الثلاثاء، 4 أكتوبر 2022

ج3.وج4. مفاتيح الغيب للفخر الرازي{تفسير}

 

 

ج3.مفاتيح الغيب ـ ترقيم الشاملة موافق للمطبوع
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي الشافعي

فيطؤها نهاراً في رمضان ( يه ) جاء رجل إلى الحجاج فقال سرقت لي أربعة آلاف درهم فقال الحجاج من تتهم فقال لا أتهم أحداً قال لعلك أتيت من قبل أهلك قال سبحان الله امرأتي خير من ذلك قال الحجاج لعطاره إعمل لي طيباً ذكياً ليس له نظير فعمل له الطيب ثم دعا الشيخ فقال ادهن من هذه القارورة ولا تدهن منها غيرك ثم قال الحجاج لحرسه اقعدوا على أبواب المساجد وأراهم الطيب وقال من وجد منه ريح هذا الطيب فخذوه فإذا رجل له وفرة فأخذوه فقال الحجاج من أين لك هذا الذهن قال اشتريته قال أصدقني وإلا قتلتك فصدقه فدعا الشيخ وقال هذا صاحب الأربعة آلاف عليك بامرأتك فأحسن أدبها ثم أخذ الأربعة آلاف من الرجل وردها إلى صاحبها ( يو ) قال الرشيد يوماً لأبي يوسف عند جعفر بن عيسى جارية هي أحب الناس إليّ وقد عرف ذلك وقد حلف أن لا يبيع ولا يهب ولا يعتق وهو الآن يطلب حل يمينه فقال يهب النصف ويبيع النصف ولايحنث ( يز ) قال محمد بن الحسن كنت نائماً ذات ليلة فإذا أنا بالباب يدق ويقرع فقلت انظروا من ذاك فقالوا رسول الخليفة يدعوك فخفت على روحي فقمت ومضيت إليه فلما دخلت عليه قال دعوتك في مسألة إن أم محمد يعني زبيدة قلت لها أنا الإمام العدل والإمام العدل في الجنة فقالت لي إنك ظالم عاصٍ فقد شهدت لنفسك بالجنة فكفرت بكذبك على الله وحرمت عليك فقلت له يا أمير المؤمنين إذاوقعت في معصية هل تخاف الله في تلك الحالة أو بعدها فقال إي والله أخاف خوفاً شديداً فقلت أنا أشهد أن لك جنتين لا جنة واحدة قال تعالى وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ ( الرحمن 46 ) فلاطفني وأمرني بالانصراف فلما رجعت إلى داري رأيت البدر متبادرة إلي ( يح ) يحكى أن أبا يوسف أتاه ذات ليلة رسول الرشيد يستعجله فخاف أبو يوسف على نفسه فلبس إزاره ومشى خائفاً إلى دار الخليفة فلما دخل عليه سلم فرد عليه الجواب وأدناه فعند ذلك هدأ روعه قال الرشيد إن حلياً لنا فقد من الدار فاتهمت فيه جارية من جواري الدار الخاصة فحلفت لتصدقيني أولأقتلنك وقد ندمت فاطلب لي وجهاً فقال أبو يوسف فأذن لي في الدخول عليها فأذن له فرأى جارية كأنها فلقة قمر فأخلى المجلس ثم قال لها أمعك الحلى فقالت لا والله فقال لها احفظي ما أقول لك ولا تزيدي عليه ولا تنقصي عنه إذا دعاك الخليفة وقال لك أسرقت الحلى فقولي نعم فإذا قال لك فهاتها فقولي ما سرقتها ثم خرج أبو يوسف إلى مجلس الرشيد وأمر بإحضار الجارية فحضرت فقال للخليفة سلها عن الحلى فقال لها الخليفة أسرقت الحلى قالت نعم قال لها فهاتها قالت لم أسرقها والله قال أبو يوسف قد صدقت يا أمير المؤمنين في الإقرار أو الإنكار وخرجت مناليمين فسكن غضب الرشيد وأمر أن يحمل إلى دار أبي يوسف مائة ألف درهم فقالوا إن الخزان غيب فلو أخرنا ذلك إلى الغد فقال إن القاضي أعتقنا الليلة فلا نؤخر صلته إلى الغد فأمر حتى حمل عشر بدر مع أبي يوسف إلى منزله ( يط ) قال بشر المريسي للشافعي كيف تدعي انعقاد الإجماع مع أن أهل المشرق والمغرب لا يمكن معرفة وجود إجماعهم على الشيء الواحد وكانت هذه المناظرة عند الرشيد فقال الشافعي هل تعرف إجماع الناس على خلافة هذا الجالس فأقر به خوفاً وانقطع ( ك ) أعرابي قصد الحسين بن علي رضي الله عنهما فسلم عليه وسأله حاجة وقال سمعت جدك يقول إذا سألتم حاجة فاسألوها من أحد أربعة إما عربي شريف أو مولى كريم أو حامل القرآن

أو صاحب وجه صبيح فأما العرب فشرفت بجدك وأما الكرم فدأبكم وسيرتكم وأما القرآن ففي بيوتكم نزل وأما الوجه الصبيح فإني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول إذا أردتم أن تنظروا إليّ فانظروا إلى الحسن والحسين فقال الحسين ما حاجتك فكتبها على الأرض فقال الحسين سمعت أبي علياً يقول قيمة كل امرىء ما يحسنه وسمعت جدي يقول المعروف بقدر المعرفة فأسألك عن ثلاث مسائل إن أحسنت في جواب واحدة فلك ثلث ما عندي وإن أجبت عن اثنتين فلك ثلثا ما عندي وإن أجبت عن الثلاث فلك كل ما عندي وقد حمل إليّ صرة مختومة من العراق فقال سل ولا حول ولا قوة إلا بالله فقال أي الأعمال أفضل قال الأعرابي الإيمان بالله قال فما نجاة العبد من الهلكة قال الثقة بالله قال فما يزين المرء قال علم معه حلم قال فإن أخطأه ذلك قال فمال معه كرم قال فإن أخطأه ذلك قال ففقر معه صبر قال فإن أخطأه ذلك قال فصاعقة تنزل من السماء فتحرقه فضحك الحسين ورمى بالصرة إليه
أما الشواهد العقلية في فضيلة العلم فنقول اعلم أن كون العلم صفة شرف وكمال وكون الجهل صفة نقصان أمر معلوم للعقلاء بالضرورة ولذلك لو قيل للرجل العالم يا جاهل فأنه يتأذى بذلك وإن كان يعلم كذب ذلك ولو قيل للرجل الجاهل يا عالم فإنه يفرح بذلك وإن كان يعلم أنه ليس كذلك وكل ذلك دليل على أن العلم شريف لذاته ومحبوب لذاته والجهل نقصان لذاته وأيضاً فالعلم أينما وجد كان صاحبه محترماً معظماً حتى أن الحيوان إذا رأى الإنسان احتشمه بعض الاحتشام وانزجر به بعض الانزجار وإن كان ذلك الحيوان أقوى بكثير من الإنسان وكذلك جماعة الرعاة إذا رأوا من جنسهم من كان أوفر عقلاً منهم وأغزر فضلاً فيما هم فيه وبصدده انقادوا له طوعاً فالعلماء إذا لم يعاندوا كانوا رؤساء بالطبع على من كان دونهم في العلم ولذلك فإن كثيراً ممن كانوا يعاندون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فصدوه ليقتلوه فما كان إلا أن وقع بصرهم عليه فألقى الله في قلوبهم منه روعة وهيبة فهابوه وانقادوا له ( صلى الله عليه وسلم ) ولهذا قال الشاعر فلو لم تكن فيه آيات مبينة
كانت بداهتة تنبيك عن خبر
وأيضاً فلا شك أن الإنسان أفضل من سائر الحيوانات وليست تلك الفضيلة لقوته وصولته فإن كثيراً من الحيوانات يساويه فيها أو يزيد عليه فأذن تلك الفضيلة ليست إلا لاختصاصه بالمزية النورانية واللطيفة الربانية التي لأجلها صار مستعداً لإدراك حقائق الأشياء والاطلاع عليها والاشتغال بعبادة الله على ما قال وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( ) وأيضاً الجاهل كأنه في ظلمة شديدة لا يرى شيئاً البتة والعالم كأنه يطير في أقطار الملكوت ويسبح في بحار المعقولات فيطالع الموجود والمعدوم والواجب والممكن والمحال ثم يعرف انقسام الممكن إلى الجوهر والعرض والجوهر إلى البسيط والمركب ويبالغ في تقسيم كل منها إلى أنواعها وأنواع أنواعها وأجزائها وأجزاء أجزائها والجزء الذي به يشارك غيره والجزء الذي به يمتاز عن غيره ويعرف أثر كل شيء ومؤثره ومعلوله وعلته ولازمه وملزومه وكليه وجزئيه وواحده وكثيره حتى يصير عقله كالنسخة التي أثبت فيها جميع المعلومات بتفاصيلها وأقسامها فأي سعادة فوق هذه الدرجة ثم إنه بعد صيرورته كذلك تصير النفوس الجاهلة عالمة فتصير تلك النفس كالشمس في عالم الأرواح وسبباً للحياة الأبدية لسائر النفوس فإنها كانت كاملة ثم صارت مكملة وتصير واسطة بين الله وبين عباده ولهذا قال تعالى يُنَزّلُ الْمَلَائِكَة َ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ( النحل 2 ) والمفسرون فسروا هذا الروح بالعلم والقرآن وكما أن البدن بلا

روح ميت فاسد فكذا الروح بلا علم ميت ونظيره قوله تعالى وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا ( الشورى 52 ) فالعلم روح الروح ونور النور ولب اللب ومن خواص هذه السعادة أنها تكون باقية آمنة عن الفناء والتغير فإن التصورات الكلية لا يتطرق إليها الزوال والتغير وإذا كانت هذه السعادة في نهاية الجلالة في ذاتها ثم إنها باقية أبد الآبدين ودهر الداهرين كانت لا محالة أكمل السعادات وأيضاً فالأنبياء صلوات الله عليهم ما بعثوا إلا للدعوة إلى الحق قال تعالى ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَة ِ ( النحل 125 ) إلى آخره وقال قُلْ هَاذِهِ سَبِيلِى ادْعُواْ إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَة ٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِى ث ( يوسف 108 ) م خذ من أول الأمر فإنه سبحانه لما قال إِنّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَة ً ( البقرة 30 ) قالت الملائكة أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا قال سبحانه إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ فأجابهم سبحانه بكونه عالماً فلم يجعل سائر صفات الجلال من القدرة والإرادة والسمع والبصر والوجود والقدم والاستغناء عن المكان والجهة جواباً لهم وموجباً لسكوتهم وإنما جعل صفة العلم جواباً لهم وذلك يدل على أن صفات الجلال والكمال وإن كانت بأسرها في نهاية الشرف إلا أن صفة العلم أشرف من غيرها ثم إنه سبحانه إنما أظهر فضل آدم عليه السلام بالعلم وذلك يدل أيضاً على أن العلم أشرف من غيره ثم إنه سبحانه لما أظهر علمه جعله مسجود الملائكة وخليفة العالم السفلى وذلك يدل على أن تلك المنقبة إنما استحقها آدم عليه السلام بالعلم ثم إن الملائكة افتخرت بالتسبيح والتقديس والافتخار بهما إنما يحصل لو كانا مقرونين بالعلم فإنهما إن حصلا بدون العلم كان ذلك نفاقاً والنفاق أخس المراتب قال تعالى إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِى الدَّرْكِ الاْسْفَلِ مِنَ النَّارِ ( النساء 145 ) أو تقليداً والتقليد مذموم فثبت أن تسبيحهم وتقديسهم إنما صار موجباً للافتخار ببركة العلم ثم إن آدم عليه السلام إنما وقع عليه اسم المعصية لأنه أخطأ في مسألة واحدة اجتهادية على ما سيأتي بيانه ولأجل هذا الخطأ القليل وقع فيما وقع فيه والشيء كلما كان الخطر فيه أكثر كان أشرف فذلك يدل على غاية جلالة العلم ثم إنه ببركة جلالة العلم لما تاب وأناب وترك الإصرار والاستكبار وجد خلعة الاجتباء ثم انظر إلى إبراهيم عليه السلام كيف اشتغل في أول أمره بطلب العلم على ما قال تعالى فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً ( الأنعام 76 ) ثم انتقل من الكواكب إلى القمر ومن القمر إلى الشمس ولم يزل ينتقل بفكره من شيء إلى شيء إلى أن وصل بالدليل الزاهر والبرهان الباهر إلى المقصود وأعرض عن الشرك فقال إِنّى وَجَّهْتُ وَجْهِى َ لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الأنعام 79 ) فلما وصل إلى هذه الدرجة مدحه الله تعالى بأشرف المدائح وعظمه على أتم الوجوه فقال تارة وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الأنعام 75 ) وقال أخرى وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءاتَيْنَاهَا إِبْراهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء ( الأنعام 83 ) ثم إنه عليه السلام بعد الفراغ من معرفة المبدأ اشتغل بمعرفة المعاد فقال وَإِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ رَبّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْى ِ الْمَوْتَى ( البقرة 26 ) ثم لما فرغ من التعلم اشتغل بالتعليم والمحاجة تارة مع أبيه على ما قال لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ ( مريم 42 ) وتارة مع قومه فقال مَا هَاذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِى أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ( الأنبياء 52 ) وأخرى مع ملك زمانه فقال أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِى حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِى رِبّهِ ( البقرة 258 ) وانظر إلى صالح وهود وشعيب كيف كان اشتغالهم في أوائل أمورهم وأواخرها بالتعلم والتعليم وإرشاد الخلق إلى النظر والتفكر في الدلائل وكذلك أحوال موسى عليه السلام مع فرعون وجنوده ووجوه دلائله معه ثم انظر إلى حال سيدنا ومولانا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كيف من الله عليه بالعلم مرة بعد أخرى فقال وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى ( الضحى 7 8 ) فقدم الامتنان

بالعلم على الامتنان بالمال وقال أيضاً مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ ( الشورى 52 ) وقال مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَاذَا ( هود 49 ) ثم إنه أول ما أوحى إليه قال اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ ( العلق 1 ) ثم قال وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ( النساء 113 ) وهو عليه الصلاة والسلام كان أبداً يقول أرنا الأشياء كما هي فلو لم يظهر للإنسان مما ذكرنا من الدلائل النقلية والعقلية شرف العلم لاستحال أن يظهر له شيء أصلاً وأيضاً فإن الله تعالى سمى العلم في كتابه بالأسماء الشريفة فمنها الحياة أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ ( الأنعام 122 ) وثانيها الروح وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا ( الشورى 52 ) وثالثها النور اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( النور 35 ) وأيضاً قال تعالى في صفة طالوت إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَة ً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ( البقرة 247 ) فقدم العلم على الجسم ولا شك أن المقصود من سائر النعم سعادة البدن فسعادة البدن أشرف من السعادة المالية فإذا كانت السعادة العلمية راجحة على السعادة الجسمانية فأولى أن تكون راجحة على السعادة المالية وقال يوسف اجْعَلْنِى عَلَى خَزَائِنِ الاْرْضِ إِنّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ ( يوسف 55 ) ولم يقل إني حسيب نسيب فصيح مليح وأيضاً فقد جاء في الخبر ( المرء بأصغريه قلبه ولسانه ) إن تكلم تكلم بلسانه وإن قاتل قاتل بجنانه قال الشاعر لسان الفتى نصف ونصف فؤاده
فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
وأيضاً فإن الله تعالى قدم عذاب الجهل على عذاب النار فقال كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُواْ الْجَحِيمِ ( المطففين 15 16 ) وقال بعضهم العلوم مطالعها من ثلاثة أوجه قلب متفكر ولسان معبر وبيان مصور قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه ( عين العلم من العلو ولامه من اللطف وميمه من المروءة ) وأيضاً قيل العلوم عشرة علم التوحيد للأديان وعلم السر لرد الشيطان وعلم المعاشرة للإخوان وعلم الشريعة للأركان وعلم النجوم للأزمان وعلم المبارزة للفرسان وعلم السياسة للسلطان وعلم الرؤيا للبيان وعلم الفراسة للبرهان وعلم الطب للأبدان وعلم الحقيقة للرحمن وأيضاً قيل ضرب المثل في العلم بالماء قوله تعالى أَنزَلَ مِنَ الْسَّمَاء مَآء ( البقرة 22 ) والمياه أربعة ماء المطر وماء السيل وماء القناة وماء العين فكذا العلوم أربعة علم التوحيد كماء العين لا يجوز تحريكه لئلا يتكدر وكذا لا ينبغي طلب معرفة كيفية الله عزّ وجلّ لئلا يحصل الكفر وعلم الفقه يزداد بالاستنباط كماء القناة يزداد بالحفر وعلم الزهد كماء المطر ينزل صافياً ويتكدر بغبار الهواء كذلك علم الزهد صاف ويتكدر بالطمع وعلم البدع كماء السيل يميت الأحياء ويهلك الخلق فكذا البدع والله أعلم
المسألة السابعة في أقوال الناس في حد العلم قال أبو الحسن الأشعري العلم ما يعلم به وربما قال ما يصير الذات به عالماً واعترضوا عليه بأن العالم والمعلوم لا يعرفان إلا بالعلم فتعريف العلم بهما دور وهو غير جائز أجاب عنه بأن علم الإنسان بكونه عالماً بنفسه وبألمه ولذاته علم ضروري والعلم بكونه عالماً بهذه الأشياء علم بأصل العلم لأن الماهية داخلة في الماهية المقيدة فكان علمه بكون العلم علماً علم ضروري فكان الدور ساقطاً وسيأتي مزيد تقريره إذا ذكرنا ما نختاره نحن في هذا الباب إن شاء الله تعالى وقال القاضي أبو بكر العلم معرفة المعلوم على ما هو عليه وربما قال العلم هو المعرفة والاعتراض على الأول أن قوله معرفة المعلوم تعريف العلم بالمعلوم فيعود الدور أيضاً فالمعرفة لا تكون إلا وفق المعلوم فقوله على ما هو

عليه بعد ذكر المعرفة يكون حشواً أما قوله العلم هو المعرفة ففيه وجوه من الخلل أحدها أن العلم هو نفس المعرفة فتعريفه بها تعريف للشيء بنفسه وهو محال وثانيها أن المعرفة عبارة عن حصول العلم بعد الالتباس ولهذا يقال ما كنت أعرف فلاناً والآن فقد عرفته وثالثها أن الله تعالى يوصف بأنه عالم ولا يوصف بأنه عارف لأن المعرفة تستدعي سبق الجهل وهو على الله محال وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني العلم تبيين المعلوم وربما قال إنه استبانة الحقائق وربما اقتصر على التبيين فقال العلم هو التبيين وهو أيضاً ضعيف أما قول العلم هو التبيين فليس فيه إلا تبديل لفظ بلفظ أخفى منه ولأن التبيين والاستبانة يشعران بظهور الشيء بعد الخفاء وذلك لا يطرد في علم الله وأما قوله تبيين المعلوم على ما هو به فيتوجه عليه الوجوه المذكورة على كلام القاضي قال الأستاذ أبو بكر بن فورك العلم ما يصح من المتصف به إحكام الفعل وإتقانه وهو ضعيف لأن العلم بوجوب الواجبات وامتناع الممتنعات لا يفيد الأحكام وقال القفال العلم إثبات المعلوم على ما هو به وربما قيل العلم تصور المعلوم على ما هو به والوجوه السالفة متوجهة على هذه العبارة وقال إمام الحرمين الطريق إلى تصور ماهية العلم وتميزها عن غيرها أن نقول إنا نجد من أنفسنا بالضرورة كوننا معتقدين في بعض الأشياء فنقول اعتقادنا في الشيء إما أن يكون جازماً أو لا يكون فإن كان جازماً فأما أن يكون مطابقاً أو غير مطابق فإن كان مطابقاً فأما أن يكون لموجب هو نفس طرفي الموضوع والمحمول وهو العلم البديهي أو لموجب حصل من تركيب تلك العلوم الضرورية وهو العلم النظري أولاً لموجب وهو اعتقاد المقلد وأما الجزم الذي لا يكون مطابقاً فهو الجهل والذي لا يكون جازماً فأما أن يكون الطرفان متساويين وهو الشك أو يكون أحدهما أرجح من الآخر فالراجح هو الظن والمرجوح هو الوهم واعلم أن هذا التعريف مختل من وجوه أحدها أن هذا التعريف لا يتم إلا إذا ادعينا أن علمنا بماهية الاعتقاد علم بديهي وإذا جاز ذلك فلم لا ندعي أن العلم بماهية العلم بديهي وثانيها أن هذا تعريف العلم بانتفاء أضداده وليست معرفة هذه الأضداد أقوى من معرفة العلم حتى يجعل عدم النقيض معرفاً للنقيض فيرجع حاصل الأمر إلى تعريف الشيء بمثله أو بالأخفى وثالثها أن العلم قد يكون تصوراً وقد يكون تصديقاً والتصور لا يتطرق إليه الجزم ولا التردد ولا القوة ولا الضعف فإذا كان كذلك كانت العلوم التصورية خارجة عن هذا التعريف قالت المعتزلة العلم هو الاعتقاد المقتضى سكون النفس وربما قالوا العلم ما يقتضي سكون النفس قالوا ولفظ السكون وإن كان مجازاً ههنا إلا أن المقصود منه لما كان ظاهراً لم يكن ذكره قادحاً في المقصود واعلم أن الأصحاب قالوا الاعتقاد جنس مخالف للعلم فلا يجوز جعل العلم منه ولهم أن يقولوا لا شك أن بين العلم واعتقاد المقلد قدراً مشتركاً فنحن نعني بالاعتقاد ذلك القدر قال الأصحاب وهذا التعريف يخرج عنه أيضاً علم الله تعالى فإنه لا يجوز أن يقال فيه إنه يقتضي سكون النفس قالت الفلاسفة العلم صورة حاصلة في النفس مطابقة للمعلوم وفي هذا التعريف عيوب أحدها إطلاق لفظ الصورة على العلم لا شك أنه من المجازات فلا بدّ في ذلك من تلخيص الحقيقة والذي يقال إنه كما يحصل في المرآة صورة الوجه فكذلك تحصل صورة المعلوم في الذهن وهو ضعيف لأنا

إذا عقلنا الجبل والبحر فإن حصلا في الذهن ففي الذهن جبل وبحر وهذا محال وإن لم يحصلا في الذهن ولكن الحاصل في الذهن صورتاهما فقط فحينئذٍ يكون المعلوم هو الصورة فالشيء الذي تلك الصورة صورته وجب أن لا يصير معلوماً وإن قيل حصلت الصورة ومحلها في الذهن فحينئذٍ يعود ما ذكرنا من أنه يحصل الجبل والبحر في الذهن وثانيها أن قوله مطابقة للمعلوم يقتضي الدور وثالثها أن عندهم المعلومات قد تكون موجودة في الخارج وقد لا تكون وهي التي يسمونها بالأمور الاعتبارية والصور الذهنية والمعقولات الثانية والمطابقة في هذا القسم غير معقول ورابعها أنا قد نعقل المعدوم ولا يمكن أن يقال الصورة العقلية مطابقة للمعدوم لأن المطابقة تقتضي كون المتطابقين أمراً ثبوتياً والمعدوم نفي محض يستحيل تحقق المطابقة فيه ولقد حاول الغزالي إيضاح كلام الفلاسفة في تعريف العلم فقال إدراك البصيرة الباطنة نفهمه بالمقايسة بالبصر الظاهر ولا معنى للبصر الظاهر إلا انطباع صورة المرئي في القوة الباصرة كما نتوهم انطباع الصورة في المرآة مثلاً فكما أن البصر يأخذ صورة المبصرات أي ينطبع فيه مثالها المطابق لها لا عينها فإن عين النار لا تنطبع في العين بل مثال مطابق صورتها فكذا العقل على مثال مرآة ينطبع فيها صور المعقولات وأعني بصورة المعقولات حقائقها وماهياتها ففي المرآة أمور ثلاثة الحديد وصقالته والصورة المنطبعة فيه فكذا جوهر الآدمي كالحديد وعقله كالصقالة والمعلوم كالصورة واعلم أن هذا الكلام ساقط جداً أما قوله لا معنى للبصر الظاهر إلا انطباع صورة المرئي في القوة الباصرة فباطل لوجوه أحدها أنه ذكر في تعريف الأبصار المبصر والباصر وهو دور وثانيها أنه لو كان الأبصار عبارة عن نفس هذا الانطباع لما أبصرنا إلا بمقدار نقطة الناظر لاستحالة انطباع العظيم في الصغير فإن قيل الصورة الصغيرة المنطبعة شرط لحصول إبصار الشيء العظيم في الخارج قلنا الشرط مغاير للمشروط فالإبصار مغاير للصورة المنطبعة وثالثها أنا نرى المرئي حيث هو ولو كان المرئي هو الصورة المنطبعة لما رأيته في حيزه ومكانه وأما قوله فكذا العقل ينطبع فيه صور المعقولات فضعيف لأن الصورة المرتسمة من الحرارة في العقل إما أن تكون مساوية للحرارة في الماهية أو لا تكون فإن كان الأول لزم أن يصير العقل حاراً عند تصور الحرارة لأن الحار لا معنى له إلا الموصوف بالحرارة وإن كان الثاني لم يكن تعقل الماهية إلا عبارة عن حصول شيء في الذهن مخالف للحرارة في الماهية وذلك يبطل قوله وأما الذي ذكر من انطباع الصور في المرآة فقد اتفق المحققون من الفلاسفة على أن صورة المرئي لا تنطبع في المرآة فثبت أن الذي ذكره في تقرير قولهم لا يوافق قولهم ولا يلائم أصولهم ولما ثبت أن التعريفات التي ذكرها الناس باطلة فاعلم أن العجز عن التعريف قد يكون لخفاء المطلوب جداً وقد يكون لبلوغه في الجلاء إلى حيث لا يوجد شيء أعرف منه ليجعل معرفاً له والعجز عن تعريف ا لعلم لهذا الباب والحق أن ماهية العلم متصورة تصوراً بديهياً جلياً فلا حاجة في معرفته إلى معرف والدليل عليه أن كل أحد يعلم بالضرورة أنه يعلم وجود نفسه وأنه يعلم أنه ليس على السماء ولا في لجة البحر والعلم الضروري بكونه عالماً بهذه الأشياء علم باتصاف ذاته بهذه العلوم والعالم

بانتساب شيء إلى شيء عالم لا محالة بكلا الطرفين فلما كان العلم الضروري بهذه المنسوبية حاصلاً كان العلم الضروري بماهية العلم حاصلاً وإذا كان كذلك كان تعريفه ممتنعاً فهذا القدر كافٍ ههنا وسائر التدقيقات مذكورة في ( الكتب العقلية ) والله أعلم
المسألة الثامنة في البحث عن ألفاظ يظن بها أنها مرادفة للعلم وهي ثلاثون أحدها الإدراك وهو اللقاء والوصول يقال أدرك الغلام وأدركت الثمرة قال تعالى قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ( الشعراء 61 ) فالقوة العاقلة إذا وصلت إلى ماهية المعقول وحصلتها كان ذلك إدراكاً من هذه الجهة وثانيها الشعور وهو إدراك بغير استثبات وهو أول مراتب وصول المعلوم إلى القوة العاقلة وكأنه إدراك متزلزل ولهذا يقال في الله تعالى إنه يشعر بكذا كما يقال إنه يعلم كذا وثالثها التصور إذا حصل وقوف القوة العاقلة على المعنى وأدركه بتمامه فذلك هو التصور واعلم أن التصور لفظ مشتق من الصورة ولفظ الصورة حيث وضع فإنما وضع للهيئة الجسمانية الحاصلة في الجسم المتشكل إلا أن الناس لما تخيلوا أن حقائق المعلومات تصير حالة في القوة العاقلة كما أن الشكل والهيئة يحلان في المادة الجسمانية أطلقوا لفظ التصور عليه بهذا التأويل ورابعها الحفظ فإذا حصلت الصورة في العقل وتأكدت واستحكمت وصارت بحيث لو زالت لتمكنت القوة العاقلة من استرجاعها واستعادتها سميت تلك الحالة حفظاً ولما كان الحفظ مشعراً بالتأكد بعد الضعف لا جرم لا يسمى علم الله حفظاً ولأنه إنما يحتاج إلى الحفظ ما يجوز زواله ولما كان ذلك في علم الله تعالى محالاً لا جرم لا يسمى ذلك حفظاً وخامسها التذكر وهو أن الصورة المحفوظة إذا زالت عن القوة العاقلة فإذا حاول الذهن استرجاعها فتلك المحاولة هي التذكر واعلم أن للتذكر سراً لا يعلمه إلا الله تعالى وهو أن التذكر صار عبارة عن طلب رجوع تلك الصورة الممحية الزائلة فتلك الصورة إن كانت مشعوراً بها فهي حاضرة حاصلة والحاصل لا يمكن تحصيله فلا يمكن حينئذٍ استرجاعها وإن لم تكن مشعوراً بها كان الذهن غافلاً عنها وإذا كان غافلاً عنها استحال أن يكون طالباً لاسترجاعها لأن طلب ما لا يكون متصوراً محال فعلى كلا التقديرين يكون التذكر المفسر بطلب الاسترجاع ممتنعاً مع أنا نجد من أنفسنا أنا قد نطلبها ونسترجعها وهذه الأسرار إذا توغل العاقل فيها وتأملها عرف أنه لا يعرف كنهها مع أنها من أظهر الأشياء عند الناس فكيف القول في الأشياء التي هي أخفى الأمور وأعضلها على العقول والأذهان وسادسها الذكر فالصورة الزائلة إذا حاول استرجاعها فإذا عادت وحضرت بعد ذلك الطلب سمي ذلك الوجدان ذكراً فإن لم يكن هذا الإدراك مسبوقاً بالزوال لم يسم ذلك الإدراك ذكراً ولهذا قال الشاعر فالله يعلم أني لست أذكره
وكيف أذكره إذ لست أنساه
فجعل حصول النسيان شرطاً لحصول الذكر ويوصف القول بأنه ذكر لأنه سبب حصول المعنى في النفس قال تعالى إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ( الحجر 9 ) وههنا دقيقة تفسيرية وهي أنه سبحانه وتعالى قال فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ ( البقرة 52 ) فهذا الأمر هل يتوجه على العبد حال حصول النسيان أو بعد

زواله فإن كان الأول فهو حال النسيان غافل عن الأمر وكيف يوجه عليه التكليف مع النسيان وإن كان الثاني فهو ذاكر والذكر حاصل وتحصيل الحاصل محال فكيف كلفه به وهو أيضاً متوجه على قوله فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إله إِلائَ اللَّهِ ( محمد 19 ) إلا أن الجواب في قوله فاعلم أن المأمور به إنما هو معرفة للتوحيد وهذا من باب التصديقات فلا يقوى فيه ذلك الإشكال وأما الذكر فهو من باب التصورات فيقوى فيه ذلك الإشكال وجوابه على الإطلاق أنا نجد من أنفسنا أنه يمكننا التذكر وإذا كان ذلك ممكناً كان ما ذكرته تشكيكاً في الضروريات فلا يستحق الجواب بقي أن يقال فكيف يتذكر فنقول لا نعرف كيف يتذكر لكن علمك بتمكنك في علمك بأن في الجملة يكفيك في الاشتغال بالمجاهدة وعجزك عن إدراك تلك الكيفية يكفيك من التذكر ذاك ليس منك بل ههنا سر آخر وهو أنك لما عجزت عن إدراك ماهية التذكر والذكر مع أنه صفتك فأنى يمكنك الوقوف على كنه المذكور مع أنه أبعد الأشياء مناسبة منك فسبحان من جعل أظهر الأشياء أخفاها ليتوصل العبد به إلى كنه عجزه ونهاية قصوره فحينئذٍ يطالع شيئاً من مبادىء مقادير أسرار كونه ظاهراً باطناً وسابعها المعرفة وقد اختلفت الأقوال في تفسير هذه اللفظة فمنهم من قال المعرفة إدراك الجزئيات والعلم إدراك الكليات وآخرون قالوا المعرفة التصور والعلم هو التصديق وهؤلاء جعلوا العرفان أعظم درجة من العلم قالوا لأن تصديقنا باستناد هذه المحسوسات إلى موجود واجب الوجود أمر معلوم بالضرورة فأما تصور حقيقته فأمر فوق الطاقة البشرية ولأن الشيء ما لم يعرف وجوده فلا تطلب ماهيته فعلى هذا الطريق كل عارف عالم وليس كل عالم عارفاً ولذلك فإن الرجل لا يسمى بالعارف إلا إذا توغل في ميادين العلم وترقى من مطالعها إلى مقاطعها ومن مباديها إلى غياتها بحسب الطاقة البشرية وفي الحقيقة فإن أحداً من البشر لا يعرف الله تعالى لأن الاطلاع على كنه هويته وسر ألوهيته محال وآخرون قالوا من أدرك شيئاً وانحفظ أثره في نفسه ثم أدرك ذلك الشيء ثانياً وعرف أن هذا المدرك الذي أدركه ثانياً هو الذي أدركه أولاً فهذا هو المعرفة فيقال عرفت هذا الرجل وهو فلان الذي كنت رأيته وقت كذا ثم في الناس من يقول بقدم الأرواح ومنهم من يقول بتقدمها على الأبدان ويقول إنها هي الذر المستخرج من صلب آدم عليه السلام وإنها أقرت بالإلهية واعترفت بالربوبية إلا أنها لظلمة العلاقة البدنية نسيت مولاها فإذا عادت إلى نفسها متخلصة من ظلمة البدن وهاوية الجسم عرفت ربها وعرفت أنها كانت عارفة به فلا جرم سمى هذا الإدراك عرفاناً وثامنها الفهم وهو تصور الشيء من لفظ المخاطب والإفهام هو اتصال المعنى باللفظ إلى فهم السامع وتاسعها الفقه وهو العلم بغرض المخاطب من خطابه يقال فقهت كلامك أي وقفت على غرضك من هذا الخطاب ثم إن كفار قريش لما كانوا أرباب الشبهات والشهوات فما كانوا يقفون على ما في تكاليف الله تعالى من المنافع العظيمة لا جرم قال تعالى لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً ( الكهف 93 ) أي لا يقفون على المقصود الأصلي والغرض الحقيقي وعاشرها العقل وهو العلم بصفات الأشياء من حسنها وقبحها وكمالها ونقصانها فإنك متى علمت ما فيها من المضار والمنافع صار علمك بما في الشيء من النفع داعياً لك إلى الفعل وعلمك بما فيه من الضرر داعياً لك إلى الترك فصار ذلك العلم مانعاً من الفعل مرة ومن الترك أخرى فيجري ذلك العلم مجرى عقال

الناقة ولهذا لما سئل بعض الصالحين عن العقل قال هو العلم بخير الخيرين وشر الشرين ولما سئل عن العاقل قال العاقل من عقل عن الله أمره ونهيه فهذا هو القدر اللائق بهذا المكان والاستقصاء فيه يجيء في موضع آخر إن شاء الله تعالى الحادي عشر الدراية وهي المعرفة الحاصلة بضرب من الحيل وهو تقديم المقدمات واستعمال الروية وأصله من دريت الصيد والدرية لما يتعلم عليه الطعن والمدرى يقال لما يصلح به الشعر وهذا لا يصح إطلاقه على الله تعالى لامتناع الفكر والحيل عليه تعالى الثاني عشر الحكمة وهي اسم لكل علم حسن وعمل صالح وهو بالعلم العملي أخص منه بالعلم النظري وفي العمل أكثر استعمالاً منه في العلم ومنها يقال أحكم العمل إحكاماً إذا أتقنه وحكم بكذا حكماً والحكمة من الله تعالى خلق ما فيه منفعة العباد ومصلحتهم في الحال وفي المآل ومن العباد أيضاً كذلك ثم قد حدت الحكمة بألفاظ مختلفة فقيل هي معرفة الأشياء بحقائقها وهذا إشارة إلى أن إدراك الجزئيات لا كمال فيه لأنها إدراكات متغيرة فأما إدراك الماهية فإنه باقٍ مصون عن التغير والتبدل وقيل هي الإتيان بالفعل الذي عاقبته محمودة وقيل هي الاقتداء بالخالق سبحانه وتعالى في السياسة بقدر الطاقة البشرية وذلك بأن يجتهد بأن ينزه علمه عن الجهل وفعله عن الجور وجوده عن البخل وحلمه عن السفه الثالث عشر علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين قالوا إن اليقين لا يحصل إلا إذا اعتقد أن الشيء كذا وأنه يمتنع كون الأمر بخلاف معتقده إذا كان لذلك الاعتقاد موجب هو إما بديهية الفطرة وإما نظر العقل الرابع عشر الذهن وهو قوة النفس على اكتساب العلوم التي هي غير حاصلة وتحقيق القول فيه إنه سبحانه وتعالى خلق الروح خالياً عن تحقيق الأشياء وعن العلم بها كما قال تعالى وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا لكنه سبحانه وتعالى إنما خلقها للطاعة على ما قال تعالى وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( الذاريات 56 ) والطاعة مشروطة بالعلم وقال في موضع آخر اتْلُ مَا لِذِكْرِى ( طه 14 ) فبين أنه أمر بالطاعة لغرض العلم والعلم لا بدّ منه على كل حال فلا بدّ وأن تكون النفس متمكنة من تحصيل هذه المعارف والعلوم فأعطاه الحق سبحانه من الحواس ما أعان على تحصيل هذا الغرض فقال في السمع وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ ( البلد 10 ) وقال في البصر سَنُرِيهِمْ ءايَاتِنَا فِى الاْفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ فصلت 53 ) وقال في الفكر وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ ( الذاريات 21 ) فإذا تطابقت هذه القوى صار الروح الجاهل عالماً وهو معنى قوله تعالى الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْءانَ ( الرحمن 1 ) فالحاصل أن استعداد النفس لتحصيل هذه المعارف هو الذهن الخامس عشر الفكر وهو انتقال الروح من التصديقات الحاضرة إلى التصديقات المستحضرة قال بعض المحققين إن الفكر يجري مجرى التضرع إلى الله تعالى في استنزال العلوم من عنده السادس عشر الحدس ولا شك أن الفكر لا يتم عمله إلا بوجدان شيء يتوسط بين طرفي المجهول لتصير النسبة المجهولة معلومة فإن النفس حال كونها جاهلة كأنها واقفة في ظلمة ولا بدّ لها من قائد يقودها وسائق يسوقها وذلك هو المتوسط بين الطرفين وله إلى كل واحد منهما نسبة خاصة فيتولد من نسبته إليهما مقدمتان فكل مجهول لا يحصل العلم به إلا بواسطة مقدمتين معلومتين والمقدمتان هما كالشاهدين فكم أنه

لا بدّ في الشرع من شاهدين فكذا لا بدّ في العقل من شاهدين وهما المقدمتان اللتان تنتجان المطلوب فاستعداد النفس لوجدان ذلك المتوسط هو الحدس السابع عشر الذكاء وهو شدة الحدس وكماله وبلوغه الغاية القصوى وذلك لأن الذكاء هو المضاء في الأمر وسرعة القطع بالحق وأصله من ذكت النار وذكت الريح وشاة مذكاة أي مدرك ذبحها بحدة السكين الثامن عشر الفطنة وهي عبارة عن التنبه لشيء قصد تعريضه ولذلك فإنه يستعمل في الأكثر في استنباط الأحاجي والرموز التاسع عشر الخاطر وهو حركة النفس نحو تحصيل الدليل وفي الحقيقة ذلك المعلوم هو الخاطر بالبال والحاضر في النفس ولذلك يقال هذا خطر ببالي إلا أن النفس لما كانت محلاً لذلك المعنى الخاطر جعلت خاطراً إطلاقاً لاسم الحال على المحل العشرون الوهم وهو الاعتقاد المرجوح وقد يقال إنه عبارة عن الحكم بأمور جزئية غير محسوسية لأشخاص جزئية جسمانية كحكم السخلة بصداقة الأم وعداوة المؤذي الحادي والعشرون الظن وهو الاعتقاد الراجح ولما كان قبول الاعتقاد للقوة والضعف غير مضبوط فكذا مراتب الظن غير مضبوطة فلهذا قيل أنه عبارة عن ترجيح أحد طرفي المعتقد في القلب على الآخر مع تجويز الطرف الآخر ثم إن الظن المتناهي في القوة قد يطلق عليه اسم العلم فلا جرم قد يطلق أيضاً على العلم اسم الظن كما قال بعض المفسرين في قوله تعالى الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُوا رَبّهِمْ ( البقرة 46 ) قالوا إنما أطلق لفظ الظن على العلم ههنا لوجهين أحدهما التنبيه على أن علم أكثر الناس في الدنيا بالإضافة إلى علمه في الآخرة كالظن في جنب العلم والثاني أن العلم الحقيقي في الدنيا لا يكاد يحصل إلا للنبيين والصديقين الذين ذكرهم الله تعالى في قوله تعالى الَّذِينَ ءامَنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ ( الحجرات 15 ) واعلم أن الظن إن كان عن أمارة قوية قبل ومدح وعليه مدار أكثر أحوال هذا العلم وإن كان عن أمارة ضعيفة ذم كقوله تعالى إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى عَنْ الْحَقّ شَيْئاً ( النجم 28 ) وقوله إِنَّ بَعْضَ الظَّنّ إِثْمٌ ( الحجرات 12 ) الثاني والعشرون الخيال وهو عبارة من الصورة الباقية عن المحسوس بعد غيبته ومنه الطيف الوارد من صورة المحبوب خيالاً والخيال قد يقال لتلك الصورة في المنام وفي اليقظة والطيف لا يقال إلا فيما كان في حال النوم الثالث والعشرون البديهة وهي المعرفة الحاصلة ابتداء في النفس لا بسبب الفكر كعلمك بأن الواحد نصف الاثنين الرابع والعشرون الأوليات وهي البديهيات بعينها والسبب في هذه التسمية أن الذهن يلحق محمول القضية بموضوعها أولاً لا بتوسط شيء آخر فأما الذي يكون بتوسط شيء آخر فذاك المتوسط هو المحمول أولاً الخامس والعشرون الروية وهي ما كان من المعرفة بعد فكر كثير وهي من روى السادس والعشرون الكياسة وهي تمكن النفس من استنباط ما هو أنفع ولهذا قال عليه الصلاة

والسلام ( الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ) من حيث إنه لا خير يصل إليه الإنسان أفضل مما بعد الموت السابع والعشرون الخبرة وهي معرفة يتوصل إليها بطريق التجربة يقال خبرته قال أبو الدرداء وجدت الناس أخبر تقله وقيل هو من قولهم ناقة خبرة أي غزيرة اللبن فكان الخبر هو غزارة المعرفة ويجوز أن يكون قولهم ناقة خبرة هي المخبر عنها بغزارتها الثامن والعشرون الرأي وهو إحاطة الخاطر في المقدمات التي يرجى منها إنتاج المطلوب وقد يقال للقضية المستنتجة من الرأي رأي والرأي للفكر كالآلة للصانع ولهذا قيل إياك والرأي الفطير وقيل دع الرأي تصب التاسع والعشرون الفراسة وهي الاستدلال بالحق الظاهر على الخلق الباطن وقد نبه الله تعالى على صدق هذا الطريق بقوله تعالى إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسّمِينَ ( الحجر 75 ) وقوله تعالى تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ ( البقرة 273 ) وقوله تعالى وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ الْقَوْلِ ( محمد 30 ) واشتقاقها من قولهم فرس السبع الشاة فكأن الفراسة اختلاس المعارف وذلك ضربان ضرب يحصل للإنسان عن خاطره ولا يعرف له سبب وذلك ضرب من الإلهام بل ضرب من الوحي وإياه عنى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله ( إن في أمتي لمحدثين وإن عمر لمنهم ) ويسمى ذلك أيضاً النفث في الروع والضرب الثاني من الفراسة ما يكون بصناعة متعلمة وهي الاستدلال بالأشكال الظاهرة على الأخلاق الباطنة وقال أهل المعرفة في قوله تعالى أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيّنَة ٍ مّن رَّبّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مّنْهُ ( هود 17 ) إن البينة هو القسم الأول وهو إشارة إلى صفاء جوهر الروح والشاهد هو القسم الثاني وهو الاستدلال بالأشكال على الأحوال
المسألة التاسعة قوله تعالى وَعَلَّمَ ءادَمَ الاسْمَاء كُلَّهَا وقوله لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا وقوله الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْءانَ لا يقتضي وصف الله تعالى بأنه معلم لأنه حصل في هذه اللفظة تعارف على وجه لا يجوز إطلاقه عليه وهو من يحترف بالتعليم والتلقين وكما لا يقال للمدرس معلم مطلقاً حتى لو أوصى للمتعلمين لا يدخل فيه المدرس فكذا لا يقال لله إنه معلم إلا مع التقييد ولولا هذا التعارف لحسن إطلاقه عليه بل كان يجب أن لا يستعمل إلا فيه تعالى لأن المعلم هو الذي يحصل العلم في غيره ولا قدرة على ذلك لأحد إلا الله تعالى
قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَاءَادَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّآ أَنبَأَهُم بِأَسْمَآئِهِم قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ والأرض وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ

اعلم أن الذين اعتقدوا أن الملائكة أتوا بالمعصية في قولهم أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا قالوا إنهم لما عرفوا خطأهم في هذا السؤال رجعوا وتابوا واعتذروا عن خطئهم بقولهم سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا والذين أنكروا معصيتهم ذكروا في ذلك وجهين الأول أنهم إنما قالوا ذلك على وجه الاعتراف بالعجز والتسليم بأنهم لا يعلمون ما سئلوا عنه وذلك لأنهم قالوا إنا لا نعلم إلا ما علمتنا فإذا لم تعلمنا ذلك فكيف نعلمه الثاني أن الملائكة إنما قالوا أَتَجْعَلُ فِيهَا لأن الله تعالى أعلمهم ذلك فكأنهم قالوا إنك أعلمتنا أنهم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء فقلنا لك أتجعل فيها من يفسد فيها وأما هذه الأسماء فإنك ما أعلمتنا كيفيتها فكيف نعلمها وههنا مسائل
المسألة الأولى احتج أصحابنا بقوله تعالى لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا على أن المعارف مخلوقة لله تعالى وقالت المعتزلة المراد أنه لا علم لنا إلا من جهته إما بالتعليم وإما بنصب الدلالة والجواب أن التعليم عبارة عن تحصيل العلم في الغير كالتسويد فإنه عبارة عن تحصيل السواد في الغير لا يقال التعليم عبارة عن إفادة الأمر الذي يترتب عليه العلم لو حصل الشرط وانتفى المانع ولذلك يقال علمته فما تعلم والأمر الذي يترتب عليه العلم هو وضع الدليل والله تعالى قد فعل ذلك لأنا نقول المؤثر في وجود العلم ليس هو ذات الدليل بل النظر في الدليل وذلك النظر فعل العبد فلم يكن حصول ذلك العلم بتعليم الله تعالى وأنه يناقص قوله لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا
المسألة الثانية احتج أهل الإسلام بهذه الآية على أنه لا سبيل إلى معرفة المغيبات إلا بتعليم الله تعالى وأنه لا يمكن التوصل إليها بعلم النجوم والكهانة والعرافة ونظيره قوله تعالى وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ ( الأنعام 59 ) وقوله عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ ( الجن 26 27 ) وللمنجم أن يقول للمعتزلي إذا فسرت التعليم بوضع الدلائل فعندي حركات النجوم دلائل خلقها الله تعالى على أحوال هذا العالم فإذا استدللت بها على هذه كان ذلك أيضاً بتعليم الله تعالى ويمكن أن يقال أيضاً إن الملائكة لما عجزوا عن معرفة الغيب فلأن يعجز عنه أحدنا كان أولى
المسألة الثالثة العليم من صفات المبالغة التامة في العلم والمبالغة التامة لا تتحقق إلا عند الإحاطة بكل المعلومات وما ذاك إلا هو سبحانه وتعالى فلا جرم ليس العليم المطلق إلا هو فلذلك قال إنك أنت العليم الحكيم على سبيل الحصر
المسألة الرابعة الحكيم يستعمل على وجهين أحدهما بمعنى العليم فيكون ذلك من صفات الذات وعلى هذا التفسير نقول إنه تعالى حكيم في الأزل الآخر أنه الذي يكون فاعلاً لما لا عتراض لأحد عليه فيكون ذلك من صفات الفعل فلا نقول إنه حكيم في الأزل والأقرب ههنا أن يكون المراد هو المعنى الثاني وإلا لزم التكرار فكأن الملائكة قالت أنت العالم بكل المعلومات فأمكنك تعليم آدم وأنت الحكيم في هذا الفعل المصيب فيه وعن ابن عباس أن مراد الملائكة من الحكيم أنه هو الذي حكم بجعل آدم خليفة في الأرض
المسألة الخامسة أن الله تعالى لما أمر آدم عليه السلام بأن يخبرهم عن أسماء الأشياء وهو عليه الصلاة والسلام أخبرهم بها فلما أخبرهم بها قال سبحانه وتعالى لهم عند ذلك على سبيل الحصر
المسألة الرابعة الحكيم يستعمل على وجهين أحدهما بمعنى العليم فيكون ذلك من صفات الذات وعلى هذا التفسير نقول إنه تعالى حكيم في الأزل الآخر أنه الذي يكون فاعلاً لما لا عتراض لأحد عليه فيكون ذلك من صفات الفعل فلا نقول إنه حكيم في الأزل والأقرب ههنا أن يكون المراد هو المعنى الثاني وإلا لزم التكرار فكأن الملائكة قالت أنت العالم بكل المعلومات فأمكنك تعليم آدم وأنت الحكيم في هذا الفعل المصيب فيه وعن ابن عباس أن مراد الملائكة من الحكيم أنه هو الذي حكم بجعل آدم خليفة في الأرض
المسألة الخامسة أن الله تعالى لما أمر آدم عليه السلام بأن يخبرهم عن أسماء الأشياء وهو عليه الصلاة والسلام أخبرهم بها فلما أخبرهم بها قال سبحانه وتعالى لهم عند ذلك أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِي أَعْلَمُ غَيْبَ

السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضِ والمراد من هذا الغيب أنه تعالى كان عالماً بأحوال آدم عليه السلام قبل أن يخلقه وهذا يدل على أنه سبحانه وتعالى يعلم الأشياء قبل حدوثها وذلك يدل على بطلان مذهب هشام بن الحكم في أنه لا يعلم الأشياء إلا عند وقوعها فإن قيل الإيمان هو العلم فقوله تعالى يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ يدل على أن العبد يعلم الغيب فكيف قال ههنا إِنِي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضِ والأشعار بأن علم الغيب ليس إلا لي وأن كل من سواي فهم خالون عن علم الغيب وجوابه ما تقدم في قوله الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ أما قوله وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ففيه وجوه أحدها ما روى الشعبي عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم أن قوله وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ أراد به قولهم أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وقوله وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ أراد به ما أسر إبليس في نفسه من الكبر وأن لا يسجد وثانيها إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ من الأمور الغائبة والأسرار الخفية التي يظن في الظاهر أنه لا مصلحة فيها ولكني لعلمي بالأسرار المغيبة أعلم أن المصلحة في خلقها وثالثها أنه تعالى لما خلق آدم رأت الملائكة خلقاً عجيباً فقالوا ليكن ما شاء فلن يخلق ربنا خلقاً إلا كنا أكرم عليه منه فهذا الذي كتموا ويجوز أن يكون هذا القول سراً أسروه بينهم فأبداه بعضهم لبعض وأسروه عن غيرهم فكان في هذا الفعل الواحد إبداء وكتمان ورابعها وهو قول الحكماء أن الأقسام خمسة لأن الشيء إما أن يكون خيراً محضاً أو شراً محضاً أو ممتزجاً وعلى تقدير الامتزاج فأما أن يعتدل الأمر أن أو يكون الخير غالباً أو يكون الشر غالباً أما الخير المحض فالحكمة تقتضي إيجاده وأما الذي يكون فيه الخير غالباً فالحكمة تقتضي إيجاده لأن ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير فالملائكة ذكروا الفساد والقتل وهو شر قليل بالنسبة إلى ما يحصل منهم من الخيرات فقوله إِنِي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضِ فأعرف أن خيرهم غالب على هذه الشرور فاقتضت الحكمة إيجادهم وتكوينهم
المسألة السادسة اعلم أن في هذه الآية خوفاً عظيماً وفرحاً عظيماً أما الخوف فلأنه تعالى لا يخفى عليه شيء من أحوال الضمائر فيجب أن يجتهد المرء في تصفية باطنه وأن لا يكون بحيث يترك المعصية لاطلاع الخلائق عليها ولا يتركها عند اطلاع الخالق عليها والأخبار مؤكدة لذلك أحدها روى عدي بن حاتم أنه عليه الصلاة والسلام قال ( يؤتى بناس يوم القيامة فيؤمر بهم إلى الجنة حتى إذا دنوا منها ووجدوا رائحتها ونظروا إلى قصورها وإلى ما أعد الله لأهلها نودوا أن اصرفوهم عنها لا نصيب لهم فيها فيرجعون عنها بحسرة ما رجع أحد بمثلها ويقولون يا ربنا لو أدخلتنا النار قبل أن ترينا ما أريتنا من ثوابك وما أعددت فيها لأوليائك كان أهون علينا فنودوا ذاك أردت لكم كنتم إذا خلوتم بارزتموني بالعظائم وإذا لقيتم الناس لقيتموهم بالمحبة مخبتين تراءون الناس بخلاف ما تضمرون عليه في قلوبكم هبتم الناس ولم تهابوني أجللتم الناس ولم تجلوني تركتم المعاصي للناس ولم تتركوها لأجلي كنت أهون الناظرين عليكم فاليوم أذيقكم أليم عذابي مع حرمتكم من النعيم ( وثانيها قال سليمان بن علي لحميد الطويل عظني فقال إن كنت إذا عصيت الله خالياً ظننت أنه يراك فلقد اجترأت على أمر عظيم وإن كنت ظننت أنه لا يراك فلقد كفرت وثالثها قال حاتم الأصم طهر نفسك في ثلاثة أحوال إذا كنت عاملاً بالجوارح فاذكر نظر الله إليك وإذا كنت قائلاً فاذكر سمع الله إليك وإذا كنت ساكتاً عاملاً بالضمير فاذكر علم الله بك إذ هو يقول

إِنَّنِى مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ( طه 46 ) ورابعها اعلم أنه لا اطلاع لأحد على أسرار حكمة الله تعالى فالملائكة وقع نظرهم على الفساد والقتل فاستحقروا البشر ووقع نظرهم على طاعة إبليس فاستعظموه أما علام الغيوب فإنه كان عالماً بأنهم وإن أتوا بالفساد والقتل لكنهم سيأتون بعده بقولهم رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا ( الأعراف 23 ) وأن إبليس وإن أتى بالطاعات لكنه سيأتي بعدها بقوله أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ ومن شأن العقل أن لا يعتمد على ما يراه وأن يكون أبداً في الخوف والوجل فقوله تعالى إِنِي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ معناه أن الذي أعرف الظاهر والباطن والواقع والمتوقع وأعلم أنه ما ترونه عابداً مطيعاً سيكفر ويبعد عن حضرتي ومن ترونه فاسقاً بعيداً سيقرب من خدمتي فالخلق لا يمكنهم أن يخرجوا عن حجاب الجهل ولا يتيسر لهم أن يخرقوا أستار العجز فإنهم لا يحيطون بشيء من علمه ثم إنه سبحانه حقق من علم الغيب وعجز الملائكة أن أظهر من البشر كمال العبودية ومن أشد ساكني السموات عبادة كمال الكفر لئلا يغتر أحد بعمله ويفوضوا معرفة الأشياء إلى حكمة الخالق ويزيلوا الاعتراض بالقلب واللسان عن مصنوعاته ومبدعاته
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَة ِ اسْجُدُواْ لاًّدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ
اعلم أن هذا هو النعمة الرابعة من النعم العامة على جميع البشر وهو أنه سبحانه وتعالى جعل أبانا مسجود الملائكة وذلك لأنه تعالى ذكر تخصيص آدم بالخلافة أولاً ثم تخصيصه بالعلم الكثير ثانياً ثم بلوغه في العلم إلى أن صارت الملائكة عاجزين عن بلوغ درجته في العلم وذكر الآن كونه مسجوداً للملائكة وههنا مسائل
المسألة الأولى الأمر بالسجود حصل قبل أن يسوي الله تعالى خلقة آدم عليه السلام بدليل قوله إِنّى خَالِقٌ بَشَراً مّن طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ ( ص 71 72 ) وظاهر هذه الآية يدل على أنه عليه السلام لما صار حياً صار مسجود الملائكة لأن الفاء في قوله فَقَعُواْ للتعقيب وعلى هذا التقدير يكون تعليم الأسماء ومناظرته مع الملائكة في ذلك حصل بعد أن صار مسجود الملائكة
المسألة الثانية أجمع المسلمون على أن ذلك السجود ليس سجود عبادة لأن سجود العبادة لغير الله كفر والأمر لا يرد بالكفر ثم اختلفوا بعد ذلك على ثلاثة أقوال الأول أن ذلك السجود كان لله تعالى وآدم عليه السلام كان كالقبلة ومن الناس من طعن في هذا القول من وجهين الأول أنه لا يقال صليت للقبلة بل يقال صليت إلى القبلة فلو كان آدم عليه السلام قبلة لذلك السجود لوجب أن يقال اسجدوا إلى آدم فلما لم يرد الأمر هكذا بل قيل اسجدوا لآدم علمنا أن آدم عليه السلام لم يكن قبلة الثاني أن إبليس قال أرأيتك هذا الذي كرمت على أي أن كونه مسجوداً يدل على أنه أعظم حالاً من الساجد ولو كان قبلة لما حصلت هذه الدرجة بدليل أن محمداً عليه الصلاة والسلام كان يصلي إلى الكعبة ولم يلزم أن تكون الكعبة أفضل من محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والجواب عن الأول أنه كما لا يجوز أن يقال صليت إلى القبلة جاز أن يقال صليت للقبلة والدليل

عليه القرآن والشعر أما القرآن فقوله تعالى أَقِمِ الصَّلَواة َ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ( الإسراء 78 ) والصلاة لله لا للدلوك فإذا جاز ذلك فلم لا يجوز أن يقال صليت للقبلة مع أن الصلاة تكون لله تعالى لا للقبلة وأما الشعر فقول حسان فما كنت أعرف أن الأمر منصرف
عن هاشم ثم منها عن أبي حسن
أليس أول من صلى لقبلتكم
وأعرف الناس بالقرآن والسنن
فقوله صلى لقبلتكم نص على المقصود والجواب عن الثاني أن إبليس شكا تكريمه وذلك التكريم لا نسلم أنه حصل بمجرد تلك المسجودية بل لعله حصل بذلك مع أمور أخر فهذا ما في القول الأول أما القول الثاني فهو أن السجدة كانت لآدم عليه السلام تعظيماً له وتحية له كالسلام منهم عليه وقد كانت الأمم السالفة تفعل ذلك كما يحيي المسلمون بعضهم بعضاً بالسلام وقال قتادة في قوله وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَا ( يوسف 100 ) كانت تحية الناس يومئذٍ سجود بعضهم لبعض وعن صهيب أن معاذاً لما قدم من اليمن سجد للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال يا معاذ ما هذا قال إن اليهود تسجد لعظمائها وعلمائها ورأيت النصارى تسجد لقسسها وبطارقتها قلت ما هذا قالوا تحية الأنبياء فقال عليه السلام كذبوا على أنبيائهم وعن الثوري عن سماك بن هاني قال دخل الجاثليق على علي بن أبي طالب فأراد أن يسجد له فقال له عليّ اسجد لله ولا تسجد لي وقال عليه الصلاة والسلام لو أمرت أحداً أن يسجد لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لعظم حقه عليها القول الثالث أن السجود في أصل اللغة هو الانقياد والخضوع قال الشاعر
( ترى الأكم فيها سجداً للحوافر )
أي تلك الجبال الصغار كانت مذللة لحوافر الخيل ومنه قوله تعالى وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ ( الرحمن 6 ) واعلم أن القول الأول ضعيف لأن المقصود من هذه القصة شرح تعظيم آدم عليه السلام وجعله مجرد القبلة لا يفيد تعظيم حاله وأما القول الثالث فضعيف أيضاً لأن السجود لا شك أنه في عرف الشرع عبارة عن وضع الجبهة على الأرض فوجب أن يكون في أصل اللغة كذلك لأن الأصل عدم التغيير فإن قيل السجود عبادة والعبادة لغير الله لا تجوز قلنا لا نسلم أنه عبادة بيانه أن الفعل قد يصير بالمواضعة مفيداً كالقول يبين ذلك أن قيام أحدنا للغير يفيد من الأعظام ما يفيده القول وما ذاك إلا للعبادة وإذا ثبت ذلك لم يمتنع أن يكون في بعض الأوقات سقوط الإنسان على الأرض وإلصاقه الجبين بها مفيداً ضرباً من التعظيم وإن لم يكن ذلك عبادة وإذا كان كذلك لم يمتنع أن يتعبد الله الملائكة بذلك إظهاراً لرفعته وكرامته
المسألة الثالثة اختلفوا في أن إبليس هل كان من الملائكة قال بعض المتكلمين ولا سيما المعتزلة إنه لم يكن منهم وقال كثير من الفقهاء إنه كان منهم واحتج الأولون بوجوه
أحدها أنه كان من الجن فوجب أن لا يكون من الملائكة وإنما قلنا إنه كان من الجن لقوله تعالى في سورة الكهف إلا إبليس كان من الجن الكهف 50 واعلم أن من الناس من ظن أنه لما ثبت أنه كان من

الجن وجب أن لا يكون من الملائكة لأن الجن جنس مخالف للملك وهذا ضعيف لأن الجن مأخوذ من الاجتنان وهو الستر ولهذا سمي الجنين جنينا لاجتنابه ومنه الجنة لكونها ساترة والجنة لكونها مستترة بالأغصان ومنه الجنون لاستتار العقل فيه ولما ثبت هذا والملائكة مستورون عن العيون وجب إطلاق لفظ الجن عليهم بحسب اللغة فثبت أن هذا القدر لا يفيد المقصود فنقول لما ثبت أن إبليس كان من الجن وجب أن لا يكون من الملائكة لقوله تعالى ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا ومن دونهم بل كانوا يعبدون الجن سبأ 41 وهذه الآية صريحة في الفرق بين الجن والملك فإن قيل لا نسلم أنه كان من الجن أما قوله تعالى كان من الجن الكهف 50 فلم يجوز أن يكون المراد كان من الجنة على ما روي عن ابن مسعود أنه قال كان من الجن أي كان خازن الجنة سلمنا ذلك لكن لم لا يجوز أن يكون قوله من الجن أي صار من الجن كما أن قوله وكان من الكافرين أي صار من الكافرين سلمنا أن ما ذكرت يدل على أنه من الجن فلم قلت إن كونه من الجن ينافي كونه من الملائكة وما ذكرتم من الآية معارض بآية أخرى وهي قوله تعالى وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا الصافات 158 وذلك لأن قريشا قالت الملائكة بنات الله فهذه الآية تدل على أن الملك يسمى جنا والجواب لا يجوز أن يكون المراد منه قوله كان من الجن الكهف 50 أنه كان خازن الجنة لأن قوله إلا إبليس كان من الجن يشعر بتعليل تركه للسجود لكونه جنيا ولا يمكن تعليل ترك السجود بكونه خازنا للجنة فيبطل ذلك قوله كان من الجن أي صار من الجن قلنا هذا خلاف الظاهر فلا يصار إليه إلا عند الضرورة وأما قوله تعالى وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا الصافات 158 قلنا يحتمل أن بعض الكفار أثبت ذلك النسب في الجن كما أثبته في الملائكة وأيضا فقد بينا أن الملك يسمى جنا بحسب أصل اللغة لكن لفظ الجن بحسب العرف اختص بغيرهم كما أن لفظ الدابة وإن كان بحسب اللغة الأصلية يتناول كل ما يدب لكنه بحسب العرف اختص ببعض ما يدب فتحمل هذه الآية على اللغة اصلية والآية التي ذكرناها على العرف الحادث
وثانيها أن ابليس له ذرية والملائكة لا ذرية لهم إنما قلنا أن ابليس له ذرية لقولع تعالى في صفته أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني الكهف 50 وهذا صريح في إثبات الذرية له وإنما قلنا إن الملائكة لا ذريو لهم لأن الذرية إنما تحصل من الذكر والأنثى والملائكة لا أنثى فيهم لقوله تعالى وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم الزخرف 19 أنكر على من حكم عليهم بالأنوثة فإذا انتفت الأنوثة انتفى الولد لا محالة فانتفت الذرية
وثالثها أن الملائكة معصومون على ما تقدم بيانه وإبليس لم يكن كذلك فوجب أن لا يكون من الملائكة
ورابعها أن ابليس مخلوق من النار والملائكة ليسوا كذلك إنما قلنا إن ابليس مخلوق من النار لقوله تعالى حكاية عن إبليس خلقتني من نار الأعراف 12 وأيضا فلأنه كان من الجن لقوله تعالى كان من الجن الكهف 50 والجن مخلوق من النار لقوله تعالى والجان خلقناه من قبل من نار السموم الحجر 27 وقال خلق الإنسان من صلصال كالفخار وخلق الجان من مارج من نار الرحمن 15 وأما أن الملائكة ليسوا مخلوقين من النار بل من النور فلما روى الزهري عن عروة عن عائشة عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال خلقت

الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار ولأن من المشهور الذي يدفع أن الملائكة روحانيون وقيل إنما سموا بذلك لأنهم خلقوا من الريح أو الروح
وخامسها أن الملائكة رسل لقوله تعالى جاعل الملائكة رسلا فاطر 1 ورسل الله معصومون لقوله تعالى الله أعلم حيث يجعل رسالته الأنعام 124 فلما لم يكن ابليس كذلك وجب أن لا يكون من الملائكة واحتج القائلون بكونه من الملائكة بأمرين
الأول أن الله تعالى استثناه من الملائكة والاستثناء يفيد إخراج ما لولاه لدخل أو لصح دخوله وذلك يوجب كونه من الملائكة لا يقال الاستثناء المنقطع مشهور في كلام العرب قال تعالى وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني الزخرف 27 وقال تعالى لا يسمعون فيها لغوا ولا تأئيما إلا قيلا سلاما سلاما الواقعة 25 وقال تعالى لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض النساء 29 وقال تعالى وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ النساء 92 وأيضا فلأنه كان جنيا واحدا بين الألوف من الملائكة فغلبوا عليه في قوله فسجدوا ثم استثنى هو منهم استثناء واحد منهم لأنا نقول كل واحد من هذين الوجهين على خلاف الأصل فذلك إنما صار إليه عند الضرورة والدلائل التي ذكرتموها في نفي كونه من الملائكة ليس فيها إلا الاعتماد على العمومات فلو حعلناه من الملائكة لزم تخصيص ما عولتم عليه من العمومات ولو قلنا إنه ليس من الملائكة لزمنا حمل الاستثناء على الاستثناء المنقطع ومعلوم أن تخصيص العمومات أكثر في كتاب الله تعالى من حمل الاستثنناء على الاستثناء المنقطع فكان قولنا أولى أيضا فالاستثناء مشتق من الثني والصرف ومعنى الصرف إنما يتحقق حيث لولا الصرف لدخل والشيء لا يدخل في غير جنسه فيمتنع تحقق معنى الاستثناء فيه وأما قوله أنه جني واحد بين الملائكة فنقول إنما يجوز إجراء حكم الكثير على القليل إذا كان القليل ساقط العبرة غير ملتفت إليه إذا كان معظم الحديث لا يكون إلا عن ذلك الواحد لم يجز إجراء حكم غيره عليه
الحجة الثانية قالوا لو لم يكن ابليس من الملائكة لما كان قوله وإذا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم متناولا له ولو يكن متناولا له لاستحال أن يكون تركه للسجود إباء واستكبار ومعصية ولما استحق الذم والعقاب وحيث حصلت هذه الأمور علمنا أن ذلك الخطاب يتناوله ولا يتناوله ذلك الخطاب إلا إذا كان من الملائكة لا يقال إنه وإن لم يكن من الملائكة إلا أنه نشأ معهم وطالت مخالطته بهم والتصق بهم فلا جرم يتناوله ذلك الخطاب وأيضا فلم لا يجوز أن يقال إنه وإن لم يدخل في هذا الأمر ولكن الله تعالى أمره بالسجود بلفظ آخر ما حكاه في القرآن بدليل قوله وما منعك أن لا تسجد إذا أمرتك الأعراف 12 لأنا نقول أما الأول فجوابه أن المخالطة لا توجب ما ذكرتموه ولهذا قلنا في أصول الفقه إن خطاب الذكور لا يتناول الإناث وبالعكس مع شدة المخالطة بين الصنفين وأيضا فشدة المخالطة بين الملائكة وبين ابليس لما لم تمنع اقتصار اللعن على ابليس فكيف تمنع اقتصار ذلك التكليف على الملائكة وأما الثاني فجوابه أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية فلما ذكر قوله أبى واستكبر عقيب قوله وإذا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم أشعر هذا التعقيب بأن هذا الإباء إنما حصل بسبب مخالفة هذا الأمر لا بسبب مخالفة أمر آخر فهذا ما عندي في الجانبين والله أعلم بحقائق الأمور

المسألة الرابعة اعلم أن جماعة من أصحابنا يحتجون بأمر الله تعالى للملائكة بسجود آدم عليه السلام على أن آدم أفضل من الملائكة فرأينا أن نذكر ههنا هذه المسألة فنقول قال أكثر أهل السنة الأنبياء أفضل من الملائكة وقالت المعتزلة بل الملائكة أفضل من الأنبياء وهو قول جمهور الشيعة وهذا القول اختيار القاضي أبي بكر الباقلاني من المتكلمين منا وأبي عبد الله الحليمي من فقهائنا ونحن نذكر محصل الكلام من الجانبين أما القائلون بأن الملائكة أفضل من البشر فقد احتجوا بأمور أحدها قوله تعالى ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته الأنبياء 19 إلى قوله يسبحون الليل والنهار ولا يفترون الأنبياء 20 والاستدلال بهذه الآية من وجهين
الأول أنه ليس المراد من هذه العندية المكان والجهة فإن ذلك محال على الله تعالى بل عندية القرب والشرف ولما كانت هذه الآية واردة في صفة الملائكة علمنا أن هذا النوع من القربة والشرف حاصل لهم لا لغيرهم ولقائل أن يقول إنه تعالى أثبت هذه العندية في الآخرة لآحاد المؤمنين وهو قوله في مقعد صدق عند مليك مقتدر القمر 55 وأما في الدنيا فقال عليه الصلاة والسلام حاكيا عنه سبحانه { أنا عند المنكسرة قلوبهم لأجلي } وهذا أكثر إشعارا بالتعظيم لأن هذا الحديث يدل على أنه سبحانه عند هؤلاء المنكرة قلوبهم وما احتجوا به من الآية يدل على أن الملائكة عند الله تعالى ولا شك أن كون الله تعالى عند العبد أدخل في التعظيم من كون العبد عند الله تعالى
الوجه الثاني في الاستدلال بالآية أن الله تعالى احتج بعدم استكبارهم على أن غيرهم وجب أن لا يستكبروا ولو كان البشر أفضل منهم لما تم هذا الاحتجاج فإن السلطان إذا أراد أن يقرر على رعيته وجوب طاعتهم له يقول الملوك لا يستكبرون عن طاعتي فمن هؤلاء المساكين حتى يتمردوا عن طاعتي وبالجملة فمعلوم أن هذا الاستدلال لا يتم إلا بالأقوى على الأضعف ولقائل أن يقول لا نزاع في أن الملائكة أشد قوة وقدرة من البشر ويكفي في صحة الاستدلال هذا القدر من التفاوت فإنه تعالى يقول إن الملائكة مع شدة قوتهم واستيلائهم على أجرام السموات والأرض وأمنهم من الهرم والمرض وطول أعمارهم لا يتركون العبودية لحظة واحدة والبشر مع نهاية ضعفهم ووقوعهم في أسرع الأحوال في المرض والهرم وأنواع الآفات أولى أن لا يتمردوا فهذا القدر من التفاوت كاف في صحة هذا الاستدلال ولا نزاع في حصول التفاوت في هذا المعنى إنما النزاع في الأفضلية بمعنى كثرة الثواب فلم قلتم إن هذا الاستدلال لا يصح إلا إذا كان الملك أكثر ثوابا من البشر ولا بد فيه من دليل مع أن المتبادر إلى الفهم هو الذي ذكرناه وثانيها أنهم قالوا عبادات الملائكة أشق من عبادات البشر فتكون أكثر ثوابا من عبادات البشر وإنما قلنا إنها أشق لوجوه
أحدها أن ميلهم إلى التمرد أشد فتكون طاعتهم أشق وإنما قلنا إن ميلهم إلى التمرد أشد لأن العبد السليم من الآفات المستغني عن طلب الحاجات يكون أميل إلى النعم والالتذاذ من المغمور في الحاجات فإنه يكون كالمضطرب في الرجوع إلى عبادة مولاه والالتجاء إليه ولهذا قال تعالى فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون العنكبوت 65 ومعلوم أن الملائكة سكان السموات وهي جنات وبساتين ومواضع التنزه والراحة وهم آمنون

من المرض والفقر ثم إنهم مع استكمال أسباب التنعم لهم أبدا مذ خلقوا مشتغلون بالعبادة خاشعون وجلون مشفقون كأنهم مسجونون لا يلتفتون إلى نعيم الجنان واللذات بل هم مقبلون على الطاعات الشاقة موصوفون بالخوف الشديد ولافزع العظيم وكأنه لا يقدر أحد من بني آدم أن يبقى كذلك يوما وادحا فضلا عن تلك الأعصار المتطاولة ويؤكده قصة آدم عليه السلام فإنه أطلق له جميع مواضع الجنة بقوله وكلا منها رغدا حيث شئتما البقرة 35 ثم منع من شجرة واحدة فلم يملك نفسه حتى وقع في الشر وذلك يدل على أن طاعتهم أشق من طاعات البشر
وثانيها أن انتقال المكلف من نوع عبادة إلى نوع آخر كالانتقال من بستان إلى بستان أما الإقامة على نوع واحد فإنها تورث المشقة والملالة ولهذا السبب جعلت التصانيف مقسومة بالأبواب والفصول وجعل كتاب الله مقسوما بالسور والأحزاب والأعشار والأخماس ثم إن الملائكة كل واحد منهم مواظب على عمل واحد لا يعدل عنه إلى غيره على ما قال سبحانه يسبحون الليل والنهار لا يفترون الأنبياء 20 وقال وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون الصافات 165 166 وإذا كان كذلك كانت عبادتهم في نهاية المشقة إذا ثبت وجب أن تكون عباداتهم أفضل عليه الصلاة والسلام { أفضل الأعمال أحمزها } أي أشقها وقوله لعائشة رضي الله عنها { إنما أجرك على قدر نصبك } والقياس أيضا يقتضي ذلك فإن العبد كلما كان تحمله المشاق لأجل رضا مولاه أكثر كان أحق بالتعظيم والتقديم
والقائل أن يقول على الوجهين هب أن مشقتهم أكثر فلم قلتم يجب أن يكون ثوابهم أكبر وذلك لأنا نرى بعض الصوفية في زماننا هذا يتحملون في طريق المجاهدة من المشاق والمتاعب ما يقطع بأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ما كان يتحمل بعض ذلك ثم إنا نقطع بأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أفضل منه ومن أمثاله بل يحكى عن عباد الهند وزهادهم ورهبانهم أنهم يتحملون من المتاعب في التواضع لله تعالى ما لم يحك مثله عن أحد من الأنبياء والأولياء مع أنا نقطع بكفرهم فعلمنا أن كثرة المشقة في العبادة لا تقتضي زيادة الثواب وتحقيقه هو أن كثرة الثواب لا تحصل إلا بناء على الدواعي والقصود فلعل الفعل الواحد يأتي به مكلفان على السواء فيما يتعلق بالأفعال الظاهرة ويستحق أحدهما به ثوابا عظيما والآخر لا يستحق به ثوالا قليلا لما أن إخلاص أحدهما أشد وأكثر من إخلاص الثاني فإذن كثرة العبادات ومشقتها لا تقتضي التفاوت في الفضل ثم نقول لا نسلم أن عبادات الملائكة أشق
أما قوله في الوجه الأول السموات كالبساتين النزهة قلنا مسلم ولكن لم قلتم بأن الاتيان بالعبادة في المواضع الطيبة أشق من الاتيان بها في المواضع الرديئة أكثر ما في الباب أن يقال إنه قد يهيأ له أسباب التنعم فامتناعه عنها مع تهيتها له أشق ولكنه معارض بما أن أسباب البلاء مجتمهة على البشر ثم إنهم مع اجتماعها عليهم يرضون بقضاء الله ولا تغيرهم تلك المحن والآفات عن الخشوع له والمواظبة على عبوديته وذلك أدخل في العبودية وذلك أن الخدم والعبيد تطيب قلوبهم بالخدمة حال ما يجدون من النعم والرفاهية ولا يصبر أحد منهم حال المشقة على الخدمة إلا من كان في نهاية الإخلاص فما ذكروه بالعكس أولى أما قوله والمواظبة على نوع واحد من العبادة شاق قلنا هذا معارض بوجه آخر وهو أنهم لما

اعتادوا نوعا واحدا من العبادة صاروا كالمجبورين على الشيء الذي لا يقدرون على خلافه على ما قيل العادة طبيعة خامسة فيكون ذلك النوع في نهاية السهولة عليهم ولذلك فإن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) نهى عن الوصال في الصوم وقال { أفضل الصوم صوم داود عليه السلام } وهو أن يصوم يوما ويفطر يوما
وثالثها قالوا عبادات الملائكة أدوم فكانت أفضل بيان أنها أدوم قوله سبحانه وتعالى يسبحون الليل والنهار لا يفترون الأنبياء 20 وعلى هذا لو كانت أعمارهم مساوية لأعمار البشر لكانت طاعاتهم أدوم وأكثر فكيف ولا نسبة لعمر كل البشر إلى عمر الملائكة على ما تقدم بيانه في باب صفات الملائكة وعلى هذه الآية سؤال روي في شعب الإيمان عن عبد الله بن الحارث بن نوفل قال قلت لكعب أرأيت قول الله تعالى يسبحون الليل والنهار لا يفترون ثم قال جاعل الملائكة رسلا فاطر 1 أفلا تكون الرسالة مانعة لهم عن هذا التسبيح وأيضا قال أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين البقرة 161 فكيف يكونون مشتغلين باللعن حال اشتغالهم باللعن حال اشتغالهم بالتسبيح أجاب كعب الأحبار فقال التسبيح لهم كالتنفس لنا فكلما أن اشتغالنا بالتنفس لا يمنعنا من الكلام فكذلك اشتغالنا بالتسبيح لا يمنعهم من سائر الأعمال
وأقول لقائل أن يقول الاشتغال بالتنفس إنما لم يمنع من الكلام لأن آلة التنفس غير آلة الكلام أما اللعن والتسبيح فهما من جنس الكلام فاجتماعهما في الآية الواحدة محال والجواب الأول أي استبعاد في أن يخلق الله تعالى لهم ألسن كثيرة يسبحون الله تعالى ببعضها ويلعنون أعداء الله تعالى بالبعض الآخر والجواب الثاني اللعن هو الطرد والتبعيد والتسبيح هو الخوض في ثناء الله تعالى ولا شك أن ثناء الله يسلتزم تبعيد من اعتقد في الله ما لا ينبغي فكان ذلك اللعن من لوازمه والجواب الثالث قوله لا يفترون الأنبياء 20 معناه أنهم لا يفترون عن العزم على أدائه في أوقاته اللائقة به كما يقال إن فلانا مواظب على الجماعات لا يفتر عنها لا يراد به أنه ابدا مشتغل بها بل يراد به أنه مواظب على العزم أبدا على أدائها في أوقاتها وإذا ثبت أن عبادتهم أدوم وجب أن تكون أفضل أما أولا فلأن الأدوم أشق فيكون أفضل على ما سبق تقريره في الحجة الثانية وأما ثانيا فلقوله عليه السلام أفضل العباد من طال عمره وحسن عمله والملائكة صلوات الله عليهم أطول العباد أعمارا وأحسنهم أعمالا فوجب أن يكونوا أفضل العباد لأنه عليه السلام قال { الشيخ في قومه كالنبي في أمته } وهذا يقتضي أن يكونوا في البشر كالنبي في الأمة وذلك يوجب فضلهم على البشر
ولقائل أن يقول إن نوحا عليه السلام وكذا لقمان وكذا الخضر كانوا أطول عمرا من محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فوجب أن يكونوا أفضل من محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك باطل بالاتفاق فبطل ما قالوه وقد نجد في الأمة من هو أطول عمرا وأشد اجتهادا من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهو منه أبعد في الدرجة من العرش إلى ما تحت الثرى والتحقيق فيه ما بينا أن كثرة الثواب إنما تحصل لأمر يرجع إلى الدواعي والقصود فيجوز أن تكون الطاعة القليلة تقع من الإنسان على وجه يستحق بها ثوابا كثيرا والطاعات الكثيرة تقع على وجه لا يستحق بها إلا ثوابا قليلا
ورابعها أنهم أسبق السابقين في كل العبادات لا خصلة من خصال الدين إلا وهم أئمة مقدمون فيها بل هم المنشئون العامرون لطرق الدين والسبق في العبادة جهة تفضيل وتعظيم أما أولا

فبالاجماع وأما ثانيا فلقوله تعالى والسابقون السابقون أولئك المقربون الواقعة 10 وأما ثالثا فلقوله عليه السلام { من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة } فهذا يقتضي أن يكون قد حصل للملائكة من الثواب كل ما حصل للأنبياء مع زيادة الثواب التي استحقوها بأفعالهم التي أتوا بها قبل خلق البشر ولقائل أن يقول فهذا يقتضي أن يكون آدم عليه السلام أفضل من محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه أول من سن عبادة الله تعالى من البشر وأول من سن دعوة الكفار إلى الله تعالى ولما كان ذلك باطلا بالاجماع بطل ما ذكروه والتحقيق فيه ما قدمناه أن كثرة الثواب تكون بأمر يرجع إلى النية فيجوز أن تكون نية المتأخر أصفى فيستحق من الثواب أكثر ما يستحقه المتقدم
وخامسها أن الملائكة رسل الأنبياء والرسول أفضل من الأمة فالملائكة أفضل من الأنبياء أما أن الملائكة رسل إلى الأنبياء فلقوله تعالى علمه شديد القوى النجم 5 وقوله نزل به الروح الأمين على قلبك الشعراء 193 وأما أن الرسول أفضل من الأمة فالبقياس على أن الأنبياء من البشر أفضل من أممهم فكذا ههنا فإن قيل العرف أن السلطان إذا أرسل واحدا إلى جمع عظيم ليكون حاكما فيهم ومتوليا لأمورهم فذلك الرسول يكون أشرف من ذلك الجمع أما إذا أرسل واحدا إلى واحد فقد لا يكون الرسول أشرف من المرسل إليه كما إذا أرسل واحدا من عبيده إلى وزيره في مهم فإنه لا يلزم أن يكون ذلك العبد أشرف من الوزير قلنا لكن جبريل عليه السلام مبعوث إلى كافة الأنبياء والرسل من البشر فلزم على هذا القانون الذي ذكره السائل أن يكون جبريل عليه السلام أفضل منهم
واعلم أن هذه الحجة يمكن تقريرها على وجه آخر وهو أن الملائكة رسل لقوله تعالى جاعل الملائكة رسلا فاطر 1 ثم لا يخلو الحال من أحد أمرين إما أن يكون الملك رسولا إلى ملك آخر أو إلى واحد من الأنبياء الذين هم من البشر وعلى التقدير فالملك رسول وأمته رسل وأما الرسول البشري فهو رسول لكن أمته ليسوا برسل والرسول الذي كل أمته رسل أفضل من الرسول الذي لا يكون كذلك فثبت فضل الملك على البشر من هذه الجهة ولأن إبراهيم عليه السلام كان رسولا إلى لوط عليه السلام فكان أفضل منه وموسى عليه السلام كان رسولا إلى الأنبياء الذين كانوا في عسكره وكان أفضل منهم فكذا ههنا ولقائل أن يقول الملك إذا أرسل رسولا إلى بعض النواحي قد يكون ذلك لأنه جعل ذلك الرسول حاكما عليهم ومتوليا لأمورهم ومتصرفا في أحوالهم وقد لا يكون لأنه يبعثه إليهم ليخبرهم عن بعض الأمور مع أنه لا يجعله حاكما عليهم ومتوليا لأمورهم فالرسول في القسم الأول يجب أن يكون أفضل من المرسل إليه أما في القسم الثاني فظاهر أنه لا يجب أن يكون أفضل من المرسل إليه فالأنبياء المبعوثون إلى أممهم من القسم الأول فلا جرم كانوا أفضل من الأمم فلم قلتم إن بعثة الملائكة إلى الأنبياء من القسم الأول حتى يلزم أن يكونوا أفضل من الأنبياء
وسادسها أن الملائكة أتقى من البشر فوجب أن يكونوا أفضل من البشر أنا أنهم أتقى فلأنهم مبرؤون عن الزلات وعن الميل إليها لأن خوفهم دائم وإشفاقهم دائم لقوله تعالى يخافون ربهم من فوقهم النحل 50 وقوله وهم من خشيته مشفقون الأنبياء 28 والخوف والاشفاق ينافيان العزم على المعصية وأما الأنبياء عليهم السلام فهم مع أنهم أفضل البشر ما خلا منهم عن نوع زلة وقال عليه

الصلاة والسلام ما منا من أحد إلا عصى أو هم بمعصية غير يحيى بن زكريا عليهما السلام فثبت أن تقوى الملائكة أشد فوجب أن يكونوا أفضل من البشر لقوله تعالى إن أكرمكم عند الله أتقاكم الحجرات 13 فإن قيل إن قوله إن أكرمكم عند الله أتقاكم خطاب مع الآدميين فلا يتناول الملائكة وأيضا فالتقوى مشتق من الوقاية ولا شهوة في حق الملائكة فيستحيل تحقق التقوى في حقهم والجواب عن الأول أن ترتيب الكرامة على التقوى يدل على أن الكرامة معللة بالتقوى فحيث كانت التقوى أكثر كانت الكرامة أكثر وعن الثاني لا نسلن عدم الشهوة في حقهم لكن لا شهوة لهم إلا الأكل والمباشرة ولكن لا يلزم من عدم شهوة معينة عدم مطلق الشهوة بل لهم شهوة التقدم والترفع ولهذا قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك وقال تعالى ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم الأنبياء 29 ولقائل أن يقول الحديث الذي ذكرتم يدل على أن يحيى عليه السلام كان أتقى من سائر الأنبياء فوجب أن يكون أفضل من محمد وذلك باطل بالاجماع فعلمنا أنه لا يلزم من زيادة التقوى زيادة الفضل وتحقيقه ما قدمنا أن من المحتمل أن يكون إنسان لم تصدر عنه المعصية قط وصدر عنه من الطاعات ما استحق به مائة جزء من الثواب وإنسان آخر صدرت عنه المعصية ثم أتى بطاعة استحق بها ألف جزء من الثواب فليقابل مائة جزء من الثواب بمئة جزء من العقاب فيبقى له تسعمائة جزء من الثواب فهذا الإنسان مع صدور المعصية منه يكون أفضل من الإنسان الذي لمتصدر المعصية عنه قط وأيضا فلا نسلن أن تقوى الملائكة أشد وذلك لأن التقوى مشتق من الوقاية والمقتضى للمعصية في حق بني آدم أكثر فكان تقوى المتقين منهم أكثر قوله إن الملائكة لهم شهوة الرياسة قلنا هذا لا يضرنا لأن هذه الشهوة حاصلة للبشر أيضا وقد حصلت لهم أنواع أخر من الشهوات وهي شهوة البطن والفرج وإذا كان كذلك كانت الشهوات الصارفة عن الطاعات أكثر في بني آدم فوجب أن تكون تقوى المتقين منهم أشد
وسابعها قوله تعالى لن يستنكف المسيح أن يكون عبد لله ولا الملائكة النقربون النساء 172 وجه الاستدلال أن قوله تعالى ولا الملائكة المقربون خرج مخرج التأكيد للأول ومثل هذا التأكيد إنما يكون بذكر الأفضل يقال هذه الخشبة لا يقدر على حملها العشرة ولا المائة ولا يقال لا يستنكف عن خدمته الوزير ولا البواب ولقائل هذه الآية إذا دلت فإنما تدل على فضل الملائكة المقربين على المسيح لكن لا يلزم منه فضل الملائكة النقربين على من هو أفضل من المسيح وهو محمد وموسى وإبراهيم عليهم الصلاة والسلام وبالجملة فلو ثبت أن المسيح أفضل من كل الأنبياء كان مقصودهم حاصلا فأما إذا لم يقيموا الدلالة على ذلك فلا يحصل مقصودهم لا سيما وقد أجمع المسلمون على أن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أفضل من المسيح عليه السلام وما رأينا أحد من المسلمين قطع بفضل المسيح على موسى وإبراهيم عليهما السلام ثم نقول قوله ولا الملائكة المقربون ليس فيه إلا واو العطف والواو للجمع المطلق فيدل على أن المسيح لا يستنكف والملائكة لا يستنكفون فأما أن يدل على أن الملائكة أفضل من المسيح فلا وأما الأمثلة التي ذكروها فنقول المثال لا يكفي في إثبات الدعوى الكلية ثم إن المثال معارض بأمثلة أخرى وهو قوله ما أعانني على هذا الأمر زيد ولا عمرو فهذا لا يفيد كون عمرو أفضل من زيد وكذا قوله تعالى ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام المائدة 2 ولما اختلفت الأمثلة امتنع التعويل عليها ثم التحقيق أنه إذا قال

هذه الخشبة لا يقدر على حملها الواحد ول العشرة فنحن بعقولنا أن العشرة أقوى من الواحد فلا جرم عرفنا أن الغرض من ذكر الثاني المبالغة فهذه المبالغة إنما عرفناها بهذا الطريق لا من مجرد اللفظ فههنا في الآية إنما يمكننا أن نعرف أن المراد من قوله ولا الملائكة المقربون النساء 172 بيان المبالغة لو عرفنا قبل ذلك ان الملائكة المقربين أفضل من المسيح وحينئذ تتوقف صحة الاستدلال بهذه الآية على ثبوت الملطوب قبل هذا الدليل ويتوقف ثبوت المطلوب على دلالة هذه الآية عليه فيلزم الدور وأنه باطل سلمنا أنه يفيد التفاوت لكنه لا يفيد التفاوت في كل الدرجات بل في بعض دون آخر بيانه أنه إذا قيل هذا العالم لا يستنكف عن خدمته القاضي ولا السلطان ولا يدل على كونه أفضل من القاضي في العلم والزهد والخضوع لله تعالى إذا ثبت هذا فنحن نقول بموجبه وذلك لأن الملك أفضل من البشر في القدرة والبطش فإن جبريل عليه السلام قلع مدائن لوط والبشر لا يقدرون على شيء من ذلك فلم قلتم إن الملك أفضل من البشر في كثرة الثواب الحاصل بسبب مزيد الخضزع والعبودية وتمام التحقيق فيه أن الفضل المختلف فيه في هذه المسألة هو كثرة الثواب وكثرة الثواب لا تحصل إلا بالعبودية والعبودية عبارة عن نهاية التواضع والخضوع وكون العبد موضوفا بنهاية التواضع لله تعالى لا يناسب الاستنكاف عن عبودية الله ولا يلائمها البتة بل يناقضها وينافيها وإذا كان هذا الكلام ظاهرا جليا كان حمل كلام الله تعالى عليه مخرجا له عن الفائدة أنا اتصاف الشخص بالقدرة الشديدة والاستيلاء العظيم فإنه مناسب للتمرد وترك العبودية فالنصارى لما شاهدوا من المسيح عليه السلام إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص أخرجوه عن العبودية بسبب هذا القدر من القدرة فقال الله تعالى إن عيسى لا يستنكف بسبب هذا القدر من القدرة عن عبوديتي بل ولا الملائكة المقربون الذين هم فوقه في القدرة والقوة والبطش والاستيلاء على عوالم السموات والأرضين وعلى هذا الوجه ينتظم وجه دلالة الآية على أن الملك أفضل من البشر في لبشدة والبطش لكنها لا تدل البتة على أنه أفضل من البشر في كثرة الثواب أو يقال إنهم إنما ادعوا إلهيته لأنه حصل من غير أب فقيل لهم الملك ما حصل من أب ولا من أم فكانوا أعجب من عيسى في ذلك مع لأنهم لا يستنكفون عن العبودية
فإن قيل في الآية ما يدل على أن المراد وقوع التفاوت بين المسيح والملائكة في العبودية لا في القدرة والقوة والبطش وذلك لأنه تعالى وصفهم بكونهم مقربين والقرب من الله تعالى لا يكون بالمكان والجهة بل بالدرجة والمنزلة فلما وصفهم ههنا بكونهم مقربين علمنا أن المراد وقوع التفاوت بينهم وبين المسيح في درجات الفضل لا في الشدة والبطش قلنا إن كان مقصودك من هذا السؤال أنه تعالى وصف الملائكة بكونهم مقربين فوجب أن لا يكون المسيح كذلك فهذا باطل لأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفيه عما عداه وإن كان مقصودك أنه تعالى لما وصفهم بكونهم مقربين وجب أن يكون التفاوت واقعا في ذلك فهذا باطل أيضا لاحتمال أن يكون المسيح والمقربون مع اشتراكهم في صفة القرب في الطاعة يتباينون بأمور أخر فيكون المراد بيان التفاوت في تلك الأمور سؤال آخر وهو أنا نقول بموجب الآية فنسلن أن عيسى عليه السلام دون مجموع الملائكة في الفضل فلم قلتم إنه دون كل واحد من الملائكة في الفضل سؤال آخر لعله تعالى إنما ذكر هذا الخطاب مع أقوام اعتقدوا أن الملك أفضل من البشر فأورد الكلام على حسب معتقدهم كما في قوله وهو أهون عليه الروم 27

وثامنها قوله تعالى حكاية عن إبليس ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين الأعراف 20 ولو لم يكن متقررا عند آدم وحواء عليهما السلام أن الملك أفضل من البشر لم يقدر إبليس على أن يغريهما بذلك ولا كان آدم وحواء عليهما السلام يغتران بذلك ولقائل أن يقول هذا قول إبليس فلا يكون حجة ولا يقال إن آدم اعتقد صحة ذلك وإلا لما اغتر واعتقاد آدم حجة لأنا نقول لعل آدم عليه السلام أخطأ في ذلك إما لأن الزلة جائزة على الأنبياء أو لأنه ما كان نبيا في ذلك الوقت وأيضا هب أنه حجة لكن آدم عليه السلام لم يكن قبل الزلة نبيا قلم يلزم من فضل الملك عليعه في ذلك الوقت فضل الملك عليه حال ما صار نبيا وأيضا هب أن الآية تدل على أن الملك أفضل من البشر في بعض الأمور المرغوبة فلم قلت إنها تدل على فضل الملك على البشر في باب الثواب وذلك لأنه لا نزاع أن الملك أفضل من البشر في باب القدرة والقوة وفي باب الحسن والجمال وفي باب الصفاء والنقاء عن الكدورات الحاصلة بسبب التركيبات فإن الملائكة خلقوا من الأنوار وآدم مخلوق من التراب فلعل آدم عليه السلام وإن كان أفضل منهم في كثرة الثواب إلا أنه رغب في أن يكون مساويا لهم في تلك الأمور التي عددناها فكان التغرير حاصلا من هذا الوجه وأيضا فقوله إلا أن تكونا ملكين الأعراف 20 يحتمل أن يكون المراد إلا أن تنقلبا ملكين فحينئذ يصح استدلالكم ويحتمل أن يكون المراد أن النهي مختص بالملائكة والخالدين دونكما هذا كما يقال أحدنا لغيره ما نهيت أنت عن كذا إلا أن تكون فلانا ويكون المعنى أن المنهي هو فلان دونك ولم يرد إلا أن ينقلب فيصير فلانا ولما كان غرض إبليس إيقاع الشبهة بهما فمن أوكد الشبهة إيهام أنهما لم ينهيا وإنما المنهي غيرهما وأيضا فهب أن الآية تدل على أن الملك أفضل من آدم فلم قلت أنها تدل على أن الملك أفضل من محمد وذلك لأن المسلمين أجمعوا على أن محمدا أفضل من آدم عليهما السلام ولا يلزم من كون الملك أفضل من المفضول كونه أفضل من الأفضل
وتاسعها قوله تعالى قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك الأنعام 50 ولقائل أن يقول يحتمل أن يكون المراد ولا أقول لكم إني ملك في كثرة العلوم وشدة القدرة والذي يدل على صحبة هذا الاحتمال وجوه الأول وهو أن الكفار طالبوه بالأمور العظيمة نحو صعود السماء ونقل الجبال وإحضار الأموال العظيمة وهذه الأمور لا يمكن تحصيلها إلا بالعلوم الكثيرة والقدرة الشديدة الثاني أن قوله قل لا أقول لكم عندي خزائن الله هذا يدل على اعترافه بأنه غير قادر على كل المقدورات وقوله ولا أعلم بالغيب يدل على اعترافه بأنه غير عالم بكل المعلومات ثم قوله ولا أقول لكم إني ملك معناه والله أعلم وكما لا أدعي القدرة على مل المقدروات والعلم بكل المعلومات فكذلك لا أدعي قدرة مثل قدرة الملك ولا علما مثل علومهم الثالث قوله ولا أقول لكم إني ملك لم يرد به نفي الصورة لأنه لا يفيد الغرض وإنما نفي أن يكون له مثل ما لهم من الصفات وهذا يكفي في صدقه أن لا يكون له مثل ما لهم ولا تكون صفاته مساوية لصفاتهم من كل الوجوه ولا دلالة فيه على وقوع التفاوت في كل الصفات فإن عدم الاستواء في الكل غير وحصول الاختلاف في الكل غير
وعاشرها قوله تعالى ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم يوسف 31 فإن قيل لم لا يجوز أن يكون المراد وقوع التشبيه في الصورة والجمال قلنا الأولى أن يكون التشبيه واقعا في السيرة لا في

الصورة لأنه قال إن هذا إلا ملك كريم فشبهه بالملك الكريم والملك إنما يكون كريما بسيرته المرضية لا بمجرد صورته فثبت أن المراد تشبيه بالملك في نفي دواعي البشر من الشهوة والحرص على طلب المشتهى وإثبات ضد ذلك وهي حالة الملك وهي غض البصر وقمع عن الميل إلى المحرمات فدلت هذه الآية على إجماع العقلاء من الرجال والنساء والمؤمن والكافر على اختصاص الملائكة بدرجة فائقة على درجات البشر ولقائل أن يقول إن قول المرأة فذلكن الذي لمتنني فيه كالصريح في أن مراد النساء بقولهن إن هذا إلا ملك كريم يوسف 31 تعظيم حال يوسف في الحسن والجمال لا في السيرة لأن ظهور عذرها في شدة عشقها إنما يحصل بسبب فرط يوسف في الجمال لا بسبب فرط زهده وورعه فإن ذلك لا يناسب شدة عشقها له سلمنا أن المراد تشبيه يوسف عليه السلام بالملك في الإعراض عن المشتهيات فلم يجب أن يكون يوسف عليه السلام أقل ثوابا من الملائكة وذلك أنه لا نزاع في أن عدم التفات البشر إلى المطاعم والمناكح اقل من عدم التفات الملائكة إلى هذه الأشياء لكن لم قلتم إن ذلك يوجب المزيد في الفضل بمعنى كثرة الذنوب فإن تمسكوا بأن كل من كان أقل معصية وجب أن يكون أفضل فقد سبق الكلام عليه
الحجة الحادية عشرة قوله تعالى وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا الإسراء 70 ومخلوقات الله تعالى إما المكلفون أو من عداهم ولا شك أن المكلفين أفضل من غيرهم أما المكلفون فهم أربعة أنواع الملائكة والإنس والجن والشياطين ولا شك أن الإنس أفضل من الجن والشياطين فلو كان أفضل من الملك أيضا لزم حينئذ أن يكون البشر أفضل من كل المخلوقات وحينئذ لا يبقى لقوله تعالى وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا الإسراء 70 فائدة بل كان ينبغي أن يقال وفضلناهم على جميع من خلقنا تفضيلا ولما لم يقل ذلك علمنا أن الملك أفضل من البشر ولقائل أن يقول حاصل هذا الكلام تمسك بدليل الخطاب لأن التصريح بأنه أفضل من كثير من المخلوقات لا يدل على أنه ليس أفضل من الباقي إلا بواسطة دليل الخطاب وأيضا فهب أن جنس الملائكة أفضل من جنس بني آدم ولكن لا يلزم من كون أحد المجموعين أفضل من المجموع الثاني أن يكون كل واحد من أفراد المجموع الأول أفضل من المجموع الثاني فإنا إذا قدرنا عشرة من العبيد كل واحد منهم يساوي مائة دينار وعشرة أخرى حصل فيهم عبد يساوي مائتي دينار والتسعة الباقية يساوي كل واحد منهم دينارا فالمجموع الأول أفضل من المجموع الثاني إلا أنه حصل في المجموع الثاني واحد هو أفضل من كل واحد من آحاد المجموع الأول فكذا ههنا وأيضا فقوله وفضلناهم الإسراء 70 يجوز أن يكون المراد وفضلناهم في الكرامة التي ذكرناها في أول الآية وهي قوله ولقد كرمنا بني آدم الإسراء 70 ويكون المراد من الكرامة حسن الصورة ومزيد الذكاء والقدرة على الأعمال العجيبة والمبالغة في النظافة والطهارة وإذا كان كذلك فنحن نسلن أن الملك أزيد من البشر في هذه الأمور ولكن لم قلتم إن الملك أكثر ثوابا من البشر وأيضا فقوله خلق السموات بغير عمد ترونها لقمان 10 لا يقتضي أن يكون هناك عمد غير مرئي وكذلك قوله تعالى ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به المؤمنون 117 يقتضي أن يكون هناك إله آخر له برهان فكذلك ههنا
الحجة الثانية عشرة الأنبياء عليهم السلام ما استغفروا لأحد إلا بدأوا بالاستغفار لأنفسهم ثم بعد ذلك

لغيرهم من المؤمنين قال آدم ربنا ظلمنا أنفسنا الأعراف 23 وقال نوح عليه السلام رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا نوح 28 وقال إبراهيم عليه السلام رب اغفر لي ولوالدي نوح 28 وقال رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين الشعراء 83 وقال موسى رب اغفر لي ولأخي الأعراف 151 وقال الله تعالى لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) استغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات محمد 19 وقال ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر الفتح 2 أما الملائكة فإنهم لم يستغفروا لأنفسهم ولكنهم طلبوا المغفرة للمؤمنين من البشر يدل عليه تعالى حكاية عنهم فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم غلفر 7 وقال ويستغفرون للذيم آمنوا غافر 7 فلو كانوا محتاجين إلى الاستغفار لبدأوا في ذلك بأنفسهم لأن دفع الضرر عن النفس مقدم على دفع الضرر عن الغير وقال عليه الصلاة والسلام { ابدأ بنفسك ثم بمن تعول } وهذا يدل على أن الملك أفضل من البشر ولقائل أن يقول هذا الوجه لا يدل على أن الملائكة لم يصدر عنهم الزلة البتة وأن البشر قد صدرت الزلات عنهم لكنا بينا فيما تقدم أن التفاوت في ذلك لا يوجب التفاوت في الفضيلة ومن الناس من قال استغفارهم للبشر كالعذر عمن طعنوا فيهم بقولهم أتجعل فيها من يفسد فيها
الحجة الثالثة عشرة قوله تعالى وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين الانفطار 11 وهذا عام في حق جميع المكلفين من بني آدم فدخل فيه الأنبياء غيرهم وهذا يقتضي كونهم أفضل من البشر لوجهين الأول أنه تعالى جعلهم لبني آدم والحافظ للمكلف من المعصية لا بد وأن يكون أبعد عن الخطأ والزلل من المحفوظ وذلك يقتضي كونهم أبعد عن المعاصي وأقرب إلى الطاعات من البشر وذلك يقتضي مزيد الفضل والثاني أنه سبحانه وتعالى جعل كتابتهم حجة للبشر في الطاعات وعليهم في المعاصي وذلك يقتضي أن يكون قولهم أولى بالقبول من قول البشر ولو كان البشر أعظم حالا منهم لكان الأمر بالعكس ولقائل أن يقول أما قوله الحافظ يجب أن يكون أكرم من المحفوظ فهذا بعيد فإن الملك قد يوكل بعض عبيده على ولده ولا يلزم أن يكون الحافظ أشرف من المحفوظ هناك أما قوله جعل شهادتهم نافذة على البشر فضعيف لأن الشاهد قد يكون أدون حالا من المشهود عليه
الحجة الرابعة عشرة قوله تعالى يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا النبأ 38 والمقصود من ذكر أحوالهم المبالغة في شرح عظمة الله تعالى وجاله ولو كان في الخلق طائفة أخرى قيامهم وتضرعهم أقوى من الإنباء عن عظمة الله وكبريائه من قيامهم لكان ذكرهم أولى في هذا المقام ثم كما أنه سبحانه بين عظمة ذاته في الآخرة بذكر الملائكة فكا بين عظمته في الدنيا بذكر الملائكة وهو قوله وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم الزمر 75 ولقائل أن يقول كل ذلك يدل على أنهم أزيد حالا من البشر في بعض الأمور فلم يجوز أن تلك الحالة هي قوتهم وشدتهم وبطشهم وهذا كما يقال إن السلطان لما جلس وقف حول سريره ملوك أطراف العالم خاضعين خاشعين فإن عظمة السلطان إنما تشرح بذلك ثم إن هذا لا يدل على أنهم أكرم عند السلطان من ولده فكذا ههنا
الحجة الخامسة عشرة قوله تعالى والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله البقرة 285

فبين تعالى أنه لا بد في صحة الإيمان بهذه الأشياء ثم بدأ بنفسه وثنى بالملائكة وثلث بالكتب وربع بالرسل وكذا في قوله شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وألوا العلم آل عمران 18 وقال إن الله وملائكته يصلون على النبي الأحزاب 56 والتقديم في الذكر يدل على التقديم في الدرجة ويدل عليه أن تقديم الأدون على الأشرف في الذكر قبيح عرفا فوجب أن يكون قبيحا شرعا أما أنه قبيح عرفا فلأن الشاعر قال عميرة ودع إن تجهزت غاديا
كفى الشيب والإسلام للمء ناهيا
قال عمر بن الخطاب لو قدمت السلام لأجزتك ولأنهم لما كتبوا كتاب الصلح بين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وبين المشركين وقع التنازع في تقديم الاسم وكذا في كتاب الصلح بين علي ومعاوية وهذا يدل على أن التقديم في الذكر يدل على مزيد الشرف وإذا ثبت أنه في العرف كذلك وجب أن يكون في الشرع كذلك لقوله عليه السلام ( ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن ) فثبت أن تقديم الملائكة على الرسل في الذكر يدل على تقديمهم في الفضل ولقائل أن يقول هذه الحجة ضعيفة لأن الاعتماد إن كان على الواو فالواو لا تفيد الترتيب وإن كان على التقديم في الذكر ينتقض بتقديم سورة تبت على سورة قل هو الله أحد الحجة السادسة عشرة قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِى ّ فجعل صلوات الملائكة كالتشريف للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك يدل على كون الملائكة أشرف من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولقائل أن يقول هذا ينتقض بقوله النَّبِى ّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ فأمر المؤمنين بالصلاة على النبي ولم يلزم كون المؤمنين أفضل من النبي عليه السلام فكذا في الملائكة الحجة السابعة عشرة أن نتكلم في جبريل ومحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فنقول إن جبريل عليه السلام أفضل من محمد والدليل عليه قوله تعالى إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِى قُوَّة ٍ عِندَ ذِى الْعَرْشِ مَكِينٍ مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ ( التكوير 19 22 ) وصف الله تعالى جبريل عليه السلام بست من صفات الكمال أحدها كونه رسولاً لله وثانيها كونه كريماً على الله تعالى وثالثها كونه ذا قوة عند الله وقوته عند الله لا تكون إلا قوته على الطاعات بحيث لا يقوى عليها غيره ورابعها كونه مكيناً عند الله وخامسها كونه مطاعاً في عالم السموات وسادسها كونه أميناً في كل الطاعات مبرءاً عن أنواع الخيانات ثم إنه سبحانه وتعالى بعد أن وصف جبريل عليه السلام بهذه الصفات العالية وصف محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ ولو كان محمد مساوياً لجبريل عليه السلام في صفات الفضل أو مقارناً له لكان وصف محمد بهذه الصفة بعد وصف جبريل بتلك الصفات نقصاً من منصب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وتحقيراً لشأنه وإبطالاً لحقه وذلك غير جائز على الله فدلت هذه الآية على أنه ليس لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) عند الله من المنزلة إلا مقدار أن يقال إنه ليس بمجنون وذلك يدل على أنه لا نسبة بين جبريل وبين محمد عليهما السلام في الفضل والدرجة فإن قيل لم لا يجوز أن يكون قوله إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ صفة لمحمد لا لجبريل عليهما السلام قلنا لأن قوله وَلَقَدْ رَءاهُ بِالاْفُقِ الْمُبِينِ يبطل ذلك ولقائل أن يقول إنا توافقنا جميعاً على أنه قد كان لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فضائل أخرى سوى كونه ليس بمجنون وأن الله تعالى ما ذكر شيئاً من تلك الفضائل في هذا الموضع فإذن

عدم ذكر الله تعالى تلك الفضائل ههنا لا يدل على عدمها بالإجماع أو إذا ثبت أن لمحمد عليه السلام فضائل سوى الأمور المذكورة ههنا فلم لا يجوز أن يقال إن محمداً عليه السلام بسبب تلك الفضائل التي هي غير مذكورة ههنا يكون أفضل من جبريل عليه السلام فإنه سبحانه كما وصف جبريل عليه السلام ههنا بهذه الصفات الست وصف محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) أيضاً بصفات ست وهي قوله كَرِيماً ياأَيُّهَا النَّبِى ُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً ( الأحزاب 45 46 ) فالوصف الأول كونه نبياً والثاني كونه رسولاً والثالث كونه شاهداً والرابع كونه مبشراً والخامس كونه نذيراً والسادس كونه داعياً إلى الله تعالى بإذنه والسابع كونه سراجاً والثامن كونه منيراً وبالجملة فإفراد أحد الشخصين بالوصف لا يدل البتة على انتفاء تلك الأوصاف عن الثاني الحجة الثامنة عشرة الملك أعلم من البشر والأعلم أفضل فالملك أفضل إنما قلنا إن الملك أعلم من البشر لأن جبريل عليه السلام كان معلماً لمحمد عليه السلام بدليل قوله عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى والمعلم لا بدّ وأن يكون أعلم من المتعلم وأيضاً فالعلوم قسمان أحدهما العلوم التي يتوصل إليها بالعقول كالعلم بذات الله تعالى وصفاته فلا يجوز وقوع التقصير فيها لجبريل عليه السلام ولا لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) لأن التقصير في ذلك جهل وهو قادح في معرفة الله تعالى وأما العلم بكيفية مخلوقات الله تعالى وما فيها من العجائب والعلم بأحوال العرش والكرسي واللوح والقلم والجنة والنار وطباق السموات وأصناف الملائكة وأنواع الحيوانات في المغاور والجبال والبحار فلا شك أن جبريل عليه السلام أعلم بها لأنه عليه السلام أطول عمراً وأكثر مشاهدة لها فكان علمه بها أكثر وأتم وثانيها العلوم التي لا يتوصل إليها إلا بالوحي لا لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ولا لسائر الأنبياء عليهم السلام إلا من جهة جبريل عليه السلام فيستحيل أن يكون لمحمد عليه الصلاة والسلام فضيلة فيها على جبريل عليه السلام وأما جبريل عليه السلام فهو كان الواسطة بين الله تعالى وبين جميع الأنبياء فكان عالماً بكل الشرائع الماضية والحاضرة وهو أيضاً عالم بشرائع الملائكة وتكاليفهم ومحمد عليه الصلاة والسلام ما كان عالماً بذلك فثبت أن جبريل عليه السلام كان أكثر علماً من محمد عليه الصلاة والسلام وإذا ثبت هذا وجب أن يكون أفضل منه لقوله تعالى قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ( الزمر 9 ) ولقائل أن يقول لا نسلم أنهم أعلم من البشر والدليل عليه أنهم اعترفوا بأن آدم عليه السلام أكثر علماً منهم بدليل قوله تعالى قَالَ يَاءادَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ ثم إن سلمنا مزيد علمهم ولكن ذلك لا يقتضي كثرة الثواب فإنا نرى الرجل المبتدع محيطاً بكثير من دقائق العلم ولا يستحق شيئاً من الثواب فضلاً عن أن يكون ثوابه أكثر وسببه ما نبهنا مراراً عليه أن كثرة الثواب إنما تحصل بحسب الإخلاص في الأفعال ولم نعلم أن إخلاص الملائكة أكثر الحجة التاسعة عشرة قوله تعالى وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنّى إِلَاهٌ مّن دُونِهِ فَذالِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ ( الأنبياء 29 ) فهذه

الآية دالة على أنهم بلغوا في الترفع وعلو الدرجة إلى أنهم لو خالفوا أمر الله تعالى لما خالفوه إلا بادعاء الإلهية لا بشيء آخر من متابعة الشهوات وذلك يدل على نهاية جلالهم ولقائل أن يقول لا نزاع في نهاية جلالهم أما قوله إنهم بلغوا في الترفع وعلو الدرجة إلى حيث لو خالفوا أمر الله تعالى لما خالفوه إلا في ادعاء الإلهية فهذا مسلم وذلك لأن علومهم كثيرة وقواهم شديدة وهم مبرؤون عن شهوة البطن والفرج ومن كان كذلك فلو خالف أمر الله لم يخالف إلا في هذا المعنى الذي ذكرته لكن لم قلتم إن ذلك يدل على أنهم أكثر ثواباً من البشر فإن محل الخلاف ليس إلا ذاك الحجة العشرون قوله عليه الصلاة والسلام رواية عن الله تعالى ( وإذا ذكرني عبدي في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملائه ) وهذا يدل على أن الملأ الأعلى أشرف ولقائل أن يقول هذا خير واحد وأيضاً فهذا يدل على أن ملأ الملائكة أفضل من ملأ البشر وملأ البشر عبارة عن العوام لا عن الأنبياء فلا يلزم من كون الملك أفضل من عامة البشر كونهم أفضل من الأنبياء هذا آخر الكلام في الدلائل النقلية واعلم أن الفلاسفة اتفقوا على أن الأرواح السماوية المسماة بالملائكة أفضل من الأرواح الناطقة البشرية واعتمدوا في هذا الباب على وجوه عقلية نحن نذكرها إن شاء الله تعالى الحجة الأولى قالوا الملائكة ذواتها بسيطة مبرأة عن الكثرة والبشر مركب من النفس والبدن والنفس مركبة من القوى الكثيرة والبدن مركب من الأجزاء الكثيرة والبسيط خير من المركب لأن أسباب العدم للمركب أكثر منها للبسيط ولذلك فإن فردانية الله تعالى من صفات جلاله ونعوت كبريائه الاعتراض عليه لا نسلم أن البسيط أشرف من المركب وذلك لأن جانب الروحاني أمر واحد وجانب الجسماني أمران روحه وجسمه فهو من حيث الروح من عالم الروحانيات والأنوار ومن حيث الجسد من عالم الأجساد فهو لكونه مستجمعاً للروحاني والجسماني يجب أن يكون أفضل من الروحاني الصرف والجسماني الصرف وهذا هو السر في أن جعل البشر الأول مسجوداً للملائكة ومن جه آخر وهو أن الأرواح الملكية مجردات مفارقة عن العلائق الجسمانية فكأن استغراقها في مقاماتها النورانية عاقها عن تدبير هذا العالم الجسداني أما النفوس البشرية النبوية فإنها قويت على الجمع بين العالمين فلا دوام ترقيها في معارج المعارف وعوالم القدس يعوقها عن تدبير العالم السفلي ولا التفاتها إلى مناظم عالم الأجسام يمنعها عن الاستكمال في عالم الأرواح فكانت قوتها وافية بتدبير العالمين محيطة بضبط الجنسين فوجب أن تكون أشرف وأعظم الحجة الثانية الجواهر الروحانية مبرأة عن الشهوة التي هي منشأ سفك الدماء والأرواح البشرية مقرونة بها والخالي عن منبع الشر أشرف من المبتلى به الاعتراض لا شك أن المواظبة على الخدمة مع كثرة الموانع والعوائق أدل على الإخلاص من المواظبة عليها من غير شيء من العوائق والموانع وذلك يدل على أن مقام البشر في المحبة أعلى وأكمل وأيضاً فالروحانيات لما أطاعت خالقها لم تكن طاعتها موجبة قهر الشياطين الذين هم أعداء الله أما الأرواح البشرية لما أطاعت خالقها لزم من تلك الطاعة قهر القوى الشهوانية والغضبية وهي شياطين الإنس فكانت طاعاتهم أكمل وأيضاً فمن الظاهر أن درجات الروحانيات حين قالت لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا أكمل من درجاتهم حين قالت أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا ( البقرة 30 ) وما ذاك إلا بسبب الانكسار الحاصل من الزلة وهذا في البشر أكمل ولهذا قال عليه الصلاة والسلام حكاية عن ربه تعالى ( لأنين المذنبين أحب إليّ من زجل المسبحين )

الحجة الثالثة الروحانيات مبرأة عن طبيعة القوة فإن كل ما كان ممكناً لها بحسب أنواعها التي في أشخاصها فقد خرج إلى الفعل والأنبياء ليسوا كذلك ولهذا قال عليه الصلاة والسلام ( إني لأستغفر الله في اليوم والليلة مائة مرة وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ) مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ ( الشورى 52 ) ولا شك أن ما بالفعل التام أشرف مما بالقوة الاعتراض لا نسلم أنها بالفعل التام فلعلها بالقوة في بعض الأمور ولهذا قيل إن تحريكاتها للأفلاك لأجل استخراج التعقلات من القوة إلى الفعل وهذه التحريكات بالنسبة إليها كالتحريكات العارضة للأرواح الحاملة لقوى الفكر والتخيل عند محاولة استخراج التعقلات التي هي بالقوة إلى الفعل الحجة الرابعة الروحانيات أبدية الوجود مبرأة عن طبيعة التغير والقوة والنفوس الناطقة البشرية ليست كذلك الاعتراض المقدمتان ممنوعتان أليس أن الروحانيات ممكنة الوجود لذواتها واجبة الوجود بمادتها فهي محدثة سلمنا ذلك فلا نسلم أن الأرواح البشرية حادثة بل هي عند بعضهم أزلية وهؤلاء قالوا هذه الأرواح كانت سرمدية موجودة كالأظلال تحت العرش يسبحون بحمد ربهم إلا أن المبدىء الأول أمرها حتى نزلت إلى عالم الأجسام وسكنات المواد فلما تعلقت بهذه الأجسام عشقتها واستحكم إلفها بها فبعث من تلك الأظلال أكملها وأشرفها إلى هذا العالم ليحتال في تخليص تلك الأرواح عن تلك السكنات وهذا هو المراد من باب الحمامة المطوقة المذكورة في ( كتاب كليلة ودمنة ) الحجة الخامسة الروحانيات نورانية علوية لطيفة والجسمانيات ظلمانية سفلية كثيفة وبدائية العقول تشهد بأن النور أشرف من الظلمة والعلوي خير من السفلي واللطيف أكمل من الكثيف الاعتراض هذا كله إشارة إلى المادة وعندنا سببب الشرف الانقياد لأمر رب العالمين على ما قال قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى وادعاء الشرف بسبب شرف المادة هو حجة اللعين الأول وقد قيل له ما قيل الحجة السادسة الروحانيات السماوية فضلت الجسمانيات بقوى العلم والعمل أما العلم فلاتفاق الحكماء على إحاطة الروحانيات السماوية بالمغيبات واطلاعها على مستقبل الأمور وأيضاً فعلومهم فعلية فطرية كلية دائمة وعلوم البشر على الضد في كل ذلك وأما العمل فلأنهم مواظبون على الخدمة دائماً يسبحون الليل والنهار لا يفترون لا يلحقهم نوم العيون ولا سهو العقول ولا غفلة الأبدان طعامهم التسبيح وشرابهم التقديس والتحميد والتهليل وتنفسهم بذكر الله وفرحتهم بخدمة الله متجردون من العلائق البدنية غير محجوبين بشيء من القوى الشهوانية والغضبية فأين أحد القسمين من الآحر الاعتراض لا نزاع في كل ما ذكرتموه إلا أن ههنا دقيقة وهي أن المواظب على تناول الأغذية اللطيفة لا يلتذ بها كما يلتذ المبتلى بالجوع أياماً كثيرة فالملائكة بسبب مواظبتهم على تلك الدرجات العالية لا يجدون من اللذة مثل ما يجد البشر الذين يكونون في أكثر الأوقات محجوبين بالعلائق الجسمانية والحجب الظلمانية فهذه المزية من اللذة مما يختص بها البشر ولعل هذا هو المراد من قوله تعالى إِنَّا عَرَضْنَا الاْمَانَة َ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ ( الأحزاب 72 ) فإن إدراك الملايم بعد الابتلاء بالمنافي ألذ من إدراك الملايم على سبيل الدوام ولذلك قالت الأطباء إن الحرارة في حمى الدق أشد منها في حمى الغب لكن حرارة الحمى في الدق إذا دامت واستقرت بطل الشعور بها فهذه الحالة لم تحصل للملائة لأن

كمالاتها دائمة ولم تحصل لسائر الأجسام لأنها كانت خالية عن القوة المستعدة لإدراك المجردات فلم يبق شيء ممن يقوى على تحمل هذه الأمانة إلا البشر الحجة السابعة الروحانيات لهم قوة على تصريف الأجسام وتقليب الأجرام والقوة التي هي لهم ليست من جنس القوى المزاجية حتى يعرض لها كلال ولغوب ثم إنك ترى الخامة اللطيفة من الزرع في بدء نموها تفتق الحجر وتشق الصخر وما ذاك إلا لقوة نباتية فاضت عليها من جواهر القوى السماوية فما ظنك بتلك القوى السماوية والروحانيات هي التي تتصرف في الأجسام السفلية تقليباً وتصريفاً لا يستثقلون حمل الأثقال ولا يستصعبون تحريك الجبال فالرياح تهب بتحريكاتها والسحاب تعرض وتزول بتصريفها وكذا الزلازل تقع في الجبال بسبب من جهتها والشرائع ناطقة بذلك على ما قال تعالى فَالْمُقَسّمَاتِ أَمْراً ( الذاريات 4 ) والعقول أيضاً دالة عليه والأرواح السفلية ليست كذلك فأين أحد القسمين من الآخر والذي يقال أن الشياطين التي هي الأرواح الخبيثة تقدر على ذلك ممنوع وبتقدير التسليم فلا نزاع في أن قدرة الملائكة على ذلك أشد وأكمل ولأن الأرواح الطيبة الملكية تصرف قواها إلى مناظم هذا العالم السفلي ومصالحها والأرواح الخبيثة تصرف قواها إلى الشرور فأين أحدهما من الآخر الاعتراض لا يبعد أن يتفق في النفوس الناطقة البشرية نفس قوية كاملة مستعلية على الأجرام العنصرية بالتقليب والتصريف فما الدليل على امتناع مثل هذه النفس الحجة الثامنة الروحانيات لها اختيارات فائضة من أنوار جلال الله عزّ وجلّ متوجهة إلى الخيرات مقصورة على نظام هذا العالم لا يشوبها البتة شائبة الشر والفساد بخلاف اختيارات البشر فإنها مترددة بين جهتي العلو والسفالة وطرفي الخير وميلهم إلى الخيرات إنما يحصل بإعانة الملائكة على ما ورد في الأخبار من أن لكل إنسان ملكاً يسدده ويهديه الاعتراض هذا يدل على أن الملائكة كالمجبورين على طاعاتهم والأنبياء مترددون بين الطرفين والمختار أفضل من المجبور وهذا ضعيف لأن التردد ما دام يبقى استحال صدور الفعل وإذا حصل الترجيح التحق بالموجب فكان للأنبياء خيرات بالقوة وبواسطة الملائكة تصير خيرات بالفعل أما الملائكة فهم خيرات بالفعل فأين هذا من ذاك الحجة التاسعة الروحانيات مختصة بالهياكل وهي السيارات السبعة وسائر الثوابت والأفلاك كالأبدان والكواكب كالقلوب والملائكة كالأرواح فنسبة الأرواح إلى الأروح كنسبة الأبدان إلى الأبدان ثم إنا نعلم أن اختلافات أحوال الأفلاك مبادىء لحصول الاختلافات في أحوال هذا العالم فإنه يحصل من حركات الكواكب اتصالات مختلفة من التسديس والتثليث والتربيع والمقابلة والمقاربة وكذا مناطق الأفلاك تارة تصير منطبقة بعضها على البعض وذلك هو الرتق فحينئذٍ يبطل عمارة العالم وأخرى ينفصل بعضها عن البعض فتنتقل العمارة من جانب من هذا العالم العلوي مستولية على هياكل العالم السفلي فكذا أرواح العالم السفلى لاسيما وقد دلت المباحث الحكمية والعلوم الفلسفية على أن أرواح هذا العالم معلولات لأرواح العالم العلوي وكمالات هذه الأرواح معلولات لكمالات تلك الأرواح ونسبة هذه الأرواح إلى تلك الأرواح كالشعلة الصغيرة بالنسبة إلى قرص الشمس وكالقطرة الصغيرة بالنسبة إلى البحر الأعظم فهذه هي الآثار وهناك المبدأ والمعاد فكيف يليق القول بادعاء المساواة فضلاً عن الزيادة الاعتراض كل ما ذكرتموه

منازع فيه لكن بتقدير تسليمه فالبحث باقٍ بعد لأنا بينا أن الوصول إلى اللذيذ بعد الحرمان ألذ من الوصول إليه على سبيل الدوام فهذه الحالة غير حاصلة إلا للبشر الحجة العاشرة قالوا الروحانيات الفلكية مبادىء لروحانيات هذا العالم ومعادلها والمبدأ أشرف من ذي المبدأ لأن كل كمال يحصل لذي المبدأ فهو مستفاد من المبدأ والمستفيد أقل حالاً من الواجب وكذلك المعاد يجب أن يكون أشرف فعالم الروحانيات عالم الكمال فالمبدأ منها والمعاد إليها والمصدر عنها والمرجع إليها وأيضاً فإن الأرواح إنما نزلت من عالمها حتى اتصلت بالأبدان فتوسخت بأوضار الأجسام ثم تطهرت عنها بالأخلاق الزكية والأعمال المرضية حتى انفصلت عنها إلى عالمها الأول فالنزول هو النشأة الأولى والصعود هو النشأة الأخرى فعرف أن الروحانيات أشرف من الأشخاص البشرية الاعتراض هذه الكلمات بنيتموها على نفي المعاد ونفي حشر الأجساد ودونهما خرط القتاد الحجة الحادية عشرة أليس أن الأنبياء صلوات الله عليهم اتفقت كلمتهم على أنهم لا ينطقون بشيء من المعارف والعلوم إلا بعد الوحي فهذا اعتراف بأن علومهم مستفادة منهم أليس أنهم اتفقوا على أن الملائكة هم الذين يعينونهم على أعدائهم كما في قلع مدائن قوم لوط وفي يوم بدر وهم الذين يهدونهم إلى مصالحهم كما في قصة نوح في نجر السفينة فإذا اتفقوا على ذلك فمن أين وقع لكم أن فضلتموهم على الملائكة مع تصريحهم فافتقارهم إليهم في كل الأمور الحجة الثانية عشرة التقسيم العقلي قد دل على أن الأحياء إما أن تكون خيرة محضة أو شريرة محضة أو تكون خيرة من وجه شريرة من وجه فالخير المحض هو النوع الملكي والشرير المحض هو النوع الشيطاني والمتوسط بين الأمرين هو النوع البشري وأيضاً فإن الإنسان هو الناطق المائت وعلى جانبيه قسمان آخران أحدهما الناطق الذي لا يكون مائتاً وهو الملك والآخر المائت الذي لا يكون ناطقاً وهم البهائم فقسمة العقل على هذا الوجه قد دلت على كون البشر في الدرجة المتوسطة من الكمال والملك يكون في الطرف الأقصى من الكمال فالقول بأن البشر أفضل قلب للقسمة العقلية ومنازعة في ترتيب الوجود الاعتراض أن المراد من الفضل هو كثرة الثواب فلم قلتم إن الملك أكثر ثواباً فهذا محصل ما قيل في هذا الباب من الوجوه العقلية وبالله التوفيق واحتج من قال بفضل الأنبياء على الملائكة بأمور أحدهما أن الله تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم وثبت أن آدم لم يكن كالقبلة بل كانت السجدة في الحقيقة له وإذا ثبت ذلك وجب أن يكون آدم أفضل منهم لأن السجود نهاية التواضع وتكليف الأشرف بنهاية التواضع للأدون مستقبح في العقول فإنه يقبح أن يؤمر أبو حنيفة بأن يخدم أقل الناس بضاعة في الفقه فدل هذا على أن آدم عليه السلام كان أفضل من الملائكة وثانيها أن الله تعالى جعل آدم عليه السلام خليفة له والمراد منه خلافة الولاية لقوله تعالى مَئَابٍ يادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَة ً فِى الاْرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقّ ( ص 26 ) ومعلوم أن أعلى الناس منصباً عند الملك من كان قائماً مقامه في الولاية والتصرف وكان خليفة له فهذا يدل على أن آدم عليه السلام كان أشرف الخلائق وهذا متأكد بقوله وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ( الجاثية 12 ) ثم أكد هذا التعميم بقوله خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً ( البقرة 29 ) فبلغ آدم في منصب الخلافة إلى أعلى الدرجات فالدنيا خلقت متعة لبقائه والآخرة مملكة

لجزائه وصارت الشياطين معلونين بسبب التكبر عليه والجن رعيته والملائكة في طاعته وسجوده والتواضع له ثم صار بعضهم حافظين له ولذريته وبعضهم منزلين لرزقه وبعضهم مستغفرين لزلاته ثم إنه سبحانه وتعالى يقول مع هذه المناصب العالية وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ فإذن لا غاية لهذا الكمال والجلال وثالثها أن آدم عليه السلام كان أعلم والعلم أفضل أم إنه أعلم فلأنه تعالى لما طلب منهم علم الأسماء قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ( البقرة 32 ) فعند ذلك قال الله تعالى قَالَ يَاءادَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِم قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ وذلك يدل على أنه عليه السلام كان عالماً بما لم يكونوا عالمين به وأما أن الأعلم أفضل فلقوله تعالى قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ورابعها قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَءالَ إِبْراهِيمَ وَءالَ عِمْرانَ عَلَى الْعَالَمِينَ والعالم عبارة عن كل ما سوى الله تعالى وذلك لأن اشتقاق العالم على ما تقدم من العلم فكل ما كان علماً على الله ودالاً عليه فهو عالم ولا شك أن كل محدث فهو دليل على الله تعالى فكل محدث فهو عالم فقوله إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَءالَ إِبْراهِيمَ وَءالَ عِمْرانَ عَلَى الْعَالَمِينَ منعاه أن الله تعالى اصطفاهم على كل المخلوقات ولا شك أن الملائكة من المخلوقات فهذه الآية تقتضي أن الله تعالى اصطفى هؤلاء الأنبياء على الملائكة فإن قيل يشكل هذا بقوله تعالى راجِعُونَ يَابَنِى إِسْراءيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِى الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ فإنه لا يلزم أن يكونوا أفضل من الملائكة ومن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فكذا ههنا قال الله تعالى في حق مريم عليها السلام إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ ( آل عمران 42 ) ولم يلزم كونها أفضل من فاطمة عليها السلام فكذا ههنا قلنا الإشكال مدفوع لأن قوله تعالى وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ خطاب مع الأنبياء الذين كانوا أسلاف اليهود وحين ما كانوا موجودين لم يكن محمد موجوداً في ذلك الزمان ولما لم يكن موجوداً لم يكن من العالمين لأن المعدوم لا يكون من العالمين وإذا كان كذلك لم يلزم من اصطفاء الله تعالى إياهم على العالمين في ذلك الوقت أن يكونوا أفضل من محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وأما جبريل عليه السلام فإنه كان موجوداً حين قال الله تعالى إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَءالَ إِبْراهِيمَ وَءالَ عِمْرانَ عَلَى الْعَالَمِينَ فلزم أن يكون قد اصطفى الله تعالى هؤلاء على جبريل عليه السلام وأيضاً فهب أن تلك الآية قد دخلها التخصيص لقيام الدلالة وههنا فلا دليل يوجب ترك الظاهر فوجب إجراؤه على ظاهره في العموم وخامسها قوله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَة ً لّلْعَالَمِينَ والملائكة من جملة العالمين فكان محمد عليه السلام رحمة لهم فوجب أن يكون محمد أفضل منهم وسادسها أن عبادة البشر أشق فوجب أن يكونوا أفضل وإنما قلنا إنها أشق لوجوه الأول أن الآدمي له شهوة داعية إلى المعصية والملك ليست له هذه الشهوة والفعل مع المعارض القوى أشد منه بدون المعارض فإن قيل الملائكة لهم شهوة تدعوهم إلى المعصية وهي شهوة الرياسة قلنا هب أن الأمر كذلك لكن البشر لهم أنواع كثيرة من الشهوات مثل شهوة البطن والفرج والرياسة والملك ليس له من تلك الشهوات إلا شهوة واحدة وهي شهوة الرياسة والمبتلى بأنواع كثيرة من الشهوات تكون الطاعة عليه أشق من المبتلى بشهوة

واحدة الثاني أن الملائكة لا يعملون إلا بالنص لقوله تعالى لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا ( البقرة 32 ) وقال لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ( الأنبياء 27 ) والبشر لهم قوة الاستنباط والقياس قال تعالى فَاعْتَبِرُواْ ياأُوْلِى أُوْلِى الاْبْصَارِ ( الحشر 2 ) وقال معاذ اجتهدت برأيي فصوبه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في ذلك ومعلوم أن العمل بالاستنباط أشق من العمل بالنص الثالث أن الشبهات للبشر أكثر مما للملائكة لأن من جملة الشبهات القوية كون الأفلاك والأنجم السيارة أسباباً لحوادث هذا العالم فالبشر احتاجوا إلى دفع هذه الشبهة والملائكة لا يحتاجون لأنهم ساكنون في عالم السموات فيشاهدون كيفية افتقارها إلى المدبر الصانع الرابع أن الشيطان لا سبيل له إلى وسوسة الملائكة وهو مسلط على البشر في الوسوسة وذلك تفاوت عظيم إذا ثبت أن طاعتهم أشق فوجب أن يكونوا أكثر ثواباً بالنص فقوله عليه الصلاة والسلام ( أفضل العبادات أحمزها ) أي أشقها وأما القياس فلأنا نعلم أن الشيخ الذي لم يبق له ميل إلى النساء إذا امتنع عن الزنا فليست فضيلته كفضيلة من يمتنع عنهن مع الميل الشديد والشوق العظيم فكذا ههنا وسابعها أن الله تعالى خلق الملائكة عقولاً بلا شهوة وخلق البهائم شهوات بلا عقل وخلق الآدمي وجمع فيه بين الأمرين فصار الآدمي بسبب العقل فوق البهيمة بدرجات لا حد لها فوجب أن يصير بسبب الشهوة دون الملائكة ثم وجدنا الآدمي إذا غلب هواه عقله حتى صار يعمل بهواه دون عقله فإنه يصير دون البهيمة على ما قال تعالى أُوْلَئِكَ كَالانْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ( الأعراف 179 ) ولذلك صار مصيرهم إلى النار دون البهائم فيجب أن يقال إذا غلب عقله هواه حتى صار لا يعمل بهوى نفسه شيئاً بل يعمل بهوى عقله أن يكون فوق الملائكة اعتباراً لأحد الطرفين بالآخر وثامنها أن الملائكة حفظة وبنو آدم محفوظون والمحفوظ أعز وأشرف من الحافظ فيجب أن يكون بنو آدم أكرم وأشرف على الله تعالى من الملائكة وتاسعها ما روى أن جبريل عليه السلام أخذ بركاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) حتى أركبه على البراق ليلة المعراج وهذا يدل على أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) أفضل منه ولما وصل محمد عليه الصلاة والسلام إلى بعض المقامات تخلف عنه جبريل عليه السلام وقال ( لو دنوت أنملة لاحترقت ) وعاشرها قوله عليه الصلاة والسلام ( إن لي وزيرين في السماء وزيرين في الأرض أما اللذان في السماء فجبريل وميكائيل وأما اللذان في الأرض فأبو بكر وعمر ) فدل هذا الخبر على أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) كان كالملك وجبريل وميكائيل كانا كالوزيرين له والملك أفضل من الوزير فلزم أن يكون محمداً أفضل من الملك هذا تمام القول في دلائل من فضل البشر على الملك أجاب القائلون بتفضيل الملك عن الحجة الأولى فقالوا قد سبق بيان أن من الناس من قال المراد من السجود هو التواضع لا وضع الجبهة على الأرض ومنهم من سلم أنه عبارة عن وضع الجبهة على الأرض لكنه قال السجود لله وآدم قبلة السجود وعلى هذين القولين لا إشكال أما إذا سلمنا أن السجود كان لآدم عليه السلام فلم قلتم إن ذلك لا يجوز من الأشرف في حق الشريف وذلك لأن الحكمة قد تقتضي ذلك كثيراً من حب الأشرف وإظهار النهاية في الانقياد والطاعة فإن للسلطان أن يجلس أقل عبيده في الصدر وأن يأمر الأكابر بخدمته ويكون غرضه من ذلك إظهار كونهم مطيعين له في كل الأمور منقادين له في جميع الأحوال فلم لا يجوز أن يكون الأمر ههنا كذلك وأيضاً أليس

من مذهبنا أنه ( يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد ) وأن أفعاله غير معللة ولذلك قلنا إنه لا اعتراض عليه في خلق الكفر في الإنسان ثم في تعذيبه عليه أبد الآباد وإذا كان كذلك فكيف يعترض عليه في أن يأمر الأعلى بالسجود للأدنى وأما الحجة الثانية فجوابها أن آدم عليه السلام إنما جعل خليفة في الأرض وهذا يقتضي أن يكون آدم عليه السلام كان أشرف من كل من في الأرض ولا يدل على كونه أشرف من ملائكة السماء فإن قيل فلم لم يجعل واحداً من ملائكة السماء خليفة له في الأرض قلنا لوجوه منها أن البشر لا يطيقون رؤية الملائكة ومنها أن الجنس إلى الجنس أميل ومنها أن الملائكة في نهاية الطهارة والعصمة وهذا هو المراد بقوله تعالى وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً ( الأنعام 9 ) وأما الحجة الثالثة فلا نسلم أن آدم عليه السلام كان أعلم منهم أكثر ما في الباب أن آدم عليه السلام كان عالماً بتلك اللغات وهم ما علموها لكن لعلهم كانوا عالمين بسائر الأشياء مع أن آدم عليه السلام ما كان عالماً بها والذي يحقق هذا أنا توافقنا على أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) أفضل من آدم عليه السلام مع أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ما كان عالماً بهذه اللغات بأسرها وأيضاً فإن إبليس كان عالماً بأن قرب الشجرة مما يوجب خروج آدم عن الجنة وآدم عليه السلام لم يكن عالماً ذلك ولم يلزم منه كون إبليس أفضل من آدم عليه السلام والهدهد قال لسليمان أحطت بما لم تحط به ولم يلزم أن يكون الهدهد أفضل من سليمان سلمنا أنه كان أعلم منهم ولكن لم لا يجوز أن يقال إن طاعاتهم أكثر إخلاصاً من طاعة آدم فلا جرم كان ثوابهم أكثر أما الحجة الرابعة فهي أقوى الوجوه المذكورة أما الحجة الخامسة وهي قوله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَة ً لّلْعَالَمِينَ ( الأنبياء 107 ) فلا يلزم من كون محمد ( صلى الله عليه وسلم ) رحمة لهم أن يكون أفضل منهم كما في قوله فَانظُرْ إِلَى ءاثَارِ رَحْمَة ِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْى ِ الاْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ( الروم 50 ) ولا يمتنع أن يكون هو عليه الصلاة والسلام رحمة لهم من وجه وهم يكونون رحمة له من وجه آخر وأما الحجة السادسة وهي أن عبادة البشر أشق فهذا ينتقض بما أنا نرى الواحد من الصوفية يتحمل في طريق المجاهدة من المشاق والمتاعب ما يقطع بأنه عليه السلام لم يتحمل مثلها مع أنا نعلم أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) أفضل من الكل وما ذاك إلا أن كثرة الثواب مبنية على الإخلاص في النية ويجوز أن يكون الفعل أسهل إلا أن إخلاص الآتي به أكثر فكان الثواب عليه أكثر أما الحجة السابعة فهي جمع بين الطرفين من غير جامع وأما الحجة الثامنة وهي أن المحفوظ أشرف من الحافظ فهذا ممنوع على الإطلاق بل قد يكون الحافظ أشرف من المحفوظ كالأمير الكبير الموكل على المتهمين من الجند وأما الوجهان الآخران فهما من باب الآحاد وهما معارضان بما رويناه من شدة تواضع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فهذا آخر المسألة وبالله التوفيق
المسألة الخامسة اعلم أن الله تعالى لما استثنى إبليس من الساجدين فكان يجوز أن يظن أنه كان معذوراً في ترك السجود فبين تعالى أنه لم يسجد مع القدرة وزوال العذر بقوله أبى لأن الأباء هو الامتناع مع

الاختيار أما من لم يكن قادراً على الفعل لا يقال له إنه أبى ثم قد كان يجوز أن يكون كذلك ولا ينضم إليه الكبر فبين تعالى أن ذلك الإباء كان على وجه الاستكبار بقوله واستكبر ثم كان يجوز أن يوجد الإباء والاستكبار مع عدم الكفر فبين تعالى أنه كفر بقوله وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ قال القاضي هذه الآية تدل على بطلان قول أهل الجبر من وجوه أحدها أنهم يزعمون أنه لما لم يسجد لم يقدر على السجود لأن عندهم القدرة على الفعل منتفية ومن لا يقدر على الشيء يقال إنه أباه وثانيها أن من لا يقدر على الفعل لا يقال استكبر بأن لم يفعل لأنه إذا لم يقدر على الفعل لا يقال استكبر عن الفعل وإنما يوصف بالاستكبار إذا لم يفعل مع كونه لو أراد الفعل لأمكنه وثالثها قال تعالى وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ولا يجوز أن يكون كافراً بأن لا يفعل ما لا يقدرعليه ورابعها أن استكباره وامتناعه خلق من الله فيه فهو بأن يكون معذوراً أولى من أن يكون مذموماً قال ومن اعتقد مذهباً يقيم العذر لإبليس فهو خاسر الصفقة والجواب عنه أن هذا القاضي لا يزال يطنب في تكثير هذه الوجوه وحاصلها يرجع إلى الأمر والنهي والثواب والعقاب فنقول له نحن أيضاً صدور ذلك الفعل عن إبليس عن قصد وداع أو لا عن قصد وداع فإن كان عن قصد وداع فمن أين ذلك القصد أوقع لا عن فاعل أو عن فاعل هو العبد أو عن فاعل هو الله فإن وقع لا عن فاعل كيف يثبت الصانع وإن وقع عن العبد فوقوع ذلك القصد عنه إن كان عن قصد آخر فيلزم التسلسل وإن كان لا عن قصد فقد وقع الفعل لا عن قصد وسنبطله وإن وقع عن فاعل هو الله فحينئذٍ يلزمك كل ما أوردته علينا أما إن قلت وقع ذلك الفعل عنه لا عن قصد وادع فقد ترجح الممكن من غير مرجح وهو يسد باب إثبات الصانع وأيضاً فإن كان كذلك كان وقوع ذلك الفعل اتفاقياً والاتفاقي لا يكون في وسعه واختياره فكيف يؤمر به وينهى عنه فيا أيها القاضي ما الفائدة في التمسك بالأمر والنهي وتكثير الوجوه التي يرجع حاصلها إلى حرف واحد مع أن مثل هذا البرهان القاطع يقلع خلفك ويستأصل عروق كلامك ولو أجمع الأولون والآخرون على هذا البرهان لما تخلصوا عنه إلا بالتزام وقوع الممكن لا عن مرجح وحينئذٍ ينسد باب إثبات الصانع أو بالتزام أنه يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد وهو جوابنا
المسألة السادسة للعقلاء في قوله تعالى وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ قولان أحدهما أن إبليس حين اشتغاله بالعبادة كان منافقاً كافراً وفي تقرير هذاالقول وجهان أحدهما حكى محمد بن عبد الكريم الشهرستاني في أول كتابه المسمى ( بالملل والنحل ) عن ماري شارح الأناجيل الأربعة وهي مذكورة في التوراة متفرقة على شكل مناظرة بينه وبين الملائكة بعد الأمر بالسجود قال إبليس للملائكة إني أسلم أن لي إلهاً هو خالقي وموجدي وهو خالق الخلق لكن لي على حكمة الله تعالى أسئلة سبعة الأولى ما الحكمة في الخلق لا سيما إن كان عالماً بأن الكافر لا يستوجب عند خلقه الآلام الثاني ثم ما الفائدة في التكليف مع أنه لا يعود منه ضر ولا نفع وكل ما يعود إلى المكلفين فهو قادر على تحصيله لهم من غير واسطة التكليف الثالث هب أنه كلفني بمعرفته وطاعته فلماذا كلفني السجود لآدم الرابع ثم لما عصيته في ترك السجود لآدم فلم لعنني وأوجب عقابي مع أنه لا فائدة له ولا لغيره فيه ولي فيه أعظم الضرر الخامس ثم لما فعل ذلك فلم مكنني من الدخول إلى الجنة ووسوست لآدم عليه السلام ثم لما فعلت ذلك فلم سلطني على أولاده ومكنني من إغوائهم

وإضلالهم السابع ثم لما استمهلته المدة الطويلة في ذلك فلم أمهلني ومعلوم أن العالم لو كان خالياً عن الشر لكان ذلك خيراً قال شارح الأناجيل فأوحى الله تعالى إليه من سرادقات الجلال والكبرياء يا إبليس إنك ما عرفتني ولو عرفتني لعلمت أنه لا عتراض على في شيء من أفعالي فإني أنا الله لا إله إلا أنا لا أسأل عما أفعل واعلم أنه لو اجتمع الأولون والآخرون من الخلائق وحكموا بتحسين العقل وتقبيحه لم يجدوا عن هذه الشبهات مخلصاً وكان الكل لازماً أما إذا أجبنا بذلك الجواب الذي ذكره الله تعالى زالت الشبهات واندفعت الاعتراضات وكيف لا وكما أنه سبحانه واجب الوجود في ذاته واجب الوجود في صفاته فهو مستغنٍ في فاعليته عن المؤثرات والمرجحات إذ لو افتقر لكان فقيراً لا غنياً فهو سبحانه مقطع الحاجات ومنتهى الرغبات ومن عنده نيل الطلبات وإذا كان كذلك لم تتطرق اللمية إلى أفعاله ولم يتوجه الاعتراض على خالقيته وما أحسن ما قال بعضهم جل جناب الجلال عن أن يوزن بميزان الاعتزال فهذا القائل أجرى قوله تعالى وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ على ظاهره وقال إنه كان كافراً منافقاً منذ كان الوجه الثاني في تقرير أنه كان كافراً أبداً قول أصحاب الموافاة وذلك لأن الإيمان يوجب استحقاق العقاب الدائم والجمع بين الثواب الدائم والعقاب الدائم محال فإذا صدر الإيمان من المكلف في وقت ثم صدر عنه والعياذ بالله بعد ذلك كفر فأما أن يبقى الاستحقاقان معاً وهو محال على ما بيناه أو يكون الطارىء مزيلاً للسابق وهو أيضاً محال لأن القول بالإحباط باطل فلم يبق إلا أن يقال إن هذا الفرض محال وشرط حصول الإيمان أن لا يصدر الكفر عنه في وقت قط فإذا كانت الخاتمة على الكفر علمنا أن الذي صدر عنه أولاً ما كان إيماناً إذا ثبت هذا فنقول لما كان ختم إبليس على الكفر علمنا أنه ما كان مؤمناً قط القول الثاني أن إبليس كان مؤمناً ثم كفر بعد ذلك وهؤلاء اختلفوا في تفسير قوله تعالى وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ فمنهم من قال معناه وكان من الكافرين في علم الله تعالى أي كان عالماً في الأزل بأنه سيكفر فصيغة كان متعلقة بالعلم لا بالمعلوم والوجه الثاني أنه لما كفر في وقت معين بعد أن كان مؤمناً قبل ذلك فبعد مضى كفره صدق عليه في ذلك الوقت أنه كان في ذلك الوقت من الكافرين ومتى صدق عليه ذلك وجب أن يصدق عليه أنه كان من الكافرين جزء من مفهوم قولنا كان من الكافرين في ذلك الوقت ومتى صدق المركب صدق المفرد لا محالة الوجه الثالث المراد من كان صار أي وصار من الكافرين وههنا أبحاث البحث الأول اختلفوا في أن قوله تعالى وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ هل يدل على أنه وجد قبله جمع من الكافرين حتى يصدق القول بأنه من الكافرين قال قوم إنه يدل عليه لأن كلمة من للتبعيض فالحكم عليه بأنه بعض الكافرين يقتضي وجود قوم آخرين من الكافرين حتى يكون هو بعضاً لهم والذي يؤكد ذلك ما روي عن أبي هريرة أنه قال ( إن الله تعالى خلق خلقاً من الملائكة ثم قال لهم إني خالق بشراً من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين فقالوا لا نفعل ذلك فبعث الله عليهم ناراً فأحرقتهم وكان إبليس من أولئك الذين أبوا ) وقال آخرون هذه الآية لا تدل على ذلك ثم لهم في تفسير الآية وجهان أحدهما معنى الآية أنه صار من الذين وافقوه في الكفر بعد ذلك وهو قول الأصم وذكر في مثاله قوله تعالى الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ ( التوبة 67 ) فأضاف بعضهم إلى بعض بسبب الموافقة في الدين فكذا ههنا

لما كان الكفر ظاهراً من أهل العالم عند نزول هذه الآية صح قوله وكان من الكافرين وثانيها أن هذا إضافة لفرد من أفراد الماهية إلى تلك الماهية وصحة هذه الإضافة لا تقتضي وجود تلك الماهية كما أن الحيوان الذي خلقه الله تعالى أولاً يصح أن يقال إنه فرد من أفراد الحيوان لا بمعنى أنه واحد من الحيوانات الموجودة خارج الذهن بل بمعنى أنه فرد من أفراد هذه الماهية وواحد من آحاد هذه الحقيقة واعلم أنه يتفرع على هذا البحث أن إبليس هل كان أول من كفر بالله والذي عليه الأكثرون أنه أول من كفر بالله
البحث الثاني أن المعصية عند المعتزلة وعندنا لا توجب الكفر أما عندنا فلأن صاحب الكبيرة مؤمن وأما عند المعتزلة فلأنه وإن خرج عن الإيمان فلم يدخل في الكفر وأما عند الخوارج فكل معصية كفر وهم تمسكوا بهذه الآية قالوا إن الله تعالى كفر إبليس بتلك المعصية فدل على أن المعصية كفر الجواب إن قلنا إنه كافر من أول الأمر فهذا السؤال زائل وإن قلنا إنه كان مؤمناً فنقول إنه إنما كفر لاستكباره واعتقاده كونه محقاً في ذلك التمرد واستدلاله على ذلك بقوله أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ والله أعلم
المسألة السابعة قال الأكثرون إن جميع الملائكة مأمورون بالسجود لآدم واحتجوا عليه بوجهين الأول أن لفظ الملائكة صيغة الجمع وهي تفيد العموم لا سيما وقد وردت هذه اللفظة مقرونة بأكمل وجوه التأكيد في قوله فَسَجَدَ الْمَلَائِكَة ُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ الثاني هو أنه تعالى استثنى إبليس منهم واستثناء الشخص الواحد منهم يدل على أن من عدا ذلك الشخص كان داخلاً في ذلك الحكم ومن الناس من أنكر ذلك وقال المأمورون بهذا السجود هم ملائكة الأرض واستعظموا أن يكون أكابر الملائكة مأمورين بذلك وأما الحكماء فإنهم يحملون الملائكة على الجواهر الروحانية وقالوا يستحيل أن تكون الأرواح السماوية منقادة للنفوس الناطقة إنما المراد من الملائكة المأمورين بالسجود القوى الجسمانية البشرية المطيعة للنفس الناطقة والكلام في هذه المسألة مذكور في العقليات

بداية الجزء الثالث من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32

وَقُلْنَا يَاءَادَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّة َ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَاذِهِ الشَّجَرَة َ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ
المسألة الأولى اختلفوا في أن قوله اسْكُنْ أمرتكليف أو إباحة فالمروي عن قتاده أنه قال إن الله تعالى ابتلى آدم بإسكان الجنة كما ابتلى الملائكة بالسجود وذلك لأنه كلفه بأن يكون في الجنة يأكل منها حيث شاء ونهاه عن شجرة واحدة إن يأكل منها فما زالت به البلايا حتى وقع فيم نهى عنه فبدت سوأته عند ذلك وأهبط من الجنة وأسكن موضعاً يحصل فيه ما يكون مشتهى له مع أن منعه من تناوله من أشد التكاليف وقال آخرون إن ذلك إباحة لأن الاستقرار في المواضع الطيبة النزهة التي يتمتع فيها يدخل تحت التعبد كما أن أكل الطيبات لا يدخل تحت التعبد ولا يكون قوله كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ( الأعراف 16 ) أمراً وتكليفاً بل إباحة والأصح أن ذلك الإسكان مشتمل على ما هو إباحة وعلى ما هو تكليف أما الإباحة فهو أنه عليه الصلاة والسلام كان مأذوناً في الانتفاع بجميع نعم الجنة وأما التكليف فهو أن المنهى عنه كان حاضراً وهو كان ممنوعاً عن تناوله قال بعضهم لو قال رجل لغيره أسكنتك داري لا تصير الدار ملكاً له فههنا لم يقل الله تعالى وهبت منك الجنة بل قال أسكنتك الجنة وإنما لم يقل ذلك لأنه خلقه لخلافة الأرض فكان إسكان الجنة كالتقدمة على ذلك
المسألة الثانية أن الله تعالى لما أمر الكل بالسجود لآدم وأبى إبليس السجود صيره الله ملعوناً ثم أمر آدم بأن يسكنها مع زوجته واختلفوا في الوقت الذي خلقت زوجته فيه فذكر السدي عن ابن عباس وابن مسعود وناس من الصحابة أن الله تعالى لما أخرج إبليس من الجنة وأسكن آدم الجنة فبقي فيها وحده وما كان معه من يستأنس به فألقى الله تعالى عليه النوم ثم أخذ ضلعاً من أضلاعه من شقه الأيسر ووضع مكانه لحماً وخلق حواء منه فلما استيقظ وجد عند رأسه امرأة قاعدة فسألها من أنت قالت امرأة قال ولم خلقت قالت لتسكن إليّ فقالت الملائكة ما اسمها قالوا حواء ولم سميت حواء قال لأنها خلقت من شيء حي وعن

عمر وابن عباس رضي الله عنهما قال بعث الله جنداً من الملائكة فحملوا آدم وحواء عليهما السلام على سرير من ذهب كما تحمل الملوك ولباسهما النور على كل واحد منهما إكليل من ذهب مكلل بالياقوت واللؤلؤ وعلى آدم منطقة مكللة بالدر والياقوت حتى أدخلا الجنة فهذا الخبر يدل على أن حواء خلقت قبل إدخال آدم الجنة والخبر الأول يدل على أنها خلقت في الجنة والله أعلم بالحقيقة
المسألة الثالثة أجمعوا على أن المراد بالزوجة حواء وإن لم يتقدم ذكرها في هذه السورة وفي سائر القرآن ما يدل على ذلك وأنها مخلوقة منه كما قال الله تعالى في سورة النساء الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَة ٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ( النساء 1 ) وفي الأعراف وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ( الأعراف 189 ) وروى الحسن عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( إن المرأة خلقت من ضلع الرجل فإن أردت أن تقيمها كسرتها وإن تركتها انتفعت بها واستقامت )
المسألة الرابعة اختلفوا في الجنة المذكورة في هذه الآية هل كانت في الأرض أو في السماء وبتقدير أنها كانت في السماء فهل هي الجنة التي هي دار الثواب أو جنة الخلد أو جنة أخرى فقال أبو القاسم البلخي وأبو مسلم الأصفهاني هذه الجنة كانت في الأرض وحملا الإهباط على الانتقال من بقعة إلى قعة كما في قوله تعالى اهْبِطُواْ مِصْرًا ( البقرة 61 ) واحتجا عليه بوجوه أحدها أن هذه الجنة لو كانت هي دار الثواب لكانت جنة الخلد ولو كان آدم في جنة الخلد لما لحقه الغرور من إبليس بقوله هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَة ِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى ( طه 120 ) ولما صح قوله مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَاذِهِ الشَّجَرَة ِ إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ( الأعراف 20 ) وثانيها أن من دخل هذه الجنة لا يخرج منها لقوله تعالى وَمَا هُمْ مّنْهَا بِمُخْرَجِينَ ( الحجر 48 ) وثالثها أن إبليس لما امتنع عن السجود لعن فما كان يقدر مع غضب الله على أن يصل إلى جنة الخلد ورابعها أن الجنة التي هي دار الثواب لا يفنى نعيمها لقوله تعالى أُكُلُهَا دَائِمٌ وِظِلُّهَا ( الرعد 35 ) ولقوله تعالى وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِى الْجَنَّة ِ خَالِدِينَ فِيهَا إلى أن قال عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ ( هود 108 ) أي غير مقطوع فهذه الجنة لو كانت هي التي دخلها آدم عليه السلام لما فنيت لكنها تفنى لقوله تعالى كُلُّ شَى ْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ( القصص 88 ) ولما خرج منها آدم عليه السلام لكنه خرج منها وانقطعت تلك الراحات وخامسها أنه لا يجوز في حكمته تعالى أن يبتدىء الخلق في جنة يخلدهم فيها ولا تكليف لأنه تعالى لا يعطي جزاء العاملين من ليس بعامل ولأنه لا يهمل عباده بل لا بد من ترغيب وترهيب ووعد ووعيد وسادسها لا نزاع في أن الله تعالى خلق آدم عليه السلام في الأرض ولم يذكر في هذه القصة أنه نقله إلى السماء ولو كان تعالى قد نقله إلى السماء لكان ذلك أولى بالذكر لأن نقله من الأرض إلى السماء من أعظم النعم فدل ذلك على أنه لم يحصل وذلك يوجب أن المراد من الجنة التي قال الله تعالى له اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّة َ جنة أخرى غير جنة الخلد القول الثاني وهو قول الجبائي أن تلك الجنة كانت في السماء السابعة والدليل عليه قوله تعالى اهْبِطُواْ مِنْهَا ( البقرة 38 ) ثم إن الإهباط الأول كان من السماء السابعة إلى السماء الأولى والإهباط الثاني كان من السماء إلى

الأرض القول الثالث وهو قول جمهور أصحابنا أن هذه الجنة هي دار الثواب والدليل عليه أن الألف واللام في لفظ الجنة لا يفيدان العموم لأن سكنى جميع الجنان محال فلا بد من صرفها إلى المعهود السابق والجنة التي هي المعهودة المعلومة بين المسلمين هي دار الثواب فوجب صرف اللفظ إليها والقول الرابع أن الكل ممكن والأدلة النقلية ضعيفة ومتعارضة فوجب التوقف وترك القطع والله أعلم
المسألة الخامسة قال صاحب الكشاف السكنى من السكون لأنها نوع من اللبث والاستقرار و ( أنت ) تأكيد للمستكن في ( اسكن ) ليصح العطف عليه و ( رغداً ) وصف للمصدر أي أكلا رغداً واسعاً رافهاً و ( حيث ) للمكان المبهم أي أي مكان من الجنة شئتما فالمراد من الآية إطلاق الأكل من الجنة على وجه التوسعة البالغة حيث لم يحظر عليهما بعض الأكل ولا بعض المواضع حتى لا يبقى لهما عذر في التناول من شجرة واحدة من بين أشجارها الكثيرة
المسألة السادسة لقائل أن يقول إنه تعالى قال ههنا وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا وقال في الأعراف فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا ( الأعراف 19 ) فعطف كَلاَّ على قوله اسْكُنْ في سورة البقرة بالواو وفي سورة الأعراف بالفاء فما الحكمة والجواب كل فعل عطف عليه شيء وكان الفعل بمنزلة الشرط وذلك الشيء بمنزلة الجزء عطف الثاني على الأول بالفاء دون الواو كقوله تعالى وَإِذَا قُلْنَا ادْخُلُواْ هَاذِهِ الْقَرْيَة َ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا ( البقرة 58 ) فعطف كلوا على ادخلوا بالفاء لما كان وجود الأكل منها متعلقاً بدخولها فكأنه قال إن أدخلتموها أكلتم منها فالدخول موصل إلى الأكل والأكل متعلق وجوده بوجوده يبين ذلك قوله تعالى في مثل هذه الآية من سورة الأعراف وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَاذِهِ الْقَرْيَة َ وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ ( الأعراف 161 ) فعطف كلوا على قوله اسكنوا بالواو دون الفاء لأن اسكنوا من السكنى وهي المقام مع طول اللبث والأكل لا يختص وجوده بوجوده لأن من دخل بستاناً قد يأكل منه وإن كان مجتازاً فلما لم يتعلق الثاني بالأول تعلق الجزاء بالشرط وجب العطف بالواو دون الفاء إذا ثبت هذا فنقول إن اسْكُنْ يقال لمن دخل مكاناً فيراد منه الزم المكان الذي دخلته ولا تنتقل عنه ويقال أيضاً لمن لم يدخل اسكن هذا المكان يعني ادخله واسكن فيه ففي سورة البقرة هذه الأمر إنما ورد بعد أن كان آدم في الجنة فكان المراد منه اللبث والاستقرار وقد بينا أن الأكل لا يتعلق به فلا جرم ورد بلفظ الواو وفي سورة الأعراف هذا الأمر إنما ورد قيل أن دخل الجنة فكان المراد منه دخول الجنة وقد بينا أن الأكل يتعلق به فلا جرم ورد بلفظ الفاء والله أعلم
المسألة السابعة قوله وَلاَ تَقْرَبَا هَاذِهِ الشَّجَرَة َ لا شبهة في أنه نهى ولكن فيه بحثان الأول أن هذا نهي تحريم أو نهي تنزيه فيه خلاف فقال قائلون هذه الصيغة لنهي التنزيه وذلك لأن هذه الصيغة وردت تارة في التنزيه وأخرى في التحريم والأصل عدم الاشتراك فلا بد من جعل اللفظ حقيقة في القدر المشترك بين القسمين وما ذلك إلا أن يجعل حقيقة في ترجيح جانب الترك على جانب الفعل من غير أن يكون فيه دلالة على المنع من الفعل أو على الإطلاق فيه لكن الإطلاق فيه كان ثابتاً بحكم الأصل فإن الأصل في المنافع الإباحة فإذا ضممنا مدلول اللفظ إلى هذا الأصل صار المجموع دليلاً على التنزيه قالوا وهذا هو الأولى بهذا المقام لأن على هذا التقدير يرجع حاصل معصية آدم عليه السلام إلى ترك الأولى ومعلوم أن كل مذهب كان أفضى إلى عصمة الأنبياء عليهم السلام كان أولى بالقبول وقال آخرون بل هذا النهي نهي

تحريم واحتجوا عليه بأمور أحدها أن قوله تعالى وَلاَ تَقْرَبَا هَاذِهِ الشَّجَرَة َ كقوله وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ ( البقرة 222 ) وقوله وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ ( الأنعام 152 ) فكما أن هذا للتحريم فكذا الأول وثانيها أنه قال فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ ( البقرة 35 ) معناه إن أكلتما منها فقد ظلمتما أنفسكما ألا تراهما لما أكلا قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا ( الأعراف 23 ) وثالثها أن هذا النهي لو كان نهي تنزيه لما استحق آدم بفعله الإخراج من الجنة ولما وجبت التوبة عليه والجواب عن الأول نقول إن النهي وإن كان في الأصل للتنزيه ولكنه قد يحمل على التحريم لدلالة منفصلة وعن الثاني أن قوله فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ أي فتظلما أنفسكما بفعل ما الأولى بكما تركه لأنكما إذا فعلتما ذلك أخرجتما من الجنة التي لا تظمآن فيها ولا تجوعان ولا تضحيان ولا تعريان إلى موضع ليس لكما فيه شيء من هذا وعن الثالث أنا لا نسلم أن الإخراج من الجنة كان لهذا السبب وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى
البحث الثاني قال قائلون قوله وَلاَ تَقْرَبَا هَاذِهِ الشَّجَرَة َ يفيد بفحواه النهي عن الأكل وهذا ضعيف لأن النهي عن القرب لا يفيد النهي عن الأكل إذ ربما كان الصلاح في ترك قربها مع أنه لو حمل إليه لجاز له أكله بل هذا الظاهر يتناول النهي عن القرب وأما النهي عن الأكل فإنما عرف بدلائل أخرى وهي قوله تعالى في غير هذا الموضع فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَة َ بَدَتْ لَهُمَا ( الأعراف 22 ) ولأنه صدر الكلام في باب الإباحة بالأكل فقال الْجَنَّة َ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا فصار ذلك كالدلالة على أنه تعالى نهاهما عن أكل ثمرة تلك الشجرة لكن النهي عن ذلك بهذا القول يعم الأكل وسائر الانتفاعات ولو نص على الأكل ما كان يعم كل ذلك ففيه مزيد فائدة
المسألة الثامنة اختلفوا في الشجرة ما هي فروى مجاهد وسعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها البر والسنبلة وروي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه سأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن الشجرة فقال هي الشجرة المباركة السنبلة وروى السدي عن ابن عباس وابن مسعود أنها الكرم وعن مجاهد وقتادة أنها التين وقال الربيع بن أنس كانت شجرة من أكل منها أحدث ولا ينبغي أن يكون في الجنة حدث واعلم أنه ليس في الظاهر ما يدل على التعيين فلا حاجة أيضاً إلى بيانه لأنه ليس المقصود من هذا الكلام أن يعرفنا عين تلك الشجرة وما لا يكون مقصوداً في الكلام لا يجب على الحكيم أن يبينه بل ربما كان بيانه عبثاً لأن أحدنا لو أراد أن يقيم العذر لغيره في التأخر فقال شغلت بضرب علماني لإساءتهم الأدب لكان هذا القدر أحسن من أن يذكر عين هذا الغلام ويذكر اسمه وصفته فليس لأحد أن يظن أنه وقع ههنا تقصير في البيان ثم قال بعضهم الأقرب في لفظ الشجرة أن يتناول ماله ساق وأغصان وقيل لا حاجة إلى ذلك لقوله تعالى وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَة ً مّن يَقْطِينٍ ( الصافات 146 ) مع أنها كالزرع والبطيخ فلم يخرجه ذهابه على وجه الأرض من أن يكون شجراً قال المبرد وأحسب أن كل ما تفرعت له أغصان وعيدان فالعرب تسميه شجراً في وقت تشعبه وأصل هذا أنه كل ما شجر أي أخذ يمنه ويسرة يقال رأيت فلاناً في شجرته الرماح وقال تعالى حَتَّى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ( النساء 65 ) وتشاجر الرجلان في أمر كذا
المسألة التاسعة اتفقوا على أن المراد بقوله تعالى فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ هو أنكما إن أكلتما فقد ظلمتما أنفسكما لأن الأكل من الشجرة ظلم الغير وقد يكون ظالماً بأن يظلم نفسه وبأن يظلم غيره

فظلم النفس أعم وأعظم ثم اختلف الناس ههنا على ثلاثة أقوال الأول قول الحشوية الذين قالوا إنه أقدم على الكبيرة فلا جرم كان فعله ظلماً الثاني قوله المعتزلة الذين قالوا إنه أقدم على الصغيرة ثم لهؤلاء قولان أحدهما قول أبي علي الجبائي وهو أنه ظلم نفسه بأن ألزمها ما يشق عليه من التوبة والتلافي وثانيهما قول أبي هاشم وهو أنه ظلم نفسه من حيث أحبط بعض ثوابه الحاصل فصار ذلك نقصاً فيما قد استحقه الثالث قول من ينكر صدور المعصية منهم مطلقاً وحمل هذا الظلم على أنه فعل ما الأولى له أن لا يفعله ومثاله إنسان طلب الوزارة ثم إنه تركها واشتغل بالحياكة فإنه يقال له يا ظالم نفسه لم فعلت ذلك فإن قيل هل يجوز وصف الأنبياء عليهم السلام بأنهم كانوا ظالمين أو بأنهم كانوا ظالمي أنفسهم والجواب أن الأولى أنه لا يطلق ذلك لما فيه من إيهام الذم
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِى الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ
قال صاحب الكشاف فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا تحقيقه فأصدر الشيطان زلتهما عنها ولفظة عَنْ في هذه الآية كهي في قوله تعالى وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِى ( الكهف 82 ) قال القفال رحمه الله هو من الزلل يكون الإنسان ثابت القدم على الشيء فيزل عنه ويصير متحولاً عن ذلك الموضع ومن قرأ فأزالهما فهو من الزوال عن المكان وحكي عن أبي معاذ أنه قال يقال أزلتك عن كذا حتى زلت عنه وأزللتك حتى زللت ومعناهما واحد أي حولتك عنه وقال بعض العلماء أزلهما الشيطان أي استنزلهما فهو من قولك زل في دينه إذا أخطأ وأزله غيره إذا سبب له ما يزل من أجله في دينه أو دنياه واعلم أن في الآية مسائل
المسألة الأولى اختلف الناس في عصمة الأنبياء عليهم السلام وضبط القول فيه أن يقال الاختلاف في هذا الباب يرجع إلى أقسام أربعة أحدها ما يقع في باب الاعتقاد وثانيها ما يقع في باب التبليغ وثالثها ما يقع في باب الأحكام والفتيا ورابعها ما يقع في أفعالهم وسيرتهم أما اعتقادهم الكفر والضلال فإن ذلك غير جائز عند أكثر الأمة وقالت الفضيلية من الخوارج إنهم قد وقعت منهم الذنوب والذنب عندهم كفر وشرك فلا جرم قالوا بوقوع الكفر منهم وأجازت الإمامية عليهم إظهار الكفر على سبيل التقية
أما النوع الثاني وهو ما يتعلق بالتبليغ فقد أجمعت الأمة على كونهم معصومين عن الكذب والتحريف فيما يتعلق بالتبليغ وإلا لارتفع الوثوق بالأداء واتفقوا على أن ذلك لا يجوز وقوعه منهم عمداً كما لا يجوز أيضاً سهواً ومن الناس من جوز ذلك سهواً قالوا لأن الاحتراز عنه غير ممكن
وأما النوع الثالث وهو ما يتعلق بالفتيا فأجمعوا على أنه لا يجوز خطؤهم فيه على سبيل التعمد وأما على سبيل السهو فجوزه بعضهم وأباه آخرون

وأما النوع الرابع وهو الذي يقع في أفعالهم فقد اختلفت الأمة فيه على خمسة أقوال أحدها قول من جوز عليهم الكبائر على جهة العمد وهو قول الحشوية والثاني قول من لا يجوز عليهم الكبائر لكنه يجوز عليهم الصغائر على جهة العمد إلا ما ينفر كالكذب والتطفيف وهذا قول أكثر المعتزلة القول الثالث أنه لا يجوز أن يأتوا بصغيرة ولا بكبيرة على جهة العمد البتة بل على جهة التأويل وهو قول الجبائي القول الرابع أنه لا يقع منهم الذنب إلا على جهة السهو والخطأ ولكنهم مأخوذون بما يقع منهم على هذه الجهة وإن كان ذلك موضوعاً عن أمتهم وذلك لأن معرفتهم أقوى ودلائلهم أكثر وأنهم يقدرون من التحفظ على ما لا يقدر عليه غيرهم القول الخامس أنه لا يقع منهم الذنب لا الكبيرة ولا الصغيرة لا على سبيل القصد ولا على سبيل السهو ولا على سبيل التأويل والخطأ وهو مذهب الرافضة واختلف الناس في وقت العصمة على ثلاثة أقوال أحدها قول من ذهب إلى أنهم معصومون من وقت مولدهم وهو قول الرافضة وثانيها قول من ذهب إلى أن وقت عصمتهم وقت بلوغهم ولم يجوزوا منهم ارتكاب الكفر والكبيرة قبل النبوة وهو قول كثير من المعتزلة وثالثها قول من ذهب إلى أن ذلك لا يجوز وقت النبوة أما قبل النبوة فجائز وهو قول أكثر أصحابنا وقول أبي الهذيل وأبي علي من المعتزلة والمختار عندنا أنه لم يصدر عنهم الذنب حال النبوة البتة لا الكبيرة ولا الصغيرة ويدل عليه وجوه أحدها لو صدر الذنب عنهم لكانوا أقل درجة من عصاة الأمة وذلك غير جائز بيان الملازمة أن درجة الأنبياء كانت في غاية الجلال والشرف وكل من كان كذلك كان صدور الذنب عنه أفحش ألا ترى إلى قوله تعالى عَظِيماً يانِسَاء النَّبِى ّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَة ٍ مُّبَيّنَة ٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ( الأحزاب 30 ) والمحصن يرجم وغيره يحد وحد العبد نصف حد الحر وأما أنه لا يجوز أن يكون النبي أقل حالاً من الأمة فذاك بالإجماع وثانيها أن بتقدير إقدامه على الفسق وجب أن لا يكون مقبول الشهادة لقوله تعالى إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ ( الحجرات 6 ) لكنه مقبول الشهادة وإلا كان أقل حالاً من عدول الأمة وكيف لا نقول ذلك وأنه لا معنى للنبوة والرسالة إلا أنه يشهد على الله تعالى بأنه شرع هذا الحكم وذاك وأيضاً فهو يوم القيامة شاهد على الكل لقوله لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ( البقرة 143 ) وثالثها أن بتقدير إقدامه على الكبيرة يجب زجره عنها فلم يكن إيذاؤه محرماً لكنه محرم لقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِى الدُّنْيَا وَالاْخِرَة ِ ( الأحزاب 57 ) ورابعها أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) لو أتى بالمعصية لوجب علينا الاقتداء به فيها لقوله تعالى فَاتَّبِعُونِى فيفضي إلى الجمع بين الحرمة والوجوب وهو محال وإذا ثبت ذلك حق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ثبت أيضاً في سائر الأنبياء ضرورة أنه لا قائل بالفرق وخامسها أنا نعلم ببديهة العقل أنه لا شيء أقبح من نبي رفع الله درجته وائتمنه على وحيه وجعله خليفة في عباده وبلاده يسمع ربه يناديه لا تفعل كذا فيقدم عليه ترجيحاً للذته غير ملتفت إلى نهي ربه ولا منزجر بوعيده هذا معلوم القبح بالضرورة وسادسها أنه لو صدرت المعصية من الأنبياء لكانوا مستحقين للعذاب لقوله تعالى وَمَن يَعْصِ اللَّهَ

وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ( الجن 23 ) ولا استحقوا اللعن لقوله أَلاَ لَعْنَة ُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ( هود 18 ) وأجمعت الأمة على أن أحداً من الأنبياء لم يكن مستحقاً للعن ولا للعذاب فثبت أنه ما صدرت المعصية عنه وسابعها أنهم كانوا يأمرون الناس بطاعة الله فلو لم يطيعوه لدخلوا تحت قوله أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ( البقرة 44 ) وقال وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ( هود 88 ) فما لا يلق بواحد من وعاظ الأمة كيف يجوز أن ينسب إلى الأنبياء عليهم السلام وثامنها قوله تعالى إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْراتِ ( الأنبياء 90 ) ولفظ الخيرات للعموم فيتناول الكل ويدخل فيه فعل ما ينبغي وترك ما لا ينبغي فثبت أن الأنبياء كانوا فاعلين لكل ما ينبغي فعله وتاركين كل ما ينبغي تركه وذلك ينافي صدور الذنب عنهم وتاسعها قوله تعالى وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الاْخْيَارِ ( ص 47 ) وهذا يتناول جميع الأفعال والتروك بدليل جواز الاستثناء فيقال فلاناً من المصطفين الأخيار إلا في الفعلة الفلانية والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل تحته فثبت أنهم كانوا أخياراً في كل الأمور وذلك ينافي صدور الذنب عنهم وقال اللَّهُ يَصْطَفِى مِنَ الْمَلَائِكَة ِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ ( الحج 75 ) إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَءالَ إِبْراهِيمَ وَءالَ عِمْرانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ( آل عمران 33 ) وقال في إبراهيم وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ( البقرة 130 ) وقال في موسى إِنْى اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي ( الأعراف 144 ) وقال وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْراهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِى الاْيْدِى وَالاْبْصَارِ إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخَالِصَة ٍ ذِكْرَى الدَّارِ وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الاْخْيَارِ ( ص 45 47 ) فكل هذه الآيات دالة على كونهم موصوفين بالأصطفاء والخيرية وذلك ينافي صدور الذنب عنهم عاشرها أنه تعالى حكى عن إبليس قوله فَبِعِزَّتِكَ لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ( ص 82 83 ) فاستثنى من جملة من يغويهم المخلصين وهم الأنبياء عليهم السلام قال تعالى في صفة إبراهيم وإسحاق ويعقوب إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخَالِصَة ٍ ذِكْرَى الدَّارِ ( ص 46 ) وقال في يوسف إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ( يوسف 24 ) وإذا ثبت وجوب العصمة في حق البعض ثبت وجوبها في حق الكل لأنه لا قائل بالفرق والحادي عشر قوله تعالى وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مّنَ الْمُؤْمِنِينَ ( سبأ 20 ) فأولئك الذين ما اتبعوه وجب أن يقال إنه ما صدر الذنب عنهم إلا فقد كانوا متبعين له وإذا ثبت في ذلك الفريق أنهم ما أذنبوا فذلك الفريق إما الأنيباء أو غيرهم فإن كانوا هم الأنبياء فقد ثبت في النبي أنه لا يذنب وإن كانوا غير الأنبياء فلو ثبت في الأنبياء أنهم أذنبوا لكانوا أقل درجة عند الله من ذلك الفريق فيكون غير النبي أفضل من النبي وذلك باطل بالاتفاق فثبت أن الذنب ما صدر عنهم الثاني عشر أنه تعالى قسم الخلق قسمين فقال أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ وقال في الصنف الآخر أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( المجادلة 22 ) ولا شك أن حزب الشيطان هو الذي يفعل ما يرتضيه الشيطان والذي يرتضيه الشيطان هو المعصية فكل من عصى الله تعالى كان من حزب الشيطان فلو صدرت المعصية من الرسول لصدق عليه أنه

من حزب الشيطان ولصدق عليه أنه من الخاسرين ولصدق على زهاد الأمة أنهم من حزب الله وأنهم من المفلحين فحينئذ يكون ذلك الواحد من الأمة أفضل بكثير عند الله من ذلك الرسول وهذا لا يقوله مسلم الثالث عشر أن الرسول أفضل من الملك فوجب أن لايصدر الذنب من الرسول وإنما قلنا أنه أفضل لقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَءالَ إِبْراهِيمَ وَءالَ عِمْرانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ( آل عمران 33 ) ووجه الاستدلال به قد تقدم في مسألة فضل الملك على البشر وإنما قلنا إنه لما كان كذلك وجب أن لا يصدر الذنب عن الرسول لأنه تعالى وصف الملائكة بترك الذنب فقال لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ ( الأنبياء 27 ) وقال لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ( التحريم 6 ) فلو صدرت المعصية عن الرسول لامتنع كونه أفضل من الملك لقوله تعالى أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِى الاْرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ( ص 28 )
الرابع عشر روي أن خزيمة بن ثابت شهد لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على وفق دعواه فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( كيف شهدت لي ) فقال يا رسول الله إني أصدقك على الوحي النازل عليك من فوق سبع سموات أفلا أصدقك في هذا القدر فصدقه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وسماه بذي الشهادتين ولو كانت المعصية جائزة على الأنبياء لما جازت تلك الشهادة
الخامس عشر قال في حق إبراهيم عليه السلام إِنّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا والإمام من يؤتم به فأوجب على كل الناس أن يأتموا به فلو صدر الذنب عنه لوجب عليهم أن يأتموا به في ذلك الذنب وذلك يفضي إلى التناقض
السادس عشر قوله تعالى لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ( البقرة 124 ) والمراد بهذا العهد إما عهد النبوة أو عهد الإمامة فإن كان المراد عهد النبوة وجب أن لا تثبت النبوة للظالمين وإن كان المراد عهد الإمامة وجب أن لا نثبت الإمامة للظالمين وإذا لم تثبت الإمامة للظالمين وجب أن لا تثبت النبوة للظالمين لأن كل نبي لا بد وأن يكون إماماً يؤتم به ويقتدى به والآية على جميع التقديرات تدل على أن النبي لا يكون مذنباً أما المخالف فقد تمسك في كل واحد من المواضع الأربعة التي ذكرناه بآيات ونحن نشير إلى معاقدها ونحيل بالاستقصاء على ما سيأتي في هذا التفسير إن شاء الله تعالى أما الآيات التي تمسكوا بها في باب الاعتقاد فثلاثة أولها تمسكوا بالطعن في اعتقاد آدم عليه السلام بقوله هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَة ٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ( الأعراف 189 ) إلى آخر الآية قالوا لا شك أن النفس الواحدة هي آدم وزوجها المخلوق منها هي حواء فهذه الكنايات بأسرها عائدة إليهما فقوله جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا ءاتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عما يشركون هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِى اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِى الاْرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبّ الْعَالَمِينَ وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلواة َ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالاْرْضَ بِالْحَقّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّوَرِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ وَإِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ لاِبِيهِ ءازَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً ءالِهَة ً إِنّى أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاواتِ وَالاْرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَاذَا رَبّى يقتضي صدور الشرك عنهما والجواب لا نسلن أن النفس الواحدة هي آدم وليس في الآية ما يدل عليه بل نقول الخطاب لقريش وهم آل قصي والمعنى خلقكم من تفس قصي وجعل من جنسها زوجة عربية ليسكن إليها فلما آتاها ما طلبا من الولد الصالح سيما أولادهما الأربعة بعبد مناف وعبد العزى وعبد الدار وعبد قصي والضمير في يشركون لهما ولأعقابهما فهذا الجواب هو المعتمد

