجاء على الخطاب فكذلك ماقبله
المسألة الثانية قال أبو علي الفارسي قوله تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ أي يجعلونه ذات قراطيس أي يودعونه إياها
فإن قيل إن كل كتاب فلا بد وأن يودع في القراطيس فإذا كان الأمر كذلك في كل الكتب فما السبب في أن حكى الله تعالى هذا المعنى في معرض الذم لهم
قلنا الذم لم يقع على هذا المعنى فقط بل المراد أنهم لما جعلوه قراطيس وفرقوه وبعضوه لا جرم قدروا على إبداء البعض وإخفاء البعض وهو الذي فيه صفة محمد عليه الصلاة والسلام

فإن قيل كيف يقدرون على ذلك مع أن التوراة كتاب وصل إلى أهل المشرق والمغرب وعرفه أكثر أهل العلم وحفظوه ومثل هذا الكتاب لا يمكن إدخال الزيادة والنقصان فيه والدليل عليه أن الرجل في هذا الزمان لو أراد إدخال الزيادة والنقصان في القرآن لم يقدر عليه فكذا القول في التوراة
قلنا قد ذكرنا في سورة البقرة أن المراد من التحريف تفسير آيات التوراة بالوجوه الباطلة الفاسدة كما يفعله المبطلون في زماننا هذا بآيات القرآن
فإن قيل هب أنه حصل في التوراة آيات دالة على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام إلا أنها قليلة والقوم ما كانوا يخفون من التوراة إلا تلك الآيات فلم قال ويخفون كثيراً
قلنا القوم كما يخفون الآيات الدالة على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام فكذلك يخفون الآيات المشتملة على الأحكام ألا ترى أنهم حاولوا على إخفاء الآية المشتملة على رجم الزاني المحصن
الصفة الثالثة قوله وَعُلّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ ءابَاؤُكُمْ والمراد أن التوراة كانت مشتملة على البشارة بمقدم محمد واليهود قبل مقدم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كانوا يقرؤن تلك الآيات وما كانوا يفهمون معانيها فلما بعث الله محمداً ظهر أن المراد من تلك الآيات هو مبعثه ( صلى الله عليه وسلم ) فهذا هو المراد من قوله وَعُلّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ ءابَاؤُكُمْ
واعلم أنه تعالى لما وصف التوراة بهذه الصفات الثلاث قال قُلِ اللَّهُ والمعنى أنه تعالى قال في أول الآية قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الذي صفته كذا وكذا فقال بعده قُلِ اللَّهُ والمعنى أن العقل السليم والطبع المستقيم يشهد بأن الكتاب الموصوف بالصفات المذكورة المؤيد قول صاحبه بالمعجزات القاهرة الباهرة مثل معجزات موسى عليه السلام لا يكون إلا من الله تعالى فلما صار هذا المعنى ظاهراً بسبب ظهور الحجة القاطعة لا جرم قال تعالى لمحمد قل المنزل لهذا الكتاب هو الله تعالى ونظيره قوله قُلْ أَى ُّ شَى ْء أَكْبَرُ شَهَادة ً قُلِ اللَّهِ وأيضاً إن الرجل الذي حاول إقامة الدلالة على وجود الصانع يقول من الذي أحدث الحياة بعد عدمها ومن الذي أحدث العقل بعد الجهالة ومن الذي أودع في الحدقة القوة الباصرة وفي الصماخ القوة السامعة ثم إن ذلك القائل نفسه يقول اللَّهِ والمقصود أنه بلغت هذه الدلالة والبينة إلى حيث يجب على كل عاقل أن يعترف بها فسواء أقر الخصم به أو لم يقر فالمقصود حاصل فكذا ههنا
ثم قال تعالى بعده ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى المعنى أنك إذا أقمت الحجة عليهم وبلغت في الأعذار والأنذار وهذا المبلغ العظيم فحينئذ لم يبق عليك من أمرهم شيء البتة ونظيره قوله تعالى إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلَاغُ
المسألة الثانية قال بعضهم هذه الآية منسوخة بآية السيف وهذا بعيد لأن قوله ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ مذكور لأجل التهديد وذلك لا ينافي حصول المقاتلة فلم يكن ورود الآية الدالة على وجوب المقاتلة رافعاً لشيء من مدلولات هذه الآية فلم يحصل النسخ فيه والله أعلم

وَهَاذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالاٌّ خِرَة ِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ
اعلم أنه تعالى لما أبطل بالدليل قول من قال ما أنزل الله على بشر من شيء ذكر بعده أن القرآن كتاب الله أنزله الله تعالى على محمد عليه الصلاة والسلام
واعلم أن قوله وَهَاذَا إشارة إلى القرآن وأخبر عنه بأنه كتاب وتفسير الكتاب قد تقدم في أول سورة البقرة ثم وصفه بصفات كثيرة
الصفة الأولى قوله أَنزَلْنَاهُ والمقصود أن يعلم أنه من عند الله تعالى لا من عند الرسول لأنه لا يبعد أن يخص الله محمداً عليه الصلاة والسلام بعلوم كثيرة يتمكن بسببها من تركيب ألفاظ القرآن على هذه الصفة من الفصاحة فبين تعالى أنه ليس الأمر على هذه الصفة وأنه تعالى هو الذي تولى إنزاله بالوحي على لسان جبريل عليه السلام
الصفة الثانية قوله تعالى مُّبَارَكٌ قال أهل المعاني كتاب مبارك أي كثير خيره دائم بركته ومنفعته يبشر بالثواب والمغفرة ويزجر عن القبيح والمعصية وأقول العلوم إما نظرية وإما عملية أما العلوم النظرية فأشرفها وأكملها معرفة ذات الله وصفاته وأفعاله وأحكامه وأسمائه ولا ترى هذه العلوم أكمل ولا أشرف مما تجده في هذا الكتاب وأما العلوم العملية فالمطلوب إما أعمال الجوارح وإما أعمال القلوب وهو المسمى بطهارة الأخلاق وتزكية النفس ولا تجد هذين العلمين مثل ما تجده في هذا الكتاب ثم قد جرت سنة الله تعالى بأن الباحث عنه والمتمسك به يحصل له عز الدنيا وسعادة الآخرة
يقول مصنف هذا الكتاب محمد بن عمر الرازي وأنا قد نقلت أنواعاً من العلوم النقلية والعقلية فلم يحصل لي بسبب شيء من العلوم من أنواع السعادات في الدين والدنيا مثل ما حصل بسبب خدمة هذا العلم
الصفة الثالثة قوله مُّصَدّقُ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ فالمراد كونه مصدقاً لما قبله من الكتب والأمر في الحقيقة كذلك لأن الموجود في سائر الكتب الإلهية إما علم الأصول وإما علم الفروع
أما علوم الأصول فيمتنع وقوع التفاوت فيه بسبب اختلاف الأزمنة والأمكنة فوجب القطع بأن المذكور في القرآن موافق ومطابق لما في التوراة والزبور والإنجيل وسائر الكتب الإلهية
وأما علم الفروع فقد كانت الكتب الإلهية المتقدمة على القرآن مشتملة على البشارة بمقدم محمد عليه الصلاة والسلام وإذا كان الأمر كذلك فقد حصل في تلك الكتب أن التكاليف الموجودة فيها إنما

تبقى إلى وقت ظهور محمد عليه الصلاة والسلام وأما بعد ظهور شرعه فإنها تصير منسوخة فثبت أن تلك الكتب دلت على ثبوت تلك الأحكام على هذا الوجه والقرآن مطابق لهذا المعنى وموافق فثبت كون القرآن مصدقاً لكل الكتب الإلهية في جملة علم الأصول والفروع
الصفة الرابعة قوله تعالى وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وههنا أبحاث
البحث الأول اتفقوا على أن ههنا محذوفاً والتقدير ولتنذر أهل أم القرى واتفقوا على أن أم القرى هي مكة واختلفوا في السبب الذي لأجله سميت مكة بهذا الاسم فقال ابن عباس سميت بذلك لأن الأرضين دحيت من تحتها ومن حولها وقال أبو بكر الأصم سميت بذلك لأنها قبل أهل الدنيا فصارت هي كالأصل وسائر البلاد والقرى تابعة لها وأيضاً من أصول عبادات أهل الدنيا الحج وهو إنما يحصل في تلك البلدة فلهذا السبب يجتمع الخلق إليها كما يجتمع الأولاد إلى الأم وأيضاً فلما كان أهل الدنيا يجتمعون هناك بسبب الحج لا جرم يحصل هناك أنواع من التجارات والمنافع ما لا يحصل في سائر البلاد ولا شك أن الكسب والتجارة من أصول المعيشة فلهذا السبب سميت مكة أم القرى وقيل إنما سميت مكة أم القرى لأن الكعبة أول بيت وضع للناس وقيل أيضاً إن مكة أول بلدة سكنت في الأرض
إذا عرفت هذا فنقول قوله وَمَنْ حَوْلَهَا دخل فيه سائر البلدان والقرى
والبحث الثاني زعمت طائفة من اليهود أن محمداً عليه الصلاة والسلام كان رسولاً إلى العرب فقط واحتجوا على صحة قولهم بهذه الآية وقالوا إنه تعالى بين أنه إنما أنزل عليه هذا القرآن ليبلغه إلى أهل مكة وإلى القرى المحيطة بها والمراد منها جزيرة العرب ولو كان مبعوثاً إلى كل العالمين لكان التقييد بقوله لّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا باطلاً
والجواب أن تخصيص هذه المواضع بالذكر لا يدل على انتفاء الحكم فيما سواها إلا بدلالة المفهوم وهي ضعيفة لا سيما وقد ثبت بالتواتر الظاهر المقطوع به من دين محمد عليه الصلاة والسلام أنه كان يدَّعي كونه رسولاً إلى كل العالمين وأيضاً قوله وَمَنْ حَوْلَهَا يتناول جميع البلاد والقرى المحيطة بها وبهذا التقدير فيدخل فيه جمع بلاد العالم والله أعلم
البحث الثالث قرأ عاصم في رواية أبي بكر لّيُنذِرَ بالياء جعل الكتاب هو المنذر لأن فيه إنذاراً ألا ترى أنه قال تُحَرّكْ بِهِ أي بالكتاب وقال وَأَنذِرْ بِهِ وقال إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْى ِ فلا يمتنع إسناد الإنذار إليه على سبيل الاتساع وأما الباقون فإنهم قرؤا وَلِتُنذِرَ بالتاء خطاباً للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) لأن المأمور والموصوف بالإنذار هو قال تعالى إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ وقال وَأَنذِرِ الَّذِينَ يَخَافُونَ
ثم قال تعالى وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَة ِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وظاهر هذا يقتضي أن الإيمان بالآخرة جار مجرى السبب للإيمان بالرسول ( صلى الله عليه وسلم ) والعلماء ذكروا في تقرير هذه السببية وجوهاً الأول أن الذي يؤمن بالآخرة هو الذي يؤمن بالوعد والوعيد والثواب والعقاب ومن كان كذلك فإنه يعظم رغبته في تحصيل الثواب ورهبته عن حلول العقاب ويبالغ في النظر والتأمل في دلائل التوحيد والنبوة فيصل إلى العلم والإيمان والثاني أن دين محمد عليه الصلاة والسلام مبني على الإيمان بالبعث والقيامة وليس لأحد من الأنبياء

مبالغة في تقرير هذه القاعدة مثل ما في شريعة محمد عليه الصلاة والسلام فلهذا السبب كان الإيمان بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام وبصحة الآخرة أمرين متلازمين والثالث يحتمل أن يكون المراد من هذا الكلام التنبيه على إخراج أهل مكة من قبول هذا الدين لأن الحامل على تحمل مشقة النظر والاستدلال وترك رياسة الدنيا وترك الحقد والحسد ليس إلا الرغبة في الثواب والرهبة عن العقاب وكفار مكة لما لم يعتقدوا في البعث والقيامة امتنع منهم ترك الحسد وترك الرياسة فلا جرم يبعد قبولهم لهذا الدين واعترافهم بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام
ثم قال وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ والمراد أن الإيمان بالآخرة كما يحمل الرجل على الإيمان بالنبوة فكذلك يحمله على المحافظة على الصلوات وليس لقائل أن يقول الإيمان بالآخرة يحمل على كل الطاعات فما الفائدة في تخصيص الصلاة بالذكر لأنا نقول المقصود منه التنبيه على أن الصلاة أشرف العبادات بعد الإيمان بالله وأعظمها خطراً ألا ترى أنه لم يقع اسم الإيمان على شيء من العبادات الظاهرة إلا على الصلاة كما قال تعالى وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ( البقرة 143 ) أي صلاتكم ولم يقع اسم الكفر على شيء من المعاصي إلا على ترك الصلاة قال عليه الصلاة والسلام ( من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر ) فلما اختصت الصلاة بهذا النوع من التشريف لا جرم خصها الله بالذكر في هذا المقام والله أعلم
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِى إِلَى َّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَى ْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَة ُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ ءَايَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ
اعلم أنه تعالى لما شرح كون القرآن كتاباً نازلاً من عند الله وبين ما فيه من صفات الجلالة والشرف والرفعة ذكر عقيبه ما يدل على وعيد من ادعى النبوة والرسالة على سبيل الكذب والافتراء فقال وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى عظم وعيد من ذكر أحد الأشياء الثلاثة فأولها أن يفتري على الله كذباً قال المفسرون نزل هذا في مسيلمة الكذاب صاحب اليمامة وفي الأسود العنسي صاحب صنعاء فإنهما كانا يدعيان النبوة والرسالة من عند الله على سبيل الكذب والافتراء وكان مسيلمة يقول محمد رسول قريش وأنا رسول بني حنيفة قال القاضي الذي يفتري على الله الكذب

يدخل فيه من يدعي الرسالة كذباً ولكن لا يقتصر عليه لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فكل من نسب إلى الله تعالى ما هو برىء منه إما في الذات وإما في الصفات وإما في الأفعال كان داخلاً تحت هذا الوعيد قال والافتراء على الله في صفاته كالمجسمة وفي عدله كالمجبرة لأن هؤلاء قد ظلموا أعظم أنواع الظلم بأن افتروا على الله الكذب وأقول أما قوله المجسمة قد افتروا على الله الكذب فهو حق وأما قوله إن هذا افتراء على الله في صفاته فليس بصحيح لأن كون الذات جسماً ومتحيزاً ليس بصفة بل هو نفس الذات المخصوصة فمن زعم أن إله العالم ليس بجسم كان معناه أنه يقول جميع الأجسام والمتحيزات محدثة ولها بأسرها خالق هو موجود ليس بمتحيز والمجسم ينفي هذه الذات فكان الخلاف بين الموحد والمجسم ليس في الصفة بل في نفس الذات لأن الموحد يثبت هذه الذات والمجسم ينفيها فثبت أن هذا الخلاف لم يقع في الصفة بل في الذات وأما قول المجبرة قد افتروا على الله تعالى في صفاته فليس بصحيح لأنه يقال له المجبرة ما زادوا على قولهم الممكن لا بد له من مرجح فإن كذبوا في هذه القضية فكيف يمكنهم أن يعرفوا وجود الإله وإن صدقوا في ذلك لزمهم الإقرار بتوقيف صدور الفعل على حصول الداعي بتخليق الله تعالى وذلك عين ما نسميه بالجبر فثبت أن الذي وصفه بكونه افتراء على الله باطل بل المفتري على الله من يقول الممكن لا يتوقف رجحان أحد طرفيه على الآخر على حصول المرجح فإن من قال هذا الكلام لزمه نفي الصانع بالكلية بل يلزمه نفي الآثار والمؤثرات بالكلية
والنوع الثاني من الأشياء التي وصفها الله تعالى بكونها افتراء قوله أَوْ قَالَ أُوْحِى إِلَى َّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَى ْء والفرق بين هذا القول وبين ما قبله أن في الأول كان يدعي أنه أوحى إليه وما كان يكذب بنزول الوحي على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وأما في هذا القول فقد أثبت الوحي لنفسه ونفاه عن محمد عليه الصلاة والسلام وكان هذا جمعاً بين نوعين عظيمين من الكذب وهو إثبات ما ليس بموجود ونفي ما هو موجود
والنوع الثالث قوله سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللَّهُ قال المفسرون المراد ما قاله النضر بن الحرث وهو قوله لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَاذَا وقوله في القرآن إنه من أساطير الأولين وكل أحد يمكنه الإتيان بمثله وحاصله أن هذا القائل يدعي معارضة القرآن وروى أيضاً أن عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان يكتب الوحي للرسول عليه الصلاة والسلام فلما نزل قوله وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلَالَة ٍ مّن طِينٍ ( المؤمنون 12 ) أملاء الرسول عليه السلام فلما انتهى إلى قوله ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَة َ عَلَقَة ً عجب عبد الله منه فقال فتبارك الله أحسن الخالقينا فقال الرسول هكذا أنزلت الآية فسكت عبد الله وقال إن كان محمد صادقاً فقد أوحى إلي وإن كان كاذباً فقد عارضته فهذا هو المراد من قوله سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ
أما قوله تعالى وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ فاعلم أن أول الآية وهو قوله وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً يفيد التخويف العظيم على سبيل الإجمال وقوله بعد ذلك وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ كالتفصيل لذلك المجمل والمراد بالظالمين الذين ذكرهم وغمرات الموت جمع غمرة وهي شدة الموت وغمرة كل شيء كثرته ومعظمه ومنه غمرة الماء وغمرة الحرب ويقال غمره الشيء إذا علاه وغطاه وقال الزجاج يقال لكل من كان في شيء كثير قد غمره ذلك وغمره الدين إذا كثر

