الاثنين، 10 أبريل 2023

ج3. [ المستطرف في كل فن مستظرف لشهاب الدين محمد بن أحمد أبي الفتح الأبشيهي

ج3. [ المستطرف في كل فن مستظرف - الأبشيهي
الكتاب : المستطرف في كل فن مستظرف لشهاب الدين محمد بن أحمد أبي الفتح الأبشيهي
الناشر : دار الكتب العلمية - بيروت
الطبعة الثانية ، 1986
تحقيق : د.مفيد محمد قميحة
عدد الأجزاء :
2

بجارية جميلة جالسة فيها فسألتها عن حالها فقالت أنا من فزارة اختطفني عفريت يقال له ظليم وجعلني ههنا فهو يغيب عني بالليل ويأتيني بالنهار فقلت لها امضي معي فقالت أهلك أنا وأنت فإنه يتبعنا ويأتينا فيأخذني ويقتلك فقلت لا يستطيع أخذك ولا قتلي وما زلت أرددها الحديث حتى رضيت فأنخت لها ناقتي فركبتها وسرت بها حتى طلع الفجر فالتفت فإذا أنا بشخص عظيم مهول قد أقبل ورجلاه تخطان في الأرض فقالت ها هو قد أتانا فأنخت ناقتي وخططت حولها خطا وقرأت آيات من القرآن وتعوذت بالله العظيم فتقدم وأنشد يقول
( يا ذا الذي للحين يدعوه القدر ... )
( خل عن الحسناء ثم سر ... )
( وإن تكن ذا خبرة فينا اصطبر ... ) قال فأجبته
( يا ذا الذي للحين يدعوه الحمق ... )
( خل عن الحسناء رسلا وانطلق ... )
( ما أنت في الجن بأول من عشق ... ) قال فتبدى لي في صورة أسد وجاذبني وجاذبته ساعة فلم يظفر أحد منا بصاحبه فلما أيس مني قال هل لك في جز ناصيتي أو إحدى ثلاث خصال ؟ قلت وما هن ؟ قال مائتان من الإبل أو أخدمك أيام حياتي أو ألف دينار الساعة وخل بيني وبين الجارية فقلت لا أبيع ديني بدنياي ولا حاجة لي بخدمتك فاذهب من حيث أتيت فال فانطلق وهو يتكلم بكلام لا أفهمه وسرت بالجارية إلى أهلها وتزودت بها وجاءني منها أولاد

وقيل لما سخر الله تعالى الجن لسليمان عليه الصلاة و السلام نادى جبريل عليه السلام أيها الجن أجيبوا نبي الله سليمان بن داود بإذن الله تعالى قال فخرجت الجن والشياطين من الجبال والكهوف والغيران و الأودية والفلوات والآجام وهم يقولون لبيك لبيك والملائكة تسوقهم سوق الراعي للغنم حتى حشرت بين يدي سليمان عليه الصلاة و السلام طائعة ذليلة وكانوا إذ ذاك أربعا وعشرين فرقة فنطر إلى ألوانها فإذا هي سود وشقر ورقط وبيض وصفر وخضر وعلى صور جميع الحيوانات ومنهم من رأسه رأس أسد وبدنه بدن الفيل ومنهم من له خرطوم وذنب ومنهم من له قرون وحوافر وغير ذلك من الأنواع قال فعند ذلك تعجب نبي الله سليمان عليه الصلاة و السلام من هذه الأشكال وسجد شكرا لله تعالى وقال إلهي ألبسني هيبة من عندك وجعل يسألهم عن طباعهم وعن طعامهم وشرابهم وهو يجيبونه ثم فرقهم في الصنائع من قطع الصخور والأحجار والأشجار والغوص في البحار وأبنية الحصون وفي استخراج المعادن والجواهر قال الله تعالى ( هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب ) ونكتفي من ذلك بهذا القدر اليسير والله المسؤول في تيسير كل عسير وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

الباب الخامس والستون في ذكر البحار وما فيها من العجائب وذكر الأنهار والآبار وفيه فصول
الفصل الأول في ذكر البحار
روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال لما أراد الله تعالى أن يخلق الماء خلق ياقوتة خضراء لا يعلم طولها وعرضها إلا الله سبحانه وتعالى ثم نظر إليها بعين الهيبة فذابت وصارت ماء فاضطرب الماء فخلق الريح ووضع عليها الماء ثم خلق العرش ووضعه على متن الماء وعليه قوله تعالى ( وكان عرشه على الماء )
واعلم أن بحر الظلمات لا يدخله شمس ولا قمر وإن بحر الهند خليج منه وبحر اللاذقية خليج منه وبحر الصين خليج منه وبحر الروم خليج منه وبحر فارس خليج منه وكل هذه البحار التي ذكرتها أصلها من البحر الأسود الذي يقال له البحر المحيط وأما بحر الخرز وبحر خوارزم وبحر أرمينية والبحر الذي عند مدينة النحاس وغير ذلك من البحار الصغار فهي منقطعة عن البحر الأسود ولذلك ليس فيها جزر ولا مد وقيل سئل النبي عن الجزر والمد فقال هو ملك عال قائم بين البحرين إن وضع رجله في البحر حصل له المد وإذا رفعها حصل له الجزر قيل إنما سمي البحر الأسود لأن ماءه فيه

رأى العين كالحبر الأسود فإن أخذ منه الإنسان في يده شيئا رآه أبيضا صافيا إلا أنه أمر من الصبر مالح شديد الملوحة فإذا صار ذلك الماء في بحر الروم تراه أخضر كالزنجار والله تعالى يعلم لأي شيء ذلك وكذلك يرى في بحر الهند خليج أحمر كالدم وبحر أصفر كالذهب وخليج أبيض كاللبن تتغير هذه الألوان في هذه المواضع والماء في نفسه أبيض صاف وقيل إن تغير الماء بلون الأرض
وأما ما يخرج من البحر من السمك وغيره فقد روي عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال بعثنا رسول الله إلى ساحل البحر وأمر علينا أبا عبيدة رضي الله تعالى عنه نتلقى عير قريش وزودنا جرابا من تمر لم يجد لنا غيره فكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة نمصها ثم نشرب عليها الماء فتكفينا يومنا إلى الليل فأشرفنا على ساحل البحر فرأينا شيئا كهيئة الكثيب الضخم فأتيناه فإذا هو دابة من دواب البحر تدعى العنبر فأقمنا شهرا نأكل منها ونحن ثلاثمائة حتى سمنا ولقد رأيتنا نغترف من الدهن الذي في وقب عينيها بالفلال ونقطع منه القطعة كالثور ولقد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلا فأقعدهم في وقب عينها وأخذ ضلعا من أضلاعها فأقامها ثم رحل أعظم بعير معنا فمر من تحتها وتزودنا من لحمها فلما قدمنا المدينة ذكرنا لرسول الله ذلك فقال هو رزق أخرجه الله لكم فهل معكم شيء من لحمها فتطعمونا فأرسلنا له منه فأكله وقيل يخرج من البحر سمكة عظيمة فتتبعها سمكة أخرى أعظم منها لتأكلها فتهرب منها إلى مجمع البحرين فتتبعها فتضيق عليها مجمع البحرين لعظمها وكبرها فترجع إلى البحر الأسود وعرض مجمع البحرين مائة فرسخ فتبارك الله رب العالمين
وقال صاحب تحفة الألباب ركبت في سفينة مع جماعة فدخلنا إلى مجمع البحرين فخرجت سمكة عظيمة مثل الجبل العظيم فصاحت صيحة عظيمة لم أسمع قط أهول منها ولا أقوى فكاد قلبي ينخلع وسقطت على وجهي أنا وغيري ثم ألقت السمكة نفسها في البحر

فاضطرب البحر اضطرابا شديدا وعظمت أمواجه وخفنا الغرق فنجانا الله تعالى بفضله وسمعت الملاحين يقولون هذه سمكة تعرف بالبغل قال ورأيت في البحر سمكة كالجبل العظيم ومن رأسها إلى ذنبها عظام سود كأسنان المنشار كل عظم أطول من ذراعين وكنا بيننا وبينها في البحر أكثر من فرسخ فسمعت المالحين يقولون هذه السمكة تعرف بالمنشار إذا صادفت أسفل السفينة قصمتها نصفين ولقد سمعت أنا من يقول أن جماعة ركبوا سفينة في البحر فأرسوا على جزيرة فخرجوا إلى تلك الجزيرة فغسلوا ثيابهم واستراحوا ثم أوقدوا نارا ليطبخوا فتحركت الجزيرة وطلبت البحر وإذا بها سمكة فسبحان القادر على كل شيء لا إله إلا هو ولا معبود سواه وقيل إن في البحر سمكة تعرف بالمنارة لطولها يقال إنها تخرج من البحر إلى جانب السفينة فتلقى نفسها عليها فتحطمها وتهلك من فيها فإذا أحس بها أهل السفينة صاحوا وكبروا وضجوا وضربوا الطبول ونقروا الطسوت والسطول والأخشاب لأنها إذا سمعت تلك الأصوات ربما صرفها الله تعالى عنهم بفضله ورحمته وقال الشيخ عبد الله صاحب تحفة الألباب كنت يوما في البحر على صخرة فإذا أنا بذنب حية صفراء منقطة بسواد طولها مقدار باع فطلبت أن تقبض على رجلي فتباعدت عنها فأخرجت رأسها كأنه رأس أرنب من تحت تلك الصخرة فسللت خنجرا كبيرا كان معي فطعنت به رأسها فغار فيه فلم أقدر على خلاصه منها فأمسكت نصابه بيدي جميعا وجعلت أجره حتى ألصقتها بباب الجحر فتركت الجحر وخرجت من تحت الصخرة فإذا هي خمس حيات في رأس واحد فتعجبت من ذلك وسألت من كان هناك عن اسم هذه الحية فقال هذه تعرف بأم الحيات وذكروا أنها تقبض على الآدمي في الماء فتمسكه حتى يموت وتأكله وأنها تعظم حتى تكون كل حية اكثر من عشرين ذراعا وأنا تقلب الزوارق وتأكل من قدرت عليه من أصحابها وأن جلدها أرق من جلد البصل ولا يؤثر فيها الحديد شيئا قال ورأيت مرة في البحر صخرة عليها شيء كثير من النارنج

الأحمر الطري الذي كأنه قطع من شجرة فقلت في نفسي هذا قد وقع من بعض السفن فذهبت إليه فقبضت منه نارنجة فإذا هي ملتصقة بالحجر فجذبتها فإذا هي حيوان يتحرك ويضرب في يدي فلففت يدي بكم ثوبي وقبضت عليه وعصرته فخرج من فيه مياه كثيرة وضمر فلم أقدر أن أقلعه من مكانه فتركته عجزا عنه وهو من عجائب خلق الله تعالى وليس له عين ولا جارحة إلا الفم والله سبحانه وتعالى أعلم لأي شيء يصلح ذلك
قال ولقد رأيت يوما على جانب البحر عنقود عنب أسود كبير الحب أخضر العرجون كأنما قطف من كرمه فأخذته وكان ذلك في أيام الشتاء وليس في تلك الأرض التي كنت فيها عنب فرمت أن آكل منه فقبضت على حبة منه وجذبتها فلم أقدر أن أقلعها من العنقود حتى كأنها من الحديد قوة وصلابة فجذبتها جذبة أقوى من الأولى فانقشرت قشرة من تلك الحبة كقشر العنب وفي داخلها عجم كعجم العنب فسألت عن ذلك فقيل لي هذا من عنب البحر ورائحته كرائحة السمك وفي البحر أيضا حيوان رأسه يشبه رأس العجل وله أنياب كأنياب السباع وجلده له شعر كشعر العجل وله عنق وصدر وبطن وله رجلان كرجل الضفدع وليس له يدان يعرف بالسمك اليهودي وذلك أنه إذا غابت الشمس ليلة السبت يخرج من البحر ويلقي نفسه في البر ولا يتحرك ولا يأكل ولو قتل ولا يدخل البحر حتى تغيب الشمس ليلة الأحد فحينئذ يدخل البحر ولا تلحقه السفن لخفته وقوته وجلده يتخذ منه نعل لصاحب النقرس فلا يجد له ألما ما دام ذلك الجلد عليه وهو من العجائب وقيل إن في بحر الروم سمكا طويلا طول السمكة مائة ذراع وأكثر وله أنياب كأنياب الفيل تؤخذ وتباع في بلاد الروم وتحمل إلى سائر البلاد وهي أحسن وأقوى من أنياب الفيل وإذا شق الناب منها يظهر فيه نقوش عجيبة ويسمونه الجوهر ويتخذون منه نصبا للسكاكين وهو مع قوته وحسن لونه ثقيل الوزن كالرصاص وفي البحر أيضا سمك يسمى الرعاد إذا دخل في شبكة فكل من جر تلك الشبكة أو وضع يده عليها أو على

حبل من حبالها تأخذه الرعدة حتى لا يملك من نفسه شيئا كما يرعد صاحب الحمى فإذا رفع يده زالت عنه الرعدة فإن أعادها عادت إليه الرعدة وهذا أيضا من العجائب فسبحان الله جلت قدرته
وقال صاحب تحفة الألباب حدثني الشيخ أبو العباس الحجازي قال حدثني رجل يعرف بالهاروني من ولد هارون الرشيد أنه ركب سفينة في بحر الهند فراى طاوسا قد خرج من البحر أحسن من طاوس البر وأجمل ألوانا قال فكبر بالحسنة فجعل يسبح وينظر لنفسه وينشر أجنحته وينظر إلى ذنبه ساعة ثمن غاص في البحر وفي البحر دابة يقال لها الدرفين تنجي الغريق لأنها تدنو منه حتى تضع يده على ظهرها فيستعين بالإتكاء عليها ويتعلق بها فتسبح به حتى ينجيه الله بقدرته فسبحان من من دبر هذا التدبير اللطيف وأحكم هذه الحكمة البالغة وزعموا أن السمك يتجه نحو الغناء والصوت الحسن ويصبو لسماعه وربما قيل إن بعض الصيادين يحفرون في البحر حفائر ثم يجلسون فيضربون بالمعازف والآت الطرب فيجتمع المسك ويقع في تلك الحفائر وقيل إن الدرفين وأنواع السمك إذا سمعت صوت الرعد هربت إلى قعر البحر وقيل إن خيل البحر توجد بنيل مصر وهي صفة خيل البر وقيل إنها تأكل التماسيح وربما خرجت فرعت الزرع وإذا رأى أهل مصر أثر حوافرها حكموا أن ماء النيل ينتهي في طلوعه إلى ذلك المكان وقيل إن في البحر المحيط شيئا يتراءى كالحصون فيرتفع على وجه الماء ويظهر منه صور كثيرة ويغيب ومن عجيب ما حكى أن فيه جزيرة فيها ثلاث مدن عامرة وهي كثيرة الأمطار وأهلها يحصدون زرعها قبل جفافه لقلة طلوع الشمس عندهم ويجعلونه في بيت ويوقدون حوله النيران حتى يجف وعجائبه لا تحصى ولا يمكن حصرها ويقال إن الاسكندر لما سار إلى بحر الظلمات مر بجزيرة بها أمة رؤوسهم مثل رؤوس الكلاب يخرج من أفواههم مثل لهب النار وخرجوا إلى مراكبه وحاربوه ثم تخلص منهم وسار فرأى صورا متلونة بألوان شتى وسمكا طوله مائة ذراع وأكثر وأقل فسبحان الله تعالى ما أكثر عجائب خلقه

ويقال إنه مر في بعض الجزائر على قصر مصنوع من البلور على قلعة محكمة البناء وحولها قناديل لا تطفأ ومن جزائر البحر جزيرة القمر يقال إن بها شجرا طول الشجرة مائتا ذراع ودور ساقها مائة وعشرون ذراعا وبها طوائف من السودان عرايا الأبدان يلتحفون بورق الشجر وهو ورق يشبه ورق الموز لكنه أسمك وأعرض وأنعم ويقال إن هذه الجزيرة بالقرب من نيل مصر وإن هذه الأمة التي بها يتمذهبون بمذهب الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه وهم في غاية اللطافة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبالقرب منهم معدن الذهب والياقوت وبها الفيلة البيض وحيوانات مختلفة الأشكال من الوحوش وغيرها وبها العود القماري والآبنوس والطواويس وبها مدن كثيرة ومنها جزيرة الواق خلف جبل يقال له اصطفيون داخل البحر الجنوبي ويقال إن هذه الجزيرة كانت ملكتها امرأة وإن بعض المسافرين وصل إليها ودخلها ورأى هذه الملكة وهي جالسة على سرير وعلى رأسها تاج من ذهب وحولها أربعمائة وصيفة كلهن أبكار وفي هذه الجزيرة من العجائب شجر يشبه شجر الجوز وخيار الشنبر ويحمل حملا كهيئة الانسان فإذا انتهى سمع له تصويت يفهم من واق واق ثم يسقط وهذه الجزيرة كثيرة الذهب حتى قيل إن سلاسل خيمهم ومقاود كلابهم وأطواقها من الذهب ومنها جزيرة الصين يقال إن بها ثلاثمائة مدينة ونيفا سوى القر والأطراف وأبوابها اثنا عشر بابا وهي جبال في البحر بين كل جبلين فرجة وهذه الجبالى تمر بها المراكب مسيرة سبعة أيام وإذا جاوزت السفينة الأبواب سارت في ماء عذب حتى تصل إلى الموضع الذي تريده وفيها من الأودية والأشجار والأنهار ما لا يمكن وصفه فتبارك الله رب العالمين
وقيل إن الاسكندر لما فرغ من بناء سده حمد الله تعالى وأثنى عليه ثم نام وإذا بحيوان عظيم صعد من البحر إلى أعلى وسد الأفق فظن من حول الملك أنه يريد ابتلاعهم ففزعوا فانتبه فقال ما لكم ؟ فقالوا له انظر ما حل بنا فقال ما كان الله ليأخذ نفسا قبل انقضاء أجلها وقد منعني من العدو فلا يسلط علي حيوانا من البحر قال

فإذا بالحيوان قد دنا من الملك وقال أيها الملك أنا حيوان من هذا البحر وقد رأيت هذا السد بني وخرب سبع مرات ولم يزد على ذلك ثم غاب في البحر فتبارك من له الملك العظيم لا إله إلا هو العزيز الحكيم
وقيل إن بجزيرة النسناس باليمن مدينة بين جبلين وليس لها ماء يدخل فيها إلا من المطر وطولها نحو ستة فراسخ وهي حصينة ذات كروم ونخيل وأشجار وغير ذلك وإذا أراد إنسان الدخول فيها حثى وجهه التراب فإن أبى إلا الدخول خنق أو صرع وقيل إنها معمورة بالجان وقيل بخلق من النسناس ويقال إنهم من بقايا عاد الذين أهلكهم الله بالريح العقيم وكل واحد منهم شق إنسان ونقل عن بعض المسافرين أنه قال بينما نحن سائرون إذ أقبل علينا الليل فبتنا بواد فلما أصبح الصباح سمعنا قائلا يقول من الشجرة يا أبا بجير الصبح قد أسفر والليل قد أدبر والقناص قد حضر فالحذر الحذر قال فلما ارتفع النار أرسلنا كلبين كانا معنا نحو الشجرة فسمعت صوتا يقول ناشدتك قال فقلت لرفيقي دعهما قال فلما وثقا بنا نزلا هاربين فنبعهما الكلبان وجدا في الجرى فامسكا شخصا منهما قال فأدركناه وهو يقول
( الويل لي مما به دهاني ... دهري من الهموم والأحزان )
( قفا قليلا أيها الكلبان ... إلى متى إلي تجريان ) قال فأخذناه ورجعنا فذبحه رفيقي وشواه فعفته ولم آكل منه شيئا فتبارك الله ما اكثر عجائب خلقه لا إله إلا هو ولا معبود سواه
الفصل الثاني في ذكر الأنهار والآبار والعيون
قال الله تعالى ( ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع

في الأرض ) وقال المفسرون هو المطر ومعنى سلكه أدخله في الأرض وجعله عيونا ومسايل ومجاري كالعروق في الجسد فمن الأنهار ما هو من الأمطار المجتمعة ولهذا ينقطع عند فراغ مادته ومنها ما ينبع من الأرض وأطول ما يكون من الأنهار ألف فرسخ وأقصره عشرة فراسخ إلى اثنين وثلاثة وبين ذلك وكلها تبتدئ من الجبال وتنتهي إلى البحار والبطائح وفي ممرها تسقي المدن والقرى وما فضل منها ينصب في البحر المالح ويختلط به ولا يمكن استيفاء عددها لكنا نشير إلى بعضها فنقول
النيل المبارك ليس في الأنهار أطول منه لأنه مسيرة شهرين في بلاد الإسلام وشهرين في بلاد النوبة وأربعة في الخراب وقيل إن مسافته من منبعه إلى أن ينصب في البحر الرومي ألف وسبعمائة فرسخ وثمانية وأربعون فرسخا قال ذلك صاحب مباهج الفكر ومناهج العبر واختلف في زيادته فقيل إن الأنهار والعيون تمده في الوقت الذي يريده الله تعالى وفي الحديث " إنه من أنهار الجنة " وقال أهل الأثر إن الأنهار التي من الجنة تخرج من أصل واحد من قبة في أرض الذهب ثم تمر بالبحر المحيط وتشق فيه قالوا ولولا ذلك لكانت أحلى من العسل وأطيب رائحة من الكافور
نهر الفرات يوجد بأرض أرمينية فضائله كثيرة والنيل أصدق حلاوة منه وبه من السمك الأبيض ما تكون الواحدة قنطارا بالدمشقي وطول هذا النهر من حين يخرج من عند ملطية إلى أن يأتي إلى بغداد ستمائة وثلاثون فرسخا وفي وسطه مدن وجزائر تعد من أعمال الفرات
جيحون نهر عظيم تتصل به أنهار كثيرة ويمر على مدن كثيرة حتى يصل إلى خوارزم ولا ينتفع به شيء من البلاد سوى خوارزم لأنها منسفلة عنه ثم يصب في بحيرة بينها وبين خوارزم ستة أيام وهو يجمد في الشتاء خمسة أشهر والماء يجري من تحت الجمد فيحفر أهل

خوارزم منه لهم أماكن ليستقوا منها وإذا اشتد جموده مروا عليه بالقوافل والعجل المحملة ولا يبقى بينه وبين الأرض فرق ويعلوه التراب ويبقى على ذلك شهرين
سيحون نهر عظيم قيل إن مبدأه من حدود الترك ويجري حتى يتصل ببلاد الفرغانه وربما يجتمع مع جيحون في بعض الأماكن
الدجلة نهر بغداد وله أسماء غير ذلك وماؤه أعذب المياه بعد النيل وأكثرها نفعا قيل مقداره ثلاثمائة فرسخ وفي بعض الأوقات يفيض حتى قيل إنه يخشى على بغداد الغرق منه وهو نهر مبارك كثيرا ما ينجو غريقه
حكي إنه وجد به غريق فيه الروح فلما أفاق سألوه عن حاله فأخبرهم أنه لما غلب على نفسه رأى كأن أحدا يحمله ويصعد به وروي في الأثر أن الله تعالى أمر دانيال عليه الصلاة و السلام أن يحفر لعباده ما يستقون منه وينتفعون به فكان كلما مر بأرض ناشده أهلها أن يحفر ذلك عندهم إلى أن حفر دجلة والفرات
وأما الأنهار الصغار فكثيرة ولكنا نذكر منها طرفا فنقول نهر حصن المهدي قال صاحب تحفة الألباب إنه بين البصرة والأهواز وإنه يرتفع منه في بعض الأوقات شيء يشبه صورة الفيل ولا يعرف أحد شأنه
نهر أذربيجان قيل إن بالقرب منه نهرا يجري فيه الماء سنة ثم ينقطع ثمان سنين ثم يعود في التاسعة وقيل إنه ينعقد حجرا ويستعمل منه اللبن ويبنى به وقيل إن في تلك الأرض بحيرة تجف فلا يوجد فيها ماء ولا سمك ولا طين سبع سنين ثم يعود الماء والسمك والطين فتبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء
قدير نهر صقلاب يجري فيه الماء يوما واحدا في كل أسبوع ثم ينقطع ستة أيام

نهر العاصي بأرض حماة وقيل بحمص وهو نهر معروف وفيه يقول بعضهم
( مدينة حمص كعبة القصف أصبحت ... يطوف بها الداني ويسعى لها القاضي )
( بها روضة من حسنها سندسية ... تعلق في أكناف أذيالها العاصي )
نهر العمود بأرض الهند عليه شجرة نابتة من حديد وقيل من نحاس وتحتها عمود من نحاس وقيل من حديد طوله من فوق الماء نحو عشرة أذرع وعرضه ذراع وعلى رأسه ثلاث شعب مسنونة محدودة وعنده رجل يقرأ كتاب الله تعالى ويقول يا عظيم البركة طوبى لمن صعد هذه الشجرة وألقى بنفسه على هذا العمود فيدخل الجنة وقال أهل تلك الناحية من يريد ذلك فيصعد على تلك الشجرة ويلقي نفسه فيتقطع
نهر باليمن قال صاحب تحفة الألباب إنه عند طلوع الشمس يجري من المشرق إلى المغرب وعند غروبها يجري من المغرب إلى المشرق نهر ببلاد الحبشة والسودان يجري إلى المشرق يشبه النيل في زيادته ونقصانه وأرضه بها الخصب والبركة وبها شجر كالأراك يحمل ثمرا كالبطيخ داخله شيء يشبه القند في الحلاوة ولكن فيه بعض حموضة وهذا النهر يجري في بلادهم ثمانية أشهر ثم ينصب في البحر المحيط فسبحان من دبر هذا التدبير وأحكم هذه الصنعة لا إله إلا هو الحكيم الخبير
الفصل الثالث في ذكر الآبار
قال مجاهد كنت أحب أن أرى كل شيء غريب فسمعت أن ببابل بئر هاروت وماروت فسرت إليها فلما وصلت إلى ذلك

المكان وجدت عنده بيوتا فدخلت في بعضها فوجدت شخصا فسلمت عليه فرحب بي وسألني عن حاجتي فذكرت له غرضي فأمر يهوديا معي فيوقفني على البئر ويطلعني على الملكين قال فسرنا إلى البئر ففتح سردابا ونزلنا فأمرني أن لا أذكر اسم الله تعالى قال فلما رأيت الملكين رأيت شيئا كالجبلين العظيمين منكسين على رؤوسهما الحديد من أعناقهما إلى ركبهما قال مجاهد فلما رأيت ذلك ذكرت الله تعالى قال فاضطربا اضطرابا شديدا حتى كادا يقطعان السلاسل قال ففر اليهودي فتعلقت به فقال أما أمرتك أن لا تذكر اسم الله تعالى كدنا والله نهلك
بئر برهوت بقرب حضرموت وهي التي قال النبي إنها مجمع أرواح الكفار قال علي كرم الله وجهه أبغض البقاع إلى الله تعالى بئر برهوت ماؤها أسود منتن تأوي إليها الكفار والموكل بها ملك يسمى دومة
بئر عسفان ماؤها يستشفى به قيل إن النبي تفل فيها قالت أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما كنا نغسل المريض منها فيعافى وقيل إن النبي توضأ منها
بئر معروفة بأرض حلب خاصيتها أنها إذا شرب منها المكلوب زال كلبه ما لم يجاوز الأربعين وبنيسابور آبار كثيرة وهي معادن الفيروزج وإنما يمنع الناس عنها كثرة عقاربها وبأرض فارس بئر ينبع منها ماء في وقت من السنة فيرتفع على وجه الأرض لمحة واحدة ويجري فينتفع به في سقي الزرع ثم يعود إلى ما كان وعجائب الله كثيرة لا تكاد تنحصر لا إله إلا الله ولا معبود سواه

الباب السادس والستون في ذكر عجائب الأرض وما فيها من الجبال والبلدان وغرائب البنيان وفيه فصول
الفصل الأول في ذكر الأرض وما فيها من العمران
روى وهب بن منبه رضي الله عنه عن النبي أنه قال إن لله تعالى ثمانية عشر ألف عالم الدنيا منها عالم واحد وما العمران في الخراب إلا كخردلة في كف أحدكم وقال رواة الأثر إن لله عز و جل دابة في مرج من مروجه في غامض علمه رزقها في كل يوم بقدر رزق العالم بأسره وجميع مدائن الدنيا أربعة آلاف مدينة وخمسمائة وست وخمسون مدينة وقيل غير ذلك وأقاليم الأرض سبعة الأقليم الأول الهند والثاني الحجاز والثالث اقليم مصر الرابع اقليم بابل الخامس اقليم الروم والشام السادس اقليم الترك السابع اقليم الصين وأوسط الأقاليم اقليم بابل وهو أعمرها وفيه جزيرة العرب وفيه العراق الذي هو سرة الدنيا وبغداد في وسط هذا الاقليم فلاعتداله اعتدلت ألوان أهله فسلموا من شقرة الروم وسواد الحبشة وغلظ الترك وجفاء أهل الجبال ودمامة أهل الصين والممالك المشهورة التي ضبطت عدتها في زمن المأمون ثلاثمائة وثلاث وأربعون مملكة أوسعها ثلاثة أشهر وأضيقها ثلاثة أيام وقال أهل الهيئة إنه يكون عند خط الاستواء ربيعان وصيفان وخريفان وشتاءان في سنة واحدة وأنه

يكون في بعض البلاد ستة أشهر ليل وستة أشهر نهار وبعضها حر وبعضها برد فسبحان من خلق كل شيء فأتقنه لا إله إلا هو ولا معبود سواه
الفصل الثاني في ذكر الجبال
قيل إن الله تعالى لما خلق الأرض ماجت واضطربت فخلق الجبال وأرساها بها فاستقوت ومجموع ما عرف بالأقاليم السبعة من الجبال مائة وثمانية وتسعون جبلا فمنها ما طوله عشرون فرسخا ومنها ما طوله مائة فرسخ إلى ألف فرسخ ولنذكر منها ما هو مشهور ومعروف بين
الناس فمن أعجبها جبل سرنديب وطوله مائتان ونيف وستون ميلا وفيه أثر قدم آدم عليه الصلاة و السلام حين أهبط وحوله الياقوت وفي أوديته الماس الذي يقطع به الصخور ويثقب به اللؤلؤ وفيه العود والفلفل ودابة المسك ودابة الزباد
جبل الروم الذي فيه السد طوله سبعمائة فرسخ وينتهي إلى بحر الظلمات
جبل أبي قيس سمي بذلك لآن آدم عليه الصلاة و السلام كناه بذلك حين اقتبس منه النار التي بين أيدي الناس وقيل غير ذلك
جبل القدس جبل شريف مبارك فيه غار يضيء بالليل من غير سراج ويزوره الناس
جبل أروند بهمذان برأسه عين تخرج من صخرة أياما معدودة في السنة تقصد من كل وجه يستشفى بها جبل الشام لونه أسود كالفحم وترابه أبيض تبيض به الثياب جبل الأندلس فيه غار إذا دهنت فتيلة وأدخلتها فيه أوقدت وبها جبل به عينان إحداهما باردة والأخرى حارة والمسافة التي بينهما مقدار شبر وجبل به معدن الكبريت والزئبق والزنجفر

جبل سمرقند يقطر منه ماء في الصيف يصير جليدا وفي الشتاء يحرق من حرارته
جبل الصور بكرمان يكسر حجره فيخرج منه كصور الآدميين قائمين وقاعدين ومضطجعين وإذا سحق وطرح في الماء يرى كذلك جبل الأرجان بطبرستان يقطر منه ماء كل قطرة تصير حجرا مسدسا أو مثمنا جبل هرمز ينزل منه ماء إلى وهدة فإن صاح إنسان
صيحة وقف فإن ثنى جرى جبل الطير بإقليم الصعيد يجتمع عنده الطير في كل سنة مرة ويدخل في كوة هناك فتمسك الكوة على واحدة وتطير البقية ويكون ذلك علامة الخصب في تلك النسنة ولنقتصر على ذلك ومن أراد الوقوف على جميعها فعليه بتاريخ مرآه الزمان
الفصل الثالث في ذكر المباني العظيمة وغرائبها وعجائبها
قال أهل التواريخ ونقلة الأخبار أن أول بناء بني على وجه الأرض الصرح الذي بناه نمرود الأكبر بن كوش بن حام بن نوح عليه الصلاة و السلام وبقعته بكوثى من أرض بابل وبه إلى عصرنا أثر ذلك البناء كأنه جبال شاهقات قالوا كان طوله خمسة آلاف ذراع بناه بالحجارة والرصاص والشمع واللبان ليمتنع هو وقومه من طوفان ثان فأخرب الله تعالى ذلك الصرح في ليلة واحدة بصيحة فتبللت بها ألسنة الناس فسميت أرض بابل
إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد
حكى الشعبي في كتاب سير الملوك أن شداد بن عاد ملك جميع

الدنيا وكان قومه قوم عاد الأولى زادهم الله بسطه في الأجسام وقوة حتى قالوا من أشد منا قوة قال الله تعالى ( أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة ) وأن الله تعالى بعث اليهم هودا نبيا عليه الصلاة و السلام فدعاهم إلى الله تعالى فقال له شداد إن آمنت بإلهك فماذا لي عنده ؟ قال يعطيك في الآخرة جنة مبنية من ذهب ويواقيت ولؤلؤ وجميع أنواع الجواهر قال شداد أنا أبني مثل هذه الجنة ولا أحتاج إلى ما تعدني به قال فأمر شداد ألف أمير من جبابرة قوم عاد أن يخرجوا ويطلبوا أرضا واسعة كثيرة الماء طيبة الهواء بعيدة من الجبال ليبني فيها مدينة من ذهب قال فخرج أولئك الأمراء ومع كل أمير ألف رجل من خدمه وحشمه فساروا في الأرض حتى وصلوا إلى جبل عدن فرأوا هناك أرضا واسعة طيبة الهواء فأعجبتهم تلك الأرض فأمروا المهندسين والبنائين فخطوا مدينة مربعة الجوانب دورها أربعون فرسخا من كل جهة عشرة فراسخ فحفروا الأساس إلى الماء وبنوا الجدران بحجارة الجزع اليماني حتى ظهر على وجه الأرض ثم أحاطوا به سور ارتفاعه خمسمائة ذراع وغشوه بصفائح الفضة المموهة بالذهب فلا يكاد يدركه البصر إذا أشرقت الشمس وكان شداد قد بعث إلى جميع معادن الدنيا فاستخرج منها الذهب واتخذه لبنا ولم يترك في أحد من الناس في جميع الدنيا شيئا من الذهب إلا غضبه واستخرج الكنوز المدفونة ثم بنى داخل المدينة مائة ألف قصر بعدد رؤساء مملكته كل قصر على عمد من أنواع الزبرجد واليواقيت معقودة بالذهب طول كل عمود مائة ذراع وأجرى في وسطها أنهارا وعمل منها جداول لتلك القصور والمنازل وجعل حصاها من الذهب والجواهر واليواقيت وحلى قصورها بصفائح الذهب والفضة وجعل على حافات الأنهار أنواع الأشجار جذوعها من الذهب وأوراقها وثمرها من أنواع الزبرجد واليواقيت واللآلئ وطلى حيطانها بالمسك والعنبر وجعل فيها جنة مزخرفة له وجعل أشجارها الزمرد واليواقيت وسائر أنواع المعادن ونصب عليها أنواع الطيور المسموعة الصادح والمغرد وغير ذلك

ثم بنى حول المدينة مائة ألف منارة برسم الحراس الذين يحرسون المدينة فلما كمل بناؤها أمر في مشارق الأرض ومغاربها أن يتخذوا في البلاد بسطا وستورا وفرشا من أنواع الحرير لتلك القصور والغرف وأمر باتخاذ أواني الذهب والفضة فاتخذوا جميع ما أمر به فلما فرغوا من ذلك جميعه خرج شداد من حضرموت في أهل مملكته وقصد مدينة إرم ذات العماد فلما أشرف عليها ورآها قال قد وصلت إلى ما كان هود يعدني به بعد الموت وقد حصلت عليه في الدنيا فلما أراد دخولها أمر الله تعالى ملكا فصاح بهم صيحة الغضب وقبض ملك الموت أرواحهم في طرفة عين فخروا على وجوههم صرعى قال الله تعالى ( وإنه أهلك عادا الأولى ) وذلك قبل هلاك عاد بالريح العقيم وأخفى الله تعالى تلك المدينة عن أعين الناس فكانوا يرون بالليل في تلك البرية التي بنيت فيها معادن الذهب والفضة واليواقيت تضيء كالمصابيح فإذا وصلوا إليها لم يجدوا هناك شيئا
وقد نقل أن رجلا من أصحاب رسول الله يقال له عبد الله بن قلابة الأنصاري دخل
إلهيا وذلك أنه ضلت له إبل فخرج في طلبها فوصل إليها فلما رآها دهش وبهت ورآى ما أذهله وحيره وقال في نفسه هذه تشبه الجنة التي وعد الله بها عباده المتقين في الآخرة فقصد بابا من أبوابها فلما وصل إليه أناخ راحلته ودخل المدينة فرأى تلك القصور والأنهار والأشجار ولم ير في المدينة أحدا فقال ارجع إلى معاوية وأخبره بهذه المدينة وما فيها ثم حمل معه شيئا من تلك الجواهر واليواقيت في وعاء وجعله على راحلته وعلم على المدينة علامة وقال قربها من جبل عدن كذا ومن الجهة الفلانية كذا ثم انصرف عنها بعدما ظفر بإبله ثم دخل على معاوية رضي الله تعالى عنه بدمشق وأخبره بجميع ما رآه فقال له معاوية في اليقظة رأيتها أم في المنام ؟ قال بل في اليقظة وقد حملت من حصبائها وأخرج له شيئا مما حمله من الجواهر واليواقيت فتعجب معاوية من ذلك ثم أرسل إلى كعب الأحبار رضي الله

عنه فلما دخل عليه قال له معاوية يا أبا إسحاق هل بلغك أن في الدنيا مدينة من ذهب ؟ قال نعم يا أمير المؤمنين وقد ذكرها الله عز و جل في القرآن لنبيه بقوله عز من قائل ( ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد ) وقد أخفاها الله تعالى عن أعين الناس وسيدخلها رجل من هذه الأمة يقال له عبد الله بن قلابة الأنصاري ثم التقت فرأى عبد الله بن قلابة فقال هاهو يا أمير المؤمنين وصفه واسمه في التوراة ولا يدخلها أحد بعده إلى يوم القيامة وقيل إن ذلك كان في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأن الرجل الذي دخلها حكى ذلك لعمر بن الخطاب فلم ينكره ولا من كان حاضرا بل قال إن النبي قال يدخلها بعض أمتي والله سبحانه وتعالى أعلم
ومن المباني العجيبة الخورنق الذي بناه النعمان بن امرئ القيس وهو النعمان الأكبر بناه في عشرين سنة فلما انتهى أعجبه فخشي أن يبنى لغيره مثله فأمر أن يلقى بانيه من أعلاه فألقوه فتقطع واسم بانيه سنمار فصارت العرب تضرب به المثل يقولون جزاه جزاء سنمار قال الشاعر
( جازى بنوه أبا الغيلان عن كبر ... وحسن فعل كما يجزى سنمار ) ومن المباني العجيبة حائط العجور واسمها دلوك القبطية وسبب بنائها لذلك أنها ولدت ولدا فأخذت له الرصد فقيل لها عليه من التمساح فلما شب الغلام خافت عليه فبنت الحائط وجعلته من العريش إلى إسوان شاملا لكورة مصر من الجانب الشرقي وقيل بنته خوفا على مصر وأهلها بعد غرق فرعون أن يطمع الملوك فيها وقد قيل إنها أرادت أن تخوف ولدها من التمساح حتى لا ينزل البحر فصورت له صورة التمساح فرآه شكلا مهولا فأذهله وأخذه الفزع والهم فضعف وانسل إلى أن مات لا مفر من قضاء الله تعالى

المباني العجيبة الأهرام وهي بالجانب الغربي من مصر مشاهدة في زماننا هذا قيل أن دور الهرم الأكبر من الثلاثة ألفا ذراع من كل جهة خمسمائة ذراع وعلوه خمسمائة ذراع وقد ذهب المأمون إلى مصر حتى شاهدها على ما ذكر وفتح منها هرما وتعجب من بنيانها وصفتها قيل إن كل حجر من حجارتها ثلاثون ذراعا في عرض عشرة أذرع وقد أحكم إلصاقه ونحته وتسويته ولا يقدر النجار الصانع أن يتخذ من خشب صندوقا صغيرا على إحكامه وهي من عجائب الدنيا قال بعضهم
( أين الذي الهرمان من بنيانه ... ما قومه ما يومه ما المصرع )
( تتخلف الآثار عن سكانها ... حينا ويدركها الفناء فتصرع ) وزعم قوم أن الأهرام الموجودة بمصر قبور لملوك عظام أرادوا أن يتميزوا بها عن الناس بعد مماتهم كما تميزوا عنهم في حياتهم ورجوا أن يبقى ذكرهم بسببها على تطاول الدهور وتراخي العصور ولما وصل المأمون إلى مصر أمر بنقبها فنقب أحدها بعد جهد شديد وعناء طويل فوجد داخله مزاليق ومهاوي يهول أمرها ويعسر السلوك فيها ووجد في أعلاه بيت وفي وسطه حوض من رخام مطبق فلما كشف غطاؤه لم يوجد فيه إلا رمة بالية فعند ذلك أمر المأمون بالكف عما سواه ويقال إن الذي بناها اسمه سوريد بن سهراق بن سرياق لرؤيا رآها وهي آفة تنزل من السماء وهي الطوفان فقالوا إنه بناها في ستة أشهر وقال قل لمن يأتي بعدنا يهدمها في ستمائة سنة والهدم أيسر من البنيان وكسوناها الديباج الملون فليكسها حصرا والحصر أهون من الديباج والأمر فيها عجيب جدا والله سبحانه وتعالى أعلم
ومن المباني العجيبة منار الاسكندرية التي بناها ذو القرنين قيل إنها كانت مبنية بحجارة منهدمة مغموسة في الرصاص فيها نحو من ثلاثمائة بيت تصعد الدابة بحملها إلى كل بيت وللبيوت طاقات تطل على البحر ويقال إن طولها كان ألف ذراع وفي أعلاها تماثيل من نحاس منها تماثل رجل قد أشار بيده إلى البحر فإذا صار العدو على نحو ليلة منه

له تصويت يعلم به أهل المدينة مجيء العدو فيستعدون له ومنها تمثال كلما مضى من الليل ساعة صوت تصويتا مطربا ويقال إنه كان بأعلاها مرآة من الحديد الصيني عرضها سبعة أذرع كانوا يرون فيها المراكب بجزيرة قبرص وقيل كانوا يرون فيها من يخرج من البحر من جميع بلاد الروم فإن كانوا أعداء تركوهم حتى يقربوا من المدينة فإذا مالت الشمس للغروب أرادوا المرآة مقابلة الشمس واستقبلوا بها السفن فيقع شعاعها بضوء الشمس على السفن فتحرق في البحر ويهلك كل من فيها وكانت الروم تؤدي الخراج ليأمنوا بذلك من إحراق السفن ولم تزل كذلك إلى زمن الوليد بن عبد الملك
قال المسعودي قيل إن ملكا من الروم تحيل على الوليد وأظهر أنه يريد الاسلام وأرسل إليه تحفا وهدايا وأظهر له بواسطة حكماء كانوا عنده أن ببلاده دفائن وأرسل له بذلك قسيسين من خواصه وأرسل معهم أموالا قيل إنهم حفروا بقرب المنارة ودفنوا تلك الأموال وقالوا للوليد إن تحت المنارة كنوزا لا تنفذ وبازائها خبية بها كذا وكذا ألف دينار فأمرهم باستخراج ما بالقرب من المنارة فإن كان ذلك حقا استخرجوا ما تحت المنارة بعد هدمها فحفروا واستخرجوا ما دفنوه بأيديهم فعند ذلك أمر الوليد بهدم المنارة واستخراج ما تحتها فهدموها فلم يجدوا تحتها شيئا وهرب أولئك القسيسون فعلم الوليد أنها مكيدة عليه فندم على ذلك غاية الندم ثم أمر ببنائها بالآجر ولم يقدروا أن يرفعوا إليها تلك الحجارة فلما أتموها نصبوا عليها المرآة كما كانت فصدئت ولم يروا فيها شيئا مثل ما كانوا يرون أولا وبطل إحراقها فندموا على مافعلوا وفاتهم من جهلهم وطمعهم نفع عظيم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
ذوقد علمت الجن لسليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام في الإسكندرية مجلسا على أعمدة من الجزع اليماني المصقول كالمرآة إذا نظر الانسان إليها يرى من يمشي خلفه لصفائها وفي وسط ذلك المجلس عمود من الرخام طولة مائة وأحد عشر ذراعا وفي تلك الأعمدة عمود واحد يتحرك

شرقا وغربا بطلوع الشمس وغروبها يشاهد الناس ذلك ولا يعلمون ما سببه
وفي مدينة حمص مدينة أخرى تحت المدينة المسكونة العليا فيها من عجائب البنيان والبيوت والغرف والماء الجاري في كل طريق من طرقها ما لا يعلمه إلا الله تعالى وعند حوران مدينة عظيمة يقال لها اللجأة فيها من البنيان ما يعجز عن وصفه ألسنة العقلاء كل دار منها مبنية من الصخر المنحوت ليس في الدار خشبة واحدة بل أبوابها وغرفها وسقوفها وبيوتها من الصخر المنحوت الذي لا يستطيع أحد أن يعمله من الخشب وفي كل دار بئر وطاحون وكل دار مفردة لا يلاصقها دار أخرى ولك دار كالقلعة الحصينة إذا خاف تلك النواحي من العدو دخلوا إلى تلك المدينة فينزل كل إنسان في دار بجميع عياله وخيله وغنمه وبقره ويغلق بابه ويجعل خلف الباب حصاة فلا يقدر أحد على فتح ذلك الباب لإحكامه وفي هذه المدينة أكثر من مائتي ألف دار فيما يقال ولا يعلم أحد من بناها وسمتها العرب اللجأة لأنهم يلجأون إليها عند الخوف
ومن المباني العجيبة إيوان كسرى أنو شروان بناه سابور ذو الأكتاف في نيف وعشرين سنة وطوله مائة ذراع في عرض خمسين بناه بالآجر والجص وجعل طول كل شرافة من شراريفه خمسة عشر ذراعا ولما ملك المسلمون المدائن أحرقوا هذا الإيوان فأخرجوا منه ألف دينار ذهبا
ووحكي أن المنصور لما أراد بناء بغداد عزم على هدمه وأن يجعل آلته في بنائه فقيل له إن نقضه يتكلف بقدر العمارة فلم يسمع وهدم شرافة وحسب ما أنفق عليه فوجد الأمر كذلك وقيل إن بعض رؤساء مملكته قال له لما أراد هدمه هو آية الاسلام فلا تهدمه
وحكي أنه كان بمدينة قيسارية كنيسة بها مرآة إذا اتهم الرجل امرأته بزنا نظر في تلك المرآة فيرى صورة الزاني فاتفق أن بعض الناس قتل غريمه فعمد أهله اليها فكسروها والله سبحانه وتعالى أعلم وقد اقتصرت من ذلك على هذا القدر اليسير وحسبنا الله ونعم الوكيل وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