وثانيها قالوا إن إبراهيم عليه السلام لم يكن عالما بالله ولا باليوم الآخر أما الأول فلأنه قال في الكواكب هذا ربي الأنعام 77 وأما الثاني فقوله وَإِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ رَبّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْى ِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بلى ولكن ليطمئن قلبي ( البقرة 260 ) والجواب أما قوله هَاذَا رَبّى فهو استفهام على سبيل الإنكار وأما قوله وَلَاكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى فالمراد أنه ليس الخبر كالمعاينة وثالثها تمسكوا بقوله تعالى فَإِن كُنتَ فِي شَكّ مّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ( يونس 94 ) فدلت الآية على أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) كان في شك مما أوحى إليه والجواب أن القلب في دار الدنيا لا ينفك عن الأفكار المستعقبة للشبهات إلا أنه عليه الصلاة والسلام كان يزيلها بالدلائل
أما الآيات التي تمسكوا بها في باب التبليغ فثلاثة أحدها قوله سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ ( الأعلى 6 8 ) فهذا الاستثناء يدل على وقوع النسيان في الوحي الجواب ليس النهي عن النسيان الذي هو ضد الذكر لأن ذاك غير داخل في الوسع بل عن النسيان بمعنى الترك فنحمله على ترك الأولى وثانيها قوله وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِى ّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِى أُمْنِيَّتِهِ ( الحج 52 ) والكلام عليه مذكور في سورة الحج على الاستقصاء وثالثها قوله تعالى عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَالَاتِ رَبّهِمْ ( الجن 26 28 ) قالوا فلولا الخوف من وقوع التخليط في تبليغ الوحي من جهة الأنبياء لم يكن في الاستظهار بالرصد المرسل معهم فائدة والجواب لم لا يجوز أن تكون الفائدة أن يدفع ذلك الرصد الشياطين عن إلقاء الوسوسة أما الآيات التي تمسكوا بها في الفتيا فثلاثة أحدها قوله وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِى الْحَرْثِ ( الأنبياء 78 ) وقد تكلمنا عليه في سورة الأنبياء وثانيها ( قوله في أسارى بدر حين فاداهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مَا كَانَ لِنَبِى ٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الاْرْضِ ( الأنفال 67 ) فلولا أنه أخطأ في هذه الحكومة وإلا لما عوتب وثالثها قوله تعالى عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ( التوبة 43 ) والجواب عن الكل أنا نحمله على ترك الأولى
أما الآيات التي تمسكوا بها في الأفعال فكثيرة أولها قصة آدم عليه السلام تمسكوا بها من سبعة أوجه الأول أنه كان عاصياً والعاصي لا بد وأن يكون صاحب الكبيرة وإنما قلنا إنه كان عاصياً لقوله تعالى وَعَصَى ءادَمَ رَبَّهُ فَغَوَى ( طه 121 ) وإنما قلنا أن العاصي صاحب الكبيرة لوجهين الأول أن النص يقتضي كونه معاقباً لقوله تعالى وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ ( الجن 23 ) فلا معنى لصاحب الكبيرة إلا ذلك الثاني أن صاحب الكبيرة الوجه الثاني في التمسك بقصة آدم أنه كان غاوياً لقوله تعالى فَغَوَى العاصي اسم ذم فوجب أن لا يتناول إلا والغي ضد الرشد لقوله تعالى قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ ( البقرة 256 ) فجعل الغي مقابلاً للرشد الوجه الثالث أنه تائب والتائب مذنب وإنما قلنا إنه تائب لقوله تعالى فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ( البقرة 37 ) وقال ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ ( طه 122 ) وإنما قلنا التائب مذنب لأن التائب

هو النادم على فعل الذنب والنادم على فعل الذنب مخبر عن كونه فاعلاً الذنب فإن كذب في ذلك الإخبار فهو مذنب بالكذب وإن صدق فيه فهو المطلوب الوجه الرابع أنه ارتكب المنهي عنه في قوله أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَة ِ ( الأعراف 22 ) وَلاَ تَقْرَبَا هَاذِهِ الشَّجَرَة َ ( الأعراف 19 ) وارتكاب المنهى عنه عين الذنب الوجه الخامس سماه ظالماً في قوله فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ ( البقرة 35 ) وهو سمى نفسه ظالماً في قوله رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا ( الأعراف 23 ) والظالم معلون لقوله تعالى أَلاَ لَعْنَة ُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ( هود 18 ) ومن استحق اللعن كان صاحب الكبيرة الوجه السادس أنه اعترف بأنه لولا مغفرة الله إياه وإلا لكان خاسراً في قوله وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( الأعراف 23 ) وذلك يقتضي كونه صاحب الكبيرة وسابعها أنه أخرج من الجنة بسبب وسوسة الشيطان وإزلاله جزاء على ما أقدم عليه من طاعة الشيطان وذلك يدل على كونه صاحب الكبيرة ثم قالوا هب أن كل واحد من هذه الوجوه لا يدل على كونه فاعلاً للكبيرة لكن مجموعها لا شك في كونه قاطعاً في الدلالة عليه ويجوز أن يكون كل واحد من هذه الوجوه وإن لم يدل على الشيء لكن مجموع تلك الوجوه يكون دالاً على الشيء والجواب المعتمد عن الوجوه السبعة عندنا أن نقول كلامكم إنما يتم لو أتيتم بالدلالة على أن ذلك كان حال النبوة وذلك ممنوع فلم لا يجوز أن يقال إن آدم عليه السلام حالما صدرت عنه هذه الزلة ما كان نبياً ثم بعد ذلك صار نبياً ونحن قد بينا أنه لا دليل على هذا المقام وأما الاستقصاء في الجواب عن كل واحد من الوجوه المفصلة فسيأتي إن شاء الله تعالى عند الكلام في تفسير كل واحد من هذه الآيات ولنذكر ههنا كيفية تلك الزلة ليظهر مراد الله تعالى من قوله فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ ( البقرة 36 ) فنقول لنفرض أنه صدر ذلك الفعل عن آدم عليه السلام بعد النبوة فإقدامه على ذلك الفعل إما أن يكون حال كونه ناسياً أو حال كونه ذاكراً أما الأول وهو أنه فعله ناسياً فهو قول طائفة من المتكلمين واحتجوا عليه بقوله تعالى وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ( طه 115 ) ومثلوه بالصائم يشتغل بأمر يستغرقه ويغلب عليه فيصير ساهياً عن الصوم ويأكل في أثناء ذلك السهو ( لا ) عن قصد لا يقال هذا باطل من وجهين الأول أن قوله تعالى مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَاذِهِ الشَّجَرَة ِ إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ وقوله وَقَاسَمَهُمَا إِنّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ( الأعراف 20 21 ) يدل على أنه ما نسي النهي حال الإقدام وروى عن ابن عباس ما يدل على أن آدم عليه السلام تعمد لأنه قال لما أكلا منها فبدت لهما سوآتهما خرج آدم فتعلقت به شجرة من شجر الجنة فحبسته فناداه الله تعالى أفراراً مني فقال بل حياء منك فقال له أما كان فيما منحتك من الجنة مندوحة عما حرمت عليك قال بلى يا رب ولكني وعزتك ما كنت أرى أن أحداً يحلف بك كاذباً فقال وعزتي لأهبطنك منها ثم لا تنال العيش إلا كداً الثاني وهو أنه لو كان ناسياً لما عوتب على ذلك الفعل أما من حيث العقل فلأن الناسي غير قادر على الفعل فلا يكون مكلفاً به لقوله لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ( البقرة 276 ) وأما من حيث النقل فلقوله عليه الصلاة والسلام ( رفع القلم عن ثلاث ) فلما عوتب عليه دل على أن ذلك لم يكن على سبيل

النسيان لأنا نقول أما الجواب عن الأول فهو أنا لا نسلم أن آدم وحواء قبلا من إبليس ذلك الكلام ولا صدقاه فيه لأنهما لو صدقاه لكانت معصيتهما في هذا التصديق أعظم من أكل الشجرة لأن إبليس لما قال لهما مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَاذِهِ الشَّجَرَة ِ إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ فقد ألقى إليهما سوء الظن بالله ودعاهما إلى ترك التسليم لأمره والرضا بحكمه وإلى أن يعتقدا فيه كون إبليس ناصحاً لهما وأن الرب تعالى قد غشهما ولا شك أن هذه الأشياء أعظم من أكل الشجرة فوجب أن تكون المعاتبة في ذلك أشد وأيضاً كان آدم عليه السلام عالماً بتمرد إبليس عن السجود وكونه مبغضاً له وحاسداً له على ما آتاه الله من النعم فكيف يجوز من العاقل أن يقبل قول عدوه مع هذه القرائن وليس في الآية أنهما أقدما على ذلك الفعل عند ذلك الكلام أو بعده ويدل على أن آدم كان عالماً بعداوته لقوله تعالى إِنَّ هَاذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّة ِ فَتَشْقَى ( طه 117 ) وأما ما روي عن ابن عباس فهو أثر مروي بالآحاد فكيف يعارض القرآن وأما الجواب عن الثاني فهو أن العتاب إنما حصل على ترك التحفظ من أسباب النسيان وهذا الضرب من السهو موضوع عن المسلمين وقد كان يجوز أن يؤاخذوا به وليس بموضوع عن الأنبياء لعظم خطرهم ومثلوه بقوله تعالى كَرِيماً يانِسَاء النَّبِى ّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مّنَ النّسَاء ( الأحزاب 32 ) ثم قال مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَة ٍ مُّبَيّنَة ٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ( الأحزاب 30 ) وقال عليه الصلاة والسلام ( أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل ) وقال أيضاً ( إني أوعك كما يوعك الرجلان منكم ) فإن قيل كيف يجوز أن يؤثر عظم حالهم وعلو منزلتهم في حصول شرط في تكليفهم دون تكليف غيرهم قلنا أما سمعت ( حسنات الأبرار سيئات المقربين ) ولقد كان على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من التشديدات في التكليف ما لم يكن على غيره فهذا في تقرير أنه صدر ذلك عن آدم عليه السلام على جهة السهو والنسيان ورأيت في بعض التفاسير أن حواء سقته الخمر حتى سكر ثم في أثناء السكر فعل ذلك قالوا وهذا ليس ببعيد لأنه عليه السلام كان مأذوناً له في تناول كل الأشياء سوى تلك الشجرة فإذا حملنا الشجرة على البر كان مأذوناً في تناول الخمر ولقائل أن يقول إن خمر الجنة لا يسكر لقوله تعالى في صفة خمر الجنة لاَ فِيهَا غَوْلٌ ( الصافات 47 ) أما القول الثاني وهو أنه عليه السلام فعله عامداً فههنا أربعة أقوال أحدها أن ذلك النهي كان نهي تنزيه لا نهي تحريم وقد تقدم الكلام في هذا القول وعلته الثاني أنه كان ذلك عمداً من آدم عليه السلام وكان ذلك كبيرة مع أن آدم عليه السلام كان في ذلك الوقت نبياً وقد عرفت فساد هذا القول الثالث أنه عليه السلام فعله عمداً لكن كان معه من الوجل والفزع والأشفاق ما صير ذلك في حكم الصغيرة وهذا القول أيضاً باطل بالدلائل المتقدمة لأن المقدم على ترك الواجب أو فعل المنهي عمداً وإن فعله مع الخوف إلا أنه يكون مع ذلك عاصياً مستحقاً للعن والذم والخلود في النار ولا يصح وصف الأنبياء عليهم السلام بذلك ولأنه تعالى وصفه بالنسيان في قوله فَنَسِى َ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ( طه 115 ) وذلك ينافي العمدية القول الرابع وهو اختيار أكثر المعتزلة أنه عليه السلام أقدم على الأكل بسبب اجتهاد أخطأ فيه وذلك لا يقتضي كون الذنب كبيرة بيان الاجتهاد الخطأ أنه لما قيل له وَلاَ تَقْرَبَا هَاذِهِ الشَّجَرَة َ فلفظ هَاذِهِ

قد يشار به إلى الشخص وقد يشار به إلى النوع وروي أنه عليه السلام أخذ حريراً وذهباً بيده وقال ( هذان حل لإناث أمتي حرام على ذكورهم ) وأراد به نوعهما وروي أنه عليه الصلاة والسلام توضأ مرة مرة وقال ( هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به ) وأراد نوعه فلما سمع آدم عليه السلام قوله تعالى وَلاَ تَقْرَبَا هَاذِهِ الشَّجَرَة َ ( البقرة 35 ) ( الأعراف 19 ) ظن أن النهي إنما يتناول تلك الشجرة المعينة فتركها وتناول من شجرة أخرى من ذلك النوع إلا أنه كان مخطئاً في ذلك الاجتهاد لأن مراد الله تعالى من كلمة هَاذِهِ كان النوع لا الشخص والاجتهاد في الفروع إذا كان خطأ لا يوجب استحقاق العقاب واللعن لاحتمال كونه صغيرة مغفورة كما في شرعنا فإن قيل الكلام على هذا القول من وجوه أحدها أن كلمة هَاذَا في أصل اللغة للإشارة إلى الشيء الحاضر والشيء الحاضر لا يكون إلا شيئاً معيناً فكلمة هذا في أصل اللغة للإشارة إلى الشيء المعين فأما أن يراد بها الإشارة إلى النوع فذاك على خلاف الأصل وأيضاً فلأنه تعالى لا تجوز الإشارة عليه فوجب أن يكون أمر بعض الملائكة بالإشارة إلى ذلك الشخص فكان ما عداه خارجاً عن النهي لا محالة إذا ثبت هذا فنقول المجتهد مكلف بحمل اللفظ على حقيقته فآدم عليه السلام لما حمل لفظ هَاذَا على المعين كان قد فعل الواجب ولا يجوز له حمله على النوع واعلم أن هذا الكلام متأيد بأمرين آخرين أحدهما أن قوله وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا ( البقرة 35 ) أفاد الإذن في تناول كل ما في الجنة إلا ما خصه الدليل والثاني أن العقل يقتضي حل الانتفاع بجميع المنافع إلا ما خصه الدليل والدليل المخصص لم يدل إلا على ذلك المعين فثبت أن آدم عليه السلام كان مأذوناً له في الانتفاع بسائر الأشجار وإذا ثبت هذا امتنع أن يستحق بسبب هذا عتاباً وأن يحكم عليه بكونه مخطئاً فثبت أن حمل القصة على هذا الوجه يوجب أن يحكم عليه بأنه كان مصيباً لا مخطئاً وإذا كان كذلك ثبت فساد هذا التأويل الوجه الثاني في الاعتراض على هذا التأويل هب أن لفظ هَاذَا متردد بين الشخص والنوع ولكن هل قرن الله تعالى بهذا اللفظ ما يدل على أن المراد منه النوع دون الشخص أو ما فعل ذلك فإن كان الأول فأما أن يقال إن آدم عليه السلام قصر في معرفة ذلك البيان فحينئذ يكون قد أتى بالذنب وإن لم يقصر في معرفته بل عرفه فقد عرف حينئذ أن المراد هو النوع فإقدامه على التناول من شجرة من ذلك النوع يكون إقداماً على الذنب قصداً الوجه الثالث أن الأنبياء عليهم السلام لا يجوز لهم الاجتهاد لأن الاجتهاد إقدام على العمل بالظن وذلك إنما يجوز في حق من لا يتمكن من تحصيل العلم أما الأنبياء فإنهم قادرون على تحصيل اليقين فوجب أن لا يجوز لهم الاجتهاد لأن الاكتفاء بالظن مع القدرة على تحصيل اليقين غير جائز عقلاً وشرعاً وإذا ثبت ذلك ثبت أن الإقدام على الاجتهاد معصية الوجه الرابع هذه المسألة إما أن تكون من المسائل القطعية أو الظنية فإن كانت من القطعيات كان الخطأ فيها كبيراً وحينئذ يعود الإشكال وإن كانت من الظنيات فإن قلنا إن كل مجتهد مصيب فلا يتحقق الخطأ فيها أصلاً وإن قلنا المصيب فيها واحد والمخطىء فيها معذور بالاتفاق فكيف صار هذا القدر من الخطأ سبباً لأن نزع عن آدم عليه السلام لباسه وأخرج من الجنة وأهبط إلى الأرض والجواب عن الأول

أن لفظ هذا وإن كان في الأصل للإشارة إلى الشخص لكنه قد يستعمل في الإشارة إلى النوع كما تقدم بيانه وأنه سبحانه وتعالى كان قد قرن به ما دل على أن المراد هو النوع والجواب عن الثاني هو أن آدم عليه السلام لعله قصر في معرفة ذلك الدليل لأنه ظن أنه لا يلزمه ذلك في الحال أو يقال إنه عرف ذلك الدليل في وقت ما نهاه الله تعالى عن عين الشجرة فلما طالت المدة غفل عنه لأن في الخبر أن آدم عليه السلام بقي في الجنة الدهر الطويل ثم أخرج والجواب عن الثالث أنه لا حاجة ههنا إلى إثبات أن الأنبياء عليهم السلام تمسكوا بالاجتهاد فأنا بينا أنه عليه السلام قصر في معرفة تلك الدلالة أو أنه كان قد عرفها لكنه قد نسيها وهو المراد من قوله تعالى فَنَسِى َ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً والجواب عن الرابع يمكن أن يقال كانت الدلالة قطعية إلا أنه عليه السلام لما نسيها صار النسيان عذراً في أن لا يصير الذنب كبيراً أو يقال كانت ظنية إلا أنه ترتب عليه من التشديدات ما لم يترتب على خطأ سائر المجتهدين لأن ذلك يجوز أن يختلف باختلاف الأشخاص وكما أن الرسول عليه الصلاة والسلام مخصوص بأمور كثيرة في باب التشديدات والتخفيفات بما لا يثبت في حق الأمة فكذا ههنا واعلم أنه يمكن أن يقال في المسألة وجه آخر وهو أنه تعالى لما قال وَلاَ تَقْرَبَا هَاذِهِ الشَّجَرَة َ ونهاهما معاً فظن آدم عليه السلام أنه يجوز لكل واحد منهما وحده أن يقرب من الشجرة وأن يتناول منها لأن قوله وَلاَ تَقْرَبَا نهي لهما على الجمع ولا يلزم من حصول النهي حال الاجتماع حصوله حال الإنفراد فلعل الخطأ في هذا الاجتهاد إنما وقع من هذا الوجه فهذا جملة ما يقال في هذا الباب والله أعلم
المسألة الثانية اختلفوا في أنه كيف تمكن إبليس من وسوسة آدم عليه السلام مع أن إبليس كان خارج الجنة وآدم كان في الجنة وذكروا فيه وجوهاً أحدها قول القصاص وهو الذي رووه عن وهب بن منبه اليماني والسدي عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره أنه لما أراد إبليس أن يدخل الجنة منعته الخزنة فأتى الحية وهي دابة لها أربع قوائم كأنها البختية وهي كأحسن الدواب بعدما عرض نفسه على سائر الحيوانات فما قبله واحد منها فابتلعته الحية وأدخلته الجنة خفية من الخزنة فلما دخلت الحية الجنة خرج إبليس من فمها واشتغل بالوسوسة فلا جرم لعنت الحية وسقطت قوائمها وصارت تمشي على بطنها وجعل رزقها في التراب وصارت عدواً لبني آدم واعلم أن هذا وأمثاله مما يجب أن لا يلتفت إليه لأن إبليس لو قدر على الدخول في فم الحية فلم لم يقدر على أن يجعل نفسه حية ثم يدخل الجنة ولأنه لما فعل ذلك بالحية فلم عوقبت الحية مع أنها ليست بعاقلة ولا مكلفة وثانيها أن إبليس دخل الجنة في صورة دابة وهذا القول أقل فساداً من الأول وثالثها قال بعض أهل الأصول إن آدم وحواء عليهما السلام لعلهما كانا يخرجان إلى باب الجنة وإبليس كان بقرب الباب ويوسوس إليهما ورابعها هو قول الحسن أن إبليس كان في الأرض وأوصل الوسوسة إليهما في الجنة قال بعضهم هذا بعيد لأن الوسوسة كلام خفي والكلام الخفي لا يمكن إيصاله من الأرض إلى السماء واختلفوا من وجه آخر وهو أن إبليس هل باشر خطابهما أو يقال إنه أوصل الوسوسة إليهما على لسان بعض أتباعه

حجة القول الأول قوله تعالى وَقَاسَمَهُمَا إِنّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ( الأعراف 21 ) وذلك يقتضي المشافهة وكذا قوله فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ ( الأعراف 22 ) وحجة القول الثاني أن آدم وحواء عليهما السلام كانا يعرفانه ويعرفان ما عنده من الحسد والعداوة فيستحيل في العادة أن يقبلا قوله وأن يلتفتا إليه فلا بد وأن يكون المباشر للوسوسة من بعض أتباع إبليس بقي ههنا سؤالان السؤال الأول أن الله تعالى قد أضاف هذا الإزلال إلى إبليس فلم عاتبهما على ذلك الفعل قلنا معنى قوله فَأَزَلَّهُمَا أنهما عند وسوسته أتيا بذلك الفعل فأضيف ذلك إلى إبليس كما في قوله تعالى فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِى إِلاَّ فِرَاراً ( نوح 6 ) فقال تعالى حاكياً عن إبليس وَمَا كَانَ لِى َ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى ( إبراهيم 22 ) هذا ما قاله المعتزلة والتحقيق في هذه الإضافة ما قررناه مراراً أن الإنسان قادر على الفعل والترك ومع التساوي يستحيل أن يصير مصدراً لأحد هذين الأمرين إلا عند انضمام الداعي إليه والداعي عبارة في حق العبد عن علم أو ظن أو اعتقاد بكون الفعل مشتملاً على مصلحة فإذا حصل ذلك العلم أو الظن بسبب منبه نبه عليه كان الفعل مضافاً إلى ذلك لما لأجله صار الفاعل بالقوة فاعلاً بالفعل فلهذا المعنى انضاف الفعل ههنا إلى الوسوسة وما أحسن ما قال بعض العارفين إن زلة آدم عليه السلام هب أنها كانت بسبب وسوسة إبليس فمعصية إبليس حصلت بوسوسة منا وهذا ينبهك على أنه ما لم يحصل الداعي لا يحصل الفعل وأن الدواعي وإن ترتب بعضها على بعض فلا بد من انتهائها إلى ما يخلقه الله تعالى ابتداء وهو الذي صرح به موسى عليه السلام في قوله إِنْ هِى َ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِى مَن تَشَاء ( الأعراف 155 ) السؤال الثاني كيف كانت تلك الوسوسة الجواب أنها هي التي حكى الله تعالى عنها في قوله مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَاذِهِ الشَّجَرَة ِ إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ( الأعراف 20 ) فلم يقبلا ذلك منه فلما أيس من ذلك عدل إلى اليمين على ما قال وَقَاسَمَهُمَا إِنّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ( الأعراف 21 ) فلم يصدقاه أيضاً والظاهر أنه بعد ذلك عدل إلى شيء آخر وهو أنه شغلهما باستيفاء اللذات المباحة حتى صارا مستغرقين فيه فحصل بسبب استغراقهما فيه نسيان النهي فعند ذلك حصل ما حصل والله أعلم بحقائق الأمور كيف كانت
أما قوله تعالى وَقُلْنَا اهْبِطُواْ ففيه مسائل
المسألة الأولى من قال إن جنة آدم كانت في السماء فسر الهبوط بالنزول من العلو إلى السفل ومن قال إنها كانت في الأرض فسره بالتحول من موضع إلى غيره كقوله اهْبِطُواْ مِصْرًا ( البقرة 61 )
المسألة الثانية اختلفوا في المخاطبين بهذا الخطاب بعد الاتفاق على أن آدم وحواء عليهما السلام كانا مخاطبين به وذكروا فيه وجوهاً الأول وهو قول الأكثرين أن إبليس داخل فيه أيضاً قالوا لأن إبليس قد جرى ذكره في قوله فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا أي فأزلهما وقلنا لهم اهبطوا
وأما قوله تعالى بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فهذا تعريف لأدم وحواء عليهما السلام أن إبليس عدو لهما ولذريتهما كما عرفهما ذلك قبل الأكل من الشجرة فقال فَقُلْنَا يائَادَمُ أَن لاَّ هَاذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّة ِ فَتَشْقَى ( طه 117 ) فإن قيل إن إبليس لما أبى من السجود صار كافراً وأخرج من الجنة وقيل له

فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا ( الأعراف 13 ) وقال أيضاً فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ( ص 77 ( الحجر 34 ) وإنما اهبط منها لأجل تكبره فزلة آدم عليه السلام إنما وقعت بعد ذلك بمدة طويلة ثم أمر بالهبوط بسبب الزلة فلما حصل هبوط إبليس قبل ذلك كيف يكون قوله اهْبِطُواْ متناولاً له قلنا إن الله تعالى لما أهبطه إلى الأرض فلعله عاد إلى السماء مر أخرى لأجل أن يوسوس إلى آدم وحواء فحين كان آدم وحواء في الجنة قال الله تعالى لهما اهْبِطَا فلما خرجا من الجنة واجتمع إبليس معهما خارج الجنة أمر الكل فقال اهْبِطُواْ ومن الناس من قال ليس معنى قوله اهْبِطُواْ أنه قال ذلك لهم دفعة واحدة بل قال ذلك لكل واحد منهم على حدة في وقت الوجه الثاني أن المراد آدم وحواء والحية وهذا ضعيف لأنه ثبت بالإجماع أن المكلفين هم الملائكة والجن والإنس ولقائل أن يمنع هذا الإجماع فإن من الناس من يقول قد يحصل في غيرهم جمع من المكلفين على ما قال تعالى كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ( النور 41 ) وقال سليمان للهدهد لاعَذّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً ( النمل 21 ) الثالث المراد آدم وحواء وذريتهما لأنهما لما كانا أصل الإنس جعلا كأنهما الإنس كلهم والدليل عليه قوله اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعًا ( البقرة 36 38 ) ويدل عليه أيضاً قوله فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( البقرة 38 39 ) وهذا حكم يعم الناس كلهم ومعنى بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ما عليه الناس من التعادي والتباغض وتضليل بعضهم لبعض واعلم أن هذا القول ضعيف لأن الذرية ما كانوا موجودين في ذلك الوقت فكيف يتناولهم الخطاب أما من زعم أن أقل الجمع اثنان فالسؤال زائل على قوله
المسألة الثالثة اختلفوا في أن قوله اهْبِطُواْ أمر أو إباحة والأشبه أنه أمر لأن فيه مشقة شديدة لأن مفارقة ما كانا فيه من الجنة إلى موضع لا تحصل المعيشة فيه إلا بالمشقة والكد من أشق التكاليف وإذا ثبت هذا بطل ما يظن أن ذلك عقوبة لأن التشديد في التكليف سبب للثواب فكيف يكون عقاباً مع ما فيه من النفع العظيم فإن قيل ألستم تقولون في الحدود وكثير من الكفارات إنها عقوبات وإن كانت من باب التكاليف قلنا أما الحدود فهي واقعة بالمحدود من فعل الغير فيجوز أن تكون عقاباً إذا كان الرجل مصراً وأما الكفارات فإنما يقال في بعضها إنه يجري مجرى العقوبات لأنها لا تثبت إلا مع المأثم فأما أن تكون عقوبة مع كونها تعريضات للثواب العظيم فلا
المسألة الرابعة أن قوله تعالى اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ أمر بالهبوط وليس أمراً بالعداوة لأن عداوة إبليس لآدم وحواء عليهما السلام بسبب الحسد والاستكبار عن السجود واختداعه إياهما حتى أخرجهما من الجنة وعداوته لذريتهما بإلقاء الوسوسة والدعوة إلى الكفر والمعصية وشيء من ذلك لا يجوز أن يكون مأموراً به فأما عداوة آدم لإبليس فإنها مأمور بها لقوله تعالى إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً ( فاطر 6 ) وقال تعالى يَذَّكَّرُونَ يَابَنِى آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مّنَ الْجَنَّة ِ ( الأعراف 27 ) إذا ثبت هذا ظهر أن المراد من الآية اهبطوا من السماء وأنتم بعضكم لبعض عدو
المسألة الخامسة المستقر قد يكون بمعنى الاستقرار كقوله تعالى إِلَى رَبّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ( القيامة 12 ) وقد يكون بمعنى المكان الذي يستقر فيه كقوله تعالى أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً

( الفرقان 24 ) وقال تعالى فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ ( الأنعام 98 ) إذا عرفت هذا فنقول الأكثرون حملوا قوله تعالى وَلَكُمْ فِى الارْضِ مُسْتَقَرٌّ ( البقرة 36 ) ( الأعراف 24 ) على المكان والمعنى أنها مستقركم حالتي الحياة والموت وروى السدي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال المستقر هو القبر أي قبوركم تكونون فيها والأول أولى لأنه تعالى قدر المتاع وذلك لا يليق إلا بحال الحياة ولأنه تعالى خاطبهم بذلك عند الإهباط وذلك يقتضي حال الحياة واعلم أنه تعالى قال في سورة الأعراف في هذه القصة قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِى الاْرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ( الأعراف 24 25 ) فيجوز أن يكون قوله فِيهَا تَحْيَوْنَ إلى آخر الكلام بياناً لقوله وَلَكُمْ فِى الارْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ويجوز أن يكون زيادة على الأول
المسألة السادسة اختلفوا في معنى الحين بعد اتفاقهم على أنه اسم للزمان والأولى أن يراد به الممتد من الزمان لأن الرجل يقول لصاحبه ما رأيتك منذ حين إذا بعدت مشاهدته له ولا يقال ذلك مع قرب المشاهدة فلما كانت أعمار الناس طويلة وآجالهم عن أوائل حدوثهم متباعدة جاز أن يقول وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ
المسألة السابعة اعلم أن في هذه الآيات تحذيراً عظيماً عن كل المعاصي من وجوه أحدها أن من تصور ما جرى على آدم عليه السلام بسبب إقدامه على هذه الزلة الصغيرة كان على وجل شديد من المعاصي قال الشاعر يا ناظراً يرنو بعيني راقد
ومشاهداً للأمر غير مشاهد
تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجى
درك الجنان ونيل فوز العابد
أنسيت أن الله أخرج آدما
منها إلى الدنيا بذنب واحد
وعن فتح الموصلي أنه قال كنا قوماً من أهل الجنة فسبانا إبليس إلى الدنيا فليس لنا إلا الهم والحزن حتى نرد إلى الدار التي أخرجنا منها وثانيها التحذير عن الاستكبار والحسد والحرص عن قتادة في قوله تعالى أَبَى وَاسْتَكْبَرَ ( البقرة 34 ) قال حسد عدو الله إبليس آدم على ما أعطاه الله من الكرامة فقال أنا ناري وهذا طيني ثم ألقى الحرص في قلب آدم حتى حمله على ارتكاب المنهى عنه ثم ألقى الحسد في قلب قابيل حتى قتل هابيل وثالثها أنه سبحانه وتعالى بين العداوة الشديدة بين ذرية آدم وإبليس وهذا تنبيه عظيم على وجوب الحذر
فَتَلَقَّى ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ
المسألة الأولى قال القفال أصل التلقي هو التعرض للقاء ثم يوضع في موضع الاستقبال للشيء الجائي ثم يوضع موضع القبول والأخذ قال الله تعالى وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْءانَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ( النمل 6 )

أي تلقنه ويقال تلقينا الحجاج أي استقبلناهم ويقال تلقيت هذه الكلمة من فلان أي أخذتها منه وإذا كان هذا أصل الكلمة وكان من تلقى رجلاً فتلاقيا لقي كل واحد صاحبه فأضيف الاجتماع إليهما معاً صلح أن يشتركا في الوصف بذلك فيقال كل ما تلقيته فقد تلقاك فجاز أن يقال تلقى آدم كلمات أي أخذها ووعاها واستقبلها بالقبول وجاز أن يقال تلقى كلمات بالرفع على معنى جاءته عن الله كلمات ومثله قوله لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ( البقرة 124 ) وفي قراءة ابن مسعود ( الظالمون )
المسألة الثانية اعلن أنه لا يجوز أن يكون المراد أن الله تعالى عرفه حقيقة التوبة لأن المكلف لا بد وأن يعرف ماهية التوبة ويتمكن بفعلها من تدارك الذنوب ويميزها عن غيرها فضلاً عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بل يجب حمله على أحد الأمور أحدها التنبيه على المعصية الواقعة منه على وجه صار آدم عليه السلام عند ذلك من التائبين المنيبين وثانيها أنه تعالى عرفه وجوب التوبة وكونها مقبولة لا محالة على معنى أن من أذنب ذنباً صغيراً أو كبيراً ثم ندم على ما صنع وعزم على أن لا يعود فإني أتوب عليه قال الله تعالى فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ أي أخذها وقبلها وعمل بها وثالثها أنه تعالى ذكره بنعمه العظيمة عليه فصار ذلك من الدواعي القوية إلى التوبة ورابعها أنه تعالى علمه كلاماً لو حصلت التوبة معه لكان ذلك سبباً لكمال حال التوبة
المسألة الثالثة اختلفوا في أن تلك الكلمات ما هي فروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن آدم عليه السلام قال يا رب ألم تخلقني بيدك بلا واسطة قال بلى قال يا رب ألم تنفخ فيّ من روحك قال بلى قال ألم تسكني جنتك قال بلى قال يا رب ألم تسبق رحمتك غضبك قال بلى قال يا رب إن تبت وأصلحت تردني إلى الجنة قال بلى فهو قوله فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ وزاد السدي فيه يا رب هل كنت كتبت علي ذنباً قال نعم وثانيها قال النخعي أتيت ابن عباس فقلت ما الكلمات التي تلقى آدم من ربه قال علم الله آدم وحواء أمر الحج فحجا وهي الكلمات التي تقال في الحج فلما فرغا من الحج أوحى الله تعالى إليهما بأني قبلت توبتكما وثالثها قال مجاهد وقتادة في إحدى الروايتين عنهما هي قوله رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( الأعراف 23 ) ورابعها قال سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهم إنها قوله لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءاً وظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت خير الغافرين لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءاً وظلمت نفسي فارحمني إنك أنت خير الراحمين لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءاً وظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم وخامسها قالت عائشة لما أراد الله تعالى أن يتوب على آدم طاف بالبيت سبعاً والبيت يومئذ ربوة حمراء فلما صلى ركعتين استقبل البيت وقال اللهم إنك تعلم سري وعلانيتي فاقبل معذرتي وتعلم حاجتي فاعطني سؤلي وتعلم ما في نفسي فاغفر لي ذنوبي اللهم إني أسألك إيماناً يباشر قلبي ويقيناً صادقاً حتى أعلم أنه لن يصيبني إلا ما كتبت لي وأرضى بما قسمت لي فأوحى الله تعالى إلى آدم يا آدم قد غفرت لك ذنبك ولن يأتيني أحد من ذريتك فيدعوني بهذا الدعاء الذي دعوتني به إلا غفرت ذنبه وكشفت همومه وغمومه ونزعت الفقر من بين عينيه وجاءته الدنيا وهو لا يريدها
المسألة الرابعة قال الغزالي رحمه الله التوبة تتحقق من ثلاثة أمور مترتبة علم وحال وعمل فالعلم أول والحال ثان والعمل ثالث والأول موجب للثاني والثاني موجب للثالث إيجاباً اقتضته سنة الله

في الملك والملكوت أما العلم فهو معرفة ما في الذنب من الضرر وكونه حجاباً بين العبد ورحمة الرب فإذا عرف ذلك معرفة محققة حصل من هذه المعرفة تألم القلب بسبب فوات المحبوب فإن القلب مهما شعر بفوات المحبوب تألم فإذا كان فواته يفعل من جهته تأسف بسبب فوات المحبوب على الفعل الذي كان سبباً لذلك الفوات فسمي ذلك التأسف ندماً ثم إن ذلك الألم إذا تأكد حصلت منه إرادة جازمة ولها تعلق بالحال وبالمستقبل وبالماضي أما تعلقها بالحال فبترك الذنب الذي كان ملابساً له وأما بالمستقبل فالعزم على ترك ذلك الفعل المفوت للمحبوب إلى آخر العمر وأما بالماضي فبتلافي ما فات بالجبر والقضاء إن كان قابلاً للجبر فالعلم هو الأول وهو مطلع هذه الخيرات وأعني به اليقين التام بأن هذه الذنوب سموم مهلكة فهذا اليقين نور وهذا النور يوجب نار الندم فيتألم به القلب حيث أبصر بإشراق نور الإيمان أنه صار محجوباً عن محبوبه كمن يشرق عليه نور الشمس وقد كان في ظلمة فيطلع النور عليه بانقشاع السحاب فرأى محبوبه قد أشرف على الهلاك فتشتعل نيران الحب في قلبه فتنبعث من تلك النيران إرادته للانتهاض للتدارك فالعلم والندم والقصد المتعلق بالترك في الحال والاستقبال والتلافي للماضي ثلاثة معان مترتبة في الحصول ( على التوبة ) ويطلق اسم التوبة على مجموعها وكثيراً ما يطلق اسم التوبة على معنى الندم وحده ويجعل العلم السابق كالمقدمة والترك كالثمرة والتابع المتأخر وبهذا الاعتبار قال عليه السلام ( الندم توبة ) إذ لا ينفك الندم عن علم أوجبه وعن عزم يتبعه فيكون الندم محفوفاً بطرفيه أعني مثمره وثمرته فهذا هو الذي لخصه الشيخ الغزالي في حقيقة التوبة وهو كلام حسن وقال القفال لا بد في التوبة من ترك ذلك الذنب ومن الندم على ما سبق ومن العزم على أن لا يعود إلى مثله ومن الاشفاق فيما بين ذلك كله أما أنه لا بد من الترك فلأنه لو لم يترك لكان فاعلاً له فلا يكون تائباً وأما الندم فلأنه لو لم يندم لكان راضياً بكونه فاعلاً له والراضي بالشيء قد يفعله والفاعل للشيء لا يكون تائباً عنه وأما العزم على أن لا يعود إلى مثله فلأن فعله معصية والعزم على المعصية معصية وأما الأشفاق فلأنه مأمور بالتوبة ولا سبيل له إلى القطع بأنه أتى بالتوبة كما لزمه فيكون خائفاً ولهذا قال تعالى يَحْذَرُ الاْخِرَة َ وَيَرْجُواْ رَحْمَة َ رَبّهِ ( الزمر 9 ) وقال عليه السلام ( لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا ) واعلم أن كلام الغزالي رحمه الله أبين وأدخل في التحقيق إلا أنه يتوجه عليه إشكال وهو أن العلم بكون الفعل الفلاني ضرراً مع العلم بأن ذلك الفعل صدر منه يوجب تألم القلب وذلك التألم يوجب إرادة الترك في الحال والاستقبال وإرادة تلافي ما حصل منه في الماضي وإذا كان بعض هذه الأشياء مرتباً على البعض ترتباً ضرورياً لم يكن ذلك داخلاً تحت قدرته فاستحال أن يكون مأموراً به والحاصل أن الداخل في الوسع ليس إلا تحصيل العلم فأما ما عداه فليس للاختيار إليه سبيل لكن لقائل أن يقول تحصيل العلم ليس أيضاً في الوسع لأن تحصيل العلم ببعض المجهولات لا يمكن إلا بواسطة معلومات متقدمة على ذلك المجهول فتلك العلوم الحاضرة المتوسل بها إلى اكتساب ذلك المجهول إما أن تكون مستلزمة للعلم بذلك المجهول أو لم تكن مستلزمة فإن كان الأول كان ترتب المتوسل إليه على المتوسل به ضرورياً فلا يكون ذلك داخلاً في القدرة والاختيار وإن كان الثاني لم يكن استنتاج المطلوب المجهول عن تلك المعلومات الحاضرة لأن المقدمات القريبة لا بد وأن تكون بحال يلزم من تسليمها في الذهن تسليم المطلوب فإذا لم تكن كذلك لم تكن تلك المقدمات منتجة لتلك النتيجة فإن

قيل لم لا يجوز أن يقال تلك المقدمات وإن كانت حاضرة في الذهن إلا أن كيفية التوصل بها إلى تلك النتيجة غير حاضرة في الذهن فلا جرم لا يلزم من العلم بتلك المقدمات العلم بتلك النتيجة لا محالة قلنا العلم بكيفية التوصل بها إلى تلك النتيجة إما أن يكون من البديهيات أو من الكسبيات فإن كان من البديهيات لم يكن في وسعه وإن كان من الكسبيات كان القول في كيفية اكتسابه كما في الأول فإما أن يفضي إلى التسلسل وهو محال أو يفضي إلى أن يصير من لوازمه فيعود المحذور المذكور والله أعلم
المسألة الخامسة سأل القاضي عبد الجبار نفسه فقال إذا كانت هذه المعصية صغيرة فكيف تلزم التوبة وأجاب بأن أبا علي قال إنها تلزمه لأن المكلف متى علم أنه قد عصى لم يحد فيما بعد وهو مختار ولا مانع من أن يكون نادماً أو مصراً لكن الإصرار قبيح فلا تتم مفارقته لهذا القبيح إلا بالتوبة فهي إذن لازمة سواء كانت المعصية صغيرة أو كبيرة وسواء ذكرها وقد تاب عنها من قبل أو لم يتب أما أبو هاشم فإنه يجوز أن يخلو العاصي من التوبة والإصرار ويقول لا يصح أن تكون التوبة واجبة على الأنبياء لهذا الوجه بل يجب أن تكون واجبة لإحدى خلال فإما أن تجب لأن بالصغيرة قد نقص ثوابهم فيعود ذلك النقصان بالتوبة وإما لأن التوبة نازلة منزلة الترك فإذا كان الترك واجباً عند الإمكان فلا بد من وجوب التوبة مع عدم الإمكان وربما قال تجب التوبة عليهم من جهة السمع وهذا هو الأصح على قوله لأن التوبة لا يجوز أن تجب لعود الثواب الذي هو المنافع فقط لأن الفعل لا يجوز أن يجب لأجل جلب المنافع كما لا تجب النوافل بل الأنبياء عليهم السلام لما عصمهم الله تعالى صار أحد أسباب عصمتهم التشديد عليهم في التوبة حالاً بعد حال وإن كانت معاصيهم صغيرة
المسألة السادسة قال القفال أصل التوبة الرجوع كالأوبة يقال توب كما يقال أوب قال الله تعالى وَقَابِلِ التَّوْبِ فقولهم تاب يتوب توباً وتوبة ومتاباً فهو تائب وتواب كقولهم آب يؤوب أوباً وأوبة فهو آيب وأواب والتوبة لفظة يشترك فيها الرب والعبد فإذا وصف بها العبد فالمعنى رجع إلى ربه لأن كل عاصٍ فهو في معنى الهارب من ربه فإذا تاب فقد رجع عن هربه إلى ربه فيقال تاب إلى ربه والرب في هذه الحالة كالمعرض عن عبده وإذا وصف بها الرب تعالى فالمعنى أنه رجع على عبده برحمته وفضله ولهذا السبب وقع الاختلاف في الصلة فقيل في العبد تاب إلى ربه وفي الرب على عبده وقد يفارق الرجل خدمة رئيس فيقطع الرئيس معروفه عنده ثم يراجع خدمته فيقال فلان عاد إلى الأمير والأمير عاد عليه بإحسانه ومعروفه إذا عرفت هذا فنقول قبول التوبة يكون بوجهين أحدهما أن يثيب عليها الثواب العظيم كما أن قبول الطاعة يراد به ذلك والثاني أنه تعالى يغفر ذنوبه بسبب التوبة
المسألة السابعة المراد من وصف الله تعالى بالتواب المبالغة في قبول التوبة وذلك من وجهين الأول أن واحداً من ملوك الدنيا متى جنى عليه إنسان ثم اعتذر إليه فإنه يقبل الاعتذار ثم إذا عاد إلى الجناية وإلى الاعتذار مرة أخرى فإنه لا يقبله لأن طبعه يمنعه من قبول العذر أما الله سبحانه وتعالى فإنه بخلاف

ذلك فإنه إنما يقبل التوبة لا لأمر يرجع إلى رقة طبع أو جلب نفع أو دفع ضرر بل إنما يقبلها لمحض الإحسان والتفضل فلو عصى المكلف كل ساعة ثم تاب وبقي على هذه الحالة العمر الطويل لكان الله تعالى يغفر له ما قد سلف ويقبل توبته فصار تعالى مستحقاً للمبالغة في قبول التوبة فوصف بأنه تعالى تواب الثاني أن الذين يتوبون إلى الله تعالى فإنه يكثر عددهم فإذا قبل توبة الجميع استحق المبالغة في ذلك ولما كان قبول التوبة مع إزالة العقاب يقتضي حصول الثواب وكان الثواب من جهته نعمة ورحمة وصف نفسه مع كونه تواباً بأنه رحيم
المسألة الثامنة في هذه الآية فوائد إحداها أنه لا بد وأن يكون العبد مشتغلاً بالتوبة في كل حين وأوان لما ورد في ذلك من الأحاديث والآثار أما الأحاديث ( أ ) روي أن رجلاً سأل أمير المؤمنين علياً رضي الله عنه عن الرجل يذنب ثم يستغفر ثم يذنب ثم يستغفر ثم يذنب ثم يستغفر فقال أمير المؤمنين يستغفر أبداً حتى يكون الشيطان هو الخاسر فيقول لا طاقة لي معه وقال علي كلما قدرت أن تطرحه في ورطة وتتخلص منها فافعل ( ب ) وروى أبو بكر الصديق رضي الله عنه قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لم يصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة ( ج ) وعن ابن عمر قال عليه الصلاة والسلام توبوا إلى ربكم فإني أتوب إليه في كل يوم مائة مرة ( د ) وأبو هريرة قال قال عليه الصلاة والسلام حين أنزل عليه وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاْقْرَبِينَ ( الشعراء 214 ) ( يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله لا أغنى عنكم من الله شيئاً يا عباس بن عبد المطلب لا أغنى عنك من الله شيئاً يا صفية عمة رسول الله لا أغنى عنك من الله شيئاً يا فاطمة بنت محمد سليني ما شئت لا أغنى عنك من الله شيئاً ) أخرجاه في الصحيح ( ه ) وقال عليه الصلاة والسلام ( إنه ليغان على قلبي فاستغفر الله في اليوم مائة مرة )
واعلم أن الغين شيء يغشى القلب فيغطيه بعض التغطية وهو كالغيم الرقيق الذي يعرض في الجو فلا يحجب عن الشمس ولكن يمنع كمال ضوئها ثم ذكروا لهذا الحديث تأويلات أحدها أن الله تعالى أطلع نبيه على ما يكون في أمته من بعده من الخلاف وما يصيبهم فكان إذا ذكر ذلك وجد غيماً في قلبه فاستغفر لأمته وثانيها أنه عليه الصلاة والسلام كان ينتقل من حالة إلى حالة أرفع من الأولى فكان الاستغفار لذلك وثالثها أن الغيم عبارة عن السكر الذي كان يلحقه في طريق المحبة حتى يصير فانياً عن نفسه بالكلية فإذا عاد إلى الصحو كان الاستغفار من ذلك الصحو وهو تأويل أرباب الحقيقة ورابعها وهو تأويل أهل الظاهر أن القلب لا ينفك عن الخطرات والخواطر والشهوات وأنواع الميل والإرادات فكان يستعين بالرب تعالى في دفع تلك الخواطر ( و ) أبو هريرة قال قال عمر رضي الله عنه في قوله تعالى تُوبُواْ إِلَى اللَّهِ تَوْبَة ً نَّصُوحاً ( التحريم 8 ) إنه هو الرجل يعمل الذنب ثم يتوب ولا يريد أن يعمل به ولا يعود وقال ابن مسعود رضي الله عنه هو أن يهجر الذنب ويعزم على أن لا يعود إليه أبداً ( ز ) قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حاكياً عن الله تعالى يقول لملائكته ( إذا هم عبدي بالحسنة فاكتبوها له حسنة فإن عملها فاكتبوها بعشر أمثالها وإذا هم بالسيئة فعملها فاكتبوها سيئة واحدة فإن تركها فاكتبوها له حسنة ) رواه مسلم ( ح ) روي أن جبريل عليه السلام سمع إبراهيم عليه السلام وهو يقول يا كريم العفو فقال جبريل أو تدري ما كريم العفو فقال لا يا جبريل

قال أن يعفو عن السيئة ويكتبها حسنة ( ط ) أبو هريرة عنه عليه الصلاة والسلام ( من استفتح أول نهاره بالخير وختمه بالخير قال الله تعالى للملائكة لا تكتبوا على عبدي ما بين ذلك من الذنوب )
( ي ) عن أبي سعيد الخدري قال قال عليه الصلاة والسلام ( كان فيمن قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفساً فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على راهب فأتاه فقال إنه قد قتل تسعة وتسعين نفساً فهل للقاتل من توبة فقال لا فقتله فكمل المائة ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم فأتاه فقال إنه قتل مائة نفس فهل من توبة فقال نعم ومن يحول بينك وبين التوبة انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها ناساً يعبدون الله تعالى فاعبده معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء فانطلق حتى أتى نصف الطريق فأتاه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فقالت ملائكة الرحمة جاء تائباً مقبلاً بقلبه إلى الله تعالى وقالت ملائكة العذاب إنه لم يعمل خيراً قط فأتاهم ملك في صورة آدمي وتوسط بينهم فقال قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيهما كان أدنى فهو له فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد بشبر فقبضته ملائكة الرحمة ) رواه مسلم ( يا ) ثابت البناني بلغنا أن إبليس قال يا رب إنك خلقت آدم وجعلت بيني وبينه عداوة فسلطني عليه وعلى ولده فقال الله سبحانه وتعالى ( جعلت صدورهم مساكن لك ) فقال رب زدني فقال لا يولد ولد لآدم إلا ولد لك عشرة قال رب زدني قال تجري منه مجرى الدم قال رب زدني قال وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِى الاْمْوالِ وَالاْوْلَادِ ( الإسراء 6 ) قال فعندها شكا آدم إبليس إلى ربه تعالى فقال يا رب إنك خلقت إبليس وجعلت بيني وبينه عداوة وبغضاء وسلطه علي وعلى ذريتي وأنا لا أطيقه إلا بك فقال الله تعالى لا يولد لك ولد إلا وكلت به ملكين يحفظانه من قرناء السوء قال رب زدني قال الحسنة بعشر أمثالها قال رب زدني قال لا أحجب عن أحد من ولدك التوبة ما لم يغرغر ) ( يب ) أبو موسى الأشعري قال قال عليه الصلاة والسلام إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار وبالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها ) رواه مسلم ( يج ) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال كنت إذا سمعت من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حديثاً نفعني الله منه بما شاء أن ينفعني فإذا حدثني أحد من أصحابه استحلفته فإذا حلف لي صدقته وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر قال سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( ما من عبد يذنب ذنباً فيحسن الطهور ثم يقوم فيصلي ركعتين فيستغفر الله تعالى إلا غفر له ) ثم قرأ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَة ً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ إلى قوله فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ ( البقرة 135 ) ( يد ) أبو إمامة قال بينا أنا قاعد عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذ جاءه رجل فقال يا رسول الله أصبت حداً فأقمه علي قال فأعرض عنه ثم عاد فقال مثل ذلك وأقيمت الصلاة فدخل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فصلى ثم خرج قال أبو أمامة فكنت أمشي مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والرجل يتبعه ويقول يا رسول الله إني أصبت حداً فأقمه علي فقال عليه السلام ( أليس حين خرجت من بيتك توضأت فأحسنت الوضوء قال بلى يا رسول قال وشهدت معنا هذه الصلاة قال بلى يا رسول الله قال فإن الله قد غفر لك حدك أو قال ذبنك ) رواه مسلم ( يه ) عبد الله قال جاء رجل إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقال يا رسول الله إني عالجت امرأة من أقصى المدينة وإني أصبت ماء دون أن أمسها فها أنا ذا فاقض في ما شئت فقال له عمر لقد سترك الله لو سترت نفسك فلم يرد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) شيئاً فقام الرجل فانطلق فدعاه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وتلا عليه هذه الآية وَأَقِمِ الصَّلَواة َ طَرَفَى ِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيّئَاتِ ( هود 114 ) فقال واحد من القوم يا نبي الله هذا له خاصة قال بل للناس عامة رواه

مسلم ( يو ) أبو هريرة قال قال عليه السلام ( إن عبداً أصاب ذنباً فقال يا رب إني أذنبت ذنباً فاغفر لي فقال ربه علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به فغفر له ثم مكث ما شاء الله ثم أصاب ذنباً آخر فقال يا رب إني أذنبت ذنباً آخر فاغفره لي فقال ربه إن عبدي علم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به فغفر له ثم مكث ما شاء الله ثم أصاب ذنباً آخر فقال يا رب أذنبت ذنباً آخر فاغفره لي فقال ربه علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به فقال له ربه غفرت لعبدي فليعمل ما شاء ) أخرجاه في الصحيح ( يز ) أبو بكر قال قال عليه الصلاة والسلام ( لم يصر من استغفر الله ولو عاد في اليوم سبعين مرة ( يح ) أبو أيوب قال قد كنت كتمتكم شيئاً سمعت من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( لولا أنكم تذنبون فتستغفرون لخلق الله تعالى خلقاً يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم ) رواه مسلم ( يط ) قال عبد الله بينما نحن عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذ أقبل رجل عليه كساء وفي يده شيء قد التف عليه فقال يا رسول الله إني مررت بغيضة شجر فسمعت فيها أصوات فراخ طائر فأخذتهن فوضعتهن في كسائي فجاءت أمهن فاستدارت على رأسي فكشفت لها عنهن فوقعت عليهن أمهن فلففتهن جميعاً في كسائي فهن معي فقال عليه الصلاة والسلام ضعهن عنك فوضعتهن فأبت أمهن إلا لزومهن فقال عليه السلام أتعجبون لرحمة أم الأفراخ بفراخها قالوا نعم يا رسول الله فقال والذي نفس محمد بيده أو قال فوالذي بعثني بالحق نبياً لله عز وجل أرحم بعباده من أم الأفراخ بفراخها ارجع بهن حتى تضعهن من حيث أخذتهن وأمهن معهن فرجع بهن ) ( ك ) عن أبي مسلم الخولاني عن أبي ذر رضي الله عنه عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن جبريل عليه السلام عن الله سبحانه وتعالى قال ( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته محرماً بينكم فلا تظالموا يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا الذي أغفر الذنوب ولا أبالي فاستغفروني أغفر لكم يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم يا عبادي كلكم عارٍ إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على قلب أتقى رجل منكم لم يزد ذلك في ملكي شيئاً يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على قلب أفجر رجل منكم لم ينقص ذلك من ملكي شيئاً يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم اجتمعوا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان منكم ما سأل لم ينقص ذلك من ملكي شيئاً إلا كما ينقص البحر أن يغمس فيه المخيط غمسة واحدة يا عبادي إنما هي أعمالكم أحفظها عليكم فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ) قال وكان أبو إدريس إذا حدث بهذا الحديث جثا على ركبتيه إعظاماً له وأما الآثار فسئل ذو النون عن التوبة فقال إنها اسم جامع لمعان ستة أولهن الندم على ما مضى الثاني العزم على ترك الذنوب في المستقبل الثالث أداء كل فريضة ضيعتها فيما بينك وبين الله تعالى الرابع أداء المظالم إلى المخلوقين في أموالهم وأعراضهم الخامس إذابة كل لحم ودم نبت من الحرم السادس إذاقة البدن ألم الطاعات كما ذاق حلاوة المعصية وكان أحمد بن حارس يقول يا صاحب الذنوب ألم يأن لك أن تتوب يا صاحب الذنوب إن الذنب في الديوان مكتوب يا صاحب الذنوب أنت بها في القبر مكروب يا صاحب الذنوب أنت غداً بالذنوب مطلوب
الفائدة الثانية من فوائد الآية أن آدم عليه السلام لما لم يستغن عن التوبة مع علو شأنه فالواحد منا أولى بذلك

الفائدة الثالثة أن ما ظهر من آدم عليه السلام من البكاء على زلته تنبيه لنا أيضاً لأنا أحق بالبكاء من آدم عليه السلام روي عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( لو جمع بكاء أهل الدنيا إلى بكاء داود لكان بكاء داود أكثر ولو جمع بكاء أهل الدنيا وبكاء داود إلى بكاء نوح لكان بكاء نوح أكثر ولو جمع بكاء أهل الدنيا وبكاء داود وبكاء نوح عليهما السلام إلى بكاء آدم على خطيئته لكان بكاء آدم أكثر )
المسألة التاسعة إنما اكتفى الله تعالى بذكر توبة آدم دون توبة حواء لأنها كانت تبعاً له كما طوى ذكر النساء في القرآن والسنة لذلك وقد ذكرها في قوله قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا ( الأعراف 23 )
قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
المسألة الأولى ذكروا في فائدة تكرير الأمر بالهبوط وجهين الأول قال الجبائي الهبوط الأول غير الثاني فالأول من الجنة إلى سماء الدنيا والثاني من سماء الدنيا إلى الأرض وهذا ضعيف من وجهين أحدهما أنه قال في الهبوط الأول وَلَكُمْ فِى الارْضِ مُسْتَقَرٌّ فلو كان الاستقرار في الأرض إنما حصل بالهبوط الثاني لكان ذكر قوله وَلَكُمْ فِى الارْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ ( البقرة 36 ) عقيب الهبوط الثاني أولى وثانيهما أنه قال في الهبوط الثاني اهْبِطُواْ مِنْهَا والضمير في ( منها ) عائد إلى الجنة وذلك يقتضي كون الهبوط الثاني من الجنة الوجه الثاني أن التكرير لأجل التأكيد وعندي فيه وجه ثالث أقوى من هذين الوجهين وهو أن آدم وحواء لما أتيا بالزلة أمرا بالهبوط فتابا بعد الأمر بالهبوط ووقع في قلبهما أن الأمر بالهبوط لما كان بسبب الزلة فبعد التوبة وجب أن لا يبقى الأمر بالهبوط فأعاد الله تعالى الأمر بالهبوط مرة ثانية ليعلما أن الأمر بالهبوط ما كان جزاء على ارتكاب الزلة حتى يزول بزوالها بل الأمر بالهبوط باقٍ بعد التوبة لأن الأمر به كان تحقيقاً للوعد المتقدم في قوله إِنّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَة ً ( البقرة 30 ) فإن قيل ما جواب الشرط الأول قلنا الشرط الثاني مع جوابه كقولك إن جئتني فإن قدرت أحسنت إليك
المسألة الثانية روي في الأخبار أن آدم عليه السلام أهبط بالهند وحواء بجدة وإبليس بموضع من البصرة على أميال والحية بأصفهان
المسألة الثالثة في ( الهدي ) وجوه أحدها المراد منه كل دلالة وبيان فيدخل فيه دليل العقل وكل كلام ينزل على نبي وفيه تنبيه على عظم نعمة الله تعالى على آدم وحواء فكأنه قال وإن أهبطنكم من الجنة إلى الأرض فقد أنعمت عليكم بما يؤديكم مرة أخرى إلى الجنة مع الدوام الذي لا ينقطع قال الحسن

لما أهبط آدم عليه السلام إلى الأرض أوحى الله تعالى إليه يا آدم أربع خصال فيها كل الأمر لك ولولدك واحدة لي وواحدة لك وواحدة بيني وبينك وواحدة بينك وبين الناس أما التي لي فتعبدني لا تشرك بي شيئاً وأما التي لك فإذا عملت نلت أجرتك وأما التي بيني وبينك فعليك الدعاء وعلي الإجابة وأما التي بينك وبين الناس فإن تصحبهم بما تحب أن يصحبوك به وثانيها ما روي عن أبي العالية أن المراد من الهدى الأنبياء وهذا إنما يتم لو كان المخاطب بقوله فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى غير آدم وهم ذريته وبالجملة فهذا التأويل يوجب تخصيص المخاطبين بذرية آدم وتخصيص الهدي بنوع معين وهو الأنبياء من غير دليل دل على هذا التخصيص
المسألة الرابعة أنه تعالى بين أن من اتبع هداه بحقه علماً وعملاً بالإقدام على ما يلزم والاحجام عما يحرم فإنه يصير إلى حال لا خوف فيها ولا حزن وهذه الجملة مع اختصارها تجمع شيئاً كثيراً من المعاني لأن قوله فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى ( البقرة 38 ) ( طه 123 ) دخل فيه الإنعام بجميع الأدلة العقلية والشرعية وزيادات البيان وجميع ما لا يتم ذلك إلا به من العقل ووجوه التمكن وجميع قوله فَمَن تَبِعَ هُدَايَ ( البقرة 38 ) تأمل الأدلة بحقها والنظر فيها واستنتاج المعارف منها والعمل بها ويجمع ذلك كل التكاليف وجمع قوله فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ( البقرة 38 ) جميع ما أعد الله تعالى لأولياءه لأن زوال الخوف يتضمن السلامة من جميع الآفات وزوال الحزن يقتضي الوصول إلى كل اللذات والمرادات وقدم عدم الخوف على عدم الحزن لأن زوال ما لا ينبغي مقدم على طلب ما ينبغي وهذا يدل على أن المكلف الذي أطاع الله تعالى لا يلحقه خوف في القبر ولا عند البعث ولا عند حضور الموقف ولا عند تطاير الكتب ولا عند نصب الموازين ولا عند الصراط كما قال الله تعالى لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاْكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَئِكَة ُ هَاذَا يَوْمُكُمُ الَّذِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ ( الأنبياء 103 ) وقال قوم من المتكلمين إن أهوال القيامة كما تصل إلى الكفار والفساق تصل أيضاً إلى المؤمنين لقوله تعالى يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَة ٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ ( الحج 2 ) وأيضاً فإذا انكشفت تلك الأهوال وصاروا إلى الجنة ورضوان الله صار ما تقدم كأن لم يمكن بل ربما كان زائداً في الالتذاذ بما يجده من النعيم وهذا ضعيف لأن قوله لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاْكْبَرُ أخص من قوله يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَة ٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ والخاص مقدم على العام وقال ابن زيد لا خوف عليهم أمامهم فليس شيء أعظم في صدر الذي يموت مما بعد الموت فأمنهم الله تعالى منه ثم سلاهم عن الدنيا فقال وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ على ما خلفوه بعد وفاتهم في الدنيا فإن قيل قوله فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ يقتضي نفي الخوف والحزن مطلقاً في الدنيا والآخرة وليس الأمر كذلك لأنهما حصلا في الدنيا للمؤمنين أكثر من حصولهما لغير المؤمنين قال عليه الصلاة والسلام ( خص البلاء بالأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل ) وأيضاً فالمؤمن لا يمكنه القطع أنه أتى بالعبادات كما ينبغي فخوف التقصير حاصل وأيضاً فخوف سوء العاقبة حاصل قلنا قرائن الكلام تدل على أن المراد نفيهما في الآخرة لا في الدنيا ولذلك حكى الله عنهم أنهم قالوا حين دخلوا الجنة الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ( فاطر 43 ) أي أذهب عنا ما كنا فيه من الخوف والإشفاق في الدنيا من أن تفوتنا كرامة الله تعالى التي نلناها الآن
المسألة الخامسة قال القاضي قوله تعالى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ يدل

على أمور أحدها أن الهدى قد يثبت ولا اهتداء فلذلك قال فَمَن تَبِعَ هُدَايَ وثانيها بطلان القول بأن المعارف ضرورية وثالثها أن باتباع الهدى تستحق الجنة ورابعها إبطال التقليد لأن المقلد لا يكون متبعاً للهدى
وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُولَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
قوله تبارك وتعالى وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ لما وعد الله متبع الهدى بالأمن من العذاب والحزن عقبه بذكر من أعد له العذاب الدائم فقال وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سواء كانوا من الإنس أو من الجن فهم أصحاب العذاب الدائم
وأما الكلام في أن العذاب هل يحسن أم لا وبتقدير حسنه فهل يحسن دائماً أم لا فقد تقدم الكلام فيه في تفسير قوله وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَة ٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ ( البقرة 7 ) وههنا آخر الآيات الدالة على النعم التي أنعم الله بها على جميع بني آدم وهي دالة على التوحيد من حيث إن هذه النعم أمور حادثة فلا بد لها من محدث وعلى النبوة من حيث إن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) أخبر عنها موافقاً لما كان موجوداً في التوراة والإنجيل من غير تعلم ولا تلمذة لأحد قدر وعلى المعاد من حيث إن من قدر على خلق هذه الأشياء ابتداء على خلقها إعادة وبالله التوفيق
القول في النعم الخاصة ببني إسرائيل
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما أقام دلائل التوحيد والنبوة والمعاد أولاً ثم عقبها بذكر الإنعامات العامة لكل البشر عقبها بذكر الإنعامات الخاصة على أسلاف اليهود كسراً لعنادهم ولجاجهم بتذكير النعم السالفة واستمالة لقلوبهم بسببها وتنبيهاً على ما يدل على نوبة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من حيث كونها إخباراً عن الغيب واعلم أنه سبحانه ذكرهم تلك النعم أولاً على سبيل الإجمال فقال خَالِدُونَ يَابَنِى إِسْراءيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وفرع على تذكيرها الأمر بالإيمان بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فقال وَءامِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدّقًا لّمَا مَعَكُمْ ثم عقبها بذكر الأمور التي تمنعهم عن الإيمان به ثم ذكرهم تلك النعم على سبيل الإجمال ثانياً بقوله مرة أخرى خَالِدُونَ يَابَنِى إِسْراءيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ تنبيهاً على شدة غفلتهم ثم أردف هذا التذكير بالترغيب البالغ بقوله وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ( البقرة 41 ) مقروناً بالترهيب البالغ بقوله وَاتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا ( البقرة 48 ) إلى آخر الآية ثم شرع

بعد ذلك في تعديد تلك النعم على سبيل التفصيل ومن تأمل وأنصف علم أن هذا هو النهاية في حسن الترتيب لمن يريد الدعوة وتحصيل الاعتقاد في قلب المستمع وإذ قد حققنا هذه المقدمة فلنتكلم الآن في التفير بعون الله
يَابَنِى إِسْرَاءِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّاى َ فَارْهَبُونِ
المسألة الأولى اتفق المفسرون على أن إسرائيل هو يعقوب بن اسحق بن إبراهيم ويقولون إن معنى إسرائيل عبد الله لأن ( إسرا ) في لغتهم هو العبد و ( إيل ) هو الله وكذلك جبريل وهو عبد الله وميكائيل عبد الله قال القفال قيل إن ( إسرا ) بالعبرانية في معنى إنسان فكأنه قيل رجل الله فقوله مَعِى َ بَنِى إِسْراءيلَ خطاب مع جماعة اليهود الذين كانوا بالمدينة من ولد يعقوب عليه السلام في أيام محمد ( صلى الله عليه وسلم )
المسألة الثانية حد النعمة أنها المنفعة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير ومنهم من يقول المنفعة الحسنة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير قالوا وإنما زدنا هذا لأن النعمة يستحق بها الشكر وإذا كانت قبيحة لم يستحق بها الشكر والحق أن هذا القيد غير معتبر لأنه يجوز أن يستحق الشكر بالإحسان وإن كان فعله محظوراً لأن جهة استحقاق الشكر غير جهة استحقاق الذم والعقاب فأي امتناع في اجتماعهما ألا ترى أن الفاسق يستحق الشكر بإنعامه والذم بمعصيته فلم لا يجوز ههنا أن يكون الأمر كذلك ولنرجع إلى تفيسر الحد فنقول أما قولنا المنفعة فلأن المضرة المحضة لا يجوز أن تكون نعمة وقولنا المفعولة على جهة الإحسان فلأنه لو كان نفعاً وقصد الفاعل نفع نفسه لا نفع المفعول به كمن أحسن إلى جاريته ليربح عليها أو أراد استدراجه إلى ضرر واختداعه كمن أطعم خبيصاً مسموماً ليهلكه لم يكن ذلك نعمة فأما إذا كانت المنفعة مفعولة على قصد الإحسان إلى الغير كانت نعمة إذا عرفت حد النعمة فلنفرع عليه فروعاً الفرع الأول اعلم أن كل ما يصل إلينا آناء الليل والنهار في الدنيا والآخرة من النفع ودفع الضرر فهو من الله تعالى على ما قال تعالى وَمَا بِكُم مّن نّعْمَة ٍ فَمِنَ اللَّهِ ( النحل 53 ) ثم إن النعمة على ثلاثة أوجه أحدها نعمة تفرد الله بها نحو أن خلق ورزق وثانيها نعمة وصلت إلينا من جهة غيره بأن خلقها وخلق المنعم ومكنه من الإنعام وخلق فيه قدرة الأنعام وداعيته ووفقه عليه وهداه إليه فهذه النعمة في الحقيقة أيضاً من الله تعالى إلا أنه تعالى لما أجراها على يد عبده كان ذلك العبد مشكوراً ولكن المشكور في الحقيقة هو الله تعالى ولهذا قال أَنِ اشْكُرْ لِى وَلِوالِدَيْكَ ( لقمان 14 ) فبدأ بنفسه وقال عليه السلام ( لا يشكر الله من لا يشكر الناس ) وثالثها نعمة وصلت إلينا من الله تعالى بواسطة طاعاتنا وهي أيضاً من الله تعالى لأنه لولا أنه سبحانه وتعالى وفقنا على الطاعات وأعاننا عليها وهدانا إليها وأزاح الأعذار وإلا لما وصلنا إلى شيء منها فظهر بهذا التقرير أن جميع النعم من الله تعالى على ما قال سبحانه وتعالى وَمَا بِكُم مّن نّعْمَة ٍ فَمِنَ اللَّهِ

الفرع الثاني أن نعم الله تعالى على عبيده مما لا يمكن عدها وحصرها على ما قال وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا ( النحل 18 ) وإنما لا يمكن ذلك لأن كل ما أودع فينا من المنافع واللذات التي ننتفع بها والجوارح والأعضاء التي نستعملها في جلب المنافع ودفع المضار وما خلق الله تعالى في العالم مما يلتذ به ويستدل على وجود الصانع وما وجد في العالم مما يحصل الانزجار برؤيته عن المعاصي مما لا يحصى عدده وكل ذلك منافع لأن المنفعة هي اللذة أو ما يكون وسيلة إلى اللذة وجميع ما خلق الله تعالى كذلك لأن كل ما يلتذ به نعمة وكل ما يلتذ به وهو وسيلة إلى دفع الضرر فهو كذلك والذي لا يكون جالباً للنفع الحاضر ولا دافعاً للضرر الحاضر فهو صالح لأن يستدل به على الصانع الحكيم فيقع ذلك وسيلة إلى معرفته وطاعته وهما وسيلتان إلى اللذات الأبدية فثبت أن جميع مخلوقاته سبحانه نعم على العبيد ولما كانت العقول قاصرة عن تعديد ما في أقل الأشياء من المنافع والحكم فكيف يمكن الإحاطة بكل ما في العالم من المنافع والحكم فصح بهذا معنى قوله تعالى وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا فإن قيل فإذا كانت النعم غير متناهية وما لا يتناهى لا يحصل العلم به في حق العبد فكيف أمر بتذكرها في قوله اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ والجواب أنها غير متناهية بحسب الأنواع والأشخاص إلا أنها متناهية بحسب الأجناس وذلك يكفي في التذكير الذي يفيد العلم بوجود الصانع الحكيم واعلم أنه لما ثبت أن استحقاق الحمد والثناء والطاعة لا يتحقق إلا على إيصال النعمة ثبت أنه سبحانه وتعالى هو المستحق لحمد الحامدين ولهذا قال في ذم الأصنام هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ ( الشعراء 72 73 ) وقال تعالى وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرُّهُمْ ( الفرقان 55 ) وقال أَفَمَن يَهْدِى إِلَى الْحَقّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّى إِلاَّ أَن يُهْدَى ( يونس 35 ) الفرع الثالث أن أول ما أنعم الله به على عبيده هو أن خلقهم أحياء والدليل عليه قوله تعالى كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْواتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً ( البقرة 28 29 ) إلى آخر الآية وهذا صريح في أن أصل النعم الحياة لأنه تعالى أول ما ذكر من النعم فإنما ذكر الحياة ثم إنه تعالى ذكر عقيبها سائر النعم وأنه تعالى إنما ذكر المؤمنين ليبين أن المقصود من حياة الدنيا حياة الآخرة والثواب وبين أن جميع ما خلق قسمان منتفع ومنتفع به هذا قول المعتزلة وقال أهل السنة إنه سبحانه كما خلق المنافع خلق المضار ولا اعتراض لأحد عليه ولهذا سمى نفسه ( النافع الضار ) ولا يسأل عما يفعل الفرع الرابع قالت المعتزلة إن الله تعالى قد أنعم على المكلفين بنعمة الدنيا ونعمة الدين وسوى بين الجميع في النعم الدينية والدنيوية أما في النعم الدينية فلأن كل ما كان في المقدور من الألطاف فقد فعل بهم والذي لم يفعله فغير داخل في القدرة إذ لو قدر على لطف لم يفعله بالمكلف لبقي عذر المكلف وأما في الدنيا فعلى قول البغداديين خاصة لأن عندهم يجب رعاية الأصلح في الدنيا وعند البصريين لا يجب وقال أهل السنة إن الله تعالى خلق الكافر للنار ولعذاب الآخرة ثم اختلفوا في أنه هل لله نعمة على الكافر في الدنيا فمنهم من قال هذه النعم القليلة في الدنيا لما كانت مؤدية إلى الضرر الدائم في الآخرة لم يكن ذلك نعمة على الكافر في الدنيا فإن من جعل السم في الحلوى لم يعد النفع الحاصل من أكل الحلوى نعمة لما

كان ذلك سبيلاً إلى الضرر العظيم ولهذا قال تعالى وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لاِنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً ( آل عمران 178 ) ومنهم من قال إنه تعالى وإن لم ينعم على الكافر بنعمة الدين فلقد أنعم عليه بنعمة الدنيا وهو قول القاضي أبي بكر الباقلاني رحمه الله وهذا القول أصوب ويدل عليه وجوه أحدها قوله تعالى قَدِيرٌ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى ْ خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاْرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء ( البقرة 21 22 ) فنبه على أنه يجب على الكل طاعته لمكان هذه النعم وهي نعمة الخلق والرزق ثانيها قوله تعالى كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْواتًا ( البقرة 28 ) إلى آخره وذكر ذلك في معرض الامتنان وشرح النعم ولو لم يصل إليهم من الله تعالى شيء من النعم لما صح ذلك وثالثها قوله راجِعُونَ يَابَنِى إِسْراءيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِى الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ( البقرة 47 ) وهذا نص صريح في أن الله تعالى أنعم على الكافر إذ المخاطب بذلك هم أهل الكتاب وكانوا من الكفار وكذا قوله خَالِدُونَ يَابَنِى إِسْراءيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ إلى قوله وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ وقوله وَإِذْ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ( البقرة 53 ) وكل ذلك عد للنعم على العبيد ورابعها قوله أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِى الاْرْضِ مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مَّدْرَاراً ( الأنعام 6 ) وخامسها قوله قُلْ مَن يُنَجّيكُمْ مّن ظُلُمَاتِ الْبَرّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ ( الأنعام 63 ) إلى قوله ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ وسادسها قوله وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِى الاْرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ ( الأعراف 10 ) وقال في قصة إبليس وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ( الأعراف 17 ) ولو لم يكن عليهم من الله نعمة لما كان لهذا القول فائدة وسابعها قوله وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِى الارْضِ ( الأعراف 86 ) الآية وقال حاكياً عن شعيب وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وقال حاكياً عن موسى قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ( الأعراف 140 ) وثامنها قوله ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَة ً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ ( الأنفال 53 ) وهذا صريح وتاسعها قوله هُوَ الَّذِى جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذالِكَ إِلاَّ بِالْحَقّ ( يونس 5 ) وعاشرها قوله تعالى وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَة ً مّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ الحادي عشر قوله ( هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها إلى قوله إلى قوله فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِى الاْرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ ( يونس 21 23 )

الثاني عشر قوله وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِبَاساً ( الفرقان 47 ) وقوله هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً ( يونس 67 ) الثالث عشر أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ ( إبراهيم 28 29 ) الرابع عشر اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِى َ فِى الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ( إبراهيم 32 ) الخامس عشر قوله تعالى وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ( إبراهيم 34 ) وهذا صريح في إثبات النعمة في حق الكفار
واعلم أن الخلاف في هذه المسألة راجع إلى العبارة وذلك لأنه لا نزاع في أن هذه الأشياء أعني الحياة والعقل والسمع والبصر وأنواع الرزق والمنافع من الله تعالى إنما الخلاف في أن أمثال هذه المنافع إذا حصل عقيبها تلك المضار الأبدية هل يطلق في العرف عليها اسم النعمة أم لا ومعلوم أن ذلك نزاع في مجرد عبارة وأما الذي يدل على أن ما لا يلتذ به المكلف فهو تعالى إنما خلقه لينتفع به في الاستدلال على الصانع وعلى لطفه وإحسانه فأمور أحدها قوله تعالى في سورة أتى أمر الله يُنَزّلُ الْمَلَائِكَة َ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَآء مِنْ عِبَادِهِ فيبين تعالى أنه إنما بعث الرسل مبشرين ومنذرين ولأجل الدعوة إلى وحدانيته والإيمان بتوحيده وعدله ثم إنه تعالى قال خُلِقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بِالْحَقّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِن نُّطْفَة ٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ ( النحل 2 4 ) فبين أن حدوث العبد مع ما فيه من الكفر من أعظم الدلائل على وجود الصانع وهو انقلابه من حال إلى حال من كونه نطفة ثم علقة ثم مضغة إلى أن ينتهي من أخس أحواله وهو كونه نطفة إلى أشرف أحواله وهو كونه خصيماً مبيناً ثم ذكر بعد ذلك وجوه إنعامه فقال وَالاْنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْء وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ إلى قوله هُوَ الَّذِى أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاء مَآء لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ( النحل 10 ) بين بذلك الرد على الدهرية وأصحاب الطبائع لأنه تعالى بين أن الماء واحد والتراب واحد ومع ذلك اختلفت الألوان والطعوم والروائح ثم قال وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ( إبراهيم 33 ) بين به الرد على المنجمين وأصحاب الأفلاك حيث استدل بحركاتها وبكونها مسخرة على طريقة واحدة على حدوثها فأثبت سبحانه وتعالى بهذه الآيات أن كل ما في العالم مخلوق لأجل المكلفين لأن كل ما في العالم مما يغاير ذات المكلف ليس يخلو من أن يلتذ به المكلف ويستروح إليه فيحصل له به سرور أو يتحمل عنه كلفة أو يحصل له به اعتبار نحو الأجسام المؤذية كالحيات والعقارب فيتذكر بالنظر إليها أنواع العقاب في الآخرة فيحترز منها ويستدل بها على المنعم الأعظم فثبت أنه لا يخرج شيء من مخلوقاته عن هذه المنافع ثم إنه سبحانه وتعالى نبه على عظم إنعامه بهذه الأشياء في آخر هذه الآيات فقال وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا ( إبراهيم 34 ) وثانيها قوله تعالى وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَة ً كَانَتْ ءامِنَة ً مُّطْمَئِنَّة ً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ

بِأَنْعُمِ اللَّهِ ( النحل 112 ) فنبه بذلك على أن كون النعمة واصلة إليهم يوجب أن يكون كفرانها سبباً للتبديل وثالثها قوله في قصة قارون وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ( القصص 77 ) وقال أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَة ً وَبَاطِنَة ً ( لقمان 20 ) وقال أَفَرَءيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الْخَالِقُونَ نَحْنُ ( الواقعة 58 ) وقال فَبِأَى ّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ ( يس 14 ) ( الرحمن 16 ) على سبيل التكرير وكل ما في هذه السورة فهو من النعم إما في الدين أو في الدنيا فهذا ما يتعلق بهذا الباب
المسألة الثالثة في النعم المخصوصة ببني إسرائيل قال بعض العارفين عبيد النعم كثيرون وعبيد المنعم قليلون فالله تعالى ذكر بني إسرائيل بنعمه عليهم ولما آل الأمر إلى أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ذكرهم بالمنعم فقال فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ فدل ذلك على فضل أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) على سائر الأمم
واعلم أن نعم الله تعالى على بني إسرائيل كثيرة ( أ ) استنقذهم مما كانوا فيه من البلاء من فرعون وقومه وأبدلهم من ذلك بتمكينهم في الأرض وتخليصهم من العبودية كما قال وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِى الاْرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّة ً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكّنَ لَهُمْ فِى الاْرْضِ وَنُرِى َ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ ( القصص 5 6 ) ( ب ) جعلهم أنبياء وملوكاً بعد أن كانوا عبيداً للقبط فأهلك أعداءهم وأورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم كما قال كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِى إِسْراءيلَ ( الشعراء 59 ) ( ج ) أنزل عليهم الكتب العظيمة التي ما أنزلها على أمة سواهم كما قال وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ قَوْمٌ اذْكُرُواْ نِعْمَة َ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاء وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً وَءاتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مّن الْعَالَمِينَ ( المائدة 20 ) ( د ) روى هشام عن ابن عباس أنه قال من نعمة الله تعالى على بني إسرائيل أن نجاهم من آل فرعون وظلل عليهم في التيه الغمام وأنزل عليهم المن والسلوى في التيه وأعطاهم الحجر الذي كان كرأس الرجل يسقيهم ما شاؤوا من الماء متى أرادوا فإذا استغنوا عن الماء رفعوه فاحتبس الماء عنهم وأعطاهم عموداً من النور ليضيء لهم بالليل وكانت رؤوسهم لا تتشعث وثيابهم لا تبلى واعلم أنه سبحانه وتعالى إنما ذكرهم بهذه النعم لوجوه أحدها أن في جملة النعم ما يشهد بصدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهو التوراة والإنجيل والزبور وثانيها أن كثرة النعم توجب عظم المعصية فذكرهم تلك النعم لكي يحذروا مخالفة ما دعوا إليه من الإيمان بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وبالقرآن وثالثها أن تذكير النعم الكثيرة يوجب الحياء عن إظهار المخالفة ورابعها أن تذكير النعم الكثيرة يفيد أن المنعم خصهم من بين سائر الناس بها ومن خص أحداً بنعم كثيرة فالظاهر أنه لا يزيلها عنهم لما قيل إتمام المعروف خير من ابتدائه فكأن تذكير النعم السالفة يطمع في النعم الآتية وذلك الطمع مانع من إظهار المخالفة والمخاصمة فإن قيل هذه النعم ما كانت على المخاطبين بل كانت على آبائهم فكيف تكون نعماً عليهم وسبباً لعظم معصيتهم والجواب من وجوه أحدها لولا هذه النعم على آبائهم لما بقوا فما كان يحصل هذا النسل فصارت النعم على الآباء كأنها نعم على الأبناء

وثانيها أن الانتساب إلى الآباء وقد خصهم الله تعالى بنعم الدين والدنيا نعمة عظيمة في حق الأولاد وثالثها الأولاد متى سمعوا أن الله خص آباءهم بهذه النعم لمكان طاعتهم وإعراضهم عن الكفر والجحود رغب الولد في هذه الطريقة لأن الولد مجبول على التشبه بالأب في أفعال الخير فيصير هذا التذكير داعياً إلى الاشتغال بالخيرات والإعراض عن الشرور
أما قوله تعالى وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ فاعلم أن العهد يضاف إلى المعاهد والمعاهد جميعاً وذكروا في هذا العهد قولين الأول أن المراد منه جميع ما أمر الله به من غير تخصيص ببعض التكاليف دون بعض ثم فيه روايات إحداها أنه تعالى جعل تعريفه إياهم نعمه عهداً له عليهم من حيث يلزمهم القايم بشكرها كما يلزمهم الوفاء بالعهد والميثاق وقوله أُوفِ بِعَهْدِكُمْ أراد به الثواب والمغفرة فجعل الوعد بالثواب شبيهاً بالعهد من حيث اشتراكهما في أنه لا يجوز الإخلال به ثانيها قال الحسن المراد منه العهد الذي أخذه الله تعالى على بني إسرائيل في قوله تعالى وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَى ْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللَّهُ إِنّى مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلواة َ وَءاتَيْتُمْ الزَّكَواة َ إلى قوله وَلاَدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ ( المائدة 12 ) فمن وفى لله بعهده وفى الله له بعهده وثالثها وهو قول جمهور المفسرين أن المراد أوفوا بما أمرتكم به من الطاعات ونهيتكم عنه من المعاصي أوف بعهدكم أي أرضى عنكم وأدخلكم الجنة وهو الذي حكاه الضحاك عن ابن عباس وتحقيقه ما جاء في قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّة َ إلى قوله تعالى وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ ( التوبة 111 )
القول الثاني أن المراد من هذا العهد ما أثبته في الكتب المتقدمة من وصف محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وأنه سيبعثه على ما صرح بذلك في سورة المائدة بقوله وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِى إِسْراءيلَ إلى قوله لاكَفّرَنَّ عَنْكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَلاَدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ ( المائدة 12 ) وقال في سورة الأعراف وَاكْتُبْ لَنَا فِى هَاذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَة ً وَفِي الاْخِرَة ِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِى الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِى َّ الامّى َّ الَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى التَّوْرَاة ِ وَالإِنجِيلِ ( الأعراف 156 ) وأما عهد الله معهم فهو أن ينجز لهم ما وعدهم من وضع ما كان عليهم من الإصر والأغلال التي كانت في أعناقهم وقال وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيّيْنَ لَمَا ءاتَيْتُكُم مّن كِتَابٍ وَحِكْمَة ٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدّقٌ ( آل عمران 81 ) الآية وقال وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يابَنِى بَنِى إِسْراءيلَ أَنّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَى َّ مِنَ التَّوْرَاة ِ وَمُبَشّراً بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى اسْمُهُ أَحْمَدُ ( الصف 6 ) وقال ابن عباس إن الله تعالى كان عهد إلى بني إسرائيل في التوراة أني باعث من بني إسماعيل نبياً أمياً فمن تبعه وصدق بالنور الذي يأتي به أي بالقرآن غفرت له ذنبه وأدخلته الجنة وجعلت له أجرين أجراً باتباع ما جاء به موسى وجاءت به سائر أنبياء بني إسرائيل وأجراً باتباع ما جاء به محمد النبي الأمي من ولد إسماعيل وتصديق هذا في قوله تعالى الَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ ( القصص 52 ) إلى قوله أُوْلَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ ( القصص 54 ) وكان علي بن عيسى يقول تصديق ذلك في قوله تعالى فَاسِقُونَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَءامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن

رَّحْمَتِهِ ( الحديد 28 ) وتصديقه أيضاً فيما روى أبو موسى الأشعري عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين رجل من أهل الكتاب آمن بعيسى ثم آمن بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فله أجران ورجل أدب أمته فأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران ورجل أطاع الله وأطاع سيده فله أجران ) بقي ههنا سؤالان
السؤال الأول لو كان الأمر كما قلتم فكيف يجوز من جماعتهم جحده والجواب من وجهين الأول أن هذا العلم كان حاصلاً عند العلماء بكتبهم لكن لم يكن لهم العدد الكثير فجاز منهم كتمانه الثاني أن ذلك النص كان نصاً خفياً لا جلياً فجاز وقوع الشكوك والشبهات فيه
السؤال الثاني الشخص المبشر به في هذه الكتب إما أن يكون قد ذكر في هذه الكتب وقت خروجه ومكان خروجه وسائر التفاصيل المتعلقة بذلك أو لم يذكر شيء من ذلك فإن كان ذلك النص نصاً جلياً وارداً في كتب منقولة إلى أهل العلم بالتواتر فكان يمتنع قدرتهم على الكتمان وكان يلزم أن يكون ذلك معلوماً بالضرورة من دين الأنبياء المتقدمين وإن كان الثاني لم يدل ذلك النص على نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لاحتمال أن يقولوا إن ذلك المبشر به سيجيء بعد ذلك على ما هو قول جمهور اليهود والجواب أن الذين حملوا قوله تعالى وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ على الأمر بالتأمل في الدلائل الدالة على التوحيد والنبوة على ما شرحناه في القول الأول إنما اختاروه لقوة هذا السؤال فأما من أراد أن ينصر القول الثاني فإنه يجيب عنه بأن تعيين الزمان والمكان لم يكن منصوصاً عليه نصاً جلياً يعرفه كل أحد بل كان منصوصاً عليه نصاً خفياً فلا جرم لم يلزم أن يعلم ذلك بالضرورة من دين الأنبياء المتقدمين عليهم السلام ولنذكر الآن بعض ما جاء في كتب الأنبياء المتقدمين من البشارة بمقدم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فالأول جاء في الفصل التاسع من السفر الأول من التوراة أن هاجر لما غضبت عليها سارة تراءى لها ملك ( من قبل ) الله فقال لها يا هاجر أين تريدين ومن أين أقبلت قالت أهرب من سيدتي سارة فقال لها ارجعي إلى سيدتك واخفضي لها فإن الله سيكثر زرعك وذريتك وستحبلين وتلدين ابناً وتسمينه إسماعيل من أجل أن الله سمع تبتلك وخشوعك وهو يكون عين الناس وتكون يده فوق الجميع ويد الجميع مبسوطة إليه بالخضوع وهو يشكر على رغم جميع إخوته
واعلم أن الاستدلال بهذا الكلام أن هذا الكلام خرج مخرج البشارة وليس يجوز أن يبشر الملك من قبل الله بالظلم والجور وبأمر لا يتم إلا بالكذب على الله تعالى ومعلوم أن إسماعيل وولده لم يكونوا متصرفين في الكل أعني في معظم الدنيا ومعظم الأمم ولا كانوا مخالطين للكل على سبيل الاستيلاء إلا بالإسلام لأنهم كانوا قبل الإسلام محصورين في البادية لا يتجاسرون على الدخول في أوائل العراق وأوائل الشام إلا على أتم خوف فلما جاء الإسلام استولوا على الشرق والغرب بالإسلام ومازجو الأمم ووطئوا بلادهم ومازجتهم الأمم وحجوا بيتهم ودخلوا باديتهم بسبب مجاورة الكعبة فلو لم يكن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) صادقاً لكانت هذه المخالطة منهم للأمم ومن الأمم لهم معصية لله تعالى وخروجاً عن طاعته إلى طاعة الشيطان والله يتعالى عن أن يبشر بما هذا سبيله والثاني جاء في الفصل الحادي عشر من السفر الخامس ( إن الرب إلهكم يقيم لكم نبياً مثلي من بينكم

ومن إخوانكم ) وفي هذا الفصل أن الرب تعالى قال لموسى ( إني مقيم لهم نبياً مثلك من بين إخوانهم وأيما رجل لم يسمع كلماتي التي يؤديها عني ذلك الرجل باسمي أنا أنتقم منه ) وهذا الكلام يدل على أن النبي الذي يقيمه الله تعالى ليس من بني إسرائيل كما أن من قال لبني هاشم إنه سيكون من إخوانكم إمام عقل أنه لا يكون من بني هاشم ثم إن يعقوب عليه السلام هو إسرائيل ولم يكن له أخ إلا العيص ولم يكن للعيص ولد من الأنبياء سوى أيوب وإنه كان قبل موسى عليه السلام فلا يجوز أن يكون موسى عليه السلام مبشراً به وأما اسماعيل فإنه كان أخاً لإسحق والد يعقوب ثم إن كل نبي بعث بعد موسى كان من بني إسرائيل فالنبي عليه السلام ما كان منهم لكنه كان من إخوانهم لأنه من ولد إسماعيل الذي هو أخو إسحق عليهم السلام فإن قيل قوله ( من بينكم ) يمنع من أن يكون المراد محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه لم يقم من بين بني إسرائيل قلنا بل قد قام من بينهم لأنه عليه السلام ظهر بالحجاز فبعث بمكة وهاجر إلى المدينة وبها تكامل أمره وقد كان حول المدينة بلاد اليهود كخيبر وبني قينقاع والنضير وغيرهم وأيضاً فإن الحجاز يقارب الشام وجمهور اليهود كانوا إذ ذاك بالشام فإذا قام محمد بالحجاز فقد قام من بينهم وأيضاً فإنه إذا كان من إخوانهم فقد قام من بينهم فإنه ليس ببعيد منهم والثالث قال في الفصل العشرين من هذا السفر ( إن الرب تعالى جاء في طور سيناء وطلع لنا من ساعير وظهر من جبال فاران وصف عن يمينه عنوان القديسين فمنحهم العز وحببهم إلى الشعوب ودعا لجميع قديسيه بالبركة وجه الاستدلال أن جبل فاران هو بالحجاز لأن في التوراة أن اسماعيل تعلم الرمي في برية فاران ومعلوم أنه إنما سكن بمكة إذا ثبت هذا فنقول إن قوله ( فمنحهم العز ) لا يجوز أن يكون المراد إسماعيل عليه السلام لأنه لم يحصل عقيب سكنى إسماعيل عليه السلام هناك عز ولا اجتمع هناك ربوات القديسين فوجب حمله على محمد عليه السلام قالت اليهود المراد أن النار لما ظهرت من طور سيناء ظهرت من ساعير نار أيضاً ومن جبل فاران أيضاً فانتشرت في هذه المواضع قلنا هذا لا يصح لأن الله تعالى لو خلق ناراً في موضع فإنه لا يقال جاء الله من ذلك إذا تابع ذلك الواقعة وحي نزل في ذلك الموضع أو عقوبة وما أشبه ذلك وعندكم أنه لم يتبع ظهور النار وحي ولا كلام إلا من طور سيناء فما كان ينبغي إلا أن يقال ظهر من ساعير ومن جبل فاران فلا يجوز وروده كما لا يقال جاء الله من الغمام إذا ظهر في الغمام احتراق ونيران كما يتفق ذلك في أيام الربيع وأيضاً ففي كتاب حقوق بيان ما قلنا وهو جاء الله من طور سيناء والقدس من جبل فاران وانكشفت السماء من بهاء محمد وامتلأت الأرض من حمده يكون شعاع منظره مثل النور يحفظ بلده بعزه تسير المنايا أمامه ويصحب سباع الطير أجناده قام فمسح الأرض وتأمل الأمم وبحث عنها فتضعضعت الجبال القديمة واتضعت الروابي والدهرية وتزعزعت ستور أهل مدين وركبت الخيول وعلوت مراكب الانقياد والغوث وستنزع في قسيك إغراقاً ونزعاً وترتوي السهام بأمرك يا محمد ارتواء وتخور الأرض بالأنهار ولقد رأتك الجبال فارتاعت وانحرف عنك شؤبوب السيل ونفرت المهاري نفيراً ورعباً ورفعت أيديها وجلاً وفرقاً وتوقفت الشمس والقمر عن مجراهما وسارت العساكر في برق سهامك ولمعان بيانك تدوخ الأرض غضباً وتدوس الأمم زجراً لأنك ظهرت بخلاص

أمتك وإنقاذ تراب آبائك ) هكذا نقل عن ابن رزين الطبري أما النصارى فقال أبو الحسين رحمه الله في كتاب الغرر قد رأيت في نقولهم ( وظهر من جبال فاران لقد تقطعت السماء من بهاء محمد المحمود وترتوى السهام بأمرك المحمود لأنك ظهرت بخلاص أمتك وإنقاذ مسيحك ) فظهر بما ذكرنا أن قوله تعالى في التوراة ( ظهر الرب من جبال فاران ) ليس معناه ظهور النار منه بل معناه ظهور شخص موصوف بهذه الصفات وما ذاك إلا رسولنا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإن قالوا المراد مجيء الله تعالى ولهذا قال في آخر الكلام ( وإنقاذ مسيحك ) قلنا لا يجوز وصف الله تعالى بأنه يركب الخيول وبأن شعاع منظره مثل النور وبأنه جاز المشاعر القديمة أما قوله ( وإنقاذ مسيحك ) فإن محمداً عليه السلام أنقذ المسيح من كذب اليهود والنصارى والرابع ما جاء في كتاب أشعياء في الفصل الثاني والعشرين منه ( قومي فأزهري مصباحك يريد مكة فقد دناوقتك وكرامة الله تعالى طالعة عليك فقد تجلل الأرض الظلام وغطى على الأمم الضباب والرب يشرق عليك إشراقاً ويظهر كرامته عليك تسير الأمم إلى نورك والملوك إلى ضوء طلوعك وارفعي بصرك إلى ما حولك وتأملي فإنهم مستجمعون عندك ويحجونك ويأتيك ولدك من بلد بعيد لأنك أم القرى فأولاد سائر البلاد كأنهم أولاد مكة وتتزين ثيابك على الأرائك والسرر حين ترين ذلك تسرين وتبتهجين من أجل أنه يميل إليك ذخائر البحر ويحج إليك عساكر الأمم ويساق إليك كباش مدين ويأتيك أهل سبأ ويتحدثون بنعم الله ويمجدونه وتسير إليك أغنام فاران ويرفع إلى مذبحي ما يرضيني وأحدث حينئذ لبيت محمدتي حمداً ) فوجه الاستدلال أن هذه الصفات كلها موجودة لمكة فإنه قد حج إليها عساكر الأمم ومال إليها ذخائر البحر وقوله ( وأحدث لبيت محمدتي حمداً ) معناه أن العرب كانت تلبي قبل الإسلام فتقول لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكة وما ملك ثم صار في الإسلام لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك فهذا هو الحمد الذي جدده الله لبيت محمدته فإن قيل المراد بذلك بيت المقدس وسيكون ذلك فيما بعد قلنا لا يجوز أن يقول الحكيم ( قد دنا وقتك ) مع أنه ما دنا بل الذي دنا أمر لا يوافق رضاه ومع ذلك لا يحذر منه وأيضاً فإن كتاب أشعياء مملوء من ذكر البادية وصفتها وذلك يبطل قولهم والخامس روى السمان في تفسيره في السفر الأول من التوراة أن الله تعالى أوحى إلى إبراهيم عليه السلام قال ( قد أجبت دعاك في إسماعيل وباركت عليه فكبرته وعظمته جداً جداً وسيلد اثني عشر عظيماً واجعله لأمة عظيمة ) والاستدلال به أنه لم يكن في ولد إسماعيل من كان كان لأمة عظيمة غير نبينا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فأما دعاء إبراهيم عليه السلام وإسماعيل فكان لرسولنا عليه الصلاة والسلام لما فرغا من بناء الكعبة وهو قوله رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ وَيُزَكّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ( البقرة 129 ) ولهذا كان يقول عليه الصلاة والسلام ( أنا دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى ) وهو قوله وَمُبَشّراً بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى اسْمُهُ أَحْمَدُ ( الصف 6 ) فإنه مشتق من الحمد والاسم المشتق من الحمد ليس إلا لنبينا فإن اسمه محمد وأحمد ومحمود قيل إن صفته في التوراة أن مولده بمكة ومسكنه بطيبة وملكه بالشام وأمته الحمادون والسادس قال المسيح للحواريين ( أنا أذهب وسيأتيكم الفار قليط روح الحق الذي لا يتكلم من قبل نفسه إنما يقول كما يقال له ) وتصديق ذلك إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَى َّ ( الأنعام 50 ) وقوله قُلْ مَا يَكُونُ لِى أَنْ أُبَدّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِى إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحِى إِلَى َّ ( يونس 15 ) أما ( الفارقليط ) ففي تفسيره وجهان أحدهما أنه الشافع المشفع وهذا أيضاً صفته عليه الصلاة والسلام الثاني قال بعض النصارى الفار قليط هو

الذي يفرق بين الحق والباطل وكان في الأصل فاروق كما يقال راووق للذي يروق به وأما ( ليط ) فهو التحقيق في الأمر كما يقال شيب أشيب ذو شيب وهذا أيضاً صفة شرعنا لأنه هو الذي يفرق بين الحق والباطل والسابع قال دانيال ليختنصر حين سأله عن الرؤيا التي كان رآها من غير أن قصها عليه رأيت أيها الملك منظراً هائلاً رأسه من الذهب الأبريز وساعده من الفضة وبطنه وفخذاه من نحاس وساقاه من حديد وبعضها من خزف ورأيت حجراً يقطع من غير قاطع وصك رجل ذلك الصنم ودقها دقاً شديداً فتفتت الصنم كله حديده ونحاسه وفضته وذهبه وصارت رفاتاً وعصفت بها الرياح فلم يوجد لها أثر وصار ذلك الحجر الذي صك ذلك الرجل من ذلك الصنم جبلاً عالياً امتلأت به الأرض فهذا رؤياك أيها الملك وأما تفسيرها فأنت الرأس الذي رأيته من الذهب ويقوم بعدك مملكة أخرى دونك والمملكة الثالثة التي تشبه النحاس تنبسط على الأرض كلها والمملكة الرابعة تكون قوتها مثل الحديد وأما الرجل التي كان بعضها من خزف فإن بعض المملكة يكون عزيزاً وبعضها يكون ذليلاً وتكون كلمة الملك متفرقة ويقيم إله السماء في تلك الأيام مملكة أبدية لا تتغير ولا تزول وإنها تزيل جميع الممالك وسلطانها يبطل جميع السلاطين وتقوم هي إلى الدهر الداهر فهذا تفسير الحجر الذي رأيت أنه يقطع من جبل بلا قاطع حتى دق الحديد والنحاس والخزف والله أعلم بما يكون في آخر الزمان فهذه هي البشارات الواردة في الكتب المتقدمة بمبعث رسولنا محمد ( صلى الله عليه وسلم )
أما قوله تعالى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ فقالت المعتزلة ذلك العهد هو ما دل العقل عليه من أن الله تعالى يجب عليه إيصال الثواب إلى المطيع وصح وصف ذلك الوجوب بالعهد لأنه بحيث يجب الوفاء به فكان ذلك أوكد من العهد بالإيجاب بالنذر واليمين وقال أصحابنا إنه لا يجب للعبد على الله شيء وفي هذه الآية ما يدل على ذلك لأنه تعالى لما قدم ذكر النعم ثم رتب عليه الأمر بالوفاء بالعهد دل على أن تلك النعم السالفة توجب عهد العبودية وإذا كان كذلك كان أداء العبادات أداء لما وجب بسبب النعم السالفة وأداء الواجب لا يكون سبباً لواجب آخر فثبت أن أداء التكاليف لا يوجب الثواب فبطل قول المعتزلة بل التفسير الحق من وجهين الأول أنه تعالى لما وعد بالثواب وكل ما وعد به استحال أن لا يوجد لأنه لو لم يوجد لانقلب خبره الصدق كذباً والكذب عليه محال والمفضي إلى المحال محال فكان ذلك واجب الوقوع فكان ذلك آكد مما ثبت باليمين والنذر الثاني أن يقال العهد هو الأمر والعبد يجوز أن يكون مأموراً إلا أن الله تعالى لا يجوز أن يكون مأموراً لكنه سبحانه وتعالى جرى في ذلك على موافقة اللفظ كقوله يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ( النساء 142 ) وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ ( آل عمران 54 ) وأما قوله وَإِيَّاى َ فَارْهَبُونِ فاعلم أن الرهبة هي الخوف قال المتكلمون الخوف منه تعالى هو الخوف من عقابه وقد يقال في المكلف إنه خائف على وجهين أحدهما مع العلم والآخر مع الظن أما العلم فإذا كان على يقين من أنه أتى بكل ما أمر به واحترز عن كل ما نهى عنه فإن خوفه إنما يكون عن المستقبل وعلى هذا نصف الملائكة والأنبياء عليهم السلام بالخوف والرهبة قال تعالى يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ ( النحل 50 ) وأما الظن فإذا لم يقطع بأنه فعل

المأمورات واحترز عن المنهيات فحينئذ يخاف أن لا يكون من أهل الثواب واعلم أن كل من كان خوفه في الدنيا أشد كان أمنه يوم القيامة أكثر وبالعكس روى ( أنه ينادي مناد يوم القيامة وعزتي وجلالي إني لا أجمع على عبدي خوفين ولا أمنين من أمنني في الدنيا خوفته يوم القيامة ومن خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة ) وقال العارفون الخوف خوفان خوف العقاب وخوف الجلال والأول نصيب أهل الظاهر والثاني نصيب أهل القلب والأول يزول والثاني لا يزول واعلم أن في الآية دلالة على أن كثرة النعم تعظم المعصية ودلالة على ما تقدم العهد يعظم المخالفة ودلالة على أن الرسول كما كان مبعوثاً إلى العرب كان مبعوثاً إلى بني إسرائيل وقوله وَإِيَّاى َ فَارْهَبُونِ يدل على أن المرء يجب أن لا يخاف أحداً إلا الله تعالى وكما يجب ذلك في الخوف فكذا في الرجاء والأمل وذلك يدل على أن الكل بقضاء الله وقدره إذ لو كان العبد مستقلاً بالفعل لوجب أن يخاف منه كما يخاف من الله تعالى وحينئذ يبطل الحصر الذي دل عليه قوله تعالى وَإِيَّاى َ فَارْهَبُونِ بل كان يجب أن لا يرهب إلا نفسه لأن مفاتيح الثواب والعقاب بيده لا بيد الله تعالى فوجب أن لا يخاف إلا نفسه وأن لا يخاف إلا نفسه وأن لا يخاف الله ألبتة وفيها دلالة على أنه يجب على المكلف أن يأتي بالطاعات للخوف والرجاء وأن ذلك لا بد منه في صحتها والله أعلم
وَءَامِنُواْ بِمَآ أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَإِيَّاى َ فَاتَّقُونِ
اعلم أن المخاطبين بقوله وَءامَنُواْ هم بنوا اسرائيل ويدل عليه وجهان الأول أنه معطوف على قوله اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ كأنه قيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي وآمنوا بما أنزلت الثاني أن قوله تعالى مُصَدّقاً لّمَا مَعَكُمْ يدل على ذلك
أما قوله بِمَا أَنزَلْتُ ففيه قولان الأقوى أنه القرآن وعليه دليلان أحدهما أنه وصفه بكونه منزلاً وذلك هو القرآن لأنه تعالى قال نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاة َ وَالإِنجِيلَ ( آل عمران 3 ) والثاني وصفه بكونه مصدقاً لما معهم من الكتب وذلك هو القرآن وقال قتادة المراد بِمَا أَنزَلَ أُنزِلَتِ من كتاب ورسول تجدونه مكتوباً في التوراة والإنجيل
أما قوله مُصَدّقاً لّمَا مَعَكُمْ ففيه تفسيران أحدهما أن في القرآن أن موسى وعيسى حق وأن التوراة والإنجيل حق وأن التوراة أنزلت على موسى والإنجيل على عيسى عليهما السلام فكان الإيمان بالقرآن مؤكداً للإيمان بالتوراة والإنجيل فكأنه قيل لهم إن كنتم تريدون المبالغة في الإيمان بالتوراة والإنجيل فآمنوا بالقرآن فإن الإيمان به يؤكد الإيمان بالتوراة والإنجيل والثاني أنه حصلت البشارة بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وبالقرآن في التوراة والإنجيل فكأن الإيمان بمحمد وبالقرآن تصديقاً للتوراة والإنجيل وتكذيب محمد والقرآن تكذيباً

للتوراة والإنجيل وهذا التفسير أولى لأن على التفسير الأول لا يلزم الإيمان بمحمد عليه السلام لأنه بمجرد كونه مخبراً عن كون التوراة والإنجيل حقاً لا يجب الإيمان بنبوته أما على التفسير الثاني يلزم الإيمان به لأن التوراة والإنجيل إذا اشتملا على كون محمد ( صلى الله عليه وسلم ) صادقاً فالإيمان بالتوراة والإنجيل يوجب الإيمان بكون محمد صادقاً لا محالة ومعلوم أن الله تعالى إنما ذكر هذا الكلام ليكون حجة عليهم في وجوب الإيمان بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فثبت أن هذا التفسير أولى واعلم أن هذا التفسير الثاني يدل على نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من وجهين الأول أن شهادة كتب الأنبياء عليهم السلام لا تكون إلا حقاً والثاني أنه عليه السلام أخبر عن كتبهم ولم يكن له معرفة بذلك إلا من قبل الوحي أما قوله وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ فمعناه أول من كفر به أو أول فريق أو فوج كافر به أو ولا يكن كل واحد منكم أول كافر به ثم فيه سؤلان الأول كيف جعلوا أول من كفر به وقد سبقهم إلى الكفر به مشركو العرب والجواب من وجوه أحدها أن هذا تعريض بأنه كان يجب أن يكونوا أول من يؤمن به لمعرفتهم به وبصفته ولأنهم كانوا هم المبشرون بزمان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والمستفتحون على الذين كفروا به فلما بعث كان أمرهم على العكس لقوله تعالى فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ ( البقرة 89 ) وثانيها يجوز أن يراد ولا تكونوا مثل أول كافر به يعني من أشرك من أهل مكة أي ولا تكونوا وأنتم تعرفونه مذكوراً في التوراة والإنجيل مثل من لم يعرفه وهو مشرك لا كتاب له وثالثها ولا تكونوا أول كافر به من أهل الكتاب لأن هؤلاء كانوا أول من كفر بالقرآن من بني إسرائيل وإن كانت قريش كفروا به قبل ذلك ورابعها ولا تكونوا أول كافر به يعني بكتابكم يقول ذلك ولعلمائهم أي كذب لا تكونوا أول أحد من أمتكم كذلك كتابكم لأن تكذيبكم بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) يوجب تكذيبكم بكتابكم وخامسها أن المراد منه بيان تغليظ كفرهم وذلك لأنهم لما شاهدوا المعجزات الدالة على صدقه عرفوا البشارات الواردة في التوراة والإنجيل بمقدمه فكان كفرهم أشد من كفر من لم يعرف إلا نوعاً واحداً من الدليل والسابق إلى الكفر يكون أعظم ذنباً ممن بعده لقوله عليه السلام ( من سن سيئة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها ) فلما كان كفرهم عظيماً وكفر من كان سابقاً في الكفر عظيماً فقد اشتركا من هذا الوجه فصح إطلاق اسم أحدهما على الآخر على سبيل الاستعارة وسادسها المعنى ولا تكونوا أول من جحد مع المعرفة لأن كفر قريش كان مع الجهل لا مع المعرفة وسابعها أول كافر به من اليهود لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قدم المدينة وبها قريظة والنضير فكفروا به ثم تتابعت سائر اليهود على ذلك الكفر فكأنه قيل أول من كفر به من أهل الكتاب وهو كقوله وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ( البقرة 47 122 ) أي على عالمي زمانهم وثامنها ولا تكونوا أول كافر به عند سماعكم بذكره بل تثبتوا فيه وراجعوا عقولكم فيه وتاسعها أن لفظ ( أول ) صلة والمعنى ولا تكونوا كافرين به وهذا ضعيف السؤال الثاني أنه كان يجوز لهم الكفر إذ لم يكونوا أولاً والجواب من وجوه أحدها أنه ليس في ذكر تلك الشيء دلالة على أن ما عداه بخلافه وثانيها أن في قوله وَءامِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدّقًا لّمَا مَعَكُمْ دلالة على أن كفرهم أولاً وآخراً محظور وثالثها أن قوله رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ( الرعد 2 ) لا يدل على وجود عمد لا يرونها وقوله وَقَتْلِهِمُ الاْنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقّ ( النساء 155 ) لا يدل على وقوع قتل الأنبياء بحق وقوله عقيب هذه الآية وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً لا يدل على إباحة ذلك بالثمن الكثير فكذا ههنا بل المقصود من هذه السياقة استعظام وقوع الجحد والإنكار ممن قرأ في الكتب نعت رسول

الله ( صلى الله عليه وسلم ) صفته ورابعها قال المبرد هذا الكلام خطاب لقوم خوطبوا به قبل غيرهم فقيل لهم لا تكفروا بمحمد فإنه سيكون بعدكم الكفار فلا تكونوا أنتم أول الكفار لأن هذه الأولية موجبة لمزيد الإثم وذلك لأنهم إذا سبقوا إلى الكفر فإما أن يقتدي بهم غيرهم في ذلك الكفر أو لا يكون كذلك فإن اقتدى بهم غيرهم في ذلك الكفر كان لهم وزر ذلك الكفر ووزر كل من كفر إلى يوم القيامة وإن لم يقتد بهم غيرهم اجتمع عليهم أمران أحدهما السبق إلى الكفر والثاني التفرد به ولا شك في أنه منقصة عظيمة فقوله وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ إشارة إلى هذا المعنى
أما قوله وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً فقد بينا في قوله أُوْلَائِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلَالَة َ بِالْهُدَى ( البقرة 16 ) أن الاشتراء يوضع موضع الاستبدال فكذا الثمن يوضع موضع البدل عن الشيء والعوض عنه فإذا اختير على ثواب الله شيء من الدنيا فقد جعل ذلك الشيء ثمناً عند فاعله قال ابن عباس رضي الله عنهما إن رؤساء اليهود مثل كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب وأمثالهما كانوا يأخذون من فقراء اليهود الهدايا وعلموا أنهم لو اتبعوا محمداً لانقطعت عنهم تلك الهدايا فأصروا على الكفر لئلا ينقطع عنهم ذلك القدر المحقر وذلك لأن الدنيا كلها بالنسبة إلى الدين قليلة جداً فنسبتها إليه نسبة المتناهي إلى غير المتناهي ثم تلك الهدايا كانت في نهاية القلة بالنسبة إلى الدنيا فالقليل جداً من القليل جداً أي نسبة له إلى الكثير الذي لا يتناهى واعلم أن هذا النهي صحيح سواء كان فيهم من فعل ذلك أو لم يكن بل لو ثبت أن علماءهم كانوا يأخذون الرشا على كتمان أمر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وتحريف ما يدل على ذلك من التوراة كان الكلام أبين وأما قوله وَإِيَّاى َ فَاتَّقُونِ فيقرب معناه مما تقدم من قوله وَإِيَّاى َ فَارْهَبُونِ والفرق أن الرهبة عبارة عن الخوف وأما الاتقاء فإنما يحتاج إليه عند الجزم بحصول ما يتقي منه فكأنه تعالى أمرهم بالرهبة لأجل أن جواز العقاب قائم ثم أمرهم بالتقوى لأن تعين العقاب قائم
وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ
أعلم أن قوله سبحانه وَءامِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ أمر بترك الكفر والضلال وقوله وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ أمر بترك الإغراء والإضلال واعلم أن إضلال الغير لا يحصل إلا بطريقين وذلك لأن ذلك الغير إن كان قد سمع دلائل الحق فإضلاله لا يمكن إلا بتشويش تلك الدلائل عليه وإن كان ما سمعها فإضلاله إنما يمكن بإخفاء تلك الدلائل عنه ومنعه من الوصول إليها فقوله وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ إشارة إلى القسم الأول وهو تشويش الدلائل عليه وقوله وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ إشارة إلى القسم الثاني وهو منعه من الوصول إلى الدلائل واعلم أن الأظهر في الباء التي في قوله بِالْبَاطِلِ أنها باء الاستعانة كالتي في قولك كتبت بالقلم والمعنى ولا تلبسوا الحق بسبب الشبهات التي توردونها على السامعين وذلك لأن النصوص الواردة في التوراة والإنجيل في أمر محمد عليكم كانت نصوصاً خفية يحتاج في معرفتها إلى الاستدلال ثم إنهم

كانوا يجادلون فيها ويشوشون وجه الدلالة على المتأملين فيها بسبب إلقاء الشبهات فهذا هو المراد بقوله وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ فهو المذكور في قوله وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ الْحَقَّ ( غافر 5 ) أما قوله وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ أي تعلمون ما في إضلال الخلق من الضرر العظيم العائد عليكم يوم القيامة وذلك لأن ذلك التلبيس صار صارفاً للخلق عن قبول الحق إلى يوم القيامة وداعياً لهم إلى الاستمرار على الباطل إلى يوم القيامة ولا شك في أن موقعه عظيم وهذا الخطاب وإن ورد فيهم فهو تنبيه لسائر الخلق وتحذير من مثله فصار الخطاب وإن كان خاصاً في الصورة لكنه عام في المعنى ثم ههنا بحثان
البحث الأول قوله وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ جزم داخل تحت حكم النهي بمعنى ولا تكتموا أو منصوب بإضمار أن
البحث الثاني أن النهي عن اللبس والكتمان وإن تقيد بالعلم فلا يدل على جوازهما حال عدم العلم وذلك لأنه إذا لم يعلم حال الشيء لم يعلم أن ذلك اللبس والكتمان حق أ وباطل وما لا يعرف كونه حقاً أو باطلاً لا يجوز الإقدام عليه بالنفي ولا بالإثبات بل يجب التوقف فيه وسبب ذلك التقييد أن الإقدام على الفعل الضار مع العلم بكونه ضاراً أفحش من الإقدام عليه عند الجهل بكونه ضاراً فلما كانوا عالمين بما في التلبيس من المفاسد كان إقدامهم عليه أقبح والآية دالة على أن العالم بالحق يجب عليه إظهاره ويحرم عليه كتمانه والله أعلم
وَأَقِيمُواْ الصَّلواة َ وَآتُواْ الزَّكَواة َ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَواة ِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَة ٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ يَابَنِى إِسْرَاءِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِى الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ
اعلم أن الله سبحانه وتعالى لما أمرهم بالإيمان أولاً ثم نهاهم عن لبس الحق بالباطل وكتمان دلائل النبوة ثانياً ذكر بعد ذلك بيان ما لزمهم من الشرائع وذكر من جملة الشرائع ما كان كالمقدم والأصل فيها وهو الصلاة التي هي أعظم العبادات البدنية والزكاة التي هي أعظم العبادات المالية وههنا مسائل
المسألة الأولى القائلون بأنه لا يجوز تأخير بيان المجمل عن وقت الخطاب قالوا إنما جاء الخطاب في قوله وَإِذْ أَخَذْنَا بعد أن كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وصف لهم أركان الصلاة وشرائطها فكأنه تعالى قال وأقيموا الصلاة التي عرفتموها والقائلون بجواز التأخير قالوا يجوز أن يراد الأمر بالصلاة وإن كانوا لا يعرفون أن الصلاة ما هي ويكون المقصود أن يوطن السامع نفسه على الامتثال وإن كان لا يعلم أن المأمور به ما هو كما أنه لا نزاع في أن يحسن من السيد أن يقول لعبده إني آمرك غداً بشيء فلا بد وأن تفعله ويكون غرضه منه بأن يعزم العبد في الحال على أدائه في الوقت الثاني
المسألة الثانية قالت المعتزلة الصلاة من الأسماء الشرعية قالوا لأنها أمر حدث في الشرع فاستحال أن يكون الاسم الموضوع قد كان حاصلاً قبل الشرع ثم اختلفوا في وجه التشبيه فقال بعضهم أصلها في اللغة الدعاء قال الأعشى

عليك مثل الذي صليت فاعتصمي
عينا فإن لجنب المرء مضطجعا
وقال آخر وقابلها الريح في دنها
وصلى على دنها وارتسم
وقال بعضهم الأصل فيها اللزوم قال الشاعر لم أكن من جناتها علم الله
وإني بحرها اليوم صالي
أي ملازم وقال آخرون بل هي مأخوذة من المصلي وهو الفرس الذي يتبع غيره والأقرب أنها مأخوذة من الدعاء إذ لا صلاة إلا ويقع فيها الدعاء أو ما يجري مجراه وقد تكون صلاة ولا يحصل فيها متابعة الغير وإذا حصل في وجه التشبيه ما عم كل الصور كان أولى أن يجعل وجه التشبيه شيئاً يختص ببعض الصور وقال أصحابنا من المجازات المشهورة في اللغة إطلاق اسم الجزء على الكل ولما كانت الصلاة الشرعية مشتملة على الدعاء لا جرم أطلق اسم الدعاء عليها على سبيل المجاز فإن كان مراد المعتزلة من كونها اسماً شرعياً هذا فذلك حق وإن كان المراد أن الشرع ارتجل هذه اللفظة ابتداء لهذا المسمى فهو باطل وإلا لما كانت هذه اللفظة عربية وذلك ينافي قوله تعالى إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْانًا عَرَبِيّا ( يوسف 20 ) أما الزكاة فهي في اللغة عبارة عن النماء يقال زكا الزرع إذا نما وعن التطهير قال الله تعالى أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّة ً ( الكهف 74 ) أي طاهرة وقال قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى ( الأعلى 14 ) أي تطهر وقال وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مّنْ أَحَدٍ أَبَداً ( النور 21 ) وقال وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ ( فاطر 18 ) أي تطهر بطاعة الله ولعل إخراج نصف دينار من عشرين ديناراً سمي بالزكاة تشبيهاً بهذين الوجهين لأن في إخراج ذلك القدر تنمية للبقية من حيث البركة فإن الله يرفع البلاء عن ذلك المال بسبب تزكية تلك العطية فصار ذلك الإعطاء نماء في المعنى وإن كان نقصاناً في الصورة ولهذا قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( عليكم بالصدقة فإن فيها ست خصال ثلاثة في الدنيا وثلاثة في الآخرة فأما التي في الدنيا فتزيد في الرزق وتكثر المال وتعمر الديار وأما التي في الآخرة فتستر العورة وتصير ظلاً فوق الرأس وتكون ستراً في النار ) ويجوز أن تسمى الزكاة بالوجه الثاني من حيث إنها تطهر مخرج الزكاة عن كل الذنوب ولهذا قال تعالى لنبيه خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَة ً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا ( التوبة 103 )
المسألة الثالثة قوله تعالى وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة خطاب مع اليهود وذلك يدل على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع أما قوله تعالى وأركعوا مع الراكعين ففيه وجوه أحدها أن اليهود لا ركوع في صلاتهم فخص الله الركوع بالذكر تحريضا لهم على الإتيان بصلاة المسلمين وثانيها أن المراد صلوا مع المصلين وعلى هذا يزول التكرار لأن في الأول أمر تعالى بإقانتها وأمر في الثاني بفعلها في الجماعة وثالثها أن يكون المراد من الأمر بالركوع هو الأمر بالخضوع لأن الركوع والخضوع في اللغة سواء فيكون نهيا عن الاستكبار المذموم وأمرا بالتذلل كما قال للمؤمنين فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين المائدة 54 وكقوله تأديبا لرسوله عليه السلام { واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين } الشعراء 215 وكمدحه له بقوله فبما رحمة منك لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب القلب لانفضوا من حولك آل عمران 159 وهكذا في قوله تعالى إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون المائدة 55

فكأنه تعالى لما أمرهم بالصلاة والزكاة أمرهم بعد ذلك بالانقياد والخضوع وترك التمرد وحكى الأصم عن بعضهم أنه إنما أمر الله تعالى بني إسرائيل بالزكاة لأنهم كانوا لا يؤتون الزكاة وهو المراد بقوله تعالى وأكلهم السحت المائدة 62 وبقوله وأكلهم الربا وأكلهم أموال الناس بالباطل النساء 166 فأظهر الله تعالى في هذا الموضع ما كان مكتوما ليحذروا أن يفضحهم في سائر أسرارهم ومعاصيهم فيصير هذا كالإخبار عن الغيب الذي هو أحد دلائل نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم )
قوله تعالى
أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون
اعلم أن الهمزة في أتأمرون الناس بالبر للتقرير مع التقرير والتعجب من حالهم وأما البر فهو اسم جامع لأعمال الخير ومنه بر الوالدين وهو طاعتهما ومنه عمل مبرور أي قد رضيه الله تعالى وقد يكون بمعنى الصدق كما يقال بر في يمينه أي صدق ولم يحنث ويقال صدقت وبررت وقال تعالى ولكن البر من اتقى البقرة 189 فأخبر أن البر جامع للتقوى واعلم أنه سبحانه وتعالى لما أمر بالإيمان والشرائع بناء على ما خصهم به من النعم ورغبهم في ذلك بناه على مأخذ آخر وهو أن التغافل عن أعمال البر مع حث الناس عليها مستقبح في العقول إذ المقصود من أمر الناس بذلك إما النصيحة أو الشفقة وليس من العقل أن يشفق الإنسان على غيره أو أن ينصح غيره ويهمل نفسه فحذرهم الله تعالى من ذلك بأن قرعهم بهذا الكلام واختلفوا في المراد بالبر في هذا الموضع على وجوه
أحدها وهو قول السدي أنهم كانوا يأمرون الناس بطاعة الله وينهونه عن معصية الله وهم كانوا يتركون الطاعة ويقدمون على المعصية
وثانيها قول ابن جريج أنهم كانوا يأمرون الناس بالصلاة والزكاة وهم كانوا يتركونهما
وثالثها إنه إذا جاءهم أحد في الخفية لاستعلام أمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) قالوا هو صادق فيما يقول وأمره حق فاتبعوه وهم كانوا لا يتبعونه لطعمهم في الهدايا والصلات التي كانت تصل إليهم من أتباعهم
ورابعها أن جماعة من اليهود كانوا قبل مبعث الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يخبرون مشركي العرب أن رسولا سيظهر منكم ويدعو إلى الحق وكانوا يأمرون باتباعه قبل ظهوره فلما ظهر تركوه وأعرضوا عن دينه وهذا اختيار أبي مسلم
وخامسها هو قول الزجاج كانوا يأمرون الناس ببذل الصدقة وكانوا يشحون بها لأن الله تعالى وصفهم بقساوة القلوب وأكل الربا والسحت

وسادسها لهل المنافقين من اليهود كانوا يأمرون باتباع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في الظاهر ثم إنهم كانوا في قلوبهم منكرين له فوبخهم الله تعالى عليه
وسابعها أن اليهود كانوا يأمرون غيرهم باتباع التوراة ثم إنهم خالفوه لأنهم وجدوا فيها ما يدل على صدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ثم إنهم ما آمنوا به أما قوله وتنسون أنفسكم فالنسيان عبارة عن السهو الحادث بعد حصول العلم والناسي غير مكلف ومن لا يكون مكلفا لا يجوز أن يذمه الله تعالى على ما صدر منه فالمراد بقوله وتنسون أنفسكم أنكم تغفولن عن حق أنفسكم وتعدلون عما لها فيه من النفع أما قوله وأنتم تتلون الكتاب فمعناه تقرأون التوراة وتدرسونها وتعلمون بما فيها من الحث على أفعال البر والإعراض عن أفعال الإثم
وأما قوله أفلا تعقلون فهو تعجب للعقلاء من أفعالهم ونظيره قوله تعالى أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون الأنبياء 67 وسبب التعجب وجوه الأول أن المقصود من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إرشاد الغير وذلك معلوم بشواهد العقل والنقل فمن وعظ ولم يتعظ فكأنه أتى بفعل متناقض لا يقبله العقل فلهذا قال أفلا تعقلون الثاني أن من وعظ الناس وأظهر علمه للخلق ثم لم يتعظ صار ذلك الوعظ سببا لرغبة الناس في المعصية لأن الناس يقولون إنه مع هذا العلم لولا أنه مطلع على أنه لا اصل لهذه التخويفات وإلا لما أقدم على المعصية ثم أتى بفعل يوجب الجراءة على المعصية فكأنه جمع بين المتناقضين وذلك لا يليق بأفعال العقلاء فلهذا قال أفلا تعقلون الثالث أن نت وعظ فلا بد وأن يجتهد في أن يصير وعظه مؤثرا في القلوب ومن عصى كان غرضه أن لا يصير وعظه مؤثرا في القلوب فالجمع بينهما متناقض غير لائق بالعقلاء ولهذا قال علي رضي الله عنه قصم ظهري رجلان عالم متهتك وجاهل متنسك وبقي ههنا مسائل
المسألة الأولى قال بعضهم ليس للعاصي أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر واحتجوا بالآية والمعقول أما الآية فقوله أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم ولا شك أنه تعالى ذكر ذلك في معرض الذم وقال أيضا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون الصف 3 وأما المعقول فهو أنه لو جاز ذلك لجاز لمن يزني بامرأة أن ينكر عليها في أثناء الزنا على كشفها عن وجهها ومعلوم أن ذلك مستنكر والجواب أن المكلف مأمور بشيئين أحدهما ترك المعصية والثاني منع الغير عن فعل المعصية والإخلال بأحد التكليفين لا يقتضي الإخلال بالآخر أما قوله أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم فهو نهي عن الجمع بينهما والنهي عن الجمع بين الشيئين يصح حمله على وجهين أحدهما أن يكون المراد هو النهي عن نسيان النفس مطلقا والآخر أن يكون المراد هو النهي عن ترغيب الناس في

البر حال كونه ناسيا للنفس وعندنا المراد من الآية هو الأول لا الثاني وعلى هذا التقدير يسقط قول هذا الخصم وأما المعقول الذي ذكروه فليزمهم
المسألة الثانية احتجت المعتزلة بهذه الآية على أن فعل العبد غير مخلوق لله عز وجل فقالوا قوله تعالى أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم إنما يصح ويحسن لو كان ذلك الفعل منهم فأما إذا كان مخلوقا فيهم على سبيل الاضطرار فإن ذلك لا يحسن إذ لا يجوز أن يقال للأسود لم لا تبيض لما كان السواد مخلوق فيه والجواب أن قدرته لما صلحت للضدين فإن حصل أحد الضدين دون الآخر لا لمرجح كان ذلك محض الاتفاق والأمر الاتفاقي لا يمكن التوبيخ عليه وإن حصل فإن كان ذلك المرجح منه عاد البحث فيه وإن حصل من الله تعالى فعند حصوله يصير ذلك الطرف راجحا والآخر مرجوحا والمرجوح ممتنع الوقوع لأنه حال الاستواء لما كان ممتنع الوقوع فحال المرجوحية أولى بأن يكون ممتنع الوقوع وإذا امتنع أحد النقيضين وجب الآخر وحينئذ يعود عليكم كل ما أوردتموه علينا ثم الجواب الحقيقي عن الكل أنه لا يسأل عما يفعل
المسألة الثالثة ( أ ) عن أنس رضي الله عنه قال عليه الصلاة والسلام { مررت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من النار فقلت يا أخي جبريل من هؤلاء ؟ فقال هؤلاء خطباء من أهل الدنيا كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم } ( ب ) وقال عليه الصلاة والسلام { إن في النار رجلا يتأذى أهل النار بريحه فقيل من هو يا رسول الله ؟ قال عالم لا ينتفع بعلمه } ( ج ) وقال عليه الصلاة والسلام { مثل الذي يعلم الناس الخير ولا يعمل به كالسراج يضيء للناس ويحرق نفسه } ( د ) وعن الشعبي يطلع قوم من أهل الجنة إلى قوم من النار فيقولون لم دخلتم النار ونحن إنما دخلنا الجنة بفضل تعليمكم فقالوا إنا كنا نأمر بالخير ولا نفعله كما قيل من وعظ بقوله ضاع كلامه ومن وعظ بفعله نفذت سهامه وقال الشاعر يا أيها المعلم غيره
هلا لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنا
كيما يصح به وأنت سقيم
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها
فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يقبل إذا وعظت ويقتدى
بالرأي منك وينفع التعليم
قيل عمل رجل في ألف رجل أبلغ من قول ألف رجل في رجل وأما من وعظ واتعظ فمحله عند الله عظيم
روي أن يزيد بن هارون مات وكان واعظا زاهدا فرؤي في المنام فقيل له ما فعل الله بك فقال غفر لي وأول ما سالني منكر ونكير فقالا من ربك فقلت أما تستحيان من شيخ دعا إلى الله تعالى كذا وكذا سنة فتقولان له من ربك وقيل للشبلي عند النزع قل لا إله إلا الله فقال إن بيتا أنت ساكنه
غير محتاج إلى السرج

قوله سبحانه وتعالى
( واستيعنوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون
المسألة الأولى اختلفوا في المخاطبين بقوله سبحانه وتعالى واستعينوا بالصبر والصلاة فقال قوم هم المؤمنون بالرسول قال لأن من ينكر الصلاة أصلا والصبر على دين محمد صلى الله عليه سلم لا يكاد يقال له استعن بالصبر والصلاة فلا جرم وجب صرفه إلى من صدق بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ولا يمتنع أن يكون الخطاب أولا في بني إسرائيل ثم يقع بعد ذلك خطابا للمؤمنين بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) والأقرب أن المخاطبين هم بنو إسرائيل لأن صرف الخطاب إلى غيرهم يوجب تفكيك النظم فإن قيل كيف يؤمرون بالصبر والصلاة مع كونهم منكرين لهما قلنا لا نسلم كونهم منكرين لهما وذلك لأن كل أحد يعلم أن الصبر على ما يجب الصبر عليه حسن وأن الصلاة التي هي تواضع للخالق والاشتغال بذكر الله تعالى يسلي عن محن الدنيا وآفاتها وإنما الاختلاف في الكيفية فإن صلاة اليهود واقعة على كيفية وصلاة المسلمين على كيفية أخرى وإذا كان متعلق الأمر هو الماهية التي هي القدر المشترك زال الإشكال المذكور وعلى هذا نقول إنه تعالى لما أمرهم بالإيمان وبترك الإضلال وبالتزام الشرائع وهي الصلاة والزكاة وكان ذلك شاقا عليهم لما فيه من ترك الرياسات والإعراض عن المال والجاه لا جرم عالج الله تعالى هذا المرض فقال واستعينوا بالصبر والصلاة
المسألة الثانية ذكروا في الصبر والصلاة وجوها
أحدها كأنه قيل واستعينوا على ترك ما تحبون من الدنيا والدخول فيما تستثقله طباعكم من قبول دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بالصبر أي يحبس النفس عن اللذات فإنكم إذا كلفتم أنفسكم ذلك مرنت عليه وخف عليها ثم إذا ضممتم الصلاة إلى ذلك تم الأمر لأن المشتغل بالصلاة لا بد وأن يكون مشتغلا بذكر الله عز وجل وذكر جلاله وقهره وذكر رحمته وفضله فإذا تذكر رجمته صار مائلا إلى طاعته وإذا تذكر عقابه ترك معصيته فيسهل عند ذلك اشتغاله بالطاعة وتركه للمعصية
وثانيها المراد من الصبر ههنا هو الصوم لأن الصائم صابر عن الطعام والشراب ومن حبس نفسه عن قضاء شهورة البطن والفرج زالت عنه كدورات حب الدنيا فإذا انضاف إليه الصلاة استنار القلب بأنوار معرفة الله تعالى وإنما قدم الصوم على الصلاة لأن تأثير الصوم في إزالة ما لا ينبغي وتأثير الصلاة في حصول ما ينبغي والنفي مقدم على الإثبات ولأنه عليه الصلاة والسلام قال { الصوم جنة من النار } وقال الله تعالى إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر العنكبوت 45 لأن الصلاة تمنع عن الاشتغال بالدنيا وتخشع القلب ويحصل بسببها تلاوة الكتاب والوقوف على ما فيه من الوعد والوعيد والمواعظ والآداب الجميلة وذكر مصير الخلق إلى دار الثواب أو دار العقاب رغبة في الآخرة ونفرة عن الدنيا فيهون على الإنسان حينئذ ترك الرياسة ومقطعة عن المخلوقين إلى قبلة خدمة الخالق ونظير هذه الآية قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا استيعنوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين البقرة 153

أما قوله تعالى وإنها ففي هذا الضمير وجوه أحدها الضمير عائد إلى الصلاة أي صلاة ثقيلة إلا على الخاشعين وثانيها الضمير عائد إلى الاستعانة التي يدل عليها قوله واستعينوا وثالثها أنه عائد إلى جميع الأمور التي أمر بها بنو إسرائيل ونهوا عنها من قوله واذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم إلى قوله واستعينوا والعرب قد تضمر الشيء اختصارا أو تقتصر فيه على الإيماء إذا وثقت بعلم المخاطب فيقول القائل ما عليها أفضل من فلان يعني الأرض ويقلون ما بين لابتيها أكرم من فلان يعنون المدينة وقال تعالى ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة النحل 61 ولا ذكر للأرض أما قوله لكبيرة أي لشاقة ثقيلة على هؤلاء سهلة على الخاشعين فيجب أن يكون ثوابهم أكثر وثواب الخاشع أقل وذلك منكر من القول قلنا ليس المراد أن الذي يلحقهم من التعب أكثر مما يلحق الخاشع وكيف يكون ذلك والخاشع يستعمل عند الصلاة جوارحه وقلبه وسمعه وبصره ولا يغفل عن تدبر ما يأتي به من الذكر والتذلل والخشوع وإذ تذكر الوعيد لم يخل من حسرة وغم وإذا ذكر الوعد فكمثل ذلك وإذا كان هذا فعل الخاشع فالثقل عليه بفعل الصلاة أعظم وإنما المراد بقوله وإنها ثقيلة على من لم يخشع أنه من حيث لا يعتقد في فعلها ثوابا ولا في تركها عقابا فيصعب عليه فعلها
فالحاصل أن الملحد إذا لم يعتقد في فعلها منفعة ثقل عليه فعلها لأن الاشتغال بما لا فائدة فيه يثقل على الطبع أما الموحد فلما اعتقد في فعلها أعظم المنافع وفي تركها أعظم المضار لم يثقل ذلك عليه لما يعتقد في فعله من الثواب والفوز العظيم بالنعيم المقيم والخلاص من العذاب الأليم ألا ترى إلى قوله الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم أي يتوقعون نيل ثوابه والخلاص من العذاب الأليم ألا ترى إلى قوله والذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم أي يتوقعون نيل ثوابه والخلاص من عقابه مثاله إذا قيل للمريض كل هذا الشيء المر فإن اعتقد أنه له فيه شفاء سهل ذلك عليه وإن لم يعتقد ذلك فيه صعب الأمر عليه وعليه يحمل قوله عليه الصلاة والسلام { وجعلت قرة عيني في الصلاة } وصف الصلاة بذلك للوجوه التي ذكرناها لا لأنها كانت تثقل عليه وكيف وكان عليه الصلاة والسلام يصلي حتى تورمت قدماه وأما الخشوع فهو التذلل والخضوع أما قوله الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم فللمفسرين فيه قولان
القول الأول أن الظن بمعنى العلم قالوا لأن الظن وهو الاعتقاد الذي يقارنه تجويز النقيض يقتضي أن يكون صاحبه غير جازم بيوم القيامة وذلك كفر والله تعالى مدح على هذا الظن والمدح على الكفر غير جائز فوجب أن يكون المراد من الظن ههنا العلم وسبب هذا المجاز أن العلم والظن يشتركان في كون كل واحد منهما اعتقادا راجحا إلا أن العلم راجح مانع من النقيض والظن راجح غير مانع من النقيض فلما اشتبها من هذا الوجه صح إطلاق اسم أحدهما على الآخر قال أوس بن حجر فأرسلته مستيقن الظن أنه
مخالط ما بين الشراسيف خائف
وقال تعالى إني ظننت أني ملاق حسابيه الحاقة 20 وقال ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون المطففين 4 ذكر الله تعالى ذلك إنكارا عليهم وبعثا على الظن ولا يجوز أن يبعثهم على الاعتقاد المجوز للنقيض فثبت أن المراد بالظن ههنا العلم

القول الثاني أن يحمل اللفظ على ظاهره وهو الظن الحقيقي ثم ههنا وجوه الأول أن تجعل ملاقاة الرب مجازا عن الموت وذلك لأن ملاقاة الرب مسبب عن الموت فأطلق المسبب والمراد منه السبب وهذا مجاز مشهور فإنه يقال لمن مات إنه لقي ربه إذ ثبت هذا فنقول وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون الموت في كل لحظة وذلك لأن كل من كان متوقعا للموت في كل لحظة فإنه لا يفارق قلبه الخشوع فهم يبادرون إلى التوبة لأن خوف الموت مما يقوي دواعي التوبة مع خشوعه لا بد في كل حال من أن لا يأمن تقصيرا جرى منه فيلزمه التلافي فإذا كان حاله ما ذكرنا كان ذلك داعيا له إلى المبادرة إلى التوبة الثاني أن تفسر ملاقاة ثواب الرب وذلك مظنون لا معلوم فإن الزهد العابد لا يقطع بكونه ملاقيا لثواب الله بل يظن إلا أن ذلك الظن مما يحمله على كمال الخشوع الثالث المعنى الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم بذنوبهم فإن الإنسان الخاشع قد يسيء ظنه بنفسه وبأعماله فيغلب على ظنه أنه يلقى الله تعالى بذنوبه فعند ذلك يسارع إلى التوبة وذلك من صفات المدح بقي هنا مسألتان
المسألة الأولى استدل بعض الأصحاب بقوله ملاقوا ربهم على جواز رؤية الله تعالى وقالت المعتزلة لفظ اللقاء لا يفيد الرؤية والدليل عليه الآية والخبر والعرف أما الآية فقوله تعالى فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه الفرقان 68 والمنافق لا يرى ربه وقال ومن يفعل ذلك يلق آثاما الفرقان 68 وقال تعالى في معرض التهديد واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه البقرة 223 فهذا يتناول الكافر والمؤمن والرؤية لا تثبت للكافر فعلمنا أن اللقاء ليس عبارة عن الرؤية وأما الخبر فقوله عليه السلام { من حلف على يمين ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان } وليس المراد رأى الله تعالى لأن ذلك وصف أهل النار وأما العرف فهو قول المسلمين فيمن مات لقي الله ولا يعنون أنه رأى الله عز وجل وأيضا فاللقاء يراد به القرب ممن يلقاه على زجه يزول الحجاب بينهما ولذلك يقول الرجل إذا حجب عن الأمير ما لقيته بعد وإن كان قد رآه وإذا أذن له في الدخول عليه يقول لقيته وإن كان ضريرا ويقال لقي فلان جهدا شديدا ولقيت من فلان الداهية ولاقى فلان حمامه وكل ذلك يدل على أن اللقاء ليس عبارة عن الرؤية ويدل عليه أيضا قوله تعالى فالتقى الماء على أمر قد قدر القمر 12 وهذا إنما يصح في حق الجسم ولا يصح على الله تعالى
قال الأصحاب اللقاء في أصل اللغة عبارة عن وصول أحد الجسمين إلى الآخر بحيث يماسه بمسطحة يقال لقي هذا ذاك إذا ماسه واتصل به ولما كانت الملاقاة بين الجنسين المدركين سببا لحصول الإدراك فحيث يمتنع إجراء اللفظ على المماسة وجب حمله على الإدراك لأن إطلاق لفظ السبب على المسبب من أقوى وجوه المجاز فثبت أنه يجب حمله لفظ اللقاء على الإدراك أكثر ما في الباب أنه ترك هذا المعنى في بعض الصور لدليل يخصه فوجب إجراؤه على الإدراك في البواقي وعلى هذا التقرير زالت السؤالات أما قوله فاعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه التوبة 77 والمنافق لا يرى ربه قلنا فلأجل هذه الضرورة ففي هذا الموضع لما اضطررنا إليه اعتبرناه وأما في قوله تعالى أنهم ملاقوا ربهم لا ضرورة في صرف اللفظ عن ظاهره ولا في إضمار هذه الزيادة فلا جرم وجب تعليق اللقاء بالله

تعالى لا بحكم الله فإن اشتغلوا بذكر الدلائل العقلية التي تمنع من جواز الرؤية بينا ضعفها وحينئذ يستقيم التمسك بالظاهر من هذا الوجه
المسألة الثانية المراد من الرجوع إلى الله تعالى الرجوع إلى حيث يكون لهم مالك سواه وأن لا يملك لهم أحد نفعا ولا ضرا غيره كما كانوا كذلك في أول الخلق فجعل مصيرهم إلى مثل ما كانوا عليه أولا رجوعا إلى الله من حيث كانوا في سائر أيام حياتهم قد يملك غيره الحكم عليهم ويملك أن يضرهم وينفعهم وإن كان الله تعالى مالكا لهم في جميع أحوالهم وقد احتج بهذه الآية فريقان من المبطلين الأول المجسمة فإنهم قالوا الرجوع إلى غير الجسم محال فلما ثبت الرجوع إلى الله وجب كون الله جسما الثاني التناسخية فإنهم قالوا الرجوع إلى الشيء مسبوق بالكون عنده فدلت هذه الآية على كون الأرواح قديمة وأنها كانت موجودة في عالم الروحانيات والجواب عنها قد حصل بناء على ما تقدم
قوله تبارك وتعالى
( يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين
اعلم أنه تعالى إنما أعاد هذا الكلام مرة أخرى توكيدا للحجة عليهم وتحذيرا من ترك اتباع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ثم قرنه بالوعيد وهو قوله وتقوا يوما البقرة 48 كأنه قال إن لم تطيعوني لأجل سوالف نعمتي عليكم فأطيعوني للخوف من عقابي في المستقبل أما قوله وأني فضلتكم على العالمين ففيه سؤال وهو أنه يلزم أنم يكونوا أفضل من محمد عليه السلام وذلك باطل بالاتفاق والجواب عنه من وجوه
أحدها قال قوم العالم عبارة عن الجمع الكثير من الناس كقولك رأيت عالما من الناس والمراد منه الكثير لا الكل وهذا ضعيف لأن لفظ العالم مشتق من العلم وهو الدليل فكل ما كان دليلا على الله تعالى كان عالما فكان من العلم وهذا تحقيق قول المتكلمين العالم كل موجود سوى الله وعلى هذا لا يمكن تخصيص لفظ ببعض المحدثات
ثانيها المراد فضلتكم على عالمي زمانكم وذلك لأن الشخص الذي سيوجد بعد ذلك وهو الآن ليس بموجود لم يكن ذلك الشخص من جملة العالمين حال عدمه لأن شرط العالم أن يكون موجودا والشيء حال عدمه لا يكون موجودا فالشيء حال عدمه لا يكون من العالمين وأن محمد عليه السلام ما كان موجودا في ذلك الوقت فما كان ذلك الوقت من العالمين فلا يلزم من كون بني إسرائيل أفضل العالمين في ذلك الوقت كونهم أفضل من محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في ذلك الوقت وهذا هو الجواب أيضا عن قوله تعالى إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحد من العالمين المائدة 20 وقال ولقد أخترناهم على علم على العالمين الدخان 32 وأراد به عالمي ذلك الزمان وإنما كانوا أفضل من غيرهم بما أعطوا من الملك والرسالة والكتب الإلهية

وثالثها أن قوله وأني فضلتكم على العالمين عام في العالمين لكنه مطلق في الفضل والمطلق يكفي في صدقه واحدة فالآية تدل على أن بني إسرائيل فضلوا على العالمين في أمرها وهذا لا يقتضي أن يكونوا أفضل من كل العالمين في كل الأمور بل لعلهم وإن كانوا أفضل من غيرهم في أمر واحد فغيرهم يكون أفضل منهم فيما عدا ذلك الأمر وعند ذلك يظهر أنه لا يصلح الاستدلال بقوله تعالى إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين آل عمران 33 على أن الأنبياء أفضل من الملائكة بقي ههنا أبحاث
البحث الأول قال ابن زيد أراد به المؤمنون منهم لأن عصاتهم مسخوا قردة وخنازير على ما قال تعالى وجعل منهم القردة والخنازير المائدة 60 وقال لعن الذين كفروا من بني إسرائيل المائدة 78
البحث الثاني أن جميع ما خاطب الله تعالى به بني إسرائيل تنبيه للعرب لأن الفضيلة بالنبي قد لحقتهم وجميع أقاصيص الأنبياء تنبيه وإرشاد قال الله تعالى الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه الزمر 18 وقال واتبعوا ما أحسن ما أنزل إليكم كم ربكم الزمر 55 وقال لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب يوسف 111 ولذلك روى قتادة قال ذكر لنا أن عمر بن الخطاب كان يقول قد مضى والله بنو إسرائيل وما يغني ما تسمعون عن غيركم
البحث الثالث قال القفال النعمة بكسر النون المنة وما ينعم به الرجل على صاحبه قال تعالى وتلك نعمة تمنها علي الشعراء 22 وأما النعمة بفتح النون فهو ما يتنعم به في العيش قال تعالى ونعمة كانوا فيها فاكهين الدخان 27
البحث الرابع قوله تعالى وأني فضلتكم على العالمين يدل على أن رعاية الأصلح لا تجب على الله تعالى لا في الدنيا ولا في الدين لأن قوله وأني فضلتكم على العالمين يتناول جميع نعم الدنيا والدين فذلك التفضيل إما أن يكون واجبا أو لا يكون واجبا فإن كان واجبا لم يجز جعله منة عليهم لأن من أدى واجبا فلا منة له على أحد وإن كان غير واجب مع أنه تعالى خصص البعض بذلك دون البعض فهذا يدل على أن رعاية الأصلح غير واجبة لا في الدنيا ولا في الدين فإن قيل لما خصهم بالنعم العظيمة في الدنيا فهذا يناسب أن يخصهم أيضا بالنعم العظيمة في الآخرة كما قيل إتمام المعروف خير من إبتدائه فلم اردف ذلك التخويف الشديد في قوله واتقوا يوما والجواب لأن المعصية مع عظم النعمة تكون أقبح وأفحش فلهذا حذرهم عنها
البحث الخامس في بيان أن أي فرق العالم أفضل يعني أن ايهم أكثر استجماعا لخصال الخير اعلم أن هذا مما وقع فيه النزاع الشديد بين سكان النواحي فكل طائفة تدعي أنها أفضل وأكثر استجماعا لصفات الكمال ونحن نشير إلى معاقد الكلام في هذا الباب بتوفيق الله تعالى وعونه

وَاتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَة ٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ
اعلم أن اتقاء اليوم اتقاء لما يحصل في ذلك اليوم من العقاب والشدائد لأن نفس اليوم لا يتقي ولا بد من أن يرده أهل الجنة والنار جميعاً فالمراد ما ذكرناه ثم إنه تعالى وصف اليوم بأشد الصفات وأعظمها تهويلاً وذلك لأن العرب إذا دفع أحدهم إلى كريهة وحاولت أعوانه دفاع ذلك عنه بذلت ما في نفوسها الأبية من مقتضى الحمية فذبت عنه كما يذب الوالد عن ولده بغاية قوته فإن رأى من لا طاقة له بمانعته عاد بوجوه الضراعة وصنوف الشفاعة فحاول بالملاينة ما قصر عنه بالمخاشنة فإن لم تغن عنه الحالتان من الخشونة والليان لم يبق بعده إلا فداء الشيء بمثله إما مال أو غيره وإن لم تغن عنه هذه الثلاثة تعلل بما يرجوه من نصر الأخلاء والأخوان فأخبر الله سبحانه أنه لا يغني شيء من هذه الأمور عن المجرمين في الآخرة بقي على هذا الترتيب سؤالان
السؤال الأول الفائدة من قوله لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا هي الفائدة من قوله وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ فما المقصود من هذا التكرار والجواب المراد من قوله لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا أنه لا يتحمل عنه غيره ما يلزمه من الجزاء وأما النصرة فهي أن يحاول تخليصه عن حكم المعاقب وسنذكر فرقاً آخر إن شاء الله تعالى
السؤال الثاني أن الله تعالى قدم في هذه الآية قبول الشفاعة على أخذ الفدية وذكر هذه الآية في هذه السورة بعد العشرين والمائة وقدم قبول الفدية على ذكر الشفاعة فما الحكمة فيه الجواب أن من كان ميله إلى حب المال أشد من ميله إلى علو النفس فإنه يقدم التمسك بالشافعين على إعطاء الفدية ومن كان بالعكس يقدم الفدية على الشفاعة ففائدة تغيير الترتيب الإشارة إلى هذين الصنفين ولنذكر الآن تفسير الألفاظ أما قوله تعالى لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا فقال القفال الأصل في جزي هذا عند أهل اللغة قضي ومنه الحديث أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال لأبي بردة بن يسار ( تجزيك ولا تجزي أحداً بعدك ) هكذا يرويه أهل العربية ( تجزيك ) بفتح التاء غير مهموز أي تقضي عن أضحيتك وتنوب ومعنى الآية أن يوم القيامة لا تنوب نفس عن نفس شيئاً ولا تحمل عنها شيئاً مما أصابها بل يفر المرء فيه من أخيه وأمه وأبيه ومعنى هذه النيابة أن طاعة المطيع لا تقضي على العاصي ما كان واجباً عليه وقد تقع هذه النيابة في الدنيا كالرجل يقضي عن قريبه وصديقه دينه ويتحمل عنه فأما يوم القيامة فإن قضاء الحقوق إنما يقع فيه من الحسنات روى أبو هريرة قال قال عليه السلام ( رحم الله عبداً كان عنده لأخيه مظلمة في عرض أو مال أو جاه فاستحله قبل أن يؤخذ منه وليس ثم دينار ولا درهم فإن كانت له حسنات أخذ من حسناته وإن لم يكن له حسنات حمل من سيئاته ) قال صاحب الكشاف

و ( شيئاً ) مفعول به ويجوز أن يكون في موضع مصدر أي قليلاً من الجزاء كقوله تعالى وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً ( مريم 60 ) ومن قرأ ( لا يجزي ) من أجزأ عنه إذا أغنى عنه فلا يكون في قراءته إلا بمعنى شيئاً من الإجزاء وهذه الجملة منصوبة المحل صفة ليوماً فإن قيل فأين العائد منها إلى الموصوف قلنا هو محذوف تقديره لا تجزي فيه ومعنى التنكير أن نفساً من الأنفس لا تجزي عن نفس غيرها شيئاً من الأشياء وهو الإقناط الكلي القطاع للمطامع أما قوله تعالى وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَة ٌ فالشفاعة أن يستوهب أحد لأحد شيئاً ويطلب له حاجة وأصلها من الشفع الذي هو ضد الوتر كأن صاحب الحاجة كان فرداً فصار الشفيع له شفعاً أي صارا زوجاً واعلم أن الضمير في قوله وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا راجع إلى النفس الثانية العاصية وهي التي لا يؤخذ منها عدل ومعنى لا يقبل منها شفاعة إنها إن جاءت بشفاعة شفيع لا يقبل منها ويجوز أن يرجع إلى النفس الأولى على أنها لو شفعت لها لم تقبل شفاعتها كما لا تجزي عنها شيئاً أما قوله تعالى وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ أي فدية وأصل الكلمة من معادلة الشيء تقول ما أعدل بفلان أحداً أي لا أرى له نظيراً قال تعالى ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ ( المائدة 36 ) ونظيره هذه الآية قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَة ِ مَا ( المائدة 36 ) وقال تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مّلْء الاْرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ ( آل عمران 91 ) وقال وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا ( الأنعام 70 )
أما قوله تعالى وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ فاعلم أن التناصر إنما يكون في الدنيا بالمخالطة والقرابة وقد أخير الله تعالى أنه ليس يومئذ خلة ولا شفاعة وأنه لا أنساب بينهم وإنما المرء يفر من أخيه وأمه وأبيه وقرابته قال القفال والنصر يراد به المعونة كقوله ( انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً ) ومنه معنى الإغاثة تقول العرب أرض منصورة أي ممطورة والغيث ينصر البلاد إذا أنبتها فكأنه أغاث أهلها وقيل في قوله تعالى مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ ( الحج 15 ) أي أن لن يرزقه كما يرزق الغيث البلاد ويسمى الانتقام نصرة وانتصاراً قال تعالى وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا ( الأنبياء 77 ) قالوا معناه فانتقمنا له فقوله تعالى وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ يحتمل هذه الوجوه فإنهم يوم القيامة لا يغاثون ويحتمل أنهم إذا عذبوا لم يجدوا من ينتقم لهم من الله وفي الجملة كأن النصر هو دفع الشدائد فأخبر الله تعالى أنه لا دافع هناك من عذابه بقي في الآية مسألتان
المسألة الأولى أن في الآية أعظم تحذير عن المعاصي وأقوى ترغيب في تلافي الإنسان ما يكون منه من المعصية بالتوبة لأنه إذا تصور أنه ليس بعد الموت استدراك ولا شفاعة ولا نصرة ولا فدية علم أنه لا خلاص له إلا بالطاعة فإذا كان لا يأمن كل ساعة من التقصير في العبادة ومن فوت التوبة من حيث إنه لا يقين له في البقاء صار حذراً خائفاً في كل حال والآية وإن كانت في بني إسرائيل فهي في المعنى مخاطبة للكل لأن الوصف الذي ذكر فيها وصف لليوم وذلك يعم كل من يحضر في ذلك اليوم
المسألة الثانية أجمعت الأمة على أن لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) شفاعة في الآخرة وحمل على ذلك قوله تعالى عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا ( الإسراء 79 ) وقوله تعالى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ( الضحى 5 ) ثم اختلفوا بعد هذا في أن شفاعته عليه السلام لمن تكون أتكون للمؤمنين المستحقين

للثواب أم تكون لأهل الكبائر المستحقين للعقاب فذهبت المعتزلة على أنها للمستحقين للثواب وتأثير الشفاعة في أن تحصل زيادة من المنافع على قدر ما استحقوه وقال أصحابنا تأثيرها في إسقاط العذاب عن المستحقين للعقاب إما بأن يشفع لهم في عرصة القيامة حتى لا يدخلوا النار وإن دخلوا النار فيشفع لهم حتى يخرجوا منها ويدخلوا الجنة واتفقوا على أنها ليست للكفار واستدلت المعتزلة على إنكار الشفاعة لأهل الكبائر بوجوه أحدها هذه الآية قالوا إنها تدل على نفي الشفاعة من ثلاثة أوجه
الأول قوله تعالى لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا ولو أثرت الشفاعة في إسقاط العقاب لكان قد أجزت نفس عن نفس شيئاً الثاني قوله تعالى وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَة ٌ وهذه نكرة في سياق النفي فتعم جميع أنواع الشفاعة والثالث قوله تعالى وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ولو كان محمد شفيعاً لأحد من العصاة لكان ناصراً له وذلك على خلاف الآية لا يقال الكلام على الآية من وجهين الأول أن اليهود كانوا يزعمون أن آباءهم يشفعون لهم فأيسوا من ذلك فالآية نزلت فيهم الثاني أن ظاهر الآية يقتضي نفي الشفاعة مطلقاً إلا أنا أجمعنا على تطرق التخصيص إليه في حق زيادة الثواب لأهل الطاعة فنحن أيضاً نخصه في حق المسلم صاحب الكبيرة بالدلائل التي نذكرها لأنا نجيب عن الأول بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وعن الثاني أنه لا يجوز أن يكون المراد من الآية نفي الشفاعة في زيادة المنافع لأنه تعالى حذر من ذلك اليوم بأنه لا تنفع فيه شفاعة وليس يحصل التحذير إذا رجع نفي الشفاعة إلى تحصيل زيادة النفع لأن عدم حصول زيادة النفع ليس فيه خطر ولا ضرر يبين ذلك أنه تعالى لو قال اتقوا يوماً لا أزيد فيه منافع المستحق للثواب بشفاعة أحد لم يحصل بذلك زجر عن المعاصي ولو قال اتقوا يوماً لا أسقط فيه عقاب المستحق للعقاب بشفاعة شفيع كان ذلك زجراً عن المعاصي فثبت أن المقصود من الآية نفي تأثير الشفاعة في إسقاط العقاب لا نفي تأثيرها في زيادة المنافع وثانيها قوله تعالى مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ ( غافر 18 ) والظالم هو الآتي بالظلم وذلك يتناول الكافر وغيره لا يقال إنه تعالى نفى أن يكون للظالمين شفيع يطاع ولم ينف شفيعاً يجاب ونحن نقول بموجبه فإنه لا يكون في الآخرة شفيع يطاع لأن المطاع يكون فوق المطيع وليس فوقه تعالى أحد يطيعه الله تعالى لأنا نقول لا يجوز حمل الآية على ما قلتم من وجهين الأول أن العلم بأنه ليس فوقه تعالى أحد يطيعه متفق عليه بين العقلاء أما من أثبته سبحانه فقد اعترف أنه لا يطيع أحداً وأما من نفاه فمع القول بالنفي استحال أن يعتقد فيه كونه مطيعاً لغيره فإذا ثبت هذا كان حمل الآية على ما ذكرتم حملاً لها على معنى لا يفيد الثاني أنه تعالى نفى شفيعاً يطاع والشفيع لا يكون إلا دون المشفوع إليه لأن من فوقه يكون آمراً له وحاكماً عليه ومثله لا يسمى شفيعاً فأفاد قوله ( شفيع ) كونه دون الله تعالى فلم يمكن حمل قوله يُطَاعُ على من فوقه فوجب حمله على أن المراد به أن لا يكون لهم شفيع يجاب وثالثها قوله تعالى مّن قَبْلِ أَن يَأْتِى َ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّة ٌ وَلاَ شَفَاعَة ٌ ( البقرة 254 ) ظاهر الآية يقتضي نفي الشفاعات بأسرها

ورابعها قوله تعالى وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ( البقرة 270 ) ولو كان الرسول يشفع للفاسق من أمته لوصفوا بأنهم منصورون لأنه إذا تخلص بسبب شفاعة الرسول عن العذاب فقد بلغ الرسول النهاية في نصرته وخامسها قوله تعالى وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى ( الأنبياء 28 ) أخبر تعالى عن ملائكته أنهم لا يشفعون لأحد إلا أن يرتضيه الله عز وجل والفاسق ليس بمرتضى عند الله تعالى وإذا لم تشفع الملائكة له فكذا الأنبياء عليهم السلام لأنه لا قائل بالفرق وسادسها قوله تعالى فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَة ُ الشَّافِعِينَ ( المدثر 48 ) ولو أثرت الشفاعة في إسقاط العقاب لكانت الشفاعة قد تنفعهم وذلك ضد الآية وسابعها أن الأمة مجمعة على أنه ينبغي أن نرغب إلى الله تعالى في أن يجعلنا من أهل شفاعته عليه السلام ويقولون في جملة أدعيتهم واجعلنا من أهل شفاعته فلو كان المستحق للشفاعة هو الذي خرج من الدنيا مصراً على الكبائر لكانوا قد رغبوا إلى الله تعالى في أن يختم لهم مصرين على الكبائر لا يقال لم لا يجوز أن يقال إنهم يرغبون إلى الله تعالى في أن يجعلهم من أهل شفاعته إذا خرجوا مصرين لا أنهم يرغبون في أن يختم لهم مصرين كما أنهم يقولون في دعائهم اجعلنا من التوابين وليسوا يرغبون في أن يذنبوا ثم يتوبوا وإنما يرغبون في أن يوفقهم للتوبة إذا كانوا مذنبين وكلتا الرغبتين مشروطة بشرط وهو تقدم الإصرار وتقدم الذنب لأنا نقول الجواب عنه من وجهين الأول ليس يجب إذا شرطنا شرطاً في قولنا اللهم اجعلنا من التوابين أن نزيد شرطاً في قولنا اجعلنا من أهل الشفاعة الثاني أن الأمة في كلتا الرغبتين إلى الله تعالى يسألون منه تعالى أن يفعل بهم ما يوصلهم إلى المرغوب فيه ففي قولهم اجعلنا من التوابين أن يرغبون في أن يوفقهم للتوبة من الذنوب وفي الثاني يرغبون في أن يفعل بهم ما كانوا عنده أهلاً لشفاعته عليه السلام فلو لم تحصل أهلية الشفاعة إلا بالخروج من الدنيا مصراً على الكبائر لكان سؤال أهلية الشفاعة سؤالاً للاخراج من الدنيا حال الإصرار على الكبائر وذلك غير جائز بالإجماع أما على قولنا إن أهلية الشفاعة إنما تحصل بالخروج على الكبائر وذلك غير جائز بالإجماع أما على قولنا إن أهلية الشفاعة إنما تحصل بالخروج من الدنيا مستحقاً للثواب كان سؤال أهلية الشفاعة حسناً فظهر الفرق وثانيها أن قوله تعالى وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدّينِ وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَائِبِينَ ( الانفطار 14 16 ) يدل على أن كل الفجار يدخلون النار وأنهم لا يغيبون عنها وإذا ثبت أنهم لا يغيبون عنها ثبت أنهم لا يخرجون منها وإذا كان كذلك لم يكن للشفاعة أثر لا في العفو عن العقاب ولا في الإخراج من النار بعد الإدخال فيها وتاسعها قوله تعالى يُدَبّرُ الاْمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ( يونس 3 ) فنفى الشفاعة عمن لم يأذن في شفاعته وكذا قوله مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ( البقرة 255 ) وكذا قوله تعالى لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً ( سبأ 38 ) وإنه تعالى لم يأذن في الشفاعة في حق أصحاب الكبائر لأن هذا الإذن لو عرف لعرف إما بالعقل أو بالنقل أما العقل فلا مجال له فيه وأما النقل فأما بالتواتر أو بالآحاد والآحاد لا مجال له فيه لأن رواية الآحاد لا تفيد إلا الظن والمسألة علمية والتمسك في المطالب العلمية بالدلائل الظنية غير جائز وأما بالتواتر فباطل لأنه لو حصل ذلك لعرفه جمهور المسلمين ولو كان كذلك لما أنكروا هذه

الشفاعة فحيث أطبق الأكثرون على الأنكار علمنا أنه لم يوجد هذا الإذن وعاشرها قوله تعالى الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَى ْء رَّحْمَة ً وَعِلْماً ولو كانت الشفاعة حاصلة للفاسق لم يكن لتقييدها بالتوبة ومتابعة السبيل معنى الحادي عشر الأخبار الدالة على أنه لا توجد الشفاعة في حق أصحاب الكبائر وهي أربعة الأول ما روى العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام دخل المقبرة فقال ( السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون وددت أني قد رأيت اخواننا قالوا يا رسول الله ألسنا إخوانك قال بل أنتم أصحابي وإخواننا الذين لم يأتوا بعد قالوا يا رسول الله كيف تعرف من يأتي بعدك من أمتك قال أرأيت إن كان لرجل خيل غر محجلة في خيل دهم فهل لا يعرف خيله قالوا بلى يا رسول الله قال فانهم يأتون يوم القيامة غراً محجلين من الوضوء وأما فرطهم على الحوض ألا فليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال أناديهم ألا هلم ألا هلم فيقال إنهم قد بدلوا بعدك فأقول فسحقاً فسحقاً ) والاستدلال بهذا الخبر على نفي الشفاعة أنه لو كان شفيعاً لهم لم يكن يقول فسحقاً فسحقاً لأن الشفيع لا يقول ذلك وكيف يجوز أن يكون شفيعاً لهم في الخلاص من العقاب الدائم وهو يمنعهم شربة ماء الثاني روى عبد الرحمن ابن ساباط عن جابر بن عبد الله أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال لكعب بن عجرة ( يا كعب بن عجرة أعيذك بالله من إمارة السفهاء إنه سيكون أمراء من دخل عليهم فأعانهم على ظلمهم وصدقهم بكذبهم فليس مني ولست منه ولن يرد على الحوض ومن لم يدخل عليهم ولم يعنهم على ظلمهم ولم يصدقهم بكذبهم فهو مني وأنا منه وسيرد على الحوض يا كعب بن عجرة الصلاة قربان والصوم جنة والصدقة تطفىء الخطيئة كما يطفيء الماء النار يا كعب بن عجرة لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت ) والاستدلال بهذا الحديث من ثلاثة أوجه أحدها أنه إذا لم يكن من النبي ولا النبي منه فكيف يشفع له وثانيها قوله ( لم يرد على الحوض ) دليل على نفي الشفاعة لأنه إذا منع من الوصول إلى الرسول حتى لا يرد عليه الحوض فبأن يمتنع الرسول من خلاصه من العقاب أولى وثالثها أن قوله ( لا يدخل الجنة لحم نبت من السحت ) صريح في أنه لا أثر للشفاعة في حق صاحب الكبيرة الثالث عن أبي هريرة قال عليه الصلاة والسلام ( لا ألفين أحدكم يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء يقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك ) وهذا صريح في المطلوب لأنه إذا لم يملك له من الله شيئاً فليس له في الشفاعة نصيب الرابع عن أبي هريرة قال قال عليه الصلاة والسلام ( ثلاثة أنا خصيمهم يوم القيامة ومن كنت خصيمه خصمته رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع حراً فأكل ثمنه ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يوفه أجرته ) والاستدلال به أنه عليه الصلاة والسلام لما كان خصيماً لهؤلاء استحال أن يكون شفيعاً لهم فهذا مجموع وجوه المعتزلة في هذا الباب أما أصحابنا فقد تمسكوا فيه بوجوه

أحدها قوله سبحانه وتعالى حكاية عن عيسى عليه السلام إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وجه الاستدلال أن هذه الشفاعة من عيسى عليه السلام إما أن يقال إنها كانت في حق الكفار أو في حق المسلم المطيع أو في حق المسلم صاحب الصغيرة أو المسلم صاحب الكبيرة بعد التوبة أو المسلم صاحب الكبيرة قبل التوبة والقسم الأول باطل لأن قوله تعالى وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( المائدة 118 ) لا يليق بالكفار والقسم الثاني والثالث والرابع باطل لأن المسلم المطيع والمسلم صاحب الصغيرة والمسلم صاحب الكبيرة لا يجوز بعد التوبة تعذيبه عقلاً عند الخصم وإذا كان كذلك لم يكن قوله إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ لائقاً بهم وإذا بطل ذلك لم يبق إلا أن يقال إن هذه الشفاعة إنما وردت في حق المسلم صاحب الكبيرة قبل التوبة وإذا صح القول بهذه الشفاعة في حق عيسى عليه السلام صح القول بها في حق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ضرورة أنه لا قائل بالفرق وثانيها قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنّى وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ فقوله وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( إبراهيم 36 ) لا يجوز حمله على الكافر لأنه ليس أهلاً للمغفرة بالإجماع ولا حمله على صاحب الصغيرة ولا على صاحب الكبيرة بعد التوبة لأن غفرانه لهم واجب عقلاً عند الخصم فلا حاجة له إلى الشفاعة فلم يبق إلا حمله على صاحب الكبيرة قبل التوبة ومما يؤكد دلالة هاتين الآيتين على ما قلناه ما رواه البيهقي في كتاب شعب الإيمان أنه عليه الصلاة والسلام تلا قوله تعالى في إبراهيم وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وقول عيسى عليه السلام إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ الآية ثم رفع يديه وقال ( اللهم أمتي أمتي وبكى فقال الله تعالى يا جبريل اذهب إلى محمد وربك أعلم فسله ما يبكيك فأتاه جبريل فسأله فأخبره رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بما قال فقال الله عز وجل يا جبريل اذهب إلى محمد فقل له إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك ) رواه مسلم في الصحيح وثالثها قوله تعالى في سورة مريم يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً لاَّ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَة َ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً ( مريم 85 87 ) فنقول ليس في ظاهر الآية أن المقصود من الآية أن المجرمين لا يملكون الشفاعة لغيرهم أو أنهم لا يملكون شفاعة غيرهم لهم لأن المصدر كما يجوز ويحسن إضافته إلى الفاعل يجوز ويحسن إضافته إلى المفعول إلا أنا نقول حمل الآية على الوجه الثاني أولى لأن حملها على الوجه الأول يجري مجرى إيضاح الواضحات فإن كل أحد يعلم أن المجرمين الذين يساقون إلى جهنم ورداً لا يملكون الشفاعة لغيرهم فتعين حملها على الوجه الثاني إذا ثبت هذا فنقول الآية تدل على حصول الشفاعة لأهل الكبائر لأنه قال عقيبه إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً والتقدير أن المجرمين لا يستحقون أن يشفع لهم غيرهم إلا إذا كانوا اتخذوا عند الرحمن عهداً فكل من اتخذ عند الرحمن عهداً وجب دخوله فيه وصاحب الكبيرة اتخذ عند الرحمن عهداً وهو التوحيد والإسلام فوجب أن يكون داخلاً تحته أقصى ما في الباب أن يقال واليهودي اتخذ عند الرحمن عهداً وهو الإيمان بالله فوجب دخوله تحته لكنا نقول ترك العمل به في حقه لضرورة الإجماع فوجب أن يكون معمولاً به فيما وراءه ورابعها قوله تعالى في صفة الملائكة وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى ( الأنبياء 28 ) وجه الاستدلال

به أن صاحب الكبيرة مرتضى عند الله تعالى وكل من كان مرتضى عند الله تعالى وجب أن يكون من أهل الشفاعة إنما قلنا إن صاحب الكبيرة مرتضى عند الله تعالى لأنه مرتضى عند الله بحسب إيمانه وتوحيده وكل من صدق عليه أنه مرتضى عند الله بحسب هذا الوصف يصدق عليه أنه مرتضى عند الله تعالى لأن المرتضى عند الله جزء من مفهوم قولنا مرتضى عند الله بحسب إيمانه ومتى صدق المركب صدق المفرد فثبت أن صاحب الكبيرة مرتضى عند الله وإذا ثبت هذا وجب أن يكون من أهل الشفاعة لقوله تعالى وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى نفي الشفاعة إلا لمن كان مرتضى والاستثناء عن النفي إثبات فوجب أن يكون المرتضى أهلاً لشفاعتهم وإذا ثبت أن صاحب الكبيرة داخل في شفاعة الملائكة وجب دخوله في شفاعة الأنبياء وشفاعة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ضرورة أنه لا قائل بالفرق فإن قيل الكلام على هذا الاستدلال من وجهين الأول أن الفاسق ليس بمرتضى فوجب أن لا يكون أهلاً لشفاعة الملائكة وإذا لم يكن أهلاً لشفاعة الملائكة وجب أن لا يكون أهلاً لشفاعة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) إنما قلنا إنه ليس بمرتضى لأنه ليس بمرتضى بحسب فسقه وفجوره ومن صدق عليه أنه ليس بمرتضى بحسب فسقه صدق عليه أنه ليس بمرتضى بعين ما ذكرتم من الدليل وإذا ثبت أنه ليس بمرتضى وجب أن لا يكون أهلاً لشفاعة الملائكة لأن قوله تعالى وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى يدل على نفي الشفاعة عن الكل إلا في حق المرتضى فإذا كان صاحب الكبيرة غير مرتضى وجب أن يكون داخلاً في النفي الوجه الثاني أن الاستدلال بالآية إنما يتم لو كان قوله وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى محمولاً على أن المراد منه ولا يشفعون إلا لمن ارتضاه الله أما لو حملناه على أن المراد منه ولا يشفعون إلا لمن ارتضى الله منه شفاعته فحينئذ لا تدل الآية إلا إذا ثبت أن الله تعالى ارتضى شفاعة صاحب الكبيرة وهذا أول المسألة
والجواب عن الأول أنه ثبت في العلوم المنطقية أن المهملتين لا يتناقضان فقولنا زيد عالم زيد ليس بعالم لا يتناقضان لاحتمال أن يكون المراد زيد عالم بالفقه زيد ليس بعالم بالكلام وإذا ثبت هذا فكذا قولنا صاحب الكبيرة مرتضى صاحب الكبيرة ليس بمرتضى لا يتناقضان لاحتمال أن يقال إنه مرتضى بحسب دينه ليس بمرتضى بحسب فسقه وأيضاً فمتى ثبت أنه مرتضى بحسب إسلامه ثبت مسمى كونه مرتضى وإذا كان المستثنى هو مجرد كونه مرتضى ومجرد كونه مرتضى حاصل عند كونه مرتضى بحسب إيمانه وجب دخوله تحت الاستثناء وخروجه عن المستثنى منه ومتى كان كذلك ثبت أنه من أهل الشفاعة وأما السؤال الثاني فجوابه أن حمل الآية على أن يكون معناها ولا يشفعون إلا لمن ارتضاه الله أولى من حملها على أن المراد ولا يشفعون إلا لمن ارتضى الله شفاعته لأن على التقدير الأول تفيد الآية الترغيب والتحريض على طلب مرضاة الله عز وجل والاحتراز عن معاصيه وعلى التقدير الثاني لا تفيد الآية ذلك ولا شك أن تفسير كلام الله تعالى بما كان أكثر فائدة أولى وخامسها قوله تعالى في صفة الكفار فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَة ُ الشَّافِعِينَ ( المدثر 48 ) خصهم بذلك فوجب أن يكون حال المسلم بخلافه بناء على مسألة دليل الخطاب وسادسها قوله تعالى لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ

( محمد 19 ) دلت الآية على أنه تعالى أمر محمداً بأن يستغفر لكل المؤمنين والمؤمنات وقد بينا في تفسير قوله تعالى الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ( البقرة 3 ) أن صاحب الكبيرة مؤمن وإذا كان كذلك ثبت أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) استغفر لهم وإذا كان كذلك ثبت أن الله تعالى قد غفر لهم وإلا لكان الله تعالى قد أمره بالدعاء ليرد دعاءه فيصير ذلك محض التحقير والايذاء وهو غير لائق بالله تعالى ولا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فدل على أن الله تعالى لما أمر محمداً بالاستغفار لكل العصاة فقد استجاب دعاءه وذلك إنما يتم لو غفر لهم ولا معنى للشفاعة إلا هذا وسابعها قوله تعالى وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيَّة ٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ( النساء 86 ) فالله تعالى أمر الكل بأنهم إذا حياهم أحد بتحية أن يقابلوا تلك التحية بأحسن منها أو يردوها ثم أمرنا بتحية محمد ( صلى الله عليه وسلم ) حيث قال النَّبِى ّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً ( الأحزاب 56 ) الصلاة من الله رحمة ولا شك أن هذا تحية فلما طلبنا من الله الرحمة لمحمد عليه الصلاة والسلام وجب بمقتضى قوله فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا أن يفعل محمد مثله وهو أن يطلب لكل المسلمين الرحمة من الله تعالى وهذا هو معنى الشفاعة ثم توافقنا على أنه عليه الصلاة والسلام غير مردود الدعاء فوجب أن يقبل الله شفاعته في الكل وهو المطلوب وثامنها قوله تعالى وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَاءوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً ( النساء 64 ) وليس في الآية ذكر التوبة والآية تدل على أن الرسول متى استغفر للعصاة والظالمين فإن الله يغفر لهم وهذا يدل على أن شفاعة الرسول في حق أهل الكبائر مقبولة في الدنيا فوجب أن تكون مقبولة في الآخرة لأنه لا قائل بالفرق وتاسعها أجمعنا على وجوب الشفاعة لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فتأثيرها إما أن يكون في زيادة المنافع أو في إسقاط المضار والأول باطل وإلا لكنا شافعين للرسول عليه الصلاة والسلام إذا طلبنا من الله تعالى أن يزيد في فضله عند ما نقول اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وإذا بطل هذا القسم تعين الثاني وهو المطلوب فإن قيل إنما لا يطلق علينا كوننا شافعين لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) لوجهين الأول أن الشفيع لا بد أن يكون أعلى رتبة من المشفوع له ونحن وإن كنا نطلب الخير له عليه الصلاة والسلام ولكن لما كنا أدنى رتبة منه عليه الصلاة والسلام لم يصح أن نوصف بكوننا شافعين له الثاني قال أبو الحسين سؤال المنافع للغير إنما يكون شفاعة إذا كان فعل تلك المنافع لأجل سؤاله ولولاه لم تفعل أو كان لسؤاله تأثير في فعلها فأما إذا كانت تفعل سواء سألها أو لم يسألها وكان غرض السائل التقرب بذلك إلى المسؤول وإن لم يستحق المسؤول له بذلك السؤال منفعة زائدة فإن ذلك لا يكون شفاعة له ألا ترى أن السلطان إذا عزم على أن يعقد لابنه ولاية فحثه بعض أوليائه على ذلك وكان يفعل ذلك لا محالة سواء حثه عليه أو لم يحثه وقصد بذلك التقرب إلى السلطان ليحصل له بذلك منزلة عنده فإنه لا يقال إنه يشفع لابن السلطان وهذه حالتنا في حق الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فيما نسأله له من الله تعالى فلم يصح أن نكون شافعين والجواب على الأول لا نسلم أن الرتبة معتبرة في الشفاعة والدليل عليه أن الشفيع إنما سمي شفيعاً مأخوذاً من الشفع وهذا المعنى لا تعتبر فيه الرتبة فسقط قولهم وبهذا الوجه يسقط السؤال الثاني

وأيضاً فنقول في الجواب عن السؤال الثاني إنا وإن كنا نقطع بأن الله تعالى يكرم رسوله ويعظمه سواء سألت الأمة ذلك أم لم تسأل ولكنا لا نقطع بأنه لا يجوز أن يزيد في إكرامه بسبب سؤال الأمة ذلك على وجه لولا سؤال الأمة لما حصلت تلك الزيادة وإذا كان هذا الاحتمال يجوز وجب أن يبقى تجويز كوننا شافعين للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ولما بطل ذلك باتفاق الأمة بطل قولهم وعاشرها قوله تعالى في صفة الملائكة الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ وصاحب الكبيرة من جملة المؤمنين فوجب دخوله في جملة من تستغفر الملائكة لهم أقصى ما في الباب أنه ورد بعد ذلك قوله فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَاتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ ( غافر 7 ) إلا أن هذا لا يقتضي تخصيص ذلك العام لما ثبت في أصول الفقه أن اللفظ العام إذا ذكر بعده بعض أقسامه فإن ذلك لا يوجب تخصيص ذلك العام بذلك الخاص الحادي عشر الأخبار الدالة على حصول الشفاعة لأهل الكبائر ولنذكر منها ثلاثة أوجه الأول قوله عليه الصلاة والسلام ( شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ) قالت المعتزلة الإعتراض عليه من ثلاثة وجوه أحدها أنه خبر واحد ورد على مضادة القرآن فإنا بينا أن كثيراً من الآيات يدل على نفي هذه الشفاعة وخبر الواحد إذا ورد على خلاف القرآن وجب رده وثانيها أنه يدل على أن شفاعته ليست إلا لأهل الكبائر وهذا غير جائز لأن شفاعته منصب عظيم فتخصيصه بأهل الكبائر فقط يقتضي حرمان أهل الثواب عنه وذلك غير جائز لأنه لا أقل من التسوية وثالثها أن هذه المسألة ليست من المسائل العملية فلا يجوز الاكتفاء فيها بالظن وخبر الواحد لا يفيد إلا الظن فلا يجوز التمسك في هذه المسألة بهذا الخبر ثم إن سلمنا صحة الخبر لكن فيه احتمالات أحدها أن يكون المراد منه الاستفهام بمعنى الانكار يعني أشفاعتي لأهل الكبائر من أمتي كما أن المراد من قوله هَاذَا رَبّى أي أهذا ربي وثانيها أن لفظ الكبيرة غير مختص لا في أصل اللغة ولا في عرف الشرع بالمعصية بل كما يتناول المعصية بل كما يتناول المعصية يتناول الطاعة قال تعالى في صفة الصلاة وَإِنَّهَا لَكَبِيرَة ٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ وإذا كان كذلك فقوله لأهل الكبائر لا يجب أن يكون المراد منه أهل المعاصي الكبيرة بل لعل المراد منه أهل الطاعات الكبيرة فإن قيل هب أن لفظ الكبيرة يتناول الطاعات والمعاصي ولكن قوله أهل الكبائر صيغة جمع مقرونة بالألف واللام فيفيد العموم فوجب أن يدل الخبر على ثبوت الشفاعة لكل من كان من أهل الكبائر سواء كان من أهل الطاعات الكبيرة أو المعاصي الكبيرة قلنا لفظ الكبائر وإن كان للعموم إلا أن لفظ ( أهل ) مفرد فلا يفيد العموم فيكفي في صدق الخبر شخص واحد من أهل الكبائر فنحمله على الشخص الآتي بكل الطاعات فإنه يكفي في العمل بمقتضى الحديث حمله عليه وثالثها هب أنه يجب حمل أهل الكبائر على أهل المعاصي الكبيرة لكن أهل المعاصي الكبيرة أعم من أهل المعاصي الكبيرة بعد التوبة أو قبل التوبة فنحن نحمل الخبر على أهل المعاصي الكبيرة بعد التوبة ويكون تأثير الشفاعة في أن يتفضل الله عليه بما انحبط من ثواب طاعته المتقدمة على فسقه سلمنا دلالة الخبر على قولكم لكنه معارض بما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال ( أشفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ) ذكره