عليه هذا هو الأصل ثم يقال للشدائد والمكاره الغمرات وجواب ( لو ) محذوف أي لرأيت أمراً عظيماً والملائكة باسطو أيديهم قال ابن عباس ملائكة العذاب باسطو أيديهم يضربونهم ويعذبونهم كما يقال بسط إليه يده بالمكروه أخرجوا أنفسكم ههنا محذوف والتقدير يقولون أخرجوا أنفسكم وفيه مسألتان
المسألة الأولى في الآية سؤال وهو أنه لا قدرة لهم على إخراج أرواحهم من أجسادهم فما الفائدة في هذا الكلام
فنقول في تفسير هذه الكلمة وجوه
الوجه الأول ولو ترى الظالمين إذا صاروا إلى غمرات الموت في الآخرة فأدخلوا جهنم فغمرات الموت عبارة عما يصيبهم هناك من أنواع الشدائد والتعذيبات والملائكة باسطو أيديهم عليهم بالعذاب يبكتونهم ويقولون لهم أخرجوا أنفسكم من هذا العذاب الشديد إن قدرتم
الوجه الثاني أن يكون المعنى ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت عند نزول الموت بهم في الدنيا والملائكة باسطو أيديهم لقبض أرواحهم يقولون لهم أخرجوا أنفسكم من هذه الشدائد وخلصوها من هذه الآفات والآلام
والوجه الثالث أن قوله أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ أي أخرجوها إلينا من أجسادكم وهذه عبارة عن العنف والتشديد في إزهاق الروح من غير تنفيس وإمهال وأنهم يفعلون بهم فعل الغريم الملازم الملح يبسط يده إلى من عليه الحق ويعنف عليه في المطالبة ولا يمهله ويقول له أخرج إلي ما لي عليك الساعة ولا أبرح من مكاني حتى أنزعه من أحداقك
والوجه الرابع أن هذه اللفظة كناية عن شدة حالهم وأنهم بلغوا في البلاء والشدة إلى حيث تولى بنفسه إزهاق روحه
والوجه الخامس أن قوله أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ ليس بأمر بل هو وعيد وتقريع كقول القائل امض الآن لترى ما يحل بك قال المفسرون إن نفس المؤمن تنشط في الخروج للقاء ربه ونفس الكافر تكره ذلك فيشق عليها الخروج لأنها تصير إلى أشد العذاب كما قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من أراد لقاء الله أراد الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه ) وذلك عند نزع الروح فهؤلاء الكفار تكرههم الملائكة على نزع الروح
المسألة الثانية الذين قالوا إن النفس الإنسانية شيء غير هذا الهيكل وغير هذا الجسد احتجوا عليه بهذه الآية وقالوا لا شك أن قوله أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ معناه أخرجوا أنفسكم عن أجسادكم وهذا يدل على أن النفس مغايرة للأجساد إلا أنا لو حملنا الآية على الوجهين الأولين من التأويلات الخمسة المذكورة لم يتم هذا الاستدلال
ثم قال تعالى الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ قال الزجاج عذاب الهون أي العذاب الذي يقع به الهوان الشديد قال تعالى أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِى التُّرَابِ ( النحل 59 ) والمراد منه أنه تعالى جمع هناك بين الإيلام وبين الإهانة فإن الثواب شرطه أن يكون منفعة مقرونة بالتعظيم فكذلك العقاب شرطه أن

يكون مضرة مقرونة بالإهانة قال بعضهم الهون هو الهوان والهون هو الرفق والدعة قال تعالى وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الاْرْضِ هَوْناً ( الفرقان 63 ) وقوله بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقّ وَكُنتُمْ عَنْ ءايَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ( الأنعام 93 ) وذلك يدل أن هذا العذاب الشديد إنما حصل بسبب مجموع الأمرين الافتراء على الله والتكبر على آيات الله وأقول هذان النوعان من الآفات والبلاء ترى أكثر المتوسمين بالعلم متوغلين فيه مواظبين عليه نعوذ بالله منه ومن آثاره ونتائجه وذكر الواحدي أن المراد بقوله وَكُنتُمْ عَنْ ءايَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ أي لا تصلون له قال عليه السلام ( من سجد لله سجدة بنية صادقة فقد برىء من الكبر )
وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّة ٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ
اعلم أن قوله وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى يحتمل وجهين الأول أن يكون هذا معطوفاً على قول الملائكة أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ فبين تعالى أنهم كما يقولون ذلك على وجه التوبيخ كذلك يقولون حكاية عن الله تعالى وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى فيكون الكلام أجمع حكاية عنهم وأنهم يوردون ذلك على هؤلاء الكفار وعلى هذا التقدير فيحتمل أن يكون قائل هذا القول الملائكة الموكلين بقبض أرواحهم ويحتمل أن يكون القائل هم الملائكة الموكلون بعقابهم
والقول الثاني أن قائل هذا القول هو الله تعالى ومنشأ هذا الاختلاف إن الله تعالى هل يتكلم مع الكفار أو لا فقوله تعالى في صفة الكفار وَلاَ يُكَلّمُهُمُ يوجب أن لا يتكلم معهم وقوله فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ( الحجر 92 ) وقوله فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ( الأعراف 6 ) يقتضي أن أن يكون تعالى يتكلم معهم فلهذا السبب وقع هذا الاختلاف والقول الأول أقوى لأن هذه الآية معطوفة على ما قبلها والعطف يوجب التشريك
المسألة الثانية فُرَادَى لفظ جمع وفي واحده قولان قال ابن قتيبة فرادى جمع فردان مثل سكارى وسكران وكسالى وكسلان وقال غيره فرادى جمع فريد مثل ردافى ورديف وقال الفراء فرادى جمع واحده فرد وفردة وفريد وفردان
إذا عرفت هذا فقوله وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى المراد منه التقريع والتوبيخ وذلك لأنهم صرفوا جدهم وجهدهم في الدنيا إلى تحصيل أمرين أحدهما تحصيل المال والجاه والثاني أنهم عبدوا الأصنام لاعتقادهم أنها تكون شفعاء لهم عند الله ثم إنهم لما وردوا محفل القيامة لم يبق معهم شيء من تلك الأموال ولم يجدوا من تلك الأصنام شفاعة لهم عند الله تعالى فبقوا فرادى عن كل ما حصلوه في الدنيا وعولوا عليه بخلاف أهل الإيمان فإنهم صرفوا عمرهم إلى تحصيل المعارف الحقة والأعمال الصالحة وتلك

المعارف والأعمال الصالحة بقيت معهم في قبورهم وحضرت معهم في مشهد القيامة فهم في الحقيقة ما حضروا فرادى بل حضروا مع الزاد ليوم المعاد
ثم قال تعالى لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ نافع وحفص عن عاصم والكسائي بَيْنِكُمْ بالنصب والباقون بالرفع قال الزجاج الرفع أجود ومعناه لقد تقطع وصلكم والنصب جائز والمعنى لقد تقطع ما كنتم فيه من الشركة بينكم قال أبو علي هذا الاسم يستعمل على ضربين أحدهما أن يكون اسماً منصرفاً كالافتراق والأجود أن يكون ظرفاً والمرفوع في قراءة من قرأ بَيْنِكُمْ هو الذي كان ظرفاً ثم استعمل اسماً والدليل على جواز كونه اسماً قوله تعالى وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ ( فصلت 5 ) و هَاذَا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ ( الكهف 78 ) فلما استعمل اسماً في هذه المواضع جاز أن يسند إليه الفعل الذي هو تُقَطَّعَ في قول من رفع قال ويدل على أن هذا المرفوع هو الذي استعمل ظرفاً أنه لا يخلو من أن يكون الذي هو ظرف اتسع فيه أو يكون الذي هو مصدر والقسم الثاني باطل وإلا لصار تقدير الآية لقد تقطع افتراقكم وهذا ضد المراد لأن المراد من الآية لقد تقطع وصلكم وما كنتم سالفون عليه
فإن قيل كيف جاز أن يكون بمعنى الوصل مع أن أصله الافتراق والتباين
قلنا هذا اللفظ إنما يستعمل في الشيئين اللذين بينهما مشاركة ومواصلة من بعض الوجوه كقولهم بيني وبينه شركة وبيني وبينه رحم فلهذا السبب حسن استعمال هذا اللفظ في معنى الوصلة فقوله لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ معناه لقد تقطع وصلكم أما من قرأ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ بالنصب فوجهه أنه أضمر الفاعل والتقدير لقد تقطع وصلكم بينكم وقال سيبويه إنهم قالوا إذا كان غداً فأتني والتقدير إذا كان الرجاء أو البلاء غداً فأتني فأضمر لدلالة الحال فكذا ههنا وقال ابن الأنباري التقدير لقد تقطع ما بينكم فحذفت لوضوح معناها
المسألة الثانية اعلم أن هذه الآية مشتملة على قانون شريف في معرفة أحوال القيامة فأولها أن النفس الإنسانية إنما تعلقت بهذا الجسد آلة له في اكتساب المعارف الحقة والأخلاق الفاضلة فإذا فارقت النفس الجسد ولم يحصل هذين المطلوبين البتة عظمت حسراته وقويت آفاته حيث وجد مثل هذه الآلة الشريفة التي يمكن اكتساب السعادة الأبدية بها ثم إنه ضيعها وأبطلها ولم ينتفع بها البتة وهذا هو المراد من قوله وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّة ٍ وثانيها أن هذه النفس مع أنها لم تكتسب بهذه الآلة الجسدانية سعادة روحانية وكمالاً روحانياً فقد عملت عملاً آخر أردأ من الأول وذلك لأنها طول العمر كانت في الرغبة في تحصيل الماء والجاه وفي تقوية العشق عليها وتأكيد المحبة وفي تحصيلها والإنسان في الحقيقة متوجه من العالم الجسماني إلى العالم الروحاني فهذا المسكين قلب القضية وعكس القضية وأخذ يتوجه من المقصد الروحاني إلى العالم الجسماني ونسي مقصده واغتر باللذات الجسمانية فلما مات انقلبت القضية شاء أم أبى توجه من العالم الجسماني إلى العالم الروحاني فبقيت الأموال التي اكتسبها وأفنى عمره في تحصيلها وراء ظهره والشيء الذي يبقى وراء ظهر الإنسان لا يمكنه أن ينتفع به وربما بقي

منقطع المنفعة معوج الرقبة معوج الرأس بسبب التفاته إليها مع الهجز عن الانتفاع بها وذلك يوجب نهاية الخيبة والغم والحسرة وهو المراد من قوله وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وهذا يدل على أن كل مال يكتسبه الإنسان ولم يصرفه في مصارف الخيرات فصفته هذه التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية أما إذا صرفها إلى الجهات الموجبة للتعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله فما ترك تلك الأموال وراء ظهره ولكنه قدمها تلقاء وجهه كما قال تعالى وَمَا تُقَدّمُواْ لانْفُسِكُم مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ ( البقرة 110 ) وثالثها أن أولئك المساكين أتعبوا أنفسهم في نصرة الأديان الباطلة والمذاهب الفاسدة وظنوا أنهم ينتفعون بها عند الورود في محفل القيامة فإذا وردوه وشاهدوا ما في تلك المذاهب من العذاب الشديد والعقاب الدائم حصلت فيه جهات كثيرة من العذاب منها عذاب الحسرة والندامة وهو أنه كيف أنفق ماله في تحمل العناء الشديد والبلاء العظيم في تحصيل ما لم يحصل له منه إلا العذاب والعناء ومنها عذاب الخجلة وهو أنه ظهر له أن كل ما كان يعتقده في دار الدنيا كان محض الجهالة وصريح الضلالة ومنها حصول اليأس الشديد مع الطمع العظيم ولا شك أن مجموع هذه الأحوال يوجب العذاب الشديد والآلام العظيمة الروحانية وهو المراد من قوله وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء ورابعها أنه لما بدا له أنه فاته الأمر الذي به يقدر على اكتساب الخيرات وحصل عنده الأمر الذي يوجب حصول المضرات فإذن بقي له رجاء في التدارك من بعض الوجوه فههنا يحف ذلك الألم ويضعف ذلك الحزن أما إذا حصل الجزم واليقين بأن التدارك ممتنع وجبر ذلك النقصان متعذر فههنا يعظم الحزن ويقوى البلاء جداً وإليه الإشارة بقوله تعالى لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ والمعنى أن الوصلة الحاصلة بين النفس والجسد قد تقطعت ولا سبيل إلى تحصيلها مرة أخرى وعند الوقوف على حقائق هذه المراتب يظهر أنه لا بيان فوق هذا البيان في شرح أحوال هؤلاء الضالين
إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَى َّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَى ِّ ذالِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما تكلم في التوحيد ثم أردفه بتقرير أمر النبوة ثم تكلم في بعض تفاريع هذا الأصل عاد ههنا إلى ذكر الدلائل الدالة على وجود الصانع وكمال علمه وحكمته وقدرته تنبيهاً على أن المقصود الأصلي من جميع المباحث العقلية والنقلية وكل المطالب الحكمية إنما هو معرفة الله بذاته وصفاته وأفعاله وفي قوله فَالِقُ الْحَبّ وَالنَّوَى قولان