الباب السابع والستون في ذكر المعادن والأحجار وخواصها
المعادن لا تكاد تحصى لكن منها ما يعرفه الناس ومنها ما لا يعرفونه وهي مقسومة إلى ما لا يذوب وإلى ما لا يذوب والذي اشتهر بين الناس من المعادن سبعة وهي الذهب والفضة والنحاس والحديد والقصدير والأسرب والخارصيني ولنبدأ أولا بذكر ( الذهب ) فقيل طبعة حار لطيف لشدة اختلاط أجزائه المائية بالترابية قيل إن النار لا تقدر على تفريق أجزائه فلا يحترق ولا يبلى ولا يصدأ وهو لين براق حلو الطعم أصفر اللون فالصفرة من ناريته والليونة من دهنيته والبراقة من صفاء مائه
خواصه يقوي القلب ويدفع الصرع تعليقا ويمنع الفزع والخفقان ويقوي العين كحلا ويجلوها إذا كان ميلا ويحسن نظرها وإذا ثقبت به الأذن لم تلتحم وإذا كوى به لم ينفط يبرأ سريعا وإمساكه في الفم يزيل البخر
( الفضة ) قريبة منه وتصدأ وتحترق وتبلى بالتراب وإذا أصابها رائحة الرصاص والزئبق تكسرت أو رائحة الكبريت أسودت ومن خواصها أنها تزيل البخر من الفم إذا وضعت فيه وإذا أذيبت مع الزئبق وطلي بها البدن نفع ذلك من الحكة والجرب وعسر البول
( النحاس ) قريب منها لكنه أيبس وأغلظ في الطبع
ومن خواصه إذا صدئ وطلي بالحامض زال صدؤه والأكل في آنيته يولد أمراضا لا دواء لها
( الحديد ) كثير الفائدة إذ ما من صنعة إلا وله فيها مدخل

ومن خواصه أنه يمنع غطيط النائم إذا علق عليه وحمله يقوي القلب ويزيل الخوف والأفكار والأحلام الرديئة ويسر النفس وصدؤه ينفع أمراض العين كحلا والبواسير تحملا ( القصدير ) صنف من الفضة دخل عليه آفات من الأرض ومن خواصه أنه إذا ألقي في قدر لم ينضج ما فيها ( الأسرب ) هو الرصاص ( ومن خواصه ) أنه يكسر الماس ومن خواص الماس الدخول في كل شيء وإذا شد من الرصاص قطعة على الخنازير والغدد أبرأتها ( الخارصيني ) حجر لونه أسود لونه يعطي حمرة ومن خواصه إذا عمل منه مرآة ونظر فيها في الظلمات نفعت للقوة وإذا نتف الشعر بملقاط منه لم ينبت الأحجار الجوهرية أصل الجوهر وهو الدر على ما قيل أن حيوانا يصعد من البحر على ساحله وقت المطر ويفتح أذنه يلتقط بها المطر ويضمها ويرجع إلى البحر فينزل إلى قراره ولا يزال طابقا أذناه على ما فيها خوفا أن يختلط بأجزاء البحر حتى ينضج ما فيها ويصير درا فإن كانت القطرة صغيرة كانت الدرة صغيرة وإن كانت كبيرة فكبيرة فإن كان في بطن هذا الحيوان شيء من الماء المر كانت الدرة كدرة وإن لم يكن كانت صافية وقيل غير ذلك والدر نوعان كبير وصغير قيل إنه تصل الواحدة إلى مثقال
خواصه أنه يفرح القلب ويبسط النفس ويحسن الوجه ويصفي دم القلب وإذا خلط مع الكحل شد عصب العين
( الياقوت ) سيد الأحجار وأصول الوانه أربعه الأحمر والأصفر والأزرق والإسمانجوني ويتولد منها ألوان كثيرة وأعدلها الأحمر الخالص الرماني الشبيه بحب الرمان الأحمر ودونه الأحمر المشرب ببياض ثم الوري ثم الخمري ثم العصفري وأردؤه الأزرق الذي لونه يشبه زهر السوسن وأقله قيمة الأبيض
خواصه أنه لا يعمل فيه الفولاذ ولا حجر الماس ولا تدنسه النار

ويورث لابسه مهابة ووقارا ويسهل قضاء الحوائج ويدر الريق في الفم ويقطع العطش ويدفع السم ويقوي القلب وجميعه ينفع للمصروع تعليقا والأبيض منه يبسط النفس ويوجد من الأصفر ما وزنه ثلاثون مثقالا على ما قيل
( البلخش ) هو مقارب الياقوت في القيمة ودونه في الشرف ومن خواصه أنه يورث قبض النفس وسوء الخلق والحزن وهو ألوان أحمر وأخضر وأصفر
( البنقش ) أصناف أحمر مفتوح اللون صاف وأحمر قوي الحمرة وأسود يعلوه حمرة مطوسة بزرقة خفيفة ثم أصفر مفتوح اللون ( عين الهر ) حجر يتكون من معدن الياقوت والغالب عليه البياض الناصع باشراق مفرط ومائيته رقيقة شفافة وفي مائيته سر إذا حرك يمينا تحركت يسارا وبالعكس ومن خواصه إذا علق على العين أمن عليها من الجدري على ما قليل ( الماس ) يوجد بواد بالهند يقال إنه مشحون بالحيات فيأتي من يريد استخراجه من ذلك الوادي فيضع في الوادي مرآة كبيرة فتأتي الحيات فتنظر إلى خيالها في المرآة فتفر من ذلك الجانب فينزل فيأخذ ما له فيه رزق وقيل إنهم ينحرون الجزر ويلقون لحمها في ذلك الوادي فيلتصق الماس وغيره باللحم فتأتي الطير فتختطف اللحم وتصعد به إلى الجبال فتأكل اللحم وتترك الحجر فيأخذه صاحب اللحم وقيل إن الحيات لها مشتى ستة أشهر في مكان ومصيف ستة أشهر في مكان آخر فإذا ذهبت إلى مشتاها ومصيفها أخذ الحجر في غيبتها والله أعلم بصحة ذلك ومن عجيب أمره أنه إذا أريد كسره جعل في أنبوبة قصب وضرب فإنه يتفتت وكذا إذا جعل في مع أو قار وإذا جعل عليه شمع تيس وقرب من النار ذاب
ومن خواصه أن الملوك يتخذونه عندهم لشرفه وهو من السموم القاتلة القطعة الصغيرة منه إذا حصلت في الجوف ولو بقدر السمسمة خرقت الأمعاء
ومن خواصه الجليلة أنه يعرق عند وجود السم أو الطعام المسموم

( الزمرد ) ويسمى الزبرجد وهو ألوان أخضر وزنجاري وصابوني ويكون الحجر منه خمسة مثاقيل وأقل ومن خواصه أنه يدفع العين ويفرح القلب ويقوي البصر ويصفي الذهن وينشط النفس ( الفيروزج ) نوعان إسحاقي وخلنجي وأجوده الاسحاقي الأزرق الصافي خواصه النظر فيه يجلو البصر ويقويه وينشط النفس ولا يصيب المتختم به آفة من قتل أو غرق وقال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه ما افتقرت يد تختمت بفيروزج وإذا مضى له بعد خروجه من معدنه عشرون سنة نقض لونه ولا يزال كذلك حتى ينطفئ ( العقيق ) معدن بأرض صنعاء باليمن وهو ألوان ويوجد عليه غشاوة ويحمى عليه ببعر الابل ثم يبرد ويكسر وقيل يوجد بالهند ولكن اليمن أجود
خواصه التختم به وحمله يورث الحلم والأناة وتصويب الرأي ويسر النفس ويكسب حامله وقارا وحسن خلق ويسكن الجدة عند الخصومة قال رسول الله ( من تختم بالعقيق لم يزل في بركه )
( الجزع ) هو حجر أيضا يؤتى به من اليمن والصين وألوانه كثيرة والناس يكرهونه لأنه يورث الهم والأحلام الرديئة وسوء الخلق وتعسر قضاء الحوائج ويكثر بكاء الصبي وسيلان لعابه ويثقل اللسان إذا سحق وشرب ماؤه وإذا وضع بين قوم لا علم لهم به حصلت بينهم العداوة لكنه يسهل الولادة تعليقا ( البلور ) هو صنف من الزجاج يحكى أن ببلاد كيسان جبلين أحدهما بلور وإذا أريد قطع البلور في ذلك الموضع قطع في الليل لأنه في النهار يكون له شعاع عظيم خواصه النظر فيه يشرح القلب ويبسط النفس ويسكن وجع الضرس ( المرجان ) هو واسطة بين النبات والمعدن لأنه بتشجره يشبه النبات وبتحجره يشبه المعدن ولا يزال لينا في معدنه فإذا فارقه تحجر ويبس

خواصه النظر فيه يشرح الصدر ويبسط النفس ويفرح القلب ويذهب بالداء المحتبس في العين ويسكن الرمد وسحاقته المخلوطة بالخل تجلو قلح الأسنان وإذا وضع على الجرح منعه من الانتفاخ وأنواعه كثيرة أحمر وأزرق وأبيض وأصله من البحر قيل إنه شجر ينبت وقيل إنه من حيوانه ( حجر الماطليس ) هو حجر هندي لا يعمل فيه الحديد والبيت الذي يكون فيه لا يدخله السحر ولا الجن ولأجل ذلك كان الاسكندر يجعله في عسكره ( الحجر الماهاني ) من تختم به أمن من الروع والهم والحزن والغم ولونه أبيض وأصفر ويوجد بأرض خراسان ( حجر مراد ) يوجد بناحية الجنوب وخاصيته إن الجن تتبع حامله وتعمل له ما أراد ( الدهنج ) خاصيته أنه إذا سقي إنسان من محكه يفعل فعل السم وإذا سقي شارب السم منه نفعه وإذا مسح به موضع اللدغ سكن وينفع من خفقان القلب وإذا طلي بحكاكته بياض البرص أزاله وإن علق على إنسان غلب عليه الباه ( السبج ) خواصه أنه يقوي النظر الضعيف من الكبر أو نزول الماء ولبسه ينفع عسر البول وإدمان النظر فيه يحد البصر وسحاقته تجلو البصر وإذا علق على من به صداع زال عنه ( المغناطيس ) يوجد في بحر الهند وهناك لا يتخذ في السفن حديد ويوجد ببلاد الأندلس أيضا وأجود أنواعه ما كان أسود يضرب إلى حمرة خواصه الاكتحال بسحاقته يورث ألفة بين المكتحل وبين من يحبه ويسهل الولادة تعليقا ومن تختم به كانت حاجته مقضية وتعليقه في العنق يزيد في الذهن وإذا سحق وشرب من سحاقته من به سم بطل سمه وإذا أصابته رائحة الثوم بطلت خاصيته وإذا غسل بالخل عاد إلى حالته وأجوده ما جذب نصف مثقال من الحديد ( حجر الخطاف ) الخطاف يوجد في عشه حجران أحدهما أحمر والآخر أبيض فالأحمر إذا علق على من يفزع في نومه زال فزعه والأبيض إذا علق على من به صرع زال عنه ( حجر الزاج ) إذا دخن البيت بسحافته هرب منه الفأر والذباب ( حجر الزنجفر ) أصله من الزئبق واستحال

وخاصيته أنه يدمل الجراحات وينبت اللحم ( حجر الملح ) هو أنواع وأجوده ما يوجد بأرض سدوم بالقرب من بحر لوط وقد جعله الله قواما للدنيا
ومن خاصيته أنه يحسن الذهب ويزيد في صفرنه وعن النبي أنه قال يا علي ابدأ بالملح واختم به فإن فيه شفاء من سبعين داء ( حجر النطرون ) قال أرسطو ينفع الأرحام التي غلبت عليها الرطوبة ينشفها ويقويها وإذا ألقي في العجين طيبه وبيضه ونشفه وهو نوعان أبيض وأحمر ( حجر اللازورد ) مشهور قال أرسطو من تختم به عظم في أعين الناس وينفع من السهر وا لله أعلم ومن أراد التعمق في ذلك فعليه بالكتب الموضوعة له ولكن قد ذكرنا ما هو معروف والحمد لله على كل حال وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

الباب الثامن والستون في الأصوات والألحان وذكر الغناء واختلاف الناس فيه ومن كرهه ومن استحسنه وما ذكرت ذل إلا لأني كرهت أن يكون كتابي هذا بعد اشتماله على فنون الأدب والتحف والنوادر والأمثال عاطلا من هذه الصناعة التي هي مراد السمع ومرتع النفس وربيع القلب ومجال الهوى ومسلاة الكئيب وأنس الوحيد وزاد الراكب لعظم موقع الصوت الحسن من القلب وأخذه بمجامع النفس
فصل في الصوت الحسن
قال بعض أهل التفسير في قوله تعالى ( يزيد في الخلق ما يشاء ) هو الصوت الحسن وعن النبي أنه قال أتدرون متى كان الحداء ؟ قالوا لا بأبينا أنت وأمنا يا رسول الله قال إن أباكم مضر خرج في طلب مال له فوجد غلاما قد تفرقت إبله فضربه على يده بالعصا فعدا الغلام في الوادي وهو يصي ح وايداه فسمعت الإبل صوته فعطفت عليه فقال مضر لو اشتق من الكلام مثل هذا لكان كلاما تجتمع عليه الإبل فاشتق الحداء وقال النبي لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه لما أعجبه حسن صوته لقد رأيت مزمارا من مزامير آل داود وقيل إن داود عليه الصلاة و السلام كان يخرج

إلى صحراء بيت المقدس يوما في الأسبوع وتجتمع عليه الخلق فيقرأ الزبور بتلك القراءة الرخيمة وكان له جاريتان موصوفتان بالقوة والشدة فكانتا تضبطان جسده ضبطا شديدا خيفة أن تنخلع أوصاله مما كان ينتحب وكانت الوحوش والطير تجتمع لاستماع قراءته قال مالك بن دينار رحمه الله تعالى بلغنا أن الله تعالى يقيم داود عليه الصلاة و السلام يوم القيامة عند ساق العرش فيقول يا داود مجدني اليوم بذلك الصوت الحسن الرخيم وقال سلام الحادي للمنصور وكان يضرب المثل بحدائه مر يا أمير المؤمنين بأن يظمأوا إبلا ثم يورودها الماء فإني آخذ في الحداء فترفع رؤوسها وتترك الشرب وزعم أهل الطب أن الصوت الحسن يجري في الجسم مجرى الدم في العروق فيصفو له الدم وتنمو له النفس ويرتاح له القلب وتهتز له الجوارح وتخف له الحركات ولهذا كرهوا للطفل أن ينام على أثر البكاء حتى يرقص ويطرب وزعمت الفلاسفة أن النغم فصل بقي من النطق لم يقدر اللسان على استخراجه فاستخرجته الطبيعة بالألحان على الترجيع لا على التقطيع فلما ظهر عشقته النفس وحينت إليه الروح ألا ترى إلى أهل الصناعات كلها إذا خافوا الملالة والفتور على أبدانهم ترنموا بالألحان واستراحت إليها أنفسهم وليس من أحد كائنا من كان إلا وهو يطرب من صوت نفسه ويعجبه طنين رأسه ولو لم يكن من فضل الصوت الحسن إلا أنه ليس في الأرض لذة تكتسب من مأكل ولا مشرب ولا ملبس ولا صيد إلا وفيها معاناة على البدن وتعب على الجوارح ما خلا السماع فإنه لا معاناة فيه على البدن ولا تعب على الجوارح وقد يتوصل بالألحان الحسان إلى خيري الدنيا والآخرة فمن ذلك أنها تبعث على مكارم الأخلاق من اصطناع المعروف وصلة الأرحام والذب عن الأعراض والتجاوز عن الذنوب وقد يبكي الرجل بها على خطيئته ويتذكر نعيم الملكوت ويمثله في ضميره ولأهل الرهبانية نغمات وألحان شجية يمجدون الله تعالى بها ويبكون على خطاياهم ويتذكرون نعيم الآخرة وكان أبو يوسف القاضي يحضر مجلس الرشيد وفيه الغناء فيجعل مكان السرور به بكاء كأنه يتذكر نعيم الآخرة وقد تحن

القلوب إلى حسن الصوت حتى الطير والبهائم وكان صاحب الفلاحات يقول إن النحل أطرب الحيوان كله على الغناء قال الشاعر
( والطير قد يسوقه للموت ... إصغاؤه إلى حنين الصوت ) وزعموا أن في البحر دواب ربما زمرت أصواتا مطربة ولحونا مستلذة يأخذ السامعين الغشي من حلاوتها فاعتنى بها وضعة الألحان بأن شبهوا بها أغانيهم فلم يبلغوا وربما يغشى على سامع الصوت الحسن للطافة وصوله إلى الدماغ وممازجته القلب ألا ترى إلى الأم كيف تناغي ولدها فيقبل بسمعه على مناغاتها ويتلهى عن البكاء والإبل تزداد نشاطها وقوتها بالحداء فترفع آذانها وتلتفت يمنة ويسرة وتتبختر في مشيتها وزعموا أن السماكين بنواحي العراق يبنون في جوف الماء حفائر ثم يضربون عندها بأصوات شجية فتجتمع السمك في الحفائر فيصيدونه وقد نبهت على ذلك في باب ذكر البحار وما فيها من العجائب والراعي إذا رفع صوته ونفخ في يراعته تلقته الغنم بآذانها وجدت في رعيها والدابة تعاف الماء فإذا سمعت الصفير بالغت في الشرب وليس شيء مما يستلذ به أخف مؤنة من السماع قال أفلاطون من حزن فليسمع الأصوات الحسنة فإن النفس إذا حزنت خمدت نارها فإذا سمعت ما يطربها ويسرها اشتعل منها ما خمدت وما زالت ملوك فارس تلهي المحزون بالسماع وتعلل به المريض وتشغله عن التفكير ومنهم أخذت العرب حتى قال ابن غيلة الشيباني
( وسماع مسمعة يعللنا ... حتى ننام تناوم العجم ) وحكي أن البعلبكي مؤذن المنصور رجع في أذانه ليلة وجارية تصب الماء على يد المنصور فارتعدت حتى وقع الإبريق من يدها فقال له المنصور خذ هذه الجارية فهي لك ولا تعد ترجع هذا الترجيع وقال عبد الرحمن به عبد الله بن أبي عمارة في قينة

( ألم ترها لا أبعد الله دارها ... إذا رجعت في صوتها كيف تصنع )
( تدير نظام القول ثم ترده ... إلى صلصل من صوتها يترجع ) وبعد فهل خلق الله شيئا أوقع بالقلوب وأشد اختلاسا للعقول من الصوت الحسن لا سيما إذا كان من وجه حسن كما قال الشاعر
( رب سماع حسن ... سمعته من حسن )
( مقرب من فرح ... مبعد من حزن )
( لا فارقاني أبدا ... في صحة من بدن ) وهل على الأرض من جبان مستطار الفؤاد يغني بقول جرير
( قل للجبان إذا تأخر سرجه ... هل أنت من شرك المنية ناجي ) إلا شاجن شجعت نفسه وقوي قلبه أم هل على الأرض من بخيل قد انقبضت أطرافه يوما يغني بقول حاتم الطائي
( يرى البخيل سبيل المال واحدة ... إن الجواد يرى في ماله سبلا ) إلا انبسطت أنامله ورشحت أطرافه واختلف الناس في الغناء فأجازه عامة أهل الحجاز وكرهه عامة أهل العراق فمن حجة من أجازه ما روي أن النبي قال لحسان ( شن الغطاريف على بني عبد مناف فوالله لشعرك عليهم أشد من وقع السهام في غلس الظلام ) واحتجوا في أباحة الغناء واستحسانه بقول النبي لعائشة رضي الله تعالى عنها ( أهديتم الفتاة إلى بعلها ؟ قالت نعم قال فبعثتم معها من يغني ؟ قالت لم نفعل قال أو ما علمت أن الأنصار قوم يعجبهم القول ألا بعثتم معها من يقول
( أتيناكم أتيناكم ... فحيونا نحييكم )

( ولولا الحبة السمراء ... لم نحلل بواديكم ) ولا بأس بالغناء إذا لم يكن فيه أمر محرم ولا يكره السماع عند العرس والوليمه والعقيقة وغيرها فإن فيه تحريكا لزيادة سرور مباح أو مندوب ويدل عليه ما روي من إنشاد النساء بالدف والألحان عند قدوم النبي حيث قلن
( طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع )
( وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع )
( أيها المبعوث فينا ... جئت بالأمر المطاع ) ويدل عليه ما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها إنها قالت رأيت النبي يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد الحرام حتى أكون أنا التي أسامه ويدل عليه أيضا ما روي في الصحيحين من حديث عقيل عن الزهري عن عروة عن عائشة رشي الله تعالى عنها أن أبا بكر دخل عليها وعندها جاريتان في أيام منى يدففان ويضربان والنبي متغش بثوبه فانتهرها أبو بكر فكشف النبي عن وجهه وقال دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد وعن قرة بن خالد بن عبد الله بن يحيى قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه للنابغة الجعدي أسمعني بعض ما عفا الله لك عنه من هناتك فأسمعه كلمة فقال له وإنك لقائلها قال نعم قال طالما غنيت بها خلف جمال الخطاب وعن عبد الله بن عوف قال أتيت باب عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فسمعته يغني بالركابية يقول
( فكيف ثوائي بالمدينة بعدما ... قضى وطرا منها جميل بن معمر ) وكان جميل بن معمر من أخصاء عمر قال فلما استأذنت عليه قال لي أسمعت ما قلت ؟ قلت نعم قال إذا خلونا ما يقول الناس في بيوتهم وقد أجازوا تحسين الصوت في القراءة والأذان فإن كانت الألحان مكروهة فالقراءة والأذان أحق بالتنزيه عنها وإن كانت غير

مكروهة فالشعر أحوج إليها لإقامة الوزن وما جعلت العرب الشعر موزونا إلا لمد الصوت والدندنة ولولا ذلك لكان الشعر المنظوم كالخبر المنشور ومن حجة من كره الغناء أنه قال أنه ينفر القلوب ويستفز العقول ويبعث على اللهو ويحض على الطرب وهذا باطل في أصله وتأولوا في ذلك قوله تعالى ( ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا ) وأخطأ من أول هذا التأويل إنما نزلت هذه الآية في قوم كانوا يشترون الكتب من أخبار السير والأحاديث القديمة ويضاهون بها القرآن ويقولون إنها أفضل منه وليس من سمع الغناء يتخذ آيات الله هزوا وقال رجل للحسن البصري ما تقول في الغناء يا أبا سعيد ؟ فقال نعم العون على طاعة الله تعالى يصل الرجل به رحمه ويواسي به صديقه قال ليس عن هذا أسألك قال وعم سألتني ؟ قال أن يغني الرجل قال وكيف يغني ؟ فجعل الرجل يلوي شدقيه ويفتح منخريه فقال الحسن والله يا ابن أخي ما ظننت أن عاقلا يفعل بنفسه هذا أبدا فلم ينكر الحسن عليه إلا تشويه وجهه وتعويج فمه وسمع ابن المبارك سكران يغني هذا البيت
( أذلني الهوى فأنا الذليل ... وليس إلى الذي أهوى سبيل ) قال فأخرج دواة وقرطاسا وكتب البيت فقيل له أتكتب بيت شعر سمعته من رجل سكران فقال أما سمعتم المثل رب جوهرة في مزبلة وكان لأبي حنيفة جار من الكيالين مغرم بالشراب وكان يغني على شرابه يقول العرجي
( اضاعوني وأي فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر ) قال فأخذه العسس ليلة وحبسه ففقد أبو حنيفة صوته واستوحش له فقال لأهله ما فعل جارنا الكيال ؟ قالوا أخذه العسس وهو

في الحبس فلما أصبح أبو حنيفة توجه إلى عيسى بن موسى فاستأذن عليه فأسرع إذنه وكان أبو حنيفة قليلا ما يأتي أبواب الملوك فأقبل عليه عيسى بن موسى وسأله عما جاء بسببه فقال أصلح الله الأمير إن لي جارا من الكيالين أخذه عسس الأمير ليلة كذا فوقع في حبسه فأمر عيسى بن موسى بإطلاق كل من في الحبس إكراما لأبي حنيفة فأقبل الكيال على أبي حنيفة يتشكر له فلما رآه أبو حنيفة قال له هل أضعناك يا فتى يعرض له بشعره الذي ينشده ؟ قال لا والله ولكنك بررت وحفظت وكان عروة بن أدية ثقة في الحديث روي عنه مالك بن أنس وكان شاعرا مجيدا لبقا غزلا وكان يصوغ ألحان الغناء على شعره وينحلها للمغنين قيل إنه وقفت عليه إمرأة يوما وحوله التلاميذ فقالت له أنت الذي يقال فيك الرجل الصالح وأنت تقول
( إذا وجدت أوار الحب في كبدي ... عمدت نحو سقاء القوم أبترد )
( هبي بردت ببرد الماء ظاهره ... فمن لنار على الأحشاء تتقد ) وكان عبد الملك الملقب بالقس عند أهل مكة بمنزلة عطاء بن أبي رباح في العبادة قيل إنه مر يوما بسلامة وهي تغني فاقام يسمع غناءها فرآه مولاها فقال له هل لك أن تدخل وتسمع فأبى فلم يزل به حتى دخل فغنته فأعجبته ولم يزل يسمعها ويلاحظ النظر حتى شغف بها فلما شعرت بلحظه إياها غنته
( رب رسولين لنا بلغا ... رسالة من قبل أن نبرحا )
( الطرف للطرف بعثناهما ... فقضيا حاجا وما صرحا ) قال فأغمي عليه وكاد يهلك فقالت له إني والله أحبك قال وأنا والله أحبك قالت وأحب أن أضع فمي على فمك قال وأنا والله كذلك قالت فما يمنعك من ذلك ؟ قال أخشى أن تكون صداقة ما بيني وبينك عداوة يوم القيامة أما سمعت قوله تعالى

( الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ) ثم نهض وعاد إلى طريقته التي كان عليها وأنشأ يقول
( قد كنت أعذل في السفاهة أهلها ... فاعجب لما تأتي به الأيام )
( فاليوم أعذرهم وأعلم إنما ... سبل الضلالة والهدى أقسام ) وقدم عبد الله بن جعفر على معاوية بالشام فأنزله في دار عياهل وأظهر من إكرامه ما يستحقه فغاظ ذلك فاختة بنت قرظة زوج معاوية فسمعت ذات ليلة غناء عند عبد الله بن حعفر فجاءت إلى معاوية فقالت هلم فاسمع ما في منزلك الذي جعلته من لحمك ودمك وأنزلته بين حرمك فجاء معاوية فسمع شيئا حركه وأطربه فقال والله إني لأسمع شيئا تكاد الجبال أن تخر له ثم انصرف فلما كان في آخر الليل سمع معاوية قراءة عبد الله بن جعفر وهو قائم يصلي فنبه فاختة وقال لها اسمعي مكان ما أسمعتني هؤلاء قومي ملوك بالنهار رهبان بالليل ثم إن معاوية أرق ذات ليلة فقال لخادمه اذهب فانظر من عند عبد الله بن جعفر وأخبره إني قادم عليه فذهب وأخبره فأقام عبد الله كل من كان عنده فلما جاء معاوية لم ير في المجلس غير عبد الله فقال مجلس من هذا ؟ قال عبد الله هذا مجلس فلان يا أمير المؤمنين فقال معاوية مره فليرجع إلى مجلسه حتى لم يبق إلا مجلس رجل واحد قال مجلس من هذا ؟ قال مجلس رجل يداوي الآذان يا أمير المؤمنين قال إن أذني عليلة فمره أن يرجع إلى مجلسه وكان مجلس بديح المغني فأمره عبد الله بن جعفر فرجع إلى موضعه فقال له معاوية داو أذني من علتها فتناول العود وغنى وقال
( ودع سعاد فإن الركب مرتحل ... وهل تطيق وداعا أيها الرجل ) قال فحرك عبد الله بن جعفر رأسه فقال له معاوية لم حركت رأسك يا ابن جعفر ؟ قال أريحية أجدها يا أمير المؤمنين لو لقيت

لأبليت ولو سئلت لأعطيت وكان معاوية قد خضب قال فقال ابن جعفر لبديح هات غير هذا وكان عند معاوية جارية أعز جواريه عليه وكانت تتولى خضابه فغنى بديح وقال
( أليس عندك شكر للتي جعلت ... ما ابيض من قادمات الرأس كالحمم )
( وجددت منك ما قد كان أخلقه ... صرف الزمان وطول الدهر والقدم ) فطرب معاوية طربا شديدا وجعل يحرك رجله فقال له ابن جعفر يا أمير المؤمنين إنك سألتني عن تحريك رأسي فأجبتك وأخبرتك وأنا أسألك عن تحريك رجلك فقال كل كريم طروب ثم قام وقال لا يبرح أحد منكم حتى يأتي له إذني ثم ذهب فبعث إلى ابن جعفر بعشرة آلاف دينار ومائة ثوب من خاصة كسوته وإلا كل رجل منهم بألف دينار وعشرة أثواب وحدث ابن الكلبي والهيثم بن عدي قالا بينما عبد الله بن جعفر في بعض أزقة المدينة إذ سمع غناء فاصغى إليه فإذا صوت رقيق لقينة تغني وتقول
( قل للكرام ببابنا يلجوا ... ما في التصابي على الفتى حرج ) فنزل عبد الله عن دابته ودخل على القوم بلا إذن فلما رأوه قاموا إجلالا له ورفعوا مجلسه فأقبل عليه صاحب المجلس وقال يا ابن عم رسول الله أتدخل مجلسنا بلا إذن وليس هذا من شأنك ؟ فقال عبد الله لم أدخل إلا بإذن قال ومن لك ؟ قال قينتك هذه سمعتها تقول قل للكرام ببابنا يلجوا فولجنا فإن كنا كراما فقد أذن لنا وإن كنا لئاما خرجنا مذمومين فقبل صاحب المنزل يده وقال جعلت فداك والله ما أنت إلا من أكرم الناس فبعث عبد الله إلى جارية من جواريه فحضرت ودعا بثياب وطيب فكسا القوم وطيبهم ووهب الجارية لصاحب المنزل وقال هذه أحذق بالغناء من جاريتك وسمع سليمان بن عبد الملك مغنيا في عسكره فقال

اطلبوه فجاؤا به فقال أعد علي ما غنيت به فغنى وأحفل وكان سليمان أغير الناس فقال لأصحابه كأنها والله جرجرة الفحل في الشوك وما أظن أنثى تسمع هذا إلا صبت إليه ثم أمر به فخصي
أصل الغناء ومعدنه قال أبو المنذر هشام الغناء على ثلاثة أوجه النصب والسناد والهزج فأما النصب فغناء الفتيان والركبان وأما السناد فالثقيل الترجيع الكثير النغمات وأما الهزج فالخفيف كله وهو الذي يستفز القلوب ويهيج الحليم وقيل كان أصل الغناء ومعدنه في أمهات القرى فاشيا ظاهرا وهي المدينة والطائف وخيبر وفدك ووادي القرى ودومة الجندل واليمامة وهذه القرى مجامع أسواق العرب ويقال إن أول من صنع العود لامك ابن قاين بن آدم وبكى به على ولده ويقال إن صانعه بطليموس صاحب الموسيقى وهو كتاب اللحون الثمانية والله سبحانه وتعالى أعلم بحقيقة ذلك وحسبنا الله ونعم الوكيل وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

الباب التاسع والستون في ذكر المغنين والمطربين وأخبارهم ونوادر الجلساء في مجالس الرؤساء قيل إن أول من غنى في العرب قينتان للنعمان يقال لهما الجرادتان ومن غنائهما
( ألا يا قين ويحك قم فهينم ... لعل الله يسقينا غماما ) وإنما غنتا هذا حين حبس الله عنهم المطر وقيل أول من غنى في الإسلام الغناء الرقيق طويس وهو الذي علم ابن سريج والدلال نوبة الضحى وكان يكنى أبا عبد النعيم ومن غنائه وهو أول صوت غنى به في الإسلام هذا البيت
( قد براني الشوق حتى ... كدت من وجدي أذوب ) ثم نجم بعد طويس ابن طنبور وأصله من اليمن وكان أهزج الناس وأخفهم غناء ومن غنائه
( وفتيان على شرب جميعا ... دلفت لهم بباطية هدور )
( فلا تشرب بلا طرب فإني ... رأيت الخيل تشرب بالصفير ) ومنهم حكم الوادي ومن غنائه
( إمدح الكأس ومن أعملها ... واهج قوما قتلونا يا لعطش )

( إنما الراح ربيع باكر ... فإذا ما وافت المرء انتعش ) وكان لهارون الرشيد جماعة من المغنين منهم إبراهيم الموصلي وابن جامع السهمي وغيرهما وكان له زامر يقال له برصوما وكان إبراهيم أشدهم تصرفا في الغناء وابن جامع أحلاهم نغمة فقال الرشيد يوما لبرصوما ما تقول في ابن جامع ؟ قال يا أمير المؤمنين وما أقول في العسل الذي من حيثما ما ذقته فهو طيب قال فإبراهيم الموصلي ؟ قال بستان فيه جميع الأزهار والرياحين وكان ابن محرز يغني كل إنسان بما يشتهيه كأنه خلق من قلب كل إنسان وغنى رجل بحضرة الرشيد بهذه الأبيات
( وأذكر أيام الحمى ثم أنثني ... على كبدي من خشية أن تصدعا )
( فليست عشيات الحمى برواجع ... عليك ولكن خل عينيك تدمعا )
( بكت عيني اليسرى فلما نهيتهما ... عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معا ) قال فاستخف الرشيد الطرب فأمر له بمائة ألف درهم
وحدث ابن الكلبي عن أبيه قال كان ابن عائشة من أحسن الناس غناء وأنبههم فيه وكان من أضيق الناس خلقا إذا قيل له غن قال لمثلي يقال غن علي عتق رقبة إن غنيت يومي هذا فلما كان في بعض الأيام سال وادي العقيق فلم يبق في المدينة مخبأة ولا مخدرة ولا شاب ولا كهل إلا خرج يبصره وكان فيمن خرج ابن عائشة المغني وهو معتجر بفضل ردائه فنظر إليه الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم وكان الحسن فيمن خرج إلى العقيق وبين يديه عبدان أسودان كأنهما ساريتان يمشيان أمام دابته فقال لهما أقسم بالله إن لم تفعلا ما أمركما به لأنكلن بكما فقالا يا مولانا قل ما أمرتنا به فلو امرتنا ان نقتحم النار فعلنا قال فاذهبا إلى ذلك الرجل المعتجر بفضل ردائه فأمسكاه فإن لم يفعل ما آمره به وإلا فاقذفا به في العقيق قال فمضيا والحسن يقفوهما فلم يشعر ابن عائشة إلا وهما آخذان بمنكبيه فقال

هذا ؟ فقال له الحسن أنا هذا يا ابن عائشة فقال لبيك وسعديك بأبي أنت وأمي قال اسمع مني ما أقول لك واعلم أنك مأسور في أيديهما وقد أقسمت إن لم تغن مائة صوت ليطرحانك في العقيق قال فصاح ابن عائشة واويلاه واعظم مصيبتاه فقال له الحسن دعنا من صياحك وخذ فيما ينفعنا قال اقترح وأقم من يحصي ثم أقبل يغني فترك الناس العقيق واقبلوا عليه فلما تمت أصواته مائة كبر الناس بلسان واحد تكبيرة ارتجت لها أقطار الأرض وقالوا للحسن صلى الله على جدك حيا وميتا فما اجتمع لأحد من أهل المدينة سرور قط إلا بكم أهل البيت فقال له الحسن ما فعلت هذا بك يا ابن عائشة إلا لأخلاقك الشرسة فقال ابن عائشة والله ما مرت بي شدة أعظم من هذه لقد بلغت أطراف أعضائي فكان ابن عائشة بعد ذلك إذا قيل له ما أشد يوم مر عليك ؟ يقول يوم العقيق
وحدث أبو جعفر البغدادي قال حدثني عبد الله بن محمد كاتب بغداد عن أبي عكرمة قال خرجت يوما إلى المسجد الجامع فمررت بباب أبي عيسى بن المتوكل فإذا على بابه المشدود وهو أحذق خلق الله تعالى بالغناء فقال أين تريد يا أبا عكرمة ؟ قلت المسجد الجامع لعلي أستفيد حكمة اكتبها فقال أدخل بنا إلى أبي عيسى قلت أمثل أبي عيسى في قدره وجلالته يدخل عليه بلا إذن ؟ فقال للحاجب أعلم أمير المؤمنين بمكان أبي عكرمة فما لبث إلا ساعة حتى خرج الغلمان إلي فحملوني حملا فدخلت إلى دار ما رأيت أحسن منها بناء ولا أظرف منها هيئة فلما نظرت إلى أبي عيسى قال لي ما يعيش من يحتشم اجلس فجلست فأتينا بطعام كثير فملا انقضى أتينا بشراب وقامت جارية تسقينا شرابا كالشعاع في زجاجة كأنها كوكب دري فقلت أصلح الله الأمير وأتم عليه نعمه ولا سلبه ما وهبه قال فدعا أبو عيسى بالمغنيين وهم المشدود ودبيس ورقيق ولم يكن في ذلك الزمان أحذق من هؤلاء الثلاثة بالغناء فابتدأ المشدود وغنى يقول
( لما استقل بارداف تجاذبه ... واخضر فوق بياض الدر شاربه )

( وأشرق الورد من نسرين وجنته ... واهتز أعلاه وارتجت حقائبه )
( كلمته بجفون غير ناطقة ... فكان من رده ما قال حاجبه ) ثم سكت وغنى دبيس
( الحب حلو أمرته عواقبه ... وصاحب الحب صب القلب ذائبه )
( استودع الله من بالطرف ودعني ... يوم الفراق ودمع العين ساكبه )
( ثم انصرفت وداعي الشوق يهتف بي ... إرفق بقلبك قد عزت مطالبه ) ثم سكت وغنى رقيق
( بدر من الإنس حفته كواكبه ... قد لاح عارضه واخضر شاربه )
( إن يوعد الوعد يوما فهو مخلفه ... أو ينطق القول يوما فهو كاذبه )
( عاطيته كدم الأوداج صافية ... فقام يشدو وقد مالت جوانبه ) ثم سكت وابتدأ المشدود يقول
( يا دير حنة من ذات الاكيراح ... من يصح عنك فإني لست بالصاحي ) ثم سكت وغنى دبيس
( دع البساتين من آس وتفاح ... واعدل هديت إلى شيخ الاكيراح )
( واعدل إلى فتية ذابت لحومهم ... من العبادة إلا نضو أشباح )
( وخمرة عتقت في دنها حقبا ... كأنها دمعة في جفن سياح ) ثم سكت وغنى رقيق
( لا تحلفن بقول اللائم اللاحي ... واشرب على الورد من مشمولة الراح )
( كأسا إذا انحدرت في حلق شاربها ... أغناه لألاؤها عن كل مصباح )

( ما زلت أسقي نديمي ثم ألثمه ... والليل ملتحف في ثوب امساح )
( فقام يشدو وقد مالت سوالفه ... يا دير حنة من ذات الأكيراح ) ثم أقبل أبو عيسى على المشدود وقال له غن لي شعري فغناه
( يا لجة الدمع هل للغمض مرجوع ... أم للكرى من جفون العين ممنوع )
( ما حيلتي وفؤادي هائم دنف ... بعقرب الصدغ من مولاي ملسوع )
( لا والذي تلفت نفسي بفرقته ... فالقلب من فرق الأحزان مصدوع )
( ما أرق العين إلا حب مبتدع ... ثوب الجمال على خديه مخلوع ) قال أبو عكرمة فوالله لقد حضرت من المجالس ما لا يحصى عدده إلا الله تعالى فما حضرت مثل ذلك المجلس ولولا أن أبا عيسى قطعهم ما انقطعوا وحكي عن الرشيد أنه قال يوما للفضل ابن الربيع من بالباب من الندماء ؟ قال جماعة فيهم هاشم بن سليمان مولى بني أمية وأمير المؤمنين يشتهي سماعه قال فأذن له وحده فدخل فقال هات يا هشام فغناه من شعر جميل حيث يقول
( إذا ما تراجعنا الذي كان بيننا ... جرى الدمع من عيني بثينة بالحكل )
( فيا ويح نفسي حسب نفسي الذي بها ... ويا ويح عقلي ما أصبت به أهلي )
( خليلي فيما عشتما هل رأيتما ... قتيلا بكي من حب قاتله قبلي ) قال فطرب الرشيد طربا شديدا وقال أحسنت لله أبوك قلده عقدا نفيسا فلما رأه هاشم ترقرقت عيناه بالدموع فقال له الرشيد ما يبكيك يا هاشم ؟ فقال يا أمير المؤمنين إن لهذا العقد حديثا عجيبا إن أذن لي أمير المؤمنين حدثته به فقال قد أذنت لك قال يا أمير المؤمنين قدمت يوما على الوليد وهو على بحيرة طبرية ومعه قينتان لم ير مثلهما جمالا وحسنا فلما وقعت عينه علي قال هذا

إعرابي قد ظهر من البوادي أدعو به لنسخر به فدعاني فسرت إليه ولم يعرفني فغنت إحدى الجاريتين بصوت هو لي فأخطأته الجارية فقلت لها أخطأت يا جارية فضحكت ثم قالت يا أمير المؤمنين ألم تسمع ما يقول هذا الأعرابي يعيب علينا غناءنا ؟ فنظر إلى كالمنكر فقلت يا أمير المؤمنين أنا أبين لك الخطأ فلتصلح وتر كذا ووتر كذا ففعلت وغنت شيئا ما سمع منها إلا في هذا اليوم فقامت الجارية مكبة علي وقالت أستاذي هاشم ورب الكعبة فقال الوليد أهاشم ابن سليمان أنت ؟ قلت نعم يا أمير المؤمنين وكشفت عن وجهي وأقمت معه بقية يومنا فأمر لي بثلاثين ألف درهم فقالت الجارية يا أمير المؤمنين أتأذن لي في بر أستاذي ؟ فقال الوليد ذلك إليك فحلت يا أمير المؤمنين هذا العقد من عنقها ووضعته في عنقي وقالت هو لك ثم قربوا إليه السفينة ليرجع إلى موضعه فركب في السفينة وطلعت معه إحدى الجاريتين وأبتعتها صاحبتي فأردات أن ترفع رجلها وتطلع السفينة فسقطت في الماء فغرقت لوقتها وطلبت فلم يقدر عليها فاشتد جزع الوليد عليها وبكى بكاء شديدا وبكيت أنا عليها أيضا بكاء شديدا فقال لي يا هاشم ما نرجع عليك مما وهبناه لك ولكن نحب أن يكون هذا العقد عندنا نذكرها به فبعني إياه فعوضني عنه ثلاثين ألف درهم فلما وهبتني العقد يا أمير المؤمنين تذكرت قضيته وهذا سبب بكائي فقال الرشيد لا تعجب فإن الله كما ورثنا مكانهم ورثنا أموالهم وقال علي بن سليمان النوفلي غنى دحمان الأشقر عند الرشيد يوما فأنشده
( إذا نحن أدلجنا وأنت أمامنا ... كفى لمطايانا برؤياك هاديا )
( ذكرتك بالديزين يوما فأشرفت ... بنات الهوى حتى بلغن التراقيا )
( إذا ما طواك الدهر يا أم مالك ... فشأن المنايا القاضيات وشانيا ) قال فطرب الرشيد طربا شديدا واستعاده منه مرات ثم قال له

علي قال أتمنى الهنىء والمرئ وهما ضيعتان غلتهما أربعون ألف دينار في كل سنة فأر له بهما فقيل له يا أمير المؤمنين إن هاتين الضيعتين من جلالتهما يجب أن لا يسمح بمثلهما فقا الرشيد لا سبيل إلى استرداد ما أعطيت ولكن احتالوا في شرائهما منه فساوموه فيهما حتى وقفوا معه على مائة ألفه دينار فرضي بذلك فقال الرشيد إدفعوها له فقاولا يا أمير المؤمنين في إخراج مائة ألف دينار من بيت المال طعن ولكن نقطعها له فكان يوصل بخمسة آلاف وثلاثة آلاف حتى استوفاها ومن ذلك ما حكى إسحاق الموصلي قال كان الواثق بن المعتصم أعلم الناس بالغناء وكان يضع الألحان العجيبة فغنيني بها شعره وشعر غيره فقال له يوما يا أبا محمد لقد فقت أهل العصر في كل شيء فغني شعرا أرتاح إليه وأطرب عليه يومي هذا قال اسحاق فغنيته هذه الأبيات
( ما كنت أعلم ما في البين من حرق ... حتى تنادوا بأن قد جيء بالسفن )
( قالت تودعني والدمع يغلبها ... فهمهمت بعض ما قالت ولم تبن )
( مالت إلى وضمتني لترشفني ... كما يميل نسيم الريح بالغصن )
( وأعرضت ثم قالت وهي باكية ... يا ليت معرفتي إياك لم تكن ) قال فخلع علي خلعة كانت عليه وأمر لي بمائة ألف درهم وقال وغنيته يوما
( قفي ودعينا يا سعاد بنظرة ... فقد حان منا يا سعاد رحيل )
( فيا جنة الدنيا ويا غاية المنى ... ويا سؤال نفسي هل إليك سبيل )
( وكنت إذا ما جئت جئت لعلة ... فافنيت علاتي فكيف أقول )
( فما كل يوم لي بأرضك حاجة ... ولا كل يوم لي إليك وصول ) فقال والله لا سمعت يومي غيره وألقى علي خلعة من ثيابه وأمر لي بصلة ما أمر لي قبلها بمثلها