مع همزة الاستفهام على سبيل الإنكار وروى الحسن عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال ( ما ادخرت شفاعتي إلا لأهل الكبائر من أمتي ) واعلم أن الإنصاف أنه لا يمكن التمسك في مثل هذه المسألة بهذا الخبر وحده ولكن بمجموع الأخبار الواردة في باب الشفاعة وإن سائر الأخبار دالة على سقوط كل هذه التأويلات الثاني روى أبو هريرة قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً ) رواه مسلم في الصحيح والاستدلال به أن الحديث صريح في أن شفاعته ( صلى الله عليه وسلم ) تنال كل من مات أمته لا يشرك بالله شيئاً وصاحب الكبيرة كذلك فوجب أن تناله الشفاعة والثالث عن أبي هريرة قال ( أتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوماً بلحم فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه فنهش منها نهشة ثم قال أنا سيد الناس يوم القيامة هل تدرون لم ذلك قالوا لا يا رسول الله قال يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد فيسمعهم الداعي وينفذهم البصر وتدنو الشمس فيبلّغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون فيقول بعض الناس لبعض ألا ترون ما أنتم فيه ألا ترون ما قد بلغكم ألا تذهبون إلى من يشفع لكم إلى ربكم فيقول بعض الناس لبعض أبوكم آدم فيأتون آدم فيقولون يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأمر الملائكة فسجدوا لك اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه ألا ترى ما قد بلغنا فيقول لهم إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب مثله قبله ولن يغضب بعده مثله وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى نوح فيأتون نوحاً فيقولون يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل الأرض وسماك الله عبداً شكوراً اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه فيقول لهم إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإنه كانت لي دعوة دعوت بها على قومي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى إبراهيم فيأتون إبراهيم عليه السلام فيقولون أنت إبراهيم نبي الله وخليله من أهل الأرض اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه فيقول لهم إبراهيم إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وذكر كذباته نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى موسى فيأتون موسى ويقولون يا موسى أنت رسول الله فضلك الله برسلاته وبكلامه على الناس اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه فيقول لهم موسى إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإني قتلت نفساً لم أومر بقتلها نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى عيسى بن مريم فيأتون عيسى فيقولون أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وكلمت الناس في المهد اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه فيقول لهم عيسى إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولم يغضب بعده مثله ولم يذكر له ذنباً نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى محمد فيأتوني فيقولون يا محمد أنت رسول الله وخاتم النبيين وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه فأنطلق واستأذن على ربي فيؤذن لي فإذا رأيت ربي وقعت ساجداً فيدعني ما شاء أن يدعني ثم

يقول لي يا محمد ارفع رأسك وقل تسمع وسل تعطه واشفع تشفع فأحمد ربي بمحامد علمنيها ثم أشفع فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة ثم أرجع فإذا رأيت ربي تبارك وتعالى وقعت له ساجداً فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقول أرفع رأسك وقل تسمع وسل تعطه واشفع تشفع فأحمد ربي بمحامد علمنيها ثم أشفع فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة ثم أرجع فإذا رأيت ربي وقعت له ساجداً فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقول يا محمد ارفع رأسك وقل تسمع وسل تعطه واشفع تشفع فأحمد ربي بمحامد علمنيها ثم اشفع فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة ثم ارجع فأقول يا رب ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن أي وجب عليه الخلود ) وأكثر هذا الخبر مخرج بلفظه في الصحيحين قالت المعتزلة الكلام على هذا الخبر وأمثاله من وجوه أحدها أن هذه الأخبار أخبار طويلة فلا يمكن ضبطها بلفظ الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فالظاهر أن الراوي إنما رواها بلفظ نفسه وعلى هذا التقدير لا يكون شيء منها حجة وثانيها أنها خبر عن واقعة واحدة وأنها رويت على وجوه مختلفة مع الزيادات والنقصانات وذلك أيضاً مما يطرق التهمة إليها وثالثها أنها مشتملة على التشبيه وذلك باطل أيضاً يطرق التهمة إليها ورابعها أنها وردت على خلاف ظاهر القرآن وذلك أيضاً بطرق التهمة إليها وخامسها أنها خبر عن واقعة عظيمة تتوافر الدواعي على نقلها فلو كان صحيحاً لوجب بلوغه إلى حد التواتر وحيث لم يكن كذلك فقد تطرقت التهمة إليها وسادسها أن الاعتماد على خبر الواحد الذي لا يفيد إلا الظن في المسائل القطعية غير جائز أجاب أصحابنا عن هذه المطاعن بأن كل واحد من هذه الأخبار وإن كان مروياً بالآحاد إلا أنها كثيرة جداً وبينها قدر مشترك واحد وهو خروج أهل العقاب من النار بسبب الشفاعة فيصير هذا المعنى مروياً على سبيل التواتر فيكون حجة والله أعلم والجواب على جميع أدلة المعتزلة بحرف واحد وهو أن أدلتهم على نفي الشفاعة تفيد نفي جميع أقسام الشفاعات وأدلتنا على إثبات الشفاعة تفيد إثبات شفاعة خاصة والعام والخاص إذا تعارضا قدم الخاص على العام فكانت دلائلنا مقدمة على دلائلهم ثم إنا نخص كل واحد من الوجوه التي ذكروها بجواب على حدة
أما الوجه الأول وهو التمسك بقوله تعالى وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَة ٌ فهب أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب إلا أن تخصيص مثل هذا العام بذلك السبب المخصوص يكفي فيه أدنى دليل فإذا قامت الدلائل الدالة على وجود الشفاعة وجب المصير إلى تخصيصها
وأما الوجه الثاني وهو قوله تعالى مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ ( غافر 18 ) فالجواب عنه أن قوله مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ نقيض لقولنا للظالمين حميم وشفيع لكن قولنا للظالمين حميم وشفيع موجبة كلية ونقيض الموجبة الكلية سالبة جزئية والسالبة يكفي في صدقها تحقق ذلك السلب في بعض الصور ولا يحتاج فيه إلى تحقق ذلك السلب في جميع الصور وعلى هذا فنحن نقول بموجبه لأن عندنا أنه ليس لبعض الظالمين حميم ولا شفيع يجاب وهم الكفار فأما أن يحكم على كل واحد منهم بسلب الحميم والشفيع فلا
وأما الوجه الثالث وهو قوله مّن قَبْلِ أَن يَأْتِى َ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّة ٌ وَلاَ شَفَاعَة ٌ ( البقرة 254 ) فالجواب عنه ما تقدم في الوجه الأول
وأما الوجه الرابع وهو قوله وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ( البقرة 270 ) فالجواب عنه أنه نقيض لقولنا للظالمين أنصار وهذه موجبة كلية فقوله وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ سالبة جزئية فكيون مدلوله سلب العموم وسلب العموم لا يفيد عموم السلب

وأما الوجه الخامس وهو قوله فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَة ُ الشَّافِعِينَ ( المدثر 48 ) فهذا وارد في حق الكفار وهو يدل بسبب التخصيص على ضد هذا الحكم في حق المؤمنين
وأما الوجه السادس وهو قوله وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى ( الأنبياء 28 ) فقد تقدم القول فيه
وأما الوجه السابع وهو قول المسلمين اللهم اجعلنا من أهل شفاعة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فالجواب عنه أن عندنا تأثير الشفاعة في جلب أمر مطلوب وأعني به القدر المشترك بين جلب المنافع الزائدة على قدر الاستحقاق ودفع المضار المستحقة على المعاصي وذلك القدر المشترك لا يتوقف على كون العبد عاصياً فاندفع السؤال
وأما الوجه الثامن وهو التمسك بقوله وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ ( الانفطار 14 ) فالكلام عليه سيأتي إن شاء الله تعالى في مسألة الوعيد
وأما الوجه التاسع وهو قوله لم يوجد ما يدل على إذن الله عز وجل في الشفاعة لأصحاب الكبائر فجوابه أن هذا ممنوع والدليل عليه ما أوردنا من الدلائل الدالة على حصول هذه الشفاعة
وأما الوجه العاشر وهو قوله في حق الملائكة فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ ( غافر 7 ) فجوابه ما بينا أن خصوص آخر هذه الآية لا يقدح في عموم أولها
وأما الأحاديث فهي دالة على أن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لا يشفع لبعض الناس ولا يشفع في بعض مواطن القيامة وذلك لا يدل على أنه لا يشفع لأحد ألبتة من أصحاب الكبائر ولا أنه يمتنع من الشفاعة في جميع المواطن والذي نحققه أنه تعالى بين أن أحداً من الشافعين لا يشفع إلا بإذن الله فلعل الرسول لم يكن مأذوناً في بعض المواضع وبعض الأوقات فلا يشفع في ذلك المكان ولا في ذلك الزمان ثم يصير مأذوناً في موضع آخر وفي وقت آخر في الشفاعة فيشفع هناك والله أعلم
قالت الفلاسفة في تأويل الشفاعة إن واجب الوجود عام الفيض تام الجود فحيث لا يحصل فإنما لا يحصل لعدم كون القابل مستعداً ومن الجائز أن لا يكون الشيء مستعداً لقبول الفيض عن واجب الوجود إلا أن يكون مستعداً لقبول ذلك الفيض من شيء قبله عن واجب الوجود فيكون ذلك الشيء كالمتوسط بين واجب الوجود وبين ذلك الشيء الأول ومثاله في المحسوس أن الشمس لا تضيء إلا للقابل المقابل وسقف البيت لما لم يكن مقابلاً لجرم الشمس لا جرم لم يكن فيه استعداد لقبول النور عن الشمس إلا أنه إذا وضع طست مملوء من الماء الصافي ووقع عليه ضوء الشمس انعكس ذلك الضوء من ذلك الماء إلى السقف فيكون ذلك الماء الصافي متوسطاً في وصول النور من قرص الشمس إلى السقف الذي هو غير مقابل للشمس وأرواح الأنبياء كالوسائط بين واجب الوجود وبين أرواح عوام الخلق في وصول فيض واجب الوجود إلى أرواح العامة فهذا ما قالوه في الشفاعة تفريعاً على أصولهم

وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُو ءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِى ذَالِكُمْ بَلا ءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ
اعلم أنه تعالى لما قدم ذكر نعمه على بني إسرائيل إجمالاً بين بعد ذلك أقسام تلك النعم على سبيل التفصيل ليكون أبلغ في التذكير وأعظم في الحجة فكأنه قال اذكروا نعمتي واذكروا إذ نجيناكم واذكروا إذ فرقنا بكم البحر وهي إنعامات والمذكور في هذه الآية هو الإنعام الأول أما قوله وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم فقرىء أيضاً أنجيناكم ونجيتكم قال القفال أصل الأنجاء والتنجية التخليص وأن بيان الشيء من الشيء حتى لا يتصلا وهما لغتان نجى وأنجى ونجا بنفسه وقالوا لمكان العالي نجوة لأن من صار إليه نجا أي تخلص ولأن الموضع المرتفع بائن عما انحط عنه فكأنه متخلص منه قال صاحب الكشاف أصل آل أهل ولذلك يصغر بأهيل فأبدلت هاؤه ألفاً وخص استعماله بأولى الخطر والشأن كالملوك وأشباههم ولا يقال آل الحجام والإسكاف قال عيسى الأهل أعم من الآل يقال أهل الكوفة وأهل البلد وأهل العلم ولا يقال آل الكوفة وآل البلد وآل العلم فكأنه قال الأهل هم خاصة الشيء من جهة تغليبه عليهم والآل خاصة الرجل من جهة قرابة أو صحبة وحكى عن أبي عبيدة أنه سمع فصيحاً يقول أهل مكة آل الله أما فرعون فهو علم لمن ملك مصر من العمالقة كقيصر وهرقل لملك الروم وكسرى لملك الفرس وتبع لملك اليمن وخاقان لملك الترك واختلفوا في فرعون من وجهين أحدهما أنهم اختلفوا في اسمه فحكى ابن جريج عن قوم أنهم قالوا مصعب بن ريان وقال ابن اسحق هو الوليد ابن مصعب ولم يكن من الفراعنة أحد أشد غلظة ولا أقسى قلباً منه وذكر وهب بن منبه أن أهل الكتابين قالوا إن اسم فرعون كان قابوس وكان من القبط الثاني قال ابن وهب إن فرعون يوسف عليه السلام هو فرعون موسى وهذا غير صحيح إذ كان بين دخول يوسف مصر وبين أن دخلها موسى أكثر من أربعمائة سنة وقال محمد بن اسحق هو غير فرعون يوسف وأن فرعون يوسف كان اسمه الريان بن الوليد أما آل فرعون فلا شك أن المراد منه ههنا من كان من قوم فرعون وهم الذين عزموا على إهلاك بني إسرائيل ليكون تعالى منجياً لهم منهم بما تفضل به من الأحوال التي توجب بقاءهم وهلاك فرعون وقومه أما قوله تعالى يَسُومُونَكُمْ فهو من سامه خسفاً إذا أولاه ظلماً قال عمرو بن كلثوم إذا ما الملك سام الناس خسفا
أبينا أن نقر الخسف فينا
وأصله من سام السلعة إذا طلبها كأنه بمعنى يبغونكم سوء العذاب ويريدونه بكم والسوء مصدر ساء بمعنى السيىء يقال أعوذ بالله من سوء الخلق وسوء الفعل يراد قبحهما ومعنى سوء العذاب والعذاب

كله سيىء أشده وأصعبه كأن قبحه ( زاد ) بالإضافة إلى ساء واختلف المفسرون في المراد من ( سوء العذاب ) فقال محمد بن إسحق إنه جعلهم خولاً وخدماً له وصنفهم في أعماله أصنافاً فصنف كانوا يبنون له وصنف كانوا يحرثون له وصنف كانوا يزرعون له فهم كانوا في أعماله ومن لم يكن في نوع من أعماله كان يأمر بأن يوضع عليه جزية يؤديها وقال السدي كان قد جعلهم في الأعمال القذرة الصعبة مثل لنس المبرز وعمل الطين ونحت الجبال وحكى الله تعالى عن بني إسرائيل أنهم قالوا لموسى أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا ( الأعراف 129 ) وقال موسى لفرعون ( وتلك نعمة تمنها على أن عبدت بني اسرائيل ) واعلم أن كون الإنسان تحت يد الغير بحيث يتصرف فيه كما يشاء لا سيما إذا استعمله في الأعمال الشاقة الصعبة القذرة فإن ذلك يكون من أشد أنواع العذاب حتى أن من هذه حالته ربما تمنى الموت فبين الله تعالى عظيم نعمه عليهم بأن نجاهم من ذلك ثم إنه تعالى أتبع ذلك بنعمة أخرى أعظم منها فقال يُذَبّحُونَ أَبْنَاءكُمْ ومعناه يقتلون الذكورة من الأولاد دون الإناث وههنا أبحاث
البحث الأول أن ذبح الذكور دون الإناث مضرة من وجوه أحدها أن ذبح الأبناء يقتضي فناء الرجال وذلك يقتضي انقطاع النسل لأن النساء إذا انفردن فلا تأثير لهن ألبتة في ذلك وذلك يقضي آخر الآمر إلى هلاك الرجال والنساء وثانيها أن هلاك الرجال يقتضي فساد مصالح النساء في أمر المعيشة فإن المرأة لتتمنى وقد انقطع عنها تعهد الرجال وقيامهم بأمرها الموت لما قد يقع إليها من نكد العيش بالإنفراد فصارت هذه الخصلة عظيمة في المحن والنجاة منها في العظم تكون بحسبها وثالثها أن قتل الولد عقيب الحمل الطويل وتحمل الكد والرجاء القوي في الانتفاع بالمولود من أعظم العذاب لأن قتله والحالة هذه أشد من قتل من بقي المدة الطويلة مستمتعاً به مسروراً بأحواله فنعمة الله من التخليص لهم من ذلك بحسب شدة المحنة فيه ورابعها أن الأبناء أحب إلى الوالدين من البنات ولذلك فإن أكثر الناس يستثقلون البنات ويكرهونهن وإن كثر ذكرانهم ولذلك قال تعالى وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بِالاْنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوء مَا بُشّرَ بِهِ ( النحل 58 ) الآية ولذلك نهى العرب عن الوأد بقوله وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَة َ إِمْلَاقٍ ( الإسراء 31 ) وإنما كانوا يئدون الإناث دون الذكور وخامسها أن بقاء النسوان بدون الذكران يوجب صيرورتهن مستفرشات الأعداء وذلك نهاية الذل والهوان
البحث الثاني ذكر في هذه السورة يُذَبّحُونَ بلا واو وفي سورة إبراهيم ذكره مع الواو والوجه فيه أنه إذا جعل قوله يَسُومُونَكُمْ سُوء الْعَذَابِ مفسراً بقوله يُذَبّحُونَ أَبْنَاءكُمْ لم يحتج إلى الواو وأما إذا جعل قوله يَسُومُونَكُمْ سُوء الْعَذَابِ مفسراً بسائر التكاليف الشاقة سوى الذبح وجعل الذبح شيئاً آخر سوى سوء العذاب احتيج فيه إلى الواو وفي الموضعين يحتمل الوجهين إلا أن الفائدة التي يجوز أن تكون هي المقصودة من ذكر حرف العطف في سورة إبراهيم أن يقال إنه تعالى قال قبل تلك الآية وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِئَايَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ ( إبراهيم ) والتذكير بأيام الله لا يحصل إلا بتعديد نعم الله تعالى فوجب أن يكون المراد من قوله يَسُومُونَكُمْ سُوء الْعَذَابِ نوعاً من العذاب والمراد من قوله وَيُذَبّحُونَ أَبْنَاءكُمْ نوعاً آخر ليكون التخلص منهما نوعين من النعمة فلهذا وجب ذكر العطف هناك وأما في هذه الآية لم يرد الأمر إلا بتذكير جنس النعمة وهي قوله اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِى أَنْعَمْتُ

عَلَيْكُمْ ( البقرة 40 47 122 ) فسواء كان المراد من سوء العذاب هو الذبح أو غيره كان تذكير جنس النعمة حاصلاً فظهر الفرق
البحث الثالث قال بعضهم أراد بقوله يُذَبّحُونَ أَبْنَاءكُمْ الرجال دون الأطفال ليكون في مقابلة النساء إذ النساء هن البالغات وكذا المراد من الأبناء هم الرجال البالغون قالوا إنه كان يأمر بقتل الرجال الذين يخاف منهم الخروج عليه والتجمع لإفساد أمره وأكثر المفسرين على أن المراد بالآية الأطفال دون البالغين وهذا هو الأولى لوجوه الأول حملاً للفظ الأبناء على ظاهره الثاني أنه كان يتعذر قتل جميع الرجال على كثرتهم الثالث أنهم كانوا محتاجين إليهم في استعمالهم في الصنائع الشاقة الرابع أنه لو كان كذلك لم يكن لإلقاء موسى عليه السلام في التابوت حال صغره معنى أما قوله وجب حمله على الرجال ليكون في مقابلة النساء ففيه جوابان الأول أن الأبناء لما قتلوا حال الطفولية لم يصيروا رجالاً فلم يجز إطلاق اسم الرجال عليهم أما البنات لما لم يقتلن بل وصلن إلى حد النساء جاز إطلاق اسم النساء عليهن الثاني قال بعضهم المراد بقوله وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ أي يفتشون حياء المرأة أي فرجها هل بها حمل أم لا وأبطل ذلك بأن ما في بطونهن إذا لم يكن للعيون ظاهراً لم يعلم بالتفتيش ولم يوصل إلى استخراجه باليد
البحث الرابع في سبب قتل الأبناء ذكروا فيه وجوهاً أحدها قول ابن عباس رضي الله عنهما أنه وقع إلى فرعون وطبقته ما كان الله وعد إبراهيم أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكاً فخافوا ذلك واتفقت كلمتهم على إعداد رجال معهم الشفار يطوفون في بني إسرائيل فلا يجدون مولوداً ذكراً إلا ذبحوه فلما رأوا كبارهم يموتون وصغارهم يذبحون خافوا الفناء فحينئذ لا يجدون من يباشر الأعمال الشاقة فصاروا يتقلون عاماً دون عام وثانيها قول السدي إن فرعون رأى ناراً أقبلت من بيت المقدس حتى اشتملت على بيوت مصر فأحرقت القبط وتركت بني إسرائيل فدعا فرعون الكهنة وسألهم عن ذلك فقالوا يخرج من بيت المقدس من يكون هلاك القبط على يده وثالثها أن المنجمين أخبروا فرعون بذلك وعينوا له السنة فلهذا كان يقتل أبناءهم في تلك السنة والأقرب هو الأول لأن الذي يستفاد من علم التعبير وعلم النجوم لا يكون أمراً مفصلاً وإلا قدح ذلك في كون الإخبار عن الغيب معجزاً بل يكون أمراً مجملاً والظاهر من حال العاقل أن لا يقدم على مثل هذا الأمر العظيم بسببه فإن قيل إن فرعون كان كافراً بالله فكان بأن يكون كافراً بالرسل أولى وإذا كان كذلك فكيف يمكن أن يقدم على هذا الأمر العظيم بسبب إخبار إبراهيم عليه السلام عنه قلنا لعل فرعون كان عارفاً بالله وبصدق الأنبياء إلا أنه كان كافراً كفر الجحود والعناد أو يقال إنه كان شاكاً متحيراً في دينه وكان يجوز صدق إبراهيم عليه السلام فأقدم على ذلك الفعل احتياطاً
البحث الخامس اعلم أن الفائدة في ذكر هذه النعمة من وجوه أحدها أن هذه الأشياء التي ذكرها الله تعالى لما كانت من أعظم ما يمتحن به الناس من جهة الملوك والظلمة صار تخليص الله إياهم من هذه المحن من أعظم النعم وذلك لأنهم عاينوا هلاك من حاول إهلاكهم وشاهدوا ذل من بالغ في إذلالهم ولا شك في أن ذلك من أعظم النعم وتعظيم النعمة يوجب الانقياد والطاعة ويقتضي نهاية قبح المخالفة والمعاندة فلهذا السبب ذكر الله تعالى هذه النعمة العظيمة مبالغة في إلزام الحجة عليهم وقطعاً لعذرهم

وثانيها أنهم لما عرفوا أنهم كانوا في نهاية الذل وكان خصمهم في نهاية العز إلا أنهم كانوا محقين وكان خصمهم مبطلاً لا جرم زال ذل المحقين وبطل عز المبطلين فكأنه تعالى قال لا تغتروا بفقر محمد وقلة أنصاره في الحال فإنه محق لا بد وأن ينقلب العز إلى جانبه والذل إلى جانب أعدائه وثالثها أن الله تعالى نبه بذلك على أن الملك بيد الله يؤتيه من يشاء فليس للإنسان أن يغتر بعز الدنيا بل عليه السعي في طلب عز الآخرة أما قوله تعالى وَفِي ذالِكُمْ بَلاء مّن رَّبّكُمْ عَظِيمٌ قال القفال أصل الكلمة من الابتلاء وهو الاختيار والامتحان قال تعالى وَنَبْلُوكُم بِالشَّرّ وَالْخَيْرِ فِتْنَة ً ( الأنبياء 35 ) وقال وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيّئَاتِ ( الأعراف 168 ) والبلوى واقعة على النوعين فيقال للنعمة بلاء وللمحنة الشديدة بلاء والأكثر أن يقال في الخير إبلاء وفي الشر بلاء وقد يدخل أحدهما على الآخر قال زهير جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم
وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو
إذ عرفت هذا فنقول البلاء ههنا هو المحنة إن أشير بلفظ ( ذلكم ) إلى صنع فرعون والنعمة إن أشير به إلى الإنجاء وحمله على النعمة أولى لأنها هي التي صدرت من الرب تعالى ولأن موضع الحجة على اليهود إنعام الله تعالى على أسلافهم
وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا ءَالَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ
هذا هو النعمة الثانية وقوله فَرَقْنَا أي فصلنا بين بعضه وبعض حتى صارت فيه مسالك لكم وقرىء فَرَقْنَا بالتشديد بمعنى فصلنا يقال فرق بين الشيئين وفرق بين الأشياء لأن المسالك كانت اثنتي عشرة على عدد الأسباط فإن قلت ما معنى ( بكم ) قلنا فيها وجهان أحدهما أنهم كانوا يسلكونه ويتفرق الماء عند سلوكهم فكأنما فرق بهم كما يفرق بين الشيئين بما توسط بينهما الثاني فرقناه بسببكم وبسبب إنجائكم ثم ههنا أبحاث
البحث الأول روي أنه تعالى لما أراد إغراق فرعون والقبط وبلغ بهم الحال في معلوم الله أنه لا يؤمن أحد منهم أمر موسى عليه السلام بني إسرائيل أن يستعيروا حلي القبط وذلك لغرضين أحدهما ليخرجوا خلفهم لأجل المال والثاني أن تبقى أموالهم في أيديهم ثم نزل جبريل عليه السلام بالعشي وقال لموسى أخرج قومك ليلاً وهو المراد من قوله وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى ( طه 77 ) وكانوا ستمائة ألف نفس لأنهم كانوا اثني عشر سبطاً كل سبط خمسون ألفاً فلما خرج موسى عليه السلام ببني إسرائيل بلغ ذلك فرعون فقال لا تتبعوهم حتى يصيح الديك قال الراوي فوالله ما صاح ليلته ديك فلما أصبحوا دعا فرعون بشاة فذبحت ثم قال لا أفرغ من تناول كبد هذه الشاة حتى يجتمع إلي ستمائة ألف من القبط وقال قتادة اجتمع إليه ألف ألف ومائتا ألف نفس كل واحد منهم على فرس حصان فتبعوهم نهاراً وهو قوله تعالى فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ ( الشعراء 60 ) أي بعد طلوع الشمس فَلَمَّا تَرَاءا الْجَمْعَانِ قَال

َ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ( الشعرا 61 ) فقال موسى كَلاَّ إِنَّ مَعِى َ رَبّى سَيَهْدِينِ ( الشعراء 62 ) فلما سار بهم موسى وأتى البحر قال له يوشع بن نون أين أمرك ربك فقال موسى إلى أمامك وأشار إلى البحر فأقحم يوشع بن نون فرسه في البحر فكان يمشي في الماء حتى بلغ الغمر فسبح الفرس وهو عليه ثم رجع وقال له يا موسى أين أمرك ربك فقال البحر فقال والله ما كذبت ففعل ذلك ثلاث مرات فأوحى الله إليه أَنِ اضْرِب بّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ( الشعراء 67 ) فانشق البحر اثني عشر جبلاً في كل واحد منها طريق فقال له ادخل فكان فيه وحل فهبت الصبا فجف البحر وكل طريق فيه حتى صار طريقاً يابساً كما قال تعالى فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِى الْبَحْرِ يَبَساً ( طه 77 ) فأخذ كل سبط منهم طريقاً ودخلوا فيه فقالوا لموسى إن بعضنا لا يرى صاحبه فضرب موسى عصاه على البحر فصار بين الطرق منافذ وكوى فرأى بعضهم بعضاً ثم أتبعهم فرعون فلما بلغ شاطىء البحر رأى إبليس واقفاً فنهاه عن الدخول فهم بأن لا يدخل البحر فجاء جبريل عليه السلام على حجرة فتقدم فرعون وهو كان على فحل فتبعه فرس فرعون ودخل البحر فلما دخل فرعون البحر صاح ميكائيل بهم الحقوا آخركم بأولكم فلما دخلوا البحر بالكلية أمر الله الماء حتى نزل عليهم في ذلك قوله تعالى وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وقيل كان ذلك اليوم يوم عاشوراء فصام موسى عليه السلام ذلك اليوم شكراً لله تعالى
البحث الثاني اعلم أن هذه الواقعة تضمنت نعماً كثيرة في الدين والدنيا أما نعم الدنيا في حق موسى عليه السلام فهي من وجوه أحدها أنهم لما وقعوا في ذلك المضيق الذي من ورائهم فرعون وجنوده وقدامهم البحر فإن توقفوا أدركهم العدو وأهلكهم بأشد العذاب وإن ساروا غرقوا فلا خوف أعظم من ذلك ثم إن الله نجاهم بفلق البحر فلا فرج أشد من ذلك وثانيها أن الله تعالى خصهم بهذه النعمة العظيمة والمعجزة الباهرة وذلك سبب لظهور كرامتهم على الله تعالى وثالثها أنهم شاهدوا أن الله تعالى أهلك أعداءهم ومعلوم أن الخلاص من مثل هذا البلاء من أعظم النعم فكيف إذا حصل معه ذلك الإكرام العظيم وإهلاك العدو ورابعها أن أورثهم أرضهم وديارهم ونعمهم وأموالهم وخامسها أنه تعالى لما أغرق آل فرعون فقد خلص بني إسرائيل منهم وذلك نعمة عظيمة لأنه كان خائفاً منهم ولو أنه تعالى خلص موسى وقومه من تلك الورطة وما أهلك فرعون وقومه لكان الخوف باقياً من حيث إنه ربما اجتمعوا واحتالوا بحيلة وقصدوا إيذاء موسى عليه السلام وقومه ولكن الله تعالى لما أغرقهم فقد حسم مادة الخوف بالكلية وسادسها أنه وقع ذلك الإغراق بمحضر من بني إسرائيل وهو المراد من قوله تعالى وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ وأما نعم الدين في حق موسى عليه السلام فمن وجوه أحدها أن قوم موسى لما شاهدوا تلك المعجزة الباهرة زالت عن قلوبهم الشكوك والشبهات فإن دلالة مثل هذا المعجز على وجود الصانع الحكيم وعلى صدق موسى عليه السلام تقرب من العلم الضروري فكأنه تعالى رفع عنهم تحمل النظر الدقيق والاستدلال الشاق وثانيها أنهم لما عاينوا ذلك صار داعياً لهم إلى الثبات على تصديق موسى والإنقياد له وصار ذلك داعياً لقوم فرعون إلى ترك تكذيب موسى عليه السلام والإقدام على تكذيب فرعون وثالثها أنهم عرفوا أن الأمور بيد الله فإنه لا عز في الدنيا أكمل مما كان لفرعون ولا شدة أشد مما كانت ببني إسرائيل ثم إن الله تعالى في لحظة واحدة جعل العزيز ذليلاً والذليل عزيزاً وذلك يوجب انقطاع القلب عن علائق الدنيا والإقبال بالكلية على

خدمة الخالق والتوكل عليه في كل الأمور وأما النعم الحاصلة لأمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من ذكر هذه القصة فكثيرة أحدها أنه كالحجة لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) على أهل الكتاب لأنه كان معلوماً من حال محمد عليه الصلاة والسلام أنه كان أمياً لم يقرأ ولم يكتب ولم يخالط أهل الكتاب فإذا أورد عليهم من أخبارهم المفصلة ما لا يعلم إلا من الكتب علموا أنه أخبر عن الوحي وأنه صادق فصار ذلك حجة له عليه السلام على اليهود وحجة لنا في تصديقه وثانيها أنا إذا تصورنا ما جرى لهم وعليهم من هذه الأمور العظيمة علمنا أن من خالف الله شقي في الدنيا والآخرة ومن أطاعه فقد سعد في الدنيا والآخرة فصار ذلك مرغباً لنا في الطاعة ومنفراً عن المعصية وثالثها أن أمة موسى عليه السلام مع أنهم خصوا بهذه المعجزات الظاهرة والبراهين الباهرة فقد خالفوا موسى عليه السلام في أمور حتى قالوا اجْعَلْ لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ ءالِهَة ٌ وأما أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فمع أن معجزتهم هي القرآن الذي لا يعرف كونه معجزاً إلا بالدلائل الدقيقة انقادوا لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وما خالفوه في أمر ألبتة وهذا يدل على أن أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أفضل من أمة موسى عليه السلام وبقي على الآية سؤالان
السؤال الأول أن فلق البحر في الدلالة على وجود الصانع القادر وفي الدلالة على صدق موسى كالأمر الضروري فكيف يجوز فعله في زمان التكليف والجواب أما على قولنا فظاهر وأما المعتزلة فقد أجاب الكعبي الجواب الكلي بأن في المكلفين من يبعد عن الفطنة والذكاء ويختص بالبلادة وعامة بني إسرائيل كانوا كذلك فاحتاجوا في التنبيه إلى معاينة الآيات العظام كفلق البحر ورفع الطور وإحياء الموتى ألا ترى أنهم بعد ذلك مروا بقوم يعكفون على أصنام لهم فقالوا ( يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة ) وأما العرب فحالهم بخلاف ذلك لأنهم كانوا في نهاية الكمال في العقول فلا جرم اقتصر الله تعالى معهم على الدلائل الدقيقة والمعجزات اللطيفة
السؤال الثاني أن فرعون لما شاهد فلق البحر وكان عاقلاً فلا بد وأن يعلم أن ذلك ما كان من فعله بل لا بد من قادر عالم مخالف لسائر القادرين فكيف بقي على الكفر مع ذلك فإن قلت إنه كان عارفاً بربه إلا أنه كان كافراً على سبيل العناد والجحود قلت فإذا عرف ذلك بقلبه فكيف استخار توريط نفسه في المهلكة ودخول البحر مع أنه كان في تلك الساعة كالمضطر إلى العلم بوجود الصانع وصدق موسى عليه السلام والجواب حب الشيء يعمي ويصم فحبه الجاه والتلبيس حمله على اقتحام تلك المهلكة
وأما قوله تعالى وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ففيه وجوه أحدها أنكم ترون التطام أمواج البحر بفرعون وقومه وثانيها أن قوم موسى عليه السلام سألوه أن يريهم الله تعالى حالهم فسأل موسى عليه السلام ربه أن يريهم إياهم فلفظهم البحر ألف ألف ومائتي ألف نفس وفرعون معهم فنظروا إليهم طافين وإن البحر لم يقبل واحداً منهم لشؤم كفرهم فهو قوله تعالى فَالْيَوْمَ نُنَجّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ ءايَة ً ( يونس 92 ) أي نخرجك من مضيق البحر إلى سعة الفضاء ليراك الناس وتكون عبرة لهم وثالثها أن المراد وأنتم بالقرب منهم حيث توجهونهم وتقابلونهم وإن كانوا لا يرونهم بأبصارهم قال الفراء وهو مثل قولك لقد ضربتك وأهلك ينظرون إليك فما أغاثوك تقول ذلك إذا قرب أهله منه وإن كانوا لا يرونه ومعناه راجع إلى العلم

وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَة ً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مِّن بَعْدِ ذَالِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
اعلم أن هذا هو الإنعام الثالث فأما قوله تعالى وَإِذْ واعَدْنَا فقرأ أبو عمرو ويعقوب وإذ وعدنا موسى بغير ألف في هذه السورة وفي الأعراف وطه وقرأ الباقون واعدنا بالألف في المواضع الثلاثة فأما بغير ألف فوجهه ظاهر لأن الوعد كان من الله تعالى والمواعدة مفاعلة ولا بد من اثنين وأما بالألف فله وجوه أحدها أن الوعد وإن كان من الله تعالى فقبوله كان من موسى عليه السلام وقبول الوعد يشبه الوعد لأن القابل للوعد لا بد وأن يقول أفعل ذلك وثانيها قال القفال لا يبعد أن يكون الآدمي يعد الله ويكون معناه يعاهد الله وثالثها أنه أمر جرى بين اثنين فجاز أن يقال واعدنا ورابعها وهو الأقوى أن الله تعالى وعده الوحي وهو وعد الله المجيء للميقات إلى الطور أما موسى ففيه وجوه أحدها وزنه فعلي والميم فيه أصلية أخذت من ماس يميس إذا تبختر في مشيته وكان موسى عليه السلام كذلك وثانيها وزنه مفعل فالميم فيه زائدة وهو من أوسيت الشجرة إذا أخذت ما عليها من الورق وكأنه سمي بذلك لصلعه وثالثها أنها كلمة مركبة من كلمتين بالعبرانية فمو هو الماء بلسانهم وسى هو الشجر وإنما سمي بذلك لأن أمه جعلته في التابوت حين خافت عليه من فرعون فألقته في البحر فدفعته أمواج البحر حتى أدخلته بين أشجار عند بيت فرعون فخرجت جواري آسية امرأة فرعون يغتسلن فوجدن التابوت فأخذنه فسمي باسم المكان الذي أصيب فيه وهو الماء والشجر واعلم أن الوجهين الأولين فاسدان جداً أما الأول فلأن بني إسرائيل والقبط ما كانوا يتكلمون بلغة العرب فلا يجوز أن يكون مرادهم ذلك وأما الثاني فلأن هذه اللفظة اسم علم واسم العلم لا يفيد معنى في الذات والأقرب هو الوجه الثالث وهو أمر معتاد بين الناس فأما نسبه ( صلى الله عليه وسلم ) فهو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن اسحق بن إبراهيم عليهم السلام أما قوله تعالى أَرْبَعِينَ لَيْلَة ً ففيه أبحاث
البحث الأول أن موسى عليه السلام قال لبني إسرائيل إن خرجنا من البحر سالمين أتيتكم من عند الله بكتاب بين لكم فيه ما يجب عليكم من الفعل والترك فلما جاوز موسى البحر ببني إسرائيل وأغرق الله فرعون قالوا يا موسى ائتنا بذلك الكتاب الموعود فذهب إلى ربه ووعدهم أربعين ليلة وذلك قوله تعالى وَواعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَة ً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَة ً ( الأعراف 142 ) واستخلف عليهم هارون ومكث على الطور أربعين ليلة وأنزل الله التوراة عليه في الألواح وكانت الألواح من زبرجد فقربه الرب نجياً وكلمه من غير واسطة وأسمعه صرير القلم قال أبو العالية وبلغنا أنه لم يحدث حدثاً في الأربعين ليلة حتى هبط من الطور
البحث الثاني إنما قال أربعين ليلة لأن الشهور تبدأ من الليالي

البحث الثالث قوله تعالى وَإِذْ واعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَة ً معناه واعدنا موسى انقضاء أربعين ليلة كقولهم اليوم أربعون يوماً منذ خرج فلان أي تمام الأربعين والحاصل أنه حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه كما في قوله تعالى وَاسْئَلِ الْقَرْيَة َ ( يوسف 82 ) وأيضاً فليس المراد انقضاء أي أربعين كان بل أربعين معيناً وهو الثلاثون من ذي القعدة والعشر الأول من ذي الحجة لأن موسى عليه السلام كان عالماً بأن المراد هو هذه الأربعون وأيضاً فقوله تعالى وَإِذْ واعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَة ً يحتمل أن يكون المراد أنه وعد قبل هذه الأربعين أن يجيء إلى الجبل هذه الأربعين حتى تنزل عليه التوراة ويحتمل أن يكون المراد أنه أمر بأن يجيء إلى الجبل هذه الأربعين ووعد بأنه ستنزل عليه بعد ذلك التوراة وهذا الاحتمال الثاني هو المتأيد بالأخبار
البحث الرابع قوله ههنا وَإِذَا واعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَة ً يفيد أن المواعدة كانت من أول الأمر على الأربعين وقوله في الأعراف وَواعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَة ً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ يفيد أن المواعدة كانت في أول الأمر على الثلاثين فكيف التوفيق بينهما أجاب الحسن البصري فقال ليس المراد أن وعده كان ثلاثين ليلة ثم بعد ذلك وعده بعشر لكنه وعده أربعين ليلة جميعاً وهو كقوله ثَلَاثَة ِ أَيَّامٍ فِي الْحَجّ وَسَبْعَة ٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَة ٌ كَامِلَة ٌ ( البقرة 196 )
أما قوله تعالى ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ ففيه أبحاث
البحث الأول إنما ذكر لفظه ( ثم ) لأنه تعالى وعد موسى حضور الميقات لإنزال التوراة عليه بحضرة السبعين وأظهر في ذلك درجة موسى عليه السلام وفضيلة بني إسرائيل ليكون ذلك تنبيهاً للحاضرين على علو درجتهم وتعريفاً للغائبين وتكملة للدين كان ذلك من أعظم النعم فلما أتوا عقيب ذلك بأقبح أنواع الجهل والكفر كان ذلك في محل التعجب فهو كمن يقول إنني أحسنت إليك وفعلت كذا وكذا ثم إنك تقصدني بالسوء والإيذاء
البحث الثاني قال أهل السير إن الله تعالى لما أغرق فرعون ووعد موسى عليه السلام إنزال التوراة عليه قال موسى لأخيه هارون اخْلُفْنِى فِى قَوْمِى وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ( الأعراف 142 ) فلما ذهب موسى إلى الطور وكان قد بقي مع بني إسرائيل الثياب والحلي الذي استعاروه من القبط قال لهم هارون إن هذه الثياب والحلي لا تحل لكم فأحرقوها فجمعوا ناراً وأحرقوها وكان السامري في مسيره مع موسى عليه السلام في البحر نظر إلى حافر دابة جبريل عليه السلام حين تقدم على فرعون في دخول البحر فقبض قبضة من تراب حافر تلك الدابة ثم إن السامري أخذ ما كان معه من الذهب والفضة وصور منه عجلاً وألقى ذلك التراب فيه فخرج منه صوت كأنه الخوار فقال للقوم هَاذَا إِلَاهُكُمْ وَإِلَاهُ مُوسَى ( طه 88 ) فاتخذه القوم إلهاً لأنفسهم فهذا ما في الرواية ولقائل أن يقول الجمع العظيم من العقلاء لا يجوز أن يتفقوا على ما يعلم فساده ببديهة العقل وهذه الحكاية كذلك لوجوه أحدها أن كل عاقل يعلم ببديهة عقله أن الصنم المتخذ من الذهب الذي لا يتحرك ولا يحس ولا يعقل يستحيل أن يكون إله السموات والأرض وهب أنه ظهر من خوار ولكن هذا القدر لا يصلح أن يكون شبهة في قلب أحد من العقلاء في كونه إلهاً وثانيها أن القوم كانوا قد شاهدوا قبل ذلك من المعجزات القاهرة التي تكون قريبة من حد الإلجاء في

الدلالة على الصانع وصدق موسى عليه السلام فمع قوة هذه الدلالة وبلوغها إلى حد الضرورة ومع أن صدور الخوار من ذلك العجل المتخذ من الذهب يستحيل أن يقتضي شبهة في كون ذلك الجسم المصوت إلهاً والجواب هذه الواقعة لا يمكن تصحيحها إلا على وجه واحد وهو أن يقال إن السامري ألقى إلى القوم أن موسى عليه السلام إنما قدر على ما أتى به لأنه كان يتخذ طلسمات على قوى فلكية وكان يقدر بواسطتها على هذه المعجزات فقال السامري للقوم وأنا أتخذ لكم طلسماً مثل طلسمه وروح عليهم ذلك بأن جعله بحث خرج منه صوت عجيب فأطمعهم في أن يصيروا مثل موسى عليه السلام في الإتيان بالخوارق أو لعل القوم كانوا مجسمة وحلولية فجوزوا حلول الإله في بعض الأجسام فلذلك وقعوا في تلك الشبهة
البحث الثالث هذه القصة فيها فوائد أحدها أنها تدل على أن أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) خير الأمم لأن أولئك اليهود مع أنهم شاهدوا تلك البراهين القاهرة اغتروا بهذه الشبهة الركيكة جداً وأما أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فانهم مع أنهم محتاجون في معرفة كون القرآن معجزاً إلى الدلائل الدقيقة لم يعتروا بالشبهات القوية العظيمة وذلك يدل على أن هذه الأمة خير من أولئك وأكمل عقلاً وأزكى خاطراً منهم وثانيها أنه عليه الصلاة والسلام ذكر هذه الحكاية مع أنه لم يتعلم علماً وذلك يدل على أنه عليه الصلاة والسلام استفادها من الوحي وثالثها فيه تحذير عظيم من التقليد والجهل بالدلائل فإن أولئك الأقوام لو أنهم عرفوا الله بالدليل معرفة تامة لما وقعوا في شبهة السامري ورابعها في تسلية النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مما كان يشاهد من مشركي العرب واليهود والنصارى بالخلاف عليه وكأنه تعالى أمره بالصبر على ذلك كما صبر موسى عليه الصلاة والسلام في هذه الواقعة النكدة فإنهم بعد أن خلصهم الله من فرعون وأراهم المعجزات العجيبة من أول ظهور موسى إلى ذلك الوقت اغتروا بتلك الشبهة الركيكة ثم إن موسى عليه السلام صبر على ذلك فلأن يصبر محمد عليه الصلاة والسلام على أذية قومه كان ذلك أولى وخامسها أن أشد الناس مجادلة مع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وعداوة له هم اليهود فكأنه تعالى قال إن هؤلاء إنما يفتخرون بأسلافهم ثم إن أسلافهم كانوا في البلادة والجهالة والعناد إلى هذا الحد فكيف هؤلاء الأخلاف
أما قوله تعالى وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ ففيه أبحاث
البحث الأول في تفسير الظلم وفيه وجهان الأول قال أبو مسلم الظلم في أصل اللغة هو النقص قال الله تعالى كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ اتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمِ مّنْهُ شَيْئًا ( الكهف 33 ) والمعنى أنهم لما تركوا عبادة الخالق المحيي المميت واشتغلوا بعبادة العجل فقد صاروا ناقصين في خيرات الدين والدنيا والثاني أن الظلم في عرف الشرع عبارة عن الضرر الخالي من نفع يزيد عليه ودفع مضرة أعظم منه والاستحقاق عن الغير في علمه أو ظنه فإذا كان الفعل بهذه الصفة كان فاعله ظالماً ثم إن الرجل إذا فعل ما يؤديه إلى العقاب والنار قيل إنه ظالم نفسه وإن كان في الحال نفعاً ولذة كما قال تعالى إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( لقمان 13 ) وقال فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ ( فاطر 32 ) ولما كانت عبادتهم لغير الله شركا ( وكان الشرك مؤدياً إلى النار سمي ظلماً
البحث الثاني استدلت المعتزلة بقوله وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ على أن المعاصي ليست بخلق الله تعالى

من وجوه أحدها أنه تعالى ذمهم عليها ولو كانت مخلوقة لله تعالى لما استحق الذم إلا من فعلها وثانيها أنها لو كانت بإرادة الله تعالى لكانوا مطيعين لله تعالى بفعلها لأن الطاعة عبارة عن فعل المراد وثالثها لو كان العصيان مخلوقاً لله تعالى لكان الذم بسببه يجري مجرى الذم بسبب كونه أسود وأبيض وطويلاً وقصيراً والجواب هذا تمسك بفعل المدح والذم وهو معارض بمسألتي الداعي والعلم ذلك مراراً
البحث الثالث في الآية تنبيه على أن ضرر الكفر لا يعود إلا عليهم لأنهم ما استفادوا بذلك إلا أنهم ظلموا أنفسهم وذلك يدل على أن جلال الله منزه عن الاستكمال بطاعة الاتقياء والانتقاص بمعصية الأشقياء
أما قوله تعالى ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مّن بَعْدِ ذالِكَ فقالت المعتزلة المراد ثم عفونا عنكم بسبب إتيانكم بالتوبة وهي قتل بعضهم بعضاً وهذا ضعيف من وجهين الأول أن قبول التوبة واجب عقلاً فلو كان المراد ذلك لما جاز عده في معرض الأنعام لأن أداء الواجب لا يعد من باب الأنعام والمقصود من هذه الآيات تعديد نعم الله تعالى عليهم الثاني أن العفو اسم لإسقاط العقاب المستحق فأما إسقاط ما يجب إسقاطه فذاك لا يسمى عفواً ألا ترى أن الظالم لما لم يجز له تعذيب المظلوم فإذا ترك ذلك العذاب لايسمى ذلك الترك عفواً فكذا ههنا وإذا ثبت هذا فنقول لا شك في حصول التوبة في هذه الصورة لقوله تعالى فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ وإذا كان كذلك دلت هذه الآية على أن قبول التوبة غير واجب عقلاً وإذا ثبت ذلك ثبت أيضاً أنه تعالى قد أسقط عقاب من يجوز عقابه عقلاً وشرعاً وذلك أيضاً خلاف قول المعتزلة وإذا ثبت أنه تعالى عفا عن كفار قوم موسى فلأن يعفو عن فساق أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) مع أنهم ( خير أمة أخرجت للناس ) كان أولى
أما قوله تعالى لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ فاعلم أن الكلام في تفسير ( لعل ) قد تقدم في قوله لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( الأنعام 153 ) ( الأعراف 17 ) ( البقرة 21 33 ) وأما الكلام في حقيقة الشكر وماهيته فطويل وسيجيء إن شاء الله تعالى ثم قالت المعتزلة إنه تعالى بين أنه إنما عفا عنهم ولم يؤاخذهم لكي يشكروا وذلك يدل على أنه تعالى لم يرد منهم إلا الشكر والجواب لو أراد الله تعالى منهم الشكر لأراد ذلك إما بشرط أن يحصل للشاكر داعية الشكر أولاً بهذا الشرط فإن كان هذا الشرط من العبد لزم افتقار الداعية إلى داعية أخرى وإن كان من الله فحيث خلق الله الداعي حصل الشكر لا محالة وحيث لم يخلق الداعي استحال حصول الشكر وذلك ضد قول المعتزلة وإن أراد حصول الشكر منه من غير هذه الداعية فقد أراد منه المحال لأن الفعل بدون الداعي محال فثبت أن الإشكال وارد عليهم أيضاً والله أعلم
وَإِذْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
اعلم أن هذا هو الإنعام الرابع والمراد من الفرقان يحتمل أن يكون هو التوراة وأن يكون شيئاً داخلاً في

التوراة وأن يكون شيئاً خارجاً عن التوراة فهذه أقسام ثلاثة لا مزيد عليها وتقرير الاحتمال الأول أن التوراة لها صفتان كونها كتاباً منزلاً وكونها فرقاناً تفرق بين الحق والباطل فهو كقولك رأيت الغيث والليث تريد الرجل الجامع بين الجود والجراءة ونظيره قوله تعالى وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاء وَذِكْراً ( الأنبياء 48 ) وأما تقرير الاحتمال الثاني فهو أن يكون المراد من الفرقان ما في التوراة من بيان الدين لأنه إذا أبان ظهر الحق متميزاً من الباطل فالمراد من الفرقان بعض ما في التوراة وهو بيان أصول الدين وفروعه وأما تقرير الاحتمال الثالث فمن وجوه أحدها أن يكون المراد من الفرقان ما أوتي موسى عليه السلام من اليد والعصا وسائر الآيات وسميت بالفرقان لأنها فرقت بين الحق والباطل وثانيها أن يكون المراد من الفرقان النصر والفرج الذي آتاه الله بني إسرائيل على قوم فرعون قال تعالى وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ( الأنفال 41 ) والمراد النصر الذي آتاه الله يوم بدر وذلك لأن قبل ظهور النصر يتوقع كل واحد من الخصمين في أن يكون هو المستولي وصاحبه هو المقهور فإذا ظهر النصر تميز الراجح من المرجوح وانفرق الطمع الصادق من الطمع الكاذب وثالثها قال قطرب الفرقان هو انفراق البحر لموسى عليه السلام فإن قلت فهذا قد صار مذكوراً في قوله تعالى وَإِذَا فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ ( البقرة 50 ) وأيضاً فقوله تعالى بعد ذلك لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ لا يليق إلا بالكتاب لأن ذلك لا يذكر إلا عقيب الهدى قلت الجواب عن الأول أنه تعالى لم يبين في قوله تعالى وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ أن ذلك كان لأجل موسى عليه السلام وفي هذه الآية بين ذلك التخصيص على سبيل التنصيص وعن الثاني أن فرق البحر كان من الدلائل فلعل المراد أنا لما آتينا موسى فرقان البحر استدلوا بذلك على وجود الصانع وصدق موسى عليه السلام وذلك هو الهداية وأيضاً فالهدى قد يراد به الفوز والنجاة كما يراد به الدلالة فكأنه تعالى بين أنه آتاهم الكتاب نعمة في الدين والفرقان الذي حصل به خلاصهم من الخصم نعمة عاجلة واعلم أن من الناس من غلط فظن أن الفرقان هو القرآن وأنه أنزل على موسى عليه السلام وذلك باطل لأن الفرقان هو الذي يفرق بين الحق والباطل وكل دليل كذلك فلا وجه لتخصيص هذا اللفظ بالقرآن وقال آخرون المعنى وَإِذْ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ يعني التوراة وآتينا محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) الفرقان لكي تهتدوا به يا أهل الكتاب وقد مال إلى هذا القول من علماء النحو الفراء وثعلب وقطرب وهذا تعسف شديد من غير حاجة ألبتة إليه
وأما قوله تعالى لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ فقد تقدم تفسير لعل وتفسير الاهتداء واستدلت المعتزلة بقوله لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ على أن الله تعالى أراد الاهتداء من الكل وذلك يبطل قول من قال أراد الكفر من الكافر وأيضاً فإذا كان عندهم أنه تعالى يخلق الاهتداء فيمن يهتدي والضلال فيمن يضل فما الفائدة في أن ينزل الكتاب والفرقان ويقول لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ومعلوم أن الاهتداء إذا كان يخلقه فلا تأثير لإنزال الكتب فيه لو خلق الاهتداء ولا كتاب لحصل الاهتداء ولو أنزل بدلاً من الكتاب الواحد ألف كتاب ولم يخلق الاهتداء فيهم لما حصل الاهتداء فكيف يجوز أن يقول أنزلت الكتاب لكي تهتدوا واعلم أن هذا الكلام قد تقدم مراراً لا تحصى مع الجواب والله أعلم

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ
اعلم أن هذا الإنعام الخامس قال بعض المفسرين هذه الآية وما بعدها منقطعة عما تقدم من التذكير بالنعم وذلك لأنها أمر بالقتل لا يكون نعمة وهذا ضعيف من وجوه أحدها أن الله تعالى نبههم على عظم ذنبهم ثم نبههم على ما به يتخلصون عن ذلك الذنب العظيم وذلك من أعظم النعم في الدين وإذا كان الله تعالى قد عدد عليهم النعم الدنيوية فبأن يعدد عليهم هذه النعمة الدينية أولى ثم إن هذه النعمة وهي كيفية هذه التوبة لما لم يكن وصفها إلا بمقدمة ذكر المعصية كان ذكرها أيضاً في تمام النعمة فصار كل ما تضمنته هذه الآية معدوداً في نعم الله فجاز التذكير بها وثانيها أن الله تعالى لما أمرهم بالقتل رفع ذلك الأمر عنهم قبل فنائهم بالكلية فكان ذلك نعمة في حق أولئك الباقين وفي حق الذين كانوا موجودين في زمان محمد عليه الصلاة والسلام لأنه تعالى لولا أنه رفع القتل عن آبائهم لما وجد أولئك الأبناء فحسن إيراده في معرض الامتنان على الحاضرين في زمان محمد عليه الصلاة والسلام وثالثها أنه تعالى لما بين أن توبة أولئك ما تمت إلا بالقتل مع أن محمداً عليه الصلاة والسلام كان يقول لهم لا حاجة بكم الآن في التوبة إلى القتل بل إن رجعتم عن كفركم وآمنتم قبل الله إيمانكم منكم فكان بيان التشديد في تلك التوبة تنبيهاً على الإنعام العظيم بقبول مثل هذه التوبة السهلة الهينة ورابعها أن فيه ترغيباً شديداً لأمة محمد صلوات الله وسلامه عليه في التوبة فإن أمة موسى عليه السلام لما رغبوا في تلك التوبة مع نهاية مشقتها على النفس فلأن يرغب الواحد منا في التوبة التي هي مجرد الندم كان أولى ومعلوم أن ترغيب الإنسان فيما هو المصلحة المهمة من أعظم النعم
وأما قوله تعالى وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ أي واذكروا إذ قال موسى لقومه بعدما رجع من الموعد الذي وعده ربه فرآهم قد اتخذوا العجل يا قوم إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ وللمفسرين في الظلم قولان أحدهما أنكم نقصتم أنفسكم الثواب الواجب بالإقامة على عهد موسى عليه السلام والثاني أن الظلم هو الإصرار الذي ليس بمستحق ولا فيه نفع ولا دفع مضرة لا علماً ولا طباً فلما عبدوا العجل كانوا قد أضروا بأنفسهم لأن ما يؤدي إلى ضرر الأبد من أعظم الظلم ولذلك قال تعالى إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( لقمان 13 ) لكن هذا الظلم من حقه أن يقيد لئلا يوهم إطلاقه إنه ظلم الغير لأن الأصل في الظلم ما يتعدى فلذلك قال إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ
أما قوله تعالى بِاتّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ ففيه حذف لأنهم لم يظلموا أنفسهم بهذا القدر لأنهم لو اتخذوه

ولم يجعلوه إلهاً لم يكن فعلهم ظلماً فالمراد باتخاذكم العجل إلهاً لكن لما دلت مقدمة الآية على هذا المحذوف حسن الحذف
أما قوله تعالى فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ففيه سؤالات
السؤال الأول قوله تعالى فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ يقتضي كون التوبة مفسرة بقتل النفس كما أن قوله عليه السلام ( لا يقبل الله صلاة أحدكم حتى يضع الطهور مواضعه فيغسل وجهه ثم يديه ) يقتضي أن وضع الطهور مواضعه مفسر بغسل الوجه واليدين ولكن ذلك باطل لأن التوبة عبارة عن الندم على الفعل القبيح الذي مضى والعزم على أن لا يأتي بمثله بعد ذلك وذلك مغاير لقتل النفس وغير مستلزم له فكيف يجوز تفسيره به والجواب ليس المراد تفسير التوبة بقتل النفس بل بيان أن توبتهم لا تتم ولا تحصل إلا بقتل النفس وإنما كان كذلك لأن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام أن شرط توبتهم قتل النفس كما أن القاتل عمداً لا تتم توبته إلا بتسليم النفس حتى يرضى أولياء المقتول أو يقتلوه فلا يمتنع أن يكون من شرع موسى عليه السلام أن توبة المرتد لا تتم إلا بالقتل إذا ثبت هذا فنقول شرط الشيء قد يطلق عليه اسم ذلك الشيء مجازاً كما يقال للغاصب إذا قصد التوبة أن توبتك ردماً غصبت يعني أن توبتك لا تتم إلا به فكذا ههنا
السؤال الثاني ما معنى قوله تعالى فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ والتوبة لا تكون إلا للبارىء والجواب المراد منه النهي عن الرياء في التوبة كأنه قال لهم لو أظهرتم التوبة لا عن القلب فأنتم ما تبتم إلى الله الذي هو مطلع على ضميركم وإنما تبتم إلى الناس وذلك مما لا فائدة فيه فإنكم إذا أذنبتم إلى الله
السؤال الثالث كيف اختص هذا الموضع بذكر البارىء والجواب البارىء هو الذي خلق الخلق بريئاً من التفاوت مَّا تَرَى فِى خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ ( الملك 3 ) ومتميزاً بعضه عن بعض بالأشكال المختلفة والصور المتباينة فكان ذلك تنبيهاً على أن من كان كذلك فهو أحق بالعبادة من البقر الذي يضرب به المثل في الغباوة
السؤال الرابع ما الفرق بين الفاء في قوله فَتُوبُواْ والفاء في قوله فَاقْتُلُواْ الجواب أن الفاء الأولى للسبب لأن الظلم سبب التوبة والثانية للتعقيب لأن القتل من تمام التوبة فمعنى قوله فَتُوبُواْ أي فأتبعوا التوبة القتل تتمة لتوبتكم
السؤال الخامس ما المراد بقوله فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أهو ما يقتضيه ظاهره من أن يقتل كل واحد نفسه أو المراد غير ذلك الجواب اختلف الناس فيه فقال قوم من المفسرين لا يجوز أن يكون المراد أمر كل واحد من التائبين بقتل نفسه وهو اختيار القاضي عبد الجبار واحتجوا عليه بوجهين الأول وهو الذي عول عليه أهل التفيسر أن المفسرين أجمعوا على أنهم ما قتلوا أنفسهم بأيديهم ولو كانوا مأمورين بذلك لصاروا عصاة بترك ذلك الثاني وهو الذي عول عليه القاضي عبد الجبار أن القتل هو نقض البنية التي عندها يجب أن يخرج من أن يكون حياً وما عدا ذلك مما يؤدي إلى أن يموت قريباً أو بعيداً إنما سمي قتلاً على

طريق المجاز إذا عرفت حقيقة القتل فنقول إنه لا يجوز أن يأمر الله تعالى به لأن العبادات الشرعية إنما تحسن لكونها مصالح لذلك المكلف ولا تكون مصلحة إلا في الأمور المستقبلة وليس بعد القتل حال تكليف حتى يكون القتل مصلحة فيه وهذا بخلاف ما يفعله الله تعالى من الإماتة لأن ذلك من فعل الله فيحسن أن يفعله إذا كان صلاحاً لمكلف آخر ويعوض ذلك المكلف بالعوض العظيم وبخلاف أن يأمر الله تعالى بأن يجرح نفسه أو يقطع عضواً من أعضائه ولا يحصل الموت عقبه لأنه لما بقي بعد ذلك الفعل حياً لم يمتنع أن يكون ذلك الفعل صلاحاً في الأفعال المستقبلة ولقائل أن يقول لا نسلم أن القتل اسم للفعل المزهق للروح في الحال بل هو عبارة عن الفعل المؤدي إلى الزهوق إما في الحال أو بعده والدليل عليه أنه لو حلف أن لا يقتل إنساناً فجرحه جراحة عظيمة وبقي بعد تلك الجراحة حياً لحظة واحدة ثم مات فإنه يحنث في يمينه وتسميه كل أهل هذه اللغة قاتلاً والأصل في الاستعمال الحقيقة فدل على أن اسم القتل اسم الفعل المؤدي إلى الزهوق سواء أدى إليه في الحال أو بعد ذلك وأنت سلمت جواز ورود الأمر بالجراحة التي لا تستعقب الزهوق في الحال وإذا كان كذلك ثبت جواز أن يراد الأمر بأن يقتل الإنسان نفسه سلمنا أن القتل اسم الفعل المزهق للروح في الحال فلم لا يجوز ورود الأمر به قوله لا بد في ورود الأمر به من مصلحة استقبالية قلنا أولاً لا نسلم أنه لا بد فيه من مصلحة والدليل عليه أنه أمر من يعلم كفره بالإيمان ولا مصلحة في ذلك إذ لا فائدة من ذلك التكليف إلا حصول العقاب سلمنا أنه لا بد من مصلحة ولكن لم قلت إنه لا بد من عود تلك المصلحة إليه ولم لا يجوز أن قتله نفسه مصلحة لغيره فالله تعالى أمره بذلك لينتفع به ذلك الغير ثم إنه تعالى يوصل العوض العظيم إليه سلمنا أنه لا بد من عود المصلحة إليه لكن لم لا يجوز أن يقال إن علمه بكونه مأموراً بذلك الفعل مصلحة له مثل أنه لما أمر بأن يقتل نفسه غداً فإن علمه بذلك يصير داعياً له إلى ترك القبائح من ذلك الزمان إلى ورود الغد وإذا كانت هذه الاحتمالات ممكنة سقط ما قال القاضي بل الوجه الأول الذي عول عليه المفسرون أقوى وعلى هذا يجب صرف الآية عن ظاهرها ثم فيه وجهان الأول أن يقال أمر كل واحد من أولئك التائبين بأن يقتل بعضهم بعضاً فقوله اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ معناه ليقتل بعضكم بعضاً وهو كقوله في موضع آخر وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ( النساء 29 ) ومعناه لا يقتل بعضكم بعضاً وتحقيقه أن المؤمنين كالنفس الوحدة وقيل في قوله تعالى وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ ( الحجرات 11 ) أي إخوانكم من المؤمنين وفي قوله لَّوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً ( النور 12 ) أي بأمثالهم من المسلمين وكقوله فَسَلّمُواْ عَلَى أَنفُسِكُمْ ( النور 61 ) أي ليسلم بعضكم على بعض ثم قال المفسرون أولئك التائبون برزوا صفين فضرب بعضهم بعضاً إلى الليل الوجه الثاني أن الله تعالى أمر غير أولئك التائبين بقتل أولئك التائبين فيكون المراد من قوله اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أي استسلموا للقتل وهذا الوجه الثاني أقرب لأن في الوجه الأول تزداد المشقة لأن الجماعة إذا اشتركت في الذنب كان بعضهم أشد عطفاً على البعض من غيرهم عليهم فإذا كلفوا بأن يقتل بعضهم بعضاً عظمت المشقة في ذلك ثم اختلفت الروايات فالأول أنه أمر من لم يعبد العجل من السبعين المختارين لحضور الميقات أن يقتل من عبد العجل منهم وكان المقتولون سبعين ألفاً فما تحركوا حتى قتلوا على ثلاثة

أيام وهذا لقول ذكره محمد بن إسحاق الثاني أنه لما أمرهم موسى عليه السلام بالقتل أجابوا فأخذ عليهم المواثيق ليصبروا على القتل فأصبحوا مجتمعين كل قبيلة على حدة وأتاهم هارون بالإثني عشر ألفاً الذين لم يعبدوا العجل ألبتة وبأيديهم السيوف فقال التائبون إن هؤلاء إخوانكم قد أتوكم شاهرين السيوف فاتقوا الله واصبروا فلعن الله رجلاً قام من مجلسه أو مد طرفه إليهم أو اتقاهم بيد أو رجل يقولون أمين فجعلوا يقتلونهم إلى المساء وقام موسى وهارون عليهما السلام يدعوان الله ويقولان البقية البقية يا إلهنا فأوحى الله تعالى إليهما قد غفرت لمن قتل وتبت على من بقي قال وكان القتلى سبعين ألفاً هذه رواية الكلبي الثالث أن بني إسرائيل كانوا قسمين منهم من عبد العجل ومنهم من لم يعبده ولكن لم ينكر على من عبده فأمر من لم يشتغل بالإنكار بقتل من اشتغل بالعبادة ثم قال المفسرون إن الرجل كان يبصر والده وولده وجاره فلم يمكنه المضي لأمر الله فأرسل الله تعالى سحابة سوداء ثم أمر بالقتل فقتلوا إلى المساء حتى دعا موسى وهارون عليهما السلام وقالا يا رب هلكت بنو إسرائيل البقية البقية فانكشفت السحابة ونزلت التوراة وسقطت الشفار من أيديهم
السؤال السادس كيف استحقوا القتل وهم قد تابوا من الردة والتائب من الردة لا يقتل الجواب ذلك مما يختلف بالشرائع فلعل شرع موسى عليه السلام كان يقتضي قتل التائب عن الردة إما عاماً في حق الكل أو كان خاصاً بذلك القوم
السؤال السابع هل يصح ما روي أن منهم من لم يقتل ممن قبل الله توبته الجواب لا يمتنع ذلك لأن قوله تعالى إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ خطاب مشافهة فلعله كان مع البعض أو إنه كان عاماً فالعام قد يتطرق إليه التخصيص
أما قوله تعالى ذالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ ففيه تنبيه على ما لأجله يمكن تحمل هذه المشقة وذلك لأن حالتهم كانت دائرة بين ضرر الدنيا وضرر الآخرة والأول أولى بالتحمل لأنه متناه وضرر الآخرة غير متناه ولأن الموت لا بد واقع فليس في تحمل القتل إلا التقدم والتأخير وأما الخلاص من العقاب والفوز بالثواب فذاك هو الغرض الأعظم
أما قوله تعالى فَتَابَ عَلَيْكُمْ ففيه محذوف تم فيه وجهان أحدهما أن يقدر من قول موسى عليه السلام كأنه قال فإن فعلتم فقد تاب عليكم والآخر أن يكون خطاباً من الله لهم على طريقة الالتفات فيكون التقدير ففعلتم ما أمركم به موسى فتاب عليكم بارئكم
وأما معنى قوله تعالى فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ فقد تقدم في قوله فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ

وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَة ً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَة ُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
اعلم أن هذا هو الإنعام السادس بيانه من وجوه أحدها كأنه تعالى قال اذكروا نعمتي حين قلتم لموسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة ثم أحييتكم لتتوبوا عن بغيكم وتتخلصوا عن العقاب وتفوزوا بالثواب وثانيها أن فيها تحذيراً لمن كان في زمان نبينا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) عن فعل ما يستحق بسببه أن يفعل به ما فعل بأولئك وثالثها تشبيههم في جحودهم معجزات النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بأسلافهم في جحود نبوة موسى عليه السلام مع مشاهدتهم لعظم تلك الآيات الظاهرة وتنبيهاً على أنه تعالى إنما لا يظهر عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مثلها لعلمه بأنه لو أظهرها لجحودها ولو جحدوها لاستحقوا العقاب مثل ما استحقه أسلافهم ورابعها فيه تسلية للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) مما كان يلاقي منهم وتثبيت لقلبه على الصبر كما صبر أولو العزم من الرسل وخامسها فيه إزالة شبهة من يقول إن نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لو صحت لكان أولى الناس بالإيمان به أهل الكتاب لما أنهم عرفوا خبره وذلك لأنه تعالى بين أن أسلافهم مع مشاهدتهم تلك الآيات الباهرة على نبوة موسى عليه السلام كانوا يرتدون كل وقت ويتحكمون عليه ويخالفونه فلا يتعجب من مخالفتهم لمحمد عليه الصلاة والسلام وإن وجدوا في كتبهم الأخبار عن نبوته وسادسها لما أخبر محمد عليه الصلاة والسلام عن هذه القصص مع أنه كان أمياً لم يشتغل بالتعلم ألبتة وجب أن يكون ذلك عن الوحي
البحث الثاني للمفسرين في هذه الواقعة قولان الأول أن هذه الواقعة كانت بعد أن كلف الله عبدة العجل بالقتل قال محمد بن اسحاق لما رجع موسى عليه السلام من الطور إلى قومه فرأى ما هم عليه من عبادة العجل وقال لأخيه والسامري ما قال وحرق العجل وألقاه في البحر اختار من قومه سبعين رجلاً من خيارهم فلما خرجوا إلى الطور قالوا لموسى سل ربك حتى يسمعنا كلامه فسأل موسى عليه السلام ذلك فأجابه الله إليه ولما دنا من الجبل وقع عليه عمود من الغمام وتغشى الجبل كله ودنا من موسى ذلك الغمام حتى دخل فيه فقال للقوم ادخلوا وعوا وكان موسى عليه السلام متى كلمه ربه وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم النظر إليه وسمع القوم كلام الله مع موسى عليه السلام يقول له افعل ولا تفعل فلما تم الكلام انكشف عن موسى الغمام الذي دخل فيه فقال القوم بعد ذلك لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة وماتوا جميعاً وقام موسى رافعاً يديه إلى السماء يدعو ويقول يا إلهي اخترت من بني إسرائيل سبعين رجلاً ليكونوا شهودي بقبول توبتهم فارجع إليهم وليس معي منهم واحد فما الذي يقولون فيّ فلم يزل موسى مشتغلاً بالدعاء حتى رد الله إليهم أرواحهم وطلب توبة بني إسرائيل من عبادة العجل فقال لا إلا أن يقتلوا أنفسهم

القول الثاني أن هذه الواقعة كانت بعد القتل قال السدي لما تاب بنو إسرائيل من عبادة العجل بأن قتلوا أنفسهم أمر الله تعالى أن يأتيهم موسى في ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادتهم العجل فاختار موسى سبعين رجلاً فلما أتوا الطور قالوا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة وماتوا فقام موسى يبكي ويقول يا رب ماذا أقول لبني إسرائيل فإني أمرتهم بالقتل ثم اخترت من بقيتهم هؤلاء فإذا رجعت إليهم ولا يكون معي منهم أحد فماذا أقول لهم فأوحى الله إلى موسى أن هؤلاء السبعين ممن اتخذوا العجل إلهاً فقال موسى إِنْ هِى َ إِلاَّ فِتْنَتُكَ ( الأعراف 155 ) إلى قوله إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ ( الأعراف 56 ) ثم إنه تعالى أحياهم فقاموا ونظر كل واحد منهم إلى الآخر كيف يحييه الله تعالى فقالوا يا موسى إنك لا تسأل الله شيئاً إلا أعطاك فادعه يجعلنا أنبياء فدعاه بذلك فأجاب الله دعوته واعلم أنه ليس في الآية ما يدل على ترجيح أحد القولين على الآخر وكذلك ليس فيها ما يدل على أن الذين سألوا الرؤية هم الذين عبدوا العجل أو غيرهم
أما قوله تعالى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ فمعناه لا نصدقك ولا نعترف بنبوتك حتى نرى الله جهرة ( أي ) عياناً قال صاحب الكشاف وهي مصدر من قولك جهرت بالقراءة وبالدعاء كأن الذي يرى بالعين جاهر بالرؤية والذي يرى بالقب مخافت بها وانتصار بها على المصدر لأنها نوع من الرؤية فنصبت بفعلها كما ينصب القرفصاء بفعل الجلوس أو على الحال بمعنى ذوي جهرة وقرىء جهرة بفتح الهاء وهي إما مصدر كالغلبة وإما جمع جاهر وقال القفال أصل الجهرة من الظهور يقال جهرت الشيء ( إذا ) كشفته وجهرت البئر إذا كان ماؤها مغطى بالطين فنقيته حتى ظهر ماؤه ويقال صوت جهير ورجل جهوري الصوت إذا كان صوته عالياً ويقال وجه جهير إذا كان ظاهر الوضاءة وإنما قالوا جهرة تأكيداً لئلا يتوهم متوهم أن المراد بالرؤية العلم أو التخيل على ( نحو ) ما يراد النائم
أما قوله تعالى فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَة ُ ففيه أبحاث
البحث الأول استدلت المعتزلة بذلك على أن رؤية الله ممتنعة قال القاضي عبد الجبار إنها لو كانت جائزة لكانوا قد التمسوا أمراً مجوزاً فوجب أن لا تنزل بهم العقوبة كما لم تنزل بهم العقوبة لما التمسوا النقل من قوت إلى قوت وطعام إلى طعام في قوله تعالى لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الارْضُ ( البقرة 61 ) وقال أبو الحسين في كتاب التصفح إن الله تعالى ما ذكر سؤال الرؤية إلا استعظمه وذلك في آيات أحدها هذه الآية فإن الرؤية لو كانت جائزة لكان قولهم ( لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ) كقول الأمم لأنبيائهم لن نؤمن إلا باحياء ميت في أنه لا يستعظم ولا تأخذهم الصاعقة وثانيها قوله تعالى يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مّنَ السَّمَاء فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذالِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللَّهِ جَهْرَة ً ( النساء 153 ) فسمي ذلك ظلماً وعاقبهم في الحال فلو كانت الرؤية جائزة لجرى سؤالهم لها مجرى من يسأل معجزة زائدة فإن قلت أليس إنه سبحانه وتعالى قد أجرى إنزال الكتاب من السماء مجرى الرؤية في كون كل واحد منهما عتوا فكما أن إنزال الكتاب غير ممتنع في نفسه فكذا سؤال الرؤية قلت الظاهر يقتضي كون كل واحد منهما ممتنعاً ترك العمل به في إنزال الكتاب فيبقى معمولاً به في الرؤية وثالثها قوله تعالى وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَئِكَة ُ أَوْ نَرَى

رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُواْ فِى أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً ( الفرقان 21 ) فالرؤية لو كانت جائزة وهي عند مجزيها من أعظم المنافع لم يكن التماسها عتواً لأن من سأل الله تعالى نعمة في الدين أو الدنيا لم يكن عاتياً وجرى ذلك مجرى ما يقال لن نؤمن لك حتى يحيي الله بدعائك هذا الميت
واعلم أن هذه الوجوه مشتركة في حرف واحد وهو أن الرؤية لو كانت جائزة لما كان سؤالها عتواً ومنكراً وذلك ممنوع ( و ) قوله إن طلب سائر المنافع من النقل من طعام إلى طعام لما كان ممكناً لم يكن طالبه عاتياً وكذا القول في طلب سائر المعجزات قلنا ولم قلت إنه لما كان طالب ذلك الممكن ليس بعات وجب أن يكون طالب كل ممكن غير عات والاعتماد في مثل هذا الموضع على ضروب الأمثلة لا يليق بأهل العلم وكيف وأن الله تعالى ما ذكر الرؤية إلا وذكر معها شيئاً ممكناً حكمنا بجوازه بالاتفاق وهو إما نزول الكتاب من السماء أو نزول الملائكة وأثبت صفة العتو على مجموع الأمرين وذلك كالدلالة القاطعة في أن صفة العتو ما حصلت لأجل كون المطلوب ممتنعاً أما قوله أبي الحسين الظاهر يقتضي كون الكل ممتنعاً ترك العمل به في البعض فيبقى معمولاً به في الباقي قلنا إنك ما أقمت دليلاً على أن الاستعظام لا يتحقق إلا إذا كان المطلوب ممتنعاً وإنما عولت فيه على ضروب الأمثلة والمثال لا ينفع في هذا الباب فبطل قولك الظاهر يقتضي كون الكل ممتنعاً فظهر بما قلنا سقوط كلام المعتزلة فإن قال قائل فما السبب في استعظام سؤال الرؤية الجواب في ذلك يحتمل وجوهاً أحدها أن رؤية الله تعالى لا تحصل إلا في الآخرة فكان طلبها في الدنيا مستنكراً وثانيها أن حكم الله تعالى أن يزيل التكليف عن العبد حال ما يرى الله فكان طلب الرؤية طلباً لإزالة التكليف وهذا على قول المعتزلة أولى لأن الرؤية تتضمن العلم الضروري والعلم الضروري ينافي التكليف وثالثها أنه لما تمت الدلائل على صدق المدعي كان طلب الدلائل الزائدة تعنتاً والمتعنت يستوجب التعنيف ورابعها لا يمتنع أن يعلم الله تعالى أن في منع الخلق عن رؤيته سبحانه في الدنيا ضرباً من المصلحة المهمة فلذلك استنكر طلب الرؤية في الدنيا كما علم أن في إنزال الكتاب من السماء وإنزال الملائكة من السماء مفسدة عظيمة فلذلك استنكر طلب ذلك والله أعلم
البحث الثاني للمفسرين في الصاعقة قولان الأول أنها هي الموت وهو قول الحسن وقتادة واحتجوا عليه بقوله تعالى فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَمَن فِى الاْرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ ( الزمر 68 ) وهذا ضعيف لوجوه أحدها قوله تعالى فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَة ُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ولو كانت الصاعقة هي الموت لامتنع كونهم ناظرين إلى الصاعقة وثانيها أنه تعالى قال في حق موسى وَخَرَّ موسَى صَعِقًا ( الأعراف 143 ) أثبت الصاعقة في حقه مع أنه لم يكن ميتاً لأنه قال فَلَمَّا أَفَاقَ والإفاقة لا تكون عن الموت بل عن الغشي وثالثها أن الصاعقة وهي التي تصعق وذلك إشارة إلى سبب الموت ورابعها أن ورودها وهم مشاهدون لها أعظم في باب العقوبة منها إذا وردت بغتة وهم لا يعلمون ولذلك قال وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ منبهاً على عظم العقوبة القول الثاني وهو قول المحققين إن الصاعقة هي سبب الموت ولذلك قال في سورة الأعراف فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَة ُ واختلفوا في أن ذلك السبب أي شيء كان على ثلاثة أوجه أحدها أنها نار وقعت من السماء فأحرقتهم وثانيها صيحة جاءت من السماء وثالثها أرسل الله تعالى جنوداً سمعوا بخسها فخروا صعقين ميتين يوماً وليلة

أما قوله تعالى ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لأن البعث قد ( لا ) يكون إلا بعد الموت كقوله تعالى فَضَرَبْنَا عَلَى ءاذَانِهِمْ فِى الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُواْ أَمَدًا ( اكلهف 11 12 ) فإن قلت هل دخل موسى عليه السلام في هذا الكلام قلت لا لوجهين الأول أنه خطاب مشافهة فلا يحب أن يتناول موسى عليه السلام الثاني أنه لو تناول موسى لوجب تخصيصه بقوله تعالى في حق موسى فَلَمَّا أَفَاقَ مع أن لفظة الإفاقة لا تستعمل في الموت وقال ابن قتيبة إن موسى عليه السلام قد مات وهو خطأ لما بيناه أما قوله تعالى لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ فالمراد أنه تعالى إنما بعثهم بعد الموت في دار الدنيا ليكلفهم وليتمكنوا من الإيمان ومن تلافي ما صدر عنهم من الجرائم أما أنه كلفهم فلقوله تعالى لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ولفظ الشكر يتناول جميع الطاعات لقوله تعالى اعْمَلُواْ ءالَ دَاوُودُ شَاكِراً ( سبأ 13 ) فإن قيل كيف يجوز أن يكلفهم وقد أماتهم ولو جاز ذلك فلم لا يجوز أن يكلف أهل الآخرة إذا بعثهم بعد الموت قلنا الذي يمنع من تكليفهم في الآخرة ليس هو الإماتة ثم الإحياء وإنما يمنع من ذلك أنه قد اضطرهم يوم القيامة إلى معرفته وإلى معرفة ما في الجنة من اللذات وما في النار من الآلام وبعد العلم الضروري لا تكليف فإذا كان المانع هو هذا لم يمتنع في هؤلاء الذين أماتهم الله بالصاعقة أن لا يكون قد اضطرهم وإذا كان كذلك صح أن يكلفوا من بعد ويكون موتهم ثم الأحياء بمنزلة النوم أو بمنزلة الإغماء ونقل عن الحسن البصري أنه تعالى قطع آجالهم بهذه الإماتة ثم أعادهم كما أحيا الذي أماته حين مر على قرية وهي خاوية على عروشها وأحيا الذين أماتهم بعدما خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت وهذا ضعيف لأنه تعالى ما أماتهم بالصاعقة إلا وقد كتب وأخبر بذلك فصار ذلك الوقت أجلاً لموتهم الأول ثم الوقت الآخر أجلاً لحياتهم
وأما استدلال المعتزلة بقوله تعالى لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ على أنه تعالى يريد الإيمان من الكل فجوابنا عنه قد تقدم مراراً فلا حاجة إلى الإعادة
وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَاكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
اعلم أن هذا هو الإنعام السابع الذي ذكره الله تعالى وقد ذكر الله تعالى هذه الآية بهذه الألفاظ في سورة الأعراف وظاهر هذه الآية يدل على أن هذا الإظلال كان بعد أن بعثهم لأنه تعالى قال ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ بعضه معطوف على بعض وإن كان لا يمتنع خلاف ذلك لأن الغرض تعريف النعم التي خصهم الله تعالى بها

قال المفسرون وَظَلَّلْنَا وجعلن الغمام تظلكم وذلك في التيه سخر الله لهم السحاب يسير بسيرهم يظلهم من الشمس وينزل عليهم المن وهو الترنجبين مثل الثلج من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس لكل إنسان صاع ويبعث الله إليهم السلوى وهي السماني فيذبح الرجل منها ما يكفيه كُلُواْ على إرادة القول وَمَا ظَلَمُونَا يعني فظلموا بأن كفروا هذه النعم أو بأن أخذوا أزيد مما أطلق لهم في أخذه أو بأن سألوا غير ذلك الجنس وما ظلمونا فاختصر الكلام بحذفه لدلالة وَمَا ظَلَمُونَا عليه
وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَاذِهِ الْقَرْيَة َ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُواْ حِطَّة ٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزًا مِّنَ السَّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ
اعلم أن هذا هو الإنعام الثامن وهذه الآية معطوفة على النعم المتقدمة لأنه تعالى كما بين نعمه عليهم بأن ظلل لهم من الغمام وأنزل ( عليهم ) من المن والسلوى وهو من النعم العاجلة أتبعه بنعمه عليهم في باب الدين حيث أمرهم بما يمحو ذنوبهم وبين لهم طريق المخلص مما استوجبوه من العقوبة
واعلم أن الكلام في هذه الآية على نوعين
النوع الأول ما يتعلق بالتفسير فنقول أما قوله تعالى وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَاذِهِ الْقَرْيَة َ ( البقرة 58 ) فاعلم أنه أمر تكليف ويدل عليه وجهان الأول أنه تعالى أمر بدخول الباب سجداً وذلك فعل شاق فكان الأمر به تكليفاً ودخول الباب سجداً مشروط بدخول القرية وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب فثبت أن الأمر بدخول القرية أمر تكليف لا أمر إباحة الثاني أن قوله ادْخُلُوا الاْرْضَ المُقَدَّسَة َ الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ ( المائدة 21 ) دليل على ما ذكرناه أما القرية فظاهر القرآن لا يدل على عينها وإنما يرجع في ذلك إلى الأخبار وفيه أقوال أحدها وهو اختيار قتادة والربيع وأبي مسلم الأصفهاني أنها بيت المقدس واستدلوا عليه بقوله تعالى في سورة المائدة ادْخُلُوا الاْرْضَ المُقَدَّسَة َ الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ولا شك أن المراد بالقرية في الآيتين واحد وثانيها أنها نفس مصر وثالثها وهو قول ابن عباس وأبي زيد إنها أريحاء وهي قريبة من بيت المقدس واحتج هؤلاء على أنه لا يجوز أن تكون تلك القرية بيت

المقدس لأن الفاء في قوله تعالى فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ تقتضي التعقيب فوجب أن يكون ذلك التبديل وقع منهم عقيب هذا الأمر في حياة موسى لكن موسى مات في أرض التيه ولم يدخل بيت المقدس فثبت أنه ليس المراد من هذه القرية بيت المقدس وأجاب الأولون بأنه ليس في هذه الآية أنا قلنا ادخلوا هذه القرية على لسان موسى أو على لسان يوشع وإذا حملناه على لسان يوشع زال الإشكال وأما قوله تعالى فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا فقد مر تفسيره في قصة آدم عليه السلام وهو أمر إباحة
أما قوله تعالى وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا ففيه بحثان
الأول اختلفوا في الباب على وجهين أحدهما وهو قول ابن عباس والضحاك ومجاهد وقتادة إنه باب يدعى باب الحطة من بيت المقدس وثانيهما حكى الأصم عن بعضهم أنه عني بالباب جهة من جهات القرية ومدخلاً إليها
الثاني اختلفوا في المراد بالسجود فقال الحسن أراد به نفس السجود الذي هو الصاق الوجه بالأرض وهذا بعيد لأن الظاهر يقتضي وجوب الدخول حال السجود فلو حملنا السجود على ظاهره لامتنع ذلك ومنهم من حمله على غير السجود وهؤلاء ذكروا وجهين الأول رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس أن المراد هو الركوع لأن الباب كان صغيراً ضيقاً يحتاج الداخل فيه إلى الانحناء وهذا بعيد لأنه لو كان ضيقاً لكانوا مضطرين إلى دخوله ركعاً فما كان يحتاج فيه إلى الأمر الثاني أراد به الخضوع وهو الأقرب لأنه لما تعذر حمله على حقيقة السجود وجب حمله على التواضع لأنهم إذا أخذوا في التوبة فالتائب عن الذنب لا بد أن يكون خاضعاً مستكيناً أما قوله تعالى وَقُولُواْ حِطَّة ٌ ففيه وجوه أحدها وهو قول القاضي المعنى أنه تعالى بعد أن أمرهم بدخول الباب على وجه الخضوع أمرهم بأن يقولوا ما يدل على التوبة وذلك لأن التوبة صفة القلب فلا يطلع الغير عليها فإذا اشتهر واحد بالذنب ثم تاب بعده لزمه أن يحكي توبته لمن شاهد منه الذنب لأن التوبة لا تتم إلا به إذ الأخرس تصح توبته وإن لم يوجد منه الكلام بل لأجل تعريف الغير عدوله عن الذنب إلى التوبة ولإزالة التهمة عن نفسه وكذلك من عرف بمذهب خطأ ثم تبين له الحق فإنه يلزمه أن يعرف إخوانه الذين عرفوه بالخطأ عدوله عنه لتزول عنه التهمة في الثبات على الباطل وليعودوا إلى موالاته بعد معاداته فلهذا السبب ألزم الله تعالى بني إسرائيل مع الخضوع الذي هو صفة القلب أن يذكروا اللفظ الدال على تلك التوبة وهو قوله وَقُولُواْ حِطَّة ٌ ( البقرة 58 ) فالحاصل أنه أمر القوم بأن يدخلوا الباب على وجه الخضوع وأن يذكروا بلسانهم التماس حط الذنوب حتى يكونوا جامعين بين ندم القلب وخضوع الجوارح والاستغفار باللسان وهذا الوجه أحسن الوجوه وأقربها إلى التحقيق ثانيها قول الأصم إن هذه اللفظة من ألفاظ أهل الكتاب أي لا يعرف معناها في العربية وثالثها قال صاحب الكشاف ( حطة ) فعلة من الحط كالجلسة والركبة وهي خبر مبتدأ محذوف أي مسألتنا حطة أو أمرك حطة والأصل النصب بمعنى حط عنا ذنوبنا حطة وإنما رفعت لتعطي معنى الثبات كقوله
صبر جميل فكلانا مبتلي
والأصل صبراً على تقدير اصبر صبراً وقرأ ابن أبي عبلة بالنصب ورابعها قول أبي مسلم الأصفهاني معناه أمرنا حطة أي أن نحط في هذه القرية ونستقر فيها وزيف القاضي ذلك بأن قال لو كان

المراد ذلك لم يكن غفران خطاياهم متعلقاً به ولكن قوله وَقُولُواْ حِطَّة ٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ ( البقرة 58 ) يدل على أن غفران الخطايا كان لأجل قولهم حطة ويمكن الجواب عنه بأنهم لما حطوا في تلك القرية حتى يدخلوا سجداً مع التواضع كان الغفران متعلقاً به وخامسها قول القفال معناه اللهم حط عنا ذنوبنا فإنا إنما انحططنا لوجهك وإرادة التذلل لك فحط عنا ذنوبنا فإن قال قائل هل كان التكليف وارداً بذكر هذه اللفظة بعينها أم لا قلنا روي عن ابن عباس أنهم أمروا بهذه اللفظة بعينها وهذا محتمل ولكن الأقرب خلافه لوجهين أحدهما أن هذه اللفظة عربية وهم ما كانوا يتكلمون بالعربية وثانيهما وهو الأقرب أنهم أمروا بأن يقولوا قولاً دالاً على لتوبة والندم والخضوع حتى أنهم لو قالوا مكان قولهم حِطَّة ٌ اللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك لكان المقصود حاصلاً لأن المقصود من التوبة إما القلب وإما اللسان أما القلب فالندم وأما اللسان فذكر لفظ يدل على حصول الندم في القلب وذلك لا يتوقف على ذكر لفظة بعينها
أما قوله تعالى نَّغْفِرْ لَكُمْ فالكلام في المغفرة قد تقدم ثم ههنا بحثان
الأول أن قوله نَّغْفِرْ لَكُمْ ذكره الله تعالى في معرض الامتنان ولو كان قبول التوبة واجباً عقلاً على ما تقوله المعتزلة لما كان الأمر كذلك بل كان أداء للواجب وأداء الواجب لا يجوز ذكره في معرض الامتنان
الثاني ههنا قراءات أحدها قرأ أبو عمرو وابن المنادي بالنون وكسر الفاء وثانيها قرأ نافع بالياء وفتحها وثالثها قرأ الباقون من أهل المدينة وجبلة عن المفضل بالتاء وضمها وفتح الفاء ورابعها قرأ الحسن وقتادة وأبو حيوة والجحدري بالياء وضمها وفتح الفاء قال القفال والمعنى في هذه القراءات كلها واحد لأن الخطيئة إذا غفرها الله تعالى فقد غفرت وإذا غفرت فإنما يغفرها الله والفعل إذا تقدم الاسم المؤنث وحال بينه وبين الفاعل حائل جاز التذكير والتأنيث كقوله وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَة ُ ( هود 67 ) والمراد من الخطيئة الجنس لا الخطيئة الواحدة بالعدد أما قوله تعالى خَطَايَاكُمْ ففيه قراءات أحدها قرأ الجحدري ( خطيئتكم ) بمدة وهمزة وتاء مرفوعة بعد الهمزة على واحدة وثانيها الأعمش ( خطيئاتكم ) بمدة وهمزة وألف بعد الهمزة قبل التاء وكسر التاء وثالثها الحسن كذلك إلا أنه يرفع التاء ورابعها الكسائي خطاياكم بهمزة ساكنة بعد الطاء قبل الياء وخامسها ابن كثير بهمزة ساكنة بعد الياء وقبل الكاف وسادسها الكسائي بكسر الطاء والتاء والباقون بإمالة الياء فقط
أما قوله تعالى وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فإما أن يكون المراد من المحسن من كان محسناً بالطاعة في هذا التكليف أو من كان محسناً بطاعات أخرى في سائر التكاليف أما على التقدير الأول فالزيادة الموعودة يمكن أن تكون من منافع الدنيا وأن تكون من منافع الدين أما الاحتمال الأول وهو أن تكون من منافع الدنيا فالمعنى أن من كان محسناً بهذه الطاعة فإنا نزيده سعة في الدنيا ونفتح عليه قرى غير هذه القرية وأما الاحتمال الثاني وهو أن تكون من منافع الآخرة فالمعنى أن من كان محسناً بهذه الطاعة والتوبة فإنا نغفر له خطاياه ونزيده على غفران الذنوب إعطاء الثواب الجزيل كما قال لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَة ٌ ( يونس 26 ) أي نجازيهم بالإحسان إحساناً وزيادة كما جعل الثواب للحسنة الواحدة عشراً وأكثر من ذلك وأما إن كان المراد من ( المحسنين ) من كان محسناً بطاعات أخرى بعد هذه التوبة فيكون المعنى أنا نجعل دخولكم

الباب سجداً وقولكم حطة مؤثراً في غفران الذنوب ثم إذا أتيتم بعد ذلك بطاعات أخرى أعطيناكم الثواب على تلك الطاعات الزائدة وفي الآية تأويل آخر وهو أن المعنى من كان خاطئاً غفرنا له ذنبه بهذا الفعل ومن لم يكن خاطئاً بل كان محسناً زدنا في إحسانه أي كتبنا تلك الطاعة في حسناته وزدناه زيادة منا فيها فتكون المغفرة للمؤمنين والزيادة للمطيعين
أما قوله تعالى فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ ففيه قولان الأول قال أبو مسلم قوله تعالى فَبَدَّلَ يدل على أنهم لم يفعلوا ما أمروا به لا على أنهم أتوا له ببدل والدليل عليه أن تبديل القول قد يستعمل في المخالفة قال تعالى سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ مّنَ الاْعْرَابِ ( الفتح 11 ) إلى قوله يُرِيدُونَ أَن يُبَدّلُواْ كَلَامَ اللَّهِ ( الفتح 15 ) ولم يكن تبديلهم إلا الخلاف في الفعل لا في القول فكذا ههنا فيكون المعنى أنهم لما أمروا بالتواضع وسؤال المغفرة لم يمتثلوا أمر الله ولم يلتفتوا إليه الثاني وهو قول جمهور المفسرين إن المراد من التبديل أنهم أتوا ببدل له لأن التبديل مشتق من البدل فلا بد من حصول البدل وهذا كما يقال فلان بدل دينه يفيد أنه انتقل من دين إلى دين آخر ويؤكد ذلك قوله تعالى قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ ثم اختلفوا في أن ذلك القول والفعل أي شيء كان فروي عن ابن عباس أنهم دخلوا الباب الذي أمروا أن يدخلوا فيه سجداً زاحفين على أستاههم قائلين حنطة من شعيرة وعن مجاهد أنهم دخلوا على أدبارهم وقالوا حنطة استهزاء وقال ابن زيد استهزاء بموسى وقالوا ما شاء موسى أن يلعب بنا إلا لعب بنا حطة حطة أي شيء حطة
أما قوله تعالى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فإنما وصفهم الله بذلك إما لأنهم سعوا في نقصان خيراتهم في الدنيا والدين أو لأنهم أضروا بأنفسهم وذلك ظلم على ما تقدم
أما قوله تعالى فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزًا مّنَ السَّمَاء ففيه بحثان
الأول أن في تكرير الَّذِينَ ظَلَمُواْ زيادة في تقبيح أمرهم وإيذاناً بأن إنزال الرجز عليهم لظلمهم الثاني أن الرجز هو العذاب والدليل عليه قوله تعالى وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرّجْزُ أي العقوبة وكذا قوله تعالى لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرّجْزَ ( الأعراف 134 ) وذكر الزجاج أن الرجز والرجس معناهما واحد وهو العذاب
وأما قوله وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ ( الأنفال 11 ) فمعناه لطخه وما يدعوا إليه من الكفر ثم إن تلك العقوبة أي شيء كانت لا دلالة في الآية عليه فقال ابن عباس مات منهم بالفجأة أربعة وعشرون ألفاً في ساعة واحدة وقال ابن زيد بعث الله عليهم الطاعون حتى مات من الغداة إلى العشي خمس وعشرون ألفاً ولم يبق منهم أحد
أما قوله تعالى بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ فالفسق من الخروج المضر يقال فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها وفي الشرع عبارة عن الخروج من طاعة الله إلى معصيته قال أبو مسلم هذا الفسق هو الظلم المذكور في قوله تعالى عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ وفائدة التكرار التأكيد والحق أنه غير مكرر لوجهين الأول أن الظلم قد يكون من الصغائر وقد يكون من الكبائر ولذلك وصف الله الأنبياء بالظلم في قوله تعالى رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا ( الأعراف 23 ) ولأنه تعالى قال إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( لقمان 13 ) ولو لم يكن الظلم إلا عظيماً لكان ذكر العظيم تكريراً والفسق لا بد وأن يكون من

الكبائر فلما وصفهم الله بالظلم أولاً وصفهم بالفسق ثانياً ليعرف أن ظلمهم كان من الكبائر لا من الصغائر الثاني يحتمل أنهم استحقوا اسم الظالم بسبب ذلك التبديل فنزل الرجز عليهم من السماء بسبب ذلك التبديل بل للفسق الذي كانوا فعلوه قبل ذلك التبديل وعلى هذا الوجه يزول التكرار
النوع الثاني من الكلام في هذه الآية اعلم أن الله تعالى ذكر هذه الآية في سورة الأعراف وهو قوله وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَاذِهِ الْقَرْيَة َ وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُواْ حِطَّة ٌ وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ ( الأعراف 161 162 ) واعلم أن من الناس من يحتج بقوله تعالى فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ على أن ما ورد به التوقيف من الأذكار أنه غير جائز تغييرها ولا تبديلها بغيرها وربما احتج أصحاب الشافعي رضي الله عنه في أنه لا يجوز تحريم الصلاة بلفظ التعظيم والتسبيح ولا تجوز القراءة بالفارسية وأجاب أبو بكر الرازي بأنهم إنما استحقوا الذم لتبديلهم القول إلى قول آخر يضاد معناه معنى الأول فلا جرم استوجبوا الذم فأما من غير اللفظ مع بقاء المعنى فليس كذلك والجواب أن ظاهر قوله فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ يتناول كل من بدل قولاً بقول آخر سواء اتفق القولان في المعنى أو لم يتفقا وههنا سؤالات
السؤال الأول لم قال في سورة البقرة وَإِذْ قُلْنَا وقال في الأعراف وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ الجواب أن الله تعالى صرح في أول القرآن بأن قائل هذا القول هو الله تعالى إزالة للإبهام ولأنه ذكر في أول الكلام اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ( البقرة 40 ) ثم أخذ يعدد ( نعمه ) نعمة نعمة فاللائق بهذا المقام أن يقول وَإِذْ قُلْنَا أما في سورة الأعراف فلا يبقى في قوله تعالى وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ إبهام بعد تقديم التصريح به في سورة البقرة
السؤال الثاني لم قال في البقرة وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ وفي الأعراف اسْكُنُواْ الجواب الدخول مقدم على السكون ولا بد منهما فلا جرم ذكر الدخول في السورة المتقدمة والسكون في السورة المتأخرة
السؤال الثالث لم قال في البقرة فَكُلُواْ بالفاء وفي الأعراف وَكُلُواْ بالواو والجواب ههنا هو الذي ذكرناه في قوله تعالى في سورة البقرة وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا وفي الأعراف فَكُلاًّ
السؤال الرابع لم قال في البقرة نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وفي الأعراف نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ الجواب الخطايا جمع الكثرة والخطيئات جمع السلامة فهو للقلة وفي سورة البقرة لما أضاف ذلك القول إلى نفسه فقال وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَاذِهِ الْقَرْيَة َ لا جرم قرن به ما يليق جوده وكرمه وهو غفران الذنوب الكثيرة فذكر بلفظ الجمع الدال على الكثرة وفي الأعراف لما لم يضف ذلك إلى نفسه بل قال وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ لا جرم ذكر ذلك بجمع القلة فالحاصل أنه لما ذكر الفاعل ذكر ما يليق بكرمه من غفران الخطايا الكثيرة ( ة ) وفي الأعراف لما لم يسم الفاعل لم يذكر اللفظ الدال على الكثرة
السؤال الخامس لم ذكر قوله رَغَدًا في البقرة وحذفه في الأعراف الجواب عن هذا السؤال كالجواب

في الخطايا والخطيئات لأنه لما أسند الفعل إلى نفسه لا جرم ذكر معه الإنعام الأعظم وهو أن يأكلوا رغداً وفي الأعراف لما لم يسند الفعل إلى نفسه لم يذكر الإنعام الأعظم فيه
السؤال السادس لم ذكر في البقرة وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُواْ حِطَّة ٌ وفي الأعراف قدم المؤخر الجواب الواو للجمع المطلق وأيضاً فالمخاطبون بقوله ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّة ٌ يحتمل أن يقال إن بعضهم كانوا مذنبين والبعض الآخر ما كانوا مذنبين فالمذنب لا بد أن يكون اشتغاله بحط الذنوب مقدماً على الاشتغال بالعبادة لأن التوبة عن الذنب مقدمة على الاشتغال بالعبادات المستقبلة لا محالة فلا جرم كان تكليف هؤلاء أن يقولوا أولاً ( حطة ) ثم يدخلوا الباب سجداً وأما الذي لا يكون مذنباً فالأولى به أن يشتغل أولاً بالعبادة ثم يذكر التوبة ثانياً على سبيل هضم النفس وإزالة العجب في فعل تلك العبادة فهؤلاء يجب أن يدخلوا الباب سجداً أولاً ثم يقولوا حطة ثانياً فلما احتمل كون أولئك المخاطبين منقسمين إلى هذين القسمين لا جرم ذكر الله تعالى حكم كل واحد منهما في سورة أخرى
السؤال السابع لم قال وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ في البقرة مع الواو وفي الأعراف سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ من غير الواو الجواب أما في الأعراف فذكر فيه أمرين أحدهما قول الحطة وهو إشارة إلى التوبة وثانيها دخول الباب سجداً وهو إشارة إلى العبادة ثم ذكر جزأين أحدهما قوله تعالى نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وهو واقع في مقابلة قول الحطة والآخر قوله سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ وهو واقع في مقابلة دخول الباب سجداً فترك الواو يفيد توزع كل واحد من الجزأين على كل واحد من الشرطين وأما في سورة البقرة فيفيد كون مجموع المغفرة والزيادة جزاء واحداً لمجموع الفعلين أعني دخول الباب وقول الحطة
السؤال الثامن قال الله تعالى في سورة البقرة فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً وفي الأعراف فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً فما الفائدة في زيادة كلمة ( منهم ) في الأعراف الجواب سبب زيادة هذه اللفظة في سورة الأعراف أن أول القصة ههنا مبني على التخصيص بلفظ ( من ) لأنه تعالى قال وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّة ٌ يَهْدُونَ بِالْحَقّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ( الأعراف 159 ) فذكر أن منهم من يفعل ذلك ثم عدد صنوف إنعامه عليهم وأوامره لهم فلما انتهت القصة قال الله تعالى فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فذكر لفظة مِنْهُمْ في آخر القصة كما ذكرها في أول القصة ليكون آخر الكلام مطابقاً لأوله فيكون الظالمون من قوم موسى بإزاء الهادين منهم فهناك ذكر أمة عادلة وههنا ذكر أمة جابرة وكلتاهما من قوم موسى فهذا هو السبب في ذكر هذه الكلمة في سورة الأعراف وأما في سورة البقرة فإنه لم يذكر في الآيات التي قبل قوله فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ تمييزاً وتخصيصاً حتى يلزم في آخر القصة ذكر ذلك التخصيص فظهر الفرق
السؤال التاسع لم قال في البقرة فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزًا وقال في الأعراف فَأَرْسَلْنَا الجواب الإنزال يفيد حدوثه في أول الأمر والإرسال يفيد تسلطه عليهم واستئصاله لهم بالكلية وذلك إنما يحدث بالآخرة
السؤال العاشر لم قال في البقرة بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ وفي الأعراف بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ الجواب أنه تعالى لما بين في سورة البقرة كون ذلك الظلم فسقاً اكتفى بلفظ الظلم في سورة الأعراف لأجل ما تقدم من البيان في سورة البقرة والله أعلم

وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَة َ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الأرض مُفْسِدِينَ
قراءة العامة اثنتا عشرة بسكون الشين على التخفيف وقراءة أبي جعفر بكسر الشين وعن بعضهم بفتح الشين والوجه هو الأول لأنه أخف وعليه أكثر القراء واعلم أن هذا هو الإنعام التاسع من الإنعامات المعدودة على بني إسرائيل وهو جامع لنعم الدنيا والدين أما في الدنيا فلأنه تعالى أزال عنهم الحاجة الشديدة إلى الماء ولولاه لهلكوا في التيه كما لولا إنزاله المن والسلوى لهلكوا فقد قال تعالى وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ ( الأنبياء 8 ) وقال وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَى ْء حَى ّ ( الأنبياء 30 ) بل الإنعام بالماء في التيه أعظم من الإنعام بالماء المعتاد لأن الإنسان إذا اشتدت حاجته إلى الماء في المفازة وقد انسدت عليه أبواب الرجاء لكونه في مكان لا ماء فيه ولا نبات فإذا رزقه الله الماء من حجر ضرب بالعصا فانشق واستقى منه علم أن هذه النعمة لا يكاد يعدلها شيء من النعم وأما كونه من نعم الدين فلأنه من أظهر الدلائل على وجود الصانع وقدرته وعلمه ومن أصدق الدلائل على صدق موسى عليه السلام وههنا مسائل
المسألة الأولى جمهور المفسرين أجمعوا على أن هذا الاستسقاء كان في التيه لأن الله تعالى لما ظلل عليهم الغمام وأنزل عليهم المن والسلوى وجعل ثيابهم بحيث لا تبلى ولا تتسخ خافوا العطش فأعطاهم الله الماء من ذلك الحجر وأنكر أبو مسلم حمل هذه المعجزة على أيام مسيرهم إلى التيه فقال بل هو كلام مفرد بذاته ومعنى الاستسقاء طلب السقيا من المطر على عادة الناس إذا أقحطوا ويكون ما فعله الله من تفجير الحجر بالماء فوق الإجابة بالسقيا وإنزال الغيث والحق أنه ليس في الآية ما يدل على أن الحق هذا أو ذاك وإن كان الأقرب أن ذلك وقع في التيه ويدل عليه وجهان أحدهما أن المعتاد في البلاد الاستغناء عن طلب الماء إلا في النادر الثاني ما روي أنهم كانوا يحملون الحجر مع أنفسهم لأنه صار معداً لذلك فكما كان المن والسلوى ينزلان عليهم في كل غداة فكذلك الماء ينفجر لهم في كل وقت وذلك لا يليق إلا بأيامهم في التيه
المسألة الثانية اختلفوا في العصا فقال الحسن كانت عصا أخذها من بعض الأشجار وقيل كانت من آس الجنة طولها عشرة أذرع على طول موسى ولها شعبتان تتقدان في الظلمة والذي يدل عليه القرآن أن مقدارها كان مقداراً يصح أن يتوكأ عليها وأن تنقلب حية عظيمة ولا تكون كذلك إلا ولها قدر من الطول والغلظ وما زاد على ذلك فلا دلالة عليه

واعلم أن السكوت عن أمثال هذه المباحث واجب لأنه ليس فيها نص متواتر قاطع ولا يتعلق بها عمل حتى يكتفي فيها بالظن المستفاد من أخبار الآحاد فالأولى تركها
المسألة الثالثة اللام في ( الحجر ) إما للعهد والإشارة إلى حجر معلوم فروي أنه حجر طوري حمله معه وكان مربعاً له أربعة أوجه ينبع من كل وجه ثلاثة أعين لكل سبط عين تسيل في جدول إلى ذلك السبط وكانوا ستمائة ألف وسعة المعسكر اثنا عشر ميلاً وقيل اهبط مع آدم من الجنة فتوارثوه حتى وقع إلى شعيب فدفعه إليه مع العصا وقيل هو الحجر الذي وضع عليه ثوبه حين اغتسل إذ رموه بالأدرة ففر به فقال له جبريل يقول الله تعالى ارفع هذا الحجر فإن لي فيه قدرة ولك فيه معجزة فحمله في مخلاته وإما للجنس أي اضرب الشيء الذي يقال له الحجر وعن الحسن لم يأمروه أن يضرب حجراً بعينه قال وهذا أظهر في الحجة وأبين في القدرة وروي أنهم قالوا كيف بنا لو أفضينا إلى أرض ليست فيها حجارة فحمل حجراً في مخلاته فحينما نزلوا ألقاه وقيل كان يضربه بعصاه فينفجر ويضربه بها فييبس فقالوا إن فقد موسى عصاه متنا عطشاً فأوحى الله إليه لا تقرع الحجارة وكلمها تطعك واختلفوا في صفة الحجر فقيل كان من رخام وكان ذراعاً في ذراع وقيل مثل رأس الإنسان والمختار عندنا تفويض علمه إلى الله تعالى
المسألة الرابعة الفاء في قوله فَانفَجَرَتْ متعلقة بمحذوف أي فضرب فانفجرت أو فإن ضربت فقد انفجرت بقي هنا سؤالات
السؤال الأول هل يجوز أن يأمره الله تعالى بأن يضرب بعصاه الحجر فينفجر من غير ضرب حتى يستغني عن تقدير هذا المحذوف الجواب لا يمتنع في القدرة أن يأمره الله تعالى بأن يضرب بعصاه الحجر ومن قبل أن يضرب ينفجر على قدر الحاجة لأن ذلك لو قيل إنه أبلغ في قيل إنه أبلغ في الإعجاز لكان أقرب لكن الصحيح أنه ضرب فانفجرت لأنه تعالى لو أمر رسوله بشيء ثم إن الرسول لا يفعله لصار الرسول عاصياً ولأنه إذا انفجر من غير ضرب صار الأمر بالضرب بالعصا عبثاً كأنه لا معنى له ولأن المروي في الأخبار أن تقديره فضرب فانفجرت كما في قوله تعالى فَانفَلَقَ ( الشعراء 63 ) من أن المراد فضرب فانفلق
السؤال الثاني أنه تعالى ذكر ههنا فَانفَجَرَتْ وفي الأعراف فَانبَجَسَتْ ( الأعراف 16 ) وبينهما تناقض لأن الانفجار خروج الماء بكثرة والانبجاس خروجه قليلاً الجواب من ثلاثة أوجه أحدها الفجر الشق في الأصل والانفجار الانشقاق ومنه الفاجر لأنه يشق عصا المسلمين بخروجه إلى الفسق والانبجاس اسم للشق الضيق القليل فهما مختلفان اختلاف العام والخاص فلا يتناقضان وثانيها لعله انبجس أولاً ثم انفجر ثانياً وكذا العيون يظهر الماء منها قليلاً ثم يكثر لدوام خروجه وثالثها لا يمتنع أن حاجتهم كانت تشتد إلى الماء فينفجر أي يخرج الماء كثيراً ثم كانت تقل فكان الماء ينبجس أي يخرج قليلاً
السؤال الثالث كيف يعقل خروج المياه العظيمة من الحجر الصغير الجواب هذا السائل إما أن يسلم وجود الفاعل المختار أو ينكره فإن سلم فقد زال السؤال لأنه قادر على أن يخلق الجسم كيف شاء كما خلق البحار وغيرها وإن نازع فلا فائدة له في البحث عن معنى القرآن والنظر في تفسيره وهذا هو الجواب عن كل ما يستبعدونه من المعجزات التي حكاها الله تعالى في القرآن من إحياء الموتى وإبراء الأكمه

والأبرص وأيضاً فالفلاسفة لا يمكنهم القطع بفساد ذلك لأن العناصر الأربعة لها هيولى مشتركة عندهم وقالوا إنه يصح الكون والفساد عليها وإنه يصح انقلاب الهواء ماء وبالعكس وكذلك قالوا ( الهواء ) إذا وضع في الكوز الفضة جمد فإنه يجتمع على أطراف الكوز قطرات الماء فقالوا تلك القطرات إنما حصلت لأن الهواء انقلب ماء فثبت أن ذلك ممكن في الجملة والحوادث السفلية مطيعة للاتصالات الفلكية فلم يكن مستبعداً أن يحدث اتصال فلكي يقتضي وقوع هذا الأمر الغريب في هذا العالم فثبت أن الفلاسفة لا يمكنهم الجزم بفساد ذلك
أما المعتزلة فإنهم لما اعتقدوا كون العبد موجداً لأفعاله لا جرم قلنا لهم لم لا يجوز أن يقدر العبد على خلق الجسم فذكروا في ذلك طريقين ضعيفين جداً سنذكرهما إن شاء الله تعالى في تفسير آية السحر ونذكر وجه ضعفهما وسقوطهما وإذا كان كذلك فلا يمكنهم القطع بأن ذلك من فعل الله تعالى فتنسد عليهم أبواب المعجزات والنبوات أما أصحابنا فإنهم لما اعتقدوا أنه لا موجد إلا الله تعالى لا جرم جزموا أن المحدث لهذه الأفعال الخارقة للعادات هو الله تعالى فلا جرم أمكنهم الاستدلال بظهورها على يد المدعي على كونه صادقاً
السؤال الرابع أتقولون إن ذلك الماء كان مستكناً في الحجر ثم ظهر أو قلب الله الهواء ماء أو خلق الماء ابتداء والجواب أما الأول فباطل لأن الظرف الصغير لا يحوي الجسم العظيم إلا على سبيل التداخل وهو محال أما الوجهان الأخيران فكل واحد منهما محتمل فإن كان على الوجه الأول فقد أزال الله تعالى اليبوسة عن أجزاء الهواء وخلق الرطوبة فيها وإن كان على الوجه الثاني فقد خلق تلك الأجزاء وخلق الرطوبة فيها واعلم أن الكلام في هذا الباب كالكلام فيما كان من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في بعض الغزوات وقد ضاق بهم الماء فوضع يده في متوضئه ففار الماء من بين أصابعه حتى استكفوا
السؤال الخامس معجزة موسى في هذا المعنى أعظم أم معجزة محمد عليه السلام الجواب كل واحدة منهما معجزة باهرة قاهرة لكن التي لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) أقوى لأن نبوع الماء من الحجر معهود في الجملة أما نبوعه من بين الأصابع فغير معتاد ألبتة فكان ذلك أقوى
السؤال السادس ما الحكمة في جعل الماء اثنتي عشرة عيناً والجواب أنه كان في قوم موسى كثرة والكثير من الناس إذا اشتدت بهم الحاجة إلى الماء ثم وجدوه فإنه يقع بينهم تشاجر وتنازع وربما أفضى ذلك إلى الفتن العظيمة فأكمل الله تعالى هذه النعمة بأن عين لكل سبط منهم ماء معيناً لا يختلط بغيره والعادة في الرهط الواحد أن لا يقع بينهم من التنازع مثل ما يقع بين المختلفين
السؤال السابع من كم وجه يدل هذا الانفجار على الإعجاز والجواب من وجوه أحدها أن نفس ظهور الماء معجز وثانيها خروج الماء العظيم من الحجر الصغير وثالثها خروج الماء بقدر حاجتهم ورابعها خروج الماء عند ضرب الحجر بالعصا وخامسها انقطاع الماء عند الاستغناء عنه فهذه الوجوه الخمسة لا يمكن تحصيلها إلا بقدرة تامة نافذة في كل الممكنات وعلم نافذ في جميع المعلومات وحكمة عالية على الدهر والزمان وما ذاك إلا للحق سبحانه وتعالى

أما قوله تعالى قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ فنقول إنما علموا ذلك لأنه أمر كل إنسان أن لايشرب إلا من جدول معين كيلا يختلفوا عند الحاجة إلى الماء وأما إضافة المشرب إليهم فلأنه تعالى لما أباح لكل سبط من الأسباط ذلك الماء الذي ظهر من ذلك الشق الذي يليه صار ذلك كالملك لهم وجازت إضافته إليهم
أما قوله تعالى كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رّزْقِ اللَّهِ ففيه حذف والمعنى فقلنا لهم أو قال لهم موسى كلوا واشربوا وإنما قال كلوا لوجهين أحدهما لما تقدم من ذكر المن والسلوى فكأنه قال كلوا من المن والسلوى الذي رزقكم الله بلا تعب ولا نصب واشربوا من هذا الماء والثاني أن الأغذية لا تكون إلا بالماء فلما أعطاهم الماء فكأنه تعالى أعطاهم المأكول والمشروب واحتجت المعتزلة بهذه الآية على أن الرزق هو الحلال قالوا لأن أقل درجات قوله كُلُواْ وَاشْرَبُواْ الإباحة وهذا يقتضي كون الرزق مباحاً فلو وجد رزق حرام لكان ذلك الرزق مباحاً وحراماً وإنه غير جائز
أما قوله تعالى وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الاْرْضِ مُفْسِدِينَ فالعثي أشد الفساد فقيل لهم لا تتمادوا في الفساد في حالة إفسادكم لأنهم كانوا متمادين فيه والمقصود منه ما جرت العادة بين الناس من التشاجر والتنازع في الماء عند اشتداد الحاجة إليه فكأنه تعالى قال إن وقع التنازع بسبب ذلك الماء فلا تبالغوا في التنازع والله أعلم
وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِى هُوَ أَدْنَى بِالَّذِى هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّة ُ وَالْمَسْكَنَة ُ وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَالِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذالِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ
اعلم أن القراءة المعروفة يخرج لنا بضم الياء وكسر الراء تنبت بضم التاء وكسر التاء وقرأ زيد بن علي بفتح الياء وضم الراء تنبت بفتح التاء وضم الباء ثم اعلم أن أكثر الظاهريين من المفسرين زعموا أن ذلك السؤال كان معصية وعندنا أنه ليس الأمر كذلك والدليل عليه أن قوله تعالى كُلُواْ وَاشْرَبُواْ من

قبل هذه الآية عند إنزال المن والسلوى ليس بإيجاب بل هو إباحة وإذا كان كذلك لم يكن قولهم لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ معصية لأن من أبيح له ضرب من الطعام يحسن منه أن يسأل غير ذلك إما بنفسه أو على لسان الرسول فلما كان عندهم أنهم إذا سألوا موسى أن يسأل ذلك من ربه كان الدعاء أقرب إلى الإجابة جاز لهم ذلك ولم يكن فيه معصية
واعلم أن سؤال النوع الآخر من الطعام يحتمل أن يكون لأغراض الأول أنهم لما تناولوا ذلك النوع الواحد أربعين سنة ملوه فاشتهوا غيره الثاني لعلهم في أصل الخلقة ما تعودوا ذلك النوع وإنما تعودوا سائر الأنواع ورغبة الإنسان فيما اعتاده في أصل التربية وإن كان خسيساً فوق رغبته فيما لم يعتده وإن كان شريفاً الثالث لعلهم ملوا من البقاء في التيه فسألوا هذه الأطعمة التي لا توجد إلا في البلاد وغرضهم الوصول إلى البلاد لا نفس تلك الأطعمة الرابع أن المواظبة على الطعام الواحد سبب لنقصان الشهوة وضعف الهضم وقلة الرغبة والاستكثار من الأنواع يعين على تقوية الشهوة وكثرة الالتذاذ فثبت أن تبديل النوع بالنوع يصلح أن يكون مقصود العقلاء وثبت أنه ليس في القرآن ما يدل على أنهم كانوا ممنوعين عنه فثبت أن هذا القدر لا يجوز أن يكون معصية ومما يؤكد ذلك أن قوله تعالى اهْبِطُواْ مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ كالإجابة لما طلبوا ولو كانوا عاصين في ذلك السؤال لكانت الإجابة إليه معصية وهي غير جائزة على الأنبياء لا يقال إنهم لما أبوا شيئاً اختاره الله لهم أعطاهم عاجل ما سألوه كما قال وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا ( الشورى 20 ) لأنا نقول هذا خلاف الظاهر واحتجوا على أن ذلك السؤال كان معصية بوجوه الأول أن قولهم لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ واحِدٍ دلالة على أنهم كرهوا إنزال المن والسلوى وتلك الكراهة معصية الثاني أن قول موسى عليه السلام أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِى هُوَ أَدْنَى بِالَّذِى هُوَ خَيْرٌ استفهام على سبيل الإنكار وذلك يدل على كونه معصية الثالث أن موسى عليه السلام وصف ما سألوه بأنه أدنى وما كانوا عليه بأنه خير وذلك يدل على ما قلناه والجواب عن الأول أنه ليس تحت قولهم لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ واحِدٍ دلالة على أنهم ما كانوا راضين به فقط بل اشتهوا شيئاً آخر ولأن قولهم لَن نَّصْبِرَ إشارة إلى المستقبل لأن كلمة لن للنفي في المستقبل فلا يدل على أنهم سخطوا الواقع وعن الثاني أن الاستفهام على سبيل الإنكار قد يكون لما فيه من تفويت الأنفع في الدنيا وقد يكون لما فيه من تفويت الأنفع في الآخرة وعن الثالث بقريب من ذلك فإن الشيء قد يوصف بأنه خير من حيث كان الانتفاع به حاضراً متيقناً ومن حيث إنه يحصل عفواً بلا كد كما يقال ذلك في الحاضر فقد يقال في الغائب المشكوك فيه إنه أدنى من حيث لا يتيقن ومن حيث لا يوصل إليه إلا بالكد فلا يمتنع أن يكون مراده أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِى هُوَ أَدْنَى بِالَّذِى هُوَ خَيْرٌ هذا المعنى أو بعضه فثبت بما ذكرنا أن ذلك السؤال ما كان معصية بل كان سؤالاً مباحاً وإذا كان كذلك فقوله تعالى وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلَّة ُ

وَالْمَسْكَنَة ُ وَبَاءوا بِغَضَبٍ مّنَ اللَّهِ لا يجوز أن يكون لما تقدم بل لما ذكره الله تعالى بعد ذلك وهو قوله تعالى ذالِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيّينَ بِغَيْرِ الْحَقّ فبين أنه إنما ضرب الذلة والمسكنة عليهم وجعلهم محل الغضب والعقاب من حيث كانوا يكفرون لا لأنهم سألوا ذلك
المسألة الثانية قوله تعالى لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ واحِدٍ ليس المراد أنه واحد في النوع بل أنه واحد في النهج وهو كما يقال إن طعام فلان على مائدته طعام واحد إذا كان لا يتغير عن نهجه
المسألة الثالثة القراءة المعروفة وَقِثَّائِهَا بكسر القاف وقرأ الأعمش وطلحة وقثائها بضم القاف والقراءة المعروفة وَفُومِهَا بالفاء وعن علقمة عن ابن مسعود وثومها وهي قراءة ابن عباس قالوا وهذا أوفق لذكر البصل واختلفوا في الفوم فعن ابن عباس أنه الحنطة وعنه أيضاً أن الفوم هو الخبز وهو أيضاً المروي عن مجاهد وعطاء وابن زيد وحكي عن بعض العرب فوموا لنا أي اخبزوا لنا وقيل هو الثوم وهو مروي أيضاً عن ابن عباس ومجاهد واختيار الكسائي واحتجوا عليه بوجوه الأول أنه في حرف عبد الله بن مسعود وثومها الثاني أن المراد لو كان هو الحنطة لما جاز أن يقال أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِى هُوَ أَدْنَى بِالَّذِى هُوَ خَيْرٌ لأن الحنطة أشرف الأطعمة الثالث أن الثوم أوفق للعدس والبصل من الحنطة
المسألة الرابعة القراءة المعروفة أَتَسْتَبْدِلُونَ وفي حرف أبي بن كعب ( أتبدلون ) بإسكان الباء وعن زهير الفرقبي ( أدنأ ) بالهمزة من الدناءة واختلفوا في المراد بالأدنى وضبط القول فيه أن المراد إما أن يكون أدنى في المصلحة في الدين أو في المنفعة في الدنيا والأول غير مراد لأن الذي كانوا عليه لو كان أنفع في باب الدين من الذي طلبوه لما جاز أن يجيبهم إليه لكنه قد أجابهم إليه بقوله اهْبِطُواْ مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ فبقي أن يكون المراد منه المنفعة في الدنيا ثم لا يجوز أن يكون المراد أن هذا النوع الذي أنتم عليه أفضل من الذي تطلبونه لما بينا أن الطعام الذي يكون ألذ الأطعمة عند قوم قد يكون أخسها عند آخرين بل المراد ما بينا أن المن والسلوى متيقن الحصول وما يطلبونه مشكوك الحصول والمتيقين خير من المشكوك أو لأن هذا يحصل من غير كد ولا تعب وذلك لا يحصل إلا مع الكد والتعب فيكون الأول أولى فإن قيل كان لهم أن يقولوا هذا الذي يحصل عفواً صفواً لما كرهناه بطباعنا كان تناوله أشق من الذي لا يحصل إلا مع الكد إذا اشتهته طباعنا قلنا هب أنه وقع التعارض من هذه الجهة لكنه وقع الترجيح بما أن الحاضر المتيقن راجع على الغائب المشكوك
المسألة الخامسة القراءة المعروفة اهْبِطُواْ بكسر الباء وقرىء بضم الباء القراءة المشهورة مِصْرًا بالتنوين وإنما صرفه مع اجتماع السببين فيه وهما التعريف والتأنيث لسكون وسطه كقوله وَنُوحاً هَدَيْنَا وَلُوطاً ( الأنعام 84 86 ) وفيهما العجمة والتعريف وإن أريد به البلد فما فيه إلا سبب واحد وفي مصحف عبد الله وقرأ به الأعمش اهْبِطُواْ مِصْرًا بغير تنوين كقوله أَدْخِلُواْ مِصْرًا واختلف المفسرون في قوله اهْبِطُواْ مِصْرًا روي عن ابن مسعود وأبي بن كعب ترك التنوين وقال الحسن الألف في مصراً زيادة من الكاتب فحينئذ تكون معرفة فيجب أن تحمل على ما هو المختص بهذا الاسم وهو البلد الذي كان فيه فرعون وهو مروي عن أبي العالية والربيع وأما الذين قرؤوا بالتنوين وهي القراءة المشهورة فقد اختلفوا فمنهم من قال المراد البلد الذي كان فيه فرعون ودخول التنوين فيه كدخوله في نوح ولوط وقال آخرون المراد الأمر بدخول أي بلد كان كأنه قيل لهم ادخلوا بلداً أي بلد كان لتجدوا فيه هذه الأشياء وبالجملة فالمفسرون قد اختلفوا في أن المراد من مصر هو البلد الذي كانوا فيه أولاً أو بلد آخر

فقال كثير من المفسرين لا يجوز أن يكون هو البلد الذي كانوا فيه مع فرعون واحتجوا عليه بقوله تعالى ادْخُلُوا الاْرْضَ المُقَدَّسَة َ الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ ( المائدة 21 ) والاستدلال بهذه الآية من ثلاثة أوجه الأول أن قوله تعالى ادْخُلُوا الاْرْضَ المُقَدَّسَة َ إيجاب لدخول تلك الأرض وذلك يقتضي المنع من دخول أرض أخرى والثاني أن قوله كِتَابِ اللَّهِ يقتضي دوام كونهم فيه والثالث أن قوله وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ صريح في المنع من الرجوع عن بيت المقدس الرابع أنه تعالى بعد أن أمر بدخول الأرض المقدسة قال فَإِنَّهَا مُحَرَّمَة ٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَة ً يَتِيهُونَ فِى الاْرْضِ فإذا تقدم هذا الأمر ثم بين تعالى أنهم ممنوعون من دخولها هذه المدة فعند زوال العذر وجب أن يلزمهم دخولها وإذا كان كذلك لم يجز أن يكون المراد من مصر سواها فإن قيل هذه الوجوه ضعيفة أما الأول فلأن قوله ادْخُلُوا الاْرْضَ المُقَدَّسَة َ أمر والأمر للندب فلعلهم ندبوا إلى دخول الأرض المقدسة مع أنهم ما منعوا من دخول مصر أما الثاني فهو كقوله كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ فذلك يدل على دوام تلك الندبية وأما الثالث وهو قوله تعالى وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فلا نسلم أن معناه ولا ترجعوا إلى مصر بل فيه وجهان آخران الأول المراد لا تعصوا فيما أمرتم به إذ العرب تقول لمن عصى فيما يؤمر به ارتد على عقبه والمراد من هذا العصيان أن ينكر أن يكون دخول الأرض المقدسة أولى الثاني أن يخصص ذلك النهي بوقت معين فقط قلنا ثبت في أصول الفقه أن ظاهر الأمر للوجوب فيتم دليلنا بناء على هذا الأصل وأيضاً فهب أنه للندب ولكن الإذن في تركه يكون إذناً في ترك المندوب وذلك لا يليق بالأنبياء قوله لا نسلم أن المراد من قوله وَلاَ تَرْتَدُّوا لا ترجعوا قلنا الدليل عليه أنه لما أمر بدخول الأرض المقدسة ثم قال بعده وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ تبادر إلى الفهم أن هذا النهي يرجع إلى ما تعلق به ذلك الأمر قوله أن يخصص ذلك النهي بوقت معين قلنا التخصيص خلاف الظاهر أما أبو مسلم الأصفهاني فإنه جوز أن يكون المراد مصر فرعون واحتج عليه بوجهين الأول أنا إن قرأنا اهْبِطُواْ مِصْرًا بغير تنوين كان لا محالة علماً لبلد معين وليس في العالم بلدة ملقبة بهذا اللقب سوى هذه البلدة المعينة فوجب حمل اللفظ عليه ولأن اللفظ إذا دار بين كونه علماً وبين كونه صفة فحمله على العلم أولى من حمله على الصفة مثل ظالم وحادث فإنهما لما جاءا علمين كان حملهما على العلمية أولى أما إن قرأناه بالتنوين فإما أن نجعله مع ذلك اسم علم ونقول إنه إنما دخل فيه التنوين لسكون وسطه كما في نوح ولوط فيكون التقرير أيضاً ما تقدم بعينه وأما إن جعلناه اسم جنس فقوله تعالى اهْبِطُواْ مِصْرًا يقتضي التخيير كما إذ قال أعتق رقبة فإنه يقتضي التخيير بين جميع رقاب الدنيا الوجه الثاني أن الله تعالى ورث بني إسرائيل أرض مصر وإذا كانت موروثة لهم امتنع أن يحرم عليهم دخولها بيان أنها موروثة لهم قوله تعالى فَأَخْرَجْنَاهُمْ مّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ إلى قوله كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِى إِسْراءيلَ ( الشعراء 57 59 ) ولما ثبت أنها موروثة لهم وجب أن لا يكونوا ممنوعين من دخولها لأن الإرث يفيد الملك والملك مطلق للتصرف فإن قيل الرجل قد يكون مالكاً للدار وإن كان ممنوعاً عن دخولها بوجه آخر كحال من أوجب على نفسه اعتكاف أيام في المسجد فإن داره وإن

كانت مملوكة له لكنه يحرم عليه دخولها فلم لا يجوز أن يقال إن الله ورثهم مصر بمعنى الولاية والتصرف فيها ثم إنه تعالى حرم عليهم دخولها من حيث أوجب عليهم أن يسكنوا الأرض المقدسة بقوله ادْخُلُوا الاْرْضَ المُقَدَّسَة َ قلنا الأصل أن الملك مطلق للتصرف والمنع من التصرف خلاف الدليل أجاب الفريق الأول عن هاتين الحجتين اللتين ذكرهما أبو مسلم فقالوا أما الوجه الأول فالجواب عنه أنا نتمسك بالقراءة المشهورة وهي التي فيها التنوين قوله هذه القراءة تقتضي التخيير قلنا نعم لكنا نخصص العموم في حق هذه البلدة المعينة بما ذكرناه من الدليل
أما الوجه الثاني فالجواب عنه أنا لا ننازع في أن الملك مطلق للتصرف ولكن قد يترك هذا الأصل لعارض كالمرهون والمستأجر فنحن تركنا هذا الأصل لما قدمناه من الدلالة
أما قوله تعالى وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلَّة ُ فالمعنى جعلت الذلة محيطة بهم حتى مشتملة عليهم فهم فيها كمن يكون في القبة المضروبة أو ألصقت بهم حتى لزمتهم ضربة لازم كما يضرب الطين على الحائط فيلزمه والأقرب في الذلة أن يكون المراد منها ما يجري مجرى الاستحقاق كقوله تعالى فيمن يحارب ويفسد ذالِكَ لَهُمْ خِزْى ٌ فِى الدُّنْيَا فأما من يقول المراد به الجزية خاصة على ما قال تعالى حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَة َ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ( التوبة 29 ) فقوله بعيد لأن الجزية ما كانت مضروبة عليهم من أول الأمر
أما قوله تعالى وَالْمَسْكَنَة ُ فالمراد به الفقر والفاقة وتشديد المحنة فهذا الجنس يجوز أن يكون كالعقوبة ومن العلماء من عد هذا من باب المعجزات لأنه عليه السلام أخبر عن ضرب الذلة والمسكنة عليهم ووقع الأمر كذلك فكان هذا إخباراً عن الغيب فيكون معجزاً
أما قوله تعالى وَبَاءوا ففيه وجوه أحدها البوء الرجوع فقوله باءو أي رجعوا وانصرفوا بذلك ولا يقال باء إلا بشر وثانيها البوء التسوية فقوله باءو أي استوى عليهم غضب الله قال الزجاج وثالثها باؤ أي استحقوا ومنه قوله تعالى الْعَالَمِينَ إِنّى أُرِيدُ أَن تَبُوء بِإِثْمِى وَإِثْمِكَ ( المائدة 29 ) أي تستحق الإثمين جميعاً وأما غضب الله فهو إرادة الانتقام
أما قوله تعالى ذالِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ فهو علة لما تقدم ذكره من ضرب الذلة والمسكنة عليهم وإلحاق الغضب بهم قالت المعتزلة لو كان الكفر حصل فيهم بخلق الله تعالى كما حصلت الذلة والمسكنة فيهم بخلقه لما كان جعل أحدهما جزاء الثاني أولى من العكس وجوابه المعارضة بالعلم والداعي وأما حقيقة الكفر فقد تقدم القول فيها
أما قوله تعالى وَيَقْتُلُونَ النَّبِيّينَ بِغَيْرِ الْحَقّ فالمعنى أنهم يستحقون ما تقدم لأجل هذه الأفعال أيضاً وفيه سؤالات
السؤال الأول أن قوله تعالى يَكْفُرُونَ دخل تحته قتل الأنبياء فلم أعاد ذكره مرة أخرى الجواب المذكور ههنا الكفر بآيات الله وذلك هو الجهل والجحد بآياته فلا يدخل تحته قتل الأنبياء
السؤال الثاني لم قال بِغَيْرِ الْحَقّ وقتل الأنبياء لا يكون إلا على هذا الوجه الجواب من وجهين الأول أن الإتيان بالباطل قد يكون حقاً لأن الآتي به اعتقده حقاً لشبهة وقعت في قلبه وقد يأتي به

مع علمه بكونه باطلاً ولا شك أن الثاني أقبح فقوله وَيَقْتُلُونَ النَّبِيّينَ بِغَيْرِ الْحَقّ أي أنهم قتلوهم من غير أن كان ذلك القتل حقاً في اعتقادهم وخيالهم بل كانوا عالمين بقبحه ومع ذلك فقد فعلوه وثانيها أن هذا التكرير لأجل التأكيد كقوله تعالى وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهَا ءاخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ ( المؤمنون 117 ) ويستحيل أن يكون لمدعي الإله الثاني برهان وثالثها أن الله تعالى لو ذمهم على مجرد القتل لقالوا أليس أن الله يقتلهم ولكنه تعالى قال القتل الصادر من الله قتل بحق ومن غير الله قتل بغير حق
وأما قوله تعالى ذالِكَ بِمَا عَصَواْ فهو تأكيد بتكرير الشيء بغير اللفظ الأول وهو بمنزلة أن يقول الرجل لعبده وقد احتمل منه ذنوباً سلفت منه فعاقبه عند آخرها هذا بما عصيتني وخالفت أمري هذا بما تجرأت علي واغتررت بحلمي هذا بكذا فيعد عليه ذنوبه بألفاظ مختلفة تبكيتاً أما قوله تعالى وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ فالمراد منه الظلم أي تجاوزوا الحق إلى الباطل واعلم أنه تعالى لما ذكر إنزال العقوبة بهم بين علة ذلك فبدأ أولاً بما فعلوه في حق الله تعالى وهو جهلهم به وجحدهم لنعمه ثم ثناه بما يتلوه في العظم وهو قتل الأنبياء ثم ثلثه بما يكون منهم من المعاصي التي تخصهم ثم ربع بما يكون منهم من المعاصي المتعدية إلى الغير مثل الاعتداء والظلم وذلك في نهاية حسن الترتيب فإن قيل قال ههنا وَيَقْتُلُونَ النَّبِيّينَ بِغَيْرِ الْحَقّ ذكر الحق بالألف واللام معرفة وقال في آل عمران إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيّينَ بِغَيْرِ حَقّ ( آل عمران 21 ) نكرة وكذلك في هذه السورة وَيَقْتُلُونَ الاْنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقّ ذالِكَ بِمَا عَصَوْاْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ لَيْسُواْ سَوَاء ( آل عمران 112 113 ) فما الفرق الجواب الحق المعلوم فيما بين المسلمين الذي يوجب القتل قال عليه السلام لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى معانٍ ثلاث ( كفر بعد إيمان وزنا بعد إحصان وقتل نفس بغير حق ) فالحق المذكور بحرف التعريف إشارة إلى هذا وأما الحق المنكر فالمراد به تأكيد العموم أي لم يكن هناك حق لا هذا الذي يعرفه المسلمون ولا غيره ألبتة
إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
اعلم أن القراءة المشهورة هَادُواْ بضم الدال وعن الضحاك ومجاهد بفتح الدال وإسكان الواو والقراءة المعروفة الصابئين والصابئون بالهمزة فيهما حيث كانا وعن نافع وشيبة والزهري والصابين بياء ساكنة من غير همز والصابون بباء مضمومة وحذف الهمزة وعن العمري يجعل الهمزة فيهما وعن أبي جعفر بياءين خالصتين فهما بدل الهمزة فأما ترك الهمزة فيحتمل وجهين أحدهما أن يكون من صبا يصبو إذا مال إلى الشيء فأحبه والآخر قلب الهمزة فنقول الصابيين والصابيون والاختيار الهمز لأنه قراءة الأكثر وإلى معنى التفسير أقرب لأن أهل العلم قالوا هو الخارج من دين إلى دين واعلم أن عادة الله إذا ذكر

وعداً أو وعيداً عقبه بما يضاده ليكون الكلام تاماً فههنا لما ذكر حكم الكفرة من أهل الكتاب وما حل بهم من العقوبة أخبر بما للمؤمنين من الأجر العظيم والثواب الكريم دالاً على أنه سبحانه وتعالى يجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته كما قال لِيَجْزِى َ الَّذِينَ أَسَاءواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِى الَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِالْحُسْنَى ( النجم 31 ) فقال إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ واختلف المفسرون في المراد منه وسبب هذا الاختلاف قوله تعالى في آخر الآية مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ فإن ذلك يقتضي أن يكون المراد من الإيمان في قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ غير المراد منه في قوله تعالى مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ ونظيره في الإشكال قوله تعالى خَبِيراً يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ ءامِنُواْ ( النساء 136 ) فلأجل هذا الإشكال ذكروا وجوهاً أحدها وهو قول ابن عباس المراد الذين آمنوا قبل مبعث محمد بعيسى عليهما السلام مع البراءة عن أباطيل اليهود والنصارى مثل قس بن ساعدة وبحيرى الراهب وحبيب النجار وزيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وسلمان الفارسي وأبي ذر الغفاري ووفد النجاشي فكأنه تعالى قال إن الذين آمنوا قبل مبعث محمد والذين كانوا على الدين الباطل الذي لليهود والذين كانوا على الدين الباطل الذي للنصارى كل من آمن منهم بعد مبعث محمد عليه السلام بالله واليوم الآخر وبمحمد فلهم أجرهم عند ربهم وثانيها أنه تعالى ذكر في أول هذه السورة طريقة المنافقين ثم طريقة اليهود فالمراد من قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ هم الذين يؤمنون باللسان دون القلب وهم المنافقون فذكر المنافقين ثم اليهود والنصارى والصابئين فكأنه تعالى قال هؤلاء المبطلون كل من أتى منهم بالإيمان الحقيقي صار من المؤمنين عند الله وهو قول سفيان الثوري وثالثها المراد من قوله إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ هم المؤمنون بمحمد عليه الصلاة والسلام في الحقيقة وهو عائد إلى الماضي ثم قوله تعالى مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ يقتضي المستقبل فالمراد الذين آمنوا في الماضي وثبتوا على ذلك واستمروا عليه في المستقبل وهو قول المتكلمين
أما قوله تعالى وَالَّذِينَ هَادُواْ فقد اختلفوا في اشتقاقه على وجوه أحدها إنما سموا به حين تابوا من عبادة العجل وقالوا إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ ( الأعراف 156 ) أي تبنا ورجعنا وهو عن ابن عباس وثانيها سموا به لأنهم نسبوا إلى يهوذا أكبر ولد يعقوب وإنما قالت العرب بالدال للتعريب فإن العرب إذا نقلوا أسماء من العجمية إلى لغتهم غيروا بعض حروفها وثالثها قال أبو عمرو بن العلاء سموا بذلك لأنهم يتهودون أي يتحركون عند قراءة التوراة وأما النصارى ففي اشتقاق هذا الاسم وجوه أحدها أن القرية التي كان ينزلها عيسى عليه السلام تسمى ناصرة فنسبوا إليها وهو قول ابن عباس وقتادة وابن جريج وثانيها لتناصر هم فيما بينهم أي لنصرة بعضهم بعضاً وثالثها لأن عيسى عليه السلام قال للحواريين من أنصاري إلى الله قال صاحب الكشاف النصارى جمع نصران يقال رجل نصران وامرأة نصرانة والياء في نصراني للمبالغة كالتي في أحمري لأنهم نصروا المسيح
أما قوله تعالى وَالصَّابِئِينَ فهو من صبأ إذا خرج من دينه إلى دين آخر وكذلك كانت العرب

يسمون النبي عليه السلام صابئاً لأنه أظهر ديناً بخلاف أديانهم وصبأت النجوم إذا أخرجت من مطلعها وصبأنا به إذا خرجنا به وللمفسرين في تفسير مذهبهم أقوال أحدها قال مجاهد والحسن هم طائفة من المجوس واليهود لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم وثانيها قال قتاد هم قوم يعبدون الملائكة ويصلون إلى الشمس كل يوم خمس صلوات وقال أيضاً الأديان خمسة منها للشيطان أربعة وواحد للرحمن الصابئون وهم يعبدون الملائكة والمجوس وهم يعبدون النار والذين أشركوا يعبدون الأوثان واليهود والنصارى وثالثها وهو الأقرب أنهم قوم يعبدون الكواكب ثم لهم قولان الأول أن خالق العالم هو الله سبحانه إلا أنه سبحانه أمربتعظيم هذه الكواكب واتخاذه قبلة للصلاة والدعاء والتعظيم والثاني أن الله سبحانه خلق الأفلاك والكواكب ثم إن الكواكب هي المدبرة لما في هذا العالم من الخير والشر والصحة والمرض والخالقة لها فيجب على البشر تعظيمها لأنها هي الآلهة المدبرة لهذا العالم ثم إنها تعبد الله سبحانه وهذا المذهب هو القول المنسوب إلى الكلدانيين الذين جاءهم إبراهيم عليه السلام راداً عليهم ومبطلاً لقولهم ثم إنه سبحانه بين في هذه الفرق الأربعة أنهم إذا آمنوا بالله فلهم الثواب في الآخرة ليعرف أن جميع أرباب الضلال إذا رجعوا عن ضلالهم وآمنوا بالدين الحق فإن الله سبحانه وتعالى يقبل إيمانهم وطاعتهم ولا يردهم عن حضرته ألبتة واعلم أنه قد دخل في الإيمان بالله الإيمان بما أوجبه أعني الإيمان برسله ودخل في الإيمان باليوم الآخر جميع أحكام الآخرة فهذان القولان قد جمعا كل ما يتصل بالأديان في حال التكليف وفي حال الآخرة من ثواب وعقاب
أما قوله تعالى عِندَ رَبّهِمْ فليس المراد العندية المكانية فإن ذلك محال في حق الله تعالى ولا الحفظ كالودائع بل المراد أن أجرهم متيقن جار مجرى الحاصل عند ربهم
وأما قوله تعالى وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ فقيل أراد زوال الخوف والحزن عنهم في الدنيا ومنهم من قال في الآخرة في حال الثواب وهذا أصح لأن قوله وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ عام في النفي وكذلك وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وهذه الصفة لا تحصل في الدنيا وخصوصاً في المكلفين لأنهم في كل وقت لا ينفكون من خوف وحزن إما في أسباب الدنيا وإما في أمور الآخرة فكأنه سبحانه وعدهم في الآخرة بالأجر ثم بين أن من صفة ذلك الأجر أن يكون خالياً عن الخوف والحزن وذلك يوجب أن يكون نعيمهم دائماً لأنهم لو جوزوا كونه منقطعاً لاعتراهم الحزن العظيم فإن قال قائل إن الله تعالى ذكر هذه الآية في سورة المائدة هكذا إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ ( المائدة 69 ) وفي سورة الحج إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَة ِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى ( الحج 17 ) فهل في اختلاف هذه الآيات بتقديم الصنوف وتأخيرها ورفع ( الصابئين ) في آية ونصبها في أخرى فائدة تقتضي ذلك والجواب لما كان المتكلم أحكم الحاكمين فلا بد لهذه التغييرات من حكم وفوائد فإن أدركنا تلك الحكم فقد فزنا بالكمال وإن عجزنا أحلنا القصور على عقولنا لا على كلام الحكيم والله أعلم

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَاكُم بِقُوَّة ٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذالِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ
اعلم أن هذا هو الإنعام العاشر وذلك لأنه تعالى إنما أخذ ميثاقهم لمصلحتهم فصار ذلك من إنعامه عليهم
أما قوله تعالى وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ ففيه بحثان
الأول اعلم أن الميثاق إنما يكون بفعل الأمور التي توجب الانقياد والطاعة والمفسرون ذكروا في تفسير الميثاق وجوهاً أحدها ما أودع الله العقول من الدلائل الدالة على وجود الصانع وحكمته والدلائل الدالة على صدق أنبيائه ورسله وهذا النوع من المواثيق أقوى المواثيق والعهود لأنها لا تحتمل الخلف والتبديل بوجه ألبتة وهو قول الأصم وثانيها ما روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أن موسى عليه السلام لما رجع من عند ربه بالألواح قال لهم إن فيها كتاب الله فقالوا لن نأخذ بقولك حتى نرى الله جهرة فيقول هذا كتابي فخذوه فأخذتهم الصاعقة فماتوا ثم أحياهم ثم قال لهم بعد ذلك خذوا كتاب الله فأبوا فرفع فوقهم الطور وقيل لهم خذوا الكتاب وإلا طرحناه عليكم فأخذوه فرفع الطور هو الميثاق وذلك لأن رفع الطور آية باهرة عجيبة تبهر العقول وترد المكذب إلى التصديق والشاك إلى اليقين فلما رأوا ذلك وعرفوا أنه من قبله تعالى علماً لموسى عليه السلام علماً مضافاً إلى سائر الآيات أقروا له بالصدق فيما جاء به وأظهروا التوبة وأعطوا العهد والميثاق أن لا يعودوا إلى ما كان منهم من عبادة العجل وأن يقوموا بالتوراة فكان هذا عهداً موثقاً جعلوه لله على أنفسهم وهذا هو اختيار أبي مسلم وثالثها أن لله ميثاقين فالأول حين أخرجهم من صلب آدم وأشهدهم على أنفسهم والثاني أنه ألزم الناس متابعة الأنبياء والمراد ههنا هو هذا العهد هذا قول ابن عباس وهو ضعيف الثاني قال القفال رحمه الله إنما قال ( ميثاقكم ) ولم يقل مواثيقكم لوجهين أحدهما أراد به الدلالة على أن كل واحد منهم قد أخذ ذلك كما قال ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ( غافر 67 ) أي كل واحد منكم والثاني أنه كان شيئاً واحداً أخذ من كل واحد منهم كما أخذ على غيره فلا جرم كان كله ميثاقاً واحداً ولو قيل مواثيقكم لأشبه أن يكون هناك مواثيق أخذت عليهم لا ميثاق واحد والله أعلم
وأما قوله تعالى وَرَفَعْنَا بِجَانِبِ الطُّورِ فنظيره قوله تعالى وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّة ٌ ( الأعراف 171 ) وفيه أبحاث
البحث الأول الواو في قوله تعالى وَرَفَعْنَا واو عطف على تفسير ابن عباس والمعنى أن أخذ

الميثاق كان متقدماً فلما نقضوه بالامتناع عن قبول الكتاب رفع عليهم الجبل وأما على تفسير أبي مسلم فليست واو عطف ولكنها واو الحال كما يقال فعلت ذلك والزمان زمان فكأنه قال وإذ أخذنا ميثاقكم عند رفعنا الطور فوقكم الثاني قيل إن الطور كل جبل قال العجاج داني جناحيه من الطور فمر
تقضي البازي إذا البازي كسر
أما الخليل فقال في كتابه إن الطور اسم جبل معلوم وهذا هو الأقرب لأن لام التعريف فيه تقتضي حمله على جبل معهود عرف كونه مسمى بهذا الاسم والمعهود هو الجبل الذي وقعت المناجاة عليه وقد يجوز أن ينقله الله تعالى إلى حيث هم فيجعله فوقهم وإن كان بعيداً منهم لأن القادر أن يسكن الجبل في الهواء قادر أيضاً على أن يقلعه وينقله إليهم من المكان البعيد وقال ابن عباس أمر تعالى جبلاً من جبال فلسطين فانقلع من أصله حتى قام فوقهم كالظلة وكان المعسكر فرسخاً في فرسخ فأوحى الله إليهم أن اقبلوا التوراة وإلا رميت الجبل عليكم فلما رأوا أن لا مهرب قبلوا التوراة بما فيها وسجدوا للفزع سجوداً يلاحظون الجبل فلذلك سجدت اليهود على أنصاف وجوههم الثالث من الملاحدة من أنكر إمكان وقوف الثقيل في الهواء بلا عماد وأما الأرض فقالوا إنما وقفت لأنها بطبعها طالبة للمركز فلا جرم وقفت في المركز ودليلنا على فساد قولهم أنه سبحانه قادر على كل الممكنات ووقوف الثقيل في الهواء من الممكنات فوجب أن يكون الله قادراً عليه وتمام تقرير هاتين المقدمتين معلوم في كتب الأصول الرابع قال بعضهم إظلال الجبل غير جائز لأن ذلك لو وقع لكان يجري مجرى الإلجاء إلى الإيمان وهو ينافي التكليف أجاب القاضي بأنه لا يلجيء لأن أكثر ما فيه خوف السقوط عليهم فإذا استمر في مكانه مدة وقد شاهدوا السموات مرفوعة فوقهم بلا عماد جاز ههنا أن يزول عنهم الخوف فيزول الإلجاء ويبقى التكليف
أما قوله تعالى خُذُواْ مَا ءاتَيْنَاكُم بِقُوَّة ٍ أي بجد وعزيمة كاملة وعدول عن التغافل والتكاسل قال الجبائي هذا يدل على أن الاستطاعة قبل الفعل لأنه لا يجوز أن يقال خذ هذا بقوة ولا قوة حاصلة كما لا يقال اكتب بالقلم ولا قلم وأجاب أصحابنا بأن المراد خذوا ما آتيناكم بجد وعزيمة وعندنا العزيمة قد تكون متقدمة على الفعل
وأما قوله تعالى وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ أي احفظوا ما في الكتاب وادرسوه ولا تنسوه ولا تغفلوا عنه فإن قيل هلا حملتموه على نفس الذكر قلنا لأن الذكر الذي هو ضد النسيان من فعل الله تعالى فكيف يجوز الأمر به فأما إذا حملناه على المدارسة فلا إشكال
أما قوله تعالى لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أي لكي تتقوا واحتج الجبائي بذلك على أنه تعالى أراد فعل الطاعة من الكل وجوابه ما تقدم
واعلم أن المفهوم من قوله تعالى وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا ءاتَيْنَاكُم بِقُوَّة ٍ أنهم

فعلوا ذلك وإلا لم يكن ذلك أخذاً للميثاق ولا صح قوله من بعد ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ فدل ذلك منهم على القبول والالتزام
أما قوله تعالى ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مّن بَعْدِ ذالِكَ أي ثم أعرضتم عن الميثاق والوفاء به قال القفال رحمه الله قد يعلم في الجملة أنهم بعد قبول التوراة ورفع الطور تولوا عن التوراة بأمور كثيرة فحرفوا التوراة وتركوا العمل بها وقتلوا الأنبياء وكفروا بهم وعصوا أمرهم ولعل فيها ما اختص به بعضهم دون بعض ومنها ما عمله أوائلهم ومنها ما فعله متأخروهم ولم يزالوا في التيه مع مشاهدتهم الأعاجيب ليلاً ونهاراً يخالفون موسى ويعترضون عليه ويلقونه بكل أذى ويجاهرون بالمعاصي في معسكرهم ذلك حتى لقد خسف ببعضهم وأحرقت النار بعضهم وعوقبوا بالطاعون وكل هذا مذكور في تراجم التوراة التي يقرون بها ثم فعل متأخروهم ما لا خفاء به حتى عوقبوا بتخريب بيت المقدس وكفروا بالمسيح وهموا بقتله والقرآن وإن لم يكن فيه بيان ما تولوا به عن التوراة فالجملة معروفة وذلك إخبار من الله تعالى عن عناد أسلافهم فغير عجيب إنكارهم ما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام من الكتاب وجحودهم لحقه وحالهم في كتابهم ونبيهم ما ذكر والله أعلم
أما قوله تعالى فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مّنَ الْخَاسِرِينَ ففيه بحثان
الأول ذكر القفال في تفسيره وجهين الأول لولا ما تفضل الله به عليكم من إمهالكم وتأخير العذاب عنكم لكنتم من الخاسرين أي من الهالكين الذين باعوا أنفسهم بنار جهنم فدل هذا القول على أنهم إنما خرجوا عن هذا الخسران لأن الله تعالى تفضل عليهم بالإمهال حتى تابوا الثاني أن يكون الخبر قد انتهى عند قوله تعالى ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مّن بَعْدِ ذالِكَ ثم قيل فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ رجوعاً بالكلام إلى أوله أي لولا لطف الله بكم برفع الجبل فوقكم لدمتم على ردكم الكتاب ولكنه تفضل عليكم ورحمكم فلطف بكم بذلك حتى تبتم
البحث الثاني أن لقائل أن يقول كلمة لَوْلاَ تفيد انتفاء الشيء لثبوت غيره فهذا يقتضي أن انتفاء الخسران من لوازم حصول فضل الله تعالى فحيث حصل الخسران وجب أن لا يحصل هناك لطف الله تعالى وهذا يقتضي أن الله تعالى لم يفعل بالكافر شيئاً من الألطاف الدينية وذلك خلاف قول المعتزلة أجاب الكعبي بأنه تعالى سوى بين الكل في الفضل لكن انتفع بعضهم دون بعض فصح أن يقال ذلك كما يقول القائل لرجل وقد سوى بين أولاده في العطية فانتفع بعضهم لولا أن أباك فضلك لكنت فقيراً وهذا الجواب ضعيف لأن أهل اللغة نصوا على أن ( لولا ) تفيد اتنفاء الشيء لثبوت غيره وبعد ثبوت هذه المقدمة فكلام الكعبي ساقط جداً
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِى السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَة ً خَاسِئِينَ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَة ً لِّلْمُتَّقِينَ

اعلم أنه تعالى لما عدد وجوه إنعامه عليهم أولاً ختم ذلك بشرح بعض ما وجه إليهم من التشديدات وهذا هو النوع الأول وفيه مسائل
المسألة الأولى روي عن ابن عباس أن هؤلاء القوم كانوا في زمان داود عليه السلام بأيلة على ساحل البحر بين المدينة والشام وهو مكان من البحر يجتمع إليه الحيتان من كل أرض في شهر من السنة حتى لا يرى الماء لكثرتها وفي غير ذلك الشهر في كل سبت خاصة وهي القرية المذكورة في قوله وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَة ِ الَّتِى كَانَتْ حَاضِرَة َ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِى السَّبْتِ ( الأعراف 163 ) فحفروا حياضاً عند البحر وشرعوا إليها الجداول فكانت الحيتان تدخلها فيصطادونها يوم الأحد فذلك الحبس في الحياض هو اعتداؤهم ثم إنهم أخذوا السمك واستغنوا بذلك وهم خائفون من العقوبة فلما طال العهد استسن الأبناء بسنة الآباء واتخذوا الأموال فمشى إليهم طوائف من أهل المدينة الذين كرهوا الصيد يوم السبت ونهوهم فلم ينتهوا وقالوا نحن في هذا العمل منذ زمان فما زادنا الله به إلا خيراً فقيل لهم لا تغتروا فربما نزل بكم العذاب والهلاك فأصبح القوم وهم قردة خاسئون فمكثوا كذلك ثلاثة أيام ثم هلكوا
المسألة الثانية المقصود من ذكر هذه القصة أمران الأول إظهار معجزة محمد عليه السلام فإن قوله وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ كالخطاب لليهود الذين كانوا في زمان محمد عليه السلام فلما أخبرهم محمد عليه السلام عن هذه الواقعة مع أنه كان أمياً لم يقرأ ولم يكتب ولم يخالط القوم دل ذلك على أنه عليه السلام إنما عرفه من الوحي الثاني أنه تعالى لما أخبرهم بما عامل به أصحاب السبت فكأنه يقول لهم أما تخافون أن ينزل عليكم بسبب تمردكم ما نزل عليهم من العذاب فلا تغتروا بالإمهال الممدود لكم ونظيره قوله تعالى قَلِيلاً يَأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ءامِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدّقاً لّمَا مَعَكُمْ مّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا ( النساء 47 )
المسألة الثالثة الكلام فيه حذف كأنه قال ولقد علمتم اعتداء من اعتدى منكم في السبت لكي يكون المذكور من العقوبة جزاء لذلك ولفظ الاعتداء يدل على أن الذي فعلوه في السبت كان محرماً عليهم وتفصيل ذلك غير مذكور في هذه الآية لكنه مذكور في قوله وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَة ِ الَّتِى كَانَتْ حَاضِرَة َ الْبَحْرِ ثم يحتمل أن يقال إنهم إنما تعدوا في ذلك الاصطياد فقط وأن يقال إنما تعدوا لأنهم اصطادوا مع أنهم استحلوا ذلك الاصطياد
المسألة الرابعة قال صاحب الكشاف السبت مصدر سبتت اليهود إذا عظمت يوم السبت فإن قيل لما كان الله نهاهم عن الإصطيات يوم السبت فما الحكمة في أن أكثر الحيتان يوم السبت دون سائر الأيام كما قال تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذالِكَ نَبْلُوهُم ( الأعراف 163 ) وهل هذا إلا إثارة الفتنة وإرادة الاضلال قلنا أما على مذهب أهل السنة فإرادة الإضلال جائزة من الله تعالى وأما على مذهب المعتزلة فالتشديد في التكاليف حسن لغرض ازدياد الثواب
أما قوله تعالى فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَة ً خَاسِئِينَ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب الكشاف ( قردة خاسئين ) خبر أي كونوا جامعين بين القردية والخسوء وهو الصغار والطرد

المسألة الثانية قوله تعالى كُونُواْ قِرَدَة ً خَاسِئِينَ ليس بأمر لأنهم ما كانوا قادرين على أن يقلبوا أنفسهم على صورة القردة بل المراد منه سرعة التكوين كقوله تعالى إِنَّمَا أَمْرُنَا لِشَى ْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( النحل 4 ) وكقوله تعالى قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ( فصلت 11 ) والمعنى أنه تعالى لم يعجزه ما أراد إنزاله من العقوبة بهؤلاء بل لما قال لهم كُونُواْ قِرَدَة ً خَاسِئِينَ كذلك أي لما أراد ذلك بهم صاروا كما أراد وهو كقوله نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً ( النساء 47 ) ولا يمتنع أيضاً أن يتكلم الله بذلك عند هذا التكوين إلا أن المؤثر في هذا التكوين هو القدرة والإرادة فإن قيل لما لم يكن لهذا القول أثر في التكوين فأي فائدة فيه قلنا أما عندنا فأحكام الله تعالى وأفعاله لا تتوقف على رعاية المصالح ألبتة وأما عند المعتزلة فلعل هذا القول يكون لفظاً لبعض الملائكة أو لغيرهم
المسألة الثالثة المروي عن مجاهد أنه سبحانه وتعالى مسخ قلوبهم بمعنى الطبع والختم لا أنه مسخ صورهم وهو مثل قوله تعالى كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً ( الجمعة 5 ) ونظيره أن يقول الأستاذ للمتعلم البليد الذي لا ينجح في تعليمه كن حماراً واحتج على امتناعه بأمرين الأول أن الإنسان هو هذا الهيكل المشاهد والبنية المحسوسة فإذا أبطلها وخلق في تلك الأجسام تركيب القرد وشكله كان ذلك إعداماً للإنسان وإيجاداً للقرد فيرجع حاصل المسخ على هذا القول إلى أنه تعالى أعدم الأعراض التي باعتبارها كانت تلك الأجسام إنساناً وخلق فيها الأعراض التي باعتبارها كانت قرداً فهذا يكون إعداماً وإيجاداً لا أنه يكون مسخاً والثاني إن جوزنا ذلك لما آمنا في كل ما نراه قرداً وكلباً أنه كان إنساناً عاقلاً وذلك يفضي إلى الشك في المشاهدات وأجيب عن الأول بأن الإنسان ليس هو تمام هذا الهيكل وذلك لأن هذا الإنسان قد يصير سميناً بعد أن كان هزيلاً وبالعكس فالأجزاء متبدلة والإنسان المعين هو الذي كان موجوداً والباقي غير الزائل فالإنسان أمر وراء هذا الهيكل المحسوس وذلك الأمر إما أن يكون جسماً سارياً في البدن أو جزءاً في بعض جوانب البدن كقلب أو دماغ أو موجوداً مجرداً على ما يقوله الفلاسفة وعلى جميع التقديرات فلا امتناع في بقاء ذلك الشيء مع تطرق التغير إلى هذا الهيكل وهذا هو المسخ وبهذا التقدير يجوز في المالك الذي تكون جثته في غاية العظم أن يدخل حجرة الرسول عليه السلام وعن الثاني أن الأمان يحصل بإجماع الأمة ولما ثبت بما قررنا جواز المسخ أمكن إجراء الآية على ظاهرها ولم يكن بنا حاجة إلى التأويل الذي ذكره مجاهد رحمه الله وإن كان ما ذكره غير مستبعد جداً لأن الإنسان إذا أصر على جهالته بعد ظهور الآيات وجلاء البينات فقد يقال في العرف الظاهر إنه حمار وقرد وإذا كان هذا المجاز من المجازات الظاهرة المشهورة لم يكن في المصير إليه محذور ألبتة بقي ههنا سؤالان
السؤال الأول أنه بعد أن يصير قرداً لا يبقى له فهم ولا عقل ولا علم فلا يعلم ما نزل به من العذاب ومجرد القردية غير مؤلم بدليل أن القرود حال سلامتها غير متألمة فمن أين يحصل العذاب بسببه الجواب لم لا يجوز أن يقال أن الأمر الذي به يكون الإنسان إنساناً عاقلاً فاهماً كان باقياً إلا أنه لما تغيرت الخلقة والصورة لا جرم أنها ما كانت تقدر على النطق والأفعال الإنسانية إلا أنها كانت تعرف ما نالها من تغير الخلقة بسبب شؤم المعصية وكانت في نهاية الخوف والخجالة فربما كانت متألمة بسبب تغير تلك الأعضاء ولا يلزم من عدم تألم القرود الأصلية بتلك الصورة عدم تألم الإنسان بتلك الصورة الغريبة العرضية

السؤال الثاني أولئك القردة بقوا أو أفناهم الله وإن قلنا إنهم بقوا فهذه القردة التي في زماننا هل يجوز أن يقال إنها من نسل أولئك الممسوخين أم لا الجواب الكل جائز عقلاً إلا أن الرواية عن ابن عباس أنهم ما مكثوا إلا ثلاثة أيام ثم هلكوا
المسألة الرابعة قال أهل اللغة الخاسىء الصاغر المبعد المطرود كالكلب إذا دنا من الناس قيل له اخسأ أي تباعد وانطرد صاغراً فليس هذا الموضع من مواضعك قال الله تعالى يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ ( الملك 4 ) يحتمل صاغراً ذليلاً ممنوعاً عن معاودة النظر لأنه تعالى قال فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ثُمَّ اْرجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ فكأنه قال ردد البصر في السماء ترديد من يطلب فطوراً فإنك وإن أكثرت من ذلك لم تجد فطوراً فيرتد إليك طرفك ذليلاً كما يرتد الخائب بعد طول سعيه في طلب شيء ولا يظفر به فإنه يرجع خائباً صاغراً مطروداً من حيث كان يقصده من أن يعاوده
أما قوله فَجَعَلْنَاهَا فقد اختلفوا في أن هذا الضمير إلى أي شيء يعود على وجوه أحدها قال الفراء ( جعلناها ) يعني المسخة التي مسخوها وثانيها قال الأخفش أي جعلنا القردة نكالاً وثالثها جعلنا قرية أصحاب السبت نكالاً رابعها جعلنا هذه الأمة نكالاً لأن قوله تعالى وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِى السَّبْتِ يدل على الأمة والجماعة أو نحوها والأقرب هو الوجهان الأولان لأنه إذا أمكن رد الكناية إلى مذكور متقدم فلا وجه لردها إلى غيره فليس في الآية المتقدمة إلا ذكرهم وذكر عقوبتهم أما النكال فقال القفال رحمه الله إنه العقوبة الغليظة الرادعة للناس عن الإقدام على مثل تلك المعصية وأصله من المنع والحبس ومنه النكول عن اليمين وهو الامتناع منها ويقال للقيد النكل وللجام الثقيل أيضاً نكل لما فيهما من المنع والحبس ونظيره قوله تعالى إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيماً ( المزمل 12 ) وقال الله تعالى وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً ( النساء 84 ) والمعنى أنا جعلنا ما جرى على هؤلاء القوم عقوبة رادعة لغيرهم أي لم نقصد بذلك ما يقصده الآدميون من التشفي لأن ذلك إنما يكون ممن تضره المعاصي وتنقص من ملكه وتؤثر فيه وأما نحن فإنما نعاقب لمصالح العباد فعقابنا زجر وموعظة قال القاضي اليسير من الذم لا يوصف بأنه نكال حتى إذ عظم وكثر واشتهر يوصف به وعلى هذا الوجه أوجب الله تعالى في السارق المصر القطع جزاء ونكالاً وأراد به أن يفعل على وجه الإهانة والاستخفاف فهو بمنزلة الخزي الذي لا يكاد يستعمل إلا في الذم العظيم فكأنه تعالى لما بين ما أنزله بهؤلاء القوم الذين اعتدوا في السبت واستحلوا من اصطياد الحيتان وغيره ما حرمه عليهم ابتغاء الدنيا ونقضوا ما كان منهم من المواثيق فبين أنه تعالى أنزل بهم عقوبة لا على وجه المصلحة لأنه كان لا يمتنع أن يقلل مقدار مسخهم ويغير صورهم بمنزلة ما ينزل بالمكلف من الأمراض المغيرة للصورة ويكون محنة لا عقوبة فبين تعالى بقوله فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً أنه تعالى فعلها عقوبة على ما كان منهم
أما قوله تعالى لّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا ففيه وجوه أحدها لما قبلها وما معها وما بعدها من الأمم والقرون لأن مسخهم ذكر في كتب الأولين فاعتبروا بها واعتبر بها من بلغ إليه خبر هذه الواقعة من الآخرين وثانيها أريد بما بين يديها ما يحضرها من القرون والأمم وثالثها المراد أنه تعالى جعلها عقوبة لجميع ما

ارتكبوه من هذا الفعل وما بعده وهو قول الحسن
أما قوله تعالى وَمَوْعِظَة ً لّلْمُتَّقِينَ ففيه وجهان أحدهما أن من عرف الأمر الذي نزل بهم يتعظ به ويخاف إن فعل مثل فعلهم أن ينزل به مثل ما نزل بهم وإن لم ينزل عاجلاً فلا بد من أن يخاف من العقاب الآجل الذي هو أعظم وأدوم وأما تخصيصه المتقين بالذكر فكمثل ما بيناه في أول السورة عند قوله هُدًى لّلْمُتَّقِينَ لأنهم إذا اختصموا بالاتعاظ والانزجار والانتفاع بذلك صلح أن يخصوا به لأنه ليس بمنفعة لغيرهم الثاني أن يكون معنى قوله وَمَوْعِظَة ً لّلْمُتَّقِينَ أن يعظ المتقون بعضهم بعضاً أي جعلناها نكالاً وليعظ به بعض المتقين بعضاً فتكون الموعظة مضافة إلى المتقين على معنى أنهم يتعظون بها وهذا خاص لهم دون غير المتقين والله أعلم
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَة ً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنَ لَّنَا مَا هِى َ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَة ٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذالِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَة ٌ صَفْرَآءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِى َ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَآءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَة ٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرض وَلاَ تَسْقِى الْحَرْثَ مُسَلَّمَة ٌ لاَّ شِيَة َ فِيهَا قَالُواْ اأانَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَالِكَ يُحْى ِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
اعلم أن هذا هو النوع الثاني من التشديدات روي عن ابن عباس وسائر المفسرين أن رجلاً من بني

إسرائيل قتل قريباً لكي يرثه ثم رماه في مجمع الطريق ثم شكا ذلك إلى موسى عليه السلام فاجتهد موسى في تعرف القاتل فلما لم يظهر قالوا له سل لنا ربك حتى يبينه فسأله فأوحى الله إليه إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَة ً فتعجبوا من ذلك ثم شددوا على أنفسهم بالاستفهام حالاً بعد حال واستقصوا في طلب الوصف فلما تعينت لم يجدوها بذلك النعت إلا عند إنسان معين ولم يبعها إلا بأضعاف ثمنها فاشتروها وذبحوها وأمرهم موسى أن يأخذوا عضواً منها فيضربوا به القتيل ففعلوا فصار المقتول حياً وسمي لهم قاتله وهو الذي ابتدأ بالشكاية فقتلوه قوداً ثم ههنا مسائل
المسألة الأولى أن الإيلام والذبح حسن وإلا لما أمر الله به ثم عندنا وجه الحسن فيه أنه تعالى مالك الملك فلا اعتراض لأحد عليه وعند المعتزلة إنما يحسن لأجل الأعواض
المسألة الثانية أنه تعالى أمر بذبح بقرة من بقر الدنيا وهذا هو الواجب المخير فدل ذلك على صحة قولنا بالواجب المخير
المسألة الثالثة الاقئلون بالعموم اتفقوا على أن قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَة ً معناه اذبحوا أي بقرة شئتم فهذه الصيغة تفيد هذا العموم وقال منكروا العموم إن هذا لا يدل على العموم واحتجوا عليه بوجوه الأول أن المفهوم من قول القائل اذبح بقرة يمكن تقسيمه إلى قسمين فإنه يصح أن يقال اذبح بقرة معينة من شأنها كيت وكيت ويصح أيضاً أن يقال اذبح بقرة أي بقرة شئت فأذن المفهوم من قولك ( اذبح ) معنى مشترك بين هذين القسمين والمشترك بين القسمين لا يستلزم واحداً منهما فأذن قوله اذبحوا بقرة لا يستلزم معناه معنى قوله اذبحوا بقرة أي بقرة شئتم فثبت أنه لا يفيد العموم لأنه لو أفاد العموم لكان قوله اذبحوا بقرة أي بقرة شئتم تكريراً ولكان قوله اذبحوا بقرة معينة نقضاً ولما لم يكن كذلك علمنا فساد هذا القول الثاني أن قوله تعالى إِنَّهَا بَقَرَة ٌ كالنقيض لقولنا لا تذبحوا بقرة وقولنا لا تذبحوا بقرة يفيد النفي العام فوجب أن يكون قولنا اذبحوا بقرة يرفع عموم النفي ويكفي في ارتفاع عموم النفي خصوص الثبوت على وجه واحد فأذن قوله اذبحوا بقرة يفيد الأمر بذبح بقرة واحدة فقط أما الإطلاق في ذبح أي بقرة شاءوا فذلك لا حاجة إليه في ارتفاع ذلك النفي فوجب أن لا يكون مستفاداً من اللفظ الثالث أن قوله تعالى بَقَرَة ٌ لفظة مفردة منكرة والمفرد المنكر إنما يفيد فرداً معيناً في نفسه غير معين بحسب القول الدال عليه ولا يجوز أن يفيد فرداً أي فرد كان بدليل أنه إذا قال رأيت رجلاً فإنه لا يفيد إلا ما ذكرناه فإذا ثبت أنه في الخبر كذلك وجب أن يكون في الأمر كذلك واحتج القائلون بالعموم بأنه لو ذبح أي بقرة كانت فإنه يخرج عن العهدة فوجب أن يفيد العموم والجواب أن هذا مصادرة على المطلوب الأول فإن هذا إنما يثبت لو ثبت أن قوله اذبح بقرة معناه اذبح أي بقرة شئت وهذا هو عين المتنازع فيه فهذا هو الكلام في هذه المسألة إذا عرفت هذا فنقول اختلف الناس في أن قوله تعالى إِنَّهَا بَقَرَة ٌ هل هو أمر بذبح بقرة معينة مبينة أو هو أمر بذبح بقرة أي بقرة كانت فالذين يجوزون تأخير البيان عن وقت الخطاب قالوا إنه كان أمراً بذبح بقرة معينة ولكنها ما كانت مبينة وقال المانعون منه هو وإن كان أمراً بذبح أي بقرة

كانت إلا أن القوم لما سألوا تغير التكليف عند ذلك وذلك لأن التكليف الأول كان كافياً لو أطاعوا وكان التخيير في جنس البقر إذ ذاك هو الصلاح فلما عصوا ولم يمتثلوا ورجعوا بالمسألة لم يمتنع تغير المصلحة وذلك معلوم في المشاهد لأن المدبر لولده قد يأمره بالسهل اختياراً فإذا امتنع الولد منه فقد يرى المصلحة في أن يأمره بالصعب فكذا ههنا واحتج الفريق الأول بوجوه الأول قوله تعالى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيّنَ لَّنَا مَا هِى َ و مَا لَوْنُهَا وقول الله تعالى إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَة ٌ لاَّ فَارِضٌ إِنَّهَا بَقَرَة ٌ صَفْرَاء إِنَّهَا بَقَرَة ٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الاْرْضَ منصرف إلى ما أمروا بذبحه من قبل وهذه الكنايات تدل على أن المأمور به ما كان ذبح بقرة أي بقرة كانت بل كان المأمور به ذبح بقرة معينة الثاني أن الصفات المذكورة في الجواب عن السؤال الثاني إما أن يقال إنها صفات البقرة التي أمروا بذبحها أولاً أو صفات بقرة وجبت عليهم عند ذلك السؤال وانتسخ ما كان واجباً عليهم قبل ذلك والأول هو المطلوب والثاني يقتضي أن يقع الاكتفاء بالصفات المذكورة آخراً وأن لا يجب حصول الصفات المذكورة قبل ذلك ولما أجمع المسلمون على أن تلك الصفات بأسرها كانت معتبرة علمنا فساد هذا القسم فإن قيل أما الكنايات فلا نسلم عودها إلى البقرة فلم لا يجوز أن يقال إنها كنايات عن القصة والشأن وهذه طريقة مشهورة عند العرب قلنا هذا باطل لوجوه أحدها أن هذه الكنايات لو كانت عائدة إلى القصة والشأن لبقي ما بعد هذه الكنايات غير مفيد لأنه لا فائدة في قوله بَقَرَة ٌ صَفْرَاء بل لا بد من إضمار شيء آخر وذلك خلاف الأصل أما إذا جعلنا الكنايات عائدة إلى المأمور به أولاً لم يلزم هذا المحذور وثانيها أن الحكم برجوع الكناية إلى القصة والشأن خلاف الأصل لأن الكناية يجب عودها إلى شيء جرى ذكره والقصة والشأن لم يجر ذكرهما فلا يجوز عود الكناية إليهما لكنا خالفنا هذا الدليل للضرورة في بعض المواضع فبقي ما عداه على الأصل وثالثها أن الضمير في قوله مَا لَوْنُهَا وَمَا هِى َ لا شك أنه عائد إلى البقرة المأمور بها فوجب أن يكون الضمير في قوله إِنَّهَا بَقَرَة ٌ صَفْرَاء عائداً إلى تلك البقرة وإلا لم يكن الجواب مطابقاً للسؤال الثالث أنهم لو كانوا سائلين معاندين لم يكن في مقدار ما أمرهم به موسى ما يزيل الاحتمال لأن مقدار ما ذكره موسى أن تكون بقرة صفراء متوسطة في السن كاملة في القوة وهذا القدر موضع للاحتمالات الكثيرة فلما سكتوا ههنا واكتفوا به علمنا أنهم ما كانوا معاندين واحتج الفريق الثاني بوجوه أحدها أن قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَة ً معناه يأمركم أن تذبحوا بقرة أي بقرة كانت وذلك يقتضي العموم وذلك يقتضي أن يكون اعتبار الصفة بعد ذلك تكليفاً جديداً وثانيها لو كان المراد ذبح بقرة معينة لما استحقوا التعنيف على طلب البيان بل كانوا يستحقون المدح عليه فلما عنفهم الله تعالى في قوله فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ وفي قوله فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ علمنا تقصيرهم في الإتيان بما أمروا به أولاً وذلك إنما يكون لو كان المأمور به أولاً ذبح بقرة معينة الثالث ما روي عن ابن عباس أنه قال لو ذبحوا أية بقرة أرادوا لأجزأت منهم لكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم

ورابعها أن الوقت الذي فيه أمروا بذبح البقرة كانوا محتاجين إلى ذبحها فلو كان المأمور به ذبح بقرة معينة مع أن الله تعالى ما بينها لكان ذلك تأخيراً للبيان عن وقت الحاجة وإنه غير جائز والجواب عن الأول ما بينا في أول المسألة أن قوله إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَة ً لا يدل على أن المأمور به ذبح بقرة أي بقرة كانت وعن الثاني أن قوله تعالى وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ ليس فيه دلالة على أنهم فرطوا في أول القصة وأنهم كادوا يفرطون بعد استكمال البيان بل اللفظ محتمل لكل واحد منهما فنحمله على الأخير وهو أنهم لما وقفوا على تمام البيان توقفوا عند ذلك وما كادوا يفعلونه وعن الثالث أن هذه الرواية عن ابن عباس من باب الآحاد وبتقدير الصحة فلا تصلح أن تكون معارضة لكتاب الله تعالى وعن الرابع أن تأخير البيان عن وقت الحاجة إنما يلزم أن لو دل الأمر على الفور وذلك عندنا ممنوع
واعلم أنا إذا فرعنا على القول بأن المأمور به بقرة أي بقرة كانت فلا بد وأن نقول التكاليف مغايرة فكلفوا في الأول أي بقرة كانت وثانياً أن تكون لا فارضاً ولا بكراً بل عواناً فلما لم يفعلوا ذلك كلفوا أن تكون صفراء فلما لم يفعلوا ذلك كلفوا أن تكون مع ذلك لا ذلولاً تثير الأرض ولا تسقي الحرث ثم اختلف القائلون بهذا المذهب منهم من قال في التكليف الواقع أخيراً يجب أن يكون مستوفياً لكل صفة تقدمت حتى تكون البقرة مع الصفة الأخيرة لا فارض ولا بكر وصفراء فاقع ومنهم من يقول إنما يجب كونها بالصفة الأخيرة فقط وهذا أشبه بظاهر الكلام إذا كان تكليفاً بعد تكليف وإن كان الأول أشبه بالروايات وبطريقة التشديد عليهم عند تردد الامتثال وإذا ثبت أن البيان لا يتأخر فلا بد من كونه تكليفاً بعد تكليف وذلك يدل على أن الأسهل قدينسخ بالأشق ويدل على جواز النسخ قبل الفعل ولكنه لا يدل على جواز النسخ قبل وقت الفعل ويدل على وقوع النسخ في شرع موسى عليه السلام وله أيضاً تعلق بمسألة أن الزيادة على النسخ هل هو نسخ أم لا ويدل على حسن وقوع التكليف ثانياً لمن عصى ولم يفعل ما كلف أولاً
أما قوله تعالى قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا ففيه مسائل
المسألة الأولى قرىء هُزُواً بالضم وهزؤا بسكون الزاي نحو كفؤاً وكفء وقرأ حفص ( هزواً ) بالضمتين والواو وكذلك كفواً
المسألة الثانية قال القفال قوله تعالى قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا استفهام على معنى الانكار والهزء يجوز أن يكون في معنى المهزوء به كما يقال كان هذا في علم الله أي في معلومه والله رجاؤنا أي مرجونا ونظيره قوله تعالى الرحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً ( المؤمنون 110 ) قال صاحب ( الكشاف ) ( أتتخذنا هزؤاً ) أتجعلنا مكان هزء أو أهل هزء أو مهزوأ بنا والهزء نفسه فرط الاستهزاء
المسألة الثالثة القوم إنما قالوا ذلك لأنهم لما طلبوا من موسى عليه السلام تعيين القاتل فقال موسى اذبحوا بقرة لم يعرفوا بين هذا الجواب وذلك السؤال مناسبة فظنوا أنه عليه السلام يلاعبهم لأنه من المحتمل أن موسى عليه السلام أمرهم بذبح البقرة وما أعلمهم أنهم إذا ذبحوا البقرة ضربوا القتيل ببعضها فيصير حياً فلا جرم وقع هذا القول منهم موقع الهزء ويحتمل أنه عليه السلام وإن كان قد بين لهم كيفية الحال إلا أنهم تعجبوا من أن القتيل كيف يصير حياً بأن يضربوه ببعض أجزاء البقرة فظنوا أن ذلك يجزي مجرى الاستهزاء