القول الأول وهو مروي عن ابن عباس وقول الضحاك ومقاتل فَالِقُ الْحَبّ وَالنَّوَى أي خالق الحب والنوى قال الواحدي ذهبوا بفالق مذهب فاطر وأقول الفطر هو الشق وكذلك الفلق فالشيء قبل أن دخل في الوجود كان معدوماً محضاً ونفياً صرفاً والعقل يتصور من العدم ظلمة متصلة لا انفراج فيها ولا انفلاق ولا انشقاق فإذا أخرجه المبدع الموجد من العدم إلى الوجود فكأنه بحسب التخيل والتوهم شق ذلك العدم وفلقه وأخرج ذلك المحدث من ذلك الشق فبهذا التأويل لا يبعد حمل الفالق على الموجد والمحدث والمبدع
والقول الثاني وهو قول الأكثرين أن الفلق هو الشق والحب هو الذي يكون مقصوداً بذاته مثل حبة الحنطة والشعير وسائر الأنواع والنوى هو الشيء الموجود في داخل الثمرة مثل نوى الخوخ والتمر وغيرهما
إذا عرفت هذا فنقول إنه إذا وقعت الحبة أو النواة في الأرض الرطبة ثم مر به قدر من المدة أظهر الله تعالى في تلك الحبة والنواة من أعلاها شقاً ومن أسفلها شقاً آخر أما الشق الذي يظهر في أعلى الحبة والنواة فإنه يخرج منه الشجرة الصاعدة إلى الهواء وأما الشق الذي يظهر في أسفل تلك الحبة فإنه يخرج منه الشجرة الهابطة في الأرض وهي المسماة بعروق الشجرة وتصير تلك الحبة والنواة سبباً لاتصال الشجرة الصاعدة في الهواء بالشجرة الهابطة في الأرض
ثم إن ههنا عجائب فإحداها أن طبيعة تلك الشجرة إن كانت تقتضي الهوى في عمق الأرض فكيف تولدت منها الشجرة الصاعدة في الهواء وإن كانت تقتضي الصعود في الهواء فكيف تولدت منها الشجرة الهابطة في الأرض فلما تولد منها هاتان الشجرتان مع أن الحس والعقل يشهد بكون طبيعة إحدى الشجرتين مضادة لطبيعة الشجرة الأخرى علمنا أن ذلك ليس بمقتضى الطبع والخاصية بل بمقتضى الإيجاد والإبداع والتكوين والاختراع وثانيها أن باطن الأرض جرم كثيف صلب لا تنفذ المسلة القوية فيه ولا يغوص السكين الحاد القوي فيه ثم إنا نشاهد أطراف تلك العروق في غاية الدقة واللطافة بحيث لو دلكها الإنسان بأصبعه بأدنى قوة لصارت كالماء ثم إنها مع غاية اللطافة تقوى على النفوذ في تلك الأرض الصلبة والغوص في بواطن تلك الأجرام الكثيفة فحصول هذه القوى الشديدة لهذه الأجرام الضعيفة التي هي في غاية اللطافة لا بد وأن يكون بتقدير العزيز الحكيم وثالثها أنه يتولد من تلك النواة شجرة ويحصل في تلك الشجرة طبائع مختلفة فإن قشر الخشبة له طبيعة مخصوصة وفي داخل ذلك القشر جرم الخشبة وفي وسط تلك الخشبة جسم رخو ضعيف يشبه العهن المنفوش ثم إنه يتولد من ساق الشجرة أغصانها ويتولد على الأغصان الأوراق أولاً ثم الأزهار والأنوار ثانياً ثم الفاكهة ثالثاً ثم قد يحصل للفاكهة أربعة أنواع من القشر مثل الجوز فإن قشره على الأعلى هو ذلك الأخضر وتحت ذلك القشر الذي يشبه الخشب وتحته ذلك القشر الذي هو كالغشاء الرقيق المحيط باللب وتحته ذلك اللب وذلك اللب مشتمل على جرم كثيف هو أيضاً كالقشر وعلى جرم لطيف وهو الدهن وهو المقصود الأصلي فتولد هذه الأجسام المختلفة في طبائعها وصفاتها وألوانها وأشكالها وطعومها مع تساوي تأثيرات الطبائع والنجوم والفصول الأربعة والطبائع الأربع يدل على أنها إنما حدثت بتدبير الحكيم الرحيم المختار القادر لا بتدبير الطبائع والعناصر ورابعها أنك قد تجد الطبائع الأربع حاصلة في الفاكهة الواحدة فالأترنج قشره حار يابس ولحمه بارد رطب

وحماضه بارد يابس وبذره حار يابس وكذلك العنب قشره وعجمه بارد يابس وماؤه ولحمه حار رطب فتولد هذه الطبائع المضادة والخواص المتنافرة عن الحبة الواحدة لا بد وأن يكون بإيجاد الفاعل المختار وخامسها أنك تجد أحوال الفواكه مختلفة فبعضها يكون اللب في الداخل والقشر في الخارج كما في الجوز واللوز وبعضها يكون الفاكهة المطلوبة في الخارج وتكون الخشبة في الداخل كالخوخ والمشمس وبعضها يكون النواة لها لب كما في نوى المشمش والخوخ وبعضها لا لب له كما في نوى التمر وبعض الفواكه لا يكون له من الداخل والخارج قشر بل يكون كله مطلوباً كالتين فهذه أحوال مختلفة في هذه الفواكه وأيضاً هذه الحبوب مختلفة في الأشكال والصور فشكل الحنطة كأنه نصف دائرة وشكل الشعير كأنه مخروطان اتصلا بقاعدتيهما وشكل العدس كأنه دائرة وشكل الحمص على وجه آخر فهذه الأشكال المختلفة لا بد وأن تكون لأسرار وحكم علم الخالق أن تركيبها لا يكمل إلا على ذلك الشكل وأيضاً فقد أودع الخالق تعالى في كل نوع من أنواع الحبوب خاصية أخرى ومنفعة أخرى وأيضاً فقد تكون الثمرة الواحدة غذاء لحيوان وسماً لحيوان آخر فاختلاف هذه الصفات والأشكال والأحوال مع اتحاد الطبائع وتأثيرات الكواكب يدل على أن كلها إنما حصلت بتخليق الفاعل المختار الحكيم وسادسها أنك إذا أخذت ورقة واحدة من أوراق الشجرة وجدت خطاً واحداً مستقيماً في وسطها كأنه بالنسبة إلى تلك الورقة كالنخاع بالنسبة إلى بدن الإنسان وكما أنه ينفصل من النخاع أعصاب كثيرة يمنة ويسرة في بدن الإنسان ثم لا يزال ينفصل عن كل شعبة شعب أخر ولا تزال تستدق حتى تخرج عن الحس والأبصار بسبب الصغر فكذلك في تلك الورقة قد ينفصل عن ذلك الخط الكبير الوسطاني خطوط منفصلة وعن كل واحد منها خطوط مختلفة أخرى أدق من الأولى ولا يزال يبقى على هذا المنهج حتى تخرج تلك الخطوط عن الحس والبصر والخالق تعالى إنما فعل ذلك حتى أن القوى الجاذبة المركوزة في جرم تلك الورقة تقوى على جذب الأجزاء اللطيفة الأرضية في تلك المجاري الضيقة فلما وقفت على عناية الخالق في إيجاد تلك الورقة الواحدة علمت أن عنايته في تخليق جملة تلك الشجرة أكمل وعرفت أن عنايته في تكوين جملة النبات أكمل
ثم إذا عرفت أنه تعالى إنما خلق جملة النبات لمصلحة الحيوان علمت أن عنايته بتخليق الحيوان أكمل ولما علمت أن المقصود من تخليق جملة الحيوانات هو الإنسان علمت أن عنايته في تخليق الإنسان أكمل ثم إنه تعالى إنما خلق النبات والحيوان في هذا العالم ليكون غذاء ودواء للإنسان بحسب جسده والمقصود من تخليق الإنسان هو المعرفة والمحبة والخدمة كما قال تعالى وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( الذاريات 56 )
فانظر أيها المسكين بعين رأسك في تلك الورقة الواحدة من تلك الشجرة واعرف كيفية خلقة تلك العروق والأوتار فيها ثم انتقل من مرتبة إلى ما فوقها حتى تعرف أن المقصود الأخير منها حصول المعرفة والمحبة في الأرواح البشرية فحينئذ ينفتح عليك باب من المكاشفات لا آخر لها ويظهر لك أن أنواع نعم الله في حقك غير متناهية كما قال وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا ( إبراهيم 34 ) وكل ذلك إنما ظهر من كيفية خلقة تلك الورقة من الحبة والنواة فهذا كلام مختصر في تفسير قوله إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبّ وَالنَّوَى ومتى وقف الإنسان عليه أمكنه تفريقها وتشعيبها إلى ما لا آخر له ونسأل الله التوفيق والهداية

المسألة الثانية أما قوله تعالى يُخْرِجُ الْحَى َّ مِنَ الْمَيّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيّتِ مِنَ الْحَى ّ ففيه مباحث الأول أن الْحَى ّ اسم لما يكون موصوفاً بالحياة و الْمَيّتِ اسم لما كان خالياً عن صفة الحياة فيه وعلى هذا التقدير النبات لا يكون حياً
إذا عرفت هذا فللناس في تفسير هذا الْحَى ّ و الْمَيّتِ قولان الأول حمل هذين اللفظين على الحقيقة قال ابن عباس يخرج من النطفة بشراً حياً ثم يخرج من البشر الحي نطفة ميتة وكذلك يخرج من البيضة فروجة حية ثم يخرج من الدجاجة بيضة ميتة والمقصود منه أن الحي والميت متضادان متنافيان فحصول المثل عن المثل يوهم أن يكون بسبب الطبيعة والخاصية أما حصول الضد من الضد فيمتنع أن يكون بسبب الطبيعة والخاصية بل لا بد وأن يكون بتقدير المقدر الحكيم والمدبر العليم
والقول الثاني أن يحمل الْحَى ّ و الْمَيّتِ على ما ذكرناه وعلى الوجوه المجازية أيضاً وفيه وجوه الأول قال الزجاج يخرج النبات الغض الطري الخضر من الحب اليابس ويخرج اليابس من النبات الحي النامي الثاني قال ابن عباس يخرج المؤمن من الكافر كما في حق إبراهيم والكافر من المؤمن كما في حق ولد نوح والعاصي من المطيع وبالعكس الثالث قد يصير بعض ما يقطع عليه بأنه يوجب المضرة سبباً للنفع العظيم وبالعكس ذكروا في الطب أن إنساناً سقوه الأفيون الكثير في الشراب لأجل أن يموت فلما تناوله وظن القوم أنه سيموت في الحال رفعوه من موضعه ووضعوه في بيت مظلم فخرجت حية عظيمة فلدغته فصارت تلك اللدغة سبباً لاندفاع ضرر ذلك الأفيون منه فإن الأفيون يقتل بقوة برده وسم الأفعى يقتل بقوة حره فصارت تلك اللدغة سبباً لاندفاع ضرر الأفيون فههنا تولد عما يعتقد فيه كونه أعظم موجبات الشر أعظم الخيرات وقد يكون بالعكس من ذلك وكل هذه الأحوال المختلفة والأفعال المتدافعة تدل على أن لهذا العالم مدبراً حكيماً ما أهمل مصالح الخلق وما تركهم سدى وتحت هذه المباحث مباحث عالية شريفة
البحث الثاني من مباحث هذه الآية قرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم الْمَيّتِ مشددة في الكلمتين والباقون بالتخفيف في الكلمتين وكذلك كل هذا الجنس في القرآن
البحث الثالث أن لقائل أن يقول إنه قال أولاً يُخْرِجُ الْحَى َّ مِنَ الْمَيّتِ ثم قال وَمُخْرِجُ الْمَيّتِ مِنَ الْحَى ّ وعطف الاسم على الفعل قبيح فما السبب في اختيار ذلك
قلنا قوله وَمُخْرِجُ الْمَيّتِ مِنَ الْحَى ّ معطوف على قوله فَالِقُ الْحَبّ وَالنَّوَى وقوله يُخْرِجُ الْحَى َّ مِنَ الْمَيّتِ كالبيان والتفسير لقوله فَالِقُ الْحَبّ وَالنَّوَى لأن فلق الحب والنوى بالنبات والشجر النامي من جنس إخراج الحي من الميت لأن النامي في حكم الحيوان ألا ترى إلى قوله يُخْرِجُ الْحَى َّ مِنَ الْمَيّتِ وفيه وجه آخر وهو أن لفظ الفعل يدل على أن ذلك الفاعل يعتني بذلك الفعل في كل حين وأوان وأما لفظ الاسم فإنه لا يفيد التجدد والاعتناء به ساعة فساعة وضرب الشيخ عبد القاهر الجرجاني لهذا مثلاً في كتاب ( دلائل الإعجاز ) فقال قوله هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مّنَ السَّمَاء إنما ذكره بلفظ الفعل وهو قوله يَرْزُقُكُمْ لأن صيغة الفعل تفيد أنه تعالى يرزقهم حالاً فحالاً وساعة فساعة

وأما الاسم فمثاله قوله تعالى وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالوَصِيدِ ( الكهف 18 ) فقوله بَاسِطٌ يفيد البقاء على تلك الحالة الواحدة
إذا ثبت هدا فنقول الحي أشرف من الميت فوجب أن يكون الاعتناء بإخراج الحي من الميت أكثر من الاعتناء بإخراج الميت من الحي فلهذا المعنى وقع التعبير عن القسم الأول بصيغة الفعل وعن الثاني بصيغة الاسم تنبيهاً على أن الاعتناء بإيجاد الحي من الميت أكثر وأكمل من الاعتناء بإيجاد الميت من الحي والله أعلم بمراده
ثم قال تعالى في آخر الآية ذالِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قال بعضهم معناه ذلكم الله المدبر الخالق النافع الضار المحيي المميت فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ في إثبات القول بعبادة الأصنام والثاني أن المراد أنكم لما شاهدتم أنه تعالى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ثم شاهدتم أنه أخرج البدن الحي من النطفة الميتة مرة واحدة فكيف تستبعدون أن يخرج البدن الحي من ميت التراب الرميم مرة أخرى والمقصود الإنكار على تكذيبهم بالحشر والنشر وأيضاً الضدان متساويان في النسبة فكما لا يمتنع الانقلاب من أحد الضدين إلى الآخر وجب أن لا يمتنع الانقلاب من الثاني إلى الأول فكما لا يمتنع حصول الموت بعد الحياة وجب أيضاً أن لا يمتنع حصول الحياة بعد الموت وعلى كلا التقديرين فيخرج منه جواز القول بالبعث والحشر والنشر
المسألة الثانية تمسك الصاحب بن عباد بقوله فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ على أن فعل العبد ليس مخلوقاً لله تعالى قال لأنه تعالى لو خلق الأفك فيه فكيف يليق به أن يقول مع ذلك فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ
والجواب عنه أن القدرة بالنسبة إلى الضدين على السوية فإن ترجح أحد الطرفين على الآخر لا لمرجح فحينئذ لا يكون هذا الرجحان من العبد بل يكون محض الاتفاق فكيف يحسن أن يقال له فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ وأن توقف ذلك المرجح على حصول مرجح وهي الداعية الجاذبة إلى الفعل فحصول تلك الداعية يكون من الله تعالى وعند حصولها يجب الفعل وحينئذ يلزمكم كل ما ألزمتموه علينا والله أعلم
فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ الَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذالِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ
اعلم أن هذا نوع آخر من دلائل وجود الصانع وعلمه وقدرته وحكمته فالنوع المتقدم كان مأخوذاً من دلالة أحوال النبات والحيوان والنوع المذكور في هذه الآية مأخوذ من الأحوال الفلكية وذلك لأن فلق ظلمة الليل بنور الصبح أعظم في كمال القدرة من فلق الحب والنوى بالنبات والشجر ولأن من المعلوم بالضرورة أن الأحوال الفلكية أعظم في القلوب وأكثر وقعاً من الأحوال الأرضية وتقرير الحجة من وجوه الأول أن نقول الصبح صبحان