حذف حذف 332

ومن حكايات الخلفاء ومكارم أخلاقهم ما حكي عن إبراهيم بن المهدي قال قال جعفر بن يحيى يوما لبعض ندمائه إني قد استأذنت أمير المؤمنين في الخلوة غدا فهل من مساعدة ؟ فقلت جعلت فداءك أنا أسعد بمساعدتك وأسر بمشاهدتك فقال بكر بكور الغراب قال فأتيته عند الفجر فوجدت الشموع قد أوقدت بين يديه وهو ينتظرني في الميعاد فما زلنا في أطيب عيش إلى وقت الضحى فقدمت إلينا موائد الأطعمة عليها من أفخر الطعام وأطيبه فأكلنا وغسلنا أيدينا ثم خلعت علينا ثياب المنادمة وضمخنا بالخلوق وانتقلنا إلى مجلس الطرب ومدت الستائر وغنت القينات فظللنا بأنعم يوم ثم إنه داخله الطرب فدعا بالحاجب وقال له إذا أتى أحد يطلبنا فأذن له ولو كان عبد الملك بن صالح بنفسه فاتفق بالأمر المقدر إن عم الرشيد عبد الملك بن صالح قدم علينا في ذلك الوقت وكان صاحب جلالة وهيبة ورفعة وعنده من الورع والزهد والعبادة ما لا مزيد عليه وكان الرشيد إذا جلس مجلس لهو لا يطلعه على ذلك لشدة ورعه فلما قدم دخل به الحاجب علينا فلما رأيناه رمينا ما في أيدينا وقمنا إجلالا له نقبل يده وقد ارتعنا لذلك وخجلنا وزاد بنا الحياء فقال لا بأس عليكم كونوا على ما أنتم عليه ثم صاح بغلام فدفع له ثيابه ثم أقبل علينا وقال اصنعوا بنا ما صنعتم بأنفسكم قال فما كان بأسرع من أن طرحت عليه ثياب خز معلم وقدمت إليه موائد الطعام والشراب فطعم وشرب الشراب لساعته ثم قال خففوا عني فإنه شيء ما فعلته والله قط قال فتهلل وجه جعفر ثم التفت إلى عبد الملك فقال له جعلت فداءك قد علوت علينا وتفضلت فهل من حاجة تبلغها مقدرتي وتحيط بها نعمتي فاقضيها لك مكافأة لك على ما صنعت قال بلى إن في قلب أمير المؤمنين بعض تغير علي فتسأله الرضا عني فقال جعفر قد رضي عنك أمير المؤمنين قال وعلي عشرة آلاف دينار فقال جعفر هي حاضرة لك من مالي ولك من مال أمير المؤمنين مثلها قال أريد أن أشد ظهر ابني إبراهيم بمصاهرة من أمير المؤمنين قال قد زوجه أمير المؤمنين بابنته الغالية قال وأحب أن أن تخفق الألوية على رأسه قال وقد ولاه

أمير المؤمنين مصر فانصرف عبد الملك بن صالح وبقيت متعجبا من إقدام جعفر على ذلك من غير استئذان وقلت عسى أن يجيبه أمير المؤمنين إلى ما سأله من الولاية والمال والرضا إلا المصاهرة قال فلما كان من الغد بكرت إلى باب الرشيد لأنظر ما يكون من أمرهم فدخل جعفر فلم يلبث أن دعي بأبي يوسف القاضي ثم بإبراهيم بن عبد الملك بن صالح فخرج إبراهيم وقد عقد نكاحه بالغالية بنت الرشيد وعقد له على مصر الرايات والألوية تخفق على رأسه وخرج كل من في القصر معه إلى بيت عبد الملك بن صالح قال ثم بعد ذلك خرج إلينا جعفر وقال أظن أن قلوبكم تعلقت بحديث عبد الملك بن صالح وأحببتم سماع ذلك قلنا هو كما ظننت قال لما دخلت على أمير المؤمنين ومثلت بين يديه قال كيف كان يومك يا جعفر بالأمس ؟ فقصصت عليه القصة حتى بلغت إلى دخول عبد الملك بن صالح فكان متكئا فاستوى جالسا وقال لله أبوك ما سألك ؟ قلت سأنل رضاك عنه يا أمير المؤمنين قال بم أجبته قلت قد رضي عنك أمير المؤمنين قال قد رضيت عنه ثم ماذا قلت وذكر ان عليه عشرة آلاف دينار قال فبم أجبته ؟ قلت قد قضاها عنك أمير المؤمنين قال وقد قضيتها عنه ثم ماذا قلت ورغب أن يشد أمير المؤمنين ظهر ولده إبراهيم بمصاهرة منه قال فبم أجبته ؟ قلت قد زوجه أمير المؤمنين بابنته الغالية قال قد أجبته إلى ذلك ثم ماذا قلت ؟ قال وأحب أن تخفق الألوية على رأسه قال فبم أجبته ؟ قلت قد ولاه أمير المؤمنين مصر قال قد وليته إياها ثم نجز له جميع ذلك من ساعته قال إبراهيم بن المهدي فوالله ما أدري أي الثلاثة أكرم وأعجب فعلا ما ابتدأه عبد الملك بن صالح من المنادمة ولم يكن فعل ذلك قط أم إقدام جعفر على الرشيد أم إمضاء الرشيد جميع ما حكم به جعفر فهكذا تكون مكارم الأخلاق وحكى أبو العباس عن عمر الرازي قال أقبلت من مكة أريد المدينة فجعلت أسير في جمد من الأرض فسمعت غناء لم أسمع مثله فقلت والله لأتوصلن إليه فإذا هو عبد أسود فقلت له أعد علي ما سمعت فقال والله لو كان عندي قري أقريكه لفعلت ولكني أجعله قراك

فإني والله ربما غنيت بهذا الصوت وأنا جائع فأشبع وربما غنيته وأنا كسلان فأنشط أو عطشان فأروى ثم اندفع يغني ويقول
( وكنت إذا ما جئت سعدى أزورها ... أرى الأرض تطوى لي ويدنو بعيدها )
( من الخفرات البيض ود جليسها ... إذا ما انقضت أحدوثة لو تعيدها ) قال عمر فحفظته منه ثم تغنيت به على الحالات التي وصفها إلى فإذا هي كما ذكر والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

الباب السبعون في ذكر القينات والأغاني
حكى علي بن الجهم قال لما أفضت الخلافة إلى أمير المؤمنين المتوكل أهدى إليه عبد الله بن طاهر من خراسان جارية يقال لها محبوبة كانت قد نشأت بالطائف فبرعت في الجمال والأدب وأجادت قول الشعر وحذاقة الغناء فشغف بها أمير المؤمنين المتوكل حتى كانت لا تفارق مجلسه ساعة واحدة ثم أنه حصل منه عليها بعد ذلك جفاء فهجرها قال علي بن الجهم فبينما أنا نائم عنده ذات ليلة إذ أيقظني فقال يا علي قلت لبيك يا أمير المؤمنين قال قد رأيت الليلة في منامي كأني رضيت على محبوبة وصالحتها فقلت خيرا رأيت يا أمير المؤمنين أقر الله عينك إنما هي جاريتك والرضا والجفاء بيدك فوالله إنا لفي حديثها إذ جاءت وصيفة فقالت يا أمير المرمنين سمعت صوت عود من حجرة محبوبة فقال قم بنا يا علي ننظر ما تصنع فنهضنا حتى أيتنا حجرتها فإذا هي تضرب بالعود وتقول
( أدور في القصر لا أرى أحدا ... أشكو إليه ولا يكلتمني )
( كأنني قد أتيت معصية ... ليس لها توبة تخلصني )
( فهل شفيع لنا إلى ملك ... قد زارني في الكرى وصالحني )
( حتى إذا ما الصباح لاح لنا ... عاد إلى هجره وصارمني ) قال فصاح أمير المؤمنين فلما سمعته تلقته وأكبت على رجليه تقبلهما فقال ما هذا ؟ قلت يا مولاي رأيت في منامي هذه الليلة

كأنك قد رضيت عني فأنشدت ما سمعت قال وأنا والله رأيت مثل ذلك ثم قال يا علي هل رأيت أعجب من هذا الاتفاق ثم أخذ بيدها ومضى إلى حجرتها وكان من أمرهما ما كان
قيل وكان أمير المؤمنين الواثق إذا شرب رقد في موضعه الذي شرب فيه ومن كان معه من ندمائه وشرب رقد ولم يخرج فشرب يوما وخرج من كان عنده إلا مغنيا واحدا أظهر التراقد فترك وكانت مغنية من حظايا الخليفة نائمة فلما خلا المجلس كتب المغني رقعة ورمى بها إليها فإذا فيها
( إني رأيتك في المنام ضجيعتي ... مسترشفا من ريق فيك البارد )
( وكأن كفك في يدي وكأننا ... بتنا جميعا في لحاف واحد )
( ثم انتبهت ومنكباك كلاهما ... في راحتي وتحد خدك ساعدي )
( فقطعت يومي كله متراقدا ... لأرك في نومي ولست براقد ) فكتبت إليه على ظهرها تقول
( خيرا رأيت وكل ما أملته ... ستناله مني برغم الحاسد )
( وتبيت بين خلاخلي ودمالجي ... وتحل بين مراشفي ونواهدي )
( ونكون أنعم عاشقين تعاطيا ... ملح الحديث بلا مخافة راصد ) فلما مدت يدها لترمي إليه بالرقعة رفع الواثق رأسه فأخذها من يدها وقال ما هذا ؟ فحلفا له أنه لم يجر بينهما قبل ذلك كلام ولا كتاب ولا رسول إلا أن العشق قد خامرهما قال فاعتقها من وقتها وزوجها به وقلت خذها ولا تقربنا بعد اليوم وكان لأسماء بنت المهدي جارية يقال لها كاعب وكانت بكرا ناهدا بنت ثلاث عشرة سنة قال فتلاعب عليها أبو نواس فتمنعت فوقع في قلبه منها ما وقع وأحبته هي أيضا فجعل أبو نواس كلما أمسكها تمنعت فظفر بها ليلة من الليالي في ناحية

من القصر فأمسكها فبكت وقالت له يا سيدي الموت دون ذلك فقال أبو نواس هذا جزع الابكار فاتفق أنه خرج يوما من القصر وقد ترقرق الدجا فوجدها نائمة في سدلة وهي سكرى لا تفيق فتقرب منها وحل سراويلها ووقع عليها فإذا هي خالية من البكارة فارتاع وظن أن يكون أتاها دم فلم يجد فقام عنها وندم على ما كان منه وأنشد يقوله
( وناهدة الثديين من خدم القصر ... مرقوقة الخدين ليلية الشعر )
( كلفت بها دهرا على حسن وجهها ... طويلا وما حب الكواعب من أمري )
( فما زلت بالأشعار حتى خدعتها ... وروضتها والشعر من خدع السحر )
( أطالبها شيئا فقالت بعبرة ... أموت ولا هذا ودمعتها تجري )
( فلما تعارضنا توسطت لجة ... غرقت بها يا قوم في لجج البحر )
( فصحت أغثني يا غلام فجاءني ... وقد زلقت رجلي وصرت إلى الصدر )
( ولولا صياحي بالغلام وإنه ... تداركني بالحبل صرت إلى القعر )
( فأقسمت عمري لا ركبت سفينة ... ولا سرت طول الدهر إلا على ظهر ) ومن ذلك ما حدث الشيباني قال كان عند رجل بالعراق قينة وكان أبو نواس يختلف إليها وكانت تظهر له أنها لا تحب غيره وكان كلما دخل إليها وجد عندها شابا يجالسها ويحادثها فقال فيها هذه الأبيات
( ومظهرة لخلق الله ودا ... وتلقي بالتحية والسلام )
( أتيت لبابها أشكو إليها ... فلم أخلص إليه من الزحام )
( فيا من ليس يكفيها خليل ... ولا ألفا خليل كل عام )
( أراك بقية من قوم موسى ... فهم لا يصبرون على طعام ) وقال أبو سويد حدثني أبو زيد الأسدي قال دخلت على سليمان ابن عبد الملك وهو جالس في إيوان مبلط بالرخام الأحمر مفروش بالديباج الأخضر في وسط بستان ملتف قد أثمر وأينع وعلى رأسه وصائف كل

واحدة منهن أحسن من صاحبتها وقد غابت الشمس وغنت الأطيار فتجاوبت وصفقت الرياح على الأشجار فتمايلت فقلت السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته وكان مطرقا فرفع رأسه وقال أبا زيد في مثل هذا حين تصاحبنا فقلت أصلح الله الأمير أو قامت القيامة ؟ قال نعم على أهل المحبة ثم أطرق مليا ورفع رأسه وقال أبا زيد ما يطيب في يومنا هذا ؟ قلت أصلح الله الأمير قهوة حمراء في زجاجة بيضاء تناولها غادة هيفاء مضمومة الفاء أشربها من كفها وأمسح فمي بخدها فأطرق سليمان مليا لا يرد جابا تنحدر من عينيه عبرات بلا شهيق فلما رأت الوصائف ذلك تنحين عنه ثم رفع رأسه فقال أبا زيد حضرت في يوم فيه انقضاء أجلك ومنتهى مدتك وتصرم عمرك والله لأضربن عنقك أو لتخبرني ما أثار هذه الصفة من قلبك قلت نعم أصلح الله الأمير كنت جالسا عند دار أخيك سعيد بن عبد الملك فإذا أنا بجارية قد خرجت من باب القصر كأنها غزال انفلت من شبكة صياد عليها قميص سكب اسكندراني يبين منه بياض بدنها وتدوير سرتها ونقش تكتها وفي رجليها نعلان صراران قد أشرق بياض قدميها على حمرة نعليها بذؤابتين تضربان إلى حقويها لها صدغان كأنهما نونان وحاجبان قد قوسا على محاجر عينيها وعينان مملوءتان سحرا وأنف كأنه قصبة بلور وفم كأنه جرح يقطر دما وهي تقول عباد الله من لي بدواء ما لا يشتكى وعلاج ما لا يسمى طال الحجاب وأبطأ الجواب والقلب طائر والعقل عازب والنفس والهة والفؤاد مختلس والنوم محتبس رحمة الله على قوم عاشوا تجلدا وماتوا كمدا ولو كان إلى الصبر حيلة أو إلى ترك الغرام سبيل لكان أمرا جميلا ثم أطرقت طويلا ورفعت رأسها فقلت لها أيتها الجارية إنسية أنت أم جنية سماوية أنت أم أرضية ؟ فقد أعجبني ذكاء عقلك واذهلني حسن منطقك فسترت وجهها بكمها كأنها لم ترني ثم قالت أعذر أيها المتكلم فما أوحش الساعد بلا مساعد والمقاساة لصب معاند ثم انصرفت فوالله ما أكلت طعاما طيبا إلا غصصت به لذكرها ولا رأيت حسنا إلا سمج في عيني لحسنها فقال سليمان أبا زيد كاد الجهل يستفزني والصبا يعاودني والحلم يعزب

عني لشجو ما سمعت اعلم يا أبا زيد أن تلك التي رأيتها هي الذلفاء التي قيل فيها
( إنما الذلفاء ياقوتة ... أخرجت من كيس دهقان ) شراؤها على أخي ألف ألف درهم وهي عاشقة لمن باعها والله إن مات ما يموت إلا بحبها ولا يدخل القبر إلا بغصتها وفي الصبر سلوة وفي توقع الموت نهيه قم أبا زيد في دعة الله تعالى ثم قال يا غلام نفله ببدرة فأخذتها وانصرفت قال فلما أفضت الخلافة إليه صارت الذلفاء إليه فأمر بفسطاط فأخرج على دهناء الغوطة وضرب في روضة خضراء مونقة زهراء ذات حدائق بهجة تحتها أنواع الزهر ما بين أصفر فاقع وأحمر ساطع وأبيض ناصع وكان لسليمان مغن يقال له سنان به يأنس وإليه يسكن فأمره أن يضرب فسطاطه بالقرب منه وكانت الذلفاء قد خرجت مع سليمان إلى ذلك المتنزه فلم يزل سنان يومه ذلك عند سليمان في أكمل سرور وأتم حبور إلى أن انصرف من الليل إلى فسطاطه فنزل به جماعة من إخوانه فقالوا له نريد قرا أصلحك الله قال وما قراكم ؟ قالوا أكل وشرب وسماع قال أما الأكل والشرب فمباحان لكم وأما السماع فقد عرفتم شدة غيرة أمير المؤمنين ونهيه عنه إلا ما كان في مجلسه قالوا لا حاجة لنا بطعامك وشرابك إن لم تسمعنا قال فاختاروا صوتا واحدا أغنيكموه قالوا غننا صوت كذا فرفع صوته يغني بهذه الأبيات
( محجوبة سمعت صوتي فأرقها ... من آخر الليل لما نبه السحر )
( في ليلة البدر ما يدري مضاجعها ... أوجهها عنده أبهى أم القمر )
( لم يحجب الصوت احراس ولا غلق ... فدمعها لطروق الصوت منحدر )
( لو مكنت لمشت نحوي على قدم ... تكاد من لينها في المشي تنفطر ) قال فسمعت الذلفاء صوت سنان فخرجت إلى صحن الفسطاط

تسمع فجعلت لا تسمع شيئا من حسن خلق ولطافة قد إلا رأت ذلك كله في نفسها وهيئتها فحرك ذلك ساكنا من قلبها فهملت عيناها وعلا نحيبها فانتبه سليمان فلم يجدها معه فخرج إلى صحن الفسطاط فرآها على تلك الحال فقال ما هذا يا ذلفاء ؟ فقالت
( ألا رب صوت رائع من مشوه ... قبيح المحيا واضع الأب والجد )
( يروعك منه صوته ولعله ... إلى أمة يعزى معا وإلى عبد ) فقال سليمان دعيني من هذا فوالله لقد خامر قلبك منه ما خامر ثم قال يا غلام علي بسنان فدعت الذلفاء خادما لها فقالت له إن سبقت رسول أمير المؤمنين إلى سنان فحذرته فلك عشرة آلاف درهم وأنت حر لوجه الله تعالى فخرج الرسولان فسبق رسول أمير المؤمنين سليمان فلما أتى به قال يا سنان ألم أنهك عن مثل هذا ؟ قال يا أمير المؤمنين حملني على ذلك حلمك وأنا عبد أمير المؤمنين وغرس نعمته فإن رأى أمير المؤمنين أن يعفو عن عبده فليفعل قال قد عفوت عنك ولكن أما علمت أن الفرس إذا صهل ودقت له الحجرة وأن الفحل إذا هدر ضبعت له الناقة وأن الرجل إذا تغنى أصغت له المرأة إياك إياك والعود إلى ما كان منك فيطول غمك
وحكي أن الرشيد فصد يوما فأرسلت إليه بعض حظاياه قدحا فيه شراب مع وصيفة لها حسنة الوجه جميلة الطلعة بديعة المحيا وغطته بمنديل مكتوب عليه هذه الأبيات
( فصدت عرقا تبتغي صحة ... ألبسك الله به العافية )
( فاشرب بهذا الكأس يا سيدي ... واهنأ به من كف ذي الجارية )
( واجعل لمن أنفذه خلوة ... تحظى بها في الليلة الآتية ) قال فنظر الرشيد إلى الوصيفة التي جاءت بالقدح فاستحسنها

فافتضها ثم أرسلها فعلمت مولاتها بذلك فكتبت إليه رقعة تقول فيها هذه الأبيات
( بعثت الرسول فأبطأ قليلا ... على الرغم مني فصبرا جميلا )
( وكنت الخليل وكان الرسول ... فصرت الرسول وصار الخليلا )
( كذا من يوجه في حاجة ... إلى من يجب رسولا جميلا ) قال فاستحسن الرشيد ذلك منها وأرسل إليها أنا عندك الليلة وأهدى داود بن روح المهلبي إلى المهدي جارية فحظيت عنده فواعدته المبيت عنده ليلة فمنعها الحيض فكتب إليها يقول
( لأهجرن حبيبا خان موعده ... وكان منه لصفو العيش تكدير ) فأرسلت إليه تجيبه
( لا تهجرن حبيبا خان موعده ... ولا تذمن وعدا فيه تأخير )
( ما كان حبسي إلا من حدوث أذى ... لا يستطاع له بالقول تفسير ) وقال محمد بن مروان يصف جارية له
( أمست تباع ولو تباع بوزنها ... درا بكى أسفا عليها البائع ) وكان للمأمون جويرية من أحسن الناس وأسبقهم إلى كل نادرة فحظت عنده فحسدها الجواري وقلن لا حسب لها فنقشت على خاتمها حسبي حسني فازداد بها المأمون عجبا فمستها الجواري فماتت فجزع عليها المأمون جزعا شديدا وقال
( اختلست ريحانتي من يدي ... أبكي عليها آخر الأبد )
( كانت هي الأنس إذا استوحشت ... نفسي من الأقرب والأبعد )
( وروضة كان بها مرتعي ... ومنهلا كان بها موردي )
( كانت يدي كان بها قوتي ... فاختلس الدهر يدي من يدي )

وللمتوكل في قينة
( أمازحها فتغضب ثم ترضى ... فكل فعالها حسن جميل )
( فان غضبت فاحسن ذي دلال ... وان رضيت فليس لها عديل ) وحدث أبو عبد الله بن عبد البر قال حدثني إسحاق بن إبراهيم عن الهيثم بن عدي قال كان في المدينة رجل من بني هاشم وكان له قينتان يقال لأحداهما رشا وللأخرى جؤذر وكان بالمدينة رجل مضحك لا يكاد يغيب عن مجلس المستطرفين فأرسل الهاشمي إليه ذات يوم ليسخر به فلما أتاه قال له أصلحك الله إنك لفي لذتك ولا لذة لي قال وما لذتك ؟ قال تحضر لي نبيذا فإنه لا يطيب لي عيش إلا به فأمر الهاشمي باحضار نبيذ وأمر أن يطرح فيه سكر العشر فلما شربه المضحك تحرك عليه بطنه فتناوم الهاشمي وغمز جاريتيه عليه فلما ضاق عليه الأمر واضطر إلى التبرز قال في نفسه ما أظن هاتين المغنيتين إلا يمانيتين وأهل اليمن يسمون الكنف بالمراحيض فقال لهما يا حبيبتي أين المرحاض ؟ فقالت إحداهما لصاحبتها ما يقول سيدنا قالت يقول غنياني
( رحضت فؤادي فخليتني ... أهيم من الحب في كل وادي ) فاندفعتا تغنيانه فقال في نفسه والله ما أظنهما فهمتا عني وما أظنهما إلا مكيتين وأهل مكة يسمونها المخارج فقال يا حبيبتي أني المخرج ؟ فقالت إحداهما لصاحبتها ما يقول سيدنا ؟ قالت يقول غنياني
( خرجت لها من بطن مكة بعدما ... أقام المنادي بالعشي فأعتما ) فاندفعتا يغنيانه فقال في نفسه لم يفهما عني وما أظنهما إلا شاميتين وأهل الشام يسمونها المذاهب فقال يا حبيبتي أين المذاهب ؟ فقالت إحداهما لصاحبتها ما يقول حبيبنا ؟ قالو يقول غنياني

( ذهبت من الهجران في كل مذهب ... ولم يك حقا كل هذا التجنب ) فغنتاه الصوت فقال لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم لم يفهما عني وما أظن القحبتين إلا مدنيتين وأهل المدينة يسمونهابيت الخلاء فقال يا حبيبتي أين بيت الخلاء ؟ فقالت إحداهما لصاحبتها ما يقول سيدنا ؟ قالت يقول غنياني
( خلا علي بقاع الأرض إذا ظنوا ... من بظن مكة واستراعائي الحزن ) قال فغنتاه فقال إنا لله وإنا إليه راجعون ما أظن الفاسقتين إلا بصريتين وأهل البصرة يسمونها الحشوش فقال يا حبيبتي أين الحشوش ؟ فقالت إحداهما لصاحبتها ما يقول سيدنا ؟ قالت يقول غنياني
( أوحشوني وعز صبري فيهم ... ما احتيالي وما يكون فعالي ) قال فاندفعتا تغنيانه فقال ما أراهما إلا كوفيتين وأهل الكوفة يسمونها الكنف فقال لهما يا حبيبتي أين الكنيف ؟ فقالت إحداهما لصاحبتها يعيش سيدنا ما رأيت أكثر اقتراحا من هذا الرجل قالت ما يقول قالت يسأل أن تغني له
( تكنفني الهوى طفلا ... فشيبني وما اكتهلا )
فقال واويلاه وأعظم مصيبتاه هذا والهاشمي يتقطع ضحكا فقال لهما يا زانيتان إن لم تعلماني به أنا اعلمكما ثم رفع ثيابه وسلح عليهما وعلى الفراش فانتبه الهاشمي وقد غشي عليه من شدة الضحك وقال ويلك ما هذا تسلح على وطائي ؟ فقال الرجل حياة نفسي أعز علي من وطائك وقيل إنه لما قيل له ويلك ما هذا ؟ قال المضحك هذه الأبيات
( تكنفني الملاح واضجروني ... على ما بي بنيات الزواني )

( فلما قل عن ذاك اصطباري ... قذفت به على وجه الغواني ) قال فانبسط الهاشمي ودفع إليه مالا ومضى إلى سبيله
قال علي بن الجهم قلت لقينة
( هل تعلمين وراء الحب منزلة ... تدني إليك فإن الحب أقصاني ) قالت تأتي من باب الذهب وأنشدت
( إجعل شفيعك منقوشا تقدمه ... فلم يزل مدنيا من ليس بالداني ) وكان أشعب يختلف قينة بالمدينة فجلس عندها يوما يطارحها الغناء فلما أراد الخروج قال لها ناوليني خاتمك أذكرك به قالت إنه من ذهب وأخاف أن تذهب ولكن خذ هذا العود فلعلك أن تعود وناولته عودا من الأرض وكان بعض القينات من الجمال والحسن بجانب ثم أصابتها علة فتغير حالها فكانت تنشد
( ولي كبد مقروحة من يبيعني ... بها كبدا ليست بذات قروح )
( أباها علي الناس لا يشترونها ... ومن يشتري ذا علة بصحيح ) وكان المعتصم يحب قينة من حظاياه فاتفق أنه خرج إلى مصر وتركها فذكرها في بعض الطريق فاشتاق إليها فغلبه الوجد فدعا مغنيا له وقال ويحك قد ذكرت جاريتي فلانة بنت فلانة فأقلقني الشوق إليها فعسى أن تغنيني شيئا في معنى ما ذكرته لك فأطرق مليا ثم غناه
( وددت من الشوق المبرح أنني ... اعار جناحي طائر فأطير )
( فما لنعيم ليس فيه بشاشة ... وما لسرور ليس فيه سرور )
( وإن امرأ في بلد نصف قلبه ... ونصف بأخرى غيرها لصبور ) والحكايات في معنى ذلك كثيرة ولو أردت بسطها لاحتجت إلى مجلدات ولكن ما قل وجل خير من كثير يمل وفيما ذكرته كفاية والله المسؤول أن يمدني منه باللطف والعناية ونسأله التوفيق والهداية وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

الباب الحادي والسبعون في ذكر العشق ومن بلي به والإفتخار بالعفاف وأخبار من مات بالعشق وما في معنى ذلك وفيه فصول
الفصل الأول في وصف العشق
قال الجاحظ العشق اسم لما فضل عن المحبة كما أن السرف اسم لما جاوز الجود وقال أعرابي العشق خفي أن يرى وجلى أن يخفى فهو كامن ككمون النار في الحجر إن قدحته أورى وإن تركته توارى وقيل أول العشق النظر وأول الحريق الشرر وكان العشاق فيما مضى يشق الرجل برقع حبيبته والمرأة تشق رداء حبيبها ويقولان إنهما إذا لم يفعلا ذلك عرض البغض بينهما وقال عبد بني الحسحاس
( وكم قد شققنا من رداء محبر ... ومن برقع عن طفلة غير عانس )
( إذا شق برد شق بالبرد برقع ... من الحب حتى كلنا غير لابس ) وقيل لاعرابي ما بلغ من حبك لفلانه ؟ قال إني لأذكرها وبيني وبينها عقبة الطائف فأجد من ذكرها رائحة المسك وقيل رأى شبيب أخو بثينة جميلا عندها فوثب عليه وآذاه ثم إن شبيبا أتى مكة وجميل فيها فقيل لجميل دونك شبيبا فخذ بثأرك منه فقال

( وقالوا يا جميل أتى أخوها ... فقلت أتى الحبيب أخو الحبيب ) وأنشد الأخفش الحداد يقول
( مطارق الشوق منها في الحشى أثر ... يطرقن سندان قلب حشوه الفكر )
( ونار كور الهوى في الجسم موقدة ... ومبرد الحب لا يبقى ولا يذر ) وفي الجليس الأنيس لأبي العالية الشامي قال سأل أمير المؤمنين المأمون يحيى بن أكثم عن العشق ما هو ؟ فقال هو سوانح تسنح للمرء فيهيم بها قلبه وتؤثرها نفسه وقال ثمامة العشق جليس ممتع وأليف مؤنس وصاحب ملك مسالكه ضيقة ومذاهبه غامضة وأحكامه جائرة ملك الأبدان وأرواحها والقلوب وخواطرها والعيون ونواظرها والعقول وآراءها وأعطى عنان طاعتها وقوة تصريفها توارى عن الأبصار مدخله وخفي في القلوب مسلكه وكان شيخ بخراسان له أدب وحسن معرفة بالأمور قال لسليمان بن عمرو ومن معه أنتم أدباء وقد سمعتم الحكمة ولكم حداء ونغم فهل فيكم عاشق ؟ قال لا قال اعشقوا فان العشق يطلق اللسان ويفتح جبلة البليد والبخيل ويبعث على التلطف وتحسين اللباس وتطييب المطعم ويدعو إلى الحركة والذكاء وتشريف الهمة وقال المجنون
( قالت جننت على ذكرى فقلت لها ... الحب أعظم مما بالمجانين )
( الحب ليس يفيق الدهر صاحبه ... وإنما يصرع المجنون في الحين ) قال ذالرياستين إن بهرام جور كان له ابن وكان قد رشحه للأمر من بعده فنشأ الفتى ناقص الهمة ساقط المروءة خامل النفس مسيء

الأدب فغمه ذلك فوكل به من المؤدبين والمنجمين والحكماء من يلازمه ويعلمه وكان يسألهم عنه فيحكون له ما يغمه من سوء فهمه وقلة أدبه إلى أن سأل بعض مؤدبيه يوما فقال له المؤدب قد كنا نخاف سوء أدبه فحدث من أمره ما ص يرنا إلى الرجاء في فلاحه قال وما ذاك الذي حدث ؟ قال رأى ابنة فلان المرزبان فعشقها فغلبت عليه فهو لا يهدأ إلا بها ولا يتشاغل إلا بها فقال بهرام الآن رجوت فلاحه ثم دعا بأبي الجارية فقال له إني مسر إليك سرا فلا يعدوك فضمن له ستره فاعلمه ان ابنه قد عشق ابنته وأنه يريد أن ينكحها إياه وأمره أن يأمرها باطماعه في نفسها ومراسلته من غير أن يراها وتقع عينه عليها فإذا استحكم طمعه فيها تجتنبه وتهجره فإن استعملها علمته أنها لا تصلح إلا لملك ثم لتعلمني خبرها وخبره ولا تطلعهما على ما أسره إليك فقبل أبوها ذلك منه ثم قال للمؤدب والموكل بأدبه حضه وشجعه على مراسلة المرأة ففعل ذلك وفعلت المرأة كما أمرها أبوها فلما انتهت إلى التجني عليه وعلم الفتى السبب الذي كرهته لأجله أخذ في الأدب وطلب الحكمة والعلم والفروسية والرماية وضرب الصولجان حتى مهر في ذلك ثم رفع إلى أبيه أنه محتاج إلى الدواب والآلات والمطاعم والملابس والندماء وما أشبه ذلك فسر الملك بذلك وأمر له بما طلب ثم دعا مؤدبه فقال له إن الموضع الذي وضع به ابني نفسه من خبر هذه المرأة لا يدري به فتقدم إليه وأمره أن يرفع أمرها إلي ويسألني أن أزوجه إياها ففعل المؤدب ذلك فرفع الفتى ذلك لأبيه فدعا بأبيها وزوجه إياها وأمر بتعجيلها إليه وقال إذا اجتمعت أنت وهي فلا تحدث شيئا حتى أصير إليك فلما اجتمعا صار إليه فقال يا بني لا يضعن قدرها عندك مراسلتها إياك وليست في خبائك فإني أمرتها بذلك وهي أعظم الناس منة عليك بما دعتك إليه من طلب الحكمة والتخلق بأخلاق الملوك حتى بلغت الحد الذي تصلح معه للملك من بعدي فزدها من التشريف والإكرام بقدر ما تستحق منك ففعل الفتى وعاش مسرورا بالجارية وعاش أبوه مسرورا به وأحسن ثواب أبيها ورفع منزلته لصيانه سره وأحسن جائزة المؤدب لامتثال ما أمر به

وكان عبد الله بن عبيدة الريحاني يهوى جارية فزارته يوما فأقام يحدثها ويشكو إليها ألم الفراق فحان وقت الظهر فناداه إنسان الصلاة يا أبا الحسن فقال له رويدك حتى تزول الشمس أي حتى تقوم الجارية وقالت ليلى العامرية في قيسها
( لم يكن المجنون في حالة ... إلا وقد كنت كما كانا )
( لكنه باح بسر الهوى ... وإنني قد ذبت كتمانا ) وقال أحمد بن عثمان الكاتب
( وإني ليرضيني الممر ببابها ... وأقنع منها بالشتيمة والزجر ) وقال الفتح بن خاقان صاحب المتوكل
( أيها العاشق المعذب صبرا ... فخطايا أخي الهوى مغفورة )
( زفرة في الهوى احط لذنب ... من غزاة وحجة مبرورة ) وقال عمر بن أبي ربيعة كنت بين امرأتين هذه تساررني وهذه تعضني فما شعرت بعضة هذه من لذة هذه وأنشد شيبان العذري يقول
( لو حز بالسيف رأسي في محبتها ... لطار يهوي سريعا نحوها رأسي ) وقال يحيى بن معاذ الرازي لو أمرني الله أن أقسم العذاب بين الخلق ما قسمت للعاشقين عذابا
الفصل الثاني من هذا الباب فيمن عشق وعف والافتخار بالعفاف
روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال قال رسول الله من عشق فعف فمات فهو شهيد وقال عفوا تعف نساؤكم وقال بعضهم رأيت امراة مستقبلة البيت في غاية الضعف والنحافة

رافعة يديها تدعو فقلت لها هل من حاجة ؟ فقالت حاجتي أن تنادي في الموقف بقولي
( تزود كل الناس زادا يقيهم ... ومالي زاد والسلام على نفسي ) فناديت كما أمرتني وإذا بفتى نحيل الجسم قد أقبل إلي فقال أنا الزاد فمضيت به إليها فما زاد على النظر والبكاء ثم قالت له انصرف بسلام فقلت ما علمت ان لقاءكما يقتصر على هذا فقالت أمسك يا هذا أما علمت أن ركوب العار ودخول النار شديد ؟ قال إبراهيم بن محمد المهلبي
( كم قد ظفرت بمن أهوى فيمنعني ... منه الحياء وخوف الله والحذر )
( وكم خلوت بمن أهوى فيقنعني ... منه الفكاهة والتأنيس )
( أهوى الملاح وأهوى أن أجالسهم ... وليس لي في حرام منهم وطر )
( كذلك الحب لا إتيان معصية ... لا خير في لذة من بعدها سقر ) وقال بعض بني كلب
( إن أكن طامح اللحاظ فإني ... والذي يملك الفؤاد عفيف ) ونحو ذلك قول القائل
( فقالت بحق الله إلا أتيتنا ... إذا كان لون الليل شبة الطيالس )
( فجئت وما في القوم يقظان غيرها ... وقد نام عنها كل واش وحارس )
( فبتنا بليل طيب نستلذه ... جميعا ولم أقلب لها كف لامس ) ونزل رجل على صديق له مستترا خائفا من عدو له فأنزله في منزله وتركه فيه وسافر لبعض حوائجه وقال لامرأته أوصيك بضيفي هذا خيرا فلما عاد بعد شهر قال لها كيف ضيفنا قالت ما أشغله بالعمى عن كل شيء وكان الضيف قد أطبق عينيه فلم ينظر إلى امرأة صاحبه ولا إلى منزله إلى أن عاد من سفره وكان عمر بن أبي ربيعة

عفيفا يصف ويعف ويحرم ولا يرد ودخلت بثينة على عبد الملك بن مروان فقال لها يا بثينة ما أرى فيك شيئا مما كان يقوله جميل فقالت يا أمير المؤمنين إنه كان يرنو إلي بعينين ليستا في رأسك قال فكيف رأيتيه في عشقه ؟ قالت كان كما قال الشاعر
( لا والذي تسجد الجباه له ... مالي بما تحت ذيلها خبر )
( ولا بفيها ولا هممت بها ... ما كان إلا الحديث والنظر ) وقد قدمت هذين البيتين في الجزء الأول فيما جاء في الكتابة على سبيل الرمز وعن أبي سهل الساعدي قال دخلت على جميل وبوجهه آثار الموت فقال لي يا أبا سهل إن رجلا يلقى الله ولم يسفك دما ولم يشرب خمرا ولم يأت فاحشة أفترجو له الجنة ؟ قلت أي والله فمن هو ؟ قال إني لأرجو أن أكون ذلك فذكرت له بثينة فقال إني لفي آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة لا نالتني شفاعة محمد إن كنت حدثت نفسي بريبة قط وعن عبد الله بن عبد المطلب أبي النبي أنه دعته بغي إلى نفسها وبذلت له مالا وكانت تتكهن وتسمع باتيان رسول الله وكانت جميلة فأرادت أن تخدع عبد الله رجاء أن يكون النبي منها للنور الذي رأته بين عينيه فأبى وقال
( أما الحرام فالحمام دونه ... والحل لا تأبى ونستدينه )
( فكيف بالأمر الذي تبغينه ... يحمي الكريم عرضه ودينه ) وقال آخر
( وأحور مخضوب البنان محجب ... دعاني فلم أعرف إلى ما دعا وجها )
( بخلت بنفسي عن مقام يشينها ... ولست مريدا ذاك طوعا ولا كرها ) وراود شاب ليلى الأخيلية عن نفسها فاشمأزت وقالت
( وذي حاجة قلنا له لا تبح بها ... فليس إليها ما حييت سبيل )
( لنا صاحب لا ينبغي أن نخونه ... وأنت لأخرى صاحب وخليل )

ابن ميادة
( موانع لا يعطين حبة خردل ... وهن دوان في الحديث أوانس )
( ويكرهن أن يسمعن في اللهو ريبة ... كما كرهت صوت اللجام الشوامس ) وقال آخر
( حور حرائر ما هممن بريبة ... كظباء مكة صيدهن حرام )
( يحسبن من لين الكلام فواسقا ... ويصدهن عن الخنى الإسلام ) وكان الأصمعي يستحسن بيتي العباس بن الأحنف
( أتأذنون لصب في زيارتكم ... فعندكم شهوات السمع والبصر )
( لا يظهر الشوق إن طال الجلوس به ... عف الضمير ولكن فاسق النظر ) واختفى إبراهيم بن المهدي في هربه من المأمون عند عمته زينب بنت أبي جعفر فوكلت بخدمته جارية لها اسمها ملك وكانت واحدة زمانها في الحسن والأدب طلبت منها بخمسمائة ألف درهم فهويها إبراهيم وكره أن يراودها عن نفسها فغنى يوما وهي قائمة على رأسه
( يا غزالا لي إليه ... شافع من مقلتيه )
( أنا ضيف وجزاء المضيف ... إحسان إليه ) ففهمت الجارية ما أراد فحكت ذلك لمولاتها فقالت إذهبي إليه فاعلميه أني وهبتك له فعادت إليه فلما رآها أعاد البيتين فاكبت عليه فقال لها كفى فلست بخائن فقالت قد وهبتني لك مولاتي وأنا الرسول فقال أما الآن فنعم وأنشد المبرد
( ما إن دعاني الهوى لفاحشة ... إلا نهاني الحياء والكرم )
( فلا إلى فاحش مددت يدي ... ولا مشت بي لزلة قدم )

وقال آخر
( يقولون لا تنظر فذاك بلية ... بلى كل ذي عينين لا بد ناظر )
( وهل باكتحال العين بالعين ريبة ... إذا عف فيما بينهن السرائر ) وكان بعض الخلفاء قد نذر على نفسه أن لا ينشد شعرا ومتى أنشد بيت شعر فعليه عتق رقبة قال فبينما هو في الطواف يوما إذ نظر إلى شاب يتحدث مع شابة جميلة الوجه فقال له يا هذا اتق الله أفي مثل هذا المكان ؟ فقال يا أمير المؤمنين والله ما ذاك لخني ولكنها ابنة عمي وأعز الناس علي وإن أباها منعني من تزوجها لفقري وفاقتي وطلب مني مائة ناقة ومائة أوقية من الذهب ولم أقدر من ذلك قال فطلب الخليفة أباها ودفع إليه ما اشترطه على ابن أخيه ولم يقم من مقامه حتى عقد له عليها ثم دخل الخليفة إلى بيته وهو يترنم ببيت من الشعر فقالت له جارية من حظاياه أراك اليوم يا مولاي تنشد الشعر أفنسيت ما نذرت أم نراك قد هويت فأنشد هذه الأبيات يقول
( تقول وليدتي لما رأتني ... طربت وكنت قد أسليت حينا )
( أراك اليوم قد أحدثت عهدا ... وأورثك الهوى داء دفينا )
( بحقك هل سمعت لها حديثا ... فشاقك أو رأيت لها جبينا )
( فقلت شكا إلي أخ محب ... كمثل زماننا إذ تعلمينا )
( وذو الشجو القديم وإن تعزى ... محب حين يلقى العاشقينا ) ثم عد الأبيات فإذا هي خمسة أبيات فاعتق خمس رقاب ثم قال لله درك من خمسة أعتقت خمسة وجمعت بين رأسين في الحلال وروي عن عثمان الضحاك قال خرجت أريد الحج فنزلت بخيمة بالابواء فإذا بجارية جالسة على باب الخيمة فأعجبني حسنها فتمثلت بقول نصيب

( بزينب ألمم قبل أن يرحل الركب ... وقل لا تملينا فما ملك القلب ) فقالت يا هذا أتعرف قائل هذا البيت ؟ قلت بلى هو نصيب فقالت أتعرف زينبه ؟ قلت لا قالت أنا زينبه قلت حياك الله وحباك قالت أما والله إن اليوم موعده وعدني العام الأول بالاجتماع في هذا اليوم فلعلك أن لا تبرح حتى تراه قال فبينما هي تكلمني إذا أنا براكب قالت ترى ذلك الراكب ؟ قلت نعم قالت إني لأحسبه إياه فأقبل فإذا هو نصيب فنزل قريبا من الخيمة ثم أقبل فسلم ثم جلس قريبا منها فسألته أن ينشدها فأنشدها فقلب في نفسي محبان قد طال التنائي بينهما فلا بد أن يكون لأحدهما إلى صاحبه حاجة فقمت إلى بعيري لأشد عليه فقال على رسلك إني معك فجلست حتى نهض معي فسرنا وتسامرنا فقال لي أقلت في نفسك محبان التقيا بعد طول تناء فلا بد أن يكون لأحدهما إلى صاحبه حاجة قلت نعم قد كان ذلك قال ورب البيت منذ أحببتها ما جلست منها مجلسا هو أقرب من مجلسي هذا فتعجبت لذلك وقلت والله هذه هي العفة في المحبة
وعن محمد بن يحيى المدني قال سمعت بعض المدنيين يقول كان الرجل إذا أحب الفتاة يطوف حول دارها حولا يفرح أن يرى من يراها فان ظفر منها بمجلس تشاكيا وتناشدا الأشعار واليوم هو يشير إليها وتشير إليه ويعدها وتعده فإن التقيا لم يتشاكيا حبا ولم يتناشدا شعرا بل يقوم إليها ويجلس بين شعستيها كأنه أشهد على نكاحها أبا هريرة وقال الأصمعي قلت لأعرابية ما تعدون ا0لعشق فيكم ؟ قالت الضمة والغمزة والقبلة ثم أنشأت تقول
( ما الحب إلا قبلة ... وغمز كف وعضد )
( ما الحب إلا هكذا ... إن نكح الحب فسد ) ثم قالت كيف تعدون أنتم العشق ؟ قلت نمسك بقرنيها ونفرق بين رجليها قالت لست بعاشق أنت طالب ولد ثم أنشأت تقول

( قد فسد العشق وهان الهوى ... وصار من يعشق مستعجلا )
( يريد أن ينكح أحبابه ... من قبل أن يشهد أو ينحلا ) وقيل لرجل وقد زفت عشيقته على ابن عم لها أيسرك أن تظفر بها الليلة ؟ قال نعم والذي أمتعني بحبها وأشقاني بطلبها قيل فما كنت صانعا بها قال كنت أطيع الحب في لثمها وأعصي الشيطان في إثمها ولا أفسد عشق عشرين سنة بما يبقى ذميم عاره وينشر قبيح أخباره إني إذن للئيم لم يلدني كريم
ومر سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه في ليلة في بعض سكك المدينة فسمع امرأة تقول
( ألا طال هذا الليل وازور جانبه ... وليس إلى جنبي خليل الأعبة )
( فوالله لولا الله تخشى عواقبه ... لحرك من هذا السرير جوانبه )
( مخافة ربي والحياء يعفني ... وإكرام بعلي أن تنال مراتبه ) قال فسأل عمر رضي الله تعالى عنه عنها فقيل له إنها امرأة فلان وله في الغزاة ثمانية أشهر فأمر عمر رضي الله تعالى عنه أن لا يغيب الرجل عن امرأته أكثر من أربعة أشهر
ومن ذلك ما ذكره ابن الجوزي في كتاب تلقيح فهوم الأثر عن محمد بن عثمان بن أبي خيثمة السلمي عن أبيه عن جده قال بينما عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يطوف ذات ليلة في سكك المدينة إذ سمع امرأة تقول
( هل من سبيل إلى خمر فأشربها ... أم من سبيل إلى نصر بن حجاج )
( إلى فتى ماجد الأعراق مقتبل ... سهل المحيا كريم غير ملجاج )
( تنميه أعراق صدق حين تنسبه ... أخي وفاء عن المكروب فراج )