المسألة الرابعة قال بعضهم إن أولئك القوم كفروا بقولهم لموسى عليه السلام أتتخذنا هزؤاً لأنهم إن قالوا ذلك وشكوا في قدرة الله تعالى على إحياء الميت فهو كفر وإن شكوا في أن الذي أمرهم به موسى عليه السلام هل هو بأمر الله تعالى فقد جوزوا الخيانة على موسى عليه السلام في الوحي وذلك أيضاً كفر ومن الناس من قال إنه لا يوجب الكفر وبيانه من وجهين الأول أن الملاعبة على الأنبياء جائزة فلعلهم ظنوا به عليه السلام أنه يلاعبهم ملاعبة حقة وذلك لايوجب الكفر الثاني أن معنى قوله تعالى أَتَتَّخِذُنَا أي ما أعجب هذا الجواب كأنك تستهزىء بنا لا أنهم حققوا على موسى الاستهزاء
أما قوله تعالى هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ففيه وجوه أحدها أن الاشتغال بالاستهزاء لا يكون إلا بسبب الجهل ومنصب النبوة لا يحتمل الإقدام على الاستهزاء فلم يستعذ موسى عليه السلام من نفس الشيء الذي نسبوه إليه لكنه استعاذ من السبب الموجب له كما قد يقول الرجل عند مثل ذلك أعوذ بالله من عدم العقل وغلبة الهوى والحاصل أنه أطلق اسم السبب على المسبب مجازاً هذا هو الوجه الأقوى وثانيها أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين بما في الاستهزاء في أمر الدين من العقاب الشديد والوعيد العظيم فإني متى علمت ذلك امتنع إقدامي على الاستهزاء وثالثها قال بعضهم إن نفس الهزء قد يسمى جهلاً وجهالة فقد روي عن بعض أهل اللغة إن الجهل ضد الحلم كما قال بعضهم إنه ضد العلم
واعلم أن هذا القول من موسى عليه السلام يدل على أن الاستهزاء من الكبائر العظام وقد سبق تمام القول فيه في قوله تعالى قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِىء بِهِمْ ( البقرة 14 15 )
واعلم أن القوم سألوا موسى عليه السلام عن أمور ثلاثة مما يتعلق بالبقرة
السؤال الأول ما حكى الله تعالى عنهم أنهم قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيّنَ لَّنَا مَا هِى َ فأجاب موسى عليه السلام بقوله إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَة ٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذالِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ واعلم أن في الآية أبحاثاً
الأول أنا إذا قلنا إن قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَة ً يدل على الأمر بذبح بقرة معينة في نفسها غير مبين التعيين حسن موقع سؤالهم لأن المأمور به لما كان مجملاً حسن الاستفسار والاستعلام أما على قول من يقول إنه في أصل اللغة للعموم فلا بد من بيان أنه ما الذي حملهم على هذا الاستفسار وفيه وجوه أحدها أن موسى عليه السلام لما أخبرهم بأنهم إذا ذبحوا البقرة وضربوا القتيل ببعضها صار حياً تعجبوا من أمر تلك البقرة وظنوا أن تلك البقرة التي يكون لها مثل هذه الخاصة لا تكون إلا بقرة معينة فلا جرم استقصوا في السؤال عن وصفها كعصا موسى المخصوصة من بين سائر العصي بتلك الخواص إلا أن القوم كانوا مخطئين في ذلك لأن هذه الآية العجيبة ما كانت خاصية البقرة بل كانت معجزة يظهرها الله تعالى على يد موسى عليه السلام وثانيها لعل القوم أرادوا بقرة أي بقرة كانت إلا أن القاتل خاف من الفضيحة فألقى الشبهة في التبيين وقال المأمور به بقرة معينة لا مطلق البقرة لما وقعت المنازعة فيه رجعوا عند ذلك إلى موسى وثالثها أن الخطاب الأول وإن أفاد العموم إلا أن القوم أرادوا الاحتياط فيه فسألوا طلباً لمزيد البيان وإزالة لسائر الاحتمالات إلا أن المصلحة تغيرت واقتضت الأمر بذبح البقرة المعينة

البحث الثاني أن سؤال ( ما هي ) طلب لتعريف الماهية والحقيقة لأن ( ما ) سؤال و ( هي ) إشارة إلى الحقيقة فما هي لا بد وأن يكون طلباً للحقيقة وتعريف الماهية والحقيقة لا يكون إلا بذكر أجزائها ومقدماتها لا بذكر صفاتها الخارجة عن ماهيتها ومعلوم أن وصف السن من الأمور الخارجة عن الماهية فوجب أن لا يكون هذا الجواب مطابقاً لهذا السؤال والجواب عنه أن الأمر وإن كان كما ذكرتم لكن قرينة الحال تدل على أنه ما كان مقصودهم من قولهم ما البقر طلب ماهيته وشرح حقيقته بل كان مقصودهم طلب الصفات التي بسببها يتميز بعض البقر عن بعض فلهذا حسن ذكر الصفات الخارجة جواباً عن هذا السؤال
البحث الثالث قال صاحب ( الكشاف ) الفارض المسنة وسميت فارضاً لأنها فرضت سنها أي قطعتها وبلغت آخرها والبكر الفتية والعوان النصف قال القاضي أما البكر فقيل إنها الصغيرة وقيل ما لم تلد وقيل إنها التي ولدت مرة واحدة قال المفضل بن سلمة ( الضبي ) إنه ذكر في الفارض أنها المسنة وفي البكر أنها الشابة وهي من النساء التي لم توطأ ومن الإبل التي وضعت بطناً واحداً قال القفال البكر يدل على الأول ومنه الباكورة لأول الثمر ومنه بكرة النهار ويقال بكرت عليهما البارحة إذا جاء في أول الليل وكأن الأظهر أنها هي التي لم تلد لأن المعروف من اسم البكر من الإناث في بني آدم ما لم ينز عليها الفحل وقال بعضهم العوان التي ولدت بطناً بعد بطن وحرب عوان إذا كانت حرباً قد قوتل فيها مرة بعد مرة وحاجة عوان إذا كانت قد قضيت مرة بعد مرة
البحث الرابع احتج العلماء بقوله تعالى عَوَانٌ بَيْنَ ذالِكَ على جواز الاجتهاد واستعمال غالب الظن في الأحكام إذ لا يعلم أنها بين الفارض والبكر إلا من طريق الاجتهاد وههنا سؤالان
الأول لفظة ( بين ) تقتضي شيئين فصاعداً فمن أين جاز دخوله على ذلك الجواب لأنه في معنى شيئين حيث وقع مشاراً به إلى ما ذكر من الفارض والبكر
السؤال الثاني كيف جاز أن يشار بلفظه ( ذلك ) إلى مؤنثين مع أنه للإشارة إلى واحد مذكر الجواب جاز ذكر ذلك على تأويل ما ذكر أو ما تقدم للاختصار في الكلام
أما قوله تعالى فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ ففيه تأويلان الأول فافعلوا ما تؤمرون به من قولك أمرتك الخير والثاني أن يكون المراد فافعلوا أمركم بمعنى مأموركم تسمية للمفعول بالمصدر كضرب الأمير واعلم أن المقصود الأصلي من هذا الجواب كون البقرة في أكمل أحوالها وذلك لأن الصغيرة تكون ناقصة لأنها بعدما وصلت إلى حالة الكمال والمسنة كأنها صارت ناقصة وتجاوزت عن حد الكمال فأما المتوسطة فهي التي تكوى في حالة الكمال ثم إنه تعالى حكى سؤالهم الثاني وهو قوله تعالى قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا واعلم أنهم لما عرفوا حال السن شرعوا بعده في تعرف حال اللون فأجابهم الله تعالى بأنها صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا والفقوع أشدها يكون من الصفرة وأنصعه يقال في التوكيد أصفر فاقع وأسود حالك وأبيض يقق وأحمر قانٍ وأخضر ناضر وههنا سؤالان
الأول ( فاقع ) ههنا واقع خبراً عن اللون فكيف يقع تأكيداً لصفراء الجواب لم يقع خبراً عن اللون إنما وقع تأكيداً لصفراء إلا أنه ارتفع اللون به ارتفاع الفاعل واللون سببها وملتبس بها فلم يكن فرق بين قولك صفراء فاقعة وصفراء فاقع لونها

السؤال الثاني فهلا قيل صفراء فاقعة وأي فائدة في ذكر اللون الجواب الفائدة فيه التوكيد لأن اللون اسم للهيئة وهي الصفرة فكأنه قيل شديدة الصفرة صفرتها فهو من قولك جد جده وجنون مجنون وعن وهب إذ نظرت إليها خيل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها
أما قوله تعالى تَسُرُّ النَّاظِرِينَ فالمعنى أن هذه البقرة لحسن لونها تسر من نظر إليها قال الحسن الصفراء ههنا بمعنى السوداء لأن العرب تسمي الأسود أصفر نظيره قوله تعالى في صفة الدخان كَأَنَّهُ جِمَالَة ٌ صُفْرٌ ( المرسلات 33 ) أي سود واعترضوا على هذا التأويل بأن الأصفر لا يفهم منه الأسود ألبتة فلم يكن حقيقة فيه وأيضاً السواد لا ينعت بالفقوع إنما يقال أصفر فاقع وأسود حالك والله أعلم وأما السرور فإنه حالة نفسانية تعرض عند حصول اعتقاد أو علم أو ظن بحصول شيء لذيذ أو نافع ثم إنه تعالى حكى سؤالهم الثالث وهو قوله تعالى قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيّن لَّنَا مَا هِى َ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ وههنا مسائل
المسألة الأولى قال الحسن عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( والذي نفس محمد بيده لو لم يقولوا إن شاء الله لحيل بينهم وبينها أبداً ) واعلم أن ذلك يدل على أن التلفظ بهذه الكلمة مندوب في كل عمل يراد تحصيله ولذلك قال الله تعالى لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَى ْء إِنّى فَاعِلٌ ذالِكَ غَداً إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ ( الكهف 23 ) وفيه استعانة بالله وتفويض الأمر إليه والاعتراف بقدرته ونفاذ مشيئته
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذا على أن الحوادث بأسرها مرادة لله تعالى فإن عند المعتزلة أن الله تعالى لما أمرهم بذلك فقد أراد اهتداءهم لا محالة وحينئذ لا يبقى لقولهم إن شاء الله فائدة أما على قول أصحابنا فإنه تعالى قد يأمر بما لا يريد فحينئذ يبقى لقولنا إن شاء الله فائدة
المسألة الثالثة احتجت المعتزلة على أن مشيئة الله تعالى محدثة بقوله إِن شَاء اللَّهُ من وجهين الأول أن دخول كلمة ( أن ) عليه يقتضي الحدوث والثاني وهو أنه تعالى علق حصول الاهتداء على حصول مشيئة الاهتداء فلما لم يكن حصول الاهتداء أزلياً وجب أن لا تكون مشيئة الاهتداء أزلية ولنرجع إلى التفسير فأما قوله تعالى يُبَيّن لَّنَا مَا هِى َ ففيه السؤال المذكور وهو أن قولنا ما هو طلب بيان الحقيقة والمذكور ههنا في الجواب الصفات العرضية المفارقة فكيف يكون هذا الجواب مطابقاً للسؤال وقد تقدم جوابه
أما قوله تعالى إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا فالمعنى أن البقر الموصوف بالتعوين والصفرة كثير فاشتبه علينا أيها نذبح وقرىء تشابه بمعنى تتشابه بطرح التاء وإدغامها في الشين و ( قرىء ) تشابهت ومتشابهة ومتشابه
أما قوله تعالى وَإِنَّا إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ ففيه وجوه ذكرها القفال أحدها وإنا بمشيئة الله نهتدي للبقرة المأمور بذبحها عند تحصيلنا أوصافها التي بها تمتاز عما عدها وثانيها وإنا إن شاء الله تعريفها إيانا بالزيادة لنا في البيان نهتدي إليها وثالثها وإنا إن شاء الله على هدى في استقصائنا في السؤال عن أوصاف البقرة أي نرجوا أنا لسنا على ضلالة فيما نفعله من هذا البحث ورابعها إنا بمشيئة الله نهتدي للقاتل إذا وصفت لنا هذه البقرة بما به تمتاز هي عما سواها ثم أجاب الله تعالى عن سؤالهم بقوله تعالى إِنَّهَا بَقَرَة ٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الاْرْضَ وقوله لاَّ ذَلُولٌ صفة لبقرة بمعنى بقرة غير ذلول بمعنى لم تذلل للكراب وإثارة الأرض

ولا هي من البقر التي يسقى عليها فتسقى الحرث و ( لا ) الأولى للنفي والثانية مزيدة لتوكيد الأولى لأن المعنى لا ذلول تثير وتسقى على أن الفعلين صفتان لذلول كأنه قيل لا ذلول مثيرة وساقية وجملة القول أن الذلول بالعمل لا بد من أن تكون ناقصة فبين تعالى أنها لا تثير الأرض ولا تسقى الحرث لأن هذين العملين يظهر بهما النقص
أما قوله تعالى مُّسَلَّمَة ٌ ففيه وجوه أحدها من العيوب مطلقاً وثانيها من آثار العمل المذكور وثالثها مسلمة أي وحشية مرسلة عن الحبس ورابعها مسلمة من الشية التي هي خلاف لونها أي خلصت صفرتها عن اختلاط سائر الألوان بها وهذا الرابع ضعيف وإلا لكان قوله وَأَنزَلْنَا فِيهَا تكراراً غير مفيد بل الأولى حمله على السلامة من العيوب واللفظ يقتضي ذلك لأن ذلك يفيد السلامة الكاملة عن العلل والمعايب واحتج العلماء به على جواز استعمال الظاهر مع تجويز أن يكون الباطن بخلافه لأن قوله مُّسَلَّمَة ٌ إذا فسرناها بأنها مسلمة من العيوب فذلك لا نعلمه من طريق الحقيقة إنما نعلمه من طريق الظاهر
أما قوله تعالى وَأَنزَلْنَا فِيهَا فالمراد أن صفرتها خالصة غير ممتزجة بسائر الألوان لأن البقرة الصفراء قد توصف بذلك إذا حصلت الصفرة في أكثرها فأراد تعالى أن يبين عموم ذلك بقوله وَأَنزَلْنَا فِيهَا روي أنها كانت صفراء الأظلاف صفراء القرون والوشي خلط لون بلون ثم أخبر الله تعالى عنهم بأنهم وقفوا عند هذا البيان واقتصروا عليه فقالوا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ أي الآن بانت هذه البقرة عن غيرها لأنها بقرة عوان صفراء غير مذللة بالعمل قال القاضي قوله تعالى قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ كفر من قبلهم لا محالة لأنه يدل على أنهم اعتقدوا فيما تقدم من الأوامر أنها ما كانت حقه وهذا ضعيف لاحتمال أن يكون المراد الآن ظهرت حقيقة ما أمرنا به حتى تميزت من غيرها فلا يكون كفراً
أما قوله تعالى فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ فالمعنى فذبحوا البقرة وما كادوا يذبحونها وههنا بحث وهو أن النحويين ذكروا ( لكاد ) تفسيرين الأول قالوا إن نفيه إثبات وإثباته نفي فقولنا كاد يفعل كذا معناه قرب من أن يفعل لكنه ما فعله وقولنا ما كاد يفعل كذا معناه قرب من أن يفعل لكنه فعله والثاني وهو اختيار الشيخ عبد القاهر ( الجرجاني ) النحوي أن كاد معناه المقاربة فقولنا كاد يفعل معناه قرب من الفعل وقولنا ما كاد يفعل معناه ما قرب منه وللأولين أن يحتجوا على فساد هذا الثاني بهذه الآية لأن قوله تعالى وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ معناه وما قاربوا الفعل ونفي المقاربة من الفعل يناقض إثبات وقوع الفعل فلو كان كاد للمقاربة لزم وقوع التناقض في هذه الآية وههنا أبحاث
البحث الأول روي أنه كان في بني إسرائيل شيخ صالح له عجلة فأتى بها الغيضة وقال اللهم إني استودعتكها لابني حتى تكبر وكان براً بوالديه فشبت وكانت من أحسن البقر واسمنها فتساوموها اليتيم وأمه حتى اشتروها بملء مسكها ذهباً وكانت البقرة إذ ذاك بثلاثة دنانير وكانوا طلبوا البقرة الموصوفة أربعين سنة

البحث الثاني روي عن الحسن أن البقرة تذبح ولا تنحر وعن عطاء أنها تنحر قال فتلوت الآية عليه فقال الذبح والنحر سواء وحكي عن قتادة والزهري إن شئت نحرت وإن شئت ذبحت وظاهر الآية يدل على أنهم أمروا بالذبح وأنهم فعلوا ما يسمى ذبحاً والنحر وإن أجزأ عن الذبح فصورته مخالفة لصورة الذبح فالظاهر يقتضي ما قلناه حتى لو نحروا ولا دليل يدل على قيامه مقام الذبح لكان لا يجزي
البحث الثالث اختلفوا في السبب الذي لأجله ما كادوا يذبحون فعن بعضهم لأجل غلاء ثمنها وعن آخرين أنهم خافوا الشهرة والفضيخة وعلى كلا الوجهين فالاحجام عن المأمور به غير جائز أما الأول فلأنهم لما أمروا بذبح البقرة المعينة وذلك الفعل ما كان يتم إلا بالثمن الكثيرو جب عليهم أداؤه لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب إلا أن يدل الدليل على خلافه وإنما لا يلزم المصلي أن يتطهر بالماء إذا لم يجده إلا بغلاء من حيث الشرع ولولاه للزم ذلك إذا وجب التطهر مطلقاً وأما الثاني وهو خوف الفضيحة فذاك لا يرفع التكليف فإن القود إذا كان واجباً عليه لزمه تسليم النفس من ولي الدم إذا طالب وربما لزمه التعريف ليزول الشر والفتنة وربما لزمه ذلك لتزول التهمة في القتل عن القوم الذين طرح القتيل بالقرب منهم لأنه الذي عرضهم للتهمة فيلزمه إزالتها فكيف يجوز جعله سبباً للتثاقل في هذا الفعل
البحث الرابع احتج القائلون بأن الأمر للوجوب بهذه الآية وذلك لأنه لم يوجد في هذه الصورة إلا مجرد الأمر ثم إنه تعالى ذم التثاقل فيه والتكاسل في الاشتغال بمقتضاه وذلك يدل على أن الأمر للوجوب قال القاضي إذا كان الغرض من المأمور إزالة شر وفتنة دل ذلك على وجوبه وإنما أمر تعالى بذبحها لكي يظهر القاتل فتزول الفتنة والشر المخوف فيهم والتحرز عن هذا الجنس الضار واجب فلما كان العلاج إزالته بهذا الفعل صار واجباً وأيضاً فغير ممتنع أن في تلك الشريعة أن التعبد بالقربان لا يكون إلا سبيل الوجوب فلما تقدم علمهم بذلك كفاهم مجرد الأمر وأقول حاصل هذين السؤالين يرجع إلى حرف واحد وهو أنا وإنا كنا لا نقول إن الأمر يقتضي الوجوب فلا نقول إنه ينافي الوجوب أيضاً فلعله فهم الوجوب ههنا بسبب آخر سوى الأمر وذلك السبب المنفصل إما قرينة حالية وهي العلم بأن دفع المضار واجب أو مقالية وهي ما تقدم بيانه من أن القربان لا يكون مشروعاً إلا على وجه الوجوب والجواب أن المذكور مجرد قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَة ً فلما ذكر الذم والتوبيخ على ترك الذبح المأمور به علمنا إن منشأ ذلك هو مجرد ورود الأمر به لما ثبت في أصول الفقه أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بكون الوصف علة لذلك الحكم
البحث الخامس احتج القائلون بأن الأمر يفيد الفور بهذه الآية قالوا لأنه ورد التعنيف على ترك المأمور به عند ورود الأمر المجرد فدل على أنه للفور
أما قوله تعالى وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادرَأْتُمْ فِيهَا فاعلم أن وقوع ذلك القتل لا بد وأن يكون متقدماً لأمره تعالى بالذبح أما الإخبار عن وقوع ذلك القتل وعن أنه لا بد وأن يضرب القتيل ببعض تلك البقرة فلا يجب أن يكون متقدماً على الإخبار عن قصة البقرة فقول من يقول هذه القصة يجب أن تكون متقدمة في التلاوة على الأولى خطأ لأن هذه القصة في نفسها يجب أن تكون متقدمة على الأول في الوجود فأما التقدم في الذكر فغير واجب لأنه تارة يتقدم ذكر السبب على ذكر الحكم وأخرى على العكس من ذلك فكأنه لما وقعت

لهم تلك الواقعة أمرهم تعالى بذبح البقرة فلما ذبحوها قال وإذ قتلتم نفساً من قبل واختلفتم وتنازعتم فإني مظهر لكم القاتل الذي سترتموه بأن يضرب القتيل ببعض هذه البقرة المذبوحة وذلك مستقيم فإن قيل هب أنه لا خلل في هذا النظم ولكن النظم الآخر كان مستحسناً فما الفائدة في ترجيح هذا النظم قلنا إنما قدمت قصة الأمر بذبح البقرة على ذكر القتيل لأنه لو عمل على عكسه لكانت قصة واحدة ولو كانت قصة واحدة لذهب الغرض من بينية التفريع
أما قوله تعالى فَادرَأْتُمْ فِيهَا ففيه وجوه أحدها اختلفتم واختصمتم في شأنها لأن المتخاصمين يدرأ بعضهم بعضاً أي يدافعه ويزاحمه وثانيها ( أدارأتم ) أي يغي كل واحد منكم القتل عن نفسه ويضيفه إلى غيره وثالثها دفع بعضكم بعضاً عن البراءة والتهمة وجملة القول فيه أن الدرء هو الدفع فالمتخاصمون إذا تخاصموا فقد دفع كل واحد منهم عن نفسه تلك التهمة ودفع كل واحد منهم حجة صاحبه عن تلك الفعلة ودفع كل واحد منهم حجة صاحبه في إسناد تلك التهمة إلى غيره وحجة صاحبه في براءته عنه قال القفال والكناية في ( فيها ) للنفس أي فاختلفتم في النفس ويحتمل في القتلة لأن قوله قُتِلْتُمْ يدل على المصدر
أما قوله تعالى وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ أي مظهر لا محالة ما كتمتم من أمر القتل فإن قيل كيف اعمل ( مخرج ) وهو في معنى المضي قلنا قد حكى ما كان مستقبلاً في وقت التدارء كما حكى الحاضر في قوله بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ ( الكهف 18 ) وهذه الجملة اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه وهما ( ادارأتم فقلنا ) ثم فيه مسائل
المسألة الأولى قالت المعتزلة قوله وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ أي لا بد وأن يفعل ذلك وإنما حكم بأنه لا بد وأن يفعل ذلك لأن الاختلاف والتنازع في باب القتل يكون سبباً للفتن والفساد والله لا يحب الفساد فلأجل هذا قال لا بد وأن يزيل هذا الكتمان ليزول ذلك الفساد فدل ذلك على أنه سبحانه لا يريد الفساد ولا يرضى به ولا يخلقه
المسألة الثانية الآية تدل على أنه تعالى عالم بجميع المعلومات وإلا لما قدر على إظهار ما كتموه
المسألة الثالثة تدل الآية على أن ما يسره العبد من خير أو شر ودام ذلك منه فإن الله سيظهره قال عليه الصلاة والسلام ( إن عبداً لو أطاع الله من وراء سبعين حجاباً لأظهر الله ذلك على ألسنة الناس ) وكذلك المعصية وروي أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام ( قل لبني إسرائيل يخفون إلى أعمالهم وعلي أن أظهرها لهم )
المسألة الرابعة دلت الآية على أنه يجوز ورود العام لإرادة الخاص لأن قوله مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ يتناول كل المكتومات ثم إن الله تعالى أراد هذه الواقعة
أما قوله تعالى فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا ففيه مسائل
المسألة الأولى المروي عن ابن عباس أن صاحب بقرة بني إسرائيل طلبها أربعين سنة حتى وجدها ثم ذبحت إلا أن هذه الرواية على خلاف ظاهر القرآن لأن الفاء في قوله تعالى فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا للتعقيب وذلك يدل على أن قوله اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا حصل عقيب قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَة ً

المسألة الثانية الهاء في قوله تعالى اضْرِبُوهُ ضمير وهو إما أن يرجع إلى النفس وحينئذ يكون التذكير على تأويل الشخص والإنسان وإما إلى القتيل وهو الذي دل عليه قوله مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ
المسألة الثالثة يجوز أن يكون الله تعالى إنما أمر بذبح البقرة لأنه تعلق بذبحها مصلحة لا تحصل إلا بذبحها ويجوز أن يكون الحال فيها وفي غيرها على السوية والأقرب هو الأول لأنه لو قام غيرها مقامها لما وجبت على التعيين بل على التخير بينها وبين غيرها وههنا سؤالان
السؤال الأول ما الفائدة في ضرب المقتول ببعض البقرة مع أن الله تعالى قادر على أن يحييه ابتداء الجواب الفائدة فيه لتكون الحجة أوكد وعن الحيلة أبعد فقد كان يجوز لملحد أن يوهم أن موسى عليه السلام إنما أحياه بضرب من السحر والحيلة فإنه إذا حيي عندما يضرب بقطعة من البقرة المذبوحة انتفت الشبهة في أنه لم يحي بشيء انتقل إليه من الجسم الذي ضرب به إذا كان ذلك إنما حيي بفعل فعلوه هم فدل ذلك على أن إعلام الأنبياء إنما يكون من عند الله لا بتمويه من العباد وأيضاً فتقديم القربان مما يعظم أمر القربان
السؤال الثاني هلا أمر بذبح غير البقرة وأجابوا بأن الكلام في غيرها لو أمروا به كالكلام فيه ثم ذكروا فيها فوائد منها التقرب بالقربان الذي كانت العادة به جارية ولأن هذا القربان كان عندهم من أعظم القرابين ولما فيه من مزيد الثواب لتحمل الكلفة في تحصيل هذه البقرة على غلاء ثمنها ولما فيه من حصول المال العظيم لمالك البقرة
المسألة الرابعة اختلفوا في أن ذلك البعض الذي ضربوا القتيل به ما هو والأقرب أنهم كانوا مخيرين في أبعاض البقرة لأنهم أمروا بضرب القتيل ببعض البقرة وأي بعض من أبعاض البقرة ضربوا القتيل به فإنهم كانوا ممتثلين لمقتضى قوله اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا والإتيان بالمأمور به يدل على الخروج عن العهدة على ما ثبت في أصول الفقه وذلك يقتضي التخيير واختلفوا في البعض الذي ضرب به القتيل فقيل لسانها وقيل فخذها اليمنى وقيل ذنبها وقيل العظم الذي يلى الغضروف وهو أصل الآذان وقيل البضعة بين الكتفين ولا شك أن القرآن لا يدل عليه فإن ورد خبر صحيح قبل وإلا وجب السكوت عنه
المسألة الخامسة في الكلام محذوف والتقدير فقلنا اضربوه ببعضها فضربوه ببعضها فحيي إلا أنه حذف ذلك لدلالة قوله تعالى كَذالِكَ يُحْى ِ اللَّهُ الْمَوْتَى وعليه هو كقوله تعالى اضْرِب بّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ ( البقرة 60 ) أي فضرب فانفجرت روي أنهم لما ضربوه قام بإذن الله وأوداجه تشخب دماً وقال قتلني فلان وفلان لابني عمه ثم سقط ميتاً وقتلاً
أما قوله تعالى كَذالِكَ يُحْى ِ اللَّهُ الْمَوْتَى ففيه مسألتان
المسألة الأولى في هذه الآية وجهان أحدهما أن يكون إشارة إلى نفس ذلك الميت والثاني أنه احتجاج في صحة الإعادة ثم هذا الاحتجاج أهو على المشركين أو على غيرهم فيه وجهان الأول قال الأصم إنه على المشركين لأنه إن ظهر لهم بالتواتر أن هذا الإحياء قد كان على هذا الوجه علموا صحة الإعادة وإن لم يظهر ذلك بالتواتر فإنه يكون داعية لهم إلى التفكر قال القاضي وهذا هو الأقرب لأنه تقدم منه تعالى ذكر الأمر

بالضرب وأنه سبب إحياء ذلك الميت ثم قال كَذالِكَ يُحْى ِ اللَّهُ الْمَوْتَى فجمع الْمَوْتَى ولو كان المراد ذلك القتيل لما جمع في القول فكأنه قال دل بذلك على أن الإعادة كالابتداء في قدرته الثاني قال القفال ظاهر الكلام يدل على أن الله تعالى قال لبني إسرائيل إحياء الله تعالى لسائر الموتى يكون مثل هذا الإحياء الذي شاهدتم لأنهم وإن كانوا مؤمنين بذلك إلا أنهم لم يؤمنوا به إلا من طريق الاستدلال ولم يشاهدوا شيئاً منه فإذا شاهدوه اطمأنت قلوبهم وانتفت عنهم الشبهة التي لا يخلو منها المستدل وقد قال إبراهيم عليه السلام رَبّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْى ِ الْمَوْتَى إلى قوله لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى ( البقرة 26 ) فأحيا الله تعالى لبني إسرائيل القتيل عياناً ثم قال لهم كَذالِكَ يُحْى ِ اللَّهُ الْمَوْتَى أي كالذي أحياه في الدنيا يحيي في الآخرة من غير احتياج في ذلك الإيجاد إلى مادة ومدة ومثال وآلة
المسألة الثانية من الناس من استدل بقوله تعالى كَذالِكَ يُحْى ِ اللَّهُ الْمَوْتَى على أن المقتول ميت وهو ضعيف لأنه تعالى قاس على إحياء ذلك القتيل إحياء الموتى فلا يلزم من هذا كون القتيل ميتاً
أما قوله تعالى وَيُرِيكُمْ ءايَاتِهِ فلقائل أن يقول إن ذلك كان آية واحدة فلم سميت بالآيات والجواب أنها تدل على وجود الصانع القادر على كل المقدورات العالم بكل المعلومات المختار في الإيجاد والإبداع وعلى صدق موسى عليه السلام وعلى براءة ساحة من لم يكن قاتلاً وعلى تعين تلك التهمة على من باشر ذلك القتل فهي وإن كانت آية واحدة إلا أنها لما دلت على هذه المدلولات الكثيرة لا جرم جرت مجرى الآيات الكثيرة
أما قوله تعالى لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ففيه بحثان
الأول أن كلمة ( لعل ) قد تقدم تفسيرها في قوله تعالى لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
الثاني أن القوم كانوا عقلاء قبل عرض هذه الآيات عليهم وإذا كان العقل حاصلاً امتنع أن يقال إني عرضت عليك الآية الفلانية لكي تصير عاقلاً فإذن لا يمكن إجراء الآية على ظاهرها بل لا بد من التأويل وهو أن يكون المراد لعلكم تعملون على قضية عقولكم وأن من قدر على إحياء نفس واحدة قدر على إحياء الأنفس كلها لعدم الاختصاص حتى لا ينكروا البعث هذا آخر الكلام في تفسير الآية واعلم أن كثيراً من المتقدمين ذكر أن من جملة أحكام هذه الآية أن القاتل هل يرث أم لا قالوا لا لأنه روي عن عبيدة السلماني أن الرجل الذي كان قاتلاً في هذه الواقعة حرم من الميراث لأجل كونه قاتلاً قال القاضي لا يجوز جعل هذه المسألة من أحكام هذه الآية لأنه ليس في الظاهر أن القاتل هل كان وارثاً لقتيله أم لا وبتقدير أن يكون وارثاً له فهل حرم الميراث أم لا وليس يجب إذا روي عن أبي عبيدة أن القاتل حرم لمكان قتله الميراث أن يعد ذلك في جملة أحكام القرآن إذا كان لا يدل عليه لا مجملاً ولا مفصلاً وإذا كان لم يثبت أن شرعهم كشرعنا وأنه لا يلزم الاقتداء بهم فإدخال هذا الكلام في أحكام القرآن تعسف
واعلم أن الذي قاله القاضي حق ومع ذلك فلنذكر هذه المسألة فنقول اختلف المجتهدون في أن القاتل هل يرث أم لا فعند الشافعي رضي الله عنه لا يرث سواء كان القتل غير مستحق عمداً كان أو خطأ أو كان مستحقاً كالعادل إذا قتل الباغي وعند أبي حنيفة رحمه الله لا يرث في العمد والخطأ إلا أن العادل إذا

قتل الباغي فإنه يرثه وكذا القاتل إذا كان صبياً أو مجنوناً يرثه لا من ديته ولا من سائر أمواله وهو قول علي وعمر وابن عباس وسعيد بن المسيب وقال عثمان البتي قاتل الخطأ يرث وقاتل العمد لا يرث وقال مالك لا يرثه من ديته ويرثه من سائر أمواله وهو قول الحسن ومجاهد والزهري والأوزاعي واحتج الشافعي رضي الله عنه بعموم الخبر المشهور المستفيض أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( ليس للقاتل من الميراث شيء ) إلا أن الاستدلال بهذا الخبر إنما يصح لو جوزنا تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد والكلام فيه مذكور في أصول الفقه ثم ههنا دقيقة وهي أن تطرق التخصيص إلى العام يفيد نوع ضعف فلو خصصنا هذا الخبر ببعض الصور فحينئذ يتوالى عليه أسباب الضعف فإن كونه خبر واحد يوجب الضعف وكونه على مصادمة الكتاب سبب آخر وكونه مخصوصاً سبب آخر فلو خصصنا عموم الكتاب به لكنا قد رجحنا الضعيف جداً على القوي جداً أما إذا لم يخصص هذا الخبر ألبتة اندفع عنه بعض أسباب الضعف فحينئذ لا يبعد تخصيص عموم الكتاب به واحتج أبو بكر الرازي على أن العادل إذا قتل الباغي فإنه لا يصير محروماً عن الميراث بأنا لا نعلم خلافاً أن من وجب له القود على إنسان فقتله قوداً أنه لا يحرم من الميراث واعلم أن الشافعية يمنعون هذه الصورة والله أعلم
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذالِكَ فَهِى َ كَالْحِجَارَة ِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَة ً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَة ِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَآءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَة ِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
اعلم أن قوله تعالى ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مّن بَعْدِ ذالِكَ فيه مسائل
المسألة الأولى الشيء الذي من شأنه بأصل ذاته أن يقبل الأثر عن شيء آخر ثم إنه عرض لذلك القابل ما لأجله صار بحيث لا يقبل الأثر فيقال لذلك القابل إنه صار صلباً غليظاً قاسياً فالجسم من حيث إنه جسم يقبل الأثر عن الغير إلا أن صفة الحجرية لما عرضت للجسم صار جسم الحجر غير قابل وكذلك القلب من شأنه أن يتأثر عن مطالعة الدلائل والآيات والعبر وتأثره عبارة عن ترك التمرد والعتو والاستكبار وإظهار الطاعة والخضوع لله والخوف من الله تعالى فإذا عرض للقلب عارض أخرجه عن هذه الصفة صار في عدم التأثر شبيهاً بالحجر فيقال قسا القلب وغلظ ولذلك كان الله تعالى وصف المؤمنين بالرقة فقال كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ( الزمر 23 )
المسألة الثانية قال القفال يجوز أن يكون المخاطبون بقوله قُلُوبُكُمْ أهل الكتاب الذين كانوا في زمان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أي اشتدت قلوبكم وقست وصلبت من بعد البينات التي جاءت أوائلكم

والأمور التي جرت عليهم والعقاب الذي نزل بمن أصر على المعصية منهم والآيات التي جاءهم بها أنبياؤهم والمواثيق التي أخذوها على أنفسهم وعلى كل من دان بالتوراة ممن سواهم فاخبر بذلك عن طغيانهم وجفائهم مع ما عندهم من العلم بآيات الله التي تلين عندها القلوب وهذا أولى لأن قوله تعالى ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ خطاب مشافهة فحمله على الحاضرين أولى ويحتمل أيضاً أن يكون المراد أولئك اليهود الذين كانوا في زمن موسى عليه السلام خصوصاً ويجوز أن يريد من قبلهم من سلفهم
المسألة الثالثة قوله تعالى مِن بَعْدِ ذالِكَ يحتمل أن يكون المراد من بعد ما أظهره الله تعالى من إحياء ذلك القتيل عند ضربه ببعض البقرة المذبوحة حتى عين القاتل فإنه روي أن ذلك القتيل لما عين القاتل نسبه القاتل إلى الكذب وما ترك الإنكار بل طلب الفتنة وساعده عليه جمع فعنده قال تعالى واصفاً لهم إنهم بعد ظهور مثل هذه الآية قست قلوبهم أي صارت قلوبهم بعد ظهور مثل هذه الآية في القسوة كالحجارة ويحتمل أن يكون قوله مِن بَعْدِ ذالِكَ إشارة إلى جميع ما عدد الله سبحانه من النعم العظيمة والآيات الباهرة التي أظهرها على يد موسى عليه السلام فإن أولئك اليهود بعد أن كثرت مشاهدتهم لها ما خلوا من العناد والاعتراض على موسى عليه السلام وذلك بين في أخبارهم في التيه لمن نظر فيها
أما قوله تعالى أَوْ أَشَدُّ قَسْوَة ً فيه مسائل
المسألة الأولى كلمة ( أو ) للترديد وهي لا تليق بعلام الغيوب فلا بد من التأويل وهو وجوه أحدها أنها بمعنى الواو كقوله تعالى إِلَى مِاْئَة ِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ( الصافات 147 ) بمعنى ويزيدون وكقوله تعالى وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ( النور 31 ) والمعنى وآبائهن وكقوله لَّيْسَ عَلَى الاْعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الاْعْرَجِ ( النور 61 ) يعني وبيوت آبائكم ومن نظائره قوله تعالى لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ( طه 44 ) فالملقيات ذكراً عذراً أو نذراً ( المرسلات 5 6 ) وثانيها أنه تعالى أراد أن يبهمه على العباد فقال ذلك كما يقول المرء لغيره أكلت خبزاً أو تمراً وهو لا يشك أنه أكل أحدهما إذا أراد أن يبينه لصاحبه وثالثها أن يكون المراد فهي كالحجارة ومنها ما هو أشد قسوة من الحجارة ورابعها أن الآدميين إذا اطلعوا على أحوال قلوبهم قالوا إنها كالحجارة أو هي أشد قسوة من الحجارة وهو المراد في قوله ( المرسلات 5 6 ) وثانيها أنه تعالى أراد أن يبهمه على العباد فقال ذلك كما يقول المرء لغيره أكلت خبزاً أو تمراً وهو لا يشك أنه أكل أحدهما إذا أراد أن يبينه لصاحبه وثالثها أن يكون المراد فهي كالحجارة ومنها ما هو أشد قسوة من الحجارة ورابعها أن الآدميين إذا اطلعوا على أحوال قلوبهم قالوا إنها كالحجارة أو هي أشد قسوة من الحجارة وهو المراد في قوله فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ( النجم 9 ) أي في نظركم واعتقادكم وخامسها أن كلمة ( أو ) بمعنى بل وأنشدوا فوالله ما أدري أسلمى تغولت
أم القوم أو كل إلي حبيب
قالوا أراد بل كل وسادسها أنه على حد قولك ما آكل إلا حلواً أو حامضاً أي طعامي لا يخرج عن هذين بل يتردد عليهما وبالجملة فليس الغرض إيقاع التردد بينهما بل نفي غيرهما وسابعها أن ( أو ) حرف إباحة كأنه قيل بأي هذين شبهت قلوبهم كان صدقاً كقولك جالس الحسن أو ابن سيرين أي أيهما جالست كنت مصيباً ولو جالستهما معاً كنت مصيباً أيضاً
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) ( أشد ) معطوف على الكاف إما على معنى أو مثل ( أشد قسوة ) فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وإما على أو هي أنفسها أشد قسوة

المسألة الثالثة إنما وصفها بأنها أشد قسوة لوجوه أحدها أن الحجارة لو كانت عاقلة ولقيتها هذه الآية لقبلنها كما قال لَوْ أَنزَلْنَا هَاذَا الْقُرْءانَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَة ِ اللَّهِ ( الحشر 21 ) وثانيها أن الحجارة ليس فيها امتناع مما يحدث فيها بأمر الله تعالى وإن كانت قاسية بل هي منصرفة على مراد الله غير ممتنعة من تسخيره وهؤلاء مع ما وصفنا من أحوالهم في اتصال الآيات عندهم وتتابع النعم من الله عليهم يمتنعون من طاعته ولا تلين قلوبهم لمعرفة حقه وهو كقوله تعالى وَمَا مِن دَابَّة ٍ فِى الاْرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ ( الأنعام 38 ) إلى قوله تعالى وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِايَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِى الظُّلُمَاتِ ( الأنعام 39 ) كأن المعنى أن الحيوانات من غير بني آدم أمم سخر كل واحد منها لشيء وهو منقاد لما أريد منه وهؤلاء الكفار يمتنعون عما أراد الله منهم وثالثها أو أشد قسوة لأن الأحجار ينتفع بها من بعض الوجوه ويظهر منها الماء في بعض الأحوال أما قلوب هؤلاء فلا نفع فيها ألبتة ولا تلين لطاعة الله بوجه من الوجوه
المسألة الرابعة قال القاضي إن كان تعالى هو الخالق فيهم الدوام على ما هم عليه من الكفر فكيف يحسن ذمهم بهذه الطريقة ولو أن موسى عليه السلام خاطبهم فقالوا له إن الذي خلق الصلابة في الحجارة هو الذي خلق في قلوبنا القسوة والخالق في الحجارة انفجار الأنهار هو القادر على أن ينقلنا عما نحن عليه من الكفر بخلق الإيمان فينا فإذا لم يفعل فعذرنا ظاهر لكانت حجتهم عليه أوكد من حجته عليهم وهذا النمط من الكلام قد تقدم تقريراً وتفريعاً مراراً وأطواراً
المسألة الخامسة إنما قال أَشَدُّ قَسْوَة ً ولم يقل أقسى لأن ذلك أدل على فرط القسوة ووجه آخر وهو أن لا يقصد معنى الأقسى ولكن قصد وصف القسوة بالشدة كأنه قيل اشتدت قسوة الحجارة وقلوبهم أشد قسوة وقرىء ( قساوة ) وترك ضمير المفضل عليه لعدم الالباس كقولك زيد كريم وعمرو أكرم ثم إنه سبحانه وتعالى فضل الحجارة على قلوبهم بأن بين أن الحجارة قد يحصل منها ثلاثة أنواع من المنافع ولا يوجد في قلوب هؤلاء شيء من المنافع فأولها قوله تعالى وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَة ِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الانْهَارُ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرىء ( وإن ) بالتخفيف وهي إن المخففة من الثقيلة التي تلزمها اللام الفارقة ومنها قوله تعالى وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ ( يس 32 )
المسألة الثانية التفجر التفتح بالسعة والكثرة يقال انفجرت قرحة فلان أي انشقت بالمدة ومنه الفجر والفجور وقرأ مالك بن دينار ( ينفجر ) بمعنى وإن من الحجارة ما ينشق فيخرج منه الماء الذي يجري حتى تكون منه الأنهار قالت الحكماء إن الأنهار إنما تتولد عن أبخرة تجتمع في باطن الأرض فإن كان ظاهر الأرض رخواً انشقت تلك الأبخرة وانفصلت وإن كان ظاهر الأرض صلباً حجرياً اجتمعت تلك الأبخرة ولا يزال يتصل تواليها بسوابقها حتى تكثر كثرة عظيمة فيعرض حينئذ من كثرتها وتواتر مدها أن تنشق الأرض وتسيل تلك المياه أودية وأنهاراً وثانيها قوله تعالى وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء أي من الحجارة لما ينصدع فيخرج منه الماء فيكون عيناً لا نهراً جارياً أي أن الحجارة قد تندى بالماء الكثير وبالماء القليل وفي ذلك دليل تفاوت الرطوبة فيها وأنها قد تكثر في حال حتى يخرج منها ما يجري منه الأنهار وقد تقل وهؤلاء قلوبهم في نهاية الصلابة لا تندى بقبول شيء من المواعظ ولا تنشرح لذلك ولا تتوجه إلى الاهتداء وقوله تعالى يَشَّقَّقُ أي يتشقق فأدغم التاء كقوله يُذْكَرِ أي يتذكر وقوله عَدَداً يأَيُّهَا الْمُزَّمّلُ

( المزمل 1 ) يا أيها المدثر ( المدثر 1 ) وثالثها قوله تعالى ( المدثر 1 ) وثالثها قوله تعالى وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَة ِ اللَّهِ
واعلم أن فيه إشكالاً وهو أن الهبوط من خشية الله صفة الأحياء العقلاء والحجر جماد فلا يتحقق ذلك فيه فلهذا الإشكال ذكروا في هذه الآية وجوهاً أحدها قول أبي مسلم خاصة وهو أن الضمير في قوله تعالى وَإِنَّ مِنْهَا راجع إلى القلوب فإنه يجوز عليها الخشية والحجارة لا يجوز عليها الخشية وقد تقدم ذكر القلوب كما تقدم ذكر الحجارة أقصى ما في الباب أن الحجارة أقرب المذكورين إلا أن هذا الوصف لما كان لائقاً بالقلوب دون الحجارة وجب رجوع هذا الضمير إلى القلوب دون الحجارة واعترضوا عليه من وجهين الأول أن قوله تعالى فَهِى َ كَالْحِجَارَة ِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَة ً جملة تامة ثم ابتدأ تعالى فذكر حال الحجارة بقوله وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَة ِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الانْهَارُ فيجب في قوله تعالى وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَة ِ اللَّهِ أن يكون راجعاً إليها الثاني أن الهبوط يليق بالحجارة لا بالقلوب فليس تأويل الهبوط أولى من تأويل الخشية وثانيها قول جمع من المفسرين إن الضمير عائد إلى الحجارة لكن لا نسلم أن الحجارة ليست حية عاملة بيانه أن المراد من ذلك جبل موسى عليه السلام حين تقطع وتجلى له ربه وذلك لأن الله سبحانه وتعالى خلق فيه الحياة والعقل والإدراك وهذا غير مستبعد في قدرة الله ونظيره قوله تعالى وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِى أَنطَقَ كُلَّ شَى ْء ( فصلت 21 ) فكما جعل الجلد ينطق ويسمع ويعقل فكذلك الجبل وصفه بالخشية وقال أيضاً لَوْ أَنزَلْنَا هَاذَا الْقُرْءانَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَة ِ اللَّهِ ( الحشر 21 ) والتقدير أنه تعالى لو جعل فيه العقل والفهم لصار كذلك وروي أنه حن الجزع لصعود رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) المنبر وروي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه لما أتاه الوحي في أول المبعث وانصرف النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى منزله سلمت عليه الأحجار والأشجار فكلها كانت تقول السلام عليك يا رسول الله قالوا فغير ممتنع أن يخلق في بعض الأحجار عقل وفهم حتى تحصل الخشية فيه وأنكرت المعتزلة هذا التأويل لما أن عندهم البنية واعتدال المزاج شرط قبول الحياة والعقل ولا دلالة لهم على اشتراط البنية إلا مجرد الاستبعاد فوجب أن لا يلتفت إليهم وثالثها قول أكثر المفسرين وهو أن الضمير عائد إلى الحجارة وأن الحجارة لا تعقل ولا تفهم وذكروا على هذا القول أنواعاً من التأويل الأول أن من الحجارة ما يتردى من الموضع العالي الذي يكون فيه فينزل إلى أسفل وهؤلاء الكفار مصرون على العناد والتكبر فكأن الهبوط من العلو جعل مثلاً للانقياد وقوله مّنْ خَشْيَة ِ اللَّهِ أي ذلك الهبوط لو وجد من العاقل المختار لكان به خاشياً لله وهو كقوله فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ ( الكهف 77 ) أي جداراً قد ظهر فيه الميلان ومقاربة السقوط ما لو ظهر مثله في حي مختار لكان مريداً للانقضاض ونحو هذا قول بعضهم بخيل تضل البلق من حجراته
ترى الأكم فيه سجداً للحوافر
وقول جرير
لما أتى خبر الزبير تضعضعت
سور المدينة والجبال الخشع
فجعل الأول ما ظهر في الأكم من أثر الحوافر مع عدم امتناعها من دفع ذلك عن نفسها كالسجود منها للحوافر وكذلك الثاني جعل ما ظهر في أهل المدينة من آثار الجزع كالخشوع وعلى هذا الوجه تأول أهل

النظر قوله تعالى تُسَبّحُ لَهُ السَّمَاوَاتِ السَّبْعُ وَالاْرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مّن شَى ْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ ( الإسرا 44 ) وقوله تعالى وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ( النحل 49 ) الآية وقوله تعالى وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ ( الرحمن 6 ) الوجه الثاني في التأويل أن قوله تعالى مّنْ خَشْيَة ِ اللَّهِ أي ومن الحجارة ما ينزل وما ينشق ويتزايل بعضه عن بعض عند الزلازل من أجل ما يريد الله بذلك من خشية عباده له وفزعهم إليه بالدعاء والتوبة وتحقيقه أنه لما كان المقصود الأصلي من إهباط الأحجار في الزلازل الشديدة أن تحصل خشية الله تعالى في قلوب العباد صارت تلك الخشية كالعلة المؤثرة في حصول ذلك الهبوط فكلمة ( من ) لابتداء الغاية فقوله مّنْ خَشْيَة ِ اللَّهِ أي بسبب أن تحصل خشية الله في القلوب الوجه الثالث ما ذكره الجبائي وهو أنه فسر الحجارة بالبرد الذي يهبط من السحاب تخويفاً من الله تعالى لعباده ليزجرهم به قال وقوله تعالى مّنْ خَشْيَة ِ اللَّهِ أي خشية الله أي ينزل بالتخويف للعباد أو بما يوجب الخشية لله كما يقال نزل القرآن بتحريم كذا وتحليل كذا أي بإيجاب ذلك على الناس قال القاضي هذا التأويل ترك للظاهر من غير ضرورة لأن البرد لا يوصف بالحجارة لأنه وإن اشتد عند النزول فهو ماء في الحقيقة ولأنه لا يليق ذلك بالتسمية
أما قوله تعالى وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ فالمعنى أن الله تعالى بالمرصاد لهؤلاء القاسية قلوبهم وحافظ لأعمالهم محصي لها فهو يجازيهم بها في الدنيا والآخرة وهو كقوله تعالى وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً وفي هذا وعيد لهم وتخويف كبير لينزجروا فإن قيل هل يصح أن يوصف الله بأنه ليس بغافل قلنا قال القاضي لا يصح لأنه يوهم جواز الغفلة عليه وليس الأمر كذلك لأن نفي الصفة عن الشيء لا يستلزم ثبوت صحتها عليه بدليل قوله تعالى لاَ تَأْخُذُهُ سِنَة ٌ وَلاَ نَوْمٌ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ والله أعلم
أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
اعلم أنه سبحانه لما ذكر قبائح أفعال أسلاف اليهود إلى ههنا شرح من هنا قبائح أفعال اليهود الذين كانوا في زمن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) قال القفال رحمه الله إن فيما ذكره الله تعالى في هذه السورة من أقاصيص بني إسرائيل وجوهاً من المقصد أحدها الدلالة بها على صحة نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه أخبر عنها من غير تعلم وذلك لا يمكن أن يكون إلا بالوحي ويشترك في الانتفاع بهذه الدلالة أهل الكتاب والعرب أما أهل الكتاب فلأنهم كانوا يعلمون هذه القصص فلما سمعوها من محمد من غير تفاوت أصلاً علموا لا محالة أنه ما أخذها إلا من الوحي وأما العرب فلما يشاهدون من أن أهل الكتاب يصدقون محمداً في هذه الأخبار وثانيها تعديد النعم على بني إسرائيل وما

منّ الله تعالى به على أسلافهم من أنواع الكرامة والفضل كالإنجاء من آل فرعون بعدما كانوا مقهورين مستعبدين ونصره إياهم وجعلهم أنبياء وملوكاً وتمكينه لهم في الأرض وفرقه بهم البحر وإهلاكه عدوهم وإنزاله النور والبيان عليهم بواسطة إنزال التوراة والصفح عن الذنوب التي ارتكبوها من عبادة العجل ونقض المواثيق ومسألة النظر إلى الله جهرة ثم ما أخرجه لهم في التيه من الماء العذب من الحجر وإنزاله عليهم المن والسلوى ووقايتهم من حر الشمس بتظليل الغمام فذكرهم الله هذه النعم القديمة والحديثة وثالثها إخبار النبي عليه السلام بتقديم كفرهم وخلافهم وشقاقهم وتعنتهم مع الأنبياء ومعاندتهم لهم وبلوغهم في ذلك ما لم يبلغه أحد من الأمم قبلهم وذلك لأنهم بعد مشاهدتهم الآيات الباهرة عبدوا العجل بعد مفارقة موسى عليه السلام إياهم بالمدة اليسيرة فدل على بلادتهم ثم لما أمروا بدخول الباب سجداً وأن يقولوا حطة ووعدهم أن يغفر لهم خطاياهم ويزيد في ثواب محسنهم بدلوا القول وفسقوا ثم سألوا الفوم والبصل بدل المن والسلوى ثم امتنعوا من قبول التوراة بعد إيمانهم بموسى وضمانهم له بالمواثيق أن يؤمنوا به وينقادوا لما يأتي به حتى رفع فوقهم الجبل ثم استحلوا الصيد في السبت واعتدوا ثم لما أمروا بذبح البقرة شافهوا موسى عليه السلام بقولهم أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا ( البقرة 67 ) ثم لما شاهدوا إحياء الموتى ازدادوا قسوة فكأن الله تعالى يقول إذا كانت هذه أفعالهم فيما بينهم ومعاملاتهم مع نبيهم الذي أعزهم الله به وأنقذهم من الرق والآفة بسببه فغير بديع ما يعامل به أخلافهم محمداً عليه السلام فليهن عليكم أيها النبي والمؤمنون ما ترونه من عنادهم وإعراضهم عن الحق ورابعها تحذير أهل الكتاب الموجودين في زمان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من نزول العذاب عليهم كما نزل بأسلافهم في تلك الوقائع المعدودة وخامسها تحذير مشركي العرب أن ينزل العذاب عليهم كما نزل على أولئك اليهود وسادسها أنه احتجاج على مشركي العرب المنكرين للإعادة مع إقرارهم بالابتداء وهو المراد من قوله تعالى كَذالِكَ يُحْى ِ اللَّهُ الْمَوْتَى ( البقرة 73 ) إذا عرفت هذا فنقول إنه عليه السلام كان شديد الحرص على الدعاء إلى الحق وقبولهم الإيمان منه وكان يضيق صدره بسبب عنادهم وتمردهم فقص الله تعالى عليه أخبار بني إسرائيل في العناد العظيم مع مشاهدة الآيات الباهرة تسلية لرسوله فيما يظهر من أهل الكتاب في زمانه من قلة القبول والاستجابة فقال تعالى أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وههنا مسائل
المسألة الأولى في قوله تعالى أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وجهان الأول وهو قول ابن عباس أنه خطاب مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) خاصة لأنه هو الداعي وهو المقصود بالاستجابة واللفظ وإن كان للعموم لكنا حملناه على الخصوص لهذه القرينة روي أنه عليه السلام حين دخل المدينة ودعا اليهود إلى كتاب الله وكذبوه فأنزل الله تعالى هذه الآية الثاني وهو قول الحسن أنه خطاب مع الرسول والمؤمنين قال القاضي وهذا أليق بالظاهر لأنه عليه السلام وإن كان الأصل في الدعاء فقد كان في الصحابة من يدعوهم إلى الإيمان ويظهر لهم الدلائل وينبههم عليها فصح أن يقول تعالى أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ ويريد به الرسول ومن هذا حاله من أصحابه وإذا كان ذلك صحيحاً فلا وجه لترك الظاهر
المسألة الثانية المراد بقوله أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ هم اليهود الذين كانوا في زمن الرسول عليه السلام لأنهم الذين يصح فيهم الطمع في أن يؤمنوا وخلافه لأن الطمع إنما يصح في المستقبل لا في الواقع

المسألة الثالثة ذكروا في سبب الاستبعاد وجوهاً أحدها أفتطمعون أن يؤمنوا لكم مع أنهم ما آمنوا بموسى عليه السلام وكان هو السبب في أن الله خلصهم من الذل وفضلهم على الكل ومع ظهور المعجزات المتوالية على يده وظهور أنواع العذاب على المتمردين الثاني أفتطمعون أن يؤمنوا ويظهروا التصديق ومن علم منهم الحق لم يعترف بذلك بل غيره وبدله الثالث أفتطمعون أن يؤمن لكم هؤلاء من طريق النظر والاستدلال وكيف وقد كان فريق من أسلافهم يسمعون كلام الله ويعلمون أنه حق ثم يعاندونه
المسألة الرابعة لقائل أن يقول القوم مكلفون بأن يؤمنوا بالله فما الفائدة في قوله أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ الجواب أنه يكون إقراراً لهم بما دعوا إليه ولو كان الإيمان لله كما قال تعالى فَئَامَنَ لَهُ لُوطٌ لما أقر بنبوته وبتصديقه ويجوز أن يراد بذلك أن يؤمنوا لأجلكم ولأجل تشددكم في دعائهم إليه فيكون هذا معنى الإضافة
أما قوله تعالى وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مّنْهُمْ فقد اختلفوا في ذلك الفريق منهم من قال المراد بالفريق من كان في أيام موسى عليه السلام لأنه تعالى وصف هذا الفريق بأنهم يسمعون كلام الله والذين سمعوا كلام الله هم أهل الميقات ومنهم من قال بل المراد بالفريق من كان في زمن محمد عليه الصلاة والسلام وهذا أقرب لأن الضمير في قوله تعالى وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مّنْهُمْ راجع إلى ما تقدم وهم الذين عناهم الله تعالى بقوله أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وقد بينا أن الذين تعلق الطمع بإيمانهم هم الذين كانوا في زمن محمد عليه الصلاة والسلام فإن قيل الذين سمعوا كلام الله هم الذين حضروا الميقات قلنا لا نسلم بل قد يجوز فيمن سمع التوراة أن يقال إنه سمع كلام الله كما يقال لأحدنا سمع كلام الله إذا قرىء عليه القرآن
أما قوله تعالى ثُمَّ يُحَرّفُونَهُ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال القفال التحريف التغيير والتبديل وأصله من الانحراف عن الشيء والتحريف عنه قال تعالى إِلاَّ مُتَحَرّفاً لّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيّزاً إِلَى فِئَة ٍ ( الأنفال 16 ) والتحريف هو إمالة الشيء عن حقه يقال قلم محرف إذا كان رأسه قط مائلاً غير مستقيم
المسألة الثانية قال القاضي إن التحريف إما أن يكون في اللفظ أو في المعنى وحمل التحريف على تغيير اللفظ أولى من حمله على تغيير المعنى لأن كلام الله تعالى إذا كان باقياً على جهته وغيروا تأويله فإنما يكونون مغيرين لمعناه لا لنفس الكلام المسموع فإن أمكن أن يحمل على ذلك كما روي عن ابن عباس من أنهم زادوا فيه ونقصوا فهو أولى وإن لم يمكن ذلك فيجب أن يحمل على تغيير تأويله وإن كان التنزيل ثابتاً وإنما يمتنع ذلك إذا ظهر كلام الله ظهوراً متواتراً كظهور القرآن فأما قبل أن يصير كذلك فغير ممتنع تحريف نفس كلامه لكن ذلك ينظر فيه فإن كان تغييرهم له يؤثر في قيام الحجة به فلا بد من أن يمنع الله تعالى منه وإن لم يؤثر في ذلك صح وقوعه فالتحريف الذي يصح في الكلام يجب أن يقسم على ما ذكرناه فأما تحريف المعنى فقد يصح على وجه ما لم يعلم قصد الرسول باضطرار فإنه متى علم ذلك امتنع منهم التحريف لما تقدم من علمهم بخلافه كما يمتنع الآن أن يتأول متأول تحريم لحم الخنزير والميتة والدم على غيرها

المسألة الثالثة اعلم أنا إن قلنا بأن المحرفين هم الذين كانوا في زمن موسى عليه السلام فالأقرب أنهم حرفوا ما لا يتصل بأمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) روي أن قوماً من السبعين المختارين سمعوا كلام الله حين كلم موسى بالطور وما أمر به موسى وما نهى عنه ثم قالوا سمعنا الله يقول في آخره إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا وإن شئتم أن لا تفعلوا فلا بأس وأما إن قلنا المحرفون هم الذين كانوا في زمن محمد عليه الصلاة والسلام فالأقرب أن المراد تحريف أمر محمد عليه الصلاة والسلام وذلك إما أنهم حرفوا نعت الرسول وصفته أو لأنهم حرفوا الشرائع كما حرفوا آية الرجم وظاهر القرآن لا يدل على أنهم أي شيء حرفوا
المسألة الرابعة لقائل أن يقول كيف يلزم من إقدام البعض على التحريف حصول اليأس من إيمان الباقين فإن عناد البعض لا ينافي إقرار الباقين أجاب القفال عنه فقال يحتمل أن يكون المعنى كيف يؤمن هؤلاء وهم إنما يأخذون دينهم ويتعلمونه من قوم هم يتعمدون التحريف عناداً فأولئك إنما يعلمونهم ما حرفوه وغيروه عن وجهه والمقلدة لا يقبلون إلا ذلك ولا يلتفتون إلى قول أهل الحق وهو كقولك للرجل كيف تفلح وأستاذك فلانا أي وأنت عنه تأخذ ولا تأخذ عن غيره
المسألة الخامسة اختلفوا في قوله أَفَتَطْمَعُونَ فقال قائلون آيسهم الله تعالى من إيمان هذه الفرقة وهم جماعة بأعيانهم وقال آخرون لم يؤيسهم من ذلك إلا من جهة الاستبعاد له منهم مع ما هم عليه من التحريف والتبديل والعناد قالوا وهو كما لا نطمع لعبيدنا وخدمنا أن يملكوا بلادنا ثم إنا لا نقطع بأنهم لا يملكون بل نستبعد ذلك ولقائل أن يقول إن قوله تعالى أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ استهفام على سبيل الإنكار فكان ذلك جزماً بأنهم لا يؤمنون ألبتة فإيمان من أخبر الله عنه أنه لا يؤمن ممتنع فحينئذ تعود الوجوه المقررة للخبر على ما تقدم
أما قوله تعالى مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ فالمراد أنهم علموا بصحته وفساد ما خلقوه فكانوا معاندين مقدمين على ذلك بالعمد فلأجل ذلك يجب أن يحمل الكلام على أنهم العلماء منهم وأنهم فعلوا ذلك لضرب من الأغراض على ما بينه الله تعالى من بعد في قوله تعالى وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً ( آل عمران 187 ) وقال تعالى يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ ( البقرة 146 ) ( الأنعام 20 ) ويجب أن يكون في عددهم قلة لأن الجمع العظيم لا يجوز عليهم كتمان ما يعتقدون لأنا إن جوزنا ذلك لم يعلم المحق من المبطل وإن كثر العدد
أما قوله تعالى وَهُمْ يَعْلَمُونَ فلقائل أن يقول قوله تعالى عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ تكرار لا فائدة فيه أجاب القفال عنه من وجهين الأول من بعد ما عقلوه مراد الله فأولوه تأويلاً فاسداً يعلمون أنه غير مراد الله تعالى الثاني أنهم عقلوا مراد الله تعالى وعلموا أن التأويل الفاسد يكسبهم الوزر والعقوبة من الله تعالى ومتى تعمدوا التحريف مع العلم بما فيه من الوزر كانت قسوتهم أشد وجراءتهم أعظم ولما كان المقصود من ذلك تسلية الرسول عليه الصلاة والسلام وتصبيره على عنادهم فكلما كان عنادهم أعظم كان ذلك في التسلية أقوى وفي الآية مسألتان
المسألة الأولى قال القاضي قوله تعالى أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ على ما تقدم تفسيره يدل على أن إيمانهم من قبلهم لأنه لو كان بخلق الله تعالى فيهم لكان لا يتغير حال الطمع فيهم بصفة الفريق

الذي تقدم ذكرهم ولما صح كون ذلك تسلية للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وللمؤمنين لأن على هذا القول أمرهم في الإيمان موقوف على خلقه تعالى ذلك وزواله موقوف على أن لا يخلقه فيهم ومن وجه آخر وهو أعظامه تعالى لذنبهم في التحريف من حيث فعلوه وهم يعلمون صحته ولو كان ذلك من خلقه لكان بأن يعلموا أو لا يعلموا لا يتغير ذلك وإضافته تعالى التحريف إليهم على وجه الذم تدل على ذلك واعلم أن الكلام عليه قد تقدم مراراً وأطواراً فلا فائدة في الإعادة
المسألة الثانية قال أبو بكر الرازي تدل الآية على أن العالم المعاند فيه أبعد من الرشد وأقرب إلى اليأس من الجاهل لأن قوله تعالى أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ يفيد زوال الطمع في رشدهم لمكابرتهم الحق بعد العلم به
وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ ءَامَنُواْ قَالُوا ءَامَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ
اعلم أن هذا هو النوع الثاني من قبائح أفعال اليهود الذين كانوا في زمن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والمروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن منافقي أهل الكتاب كانوا إذا لقوا أصحاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) قالوا لهم آمنا بالذي آمنتم به ونشهد أن صاحبكم صادق وأن قوله حق ونجده بنعته وصفته في كتابنا ثم إذا خلا بعضهم إلى بعض قال الرؤساء لهم أتحدثونهم بما فتح الله عليكم في كتابه من نعته وصفته ليحاجوكم به فإن المخالف إذا اعترف بصحة التوراة واعترف بشهادة التوراة على نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فلا حجة أقوى من ذلك فلا جرم كان بعضهم يمنع بعضاً من الاعتراف بذلك عند محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه قال القفال قوله فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ مأخوذ من قولهم قد فتح على فلان في علم كذا أي رزق ذلك وسهل له طلبه
أما قوله عِندَ رَبّكُمْ ففيه وجوه أحدها أنهم جعلوا محاجتهم به وقوله هو في كتابكم هكذا محاجة عند الله ألا تراك تقول هو في كتاب الله هكذا وهو عند الله هكذا بمعنى واحد وثانيها قال الحسن أي ليحاجوكم في ربكم لأن المحاجة فيما ألزم الله تعالى من اتباع الرسل تصح أن توصف بأنها محاجة فيه لأنها محاجة في دينه وثالثها قال الأصم المراد يحاجوكم يوم القيامة وعند التساؤل فيكون ذلك زائداً في توبيخكم وظهور فضيحتكم على رؤوس الخلائق في الموقف لأنه ليس من اعتراف بالحق ثم كتم كمن ثبت على الإنكار فكان القوم يعتقدون أن ظهور ذلك مما يزيد في انكشاف فضيحتهم في الآخرة ورابعها قال

القاضي أبو بكر إن المحتج بالشيء قد يحتج ويكون غرضه من إظهار تلك الحجة حصول السرور بسبب غلبة الخصم وقد يكون غرضه منه الديانة والنصيحة فقط ليقطع عذر خصمه ويقرر حجة الله عليه فقال القوم عند الخلوة قد حدثتموهم بما فتح الله عليكم من حجتهم في التوراة فصاروا يتمكنون من الاحتجاج به على وجه الديانة والنصيحة لأن من يذكر الحجة على هذا الوجه قد يقول لصاحبه قد أوجبت عليك عند الله وأقمت عليك الحجة بيني وبين ربي فإن قبلت أحسنت إلى نفسك وإن جحدت كنت الخاسر الخائب وخامسها قال القفال يقال فلان عندي عالم أي في اعتقادي وحكمي وهذا عند الشافعي حلال وعند أبي حنيفة حرام أي في حكمهما وقوله لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبّكُمْ أي لتصيروا محجوجين بتلك الدلائل في حكم الله وتأول بعض العلماء قوله تعالى فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ ( النور 13 ) أي في حكم الله وقضائه لأن القاذف إذا لم يأت بالشهود لزمه حكم الكاذبين وإن كان في نفسه صادقاً
أما قوله أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ففيه وجوه أحدها أنه يرجع إلى المؤمنين فكأنه تعالى قال أفلا تعقلون لما ذكرته لكم من صفتهم أن الأمر لا مطمع لكم في إيمانهم وهو قول الحسن وثانيها أنه راجع إليهم فكأن عند ما خلا بعضهم ببعض قالوا لهم أتحدثونهم بما يرجع وباله عليكم وتصيرون محجوجين به أفلا تعقلون أن ذلك لا يليق بما أنتم عليه وهذا الوجه أظهر لأنه من تمام الحكاية عنهم فلا وجه لصرفه عنهم إلى غيرهم
أما قوله تعالى أَوْ لاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ففيه قولان الأول وهو قول الأكثرين إن اليهود كانوا يعرفون الله ويعرفون أنه تعالى يعلم السر والعلانية فخوفهم الله به الثاني أنهم ما علموا بذلك فرغبهم بهذا القول في أن يتفكروا فيعرفوا أن لهم رباً يعلم سرهم وعلانيتهم وأنهم لا يأمنون حلول العقاب بسبب نفاقهم وعلى القولين جميعاً فهذا الكلام زجر لهم عن النفاق وعن وصية بعضهم بعضاً بكتمان دلائل نبوة محمد والأقرب أن اليهود المخاطبين بذلك كانوا عالمين بذلك لأنه لا يكاد يقال على طريق الزجر أولا يعلم كيت وكيت إلا وهو عالم بذلك الشيء ويكون ذلك الشيء زاجراً له عن ذلك الفعل وقال بعضهم هؤلاء اليهود كيف يستجيزون أن يسر إلى إخوانهم النهي عن إظهار دلائل نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهم ليسوا كالمنافين الذين لا يعلمون الله ولا يعلمون كونه عالماً بالسر والعلانية فشأنهم من هذه الجهة أعجب قال القاضي الآية تدل على أمور أحدها أنه تعالى إن كان هو الخالق لأفعال العباد فكيف يصح أن يزجرهم عن تلك الأقوال والأفعال وثانيها أنها تدل على صحة الحجاج والنظر وأن ذلك كان طريقة الصحابة والمؤمنين وأن ذلك كان ظاهراً عند اليهود حتى قال بعضهم لبعض ما قالوه وثالثها أنها تدل على أن الحجة قد تكون إلزامية لأنهم لما اعترفوا بصحة التوراة وباشتمالها على ما يدل على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام لا جرم لزمهم الاعتراف بالنبوة ولو منعوا إحدى تينك المقدمتين لما تمت الدلالة ورابعها أنها تدل على أن الآتي بالمعصية مع العلم بكونها معصية يكون أعظم جرماً ووزراً والله أعلم
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِى َّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَاذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ

اعلم أن المراد بقوله وَمِنْهُمْ أُمّيُّونَ اليهود لأنه تعالى لما وصفهم بالعناد وأزال الطمع عن إيمانهم بين فرقهم فالفرقة الأولى هي الفرقة الضالة المضلة وهم الذين يحرفون الكلم عن مواضعه والفرقة الثانية المنافقون والفرقة الثالثة الذين يجادلون المنافقين والفرقة الرابعة هم المذكورون في هذه الآية وهم العامة الأميون الذين لا معرفة عندهم بقراءة ولا كتابة وطريقتهم التقليد وقبول ما يقال لهم فبين الله تعالى أن الذين يمتنعون عن قبول الإيمان ليس سبب ذلك الامتناع واحداً بل لكل قسم منهم سبب آخر ومن تأمل ما ذكره الله تعالى في هذه الآية من شرح فرق اليهود وجد ذلك بعينه في فرق هذه الأمة فإن فيهم من يعاند الحق ويسعى في إضلال الغير وفيهم من يكون متوسطاً وفيهم من يكون عامياً محضاً مقلداً وههنا مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في الأمي فقال بعضهم هو من لا يقر بكتاب ولا برسول وقال آخرون من لا يحسن الكتابة والقراءة وهذا الثاني أصوب لأن الآية في اليهود وكانوا مقرين بالكتاب والرسول ولأنه عليه الصلاة والسلام قال ( نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ) وذلك يدل على هذا القول ولأن قوله لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ لا يليق إلا بذلك
المسألة الثانية ( الأماني ) جمع أمنية ولها معانٍ مشتركة في أصل واحد أحدها ما تخيله الإنسان فيقدر في نفسه وقوعه ويحدثها بكونه ومن هذا قولهم فلان يعد فلاناً ويمنيه ومنه قوله تعالى يَعِدُهُمْ وَيُمَنّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً ( النساء 12 ) فإن فسرنا الأماني بهذا كان قوله ( إلا أماني إلا ما هم عليه من أمانيهم في أن الله تعالى لا يؤاخذهم بخطاياهم ) وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم وما تمنيهم أحبارهم من أن النار لا تمسهم إلا أياماً معدودة وثانيها إِلاَّ أَمَانِى َّ إلا أكاذيب مختلفة سمعوها من علمائهم فقبلوها على التقليد قال أعرابي لابن دأب في شيء حدث به أهذا شيء رويته أم تمنيته أم اختلقته وثالثها إِلاَّ أَمَانِى َّ أي إلا ما يقرأون من قوله تمنى كتاب الله أول ليلة قال صاحب ( الكشاف ) والاشتقاق منى من إذا قدر لأن المتمني يقدر في نفسه ويجوز ما يتمناه وكذلك المختلق والقارىء يقدر أن كلمة كذا بعد كذا قال أبو مسلم حمله على تمنى القلب أولى بدليل قوله تعالى وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّة َ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ ( البقرة 111 ) أي تمنيهم وقال الله تعالى لَّيْسَ بِأَمَانِيّكُمْ وَلا أَمَانِى ّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ ( النساء 123 ) وقال تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ ( البقرة 111 )

وقال تعالى وَقَالُواْ مَا هِى َ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ ( الجاثية 24 ) بمعنى يقدرون ويخرصون وقال الأكثرون حمله على القراءة أولى كقوله تعالى إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِى أُمْنِيَّتِهِ ( الحج 52 ) ولأن حمله على القراءة أليق بطريقة الاستثناء لأنا إذا حملناه على ذلك كان له به تعلق فكأنه قال لا يعلمون الكتاب إلا بقدر ما يتلى عليهم فيسمعونه وبقدر ما يذكر لهم فيقبلونه ثم إنهم لا يتمكنون من التدبر والتأمل وإذا حمل على أن المراد الأحاديث والأكاذيب أو الظن والتقدير وحديث النفس كان الاستثناء فيه نادراً
المسألة الثالثة قوله تعالى إِلاَّ أَمَانِى َّ من الاستثناء المنقطع قال النابغة حلفت يميناً غير ذي مثنوية
ولا علم إلا حسن ظن بغائب
وقرىء ( إلا أماني ) بالتخفيف أما قوله تعالى وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ فكالمحقق لما قلناه لأن الأماني إن أريد بها التقدير والفكر لأمور لا حقيقة لها فهي ظن ويكون ذلك تكراراً ولقائل أن يقول حديث النفس غير والظن غير فلا يلزم التكرار وإذا حملناه على التلاوة عليهم يحسن معناه فكأنه تعالى قال ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا بأن يتلى عليهم فيسمعوه وإلا بأن يذكرهم تأويله كما يراد فيظنون وبين تعالى أن هذه الطريقة لا توصل إلى الحق وفي الآية مسائل أحدها أن المعارف كسبية لا ضرورية فلذلك ذم من لا يعلم ويظن وثانيها بطلان التقليد مطلقاً وهو مشكل لأن التقليد في الفروع جائز عندنا وثالثها أن المضل وإن كان مذموماً فالمغتر بإضلال المضل أيضاً مذموم لأنه تعالى ذمهم وإن كانوا بهذه الصفة ورابعها أن الاكتفاء بالظن في أصول الدين غير جائز والله أعلم أما قوله تعالى فَوَيْلٌ فقالوا الويل كلمة يقولها كل مكروب وقال ابن عباس إنه العذاب الأليم وعن سفيان الثوري إنه مسيل صديد أهل جهنم وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنه واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفاً قبل أن يبلغ قعره ) قال القاضي ( ويل ) يتضمن نهاية الوعيد والتهديد فهذا القدر لا شبهة فيه سواء كان الويل عبارة عن وادٍ في جهنم أو عن العذاب العظيم
أما قوله تعالى يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ففيه وجهان الأول أن الرجل قد يقول كتبت إذا أمر بذلك ففائدة قوله بِأَيْدِيهِمْ أنه لم يقع منهم إلا على هذا الوجه الثاني أنه تأكيد وهذا الموضع مما يحسن فيه التأكيد كما تقول لمن ينكر معرفة ما كتبه يا هذا كتبته بيمينك أما قوله تعالى ثُمَّ يَقُولُونَ هَاذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ فالمراد أن من يكتب هذه الكتابة ويكسب هذا الكسب في غاية الرداءة لأنهم ضلوا عن الدين وأضلوا وباعوا آخرتهم بدنياهم فذنبهم أعظم من ذنب غيرهم فإن المعلوم أن الكذب على الغير بما يضر يعظم إثمه فكيف بمن يكذب على الله ويضم إلى الكذب الإضلال ويضم إليهما حب الدنيا والاحتيال في تحصيلها ويضم إليها أنه مهد طريقاً في الإضلال باقياً على وجه الدهر فلذلك عظم تعالى ما فعلوه فإن قيل إنه تعالى حكى عنهم أمرين أحدهما كتبة الكتاب والآخر إسناده إلى الله تعالى على سبيل الكذب فهذا الوعيد مرتب على الكتبة أو على إسناد المكتوب إلى الله أو عليهما معاً قلنا لا شك أن كتبة الأشياء الباطلة لقصد الإضلال من المنكرات والكذب على الله تعالى أيضاً كذلك والجمع بينهما منكر عظيم جداً أما قوله تعالى لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فهو تنبيه على أمرين الأول أنه تنبيه على نهاية شقاوتهم لأن العاقل يجب أن لا يرضى بالوزر القليل في الآخرة لأجل الأجر

العظيم في الدنيا فكيف يليق به أن يرضى بالعقاب العظيم في الآخرة لأجل النفع الحقير في الدنيا الثاني أنه يدل على أنهم ما فعلوا ذلك التحريف ديانة بل إنما فعلوه طلباً للمال والجاه وهذا يدل على أن أخذ المال على الباطل وإن كان بالتراضي فهو محرم لأن الذي كانوا يعطونه من المال كان على محبة ورضا ومع ذلك فقد نبه تعالى على تحريمه
أما قوله تعالى فَوَيْلٌ لَّهُمْ مّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ فالمراد أن كتبتهم لما كتبوه ذنب عظيم بانفراده وكذلك أخذهم المال عليه فلذلك أعاد ذكر الويل في الكسب ولو لم يعد ذكره كان يجوز أن يقال إن مجموعهما يقتضي الوعيد العظيم دون كل واحد منهما فأزال الله تعالى هذه الشبهة واختلفوا في قوله تعالى مِّمَّا يَكْسِبُونَ هل المراد ما كانوا يأخذون على هذه الكتابة والتحريف فقط أو المراد بذلك سائر معاصيهم والأقرب في نظام الكلام أنه راجع إلى المذكور من المال المأخوذ على هذا الوجه وإن كان الأقرب من حيث العموم أنه يشمل الكل لكن الذي يرجح الأول أنه متى لم يقيد كسبهم بهذا القيد لم يحسن الوعيد عليه لأن الكسب يدخل فيه الحلال والحرام فلا بد من تقييده وأولى ما يقيد به ما تقدم ذكره قال القاضي دلت الآية على أن كتابتهم ليست خلقاً لله تعالى لأنها لو كانت خلقاً لله تعالى لكانت إضافتها إليه تعالى بقولهم هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ذلك حقيقة لأنه تعالى إذا خلقها فيهم فهب أن العبد مكتسب إلا أن انتساب الفعل إلى الخالق أقوى من انتسابه إلى المكتسب فكان اسناد تلك الكتبة إلى الله تعالى أولى من إسنادها إلى العبد فكان يجب أن يستحقوا الحمد على قولهم فيها إنها من عند الله ولما لم يكن كذلك علمنا أن تلك الكتبة ليست مخلوقة لله تعالى والجواب أن الداعية الموجبة لها من خلق الله تعالى بالدلائل المذكورة فهي أيضاً تكون كذلك والله أعلم
وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَة ً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
اعلم أن هذا هو النوع الثالث من قبائح أقوالهم وأفعالهم وهو جزمهم بأن الله تعالى لا يعذبهم إلا أياماً قليلة وهذا الجزم لا سبيل إليه بالعقل ألبتة أما على قولنا فلأن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا اعتراض لأحد عليه في فعله فلا طريق إلى معرفة ذلك إلا بالدليل السمعي وأما على قول المعتزلة فلأن العقل يدل عندهم على أن المعاصي يستحق بها من الله العقاب الدائم فلما دل العقل على ذلك احتج في تقدير العقاب مدة ثم في زواله بعدها إلى سمع يبين ذلك فثبت أن على المذهبين لا سبيل إلى معرفة ذلك إلا بالدليل السمعي وحيث توجد الدلالة السمعية لم يجز الجزم بذلك وههنا مسألتان
المسألة الأولى ذكروا في تفسير الأيام المعدودة وجهين الأول أن لفظ الأيام لا تضاف إلا إلى العشرة

فما دونها ولا تضاف إلى ما فوقها فيقال أيام خمسة وأيام عشرة ولا يقال أيام أحد عشر إلا أن هذا يشكل بقوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَّعْدُوداتٍ ( البقرة 183 184 ) هي أيام الشهر كله وهي أزيد من العشرة ثم قال القاضي إذا ثبت أن الأيام محمولة على العشرة فما دونها فالأشبه أن يقال إنه الأقل أو الأكثر لأن من يقول ثلاثة يقول أحمله على أقل الحقيقة فله وجه ومن يقول عشرة يقول أحمله على الأكثر وله وجه فأما حمله على الواسطة أعني على ما هو أقل من العشرة وأزيد من الثلاثة فلا وجه له لأنه ليس عدد أولى من عدد اللهم إلا إذا جاءت في تقديرها رواية صحيحة فحينئذ يجب القول بها وجماعة من المفسرين قدروها بسبعة أيام قال مجاهد إن اليهود كانت تقول الدنيا سبعة آلاف سنة فالله تعالى يعذبهم مكان كل ألف سنة يوماً فكانوا يقولون إن الله تعالى يعذبنا سبعة أيام وحكى الأصم عن بعض اليهود أنهم عبدوا العجل سبعة أيام فكانوا يقولون إن الله تعالى يعذبنا سبعة أيام وهذان الوجهان ضعيفان أما الأول فلأنه ليس بين كون الدنيا سبعة آلاف سنة وبين كون العذاب سبعة أيام مناسبة وملازمة ألبتة وأما الثاني فلأنه لا يلزم من كون المعصية مقدرة بسبعة أيام أن يكون عذابها كذلك أما على قولنا فلأنه يحسن من الله كل شيء بحكم المالكية وأما عند المعتزلة فلأن العاصي يستحق على عصيانه العقاب الدائم ما لم توجد التوبة أو العفو فإن قيل أليس أنه تعالى منع من استيفاء الزيادة فقال وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا ( الشورى 40 ) فوجب أن لا يزيد العقاب على المعصية قلنا إن المعصية تزداد بقدر النعمة فلما كانت نعم الله على العباد خارجة عن الحصر والحد لا جرم كانت معصيتهم عظيمة جداً
الوجه الثاني روي عن ابن عباس أنه فسر هذه الأيام بالأربعين وهو عدد الأيام التي عبدوا العجل فيها والكلام عليه أيضاً كالكلام على السبعة
الوجه الثالث قيل في معنى ( معدودة ) قليلة كقوله تعالى وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَة ٍ ( يوسف 20 ) والله أعلم
المسألة الثانية ذهبت الحنفية إلى أن أقل الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشرة واحتجوا عليه بقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( دعي الصلاة أيام إقرائك ) فمدة الحيض ما يسمى أياماً وأقل عدد يسمى أياماً ثلاثة وأكثره عشرة على ما بيناه فوجب أن يكون أقل الحيض ثلاثة وأكثره عشرة والإشكال عليه ما تقدم
المسألة الثالثة ذكر ههنا وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَة ً وفي آل عمران إِلا أَيَّامًا مَّعْدُوداتٍ ( آل عمران 24 ) ولقائل أن يقول لم كانت الأولى معدودة والثانية معدودات والموصوف في المكانين موصوف واحد وهو ( أياماً ) والجواب أن الاسم إن كان مذكراً فالأصل في صفة جمعه التاء يقال كوز وكيزان مكسورة وثياب مقطوعة وإن كان مؤنثاً كان الأصل في صفة جمعه الألف والتاء يقال جرة وجرار مكسورات وخابية وخوابي مكسورات إلا أنه قد يوجد الجمع بالألف والتاء فيما واحده مذكر في بعض الصور نادراً نحو حمام وحمامات وجمل سبطر وسبطرات وعلى هذا ورد قوله تعالى فِى أَيَّامٍ مَّعْدُوداتٍ و فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ فالله تعالى تكلم في سورة البقرة بما هو الأصل وهو قوله أَيَّامًا مَّعْدُودَة ً وفي آل عمران بما هو الفرع
أما قوله تعالى قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ ففيه مسائل

المسألة الأولى العهد في هذا الموضع يجري مجرى الوعد والخبر وإنما سمي خبره سبحانه عهداً لأن خبره سبحانه أوكد من العهود المؤكدة منا بالقسم والنذر فالعهد من الله لا يكون إلا بهذا الوجه
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) ( فلن يخلف الله ) متعلق بمحذوف وتقديره إن اتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده
المسألة الثالثة قوله تعالى اتَّخَذْتُمْ ليس باستفهام بل هو إنكار لأنه لا يجوز أن يجعل تعالى حجة رسوله في إبطال قولهم أن يستفهمهم بل المراد التنبيه على طريقة الاستدلال وهي أنه لا سبيل إلى معرفة هذا التقدير إلا بالسمع فلما لم يوجد الدليل السمعي وجب ألا يجوز الجزم بهذا التقدير
المسألة الرابعة قوله تعالى فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ يدل على أنه سبحانه وتعالى منزه عن الكذب وعده ووعيده قال أصحابنا لأن الكذب صفة نقص والنقص على الله محال وقالت المعتزلة لأنه سبحانه عالم بقبح القبيح وعالم بكونه غنياً عنه والكذب قبيح لأنه كذب والعالم بقبح القبيح وبكونه غنياً عنه يستحيل أن يفعله فدل على أن الكذب منه محال فلهذا قال فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ فإن قيل العهد هو الوعد وتخصيص الشيء بالذكر يدل على نفي ما عداه فلما خص الوعد بأنه لا يخلفه علمنا أن الخلف في الوعيد جائز ثم العقل يطابق ذلك لأن الخلف في الوعد لؤم وفي الوعيد كرم قلنا الدلالة المذكورة قائمة في جميع أنواع الكذب
المسألة الخامسة قال الجبائي دلت الآية على أنه تعالى لم يكن وعد موسى ولا سائر الأنبياء بعده على أنه تعالى يخرج أهل المعاصي والكبائر من النار بعد التكذيب لأنه لو وعدهم بذلك لما جاز أن ينكر على اليهود هذا القول وإذا ثبت أنه تعالى ما دلهم على ذلك وثبت أنه تعالى دلهم على وعيد العصاة إذا كان بذلك زجرهم عن الذنوب فقد وجب أن يكون عذابهم دائماً على ما هو قول الوعيدية وإذا ثبت ذلك في سائر الأمم وجب ثبوته في هذه الأمة لأن حكمه تعالى في الوعد والوعيد لا يجوز أن يختلف في الأمم إذ كان قدر المعصية من الجميع لا يختلف واعلم أن هذا الوجه في نهاية التعسف فنقول لا نسلم أنه تعالى ما وعد موسى أنه يخرج أهل الكبائر من النار قوله لو وعدهم بذلك لما أنكر على اليهود قولهم قلنا لم قلت إنه تعالى لو وعدهم ذلك لما أنكر على اليهود ذلك وما الدليل على هذه الملازمة ثم إنا نبين شرعاً أن ذلك غير لازم من وجوه أحدها لعل الله تعالى إنما أنكر عليهم لأنهم قللوا أيام العذاب فإن قولهم لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَة ً يدل على أيام قليلة جداً فالله تعالى أنكر عليهم جزمهم بهذه القلة لا أنه تعالى أنكر عليهم انقطاع العذاب وثانيها أن المرجئة يقطعون في الجملة بالعفو فأما في حق الشخص المعين فلا سبيل إلى القطع فلما حكموا في حق أنفسهم بالتخفيف على سبيل الجزم لا جرم أنكر الله عليهم ذلك وثالثها أنهم كانوا كافرين وعندنا عذاب الكافر دائم لا ينقطع سلمنا أنه تعالى ما وعد موسى عليه السلام أنه يخرج أهل الكبائر من النار فلم قلت أنه لا يخرجهم من النار بيانه أنه فرق بين أن يقال إنه تعالى ما وعده إخراجهم من النار وبين أن يقال إنه أخبره أنه لا يخرجهم من النار والأول لا مضرة فيه فإنه تعالى ربما

لم يقل ذلك لموسى إلا أنه سيفعله يوم القيامة وإنما رد على اليهود وذلك لأنهم جزموا به من غير دليل فكان يلزمهم أن يتوقفوا فيه وأن لا يقطعوا لا بالنفي ولا بالإثبات سلمنا أنه تعالى لا يخرج عصاة قوم موسى من النار فلم قلت إنه لا يخرج عصاة هذه الأمة من النار وأما قول الجبائي لأن حكمه تعالى في الوعد والوعيد لا يجوز أن يختلف في الأمم فهو تحكم محض فإن العقاب حق الله تعالى فله أن يتفضل على البعض بالإسقاط وأن لا يتفضل بذلك على الباقين فثبت أن هذا الاستدلال ضعيف أما قوله تعالى أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ فهو بيان لتمام الحجة المذكورة فإنه إذا كان لا طريق إلى التقدير المذكور إلا السمع وثبت أنه لم يوجد السمع كان الجزم بذلك التقدير قولاً على الله تعالى بما لا يكون معلوماً لا محالة وهذه الآية تدل على فوائد أحدها أنه تعالى لما عاب عليهم القول الذي قالوه لا عن دليل علمنا أن القول بغير دليل باطل وثانيها أن كل ما جاز وجوده وعدمه عقلاً لم يجز المصير إلى الإثبات أو إلى النفي إلا بدليل سمعي وثالثها أن منكري القياس وخبر الواحد يتمسكون بهذه الآية قالوا لأن القياس وخبر الواحد لا يفيد العلم فوجب أن لا يكون التمسك به جائزاً لقوله تعالى أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ذكر ذلك في معرض الإنكار والجواب أنه لما دلت الدلالة على وجوب العمل عند حصول الظن المستند إلى القياس أو إلى خبر الواحد كان وجوب العمل معلوماً فكان القول به قولاً بالمعلوم لا بغير المعلوم
بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَة ً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِي أتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
قال صاحب الكشاف ( بلى ) إثبات لما بعد حرف النفي وهو قوله تعالى لَن تَمَسَّنَا النَّارُ أي بلى تمسكم أبداً بدليل قوله هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ أما السيئة فإنها تتناول جميع المعاصي قال تعالى وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا ( الشورى 40 ) مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ ( النساء 123 ) ولما كان من الجائز أن يظن أن كل سيئة صغرت أو كبرت فحالها سواء في أن فاعلها يخلد في النار لا جرم بين تعالى أن الذي يستحق به الخلود أن يكون سيئة محيطة به ومعلوم أن لفظ الإحاطة حقيقة في إحاطة جسم بجسم آخر كإحاطة السور بالبلد والكوز بالماء وذلك ههنا ممتنع فنحمله على ما إذا كانت السيئة كبيرة لوجهين أحدهما أن المحيط يستر المحاط به والكبيرة لكونها محيطة لثواب الطاعات كالساترة لتلك الطاعات فكانت المشابهة حاصلة من هذه الجهة والثاني أن الكبيرة إذا أحبطت ثواب الطاعات فكأنها استولت على تلك الطاعات وأحاطت بها كما يحيط عسكر العدو بالإنسان بحيث لا يتمكن الإنسان من التخلص منه فكأنه تعالى قال بلى من كسب كبيرة وأحاطت كبيرته بطاعاته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون فإن قيل هذه الآية وردت في حق اليهود قلنا العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب هذا هو الوجه الذي استدلت المعتزلة به في إثبات الوعيد لأصحاب الكبائر

واعلم أن هذه المسألة من معظمات المسائل ولنذكرها ههنا فنقول اختلف أهل القبلة في وعيد أصحاب الكبائر فمن الناس من قطع بوعيدهم وهم فريقان منهم من أثبت الوعيد المؤبد وهو قول جمهور المعتزلة والخوارج ومنهم من أثبت وعيداً منقطعاً وهو قول بشر المريسي والخالد ومن الناس من قطع بأنه لا وعيد لهم وهو قول شاذ ينسب إلى مقاتل بن سليمان المفسر والقول الثالث أنا نقطع بأنه سبحانه وتعالى يعفو عن بعض المعاصي ولكنا نتوقف في حق كل أحد على التعيين أنه هل يعفو عنه أم لا ونقطع بأنه تعالى إذا عذب أحداً منهم مدة فإنه لا يعذبه أبداً بل يقطع عذابه وهذا قول أكثر الصحابة والتابعين وأهل السنة والجماعة وأكثر الإمامية فيشتمل هذا البحث على مسألتين إحداهما في القطع بالوعيد والأخرى في أنه لو ثبت الوعيد فهل يكون ذلك على نعت الدوام أم لا
المسألة الأولى في الوعيد ولنذكر دلائل المعتزلة أولاً ثم دلائل المرجئة الخالصة ثم دلائل أصحابنا رحمهم الله أما المعتزلة فإنهم عولوا على العمومات الواردة في هذا الباب وتلك العمومات على جهتين بعضها وردت بصيغة ( من ) في معرض الشرط وبعضها وردت بصيغة الجمع أما النوع الأول فآيات إحداها قوله تعالى في آية المواريث تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ( البقرة 187 ) إلى قوله وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا ( النساء 14 ) وقد علمنا أن من ترك الصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد وارتكب شرب الخمر والزنا وقتل النفس المحرمة فهو متعد لحدود الله فيجب أن يكون من أهل العقاب وذلك لأن كلمة ( من ) في معرض الشرط تفيد العموم على ما ثبت في أصول الفقه فمتى حمل الخصم هذه الآية على الكافر دون المؤمن كان ذلك على خلاف الدليل ثم الذي يبطل قوله وجهان أحدهما أنه تعالى بين حدوده في المواريث ثم وعد من يطيعه في تلك الحدود وتوعد من يعصيه فيها ومن تمسك بالإيمان والتصديق به تعالى فهو أقرب إليها إلى الطاعة فيها ممن يكون منكراً لربوبيته ومكذباً لرسله وشرائعه فترغيبه في الطاعة فيها أخص ممن هو أقرب إلى الطاعة فيها وهو المؤمن ومتى كان المؤمن مراداً بأول الآية فكذلك بآخرها الثاني أنه قال تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ولا شبهة في أن المراد به الحدود المذكورة ثم علق بالطاعة فيها الوعد وبالمعصية فيها الوعيد فاقتضى سياق الآية أن الوعيد متعلق بالمعصية في هذه الحدود فقط دون أن يضم إلى ذلك تعدي حدود أخر ولهذا كان مزجوراً بهذا الوعيد في تعدي هذه الحدود فقط ولو لم يكن مراداً بهذا الوعيد لما كان مزجوراً به وإذا ثبت أن المؤمن مراد بها كالكافر بطل قول من يخصها بالكافر فإن قيل إن قوله تعالى وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ ( النساء 14 ) جمع مضاف والجمع المضاف عندكم يفيد العموم كما لو قيل ضربت عبيدي فإنه يكون ذلك شاملاً لجميع عبيده وإذا ثبت ذلك اختصت هذه الآية بمن تعدى جميع حدود الله وذلك هو الكافر لا محالة دون المؤمن قلنا الأمر وإن كان كما ذكرتم نظراً إلى اللفظ لكنه وجدت قرائن تدل على أنه ليس المراد ههنا تعدي جميع الحدود أحدها أنه تعالى قدم على قوله وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ قوله تعالى تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فانصرف قوله وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ إلى تلك الحدود وثانيها أن الأمة متفقون على أن المؤمن مزجور بهذه الآية عن المعاصي ولو صح ما ذكرتم لكان المؤمن غير مزجور بها وثالثها أنا لو حملنا الآية على تعدي جميع الحدود لم يكن للوعيد بها فائدة لأن أحداً من المكلفين لا يتعدى

جميع حدود الله لأن في الحدود ما لا يمكن الجمع بينها في التعدي لتضادها فإنه لا يتمكن أحد من أن يعتقد في حالة واحدة مذهب الثنوية والنصرانية وليس يوجد في المكلفين من يعصي الله بجميع المعاصي ورابعها قوله تعالى في قاتل المؤمن عمداً وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا ( النساء 93 ) دلت الآية على أن ذلك جزاؤه فوجب أن يحصل له هذا الجزاء لقوله تعالى مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ ( النساء 123 ) وخامسها قوله تعالى النَّارِ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إلى قوله وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرّفاً لّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيّزاً إِلَى فِئَة ٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ( الأنفال 15 16 ) وسادسها قوله تعالى فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ شَرّاً يَرَهُ ( الزلزلة 7 8 ) وسابعها قوله تعالى ضَعِيفاً يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلى قوله تعالى وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً ( النساء 29 30 ) وثامنها قوله تعالى إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَى وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى ( طه 74 75 ) فبين تعالى أن الكافر والفاسق من أهل العقاب الدائم كما أن المؤمن من أهل الثواب وتاسعها قوله تعالى وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً ( طه 111 ) وهذا يوجب أن يكون الظالم من أهل الصلاة داخلاً تحت هذا الوعيد وعاشرها قوله تعالى بعد تعداد المعاصي وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيامَة ِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً ( الفرقان 68 69 ) بين أن الفاسق كالكافر في أنه من أهل الخلود إلا من تاب من الفساق أو آمن من الكفار والحادية عشرة قوله تعالى مَن جَاء بِالْحَسَنَة ِ فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا وَهُمْ مّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ ءامِنُونَ وَمَن جَاء بِالسَّيّئَة ِ ( النمل 89 90 ) الآية وهذا يدل على أن المعاصي كلها متوعد عليها كما أن الطاعات كلها موعود عليها والثانية عشرة قوله تعالى فَأَمَّا مَن طَغَى وَءاثَرَ الْحَيَواة َ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِى َ الْمَأْوَى ( النازعات 37 ) والثالثة عشرة قوله تعالى وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ ( الجن 23 ) الآية ولم يفصل بين الكافر والفاسق والرابعة عشرة قوله تعالى بَلَى مَن كَسَبَ سَيّئَة ً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ الآية فحكي في أول الآية قول المرجئة من اليهود فقال وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَة ً ( البقرة 80 ) ثم إن الله كذبهم فيه ثم قال بَلَى مَن كَسَبَ سَيّئَة ً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ فهذه هي الآيات التي تمسكوا بها في المسألة لاشتمالها على صيغة ( من ) في معرض الشرط واستدلوا على أن هذه اللفظة تفيد العموم بوجوه أحدها أنها لو لم تكن موضوعة للعموم لكانت إما موضوعة للخصوص أو مشتركة بينهما والقسمان باطلان فوجب كونها موضوعة للعموم أما أنه لا يجوز أن تكون موضوعة للخصوص فلأنه لو كان كذلك لما حسن من المتكلم أن يعطي الجزاء لكل من أتى بالشرط لأن على هذا التقدير لايكون ذلك الجزاء مرتباً على ذلك الشرط لكنهم أجمعوا على أنه إذا قال من دخل داري أكرمته أنه يحسن أن يكرم كل من دخل داره فعلمنا أن هذه اللفظة ليست للخصوص وأما أنه لا يجوز أن تكون موضوعة للاشتراك أما أولاً فلأن الاشتراك خلاف الأصل وأما ثانياً فلأنه لو كان كذلك لما عرف كيفية ترتيب الجزاء على الشرط إلا بعد الاستفهام عن جميع الأقسام الممكنة مثل أنه إذا قال من دخل داري أكرمته فيقال له أردت الرجال أو النساء فإذا قال أردت الرجال يقال له أردت العرب أو العجم فإذا قال أردت العرب يقال له أردت ربيعة أو

مضر وهلم جراً إلى أن يأتي على جميع التقسيمات الممكنة ولما علمنا بالضرورة من عادة أهل اللسان قبح ذلك علمنا أن القول بالاشتراك باطل وثانيها أنه إذا قال من دخل داري أكرمته حسن استثناء كل واحد من العقلاء منه والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله فيه لأنه لا نزاع في أن المستثنى من الجنس لا بد وأن يكون بحيث يصح دخوله تحت المستثنى منه فإما أن يعتبر مع الصحة الوجوب أو لا يعتبر والأول باطل أما أولاً فلأنه يلزم أن لا يبقى بين الاستثناء من الجمع المنكر كقوله جاءني الفقهاء إلا زيداً وبين الاستثناء من الجمع المعرف كقوله جاءني الفقهاء إلا زيداً فرق لصحة دخول زيد في الكلامين لكن الفرق بينهما معلوم بالضرورة وأما ثانياً فلأن الاستثناء من العدد يخرج ما لولاه لوجب دخوله تحته فوجب أن يكون هذا فائدة الاستثناء في جميع المواضع لأن أحداً من أهل اللغة لم يفصل بين الاستثناء الداخل على العدد وبين الداخل على غيره من الألفاظ فثبت بما ذكرنا أن الاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله فيه وذلك يدل على أن صيغة ( من ) في معرض الشرط للعموم وثالثها أنه تعالى لما أنزل قوله إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ( الأنبياء 98 ) الآية قال ابن الزبعري لأخصمن محمداً ثم قال يا محمد أليس قد عبدت الملائكة أليس قد عبد عيسى ابن مريم فتمسك بعموم اللفظ والنبي عليه الصلاة والسلام لم ينكر عليه ذلك فدل على أن هذه الصيغة تفيد العموم النوع الثاني من دلائل المعتزلة التمسك في الوعيد بصيغة الجمع المعرفة بالألف واللام وهي في آيات إحداها قوله تعالى وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ ( الإنفطار 14 ) واعلم أن القاضي والجبائي وأبا الحسن يقولون إن هذه الصيغة تفيد العموم وأبو هاشم يقول إنها لا تفيد العموم فنقول الذي يدل على أنها للعموم وجوه أحدها أن الأنصار لما طلبوا الإمامة احتج عليهم أبو بكر رضي الله عنه بقوله عليه الصلاة والسلام ( الأئمة من قريش ) والأنصار سلموا تلك الحجة ولو لم يدل الجمع المعرف بلام الجنس على الاستغراق لما صحت تلك الدلالة لأن قولنا بعض الأئمة من قريش لا ينافي وجود إمام من قوم آخرين أما كون كل الأئمة من قريش ينافي كون بعض الأئمة من غيرهم وروي أن عمر رضي الله عنه قال لأبي بكر لما هم بقتال مانعي الزكاة أليس قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ) احتج على أبي بكر بعموم اللفظ ثم لم يقل أبو بكر ولا أحد من الصحابة إن اللفظ لا يفيده بل عدل إلى الاستثناء فقال إنه عليه الصلاة والسلام قال ( إلا بحقها ) وإن كان الزكاة من حقها وثانيها أن هذا الجمع يؤكد بما يقتضي الاستغراق فوجب أن يفيد الاستغراق أما أنه يؤكد فلقوله تعالى فَسَجَدَ الْمَلَائِكَة ُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ( ص 73 ) وأما أنه بعد التأكيد يقتضي الاستغراق فبالاجماع وأما أنه متى كان كذلك وجب كون المؤكد في أصله للاستغراق لأن هذه الألفاظ مسماة بالتأكيد أجماعاً والتأكيد هو تقوية الحكم الذي كان ثابتاً في الأصل فلو لم يكن الاستغراق حاصلاً في الأصل وإنما حصل

بهذه الألفاظ ابتداء لم يكن تأثير هذه الألفاظ في تقوية الحكم بل في إعطاء حكم جديد وكانت مبينة للمجمل لا مؤكدة وحيث أجمعوا على أنها مؤكدة علمنا أن اقتضاء الاستغراق كان حاصلاً في الأصل وثالثها أن الألف واللام إذا دخلا في الاسم صار الاسم معرفة كذا نقل عن أهل اللغة فيجب صرفه إلى ما به تحصل المعرفة وإنما تحصل المعرفة عند إطلاقه بصرفه إلى الكل لأنه معلوم للمخاطب وأما صرفه إلى ما دون الكل فإنه لا يفيد المعرفة لأنه ليس بعض الجمع أولى من بعض فكان يبقى مجهولاً فإن قلت إذا أفاد جمعاً مخصوصاً من ذلك الجنس فقد أفاد تعريف ذلك الجنس قلت هذه الفائدة كانت حاصلة بدون الألف واللام لأنه لو قال رأيت رجالاً أفاد تعريف ذلك الجنس وتميزه عن غيره فدل على أن للألف واللام فائدة زائدة وما هي إلا الاستغراق ورابعها أنه يصح استثناء أي واحد كان منه وذلك يفيد العموم وخامسها الجمع المعرف في اقتضاء الكثرة فوق المنكر لأنه يصح انتزاع المنكر من المعرف ولا ينعكس فإنه يجوز أن يقال رأيت رجالاً من الرجال ولا يقال رأيت الرجال من رجال ومعلوم بالضرورة أن المنتزع منه أكثر من المنتزع إذا ثبت هذا فنقول إن المفهوم من الجمع المعرف إما الكل أو ما دونه والثاني باطل لأنه ما من عدد دون الكل إلا ويصح انتزاعه من الجمع المعرف وقد علمت أن المنتزع منه أكثر فوجب أن يكون الجمع المعرف مفيداً للكل والله أعلم أما على طريقة أبي هاشم وهي أن الجمع المعرف لا يفيد العموم فيمكن التمسك بالآية من وجهين آخرين الأول أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية فقوله وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ يقتضي أن الفجور هي العلة وإذا ثبت ذلك لزم عموم الحكم لعموم علته وهو المطلوب وفي هذا الباب طريقة ثالثة يذكرها النحويون وهي أن اللام في قوله وَإِنَّ الْفُجَّارَ ليست لام تعريف بل هي بمعنى الذي ويدل عليه وجهان أحدهما أنها تجاب بالفاء كقوله تعالى وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَة ُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا ( المائدة 38 ) وكما تقول الذي يلقاني فله درهم الثاني أنه يصح عطف الفعل على الشيء الذي دخلت هذه اللام عليه قال تعالى إِنَّ الْمُصَّدّقِينَ وَالْمُصَّدّقَاتِ وَأَقْرَضُواْ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً ( الحديد 18 ) فلولا أن قوله إِنَّ الْمُصَّدّقِينَ بمعنى إن الذين أصدقوا لما صح أن يعطف عليه قوله وَأَقْرِضُواُ اللَّهَ وإذا ثبت ذلك كان قوله وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ معناه إن الذين فجروا فهم في الجحيم وذلك يفيد العموم الآية الثانية في هذا الباب قوله تعالى يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً ( مريم 85 86 ) ولفظ المجرمين صيغة جمع معرفة بالألف واللام وثالثها قوله تعالى وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً ( مريم 72 ) ورابعها قوله تعالى وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا ظَهْرِهَا مِن دَابَّة ٍ وَلَاكِن يُؤَخّرُهُمْ ( النحل 61 ) بين أنه يؤخر عقابهم إلى يوم آخر وذلك إنما يصدق أن لو حصل عقابهم في ذلك اليوم
النوع الثالث من العمومات صيغ الجموع المقرونة بحرف الذي فأحدها قوله تعالى وَيْلٌ لّلْمُطَفّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ( المطففين 1 2 ) وثانيها قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً ( النساء 10 ) وثالثها قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَة ُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ ( النحل 28 ) فبين ما يستحق على ترك الهجرة وترك النصرة وإن كان معترفاً بالله

ورسوله ورابعها قوله تعالى وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيّئَاتِ جَزَاء سَيّئَة ٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّة ٌ ( يونس 27 ) ولم يفصل في الوعيد بين الكافر وغيره وخامسها قوله تعالى وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّة َ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ( التوبة 34 ) وسادسها قوله تعالى وَلَيْسَتِ التَّوْبَة ُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيّئَاتِ ( النساء 18 ) ولو لم يكن الفاسق من أهل الوعيد والعذاب لم يكن لهذا القول معنى بل لم يكن به إلى التوبة حاجة وسابعها قوله تعالى إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الاْرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ ( المائدة 33 ) فبين ما على الفاسق من العذاب في الدنيا والآخرة وثامنها قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيًلا أُوْلَئِكَ لاَ خَلَاقَ لَهُمْ فِى الاْخِرَة ِ ( آل عمران 77 )
النواع الرابع من العمومات قوله تعالى سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ ( آل عمران 180 ) توعد على منع الزكاة
النوع الخامس من العمومات لفظة ( كل ) وهو قوله تعالى وَلَوْ أَنَّ لِكُلّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِى الاْرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ ( يونس 54 ) فبين ما يستحق الظالم على ظلمه
النوع السادس ما يدل على أنه سبحانه لا بد وأن يفعل ما توعدهم به وهو قوله تعالى قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَى َّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَى َّ وَمَا أَنَاْ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ ( ق 28 29 ) بين أنه لا يبدل قوله في الوعيد والاستدلال بالآية من وجهين أحدهما أنه تعالى جعل العلة في إزاحة العذر تقديم الوعيد أي بعد تقديم الوعيد لم يبق لأحد علة ولا مخلص من عذابه والثاني قوله تعالى مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَى َّ وهذا صريح في أنه تعالى لا بد وأن يفعل ما دل اللفظ عليه فهذا مجموع ما تمسكوا به من عمومات القرآن أما عمومات الأخبار فكثيرة
فالنوع الأول المذكور بصيغة ( من ) أحدها ما روى وقاص بن ربيعة عن المسور بن شداد قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من أكل بأخيه أكلة أطعمه الله من نار جهنم ومن أخذ بأخيه كسوة كساه الله من نار جهنم ومن قام مقام رياء وسمعة أقامه الله يوم القيامة مقام رياء وسمعة ) وهذا نص في وعيد الفاسق ومعنى أقامه أي جازاه على ذلك وثانيها قال عليه السلام ( من كان ذا لسانين وذا وجهين كان في النار ذا لسانين وذا وجهين ) ولم يفصل بين المنافق وبين غيره في هذا الباب وثالثها عن سعيد بن زيد قال عليه السلام ( من ظلم قيد شبر من أرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين ورابعها عن أنس قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( المؤمن من أمنه الناس والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هاجر السوء والذي نفسي بيده لا يدخل الجنة عبد لا يأمن جاره بوائقه ) وهذا الخبر يدل على وعيد الفاسق الظالم ويدل على أنه غير مؤمن ولا مسلم على ما يقوله المعتزلة من المنزلة بين المنزلتين وخامسها عن ثوبان عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من جاء يوم القيامة بريئاً من ثلاثة دخل الجنة الكبر والغلول والدين ) وهذا يدل على أن صاحب هذه الثلاثة لا يدخل الجنة وإلا لم يكن لهذا الكلام معنى والمراد من الدين من مات عاصياً مانعاً ولم يرد التوبة ولم يتب عنه وسادسها عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من سلك طريقاً يطلب به علماً سهل الله له طريقاً من طرق الجنة ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه ) وهذا نص في أن الثواب لا يكون إلا بالطاعة والخلاص من النار لا يكون إلا بالعمل الصالح وسابعها عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( كل مسكر خمر

وكل خمر حرام ومن شرب الخمر في الدنيا ولم يتب منها لم يشربها في الآخرة ) وهو صريح في وعيد الفاسق وأنه من أهل الخلود لأنه إذا لم يشربها لم يدخل الجنة لأن فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وثامنها عن أم سلمة قالت قال عليه السلام ( إنما أنا بشر مثلكم ولعلكم تختصمون إلي ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض فمن قضيت له بحق أخيه فإنما قطعت له قطعة من النار ) وتاسعها عن ثابت بن الضحاك قال قال عليه السلام ( من حلف بملة سوى الإسلام كاذباً متعمداً فهو كما قال ومن قتل نفسه بشيء يعذب به في نار جهنم ) وعاشرها عن عبد الله بن عمر قال قال عليه الصلاة والسلام في الصلاة ( من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نوراً ولا برهاناً ولا نجاة ولا ثواباً وكان يوم القيامة مع قارون وهامان وفرعون وأبي بن خلف ) وهذا نص في أن ترك الصلاة يحبط العمل ويوجب وعيد الأبد الحادي عشر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال عليه السلام ( من لقي الله مدمن خمر لقيه كعابد وثن ) ولما ثبت أنه لا يكفر علمنا أن المراد منه إحباط العمل الثاني عشر عن أبي هريرة قال قال عليه السلام ( من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها بطنه يهوي في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً ومن تردى من جبل متعمداً فقتل نفسه فهو مترد في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً ) الثالث عشر عن أبي ذر قال عليه السلام ( ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم قلت يا رسول الله من هم خابوا وخسروا قال المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف كاذباً ) يعني بالمسبل المتكبر الذي يسبل إزاره ومعلوم أن من لم يكلمه الله ولم يرحمه وله عذاب أليم فهو من أهل النار ووروده في الفاسق نص في الباب الرابع عشر عن أبي هريرة قال قال عليه الصلاة والسلام ( من تعلم علماً مما يبتغي به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة ومن لم يجد عرف الجنة فلا شك أنه في النار لأن المكلف لا بد وأن يكون في الجنة أو في النار ) الخامس عشر عن أبي هريرة قال قال عليه السلام ( من كتم علماً ألجم بلجام من نار يوم القيامة ) السادس عشر عن ابن مسعود قال قال عليه السلام ( من حلف على يمين كاذباً ليقطع بها مال أخيه لقي الله وهو عليه غضبان ) وذلك لأن الله تعالى يقول إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيًلا ( آل عمران 77 ) إلى آخر الآية وهذا نص في الوعيد ونص في أن الآية واردة في الفساق كورودها في الكفار السابع عشر عن أبي أمامة قال قال عليه السلام ( من حلف على يمين فاجرة ليقطع بها مال امرىء مسلم بغير حقه حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار قيل يا رسول الله وإن كان شيئاً يسيراً قال وإن كان قضيباً من أراك ) الثامن عشر عن سعيد بن جبير قال كنت عند ابن عباس فأتاه رجل وقال إني رجل معيشتي من هذه التصاوير فقال ابن عباس سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( من صور فإن الله يعذبه حتى ينفخ فيه الروح وليس بنافخ ومن استمع إلى حديث قوم يفرون منه صب في أذنيه الآنك ومن يرى عينيه في المنام ما لم يره كلف أن يعقد بين شعرتين ) التاسع عشر عن معقل بن يسار قال سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة ) العشرون عن ابن عمر في مناظرته مع عثمان حين أراد أن يوليه القضاء قال سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( من كان قاضياً يقضي بالجهل كان من أهل النار ومن كان قاضياً يقضي بالجور كان من أهل النار ) الحادي والعشرون قال عليه السلام ( من ادعى أباً في الإسلام وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام ) الثاني والعشرون عن الحسن عن أبي بكرة قال عليه السلام ( من قتل نفساً معاهداً لم يرح رائحة الجنة ) وإذا

كان في قتل الكفار هكذا فما ظنك بقتل أولاد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الثالث والعشرون عن أبي سعيد الخدري قال قال عليه السلام ( من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ) وإذا لم يلبسه في الآخرة وجب أن لا يكون من أهل الجنة لقوله تعالى وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الاْنْفُسُ ( الزخرف 71 )
النوع الثاني من العمومات الإخبارية الواردة لا بصيغة ( من ) وهي كثيرة جداً الأول عن نافع مولى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال قال عليه السلام ( لا يدخل الجنة مسكين متكبر ولا شيخ زان ولا منان على الله بعمله ومن لم يدخل الجنة من المكلفين فهو من أهل النار بالإجماع ) الثاني عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال عليه السلام ( ثلاثة يدخلون الجنة الشهيد وعبد نصح سيده وأحسن عبادة ربه وعفيف متعفف وثلاثة يدخلون النار أمير مسلط وذو ثروة من مال لا يؤدي حق الله وفقير فخور ) الثالث عن أبي هريرة قال قال عليه السلام ( إن الله خلق الرحم فلما فرغ من خلقه قامت الرحم فقالت هذا مقام العائذ من القطيعة قال نعم ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك قالت بلى قال فهو ذاك قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( فاقرؤوا إن شئتم ) فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أَوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ( محمد 33 ) وهذا نص في وعيد قاطع الرحم وتفسير الآية وفي حديث عبد الرحمن بن عوف قال الله تعالى ( أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسماً من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته ) وفي حديث أبي بكرة أنه عليه السلام قال ( ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم ) الرابع عن معاذ بن جبل قال قال عليه السلام لبعض الحاضرين ( ما حق الله على العباد قالوا الله ورسوله أعلم قال أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً قال فما حقهم على الله إذا فعلوا ذلك قال أن يغفر لهم ولا يعذبهم ) ومعلوم أن المعلق على الشرط عدم عند عدم الشرط فيلزم أن لا يغفر لهم إذا لم يعبدوه الخامس عن أبي بكرة قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا اقتتل المسلمان بسيفيهما فقتل أحدهما صاحبه فالقاتل والمقتول في النار فقال يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول قال إنه كان حريصاً على قتل صاحبه ) رواه مسلم السادس عن أم سلمة قالت قال عليه السلام ( الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم ) السابع عن أبي سعيد الخدري قال قال عليه السلام ( والذي نفسي بيده لا يبغض أهل البيت رجل إلا أدخله الله النار ) وإذا استحقوا النار ببعضهم فلأن يستحقوها بقتلهم أولى الثامن في حديث أبي هريرة أنا خرجنا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في عام خيبر إلى أن كنا بوادي القرى فبينما يحفظ رجل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذ جاءه سهم وقتله فقال الناس هنيئاً له الجنة قال رسول الله ( كلا والذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذها يوم حنين من الغنائم لم يصبها المقاسم لتشتعل عليه ناراً ) فلما سمع الناس بذلك جاء رجل بشراك أو بشراكين إلى رسول الله فقال عليه السلام شراك من نار أو شراكين من النار التاسع عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ثلاثة لا يدخلون الجنة مدمن الخمر وقاطع الرحم ومصدق السحر ) العاشر عن أبي هريرة قال عليه السلام ( ما من عبد له مال لا يؤدي زكاته إلا جمع الله له يوم القيامة عليه صفائح من نار جهنم يكوي بها جبهته وظهره حتى يقضي الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون ) هذا مجموع استدلال المعتزلة بعمومات القرآن والأخبار أجاب أصحابنا عنها من وجوه أولها أنا لا نسلم أن صيغة ( من ) في معرض الشرط للعموم ولا نسلم أن صيغة الجمع إذا كانت معرفة باللام للعموم والذي يدل عليه أمور

الأول أنه يصح إدخال لفظتي الكل والبعض على هاتين اللفظتين كل من دخل داري أكرمته وبعض من دخل داري أكرمته ويقال أيضاً كل الناس كذا وبعض الناس كذا ولو كانت لفظة ( من ) للشرط تفيد الاستغراق لكان إدخال لفظ الكل عليه تكريراً وإدخال لفظ البعض عليه نقضاً وكذلك في لفظ الجمع المعرف فثبت أن هذه الصيغ لا تفيد العموم الثاني وهو أن هذه الصيغ جاءت في كتاب الله والمراد منها تارة الاستغراق وأخرى البعض فإن أكثر عمومات القرآن مخصوصة والمجاز والاشتراك خلاف الأصل ولا بد من جعله حقيقة في القدر المشترك بين العموم والخصوص وذلك هو أن يحمل على إفادة الأكثر من غير بيان أنه يفيد الاستغراق أو لا يفيد الثالث وهو أن هذه الصيغ لو أفادت العموم إفادة قطعية لاستحال إدخال لفظ التأكيد عليها لأنها تحصيل الحاصل محال فحيث حسن إدخال هذه الألفاظ عليها علمنا أنها لا تفيد معنى العموم لا محالة سلما أنها تفيد معنى ولكن إفادة قطعية أو ظنية الأول ممنوع وباطل قطعاً لأن من المعلوم بالضرورة أن الناس كثيراً ما يعبرون عن الأكثر بلفظ الكل والجميع على سبيل المبالغة كقوله تعالى وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَى ْء ( النمل 23 ) فإذا كانت هذه الألفاظ تفيد معنى العموم إفادة ظنية وهذه المسألة ليست من المسائل الظنية لم يجز التمسك فيها بهذه العمومات سلمنا أنها تفيد معنى العموم إفادة قطعية ولكن لا بد من اشتراط أن لا يوجد شيء من المخصصات فإنه لا نزاع في جواز تطرق التخصيص إلى العام فلم قلتم إنه لم يوجد شيء من المخصصات أقصى ما في الباب أن يقال بحثنا فلم نجد شيئاً من المخصصات لكنك تعلم أن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود وإذا كانت إفادة هذه الألفاظ لمعنى الاستغراق متوقفة على نفي المخصصات وهذا الشرط غير معلوم كانت الدلالة موقوفة على شرط غير معلوم فوجب أن لا تحصل الدلالة ومما يؤكد هذا المقام قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ( البقرة 6 ) حكم على كل الذين كفروا أنهم لا يؤمنون ثم إنا شاهدنا قوماً منهم قد آمنوا فعلمنا أنه لا بد من أحد الأمرين إما لأن هذه الصيغة ليست موضوعة للشمول أو لأنها وإن كانت موضوعة لهذا المعنى إلا أنه قد وجدت قرينة في زمان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) كانوا يعلمون لأجلها أن مراد الله تعالى من هذا العموم هو الخصوص وأما ما كان هناك فلم يجوز مثله ههنا سلمنا أنه لا بد من بيان المخصص لكن آيات العفو مخصصة لها والرجحان معنا لأن آيات العفو بالنسبة إلى آيات الوعيد خاصة بالنسبة إلى العام والخاص مقدم على العام لا محالة سلمنا أنه لم يوجد المخصص ولكن عمومات الوعيد معارضة بعمومات الوعد ولا بد من الترجيح وهو معنا من وجوه الأول أن الوفاء بالوعد أدخل في الكرم من الوفاء بالوعيد والثاني أنه قد اشتهر في الأخبار أن رحمة الله سابقة على غضبه وغالبة عليه فكان ترجيح عمومات الوعد أولى الثالث وهو أن الوعيد حق الله تعالى والوعد حق العبد وحق العبد أولى بالتحصيل من حق الله تعالى سلمنا أنه لم يوجد المعارض ولكن هذه العمومات نزلت في حق الكفار فلا تكون قاطعة في العمومات فإن قيل العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب قلنا هب أنه كذلك ولكن لما رأينا كثيراً من الألفاظ العامة

وردت في الأسباب الخاصة والمراد تلك الأسباب الخاصة فقط علمنا أن إفادتها للعموم لا يكون قوياً والله أعلم
أما الذين قطعوا بنفي العقاب عن أهل الكبائر فقد احتجوا بوجوه الأول قوله تعالى إِنَّ الْخِزْى َ الْيَوْمَ وَالْسُّوء عَلَى الْكَافِرِينَ ( النحل 27 ) وقوله تعالى إِنَّا قَدْ أُوحِى َ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى ( طه 48 ) دلت هذه الآية على أن ماهية الخزي والسوء والعذاب مختصة بالكافر فوجب أن لا يحصل فرد من أفراد هذه الماهية لأحد سوى الكافرين الثاني قوله تعالى قُلْ ياأَهْلَ عِبَادِى الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَة ِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ( الزمر 53 ) حكم تعالى بأنه يغفر كل الذنوب ولم يعتبر التوبة ولا غيرها وهذا يفيد القطع بغفران كل الذنوب الثالث قوله تعالى وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَة ٍ لّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ ( الرعد 6 ) وكلمة ( على ) تفيد الحال كقولك رأيت الملك على أكله أي رأيته حال اشتغاله بالأكل فكذا ههنا وجب أن يغفر لهم الله حال اشتغالهم بالظلم وحال الاشتغال بالظلم يستحيل حصول التوبة منهم فعلمنا أنه يحصل الغفران بدون التوبة ومقتضى هذه الآية أن يغفر للكافر لقوله تعالى إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( لقمان 13 ) إلا أنه ترك العمل به هناك فبقي معمولاً به في الباقي والفرق أن الكفر أعظم حالاً من المعصية الرابع قوله تعالى فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى لاَ يَصْلَاهَا إِلاَّ الاْشْقَى الَّذِى كَذَّبَ وَتَوَلَّى ( الليل 14 16 ) وكل نار فإنها متلظية لا محالة فكأنه تعالى قال إن النار لا يصلاها إلا الأشقى الذي هو المكذب المتولي الخامس قوله تعالى كُلَّمَا أُلْقِى َ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُواْ بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَى ْء إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِى ضَلَالٍ كَبِيرٍ ( الملك 8 9 ) دلت الآية على أن جميع أهل النار مكذب لا يقال هذه الآية خاصة في الكفار ألا ترى أنه يقول قبله وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ إِذَا أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقًا وَهِى َ تَفُورُ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ وهذا يدل على أنها مخصوصة في بعض الكفار وهم الذين قالوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَى ْء ( الملك 6 9 ) وليس هذا من قول جميع الكفار لأنا نقول دلالة ما قبل هذه الآية على الكفار لا تمنع من عموم ما بعدها
أما قوله إن هذا ليس من قول الكفار قلنا لا نسلم فإن اليهود والنصارى كانوا يقولون ما نزل الله من شيء على محمد وإذا كان كذلك فقد صدق عليهم أنهم كانوا يقولون ما نزل الله من شيء السادس قوله تعالى وَهَلْ نُجْزِى إِلاَّ الْكَفُورَ ( سبأ 17 ) وهذا بناء المبالغة فوجب أن يختص بالكفر الأصلي السابع أنه تعالى بعدما أخبر أن الناس صنفان بيض الوجوه وسودهم قال فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ ( آل عمران 106 ) فذكر أنهم الكفار و الثامن أنه تعالى بعدما جعل الناس ثلاثة أصناف السابقون وأصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة بين أن السابقين وأصحاب الميمنة في الجنة وأصحاب المشأمة في النار ثم بين أنهم كفار بقوله وَكَانُواْ يِقُولُونَ أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ ( الواقعة 47 ) التاسع إن صاحب الكبيرة لا يخزى وكل من أدخل النار فإنه يخزى فإذن صاحب الكبيرة لا يدخل النار وإنما قلنا إن صاحب الكبيرة لا يخزى لأن صاحب الكبيرة مؤمن والمؤمن لا يخزى وإنما قلنا إنه مؤمن لما سبق بيانه في تفسير قوله الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ( البقرة 3 ) من أن صاحب الكبيرة مؤمن وإنما قلنا إن المؤمن لا يخزى لوجوه

أحدها قوله تعالى يَوْمٌ لاَّ إِلَى اللَّهِ تَوْبَة ً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ ( التحريم 8 ) وثانيها قوله إِنَّ الْخِزْى َ الْيَوْمَ وَالْسُّوء عَلَى الْكَافِرِينَ ( النحل 27 ) وثالثها قوله تعالى الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ ( آل عمران 191 ) إلى أن حكى عنهم أنهم قالوا وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَة ِ ( آل عمران 194 ) ثم إنه تعالى قال فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ ( آل عمران 195 ) ومعلوم أن الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض يدخل فيه العاصي والزاني وشارب الخمر فلما حكى الله عنهم أنهم قالوا وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَة ِ ثم بين أنه تعالى استجاب لهم في ذلك ثبت أنه تعالى لا يخزيهم فثبت بما ذكرنا أنه تعالى لا يخزي عصاة أهل القبلة وإنما قلنا إن كل من أدخل النار فقد أخزي لقوله تعالى رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ( آل عمران 192 ) فثبت بمجموع هاتين المقدمتين أن صاحب الكبيرة لا يدخل النار العاشر العمومات الكثيرة الواردة في الوعد نحو قوله وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالأْخِرَة ِ هُمْ يُوقِنُونَ أُوْلَائِكَ عَلَى هُدًى مّن رَّبّهِمْ وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( البقرة 4 5 ) فحكم بالفلاح على كل من آمن وقال إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ وَلاَ ( البقرة 62 ) فقوله وَعَمِلَ صَالِحَاً نكرة في الإثبات فيكفي فيه الإثبات بعمل واحد وقال وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّة َ ( النساء 124 ) وإنها كثيرة جداً ولنا فيه رسالة مفردة من أرادها فليطالع تلك الرسالة والجواب عن هذه الوجوه أنها معارضة بعمومات الوعيد والكلام في تفسير كل واحد من هذه الآيات يجيء في موضعه إن شاء الله تعالى أما أصحابنا الذين قطعوا بالعفو في حق البعض وتوقفوا في البعض فقد احتجوا من القرآن بآيات الحجة الأولى الآيات الدالة على كون الله تعالى عفواً غفوراً كقوله تعالى وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَة َ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُواْ عَنِ السَّيّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ( الشورى 25 ) وقوله تعالى وَمَا أَصَابَكُمْ مّن مُّصِيبَة ٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ ( الشورى 30 ) وقوله وَمِنْ ءايَاتِهِ الْجَوَارِ فِى الْبَحْرِ كَالاْعْلَامِ ( الشورى 32 ) إلى قوله أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ ( الشورى 34 ) وأيضاً أجمعت الأمة على أن الله يعفو عن عباده وأجمعوا على أن من جملة أسمائه العفو فنقول العفو إما أن يكون عبارة عن إسقاط العقاب عمن يحسن عقابه أو عمن لا يحسن عقابه وهذا القسم الثاني باطل لأن عقاب من لا يحسن عقابه قبيح ومن ترك مثل هذا الفعل لا يقال إنه عفا ألا ترى أن الإنسان إذا لم يظلم أحداً لا يقال أنه عفا عنع إنما يقال له عفا إذا كان له أن يعذبه فتركه ولهذا قال وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ( البقرة 237 ) ولأنه تعالى قال وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَة َ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُواْ عَنِ السَّيّئَاتِ ( الشورى 25 ) فلو كان العفو عبارة عن إسقاط العقاب عن التائب لكان ذلك تكريراً من غير فائدة فعلمنا أن العفو عبارة عن إسقاط العقاب عمن يحسن عقابه وذلك هو مذهبنا الحجة الثانية الآيات الدالة على كونه تعالى غافراً وغفوراً وغفاراً قال تعالى غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ ( غافر 3 ) وقال وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَة ِ ( الكهف 58 ) وقال وَإِنّى لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ ( طه 82 ) وقال غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ( البقرة 285 ) والمغفرة ليست عبارة عن إسقاط العقاب عمن لا يحسن

عقابه فوجب أن يكون ذلك عبارة عن إسقاط العقاب عمن يحسن عقابه وإنما قلنا إن الوجه الأول باطل لأنه تعالى يذكر صفة المغفرة في معرض الامتنان على العباد ولو حملناه على الأول لم يبق هذا المعنى لأن ترك القبيح لا يكون منة على العبد بل كأنه أحسن إلى نفسه فإنه لو فعله لاستحق الذم واللوم والخروج عن حد الإلهية فهو بترك القبائح لا يستحق الثناء من العبد ولما بطل ذلك تعين حمله على الوجه الثاني وهو المطلوب فإن قيل لم يجوز حمل العفو والمغفرة على تأخير العقاب من الدنيا إلى الآخرة والدليل على أن العفو مستعمل في تأخير العذاب عن الدنيا قوله تعالى في قصة اليهود ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مّن بَعْدِ ذالِكَ ( البقرة 52 ) والمراد ليس إسقاط العقاب بل تأخيره إلى الآخرة وكذلك قوله تعالى وَمَا أَصَابَكُمْ مّن مُّصِيبَة ٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ أي ما يعجل الله تعالى من مصائب عقابه إما على جهة المحنة أو على جهة العقوبة المعجلة فبذنوبكم ولا يعجل المحنة والعقاب على كثير منها وكذا قوله تعالى وَمِنْ ءايَاتِهِ الْجَوَارِ فِى الْبَحْرِ كَالاْعْلَامِ إلى قوله أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ أي لو شاء إهلاكهن لأهلكهن ولا يهلك على كثير من الذنوب والجواب العفو أصله من عفا أثره أي أزاله وإذا كان كذلك وجب أن يكون المسمى من العفو الإزالة لهذا قال تعالى فَمَنْ عُفِى َ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَى ْء ( البقرة 178 ) وليس المراد منه التأخير بل الإزالة وكذا قوله وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وليس المراد منه التأخير إلى وقت معلوم بل الإسقاط المطلق ومما يدل على أن العفو لا يتناول التأخير أن الغريم إذا أخر المطالبة لا يقال إنه عفا عنه ولو أسقطه يقال إنه عفا عنه فثبت أن العفو لا يمكن تفسيره بالتأخير الحجة الثالثة الآيات الدالة على كونه تعالى رحماناً رحيماً والاستدلال بها أن رحمته سبحانه إما أن تظهر بالنسبة إلى المطيعين الذين يستحقون الثواب أو إلى العصاة الذين يستحقون العقاب والأول باطل لأن رحمته في حقهم إما أن تحصل لأنه تعالى أعطاهم الثواب الذي هو حقهم أو لأنه تفضل عليهم بما هو أزيد من حقهم والأول باطل لأن أداء الواجب لا يسمى رحمة ألا ترى أن من كان له على إنسان مائة دينار فأخذها منه قهراً وتكليفاً لا يقال في المعطي إنه أعطى الآخذ ذلك القدر رحمة والثاني باطل لأن المكلف صار بما أخذ من الثواب الذي هو حقه كالمستغني عن ذلك التفضل فتلك الزيادة تسمى زيادة في الإنعام ولا تسمى ألبتة رحمة ألا ترى أن السلطان المعظم إذا كان في خدمته أمير له ثروة عظيمة ومملكة كاملة ثم إن السلطان ضم إلى ماله من الملك مملكة أخرى فإنه لا يقال إن السلطان رحمه بل يقال زاد في الإنعام عليه فكذا ههنا أما القسم الثاني وهو أن رحمته إنما تظهر بالنسبة إلى من يستحق العقاب فإما أن تكون رحمته لأنه تعالى ترك العذاب الزائد على العذاب المستحق وهذا باطل لأن ترك ذلك واجب والواجب لا يسمى رحمة ولأنه يلزم أن يكون كل كافر وظالم رحيماً علينا لأجل أنه ما ظلمنا فبقي أنه إنما يكون رحيماً لأنه ترك العقاب المستحق وذلك لا يتحقق في حق صاحب الصغيرة ولا في حق صاحب الكبيرة بعد التوبة لأن ترك عقابهم واجب فدل على أن رحمته إنما حصلت لأنه ترك عقاب صاحب الكبيرة قبل التوبة فإن قيل لم لا يجوز أن تكون رحمته لأجل أن الخلق والتكليف والرزق كلها تفضل ولأنه تعالى يخفف عن عقاب صاحب الكبيرة قلنا أما الأول فإنه يفيد كونه رحيماً في الدنيا فأين رحمته في الآخرة مع أن الأمة مجتمعة على أن رحمته في الآخرة أعظم من رحمته في الدنيا وأما الثاني فلأن عندكم التخفيف عن العقاب غير جائز هكذا

قول المعتزلة الوعيدية إذا ثبت حصول التخفيف بمقتضى هذه الآية ثبت جواز العفو لأن كل من قال بأحدهما قال بالآخر
الحجة الرابعة قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ( النساء 48 ) فنقول ( لمن يشاء ) لا يجوز أن يتناول صاحب الصغيرة ولا صاحب الكبيرة بعد التوبة فوجب أن يكون المراد منه صاحب الكبيرة قبل التوبة وإنما قلنا لا يجوز حمله على الصغيرة ولا على الكبيرة بعد التوبة لوجوه أحدها أن قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ معناه أنه لا يغفره تفضلاً لا أنه لا يغفره استحقاقاً دل عليه العقل والسمع وإذا كان كذلك لزم أن يكون معنى قوله وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء أي ويتفضل بغفران ما دون ذلك الشرك حتى يكون النفي والإثبات متوجهين إلى شيء واحد ألا ترى أنه لو قال فلان لا يتفضل بمائة دينار ويعطي ما دونها لمن استحق لم يكن كلاماً منتظماً ولما كان غفران صاحب الصغيرة وصاحب الكبيرة بعد التوبة مستحقاً امتنع كونهما مرادين بالآية وثانيها أنه لو كان قوله وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء أنه يغفر المستحقين كالتائبين وأصحاب الصغائر لم يبق لتمييز الشرك مما دون الشرك معنى لأنه تعالى كما يغفر ما دون الشرك عند الاستحقاق ولا يغفره عند عدم الاستحقاق فكذلك يغفر الشرك عند الاستحقاق ولا يغفره عند عدم الاستحقاق فلا يبقى للفصل والتمييز فائدة وثالثها أن غفران التائبين وأصحاب الصغائر واجب والواجب غير معلق على المشيئة لأن المعلق على المشيئة هو الذي إن شاء فاعله فعله يفعله وإن شاء تركه يتركه فالواجب هو الذي لا بد من فعله شاء أو أبى والمغفرة المذكورة في الآية معلقة على المشيئة فلا يجوز أن تكون للمغفرة المذكورة في الآية مغفرة التائبين وأصحاب الصغائر واعلم أن هذه الوجوه بأسرها مبينة على قول المعتزلة من أنه يجب غفران صاحب الصغيرة وصاحب الكبيرة بعد التوبة وأما نحن فلا نقول ذلك ورابعها أن قوله وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء يفيد القطع بأنه يغفر كل ما سوى الشرك وذلك يندرج فيه الصغيرة والكبيرة بعد التوبة وقبل التوبة إلا أن غفران كل هذه الثلاثة يحمل قسمين لأنه يحتمل أن يغفر كلها لكل أحد وأن يغفر كلها للبعض دون البعض فقوله وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ يدل على أنه تعالى يغفر كل هذه الثلاثة ثم قوله لِمَن يَشَاء يدل على أنه تعالى يغفر كل تلك الأشياء لا للكل بل للبعض وهذا الوجه هو اللائق بأصولنا فإن قيل لا نسلم أن المغفرة تدل على أنه تعالى لا يعذب العصاة في الآخرة بيانه أن المغفرة إسقاط العقاب وإسقاط العقاب أعم من إسقاط العقاب دائماً أو لا دائماً واللفظ الموضوع بإزاء القدر المشترك لا إشعار له بكل واحد من ذينك القيدين فإذن لفظ المغفرة لا دلالة فيه على الإسقاط الدائم إذا ثبت هذا فنقول لم لا يجوز أن يكون المراد أن الله تعالى لا يؤخر عقوبة الشرك عن الدنيا ويؤخر عقوبة ما دون الشرك عن الدنيا لمن يشاء لا يقال كيف يصح هذا ونحن لا نرى مزيداً للكفار في عقاب الدنيا على المؤمنين لأنا نقول تقدير الآية أن الله لا يؤخر عقاب الشرك في الدنيا لمن يشاء ويؤخر عقاب ما دون الشرك في الدنيا لمن يشاء فحصل بذلك تخويف كلا الفريقين بتعجيل العقاب للكفار والفساق لتجويز كل واحد من هؤلاء أن يعجل عقابه وإن كان لا يفعل ذلك بكثير منهم سلمنا أن الغفران عبارة عن الإسقاط على سبيل الدوام فلم قلتم إنه لا يمكن حمله على مغفرة التائب ومغفرة صاحب الصغيرة أما الوجوه الثلاثة الأول فهي مبنية على أصول لا يقولون بها وهي وجوب مغفرة صاحب الصغيرة وصاحب الكبيرة بعد التوبة وأما الوجه الرابع فلا نسلم أن قوله مَا دُونَ ذَلِكَ يفيد العموم والدليل عليه أنه يصح إدخال لفظ

( كل ) و ( بعض ) على البدل عليه مثل أن يقال ويغفر كل ما دون ذلك ويغفر بعض ما دون ذلك ولو كان قوله مَا دُونَ ذَلِكَ يفيد العموم لما صح ذلك سلمنا أنه للعموم ولكنا نخصصه بصاحب الصغيرة وصاحب الكبيرة بعد التوبة وذلك لأن الآيات الواردة في الوعيد كل واحد منها مختص بنوع واحد من الكبائر مثل القتل والزنا وهذه الآية متناولة لجميع المعاصي والخاص مقدم على العام فآيات الوعيد يجب أن تكون مقدمة على هذه الآية والجواب عن الأول أنا إذا حملنا المغفرة على تأخير العقاب وجب بحكم الآية أن يكون عقاب المشركين في الدنيا أكثر من عقاب المؤمنين وإلا لم يكن في هذا التفصيل فائدة ومعلوم أنه ليس كذلك بدليل قوله تعالى وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّة ً واحِدَة ً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَانِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مّن فِضَّة ٍ ( النساء 48 116 ) الآية قوله لم قلتم إن قوله مَا دُونَ ذَلِكَ يفيد العموم قلنا لأن قوله ( ما ) تفيد الإشارة إلى الماهية الموصوفة بأنها دون الشرك وهذه الماهية ماهية واحدة وقد حكم قطعاً بأنه يغفرها ففي كل صورة تتحقق فيها هذه الماهية وجب تحقق الغفران فثبت أنه للعموم ولأنه يصح استثناء أي معصية كانت منها وعند الوعيدية صحة الاستثناء تدل على العموم أما قوله آيات الوعيد أخص من هذه الآية قلنا لكن هذه الآية أخص منها لأنها تفيد العفو عن البعض دون البعض وما ذكرتموه يفيد الوعيد للكل ولأن ترجيح آيات العفو أولى لكثرة ما جاء في القرآن والأخبار من الترغيب في العفو
الحجة الخامسة أن نتمسك بعمومات الوعد وهي كثيرة في القرآن ثم نقول لما وقع التعارض فلا بد من الترجيح أو من التوفيق والترجيح معناه من وجوه أحدها أن عمومات الوعد أكثر والترجيح بكثرة الأدلة أمر معتبر في الشرع وقد دللنا على صحته في أصول الفقه و ثانيها أن قوله تعالى إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيّئَاتِ ( هود 114 ) يدل على أن الحسنة إنما كانت مذهبة للسيئة لكونها حسنة على ما ثبت في أصول الفقه فوجب بحكم هذا الإيماء أن تكون كل حسنة مذهبة لكل سيئة ترك العمل به في حق الحسنات الصادرة من الكفار فإنها لا تذهب سيئاتهم فيبقى معمولاً به في الباقي وثالثها قوله تعالى مَن جَاء بِالْحَسَنَة ِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيّئَة ِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا ( الأنعام 165 ) ثم إنه تعالى زاد على العشرة فقال كَمَثَلِ حَبَّة ٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلّ سُنبُلَة ٍ مّاْئَة ُ حَبَّة ٍ ثم زاد عليه فقال وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء ( البقرة 261 ) وأما في جانب السيئة فقال وَمَن جَاء بِالسَّيّئَة ِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وهذا في غاية الدلالة على أن جانب الحسنة راجع عند الله تعالى على جانب السيئة و رابعها أنه تعالى قال في آية الوعد في سورة النساء وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ فقوله وَعْدَ اللَّهِ حَقّا ( النساء 122 ) إنما ذكره للتأكيد ولم يقل في شيء من المواضع وعيد الله حقاً
أما قوله تعالى مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَى َّ ( ق 29 ) الآية يتناول الوعد والوعيد و خامسها قوله تعالى وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً ( النساء 110 111 ) والاستغفار طلب المغفرة وهو غير التوبة فصرح ههنا بأنه سواء تاب أو لم يتب فإذا استغفر غفر الله له ولم يقل ومن يكسب إثماً فإنه يجد الله معذباً معاقباً بل قال فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ فدل هذا على أن جانب الحسنة راجح ونظيره قوله تعالى إِنْ أَحْسَنتُمْ

أَحْسَنتُمْ لاِنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ( الإسراء 7 ) ولم يقل وإن أسأتم أسأتم لها فكأنها تعالى أظهر إحسانه بأن أعاده مرتين وستر عليه إساءته بأن لم يذكرها إلا مرة واحدة وكل ذلك يدل على أن جانب الحسنة راجح و سادسها أنا قد دللنا على أن قوله تعالى وَيَغْفِرُ مَا دُونَ لِمَن يَشَاء ( النساء 48 ) لا يتناول إلا العفو عن صاحب الكبيرة ثم إنه تعالى أعاد هذه الآية في السورة الواحدة مرتين والإعادة لا تحسن إلا للتأكيد ولم يذكر شيئاً من آيات الوعيد على وجه الإعادة بلفظ واحد لا في سورة واحدة ولا في سورتين فدل على أن عناية الله بجانب الوعد على الحسنات والعفو عن السيئات أتم و سابعها أن عمومات الوعد والوعيد لما تعارضت فلا بد من صرف التأويل إلى أحد الجانبين وصرف التأويل إلى الوعيد أحسن من صرفه إلى الوعد لأن العفو عن الوعيد مستحسن في العرف وإهمال الوعد مستقبح في العرف فكان صرف التأويل إلى الوعيد أولى من صرفه إلى الوعد و ثامنها أن القرآن مملوء من كونه تعالى غافراً غفوراً غفاراً وأن له الغفران والمغفرة وأنه تعالى رحيم كريم وأن له العفو والإحسان والفضل والإفضال والأخبار الدالة على هذه الأشياء قد بلغت مبلغ التواتر وكل ذلك مما يؤكد جانب الوعد وليس في القرآن ما يدل على أنه تعالى بعيد عن الرحمة والكرم والعفو وكل ذلك يوجب رجحان جانب الوعد على جانب الوعيد وتاسعها أن هذا الإنسان أتى بما هو أفضل الخيرات وهو الإيمان ولم يأت بما هو أقبح القبائح وهو الكفر بل أتى بالشر الذي هو في طبقة القبائح ليس في الغاية والسيد الذي له عبد ثم أتى عبده بأعظم الطاعات وأتى بمعصية متوسطة فلو رجع المولى تلك المعصية المتوسطة على الطاعة العظيمة لعد ذلك السيد لئيماً مؤذياً فكذا ههنا فلما لم يجز ذلك على الله ثبت أن الرجحان لجانب الوعد وعاشرها قال يحيى بن معاذ الرازي إلهي إذا كان توحيد ساعة يهدم كفر خمسين سنة فتوحيد خمسين سنة كيف لا يهدم معصية ساعة ا إلهي لما كان الكفر لا ينفع معه شيء من الطاعات كان مقتضى العدل أن الإيمان لا يضر معه شيء من المعاصي وإلا فالكفر أعظم من الإيمانا فإن يكن كذلك فلا أقل من رجاء العفو وهو كلام حسن الحادي عشر أنا قد بينا بالدليل أن قوله وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء لا يمكن حمله على الصغيرة ولا على الكبيرة بعد التوبة فلو لم تحمله على الكبيرة قبل التوبة لزم تعطيل الآية أما لو خصصنا عمومات الوعيد بمن يستحلها لم يلزم منه إلا تخصيص العموم ومعلوم أن التخصيص أهون من التعطيل قالت المعتزلة ترجيح جانب الوعيد أولى من وجوه أولها هو أن الأمة اتفقت على أن الفاسق يلعن ويحد على سبيل التنكيل والعذاب وأنه أهل الخزي وذلك يدل على أنه مستحق للعقاب وإذا كان مستحقاً للعقاب استحال أن يبقى في تلك الحالة مستحقاً للثواب وإذا ثبت هذا كان جانب الوعيد راجحاً على جانب الوعد أما بيان أنه يلعن فالقرآن والإجماع أما القرآن فقوله تعالى في قاتل المؤمن وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ ( النساء 93 ) وكذا قوله أَلاَ لَعْنَة ُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ( الأعراف 44 ) وأما الإجماع فظاهر وأما أنه يحد على سبيل التنكيل فلقوله تعالى وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَة ُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مّنَ اللَّهِ ( المائدة 38 ) وأما أنه يحد على سبيل العذاب فلقوله تعالى في الزاني وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَة ٌ مّنَ الْمُؤْمِنِينَ ( النور 2 ) وأما أنهم أهل الخزي فلقوله تعالى في قطاع الطريق إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إلى قوله تعالى ذالِكَ لَهُمْ خِزْى ٌ فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى الاْخِرَة ِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( المائدة 33 ) وإذا ثبت كون الفاسق موصوفاً بهذه الصفات ثبت أنه مستحق للعذاب والذم ومن كان مستحقاً لهما دائماً ومتى استحقهما دائماً امتنع أن يبقى مستحقاً للثواب لأن

الثواب والعقاب متنافيان فالجمع بين استحقاقهما محال وإذا لم يبق مستحقاً للثواب ثبت أن جانب الوعيد راجح على جانب الوعد وثانيها أن آيات الوعد عامة وآيات الوعيد خاصة والخاص مقدم على العام وثالثها أن الناس جبلوا على الفساد والظلم فكانت الحاجة إلى الزجر أشد فكان جانب الوعيد أولى قلنا الجواب عن الأول من وجوه الأول كما وجدت آيات دالة على أنهم يلعنون ويعذبون في الدنيا بسبب معاصيهم كذلك أيضاً وجدت آيات دالة على أنهم يعظمون ويكرمون في الدنيا بسبب إيمانهم قال الله تعالى وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِئَايَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة َ ( الأنعام 54 ) فليس ترجيح آيات الوعيد في الآخرة بالآيات الدالة على أنهم يذمون ويعذبون في الدنيا بأولى من ترجيح آيات الوعد في الآخرة بالآيات الدالة على أنهم يعظمون بسبب إيمانهم في الدنيا الثاني فكما أن آيات الوعد معارضة لآيات الوعيد في الآخرة فهي معارضة لآيات الوعيد والنكال في الدنيا فلم كان ترجيح آيات وعيد الدنيا على آيات وعيد الآخرة أولى من العكس الثالث أنا أجمعنا على أن السارق وإن تاب إلا أنه تقطع يده لا نكالاً ولكن امتحاناً فثبت أن قوله جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً ( المائدة 38 ) مشروط بعدم التوبة فلم لا يجوز أيضاً أن يكون مشروطاً بعدم العفو والرابع أن الجزاء ما يجزي ويكفي وإذا كان كافياً وجب أن لا يجوز العقاب في الآخرة وإلا قدح ذلك في كونه مجزياً وكافياً فثبت أن هذا ينافي العذاب في الآخرة وإذا ثبت فساد قولهم في ترجيح جانب الوعيد فنقول الآيتان الدالتان على الوعد والوعيد موجودتان فلا بد من التوفيق بينهما فأما أن يقال العبد يصل إليه الثواب ثم ينقل إلى دار العقاب وهو قول باطل بإجماع الأمة أو يقال العبد يصل إليه العقاب ثم ينقل إلى دار الثواب ويبقى هناك أبد الآباد وهو المطلوب أما الترجيح الثاني فهو ضعيف لأن قوله وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لا يتناول الكفر وقوله وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ( النساء 14 ) ( الأحزاب 36 ) يتناول الكل فكان قولنا هو الخاص والله أعلم
الحجة السادسة أنا قد دللنا على أن تأثير شفاعة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في إسقاط العقاب وذلك يدل على مذهبنا في هذه المسألة
الحجة السابعة قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ( الزمر 53 ) وهو نص في المسألة فإن قيل هذه الآية إن دلت فإنما تدل على القطع بالمغفرة لكل العصاة وأنتم لا تقولون بهذا المذهب فما تدل الآية عليه لا تقولون به وما تقولون به لا تدل الآية عليه سلمنا ذلك لكن المراد بها أنه تعالى يغفر جميع الذنوب مع التوبة وحمل الآية على هذا المحمل أولى لوجهين أحدهما أنا إذا حملناها على هذا الوجه فقد حملناها على جميع الذنوب من غير تخصيص الثاني أنه تعالى ذكر عقيب هذه الآية قوله تعالى وَأَنِيبُواْ إِلَى رَبّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ( الزمر 54 ) والإنابة هي التوبة فدل على أن التوبة شرط فيه والجواب عن الأول أن قوله يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً وعد منه بأنه تعالى سيسقطها في المستقبل ونحن نقطع بأنه سيفعل في المستقبل ذلك فإنا نقطع بأنه تعالى سيخرج المؤمنين من النار لا محالة فيكون هذا قطعاً بالغفران لا محالة وبهذا ثبت أنه لا حاجة في إجراء الآية على ظاهرها على قيد التوبة فهذا تمام الكلام في هذه المسألة وبالله التوفيق ولنرجع إلى تفسير الآية فنقول إن المعتزلة فسروا كون الخطيئة محبطة بكونها كبيرة محبطة لثواب فاعلها والاعتراض عليه من وجوه

الأول أنه كما أن من شرط كون السيئة محيطة بالإنسان كونها كبيرة فكذلك شرط هذه الإحاطة عدم العفو لأنه لو تحقق العفو لما تحققت إحاطة السيئة بالإنسان فإذن لا يثبت كون السيئة محيطة بالإنسان إلا إذا ثبت عدم العفو وهذا أول المسألة ويتوقف الاستدلال بهذه الآية على ثبوت المطلوب وهو باطل الثاني أنا لا نفسر إحاطة الخطيئة بكونها كبيرة بل نفسرها بأن يكون ظاهره وباطنه موصوفاً بالمعصية وذلك إنما يتحقق في حق الكافر الذي يكون عاصياً لله بقلبه ولسانه وجوارحه فأما المسلم الذي يكون مطيعاً لله بقلبه ولسانه ويكون عاصياً لله تعالى ببعض أعضائه دون البعض فههنا لا تتحق إحاطة الخطيئة بالعبد ولا شك أن تفسير الإحاطة بما ذكرناه أولى لأن الجسم إذا مس بعض أجزاء جسم آخر دون بعض لا يقال إنه محيط به وعند هذا يظهر أنه لا تتحقق إحاطة الخطيئة بالعبد إلا إذا كان كافراً إذا ثبت هذا فنقول قوله فَأُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ يقتضي أن أصحاب النار ليسوا إلا هم وذلك يقتضي أن لا يكون صاحب الكبيرة من أهل النار الثالث أن قوله تعالى فَأُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ يقتضي كونهم في النار في الحال وذلك باطل فوجب حمله على أنهم يستحقون النار ونحن نقول بموجبه لكن لا نزاع في أنه تعالى هل يعفو عن هذا الحق وهذا أول المسألة ولنختم الكلام في هذه الآية بقاعدة فقهية وهي أن الشرط ههنا أمران أحدهما اكتساب السيئة والثاني إحاطة تلك السيئة بالعبد والجزاء المعلق على وجود الشرطين لا يوجد عند حصل أحدهما وهذا يدل على أن من عقد اليمين على شرطين في طلاق أو إعتاق أنه لا يحنث بوجود أحدهما والله أعلم
وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
اعلم أنه سبحانه وتعالى ما ذكر في القرآن آية في الوعيد إلا وذكر بجنبها آية في الوعد وذلك لفوائد أحدها ليظهر بذلك عدله سبحانه لأنه لما حكم بالعذاب الدائم على المصرين على الكفر وجب أن يحكم بالنعيم الدائم على المصرين على الإيمان وثانيها أن المؤمن لا بد وأن يعتدل خوفه ورجاؤه على ما قال عليه الصلاة والسلام ( لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا ) وذلك الاعتدال لا يحصل إلا بهذا الطريق وثالثها أنه يظهر بوعده كمال رحمته وبوعيده كمال حكمته فيصير ذلك سبباً للعرفان وههنا مسائل
المسألة الأولى العمل الصالح خارج عن مسمى الإيمان لأنه تعالى قال وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فلو دل الإيمان على العمل الصالح لكان ذكر العمل الصالح بعد الإيمان تكراراً أجاب القاضي بأن الإيمان وإن كان يدخل فيه جميع الأعمال الصالحة إلا أن قوله آمن لا يفيد إلا أنه فعل فعلاً واحداً من أفعال الإيمان فلهذا حسن أن يقول وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ والجواب أن فعل الماضي يدل على حصول المصدر في زمان مضى والإيمان هو المصدر فلو دل ذلك على جميع الأعمال الصالحة لكان قوله آمن دليلاً على صدور كل تلك الأعمال منه والله أعلم

المسألة الثانية هذه الآية تدل على أن صاحب الكبيرة قد يدخل الجنة لأنا نتكلم فيمن أتى بالإيمان وبالأعمال الصالحة ثم أتى بعد ذلك بالكبيرة ولم يتب عنها فهذا الشخص قبل إتيانه بالكبيرة كان قد صدق عليه أنه آمن وعمل الصالحات في ذلك الوقت ومن صدق عليه ذلك صدق عليه أنه آمن وعمل الصالحات وإذا صدق عليه ذلك وجب اندراجه تحت قوله أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ فإن قيل قوله تعالى وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لا يصدق عليه إلا إذا أتى بجميع الصالحات ومن جملة الصالحات التوبة فإذا لم يأت بها لم يكن آتياً بالصالحات فلا يندرج تحت الآية قلنا قد بينا أنه قبل الإتيان بالكبيرة صدق عليه أنه آمن وعمل الصالحات في ذلك الوقت وإذا صدق عليه ذلك فقد صدق عليه أنه آمن وعمل الصالحات في ذلك الوقت وإذا صدق عليه ذلك فقد صدق عليه أنه آمن وعمل الصالحات لأنه متى صدق المركب يجب صدق المفرد بل إنه إذا أتى بالكبيرة لم يصدق عليه أنه آمن وعمل الصالحات في كل الأوقات لكن قولنا آمن وعمل الصالحات أعم من قولنا إنه كذلك في كل الأوقات أو في بعض الأوقات والمعتبر في الآية هو القدر المشترك فثبت أنه مندرج تحت حكم الوعد بقي قولهم إن الفاسق أحبط عقاب معصيته ثواب طاعته فيكون الترجيح لجانب الوعيد إلا أن الكلام عليه قد تقدم
المسألة الثالثة احتج الجبائي بهذه الآية على أن من يدخل الجنة لا يدخلها تفضلاً لأن قوله أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ للحصر فدل على أنه ليس للجنة أصحاب إلا هؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات قلنا لم لا يجوز أن يكون المراد أنهم هم الذين يستحقونها فمن أعطى الجنة تفضلاً لم يدخل تحت هذا الحكم والله أعلم
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِى إِسْرءِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُواْ الصَّلَواة َ وَءَاتُواْ الزَّكَواة َ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ
اعلم أن هذا نوع آخر من أنواع النعم التي خصهم الله بها وذلك لأن التكليف بهذه الأشياء موصل إلى أعظم النعم وهو الجنة والموصل إلى النعمة نعمة فهذا التكليف لا محالة من النعم ثم إنه تعالى بين ههنا أنه كلفهم بأشياء التكليف الأول قوله تعالى لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي ( يعبدون ) بالياء والباقون بالتاء ووجه الياء أنهم غيب أخبر عنهم ووجه التاء أنهم كانوا مخاطبين والاختيار التاء قال أبو عمرو ألا ترى أنه جل ذكره قال وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا فدلت المخاطبة على التاء
المسألة الثانية اختلفوا في موضع ( يعبدون ) من الأعراب على خمسة أقوال

القول الأول قال الكسائي رفعه على أن لا يعبدوا كأنه قيل أخذنا ميثاقهم بأن لا يعبدوا إلا أنه لما أسقطت ( أن ) رفع الفعل كما قال طرفة ألا أيهذا اللاثمي أحضر الوغى
وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
أراد أن أحضر ولذلك عطف عليه ( أن ) وأجاز هذا الوجه الأخفش والفراء والزجاج وقطرب وعلي بن عيسى وأبو مسلم
القول الثاني موضعه رفع على أنه جواب القسم كأنه قيل وإذا أقسمنا عليهم لا يعبدون وأجاز هذا الوجه المبرد والكسائي والفراء والزجاج وهو أحد قولي الأخفش
القول الثالث قول قطرب أنه يكون في موضع الحال فيكون موضعه نصباً كأنه قال أخذنا ميثاقكم غير عابدين إلا الله
القول الرابع قول الفراء أن موضع ( لا تعبدون ) على النهي إلا أنه جاء على لفظ الخبر كقوله تعالى لاَ تُضَارَّ والِدَة ٌ بِوَلَدِهَا ( البقرة 233 ) بالرفع والمعنى على النهي والذي يؤكد كونه نهياً أمور أحدها قوله أَقِيمُواْ وثانيها أنه ينصره قراءة عبد الله وأبي لاَّ تَعْبُدُواْ وثالثها أن الإخبار في معنى الأمر والنهي آكد وأبلغ من صريح الأمر والنهي لأنه كأنه سورع إلى الامتثال والانتهاء فهو يخبر عنه
القول الخامس التقدير أن لا تعبدوا تكون ( أن ) مع الفعل بدلاً عن الميثاق كأنه قيل أخذنا ميثاق بني إسرائيل بتوحيدهم
المسألة الثالثة هذا الميثاق يدل على تمام ما لا بد منه في الدين لأنه تعالى لما أمر بعبادة الله تعالى ونهى عن عبادة غيره ولا شك أن الأمر بعبادته والنهي عن عبادة غيره مسبوق بالعلم بذاته سبحانه وجميع ما يجب ويجوز ويستحيل عليه وبالعلم بوحدانيته وبراءته عن الأضداد والأنداد والبراءة عن الصاحبة والأولاد ومسبوق أيضاً بالعلم بكيفية تلك العبادة التي لا سبيل إلى معرفتها إلا بالوحي والرسالة فقوله لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ يتضمن كل ما اشتمل عليه علم الكلام وعلم الفقه والأحكام لأن العبادة لا تتأتى إلا معها
التكليف الثاني قوله تعالى وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً وفيه مسائل
المسألة الأولى يقال بم يتصل الباء في قوله تعالى وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً وعلام انتصب قلنا فيه ثلاثة أقوال الأول قال الزجاج انتصب على معنى أحسنوا بالوالدين إحساناً والثاني قيل على معنى وصيناهم بالوالدين إحساناً لأن اتصال الباء به أحسن على هذا الوجه ولو كان على الأول لكان وإلى الوالدين كأنه قيل وأحسنوا إلى الوالدين الثالث قيل بل هو على الخبر المعطوف على المعنى الأول يعني أن تعبدوا وتحسنوا
المسألة الثانية إنما أردف عبادة الله بالإحسان إلى الوالدين لوجوه أحدها أن نعمة الله تعالى على العبد أعظم فلا بد من تقديم شكره على شكر غيره ثم بعد نعمة الله فنعمة الوالدين أعم النعم وذلك لأن الوالدين هما الأصل والسبب في كون الولد ووجوده كما أنهما منعمان عليه بالتربية وأما غير الوالدين فلا يصدر عنه الإنعام بأصل الوجود بل بالتربية فقط فثبت أن إنعامهما أعظم وجوه الإنعام بعد إنعام الله تعالى

وثانيها أن الله سبحانه هو المؤثر في وجود الإنسان في الحقيقة والوالدان هما المؤثران في وجوده بحسب العرف الظاهر فلما ذكر المؤثر الحقيقي أردفه بالمؤثر بحسب العرف الظاهر وثالثها أن الله تعالى لا يطلب بإنعامه على العبد عوضاً ألبتة بل المقصود إنما هو محض الإنعام والوالدان كذلك فإنهما لا يطلبان على الإنعام على الولد عوضاً مالياً ولا ثواباً فإن من ينكر الميعاد يحسن إلى ولده ويربيه فمن هذا الوجه أشبه إنعامهما إنعام الله تعالى الرابع أن الله تعالى لا يمل من الإنعام على العبد ولو أتى العبد بأعظم الجرائم فإنه لا يقطع عنه مواد نعمه وروادف كرمه وكذا الوالدان لا يملان الولد ولا يقطعان عنه مواد منحهما وكرمهما وإن كان الولد مسيئاً إلى الوالدين الخامس كما أن الوالد المشفق يتصرف في مال ولده بالاسترباح وطلب الزيادة ويصونه عن البخس والنقصان فكذا الحق سبحانه وتعالى متصرف في طاعة العبد فيصونها عن الضياع ثم إنه سبحانه يجعل أعماله التي لا تبقى كالشيء الباقي أبد الآباد كما قال مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّة ٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلّ سُنبُلَة ٍ مّاْئَة ُ حَبَّة ٍ ( البقرة 261 ) السادس أن نعمة الله وإن كانت أعظم من نعمة الوالدين ولكن نعمة الله معلومة بالاستدلال ونعمة الوالدين معلومة بالضرورة إلا أنها قليلة بالنسبة إلى نعم الله فاعتدلا من هذه الجهة والرجحان لنعم الله فلا جرم جعلنا نعم الوالدين كالتالية لنعم الله تعالى
المسألة الثالثة اتفق أكثر العلماء على أنه يجب تعظيم الوالدين وإن كانا كافرين ويدل عليه وجوه أحدها أن قوله في هذه الآية وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً غير مقيد بكونهما مؤمنين أم لا ولأنه ثبت في أصول الفقه أن الحكم المرتب على الوصف مشعر بعلية الوصف فدلت هذه الآية على أن الأمر بتعظيم الوالدين لمحض كونهما والدين وذلك يقتضي العموم وهكذا الاستدلال بقوله تعالى وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً وثانيها قوله تعالى فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا الآية وهذا نهاية المبالغة في المنع من إياذئهما ثم إنه تعالى قال في آخر الآية وَقُل رَّبّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا ( الإسراء 23 24 ) فصرح ببيان السبب في وجوب هذا التعظيم وثالثها أن الله تعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه كيف تلطف في دعوة أبيه من الكفر إلى الإيمان في قوله لاِبِيهِ ياأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً ( مريم 42 ) ثم إن أباه كان يؤذيه ويذكر الجواب الغليظ وهو عليه السلام كان يتحمل ذلك وإذا ثبت ذلك في حق إبراهيم عليه السلام ثبت مثله في حق هذه الأمة لقوله تعالى ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّة َ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا ( النحل 123 )
المسألة الرابعة اعلم أن الإحسان إليهما هو ألا يؤذيهما ألبتة ويوصل إليهما من المنافع قدر ما يحتاجان إليه فيدخل فيه دعوتهما إلى الإيمان إن كانا كافرين وأمرهما بالمعروف على سبيل الرفق إن كانا فاسقين
التكليف الثالث قوله تعالى وَذِى الْقُرْبَى وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الشافعي رضي الله عنه لو أوصى لأقارب زيد دخل فيه الوارث المحرم وغير المحرم ولا يدخل الأب والابن لأنهما لا يعرفان بالقريب ويدخل الأحفاد والأجداد وقيل لا يدخل الأصول والفروع وقيل بدخول الكل وههنا دقيقة وهي أن العرب يحفظون الأجداد العالية فيتسع نسلهم وكلهم

أقارب فلو ترقينا إلى الجد العالي وحسبنا أولاده كثروا فلهذا قال الشافعي رضي الله عنه يرتقي إلى أقرب جد ينتسب هو إليه ويعرف به وإن كان كافراً وذكر الأصحاب في مثاله أنه لو أوصى لأقارب الشافعي رضي الله عنه فإنا نصرفه إلى بني شافع دون بني المطلب وبني عبد مناف وإن كانوا أقارب لأن الشافعي ينتسب في المشهور إلى شافع دون عبد مناف قال الشيخ الغزالي وهذا في زمان الشافعي أما في زماننا فلا ينصرف إلا إلى أولاد الشافعي رضي الله عنه ولا يرتقي إلى بني شافع لأنه أقرب من يعرف به أقاربه في زماننا أما قرابة الأم فإنها تدخل في وصية العجم ولا تدخل في وصية العرب على الأظهر لأنهم لا يعدون ذلك قرابة أما لو قال لأرحام فلان دخل فيه قرابة الأب والأم
المسألة الثانية اعلم أن حق ذي القربى كالتابع لحق الوالدين لأن الإنسان إنما يتصل به أقرباؤه بواسطة اتصالهم بالوالدين والاتصال بالوالدين مقدم على الاتصال بذي القربى فلهذا أخر الله ذكره عن الوالدين وعن أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال ( إن الرحم سجنة من الرحمن فإذا كان يوم القيامة يقول أي رب إني ظلمت إني أسيء إلي إني قطعت قال فيجيبها ربها ألا ترضين أني أقطع من قطعك وأصل من وصلك ثم قرأ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ والسبب العقلي في تأكيد رعاية هذا الحق أن القرابة مظنة الاتحاد والألفة والرعاية والنصرة فلو لم يحصل شيء من ذلك لكان ذلك أشق على القلب وأبلغ في الإيلام والإيحاش والضرورة وكلما كان أقوى كان دفعه أوجب فلهذا وجبت رعاية حقوق الأقارب
التكليف الرابع قوله تعالى وَالْيَتَامَى وفيه مسألتان
المسألة الأولى اليتيم الذي مات أبوه حتى يبلغ الحلم وجمعه أيتام ويتامى كقولهم نديم وندامى ولا يقال لمن ماتت أمه إنه يتيم قال الزجاج هذا في الإنسان أما في غير الإنسان فيتمه من قبل أمه
المسألة الثانية اليتيم كالتالي لرعاية حقوق الأقارب وذلك لأنه لصغره لا ينتفع به وليتمه وخلوه عمن يقوم به يحتاج إلى من ينفعه والإنسان قلما يرغب في صحبة مثل هذا وإذا كان هذا التكليف شاقاً على النفس لا جرم كانت درجته عظيمة في الدين
التكليف الخامس قوله تعالى وَالْمَسَاكِينُ وفيه مسائل
المسألة الأولى ( والمساكين ) واحدها مسكين أخذ من السكون كأن الفقر قد سكنه وهو أشد فقراً من الفقير عند أكثر أهل اللغة وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنه واحتجوا بقوله تعالى أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَة ٍ ( البلد 16 ) وعند الشافعي رضي الله عنه الفقير أسوأ حالاً لأن الفقير اشتقاقه من فقار الظهر كأن فقاره انكسر لشدة حاجته وهو قول ابن الأنباري واحتجوا عليه بقوله تعالى أَمَّا السَّفِينَة ُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِى الْبَحْرِ ( الكهف 79 ) جعلهم مساكين مع أن السفينة كانت ملكاً لهم
المسألة الثانية إنما تأخرت درجتهم عن اليتامى لأن المسكين قد يكون بحيث ينتفع به في الاستخدام فكان الميل إلى مخالطته أكثر من الميل إلى مخالطة اليتامى ولأن المسكين أيضاً يمكنه الاشتغال بتعهد نفسه ومصالح معيشته واليتيم ليس كذلك فلا جرم قدم الله ذكر اليتيم على المسكين

المسألة الثالثة الإحسان إلى ذي القربى واليتامى لا بد وأن يكون مغايراً للزكاة لأن العطف يقتضي التغاير
التكليف السادس قوله تعالى وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي ( حسناً ) بفتح الحاء والسين على معنى الوصف للقول كأنه قال قولوا للناس قولاً حسناً والباقون بضم الحاء وسكون السين واستشهدوا بقوله تعالى وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً ( العنكبوت 8 ) وبقوله ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوء ( النحل 11 ) وفيه أوجه الأول قال الأخفش معناه قولاً ذا حسن الثاني يجوز أن يكون حسناً في موضع حسناً كما تقول رجل عدل الثالث أن يكون معنى قوله وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا أي ليحسن قولكم نصب على مصدر الفعل الذي دل عليه الكلام الأول الرابع حسناً أي قول هو حسن في نفسه لإفراط حسنه
المسألة الثانية يقال لم خوطبوا بقولوا بعد الإخبار والجواب من ثلاثة أوجه أحدها أنه على طريقة الالتفات كقوله تعالى حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم ( يونس 22 ) وثانيها فيه حذف أي قلنا لهم قولوا وثالثها الميثاق لا يكون إلا كلاماً كأنه قيل قلت لا تعبدوا وقولوا
المسألة الثالثة اختلفوا في أن المخاطب بقوله وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا من هو فيحتمل أن يقال إنه تعالى أخذ الميثاق عليهم أن لا يعبدوا إلا الله وعلى أن يقولوا للناس حسناً ويحتمل أن يقال إنه تعالى أخذ الميثاق عليهم أن لا يعبدوا إلا الله ثم قال لموسى وأمته قولوا للناس حسناً والكل ممكن بحسب اللفظ وإن كان الأول أقرب حتى تكون القصة قصة واحدة مشتملة على محاسن العادات ومكارم الأخلاق من كل الوجوه
المسألة الرابعة منهم من قال إنما يجب القول الحسن مع المؤمنين أما مع الكفار والفساق فلا والدليل عليه وجهان الأول أنه يجب لعنهم وذمهم والمحاربة معهم فكيف يمكن أن يكون القول معهم حسناً والثاني قوله تعالى لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوء مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ ( النساء 148 ) فأباح الجهر بالسوء لمن ظلم ثم إن القائلين بهذا القول منهم من زعم أن هذا الأمر صار منسوخاً بآية القتال ومنهم من قال إنه دخله التخصيص وعلى هذا التقدير يحصل ههنا احتمالان أحدهما أن يكون التخصيص واقعاً بحسب المخاطب وهو أن يكون المراد وقولوا للمؤمنين حسناً والثاني أن يقع بحسب المخاطب وهو أن يكون المراد قولوا للناس حسناً في الدعاء إلى الله تعالى وفي الأمر المعروف فعلى الوجه الأول يتطرق التخصيص إلى المخاطب دون الخطاب وعلى الثاني يتطرق إلى الخطاب دون المخاطب وزعم أبو جعفر محمد بن علي الباقر أن هذا العموم باق على ظاهره وأنه لا حاجة إلى التخصيص وهذا هو الأقوى والدليل عليه أن موسى وهرون مع جلال منصبهما أمرا بالرفق واللين مع فرعون وكذلك محمد ( صلى الله عليه وسلم ) مأمور بالرفق وترك الغلظة وكذلك قوله تعالى ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَة ِ وَالْمَوْعِظَة ِ الْحَسَنَة ِ ( النحل 125 ) وقال تعالى وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ ( الأنعام 108 ) وقوله وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً ( الفرقان 72 ) وقوله وَأَعْرِض عَنِ الْجَاهِلِينَ ( الأعراف 199 ) أما الذي تمسكوا به أولاً من أنه يجب لعنهم وذمهم فلا يمكنهم القول الحسن معهم قلنا أولاً لا نسلم أنه يجب لعنهم وسبهم والدليل عليه قوله تعالى وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ( الأنعام 108 ) سلمنا أنه يجب لعنهم لكن

لا نسلم أن اللعن ليس قولاً حسناً بيانه أن القول الحسن ليس عبارة عن القول الذي يشتهونه ويحبونه بل القول الحسن هو الذي يحصل انتفاعهم به ونحن إذا لعناهم وذممناهم ليرتدعوا به عن الفعل القبيح كان ذلك المعنى نافعاً في حقهم فكان ذلك اللعن قولاً حسناً ونافعاً كما أن تغليظ الوالد في القول قد يكون حسناً ونافعاً من حيث إنه يرتدع به عن الفعل القبيح سلمنا أن لعنهم ليس قولاً حسناً ولكن لا نسلم أن وجوبه ينافي وجوب القول الحسن بيانه أنه لا منافاة بين كون الشخص مستحقاً للتعظيم بسبب إحسانه إلينا ومستحقاً للتحقير بسبب كفره وإذا كان كذلك فلم لا يجوز أن يكون وجوب القول الحسن معهم وأما الذي تمسكوا به ثانياً وهو قوله تعالى لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوء مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ ( النساء 148 ) فالجواب لم لا يجوز أن يكون المراد منه كشف حال الظالم ليحترز الناس عنه وهو المراد بقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( اذكروا الفاسق بما فيه كي يحذره الناس )
المسألة الخامسة قال أهل التحقيق كلام الناس مع الناس إما أن يكون في الأمور الدينية أو في الأمور الدنيوية فإن كان في الأمور الدينية فإما أن يكون في الدعوة إلى الإيمان وهو مع الكفار أو في الدعوة إلى الطاعة وهو مع الفاسق أما الدعوة إلى الإيمان فلا بد وأن تكون بالقول الحسن كما قال تعالى لموسى وهارون فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ( طه 44 ) أمرهما الله تعالى بالرفق مع فرعون مع جلالتهما ونهاية كفر فرعون وتمرده وعتوه على الله تعالى وقال لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ( آل عمران 159 ) الآية وأما دعوة الفساق فالقول الحسن فيه معتبر قال تعالى ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَة ِ وَالْمَوْعِظَة ِ الْحَسَنَة ِ ( النحل 125 ) وقال ادْفَعْ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَة ٌ كَأَنَّهُ وَلِى ٌّ حَمِيمٌ ( فصلت 34 ) وأما في الأمور الدنيوية فمن المعلوم بالضرورة أنه إذا أمكن التوصل إلى الغرض بالتلطف من القول لم يحسن سواه فثبت أن جميع آداب الدين والدنيا داخلة تحت قوله تعالى وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا
المسألة السادسة ظاهر الآية يدل على أن الإحسان إلى ذي القربى واليتامى والمساكين كان واجباً عليهم في دينهم وكذا القول الحسن للناس كان واجباً عليهم لأن أخذ الميثاق يدل على الوجوب وذلك لأن ظاهر الأمر للوجوب ولأنه تعالى ذمهم على التولي عنه وذلك يفيد الوجوب والأمر في شرعنا أيضاً كذلك من بعض الوجوه وروي عن ابن عباس أنه قال إن الزكاة نسخت كل حق وهذا ضعيف لأنه لا خلاف أن من اشتدت به الحاجة وشاهدناه بهذه الصفة فإنه يلزمنا التصدق عليه وإن لم يجب علينا الزكاة حتى أنه إن لم تندفع حاجتهم بالزكاة كان التصدق واجباً ولا شك في وجوب مكالمة الناس بطريق لا يتضررون به
التكليف السابع والثامن قوله تعالى وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِى وقد تقدم تفسيرهما
واعلم أنه تعالى لما شرح أنه أخذ الميثاق عليهم في هذه التكاليف الثمانية بين أنه مع إنعامه عليهم بأخذ الميثاق عليهم بكل ذلك ليقبلوا فتحصل لهم المنزلة العظمى عند ربهم تولوا وأساءوا إلى أنفسهم ولم يتلقوا نعم ربهم بالقبول مع توكيد الدلائل والمواثيق عليهم وذلك يزيد في قبح ما هم عليه من الإعراض والتولي لأن الإقدام على مخالفة الله تعالى بعد أن بلغ الغاية في البيان والتوثق يكون أعظم من المخالفة مع الجهالة واختلفوا فيمن المراد بقوله ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ على ثلاثة أوجه أحدها أنه من تقدم من بني

إسرائيل وثانيها أنه خطاب لمن كان في عصر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من اليهود يعني أعرضتم بعد ظهور المعجزات كإعراض أسلافكم وثالثها المراد بقوله ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ من تقدم بقوله وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ ومن تأخر أما وجه القول الأول أنه إذا كان الكلام الأول في المتقدمين منهم فظاهر الخطاب يقتضي أن آخره فيهم أيضاً إلا بدليل يوجب الانصراف عن هذا الظاهر يبين ذلك أنه تعالى ساق الكلام الأول سياقة إظهار النعم بإقامة الحجج عليهم ثم بين من بعد أنهم تولوا إلا قليلاً منهم فإنهم بقوا على ما دخلوا فيه أما وجه القول الثاني أن قوله ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ خطاب مشافهة وهو بالحاضرين أليق وما تقدم حكاية وهو بسلفهم الغائبين أليق فكأنه تعالى بين أن تلك العهود والمواثيق كما لزمهم التمسك بها فذلك هو لازم لكم لأنكم تعلمون ما في التوراة من حال محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وصحة نبوته فيلزمكم من الحجة مثل الذي لزمهم وأنتم مع ذلك قد توليتم وأعرضتم عن ذلك إلا قليلاً منكم وهم الذين آمنوا وأسلموا فهذا محتمل وأما وجه القول الثالث فهو أنه تعالى لما بين أنه أنعم عليهم بتلك النعم ثم إنهم تولوا عنها كان ذلك دالاً على نهاية قبح أفعالهم ويكون قوله وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ مختصاً بمن في زمان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أي أنكم بمنزلة المتقدمين الذين تولوا بعد أخذ هذه المواثيق فإنكم بعد اطلاعكم على دلائل صدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أعرضتم عنه وكفرتم به فكنتم في هذا الإعراض بمثابة أولئك المتقدمين في ذلك التولي والله أعلم
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَآءِكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ
اعلم أن هذه الآية تدل على نوع آخر من نعم الله عليهم وهو أنه تعالى كلفهم هذا التكليف وأنهم أقروا بصحته ثم خالفوا العهد فيه
وأما قوله وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ ففيه وجوه أحدها أنه خطاب لعلماء اليهود في عصر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وثانيها أنه خطاب مع أسلافهم وتقديره وإذ أخذنا ميثاق آبائكم وثالثها أنه خطاب للأسلاف وتقريع للأخلاف ومعنى أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ أمرناكم وأكدنا الأمر وقبلتم وأقررتم بلزومه ووجوبه
أما قوله تعالى لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ ففيه إشكال وهو أن الإنسان ملجأ إلى أن لا يقتل نفسه وإذا كان كذلك فلا فائدة في النهي عنه والجواب عنه من أوجه أحدها أن هذا الإلجاء قد يتغير كما ثبت في أهل الهند أنهم يقدرون في قتل النفس التخلص من عالم الفساد واللحوق بعالم النور والصلاح أو كثير ممن صعب عليه الزمان وثقل عليه أمر من الأمور فيقتل نفسه فإذا انتفى كون الإنسان ملجأ إلى ترك قتله نفسه صح كونه مكلفاً به وثانيها المراد لا يقتل بعضكم بعضاً وجعل غير الرجل نفسه إذا اتصل به نسباً وديناً وهو كقوله تعالى فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ( البقرة 54 ) وثالثها أنه إذا قتل غيره فكأنما قتل نفسه لأنه يقتص منه=

ج4. مفاتيح الغيب ـ ترقيم الشاملة موافق للمطبوع
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي الشافعي

ورابعها لا تتعرضوا لمقاتلة من يقتلكم فتكونوا قد قتلتم أنفسكم وخامسها لا تسفكون دماءكم من قوامكم في مصالح الدنيا بهم فتكونون مهلكين لأنفسكم
أما قوله تعالى وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ ففيه وجهان الأول لا تفعلوا ما تستحقون بسببه أن تخرجوا من دياركم الثاني المراد النهي عن إخراج بعضهم بعضاً من ديارهم لأن ذلك مما يعظم فيه المحنة والشدة حتى يقرب من الهلاك
أما قوله تعالى ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ ففيه وجوه أحدها وهو الأقوى أي ثم أقررتم بالميثاق واعترفتم على أنفسكم بلزومه وأنتم تشهدون عليها كقولك فلان مقر على نفسه بكذا أي شاهد عليها وثانيها اعترفتم بقبوله وشهد بعضكم على بعض بذلك لأنه كان شائعاً فيما بينهم مشهوراً وثالثها وأنتم تشهدون اليوم يا معشر اليهود على إقرار أسلافكم بهذا الميثاق ورابعها الإقرار الذي هو الرضاء بالأمر والصبر عليه كأن يقال فلان لا يقر على الضيم فيكون المعنى أنه تعالى يأمركم بذلك ورضيتم به فأقمتم عليه وشهدتم بوجوبه وصحته فإن قيل لم قال أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ والمعنى واحد قلنا فيه ثلاثة أقوال الأول أقررتم يعني أسلافكم وأنتم تشهدون الآن يعني على إقرارهم الثاني أقررتم في وقت الميثاق الذي مضى وأنتم بعد ذلك تشهدون الثالث أنه للتأكيد
ثُمَّ أَنتُمْ هَاؤُلا ءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ علَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذالِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْى ٌ فِي الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَة ِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الّعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
أما قوله تعالى ثُمَّ أَنتُمْ هَاؤُلاء ففيه إشكال لأن قوله أَنتُمْ للحاضرين و هَؤُلاء للغائبين فكيف يكون الحاضر نفس الغائب وجوابه من وجوه أحدها تقديره ثم أنتم يا هؤلاء وثانيها تقديره ثم أنتم أعني هؤلاء الحاضرين وثالثها أنه بمعنى الذي وصلته ( تقتلون ) وموضع تقتلون رفع إذا كان خبراً ولا موضع له إذا كان صلة قال الزجاج ومثله في الصلة قوله تعالى وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يامُوسَى مُوسَى ( طه 17 ) يعني وما تلك التي بيمينك ورابعها هؤلاء تأكيد لأنتم والخبر ( تقتلون ) وأما قوله تعالى تَقْتُلُونَ