فالصبح الأول هو الصبح المستطيل كذنب السرحان ثم تعقبه ظلمة خالصة ثم يطلع بعده الصبح المستطير في جميع الأفق فنقول أما الصبح الأول وهو المستطيل الذي يحصل عقيبه ظلمة خالصة فهو من أقوى الدلائل على قدرة الله وحكمته وذلك لأنا نقول إن ذلك النور إما أن يقال إنه حصل من تأثير قرص الشمس أو ليس الأمر كذلك والأول باطل وذلك لأن مركز الشمس إذا وصل إلى دائرة نصف الليل فأهل الموضع الذي تكون تلك الدائرة أفقاً لهم قد طلعت الشمس من مشرقهم وفي ذلك الموضع أيضاً نصف كرة الأرض وذلك يقتضي أنه حصل الضوء في الربع الشرقي من بلدتنا وذلك الضوء يكون منتشراً مستطيراً في جميع أجزاء الجو ويجب أن يكون ذلك الضوء في كل ساعة إلى القوة والزيادة والكمال والصبح الأول لو كان أثر قرص الشمس لامتنع كونه خطاً مستطيلاً بل يجب أن يكون مستطيراً في جميع الأفق منتشراً فيه بالكلية وأن يكون متزايداً متكاملاً بحسب كل حين ولحظة ولما لم يكن الأمر كذلك بل علمنا أن الصبح الأول يبدو كالخيط الأبيض الصاعد حتى تشبهه العرب بذنب السرحان ثم إنه يحصل عقيبه ظلمة خالصة ثم يحصل الصبح المستطير بعد ذلك علمنا أن ذلك الصبح المستطيل ليس من تأثير قرص الشمس ولا من جنس نوره فوجب أن يكون ذلك حاصلاً بتخليق الله تعالى ابتداء تنبيهاً على أن الأنوار ليس لها وجود إلا بتخليقه وإن الظلمات لا ثبات لها إلا بتقديره كما قال في أول هذه السورة وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ
والوجه الثاني في تقرير هذا الدليل أنا لما بحثنا وتأملنا علمنا أن الشمس والقمر وسائر الكواكب لا تقع أضواؤها إلى على الجرم المقابل لها فأما الذي لا يكون مقابلاً لها فيمتنع وقوع أضوائها عليه وهذه مقدمة متفق عليها بين الفلاسفة وبين الرياضيين الباحثين عن أحوال الضوء المضيء ولهم في تقريرها وجوه نفيسة
إذا عرفت هذا نقول الشمس عند طلوع الصبح غير مرتفعة من الأفق فلا يكون جرم الشمس مقابلاً لجزء من أجزاء وجه الأرض فيمتنع وقوع ضوء الشمس على وجه الأرض وإذا كان كذلك امتنع أن يكون ضوء الصبح من تأثير قرص الشمس فوجب أن يكون ذلك بتخليق الفاعل المختار
فإن قالوا لم لا يجوز أن يقال الشمس حين كونها تحت الأرض توجب إضاءة ذلك الهواء المقابل له ثم ذلك الهواء مقابل للهواء الواقف فوق الأرض فيصيره ضوء الهواء الواقف تحت الأرض سبباً لضوء الهواء الواقف فوق الأرض ثم لا يزال يسري ذلك الضوء من هواء إلى هواء آخر ملاصق له حتى يصل إلى الهواء المحيط بنا هذا هو الوجه الذي عول عليه أبو علي بن الهيثم في تقرير هذا المعنى في كتابه الذي سماه ( بالمناظر الكثة )
والجواب أن هذا العذر باطل من وجهين الأول أن الهواء جرم شفاف عديم اللون وما كان كذلك فإنه لا يقبل النور واللون في ذاته وجوهره وهذا متفق عليه بين الفلاسفة واحتجوا عليه بأنه لو استقر النور على سطحه لوقف البصر على سطحه ولو كان كذلك لما نفذ البصر فيما وراءه ولصار إبصاره مانعاً عن إبصار ما وراءه فحيث لم يكن كذلك علمنا أنه لم يقبل اللون والنور في ذاته وجوهره وما كان كذلك امتنع أن ينعكس النور منه إلى غيره فامتنع أن يصير ضوءه سبباً لضوء هواء آخر مقابل له

فإن قالوا لم لا يجوز أن يقال إنه حصل في الأفق أجزاء كثيفة من الأبخرة والأدخة وهي لكثافتها تقبل النور عن قرص الشمس ثم إن بحصول الضوء فيها يصير سبباً لحصول الضوء في الهواء المقابل لها فنقول لو كان السبب ما ذكرتم لكان كلما كانت الأبخرة والأدخنة في الأفق أكثر وجب أن يكون ضوء الصباح أقوى لكنه ليس الأمر كذلك بل على العكس منه فبطل هذا العذر
الوجه الثاني في إبطال هذا الكلام الذي ذكره ابن الهيثم أن الدائرة التي هي دائرة الأفق لنا فهي بعينها دائرة نصف النهار لقوم آخرين فإذا كان كذلك فالدائرة التي هي نصف النهار في بلدنا وجب كونها دائرة الأفق لأولئك الأقوام
إذا ثبت هذا فنقول إذا وصل مركز الشمس إلى دائرة نصف الليل وتجاوز عنها فالشمس قد طلعت على أولئك الأقوام واستنار نصف العام هناك والربع من الفلك الذي هو ربع شرقي لأهل بلدنا فهو بعينه ربع غربي بالنسبة إلى تلك البلدة وإذا كان كذلك فالشمس إذا تجاوز مركزها عن دائرة نصف الليل قد صار جرمها محاذياً لهواء الربع الشرقي لأهل بلدنا فلو كان الهواء يقبل كيفية النور من الشمس لوجب أن يحصل الضوء والنور في هواء الربع الشرقي من بلدنا بعد نصف الليل وأن يصير هواء الربع الشرقي في غاية الإضاءة والإنارة بعد نصف الليل وحيث لم يكن الأمر كذلك علمنا أن الهواء لا يقبل كيفية النور في ذاته وإذا بطل هذا بطل العذر الذي ذكره ابن الهيثم فقد ذكرنا برهانين دقيقين عقليين محضين على أن خالق الضوء والظلمة هو الله تعالى لا قرص الشمس والله أعلم
والوجه الثالث هب أن النور الحاصل في العالم إنما كان بتأثير الشمس إلا أنا نقول الأجسام متماثلة في تمام الماهية ومتى كان الأمر كذلك كان حصول هذه الخاصية لقرص الشمس يجب أن يكون بتخليق الفاعل المختار أما بيان المقام الأول فهو أن الأجسام متماثلة في كونها أجساماً ومتحيزة فلو حصل الاختلاف بينها لكان ذلك الاختلاف واقعاً في مفهوم مغاير لمفهوم الجسمية ضرورة أن ما به المشاركة مغاير لما به المخالفة فنقول ذلك الأمر إما أن يكون محلاً للجسمية أو حالاً فيها أو لا محلاً لها ولا حالاً فيها والأول باطل لأنه يقتضي كون الجسم صفة قائمة بذات أخرى وذلك محال لأن ذلك المحل إن كان متحيزاً ومختصاً بحيز كان محل الجسم غير الجسم وهو محال وإن لم يكن كذلك كان الحاصل في الحيز حالاً في محل لا تعلق له بشيء من الأحياز والجهات وذلك مدفوع في بديهة العقل والثاني أيضاً باطل لأن على هذا التقدير الذوات هي الأجسام وما به قد حصلت المخالفة هو الصفات وكل ما يصح على الشيء صح على مثله فلما كانت الذوات متماثلة في تمام الماهية وجب أن يصح على كل واحد منها ما يصح على الآخر وهو المطلوب والثالث وهو القول بأن ما به حصلت المخالفة ليس محلاً للجسم ولا حالاً فيه وفساد هذا القسم ظاهر فثبت بهذا البرهان أن الأجسام متماثلة
وإذا ثبت هذا فنقول كل ما يصح على أحد المثلين فإنه يصح أيضاً على المثل الثاني وإذا استوت الأجسام بأسرها في قبول جميع الصفات على البدل كان اختصاص جسم الشمس لهذه الإضاءة وهذه الإنارة لا بد وأن يكون بتخصيص الفاعل المختار وإذا ثبت هذا كان فالق الإصباح في الحقيقة هو الله تعالى وذلك هو المطلوب والله أعلم

الوجه الرابع في تقرير هذا المطلوب أن الظلمة شبيهة بالعدم بل البرهان القاطع قد دل على أنه مفهوم عدمي والنور محض الوجود فإذا أظلم الليل حصل الخوف والفزع في قلب الكل فاستولى النوم عليهم وصاروا كالأموات وسكنت المتحركات وتعطلت التأثيرات ورفعت التفعيلات فإذا وصل نور الصباح إلى هذا العالم فكأنه نفخ في الصور مادة الحياة وقوة الإدراك فضعف النوم وابتدأت اليقظة بالظهور وكلما كان نور الصباح أقوى وأكمل كان ظهور قوة الحس والحركة في الحيوانات أكمل ومعلوم أن أعظم نعم الله على الخلق هو قوة الحياة والحس والحركة ولما كان النور هو السبب الأصلي لحصول هذه الأحوال كان تأثير قدرة الله تعالى في تخليق النور من أعظم أقسام النعم وأجل أنواع الفضل والكرم
إذا عرفت هذا فكونه سبحانه فالقاً للأصباح في كونه دليلاً على كمال قدرة الله تعالى أجل أقسام الدلائل وفي كونه فضلاً ورحمة وإحساناً من الله تعالى على الخلق أجل الأقسام وأشرف الأنواع فهذا ما حضرنا في تقرير دلالة قوله تعالى فَالِقُ الإِصْبَاحِ على وجود الصانع القادر المختار الحكم والله أعلم
ولنختم هذه الدلائل بخاتمة شريفة فنقول إنه تعالى فالق ظلمة العدم بصباح التكوين والإيجاد وفالق ظلمة الجمادية بصباح الحياة والعقل والرشاد وفالق ظلمة الجهالة بصباح العقل والإدراك وفالق ظلمات العالم الجسماني بتخليص النفس القدسية إلى صبحة عالم الأفلاك وفالق ظلمات الاشتغال بعالم الممكنات بصباح نور الاستغراق في معرفة مدبر المحدثات والمبدعات
المسألة الثالثة في تفسير الإِصْبَاحِ وجوه الأول قال الليث الصبح والصباح هما أول النهار وهو الإصباح أيضاً قال تعالى فَالِقُ الإِصْبَاحِ يعني الصبح قال الشاعر أفنى رياحاً وبنى رياح
تناسخ الإمساء والإصباح
والقول الثاني أن الإِصْبَاحِ مصدر سمي به الصبح
فإن قيل ظاهر الآية يدل على أنه تعالى فلق الصبح وليس الأمر كذلك فإن الحق أنه تعالى فلق الظلمة بالصبح فكيف الوجه فيه فنقول فيه وجوه الأول أن يكون المراد فالق ظلمة الإصباح وذلك لأن الأفق من الجانب الشمالي والغربي والجنوبي مملوء من الظلمة والنور وإنما ظهر في الجانب الشرقي فكأن الأفق كان بحراً مملوءاً من الظلمة ثم إنه تعالى شق ذلك البحر المظلم بأن أجرى جدولاً من النور فيه والحاصل أن المراد فالق ظلمة الإصباح بنور الإصباح ولما كان المراد معلوماً حسن الحذف والثاني أنه تعالى كما يشق بحر الظلمة عن نور الصبح فكذلك يشق نور الصبح عن بياض النهار فقوله فَالِقُ الإِصْبَاحِ أي فالق الإصباح ببياض النهار والثالث أن ظهور النور في الصباح أنما كان لأجل أن الله تعالى فلق تلك الظلمة فقوله فَالِقُ الإِصْبَاحِ أي مظهر الإصباح إلا أنه لما كان المقتضى لذلك الإظهار هو ذلك الفلق لا جرم ذكر اسم السبب والمراد منه المسبب الرابع قال بعضهم الفالق هو الخالق فكان المعنى خالق الإصباح وعلى هذا التقدير فالسؤال زائل والله أعلم
أما قوله تعالى وَجَاعِلُ فَالِقُ الإِصْبَاحِ فاعلم أنه تعالى ذكر في هذه الآية ثلاثة أنواع من الدلائل الفلكية

على التوحيد فأولها ظهور الصباح وقد فسرناه بمقدار الفهم وثانيها قوله وَجَاعِلُ فَالِقُ الإِصْبَاحِ وفيه مباحث
المبحث الأول قال صاحب ( الكشاف ) السكن ما يسكن إليه الرجل ويطمئن إليه استئناساً به واسترواحاً إليه من زوج أو حبيب ومنه قيل للنار سكن لأنه يستأنس بها ألا تراهم سموها المؤنسة ثم إن الليل يطمئن إليه الإنسان لأنه أتعب نفسه بالنهار واحتاج إلى زمان يستريح فيه وذلك هو الليل
فإن قيل أليس أن الخلق يبقون في الجنة في أهنأ عيش وألذ زمان مع أنه ليس هناك ليل فعلمنا أن وجود الليل والنهار ليس من ضروريات اللذة والخير في الحياة قلنا كلامنا في أن الليل والنهار من ضروريات مصالح هذا العالم أما في الدار الآخرة فهذه العادات غير باقية فيه فظهر الفرق
المبحث الثاني قرأ عاصم والكسائي وَجَعَلَ الَّيْلَ على صيغة الفعل والباقون جاعل على صيغة اسم الفاعل حجة من قرأ باسم الفاعل أن المذكور قبله اسم الفاعل وهو قوله فَالِقُ الْحَبّ فَالِقُ الإِصْبَاحِ وجاعل أيضاً اسم الفاعل ويجب كون المعطوف مشاركاً للمعطوف عليه وحجة من قرأ بصيغة الفعل أن قوله وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ منصوبان ولا بد لهذا النصب من عامل وما ذاك إلا أن يقدر قوله وَجَعَلَ بمعنى وجاعل الشمس والقمر حسباناً وذلك يفيد المطلوب
وأما قوله تعالى وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ففيه مباحث
المبحث الأول معناه أنه قدر حركة الشمس والقمر بحساب معين كما ذكره في سورة يونس في قوله هُوَ الَّذِى جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السّنِينَ وَالْحِسَابَ ( يونس 5 ) وقال في سورة الرحمن الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ( الرحمن 5 ) وتحقيق الكلام فيه أنه تعالى قدر حركة الشمس مخصوصة بمقدار من السرعة والبطء بحيث تتم الدورة في سنة وقدر حركة القمر بحيث يتم الدورة في شهر وبهذه المقادير تنتظم مصالح العالم في الفصول الأربعة وبسببها يحصل ما يحتاج إليه من نضج الثمار وحصول الغلات ولو قدرنا كونها أسرع أو أبطأ مما وقع لاختلت هذه المصالح فهذا هو المراد من قوله وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً
المبحث الثاني في الحسبان قولان الأول وهو قول أبي الهيثم أنه جمع حساب مثل ركاب وركبان وشهاب وشهبان والثاني أن الحسبان مصدر كالرجحان والنقصان وقال صاحب ( الكشاف ) الحسبان بالضم مصدر حسب كما أن الحسبان بالكسر مصدر حسب ونظيره الكفران والغفران والشكران
إذا عرفت هذا فنقول معنى جعل الشمس والقمر حسباناً جعلهما على حساب لأن حساب الأوقات لا يعلم إلا بدورهما وسيرهما
المبحث الثالث قال صاحب ( الكشاف ) وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ قرئا بالحركات الثلاث فالنصب على إضمار فعل دل عليه قوله جَاعِلِ الَّيْلَ أي وجعل الشمس والقمر حسباناً والجر عطف على لفظ الليل والرفع على الابتداء والخبر محذوف تقديره والشمس والقمر مجعولان حسباناً أي محسوبان
ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله ذالِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ والعزيز إشارة إلى كمال قدرته والعليم إشارة