عمر رضي الله تعالى عنه لا أرى معي بالمدينة رجلا تهتف به العواتق في خدورهن علي بنصر بن حجاج فلما أصبح أتني بنصر ين حجاج فإذا هو من أحسن الناس وجها وأحسنهم شعرا فقال عمر عزيمة من أمير المؤمنين لنأخذن من شعرك فأخذ من شعره فخرج من عنده وله وجنتان كأنهما شقتا قمر فقال له اعتم فاعتم فافتتن الناس بعينيه فقال له عمر والله لا تساكنني في بلدة أنا فيها فقال يا أمير المؤمنين ما ذنبي ؟ قال هو ما أقول لك ثم سيره إلى البصرة وخشيت المرأة التي سمع منها عمر ما سمع أن يبدر من عمر إليها شيء فدست إليه المرأة أبياتا وهي
( قل للإمام الذي تخشى بوادره ... مالي وللخمر أو نصر بن حجاج )
( لا تجعل الظن حقا أن تبينه ... إن السبيل سبيل الخائف الراجي )
( إن الهوى زم بالتقوى فتحبسه ... حتى يقر بإلجام وإسراج ) قال فبكى عمر رضي الله تعالى عنه وقال الحمد لله الذي زم الهوى بالتقوى قال وطال مكث نصر بن حجاج بالبصرة فخرجت أمه يوما بين الأذان والإقامة متعرضة لعمر فإذا هو قد خرج في إزار ورداء وبيده الدرة فقالت له يا أمير المؤمنين والله لأقفن أنا وأنت بين يدي الله تعالى وليحاسبك الله أيبيتن عبد الله وعاصم إلى جنبيك وبيني وبين ابني الفيافي والأودية فقال لها إن ابني لم تهتف بهما العواتق في خدورهن ثم أرسل عمر إلى البصرة بريدا إلى عتبة بن غزوان فأقام أياما ثم نادى عتبة من أراد أن يكتب إلى أمير المؤمنين فليكتب فإن البريد خارج فكتب نصر بن حجاج بسم الله الرحمن الرحيم سلام عليك يا أمير المؤمنين أما بعد فاسمع مني هذه الأبيات
( لعمري لئن سيرتني أو حرمتني ... وما نلت من عرضي عليك حرام )
( فأصبحت منفيا على غير ريبة ... وقد كان لي بالمكتين مقام )
( لئن غنت الذلفاء يوما بمنية ... وبعض أماني النساء غرام )

( ظننت بي الظن الذي ليس بعده ... بقاء ومالي جرمة فألام )
( فيمنعني مما تقول تكرمي ... وآباء صدق سالفون كرام )
( ويمنعها مما تقول صلاتها ... وحال لها في قومها وصيام )
( فهاتان حالانا فهل أنت راجعي ... فقد جب مني كاهل وسنام ) قال فلما قرأ عمر رضي الله تعالى عنه هذه الأبيات قال أما ولي السلطان فلا وأقطعه دارا بالبصرة في سوقها فلما مات عمر ركب راحلته وتوجه نحو المدينة والله سبحانه وتعالى أعلم
الفصل الثالث من هذا الباب في ذكر من مات بالحب والعشق )
حدث أبو القاسم بن إسماعيل بن عبد الله المأمون قال حدثني أبي قال كنت بالمدينة قينة من أحسن الناس وجها وأكملهم عقلا وأكثرهم أدبا قد قرأت القرآن وروت الأشعار وتعلمت العربية فوقعت عند يزيد بن عبد الملك فأخذت بمجامع قلبه فقال لها ذات يوم ويحك أما لك قرابة أو أحد تحبين أن أضيفه وأسدي إليه معروفا ؟ قالت يا أمير المؤمنين أما قرابة فلا ولكن بالمدينة ثلاثة نفر كانوا أصدقاء لمولاي وأحب أن ينالهم خير مما صرت إليه فكتب إلى عامله بالمدينة في إحضارهم إليه وأن يدفع إلى كل واحد منهم عشرة آلاف درهم فلما وصلوا إلى باب يزيد استؤذن لهم في الدخول عليه فأذن لهم وأكرمهم غاية الإكرام وسألهم عن حوائجهم فأما اثنان منهم فذكرا حوائجهما فقضاها وأما الثالث فسأله عن حاجته فقال يا أمير المؤمنين ما لي حاجة قال ويحك أولست أقدر على حوائجك ؟ قال بلى يا أمير المؤمنين ولكن حاجتي ما أظنك تقضيها فقال ويحك فاسألني فإنك لا تسألني حاجة أقد عليها إلا قضيتها قال بلى فلي الأمان يا أمير المؤمنين ؟ قال نعم إن رأيت يا أمير المؤمنين

أن تأمر جاريتك فلانة التي أكرمتنا بسببها تغني ثلاثة أصوات أشرب عليها ثلاثة أرطال فافعل قال فتغير وجه يزيد ثم قام من مجلسه فدخل على الجارية فأعلمها فقالت وما عليك يا أمير المؤمنين فأمر بالفتى فأحضر وأمر بثلاثة كراسي من ذهب فنصبت فقعد يزيد على أحدها والجارية على الآخر والفتى على الثالث ثم دعا بصنوف الرياحين والطيب فوضعت ثم أمر بثلاثة أرطال فملئت ثم قال الفتى سل حاجتك قال تأمرها يا أمير المؤمنين أن تغني بهذا الشعر
( لا أستطيع سلوا عن مودتها ... أو يصنع الحب بي فوق الذي صنعا )
( ادعو إلى هجرها قلبي فيسعدني ... حتى إذا قلت هذا صادق نزعا ) فأمرها فغنت وشرب يزيد وشرب الفتى وشربت الجارية ثم أمر بالأرطال فملئت وقال للفتى سل حاجتك فقال مرها يا أمير المؤمنين أن تغني بهذا الشعر
( تخيرت من نعمان عود أراكه ... لهند ولكن من يبلغه هندا )
( ألا عرجابي بارك الله فيكما ... وإن لم تكن هند لأرضكما قصدا ) فأمرها فغنت وشرب يزيد وشرب الفتى وشربت الجارية ثم أمر بالأرطال فملئت وقال للفتى سل حاجتك فقال مرها يا أمير المؤمنين أن تغني بهذا الشهر
0م - ني الوصال ومنكم الهجر ... حتى يفرق بيننا الدهر )
( والله لا أسلوكمو أبدا ... ما لاح بدرا وبدا فجر ) فأمرها فغنت قال فلم تتم الأبيات حتى خر الفتى مغشيا عليه فقال يزيد للجارية قومي انظري ما حاله فقامت إليه فحركته فإذا هو ميت فقال لها يزيد ابكيه فقالت لا أبكيه يا أمير المؤمنين وأنت حي فقال لها ابكيه فوالله لو عاش ما انصرف إلا بك فبكت الجارية وبكى أمير

وأمر بالفتى فجهز ودفن وأما الجارية فلم تمكث بعده إلا أياما قلائل وماتت
وحكي عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه قدم على عبد الملك بن مروان فجلس ذات ليلة يسامره
فتذاكر الغناء والجواري المغنيات والعشق فقال عبد الملك لعبد الله حدثني بأمر ما مر لك في هذه الأغاني وما رأيت من الجواري ؟ قال نعم يا أمير المؤمنين اشتريت جارية مولدة بعشرة آلاف درهم وكانت حاذقة مطبوعة فوصفت ليزيد بن معاوية فكتب إلي في شأنها فكتبت إليه والله لا تخرج مني ببيع ولا هبة فأمسك عني فكانت عندي على تلك الحالة لا أزداد فيها إلا حبا فبينما أنا ذات ليلة إذ أتتني عجوز من عجائزنا فذكرت لي أن بعض أعراب المدينة يحبها وتحبه ويراها وتراه وإنه يجيء كل ليلة متنكرا فيقف بالباب فيسمع غناءها ويبكي شغفا وحبا فراعيت ذلك الوقت الذي قالت عليه العجوز فإذا به قد أقبل مقنعا رأسه وقعد مستخفيا فلم أدع بها في تلك الليلة وجعلت أتأمل موضعها وموضعه فإذا بها تكلمه ويكلمها ولم أر بينهما إلا عتبا ولم يزالا كذلك حتى ابيض الصبح فدعوت بها وقلت لقيمة الجواري أصلحي فلانة بما يمكنك فأصلحتها وزينتها فلما جاءت بها قبضت على يديها وفتحت الباب وخرجت فجئت إلى الفتى فحركته فانتبه مذعورا فقلت لا بأس عليك ولا خوف هي هبة مني إليك فدهش الفتى ولم يجبني فدنوت إلى أذنه وقلت قد أظفرك الله تعالى ببغيتك فقم وانصرف بها إلى منزلك فلم يرد جوابا فحركته فإذا هو ميت فلم أر شيئا قط كان أعجب من أمره قال عبد الملك لقد حدثني بعجب فما صنعت الجارية قلت ماتت والله بعده بأيام بعد نحول عظيم وتعليل وماتت كمدا ووجدا على الغلام وقيل ان عبد الله بن عجلان الهندي رأى أثر كف عشيقته في ثوب زوجها فمات
وذكر محمد بن واسع الهيتي أن عبد الملك بن مروان بعث كتابا إلى الحجاج بن يوسف الثقفي يقول فيه بسم الله الرحمن الرحيم من عند عبد الملك بن مروان إلى الحجاج بن يوسف أما بعد إذا ورد عليك

كتابي هذا وقرأته فسير لي ثلاث جوار مولدات أبكارا يكون إليهن المنتهي في الجمال وأكتب لي بصفة كل جارية منهن ومبلغ ثمنها من المال فلما ورد الكتاب على الحجاج دعا بالنخاسين وأمرهم بما أمره به أمير المؤمنين وأمرهم أن يسيروا إلى أقصى البلاد حتى يقعوا بالغرض وأعطاهم المال وكتب لهم كتبا إلى كل الجهات فساروا يطلبون ما أراد أمير المؤمنين فلم يزالوا من بلد إلى بلد ومن إقليم إلى إقليم حتى وقعوا بالغرض ورجعوا إلى الحجاج بثلاث جوار مولدات ليس لهن مثيل قال وكان الحجاج فصيحا فجعل ينظر إلى كل واحدة منهن ومبلغ ثمنها فوجدهن لا يقام لهن بقيمة وأن ثمنهن ثمن واحدة منهن ثم كتب كتابا إلى عبد الملك بن مروان يقول فيه بعد الثناء الجميل ومبلغ ثمنها فوجدهن لا يقام لهن بقيمة وأن ثمنهن ثمن واحدة منهن وصلني كتاب أمير المؤمنين أمتعني الله تعالى ببقائه يذكر فيه أني أشتري له ثلاث جوار مولدات أبكارا وأن أكتب له صفة كل واحدة منهن وثمنها فأما الجارية الأولى أطال الله تعالى بقاء أمير المؤمنين فإنها جارية عيطاء السوالف عظيمة الروادف كحلاء العينين حمراء الوجنتين قد أنهدت نهداها والتفت فخذا ها كأنها ذهب شيب بفضة وهي كما قيل
( بيضاء فيها إذا استقبلتها دعج ... كأنها فضة قد شابها ذهب ) وثمنها يا أمير المؤمنين ثلاثون ألف درهم وأما الثانية فإنها جارية فائقة في الجمال معتدلة القدر والكمال تشفي السقيم بكلامها الرخيم وثمنها يا أمير المؤمنين ستون ألف درهم وأما الثالثة فإنها جارية فاترة الطرف لطيفة الكف عميمة الردف شاكرة للقليل مساعدة للخليل بديعة الجمال كأنها خشف الغزال وثمنها يا أمير المؤمنين ثمانون ألف درهم ثم أطنب في الشكر والثناء على أمير المؤمنين وطوى الكتاب وختمه ودعا النخاسين فقال لهم تجهزوا للسفر بهؤلاء الجواري إلى أمير المؤمنين فقال أحد النخاسين أيد الله الأمير إني رجل كبير ضعيف عن السفر ولي ولد ينوب عني افتأذن لي في ذلك ؟ قال نعم فتجهزوا وخرجوا ففي بعض مسيرهم نزلوا يوما

ليستريحوا في بعض الأماكن فنامت الجواري فهبت الريح فانكشف بطن إحداهن وهي الكوفية فبان نور ساطع وكان اسمها مكتوم فنظر إليها ابن النخاس وكان شابا جميلا ففتن بها لساعته فأتاها على غفلة من أصحابه وجعل يقول
( أمكتوم عيني لا تمل من البكا ... وقلبي باسهام الأسى يترشق )
( أمكتوم كم من عاشق قتل الهوى ... وقلبي رهين كيف لا أتعشق ) فأجابته تقول
( لو كان حقا ما تقول لزرتنا ... ليلا إذا هجعت عيون الحسد ) قال فلما جن الليل انتضى الفتى ابن النخاس سيفه وأتى نحو الجارية فوجدها قائمة تنتظر قدومه فأخذها وأرادأن يهرب ففطن به أصحابه فأخذوه وكتفوه وأوثقوه بالحديد ولم يزل مأسورا معهم إلى أن قدموا على عبد الملك بن مروان فلما مثلوا بالجواري بين يديه أخذ الكتاب ففتحه وقرأه فوجد الصفة وافقت اثنتين من الجواري ولم توافق الثالثة ورأى في وجهها صفرة وهي الجارية الكوفية فقال للنخاسين ما بال هذه الجارية لم توافق حليتها التي ذكرها الحجاج في كتابه وما هذا الاصفرار الذي بها والانتحال فقالوا يا أمير المؤمنين نقول ولنا الأمان قال وان كذبتم هلكتم فخرج أحد النخاسين وأتى بالفتى وهو مصفد بالحديد فلما قدموه بين يدي أمير المؤمنين بكى بكاء شديدا وأيقن بالعذاب ثم أنشأ يقول
( أمير المؤمنين أتيت رغما ... وقد شدت إلى عنقي يديا )
( مقرا بالقبيح وسوء فعلي ... ولست بما رميت به بريا )
( فان تقتل ففوق القتل ذنبي ... وان تعفو فمن جود عليا ) فقال عبد الملك يا فتى ما حملك على ما صنعت استخفاف بنا أم هوى الجارية قال وحق رأسك يا أمير المؤمنين وعظم قدرك ما هو إلا هوى الجارية فقال هي لك بما أعددته لها فأخذها الغلام بكل ما أعده لها أمير المؤمنين من الحلي والحلل وسار بها فرحا مسرورا إلى نحو أهله حتى إذ كانا ببعض الطريق نزلا بمرحلة ليلا فتعانقا وناما فلما أصبح الصباح

وأراد الناس السير نبهوهما فوجدوهما ميتين فبكوا عليهما ودفنوهما بالطريق ووصل خبرهما إلى عبد الملك فبكى عليهما وتعجب من ذلك
ومن ذلك ما روي عن النبي أنه أخرج خالد ين الوليد المخزومي رضي الله تعالى عنه إلى مشركي خزاعة قال خالد فأخرجني إليهم رسول الله في عشرة آلاف فارس من أهل النجدة والبأس قال فجد بنا المسير إليهم فسبق إليهم الخبر فخرجوا إلينا فقاتلناهم قتالا شديدا حتى تعالى النهار وطار الشرار وهاجت الفرسان وتلاحمت الأقران فلولا الله تعالى أيدنا بنصره لكادت الدائرة أن تكون علينا ولكن تداركنا الله برحمة منه فهزمناهم وقتلناهم قتلا ذريعا ولم ندع لهم فارسا إلا قتلناه ثم طلبنا البيوت فنهبنا وسبينا فلما هدأ القتال والنهب أمرت أصحابي بجمع السبايا لنقدم بهن على رسول الله فلما أخرجنا وأحصيناهم خرج منهم غلام لم يراهق الحلم ولم يجر عليه القلم وهو ماسك بشابة جميلة فقلنا له يا غلام انعزل عن النساء فصاح صيحة مزعجة وهجم علينا فوالله لقد قتل منا في بقية نهارنا مائة رجل قال خالد فرأين أصحابي قد كرهوا قالته وتأخروا عنه فملك منهم جوادا وعلا على ظهره ونادى البرازيا خالد قال فبرزت إليه بنفسي بعد أن أنشدت شعرا فوالله لم يمهلني حتى أتم شعري بل حمل علي فتطاعنا حتى تكسرت القنا وتضاربنا بالسيوف حتى تفللت فوالله لقد اقتحمت الأهوال ومارست الأبطال فما رأيت أشد من حملاته ولا أسرع من هجماته فبينما نخن نعترك إذ كبا به فرسه فصار بين قوائمه فوثبت عليه وعلوت على صدره وقلت له افد نفسك بقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأنا أردك من حيث جئت قال يا خالد ما أنصفتني اتركني حتى أجد من نفسي القوة قال خالد فتركته وقلت لعله أن يسلم ثم شددته وثاقا وصفدته بالحديد وأنا أبكي إشفاقا على حسن شبابه ثم أوثقته على بعير لي فلما علم أن لا خلاص له قال يا خالد سألتك بحق إلهك إلا ما شددت ابنة عمي على ناقة أخرى إلى جانبي ؟ قال خالد فأخذتها وشددتها على ناقة أخرى إلى جانبه ووكلت بهما جماعة من أشد القوم بالقواضب والرماح وسرنا فلما استقامت مطاياهما جعل الغلام والجارية يتناشدان الأشعار ويبكيان إلى آخر الليل فسمعته يذكر قصيدة

يسب فيها الإسلام ويذكر أن لا يسلم أبدا فأخذت السيف وضربته فرميت رأسه فصاحت الجارية وأكبت صارخة فحركتها فوجدتها ميتة فأبركنا الأباعر وحفرنا ودفناهما فلما قدمنا على رسول الله أقبلنا نحدثه بعجيب ما رأينا مع الغلام فقال لا تحدثوني شيئا أنا أحدثكم به فقلنا من أعلمك به يا رسول الله ؟ قال أخبرني جبريل عليه السلام وتعجب رسول الله من موافقتهما وموافقة
ومن ذلك ما حكاه الثوري قال حدثني جبلة بن الأسود وما رأيت شيخا أصبح ولا أوضح منه قال خرجت في طلب ابل لي ضلت فما زلت في طلبها إلى أن أظلم الظلام وخفيت الطريق فسرت أطوف وأطلب الجادة فلا أجدها فبينما أنا كذلك إذ سمعت صوتا حسنا بعيدا وبكاء شديدا فشجاني حتى كدت أسقط عن فرسي فقلت لأطلبن الصوت ولو تلفت نفسي فما زلت أقرب إليه إلى أن هبطت واديا فإذا راع قد ضم غنما له إلى شجرة وهو ينشد ويترنم
( وكنت إذا ما جئت سعدى أزورها ... أرى الأرض تطوي لي ويدنو بعيدها )
( من الخفرات البيض ود جليسها ... إذا ما انقضت أحدوثة لو تعيدها ) قال فدنوت منه وسلمت عليه فرد السلام وقال من الرجل ؟ فقلت منقطع به الممالك أتاك يستجير بك ويستعينك قال مرحبا وأهلا أنزل على الرحب والسعة فعندي وطاء وطئ وطعام غير بطئ فنزلت فنزع شملته وبسطها تحتي ثم أتاني بتمر وزبد ولبن وخبز ثم قال اعذرني في هذا الوقت فقلت والله إن هذا لخير كثير فمال إلى فرسي فربطه وسقاه وعلفه فلما أكلت توضأت وصليت واتكأت فإني لبين النائم واليقظان إذ سمعت حس شيء وإذا بجارية قد أقبلت من كبد الوادي فضحت الشمس حسنا فوثب قائما إليها وما زال يقبل الأرض حتى وصل إليها وجعل يتحادثان فقلت هذا رجل عربي ولعلها حرمة له فتناومت وما بي نوم فما زالا في أحسن حديث ولذة مع شكوى وزفرات إلا أنهما لا يهم أحدهما لصاحبه بقبيح فلما طلع الفجر عانقها وتنفسا الصعداء وبكى وبكت ثم قال لها يا ابنة العم سألتك بالله لا تبطئي عني كما أبطأت الليلة قالت يا ابن

أما علمت أني أنتظر الواشين والرقباء حتى يناموا ثم ودعته وسارت وكل واحد منهما يلتفت نحو الآخر ويبكي فبكيت رحمة لهما وقلت في نفسي والله لا أنصرف حتى استضيفه الليلة وأنظر ما يكون من أمرهما فلما أصبحنا قلت له جعلني الله فداءك الأعمال بخواتيمها وقد نالني أمس تعب شديد فأحب الراحة عندك اليوم فقال على الرحب والسعة لو أقمت عندي بقية عمرك ما وجدتني إلا كما تحب ثم عمد إلى شاة فذبحها وقام إلى نار فأججها وشواها وقدمها إلي فأكلت وأكل معي إلا أنه أكل أكل من لا يريد الأكل فلم أزل معه نهاري ذلك ولم أر أشفق منه على غنمه ولا ألين جانبا ولا أحلى كلاما إلا أنه كالولهان ولم أعلمه بشيء مما رأيت فلما أقبل الليل وطأت وطائي فصليت وأعلمته أني أريد الهجوع لما مر بي من التعب بالأمس فقال لي نم هنيئا فأظهرت النوم ولم أنم فأقام ينتظرها إلى هنيهة من الليل فأبطأت عليه فلما حان وقت مجيئها قلق قلقا شديدا وزاد عليه الأمر فبكى ثم جاء نحوي فحركني فأوهمته إني كنت نائما فقال يا أخي هل رأيت الجارية التي كانت تتعهدني وجاءتني البارحة قلت قد رأيتها قال فتلك ابنة عمي وأعز الناس علي وإني لها محب ولها عاشق وهي أيضا محبة لي أكثر من محبتي لها وقد منعني أبوها من تزويجها لي لفقري وفاقتي علي فصرت راعيا بسببها فكانت تزورني في كل ليلة وقد حان وقتها الذي تأتي فيه واشتغل قلبي وتحدثني نفسي أن الأسد قد افترسها ثم أنشأ يقول ... ما بال مية لا تأتي كعادتها ... أعاقها طرب أم صدها شغل )
( نفسي فداؤك قد أهللت بي سقما ... تكاد من حره الأعضاء تنفصل ) قال ثم انطلق عني ساعة فغاب وأتى بشيء فطرحه بين يدي فإذا هي الجارية قد قتلها الأسد وأكل أعضاءها وشوه خلقتها ثم أخذ السيف وانطلق فأبطأ هنيهة وأتى ومعه رأس الأسد فطرحه ثم أنشأ يقول
( ألا أيها الليث المدل بنفسه ... هلكت لقد جريت حقا لك الشرا )

( وخلفتني فردا وقد كنت آنسا ... وقد عادت الأيام من بعدها غبرا ) ثم قال بالله يا أخي إلا ما قبلت ما أقول لك فإني اعلم أن المنية قد حضرت لا محالة فإذا أنا مت فخذ عباءتي هذه فكفني فيها وضم هذا الجسد الذي بقي منها معي وادفناني في قبر واحد وخذ شويهاتي هذه وجعل يشير إليها فسوف تأتيك امرأة عجوز هي والدتي فاعطها عصاي هذه وثيابي وشويهاتي وقل لها مات ولدك كمدا بالحب فإنها تموت عند ذلك فادفنها إلى جانب قبرنا وعلى الدنيا مني السلام قال فوالله ما كان إلا قليل حتى صاح ووضع يده على صدره ومات لساعته فقلت والله لأصنعن له ما أوصاني به فغسلته وكفنته في عباءته وصليت عليه ودفنته ودفنت باقي جسدها إلى جانبه وبت تلك الليلة باكيا حزينا فلما كان الصباح أقبلت امرأة عجوز وهي كالولهانة فقالت لي هل رأيت شابا يرعى غنما فقلت لها نعم وجعلت أتلطف بها ثم حدثتها بحديثه وما كان من خبره فأخذت تصيح وتبكي وأنا ألاطفها إلى أن أقبل الليل وما زالت تبكي بحرقة إلى أن مضى من الليل برهة فقصدت نحوها فإذا هي مكبة على وجهها وليس لها نفس يصعد ولا جارحة تتحرك فحركتها فإذا هي ميتة فغسلتها وصليت عليها ودفنتها إلى جانب قبر ولدها وبت الليلة الرابعة فلما كان الفجر قمت فشددت فرسي وجمعت الغنم وسقتها فإذا أنا بصوت هاتف يقول
( كنا على ظهرها والدهر يجمعنا ... والشمل مجتمع والدار والوطن )
( فمزق الدهر بالتفريق ألفتنا ... وصار يجمعنا في بطنها الكفن ) قال فأخذت الغنم ومضيت إلى الحي لبني عمهم فأعطيتهم الغنم وذكرت لهم القصة فبكي عليهم أهل الحي بكاء شديدا ثم مضيت إلى أهلي وأنا متعجب مما رأيت في طريقي
ومن ذلك ما حكي أن زوج عزة أراد أن يحج بها فسمع كثير الخبر فقال والله لا حجن لعلي أفوز من عزة بنظرة قال فبينما الناس في

الطواف إذ نظر كثير لعزة وقد مضت إلى جمله فحيته ومسحت بين عينيه وقالت له يا جمل فبادر ليلحقها ففاتته فوقف على الجمل
( حيتك عزة بعد الحج وانصرفت ... فحي ويحك من حياك يا جمل )
( لو كنت حييتها ما كنت ذا سرف ... عندي ولا مسك لا دلاج والعمل ) قال فسمعه الفرزدق فتبسم وقال له من تكون يرحمك الله قال أنا كثير عزة فمن أنت يرحمك الله ؟ قال أنا الفرزدق بن غالب التميمي قال أنت القائل
( رحلت جمالهم بكل أسيلة ... تركت فؤادي هائما مخبولا )
( لو كنت أملكهم إذا لم يرحلوا ... حتى أودع قلبي المتبولا )
( ساروا بقلبي في الحدوج وغادروا ... جسمي يعالج زفرة وعويلا ) فقال الفرزدق نعم فقال كثير والله لولا إني بالبيت الحرام لأصيحن صيحة أفزع هاشم عبد الملك وهو سرير ملكه فقال الفرزدق والله لاعرفن بذلك هشاما ثم توادعا وافترقا فلما وصل الفرزذق إلى دمشق دخل إلى هشام بن عبد الملك فعرفه بما اتفق له مع كثير فقال له اكتب إليه بالحضور عندنا لنطلق عزة من زوجها ونزوجه إياها فكتب إليه بذلك فخرج كثير يريد دمشق فلما خرج من حيه وسار قليلا رأى غرابا على بانة وهو يفلي نفسه وريشه يتساقط فأصفر لونه وارتاع من ذلك وجد في السير ثم إنه مال ليسقي راحلته من حي بني فهد وهم زجرة الطير فبصر به شيخ من الحي فقال يا ابن أخي أرأيت في طريقك شيئا فراعك ؟ قال نعم رأيت غرابا عل بانة يتفلى وينتف ريشه فقال له الشيخ أما الغراب فانه اغتراب والبانة بين والتفلي فرقة فازداد كثير حزنا على حزنه لما سمع من الشيخ هذا الكلام وجد في السير إلى أن صل إلى دمشق ودخل من أحد أبوابها فرأى الناس يصلون على جنازة فنزل وصلى معهم فلما قضيت

صاح صائح لا إله إلا الله ما أغفلك يا كثير عن هذا اليوم فقال ما هذا اليوم يا سيدي ؟ فقال إن هذه عزة قد ماتت وهذه جنازتها فخر مغشيا عليه فلما أفاق أنشأ يقول
( فما أعرف الفهدي لا دردره ... وأزجره للطير لا عز ناصره )
( رأيت غرابا قد علا فوق بانة ... ينتف أعلى ريشه ويطايره )
( فقال غراب واغتراب من النوى ... وبانة بين من حبيب تعاشره ) ثم شهق شهقة فارقت روحه الدنيا ومات من ساعته ودفن مع عزة في يوم واحد
وحكى الأصمعي قال بينما أنا أسير في البادية إذ مررت بحجر مكتوب عليه هذا البيت
( أيا معشر العشاق بالله خبروا ... إذا حل عشق بالفتى كيف يصنع ) فكتبت تحته
( يداري هواه ثم يكتم سره ... ويخشع في كل الأمور ويخضع ) ثم عدت في اليوم الثاني فوجدت مكتوبا تحته
( فكيف يداري والهوى قاتل الفتى ... وفي كل يوم قلبه يتقطع ) فكتبت تحته
( إذا لم يجد صبرا لكتمان سره
فليس له شيء سوى الموت أنفع ) ثم عدت في اليوم الثالث فوجدت شابا ملقى تحت ذلك الحجر ميتا لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وقد كتب قبل موته
( سمعنا أطعنا ثم متنا فبلغوا ... سلامي على من كان للوصل يمنع )
وحكي أيضا عن الأصمعي رحمه الله تعالى أنه قال بينما أنا

في بعض مقابر البصرة إذ رأيت جارية على قبر تندب وتقول
( بروحي فتى أوفى البرية كلها ... وأقواهم في الحب صبرا على الحب ) قال فقلت لها يا جارية بم كان أوفى البرية وبم كان أقواها ؟ فقالت يا هذا إنه ابن عمي هويني فهويته فكان إن أباح عنفوه وإن كتم لاموه فانشد بيتي شعر وما زال يكررهما إلى أن مات والله لأندبنه حتى أصير مثله في قبر إلى جانبه فقلت لها يا جارية فما البيتان ؟ قالت
( يقولون لي إن بحت قد غرك الهوى ... وإن لم أبح بالحب قالوا تصبرا )
( فما لامرئ يهوى ويكتم أمره ... من الحب إلا أن يموت فيعذرا ) ثم إنها شهقت شهقة فارقت روحها الدنيا رحمه الله تعالى عليها والحكايات في ذلك كثيرة وفي الكتب مشهورة ولولا الإطالة والخوف من الملالة لجمعنا في هذا المعنى أشياء كثيرة ولكن اقتصرنا على هذه النبذة اليسيرة والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

الباب الثاني والسبعون في ذكر رقائق الشعر والمواليا والدوبيت وان وكان والموشحات والزجل والحماق والقومة والألغاز ومدح الأسماء والصفات وما أشبه ذلك وفيه فصول الفصل الأول في الشعر قد قسم الناس الشعر خمسة أقسام مرقص كقول أبي جعفر طلحة وزير سلطان الأندلس
( والشمس لا تشرب خمر الندى ... في الروض إلا من كؤوس الشقيق ) ومطرب كقول زهير
( تراه إذا ما جئته متهللا ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله ) ومقبول كقول طرفة بن العبد
( ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود ) ومسموع مما يقام به الوزن دون أن يمجه الطبع كقول ابن المعتز
( سقى المطيرة ذات الظل والشجر ... ودير عبدون هطال من المطر ) ومتروك وهو كان كلا على السمع والطبع كقول الشاعر
( تقلقلت بالهم الذي قلقل الحشى ... قلاقل هم كلهن قلاقل )

قسم الناس فنون الشعر إلى عشرة أبواب الحماسة بوب أبو تمام في الحماسية وقال عبد العزيز بن أبي الأصبع الذي وقع لي أن فنون الشعر ثمانية عشر فنا وهي غزل ووصف وفخر ومدح وهجاء وعتاب واعتذار وأدب وزهد وخمريات ومراث وبشارة وتهاني ووعيد وتحذير وتحريض وملح وباب مفرد للسؤال والجواب ولنذكر إن شاء الله تعالى من ذلك ما تيسر على سبيل الاختصار ولنبدأ من ذلك بذكر الغزل المذكر ( ابن نباتة )
( أأغصان بان ما رأى أم شمائل ... وأقمار تم ما تضم الغلائل )
( وبيض رقاق أم جفون فواتر ... وسمر دقاق أم قدود قواتل )
( وتلك نبال أم لحاظ رواشق ... لها هدف مني الحشى والمقاتل )
( بروحي أفدي شادنا قد ألفته ... غدوت وبي شغل من الوجد شاغل )
( أمير جمال والملاح جنوده ... يجور علينا قده وهو عادل )
( له حاجب عن مقلتي حجب الكرى ... ناظره الفتان في القلب عامل )
( رفعت إليه قصة الدمع شاكيا ... فوقع يجري فهو في الخد سائل )
( شكوت فما ألوي وقلت فما صغى ... وجد بقلبي حبه وهو عازل )
( طويل التواني دله متواتر ... مديد التجني وافر الحسن كامل )
( أطارحه بالنحو يوما تعللا ... فيبدو وللأعراب فيه دلائل )
( ويرفع وصلي وهو مفعول في الهوى ... وينصب هجري عامدا وهو فاعل )
( تفقهت في عشقي له مثل ما غدا ... خبيرا بأحكام الخلاف يجادل )
( فيا مالكي ما ضر لو كنت شافعي ... بوصلك فافعل بي كما أنت فاعل )
( فإني حنيفي الهوى متحنبل ... بعشقك لا أصغي وإن قال قائل )
كمال الدين بن النبيه
( الله أكبر كل الحسن في العرب ... كم تحت لمة ذا التركي من عجب )

( صبح الجبين بليل ال شعر منعقد ... والخد يجمع بين الماء واللهب )
( تنفست عن عبير الراح ريقته ... وافتر مبسمه الشهدي عن حبب )
( لا في العذيب ولا في بارق غزلي ... بل في جنى فمه أو ريقه الشنب )
( كأنه حين يزمي عن حنيته ... بدر رمى عن هلال الأفق بالشهب )
( يا جاذب القوس تقريبا لوجنته ... والهائم الصب منها غير مقترب )
( أليس من نكد الأيام يحرمها ... فمي ويلثمها سهم من الخشب )
( من لي بأغيد قاسي القلب مبتسم ... لا عن رضا معرض عني بلا غضب )
( فكم له في وجود الذنب من سبب ... وليس لي في قيام العذر من سبب )
( تميل أعطافه تيها بطرته ... كما تميل رماح الخط بالعذب )
( أشار نحوي وجنح الليل معتكر ... بمعصم بشعاع الكأس مختضب )
( بكر جلاها أبوها قبل ما جليت ... في حجر لدن أو في قشرة العنب ) البها زهير
( يعاهدني لا خانني ثم ينكث ... وأحلف لا كلمته ثم أحنث )
( وذلك دأبي لا يزال ودأبه ... فيا معشر العشاق عنا تحدثوا )
( أقول له صلني يقول نعم غدا ... ويكسر جفنا هازئا بي ويعبث )
( وما ضر بعض الناس لو كان زارني ... وكنا خلونا ساعة نتحدث )
( أمولاي إني في هواك معذب ... وحتام أبقى في الغرام وأمكث )
( فخذ مرة روحي ترحنى ولا أرى ... أموت مرارا في النهار وأبعث )
( فإني لهذا الضيم منك لحامل ... ومنتظر لطفا من الله يحدث )
( أعيذك من هذا الجفاء الذي بدا ... خلائقك الحسنى أرق وأدمث )

( تردد ظن الناس في فأكثروا ... أحاديث فيها ما يطيب ويخبث )
( وقد كرمت في الحب مني شمائل ... ويسأل عني من أراد ويبحث ) النابلسي
( ما كنت أعلم والضمائر تصدق ... إن المسامع كالنواظر تعشق )
( حتى سمعت بذكرهم فهويتكم ... وكذاك أسباب المحبة تعلق )
( ولقد قنعت من اللقاء بساعة ... إن لم يكن لي الدوام تطرق )
( قد ينعش العطشان بلة ريقه ... ويغص بالماء الكثير ويشرق )
( فعسى عيوني أن ترى لك سيدي ... وجها يكاد الحسن فيه ينطق ) أبو الحسين الجزار
( في خده من بقايا اللثم تخميش ... وبي لتشويش ذاك الصدع تشويش )
( ظبي من الترك أغنته لواحظه ... عما حوته من النبل التراكيش )
( إذا تثنى فقلب الغصن منكسر ... وإن تبدى فطرف البدر مدهوش )
( يا عاذلي إن تكن عن حسن صورته ... أعمى فإني عما قلت أطروش )
( كم ليلة بات يسقيني المدام على ... روض له بثياب الغيم ترقيش )
( والغيث كالجيش يرتج الوجود له ... والبرق رايته والرعد جاويش )
( في مجلس ضحكت أرجاؤه طربا ... لأنه ببديع الزهر مفروش ) سيدي أبو الفضل بن أبي الوفاء
( ترى متى من فتور اللحظ ينتشط ... من قلبه بحبال الشعر مرتبط )
( قد رق لي خصره المضنى فناسبني ... فقلت خير الأمور الأنسب الوسط )
( وقد خفى الردف عني من تثاقله ... فقلت هذا على ضعفي هو الشطط )
( وصدره الرحب قد عانقته سحرا ... والقلب منبعث الآمال منبسط )
( وفيه تلك النهود المشتهاة ترى ... رمانها فيه قلبي أمره فرط )

( إن الصواب لتعجيل السرور فقم ... قبل الفوات فأوقات الهنا غلط ) القاضي مجد الدين بن مكانس
( أهدى تحيته وجاد بوعده ... أفديه من قمر بدا في سعده )
( بدر جرى ماء الحياء بثغره ... وترددت فضلاته في خده )
( أسكنته قلبي فأوقد خده ... نيران أحشائي عليه ووجده )
( من لي به حلو الشمائل أهيف ... روت العوالي عن مثقف قده )
( يا عاذلي في حبه لو أبصرت ... عيناك فوق الردف مسبل جعده )
( لعذرت كل متيم في حبه ... وعلمت أن ضلاله في رشده )
( فوحق موتي في هواه صبابة ... وحياة مبسمه الشهي وبرده )
( ما جاد غيث الدمع إلا عن هوى ... خلع القلوب ببرقه وبرعده )
( قم يا رسول وابلغ العشاق ما ... ألقاه من جور الحبيب وبعده )
( وإذا سألتك أن تؤدي في الهوى ... خبري فصف فعل الغرام وأبده ) عز الدين الموصلي والصحيح أن هذه الأبيات لابن نباتة لأنها في ديوانه
( نفس عن الحب ما أغفت وما غفلت ... بأي ذنب وقاك الله قد قتلت )
( دعها ومدمعها الجاري لقد لقيت ... ما قدمت من أسى قلبي وما عملت )
( أفديك من ناشط الأجفان في تلفي ... والسحر يوهم في أنها كسلت )
( وأوضح الحسن لو شاءت ذوائبه ... في الأفق وصل دجا الظلماء لاتصلت )
( معسل بنعاس في لواحظه ... أما تراها إلى كل القلوب حلت )
( من لي بألحاظ ظبي يدعي كسلا ... وكم ثياب ضنى حاكت وكم غزلت )
( وحمرة فوق خديه ومرشفه ... هذي محاسنها تزهو وذي ذبلت )
( أما كفاني تكحيل الجفون أسى ... حتى المراشف منه باللمى كحلت )

( أستودع الله أعطافا شوت كبدي ... وكلما رمت تجديد الوصال قلت )
( ومهجة لي كم ألقت بمسمعها ... إلى الملام ولا والله ما قبلت ) غيره للفاضل
( شرخ الشباب بحبكم أفنيته ... والعمر في كلف بكم قضيته )
( وأنا الذي لو مر بي من نحوكم ... داع وكنت بحفرتي لبيته )
( كيف التعرض للسلو وحبكم ... حب بأيام الشباب شريته )
( لله داء في الفؤاد أجنه ... يزداد نكسا كلما دوايته )
( قالوا حبيبك في التجني مسرف ... قاس على العشاق قلت فديته )
( أأروم من كلفي عليه تخلصا ... لا والذي بطحاء مكة بيته )
( ولو استطعت بكل إسم في الورى ... من لذة الذكرى به سميته ) وللشيخ بدر الدين الدماميني
( سل سيفا من الجفون صقيلا ... مذ تصدى جلاه رحت قتيلا )
( صح عن جفنه حديث فتور ... وهو ما زال من قديم عليلا )
( مر أبدى لنا من الخصر ردفا ... فأرانا مع الخفيف ثقيلا )
( ذو قوام كأنه الغصن لكن ... بالهوى نحو وصلنا لن يميلا )
( كامل الحسن وافر ظل وجدي ... فيه يا عاذلي مديدا طويلا )
( فاتك الجفن ذو جمال كثير ... أتلف العاشقين إلا قليلا )
( قلت إذ لاح طرفه ولماه ... فاتر اللحظ بكرة وأصيلا )
( كيف حالي وهل لصب إليه ... من سبيل فقال لي سل سبيلا )

وقال آخر
( لو أن قلبك لي يرق ويرحم ... ما بت من ألم الجوى أتألم )
( ومن العجائب أنني لا سهم لي ... من ناظريك وفي فؤادي أسهم )
( يا جامع الضدين في وجناته ... ماء يرق عليه نار تضرم )
( عجبي لطرفك وهو ماض لم يزل ... فعلام يكسر عندما تتكلم )
( ومن المروءة إن تواصل مدنفا ... والدهر سمح والحوادث نوم ) وقال آخر
( تصدق بوعد إن دمعي سائل ... وزود فؤادي نظرة فهو راحل )
( فخدك موجود به التبر دائما ... وحسنك معدوم لديه المماثل )
( أيا قمرا من شمس طلعة وجهه ... وظل عذاريه الدجا والأصائل )
( تنقلت من طرف مع القلب والهوى ... وهاتيك للبدر المنير منازل )
( جعلتك للتمييز نصبا لخاطري ... فهلا رفعت الهجر والهجر فاعل ) وقال ابن صابر
( قبلت وجنته فألفت جيده ... خجلا ومال بعطفه المياس )
( فانهل من خديه فوق عذاره ... عرق يحاكي الطل فوق الآس )
( فكأنني استقطرت ورد خدوده ... بتصاعد الزفرات من أنفاسي ) وقال آخر
( وغزال كل من شبهه ... بهلال أو ببدر ظلمه )
( قال إذ قبلت وهما فمه ... قد تعديت وأسرفت فمه ) وقال آخر
( بأبي غلام لست غير غلامه ... مذ جاد لي بسلامه وكلامه )

( ذو حاجب ما إن رأيت كنونه ... أبدا وصدغ ما رأيت كلامه ) وقال جمال الدين بن مطروح
( ذكر الحمى فصبا وكان قد ارعوى ... صب على عرش الغرام قد استوى )
( تجري مدامعه ويخفق قلبه ... مهما جرى ذكر العقيق مع اللوى )
( وإذا تألق بارق من بارق ... فهناك ينشر من هواه ما انطوى )
( فخذوا أحاديث الهوى عن صادق ... ما ضل في شرع الغرام وما غوى )
( وبمهجتي رشأ أطالت عذلي ... فيه الملام وقد حوى ما قد حوى )
( قالوا أفيه سوى رشاقة قده ... وفتور عينيه وهل موتي سوى )
( ما أبصرته الشمس إلا واكتست ... خجلا ولا غصن النقا إلا التوى )
( يروي الأراك محاسنا عن ثغره ... يا طيب ما نقل الأراك وما روى ) وقال آخر
( عبث النسيم بقده فتأودا ... وسرى الحياء بخده فتوردا )
( رشأ تفرد فيه قلبي بالهوى ... لما غدا بجماله متفردا )
( قاسوه بالغصن الرطيب جهالة ... تالله قد ظلم المشبه واعتدى )
( حسن الغصون إذا اكتست أوراقها ... وتراه أحسن ما يكون مجردا ) وقال غيره
( يا حسنا مالك لم تحسن ... إلى قلوب في الهوى متعبة )
( رقمت بالورد وبالسوسن ... صفحة خد بالسنا مذهبة )
( وقد أبى خدك أن أجتني ... منه وقد ألسعني عقربه )
( يا حسنه إذ قال ما أحسني ... ويا لذاك اللفظ ما أعذبه )
( قلت له كلك عندي سنا ... وكل ألفاظك مستعذبه )

( ففوق السهم ولم يخطني ... ومذ رآني ميتا أعجبه )
( وقال كم من عاشق حبني ... وحبه إياي قد أتعبه )
( ي
C على أنني ... قتلي له لم أدر ما أوجبه ) وقال آخر
( مليح يغار الغصن عند اهتزازه ... ويخجل بدر التم عند شروقه )
( فما فيه معنى ناقص غير خصره ... وما فيه شيء بارد غير ريقه ) وقال يحيى بن أكثم
( دنا هاجري نحوي بمقلته الكحلا ... فلما رأى ذلي ثنى عطفه دلا )
( فتيمني شوقا وأنحلني أسى ... وأفقدني صبرا وأعدمني عقلا )
( شكوت فما ألوى وولى وما لوى ... وأعرض مزورا فسل الحشى سلا )
( إذا ما دعاه فرط سقمي لزورة ... يناديه فرط العجب من عطفه كلا ) وقال أيضا
( بأبي غزالا غازلته مقلتي ... بين العذيب وبين شطي بارق )
( وسألت منه زورة تشفي الجوى ... فأجابني عنها بوعد صادق )
( بتنا ونحن من الدجا في خيمة ... ومن النجوم الزهر تحت سرادق )
( عاطيته والليل يسحب ذيله ... صهباء كالمسك الذكي لناشق )
( وضممته ضم الكمي لسيفه ... وذؤابتاه حمائل في عاتقي )
( حتى إذا مالت به سنة الكرى ... زحزحته عني وكان معانقي )

( أبعدته عن أضلع تشتاقه ... كي لا ينام على فراش خافق )
( لما رأيت الليل آخر عمره ... قد شاب في لمم له ومفارق )
( ودعت من أهوى وقلت تأسفا ... صعب علي بأن أراك مفارقي ) وقال ابن نباتة
( بدا ورنت لواحظه دلالا ... فما أبهى الغزالة والغزالا )
( واسفر عن سنا قمر منير ... ولكن قد وجدت به الضلالا )
( صقيل الخد أبصر من رآه ... سواد العين فيه فخال خالا )
( وممنوع الوصال إذا تبدى ... وجدت له من الألفاظ لالا )
( عجبت لثغره البسام أبدى ... لنا درا وقد سكن الزلالا )
( شهدت بشهد ريقته لأني ... رأيت على سوالفه نمالا )
( فيا عجبا لحسن قد حواه ... وقد أهدى إلى قلبي الوبالا )
( سأشكو الحسن ما بقيت حياتي ... وأشكو من صنائعه الجمالا ) القاضي فخر الدين بن مكانس
( يا غصنا في الرياض مالا ... حملتني في هواك مال )
( يا رائحا بعد أن سباني ... حسبك رب السما تعالى ) وله أيضا
( أجارك الله قد رثت لي ... مما ألاقي عدا وحسد )
( وعاذلي مذ رأى ضلوعي ... تعد سقما بكى وعدد ) ابن رفاعة
( يقولون هل من الحبيب بزورة ... ومنامكم المطلوب قلنا لهم منا )