أَنفُسَكُمْ فقد ذكرنا فيه الوجوه وأصحها أن المراد يقتل بعضكم بعضاً وقتل البعض للبعض قد يقال فيه إنه قتل للنفس إذ كان الكل بمنزلة النفس الواحدة وبينا المراد بالإخراج من الديار ما هو
أما قوله تعالى تَظَاهَرُونَ علَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوانِ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ عاصم وحمزة والكسائي ( تظاهرون ) بتخفيف الظاء والباقون بالتشديد فوجه التخفيف الحذف لإحدى التاءين كقوله وَلاَ تَعَاوَنُواْ ووجه التشديد إدغام التاء في الظاء كقوله تعالى اثَّاقَلْتُمْ ( التوبة 38 ) والحذف أخف والادغام أدل على الأصل
المسألة الثانية اعلم أن التظاهر هو التعاون ولما كان الإخراج من الديار وقتل البعض بعضاً مما تعظم به الفتنة واحتيج فيه إلى اقتدار وغلبة بين الله تعالى أنهم فعلوه على وجه الاستعانة بمن يظاهرهم على الظلم والعدوان
المسألة الثالثة الآية تدل على أن الظلم كما هو محرم فكذا إعانة الظالم على ظلمه محرمة فإن قيل أليس أن الله تعالى لما أقدر الظالم على الظلم وأزال العوائق والموانع وسلط عليه الشهوة الداعية إلى الظلم كان قد أعانه على الظلم فلو كانت إعانة الظالم على ظلمه قبيحة لوجب أن لا يوجد ذلك من الله تعالى والجواب أنه تعالى وإن مكن الظالم من ذلك فقد زجره عن الظلم بالتهديد والزجر بخلاف المعين للظالم على ظلمه فإنه يرغبه فيه ويحسنه في عينه ويدعوه إليه فظهر الفرق
المسألة الرابعة الآية لا تدل على أن قدر ذنب المعين مثل قدر ذنب المباشر بل الدليل دل على أنه دونه لأن الإعانة لو حصلت بدون المباشرة لما أثرت في حصول الظلم ولو حصلت المباشرة بدون الإعانة لحصل الضرر والظلم فعلمنا أن المباشرة أدخل في الحرمة من الإعانة
أما قوله تعالى وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وعاصم والكسائي ( أسارى تفادوهم ) بالألف فيهما وقرأ حمزة وحده بغير ألف فيهما والباقون ( أسارى ) بالألف و ( تفدوهم ) بغير ألف و ( الأسرى ) جمع أسير كجريح وجرحى وفي أسارى قولان أحدهما أنه جمع أسرى كسكرى وسكارى والثاني جمع أسير وفرق أبو عمرو بين الأسرى والأسارى وقال الأسارى الذين في وثاق والأسرى الذين في اليد كأنه يذهب إلى أن أسارى أشد مبالغة وأنكر ثعلب ذلك وقال علي ابن عيسى الاختيار أسارى بالألف لأن عليه أكثر الأئمة ولأنه أدل على معنى الجمع إذ كان يقال بكثرة فيه وهو قليل في الواحد نحو شكاعى ولأنها لغة أهل الحجاز
المسألة الثانية تفدوهم وتفادوهم لغتان مشهورتان تفدوهم من الفداء وهو العوض من الشيء صيانة له يقال فداه فدية وتفادوهم من المفاداة
المسألة الثالثة جمهور المفسرين قالوا المراد من قوله تُفَادُوهُمْ وصف لهم بما هو طاعة وهو

التخليص من الأسر ببذل مال أو غيره ليعودوا إلى كفرهم وذكر أبو مسلم أنه ضد ذلك والمراد أنكم مع القتل والإخراج إذا وقع أسير في أيديكم لم ترضوا منه إلا بأخذ مال وإن كان ذلك محرماً عليكم ثم عنده تخرجونه من الأسر قال أبو مسلم والمفسرون إنما أتوا من جهة قوله تعالى أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ وهذا ضعيف لأن هذا القول راجع إلى ما تقدم من ذكر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وما أنزل عليهم والمراد أنه إذا كان في الكتاب الذي معكم نبأ محمد فجحدتموه فقد آمنتم ببعض الكتاب وكفرتم ببعض وكلا القولين يحتمل لفظ المفادة لأن الباذل عن الأسير يوصف بأنه فاداه والأخذ منه للتخليص يوصف أيضاً بذلك إلا أن الذي أجمع المفسرون عليه أقرب لأن عود قوله أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ إلى ما تقدم ذكره في هذه الآية أولى من عوده إلى أمور تقدم ذكرها بعد آيات
المسألة الرابعة قال بعضهم الذين أخرجوا والذين فودوا فريق واحد وذلك أن قريظة والنضير كانا أخوين كالأوس والخزرج فافترقوا فكانت النضير مع الخزرج وقريظة مع الأوس فكان كل فريق يقاتل مع حلفائه وإذا غلبوا خربوا ديارهم وأخرجوهم وإذا أسر رجل من الفريقين جمعوا له حتى يفدوه فعيرتهم العرب وقالوا كيف تقاتلونهم ثم تفدونهم فيقولون أمرنا أن نفديهم وحرم علينا قتالهم ولكنا نستحي أن نذل حلفاءنا وقال آخرون ليس الذين أخرجوهم فودوا ولكنهم قوم آخرون فعابهم الله عليه
أما قوله تعالى وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ ففي قوله وَهُوَ وجهان الأول أنه ضمير القصة والشأن كأنه قيل والقصة محرم عليكم إخراجهم الثاني أنه كناية عن الإخراج أعيد ذكره توكيداً لأنه فصل بينهما بكلام فموضعه على هذا رفع كأنه قيل وإخراجهم محرم عليكم ثم أعيد ذكر إخراجهم مبيناً للأول
أما قوله أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فقد اختلف العلماء فيه على وجهين أحدهما أخراجهم كفر وفداؤهم إيمان وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة وابن جريج ولم يذمهم على الفداء وإنما ذمهم على المناقضة إذ أتوا ببعض الواجب وتركوا البعض وقد تكون المناقضة أدخل في الذم لا يقال هب أن ذلك الإخراج معصية فلم سماها كفراً مع أنه ثبت أن العاصي لا يكفر لأنا نقول لعلهم صرحوا أن ذلك الإخراج غير واجب مع أن صريح التوراة كان دالاً على وجوبه وثالثهما المراد منه التنبيه على أنهم في تمسكهم بنبوة موسى عليه السلام مع التكذيب بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) مع أن الحجة في أمرهما على سواء يجري مجرى طريقة السلف منهم في أن يؤمنوا ببعض ويكفروا ببعض والكل في الميثاق سواء
أما قوله تعالى ثُمَّ أَنتُمْ هَاؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ فأصل الخزي الذل والمقت يقال أخزاه الله إذا مقته وأبعده وقيل أصله الاستحياء فإذا قيل أخزاه الله كأنه قيل أوقعه موقعاً يستحيا منه وبالجملة فالمراد منه الذم العظيم واختلفوا في هذا الخزي على وجوه أحدها قال الحسن المراد الجزية والصغار وهو ضعيف لأنه لا دلالة على أن الجزية كانت ثابتة في شريعتهم بل إن حملنا الآية على الذين كانوا في زمان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) صح هذا الوجه لأن من جملة الخزي الواقع بأهل الذمة أخذ الجزية منهم وثانيها إخراج بني النضير من ديارهم وقتل بني قريظة وسبي ذراريهم وهذا إنما يصح لو حملنا الآية على الحاضرين في

زمان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وثالثها وهو الأولى أن المراد منه الذم العظيم والتحقير البالغ من غير تخصيص ذلك ببعض الوجوه دون بعض والتنكير في قوله ( خزي ) يدل على أن الذم واقع في النهاية العظمى
أما قوله وَيَوْمَ الْقِيَامَة ِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدّ الّعَذَابِ ففيه سؤال وهو أن عذاب الدهرية الذين ينكرون الصانع يجب أن يكون أشد من عذاب اليهود فكيف قال في حق اليهود يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدّ الّعَذَابِ والجواب المراد منه أنه أشد من الخزي الحاصل في الدنيا فلفظ ( الأشد ) وإن كان مطلقاً إلا أن المراد أشد من هذه الجهة
أما قوله تعالى وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ففيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ ابن كثير ونافع وعاصم بتاء الخطاب والباقون بياء الغيبية وجه الأول البناء على أول الكلام أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ووجه الثاني البناء على أنه آخر الكلام واختيار الخطاب لأن عليه الأكثر ولأنه أدل على المعنى لتغليب الخطاب على الغيبة إذا اجتمعا
المسألة الثانية قوله تعالى وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ تهديد شديد وزجر عظيم عن المعصية وبشارة عظيمة على الطاعة لأن الغفلة إذا كانت ممتنعة عليه سبحانه مع أنه أقدر القادرين وصلت الحقوق لا محالة إلى مستحقيها
أُولَائِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَواة َ الدُّنْيَا بِالاٌّ خِرَة ِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ
اعلم أن الجمع بين تحصيل لذات الدنيا ولذات الآخرة ممتنع غير ممكن والله سبحانه مكن المكلف من تحصيل أيهما شاء وأراد فإذا اشتغل بتحصيل أحدهما فقد فوت الآخر على نفسه فجعل الله ما أعرض اليهود عنه من الإيمان بما في كتبهم وما حصل في أيديهم من الكفر ولذات الدنيا كالبيع والشراء وذلك من الله تعالى في نهاية الذم لهم لأن المغبون في البيع والشراء في الدنيا مذموم حتى يوصف بأنه تغير في عقله فبأن يذم مشتري متاع الدنيا بالآخرة أولى
أما قوله تعالى فَلا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ ففيه مسألتان
المسألة الأولى في دخول الفاء في قوله فَلاَ يُخَفَّفُ قولان أحدهما العطف على اشْتَرَوُاْ والقول الآخر بمعنى جواب الأمر كقولك أولئك الضلال انتبه فلا خير فيهم والأول أوجه لأنه لا حاجة فيه إلى الإضمار
المسألة الثانية بعضهم حمل التخفيف على أنه لا ينقطع بل يدوم لأنه لو انقطع لكان قد خف وحمله آخرون على شدته لا على دوامه والأولى أن يقال إن العذاب قد يخف بالانقطاع وقد يخف بالقلة في

كل وقت أو في بعض الأوقات فإذا وصف تعالى عذابهم بأنه لا يخفف اقتضى ذلك نفي جميع ما ذكرناه
أما قوله تعالى وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ففيه وجهان الأكثرون حملوه على نفي النصرة في الآخرة يعني أن أحداً لا يدفع هذا العذاب عنهم ولا هم ينصرون على من يريد عذابهم ومنهم من حمله على نفي النصرة في الدنيا والأول أولى لأنه تعالى جعل ذلك جزاء على صنيعهم ولذلك قال فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وهذه الصفة لا تليق إلا بالآخرة لأن عذاب الدنيا وإن حصل فيصير كالحدود التي تقام على المقصر ولأن الكفار قد يصيرون غالبين للمؤمنين في بعض الأوقات
وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَءَاتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُم اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ
اعلم أن هذا نوع آخر من النعم التي أفاضها الله عليهم ثم إنهم قابلوه بالكفر والأفعال القبيحة وذلك لأنه تعالى لما وصف حال اليهود من قبل بأنهم يخالفون أمر الله تعالى في قتل أنفسهم وإخراج بعضهم بعضاً من ديارهم وبين أنهم بهذا الصنيع اشتروا الدنيا بالآخرة زاد في تبكيتهم بما ذكره في هذه الآية أما الكتاب فهو التوراة آتاه الله إياها جملة واحدة روي عن ابن عباس أن التوراة لما نزلت أمر الله تعالى موسى بحملها فلم يطق ذلك فبعث الله لكل حرف منها ملكاً فلم يطيقوا حملها فخففها الله على موسى فحملها
وأما قوله تعالى وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ الرُّسُلَ ففيه مسألتان
المسألة الأولى قفينا أتبعنا مأخوذ من الشيء يأتي في قفاه الشيء أي بعد نحو ذنبه من الذنب ونظيره قوله ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى ( المؤمنون 44 )
المسألة الثانية روي أن بعد موسى عليه السلام إلى أيام عيسى عليه السلام كانت الرسل تتواتر ويظهر بعضهم في أثر بعض والشريعة واحدة إلى أيام عيسى عليه السلام فإنه صلوات الله عليه جاء بشريعة مجددة واستدلوا على صحة ذلك بقوله تعالى وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ فإنه يقتضي أنهم على حد واحد في الشريعة يتبع بعضهم بعضاً فيها قال القاضي إن الرسول الثاني لا يجوز أن يكون على شريعة الأول حتى لا يؤدي إلى تلك الشريعة بعينها من غير زيادة ولا نقصان مع أن تلك الشريعة محفوظة يمكن معرفتها بالتواتر عن الأول لأن الرسول إذا كان هذا حاله لم يمكن أن يعلم من جهة إلا ما كان قد علم من قبل أو يمكن أن يعلم من قبل فكما لا يجوز أن يبعث الله تعالى رسولاً لا شريعة معه أصلاً تبين العقليات لهذه العلة فكذا القول في مسألتنا فثبت أنه لا بد في الرسل الذين جاؤوا من بعد موسى عليه السلام أن يكونوا قد أتوا بشريعة

جديدة إن كانت الأولى محفوظة أو محيية لبعض ما اندرس من الشريعة الأولى والجواب لم لا يجوز أن يكون المقصود من بعثة هؤلاء الرسل تنفيذ تلك الشريعة السالفة على الأمة أو نوع آخر من الألطاف لا يعلمها إلا الله وبالجملة فالقاضي ما أتى في هذه الدلالة إلا بإعادة الدعوى فلم قال إنه لا يجوز بعث هؤلاء الرسل إلا لشريعة جديدة أو لإحياء شريعة اندرست وهل النزاع وقع إلا في هذا
المسألة الثالثة هؤلاء الرسل هم يوشع وشمويل وشمعون وداود وسليمان وشعياء وأرمياء وعزيز وحزقيل وإلياس واليسع ويونس وزكريا ويحيى وغيرهم
أما قوله تعالى وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا ففيه مسائل
المسألة الأولى السبب في أن الله تعالى أجمل ذكر الرسول ثم فصل ذكر عيسى لأن من قبله من الرسل جاءوا بشريعة موسى فكانوا متبعين له وليس كذلك عيسى لأن شرعة نسخ أكثر شرع موسى عليه السلام
المسألة الثانية قيل عيسى بالسريانية أيشوع ومريم بمعنى الخادم وقيل مريم بالعبرانية من النساء كزير من الرجال وبه فسر قول رؤبة قلت لزير لم تصله مريمة
المسألة الثالثة في البينات وجوه أحدها المعجزات من إحياء الموتى ونحوها عن ابن عباس وثانيها أنها الإنجيل وثالثها وهو الأقوى أن الكل يدخل فيه لأن المعجز يبين صحة نبوته كما أن الإنجيل يبين كيفية شريعته فلا يكون للتخصيص معنى
أما قوله تعالى تعالى وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرىء وأيدناه قرأ ابن كثير ( القدس ) بالتخفيف والباقون بالتثقيل وهما لغتان مثل رعب ورعب
المسألة الثانية اختلفوا في الروح على وجوه أحدها أنه جبريل عليه السلام وإنما سمي بذلك لوجوه الأول أن المراد من روح القدس الروح المقدسة كما يقال حاتم الجود ورجل صدق فوصف جبريل بذلك تشريفاً له وبياناً لعلو مرتبته عند الله تعالى الثاني سمي جبريل عليه السلام بذلك لأنه يحيا به الدين كما يحيا البدن بالروح فإنه هو المتولى لإنزال الوحي إلى الأنبياء والمكلفون في ذلك يحيون في دينهم الثالث أن الغالب عليه الروحانية وكذلك سائر الملائكة غير أن روحانيته أتم وأكمل الرابع سمي جبريل عليه السلام روحاً لأنه ما ضمته أصلاب الفحول وأرحام الأمهات وثانيها المراد بروح القدس الإنجيل كما قال في القرآن رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا ( الشورى 52 ) وسمي به لأن الدين يحيا به ومصالح الدنيا تنتظم لأجله وثالثها أنه الاسم الذي كان يحيي به عليه السلام الموتى عن ابن عباس وسعيد بن جبير ورابعها أنه الروح الذي نفخ فيه والقدس هو الله تعالى فنسب روح عيسى عليه السلام إلى نفسه

تعظيماً له وتشريفاً كما يقال بيت الله وناقة الله عن الربيع وعلى هذاب المراد به الروح الذي يحيا به الإنسان
واعلم أن اطلاق اسم الروح على جبريل وعلى الانجيل وعلى الاسم الأعظم مجاز لأن الروح هو الريح المتردد في مخلوق الإنسان ومنافذه ومعلوم أن هذه الثلاثة ما كانت كذلك إلا أنه سمي كل واحد من هذه الثلاثة بالروح على سبيل التشبيه من حيث أن الروح كما أنه سبب لحياة الرجل فكذلك جبريل عليه السلام سبب لحياة القلوب بالعلوم والانجيل سبب لظهور الشرائع وحياتها والاسم الأعظم سبب لأن يتوسل به إلى تحصيل الأغراض إلا أن المشابهة بين مسمى الروح وبين جبريل أتم لوجوه أحدها لأن جبريل عليه السلام مخلوق من هواء نوراً لطيف فكانت المشابهة أتم فكان إطلاق اسم الروح على جبريل أولى وثانيها أن هذه التسمية فيه أظهر منها فيما عداه وثالثها أن قوله تعالى وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ يعني قويناه والمراد من هذه التقوية الإعانة وإسناد الإعانة إلى جبريل عليه السلام حقيقة وإسنادها إلى الإنجيل والاسم الأعظم مجاز فكان ذلك أولى ورابعها وهو أن اختصاص عيسى بجبريل عليهما السلام من آكد وجوه الاختصاص بحيث لم يكن لأحد من الأنبياء عليهم السلام مثل ذلك لأنه هو الذي بشر مريم بولادتها وإنما ولد عيسى عليه السلام من نفخة جبريل عليه السلام وهو الذي رباه في جميع الأحوال وكان يسير معه حيث سار وكان معه حين صعد إلى السماء
أما قوله تعالى أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُم اسْتَكْبَرْتُمْ فهو نهاية الذم لهم لأن اليهود من بني إسرائيل كانوا إذا أتاهم الرسول بخلاف ما يهوون كذبوه وإن تهيأ لهم قتله قتلوه وإنما كانوا كذلك لإرادتهم الرفعة في الدنيا وطلبهم لذاتها والترؤس على عامتهم وأخذ أموالهم بغير حق وكانت الرسل تبطل عليهم ذلك فيكذبونهم لأجل ذلك ويوهمون عوامهم كونهم كاذبين ويحتجون في ذلك بالتحريف وسوء التأويل ومنهم من كان يستكبر على الأنبياء استكبار إبليس على آدم
أما قوله تعالى فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ فلقائل أن يقول هلا قيل وفريقاً قتلتم وجوابه من وجهين أحدهما أن يراد الحال الماضية لأن الأمر فظيع فأريد استحضاره في النفوس وتصويره في القلوب الثاني أن يراد فريقاً تقتلونهم بعد لأنكم حاولتم قتل محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لولا أني أعصمه منكم ولذلك سحرتموه وسممتم له الشاة وقال عليه السلام عند موته ( ما زالت أكلة خيبر تعاودني فهذا أوان انقطاع أبهري ) والله أعلم
وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ
أما الغلف ففيه ثلاثة أوجه أحدها أنه جمع أغلف والأغلف هو ما في غلاف أي قلوبنا مغشاة

بأغطية مانعة من وصول أثر دعوتك إليها وثانيها روى الأصم عن بعضهم أن قلوبهم غلف بالعلم ومملوءة بالحكمة فلا حاجة معها بهم إلى شرع محمد عليه السلام وثالثها غلف أي كالغلاف الخالي لا شيء فيه مما يدل على صحة قولك أما المعتزلة فإنهم اختاروا الوجه الأول ثم قالوا هذه الآية تدل على أنه ليس في قلوب الكفار ما لا يمكنهم معه الإيمان لا غلاف ولا كن ولا سد على ما يقوله المجبرة لأنه لو كان كذلك لكان هؤلاء اليهود صادقين في هذا القول فكان لا يكذبهم الله بقوله بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ لأنه تعالى إنما يذم الكاذب المبطل لا الصادق المحق المعذور قالوا وهذا يدل على أن معنى قوله وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكّرَ بِئَايِاتِ رَبّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِى َ مَا ( الكهف 57 ) وقوله إِنَّا جَعَلْنَا فِى أَعْناقِهِمْ أَغْلَالاً وقوله وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ( يس 8 9 ) ليس المراد كونهم ممنوعين من الإيمان بل المراد إما منع الألطاف أو تشبيه حالهم في إصرارهم على الكفر بمنزلة المجبور على الكفر قالوا ونظير ذم الله تعالى اليهود على هذه المقالة ذمه تعالى الكافرين على مثل هذه المقالة وهو قوله تعالى وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّة ٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ ( فصلت 5 ) ولو كان الأمر على ما يقوله المجبرة لكان هئلاء القوم صادقين في ذلك ولو كانوا صادقين لما ذمهم بل كان الذي حكاه عنهم إظهاراً لعذرهم ومسقطاً للومهم
واعلم أنا بينا في تفسير الغلف وجوهاً ثلاثة فلا يجب الجزم بواحد منها من غير دليل سلمنا أن المراد منه ذلك الوجه لكن لم قلت إن الآية تدل على أن ذلك القول مذموم
أما قوله تعالى بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ ففيه أجوبة أحدها هذا يدل على أنه تعالى لعنهم بسبب كفرهم أما لم قلتم بأنه إنما لعنهم بسبب هذه المقالة فلعله تعالى حكى عنهم قولاً ثم بين أن من حالهم أنهم ملعونون بسبب كفرهم وثانيها المراد من قوله وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ أنهم ذكروا ذلك على سبيل الاستفهام بمعنى الإنكار يعني ليست قلوبنا في أغلاف ولا في أغطية بل قوية وخواطرنا منيرة ثم إنا بهذه الخواطر والأفهام تأملنا في دلائلك يا محمد فلم يجد منها شيئاً قوياً فلما ذكروا هذا التصلف الكاذب لا جرم لعنهم الله على كفرهم الحاصل بسبب هذا القول وثالثها لعل قلوبهم ما كانت في الأغطية بل كانوا عالمين بصحة نبوة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما قال تعالى يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ ( الأنعام 20 ) ( البقرة 146 ) إلا أنهم أنكروا تلك المعرفة وادعوا أن قلوبهم غلف وغير واقفة على ذلك فكان كفرهم كفر العناد فلا جرم لعنهم الله على ذلك الكفر
أما قوله تعالى فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ ففيه مسألتان
المسألة الأولى في تفسيره ثلاثة أوجه أحدها أن القليل صفة المؤمن أي لا يؤمن منهم إلا القليل عن قتادة والأصم وأبي مسلم وثانيها أنه صفة الإيمان أي لا يؤمنون إلا بقليل مما كلفوا به لأنهم كانوا يؤمنون بالله إلا أنهم كانوا يكفرن بالرسل وثالثها معناه لا يؤمنون أصلاً لا قليلاً ولا كثيراً كما يقال قليلاً ما يفعل بمعنى لا يفعل ألبتة قال الكسائي تقول العرب مررنا بأرض قليلاً ما تنبت يريدون ولا تنبت شيئاً والوجه الأول أولى لأنه نظير قوله بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ( النساء 155 ) ولأن الجملة الأولى إذا كان المصرح فيها ذكر القوم فيجب أن يتناول الاستثناء بعض هؤلاء القوم
المسألة الثانية في انتصاب ( قليلاً ) وجوه أحدها فإيماناً قليلاً ما يؤمنون ( وما ) مزيدة وهو إيمانهم

ببعض الكتاب وثانيها انتصب بنزع الخافض أي بقليل يؤمنون وثالثها فصاروا قليلاً ما يؤمنون
وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَة ُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ
اعلم أن هذا نوع من قبائح اليهود أما قوله تعالى كِتَابٌ فقد اتفقوا على أن هذا الكتاب هو القرآن لأن قوله تعالى مُصَدّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ يدل على أن هذا الكتاب غير ما معهم وما ذاك إلا القرآن أما قوله تعالى مُصَدّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ ففيه مسألتان
المسألة الأولى لا شبهة في أن القرآن مصدق لما معهم في أمر يتعلق بتكليفهم بصديق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في النبوة واللائق بذلك هو كونه موافقاً لما معهم في دلالة نبوته إذ قد عرفوا أنه ليس بموافق لما معهم في سائر الشرائع وعرفنا أنه لم يرد الموافقة في باب أدلة القرآن لأن جميع كتب الله كذلك ولما بطل الكل ثبت أن المراد موافقته لكتبهم فيما يختص بالنبوة وما يدل عليها من العلامات والنعوت والصفات
المسألة الثانية قرىء مُصَدّقاً على الحال فإن قيل كيف جاز نصبها عن النكرة قلنا إذا وصفت النكرة تخصصت فصح انتصاب الحال عنها وقد وصف كِتَابٌ بقوله مِنْ عِندِ اللَّهِ
المسألة الثالثة في جواب ( لما ) ثلاثة أوجه أحدها أنه محذوف كقوله تعالى وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا سُيّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ ( الرعد 31 ) فإن جوابه محذوف وهو لكان هذا القرآن عن الأخفش والزجاج وثانيها أنه على التكرير لطول الكلام والجواب كفروا به كقوله تعالى أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إلى قوله تعالى أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ ( المؤمنون 35 ) عن المبرد وثالثها أن تكون الفاء جواباً للما الأولى وَكَفَرُواْ بِهِ جواباً للما الثانية وهو كقوله فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ( البقرة 38 ) ( طه 133 ) الآية عن الفراء
أما قوله تعالى وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ ففي سبب النزول وجوه أحدها أن اليهود من قبل مبعث محمد عليه السلام ونزول القرآن كانوا يستفتحون أي يسألون الفتح والنصرة وكانوا يقولون اللهم افتح علينا وانصرنا بالنبي الأمي وثانيها كانوا يقولون لمخالفيهم عند القتال هذا نبي قد أظل زمانه ينصرنا عليكم عن ابن عباس وثالثها كانوا يسألون العرب عن مولده ويصفونه بأنه نبي من صفته كذا وكذا ويتفحصون عنه على الذين كفروا أي على مشركي العرب عن أبي مسلم ورابعها نزلت في بني قريظة والنضير كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله قبل المبعث عن ابن عباس وقتادة والسدي وخامسها نزلت في أحبار اليهود كانوا إذا قرؤوا وذكروا محمداً في التوراة وأنه

مبعوث وأنه من العرب سألوا مشركي العرب عن تلك الصفات ليعلموا أنه هل ولد فيهم من يوافق حاله حال هذا المبعوث
أما قوله تعالى فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ ففيه مسائل
المسألة الأولى تدل الآية على أنهم كانوا عارفين بنبوته وفيه سؤال وهو أن التوراة نقلت نقلاً متواتراً فأما أن يقال إنه حصل فيها نعت محمد ( صلى الله عليه وسلم ) على سبيل التفصيل أعني بيان أن الشخص الموصوف بالصورة الفلانية والسيرة الفلانية سيظره في السنة الفلانية في المكان الفلاني أو لم يوجد هذا الوصف على هذا الوجه فإن كان الأول كان القوم مضطرين إلى معرفة شهادة التوراة على صدق محمد عليه الصلاة والسلام فكيف يجوز على أهل التواتر إطباقهم على الكذب وإن لم يكن الوصف على هذه الصفة لم يلزم من الأوصاف المذكورة في التوراة كون محمد ( صلى الله عليه وسلم ) رسولاً فكيف قال الله تعالى فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ والجواب أن الوصف المذكور في التوراة كان وصفاً إجمالياً وأن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) لم يعرفوا نبوته بمجرد تلك الأوصاف بل بظهور المعجزات صارت تلك الأوصاف كالمؤكدة فلهذا ذمهم الله تعالى على الإنكار
المسألة الثانية يحتمل أن يقال كفروا به لوجوه أحدها أنهم كانوا يظنون أن المبعوث يكون من بني إسرائيل لكثرة من جاء من الأنبياء من بني إسرائيل وكانوا يرغبون الناس في دينه ويدعونهم إليه فلما بعث الله تعالى محمداً من العرب من نسل إسماعيل صلوات الله عليه عظم ذلك عليهم فأظهروا التكذيب وخالفوا طريقهم الأول وثانيها اعترافهم بنبوته كان يوجب عليهم زوال رياساتهم وأموالهم فأبوا وأصروا على الإنكار وثالثها لعلهم ظنوا أنه مبعوث إلى العرب خاصة فلا جرم كفروا به
المسألة الثالثة أنه تعالى كفرهم بعد ما بين كونهم عالمين بنبوته وهذا يدل على أن الكفر ليس هو الجهل بالله تعالى فقط
أما قوله تعالى فَلَعْنَة ُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ فالمراد الإبعاد من خيرات الآخرة لأن المبعد من خيرات الدنيا لا يكون ملعوناً فإن قيل أليس أنه تعالى ذكر في الآية المتقدمة وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا ( البقرة 83 ) وقال وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ ( الأنعام 108 ) قلنا العام قد يتطرق إليه التخصيص على أنا بينا فيما قبل أن لعن من يستحق اللعن من القول الحسن والله أعلم
بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ
اعلم أن البحث عن حقيقة بئسما لا يحصل إلا في مسائل
المسألة الأولى أصل نعم وبئس نعم وبئس بفتح الأول وكسر الثاني كقولنا ( علم ) إلا أن ما كان ثانيه

حرف حلق وهو مكسور يجوز فيه أربع لغات الأول على الأصل أعني بفتح الأول وكسر الثاني والثاني اتباع الأول للثاني وهو أن يكون بكسر النون والعين وكذا يقال فخذ بكسر الفاء والخاء وهم وإن كانوا يفرون من الجمع بين الكسرتين إلا أنهم جوزوه ههنا لكون الحرف الحلقي مستتبعاً لما يجاوره الثالث إسكان الحرف الحلقي المكسور وترك ما قبله على ما كان فيقال نعم وبئس بفتح الأول وإسكان الثاني كما يقال فخذ بفتح الفاء وإسكان الخاء الرابع أن يسكن الحرف الحلقي وتنقل كسرته إلى ما قبله فيقال نعم بكسر النون وإسكان العين كما يقال فخذ بكسر الفاء وإسكان الخاء
واعلم أن هذا التغيير الأخير وإن كان في حد الجواز عند إطلاق هاتين الكلمتين إلا أنهم جعلوه لازماً لهما لخروجهما عما وضعت له الأفعال الماضية من الإخبار عن وجود المصدر في الزمان الماضي وصيرورتهما كلمتي مدح وذم ويراد بهما المبالغة في المدح والذم ليدل هذا التغيير اللازم في اللفظ على التغيير عن الأصل في المعنى فيقولون نعم الرجل زيد ولا يذكرونه على الأصل إلا في ضرورة الشعر كما أنشد المبرد ففداء لبني قيس على
ما أصاب الناس من شر وضر
ما أقلت قدماي إنهم
نعم الساعون في الأمر المبر
المسألة الثانية أنهما فعلان من نعم ينعم وبئس ويبأس والدليل عليه دخول التاء التي هي علامة التأنيث فيهما فيقال نعمت وبئست والفراء يجعلهما بمنزلة الأسماء ويحتج بقول حسان ابن ثابت رضي الله عنه ألسنا بنعم الجار يؤلف بيته
من الناس ذا مال كثير ومعدما
وبما روي أن أعرابياً بشر بمولودة فقيل له نعم المولود مولودتك فقال والله ما هي بنعم المولودة والبصريون يجيبون عنه بأن ذلك بطريق الحكاية
المسألة الثالثة اعلم أن ( نعم وبئس ) أصلان للصلاح والرداءة ويكون فاعلهما اسماً يستغرق الجنس إما مظهراً وإما مضمراً والمظهر على وجهين الأول نحو قولك نعم الرجل زيد لا تريد رجلاً دون الرجل وإنما تقصد الرجل على الإطلاق والثاني نحو قولك نعم غلام الرجل زيد أما قوله فنعم صاحب قوم لا سلاح لهم
وصاحب الركب عثمان بن عفانا
فنادر وقيل كان ذلك لأجل أن قوله ( وصاحب الركب ) قد يدل على المقصود إذ المراد واحد فإذا أتى في الركب بالألف واللام فكأنه قد أتى به في القوم وأما المضمر فكقولك نعم رجلاً زيد الأصل نعم الرجل رجلاً زيد ثم ترك ذكر الأول لأن النكرة المنصوبة تدل عليه ورجلاً نصب على التمييز مثله في قولك عشرون رجلاً والمميز لا يكون إلا نكرة ألا ترى أن أحداً لا يقول عشرون الدرهم ولو أدخلوا الألف واللام على هذا فقالوا نعم الرجل بالنصب لكان نقضاً للغرض إذ لو كانوا يريدون الإتيان بالألف واللام لرفعوا وقالوا نعم الرجل وكفوا أنفسهم مؤنة الإضمار وإنما أضمروا الفاعل قصداً للاختصار إذ كان ( نعم رجلاً ) يدل على الجنس الذي فضل عليه

المسألة الرابعة إذا قلت نعم الرجل زيد فهو على وجهين أحدهما أن يكون مبتدأ مؤخراً كأنه قيل زيد نعم الرجل أخرت زيداً والنية به التقديم كما تقول مررت به المسكين تريد المسكين مررت به فأما الراجع إلى المبتدأ فإن الرجل لما كان شائعاً ينتظم فيه الجنس كان زيد داخلاً تحته فصار بمنزلة الذكر الذي يعود إليه والوجه الآخر أن يكون زيد في قولك نعم الرجل زيد خبر مبتدأ محذوف كأنه لما قيل نعم الرجل قيل من هذا الذي أثنى عليه فقيل زيد أي هو زيد
المسألة الخامسة المخصوص بالمدح والذم لا يكون إلا من جنس المذكور بعد نعم وبئس كزيد من الرجال وإذا كان كذلك كان المضاف إلى القوم في قوله تعالى سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا ( الأعراف 177 ) محذوفاً وتقديره ساء مثلاً مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا وإذ قد لخصنا هذه المسائل فلنرجع إلى التفسير
أما قوله تعالى بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ ففيه مسألتان
المسألة الأولى ( ما ) نكرة منصوبة مفسرة لفاعل بئس بمعنى بئس الشيء شيئاً اشتروا به أنفسهم والمخصوص بالذم ( أن يكفروا )
المسألة الثانية في الشراء ههنا قولان أحدهما أنه بمعنى البيع وبيانه أنه تعالى لما مكن المكلف من الإيمان الذي يفضي به إلى الجنة والكفر الذي يؤدي به إلى النار صار اختياره لأحدهما على الآخر بمنزلة اختيار تملك سلعة على سلعة فإذا اختار الإيمان الذي فيه فوزه ونجاته قيل نعم ما اشترى ولما كان الغرض بالبيع والشراء هو إبدال ملك يملك صلح أن يوصف كل واحد منهما بأنه بائع ومشتر لوقوع هذا المعنى من كل واحد منهما فصح تأويل قوله تعالى بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ بأن المراد باعوا أنفسهم بكفرهم لأن الذي حصلوه على منافع أنفسهم لما كان هو الكفر صاروا بائعين أنفسهم بذلك الوجه الثاني وهو الأصح عندي أن المكلف إذا كان يخاف على نفسه من عقاب الله يأتي بأعمال يظن أنها تخلصه من العقاب فكأنه قد اشترى نفسه بتلك الأعمال فهؤلاء اليهود لما اعتقدوا فيما أتوا به أنها تخلصهم من العقاب وتوصلهم إلى الثواب فقد ظنوا أنهم اشتروا أنفسهم بها فذمهم الله تعالى وقال بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ وهذا الوجه أقرب إلى المعنى واللفظ من الأول ثم إنه تعالى بين تفسير ما اشتروا به أنفسهم بقوله تعالى أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنزَلَ اللَّهُ ولا شبهة أن المراد بذلك كفرهم بالقرآن لأن الخطاب في اليهود وكانوا مؤمنين بغيره ثم بين الوجه الذي لأجله اختاروا هذا الكفر بما أنزل الله فقال بَغِيّاً وأشار بذلك إلى غرضهم بالكفر كما يقال يعادي فلان فلاناً حسداً تنبيهاً بذلك على غرضه ولولا هذا القول لجوزنا أن يكفروا جهلاً لا بغياً
واعلم أن هذه الآية تدل على أن الحسد حرام ولما كان البغي قد يكون لوجوه شتى بين تعالى غرضهم من هذا البغي بقوله أَن يُنَزّلُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ والقصة لا تليق إلا بما حكيناه من أنهم ظنوا أن هذا الفضل العظيم بالنبوة المنتظرة يحصل في قومهم فلما وجدوه في العرب حملهم ذلك على البغي والحسد
أما قوله تعالى فَبَاءو بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ ففيه مسائل

المسألة الأولى في تفسير الغضبين وجوه أحدها أنه لا بد من إثبات سببين للغضبين أحدهما ما تقدم وهو تكذيبهم عيسى عليه السلام وما أنزل عليه والآخر تكذيبهم محمد عليه الصلاة والسلام وما أنزل عليه فصار ذلك دخولاً في غضب بعد غضب وسخط بعد سخط من قبله تعالى لأجل أنهم دخلوا في سبب بعد سبب وهو قول الحسن والشعبي وعكرمة وأبي العالية وقتادة الثاني ليس المراد إثبات غضبين فقط بل المراد إثبات أنواع من الغضب مترادفة لأجل أمور مترادفة صدرت عنهم نحو قولهم عَزِيزٌ ابْنُ اللَّهِ ( التوبة 30 ) يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَة ٌ ( المائدة 64 ) إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء ( آل عمران 181 ) وغير ذلك من أنواع كفرهم وهو قول عطاء وعبيد بن عمير الثالث أن المراد به تأكيد الغضب وتكثيره لأجل أن هذا الكفر وإن كان واحداً إلا أنه عظم وهو قول أبي مسلم الرابع الأول بعبادتهم العجل والثاني بكتمانهم صفة محمد وجحدهم نبوته عن السدي
المسألة الثانية الغضب عبارة عن التغير الذي يعرض للإنسان في مزاجه عند غليان دم قلبه بسبب مشاهدة أمر مكروه وذلك محال في حق الله تعالى فهو محمول على إرادته لمن عصاه الإضرار من جهة اللعن والأمر بذلك
المسألة الثالثة أنه يصح وصفه تعالى بالغضب وأن غضبه يتزايد ويكثر ويصح فيه ذلك كصحته من العذاب فلا يكون غضبه على من كفر بخصلة واحدة كغضبه على من كفر بخصال كثيرة
أما قوله تعالى وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ ففيه مسائل
المسألة الأولى قوله وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ له مزية على قوله ولهم عذاب مهين لأن العبارة الأولى يدخل فيها أولئك الكفار وغيرهم والعبارة الثانية لا يدخل فيها إلا هم
المسألة الثانية العذاب في الحقيقة لا يكون مهيناً لأن معنى ذلك أنه أهان غيره وذلك مما لا يتأتى إلا فيما يعقل فالله تعالى هو المهين للمعذبين بالعذاب الكثير إلا أن الإهانة لما حصلت مع العذاب جاز أن يجعل ذلك من وصفه فإن قيل العذاب لا يكون إلا مع الإهانة فما الفائدة في هذا الوصف قلنا كون العذاب مقروناً بالإهانة أمر لا بد فيه من الدليل فالله تعالى ذكر ذلك ليكون دليلاً عليه
المسألة الثالثة قال قوم قوله تعالى وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ يدل على أنه لا عذاب إلا للكافرين ثم بعد تقرير هذه المقدمة احتج بهذه الآية فريقان أحدهما الخوارج قالوا ثبت بسائر الآيات أن الفاسق يعذب وثبت بهذه الآية أنه لا يعذب إلا الكافر فيلزم أن يقال الفاسق كافر وثانيها المرجئة قالوا ثبت بهذه الآية أنه لا يعذب إلا الكافر وثبت أن الفاسق ليس بكافر فوجب القطع بأنه لا يعذب وفساد هذين القولين لا يخفى

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءَامِنُواْ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَآءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ
اعلم أن هذا النوع أيضاً من قبائح أفعالهم وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ يعني به اليهود بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ أي بكل ما أنزل الله والقائلون بالعموم احتجوا بهذه الآية على أن لفظة ( ما ) بمعنى الذي تفيد العموم قالوا لأن الله تعالى أمرهم بأن يؤمنوا بما أنزل الله فلما آمنوا بالبعض دون البعض ذمهم على ذلك ولولا أن لفظة ( ما ) تفيد العموم لما حسن هذا الذم ثم إنه تعالى حكى عنهم أنهم لما أمروا بذلك قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا يعني بالتوراة وكتب سائر الأنبياء الذين أتوا بتقرير شرع موسى عليه السلام ثم أخبر الله تعالى عنهم أنهم يكفرون بما وراءه وهو الإنجيل والقرآن وأورده هذه الحكاية عنهم على سبيل الذم لهم وذلك أنه لا يجوز أن يقال لهم آمنوا بما أنزل الله إلا ولهم طريق إلى أن يعرفوا كونه منزلاً من عند الله وإلا كان ذلك تكليف ما لا يطاق وإذا دل الدليل على كونه منزلاً من عند الله وجب الإيمان به فثبت أن الإيمان ببعض ما أنزل الله دون البعض تناقض
أما قوله تعالى وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدّقًا لّمَا مَعَهُمْ فهو كالإشارة إلى ما يدل على وجوب الإيمان بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وبيانه من وجهين الأول ما دل عليه قوله تعالى وَهُوَ الْحَقُّ أنه لما ثبتت نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بالمعجزات التي ظهرت عليه إنه عليه الصلاة والسلام أخبر أن هذا القرآن منزل من عند الله تعالى وأنه أمر المكلفين بالإيمان به وكان الإيمان به واجباً لا محالة وعند هذا يظهر أن الإيمان ببعض الأنبياء وبعض الكتب مع الكفر ببعض الأنبياء وبعض الكتب محال الثاني ما دل عليه قوله مُصَدّقًا لّمَا مَعَهُمْ وتقريره من وجهين الأول أن محمداً صلوات الله وسلامه عليه لم يتعلم علماً ولا استفاد من أستاذ فلما أتى بالحكايات والقصص موافقة لما في التوراة من غير تفاوت أصلاً علمنا أنه عليه الصلاة والسلام إنما استفادها من الوحي والتنزيل الثاني أن القرآن يدل على نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فلما أخبر الله تعالى عنه أنه مصدق للتوراة وجب اشتمال التوراة على الإخبار عن نبوته وإلا لم يكن القرآن مصدقاً للتوراة بل مكذباً لها وإذا كانت التوراة مشتملة على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام وهم قد اعترفوا بوجوب الإيمان بالتوراة لزمهم من هذه الجهة وجوب الإيمان بالقرآن وبنبوة محمد عليه الصلاة والسلام
أما قوله تعالى فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاء اللَّهِ مِن قَبْلُ ففيه مسائل
المسألة الأولى أنه سبحانه وتعالى بين من جهة أخرى أن دعواهم كونهم مؤمنين بالتوراة متناقضة من وجوه أخر وذلك لأن التوراة دلت على أن المعجزة تدل على الصدق ودلت على أن من كان صادقاً في

ادعاء النبوة فإن قتله كفر وإذا كان الأمر كذلك كان السعي في قتل يحيى وزكريا وعيسى عليهم السلام كفراً فلم سعيتم في ذلك إن صدقتم في ادعائكم كونكم مؤمنين بالتوراة
المسألة الثانية هذه الآية دالة على أن المجادلة في الدين من حرف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وإن إيراد المناقضة على الخصم جائز
المسألة الثالثة قوله فَلِمَ تَقْتُلُونَ وإن كان خطاب مشافهة لكن المراد من تقدم من سلفهم ويدل عليه وجوه أحدها أن الأنبياء في ذلك الزمان ما كانوا موجودين وثانيها أنهم ما أقدموا على ذلك وثالثها أنه لا يتأتى فيه من قبل فأما المراد به الماضي فظاهر لأن القرينة دالة عليه فإن قيل قوله ءامَنُواْ خطاب لهؤلاء الموجودين وَلَمْ تَقْتُلُونَ حكاية فعل أسلافهم فكيف وجه الجمع بينهما قلنا معناه أنكم بهذا التكذيب خرجتم من الإيمان بما آمنتم كما خرج أسلافكم بقتل بعض الأنبياء عن الإيمان بالباقين
المسألة الرابعة يقال كيف جاز قوله لم تقتلون من قبل ولا يجوز أن يقال أنا أضربك أمس والجواب فيه قولان أحدهما أن ذلك جائز فيما كان بمنزلة الصفة اللازمة كقولك لمن تعرفه بما سلف من قبح فعله ويحك لم تكذب كأنك قلت لم يكن هذا من شأنك قال الله تعالى وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ ( البقرة 102 ) ولم يقل ما تلت لأنه أراد من شأنها التلاوة والثاني كأنه قال لم ترضون بقتل الأنبياء من قبل إن كنتم آمنتم بالتوراة والله أعلم
وَلَقَدْ جَآءَكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ
اعلم أن تكرير هذه الآية يغني عن تفسيرها والسبب في تكريرها أنه تعالى لما حكى طريقة اليهود في زمان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ووصفهم بالعناد والتكذيب ومثلهم بسلفهم في قتلهم الأنبياء الذي يناسب التكذيب لهم بل يزيد عليه أعاد ذكر موسى عليه السلام وما جاء به من البينات وأنهم مع وضوح ذلك أجازوا أن يتخذوا العجل إلهاً وهو مع ذلك صابر ثابت على الدعاء إلى ربه والتمسك بدينه وشرعه فكذلك القول في حالي معكم وإن بالغتم في التكذيب والإنكار
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَاكُم بِقُوَّة ٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِى قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ

اعلم أن في الإعادة وجوهاً أحدها أن التكرار في هذا وأمثاله للتأكيد وإيجاب الحجة على الخصم على عادة العرب وثانيها أنه إنما ذكر ذلك مع زيادة وهي قولهم سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وذلك يدل على نهاية لجاجهم
أما قوله تعالى قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ففيه مسائل
المسألة الأولى أن إظلال الجبل لاشك أنه من أعظم المخوفات ومع ذلك فقد أصروا على كفرهم وصرحوا بقولهم سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وهذا يدل على أن التخويف وإن عظم لا يوجب الانقياد
المسألة الثانية الأكثرون من المفسرين اعترفوا بأنهم قالوا هذا القول قال أبو مسلم وجائز أن يكون المعنى سمعوه فتلقوه بالعصيان فعبر عن ذلك بالقول وإن لم يقولوه كقوله تعالى أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ( البقرة 177 ) وكقوله قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ( فصلت 11 ) والأول أولى لأن صرف الكلام عن ظاهره بغير الدليل لا يجوز
أما قوله تعالى وَأُشْرِبُواْ فِى قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ ففيه مسائل
المسألة الأولى واشربوا في قلوبهم حب العجل وفي وجه هذا الاستعارة وجهان الأول معناه تداخلهم حبه والحرص على عبادته كما يتداخل الصبغ الثوب وقوله فِى قُلُوبِهِمْ بيان لمكان الإشراف كقوله وَإِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً ( النساء 10 ) الثاني كما أن الشرب مادة لحياة ما تخرجه الأرض فكذا تلك المحبة كانت مادة لجميع ما صدر عنهم من الأفعال
المسألة الثانية قوله وَاشْرَبُواْ يدل على أن فاعلاً غيرهم فعل بهم ذلك ومعلوم أنه لا يقدر عليه سوى الله أجابت المعتزلة عنه من وجهين الأول ما أراد الله أن غيرهم فعل بهم ذلك لكنهم لفرط ولوعهم وإلفهم بعبادته أشربوا قلوبهم حبه فذكر ذلك على ما لم يسم فاعله كما يقال فلان معجب بنفسه الثاني أن المراد من أشرب أي زينة عندهم ودعاهم إليه كالسامري وإبليس وشياطين الإنس والجن أجاب الأصحاب عن الوجهين بأن كلا الوجهين صرف اللفظ عن ظاهره وذلك لا يجوز المصير إليه إلا لدليل منفصل ولما أقمنا الدلائل العقلية القطعية على أن محدث كل الأشياء هو الله لم يكن بنا حاجة إلى ترك هذا الظاهر
أما قوله تعالى بِكُفْرِهِمْ فالمراد باعتقادهم التشبيه على الله وتجويزهم العبادة لغيره سبحانه وتعالى
أما قوله قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَانُكُمْ ففيه مسألتان
المسألة الأولى المراد بئسما يأمركم به إيمانكم بالتوراة لأنه ليس في التوراة عبادة العجل وإضافة الأمر إلى إيمانهم تهكم كما قال في قصة شعيب أَصَلَواتُكَ تَأْمُرُكَ ( هود 87 ) وكذلك إضافة الإيمان إليهم
المسألة الثانية الإيمان عرض ولا يصح منه الأمر والنهي لكن الداعي إلى الفعل قد يشبه بالآمر كقوله تعالى اتْلُ مَا أُوْحِى َ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ ( العنكبوت 45 )
أما قوله تعالى إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فالمراد التشكيك في إيمانهم والقدح في صحة دعواهم

قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الاٌّ خِرَة ُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَة ً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ
اعلم أن هذا نوع آخر من قبائحهم وهو ادعاؤهم أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس ويدل عليه وجوه أحدها أنه لا يجوز أن يقال على طريق الاستدلال على الخصم إن كان كذا وكذا فافعل كذا إلا والأول مذهبه ليصح الزام الثاني عليه وثانيها ما حكى الله عنهم في قوله وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّة َ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى ( البقرة 111 ) وفي قوله نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ( المائدة 18 ) وفي قوله وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَة ً ( البقرة 89 ) وثالثها اعتقادهم في أنفسهم أنهم هم المحقون لأن النسخ غير جائز في شرعهم وأن سائر الفرق مبطلون ورابعها اعتقادهم أن انتسابهم إلى أكابر الأنبياء عليهم السلام أعني يعقوب وإسحاق وإبراهيم يخلصهم من عقاب الله تعالى ويوصلهم إلى ثوابه ثم إنهم لهذه الأشياء عظموا شأن أنفسهم فكانوا يفتخرون على العرب وربما جعلوه كالحجة في أن النبي المنتظر المبشر به في التوراة منهم لا من العرب وكانوا يصرفون الناس بسبب هذه الشبهة عن اتباع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ثم إن الله احتج على فساد قولهم بقوله قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الاْخِرَة ُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَة ً مّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ وبيان هذه الملازمة أن نعم الدنيا قليلة حقيرة بالقياس إلى نعم الآخرة ثم إن نعم الدنيا على قلتها كانت منغصة عليهم بسبب ظهور محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ومنازعته معهم بالجدال والقتال ومن كان في النعم القليلة المنغصة ثم إن تيقن أنه بعد الموت لا بد وأن ينتقل إلى تلك النعم العظيمة فإنه لا بد وأن يكون راغباً في الموت لأن تلك النعم العظيمة مطلوبة ولا سبيل إليها إلا بالموت وما يتوقف عليه المطلوب وجب أن يكون مطلوباً فوجب أن يكون هذا الإنسان راضياً بالموت متمنياً له فثبت أن الدار الآخرة لو كانت لهم خالصة لوجب أن يتمنوا الموت ثم إن الله تعالى أخبر أنهم ما تمنوا الموت بل لن يتمنوه أبداً وحينئذ يلزم قطعاً بطلان ادعائهم في قولهم إن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس
فإن قيل لا نسلم أنه لو كانت لهم الدار الآخرة خالصة لوجب أن يتمنوا الموت قوله لأن نعيم الآخرة مطلوب ولا سبيل إليه إلا بالموت والذي يتوقف عليه المطلوب لا بد وأن يكون مطلوباً قلنا قلنا الذي يتوقف عليه المطلوب يجوز أن يكون مطلوباً نظراً إلى كونه وسيلة إلى ذلك المطلوب إلا أنه يكون مكروهاً نظراً إلى ذاته والموت مما لا يحصل إلا بالآلام العظيمة وما كانوا يطيقونها فلا جرم ما تمنوا الموت

السؤال الثاني أنه كان لهم أن يقلبوا هذا السؤال على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فيقولوا إنك تدعي أن الدار الآخرة خالصة لك ولأمتك دون من ينازعك في الأمر فإن كان الأمر كذلك فارض بأن نقتلك ونقتل أمتك فإنا نراك ونرى أمتك في الضر الشديد والبلاء العظيم بسبب الجدال والقتال وبعد الموت فإنكم تتخلصون إلى نعيم الجنة فوجب أن ترضوا بقتلكما
السؤال الثالث لعلهم كانوا يقولون الدار الآخرة خالصة لمن كان على دينهم لكن بشرط الاحتراز عن الكبائر فأما صاحب الكبيرة فإنه يبقى مخلداً في النار أبداً لأنهم كانوا وعيدية أو لأنهم جوزوا في صاحب الكبيرة أن يصير معذباً فلأجل هذا ما تمنوا الموت وليس لأحد أن يدفع هذا السؤال بأن مذهبهم أنه لا تمسهم النار إلا أياماً معدودة لأن كل يوم من أيام القيامة كألف سنة مما تعدون فكانت هذه الأيام وإن كانت قليلة بحسب العدد لكنها طويلة بحسب المدة فلا جرم ما تمنوا الموت بسبب هذا الخوف
السؤال الرابع أنه عليه الصلاة والسلام نهي عن تمني الموت فقال ( لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به ولكن ليقل اللهم أحيني إن كانت الحياة خيراً لي وتوفني إن كانت الوفاة خيراً لي ) وأيضاً قال الله تعالى في كتابه يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا ( الشورى 18 ) فكيف يجوز أن ينهي عن الاستعجال ثم إنه يتحدى القوم بذلك
السؤال الخامس أن لفظ التمني مشترك بين التمني الذي هو المعنى القائم بالقلب وبين اللفظ الدال على ذلك المعنى وهو قول القائل ليتني مت لليهود أن يقولوا إنك طلبت منا التمني والتمني لفظ مشترك فإن ذكرناه باللسان فله أن يقول ما أردت به هذا اللفظ وإنما أردت به المعنى الذي في القلب وإن فعلنا ذلك المعنى القائم بالقلب فله أن يقول كذبتم ما أتيتم بذلك في قلوبكم ولما علم اليهود أنه أتى بلفظة مشتركة لا يمكن الاعتراض عليها لا جرم لم يلتفتوا إليه
السؤال السادس هب أن الدار الآخرة لو كانت لهم لوجب أن يتمنوا الموت فلم قلتم إنهم ما تمنوا الموت والاستدلال بقوله تعالى وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا ضعيف لأن الاستدلال بهذا إنما يصح لو ثبت كون القرآن حقاً والنزاع ليس إلا فيه الجواب قوله ( أولاً ) كون الموت متضمناً للألم يكون كالصارف عن تمنيه قلنا كما أن الألم الحاصل عند الحجامة لا يصرف عن الحجامة للعلم الحاصل بأن المنفعة الحاصلة بسبب الحجامة عظيمة وجب أن يكون الأمر ههنا كذلك قوله ثانياً إنهم لو قلبوا الكلام على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لزمه أن يرضى بالقتل قلنا الفرق بين محمد عليه السلام وبينهم أن محمداً كان يقول إني بعثت لتبليغ الشرائع إلى أهل التواتر وهذا المقصود لم يحصل بعد فلأجل هذا لا أرضى بالقتل وأما أنتم فلستم كذلك فظهر الفرق قوله ثالثاً كانوا خائفين من عقاب الكبائر قلنا القوم ادعوا كون الآخرة خالصة لهم وذلك يؤمنهم من امتزاج ثوابها بالعقاب قوله رابعاً نهى عن تمني الموت قلنا هذا النهي طريقة الشرع فيجوز أن يختلف الحال فيه بحسب اختلاف الأوقات روي أن علياً رضي الله عنه كان يطوف بين الصفين في غلالة فقال له ابنه الحسن رضي الله عنه ما هذا بزي المحاربين فقال يا بني لا يبالي أبوك أعلى الموت سقط أم عليه يسقط الموت وقال عمار رضي الله عنه بصفين

الآن ألاقي الأحبة < / 1 }
محمداً وحزبه
وقد ظهر عن الأنبياء في كثير من الأوقات تمنى الموت على أن هذا النهي مختص بسبب مخصوص فإنه عليه الصلاة والسلام حرم أن يتمنى الإنسان الموت عند الشدائد لأن ذلك كالجزع والخروج عن الرضاء بما قسم الله فأين هذا من التمني الذي يدل على صحة النبوة قوله خامساً إنهم ما عرفوا أن المراد هو التمني باللسان أو بالقلب قلنا التمني في لغة العرب لا يعرف إلا ما يظهر ( منه ) كما أن الخبر لا يعرف إلا ما يظهر بالقول والذي في القلب من ذلك لا يسمى بهذا الاسم وأيضاً فمن المحال أن يقول النبي عليه الصلاة والسلام لهم تمنوا الموت ويريد بذلك ما لا يمكن الوقوف عليه مع أن الغرض بذلك لا يتم إلا بظهوره قوله سادساً ما الدليل على أنه ما وجد التمني قلنا من وجوه أحدها أنه لو حصل ذلك لنقل نقلاً متواتراً لأنه أمر عظيم فإن بتقدير عدمه يثبت القول بصحة نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وبتقدير حصول هذا التمني يبطل القول بنبوته وما كان كذلك كان من الوقائع العظيمة فوجب أن ينقل نقلاً متواتراً ولما لم ينقل علمنا أنه لم يوجد وثانيها أنه عليه الصلاة والسلام مع تقدمه في الرأي والحزم وحسن النظر في العاقبة والوصول إلى المنصب الذي وصل إليه في الدنيا والدين والوصول إلى الرياسة العظيمة التي انقاد لها المخالف قهراً والموافق طوعاً لا يجوز وهو غير واثق من جهة ربه بالوحي النازل عليه أن يتحداهم بأمر لا يأمن عاقبة الحال فيه ولا يأمن من خصمه أن يقهره بالدليل والحجة لأن العاقل الذي لم يجرب الأمور لا يكاد يرضى بذلك فكيف الحال في أعقل العقلاء فيثبت أنه عليه الصلاة والسلام ما أقدم على تحرير هذه الأدلة إلا وقد أوحى الله تعالى إليه بأنهم لا يتمنونه وثالثها ما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال ( لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ورأوا مقاعدهم من النار ولو خرج الذين يباهلون لرجعوا لا يجدون أهلاً ولا مالاً ) وقال ابن عباس لو تمنوا الموت لشرقوا به ولماتوا وبالجملة فالأخبار الواردة في أنهم ما تمنوا بلغت مبلغ التواتر فحصلت الحجة فهذا آخر الكلام في تقرير هذا الاستدلال ولنرجع إلى التفسير
أما قوله تعالى قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الاْخِرَة ُ فالمراد الجنة لأنها هي المطلوبة من دار الآخرة دون النار لأنهم كانوا يزعمون أن لهم الجنة
وأما قوله تعالى عَندَ اللَّهِ فليس المراد المكان بل المنزلة ولا بعد أيضاً في حمله على المكان فلعل اليهود كانوا مشبهة فاعتقدوا العندية المكانية فأبطل الله كل ذلك بالدلالة التي ذكرها
وأما قوله تعالى خَالِصَة ٌ فنصب على الحال من الدار الآخرة أي سالمة لكم خاصة بكم ليس لأحد سواكم فيها حق يعني إن صح قولكم لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى و ( الناس ) للجنس وقيل للعهد وهم المسلمون والجنس أولى لقوله إلا من كان هوداً أو نصارى ولأنه لم يوجد ههنا معهود
وأما قوله مّن دُونِ النَّاسِ فالمراد به سوى لا معنى المكان كما يقول القائل لمن وهب منه ملكاً هذا لك من دون الناس
وأما قوله تعالى فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ ففيه مسألتان

المسألة الأولى هذا أمر معلق على شرط مفقود وهو كونهم صادقين فلا يكون الأمر موجوداً والغرض منه التحدي وإظهار كذبهم في دعواهم
المسألة الثانية في هذا التمني قولان أحدهما قول ابن عباس إنهم يتحدوا بأن يدعو الفريقان بالموت على أي فريق كان أكذب والثاني أن يقولوا ليتنا نموت وهذا الثاني أولى لأنه أقرب إلى موافقة اللفظ
أما قوله تعالى وَلَن يَتَمَنَّوْهُ فخبر قاطع عن أن ذلك لا يقع في المستقبل وهذا إخبار عن الغيب لأن مع توفر الدواعي على تكذيب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وسهولة الإتيان بهذه الكلمة أخبر بأنهم لا يأتون بذلك فهذا إخبار جازم عن أمر قامت الأمارات على ضده فلا يمكن الوصول إليه إلا بالوحي
وأما قوله تعالى أَبَدًا فهو غيب آخر لأنه أخبر أن ذلك لا يوجد ولا في شيء من الأزمنة الآتية في المستقبل ولا شك أن الإخبار عن عدمه بالنسبة إلى عموم الأوقات فهما غيبان
وأما قوله تعالى بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فبيان للعلة التي لها لا يتمنون ( الموت ) لأنهم إذا علموا سوء طريقتهم وكثرة ذنوبهم دعاهم ذلك إلى أن لا يتمنوا الموت
وأما قوله تعالى وَاللَّهُ عَلَيْهِ بِالظَّالِمينَ فهو كالزجر والتهديد لأنه إذا كان عالماً بالسر والنجوى ولم يمكن إخفاء شيء عنه صار تصور المكلف لذلك من أعظم الصوارف عن المعاصي وإنما ذكر الظالمين لأن كل كافر ظالم وليس كل ظالم كافراً فلما كان ذلك أعم كان أولى بالذكر فإن قيل إنه تعالى قال ههنا وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا وقال في سورة الجمعة وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً فلم ذكر ههنا ( لن ) وفي سورة الجمعة ( لا ) قلنا إنهم في هذه السورة ادعوا أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس وادعوا في سورة الجمعة أنهم أولياء لله من دون الناس والله تعالى أبطل هذين الأمرين بأنه لو كان كذلك لوجب أن يتمنوا الموت والدعوى الأولى أعظم من الثانية إذ السعادة القصوى هي الحصول في دار الثواب وأما مرتبة الولاية فهي وإن كانت شريفة إلا أنها إنما تراد ليتوسل بها إلى الجنة فلما كانت الدعوة الأولى أعظم لا جرم بين تعالى فساد قولهم بلفظ ( لن ) لأنه أقوى الألفاظ النافية ولما كانت الدعوى الثانية ليست في غاية العظمة لا جرم اكتفى في إبطالها بلفظ ( لا ) لأنه ليس في نهاية القوة في إفادة معنى النفي والله أعلم
وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَواة ٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَة ٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما أخبر عنهم في الآية المتقدمة أنهم لا يتمنون الموت أخبر في هذه الآية أنهم في غاية الحرص على الحياة لأن ههنا قسماً ثالثاً وهو أن يكون الإنسان بحيث لا يتمنى الموت ولا يتمنى

الحياة فقال وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَواة ٍ
أما قوله تعالى وَلَتَجِدَنَّهُمْ فهو من وجد بمعنى علم المتعدي إلى المفعولين في قوله وجدت زيداً ذا حفاظ ومفعولاه ( هم ) و ( أحرص ) وإنما قال عَلَى حَيَواة ٍ بالتنكير لأنه حياة مخصوصة وهي الحياة المتطاولة ولذلك كانت القراءة بها أوقع من قراءة أبي ( على الحياة ) أما الواو في قوله وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ ففيه ( ثلاثة أقول )
أحدها أنها واو عطف والمعنى أن اليهود أحرص الناس على حياة وأحرص من الذين أشركوا كقولك هو أسخى الناس ومن حاتم هذا قول الفراء والأصم فإن قيل ألم يدخل الذين أشركوا تحت الناس قلنا بلى ولكنهم أفردوا بالذكر لأن حرصهم شديد وفيه توبيخ عظيم لأن الذين أشركوا ألا يؤمنون بالمعاد وما يعرفون إلا الحياة الدنيا فحرصهم عليها لا يستبعد لأنها جنتهم فإذا زاد عليهم في الحرص من له كتاب وهو مقر بالجزاء كان حقيقياً باعظم التوبيخ فإن قيل ولم زاد حرصهم على حرص المشركين قلنا لأنهم علموا أنهم صائرون إلى النار لا محالة والمشركون لا يعلمون ذلك
القول الثاني أن هذه الواو واو استئناف وقد تم الكلام عند قوله ( على حياة ) ( و ) تقديره ومن الذين أشركوا أناس يود أحدهم على حذف الموصوف كقوله وَمَا مِنَّا إِلاَّ لاَ مُقَامَ مَّعْلُومٌ ( الصافات 164 )
القول الثالث أن فيه تقديماً وتأخيراً وتقديره ولتجدنهم وطائفة من الذين أشركوا أحرص الناس على حياة ثم فسر هذه المحبة بقوله يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَة ٍ وهو قول أبي مسلم والقول الأول أولى لأنه إذا كانت القصة في شأن اليهود خاصة فالأليق بالظاهر أن يكون المراد ولتجدن اليهود أحرص على الحياة من سائر الناس ومن الذين أشركوا ليكون ذلك أبلغ في إبطال دعواهم وفي إظهار كذبهم في قولهم إن الدار الآخرة لنا لا لغيرنا والله أعلم
المسألة الثانية اختلفوا في المراد بقوله تعالى وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ على ثلاثة أقوال قيل المجوس لأنهم كانوا يقولون لملكهم عش ألف نيروز وألف مهرجان وعن ابن عباس هو قول الأعاجم زي هزارسال وقيل المراد مشركوا العرب وقيل كل مشرك لا يؤمن بالمعاد لأنا بينا أن حرص هؤلاء على الدنيا ينبغي أن يكون أكثر وليس المراد من ذكر ألف سنة قول الأعاجم عش ألف سنة بل المراد به التكثير وهو معروف في كلام العرب
أما قوله تعالى يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَة ٍ فالمراد أنه تعالى بين بعدهم عن تمني الموت من حيث إنهم يتمنون هذا البقاء ويحرصون عليه هذا الحرص الشديد ومن هذا حاله كيف يتصور منه تمني الموت
أما قوله تعالى وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ ففيه مسألتان
المسألة الأولى في أن قوله وَمَا هُوَ كناية عماذا فيه ثلاثة أقوال أحدها أنه كناية عن ( أحدهم ) الذي جرى ذكره أي وما أحدهم بمن يزحزحه من النار تعميره وثانيها أنه ضمير لما دل عليه ( يعمر ) من مصدره و ( أن يعمر ) بدل منه وثالثها أن يكون مبهماً و ( أن يعمر ) موضحه

المسألة الثانية الزحزحة التبعيد والإنحاء قال القاضي والمراد أنه لا يؤثر في إزالة العذاب أقل تأثير ولو قال تعالى وما هو بمبعده وبمنجيه لم يدل على قلة التأثير كدلالة هذا القول
وأما قوله تعالى وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ فاعلم أن البصر قد يراد به العلم يقال إن لفلان بصراً بهذا الأمر أي معرفة وقد يراد به أنه على صفة لو وجدت المبصرات لأبصرها وكلاً الوصفين يصحان عليه سبحانه إلا أن من قال إن في الأعمال ما لا يصح أن يرى هذا البصر على العلم لا محالة والله أعلم
قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ مَن كَانَ عَدُوًّا لّلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ
اعلم أن هذا النوع أيضاً من أنواع قبائح اليهود ومنكرات أقوالهم وأفعالهم وفيه مسائل
المسألة الأولى أن قوله تعالى قُلْ مَن كَانَ عَدُوّا لِّجِبْرِيلَ لا بد له من سبب وأمر قد ظهر من اليهود حتى يأمره تعالى بأن يخاطبهم بذلك لأنه يجري مجرى المحاجة فإذا لم يثبت منهم في ذلك أمر لا يجوز أن يأمره الله تعالى بذلك والمفسرون ذكروا أموراً أحدها أنه عليه الصلاة والسلام لما قدم المدينة أتاه عبد الله بن صوريا فقال يا محمد كيف نومك فقد أخبرنا عن نوم النبي الذي يجيء في آخر الزمان فقال عليه السلام ( تنام عيناي ولا ينام قلبي ) قال صدقت يا محمد فأخبرني عن الولد أمن الرجل يكون أم من المرأة فقال أما العظام والعصب والعروق فمن الرجل وأما اللحم والدم والظفر والشعر فمن المرأة فقال صدقت فما بال الرجل يشبه أعمامه دون أخواله أو يشبه أخواله دون أعمامه فقال أيهما غلب ماؤه ماء صاحبه كان الشبه له قال صدقت فقال أخبرني أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه وفي التوراة أن النبي الأمي يخبر عنه فقال عليه السلام ( أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن إسرائيل مرض مرضاً شديداً فطال سقمه فنذر لله نذراً لئن عافاه الله من سقمه ليحرمن على نفسه أحب الطعام والشراب وهو لحمان الإبل وألبانها فقالوا نعم فقال له بقيت خصلة واحدة إن قلتها آمنت بك أي ملك يأتيك بما تقول عن الله قال جبريل قال إن ذلك عدونا ينزل بالقتال والشدة ورسولنا ميكائيل يأتي بالبشر والرخاء فلو كان هو الذي يأتيك آمنا بك فقال عمر وما مبدأ هذه العداوة فقال ابن صوريا مبدأ هذه العداوة أن الله تعالى أنزل على نبينا أن بيت المقدس سيخرب في زمان رجل يقال له بختنصر ووصفه لنا فطلبناه فلما وجدناه بعثنا لقتله رجالاً فدفع عنه جبريل وقال إن سلطكم الله على قتله فهذا ليس هو ذاك الذي أخبر الله عنه أنه سيخرب بيت المقدس فلا فائدة في قتله ثم إنه كبر وقوى وملك وغزانا وخرب بيت المقدس وقتلنا فلذلك نتخذه عدواً وأما ميكائيل

فإنه عدو جبريل فقال عمر فإني أشهد أن من كان عدواً لجبريل فهو عدو لميكائيل وهما عدوان لمن عداهما فأنكر ذلك على عمر فأنزل الله تعالى هاتين الآيتين وثانيها روي أنه كان لعمر أرض بأعلى المدينة وكان ممره على مدراس اليهود وكان يجلس إليهم ويسمع كلامهم فقالوا يا عمر قد أحببناك وإنا لنطمع فيك فقال والله ما أجيئكم لحبكم ولا أسألكم لأني شاك في ديني وإنما أدخل عليكم لأزداد بصيرة في أمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وأرى آثاره في كتابكم ثم سألهم عن جبريل فقالوا ذاك عدونا يطلع محمداً على أسرارنا وهو صاحب كل خسف وعذاب وإن ميكائيل يجيء بالخصب والسلم فقال لهم وما منزلتهما من الله قالوا أقرب منزلة جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره وميكائيل عدواً لجبريل فقال عمر لئن كان كما تقولون فما هما بعدوين ولأنتم أكفر من الحمير ومن كان عدو لأحدهما كان عدواً للآخر ومن كان عدواً لهما كان عدواً الله ثم رجع عمر فوجد جبريل عليه السلام قد سبقه بالوحي فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لقد وافقك ربك يا عمر ) قال عمر لقد رأيتني في دين بعد ذلك أصلب من الحجر وثالثها قال مقاتل زعمت اليهود أن جبريل عليه السلام عدونا أمر أن يجعل النبوة فينا فجعلها في غيرنا فأنزل الله هذه الآيات
واعلم أن الأقرب أن يكون سبب عداوتهم له أنه كان ينزل القرآن على محمد عليه السلام لأن قوله مَن كَانَ عَدُوّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مشعر بأن هذا التنزيل لا ينبغي أن يكون سبباً للعداوة لأنه إنما فعل ذلك بأمر الله فلا ينبغي أن يكون سبباً للعداوة وتقرير هذا من وجوه أولها أن الذي نزله جبريل من القرآن بشارة المطيعين بالثواب وإنذار العصاة بالعقاب والأمر بالمحاربة والمقاتلة لما لم يكن ذلك باختياره بل بأمر الله الذي يعترفون أنه لا محيص عن أمره ولا سبيل إلى مخالفته فعداوة من هذا سبيله توجب عداوة الله وعداوة الله كفر فيلزم أن عداوة من هذا سبيله كفر وثانيها أن الله تعالى لو أمر ميكائيل بإنزال مثل هذا الكتاب فإما أن يقال إنه كان يتمرد أو يأبى عن قبول أمر الله وذلك غير لائق بالملائكة المعصومين أو كان يقبله ويأتي به على وفق أمر الله فحينئذ يتوجه على ميكائيل ما ذكروه على جبريل عليهما السلام فما الوجه في تخصيص جبريل بالعداوة وثالثها أن إنزال القرآن على محمد كما شق على اليهود فإنزال التوراة على موسى شق على قوم آخرين فإن اقتضت نفرة بعض الناس لإنزال القرآن قبحه فلتقتض نقرة أولئك المتقدمين إنزال التوراة على موسى عليه السلام قبحه ومعلوم أن كل ذلك باطل فثبت بهذه الوجوه فساد ما قالوه
المسألة الثانية من الناس من استبعد أن يقول قوم من اليهود إن جبريل عدوهم قالوا لأنا نرى اليهود في زماننا هذا مطبقين على إنكار ذلك مصرين على أن أحداً من سلفهم لم يقل بذلك واعلم أن هذا باطل لأن حكاية الله أصدق ولأن جهلهم كان شديداً وهم الذين قالوا اجْعَلْ لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ ءالِهَة ٌ ( الأعراف 138 )
المسألة الثالثة قرأ ابن كثير ( جبريل ) بفتح الجيم وكسر الراء من غير همز وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم بفتح الجيم والراء مهموزاً والباقون بكسر الجيم والراء غير مهموز بوزن قنديل وفيه سبع لغات ثلاث منها ذكرناها وجبرائيل على وزن جبراعل وجرائيل على وزن جبراعيل وجبرايل على وزن جبراعل وجبرين بالنون ومنع الصرف للتعريف والعجمة

المسألة الرابعة قال بعضهم جبريل معناه عبد الله ف ( جبر ) عبد و ( إيل ) الله وميكائيل عبد الله وهو قول ابن عباس وجماعة من أهل العلم قال أبو علي السوسي هذا لا يصح لوجهين أحدهما أنه لا يعرف من أسماء الله ( أيل ) والثاني أنه لو كان كذلك لكان آخر الاسم مجروراً
أما قوله تعالى فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ ففيه سؤالات
السؤال الأول الهاء في قوله تعالى ( فإنه ) وفي قوله ( نزله ) إلى ماذا يعود الجواب فيه قولان أحدهما أن الهاء الأولى تعود على جبريل والثانية على القرآن وإن لم يجر له ذكر لأنه كالمعلوم كقوله مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّة ٍ ( فاطر 45 ) يعني على الأرض وهذا قول ابن عباس وأكثر أهل العلم أي إن كانت عداوتهم لأن جبريل ينزل القرآن فإنما ينزله بإذن الله قال صاحب ( الكشاف ) إضمار ما لم يسبق ذكره فيه فخامة لشأن صاحبه حيث يجعل لفرط شهرته كأنه يدل على نفسه ويكتفي عن اسمه الصريح بذكر شيء من صفاته وثانيهما المعنى فإن الله نزل جبريل عليه السلام لا أنه نزل نفسه
السؤال الثاني القرآن إنما نزل على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فما السبب في قوله نزله على قلبك الجواب هذه المسألة ذكرناها في سورة الشعراء في قوله نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ عَلَى قَلْبِكَ ( الشعراء 193 ) وأكثر الأمة على أنه أنزل القرآن عليه لا على قلبه إلا أنه خص القلب بالذكر لأجل أن الذي نزل به ثبت في قلبه حفظاً حتى أداه إلى أمته فلما كان سبب تمكنه من الأداء ثباته في قلبه حفظاً جاز أن يقال نزله على قلبك وإن كان في الحقيقة نزله عليه لا على قلبه
السؤال الثالث كان حق الكلام أن يقال على قلبي والجواب جاءت على حكاية كلام الله كما تكلم به كأنه قيل قل ما تكلمت به من قولي من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك
السؤال الرابع كيف استقام قوله فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ جزاء للشرط والجواب فيه وجهان الأول أنه سبحانه وتعالى بين أن هذه العداوة فاسدة لأنه ما أتى إلا أنه أمر بإنزال كتاب فيه الهداية والبشارة فأنزله فهو من حيث إنه مأمور وجب أن يكون معذوراً ومن حيث إنه أتى بالهداية والبشارة يجب أن يكون مشكوراً فكيف تليق به العداوة والثاني أنه تعالى بين أن اليهود إن كانوا يعادونه فيحق لهم ذاك لأنه نزل عليك الكتاب برهاناً على نبوتك ومصداقاً لصدقك وهم يكرهون ذلك فكيف لا يبغضون من أكد عليهم الأمر الذي يكرهونه
أما قوله تعالى بِإِذُنِ اللَّهِ فالأظهر بأمر الله وهو أولى من تفسيرة بالعلم لوجوه أولها أن الإذن حقيقة في الأمر مجاز في العلم واللفظ واجب الحمل على حقيقته ما أمكن وثانيها أن إنزاله كان من الواجبات والوجوب مستفاد من الأمر لا من العلم وثالثها أن ذلك الإنزال إذا كان عن أمر لازم كان أوكد في الحجة
أما قوله تعالى مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ فمحمول على ما أجمع عليه أكثر المفسرين من أن المراد ما قبله من كتب الأنبياء ولا معنى لتخصيص كتاب ومنهم من خصه بالتوراة وزعم أنه أشار إلى أن

القرآن يوافق التوراة في الدلالة على نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإن قيل أليس أن شرائع القرآن مخالفة لشرائع سائر الكتب فلم صار بأن يكون مصدقاً لها لكونها متوافقة في الدلالة على التوحيد ونبوة محمد أولى بأن يكون غير مصدق لها قلنا الشرائع التي تشتمل عليها سائر الكتب كانت مقدرة بتلك الأوقات ومنتهية في هذا الوقت بناء على أن النسخ بيان انتهاء مدة العبادة وحينئذ لا يكون بين القرآن وبين سائر الكتب اختلاف في الشرائع
أما قوله تعالى وَهَدَى فالمراد به أن القرآن مشتمل على أمرين أحدهما بيان ما وقع التكليف به من أعمال القلوب وأعمال الجوارح وهو من هذا الوجه هدى وثانيهما بيان أن الآتي بتلك الأعمال كيف يكون ثوابه وهو من هذا الوجه بشرى ولما كان الأول مقدماً على الثاني في الوجود لا جرم قدم الله لفظ الهدى على لفظ البشرى فإن قيل ولم خص كونه هدى وبشرى بالمؤمنين مع أنه كذلك بالنسبة إلى الكل الجواب من وجهين الأول أنه تعالى إنما خصهم بذلك لأنهم هم الذين اهتدوا بالكتاب فهو كقوله تعالى هُدًى لّلْمُتَّقِينَ والثاني أنه لا يكون بشرى إلا للمؤمنين وذلك لأن البشرى عبارة عن الخبر الدال على حصول الخير العظيم وهذا لا يحصل إلا في حق المؤمنين فلهذا خصهم الله به
أما الآية الثانية وهي قوله تعالى مَن كَانَ عَدُوّا لّلَّهِ وَمَلئِكَتِهِ فاعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى مَن كَانَ عَدُوّا لِّجِبْرِيلَ لأجل أنه نزل القرآن على قلب محمد وجب أن يكون عدواً لله تعالى بين في هذه الآية أن من كان عدواً لله كان عدواً له فبين أن في مقابلة عداوتهم ما يعظم ضرر الله عليهم وهو عداوة الله لهم لأن عداوتهم لا تؤثر ولا تنفع ولا تضر وعداوته تعالى تؤدي إلى العذاب الدائم الأليم الذي لا ضرر أعظم منه وههنا سؤالات
السؤال الأول كيف يجوز أن يكونوا أعداء الله ومن حق العداوة الإضرار بالعدو وذلك محال على الله تعالى والجواب أن معنى العداوة على الحقيقة لا يصح إلا فينا لأن العدو للغير هو الذي يريد إنزال المضار به وذلك محال على الله تعالى بل المراد منه أحد وجهين إما أن يعادوا أولياء الله فيكون ذلك عداوة لله كقوله إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ( المائدة 33 ) وكقوله إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ( الأحزاب 57 ) لأن المراد بالآيتين أولياء الله دونه لاستحالة المحاربة والأذية عليه وإما أن يراد بذلك كراهتهم القيام بطاعته وعبادته وبعدهم عن التمسك بذلك فلما كان العدو لا يكاد يوافق عدوه أو ينقاد له شبه طريقتهم في هذا الوجه بالعداوة فأما عداوتهم لجبريل والرسل فصحيحة لأن الإضرار جائز عليهم لكن عداوتهم لا تؤثر فيهم لعجزهم عن الأمور المؤثرة فيهم وعداوتهم مؤثرة في اليهود لأنها في العاجل تقتضي الذلة والمسكنة وفي الآجل تقتضي العذاب الدائم
السؤال الثاني لما ذكر الملائكة فلم أعاد ذكر جبريل وميكائيل مع اندراجهما في الملائكة الجواب لوجهين الأول أفردهما بالذكر لفضلهما كأنهما لكمال فضلهما صارا جنساً آخر سوى جنس الملائكة الثاني أن الذي جرى بين الرسول واليهود هو ذكرهما والآية إنما نزلت بسببهما فلا جرم نص على اسميهما واعلم أن هذا يقتضي كونهما أشرف من جميع الملائكة وإلا لم يصح هذا التأويل وإذا ثبت هذا فنقول يجب أن يكون جبريل عليه السلام أفضل من ميكائيل لوجوه أحدها أنه تعالى قدم جبريل عليه السلام في الذكر وتقديم المفضول على الفاضل في الذكر مستقبح عرفاً فوجب أن يكون مستقبحاً شرعاً

لقوله عليه السلام ( ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن ) وثانيها أن جبريل عليه السلام ينزل بالقرآن والوحي والعلم وهو مادة بقاء الأرواح وميكائيل ينزل بالخصب والأمطار وهي مادة بقاء الأبدان ولما كان العلم أشرف من الأغذية وجب أن يكون جبريل أفضل من ميكائيل وثالثها قوله تعالى في صفة جبريل مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ذكره يوصف المطاع على الإطلاق وظاهره يقتضي كونه مطاعاً بالنسبة إلى ميكائيل فوجب أن يكون أفضل منه
المسألة الثانية قرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم ميكال بوزن قنطار ونافع ميكائل مختلسة ليس بعد الهمزة ياء على وزن ميكاعل وقرأ الباقون ميكائيل على وزن ميكاعيل وفيه لغة أخرى ميكئيل على وزن ميكعيل وميكئيل كميكعيل قال ابن جنى العرب إذا نطقت بالأعجمي خلطت فيه
المسألة الثالثة الواو في جبريل وميكال قيل واو العطف وقيل بمعنى أو يعني من كان عدواً لأحد من هؤلاء فإن الله عدو لجميع الكافرين
المسألة الرابعة عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ أراد عدو لهم إلا أنه جاء بالظاهر ليدل على أن الله تعالى إنما عاداهم لكفرهم وأن عداوة الملائكة كفر
وَلَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ءَايَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ إِلاَّ الْفَاسِقُونَ
اعلم أن هذا نوع آخر من قبائحهم وفضائحهم قال ابن عباس إن اليهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قبل مبعثه فلما بعث من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه فقال لهم معاذ بن جبل يا معشر اليهود اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ونحن أهل الشرك وتخبروننا أنه مبعوث وتصفون لنا صفته فقال بعضهم ما جاءنا بشيء من البينات وما هو بالذي كنا نذكر لكم فأنزل الله تعالى هذه الآية وههنا مسائل
المسألة الأولى الأظهر أن المراد من الآيات البينات القرآن الذي لا يأتي بمثله الجن والإنس ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً وقال بعضهم لا يمتنع أن يكون المراد من الآيات البينات القرآن مع سائر الدلائل نحو امتناعهم من المباهلة ومن تمنى الموت وسائر المعجزات نحو إشباع الخلق الكثير من الطعام القليل ونبوع الماء من بين أصابعه وانشقاق القمر قال القاضي الأولى تخصيص ذلك بالقرآن لأن الآيات إذا قرنت إلى التنزيل كانت أخص بالقرآن والله أعلم
المسألة الثانية الوجه في تسمية القرآن بالآيات وجوه أحدها أن الآية هي الدالة وإذا كانت أبعاض القرآن دالة بفصاحتها على صدق المدعي كانت آيات وثانيها أن منها ما يدل على الإخبار عن الغيوب فهي دالة على تلك الغيوب وثالثها أنها دالة على دلائل التوحيد والنبوة والشرائع فهي آيات من هذه الجهة فإن قيل الدليل لا يكون إلا بيناً فما معنى وصف الآيات بكونها بينة وليس لأحد أن يقول المراد كون بعضها

أبين من بعض لأن هذا إنما يصح لو أمكن في العلوم أن يكون بعضها أقوى من بعض وذلك محال وذلك لأن العالم بالشيء إما أن يحصل معه تجويز نقيض ما اعتقده أو لا يحصل فإن حصل معه ذلك التجويز لم يكن ذلك الاعتقاد علماً وإن لم يحصل استحال أن يكون شيء آخر آكد منه قلنا التفاوت لا يقع في نفس العلم بل في طريقه فإن العلوم تنقسم إلى ما يكون طريق تحصيله والدليل الدال عليه أكثر مقدمات فيكون الوصول إليه أصعب وإلى ما يكون أقل مقدمات فيكون الوصول إليه أقرب وهذا هو الآية البينة
المسألة الثالثة الإنزال عبارة عن تحريك الشيء من الأعلى إلى الأسفل وذاك لا يتحقق إلا في الجسمي فهو على هذا الكلام محال لكن جبريل لما نزل من الأعلى إلى الأسفل وأخبر به سمي ذلك إنزالاً
أما قوله وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ ففيه مسائل
المسألة الأولى الكفر بها من وجهين أحدهما جحودها مع العلم بصحتها والثاني جحودها مع الجهل وترك النظر فيها والإعراض عن دلائلها وليس في الظاهر تخصيص فيدخل الكل فيه
المسألة الثانية الفسق في اللغة خروج الإنسان عما حد له قال الله تعالى إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ ( الكهف 50 ) وتقول العرب للنواة إذا خرجت من الرطبة عند سقوطها فسقت النواة وقد يقرب من معناه الفجور لأنه مأخوذ من فجور السد الذي يمنع الماء من أن يصير إلى الموضع الذي يفسد ( إذا صار إليه ) فشبه تعدي الإنسان ما حد له إلى الفساد بالذي فجر السد حتى صار إلى حيث يفسد فإن قيل أليس أن صاحب الصغيرة تجاوز أمر الله ولا يوصف بالفسق والفجور قلنا إنه إنما يسمى بهما كل أمر يعظم من الباب الذي ذكرنا لأن من فتح من النهر نقباً يسيراً لا يوصف بأنه فجر ذلك النهر وكذلك الفسق إنما يقال إذا عظم التعدي إذا ثبت هذا فنقول في قوله إِلاَّ الْفَاسِقُونَ وجهان أحدهما أن كل كافر فاسق ولا ينعكس فكأن ذكر الفاسق يأتي على الكافر وغيره فكان أولى الثاني أن يكون المراد ما يكفر بها إلا الكافر المتجاوز عن كل حد في كفره والمعنى أن هذه الآيات لما كانت بينة ظاهرة لم يكفر بها إلا الكافر الذي يبلغ في الكفر إلى النهاية القصوى وتجاوز عن كل حد مستحسن في العقل والشرع
أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
اعلم أن هذا نوع آخر من قبائحهم وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله أَوْ كُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْدًا واو عطف دخلت عليه همزة الاستفهام وقيل الواو زائدة وليس بصحيح لأنه مع صحة معناه لا يجوز أن يحكم بالزيادة
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) الواو للعطف على محذوف معناه أكفروا بالآيات والبينات

وكلما عاهدوا وقرأ أبو السماك بسكون الواو على أن الفاسقون بمعنى الذين فسقوا فكأنه قيل وما يكفر بها إلا الذين فسقوا أو نقضوا عهد الله مراراً كثيرة وقرىء عوهدوا وعهدوا
المسألة الثالثة المقصود من هذا الاستفهام الإنكار وإعظام ما يقدمون عليه لأن مثل ذلك إذا قيل بهذا اللفظ كان أبلغ في التنكير والتبكيت ودل بقول أَوْ كُلَّمَا عَاهَدُواْ على عهد بعد عهد نقضوه ونبذوه بل يدل على أن ذلك كالعادة فيهم فكأنه تعالى أراد تسلية الرسول عند كفرهم بما أنزل عليه من الآيات بأن ذلك ليس ببدع منهم بل هو سجيتهم وعادتهم وعادة سلفهم على ما بينه في الآيات المتقدمة من نقضهم العهود والمواثيق حالاً بعد حال لأن من يعتاد منه هذه الطريقة لا يصعب على النفس مخالفته كصعوبة من لم تجر عادته بذلك
المسألة الرابعة في العهد وجوه أحدها أن الله تعالى لما أظهر الدلائل الدالة على نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وعلى صحة شرعه كان ذلك كالعهد منه سبحانه وقبولهم لتلك الدلائل كالمعاهدة منهم لله سبحانه وتعالى وثانيها أن العهد هو الذي كانوا يقولون قبل مبعثه عليه السلام لئن خرج النبي لنؤمنن به ولنخرجن المشركين من ديارهم وثالثها أنهم كانوا يعاهدون الله كثيراً وينقضونه ورابعها أن اليهود كانوا قد عاهدوه على أن لا يعينوا عليه أحداً من الكافرين فنقضوا ذلك وأعانوا عليه قريشاً يوم الخندق قال القاضي إن صحت هذه الرواية لم يمتنع دخوله تحت الآية لكن لا يجوز قصر الآية عليه بل الأقرب أن يكون المراد ما له تعلق بما تقدم ذكره من كفرهم بآيات الله وإذا كان كذلك فحمله على نقض العهد فيما تضمنته الكتب المتقدمة والدلائل العقلية من صحة القول ونبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أقوى
المسألة الخامسة إنما قال نَّبَذَهُ فَرِيقٌ لأن في جملة من عاهد من آمن أو يجوز أن يؤمن فلما لم يكن ذلك صفة جميعهم خص الفريق بالذكر ثم لما كان يجوز أن يظن أن ذلك الفريق هم الأقلون بين أنهم الأكثرون فقال بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ وفيه قولان الأول أكثر أولئك الفساق لا يصدقون بك أبداً لحسدهم وبغيهم والثاني لا يؤمنون أي لا يصدقون بكتابهم لأنهم كانوا في قومهم كالمنافقين مع الرسول يظهرون لهم الإيمان بكتابهم ورسولهم ثم لا يعملون بموجبه ومقتضاه
وَلَمَّا جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
اعلم أن معنى كون الرسول مصدقاً لما معهم هو أنه كان معترفاً بنبوة موسى عليه السلام وبصحة التوراة أو مصدقاً لما معهم من حيث إن التوراة بشرت بمقدم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإذا أتى محمد كان مجرد مجيئه مصدقاً للتوراة

أما قوله تعالى نَبَذَ فَرِيقٌ فهو مثل لتركهم وإعراضهم عنه بمثل ما يرمى به وراء الظهر استغناء عنه وقلة التفات إليه
أما قوله تعالى مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ففيه قولان أحدهما أن المراد ممن أوتي علم الكتاب من يدرسه ويحفظه قال هذا القائل الدليل عليه أنه تعالى وصف هذا الفريق بالعلم عند قوله تعالى كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الثاني المراد من يدعي التمسك بالكتاب سواء علمه أو لم يعلمه وهذا كوصف المسلمين بأنهم من أهل القرآن لا يراد بذلك من يختص بمعرفة علومه بل المراد من يؤمن به ويتمسك بموجبه
أما قوله تعالى كِتَابَ اللَّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ فقيل إنه التوراة وقيل إنه القرآن وهذا هو الأقرب لوجهين الأول أن النبذ لا يعقل إلا فيما تمسكوا به أولاً وأما إذا لم يلتفتوا إليه لا يقال إنهم نبذوه الثاني أنه قال نَبَذَ فَرِيقٌ مّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ولو كان المراد به القرآن لم يكن لتخصيص الفريق معنى لأن جميعهم لا يصدقون بالقرآن فإن قيل كيف يصح نبذهم التوراة وهم يتمسكون به قلنا إذا كان يدل على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام لما فيه من النعت والصفة وفيه وجوب الإيمان ثم عدلوا عنه كانوا نابذين للتوراة
أما قوله تعالى كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ فدلالة على أنهم نبذوه عن علم ومعرفة لأنه لا يقال ذلك إلا فيمن يعلم فدلت الآية من هذه الجهة على أن هذا الفريق كانوا عالمين بصحة نبوته إلا أنهم جحدوا ما يعلمون وقد ثبت أن الجمع العظيم لا يصح الجحد عليهم فوجب القطع بأن أولئك الجاحدين كانوا في القلة بحيث تجوز المكابرة عليهم
وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَاكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَآ أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَة ٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِى الاٌّ خِرَة ِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ

اعلم أن هذا هو نوع آخر من قبائح أفعالهم وهو اشتغالهم بالسحر وإقبالهم عليه ودعاؤهم الناس إليه
أما قوله تعالى وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ففيه مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى وَاتَّبِعُواْ حكاية عمن تقدم ذكره وهم اليهود ثم فيه أقوال أحدها أنهم اليهود الذين كانوا في زمان محمد عليه الصلاة والسلام وثانيها أنهم الذين تقدموا من اليهود وثالثها أنهم الذين كانوا في زمن سليمان عليه السلام من السحرة لأن أكثر اليهود ينكرون نبوة سليمان عليه السلام ويعدونه من جملة الملوك في الدنيا فالذين كانوا منهم في زمانه لا يمتنع أن يعتقدوا فيه أنه إنما وجد ذلك الملك العظيم بسبب السحر ورابعها أنه يتناول الكل وهذا أولى لأنه ليس صرف اللفظ إلى البعض أولى من صرفه إلى غيره إذ لا دليل على التخصيص قال السدي لما جاءهم محمد عليه الصلاة والسلام عارضوه بالتوراة فخاصموه بها فاتفقت التوراة والقرآن فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت وماروت فلم يوافق القرآن فهذا قوله تعالى وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ ( البقرة 101 ) ثم أخبر عنهم بأنهم اتبعوا كتب السحر
المسألة الثانية ذكروا في تفسير تَتْلُواْ وجوهاً أحدها أن المراد منه التلاوة والإخبار وثانيها قال أبو مسلم ( تتلوا ) أي تكذب على ملك سليمان يقال تلا عليه إذا كذب وتلا عنه إذا صدق وإذا أبهم جاز الأمران والأقرب هو الأول لأن التلاوة حقيقة في الخبر إلا أن المخبر يقال في خبره إذا كان كذباً إنه تلا فلان وإنه قد تلا على فلان ليميز بينه وبين الصدق الذي لا يقال فيه روي عن فلان بل يقال روي عن فلان وأخبر عن فلان وتلا عن فلان وذلك لا يليق إلا بالأخبار والتلاوة ولا يمتنع أن يكون الذي كانوا يخبرون به عن سليمان مما يتلى ويقرأ فيجتمع فيه كل الأوصاف
المسألة الثالثة اختلفوا في الشياطين فقيل المراد شياطين الجن وهو قول الأكثرين وقيل شياطين الإنس وهو قول المتكلمين من المعتزلة وقيل هم شياطين الإنس والجن معاً أما الذين حملوه على شياطين الجن قالوا إن الشياطين كانوا يسترقون السمع ثم يضمون إلى ما سمعوا أكاذيب يلفقونها ويلقونها إلى الكهنة وقد دونوها في كتب يقرءونها ويعلمونها الناس وفشا ذلك في زمن سليمان عليه السلام حتى قالوا إن الجن تعلم الغيب وكانوا يقولون هذا علم سليمان وما تم له ملكه إلا بهذا العلم وبه يسخر الجن والإنس والريح التي تجري بأمره وأما الذين حملوه على شياطين الإنس قالوا روي في الخبر أن سليمان عليه السلام كان قد دفن كثيراً من العلوم التي خصه الله تعالى بها تحت سرير ملكه حرصاً على أنه إن هلك الظاهر منها يبقى ذلك المدفون فلما مضت مدة على ذلك توصل قوم من المنافقين إلى أن كتبوا في خلال ذلك أشياء من السحر تناسب تلك الأشياء من بعض الوجوه ثم بعد موته واطلاع الناس على تلك الكتب أوهموا الناس أنه من عمل سليمان وأنه ما وصل إلى ما وصل إليه إلا بسبب هذه الأشياء فهذا معنى ( ما تتلوا الشياطين ) واحتج القائلون بهذا الوجه على فساد القول الأول بأن شياطين الجن لو قدروا على تغيير كتب الأنبياء وشرائعهم بحيث يبقى ذلك التحريف محققاً فيما بين الناس لارتفع الوثوق عن جميع الشرائع وذلك يفضي إلى الطعن في كل الأديان فإن قيل إذا جوزتم ذلك على شياطين الإنس فلم لا يجوز مثله على شياطين الجن قلنا الفرق أن الذي يفعله الإنسان لا بد وأن يظهر من بعض الوجوه أما لو جوزنا هذا الافتعال من الجن وهو أن نزيد في

كتب سليمان بخط مثل خط سليمان فإنه لا يظهر ذلك ويبقى مخفياً فيفضي إلى الطعن في جميع الأديان
المسألة الرابعة أما قوله عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ فقيل في ملك سليمان عن ابن جريج وقيل على عهد ملك سليمان والأقرب أن يكون المراد واتبعوا ما تتلوا الشياطين افتراء على ملك سليمان لأنهم كانوا يقرءون من كتب السحر ويقولون إن سليمان إنما وجد ذلك الملك بسبب هذا العلم فكانت تلاوتهم لتلك الكتب كالافتراء على ملك سليمان
المسألة الخامسة اختلفوا في المراد بملك سليمان فقال القاضي إن ملك سليمان هو النبوة أو يدخل فيه النبوة وتحت النبوة الكتاب المنزل عليه والشريعة وإذا صح ذلك ثم أخرج القوم صحيفة فيها ضروب السحر وقد دفنوها تحت سرير ملكه ثم أخرجوها بعد موته وأوهموا أنها من جهته صار ذلك منهم تقولاً على ملكه في الحقيقة والأصح عندي أن يقال إن القوم لما ادعوا أن سليمان إنما وجد تلك المملكة بسبب ذلك العلم كان ذلك الادعاء كالافتراء على ملك سليمان
المسألة السادسة السبب في أنهم أضافوا السحر إلى سليمان عليه السلام وجوه أحدها أنهم أضافوا السحر إلى سليمان تفخيماً لشأنه وتعظيماً لأمره وترغيباً للقوم في قبول ذلك منهم وثانيها أن اليهود ما كانوا يقرون بنبوة سليمان بل كانوا يقولون إنما وجد ذلك الملك بسبب السحر وثالثها أن الله تعالى لما سخر الجن لسليمان فكان يخالطهم ويستفيد منهم أسراراً عجيبة فغلب على الظنون أنه عليه الصلاة والسلام استفاد السحر منهم
أما قوله تعالى وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ فهذا تنزيه له عليه السلام عن الكفر وذلك يدل على أن القوم نسبوه إلى الكفر والسحر قيل فيه أشياء أحدها ما روي عن بعض أخبار اليهود أنهم قالوا ألا تعجبون من محمد يزعم أن سليمان كان نبياً وما كان إلا ساحراً فأنزل الله هذه الآية وثانيها أن السحرة من اليهود زعموا أنهم أخذوا السحر عن سليمان فنزهه الله تعالى منه وثالثها أن قوماً زعموا أن قوام ملكه كان بالسحر فبرأه الله منه لأن كونه نبياً ينافي كونه ساحراً كافراً ثم بين تعالى أن الذي برأه منه لاصق بغيره فقال وَلَاكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يشير به إلى ما تقدم ذكره ممن اتخذ السحر كالحرفة لنفسه وينسبه إلى سليمان ثم بين تعالى ما به كفروا فقد كان يجوز أن يتوهم أنهم ما كفروا أولاً بالسحر فقال تعالى يُعَلّمُونَ النَّاسَ السّحْرَ واعلم أن الكلام في السحر يقع من وجوه
المسألة الأولى في البحث عنه بحسب اللغة فنقول ذكر أهل اللغة أنه في الأصل عبارة عما لطف وخفي سببه والسحر بالنصب هو الغذاء لخفائه ولطف مجاريه قال لبيد
ونسحر بالطعام وبالشراب
قيل فيه وجهان أحدهما أنا نعلل ونخدع كالمسحور المخدوع والآخر نغذي وأي الوجهين كان فمعناه الخفاء وقال

فإن تسألينا فيم نحن فإننا
عصافير من هذا الأنام المسحر
وهذا البيت يحتمل من المعنى ما احتمله الأول ويحتمل أيضاً أن يريد بالمسحر أنه ذو سحر والسحر هو الرئة وما تعلق بالحلقوم وهذا أيضاً يرجع إلى معنى الخفاء ومنه قول عائشة رضي الله عنها ( توفي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بين سحري ونحري ) وقوله تعالى إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ( الشعراء 153 ) يعني من المخلوقين الذي يطعم ويشرب يدل عليه قولهم مَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرًا مّثْلَنَا ( الشعراء 154 ) ويحتمل أنه ذو سحر مثلنا وقال تعالى حكاية عن موسى عليه السلام أنه قال للسحرة مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ ( يونس 81 ) وقال فَلَمَّا أَلْقُوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ ( الأعراف 116 ) فهذا هو معنى السحر في أصل اللغة
المسألة الثانية اعلم أن لفظ السحر في عرف الشرع مختص بكل أمر يخفى سببه ويتخيل على غير حقيقته ويجري مجرى التمويه والخداع ومتى أطلق ولم يقيد أفاد ذم فاعله قال تعالى سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ ( الأعراف 66 ) يعني موهوا عليهم حتى ظنوا أن حبالهم وعصيهم تسعى وقال تعالى يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى ( طه 66 ) وقد يستعمل مقيداً فيما يمدح ويحمد روي أنه قدم على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم فقال لعمرو خبرني عن الزبرقان فقال مطاع في ناديه شديد العارضة مانع لما وراء ظهره فقال الزبرقان هو والله يعلم أني أفضل منه فقال عمرو إنه زمن المروءة ضيق العطن أحمق الأب لئيم الخال يا رسول الله صدقت فيهما أرضاني فقلت أحسن ما علمت وأسخطني فقلت أسوأ ما علمت فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن من البيان لسحراً ) فسمى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعض البيان سحراً لأن صاحبه يوضح الشيء المشكل ويكشف عن حقيقته بحسن بيانه وبليغ عبارته فإن قيل كيف يجوز أن يسمى ما يوضح الحق وينبيء عنه سحراً وهذا القائل إنما قصد إظهار الخفى لا إخفاء الظاهر ولفظ السحر إنما يفيد إخفاء الظاهر قلنا إنما سماه سحراً لوجهين الأول أن ذلك القدر للطفه وحسنه استمال القلوب فأشبه السحر الذي يستميل القلوب فمن هذا الوجه سمي سحراً لا من الوجه الذي ظننت الثاني أن المقتدر على البيان يكون قادراً على تحسين ما يكون قبيحاً وتقبيح ما يكون حسناً فذلك يشبه السحر من هذا الوجه
المسألة الثالثة في أقسام السحر اعلم أن السحر على أقسام الأول سحر الكلدانيين والكسدانيين الذين كانوا في قديم الدهر وهم قوم يعبدون الكواكب ويزعمون أنها هي المدبرة لهذا العالم ومنها تصدر الخيرات والشرور والسعادة والنحوسة وهم الذين بعث الله تعالى إبراهيم عليه السلام مبطلاً لمقالتهم وراداً عليهم في مذهبهم أما المعتزلة فقد اتفقت كلمتهم على أن غير الله تعالى لا يقدر على خلق الجسم والحياة واللون والطعم واحتجوا بوجوه ذكرها القاضي ولخصها في تفسيره وفي سائر كتبه ونحن ننقل تلك الوجوه وننظر فيها أولها وهو النكتة العقلية التي عليها يعولون أن كل ما سوى الله إما متحيز وإما قائم بالمتحيز فلو كان غير الله فاعلاً للجسم والحياة لكان ذلك الغير متحيزاً وذلك المتحيز لا بد وأن يكون قادراً بالقدرة إذ لو كان قادراً لذاته لكان كل جسم كذلك بناء على أن الأجسام متماثلة لكن القادر بالقدرة لا يصح منه فعل الجسم

والحياة ويدل عليه وجهان الأول أن العلم الضروري حاصل بأن الواحد منا لا يقدر على خلق الجسم والحياة ابتداء فقدرتنا مشتركة في امتناع ذلك عليها فهذا الامتناع حكم مشترك فلا بد له من علة مشتركة ولا مشترك ههنا إلا كوننا قادرين بالقدرة وإذا ثبت هذا وجب فيمن كان قادراً بالقدرة أن يتعذر عليه فعل الجسم والحياة الثاني أن هذه القدرة التي لنا لا شك أن بعضها يخالف بعضاً فلو قدرنا قدرة صالحة لخلق الجسم والحياة لم تكن مخالفتها لهذه القدرة أشد من مخالفة بعض هذه القدرة للبعض فلو كفى ذلك القدر من المخالفة في صلاحيتها لخلق الجسم والحياة لوجب في هذه القدرة أن يخالف بعضها بعضاً وأن تكون صالحة لخلق الجسم والحياة ولما لم يكن كذلك علمنا أن القادر بالقدرة لا يقدر على خلق الجسم والحياة وثانيها أنا لو جوزنا ذلك لتعذر الاستدلال بالمعجزات على النبوات لأنا لو جوزنا استحداث الخوارق بواسطة تمزيج القوى السماوية بالقوى الأرضية لم يمكنا القطع بأن هذه الخوارق التي ظهرت على أيدي الأنبياء عليهم السلام صدرت عن الله تعالى بل يجوز فيها أنهم أتوا بها من طريق السحر وحينئذ يبطل القول بالنبوات من كل الوجوه وثالثها أنا لو جوزنا أن يكون في الناس من يقدر على خلق الجسم والحياة والألوان لقدر ذلك الإنسان على تحصيل الأموال العظيمة من غير تعب لكنا نرى من يدعي السحر متوصلاً إلى اكتساب الحقير من المال بجهد جهيد فعلمنا كذبه وبهذا الطريق نعلم فساد ما يدعيه قوم من الكيمياء لأنا نقول لو أمكنهم ببعض الأدوية أن يقلبوا غير الذهب ذهباً لكان إما أن يمكنهم ذلك بالقليل من الأموال فكان ينبغي أن يغنوا أنفسهم بذلك عن المشقة والذلة أو لا يمكنهم إلا بالآلات العظام والأموال الخطيرة فكان يجب أن يظهروا ذلك للملوك المتمكنين من ذلك بل كان يجب أن يفطن الملوك لذلك لأنه أنفع لهم من فتح البلاد الذي لا يتم إلا بإخراج الأموال والكنوز وفي علمنا بانصراف النفوس والهمم عن ذلك دلالة على فساد هذا القول قال القاضي فثبت بهذه الجملة أن الساحر لا يصح أن يكون فاعلاً لشيء من ذلك واعلم أن هذه الدلائل ضعيفة جداً أما الوجه الأول فنقول ما الدليل على أن كل ما سوى الله إما أن يكون متحيزاً وإما قائماً بالمتحيز أما علمتم أن الفلاسفة مصرون على إثبات العقول والنفوس الفلكية والنفوس الناطقة وزعموا أنها في أنفسها ليست بمتحيزة ولا قائمة بالمتحيز فما الدليل على فساد القول بهذا فإن قالوا لو وجد موجود هكذا لزم أن يكون مثلاً لله تعالى قلنا لا نسلم ذلك لأن الاشتراك في الأسلوب لا يقتضي الاشتراك في الماهية سلمنا ذلك لكن لم لا يجوز أن يكون بعض الأجسام يقدر على ذلك لذاته قوله الأجسام متماثلة فلو كان جسم كذلك لكان كل جسم كذلك قلنا ما الدليل على تماثل الأجسام فإن قالوا إنه لا معنى للجسم إلا الممتد في الجهات الشاغل للأحياز ولا تفاوت بينها في هذا المعنى قلنا الامتداد في الجهات والشغل للأحياز صفة من صفاتها ولازم من لوازمها ولا يبعد أن تكون الأشياء المختلفة في الماهية مشتركة في بعض اللوازم سلمنا أنه يجب أن يكون قادراً بالقدرة فلم قلتم إن القادر بالقدرة لا يصح منه خلق الجسم والحياة قوله لأن القدرة التي لنا مشتركة في هذا الامتناع وهذا الامتناع حكم مشترك فلا بد له من علة مشتركة ولا مشترك سوى كوننا قادرين بالقدرة قلنا هذه المقدمات بأسرها ممنوعة فلا نسلم أن الامتناع حكم معلل وذلك لأن الامتناع عدمي والعدم لا يعلل سلمنا أنه أمر وجودي ولكن من مذهبهم أن كثيراً من الأحكام لا يعلل فلم

لا يجوز أن يكون الأمر ههنا كذلك سلمنا أنه معلل فلم قلتم إن الحكم المشترك لا بد له من علة مشتركة أليس أن القبح حصل في الظلم معللاً بكونه ظلماً وفي الكذب بكونه كذباً وفي الجهل بكونه جهلاً سلمنا أنه لا بد من علة مشتركة لكن لا نسلم أنه لا مشترك إلا كوننا قادرين بالقدرة فلم لا يجوز أن تكون هذه القدرة التي لنا مشتركة في وصف معين وتلك القدرة التي تصلح لخلق الجسم تكون خارجة عن ذلك الوصف فما الدليل على أن الأمر ليس كذلك وأما الوجه الأول وهو أنه ليست مخالفة تلك القدرة لبعض القدر أشد من مخالفة بعض هذه القدر للبعض فنقول هذا ضعيف لأنا لا نعلل صلاحيتها لخلق الجسم بكونها مخالفة لهذه القدر بل لخصوصيتها المعينة التي لأجلها خالفت سائر القدر وتلك الخصوصية معلوم أنها غير حاصلة في سائر القدر ونظير ما ذكروه أن يقال ليست مخالفة الصوت للبياض بأشد من مخالفة السواد للبياض فلو كانت تلك المخالفة مانعة للصوت من صحة أن يرى لوجب لكون السواد مخالفاً للبياض أن يمتنع رؤيته
ولما كان هذا الكلام فاسداً فكذا ما قالوه والعجب من القاضي أنه لما حكى هذه الوجوه عن الأشعرية في مسألة الرؤية وزيفها بهذه الأسئلة ثم إنه نفسه تمسك بها في هذه المسألة التي هي الأصل في إثبات النبوة والرد على من أثبت متوسطاً بين الله وبيننا أما الوجه الثاني وهو أن القول بصحة النبوات لا يبقى مع تجويز هذا الأصل فنقول إما أن يكون القول بصحة النبوات متفرعاً على فساد هذه القاعدة أو لا يكون فإن كان الأول امتنع فساد هذا الأصل بالبناء على صحة النبوات وإلا وقع الدور وإن كان الثاني فقد سقط هذا الكلام بالكلية وأما الوجه الثالث فلقائل أن يقول الكلام في الإمكان غير ونحن لا نقول بأن هذه الحالة حاصلة لكل أحد بل هذه الحالة لا تحصل للبشر إلا في الأعصار المتباعدة فكيف يلزمنا ما ذكرتموه فهذا هو الكلام في النوع الأول من السحر
النوع الثاني من السحر سحر أصحاب الأوهام والنفس القوية قالوا اختلف الناس في أن الذي يشير إليه كل أحد بقوله ( أنا ) ما هو فمن الناس من يقول إنه هو هذه البنية ومنهم من يقول إنه جسم صار في هذه البنية ومنهم من يقول بأنه موجود وليس بجسم ولا بجسماني أما إذا قلنا إن الإنسان هو هذه البنية فلا شك أن هذه البنية مركبة من الأخلاط الأربعة فلم لا يجوز أن يتفق في بعض الأعصار الباردة أن يكون مزاجه مزاجاً من الأمزجة في ناحية من النواحي يقتضي القدرة على خلق الجسم والعلم بالأمور الغائبة عنا والمتعذرة وهكذا الكلام إذا قلنا الإنسان جسم سار في هذه البنية أما إذا قلنا إن الإنسان هو النفس فلم لا يجوز أن يقال النفوس مختلفة فيتفق في بعض النفوس إن كانت لذاتها قادرة على هذه الحوادث الغريبة مطلعة على الأسرار الغائبة فهذا الاحتمال مما لم تقم دلالة على فساده سوى الوجوه المتقدمة وقد بان بطلانها ثم الذي يؤكد هذا الاحتمال وجوه أولها أن الجذع الذي يتمكن الإنسان من المشي عليه لو كان موضوعاً على الأرض لا يمكنه المشي عليه لو كان كالجسر على هاوية تحته وما ذاك إلا أن تخيل السقوط متى قوي أوجبه وثانيها اجتمعت الأطباء على نهي المرعوف عن النظر إلى الأشياء الحمر والمصروع عن النظر إلى الأشياء القوية اللمعان والدوران وما ذاك إلا أن النفوس خلقت مطيعة للأوهام و ثالثها حكى صاحب الشفاء عن ( أرسطو ) أن طبائع الحيوان أن الدجاجة إذ تشبهت كثيراً بالديكة في الصوت وفي الحراب مع الديكة نبت على ساقها مثل الشيء النابت على ساق الديك ثم قال صاحب الشفاء وهذا يدل

على أن الأحوال الجسمانية تابعة للأحوال النفسانية ورابعها أجمعت الأمم على أن الدعاء اللساني الخالي عن الطلب النفساني قليل العمل عديم الأثر فدل ذلك على أن للهمم والنفوس آثاراً وهذا الاتفاق غير مختص بمسألة معينة وحكمة مخصوصة وخامسها أنك لو أنصفت لعلمت أن المبادىء القريبة للأفعال الحيوانية ليست إلا التصورات النفسانية لأن القوة المحركة المغروزة في العضلات صالحة للفعل وتركه أو ضده ولن يترجح أحد الطرفين على الآخر إلا لمرجح وما ذاك إلا تصور كون الفعل جميلاً أو لذيذاً أو تصور كونه قبيحاً أو مؤلماً فتلك التصورات هي المبادىء لصيرورة القوى العضلية مبادىء للفعل لوجود الأفعال بعد أن كانت كذلك بالقوة وإذا كانت هذه التصورات هي المبادىء لمبادىء هذه الأفعال فأي استبعاد في كونها مبادىء لأفعال أنفسها وإلغاء الواسطة عن درجة الاعتبار وسادسها التجربة والعيان شاهدان بأن هذه التصورات مبادىء قريبة لحدوث الكيفيات في الأبدان فإن الغضبان تشتد سخونة مزاجه حتى أنه يفيده سخونة قوية
يحكى أن بعض الملوك عرض له فالج فأعيا الأطباء مزاولة علاجه فدخل عليه بعض الحذاق منهم على حين غفلة منه وشافهه بالشتم والقدح في العرض فاشتد غضب الملك وقفز من مرقده قفزة اضطرارية لما ناله من شدة ذلك الكلام فزالت تلك العلة المزمنة والمرضة المهلكة وإذا جاز كون التصورات مبادىء لحدوث الحوادث في البدن فأي استبعاد من كونها مبادىء لحدوث الحوادث خارج البدن وسابعها أن الإصابة بالعين أمر قد اتفق عليه العقلاء وذلك أيضاً يحقق إمكان ما قلناه إذا عرفت هذا فنقول النفوس التي تفعل هذه الأفاعيل قد تكون قوية جداً فتستغني في هذه الأفعال عن الاستعانة بالآلات والأدوات وقد تكون ضعيفة فتحتاج إلى الاستعانة بهذه الآلات وتحقيقه أن النفس إذا كانت مستعلية على البدن شديدة الانجذاب إلى عالم ( السماء ) كانت كأنها روح من الأرواح السماوية فكانت قوية على التأثير في مواد هذا العالم أما إذا كانت ضعيفة شديدة التعلق بهذه اللذات البدنية فحينئذ لا يكون لها تصرف ألبتة إلا في هذه البدن فإذا أراد هذا الإنسان صيرورتها بحيث يتعدى تأثير من بدنها إلى بدن آخر اتخذ تمثال ذلك الغير ووضعه عند الحس واشتغل الحس به فيتبعه الخيال عليه وأقبلت النفس الناطقة عليه فقويت التأثيرات النفسانية والتصرفات الروحانية ولذلك أجمعت الأمم على أنه لا بد لمزاولة هذه الأعمال من انقطاع المألوفات والمشتهيات وتقليل الغذاء والانقطاع عن مخالطة الخلق وكلما كانت هذه الأمور أتم كان ذلك التأثير أقوى فإذا اتفق أن كانت النفس مناسبة لهذا الأمر نظراً إلى ماهيتها وخاصيتها عظم التأثير والسبب المتعين فيه أن النفس إذا أشعلت بالجانب الأول اشتغلت جميع قوتها في ذلك الفعل وإذا اشتغلت بالأفعال الكثيرة تفرقت قوتها وتوزعت على تلك الأفعال تتصل إلى كل واحد من تلك الأفعال شعبة من تلك القوة وجدول من ذلك النهر ولذلك نرى أن إنسانين يستويان في قوة الخاطر إذا اشتغل أحدهما بصناعة واحدة واشتغل الآخر بصناعتين فإن ( ذا الفن ) الواحد يكون أقوى من ذي الفنين ومن حاول الوقوف على حقيقة مسألة من المسائل فإنه حال تفكره فيها لا بد وأن يفرغ خاطره عما عداها فإنه عند تفريغ الخاطر يتوجه الخاطر بكليته إليه فيكون الفعل أسهل وأحسن وإذا كان كذلك فإذا كان الإنسان مشغول الهم والهمة بقضاء اللذات وتحصيل الشهوات كانت القوة النفسانية مشغولة بها مستغرقة فيها فلا يكون انجذابها إلى تحصيل الفعل الغريب الذي يحاوله انجذاباً قوياً لا سيما وههنا آفة أخرى وهي أن مثل هذه النفس قد اعتادت الاشتغال باللذات من أول أمرها إلى آخره ولم تشتغل قط باستحداث هذه الأفعال الغريبة فهي بالطبع حنون إلى الأول عزوف إلى

الثاني فإذا وجدت مطلوبها من النمط الأول فإنى تلتفت إلى الجانب الآخر فقد ظهر من هذا أن مزاولة هذه الأعمال لا تتأتى إلا مع التجرد عن الأحوال الجسمانية وترك مخالطة الخلق والاقبال بالكلية على عالم الصفاء والأرواح وأما الرقى فإن كانت معلومة فالأمر فيها ظاهر لأن الغرض منها أن حس البصر كما شغلناه بالأمور المناسبة لذلك الغرض فحس السمع نشغله أيضاً بالأمور المناسبة لذلك الغرض فإن الحواس متى تطابقت على التوجه إلى الغرض الواحد كان توجه النفس إليه حينئذ أقوى وأما إن كانت بألفاظ غير معلومة حصلت للنفس هناك حالة شبيهة بالحيرة والدهشة فإن الإنسان إذا اعتقد أن هذه الكلمات إنما تقرأ للاستعانة بشيء من الأمور الروحانية ولا يدري كيفية تلك الاستعانة حصلت للنفس هناك حالة شبيهة بالحيرة والدهشة ويحصل للنفس في أثناء ذلك انقطاع عن المحسوسات وإقبال على ذلك الفعل وجد عظيم فيقوى التأثير النفساني فيحصل الغرض وهكذا القول في الدخن قالوا فقد ثبت أن هذا القدر من القوة النفسانية مشتغل بالتأثير فإن انضم إليه النوع الأول من السحر وهو الاستعانة بالكواكب وتأثيراتها عظم التأثير بل ههنا نوعان آخران الأول أن النفوس التي فارقت الأبدان قد يكون فيها ما هو شديد المشابهة لهذه النفوس في قوتها وفي تأثيراتها فإذا صارت تلك النفوس صافية لم يبعد أن ينجذب إليها ما يتشابهها من النفوس المفارقة ويحصل لتلك النفوس نوع ما من التعلق بهذا البدن فتتعاضد النفوس الكثيرة على ذلك الفعل وإذا كملت القوة وتزايدت قوى التأثير الثاني أن هذه النفوس الناطقة إذا صارت صافية عن الكدورات البدنية صارت قابلة للأنوار الفائضة من الأرواح السماوية والنفوس الفلكية فتقوى هذه النفوس بأنوار تلك الأرواح فتقوى على أمور غريبة خارقة للعادة فهذا شرح سحر أصحاب الأوهام والرقى
النوع الثالث من السحر الاستعانة بالأرواح الأرضية واعلم أن القول بالجن مما أنكره بعض المتأخرين من الفلاسفة والمعتزلة أما أكابر الفلاسفة فإنهم ما أنكروا القول به إلا أنهم سموها بالأرواح الأرضية وهي في أنفسها مختلفة منها خيرة ومنها شريرة فالخيرة هم مؤمنوا الجن والشريرة هم كفار الجن وشياطينهم ثم قال الخلف منهم هذه الأرواح جواهر قائمة بأنفسها لا متحيزة ولا حالة في المتحيز وهي قادرة عالمة مدركة للجزئيات واتصال النفوس الناطقة بها أسهل من اتصالها بالأرواح السماوية إلا أن القوة الحاصلة للنفوس الناطقة بسبب اتصالها بهذه الأرواح الأرضية أضعف من القوة الحاصلة إليها بسبب اتصالها بتلك الأرواح السماوية أما أن الاتصال أسهل فلأن المناسبة بين نفوسنا وبين هذه الأرواح الأرضية أسهل ولأن المشابهة والمشاكلة بينهما أتم وأشد من المشاكلة بين نفوسنا وبين الأرواح السماوية وأما أن القوة بسبب الاتصال بالأرواح السماوية أقوى فلأن الأرواح السماوية هي بالنسبة إلى الأرواح الأرضية كالشمس بالنسبة إلى الشعلة والبحر بالنسبة إلى القطرة والسلطان بالنسبة إلى الرعية قالوا وهذه الأشياء وإن لم يقم على وجودها برهان قاهر فلا أقل من الاحتمال والإمكان ثم إن أصحاب الصنعة وأرباب التجربة شاهدوا أن الاتصال بهذه الأرواح الأرضية يحصل بأعمال سهلة قليلة من الرقى والدخن والتجريد فهذا النوع هو المسمى بالعزائم وعمل تسخير الجن
النوع الرابع من السحر التخيلات والأخذ بالعيون وهذا الأخذ مبني على مقدمات إحداها أن أغلاط البصر كثيرة فإن راكب السفينة إذا نظر إلى الشط رأى السفينة واقفة والشط متحركاً وذلك يدل على

أن الساكن يرى متحركاً والمتحرك يرى ساكناً والقطرة النازلة ترى خطاً مستقيماً والذبالة التي تدار بسرعة ترى دائرة والعنبة ترى في الماء كبيرة كالإجاصة والشخص الصغير يرى في الضباب عظيماً وكبخار الأرض الذي يريك قرص الشمس عند طلوعها عظيماً فإذا فارقته وارتفعت عنه صغرت وأما رؤية العظيم من البعيد صغيراً فظاهر فهذه الأشياء قد هدت العقول إلى أن القوة الباصرة قد تبصر الشيء على خلاف ما هو عليه في الجملة لبعض الأسباب العارضة وثانيها أن القوة الباصرة إنما تقف على المحسوسات وقوفاً تاماً إذا أدركت المحسوس في زمان له مقدار ما فأما إذا أدركت المحسوس في زمان صغير جداً ثم أدركت بعده محسوساً آخر وهكذا فإنه يختلط البعض بالبعض ولا يتميز بعض المحسوسات عن البعض وذلك فإن الرحى إذا أخرجت من مركزها إلى محيطها خطوطاً كثيرة بألوان مختلفة ثم استدارات فإن الحس يرى لوناً واحداً كأنه مركب من كل تلك الألوان وثالثها أن النفس إذا كانت مشغولة بشيء فربما حضر عند الحس شيء آخر ولا يشعر الحس به ألبتة كما أن الإنسان عند دخوله على السلطان قد يلقاه إنسان آخر ويتكلم معه فلا يعرفه ولا يفهم كلامه لما أن قلبه مشغول بشيء آخر وكذا الناظر في المرآة فإنه ربما قصد أن يرى قذاة في عينه فيراها ولا يرى ما هو أكبر منها إن كان بوجهه أثر أو بجبهته أو بسائر أعضائه التي تقابل المرآة وربما قصد أن يرى سطح المرآة هل هو مستو أم لا فلا يرى شيئاً مما في المرآة إذا عرفت هذه المقدمات سهل عند ذلك تصور كيفية هذا النوع من السحر وذلك لأن المشعبذ الحاذق يظهر عمل شيء يشغل أذهان الناظرين به ويأخذ عيونهم إليه حتى إذا استغرقهم الشغل بذلك الشيء والتحديق نحوه عمل شيئاً آخر عملاً بسرعة شديدة فيبقى ذلك العمل خفياً لتفاوت الشيئين أحدهما اشتغالهم بالأمر الأول والثاني سرعة الإتيان بهذا العمل الثاني وحينئذ يظهر لهم شيء آخر غير ما انتظروه فيتعجبون منه جداً ولو أنه سكت ولم يتكلم بما يصرف الخواطر إلى ضد ما يريد أن يعمله ولم تتحرك النفوس والأوهام إلى غير ما يريد إخراجه لفطن الناظرون لكل ما يفعله فهذا هو المراد من قولهم إن المشعبذ يأخذ بالعيون لأنه بالحقيقة يأخذ العيون إلى غير الجهة التي يحتال فيها وكلما كان أخذه للعيون والخواطر وجذبه لها إلى سوى مقصوده أقوى كان أحذق في عمله وكلما كانت الأحوال التي تفيد حس البصر نوعاً من أنواع الخلل أشد كان هذا العمل أحسن مثل أن يجلس المشعبذ في موضع مضيء جداً فإن البصر يفيد البصر كلالاً واختلالاً وكذا الظلمة الشديدة وكذلك الألوان المشرقة القوية تفيد البصر كلالاً واختلالاً والألوان المظلمة قلما تقف القوة الباصرة على أحوالها فهذا مجامع القول في هذا النوع من السحر
النوع الخامس من السحر الأعمال العجيبة التي تظهر من تركيب الآلات المركبة على النسب الهندسية تارة وعلى ضروب الخيلاء أخرى مثل فارسين يقتتلان فيقتل أحدهما الآخر وكفارس على فرس في يده بوق كلما مضت ساعة من النهار ضرب البوق من غير أن يمسه أحد ومنها الصور التي يصورها الروم والهند حتى لا يفرق الناظر بينها وبين الإنسان حتى يصورونها ضاحكة وباكية حتى يفرق فيها ضحك السرور وبين ضحك الخجل وضحك الشامت فهذه الوجوه من لطيف أمور المخايل وكان سحر سحرة فرعون من هذا الضرب ومن هذا الباب تركيب صندوق الساعات ويندرج في هذا الباب علم جر الأثقال وهو أن يجر ثقيلاً عظيماً بآلة خفيفة سهلة وهذا في الحقيقة لا ينبغي أن يعد من باب السحر لأن لها أسباباً

معلومة نفيسة من اطلع عليها قدر عليها إلا أن الاطلاع عليها لما كان عسيراً شديداً لا يصل إليه إلا الفرد بعد الفرد لا جرم عد أهل الظاهر ذلك من باب السحر ومن هذا الباب عمل ( أرجعيانوس ) الموسيقار في هيكل أورشليم العتيق عند تجديده إياه وذلك أنه اتفق له أنه كان مجتازاً بفلاة من الأرض فوجد فيها فرخاً من فراخ البراصل والبراصل هو طائر عطوف وكان يضمر صغيراً حزيناً بخلاف سائر البراصل وكانت البراصل تجيئه بلطائف الزيتون فتطرحها عنده فيأكل بعضها عند حاجته ويفضل بعضها عن حاجته فوقف هذا الموسيقار هناك وتأمل حال ذلك الفرخ وعلم أن في صفيره المخالف لصفير البراصل ضرباً من التوجع والاستعطاف حتى رقت له الطيور وجاءته بما يأكله فتلطف بعمل آلة تشبه الصفارة إذا استقبل الريح بها أدت ذلك الصفير ولم يزل يجرب ذلك حتى وثق بها وجاءته البراصل بالزيتون كما كانت تجيء إلى ذلك الفرخ لأنها تظن أن هناك فرخاً من جنسها فلما صح له ما أراد أظهر النسك وعمد إلى هيكل أورشليم وسأل عن الليلة التي دفن فيها ( أسطرخس ) الناسك القيم بعمارة ذلك الهيكل فأخبر أنه دفن في أول ليلة من آب فاتخذ صورة من زجاج مجوف على هيئة البرصلة ونصبها فوق ذلك الهيكل وجعل فوق تلك الصورة قبة وأمرهم بفتحها في أول آب وكان يظهر صوت البرصلة بسبب نفوذ الريح في تلك الصورة وكانت البراصل تجيء بالزيتون حتى كانت تمتلىء تلك القبة كل يوم من ذلك الزيتون والناس اعتقدوا أنه من كرامات ذلك المدفون ويدخل في الباب أنواع كثيرة لا يليق شرحها في هذا الموضع
النوع السادس من السحر الاستعانة بخواص الأدوية مثل أن يجعل في طعامه بعض الأدوية البلدة المزيلة للعقل والدخن المسكرة نحو دماغ الحمار إذا تناوله الإنسان تبلد عقله وقلت فطنته واعلم أنه لا سبيل إلى إنكار الخواص فإن أثر المغناطيس مشاهد إلا أن الناس قد أكثروا فيه وخلطوا الصدق بالكذب والباطل بالحق
النوع السابع من السحر تعليق القلب وهو أن يدعي الساحر أنه قد عرف الاسم الأعظم وأن الجن يطيعونه وينقادون له في أكثر الأمور فإذا اتفق أن كان السامع لذلك ضعيف العقل قليل التمييز اعتقد أنه حق وتعلق قلبه بذلك وحصل في نفسه نوع من الرعب والمخافة وإذا حصل الخوف ضعفت القوى الحساسة فحينئذ يتمكن الساحر من أن يفعل حينئذ ما يشاء وإن من جرب الأمور وعرف أحوال أهل العلم علم أن لتعلق القلب أثراً عظيماً في تنفيذ الأعمال وإخفاء الأسرار
النوع الثامن من السحر السعي بالنميمة والتضريب من وجوه خفيفة لطيفة وذلك شائع في الناس فهذا جملة الكلام في أقسام السحر وشرح أنواعه وأصنافه والله أعلم
المسألة الرابعة في أقوال المسلمين في أن هذه الأنواع هل هي ممكنة أم لا أما المعتزلة فقد اتفقوا على إنكارها إلا النوع المنسوب إلى التخيل والمنسوب إلى إطعام بعض الأدوية المبلدة والمنسوب إلى التضريب والنميمة فأما الأقسام الخمسة الأول فقد أنكروها ولعلهم كفروا من قال بها وجوز وجودها وأما أهل السنة فقد جوزوا أن يقدر الساحر على أن يطير في الهواء ويقلب الإنسان حماراً والحمار إنساناً إلا أنهم قالوا إن الله تعالى هو الخالق لهذه الأشياء عندما يقرأ الساحر رقى مخصوصة وكلمات معينة فأما أن يكون المؤثر في ذلك الفلك والنجوم فلا وأما الفلاسفة والمنجمون والصابئة فقولهم على ما سلف تقريره

واحتج أصحابنا على فساد قول الصابئة إنه قد ثبت أن العالم محدث فوجب أن يكون موجده قادراً والشيء الذي حكم العقل بأنه مقدور إنما يصح أن يكون مقدوراً لكونه ممكناً والإمكان قدر مشترك بين كل الممكنات فأذن كل الممكنات مقدور لله تعالى ولو وجد شيء من تلك المقدورات بسبب آخر يلزم أن يكون ذلك السبب مزيلاً لتعلق قدرة الله تعالى بذلك المقدور فيكون الحادث سبباً لعجز الله وهو محال فثبت أنه يستحيل وقوع شيء من الممكنات إلا بقدرة الله وعنده يبطل كل ما قاله الصابئة قالوا إذا ثبت هذا فندعي أنه يمتنع وقوع هذه الخوارق بإجراء العادة عند سحر السحرة فقد احتجوا على وقوع هذا النوع من السحر بالقرآن والخبر أما القرآن فقوله تعالى في هذه الآية وَمَا هُم بِضَارّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ والاستثناء يدل على حصول الآثار بسببه وأما الأخبار فهي واردة عنه ( صلى الله عليه وسلم ) متواترة وآحاداً أحدها ما روي أنه عليه السلام سحر وأن السحر عمل فيه حتى قال ( إنه ليخيل إلى أني أقول الشيء وأفعله ولم أقله ولم أفعله ) وأن امرأة يهودية سحرته وجعلت ذلك السحر تحت راعوفة البئر فلما استخرج ذلك زال عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك العارض وأنزل المعوذتان بسببه وثانيها أن امرأة أتت عائشة رضي الله عنها فقالت لها إني ساحرة فهل لي من توبة فقالت وما سحرك فقالت صرت إلى الموضع الذي فيه هاروت وماروت ببابل لطلب علم السحر فقالا لي يا أمة الله لا تختاري عذاب الآخرة بأمر الدنيا فأبيت فقالا لي اذهبي فبولي على ذلك الرماد فذهبت لأبول عليه ففكرت في نفسي فقلت لا أفعل وجئت إليهما فقلت قد فعلت فقالا لي ما رأيت لما فعلت فقلت ما رأيت شيئاً فقالا لي أنت على رأس أمر فاتقي الله ولا تفعلي فأبيت فقالا لي اذهبي فافعلي فذهبت ففعلت فرأيت كأن فارساً مقنعاً بالحديد قد خرج من فرجي فصعد إلى السماء فجئتهما فأخبرتهما فقالا إيمانك قد خرج عنك وقد أحسنت السحر فقلت وما هو قالا ما تريدين شيئاً فتصوريه في وهمك إلا كان فصورت في نفسي حباً من حنطة فإذا أنا بحب فقلت أنزرع فانزرع فخرج من ساعته سنبلاً فقلت انطحن فانطحن من ساعته فقلت أنخبز فانخبز وأنا لا أريد شيئاً أصوره في نفسي إلا حصل فقالت عائشة ليس لك توبة وثالثها ما يذكرونه من الحكايات الكثيرة في هذا الباب وهي مشهورة أما المعتزلة فقد احتجوا على إنكاره بوجوه أحدها قوله تعالى وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ( الفرقان 8 ) وثانيها قوله تعالى في وصف محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً ولو صار عليه السلام مسحوراً لما استحقوا الذم بسبب هذا القول وثالثها أنه لو جاز ذلك من السحر فكيف يتميز المعجز عن السحر ثم قالوا هذه الدلائل يقينية والأخبار التي ذكرتموها من باب الآحاد فلا تصلح معارضة لهذه الدلائل
المسألة الخامسة في أن العلم بالسحر غير قبيح ولا محظور اتفق المحققون على ذلك لأن العلم لذاته شريف وأيضاً لعموم قوله تعالى هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ( الزمر 9 ) ولأن السحر لو لم يكن يعلم لما أمكن الفرق بينه وبين المعجز والعلم بكون المعجز معجزاً واجب وما يتوقف الواجب عليه فهو واجب فهذا يقتضي أن يكون تحصيل العلم بالسحر واجباً وما يكون واجباً كيف يكون حراماً وقبيحاً
المسألة السادسة في أن الساحر قد يكفر أم لا اختلف الفقهاء في أن الساحر هل يكفر أم لا روي

عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقهما بقول فقد كفر بما أنزل على محمد عليه السلام واعلم أنه لا نزاع بين الأمة في أن من اعتقد أن الكواكب هي المدبرة لهذا العالم وهي الخالقة لما فيه من الحوادث والخيرات والشرور فإنه يكون كافراً على الاطلاق وهذا هو النوع الأول من السحر
أما النوع الثاني وهو أن يعتقد أنه قد يبلغ روح الإنسان في التصفية والقوة إلى حيث يقدر بها على إيجاد الأجسام والحياة والقدرة وتغيير البنية والشكل فالأظهر إجماع الأمة أيضاً على تكفيره
أما النوع الثالث وهو أن يعتقد الساحر أنه قد يبلغ في التصفية وقراءة الرقى وتدخين بعض الأدوية إلى حيث يخلق الله تعالى عقيب أفعاله على سبيل العادة الأجسام والحياة والعقل وتغيير البنية والشكل فههنا المعتزلة اتفقوا على تكفير من يجوز ذلك قالوا لأنه مع هذا الاعتقاد لا يمكنه أن يعرف صدق الأنبياء والرسل وهذا ركيك من القول فإن لقائل أن يقول إن الإنسان لو ادعى النبوة وكان كاذباً في دعواه فإنه لا يجوز من الله تعالى إظهار هذه الأشياء على يده لئلا يحصل التلبيس أما إذا لم يدع النبوة وأظهر هذه الأشياء على يده لم يفض ذلك إلى التلبيس فإن المحق يتميز عن المبطل بما أن المحق تحصل له هذه الأشياء مع ادعاء النبوة والمبطل لا تحصل له هذه الأشياء مع ادعاء النبوة وأما سائر الأنواع التي عددناها من السحر فلا شك أنه ليس بكفر فإن قيل إن اليهود لما أضافوا السحر إلى سليمان قال الله تعالى تنزيهاً له عنه عليه السلام واعلم أنه لا نزاع بين الأمة في أن من اعتقد أن الكواكب هي المدبرة لهذا العالم وهي الخالقة لما فيه من الحوادث والخيرات والشرور فإنه يكون كافراً على الاطلاق وهذا هو النوع الأول من السحر
أما النوع الثاني وهو أن يعتقد أنه قد يبلغ روح الإنسان في التصفية والقوة إلى حيث يقدر بها على إيجاد الأجسام والحياة والقدرة وتغيير البنية والشكل فالأظهر إجماع الأمة أيضاً على تكفيره
أما النوع الثالث وهو أن يعتقد الساحر أنه قد يبلغ في التصفية وقراءة الرقى وتدخين بعض الأدوية إلى حيث يخلق الله تعالى عقيب أفعاله على سبيل العادة الأجسام والحياة والعقل وتغيير البنية والشكل فههنا المعتزلة اتفقوا على تكفير من يجوز ذلك قالوا لأنه مع هذا الاعتقاد لا يمكنه أن يعرف صدق الأنبياء والرسل وهذا ركيك من القول فإن لقائل أن يقول إن الإنسان لو ادعى النبوة وكان كاذباً في دعواه فإنه لا يجوز من الله تعالى إظهار هذه الأشياء على يده لئلا يحصل التلبيس أما إذا لم يدع النبوة وأظهر هذه الأشياء على يده لم يفض ذلك إلى التلبيس فإن المحق يتميز عن المبطل بما أن المحق تحصل له هذه الأشياء مع ادعاء النبوة والمبطل لا تحصل له هذه الأشياء مع ادعاء النبوة وأما سائر الأنواع التي عددناها من السحر فلا شك أنه ليس بكفر فإن قيل إن اليهود لما أضافوا السحر إلى سليمان قال الله تعالى تنزيهاً له عنه وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وهذا يدل على أن السحر كفر على الإطلاق وأيضاً قال وَلَاكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلّمُونَ النَّاسَ السّحْرَ وهذا أيضاً يقتضي أن يكون السحر على الإطلاق كفراً وحكي عن الملكين أنهما لا يعلمان أحداً السحر حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر وهو يدل على أن السحر كفر على الإطلاق قلنا حكاية الحال يكفي في صدقها صورة واحدة فتحملها على سحر من يعتقد إلهية النجوم
المسألة السابعة في أنه هل يجب قتلهم أم لا أما النوع الأول وهو أن يعتقد في الكواكب كونها آلهة مدبرة والنوع الثاني وهو أن يعتقد أن الساحر قد يصير موصوفاً بالقدرة على خلق الأجسام وخلق الحياة والقدرة والعقل وتركيب الأشكال فلا شك في كفرهما فالمسلم إذا أتى بهذا الاعتقاد كان كالمرتد يستتاب فإن أصر قتل وروي عن مالك وأبي حنيفة أنه لا تقبل توبته لنا أنه أسلم فيقبل إسلامه لقوله عليه السلام ( نحن نحكم بالظاهر ) أما النوع الثالث وهو أن يعتقد أن الله تعالى أجرى عادته بخلق الأجسام والحياة وتغيير الشكل والهيئة عند قراءة بعض الرقي وتدخين بعض الأدوية فالساحر يعتقد أنه يمكن الوصول إلى استحداث الأجسام والحياة وتغيير الخلقة بهذا الطريق وقد ذكرنا عن المعتزلة أنه كفر قالوا لأنه مع هذا الاعتقاد لا يمكنه الاستدلال بالمعجز على صدق الأنبياء وهذا ركيك لأنه يقال الفرق هو أن مدعي النبوة إن كان صادقاً في دعواه أمكنه الإتيان بهذه الأشياء وإن كان كاذباً تعذر عليه ذلك فبهذا يظهر الفرق إذا ثبت أنه ليس بكافر وثبت أنه ممكن الوقوع فإذا أتى الساحر بشيء من ذلك فإن اعتقد أن إتيانه به مباح كفر لأنه حكم على المحظور بكونه مباحاً وإن اعتقد حرمته فعند الشافعي رضي الله عنه أن حكمه حكم الجناية إن قال إني سحرته وسحري يقتل غالباً يجب عليه القود وإن قال سحرته وسحري قد يقتل وقد لا يقتل فهو شبه عمد وإن قال سحرت غيره فوافق اسمه فهو خطأ تجب الدية مخففة في ماله لأنه ثبت بإقراره إلا أن تصدقه الكاملة فحينئذ العاقلة تجب عليهم هذا تفصيل مذهب الشافعي رضي الله عنه وروى الحسن بن زياد عن

أبي حنيفة رحمه الله أنه قال يقتل الساحر إذا علم أنه ساحر ولا يستتاب ولا يقبل قوله إني أترك السحر وأتوب منه فإذا أقر أنه ساحر فقد حل دمه وإن شهد شهدان على أنه ساحر أو وصفوه بصفة يعلم أنه ساحر قتل ولا يستتاب وإن أقر بأني كنت أسحر مرة وقد تركت ذلك منذ زمان قبل منه ولم يقتل وحكى محمد بن شجاع عن علي الرازي قال سألت أبا يوسف عن قول أبي حنيفة في الساحر يقتل ولا يستتاب لم يكن ذلك بمنزلة المرتد فقال الساحر جمع مع كفره السعي في الأرض بالفساد ومن كان كذلك إذا قتل قتل واحتج أصحابنا بأنه لما ثبت أن هذا النوع ليس بكفر فهو فسق فإن لم يكن جناية على حق الغير كان الحق هو التفصيل الذي ذكرناه الثاني أن ساحر اليهود لا يقتل لأنه عليه الصلاة والسلام سحره رجل من اليهود يقال له لبيد بن أعصم وامرأة من يهود خيبر يقال لها زينب فلم يقتلهما فوجب أن يكون المؤمن كذلك لقوله عليه الصلاة والسلام ( لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين ) واحتج أبو حنيفة رحمه الله على قوله بأخبار أحدها ما روى نافع عن ابن عمر أن جارية لحفصة سحرتها وأخذوها فاعترفت بذلك فأمرت عبد الرحمن بن زيد فقتلها فبلغ عثمان فأنكره فأتاه ابن عمر وأخبره أمرها فكأن عثمان إنما أنكر ذلك لأنها قتلت بغير إذنه وثانيها ما روى عمرو بن دنيار أنه ورد كتاب عمر رضي الله عنه أن اقتلوا كل ساحر وساحرة فقتلنا ثلاث سواحر وثالثها قال علي بن أبي طالب إن هؤلاء العرافين كهان العجم فمن أتى كاهناً يؤمن له بما يقول فقد برىء مما أنزل الله على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والجواب لعل السحرة الذين قتلوا كانوا من الكفرة فإن حكاية الحال يكفي في صدقها صورة واحدة وأما سائر أنواع السحر أعني الإتيان بضروب الشعبذة والآلات العجيبة المبنية على ضروب الخيلاء والمبنية على النسب الهندسية وكذلك القول فيمن يوهم ضروباً من التخويف والتقريع حتى يصير من به السوداء محكم الاعتقاد فيه ويتمشى بالتضريب والنميمة ويحتال في إيقاع الفرقة بعد الوصلة ويوهم أن ذلك بكتابة يكتبها من الاسم الأعظم فكل ذلك ليس بكفر وكذلك القول في دفن الأشياء الوسخة في دور الناس وكذا القول في إيهام أن الجن يفعلون ذلك وكذا القول فيمن يدس الأدوية المبلدة في الأطعمة فإن شيئاً من ذلك لا يبلغ حد الكفر ولا يوجب القتل ألبتة فهذا هو الكلام الكلي في السحر والله الكافي والواقي ولنرجع إلى التفسير
أما قوله تعالى وَلَاكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلّمُونَ النَّاسَ السّحْرَ فظاهر الآية يقتضي أنهم إنما كفروا لأجل أنهم كانوا يعلمون الناس السحر لأن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية وتعليم ما لا يكون كفراً لا يوجب الكفر فصارت الآية دالة على أن تعليم السحر كفر وعلى أن السحر أيضاً كفر ولمن منع ذلك أن يقول لا نسلم أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية بل المعنى أنهم كفروا وهم مع ذلك يعلمون الناس السحر فإن قيل هذا مشكل لأن الله تعالى أخبر في آخر الآية أن الملكين يعلمان الناس السحر فلو كان تعليم السحر كفراً لزم تكفير الملكين وإنه غير جائز لما ثبت أن الملائكة بأسرهم معصومون وأيضاً فلأنكم قد دللتم على أنه ليس كل ما يسمى سحراً فهو كفر قلنا اللفظ المشترك لا يكون عاماً في جميع مسمياته فنحن نحمل هذا السحر الذي هو كفر على النوع الأول من الأشياء المسماة بالسحر وهو اعتقاد إلهية الكواكب والاستعانة بها في إظهار المعجزات وخوارق العادات فهذا السحر كفر والشياطين إنما كفروا لإتيانهم بهذا السحر لا بسائر الأقسام

وأما الملكان فلا نسلم أنهما علما هذا النوع من السحر بل لعلهم يعلمان سائر الأنواع على ما قال تعالى فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْء وَزَوْجِهِ وأيضاً فبتقدير أن يقال إنهما علما هذا النوع لكن تعليم هذا النوع إنما يكون كفراً إذا قصد المعلم أن يعتقد حقيقته وكونه صواباً فأما أن يعلمه ليحترز عنه فهذا التعليم لا يكون كفراً وتعليم الملائكة كان لأجل أن يصير المكلف محترزاً عنه على ما قال تعالى حكاية عنهما وَمَا يُعَلّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَة ٌ فَلاَ تَكْفُرْ وأما الشياطين الذين علموا الناس السحر فكان مقصودهم اعتقاد حقية هذه الأشياء فظهر الفرق
المسألة الثامنة قرأ نافع وابن كثير وعاصم وأبو عمرو بتشديد ( لكن ) و ( الشياطين ) بالنصب على أنه اسم ( لكن ) والباقون ( لكن ) بالتخفيف و ( الشياطين ) بالرفع والمعنى واحد وكذلك في الأنفال وَلَاكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلَاكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ ( الأنفال 17 ) والاختيار أنه إذا كان بالواو كان التشديد أحسن وإذا كان بغير الواو فالتخفيف أحسن والوجه فيه أن ( لكن ) بالتخفيف يكون عطفاً فلا يحتاج إلى الواو لاتصال الكلام والمشددة لا تكون عطفاً لأنها تعمل عمل ( إن )
أما قوله تعالى وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ففيه مسائل
المسألة الأولى ( ما ) في قوله وَمَا أَنَزلَ فيه وجهان الأول أنه بمعنى الذي ثم هؤلاء اختلفوا فيه على ثلاثة أقوال الأول أنه عطف على ( السحر ) أي يعلمون الناس السحر ويعلمونهم ما أنزل على الملكين أيضاً وثانيها أنه عطف على قوله مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ أي واتبعوا الذي تلته الشياطين ومنه ما تأثيره في التفريق بين المرء وزوجه وهو الذي أنزل على الملكين فكأنه تعالى أخبر عن اليهود أنهم اتبعوا كلا الأمرين ولم يقتصروا على أحدهما وثالثها أن موضعه جر عطفاً على ( ملك سليمان ) وتقديره ما تتلوا الشياطين افتراء على ملك سليمان وعلى ما أنزل على الملكين وهو اختيار أبي مسلم رحمه الله وأنكر في الملكين أن يكون السحر نازلاً عليهما واحتج عليه بوجوه الأول أن السحر لو كان نازلاً عليهما لكان منزله هو الله تعالى وذلك غير جائز لأن السحر كفر وعبث ولا يليق بالله إنزال ذلك الثاني أن قوله وَلَاكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلّمُونَ النَّاسَ السّحْرَ يدل على أن تعليم السحر كفر فلو ثبت في الملائكة أنهم يعلمون السحر لزمهم الكفر وذلك باطل الثالث كما لا يجوز في الأنبياء أن يبعثوا لتعليم السحر فكذلك في الملائكة بطريق الأولى الرابع أن السحر لا ينضاف إلا إلى الكفرة والفسقة والشياطين المردة وكيف يضاف إلى الله ما ينهى عنه ويتوعد عليه بالعقاب وهل السحر إلا الباطل المموه وقد جرت عادة الله تعالى بإبطاله كما قال في قصة موسى عليه السلام مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ ( يونس 81 ) ثم إنه رحمه الله سلك في تفسير الآية نهجاً آخر يخالف قول أكثر المفسرين فقال كما أن الشياطين نسبوا السحر إلى ملك سليمان مع أن ملك سليمان كان مبرأ عنه فكذلك نسبوا ما أنزل على الملكين إلى السحر مع أن المنزل عليهما كان مبرأ عن السحر وذلك لأن المنزل عليهما كان هو الشرع والدين والدعاء إلى الخير وإنما كانا يعلمان الناس ذلك مع قولهما إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَة ٌ فَلاَ تَكْفُرْ توكيداً لبعثهم على القبول والتمسك وكانت طائفة تتمسك وأخرى

تخالف وتعدل عن ذلك ويتعلمون منهما أي من الفتنة والكفر مقدار ما يفرقون به بين المرء وزوجه فهذا تقرير مذهب أبي مسلم الوجه الثاني أن يكون ( ما ) بمعنى الجحد ويكون معطوفاً على قوله تعالى وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ كأنه قال لم يكفر سليمان ولم ينزل على الملكين سحر لأن السحرة كانت تضيف السحر إلى سليمان وتزعم أنه مما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت فرد الله عليهم في القولين قوله وَمَا يُعَلّمَانِ مِنْ أَحَدٍ جحد أيضاً أي لا يعلمان أحداً بل ينهيان عنه أشد النهي
أما قوله تعالى حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَة ٌ أي ابتلاء وامتحان فلا تكفر وهو كقولك ما أمرت فلاناً بكذا حتى قلت له إن فعلت كذا نالك كذا أي ما أمرت به بل حذرته عنه
وأعلم أن هذه الأقوال وإن كانت حسنة إلا أن القول الأول أحسن منها وذلك لأن عطف قوله وَمَا أَنَزلَ على ما يليه أولى من عطفه على ما بعد عنه إلا لدليل منفصل أما قوله لو نزل السحر عليهما لكان منزل ذلك السحر هو الله تعالى قلنا تعريف صفة الشيء قد يكون لأجل الترغيب في إدخاله في الوجود وقد يكون لأجل أن يقع الاحتراز عنه كما قال الشاعر
عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه
قوله ثانياً إن تعليم السحر كفر لقوله تعالى وَلَاكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلّمُونَ النَّاسَ السّحْرَ فالجواب أنا بينا أنه واقعة حال فيكفي في صدقها صورة واحدة وهي ما إذا اشتغل بتعليم سحر من يقول بإلهية الكواكب ويكون قصده من ذلك التعليم إثبات أن ذلك المذهب حق قوله ثالثاً إنه لا يجوز بعثة الأنبياء عليهم السلام لتعليم السحر فكذا الملائكة قلنا لا نسلم أنه لا يجوز بعثة الأنبياء عليهم السلام لتعليمه بحيث يكون الغرض من ذلك التعليم التنبيه على إبطاله قوله رابعاً إنما يضاف السحر إلى الكفرة والمردة فكيف يضاف إلى الله تعالى ما ينهى عنه قلنا فرق بين العمل وبين التعليم فلم لا يجوز أن يكون العمل منهياً عنه وأما تعليمه لغرض التنبيه على فساده فإنه يكون مأموراً به
المسألة الثانية قرأ الحسن ( ملكين ) بكسر اللام وهو مروي عن الضحاك وابن عباس ثم اختلفوا فقال الحسن كانا علجين أقلفين ببابل يعلمان الناس السحر وقيل كانا رجلين صالحين من الملوك والقراءة المشهورة بفتح اللام وهما كانا ملكين نزلا من السماء وهاروت وماروت اسمان لهما وقيل هما جبريل وميكائيل عليهما السلام وقيل غيرهما أما الذين كسروا اللام فقد احتجوا بوجوه أحدها أنه لا يليق بالملائكة تعليم السحر وثانيها كيف يجوز إنزال الملكين مع قوله وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِى َ الاْمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ ( الأنعام 8 ) وثالثها لو أنزل الملكين لكان إما أن يجعلهما في صورة الرجلين أو لا يجعلهما كذلك فإن جعلهما في صورة الرجلين مع أنهما ليسا برجلين كان ذلك تجهيلاً وتلبيساً على الناس وهو غير جائز ولو جاز ذلك فلم لا يجوز أن كل واحد من الناس الذين نشاهدهم لا يكون في الحقيقة إنساناً بل ملكاً من الملائكة وإن لم يجعلهما في صورة الرجلين قدح ذلك في قوله تعالى وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً ( الأنعام 9 ) والجواب في الأصل أنا سنبين وجه الحكمة في إنزال الملائكة لتعليم السحر وعن

الثاني أن هذه الآية عامة وقراءة الملكين بفتح اللام متواترة وخاصة والخاص مقدم على العام وعن الثالث أن الله تعالى أنزلهما في صورة رجلين وكان الواجب على المكلفين في زمان الأنبياء أن لا يقطعوا على من صورته صورة الإنسان بكونه إنساناً كما أنه في زمان الرسول عليه الصلاة والسلام كان الواجب على من شاهد دحية الكلبي أن لا يقطع بكونه من البشر بل الواجب التوقف فيه
المسألة الثالثة إذا قلنا بأنهما كانا من الملائكة فقد اختلفوا في سبب نزولهما فروي عن ابن عباس أن الملائكة لما أعلمهم الله بآدم وقالوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء فأجابهم الله تعالى بقوله إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ( البقرة 30 ) ثم إن الله تعالى وكل عليهم جمعاً من الملائكة وهم الكرام الكاتبون فكانوا يعرجون بأعمالهم الخبيثة فعجبت الملائكة منهم ومن تبقية الله لهم مع ما ظهر منهم من القبائح ثم أضافوا إليهما عمل السحر فازداد تعجب الملائكة فأراد الله تعالى أن يبتلي الملائكة فقال لهم اختاروا ملكين من أعظم الملائكة علماً وزهداً وديانة لأنزلهما إلى الأرض فأختبرهما فاختاروا هاروت وماروت وركب فيهما شهوة الإنس وأنزلهما ونهاهما عن الشرك والقتل والزنا والشرب فنزلا فذهبت إليهما امرأة من أحسن النساء وهي الزهرة فراوداها عن نفسها فأبت أن تطيعهما إلا بعد أن يعبدا الصنم وإلا بعد أن يشربا الخمر فامتنعا أولاً ثم غلبت الشهوة عليهما فأطاعاها في كل ذلك فعند إقدامهما على الشرب وعبادة الصنم دخل سائل عليهم فقالت إن أظهر هذا السائل للناس ما رأى منا فسد أمرنا فإن اردتما الوصول إلي فاقتلا هذا الرجل فامتنعا منه ثم اشتغلا بقتله فلما فرغا من القتل وطلبا المرأة فلم يجداها ثم إن الملكين عند ذلك ندما وتحسرا وتضرعا إلى الله تعالى فخيرهما بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا وهما يعذبان ببابل معلقان بين السماء والأرض يعلمان الناس السحر ثم لهم في الزهرة قولان أحدهما أن الله تعالى لما ابتلى الملكين بشهوة بني آدم أمر الله الكوكب الذي يقال له الزهرة وفلكها أن اهبطا إلى الأرض إلى أن كان ما كان فحينئذ ارتفعت الزهرة وفلكها إلى موضعهما من السماء موبخين لهما على ما شاهداه منهما والقول الثاني أن المرأة فاجرة من أهل الأرض وواقعاها بعد شرب الخمر وقتل النفس وعبادة الصنم ثم علماها الاسم الذي كانا به يعرجان إلى السماء فتكلمت به وعرجت إلى السماء وكان اسمها ( بيدخت ) فمسخها الله وجعلها هي الزهرة واعلم أن هذه الرواية فاسدة مردودة غير مبقولة لأنه ليس في كتاب الله ما يدل على ذلك بل فيه ما يبطلها من وجوه الأول ما تقدم من الدلائل الدالة على عصمة الملائكة عن كل المعاصي وثانيها أن قولهم إنهما خيرا بين عذاب الدنيا وبين عذاب الآخرة فاسد بل كان الأولى أن يخيرا بين التوبة والعذاب لأن الله تعالى خير بينهما من أشرك به طول عمره فكيف يبخل عليهما بذلك وثالثها أن من أعجب الأمور قولهم إنهما يعلمان السحر في حال كونهما معذبين ويدعوان إليه وهما يعاقبان ولما ظهر فساد هذا القول فنقول السبب في إنزالهما وجوه أحدها أن السحرة كثرت في ذلك الزمان واستنبطت أبواباً غريبة في السحر وكانوا يدعون النبوة ويتحدون الناس بها فبعث الله تعالى هذين الملكين لأجل أن يعلما الناس أبواب السحر حتى يتمكنوا من معارضة أولئك الذين كانوا يدعون النبوة كذباً ولا شك أن هذا من أحسن الأغراض والمقاصد وثانيها أن العلم بكون المعجزة مخالفة للسحر

متوقف على العلم بماهية المعجزة وبماهية السحر والناس كانوا جاهلين بماهية السحر فلا جرم هذا تعذرت عليهم معرفة حقيقة المعجزة فبعث الله هذين الملكين لتعريف ماهية السحر لأجل هذا الغرض وثالثها لا يمتنع أن يقال السحر الذي يوقع الفرقة بين أعداء الله والألفة بين أولياء الله كان مباحاً عندهم أو مندوباً فالله تعالى بعث الملكين لتعليم السحر لهذا الغرض ثم إن القوم تعلموا ذلك منهما واستعملوه في الشر وإيقاع الفرقة بين أولياء الله والألفة بين أعداء الله ورابعها أن تحصيل العلم بكل شيء حسن ولما كان السحر منهياً عنه وجب أن يكون متصوراً معلوماً لأن الذي لا يكون متصوراً امتنع النهي عنه وخامسها لعل الجن كان عندهم أنواع من السحر لم يقدر البشر على الإتيان بمثلها فبعث الله الملائكة ليعلموا البشر أموراً يقدرون بها على معارضة الجن وسادسها يجوز أن يكون ذلك تشديداً في التكليف من حيث أنه إذا علمه ما أمكنه أن يتوصل به إلى اللذات العاجلة ثم منعه من استعمالها كان ذلك في نهاية المشقة فيستوجب به الثواب الزائد كما ابتلي قوم طالوت بالنهر على ما قال فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنّى ( البقرة 249 ) فثبت بهذه الوجوه أنه لا يبعد من الله تعالى إنزال الملكين لتعليم السحر والله أعلم
المسألة الرابعة قال بعضهم هذه الواقعة إنما وقعت في زمان إدريس عليه السلام لأنهما إذا كانا ملكين نزلا بصورة البشر لهذا الغرض فلا بد من رسول في وقتهما ليكون ذلك معجزة له ولا يجوز كونهما رسولين لأنه ثبت أنه تعالى لا يبعث الرسول إلى الإنس ملكاً
المسألة الخامسة ( هاروت وماروت ) عطف بيان للملكين علمان لهما وهما اسمان أعجميان بدليل منع الصرف ولو كانا من الهرت والمرت وهو الكسر كما زعم بعضهم لانصرفا وقرأ الزهري هاروت وماروت بالرفع على هما هاروت وماروت
أما قوله تعالى وَمَا يُعَلّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَة ٌ فَلاَ تَكْفُرْ فاعلم أنه تعالى شرح حالهما فقال وهذان الملكان لا يعلمان السحر إلا بعد التحذير الشديد من العمل به وهو قولهما إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَة ٌ فَلاَ تَكْفُرْ والمراد ههنا بالفتنة المحنة التي بها يتميز المطيع عن العاصي كقولهم فتنت الذهب بالنار إذا عرض على النار ليتميز الخالص عن المشوب وقد بينا الوجوه في أنه كيف يحسن بعثة الملكين لتعليم السحر فالمراد أنهما لا يعلمان أحداً السحر ولا يصفانه لأحد ولا يكشفان له وجوه الاحتيال حتى يبذلا له النصيحة فيقولا له ( إنما نحن فتنة ) أي هذا الذي نصفه لك وإن كان الغرض منه أن يتميز به الفرق بين السحر وبين المعجز ولكنه يمكنك أن تتوصل إلى المفاسد والمعاصي فإياك بعد وقوفك عليه أن تستعمله فيما نهيت عنه أو تتوصل به إلى شيء من الأعراض العاجلة
أما قوله تعالى فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْء وَزَوْجِهِ ففيه مسائل
المسألة الأولى ذكروا في تفسير هذا التفريق وجهين الأول أن هذا التفريق إنما يكون بأن يعتقد أن ذلك السحر مؤثر في هذا التفريق فيصير كافراً وإذا صار كافراً بانت منه امرأته فيحصل تفرق بينهما الثاني أنه يفرق بينهما بالتمويه والحيل والتضريب وسائر الوجوه المذكورة
المسألة الثانية أنه تعالى لم يذكر ذلك لأن الذي يتعلمون منهما ليس إلا هذا القدر لكن ذكر هذه الصورة تنبيهاً على سائر الصور فإن استكانة المرء إلى زوجته وركونه إليها معروف زائد على كل مودة فنبه

الله تعالى بذكر ذلك على أن السحر إذا أمكن به هذا الأمر على شدته فغيره به أولى
أما قوله تعالى وَمَا هُم بِضَارّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ فإنه يدل على ما ذكرناه لأنه أطلق الضرر ولم يقصره على التفريق بين المرء وزوجه فدل ذلك على أنه تعالى إنما ذكره لأنه من أعلى مراتبه
أما قوله تعالى إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فاعلم أن الإذن حقيقة في الأمر والله لا يأمر بالسحر ولأنه تعالى أراد عيبهم وذمهم ولو كان قد أمرهم به لما جاز أن يذمهم عليه فلا بد من التأويل وفيه وجوه أحدها قال الحسن المراد منه التخلية يعني السحر إذا سحر إنساناً فإن شاء الله منعه منه وإن شاء خلى بينه وبين ضرر السحر وثانيها قال الأصم المراد إلا بعلم الله وإنما سمي الأذان أذاناً لأنه إعلام للناس بوقت الصلاة وسمي الأذان إذناً لأن بالحاسة القائمة به يدرك الأذن وكذلك قوله تعالى وَأَذَانٌ مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجّ ( التوبة 3 ) أي إعلام وقوله فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ اللَّهِ ( البقرة 279 ) معناه فاعلموا وقوله عَلَى سَوَاء سَوَّاهُ ( الأنبياء 109 ) يعني أعلمتكم وثالثها أن الضرر الحاصل عند فعل السحر إنما يحصل بخلق الله وإيجاده وإبداعه وما كان كذلك فإنه يصح أن يضاف إلى إذن الله تعالى كما قال إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَى ْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( النحل 40 ) ورابعها أن يكون المراد بالإذن الأمر وهذا الوجه لا يليق إلا بأن يفسر التفريق بين المرء وزوجه بأن يصير كافراً والكفر يقتضي التفريق فإن هذا حكم شرعي وذلك لا يكون إلا بأمر الله تعالى
أما قوله تعالى وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِى الاْخِرَة ِ مِنْ خَلَاقٍ ففيه مسائل
المسألة الأولى إنما ذكر لفظ الشراء على سبيل الاستعارة لوجوه أحدها أنهم لما نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم وأقبلوا على التمسك بما تتلوا الشياطين فكأنهم قد اشتروا ذلك السحر بكتاب الله وثانيها أن الملكين إنما قصدا بتعليم السحر الاحتراز عنه ليصل بذلك الاحتراز إلى منافع الآخرة فلما استعمل السحر فكأنه اشترى بمنافع الآخرة منافع الدنيا وثالثها أنه لما استعمل السحر علمنا أنه إنما تحمل المشقة ليتمكن من ذلك الاستعمال فكأنه اشترى بالمحن التي تحملها قدرته على ذلك الاستعمال
المسألة الثانية قال الأكثرون ( الخلاق ) النصيب قال القفال يشبه أن يكون أصل الكلمة من الخلق ومعناه التقدير ومنه خلق الأديم ومنه يقال قدر للرجل كذا درهماً رزقاً على عمل كذا وقال آخرون الخلاق الخلاص ومنه قول أمية بن أبي الصلت يدعون بالويل فيها لاخلاق لهم
إلا سرابيل قطران وأغلال
بقي في الآية سؤال وهو أنه كيف أثبت لهم العلم أولاً في قوله وَلَقَدْ عَلِمُواْ ثم نفاه عنهم في قوله لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ والجواب من وجوه أحدها أن الذين علموا غير الذين لم يعلموا فالذين علموا هم الذين علموا السحر ودعوا الناس إلى تعلمه وهم الذين قال الله في حقهم نَبَذَ فَرِيقٌ مّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وأما الجهال الذين يرغبون في تعلم السحر فهم الذين لا يعلمون وهذا جواب الأخفش وقطرب وثانيها لو سلمنا كون القوم واحداً ولكنهم علموا شيئاً وجهلوا شيئاً آخر

علموا أنهم ليس لهم في الآخرة خلاق ولكنهم جهلوا مقدار ما فاتهم من منافع الآخرة وما حصل لهم من مضارها وعقوباتها وثالثها لو سلمنا أن القوم واحد والمعلوم واحد ولكنهم لم ينتفعوا بعلمهم بل أعرضوا عنه فصار ذلك العلم كالعدم كما سمى الله تعالى الكفار صُمّاً إذ لم ينتفعوا بهذه الحواس ويقال للرجل في شيء يفعله لكنه لا يضعه موضعه صنعت ولم تصنع
وَلَوْ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَة ٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ
اعلم أن الضمير عائد إلى اليهود الذين تقدم ذكرهم فإنه تعالى لما بين فيهم الوعيد بقوله مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ ( البقرة 102 ) أتبعه بالوعد جامعاً بين الترهيب والترغيب لأن الجمع بينهما أدعى إلى الطاعة والعدول عن المعصية
أما قوله تعالى ءامَنُواْ فاعلم أنه تعالى لما قال نَبَذَ فَرِيقٌ مّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ ( البقرة 101 ) ثم وصفهم بأنهم اتبعوا ما تتلوا الشياطين وأنهم تمسكوا بالسحر قال من بعد وَلَوْ أَنَّهُمْ ءامَنُواْ يعني بما نبذوه من كتاب الله فإن حملت ذلك على القرآن جاز وإن حملته على كتابهم المصدق للقرآن جاز وإن حملته على الأمرين جاز والمراد من التقوى الاحتراز عن فعل المنهيات وترك المأمورات
أما قوله تعالى لَمَثُوبَة ٌ مّنْ عِندِ اللَّهِ خَيْرٌ ففيه وجوه أحدها أن الجواب محذوف وتقديره ولو أنهم آمنوا واتقوا لأثيبوا إلا أنه تركت الجملة الفعلية إلى هذه الإسمية لما في الجملة الإسمية من الدلالة على ثبات المثوبة واستقرارها فإن قيل هلا قيل لمثوبة الله خير قلنا لأن المراد لشيء من ثواب الله خير لهم وثانيها يجوز أن يكون قوله وَلَوْ أَنَّهُمْ ءامَنُواْ تمنياً لإيمانهم على سبيل المجاز عن إرادة الله إيمانهم كأنه قيل وليتهم آمنوا ثم ابتدأ لمثوبة من عند الله خير
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُواْ وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ
اعلم أن الله تعالى لما شرح قبائح أفعالهم قبل مبعث محمد عليه الصلاة والسلام أراد من ههنا أن يشرح قبائح أفعالهم عند مبعث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وجدهم واجتهادهم في القدح فيه والطعن في دينه وهذا هو النوع الأول من هذا الباب وههنا مسائل
المسألة الأولى اعلم أن الله تعالى خاطب المؤمنين بقوله تعالى ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ في ثمانية وثمانين موضعاً من القرآن قال ابن عباس وكان يخاطب في التوراة بقوله يا أيها المساكين فكأنه سبحانه وتعالى لما خاطبهم أولاً بالمساكين أثبت المسكنة لهم آخراً حيث قال وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلَّة ُ وَالْمَسْكَنَة ُ

( البقرة 61 ) وهذا يدل على أنه تعالى لما خاطب هذه الأمة بالإيمان أولاً فإنه تعالى يعطيهم الأمان من العذاب في النيران يوم القيامة وأيضاً فاسم المؤمن أشرف الأسماء والصفات فإذا كان يخاطبنا في الدنيا بأشرف الأسماء والصفات فنرجو من فضله أن يعاملنا في الآخرة بأحسن المعاملات
المسألة الثانية أنه لا يبعد في الكلمتين المترادفتين أن يمنع الله من أحدهما ويأذن في الأخرى ولذلك فإن عند الشافعي رضي الله عنه لا تصلح الصلاة بترجمة الفاتحة سواء كانت بالعبرية أو بالفارسية فلا يبعد أن يمنع الله من قوله راعِنَا ويأذن في قوله انظُرْنَا وإن كانتا مترادفتين ولكن جمهور المفسرين على أنه تعالى إنما منع من قوله راعِنَا لاشتمالها على نوع مفسدة ثم ذكروا فيه وجوهاً أحدها كان المسلمون يقولون لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا تلا عليهم شيئاً من العلم راعنا يا رسول الله واليهود كانت لهم كلمة عبرانية يتسابون بها تشبه هذه الكلمة وهي ( راعينا ) ومعناها اسمع لا سمعت فلما سمعوا المؤمنين يقولون راعنا إفترضوه وخاطبوا به النبي وهم يعنون تلك المسبة فنهى المؤمنون عنها وأمروا بلفظة أخرى وهي قوله انظُرْنَا ويدل على صحة هذه التأويل قوله تعالى في سورة النساء وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِى الدّينِ ( النساء 46 ) وروي أن سعد بن معاذ سمعها منهم فقال يا أعداء الله عليكم لعنة الله والذي نفسي بيده لئن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله لأضربن عنقه فقالوا أولستم تقولونها فنزلت هذه الآية وثانيها قال قطرب هذه الكلمة وإن كانت صحيحة المعنى إلا أن أهل الحجاز ما كانوا يقولونها إلا عند الهزؤ والسخرية فلا جرم نهى الله عنها وثالثها أن اليهود كانوا يقولون راعينا أي أنت راعي غنمنا فنهاهم الله عنها ورابعها أن قوله ( راعنا ) مفاعلة من الرعي بين اثنين فكان هذا اللفظ موهماً للمساواة بين المخاطبين كأنهم قالوا أرعنا سمعك لنرعيك أسماعنا فنهاهم الله تعالى عنه وبين أن لا بد من تعظيم الرسول عليه السلام في المخاطبة على ما قال لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُمْ بَعْضاً ( النور 63 ) وخامسها أن قوله ( راعنا ) خطاب مع الاستعلاء كأنه يقول راع كلامي ولا تغفل عنه ولا تشتغل بغيره وليس في ( انظرنا ) إلا سؤال الانتظار كأنهم قالوا له توقف في كلامك وبيانك مقدار ما نصل إلى فهمه وسادسها أن قوله ( راعنا ) على وزن عاطنا من المعاطاة ورامنا من المراماة ثم إنهم قلبوا هذه النون إلى النون الأصلية وجعلوها كلمة مشتقة من الرعونة وهي الحق فالراعن اسم فاعل من الرعونة فيحتمل أنهم أرادوا به المصدر كقولهم عياذاً بك أي أعوذ عياذاً بك فقولهم راعنا أي فعلت رعونة ويحتمل أنهم أرادوا به صرت راعنا أي صرت ذا رعونة فلما قصدوا هذه الوجوه الفاسدة لا جرم نهى الله تعالى عن هذه الكلمة وسابعها أن يكون المراد لا تقولوا قولاً راعنا أي قولاً منسوباً إلى الرعونة بمعنى راعن كتامر ولابن
أما قوله تعالى وَقُولُواْ انظُرْنَا ففيه وجوه أحدها أنه من نظره أي انظره قال تعالى انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ ( الحديد 13 ) فأمرهم تعالى بأن يسألوه الإمهال لينقلوا عنه فلا يحتاجون إلى الاستعاذة فإن قيل أفكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يعجل عليهم حق يقولون هذا فالجواب من وجهين أحدهما أن هذه اللفظة قد تقال في خلال الكلام وإن لم تكن هناك عجلة تحوج إلى ذلك كقول الرجل في خلال حديثه اسمع أو سمعت الثاني أنهم فسروا قوله تعالى لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ أنه عليه السلام كان يعجل قول ما يلقيه إليه جبريل عليه السلام حرصاً على تحصيل الوحي وأخذ القرآن فقيل له لا

تحرك به لسانك لتعجل به فلا يبعد أن يعجل فيما يحدث به أصحابه من أمر الدين حرصاً على تعجيل أفهامهم فكانوا يسألونه في هذه الحالة أن يمهلهم فيما يخاطبهم به إلى أن يفهموا كل ذلك الكلام وثانيها ( انظرنا ) معناه ( انظر ) إلينا إلا أنه حذف حرف ( إلى ) كما في قوله وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ ( الأعراف 155 ) والمعنى من قومه والمقصود منه أن المعلم إذا نظر إلى المتعلم كان إيراده للكلام على نعت الإفهام والتعريف أظهر وأقوى وثالثها قرأ أبي بن كعب ( أنظرنا ) من النظرة أي أمهلنا
أما قوله تعالى وَاسْمَعُواْ فحصول السماع عند سلامة الحاسة أمر ضروري خارج عن قدرة البشر فلا يجوز وقوع الأمر به فإذن المراد منه أحد أمور ثلاثة أحدها فرغوا أسماعكم لما يقول النبي عليه السلام حتى لا تحتاجوا إلى الاستعادة وثانيها اسمعوا سماع قبول وطاعة ولا يكن سماعكم سماع اليهود حيث قالوا سمعنا وعصينا وثالثها اسمعوا ما أمرتم به حتى لا ترجعوا إلى ما نهيتم عنه تأكيداً عليهم ثم إنه تعالى بين ما للكافرين من العذاب الأليم إذا لم يسلكوا مع الرسول هذه الطريقة من الإعظام والتبجيل والإصغاء إلى ما يقول والتفكر فيما يقول ومعنى ( العذاب الأليم ) قد تقدم
مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
واعلم أنه تعالى لما بين حال اليهود والكفار في العداوة والمعاندة حذر المؤمنين منهم فقال مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ فنفى عن قلوبهم الود والمحبة لكل ما يظهر به فضل المؤمنين وههنا مسألتان
المسألة الأولى ( من ) الأولى للبيان لأن الذين كفروا جنس تحته نوعان أهل الكتاب والمشكرون والدليل عليه قوله تعالى لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ ( البينة 1 ) والثانية مزبده لاستغراق الخير والثالثة لابتداء الغاية
المسألة الثانية الخير الوحي وكذلك الرحمة يدل عليه قوله تعالى أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَة َ رَبّكَ ( الزخرف 32 ) المعنى أنهم يرون أنفسهم أحق بأن يوحي إليهم فيحسدونكم وما يحبون أن ينزل عليكم شيء من الوحي
ثم بين سبحانه أن ذلك الحسد لا يؤثر في زوال ذلك فإنه سبحانه يختص برحمته وإحسانه من يشاء
مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَة ٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
اعلم أن هذا هو النوع الثاني من طعن اليهود في الإسلام فقالوا ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه

بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه ويقول اليوم قولاً وغداً يرجع عنه فنزلت هذه الآية والكلام في الآية مرتب على مسائل
المسألة الأولى النسخ في أصل اللغة بمعنى إبطال الشيء وقال القفال إنه للنقل والتحويل لنا أنه يقال نسخت الريح آثار القوم إذا عدمت ونسخت الشمس الظل إذا عدم لأنه قد لا يحصل الظل في مكان آخر حتى يظن أنه انتقل إليه وقال تعالى إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِى أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِى الشَّيْطَانُ ( الحج 52 ) أي يزيله ويبطله والأصل في الكلام الحقيقة وإذا ثبت كون اللفظ حقيقة في الإبطال وجب أن لا يكون حقيقة في النقل دفعاً للاشتراك فإن قيل وصفهم الريح بأنها ناسخة للآثار والشمس بأنها ناسخة للظل مجاز لأن المزيل للآثار والظل هو الله تعالى وإذا كان ذلك مجازاً امتنع الاستدلال به على كون اللفظ حقيقة في مدلوله ثم نعارض ما ذكرتموه ونقول بل النسخ هو النقل والتحويل ومنه نسخ الكتاب إلى كتاب آخر كأنه ينقله إليه أو ينقل حكايته ومنه تناسخ الأرواح وتناسخ القرون قرناً بعد قرن وتناسخ المواريث إنما هو التحول من واحد إلى آخر بدلاً عن الأول وقال تعالى هَاذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( الجاثية 29 ) فوجب أن يكون اللفظ حقيقة في النقل ويلزم أن لا يكون حقيقة في الإبطال دفعاً للاشتراك والجواب عن الأول من وجهين أحدهما أنه لا يمتنع أن يكون الله هو الناسخ لذلك من حيث إنه فعل الشمس والريح المؤثرتين في تلك الإزالة ويكونان أيضاً ناسخين لكونهما مختصين بذلك التأثير والثاني أن أهل اللغة إنما أخطأوا في إضافة النسخ إلى الشمس والريح فهب أنه كذلك لكن متمسكنا إطلاقهم لفظ النسخ على الإزالة لاسنادهم هذا الفعل إلى الريح والشمس وعن الثاني أن النقل أخص من الإبطال لأنه حيث وجد النقل فقد عدمت صفة وحصل عقيبها صفة أخرى فإن مطلق العدم أهم من عدم يحصل عقيبه شيء آخر وإذا دار اللفظ بين الخاص والعام كان جعله حقيقة في العام أولى والله أعلم
المسألة الثانية قرأ ابن عامر ( ما ننسخ ) بضم النون وكسر السين والباقون بفتحهما أما قراءة ابن عامر ففيها وجهان أحدهما أن يكون نسخ وأنسخ بمعنى واحد والثاني أنسخته جعتله ذا نسخ كما قال قوم للحجاج وقد صلب رجلاً أقبروا فلاناً أي اجعلوه ذا قبر قال تعالى ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ( عبس 21 ) وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ( ننسأها ) بفتح النون والهمزة وهو جزم بالشرط ولا يدع أبو عمرو الهمزة في مثل هذا لأن سكونها علامة للجزم وهو من النسء وهو التأخير ومنه إِنَّمَا النَّسِىء زِيَادَة ٌ فِى الْكُفْرِ ( التوبة 37 ) ومنه سمي بيع الأجل نسيئة وقال أهل اللغة أنسأ الله أجله ونسأ في أجله أي أخر وزاد وقال عليه الصلاة والسلام ( من سره النسء في الأجل والزيادة في الرزق فليصل رحمه ) والباقون بضم النون وكسر السين وهو من النسيان ثم الأكثرون حملوه على النسيان الذي هو ضد الذكر ومنهم من حمل النسيان على الترك على حد قوله تعالى فَنَسِى َ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ( طه 155 ) أي فترك وقال فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَاذَا ( الأعراف 51 ) أي نتركهم كما تركوا والأظهر أن حمل النسيان على الترك مجاز لأن المنسي يكون متروكاً فلما كان الترك من لوازم النسيان أطلقوا اسم الملزوم على اللازم وقرىء ننسها وننسها بالتشديد وتنسها وتنسها على خطاب الرسول وقرأ عبد الله ما ننسك من آية أو ننسخها وقرأ حذيفة ما ننسخ من آية أو ننسكها