إلى كمال علمه ومعناه أن تقدير إجرام الأفلاك بصفاتها المخصوصة وهيئاتها المحدودة وحركاتها المقدرة بالمقادير المخصوصة في البطء والسرعة لا يمكن تحصيله إلا بقدرة كاملة متعلقة بجميع الممكنات وعلم نافذ في جميع المعلومات من الكليات والجزئيات وذلك تصريح بأن حصول هذه الأحوال والصفات ليس بالطبع والخاصة وإنما هو بتخصيص الفاعل المختار والله أعلم
وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِى ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الاٌّ يَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
هذا هو النوع الثالث من الدلائل الدالة على كمال القدرة والرحمة والحكمة وهو أنه تعالى خلق هذه النجوم لمنافع العباد وهي من وجوه
الوجه الأول أنه تعالى خلقها لتهتدي الخلق بها إلى الطرق والمسالك في ظلمات البر والبحر حيث لا يرون شمساً ولا قمراً لأن عند ذلك يهتدون بها إلى المسالك والطرق التي يريدون المرور فيها
الوجه الثاني وهو أن الناس يستدلون بأحوال حركة الشمس على معرفة أوقات الصلاة وإنما يستدلون بحركة الشمس في النهار على القبلة ويستدلون بأحوال الكواكب في الليالي على معرفة القبلة
الوجه الثالث أنه تعالى ذكر في غير هذه السورة كون هذه الكواكب زينة للسماء فقال تَبَارَكَ الَّذِى جَعَلَ فِى السَّمَاء بُرُوجاً ( الفرقان 61 ) وقال تعالى إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَة ٍ الْكَواكِبِ ( الصافات 6 ) وقال وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ ( البروج 1 )
الوجه الرابع أنه تعالى ذكر في منافعها كونها رجوماً للشياطين
الوجه الخامس يمكن أن يقال لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر أي في ظلمات التعطيل والتشبيه فإن المعطل ينفي كونه فاعلاً مختاراً والمشبه يثبت كونه تعالى جسماً مختصاً بالمكان فهو تعالى خلق هذه النجوم ليهتدى بها في هذين النوعين من الظلمات أما الاهتداء بها في ظلمات بر التعطيل فذلك لأنا نشاهد هذه الكواكب مختلفة في صفات كثيرة فبعضها سيارة وبعضها ثابتة والثوابت بعضها في المنطقة وبعضها في القطبين وأيضاً الثوابت لامعة والسيارة غير لامعة وأيضاً بعضها كبيرة درية عظيمة الضوء وبعضها صغيرة خفية قليلة الضوء وأيضاً قدروا مقاديرها على سبع مراتب
إذا عرفت هذا فنقول قد دللنا على أن الأجسام متماثلة وبينا أنه متى كان الأمر كذلك كان اختصاص كل واحد منها بصفة معينة دليلاً على أن ذلك ليس إلا بتقدير الفاعل المختار فهذا وجه الاهتداء بها في ظلمات بر التعطيل وأما وجه الاهتداء بها في ظلمات بحر التشبيه فلأنا نقول إنه لا عيب يقدح في إلهية هذه

الكواكب إلا أنها أجسام فتكون مؤلفة من الأجزاء والأبعاض وأيضاً إنها متناهية ومحدودة وأيضاً إنها متغيرة ومتحركة ومنتقلة من حال إلى حال فهذه الأشياء إن لم تكن عيوباً في الإلهية امتنع الطعن في إلهيتها وإن كانت عيوباً في الإلهية وجب تنزيه الإله عنها بأسرها فوجب الجزم بأن إله العالم والسماء والأرض منزه عن الجسمية والأعضاء والأبعاض والحد والنهاية والمكان والجهة فهذا بيان الاهتداء بهذه الكواكب في بر التعطيل وبحر التشبيه وهذا وإن كان عدولاً عن حقيقة اللفظ إلى مجازه إلا أنه قريب مناسب لعظمة كتاب الله تعالى
الوجه السادس في منافع هذه الكواكب ما ذكره الله تعالى في قوله وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً ( آل عمران 191 ) فنبه على سبيل الإجمال على أن في وجود كل واحد منها حكمة عالية ومنفعة شريفة وليس كل ما لا يحيط عقلنا به على التفصيل وجب نفيه فمن أراد أن يقدر حكمة الله تعالى في ملكه وملكوته بمكيال خياله ومقياس قياسه فقد ضل ضلالاً مبيناً ثم إنه تعالى لما ذكر الاستدلال بأحوال هذه النجوم قال قَدْ فَصَّلْنَا الاْيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وفيه وجوه الأول المراد أن هذه النجوم كما يمكن أن يستدل بها على الطرقات في ظلمات البر والبحر فكذلك يمكن أن يستدل بها على معرفة الصانع الحكيم وكمال قدرته وعلمه الثاني أن يكون المراد من العلم ههنا العقل فقوله قَدْ فَصَّلْنَا الاْيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ نظير قوله تعالى في سورة البقرة إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( البقرة 164 ) إلى قوله لآيَاتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وفي آل عمران في قوله إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَاخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لاَيَاتٍ لاِوْلِى الاْلْبَابِ ( آل عمران 190 ) والثالث أن يكون المراد من قوله لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ لقوم يتفكرون ويتأملون ويستدلون بالمحسوس على المعقول وينتقلون من الشاهد إلى الغائب
وَهُوَ الَّذِى أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَة ٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الاٌّ يَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ
هذا نوع رابع من دلائل وجود الإله وكمال قدرته وعلمه وهو الاستدلال بأحوال الإنسان فنقول لا شبهة في أن النفس الواحدة هي آدم عليه السلام وهي نفس واحدة وحواء مخلوقة من ضلع من أضلاعه فصار كل الناس من نفس واحدة وهي آدم
فإن قيل فما القول في عيسى
قلنا هو أيضاً مخلوق من مريم التي هي مخلوقة من أبويها
فإن قالوا أليس أن القرآن قد دل على أنه مخلوق من الكلمة أو من الروح المنفوخ فيها فكيف يصح ذلك
قلنا كلمة ( من ) تفيد ابتداء الغاية ولا نزاع أن ابتداء تكون عيسى عليه السلام كان من مريم وهذا

القدر كاف في صحة هذا اللفظ قال القاضي فرق بين قوله أَنشَأَكُمْ وبين قوله خَلَقَكُمْ لأن أنشأكم يفيد أنه خلقكم لا ابتداء ولكن على وجه النمو والشنوء لا من مظهر من الأبوين كما يقال في النبات إنه تعالى أنشأه بمعنى النمو والزيادة إلى وقت الانتهاء وأما قوله فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ ففيه مباحث
البحث الأول قرأ ابن كثير وأبو عمرو فَمُسْتَقَرٌّ بكسر القاف والباقون بفتحها قال أبو علي الفارسي قال سيبويه يقال قر في مكانه واستقر فمن كسر القاف كان المستقر بمعنى القار وإذا كان كذلك وجب أن يكون خبره المضمر ( منكم ) أي منكم مستقر ومن فتح القاف فليس على أنه مفعول به لأن استقر لا يتعدى فلا يكون له مفعول به فيكون اسم مكان فالمستقر بمنزلة المقر وإذا كان كذلك لم يجز أن يكون خبره المضمر ( منكم ) بل يكون خبره ( لكم ) فيكون التقدير لكم مقر وأما المستودع فإن استودع فعل يتعدى إلى مفعولين تقول استودعت زيداً ألفاً وأودعت مثله فالمستودع يجوز أن يكون اسماً للإنسان الذي استودع ذلك المكان ويجوز أن يكون المكان نفسه
إذا عرفت هذا فنقول من قرأ مستقراً بفتح القاف جعل المستودع مكاناً ليكون مثل المعطوف عليه والتقدير فلكم مكان استقرار ومكان استيداع ومن قرأ فَمُسْتَقَرٌّ بالكسر فالمعنى منكم مستقر ومنكم مستودع والتقدير منكم من استقر ومنكم من استودع والله أعلم
المبحث الثاني الفرق بين المستقر والمستودع أن المستقر أقرب إلى النبات من المستودع فالشيء الذي حصل في موضع ولا يكون على شرف الزوال يسمى مستقراً فيه وأما إذا حصل فيه وكان على شرف الزوال يسمى مستودعاً لأن المستودع في معرض أن يسترد في كل حين وأوان
إذا عرفت هذا فنقول كثر اختلاف المفسرين في تفسير هذين اللفظين على أقوال فالأول وهو المنقول عن ابن عباس في أكثر الروايات أن المستقر هو الأرحام والمستودع الأصلاب قال كريب كتب جرير إلى ابن عباس يسأله عن هذه الآية فأجاب المستودع الصلب والمستقر الرحم ثم قرأ وَنُقِرُّ فِى الاْرْحَامِ مَا نَشَاء ( الحج 5 ) ومما يدل أيضاً على قوة هذا القول أن النطفة الواحدة لا تبقى في صلب الأب زماناً طويلاً والجنين يبقى في رحم الأم زماناً طويلاً ولما كان المكث في الرحم أكثر مما في صلب الأب كان حمل الاستقرار على المكث في الرحم أولى
والقول الثاني أن المستقر صلب الأب والمستودع رحم الأم لأن النطفة حصلت في صلب الأب لا من قبل الغير وهي حصلت في رحم الأم بفعل الغير فحصول تلك النطفة في الرحم من قبل الرجل مشبه بالوديعة لأن قوله فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ يقتضي كون المستقر متقدماً على المستودع وحصول النطفة في صلب الأب مقدم على حصولها في رحم الأم فوجب أن يكون المستقر ما في أصلاب الآباء والمستودع ما في أرحام الأمهات
والقول الثالث وهو قول الحسن المستقر حاله بعد الموت لأنه إن كان سعيداً فقد استقرت تلك السعادة وإن كان شقياً فقد استقرت تلك الشقاوة ولا تبديل في أحوال الإنسان بعد الموت وأما قبل الموت فالأحوال متبدلة فالكافر قد ينقلب مؤمناً والزنديق قد ينقلب صديقاً فهذه الأحوال لكونها على شرف الزوال والفناء لا يبعد تشبيهها بالوديعة التي تكون مشرفة على الزوال والذهاب

والقول الرابع وهو قول الأصم إن المستقر من خلق من النفس الأولى ودخل الدنيا واستقر فيها والمستودع الذي لم يخلق بعد وسيخلق
والقول الخامس للأصم أيضاً المستقر من استقر في قرار الدنيا والمستودع من في القبور حتى يبعث وعن قتادة على العكس منه فقال مستقر في القبر ومستودع في الدنيا
القول السادس قول أبي مسلم الأصبهاني أن التقدير هو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمنكم مستقر ذكر ومنكم مستودع أنثى إلا أنه تعالى عبر عن الذكر بالمستقر لأن النطفة إنما تتولد في صلبه وإنما تستقر هناك وعبر عن الأنثى بالمستودع لأن رحمها شبيهة بالمستودع لتلك النطفة والله أعلم
المبحث الثالث مقصود الكلام أن الناس إنما تولدوا من شخص واحد وهو آدم عليه السلام ثم اختلفوا في المستقر والمستودع بحسب الوجوه المذكورة فنقول الأشخاص الإنسانية متساوية في الجسمية ومختلفة في الصفات التي باعتبارها حصل التفاوت في المستقر والمستودع والاختلاف في تلك الصفات لا بد له من سبب ومؤثر وليس السبب هو الجسمية ولوازمها وإلا لامتنع حصول التفاوت في الصفات فوجب أن يكون السبب هو الفاعل المختار الحكيم ونظير هذه الآية في الدلالة قوله تعالى وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ
ثم قال تعالى قَدْ فَصَّلْنَا الاْيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ والمراد من هذا التفصيل أنه بين هذه الدلائل على وجه الفصل للبعض عن البعض ألا ترى أنه تعالى تمسك أولاً بتكوين النبات والشجر من الحب والنوى ثم ذكر بعده التمسك بالدلائل الفلكية من ثلاثة وجوه ثم ذكر بعده التمسك بأحوال تكوين الإنسان فقد ميز تعالى بعض هذه الدلائل عن بعض وفصل بعضها عن بعض لقوم يفقهون وفيه أبحاث الأول قوله لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ظاهره مشعر بأنه تعالى قد يفعل الفعل لغرض وحكمة
وجواب أهل السنة أن اللام لام العاقبة أو يكون ذلك محمولاً على التشبيه بحال من يفعل الفعل لغرض والثاني أن هذه الآية تدل على أنه تعالى أراد من جميع الخلق الفقه والفهم والإيمان وما أراد بأحد منهم الكفر وهذا قول المعتزلة
وجواب أهل السنة أن المراد منه كأنه تعالى يقول إنما فصلت هذا البيان لمن عرف وفقه وفهم وهم المؤمنون لا غير والثالث أنه تعالى ختم الآية السابقة وهي الآية التي استدل فيها بأحوال النجوم بقوله يَعْلَمُونَ وختم آخر هذه الآية بقوله يَفْقَهُونَ والفرق أن إنشاء الإنس من واحدة وتصريفهم بين أحوال مختلفة ألطف وأدق صنعة وتدبيراً فكان ذكر الفقه ههنا لأجل أن الفقه يفيد مزيد فطنة وقوة وذكاء وفهم والله أعلم

وَهُوَ الَّذِى أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَى ْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَة ٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلِى ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِى ذالِكُمْ لاٌّ يَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
اعلم أن هذا النوع الخامس من الدلائل الدالة على كمال قدرة الله تعالى وعلمه وحكمته ورحمته ووجوه إحسانه إلى خلقه
واعلم أن هذه الدلائل كما أنها دلائل فهي أيضاً نعم بالغة وإحسانات كاملة والكلام إذا كان دليلاً من بعض الوجوه وكان إنعاماً وأحساناً من سائر الوجوه كان تأثيره في القلب عظيماً وعند هذا يظهر أن المشتغل بدعوة الخلق إلى طريق الحق لا ينبغي أن يعدل عن هذه الطريقة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى ظاهر قوله تعالى وَهُوَ الَّذِى أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء يقتضي نزول المطر من السماء وعند هذا اختلف الناس فقال أبو علي الجبائي في ( تفسيره ) إنه تعالى ينزل الماء من السماء إلى السحاب ومن السحاب إلى الأرض قال لأن ظاهر النص يقتضي نزول المطر من السماء والعدول عن الظاهر إلى التأويل إنما يحتاج إليه عند قيام الدليل على أن إجراء اللفظ على ظاهره غير ممكن وفي هذا الموضع لم يقم دليل على امتناع نزول المطر من السماء فوجب إجراء اللفظ على ظاهره
وأما قول من يقول إن البخارات الكثيرة تجتمع في باطن الأرض ثم تصعد وترتفع إلى الهواء فينعقد الغيم منها ويتقاطر وذلك هو المطر فقد احتج الجبائي على فساده من وجوه الأول أن البرد قد يوجد في وقت الحر بل في صميم الصيف ونجد المطر في أبرد وقت ينزل غير جامد وذلك يبطل قولهم
ولقائل أن يقول إن القوم يجيبون عنه فيقولون لا شك أن البخار أجزاء مائية وطبيعتها البرد ففي وقت الصيف يستولي الحر على ظاهر السحاب فيهرب البرد إلى باطنه فيقوى البرد هناك بسبب الاجتماع فيحدث البرد وأما في وقت برد الهواء يستولي البرد على ظاهر السحاب فلا يقوى البرد في باطنه فلا جرم لا ينعقد جمداً بل ينزل ماء هذا ما قالوه ويمكن أن يجاب عنه بأن الطبقة العالية من الهواء باردة جداً عندكم فإذا كان اليوم يوماً بارداً شديد البرد في صميم الشتاء فتلك الطبقة باردة جداً والهواء المحيط بالأرض أيضاً بارد جداً فوجب أن يشتد البرد وأن لا يحدث المطر في الشتاء البتة وحيث شاهدنا أنه قد يحدث فسد قولكم والله أعلم
الحجة الثانية مما ذكره الجبائي أنه قال إن البخارات إذا ارتفعت وتصاعدت تفرقت وإذا تفرقت لم