( فقالوا لنا غوصوا على قده وما ... يحاكي إذا ما اهتز قلنا لهم غصننا ) الشيخ برهان الدين القيراطي
( ووردي خد نرجسي لواحظ ... مشايخ علم السحر عن لحظه رووا )
( وواوت صدغيه حكين عقاربا ... من المسك فوق الجلنار قد التووا )
( ووجنته الحمرا تلوح كجمرة ... عليها قلوب العاشقين قد اكتووا )
( ودي له باق ولست بسامع ... لقول حسود والعواذل اذ عووا )
( ووالله ما أسلو ولو صرت رمة ... فكيف وأحشائي على حبه انطووا ) وللشيخ برهان الدين القيراطي أيضا
( شبه السيف والسنان بعيني ... من لقتلي بين الأنام استحلا )
( فأبى السيف والسنان وقالا ... حدنا دون ذاك حاشى وكلا )
وله أيضا
( بأبي أهيف المعاطف لدن ... حسد الأسمر المثقف قده )
( ذو جفون مذ رمت منها كلاما ... كلمتني سيوفهن محده ) آخر
( تملك رقي شادن قد هويته ... من الهند معسول اللمى أهيف القد )
( أقول لصحبي حين يرنو بطرفه ... خذوا حذركم قد سل صارمه الهندي ) ومما قيل في الغزل المؤنث للشيخ شمس الدين بن البديري
( خيال سلمى عن الأجفان لم يغب ... وطيفها عن عياني غير محتجب )
( وذكرها أنس روحي وهي نائية ... والقلب ما زال عنها غير منقلب )

( لم أصغ فيها للاح راح يعذلني ... ولا لواش خلي بات يلعب بي )
( عذابها في الهوى عذب ألذ به ... ومر هجرانها أحلى من الضرب )
( فإن نأت أو دنت وجدي كما علمت ... تشيب فيه الليالي وهو لم يشب )
( دعها فأمر هوى المحبوب متبع ... وغير طاعته في الحب لم يجب ) وقال عفا الله عنه
( سقى طللا حلته سلمى معاهد ... وحياه من دمعي مذاب وجامد )
( فربع به سلمى مصيف ومربع ... وأرض نأت عنها قفار جلامد )
( وحيث ثوت أرضا فأعذب مورد ... ولو كدرت منها علي الموارد )
( رعى الله دهرا سالمتني صروفه ... وظلت لياليه بسلمى تساعد )
( وقد غفل الواشون عني ولم أزل ... ويقظان طرف البين عني راقد )
( وأيامنا بالقرب بيض أزاهر ... وأوقاتنا بالوصل خضر أمالد )
( وأرواحنا ممزوجة وقلوبنا ... ونحن كأنا في الحقيقة واحد )
( وكم قد مرجنا في مروج صبابة ... ولم يطرد فينا من البين طارد )
( نجر ذيول اللهو في قمص الهوى ... تلوح علينا للغرام شواهد )
( ولم يخطر التفريق منا بخاطر ... ولم نحسب الأيام فينا تعاند )
( فهل أنت يا سلمى وقد حكم الهوى ... كما كنت لي أم حاد بالقلب حائد )
( وهل ودنا باق وإلا تغيرت ... على عادة الأيام منك العوائد )
( وهل محيت آثار رسم حديثنا ... وأنساك حفظ الود هذا التباعد )
( وهل تذكرين العهد إذ نحن باللوى ... وقولك لا عاش الخؤون المعاهد )
( وهل أنت غيرت الذي أنا حافظ ... وهل أنت أحللت الذي أنا عاقد )
( وهل بدلت منك المودة بالجفا ... وفيك يقيني بالوفا منك شاهد )
( وإني ما بدلت عهدك في الهوى ... ولا اختلفت فيما علمت العوائد )

( ولا بت مسرورا وعيشك ليلة ... وكيف سلوي والحبيب مباعد )
( فإن كنت حبل الود صرمت طرفه ... فودي طريف في هواك وتالد )
( وإن قلت إن الحب غير النوى ... لعمري وجدي بالحشاشة واقد )
( وإن أوردوا يوما صبابة عاشق ... فبي يضرب الأمثال من هو وارد )
( فما شئت كوني إني بك مدنف ... صبور على البلوى شكور وحامد )
( ومنك تساوى عندي الوصل والجفا ... وفيك لقد هانت علي الشدائد )
( ولو رمت ألوي عن هواك أعنتي ... لقاد زمامي نحو حبك قائد )
( نصبت شراك الحب صدت حشاشتي ... فكيف خلاصي والهوى منك صائد )
( بعدت وقلت البين يسلي أخا الهوى ... وهل يسلي ذا الأشجان هذا التباعد )
( وما غير التفريق ما تعهدينه ... وسوق سلوي في المحبين كاسد )
( وجل مناي القرب منك وإنما ... إذا عظم المطلوب قل المساعد ) وقال عفا الله عنه
( تهددني بتبريح وبين ... وتوعدني بتفريق وصد )
( وتحلف لي لتلبسني سقاما ... تهي جلدي به وتذيب جلدي )
( وترميني بنبل من جفون ... فتضنيني وتصميني وتردي )
( وتحرقني بنار الصد حتى ... تذيب حشاشتي كمدا وكبدي )
( فقلت لها ودمعي في انسكاب ... يفيض دما على صفحات خدي )
( ومن لي أن يقال قتيل وجد ... واذكر في هواك ولو بصدي ) وقال عفا الله عنه
( سلوي عنك شيء ليس يروى ... وحبي فيك سار مع الركاب )
( ولم يمرر سواك على ضميري ... ووجدي فيك أيسره عذابي )

( ومالك عن سواد العين يوما ... وما لسواد قلبي من حجاب )
( وما اخضرت دواعي الشوق إلا ... هززت إليك أجنحة التصابي ) وقال عفا الله عنه
( قفا نبك دارا شط عنا مزارها ... وأنحلنا بعد البعاد أدكارها )
( وعوجا بأطلال محتها يد النوى ... فأظلم بالنأى المشت نهارها )
( فقدنا بها ريما من الإنس إن رنت ... بمقلتها يصمي القلوب احورارها )
( تصيد قلوب العاشقين أنيسة ... ويحسن منها صدها ونفارها )
( ويهزأ بالأغصان لين قوامها ... إذا مال فوق الغصن منها خمارها )
( وليس لبدر التم قامة قدها ... وما هو إلا حجلها وسوارها )
( منازلها مني الفؤاد وإن نأى ... عن العين مثواها ففي القلب دارها )
( يمثلها بالوهيم فكري لناظري ... وأكثر ما يضني النفوس افتكارها )
( وهيج دمعي حر نار صبابتي ... وما خمدت بالدمع مني نارها )
( وساعدني بالأيك ليلا حمائم ... تهاتف شجوا لا يقر قرارها )
( بكين ولم تسفح لهن مدامع ... وعيني فاضت بالدموع بحارها ) ولمؤلفه رحمه الله تعالى وهو قول ضعيف على قدر حاله لكنه يسأل الواقف عليه من أفضاله ستر ما يراه من عيوبه وإن يدعو له بمغفر ذنوبه
( نسيم الصبا بلغ سليمى رسائلي ... بلطف وقل عن حال صبك سائلي )
( فقد صار بالأسقام صبا معذبا ... قريح جفون من دموع هوامل )
( صبورا على حر الغرام وبرده ... حليف الضنى لم يصغ يوما لعاذل )
( يبيت على جمر الغضى متقلبا ... يئن غراما فارحميه وواصلي )
( إلا يا سليمى قد أضر بي الهوى ... وهاجت بتبريح الغرام بلابلي )
( رميت بسهم من لحاظك قاتل ... فلم يخط قلبي والحشى ومقاتلي )

( كتمت غرامي في هواك ولم أبح ... بسر فناحت أدمعي برسائلي )
( سليمى سلي ما قد جرى لي من النوى ... فقد عاد لي له رق عاذلي )
( لعل تجودي للكئيب وتسمحي ... بوعد بعد الوعد إن شئت ما طلي )
( عسى تنطفي بالوعد ناري وأشتفي ... فبالسقم أعضائي وهت ومفاصلي )
( خفيت عن العواد لولا تأوهي ... وعظم أنيني لا يراني مسائلي )
( فرقي فقد رقت عداي لذلتي ... وفاضت على حالي عيون عواذلي )
( قطعت زماني في عسى ولعلها ... وما فزت في الأيام منك بطائل )
( فما آن أن ترضى علي وترحمي ... ضنى جسدي فالوجد لا شك قاتلي )
( توسلت بالمختار في شملنا ... نبي له فضل على كل فاضل ) وله رحمه الله تعالى
( يا ربة الحسن من بالصد أوصاكي ... حتى قتلت بفرط الهجر مضناكي )
( ويا فتاة بفتان القوام سبت ... من في الورى يا ترى بالقتل أفتاكي )
( لقد جننت غراما مذ رأى نظري ... في النوم طيف خيال من محياكي )
( ومذ رآه جفا طيب المنام وقد ... أضحى عليلا حزينا لم يزل باكي )
( عذبتني بالتجني وهو يعذب لي ... فهل ترى تسمحي يوما برؤياكي )
( إن كنت لم تذكرينا بعد فرقتنا ... فالله يعلم أنا ما نسيناكي )
( ما آن أن تعطفي جودا علي فقد ... أضحى فؤادي أسيرا لحظ عيناكي )
( ما كنت أ حسب أن العشق فيه ضنى ... ولا عذاب نفوس قبل أهواكي )
( حتى تولع قلبي بالغرام فما ... أمسى أسيرا سوى في حسن معناكي )
( رقي لعبدك جودا واعطفي وذري ... ولا تطيلي بحق الله جفواكي )
( يا هند رفقا بقلب ذاب فيك أسى ... ومهجة تلفت ما هند أقساكي )
( رق العذول لحالي في الهوى ورثى ... وأنت يا هند لا ترثي لمضناكي )
( والله لو مت ما أسلاك يا آملي ... ولو فنيت غراما لست أنساكي )

آخر
( كأن فؤادي يوم سرت دليل ... يسير أمام العيس وهو ذليل )
( فصرت عقيب الظاعنين لكي أرى ... فؤادي سرى في الركب وهو عجول )
( وقائلة لي كيف حالك بعدنا ... لتعلم ما هذا إليه يؤول )
( فقلت لها قد مت قبل ترحلي ... فمن باب أولى أن يجد رحيل )
( وقلت فليلي طال هما فأنشدت ... وما زال ليل العاشقين طويل )
( فقلت وجسمي لم يزل مترجفا ... فقالت وجسم العاشقين نحيل )
( فقلت لها لو كنت أدري فراقنا ... بيوم وداع ما إليه سبيل )
( قلعت لعيني في هواك بأصبعي ... لكيلا أرى يوما علي ثقيل ) وقال الوأواء الدمشقي عفا الله عنه
( يا من نفت عني لذيذ رقادي ... مالي ومالك قد أطلت سهادي )
( فبأي ذنب أم بأية حالة ... أبعدتني ولقد سكنت فؤادي )
( وصددت عني حين قد ملك الهوى ... روحي وقلبي والحشا وقيادي )
( ملكت لحاظك مهجتي حتى غدا ... قلبي أسيرا ما له من فادي )
( لا غرو إن قتلت عيونك مغرما ... فلكم صرعت بها من الآسادي )
( يا من حوت كل المحاسن في الورى ... والحسن منها عاكف في بادي )
( رفقا بمن أسرت عيونك قلبه ... ودعي السيوف تفر في الأغماد )
( وتعطفي جودا علي بقلبة ... فبميم مبسمكي شفاه الصادي )
( ماتت أطال الله عمرك سلوتي ... ولقد فنى صبري وعاش سهادي )
( ومن المنى لو دام لي فيك الضنى ... يا حبذا لأراك من عوادي )

( وأجيل منك نواظري في ناضر ... من خدك المترقرق الوقاد )
( وأقول ما شئت اصنعي يا منيتي ... مالي سواك ولو حرمت مرادي )
( إلا مديح المصطفى هو عمدتي ... وبه سألقى الله يوم ميعادي ) وقال البهازهير
( إذا جن ليلي هام قلبي بذكركم ... أنوح كما ناح الحمام المطوق )
( وفوقي سحاب يمطر الهم والأسى ... وتحتي بحار بالجوى تتدفق )
( سلو أم عمرو كيف بات أسيرها ... تفك الأسارى دونه وهو موثق )
( فلا أنا مقتول ففي القتل راحة ... ولا أنا ممنون عليه فيعتق ) مجنون ليلى
( وقد خبروني أن تيماء منزل ... لليلى ما الليل ألقى المراسيا )
( فهذي شهور الصيف عنا ستنقضي ... فما للنوى يرمي بليلى المراميا )
( أعد الليالي ليلة بعد ليلة ... وقد عشت دهرا لا أعد اللياليا )
( وأخرج من بين البيوت لعلني ... أحدث عنك النفس بالليل خاليا )
( إلا أيها الركب اليمانون عرجوا ... علينا فقد أمسى هوانا يمانيا )
( يمينا إذا كانت يمينا فان تكن ... شمالا ينازعني الهوى عن شماليا )
( أصلي فما أدري إذا ما ذكرتها ... اثنتين صليت الضحى أم ثمانيا )
( خليلي لا والله لا أملك الهوى ... إذا علم من أرض ليلى بداليا )
( خليلي لا والله لا أملك الذي ... قضى الله في ليلى ولا ما قضى ليا )
( قضاها لغيري وابتلاني بحبها ... فهلا بشيء غير ليلى ابتلانيا )
( ولو أن واش باليمامة داره ... وداري بأعلى حضرموت اهتدى ليا )
( وددت على حبي الحياة لو أنه ... يزاد لها في عمرها من حياتيا )
( على أنني راض بأن أحمل الهوى ... وأخلص منه لا علي ولا ليا )
( إذا ما شكوت الحب قالت كذبتني ... فمالي أرى الأعضاء منك كواسيا )

( فلا حب حتى يلصق الجلد بالحشى ... وتخرس حتى لا تجيب المناديا ) وقال آخر
( قالت لطيف خيال زارني ومضى م ... بالله صفه ولا تنقص ولا تزد )
( فقال خلفته لو مات من ظمأ ... وقلت قف عن ورود الماء لم يرد )
( قالت عهدت الوفا والصدق شيمته ... يا برد ذاك الذي قالت على كبدي ) كمال الدين بن النبيه
( أما وبياض مبسمك النقي ... وسمرة مسكة اللمس الشهي )
( ورمان من الكافور تعلو ... عليه طوابع الند الندي )
( وقد كالقضيب إذا تثنى ... خشيت عليه من ثقل الحلي )
( لقد أسقمت بالهجران جسمي ... وأعطشني وصالك بعد ريي )
( إلى كم أكتم البلوى ودمعي ... يبوح بمضمر السر الخفي )
( وكم أشكو اللاهية غرامي ... فويل للشجي من الخلي ) صفي الدين الحلي
( أبت الوصال مخافة الرقباء ... وأتتك تحت مدارع الظلماء )
( أصفتك من بعد الصدود مودة ... وكذا الدواء يكون بعد الداء )
( أحيت بزورتها النفوس وطالما ... ضنت بها فقضت على الأحياء )
( أمت بليل والنجوم كأنها ... در بباطن خيمة زرقاء )
( أمست تعاطيني المدام وبيننا ... عتب غنيت به عن الصهباء )
( آبت إلى جسدي لتنظر ما انتهت ... من بعدها فيه يد البرحاء )

( ألفت به وقع الصفاح فراعها ... جزعا وما نظرت جراح حشائي )
( أمصيبة منا بنبل لحاظها ... ما أخطأته أسنة الأعداء )
( أعجبت مما قد رأيت وفي الحشا ... أضعاف ما عاينت في الأعضاء )
( أمسي ولست بسالم من طعنة ... نجلاء أو من مقلة نجلاء ) وله رحمه الله تعالى
( قفي ودعينا قبل وشك التفرق ... فما أنا من يحيا إلى حين نلتقي )
( قضيت وما أودى الحمام بمهجتي ... وشبت وما حل البياض بمفرقي )
( قنعت أنا بالذل في مذهب الهوى ... ولم تفرقي بين المنعم والشقي )
( قرنت الرضا بالسخط والقرب بالنوى ... ومزقت شمل الوصل كل ممزق )
( قبلت وصايا الهجر من غير ناصح ... وأحببت قول الهجر من غير مشفق )
( قطعت زماني بالصدود وزرتني ... عشية زمت للترحل أينقي )
( قضى الدهر بالتفريق فاصطبري له ... ولا تذممي أفعاله وترفقي ) وقال عفا الله عنه
( جاءت لتنظر ما أبقت من المهج ... فعطرت سائر الأرجاء بالأرج )
( جلت علينا محيا لوجلته لنا ... في ظلمة الليل أغنتنا عن السرج )
( حورية الخد تحمي ورد وجنتها ... بحارس من نبال الغنج والدعج )
( جزت إساءة أفعالي بمغفرة ... فكان غفرانها يغني عن الحجج )
( جادت لعرفانها أني المريض بها ... فما علي إذا أذنبت من حرج )
( جست يدي لترى ما بي فقلت لها ... كفي فذاك جوى لولاك لم يهج )
( جفوتني فرأيت الصبر أجمل بي ... والصمت في الحب أولى من اللهج )
( جرات لحاظك فينا غير راحمة ... ولذة الحب جور الناظر الغنج )

ابن نباتة
( رقت لنا حين هم السفر بالسفر ... وأقبلت في الدجى تسعى على حذر )
( راض الهوى قلبها القاسي فجادلنا ... وكان أبخل من تموز بالمطر )
( رأت غداة النوى نار الكليم وقد ... شبت فلم تبق من قلبي ولم تذر )
( رشيقة لو تراها عندما سفرت ... والبدر ساه إليها سهو معتذر )
( رأيت بدرين من وجه ومن قمر ... في ظل جنحين من ليل ومن شمر )
( رشفت در الحميا من مقبلها ... إذ نبهتني إليها نسمة السحر )
( رنت نجوم الدجى نحوي فما نظرت ... من يرشف الراح قبلي من فم القمر )
( راق العتاب وابدت لي سرائرها ... في ليلة الوصل بل في غرة القمر ) وقال ابن الساعاتي
( قبلتها ورشفت خمرة ريقها ... فوجدت نار صبابة في كوثر )
( ودخلت جنة وجهها فاباحني ... رضوانها المرجو شرب المسكر ) وقال آخر
( بكت للفراق وقد راعها ... بكاء المحب لبعد الديار )
( كأن الدموع على خدها ... بقية طل على جلنار ) الوأواء الدمشقي تضمين
( قالت متى الظعن يا هذا فقلت لها ... إما غدا زعموا أو لا فبعد غد )
( فامطرت لؤلؤا من نرجس وسقت ... وردا وعضت على العناب بالبرد ) لابن نباتة
( عذولي لست أسمع منه قولا ... على غيداء مثل البدر تما )

( له طرف ضرير عن سناها ... ولي أذن عن الفحشاء صما ) وقال آخر
( ورب ليال في هواها سهرتها ... أراعي نجوم الليل فيها إلى الفجر )
( حديثي عال في السهاد لأنني ... رويت أحاديث السهاد عن الزهر ) السراج الوراق
( يا لائمي في هواها ... أسرفت في اللوم جهلا )
( ما يعلم الشوق إلا ... ولا الصبابة إلا ) وقال آخر
( وعدت أن تزور ليلا فألوت ... وأتت في النهار تسحب ذيلا )
( قلت هلا صدقت في الوعد قالت ... كيف صدقت أن ترى الشمس ليلا ) لعز الدين الموصلي
( قد سلونا عن الغزال بخود ... ذات وجه بها الجمال تفتن )
( ورجعنا عن التهتك فيه ... ودفعناه بالتي هي أحسن ) وقال آخر
( قالت وناولتها سواكا ... ساد بفيها على الأراك )
( سواي ما ذاق طعم ريقي ... قلت لها ذاقه سواكي ) وقال آخر
( سألتها أن تعيد لفظا ... قالت محب دعوه يعذر )
( حديثها سكر شهي ... واحسن السكر المكرر ) ابن نباتة
( وملولة في الحب لما أن رأت ... أثر السقام بجسمي المنهاض )

( قالت تغيرنا فقلت لها نعم ... أنا بالسقام وأنت بالإعراض ) وقال أبو الطيب المتنبي
( بأبي الشموس الجانحات غواربا ... اللابسات من الحرير جلاببا )
( الناهياتعيوننا وقلوبنا ... وجناتهن الناهبات الناهبا )
( الناعمات القاتلات المحييات ... الميديات من الدلال غرائبا )
( حاولن تفديتي وخفن مراقبا ... فوضعن أيديهن فوق ترائبا )
( وبسمن عن برد خشيت أذيبه ... من حر أنفاسي فكنت الذائبا )
( يا حبذا المتجملون وحبذا ... واد لثمت به الغزالة كاعبا )
( كيف الرجاء من الخطوب تخلصا ... من بعد أن أنشبن في مخالبا ) وله أيضا من جملة قصيدة
( ولما التقينا والنوى ورقيبنا ... غفولان عنا ظلت أبكي وتبسم )
( فلم أر بدرا ضاحكا قبل وجهها ... ولم تر قبلي ميتا يتكلم ) الشريف الرضي
( وتميس بين مزعفر ومعصفر ... ومعنبر وممسك ومصندل )
( هيفاء إن قال الشباب لها انهضي ... قالت روادفها أقعدي وتمهلي )
( وإذا سألت الوصل قال جمالها ... جودي وقال دلالها لا تفعلي ) ابن اسرائيل
( وعدت بوصل والزمان مسوف ... حوراء ناظرها حسام مرهف )
( نشوانة خصباء منهل ثغرها ... در وريقتها سلاف قرقف )

( وتخال بين البدر منها والنقا ... غصنا يميس به النسيم مهفهف )
( لا تحسبن الحلف شيمة مثلها ... وعدت ولكن الزمان يسوف )
( يا بانة قد أطلعت أغصانها ... وردا جنيا باللواحظ يقطف )
( وغزالة يحكي الغزالة وجهها ... ويعير ناظرها الحسام الأوطف )
( ما تأمرين لمغرم تسطو به ... أجفانك المرضى ولا تستعطف )
( قسما بوجهك وهو صبح مشرق ... وسواد شعرك وهو ليل مسدف )
( وبهز غصن البان منك على النقا ... مالي إلى أحد سواك تشوف ) ولنذكر إن شاء الله تعالى في هذا الباب نبذة من ملح النظم ورقائق الشعر من غير تبويب ولا ترتيب للشيخ شمس الدين بن الريدي
( ولما نأت سلمى وشط بها النوى ... وأيقنت أني بالغرام أذوب )
( علقت بأخرى غيرها متلاهيا ... ليطفى ضرام في الحشا ولهيب )
( وكان هيامي والهوى وصبابتي ... لمن هو في الأولى إلي حبيب ) وله في المعنى
( تلاهيت عنها في الغرام بغيرها ... وقلت لقلبي هذه هي زينب )
( وقبلت فاها مبردا لصبابتي ... فأضرمت نارا في الحشا تتلهب )
( فكنت كمن هو ذا غريقا بلجة ... تمسك بالموج الذي يتقلب ) وقال أيضا
( سألت القلب هل ميلي لليلى ... وهل عند الفؤاد لها التفات )
( فقال الآن لا لكن تأنيى ... فقلت الحب فيه تقلبات )
( فإن الحب يهجم بعد بأس ... ويعتاد المحب تغيرات )
( فلا تظهر لها يوما سلوا ... فتفضحك التصابي الواردات )

( وترمى بالصدود وبالتجني ... وتنحلك الرعود الكاذبات )
( فكن جلدا ولا تك ذا لجاج ... فما يغنيك إن فات الفوات ) وقال البيطار
( يقولون هذي أم عمرو قريبة ... دنت بك أرض نحوها وسماء )
( ألا إنما قرب الحبيب وبعده ... إذا هو لم يوصل إليه سواء ) وقال غيره
( وقالوا بع حبيبك وابغ عنه ... حبيبا آخرا تحيا سعيدا )
( إذا كان القديم هو المصافي ... وخان فكيف أأتمن الجديدا ) وقال آخر
( لم أنس إذ قلت من وجدي لها غلطا ... ووجهها مشرق في حندس الظلم )
( سلوت عنك فقالت وهي ضاحكة ... لتقرعن علي السن من ندم ) وقال آخر
( أمن المروءة أن أبيت مسهدا ... قلقا أبل ملابسي بدموعي )
( وتبيت ريان الجفون من الكرى ... وأبيت منك بليلة الملسوع ) وقال آخر
( إلى الله أشكو جور أهيف شاذن ... وقعت فما لي من يدميه خلاص )
( جرحت بعيني خده وهو جارح ... بعينيه قلبي والجروح قصاص ) وقال آخر
( قد كنت أسمع بالهوى فأكذب ... وأرى المحب وما يقول فأعجب )
( حتى رميت بحلوه وبمره ... من كان يتهم الهوى فيجرب ) وقال آخر
( سألتها التقبيل من خدها ... عشرا وما زاد يكون احتساب )

( فمذ تلاقينا وقبلتها ... غلطت في العد وضاع الحساب ) وقال آخر
( يا من سقامي من سقام جفونه ... وسواد حظي من سواد عيونه )
( قد كنت لا أرضى الوصال وفوقه ... واليوم أقنع بالخيال ودونه ) وقال آخر
( صبحته عند المساء فقال لي ... تهزي بقدري أو تريد مزاحا )
( فأجبته إشراق وجهك غرني ... حتى توهمت المساء صباحا ) أبو عبد الله الغواص
( من عذيري من عذول في رشا ... فأمر القلب هواه فقمر )
( قمر لم يبق مني حسنه ... وهواه غير مقلوب قمر ) وقال آخر
( جاذبتها والريح تجذب برقعا ... من فوق خد مثل قلب العقرب )
( وطفقت ألثم ثغرها فتحجبت ... وتسترت عني بقلب العقرب ) وقال آخر
( لو مت من كثرة الأشواق وانبدلت ... مدامعي بدم من كثرة السهر )
( ما اخترت عنك سلوا لا ولا نظرت ... عيني لغير محيا وجهك القمر ) إبراهيم بن العباس
( تمر الصبا صفحا بساكن ذي الغضى ... ويسرع قلبي إذ يهب هبوبها )
( قريبة عهد بالحبيب وإنما ... هوى كل نفس أين حل حبيبها ) وقال النوفلي
( إذا اختلجت عيني رأت من تحبه ... فدام لعيني ما حييت اختلاجها )
( وما ذقت كأسا مذ علقت بحبها ... فأشربه إلا ودمعي مزاجها )

وقال آخر رحمه الله تعالى
( ياذا الذي زار وما زارا ... كأنه مقتبس نارا )
( قام بباب الدار من تيهه ... ما ضره لو دخل الدارا ) وقال آخر
( ولقد جعلتك في الفؤاد محدثي ... وأبحت مني ظاهري لجليسي )
( فالكل مني للجليس مؤانس ... وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي ) ابن نباتة
( أناشده الرحمن في جمع شملنا فيقسم هذا لا يكون إلى الحشر )
( إذا ما غدا مثل الحديد فؤاده ... فوالعصر إن العاشقين لفي خسر ) أمين الدين بن أبي الوفاء
( يا نازلا مني فؤادا راحلا ... ومن العجائب نازلا في راحل )
( أضرمت قلب متيم أهلكته ... وسكنته والنار مثوى القاتل ) وقال آخر
( يا عاذلي في هواه ... إذا بدا كيف أسلو )
( يمر بي كل وقت ... وكلما مر يحلو ) الحاجبي
( ملأت فؤادي من محبة فاتن ... أميل إليه وهو كالظبي رائغ )
( وقلت لقلبي قم لتعشق شادنا ... سواه فقال القلب ما أنا فارغ ) وقال ديك الجن
( ولي كبد حري ونفس كأنها ... بكف عدو ما يريد سراحها )
( كأن على قلبي قطاة تذكرت ... على ظمأ وردا فهزت جناحها )

وقال عبد الله بن طاهر
( أقام ببلدة ورحلت عنه ... كلانا بعد صاحبه غريب )
( أقل الناس في الدنيا سرورا ... محب قد نأى عنه الحبيب ) وقال آخر
( ما اخترت ترك وداعكم يوم النوى ... والله لا مللا ولا لتجنب )
( لكن خشيت بأن أموت صبابة ... فيقال أنت قتلته فتقاد بي ) وقال ابن المعتز
( هب لعيني رقادها ... وانف عنها سهادها )
( وارحم المقلة التي ... كنت فيها سوادها )
( كن صلاحا لها كما ... كنت دهرا فسادها ) وقال آخر
( وقالوا دع مراقبة الثريا ... ونم فالليل مسعود الجناح )
( فقلت وهل أفاق القلب حتى ... أفرق بين ليلي والصباح ) وقال آخر
( ولي فؤاد إذا طال النزاع به ... طار اشتياقا إلى لقيا معذبه )
( يفديك بالنفس صب لو يكون له ... أعز من نفسه شيء فداك به ) وقال آخر
( وما هجرتك النفس يأمي إنها ... قلتك ولا أن قل منك نصيبها )
( ولكنهم يا أحسن الناس أولعوا ... بقول إذا ما جئت هذا حبيبها ) وقال المحاربي
( إذا أنت لم توقن بما صنع الهوى ... بأهل الهوى فافقد حبيبا وجرب )

( ترى حرقات يلدغ القلب حرها ... بأنضج من كي الغضى المتلهب ) وقال الأقرع بن معاذ
( أقول لمفت ذات يوم لقيته ... بمكة والانضاء ملقى رحالها )
( بحقك أخبرني أما تأثم التي ... أضر بجسمي منذ مر خيالها )
( فقال بلى والله أو سيصيبها ... من الله بلوى في الزمان تنالها )
( فقلت ولم أملك سوابق عبرة ... سريع على جيب القميص انهمالها )
( عفا الله عنها كل ذنب ولقيت ... مناها وإن كانت قليلا نوالها ) وقال آخر
( بالله ربكما عوجا على سكني ... وعاتباه لعل العتب يعطفه )
( وعرضا بي وقولا في حديثكما ... ما ضر لو بوصال منك تسعفه )
( فإن تبسم قولا عن ملاطفة ... ما بال عبدك بالهجران تتلفه )
( وإن بدا لكما من سيدي غضب ... فغالطاه وقولا ليس نعرفه ) وقال عبد الله بن أبي الشيص
( ومعرضة تظن الهجر فرضا ... تخال لحاظها للضعف مرضى )
( كأني قد قتلت لها قتيلا ... فما مني بغير الهجر ترضى ) وقال الحسين بن الضحاك
( بعضي بنار الهجر مات حريقا ... والبعض أضحى بالدموع غريقا )
( لم يشك عشقا عاشق فسمعته ... إلا ظننتك ذلك المعشوقا )

وقال آخر
( وأجيل فكري في هواك ... بلا لسان ناطق )
( أدعو عليك بحرقة ... من غير قلب صادق ) وقال آخر
( يا ويح من خبل الأحبة قلبه ... حتى إذا ظفروا به قتلوه )
( عزوا ومال به الهوى فأذله ... إن العزيز على الذليل يتيه )
( أنظر إلى جسد أضر به الهوى ... لولا تقلب طرفه دفنوه )
( من كان خلوا من تباريح الهوى ... فأنا الهوى وحليفه وأخوه ) وقال أحمد بن طاهر
( تقول العاذلات تسل عنها ... وداو عليل صبرك بالسلو )
( فكيف ونظرة منها اختلاسا ... ألذ من الشماتة بالعدو ) وقال إسحاق مولى المهلب
( هبيني يا معذبتي أسأت ... وبالهجران قلبكم بدأت )
( فأين الفضل منك فدتك نفسي ... علي إذا أسأت كما أسأت ) وقال أبو العتاهية
( يقول أناس لو نعت لنا الهوى ... ووالله ما أدري لهم كيف أنعت )
( سقام على جسمي كثير موسع ... ونوم على عيني قليل مفوت )
( إذا اشتد ما بي كان أفضل حيلتي ... له وضع كفي فوق خدي وأسكت ) وقال بشار
( يا قرة العين إني لا أسميكي ... أكني بأخرى أسميها وأعنيك )
( أخشى عليك من الجارات حاسد ... أو سهم غيران يرميني ويرميك )

( لولا الرقيبان إذ ودعت غادية ... قبلت فاك وقلت النفس تفديك )
( يا أطيب الناس ريقا غير مختبر ... إلا شهادة أطراف المساويك )
( قد زرتنا مرة في الدهر واحدة ... بالله لا تجعليها بيضة الديك ) وقال آخر
( ألم تعلمي يا أحسن الناس أنني ... أحبك حبا مستكنا وباديا )
( أحبك ما لو كان بين قبائل ... من الناس أعداء لجر التصافيا ) وقال آخر
( أقول لشادن في الحسن أضحى ... يصيد بطرفه قلب الكمي )
( ملكت الحسن أجمع في نصاب ... فأد زكاة منظرك البهي )
( وذاك بأن تجود لمستهام ... برشف من مقبلك الشهي )
( فقال أبو حنيفة لي إمام ... يرى أن لا زكاة على الصبي ) وقال آخر
( سقى الله ربعا كنت أخلو بوجهكم ... وثغر الهنا في روضة الحسن ضاحك )
( أقمنا زمانا والعيون قريرة ... وأصبحت يوما والجفون سوافك ) وقال آخر
( ألم تعلمي يا عذبة الماء أنني ... أظل إذا لم أسق ماءك صاديا )
( وما زلت بي يا بين حتىلو أنني ... من الوجد استبكي الحمام بكى ليا ) أبو العباس الشهير بالنفيس
( يا راحلا وجميل الصبر يتبعه ... هل من سبيل إلى لقياك يتفق )
( ما أنصفتك جفوني وهي دامية ... ولا وفى لك قلبي وهو يحترق ) الوزير ظهير الدين الملقب بأبي شجاع

( لأعذبن العين غير مفكر ... فبها بكت بالدمع أو فاضت دما )
( ولأهجرن من الرقاد لذيذه ... حتى يعود على الجفون محرما )
( هي أوقعتني في حبائل فتنة ... لو لم تكن نظرت لكنت مسلما )
( سفكت دمي فلأسفحن دموعها ... وهي التي بدأت فكانت أظلما ) وقال العتبي
( أضحت بخدي للدموع رسوم ... أسفا عليك وفي الفؤاد كلوم )
( والصبر يحمد في المواطن كلها ... إلا عليك فإنه مذموم ) الرفاء الأندلسي
( ومهفهف كالغصن إلا أنه ... تتحير الألباب عند لقائه ) ... ( أضحى ينام وقد تكلل خده ... عرقا فقلت الورد رش بمائه ) وقال آخر
( اخضر واصفر لاعتلال ... فصار كالنرجس المضعف )
( كأن نسرين وجنتيه ... بشعر أصداغه مغلف )
( يرشح منه الجبين ماء ... كأنه لؤلؤ منصف ) وقال آخر
( ما زال ينهل من صرف الطلا قمري ... حتى غدت وجنتاه البيض كالشفق )
( وقام يخطر والأرداف تقعده ... طورا وحاول أن يسعى فلم يطق )
( فعائل فعلت فعل الشمول به ... فعل النسيم بغصن البانة الورق )
( جاذبته لعناقي فانثنى خجلا ... وكللت وجنتاه الحمر بالعرق )
( وقال لي بفتور من لواحظه ... إن العناق حرام قلت في عنقي ) وقال آخر
( بأركان هذا البيت إني لطائف ... وفي الكون أسرار وفيه لطائف )

( رعى الله أياما وناسا عهدتهم ... جيادا ولكن الليالي صيارف )
( وبي ذهبي اللون صيغ لمحنتي ... يريد امتحاناتي وما أنا زائف )
( يذيب فؤادا وهو لا غش عنده ... فيا ذهبي اللون إنك خائف ) وقال آخر
( أسنى ليالي الدهر عندي ليلة ... لم أخل فيها الكأس من أعمالي )
( فرقت فيها بين جفني والكرى ... وجمعت بين القرط والخلخال ) ومما قيل في الرقباء
( لو أن لي في الحب أمرا نافذا ... وملكت بسط الأمر في التعذيب )
( لقطعت ألسنة العواذل كلها ... ولكنت أقلع عين كل رقيب ) وقال إعرابي
( بسهم الحب كلم في فؤادي ... ولا كالكلم من عين الرقيب )
( تمكن ناظراه به وأضحى ... مكان الكاتبين من الذنوب )
( ومن حذر الرقيب إذا التقينا ... نسلم كالغريب على الغريب )
( ولولاه تشاكينا جميعا ... كما يشكو المحب إلى الحبيب ) وقال آخر
( من عاش في الدنيا بغير حبيب ... فحياته فيها حياة غريب )
( عين الرقيب غرقت في البحر العمى ... لا أنت لا بل عين كل رقيب ) وقال أحمد بن أبي سلمة
( يعذلني فيه جميع الورى ... كأنني جئت بأمر عجيب )
( أظن نفسي لو تعشقتها ... بليت فيها بملام الرقيب )
( وأنا الغريب فلا ألام على البكا ... إن البكا حسن بكل غريب )

وقال آخر
( وما فارقت سعدى عن قلاها ... ولكن شقوة بلغت مداها )
( بكيت نعم بكيت وكل إلف ... إذا بانت حبيبته بكاها ) وقال آخر
( رقائلة ما بال دمعك أبيض ... فقلت لها يا علو هذا الذي بقي )
( ألم تعلمي أن البكا طال عمره ... فشابت دموعي عندما شاب مفرقي )
( وعما قليل لا دموع ولا دما ... ولم يبق إلا لوعتي وتحرقي ) وقال آخر
( ولم أر مثلي غار من طول ليله ... عليه لأن الليل يعشقه معي )
( وما زلت أبكي في دجى الليل صبوة ... من الوجد حتى ابيض من فيض أدمعي ) وقال آخر
( رجوت طيف خيال ... وكيف لي بهجوع )
( والذاريات جفوني ... والمرسلات دموعي ) وقال آخر
( يا نازح الطيف من نومي يعاودني ... فقد بكيت لفرط النازحين دما )
( أوجبت غسلا على عيني بأدمعها ... فكيف وهي التي لم تبلغ الحلما ) وقال آخر
( ارحم رحمت لوعتي ... وابعث خيالك في الكرى )
( ودموع عيني لا تسل ... عن حالها ياما جرى ) وقال آخر
( أملت أن تتعطفوا بوصالكم ... فرأيت من هجرانكم ما لا أرى )

( وعلمت أن فراقكم لا بد أن ... يجري به دمعي دما وكذا جرى ) وقال آخر
( إن عيني مذ غاب شخصك عنها ... يأمر السهد في كراها وينهي )
( بدموع كأنهن الغوادي ... لا تسل ما جرى على الخد منها ) وقال آخر
( يقولون لي والدمع قرح مقلتي ... بنار أسى من حبة القلب تقدح )
( أدمعك جمر قلت لا تتعجبوا ... فكل وعاء بالذي فيه ينضح ) وقال البدر الذهبي
( قالوا تباكى بالدموع وما بكى ... بدم على عيش تصرم وانقضى )
( فأجبتهم هو من دمي لكنه ... لما تصاعد صار يقطر أبيضا ) قال ابن مطروح في الغيرة
( ولو أمسى على تلفي مصرا ... لقلت معذبي بالله زدني )
( ولا تسمح بوصلك لي فإني ... أغار عليك منك فكيف مني ) وقال آخر
( أغار عليك من نظري ومني ... ومنك ومن مكانك والزمان )
( ولو أني خبأتك في جفوني ... إلى يوم القيامة ما كفاني ) المظفر بن عمر الآمدي
( قولي لمن قد جفوني إذ لهجت بهم ... دون الأنام وخير القول أصدقه )
( أحبكم وهلاكي في محبتكم ... كعابد النار يهواها وتحرقه )

وقال غيره
( لم أنس أيام الصبا والهوى ... لله أيام النجا والنجاح )
( ذاك زمان مر حلو الجنى ... ظفرت فيه بحبيب وراح ) الشريف الرضي
( عللاني بذكركم واسقياني ... وامزجا لي دمعي بكأس دهاق )
( وخذا النوم من جفوني فإني ... قد خلعت الكرى على العشاق ) وقال آخر
( قالوا أترقد مذ غبنا فقلت لهم ... نعم وأشفق من دمعي على بصري )
( ما حق طرف هداني نحو حسنكم ... أني أعذبه بالدمع والسهر ) عز الدين الموصلي
( فسدت لطول بعادكم أحلامنا ... وعقولنا وجفا الجفون منام )
( والطيف قد وعد الجفون بزورة ... يا حبذا إن صحت الأحلام )
ومما قيل في السهر وطول الليل ونحو ذلك قال الشاعر
( ورب ليل سهرناه وقد طلعت ... بقية البدر في أولى تسايره )
( كأنما أدهم الظلماء حين نجا ... من أشهب الصبح ألقى نعل حافره ) وقال آخر
( ليل المحبين مطوي جوانبه ... مشمر الذيل منسوب إلى القصر )
( ما ذاك إلا لأن الصبح نم بنا ... فاطلع الشمس من غيظ على القمر ) وقال غيره
( فلم أر مثل ليل ذوي التصابي ... وكل يشتكيه بكل حال )

( فيشكو طوله أهل التجافي ... ويشكو قصره أهل الوصال ) وقال آخر
( ليلي وليلى سواء في اختلافهما ... قد صبراني جميعا في الهوى مثلا )
( يجود بالطول ليلي كلما بخلت ... بالطول ليلى وإن جادت به بخلا ) وقال آخر
( إن الليالي للأنام مناهل ... تطوي وتنشر بينها الأعمار )
( فقصارهن مع الهموم طويلة ... وطوالهن مع السرور قصار ) وقال غيره
( رب ليل لم أذق فيه الكرا ... حظ عيني فيه دمع وسهر )
( كلما هيج ليلى حرقي ... صحت يا ليل أما فيك سحر ) وقال آخر
( يا ليل طل أو لا تطل ... لا بد لي من سهرك )
( لو بات عندي قمري ... ما بت أرعى قمرك ) وقال بشار بن برد
( خليلي ما بال الدجى لا يزحزح ... وما بال ضوء الصبح لا يتوضح )
( أضل إليها المستنير طريقه ... أم الدهر ليل كله ليس يبرح ) وقال آخر
( كأن الثريا راحة تشبر الدجى ... ليعلم طال الليل أم قد تعرضا )
( فليل تراه بين شرق ومغرب ... يقاس بشبر كيف يرجى له انقضا ) وقال ابن منقذ
( لما رأيت النجم ساه طرفه ... والقطب قد ألقى عليه سباتا )

( وبنات نعش في الحداد سوافر ... أيقنت أن صباحهم قد ماتا ) وقال آخر في ليلة ممطرة
( أقول والليل في امتداد ... وأدمع الغيث في انسفاح )
( أظن ليل بغير شك ... قد بات يبكي على الصباح ) ومما جاء في الأشعار الخمرية قول صفي الدين الحلي
( بدت لنا الراح في تاج من الحبب ... فخرقت حلة الظلماء باللهب )
( بكر إذا زوجت بالماء أولدها ... أطفال در على مهد من الذهب )
( بقية من بقايا قوم نوح إذا ... لاحت جلت ظلم الأحزان والكرب )
( بعيدة العهد بالمعصار لو نطقت ... لحدثتنا بما في سالف الحقب )
( باكرتها برفاق قد ذهبت بهم ... قبل السلاف سلاف العلم والأدب )
( بكل متشح بالفضل مؤتزر ... كأن في لفظه ضربا من الضرب )
( بل رب ليل غدا مثل الإهاب غدت ... تنقض فيه كؤوس الراح كالشهب )
( بذلت عقلي صداقا حين بت به ... أزوج ابن سحاب بابنة العنب )
( بتنا بكاساتها صرعى ومكربنا ... يعيد أرواحنا من شدة الطرب )
( بعث ألم فلم تعلم لفرحتنا ... من نفخة الصور أم من نفخة القصب )
( بروضة طل فيها الطل أدمعه ... والزهر مبتسم عن ثغره الشنب ) وقال أيضا
( تاب الزمان من الذنوب فوات ... واغنم لذيذ العيش قبل فوات )
( تم السرور فقم يا صاحبي ... نستدرك الماضي بنهب الآتي )

( توج بكاسات الطلا هام الربا ... في روضة مطلولة الزهرات )
( تغدو سلاف القطر دائرة بها ... والكأس دائرة بكف سقاة )
( تلف النضار على العقار غنيمتي ... وفراغ راحاني على الراحات )
( تركي لأكياس النضار جهالة ... من ذا أحق بها من الكاسات )
( نبت يدا من تاب عن رشف الطلا ... والكاس متقد كخد فتاة )
( تتابع إلى أوقاتها داعي الصبا ... واعجب لما فيها من الآيات )
( تمم بها نقص السرور فإنها ... عند الكرام تتمة اللذات ) وقال أيضا
( حي الرفاق وطف بكاس الراح ... واطرز بكاسك حلة الأفراح )
( حث الكؤوس على جسوم أصبحت ... فيها المدام شريكة الأرواح )
( حاش الأنام وعاطني مشمولة ... ظنت فسادي وهي عين صلاحي )
( حمراء لو ترك السقاة مزاجها ... لأغنى تلألؤها عن المصباح )
( حبب تظل به الكؤوس كأنها ... خصر الفتاة ممنطق بوشاح )
( حجب الحباب شعاعها فكأنه ... شفق تلهب تحت ذيل صباح )
( حكم الزمان وغض عنا طرفه ... يا صاح لا تقنع بانك صاح ) وقال آخر
( قد قلت إذ أضحى يعبس كلما ... دارت عليه بالمدام الأكؤس )
( تالله ما أنصفتها يا سيدي ... تأتيك باسمة وأنت تعبس ) عز الدين الموصلي
( لئن شبه الساقي المدام بعسجد ... فقد مال بالتشبيه عن صيغة الأدب )
( ولكن رآها جوهرا سميت طلا ... فميز ما قد حلت الكاس بالذهب ) يزيد بن معاوية
( وشمسة كرم برجها قعر دنها ... وطلعتها الساقي ومغربها فمي )

( مدام كتبر في إناء كفضة ... وساق كبدر مع ندامى كأنجم ) وقال آخر
( كأن الندامى والسقاة ودننا ... وكاساتنا في الروض تملى وتشرب )
( شموس وأقمار وفلك وأنجم ... ونور ونوار وشرق ومغرب ) وقال آخر
( فكأنها وكأن حامل كأسها ... إذ قام يجلوها على الندماء )
( شمس الضحى رقصت فنقط وجها ... بدر الدجى بكواكب الجوزاء ) وقال كشاجم
( صدح الديك في الدجى فاسقنيها ... خمرة تترك الحليم سفيها )
( لست أدري من رقة وصفاء ... هي في الكاس أم هو الكاس فيها ) كمال الدين بن النبيه
( قم يا غلام ودع مقالة من نصح ... فالديك قد صدع الدجى لما صدح )
( خفيت تباشير الصباح فاسقني ... ما ضل في الظلماء من قدح القدح )
( صهباء ما لمعت بكف مديرها ... لمقطب إلا تهلل وانشرح )
( تالله ما مزج المدام بمائها ... لكنه مزج المسرة بالفرح )
( هي صفوة الكرم الكريم فما سرت ... سراؤها في باخل إلا سمح )
( من كف قيان اللحاظ بوجهه ... عذر لمن خلع العذار أو افتضح ) وقال غيره
( وليلة أوسعتني ... حسنا ولهوا وأنسا )
( ما زلت ألثم بدرا ... بها وأشهد شمسا ) ( عبد الله بن محمد العطار وقيل يزيد بن معاوية )