المسألة الثالثة ( ما ) في هذه الآية جزائية كقولك ما تصنع أصنع وعملها الجزم في الشرط والجزاء إذا كانا مضارعين فقوله ( ننسخ ) شرط وقوله ( نأت ) جزاء وكلاهما مجزومان
المسألة الرابعة اعلم أن التناسخ في اصطلاح العلماء عبارة عن طريق شرعي يدل على أن الحكم الذي كان ثابتاً بطريق شرعي لا يوجد بعد ذلك مع تراخيه عنه على وجه لولاه لكان ثابتاً فقولنا طريق شرعي نعني به القدر المشترك بين القول الصادر عن الله تعالى وعن رسوله والفعل المنقول عنهما ويخرج عنه إجماع الأمة على أحد القولين لأن ذلك ليس بطريق شرعي على هذا التفسير ولا يلزم أن يكون الشرع ناسخاً لحكم العقل لأن العقل ليس طريقاً شرعياً ولا يلزم أن يكون المعجز ناسخاً للحكم الشرعي لأن المعجز ليس طريقاً شرعياً ولا يلزم تقيد الحكم بغاية أو شرط أو استثناء لأن ذلك غير متراخ ولا يلزم ما إذا أمرنا الله بفعل واحد ثم نهانا عن مثله لأنه لو لم يكن مثل هذا النهي ناسخاً لم يكن مثل حكم الأمر ثابتاً
المسألة الخامسة النسخ عندنا جائز عقلاً واقع سمعاً خلافاً لليهود فإن منهم من أنكره عقلاً ومنهم من جوزه عقلاً لكنه منع منه سمعاً ويروى عن بعض المسلمين إنكار النسخ واحتج الجمهور من المسلمين على جواز النسخ ووقوعه لأن الدلائل دلت على نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ونبوته لا تصح إلا مع القول بنسخ شرع من قبله فوجب القطع بالنسخ وأيضاً قلنا على اليهود إلزامان الأول جاء في التوراة أن الله تعالى قال لنوح عليه السلام عند خروجه من الفلك ( إني جعلت كل دابة مأكلاً لك ولذريتك وأطلقت ذلك لكم كنبات العشب ما خلا الدم فلا تأكلوه ثم إنه تعالى حرم على موسى وعلى بني إسرائيل كثيراً من الحيوان الثاني كان آدم عليه السلام يزوج الأخت من الأخ وقد حرمه بعد ذلك على موسى عليه السلام قال منكرو النسخ لا نسلم أن نبوة محمد عليه الصلاة والسلام لا تصح إلا مع القول بالنسخ لأن من الجائز أن يقال إن موسى وعيسى عليهما السلام أمر الناس بشرعهما إلى زمان ظهور شرع محمد عليه الصلاة والسلام ثم بعد ذلك أمر الناس باتباع محمد عليه الصلاة والسلام فعند ظهور شرع محمد عليه الصلاة والسلام زال التكليف بشرعهما وحصل التكليف بشرع محمد عليه الصلاة والسلام لكنه لا يكون ذلك نسخاً بل جارياً مجرى قوله ثم إنه تعالى حرم على موسى وعلى بني إسرائيل كثيراً من الحيوان الثاني كان آدم عليه السلام يزوج الأخت من الأخ وقد حرمه بعد ذلك على موسى عليه السلام قال منكرو النسخ لا نسلم أن نبوة محمد عليه الصلاة والسلام لا تصح إلا مع القول بالنسخ لأن من الجائز أن يقال إن موسى وعيسى عليهما السلام أمر الناس بشرعهما إلى زمان ظهور شرع محمد عليه الصلاة والسلام ثم بعد ذلك أمر الناس باتباع محمد عليه الصلاة والسلام فعند ظهور شرع محمد عليه الصلاة والسلام زال التكليف بشرعهما وحصل التكليف بشرع محمد عليه الصلاة والسلام لكنه لا يكون ذلك نسخاً بل جارياً مجرى قوله ثُمَّ أَتِمُّواْ الصّيَامَ إِلَى الَّيْلِ ( البقرة 187 ) والمسلمون الذين أنكروا وقوع النسخ أصلاً بنوا مذهبهم على هذا الحرف وقالوا قد ثبت في القرآن أن موسى وعيسى عليهما السلام قد بشرا في التوراة والإنجيل بمبعث محمد عليه الصلاة والسلام وأن عند ظهوره يجب الرجوع إلى شرعه وإذا كان الأمر كذلك فمع قيام هذا الاحتمال امتنع الجزم بوقوع النسخ وهذا هو الاعتراض على الإلزامين المذكورين واحتج منكروا النسخ بأن قالوا إن الله تعالى لما بين شرع عيسى عليه السلام فاللفظ الدال على تلك الشريعة إما أن يقال إنها دالة على دوامها أو لا على دوامها أو ما كان فيها دلالة على الدوام ولا على اللادوام فإن بين فيها ثبوتها على الدوام ثم تبين أنها ما دامت كان الخبر الأول كذباً وإنه غير جائز على الشرع وأيضاً فلو جوزنا ذلك لم يكن لنا طريق إلى العلم بأن شرعنا لا يصير منسوخاً لأن أقصى ما في الباب أن يقول الشرع هذه الشريعة دائمة ولا تصير منسوخة قط ألبتة ولكنا إذا رأينا مثل هذا الكلام حاصلاً في شرع موسى وعيسى عليهما السلام مع أنهما لم يدوما زال الوثوق عنه في كل الصور فإن قيل لم لا يجوز أن يقال ذكر اللفظ الدال على الدوام ثم قرن به ما يدل على أنه سينسخه أو ما قرن به إلا أنه نص على ذلك إلا أنه لم ينقل إلينا في الجملة قلنا هذا ضعيف لوجوه

أحدها أن التنصيص على اللفظ الدال على الدوام مع التنصيص على أنه لا يدوم جمع بين كلامين متناقضين وإنه سفه وعبث وثانيها على هذا التقدير قد بين الله تعالى أن شرعهما سيصير منسوخاً فإذا نقل شرعه وجب أن ينقل هذه الكيفية أيضاً لأنه لو جاز أن ينقل أصل الشرع بدون هذه الكيفية لجاز مثله في شرعنا أيضاً وحينئذ لا يكون لنا طريق إلى القطع بأن شرعنا غير منسوخ لأن ذلك من الوقائع العظيمة التي تتوفر فيها الدواعي على نقله وما كان كذلك وجب اشتهاره وبلوغه إلى حد التواتر وإلا فلعل القرآن عورض ولم تنقل معارضته ولعل محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) غير هذا الشرع عن هذا الوضع ولم ينقل وإذا ثبت وجوب أن تنقل هذه الكيفية على سبيل التواتر فنقول لو أن الله تعالى نص في زمان موسى وعيسى عليهما السلام على أن شرعيهما سيصيران منسوخين لكان ذلك مشهوراً لأهل التواتر ومعلوماً لهم بالضرورة ولو كان كذلك لاستحال منازعة الجمع العظيم فيه فحيث رأينا اليهود والنصارى مطبقين على إنكار ذلك علمنا أنه لم يوجد التنصيص على أن شرعيهما يصيران منسوخين
وأما القسم الثاني وهو أن يقال إن الله تعالى نص على شرع موسى عليه السلام وقرن به ما يدل به على أنه منقطع غير دائم فهذا باطل لما ثبت أنه لو كان كذلك لوجب أن يكون ذلك معلوماً بالضرورة لأهل التواتر وأيضاً فبتقدير صحته لا يكون ذلك نسخاً بل يكون ذلك انتهاء للغاية
وأما القسم الثالث وهو أنه تعالى نص على شرع موسى عليه السلام ولم يبين فيه كونه دائماً أو كونه غير دائم فنقول قد ثبت في أصول الفقه أن مجرد الأمر لا يفيد التكرار وإنما يفيد المرة الواحدة فإذا أتى المكلف بالمرة الواحدة فقد خرج عن عهدة الأمر فورود أمر آخر بعد ذلك لا يكون نسخاً للأمر الأول فثبت بهذا التقسيم أن القول بالنسخ محال
واعلم أنا بعد أن قررنا هذه الجملة في كتاب المحصول في أصول الفقه تمسكنا في وقوع النسخ بقوله تعالى مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَة ٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا والاستدلال به أيضاً ضعيف لأن ( ما ) ههنا تفيد الشرط والجزاء وكما أن قولك ومن جاءك فأكرمه لا يدل على حصول المجيء بل على أنه متى جاء وجب الإكرام فكذا هذه الآية لا تدل على حصول النسخ بل على أنه متى حصل النسخ وجب أن يأتي بما هو خير منه فالأقوى أن نعول في الإثبات على قوله تعالى وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءايَة ً مَّكَانَ ءايَة ٍ ( النحل 101 ) وقوله يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ( الرعد 39 ) والله تعالى أعلم
المسألة السادسة اتفقوا على وقوع النسخ في القرآن وقال أبو مسلم بن بحر إنه لم يقع واحتج الجمهور على وقوعه في القرآن بوجوه أحدها هذه الآية وهي قوله تعالى مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَة ٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أجاب أبو مسلم عنه بوجوه الأول أن المراد من الآيات المنسوخة هي الشرائع التي في الكتب القديمة من التوراة والإنجيل كالسبت والصلاة إلى المشرق والمغرب مما وضعه الله تعالى عنا وتعبدنا بغيره فإن اليهود والنصارى كانوا يقولون لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم فأبطل الله عليهم ذلك بهذه الآية الوجه الثاني المراد من النسخ نقله من اللوح المحفوظ وتحويله عنه إلى سائر الكتب وهو كما يقال نسخت الكتاب الوجه الثالث أنا بينا أن هذه الآية لا تدل على وقوع النسخ بل على أنه لو وقع النسخ لوقع إلى خير منه ومن الناس من أجاب عن الاعتراض الأول بأن الآيات إذا أطلقت فالمراد

بها آيات القرآن لأنه هو المعهود عندنا وعن الثاني بأن نقل القرآن من اللوح المحفوظ لا يختص ببعض القرآن وهذا النسخ مختص ببعضه ولقائل أن يقول على الأول لا نسلم أن لفظ الآية مختص بالقرآن بل هو عام في جميع الدلائل وعلى الثاني لا نسلم أن النسخ المذكور في الآية مختص ببعض القرآن بل التقدير والله أعلم ما ننسخ من اللوح المحفوظ فإنا نأتي بعده بما هو خير منه
الحجة الثانية للقائلين بوقوع النسخ في القرآن أن الله تعالى أمر المتوفى عنها زوجها بالاعتداد حولاً كاملاً وذلك في قوله وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجًا وَصِيَّة ً لاّزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ ( البقرة 240 ) ثم نسخ ذلك بأربعة أشهر وعشر كما قال وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَة َ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ( البقرة 234 ) قال أبو مسلم الاعتداد بالحول ما زال بالكلية لأنها لو كانت حاملاً ومدة حملها حول كامل لكانت عدتها حولاً كاملاً وإذا بقي هذا الحكم في بعض الصور كان ذلك تخصيصاً لا ناسخاً والجواب أن مدة عدة الحمل تنقضي بوضع الحمل سواء حصل وضع الحمل بسنة أو أقل أو أكثر فجعل السنة العدة يكون زائلاً بالكلية
الحجة الثالثة أمر الله بتقديم الصدقة بين يدي نجوى الرسول بقوله تعالى خَبِيرٌ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَى ْ نَجْواكُمْ صَدَقَة ً ( المجادلة 12 ) ثم نسخ ذلك قال أبو مسلم إنما زال ذلك لزوال سببه لأن سبب التعبد بها أن يمتاز المنافقون من حيث لا يتصدقون عن المؤمنين فلما حصل هذا الغرض سقط التعبد والجواب لو كان كذلك لكان من لم يتصدق منافقاً وهو باطل لأنه روي أنه لم يتصدق غير علي رضي الله عنه ويدل عليه قوله تعالى فَإِذَا لَمْ تَفْعَلُواْ وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ( المجادلة 13 )
الحجة الرابعة أنه تعالى أمر بثبات الواحد للعشرة بقوله تعالى إِن يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ ثم نسخ ذلك بقوله تعالى الئَانَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مّنكُمْ مّاْئَة ٌ صَابِرَة ٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ ( الأنفال 65 66 )
الحجة الخامسة قوله تعالى سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُواْ عَلَيْهَا ( البقرة 142 ) ثم إنه تعالى أزالهم عنها بقوله فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ( البقرة 144 ) قال أبو مسلم حكم تلك القبلة ما زال بالكلية لجواز التوجه إليها عند الإشكال أو مع العلم إذا كان هناك عذر الجواب أن على ما ذكرته لا فرق بين بيت المقدس وسائر الجهات فالخصوصية التي بها امتاز بيت المقدس عن سائر الجهات قد زالت بالكلية فكان نسخاً
الحجة السادسة قوله تعالى وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءايَة ً مَّكَانَ ءايَة ٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ ( النحل 101 ) والتبديل يشتمل على رفع وإثبات والمرفوع إما التلاوة وإما الحكم فكيف كان فهو رفع ونسخ وإنما أطنبنا في هذه الدلائل لأن كل واحد منها يدل على وقوع النسخ في الجملة واحتج أبو مسلم بأن الله تعالى وصف كتابه بأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فلو نسخ لكان قد أتاه الباطل والجواب أن المراد أن هذا الكتاب لم يتقدمه من كتب الله ما يبطله ولا يأتيه من بعده أيضاً ما يبطله
المسألة السابعة المنسوخ إما أن يكون هو الحكم فقط أو التلاوة فقط أو هما معاً أما الذي يكون المنسوخ هو الحكم دون التلاوة فكهذه الآيات التي عددناها وأما الذي يكون المنسوخ هو التلاوة فقط فكما

يروى عن عمر أنه قال كنا نقرأ آية الرجم ( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم ) وروي ( لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى إليهما ثالثاً ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب ) وأما الذي يكون منسوخ الحكم والتلاوة معاً فهو ما روت عائشة رضي الله عنها أن القرآن قد نزل في الرضاع بعشر معلومات ثم نسخن بخمس معلومات فالعشر مرفوع التلاوة والحكم جميعاً والخمس مرفوع التلاوة باقي الحكم ويروى أيضاً أن سورة الأحزاب كانت بمنزلة السبع الطوال أو أزيد ثم وقع النقصان فيه
المسألة الثامنة اختلف المفسرون في قوله تعالى مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَة ٍ أَوْ نُنسِهَا فمنهم من فسر النسخ بالإزالة ومنهم من فسره بالنسخ بمعنى نسخت الكتاب وهو قول عطاء وسعيد بن المسيب ومن قال بالقول الأول ذكروا فيه وجوهاً أحدها ما ننسخ من آية وأنتم تقرءونه أو ننسها أي من القرآن ما قرىء بينكم ثم نسيتم وهو قول الحسن والأصم وأكثر المتكلمين فحملوه على نسخ الحكم دون التلاوة وننسها على نسخ الحكم والتلاوة معاً فإن قيل وقوع هذا النسيان ممنوع عقلاً وشرعاً أما العقل فلأن القرآن لا بد من إيصاله إلى أهل التواتر والنسيان على أهل التواتر بأجمعهم ممتنع وأما النقل فلقوله تعالى إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ( الحجر 9 ) والجواب عن الأول من وجهين الأول أن النسيان يصح بأن يأمر الله تعالى بطرحه من القرآن وإخراجه من جملة ما يتلى ويؤتى به في الصلاة أو يحتج به فإذا زال حكم التعبد به وطال العهد نسي أو إن ذكر فعلى طريق ما يذكر خبر الواحد فيصير لهذا الوجه منسياً عن الصدور الجواب الثاني أن ذلك يكون معجزة للرسول عليه الصلاة والسلام ويروى فيه خبر أنهم كانوا يقرأون السورة فيصبحون وقد نسوها والجواب عن الثاني أنه معارض بقوله تعالى سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ ( الأعلى 6 ) وبقوله وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ( الكهف 24 )
القول الثاني ما ننسخ من آية أي نبدلها إما بأن نبدل حكمها فقط أو تلاوتها فقط أو نبدلهما أما قوله تعالى أَوْ نُنسِهَا فالمراد نتركها كما كانت فلا نبدلها وقد بينا أن النسيان بمعنى الترك قد جاء فيصير حاصل الآية أن الذي نبدله فإنا نأتي بخير منه أو مثله
القول الثالث ما ننسخ من آية أي ما نرفعها بعد إنزالها أو ننسأها على قراءة الهمزة أي نؤخر إنزالها من اللوح المحفوظ أو يكون المراد نؤخر نسخها فلا ننسخها في الحال فإنا ننزل بدلها ما يقوم مقامها في المصلحة
القول الرابع ما ننسخ من آية وهي الآية التي صارت منسوخة في الحكم والتلاوة معاً أو ننسها أي نتركها وهي الآية التي صارت منسوخة في الحكم ولكنها غير منسوخة في التلاوة بل هي باقية في التلاوة فأما من قال بالقول الثاني ما ننسخ من آية أي ننسخها من اللوح المحفوظ أو ننسأها نؤخرها وأما قراءة ( ننسها ) فالمعنى نتركها يعني نترك نسخها فلا ننسخها
وأما قوله مّنْ ءايَة ٍ فكل المفسرين حملوه على الآية من القرآن غير أبي مسلم فإنه حمل ذلك على التوراة والإنجيل وقد تقدم القول فيه

أما قوله تعالى نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ففيه قولان أحدهما أنه الأخف والثاني أنه الأصلح وهذا أولى لأنه تعالى يصرف المكلف على مصالحه لا على ما هو أخف على طباعه فإن قيل لو كان الثاني أصلح من الأول لكان الأول ناقص الصلاح فكيف أمر الله به قلنا الأول أصلح من الثاني بالنسبة إلى الوقت الأول والثاني بالعكس منه فزال السؤال واعلم أن الناس استنبطوا من هذه الآية أكثر مسائل النسخ
المسألة الأولى قال قوم لا يجوز نسخ الحكم إلا إلى بدل واحتجوا بأن هذه الآية تدل على أنه تعالى إذا نسخ لا بد وأن يأتي بعده بما هو خير منه أو بما يكون مثله وذلك صريح في وجوب البدل والجواب لم لا يجوز أن يقال المراد أن نفي ذلك الحكم وإسقاط التبعد به خير من ثبوته في ذلك الوقت ثم الذي يدل على وقوع النسخ لا إلى بدل أنه نسخ تقديم الصدقة بين يدي مناجاة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لا إلى البدل
المسألة الثانية قال قوم لا يجوز نسخ الشيء إلى ما هو أثقل منه واحتجوا بأن قوله نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ينافي كونه أثقل لأن الأثقل لا يكون خيراً منه ولا مثله والجواب لم لا يجوز أن يكون المراد بالخير ما يكون أكثر ثواباً في الآخرة ثم إن الذي يدل على وقوعه أن الله سبحانه نسخ في حق الزناة الحبس في البيوت إلى الجلد والرجم ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان وكانت الصلاة ركعتين عند قوم فنسخت بأربع في الحضر إذا عرفت هذا فنقول أما نسخ الشيء إلى الأثقل فقد وقع في الصور المذكورة وأما نسخه إلى الأخف فكنسخ العدة من حول إلى أربعة أشهر وعشر وكنسخ صلاة الليل إلى التخيير فيها وأما نسخ الشيء إلى المثل فكالتحويل من بيت المقدس إلى الكعبة
المسألة الثالثة قال الشافعي رضي الله عنه الكتاب لا ينسخ بالسنة المتواترة واستدل عليه بهذه الآية من وجوه أحدها أنه تعالى أخبر أن ما ينسخه من الآيات يأت بخير منها وذلك يفيد أنه يأتي بما هو من جنسه كما إذا قال الإنسان ما آخذ منك من ثواب آتيك بخير منه يفيد أنه يأتيه بثوب من جنسه خير منه وإذا ثبت أنه لا بد وأن يكون من جنسه فجنس القرآن قرآن وثانيها أن قوله تعالى نَأْتِى بِخَيْرٍ مّنْهَا يفيد أنه هو المنفرد بالإتيان بذلك الخير وذلك هو القرآن الذي هو كلام الله دون السنة التي يأتي بها الرسول عليه السلام وثالثها أن قوله نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا يفيد أن المأتي به خير من الآية والسنة لا تكون خيراً من القرآن ورابعها أنه قال أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ دل على أن الآتي بذلك الخير هو المختص بالقدرة على جميع الخيرات وذلك هو الله تعالى والجواب عن الوجوه الأربعة بأسرها أن قوله تعالى نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا ليس فيه أن ذلك الخير يجب أن يكون ناسخاً بل لا يمتنع أن يكون ذلك الخير شيئاً مغايراً للناسخ يحصل بعد حصول النسخ والذي يدل على تحقيق هذا الاحتمال أن هذه الآية صريحة في أن الإتيان بذلك الخير مرتب على نسخ الآية الأولى فلو كان نسخ تلك الآية مرتباً على الإتيان بهذا الخير لزم الدور وهو باطل ثم احتج الجمهور على وقوع نسخ الكتاب بالسنة لأن آية الوصية للأقربين منسوخة بقوله عليه الصلاة والسلام ( ألا لا وصية لوارث ) وبأن آية الجلد صارت منسوخة بخبر الرجم قال الشافعي رضي الله عنه أما الأول فضعيف لأن كون الميراث حقاً للوارث يمنع من صرفه إلى الوصية فثبت أن آية الميراث مانعة من الوصية وأما الثاني فضعيف أيضاً لأن عمر رضي الله عنه روى أن قوله ( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة ) كان قرآناً فلعل النسخ إنما وقع به وتمام الكلام فيه مذكور في أصول الفقه والله أعلم

أما قوله تعالى أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ فتنبيه للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وغيره على قدرته تعالى على تصريف المكلف تحت مشيئته وحكمه وحكمته وأنه لا دافع لما أراد ولا مانع لما اختار
المسألة التاسعة استدلت المعتزلة بهذه الآية على أن القرآن مخلوق من وجوه أحدها أن كلام الله تعالى لو كان قديماً لكان الناسخ والمنسوخ قديمين لكن ذلك محال لأن الناسخ يجب أن يكون متأخراً عن المنسوخ والمتأخر عن الشيء يستحيل أن يكون قديماً وأما المنسوخ فلأنه يجب أن يزول ويرتفع وما ثبت زواله استحال قدمه بالإتفاق وثانيها أن الآية دلت على أن بعض القرآن خير من بعض وما كان كذلك لا يكون قديماً وثالثها أن قوله أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ يدل على أن المراد أنه تعالى هو القادر على نسخ بعضها والإتيان بشيء آخر بدلاً من الأول وما كان داخلاً تحت القدرة وكان فعلاً كان محدثاً أجاب الأصحاب عنه بأن كونه ناسخاً ومنسوخاً إنما هو من عوارض الألفاظ والعبارات واللغات ولا نزاع في حدوثها فلم قلتم إن المعنى الحقيقي الذي هو مدلول العبارات والاصطلاحات محدث قالت المعتزلة ذلك المعنى الذي هو مدلول العبارات واللغات لا شك أن تعلقه الأول قد زال وحدث له تعلق آخر فالتعلق الأول محدث لأنه زال والقديم لا يزول والتعلق الثاني حادث لأنه حصل بعدما لم يكن والكلام الحقيقي لا ينفك عن هذه التعلقات وما لا ينفك عن هذه التعلقات ( محدث ) وما لا ينفك عن المحدث محدث والكلام الذي تعلقت به يلزم أن يكون محدثاً أجاب الأصحاب أن قدرة الله كانت في الأزل متعلقة بإيجاد العالم فعند دخول العالم في الوجود هل بقي ذلك التعلق أو لم يبق فإن بقي يلزم أن يكون القادر قادراً على إيجاد الموجود وهو محال وإن لم يبق فقد زال ذلك التعلق فيلزمكم حدوث قدرة الله على الوجه الذي ذكرتموه وكذلك علم الله كان متعلقاً بأن العالم سيوجد فعند دخول العالم في الوجود إن بقي التعلق الأول كان جهلاً وإن لم يبق فيلزمكم كون التعلق الأول حادثاً لأنه لو كان قديماً لما زال وبكون التعلق الذي حصل بعد ذلك حادثاً فإذن عالمية الله تعالى لا تنفك عن التعلقات الحادثة وما لا ينفك عن المحدث محدث فعالمية الله محدثة فكل ما تجعلونه جواباً عن العالمية والقادرية فهو جوابنا عن الكلام
المسألة العاشرة احتجوا بقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَى ْء قَدِيرٌ على أن المعدوم شيء وقد تقدم وجه تقريره فلا نعيده والقدير فعيل بمعنى الفاعل وهو بناء المبالغة
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما حكم بجواز النسخ عقبه ببيان أن ملك السموات والأرض له لا لغيره

وهذا هو التنبيه على أنه سبحانه وتعالى إنما حسن منه الأمر والنهي لكونه مالكاً للخلق وهذا هو مذهب أصحابنا وإنه إنما حسن التكليف منه لمحض كونه مالكاً للخلق مستولياً عليهم لا لثواب يحصل أو لعقاب يندفع قال القفال ويحتمل أن يكون هذا إشارة إلى أمر القبلة فإنه تعالى أخبرهم بأنه مالك السموات والأرض وأن الأمكنة والجهات كلها له وأنه ليس بعض الجهات أكبر حرمة من البعض إلا من حيث يجعلها هو تعالى له وإذا كان كذلك وكان الأمر باستقبال القبلة إنما هو محض التخصيص بالتشريف فلا مانع يمنع من تغيره من جهة إلى جهة وأما الولي والنصير فكلاهما فعيل بمعنى فاعل على وجه المبالغة ومن الناس من استدل بهذه الآية على أن الملك غير القدرة فقال إنه تعالى قال أولاً أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ ثم قال بعده أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فلو كان الملك عبارة عن القدرة لكان هذا تكريراً من غير فائدة والكلام في حقيقة الملك والقدرة قد تقدم في قوله مَالِكِ يَوْمِ الدّينِ ( الفاتحة 4 )
أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْألُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ
المسألة الأولى ( أم ) على ضربين متصلة ومنقطعة فالمتصلة عديلة الألف وهي مفرقة لما جمعته أي كما أن ( أو ) مفرقة لما جمعته تقول اضرب أيهم شئت زيداً أم عمراً فإذا قلت اضرب أحدهم قلت اضرب زيداً أو عمراً والمنقطعة لا تكون إلا بعد كلام تام لأنها بمعنى بل والألف كقول العرب إنها الإبل أم شاء كأنه قال بل هي شاء ومنه قوله تعالى أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ( الأحقاف 8 ) أي بل يقولون قال الأخطل كذبتك عينك أم رأيت بواسط
غلس الظلام من الرباب خيالا
المسألة الثانية اختلفوا في المخاطب به على وجوه أحدها أنهم المسلمون وهو قول الأصم والجبائي وأبي مسلم واستدلوا عليه بوجوه الأول أنه قال في آخر الآية وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ وهذا الكلام لا يصح إلا في حق المؤمنين الثاني أن قوله أَمْ تُرِيدُونَ يقتضي معطوفاً عليه وهو قوله لاَ تَقُولُواْ راعِنَا ( البقرة 104 ) فكأنه قال وقولوا انظرنا واسمعوا فهل تفعلون ذلك كما أمرتم أم تريدون أن تسألوا رسولكم الثالث أن المسلمين كانوا يسألون محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) عن أمور لا خير لهم في البحث عنها ليعلموها كما سأل اليهود موسى عليه السلام ما لم يكن لهم فيه خير عن البحث عنه الرابع سأل قوم من المسلمين أن يجعل لهم ذات أنواط كما كان للمشركين ذات أنواط وهي شجرة كانوا يعبدونها ويعلقون عليها المأكول والمشروب كما سألوا موسى أن يجعل لهم إلهاً كما لهم آلهة القول الثاني أنه خطاب لأهل مكة وهو قول ابن عباس ومجاهد قال إن عبد الله بن أمية المخزومي أتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في رهط من قريش فقال يا محمد والله ما أؤمن بك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً أو تكون لك جنة من نخيل وعنب أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء بأن تصعد ولن نؤمن لرقيك بعد ذلك حتى تنزل علينا كتاباً من الله إلى

عبد الله بن أمية أن محمداً رسول الله فاتبعوه وقال له بقية الرهط فإن لم تستطع ذلك فائتنا بكتاب من عند الله جملة واحدة فيه الحلال والحرام والحدود والفرائض كما جاء موسى إلى قومه بالألواح من عند الله فيها كل ذلك فنؤمن بك عند ذلك فأنزل الله تعالى أم تريدون أن تسألوا رسولكم محمداً أن يأتيكم الآيات من عند الله كما سأل السبعون فقالوا أرنا الله جهرة وعن مجاهد أن قريشاً سألت محمداً عليه السلام أن يجعل لهم الصفا ذهباً وفضة فقال نعم هو لكم كالمائدة لبني إسرائيل فأبوا ورجعوا
القول الثالث المراد اليهود وهذا القول أصح لأن هذه السورة من أول قوله خَالِدُونَ يَابَنِى إِسْراءيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ( البقرة 40 47 ) حكاية عنهم ومحاجة معهم ولأن الآية مدنية ولأنه جرى ذكر اليهود وما جرى ذكر غيرهم ولأن المؤمن بالرسول لا يكاد يسأله فإذا سأله كا متبدلاً كفراً بالإيمان
المسألة الثالثة ليس في ظاهر قوله أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْئَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ أنهم أتوا بالسؤال فضلاً عن كيفية السؤال بل المرجع فيه إلى الروايات التي ذكرناها في أنهم سألوا والله أعلم
المسألة الرابعة اعلم أن السؤال الذي ذكروه إن كان ذلك طلباً للمعجزات فمن أين أنه كفر ومعلوم أن طلب الدليل على الشيء لا يكون كفراً وإن كان ذلك طلباً لوجه الحكمة المفصلة في نسخ الأحكام فهذا أيضاً لا يكون كفراً فإن الملائكة طلبوا الحكمة التفصيلية في خلقة البشر ولم يكن ذلك كفراً فلعل الأولى حمل الآية على أنهم طلبوا منه أن يجعل لهم إلهاً كما لهم آلهة وإن كانوا طلبوا المعجزات فإنهم يطلبونها على سبيل التعنت واللجاج فلهذا كفروا بسبب هذا السؤال
المسألة الخامسة ذكروا في اتصال هذه الآية بما قبلها وجوهاً أحدها أنه تعالى لما حكم بجواز النسخ في الشرائع فلعلهم كانوا يطالبونه بتفاصيل ذلك الحكم فمنعهم الله تعالى عنها وبين أنهم ليس لهم أن يشتغلوا بهذه الأسئلة كما أنه ما كان لقوم موسى أن يذكروا أسئلتهم الفاسدة وثانيها لما تقدم من الأوامر والنواهي قال لهم إن لم تقبلوا ما أمرتكم به وتمردتم عن الطاعة كنتم كمن سأل موسى ما ليس له أن يسأله عن أبي مسلم وثالثها لما أمر ونهى قال أتفعلون ما أمرتم أم تفعلون كما فعل من قبلكم من قوم موسى
المسألة السادسة سَوَاء السَّبِيلِ وسطه قال تعالى فَاطَّلَعَ فَرَءاهُ فِى سَوَاء الْجَحِيمِ أي وسط الجحيم والغرض التشبيه دون نفس الحقيقة ووجه التشبيه في ذلك أن من سلك طريقة الإيمان فهو جار على الاستقامة المؤدية إلى الفوز والظفر بالطلبة من الثواب والنعيم فالمبدل لذلك بالكفر عادل عن الاستقامة فقيل فيه إنه ضل سواء السبيل
وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِى َ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدِيرٌ
اعلم أن هذا هو النوع الثالث من كيد اليهود مع المسلمين وذلك لأنه روي أن فنحاص ابن

عازوراء وزيد بن قيس ونفراً من اليهود قالوا لحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر بعد وقعة أحد ألم تروا ما أصابكم ولو كنتم على الحق ما هزمتم فارجعوا إلى ديننا فهو خير لكم وأفضل ونحن أهدى منكم سبيلاً فقال عمار كيف نقض العهد فيكم قالوا شديد قال فإني قد عاهدت أني لا أكفر بمحمد ما عشت فقالت اليهود أما هذا فقد صبأ وقال حذيفة وأما أنا فقد رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبالقرآن إماماً وبالكعبة قبلة وبالمؤمنين إخواناً ثم أتيا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأخبراه فقال أصبتما خيراً وأفلحتما فنزلت هذه الآية واعلم أنا نتكلم أولاً في الحسد ثم نرجع إلى التفسير
المسألة الأولى في ذم الحسد ويدل عليه أخبار كثيرة الأول قوله عليه السلام ( الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب ) الثاني قال أنس ( كنا يوماً جالسين عند النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال يطلع عليكم الآن من هذا الفج رجل من أهل الجنة فطلع رجل من الأنصار ينظف لحيته من وضوئه وقد علق نعليه في شماله فسلم فلما كان الغد قال عليه السلام مثل ذلك فطلع ذلك الرجل وقال في اليوم الثالث مثل ذلك فطلع ذلك الرجل فلما قام النبي عليه السلام تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص فقال إني تأذيت من أبي فأقسمت لا أدخل عليه ثلاثاً فإن رأيت أن تذهب بي إلى دارك فعلت قال نعم فبات عنده ثلاث ليال فلم يره يقوم من الليل شيئاً غير أنه إذا انقلب على فراشه ذكر الله ولا يقوم حتى يقوم لصلاة الفجر غير أني لم أسمعه يقول إلا خيراً فلما مرت الثلاث وكدت أن أحتقر عمله قلت يا عبد الله لم يكن بيني وبين والدي غضب ولا هجر ولكني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول كذا وكذا فأردت أن أعرف عملك فلم أرك تعمل عملاً كثيراً فما الذي بلغ بك ذاك قال ما هو إلا ما رأيت فلما وليت دعاني فقال ما هو إلا ما رأيت غير أني لم أجد على أحد من المسلمين في نفسي عيباً ولا حسداً على خير أعطاه الله إياه فقال عبد الله هي التي بلغت بك وهي التي لا تطاق ) الثالث قال عليه السلام ( دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء والبغضة هي الحالقة لا أقول حالقة الشعر ولكن حالقة الدين ) الرابع قال ( إنه سيصيب أمتي داء الأمم قالوا ما داء الأمم قال الأشر والبطر والتكاثر والتنافس في الدنيا والتباعد والتحاسد حتى يكون البغي ثم الهرج ) الخامس أن موسى عليه السلام لما ذهب إلى ربه رأى في ظل العرش رجلاً يغبط بمكانه وقال إن هذا لكريم على ربه فسأل ربه أن يخبره باسمه فلم يخبره باسمه وقال أحدثك من عمله ثلاثاً كان لا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله وكان لا يعق والديه ولا يمشي بالنميمة السادس قال عليه السلام ( إن لنعم الله أعداء قيل وما أولئك قال الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ) السابع قال عليه السلام ( ستة يدخلون النار قبل الحساب الأمراء بالجور والعرب بالعصبية والدهاقين بالتكبر والتجار بالخيانة وأهل الرستاق بالجهالة والعلماء بالحسد )
أما الآثار فالأول حكي أن عوف بن عبد الله دخل على الفضل بن المهلب وكان يومئذ على واسط فقال إني أريد أن أعظك بشيء إياك والكبر فإنه أول ذنب عصى الله به إبليس ثم قرأ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَة ِ اسْجُدُواْ لاِدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ ( البقرة 34 ) وإياك والحرص فإنه أخرج آدم من الجنة أسكنه الله في جنة عرضها السموات والأرض فأكل منها فأخرجه الله ثم قرأ اهْبِطَا مِنْهَا ( طه 123 ) وإياك والحسد فإنه قتل ابن آدم أخاه حين حسده ثم قرأ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَى ْ ءادَمَ بِالْحَقّ ( المائدة 27 ) الثاني

قال ابن الزبير ما حسدت أحداً على شيء من أمر الدنيا لأنه إن كان من أهل الجنة فكيف أحسده على الدنيا وهي حقيرة في الجنة وإن كان من أهل النار فكيف أحسده على أمر الدنيا وهو يصير إلى النار الثالث قال رجل للحسن هل يحسد المؤمن قال ما أنساك بني يعقوب إلا أنه لا يضرك ما لم تعد به يداً ولساناً الرابع قال معاوية كل الناس أقدر على رضاه إلا الحاسد فإنه لا يرضيه إلا زوال النعمة الخامس قيل الحاسد لا ينال من المجالس إلا مذمة وذلاً ولا ينال من الملائكة إلا لعنة وبغضاً ولا ينال من الخلق إلا جزعاً وغماً ولا ينال عند الفزع إلا شدة وهولاً وعند الموقف إلا فضيحة ونكالاً
المسألة الثانية في حقيقة الحسد إذا أنعم الله على أخيك فإن أردت زوالها فهذا هو الحسد وإن اشتهيت لنفسك مثلها فهذا هو الغبطة والمنافسة أما الأول فحرام بكل حال إلا نعمة أصابها فاجر أو كافر يستعين بها على الشر والفساد فلا يضرك محبتك لزوالها فإنك ما تحب زوالها من حيث إنها نعمة بل من حيث إنها يتوسل بها إلى الفساد والشر والأذى والذي يدل على أن الحسد ما ذكرنا آيات أحدها هذه الآية وهي قوله تعالى لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ فأخبر أن حبهم زوال نعمة الإيمان حسد وثانيها قوله تعالى وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء ( النساء 89 ) وثالثها قوله تعالى إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَة ٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيّئَة ٌ يَفْرَحُواْ بِهَا ( آل عمران 120 ) وهذا الفرح شماتة والحسد والشماتة متلازمان ورابعها ذكر الله تعالى حسد إخوة يوسف وعبر عما في قلوبهم بقوله قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَة ٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِى ضَلالٍ مُّبِينٍ اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ ( يوسف 8 9 ) فبين تعالى أن حسدهم له عبارة عن كراهتهم حصول تلك النعمة له وخامسها قوله تعالى وَلاَ يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَة ً مّمَّا أُوتُواْ ( الحشر 9 ) أي لا تضيق به صدورهم ولا يغتمون فأثنى الله عليهم بعدم الحسد وسادسها قال تعالى في معرض الإنكار مَا ءاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ ءاتَيْنَا ءالَ إِبْراهِيمَ ( النساء 54 ) وسابعها قال الله تعالى كَانَ النَّاسُ أُمَّة ً واحِدَة ً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيّينَ ( البقرة 213 ) إلى قوله إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ( الشورى 14 ) قيل في التفسير حسداً وثامنها قوله تعالى وَمَا تَفَرَّقُواْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فأنزل الله العلم ليؤلف بينهم على طاعته فتحاسدوا واختلفوا إذ أراد كل واحد أن ينفرد بالرياسة وقبول القول وتاسعها قال ابن عباس كانت اليهود قبل مبعث النبي عليه السلام إذا قاتلوا قوماً قالوا نسألك بالنبي الذي وعدتنا أن ترسله وبالكتاب الذي تنزله إلا تنصرنا فكانوا ينصرون فلما جاء النبي عليه السلام من ولد إسماعيل عرفوه وكفروا به بعد معرفتهم إياه فقال تعالى وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ ( البقرة 19 ) إلى قوله أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا ( البقرة 90 ) أي حسداً وقالت صفية بنت حيي للنبي عليه السلام جاء أبي وعمي من عندك فقال أبي لعمي ما تقول فيه قال أقول إنه النبي الذي بشر به موسى عليه السلام قال فما ترى قال أرى معاداته أيام الحياة فهذا حكم الحسد أما المنافسة فليست بحرام وهي مشتقة من النفاسة والذي يدل على أنها ليست بحرام وجوه أولها قوله تعالى وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ( المطففين 26 ) وثانيها قوله تعالى سَابِقُواْ إِلَى مَغْفِرَة ٍ مّن رَّبّكُمْ وإنما المسابقة عند خوف الفوت وهو كالعبدين يتسابقان إلى خدمة مولاهما إذ يجزع كل واحد أن يسبقه صاحبه فيحظى عند مولاه بمنزلة لا يحظى هو بها وثالثها قوله عليه السلام ( لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه

الله مالاً فأنفقه في سبيل الله ورجل آتاه الله علماً فهو يعمل به ويعلمه الناس ) وهذا الحديث يدل على أن لفظ الحسد قد يطلق على المنافسة ثم نقول المنافسة قد تكون واجبة ومندوبة ومباحة أما الواجبة فكما إذا كانت تلك النعمة نعمة دينية واجبة كالإيمان والصلاة والزكاة فههنا يجب عليه أن يكون له مثل ذلك لأنه إن لم يحب ذلك كان راضياً بالمعصية وذلك حرام وأما إن كانت تلك النعمة من الفضائل المندوبة كالإنفاق في سبيل الله والتشمير لتعليم الناس كانت المنافسة فيها مندوبة وأما إن كانت تلك النعمة من المباحات كانت المنافسة فيها من المباحات وبالجملة فالمذموم أن يحب زوالها عن الغير فأما أن يحب حصولها له وزوال النقصان عنه فهذا غير مذموم لكن ههنا دقيقة وهي أن زوال النقصان عنه بالنسبة إلى الغير له طريقان أحدهما أن يحصل له مثل ما حصل للغير والثاني أن يزول عن الغير ما لم يحصل له فإذا حصل اليأس عن أحد الطريقين فيكاد القلب لا ينفك عن شهوة الطريق الآخر فههنا إن وجد قلبه بحيث لو قدر على إزالة تلك الفضيلة عن تلك الشخص لأزالها فهو صاحب الحسد المذموم وإن كان يجد قلبه بحيث تردعه التقوى عن إزالة تلك النعمة عن الغير فالمرجو من الله تعالى أن يعفو عن ذلك ولعل هذا هو المراد من قوله عليه السلام ( ثلاث لا ينفك المؤمن منهن الحسد والظن والطيرة ثم قال وله منهم مخرج إذا حسدت فلا تبغ ) أي إن وجدت في قلبك شيئاً فلا تعمل به فهذا هو الكلام في حقيقة الحسد وكله من كلام الشيخ الغزالي رحمة الله عليه
المسألة الثالثة في مراتب الحسد قال الغزالي رحمه الله هي أربعة الأولى أن يحب زوال تلك النعمة وإن كان ذلك لا يحصل له وهذا غاية الحسد والثانية أن يحب زوال تلك النعمة عنه إلا وذلك مثل رغبته في دار حسنة أو امرأة جملة أو ولاية نافذة نالها غيره وهو يحب أن تكون له فالمطلوب بالذات حصوله له فأما زواله عن غيره فمطلوب بالعرض الثالثة أن لا يشتهي عنها بل يشتهي لنفسه مثلها فإن عجز عن مثلها أحب زوالها لكي لا يظهر التفاوت بينهما الرابعة أن يشتهي لنفسه مثلها فإن لم يحصل فلا يحب زوالها وهذا الأخير هو المعفو عنه إن كان في الدنيا والمندوب إليه إن كان في الدين والثالثة منها مذمومة وغير مذمومة والثانية أخف من الثالثة والأول مذموم محض قال تعالى وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ ( النساء 32 ) فتمنيه لمثل ذلك غير مذموم وأما تمنيه عين ذلك فهو مذموم
المسألة الرابعة ذكر الشيخ الغزالي رحمة الله عليه للحسد سبعة أسباب
السبب الأول العداوة والبغضاء فإن من آذاه إنسان أبغضه قلبه وغضب عليه وذلك الغضب يولد الحقد والحقد يقتضي التشفي والانتقام فإن عجز المبغض عن التشفي بنفسه أحب أن يتشفى منه الزمان فمهما أصاب عدوه آفة وبلاء فرح ومهما أصابته نعمة ساءته وذلك لأنه ضد مراده فالحسد من لوازم البغض والعداوة ولا يفارقهما وأقصى الإمكان في هذا الباب أن لا يظهر تلك العداوة من نفسه وأن يكره تلك الحالة من نفسه فأما أن يبغض إنساناً ثم تستوي عنده مسرته ومساءته فهذا غير ممكن وهذا النوع من الحسد هو الذي وصف الله الكفار به إذ قال هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ ءامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الاْنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ ( آل عمران 119 120 ) وكذا قال وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْواهِهِمْ ( آل عمران 118 ) واعلم أن الحسد ربما أفضى إلى التنازع والتقاتل

السبب الثاني التعزز فإن واحداً من أمثاله إذا نال منصباً عالياً ترفع عليه وهو لا يمكنه تحمل ذلك فيريد زوال ذلك المنصب عنه وليس من غرضه أن يتكبر بل غرضه أن يدفع كبره فإنه قد يرضى بمساواته ولكنه لا يرضى بترفعه عليه
السبب الثالث أن يكون في طبيعته أن يستخدم غيره فيريد زوال النعمة من ذلك الغير ليقدر على ذلك الغرض ومن هذا الباب كان حسد أكثر الكفار للرسول عليه الصلاة والسلام إذ قالوا كيف يتقدم علينا غلام يتيم وكيف نطأطيء له رؤوسنا فقالوا ( لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ) وقال تعالى يصف قول قريش أَهَؤُلاء مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مّن بَيْنِنَا ( الأنعام 53 ) كالاستحقار بهم والأنفة منهم
السبب الرابع التعجب كما أخبر الله عن الأمم الماضية إذ قالوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرًا مّثْلَنَا ( إبراهيم 10 ) وقالوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ ( المؤمنون 47 ) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ ( المؤمنون 34 ) وقالوا متعجبين أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَّسُولاً ( الإسراء 94 ) وقالوا لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْنَا الْمَلَئِكَة ُ ( الفرقان 21 ) وقال عَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مّن رَّبّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مّنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ ( الأعراف 63 69 )
السبب الخامس الخوف من فوت المقاصد وذلك يختص بالمتزاحمين على مقصود واحد فإن كل واحد منهما يحسد صاحبه في كل نعمة تكون عوناً له في الانفراد بمقصوده ومن هذا الباب تحاسد الضرات في التزاحم على مقاصد الزوجية وتحاسد الأخوة في التزاحم على نيل المنزلة في قلوب الأبوين للتوصل إلى مقاصد المال والكرامة وكذلك تحاسد الواعظين المتزاحمين على أهل بلدة واحدة إذ كان غرضهما نيل المال والقبول عندهم
السبب السادس حب الرياسة وطلب الجاه نفسه من غير توسل به إلى مقصوده وذلك كالرجل الذي يريد أن يكون عديم النظير في فن من الفنون فإنه لو سمع بنظير له في أقصى العالم ساءه ذلك وأحب موته وزوال النعمة التي بها يشاركه في المنزلة من شجاعة أو علم أو زهد أو ثروة ويفرح بسبب تفرده
السبب السابع شح النفس بالخير على عباد الله فإنك تجد من لا يشتغل برياسة ولا بكبر ولا بطلب مال إذا وصف عنده حسن حال عبد من عباد الله شق عليه ذلك وإذا وصف اضطراب أمور الناس وإدبارهم وتنغص عيشهم فرح به فهو أبداً يحب الإدبار لغيره ويبخل بنعمة الله على عباده كأنهم يأخذون ذلك من ملكه وخزانته ويقال البخيل من بخل بمال غيره فهذا يبخل بنعمة الله على عباده الذين ليس بينهم وبينه لا عداوة ولا رابطة وهذا ليس له سبب ظاهر إلا خبث النفس ورذالة جبلته في الطبع لأن سائر أنواع الحسد يرجى زواله لإزالة سببه وهذا خبث في الجبلة لا عن سبب عارض فتعسر إزالته فهذه هي أسباب الحسد وقد يجتمع بعض هذه الأسباب أو أكثرها أو جميعها في شخص واحد فيعظم فيه الحسد ويقوى قوة لا يقوى صاحبها معها على الإخفاء والمجاملة بل يهتك حجاب المجاملة ويظهر العداوة بالمكاشفة وأكثر المحاسدات تجتمع فيها جملة من هذه الأسباب وقلما يتجرد واحد منها
المسألة الخامسة في سبب كثرة الحسد وقلته وقوته وضعفه اعلم أن الحسد إنما يكثر بين قوم تكثر فيهم الأسباب التي ذكرناها إذ الشخص الواحد يجوز أن يحسد لأنه يمتنع من قول المتكبر ولأنه يتكبر ولأنه

عدو لغير ذلك من الأسباب وهذه الأسباب إنما تكثر بين قوم تجمعهم روابط يجتمعون بسببها في مجالس المخاطبات ويتواردون على الأغراض والمنازعة مظنة المنافرة والمنافرة مؤدية إلى الحسد فحيث لا مخالطة فليس هناك محاسدة ولما لم توجد الرابطة بين شخصين في بلدين لا جرم لم يكن بينهما محاسدة فلذلك ترى العالم يحسد العالم دون العابد والعابد يحسد العابد دون العالم والتاجر يحسد التاجر بل الاسكاف يحسد الإسكاف ولا يحسد البزاز ويحسد الرجل أخاه وابن عمه أكثر مما يحسد الأجانب والمرأة تحسد ضرتها وسريَّة زوجها أكثر مما تحسد أم الزوج وابنته لأن مقصد البزاز غير مقصد الإسكاف فلا يتزاحمون على المقاصد ثم مزاحمة البزاز المجاور له أكثر من مزاحمة البعيد عنه إلى طرف السوق وبالجملة فأصل الحسد العداوة وأصل العداوة التزاحم على غرض واحد والغرض الواحد لا يجمع متباعدين بل لا يجمع إلا متناسبين فلذلك يكثر الحسد بينهم نعم من اشتد حرصه على الجاه العريض والصيت في أطراف العالم فإنه يحسد كل من في العالم ممن يشاركه في الخصلة التي يتفاخر بها أقول والسبب الحقيقي فيه أن الكمال محبوب بالذات وضد المحبوب مكروه ومن جملة أنواع الكمال التفرد بالكمال فلا جرم كان الشريك في الكمال مبغضاً لكونه منازعاً في الفردانية التي هي من أعظم أبواب الكمال إلا أن هذا النوع من الكمال لما امتنع حصوله إلا الله سبحانه ووقع اليأس عنه فاختص الحسد بالأمور الدنيوية وذلك لأن الدنيا لا تفي بالمتزاحمين أما الآخرة فلا ضيق فيها وإنما مثال الآخرة نعمة العلم فلا جرم من يحب معرفة الله تعالى ومعرفة صفاته وملائكته فلا يحسد غيره إذا عرف ذلك لأن المعرفة لا تضيق على العارفين بل المعلوم الواحد يعرفه ألف ألف ويفرح بمعرفته ويلتذ به ولا تنقص لذة أحد بسبب غيره بل يحصل بكثرة العارفين زيادة الأنس فلذلك لا يكون بين علماء الدين محاسدة لأن مقصدهم معرفة الله وهي بحر واسع لا ضيق فيها وغرضهم المنزلة عند الله ولا ضيق فيها نعم إذا قصد العلماء بالعلم المال والجاه تحاسدوا لأن المال أعيان إذا وقعت في يد واحد خلت عنها يد الآخر ومعنى الجاه ملء القلوب ومهما امتلأ قلب شخص بتعظيم عالم انصرف عن تعظيم الآخر أما إذا امتلأ قلب بالفرح بمعرفة الله لم يمنع ذلك أن يمتلىء قلب غيره وأن يفرح به فلذلك وصفهم الله تعالى بعدم الحسد فقال وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ ( الحجر 47 )
المسألة السادسة في الدواء المزيل للحسد وهو أمران العلم والعمل أما العلم ففيه مقامان إجمالي وتفصيلي أما الإجمالي فهو أن يعلم أن كل ما دخل في الوجود فقد كان ذلك من لوازم قضاء الله وقدره لأن الممكن ما لم ينته إلى الواجب لم يقف ومتى كان كذلك فلا فائدة في النفرة عنه وإذا حصل الرضا بالقضاء زال الحسد وأما التفصيلي فهو أن تعلم أن الحسد ضرر عليك في الدين والدنيا وأنه ليس فيه على المحسود ضرر في الدين والدنيا بل ينتفع به في الدين والدنيا أما أنه ضرر عليك في الدين فمن وجوه أحدها أنك بالحسد كرهت حكم الله ونازعته في قسمته التي قسمها لعباده وعدله الذي أقامه في خلقه بخفي حكمته وهذه جناية على حدقة التوحيد وقذى في عين الإيمان وثانيها أنك إن غششت رجلاً من المؤمنين فارقت أولياء الله في حبهم الخير لعباد الله وشاركت إبليس وسائر الكفار في محبتهم للمؤمنين البلايا وثالثها العقاب العظيم المرتب عليه في الآخرة وأما كونه ضرراً عليك في الدنيا فهو أنك بسبب الحسد لا تزال تكون في الغم والكمد وأعداؤك لا يخليهم الله من أنواع النعم فلا تزال تتعذب بكل نعمة

تراها وتتألم بكل بلية تنصرف عنهم فتبقى أبداً مغموماً مهموماً فقد حصل لك ما أردت حصوله لأعدائك وأراد أعداؤك حصوله لك فقد كنت تريد المحنة لعدوك فسعيت في تحصيل المحنة لنفسك ثم إن ذلك الغم إذا استولى عليك أمرض بدنك وأزال الصحة عنك وأوقعك في الوساوس ونغص عليك لذة المطعم والمشرب وأما أنه لا ضرر على المحسود في دينه ودنياه فواضح لأن النعمة لا تزول عنه بحسدك بل ما قدره الله من إقبال ونعمة فلا بد وأن يدوم إلى أجل قدرة الله فإن كان كل شيء عنده بمقدار ولكل أجل كتاب ومهما لم تزل النعمة بالحسد لم يكن على المحسود ضرر في الدنيا ولا عليه إثم في الآخرة ولعلك تقول ليت النعمة كانت لي وتزول عن المحسود بحسدي وهذا غاية الجهل فإنه بلاء تشتهيه أولاً لنفسك فإنك أيضاً لا تخلو عن عدو يحسدك فلو زالت النعمة بالحسد لم يبق لله عليك نعمة لا في الدين ولا في الدنيا وإن اشتهيت أن تزول النعمة عن الخلق بحسدك ولا تزول عنك بحسد غيرك فهذا أيضاً جهل فإن كل واحد من حمقى الحساد يشتهي أن يختص بهذه الخاصية ولست أولى بذلك من الغير فنعمة الله عليك في أن لم يزل النعمة بالحسد مما يجب شكرها عليك وأنت بجهلك تكرهها وأما أن المحسود ينتفع به في الدين والدنيا فواضح أما منفعته في الدين فهو أنه مظلوم من جهتك لا سيما إذا أخرجت الحسد إلى القول والفعل بالغيبة والقدح فيه وهتك ستره وذكر مساوئه فهي هدايا يهديها الله إليه أعني أنك تهدي إليه حسناتك فإنك كلما ذكرته بسوء نقل إلى ديوانه حسناتك وازدادت سيئاتك فكأنك اشتهيت زوال نعم الله عنه إليك فأزيلت نعم الله عنك إليه ولم تزل في كل حين وأوان تزداد شقاوة وأما منفعته في الدنيا فمن وجوه الأول أن أهم أغراض الخلق مساءة الأعداء وكونهم مغمومين معذبين ولا عذاب أعظم مما أنت فيه من ألم الحسد بل العاقل لا يشتهي موت عدوه بل يريد طول حياته ليكون في عذاب الحسد لينظر في كل حين وأوان إلى نعم الله عليه فيتقطع قلبه بذلك ولذلك قيل لا مات أعداؤك بل خلدوا
حتى يروا منك الذي يكمد
لا زلت محسوداً على نعمة
فإنما الكامل من يحسد
الثاني أن الناس يعلمون أن المحسود لا بد وأن يكون ذا نعمة فيستدلون بحسد الحاسد على كونه مخصوصاً من عند الله بأنواع الفضائل والمناقب وأعظم الفضائل مما لا يستطاع دفعه وهو الذي يورث الحسد فصار الحسد من أقوى الدلائل على اتصاف المحسود بأنواع الفضائل والمناقب الثالث أن الحاسد يصير مذموماً بين الخلق ملعوناً عند الخالق وهذا من أعظم المقاصد للمحسود الرابع وهو أنه سبب لازدياد مسرة إبليس وذلك لأن الحاسد لما خلا عن الفضائل التي اختص المحسود بها فإن رضي بذلك استوجب الثواب العظيم فخاف إبليس من أن يرضى بذلك فيصير مستوجباً لذلك الثواب فلما لم يرض به بل أظهر الحسد فاته ذلك الثواب واستوجب العقاب فيصير ذلك سبباً لفرح إبليس وغضب الله تعالى الخامس أنك عساك تحسد رجلاً من أهل العلم وتحب أن يخطىء في دين الله وتكشف خطأه ليفتضح وتحب أن يخرس لسانه حتى لا يتكلم أو يمرض حتى لا يعلم ولا يتعلم وأي إثم يزيد على ذلك وأي مرتبة أخس من هذه وقد ظهر من هذه الوجوه أيها الحاسد أنك بمثابة من يرمي حجراً إلى عدوه ليصيب به مقتله فلا يصيبه بل يرجع إلى حدقته اليمنى فيقلعها فيزداد غضبه فيعود ويرميه ثانياً أشد من الأول فيرجع الحجر على عينه الأخرى فيعميه فيزداد غيظه ويعود ثالثاً فيعود على رأسه فيشجه وعدوه سالم في كل الأحوال والوبال راجع إليه دائماً

وأعداؤه حواليه يفرحون به ويضحكون عليه بل حال الحاسد أقبح من هذا لأن الحجر العائد لم يفوت إلا العين ولو بقيت لفاتت بالموت وأما حسده فإنه يسوق إلى غضب الله وإلى النار فلأن تذهب عينه في الدنيا خير له من أن يبقى له عين ويدخل بها النار فانظر كيف انتقم الله من الحاسد إذا أراد زوال النعمة عن المحسود فما أزالها عنه ثم أزال نعمة الحاسد تصديقاً لقوله تعالى وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيّىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ ( فاطر 43 ) فهذه الأدوية العلمية فمهما تفكر الإنسان فيها بذهن صاف وقلب حاضر انطفأ من قلبه نار الحسد وأما العمل النافع فهو أن يأتي بالأفعال المضادة لمقتضيات الحسد فإن بعثه الحسد على القدح فيه كلف لسانه المدح له وإن حمله على التكبر عليه كلف نفسه التواضع له وإن حمله على قطع أسباب الخير عنه كلف نفسه السعي في إيصال الخيرات إليه فمهما عرف المحسود ذلك طاب قلبه وأحب الحاسد وذلك يفضي آخر الأمر إلى زوال الحسد من وجهين الأول أن المسحود إذا أحب الحاسد فعل ما يحبه الحاسد فحينئذ يصير الحاسد محباً للمحسود ويزول الحسد حينئذ الثاني أن الحاسد إذا أتى بضد موجبات الحسد على سبيل التكلف يصير ذلك بالآخرة طبعاً له فيزول الحسد عنه
المسألة السابعة اعلم أن النفرة القائمة بقلب الحاسد من المحسود أمر غير داخل في وسعه فكيف يعاقب عليه وأما الذي في وسعه أمران أحدهما كونه راضياً بتلك النفرة والثاني إظهار آثار تلك النفرة من القدح فيه والقصد إلى إزالة تلك النعمة عنه وجر أسباب المحبة إليه فهذا هو الداخل تحت التكليف ولنرجع إلى التفسير
أما قوله تعالى وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا فالمراد أنهم كانوا يريدون رجوع المؤمنين عن الإيمان من بعد ما تبين لهم أن الإيمان صواب وحق والعالم بأن غيره على حق لا يجوز أن يريد رده عنه إلا بشبهة يلقيها إليه لأن المحق لا يعدل عن الحق إلا بشبهة والشبهة ضربان أحدهما ما يتصل بالدنيا وهو أن يقال لهم قد علمتم ما نزل بكم من إخراجكم من دياركم وضيق الأمر عليكم واستمرار المخافة بكم فاتركوا الإيمان الذي ساقكم إلى هذه الأشياء والثاني في باب الدين بطرح الشبه في المعجزات أو تحريف ما في التوراة
أما قوله تعالى حَسَدًا مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ ففيه مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى بين أن حبهم لأن يرجعوا عن الإيمان إنما كان لأجل الحسد قال الجبائي عني بقوله كَفَّارٌ حَسَدَ مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ أنهم لم يؤتوا ذلك من قبله تعالى وإن كفرهم هو فعلهم لا من خلق الله فيهم والجواب أن قوله مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ فيه وجهان أحدهما أنه متعلق ب ( ود ) على معنى أنهم أحبوا ذلك من بعد ما تبين لهم أنكم على الحق فكيف يكون تمنيهم من قبل طلب الحق الثاني أنه متعلق بحسد أي حسد عظيم منبعث من عند أنفسهم أما قوله تعالى فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ فهذا يدل على أن اليهود بعدما أرادوا صرف المؤمنين عن الإيمان

احتالوا في ذلك بإلقاء الشبه على ما بيناه ولا يجوز أن يأمرهم تعالى بالعفو والصفح على وجه الرضا بما فعلوا لأن ذلك كفر فوجب حمله على أحد أمرين الأول أن المراد ترك المقابلة والإعراض عن الجواب لأن ذلك أقرب إلى تسكين الثائرة في الوقت فكأنه تعالى أمر الرسول بالعفو والصفح عن اليهود فكذا أمره بالعفو والصفح عن مشركي العرب بقوله تعالى قُل لّلَّذِينَ ءامَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ ( الجاثية 14 ) وقوله وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً ( المزمل 10 ) ولذلك لم يأمر بذلك على الدوام بل علقه بغاية فقال وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِى َ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وذكروا فيه وجوه أحدها أنه المجازاة يوم القيامة عن الحسن وثانيها أنه قوة الرسول وكثرة أمته وثالثها وهو قول أكثر الصحابة والتابعين إنه الأمر بالقتال لأن عنده يتعين أحد أمرين إما الإسلام وإما الخضوع لدفع الجزية وتحمل الذل والصغار فلهذا قال العلماء إن هذه الآية منسوخة بقوله تعلاى قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الاْخِرِ ( التوبة 29 ) وعن الباقر رضي الله عنه أنه لم يؤمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بقتال حتى نزل جبريل عليه السلام بقوله أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ ( الحج 39 ) وقلده سيف فكان أول قتال قاتل أصحاب عبد الله بن جحش ببطن نخل وبعده غزوة بدر وههنا سؤالان السؤال الأول كيف يكون منسوخاً وهو معلق بغاية كقوله ثُمَّ أَتِمُّواْ الصّيَامَ إِلَى الَّيْلِ ( البقرة 187 ) وإن لم يكن ورود الليل ناسخاً فكذا ههنا الجواب أن الغاية التي يعلق بها الأمر إذا كانت لا تعلم إلا شرعاً لم يخرج ذلك الوارد شرعاً عن أن يكون ناسخاً ويحل محل قوله فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ إلى أن أنسحه عنكم السؤال الثاني كيف يعفون ويصفحون والكفار كانوا أصحاب الشوكة والقوة والصفح لا يكون إلا عن قدرة والجواب أن الرجل من المسلمين كان ينال بالأذى فيقدر في تلك الحالة قبل اجتماع الأعداء أن يدفع عدوه عن نفسه وأن يستعين بأصحابه فأمر الله تعالى عند ذلك بالعفو والصفح كي لا يهيجوا شراً وقتالاً
القول الثاني في التفسير قوله فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حسن الاستدعاء واستعمل ما يلزم فيه من النصح والإشفاق والتشدد فيه وعلى هذا التفسير لا يجوز نسخه وإنما يجوز نسخه على التفسير الأول
أما قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَى ْء قَدِيرٌ فهو تحذير لهم بالوعيد سواء حمل على الأمر بالقتال أو غيره

بداية الجزء الرابع من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32

وَأَقِيمُواْ الصَّلَواة َوَءَاتُواْ الزَّكَواة َ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
اعلم أنه تعالى أمر بالعفو والصفح عن اليهود ثم عقبه بقوله تعالى وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِى تنبيهاً على أنه كما ألزمهم لحظ الغير وصلاحه العفو والصفح فكذلك ألزمهم لحظ أنفسهم وصلاحها القيام بالصلاة والزكاة الواجبتين ونبه بهما على ما عداهما من الواجبات ثم قال بعده وَمَا تُقَدّمُواْ لانْفُسِكُم مّنْ خَيْرٍ والأظهر أن المراد به التطوعات من الصلوات والزكوات وبين تعالى أنهم يجدونه وليس المراد أنهم يجدون عين تلك الأعمال لأنها لا تبقى ولأن وجدان عين تلك الأشياء لا يرغب فيه فبقي أن المراد وجدان ثوابه وجزائه ثم قال إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي أنه لا يخفى عليه القليل ولا الكثير من الأعمال وهو ترغيب من حيث يدل على أنه تعالى يجازي على القليل كما يجازي على الكثير وتحذير من خلافه الذي هو الشر وأما الخير فهو النفع الحسن وما يؤدي إليه فلما كان ما يأتيه المرء من الطاعة يؤدي به إلى المنافع العظيمة وجب أن يوصف بذلك وعلى هذا الوجه قال تعالى وَافْعَلُواْ الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( الحج 77 )
وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّة َ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
اعلم أن هذا هو النوع الرابع من تخليط اليهود وإلقاء الشبه في قلوب المسلمين واعلم أن اليهود لا تقول في النصارى إنها تدخل الجنة ولا النصارى في اليهود فلا بد من تفصيل في الكلام فكأنه قال

وقالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً وقالت النصارى لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى ولا يصح في الكلام سواه مع علمنا بأن كل واحد من الفريقين يكفر الآخر ونظيره قَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى ( البقرة 135 ) والهود جمع هائد كعائذ وعوذ وبازل وبزل فإن قيل كيف قيل كان هوداً على توحيد الاسم وجمع الخبر قلنا حمل الاسم على لفظ ( من ) والخبر على معناه كقراءة الحسن إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ ( الصافات 163 ) وقرأ أبي بن كعب إِلاَّ مَن كَانَ يَهُودِيّا أَوْ نَصْرَانِيّا أما قوله تعالى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ فالمراد أن ذلك متمنياتهم ثم إنهم لشدة تمنيهم لذلك قدروه حقاً في نفسه فإن قيل لم قال تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ وقولهم لَن يَدْخُلَ الْجَنَّة َ أمنية واحدة قلنا أشير بها إلى الأماني المذكورة وهي أمنيتهم أن لا ينزل على المؤمنين خير من ربهم وأمنيتهم أن يردوهم كفاراً وأمنيتهم أن لا يدخل الجنة غيرهم أي تلك الأماني الباطلة أمانيهم وقوله تعالى قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ متصل بقوله لَن يَدْخُلَ الْجَنَّة َ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى و تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ اعتراض قال عليه الصلاة والسلام ( الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني ) وقال علي رضي الله عنه ( لا تتكل على المنى فإنها بضائع التولي )
أما قوله تعالى قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ ففيه مسائل
المسألة الأولى هات صوت بمنزلة هاء في معنى أحضر
المسألة الثانية دلت الآية على أن المدعي سواء ادعى نفياً أو إثباتاً فلا بد له من الدليل والبرهان وذلك من أصدق الدلائل على بطلان القول بالتقليد قال الشاعر من ادعى شيئاً بلا شاهد
لا بد أن تبطل دعواه
أما قوله تعالى بَلَى ففيه وجوه الأول أنه إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة الثاني أنه تعالى لما نفى أن يكون لهم برهان أثبت أن لمن أسلم وجهه لله برهاناً الثالث كأنه قيل لهم أنتم على ما أنتم عليه لا تفوزون بالجنة بلى إن غيرتم طريقتكم وأسلمتم وجهكم لله وأحسنتم فلكم الجنة فيكون ذلك ترغيباً لهم في الإسلام وبياناً لمفارقة حالهم لحال من يدخل الجنة لكي يقلعوا عما هم عليه ويعدلوا إلى هذه الطريقة فأما معنى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ فهو إسلام النفس لطاعة الله وإنما خص الوجه بالذكر لوجوه أحدها لأنه أشرف الأعضاء من حيث أنه معدن الحواس والفكر والتخيل فإذا تواضع الأشرف كان غيره أولى وثانيها أن الوجه قد يكنى به عن النفس قال الله تعالى كُلُّ شَى ْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ( القصص 88 ) إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبّهِ الاْعْلَى ( الليل 20 ) وثالثها أن اعظم العبادات السجدة وهي إنما تحصل بالوجه فلا جرم خص الوجه بالذكر ولهذا قال زيد بن عمرو بن نفيل وأسلمت وجهي لمن أسلمت
له الأرض تحمل صخراً ثقالا
وأسلمت وجهي لمن أسلمت
له المزن تحمل عذباً زلالا
فيكون المرء واهباً نفسه لهذا الأمر باذلالها وذكر الوجه وأراد به نفس الشيء وذلك لا يكون إلا بالانقياد والخضوع وإذلال النفس في طاعته وتجنب معاصيه ومعنى ( لله ) أي خالصاً لله لا يشوبه شرك

فلا يكون عابداً مع الله غيره أو معلقاً رجاءه بغيره وفي ذلك دلالة على أن المرء لا ينتفع بعمله إلا إذا فعله على وجه العبادة في الإخلاص والقربة
أما قوله تعالى وَهُوَ مُحْسِنٌ أي لا بد وأن يكون تواضعه لله بفعل حسن لا بفعل قبيح فإن الهند يتواضعون لله لكن بأفعال قبيحة وموضع قوله وَهُوَ مُحْسِنٌ موضع حال كقولك جاء فلان وهو راكب أي جاء فلان راكباً ثم بين أن من جمع بين هذين فله أجره عند ربه يعني به الثواب العظيم ثم مع هذا النعيم لا يلحقه خوف ولا حزن فأما الخوف فلا يكون إلا من المستقبل وأما الحزن فقد يكون من الواقع والماضي كما قد يكون من المستقبل فنبه تعالى بالأمرين على نهاية السعادة لأن النعيم العظيم إذا دام وكثر وخلص من الخوف والحزن فلا يحزن على أمر فاته ولا على أمر يناله ولا يخاف انقطاع ما هو فيه وتغيره فقد بلغ النهاية وفي ذلك ترغيب في هذه الطريقة وتحذير من خلافها الذي هو طريقة الكفار المذكورين من قبل واعلم أنه تعالى وحد أولاً ثم جمع ومثله قوله وَكَمْ مّن مَّلَكٍ فِى السَّمَاوَاتِ ( النجم 26 ) ثم قال شَفَاعَتُهُمْ وقوله وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ ( الأنعام 25 ) وقال في موضع آخر يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ ( يونس 42 ) ( الإسراء 47 ) وقال وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ ( محمد 16 ) ولم يقل خرج واعلم أنا لما فسرنا قوله مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ بالإخلاص فلنذكر ههنا حقيقة الإخلاص وذلك لا يمكن بيانه إلا في مسائل
المسألة الأولى في فضل النية قال عليه الصلاة والسلام ( إنما الأعمال بالنيات ) وقال ( إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أعمالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم ونياتكم ) وفي الإسرائيليات أن رجلاً مر بكثبان من رمل في مجاعة فقال في نفسه لو كان هذا الرمل طعاماً لقسمته بين الناس فأوحى الله تعالى إلى نبيهم قل له إن الله قبل صدقتك وشكر حسن نيتك وأعطاك ثواب ما لو كان طعاماً فتصدقت به
المسألة الثانية الإنسان إذا علم أو ظن أو اعتقد أن له في فعل من الأفعال جلب نفع أو دفع ضر ظهر في قلبه ميل وطلب وهو صفة تقتضي ترجيح وجود ذلك الشيء على عدمه وهي الإرادة فهذه الإرادة هي النية والباعث له على تلك النية ذلك العلم أو الاعتقاد أو الظن إذا عرفت هذا فنقول الباعث على الفعل إما أن يكون أمراً واحداً وإما أن يكون أمرين وعلى التقدير الثاني فإما أن يكون كل واحد منهما مستقلاً بالبعث أو لا يكون واحد منهما مستقلاً بذلك أو يكون أحدهما مستقلاً بذلك دون الآخر فهذه أقسام أربعة الأول أن يكون الباعث واحداً وهو كما إذا هجم على الإنسان سبع فلما رآه قام من مكانه فهذا الفعل لا داعي إليه إلا اعتقاده ما في الهرب من النفع وما في ترك الهرب من الضرر فهذه النية تسمى خالصة ويسمى العمل بموجبها إخلاصاً الثاني أن يجتمع على الفعل باعثان مستقلان كما إذا سأله رفيقه الفقير حاجة فيقضيها لكونه رفيقاً له وكونه فقيراً مع كون كل واحد من الوصفين بحيث لو انفرد لاستقل بالاستقضاء واسم هذا موافقة الباعث الثالث أن لا يستقل واحد منهما لو انفرد لكن المجموع مستقل واسم هذا مشاركة الرابع أن يستقل أحدهما ويكون الآخر معاضداً مثل أن يكون للإنسان ورد من الطاعات فاتفق أن حضر في وقت أدائها جماعة من الناس فصار الفعل عليه أخف بسبب مشاهدتهم واسم هذا معاونة

المسألة الثالثة في تفسير قوله عليه السلام ( نية المؤمن خير من عمله ) ذكروا فيه وجوهاً أحدها أن النية سر والعمل علن وطاعة السر أفضل من طاعة العلانية وهذا ليس بشيء لأنه يقتضي أن تكون نية الصلاة خيراً من نفس الصلاة وثانيها النية تدوم إلى آخر العمل والأعمال لا تدوم والدائم خير من المنقطع وهذا ليس بشيء لأنه يرجع معناه إلى أن العمل الكثير خير من العمل القليل وأيضاً فنية عمل الصلاة قد لا تحصل إلا في لحظات قليلة والأعمال تدوم وثالثها أن النية بمجردها خير من العمل بمجرده وهو ضعيف إذ العمل بلا نية لا خير فيه وظاهر الترجيح للمشتركين في أصل الخيرية ورابعها أن لا يكون المراد من الخير إثبات الأفضلية بل المراد أن النية خير من الخيرات الواقعة بعمله وهو ضعيف لأن حمل الحديث عليه لا يفيد إلا إيضاح الواضحات بل الوجه الجيد في التأويل أن يقال النية ما لم تخل عن جميع أنواع الفتور لا تكون نية جازمة ومتى خلت عن جميع جهات الفتور وجب ترتب الفعل عليها لو لم يوجد عائق وإذا كان كذلك ثبت أن النية لا تنفك البتة عن الفعل فيدعى أن هذه النية أفضل من ذلك العمل وبيانه من وجوه أولها أن المقصود من جميع الأعمال تنوير القلب بمعرفة الله وتطهيره عما سوى الله والنية صفة القلب والفعل ليس صفة القلب وتأثير صفة القلب أقوى من تأثير صفة الجوارح في القلب فلا جرم نية المؤمن خير من عمله وثانيها أنه لا معنى للنية إلا القصد إلى إيقاع تلك الأعمال طاعة للمعبود وانقياداً له وإنما يراد الأعمال ليستحفظ التذكر بالتكرير فيكون الذكر والقصد الذي في القلب بالنسبة إلى العمل كالمقصود بالنسبة إلى الوسيلة ولا شك أن المقصود أشرف من الوسيلة وثالثها أن القلب أشرف من الجسد ففعله أشرف من فعل الجسد فكانت النية أفضل من العمل
المسألة الرابعة اعلم أن الأعمال على ثلاثة أقسام طاعات ومعاصي ومباحات أما المعاصي فهي لا تتغير عن موضوعاتها بالنية فلا يظن الجاهل أن قوله عليه الصلاة والسلام ( إنما الأعمال بالنيات ) يقتضي انقلاب المعصية طاعة بالنية كالذي يطعم فقيراً من مال غيره أو يبني مسجداً من مال حرام الثاني الطاعات وهي مرتبطة بالنيات في الأصل وفي الفضيلة أما في الأصل فهو أن ينوي بها عبادة الله تعالى فإن نوى الرياء صارت معصية وأما الفضيلة فبكثرة النيات تكثر الحسنة كمن قعد في المسجد وينوي فيه نيات كثيرة أولها أن يعتقد أنه بيت الله ويقصد به زيارة مولاه كما قال عليه الصلاة والسلام ( من قعد في المسجد فقد زار الله وحق على المزور إكرام زائره ) وثانيها أن ينتظر الصلاة بعد الصلاة فيكون حال الإنتظار كمن هو في الصلاة وثالثها إغضاء السمع والبصر وسائر الأعضاء كما لا ينبغي فإن الإعتكاف كف وهو في معنى الصوم وهو نوع ترهب ولذلك قال عليه الصلاة والسلام ( رهبانية أمتي القعود في المساجد ) ورابعها صرف القلب ولاسر بالكلية إلى الله تعالى وخامسها إزالة ما سوى الله عن القلب وسادسها أن يقصد إفادة علم أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر وسابعها أن يستفيد أخاً في الله فإن ذلك غنيمة أهل الدين وثامنها أن يترك الذنوب حياء من الله فهذا طريق تكثير النيات وقس به سائر الطاعات
القسم الثالث سائر المباحات ولا شيء منها إلا ويحتمل نية أو نيات يصير بها من محاسن القربات فما أعظم خسران من يغفل عنها ولا يصرفها إلى القربات وفي الخبر من تطيب لله جاء يوم القيامة وريحه أطيب من ريح المسك ومن تطيب لغير الله جاء يوم القيامة وريحه أنتن من الحيفة فإن قلت فاشرح لي كيفية هذه النية فاعلم أن القصد من التطيب إن كان هو التنعم وريحه أنتن من الحيفة فإن قلت فاشرح لي كيفية هذه النية فاعلم أن القصد من التطيب إن كان هو التنعم بلذات الدنيا أو إظهار التفاخر بكثرة المال أو

رياء الخلق أو ليتودد به إلى قلوب النساء فكل ذلك يجعل التطيب معصية وإن كان القصد إقامة السنة ودفع الروائح المؤذية عن عباد الله وتعظيم المسجد فهو عين الطاعة وإذا عرفت ذلك فقس عليه سائر المباحات والضابط أن كل ما فعلته لداعي الحق فهو العمل الحق وكل ما عملته لغير الله فحلالها حساب وحرامها عذاب
المسألة الخامسة اعلم أن الجاهل إذا سمع الوجوه العقلية والنقلية في أنه لا بد من النية فيقول في نفسه عند تدريسه وتجارته نويت أن أدرس لله وأتجر لله يظن أن ذلك نية وهيهات فذاك حديث نفس أو حديث لسان والنية بمعزل عن جميع ذلك إنما النية انبعاث النفس وميلها إلى ما ظهر لها أن فيه غرضها إما عاجلاً وإما آجلاً والميل إذا لم يحصل لم يقدر الإنسان على اكتسابه وهو كقول الشبعان نويت أن أشتهي الطعام أو كقول الفارغ نويت أن أعشق بل لا طريق إلى اكتساب الميل إلى الشيء إلا باكتساب أسبابه وليست هي إلا تحصيل العلم بما فيه من المنافع ثم هذا العلم لا يوجب هذا الميل إلا عند خلو القلب عن سائر الشواغل فإذا غلبت شهوة النكاح ولم يعتقد في الولد غرضاً صحيحاً لا عاجلاً ولا آجلاً لا يمكنه أن يواقع على نية الولد بل لا يمكن إلا على نية قضاء الشهوة إذ النية هي إجابة الباعث ولا باعث إلا الشهوة فكيف ينوي الولد فثبت أن النية ليست عبارة عن القول باللسان أو بالقلب بل هي عبارة عن حصول هذا الميل وذلك أمر معلق بالغيب فقد يتيسر في بعض الأوقات وقد يتعذر في بعضها
المسألة السادسة اعلم أن نيات الناس في الطاعات أقسام فمنهم من يكون عملهم إجابة لباعث الخوف فإنه يتقي النار ومنهم من يعمل لباعث الرجاء وهو الرغبة في الجنة والعامل لأجل الجنة عامل لبطنه وفرجه كالأجير السوء ودرجته درجة البله وأما عبادة ذوي الألباب فلا تجاوز ذكر الله والفكر فيه حباً لجلاله وسائر الأعمال مؤكدات له وهم الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه وثواب الناس بقدر نياتهم فلا جرم صار المقربون متنعمين بالنظر إلى وجهه الكريم ونسبة شرف الالتذاذ بنعيم الجنة إلى شرف الالتذاذ بهذا المقام كنسبة نعيم الجنة إلى وجهه الكريم
وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَى ْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَى ْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَالِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ
اعلم أنه تعالى لما جمعهم في الخبر الأول فصلهم في هذه الآية وبين قول كل فريق منهم في الآخر وكيف ينكر كل طائفة دين الأخرى وههنا مسائل

المسألة الأولى قوله لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَى ْء أي على شيء يصح ويعتد به وهذه مبالغة عظيمة وهو كقولهم أقل من لا شيء ونظيره قوله تعالى قُلْ ياأَهْلَ أَهْلِ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَى ْء حَتَّى تُقِيمُواْ التَّوْرَاة َ ( المائدة 68 ) فإن قيل كيف قالوا ذلك مع أن الفريقين كانا يثبتان الصانع وصفاته سبحانه وتعالى وذلك قول فيه فائدة قلنا الجواب من وجهين الأول أنهم لما ضموا إلى ذلك القول الحسن قولاً باطلاً يحبط ثواب الأول فكأنهم ما أتوا بذلك الحق الثاني أن يخص هذا العام بالأمور التي اختلفوا فيه وهي ما يتصل بباب النبوات
المسألة الثانية روي أن وفد نجران لما قدموا على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أتاهم أحبار اليهود فتناظروا حتى ارتفعت أصواتهم فقالت اليهود ما أنتم على شيء من الدين وكفروا بعيسى عليه السلام والإنجيل وقالت النصارى لهم نحوه وكفروا بموسى عليه السلام والتوراة
المسألة الثالثة اختلفوا فيمن هم الذين عناهم الله تعالى أهم الذين كانوا من بعثة عيسى عليه السلام أو في زمن محمد عليه السلام والظاهر الحق أنه لا دليل في الظاهر عليه وإن كان الأولى أن يحمل على كل اليهود وكل النصارى بعد بعثة عيسى عليه السلام ولا يجب لما نقل في سبب الآية أن يهوديا خاطب النصارى بذلك فأنزل الله هذه الآية أن لا يراد بالآية سواه إذا أمكن حمله على ظاهره وقوله وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَى ْء يفيد العموم فما الوجه في حمله على التخصيص ومعلوم من طريقة اليهود والنصارى أنهم منذ كانوا فهذا قول كل فريق منهما في الآخر
أما قوله تعالى وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ قالوا وللحال والكتاب للجنس أي قالوا ذلك وحالهم أنهم من أهل العلوم والتلاوة للكتب وحق من حمل التوراة أو الإنجيل أو غيرهما من كتب الله وآمن به أن لا يكفر بالباقي لأن كل واحد من الكتابين مصدق للثاني شاهد لصحته فإن التوراة مصدقة بعيسى عليه السلام والإنجيل مصدق بموسى عليه السلام
أما قوله تعالى كَذالِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ فإنه يقتضي أن من تقدم ذكره يجب أن يكون عالماً لكي يصح هذا الفرق فبين تعالى أنهم مع المعرفة والتلاوة إذا كانوا يختلفون هذا الاختلاف فكيف حال من لايعلم واعلم أن هذه الواقعة بعينها قد وقعت في أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإن كل طائفة تكفر الأخرى مع اتفاقهم على تلاوة القرآن ثم اختلفوا فيمن هم الذين لا يعلمون على وجوه أولها أنهم كفار العرب الذين قالوا إن المسلمين ليسوا على شيء فبين تعالى أنه إذا كان قول اليهود والنصارى وهم يقرأون الكتب لا ينبغي أن يقبل ويلتفت إليه فقول كفار العرب أولى أن لا يلتفت إليه وثانيها أنه إذا حملنا قوله وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَى ْء على الذين كانوا حاضرين في زمان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) حملنا قوله كَذالِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ على المعاندين وعكسه أيضاً محتمل وثالثها أن يحمل قوله وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَى ْء على علمائهم ويحمل قوله كَذالِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ على عوامهم فصلا بين خواصهم وعوامهم والأول أقرب لأن كل اليهود والنصارى دخلوا في الآية فمن ميز عنهم بقوله كَذالِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ يجب أن يكون غيرهم
أما قوله تعالى فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ ففيه أربعة أوجه أحدها قال الحسن يكذبهم جميعاً ويدخلهم النار وثانيها حكم الانتصاف من الظالم المكذب للمظلوم المكذب وثالثها يريهم من يدخل الجنة عياناً ومن يدخل النار عياناً وهو قول الزجاج ورابعها يحكم بين المحق والمبطل فيما اختلفوا فيه والله أعلم

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِى خَرَابِهَآ أُوْلَائِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلاَّ خَآئِفِينَ لَهُمْ فِى الدُّنْيَا خِزْى ٌ وَلَهُمْ فِى الاٌّ خِرَة ِ عَذَابٌ عَظِيمٌ
اعلم أن في هذه الآية مسائل
المسألة الأولى اجمع المفسرون على أنه ليس المراد من هذه الآية مجرد بيان الشرط والجزاء أعني مجرد بيان أن من فعل كذا فإن الله يفعل به كذا بل المراد منه بيان أن منهم من منع عمارة المساجد وسعى في خرابها ثم أن الله تعالى جازاهم بما ذكر في الآية إلا أنهم اختلفوا في أن الذين منعوا من عمارة المسجد وسعوا في خرابه من هم وذكروا فيه أربعة أوجه أولها قال ابن عباس أن ملك النصارى غزا بيت المقدس فخربه وألقى فيه الجيف وحاصر أهله وقتلهم وسبى البقية وأحرق التوراة ولم يزل بيت المقدس خراباً حتى بناه أهل الإسلام في زمن عمر وثانيها قال الحسن وقتادة والسدي نزلت في بختنصر حيث خرب بيت المقدس وبعض النصارى أعانه على ذلك بغضاً لليهود
قال أبو بكر الرازي في أحكام القرآن هذان الوجهان غلطان لأنه لا خلاف بين أهل العلم بالسير أن عهد بختنصر كان قبل مولد المسيح عليه السلام بدهر طويل والنصارى كانوا بعد المسيح فكيف يكونون مع بختنصر في تخريب بيت المقدس وأيضاً فإن النصارى يعتقدون في تعظيم بيت المقدس مثل اعتقاد اليهود وأكثر فكيف أعانوا على تخريبه وثالثها أنها نزلت في مشركي العرب الذين منعوا الرسول عليه الصلاة والسلام عن الدعاء إلى الله بمكة وألجؤه إلى الهجرة فصاروا مانعين له ولأصحابه أن يذكروا الله في المسجد الحرام وقد كان الصديق رضي الله عنه بنى مسجداً عند داره فمنع وكان ممن يؤذيه ولدان قريش ونساؤهم وقيل إن قوله تعالى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا ( الإسراء 110 ) نزلت في ذلك فمنع من الجهر لئلا يؤذى وطرح أبو جهل العذرة على ظهر لنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقيل ومن أظلم من هؤلاء المشركين الذين يمنعون المسلمين الذين يوحدون الله ولا يشركون به شيئاً ويصلون له تذللاً وخشوعاً ويشغلون قلوبهم بالفكر فيه وألسنتهم بالذكر له وجميع جسدهم بالتذلل لعظمته وسلطانه ورابعها قال أبو مسلم المراد منه الذين صدوه عن المسجد الحرام حين ذهب إليه من المدينة عام الحديبية واستشهد بقوله تعالى هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ( الفتح 25 ) وبقوله وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ( الأنفال 34 ) وحمل قوله إِلاَّ خَائِفِينَ بما يعلى الله من يده ويظهر من كلمته كما قال في المنافقين لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُواْ أُخِذُواْ وَقُتّلُواْ تَقْتِيلاً ( الأحزاب 60 61 ) وعندي فيه وجه خامس وهو أقرب إلى رعاية النظم وهو أن يقال أنه لما حولت القبلة إلى الكعبة شق ذلك على اليهود فكانوا يمنعون الناس عن الصلاة عند توجههم إلى الكعبة

ولعلهم سعوا أيضاً في تخريب الكعبة بأن حملوا بعض الكفار على تخريبها وسعوا أيضاً في تخريب مسجد الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لئلا يصلوا فيه متوجهين إلى القبلة فعابهم الله بذلك وبين سوء طريقتهم فيه وهذا التأويل أولى مما قبله وذلك لأن الله تعالى لم يذكر في الآيات السابقة على هذه الآية إلا قبائح أفعال اليهود والنصارى وذكر أيضاً بعدها قبائح أفعالهم فكيف يليق بهذه الآية الواحدة أن يكون المراد منها قبائح أفعال المشركين في صدهم الرسول عن المسجد الحرام وأما حمل الآية على سعي النصارى في تخريب بيت المقدس فضعيف أيضاً على ما شرحه أبو بكر الرازي فلم يبق إلا ما قلناه
المسألة الثانية في كيفية اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه فأما من حملها على النصارى وخراب بيت المقدس قال تتصل بما قبلها من حيث أن النصارى ادعوا أنهم من أهل الجنة فقط فقيل لهم كيف تكونون كذلك مع أن معاملتكم في تخريب المساجد والسعي في خرابها هكذا وأما من حمله على المسجد الحرام وسائر المساجد قال جرى ذكر مشركي العرب في قوله كَذالِكَ قَالَ الَّذِينَ قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ ( البقرة 113 ) وقيل جرى ذكر جميع الكفار وذمهم فمرة وجه الذم إلى اليهود والنصارى ومرة إلى المشركين
المسألة الثالثة قوله مَسَاجِدَ اللَّهِ عموم فمنهم من قال المراد به كل المساجد ومنهم من حمله على ما ذكرناه من المسجد الحرام وغيره من مساجد مكة وقالوا قد كان لأبي بكر رضي الله عنه مسجد بمكة يدعو الله فيه فخربوه قبل الهجرة ومنهم من حمله على المسجد الحرام فقط وهو قول أبي مسلم حيث فسر المنع بصد الرسول عن المسجد الحرام عام الحديبية فإن قيل كيف يجوز حمل لفظ المساجد على مسجد واحد قلنا فيه وجوه أحدها هذا كمن يقول لمن آذى صالحاً واحداً ومن أظلم ممن آذى الصالحين وثانيها أن المسجد موضع السجود فالمسجد الحرام لا يكون في الحقيقة مسجداً واحداً بل مساجد
المسألة الرابعة قوله أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ في محل النصب واختلفوا في العامل فيه على أقوال الأول أنه ثاني مفعولي منع لأنك تقول منعته كذا ومثله وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالاْيَاتِ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ الثاني قال الأخفش يجوز أن يكون على حذف ( من ) كأنه قيل منع مساجد الله من أن يذكر فيها اسمه الثالث أن يكون على البدل من مساجد الله الرابع قال الزجاج يجوز أن يكون على معنى كراهة أن يذكر فيها اسمه والعامل فيه ( منع )
المسألة الخامسة السعي في تخريب المسجد قد يكون لوجهين أحدهما منع المصلين والمتعبدين والمتعهدين له من دخوله فيكون ذلك تخريباً والثاني بالهدم والتخريب وليس لأحد أن يقول كيف يصح أن يتأول على بيت الله الحرام ولم يظهر فيه التخريب لأن منع الناس من إقامة شعار العبادة فيه يكون تخريباً له وقيل إن أبا بكر رضي الله عنه كان له موضع صلاة فخربته قريش لما هاجر
المسألة السادسة ظاهر الآية يقتضي أن هذا الفعل أعظم أنواع الظلم وفيه إشكال لأن الشرك ظلم على ما قال تعالى إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( لقمان 13 ) مع أن الشرك أعظم من هذا الفعل وكذا الزنا وقتل النفس أعظم من هذا الفعل والجواب عنه أقصى ما في الباب أنه عام دخله التخصيص فلا يقدح فيه
أما قوله تعالى أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ فاعلم أن في الآية مسائل

المسألة الأولى ظاهر الكلام أن الذين آمنوا وسعوا في تخريب المسجد هم الذين يحرم عليهم دخوله إلا خائفين وأما من يجعله عاماً في الكل فذكروا في تفسير هذا الخوف وجوهاً أحدها ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا مساجد الله إلا خائفين على حال الهيبة وارتعاد الفرائص من المؤمنين أن يبطشوا بهم فضلاً أن يستولوا عليهم ويمنعوا المؤمنين منها والمعنى ما كان الحق والواجب إلا ذلك لولا ظلم الكفرة وعتوهم وثانيها أن هذا بشارة من الله للمسلمين بأنه سيظهرهم على المسجد الحرام وعلى سائر المساجد وأنه يذل المشركين لهم حتى لايدخل المسجد الحرام واحد منهم إلا خائفاً يخاف أن يؤخذ فيعاقب أو يقتل أن لم يسلم وقد أنجز الله صدق هذا الوعد فمنعهم من دخول المسجد الحرام ونادى فيهم عام حج أبو بكر رضي الله عنه ألا لا يحجن بعد العام مشرك وأمر النبي عليه الصلاة والسلام بإخراج اليهود من جزيرة العرب فحج من العام الثاني ظاهراً على المساجد لا يجترىء أحد من المشركين أن يحج ويدخل المسجد الحرام وهذا هو تفسير أبي مسلم في حمل المنع من المساجد على صدهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن المسجد الحرام عام الحديبية ويحمل هذا الخوف على ظهور أمر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وغلبته لهم بحيث يصيرون خائفين منه ومن أمته وثالثها أن يحمل هذا الخوف على ما يلحقهم من الصغار والذل بالجزية والإذلال ورابعها أنه يحرم عليهم دخول المسجد الحرام إلا في أمر يتضمن الخوف نحو أن يدخلوا للمخاصمة والمحاكمة والمحاجة لأن كل ذلك يتضمن الخوف والدليل عليه قوله تعالى مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ ( التوبة 17 ) وخامسها قال قتادة والسدي قوله إِلاَّ خَائِفِينَ بمعنى أن النصارى لا يدخلون بيت المقدس إلا خائفين ولا يوجد فيه نصراني إلا أوجع ضرباً وهذا التأويل مردود لأن بيت المقدس بقي أكثر من مائة سنة في أيدي النصارى بحيث لم يتمكن أحد من المسلمين من الدخول فيه إلا خائفاً إلى أن استخلصه الملك صلاح الدين رحمه الله في زماننا وسادسها أن قوله مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ وإن كان لفظه لفظ الخبر لكن المراد منه النهي عن تمكينهم من الدخول والتخلية بينهم وبينه كقوله وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ اللَّهِ ( الأحزاب 53 )
أما قوله تعالى لَهُمْ فِى الدُّنْيَا خِزْى ٌ فقد اختلفوا في الخزي فقال بعضهم ما يلحقهم من الذل بمنعهم من المساجد وقال آخرون بالجزية في حق أهل الذمة وبالقتل في حق أهل الحرب واعلم أن كل ذلك محتمل فإن الخزي لا يكون إلا ما يجري مجرى العقوبة من الهوان والإذلال فكل ما هذه صفته يدخل تحته وذلك ردع من الله تعالى عن ثباتهم على الكفر لأن الخزي الحاضر يصرف عن التمسك بما يوجبه ويقتضيه وأما العذاب العظيم فقد وصفه الله تعالى بما جرى مجرى النهاية في المبالغة لأن الذين قدم ذكرهم وصفهم بأعظم الظلم فبين أنهم يستحقون العقاب العظيم وفي الآية مسألتان
المسألة الأولى في أحكام المساجد وفيه وجوه الأول في بيان فضل المساجد ويدل عليه القرآن والأخبار والمعقول أما القرآن فآيات أحدها قوله تعالى وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أَحَداً ( الجن 18 ) أضاف المساجد إلى ذاته يلزم الاختصاص ثم أكد ذلك الاختصاص بقوله فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أَحَداً وثانيها قوله تعالى إِنَّمَا يَعْمُرُ

مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ ( التوبة 18 ) فجعل عمارة المسجد دليلاً على الإيمان بل الآية تدل بظاهرها على حصر الإيمان فيهم لأن كلمة إنما للحصر وثالثها قوله تعالى فِى بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوّ وَالاْصَالِ ( النور 36 ) ورابعها هذه الآية التي نحن في تفسيرها وهي قوله تعالى وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ فإن ظاهرها يقتضي أن يكون الساعي في تخريب المساجد أسوأ حالاً من المشرك لأن قوله ومن أظلم يتناول المشرك لأنه تعالى قال يتناول المشرك لأنه تعالى قال إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( لقمان 13 ) فإذا كان الساعي في تخريبه في أعظم درجات الفسق وجب أن يكون الساعي في عمارته في أعظم درجات الإيمان وأما الأخبار فأحدها ما روى الشيخان في صحيحيهما أن عثمان بن عفان رضي الله عنه أراد بناء المسجد فكره الناس ذلك وأحبوا أن يدعه فقال عثمان رضي الله عنه سمعت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( من بنى لله مسجداً بنى الله له كهيئته في الجنة ) وفي رواية أخرى ( بنى الله له بيتاً في الجنة ) وثانيها ما روى أبو هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال ( أحب البلاد إلى الله تعالى مساجدها وأبغض البلاد إلى الله أسواقها ) واعلم أن هذا الخبر تنبيه على ما هو السر العقلي في تعظيم المساجد وبيانه أن الأمكنة والأزمنة إنما تتشرف بذكر الله تعالى فإذا كان المسجد مكاناً لذكر الله تعالى حتى أن الغافل عن ذكر الله إذا دخل المسجد اشتغل بذكر الله والسوق على الضد من ذلك لأنه موضع البيع والشراء والإقبال على الدنيا وذلك مما يورث الغفلة عن الله والأعراض عن التفكر في سبيل الله حتى أن ذاكر الله إذا دخل السوق فإنه يصير غافلاً عن ذكر الله لا جرم كانت المساجد أشرف المواضع والأسواق أخس المواضع الثاني في فضل المشي إلى المساجد ( أ ) عن أبي هريرة قال قال عليه الصلاة والسلام ( من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله كانت خطواته إحداها تحط خطيئته والأخرى ترفع درجته ) رواه مسلم ( ب ) أبو هريرة قال قال عليه الصلاة والسلام ( من غدا أو راح إلى المسجد أعد الله له في الجنة منزلاً كلما غدا أو راح ) أخرجاه في الصحيح ( ج ) أبي بن كعب قال كان رجل ما أعلم أحداً من أهل المدينة ممن يصلى إلى القبلة أبعد منزلاً منه من المسجد وكان لا تخطئه الصلوات مع الرسول عليه السلام فقيل له لو اشتريت حماراً لتركبه في الرمضاء والظلماء فقال والله ما أحب أن منزلي بلزق المسجد فأخبر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بذلك فسأله فقال يا رسول الله كيما يكتب أثري وخطاي ورجوعي إلى أهلي وإقبالي وإدباري فقال عليه الصلاة والسلام ( لك ما احتسبت أجمع ) أخرجه مسلم ( د ) جابر قال خلت البقاع حول المسجد فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا إلى قرب المسجد فبلغ ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال لهم ( أنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا إلى قرب المسجد فقالوا نعم قد أردنا ذلك قال يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم ) رواه مسلم وعن أبي سعيد الخدري أن هذه الآية نزلت في حقهم إِنَّا نَحْنُ نُحْى ِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَءاثَارَهُمْ ( يس 12 ) ( ه ) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( إن أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم إلى المسجد مشياً والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام في جماعة أعظم أجراً ممن يصليها ثم ينام ) أخرجاه في الصحيح ( و ) عقبة بن عامر الجهني أنه عليه السلام قال ( إذا تطهر الرجل ثم مر إلى المسجد يرعى الصلاة كتب له كاتبه أو كاتباه بكل خطوة يخطوها إلى المسجد عشر حسنات والقاعد الذي يرعى الصلاة كالقانت ويكتب من المصلين من حين يخرج من بيته حتى يرجع ) ( ز ) عن سعيد بن المسيب قال حضر رجلاً من الأنصار الموت فقال لأهله من في البيت فقالوا

أهلك وأما أخوتك وجلساؤك ففي المسجد فقال ارفعوني فأسنده رجل منهم إليه ففتح عينيه وسلم على القوم فردوا عليه وقالوا له خيراً فقال إني مورثكم اليوم حديثاً ما حدثت به أحداً منذ سمعته من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) احتساباً وما أحدثكموه اليوم إلا احتساباً سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( من توضأ في بيته فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد يصلي في جماعة المسلمين لم يرفع رجله اليمنى إلا كتب الله له بها حسنة ولم يضع رجله اليسرى إلا حط الله عنه بها خطيئة حتى يأتي المسجد فإذا صلى بصلاة الإمام انصرف وقد غفر له فإن هو أدرك بعضها وفاته بعض كان كذلك ) ( ح ) عن أبي هريرة أنه عليه السلام قال ( من توضأ فأحسن وضوءه ثم راح فوجد الناس قد صلوا أعطاه الله مثل أجر من صلاها وحضرها ولم ينقص ذلك من أجرهم شيئاً ) ( ط ) أبو هريرة قال عليه السلام ( ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات قالوا بلى يا رسول الله قال إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط ) رواه أبو مسلم ( ي ) قال أبو سلمة بن عبد الرحمن لداود بن صالح هل تدري فيم نزلت الْحِسَابِ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ ( آل عمران 200 ) قال قلت لا يا ابن أخي قال سمعت أبا هريرة يقول لم يكن في زمان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) غزو يرابط فيه ولكن انتظار الصلاة بعد الصلاة ( يا ) بريدة قال عليه السلام ( بشر المشائين في الظلم إلى المسجد بالنور التام يوم القيامة ) قال النخعي كانوا يرون المشي إلى المسجد في الليلة المظلمة موجبة ( يب ) قال الأوزاعي كان يقال خمس كان عليها أصحاب محمد عليه السلام والتابعون بإحسان لزوم الجماعة واتباع السنة وعمارة المسجد وتلاوة القرآن والجهاد في سبيل الله ( يج ) أبو هريرة قال عليه السلام ( من بنى لله بيتاً يعبد الله فيه من مال حلال بنى الله له بيتاً في الجنة من دور ياقوت ( يد ) أبو ذر قال عليه السلام ( من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة ) ( يه ) أبو سعيد الخدري قال عليه السلام ( إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان فإن الله تعالى قال إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ ) ( التوبة 18 ) ( يو ) عن بعض أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنهم قالوا إن المساجد بيوت الله وأنه لحق على الله أن يكرم من زاره فيها ( يز ) أنس قال عليه السلام ( إن عمار بيوت الله هم أهل بيوت الله ) ( يح ) أنس قال عليه السلام ( يقول الله تعالى كأني لأهم بأهل الأرض عذاباً فإذا نظرت إلى عمار بيوتي والمتحابين في وإلى المستغفرين بالأسحار صرفت عنهم ) ( يط ) عن أنس قال عليه السلام ( إذا أنزلت عاهة من السماء صرفت عن عمار المساجد ) ( ك ) كتب سلمان إلى أبي الدرداء يا أخي ليكن بيتك المساجد فإني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( المسجد بيت كل تقي وقد ضمن الله لمن كانت المساجد بيوتهم بالروح والرحمة والجواز على الصراط إلى رضوان الله تعالى ) ( كا ) قال سعيد بن المسيب عن عبد الله بن سلام إن المساجد أوتاداً من الناس وإن لهم جلساء من الملائكة فإذا فقدوهم سألوا عنهم وإن كانوا مرضى عادوهم وإن كانوا في حاجة أعانوهم ( كب ) الحسن قال عليه السلام ( يأتي على الناس زمان يكون حديثهم في مساجدهم في أمر دنياهم فلا تجالسوهم فليس لله فيهم حاجة ) ( كج ) أبو هريرة قال عليه السلام ( إن للمنافقين علامات يعرفون بها تحيتهم لعنة وطعامهم نهبة وغنيمتهم غلول لا يقربون المساجد إلا هجراً ولا الصلاة إلا دبراً لا يتألفون ولا يؤلفون خشب بالليل سحب بالنهار ) ( كد ) أبو سعيد الخدري وأبو هريرة قال عليه السلام ( سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله إمام عادل وشاب نشأ في عبادة الله ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه ورجلان تحابا

في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه ورجل دعته امرأة ذات حسن وجمال فقال إني أخاف الله ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ) هذا حديث أخرجه الشيخان في الصحيحين ( كه ) عقبة بن عامر عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( من خرج من بيته إلى المسجد كتب له كاتبه بكل خطوة يخطوها عشر حسنات والقاعد في المسجد ينتظر الصلاة كالقانت ويكتب من المصلين حتى يرجع إلى بيته ) ( كو ) روى عبد الله بن المبارك عن حكيم بن زريق بن الحكم قال سمعت سعيد بن المسيب وسأله أبي أحضور الجنازة أحب إليك أم القعود في المسجد قال من صلى على جنازة فله قيراط ومن تبعها حتى تقبر فله قيراطان والجلوس في المسجد أحب إلي تسبح الله وتهلل وتستغفر والملائكة تقول آمين اللهم اغفر له اللهم ارحمه فإذا فعلت ذلك فقل اللهم اغفر لسعيد بن المسيب الثالث في تزيين المساجد ( أ ) ابن عباس قال عليه الصلاة والسلام ( ما أمرت بتشييد المساجد ) والمراد من التشييد رفع البناء وتطويله ومنه قوله تعالى فِى بُرُوجٍ مُّشَيَّدَة ٍ ( النساء 78 ) وهي التي يطول بناؤها ( ب ) أمر عمر ببناء مسجد وقال للبناء أكن الناس من المطر وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس ( ج ) روى أن عثمان رأى أثرجة من جص معلقة في المسجد فأمر بها فقطعت ( د ) قال أبو الدرداء إذا حليتم مصاحفكم وزينتم مساجدكم فالدمار عليكم ( ه ) قال أبو قلابة غدونا مع أنس بن مالك إلى الزواية فحضرت صلاة الصبح فمررنا بمسجد فقال أنس لو صلينا في هذا المسجد فقال بعض القوم حتى نأتي المسجد الآخر فقال أنس أي مسجد قالوا مسجد أحدث الآن فقال أنس إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( سيأتي على أمتي زمان يتباهون في المساجد ولا يعمرونها إلا قليلاً ) الرابع في تحية المسجد في الصحيحين عن أبي قتادة السلمي أنه عليه الصلاة والسلام قال ( إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس ) واعلم أن القول بذلك مذهب الحسن البصري ومكحول وقول الشافعي وأحمد وإسحق وذهب قوم إلى أنه يجلس ولا يصلي وإليه ذهب ابن سيرين وعطاء بن أبي رباح والنخعي وقتادة وبه قال مالك والثوري وأصحاب الرأي الخامس فيما يقول إذا دخل المسجد روت فاطمة بنت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن أبيها قالت ( كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلم وقال رب اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج صلى على محمد وسلم وقال قال رب اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك ) السادس في فضيلة القعود في المسجد لانتظار الصلاة ( أ ) أبو هريرة قال عليه الصلاة والسلام ( الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه فتقول اللهم اغفر له اللهم ارحمه ما لم يحدث ) وروي أن عثمان بن مظعون أتى النبي عليه الصلاة والسلام فقال ائذن لي في الاختصاء فقال عليه الصلاة والسلام ( ليس منا من خصي أو اختصى إن خصاء أمتي الصيام ) فقال يا رسول الله ائذن لي في السياحة فقال ( إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله ) فقال يا رسول الله ائذن لي في الترهب فقال ( إن ترهب أمتي الجلوس في المساجد انتظاراً للصلاة ) السابع في كراهية البيع والشراء في المسجد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن تناشد الأشعار في المساجد وعن البيع والشراء فيه وعن أن يتحلق الناس في المساجد

يوم الجمعة قبل الصلاة واعلم أنه كره قوم من أهل العلم البيع والشراء في المسجد وبه يقول أحمد وإسحق وعطاء بن يسار وكان إذا مر عليه بعض من يبيع في المسجد قال عليك بسوق الدنيا فإنما هذا سوق الآخرة وكان لسالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم رحبة إلى جنب المسجد سماها البطحاء وقال من أراد أن يلغط أو ينشد شعراً أو يرفع صوتاً فليخرج إلى هذه الرحبة واعلم أن الحديث الذي رويناه يدل على كراهية التحلق والاجتماع يوم الجمعة قبل الصلاة لمذاكرة العلم بل يشتغل بالذكر والصلاة والإنصات للخطبة ثم لا بأس بالاجتماع والتحلق بعد الصلاة وأما طلب الضالة في المسجد ورفع الصوت بغير الذكر فمكروه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد فليقل لا ردها الله عليك فإن المساجد لم تبن لهذا وعن أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً أنه عليه الصلاة والسلام قال ( إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا لا أربح الله تجارتك ) قال أبو سليمان الخطابي رحمه الله ويدخل في هذا كل أمر لم يبن له المسجد من أمور معاملات الناس واقتضاء حقوقهم وقد كره بعض السلف المسألة في المسجد وكان بعضهم يرى أن لا يتصدق على السائل المتعرض في المسجد وورد النهي عن إقامة الحدود في المساجد قال عمر فيمن لزمه حد أخرجاه من المسجد ويذكر عن علي رضي الله عنه مثله وقال معاذ بن جبل إن المساجد طهرت من خمس من أن يقام فيها الحدود أو يقبض فيها الخراج أو ينطق فيها بالأشعار أو ينشد فيها الضالة أو تتخذ سوقاً ولم ير بعضهم بالقضاء في المسجد بأساً لأن النبي عليه الصلاة والسلام لاعن بين العجلاني وامرأته في المسجد ولاعن عمر عند منبر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقضى شريح والشعبي ويحيى بن يعمر في المسجد وكان الحسن وزرارة بن أوفى يقضيان في الرحبة خارجاً من المسجد الثامن في النوم في المسجد في الصحيحين عن عباد بن تميم عن عمه أنه رأى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مستلقياً في المسجد واضعاً إحدى رجليه على الأخرى وعن ابن شهاب قال كان ذلك من عمر وعثمان وفيه دليل على جواز الاتكاء والاضطجاع وأنواع الاستراحة في المسجد مثل جوازها في البيت إلا الانبطاح فإنه عليه الصلاة والسلام نهى عنه وقال أنها ضجعة يبغضها الله وعن نافع أن عبد الله كان شاباً أعزب لا أهل له فكان ينام في مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ورخص قوم من أهل العلم في النوم في المسجد وقال ابن عباس لا تتخذوه مبيتاً أو مقيلاً التاسع في كراهية البزاق في المسجد عن أنس عن النبي عليه الصلاة والسلام قال ( البزاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها ) وفي الصحيح عن أبي ذر قال عليه الصلاة والسلام ( عرضت عليّ أعمال أمتي حسنها وسيئها فوجدت من محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق ووجدت في مساويء أعمالها النخامة تكون في المسجد لا تدفن ) وفي الحديث ( إن المسجد لينزوي من النخامة كما تنزوي الجلدة في النار ) أي ينضم وينقبض فقال بعضهم المراد أن كونه مسجداً يقتضي التعظيم والقاء النخامة يقتضي التحقير وبينهما منافاة فعبر عليه الصلاة والسلام عن تلك المنافاة بقوله لينزوي وقال آخرون أراد أهل المسجد وهم الملائكة وفي الصحيحين عن همام بن منبه قال هذا ما حدثنا أبو هريرة عن محمد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصق أمامه فإنه يناجي الله ما دام في مصلاه ولا عن يمينه

فإن عن يمينه ملكاً ولكن ليبصق عن شماله أو تحت رجليه فيدفنه ) وعن أنس أنه عليه الصلاة والسلام رأى نخامة في القبلة فشق ذلك عليه حتى رؤي في وجهه فقام فحكه بيده وقال ( إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنه يناجي ربه فلا يبزقن أحدكم في قبلته ولكن عن يساره أو تحت قدمه قال ثم أخذ طرف ردائه فبصق فيه ثم رد بعضه على بعض وقال يفعل هكذا ) أخرجه البخاري في صحيحه العاشر في الثوم والبصل في الصحيحين عن أنس وابن عمر وجابر قال عليه الصلاة والسلام ( من أكل من هذه الشجرة المنتنة فلا يقربن مسجدنا فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الإنس ) وعن جابر أنه عليه الصلاة والسلام قال ( من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزل مسجدنا ) وأن النبي عليه الصلاة والسلام أتى بقدر فيه خضر فوجد لها ريحاً فسأل فأخبر بما فيه من البقول فقال ( قربوها إلى بعض من كان حاضراً وقال له كل فإني أناجي من لا تناجي ) أخرجاه في الصحيحين الحادي عشر في المساجد في الدور عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ببناء المسجد في الدور وأن ينظف ويطيب أنس بن مالك قال كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في المسجد ومعه أصحابه إذ جاء أعرابي فبال في المسجد فقال أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مه مه فقال عليه الصلاة والسلام ( لا تزرموه ) ثم دعاه فقال ( إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من العذرة والبول والخلاء إنما هي لقراءة القرآن وذكر الله والصلاة ) ثم دعا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بدلو من ماء فصبوا عليه
المسألة الثانية اختلف الفقهاء في دخول الكافر المسجد فجوزه أبو حنيفة مطلقاً وأباه مالك مطلقاً وقال الشافعي رضي الله عنه يمنع من دخول الحرم والمسجد الحرام احتج الشافعي بوجوه أولها قوله تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَاذَا ( التوبة 28 ) قال الشافعي قد يكون المراد من المسجد الحرام الحرم لقوله تعالى سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ( الإسراء 1 ) وإنما أسرى به من بيت خديجة فالآية دالة إما على المسجد فقط أو على الحرم كله وعلى التقديرين فالمقصود حاصل لأن الخلاف حاصل فيهما جميعاً فإن قيل المراد به الحج ولهذا قال بَعْدَ عَامِهِمْ هَاذَا لأن الحج إنما يفعل في السنة مرة واحدة قلنا هذا ضعيف لوجوه أحدها إنه ترك للظاهر من غير موجب الثاني ثبت في أصول الفقه أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بكون ذلك الوصف علة لذلك الحكم وهذا يقتضي أن المانع من قربهم من المسجد الحرام نجاستهم وذلك يقتضي أنهم ما داموا مشركين كانوا ممنوعين عن المسجد الحرام الثالث أنه تعالى لو أراد الحج لذكر من البقاع ما يقع فيه معظم أركان الحج وهو عرفة الرابع الدليل على أن المراد دخول الحرم لا الحج فقط قوله تعالى وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَة ً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ( التوبة 28 ) فأراد به الدخول للتجارة وثانيها قوله تعالى أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ وهذا يقتضي أن يمنعوا من دخول المسجد وأنهم متى دخلوا كانوا خائفين من الإخراج إلا ما قام عليه الدليل فإن قيل هذه الآية مخصوصة بمن خرب بيت المقدس أو بمن منع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من العبادة في الكعبة وأيضاً فقوله مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ ليس المراد منه خوف الإخراج بل خوف الجزية والإخراج قلنا الجواب عن الأول أن قوله تعالى وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ ظاهر في العموم فتخصيصه ببعض الصور خلاف

الظاهر وعن الثاني أن الظاهر قوله مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ يقتضي أن يكون ذلك الخوف إنما حصل من الدخول وعلى ما يقولونه لا يكون الخوف متولداً من الدخول بل من شيء آخر فسقط كلامهم وثالثها قوله تعالى مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ ( التوبة 17 ) وعمارتها تكون بوجهين أحدهما بناؤها وإصلاحها والثاني حضورها ولزومها كما تقول فلان يعمر مسجد فلان أي يحضره ويلزمه وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان ) وذلك لقوله تعالى إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ ( التوبة 18 ) فجعل حضور المساجد عمارة لها ورابعها أن الحرم واجب التعظيم لقوله عليه الصلاة والسلام في الدعاء ( اللهم زد هذا البيت تشريفاً وتعظيماً ومهابة ) فصونه عما يوجب تحقيره واجب وتمكين الكفار من الدخول فيه تعريض للبيت للتحقير لأنهم لفساد اعتقادهم فيه ربما استخفوا به وأقدموا على تلويثه وتنجيسه وخامسها أن الله تعالى أمر بتطهير البيت في قوله وَطَهّرْ بَيْتِى َ لِلطَّائِفِينَ ( الحج 26 ) والمشرك نجس لقوله تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ( التوبة 28 ) والتطهير على النجس واجب فيكون تبعيد الكفار عنه واجباً وسادسها أجمعنا على أن الجنب يمنع منه فالكافر بأن يمنع منه أولى إلا أن هذا مقتضى مذهب مالك وهو أن يمنع عن كل المساجد واحتج أبو حنيفة رحمه الله بأمور الأول روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قدم عليه وفد يثرب فأنزلهم المسجد الثاني قوله عليه الصلاة والسلام ( من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن دخل الكعبة فهو آمن ) وهذا يقتضي إباحة الدخول الثالث الكافر جاز له دخول سائر المساجد فكذلك المسجد الحرام كالمسلم والجواب عن الحديثين الأولين أنهما كانا في أول الإسلام ثم نسخ ذلك بالآية وعن القياس أن المسجد الحرام أجل قدراً من سائر المساجد فظهر الفرق والله أعلم
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
قوله تعالى وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ
اعلم أن في هذه الآية مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في سبب نزول هذه الآية الضابط أن الأكثرين زعموا أنها إنما نزلت في أمر يختص بالصلاة ومنهم من زعم أنها إنما نزلت في أمر لا يتعلق بالصلاة أما القول الأول فهو أقوى لوجهين أحدها أنه هو المروي عن كافة الصحابة والتابعين وقولهم حجة وثانيهما أن ظاهر قوله فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ يفيد التوجه إلى القبلة في الصلاة ولهذا لا يعقل من قوله فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ ( البقرة 144 ) إلا هذا المعنى إذا ثبت هذا فنقول القائلون بهذا القول اختلفوا على وجوه
أحدها أنه تعالى أراد به تحويل المؤمنين عن استقبال بيت المقدس إلى الكعبة فبين تعالى أن

المشرق والمغرب وجميع الجهات والأطراف كلها مملوكة له سبحانه ومخلوقة له فأينما أمركم الله باستقباله فهو القبلة لأن القبلة ليست قبلة لذاتها بل لأن الله تعالى جعلها قبلة فإن جعل الكعبة قبلة فلا تنكروا ذلك لأنه تعالى يدبر عباده كيف يريد وهو واسع عليم بمصالحهم فكأنه تعالى ذكر ذلك بياناً لجواز نسخ القبلة من جانب إلى جانب آخر فيصير ذلك مقدمة لما كان يريد تعالى من نسخ القبلة وثانيها أنه لما حولت القبلة عن بيت المقدس أنكر اليهود ذلك فنزلت الآية رداً عليهم وهو قول ابن عباس وهو نظير قوله قُل لّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِى مَن يَشَآء إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( البقرة 142 ) وثالثها قول أبي مسلم وهو أن اليهود والنصارى كل واحد منهم قال إن الجنة له لا لغيره فرد الله عليهم بهذه الآية لأن اليهود إنما استقبلوا بيت المقدس لأنهم اعتقدوا أن الله تعالى صعد السماء من الصخرة والنصارى استقبلوا المشرق لأن عيسى عليه السلام إنما ولد هناك على ما حكى الله ذلك في قوله تعالى وَاذْكُرْ فِى الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً ( مريم 16 ) فكل واحد من هذين الفريقين وصف معبوده بالحلول في الأماكن ومن كان هكذا فهو مخلوق لا خالق فكيف تخلص لهم الجنة وهم لا يفرقون بين المخلوق والخالق ورابعها قال بعضهم إن الله تعالى نسخ بيت المقدس بالتخيير إلى أي جهة شاء بهذه الآية فكان للمسلمين أن يتوجهوا إلى حيث شاءوا في الصلاة إلا أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يختار التوجه إلى بيت المقدس مع أنه كان له أن يتوجه حيث شاء ثم أنه تعالى نسخ ذلك بتعيين الكعبة وهو قول قتادة وابن زيد وخامسها أن المراد بالآية من هو مشاهد للكعبة فإن له أن يستقبلها من أي جهة شاء وأراد وسادسها ما روى عبد الله بن عامر بن ربيعة قال كنا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في غزاة في ليلة سوداء مظلمة فلم نعرف القبلة فجعل كل رجل منا مسجده حجارة موضوعة بين يديه ثم صلينا فلما أصبحنا إذا نحن على غير القبلة فذكرنا ذلك لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأنزل الله تعالى هذه الآية وهذا الحديث يدل على أنهم كانوا قد نقلوا حينئذ إلى الكعبة لأن القتال فرض بعد الهجرة بعد نسخ قبلة بيت المقدس وسابعها أن الآية نزلت في المسافر يصلي النوافل حيث تتوجه به راحلته وعن سعيد بن جبير عن ابن عمر أنه قال إنما نزلت هذه الآية في الرجل يصلي إلى حيث توجهت به راحلته في السفر وكان عليه السلام إذا رجع من مكة صلى على راحلته تطوعاً يوميء برأسه نحو المدينة فمعنى الآية فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ وجوهكم لنوافلكم في أسفاركم فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ فقد صادفتم المطلوب إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ الفضل غني فمن سعة فضله وغناه رخص لكم في ذلك لأنه لو كلفكم استقبال القبلة في مثل هذه الحال لزم أحد الضررين إما ترك النوافل وإما النزول عن الراحلة والتخلف عن الرفقة بخلاف الفرائض فإنها صلوات معدودة محصورة فتكليف النزول عن الراحلة عند أدائها واستقبال القبلة فيها لا يفضي إلى الحرج بخلاف النوافل فإنها غير محصورة فتكليف الاستقبال يفضي إلى الحرج فإن قيل فأي هذه الأقاويل أقرب إلى الصواب قلنا إن قوله فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ مشعر بالتخيير والتخيير لا يثبت إلا في صورتين أحدهما في التطوع على

الراحلة وثانيهما في السفر عند تعذر الاجتهاد للظلمة أو لغيرها لأن في هذين الوجهين المصلي مخير فأما على غير هذين الوجهين فلا تخيير وقول من يقول إن الله تعالى خير المكلفين في استقبال أي جهة شاءوا بهذه الآية وهم كانوا يختارون بيت المقدس لا لأنه لازم بل لأنه أفضل وأولى بعيد لأنه لا خلاف أن لبيت المقدس قبل التحويل إلى الكعبة اختصاصاً في الشريعة ولو كان الأمر كما قالوا لم يثبت ذلك الاختصاص وأيضاً فكان يجب أن يقال إن بيت المقدس صار منسوخاً بالكعبة فهذه الدلالة تقتضي أن يكون حمل الآية على الوجه الثالث والرابع وأما الذين حملوا الآية على الوجه الأول فلهم أن يقولوا إن القبلة لما حولت تكلم اليهود في صلاة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وصلاة المؤمنين إلى بيت المقدس فبين تعالى بهذه الآية أن تلك القبلة كان التوجه إليها صواباً في ذلك الوقت والتوجه إلى الكعبة صواب في هذا الوقت وبين أنهم أينما يولوا من هاتين القبلتين في المأذون فيه فثم وجه الله قالوا وحمل الكلام على هذا الوجه أولى لأنه يعم كل مصل وإذا حمل على الأول لا يعم لأنه يصير محمولاً على التطوع دون الفرض وعلى السفر في حالة مخصوصة دون الحضر وإذا أمكن إجراء اللفظ العام على عمومه فهو أولى من التخصيص وأقصى ما في الباب أن يقال إن على هذا التأويل لا بد أيضاً من ضرب تقييد وهو أن يقال فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ من الجهات المأمور بها فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إلا أن هذا الإضمار لا بد منه على كل حال لأنه من المحال أن يقول تعالى فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ بحسب ميل أنفسكم فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ بل لا بد من الإضمار الذي ذكرناه وإذا كان كذلك فقد زالت طريقة التخيير ونظيره إذا أقبل أحدنا على ولده وقد أمره بأمور كثيرة مترتبة فقال له كيف تصرفت فقد اتبعت رضائي فإنه يحمل ذلك على ما أمره على الوجه الذي أمره من تضييق أو تخيير ولا يحمل ذلك على التخيير المطلق فكذا ههنا
القول الثاني وهو قول من زعم أن هذه الآية نزلت في أمر سوى الصلاة فلهم أيضاً وجوه أولها أن المعنى أن هؤلاء الذين ظلموا بمنع مساجدي أن يذكر فيها اسمي وسعوا في خرابها أولئك لهم كذا وكذا ثم أنهم أينما ولوا هاربين عني وعن سلطاني فإن سلطاني يلحقهم وقدرتي تسبقهم وأنا عليم بهم لا يخفى علي مكانهم وفي ذلك تحذير من المعاصي وزجر عن ارتكابها وقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ نظير قوله إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فَانفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ ( الرحمن 33 ) فعلى هذا يكون المراد منه سعة العلم وهو نظير وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنتُمْ ( الحديد 4 ) وقوله مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَة ٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ ( المجادلة 7 ) وقوله رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَى ْء رَّحْمَة ً وَعِلْماً ( غافر 7 ) وقوله وَسِعَ كُلَّ شَى ْء عِلْماً ( طه 98 ) أي عم كل شيء بعلمه وتدبيره وإحاطته به وعلوه عليه وثانيها قال قتادة إن النبي عليه السلام قال ( إن أخاكم النجاشي قد مات فصلوا عليه قالوا نصلي على رجل ليس بمسلم ) فنزل قوله تعالى وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ أَنزَلَ اللَّهُ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ للَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِئَايَاتِ ( آل عمران 199 ) فقالوا إنه كان يصلي إلى غير القبلة أنزل الله تعالى وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ومعناها أن الجهات التي يصلي إليها أهل الملل من شرق وغرب وما بينهما كلها لي فمن وجه وجهه نحو شيء منها بأمر يريدني ويبتغي طاعتي وجدني هناك أي وجد ثوابي فكان في هذا عذر للنجاشي وأصحابه الذين ماتوا على استقبالهم المشرق وهو نحو قوله تعالى وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ( البقرة 143 ) وثالثها

لما نزل قوله تعالى ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ ( غافر 60 ) قالوا أين ندعوه فنزلت هذه الآية وهو قول الحسن ومجاهد والضحاك ورابعها أنه خطاب للمسلمين أي لا يمنعكم تخريب من خرب مساجد الله عن ذكره حيث كنتم من أرضه فلله المشرق والمغرب والجهات كلها وهو قول علي بن عيسى وخامسها من الناس من يزعم أنها نزلت في المجتهدين الوافين بشرائط الاجتهاد سواء كان في الصلاة أو في غيرها والمراد منه أن المجتهد إذا رأى بشرائط الاجتهاد فهو مصيب
المسألة الثانية إن فسرنا الآية بأنها تدل على تجويز التوجه إلى أي جهة أريد فالآية منسوخة وإن فسرناها بأنها تدل على نسخ القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة فالآية ناسخة وإن فسرناها بسائر الوجوه فهي لا ناسخة ولا منسوخة
المسألة الثالثة اللام في قوله تعالى وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ لام الاختصاص أي هو خالقهما ومالكهما وهو كقوله رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ ( الرحمن 17 ) وقوله بِرَبّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ وَرَبُّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ ثم أنه سبحانه أشار بذكرهما إلى ذكر من بينهما من المخلوقات كما قال ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِى َ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلاْرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ( فصلت 11 )
المسألة الرابعة الآية من أقوى الدلائل على نفي التجسيم وإثبات التنزيه وبيانه من وجهين الأول أنه تعالى قال وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فبين أن هاتين الجهتين مملوكتان له وإنما كان كذلك لأن الجهة أمر ممتد في الوهم طولاً وعرضاً وعمقاً وكل ما كان كذلك فهو منقسم وكل منقسم فهو مؤلف مركب وكل ما كان كذلك فلا بد له من خالق وموجد وهذه الدلالة عامة في الجهات كلها أعني الفوق والتحت فثبت بهذا أنه تعالى خالق الجهات كلها والخالق متقدم على المخلوق لا محالة فقد كان الباري تعالى قبل خلق العالم منزهاً عن الجهات والأحياز فوجب أن يبقى بعد خلق العالم كذلك لا محالة لاستحالة انقلاب الحقائق والماهيات الوجه الثاني أنه تعالى قال فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ولو كان الله تعالى جسماً وله وجه جسماني لكان وجهه مختصاً بجانب معين وجهة معينة فما كان يصدق قوله فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ فلما نص الله تعالى على ذلك علمنا أنه تعالى منزه عن الجسمية واحتج الخصم بالآية من وجهين الأول أن الآية تدل على ثبوت الوجه لله تعالى والوجه لا يحصل إلا من كان جسماً الثاني أنه تعالى وصف نفسه بكونه واسعاً والسعة من صفة الأجسام والجواب عن الأول أن الوجه وإن كان في أصل اللغة عبارة عن العضو المخصوص لكنا بينا أنا لو حملناه ههنا على العضو لكذب قوله تعالى فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ لأن الوجه لو كان محاذياً للمشرق لاستحال في ذلك الزمان أن يكون محاذياً للمغرب أيضاً فإذن لا بد فيه من التأويل وهو من وجوه الأول أن إضافة وجه الله كإضافة بيت الله وناقة الله والمراد منها الإضافة بالخلق والإيجاد على سبيل التشريف فقوله فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ أي فثم وجهه الذي وجهكم إليه لأن المشرق والمغرب له بوجهيهما والمقصود من القبلة إنما يكون قبلة لنصبه تعالى إياها فأي وجه من وجوه العالم المضاف إليه بالخلق والإيجاد نصبه وعينه فهو قبلة الثاني أن يكون المراد من الوجه القصد والنية قال الشاعر

استغفر الله ذنباً لست أحصيه
رب العباد إليه الوجه والعمل
ونظيره قوله تعالى إِنّى وَجَّهْتُ وَجْهِى َ لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الأنعام 79 ) الثالث أن يكون المراد منه فثم مرضاة الله ونظيره قوله تعالى إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ ( الإنسان 9 ) يعني لرضوان الله وقوله كُلُّ شَى ْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ( القصص 88 ) يعني ما كان لرضا الله ووجه الاستعارة أن من أراد الذهاب إلى إنسان فإنه لا يزال يقرب من وجهه وقدامه فكذلك من يطلب مرضاة أحد فإنه لا يزال يقرب من مرضاته فلهذا سمي طلب الرضا بطلب وجهه الرابع أن الوجه صلة كقوله كُلُّ شَى ْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ويقول الناس هذا وجه الأمر لا يريدون به شيئاً آخر غيره إنما يريدون به أنه من ههنا ينبغي أن يقصد هذا الأمر واعلم أن هذا التفسير صحيح في اللغة إلا أن الكلام يبقى فإنه يقال لهذا القائل فما معنى قوله تعالى فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ مع أنه لا يجوز عليه المكان فلا بد من تأويله بأن المراد فثم قبلته التي يعبد بها أو ثم رحمته ونعمته وطريق ثوابه والتماس مرضاته والجواب عن الثاني وهو أنه وصف نفسه بكونه واسعاً فلا شك أنه لا يمكن حمله على ظاهره وإلا لكان متجزئاً متبعضاً فيفتقر إلى الخالق بل لا بد وأن يحمل على السعة في القدرة والملك أو على أنه واسع العطاء والرحمة أو على أنه واسع الإنعام ببيان المصلحة للعبيد لكي يصلوا إلى رضوانه ولعل هذا الوجه بالكلام أليق ولا يجوز حمله على السعة في العلم وإلا لكان ذكر العليم بعده تكراراً فأما قوله عَلِيمٌ في هذا الموضع فكالتهديد ليكون المصلي على حذر من التفريط من حيث يتصور أنه تعالى يعلم ما يخفي وما يعلن وما يخفي على الله من شيء فيكون متحذراً عن التساهل ويحتمل أن يكون قوله تعالى واسِعٌ عَلِيمٌ أنه تعالى واسع القدرة في توفية ثواب من يقوم بالصلاة على شرطها وتوفية عقاب من يتكاسل عنها
المسألة الخامسة ولى إذا أقبل وولى إذا أدبر وهو من الأضداد ومعناه ههنا الإقبال وقرأ الحسن فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ بفتح التاء من التولي يريد فأينما توجهوا القبلة
وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ والأرض كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ والأرض وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
اعلم أن هذا هو النوع العاشر من مقابح أفعال اليهود والنصارى والمشركين واعلم أن الظاهر قوله تعالى وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا أن يكون راجعاً إلى قوله وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ ( البقرة 114 ) وقد ذكرنا أن منهم من تأوله على النصارى ومنهم من تأوله على مشركي العرب ونحن قد تأولناه على اليهود وكل هؤلاء أثبتوا الولد لله تعالى لأن اليهود قالوا عزيز ابن الله والنصارى قالوا المسيح ابن الله ومشركو العرب قالوا الملائكة بنات الله فلا جرم صحت هذه الحكاية على جميع التقديرات قال ابن عباس رضي الله عنهما أنها نزلت

في كعب بن الأشرف وكعب بن أسد ووهب بن يهودا فإنهم جعلوا عزيزاً ابن الله أما قوله تعالى سُبْحَانَهُ فهو كلمة تنزيه ينزه بها نفسه عما قالوه كما قال تعالى في موضع آخر سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ( النساء 171 ) فمرة أظهره ومرة اقتصر عليه لدلالة الكلام عليه واحتج على هذا التنزيه بقوله بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ووجه الاستدلال بهذا على فساد مذهبهم من وجوه الأول أن كل ما سوى الموجود الواجب ممكن لذاته وكل ممكن لذاته محدث وكل محدث فهو مخلوق لواجب الوجود والمخلوق لا يكون ولداً أما بيان أن ما سوى الموجود الواجب ممكن لذاته فلأنه لو وجد موجودان واجبان لذاتهما لاشتركا في وجوب الوجود ولامتاز كل واحد منهما عن الآخر بما به التعين وما به المشاركة غير ما به الممايزة ويلزم تركب كل واحد منهما من قيدين وكل مركب فإنه مفتقر إلى كل واحد من أجزائه وكل واحد من أجزائه من غيره فكل مركب فهو مفتقر إلى غيره وكل مفتقر إلى غيره فهو ممكن لذاته فكل واحد من الموجودين الواجبين لذاتهما ممكن لذاته هذا خلف ثم نقول إن كان كل واحد من ذينك الجزءين واجباً عاد التقسيم المذكور فيه ويقضي إلى كونه مركباً من أجزاء غير متناهية وذلك محال ومع تسليم أنه غير محال فالمقصود حاصل لأن كل كثرة فلا بد فيها من الواحد فتلك الآحاد إن كانت واجبة لذواتها كانت مركبة على ما ثبت فالبسيط مركب هذا خلف وإن كانت ممكنة كان المركب المفتقر إليها أولى بالإمكان فثبت بهذا البرهان أن كل ما عدا الموجود الواجب ممكن لذاته وكل ممكن لذاته فهو محتاج إلى المؤثر وتأثير ذلك المؤثر فيه إما أن يكون حال عدمه أو حال وجوده فإن كان الأول فذلك الممكن محدث وإن كان الثاني فاحتياج ذلك الموجود إلى المؤثر إما أن يكون حال بقائه أو حال حدوثه والأول محال لأنه يقتضي إيجاد الوجود فتعين الثاني وذلك يقتضي كون ذلك الممكن محدثاً فثبت أن كل ما سوى الله محدث مسبوق بالعدم وأن وجوده إنما حصل بخلق الله تعالى وإيجاده وإبداعه فثبت أن كل ما سواه فهو عبده وملكه فيستحل أن يكون شيء مما سواه ولداً له وهذا البرهان إنما استفدناه من قوله بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أي له كل ما سواه على سبيل الملك والخلق والإيجاد والإبداع والثاني أن هذا الذي أضيف إليه بأنه ولده إما أن يكون قديماً أزلياً أو محدثاً فإن كان أزلياً لم يكن حكمنا بجعل أحدهما ولداً والآخر والداً أولى من العكس فيكون ذلك الحكم حكماً مجرداً من غير دليل وإن كان الولد حادثاً كان مخلوقاً لذلك القديم وعبداً له فلا يكون ولداً له والثالث أن الولد لا بد وأن يكون من جنس الوالد فلو فرضنا له ولداً لكان مشاركاً له من بعض الوجوه وممتازاً عنه من وجه آخر وذلك يقتضي كون كل واحد منهما مركباً ومحدثاً وذلك محال فإذن المجانسة ممتنعة فالولدية ممتنعة الرابع أن الولد إنما يتخذ للحاجة إليه في الكبر ورجاء الانتفاع بمعونته حال عجز الأب عن أمور نفسه فعلى هذا إيجاد الولد إنما يصح على من يصح عليه الفقر والعجز والحاجة فإذا كان كل ذلك محال كان إيجاد الولد عليه سبحانه وتعالى محالاً واعلم أنه تعالى حكى في مواضع كثيرة عن هؤلاء الذين يضيفون إليه الأولاد قولهم واحتج عليهم بهذه الحجة وهي أن كل من في السموات والأرض عبد له وبأنه إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون وقال في مريم ذالِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقّ الَّذِى فِيهِ يَمْتُرُونَ مَا

كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ( مريم 34 35 ) وقال أيضاً في آخر هذه السورة وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ السَّمَاوَاتِ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الاْرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَانِ وَلَداً وَمَا يَنبَغِى لِلرَّحْمَانِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً إِن كُلُّ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ إِلاَّ اتِى الرَّحْمَنِ عَبْداً ( مريم 88 93 ) فإن قيل ما الحكمة في أنه تعالى استدل في هذه الآية بكونه مالكاً لما في السموات والأرض وفي سورة مريم بكونه مالكاً لمن في السموات والأرض على ما قال إِن كُلُّ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ إِلاَّ اتِى الرَّحْمَنِ عَبْداً قلنا قوله تعالى في هذه السورة بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أتم لأن كلمة ( ما ) تتناول جميع الأشياء وأما قوله تعالى كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ( الروم 26 ) ففيه مسائل
المسألة الأولى القنوت أصله الدوام ثم يستعمل على أربعة أوجه الطاعة كقوله تعالى الْعَالَمِينَ يامَرْيَمُ اقْنُتِى لِرَبّكِ ( آل عمران 43 ) وطول القيام كقوله عليه السلام لما سئل أي الصلاة أفضل قال ( طول القنوت ) وبمعنى السكوت كما قال زيد بن أرقم كنا نتكلم في الصلاة حتى نزل قوله تعالى وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ ( البقرة 238 ) فأمسكنا عن الكلام ويكون بمعنى الدوام إذا عرفت هذا فنقول قال بعض المفسرين كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ أي كل ما في السموات والأرض قانتون مطيعون والتنوين في كل عوض عن المضاف إليه وهو قول مجاهد وابن عباس فقيل لهؤلاء الكفار ليسوا مطيعين فعند هذا قال آخرون المعنى أنهم يطيعون يوم القيامة وهو قول السدي فقيل لهؤلاء هذه صفة المكلفين وقوله لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ يتناول من لا يكون مكلفاً فعند هذا فسروا القنوت بوجوه أخر الأول بكونها شاهدة على وجود الخالق سبحانه بما فيها من آثار الصنعة وأمارات الحدوث والدلالة على الربوبية الثاني كون جميعها في ملكه وقهره يتصرف فيها كيف يشاء وهو قول أبي مسلم وعلى هذين الوجهين الآية عامة الثالث أراد به الملائكة وعزيزاً والمسيح أي كل من هؤلاء الذين حكموا عليهم بالولد أنهم قانتون له يحكى عن علي بن أبي طالب قال لبعض النصارى لولا تمرد عيسى عن عبادة الله لصرت على دينه فقال النصراني كيف يجوز أن ينسب ذلك إلى عيسى مع جده في طاعة الله فقال علي رضي الله عنه فإن كان عيسى إلهاً فالإله كيف يعبد غيره إنما العبد هو الذي يليق به العبادة فانقطع النصراني
المسألة الثانية لما كان القنوت في أصل اللغة عبارة عن الدوام كان معنى الآية أن دوام الممكنات وبقاءها به سبحانه ولأجله وهذا يقتضي أن العالم حال بقائه واستمراره محتاج إليه سبحانه وتعالى فثبت أن الممكن يقتضي أن لا تنقطع حاجته عن المؤثر لا حال حدوثه ولا حال بقائه
المسألة الثالثة يقال كيف جاء بما الذي لغير أولى العلم مع قوله قَانِتُونَ جوابه كأنه جاء بما دون من تحقيراً لشأنهم
أما قوله تعالى بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ففيه مسائل
المسألة الأولى البديع والمبدع بمعنى واحد قال القفال وهو مثل أليم بمعنى مؤلم وحكيم بمعنى محكم غير أن في بديع مبالغة للعدول فيه وأنه يدل على استحقاق الصفة في غير حال الفعل على تقدير أن من شأنه الإبداع فهو في ذلك بمنزلة سامع وسميع وقد يجيء بديع بمعنى مبدع والإبداع الإنشاء ونقيض

الإبداع الاختراع على مثال ولهذا السبب فإن الناس يسمون من قال أو عمل ما لم يكن قبله مبتدعاً
المسألة الثانية اعلم أن هذا من تمام الكلام الأول لأنه تعالى قال بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فبين بذلك كونه مالكاً لما في السموات والأرض ثم بين بعده أنه المالك أيضاً للسموات والأرض ثم أنه تعالى بين أنه كيف يبدع الشيء فقال وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال بعض الأدباء القضاء مصدر في الأصل سمي به ولهذا جمع على أقضية كغطاء وأغطية وفي معناه القضية وجمعها القضايا ووزنه فعال من تركيب ( ق ض ى ) وأصله ( قضاي ) إلا أن الياء لما وقعت طرفاً بعد الألف الزائدة اعتلت فقلبت ألفاً ثم لما لاقت هي ألف فعال قلبت همزة لامتناع التقاء الألفين لفظاً ومن نظائره المضاء والأتاء من مضيت وأتيت والسقاء والشفاء من سقيت وشفيت والدليل على إصالة الياء دون الهمزة ثباتها في أكثر تصرفات الكلمة تقول قضيت وقضينا وقضيت إلى قضيتن وقضيا وقضين وهما يقضيان وهي وأنت تقضي والمرأتان وأنتما تقضيان وهن يقضين وأما أنت تقضين فالياء فيه ضمير المخاطبة وأما معناه فالأصل الذي يدل تركيبه عليه هو معنى القطع من ذلك قولهم قضى القاضي لفلان على فلان بكذا قضاء إذا حكم لأنه فصل للدعوى ولهذا قيل حاكم فيصل إذا كان قاطعاً للخصومات وحكى ابن الأنباري عن أهل اللغة أنهم قالوا القاضي معناه القاطع للأمور المحكم لها وقولهم انقضى الشيء إذا تم وانقطع وقولهم قضى حاجته معناه قطعها عن المحتاج ودفعها عنه وقضى دينه إذا أداه إليه كأنه قطع التقاضي والاقتضاء عن نفسه أو انقطع كل منهما عن صاحبه وقولهم قضى الأمر إذا أتمه وأحكمه ومنه قوله تعالى فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ( فصلت 12 ) وهو من هذا لأن في إتمام العمل قطعاً له وفراغاً منه ومنه درع قضاء من قضاها إذا أحكمها وأتم صنعها وأما قولهم قضى المريض وقضى نحبه إذا مات وقضى عليه قتله فمجاز مما ذكر والجامع بينهما ظاهر وأما تقضي البازي فليس من هذا التركيب ومما يعضد ذلك دلالة ما استعمل من تقليب ترتيب هذا التركيب عليه وهو القيض والضيق أما الأول فيقال قاضه فانقاض أي شقه فانشق ومنه قيض البيض لما انفلق من قشره الأعلى وانقاض الحائط إذا انهدم من غير هدم والقطع والشق والفلق والهدم متقاربة وأما الضيق وما يشتق منه فدلالته على معنى القطع بينة وذلك أن الشيء إذا قطع ضاق أو على العكس ومما يؤكد ذلك أن ما يقرب من هذا التركيب يدل أيضاً على معنى القطع فأولها قضيه إذا قطعه ومنه القضبة المرطبة لأنها تقضب أي تقطع تسمية بالمصدر والقضيب الغصن فعيل بمعنى مفعول والمقضب ما يقضب به كالمنجل وثانيها القضم وهو الأكل بأطراف الأسنان لأن فيه قطعاً للمأكول وسيف قضيم في طرفه تكسر وتفلل وثالثها القضف وهو الدقة يقال رجل قضيف أي نحيف لأن القلة من مسببات القطع ورابعها القضأة فعلة وهي الفساد يقال قضئت القربة إذا عفيت وفسدت وفي حسبه قضأة أي عيب وهذا كله من أسباب القطع أو مسبباته فهذا هو الكلام في مفهومه الأصلي بحسب اللغة
المسألة الثانية في محامل لفظ القضاء في القرآن قالوا أنه يستعمل على وجوه أحدها بمعنى الخلق قوله تعالى فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ يعني خلقهن وثانيها بمعنى الأمر قال تعالى وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ( الإسراء 23 ) وثالثها بمعنى الحكم ولهذا يقال للحاكم القاضي

ورابعاً بمعنى الإخبار قال تعالى وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِى إِسْراءيلَ فِى الْكِتَابِ ( الإسراء 4 ) أي أخبرناهم وهذا يأتي مقروناً بإلى وخامسها أن يأتي بمعنى الفراغ من الشيء قال تعالى فَلَمَّا قُضِى َ وَلَّوْاْ إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ ( الأحقاف 29 ) يعني لما فرغ من ذلك وقال تعالى وَقُضِى َ الاْمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِى ّ ( هود 44 ) يعني فرغ من إهلاك الكفار وقال لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ ( الحج 29 ) بمعنى ليفرغوا منه إذا عرفت هذا فنقول قوله إِذَا قَضَى أَمْرًا ( آل عمران 47 ) قيل إذا خلق شيئاً وقيل حكم بأنه يفعل شيئاً وقيل أحكم أمراً قال الشاعر وعليهما مسرودتان قضاهما
داود أو صنع السوابغ تبع
المسألة الثالثة اتفقوا على أن لفظ الأمر حقيقة في القول المخصوص وهل هو حقيقة في الفعل والشأن الحق نعم وهو المراد بالأمر ههنا وبسط القول فيه مذكور في أصول الفقه
المسألة الرابعة قرأ ابن عامر كُنْ فَيَكُونُ ( آل عمران 47 ) بالنصب في كل القرآن إلا في موضعين في أول آل عمران كُنْ فَيَكُونُ الْحَقّ ( آل عمران 59 60 ) وفي الأنعام كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ ( الأنعام 73 ) فإنه رفعهما وعن الكسائي بالنصب في النحل ويس وبالرفع في سائر القرآن والباقون بالرفع في كل القرآن أما النصب فعلى جواب الأمر وقيل هو بعيد والرفع على الاستئناف أي فهو يكون
المسألة الخامسة اعلم أنه ليس المراد من قوله تعالى فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( آل عمران 47 ) هو أنه تعالى يقول له كُنَّ فحينئذ يتكون ذلك الشيء فإن ذلك فاسد والذي يدل عليه وجوه الأول أن قوله كُنْ فَيَكُونُ إما أن يكون قديماً أو محدثاً والقسمان فاسدان فبطل القول بتوقف حدوث الأشياء على كُنَّ إنما قلنا إنه لا يجوز أن يكون قديماً لوجوه الأول أن كلمة كُنَّ لفظة مركبة من الكاف والنون بشرط تقدم الكاف على النون فالنون لكونه مسبوقاً بالكاف لا بد وأن يكون محدثاً والكاف لكونه متقدماً على المحدث بزمان واحد يجب أن يكون محدثاً الثاني أن كلمة إِذَا لا تدخل إلا على سبيل الإستقبال فذلك القضاء لا بد وأن يكون محدثاً لأنه دخل عليه حرف إِذَا وقوله كُنَّ مرتب على القضاء بفاء التعقيب لأنه تعالى قال فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ والمتأخر عن المحدث محدث فاستحال أن يكون كُنَّ قديماً الثالث أنه تعالى رتب تكون المخلوق على قوله كُنَّ بفاء التعقيب فيكون قوله كُنَّ مقدماً على تكون المخلوق بزمان واحد والمتقدم على المحدث بزمان واحد لا بد وأن يكون محدثاً فقوله كُنَّ لا يجوز أن يكون قديماً ولا جائز أيضاً أن يكون قوله كُنَّ محدثاً لأنه لو افتقر كل محدث إلى قوله كُنَّ وقوله كُنَّ أيضاً محدث فيلزم افتقار كُنَّ آخر ويلزم إما التسلسل وإما الدور وهما محالان فثبت بهذا الدليل أنه لا يجوز توقف إحداث الحوادث على قوله كُنَّ
الحجة الثانية أنه تعالى إما أن يخاطب المخلوق بكن قبل دخوله في الوجود أو حال دخوله في الوجود والأول باطل لأن خطاب المعدوم حال عدمه سفه والثاني أيضاً باطل لأنه يرجع حاصله إلى أنه تعالى أمر الموجود بأن يصير موجوداً وذلك أيضاً لا فائدة فيه
الحجة الثالثة أن المخلوق قد يكون جماداً وتكليف الجماد عبث ولا يليق بالحكيم
الحجة الرابعة أن القادر هوالذي يصح منه الفعل وتركه بحسب الإرادات فإذا فرضنا القادر المريد

منفكاً عن قوله كُنَّ فإما أن يتمكن من الإيجاد والأحداث أو لا يتمكن فإن تمكن لم يكن الإيجاد موقوفاً على قوله كُنَّ وإن لم يتمكن فحينئذ يلزم أن لا يكون القادر قادراً على الفعل إلا عند تكلمه بكن فيرجع حاصل الأمر إلى أنكم سمعتم القدرة بكن وذلك نزاع في اللفظ
الحجة الخامسة أن كُنَّ لو كان له أثر في التكوين لكنا إذا تكلمنا بهذه الكلمة وجب أن يكون لها ذلك التأثير ولما علمنا بالضرورة فساد ذلك علمنا أنه لا تأثير لهذه الكلمة
الحجة السادسة أن كُنَّ كلمة مركبة من الكاف والنون بشرط كون الكاف متقدماً على النون فالمؤثر إما أن يكون هو أحد هذين الحرفين أو مجموعهما فإن كان الأول لم يكن لكلمة كُنَّ أثر البتة بل التأثير لأحد هذين الحرفين وإن كان الثاني فهو محال لأنه لا وجود لهذا المجموع البتة لأنه حين حصل الحرف الأول لم يكن الثاني حاصلاً وحين جاء الثاني فقد فات الأول وإن لم يكن للمجموع وجود البتة استحال أن يكون للمجموع أثر البتة
الحجة السابعة قوله تعالى إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ( آل عمران 59 ) بين أن قوله كُنَّ متأخر عن خلقه إذ المتأخر عن الشيء لا يكون مؤثراً في المتقدم عليه فعلمنا أنه لا تأثير لقوله كُنَّ في وجود الشيء فظهر بهذه الوجوه فساد هذا المذهب وإذا ثبت هذا فنقول لا بد من التأويل وهو من وجوه
الأول وهو الأقوى أن المراد من هذه الكلمة سرعة نفاذ قدرة الله في تكوين الأشياء وأنه تعالى يخلق الأشياء لا بفكرة ومعاناة وتجربة ونظيره قوله تعالى عند وصف خلق السموات والأرض فَقَالَ لَهَا وَلِلاْرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ( فصلت 11 ) من غير قول كان منهما لكن على سبل سرعة نفاذ قدرته في تكوينهما من غير ممانعة ومدافعة ونظيره قول العرب قال الجدار للوتد لم تشقني قال سل من يدقني فإن الذي ورائي ما خلاني ورائي ونظيره قوله تعالى وَإِن مّن شَى ْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ وَلَاكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ( الإسراء 44 ) الثاني أنه علامة يفعلها الله تعالى للملائكة إذا سمعوها علموا أنه أحدث أمراً يحكى ذلك عن أبي الهذيل الثالث أنه خاص بالموجودين الذين قال لهم كُونُواْ قِرَدَة ً خَاسِئِينَ ( البقرة 65 ) ومن جرى مجراهم وهو قول الأصم الرابع أنه أمر للأحياء بالموت وللموتى بالحياة والكل ضعيف والقوي هو الأول
وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَآ ءَايَة ٌ كَذَالِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ
اعلم أن هذا هو النوع الحادي عشر من قبائح اليهود والنصارى والمشركين ففيه مسائل

المسألة الأولى أن الله تعالى لما حكى عن اليهود والنصارى والمشركين ما يقدح في التوحيد وهو أنه تعالى اتخذ الولد حكى الآن عنهم ما يقدح في النبوة وقال أكثر المفسرين هؤلاء هم مشركو العرب والدليل عليه قوله تعالى وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الاْرْضِ يَنْبُوعًا ( الإسراء 90 ) وقالوا بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ ( الأنبياء 5 ) وقالوا لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَئِكَة ُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا ( الفرقان 21 ) هذا قول أكثر المفسرين إلا أنه ثبت أن أهل الكتاب سألوا ذلك والدليل عليه قوله تعالى يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مّنَ السَّمَاء فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذالِكَ ( النساء 153 ) فإن قيل الدليل على أن المراد مشركو العرب أنه تعالى وصفهم بأنهم لا يعلمون وأهل الكتاب أهل العلم قلنا المراد أنهم لا يعلمون التوحيد والنبوة كما ينبغي وأهل الكتاب كانوا كذلك
المسألة الثانية تقرير هذه الشبهة التي تمسكوا بها أن الحكيم إذا أراد تحصيل شيء فلا بد وأن يختار أقرب الطرق المفضية إليه وأبعدها عن الشكوك والشبهات إذا ثبت هذا فنقول إن الله تعالى يكلم الملائكة وكلم موسى وأنت تقول يا محمد إنه كلمك والدليل عليه قوله تعالى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ( النجم 10 ) فلم لا يكلمنا مشافهة ولا ينص على نبوتك حتى يتأكد الاعتقاد وتزول الشبهة وأيضاً فإن كان تعالى لا يفعل ذلك فلم لا يخصك بآية ومعجزة وهذا منهم طعن في كون القرآن آية ومعجزة لأنهم لو أقروا بكونه معجزة لاستحال أن يقولوا هلا يأتينا بآية ثم أنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة بقوله كَذالِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وحاصل هذا الجواب أنا قد أيدنا قول محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بالمعجزات وبينا صحة قوله بالآيات وهي القرآن وسائر المعجزات فكان طلب هذه الزوائد من باب التعنت وإذا كان كذلك لم يجب إجابتها لوجوه الأول أنه إذا حصلت الدلالة الواحدة فقد تمكن المكلف من الوصول إلى المطلوب فلو كان غرضه طلب الحق لاكتفى بتلك الدلالة فحيث لم يكتف بها وطلب الزائد عليها علمنا أن ذلك للطلب من باب العناد واللجاج فلم تكن إجابتها واجبة ونظيره قوله تعالى وَقَالُواْ لَوْ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ إِنَّمَا الاْيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ ( العنكبوت 50 51 ) فبكتهم بما في القرآن من الدلالة الشافية وثانيها لو كان في معلوم الله تعالى أنهم يؤمنون عند إنزال هذه الآية لفعلها ولكنه علم أنه لو أعطاهم ما سألوه لما ازدادوا إلا لجاجاً فلا جرم لم يفعل ذلك ولذلك قال تعالى وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لاسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ ( الأنفال 23 ) وثالثها إنما حصل في تلك الآيات أنواع من المفساد وربما أوجب حصولها هلاكهم واستئصالهم إن استمروا بعد ذلك على التكذيب وربما كان بعضها منتهياً إلى حد الإلجاء المخل بالتكليف وربما كانت كثرتها وتعاقبها يقدح في كونها معجزة لأن الخوارق متى توالت صار انخراق العادة عادة فحينئذ يخرج عن كونه معجزاً وكل ذلك أمور لا يعلمها إلا الله علام الغيوب فثبت أن عدم إسعافهم بهذه الآيات لا يقدح في النبوة
أما قوله تعالى تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ فالمراد أن المكذبين للرسل تتشابه أقوالهم وأفعالهم فكما أن قوم موسى كانوا أبداً في التعنت واقتراح الأباطيل كقولهم لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ واحِدٍ ( البقرة 61 ) وقولهم اجْعَلْ لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ ءالِهَة ٌ ( الأعراف 138 ) وقوله أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا ( البقرة 67 ) وقولهم أَرِنَا اللَّهِ جَهْرَة ً

( النساء 153 ) فكذلك هؤلاء المشركون يكونون أبداً في العناد واللجاج وطلب الباطل
أما قوله تعالى قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ فالمراد أن القرآن وغيره من المعجزات كمجيء الشجرة وكلام الذئب وإشباع الخلق الكثير من الطعام القليل آيات قاهرة ومعجزات باهرة لمن كان طالباً لليقين
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلاَ تُسْألُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ
اعلم أن القوم لما أصروا على العناد واللجاج الباطل واقترحوا المعجزات على سبيل التعنت بين الله تعالى لرسوله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه لا مزيد على ما فعله في مصالح دينهم من إظهار الأدلة وكما بين ذلك بين أنه لا مزيد على ما فعله الرسول في باب الإبلاغ والتنبيه لكي لايكثر غمه بسبب إصرارهم على كفرهم وفي قوله بِالْحَقّ وجوه أحدها أنه متعلق بالإرسال أي أرسلناك إرسالاً بالحق وثانيها أنه متعلق بالبشير والنذير أي أنت مبشر بالحق ومنذر به وثالثها أن يكون المراد من الحق الدين والقرآن أي أرسلناك بالقرآن حال كونه بشيراً لمن أطاع الله بالثواب ونذيراً لمن كفر بالعقاب والأولى أن يكون البشير والنذير صفة للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فكأنه تعالى قال إنا أرسلناك يا محمد بالحق لتكون مبشراً لمن اتبعك واهتدى بدينك ومنذراً لمن كفر بك وضل عن دينك
أما قوله تعالى وَلاَ تُسْئَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ ففيه قراءتان
الجمهور برفع التاء واللام على الخبر وأما نافع فبالجزم وفتح التاء على النهي
أما على القراءة الأولى ففي التأويل وجوه أحدها أن مصيرهم إلى الجحيم فمعصيتهم لا تضرك ولست بمسؤول عن ذلك وهو كقوله فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ ( الرعد 40 ) وقوله عَلَيْهِ مَا حُمّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمّلْتُمْ ( النور 54 ) والثاني أنك هاد وليس لك من الأمر شيء فلا تأسف ولا تغتم لكفرهم ومصيرهم إلى العذاب ونظيره قوله فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ ( فاطر 8 ) الثالث لا تنظر إلى المطيع والعاصي في الوقت فإن الحال قد يتغير فهو غيب فلا تسأل عنه وفي الآية دلالة على أن أحداً لا يسأل عن ذنب غيره ولا يؤاخذ بما اجترمه سواه سواء كان قريباً أو كان بعيداً
أما القراءة الثانية ففيها وجهان الأول روي أنه قال ليت شعري ما فعل أبواي فنهي عن السؤال عن الكفرة وهذه الرواية بعيدة لأنه عليه الصلاة والسلام كان عالماً بكفرهم وكان عالماً بأن الكافر معذب فمع

هذا العلم كيف يمكن أن يقول ليت شعري ما فعل أبواي والثاني معنى هذا النهي تعظيم ما وقع فيه الكفار من العذاب كما إذا سألت عن إنسان واقع في بلية فيقال لك لا تسأل عنه ووجه التعظيم أن المسؤول يجزع أن يجري على لسانه ما هو فيه لفظاعته فلا تسأله ولا تكلفه ما يضجره أو أنت مستخبر لا تقدر على استماع خبره لإيحاشه السامع وإضجاره فلا تسأل والقراءة الأولى يعضدها قراءة أبي ( وما تسأل ) وقراءة عبد الله ( ولن تسأل )
وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَآءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ
اعلم أنه تعالى لما صبر رسوله بما تقدم من الآية وبين أن العلة قد انزاحت من قبله لا من قبلهم وأنه لا عذر لهم في الثبات على التكذيب به عقب ذلك بأن القوم بلغ حالهم في تشددهم في باطلهم وثباتهم على كفرهم أنهم يريدون مع ذلك أن يتبع ملتهم ولا يرضون منه بالكتاب بل يريدون منه الموافقة لهم فيما هم عليه فبين بذلك شدة عداوتهم للرسول وشرح ما يوجب اليأس من موافقتهم والملة هي الدين ثم قال قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى بمعنى أن هدى الله هو الذي يهدي إلى الإسلام وهو الهدي الحق والذي يصلح أن يسمى هدى وهو الهدى كله ليس وراءه هدى وما يدعون إلى اتباعه ما هو بهدى إنما هو هوى ألا ترى إلى قوله وَلَئِنِ وَاتَّبَعُواْ أَهْوَاءهُمْ أي أقوالهم التي هي أهواء وبدع بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ أي من الدين المعلوم صحته بالدلائل القاطعة مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ أي معين يعصمك ويذب عنك بل الله يعصمك من الناس إذا أقمت على الطاعة والاعتصام بحبله قالوا الآية تدل على أمور منها أن الذي علم الله منه أنه لا يفعل الشيء يجوز منه أن يتوعده على فعله فإن في هذه الصورة علم الله أنه لا يتبع أهواءهم ومع ذلك فقد توعده عليه ونظيره قوله لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ( الزمر 65 ) وإنما حسن هذا الوعيد لاحتمال أن الصارف له عن ذلك الفعل هو هذا الوعيد أو هذا الوعيد أحد صوارفه وثانيها أن قوله بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ يدل على أنه لا يجوز الوعيد إلا بعد نصب الأدلة وإذا صح ذلك فبأن لا يجوز الوعيد إلا بعد القدرة أولى فبطل به قول من يجوز تكليف ما لا يطاق وثالثها فيها دلالة على أن اتباع الهوى لا يكون إلا باطلاً فمن هذا الوجه يدل على بطلان التقليد ورابعها فيها دلالة على أنه لا شفيع لمستحق العقاب لأن غير الرسول إذا اتبع هواه لو كان يجد شفيعاً ونصيراً لكان الرسول أحق بذلك وهذا ضعيف لأن اتباع أهوائهم

كفر وعندنا لا شفاعة في الكفر
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَائِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ
شا المسألة الأولى الَّذِينَ موضعه رفع بالابتداء و أُوْلَائِكَ ابتداء ثان و يُؤْمِنُونَ بِهِ خبره
المسألة الثانية المراد بقوله الَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ من هم فيه قولان
القول الأول أنهم المؤمنون الذين آتاهم الله القرآن واحتجوا عليه من وجوه أحدها أن قوله يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ حث وترغيب في تلاوة هذا الكتاب ومدح على تلك التلاوة والكتاب الذي هذا شأنه هو القرآن لا التوراة والإنجيل فإن قراءتهما غير جائزة وثانيها أن قوله تعالى أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ يدل على أن الإيمان مقصود عليهم ولو كان المراد أهل الكتاب لما كان كذلك وثالثها قوله وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ والكتاب الذي يليق به هذا الوصف هو القرآن
القول الثاني أن المراد بالذين آتاهم الكتاب هم الذين آمنوا بالرسول من اليهود والدليل عليه أن الذين تقدم ذكرهم هم أهل الكتاب فلما ذم طريقتهم وحكى عنهم سوء أفعالهم أتبع ذلك بمدح من ترك طريقتهم بل تأمل التوراة وترك تحريفها وعرف منها صحة نبوة محمد عليه السلام
أما قوله تعالى يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ فالتلاوة لها معنيان أحدهما القراءة الثاني الإتباع فعلاً لأن من اتبع غيره يقال تلاه فعلاً قال الله تعالى وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا ( الشمس 2 ) فالظاهر أنه يقع عليهما جميعاً ويصح فيهما جميعاً المبالغة لأن التابع لغيره قد يستوفي حق الاتباع فلا يخل بشيء منه وكذلك التالي يستوفي حق قراءته فلا يخل بما يلزم فيه والذين تأولوه على القراءة هم الذين اختلفوا على وجوه فأولها أنهم تدبروه فعملوا بموجبه حتى تمسكوا بأحكامه من حلال وحرام وغيرهما وثانيها أنهم خضعوا عند تلاوته وخشعوا إذا قرأوا القرآن في صلاتهم وخلواتهم وثالثها أنهم عملوا بمحكمه وآمنوا بمتشابهه وتوقفوا فيما أشكل عليهم منه وفوضوه إلى الله سبحانه ورابعها يقرؤنه كما أنزل الله ولا يحرفون الكلم عن مواضعه ولا يتأولونه على غير الحق وخامسها أن تحمل الآية على كل هذه الوجوه لأنها مشتركة في مفهوم واحد وهو تعظيمها والانقياد لها لفظاً ومعنى فوجب حمل اللفظ على هذا القدر المشترك تكثيراً لفوائد كلام الله تعالى والله أعلم

يَابَنِى إِسْرَاءِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِى َ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُم وَأَنِّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ وَاتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَة ٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِى قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما استقصى في شرح وجوه نعمه على بني إسرائيل ثم في شرح قبائحهم في أديانهم وأعمالهم وختم هذا الفصل بما بدأ به وهو قوله خَالِدُونَ يَابَنِى إِسْراءيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ إلى قوله وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ شرع سبحانه ههنا في نوع آخر من البيان وهو أن ذكر قصة إبراهيم عليه السلام وكيفية أحواله والحكمة فيه أن إبراهيم عليه السلام شخص يعترف بفضله جميع الطوائف والملل فالمشركين كانوا معترفين بفضله متشرفين بأنهم من أولاده ومن ساكني حرمه وخادمي بيته وأهل الكتاب من اليهود والنصارى كانوا أيضاً مقرين بفضله متشرفين بأنهم من أولاده فحكى الله سبحانه وتعالى عن إبراهيم عليه السلام أموراً توجب على المشركين وعلى اليهود والنصارى قبول قول محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والاعتراف بدينه والانقياد لشرعه وبيانه من وجوه
أحدها أنه تعالى لما أمره ببعض التكاليف فلما وفى بها وخرج عن عهدتها لا جرم نال النبوة والإمامة وهذا مما ينبه اليهود والنصارى والمشركين على أن الخير لا يحصل في الدنيا والآخرة إلا بترك التمرد والعناد والانقياد لحكم الله تعالى وتكاليفه وثانيها أنه تعالى حكى عنه أنه طلب الإمامة لأولاده فقال الله تعالى لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ فدل ذلك على أن منصب الإمامة والرياسة في الدين لا يصل إلى الظالمين فهؤلاء متى أرادوا وجدان هذا المنصب وجب عليهم ترك اللجاج والتعصب للباطل وثالثها أن الحج من خصائص دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فحكى الله تعالى ذلك عن إبراهيم ليكون ذلك كالحجة على اليهود والنصارى في وجوب الانقياد لذلك ورابعها أن القبلة لما حولت إلى الكعبة شق ذلك على اليهود والنصارى فبين الله تعالى أن هذا البيت قبلة إبراهيم الذي يعترفون بتعظيمه ووجوب الاقتداء به فكان ذلك مما يوجب زوال ذلك الغضب عن قلوبهم وخامسها أن من المفسرين من فسر الكلمات التي ابتلى الله تعالى إبراهيم بها بأمور يرجع حاصلها إلى تنظيف البدن وذلك مما يوجب على المشركين اختيار هذه الطريقة لأنهم كانوا معترفين بفضل إبراهيم عليه السلام ويوجب عليهم ترك ما كانوا عليه من التلطخ بالدماء وترك النظافة ومن المفسرين من فسر تلك الكلمات بما أن إبراهيم عليه السلام صبر على ما ابتلى به في دين الله تعالى وهو النظر في الكواكب والقمر والشمس ومناظرة عبدة الأوثان ثم الانقياد لأحكام الله تعالى في ذبح الولد والإلقاء في النار وهذا يوجب على هؤلاء اليهود والنصارى والمشركين الذين يعترفون بفضله أن يتشبهوا به في ذلك ويسلكوا طريقته في

ترك الحسد والحمية وكراهة الانقياد لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فهذه الوجوه التي لأجلها ذكر الله تعالى قصة إبراهيم عليه السلام
واعلم أنه تعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام أموراً يرجع بعضها إلى الأمور الشاقة التي كلفه بها وبعضها يرجع إلى التشريفات العظيمة التي خصه الله بها ونحن نأتي على تفسيرها إن شاء الله تعالى وهذه الآية دالة على تكليف حصل بعده تشريف
أما التكليف فقوله تعالى وَإِذَا ابْتَلَى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب الكشاف العامل في إِذَا إما مضمر نحو واذكر إذ ابتلى إبراهيم أو إذ ابتلاه كان كيت وكيت وإما قَالَ إِنّى جَاعِلُكَ
المسألة الثانية أنه تعالى وصف تكليفه إياه ببلوى توسعاً لأن مثل هذا يكون منا على جهة البلوى والتجربة والمحنة من حيث لا يعرف ما يكون ممن يأمره فلما كثر ذلك في العرف بيننا جاز أن يصف الله تعالى أمره ونهيه بذلك مجازاً لأنه تعالى لا يجوز عليه الاختبار والامتحان لأنه تعالى عالم بجميع المعلومات التي لا نهاية لها على سبيل التفصيل من الأزل إلى الأبد وقال هشام بن الحكم إنه كان في الأزل عالماً بحقائق الأشياء وماهياتها فقط فأما حدوث تلك الماهيات ودخولها في الوجود فهو تعالى لا يعلمها إلا عند وقوعها واحتج عليه بالآية والمعقول أما الآية فهي هذه الآية قال إنه تعالى صرح بأنه يبتلي عباده ويختبرهم وذكر نظيره في سائر الآيات كقوله تعالى وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وقال لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وقال في هذه السورة بعد ذلك وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْء مّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ ( البقرة 155 ) وذكر أيضاً ما يؤكد هذا المذهب نحو قوله فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ( طه 44 ) وكلمة لَعَلَّ للترجي وقال قَدِيرٌ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى ْ خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( البقرة 21 ) فهذه الآيات ونظائرها دالة على أنه سبحانه وتعالى لا يعلم وقوع الكائنات قبل وقوعها أما العقل فدل على وجوه أحدها أنه تعالى لو كان عالماً بوقوع الأشياء قبل وقوعها لزم نفي القدرة عن الخالق وعن الخلق وذلك محال فما أدى إليه مثله بيان الملازمة أن ما علم الله تعالى وقوعه استحال أن لا يقع لأن العلم بوقوع الشيء وبلا وقوع ذلك الشيء متضادان والجمع بين الضدين محال وكذلك ما علم الله أنه لا يقع كان وقوعه محالاً لعين هذه الدلالة فلو كان الباري تعالى عالماً بجميع الأشياء الجزئية قبل وقوعها لكان بعضها واجب الوقوع وبعضها ممتنع الوقوع ولا قدرة البتة لا على الواجب ولا على الممتنع فيلزم نفي القدرة على هذه الأشياء عن الخالق تعالى وعن الخلق وإنما قلنا إن ذلك محال أما في حق الخالق فلأنه ثبت أن العالم محدث وله مؤثر وذلك المؤثر يجب أن يكون قادراً إذ لو كان موجباً لذاته لزم من قدمه قدم العالم أو من حدوث العالم حدوثه وأما في حق الخلق فلأنا نجد من أنفسنا وجداناً ضرورياً كوننا متمكنين من الفعل والترك على معنى أنا إن شئنا الفعل قدرنا عليه وإن شئنا الترك قدرنا على الترك فلو كان أحدهما واجباً والآخر ممتنعاً لما حصلت هذه المكنة التي يعرف ثبوتها بالضرورة وثانيها أن تعلق العلم بأحد المعلومين مغاير لتعلقه بالمعلوم الآخر ولذلك فإنه يصل منا تعقل أحد

التعلقين مع الذهول عن التعلق الآخر ولو كان التعلقان تعلقاً واحداً لاستحال ذلك لأن الشيء الواحد يستحيل أن يكون معلوماً مذهولاً عنه وإذا ثبت هذا فنقول لو كان تعالى عالماً بجميع هذه الجزئيات لكان له تعالى علوم غير متناهية أو كان لعلمه تعلقات غير متناهية وعلى التقديرين فيلزم حصول موجودات غير متناهية دفعة واحدة وذلك محال لأن مجموع تلك الأشياء أزيد من ذلك المجموع بعينه عند نقصان عشرة منه فالناقص متناه والزائد زاد على المتناهي بتلك العشرة والمتناهي إذا ضم إليه غير المتناهي كان الكل متناهياً فإذاً وجود أمور غير متناهية محال فإن قيل الموجود هو العلم فأما تلك التعلقات فهي أمور نسبية لا وجود لها في الأعيان قلنا العلم إنما يكون علماً لو كان متعلقاً بالمعلوم فلو لم يكن ذلك التعلق حاصلاً في نفس الأمر لزم أن لا يكون العلم علماً في نفس الأمر وذلك محال وثالثها أن هذه المعلومات التي لا نهاية لها هل يعلم الله عددها أو لا يعلم فإن علم عددها فهي متناهية لأن كل ما له عدد معين فهو متناه وإن لم يعلم الله تعالى عددها لم يكن عالماً بها على سبيل التفصيل وكلامنا ليس إلا في العلم التفصيلي ورابعها أن كل معلوم فهو متميز في الذهن عما عداه وكل متميز عما عداه فإن ما عداه خارج عنه وكل ما خرج عنه فهو متناه فإذن كل معلوم فهو متناه فإذن كل ما هو غير متناه استحال أن يكون معلوماً وخامسها أن الشيء إنما يكون معلوماً لو كان للعلم تعلق به ونسبة إليه وانتساب الشيء إلى الشيء يعتبر تحققه في نفسه فإنه إذا لم يكن للشيء في نفسه تعين استحال أن يكون لغيره إليه من حيث هو هو نسبة والشيء المشخص قبل دخوله في الوجود لم يكن مشخصاً البتة فاستحال كونه متعلق العلم فإن قيل يبطل هذا بالمحالات والمركبات قبل دخولها في الوجود فإنا نعلمها وإن لم يكن لها تعينات البتة قلنا هذا الذي أوردتموه نقض على كلامنا وليس جواباً عن كلامنا وذلك مما لا يزيل الشك والشبهة قال هشام فهذه الوجوه العقلية تدل على أنه لا حاجة إلى صرف هذه الآيات عن ظواهرها واعلم أن هشاماً كان رئيس الرافضة فلذلك ذهب قدماء الروافض إلى القول بالنداء أما الجمهور من المسلمين فإنهم اتفقوا على أنه سبحانه وتعالى يعلم الجزئيات قبل وقوعها واحتجوا عليها بأنها قبل وقوعها تصح أن تكون معلومة لله تعالى إنما قلنا أنها تصح أن تكون معلومة لأنا نعلمها قبل وقوعها فإنا نعلم أن الشمس غداً تطلع من مشرقها والوقوع يدل على الإمكان وإنما قلنا أنه لما صح أن تكون معلومة وجب أن تكون معلومة لله تعالى لأن تعلق علم الله تعالى بالمعلوم أمر ثبت له لذاته فليس تعلقه ببعض ما يصح أن يعلم أولى من تعلقه بغيره فلو حصل التخصيص لافتقر إلى مخصص وذلك محال فوجب أن لا يتعلق بشيء من المعلومات أصلاً وإن تعلق بالبعض فإنه يتعلق بكلها وهو المطلوب
أما الشبهة الأولى فالجواب عنها أن العلم بالوقوع تبع للوقوع والوقوع تبع للقدرة فالتابع لا ينافي المتبوع فالعلم لازم لا يغني عن القدرة
وأما الشبهة الثانية فالجواب عنها أنها منقوضة بمراتب الأعداد التي لا نهاية لها
وأما الشبهة الثالثة فالجواب عنها أن الله تعالى لا يعلم عددها ولا يلزم منه إثبات الجهل لأن الجهل هو أن يكون لها عدد معين ثم أن الله تعالى لا يعلم عددها فأما إذا لم يكن في نفسها عدد لم

يلزم من قولنا أن الله تعالى لا يعلم عددها إثبات الجهل
وأما الشبهة الرابعة فالجواب عنها أنه ليس من شرط المعلوم أن يعلم العلم تميزه عن غيره لأن العلم بتميزه عن غيره يتوقف على العلم بذلك الغير فلو كان توقف العلم بالشيء على العلم بتميزه عن غيره وثبت أن العلم بتميزه من غيره يوقف على العلم بغيره لزم أن لا يعلم الإنسان شيئاً واحداً إلا إذا علم أموراً لا نهاية لها
وأما الشبهة الخامسة فالجواب عنها بالنقض الذي ذكرناه وإذا انتقضت الشبهة سقطت فيبقى ما ذكرناه من الدلالة على عموم عالمية الله تعالى سالماً عن المعارض وبالله التوفيق
المسألة الثالثة اعلم أن الضمير لا بد وأن يكون عائداً إلى مذكور سابق فالضمير إما أن يكون متقدماً على المذكور لفظاً ومعنى وإما أن يكون متأخراً عنه لفظاً ومعنى وإما أن يكون متقدماً لفظاً ومتأخراً معنى وإما أن يكون بالعكس منه أما القسم الأول وهو أن يكون متقدماً لفظاً ومعنى فالمهشور عند النحويين أنه غير جائز وقال ابن جنى بجوازه واحتج عليه بالشعر والمعقول أما الشعر فقوله جزى ربه عني عدي بن حاتم
جزاء الكلاب العاويات وقد فعل
وأما المعقول فلأن الفاعل مؤثر والمفعول قابل وتعلق الفعل بهما شديد فلا يبعد تقديم أي واحد منهما كان على الآخر في اللفظ ثم أجمعنا على أنه لو قدم المنصوب على المرفوع في اللفظ فإنه جائز فكذا إذا لم يقدم مع أن ذلك التقديم جائز القسم الثاني وهو أن يكون الضمير متأخراً لفظاً ومعنى وهذا لا نزاع في صحته كقولك ضرب زيد غلامه القسم الثالث أن يكون الضمير متقدماً في اللفظ متأخراً في المعنى وهو كقولك ضرب غلامه زيد فههنا الضمير وإن كان متقدماً في اللفظ لكنه متأخر في المعنى لأن المنصوب متأخر عن المرفوع في التقدير فيصير كأنك قلت زيد ضرب غلامه فلا جرم كان جائزاً القسم الرابع أن يكون الضمير متقدماً في المعنى متأخراً في اللفظ وهو كقوله تعالى وَإِذَا ابْتَلَى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ فإن المرفوع مقدم في المعنى على المنصوب فيصير التقدير وإذ ابتلى ربه إبراهيم إلا أن الأمر وإن كان كذلك بحسب المعنى لكن لما لم يكن الضمير متقدماً في اللفظ بل كان متأخراً لا جرم كان جائزاً حسناً
المسألة الرابعة قرأ ابن عامر ( إبراهام ) بألف بين الهاء والميم والباقون ( إبراهيم ) وهما لغتان وقرأ ابن عباس وأبو حيوة رضي الله عنه ( إبراهيم ربه ) برفع إبراهيم ونصب ربه والمعنى أنه دعاه بكلمات من الدعاء فعل المختبر هل يجيبه الله تعالى إليهن أم لا
المسألة الخامسة اختلف المفسرون في أن ظاهر اللفظ هل يدل على تلك الكلمات أم لا فقال بعضهم اللفظ يدل عليها وهي التي ذكرها الله تعالى من الإمامة وتطهير البيت ورفع قواعده والدعاء بإبعاث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإن هذه الأشياء أمور شاقة أما الإمامة فلأن المراد منها ههنا هو النبوة وهذا التكليف يتضمن مشاق عظيمة لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يلزمه أن يتحمل جميع المشاق والمتاعب في تبليغ الرسالة وأن لا يخون في أداء شيء منها ولو لزمه القتل بسبب ذلك ولا شك أن ذلك من أعظم المشاق ولهذا قلنا إن ثواب النبي أعظم من ثواب غيره وأما بناء البيت وتطهيره ورفع قواعده فمن وقف على ما روي في كيفية بنائه عرف

شدة البلوى فيه ثم أنه يتضمن إقامة المناسك وقد امتحن الله الخليل عليه الصلاة والسلام بالشيطان في الموقف لرمي الجمار وغيره وأما اشتغاله بالدعاء في أن يبعث الله تعالى محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) في آخر الزمان فهذا مما يحتاج إليه إخلاص العمل لله تعالى وإزالة الحسد عن القلب بالكلية فثبت أن الأمور المذكورة عقيب هذه الآية تكاليف شاقة شديدة فأمكن أن يكون المراد من ابتلاء الله تعالى إياه بالكلمات هو ذلك ثم الذي يدل على أن المراد ذلك أنه عقبه بذكره من غير فصل بحرف من حروف العطف فلم يقبل وقال إني جاعلك للناس إماماً بل قال ءانٍ جَاعِلُكَ فدل هذا على أن ذلك الابتلاء ليس إلا التكليف بهذه الأمور المذكورة واعترض القاضي على هذا القول فقال هذا إنما يجوز لو قال الله تعالى وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمها إبراهيم ثم أنه تعالى قال له بعد ذلك إني جاعلك للناس إماماً فأتمهن إلا أنه ليس كذلك بل ذكر قوله إِنّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا بعد قوله فَأَتَمَّهُنَّ وهذا يدل على أنه تعالى امتحنه بالكلمات وأتمها إبراهيم ثم أنه تعالى قال له بعد ذلك إِنّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ويمكن أن يجاب عنه بأنه ليس المراد من الكلمات الإمامة فقط بل الإمامة وبناء البيت وتطهيره والدعاء في بعثة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كأن الله تعالى ابتلاه بمجموع هذه الأشياء فأخبر الله تعالى عنه أنه ابتلاه بأمور على الإجمال ثم أخبر عنه أنه أتمها ثم عقب ذلك بالشرح والتفصيل وهذا مما لا يعد فيه القول الثاني أن ظاهر الآية لا دلالة فيه على المراد بهذه الكلمات وهذا القول يحتمل وجهين أحدهما بكلمات كلفه الله بهن وهي أوامره ونواهيه فكأنه تعالى قال وَإِذِ ابْتَلَى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ مما شاء كلفه بالأمر بها والوجه الثاني بكلمات تكون من إبراهيم يكلم بها قومه أي يبلغهم إياها والقائلون بالوجه الأول اختلفوا في أن ذلك التكليف بأي شيء كان على أقوال أحدها قال ابن عباس هي عشر خصال كانت فرضاً في شرعه وهي سنة في شرعنا خمس في الرأس وخمس في الجسد أما التي في الرأس فالمضمضة والإستنشاق وفرق الرأس وقص الشارب والسواك وأما التي في البدن فالختان وحلق العانة ونتف الإبط وتقليم الأظفار والاستنجاء بالماء وثانيها قال بعضهم ابتلاه بثلاثين خصلة من خصال الإسلام عشر منها في سورة براءة التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ ( التوبة 112 ) إلى آخر الآية وعشر منها في سورة الأحزاب إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ ( الأحزاب 35 ) إلى آخر الآية وعشر منها في المؤمنون قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ( المؤمنون 1 ) إلى قوله أُوْلَئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ ( المؤمنون 10 ) وروى عشر في سَأَلَ سَائِلٌ ( المعارج 1 ) إلى قوله وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ ( المعارج 34 ) فجعلها أربعين سهماً عن ابن عباس وثالثها أمره بمناسك الحج كالطواف والسعي والرمي والإحرام وهو قول قتادة وابن عباس ورابعها ابتلاه بسبعة أشياء بالشمس والقمر والكواكب والختان على الكبر والنار وذبح الولد والهجرة فوفي بالكل فلهذا قال الله تعالى وَإِبْراهِيمَ الَّذِى وَفَّى ( النجم 37 ) عن الحسن وخامسها أن المراد ما ذكره في قوله إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ ( البقرة 131 ) وسادسها المناظرات الكثيرة في التوحيد مع أبيه وقومه ومع نمرود والصلاة والزكاة والصوم وقسم الغنائم والضيافة والصبر عليها قال القفال رحمه الله وجملة القول أن الابتلاء يتناول إلزام كل ما في فعله كلفة شدة ومشقة فاللفظ يتناول مجموع هذه الأشياء ويتناول كل واحد منها فلو ثبتت الرواية في الكل وجب القول بالكل ولو ثبتت الرواية