يتولد منها قطرات الماء بل البخار إنما يجتمع إذا اتصل بسقف متصل أملس كسقوف الحمامات المزججة أما إذا لم يكن كذلك لم يسل منه ماء كثير فإذا تصاعدت البخارات في الهواء وليس فوقها سطح أملس متصل به تلك البخارات وجب أن لا يحصل منها شيء من الماء ولقائل أن يقول القوم يجيبون عنه بأن هذه البخارات إذا تصاعدت وتفرقت فإذا وصلت عند صعودها وتفرقها إلى الطبقة الباردة من الهواء بردت والبرد يوجب الثقل والنزول فبسبب قوة ذلك البرد عادت من الصعود إلى النزول والعالم كروي الشكل فلما رجعت من الصعود إلى النزول فقد رجعت من فضاء المحيط إلى ضيق المركز فتلك الذرات بهذا السبب تلاصقت وتواصلت فحصل من اتصال بعض تلك الذرات بعض قطرات الأمطار
الحجة الثالثة ما ذكره الجبائي قال لو كان تولد المطر من صعود البخارات فالبخارات دائمة الارتفاع من البحار فوجب أن يدوم هناك نزول المطر وحيث لم يكن الأمر كذلك علمنا فساد قولهم قال فثبت بهذه الوجوه أنه ليس تولد المطر من بخار الأرض ثم قال والقوم إنما احتاجوا إلى هذا القول لأنهم اعتقدوا أن الأجسام قديمة وإذا كانت قديمة امتنع دخول الزيادة والنقصان فيها وحينئذ لا معنى لحدوث الحوادث إلا اتصاف تلك الذرات بصفة بعد أن كانت موصوفة بصفات أخرى فلهذا السبب احتالوا في تكوين كل شيء عن مادة معينة وأما المسلمون فلما اعتقدوا أن الأجسام محدثة وأن خالق العالم فاعل مختار قادر على خلق الأجسام كيف شاء وأراد فعند هذا لا حاجة إلى استخراج هذه التكلفات فثبت أن ظاهر القرآن يدل في هذه الآية على أن الماء إنما ينزل من السماء ولا دليل على امتناع هذا الظاهر فوجب القول بحمله على ظاهره ومما يؤكد ما قلناه أن جميع الآيات ناطقة بنزول المطر من السماء قال تعالى وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُوراً ( الفرقان 48 ) وقال وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن السَّمَاء مَاء لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ ( الأنفال 11 ) وقال وَيُنَزّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ ( النور 43 ) فثبت أن الحق أنه تعالى ينزل المطر من السماء بمعنى أنه يخلق هذه الأجسام في السماء ثم ينزلها إلى السحاب ثم من السحاب إلى الأرض
والقول الثاني المراد إنزال المطر من جانب السماء ماء
والقول الثالث أنزل من السحاب ماء وسمى الله تعالى السحاب سماء لأن العرب تسمي كل ما فوقك سماء كسماء البيت فهذا ما قيل في هذا الباب
المسألة الثانية نقل الواحدي في ( البسيط ) عن ابن عباس يريد بالماء ههنا المطر ولا ينزل نقطة من المطر إلا ومعها ملك والفلاسفة يحملون ذلك الملك على الطبيعة الحالة في تلك الجسمية الموجبة لذلك النزول فأما أن يكون معه ملك من ملائكة السموات فالقول به مشكل والله أعلم
المسألة الثالثة قوله فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلّ شَى ْء فيه أبحاث
البحث الأول ظاهر قوله فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلّ شَى ْء يدل على أنه تعالى إنما أخرج النبات بواسطة الماء وذلك يوجب القول بالطبع والمتكلمون ينكرونه وقد بالغنا في تحقيق هذه المسألة في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَّكُمْ فلا فائدة في الإعادة

البحث الثاني قال الفراء قوله فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلّ شَى ْء ظاهره يقتضي أن يكون لكل شيء نبات وليس الأمر كذلك فكان المراد فأخرجنا به نبات كل شيء له نبات فإذا كان كذلك فالذي لا نبات له لا يكون داخلاً فيه
البحث الثالث قوله فَأَخْرَجْنَا بِهِ بعد قوله أَنَزلَ يسمى التفاتاً ويعد ذلك من الفصاحة
واعلم أن أصحاب العربية ادعوا أن ذلك يعد من الفصاحة وما بينوا أنه من أي الوجوه يعد من هذا الباب وأما نحن فقد أطنبنا فيه في تفسير قوله تعالى حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيّبَة ٍ ( يونس 22 ) فلا فائدة في الإعادة
والبحث الرابع قوله فَأَخْرَجْنَا صيغة الجمع والله واحد فرد لا شريك له إلا أن الملك العظيم إذا كنى عن نفسه فإنما يكنى بصيغة الجمع فكذلك ههنا ونظيره قوله إِنَّا أَنزَلْنَاهُ إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ
أما قوله فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً فقال الزجاج معنى خضر كمعنى أخضر يقال أخضر فهو أخضر وخضر مثل أعور فهو أعور وعور وقال الليث الخضر في كتاب الله هو الزرع وفي الكلام كل نبات من الخضر وأقول إنه تعالى حصر النبت في الآية المتقدمة في قسمين حيث قال إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبّ وَالنَّوَى فالذي ينبت من الحب هو الزرع والذي ينبت من النوى هو الشجر فاعتبر هذه القسمة أيضاً في هذه الآية فابتدأ بذكر الزرع وهو المراد بقوله فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً وهو الزرع كما رويناه عن الليث وقال ابن عباس يريد القمح والشعير والسلت والذرة والأرز والمراد من هذا الخضر العود الأخضر الذي يخرج أولاً ويكون السنبل في أعلاه وقوله نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً يعني يخرج من ذلك الخضر حباً متراكباً بعضه على بعض في سنبلة واحدة وذلك لأن الأصل هو ذلك العود الأخضر وتكون السنبلة مركبة عليه من فوقه وتكون الحبات متراكبة بعضها فوق بعض ويحصل فوق السنبلة أجسام دقيقة حادة كأنها الأبر والمقصود من تخليقها أن تمنع الطيور من التقاط تلك الحبات المتراكبة
ولما ذكر ما ينبت من الحب أتبعه بذكر ما ينبت من النوى وهو القسم الثاني فقال وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوانٌ دَانِيَة ٌ وههنا مباحث
البحث الأول أنه تعالى قدم ذكر الزرع على ذكر النخل وهذا يدل على أن الزرع أفضل من النخل وهذا البحث قد أفرد الجاحظ فيه تصنيفاً مطولاً
البحث الثاني روى الواحدي عن أبي عبيدة أنه قال أطلعت النخل إذا أخرجت طلعها وطلعها كيزانها قبل أن ينشق عن الأغريض والأغريض يسمى طلعاً أيضاً قال والطلع أول ما يرى من عذق النخلة الواحدة طلعة وأما قِنْوانٌ فقال الزجاج القنوان جمع قنو مثل صنوان وصنو وإذا ثنيت القنو قلت قنوان بكسر النون فجاء هذا الجمع على لفظ الاثنين والإعراب في النون للجمع
إذا عرفت تفسير اللفظ فنقول قوله قِنْوانٌ دَانِيَة ٌ قال ابن عباس يريد العراجين التي قد تدلت من الطلع دانية ممن يجتنيها وروى عنه أيضاً أنه قال قصار النخل اللاصقة عذوقها بالأرض قال الزجاج ولم

يقل ومنها قنوان بعيدة لأن ذكر أحد القسمين يدل على الثاني كما قال سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ ( النحل 81 ) ولم يقل سرابيل تقيكم البرد لأن ذكر أحد الضدين يدل على الثاني فكذا ههنا وقيل أيضاً ذكر الدانية في القريبة وترك البعيدة لأن النعمة في القريبة أكمل وأكثر
والبحث الثالث قال صاحب ( الكشاف ) قِنْوانٌ رفع بالابتداء وَمِنَ النَّخْلِ خبره وَمِنْ طَلْعِهَا بدل منه كأنه قيل وحاصلة من طلع النخل قنوان ويجوز أن يكون الخبر محذوفاً لدلالة أخرجنا عليه تقديره ومخرجه من طلع النخل قنوان ومن قرأ يخرج منه حُبَّ كان طَلْعِهَا قِنْوانٌ عنده معطوفاً على قوله حُبَّ وقرىء قِنْوانٌ بضم القاف وبفتحها على أنه اسم جمع كركب لأن فعلان ليس من باب التكسير
ثم قال تعالى وَجَنَّاتٍ مّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ وفيه أبحاث
البحث الأول قرأ عاصم جَنَّاتُ بضم التاء وهي قراءة علي رضي الله عنه والباقون جَنَّاتُ بكسر التاء أما القراءة الأولى فلها وجهان الأول أن يراد وثم وجنات من أعناب أي مع النخل والثاني أن يعطف على قِنْوانٌ على معنى وحاصلة أو ومخرجة من النخل قنوان وجنات من أعناب وأما القراءة بالنصب فوجهها العطف على قوله نَبَاتَ كُلّ شَى ْء والتقدير وأخرجنا به جنات من أعناب وكذلك قوله وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ ( الأنعام 141 ) قال صاحب ( الكشاف ) والأحسن أن ينتصبا على الاختصاص كقوله تعالى وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَواة َ ( النساء 162 ) لفضل هذين الصنفين
والبحث الثاني قال الفراء قوله وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ يريد شجر الزيتون وشجر الرمان كما قال وَاسْئَلِ الْقَرْيَة َ ( يوسف 82 ) يريد أهلها
البحث الثالث اعلم أنه تعالى ذكر ههنا أربعة أنواع من الأشجار النخل والعنب والزيتون والرمان وإنما قدم الزرع على الشجر لأن الزرع غذاء وثمار الأشجار فواكه والغذاء مقدم على الفاكهة وإنما قدم النخل على سائر الفواكه لأن التمر يجري مجرى الغذاء بالنسبة إلى العرب ولأن الحكماء بينوا أن بينه وبين الحيوان مشابهة في خواص كثيرة بحيث لا توجد تلك المشابهة في سائر أنواع النبات ولهذا المعنى قال عليه الصلاة والسلام ( أكرموا عمتكم النخلة فإنها خلقت من بقية طينة آدم ) وإنما ذكر العنب عقيب النخل لأن العنب أشرف أنواع الفواكه وذلك لأنه من أول ما يظهر يصير منتفعاً به إلى آخر الحال فأول ما يظهر على الشجر يظهر خيوط خضر دقيقة حامضة الطعم لذيذة المطعم وقد يمكن اتخاذ الطبائخ منه ثم بعده يظهر الحصرم وهو طعام شريف للأصحاء والمرضى وقد يتخذ الحصرم أشربة لطيفة المذاق نافعة لأصحاب الصفراء وقد يتخذ الطبيخ منه فكأنه ألذ الطبائخ الحامضة ثم إذا تم العنب فهو ألذ الفواكه وأشهاها ويمكن ادخار العنب المعلق سنة أو أقل أو أكثر وهو في الحقيقة ألذ الفواكه المدخرة ثم يبقى منه أربعة أنواع من المتناولات وهي الزبيب والدبس والخمر والخل ومنافع هذه الأربعة لا يمكن ذكرها إلى في المجلدات والخمر وإن كان الشرع قد حرمها ولكنه تعالى قال في صفتها وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ثم قال وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا فأحسن ما في العنب عجمه والأطباء يتخذون منه جوارشنات عظيمة النفع للمعدة الضعيفة الرطبة فثبت أن العنب كأنه سلطان الفواكه وأما الزيتون فهو أيضاً

كثير النفع لأنه يمكن تناوله كما هو وينفصل أيضاً عنه دهن كثير عظيم النفع في الأكل وفي سائر وجوه الاستعمال وأما الرمان فحاله عجيب جداً وذلك لأنه جسم مركب من أربعة أقسام قشره وشحمه وعجمه وماؤه
أما الأقسام الثلاثة الأول وهي القشر والشحم والعجم فكلها باردة يابسة أرضية كثيفة قابضة عفصة قوية في هذه الصفات وأما ماء الرمان فبالضد من هذه الصفات فإنه ألذ الأشربة وألطفها وأقربها إلى الاعتدال وأشدها مناسبة للطباع المعتدلة وفيه تقوية للمزاج الضعيف وهو غذاء من وجه ودواء من وجه فإذا تأملت في الرمان وجدت الأقسام الثلاثة موصوفة بالكثافة التامة الأرضية ووجدت القسم الرابع وهو ماء الرمان موصوفاً باللطافة والاعتدال فكأنه سبحانه جمع فيه بين المتضادين المتغايرين فكانت دلالة القدرة والرحمة فيه أكمل وأتم
واعلم أن أنواع النبات أكثر من أن تفي بشرحها مجلدات فلهذا السبب ذكر الله تعالى هذه الأقسام الأربعة التي هي أشرف أنواع النبات واكتفي بذكرها تنبيهاً على البواقي ولما ذكرها قال تعالى مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ وفيه مباحث الأول في تفسير مُشْتَبِهاً وجوه الأول أن هذه الفواكه قد تكون متشابهة في اللون والشكل مع أنها تكون مختلفة في الطعم واللذة وقد تكون مختلفة في اللون والشكل مع أنها تكون متشابهة في الطعم واللذة فإن الأعناب والرمان قد تكون متشابهة في الصورة واللون والشكل ثم إنها تكون مختلفة في الحلاوة والحموضة وبالعكس الثاني أن أكثر الفواكه يكون ما فيها من القشر والعجم متشابهاً في الطعم والخاصية وأما ما فيها من اللحم والرطوبة فإنه يكون مختلفاً في الطعم والثالث قال قتادة أوراق الأشجار تكون قريبة من التشابه أما ثمارها فتكون مختلفة ومنهم من يقول الأشجار متشابهة والثمار مختلفة والرابع أقول إنك قد تأخذ العنقود من العنب فترى جميع حباته مدركة نضيجة حلوة طيبة إلا حبات مخصوصة منها بقيت على أول حالها من الخضرة والحموضة والعفوصة وعلى هذا التقدير فبعض حبات ذلك العنقود متشابهة وبعضها غير متشابه
والبحث الثاني يقال اشتبه الشيآن وتشابها كقولك استويا وتساويا والافتعال والتفاعل يشتركان كثيراً وقرىء مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ
والبحث الثالث إنما قال مشتبهاً ولم يقل مشتبهين إما اكتفاء بوصف أحدهما أو على تقدير والزيتون مشتبهاً وغير متشابه والرمان كذلك كقوله رماني بأمر كنت منه ووالدي
بريا ومن أجل الطوى رماني
ثم قال تعالى انْظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ وفيه مباحث
البحث الأول قرأ حمزة والكسائي ثَمَرِهِ بضم الثاء والميم وقرأ أبو عمرو ثَمَرِهِ بضم الثاء وسكون الميم والباقون بفتح الثاء والميم أما قراءة حمزة والكسائي فلها وجهان
الوجه الأول وهو الأبين أن يكون جمع ثمرة على ثمر كما قالوا خشبة وخشب قال تعالى كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَة ٌ ( المنافقون 4 ) وكذلك أكمة وأكم ثم يخففون فيقولون أكم قال الشاعر