( وكاس يرينا آية الصبح في الدجى ... فأولها شمس وآخرها بدر )
( مقطبة ما لم يزرها مزاجها ... فإن جاءها جاء التبسم والبشر )
( فيا عجبا للدهر لم يخل مهجة ... من العشق حتى الماء يعشقه الخمر ) ( وقال ابن تميم )
( وليلة بت أسقي من غياهبها ... راحا تسل شبابي من يد الهرم )
( ما زلت أشربها حتى نظرت إلى ... غزالة الصبح ترعى نرجس الظلم ) ( ابن مكانس )
( نزل الطل بكرة ... وتوالى تجددا )
( والندامى تجمعوا ... فأجل كأسي على الندى ) ( الشيخ شهاب الدين بن حجازي )
( كأسنا يا صاح صرفا ... جليت بين الندامى )
( لم نجد ماء لمزج ... فقنعنا بالندامى ) ( صفي الدين الحلي )
( كيف لا تخضع العقول لديها ... وهي سلطان سائر المسكرات )
( الفوا في الكؤوس إذ مزجوها ... بين ماء الحيا وماء الممات ) ( غيره )
( صهباء في الكاس صرفا ... غلبت ضوء السراج )
( ظنها في الكاس نارا ... فطفاها بالمزاج ) ( مجد الدين بن تميم )
( نديمي لا تسقني ... سوى الصرف فهو الهنى )
( ودع كاسها أطلسا ... ولا تسقني مع دني )

( تقي الدين بن حجة )
( حيا بها عاصرها في كاسها ... مشرقة باسمة كالثغر )
( وقال هذي تحفة في عصرنا ... قلت اسقنيها يا إمام العصر ) ( أبو الطيب المتنبي )
( يا صاحبي امزجا كاس المدام لنا ... كيما يضيء لنا من أفقها الغسق )
( خمرا إذا ما نديمي هم يشربها ... أخشى عليه من اللألأء يحترق )
( لو راح يحلف أن الشمس ما غربت ... في فيه كذبه في وجهه الشقق ) ( وقال آخر )
( بنت كرم يتموها أمها ... وأهانوها بدوس بالقدم )
( ثم داروا حكموها فيهم ... ويلهم من جور مظلوم حكم ) ( وقال آخر )
( عناقيد على قضب تدلت ... حكى منظومها عقد اللآلي )
( إذا عصرت بدا في الكأس منها ... دوالي قد تربت في دوالي ) ( برهان الدين بن المعمار )
( باكر لكرم العنب المجتنى ... واستجنه من عند عنابه )
( واعصره واستخرج لنا ماءه ... لكي تزيل الهم عنابه ) ( جولان العاذلي )
( إذا ما الخمر في الكاسات صبت ... رأيت لها شموسا في بروج )
( وإن جليت على الندمان يوما ... تزاحمت الهموم على الخروج ) ( وقال في الشراب المطبوخ )
( يا من يعذب ماء الكرم يحرقه ... بالنار في أي شيء تظلم العنب )

( ان التي طبختها الشمس أنفع لي ... ولست أخسر لا قدرا ولا حطبا ) وقال أيضا
( وعتيقة رقت وراق مزاجها ... لطفا وأنحلها الزمان الغابر )
( لم يبق منها غير نور ساطع ... لا يستطيع يجول فيه الناظر )
( ترنو إليك من الحباب بأعين ... خلقت ولم تخلق لهن محاجر ) وقال غيره
( لا تعصرن زبيبا واعتصر عنبا ... فبين هذين فرقنا بتصريح )
( هذا من الحي للأحياء معتصر ... وذاك يعصر من جسم بلا روح ) وقال غيره
( عابوا علي مداما ... أخرتها لصبوحي )
( واستنكروها وقالوا ... ارتحت قلت روحي ) وقال آخر في الشراب على الرعد والبرق
( أما ترى الرعد بكى فاشتكى ... والبرق قد أومض فاستضحكا )
( فاشرب على غيم كصبغ الدجى ... أضحك وجه الروض لما بكى )
( وانظر لماء النيل في مده ... كأنه صندل أو مصطكا ) وقال آخر
( يا ليلة جمعت لنا الأحبابا ... لو شئت دام لنا النعيم وطابا )
( بتنا بها نسقى سلافا قرقفا ... يذر الصحيح بعقله مرتابا )
( من كف غانية كأن بنانها ... من فضة قد قمعت عنابا ) وقال آخر
( أما ترى الغيث كالباكي بأدمعه ... والأرض تضحك والأزهار في فرح )
( فقم فديتك نشكو ما نكابده ... من الزمان وما نلقى إلى القدح )

نباتة
( أما ترى الليل قد ولت غياهبه ... وعارض الفجر بالإشراق قد طلعا )
( فاشرب على وردة وردية قدمت ... كأنها خد ريم ريم فامتنعا ) ومن شعر عضد الدولة
( طربت إلى الصبوح مع الصباح ... وشرب الراح والغرر الملاح )
( وكان الثلج كالكافور نثرا ... وناري بين نارنجي وراحي )
( فمشمومي ومشروبي وناري ... وثلجي والصباح مع الصباح )
( لهيب في لهيب في لهيب ... صباح في صباح في صباح ) ابن وكيع
( وصفراء من ماء الكروم كأنها ... فراق عدو أو لقاء صديق )
( كأن الحباب المستدير بطوقها ... كواكب در في سماء عقيق )
( صببت عليها الماء حتى تعوضت ... قميص بهار من قميص شقيق ) وقال آخر
( وحمراء قبل المزج صفراء بعده ... أتت بين ثوبي نرجس وشقائق )
( حكت وجنة المعشوق صرفا فسلطوا ... عليها مزاجا فاكتسب لون عاشق ) وقال آخر
( إذا الكروان صاح على الرمال ... وحل البدر في برج الكمال )
( وجعد وجه بركتنا هبوب ... تمر به الجنوب من الشمال )
( وحركت الغصون فشابهتها ... قدود سقاتنا في كل حال )
( فهات الكأس مترعة ودعني ... أبادر لذتي قبل ارتحالي )

( فكل جماعة لا شك يوما ... يفرق بينهم صرف الليالي ) وقال آخر في الشراب على الغيم
( أرى غيما تؤلفه جنوب ... ويوشك أن يوافقنا بهطل )
( فوجه الرأي أن تدعو برطل ... فتشربه وتدعو لي برطل ) وقال آخر
( فيا بكر باكر بكرة بكر كرمة ... تفز ببكور باكرتك بها بكر )
( وداو خمار الخمر بالخمر إنما ... دواء خمار الخمر من دائها الخمر ) وقال
( لا تبكين على الأطلال والدمن ... ولا على منزل أقوى من السكن )
( وقم بنا نصطبح صهباء صافية ... تنفي الهموم ولا تبقي على الحزن )
( بكرا معتقة عذراء واضحة ... تبدو فتخبرنا عن سالف الزمن )
( حمراء مروقة صفراء فاقعة ... كأنما مزجت من طرفك الوسني )
( يسعى بها غنج في خده ضرج ... في ثغره فلج ينمى إلى اليمن )
( في ريقه عسل قلبي به خبل ... في مشيه ميل أربى على الغصن )
( كأنه قمر ما مثله بشر ... في طرفه حور يرنو فيجرحني )
( سبحان خالقه يا ويح عاشقه ... يهدي لرامقه صنفا من الشجن )
( في روضة زهرت بالنبت قد حسنت ... كأنها فرشت من وجهه الحسن )
( يا طيب مجلسنا والطير يطربنا ... والعود يسعدنا مع منشد لسن ) كمال الدين بن النبيه
( طاب الصبوح لنا فهاك وهات ... واشرب هنيئا يا أخا اللذات )

( كم ذا التواني والزمان مساعد ... والدهر سمح والحبيب مواتي )
( قم واغتبق من شمس كاسك واصطبح ... بكواكب طلعت من الكاسات )
( حمراء صافية توقد نورها ... فعجبت للنيران في الجنات )
( ينسل في قاع الظروف حبابها ... والدر مجتلب من الظلمات )
( عذراء واقعها المزاج أما ترى ... منديل عذرتها بكف سقاة )
( يسعى بها عبل الروادف أهيف ... خنث الشمائل شاطر الحركات )
( يهوي فتسبقه ذوائب شعره ... ملتفة كأساود الحيات )
( لو قسمت أرزاقنا بيمينه ... عدل الزمان على ذوي الحاجات ) وقال أيضا
( باكر صبوحك أهنى العيش باكره ... فقد نرنم فوق الأيك طائره )
( والليل تجري والدراري في مجرته ... كالروض تطفو على نهر أزاهره )
( وكوكب الصبح نجاب على يده ... مخلق تملأ الدنيا بشائره )
( فانهض إلى ذوب ياقوت لها حبب ... تنوب عن ثغر من تهوى جواهره )
( حمراء من وجنة الساقي لها شبه ... فهل جناها من العنقود عاصره )
( ساق تكون من صبح ومن غسق ... فابيض خداه واسودت غدائره )
( بيض سوالفه لعس مراشفه ... نعس نواظره خرس أساوره )
( مفلج الثغر معسول اللمى غنج ... مؤنث الجفن فحل اللحظ شاطره )
( مهفهف القد يبدي جسمه ترفا ... مخصر الخصر عبل الردف وافره )
( تعلمت بانة الوادية شمائلة ... وزورت سحر عينيه جآذره )
( كأنه بسواد اللحظ مكتحل ... وركبت فوق صدغيه محاجره )
( فلو رأت مقلتا هاروت آيته الكبرى ... لآمن بعد الكفر ساحره )

( خذ من زمانك ما أعطاك مغتنما ... وأنت ناه لهذا الدهر آمره )
( فالعمر كالكاس تستحلي أوائله ... لكنه ربما مرت أواخره )
( واجسر على فرص اللذات محتقرا ... عظيم ذنبك إن الله غافره ) وقال آخر
( شربنا بالبواطي ثم رحنا ... نعلل بالكؤوس وبالقناني )
( ولولا خيفة الإجرام قلنا ... لساقيها أدرها بالدنان ) برهان الدين القيراطي
( أرى جرار الخمر تغلو وقد ... عزت وبالإفلاس حالي عجيب )
( جئنا لخمار وقلنا له ... أحمل إلينا جرة كي نطيب )
( قال زبيبا تريدون أم ... خمرا فإن الكل مني قريب )
( قلنا له خمرا فنادى زنوا ... في جرة عشرين قلنا الزبيب ) وقال أيضا
( صرف الزبيب لصرف همي ... نص على نفعه طبيبي )
( آها على سكرة لعلي ... أن أخلط الهم بالزبيب ) وقال
( قالوا اترك الخمر واجتنبها ... لا تتعد الحرام حدا )
( قلت أراها للروح قوتا ... وطلب القوت ما تعدى ) ومما قيل في شرب الفقهاء
( يحمون بالفقه عرض الدين من سفه ... عاما بمصريف أحوال وتحقيق )
( وبعضهم يكرع الصهباء مغتنما ... تحت الظلام بأفواه الأباريق ) فيمن يطيل الحديث والكأس في يده
( وشادن نطقه جار إذا شفعت ... في مجلس الشرب كاسات بطاسات )

( يظل يحكي وكاس الراح في يده ... حكاية عرضها عرض السموات ) ومما قيل في كريم السكر لئيم الصحو
( إذا هز اللئيم السكر يوما ... بدا في بذل مال فيه ضنا )
( يجود بماله في الشرب سكرا ... ويأكل كفه في الصحو حزنا ) وقيل في شجاع السكر
( إذا شرب الجبان الخمر يوما ... أعارته الشجاعة باللسان )
( وعند الصحو تلقاه جزوعا ... إذا اشتد اللقا يوم الطعان ) وفيه أيضا
( يقول جبان القوم في حال سكره ... وقد شرب الصهباء هل من مبارز )
( وأين الخيول الأعوجيات في الوغى ... أناقل فيها كل ليث مناهز )
( ومن لي بحرب ليس تخمد نارها ... لعمري إني لست فيها بعاجز )
( ففي السكر قيس وابن معدى وعامر ... وفي الصحو تلقاه كبعض العجائز ) وقال في شرب الثلاثة
( ثلاثة في مجلس طيب ... وعيشهم ما فيه تكدير )
( هذا يغني ذا وهذا لذي ... يسقي وذا بالشرب مسرور ) وقيل في شرب الأربعة
( ألا إنما خير المجالس مجلس ... به وله صفو الزمان مساعد )
( فتاة وساق والمغني وصاحب ... وخامسهم هم على الكل زائد ) وقيل في شرب الستة
( خير المجالس خمسة أو ستة ... أو سبعة وعلى الكثير ثمانية )
( فإذا تعدى صار شغلا شاغلا ... وتكسرت بين الرجال الآنية )
( فاهرب إذا ما كنت تاسع مجلس ... ولئن أتيت به فأمك زانيه )

ومما قيل في الشرب مع التجار
( شربت مع التجار وكان يوما ... جعلت حضورنا فيه وداعا )
( فذاك يقول كم أطلقت بيعا ... ووفيت الذي بعت الذراعا )
( وهذا قال عندي كل شيء ... ولكن لا أبيع ولا أباعا )
( فلا تجعلهمو أبدا ندامى ... فتكسب من مجالسهم صداعا ) فيمن أكل على الشراب
( وندمان إذا ما الكاس دارت ... بغير الأكل إرتعدت يداه )
( نديم دابه في السكر أكل ... فلا يبقي على شيء يراه ) قيل في قدح
( غرامي وجدي بالذي كان في الثرى ... مهانا فأضحى في المجالس حاكما )
( قضى ما عليه من ورود جهنم ... فصار لجنات النعيم ملازما ) محمد بن جعفر الأنصاري يستدعي بعض أصدقائه إلى الشراب
( بساط الأرض مسك وعبير ... وزهر الروض وشي أو حرير )
( وقد صفى الدنان الخمر حتى ... لقد عاد لدينا وهي نور )
( ومن يرد السرور يعش هنيئا ... إذ العيش الهنيء هو السرور )
( وعندي اليوم فتيان كرام ... وجوههمو شموس أو بدور )
( وقطب الأمر أنت وهل لأمر ... بغير القطب فيه رحى تدور )
( فرأيك في الحضور فحق يومي ... عليك قد دعاك له الحضور ) وقال آخر
( باكر صبوحك واشربها مشعشة ... واهنأ بعيش حميد غير مذموم )
( حمراء من بعدما احمرت موردة ... طافت علينا فسرت كل مهموم )
( كأن في كاسها والماء يقرعها ... أكارع النمل أو نقش الخواتيم )
( لا صاحبتني يد لم تغن ألف يد ... ولم ترد القنا حمر الخياشيم )

آخر
( بادر بجودك بادر قبل عائقة ... فإن خلف الفتى عندي من اللون ) سيف الدولة بن حمدان في ساق
( وساق في صبيح للصبوح دعوته ... فقام وفي أجفانه سنة الغمض )
( يطوف بكاسات العقار كأنجم ... فما بين منقض علينا ومنفض )
( وقد نشرت أيدي النجوم مطارفا ... على الجو دكنا والحواشي على الأرض )
( يطرزها قوس السماء بأصفر ... على أحمر في أخضر تحت مبيض )
( كأذيال خود أقبلت في غلائل ... مصبغة والبعض أقصر من بعض ) ابن نباتة
( سقى وواعدني وصلا ألذ به ... عند المنام ولا والله ما وصلا )
( قبيلة الله من ساق مواعده ... كانت مواعيد عرقوب لها مثلا ) وقال آخر في ساق
( وساق كالهلال سعى بكاس ... لربة نرجس فسقى وحيا )
( فقلت تأملوا بدرا منيرا ... سقى شمسا وحيا بالثريا ) وفيه لابن نباتة
( ساق صحيفة خده ما سودت ... عبثا بلام عذاره وبنونه )
( جمد الذي بيمينه في خده ... وجرى الذى في خده بيمينه ) في جارية ساقية
( نديمتي جارية ساقية ... ونزهتي ساقية جارية )
( جارية أعينها جنة ... وجنة أعينها جارية ) فيمن حبس الكاس في يده
( قالوا الذي تهواه يحبس كاسه ... في كفه من غير ذنب موجب )
( فأجبتهم كفوا الملام فإنه ... قمر ينزه طرفه في كوكب )

وقال آخر في مجلس أنس
( ومجلس راق من واش يكدره ... ومن رقيب له باللوم إيلام )
( ما فيه ساع سوى السافي وليس له ... على الندامى سوى الريحان نمام ) صفي الدين الحلي في عود
( وعود به عاد السرور لأنه ... حوى اللهو قدما وهو ريان ناعم )
( يغرب في تغريده فكأنه ... يعيد لنا ما لقنته الحمائم ) وقال آخر في زامرة
( وناطقة بالفخ عن روح بها ... تعبر عما دوننا وتترجم )
( سكتنا وقالت للقلوب فاطربت ... فنحن سكوت والهوى يتكلم ) ومما قيل في فانوس لابن تميم
( انظر إلى الفانوس تلق متيما ... ذرفت على فقد الحبيب دموعه )
( يبدو تلهب جسمه لنحوله ... وتعد من تحت القميص ضلوعه ) وقال لابن قزل
( وكأنما الفانوس في غسق الدجى ... دنف براه شوقه وسهاده )
( أضلاعه خفيت ورق أديمه ... وجرت مدامعه وذاب فؤاده ) ولبعضهم في شمعة
( حكتني وقد أودى بي السقم شمعة ... وإن كنت صبا دونها متوجعا )
( ضنى وسهادا واصفرارا ورقة ... وصبرا وصمتا واحتراقا وأدمعا ) ومما قيل في الربيع والرياض والبساتين والمياه والنواعير ونحو ذلك قال الشاعر
( هذا الربيع وهذه أزهاره ... متجاوب في أيكه أطياره )

( وبدا البنفسج والشقائق مونق ... والورد يضحك بينها وبهاره )
( فاشرب على وجه الحبيب وغن لي ... هذا هواك وهذه آثاره ) وقال غيره
( غدونا على الروض الذي طله الندى ... سحيرا وأوداج الأباريق تسفك )
( فلم نر شيئا كان أحسن منظرا ... من النور يجري دمعه وهو يضحك ) وقال آخر
( أما ترى الأرض قد أعطتك زهرتها ... بخضرة واكتسى بالنور عاريها )
( فللسماء بكاء في جوانبها ... وللربيع ابتسام في نواحيها ) وقال غيره
( إن السماء إذا لم تبك مقتلها ... لم تضحك الأرض عن شيء من الزهر )
( والأرض لا تنجلي أنوارها أبدا ... إلا إذا رمدت من شدة المطر ) وقال ابن قرناص
( أيا حسنها من رياض غدا ... جنوني فنونا بأفنانها )
( مشى الماء فيها على رأسه ... لتقبيل أقدام أغصانها ) وقال آخر
( أنظر إلى الأغصان كيف تعانقت ... وتفارقت بعد التعانق رجعا )
( كالصب حلول قبلة من إلفه ... فرأى المراقب فانثنى متوجعا ) وقال ابن تميم
( وحديقة ينساب فيها جدول ... طرفي برونق حسنها مدهوش )
( يبدو خيال غصونها في مائه ... فكأنما هو معصم منقوش )

أيضا عفا الله عنه
( لم لا أهيم إن الرياض وحسنها ... وأظل منها تحت ظل صافي )
( والزهر حياني بثغر باسم ... والماء وافاني بقلب صافي ) وقال آخر
( قد سعينا نبغي زيارة دوح ... قد حبانا باللطف والإكرام )
( ناولتنا أيدي الغصون ثمارا ... أخرجتها لنا من الأكمام ) ( ومما قيل في الأزهار والثمار ) قال بعضهم في الورد
( يا راقدا ونسيم الصبح منتبه ... في روضة القصف والأطيار تنتحب )
( الورد ضيف فلا تجهل كرامته ... فهاتها قهوة في الكاس تلتهب )
( سقيا له زائرا تحيا النفوس به ... يجود بالوصل شهرا ثم يحتجب ) وقال آخر فيه
( طاب الزمان وجاء الورد فاصطبحا ... ما دام للورد أنوار وأزهار )
( واستقبلا عيشنا بالكأس مترعة ... لا طولت للئام الناس أعمار ) وقال أخر
( اشرب على الورد من حمراء صافية ... شهرا وعشرا وخمسا بعدها عددا )
( واستوف بالكأس من لهو ومن طرب ... فلست تأمن صرف الحادثات غدا ) وقال آخر
( اشرب على ورد الخدود فإنها ... أيام ورد والصبوح يطيب )
( ما الورد أحسن منظرا من وجنة ... حمراء جاد بها عليك حبيب ) وقال بعضهم
( ولقد رأيت الورد يلطم خده ... ويقول وهو على البنفسج يحنق )

( لا تقربوه وإن تضوع نشره ... من بينكم فهو العدو الأزرق ) ( ومما قيل في البنفسج ) قال ابن المعتز
( ولا زوردية وافت بزورتها ... بين الرياض على زرق اليواقيت )
( كأنمل فوق طاقات صففن بها ... أوائل النار في أطراف كبريت ) وقال آخر
( اشرب على زهر البنفسج قهوة ... تهدي السرور لكل صب مكمد )
( فكأنه قرص بخد مهفهف ... أو أعين زرق كحلن بأثمد ) ولبعضهم في الورد
( للورد فضل على زهر الربيع سوى ... أن البنفسج أزكى منه في المهج )
( كأنه وعيون الناس ترمقه ... آثار قرض يد في خد ذي غنج ) وقال آخر
( يا مهديا لي بنفسجا أرجا ... يرتاح صدري له وينشرح )
( بشرتني عاجلا مصحفة ... بأن ضيق الأمور ينفسح ) وقال غيره في النرجس
( وقضب زمرد تعلو عليها ... عيون لم تذق طعم الغماض )
( توهمت الغمام لها رقيبا ... فنكست الرؤوس إلى الرياض ) وقال آخر فيه
( أنت يا نرجس روض ... لزهور الأرض ست )
( ودليل القول فيك ... أن أوراقك ست ) وقال آخر
( أقول وطرف النرجس الغصن شاخص ... إلي وللنمام حولي إلمام )
( أيا رب حتى في الحدائق أعين ... علينا وحتى في الرياحين نمام )

وقال أيضا فيه
( لما تمادى الورد في زهوه ... وراح من إعجابه يرأس )
( تلون المنثور مما به ... واصفر من غيظ به النرجس ) ومما قيل في اللينوفر لابن المعز المصري
( وبركة تزهو بلينوفر ... نسيمه يشبه نشر الحبيب )
( مفنح الأجفان في نومه ... حتى إذا الشمس دنت للمغيب )
( أطبق جفنيه على خده ... وغاص في البركة خوف الرقيب ) وقال تميم بن المعز المصري
( رأيت في البركة لينوفر ... فقلت ما شأنك وسط البرك )
( فقال لي غرقت في أدمعي ... وصادني ظبي الفلا بالشرك )
( فقلت ما بال اصفرار بدا ... فيك وما هذا الذي غيرك )
( فقال لي ألوان أهل الهوى ... صفر ولو ذقت الهوى صفرك ) ومما قيل في البان
( قد أقبل الصيف وولى الشتا ... وعن قليل تسأم الحرا )
( أما ترى البان بأغصانه ... قد قلب الفرو إلي تبرا ) وقال آخر فيه
( أو ما ترى البان الذي يزهو على ... كل الغصون بقده المياس )
( وافى يبشر بالربيع وقربه ... يختال في السنجاب والبرطاس ) وقال في الشقيق
( حييته بشقائق في مجلس ... ورأى الرقيب فشق ذاك عليه )

( فاحمر من خجل فأنبت خده ... أضعاف ما حملت يداي إليه ) وقال آخر
( لو لم أعانق من أحب بروضة ... أحداق نرجسها إلينا تنظر )
( ما انشق جيب شقيقها حسدا ولا ... بات النسيم بذيله يتعثر ) وقيل إن ابن الرومي زار قبر أخيه يوما فوجد الشقائق قد نبتت على قبره فأنشد يقول
( قالت شقائق قبره ... ولرب أخرس ناطق )
( فارقته ولزمته ... فأنا الشقيق الصادق ) ومما قيل في المنثور
( تخال منثورها في الدوح منتثرا ... كأنما صيغ من در وعقيان )
( والطير ينشد في أغصانه سحرا ... هذا هو العيش إلا أنه فاني ) وقال آخر
( قد أقبل المنثور يا سيدي ... كالدر والياقوت في نظمه )
( ثناك لا زال كأنفاسه ... ومخ من يشناك مثل اسمه ) ولبعضهم فيه
( ولقد خلوت مع الأحبة مرة ... في روضة للزهر فيها معرك )
( ما بين منثور أقام ونرجس ... مع أقحوان وصفه لا يدرك )
( هذا يشير بأصبع وعيون ذا ... ترنو إليه وثغر هذا يضحك ) ومما قيل في الياسمين
( والأرض تبسم عن ثغور رياضها ... والأفق يسفر تارة ويقطب )
( وكأن مخضر الرياض ملاءة ... والياسمين لها طراز مذهب )

وقال آخر
( رأيت الفأل بشرني بخير ... وقد أهدى إلي الياسمين )
( فلا تحزن فإن الحزن شين ... ولا تيأس فإن اليأس مين ) ومما قيل في السوسن للأخطل الأهوازي
( سقيا لأرض إذا ما نمت نبهني ... بعد الهدو بها قرع النواقيس )
( كأن سوسنها في كل شارقة ... على الميادين أذناب الطواويس ) ومما قيل في الأقحوان لعبد القادر ابن مهنا المغربي
( أفدي الذي زارني سرا فأتحفني ... باقحوان يحاكي ثغر مبتسم )
( فبت من فرحي أفني مقبله ... لثما وأرشف من ريق له شبم ) ولبعضهم فيه
( إن فاه ثغر الأقاحي في تشبهه ... بثغر حبك واستولى به الطرب )
( فقل له عندما يحكيه مبتسما ... لقد حكيت ولكن فاتك الشنب ) ومما قيل في الجلنار
( وجلنار مشرق ... على أعالي شجره )
( كأنه في غصنه ... أحمره وأصفره )
( قراضة من ذهب ... في خرقة معصفرة ) ومما قيل في الآسى
( أهديت مشبه قدك المياس ... غصنا نضيرا ناعما من آس )
( فكأنما يحيك في حركاته ... وكأنما تحكيه في الأنفاس )

ومما قيل في الريحان
( وغصن من الريحان أخضر ناضر ... نما بين غصني نرجس وشقائق )
( يريك إذا كف الصبا عبثت به ... شمائل معشوق وذلة عاشق ) وفيه أيضا
( وريحان يميس بحسن قد ... يلذ بشمه شرب الكؤس )
( كسودان لبسن ثياب خز ... وقد قاموا مكاشيف الرؤوس ) وقال آخر
( قضيب من الريحان شاكل لونه ... إذا ما بدا للعين لون الزبرجد )
( فشبهته لما بدا متجعدا ... عذار تبدى في سوالف أغيد ) ( ومما قيل في الفواكه والثمار على اختلافها في الأترج ) قال ابن الرومي
( كل الخلال اللى فيكم محاسنكم ... تشابهت منكم الأخلاق والخلق )
( كأنكم شجر الاترج طاب معا ... حملا ونشرا وطاب العود والورق ) ولبعضهم فيه
( حياك من تهوى بأترجة ... ناعمة مقدودة غضه )
( فجلدها من ذهب أصفر ... وجسمها الناعم من فضه ) وقال آخر
( يا حبذا أترجة ... تحدث النفس الطرب )
( كأنها كافورة ... لها غشاء من ذهب ) في الليمون قول أبي الحسن رئيس الرؤساء
( يا حسن ليمونة حيا بها قمر ... حلو المقبل ألمى بارد الشنب )
( كأنها أكره من فضة خرطت ... واستودعوها غلافا صيغ من ذهب )

أيضا
( وصاحب ناديته ... والطير لم يغرد ...
( انهض إلى الراح ولا ... ترضى بعيش نكد )
( واشرب سلافا قرقفا ... من كف ساق أغيد )
( قد اكتست تلهبا ... من خده المورد )
( ولا تدع مجتهدا ... لذة يوم لغد )
( أما ترى الليمون في ... غصن من الزبرجد )
( كأكرة من فضة ... مملوءة من عسجد ) في النارنج لعبد الله بن المعتز
( نظرت إلى نارنجة في يمينه ... كجمرة نار وهي باردة اللمس )
( فقربها من خده فتألفت ... فشبهتها المريخ في دارة الشمس ) وقال آخر
( ونارنجة بين الرياض نظرتها ... على غصن رطب كقامة أغيد )
( إذا ميلتها الريح مالت كأكره ... بدت ذهبا في صولجان زبرجد ) وقال آخر
( ونارنج يلوح على غصون ... ومنه ما نرى كالصولجان )
( أشبهها ثديا ناهدات ... غلائلها صبغن بزعفران ) وقال آخر
( وأشجار نارنج كأن ثمارها ... حقاق عقيق قد ملئن من الدر )
( نطالعها بين الغصون كأنها ... قدود عذارى في ملاحفها الخضر )
( أتت كل مشتاق بريا حبيبه ... فهاجت له الأشجان من حيث لا يدري )

في التفاح لبعضهم
( ولما بدا التفاح أحمر مشرقا ... دعوت بكاسي وهي ملأى من الشفق )
( وقلت لساقيها أدرها فعندنا ... خدود الأغاني قد جمعن على طبق ) وقال آخر في تفاحة
( وتفاحة من سندس صيغ نصفها ... ومن جلنار نصفها وشقائق )
( كأن الهوى قد ضم من بعد فرقة ... بها خد معشوق إلى خد عاشق ) ولبعضهم فيه
( تفاحة كسيت لونين خلتهما ... خدي محب ومحبوب قد التصقا )
( تعانقا فبدا واش فراعهما ... فاحمر ذا خجلا واصفر ذا فرقا ) وقال آخر
( وتفاحة وردية ذهبية ... تجلي عن المهموم ليل همومه )
( كأن سلاف الخمر روى أديمها ... بخمر فجاءت باحمرار أديمه )
( تذكرني شكل الحبيب وحسنه ... وتوريد خديه وطيب نسيمه ) وقال آخر
( حمرة التفاح في خضرته ... أشبه الألوان من قوس قزح )
( فعلى التفاح فاشرب قهوة ... واسقنيها بنشاط وفرح ) وفيه أيضا
( أهدى لنا التفاح من كفه ... من لم يزل يجنيه من خده )
( وخط بالمسك على بعضها ... قد عطف المولى على عبده ) وقيل في السفرجل
( حاز السفرجل لذات الورى فغدا ... على الفواكه بالتفضيل مشهورا )
( كالراح طعما وشم المسك رائحة ... والتبر لونا وشكل البدر تدويرا )

آخر
( سفرجلة صفراء تحكي بلونها ... محيا شجاه للحبيب فراق )
( إذا شمها المشتاق شبه ريحها ... بريح حبيب لذ منه عناق )
( وطيبة عند المذاق فطعمها ... كريق حبيب طاب منه مذاق ) وقال آخر
( سفرجلة جمعت أربعا ... فكان لها كل معنى عجيب )
( صفار النضار وطعم العقار ... ولون المحب وريح الحبيب ) وقيل في الكمثري
( وكمثرى لذيذ الطعم حلو ... شهي جاء من دوح الجنان )
( مناقير الطيور إذا اقتتلنا ... مغبرة بلون الزعفران ) ابن برغش متغزلا
( وكمثري سباني منه طعم ... كطعم الشهد شيب بماء ورد )
( لذيذ خلقه لما أتانا ... نهود السمر في معنى وقد ) وما قيل في المشمش
( بدا مشمش الأشجار يذكو شهابه ... على غصن أغصان من الروض مقيد )
( حكى وحكت أشجاره في اخضراره ... جلاجل تبر في قباب زبرجد ) ما قيل في الإجاص
( أنظر إلى شجر الإجاص قد حملت ... أغصانه ثمرا ناهيك من ثمر )
( تراه في أخضر الأوراق مستترا ... كما اختبى الزنج في خضر من الأزر ) ما قيل في الخوخ
( أهدى إلي الصديق خوخا ... منظره منظر أنيق )

( من كل مخصوصة بحسن ... معناه في مثلها دقيق )
( حمراء صفراء مستعير ... بهجتها التبر والعقيق )
( كوجنة مسها خلوق ... فزال عن بعضها الخلوق ) وما قيل في الفستق
( تفكرت في معنى الثمار فلم أجد ... لها ثمرا يبدو بحسن مجرد )
( سوى الفستق الرطب الجنى فإنه ... زها بمعان زينت بتجرد )
( غلالة مرجان على جسم فضة ... وأحشاء ياقوت وقلب زبرجد ) ما قيل في البندق
( ولقد شربت مع الحبيب مدامة ... حمراء صافية بغير مزاج )
( فتفضل الظبي البهي ببندق ... شبهته ببنادق من ساج )
( فكسرته فوجدت ثوبا أحمرا ... قد لف بنادق من عاج ) ومما قيل في النبق
( وسدرة كل يوم ... من حسنها في فنون )
( كأنما النبق فيها ... وقد حلا في العيون )
( جلاجل من نضار ... قد علقت في الغصون ) ومما قيل في اللوز
( ومهد إلينا لوزة قد تضمنت ... لمبصرها قلبين فيها تلاصقا )
( كأنهما حبان فازا بخلوة ... على رقبة في مجلس فتعانقا ) في العنب لبعضهم
( هدية شرفتنا من أخ ثقة ... نعم الهدية إذ وافتك من يده )
( نوعان من عنب جاءا على طبق ... كأن طيبهما من طيب محتده )

( فأبيض العين يحكي لون أبيضه ... وأسود العين يحكي لون أسوده ) وقال في قصب السكر
( ورماح لغير طعن وضرب ... بل لأكل ومص لب ورشف )
( كملت في استوائها واستقامت ... باعتدال وحسن قد ولطف ) ومما قيل في البطيخ الأصفر
( أتانا غلام فاق حسنا على الورى ... ببطيخة صفراء في لون عاشق )
( فشبهته بدرا يقد أهلة ... من الشمس ما بين النجوم ببارق ) وقال آخر
( وبطيخة وافى بها فوق كفه ... إلينا غلام فاق كل غلام )
( فخيل لي شمس الأصيل أهلة ... يقطعها بالبرق بدر تمام ) ومما قيل في البطيخ الأخضر
( وظبي أتى في الكف منه بمدية ... وقد لاح في خديه شبه شقيق )
( فمال إلى بطيخة ثم شقها ... وفرقها ما بين كل صديق )
( فشبهتها لما بدت في أكفهم ... وقد عملت فيهم كؤوس رحيق )
( صفائح بلور بدت في زبرجد ... مرصعة فيها فصوص عقيق ) وقال آخر
( وبطيخة خضراء في كف أغيد ... أتانا بها فارتاح ذو الهم وابتهج )
( وأقبل يفريها بمديته وقد فرى ... طرفه الساجي القلوب مع المهج ) ومما قيل في القثاء
( أنظر إليها أنابيبا منضدة ... من الزمرد خضرا ما لها ورق )
( إذا قلبت اسمها بانت ملاحتها ... وصار في عكسه أني بكم أثق )

قيل في الباذنجان
( وكأنما الابذنج سود حمائم ... أوكاره خمل الربيع المبكر )
( نقرت مناقرة الزمرد سمسما ... فاستودعته حواصلا من عنبر ) ( ومما قيل في الأنهار والبرك والنواعير )
( أما ترى البركة الغراء قد كسيت ... نورا من الشمس في حافاتها طلعا )
( والنهر من فوقه يلهيك منظره ... شهب سماوية فارتج والتمعا )
( كأنه السيف مصقولا يقلبه ... كف الكمي إلى ضرب الكماة سعى ) وقال آخر في البركة
( يا من يرى البركة الحسناء رؤيتها ... والآنسات إذا لاحت مغانيها )
( فلو تمر بها بلقيس عن عرض ... قالت هي الصرح تمثيلا وتشبيها )
( كأنها الفضة البيضاء سائلة ... من السبائك تجري في مجاريها )
( إذا علتها الصبا أبدت لها حسبكا ... مثل الجواشن مصقولا حواشيها )
( فحاجب الشمس أحيانا يضاحكها ... وريق الغيث أحيانا يباكيها )
( إذا النجوم تراءت في جوانبها ... ليلا حسبت سماء ركبت فيها ) وقال آخر
( وبركة للعيون تبدو ... في غاية الحسن والصفاء )
( كأنها إذا صفت وراقت ... في الأرض جزء من السماء ) وقال محمد بن سارة المغربي
( النهر قد رقت غلالة صبغه ... وعليه من صبغ الأصيل طراز )
( تترقرق الأمواج فيه كأنها ... عكن الخصور تهزها الأعجاز ) وقال آخر
( يوم لقا بالنيل مختصرا ... ولكل وقت مسرة قصر )

( فكأنما أمواجه عكن ... وكأنما داراته سرر ) وقال آخر في نهر يسبح فيه الغلمان
( خليج كالحسام له صقال ... ولكن فيه للرائي مسره )
( رأيت به الملاح تجيد عوما ... كأنهم نجوم في المجره ) وقال آخر في النيل
( النيل قال وقوله ... إذ قال ملء مسامعي )
( في غيظ من طلب العلا ... عم البلاد منافعي )
( وعيونهم بعد الوفا ... قلعتها باصابعي ) وقال آخر
( كأن النيل ذو فهم ولب ... لما يبدو لعين الناس منه )
( فيأتي عند حاجتهم إليه ... ويمضي حين يستغنون عنه ) وقال آخر فيه
( وفت أصابع نيلنا ... وطغت وطافت في البلاد )
( وأتت بكل مسرة ... ما ذي أصابع ذي أياد ) وقال آخر
( سد الخليج بكسره جبر الورى ... طرا فكل قد غدا مسرورا )
( والماء سلطان فكيف تواترت ... عنه البشائر إذ غدا مكسورا ) وقال آخر
( ونهر خالف الأهواء حتى ... غدت طوعا له في كل أمر )
( إذا عصفت على الأغصان ألقت ... إليه بها فيأخذها ويجري ) وقال آخر في ناعورة
( وكريمة سقت الرياض بدرها ... فغدت تنوب عن الغمام الهامع )

( بلسان محزون ومدمع عاشق ... ومسير مشتاق وأنه جازع ) وقال آخر
( وناعورة قالت وقد حال لونها ... وأضلعها كادت تعد من السقم )
( أدور على قلبي لأني فقدته ... وأما دموعي فهي تجري على جسمي ) وفيها أيضا
( وحنانة من غير شوق ولا وجد ... يفيض لها دمع كمنتثر العقد )
( أحن إذا حنت وأبكي إذا بكت ... فليس لنا من ذلك الفعل من بد )
( ولكنها تبكي بغير صبابة ... وأبكي بافراط الصبابة والوجد )
( وأدمعها من جدول مستعارة ... ودمعي من عيني يفيض على خدي ) وفيها أيضا قال الخطيري
( رب ناعورة كأن حبيبا ... فارقته فقد غدت لي تحكي )
( أبدا هكذا تئن بشجو ... وعلى إلفها تدور وتبكي ) ابن تميم
( تأمل إلى الدولاب والنهر إذ جرى ... ودمعهم ا بين الرياض غدير )
( كأن نسيم الجو قد ضاع منهما ... فأصبح ذا يجري وذاك يدور )
فصل في ذكر أرباب الصنائع والحرف والأسماء وما أشبه ذلك
لابن عفيف في قاض مليح
( ورب ق اض لنا مليح ... يعرب عن منطق لذيذ )
( إذا رنا لي بسهم لحظ ... قلنا له دائم النفوذ ) وقال في فقيه مليح
( وبمهجتي ظبي عدا متفقها ... وهو المهذب في الرشاقة والحور )
( أمسى بسيط الشعر منه مطولا ... لكن وجيز الخصر منه المختصر )

وقال في محدث مليح
( علقته محدثا ... شرد عن جفني الوسن )
( حديثه ووجهه ... كلاهما عندي حسن ) وقال في إمام
( جاء يسعى إلى الصلاة بوجه ... يخجل البدر في ليالي السعود )
( فتمنيت أن وجهي أرض ... حين يومي بوجهه للسجود ) ابن الرومي في عروضي وأجاد
( بي عروضي مليح ... موتتي فيه حياة )
( عاذلاتي في هواه ... فاعلات فاعلات ) في مؤذن مليح
( ومؤذن أضحى كريما وجهه ... لكنه بالوصل أي شحيح )
( أبدا أموت بهجره لكنني ... من بعد ذاك أعيش بالتسبيح ) لابن عربي
( وبنفسي مؤذن قد سباني ... لم يفدني شكوى الغرام إليه )
( كيف أصغي لما يقول حبيب ... واضع أصبعيه في أذنيه ) وقال آخر في مريد
( مراد قلبي مريد ... مخبأ في الزوايا )
( وليس ذا بعجيب ... ففي الزوايا خبايا ) وفي فقير مليح
( بي فقير يتغنى ... بسنا وجه منير )
( لا تلمني في افتضاحي ... فغرامي بالفقير ) في أمير شكار لابن دانيال

( بي من أمير شكار ... وجد يذيب الجوارح )
( لما حكى الظبي حسنا ... حنت إليه الجوارح ) في مليح مغن
( أضحى يخر لوجهه قمر الدجا ... وغدا يلين لحسنه الجلمود )
( فإذا بدا فكأنما هو يوسف ... وإذا شد فكأنه داود ) في مليح عواد
( غنى على العود ظبي سهم ناظره ... أمسى به قلبي المضنى على خطر )
( دنا إلي وجست كفه وترا ... فراحت الروح بين السهم والوتر ) في مليح كاتب
( بروحي كاتبا كالبدر حسنا ... بديعا ما رأينا منه أجمل )
( على ريحان عارضه المفدى ... بوجنته غدا دمعي مسلسل ) غيره
( وراقنا ذا المفدى ... فيه تزايد عشقي )
( فلو يجود بوصل ... لكان مالك رقي ) وفيه أيضا
( يا حسن وراق أرى خده ... قد راق في التقبيل عندي ورق )
( تميل في الدكان أعطافه ... ما أحسن الأغصان بين الورق ) للسيد الشريف صلاح الدين الأسيوطي فيه أيضا
( فديتك أيها الوراق قلبي ... لمطلك بالوصال يكاد يبلى )
( وقد طلب الوفاء وغير بدع ... محب يسأل الوراق وصلا ) في مليح صيرفي
( يا سائلا عن حالتي ما حال من ... أمسى بعيد الدر فاقد إلفه )

( بي صيرفي لا يرق لحالتي ... قد مت من جور الزمان وصرفه ) في مليح بخانقي
( تسلطن في الملاح بخانقي ... ولا يرضى ببدر التم نائب )
( وقد صفت له الاتراك جندا ... وأصبح راكبا تحت العصائب ) في مليح فراء
( قلت لفراء فرى أديمي ... وزاد صدا وطال هجرا )
( قد فر نومي وفر صبري ... فقال لما عشقت فرا )
سيدي أبو الفضل بن أبي الوفاء في مزين
( حبي المزين وافى ... بعد البعاد بنشطه )
( ومص دمل قلبي ... بكأس راح وبطه ) في مليح قصاص
( أشكو إلى الله قصاصا يجرعني ... بالهجر والصد أنواعا من الغصص )
( أن تحسن القص يمناه فمقلته ... أيضا تقص علينا أحسن القصص ) في مليح صياد
( ومولع بفخاخ ... يمدها وشراك )
( قالت له العين ماذا ... تصيد قال كراكي ) في مليح رامي بندق
( وأهيف القد ذي دلال ... طائر قلبي عليه واجب )
( كالشمس في كفه هلال ... يرمي إلى البدر بالكواكب ) وقال آخر في راع
( أفديه من راع كبدر الدجى ... قوامه فاق الغصون الرشاق )

( ضيفني بالجدي ناديته ... ما القصد يا مولاي إلا العناق ) القيراطي في مليح طحان
( حسن طحان سباني ... بلحاظ وبقامه )
( خاف من واش فأضحى ... يجعل الغمز علامه ) القاضي بدر الدين البلقيني في تراب
( رب تراب مليح ... أورث القلب عذابا )
( قلت لما أن بدا لي ... ليتني كنت ترابا ) وقال آخر في مليح عوام
( يا حسن عوام كغصن النقا ... يبخل بالوصل لمن هاما )
( وتقنع العشاق منه بأن ... يريهم الأرداف إن عاما ) ابن نباته في مليح حبشي
( بروحي مشروطا على الخد أسمرا ... دنا ووفى بعد التجنب والسخط )
( وقال على اللثم اشترطنا فلا تزد ... فقبلته ألفا على ذلك الشرط ) وله أيضا
( ومن عجب تدعى للطفك سنبلا ... ونشرك كافور وذكرك عنبر )
( وسعدك اقبال وحسنك مرشد ... وخلقك ريحان ولفظك جوهر ) وقال آخر فيمن به صفرة
( قالوا به صفرة شانت محاسنه ... فقلت ما ذاك من عيب به نزلا )
( عيناه مطلوبة في ثأر من قتلت ... فلست تلقاه إلا خائفا وجلا ) للشيخ شهاب الدين بن حجر في مليح اسمه زائد
( وزائر قال قلبي ... للطرف يا طرف شاهد )

( مدحته فتجنى ... تيها علي بزائد ) وقال آخر في مليح أرمد
(
( شكا رمدا فقلت الآن كلت ... لواحظه من الفتكات فينا ) وقالوا سيف مقلته تصدى ... فقلت نعم لقتل العاشقينا ) لمجد الدين بن مكانس فيه
( تورمت مقلة المحبوب من رمد ... وبات يشكو لهيب القلب والألما )
( وبات يرمي محبيه بأسهمه ... فينا له من حبيب قد شكا ورما ) لابن أبي حجلة في أعور
( ما شان من أهواه عين أصبحت ... مقلوعة بمحاسن متزايده )
( لولا استخف العالمين بأسرهم ... ما ظ ل ينظرهم بعين واحده ) وقال آخر في مليح راهب
( رأيته يضرب الناقوس قلت له ... من علم البدر ضربا بالنواقيس )
( وقلت للنفس أي الضرب يؤلمكي ... ضرب النواقيس أم ضرب النوى قيسي ) القيراطي في مليح اسمه بدر
( سموه بدرا وذاك لما ... أن فاق في حسنه وتما )
( وأجمع الناس إذ رأوه ... بأنه اسم على مسمى ) وأخر في مليح اسمه حمزة
( منى يبدو لحمزة ما بقلبي ... ويرثي لي وينظر في بلائي )
( واشفى بالمبرد من لماه ... وأجمع بين حمزة والكسائي )