في البعض دون البعض فحينئذ يقع التعارض بين هذه الروايات فوجب التوقف والله أعلم
المسألة السادسة قال القاضي هذا الابتلاء إنما كان قبل النبوة لأن الله تعالى نبه على أن قيامه عليه الصلاة والسلام بهن كالسبب لأن يجعله الله إماماً والسبب مقدم على المسبب فوجب كون هذا الابتلاء متقدماً في الوجود على صيرورته إماماً وهذا أيضاً ملائم لقضايا العقول وذلك لأن الوفاء من شرائط النبوة لا يحصل إلا بالإعراض عن جميع ملاذ الدنيا وشهواتها وترك المداهنة مع الخلق وتقبيح ما هم عليه من الأديان الباطلة والعقائد الفاسدة وتحمل الأذى من جميع أصناف الخلق ولا شك أن هذا المعنى من أعظم المشاق وأجل المتاعب ولهذا السبب يكون الرسول عليه الصلاة والسلام أعظم أجراً من أمته وإذا كان كذلك فالله تعالى ابتلاه بالتكاليف الشاقة فلما وفى عليه الصلاة والسلام بها لا جرم أعطاه خلعة النبوة والرسالة وقال آخرون إنه بعد النبوة لأنه عليه الصلاة والسلام لا يعلم كونه مكلفاً بتلك التكاليف إلا من الوحي فلا بد من تقدم الوحي على معرفته بكونه كذلك أجاب القاضي عنه بأنه يحتمل أنه تعالى أوحى إليه على لسان جبريل عليه السلام بهذه التكاليف الشاقة فلما تمم ذلك جعله نبياً مبعوثاً إلى الخلق إذا عرفت هذه المسألة فنقول ما قال القاضي يجوز أن يكون المراد بالكلمات ما ذكره الحسن من حديث الكوكب والشمس والقمر فإنه عليه الصلاة والسلام ابتلاه الله بذلك قبل النبوة أما ذبح الولد والهجرة والنار فكل ذلك كان بعد النبوة وكذا الختان فإنه عليه السلام يروي أنه ختن نفسه وكان سنه مائة وعشرين سنة ثم قال فإن قامت الدلالة السمعية القاهرة على أن المراد من الكلمات هذه الأشياء كان المراد من قوله أتمهن أنه سبحانه علم من حاله أنه يتمهن ويقوم بهن بعد النبوة فلا جرم أعطاه خلعة الإمامة والنبوة
المسألة السابعة الضمير المستكن في بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ في إحدى القراءتين لإبراهيم بمعنى فقام بهن حق القيام وأداهن أحسن التأدية من غير تفريط وتوان ونحوه وَإِبْراهِيمَ الَّذِى وَفَّى وفي الأخرى لله تعالى بمعنى فأعطاه ما طلبه لم ينقص منه شيئاً
أما قوله تعالى إِنّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا فالإمام اسم من يؤتم به كالإزار لما يؤتزر به أي يأتمون بك في دينك وفيه مسائل
المسألة الأولى قال أهل التحقيق المراد من الإمام ههنا النبي ويدل عليه وجوه أحدها أن قوله لِلنَّاسِ إِمَامًا يدل على أنه تعالى جعله إماماً لكل الناس والذي يكون كذلك لا بد وأن يكون رسولاً من عند الله مستقلاً بالشرع لأنه لو كان تبعاً لرسول آخر لكان مأموماً لذلك الرسول لا إماماً له فحينئذ يبطل العموم وثانيها أن اللفظ يدل على أنه إمام في كل شيء والذي يكون كذلك لا بد وأن يكون نبياً وثالثها أن الأنبياء عليهم السلام أئمة من حيث يجب على الخلق اتباعهم قال الله تعالى وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّة ً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ( الأنبياء 73 ) والخلفاء أيضاً أئمة لأنهم رتبوا في المحل الذي يجب على الناس اتباعهم وقبول قولهم وأحكامهم والقضاة والفقهاء أيضاً أئمة لهذا المعنى والذي يصلي بالناس يسمى أيضاً إماماً لأن من دخل في صلاته لزمه الائتمام به قال عليه الصلاة والسلام ( إنما جعل الإمام إماماً ليؤتم به فإذا ركع فاركعوا وإذا سجد فاسجدوا ولا تختلفوا على إمامكم ) فثبت بهذ أن اسم الإمام لمن استحق الاقتداء به في الدين وقد يسمى بذلك أيضاً من يؤتم به في الباطل قال الله تعالى وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّة ً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ( القصص 41 ) إلا أن

اسم الإمام لا يتناوله على الإطلاق بل لا يستعمل فيه إلا مقيداً فإنه لما ذكر أئمة الضلال قيده بقوله تعالى يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ كما أن اسم الإله لا يتناول إلا المعبود الحق فأما المعبود الباطل فإنما يطلق عليه اسم الإله مع القيد قال الله تعالى فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ ءالِهَتَهُمُ الَّتِى يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مِن شَى ْء ( هود 101 ) وقال وَانظُرْ إِلَى إِلَاهِكَ الَّذِى ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً ( طه 97 ) إذا ثبت أن اسم الإمام يتناول ما ذكرناه وثبت أن الأنبياء في أعلى مراتب الإمامة وجب حمل اللفظ ههنا عليه لأن الله تعالى ذكر لفظ الإمام ههنا في معرض الامتنان فلا بد وأن تكون تلك النعمة من أعظم النعم ليحسن نسبة الامتنان فوجب حمل هذه الإمامة على النبوة
المسألة الثانية أن الله تعالى لما وعده بأن يجعله إماماً للناس حقق الله تعالى ذلك الوعد فيه إلى قيام الساعة فإن أهل الأديان على شدة اختلافها ونهاية تنافيها يعظمون إبراهيم عليه الصلاة والسلام ويتشرفون بالانتساب إليه إما في النسب وإما في الدين والشريعة حتى إن عبدة الأوثان كانوا معظمين لإبراهيم عليه السلام وقال الله تعالى في كتابه ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّة َ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا ( النحل 123 ) وقال مِنْ يَرْغَبُ عَن مِلَّة ِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ( البقرة 130 ) وقال في آخر سورة الحج مّلَّة َ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ ( الحج 78 ) وجميع أمة محمد عليه الصلاة والسلام يقولون في آخر الصلاة وارحم محمداً وآل محمد كما صليت وباركت وترحمت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم
المسألة الثالثة القائلون بأن الإمام لا يصير إماماً إلا بالنص تمسكوا بهذه الآية فقالوا إنه تعالى بين أنه إنما صار إماماً بسبب التنصيص على إمامته ونظيره قوله تعالى إِنّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَة ً ( البقرة 30 ) فبين أنه لا يحصل له منصب الخلافة بالتنصيص عليه وهذا ضعيف لأنا بينا أن المراد بالإمامة ههنا النبوة ثم إن سلمنا أن المراد منها مطلق الإمامة لكن الآية تدل على أن النص طريق الإمامة وذلك لا نزاع فيه إنما النزاع في أنه هل تثبت الإمامة بغير النص وليس في هذه الآية تعرض لهذه المسألة لا بالنفي ولا بالإثبات
المسألة الرابعة قوله إِنّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا يدل على أنه عليه السلام كان معصوماً عن جميع الذنوب لأن الإمام هو الذي يؤتم به ويقتدى فلو صدرت المعصية منه لوجب علينا الاقتداء به في ذلك فيلزم أن يجب علينا فعل المعصية وذلك محال لأن كونه معصية عبارة عن كونه ممنوعاً من فعله وكونه واجباً عبارة عن كونه ممنوعاً من تركه والجميع محال
أما قوله مِن ذُرّيَّتِى ففيه مسائل
المسألة الأولى الذرية الأولاد وأولاد الأولاد للرجل وهو من ذرأ الله الخلق وتركوا همزها للخفة كما تركوا في البرية وفيه وجه آخر وه وأن تكون منسوبة إلى الذر
المسألة الثانية قوله وَمِن ذُرّيَتِى عطف على الكاف كأنه قال وجاعل بعض ذريتي كما يقال لك سأكرمك فتقول وزيداً
المسألة الثالثة قال بعضهم إنه تعالى أعلمه أن في ذريته أنبياء فأراد أن يعلم هل يكون ذلك في كلهم أو في بعضهم وهل يصلح جميعهم لهذا الأمر فأعلمه الله تعالى أن فيهم ظالماً لا يصلح لذلك وقال

آخرون إنه عليه السلام ذكر ذلك على سبيل الاستعلام ولما لم يعلم على وجه المسألة فأجابه الله تعالى صريحاً بأن النبوة لا تنال الظالمين منهم فإن قيل هل كان إبراهيم عليه السلام مأذوناً في قوله وَمِن ذُرّيَتِى أو لم يكن مأذوناً فيه فإن أذن الله تعالى في هذا الدعاء فلم رد دعاءه وإن لم يأذن له فيه كان ذلك ذنباً قلنا قوله وَمِن ذُرّيَتِى يدل على أنه عليه السلام طلب أن يكون بعض ذريته أئمة للناس وقد حقق الله تعالى إجابة دعائه في المؤمنين من ذريته كاسماعيل وإسحق ويعقوب ويوسف وموسى وهرون وداود وسليمان وأيوب ويونس وزكريا ويحيى وعيسى وجعل آخرهم محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) من ذريته الذي هو أفضل الأنبياء والأئمة عليهم السلام
أما قوله تعالى قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة وحفص عن عاصم عَهْدِي بإسكان الياء والباقون بفتحها وقرأ بعضهم لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمُونَ أي من كان ظالماً من ذريتك فإنه لا ينال عهدي
المسألة الثانية ذكروا في العهد وجوهاً أحدها أن هذا العهد هو الإمامة المذكورة فيما قبل فإن كان المراد من تلك الإمامة هو النبوة فكذا وإلا فلا وثانيها عَهْدِي أي رحمتي عن عطاء وثالثها طاعتي عن الضحاك ورابعها أماني عن أبي عبيد والقول الأول أولى لأن قوله وَمِن ذُرّيَتِى طلب لتلك الإمامة التي وعده بها بقوله إِنّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا فقوله لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ لا يكون جواباً عن ذلك السؤال إلا إذا كان المراد بهذا العهد تلك الإمامة
المسألة الثالثة الآية دالة على أنه تعالى سيعطي بعض ولده ما سأل ولولا ذلك لكان الجواب لا أو يقول لا ينال عهدي ذريتك فإن قيل أفما كان إبراهيم عليه السلام عالماً بأن النبوة لا تليق بالظالمين قلنا بلى ولكن لم يعلم حال ذريته فبين الله تعالى أن فيهم من هذا حاله وأن النبوة إنما تحصل لمن ليس بظالم
المسألة الرابعة الروافض احتجوا بهذه الآية على القدح في إمامة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما من ثلاثة أوجه الأول أن أبا بكر وعمر كانا كافرين فقد كانا حال كفرهما ظالمين فوجب أن يصدق عليهما في تلك الحالة أنهما لا ينالان عهد الإمامة البتة وإذا صدق عليهما في ذلك الوقت أنهما لا ينالان عهد الإمامة البتة ولا في شيء من الأوقات ثبت أنهما لا يصلحان للإمامة الثاني أن من كان مذنباً في الباطن كان من الظالمين فإذن ما لم يعرف أن أبا بكر وعمر ما كانا من الظالمين المذنبين ظاهراً وباطناً وجب أن لا يحكم بإمامتهما وذلك إنما يثبت في حق من تثبت عصمته ولما لم يكونا معصومين بالإتفاق وجب أن لا تتحقق إمامتهما البتة الثالث قالوا كانا مشركين وكل مشرك ظالم والظالم لا يناله عهد الإمامة فيلزم أن لا ينالهما عهد الإمامة أما أنهما كانا مشركين فبالاتفاق وأما أن المشرك ظالم فلقوله تعالى إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( لقمان 13 ) وأما أن الظالم لا يناله عهد الإمامة فلهذه الآية لا يقال إنهما كانا ظالمين حال كفرهما فبعد زوال الكفر لا يبقى هذا الاسم لأنا نقول الظالم من وجد منه الظلم وقولنا وجد منه الظلم أعم من قولنا وجد

منه الظلم في الماضي أو في الحال بدليل أن هذا المفهوم يمكن تقسيمه إلى هذين القسمين ومورد التقسيم بالتقسيم بالقسمين مشترك بين القسمين وما كان مشتركاً بين القسمين لايلزم انتفاؤه لانتفاء أحد القسمين فلا يلزم من نفى كونه ظالماً في الحال نفي كونه ظالماً والذي يدل عليه نظراً إلى الدلائل الشرعية أن النائم يسمى مؤمناً والإيمان هو التصديق والتصديق غير حاصل حال كونه نائماً فدل على أنه يسمى مؤمناً لأن الإيمان كان حاصلاً قبل وإذا ثبت هذا وجب أن يكون ظالماً لظلم وجد من قبل وأيضاً فالكلام عبارة عن حروف متوالية والمشي عبارة عن حصولات متوالية في أحياز متعاقبة فمجموع تلك الأشياء البتة لا وجود لها فلو كان حصول المشتق منه شرطاً في كون الإسم المشتق حقيقة وجب أن يكون اسم المتكلم والماشي وأمثالهما حقيقة في شيء أصلاً وأنه باطل قطعاً فدل هذا على أن حصول المشتق منه ليس شرطاً لكون الاسم المشتق حقيقة والجواب كل ما ذكرتموه معارض بما أنه لو حلف لا يسلم على كافر فسلم على إنسان مؤمن في الحال إلا أنه كان كافراً قبل بسنين متطاولة فإنه لا يحنث فدل على ما قلناه ولأن التائب عن الكفر لا يسمى كافراً والتائب عن المعصية لا يسمى عاصياً فكذا القول في نظائره ألا ترى إلى قوله وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ ( هود 113 ) فإنه نهى عن الركون إليهم حال إقامتهم على الظلم وقوله مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ ( التوبة 91 ) معناه ما أقاموا على الإحسان على أنا بينا أن المراد من الإمامة في هذه الآية النبوة فمن كفر بالله طرفة عين فإنه لا يصلح للنبوة
المسألة الخامسة قال الجمهور من الفقهاء والمتكلمين الفاسق حال فسقه لا يجوز عقد الإمامة له واختلفوا في أن الفسق الطارىء هل يبطل الإمامة أم لا واحتج الجمهور على أن الفاسق لا يصلح أن تعقد له الإمامة بهذه الآية ووجه الاستدلال بها من وجهين الأول ما بينا أن قوله لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ جواب لقوله وَمِن ذُرّيَتِى وقوله وَمِن ذُرّيَتِى طلب للإمامة التي ذكرها الله تعالى فوجب أن يكون المراد بهذا العهد هو الإمامة ليكون الجواب مطابقاً للسؤال فتصير الآية كأنه تعالى قال لا ينال الإمامة الظالمين وكل عاص فإنه ظالم لنفسه فكانت الآية دالة على ما قلناه فإن قيل ظاهر الآية يقتضي انتفاء كونهم ظالمين ظاهراً وباطناً ولا يصح ذلك في الأئمة والقضاة قلنا أما الشيعة فيستدلون بهذه الآية على صحة قولهم في وجوب العصمة ظاهراً وباطناً وأما نحن فنقول مقتضى الآية ذلك إلا أنا تركنا اعتبار الباطن فتبقى العدالة الظاهرة معتبرة فإن قيل أليس أن يونس عليه السلام قال سُبْحَانَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ( الأنبياء 87 ) وقال آدم رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا ( الأعراف 23 ) قلنا المذكور في الآية هو الظلم المطلق وهذا غير موجود في آدم ويونس عليهما السلام الوجه الثاني أن العهد قد يستعمل في كتاب الله بمعنى الأمر قال الله تعالى أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يبَنِى وَإِذْ أَخَذَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشَّيطَانَ ( ي س 60 ) يعني ألم آمركم بهذا وقال الله تعالى قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا ( آل عمران 183 ) يعني أمرنا ومنه عهود الخلفاء إلى أمرائهم وقضاتهم إذا ثبت أن عهد الله هو أمره فنقول لا يخلو قوله لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ من أن يريد أن الظالمين غير مأمورين وأن الظالمين لا يجوز أن يكونوا بمحل من يقبل منهم أوامر الله تعالى ولما بطل الوجه الأول لاتفاق المسلمين على أن أوامر الله تعالى

لازمة للظالمين كلزومها لغيرهم ثبت الوجه الآخر وهو أنهم غير مؤتمنين على أوامر الله تعالى وغير مقتدى بهم فيها فلا يكونون أئمة في الدين فثبت بدلالة الآية بطلان إمامة الفاسق قال عليه السلام ( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ) ودل أيضاً على أن الفاسق لا يكون حاكماً وأن أحكامه لا تنفذ إذا ولي الحكم وكذلك لا تقبل شهادته ولا خبره عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولا فتياه إذا أفتى ولا يقدم للصلاة وإن كان هو بحيث لو اقتدي به فإنه لا تفسد صلاته قال أبو بكر الرازي ومن الناس من يظن أن مذهب أبي حنيفة أنه يجوز كون الفاسق إماماً وخليفة ولا يجوز كون الفاسق قاضياً قال وهذا خطأ ولم يفرق أبو حنيفة بين الخليفة والحاكم في أن شرط كل واحد منهما العدالة وكيف يكون خليفة وروايته غير مقبولة وأحكامه غير نافذة وكيف يجوز أن يدعي ذلك على أبي حنيفة وقد أكرهه ابن هبيرة في أيام بني أمية على القضاء وضربه فامتنع من ذلك فحبس فلح ابن هبيرة وجعل يضربه كل يوم أسواطاً فلما خيف عليه قال له الفقهاء تول له شيئاً من عمله أي شيء كان حتى يزول عنك الضرب فتولي له عد أحمال التبن التي تدخل فخلاه ثم دعاه المنصور إلى مثل ذلك حتى عد له اللبن الذي كان يضرب لسور مدينة المنصور إلى مثل ذلك وقصته في أمر زيد بن علي مشهورة وفي حمله المال إليه وفتياه الناس سراً في وجوب نصرته والقتال معه وكذلك أمره مع محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن ثم قال وإنما غلط من غلط في هذه الرواية أن قول أبي حنيفة أن القاضي إذا كان عدلاً في نفسه وتولي القضاء من إمام جائر فإن أحكامه نافذة والصلاة خلفه جائزة لأن القاضي إذا كان عدلاً في نفسه ويمكنه تنفيذ الأحكام كانت أحكامه نافذة فلا اعتبار في ذلك بمن ولاه لأن الذي ولاه بمنزلة سائر أعوانه وليس شرط أعوان القاضي أن يكون عدولاً ألا ترى أن أهل بلد لا سلطان عليهم لو اجتمعوا على الرضا بتولية رجل عدل منهم القضاء حتى يكونوا أعواناً له على من امتنع من قبول أحكامه لكان قضاؤه نافذاً وأن لم يكن له ولاية من جهة إمام ولا سلطان والله أعلم
المسألة السادسة الآية تدل على عصمة الأنبياء من وجهين الأول أنه قد ثبت أن المراد من هذا العهد الإمامة ولا شك أن كل نبي إمام فإن الإمام هو الذي يؤتم به والنبي أولى الناس وإذا دلت الآية على أن الإمام لا يكون فاسقاً فبأن تدل على أن الرسول لا يجوز أن يكون فاسقاً فاعلاً للذنب والمعصية أولى الثاني قال وَلاَ يَنَالُونَ عَهْدِي الظَّالِمِينَ فهذا العهد إن كان هو النبوة وجب أن تكون لا ينالها أحد من الظالمين وإن كان هو الإمامة فكذلك لأن كل نبي لا بد وأن يكون إماماً يؤتم به وكل فاسق ظالم لنفسه فوجب أن لا تحصل النبوة لأحد من الفاسقين والله أعلم
المسألة السابعة اعلم أنه سبحانه بين أن له معك عهداً ولك معه عهداً وبين أنك متى تفي بعهدك فإنه سبحانه يفي أيضاً بعهده فقال وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ( البقرة 40 ) ثم في سائر الآيات فإنه أفرد عهدك بالذكر وأفرد عهد نفسه أيضاً بالذكر أما عهدك فقال فيه وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ ( البقرة 177 ) وقال وَالَّذِينَ هُمْ لاِمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ ( المؤمنون 8 ) وقال عَلِيمٌ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ( المائدة 1 ) وقال لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ ( الصف 32 ) وأما عهده سبحانه وتعالى فقال فيه وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ( التوبة 111 ) م بين كيفية عهده إلى أبينا آدم فقال وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى مِن رَّبِّهِ قَبْلُ فَنَسِى َ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ( طه 115 ) ثم بين كيفية عهده إلينا فقال أَلَمْ

أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يبَنِى وَإِذْ أَخَذَ ( ي س 60 ) ثم بين كيفية عهده مع بني إسرائيل فقال إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ ( آل عمران 183 ) ثم بين كيفية عهده مع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقال وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْراهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ ( البقرة 125 ) ثم بين في هذه الآية أن عهده لا يصل إلى الظالمين فقال لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ فهذه المبالغة الشديدة في هذه المعاهدة تقتضي البحث عن حقيقة هذه المعاهدة فنقول العهد المأخوذ عليك ليس إلا عهد الخدمة والعبودية والعهد الذي التزمه الله تعالى من جهته ليس إلا عهد الرحمة والربوبية ثم إن العاقل إذا تأمل في حال هذه المعاهدة لم يجد من نفسه إلا نقض هذا العهد ومن ربه إلا الوفاء بالعهد فلنشرع في معاقد هذا الباب فنقول أول إنعامه عليك إنعام الخلق والإيجاد والإحياء وإعطاء العقل والآلة والمقصود من كل ذلك اشتغالك بالطاعة والخدمة والعبودية على ما قال وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( الذاريات 56 ) ونزه نفسه عن أن يكون هذا الخلق والإيجاد منه على سبيل العبث فقال وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهَا لاَعِبِينَ ( الأنبياء 16 ) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقّ ( الدخان 39 ) وقال أيضاً وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذالِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( ص 27 ) وقال أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ ( المؤمنون 115 ) ثم بين على سبيل التفصيل ما هو الحكمة في الخلق والإيجاد فقال وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ فهو سبحانه وفى بعهد الربوبية حيث خلقك وأحياك وأنعم عليك بوجوه النعم وجعلك عاقلاً مميزاً فإذا لم تشتغل بخدمته وطاعته وعبوديته فقد نقضت عهد عبوديتك مع أن الله تعالى وفى بعهد ربوبيته وثانيها أن عهد الربوبية يقتضي إعطاء التوفيق والهداية وعهد العبودية منك يقتضي الجد والاجتهاد في العمل ثم إنه وفى بعهد الربوبية فإنه ما ترك ذرة من الذرات إلا وجعلها هادية لك إلى سبيل الحق وَإِن مّن شَى ْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ ( الإسراء 44 ) وأنت ما وفيت البتة بعهد الطاعة والعبودية وثالثها أن نعمة الله بالإيمان أعظم النعم والدليل عليه أن هذه النعمة لو فاتتك لكنت أشقى الأشقياء أبد الآبدين ودهر الداهرين ثم هذه النعمة من الله تعالى لقوله وَمَا بِكُم مّن نّعْمَة ٍ فَمِنَ اللَّهِ ( النحل 53 ) ثم مع أن هذه النعمة منه فإنه يشكرك عليها وقال فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا ( الإسراء 19 ) فإذا كان الله تعالى يشكرك على هذه النعمة فبأن تشكره على ما أعطى من التوفيق والهداية كان أولى ثم إنك ما أتيت إلا بالكفران على ما قال قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ( عبس 17 ) فهو تعالى وفى بعهده وأنت نقضت عهدك ورابعها أن تنفق نعمه في سيبل مرضاته فعهده معك أن يعطيك أصناف النعم وقد فعل وعهدك معه أن تصرف نعمه في سبيل مرضاته وأنت ما فعلت ذلك كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّءاهُ اسْتَغْنَى ( العلق 6 7 ) وخامسها أنعم عليك بأنواع النعم لتكون محسناً إلى الفقراء وَأَحْسِنُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ثم إنك توسلت به إلى إيذاء الناس وإيحاشهم الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ ( الحديد 24 ) ( النساء 37 ) وسادسها أعطاك النعم العظيمة لتكون مقبلاً على حمده وأنت تحمد غيره فانظر إلى السلطان العظيم لو أنعم عليك بخلعة نفيسة ثم إنك في حضرته تعرض عنه وتبقى مشغولاً بخدمة بعض الأسقاط كيف تستوجب الأدب والمقت فكذا ههنا واعلم أنا لو اشتغلنا بشرح كيفية وفائه سبحانه بعهد الإحسان والربوبية

وكيفية نقضنا لعهد الإخلاص والعبودية لما قدرنا على ذلك فإنا من أول الحياة إلى آخرها ما صرنا منفكين لحظة واحدة من أنواع نعمه على ظاهرنا وباطننا وكل واحدة من تلك النعم تستدعي شكراً على حدة وخدمة على حدة ثم أنا ما أتينا بها بل ما تنبهنا لها وما عرفنا كيفيتها وكميتها ثم إنه سبحانه على تزايد غفلتنا وتقصيرنا يزيد في أنواع النعم والرحمة والكرم فكنا من أول عمرنا إلى آخره لا نزال نتزايد في درجات النقصان والتقصير واستحقاق الذم وهو سبحانه لا يزال يزيد في الإحسان واللطف والكرم واستحقاق الحمد والثناء فإنه كلما كان تقصيرنا أشد كان إنعامه علينا بعد ذلك أعظم وقعاً وكلما كان إنعامه علينا أكثر وقعاً كان تقصيرنا في شكره أقبح وأسوأ فلا تزال أفعالنا تزداد قبائح ومحاسن أفعاله على سبيل الدوام بحيث لا تفضي إلى الانقطاع ثم إنه قال في هذه الآية لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ وهذا تخويف شديد لكنا نقول إلهنا صدر منك ما يليق بك من الكرم والعفو والرحمة والإحسان وصدر منا ما يليق بنا من الجهل والغدر والتقصير والكسل فنسألك بك وبفضلك العميم أن تتجاوز عنا يا أرحم الراحمين
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَة ً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَآ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِى َ لِلطَّآئِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ
اعلم أنه تعالى بين كيفية حال إبراهيم عليه السلام حين كلفه بالإمامة وهذا شرح التكليف الثاني وهو التكليف بتطهير البيت ثم نقول أما البيت فإنه يريد البيت الحرام واكتفى بذكر البيت مطلقاً لدخول الألف واللام عليه إذا كانتا تدخلان لتعريف المعهود أو الجنس وقد علم المخاطبون أنه لم يرد به الجنس فانصرف إلى المعهود عندهم وهو الكعبة ثم نقول ليس المراد نفس الكعبة لأنه تعالى وصفه بكونه ( أمناً ) وهذا صفة جميع الحرم لا صفة الكعبة فقط والدليل على أنه يجوز إطلاق البيت والمراد منه كل الحرم قوله تعالى هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَة ِ ( المائدة 95 ) والمراد الحرم كله لا الكعبة نفسها لأنه لا يذبح في الكعبة ولا في المسجد الحرام وكذلك قوله فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَاذَا ( التوبة 28 ) المراد والله أعلم منعهم من الحج حضور مواضع النسك وقال في آية أخرى أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءامِناً ( العنكبوت 67 ) وقال الله تعالى في آية أخرى مخبراً عن إبراهيم رَبّ اجْعَلْ هَاذَا الْبَلَدَ امِنًا ( إبراهيم 35 ) فدل هذا على أنه وصف البيت بالأمن فاقتضى جميع الحرم والسبب في أنه تعالى أطلق لفظ البيت وعنى به الحرم كله أن حرمة الحرم لما كانت معلقة بالبيت جاز أن يعبر عنه باسم البيت
أما قوله تعالى مَثَابَة ً لّلنَّاسِ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال أهل اللغة أصله من ثاب يثوب مثابة وثوباً إذا رجع يقال ثاب الماء إذا رجع إلى النهر بعد انقطاعه وثاب إلى فلان عقله أي رجع وتفرق عنه الناس ثم ثابوا أي عادوا مجتمعين والثواب من

هذا أخذ كأن ما أخرجه من مال أو غيره فقد رجع إليه والمثاب من البئر مجتمع الماء في أسفلها قال القفال قيل إن مثاباً ومثابة لغتان مثل مقام ومقامة وهو قول الفراء والزجاج وقيل الهاء إنما دخلت في مثابة مبالغة كما في قولهم نسابة وعلامة وأصل مثابة مثوبة مفعلة
المسألة الثانية قال الحسن معناه أنهم يثوبون إليه في كل عام وعن ابن عباس ومجاهد أنه لا ينصرف عنه أحد إلا وهو يتمنى العود إليه قال الله تعالى فَاجْعَلْ أَفْئِدَة ً مّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ ( إبراهيم 37 ) وقيل مثابة أي يحجون إليه فيثابون عليه فإن قيل كون البيت مثابة يحصل بمجرد عودهم إليه وذلك يحصل بفعلهم لا بفعل الله تعالى فما معنى قوله وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَة ً لّلنَّاسِ قلنا أما على قولنا ففعل العبد مخلوق لله تعالى فهذه الآية حجة على قولنا في هذه المسألة وأما على قول المعتزلة فمعناه أنه تعالى ألقى تعظيمه في القلوب ليصير ذلك داعياً لهم إلى العود إليه مرة بعد أخرى وإنما فعل الله تعالى ذلك لما فيه من منافع الدنيا والآخرة أما منافع الدنيا فلأن أهل المشرق والمغرب يجتمعون هناك فيحصل هناك من التجارات وضروب المكاسب ما يعظم به النفع وأيضاً فيحصل بسبب السفر إلى الحج عمارة الطريق والبلاد ومشاهدة الأحوال المختلفة في الدنيا وأما منافع الدين فلأن من قصد البيت رغبة منه في النسك والتقرب إلى الله تعالى وإظهار العبودية له والمواظبة على العمرة والطواف وإقامة الصلاة في ذلك المسجد المكرم والاعتكاف فيه يستوجب بذلك ثواباً عظيماً عند الله تعالى
المسألة الثانية تمسك بعض أصحابنا في وجوب العمرة بقوله تعالى وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَة ً لّلنَّاسِ ووجه الاستدلال به أن قوله وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَة ً لّلنَّاسِ إخبار عن أنه تعالى جعله موصوفاً بصفة كونه مثابة للناس لكن لا يمكن إجراء الآية على هذا المعنى لأن كونه مثابة للناس صفة تتعلق باختيار الناس وما يتعلق باختيار الناس لا يمكن تحصيله بالجبر والإلجاء وإذا ثبت تعذر إجراء الآية على ظاهرها وجب حمل الآية على الوجوب لأنا متى حملناه على الوجوب كان ذلك أفضى إلى صيرورته كذلك مما إذا حملناه على الندب فثبت أن الله تعالى أوجب علينا العود إليه مرة بعد أخرى وقد توافقنا على أن هذا الوجوب لا يتحقق فيما سوى الطواف فوجب تحققه في الطواف هذا وجه الاستدلال بهذه الآية وأكثر من تكلم في أحكام القرآن طعن في دلالة هذه الآية على هذا المطلوب ونحن قد بينا دلالتها عليه من هذا الوجه الذي بيناه
أما قوله تعالى وَأَمْناً أي موضع أمن ثم لا شك أن قوله جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَة ً لّلنَّاسِ وَأَمْناً خبر فتارة نتركه على ظاهره ونقول أنه خبر وتارة نصرفه عن ظاهره ونقول أنه أمر
أما القول الأول فهو أن يكون المراد أنه تعالى جعل أهل الحرم آمنين من القحط والجدب على ما قال أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءامِناً ( العنكبوت 67 ) وقوله أَوَ لَمْ نُمَكّن لَّهُمْ حَرَماً ءامِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلّ شَى ْء ( القصص 57 ) ولا يمكن أن يكون المراد منه الإخبار عن عدم وقوع القتل في الحرم لأنا نشاهد أن القتل الحرام قد يقع فيه وأيضاً فالقتل المباح قد يوجد فيه قال الله تعالى وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ( البقرة 191 ) فأخبر عن وقوع القتل فيه
القول الثاني أن نحمله على الأمر على سبيل التأويل والمعنى أن الله تعالى أمر الناس بأن يجعلوا ذلك الموضع أمناً من الغارة والقتل فكان البيت محترماً بحكم الله تعالى وكانت الجاهلية متمسكين

بتحريمه لا يهيجون على أحد التجأ إليه وكانوا يسمون قريشاً أهل الله تعظيماً له ثم اعتبر فيه أمر الصيد حتى أن الكلب ليهم بالظبي خارج الحرم فيفر الظبي منه فيتبعه الكلب فإذا دخل الظبي الحرم لم يتبعه الكلب ورويت الأخبار في تحريم مكة قال عليه الصلاة والسلام ( إن الله حرم مكة وأنها لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي وإنما أحلت لي ساعة من نهار وقد عادت حرمتها كما كانت ) فذهب الشافعي رضي الله عنه إلى أن المعنى أنها لم تحل لأحد بأن ينصب الحرب عليها وأن ذلك أحل لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأما من دخل البيت من الذين تجب عليهم الحدود فقال الشافعي رضي الله عنه إن الإمام يأمر بالتضييق عليه بما يؤدي إلى خروجه من الحرم فإذا خرج أقيم عليه الحد في الحل فإن لم يخرج حتى قتل في الحرم جاز وكذلك من قاتل في الحرم جاز قتله فيه وقال أبو حنيفة رحمه الله لا يجوز واحتج الشافعي رحمه الله بأنه عليه الصلاة والسلام أمر عندما قتل عاصم بن ثابت بن الأفلح وخبيب بقتل أبي سفيان في داره بمكة غيلة إن قدر عليه قال الشافعي رحمه الله وهذا في الوقت الذي كانت مكة فيه محرمة فدل أنها لا تمنع أحداً من شيء وجب عليه وأنها إنما تمنع من أن ينصب الحرب عليها كما ينصب على غيرها واحتج أبو حنيفة رحمه الله بهذه الآية والجواب عنه أن قوله وَأَمْناً ليس فيه بيان أنه جعله أمناً فيماذا فيمكن أن يكون أمناً من القحط وأن يكون أمناً من نصب الحروب وأن يكون أمناً من إقامة الحدود وليس اللفظ من باب العموم حتى يحمل على الكل بل حمله على الأمن من القحط والآفات أولى لأنا على هذا التفسير لا نحتاج إلى حمل لفظ الخبر على معنى الأمر وفي سائر الوجوه نحتاج إلى ذلك فكان قول الشافعي رحمه الله أولى
أما قوله تعالى وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وعاصم والكسائي وَاتَّخَذُواْ بكسر الخاء على صيغة الأمر وقرأ نافع وابن عامر بفتح الخاء على صيغة الخبر
أما القراءة الأولى فقوله وَاتَّخَذُواْ عطف على ماذا وفيه أقوال الأول أنه عطف على قوله اذْكُرُواْ نِعْمَتِى الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ( البقرة 122 ) واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى الثاني إنه عطف على قوله الثاني إنه عطف على قوله إِنّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ( البقرة 124 ) والمعنى أنه لما ابتلاه بكلمات وأتمهن قال له جزاء لما فعله من ذلك إِنّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا وقال وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى ويجوز أن يكون أمر بهذا ولده إلا أنه تعالى أضمر قوله وقال ونظيره قوله تعالى وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَا ءاتَيْنَاكُم بِقُوَّة ٍ ( الأعراف 171 ) الثالث أن هذا أمر من الله تعالى لأمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أن يتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وهو كلام اعترض في خلال ذكر قصة إبراهيم عليه السلام وكأن وجهه وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَة ً لّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ أنتم من مقام إبراهيم مصلى والتقدير أنا لما شرفناه ووصفناه بكونه مثابة للناس وأمناً فاتخذوه أنتم قبلة لأنفسكم والواو والفاء قد يذكر كل واحد منهما في هذا الوضع وإن كانت الفاء أوضح أما من قرأ وَاتَّخَذُواْ بالفتح فهو إخبار عن ولد إبراهيم أنهم اتخذوا من مقامه مصلى فيكون هذا عطفاً على جَعَلْنَا الْبَيْتَ واتخذوه مصلى ويجوز أن يكون عطفاً على وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ وإذ اتخذوه مصلى
المسألة الثانية ذكروا أقوالاً في أن مقام إبراهيم عليه السلام أي شيء هو
القول الأول إنه موضع الحجر قام عليه إبراهيم عليه السلام ثم هؤلاء ذكروا وجهين أحدهما

أنه هو الحجر الذي كانت زوجة إسماعيل وضعته تحت قدم إبراهيم عليه السلام حين غسلت رأسه فوضع إبراهيم عليه السلام رجله عليه وهو راكب فغسلت أحد شقي رأسه ثم رفعته من تحته وقد غاصت رجله في الحجر فوضعته تحت الرجل الأخرى فغاصت رجله أيضاً فيه فجعله الله تعالى من معجزاته وهذا قول الحسن وقتادة والربيع بن أنس وثانيها ما روي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن إبراهيم عليه السلام كان يبني البيت وإسماعيل يناوله الحجارة ويقولان رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( البقرة 127 ) فلما ارتفع البنيان وضعف إبراهيم عليه الصلاة والسلام عن وضع الحجارة قام على حجر وهو مقام إبراهيم عليه السلام
القول الثاني أن مقام إبراهيم الحرم كله وهو قول مجاهد الثالث أنه عرفة والمزدلفة والجمار وهو قول عطاء الرابع الحج كله مقام إبراهيم وهو قول ابن عباس واتفق المحققون على أن القول الأولى أولى ويدل عليه وجوه الأول ما روى جابر أنه عليه السلام لما فرغ من الطواف أتى المقام وتلا قوله تعالى وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى فقراءة هذه اللفظة عند ذلك الموضع تدل على أن المراد من هذه اللفظة هو ذلك الموضع ظاهر وثانيها أن هذا الاسم في العرف مختص بذلك الموضع والدليل عليه أن سائلاً لو سأل المكي بمكة عن مقام إبراهيم لم يجبه ولم يفهم منه إلا هذا الموضع وثالثها ما روي أنه عليه السلام مر بالمقام ومعه عمر فقال يا رسول الله أليس هذا مقام أبينا إبراهيم قال بلى قال أفلا نتخذه مصلى قال لم أومر بذلك فلم تغب الشمس من يومهم حتى نزلت الآية ورابعها أن الحجر صار تحت قدميه في رطوبة الطين حتى غاصت فيه رجلا إبراهيم عليه السلام وذلك من أظهر الدلائل على وحدانية الله تعالى ومعجزة إبراهيم عليه السلام فكان اختصاصه بإبراهيم أولى من اختصاص غيره به فكان إطلاق هذا الاسم عليه أولى وخامسها أنه تعالى قال وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وليس للصلاة تعلق بالحرم ولا بسائر المواضع إلا بهذا الموضع فوجب أن يكون مقام إبراهيم هو هذا الموضع وسادسها أن مقام إبراهيم هو موضع قيامه وثبت بالأخبار أنه قام على هذا الحجر عند المغتسل ولم يثبت قيامه على غيره فحمل هذا اللفظ أعني مقام إبراهيم عليه السلام على الحجر يكون أولى قال القفال ومن فسر مقام إبراهيم بالحجر خرج قوله وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى على مجاز قول الرجل اتخذت من فلان صديقاً وقد أعطاني الله من فلان أخاً صالحاً ووهب الله لي منك ولياً مشفقاً وإنما تدخل ( من ) لبيان المتخذ الموصوف وتميزه في ذلك المعنى من غيره والله أعلم
المسألة الثالثة ذكروا في المراد بقوله مُصَلًّى وجوهاً أحدها المصلى المدعى فجعله من الصلاة التي هي الدعاء قال الله تعالى النَّبِى ّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ ( الأحزاب 56 ) وهو قول مجاهد وإنما ذهب إلى هذا التأويل ليتم له قوله إن كل الحرم مقام إبراهيم وثانيها قال الحسن أراد به قبلة وثالثها قال قتادة والسدي أمروا أن يصلوا عنده قال أهل التحقيق هذا القول أولى لأن لفظ الصلاة إذا أطلق يعقل منه الصلاة المفعولة بركوع وسجود ألا ترى أن مصلى المصر وهو الموضع الذي يصلى فيه صلاة العيد وقال عليه السلام لأسامة بن زيد المصلى أمامك يعني به موضع الصلاة المفعولة وقد دل

عليه أيضاً فعل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) للصلاة عنده بعد تلاوة الآية ولأن حملها على الصلاة المعهودة أولى لأنها جامعة لسائر المعاني التي فسروا الآية بها وههنا بحث فقهي وهو أن ركعتي الطواف فرض أم سنة ينظر إن كان الطواف فرضاً فللشافعي رضي الله عنه فيه قولان أحدهما فرض لقوله تعالى وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى والأمر للوجوب والثاني سنة لقوله عليه السلام للأعرابي حين قال هل على غيرها قال لا إلا أن تطوع وإن كان الطواف نفلاً مثل طواف القدوم فركعتاه سنة والرواية عن أبي حنيفة مختلفة أيضاً في هذه المسألة والله أعلم
المسألة الرابعة في فضائل البيت روى الشيخ أحمد البيهقي كتاب شعب الإيمان عن أبي ذر قال ( قلت يا رسول الله أي مسجد وضع على الأرض أولاً قال المسجد الحرام قال قلت ثم أي قال ثم المسجد الأقصى قلت كم بينهما قال أربعون سنة فأينما أدركتك الصلاة فصل فهو مسجد ) أخرجاه في الصحيحين وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال خلق البيت قبل الأرض بألفي عام ثم دحيت الأرض منه وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال عليه السلام ( أول بقعة وضعت في الأرض موضع البيت ثم مدت منها الأرض وأن أول جبل وضعه الله تعالى على وجه الأرض أبو قبيس ثم مدت منه الجبال ) وعن وهب بن منبه قال إن آدم عليه السلام لما أهبط إلى الأرض استوحش منها لما رأى من سعتها ولأنه لم ير فيها أحداً غيره فقال يا رب أما لأرضك هذه عامر يسبحك فيها ويقدس لك غيري فقال الله تعالى إني سأجعل فيها من ذريتك من يسبح بحمدي ويقدس لي وسأجعل فيها بيوتاً ترفع لذكري فيسبحني فيها خلقي وسأبوئك منها بيتاً أختاره لنفسي وأخصه بكرامتي وأوثره على بيوت الأرض كلها باسمي واسميه بيتي أعظمه بعظمتي وأحوطه بحرمتي وأجعله أحق البيوت كلها وأولاها بذكري وأضعه في البقعة التي اخترت لنفسي فإني اخترت مكانه يوم خلقت السموات والأرض أجعل ذلك البيت لك ولمن بعدك حرماً آمناً أحرم بحرمته ما فوقه وما تحته وما حوله فمن حرمه بحرمتي فقد عظم حرمتي ومن أحله فقد أباح حرمتي ومن آمن أهله استوجب بذلك أماني ومن أخافهم فقد أخافني ومن عظم شأنه فقد عظم في عيني ومن تهاون به فقد صغر في عيني سكانها جيراني وعمارها وفدي وزوارها أضيافي اجعله أول بيت وضع للناس وأعمره بأهل السماء والأرض يأتونه أفواجاً شعثاً غبراً وَأَذّن فِى النَّاسِ بِالْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ ( الحج 27 ) يعجون بالتكبير عجاً إلي ويثجون بالتلبية ثجاً فمن اعتمره لا يريد غيري فقد زارني وضافني ونزل بي ووفد علي فحق لي أن أتحفه بكرامتي وحق على الكريم أن يكرم وفده وأضيافه وزواره وأن يسعف كل واحد منهم بحاجته تعمره يا آدم ما كنت حياً ثم يعمره من بعدك الأمم والقرون والأنبياء من ولدك أمة بعد أمة وقرناً بعد قرن ونبياً بعد نبي حتى ينتهي بعد ذلك إلى نبي من ولدك يقال له محمد عليه السلام وهو خاتم النبيين فأجعله من سكانه وعماره وحماته وولاته فيكون أميني عليه ما دام حياً فإذا انقلب إلي وجدني قد ادخرت له من أجره ما يتمكن به من القربة إلى الوسيلة عندي واجعل اسم ذلك البيت وذكره وشرفه ومجده وسناه وتكرمته لنبي من ولدك يكون قبل هذا النبي وهو أبوه يقال له إبراهيم أرفع له قواعده وأقضي على يديه عمارته وأعلمه مشاعره ومناسكه وأجعله أمة واحدة قانتاً قائماً بأمري داعياً إلى سبيلي أجتبيه وأهديه إلى صراط مستقيم أبتليه فيصبر وأعافيه فيشكر وآمره فيفعل وينذر لي فيفي ويدعوني فأستجيب دعوته في ولده وذريته من بعده وأشفعه فيهم وأجعلهم أهل ذلك البيت وولاته وحماته وسقاته وخدامه وخزانه وحجابه حتى يبدلوا أو يغيروا وأجعل إبراهيم إمام ذلك البيت

وأهل تلك الشريعة يأتم به من حضر تلك المواطن من جميع الجن والإنس وعن عطاء قال أهبط آدم بالهند فقال يا رب مالي لا أسمع صوت الملائكة كما كنت أسمعها في الجنة قال بخطيئتك يا آدم فانطلق إلى مكة فابن بها بيتاً تطوف به كما رأيتهم يطوفون فانطلق إلى مكة فبنى البيت فكان موضع قدمي آدم قرى وأنهاراً وعمارة وما بين خطاه مفاوز فحج آدم البيت من الهند أربعين سنة وسأل عمر كعباً فقال أخبرني عن هذا البيت فقال إن هذا البيت أنزله الله تعالى من السماء ياقوته مجوفة مع آدم عليه السلام فقال يا آدم إن هذا بيتي فطف حوله وصل حوله كما رأيت ملائكتي تطوف حول عرشي وتصلي ونزلت معه الملائكة فرفعوا قواعده من حجارة فوضع البيت على القواعد فلما أغرق الله قوم نوح رفعه الله وبقيت قواعده وعن علي رضي الله عنه قال البيت المعمور بيت في السماء يقال له الضراح وهو بحيال الكعبة من فوقها حرمته في السماء كحرمة البيت في الأرض يصلي فيه كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة لا يعودون فيه أبداً وذكر علي رضي الله عنه أنه مر عليه الدهر بعد بناء إبراهيم فانهدم فبنته العمالقة ومر عليه الدهر فانهدم فبنته جرهم ومر عليه الدهر فانهدم فبنته قريش ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يومئذ شاب فلما أرادوا أن يرفعوا الحجر الأسود اختصموا فيه فقالوا يحكم بيننا أول رجل يخرج من هذه السكة وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أول من خرج عليهم فقضى بينهم أن يجعلوا الحجر في مرط ثم ترفعه جميع القبائل فرفعوه كلهم فأخذه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فوضعه وعن الزهري قال بلغني أنهم وجدوا في مقام إبراهيم عليه السلام ثلاث صفوح في كل صفح منها كتاب في الصفح الأول أنا الله ذوبكة صنعتها يوم صنعت الشمس والقمر وحففتها بسبعة أملاك حفاً وباركت لأهلها في اللحم واللبن وفي الصفح الثاني أنا الله ذوبكة خلقت الرحم وشققت لها اسماً من إسمي من وصلها وصلته ومن قطعها قطعته وفي الثالث أنا الله ذوبكة خلقت الخير والشر فطوبى لمن كان الخير على يديه وويل لمن كان الشر على يديه
المسألة الخامسة في فضائل الحجر والمقام عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال قال عليه السلام ( الركن والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة طمس الله نورهما ولولا ذلك لأضاءا ما بين المشرق والمغرب وما مسهما ذو عاهة ولا سقيم إلا شفي ) وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال عليه السلام ( إنه كان أشد بياضاً من الثلج فسودته خطايا أهل الشرك ) وعن ابن عباس قال عليه السلام ( ليأتين هذا الحجر يوم القيامة له عينان يبصر بهما ولسان ينطق به يشهد على من استلمه بحق ) وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه انتهى إلى الحجر الأسود فقال إني لأقبلك وإني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقبلك ما قبلتك أخرجاه في الصحيح
أما قوله تعالى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْراهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ فالأولى أن يراد به ألزمناهما ذلك وأمرناهما أمراً وثقناً عليهما فيه وقد تقدم من قبل معنى العهد والميثاق
أما قوله أَن طَهّرَا بَيْتِى َ فيجب أن يراد به التطهير من كل أمر لا يليق بالبيت فإذا كان موضع البيت وحواليه مصلى وجب تطهيره من الأنجاس والأقذار وإذا كان موضع العبادة والإخلاص لله تعالى وجب تطهيره من الشرك وعبادة غير الله وكل ذلك داخل تحت الكلام ثم إن المفسرين ذكروا وجوهاً أحدها أن معنى طَهّرَا بَيْتِى َ ابنياه وطهراه من الشرك وأسساه على التقوى كقوله تعالى أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى

مِنَ اللَّهِ ( التوبة 109 ) وثانيها عرفا الناس أن بيتي طهرة لهم متى حجوه وزاروه وأقاموا به ومجازه اجعلاه طاهراً عندهم كما يقال الشافعي رضي الله عنه يطهر هذا وأبو حنيفة ينجسه وثالثها ابنياه ولا تدعا أحداً من أهل الريب والشرك يزاحم الطائفين فيه بل أقراه على طهارته من أهل الكفر والريب كما يقال طهر الله الأرض من فلان وهذه التأويلات مبنية على أنه لم يكن هناك ما يوجب إيقاع تطهيره من الأوثان والشرك وهو كقوله تعالى وَلَهُمْ فِيهَا أَزْواجٌ مُّطَهَّرَة ٌ ( البقرة 25 ) فمعلوم أنهن لم يطهرن من نجس بل خلقن طاهرات وكذا البيت المأمور بتطهيره خلق طاهراً والله أعلم ورابعها معناه نظفا بيتي من الأوثان والشرك والمعاصي ليقتدي الناس بكما في ذلك وخامسها قال بعضهم إن موضع البيت قبل البناء كان يلقى فيه الجيف والأقذار فأمر الله تعالى إبراهيم بإزالة تلك القاذورات وبناء البيت هناك وهذا ضعيف لأن قبل البناء ما كان البيت موجوداً فتطهير تلك العرصة لا يكون تطهيراً للبيت ويمكن أن يجاب عنه بأنه سماه بيتاً لأنه علم أن مآله إلى أن يصير بيتاً ولكنه مجاز
أما قوله تعالى لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ففيه مسائل
المسألة الأولى العكف مصدر عكف يعكف بضم الكاف وكسرها عكفاً إذا لزم الشيء وأقام عليه فهو عاكف وقيل إذا أقبل عليه لا يصرف عنه وجهه
المسألة الثانية في هذه الأوصاف الثلاثة قولان الأول وهو الأقرب أن يحمل ذلك على فرق ثلاثة لأن من حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه فيجب أن يكون الطائفون غير العاكفين والعاكفون غير الركع السجود لتصح فائدة العطف فالمراد بالطائفين من يقصد البيت حاجاً أو معتمراً فيطوف به والمراد بالعاكفين من يقيم هناك ويجاور والمراد بالركع السجود من يصلي هناك والقول الثاني وهو قول عطاء أنه إذا كان طائفاً فهو من الطائفين وإذا كان جالساً فهو من العاكفين وإذا كان مصلياً فهو من الرجع السجود
المسألة الثالثة هذه الآية تدل على أمور أحدها أنا إذا فسرنا الطائفين بالغرباء فحينئذ تدل الآية على أن الطواف للغرباء أفضل من الصلاة لأنه تعالى كما خصهم بالطواف دل على أن لهم به مزيد اختصاص وروي عن ابن عباس ومجاهد وعطاء أن الطواف لأهل الأمصار أفضل والصلاة لأهل مكة أفضل وثانيها تدل الآية على جواز الاعتكاف في البيت وثالثها تدل على جواز الصلاة في البيت فرضاً كانت أو نفلاً إذ لم تفرق الآية بين شيئين منها وهو خلاف قول مالك في امتناعه من جواز فعل الصلاة المفروضة في البيت فإن قيل لا نسلم دلالة الآية على ذلك لأنه تعالى لم يقل والركع السجود في البيت وكما لا تدل الآية على جواز فعل الطواف في جوف البيت وإنما دلت على فعله خارج البيت كذلك دلالته مقصورة على جواز فعل الصلاة إلى البيت متوجهاً إليه قلنا ظاهر الآية يتناول الركوع والسجود إلى البيت سواء كان ذلك في البيت أو خارجاً عنه وإنما أوجبنا وقوع الطواف خارج البيت لأن الطواف بالبيت هو أن يطوف بالبيت ولا يسمى طائفاً بالبيت من طاف في جوفه والله تعالى إنما أمر بالطواف به لا بالطواف فيه لقوله تعالى وَلْيَطَّوَّفُواْ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ( الحج 29 ) وأيضاً المراد لو كان التوجه إليه للصلاة لما كان للأمر بتطهير البيت للركع السجود وجه إذا كان حاضر والبيت والغائبون عنه سواء في الأمر بالتوجه إليه واحتج مالك

بقوله تعالى فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ومن كان داخل المسجد الحرام لم يكن متوجهاً إلى المسجد بل إلى جزء من أجزائه والجواب أن المتوجه الواحد يستحيل أن يكون متوجهاً إلى كل المسجد بل لا بد وأن يكون متوجهاً إلى جزء من أجزائه ومن كان داخل البيت فهو كذلك فوجب أن يكون داخلاً تحت الآية ورابعها أن قوله لِلطَّائِفِينَ يتناول مطلق الطواف سواء كان منصوصاً عليه في كتاب الله تعالى كقوله تعالى وَلْيَطَّوَّفُواْ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ أو ثبت حكمه بالسنة أو كان من المندوبات
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَاذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ ءَامَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ
اعلم أن هذا هو النوع الثالث من أحوال إبراهيم عليه السلام التي حكاها الله تعالى ههنا قال القاضي في هذه الآيات تقديم وتأخير لأن قوله رَبِّ اجْعَلْ هَاذَا بَلَدًا آمِنًا لا يمكن إلا بعد دخول البلد في الوجود والذي ذكره من بعد وهو قوله وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ ( البقرة 128 ) وإن كان متأخراً في التلاوة فهو متقدم في المعنى وههنا مسائل
المسألة الأولى المراد من الآية دعاء إبراهيم للمؤمنين من سكان مكة بالأمن والتوسعة بما يجلب إلى مكة لأنها بلد لا زرع ولا غرس فيه فلولا الأمن لم يجلب إليها من النواحي وتعذر العيش فيها ثم إن الله تعالى أجاب دعاءه وجعله آمناً من الآفات فلم يصل إليه جبار إلا قصمه الله كما فعل بأصحاب الفيل وههنا سؤالان
السؤال الأول أليس أن الحجاج حارب ابن الزبير وخرب الكعبة وقصد أهلها بكل سوء وتم له ذلك
الجواب لم يكن مقصوده تخريب الكعبة لذاتها بل كان مقصوده شيئاً آخر
السؤال الثاني المطلوب من الله تعالى هو أن يجعل البلد آمناً كثير الخصب وهذا مما يتعلق بمنافع الدنيا فكيف يليق بالرسول المعظم طلبها
والجواب عنه من وجوه أحدها أن الدنيا إذا طلبت ليتقوى بها على الدين كان ذلك من أعظم أركان الدين فإذا كان البلد آمناً وحصل فيه الخصب تفرغ أهله لطاعة الله تعالى وإذا كان البلد على ضد ذلك كانوا على ضد ذلك وثانيها أنه تعالى جعله مثابة للناس والناس إنما يمكنهم الذهاب إليه إذا كانت الطرق آمنة والأقوات هناك رخيصة وثالثها لا يبعد أن يكون الأمن والخصب مما يدعو الإنسان إلى الذهاب إلى تلك البلدة فحينئذ يشاهد المشاعر المعظمة والمواقف المكرمة فيكون الأمن والخصب سبب اتصاله في تلك الطاعة

المسألة الثانية بَلَدًا آمِنًا يحتمل وجهين أحدهما مأمون فيه كقوله تعالى فِى عِيشَة ٍ رَّاضِيَة ٍ ( القارعة 7 ) أي مرضية والثاني أن يكون المراد أهل البلد كقوله وَاسْئَلِ الْقَرْيَة َ ( يوسف 82 ) أي أهلها وهو مجاز لأن الأمن والخوف لا يلحقان البلد
المسألة الثالثة اختلفوا في الأمن المسؤول في هذه الآية على وجوه أحدها سأله الأمن من القحط لأنه أسكن أهله بواد غير ذي زرع ولا ضرع وثانيها سأله الأمن من الخسف والمسخ وثالثها سأله الأمن من القتل وهو قول أبو بكر الرازي واحتج عليه بأنه عليه السلام سأله الأمن أولاً ثم سأله الرزق ثانياً ولو كان الأمن المطلوب هو الأمن من القحط لكان سؤال الرزق بعده تكراراً فقال في هذه الآية رَبِّ اجْعَلْ هَاذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ وقال في آية أخرى رَبّ اجْعَلْ هَاذَا الْبَلَدَ امِنًا ثم قال في آخر القصة رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ إلى قوله وَارْزُقْهُمْ مّنَ الثَّمَراتِ ( إبراهيم 37 ) واعلم أن هذه الحجة ضعيفة فإن لقائل أن يقول لعل الأمن المسؤول هو الأمن من الخسف والمسخ أو لعله الأمن من القحط ثم الأمن من القحط قد يكون بحصول ما يحتاج إليه من الأغذية وقد يكون بالتوسعة فيها فهو بالسؤال الأول طلب إزالة القحط وبالسؤال الثاني طلب التوسعة العظيمة
المسألة الرابعة اختلفوا في أن مكة هل كانت آمنة محرمة قبل دعوة إبراهيم عليه السلام أو إنما صارت كذلك بدعوته فقال قائلون إنها كانت كذلك أبداً لقوله عليه السلام ( إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض ) وأيضاً قال إبراهيم رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ( إبراهيم 37 ) وهذا يقتضي أنها كانت محرمة قبل ذلك ثم إن إبراهيم عليه السلام أكده بهذا الدعاء وقال آخرون إنها إنما صارت حرماً آمناً بدعاء إبراهيم عليه السلام وقبله كانت لسائر البلاد والدليل عليه قوله عليه السلام ( اللهم إني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة ) والقول الثالث إنها كانت حراماً قبل الدعوة بوجه غير الوجه الذي صارت به حراماً بعد الدعوة فالأول يمنع الله تعالى من الاصطلام وبما جعل في النفوس من التعظيم والثاني بالأمر على ألسنة الرسل
المسألة الخامسة إنما قال في هذه السورة بَلَدًا آمِنًا على التنكير وقال في سورة إبراهيم هَاذَا الْبَلَدَ امِنًا على التعريف لوجهين الأول أن الدعوة الأولى وقعت ولم يكن المكان قد جعل بلداً كأنه قال اجعل هذا الوادي بلداً آمناً لأنه تعالى حكى عنه أنه قال رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ ( إبراهيم 37 ) فقال ههنا اجعل هذا الوادي بلداً آمناً والدعوة الثانية وقعت وقد جعل بلداً فكأنه قال اجعل هذا المكان الذي صيرته بلداً ذا أمن وسلامة كقولك جعلت هذا الرجل آمناً الثاني أن تكون الدعوتان وقعتا بعد ما صار المكان بلداً فقوله اجْعَلْ هَاذَا بَلَدًا آمِنًا تقديره اجعل هذا البلد بلداً آمناً كقولك كان اليوم يوماً حاراً وهذا إنما تذكره للمبالغة في وصفه بالحرارة لأن التنكير يدل على المبالغة فقوله رَبِّ اجْعَلْ هَاذَا بَلَدًا آمِنًا معناه اجعله من البلدان الكاملة في الأمن وأما قوله رَبّ اجْعَلْ هَاذَا الْبَلَدَ امِنًا فليس فيه إلا طلب الأمن لا طلب المبالغة وأما قوله وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ فالمعنى أنه عليه السلام سأل أن يدر على ساكني مكة أقواتهم فاستجاب الله

تعالى له فصارت مكة يجبى إليها ثمرات كل شيء أما قوله مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ فهو يدل من قوله أَهْلِهِ يعني وارزق المؤمنين من أهله خاصة وهو كقوله وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ( آل عمران 97 ) واعلم أنه تعالى لما أعلمه أن منهم قوماً كفاراً بقوله لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ( البقرة 124 ) لا جرم خصص دعاءه بالمؤمنين دون الكافرين وسبب هذا التخصيص النص والقياس أما النص فقوله تعالى فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ( المائدة 124 ) وأما القياس فمن وجهين
الوجه الأول أنه لما سأل الله تعالى أن يجعل الإمامة في ذريته قال الله تعالى لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ( البقرة 124 ) فصار ذلك تأديباً في المسألة فلما ميز الله تعالى المؤمنين عن الكافرين في باب الإمامة لا جرم خصص المؤمنين بهذا الدعاء دون الكافرين ثم أن الله تعالى أعلمه بقوله فَأُمَتّعُهُ قَلِيلاً الفرق بين النبوة ورزق الدنيا لأن منصب النبوة والإمامة لا يليق بالفاسقين لأنه لا بد في الإمامة والنبوة من قوة العزم والصبر على ضروب المحنة حتى يؤدي عن الله أمره ونهيه ولا تأخذه في الدين لومة لائم وسطوة جبار أما الرزق فلا يقبح إيصاله إلى المطيع والكافر والصادق والمنافق فمن آمن فالجنة مسكنه ومثواه ومن كفر فالنار مستقره ومأواه
الوجه الثاني يحتمل أن إبراهيم عليه السلام قوي في ظنه أنه إن دعا للكل كثر في البلد الكفار فيكون في غلبتهم وكثرتهم مفسدة ومضرة من ذهاب الناس إلى الحج فخص المؤمنين بالدعاء لهذا السبب أما قوله تعالى وَمَن كَفَرَ فَأُمَتّعُهُ قَلِيلاً ففيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ ابن عامر فَأُمَتّعُهُ بسكون الميم خفية من أمتعت والباقون بفتح الميم مشددة من متعت والتشديد يدل على التكثير بخلاف التخفيف
المسألة الثانية أمتعه قيل بالرزق وقيل بالبقاء في الدنيا وقيل بهما إلى خروج محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فيقتله أو يخرجه من هذه الديار إن أقام على الكفر والمعنى أن الله تعالى كأنه قال إنك وإن كنت خصصت بدعائك المؤمنين فإني أمتع الكافر منهم بعاجل الدنيا ولا أمنعه من ذلك ما أتفضل به على المؤمنين إلى أن يتم عمره فأقبضه ثم اضطره في الآخرة إلى عذاب النار فجعل ما رزق الكافر في دار الدنيا قليلاً إذ كان واقعاً في مدة عمره وهي مدة واقعة فيما بين الأزل والأبد وهو بالنسبة إليهما قليل جداً والحاصل أن الله تعالى بين أن نعمة المؤمن في الدنيا موصولة بالنعمة في الآخرة بخلاف الكافر فإن نعمته في الدنيا تنقطع عند الموت وتتخلص منه إلى الآخرة أما قوله ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ فاعلم أن في الإضطرار قولين أحدهما أن يفعل به ما يتعذر عليه الخلاص منه وههنا كذلك كما قال الله تعالى يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا و يَوْمٍ يَسْبَحُونَ فِى النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ( القمر 48 ) يقال اضطررته إلى الأمر أي الجأته وحملته عليه من حيث كان كارهاً له وقالوا إن أصله من الضر وهو إدناء الشيء من الشيء ومنه ضرة المرأة لدنوها وقربها والثاني أن الإضطرار هو أن يصير الفاعل بالتخويف والتهديد إلى أن يفعل ذلك الفعل اختياراً كقوله تعالى فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ ( البقرة 173 ) ( الأنعام 145 ) ( النحل 115 ) فوصفه بأنه مضطر إلى تناول الميتة وإن كان ذلك الأكل فعله فيكون المعنى أن الله تعالى يلجئه إلى أن يختار النار والإستقرار فيها بأن أعلمه بأنه لو رام التخلص لمنع منه لأن من هذا حاله يجعل ملجأ إلى الوقوع في النار ثم بين تعالى أن ذلك بئس المصير لأن نعم المصير ما ينال فيه النعيم والسرور وبئس المصير ضده

وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّة ً مُّسْلِمَة ً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ
اعلم أن هذا هو النوع الرابع من الأمور التي حكاها الله تعالى عن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وهو أنهما عند بناء البيت ذكرا ثلاثة من الدعاء ثم ههنا مسائل
المسألة الأولى قوله وَإِذْ يَرْفَعُ حكاية حال ماضية والقواعد جمع قاعدة وهي الأساس والأصل لما فوقه وهي صفة غالبة ومعناها الثابتة ومنه أقعدك الله أي أسأل الله أن يقعدك أي يثبتك ورفع الأساس البناء عليها لأنها إذا بني عليها نقلت عن هيئة الانخفاض إلى هيئة الارتفاع وتطاولت بعد التقاصر ويجوز أن يكون المراد بها سافات البناء لأن كل ساف قاعدة للذي يبنى عليه ويوضع فوقه ومعنى رفع القواعد رفعها بالبناء لأنه إذا وضع سافاً فوق ساف فقد رفع السافات والله أعلم
المسألة الثانية الأكثرون من أهل الأخبار على أن هذا البيت كان موجوداً قبل إبراهيم عليه السلام على ما روينا من الأحاديث فيه واحتجوا بقوله وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ فإن هذا صريح في أن تلك القواعد كانت موجودة متهدمة إلا أن إبراهيم عليه السلام رفعها وعمرها
المسألة الثالثة اختلفوا في أنه هل كان إسماعيل عليه السلام شريكاً لإبراهيم عليه السلام في رفع قواعد البيت وبنائه قال الأكثرون إنه كان شريكاً له في ذلك والتقدير وإذ يرفع إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت والدليل عليه أنه تعالى عطف إسماعيل على إبراهيم فلا بد وأن يكون ذلك العطف في فعل من الأفعال التي سلف ذكرها ولم يتقدم إلا ذكر رفع قواعد البيت موجب أن يكون إسماعيل معطوفاً على إبراهيم في ذلك ثم ان اشتراكهما في ذلك يحتمل وجهين أحدهما أن يشتركا في البناء ورفع الجدران والثاني أن يكون أحدهما بانياً للبيت والآخر يرفع إليه الحجر والطين ويهيىء له الآلات والأدوات وعلى الوجهين تصح إضافة الرفع إليهما وإن كان الوجه الأول أدخل في الحقيقة ومن الناس من قال إن إسماعيل في ذلك الوقت كان طفلاً صغيراً وروي معناه عن علي رضي الله عنه وأنه لما بنى البيت خرج وخلف إسماعيل وهاجر فقالا إلى من تكلنا فقال إبراهيم إلى الله فعطش إسماعيل فلم ير شيئاً من الماء فناداهما جبريل عليه السلام وفحص الأرض بأصبعه فنبعت زمزم وهؤلاء جعلوا الوقف على قوله مِنَ الْبَيْتِ ثم ابتدؤا وإسماعيل ربنا تقبل منا طاعتنا ببناء هذا البيت فعلى هذا التقدير يكون إسماعيل شريكاً

في الدعاء لا في البناء وهذا التأويل ضعيف لأن قوله تَقَبَّلْ مِنَّا ليس فيه ما يدل على أنه تعالى ماذا يقبل فوجب صرفه إلى المذكور السابق وهو رفع البيت فإذا لم يكن ذلك من فعله كيف يدعو الله بأن يتقبله منه فإذن هذا القول على خلاف ظاهر القرآن فوجب رده والله أعلم
المسألة الرابعة إنما قال وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ ولم يقل يرفع قواعد البيت لأن في إبهام القواعد وتبيينها بعد الإبهام من تفخيم الشأن ما ليس في العبارة الأخرى واعلم أن الله تعالى حكى عنهما بعد ذلك ثلاثة أنواع من الدعاء
النوع الأول في قوله تعالى تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وفيه مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في تفسير قوله تَقَبَّلْ مِنَّا فقال المتكلمون كل عمل يقبله الله تعالى فهو يثيب صاحبه ويرضاه منه والذي لا يثيبه عليه ولا يرضاه منه فهو المردود فههنا عبر عن أحد المتلازمين باسم الآخر فذكر لفظ القبول وأراد به الثواب والرضا لأن التقبل هو أن يقبل الرجل ما يهدى إليه فشبه الفعل من العبد بالعطية والرضا من الله بالقبول توسعاً وقال العارفون فرق بين القبول والتقبل فإن التقبل عبارة عن أن يتكلف الإنسان في قبوله وذلك إنما يكون حيث يكون العمل ناقصاً لا يستحق أن يقبل فهذا اعتراف منهما بالتقصير في العمل واعتراف بالعجز والانكسار وأيضاً فلم يكن المقصود إعطاء الثواب عليه لأن كون الفعل واقعاً موقع القبول من المخدوم ألذ عند الخادم العاقل من إعطاء الثواب عليه وتمام تحقيقه سيأتي في تفسير المحبة في قوله تعالى وَالَّذِينَ ءامَنُواْ أَشَدُّ حُبّا لِلَّهِ ( البقرة 165 ) والله أعلم
المسألة الثانية إنهم بعد أن أتوا بتلك العبادة مخلصين تضرعوا إلى الله تعالى في قبولها وطلبوا الثواب عليها على ما قاله المتكلمون ولو كان ترتيب الثواب على الفعل المقرون بالإخلاص واجباً على الله تعالى لما كان في هذا الدعاء والتضرع فائدة فإنه يجري مجرى أن الإنسان يتضرع إلى الله فيقول يا إلهي اجعل النار حارة والجمد بارداً بل ذلك الدعاء أحسن لأنه لا استبعاد عند المتكلم في صيرورة النار حال بقائها على صورتها في الإشراق والاشتعال باردة والجمد حال بقائه على صورته في الإنجماد والبياض حاراً ويستحيل عند المعتزلة أن لا يترتب الثواب على مثل هذا الفعل فوجب أن يكون الدعاء ههنا أقبح فلما لم يكن كذلك علمنا أنه لا يجب للعبد على الله شيء أصلاً والله أعلم
المسألة الثانية إنما عقب هذا الدعاء بقوله إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ كأنه يقول تسمع دعاءنا وتضرعنا وتعلم ما في قلبنا من الإخلاص وترك الالتفات إلى أحد سواك فإن قيل قوله إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ يفيد الحصر وليس الأمر كذلك فإن غيره قد يكون سميعاً قلنا إنه سبحانه لكماله في هذه الصفة يكون كأنه هو المختص بها دون غيره
النوع الثاني من الدعاء قوله رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وفيه مسائل
المسألة الأولى احتج أصحابنا في مسألة خلق الأعمال بقوله رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ فإن الإسلام إما أن يكون المراد منه الدين والاعتقاد أو الاستسلام والانقياد وكيف كان فقد رغبا في أن يجعلهما بهذه الصفة وجعلهما بهذه الصفة لا معنى له إلا خلق ذلك فيهما فإن الجعل عبارة عن الخلق قال الله

تعالى وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ( الأنعام 1 ) فدل هذا على أن الإسلام مخلوق لله تعالى فإن قيل هذه الآية متروكة الظاهر لأنها تقتضي أنهما وقت السؤال غير مسلمين إذ لو كانا مسلمين لكان طلب أن يجعلهما مسلمين طلباً لتحصيل الحاصل وإنه باطل لكن المسلمين أجمعوا على أنهما كانا في ذلك الوقت مسلمين ولأن صدور هذا الدعاء منهما لا يصلح إلا بعد أن كانا مسلمين وإذا ثبت أن الآية متروكة الظاهر لم يجز التمسك بها سلمنا أنها ليست متروكة الظاهر لكن لا نسلم أن الجعل عبارة عن الخلق والإيجاد بل له معانٍ أخر سوى الخلق أحدها جعل بمعنى صير قال الله تعالى هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً ( الفرقان 47 ) وثانيها جعل بمعنى وهب نقول جعلت لك هذه الضيعة وهذا العبد وهذا الفرس وثالثها جعل بمعنى الوصف للشيء والحكم به كقوله تعالى وَجَعَلُواْ الْمَلَئِكَة َ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً ( الزخرف 19 ) وقال وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ ( الأنعام 10 ) ورابعها جعله كذلك بمعنى الأمر كقوله تعالى وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّة ً ( الأنبياء 73 ) يعني أمرناهم بالاقتداء بهم وقال إِنّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ( البقرة 124 ) فهو بالأمر وخامسها أن يجعله بمعنى التعليم كقوله جعلته كاتباً وشاعراً إذا علمته ذلك وسادسها البيان والدلالة تقول جعلت كلام فلان باطلاً إذا أوردت من الحجة ما يبين بطلان ذلك إذا ثبت ذلك فنقول لم لا يجوز أن يكون المراد وصفهما بالإسلام والحكم لهما بذلك كما يقال جعلني فلان لصاً وجعلني فاضلاً أديباً إذا وصفه بذلك سلمنا أن المراد من الجعل الخلق لكن لم لا يجوز أن يكون المراد منه خلق الألطاف الداعية لهما إلى الإسلام وتوفيقهما لذلك فمن وفقه الله لهذه الأمور حتى يفعلها فقد جعله مسلماً له ومثاله من يؤدب ابنه حتى يصير أديباً فيجوز أن يقال صيرتك أديباً وجعلتك أديباً وفي خلاف ذلك يقال جعل ابنه لصاً محتالاً سلمنا أن ظاهر الآية يقتضي كونه تعالى خالقاً للإسلام لكنه على خلاف الدلائل العقلية فوجب ترك القول به وإنما قلنا أنه على خلاف الدلائل العقلية لأنه لو كان فعل العبد خلقاً لله تعالى لما استحق العبد به مدحاً ولا ذماً ولا ثواباً ولا عقاباً ولوجب أن يكون الله تعالى هو المسلم المطيع لا العبد والجواب قوله الآية متروكة الظاهر قلنا لا نسلم وبيانه من وجوه الأول أن الإسلام عرض قائم بالقلب وأنه لا يبقى زمانين فقوله وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ أي اخلق هذا العرض فينافي الزمان المستقبل دائماً وطلب تحصيله في الزمان المستقبل لا ينافي حصوله في الحال الثاني أن يكون المراد منه الزيادة في الإسلام كقوله لِيَزْدَادُواْ إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ ( الفتح 4 ) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى ( محمد 17 ) وقال إبراهيم وَلَاكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى ( البقرة 26 ) فكأنهما دعواه بزيادة اليقين والتصديق وطلب الزيادة لا ينافي حصول الأصل في الحال الثالث أن الإسلام إذا أطلق يفيد الإيمان والاعتقاد فأما إذا أضيف بحرف اللام كقوله مُسْلِمَيْنِ لَكَ فالمراد الاستسلام له والانقياد والرضا بكل ما قدر وترك المنازعة في أحكام الله تعالى وأقضيته فلقد كانا عارفين مسلمين لكن لعله بقي في قلوبهما نوع من المنازعة الحاصلة بسبب البشرية فأراد أن يزيل الله ذلك عنهما

بالكلية ليحصل لهما مقام الرضا بالقضاء على سبيل الكمال فثبت بهذه الوجوه أن الآية ليست متروكة الظاهر قوله يحمل الجعل على الحكم بذلك قلنا هذا مدفوع من وجوه
أحدها أن الموصوف إذا حصلت الصفة له فلا فائدة في الصفة وإذا لم يكن المطلوب بالدعاء هو مجرد الوصف وجب حمله على تحصيل الصفة ولا يقال وصفه تعالى بذلك ثناء ومدح وهو مرغوب فيه قلنا نعم لكن الرغبة في تحصيل نفس الشيء أكثر من الرغبة في تحصيل الوصف به والحكم به فكان حمله على الأول أولى وثانيها أنه متى حصل الإسلام فيهما فقد استحقا التسمية بذلك والله تعالى لا يجوز عليه الكذب فكان ذلك الوصف حاصلاً وأي فائدة في طلبه بالدعاء وثالثها أنه لو كان المراد به التسمية لوجب أن كل من سمى إبراهيم مسلماً جاز أن يقال جعله مسلماً أما قوله يحمل ذلك على فعل الألطاف قلنا هذا أيضاً مدفوع من وجوه أحدها أن لفظ الجعل مضاف إلى الإسلام فصرفه عنه إلى غيره ترك للظاهر وثانيها أن تلك الألطاف قد فعلها الله تعالى وأوجدها وأخرجها إلى الوجود على مذهب المعتزلة فطلبها يكون طلباً لتحصيل الحاصل وأنه غير جائز وثالثها أن تلك الألطاف إما أن يكون لها أثر في ترجيح جانب الفعل على الترك أو لا يكون فإن لم يكن لها أثر في هذا الترجيح لم يكن ذلك لطفاً وإن كان لها أثر في الترجيح فنقول متى حصل الرجحان فقد حصل الوجوب وذلك لأن مع حصول ذلك القدر من الترجيح إما أن يجب الفعل أو يمتنع أو لا يجب ولا يمتنع فإن وجب فهو المطلوب وإن امتنع فهو مانع لا مرجح وإن لم يجب ولا يمتنع فحينئذ يمكن وقوع الفعل معه تارة ولا وقوعه أخرى فاختصاص وقت الوقوع بالوقوع إما أن يكون لانضمام أمر إليه لأجله تميز ذلك الوقت بالوقوع أو ليس كذلك فإن كان الأول كان المرجح مجموع اللطف مع هذه الضميمة الزائدة فلم يكن لهذا اللطف أثر في الترجيح أصلاً وقد فرضناه كذلك هذا خلف وإن كان الثاني لزم رجحان أحد طرفي الممكن المساوي على الآخر من غير مرجح وهو محال فثبت أن القول بهذا اللطف غير معقول قوله الدلائل العقلية دلت على امتناع وقوع فعل العبد بخلق الله تعالى وهو فصل المدح والذم قلنا إنه معارض بسؤال العلم وسؤال الداعي على ما تقدم تقريره مراراً وأطواراً والله أعلم
واعلم أن السؤال المشهور في هذه الآية من أنهما لما كانا مسلمين فكيف طلبا الإسلام قد أدرجناه في هذه المسألة وذكرنا عنه أجوبة شافية كافية والحمد لله على ذلك ثم إن الذي يدل من جهة العقل على أن صيرورتهما مسلمين له سبحانه لا يكون إلا منه سبحانه وتعالى ما ذكرنا أن القدرة الصالحة للإسلام هل هي صالحة لتركه أم لا فإن لم تكن صالحة لتركه فتلك القدرة موجبة فخلق تلك القدرة الموجبة فيهما جعلهما مسلمين وإن كانت صالحة لتركه فهو باطل ومع تسليم إمكانه فالمقصود حاصل أما بطلانه فلان الترك عبارة عن بقاء الشيء على عدمه الأصل والعدم نفي محض فيستحيل أن يكون للقدرة فيه أثر ولأنه عدم باق والباقي لا يكون متعلق القدرة فثبت بهذا أنه لا قدرة على ذلك العدم المستمر فإذن لا قدرة إلا على الوجود فالقدرة غير صالحة إلا للوجود وأما أن بتقدير تسليم كون القدرة صالحة للوجود والعدم فالمقصود حاصل فلأن تلك القدرة الصالحة لا تختص بطرف الوجود إلا لمرجح ويجب انتهاء المرجحات إلى فعل

الله تعالى قطعاً للتسلسل وعند حصول المرجح من الله تعالى يجب وقوع الفعل فثبت أن قوله رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ هو الذي يصح على قوانين الدلائل العقلية
المسألة الثانية قوله رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ يفيد الحصر أي نكون مسلمين لك لا لغيرك وهذا يدل على أن كمال سعادة العبد في أن يكون مسلماً لاحكام الله تعالى وقضائه وقدره وأن لا يكون ملتفت الخاطر إلى شيء سواه وهذا هو المراد من قول إبراهيم عليه السلام في موضع آخر فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ ( الشعراء 77 ) ثم ههنا قولان أحدهما رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ أي موحدين مخلصين لا نعبد إلا إياك والثاني قائمين بجميع شرائع الإسلام وهو الأوجه لعمومه
المسألة الثالثة أما إن العبد لا يخاطب الله تعالى وقت الدعاء إلا بقوله ربنا فسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى في تفسير قوله وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ ( غافر 60 ) في شرائط الدعاء
أما قوله تعالى وَمِن ذُرّيَّتِنَا أُمَّة ً مُّسْلِمَة ً لَّكَ فالمعنى واجعل من أولادنا و ( من ) للتبعيض وخص بعضهم لأنه تعالى أعلمهما أن في ذريتهما الظالم بقوله تعالى لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ( البقرة 124 ) ومن الناس من قال أراد به العرب لأنهم من ذريتهما و ( أمة ) قيل هم أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بدليل قوله وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ وههنا سؤالات
السؤال الأول قد بينا أن قوله لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ كما يدل على أن في ذريته من يكون ظالماً فكذلك يوجد فيهم من لا يكون ظالماً فاذن كون بعض ذريته أمة مسلمة صار معلوماً بتلك الآية فما الفائدة في طلبه بالدعاء مرة أخرى
الجواب تلك الدلالة ما كانت قاطعة والشفيق بسوء الظن مولع
السؤال الثاني لم خص ذريتهما بالدعاء أليس أن هذا يجري مجرى البخل في الدعاء
والجواب الذرية أحق بالشفقة والمصلحة قال الله تعالى قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً ( التحريم 6 ) ولأن أولاد الأنبياء إذا صلحوا صلح بهم غيرهم وتابعهم على الخيرات ألا ترى أن المتقدمين من العلماء والكبراء إذا كانوا على السداد كيف يتسببون إلى سداد من وراءهم
السؤال الثالث الظاهر أن الله تعالى لو رد هذا الدعاء لصرح بذلك الرد فلما لم يصرح بالرد علمنا أنه أجابه إليه وحينئذ يتوجه الإشكال فإن في زمان أجداد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لم يكن أحد من العرب مسلماً ولم يكن أحد سوى العرب من ذرية إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام
والجواب قال القفال أنه لم يزل في ذريتهما من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئاً ولم تزل الرسل من ذرية إبراهيم وقد كان في الجاهلية زيد بن عمرو بن نفيل وقس بن ساعدة ويقال عبد المطلب بن هاشم جد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وعامر بن الظرب كانوا على دين الإسلام يقرون بالإبداء والإعادة والثواب والعقاب ويوحدون الله تعالى ولا يأكلون الميتة ولا يعبدون الأوثان
أما قوله تعالى وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا ففيه مسائل
المسألة الأولى في أَرِنَا قولان الأول معناه علمنا شرائع حجنا إذ أمرتنا ببناء البيت لنحجه وندعوا

الناس إلى حجه فعلمنا شرائعه وما ينبغي لنا أن نأتيه فيه من عمل وقول مجاز هذا من رؤية العلم قال الله تعالى أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبّكَ كَيْفَ مَدَّ الظّلَّ ( الفرقان 45 ) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ( الفيل 1 ) الثاني أظهرها لأعيننا حتى نراها قال الحسن إن جبريل عليه السلام أرى إبراهيم المناسك كلها حتى بلغ عرفات فقال يا إبراهيم أعرفت ما أريتك من المناسك قال نعم فسميت عرفات فلما كان يوم النحر أراد أن يزور البيت عرض له إبليس فسد عليه الطريق فأمره جبريل عليه السلام أن يرميه بسبع حصيات ففعل فذهب الشيطان ثم عرض له في اليوم الثاني والثالث والرابع كل ذلك يأمره جبريل عليه السلام برمي الحصيات
وههنا قول ثالث وهو أن المراد العلم والرؤية معاً وهو قول القاضي لأن الحج لايتم إلا بأمور بعضها يعلم ولا يرى وبعضها لا يتم الغرض منه إلا بالرؤية فوجب حمل اللفظ على الأمرين جميعاً وهذا ضعيف لأنه يقتضي حمل اللفظ على الحقيقة والمجاز معاً وأنه جائز فبقي القول المعتبر وهو القولان الأولان فمن قال بالقول الثاني قال إن المناسك هي المواقف والمواضع التي يقام فيها شرائع الحج كمنى وعرفات والمزدلفة ونحوها ومن قال بالأول قال إن المناسك هي أعمال الحج كالطواف والسعي والوقوف
المسألة الثانية النسك هو التعبد يقال للعابد ناسك ثم سمي الذبح نسكاً والذبيحة نسيكة وسمي أعمال الحج مناسك قال عليه السلام ( خذوا عني مناسككم لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا ) والمواضع التي تقام فيها شرائع الحج تسمى مناسك أيضاً ويقال المنسك بفتح السين بمعنى الفعل وبكسر السين بمعنى المواضع كالمسجد والمشرق والمغرب قال الله تعالى لّكُلّ أُمَّة ٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ ( الحج 67 ) قرىء بالفتح والكسر وظاهر الكلام يدل على الفعل وكذلك قوله عليه السلام ( خذوا عني مناسككم ) أمرهم بأن يتعلموا أفعاله في الحج لا أنه أراد خذوا عني مواضع نسككم إذا عرفت هذا فنقول إن حملنا المناسك على مناسك الحج فإن حملناها على الأفعال فالإراءة لتعريف تلك الأعمال وإن حملناها على المواضع فالإراءة لتعريف البقاع ومن المفسرين من حمل المناسك على الذبيحة فقط وهو خطأ لأن الذبيحة إنما تسمى نسكاً لدخولها تحت التعبد ولذلك لا يسمون ما يذبح للأكل بذلك فما لأجله سميت الذبيحة نسكاً وهو كونه عملاً من أعمال الحج قائم في سائر الأعمال فوجب دخول الكل فيه وأن حملنا المناسك على ما يرجع إليه أصل هذه اللفظة من العبادة والتقرب إلى الله تعالى واللزوم لما يرضيه وجعل ذلك عاماً لكل ما شرعه الله تعالى لإبراهيم عليه السلام فقوله وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا أي علمنا كيف نعبدك وأين نعبدك وبماذا نتقرب إليك حتى نخدمك به كما يخدم العبد مولاه
المسألة الثالثة قرأ ابن كثير وأبو عمرو في بعض الروايات أَرِنَا بإسكان الراء في كل القرآن ووافقهما عاصم وابن عامر في حرف واحد في حم السجدة أَرِنَا الَّذِينَ أَضَلَّانَا ( فصلت 29 ) وقرأ أبو عمرو في بعض الروايات الظاهرة عنه باختلاس كسرة الراء من غير إشباع في كل القرآن والباقون بالكسرة مشبعة وأصله أرئنا بالهمزة المكسورة نقلت كسرة الهمزة إلى الراء وحذفت الهمزة وهو الاختيار لأن أكثر القراء عليه ولأنه سقطت الهمزة فلا ينبغي أن تسكن الراء لئلا يجحف بالكلمة وتذهب الدلالة على الهمزة وأما التسكين فعلى حذف الهمزة وحركتها وعلى التشبيه بما سكن كقولهم فخذ وكبد وأما

الاختلاس فلطلب الخفة وبقاء الدلالة على حذف الهمزة
أما قوله وَتُبْ عَلَيْنَا ففيه مسائل
المسألة الأولى احتج من جوز الذنب على الأنبياء بهذه الآية قال لأن التوبة مشروطة بتقدم الذنب فلولا تقدم الذنب وإلا لكان طلب التوبة طلباً للمحال وأما المعتزلة فقالوا إنا نجوز الصغيرة على الأنبياء فكانت هذه التوبة توبة من الصغيرة ولقائل أن يقول إن الصغائر قد صارت مكفرة بثواب فاعلها وإذا صارت مكفرة فالتوبة عنها محال لأن تأثير التوبة في إزالتها وإزالة الزائل محال
وههنا أجوبة أخر تصلح لمن جوز الصغائر ولمن لم يجوزها وهي من وجوه أولها يجوز أن يأتي بصورة التوبة تشدداً في الإنصراف عن المعصية لأن من تصور نفسه بصورة النادم العازم على التحرز الشديد كان أقرب إلى ترك المعاصي فيكون ذلك لطفاً داعياً إلى ترك المعاصي وثانيها أن العبد وإن اجتهد في طاعة ربه فإنه لاينفك عن التقصير من بعض الوجوه إما على سبيل السهو أو على سبيل ترك الأولى فكان هذا الدعاء لأجل ذلك وثالثها أنه تعالى لما أعلم إبراهيم عليه السلام أن في ذريته من يكون ظالماً عاصياً لا جرم سأل ههنا أن يجعل بعض ذريته أمة مسلمة ثم طلب منه أن يوفق أولئك العصاة المذنبين للتوبة فقال وَتُبْ عَلَيْنَا أي على المذنبين من ذريتنا والأب المشفق على ولده إذا أذنب ولده فاعتذر الوالد عنه فقد يقول أجرمت وعصيت وأذنبت فاقبل عذري ويكون مراده إن ولدي أذنب فاقبل عذره لأن ولد الإنسان يجري مجرى نفسه والذي يقوي هذا التأويل وجوه الأول ما حكى الله تعالى في سورة إبراهيم أنه قال وَاجْنُبْنِى وَبَنِى َّ أَن نَّعْبُدَ الاْصْنَامَ رَّبّ إِنَّهُمْ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنّى وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( إبراهيم 35 36 ) فيحتمل أن يكون المعنى ومن عصاني فإنك قادر على أن تتوب عليه إن تاب وتغفر له ما سلف من ذنوبه الثاني ذكر أن في قراءة عبد الله وأرهم مناسكهم وتب عليهم الثالث أنه قال عطفاً على هذا رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ الرابع تأولوا قوله تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ( الأعراف 11 ) بجعل خلقه إياه خلقاً لهم إذ كانوا منه فكذلك لا يبعد أن يكون قوله أَرِنَا مَنَاسِكَنَا أي أر ذريتنا
المسألة الثانية احتج الأصحاب بقوله وَتُبْ عَلَيْنَا على أن فعل العبد خلق لله تعالى قالوا لأنه عليه السلام طلب من الله تعالى أن يتوب عليه فلو كانت التوبة مخلوقة للعبد لكان طلبها من الله تعالى محالاً وجهلاً قالت المعتزلة هذا معارض بما أن الله تعالى طلب التوبة منا فقال تَعْمَلُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى اللَّهِ تَوْبَة ً نَّصُوحاً ( التحريم 8 ) ولو كانت فعلاً لله تعالى لكان طلبها من العبد محالاً وجهلاً وإذا ثبت ذلك حمل قوله وَتُبْ عَلَيْنَا على التوفيق وفعل الألطاف أو على قبول التوبة من العبد قال الأصحاب الترجيح معنا لأن دليل العقل يعضد قولنا من وجوه أولها أنه متى لم يخلق الله تعالى داعية موجبة للتوبة استحال حصول التوبة فكانت التوبة من الله تعالى لا من العبد وتقرير دليل الداعي قد تقدم غير مرة وثانيها أن التوبة على ما لخصه الشيخ الغزالي رحمه الله عبارة عن مجموع أمور ثلاثة مرتبة علم

وحال وعمل فالعلم أول والحال ثانٍ وهو موجب العلم والعمل ثالث وهو موجب الحال أما العلم فهو معرفة عظم ضرر الذنوب يتولد من هذه المعرفة تألم القلب بسبب فوت المنفعة وحصول المضرة وهذا التألم هو المسمى بالندم ثم يتولد من هذا الندم صفة تسمى إرادة ولها تعلق بالحال والماضي والمستقبل أما تعلقه بالحال فهو الترك للذنب الذي كان ملابساً له وأما بالاستقبال فبالعزم على ترك ذلك الفعل المفوت للمحبوب إلى آخر العمر وأما في الماضي فبتلافي ما فات بالجبر والقضاء إن كان قابلاً للجبر فالعلم هو الأول وهو مطلع هذه الخيرات وأعني بهذا العلم الإيمان واليقين فإن الإيمان عبارة عن التصديق بأن الذنوب سموم مهلكة واليقين عبارة عن تأكد هذا التصديق وانتفاء الشك عنه واستيلائه على القلب ثم إن هذا اليقين مهما استولى على القلب اشتعل نار الندم فيتألم به القلب حيث يبصر بإشراق نور الإيمان أنه صار محجوباً عن محبوبه كمن يشرق عليه نور الشمس وقد كان في ظلمة فرأى محبوبه قد أشرف على الهلاك فتشتعل نيران الحب في قلبه فيتولد من تلك الحالة إرادته للانتهاض للتدارك إذا عرفت هذا فنقول إن ترتب الفعل على الإرادة ضروري لأن الإرادة الجازمة الخالية عن المعارض لا بد وأن يترتب عليها الفعل وترتب الإرادة على تألم القلب أيضاً ضروري فإن من تألم قلبه بسبب مشاهدة أمر مكروه لا بد وأن يحصل في قلبه إرادة الدفع وترتب ذلك الألم على العلم بكون ذلك الشيء جالباً للمضار ودفعاً للمنافع أيضاً أمر ضروري فكل هذه المراتب ضرورية فكيف تحصل تحت الاختبار والتكلف
بقي أن يقال الداخل تحت التكليف هو العلم إلا أن فيه أيضاً إشكالاً لأن ذلك العلم إما أن يكون ضرورياً أو نظرياً فإن كان ضرورياً لم يكن داخلاً تحت الاختبار والتكليف أيضاً وإن كان نظرياً فهو مستنتج عن العلوم الضرورية فمجموع تلك العلوم الضرورية المنتجة للعلم النظري الأول إما أن يكون كافياً في ذلك الانتاج أو غير كاف فإن كان كافياً كان ترتب ذلك العلم النظري المستنتج أولاً على تلك العلوم الضرورية واجباً والذي يجب ترتبه على ما يكون خارجاً عن الاختيار كان أيضاً خارجاً عن الاختيار وإن لم يكن كافياً فلا بد من شيء آخر فذلك الآخر إن كان من العلوم الضرورية فهو إن كان حاصلاً فالذي فرضناه غير كاف وقد كان كافياً هذا خلف وإن كان من العلوم النظرية افتقر أول العلوم النظرية إلى علم نظري آخر قبله فلم يكن أول العلوم النظرية أولاً للعلوم النظرية وهذا خلف ثم الكلام في ذلك الأول كما فيما قبله فيلزم التسلسل وهو محال فثبت بما ذكرنا آخراً أن قوله تعالى وَتُبْ عَلَيْنَا محمول على ظاهره وهو الحق المطابق للدلائل العقلية وأن سائر الآيات المعارضة لهذه الآية أولى بالتأويل
أما قوله إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ فقد تقدم ذكره
النوع الثالث قوله رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ واعلم أنه لا شبهة في أن قوله رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً يريد من أراد بقوله وَمِن ذُرّيَّتِنَا أُمَّة ً مُّسْلِمَة ً لَّكَ لأنه المذكور من قبل ووصفه لذريته بذلك لا يليق إلا بأمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فعطف عليه بقوله تعالى رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ وهذا الدعاء يفيد كمال حال ذريته من وجهين أحدهما أن يكون فيهم رسول يكمل لهم الدين والشرع ويدعوهم إلى ما يثبتون به على الإسلام والثاني أن يكون ذلك المبعوث منهم لا من غيرهم لوجوه أحدها ليكون محلهم ورتبتهم في

العز والدين أعظم لأن الرسول والمرسل إليه إذا كانا معاً من ذريته كان أشرف لطلبته إذا أجيب إليها وثانيها أنه إذا كان منهم فإنهم يعرفون مولده ومنشأه فيقرب الأمر عليهم في معرفة صدقه وأمانته وثالثها أنه إذا كان منهم كان أحرص الناس على خيرهم وأشفق عليهم من الأجنبي لو أرسل إليهم إذا ثبت هذا فنقول إذا كان مراد إبراهيم عليه السلام عمارة الدين في الحال وفي المستقبل وكان قد غلب على ظنه أن ذلك إنما يتم ويكمل بأن يكون القوم من ذريته حسن منه أن يريد ذلك ليجتمع له بذلك نهاية المراد في الدين وينضاف إليه السرور العظيم بأن يكون هذا الأمر في ذريته لأن لا عز ولا شرف أعلى من هذه الرتبة وأما إن الرسول هو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فيدل عليه وجوه أحدها إجماع المفسرين وهو حجة وثانيها ما روي عنه عليه السلام أنه قال ( أنا دعوة إبراهيم وبشارة عيسى ) وأراد بالدعوة هذه الآية وبشارة عيسى عليه السلام ما ذكر في سورة الصف من قوله مُبَشّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى اسْمُهُ أَحْمَدُ ( الصف 6 ) وثالثها أن إبراهيم عليه السلام إنما دعا بهذا الدعاء بمكة لذريته الذين يكونون بها وبما حولها ولم يبعث الله تعالى إلى من بمكة وما حولها إلا محمداً ( صلى الله عليه وسلم )
وههنا سؤال وهو أنه يقال ما الحكمة في ذكر إبراهيم عليه السلام مع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في باب الصلاة حيث يقال اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم
وأجابوا عنه من وجوه أولها أن إبراهيم عليه السلام دعا لمحمد عليه السلام حيث قال رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ فلما وجب للخليل على الحبيب حق دعائه له قضى الله تعالى عنه حقه بأن أجرى ذكره على ألسنة أمته إلى يوم القيامة وثانيها أن إبراهيم عليه السلام سأل ذلك ربه بقوله وَاجْعَل لّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الاْخِرِينَ ( الشعراء 84 ) يعني ابق لي ثناء حسناً في أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فأجابه الله تعالى إليه وقرن ذكره بذكر حبيبه إبقاء للثناء الحسن عليه في أمته وثالثها أن إبراهيم كان أب الملة لقوله مّلَّة َ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ ( الحج 78 ) ومحمد كان أب الرحمة وفي قراءة ابن مسعود ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم ) وقال في قصته بِالْمُؤْمِنِينَ لَرَءوفٌ رَّحِيمٌ ( التوبة 128 ) وقال عليه السلام ( إنما أنا لكم مثل الوالد ) يعني في الرأفة والرحمة فلما وجب لكل واحد منهم حق الأبوة من وجه قرب بين ذكرهما في باب الثناء والصلاة ورابعها أن إبراهيم عليه السلام كان منادي الشريعة في الحج وَأَذّن فِى النَّاسِ بِالْحَجّ ( الحج 27 ) وكان محمد عليه السلام منادي الدين سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِى لِلإِيمَانِ ( آل عمران 193 ) فجمع الله تعالى بينهما في الذكر الجميل
واعلم أنه تعالى لما طلب بعثة رسول منهم إليهم ذكر لذلك الرسول صفات أولها قوله يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَاتِكَ وفيه وجهان الأول أنها الفرقان الذي أنزل على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لأن الذي كان يتلوه عليهم ليس إلا ذلك فوجب حمله عليه الثاني يجوز أن تكون الآيات هي الأعلام الدالة على وجود الصانع وصفاته سبحانه وتعالى ومعنى تلاوته إياها عليهم أنه كان يذكرهم بها ويدعوهم إليها ويحملهم على الإيمان بها وثانيها قوله وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ والمراد أنه يأمرهم بتلاوة الكتاب ويعلمهم معاني الكتاب وحقائقه وذلك لأن التلاوة مطلوبة لوجوه منها بقاء لفظها على ألسنة أهل التواتر فيبقى مصوناً عن التحريف

والتصحيف ومنها أن يكون لفظه ونظمه معجزاً لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ومنها أن يكون في تلاوته نوع عبادة وطاعة ومنها أن تكون قراءته في الصلوات وسائر العبادات نوع عبادة فهذا حكم التلاوة إلا أن الحكمة العظمى والمقصود الأشرف تعليم ما فيه من الدلائل والأحكام فإن الله تعالى وصف القرآن بكونه هدى ونوراً لما فيه من المعاني والحكم والأسرار فلما ذكر الله تعالى أولاً أمر التلاوة ذكر بعده تعليم حقائقه وأسراره فقال وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ الصفة الثالثة من صفات الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قوله ( والحكمة ) أي ويعلمهم الحكمة واعلم أن الحكمة هي الإصابة في القول والعمل ولا يسمى حكيماً إلا من اجتمع له الأمران وقيل أصلها من أحكمت الشيء أي رددته فكأن الحكمة هي التي ترد عن الجهل والخطأ وذلك إنما يكون بما ذكرنا من الإصابة في القول والفعل ووضع كل شيء موضعه قال القفال وعبر بعض الفلاسفة عن الحكمة بأنها التشبه بالإله بقدر الطاقة البشرية واختلف المفسرون في المراد بالحكمة ههنا على وجوه أحدها قال ابن وهب قلت لمالك ما الحكمة قال معرفة الدين والفقه فيه والاتباع له وثانيها قال الشافعي رضي الله عنه الحكمة سنة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو قول قتادة قال أصحاب الشافعي رضي الله عنه والدليل عليه أنه تعالى ذكر تلاوة الكتاب أولاً وتعليمه ثانياً ثم عطف عليه الحكمة فوجب أن يكون المراد من الحكمة شيئاً خارجاً عن الكتاب وليس ذلك إلا سنة الرسول عليه السلام فإن قيل لم لا يجوز حمله على تعليم الدلائل العقلية على التوحيد والعدل والنبوة قلنا لأن العقول مستقبلة بذلك فحمل هذا اللفظ على ما لا يستفاد من الشرع أولى وثالثها الحكمة هي الفصل بين الحق والباطل وهو مصدر بمعنى الحكم كالقعدة والجلسة والمعنى يعلمهم كتابك الذي تنزله عليهم وفصل أقضيتك وأحكامك التي تعلمه إياها ومثال هذا الخبر والخبرة والعذر والعذرة والغل والغلة والذل والذلة ورابعها ويعلمهم الكتاب أراد به الآيات المحكمة ( والحكمة ) أراد بها الآيات المتشابهات وخامسها يَعْلَمُهُمْ الْكِتَابِ أي يعلمهم ما فيه من الأحكام ( والحكمة ) أراد بها أنه يعلمهم حكمة تلك الشرائع وما فيها من وجوه المصالح والمنافع ومن الناس من قال الكل صفات الكتاب كأنه تعالى وصفه بأنه آيات وبأنه كتاب وبأنه حكمة الصفة الرابعة من صفات الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قوله ( ويزكيهم ) واعلم أن كمال حال الإنسان في أمرين أحدهما أن يعرف الحق لذاته والثاني أن يعرف الخير لأجل العمل به فإن أخل بشيء من هذين الأمرين لم يكن طاهراً عن الرذائل والنقائص ولم يكن زكياً عنها فلما ذكر صفات الفضل والكمال أردفها بذكر التزكية عن الرذائل والنقائص فقال ( ويزكيهم ) واعلم أن الرسول لا قدرة له على التصرف في بواطن المكلفين وبتقدير أن تحصل له هذه القدرة لكنه لا يتصرف فيها وإلا لكان ذلك الزكاء حاصلاً فيهم على سبيل الجبر لا على سبيل الاختيار فإذن هذه التزكية لها تفسيران الأول ما يفعله سوى التلاوة وتعليم الكتاب والحكمة حتى يكون ذلك كالسبب لطهارتهم وتلك الأمور ما كان يفعله عليه السلام من الوعد والإيعاد والوعظ والتذكير وتكرير ذلك عليهم ومن التشبث بأمور الدنيا إلى أن يؤمنوا ويصلحوا فقد كان عليه السلام يفعل من هذا الجنس أشياء كثيرة ليقوي بها

دواعيهم إلى الإيمان والعمل الصالح ولذلك مدحه تعالى بأنه على خلق عظيم وأنه أوتي مكارم الأخلاق الثاني يزكيهم يشهد لهم بأنهم أزكياء يوم القيامة إذا شهد على كل نفس بما كسبت كتزكية المزكي الشهود والأول أجود لأنه أدخل في مشاكلة مراده بالدعاء لأن مراده أن يتكامل لهذه الذرية الفوز بالجنة وذلك لا يتم إلا بتعليم الكتاب والحكمة ثم بالترغيب الشديد في العمل والترهيب عن الاخلال بالعمل وهو التزكية هذا هو الكلام الملخص في هذه الآية وللمفسرين فيه عبارات أحدها قال الحسن يزكيهم يطهرهم من شركهم فدلت الآية على أنه سيكون في ذرية إسماعيل جهال لا حكمة فيهم ولا كتاب وأن الشرك ينجسهم وأنه تعالى يبعث فيهم رسولاً منهم يطهرهم ويجعلهم حكماء الأرض بعد جهلهم وثانيها التزكية هي الطاعة لله والإخلاص عن ابن عباس وثالثها ويزكيهم عن الشرك وسائر الأرجاس كقوله وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَئِثَ ( الأعراف 57 ) واعلم أنه عليه السلام لما ذكر هذه الدعوات ختمها بالثناء على الله تعالى فقال إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ والعزيز هو القادر الذي لا يغلب والحكيم هو العالم الذي لا يجهل شيئاً وإذا كان عالماً قادراً كان ما يفعله صواباً ومبرأ عن العبث والسفه ولولا كونه كذلك لما صح منه إجابة الدعاء ولا بعثة الرسل ولا إنزال الكتاب واعلم أن العزيز من صفات الذات إذا أريد اقتداره على الأشياء وامتناعه من الهضم والذلة لأنه إذا كان منزهاً عن الحاجات لم تلحقه ذلة المحتاج ولا يجوز أن يمنع من مراده حتى يلحقه اهتضام فهو عزيز لا محالة وأما الحكيم فإذا أريد به معنى العليم فهو من صفات الذات فإذا أريد بالعزة كمال العزة وهو الامتناع من استيلاء الغير عليه وأريد بالحكمة أفعال الحكمة لم يكن العزيز والحكيم من صفات الذات بل من صفات الفعل والفرق بين هذين النوعين من الصفات وجوه أحدها أن صفات الذات أزلية وصفات الفعل ليست كذلك وثانيها أن صفات الذات لا يمكن أن تصدق نقائضها في شيء من الأوقات وصفات الفعل ليست كذلك وثالثها أن صفات الفعل أمور نسبية يعتبر في تحققها صدور الآثار عن الفاعل وصفات الذات ليست كذلك واحتج النظام على أنه تعالى غير قادر على القبيح بأن قال الإله يجب أن يكون حكيماً لذاته وإذا كان حكيماً لذاته لم يكن القبيح مقدوراً والحكمة لذاتها تنافي فعل القبيح فالإله يستحيل منه فعل القبيح وما كان محال لم يكن مقدوراً إنما قلنا الإله يجب أن يكون حكيماً لأنه لو لم يجب ذلك لجاز تبدله بنقيضه فحينئذ يلزم أن يكون الإله إلهاً مع عدم الحكمة وذلك بالاتفاق محال وأما أن الحكمة تنافي فعل السفه فذلك أيضاً معلوم بالبديهة وأما أن مستلزم المنافي مناف فمعلوم بالبديهة فإذن الإلهية لا يمكن تقريرها مع فعل السفه وأما أن المحال غير مقدور فبين فثبت أن الإله لا يقدر على فعل القبيح
والجواب عنه أما على مذهبنا فليس شيء من الأفعال سفهاً منه فزال السؤال والله أعلم
وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّة ِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِى الاٌّ خِرَة ِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ

اعلم أن الله تعالى بعد أن ذكر أمر إبراهيم عليه السلام وما أجراه على يده من شرائف شرائعة التي ابتلاه بها ومن بناء بيته وأمره بحج عباد الله إليه وما جبله الله تعالى عليه من الحرص على مصالح عباده ودعائه بالخير لهم وغير ذلك من الأمور التي سلف في هذه الآية السالفة عجب الناس فقال وَمَن يَرْغَبُ عَن مِلَّة ِ إِبْراهِيمَ والإيمان بما أتى من شرائعه فكان في ذلك توبيخ اليهود والنصارى ومشركي العرب لأن اليهود إنما يفتخرون به ويوصلون بالوصلة التي بينهم وبينه من نسب إسرائيل والنصارى فافتخارهم ليس بعيسى وهو منتسب من جانب الأم إلى إسرائيل وأما قريش فإنهم إنما نالوا كل خير في الجاهلية بالبيت الذي بناه فصاروا لذلك يدعون إلى كتاب الله وسائر العرب وهم العدنانيون فمرجعهم إلى إسماعيل وهم يفتخرون على القحطانيين بإسماعيل بما أعطاه الله تعالى من النبوة فرجع عند التحقيق افتخار الكل بإبراهيم عليه السلام ولما ثبت أن إبراهيم عليه السلام هو الذي طلب من الله تعالى بعثة هذا الرسول في آخر الزمان وهو الذي تضرع إلى الله تعالى في تحصيل هذا المقصود فالعجب ممن أعظم مفاخره وفضائله الانتساب إلى إبراهيم عليه السلام ثم إنه لا يؤمن بالرسول الذي هو دعوة إبراهيم عليه السلام ومطلوبه بالتضرع لا شك أن هذا مما يستحق أن يتعجب منه
أما قوله وَمَن يَرْغَبُ عَن مِلَّة ِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ففيه مسائل
المسألة الأولى يقال رغبت من الأمر إذا كرهته ورغبت فيه إذا أردته ( ومن ) الأول استفهام بمعنى الإنكار والثانية بمعنى الذي قال صاحب الكشاف ( من سفه ) في محل الرفع على البدل من الضمير في يرغب وإنما صح البدل لأن من يرغب غير موجب كقولك هل جاءك أحد إلا زيد
المسألة الثانية لقائل أن يقول ههنا سؤال وهو أن المراد بملة إبراهيم هو الملة التي جاء بها محمد عليه السلام لأن المقصود من الكلام ترغيب الناس في قبول هذا الدين فلا يخلو إما أن يقال إن هذه الملة عين ملة إبراهيم في الأصول والفروع أو يقال هذه الملة هي تلك الملة في الأصول أعني التوحيد والنبوة ورعاية مكارم الأخلاق ولكنهما يختلفان في فروع الشرائع وكيفية الأعمال
أما الأول فباطل لأنه عليه السلام كان يدعي أن شرعه نسخ كل الشرائع فكيف يقال هذا الشرع هو عين ذلك الشرع
وأما الثاني فهو لا يفيد المطلوب لأن الاعتراف بالأصول أعني التوحيد والعدل ومكارم الأخلاق والمعاد لا يقتضي الاعتراف بنبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فكيف يتمسك بهذا الكلام في هذا المطلوب
وسؤال آخر وهو أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) لما اعترف بأن شرع إبراهيم منسوخ ولفظ الملة يتناول الأصول والفروع فيلزم أن يكون محمد عليه الصلاة والسلام راغباً أيضاً عن ملة إبراهيم فيلزم ما ألزم عليهم
وجوابه أنه تعالى لما حكي عن إبراهيم عليه السلام أنه تضرع إلى الله تعالى وطلب منه بعثه هذا الرسول ونصرته وتأييده ونشر شريعته عبر عن هذا المعنى بأنه ملة إبراهيم فلما سلم اليهود والنصارى والعرب كون إبراهيم عليه السلام محقاً في مقاله وجب عليهم الاعتراف بنبوة هذا الشخص الذي هو مطلوب إبراهيم عليه السلام

قال السائل إن القول ما سلموا أن إبراهيم طلب مثل هذا الرسول من الله تعالى وإنما محمد عليه الصلاة والسلام روى هذا الخبر عن إبراهيم عليه السلام ليبني على هذه الرواية إلزام أنه يجب عليهم الاعتراف بنبوة محمد عليه السلام فإذن لا تثبت نبوته ما لم تثبت هذه الرواية ولا تثبت هذه الرواية ما لم تثبت نبوته فيفضي إلى الدور وهو ساقط سلمنا أن القوم سلموا صحة هذه الرواية لكن ليس في هذه الرواية إلا أن إبراهيم طلب من الله تعالى أن يبعث رسولاً من ذريته وذرية إسماعيل فكيف القطع بأن ذلك الرسول هو هذا الشخص فلعله شخص آخر سيجيء بعد ذلك وإذا جاز أن تتأخر إجابة هذا الدعاء بمقدار ألفي سنة وهو الزمان الذي بين إبراهيم وبين محمد عليهما السلام فلم لا يجوز أن تتأخر بمقدار ثلاثة آلاف سنة حتى يكون المطلوب بهذا الدعاء شخصاً آخر سوى هذا الشخص المعين
والجواب عن السؤال الأول لعل التوراة والإنجيل شاهدان بصحة هذه الرواية ولولا ذلك لكان اليهود والنصارى من أشد الناس مسارعة إلى تكذيبه في هذه الدعوى وعن الثاني أن المعتمد في إثبات نبوته عليه السلام ظهور المعجز على يده وهو القرآن وإخباره عن الغيوب التي لا يعلمها إلا نبي مثل هذه الحكايات ثم إن هذه الحجة تجري مجرى المؤكد للمقصود والمطلوب والله تعالى أعلم
المسألة الثالثة في انتصاب ( نفسه ) قولان الأول لأنه مفعول قال المبرد سفه لازم وسفه متعد وعلى هذا القول وجوه الأول امتهنها واستخف بها وأصل السفه الخفة ومنه زمام سفيه والدليل عليه ما جاء في الحديث ( الكبر أن تسفه الحق وتغمص الناس ) وذلك أنه إذا رغب عما لا يرغب عنه عاقل قط فقد بالغ في إزالة نفسه وتعجيزها حيث خالف بها كل نفس عاقلة والثاني قال الحسن إلا من جهل نفسه وخسر نفسه وحقيقته أنه لا يرغب عن ملة إبراهيم إلا من جهل فلم يفكر فيها فيستدل بما يجده فيها من آثار الصنعة على وحدانية الله تعالى وعلى حكمته فيستدل بذلك على صحة نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والثالث أهلك نفسه وأوبقها عن أبي عبيدة والرابع أضل نفسه القول الثاني أن نفسه ليست مفعولاً وذكروا على هذا القول وجوهاً الأول أن نفسه نصب بنزع الخافض تقديره سفه في نفسه والثاني أنه نصب على التفسير عن الفراء ومعناه سفه نفساً ثم أضاف وتقديره إلا السفيه وذكر النفس تأكيد كما يقال هذا الأمر نفسه والمقصود منه المبالغة في سفهه الثالث قرىء إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ بتشديد الفاء ثم إنه تعالى لما حكم بسفاهة من رغب عن ملة إبراهيم عليه السلام بين السبب فقال وَلَقَدْ مَتَاعٌ فِى الدُّنْيَا والمراد به أنا إذا اخترناه للرسالة من دون سائر الخليقة وعرفناه الملة التي هي جامعة للتوحيد والعدل والشرائع والأمامة الباقية إلى قيام الساعة ثم أضيف إليه حكم الله تعالى فشرفه الله بهذا اللقب الذي فيه نهاية الجلالة لمن نالها من ملك من ملوك البشر فكيف من نالها من ملك الملوك والشرائع فليحقق كل ذي لب وعقل أن الراغب عن ملته فهو سفيه ثم بين أنه في الآخرة عظيم المنزلة ليرغب في مثل طريقته لينال مثل تلك المنزلة وقيل في الآية تقديم وتأخير وتقديره ولقد اصطفيناه في الدنيا والآخرة وإنه لمن الصالحين وإذا صح الكلام من غير تقديم وتأخير كان أولى قال الحسن من الذين يستوجبون الكرامة وحسن الثواب على كرم الله تعالى

إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ
اعلم أن هذا النوع الخامس من الأمور التي حكاها الله عن إبراهيم عليه السلام وفيه مسائل
المسألة الأولى موضع ( إذ ) نصب وفي عامله وجهان الوجه الأول أنه نصب باصطفيناه أي اصطفيناه في الوقت الذي قال له ربه أسلم فكأنه تعالى ذكر الاصطفاء ثم عقبه بذكر سبب الاصطفاء فكأنه لما أسلم نفسه لعبادة الله تعالى وخضع لها وانقاد علم تعالى من حاله أنه لا يتغير على الأوقات وأنه مستمر على هذه الطريقة وهو مع ذلك مطهر من كل الذنوب فعند ذلك اختاره للرسالة واختصه بها لأنه تعالى لا يختار للرسالة إلا من هذا حاله في البدء والعاقبة فإسلامه لله تعالى وحسن إجابته منطوق به فإن قيل قوله وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ إخبار عن النفس وقوله إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ إخبار عن المغايبة فكيف يعقل أن يكون هذا النظم واحداً قلنا هذا من باب الالتفات الذي ذكرناه مراراً الثاني أنه نصب باضمار أذكر كأنه قيل اذكر ذلك الوقت ليعلم أنه المصطفي الصالح الذي لا يرغب عن ملة مثله
المسألة الثانية اختلفوا في أن الله تعالى متى قال له أسلم ومنشأ الإشكال أنه إنما يقال له أسلم في زمان لا يكون مسلماً فيه فهل كان إبراهيم عليه السلام غير مسلم في بعض الأزمنة ليقال له في ذلك الزمان أسلم فالأكثرون على أن الله تعالى إنما قال ذلك قبل النبوة وقبل البلوغ وذلك عند استدلاله بالكوكب والقمر والشمس واطلاعه على أمارات الحدوث فيها وإحاطته بافتقارها إلى مدبر يخالفها في الجسمية وأمارات الحدوث فلما عرف ربه قال له تعالى أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ لأنه لا يجوز أن يقول له ذلك قبل أن عرف ربه ويحتمل أيضاً أن يكون قوله أَسْلَمَ كان قبل الاستدلال فيكون المراد من هذا القول لا نفس القول بل دلالة الدليل عليه على حسب مذاهب العرب في هذا كقول الشاعر امتلأ الحوض وقال قطني
مهلاً رويداً قد ملأت بطني
وأصدق دلالة منه قوله تعالى أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ ( الروم 35 ) فجعل دلالة البرهان كلاماً ومن الناس من قال هذا الأمر كان بعد النبوة وقوله أَسْلَمَ ليس المراد منه الإسلام والإيمان بل أمور أخر أحدها الانقياد لأوامر الله تعالى والمسارعة إلى تلقيها بالقبول وترك الإعراض بالقلب واللسان وهو المراد من قوله رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ ( البقرة 128 ) وثانيها قال الأصم ( أسلم ) أي أخلص عبادتك واجعلها سليمة من الشرك وملاحظة الأغيار وثالثها استقم على الإسلام واثبت على التوحيد كقوله تعالى فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إله إِلائَ اللَّهِ ( محمد 19 ) ورابعها أن الإيمان صفة القلب والإسلام صفة الجوارح وأن إبراهيم عليه السلام كان عارفاً بالله تعالى بقلبه وكلفه الله تعالى بعد ذلك بعمل الجوارح والأعضاء بقوله ( أسلم )

وَوَصَّى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِى َّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ
اعلم أن هذا هو النوع السادس من الأمور المستحسنة التي حكاها الله عن إبراهيم وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وابن عامر ( وأوصى ) بالألف وكذلك هو في مصاحف المدينة والشام والباقون بغير ألف بالتشديد وكذلك هو في مصاحفهم والمعنى واحد إلا أن في ( وصى ) دليل مبالغة وتكثير
المسألة الثانية الضمير في ( بها ) إلى أي شيء يعود فيه قولان الأول أنه عائد إلى قوله أَسْلَمْتُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ ( البقرة 131 ) على تأويل الكلمة والجملة ونحوه رجوع الضمير في قوله وَجَعَلَهَا كَلِمَة ً بَاقِيَة ً ( الزخرف 28 ) إلى قوله إِنَّنِى بَرَاء مّمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِى فَطَرَنِى ( الزخرف 26 ) وقوله كَلِمَة ً بَاقِيَة ً دليل على أن التأنيث على تأويل الكلمة القول الثاني أنه عائد إلى الملة في قوله وَمَن يَرْغَبُ عَن مِلَّة ِ إِبْراهِيمَ ( البقرة 130 ) قال القاضي وهذا القول أولى من الأول من وجهين الأول أن ذلك غير مصرح به ورد الإضمار إلى المصرح بذكره إذا أمكن أولى من رده إلى المدلول والمفهوم الثاني أن الملة أجمع من تلك الكلمة ومعلوم أنه ما وصى ولده إلا بما يجمع فيهم الفلاح والفوز بالآخرة والشهادة وحدها لا تقتضي ذلك
المسألة الثالثة اعلم أن هذه الحكاية اشتملت على دقائق مرغبة في قبول الدين أحدها أنه تعالى لم يقل وأمر إبراهيم بنيه بل قال وصاهم ولفظ الوصية أوكد من الأمر لأن الوصية عند الخوف من الموت وفي ذلك الوقت يكون احتياط الإنسان لدينه أشد وأتم فإذا عرف أنه عليه السلام في ذلك الوقت كان مهتماً بهذا الأمر متشدداً فيه كان القول إلى قبوله أقرب وثانيها أنه عليه السلام خصص بنيه بذلك وذلك لأن شفقة الرجل على أبنائه أكثر من شفقته على غيرهم فلما خصهم بذلك في آخر عمره علمنا أن اهتمامه بذلك كان أشد من اهتمامه بغيره وثالثها أنه عمم بهذه الوصية جميع بنيه ولم يخص أحداً منهم بهذه الوصية وذلك أيضاً يدل على شدة الاهتمام ورابعها أنه عليه السلام أطلق هذه الوصية غير مقيدة بزمان معين ومكان معين ثم زجرهم أبلغ الزجر عن أن يموتوا غير مسلمين وذلك يدل أيضاً على شدة الاهتمام بهذا الأمر وخامسها أنه عليه السلام ما مزج بهذه الوصية وصية أخرى وهذا يدل أيضاً على شدة الاهتمال بهذا الأمر ولما كان إبراهيم عليه السلام هو الرجل المشهود له بالفضل وحسن الطريقة وكمال السيرة ثم عرف أنه كان في نهاية الاهتمام بهذا الأمر عرف حينئذ أن هذا الأمر أولى الأمور بالاهتمام وأجراها بالرعاية فهذا هو السبب في أنه خص أهله وأبناءه بهذه الوصية وإلا فمعلوم من حال إبراهيم عليه السلام أنه كان يدعو الكل أبداً إلى الإسلام والدين
أما قوله وَيَعْقُوبَ ففيه قولان الأول وهو الأشهر أنه معطوف على إبراهيم والمعنى أنه وصى

كوصية إبراهيم والثاني قرىء وَيَعْقُوبَ بالنصب عطفاً على بنيه ومعناه وصى إبراهيم بنيه ونافلته يعقوب أما قوله أَوْ بَنِى فهو على إضمار القول عند البصريين وعند الكوفيين يتعلق بوصي لأنه في معنى القول وفي قراءة أبي وابن مسعود أن يا بني
أما قوله اصْطَفَى لَكُمُ الدّينَ فالمراد أنه تعالى استخلصه بأن أقام عليه الدلائل الظاهرة الجلية ودعاكم إليه ومنعكم عن غيره
أما قوله فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ فالمراد بعثهم على الإسلام وذلك لأن الرجل إذا لم يأمن الموت في كل طرفة عين ثم إنه أمر بأن يأتي بالشيء قبل الموت صار مأموراً به في كل حال لأنه يخشى إن لم يبادر إليه أن تعاجله المنية فيفوته الظفر بالنجاة ويخاف الهلاك فيصير مدخلاً نفسه في الخطر والغرور
أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِى قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَاهَكَ وَإِلَاهَ آبَآئِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ تِلْكَ أُمَّة ٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُم وَلاَ تُسْألُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ
اعلم أنه تعالى لما حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه بالغ في وصية بنيه في الدين والإسلام ذكر عقيبه أن يعقوب وصى بنيه بمثل ذلك تأكيداً للحجة على اليهود والنصارى ومبالغة في البيان وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن ( أم ) معناها حرف الاستفهام أو حرف العطف وهي تشبه من حروف العطف ( أو ) وهي تأتي على وجهين متصلة بما قبلها ومنقطعة منه أما المتصلة فاعلم أنك إذا قلت أزيد عندك أم عمرو فأنت لا تعلم كون أحدهماعنده فتسأل هل أحد هذين عندك فلا جرم كان جوابه لا أو نعم أما إذا علمت كون أحد هذين الرجلين عنده لكنك لا تعلم أن الكائن عنده زيد أو عمرو فسألته عن التعيين قلت أزيد عندك أم عمرو أي اعلم أن أحدهما عندك لكن من هذا أو ذاك وأما المنقطعة فقالوا إنها بمعنى ( بل ) مع همزة الاستفهام مثاله إذا قال إنها لا بل أم شاء فكأن قائل هذا الكلام سبق بصره إلى الأشخاص فقدر أنها إبل فأخبر على مقتضى ظنه أنها الإبل ثم جاءه الشك وأراد أن يضرب عن ذلك الخبر وأن يستفهم أنها هل هي شاء أم لا فالإضراب عن الأول هو معنى ( بل ) والاستفهام عن أنها شاء هو المراد بهمزة الاستفهام فقولك إنها لا بل أم شاء جار مجرى قولك إنها لا بل أهي شاء فقولك أي شاء كلام مستأنف غير متصل بقوله إنها لا بل وكيف وذلك قد وقع الإضراب عنه بخلاف المتصلة فإن قولك أزيد عندك أم عمرو بمعنى أيهما عندك ولم يكن ( ما ) بعد ( أم ) منقطعاً عما قبله بدليل أن عمراً قرين زيد وكفى دليلاً على ذلك أنك تعبر عن ذلك باسم مفرد فتقول أيهما عندك وقد جاء في كتاب الله تعالى

من النوعين كثير أما المتصلة فقوله تعالى أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا رَفَعَ رَفَعَ سَمْكَهَا ( النازعات 27 ) أي أيكما أشد وأما المنقطعة فقوله تعالى الم تَنزِيلُ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ( السجدة 1 3 ) والله أعلم بل يقولون افتراه فدل على الإضراب عن الأول والاستفهام عما بعده إذ ليس في الكلام معنى أي كما كان في قولك أزيد عندك أم عمرو ومن لا يحقق من المفسرين يقولون إن ( أم ) ههنا بمنزلة الهمزة وذلك غير صحيح لما ذكرنا أن ( أم ) هذه المنقطعة تتضمن معنى بل إذا عرفت هذه المقدمة فنقول ( أم ) في هذه الآية منفصلة أم متصلة ( والشهداء ) جمع شهيد بمعنى الحاضر أي ما كنتم حاضرين عندما حضر يعقوب الموت والخطاب مع أهل الكتاب كأنه تعالى قال لهم فيما كانوا يزعمون من أن الدين الذي هم عليه دين الرسل كيف تقولون ذلك وأنتم تشهدون وصايا الأنبياء بالدين ولو شهدتم ذلك لتركتم ما أنتم عليه من الدين ولرغبتم في دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) الذي هو نفس ما كان عليه إبراهيم عليه السلام ويعقوب وسائر الأنبياء عليهم السلام بعده
فإن قيل الاستفهام على سبيل الإنكار إنما يتوجه على كلام باطل والمحكى عن يعقوب في هذه الآية ليس كلاً ما باطلاً بل حقاً فكيف يمكن صرف الاستفهام على سبيل الإنكار إليه قلنا الاستفهام على سبيل الإنكار متعلق بمجرد ادعائهم الحضور عند وفاته هذا هو الذي أنكره الله تعالى فأما ذكره بعد ذلك من قول يعقوب عليه السلام مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِى فهو كلام مفصل بل كأنه تعالى لما أنكر حضورهم في ذلك الوقت شرح بعد ذلك كيفية تلك الوصية
القول الثاني في أن ( أم ) في هذه الآية متصلة وطريق ذلك أن يقدر قبلها محذوف كأنه قيل أتدعون على الأنبياء اليهودية أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت يعني إن أوائلكم من بني إسرائيل كانوا مشاهدين له إذ دعا بنيه إلى ملة الإسلام والتوحيد وقد علمتم ذلك فما لكم تدعون على الأنبياء ما هم منه برآء
أما قوله إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ ففيه مسألتان
المسألة الأولى قال القفال قوله إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ أن ( إذ ) الأولى وقت الشهداء والثانية وقت الحضور
المسألة الثانية الآية دالة على أن شفقة الأنبياء عليهم السلام على أولادهم كانت في باب الدين وهمتهم مصروفة إليه دون غيره
أما قوله مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِى ففيه مسألتان
المسألة الأولى لفظة ( ما ) لغير العقلاء فكيف أطلقه في المعبود الحق
وجوابه من وجهين الأول أن ( ما ) عام في كل شيء والمعنى أي شيء تعبدون والثاني قوله مَا تَعْبُدُونَ كقولك عند طلب الحد والرسم ما الإنسان

المسألة الثانية قوله مِن بَعْدِى أما قوله قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَاهَكَ وَإِلَاهَ آبَائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ففيه مسائل
المسألة الأولى هذه الآية تمسك بها فريقان من أهل الجهل الأول المقلدة قالوا إن أبناء يعقوب اكتفوا بالتقليد وهو عليه السلام ما أنكره عليهم فدل على أن التقليد كاف الثاني التعليمية قالوا لا طريق إلى معرفة الله إلا بتعليم الرسول والإمام والدليل عليه هذه الآية فإنهم لم يقولوا نعبد الإله الذي دل عليه العقل بل قالوا نعبد الإله الذي أنت تعبده وآباءك يعبدونه وهذا يدل على أن طريق المعرفة هو التعلم
والجواب كما أنه ليس في الآية دلالة على أنهم عرفوا الإله بالدليل العقلي فليس فيها أيضاً دلالة على أنهم ما أقروا بالإله إلا على طريقة التقليد والتعليم ثم إن القول بالتقليد والتعليم لما بطل بالدليل علمنا أن إيمان القوم ما كان على هذه الطريقة بل كان حاصلاً على سبيل الاستدلال أقصى ما في الباب أن يقال فلم لم يذكروا طريقة الاستدلال
والجواب عنه من وجوه أولها أن ذلك أخصر في القول من شرح صفات الله تعالى بتوحيده وعلمه وقدرته وعدله وثانيها أنه أقرب إلى سكون نفس يعقوب عليه السلام فكأنهم قالوا لسنا نجري إلا على مثل طريقتك فلا خلاف منا عليك فيما نعبده ونخلص العبادة له وثالثها لعل هذا إشارة إلى ذكر الدليل على وجود الصانع على ما ذكره الله تعالى في أول هذه السورة في قوله قَدِيرٌ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى ْ خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ( البقرة 21 ) وههنا مرادهم بقولهم نَعْبُدُ إِلَاهَكَ وَإِلَاهَ آبَائِكَ أي نعبد الإله الذي دل عليه وجودك ووجود آبائك وعلى هذا الطريق يكون ذلك إشارة إلى الاستدلال لا إلى التقليد
المسألة الثانية قال القفال وفي بعض التفاسير أن يعقوب عليه السلام لما دخل مصر رأى أهلها يعبدون النيران والأوثان فخاف على بنيه بعد وفاته فقال لهم هذا القول تحريضاً لهم على التمسك بعبادة الله تعالى وحكى القاضي عن ابن عباس أن يعقوب عليه السلام جمعهم إليه عند الوفاة وهم كانوا يعبدون الأوثان والنيران فقال يا بني ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إهلك وإله آبائك ثم قال القاضي هذا بعيد لوجهين الأول أنهم بادروا إلى الاعتراف بالتوحيد مبادرة من تقدم منه العلم واليقين الثاني أنه تعالى ذكر في الكتاب حال الأسباط من أولاد يعقوب وأنهم كانوا قوماً صالحين وذلك لا يليق بحالهم
المسألة الثالثة قوله إِبْراهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ عطف بيان لآبائك قال القفال وقيل أنه قدم ذكر إسماعيل على إسحاق لأن إسماعيل كان أسن من إسحاق
المسألة الرابعة قال الشافعي رضي الله عنه الأخوة والأخوات للأب والأم أو للأب لا يسقطون بالجد وهو قول عمر وعثمان وعلي وعبد الله بن مسعود وزيد رضي الله عنهم وهو قول مالك وأبي يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة إنهم يسقطون بالجد وهو قول أبو بكر الصديق وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم ومن التابعين قول الحسن وطاوس وعطاء أما الأولون وهم الذين يقولون إنهم لا يسقطون بالجد فلهم قولان أحدهما أن الجد خير الأمرين إما المقاسمة معهم أو ثلث جميع المال ثم الباقي بين الأخوة والأخوات

للذكر مثل حظ الأنثيين وهذا مذهب زيد ابن ثابت وقول الشافعي رضي الله عنه والثاني أنه بمنزلة أحد الأخوة ما لم تنقصه المقاسمة من السدس فإن نقصته المقاسمة من السدس أعطى السدس ولم ينقص منه شيء واحتج أبو حنيفة على قوله بأن الجد أب والأب يحجب الأخوات والأخوة فيلزم أن يحجبهم الجد وإنما قلنا إن الجد أب للآية والأثر أما الآية فاثنان هذه الآية وهي قوله تعالى نَعْبُدُ إِلَاهَكَ وَإِلَاهَ آبَائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ فأطلق لفظ الأب على الجد
فإن قيل فقد أطلقه في العم وهو إسماعيل مع أنه بالاتفاق ليس بأب
قلنا الاستعمال دليل الحقيقة ظاهراً ترك العمل به في حق العم لدليل قام فيه فيبقى في الباقي حجة الآية الثانية قوله تعالى مخبراً عن يوسف عليه السلام وَاتَّبَعْتُ مِلَّة َ ءابَاءي إِبْراهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ( يوسف 38 )
وأما الأثر فما روى عطاء عن ابن عباس أنه قال من شاء لاعنته عند الحجر الأسود إن الجد أب وقال أيضاً ألا لا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابناً ولا يجعل أب الأب أباً وإذا ثبت أن الجد أب وجب أن يدخل تحت قوله تعالى وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلاِمّهِ الثُّلُثُ ( النساء 11 ) في استحقاق الجد الثلثين دون الأخوة كما استحقه الأب دونهم إذا كان باقياً قال الشافعي رضي الله عنه لا نسلم أن الجد أب والدليل عليه وجوه أحدها أنكم كما استدللتم بهذه الآيات على أن الجد أب فنحن نستدل على أنه ليس بأب بقوله تعالى وَوَصَّى بِهَا إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ ( البقرة 132 ) فإن الله تعالى ما أدخل يعقوب في بنيه لأنه ميزه عنهم فلو كان الصاعد في الأبوة أباً لكان النازل في البنوة ابناً في الحقيقة فلما لم يكن كذلك ثبت أن الجد ليس بأب وثانيها لو كان الجد أباً على الحقيقة لما صح لمن مات أبوه وجده حي أن ينفي أن له أباً كما لا يصح في الأب القريب ولما صح ذلك علمنا أنه ليس بأب في الحقيقة
فإن قيل اسم الأبوة وإن حصل في الكل إلا أن رتبة الأدنى أقرب من رتبة الأبعد فلذلك صح فيه النفي
قلنا لو كان الاسم حقيقة فيهما جميعاً لم يكن الترتيب في الوجود سبباً لنفي اسم الأب عنه وثالثها لو كان الجد أباً على الحقيقة لصح القول بأنه مات وخلف أماً وآباء كثيرين وذلك مما لم يطلقه أحد من الفقهاء وأرباب اللغة والتفسير ورابعها لو كان الجد أباً ولا شك أن الصحابة عارفون باللغة لما كانوا يختلفون في ميراث الجد ولو كان الجد أباً لكانت الجدة أماً ولو كان كذلك لما وقعت الشبهة في ميراث الجدة حتى يحتاج أبو بكر رضي الله عنه إلى السؤال عنه فهذه الدلائل دلت على أن الجد ليس بأب وخامسها قوله تعالى يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ ( النساء 11 ) فلو كان الجد أباً لكان ابن الابن ابناً لا محالة فكان يلزم بمقتضى هذه الآية حصول الميراث لابن الابن مع قيام الابن ولما لم يكن كذلك علمنا أن الجد ليس بأب فأما الآيات التي تمسكتم بها في بيان أن الجد أب فالجواب عن وجه التمسك بها من وجوه أولها أنه قرأ أبي وَإِلَاهَ إِبْرَاهِيمَ بطرح آبائك إلا أن هذا لا يقدح في الغرض لأن القراءة الشاذة لا ترفع القراءة المتواترة بل الجواب أن يقال إنه أطلق لفظ الأب على الجد وعلى العم وقال عليه الصلاة والسلام في العباس ( هذا بقية آبائي ) وقال ( ردوا على أبي ) فدلنا ذلك على أنه ذكره على سبيل

المجاز والدليل عليه ما قدمناه أنه يصح نفي اسم الأب عن الجد ولو كان حقيقة لما كان كذلك وأما قول ابن عباس فإنما أطلق الاسم عليه نظراً إلى الحكم الشرعي لا إلى الاسم اللغوي لأن اللغات لا يقع الخلاف فيها بين أرباب اللسان والله أعلم
أما قوله تعالى إِلَهاً واحِداً فهو بدل إِلَهٍ آبَائِكَ كقوله بِالنَّاصِيَة ِ نَاصِيَة ٍ كَاذِبَة ٍ ( العلق 15 16 ) أو على الاختصاص أي تريد بإله آبائك إلهاً واحداً أما قوله وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ففيه وجوه أحدها أنه حال من فاعل نعبد أو من مفعوله لرجوع الهاء إليه في ( له ) وثانيها يجوز أن تكون جملة معطوفة على نعبد وثالثها أن تكون جملة اعتراضية مؤكدة أي ومن حالنا أنا له مسلمون مخلصون للتوحيد أو مذعنون
أما قوله تعالى تِلْكَ أُمَّة ٌ قَدْ خَلَتْ فهو إشارة إلى من ذكرهم الله تعالى في الآية المتقدمة وهم إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وبنوه الموحدون و ( الأمة ) الصنف ( خلت ) سلفت ومضت وانقرضت والمعنى أني اقتصصت عليكم أخبارهم وما كانوا عليه من الإسلام والدعوة إلى الإسلام فليس لكم نفع في سيرتهم دون أن تفعلوا ما فعلوه فإن أنتم فعلتم ذلك انتفعتم وإن أبيتم لم تنتفعوا بأفعالهم والآية دالة على مسائل
المسألة الأولى الآية دالة على بطلان التقليد لأن قوله لَهَا مَا كَسَبَتْ يدل على أن كسب كل أحد يختص به ولا ينتفع به غيره ولو كان التقليد جائزاً لكان كسب المتبوع نافعاً للتابع فكأنه قال إني ما ذكرت حكاية أحوالهم طلباً منكم أن تقلدوهم ولكن لتنبهوا على ما يلزمكم فتستدلوا وتعلموا أن ما كانوا عليه من الملة هو الحق
المسألة الثانية الآية دالة على ترغيبهم في الإيمان واتباع محمد عليه الصلاة والسلام وتحذيرهم من مخالفته
المسألة الثالثة الآية دالة على أن الأبناء لا يثابون على طاعة الآباء بخلاف قول اليهود من أن صلاح آبائهم ينفعهم وتحقيقه ما روي عنه عليه السلام أنه قال ( يا صفية عمة محمد يا فاطمة بنت محمد ائتوني يوم القيامة بأعمالكم لا بأنسابكم فإني لا أغني عنكم من الله شيئاً ) وقال ( ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه ) وقال الله تعالى فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءلُونَ ( المؤمنون 101 ) وقال تعالى لَّيْسَ بِأَمَانِيّكُمْ وَلا أَمَانِى ّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ ( النساء 123 ) وكذلك قوله تعالى وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى ( الأنعام 164 ) وقال فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمّلْتُمْ ( النور 54 )
المسألة الرابعة الآية تدل على بطلان قول من يقول الأبناء يعذبون بكفر آبائهم وكان اليهود يقولون إنهم يعذبون في النار لكفر آبائهم باتخاذ العجل وهو قوله تعالى وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَة ً ( البقرة 80 ) وهي أيام عبادة العجل فبين الله تعالى بطلان ذلك
المسألة الخامسة الآية دالة على أن العبد مكتسب وقد اختلف أهل السنة والمعتزلة في تفسير الكسب أما أهل السنة فقد اتفقوا على أنه ليس معنى كون العبد مكتسباً دخول شيء من الأعراض بقدرته

من العدم إلى الوجود ثم بعد اتفاقهم على هذا الأصل ذكروا لهذا الكسب ثلاث تفسيرات أحدها وهو قول الأشعري رضي الله عنه أن القدرة صفة متعلقة بالمقدور من غير تأثير القدرة في المقدور بل القدرة والمقدور حصلا بخلق الله تعالى كما أن العلم والمعلوم حصلا بخلق الله تعالى لكن الشيء الذي حصل بخلق الله تعالى وهو متعلق القدرة الحادثة هو الكسب وثانيها أن ذات الفعل توجد بقدرة الله تعالى ثم يحصل لذلك الفعل وصف كونه طاعة أو معصية وهذه الصفة حاصلة بالقدرة الحادثة وهو قول أبي بكر الباقلاني وثالثها أن القدرة الحادثة والقدرة القديمة إذا تعلقتا بمقدور واحد وقع المقدور بهما وكأنه فعل العبد وقع بإعانة الله فهذا هو الكسب وهذا يعزى إلى أبي إسحاق الأسفرايني لأنه يروى عنه أنه قال الكسب والفعل الواقع بالمعين
أما القائلون بأن القدرة الحادثة مؤثرة فهم فريقان الأول الذين يقولون بأن القدرة مع الداعي توجب الفعل فالله تعالى هو الخالق للكل بمعنى أنه سبحانه وتعالى هو الذي وضع الأسباب المؤدية إلى دخول هذه الأفعال في الوجود والعبد هو المكتسب بمعنى أن المؤثر في وقوع فعله هو القدرة والداعية القائمتان به وهذا مذهب إمام الحرمين رحمه الله تعالى اختاره في الكتاب الذي سماه بالنظامية ويقرب قول أبي الحسين البصري منه وإن كان لا يصرح به
الفريق الثاني من المعتزلة وهم الذين يقولون القدرة مع الداعي لا توجب الفعل بل العبد قادر على الفعل والترك متمكن منهما إن شاء فعل وإن شاء ترك وهذا الفعل والكسب قالت المعتزلة للأشعري إذا كان مقدور العبد واقعاً بخلق الله تعالى فإذا خلقه فيه استحال من العبد أن لا يتصف في ذلك الوقت بذلك الفعل وإذا لم يخلقه فيه استحال منه في ذلك الوقت أن يتصف به وإذا كان كذلك لم يكن ألبتة متمكناً من الفعل والترك ولا معنى للقادر إلا ذلك فالعبد ألبتة غير قادر وأيضاً فهذا الذي هو مكتسب العبد إما أن يكون واقعاً بقدرة الله أو لم يقع ألبتة بقدرة الله أو وقع بالقدرتين معاً فإن وقع بقدرة الله تعالى لم يكن العبد فيه مؤثراً فكيف يكون مكتسباً له وإن وقع بقدرة العبد فهذا هو المطلوب وإن وقع بالقدرتين معاً فهذا محال لأن قدرة الله تعالى مستقلة بالإيقاع فعند تعلق قدرة الله تعالى به فكيف يبقى لقدرة العبد فيه أثر وأما قول الباقلاني فضعيف لأن المحرم من الجلوس في الدار المغصوبة ليس إلا شغل تلك الأحياز فهذا الشغل إن حصل بفعل الله تعالى فنفس المنهي عنه قد خلقه الله تعالى فيه وهذا هو عين تكليف ما لا يطاق وإن حصل بقدرة العبد فهو المطلوب وأما قول الأسفرايني فضعيف لما بينا أن قدرة الله تعالى مستقلة بالتأثير فلا يبقى لقدرة العبد معها أثر ألبتة قال أهل السنة كون العبد مستقلاً بالإيجاد والخلق محال لوجوه أولها أن العبد لو كان موجداً لأفعاله لكان عالماً بتفاصيل فعله وهو غير عالم بتلك التفاصيل فهو غير موجد لها وثانيها لو كان العبد موجداً لفعل نفسه لما وقع إلا ما أراده العبد وليس كذلك لأن الكافر يقصد تحصيل العلم فلا يحصل إلا الجهل وثانيها لو كان العبد موجداً لفعل نفسه لكان كونه موجداً لذلك الفعل زائداً على ذات ذلك الفعل

وذات القدرة لأنه يمكننا أن نعقل ذات الفعل وذات القدرة مع الذهول عن كون العبد موجداً له والمعقول غير المغفول عنه ثم تلك الموجدية حادثة فإن كان حدوثها بالعبد لزم افتقارها إلى موجدية أخرى ولزم التسلسل وهو محال وإن كان الله تعالى والأثر واجب الحصول عند حصول الموجدية فيلزم استناد الفعل إلى الله تعالى ولا يلزمنا ذلك في موجدية الله تعالى لأنه قديم فكانت موجديته قديمة فلا يلزم افتقار تلك الموجودية إلى موجودية أخرى
هذا ملخص الكلام من الجانبين والمنازعات بين الفريقن في الألفاظ والمعاني كثيرة والله الهادي
وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّة َ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
اعلم أنه تعالى لما بين الدلائل التي تقدمت صحة دين الإسلام حكى بعدها أنواعاً من شبه المخالفين الطاعنين في الإسلام
الشبهة الأولى حكى عنهم أنهم قالوا كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ ولم يذكروا في تقرير ذلك شبهة بل أصروا على التقليد فأجابهم الله تعالى عن هذه الشبهة من وجوه الأول ذكر جواباً إلزامياً وهو قوله قُلْ بَلْ مِلَّة َ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا وتقرير هذا الجواب أنه إن كان طريق الدين التقليد فالأولى في ذلك اتباع ملة إبراهيم لأن هؤلاء المختلفين قد اتفقوا على صحة دين إبراهيم والأخذ بالمتفق أولى من الأخذ بالمختلف إن كان المعول في الدين على التقليد فكأنه سبحانه قال إن كان المعول في الدين على الاستدلال والنظر فقد قدمنا الدلائل وإن كان المعول على التقليد فالرجوع إلى دين إبراهيم عليه السلام وترك اليهودية والنصرانية أولى
فإن قيل أليس أن كل واحد من اليهود والنصارى يدعي أنه على دين إبراهيم عليه السلام
قلنا لما ثبت أن إبراهيم كان قائلاً بالتوحيد وثبت أن النصارى يقولون بالتثليث واليهود يقولون بالتشبيه فثبت أنهم ليسوا على دين إبراهيم عليه السلام وأن محمداً عليه السلام لما دعا إلى التوحيد كان هو على دين إبراهيم
ولنرجع إلى تفسير الألفاظ أما قوله وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى فلا يجوز أن يكون المراد به التخيير إذ المعلوم من حال اليهود أنها لا تجوز اختيار النصرانية على اليهودية بل تزعم أنه كفر والمعلوم من حال النصارى أيضاً ذلك بل المراد أن اليهود تدعو إلى اليهودية والنصارى إلى النصرانية فكل فريق يدعو إلى دينه ويزعم أنه الهدي فهذا معنى قوله تَهْتَدُواْ أي أنكم إذا فعلتم ذلك اهتديتم وصرتم على سنن الاستقامة أما قوله بَلْ مِلَّة َ إِبْراهِيمَ ففي اتنصاب ملة أربعة أقوال الأول لأنه عطف في المعنى على قوله كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى وتقديره قالوا اتبعوا اليهودية قل بل اتبعوا ملة إبراهيم الثاني على الحذف تقديره بل نتبع ملة إبراهيم الثالث تقديره بل نكون أهل ملة إبراهيم فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه كقوله وَاسْئَلِ الْقَرْيَة َ ( يوسف 92 ) أي أهلها الرابع التقدير بل اتبعوا ملة إبراهيم وقرأ

الأعرج ( ملة إبراهيم ) بالرفع أي ملته ملتنا أو ديننا ملة إبراهيم وبالجملة فأنت بالخيار في أن تجعله مبتدأ أو خبراً
أما قوله حَنِيفاً ففيه مسألتان
المسألة الأولى لأهل اللغة في الحنيف قولان الأول أن الحنيف هو المستقيم ومنه قيل للأعرج أحنف تفاؤلاً بالسلامة كما قالوا للديغ سليم والمهلكة مفازة قالوا فكل من أسلم لله ولم ينحرف عنه في شيء فهو حنيف وهو مروي عن محمد بن كعب القرطي الثاني أن الحنيف المائل لأن الأحنف هو الذي يميل كل واحد من قدميه إلى الأخرى بأصابعها وتحنف إذا مال فالمعنى أن إبراهيم عليه السلام حنف إلى دين الله أي مال إليه فقوله بَلْ مِلَّة َ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا أي مخالفاً لليهود والنصارى منحرفاً عنهما وأما المفسرون فذكروا عبارات أحدها قول ابن عباس والحسن ومجاهد أن الحنيفية حج البيت وثانيها أنها اتباع الحق عن مجاهد وثالثها اتباع إبراهيم في شرائعه التي هي شرائع الإسلام ورابعها إخلاص العمل وتقديره بل نتبع ملة إبراهيم التي هي التوحيد عن الأصم قال القفال وبالجملة فالحنيف لقب لمن دان بالإسلام كسائر ألقاب الديانات وأصله من إبراهيم عليه السلام
المسألة الثانية في نصب حنيفاً قولان أحدهما قول الزجاج أنه نصب على الحال من إبراهيم كقولك رأيت وجه هند قائمة الثاني أنه نصب على القطع أراد بل ملة إبراهيم الحنيف فلما سقطت الألف واللام لم تتبع النكرة المعرفة فانقطع منه فانتصب قاله نحاة الكوفة
أما قوله وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ففيه وجوه أحدها أنه تنبيه على أن في مذهب اليهود

والنصارى شركاء على ما بيناه لأنه تعالى حكى عن بعض اليهود قولهم عزير ابن الله والنصارى قالوا المسيح ابن الله وذلك شرك وثانيها أن الحنيف اسم لمن دان بدين إبراهيم عليه السلام ومعلوم أنه عليه السلام أتى بشرائع مخصوصة من حج البيت والختان وغيرهما فمن دان بذلك فهو حنيف وكان العرب تدين بهذه الأشياء ثم كانت تشرك فقيل من أجل هذا حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ونظيره قوله حُنَفَاء للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ ( الحج 31 ) وقوله وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ ( يوسف 106 ) قال القاضي الآية تدل على أن للواحد منا أن يحتج على غيره بما يجري مجرى المناقضة لقوله إفحاً ماله وإن لم يكن ذلك حجة في نفسه لأن من المعلوم أنه عليه السلام لم يكن يحتج على نبوته بأمثال هذه الكلمات بل كان يحتج بالمعجزات الباهرة التي ظهرت عليه لكنه عليه السلام لما كان قد أقام الحجة بها وأزاح العلة ثم وجدهم معاندين مستمرين على باطلهم فعند ذلك أورد عليهم من الحجة ما يجانس ما كانوا عليه فقال إن كان الدين بالاتباع فالمتفق عليه وهو ملة إبراهيم عليه السلام أولى بالاتباع ولقائل أن يقول اليهود والنصارى إن كانوا معترفين بفضل إبراهيم ومقرين أن إبراهيم ما كان من القائلين بالتشبيه والتثليث امتنع أن يقولوا بذلك بل لا بد وأن يكونوا قائلين بالتنزيه والتوحيد ومتى كانوا قائلين بذلك لم يكن في دعوتهم إليه فائدة وإن كانوا منكرين فضل إبراهيم أو كانوا مقرين به لكنهم أنكروا كونه منكراً للتجسيم والتثليث لم يكن ذلك متفقاً عليه فحينئذ لا يصح إلزام القول بأن هذا متفق عليه فكان الأخذ به أولى
والجواب أنه كان معلوماً بالتواتر أن إبراهيم عليه السلام ما أثبت الولد لله تعالى فلما صح عن اليهود والنصارى أنهم قالوا بذلك ثبت أن طريقتهم مخالفة لطريقة إبراهيم عليه السلام
قُولُوا ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَآ أُوتِى َ مُوسَى وَعِيسَى وَمَآ أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ
اعلم أنه تعالى لما أجاب بالجواب الجدلي أولاً ذكر بعده جواباً برهانياً في هذه الآية وهو أن الطريق إلى معرفة نبوة الأنبياء عليهم السلام ظهور المعجز عليهم ولما ظهر المعجز على يد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وجب الاعتراف بنبوته والإيمان برسالته فإن تخصيص البعض بالقبول وتخصيص البعض بالرد يوجب المناقضة في الدليل وأنه ممتنع عقلاً فهذا هو المراد من قوله قُولُواْ ءامَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا إلى آخر الآية وهذا هو الغرض الأصلي من ذكر هذه الآية فإن قيل كيف يجوز الإيمان بإبراهيم وموسى وعيسى مع القول بأن شرائعهم منسوخة قلنا نحن نؤمن بأن كل واحد من تلك الشرائع كان حقاً في زمانه فلا يلزم منا المناقضة أما اليهود والنصارى لما اعترفوا بنبوة بعض من ظهر المعجز عليه وأنكروا نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) مع قيام المعجز على يده فحينئذ يلزمهم المناقضة فظهر الفرق ثم نقول في الآية مسائل
المسألة الأولى أن الله تعالى لما حكى عنهم أنهم قالوا كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى ( البقرة 135 ) ذكروا في مقابلته للرسول عليه السلام قُلْ بَلْ مِلَّة َ إِبْراهِيمَ ( البقرة 135 ) ثم قال لأمته قُولُواْ ءامَنَّا بِاللَّهِ وهذا قول الحسن وقال القاضي قوله قُولُواْ ءامَنَّا بِاللَّهِ يتناول جميع المكلفين أعني النبي عليه السلام وأمته والدليل عليه وجهان أحدهما أن قوله قُولُواْ خطاب عام فيتناول الكل الثاني أن قوله وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا لا يليق إلا به ( صلى الله عليه وسلم ) فلا أقل من أن يكون هو داخلاً فيه واحتج الحسن على قوله بوجهين الأول أنه عليه السلام أمر من قبل بقوله قُلْ بَلْ مِلَّة َ إِبْراهِيمَ الثاني أنه في نهاية الشرف والظاهر إفراده بالخطاب
والجواب أن هذه القرائن وإن كانت محتملة إلا أنها لا تبلغ في القوة إلى حيث تقتضي تخصيص عموم قوله قُولُواْ ءامَنَّا بِاللَّهِ أما قوله قُولُواْ ءامَنَّا بِاللَّهِ فإنما قدمه لأن الإيمان بالله أصل الإيمان بالشرائع فمن لا يعرف الله استحال أن يعرف نبياً أو كتاباً وهذا يدل على فساد مذهب التعليمية والمقلدة القائلين بأن طريق معرفة الله تعالى الكتاب والسنة
أما قوله وَالاسْبَاطَ قال الخليل السبط في بني إسرائيل كالقبيلة في العرب وقال صاحب ( الكشاف ) السبط الحافد وكان الحسن والحسين سبطي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والأسباط الحفدة وهم حفدة يعقوب عليه السلام وذراري أبنائه الإثني عشر

أما قوله لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ ففيه وجهان الأول أنا لا نؤمن ببعض ونكفر ببعض فإنا لو فعلنا ذلك كانت المناقضة لازمة على الدليل وذلك غير جائز الثاني لا نفرق بين أحد منهم أي لا نقول إنهم متفرقون في أصول الديانات بل هم مجتمعون على الأصول التي هي الإسلام كما قال الله تعالى شَرَعَ لَكُم فِى الدّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُواْ الدّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ الوجه الأول أليق بسياق الآية
أما قوله وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فالمعنى أن إسلامنا لأجل طاعة الله تعالى لا لأجل الهوى وإذا كان كذلك فهو يقتضي أنه متى ظهر المعجز وجب الإيمان به فأما تخصيص بعض أصحاب المعجزات بالقبول والبعض بالرد فذلك يدل على أن المقصود من ذلك الإيمان ليس طاعة الله والانقياد له بل اتباع الهوى والميل
فَإِنْ ءَامَنُواْ بِمِثْلِ مَآ ءَامَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِنْ تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِى شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
اعلم أنه تعالى لما بين الطريق الواضح في الدين وهو أن يعترف الإنسان بنبوة من قامت الدلالة على نبوته وأن يحترز في ذلك عن المناقضة رغبهم في مثل هذا الإيمان فقال فَإِنْ ءامَنُواْ بِمِثْلِ مَا ءامَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ
من وجوه أحدها أن المقصود منه التثبيت والمعنى إن حصلوا ديناً آخر مثل دينكم ومساوياً له في الصحة والسداد فقد اهتدوا لما استحال أن يوجد دين آخر يساوي هذا الدين في السداد استحال الاهتداء بغيره ونظيره قولك للرجل الذي تشير عليه هذا هو الرأي والصواب فإن كان عندك رأى أصوب منه فاعمل به وقد علمت أن لا أصوب من رأيك ولكنك تريد تثبيت صاحبك وتوقيفه على أن ما رأيت لا رأي وراءه وإنما قلنا إنه يستحيل أن يوجد دين آخر يساوي هذا الدين في السداد لأن هذا الدين مبناه على أن كل من ظهر عليه المعجز وجب الاعتراف بنبوته وكل ما غاير هذا الدين لا بد وأن يشتمل على المناقضة والمتناقض يستحيل أن يكون مساوياً لغير المتناقض في السداد والصحة وثانيها أن المثل صلة في الكلام قال الله تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ْء ( الشورى 11 ) أي ليس كهو شيء وقال الشاعر وصاليات ككما يؤثفين وكانت أم الأحنف ترقصه وتقول والله لولا حنف برجله
ودقة في ساقه من هزله
ما كان منكم أحد كمثله

وثالثها أنكم آمنتم بالفرقان من غير تصحيف وتحريف فإن آمنوا بمثل ذلك وهو التوراة من غير تصحيف وتحريف فقد اهتدوا لأنهم يتصلون به إلى معرفة نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ورابعها أن يكون قوله فَإِنْ ءامَنُواْ بِمِثْلِ مَا ءامَنتُمْ بِهِ أي فإن صاروا مؤمنين بمثل ما به صرتم مؤمنين فقد اهتدوا فالتمثيل في الآية بين الإيمانين والتصديقين وروى محمد بن جرير الطبري أن ابن عباس قال لا تقولوا فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فليس لله مثل ولكن قولوا فإن آمنوا بالذي آمنتم به قال القاضي لا وجه لترك القراءة المتواترة من حيث يشكل المعنى ويلبس لأن ذلك إن جعله المرء مذهباً لزمه أن يغير تلاوة كل الآيات المتشابهات وذلك محظور والوجه الأول في الجواب هو المعتمد
أما قوله فَقَدِ اهْتَدَواْ فالمراد فقد عملوا بما هدوا إليه وقبلوه ومن هذا حاله يكون ولياً لله داخلاً في أهل رضوانه فالآية تدل على أن الهداية كانت موجودة قبل هذا الاهتداء وتلك الهداية لا يمكن حملها إلا على الدلائل التي نصبها الله تعالى وكشف عنها وبين وجوه دلالتها ثم بين على وجه الزجر ما يلحقهم إن تولوا فقال وَّإِنْ تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِى شِقَاقٍ وفي الشقاق بحثان
البحث الأول قال بعض أهل اللغة الشقاق مأخذو من الشق كأنه صار في شق غير شق صاحبه بسبب العداوة وقد شق عصا المسلمين إذا فرق جماعتهم وفارقها ونظيره المحادة وهي أن يكون هذا في حد وذاك في حد آخر والتعادي مثله لأن هذا يكون في عدوة وذاك في عدوة والمجانبة أن يكون هذا في جانب وذاك في جانب آخر وقال آخرون إنه من المشقة لأن كل واحد منهما يحرص على ما يشق على صاحبه ويؤذيه قال الله تعالى وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا أي فراق بينهما في الاختلاف حتى يشق أحدهما على الآخر
البحث الثاني قوله وَّإِنْ تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِى شِقَاقٍ أي إن تركوا مثل هذا الإيمان فقد التزموا المناقضة والعاقل لا يلتزم المناقضة ألبتة فحيث التزموها علمنا أنه ليس غرضهم طلب الدين والانقياد للحق وإنما غرضهم المنازعة وإظهار العداوة ثم للمفسرين عبارات أولها قال ابن عباس رضي الله عنهما فَإِنَّمَا هُمْ فِى شِقَاقٍ في خلاف مذ فارقوا الحق وتمسكوا بالباطل فصاروا مخالفين لله وثانيها قال أبو عبيدة ومقاتل في شقاتل أي في ضلال وثالثها قال ابن زيد في منازعة ومحاربة ورابعها قال الحسن في عداوة قال القاضي ولا يكاد يقال في المعاداة على وجه الحق أو المخالفة التي لا تكون معصية أنه شقاق وإنما يقال ذلك في مخالفة عظيمة توقع صاحبها في عداوة الله وغضبه ولعنه وفي استحقاق النار فصار هذا القول وعيداً منه تعالى لهم وصار وصفهم بذلك دليلاً على أن القوم معادون للرسول مضمرون له السؤال مترصدون لإيقاعه في المحن فعند هذا آمنه الله تعالى من كيدهم وآمن المؤمنين من شرهم ومكرهم فقال فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ تقوية لقلبه وقلب المؤمنين لأنه تعالى إذا تكفل بالكفاية في أمر حصلت الثقة به قال المتكلمون هذا أخبار عن الغيب فيكون معجزاً دالاً على صدقة وإنما قلنا إنه إخبار عن الغيب وذلك لأنا وجدنا مخبر هذا القول على ما أخبر به لأنه تعالى كفاه شر اليهود والنصارى ونصره عليهم حتى غلبهم المسلمون وأخذوا ديارهم وأموالهم فصاروا أذلاء في أيديهم يؤدون إليهم الخراج والجزية أو لا يقدرون ألبتة

على التخلص من أيديهم وإنما قلنا إنه معجز لأنه المتخرص لا يصيب في مثل ذلك على التفصيل قال الملحدون لا نسلم أن هذا معجز وذلك لأن المعجز هو الذي يكون ناقضاً للعادة وقد جرت العادة بأن كل من كان مبتلى بإيذاء غيره فإنه يقال له اصبر فإن الله يكفيك شره ثم قد يقع ذلك تارة ولا يقع أخرى وإذا كان هذا معتاداً فكيف يقال إنه معجز وأيضاً لعله توصل إلى ذلك برؤيا رآها وذلك مما لاسبيل إلى دفعه فإن المنجمين يقولون من كان سهم الغيب في طالعه فإنه يأتي بمثل هذه الأخبار وإن لم يكن نبياً والجواب أنه ليس غرضنا من قولنا أنه معجز أن هذا الإخبار وحده معجز بل غرضنا أن القرآن يشتمل على كثير من هذا النوع والإخبار عن الأشياء الكثيرة على سبيل التفصيل مما لا يتأتى من المتخرص الكاذب
ثم إنه تعالى لما وعده بالنصرة والمعونة أتبعه بما يدل على أن ما يسرون وما يعلنون من هذا الأمر لا يخفى عليه تعالى فقال وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وفيه وجهان الأول أنه وعيد لهم والمعنى أنه يدرك ما يضمرون ويقولون وهو عليم بكل شيء فلا يجوز لهم أن يقع منهم أمر إلا وهو قادر على كفايته إياهم فيه الثاني أنه وعد للرسول عليه السلام يعني يسمع دعاءك ويعلم نيتك وهو يستجيب لك ويوصلك إلى مرداك واحتج الأصحاب بقوله وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ على أن سمعه تعالى زائد على علمه بالمسموعات لأن قوله عَلِيمٌ بناء مبالغة فيتناول كونه عالماً بجميع المعلومات فلو كان كونه سميعاً عبارة عن علمه بالمسموعات لزم التكرار وأنه غير جائز فوجب أن يكون صفة كونه تعالى سميعاً أمراً زائداً على وصفه بكونه عليماً والله أعلم بالصواب
أما قوله بِمِثْلِ مَا ءامَنتُمْ بِهِ ففيه إشكال وهو أن الذي آمن به المؤمنون ليس له مثل وجوابه
صِبْغَة َ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَة ً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر الجواب الثاني وهو أن ذكر ما يدل على صحة هذا الدين ذكر بعده ما يدل على أن دلائل هذا الدين واضحة جلية فقال صِبْغَة َ اللَّهِ ثم في الآية مسائل
المسألة الأولى الصبغ ما يلون به الثياب ويقال صبغ الثوب يصبغه بفتح الباء وكسرها وضمها ثلاث لغات صبغاً بفتح الصاد وكسرها لغتان ( والصبغة ) فعلة من صبغ كالجلسة من جلس وهي الحالة التي يقع عليها الصبغ ثم اختلفوا في المراد بصبغة الله على أقوال الأول أنه دين الله وذكروا في أنه لم سمي دين الله بصبغة الله وجوهً أحدها أن بعض النصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمونه المعمودية ويقولون هو تطهير لهم وإذا فعل الواحد بولده ذلك قال الآن صار نصرانياً فقال الله تعالى اطلبوا صبغة الله وهي الدين والإسلام لا صبغتهم والسبب في إطلاق لفظ الصبغة على الدين طريقة المشاكلة كما تقول لمن يغرس الأشجار وأنت تريد أن تأمره بالكرم اغرس كما يغرس فلان تريد رجلاً مواظباً على الكرم ونظيره قوله تعالى إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِىء بِهِمْ ( البقرة 14 15 ) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ

( النساء 142 ) وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ ( آل عمران 54 ) وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا ( الشورى 40 ) إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ ( هود 38 ) وثانيها اليهود تصبغ أولادها يهودا والنصارى تصبغ أولادها نصارى بمعنى يلقونهم فيصبغونهم بذلك لما يشربون في قلوبهم عن قتادة قال ابن الأنباري يقال فلان يصبغ فلاناً في الشيء أي يدخله فيه ويلزمه إياه كما يجعل الصبغ لازماً للثواب وأنشد ثعلب دع الشر وأنزل بالنجاة تحرزا
إذا أنت لم يصبغك في الشر صابغ
وثالثها سمي الدين صبغة لأن هيئته تظهر بالمشاهدة من أثر الطهارة والصلاة قال الله تعالى سِيمَاهُمْ فِى وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ( الفتح 29 ) ورابعها قال القاضي قوله صِبْغَة َ اللَّهِ متعلق بقوله قُولُواْ ءامَنَّا بِاللَّهِ ( البقرة 136 ) إلى قوله وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ( العنكبوت 46 ) فوصف هذا الإيمان منهم بأنه صبغة الله تعالى ليبين أن المباينة بين هذا الدين الذي اختاره الله وبين الدين الذي اختاره المبطل ظاهرة جلية كما تظهر المباينة بين الألوان والأصباغ لذي الحس السليم القول الثاني أن صبغة الله فطرته وهو كقوله فِطْرَة َ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ( الروم 30 ) ومعنى هذا الوجه أن الإنسان موسوم في تركيبه وبنيته بالعجز والفاقة والآثار الشاهدة عليه بالحدوث والافتقار إلى الخالق فهذه الآثار كالصبغة له وكالسمة اللازمة قال القاضي من حمل قوله صِبْغَة َ اللَّهِ على الفطرة فهو مقارب في المعنى لقول من يقول هو دين الله لأن الفطرة التي أمروا بها هو الذي تقتضيه الأدلة من عقل وشرع وهو الدين أيضاً لكن الدين أظهر لأن المراد على ما بينا هو الذي وصفوا أنفسهم به في قوله قُولُواْ ءامَنَّا بِاللَّهِ فكأنه تعالى قال في ذلك إن دين الله الذي ألزمكم التمسك به فالنفع به سيظهر ديناً ودنيا كظهور حسن الصبغة وإذا حمل الكلام على ما ذكرناه لم يكن لقول من يقول إنما قال ذلك لعادة جارية لليهود والنصارى في صبغ يستعملونه في أولادهم معنى لأن الكلام إذا استقام على أحسن الوجوه بدونه فلا فائدة فيه ولنذكر الآن بقية أقوال المفسرين
القول الثالث أن صبغة الله هي الختان الذي هو تطهير أي كما أن المخصوص الذي للنصارى تطهير لهم فكذلك الختان تطهير للمسلمين عن أبي العالية
القول الرابع إنه حجة الله عن الأصم وقيل إنه سنة الله عن أبي عبيدة والقول الجيد هو الأول والله أعلم
المسألة الثانية في نصب صبغة أقوال أحدها أنه بدل من ملة وتفسير لها الثاني اتبعوا صبغة الله الثالث قال سيبويه إنه مصدر مؤكد فينتصب عن قوله بِاللَّهِ فَإِذَا كما انتصب وعد الله عما تقدمه
أما قوله وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَة ً فالمراد أنه يصبغ عباده بالإيمان ويطهرهم به من أوساخ الكفر فلا صبغة أحسن من صبغته
أما قوله تعالى وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ فقال صاحب ( الكشاف ) إنه عطف على بِاللَّهِ فَإِذَا وهذا يرد قول من يزعم أن صبغة الله بدل من ملة إبراهيم أو نصب على الإغراء بمعنى عليكم صبغة الله لما فيه من فك النظم وانتصابها على أنها مصدر مؤكد هو الذي ذكره سيبويه والقول ما قالت حذام

قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِى اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ
اعلم أن في الآية مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في تلك المحاجة وذكروا وجوهاً أحدها أن ذلك كان قولهم أنهم أولى بالحق والنبوة لتقدم النبوة فيهم والمعنى أتجادلوننا في أن الله اصطفى رسول من العرب لا منكم وتقولون لو أنزل الله على أحد لأنزل عليكم وترونكم أحق بالنبوة منا وثانيها قولهم نحن أحق بالإيمان من العرب الذين عبدوا الأوثان وثالثها قولهم نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ وقولهم لَن يَدْخُلَ الْجَنَّة َ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى ( البقرة 111 ) وقولهم كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ ( البقرة 135 ) عن الحسن ورابعها أَتُحَاجُّونَنَا فِى اللَّهِ أي أتحاجوننا في دين الله
المسألة الثانية هذه المحاجة كانت مع من ذكروا فيه وجوهاً أحدها أنه خطاب لليهود والنصارى وثانيها أنه خطاب مع مشركي العرب حيث قالوا لَوْلا أُنزِلَ هَاذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ( الزخرف 31 ) والعرب كانوا مقرين بالخالق وثالثها أنه خطاب مع الكل والقول الأول أليق بنظم الآية
أما قوله وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ ففيه وجهان الأول أنه أعلم بتدبير خلقه وبمن يصلح للرسالة وبمن لا يصلح لها فلا تعترضوا على ربكم فإن العبد ليس له أن يعترض على ربه بل يجب عليه تفويض الأمر بالكلية له الثاني أنه لا نسبة لكم إلى الله تعالى إلا بالعبودية وهذه النسبة مشتركة بيننا وبينكم فلم ترجحون أنفسكم علينا بل الترجيح من جانبنا لأنا مخلصون له في العبودية ولستم كذلك وهو المراد بقوله وَنَحْنُ لَهُ وهذا التأويل أقرب
أما قوله تعالى وَقَالُواْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ فالمراد منه النصيحة في الدين كأنه تعالى قال لنبيه قل لهم هذا القول على وجه الشفقة والنصيحة أي لا يرجع إلى من أفعالكم القبيحة ضرر حتى يكون المقصود من هذا القول دفع ذلك الضرر وإنما المراد نصحكم وإرشادكم إلى الأصلح وبالجملة فالإنسان إنما يكون مقبول القول إذا كان خالياً عن الأغراض الدنيوية فإذا كان لشيء من الأغراض لم ينجع قوله في القلب ألبتة فهذا هو المراد فيكون فيه من الردع والزجر ما يبعث على النظر وتحرك الطباع على الاستدلال وقبول الحق وأما معنى الإخلاص فقد تقدم
أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ ءَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَة ً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ

اعلم أن في الآية مسألتين
المسألة الأولى قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم أَمْ تَقُولُونَ بالتاء على المخاطبة كأنه قال أتحاجوننا أم تقولون والباقون بالياء على أنه إخبار عن اليهود والنصارى فعلى الأول يحتمل أن تكون ( أم ) متصلة وتقديره بأي الحجتين تتعلقون في أمرنا أبالتوحيد فنحن موحدون أم باتباع دين الأنبياء فنحن متبعون وأن تكون منقطعة بمعنى بل أتقولون والهمزة للإنكار أيضاً وعلى الثاني تكون منقطعة لانقطاع معناه بمعنى الانقطاع إلى حجاج آخر غير الأول كأنه قيل أتقولون إن الأنبياء كانوا قبل نزول التوراة والإنجيل هوداً أو نصارى
المسألة الثانية إنما أنكر الله تعالى ذلك القول عليهم لوجوه أحدها لأن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ثبتت نبوته بسائر المعجزات وقد أخبر عن كذبهم في ذلك فثبت لا محالة كذبهم فيه وثانيها شهادة التوراة والإنجيل على أن الأنبياء كانوا على التوحيد والحنيفية وثالثها أن التوراة والإنجيل أنزلا بعدهم ورابعها أنهم ادعوا ذلك من غير برهان فوبخهم الله تعالى على الكلام في معرض الاستفهام على سبيل الإنكار والغرض منه الزجر والتوبيخ وأن يقرر الله في نفوسهم أنهم يعلمون أنهم كانوا كاذبين فيما يقولون
أما قوله تعالى قُلْ ءأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ فمعناه أن الله أعلم وخبره أصدق وقد أخبر في التوراة والإنجيل وفي القرآن على لسان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أنهم كانوا مسلمين مبرئين عن اليهودية والنصرانية فإن قيل إنما يقال هذا فيمن لا يعلم وهم علموه وكتموه فكيف يصح الكلام قلنا من قال إنهم كانوا على ظن وتوهم فالكلام ظاهر ومن قال علموا وجحدوا فمعناه أن منزلتكم منزلة المعترضين على ما يعلم أن الله أخبر به فلا ينفعه ذلك مع إقراره بأن الله أعلم
أما قوله وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَة ً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ ففيه ثلاثة أوجه أحدها أن في الآية تقديماً وتأخيراً والتقدير ومن أظلم عند الله ممن كتم شهادة حصلت عنده كقولك ومن أظلم من زيد من جملة الكاتمين للشهادة والمعنى لو كان إبراهيم وبنوه هود أو نصارى ثم إن الله كتم هذه الشهادة لم يكن أحد ممن يكتم شهادة أظلم منه لكن لما استحال ذلك مع عدله وتنزهه عن الكذب علمنا أنه ليس الأمر كذلك وثانيها ومن أظلم منكم معاشر اليهود والنصارى إن كتمتم هذه الشهادة من الله فمن في قوله مِنَ اللَّهِ تتعلق بالكاتم على القول الأول وبالمكتوم منه على القول الثاني كأنه قال ومن أظلم ممن عنده شهادة فلم يقمها عند الله بل كتمها وأخفاها وثالثها أن يكون مِنْ في قوله مِنَ اللَّهِ صلة الشهادة والمعنى ومن أظلم ممن كتم شهادة جاءته من عند الله فجحدها كقول الرجل لغيره عندي شهادة منك أي شهادة سمعتها منك وشهادة جاءتني من جهتك ومن عندك
أما قوله وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ فهو الكلام الجامع لكل وعيد ومن تصور أنه تعالى عالم بسره وإعلانه ولا يخفى عليه خافية أنه من وراء مجازاته إن خيراً فخير وإن شراً فشر لا يمضي عليه طرفة عين إلا وهو حذر خائف ألا ترى أن أحدنا لو كان عليه رقيب من جهة سلطان يعد عليه الأنفاس لكان دائم الحذر والوجل مع أن ذلك الرقيب لا يعرف إلا الظاهر فكيف بالرب الرقيب الذي يعلم السر وأخفى إذا هدد وأوعد بهذا الجنس من القول

تِلْكَ أُمَّة ٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْألُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
اعلم أنه تعالى لما حاج اليهود في هؤلاء الأنبياء بهذه الآية لوجوه أحدها ليكون وعظاً لهم وزجراً حتى لا يتكلوا على فضل الآباء فكل واحد يؤخذ بعمله وثانيها أنه تعالى بين أنه متى لا يستنكر أن يكون فرضكم عين فرضهم لاختلاف المصالح لم يستنكر أن تختلف المصالح فينقلكم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من ملة إلى ملة أخرى وثالثها أنه تعالى لما ذكر حسن طريقة الأنبياء الذين ذكرهم في هذه الآيات بين أن الدليل لا يتم بذلك بل كل إنسان مسؤول عن عمله ولا عذر له في ترك الحق بأن توهم أنه متمسك بطريقة من تقدم لأنهم أصابوا أم أخطأوا لا ينفع هؤلاء ولا يضرهم لئلا يتوهم أن طريقة الدين التقليد فإن قيل لم كررت الآية قلنا فيه قولان أحدهما أنه عني بالآية الأولى إبراهيم ومن ذكر معه والثانية أسلاف اليهود قال الجبائي قال القاضي هذا بعيد لأن أسلاف اليهود والنصارى لم يجر لهم ذكر مصرح وموضع الشبهة في هذا القول أن القوم لما قالوا في إبراهيم وبنيه إنهم كانوا هوداً فكأنهم قالوا إنهم كانوا على مثل طريقة أسلافنا من اليهود فصار سلفهم في حكم المذكورين فجاز أن يقول تِلْكَ أُمَّة ٌ قَدْ خَلَتْ ويعينهم ولكن ذلك كالتعسف بل المذكور السابق هو إبراهيم وبنوه فقوله تِلْكَ أُمَّة ٌ يجب أن يكون عائداً إليهم والقول الثاني أنه متى اختلفت الأوقات والأحوال والمواطن لم يكن التكرار عبثاً فكأنه تعالى قال ما هذا إلا بشر فوصف هؤلاء الأنبياء فيما أنتم عليه من الدين لا يسوغ التقليد في هذا الجنس فعليكم بترك الكلام في تلك الأمة فلها ما كسبت وانظروا فيما دعاكم إليه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإن ذلك أنفع لكم وأعود عليكم ولا تسألون إلا عن عملكم
سَيَقُولُ السُّفَهَآءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
اعلم أن هذا هو الشبهة الثانية من الشبه التي ذكرها اليهود والنصارى طعناً في الإسلام فقالوا النسخ يقتضي إما الجهل أو التجهيل وكلاهما لا يليق بالحكيم وذلك لأن الأمر إما أن يكون خالياً عن القيد وإما أن يكون مقيداً بلا دوام وإما أن يكون مقيداً بقيد الدوام فإن كان خالياً عن القيد لم يقتض الفعل إلا مرة واحدة فلا يكون ورود الأمر بعد ذلك على خلافه ناسخاً وإن كان مقيداً بقيد اللا دوام فههنا ظاهر أن الوارد بعده على خلافه لا يكون ناسخاً له وإن كان مقيداً بقيد الدوام فإن كان الأمر يعتقد فيه أنه يبقى دائماً مع أنه ذكر لفظاً يدل على أنه يبقى دائماً ثم إنه رفعه بعد ذلك فههنا كان جاهلاً ثم بدا له ذلك وإن كان عالماً بأنه لا يبقى دائماً مع أنه ذكر لفظاً يدل على أنه يبقى دائماً كان ذلك تجهيلاً فثبت أن النسخ يقتضي إما الجهل أو التجهيل وهما محالان على الله تعالى فكان النسخ منه محالاً فالآتي بالنسخ في أحكام الله تعالى يجب أن

يكون مبطلاً فبهذا الطريق توصلوا بالقدح في نسخ القبلة إلى الطعن في الإسلام ثم إنهم خصصوا هذه الصورة بمزيد شبهة فقالوا إنا إذا جوزنا النسخ إنما نجوزه عند اختلاف المصالح وههنا الجهات متساوية في أنها لله تعالى ومخلوقة له فتغيير القبلة من جانب فعل خال عن المصلحة فيكون عبثاً والعبث لا يليق بالحكيم فدل هذا على أن هذا التغيير ليس من الله تعالى فتوصلوا بهذا الوجه إلى الطعن في الإسلام ولنتكلم الآن في تفسير الألفاظ ثم لنذكر الجواب عن هذه الشبهة على الوجه الذي قرره الله تعالى في كتابه الكريم
أما قوله سَيَقُولُ السُّفَهَاء ففيه قولان الأول وهو اختيار القفال أن هذا اللفظ وإن كان للمستقبل ظاهراً لكنه قد يستعمل في الماضي أيضاً كالرجل يعمل عملاً فيطعن فيه بعض أعدائه فيقول أنا أعلم أنهم سيطعنون علي فيما فعلت ومجاز هذا أن يكون القول فيما يكرر ويعاد فإذا ذكروه مرة فسيذكرونه بعد ذلك مرة أخرى فصح على هذا التأويل أن يقال سيقول السفهاء من الناس ذلك وقد وردت الأخبار أنهم لما قالوا ذلك نزلت الآية القول الثاني إن الله تعالى أخبر عنهم قبل أن ذكروا هذا الكلام أنهم سيذكرونه وفيه فوائد أحدها أنه عليه الصلاة والسلام إذا أخبر عن ذلك قبل وقوعه كان هذا اخباراً عن الغيب فيكون معجزاً وثانيها أنه تعالى إذا أخبر عن ذلك أولاً ثم سمعه منهم فإنه يكون تأذية من هذا الكلام أقل مما إذا سمعه منهم أولاً وثالثها أن الله تعالى إذا أسمعه ذلك أولاً ثم ذكر جوابه معه فحين يسمعه النبي عليه الصلاة والسلام منهم يكون الجواب حاضراً فكان ذلك أولى مما إذا سمعه ولا يكون الجواب حاضراً وأما السفه في أصل اللغة فقد شرحناه في تفسير قوله تعالى قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء ( البقرة 13 ) وبالجملة فإن من لا يميز بين ما له وعليه ويعدل عن طريق منافعه إلى ما يضره يوصف بالخفة والسفه ولا شك أن الخطأ في باب الدين أعظم مضرة منه في باب الدنيا فإذا كان العادل عن الرأي الواضح في أمر دنياه يعد سفيهاً فمن يكون كذلك في أمر دينه كان أولى بهذا الاسم فلا كافر إلا وهو سفيه فهذا اللفظ يمكن حمله على اليهود وعلى المشركين وعلى المنافقين وعلى جملتهم ولقد ذهب إلى كل واحد من هذه الوجوه قوم من المفسرين فأولها قال ابن عباس ومجاهد هم اليهود وذلك لأنهم كانوا يأتسون بموافقة الرسول لهم في القبلة وكانوا يظنون أن موافقته لهم في القبلة ربما تدعوه إلى أن يصير موافقاً لهم بالكلية فلما تحول عن تلك القبلة استوحشوا من ذلك واغتموا وقالوا قد عاد إلى طريقة آبائه واشتاق إلى دينهم ولو ثبت على قبلتنا لعلمنا أنه الرسول المنتظر المبشر به في التوراة فقالوا ما حكى الله عنهم في هذه الآية وثالثها قال ابن عباس والبراء بن عازب والحسن والأصم إنهم مشركو العرب وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام كان متوجهاً إلى بيت المقدس حين كان بمكة والمشركون كانوا يتأذون منه بسبب ذلك فلما جاء إلى المدينة وتحول إلى الكعبة قالوا أبى إلا الرجوع إلى موافقتنا ولو ثبت عليه لكان أولى به وثالثها أنهم المنافقون وهو قول السدي وهؤلاء إنما ذكروا ذلك استهزاء من حيث لا يتميز بعض