ترى الأكم فيها سجداً للحوافر
والوجه الثاني أن يكون جمع ثمرة على ثمار ثم جمع ثماراً على ثمر فيكون ثمر جمع الجمع وأما قراءة أبي عمرو فوجهها أن تخفيف ثمر ثمر كقولهم رسل ورسل وأما قراءة الباقين فوجهها أن الثمر جمع ثمرة مثل بقرة وبقر وشجرة وشجر وخرزة وخرز
والبحث الثاني قال الواحدي الينع النضج قال أبو عبيدة يقال ينع يينع بالفتح في الماضي والكسر في المستقبل وقال الليث ينعت الثمرة بالكسر وأينعت فهي تينع وتونع إيناعاً وينعاً بفتح الياء وينعاً بضم الياء والنعت يانع ومونع قال صاحب ( الكشاف ) وقرىء وَيَنْعِهِ بضم الياء وقرأ ابن محيصن ويانعه
والبحث الثالث قوله مُتَشَابِهٍ انْظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ أمر بالنظر في حال الثمر في أول حدوثها وقوله وَيَنْعِهِ أمر بالنظر في حالها عند تمامها وكمالها وهذا هو موضع الاستدلال والحجة التي هي تمام المقصود من هذه الآية ذلك لأن هذه الثمار والأزهار تتولد في أول حدوثها على صفات مخصوصة وعند تمامها وكمالها لا تبقى على حالاتها الأولى بل تنتقل إلى أحوال مضادة للأحوال السابقة مثل أنها كانت موصوفة بلون الخضرة فتصير ملونة بلون السواد أو بلون الحمرة وكانت موصوفة بالحموضة فتصير موصوفة بالحلاوة وربما كانت في أول الأمر باردة بحسب الطبيعة فتصير في آخر الأمر حارة بحسب الطبيعة فحصول هذه التبدلات والتغيرات لا بد له من سبب وذلك السبب ليس هو تأثير الطبائع والفصول والأنجم والأفلاك لأن نسبة هذه الأحوال بأسرها إلى جميع هذه الأجسام المتباينة متساوية متشابهة والنسب المتشابهة لا يمكن أن تكون أسباباً لحدوث الحوادث المختلفة ولما بطل إسناد حدوث هذه الحوادث إلى الطبائع والأنجم والأفلاك وجب إسنادها إلى القادر المختار الحكيم الرحيم المدبر لهذا العالم على وفق الرحمة والمصلحة والحكمة ولما نبه الله سبحانه على ما في هذا الوجه اللطيف من الدلالة قال إِنَّ فِى ذالِكُمْ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ قال القاضي المراد لمن يطلب الإيمان بالله تعالى لأنه آية لمن آمن ولمن لم يؤمن ويحتمل أن يكون وجه تخصيص المؤمنين بالذكر أنهم الذين انتفعوا به دون غيرهم كما تقدم تقريره في قوله هُدًى لّلْمُتَّقِينَ
ولقائل أن يقول بل المراد منه أن دلالة هذا الدليل على إثبات الإله القادر المختار ظاهرة قوية جلية فكأن قائلاً قال لم وقع الاختلاف بين الخلق في هذه المسألة مع وجود مثل هذه الدلالة الجلية الظاهرة القوية فأجيب عنه بأن قوة الدليل لا تفيد ولا تنفع إلا إذا قدر الله للعبد حصول الإيمان فكأنه قيل هذه الدلالة على قوتها وظهورها دلالة لمن سبق قضاء الله في حقه بالإيمان فأما من سبق قضاء الله له بالكفر لم ينتفع بهذه الدلالة البتة أصلاً فكان المقصود من هذا التخصيص التنبيه على ما ذكرناه والله أعلم

وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما ذكر هذه البراهين الخمسة من دلائل العالم الأسفل والعالم الأعلى على ثبوت الإلهية وكمال القدرة والرحمة ذكر بعد ذلك أن من الناس من أثبت لله شركاء واعلم أن هذه المسألة قد تقدم ذكرها إلا أن المذكور ههنا غير ما تقدم ذكره وذلك لأن الذين أثبتوا الشريك لله فرق وطوائف
فالطائفة الأولى عبدة الأصنام فهم يقولون الأصنام شركاء لله في العبودية ولكنهم معترفون بأن هذه الأصنام لا قدرة لها على الخلق والإيجاد والتكوين
والطائفة الثانية من المشركين الذين يقولون مدبر هذا العالم هو الكواكب وهؤلاء فريقان منهم من يقول إنها واجبة الوجود لذاتها ومنهم من يقول إنها ممكنة الوجود لذواتها محدثة وخالقها هو الله تعالى إلا أنه سبحانه فوض تدبير هذا العالم الأسفل إليها وهؤلاء هم الذين حكى الله عنهم أن الخليل ( صلى الله عليه وسلم ) ناظرهم بقوله لا أُحِبُّ الاْفِلِينَ وشرح هذا الدليل قد مضى
والطائفة الثالثة من المشركين الذين قالوا لجملة هذا العالم بما فيه من السموات والأرضين إلهان أحدهما فاعل الخير والثاني فاعل الشر والمقصود من هذه الآية حكاية مذهب هؤلاء فهذا تقرير نظم الآية والتنبيه على ما فيها من الفوائد فروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال قوله تعالى وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ نزلت في الزنادقة الذين قالوا إن الله وإبليس أخوان فالله تعالى خالق الناس والدواب والأنعام والخيرات وإبليس خالق السباع والحيات والعقارب والشرور
واعلم أن هذا القول الذي ذكره ابن عباس أحسن الوجوه المذكورة في هذه الآية وذلك لأن بهذا الوجه يحصل لهذه الآية مزيد فائدة مغايرة لما سبق ذكره في الآيات المتقدمة قال ابن عباس والذي يقوي هذا الوجه قوله تعالى وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّة ِ نَسَباً ( الصافات 158 ) وإنما وصف بكونه من الجن لأن لفظ الجن مشتق من الاستتار والملائكة والروحانيون لا يرون بالعيون فصارت كأنها مستترة من العيون فبهذا التأويل أطلق لفظ الجن عليها وأقول هذا مذهب المجوس وإنما قال ابن عباس هذا قول الزنادقة لأن المجوس يلقبون بالزنادقة لأن الكتاب الذي زعم زرادشت أنه نزل عليه من عند الله مسمى بالزند والمنسوب إليه يسمى زندي ثم عرب فقيل زنديق ثم جمع فقيل زنادقة

واعلم أن المجوس قالوا كل ما في هذا العالم من الخيرات فهو من يزدان وجميع ما فيه من الشرور فهو من أهرمن وهو المسمى بإبليس في شرعنا ثم اختلفوا فالأكثرون منهم على أن أهرمن محدث ولهم في كيفية حدوثه أقوال عجيبة والأقلون منهم قالوا إنه قديم أزلي وعلى القولين فقد اتفقوا على أنه شريك لله في تدبير هذا العالم فخيرات هذا العالم من الله تعالى وشروره من إبليس فهذا شرح ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما
فإن قيل فعلى هذا التقدير القوم أثبتوا لله شريكاً واحداً وهو إبليس فكيف حكى الله عنهم أنهم أثبتوا لله شركاء
والجواب أنهم يقولون عسكر الله هم الملائكة وعسكر إبليس هم الشياطين والملائكة فيهم كثرة عظيمة وهم أرواح طاهرة مقدسة وهم يلهمون تلك الأرواح البشرية بالخيرات والطاعات والشياطين أيضاً فيهم كثرة عظيمة وهي تلقي الوساوس الخبيثة إلى الأرواح البشرية والله مع عسكره من الملائكة يحاربون إبليس مع عسكره من الشياطين فلهذا السبب حكى الله تعالى عنهم أنهم أثبتوا لله شركاء من الجن فهذا تفصيل هذا القول
إذا عرفت هذا فنقول قوله وَخَلَقَهُمْ إشارة إلى الدليل القاطع الدال على فساد كون إبليس شريكاً لله تعالى في ملكه وتقريره من وجهين الأول أنا نقلنا عن المجوس أن الأكثرين منهم معترفون بأن إبليس ليس بقديم بل هو محدث
إذا ثبت هذا فنقول إن كل محدث فله خالق وموجد وما ذاك إلا الله سبحانه وتعالى فهؤلاء المجوس يلزمهم القطع بأن خالق إبليس هو الله تعالى ولما كان إبليس أصلاً لجميع الشرور والآفات والمفاسد والقبائح والمجوس سلموا أن خالقه هو الله تعالى فحينئذ قد سلموا أن إله العالم هو الخالق لما هو أصل الشرور والقبائح والمفاسد وإذا كان كذلك امتنع عليهم أن يقولوا لا بد من إلهين يكون أحدهما فاعلاً للخيرات والثاني يكون فاعلاً للشرور لأن بهذا الطريق ثبت أن إله الخير هو بعينه الخالق لهذا الذي هو الشر الأعظم فقوله تعالى وَخَلَقَهُمْ إشارة إلى أن تعالى هو الخالق لهؤلاء الشياطين على مذهب المجوس وإذا كان خالقاً لهم فقد اعترفوا بكون إله الخير فاعلاً لأعظم الشرور وإذا اعترفوا بذلك وسقط قولهم لا بد للخيرات من إله وللشرور من إله آخر
والوجه الثاني في استنباط الحجة من قوله وَخَلَقَهُمْ ما بينا في هذا الكتاب وفي كتاب ( الأربعين في أصول الدين ) أن ما سوى الواحد ممكن لذاته وكل ممكن لذاته فهو محدث ينتج أن ما سوى الواحد الأحد الحق فهو محدث فيلزم القطع بأن إبليس وجميع جنوده يكونون موصوفين بالحدوث وحصول الوجود بعدم العدم وحينئذ يعود الإلزام المذكور على ما قررناه فهذا تقرير المقصود الأصلي من هذه الآية وبالله التوفيق
المسألة الثانية قوله تعالى وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ معناه وجعلوا الجن شركاء لله
فإن قيل فما الفائدة في التقديم

قلنا قال سيبويه إنهم يقدمون الأهم الذي هم بشأنه أعنى فالفائدة في هذا التقديم استعظام أن يتخذ لله شريك سواء كان ملكاً أو جنياً أو إنسياً أو غير ذلك فهذا هو السبب في تقديم اسم الله على الشركاء
إذا عرفت هذا فنقول قرىء الْجِنَّ بالنصب والرفع والجر أما وجه النصب فالمشهور أنه بدل من قوله شُرَكَاء قال بعض المحققين هذا ضعيف لأن البدل ما يقوم مقام المبدل فلو قيل وجعلوا لله الجن لم يكن كلاماً مفهوماً بل الأولى جعله عطف بيان أما وجه القراءة بالرفع فهو أنه لما قيل وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء فهذا الكلام لو وقع الاقتصار عليه لصح أن يراد به الجن والأنس والحجر والوثن فكأنه قيل ومن أولئك الشركاء فقيل الجن وأما وجه القراءة بالجر فعلى الإضافة التي هي للتبيين
المسألة الثالثة اختلفوا في تفسير هذه الشركة على ثلاثة أوجه فالأول ما ذكرناه من أن المراد منه حكاية قول من يثبت للعالم إلهين أحدهما فاعل الخير والثاني فاعل الشر
والقول الثاني أن الكفار كانوا يقولون الملائكة بنات الله وهؤلاء يقولون المراد من الجن الملائكة وإنما حسن إطلاق هذا الاسم عليهم لأن لفظ الجن مشتق من الاستتار والملائكة مستترون عن الأعين وكان يجب على هذا القائل أن يبين أنه كيف يلزم من قولهم الملائكة بنات الله قولهم بجعل الملائكة شركاء لله حتى يتم انطباق لفظ الآية على هذا المعنى ولعله يقال إن هؤلاء كانوا يقولون الملائكة مع أنها بنات الله فهي مدبرة لأحوال هذا العالم وحينئذ يحصل الشرك
والقول الثالث وهو قول الحسن وطائفة من المفسرين أن المراد أن الجن دعوا الكفار إلى عبادة الأصنام وإلى القول بالشرك فقبلوا من الجن هذا القول وأطاعوهم فصاروا من هذا الوجه قائلين يكون الجن شركاء لله تعالى وأقول الحق هو القول الأول والقولان الأخيران ضعيفان جداً أما تفسير هذا الشرك بقول العرب الملائكة بنات الله فهذا باطل من وجوه
الوجه الأول أن هذا المذهب قد حكاه الله تعالى بقوله وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ ( الأنعام 100 ) فالقول بإثبات البنات لله ليس إلا قول من يقول الملائكة بنات الله فلو فسرنا قوله وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ بهذا المعنى يلزم منه التكرار في الموضع الواحد من غير فائدة وأنه لا يجوز
الوجه الثاني في إبطال هذا التفسير أن العرب قالوا الملائكة بنات الله وإثبات الولد لله غير وإثبات الشريك له غير والدليل على الفرق بين الأمرين أنه تعالى ميز بينهما في قوله لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ ( الإخلاص 3 4 ) ولو كان أحدهما عين الآخر لكان هذا التفصيل في هذه السورة عبثاً
الوجه الثالث أن القائلين بيزدان وأهرمن يصرحون بإثبات شريك لإله العالم في تدبير هذا العالم فصرف اللفظ عنه وحمله على إثبات البنات صرف للفظ عن حقيقته إلى مجازه من غير ضرورة وأنه لا يجوز
وأما القول الثاني وهو قول من يقول المراد من هذه الشركة أن الكفار قبلوا قول الجن في عبادة الأصنام فهذا في غاية البعد لأن الداعي إلى القول بالشرك لا يجوز تسميته بكونه شريكاً لله لا بحسب حقيقة اللفظ ولا بحسب مجازه وأيضاً فلو حملنا هذه الآية على هذا المعنى لزم وقوع التكرير من غير فائدة لأن

الرد على عبدة الأصنام وعلى عبدة الكواكب قد سبق على سبيل الاستقصاء فثبت سقوط هذين القولين وظهر أن الحق هو القول الذي نصرناه وقويناه
وأما قوله تعالى وَخَلَقَهُمْ ففيه بحثان
البحث الأول اختلفوا في أن الضمير في قوله خَلْقَهُمْ إلى ماذا يعود على قولين
فالقول الأول إنه عاد إلى الْجِنَّ والمعنى أنهم قالوا الجن شركاء الله ثم إن هؤلاء القوم اعترفوا بأن إهرمن محدث ثم إن في المجوس من يقول إنه تعالى تفكر في مملكة نفسه واستعظمها فحصل نوع من العجب فتولد الشيطان عن ذلك العجب ومنهم من يقول شك في قدرة نفسه فتولد من شكه الشيطان فهؤلاء معترفون بأن إهرمن محدث وأن محدثه هو الله تعالى فقوله تعالى وَخَلَقَهُمْ إشارة إلى هذا المعنى ومتى ثبت أن هذا الشيطان مخلوق لله تعالى امتنع جعله شريكاً لله في تدبير العالم لأن الخالق أقوى وأكمل من المخلوق وجعل الضعيف الناقص شريكاً للقوي الكامل محال في العقول
والقول الثاني أن الضمير عائد إلى الجاعلين وهم الذين أثبتوا الشركة بين الله تعالى وبين الجن وهذا القول عندي ضعيف لوجهين أحدهما أنا إذا حملناه على ما ذكرناه صار ذلك اللفظ الواحد دليلاً قاطعاً تاماً كاملاً في إبطال ذلك المذهب وإذا حملناه على هذا الوجه لم يظهر منه فائدة وثانيهما أن عود الضمير إلى أقرب المذكورات واجب وأقرب المذكورات في هذه الآية هو الجن فوجب أن يكون الضمير عائداً إليه
البحث الثاني قال صاحب ( الكشاف ) قرىء وَخَلَقَهُمْ أي اختلاقهم للأفك يعني وجعلوا الله خلقهم حيث نسبوا ذبائحهم إلى الله في قولهم وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا
ثم قال وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ وفيه مباحث
البحث الأول أقول إنه تعالى حكى عن قوم أنهم أثبتوا إبليس شريكاً لله تعالى ثم بعد ذلك حكى عن أقوام آخرين أنهم أثبتوا لله بنين وبنات أما الذين أثبتوا البنين فهم النصارى وقوم من اليهود وأما الذين أثبتوا البنات فهم العرب الذين يقولون الملائكة بنات الله وقوله بِغَيْرِ عِلْمٍ كالتنبيه على ما هو الدليل القاطع في فساد هذا القول وفيه وجوه
الحجة الأولى أن الإله يجب أن يكون واجب الوجود لذاته فولده إما أن يكون واجب الوجود لذاته أو لا يكون فإن كان واجب الوجود لذاته كان مستقلاً بنفسه قائماً بذاته لا تعلق له في وجوده بالآخر ومن كان كذلك لم يكن والد له البتة لأن الولد مشعر بالفرعية والحاجة وأما إن كان ذلك الولد ممكن الوجود لذاته فحينئذ يكون وجوده بإيجاد واجب الوجود لذاته ومن كان كذلك فيكون عبداً له ولا ولداً له فثبت أن من عرف أن الإله ما هو امتنع منه أن يثبت له البنات والبنين
الحجة الثانية أن الولد يحتاج إليه أن يقوم مقامه بعد فنائه وهذا إنما يعقل في حق من يفنى أما من تقدس عن ذلك لم يعقل الولد في حقه
الحجة الثالثة أن الولد مشعر بكونه متولداً عن جزء من أجزاء الوالد وذلك إنما يعقل في حق من