وقال آخر
( كلفت به ولم أبلغ مرادي ... غزال قد تحكم في قيادي )
( فتصحيف اسمه في وجنتيه ... وفي معسول فيه وفي فؤادي ) في مليح اسمه سروجي
( فتنت به سروجيا بديعا ... به قد ذبت وجدا من ضجيجي )
( إذا جذب الغرام له عناني ... يلذ لي الركوب على السروج ) وقال آخر في مليح محموم
( قالوا حبيبك محموم فقلت لهم ... أنا الذي كنت في حمائه السببا )
( عانقته ولهيب النار في كبدي ... فأثرت فيه تلك النار فالتهبا ) لأبي نواس في مليح ألثغ
( ومهفهف دنف الصبا ذي لثغة ... تصبو إليه ذوي العقول الرجح )
( قبلت فاه فقال لي متخوفا ... من كاشح متدللا بالثاء اثتحي ) وقال في مليح خباز
( إن خبازنا المليح المفدى ... في حشا الصب من جفاء كلوم )
( خلت دكانه البديع سماء ... وهو بدر والخبز فيه نجوم ) وقال في مليح حائك
( وحائك يا صاح أبصرته ... كالبدر في كفيه ماسوره )
( فلم أرح إلا وروحي لما ... عاينت في كفيه مأسوره ) وقال في مليح لاعب شطرنج
( لعبت بالشطرنج مع أهيف ... رشاقة الأغصان من قده )
( أحل عقد البند من خصره ... وألثم الشامات من خذه )

أيضا قال
( تلاعبت بالشطرنج مع من أحبه ... فنادمني حتى سكرت من الوجد )
( وأنشدني مالي أراك مفكرا ... تدور على الشامات وهي على الخد ) في مليح خياط
( خياطنا الفاتن المفدى ... بديع حسن فريد شكل )
( فصل للجسم ثوب سقم ... لما جفاني وكف وصلي ) وقال غيره
( فتنت بخياط بديع ملاحة ... له طلعة أبهى ضياء من الشمس )
( تراه على الكرسي للثوب خائطا ... فتقسم حقا أنه آية الكرسي ) الصفي الحلي في مليح قلع ضرسه
( لحا الله الطبيب لقد تعدى ... وجاء لقلع ضرسك بالمحال )
( أعاق الظبي في كلتا يديه ... وسلط كلبتين على غزال ) وقال في مليح سلم عليه
( تنبأ فيك قلبي فاسترابت ... به قوم وعمهم الضلال )
( وصدهم الهوى أن يؤمنوا بي ... وقالوا إن معجزه محال )
( ومذ سلمت سلمت البرايا ... إلي وقيل كلمه الغزال ) وقال في مليح يرمى بالسهام
( وظبي بشعر فوق طرف مفوق ... بقوس رمى في النقع وحشا بأسهم )
( كبدر بأفق فوق برق بكفه ... هلال رمى في الليل جنا بأنجم ) وقال في مليح يضرب بالعود
( فتن الأنام بعوده وبشدوه ... شنب تجمعت المحاسن فيه )
( حتى كأن لسانه بيمينه ... وكأن ما بيمينه في فيه )

أيضا فيه
( واغن قد أبدى لنا من عوده ... نغما أصح به القلوب وأمرضا )
( بيد إذا سخطت على أوتاره ... نال الرفاق بسخطها عين الرضا ) وقال في مليح مشبب
( يا نافخ الصور بل يا باعث الصور ... من رقدة السكر لا من رقدة الحفر )
( قرنت حسنك بالإحسان فيه لنا ... فكان فيك مراد السمع والبصر )
( ضمنت للصحب إقبال السرور كما ... ضمنت نايك نأى الهم والفكر
( صوت بسيط به أرواحنا انبسطت ... إذ جئت في اللفظ والمعنى على قدر ) وقال في مليح ساق
( وساق من بني الأتراك طفل ... أتيه به على جمع الرفاق )
( أملكه قيادي وهو رقي ... وأفديه بعيني وهو ساقي ) وقال أيضا في رسول مليح أتاه من عند من يحبه
( من كنت أنت رسوله ... كان الجواب قبوله )
( يا طلعة الشمس الذي ... جاء الصباح دليله )
( لم يبد وجهك قبلة ... إلا ارتقبت وصوله )
( فلذاك إذ واجهتني ... بل الفؤاد غليله ) في مليح قارئ
( نفسي الفداء لشادن شاهدته ... يوم الزيارة قارئا في المصحف )
( فتن الأنام ببهجة وبلهجة ... تسبي وتضني كل صب مدنف )
( فتلا مليا جل سورة يوسف ... وجلا محيا مثل صورة يوسف ) وقال آخر في مليح مكتمل العذار
( وكامل العارض قبلته ... فصدني وازور من قبلتي )

( وقال كم أنهاك عن مثل ذا ... وأنت ما تفكر في لحيتي ) وقال آخر في مليح حجام
( كلفت بحجام تحكم طرفه ... فغدا على سفك الدماء يواطي )
( أضحى كثير الاشتطاط ولم تكن ... منه اللحاظ كليلة المشراط )
فصل في الألغاز
في غزال
( إسم من قد هويته ... ظاهر في صروفه )
( فإذا زال ربعه ... زال باقي حروقه ) في كوز فقاع
( ومحبوس بلا ذنب جناه ... له في السجن ثوب من رصاص )
( إذا أطلقته وثب ارتفاعا ... يقبل فاك من فرح الخلاص ) في زر موزة
( مطية فارسها راجل ... تحمله وهو لها حامل )
( واقفة بالباب مزبولة ... لا تشرب الدهر ولا تأكل ) وقال في طاحون
( ومسرعة في سيرها طول دهرها ... تراها مدى الأيام تمشي ولا تتعب )
( وفي سيرها ما تقطع الأكل ساعة ... وتأكل مع طول المدى ولا تشرب )
( وما قطعت في السير خمسة أذرع ... ولا ثلث ثمن من ذراع وأقرب ) في دواة
( ومرضعة أولادها بعد ذبحهم ... لها لبن ما لذ قط لشارب )

( وفي بطنها السكين والثدي رأسها ... وأولادها مدخورة للنوائب ) وفي دواه أيضا
( وما أم يجامعها بنوها ... وليس عليهم تجب الحدود )
( كأنهم إذا ولجوا حشاها ... أفاعي في أمكانها رقود ) في قلم
( وأهيف مدبوح على صدر غيره ... يترجم عن ذي منطق وهو أبكم )
( تراه قصيرا كلما طال عمره ... ويضحي بليغا وهو لا يتكلم ) وفيه أيضا
( بصير بما يوحى إليه وما له ... لسان ولا قلب ولا هو سامع )
( كأن ضمير القلب باح بسره ... إليه إذا ما حركته الأصابع ) وفيه أيضا
( وأصفر عار أنحل السقم جسمه ... يشتت شمل الخطب وهو جموع )
( حمى الجيش مفطوما كما كان تحتمي ... به الأسد في الغابات وهو رضيع ) وقال وفيه أيضا
( وذي نحول راكع ساجد ... أعمى بصير دمعه جاري )
( ملازم الخمس لأوقاتها ... مجتهد في طاعة الباري ) في مرملة
( معشوقة لذوات العز قد صنعت ... حزينة ما تراها قط تبتسم )
( كأنها من صروف الدهر خائفة ... تبكي دماء على ما سطر القلم ) في كتاب
( وذي أوجه لكنه غير بائح ... بسر وذو الوجهين للسر يظهر )
( تناجيك بالأسرار أسرار وجهه ... فتسمعها بالعين ما دمت تبصر )

في سلطان حسن لابن أبي حجلة
( ما اسم محبب للقلوب لأنه ... حسن الحروف يجود بالإحسان )
( تصحيفة أمسى حبيبا كلما ... صحفت أحرفه بحسن بيان )
( لو جاد لي يوما برؤية وجهه ... نلت المراد وعشت بالسلطان في شبابة
( وما صفراء شاحبة ولكن ... تزينها النضارة والشباب )
( مكتبة وليس لها بنان ... منقبة وليس لها نقاب )
( تصبح لها إذا قبلت فاها ... أحاديث تلذ وتستطاب )
( ويحلو المدح والتشبيب فيها ... وليست لا سعاد ولا الرباب ) وفيها أيضا
( ومقروحة الأجفان مثلي شجية ... تناءت عن الأهلين أسقمها البعد )
( تزوجها عشر وذاك محرم ... ولا حرج كلا ولا وجب الحد )
( إذا وطئها قوم تصرخ صرخة ... يلين إليها كل قلب ولو صلد ) وفيها أيضا
( منقبة مهما خلت مع محبها ... يزودها لثما وينظرها شزرا )
( وتصحيفها في كف حاملها فقل ... إذا شئت في اليمنى وإن شئت في اليسرى ) في دملج
( إلى النساء يلتجي ... وعندهن يوجد )
( الجسم منه فضة ... والقلب منه جلمد )

في خلخال
( أيا عجبا من صابر صامت ولم ... يفه بكلام قط في ساعة الضرب )
( أقام ولم يبرح مكانا ثوى به ... على أنه أضحى يدور على الكعب )
في شعر اللحية
( وذي عدد كالرمل سام محله ... جميل على كل الملاح له حق )
( يحاذر من موسى ويرهب باسمه ... وفي القلب هرون له الهلك ) والمحق ) وفي التين
( أي شيء لذ طعمه ... ناعم الملمس لين )
( كيف لا يبدو وضوحا ... وهو في التصحيف بين ) في الموز
( ما اسم لشيء حسن شكله ... تلقاه عند الناس موزونا )
( تراه معدودا فان زدته ... واوا ونونا صار موزونا ) في حمزة
( من لي بمعتدل القوام مهفهف ... أروى بغصن البان لينة قده )
( في فيه تصحيف اسمه وبخده ... وبقلب عاشقه لشدة صده ) وفيه أيضا
( إسم الذي أنا أهواه وأعشقه ... وطول دهري أخشى من تجنيه )
( تصحيفة في فؤادي دائما أبدا ... يبدو في خده أيضا وفيه فيه ) في ساقية
( وجارية لولا الحوافر ما جرت ... أشاهدها تجري وليس لها رجل )
( وترضع أطفالا ولا هي أمهم ... وليس لها ثدي وليس لها بعل ) وفيها أيضا
( وجارية تبكي إذا الليل جنها ... بلا ألم فيها ولا ضرب ضارب )

( عليها رجال شنقوا بعد حرقهم ... وما كان شنق القوم إلا بواجب ) في زر وعروة
( وما أخت يجامعها أخوها ... وليس عليهما فيه جناح )
( ترى بجوازه الحكام طرا ... وفي أعناقهم ذاك النكاح ) في راوية
( وسوداء تشرب من رأسها ... وإن شئت تسقيك من فرد يد )
( ولونها مثل لون أختها ... وثنتاهما واحد في العدد )
( وتحبل في الوقت هي وأختها ... وفي ساعة يضعان الولد ) في شطرنج
( يا ذا النهى ما اسم له حالة ... يحار فيها الذهن والفكر )
( له حروف خمسة إنما ... ثلاثة منها له شطر ) في فيل
( أيما اسم تركيبه من ثلاث ... وهو ذو أربع تعالى الإله )
( حيوان والقلب منه نبات ... لم يكن عند جوعه يرعاه )
( فيك تصحيفة ولكن إذا ما ... رمت عكسا يكون لي ثلثاه ) في بجع
( ما طائر في قلبه ... يلوح للناس عجب )
( منقاره في بطنه ... والعين منه في الذنب ) في نار
( وما اسم ثلاثي به النفع والضرر ... له طلعة تغني عن الشمس والقمر )
( وليس له وجه وليس له قفا ... وليس له سمع وليس له بصر )
( يمد لسانا يختشي الرمح بأسه ... ويهزأ يوم الضرب بالصارم الذكر )
( يموت إذا ما قمت تستقيه عامدا
ويأكل ما يلقى من النبت والشجر )

( فيا قارئ الأبيات دونك شرحها ... وإلا فنم عنها ونبه لها عمر ) وفيها أيضا
( وآكلة بغير فم وبطن ... لها الأشجار والحيوان قوت )
( إذا أطعمتها انتعشت وعاشت ... وإن أسقيتها ماء تموت ) في يد الهاون
( قل لي فما شيء يرى ناعما ... منتصب العمامة طول الزمان )
( أطول من شبر له حزة ... مفيشل الرأس قوي الجنان )
( يسمع في القعر له رنة ... ويظهر الصفق لأعلى مكان ) وفيه أيضا
( خبروني أي شيء ... أوسع ما فيه فمه )
( وابنه في بطنه ... يرفسه ويلكمه )
( وقد علا صياحه ... ولم يجد من يرحمه ) في خشخاش
( وما قبة مبنية فوق شاهق ... لها علم يحكي الملاحة بالظرف )
( وأولادها في بطنها في جماعة ... يكونون ألفا أو يزيدون عن ألف )
( ويأخذها الطفل الصغير بجهله ... ويقلبها عسفا على راحة الكف ) في كوز زير
( وذي أذن بلا سمع ... له قلب بلا لب )
( إذا استولى على صب ... فقل ما شئت في الصب ) في اسم علي
( اسم الذي أعشقه ... أوله في ناظره )
( إن فاتني أوله ... فإن لي في آخره )

في موسى للصفدي
( وما شيء له حد وخد ... يكلم من يلامسه بحلقه )
( وكل حلقه من تحت راس ... وهذا الراس صارت تحت حلقه ) في حلب لابن الفارض رحمه الله تعالى
( ما بلدة بالشام قلب اسمها ... تصحيفه أخرى بأرض العجم )
( وثلثه إن زال من قلبه ... وجدته طيرا شجي النغم ) وقال في سمرقند
( وما اسم سداسي إذا ما لمحته ... ترى فيه أجزاء تذم وتشكر )
( له ثلث يأتي به الموت فجأة ... وثلث مع الكتاب يطوى وينشر )
( وثلث رعاك الله يا صاحبي له ... على مدى الأيام نشر معطر )
( وفي نصفه لما تحرك بعضه ... حديث شهي في الليالي يذكر )
( وفي نصفه الثاني إذا ما أعدته ... إلى النار للتحليل والعقد سكر )
( ففسر لنا ذا اللغز إن كنت ذا حجى ... فليس على ذي العقل لغز معسر ) وقال في كمون
( يا أيها العطار أعرب لنا ... عن اسم شيء قل في سومكا )
( تراه بالعين في يقظة ... كما ترى بالقلب في نومكا ) وقال في قالب الطوب
( وما آكل في قعدة ألف لقمة ... ولقمته أضعاف أضعاف وزنه )
( إذا أنزل المأكول جنبيه لم يقم ... سوى لحظة أو لحظتين ببطنه )

العين
( وباسطة بلا عصب جناحا ... وتسبق ما يطير ولا تطير )
( إذا ألقمتها الحجر اطمأنت ... وتجزع أن يباشرها الحرير ) ويكفي من ذلك ما أشرت إليه وما نبهت من هذا الفن عليه وقد مضى القول من الفنون السبعة على فن الشعر القريض وما فيه من الفنون المتقدم ذكرها
ولنذكر إن شاء الله تعالى بقية الفنون السبعة على وجه الاختصار والفنون السبعة المذكورة عند الناس هي الشعر القريض والموشح والدوبيت والزجل والمواليا والكان وكان والقوما ومنهم من جعل الحماق من السبعة وفي ذلك اختلاف وعند جمع المحققين أن هذه الفنون السبعة منها ثلاثة معربة أبدالا يغتفر اللحن فيها وهي الشعر القريض والموشح والدوبيت ومنها ثلاثة ملحونة أبدا وهي الزجل والكان وكان والقوما ومنها واحد وهو البرزخ بينهما يحتمل الاعراب واللحن وهو المواليا وقيل لا يكون البيت منه بعض ألفاظه معربة وبعضها ملحونة فإن هذا من أقبح العيوب التي لا تجوز وإنما يكون المعرب منه نوعان بمفرده ويكون الملحون فيه ملحونا لا يدخله الاعراب وقد أوضح قاعدة الجميع وأمثلتها صفي الدين أبو المحاسن الحلي في ديوانه وسماه ( بالعاطل الحالي والمرخص الغالي ) ولو بسطت المقال لاتسع المجال وكثر المقال ولكن الاختصار يذهب الأوجال والحمد لله رب العالمين على كل حال
فصل في بيان الفن الثاني وهو الموشح
لابن المبارك
( قد أنحل الجسم أسمر أكحل ... وأوجل القلب فيه مذ حل )

دور
( أميل له فلا يميل ... يحول وعنه لا أحول )
( أقول إذا زاد بي النحول ... )
( أما حل عقد الصدود ينحل ... وترحل عن نجم المزحل ) دور
( كم أبعد وكم أبيت مكمد ... ويعمد بهجره لا فقد )
( وأجهد لارتصاد من قد ... )
( تحمل والحاسدون رحل ... تمحل والوعد منه ما حل ) دور
( متوج بالحسن هذا الأبلج ... مدبج عذاره البنفسج )
( مفلج وطرفه ذا الأدعج ... )
( مكحل وثغره منحل ... مخلخل بعنبر معجل ) دور
( بر غمي من يستحل ظلمي ... ويرمي بحربه لسلمي )
( وجسمي من التزام سقمي ... )
( منحل وقد غدا مرحل ... فمن حل دمي وما حل ) دور
( قلاني واشتط ذا الفلاني ... غزاني بطرفه اليماني )
( تراني أنشد لمن يراني ... )
( قد أنحل الجسم أسمر أكحل ... وأوحل القلب فيه مذ حل ) لابن سناء الملك
( كللي يا سحب تيجان الربا بالخلى ... واجعلي سوارك منعطف الجدول )

دور
( يا سما فيك وفي الأرض نجوم وما ... كلما أخفيت نجما أظهرت أنجما )
( وهي ما تهطل إلا بالطلى والدما ... )
( فاهطلي على قطوف الكرم كي تمتلي ... وانقلي للدن طعم الشهد والقرنفل ) دور
( تتقد كالكوكب الدري للمرتصد ... يعتقد فيها المجوسي بما يعتقد )
( فاتئد يا ساقي الراح بها واعتمد ... )
( وامل لي حتى تراني عنك في معزل ... قل لي فالراح كالعشق ان يزد يقتل ) دور
( لا أليم في شرب صهبا وفي عشق ريم ... فالنعيم عيش جديد ومدام قديم )
( لا أهيم إلا بهذين فقم يا نديم ... )
( واجل لي من أكؤس صيرت من فوفل ... ألذ لي من نكهة العنبر والمندل ) دور
( خذ هنى وأعطني كاسي مثل كاسك هنى ...
( واسقني على رضاب الفطن الملسن ... )
( والهنى ببعض ما صيغ من الألسن ... )
( لو تلى مدح سناه مع رشا أكحل ... لذ لي على سنا الصهباء والسلسل ) دور
( أزهرت ليلتنا بالوصل مذ أسفرت ... أصدرت بزورة المحبوب إذ بشرت )
( أخرت فقلت للظلماء مذ قصرت ... )
( طولي يا ليلة الوصل ولا تنجلي ... واسبلي سترك فالمحبوب في منزلي )

دور
( من ظلم في دولة الحسن إذا ما حكم ... فالألم يجول في باطنه والندم )
( والقلم يكتب فيه عن لسان الأمم ... )
( من ولي في دولة الحسن ولم يعدل ... يعزى لالحاظ الرشا الأكحل ) وله أيضا
( ترى هل يشتفي منك الغليل ... ويشفى من صبابته العليل ) دور
( لقد أسرفت في هجري وصدي ... بلا سبب سوى كلفي ووجدي )
( وماذا في سلو عنك يجدي ... )
( خضاب الوجد ليس له نصول ... وأسياف الهوى فينا تصول ) دور
( لئن شحيت عني بالسلام ... وطيفك قد جفا لجفا المنام )
( فقد جادت بأربعة سجام ... )
( جفون بالبكا كادت تحول ... على خد أسف به النحول ) دور
( لقد أرسلت في طي النسيم ... حديث هوى عن الوجد القديم )
( فعادت وهي عاطرة الشميم ... )
( تخبر أن ظعنهم نزول ... بدار لا يلم لها نزيل ) دور
( تلقته الموالي والموالي ... بألحاظ وزرق من نصال )
( وأعطاف وسمر من عوالي ... ) وله أيضا
( شمس الحيا أم القمر ... أم بارق الثغر بشر )
( أم البها حفه الخفر ... بطرز خديك مستطر )

سلسلة
( قم تباها بما ... تباها ولا تلاها ) قفلة
( فكل أحبابنا حضروا ... والعود يشجيك والوتر ) الدور
( أفديك بالسمع والبصر ... يا أهيف وصله وطري )
( بدر بدا في دجى الشعر ... قد لذ في حبه سهري ) سلسلة
( إذا تجلى وقد ... تجلى عليك يجلي ) قفلة
( تحير في وصفه الفكر ... والعقل والسمع والنظر ) الدور
( فهاك حدث عن الطرب ... وعن سلاف ابنة العنب )
( إذا سقاها مع الضرب ... بدر بأفق الجمال ربي ) سلسلة
( في ظل بان على ... المثاني من غير ثاني ) قفلة
( إلا الندامى إذا سكروا ... والروض والماء والشجر ) وقال رحمه الله تعالى
( وانسيم السحر هل لك خبر ... عن عريب همو بالمنحنى )
( فارقوني ولم أقض الوطر ... من لقاهم ولا نلت المنى )

( قلت يا قلب صبرا ما صبر ... والنبي ما الهوى إلا عنا )
( ما كتمت الهوى إلا ظهر ... مع شهود المدامع والضنى ) دور
( ليش تمنع وصالك يا حبيب ... عن محبك وهو لا يعشق سواك )
( راقب الله وارجع من قريب ... قبل يبلى جسمه في هواك )
( لست ألقى لدائي من طبيب ... غير رشفي يا حبيبي من لماك )
( لو رأى حالي العاذل عذر ... حينما ينظر جمالك والسنا ) دور
( يا قمر فوق غصن من نقا ... أثخنتنا مطالك والصدود )
( يا رعى الله لويلات اللقا ... ليتها يا خل يوما لي تعود )
( ليلة اسعد ما فيها شقا ... كيف تشقى وطالعها سعود )
( صفرها لا يمازجه كدر ... بالمسرات وأوقات الهنا ) غيره
( حملت مذ سارت الحمول ... وجد مضى العمر وهو باقي ) دور
( ساروا وسار الفؤاد لكن ... جسمي مقيم على المساكن )
( وعن الحب صار ظاعن ... )
( مالي إلى وصله وصول ... لو سرت بالبرق والبراق ) دور
( وغادة كالقضيب قدا ... والورد والياسمين خدا )
( كأنها البدر إذ تبدى ... )

( وشعرها أسود طويل ... كأنه ليلة الفراق ) دور
( هونا أتتنا تميل ميلا ... سحابة كالسحاب ذيلا )
( فقلت شمس تزور ليلا ... )
( وما درى كاشح عذول ... فذاك من أعجب اتفاق ) دور
( وسدتها ساعدي لسعدى ... وبت أرعى رياض وردي )
( وخمر ريق كذوب شهد ... )
( لو ذاقها مدنف عليل ... لعاش والروح في التراقي ) دور
( لما رأتني أذوب سقما ... ومن ورود الرضاب أظما )
( قالت كلمت الخدود لثما ... )
( ما يشتفي منك ذا الغليل ... بغير نومي وشيل ساقي )
فصل في الفن الثالث وهو الدو بيت
لسيدي شرف الدين بن الفارض رحمه الله تعالى
( أهوى قمرا له المعاني رق ... من صبح جبينه أضاء الشرق )
( تدري بالله ما يقول البرق ... ما بين ثناياه وبيني فرق ) وقال أيضا
( أهوى رشا كل الأسى لي بعثا ... مذ عاينه تصبري ما لبثا )
( ناديت وقد فكرت في خلقته ... سبحانك ما خلقت هذا عبثا )

وقال أيضا
( عرج بطويلع فلي ثم هوي ... واذكر خبر الغرام واسنده إلي )
( واقصص قصصي عليهم وابك علي ... قل مات ولم يحظ من الوصول بشي ) وقال أيضا
( روحي لك يا زائرا في الليل فدا ... يا مؤنس وحدتي إذا الليل هدا )
( إن كان فراقنا مع الصبح بدا ... لا أسفر بعد ذاك صبح أبدا ) وقال آخر
( يا شمس ضحى جبينه وضاح ... ساعات وصولك كلها أفراح )
( عشاقك لو فعلت ما شئت بهم ... ماتوا كمدا وبالهوى ما باحوا ) وقال آخر
( أهواه مهفهفا ثقيل الردف ... كالبدر يجل حسنه عن وصف )
( ما أحسن واو صدغه حين بدت ... يارب عسى تكون واو العطف ) وقال التلعفري
( قلبي ذهبت لبعدكم راحته ... ما الصبر على بعادكم عادته )
( بنتم فرثى لما به شامته ... لا كان فراقكم ولا ساعقه ) وقال المنشدي
( أحسانك طول الدهر لا أنساه ... لا أذكر بعد خالقي إلا هو )
( إن أبعدك الزمان عني حسدا ... مولاي خليفتي عليك الله ) وقال آخر
( إن جئت ربا الحمى ولاحت نجد ... فاذكر ولهي وما جناه البعد )
( قد كنت أقاسي الصدق حتى رحلوا ... يا ليتهم عادوا وعاد الصد )

فصل في الفن الرابع وهو الزجل
حمل للغبارى
( قل لغزلان وادي مصر والشام يقصروا ذا النفار ... لهم اجعل حشاشتي مرعى وفؤادي قفار ) دور
( مصر والشام فيها ملاح أقمار بالمحاسن تسود ... أبيض وذا أحمر وذا مليح أسمر لو عيون نجل سود )
( ذا غزال صار يفوق على الغزلان ويصيد الأسود ... وذا غصن بان أهيف قوام قد وقد الأغصان جهار )
( وذا بدر الكمال ظهر في الليل وذا شمس النهار ... ) دور
( تدر بالله إيش قالت مليح الشام بعد ذاك الصدود ... قد سمينا بصحة الأبدان واعتدال القدود )
( وتخضب تفاحنا الأحمر فوق بياض الخدود ... وأنتم يا عشاق لكم قلنا والحسود راح بنار ... أنتم التفاح وما نقصد منك إلا الخيار ... ) دور
( وملاح مصر قالت إحنا أصحاب الوجوه الملاح ... والحلاوة وطيبة الأخلاق في الخلائق مباح إحنا أقمار )
( واحنا بدور الليل وشموس الصباح ... وفي الألفاظ والظرف والمعنى ليس لنا حد صار )
( وورثنا الحسن من يوسف واكتسبنا الفخار ... ) دور
( حسن حبي الفرارجي فرحه بدر في السعد لاح ... فرخ ناجب خرج من القشرة فاق ملاح الملاح )
( كلما أعمل على رضاه يفسد بجفاه الصلاح ... )
( ومن البيض قد خرج نافر رد جفني بنار ... )
( وجفاني وخد بياض جسمي خلطوا بالصفار ... ) دور
( وقع الطل خط بالأبيض في اخضرار الطروس ... )
( قم يا ساقي على بساط زهري تحت ظل العروس ... )
( هاتها شمس راح شمول قرقف بكر عذرا عروس ... )
( عروس لها صفو النسيم ولطف الما وابتهاج الثمار ... )
( قد جلوها في كاس زجاج أبيض فاكتسى باحمرار ... ) دور
( خمر فيها سر لو جعل أشياف رد الأعمى بصير ... )
( اقطع القطف أسو يحاكي الليل شفق أحمر يصير ... )
( يا ترى ذا السر في كرمه أو يكون في العصير ... )
( وترى النوردا عليه يلمع ذاك من ايش استنار ... )
( وكذا الكاس يحاكي يا سمير من كساه جلنار ) دور
( فهو عطار عندي وشراب هندي وبراني جفاه ... )
( كل من مص من لسانو ريقو يلتقي فيه شفاه ... )
( ورد خد وحبتو سودا شبه خال في صفاه ... )
( جبل آس عارضو أسر قلبي والكبار والصغار ... )
( في المحب غاروا على حسنو وكل من حب غار ... )

( حسن حبي الفرارجي فرحه بدر في السعد لاح ... فرخ ناجب خرج من القشرة فاق ملاح الملاح )
( كلما أعمل على رضاه يفسد بجفاه الصلاح ... ومن البيضة قد خرج نافر رد جفني بنار )
( وجفاني وخد بياض جسمي خلطوا بالصفار ... ) دور
( وقع الطل خط بالأبيض في اخضرار الطروس ... قم يا ساقي على بساط زهري تحت ظل العروس )
( هاتها شمس راح شمول قرقف بكر عذرا عروس ... عروس لها صفو النسيم ولطف الما وابتهاج الثمار )
( قد جلوها في كاس زجاج أبيض فاكتسى باحمرار ... ) دور
( خمر فيها سر لو جعل أشياف رد الأعمى بصير ... قطع القطف أسود يحاكي الليل شفق أحمر يصير )
( يا ترى ذا السر في كرمه أو يكون في العصير ... وترى النوردا عليه يلمع ذاك من ايش استنار )
( وكذا الكاس يحاكي يا سمير من كساه جلنار ... ) دور
( فهو عطار عندي وشراب هندي وبراني جفاه ... كل من مص من لسانو ريقو يلتقي فيه شفاه )
( ورد خد وحبتو سودا شبه خال في صفاه ... جبل آس عارضو أسر قلبي والكبار والصغار )
( في المحب غاروا على حسنو وكل من حب غار ... )

دور
( دروني الملاح على كعبي ونصوا نصوص ... بلا دعوى التف لف اليسير في هواهم خصوص )
( وعليا صار نقشهم قاعد مثل نقش الفصوص ... والبساط انطوى وحين ما رأوا خلف له همه ولو اصطبار )
( قمروني في عشق هذا القمر والمحبة قمار ... ) دور
( لحبيبي ثغر من جوهر والشفيفات عقيق ... عوارض ما ضرهم عارض غير نبات الشقيق ... )
( وخدود ورد من غير نمش ووصفنا عن حقيق ... يحرس الورد خال عنبر تحت أهداب غزار )
( في صفا وجهو أنزه طرفي عند خلع العذار ... ) دور
( في رياض صفوف من الأزهار قابلتها صفوف )
( كيف لا نرقص والنسيم بها موصول وورقها دفوف )
( واعجب من النهر إذا صفق لو من الموج كفوف ... والغيوم نقطت وحين النسيم طار أعلى مطار ... )
( باختلاف الألحان سحر في الروض صاح على عود طار ... ) دور
( أشرف الخلق بين الإسلام والهدى والضلال ... والشرايع والحق والباطل والحرام والحلال )
( نبي من بين أصابعه تحقيق نبع الماء الزلال ... ولو أن النبات جميعه أقلام والمداد البحار )
( والخلايق تكتب مديحو تاه كل كاتب وحار ... )

دور
( خلف أستاذ في الفن ما ينطاق ذا ق عداه المنون ... ما يعيبو في الفن غير ناقص عقل زايد جنون )
( شيخ مصدر لبيب قيم في جميع الفنون ... باتضاعو مع الصغار مرفوع فوق رؤوس الكبار )
( وأهل الفنون تجري وما تلحق للغبارى غبار ... ) غيره لناصر الغيطي
( كنز روضي طالبو بسعد يا خليع قم في دجى الأسحار ... تلتقي در الندى يرهج فوق فصوص غرائب النوار ) دور
( كنز روضي نزهة الطالب جوهر وبين الندى يرهج ... ولجين الما بيتكسر يا خليع هيا تعا اتفرج )
( بين عنابر تلتقي الخلع كل حد مع إلفو يدرج ... وامش في عرض الرياض وارتع بين أغصان واطيار فوق )
( بساط زمرد ذو قضبان كل وردة حكت لنا دينار ... ) دور
( وترى الياسمين بحال فضه ضربت لاهل النزه صلبان ... والشحارير لابسين أسود وقلانس كنهم رهبان )
( وكذا الكتاب وهو أصفر بعمائم زرق للناس بان ... وانجلت بين القسوس في ألحان وعلينا دارها الخمار )
( والقطيع الراهبي يحكي لشماس لابس الزنار ... ) دور
( الفراق نار والوصال جنة والخلائق بعضهم يعشق ... دا حبيب قلبو عله راضي وذا محبوبو عليه يشفق )

( ولهيب الهجر يتوقد والوصال من الملاح يشتق ... المليح عندي وأنا مطمن وسط روضا زهر لها معطار في نعيم )
( مع حور ومع ولدان والعذول مسكين صح في نار ... ) دور
( وعمل في الروض سماع باكر بين الأغصان والزهور أنغام ... والنسيم شبب والغدير صفق والخليع من كتر وجدو هام )
( والنخيل بأكمامها ترقص واقبل الريحان بحال أعجام ... والعصافير شيخهم ريق لو طريق بين الأزاهر طار )
( والبلبل بالغنا يشجي فكأنوا ناي أو مزمار ... ) دور ناصر الغيطي
( يا خلايا صحبت إنسان أنكر الصحبة وعاداني ... )
( وبغضني حين بقيت مسمى والإله بالفضل أسماني )
( في بلاد قبلي وأرض الشام يشكروني ساير أقراني ... والشجيع الشاطر المذكور في جميع الأرض لو تذكار )
( والبلط يوقع لو تعلق ما يحصل شيء مع الشطار ... ) للغباري
( جار حبيبي فقلت ذا الحجاج جا يجور أو يزيد ... لو عدل عشت بو مسرور ويكون الرشيد ) دور
( أقلع القلب في هوى العشاق والدموع في انحدار ... وبحور الهوى إذا هاجت ليس لها من قرار )
( كنت أحسب قلبي معوريس غرتو ذا البحار ... صحت لما وحلت يا محبوب قلبي بحر عشقك يزيد )
( خفت فيه الغرق فقال افرح من غرق مات شهيد ... )

دور
( أنا يوم في الغبوق باتفرج على شط الغدير ... إذ رأيت على الشط واحد واقف شب صياد صغير ... نظرت مقلتي إلى منظر ما لحسنو نظير ... )
( قلت يا عين إن غرك الصياد بالجمال المصيد )
( يوقعك في فخاخ شباك عشقو وكراكي يصيد ... ) دور
( من نحبو جديد حبيب قلبي يوم صدفتو مصدف ... قلت لين يا قاسي لمن دمعو سال وحالو وقف )
( دار وقال لي ما لاسم بالانجيل قلت اسمي خلف ... قال علينا يكتب ومن يسمع دا الكلام يستفيد )
( في الحقيقة من لا يكون داود ما يلين لو الحديد ... ) دور
( لك عوارض في الخد مرقومة ليس لها من مثال ... وجفاك صار حماق وباب وصلك كان وكان يا غزال )
( وأنت دوبيت موشح القاما يا عزيز الدلال ... ولك ألفاظ صارت مواليا بالزجل والنشيد ... وبشعرك متوج القاما وأنت بيت القصيد ... ) دور
( عن محرم شرابنا ضمنا ونفطر بالثمار ... حين وجدنا سفرجل البستان يذهب الاصفرار )
( وغنا الطير به الجماد يطرب وكذا الجلنار ... في ربيع حين رأى الثمر قاعد فيه تعاليق عقيد )
( حسب الروض النص من شعبان صار يقيد فيه وقيد ... )

دور
( من لهيب مدمعي جرى الطوفان للهيب ما طفى ... وأنا هو الغباري في العشاق ما جرى لي كفي )
( حين عليا بالصد والهجران والبعد والجفا ... جار حبيبي فقلت ذا الحجاج جا يجور أو يزيد )
( لو عدل عشت بو مسرور ويكون الرشيد ... ) غيره
( حين سكنت القلب يا عيسى ... أمسى من بعدك الحزين فرحان )
( وتقدس بك ولكنو ... ما جرت فيه يا ابن عين سلوان ) دور
( عارضوا لما عشق خدو غرت من وجدي بقيت حاير ... جيت إلى طرفو وناديت لو أحرسوا وكون عليه ناظر )
( بعد حين نظرت في خدو النقي العارض وهو داير ... وعليه قد دب بالسرقة جيت لطرفو قلت يا كسلان )
( هكذا في عادة الحراس قال لي اعذرني أنا نعسان ... ) دور
( بدر شعبان منيتي لما في بروج السعد لاح نجمو ... قلت لو أقضي بفيض دمعي أطلقوا واجراه على رسمو )
( قلت لو دام الله اطلاقك فالحزين قلبو المشوم قسمو ... ايش قد أذنب حين قطرتو دا يملغط قول بالبهتان )
( قال لي صوم عن الوصال ناديت ليش أصوم يا بدر في شعبان ) دور
( حين تدبح احمرار خدو باخضرار العارض أسباني

ضحك فابيض واتبسم واسوداد شعري وأبكاني )
( وحين أضحيت باصفرار لوني أشعث أغبر في هواه عاني ... قال لي لونك قد صبح حايل وقد أبصر مدمعي طوفان )
( ذقت تبريح الغرام ناديت في هواك ذقت الهوان ألوان ... ) دور
( قلت لو حين عني تخلف لله كن لي يا رشيد مهدي ... قد تلون دمعي من بعدك وتجري اليوم على خدي دار )
( إلى إنسان مقلتي قال لو أنت ما عندك نظر بعدي ... ما ترى ما قد جرى منك على الخدود قال يا فتان )
( جرى الماء تحت من بعدك راقب الله فيا يا إنسان ... ) دور
( ذا الغزال النافر الأنسي للغزالة قد أعار النور ... كسر قلبي كسير جفنو فاعجبوا للكاسر المكسور )
( وبخمر الدن قد عربد وادعى أني أنا المخمور ... وابتسم لي عن نقا ثغرو وخطر والبشر فيا بان )
) ( صحت يا قلبي صفا وردك أنت ما بين النقا والبان ... ) للصفي الحلي
( أنت يا قبلة الكرام زينة المال والبنين ... الله يعطيك فوق ذا المقام ويعيدك على السنين ) دور
( أنت شاما بين الآنام الله يحرس شمايلك ... ويزيدك بالدوام كي نعيش في فواضلك )
( ما ينطوي ذكر الكرام لما تنشر فضايلك ... ونهنيك لكل عام والخلائق تقول آمين )

( قد بقينا بك في آمان الله يحييك طول السنين ... ) دور
( ما رأينا تحت ذا الفلك من ندي كفك أعم ... كل من جاء ليسألك ليس تقول له سوى نعم )
( أملك أنت أو ملك ضاعف الله لك النعم ... أنت في الجود كالغمام وسماك فوق ماردين )
( در غيثك في انسجام عم كل السائلين ... ) دور
( لا عد منا كل صوم ذا السحور فيك والهنا ... كل ليلة وكل يوم ينشر الذكر والثنا )
( الله يحييك من خير قوم بالغ يقصد والمنى ... ) دور
( حتى تقضي ذا الصيام ويليه باقي السنين ... وتعيش يا ذا الهمام بين ولدان وعين ) غيره
( خال عبد الرحيم حبر من غير قاف ولام ... واسم ثغر معشوقي الفتان نون وعين وميم )
( شال السعد فوق راسو عين ولام وميم ... داللي قد هواه قلبي صاد وبا ويا )
( مليح ما رأيت مثله ظا وبا ويا ... ما أحلاه عند ما يلبس قاف وبا ويا )
( ذقت من صدود حبي غين وصاد وصاد ... لما رأيت صبري نون وقاف وصاد )
( النوم من جفون عيني خا ولام وصاد ... وأصبحت وجود فكري عين ودال وميم )

( قلت يوم لمن كان لي سين ونون ودال ... اعدل في الذي صبرو نون وفا ودال )
( ولا تهجر العشاق با وعين ودال ... ما افلح قط يا ناس من ظا ولام وميم )
جمل في الألغاز
( المطلع في العين )
( وما طير أكلو الحجر يا كرام ... وجوهر حبابه يفسد أهل الصلاح )
( ولمس الحرير يؤذيه وريش النعام ... يصول بين جناحين سود كبيض الصفاح ) دور في السراج
( وما بجر ما هو ما وفي الليل يزيد ... وينقص ولا هو خوض ولا هو غريق )
( وفيه شيء صفات حيه بلا وكر استفيد ... لها جوهره في فمها يا رفيق )
( بلا شك ينظره القريب والبعيد ... ويخفي ويظهر كل يوم عن حقيق )
( يغيب في النهار لكن إذا جا الظلام ... تشوفو يضيء بين الوجوه الصباح )
( ويسهر بحال عاشق حليف الغرام ... قتيل الهوى بين الربا والبطاح ) دور في جوزة الكنافة
( وما هي التي تركب على ستين ألف ... وما مثل ذاك فسر لنا يا خبير )
( مليحه وقصيفه وتلبس ترف ... وتحمل وتوضع كل يوم في السعير )
( لها عشرة أعوان حالهم مختلف ... يشيلو أودها الكبير والصغير )
( لها فحل يخدمها عليه السلام ... يحادي سراها في المجي والرواح )
( وأكثر تعبها في ليالي الصيام ... وذا اللغز قلته ومن غير مزاح ) دور في الغربال
( وما هو الذي يا سعد كله عيون ... ولا يعتلم ضوء الظلام والضيا )
( وهو بين خشب مصلوب لتلك الفتون ... وميت وهو يحيي أصول الحيا )

( إذا غاب عن أهله فرد يوم ما يهون ... ولا حد يعوض موضعه لو عيا )
( وكم من رقيص في صتعته باهتمام ... مكابد عجاجه في المسا والصباح )
( ونحتاج له الناس كل يوم في الدوام ... على شان فنونه دول فنون ملاح )
الفن الخامس في المواليا وله وزن واحد وأربع قوافي
فمن تلك الأربعة واحدة لصفي الدين الحلي
( يا طاعن الخيل والأبطال قد غارت ... والمخصب الربع والأمواه قد غارت )
( هواطل السحب من كفيك قد غارت ... والشهب مذ شاهدت أضواك قد غارت ) وقال أيضا
( سل مقلتيك الكحال عمن سلاسلها ... ومرشفيك من رشف منها سلاسلها )
( وعارضيك التي مدت سلاسلها ... كم من أسود ضواري في سلاسلها ) وقال آخر
( قد أوعدونا الغضابا أننا نخلو ... في ظل بستان حافف بالتمر نخلو )
( والطل من فوقنا قد بلنا نخلو ... ومن كلام الأعادي قط ما نخلو ) وقال آخر
( قسما وبالله مفرقها وجامعها ... ومن أمرنا بمسجدها وجامعها )
( لو حل مع بغيتي عايد وجامعها ... كأن أفتتن في محاسنها وجامعها ) ومن اثنين واثنين قال آخر
( قوم اسقني ما تبقى في أباريقو ... أما ترى الصبح قد لاحت أباريقو )
( مع شادن كلما دار شقاريقه ... سقى المداما وإن عزت سقى ريقو ) وقال
( البارحة رأيت بعيني في الدجاجيين ... اثنين مثل البدوره في الدجى جيين )
( ناديتهم فين كنتم يا خفا جيين ... قالوا لمن قد وعدنا في الخفا جيين )

وقال
( قد زدت هجرك فجد بالعفو عن صبك ... ارحم خضوعي وخف في قتلتي ربك )
( يكفيك بهجر تكدر قلب من حبك ... ما ظن في الناس أقسى قلب من قلبك ) غيره خمري عاطل
( كاس الطلا لطلاها طال لما سر ... وصار لما حوى حمرا مكلل در )
( مدام لو طعم كله حلو ما هو مر ... ما حل مملوك إلا صار مالك حر ) غيره حربي
( لك يا إمام الوغا في كل موقع حرب ... سماع يطرب له السامع وينفي الكرب )
( هذا ولك كلما دارت رحاة الحرب ... سيوف تفني وكفك لا يمل الضرب ) الصفي الحلي في المدح
( أغنت وأقنت كفوفك في الندى والحرب ... في القرب والبعد من شرقها والغرب )
( وفيض جودك وسيقك بالعطا والضرب ... ذا الكرب فرج وهذا قد رمى في الكرب ) وقال أيضا
( من قال جودة كفوفك والحيا مثلين ... أخطأ القياس وفي قوله جمع ضدين )
( ما جدت إلا وثغرك مبتسم يا زين ... وذاك ما جاد إلا وهو باكي العين ) وقال في التهنيئة
( رأيت ذا العيد أول يوم في عصرك ... رأيت ذا اليوم مع ذا الشهر في نصرك )
( وديت ذا الشهر مع ذا العام طوع أمرك ... والكل بالكل أول مبتدا عمرك )

المعاتبة
( عن تسليت وآسياف الجفا سليت ... ومذ توليت عن طرق الوفا وليت )
( لما تمليت بالأعمال لي مليت ... إذا تخليت تعرف قدر من خليت ) وقال أيضا
( يا قلب إن غدروا فاغدر وإن خانوا ... فخن وإن هم قسوا فاقسا وإن لانو )
( فلن وإن قربوا فاقرب وإن بانوا ... فبن وكن لي معاهم كيفما كانوا ) وقال آخر
( حلف عليا جكاره أن يقاطعني ... وصد عني وأقسم ما يطاوعني )
( كم ذا يصد وكم يرجع يصدعني ... إن كنت أنا هو المطلق لا يراجعني ) وقال آخر هجوا
( قطع قفا ابن أخت خالك وابن أخو عمك ... والحق يصفع أبو بنتك أو ابن أمك )
( وإن تكلمت تصفع بل يسيل دمك ... وإن كنت تسكت يبول الكلب في فمك ) وقال آخر
( إن ردت تسلم بطول الدهر ما تبرح ... لا تيأسن ولا تقنط ولا تمرح )
( واستعمل الصبر لا تحزن ولا تفرح ... وإن ضاق صدرك ففكر في ألم نشرح ) وقال آخر
( إن كنت عاقل وربك بالتقى برك ... إدفع أذاك وهات خيرك ودع شرك )
( وإن تعدى حسودك والحسد ضرك ... ناديه يا أيها الإنسان ما غرك ) وقال آخر
( يا قلب إن خانك المحبوب لا تدبر ... عنو وعن قصة السلوان لا تخبر )