الجهات عن بعض بخاصية معقولة تقتضي تحويل القبلة إليها فكان هذا التحويل مجرد البعث والعمل بالرأي والشهوة وإنما حملنا لفظ السفهاء على المنافقين لأن هذا الاسم مختص بهم قال الله تعالى أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَاكِن لاَّ يَعْلَمُونَ ( البقرة 13 ) ورابعها أنه يدخل فيه الكل لأن لفظ السفهاء لفظ عموم دخل فيه الألف واللام وقد بينا صلاحيته لكل الكفار بحسب الدليل العقلي والنص أيضاً يدل عليه وهو قوله وَمَن يَرْغَبُ عَن مِلَّة ِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ( البقرة 130 ) فوجب أن يتناول الكل قال القاضي المقصود من الآية بيان وقوع هذا الكلام منهم في الجملة وإذا كان كذلك لم يكن ادعاء العموم فيه بعيداً قلنا هذا القدر لا ينافي العموم ولا يقتضي تخصيصه بل الأقرب أن يكون الكل قد قال ذلك لأن الأعداء مجبولون على القدح والطعن فإذا وجدوا مجالاً لم يتركوا مقالاً ألبتة
أما قوله تعالى مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُواْ عَلَيْهَا ففيه مسائل
المسألة الأولى ولاه عنه صرفه عنه وولى إليه بخلاف ولى عنه ومنه قوله وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ ( الأنفال 16 ) وقوله مَا وَلَّاهُمْ استفهام على جهة الاستهزاء والتعجب
المسألة الثانية في هذا التولي وجهان الأول وهو المشهور المجمع عليه عند المفسرين أنه لما حولت القبلة إلى الكعبة من بيت المقدس عاب الكفار المسلمين فقالوا ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها فالضمير في قوله مَا وَلَّاهُمْ للرسول والمؤمنين والقبلة التي كانوا عليها هي بيت المقدس واختلفت الروايات في أنه عليه الصلاة والسلام متى حول القبلة بعد ذهابه إلى المدينة فعن أنس بن مالك رضي الله عنه بعد تسعة أشهر أو عشرة أشهر وعن معاذ بعد ثلاثة عشر شهراً وعن قتادة بعد ستة عشر شهراً وعن ابن عباس والبراء بن عازب بعد سبعة عشر شهراً وهذا القول أثبت عندنا من سائر الأقوال وعن بعضهم ثمانية عشر شهراً من مقدمه قال الواقدي صرفت القبلة يوم الاثنين النصف من رجب على رأس سبعة عشر شهراً وقال آخرون بل سنتان الوجه الثاني قول أب مسلم وهو أنه لما صح الخبر بأن الله تعالى حوله عن بيت المقدس إلى الكعبة وجب القول به ولولا ذلك لاحتمل لفظ الآية أن يراد بقوله كانوا عليها أي السفهاء كانوا عليها فإنهم كانوا لا يعرفون إلا قبلة اليهود وقبلة النصارى فالأولى إلى المغرب والثانية إلى المشرق وما جرت عادتهم بالصلاة حتى يتوجهوا إلى شيء من الجهات فلما رأوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) متوجهاً نحو الكعبة كان ذلك عندهم مستنكراً فقالوا كيف يتوجه أحد إلى هاتين الجهتين المعروفتين فقال الله تعالى راداً عليهم قُل لّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ واعلم أن أبا مسلم صدق فإنه لولا الروايات الظاهرة لكان هذا القول محتملاً والله أعلم
المسألة الثالثة قال القفال القبلة هي الجهة التي يستقبلها الإنسان وهي من المقابلة وإنما سميت القبلة قبلة لأن المصلي يقابلها وتقابله وقال قطرب يقولون في كلامهم ليس لفلان قبلة أي ليس له جهة يأوي إليها وهو أيضاً مأخوذ من الإستقبال وقال غيره إذ تقابل الرجلان فكل واحد منهما قبلة للآخر وقال بعض المحدثين

جعلت مأواك لي قرارا
وقبلة حيثما لجأت
أما قوله تعالى قُل لّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فاعلم أن هذا هو الجواب الأول عن تلك الشبهة وتقريره أن الجهات كلها لله ملكاً وملكاً فلا يستحق شيء منها لذاته أن يكون قبلة بل إنما تصير قبلة لأن الله تعالى جعلها قبلة وإذا كان الأمر كذلك فلا اعتراض عليه بالتحويل من جهة إلى جهة أخرى فإن قيل ما الحكمة أولاً في تعيين القبلة ثم ما الحكمة في تحويل القبلة من جهة إلى جهة قلنا أما المسألة الأولى ففيها الخلاف الشديد بين أهل السنة والمعتزلة أما أهل السنة فإنهم يقولون لا يجب تعليل أحكام الله تعالى ألبتة واحتجوا عليه بوجوه أحدها أن كل من فعل فعلاً لغرض فإما أن يكون وجود ذلك الغرض أولى له من لا وجوده وإما أن لا يكون كذلك بل الوجود والعدم بالنسبة إليه سيان فإن كان الأول كان ناقصاً لذاته مستكملاً بغيره وذلك على الله محال وإن كان الثاني استحال أن يكون غرضاً ومقصوداً ومرجحاً فإن قيل إنه وإن كان وجوده وعدمه بالنسبة إليه على السوية إلا أن وجوده لما كان أنفع للغير من عدمه فالحكيم يفعله ليعود النفع إلى الغير قلنا عود النفع إلى الغير ولا عوده إليه هل هما بالنسبة إلى الله تعالى على السواء أو ليس الأمر كذلك وحينئذ يعود التقسيم وثانيها أن كل من فعل فعلاً لغرض فإما أن يكون قادراً على تحصيل ذلك الغرض من دون تلك الواسطة أو لا يكون قادراً عليه فإن كان الأول كان توسط تلك الواسطة عبثاً وإن كان الثاني كان عجزاً وهو على الله محال وثالثها أنه تعالى إن فعل فعلاً لغرض فذلك الغرض وإن كان قديماً لزم من قدمه قدم الفعل وهو محال وإن كان محدثاً توقف إحداثه على غرض آخر ولزم الدور أو التسلسل وهو محال ورابعها أن تخصيص إحداث العالم بوقت معين دون ما قبله وما بعده إن كان لحكمة اختص بها ذلك الوقت دون ما قبله وما بعده كان طلب العلة في أنه لم حصلت تلك الحكمة في ذلك الوقت دون سائر الأوقات كطلب العلة في أنه لم حصل العالم في ذلك الوقت دون سائر الأوقات فإن استغنى أحدهما عن المرجح فكذا الآخر وإن افتقر فكذا الآخر وإن لم يتوقف ذلك على الحكمة فقد بطل توفيق فاعلية الله على الحكمة والغرض وخامسها ما سبق من الدلائل على أن جميع الكائنات من الخير والشر والكفر والإيمان والطعة والعصيان واقع بقدرة الله تعالى وإرادته وذلك يبطل القول بالغرض لأنه يستحيل أن يكون لله غرض يرجع إلى العبد في خلق الكفر فيه وتعذيبه عليه أبد الآباد وسادسها أن تعلق قدرة الله تعالى وإرادته بإيجاد الفعل المعين في الأزل إما أن يكون جائزاً أو وجباً فإن كان جائزاً افتقر إلى مؤثر آخر ويلزم التسلسل ولأنه يلزم صحة العدم على القديم وإن كان واجباً فالواجب لا يعلل فثبت عندنا بهذه الوجوه أن تعليل أفعالي الله وأحكامه بالدواعي والأغراض محال وإذا كان كذلك كانت فاعليته بمحض الإلهية والقدرة والنفاذ والاستيلاء وهذا هو الذي دل عليه صريح قوله

تعالى قُل لّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فإنه علل جواز النسخ بكونه مالكاً للمشرق والمغرب والملك يرجع حاصله إلى القدرة ولم يعلل ذلك بالحكمة على ما تقوله المعتزلة فثبت أن هذه الآية دالة بصريحها على قولنا ومذهبنا أما المعتزلة فقد قالوا لما دلت الدلائل على أنه تعالى حكيم والحكيم لا يجوز أن تكون أفعاله خالية عن الأغراض علمنا أن له سبحانه في كل أفعاله وأحكامه حكماً وأغراضاً ثم إنها تارة تكون ظاهرة جلية لنا وتارة مستورة خفية عنا وتحويل القبلة من جهة إلى جهة أخرى يمكن أن يكون لمصالح خفية وأسرار مطوية عنا وإذا كان الأمر كذلك استحال الطعن بهذا التحويل في دين الإسلام
المسألة الرابعة في الكلام في تلك الحكم على سبيل التفصيل واعلم أن أمثال هذه المباحث لا تكون قطعية بل غايتها أن تكون أموراً احتمالية أما تعيين القبلة في الصلاة فقد ذكروا فيه حكماً أحدها أن الله تعالى خلق في الإنسان قوة عقلية مدركة للمجردات والمعقولات وقوة خيالية متصرفة في عالم الأجساد وقلما تنفك القوة العقلية عن مقارنة القوة الخيالية ومصاحبتها فإذا أراد الإنسان استحضار أمر عقلي مجرد وجب أن يضع له صورة خيالية يحسبها حتى تكون تلك الصورة الخيالية معينة على إدراك تلك المعاني العقلية ولذلك فإن المهندس إذا أراد إدراك حكم من أحكام المقادير وضع له صورة معينة وشكلاً معيناً ليصير الحس والخيال معينين للعقل على إدراك ذلك الحكم الكلي ولما كان العبد الضعيف إذا وصل إلى مجلس الملك العظيم فإنه لا بد وأن يستقبله بوجهه وأن لا يكون معرضاً عنه وأن يبالغ في الثناء عليه بلسانه ويبالغ في الخدمة والتضرع له فاستقبال القبلة في الصلاة يجري مجرى كونه مستقبلاً للملك لا معرضاً عنه والقراءة والتسبيحات تجري مجرى الثناء عليه والركوع والسجود يجري مجرى الخدمة وثانيها أن المقصود من الصلاة حضور القلب وهذا الحضور لا يحصل إلا مع السكون وترك الالتفات والحركة وهذا لا يتأتى إلا إذا بقي في جميع صلاته مستقبلاً لجهة واحدة على التعيين فإذا اختص بعض الجهات بمزيد شرف في الأوهام كان استقبال تلك الجهة أولى وثالثها أن الله تعالى يحب الموافقة والألفة بين المؤمنين وقد ذكر المنة بها عليهم حيث قال وَاذْكُرُواْ نِعْمَة َ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ( المائدة 7 ) إلى قوله إِخْوَانًا ولو توجه كل واحد في صلاته إلى ناحية أخرى لكان ذلك يوهم اختلافاً ظاهراً فعين الله تعالى لهم جهة معلومة وأمرهم جميعاً بالتوجه نحوها ليحصل لهم الموافقة بسبب ذلك وفيه إشارة إلى أن الله تعالى يحب الموافقة بين عباده في أعمال الخير ورابعها أن الله تعالى خص الكعبة بإضافتها إليه في قوله بَيْتِى َ وخص المؤمنين باضافتهم بصفة العبودية إليه وكلتا الإضافتين للتخصيص والتكريم فكأنه تعالى قال يا مؤمن أنت عبدي والكعبة بيتي والصلاة خدمتي فأقبل بوجهك في خدمتي إلى بيتي وبقلبك إلي وخامسها قال بعض المشايخ إن اليهود استقبلوا القبلة لأن النداء لموسى عليه السلام جاء منه وذلك قوله وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِى ّ ( القصص 44 ) الآية والنصارى استقبلوا المغرب لأن جبريل عليه السلام إنما ذهب إلى مريم عليها السلام من جانب المشرق لقوله تعالى وَاذْكُرْ فِى الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً ( مريم 16 ) والمؤمنون استقبلوا الكعبة لأنها قبلة خليل الله ومولد حبيب

الله وهي موضع حرم الله وكان بعضهم يقول استقبلت النصارى مطلع الأنوار وقد استقبلنا مطلع سيد الأنوار وهو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فمن نوره خلقت الأنوار جميعاً وسادسها قالوا الكعبة سرة الأرض ووسطها فأمر الله تعالى جميع خلقه بالتوجه إلى وسط الأرض في صلاتهم وهو إشارة إلى أنه يجب العدل في كل شيء ولأجله جعل وسط الأرض قبلة للخلق وسابعها أنه تعالى أظهر حبه لمحمد عليه الصلاة والسلام بواسطة أمره باستقبال الكعبة وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام كان يتمنى ذلك مدة لأجل مخالفة اليهود فأنزل الله تعالى قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء ( البقرة 144 ) الآية وفي الشاهد إذا وصف واحد من الناس بمحبة آخر قالوا فلان يحول القبلة لأجل فلان على جهة التمثيل فالله تعالى قد حول القبلة لأجل حبيبه محمد عليه الصلاة والسلام على جهة التحقيق وقال فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَة ً تَرْضَاهَا ( البقرة 144 ) ولم يقل قبلة أرضاها والإشارة فيه كأنه تعالى قال يا محمد كل أحد يطلب رضاي وأنا أطلب رضاك في الدارين أما في الدنيا فهذا الذي ذكرناه وأما في الآخرة فقوله تعالى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ( الضحى 5 ) وفيه إشارة أيضاً إلى شرف الفقراء فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ( الأنعام 52 ) وقال في الإعراض عن القبلة وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ فكأنه تعالى قال الكعبة قبلة وجهك والفقراء قبلة رحمتي فإعراضك عن قبلة وجهك يوجب كونك ظالماً فالأعراض عن قبلة رحمتي كيف يكون وثامنها العرش قبلة الحملة والكرسي قبلة البررة والبيت المعمور قبلة السفرة والكعبة قبلة المؤمنين والحق قبلة المتحيرين من المؤمنين قال الله تعالى فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ( البقرة 115 ) وثبت أن العرش مخلوق من النور والكرسي من الدر والبيت المعمور من الياقوت والكعبة من جبال خمسة من طور سينا وطور زيتا والجودي ولبنان وحراء والإشارة فيه كأن الله تعالى يقول إن كانت عليك ذنوب بمثقال هذه الجبال فأتيت الكعبة حاجاً أو توجهت نحوها مصلياً كفرتها عنك وغفرتها لك فهذا جملة الوجوه المذكورة في هذا الباب والتحقيق هو الأول
المسألة الخامسة في حكمة تحويل القبلة من جهة إلى جهة قد ذكرنا شبهة القوم في إنكار هذا التحويل وهي أن الجهات لما كانت متساوية في جميع الصفات كان تحويل القبلة من جهة إلى جهة مجرد العبث فلا يكون ذلك من فعل الحكيم
والجواب عنه أما على قول أهل السنة إنه لا يجب تعليل أحكام الله تعالى بالحكم فالأمر ظاهر وأما على قول المعتزلة فلهم طريقان الأول أنه لا يمتنع اختلاف المصالح بحسب اختلاف الجهات وبيانه من وجوه أحدها أنه إذا ترسخ في أوهام بعض الناس أن هذه الجهات أشرف من غيرها بسبب أن هذا البيت بناه الخليل وعظمه كان هذا الإنسان عند استقباله أشد تعظيماً وخشوعاً وذلك مصلحة مطلوبة وثانيها أنه لما كان بناء هذا البيت سبباً لظهور دولة العرب كانت رغبتهم في تعظيمه أشد وثالثها أن اليهود لما كانوا يعيرون المسلمين عند استقبال بيت المقدس بأنه لولا أنا أرشدناكم إلى القبلة لما كنتم تعرفون القبلة فصار ذلك سبباً لتشويش الخواطر وذلك مخل بالخضوع والخشوع فهذا يناسب

الصرف عن تلك القبلة ورابعها أن الكعبة منشأ محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فتعظيم الكعبة يقتضي تعظيم محمد عليه الصلاة والسلام وذلك أمر مطلوب لأنه متى رسخ في قلبهم تعظيمه كان قبولهم لأوامره ونواهيه في الدين والشريعة أسرع وأسهل والمفضي إلى المطلوب مطلوب فكان تحويل القبلة مناسباً وخامسها أن الله تعالى بين ذلك في قوله وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَة َ الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ( البقرة 143 ) فأمرهم الله تعالى حين كانوا بمكة أن يتوجهوا إلى بيت المقدس ليتميزوا عن المشركين فلما هاجروا إلى المدينة وبها اليهود أمروا بالتوجه إلى الكعبة ليتميزوا عن اليهود
أما قوله يَهْدِى مَن يَشَآء إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ فالهداية قد تقدم القول فيها قالت المعتزلة إنما هي الدلالة الموصلة والمعنى أنه تعالى يدل على ما هو للعبادة أصلح والصراط المستقيم هو الذي يؤديهم إذا تمسكوا به إلى الجنة قال أصحابنا هذه الهداية إما أن يكون المراد منها الدعوة أو الدلالة أو تحصيل العلم فيه والأولان باطلان لأنهما عامان لجميع المكلفين فوجب حمله على الوجه الثالث وذلك يقتضي بأن الهداية والإضلال من الله تعالى
وَكَذَالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَة َ الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَة ً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ
قوله تعالى وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا
اعلم أن في هذه الآية مسائل
المسألة الأولى الكاف في كَذالِكَ كاف التشبيه والمشبه به أي شيء هو وفيه وجوه أحدها أنه راجع إلى معنى يهدي أي كما أنعمنا عليكم بالهداية كذلك أنعمنا عليكم بأن جعلناكم أمة وسطاً وثانيها قول أبي مسلم تقريره كما هديناكم إلى قبلة هي أوسط القبل وكذلك جعلناكم أمة وسطاً وثالثها أنه عائد إلى ما تقدم من قوله في حق إبراهيم عليه السلام وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ( البقرة 130 ) أي فكما اصطفيناه في الدنيا فكذلك جعلناكم أمة وسطاً ورابعها يحتمل عندي أن يكون التقدير وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ( البقرة 115 ) فهذه الجهات بعد استوائها في كونها ملكاً لله وملكاً له خص بعضها بمزيد التشريف والتكريم بأن جعله قبلة فضلاً منه وإحساناً فكذلك العباد كلهم مشتركون في العبودية إلا أنه خص هذه الأمة بمزيد الفضل والعبادة فضلاً منه وإحساناً لا وجوباً وخامسها أنه قد يذكر ضمير الشيء وإن لم يكن المضمر مذكوراً إذا كان المضمر مشهوراً معروفاً كقوله تعالى إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَة ِ الْقَدْرِ ( القدر 1 ) ثم من المشهور المعروف عند كل أحد أنه سبحانه هو القادر على إعزاز من شاء وإذلال من شاء فقوله وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أي ومثل ذلك الجعل العجيب الذي لا يقدر عليه أحد سواه جعلناكم أمة وسطاً
المسألة الثانية اعلم أنه إذا كان الوسط اسماً حركت الوسط كقوله أُمَّة ً وَسَطًا والظرف مخفف تقول جلست وسط القوم واختلفوا في تفسير الوسط وذكروا أمور أحدها أن الوسط هو العدل

والدليل عليه الآية والخبر والشعر والنقل والمعنى أما الآية فقوله تعالى قَالَ أَوْسَطُهُمْ ( القلم 28 ) أي أعدلهم وأما الخبر فما روى القفال عن الثوري عن أبي سعيد الخدري عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( أمة وسطاً قال عدلاً ) وقال عليه الصلاة والسلام ( خير الأمور أوسطها ) أي أعدلها وقيل كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أوسط قريش نسباً وقال عليه الصلاة والسلام ( عليكم بالنمط الأوسط ) وأما الشعر فقول زهير هم وسط يرضى الأنام بحكمهم
إذا نزلت إحدى الليالي العظائم
وأما النقل فقال الجوهري في ( الصحاح ) وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا أي عدلاً وهو الذي قاله الأخفش والخليل وقطرب وأما المعنى فمن وجوه أحدها أن الوسط حقيقة في البعد عن الطرفين ولا شك أن طرفي الإفراط والتفريط رديئان فالمتوسط في الأخلاق يكون بعيداً عن الطرفين فكان معتدلاً فاضلاً وثانيها إنما سمي العدل وسطاً لأنه لا يميل إلى أحد الخصمين والعدل هو المعتدل الذي لا يميل إلى أحد الطرفين وثالثها لا شك أن المراد بقوله وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا طريقة المدح لهم لأنه لا يجوز أن يذكر الله تعالى وصفاً ويجعله كالعلة في أن جعلهم شهوداً له ثم يعطف على ذلك شهادة الرسول إلا وذلك مدح فثبت أن المراد بقوله ( وسطاً ) ما يتعلق بالمدح في باب الدين ولا يجوز أن يمدح الله الشهود حال حكمه عليهم بكونهم شهوداً إلا بكونهم عدولاً فوجب أن يكون المراد في الوسط العدالة ورابعها أن أعدل بقاع الشيء وسطه لأن حكمه مع سائر أطرافه على سواء وعلى اعتدال والأطراف يتسارع إليها الخلل والفساد والأوسط محمية محوطة فلما صح ذلك في الوسط صار كأنه عبارة عن المعتدل الذي لا يميل إلى جهة دون جهة
القول الثاني أن الوسط من كل شيء خياره قالوا وهذا التفسير أولى من الأول لوجوه الأول أن لفظ الوسط يستعمل في الجمادات قال صاحب ( الكشاف ) اكتريت جملاً من أعرابي بمكة للحج فقال أعطى من سطا تهنة أراد من خيار الدنانير ووصف العدالة لا يوجد في الجمادات فكان هذا التفسير أولى الثاني أنه مطابق لقوله تعالى كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة ٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ( آل عمران 110 )
القول الثالث أن الرجل إذا قال فلان أوسطنا نسباً فالمعنى أنه أكثر فضلاً وهذا وسط فيهم كواسطة القلادة وأصل هذا أن الاتباع يحوشون الرئيس فهو في وسطهم وهم حوله فقيل وسط لهذا المعنى
القول الرابع يجوز أن يكونوا وسطاً على معنى أنهم متوسطون في الدين بين المفرط والمفرط والغالي والمقصر في الأشياء لأنهم لم يغلوا كما غلت النصارى فجعلوا ابناً وإلهاً ولا قصروا كتقصير اليهود في قتل الأنبياء وتبديل الكتب وغير ذلك مما قصروا فيه
واعلم أن هذه الأقوال متقاربة غير متنافية والله أعلم
المسألة الثالثة احتج الأصحاب بهذه الآية على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى لأن هذه الآية دالة على أن عدالة هذه الأمة وخيريتهم بجعل الله وخلقه وهذا صريح في المذهب قالت المعتزلة المراد من هذا الجعل فعل الألطاف التي علم الله تعالى أنه متى فعلها لهذه الأمة اختاروا عندها الصواب في القول والعمل أجاب الأصحاب عنه من وجوه الأول أن هذا ترك للظاهر وذلك مما لا يصار إليه إلا عند قيام الدلائل

على أنه لا يمكن حمل الآية على ظاهرها لكنا قد بينا أن الدلائل العقلية الباهرة ليست إلا معنا أقصى ما للمعتزلة في هذا الباب التمسك بفصل المدح والذم والثواب والعقاب وقد بينا مراراً كثيرة أن هذه الطريقة منتقضة على أصولهم بمسألة العلم ومسألة الداعي والكلام المنقوض لا التفات إليه ألبتة الوجه الثاني أنه تعالى قال قبل هذه الآية يَهْدِى مَن يَشَآء إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( البقرة 142 ) وقد بينا دلالة هذه الآية على قولنا في أنه تعالى يخص البعض بالهداية دون البعض فهذه الآية يجب أن تكون محمولة على ذلك لتكون كل واحدة منهما مؤكدة لمضمون الأخرى الوجه الثالث أن كل ما في مقدور الله تعالى من الألطاف في حق الكل فقد فعله وإذا كان كذلك لم يكن لتخصيص المؤمنين بهذا المعنى فائدة الوجه الرابع وهو أن الله تعالى ذكر ذلك في معرض الامتنان على هذه الأمة وفعل اللطف واجب والواجب لا يجوز ذكره في معرض الامتنان
المسألة الرابعة احتج جمهور الأصحاب وجمهور المعتزلة بهذه الآية على أن إجماع الأمة حجة فقالوا أخبر الله تعالى عن عدالة هذه الأمة وعن خيريتهم فلو أقاموا على شيء من المحظورات لما اتصفوا بالخيرية وإذا ثبت أنهم لا يقدمون على شيء من المحظورات وجب أن يكون قولهم حجة فإن قيل الآية متروكة الظاهر لأن وصف الأمة بالعدالة يقتضي اتصاف كل واحد منهم بها وخلاف ذلك معلوم بالضرورة فلا بد من حملها على البعض فنحن نحملها على الأئمة المعصومين سلمنا أنها ليست متروكة الظاهرة لكن لا نسلم أن الوسط من كل شيء خياره والوجوه التي ذكرتموها معارضة بوجهين الأول أن عدالة الرجل عبارة عن أداء الواجبات واجتناب المحرمات وهذا من فعل العبد وقد أخبر الله تعالى أن جعلهم وسطاً فاقتضى ذلك أن كونهم وسطاً من فعل الله تعالى وذلك يقتضي أن يكون كونهم وسطاً غير كونهم عدولاً وإلا لزم وقوع مقدور واحد بقادرين وهو محال الثاني أن الوسط اسم لما يكون متوسطاً بين شيئين فجعله حقيقة في العدالة والخيرية يقتضي الاشتراك وهو خلال الأصل سلمنا اتصافهم بالخيرية ولكن لم لا يكفي في حصول هذا الوصف الاجتناب عن الكبائر فقط وإذا كان كذلك احتمل أن الذي اجمعوا عليه وإن كان خطأ لكنه من الصغائر فلا يقدح ذلك في خيريتهم ومما يؤكد هذا الاحتمال أنه تعالى حكم بكونهم عدولاً ليكونوا شهداء على الناس وفعل الصغائر لا يمنع الشهادة سلمنا اجتنابهم عن الصغائر والكبائر ولكن الله تعالى بين أن اتصافهم بذلك إنما كان لكونهم شهداء على الناس معلوم أن هذه الشهادة إنما تتحقق في الآخرة فيلزم وجوب تحقق عدالتهم هناك لأن عدالة الشهود إنما تعتبر حالة الأداء لا حالة التحمل وذلك لا نزاع فيه لأن الأمة تصير معصومة في الآخرة فلم قلت إنهم في الدنيا كذلك سلمنا وجوب كونهم عدولاً في الدنيا لكن المخاطبين بهذا الخطاب هم الذين كانوا موجودين عند نزول هذه الآية لأن الخطاب مع من لم يوجد محال وإذا كان كذلك فهذه الآية تقتضي عدالة أولئك الذين كانوا موجودين في ذلك الوقت ولا تقتضي عدالة غيرهم فهذه الآية تدل على أن إجماع أولئك حق فيجب أن لا نتمسك بالإجماع إلا إذا علمنا حصول قول كل أولئك فيه لكن ذلك لا يمكن إلا إذا علمنا كل واحد من أولئك الأقوام بأعيانهم وعلمنا بقاء كل واحد منهم إلى ما بعد وفاة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وعلمنا حصول أقوالهم بأسرهم في ذلك الإجماع ولما كان ذلك كالمتعذر امتنع التمسك بالإجماع

والجواب عن قوله الآية متروكة الظاهر قلنا لا نسلم فإن قوله وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا يقتضي أنه تعالى جعل كل واحد منهم عند اجتماعه مع غيره بهذه الصفة وعندنا أنهم في كل أمر اجتمعوا عليه فإن كل واحد منهم يكون عدلاً في ذلك الأمر بل إذا اختلفوا فعند ذلك قد يفعلون القبيح وإنما قلنا إن هذا خطاب معهم حال الاجتماع لأن قوله جَعَلْنَاكُمْ خطاب لمجموعهم لا لكل واحد منهم وحده على أن وإن سلمنا أن هذا يقتضي كون كل واحد منهم عدلاً لكنا نقول ترك العمل به في حق البعض لدليل قام عليه فوجب أن يبقى معمولاً به في حق الباقي وهذا معنى ما قال العلماء ليس المراد من الآية أن كلهم كذلك بل المراد أنه لا بد وأن يوجد فيما بينهم من يكون بهذه الصفة فإذا كنا لا نعلم بأعيانهم افتقرنا إلى اجتماع جماعتهم على القول والفعل لكي يدخل المعتبرون في جملتهم مثاله أن الرسول عليه الصلاة والسلام إذا قال إن واحداً من أولاد فلان لا بد وإن يكون مصيباً في الرأي والتدبير فإذا لم نعلمه بعينه ووجدنا أولاده مجتمعين على رأي علمناه حقاً لأنه لا بد وأن يوجد فيهم ذلك المحق فأما إذا اجتمعوا سوى الواحد على رأي لم نحكم بكونه حقاً لتجويز أن يكون الصواب مع ذلك الواحد الذي خالف ولهذا قال كثير من العلماء إنا لو ميزنا في الأمة من كان مصيباً عمن كان مخطئاً كانت الحجة قائمة في قول المصيب ولم نعتبر ألبتة بقول المخطىء قوله لو كان المراد من كونهم وسطاً هو المراد من عدالتهم لزم أن يكون فعل العبد خلقاً لله تعالى قلنا هذا مذهبنا على ما تقدم بيانه قوله لم قلتم أن إخبار الله تعالى عن عدالتهم وخيريتهم يقتضي اجتنابهم عن الصغائر قلنا خبر الله تعالى صدق والخبر الصدق يقتضي حصول المخبر عنه وفعل الصغيرة ليس بخير فالجمع بينهما متناقض ولقائل أن يقول الإخبار عن الشخص بأنه خير أعم من الإخبار عنه بأنه خير في جميع الأمور أو في بعض الأمور ولذلك فإنه يصح تقسيمه إلى هذين القسمين فيقال الخير إما أن يكون خيراً في بعض الأمور دون البعض أو في كل الأمور ومورد التقسيم مشترك بين القسمين فمن كان خيراً من بعض الوجوه دون البعض يصدق عليه أنه خير فإذن إخبار الله تعالى عن خيرية الأمة لا يقتضي إخباره تعالى عن خيريتهم في كل الأمور فثبت أن هذا لا ينافي إقدامهم على الكبائر فضلاً عن الصغائر وكنا قد نصرنا هذه الدلالة في أصول الفقه إلا أن هذا السؤال وارد عليها أما السؤال الآخر فقد أجيب عنه بأن قوله وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا خطاب لجميع الأمة أولها وآخرها من كان منهم موجوداً وقت نزول هذه الآية ومن جاء بعدهم إلى قيام الساعة كما أن قوله كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ ( البقرة 178 ) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ ( البقرة 183 ) يتناول الكل ولا يختص بالموجودين في ذلك الوقت وكذلك سائر تكاليف الله تعالى وأوامره وزواجره خطاب لجميع الأمة فإن قيل لو كان الأمر كذلك لكان هذا خطاباً لجميع من يوجد إلى قيام الساعة فإنما حكم لجماعتهم بالعدالة فمن أين حكمت لأهل كل عصر بالعدالة حتى جعلتهم حجة على من بعدهم قلنا لأنه تعالى لما جعلهم شهداء على الناس فلو اعتبرنا أول الأمة وآخرها بمجموعها في كونها حجة على غيرها لزالت الفائدة إذ لم يبق بعد انقضائها من تكون الأمة حجة عليه فعلمنا أن المراد به أهل كل عصر ويجوز تسمية أهل العصر الواحد بالأمة فإن الأمة اسم للجماعة التي تؤم جهة واحدة ولا شك أن أهل كل عصر كذلك ولأنه تعالى قال أُمَّة ً وَسَطًا فعبر عنهم بلفظ النكرة ولا شك أن هذا يتناول أهل كل عصر
المسألة الخامسة اختلف الناس في أن الشهادة المذكورة في قوله تعالى لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ

تحصل في الآخرة أو في الدنيا فالقول الأول إنها تقع في الآخرة والذاهبون إلى هذا القول لهم وجهان الأول وهو الذي عليه الأكثرون أن هذه الأمة تشهد للأنبياء على أنهم الذين يكذبونهم روي أن الأمم يجحدون تبليغ الأنبياء فيطالب الله تعالى الأنبياء بالبينة على أنهم قد بلغوا وهو أعلم فيؤتى بأمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) الله عليه وسلم فيشهدون فتقول الأمم من أين عرفتم فيقولون علمنا ذلك بإخبار الله تعالى في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق فيؤتى بمحمد عليه الصلاة والسلام فيسأل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد بعدالتهم وذلك قوله فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّة ٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً ( النساء 41 ) وقد طعن القاضي في هذه الرواية من وجوه
أولها أن مدار هذه الرواية عن أن الأمم يكذبون أنبياءهم وهذا بناء على أن أهل القيامة قد يكذبون وهذا باطل عند القاضي إلا أنا سنتكلم على هذه المسألة في سورة الأنعام في تفسير قوله تعالى ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ( الأنعام 23 24 )
وثانيها أن شهادة الأمة وشهادة الرسول مستندة في الآخرة إلى شهادة الله تعالى على صدق الأنبياء وإذا كان كذلك فلم لم يشهد الله تعالى لهم بذلك ابتداء وجوابه الحكمة في ذلك تمييز أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في الفضل عن سائر الأمم بالمبادرة إلى تصديق الله تعالى وتصديق جميع الأنبياء والإيمان بهم جميعاً فهم بالنسبة إلى سائر الأمم كالعدل بالنسبة إلى الفاسق فلذلك يقبل الله شهادتهم على سائر الأمم ولا يقبل شهادة الأمم عليهم إظهاراً لعدالتهم وكشفاً عن فضيلتهم ومنقبتهم
وثالثها أن مثل هذه الأخبار لا تسمى شهادة وهذا ضعيف لقوله عليه الصلاة والسلام ( إذا علمت مثل الشمس فاشهد ) والشيء الذي أخبر الله تعالى عنه فهو معلوم مثل الشمس فوجب جواز الشهادة عليه
الوجه الثاني قالوا معنى الآية لتشهدوا على الناس بأعمالهم التي خالفوا الحق فيها قال ابن زيد الأشهاد أربعة أولها الملائكة الموكلون بإثبات أعمال العباد قال تعالى وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ( ق 21 ) وقال مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ( ق 18 ) وقال وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ( الإنفطار 10 12 ) وثانيها شهادة الأنبياء وهو المراد بقوله حاكياً عن عيسى عليه السلام وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلّ شَى ْء شَهِيدٌ ( المائدة 117 ) وقال في حق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وأمته في هذه الآية لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وقال فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّة ٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً ( النساء 41 ) وثالثها شهادة أمة محمد خاصة قال تعالى وَجِىء بِالنَّبِيّيْنَ وَالشُّهَدَاء ( الز ( مر 69 ) وقال تعالى وَيَوْمَ يَقُومُ الاْشْهَادُ ( غافر 51 ) ورابعها شهادة الجوارح وهي بمنزلة الإقرار بل أعجب منه قال تعالى يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ ( النور 24 ) الآية وقال الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْواهِهِمْ ( يس 65 ) الآية القول الثاني أن أداء هذه الشهادة إنما يكون في الدنيا وتقريره أن الشهادة والمشاهدة والشهود هو

الرؤية يقال شاهدت كذا إذا رأيته وأبصرته ولما كان بين الإبصار بالعين وبين المعرفة بالقلب مناسبة شديدة لا جرم قد تسمى المعرفة التي في القلب مشاهدة وشهوداً والعارف بالشيء شاهداً ومشاهداً ثم سميت الدلالة على الشيء شاهداً على الشيء لأنها هي التي بها صار الشاهد شاهداً ولما كان المخبر عن الشيء والمبين لحاله جارياً مجرى الدليل على ذلك سمي ذلك المخبر أيضاً شاهداً ثم اختص هذا اللفظ في عرف الشرع بمن يخبر عن حقوق الناس بألفاظ مخصوصة على جهات مخصوصة إذا عرفت هذا فنقول إن كل من عرف حال شيء وكشف عنه كان شاهداً عليه والله تعالى وصف هذه الأمة بالشهادة فهذه الشهادة إما أن تكون في الآخرة أو في الدنيا لا جائز أن تكون في الآخرة لأن الله تعالى جعلهم عدولاً في الدنيا لأجل أن يكونوا شهداء وذلك يقتضي أن يكونوا شهداء في الدنيا إنما قلنا إنه تعالى جعلهم عدولاً في الدنيا لأنه تعالى قال وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وهذا إخبار عن الماضي فلا أقل من حصوله في الحال وإنما قلنا إن ذلك يقتضي صيرورتهم شهوداً في الدنيا لأنه تعالى قال وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ رتب كونهم شهداء على صيرورتهم وسطاً ترتيب الجزاء على الشرط فإذا حصل وصف كونهم وسطاً في الدنيا وجب أن يحصل وصف كونهم شهداء في الدنيا فإن قيل تحمل الشهادة لا يحصل إلا في الدنيا ومتحمل الشهادة قد يسمى شاهداً وإن كان الأداء لا يحصل إلا في القيامة قلنا الشهادة المعتبرة في الآية لا التحمل بدليل أنه تعالى اعتبر العدالة في هذه الشهادة والشهادة التي يعتبر فيها العدالة هي الأداء لا التحمل فثبت أن الآية تقتضي كون الأمة مؤدين للشهادة في دار الدنيا وذلك يقتضي أن يكون مجموع الأمة إذا أخبروا عن شيء أن يكون قولهم حجة ولا معنى لقولنا الإجماع حجة إلا هذا فثبت أن الآية تدل على أن الإجماع حجة من هذا الوجه أيضاً واعلم أن الدليل الذي ذكرناه على صحة هذا القول لا يبطل القولين الأولين لأنا بينا بهذه الدلالة أن الأمة لا بد وأن يكونوا شهوداً في الدنيا وهذا لا ينافي كونهم شهوداً في القيامة أيضاً على الوجه الذي وردت الأخبار به فالحاصل أن قوله تعالى لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ إشارة إلى أن قولهم عند الإجماع حجة من حيث أن قولهم عند الإجماع يبين للناس الحق ويؤكد ذلك قوله تعالى وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا يعني مؤدياً ومبيناً ثم لا يمتنع أن تحصل مع ذلك لهم الشهادة في الآخرة فيجري الواقع منهم في الدنيا مجرى التحمل لأنهم إذا أثبتوا الحق عرفوا عنده من القابل ومن الراد ثم يشهدون بذلك يوم القيامة كما أن الشاهد على العقود يعرف ما الذي تم وما الذي لم يتم ثم يشهد بذلك عند الحاكم
المسألة السادسة دلت الآية على أن من ظهر كفره وفسقه نحو المشبهة والخوارج والروافض فإنه لا يعتد به في الإجماع لأن الله تعالى إنما جعل الشهداء من وصفهم بالعدالة والخيرية ولا يختلف في ذلك الحكم من فسق أو كفر بقوله أو فعل ومن كفر برد النص أو كفر بالتأويل
المسألة السابعة إنما قال شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ ولم يقل شهداء للناس لأن قولهم يقتضي التكليف إما بقول وإما بفعل وذلك عليه لا له في الحال فإن قيل لم أخرت صلة الشهادة أولاً وقدمت آخراً قلنا لأن الغرض في الأول إثبات شهادتهم على الأمم وفي الآخر الاختصاص بكون الرسول شهيداً عليهم

قوله تعالى وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَة َ الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَة ً إِلاَّ
اعلم أن قوله وَمَا جَعَلْنَا معناه ما شرعنا وما حكمنا كقوله مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَة ٍ ( المائدة 103 ) أي ما شرعها ولا جعلها ديناً وقوله كُنتَ عَلَيْهَا أي كنت معتقداً لاستقبالها كقول القائل كان لفلان على فلان دين وقوله كُنتَ عَلَيْهَا ليس بصفة للقبلة إنما هو ثاني مفعولي جعل يريد وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَة َ الجهة التي كنت عليها ثم ههنا وجهان الأول أن يكون هذا الكلام بياناً للحكمة في جعل القبلة وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي بمكة إلى الكعبة ثم أمر بالصلاة إلى بيت المقدس بعد الهجرة تأليفاً لليهود ثم حول إلى الكعبة فنقول وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَة َ الجهة الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَا أولاً يعني وما رددناك إليها إلا امتحاناً للناس وابتلاء الثاني يجوز أن يكون قوله الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَا لساناً للحكمة في جعل بيت المقدس قبلة يعني إن أصل أمرك أن تسقبل الكعبة وأن استقبالك بيت المقدس كان أمراً عارضاً لغرض وإنما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها قبل وقتك هذا وهي بيت المقدس لنمتحن الناس وننظر من يتبع الرسول ومن لا يتبعه وينفر عنه وههنا وجه ثالث ذكره أبو مسلم فقال لولا الروايات لم تدل الآية على قبلة من قبل الرسول عليه الصلاة والسلام عليها لأنه قد يقال كنت بمعنى صرت كقوله تعالى كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة ٍ ( آل عمران 110 ) وقد يقال كان في معنى لم يزل كقوله تعالى وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ( النساء 158 ) فلا يمتنع أن يراد بقوله وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَة َ الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَا أي التي لم تزل عليها وهي الكعبة إلا كذا وكذا
أما قوله إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ففيه مسائل
المسألة الأولى اللام في قوله إِلاَّ لِنَعْلَمَ لام الغرض والكلام في أنه هل يصح الغرض على الله أو لا يصح وبتقدير أن لا يصح فكيف تأويل هذا الكلام فقد تقدم
المسألة الثانية وما جعلنا كذا وكذا إلا لنعلم كذا يوهم أن العلم بذلك الشيء لم يكن حاصلاً فهو فعل ذلك الفعل ليحصل له ذلك العلم وهذا يقتضي أن الله تعالى لم يعلم تلك الأشياء قبل وقوعها ونظيره في الإشكال قوله وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ ( محمد 31 ) وقوله الئَانَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً ( الأنفال 66 ) وقوله لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ( طه 44 ) وقوله فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ ( العنكبوت 3 ) وقوله أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّة َ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ( آل عمران 142 ) وقوله وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مّن سُلْطَانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالاْخِرَة ِ ( سبأ 21 ) والكلام في هذه المسألة أمر مستقصى في قوله وَإِذِ ابْتَلَى والمفسرون أجابوا عنه من وجوه

أحدها أن قوله إِلاَّ لِنَعْلَمَ معناه إلا ليعلم حزبنا من النبيين والمؤمنين كما يقول الملك فتحنا البلدة الفلانية بمعنى فتحها أولياؤنا ومنه يقال فتح عمر السواد ومنه قول عليه الصلاة والسلام فيما يحكيه عن ربه ( استقرضت عبدي فلم يقرضني وشتمني ولم يكن ينبغي له أن يشتمني يقول وادهراه وأنا الدهر ) وفي الحديث ( من أهان لي ولياً فقد أهانني ) وثانيها معناه ليحصل المعدوم فيصير موجوداً فقوله إِلاَّ لِنَعْلَمَ معناه إلا لنعلمه موجوداً فإن قيل فهذا يقتضي حدوث العلم قلنا اختلفوا في أن العلم بأن الشيء سيوجد هل هو علم بوجوده إذا وجد الخلاف فيه مشهور وثالثها إلا لنميز هؤلاء من هؤلاء بانكشاف ما في قلوبهم من الإخلاص والنفاق فيعلم المؤمنون من يوالون منهم ومن يعادون فسمي التمييز علماً لأنه أحد فوائد العلم وثمراته ورابعها إِلاَّ لِنَعْلَمَ معناه إلا لنرى ومجاز هذا أن العرب تضع العلم مكان الرؤية والرؤية مكان العلم كقوله أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ( الفجر 6 ) ( الفيل 1 ) ( إبراهيم 19 ) ورأيت وعلمت وشهدت ألفاظ متعاقبة وخامسها ما ذهب إليه الفراء وهو أن حدوث العلم في هذه الآية راجع إلى المخاطبين ومثاله أن جاهلاً وعاقلاً اجتمعا فيقول الجاهل الحطب يحرق النار ويقول العاقل بل النار تحرق الحطب وسنجمع بينهما لنعلم أيهما يحرق صاحبه معناه لنعلم أينا الجاهل فكذلك قوله إِلاَّ لِنَعْلَمَ إلا لتعلموا والغرض من هذا الجنس من الكلام الاستمالة والرفق في الخطاب كقوله وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى ( سبأ 24 ) فأضاف الكلام الموهم للشك إلى نفسه ترقيقاً للخطاب ورفقاً بالمخاطب فكذا قوله إِلاَّ لِنَعْلَمَ وسادسها نعاملكم معاملة المختبر الذي كأنه لا يعلم إذ العدل يوجب ذلك وسابعها أن العلم صلة زائدة فقوله إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ معناه إلا ليحصل اتباع المتبعين وانقلاب المنقلبين ونظيره قولك في الشيء الذي تنفيه عن نفسك ما علم الله هذا مني أي ما كان هذا مني والمعنى أنه لو كان لعلمه الله
المسألة الثالثة اختلفوا في أن هذه المحنة حصلت بسبب تعيين القبلة أو بسبب تحويلها فمن الناس من قال إنما حصلت بسبب تعيين القبلة لأنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي إلى الكعبة فلما جاء المدينة صلى إلى بيت المقدس فشق ذلك على العرب من حيث إنه ترك قبلتهم ثم إنه لما حوله مرة أخرى إلى الكعبة شق ذلك على اليهود من حيث إنه ترك قبلتهم وأما الأكثرون من أهل التحقيق قالوا هذه المحنة إنما حصلت بسبب التحويل فإنهم قالوا إن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) لو كان على يقين من أمره لما تغير رأيه روى القفال عن ابن جريح أنه قال بلغني أنه رجع ناس ممن أسلم وقالوا مرة ههنا ومرة ههنا وقال السدي لما توجه النبي عليه الصلاة والسلام نحو المسجد الحرام اختلف الناس فقال المنافقون ما بالهم كانوا على قبلة ثم تركوها وقال المسلمون لسنا نعلم حال إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون نحو بيت المقدس وقال آخرون اشتاق إلى بلد أبيه ومولده وقال المشركون تحير في دينه

واعلم أن هذا القول الأخير أولى لأن الشبهة في أمر النسخ أعظم من الشبهة الحاصلة بسبب تعيين القبلة وقد وصفها الله تعالى بالكبيرة فقال وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَة ً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فكان حمله عليه أولى
المسألة الرابعة قوله مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ استعارة ومعناه من يكفر بالله ورسوله ووجه الاستعارة أن المنقلب على عقبيه قد ترك ما بين يديه وأدبر عنه فلما تركوا الإيمان والدلائل صاروا بمنزلة المدبر عما بين يديه فوصفوا بذلك كما قال تعالى ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ ( المدثر 23 ) وكما قال كَذَّبَ وَتَوَلَّى ( طه 48 ) وكل ذلك تشبيه
أما قوله تعالى وَإِن كَانَتْ ففيه مسائل
المسألة الأولى ( إن ) المكسورة الخفيفة معناها على أربعة أوجه جزاء ومخففة من الثقيلة وجحد وزائدة أما الجزاء فهي تفيد ربط إحدى الجملتين بالأخرى فالمستلزم هو الشرط واللازم هو الجزاء كقولك إن جئتني أكرمتك وأما الثانية وهي المخففة من الثقيلة فهي تفيد توكيد المعنى في الجملة بمنزلة ءانٍ المشددة كقولك إن زيداً لقائم قال الله تعالى إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ( الطارق 4 ) وقال إِن كَانَ وَعْدُ رَبّنَا لَمَفْعُولاً ( الإسراء 108 ) ومثله في القرآن كثير والغرض في تخفيفها إيلاؤها ما لم يجز أن يليها من الفعل وإنما لزمت اللام هذه المخففة للعوض عما حذف منها والفرق بينها وبين التي للجحد في قوله تعالى إِنِ الْكَافِرُونَ إِلاَّ فِى غُرُورٍ ( الملك 20 ) وقوله إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَى َّ ( الأحقاف 9 ) إذ كانت كل واحدة منهما يليها الإسم والفعل جميعاً كما وصفنا وأما الثالثة وهي التي للجحد كقوله إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ ( الأنعام 57 ) وقال إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ ( الأنعام 148 ) وقال وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا ( فاطر 41 ) أي ما يمسكهما وأما الرابعة وهي الزائدة فكقولك ما إن رأيت زيداً
إذا عرفت هذا فنقول ءانٍ في قوله وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَة ً ( البقرة 143 ) هي المخففة التي تلزمها اللام والغرض منها توكيد المعنى في الجملة
المسألة الثانية الضمير في قوله كَانَتْ إلى أي شيء يعود فيه وجهان
الأول أنه يعود إلى القبلة لأنه لا بد له من مذكور سابق وما ذاك إلا القبلة في قوله وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَة َ الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَا ( البقرة 143 ) الثاني أنه عائد إلى ما دل عليه الكلام السابق وهي مفارقة القبلة والتأنيث للتولية لأنه قال مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُواْ عَلَيْهَا ثم قال عطفاً على هذا وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَة ً أي وإن كانت التولية لأن قوله وَمَا وَلَّاهُمْ يدل على التولية كما قيل في قوله تعالى وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ( الأنعام 121 ) ويحتمل أن يكون المعنى وإن كانت هذه الفعلة نظيره قوله فيها ونعمت واعلم أن هذا البحث متفرع على المسألة التي قدمناها وهي أن الامتحان والابتلاء حصل بنفس القبلة أو بتحويل القبلة وقد بينا أن الثاني أولى لأن الإشكال الحاصل بسبب النسخ أقوى من الإشكال الحاصل بسبب تلك الجهات ولهذا وصفه الله تعالى بالكبيرة في قوله وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَة ً
أما قوله تعالى لَكَبِيرَة ٌ فالمعنى لثقيلة شاقة مستنكرة كقوله كَبُرَتْ كَلِمَة ً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ

( الكهف 5 ) أي عظمت الفرية بذلك وقال الله تعالى سُبْحَانَكَ هَاذَا عَذَابٌ عظِيمٌ ( النور 16 ) وقال إِنَّ ذالِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً ( الأحزاب 53 ) ثم إنا إن قلنا الامتحان وقع بنفس القبلة قلنا إن تركها ثقيل عليهم لأن ذلك يقتضي ترك الألف والعادة والإعراض عن طريقة الآباء والأسلاف وإن قلنا الامتحان وقع بتحريف القبلة قلنا إنها لثقيلة من حيث أن الإنسان لا يمكنه أن يعرف أن ذلك حق إلا بعد أن عرف مسألة النسخ وتخلص عما فيها من السؤالات وذلك أمر ثقيل صعب إلا على من هداه الله تعالى حتى عرف أنه لا يستنكر نقل القبلة من جهة إلى جهة كما لا يستنكر نقلة إياهم من حال إلى حال في الصحة والسقم والغنى والفقر فمن اهتدى لهذا النظر ازداد بصره ومن سفه واتبع الهوى وظواهر الأمور ثقلت عليه هذه المسألة
أما قوله إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فاحتج الأصحاب بهذه الآية في مسألة خلق الأعمال فقالوا المراد من الهداية إما الدعوة أو وضع الدلالة أو خلق المعرفة والوجهان الأولان ههنا باطلان وذلك لأنه تعالى حكم بكونها ثقيلة على الكل إلا على الذين هدى الله فوجب أن يقال إن الذي هداه الله لا يثقل ذلك عليه والهداية بمعنى الدعوة ووضع الدلائل عامة في حق الكل فوجب أن لا يثقل ذلك على أحد من الكفار فلما ثقل عليهم علمنا أن المراد من الهداية ههنا خلق المعرفة والعلم وهو المطلوب قالت المعتزلة الجواب عنه من ثلاثة أوجه أحدها أن الله تعالى ذكرهم على طريق المدح فخصهم بذلك وثانيها أراد به الاهتداء وثالثها أنهم الذين انتفعوا بهدى الله فغيرهم كأنه لم يعتد بهم
والجواب عن الكل أنه ترك للظاهر فيكون على خلاف الأصل والله أعلم
أما قوله تعالى وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ففيه مسائل
المسألة الأولى أن رجالاً من المسلمين كأبي أمامة وسعد بن زرارة والبراء بن عازب والبراء بن معرور وغيرهم ماتوا على القبلة الأولى فقال عشائرهم يا رسول الله توفى إخواننا على القبلة الأولى فكيف حالهم فأنزل الله تعالى هذه الآية
واعلم أنه لا بد من هذا السبب وإلا لم يتصل بعض الكلام ببعض ووجه تقرير الإشكال أن الذين لم يجوزوا النسخ إلا مع البداء يقولون إنه لما تغير الحكم وجب أن يكون الحكم مفسدة وباطلاً فوقع في قلبهم بناء على هذا السؤال أن تلك الصلوات التي أتوا بها متوجهين إلى بيت المقدس كانت ضائعة ثم إن الله تعالى أجاب عن هذا الإشكال وبين أن النسخ نقل من مصلحة إلى مصلحة ومن تكليف إلى تكليف والأول كالثاني في أن القائم به متمسك بالدين وأن من هذا حاله فإنه لا يضيع أجره ونظيره ما سألوا بعد تحريم الخمر عمن مات وكان يشربها فأنزل الله تعالى لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ ( المائدة 93 ) فعرفهم الله تعالى أنه لا جناح عليهم فيما مضى لما كان ذلك بإباحة الله تعالى فإن قيل إذا كان الشك إنما تولد من تجويز البداء على الله تعالى فكيف يليق ذلك بالصحابة قلنا الجواب من وجوه أحدها أن ذلك الشك وقع لمنافق فذكر الله تعالى ذلك ليذكره المسلمون جواباً لسؤال ذلك المنافق وثانيها لعلهم اعتقدوا أن الصلاة إلى الكعبة أفضل فقالوا ليت إخواننا ممن مات أدرك ذلك فذكر الله

تعالى هذا الكلام جواباً عن ذلك وثالثها لعله تعالى ذكر هذا الكلام ليكون دفعاً لذلك السؤال لو خطر ببالهم
القول الثاني وهو قول ابن زيد أن الله تعالى إذا علم أن الصلاح في نقلكم من بيت المقدس إلى الكعبة فلو أقركم على الصلاة إلى بيت المقدس كان ذلك إضاعة عنه لصلاتكم لأنها تكون على هذا التقدير خالية عن المصالح فتكون ضائعة والله تعالى لا يفعل ذلك
القول الثالث أنه تعالى لما ذكر ما عليهم من المشقة في هذا التحويل عقبه بذكر ما لهم عنده من الثواب وأنه لا يضيع ما عملوه وهذا قول الحسن
القول الرابع كأنه تعالى قال وفقتكم لقبول هذا التكليف لئلا يضيع إيمانكم فإنهم لو ردوا هذا التكليف لكفروا ولو كفروا لضاع إيمانهم فقال وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ فلا جرم وفقكم لقبول هذا التكليف وأعانكم عليه
المسألة الثانية اختلفوا في أن قوله وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ خطاب مع من على قولين الأول أنه مع المؤمنين وذكر القفال على هذا القول وجوهاً أربعة الأول أن الله خاطب به المؤمنين الذين كانوا موجودين حينئذ وذلك جواب عما سألوه من قبل الثاني أنهم سألوا عمن مات قبل نسخ القبلة فأجابهم الله تعالى بقوله وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ أي وإذا كان إيمانكم الماضي قبل النسخ لا يضيعه الله فكذلك إيمان من مات قبل النسخ الثالث يجوز أن يكون الأحياء قد توهموا أن ذلك لما نسخ بطل وكان ما يؤتى به بعد النسخ من الصلاة إلى الكعبة كفارة لما سلف واستغنوا عن السؤال عن أمر أنفسهم لهذا الضرب من التأويل فسألوا عن إخوانهم الذين ماتوا ولم يأتوا بما يكفر ما سلف فقيل وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ والمراد أهل ملتكم كقوله لليهود الحاضرين في زمان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا ( البقرة 72 ) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ ( البقرة 50 ) الرابع يجوز أن يكون السؤال واقعاً عن الأحياء والأموات معاً فإنهم اشفقوا على ما كان من صلاتهم أن يبطل ثوابهم وكان الإشفاق واقعاً في الفريقين فقيل إيمانكم للأحياء والأموات إذ من شأن العرب إذا أخبروا عن حاضر وغائب أن يغلبوا الخطاب فيقولوا كنت أنت وفلان الغائب فعلتما والله أعلم
القول الثاني قول أبي مسلم وهو أنه يحتمل أن يكون ذلك خطاباً لأهل الكتاب والمراد بالإيمان صلاتهم وطاعتهم قبل البعثة ثم نسخ وإنما اختار أبو مسلم هذا القول لئلا يلزمه وقوع النسخ في شرعنا
المسألة الثالثة استدلت المعتزلة بقوله وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ على أن الإيمان اسم لفعل الطاعات فإنه تعالى أراد بالإيمان ههنا الصلاة والجواب لا نسلم أن المراد من الإيمان ههنا الصلاة بل المراد منه التصديق والإقرار فكأنه تعالى قال أنه لا يضيع تصديقكم بوجوب تلك الصلاة سلمنا أن المراد من الإيمان ههنا الصلاة ولكن الصلاة أعظم الإيمان وأشرف نتائجه وفوائده فجاز إطلاق اسم الإيمان على الصلاة على سبيل الإستعارة من هذه الجهة
المسألة الرابعة قوله وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ أي لا يضيع ثواب إيمانكم لأن الإيمان قد

انقضى وفنى وما كان كذلك استحال حفظه وإضاعته إلا أن استحقاق الثواب قائم بعد انقضائه فصح حفظه وإضاعته وهو كقوله تعالى أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ ( آل عمران 195 )
أما قوله إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال القفال رحمه الله الفرق بين الرأفة والرحمة أن الرأفة مبالغة في رحمة خاصة وهي دفع المكروه وإزالة الضرر كقوله وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَة ٌ فِى دِينِ اللَّهِ ( النور 2 ) أي لا ترأفوا بهما فترفعوا الجلد عنهما وأما الرحمة فإنها اسم جامع يدخل فيه ذلك المعنى ويدخل فيه الإفضال والإنعام وقد سمى الله تعالى المطر رحمة فقال وَهُوَ الَّذِى يُرْسِلُ الرّيَاحَ بُشْرًاَ بَيْنَ يَدَى ْ رَحْمَتِهِ ( الأعراف 57 ) لأنه إفضال من الله وإنعام فذكر الله تعالى الرأفة أولاً بمعنى أنه لا يضيع أعمالهم ويخفف المحن عنهم ثم ذكر الرحمة لتكون أعم وأشمل ولا تختص رحمته بذلك النوع بل هو رحيم من حيث أنه دافع للمضار التي هي الرأفة وجالب للمنافع معاً
المسألة الثانية ذكروا في وجه تعلق هذين الاسمين بما قبلهما وجوهاً أحدها أنه تعالى لما أخبر أنه لا يضيع إيمانهم قال إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءوفٌ رَّحِيمٌ ( الحج 65 ) والرؤف الرحيم كيف يتصور منه هذه الإضاعة وثانيها أنه لرؤف رحيم فلذلك ينقلكم من شرع إلى شرع آخر وهو أصلح لكم وأنفع في الدين والدنيا وثالثها قال وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَة ً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فكأنه تعالى قال وإنما هداهم الله ولأنه رؤف رحيم
المسألة الثالثة قرأ عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم لَرَءوفٌ رَّحِيمٌ مهموزاً غير مشبع على وزن رعف والباقون رؤف مثقلاً مهموزاً مشبعاً على وزن رعوف وفيه أربع لغات رئف أيضاً كحزر ورأف على وزن فعل
المسألة الرابعة استدلت المعتزلة بهذه الآية على أنه تعالى لا يخلق الكفر ولا الفساد قالوا لأنه تعالى بين أنه بالناس لرؤف رحيم والكفار من الناس فوجب أن يكون رؤفاً رحيماً بهم وإنما يكون كذلك لو لم يخلق فيهم الكفر الذي يجرهم إلى العقاب الدائم والعذاب السرمدي ولو لم يكلفهم ما لا يطيقون فإنه تعالى لو كان مع مثل هذا الإضرار رؤفاً رحيماً فلعى أي طريق يتصور أن لا يكون رؤفاً رحيماً واعلم أن الكلام عليه قد تقدم مراراً والله أعلم
قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَآءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَة ً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ

اعلم أن قوله رَّحِيمٌ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فيه قولان
القول الأول وهو المشهور الذي عليه أكثر المفسرين أن ذلك كان لانتظار تحويله من بيت المقدس إلى الكعبة والقائلون بهذا القول ذكروا وجوهاً أحدها أنه كان يكره التوجه إلى بيت المقدس ويحب التوجه إلى الكعبة إلا أنه ما كان يتكلم بذلك فكان يقلب وجهه في السماء لهذا المعنى روى عن ابن عباس أنه قال ( يا جبريل وددت أن الله تعالى صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها فقد كرهتها ) فقال له جبريل ( أنا عبد مثلك فاسأل ربك ذلك ) فجعل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يديم النظر إلى السماء رجاء مجيء جبريل بما سأل فأنزل الله تعالى هذه الآية وهؤلاء ذكروا في سبب هذه المحنة أموراً الأول أن اليهود كانوا يقولون إنه يخالفنا ثم إنه يتبع قبلتنا ولولا نحن لم يدر أين يستقبل فعند ذلك كره أن يتوجه إلى قبلتهم الثاني أن الكعبة كانت قبلة إبراهيم الثالث أنه عليه السلام كان يقدر أن يصير ذلك سبباً لاستمالة العرب ولدخولهم في الإسلام الرابع أنه عليه السلام أحب أن يحصل هذا الشرف للمسجد الذي في بلدته ومنشئه لا في مسجد آخر واعترض القاضي على هذا الوجه وقال أنه لا يليق به عليه السلام أن يكره قبلة أمر أن يصلي إليها وأن يحب أن يحوله ربه عنها إلى قبلة يهواها بطبعه ويميل إليها بحسب شهوته لأنه عليه السلام علم وعلم أن الصلاح في خلاف الطبع والميل واعلم أن هذا التأويل قليل التحصيل لأن المستنكر من الرسول أن يعرض عما أمره الله تعالى به ويشتغل بما يدعوه طبعه إليه فأما أن يميل قلبه إلى شيء فيتمنى في قلبه أن يأذن الله له فيه فذلك مما لا إنكار عليه لا سيما إذا لم ينطق به أي بعد في أن يميل طبع الرسول إلى شيء فيتمنى في قلبه أن يأذن الله له فيه وهذا مما لا استبعاد فيه بوجه من الوجوه
الوجه الثاني أنه عليه السلام قد استأذن جبريل عليه السلام في أن يدعو الله تعالى بذلك فأخبره جبريل بأن الله قد أذن له في هذا الدعاء وذلك لأن الأنبياء لا يسألون الله تعالى شيئاً إلا بإذن منه لئلا يسألوا ما لا صلاح فيه فلا يجابوا إليه فيفضي ذلك إلى تحقير شأنهم فلما أذن الله تعالى له في الإجابة علم أنه يستجاب إليه فكان يقلب وجهه في السماء ينتظر مجيء جبريل عليه السلام بالوحي في الإجابة
الوجه الثالث قال الحسن إن جبريل عليه السلام أتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يخبره أن الله تعالى سيحول القبلة عن بيت المقدس إلى قبلة أخرى ولم يبين له إلى أي موضع يحولها ولم تكن قبلة أحب إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من الكعبة فكان رسول الله يقلب وجهه في السماء ينتظر الوحي لأنه عليه السلام علم أن الله تعالى لا يتركه بغير صلاة فأتاه جبريل عليه السلام فأمره أن يصل نحو الكعبة والقائلون بهذا الوجه اختلفوا فمنهم من قال إنه عليه السلام منع من استقبال بيت المقدس ولم يعين له القبلة فكان يخاف أن يرد وقت الصلاة ولم تظهر القبلة فتتأخر صلاته فلذلك كان يقلب وجهه عن الأصم وقال آخرون بل وعد بذلك وقبلة بيت المقدس باقية بحيث تجوز الصلاة إليها لكن لأجل الوعد كان يتوقع ذلك ولأنه كان يرجو عند التحويل عن بيت المقدس إلى الكعبة وجوهاً كثيرة من المصالح الدينية نحو رغبة العرب في الإسلام والمباينة عن اليهود وتمييز الموافق من المنافق فلهذا كان يقلب وجهه وهذا الوجه أولى وإلا لما كانت القبلة الثانية ناسخة للأولى بل كانت مبتدأة والمفسرة أجمعوا على أنها ناسخة للأولى ولأنه لا يجوز أن

يؤمر بالصلاة إلا مع بيان موضع التوجه الرابع أن تقلب وجهه في السماء هو الدعاء
القول الثاني وهو قول أبي مسلم الأصفهاني قالوا لولا الأخبار التي دلت على هذا القول وإلا فلفظ الآية يحتمل وجهاً آخر وهو أنه يحتمل أنه عليه السلام إنما كان يقلب وجهه في أول مقدمة المدينة فقد روي أنه عليه السلام كان إذا صلى بمكة جعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس وهذه صلاة إلى الكعبة فلما هاجر لم يعلم أين يتوجه فانتظر أمر الله تعالى حتى نزل قوله فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
المسألة الثانية اختلفوا في صلاته إلى بيت المقدس فقال قوم كان بمكة يصلي إلى الكعبة فلما صار إلى المدينة أمر بالتوجه إلى بيت المقدس سبعة عشر شهراً وقال قوم بل كان بمكة يصلي إلى بيت المقدس إلا أنه يجعل الكعبة بينه وبينها وقال قوم بل كان يصلي إلى بيت المقدس فقط وبالمدينة أولاً سبعة عشر شهراً ثم أمره الله تعالى بالتوجه إلى الكعبة لما فيه من الصلاح
المسألة الثالثة اختلفوا في توجه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى بيت المقدس هل كان فرضاً لا يجوز غيره أو كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مخيراً في توجهه إليه وإلى غيره فقال الربيع بن أنس قد كان مخيراً في ذلك وقال ابن عباس كان التوجه إليه فرضاً محققاً بلا تخيير
واعلم أنه على أي الوجهين كان قد صار منسوخاً واحتج الذاهبون إلى القول الأول بالقرآن والخبر أما القرآن فقوله تعالى وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ

وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ( البقرة 115 ) وذلك يقتضي كونه مخيراً في التوجه إلى أي جهة شاء وأما الخبر فما روى أبو بكر الرازي في كتاب ( أحكام القرآن ) أن نفراً قصدوا الرسول عليه الصلاة والسلام من المدينة إلى مكة للبيعة قبل الهجرة وكان فيهم البراء بن معرور فتوجه بصلاته إلى الكعبة في طريقه وأبى الآخرون وقالوا إنه عليه السلام يتوجه إلى بيت المقدس فلما قدموا مكة سألوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال له قد كنت على قبلة يعني بيت المقدس لو ثبت عليها أجزأك ولم يأمره باستئناف الصلاة فدل على أنهم قد كانوا مخيرين واحتج الذاهبون إلى القول الثاني بأنه تعالى قال فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَة ً تَرْضَاهَا فدل على أنه عليه السلام ما كان يرتضي القبلة الأولى فلو كان مخيراً بينها وبين الكعبة ما كان يتوجه إليها فحيث توجه إليها مع أنه كان ما يرتضيها علمنا أنه ما كان مخيراً بينها وبين الكعبة
المسألة الرابعة المشهور أن التوجه إلى بيت المقدس إنما صار منسوخاً بالأمر بالتوجه إلى الكعبة ومن الناس من قال التوجه إلى بيت المقدس صار منسوخاً بقوله تعالى وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ثم إن ذلك صار منسوخاً بقوله فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ واحتجوا عليه بالقرآن والأثر أما القرآن فهو أنه تعالى ذكر أولاً قوله وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ثم ذكر بعد سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُواْ عَلَيْهَا ( البقرة 142 ) ثم ذكر بعده فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وهذا الترتيب يقتضي صحة المذهب الذي قلناه بأن التوجه إلى بيت المقدس صار منسوخاً بقوله فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فلزم أن يكون قوله تعالى سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ متأخراً في النزول والدرجة عن قوله تعالى فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فحينئذ يكون تقديمه عليه في الترتيب على خلاف الأصل فثبت ما قلناه وأما الأثر فما روي عن ابن عباس أمر القبلة أول ما نسخ من القرآن والأمر بالتوجه إلى بيت المقدس غير مذكور في القرآن إنما المذكور في القرآن وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ فوجب أن يكون قوله فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ناسخاً لذلك لا للأمر بالتوجه إلى بيت المقدس
أما قوله فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَة ً تَرْضَاهَا ففيه مسائل
المسألة الأولى فَلَنُوَلّيَنَّكَ فلنعطينك ولنمكننك من استقبالها من قولك وليته كذا إذا جعلته والياً له أو فلنجعلنك تلي سمتها دون سميت بيت المقدس
المسألة الثانية قوله تَرْضَاهَا فيه وجوه أحدها ترضاها تحبها وتميل إليها لأن الكعبة كانت أحب إليه من غيرها بحسب ميل الطبع قال القاضي هذا لا يجوز فإنه من المحال أن يقول الله تعالى فلنولينك قبلة يميل طبعك إليها لأن ذلك يقدح في حكمته تعالى فيما يكلف ويقدح في حال النبي عليه الصلاة والسلام فيما يريده في حال التكليف وهذا الاعتراض ضعيف لأن الطعن إنما يتوجه لو قال الله تعالى أنا حولناك إلى القبلة التي مال طبعك إليها بمجرد ميل طبعك فأما لو قال أنا حولناك إلى القبلة التي مال طبعك إليها لأجل أن الحكمة والمصلحة وافقت ميل طبعك فأي ضرر يلزم منه وقال عليه الصلاة والسلام ( وجعلت قرة عيني في الصلاة ) فكان طبعه يميل إلى الصلاة مع أن المصلحة كانت موافقة لذلك وثانيها قِبْلَة ً تَرْضَاهَا أي تحبها بسبب اشتمالها على المصالح الدينية وثالثها قال الأصم أي كل جهة وجهك الله إليها فهي لك رضا لا يجوز أن تسخط كما فعل من انقلب على عقيبه من العرب الذين كانوا قد أسلموا فلما تحولت القبلة ارتدوا ورابعها تَرْضَاهَا أي ترضى عاقبتها لأنك تعرف بها من يتبعك للإسلام فمن يتبعك لغير ذلك من دنيا يصيبها أو مال يكتسبه
أما قوله تعالى فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ففيه مسائل
المسألة الأولى المراد من الوجه ههنا جملة بدن الإنسان لأن الواجب على الإنسان أن يستقبل القبلة بجملته لا بوجهه فقط والوجه يذكر ويراد به نفس الشيء لأن الوجه أشرف الأعضاء ولأن بالوجه تميز بعض الناس عن بعض فلهذا السبب قد يعبر عن كل الذات بالوجه
المسألة الثانية قال أهل اللغة الشطر اسم مشترك يقع على معنيين أحدهما النصف يقال شطرت الشيء أي جعلته نصفين ويقال في المثل أجلب جلباً لك شطره أي نصفه والثاني نحوه وتلقاءه وجهته واستشهد الشافعي رضي الله عنه في كتاب ( الرسالة ) على هذا بأبيات أربعة قال خقاف بن ندبة ألا من مبلغ عمراً رسولا
وما تغني الرسالة شطر عمرو
وقال ساعدة بن جؤبة أقول لأم زنباع أقيمي
صدور العيس شطر بني تميم
وقال لقيط الأيادي وقد أظلكم من شطر شعركم
هول له ظلم يغشاكم قطعا

وقال آخر إن العسير بها داء مخامرها
فشطرها بصر العينين مسحور
قال الشافعي رضي الله عنه يريد تلقاءها بصر العينين مسحور إذا عرفت هذا فنقول في الآية قولان
الأول وهو قول جمهور المفسرين من الصحابة والتابعين والمتأخرين واختيار الشافعي رضي الله عنه في كتاب الرسالة أن المراد جهة المسجد الحرام وتلقاءه وجانبه قرأ أبي بن كعب تلقاء المسجد الحرام
القول الثاني وهو قول الجبائي واختيار القاضي أن المراد من الشطر ههنا وسط المسجد ومنتصفه لأن الشطر هو النصف والكعبة واقعة من المسجد في النصف من جميع الجوانب فلما كان الواجب هو التوجه إلى الكعبة وكانت الكعبة واقعة في نصف المسجد حسن منه تعالى أن يقول فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ يعني النصف من كل جهة وكأنه عبارة عن بقعة الكعبة قال القاضي ويدل على أن المراد ما ذكرنا وجهان الأول أن المصلي خارج المسجد لو وقف بحيث يكون متوجهاً إلى المسجد ولكن لا يكون متوجهاً إلى منتصف المسجد الذي هو موضع الكعبة لا تصح صلاته الثاني أنا لو فسرنا الشطر بالجانب لم يبق لذكر الشطر مزيد فائدة لأنك إذا قلت فول وجهك شطر المسجد الحرام فقد حصلت الفائدة المطلوبة أما لو فسرنا الشطر بما ذكرناه كان لذكره فائدة زائدة فإنه لو قيل فول وجهك المسجد الحرام لا يفهم منه وجوب التوجه إلى منتصفه الذي هو موضع الكعبة فلما قيل فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حصلت هذه الفائدة الزائدة فكان حمل هذا اللفظ على هذا المحمل أولى فإن قيل لو حملنا الشطر على الجانب يبقى لذكر الشطر فائدة زائدة وهي أنه لو قال فول وجهك المسجد الحرام لزم تكليف ما لا يطاق لأن من في أقصى المشرق أو المغرب لا يمكنه أن يولي وجهه المسجد أما إذا قال فول وجهك شطر المسجد الحرام أي جانب المسجد دخل فيه الحاضرون والغائبون قلنا هذه الفائدة مستفادة من قوله مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ فلا يبقى لقوله شطر المسجد الحرام زيادة فائدة هذا تقرير هذا الوجه وفيه إشكال لأنه يصير التقدير فول وجهك نصف المسجد وهذا بعيد لأن هذا التكليف لا تعلق له بالنصف وفرق بين النصف وبين الموضع الذي عليه يقبل التنصيف والكلام إنما يستقيم لو حمل على الثاني إلا أن اللفظ لا يدل عليه وقد اختلفوا في أن المراد من المسجد الحرام أي شيء هو فحكي في كتاب ( شرح السنة ) عن ابن عباس أنه قال البيت قبلة لأهل المسجد والمسجد قبلة لأهل الحرم والحرم قبلة لأهل المشرق والمغرب وهذا قول مالك وقال آخرون القبلة هي الكعبة والدليل عليه ما أخرج في الصحيحين عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال أخبرني أسامة بن زيد قال لما دخل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل حتى خرج منه فلما خرج صلى ركعتين في قبل الكعبة وقال هذه القبلة قال القفال وقد وردت الأخبار الكثيرة في صرف القبلة إلى الكعبة وفي خبر البراء بن عازب ثم صرف إلى الكعبة وكان يحب أن يتوجه إلى الكعبة وفي خبر ابن عمر في صلاة أهل قباء فأتاهم آت فقال إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حول إلى الكعبة وفي رواية ثمامة بن عبد الله بن أنس جاء منادي رسول الله فنادى أن القبلة حولت إلى الكعبة وهكذا عامة الروايات وقال آخرون بل المراد المسجد الحرام كله قالوا لأن الكلام

يجب إجراؤه على ظاهر لفظه إلا إذا منع منه مانع وقال آخرون المراد من المسجد الحرام الحرم كله والدليل عليه قوله تعالى سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ( الإسراء 1 ) وهو عليه الصلاة والسلام إنما أسرى به خارج المسجد فدل هذا على أن الحرم كله مسمى بالمسجد الحرام
المسألة الثالثة قال صاحب التهذيب الجماعة إذا صلوا في المسجد الحرام يستحب أن يقف الإمام خلف المقام والقوم يقفون مستديرين بالبيت فإن كان بعضهم أقرب إلى البيت من الإمام جاز فلو امتد الصف في المسجد فإنه لا تصح صلاة من خرج عن محاذاة الكعبة وعند أبي حنيفة تصح لأن عنده الجهة كافية وهذا اختيار الشيخ الغزالي رحمه الله في كتاب الإحياء حجة الشافعي رضي الله عنه القرآن والخبر والقياس أما القرآن فهو ظاهر هذه الآية وذلك لأنا دللنا على أن المراد من شطر المسجد الحرام جانبه وجانب الشيء هو الذي يكون محاذياً له وواقعاً في سمته والدليل عليه أنه إنما يقال إن زيداً ولى وجهه إلى جانب عمرو ولو قابل بوجهه وجهه وجعله محاذياً له حتى أنه لو كان وجه كل واحد منهما إلى جانب المشرق إلا أنه لا يكون وجه أحدهما محاذياً لوجه الآخر لا يقال إنه ولى وجهه إلى جانب عمرو فثبت دلالة الآية على أن استقبال عين الكعبة واجب
وأما الخبر فما روينا أنه عليه الصلاة والسلام لما خرج من الكعبة ركع ركعتين في قبلة الكعبة وقال هذه القبلة وهذه الكلمة تفيد الحصر فثبت أنه لا قبلة إلا عين الكعبة وكذلك سائر الأخبار التي رويناها في أن القبلة هي الكعبة وأما القياس فهو أن مبالغة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في تعظيم الكعبة أمر بلغ مبلغ التواتر والصلاة من أعظم شعائر الدين وتوقيف صحتها على استقبال عين الكعبة بما يوجب حصول مزيد شرف الكعبة فوجب أن يكون مشورعاً ولأن كون الكعبة قبلة أمر معلوم وكون غيرها قبلة أمر مكشوك والأولى رعاية الاحتياط في الصلاة فوجب توقيف صحة الصلاة على استقبال الكعبة واحتج أبو حنيفة بأمور الأول ظاهر هذه الآية وذلك لأنه تعالى أوجب على المكلف أن يولي وجهه إلى جانبه فمن ولى وجهه إلى الجانب الذي حصلت الكعبة فيه فقد أتى بما أمر به سواء كان مستقبلاً للكعبة أم لا فوجب أن يخرج عن العهدة وأما الخبر فما روى أبو هريرة رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال ( ما بين المشرق والمغرب قبلة ) قال أصحاب الشافعي رحمه الله تعالى ليس المراد من هذا الحديث أن كل ما يصدق عليه أنه بين مشرق ومغرب فهو قبلة لأن جانب القطب الشمالي يصدق عليه ذلك وهو بالاتفاق ليس بقبلة بل المراد أن الشيء الذي هو بين مشرق معين ومغرب معين قبلة ونحن نحمل ذلك على الذي يكون بين المشرق الشتوي وبين المغرب الصيفي فإن ذلك قبلة وذلك لأن المشرق الشتوي جنوبي متباعد عن خط الاستواء بمقدار الميل والمغرب الصيفي شمالي متباعد عن خط الاستواء بمقدار الميل والذي بينهما هو سمت مكة قالوا فهذا الحديث بأن يدل على مذهبنا أولى منه بالدلالة على مذهبكم أما فعل الصحابة فمن وجهين الأول أن أهل مسجد قباء كانوا في صلاة الصبح بالمدينة مستقبلين لبيت المقدس مستدبرين للكعبة لأن المدينة بينهما فقيل لهم ألا إن القبلة قد حولت إلى الكعبة فاستداروا في أثناء الصلاة من غير طلب دلالة ولم ينكر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عليهم وسمي مسجدهم بذي القبلتين ومقابلة العين من المدينة إلى مكة لا تعرف إلا بأدلة هندسية يطول النظر فيها فكيف أدركوها على البديهة في أثناء الصلاة وفي ظلمة الليل الثاني أن الناس من عهد

رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بنوا المساجد في جميع بلاد الإسلام ولم يحضروا قط مهندساً عند تسوية المحراب ومقابلة العين لا تدرك إلا بدقيق نظر الهندسة
وأما القياس فمن وجوه الأول لو كان استقبال عين الكعبة واجباً إما علماً أو ظناً وجب أن لا تصح صلاة أحد قط لأنه إذا كان محاذاة الكعبة مقدار نيف وعشرين ذراعاً فمن المعلوم أن أهل المشرق والمغرب يستحيل أن يقفوا في محاذاة هذا المقدار بل المعلوم أن الذي يقع منهم في محاذاة هذا القدر القليل قليل بالنسبة إلى كثير ومعلوم أن العبرة في أحكام الشرع بالغالب والنادر ملحق به فوجب أن لا تصح صلاة أحد منهم لا سيما وذلك الذي وقع في محاذاة الكعبة لا يمكنه أن يعرف أنه وقع في محاذاتها وحيث اجتمعت الأمة على صحة صلاة الكل علمنا أن المحاذاة غير معتبرة فإن قيل الدائرة وإن كانت عظيمة إلا أن جميع النقط المفروضة عليها تكون محاذية لمركز الدائرة فالصفوف الواقعة في العالم بأسرها كأنها دائرة بالكعبة والكعبة كأنها نقطة لتلك الدائرة إلا أن الدائرة إذا صغرت صغر التقوس والانحناء في جميعها وإن اتسعت وعظمت لم يظهر التقوس والانحناء في كل واحد من قسميها بل نرى كل قطعة منها شبيهاً بالخط المستقيم فلا جرم صحت الجماعة بصف طويل في المشرق والمغرب يزيد طولها على أضعاف البيت والكل يسمون متوجهين إلى عين الكعبة قلنا هب أن الأمر على ما ذكرتموه ولكن القطعة من الدائرة العظيمة وإن كانت شبيهة بالخط المستقيم في الحس إلا أنها لا بد وأن تكون منحنية في نفسها لأنها لو كانت في نفسها مستقيمة وكذا القول في جميع قطع تلك الدائرة فحينئذ تكون الدائرة مركبة من خطوط مستقيمة يتصل بعضها ببعض فيلزم أن تكون الدائرة إما مضلعة أو خطأ مستقيماً وكل ذلك محال فعلمنا أن كل قطعة من الدائرة الكبيرة فهي في نفسها منحنية فالصفوف المتصلة في أطراف العالم إنما يكون كل واحد منهم مستقبلاً لعين الكعبة لو لم تكن تلك الصفوف واقعة على الخط المستقيم بل إذا حصل فيها ذلك الانحناء القليل إلا أن ذلك الانحناء القليل الذي لا يفي بإدراكه الحس البتة لا يمكن أن يكون في محل التكليف وإذا كان كذلك كان كل واحد من هؤلاء الصفوف جاهلاً بأنه هل هو مستقبل لعين الكعبة أم لا فلو كان استقبال عين الكعبة شرطاً لكان حصول هذا الشرط مجهولاً للكل والشك في حصول الشرط يقتضي الشك في حصول المشروط فوجب أن يبقى كل واحد من أهل هذه الصفوف شاكاً في صحة صلاته وذلك يقتضي أن لا يخرج عن العهدة البتة وحيث اجتمعت الأمة على أنه ليس كذلك علمنا أن استقبال العين ليس بشرط لا علماً ولا ظناً وهذا كلام بين الثاني أنه لو كان استقبال عين الكعبة واجباً ولا سبيل إليه إلا بالدلالة الهندسية وما لا يتأدى الواجب إلا به فهو واجب فكان يلزم أن يكون تعلم الدلالة الهندسية واجباً على كل أحد ولما لم يكن كذلك علمنا أن استقبال عين الكعبة غير واجب فإن قيل عندنا استقبال عين الجهة واجب ظناً لا يقيناً والمفتقر إلى الدلائل الهندسية هو الاستقبال يقيناً لا ظناً قلنا لو كان استقبال عين الكعبة واجباً لكان القادر على تحصيل اليقين لا يجوز له الاكتفاء بالظن والرجل قادر على تحصيل ذلك بواسطة تعلم الدلائل الهندسية فكان يجب عليه تعلم تلك الدلائل ولما لم يجب ذلك علمنا أن استقبال عين الكعبة واجب

الثالث لو كان استقبال العين واجباً إما علماً أو ظناً ومعلوم أنه لا سبيل إلى ذلك الظن إلا بنوع من أنواع الإمارات وما لا يتأدى الواجب إلا به فهو واجب فكان يلزم أن يكون تعلم تلك الامارات فرض عين على كل واحد من المكلفين ولما لم يكن كذلك علمنا أن استقبال العين غير واجب
المسألة الرابعة في دلائل القبلة اعلم أن الدلائل إما أرضية وهي الاستدلال بالجبال والقرى والأنهار أو هوائية وهي الاستدلال بالرياح أو سماوية وهي النجوم
أما الأرضية والهوائية غير مضبوطة ضبطاً كلياً فرب طريق فيه جبل مرتفع لا يعلم أنه على يمين المستقبل أو شماله أو قدامه أو خلفه فكذلك الرياح قد تدل في بعض البلاد ولسنا نقدر على استقصاء ذلك إذ كل بلد بحكم آخر في ذلك
أما السماوية فأدلتها منها تقريبية ومنها تحقيقية أما التقريبية فقد قالوا هذه الأدلة إما أن تكون نهارية أو ليلية أما النهارية فالشمس فلا بد وأن يراعى قبل الخروج من البلد أن الشمس عند الزوال أهي بين الحاجبين أم هي على العين اليمنى أم اليسرى أو تميل إلى الجبين ميلاً أكثر من ذلك فإن الشمس لا تعدو في البلاد الشمالية هذه المواقع وكذلك يراعى موقع الشمس وقت العصر وأما وقت المغرب فإنما يعرف ذلك بموضع الغروب وهو أن يعرف بأن الشمس تغرب عن يمين المستقبل أو هي مائلة إلى وجهه أو قفاه وكذلك يعرف وقت العشاء الآخرة بموضع الشفق ويعرف وقت الصبح بمشرق الشمس فكان الشمس تدل على القبلة في الصلوات الخمس ولكن يختلف حكم ذلك بالشتاء والصيف فإن المشارق والمغارب كثيرة وكذلك يختلف الحكم في هذا الباب بحسب اختلاف البلاد وأما الليليلة فهو أن يستدل على القبلة بالكوكب الذي يقال له الجدي فإنه كوكب كالثابت لا تظهر حركته من موضعه وذلك إما أن يكون على قفا المستقبل أو منكبه الأيمن من ظهره أو منكبه الأيسر في البلاد الشمالية من مكة وفي البلاد الجنوبية منها كاليمن وما وراءها يقع في مقابلة المستقبل فليعلم ذلك وما عرفه ببلده فليعول عليه في الطريق كله إلا إذا طال السفر فإن المسافة إذا بعدت اختلف موقع الشمس وموقع القطر وموقع المشارق والمغارب إلى أن ينتهي في أثناء سفره إلى بلد فينبغي أن يسأل أهل البصيرة أو يراقب هذه الكواكب وهو مستقبل محراب جامع البلد حتى يتضح له ذلك فمهما تعلم هذه الأدلة فله أن يعول عليها
وأما الطريقة اليقينية وهي الوجوه المذكورة في كتب الهيئة قالوا سمت القبلة نقطة التقاطع بين دائرة الأفق وبين دائرة عظيمة تمر بسمت رؤسنا ورؤوس أهل مكة وانحراف القبلة قوس من دائرة الأفق ما بين سمت القبلة دائرة نصف النهار في بلدنا وما بين سمت القبلة ومغرب الاعتدال تمام الانحراف قالوا ويحتاج في معرفة سمت القبلة إلى معرفة طول مكة وعرضها فإن كان طول البلد مساوياً لطول مكة وعرضها مخالف لعرض مكة كان سمت قبلتها على خط نصف النهار فإن كان البلد شمالياً فإلى الجنوب وإن كان جنوبياً فإلى الشمالي وأما إذا كان عرض البلد مساوياً لعرض مكة وطوله مخالفاً لطولها فقد يظن أن سمت قبلة ذلك البلد على خط الاعتدال وهو ظن خطأ وقد يمكن أيضاً في البلاد التي أطوالها وعروضها مخالفة لطول مكة وعرضها أن يكون سمت قبلتها مطلع الاعتدال ومعربه وإذا كان كذلك فلا بد من استخراج قدر الانحراف ولذلك طرق أسهلها أن يعرف الجزء الذي يسامت رؤس أهل مكة من فلك البروج وهو ( زيح ) من الجوزاء ( وكج ح ) من

السرطان فيضع ذلك الجزء على خط وسط السماء في الاسطرلاب المعمول لعرض البلد ويعلم على المرئي علامة ثم يدير العنكبوت إلى ناحية المغرب إن كان البلد شرقياً عن مكة كما في بلاد خراسان والعراق بقدر ما بين الطولين من أجزاء الخجرة ثم ينظر أين وقع ذلك الجزء من مقنطرات الارتفاع فما كان فهو الارتفاع الذي عنده يسامت ذلك الجزء رؤوس أهل مكة ثم يرصد مسامتة الشمس ذلك الجزء فإذا انتهى ارتفاع الشمس إلى ذلك الارتفاع فقد سامتت الشمس رؤس أهل مكة فينصب مقياساً ويخط على ظل المقياس خطاً من مركز العمود إلى طرف الظل فذلك الخط خط الظل فيبني عليه المحراب فهذا هو الكلام في دلائل القبلة
المسألة الخامسة معرفة دلائل القبلة فرض على العين أم فرض على الكفاية ففيه وجهان أصحهما فرض على العين لأن كل مكلف فهو مأمور بالاستقبال ولا يمكنه الاستقبال إلا بواسطة معرفة دلائل القبلة وما لا يتأدى الواجب إلا به فهو واجب
المسألة السادسة اعلم أن قوله تعالى مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ عام في الأشخاص والأحوال إلا أنا أجمعنا على أن الاستقبال خارج الصلاة غير واجب بل أنه طاعة لقوله عليه السلام ( خير المجالس ما استقبل به القبلة ) فيبقى أن وجوب الاستقبال من خواص الصلاة ثم نقول الرجل إما أن يكون معايناً للقبلة أو غائباً عنها أما المعاين فقد أجمعوا على أنه يجب عليه الاستقبال وأما الغائب فإما أن يكون قادر على تحصيل اليقين أو لا يقدر عليه لكنه يقدر على تحصيل الظن أو لا يقدر على تحصيل اليقين ولا على تحصيل الظن فهذه أقسام ثلاثة
القسم الأول القادر على تحصيل العلم وفيه بحثان
البحث الأول قد عرفت أن الغائب عن القبلة لا سبيل له إلى تحصيل اليقين بجهة القبلة إلا بالدلائل الهندسية وما لا سبيل إلى أداء الواجب إلا به فهو واجب فيلزم من هذا أن يكون تعلم الدلائل الهندسية فرض عين على كل أحد إلا أن الفقهاء قالوا إن تعلمها غير واجب بل ربما قالوا إن تعلمها مكروه أو محرم ولا أدري ما عذرهم فيه هذا
البحث الثاني المصلي إذا كان بأرض مكة وبينه وبين الكعبة حائل واشتبه عليه فهل له أن يجتهد قال صاحب ( التهذيب ) نظر إن كان الحائل أصلياً كالجبال فله الاجتهاد وإن لم يكن أصلياً كالأبنية فعلى وجهين أحدهما له الاجتهاد لأن بينه وبينها حائلاً يمنع المشاهدة كما في الحائل الأصلي والثاني ليس له الاجتهاد لأن فرضه الرجوع إلى اليقين وهو قادر على تحصيل اليقين فوجب أن لا يكتفي فيه بالظن وهذا الوجه هو اللائق بمساق الآية لأنها لما دلت على وجوب التوجه إلى الكعبة والمكلف إذا كان قادراً على تحصيل العلم لا يجوز له الاكتفاء بالظن فوجب عليه طلب اليقين
القسم الثاني القادر على تحصيل الظن دون اليقين واعلم أن لتحصيل هذا الظن طرقاً
الطريق الأول الاجتهاد وظاهر قول الشافعي رضي الله عنه يقتضي أن الاجتهاد يقدم على الرجوع إلى قول الغير وهو الحق والذي يدل عليه وجوه أحدها قوله تعالى فَاعْتَبِرُواْ ياأُوْلِى أُوْلِى الاْبْصَارِ ( الحشر 2 )

أمر بالاعتبار والرجل قادر على الاعتبار في هذه الصورة فوجب أن يتناوله الأمر وثانيها أن ذلك الغير إنما وصل إلى جهة القبلة بالاجتهاد لأنه لو عرف القبلة بالتقليد أيضاً لزم إما التسلسل أو الدور وهما باطلان فلا بد من الانتهاء آخر الأمر إلى الاجتهاد فيرجع حاصل الكلام إلى أن الاجتهاد أولى أم تقليد صاحب الاجتهاد ولا شك أن الأول أولى لأنه إذا أتى بالاجتهاد فلا يتطرق إليه احتمال الخطأ من جهة واحدة فإذا قلد صاحب الاجتهاد فقد تطرق إلى عمله احتمال الخطأ من وجهين ولا شك أنه متى وقع التعارض بين طريقين فأقلهما خطأ أولى بالرعاية وثالثها قوله عليه السلام ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) فههنا أمر بالاستقبال وهو قادر على الاجتهاد في الطلب فوجب أن يجب عليه ذلك
فإن قيل أليس أن صاحب ( التهذيب ) ذكر أنه إذا كان في قرية كبيرة فيها محاريب منصوبة إلى جهة واحدة أو وجد محراباً أو علامة للقبلة في طريق هي جادة للمسلمين يجب عليه أن يتوجه إليها ولا يجوز له الاجتهاد في الجهة قال لأن هذه العلامات كاليقين أما في الانحراف يمنة أو يسرة فيجوز أن يجتهد مع هذه العلامات وكان عبد الله بن المبارك يقول بعد رجوعه من الحج تياسروا يا أهل مرو وكذلك لو أخبره مسلم بأن قال رأيت غالب المسلمين أو جماعة المسلمين اتفقوا على هذه الجهة فعليه قبوله وليس هذا بتقليد بل هو قبول الخبر من أهله كما في الوقت وهو ما إذا أخبره عدل إني رأيت الفجر قد طلع أو الشمس قد زالت يجب قبول قوله هذا كله لفظ صاحب ( التهذيب ) واعلم أن هذا الكلام مشكل من وجوه أحدها أنه لا معنى للتقليد إلا قبول قول الغير من غير حجة ولا شبهة فإذا قبلنا قول الغير أو فعله في تعيين القبلة من غير حجة ولا شبهة كان هذا تقليداً ونحن قد ذكرنا الدليل على أن القادر على الاجتهاد لا بد وأن يكون مأموراً بالاجتهاد وثانيها أنه جوز المخالفة في اليمين واليسار بناء على الاجتهاد فنقول هو قادر على تحصيل الظن بناء على الاجتهاد الذي يتولاه بنفسه فوجب أن تجوز له المخالفة كما في اليمين واليسار وثالثها إما أن يكون ممنوعاً من الاجتهاد أو من العمل بمقتضى الاجتهاد والأول باطل لأن معاذاً لما قال اجتهد برأي مدحه الرسول عليه السلام على ذلك فدل على أن الاجتهاد غير ممنوع عنه والثاني أيضاً باطل لأنه لما علم أو ظن أن القبلة ليست في الجهة التي فيها المحاريب فلو وجب عليه التوجه إلى ذلك المحراب لكان ذلك ترجيحاً للتقليد على الاستدلال وأنه خطأ ورابعها أن مذهب الشافعي رضي الله عنه أنه لا يجوز للمجتهد تقليد المجتهد فالقادر على تحصيل جهة القبلة بالامارات كيف يجوز له تقليد محاريب البلاد واحتج القائلون بترجيح محاريب الأمصار على البلاد من وجوه الأول أنها كالتواتر مع الاجتهاد فوجب رجحانه عليه والثاني أن الرجل إذا رأى المؤذن فرغ من الأذان والإقامة وقد تقدم الإمام فههنا لا يحتاج إلى تعرف الوقت فكذا ههنا الثالث أن أهل البلد رضوا به والظاهر أنه لو كان خطأ لتنبهوا له ولو تنبهوا له لما رضوا به فهذا ما يمكن أن يقال في الجانبين
الطريق الثاني الرجوع إلى قول الغير مثل ما إذا أخبره عدل عن كون القبلة في هذه الجهة فهذا يفيد ظن أن القبلة هناك واتفقوا على أنه لا بد من شرطين الإسلام والعقل فلا عبرة في هذا الباب بقول الكافر والمجنون ولا بعلمهما واختلفوا في شرائط ثلاثة أولها البلوغ حكى الخيضري نصاً عن الشافعي أنه لا يقبل قول الصبي وحكى أبو زيد أيضاً عن الشافعي أنه يقبل وثانيها العدالة قالوا لا يقبل خبر الفاسق

لأنه كالشهادة وقيل يقبل وثالثها العدد فمنهم من اعتبره كما في الشهادة لاسيما الذين اعتبروا العدد في الرواية أيضاً ومنهم من لم يعتبر العدد ويتفرع على ما قلناه أحكام أولها أن كل من كان الأخذ بقوله يفيد ظناً أقوى كان الأخذ بقوله مقدماً على الأخذ بقول من يفيد ظناً أضعف مثاله أن تقليد المتيقن راجح على تقليد الظان بالاجتهاد وتقليد المجتهد الظان أولى من تقليد من قلد غيره وهلم جرا وثانيها أنه إذا علم أن الاجتهاد لا يتم إلا بعد انقضاء الوقت فالأولى له تحصيل الاجتهاد حتى تصير الصلاة قضاء أو تقليد الغير حتى تبقى الصلاة أداء فيه تردد وثالثها أن من لا يعرف دلائل القبلة فله الرجوع إلى قول الغير حين الصلاة بل يجب
الطريق الثالث إن شاهد في دار الإسلام محراباً منصوباً جاز له التوجه إليه على التفصيل الذي تقدم أما إذا رأى القبلة منصوبة في طريق يقل فيه مرور الناس أو في طريق يمر فيه المسلمون والمشركون ولا يدري من نصبها أو رأى محراباً في قرية ولا يدري بناه المسلمون أو المشركون أو كانت قرية صغيرة للمسلمين لا يغلب على الظن كون أهلها مطلعين على دلائل القبلة وجب عليه الاجتهاد
الطريق الرابع ما يتركب من الاجتهاد وقول الغير وهو أن يخبره إنسان بمواقع الكواكب وكان هو عالماً بالاستدلال بها على القبلة فههنا يجب عليه الاستدلال بما يسمع إذا كان عاجزاً عن رؤيتها بنفسه
القسم الثالث الذي عجز عن تحصيل العلم والظن وهو الكائن في الظلمة التي خفيت الأمارات بأسرها عليه أو الأعمى الذي لا يجد من يخبره أو تعارضت الأمارات لديه وعجز عن الترجيح وفيه أبحاث
البحث الأول أن هذا الشخص يستحيل أن يكون مأموراً بالاجتهاد لأن الاجتهاد من غير دلالة ولا أمارة تكليف ما لا يطاق وهو منفي فلم يبق إلا أحد أمور ثلاثة إما أن يقال التكاليف بالصلاة مشروط بالاستقبال وتعذر الشرط يوجب سقوط التكليف بالمشروط فههنا لا تجب عليه الصلاة أو يقال شرط الاستقبال قد سقط عن المكلف بعذر أقل من هذا وهو حال المسابقة فيسقط ههنا أيضاً فيجب عليه أن يأتي بالصلاة إلى أي جهة شاء ويسقط عنه شرط الاستقبال أو يقال إنه يأتي بتلك الصلاة إلى جميع الجهات ليخرج عن العهدة بيقين فهذه هي الوجوه الممكنة أما سقوط الصلاة عنه فذلك باطل بالإجماع وأيضاً فلأنا رأينا في الشرع في الجملة أن الصلاة صحت بدون الاستقبال كما في حال المسايفة وفي النافلة وأما إيجاب الصلاة إلى جميع الجهات فهو أيضاً باطل لقيام الدلالة على أن الواجب عليه صلاة واحدة ولقائل أن يقول أليس أن من نسي صلاة من صلوات يوم وليلة ولا يدري عينها فإنها يجب عليها قضاء تلك الصلوات بأسرها ليخرج عن العهدة باليقين فلم لا يجوز أن يكون الأمر ههنا كذلك قالوا ولما بطل القسمان تعين الثالث وهو التخيير في جميع الجهات
البحث الثاني أنه إذا مال قلبه إلى أن هذه الجهة أولى بأن تكون قبلة من سائر الجهات من غير أن يكون ذلك الترجيح مبنياً على استدلال بل يحصل ذلك بمجرد التشهي وميل القلب إليه فهل يعد هذا اجتهاداً وهل المكلف مكلف بأن يعول عليه أم لا الأولى أن يكون ذلك معتبراً لقوله عليه السلام ( المؤمن ينظر بنور الله ) ولأن سائر وجوه الترجيح لما انسدت وجب الاكتفاء بهذا القدر

البحث الثالث إذا أدى هذه الصلاة فالظاهر يقتضي أن لا يجب القضاء لأنه أدى وظيفة الوقت وقد صحت منه فوجب أن لا تجب عليه الإعادة وظاهر قول الشافعي رضي الله عنه أنه تجب الإعادة سواء بأن صوابه أو خطؤه
المسألة السابعة تجوز الصلاة في جوف الكعبة عند عامة أهل العلم ويتوجه إلى أي جانب شاء وقال مالك يكره أن يصلى في الكعبة المكتوبة لأن من كان داخل الكعبة لا يكون متوجهاً إلى كل الكعبة بل يكون متوجهاً إلى بعض أجزائها ومستدبراً عن بعض أجزائها وإذا كان كذلك لم يكن مستقبلاً لكل الكعبة فوجب أن لا تصح صلاته لأن الله تعالى أمر باستقبال البيت قال وأما النافلة فجائزة لأن استقبال القبلة فيها غير واجب حجة الجمهور ما أخرجه الشيخان في الصحيحين ورواه الشافعي رضي الله عنه أيضاً عن مالك عن نافع عن ابن عمر أنه عليه الصلاة والسلام دخل الكعبة هو وأسامة بن زيد وعثمان بن أبي طلحة وبلال فأغلقها عليه ومكث فيها قال عبد الله بن عمر فسألت بلالاً حين خرج ماذا صنع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال جعل عموداً عن يساره وعمودين عن يمينه وثلاثة أعمدة وراءه وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة ثم صلى واعلم أن الاستدلال بهذا الخبر ضعيف من وجوه أحدها أن خبر الواحد لا يعارض ظاهر القرآن وثانيها لعل تلك الصلاة كانت نافلة وذلك عند مالك جائز وثالثها أن مالكاً خالف هذا الخبر ومخالفة الراوي وإن كانت لا توجب الطعن في الخبر إلا أنها تفيد نوع مرجوحية بالنسبة إلى خبر واحد حلى عن هذا الطعن فكيف بالنسبة إلى القرآن ورابعها أن الشيخين أوردا في الصحيحين عن ابن جريح عن عطاء سمعت ابن عباس قال لما دخل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل حتى خرج منه فلما خرج ركع ركعتين في قبل الكعبة وقال ( هذه القبلة ) والتعارض حاصل من وجهين الأول أن النفي والإثبات يتعارضان والثاني قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( هذه القبلة ) يدل على أنه لا بد من توجه ذلك الموضع ومن جوز الصلاة داخل البيت لا يوجب عليه استقبال ذلك الموضع بل جوز استدباره والجواب عن استدلال مالك رحمه الله أن نقول قوله ( وحيثما كنتم ) إما أن يكون صيغة عموم أو لا يكون فإن كان صيغة عموم فقد تناول الإنسان الذي يكون في البيت فكأنه تعالى أمر من كان في البيت أن يتوجه إليه فالآتي به يكون خارجاً عن العهدة وإن لم يكن صيغة عموم لم تكن الآية متناولة لهذه المسألة ألبتة فلا تدل على حكمها لا بالنفي ولا بالأثبات ثم المعتمد في المسألة أن الإنسان الواحد لا يمكنه أن يتوجه إلى كل البيت بل إنما يمكنه أن يتوجه إلى جزء من أجزاء البيت والذي في البيت يتوجه إلى جزء من أجزاء البيت فقد كان آتياً بما أمر به فوجب أن يخرج عن العهدة
المسألة الثامنة اعلم أن الكعبة عبارة عن أجسام مخصوصة هي السقف والحيطان والبناء ولا شك أن تلك الأجسام حاصلة في أحياز مخصوصة فالقبلة إما أن تكون تلك الأحياز فقط أو تلك الأجسام فقط أو تلك الأجسام بشرط حصولها في تلك الأحياز لا جائز أن يقال أنها تلك الأجسام فقط لأنا أجمعنا على أنه لو نقل تراب الكعبة وما في بنائها من الأحجار والخشب إلى موضع آخر وبني به بناء وتوجه إليه أحد في الصلاة لم يجز ذلك ولا جائز أن يقال إنها تلك الأجسام بشرط كونها في تلك الأحياز لأن الكعبة لو انهدمت والعياذ بالله وأزيل عن تلك الأحياز تلك الأحجار والخشب وبقيت العرصة خالية فإن أهل المشرق والمغرب إذا

توجهوا إلى ذلك الجانب صحت صلاتهم وكانوا مستقبلين للقبلة فلم يبق إلا أن يقال القبلة هو ذلك الخلاء الذي حصل فيه تلك الأجسام وهذا المعنى كما ثبت بالدليل العقلي الذي ذكرناه فهو أيضاً مطابق للآية لأن المسجد الحرام اسم لذلك البناء المركب من السقف والحيطان والمقدار وجهة المسجد الحرام هو الأحياز التي حصلت فيها تلك الأجسام فإذا أمر الله تعالى بالتوجه إلى جهة المسجد الحرام كانت القبلة هو ذلك القدر من الخلاء والفضاء إذا ثبت هذا فنقول قال أصحابنا لو انهدمت الكعبة والعياذ بالله فالواقف في عرصتها لا تصح صلاته لأنه لا يعد مستقبلاً للقبلة وذكر ابن سريج أنه يصح وهو قول أبي حنيفة والاختيار عندي والدليل عليه ما بينا أن القبلة هي ذلك القدر المعين من الخلاء والواقف في العرصة مستقبل لجزء من أجزاء ذلك الخلاء فيكون مستقبلاً للقبلة فوجب أن تصح صلاته وقالوا أيضاً الواقف على سطح الكعبة من غير أن يكون في قبالته جدار لا تصح صلاته إلا على قول ابن سريج وهو الاختيار عندي لأنه مستقبل لذلك الخلاء والفضاء الذي هو القبلة فوجب أن تصح صلاته
المسألة التاسعة لما دلت الآية على وجوب الاستقبال وثبت بالعقل أنه لا سبيل إلى الاستقبال إلى الجهات إلا بالاجتهاد وثبت بالعقل أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب لزم القطع بوجوب الاجتهاد والاجهاد لا بد وأن يكون مبنياً على الظن فكانت الآية دالة على التكليف بالظن فثبت بهذا أن التكليف بالظن واقع في الجملة وقد استدل الشافعي رضي الله عنه بذلك على أن القياس حجة في الشرع وهو ضعيف لأنه إثبات للقياس بالقياس وذلك لا سبيل إليه والله أعلم
المسألة العاشرة الظاهر أنه لا يجب نية استقبال القبلة لأن الآية دلت على وجوب الاستقبال والآتي به آت بما دلت الآية عليه فوجب أن لا يجب عليه نية أخرى كما في ستر العورة وطهارة المكان والثوب
المسألة الحادية عشرة استقبال القبلة ساقط عند قيام العذر كما في حال المسايفة ويلحق به الخوف على النفس من العدو أو من السبع أو من الجمل الصائل أو عند الخطأ في القبلة بسبب التيامن والتياسر أو في أداء النوافل وهذا يقتضي أن العاجز عن تحصيل العلم والظن إذا أدى الصلاة أن يسقط عنه القضاء وكذا المجتهد إذا بان له تعين الخطأ
المسألة الثانية عشرة إذا توجه إلى جهة ثم تغير اجتهاده وهو في الصلاة فعليه أن ينحرف ويتحول ويبني لأن عارض الاجتهاد لا يبطل السابق فكذلك فيمن صدق مخبراً ثم جاء آخر نفسه إليه أسكن فأخبره بخلافه فهذا ما يتعلق بالمسائل المستنبطة من هذه الآية في حكم الاستقبال والله أعلم
قوله تعالى مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ فيه مسألتان
المسألة الأولى هذا ليس بتكرار وبيانه من وجهين أحدهما أن قوله تعالى فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ خطاب مع الرسول عليه السلام لا مع الأمة وقوله مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ خطاب مع الكل وثانيهما أن المراد بالأولى مخاطبتهم وهم بالمدينة خاصة وقد كان من الجائز لو وقع الاختصار عليه أن يظن أن هذه القبلة قبلة لأهل المدينة خاصة فبين الله تعالى أنهم أينما حصلوا من بقاع الأرض يجب أن يستقبلوا نحو هذه القبلة

المسألة الثانية قوله مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ يعني وأينما كنتم وموضع ( كنتم ) من الإعراب جزم بالشرط كأنه قيل حيثما تكونوا والفاء جواب
أما قوله تعالى وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ففيه مسألتان
المسألة الأولى المراد بقوله وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ اليهود خاصة والكتاب هو التوراة عن السدي وقيل بل المراد أحبار اليهود وعلماء النصارى وهو الصحيح لعموم اللفظ والكتاب المتقدم هو التوراة والإنجيل ولا بد أن يكونوا عدداً قليلاً لأن الكثير لا يجوز عليهم التواطؤ على الكتمان
المسألة الثانية الضمير في قوله أَنَّهُ الْحَقُّ راجع إلى مذكور سابق وقد تقدم ذكر الرسول كما تقدم ذكر القبلة فجاز أن يكون المراد أن القوم يعلمون أن الرسول مع شرعه ونبوته حق فيشتمل ذلك على أمر القبلة وغيرها ويحتمل أن يرجع إلى هذا التكليف الخاص بالقبلة وأنهم يعلمون أنه الحق وهذا الاحتمال الأخير أقرب لأنه أليق بالكلام إذ المقصود بالآية ذلك دون غيره ثم اختلفوا في أنهم كيف عرفوا ذلك وذكروا فيه وجوهاً أحدها أن قوماً من علماء اليهود كانوا عرفوا في كتب أنبيائهم خبر الرسول وخبر القبلة وأنه يصلي إلى القبلتين وثانيها أنهم كانوا يعلمون أن الكعبة هي البيت العتيق الذي جعله الله تعالى قبلة لإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وثالثها أنهم كانوا يعلمون نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لما ظهر عليه من المعجزات ومتى علموا نبوته فقد علموا لا محالة أن كل ما أتى به فهو حق فكان هذا التحويل حقاً
وأما قوله وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ففيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ ابن عمار وحمزة والكسائي تَعْمَلُونَ بالتاء على الخطاب للمسلمين والباقون بالياء على أنه راجع إلى اليهود
المسألة الثانية إنا إن جعلناه خطاباً للمسلمين فهو وعد لهم وبشارة أي لا يخفى على جدكم واجتهادهم في قبول الدين فلا أخل بثوابكم وإن جعلناه كلاماً مع اليهود فهو وعيد وتهديد لهم ويحتمل أيضاً أنه ليس بغافل عن مكافأتهم ومجازاتهم وإن لم يعجلها لهم كقوله تعالى وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الابْصَارُ ( إبراهيم 42 )
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ ءَايَة ٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَة َ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَآءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أن الذين أوتوا الكتاب يعلمون أن هذه القبلة حق بين بعد ذلك صفتهم لا تتغير في الاستمرار على المعاندة وفي الآية مسائل

المسألة الأولى اختلفوا في قوله وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ فقال الأصم المراد علماؤهم الذين أخبر الله تعالى عنهم في الآية المتقدمة بقوله وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبّهِمْ ( البقرة 144 ) واحتج عليه بوجوه أحدها قوله وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم فوصفهم بأنهم يتبعون الهوى ومن اعتقد في الباطل أنه حق فإنه لا يكون متبعاً لهوى النفس بل يكون في ظنه أنه متبع للهدى فأما الذين يعلمون بقلوبهم ثم ينكرون بألسنتهم فهم المتبعون للهوى وثانيها أن ما قبل هذه الآية وهو قوله وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لِيَعْلَمُواْ أَنَّهُ الْحَقُّ لا يتناول عوامهم بل هو مختص بالعلماء وما بعدها وهو قوله الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ ( الأنعام 20 ) مختص بالعلماء أيضاً إذ لو كان عاماً في الكل امتنع الكتمان لأن الجمع العظيم لا يجوز عليهم الكتمان وإذا كان ما قبلها وما بعدها خاصاً فكذا هذه الآية المتوسطة وثالثها أن الله تعالى أخبر عنهم بأنهم مصرون على قولهم ومستمرون على باطلهم وأنهم لا يرجعون عن ذلك المذهب بسبب شيء من الدلائل والآيات وهذا شأن المعاند اللجوج لا شأن المعاند المتحير ورابعها أنا لو حملناه على العموم لصارت الآية كذباً لأن كثيراً من أهل الكتاب آمن بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وتبع قبلته
وقال آخرون بل المراد جميع أهل الكتاب من اليهود والنصارى واحتجوا عليه بأن قوله الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ صيغة عموم فيتناول الكل ثم أجابوا عن الحجة الأولى أن صاحب الشبهة صاحب هوى في الحقيقة لأنه ما تمم النظر والاستدلال فإنه لو أتى بتمام النظر والاستدلال لوصل إلى الحق فحيث لم يصل إليه علمنا أنه ترك النظر التام بمجرد الهوى وأجابوا عن الحجة الثانية بأنه ليس يمتنع أن يراد في الآية الأولى بعضهم وفي الآية الثانية كلهم وأجابوا عن الحجة الثالثة أن العلماء لما كانوا مصرين على الشبهات والعوام كانوا مصرين على اتباع أولئك العلماء كان الإصرار حاصلاً في الكل وأجابوا عن الحجة الرابعة بأنه تعالى أخبر عنهم أنهم بكليتهم لا يؤمنون وقولنا كل اليهود لا يؤمنون مغاير لقولنا إن أحداً منهم لا يؤمن
المسألة الثانية احتج الكعبي بهذه الآية على جواز أن لا يكون في المقدور لطف لبعضهم قال لأنه لو حصل في المقدور لهؤلاء لطف لكان في جملة الآيات ما لو أتاهم به لكانوا يؤمنون فكان لا يصح هذا الخبر على وجه القطع
المسألة الثالثة احتج أبو مسلم بهذه الآية على أن علم الله تعالى في عباده وما يفعلونه ليس بحجة لهم فيما يرتكبون فإنهم مستطيعون لأن يفعلوا الخير الذي أمروا به ويتركوا ضده الذي نهوا عنه واحتج أصحابنا به على القول بتكليف ما لا يطاق وهو أنه تعالى أخبر عنهم بأنهم لا يتبعون قبلته فلو اتبعوا قبلته لزم انقلاب خبر الله الصدق كذباً وعلمه جهلاً وهو محال ومستلزم المحال محال فكان ذلك محالاً وقد أمروا به فقد أمروا بالمحال وتمام القول فيه مذكور في قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ( البقرة 6 )
المسألة الرابعة إنما حكم الله تعالى عليهم بأنهم لا يرجعون عن أباطيلهم بسبب البرهان وذلك لأن إعراضهم عن قبول هذا الدين ليس عن شبهة يزيلها بإيراد الحجة بل هو محض المكابرة والعناد والحسد وذلك لا يزول بإيراد الدلائل
المسألة الخامسة اختلفوا في قوله مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ قال الحسن والجبائي أراد جميعهم كأنه قال لا يجتمعون على اتباع قبلتك على نحو قوله وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى ( الأنعام 35 ) وقال

الأصم وغيره بل المراد أن أحداً منهم لا يؤمن قال القاضي إن أريد بأهل الكتاب كلهم العلماء منهم والعوام فلا بد من تأويل الحسن وإن أريد به العلماء نظرنا فإن كان في علمائهم المخاطبين بهذه الآية من قد آمن وجب أيضاً ذلك التأويل وإن لم يكن فيهم من قد آمن صح إجراؤه على ظاهره في رجوع النفي إلى كل واحد منهم لأن ذلك أليق بالظاهر إذ لا فرق بين قوله مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وبين قوله ما تبع أحد منهم قبلتك
المسألة السادسة لَئِنْ بمعنى لَوْ وأجيب بجواب لو وللعلماء فيه خلاف فقيل إنهما لما تقاربا استعمل كل واحد منهما مكان الآخر وأجيب بجوابه نظيره قوله تعالى وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا ( الروم 51 ) ثم قال لَّظَلُّواْ على جواب لَوْ وقال وَلَوْ أَنَّهُمْ ءامَنُواْ واتَّقَوْا ( البقرة 103 ) ثم قال لَمَثُوبَة ٌ على جواب لَئِنْ وذلك أن أصل لَوْ للماضي وَلَئِنِ للمستقبل هذا قول الأخفش وقال سيبويه إن كل واحدة منهما على موضعها وإنما الحق في الجواب هذا التداخل لدلالة اللام على معنى القسم فجاء الجواب كجواب القسم
المسألة السابعة الآية وزنها فعلة أصلها أية فاستثقلوا التشديد في الآية فأبدلوا من الياء الأولى ألفاً لانفتاح ما قبلها والآية الحجة والعلامة وآية الرجل شخصه وخرج القوم بآيتهم جماعتهم وسميت آية القرآن بذلك لأنها جماعة حروف وقيل لأنها علامة لانقطاع الكلام الذي بعدها وقيل لأنها دالة على انقطاعها عن المخلوقين وأنها ليست إلا من كلام الله تعالى
المسألة الثامنة روي أن يهود المدينة ونصارى نجران قالوا للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أئتنا بآية كما أتى الأنبياء قبلك فأنزل الله تعالى هذه الآية والأقرب أن هذه الآية ما نزلت في واقعة مبتدأة بل هي من بقية أحكام تحويل القبلة
أما قوله تعالى وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ ففيه أقوال الأول أنه دفع لتجويز النسخ وبيان أن هذه القبلة لا تصير منسوخة والثاني حسماً لأطماع أهل الكتاب فإنهم قالوا لو ثبت على قبلتنا لكنا نرجوا أن يكون صاحبنا الذي ننتظره وطمعوا في رجوعه إلى قبلتهم الثالث المقابلة يعني ما هم بتاركي باطلهم وما أنت بتارك حقك الرابع أراد أنه لا يجب عليك استصلاحهم باتباع قبلتهم لأن ذلك معصية الخامس وما أنت بتابع قبلة جميع أهل الكتاب من اليهود والنصارى لأن قبلة اليهود مخالفة لقبلة النصارى فلليهود بيت المقدس وللنصارى المشرق فالزم قبلتك ودع أقوالهم
أما قوله وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَة َ بَعْضٍ قال القفال هذا يمكن حمله على الحال وعلى الاستقبال أما على الحال فمن وجوه الأول أنهم ليسوا مجتمعين على قبلة واحدة حتى يمكن إرضاؤهم باتباعها الثاني أن اليهود والنصارى مع اتفاقهم على تكذيبك متباينون في القبلة فكيف يدعونك إلى ترك قبلتك مع أنهم فيما بينهم مختلفون الثالث أن هذا إبطال لقولهم إنه لا يجوز مخالفة أهل الكتاب لأنه إذا جاز أن تختلف قبلتاهما للمصلحة جاز أن تكون المصلحة في ثالث وأما حمل الآية على الاستقبال ففيه إشكال وهو أن قوله وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَة َ بَعْضٍ ينفي أن يكون أحد منهم قد اتبع قبلة الآخر لكن ذلك قد وقع فيفضي إلى الخلف وجوابه أنا إن حملنا أهل الكتاب على علمائهم الذين كانوا في ذلك الزمان فلم يثبت عندنا أن

أحداً منهم يتبع قبلة الآخر فالخلف غير لازم وإن حملناه على الكل قلنا إنه عام دخله التخصيص
أما قوله وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم ففيه مسألتان
المسألة الأولى الهوى المقصور هو ما يميل إليه الطبع والهواء الممدود معروف
المسألة الثانية اختلفوا في المخاطب بهذا الخطاب قال بعضهم الرسول وقال بعضهم الرسول وغيره وقال آخرون بل غيره لأنه تعالى عرف أن الرسول لا يفعل ذلك فلا يجوز أن يخصه بهذا الخطاب وهذا القول الثالث خطأ لأن كل ما لو وقع من الرسول لقبح والالجاء عنه مرتفع فهو منهى عنه وإن كان المعلوم منه أنه لا يفعله ويدل عليه وجوه أحدها أنه لو كان كل ما علم الله أنه لا يفعله وجب أن لا ينهاه عنه لكان ما علم أنه يفعله وجب أن لا يأمره به وذلك يقتضي أن لا يكون النبي مأموراً بشيء ولا منهياً عن شيء وأنه بالاتفاق باطل وثانيها لولا تقدم النهي والتحذير لما احترز النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عنه فلما كان ذلك الاحتراز مشروطاً بذلك النهي والتحذير فكيف يجعل ذلك الاحتراز منافياً للنهي والتحذير وثالثها أن يكون الغرض من النهي والوعيد أن يتأكد قبح ذلك في العقل فيكون الغرض منه التأكيد ولما حسن من الله التنبيه على أنواع الدلائل الدالة على التوحيد بعد ما قررها في العقول والغرض منه تأكيد العقل بالنقل فأي بعد في مثل هذا الغرض ههنا ورابعاً قوله تعالى في حق الملائكة وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنّى إِلَاهٌ مّن دُونِهِ فَذالِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ ( الأنبياء 29 ) مع أنه تعالى أخبر عن عصمتهم في قوله يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ( النمل 50 ) وقال في حق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ( الزمر 65 ) وقد أجمعوا على أنه عليه الصلاة والسلام ما أشرك وما مال إليه وقال مُّنتَظِرُونَ ياأَيُّهَا النَّبِى ّ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ( المائدة 67 ) وقال تعالى وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ( القلم 9 ) وقال بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ( المائدة 67 ) وقوله وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ ( الأنعام 14 ) فثبت بما ذكرنا أنه عليه الصلاة والسلام منهي عن ذلك وأن غيره أيضاً منهي عنه لأن النهي عن هذه الأشياء ليس من خواص الرسول عليه الصلاة والسلام بقي أن يقال فلم خصه بالنهي دون غيره فنقول فيه وجوه أحدها أن كل من كان نعم الله عليه أكثر كان صدور الذنب منه أقبح ولا شك أن نعم الله تعالى على الرسول عليه الصلاة والسلام أكثر فكان حصول الذنب منه أقبح فكان أولى بالتخصيص وثانيها أن مزيد الحب يقتضي التخصيص بمزيد التحذير وثالثها أن الرجل الحازم إذا أقبل على أكبر أولاده وأصلحهم فزجره عن أمر بحضرة جماعة أولاده فإنه يكون منبهاً بذلك على عظم ذلك الفعل إن اختاروه وارتكبوه وفي عادة الناس أن يوجهوا أمرهم ونهيهم إلى من هو أعظم درجة تنبيهاً للغير أو توكيداً فهذه قاعدة مقررة في أمثال هذه الآية
القول الثاني أن قوله وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم ليس المراد منه أن اتبع أهواءهم في كل الأمور فلعله عليه الصلاة والسلام كان في بعض الأمور يتبع أهواءهم مثل ترك المخاشنة في القول والغلظة في الكلام

طمعاً منه عليه الصلاة والسلام في استمالتهم فنهاه الله تعالى عن ذلك القدر أيضاً وآيسه منهم بالكلية على ما قال وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً ( الإسراء 74 )
القول الثالث إن ظاهر الخطاب وإن كان مع الرسول إلا أن المراد منه غيره وهذا كما أنك إذا عاتبت إنساناً أساء عبده إلى عبدك فتقول له لو فعلت مرة أخرى مثل هذا الفعل لعاقبتك عليه عقاباً شديداً فكان الغرض منه لا يميل إلى مخاطبتهم ومتابعتهم أحد من الأمة
أما قوله تعالى مّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فيه مسألتان
المسألة الأولى أنه تعالى لم يرد بذلك أنه نفس العلم جاءك بل المراد الدلائل والآيات والمعجزات لأن ذلك من طرق العلم فيكون ذلك من باب إطلاق اسم الأثر على المؤثر واعلم أن الغرض من الاستعارة هو المبالغة والتعظيم فكأنه سبحانه وتعالى عظم أمر النبوات والمعجزات بأن سماها باسم العلم وذلك ينبهك على أن العلم أعظم المخلوقات شرفاً ومرتبة
المسألة الثانية دلت الآية على أن توجه الوعيد على العلماء أشد من توجهه على غيرهم لأن قوله مّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ يدل على ذلك
أما قوله تعلاى إِنَّكَ إِذَا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ فالمراد إنك لو فعلت ذلك لكنت بمنزلة القوم في كفرهم وظلمهم لأنفسهم والغرض منه التهديد والزجر والله أعلم
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ
اعلم أن في الآية مسائل
المسألة الأولى قوله الَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وإن كان عاماً بحسب اللفظ لكنه مختص بالعلماء منهم والدليل عليه أنه تعالى وصفهم بأنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم والجمع العظيم الذي علموا شيئاً استحال عليهم الاتفاق على كتمانه في العادة ألا ترى أن واحداً لو دخل البلد وسأل عن الجامع لم يجز أن لا يلقاه أحد إلا بالكذب والكتمان بل إنما يجوز ذلك على الجمع القليل والله أعلم
المسألة الثانية الضمير في قوله يَعْرِفُونَهُ إلى ماذا يرجع ذكروا فيه وجوهاً أحدها أنه عائد إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أي يعرفونه معرفة جلية يميزون بينه وبين غيره كما يعرفون أبناءهم لا تشتبه عليهم وأبناء غيرهم عن عمر رضي الله عنه أنه سأل عبد الله بن سلام عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال أنا أعلم به مني بإبني قال ولم قال لأني لست أشك في محمد أنه نبي وأما ولدي فلعل والدته خانت فقبل عمر رأسه وجاز

الإضمار وإن لم يسبق له ذكر لأن الكلام يدل عليه ولا يلتبس على السامع ومثل هذا الإضمار فيه تفخيم وإشعار بأنه لشهرته معلوم بغير إعلام وعلى هذا القول أسئلة
السؤال الأول أنه لا تعلق لهذا الكلام بما قبله من أمر القبلة
الجواب أنه تعالى في الآية المتقدمة لما حذر أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) عن اتباع اليهود والنصارى بقوله وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ( البقرة 145 ) أخبر المؤمنين بحاله عليه الصلاة والسلام في هذه الآية فقال اعلموا يا معشر المؤمنين أن علماء أهل الكتاب يعرفون محمداً وما جاء به وصدقه ودعوته وقبلته لا يشكون فيه كما لا يشكون في أبنائهم
السؤال الثاني هذه الآية نظيرها قوله تعالى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى التَّوْرَاة ِ وَالإِنجِيلِ ( الأعراف 157 ) وقال وَمُبَشّراً بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى اسْمُهُ أَحْمَدُ ( الصف 6 ) إلا أنا نقول من المستحيل أن يعرفوه كما يعرفون أبناءهم وذلك لأنه وصفه في التوراة والإنجيل إما أن يكون قد أتى مشتملاً على التفصيل التام وذلك إنما يكون بتعيين الزمان والمكان والصفة والخلقة والنسب والقبيلة أو هذا الوصف ما أتى مع هذا النوع من التفصيل فإن كان الأول وجب أن يكون بمقدمه في الوقت المعين من البلد المعين من القبلة المعينة على الصفة المعينة معلوماً لأهل المشرق والمغرب لأن التوراة والإنجيل كانا مشهورين فيما بين أهل المشرق والمغرب ولو كان الأمر كذلك لما تمكن أحد من النصارى واليهود من إنكار ذلك
وأما القسم الثاني فإنه لا يفيد القطع بصدق نبوة محمد عليه الصلاة والسلام لأنا نقول هب أن التوراة اشتملت على أن رجلاً من العرب سيكون نبياً إلا أن ذلك الوصف لما لم يكن منتهياً في التفصيل إلى حد اليقين لم يلزم من الاعتراف به الاعتراف بنبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم )
والجواب عن هذا الإشكال إنما يتوجه لو قلنا بأن العلم بنبوته إنما حصل من اشتمال التوراة والإنجيل على وصفه ونحن لا نقول به بل نقول أنه ادعى النبوة وظهرت المعجزة على يده وكل من كان كذلك كان نبياً صادقاً فهذا برهان والبرهان يفيد اليقين فلا جرم كان العلم بنبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أقوى وأظهر من العلم بنبوة الأبناء وأبوة الآباء
السؤال الثالث فعلى هذا الوجه الذي قررتموه كان العلم بنبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) علماً برهانياً غير محتمل للغلط أما العلم بأن هذا ابني فذلك ليس علماً يقينياً بل ظن ومحتمل للغلط فلم شبه اليقين بالظن
والجواب ليس المراد أن العلم بنبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) يشبه العلم بنبوة الأبناء بل المراد به تشبيه العلم بأشخاص الأبناء وذواتهم فكما أن الأب يعرف شخص ابنه معرفة لا يشتبه هو عنده بغيره فكذا ههنا وعند هذا يستقيم التشبيه لأن هذا العلم ضروري وذلك نظري وتشبيه النظري بالضروري يفيد المبالغة وحسن الاستعارة
السؤال الرابع لم خص الأبناء الذكور
الجواب لأن الذكور أعرف وأشهر وهم بصحبة الآباء ألزم وبقلوبهم ألصق
القول الثاني الضمير في قوله يَعْرِفُونَهُ راجع إلى أمر القبلة أي علماء أهل الكتاب يعرفون أمر

القبلة التي نقلت إليها كما يعرفون أبناءهم وهو قول ابن عباس وقتادة والربيع وابن زيد
واعلم أن القول الأول أولى من وجوه أحدها أن الضمير إنما يرجع إلى مذكور سابق وأقرب المذكورات العلم في قوله مّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ ( البقرة 145 ) والمراد من ذلك العلم النبوة فكأنه تعالى قال إنهم يعرفون ذلك العلم كما يعرفون أبناءهم وأما أمر القبلة فما تقدم ذكره البتة وثانيها أن الله تعالى ما أخبر في القرآن أن أمر تحويل القبلة مذكور في التوراة والإنجيل وأخبر فيه أن نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) مذكورة في التوراة والإنجيل فكان صرف هذه المعرفة إلى أمر النبوة أولى وثالثها أن المعجزات لا تدل أول دلالتها إلا على صدق محمد عليه السلام فأما أمر القبلة فذلك إنما يثبت لأنه أحد ما جاء به محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فكان صرف هذه المعرفة إلى أمر النبوة أولى
أما قوله تعالى وَإِنَّ فَرِيقًا مّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ فاعلم أن الذين أوتوا الكتاب وعرفوا الرسول فمنهم من آمن به مثل عبد الله بن سلام وأتباعه ومنهم من بقي على كفره ومن آمن لا يوصف بكتمان الحق وإنما يوصف بذلك من بقي على كفره لا جرم قال الله تعالى وَإِنَّ فَرِيقًا مّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ فوصف البعض بذلك ودل بقوله لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ على سبيل الذم على أن كتمان الحق في الدين محظور إذا أمكن إظهاره واختلفوا في المكتوم فقيل أمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وقيل أمر القبلة وقد استقصينا في هذه المسألة
أما قوله الْحَقُّ مِن رَّبّكَ ففيه مسألتان
المسألة الأولى يحتمل أن يكون ( الحق ) خبر مبتدأ محذوف أي هو الحق وقوله مِن رَبّكَ يجوز أن يكون خبراً بغير خبر وأن يكون حالاً ويجوز أيضاً أن يكون مبتدأ خبره مِن رَبّكَ وقرأ علي رضي الله عنه ( الحق من ربك ) على الإبدال من الأول أي يكتمون الحق من ربك
المسألة الثانية الألف واللام في قوله الْحَقّ فيه وجهان الأول أن يكون للعهد والإشارة إلى الحق الذي عليه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أو إلى الحق الذي في قوله لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ أي هذا الذي يكتمونه هو الحق من ربك وأن يكون للجنس على معنى الحق من الله تعالى لا من غيره يعني إن الحق ما ثبت أنه من الله تعالى كالذي أنت عليه وما لم يثبت أنه من الله كالذي عليه أهل الكتاب فهو الباطل
أما قوله فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ففيه مسألتان
المسألة الأولى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ في ماذا اختلفوا فيه على أقوال أحدها فلا تكونن من الممترين في أن الذين تقدم ذكرهم علموا صحة نبوتك وأن بعضهم عاند وكتم قاله الحسن وثانيها بل يرجع إلى أمر القبلة وثالثها إلى صحة نبوته وشرعه وهذا هو الأقرب لأن أقرب المذكورات إليه قوله الْحَقُّ مِن رَّبّكَ فإذا كان ظاهره يقتضي النبوة وما تشتمل عليه من قرآن ووحي وشريعة فقوله فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ وجب أن يكون راجعاً إليه
المسألة الثانية أنه تعالى وإن نهاه عن الامتراء فلا يدل ذلك على أنه كان شاكاً فيه وقد تقدم القول في بيان هذه المسألة والله أعلم

وَلِكُلٍّ وِجْهَة ٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدِيرٌ
اعلم أنهم اختلفوا في المراد بقوله وَلِكُلّ وفيه مسألتان
المسألة الأولى إنما قال وَلِكُلّ ولم يقل لكل قوم أو أمة لأنه معروف المعنى عندهم فلم يضر حذف المضاف إليه وهو كثير في كلامهم كقوله لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَة ً وَمِنْهَاجاً ( المائدة 48 )
المسألة الثانية ذكروا فيه أربعة أوجه أحدها أنه يتناول جميع الفرق أعني المسلمين واليهود والنصارى والمشركين وهو قول الاصم قال لأن في المشركين من كان يعبد الأصنام ويتقرب بذلك إلى الله تعالى كما حكى الله تعالى عنهم في قوله هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ ( يونس 18 ) وثانيها وهو قول أكثر علماء التابعين أن المراد أهل الكتاب وهم المسلمون واليهود والنصارى والمشركون غير داخلين فيه وثالثها قال بعضهم المراد لكل قوم من المسلمين وجهة أي جهة من الكعبة يصلي إليها جنوبية أو شمالية أو شرقية أو غربية واحتجوا على هذا القول بوجهين الأول قوله تعالى هُوَ مُوَلّيهَا يعني الله موليها وتولية الله لم تحصل إلا في الكعبة لأن ما عداها تولية الشيطان الثاني أن الله تعالى عقبه بقوله فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ والظاهر أن المراد من هذه الخيرات ما لكل أحد من جهة والجهات الموصوفة بالخيرية ليست إلا جهات الكعبة ورابعها قال آخرون ولكل وجهة أي لكل واحد من الرسل وأصحاب الشرائع جهة قبلة فقبلة المقربين العرش وقبلة الروحانيين الكرسي وقبلة الكروبيين البيت المعمور وقبلة الأنبياء الذين قبلك بيت المقدس وقبلتك الكعبة
أما قوله تعالى وِجْهَة ٌ ففيه مسألتان
المسألة الأولى قرىء وَلِكُلّ وِجْهَة ٌ على الإضافة والمعنى وكل وجهة هو موليها فزيدت لالام لتقدم المفعول كقولك لزيد ضربت ولزيد أبوه ضارب
المسألة الثانية قال الفاء وجهة وجهة ووجه بمعنى واحد واختلفوا في المراد فقال الحسن المراد المنهاج والشرع وهو كقوله تعالى لّكُلّ أُمَّة ٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً ( الحج 67 ) لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ ( المائدة 48 ) شِرْعَة ً وَمِنْهَاجاً ( المائدة 48 ) والمراد منه أن للشرائع مصالح فلا جرم اختلفت الشرائع بحسب اختلاف الأشخاص وكما اختلف بحسب اختلاف الأشخاص لم يبعد أيضاً اختلافها بحسب اختلاف الزمان بالنسبة إلى شخص واحد فلهذا صح القول بالنسخ والتغيير وقال الباقون المراد منه أمر القبلة لأنه تقدم قوله تعالى فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ( البقرة 144 ) فهذه الوجهة يجب أن تكون محمولة على ذلك
أما قوله هُوَ مُوَلّيهَا ففيه وجهان الأول أنه عائد إلى الكل أي ولكل أحد وجهة هو مولى وجهه

إليها الثاني أنه عائد إلى اسم الله تعالى أي الله تعالى يوليها إياه وتقدير الكلام على الوجه الأول أن نقول أن لكل منكم وجهة أي جهة من القبلة هو موليها أي هو مستقبلها ومتوجه إليها لصلاته التي هو متقرب بها إلى ربه وكل يفرح بما هو عليه ولا يفارقه فلا سبيل إلى اجتماعكم على قبلة واحدة مع لزوم الأديان المختلفة فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ أي فالزموا معاشر المسلمين قبلتكم فإنكم على خيرات من ذلك في الدنيا والآخرة أما في الدنيا فلشرفكم بقبلة إبراهيم وأما في الآخرة فللثواب العظيم الذي تأخذونه على انقيادكم لأوامره فإن إلى الله مرجعكم وأينما تكونوا من جهات الأرض يأت بكم الله جميعاً في صعيد القيامة فيفصل بين المحق منكم والمبطل حتى يتبين من المطيع منكم ومن العاصي ومن المصيب منكم ومن المخطىء إنه على ذلك قادر ومن قال بهذا التأويل قال المراد أن لكل من أهل الملل وجهة قد اختارها إما بشريعة وإما بهوى فلستم تؤخذون بفعل غيركم فإنما لهم أعمالهم ولكم أعمالكم وإما تقرير الكلام على الوجه الثاني أعني أن يكون الضمير في قوله هُوَ مُوَلّيهَا عائداً إلى الله تعالى فههنا وجهان الأول أن الله عرفنا أن كل واحدة من هاتين القبلتين اللتين هما بيت المقدس والكعبة جهة يوليها الله تعالى عباده إذا شاء يفعله على حسب ما يعلمه صلاحاً فالجهتان من الله تعالى وهو الذي ولى وجوه عباده إليهما فاستبقوا الخيرات بالانقياد لأمر الله في الحالتين فإن انقيادكم خيرات لكم ولا تلتفتوا إلى مطاعن هؤلاء الذين يقولون مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ ( البقرة 142 ) فإن الله يجمعكم وهؤلاء السفهاء جميعاً في عرصة القيامة فيفصل بينكم الثاني أنا إذا فسرنا قوله وَلِكُلّ وِجْهَة ٌ بجهات الكعبة ونواحيها كان المعنى ولكل قوم منكم معاشر المسلمين وجهة أي ناحية من الكعبة فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ بالتوجه إليها من جميع النواحي فإنها وإن اختلفت بعد أن تؤدي إلى الكعبة فهي كجهة واحدة ولا يخفى على الله نياتهم فهو يحشرهم جميعاً ويثيبهم على أعمالهم
أما قوله تعالى هُوَ مُوَلّيهَا أي هو موليها وجهه فاستغنى عن ذكر الوجه قال الفراء أي مستقبلها وقال أبو معاذ موليها على معنى متوليها يقال قد تولاها ورضيها وأتبعها وفي قراءة عبد الله بن عامر النخعي هُوَ وهي قراءة ابن عباس وأبي جعفر ومحمد بن علي الباقر وفي قراءة الباقين هُوَ مُوَلّيهَا ولقراءة ابن عامر معنيان أحدهما أن ما وليته فقد ولاك لأن معنى وليته أي جعلته بحيث تليه وإذا صار هذا بحيث يلي ذلك فذاك أيضاً يلي هذا فإذن قد ولى كل واحد منهما الآخر وهو كقوله تعالى فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ ( البقرة 37 ) و لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ( البقرة 124 ) والظالمون وهذا قول الفراء والثاني هُوَ مُوَلّيهَا أي وقد زينت له تلك الجهة وحببت إليه أي صارت بحيث يحبها ويرضاها
أما قوله فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ فمعناه الأمر بالبدار إلى الطاعة في وقتها واعلم أن أداء الصلاة في أول الوقت عند الشافعي رضي الله عنه أفضل خلافاً لأبي حنيفة واحتج الشافعي بوجوه أولها أن الصلاة خير لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( الصلاة خير موضوع ) وإذا كان كذلك وجب أن يكون تقديمه أفضل لقوله تعالى فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ وظاهر الأمر للوجوب فإذا لم يتحقق فلا أقل من الندب وثانيها قوله سَابِقُواْ إِلَى مَغْفِرَة ٍ مّن رَّبّكُمْ ( الحديد 21 ) ومعناه إلى ما يوجب المغفرة والصلاة مما يوجب المغفرة فوجب أن تكون المسابقة إليها مندوبة

وثالثها قوله تعالى وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ( الواقعة 10 11 ) ولا شك أن المراد منه السابقون في الطاعات ولا شك أن الصلاة من الطاعات وقوله تعالى أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ يفيد الحصر فمعناه أنه لا يقرب عند الله إلا السابقون وذلك يدل على أن كمال الفضل منوط بالمسابقة ورابعها قوله تعالى وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَة ٍ مّن رَّبّكُمْ ( آل عمران 133 ) والمعنى وسارعوا إلى ما يوجب المغفرة ولا شك أن الصلاة كذلك فكانت المسارعة بها مأمورة وخامسها أنه مدح الأنبياء المتقدمين بقوله تعالى إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْراتِ ( الأنبياء 90 ) ولا شك أن الصلاة من الخيرات لقوله عليه السلام ( خير أعمالكم الصلاة ) وسادسها أنه تعالى ذم إبليس في ترك المسارعة فقال مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ( الأعراف 12 ) وهذا يدل على أن ترك المسارعة موجب للذم وسابعها قوله تعالى حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَواتِ ( البقرة 238 ) والمحافظة لا تحصل إلا بالتعجيل ليأمن الفوت بالنسيان وسائر الأشغال وثامنها قوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبّ لِتَرْضَى ( طه 84 ) فثبت أن الاستعجال أولى وتاسعها قوله تعالى لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَة ً مّنَ الَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ ( الحديد 10 ) فبين أن المسابقة سبب لمزيد الفضيلة فكذا في هذه الصورة وعاشرها ما روى عمر وجرير بن عبد الله وأنس وأبو محذورة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( الصلاة في أول الوقت رضوان الله وفي آخره عفو الله ) قال الصديق رضي الله عنه رضوان الله أحب إلينا من عفوه قال الشافعي رضي الله عنه رضوان الله إنما يكون للمحسنين والعفو يوشك أن يكون عن المقصرين فإن قيل هذا احتجاج في غير موضعه لأنه يقتضي أن يأثم بالتأخير وأجمعنا على أنه لا يأثم فلم يبق إلا أن يكون معناه أن الفعل في آخر الوقت يوجب العفو عن السيئات السابقة وما كان كذلك فلا شك أنه يوجب رضوان الله فكان التأخير موجباً للعفو والرضوان والتقديم موجباً للرضوان دون العفو فكان التأخير أولى قلنا هذا ضعيف من وجوه الأول أنه لو كان كذلك لوجب أن يكون تأخير المغرب أفضل وذلك لم يقله أحد الثاني أنه عدم المسارعة الامتثال يشبه عدم الالتفات وذلك يقتضي العقاب إلا أنه لما أتى بالفعل بعد ذلك سقط ذلك الاقتضاء الثالث أن تفسير أبي بكر الصديق رضي الله عنه يبطل هذا التأويل الذي ذكروه
الحادي عشر روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( يا علي ثلاث لا تؤخرها الصلاة إذا أتت والجنازة إذا حضرت والأيم إذا وجدت لها كفؤا )
الثاني عشر عن ابن مسعود أنه سأل الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فقال أي الأعمال أفضل فقال الصلاة لميقاتها الأول
الثالث عشر روى أبو هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( إن الرجل ليصلي الصلاة وقد فاته من أول الوقت

ما هو خير له من أهله وماله )
الرابع عشر قال عليه السلام ( من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ) فمن كان أسبق في الطاعة كان هو الذي سن عمل الطاعة في ذلك الوقت فوجب أن يكون ثوابه أكثر من ثواب المتأخر
الخامس عشر إنا توافقنا على أن أحد أسباب الفضيلة فيما بين الصحابة المسابقة إلى الإسلام حتى وقع الخلاف الشديد بين أهل السنة وغيرهم أن أبا بكر أسبق إسلاماً أم علياً وما ذاك إلا اتفاقهم على أن المسابقة في الطاعة توجب مزيد الفضل وذلك يدل على قولنا
السادس عشر قوله عليه السلام في خطبة له ( وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشتغلو ) ولا شك أن الصلاة من الأعمال الصالحة
السابع عشر أن تعجيل حقوق الآدميين أفضل من تأخيرها فوجب أن يكون الحال في أداء الله تعالى كذلك والجامع بينهما رعاية معنى التعظيم
الثامن عشر أن المبادرة والمسارعة إلى الصلاة إظهار للحرص على الطاعة والولوع بها والرغبة فيها وفي التأخير كسل عنها فيكون الأول أولى
التاسع عشر أن الاحتياط في تعجيل الصلاة لأنه إذا أداها في أول الوقت تفرغت ذمته فإذا أخر فربما عرض له شغل فمنعه عن أدائها فيبقى الواجب في ذمته فالوجه الذي يحصل فيه الاحتياط لا شك أنه أولى
العشرون أجمعنا في صوم رمضان أن تعجيله أفضل من تأخيره وذلك لأن المريض يجوز له أن يفطر ويؤخر الصوم ويجوز له أن يعجل ويصوم في الحال ثم أجمعنا على أن التعجيل في الصوم أفضل على ما قال وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ ( البقرة 184 ) فوجب أيضاً أن يكون التعجيل في الصلاة أولى فإن قيل تنتقض هذه الدلائل القياسية بالظهر في شدة الحر أو بما إذا حصل له رجاء إدراك الجماعة أو وجود الماء قلنا التأخير ثبت في هذه المواضع لأمور عارضة وكلامنا في مقتضى الأصل
الحادي والعشرون المسارعة إلى الامتثال أحسن في العرف من ترك المسارعة فوجب أن يكون في الشرع كذلك لقوله عليه السلام ( ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن )
الثاني والعشرون صلاة كملت شرائطها فوجب أداؤها في أول الوقت كالمغرب ففيه احتراز عن الظهر في شدة الحر لأنه إنما يستحب التأخير إذا أراد أن يصليها في المسجد لأجل أن المشي إلى المسجد في شدة الحر كالمانع أما إذا صلاها في داره فالتعجيل أفضل وفيه احتراز عمن يدافع الأخبثين أو حضره الطعام وبه جوع لهذا المعنى أيضاً وكذلك المتيمم إذا كان على ثقة من وجود الماء وكذلك إذا توقع حضور الجماعة فإن الكمال لم يحصل في هذه الصورة فهذه هي الأدلة الدالة على أن المسارعة أفضل ولنذكر كل واحد من الصلوات
أما صلاة الفجر فقال محمد المستحب أن يدخل فيها بالتغليس ويخرج منها بالإسفار فإن أراد الاقتصار على أحد الوقتين فالإسفار أفضل وقال الشافعي رضي الله عنه التغليس أفضل وهو مذهب أبي

بكر وعمر وبه قال مالك وأحمد واحتج الشافعي رضي الله عنه بعد الدلائل السالفة بوجوه أحدها ما أخرج في الصحيحين برواية عائشة رضي الله عنها أنها قالت ( كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ليصلي الصبح فينصرف والنساء متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس ) قال محيي السنة في كتاب ( شرح السنة ) متلفعات بمروطهن أي متجللات بأكسيتهن والتلفع بالثوب الاشتمال والمروط الأردية الواسعة واحدها مرط والغلس ظلمة آخر الليل فإن قيل كان هذا في ابتداء الإسلام حين كان النساء يحضرن الجماعات فكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يصلي بالغلس كيلا يعرفن وهكذا كان عمر رضي الله عنه يصلي بالغلس ثم لما نهين عن الحضور في الجماعات ترك ذلك قلنا الأصل المرجوع إليه في إثبات جميع الأحكام عدم النسخ ولولا هذا الأصل لما جاز الاستدلال بشيء من الدلائل الشرعية وثالثها ما أخرج في الصحيحين عن قتادة عن أنس عن زيد بن ثابت قال تسحرنا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثم قمنا إلى الصلاة قال قلت كم كان قدر ذلك قال قدر خمسين آية وهذا يدل أيضاً على التغليس وثالثها ما روي عن أبي مسعود الأنصاري أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) غلس بالصبح ثم أسفر مرة ثم لم يعد إلى الإسفار حتى قبضة الله تعالى ورابعها أنه تعالى مدح المستغفرين بالأسحار فقال وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالاْسْحَارِ ( آل عمران 17 ) ومدح التاركين للنوم فقال تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً ( السجدة 16 ) وإذا ثبت هذا وجب أن يكون ترك النوم بأداء الفرائض أفضل لقوله عليه السلام حكاية عن الله ( لن يتقرب المتقربون إلي بمثل أداء ما افترضت عليهم ) وإذا كان الأمر كذلك وجب أن يكون التغليس أفضل وخامسها أن النوم في ذلك الوقت أطيب فيكون تركه أشق فوجب أن يكون ثوابه أكثر لقوله عليه السلام ( أفضل العبادات أحمزها ) أي أشقها واحتج أبو حنيفة بوجوه أحدها قوله عليه السلام ( أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر ) وثانيها روى عبد الله بن مسعود أنه صلى الفجر بالمزدلفة فغلس ثم قال ابن مسعود ما رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) صلوات إلا لميقاتها إلا صلاة الفجر فإنه صلاها يومئذ لغير ميقاتها وثالثها عن ابن مسعود قال ما رأيت أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حافظوا على شيء ما حافظوا على التنوير بالفجر ورابعها عن أبي بكر رضي الله عنه أنه صلى الفجر فقرأ آل عمران فقالوا كادت الشمس أن تطلع فقال لو طلعت لم تجدنا غافلين وعن عمر أنه قرأ البقرة فاستشرقوا الشمس فقال لو طلعت لم تجدنا غافلين وخامسها أن تأخير الصلاة يشتمل على فضيلة الإنتظار وقال عليه السلام ( المنتظر للصلاة كمن هو في الصلاة ) فمن أخر الصلاة عن أول وقتها فقد انتظر الصلاة أولاً ثم بها ثانياً ومن صلاها في أول الوقت فقد فاته فضل الانتظار وسادسها أن التأخير يفضي إلى كثرة الجماعة فوجب أن يكون أولى تحصيلاً لفضل الجماعة وسابعها أن التغليس يضيق على الناس لأنه إذا كان الصلاة في وقت الغليس احتاج الإنسان إلى أن يتوضأ بالليل حتى يتفرغ للصلاة بعد طلوع الفجر والحرج منفى شرعاً وثامنها أنه تكره الصلاة بعد صلاة الفجر فإذا صلى وقت الإسفار فإنه يقل وقت الكراهة وإذا صلى بالتغليس فإنه يكثر وقت الكراهة
والجواب عن الأول أن الفجر اسم للنور الذي ينفي به ظلام المشرق فالفجر إنما يكون فجراً لو كانت الظلمة باقية في الهواء فأما إذا زالت الظلمة بالكلية واستنار الهواء لم يكن ذلك فجراً وأما الإسفار فهو

عبارة عن الظهور يقال أسفرت المرأة عن وجهها إذا كشفت عنه إذا ثبت هذا فنقول ظهور الفجر إنما يكون عند بقاء الظلام في الهواء فإن الظلام كلما كان أشد كان النور الذي يظهر فيما بين ذلك الظلام أشد فقوله ( أسفروا بالفجر ) يجب أن يكون محمولاً على التغليس أي كلما وقعت صلاتكم حين كان الفجر أظهر وأبهر كان أكثر ثواباً وقد بينا أن ذلك لا يكون إلا في أول الفجر وهذا معنى قول الشافعي رضي الله عنه أن الإسفار المذكور في الحديث محمول على تيقن طلوع الفجر وزوال الشك عنه والذي يدل على ما قلنا أن أداء الصلاة في ذلك الوقت أشق فوجب أن يكون أكثر ثواباً وأما تأخير الصلاة إلى وقت التنوير فهو عادة أهل الكسل فكيف يمكن أن يقول الشارع إن الكسل أفضل من الجد في الطاعة
والجواب عن الثاني وهو قول ابن مسعود حافظوا على التنوير بالفجر فجوابه هذا الذي قررناه لأن التنوير بالفجر إنما يحصل في أول الوقت فأما عند امتلاء العالم من النور فإنه لا يسمى ذلك فجراً وأما سائر الوجوه فهي معارضة ببعض ما قدمناه والله أعلم
أما قوله تعالى أَيْنَمَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فهو وعد لأهل الطاعة ووعيد لأهل المعصية كأنه تعالى قال استبقوا أيها المحققون والعارفون بالنبوة والشريعة الخيرات وتحملوا فيها المشاق لتصلوا يوم القيامة إلى مالكم عند الله من أنواع الكرامة والزلفى ثم إنه سبحانه حقق بقوله إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَى ْء قَدِيرٌ وذلك لأن الإعادة في نفسها ممكنة وهو قادر على جميع الممكنات فوجب أن يكون قادراً على الإعادة وأما المسائل المستبنطة من هذه الآية فقد ذكرناها في قوله تعالى وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَى ْء قَدِيرٌ ( البقرة 20 )
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّة ٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِى وَلاٌّ تِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
اعلم أن أول ما في هذه الآية من البحث أن الله تعالى قال قبل هذه الآيات قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَة ً تَرْضَاهَا فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ ( البقرة 144 ) وذكر ههنا ثانياً قوله تعالى وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وذكر ثالثاً قوله وَمِنْ

حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّة ٌ فهل في هذا التكرار فائدة أم لا وللعلماء فيه أقوال أحدها أن الأحوال ثلاثة أولها أن يكون الإنسان في المسجد الحرام وثانيها أن يخرج عن المسجد الحرام ويكون في البلد وثالثها أن يخرج عن البلد إلى أقطار الأرض فالآية الأولى محمولة على الحالة الأولى والثانية على الثانية والثالثة على الثالثة لأنه قد كان يتوهم أن للقرب حرمة لا تثبت فيها للعبد فلأجل إزالة هذا الوهم كرر الله تعالى هذه الآيات
والجواب الثاني أنه سبحانه إنما أعاد ذلك ثلاث مرات لأنه علق بها كل مرة فائدة زائدة أما في المرة الأولى فبين أن أهل الكتاب يعلمون أن أمر نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وأمر هذه القبلة حق لأنهم شاهدوا ذلك في التوراة والإنجيل وأما في المرة الثانية فبين أنه تعالى يشهد أن ذلك حق وشهادة الله بكونه حقاً مغايرة لعلم أهل الكتاب بكونه حقاً وأما في المرة الثالثة فبين أنه إنما فعل ذلك لئلا يكون للناس عليكم حجة فلما اختلفت هذه الفوائد حسنت إعادتها لأجل أن يترتب في كل واحدة من المرات واحدة من هذه الفوائد ونظيره قوله تعالى فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَاذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُمْ مّمَّا كَتَبَتْ
والجواب الثالث أنه تعالى قال في الآية الأولى فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَة ً تَرْضَاهَا فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ فكان ربما يخطر ببال جاهل أنه تعالى إنما فعل ذلك طلباً لرضا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه قال فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَة ً تَرْضَاهَا فأزال الله تعالى هذا الوهم الفاسد بقوله وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبّكَ أي نحن ما حولناك إلى هذه القبلة بمجرد رضاك بل لأجل أن هذا التحويل هو الحق الذي لا محيد عنه فاستقبالها ليس لأجل الهوى والميل كقبلة اليهود المنسوخة التي إنما يقيمون عليها بمجرد الهوى والميل ثم أنه تعالى قال ثالثاً وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ والمراد دوموا على هذه القبلة في جميع الأزمنة والأوقات ولا تولوا فيصير ذلك التولي سبباً للطعن في دينكم والحاصل أن الآية السالفة أمر بالدوام في جميع الأمكنة والثانية أمر بالدوام في جميع الأزمنة والأمكنة والثالثة أمر بالدوام في جميع الأزمنة وإشعار بأن هذا لا يصير منسوخاً ألبتة
والجواب الرابع أن الأمر الأول مقرون بإكرامه إياهم بالقبلة التي كانوا يحبونها وهي قبلة أبيهم إبراهيم عليه السلام والثاني مقرون بقوله تعالى وَلِكُلّ وِجْهَة ٌ هُوَ مُوَلّيهَا ( البقرة 148 ) أي لكل صاحب دعوة وملة قبلة يتوجه إليها فتوجهوا أنتم إلى أشرف الجهات التي يعلم الله تعالى أنها حق وذلك هو قوله وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبّكَ والثالث مقرون بقطع الله تعالى حجة من خاصمه من اليهود في أمرالقبلة فكانت هذه عللاً ثلاثاً قرن بكل واحدة منها أمر بالتزام القبلة نظيره أن يقال ألزم هذه القبلة فإنها القبلة التي كنت تهواها ثم يقال ألزم هذه القبلة فإنها الحق لا قبلة الهوى وهو قوله وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبّكَ ثم يقال ألزم هذه القبلة فإن في لزومك إياها انقطاع حجج اليهود عنك وهذا التكرار في هذا

الموضع كالتكرار في قوله تعالى فَبِأَى ّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ ( الرحمن 12 ) وكذلك ما كرر في قوله تعالى إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَة ً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ ( الشعراء 174 )
والجواب الخامس أن هذه الواقعة أول الوقائع التي ظهر النسخ فيها في شرعنا فدعت الحاجة إلى التكرار لأجل التأكيد والتقرير وإزالة الشبهة وإيضاح البينات
أما قوله تعالى وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ( البقرة 74 ) يعني ما يعمله هؤلاء المعاندون الذين يكتمون الحق وهم يعرفونه ويدخلون الشبهة على العامة بقولهم مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُواْ عَلَيْهَا ( البقرة 142 ) وبأنه قد اشتاق إلى مولده ودين آبائه فإن الله عالم بهذا فأنزل ما أبطله وكشف عن وهنه وضعفه
أما قوله لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّة ٌ ففيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن هذا الكلام يوهم حجاجاً وكلاماً تقدم من قبل في باب القبلة عن القوم فأراد الله تعالى أن يبين أن تلك الحجة تزول الآن باستقبال الكعبة وفي كيفية تلك الحجة روايات أحدها أن اليهود قالوا تخالفنا في ديننا وتتبع قبلتنا وثانيها قالوا ألم يدر محمد أين يتوجه في صلاته حتى هديناه وثالثها أن العرب قالوا إنه كان يقول أنا على دين إبراهيم والآن ترك التوجه إلى الكعبة ومن ترك التوجه إلى الكعبة فقد ترك دين إبراهيم عليه السلام فصارت هذه الوجوه وسائل لهم إلى الطعن في شرعه عليه الصلاة والسلام إلا أن الله تعالى لما علم أن الصلاح في ذلك أوجب عليهم التوجه إلى بيت المقدس لما فيه من المصلحة في الدين لأن قولهم لا يؤثر في المصالح وقد بينا من قبل تلك المصلحة وهي تميز من اتبعه بمكة ممن أقام على تكذيبه فإن ذلك الامتياز ما كان يظهر إلا بهذا الجنس ولما انتقل عليه الصلاة والسلام إلى المدينة تغيرت المصلحة فاقتضت الحكمة تحويل القبلة إلى الكعبة فلهذا قال الله تعالى لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّة ٌ يعني تلك الشبهة التي ذكروها تزول بسبب هذا التحويل ولما كان فيهم من المعلوم من حاله أنه يتعلق عند هذا التحويل بشبهة أخرى وهو قول بعض العرب إن محمداً عليه الصلاة والسلام عاد إلى ديننا في الكعبة وسيعود إلى ديننا بالكلية وكان التمسك بهذه الشبهة والاستمرار عليها سبباً للبقاء على الجهل والكفر وذلك ظلم على النفس على ما قال تعالى إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( لقمان 13 ) فلا جرم قال الله تعالى إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ
المسألة الثانية قرأ نافع لَيْلاً يترك الهمزة وكل همزة مفتوحة قبلها كسرة فإنه يقلبها ياء والباقون بالهمزة وهو الأصل
المسألة الثالثة ( لئلا ) موضعه نصب والعامل فيه ( ولوا ) أي ولوا لئلا وقال الزجاج التقدير عرفتكم ذلك لئلا يكون للناس عليكم حجة
المسألة الرابعة قيل الناس هم أهل الكتاب عن قتادة والربيع وقيل هو على العموم
المسألة الخامسة ههنا سؤال وهو أن شبهة هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم ليست بحجة فكيف يجوز استثناؤها عن الحجة وقد اختلف الناس فيه على أقوال الأول أنه استثناء متصل ثم على هذا القول يمكن دفع السؤال من وجوه

الوجه الأول أن الحجة كما أنها قد تكون صحيحة قد تكون أيضاً باطلة قال الله تعالى حُجَّتُهُمْ دَاحِضَة ٌ عِندَ رَبّهِمْ ( الشورى 16 ) وقال تعالى فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ ( آل عمران 61 ) والمحاجة هي أن يورد كل واحد منهم على صاحبه حجة وهذا يقتضي أن يكون الذي يورد المبطل يسمى بالحجة ولأن الحجة اشتقاقها من حجة إذا علا عليه فكل كلام يقصد به غلبة الغير فهو حجة وقال بعضهم إنها مأخوذة من محجة الطريق فكل كلام يتخذه الإنسان مسلكاً لنفسه في إثبات أو إبطال فهو حجة وإذا ثبت أن الشبهة قد تسمى حجة كان الاستثناء متصلاً
الوجه الثاني في تقرير أنه استثناء متصل أن المراد بالناس أهل الكتاب فإنهم وجدوه في كتابهم أنه عليه الصلاة والسلام يحول القبلة فلما حولت بطلت حجتهم إلا الذين ظلموا بسبب أنهم كتموا ما عرفوا عن أبي روق
الوجه الثالث أنهم لما أوردوا تلك الشبهة على اعتقاد أنها حجة سماها الله ( حجة ) بناء على معتقدهم أو لعله تعالى سماها ( حجة ) تهكماً بهم
الوجه الرابع أراد بالحجة المحاجة والمجادلة فقال لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّة ٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فإنهم يحاجونكم بالباطل
القول الثاني أنه استثناء منقطع ومعناه لكن الذين ظلموا منهم يتعلقون بالشبهة ويضعونها موضع الحجة وهو كقوله تعالى مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنّ ( النساء 157 ) وقال النابغة ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
بهن فلول من قراع الكتائب
ومعناه لكن بسيوفهم فلول وليس بعيب ويقال ما له على حق إلا التعدي يعني لكنه يتعدى ويظلم ونظيره أيضاً قوله تعالى إِنّى لاَ يَخَافُ لَدَى َّ الْمُرْسَلُونَ إَلاَّ مَن ظَلَمَ ( النمل 10 11 ) وقال لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ ( هود 43 ) وهذا النوع من الكلام عادة مشهورة للعرب
القول الثالث زعم أبو عبيدة أن ( إلا ) بمعنى الواو كأنه تعالى قال لئلا يكون للناس عليكم حجة وللذين ظلموا وأنشد وكل أخ مفارقه أخوه
لعمر أبيك إلا الفرقدان
يعني والفرقدان
القول الرابع قال قطرب موضع الَّذِينَ خفض لأنه بدل من الكاف والميم في عليكم كأنه قيل لئلا يكون عليكم حجة إلا الذين ظلموا فإنه يكون حجة عليهم وهم الكفار قال علي ابن عيسى هذان الوجهان بعيدان
أما قوله تعالى فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِى فالمعنى لا تخشوا من تقدم ذكره ممن يتعنت ويجادل ويحاج ولا تخافوا مطاعنهم في قبلتكم فإنهم لا يضررنكم واخشوني يعني احذروا عقابي إن أنتم عدلتم عما ألزمتكم وفرضت عليكم وهذه الآية يدل على أن الواجب على المرء في كل أفعاله وتروكه أن ينصب بين عينيه خشية عقاب الله وأن يعلم أنه ليس في يد الخلق شيء ألبتة وأن لا يكون مشتغل القلب بهم

ولا ملتفت الخاطر إليهم
أما قوله تعالى وَلاِتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ فقد اختلفوا في متعلق اللام على وجوه أحدها أنه راجع إلى قوله تعالى لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّة ٌ وَلاِتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ فبين الله تعالى أنه حولهم إلى هذه الكعبة لهاتين الحكمتين إحداهما لانقطاع حجتهم عنه والثانية لتمام النعمة وقد بين أبو مسلم بن بحر الأصفهاني ما في ذلك من النعمة وهو أن القوم كانوا يفتخرون باتباع إبراهيم في جميع ما كانوا يفعلون فلما حول ( صلى الله عليه وسلم ) إلى بيت المقدس لحقهم ضعف قلب ولذلك كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يحب التحول إلى الكعبة لما فيه من شرف البقعة فهذا موضع النعمة وثانيها أن متعلق اللام محذوف معناه ولإتمام النعمة عليكم وإرادتي اهتداءكم أمرتكم بذلك وثالثها أن يعطف على علة مقدرة كأنه قيل واحشوني لأوفقكم ولأتم نعمتي عليكم والقول الأول أقرب إلى الصواب فإن قيل إنه تعالى أنزل عند قرب وفاة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى ( المائدة 3 ) فبين أن تمام النعمة إنما حصل ذلك اليوم فكيف قال قبل ذلك اليوم بسنين كثيرة في هذه الآية وَلاِتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ قلنا تمام النعمة اللائقة في كل وقت هو الذي خصه به وفي الحديث ( تمام النعمة دخول الجنة ) وعن علي رضي الله عنه تمام النعمة الموت على الإسلام
واعلم أن الذي حكيناه عن أبي مسلم رحمه الله من التشكك في صلاة الرسول وصلاة أمته إلى بيت المقدس فإن كان مراده أن ألفاظ القرآن لا تدل على ذلك فقد أصاب لأن شيئاً من ألفاظ القرآن لا دلالة فيه على ذلك البتة على ما بيناه وإن أراد به إنكاره أصلاً فبعيد لأن الأخبار في ذلك قريبة من المتواتر ولأبي مسلم رحمه الله أن يمنع التواتر وعند ذلك يقول لا يصح التعويل في القطع بوقوع النسخ في شرعنا على خبر الواحد والله أعلم
كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنْكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ
اعلم أنا قد بينا أن الله تعالى استدل على صحة دين محمد عليه الصلاة والسلام بوجوه بعضها إلزامية وهو أن هذا الدين دين إبراهيم فوجب قبوله وهو المراد بقوله وَمَن يَرْغَبُ عَن مِلَّة ِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ( البقرة 130 ) وبعضها برهانية وقوله قُولُواْ ءامَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْراهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالاسْبَاطِ ( البقرة 136 ) ثم إنه سبحانه وتعالى عقب هذا الإستدلال بحكاية شبهتين لهم إحداهما قوله وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ ( البقرة 135 ) والثانية استدلالهم بإنكار النسخ على القدح في هذه الشريعة وهو قول سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُواْ عَلَيْهَا ( البقرة 142 ) وأطنب الله

تعالى في الجواب عن الشبهة وبالحق فعل ذلك لأن أعظم الشبهة لليهود في إنكار نبوة محمد عليه الصلاة والسلام النسخ فلا جرم أطنب الله تعالى في الجواب عن هذه الشبهة وختم ذلك الجواب بقوله وَلاِتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ فصار هذا الكلام مع ما فيه من الجواب عن الشبهة تنبيهاً على عظيم نعم الله تعالى ولا شك أن ذلك أشد استمالة لحصول العز والشرف في الدنيا والتخلص في الذل والمهانة يكون مرغوباً فيه وعند اجتماع الأمرين فقد بلغ النهاية في هذا الباب
أما قوله كَمَا أَرْسَلْنَا ففيه مسائل
المسألة الأولى هذا الكاف إما أن يتعلق بما قبله أو بما بعده فإن قلنا إنه متعلق بما قبله ففيه وجوه الأول أنه راجع إلى قوله وَلاِتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ ( البقرة 150 ) أي ولأتم نعمتي عليكم في الدنيا بحصول الشرف وفي الآخرة بالفوز بالثواب كما أتممتها عليكم في الدنيا بإرسال الرسول الثاني أن إبراهيم عليه السلام قال رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُزَكّيهِمْ ( البقرة 129 ) وقال أيضاً وَمِن ذُرّيَّتِنَا أُمَّة ً مُّسْلِمَة ً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا ( البقرة 128 ) فكأنه تعالى قال ولأتم نعمتي عليكم ببيان الشرائع وأهديكم إلى الدين إجابة لدعوة إبراهيم كما أرسلنا فيكم رسولاً إجابة لدعوته عن ابن جرير الثالث قول أبي مسلم الأصفهاني وهو أن التقدير وكذلك جعلناكم أمة وسطاً كما أرسلنا فيكم رسولاً أي كما أرسلنا فيكم رسولاً من شأنه وصفته كذا وكذا فكذلك جعلناكم أمة وسطاً وأما إن قلنا أنّه متعلق بما بعده فالتقدير كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يعلمكم الدين والشرع فاذكروني أذكركم وهو اختيار الأصم وتقريره إنكم كنتم على صورة لا تتلون كتاباً ولا تعلمون رسولاً ومحمد ( صلى الله عليه وسلم ) رجل منكم ليس بصاحب كتاب ثم أتاكم بأعجب الآيات يتلوه عليكم بلسانكم وفيه ما في كتب الأنبياء وفيه الخبر عن أحوالهم وفيه التنبيه على دلائل التوحيد والمعاد وفيه التنبيه على الأخلاق الشريفة والنهي عن أخلاق السفهاء وفي ذلك أعظم البرهان على صدقه فقال كما أوليتكم هذه النعمة وجعلتها لكم دليلاً فاذكروني بالشكر عليها أذكركم برحمتي وثوابي والذي يؤكده قوله تعالى لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ ( آل عمران 164 ) فلما ذكرهم هذه النعمة والمنة أمرهم في مقابلتها بالذكر والشكر فإن قيل ( كما ) هل يجوز أن يكون جواباً قلنا جوزه الفراء وجعل لأذكروني جوابين أحدهما كَمَا والثاني أَذْكُرْكُمْ ووجه ذلك لأنه أوجب عليهم الذكر ليذكرهم الله برحمته ولما سلف من نعمته قال القاضي والوجه الأول أولى لأنه قبل الكلام إذا وجد ما يتم به الكلام من غير فصل فتعلقه به أولى
المسألة الثانية في وجه التشبيه قولان إن قلنا لكاف متعلق بقوله ولأتم نعمتي كان المعنى أن النعمة في أمر القبلة كالنعمة بالرسالة لأنه تعالى يفعل الأصلح وإن قلنا إنه متعلق بقوله تعالى اذكروني دل ذلك على أن النعمة بالذكر جارية مجرى النعمة بالرسالة
المسألة الثالثة فِى مَا في قوله كَمَا أَرْسَلْنَا مصدرية كأنه قيل كإرسالنا فيكم ويحتمل أن تكون كافة
أما قوله تعالى فيكُمْ فالمراد به العرب وكذلك قوله مّنكُمْ وفي إرساله فيهم ومنهم نعم عظيمة عليهم لما لهم فيه الشرف ولأن المشهور من حال العرب الأنفة الشديدة من الإنقياد للغير فبعثه الله تعالى من واسطتهم ليكونوا إلى القبول أقرب

أما قوله تعالى يَتْلُو عَلَيْكُمْ ءايَاتِنَا فاعلم أنه من أعظم النعم لأنه معجزة باقية ولأنه يتلى فيتأدى به العبادات ولأنه يتلى فيستفاد منه جميع العلوم ولأنه يتلى فيستفاد منه مجامع الأخلاق الحميدة فكأنه يحصل من تلاوته كل خيرات الدنيا والآخرة
أما قوله وَيُزَكِيكُمْ ففيه أقوال أحدها أنه عليه الصلاة والسلام يعلمهم ما إذا تمسكوا به صاروا أزكياء عن الحسن وثانيها يزكيهم بالثناء والمدح أي يعلم ما أنتم عليه من محاسن الأخلاق فيصفكم به كما يقال إن المزكي زكي الشاهد أي وصفه بالزكاء وثالثها أن التزكية عبارة عن التنمية كأنه قال يكثركم كما قال إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ ( الأعراف 86 ) وذلك بأن يجمعهم على الحق فيتواصلوا ويكثروا عن أبي مسلم قال القاضي وهذه الوجوه غير متنافية فلعله تعالى يفعل بالمطيع كل ذلك
أما قوله تعالى وَيُعَلّمُكُمُ الْكِتَابَ فليس بتكرار لأن تلاوة القرآن عليهم غير تعليمه إياهم وأما ( الحكمة ) فهي العلم بسائر الشريعة التي يشتمل القرآن على تفصيلها ولذلك قال الشافعي رضي الله عنه ( الحكمة ) هي سنة الرسول عليه السلام
أما قوله وَيُعَلّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ فهذا تنبيه على أنه تعالى أرسله على حين فترة من الرسل وجهالة من الأمم فالخلق كانوا متحيرين ضالين في أمر أديانهم فبعث الله تعالى محمداً بالحق حتى علمهم ما احتاجوا إليه في دينهم وذلك من أعظم أنواع النعم
فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ
اعلم أن الله تعالى كلفنا في هذه الآية بأمرين الذكر والشكر أما الذكر فقد يكون باللسان وقد يكون بالقلب وقد يكون بالجوارح فذكرهم إياه باللسان أن يحمدوه ويسبحوه ويمجدوه ويقرؤا كتابه وذكرهم إياه بقلوبهم على ثلاثة أنواع أحدها أن يتفكروا في الدلائل الدالة على ذاته وصفاته ويتفكروا في الجواب عن الشبهة القادحة في تلك الدلائل وثانيها أن يتفكروا في الدلائل الدالة على كيفية تكاليفه وأحكامه وأوامره ونواهيه ووعده ووعيده فإذا عرفوا كيفية التكليف وعرفوا ما في الفعل من الوعد وفي الترك من الوعيد سهل فعله عليهم وثالثها أن يتفكروا في أسرار مخلوقات الله تعالى حتى تصير كل ذرة من ذرات المخلوقات كالمرآة المجلوة المحاذية لعالم القدس فإذا نظر العبد إليها انعكس شعاع بصره منها إلى عالم الجلال وهذا المقام مقام لا نهاية له أما ذكرهم إياه تعالى بجوارحهم فهو أن تكون جوارحهم مستغرقة في الأعمال التي أمروا بها وخالية عن الأعمال التي نهوا عنها وعلى هذا الوجه سمى الله تعالى الصلاة ذكراً بقوله فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ فصار الأمر بقوله اذكروني متضمناً جميع الطاعات فلهذا روي عن سعيد بن جبير أنه قال اذكروني بطاعتي فأجمله حتى يدخل الكل فيه أما قوله فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ فلا بد من حمله على ما يليق بالموضع والذي له تعلق بذلك الثواب والمدح وإظهار الرضا والإكرام وإيجاب

المنزلة وكل ذلك داخل تحت قوله أَذْكُرْكُمْ ثم للناس في هذه الآية عبارات الأولى اذكروني بطاعتي أذكركم برحمتي الثانية اذكروني بالإجابة والإحسان وهو بمنزلة قوله ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ ( غافر 60 ) وهو قول أبي مسلم قال أمر الخلق بأن يذكروه راغبين راهبين وراجين خائفين ويخلصوا الذكر له عن الشركاء فإذا هم ذكروه بالإخلاص في عبادته وربوبيته ذكرهم بالإحسان والرحمة والنعمة في العاجلة والآجلة الثالثة اذكروني بالثناء والطاعة أذكركم بالثناء والنعمة الرابعة اذكروني في الدنيا أذكركم في الآخرة الخامسة اذكروني في الخلوات أذكركم في الفلوات السادسة اذكروني في الرخاء أذكركم في البلاء السابعة اذكروني بطاعتي أذكركم بمعونتي الثامنة اذكروني بمجاهدتي أذكركم بهدايتي التاسعة اذكروني بالصدق والإخلاص أذكركم بالخلاص ومزيد الاختصاص العاشرة اذكروني بالربوبية في الفاتحة أذكركم بالرحمة والعبودية في الخاتمة
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَواة ِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ
اعلم أنه تعالى لما أوجب بقوله فَاذْكُرُونِى جميع العبادات وبقوله وَاشْكُرُواْ لِي ما يتصل بالشكر أردفه ببيان ما يعين عليهما فقال اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَواة ِ وإنما خصهما بذلك لما فيهما من المعونة على العبادات أما الصبر فهو قهر النفس على احتمال المكاره في ذات الله تعالى وتوطينها على تحمل المشاق وتجنب الجزع ومن حمل نفسه وقلبه على هذا التذليل سهل عليه فعل الطاعات وتحمل مشاق العبادات وتجنب المحظورات ومن الناس من حمل الصبر على الصوم ومنهم من حمله على الجهاد لأنه تعالى ذكر بعده وَلاَ تَقُولُواْ لِمَن يُقْتَلُ فِى سَبيلِ اللَّهِ ( البقرة 154 ) وأيضاً فلأنه تعالى أمر بالتثبت في الجهاد فقال إِذَا لَقِيتُمْ فِئَة ً فَاثْبُتُواْ ( الأنفال 45 ) وبالتثبت في الصلاة أي في الدعاء فقال وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ( آل عمران 147 ) إلا أن القول الذي اخترناه أولى لعموم اللفظ وعدم تقييده والاستعانة بالصلاة لأنها يجب أن تفعل على طريق الخضوع والتذلل للمعبود والإخلاص له ويجب أن يوفر همه وقلبه عليها وعلى ما يأتي فيها من قراءة فيتدبر الوعد والوعيد والترغيب والترهيب ومن سلك هذه الطريقة في الصلاة فقد ذلل نفسه لاحتمال المشقة فيما عداها من العبادات ولذلك قال اتْلُ مَا أُوْحِى َ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ ( العنكبوت 45 ) ولذلك نرى أهل الخير عند النوائب متفقين على الفزع إلى الصلاة وروي أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة
ثم قال إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ يعني في النصر لهم كما قال فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( البقرة 137 ) فكأنه تعالى ضمن لهم إذا هم استعانوا على طاعاته بالصبر والصلاة أن يزيدهم توفيقاً وتسديداً وألطافاً كما قال وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَواْ هُدًى ( مريم 76 )

وَلاَ تَقُولُواْ لِمَن يُقْتَلُ فِى سَبيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ
اعلم أن هذه الآية نظيرة قوله في آل عمران بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ ووجه تعلق الآية بما قبلها كأنه قيل استعينوا بالصبر والصلاة في إقامة ديني فإن احتجتم في تلك الإقامة إلى مجاهدة عدوي بأموالكم وأبدانكم ففعلتم ذلك فتلفت نفوسكم فلا تحسبوا أنكم ضيعتم أنفسكم بل اعلموا أن قتلاكم أحياء عندي وههنا مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس رضي الله عنهما نزلت الآية في قتلى بدر وقتل من المسلمين يومئذ أربعة عشر رجلاً ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار فمن المهاجرين عبيدة بن الحرث ابن عبد المطلب وعمر بن أبي وقاص وذو الشمالين وعمرو بن نفيلة وعامر بن بكر ومهجع بن عبد الله ومن الأنصار سعيد بن خيثمة وقيس بن عبد المنذر وزيد بن الحرث وتميم بن الهمام ورافع بن المعلى وحارثة بن سراقة ومعوذ بن عفراء وعوف بن عفراء وكانوا يقولون مات فلان ومات فلان فنهى الله تعالى أن يقال فيهم أنهم ماتوا وعن آخرين أن الكفار والمنافقين قالوا إن الناس يقتلون أنفسهم طلباً لمرضاة محمد من غير فائدة فنزلت هذه الآية
المسألة الثانية أَمْوَاتٌ رفع لأنه خبر مبتدأ محذوف تقديره لا تقولوا هم أموات
المسألة الثالثة في الآية أقوال
القول الأول أنهم في الوقت أحياء كأن الله تعالى أحياهم لإيصال الثواب إليهم وهذا قول أكثر المفسرين وهذا دليل على أن المطيعين يصل ثوابهم إليهم وهم في القبور فإن قيل نحن نشاهد أجسادهم ميتة في القبور فكيف يصح ما ذهبتم إليه قلنا أما عندنا فالبنية ليست شرطاً في الحياة ولا امتناع في أن يعيد الله الحياة إلى كل واحد من تلك الذرات والأجزاء الصغيرة من غير حاجة إلى التركيب والتأليف وأما عند المعتزلة فلا يبعد أن يعيد الله الحياة إلى الأجزاء التي لا بد منها في ماهية الحي ولا يعتبر بالأطراف ويحتمل أيضاً أن يحييهم إذا لم يشاهدوا
القول الثاني قال الأصم يعني لا تسموهم بالموتى وقولوا لهم الشهداء الأحياء ويحتمل أن المشركين قالوا هم أموات في الدين كما قال الله تعالى أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ ( الأنعام 122 ) فقال ولا تقولوا للشهداء ما قاله المشركون ولكن قولوا هم أحياء في الدين ولكن لا يشعرون يعني المشركون لا يعلمون أن من قتل على دين محمد عليه الصلاة والسلام حي في الدين وعلى هدى من ربه ونور كما روي في بعض الحكايات أن رجلاً قال لرجل ما مات رجل خلف مثلك وحكى عن بقراط أنه كان يقول لتلامذته موتوا بالإرادة تحيوا بالطبيعة أي بالروح
القول الثالث أن المشركين كانوا يقولون إن أصحاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) يقتلون أنفسهم ويخسرون حياتهم فيخرجون من الدنيا بلا فائدة ويضيعون أعمارهم إلى غير شيء وهؤلاء الذين قالوا ذلك يحتمل أنهم كانوا

دهرية ينكرون المعاد ويحتمل أنهم كانوا مؤمنين بالمعاد إلا أنهم كانوا منكرين لنبوة محمد عليه الصلاة والسلام فلذلك قالوا هذا الكلام فقال الله تعالى ولا تقولوا كما قال المشركون إنهم أموات لا ينشرون ولا ينتفعون بما تحملوا من الشدائد في الدنيا ولكن اعلموا أنهم أحياء أي سيحيون فيثابون وينعمون في الجنة وتفسير قوله أَحْيَاء بأنهم سيحيون غير بعيد قال الله تعالى إِنَّ الاْبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ ( الإنفطار 13 14 ) وقال أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ( الكهف 29 ) وقال إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِى الدَّرْكِ الاْسْفَلِ مِنَ النَّارِ ( النساء 145 ) وقال فَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فِى جَنَّاتِ النَّعِيمِ ( الحج 56 ) على معنى أنهم سيصيرون كذلك وهذا القول اختيار الكعبي وأبي مسلم الأصفهاني واعلم أن أكثر العلماء على ترجيح القول الأول والذي يدل عليه وجوه أحدها الآيات الدالة على عذاب القبر كقوله تعالى قَالُواْ رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ( غافر 11 ) والموتتان لا تحصل إلا عند حصول الحياة في القبر وقال الله تعالى أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً ( نوح 25 ) والفاء للتعقيب وقال النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَة ُ أَدْخِلُواْ ءالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ( غافر 46 ) وإذا ثبت عذاب القبر وجب القول بثواب القبر أيضاً لأن العذاب حق الله تعالى على العبد والثواب حق للعبد على الله تعالى فاسقاط العقاب أحسن من إسقاط الثواب فحيثما أسقط العقاب إلى يوم القيامة بل حققه في القبر كان ذلك في الثواب أولى وثانيها أن المعنى لو كان على ما قيل في القول الثاني والثالث لم يكن لقوله وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ معنى لأن الخطاب للمؤمنين وقد كانوا لا يعلمون أنهم سيحيون يوم القيامة وأنهم ماتوا على هدى ونور فعلم أن الأمر على ما قلنا من أن الله تعالى أحياهم في قبورهم وثالثها أن قوله وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم ( آل عمران 170 ) دليل على حصول الحياة في البرزخ قبل البعث ورابعها قوله عليه الصلاة والسلام ( القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران ) والأخبار في ثواب القبر وعذابه كالمتواترة وكان عليه الصلاة والسلام يقول في آخر صلاته ( وأعوذ بك من عذاب القبر ) وخامسها أنه لو كان المراد من قوله أنهم أحياء أنهم سيحيون فحينئذ لا يبقى لتخصيصهم بهذا فائدة أجاب عنه أبو مسلم بأنه تعالى إنما خصهم بالذكر لأن درجتهم في الجنة أرفع ومنزلتهم أعلى وأشرف لقوله تعالى وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ النَّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ ( النساء 69 ) فأرادهم بالذكر تعظيماً
واعلم أن هذا الجواب ضعيف وذلك لأن منزلة النبيين والصديقين أعظم مع أن الله تعالى ما خصهم بالذكر وسادسها أن الناس يزورون قبور الشهداء ويعظمونها وذلك يدل من بعض الوجوه على ما ذكرناه واحتج أبو مسلم على ترجيح قوله بأنه تعالى ذكر هذه الآية في آل عمران فقال بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ ( آل عمران 169 ) وهذه العندية ليست بالمكان بل بالكون في الجنة ومعلوم أن أهل الثواب لا يدخلون الجنة إلا بعد القيامة 

التالي بمشيئة الله هو ج5.وج6.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب الإبانة عن أصول الديانة علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري أبو الحسن

  كتاب الإبانة عن أصول الديانة علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري أبو الحسن بسم الله الرحمن الرحيم وهو حسبي ونعم الوكيل وصلى الله على...