يكون مركباً ويمكن انفصال بعض أجزائه عنه وذلك في حق الواحد الفرد الواجب لذاته محال فحاصل الكلام أن من علم أن الإله ما حقيقته استحال أن يقول له ولد فكان قوله وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ إشارة إلى هذه الدقيقة
البحث الثاني قرأ نافع وَخَرَقُواْ مشددة الراء والباقون خرقوا خفيفة الراء قال الواحدي الاختيار التخفيف لأنها أكثر والتشديد للمبالغة والتكثير
البحث الثالث قال الفراء معنى خرقوا افتعلوا وافتروا قال وخرقوا واخترقوا وخلقوا واختلقوا وافتروا واحد وقال الليث يقال تخرق الكذب وتخلقه وحكى صاحب ( الكشاف ) أنه سئل الحسن عن هذه الكلمة فقال كلمة عربية كانت تقولها كان الرجل إذا كذب كذبة في نادي القوم يقول له بعضهم قد خرقها والله أعلم ثم قال ويجوز أن يكون من خرق الثوب إذا شقه أي شقوا له بنين وبنات
ثم إنه تعالى ختم الآية فقال عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ فقوله سبحانه تنزيه لله عن كل ما لا يليق به وأما قوله وَتَعَالَى فلا شك أنه لا يفيد العلو في المكان لأن المقصود ههنا تنزيه الله تعالى عن هذه الأقوال الفاسدة والعلو في المكان لا يفيد هذا المعنى فثبت أن المراد ههنا التعالي عن كل اعتقاد باطل وقول فاسد
فإن قالوا فعلى هذا التقدير لا يبقى بين قوله ( سبحانه ) وبين قوله ( وتعالى ) فرق
قلنا بل يبقى بينهما فرق ظاهر فإن المراد بقوله سبحانه أن هذا القائل يسبحه وينزهه عما لا يليق به والمراد بقوله وَتَعَالَى كونه في ذاته متعالياً متقدساً عن هذه الصفات سواء سبحه مسبح أو لم يسبحه فالتسبيح يرجع إلى أقوال المسبحين والتعالي يرجع إلى صفته الذاتية التي حصلت له لذاته لا لغيره
بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ والأرض أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَة ٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَى ْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَى ْءٍ عَلِيمٌ
اعلم أنه تعالى لما بين فساد قول طوائف أهل الدنيا من المشركين شرع في إقامة الدلائل على فساد قول من يثبت له الولد فقال بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ
واعلم أن تفسير قوله بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ قد تقدم في سورة البقرة إلا أنا نشير ههنا إلى ما هو المقصود الأصلي من هذه الآية فنقول الإبداع عبارة عن تكوين الشيء من غير سبق مثال ولذلك فإن من أتى في فن من الفنون بطريقة لم يسبقه غيره فيها يقال إنه أبدع فيه

إذا عرفت هذا فنقول إن الله تعالى سلم للنصارى أن عيسى حدث من غير أب ولا نطفة بل أنه إنما حدث ودخل في الوجود لأن الله تعالى أخرجه إلى الوجود من غير سبق الأب
إذا عرفت هذا فنقول المقصود من الآية أن يقال إنكم إما أن تريدوا بكونه والداً لله تعالى أنه أحدثه على سبيل الإبداع من غير تقدم نطفة ووالد وإما أن تريدوا بكونه ولد الله تعالى كما هو المألوف المعهود من كون الإنسان ولداً لأبيه وإما أن تريدوا بكونه ولداً لله مفهوماً ثالثاً مغايراً لهذين المفهومين
أما الاحتمال الأول فباطل وذلك لأنه تعالى وإن كان يحدث الحوادث في مثل هذا العالم الأسفل بناء على أسباب معلومة ووسايط مخصوصة إلا أن النصارى يسلمون أن العالم الأسفل محدث وإذا كان الأمر كذلك لزمهم الاعتراف بأنه تعالى خلق السموات والأرض من غير سابقة مادة ولا مدة وإذا كان الأمر كذلك وجب أن يكون إحداثه للسموات والأرض إبداعاً فلو لزم من مجرد كونه مبدعاً لإحداث عيسى عليه السلام كونه والداً له لزم من كونه مبدعاً للسموات والأرض كونه والداً لهما ومعلوم أن ذلك باطل بالاتفاق فثبت أن مجرد كونه مبدعاً لعيسى عليه السلام لا يقتضي كونه والداً له فهذا هو المراد من قوله بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وإنما ذكر السموات والأرض فقط ولم يذكر ما فيهما لأن حدوث ما في السموات والأرض ليس على سبيل الإبداع أما حدوث ذات السموات والأرض فقد كان على سبيل الإبداع فكان المقصود من الإلزام حاصلاً بذكر السموات والأرض لا بذكر ما في السموات والأرض فهذا إبطال الوجه الأول
وأما الاحتمال الثاني وهو أن يكون مراد القوم من الولادة هو الأمر المعتاد المعروف من الولادة في الحيوانات فهذا أيضاً باطل ويدل عليه وجوه
الوجه الأول أن تلك الولادة لا تصح إلا ممن كانت له صاحبة وشهوة وينفصل عنه جزء ويحتبس ذلك الجزء في باطن تلك الصاحبة وهذه الأحوال إنما تثبت في حق الجسم الذي يصح عليه الاجتماع والافتراق والحركة والسكون والحد والنهاية والشهوة واللذة وكل ذلك على خالق العالم محال وهذا هو المراد من قوله أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة
والوجه الثاني أن تحصيل الولد بهذا الطريق إنما يصح في حق من لا يكون قادراً على الخلق والإيجاد والتكوين دفعة واحدة فلما أراد الولد وعجز عن تكوينه دفعة واحدة عدل إلى تحصيله بالطريق المعتاد أما من كان خالقاً لكل الممكنات قادراً على كل المحدثات فإذا أراد إحداث شيء قال له كن فيكون ومن كان هذا الذي ذكرنا صفته ونعته امتنع منه إحداث شخص بطريق الولادة وهذا هو المراد من قوله وَخَلَقَ كُلَّ شَى ْء
والوجه الثالث وهو أن هذا الولد إما أن يكون قديماً أو محدثاً لا جائز أن يكون قديماً لأن القديم يجب كونه واجب الوجود لذاته وما كان واجب الوجود لذاته كان غنياً عن غيره فامتنع كونه ولداً لغيره فبقي أنه لو كان ولداً لوجب كونه حادثاً فنقول إنه تعالى عالم بجميع المعلومات فإما أن يعلم أن له في تحصيل الولد كمالاً ونفعاً أو يعلم أنه ليس الأمر كذلك فإن كان الأول فلا وقت يفرض أن الله تعالى خلق هذا الولد

فيه إلا والداعي إلى إيجاد هذا الولد كان حاصلاً قبل ذلك ومتى كان الداعي إلى إيجاده حاصلاً قبله وجب حصول الولد قبل ذلك وهذا يوجب كون ذلك الولد أزلياً وهو محال وإن كان الثاني فقد ثبت أنه تعالى عالم بأنه ليس له في تحصيل الولد كمال حال ولا ازدياد مرتبة في الإلهية وإذا كان الأمر كذلك وجب أن لا يحدثه البتة في وقت من الأوقات وهذا هو المراد من قوله وَهُوَ بِكُلّ شَى ْء عَلِيمٌ وفيه وجه آخر وهو أن يقال الولد المعتاد إنما يحدث بقضاء الشهوة وقضاء الشهوة يوجب اللذة واللذة مطلوبة لذاتها فلو صحت اللذة على الله تعالى مع أنها مطلوبة لذاتها وجب أن يقال إنه لا وقت إلا وعلم الله بتحصيل تلك اللذة يدعوه إلى تحصيلها قبل ذلك الوقت لأنه تعالى لما كان عالماً بكل المعلومات وجب أن يكون هذا المعنى معلوماً وإذا كان الأمر كذلك وجب أن يحصل تلك اللذة في الأزل فلزم كون الولد أزلياً وقد بينا أنه محال فثبت أن كونه تعالى عالماً بكل المعلومات مع كونه تعالى أزلياً يمنع من صحة الولد عليه وهذا هو المراد من قوله وَهُوَ بِكُلّ شَى ْء عَلِيمٌ فثبت بما ذكرنا أنه لا يمكن إثبات الولد لله تعالى بناء على هذين الاحتمالين المعلومين فأما إثبات الولد لله تعالى بناء على احتمال ثالث فذلك باطل لأنه غير متصور ولا مفهوم عند العقل فكان القول بإثبات الولادة بناء على ذلك الاحتمال الذي هو غير متصور خوضاً في محض الجهالة وأنه باطل فهذا هو المقصود من هذه الآية ولو أن الأولين والآخرين اجتمعوا على أن يذكروا في هذه المسألة كلاماً يساويه في القوة والكمال لعجزوا عنه فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله
ذالِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إله إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَى ْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ وَكِيلٌ
اعلم أنه تعالى لما أقام الحجة على وجود الإله القادر المختار الحكيم الرحيم وبين فساد قول من ذهب إلى الإشراك بالله وفصل مذاهبهم على أحسن الوجوه وبين فساد كل واحد منها بالدلائل اللائقة به ثم حكى مذهب من أثبت لله البنين والبنات وبين بالدلائل القاطعة فساد القول بها فعند هذا ثبت أن إله العالم فرد واحد صمد منزه عن الشريك والنظير والضد والند ومنزه عن الأولاد والبنين والبنات فعند هذا صرح بالنتيجة فقال ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل ما سواه فاعبدوه ولا تعبدوا غيره أحداً فإنه هو المصلح لمهمات جميع العباد وهو الذي يسمع دعاءهم ويرى ذلهم وخضوعهم ويعلم حاجتهم وهو الوكيل لكل أحد على حصول مهماته ومن تأمل في هذا النظم والترتيب في تقرير الدعوة إلى التوحيد والتنزيه وإظهار فساد الشرك علم أنه لا طريق أوضح ولا أصلح منه وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) ( ذلكم ) إشارة إلى الموصوف بما تقدم من الصفات وهو مبتدأ وما بعده أخبار مترادفة وهي اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إله إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلّ شَى ْء أي ذلك الجامع لهذه الصفات

فاعبدوه على معنى أن من حصلت له هذه الصفات كان هو الحقيق بالعبادة فاعبدوه ولا تعبدوا أحداً سواء
المسألة الثانية اعلم أنه تعالى بين في هذه السورة بالدلائل الكثيرة افتقار الخلق إلى خالق وموجد ومحدث ومبدع ومدبر ولم يذكر دليلاً منفصلاً يدل على نفي الشركاء والأضداد والأنداد ثم إنه اتبع الدلائل الدالة على وجود الصانع بأن نقل قول من أثبت لله شريكاً فهذا القدر يكون أوجب الجزم بالتشريك من الجن ثم أبطله ثم إنه تعالى بعد ذلك أتى بالتوحيد المحض حيث قال ذالِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إله إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلّ شَى ْء فَاعْبُدُوهُ وعند هذا يتوجه السؤال وهو أن حاصل ما تقدم إقامة الدليل على وجود الخالق وتزييف دليل من أثبت لله شريكاً فهذا القدر كيف أوجب الجزم بالتوحيد المحض فنقول للعلماء في إثبات التوحيد طرق كثيرة ومن جملتها هذه الطريقة وتقريرها من وجوه الأول قال المتقدمون الصانع الواحد كاف وما زاد على الواحد فالقول فيه متكافىء فوجب القول بالتوحيد أما قولنا الصانع الواحد كاف فلأن الإله القادر على كل المقدورات العالم بكل المعلومات كاف في كونه إلهاً للعالم ومدبراً له وأما أن الزائد على الواحد فالقول فيه متكافىء فلأن الزائد على الواحد لم يدل الدليل على ثبوته فلم يكن إثبات عدد أولى من إثبات عدد آخر فيلزم إما إثبات آلهة لا نهاية لها وهو محال أو إثبات عدد معين مع أنه ليس ذلك العدد أولى من سائر الأعداد وهو أيضاً محال وإذا كان القسمان باطلين لم يبق إلا القول بالتوحيد
الوجه الثاني في تقرير هذه الطريقة أن الإله القادر على كل الممكنات العالم بكل المعلومات كاف في تدبير العالم فلو قدرنا إلهاً ثانياً لكان ذلك الثاني إما أن يكون فاعلاً وموجوداً لشيء من حوادث هذا العالم أو لا يكون والأول باطل لأنه لما كان كل واحد منهما قادراً على جميع الممكنات فكل فعل يفعله أحدهما صار كونه فاعلاً لذلك الفعل مانعاً للآخر عن تحصيل مقدوره وذلك يوجب كون كل واحد منهما سبباً لعجز الآخر وهو محال وإن كان الثاني لا يفعل فعلاً ولا يوجد شيئاً كان ناقصاً معطلاً وذلك لا يصلح للإلهية
والوجه الثالث في تقرير هذه الطريقة أن نقول إن هذا الإله الواحد لا بد وأن يكون كاملاً في صفات الإلهية فلو فرضنا إلهاً ثانياً لكان ذلك الثاني إما أن يكون مشاركاً للأول في جميع صفات الكمال أو لا يكون فإن كان مشاركاً للأول في جميع صفات الكمال فلا بد وأن يكون متميزاً عن الأول بأمر ما إذ لو لم يحصل الامتياز بأمر من الأمور لم يحصل التعدد والإثنينية وإذا حصل الامتياز بأمر ما فذلك الأمر المميز إما أن يكون من صفات الكمال أو لا يكون فإن كان من صفات الكمال مع أنه حصل الامتياز به لم يكن جميع صفات الكمال مشتركاً فيه بينهما وإن لم يكن ذلك المميز من صفات الكمال فالموصوف به يكون موصوفاً بصفة ليست من صفات الكمال وذلك نفصان فثبت بهذه الوجوه الثلاثة أن الإله الواحد كاف في تدبير العالم والإيجاد وأن الزائد يجب نفيه فهذه الطريقة هي التي ذكرها الله تعالى ههنا في تقرير التوحيد وأما التمسك بدليل التمانع فقد ذكرناه في سورة البقرة
المسألة الثالثة تمسك أصحابنا بقوله خَالِقُ كُلّ شَى ْء على أنه تعالى هو الخالق لأعمال العباد قالوا أعمال العباد أشياء والله تعالى خالق كل شيء بحكم هذه الآية فوجب كونه تعالى خالقاً لها واعلم أنا

التالي ان شاء الله ج13.وج14.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب الإبانة عن أصول الديانة علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري أبو الحسن

  كتاب الإبانة عن أصول الديانة علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري أبو الحسن بسم الله الرحمن الرحيم وهو حسبي ونعم الوكيل وصلى الله على...