( واستعمل الصبر دائم للعدا تقهر ... فان والله ما خاب الذي يصبر )
الفن السادس كان وكان
وله وزن واحد وقافية واحدة ولكن الشطر الأول من البيت أطول من الثاني فمنه هذه الوعظيات
( يا قاسي القلب مالك ... تستمع وما عندك خبر )
( ومن حرارة وعظي ... قد لانت الأحجار )
( أفنيت مالك وحالك ... في كل ما لا ينفعك )
( ليتك على ذي الحالة ... تقلع عن الأصرار )
( تحضر ولكن قلبك ... غايب وذهنك مشتغل )
( فكيف يا متخلف ... تحسب من الحضار )
( ويحك تنبه يا فتى ... وافهم مقالي واستمع )
( ففي المجالس محاسن ... تحجب عن الأبصار )
( يحصى دقائق فعلك ... وغمز لحظك يعلمه )
( وكيف تعزب عنه ... غوامض الأسرار )
( تلوت قولي ونصحي ... لمن تدبر واستمع )
( ما في النصحية فضيحة ... كلا ولا انكار ) وقال أيضا
( صرح بذكر المحبة ما في المعمى فائدهة ... وقل نعم أنا عاشق صادق بلا تمويه )
( ودع حديث العواذل ليس الخبر مثل النظر ... أنا عاشق لحبيب كل المعاني فيه )
( من أين للبدر حسن يحكيه أو شمس الضحى ... حاشا لذاك المحيا من مشيه يحكيه )
( إن غبت فهو أنيسي وإن حضرت نديمي ... وإن شربت مدامي فالكأس هو ساقيه )

( فمنه روحي وراحي إذا سكرت وراحتي ... وفيه عزي وذلي بمهجتي أفديه )
( قولوا لمن يلحاني في الحب قصر واعتبر ... هذا الذي قد عشقته قد حار وصفي فيه ) الصفي الحلي
( شاهدت في الليل طيري ... وقمت حتى أنصب شرك )
( ما كل صيد يحصل ... يفرح الصياد )
( طيري الذي كان إلفي ... لو ردت مثله ما حصل )
( وهو علي معود ... وأنا عليه معتاد )
( قد كان شرطي وخلقي ... لبرج غيري ما عرف )
( كأننا في الصحبة ... جينا على ميعاد )
( من قبل ما أبصبص له ... يجي ويدخل قصوري )
( أنا أرصده في مطاره ... خائف عليه ينصاد ) وقال آخر
( ما ذقت عمري جرعة ... أمر من طعم الهوى )
( الله يصبر قلبي ... على الذي يهواه )
( الناس تعلم مني ... حال الجلادة والقوى )
( وما أطيق التجلد ... على أليم جفاه )
( لي حب مثل الخوخة ... لو لون وطعم وريحة )
( ما أكثر مغابن حبيبي ... وما أقل وفاه )
( أنا عرفتو حظي ... وكل ما أحسن لويسي )
( لو كنت أعشق ظلي ... ما كنت قط أراه ) وله في الفراقيات
( يا سادة هجروني ... وهم نزول بخاطري )
( لا أوحش الله منكم ... في سائر الأوقات )

( أوحشتم العين مني ... وأنسكم في خاطري )
( والقلب في النور منكم ... والعين في ظلمات )
( قد انتهى الصبر مني ... وما بقي فيا رمق )
( هيهات إني أحيا ... من بعدكم هيهات )
( لم يبق غير خيالي ... يلوح كالشبح الخفي )
( أعد بين الأحياء ... وأنا مع الأموات )
( ودعتموني وسرتم ... والقلب يتبع ركبكم )
( إيش ضر لو كان جسمي ... من جملة التبعات )
( ما مر ما ريت ضدي ... يقول لي من فرحته )
( هنا تشق المراير ... وتسكب العبرات )
( لو لم أسلي روحي ... وارض نفسي بالمنى )
( لكان قلبي تقطع ... من بعدكم حسرات )
( وقفت لما رحلتم ... حيران بين أظعانكم )
( أخفض جناح المذلة ... وأرفع الأصوات )
( طول الليل أساهر ... كني أريد الكيميا )
( أقطر الدموع مني ... وأصد الزفرات )
( ما أطول ليالي جفاكم ... ساعتها مثل السنة )
( وما أقصر أيام وصلي ... كأنها ساعات )
( مالي أرى حسناتي ... بالسيئات تبدلت )
( وسيآت الأعادي ... اتبدلت حسنات )
( خالفتموني وعمري ... ما زلت أتبع أمركم )
( كذا العبيد تتابع ... أوامر السادات )
( أسكت وأصبر عنكمو ... ويفعل الله ما يشا )
( والدهر من عاداته ... يقلب الحالات )

الفن السابع في فن القوما
قيل أول من اخترعه ابن نقطة برسم الخليفة الناصر والصحيح أنه مخترع من قبله وكان الناصر يطرب له وكان لابن نقطة ولد صغير ماهر في نظم القوما فلما مات أبوه أراد أن يعرف الخليفة بموت أبيه ليجريه على مفروضه فتعذر عليه ذلك فصبر إلى دخول شهر رمضان ثم أخذ أتباع والده من المسحرين ووقف أول ليلة من الشهر تحت الطيارة وغنى القوما بصوت رقيق فأصغى الخليفة إليه وطرب له فكان أول ما قاله قوله
( يا سيد السادات ... لك بالكرم عادات )
( وأنا بني ابن نقطة ... تعيش أبويا مات ) فأعجب الخليفة منه هذا الإختصار فاستحضره وخلع عليه وفرض له ضعفي ما كان لأبيه
ومنها للصفي الحلي
( من كان يهوى البدور ... ووصل بيض الخدور )
( بالبيض والصفر يسخو ... وقد جلس في الصدر )
( من حب بيض الخدور ... ورام لزوم الصدور )
( يسمح وإلا فبقي ... من بينهم مهدور )
( كم بين سجف الخدور ... من عاشق مصدور )
( يرعى الكواكب تعلو ... يرى جمال البدور )
( بين الحلل والخدور ... وجوه مثل البدور )
( أشراقها في المعاجز ... وغربها في الصدور )
( قد كنت فوق الصدور ... بين الظبا والبدور )
( فصرت أحسد من أبصر ... خيامهم والخدور )
( نوائب المقدور ... مثل الكواكب تدور )
( من بعد طيب الخواطر ... يقضي بضيق الصدور )

( غيري يلازم الصدور ... أنا عليكم أدور )
( واصطلي الصد وأنا ... من بينهم مهدور ) وقال أيضا
( حال الهوى مخبور ... يريد جلد صبور )
( يصون سره وإلا ... يبقى من أهل القبور )
( من كان هواه مستور ... يحظى برفع الستور )
( ومن هتك سر حبو ... يمحى من الدستور )
( أبذل لبيض النحور ... أموال مثل البحور )
( إن أردت تملك وتظفر ... ولدانهم والحور )
( قم فابذل المدخور ... وفي العطا لا تجور )
( تريد هذي المحبة ... قلوب مثل الصخور )
( كم حول تلك الخدور ... من عاشق مذعور )
( مثل الدواليب تجري ... دموعها وتدور )
( من يركب المحذور ... هو في الهوى معذور )
( يظفر بحبه ويبلغ ... قصده ويوفي النذور )
( كن بالهوى مسرور ... ولا تبيت مغرور )
( واجعل تراب أعتابهم ... لاجفان عينك درور )
( طرق المحبة وعور ... كم بينها معذور )
( من فتك بيض السوالف ... على سواد الشعور )
( كم عاشق مذعور ... في حب بيض الثغور )
( يغار قلبه ولكن ... مدامعه ما تغور )
( كم بينهم يعفور ... كالظبي أنس نفور )
( من أهل بدر فديته ... إيش ما عمل مغفور ) ومن ذلك ما نظمه بعضهم ليسحر بعض الخلفاء في رمضان
( لا زال سعدك جديد ... دائم وجدك سعيد )

( ولا برحت مهتى ... بكل صوم وعيد )
( في الدهر أنت الفريد ... وفي صفاتك وحيد )
( والخلق شعر منقح ... وأنت بيت القصيد )
( يا من جنابه شديد ... ولطف رأيه سديد )
( ومن يلاقي الشدائد ... بقلب مثل الحديد )
( لا زلت في تأييد ... في الصوم والتعييد )
( ولا برحت مهنى ... بكل عام جديد )
( نحن لذكرك نشيد ... بقولنا والنشيد )
( ونبعث أوصاف مدحك ... على خيول البريد )
( ظلك علينا مديد ... ما فوق جودك مزيد )
( وكم غمرت بفضلك ... قريبنا والبعيد )
( لا زلت في كل عيد ... تحظى بجد سعيد )
( عمرك طويل وقدرك ... وافر وظلك مديد )
( لا زال قدرك مجيد ... وظل جودك مديد )
( ولا برحت موقى ... كما يوقى الوليد )
( ما زال برك يزيد ... على أقل العبيد )
( وما برح جود كفك ... منا كحبل الوريد )
( لا زال برك مزيد ... دائم وبأسك شديد )
( ولا عدمنا نوالك ... في صوم فطر وعيد ) ومما قيل في فن الحماق
( أنا ما عبوري الحمام ... لجسمي لكي ينظف )
( إلا لدمع جاري ... على الما ولا يوقف )
( وديك المجاري تجري ... ودمعي يسابقها )
( تقول الأنام في الحمام ... له أحباب فارقها )

وقال آخر
( ترى كل من نعشقو ... علينا يقيم أنفه )
( فاسلاه واترك هواه ... وسد الطريق خلفه )
( وإن زاد على عشقوا ... وزاد بي الهوى والذل )
( تركتو ولو كان يحيي ... لأهل القبور الكل ) وقد انتهى الكلام فيما أشرت إليه من الفنون السبعة وذكرت منها ما تبتهج به وتقربه العيون واختصرت ذلك إلى الغاية فجاء بتوفيق الله في الحسن نهاية وأسأل الله التوفيق بمنه وكرمه والمزيد من بره ونعمه وحسبنا الله ونعم الوكيل وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

الباب الثالث والسبعون في ذكر النساء وصفاتهن ونكاحهن وطلاقهن وما يحمد ويذم من عشرتهن وفيه فصول
الفصل الأول في النكاح وفضله والترغيب فيه
قال الله تعالى ( فانكحوا ما طاب لكمن من النساء مثنى وثلاث ورباع ) الآية وقال تعالى ( وانكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم ) وقال تعالى ( ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم ) الآية وقال رسول الله " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء " وقال رسول الله " استوصوا بالنساء خيرا فإنهن عورا عندكم " وقال رسول الله " تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة " وقال " سوداء ولود خير من حسناء عقيم " وقال رسول الله " أحسن النساء بركة أحسنهن وجها وأرخصهن مهرا فينبغي للرجل إذا أراد أن يتزوج أن يرغب في ذات الدين وأن يختار الشرف والحسب "

حكي أن نوح بن مريم قاضي مرو أراد أن يزوج ابنته فاستشار جار له مجوسيا فقال سبحان الله يستفتونك وأنت تستفتيني قال لا بد أن تشير علي قال إن رئيسنا كسرى كان يختار المال ورئيس الروم قيصر كان يختار الحسب والنسب ورئيسكم محمد كان يختار الدين فانظر أنت بأيهم تقتدي وقال رجل للحسن إن لي ابنة فمن ترى أن أزوجها له قال زوجها ممن يتقي الله عز و جل فإن أحبها أكرمها وإن أبغضها لم يظلم ها وقيل لرجل من الحكماء فلان يخطب فلانة أموسر من عقل ودين فقالوا نعم قال فزوجوه إياها ويستحب أن يختار البكر لقوله " عليكم بالأبكار فإنهن أطيب فواها وأنتق أرحاما " وقالوا أشهى المطي ما لم يركب وأحب اللآلئ ما لم يثقب وأنشد بعضهم
( قالوا نكحت صغيرة فأجبتهم ... أشهى المطي إلى ما لم يركب )
( كم بين حبة لؤلؤ مثقوبة ... نظمت وحبة لؤلؤ لم تثقب ) فأجابته إمرأة
( إن المطية لا يلذ ركوبها ... حتى تذلل بالزمام وتركبا )
( والدر ليس بنافع أربابه ... حتى يؤلف بالنظام ويثقبا ) قال خالد بن صفوان
( عليك إذا ما كنت في الناس ناكحا ... بذات الثنايا الغر والأعين النجل ) وقيل استشار رجل داود عليه السلام في التزويج فقال له سل سليمان وأخبرني بجوابه فصادفه ابن سبع سنين وهو يلعب مع الصبيان وراكبا قصبة فسأله فقال عليك بالذهب الأحمر أو الفضة البيضاء واحذر الفرس لا يضربك فلم يفهم الرجل ذلك فقال له داود عليه الصلاة و السلام الذهب الأحمر البكر والفضة البيضاء الثيب

الشابة ومن وراءهما كالفرس الجموح وقال رسول الله " تخيروا لنطفكم " وقال أنظر في أي شيء تضع ولدك فإن العرق دساس وقال عليه الصلاة و السلام " إياكم إياكم وخضراء الدمن قالوا وما خضراء الدمن يا رسول الله قال المرأة الحسناء في المنبت السوء " وأنشدوا فيه
( إذا تزوجت فكن حاذقا ... وأسأل عن الغصن وعن منبته ) وقال بعضهم
( وأول خبث الماء خبث ترابه ... وأول خبث القوم خبث المناكح ) وعن علي رضي الله تعالى عنه عن النبي قال " لا تسترضعوا الحمقاء ولا العمشاء فإن اللبن يعدي ) وقيل إن جعفر بن سليمان بن علي عاب يوما على أولاده وأنهم ليسوا كما يحب فقال له ولده أحمد بن جعفر إنك عمدت إلى فاسقات مكة والمدينة وإماء الحجاز فأوعيت فيهن نطفك ثم تريد أن ينجبن وإنما نحن كصاحبات الحجاز هلا فعلت في ولدك ما فعل أبوك فيك حين اختار لك عقيلة قومها فزوجها منك وأنشدوا
( صفات من يستحب الشرع خطبتها ... جلوتها الأولى الألباب مختصرا )
( صبية ذات دين زانه أدب ... بكر ولود حكت في نفسها القمرا )
( غريبة لم تكن من أهل خاطبها ... تلك الصفات التي أجلوا لمن نظرا )
( فيها أحاديث جاءت وهي ثابتة ... أحاط علما بها من في العلوم قرا ) وقال آخر
( مطيات السرور فويق عشر ... إلى العشرين ثم قف المطايا )
( فإن جزت المسير فسر قليلا ... وبنت الأربعين من الرزايا ) وقال آخر
( فإياك إياك العجوز ووطأها ... فما هو إلا مثل سم الأراقم )

أن العيش كله مقصور على الحليلة الصالحة والبلاء كله موكل بالقرينة السوء التي لا تسكن النفس إلى عشرتها ولا تقر العيون برؤيتها وفي حكمة سليمان بن داود عليهما السلام المرأة العاقلة تعمر بيت زوجها والمرأة السفيهة تهدمه
وروي أنه لما حضر أبو طالب نكاح رسول الله على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها ومعه بنو هاشم ورؤساء مضر خطب فقال الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل وعنصر مضر وجعلنا حضنة بيته وسواس حرمه وجعل لنا بيتا محجوجا وحرما آمنا وجعلنا الحكام على الناس ثم إن محمد بن عبد الله ابن أخي من لا يوزن به رجل من قريش إلا رجح به برا وفضلا وكرما ومجدا ونبلا فإن كان في المال قل فالمال ظل زائل ورزق حائل وقد خطب خديجة بنت خويلد وبذل لها من الصداق ما عاجله وآجله من مالي كذا وكذا وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل
ولما خطب عمرو بن حجر الكندي إلى عوف بن محلم الشيباني ابنته أم إياس وأجابه إلى ذلك أقبلت عليها أمها ليلة دخولها بها توصيها فكان مما أوصتها به أن قالت أي بنية إنك مفارقة بيتك الذي منه خرجت وعشك الذي منه درجت إلى رجل لم تعرفيه وقرين لم تألفيه فكوني له أمة ليكون لك عبدا واحفظي له خصالا عشرا يكن لك ذخرا فأما الأولى والثانية فالرضا بالقناعة وحسن السمع له والطاعة وأما الثالثة والرابعة فالتفقد لمواقع عينيه وأنفه فلا تقع عينه منك على قبيح ولا يشم أنفه منك إلا أطيب الريح وأما الخامسة والسادسة فالتفقد لوقت طعامه ومنامه فإن شدة الجوع ملهبة وتنغيص النوم مغضبة وأما السابعة والثامنة فالاحراز لماله والارعاء على حشمه وعياله وأما التاسعة والعاشرة فلا تعصي له أمرا ولا تفشي له سرا فإنك إن خالفت أمره أو غرت صدره وإن أفشيت سره لم تأمني غدره وإياك والفرح بين يديه إذا كان مهتما والكآبة لديه إذا كان فرحا فقبلت وصية أمها فأنجبت وولدت له الحرث بن عمرو جد أمرئ القيس الملك الشاعر

الهيثم بن عدي الطائي عن الشعبي قال لقيني شريح فقال لي يا شعبي عليك بنساء بني تميم فإني رأيت لهن عقولا فقلت وما رأيت من عقولهن قال أقبلت من جنازة ظهرا فمررت بدورهن وإذا أنا بعجوز على باب دار وإلى جانبها جارية كأحسن ما رأيت من الجواري فعدلت إليها واستسقيت وما بي عطش فقالت لي أي الشراب أحب إليك قلت ما تيسر قالت ويحك يا جارية ائتيه بلبن فإني أظن الرجل غريبا فقلت للعجوز ومن تكون هذه الجارية منك قالت هي زينب بنت جرير إحدى نساء بني حنظلة قلت هي فارغة أم مشغولة قالت بل فارغة قلت أتزوجينيها قالت إن كنت كفأ ( ولم تقل كفوا ) وهي لغة بني تميم فتركتها ومضيت إلى منزلي لأقيل فيه فامتنعت مني القائلة فلما صليت الظهر أخذت بيد إخواني من العرب الأشراف علقمة والأسود والمسيب ومضيت أريد عمها فاستقبلنا وقال ما شأنك أبا أمية قلت زينب ابنة أخيك قال ما بها عنك رغبة فزوجنيها فلما صارت في حبالي ندمت وقلت أي شيء صنعت بنساء بني تميم وذكرت غلظ قلوبهن فقلت أطلقها ثم قلت لا ولكن أدخل بها فإن رأيت ما أحب وإلا كان ذلك فلو شهدتني يا شعبي وقد أقبلت نساؤها بهدينها حتى أدخلت علي فقلت إن من السنة إذا دخلت المرأة على زوجها أن يقوم ويصلي ركعتين ويسأل الله تعالى من خيرها ويتعوذ من شرها فتوضأت فإذا هي تتوضأ بوضوئي وصليت فإذا هي تصلي بصلاتي فلما قضيت صلاتي أتتني جواريها فأخذن ثيابي وألبسني ملحفة قد صبغت بالزعفران فلما خلا البيت دنوت منها فمددت يدي إلى ناصيتها فقالت على رسلك أبا أمية ثم قالت الحمد لله أحمده وأستعينه وأصلي على محمد وآله أما بعد فإني امرأة غريبة لا علم لي بأخلاقك فبين لي ما تحب فآتيه وما تكره فأجتنبه فإنه قد كان لك منكح في قومك ولي في قومي مثل ذلك ولكن إذا قضى الله أمرا كان مفعولا وقد ملكت فاصنع ما أمرك الله تعالى به إما إمساك بمعروف أو تسريح باحسان أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولك ولجميع المسلمين قال فأحوجتني

والله يا شعبي إلى الخطبة في ذلك الموضع فقلت الحمد لله أحمده وأستعينه وأصلي على محمد وآله أما بعد فإنك قلت كلاما إن ثبت عليه يكن ذلك حظا لي وإن تدعيه يكن حجة عليك أحب كذا وأكره كذا وما رأيت من حسنة فابثثيها وما رأيت من سيئة فاستريها فقالت كيف محبتك لزيارة الأهل ؟ قلت ما أحب أن يملني أصهاري قالت فمن تحب من جيرانك يدخل دارك آذن له ومن تكرهه أكرهه قلت بنو فلان قوم صالحون وبنو فلان قوم سوء قال فبت معها يا شعبي بأنعم ليلة ومكثت معي حولا لا أرى منها إلا ما أحب فلما كان رأس الحول جئت من مجلس القضاء وإذا أنا بعجوز في الدار تأمر وتنهي قلت من هذه ؟ قالوا فلانة أم حليلتك قلت مرحبا وأهلا وسهلا فلما جلست أقبلت العجوز فقالت السلام عليك يا أبا أمية فقلت وعليك السلام ومرحبا بك وأهلا قالت كيف رأيت زوجتك قلت خير زوجة وأوفق قرينة لقد أدبت فأحسنت الأدب وريضت فأحسنت الرياضة فجزاكي الله خيرا فقالت أبا أمية إن المرأة لا يرى أسوأ حالا منها في حالتين قلت وما هما ؟ قالت إذا ولدت غلاما أو حظيت عند زوجها فإن رابك مريب فعليك بالسوط فوالله ما حاز الرجال في بيوتهم أشر من الروعاء المدللة فقلت والله لقد أدبت فأحسنت الأدب وريضت فأحسنت الرياضة قالت كيف تحب أن يزورك أصهارك ؟ قلت ما شاءوا فكانت تأتيني في رأس كل حول فتوصيني بتلك الوصية فمكثت معي يا شعبي عشرين سنة لم أعب عليها شيئا وكان لي جار من كندة يفزع امرأته ويضربها فقلت في ذلك
( رأيت رجالا يضربون نساءهم ... فشلت يميني يوم تضرب زينب )
( أأضربها من غير ذنب أتت به ... فما العدل مني ضرب من ليس يذنب )
( فزينب شمس والنساء كواكب ... إذا طلعت لم يبد منهن كوكب )
وخطب الحجاج بن يوسف إلى عبد الله بن جعفر ابنته أم كلثوم على ألفي ألف في السر وخمسمائة ألف في العلانية فأجابه إلى ذلك وحملها إلى العراق فأقامت عنده ثمانية أشهر فلما خرج عبد الله بن

إلى عبد الملك بن مروان وافدا نزل بدمشق فأتاه الوليد بن عبد الملك على بغلة ومعه الناس فاستقبله ابن جعفر بالترحيب فقال له الوليد لكنك أنت لا مرحبا بك ولا أهلا قال مهلا يا ابن أخي فلست أهلا لهذه المقالة منك قال بلى والله وبشر منها قال وفيم ذلك ؟ قال لأنك عمدت إلى عقيلة نساء العرب وسيدة نساء بني عبد مناف فعرضتها عبد ثقيف يتفخذها بتفخذ قال وفي هذا عتبت علي يا ابن أخي ؟ قال نعم فقال عبد الله والله ما أحق الناس أن لا يلومني في هذا إلا أنت وأبوك لأن من كان قبلكم من الولاة كانوا يصلون رحمي ويعرفون حقي وإنك وأباك منعتماني رفدكما حتى ركبني الدين أما والله لو أن عبدا حبشيا مجدعا أعطاني بها ما أعطاني عبد ثقيف لزوجتها منه إنما فديت بها رقبتي فما راجعه كلمة حتى عطف عنانه ومضى حتى دخل على عبد الملك فقال ما لك يا أبا عباس ؟ قال إنك سلطت عبد ثقيف وملكته حتى تفخذ نساء بني عبد مناف فأدركت عبد الملك غيرة فكتب إلى الحجاج يقسم عليه أن لا يضع كتابه من يده حتى يطلقها ففعل قال ولم يكن يقطع الحجاج عنها رزقا ولا كرامة يجريها عليها حتى خرجت من الدنيا وما زال واصلا لعبد الله بن جعفر حتى مات وما كان يأتي عليه حول إلا وعنده عير مقبلة من عند الحجاج عليها أموال وكسوة وتحف
وحكي أن المغيرة بن شعبة لما ولي الكوفة سار إلى دير هند بنت النعمان وهي فيه عمياء مترهبة فاستأذن عليها فقالت من أنت ؟ قال المغيرة ين شعبة الثقفي قالت ما حاجتك ؟ قال جئت خاطبا قالت إنك لم تكن جئتني لجمال ولا مال ولكنك أردت أن تتشرف في محافل العرب فتقول تزوجت بنت النعمان بن المنذر وإلا فأي خير في اجتماع عمياء وأعور وكان عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قد تزود عاتكة بنت عمرو بن نفيل وكانت من أجمل نساء قريش وكان عبد الرحمن من أحسن الناس وجها وأبرهم بوالديه فلما دخل بها غلبت على عقله وأحبها حبا شديدا فثقل ذلك على أبيه فمر به أبو بكر يوما وهو في غرفة له فقال يا بني إني أرى هذه

قد أذهلت رأيك وغلبت على عقلك فطلقها قال لست أقدر على ذلك فقال أقسمت عليك إلا طلقتها فلم يقدر على مخالفة أبيه فطلقها فجزع عليها جزعا شديدا وامتنع من الطعام والشراب فقيل لأبي بكر أهلكت عبد الرحمن فمر به يوما وعبد الرحمن لا يراه وهو مضطجع في الشمس ويقول هذه الأبيات
( فوالله لا أنساك ما ذر شارق ... وما ناح قمري الحمام المطوق )
( فلم أر مثلي طلق اليوم مثلها
ولا مثلها في غير شيء يطلق )
( لها خلق عف ودين ومحتد ... وخلق سوي في الحياء ومنطق ) فسمعه أبوه فرق له وقال له راجعها يا بني فراجعها وأقامت عنده حتى قتل عنها يوم الطائف مع رسول الله أصابه سهم فقتله فجزعت عليه جزعا شديدا وقالت ترثيه
( فآ ليت لا تنفك نفسي حزينة ... عليك ولا ينفك جلدي أغبرا )
( فتى طول عمري ما أرى مثله فتى ... أكر وأحمى في الهياج وأصبرا )
( إذا شرعت فيه الأسنة خاضها ... إلى القرن حتى يترك الرمح أحمرا ) ثم تزوجها بعده عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته ودعا الناس إلى وليمته فأتوه فلما فرغ من الطعام وخرج الناس قال له علي بن أبي طالب رضي الله عنه يا أمير المؤمنين ائذن لي في كلام عاتكة حتى أهنيها وأدعو لها بالبركة فذكر عمر ذلك لعاتكة فقالت إن أبا الحسن فيه مزاح فائذن له يا أمير المؤمنين فأذن له فرفع جانب الخدر فنظر اليها فإذا ما بدا من جسدها مضمخ بالخلوق فقال لها يا عاتكة ألست القائلة
( فآ ليت لا تنفك نفسي حزينة ... عليك ولا ينفك جلدي أغبرا )

وقيل إن عمر لما قتل عنها جزعت عليه جزعا شديدا وتزوجت بعده الزبير بن العوام وكان رجلا غيورا وكانت تخرج إلى المسجد كعادتها مع أزواجها فشق ذلك عليه وكان يكره أن ينهاها عن الخروج إلى الصلاة لحديث رسول الله ( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ) فعرض لها ليلة في ظهر المسجد وهي لا تعرفه فضرب بيده عجيزتها ثم انصرف فقعدت بعد ذلك عن الخروج إلى المسجد وكان يقول لها ألا تخرجين يا عاتكة ؟ فتقول كنا نخرج إذا الناس ناس وما بهم من باس وأما الآن فلا ثم قتل عنها الزبير قتله عمرو بن جرموز بوادي السباع وهو نائم ثم تزوجها بعده محمد بن أبي بكر فقتل عنها بمصر فقالت لا أتزوج بعده أبدا إني لأحسبني أني لو تزوجت جميع أهل الأرض لقتلوا عن آخرهم
وحكي عن الحرث بن عوف بن أبي حارثة أنه قال لخارجة بن سنان أترى أخطب إلى أحد فبردني قال نعم قال ومن هو ؟ قال أوس بن حارثة بن لام الطائي قال اركب بنا إليه فركبنا إليه حتى أتينا أوس بن حارثة في بلاده فوجدناه في فناء منزلة فلما رأى الحرث ابن عوف قال مرحبا بك يا حارث ثم قال ما جاء بك ؟ قال جئت خاطبا قالت لست هناك فانصرف ولم يكلمه فدخول أوس على امرأته مغضبا فقالت له من الرجل الذي سلم عليك فلم تطل معه الوقوف ولم تكلمه ؟ فقال ذلك سيد العرب الحارث بن عوف فقالت فما لك لا تستنزله ؟ قال إنه استهجنني قالت وكيف ؟ قال لأنه جاءني خاطبا فالت ألست تزعم أنه سيد العرب قال نعم قالت إذا لم تزوج سيد العرب في زمانه فمن تزوج ؟ قال قد كان ذلك قالت فتدارك ما كان منك قال فبماذا ؟ قالت بأن تلحفه فترده قال وكيف وقد فرط مني إليه ما فرط قالت تقول له إنك لقيتني وأنا مغضب لأمر فلك المعذرة فيما فرط مني فارجع ولك عندي كل ما طلبت قال فركب في أثرهما قال خارجة ابن سنان فوالله إنا لنسير إذ حانت مني التفاتة فرأيته فقلت للحرث وهو ما يكلمني هذا أوس في أثرنا فقال ما أصنع به فلما رآنا

لا نقف قال يا حاراث اربع علي فوقفنا له وكلمه بذلك الكلام فرجع مسرورا قال خارجة بن سنان فبلغني أن أوسا لما دخل منزله قال لزوجته ادعيى لي فلانة أكبر بناته فأتته فقال لها أي بنية هذا الحرث بن عوف سيد من سادات العرب جاءني خاطبا وقد أردت أن أزوجك منه فما تقولين ؟ قالت لا تفعل قال ولم ؟ قالت لأن في خلقي رداءة وفي لساني حدة ولست بابنة عمه فيراعي رحمي ولا هو بجارك في البلد فيستحي منك ولا آمن أن يرى مني ما يكره فيطلقني فيكون علي بذلك مسبة قال لها قومي بارك الله فيك ثم دعا ابنته الأخرى فقال لها مثل قوله لأختها فأجابته بمثل جوابها فقال لها قومي بارك الله فيك ثم دعا بالثالثة وكانت أصغرهن سنا فقال لها مثل ما قال لأختيها فقالت له أنت وذاك فقال لها إني عرضت ذلك على أختيك فأبتاه ولم يذكر لها مقالتهما فقالت والله أني الجميلة وجها الرفيعةخلقا الحسنة رأيا فإن طلقني فلا أخلف الله عليه فقال لها بارك الله فيك ثم خرج إليه فقال زوجتك يا حارث بابنتي هئيسة قال قد قبلت نكاحها وأمر أمها أن تهيئها له وتصلح شأنها ثم أمر ببيت فضرب له وأنزله إياه ثم بعثها إليه فلما دخلت عليه لبث هنيهة ثم خرج إلي فقلت له أفرغت من شأنك ؟ قال لا والله قلت له وكيف ذلك ؟ قال لما مددت يدي إليها قالت مه أعند أبي وأخوتي هذا والله لا يكون ثم أمر بالرحلة فارتحلنا بها معا وسرنا ما شاء الله قال لي تقدم فتقدمت فعدل عن الطريق فما لبث أن لحقني فقلت أفرغت من شأنك ؟ قال لا والله قلت ولم ؟ قال قالت تفعل بي كما يفعل بألأمة السبية الأخيذة لا والله حتى تنحر الجزر والغنم وتدعو العرب وتعمل ما يعمل مثلك لمثلي فقلت والله إني لأرى همة وعقلا فقال صدقت قال أرجو الله أن تكون المرأة النجيبة فوردنا إلى بلادنا فأحضر الإبل والغنم ونحر وأولم ثم دخل عليها وخرج إلي فقلت أفرغت من شأنك ؟ قال لا والله قلت ولم ذلك ؟ قال دخلت عليها أريدها فقلت لها أحضرت من المال ما تريدين قالت والله لقد ذكرت من الشرف

ليس فيك قلت ولم ذاك ؟ قالت أتستفرغ لنكاح النساء والعرب يقتل بعضها بعضا وكان ذلك في أيام حرب قيس وذبيان قلت فماذا تقولين ؟ قالت أخرج إلى القوم فاصلح بينهم ثم ارجع إلى أهلك فلن يفوتك ما تريد فقلت والله إني لأرى عقلا ورأيا سديدا قال فاخرج بنا فخرجنا حتى أتينا القوم فمشينا بينهم بالصلح فاصطلحوا على أن يحسبوا القتلى ثم تؤخذ الدية فحملنا عنهما الديات فكانت ثلاثة الآف بعير فانصرفنا بأجمل ذكر ثم دخل عليها فقالت له أما الآن فنعم فأقامت عنده في ألذ عيش وأطيبه وولدت له بنين وبنات وكان من أمرهما ما كان والله أعلم بالصواب
وحكى الفضل أبو محمد الطيبي قال حدثنا بعض أصحابنا أن رجلا من بني سعد مرت به جاريه لأمية بن خالد بن عبد الله بن أسد ذات ظرف وجمال وكان شجاعا فارسا فلما رآها قال طوبى لمن كان له امرأة مثلك ثم اتبعها رسولا يسألها ألها زود ويذكره لها وكان جميلا فقالت للرسول وما حرفته فأبلغه الرسول ذلك فقال ارجع إليها وقل لها
( وسائلة ما حرفتي قلت حرفتي ... مقارعة الأبطال في كل شارق )
( إذا عرضت خيل لخيل رأيتني ... أمام رعيل الخيل أحمي حقائقي )
( أصبر نفسي حين لم أر صابرا ... على ألم البيض الرقاق البوارق ) فلحقها الرسول فأنشدها ما قال فقالت له ارجع إليه وقل له أنت أسد فاطلب لك لبوة فلست من نسائك وأنشدته تقول
( ألا إنما أبغي جوادا بماله ... كريما محياه كثير الصدائق )
( فتى همه مذ كان خود خريدة ... يعانقها في الليل فوق النمارق )
وحدث يحيى بن عبد العزيز عن محمد بن عبد الحكم عن الإمام

الشافعي رضي الله عنه قال تزوج رجل امرأة جديدة على امرأة قديمة فكانت الجارية الجديدة تمر على بيت القديمة فتقول
( وما يستوي الرجلان رجل صحيحة ... وأخرى رمى فيها الزمان فشلت ) ثم تعود وتقول
( وما يستوي الثوبان ثوب به البلى ... وثوب بأيدي البائعين جديد ) فمرت الجارية القديمة على باب الجديدة يوما وقالت
( نقل فؤادك ما استطعت من الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الأول )
( كم منزل في الأرض يألفه الفتى ... وحنينه أبدا لأول منزل ) وقال عمرو بن العلاء وكان أعلم الناس بالنساء
( فإن تسألوني بالنساء فإنني ... بصير بادواء النساء طبيب )
( إذا شاب رأس المرء أو قل ماله ... فليس له في ودهن نصيب ) وسئل المغيرة بن شعبة عن صفة النساء فقال بنات العم أحسن مؤاساة والغرائب أنجب وما ضرب رؤوس الأقران مثل ابن السوداء وقال عبد الملك بن مروان من أراد أن يتخذ جارية للمتعة فليتخذها بربرية ومن أراد أن يتخذها للولد فليتخذها فارسية ومن أراد أن يتخذها للخدمة فليتخذها رومية قال الشاعر
( لا تشتمن امرأ ممن يكون له ... أم من الروم أو سوداء عجماء )
( فإنما أمهات القوم أرعية ... مستودعات وللأنساب آباء ) وقال الأصمعي أتاني رجل من قريش يستشيرني في امرأة يتزوجها فقلت يا ابن أخي أقصيرة النسب أم طويلته فلم يفهم علي فقلت يا ابن أخي أما القصيرة النسب فالتي إذا ذكرت أياما اكتفت به والطويلة النسب فهي التي لا تعرف حتى تطيل في نسبها فإياك أن تقع مع قوم قد أصابوا كثيرا من الدنيا مع دناءة فيهم فتضيع نسبك فيهم وخرج رجل من أهل الكوفة في غزاة فكسب جارية وفرسا وكان مملكا على ابنة عمه فكتب إليها يعيرها ويقول

( إلا بلغوا أم البنين بأننا ... غنينا واغنتنا الغطارفة النجد )
( بعيد مناط المنكبي إذا جرى ... وبيضاء كالتمثال زينها العقد )
( فهذا لأيام العدو وهذه ... لحاجة نفسي حين ينصرف الجند ) فلما ورد عليها كتابه وقرأته قالت يا غلام هات الدواة وكتبت جوابه تقول
( ألا فاقرء مني السلام وقل له ... غنينا وأغنتنا الغطارفة المرد )
( إذا شئت أغناني غلام مرجل ... ونازعته في ماء معتصر الورد )
( وإن شاء منهم ناشئ مد كفه ... إلى عكن ملساء أو كفل نهدي )
( فما كنتم تقضون حاجة أهلكم ... شهودا فتقضوها على النأى والبعد )
( فعجل إلينا بالسراح فإنه ... منانا ولا ندعو لك الله بالرد )
( فلا قفل الجنج الذي أنت فيهم ... وزادك رب الناس بعدا على بعد ) فلما ورد عليه كتابها لم يزد على أن ركب الفرس وأردف الجارية خلفه ولحق بابنة عمه فكان أول شيء بدأها به بعد السلام أن قال لها بالله عليك هل كنت فاعلة ذلك فقالت له الله في قلبي أعظم وأجل وأنت في عيني أذل وأحقر من أن أعصي الله فيك فكيف ذقت طعم الغيرة فوهب لها الجارية وانصرف إلى الغزاة والله تعالى أعلم بالصواب
الفصل الثاني في صفات النساء المحمودة
كتب الحجاج إلى الحكم بن أيوب أن أخطب لعبد الملك بن مراون امرأة جميلة من بعيد مليحة من قريب شريفة في قومها ذليلة في

مؤاتية لبعلها فكتب إليه قد أصبتها لولا عظم ثديها فكتب إليه لا يكمل حسن المرأة حتى يعظم ثديها فتدفي الضجيع وتروي الرضيع وقال عبد الملك بن مروان لرجل من غطفان صف لي أحسن النساء قال خذها يا أمير المؤمنين ملساء القدمين ردماء الكعبين ناعمة الساقين ضخماء الركبتين لفاء الفخذين ضخمة الذراعين رخصة الكفين ناهدة الثديين حمراء الخدين كحلاء العينين زجاء الحاجبين لمياء الشفتين بلجاء الجبين شماء العرنين شنباء الثغر محلولكة الشعر غيداء العنق مكسرة البطن فقال ويحك وأين توجد هذه قال تجدها في خالص العرب وفي خالص الفرس وقال حكيم عليكم بمن تربت في النعيم ثم أصابتها فاقة فأثر فيها الغنى وأدبها الفقر وقال رجل لخاطب ابغ لي امرأة لا تؤنس جارا ولا توطن دارا يعني لا تدخل على الجيران ولا تدخل الجيران عليها وفي مثل هذه قال الشاعر
( هيفاء فيها إذا استقبلتها صلف ... عيطاء غامضة الكعبين معطار )
( خود من الخفرات البيض لم يرها ... بساحة الدار لا بعل ولا جار ) وقال الأعشى
( لم تمش ميلا ولم تركب على جمل ... ولم تر الشمس دونها الكلل ) وكانت امرأة عمران بن حطان من أجمل الناس وجها وكان هو من أقبح الناس وجها فقال لها يوما أنا وإياك في الجنة إن شاء الله تعالى فقالت له وكيف ذلك فقال لأني أعطيت مثلك فشكرت وأعطيت مثلي فصبرت والصابر والشاكر في الجنة وقال بعضهم رأيت في طريق مكة أعرابية ما رأيت أحسن منها وجها فقعدت أنظر إليها وأتعجب من جمالها فجاء شيخ قصير فأخذ بردائها وسار بها ومضى فلقيتها مرة أخرى فقلت لها من هذا الشيخ قالت زوجي قلت كيف يرضى مثلك بمثله فأنشد

( أيا عجبا للخود يجري وشاحها ... تزف إلى شيخ بأقبح تمثال )
( دعاني إليه أنه ذو قرابة ... يعز علينا من بني العم والخال ) وسمع بعضهم قائلا يقول
( ومن لا يرد مدحي فإن مدائحي ... نوافق عند الأكرمين نوامي )
( نوافق عند المشتري الحمد بالندى ... نفاق بنات الحرث بن هشام ) فقال يا ابن أخي ما بلغ من نفاق بنات الحرث بن هشام قال كن من أجمل الناس وجوها وكان أبوهن إذا زوجهن يسوفهن ومهورهن إلى بعولتهن فقال يا ابن أخي لو فعل هذا ابليس ببناته لتنافست فيهن الملائكة المقربون
وقال عبد الملك لابن أبي الرقاع كيف علمك بالنساء قال أنا والله أعلم الناس بهن وجعل يقول
( قضاعية الكعبين كندية الحشا ... خزاعية الأطراف طائية الفم )
( لها حكم لقمان وصورة يوسف ... ومنطق داود وعفة مريم ) وقالوا الوجه الحسن أحمر وقد تضرب فيه الصفرة مع طول المكث في الكن والتضمخ بالطيب وقالوا أن الوجه الرقيق البشرة الصافي الأديم إذا خجل يحمر وإذا فرق يصفر ومنه قولهم ديباج الوجه يريدون تلونه من رقته قال علي بن زيد في وصفه
( حمرة خلط صفرة في بياض ... مثل ما حاك حائك ديباجا ) ( وقال علي بن عبد ربه )
( بيضاء يحمر خداها إذا خجلت ... كما جرى ذهب في صفحتي ورق ) وقالوا إن الجارية الحسناء تتلون بتلون الشمس فهي بالضحى بيضاء وبالعشى صفراء فقال ذو الرمة

( بيضاء صفراء قد تنازعها ... لونان من فضة ومن ذهب ) قالوا ليس المرأة الجميلة التي تأخذ ببصرك جملة على بعد فإذا دنت منك لم تكن كذلك بل الجميلة التي كلما كررت بصرك فبها زادتك حسنا وقالوا إن أردت أن ينجب ولدك فاغضبها ثم قع عليها قال الشاعر
( ممن حملن به وهن عواقد ... حبك النطاق فعاش غير مهبل )
( حملت به في ليلة مزورة ... كرها وعقد نطاقها لم يحلل )
الفصل الثالث في صفة المرأة السوء نعوذ بالله تعالى منها
في حكمة داود عليه السلام " أن المرأة السوء مثل شرك الصياد لا ينجو منها إلا من رضي الله تعالى عنه " وقيل المرأة السوء غل يلقيه الله تعالى في عنق من يشاء من عباده وقيل لأعرابي كان ذا تجربة للنساء صف لنا شر النساء فقال شرهن النحيفة الجسم القليلة اللحم المحياض الممراض المصفرة الميشومة العسرة المبشومة السلطة البطرة النفرة السريعة الوثبة كأنها لسان حربة تضحك من غير عجب وتبكي من غير سبب وتدعو على زوجها بالحرب أنف في السماء وإست في الماء عرقوبها حديد منتفخة الوريد كلامها وعيد وصوتها شديد وتدفن الحسنات وتفشي السيآت تعين الزمان على بعلها ولا تعين بعلها على الزمان ليس في قلبها عليه رأفة ولا عليها منه مخافة إن دخل خرجت وإن خرج دخلت وإن ضحك بكت وإن بكى ضحكت كثيرة الدعاء قليلة الإرعاء تأكل لما وتوسع ذما ضيقة الباع مهتوكة القناع صبيها مهزول وبيتها مزبول إذا حدثت تشير بالإصبع وتبكي في المجامع بادية من حجابها نباحة عند بابها تبكي وهي ظالمة وتشهد وهي غائبة

دلى لسانها بالزور وسال دمعها بالفجور ابتلاها الله بالويل والثبور وعظائم الأمور ويقال إن المرأة إذا كانت مبغضة لزوجها فإن علامة ذلك أن تكون عند قربها منه مرتدة الطرف عنه كأنها تنظر إلى إنسان غيره من ورائه وإن كانت محبة له لا تقلع عن النظر إليه قال بعضهم
( لقد كنت محتاجا إلى موت زوجتي ... ولكن قرين السوء يلقى معمر )
( فيا ليتها صارت إلى القبر عاجلا ... وعذبها فيه نكير ومنكر ) وقال زيد بن عمير
( أعاتبها حتى قلت أقلعت ... أبى الله إلا خزيها فتعود )
( فإن طمثت قادت وإن طهرت زنت ... فهاتيك تزني دائما وتقود ) وقال داود عليه الصلاة و السلام المرأة السوء على بعلها كالحمل الثقيل على الشيخ الكبير والمرأة الصالحة كالتاج المرصع بالذهب كلما رآها قرت عينه برؤيتها والله أعلم
الفصل الرابع في مكر النساء وغدرهن وذمهن ومخالفتهن
في حكمة داود عليه الصلاة و السلام وجدت في الرجال واحدا في ألف ولم أجد واحدة في جميع النساء وقيل إن عيسى عليه الصلاة و السلام لقي إبليس يسوق أربعة أحمرة عليها أحمال فسأله فقال أحمل تجارة وأطلب مشترين فقال ما أحدها قال الحمور قال من يشتريه قال السلاطين قال فما الثاني قال الحسد قال فمن يشتريه قال العلماء قال فما الثالث قال الخيانة قال فمن يشتريها قال التجار قال فما الرابع قال الكيد قال

فمن يشتريه قال النساء وقال حكيم النساء شر كلهن وشر ما فيهن قلة الاستغناء عنهن وقالت الحكماء لا تثق بامرأة ولا تغتر بمال وإن كثر وقال النساء حبائل الشيطان قال الشاعر
( تمتع بها ملسا عفتك ولا تكن ... جزوعا إذا بانت فسوف تبين )
( وخنها وإن كانت تفي لك إنها ... على قدم الأيام سوف تخون )
( وإن هي أعطتك الليان فانها ... لغيرك من طلابها ستلين )
( وإن حلفت أن ليس تنقض عهدها ... فليس لمخضوب البنان يمين )
( وإن سكبت يوم الفراق دموعها ... فليس لعمر الله ذاك يقين ) وقال ابن بشار
( رأيت مواعيد النساء كأنها ... سراب لمرتاد المناهل حافل )
( ومنتظر الموعود منهن كالذي ... يؤمل يوما أن تلين الجنادل ) قال بعض الحكماء لم تنه عن شيء قط إلا فعلته وقال الغنوي
( إن النساء متى ينهين عن خلق ... فإنه واقع لا بد مفعول ) وقال النخعي من اقتراب الساعة طاعة النساء ويقال من أطاع عرسه فقد أضاع نفسه وقال علي رضي الله تعالى عنه إياك ومشاورة النساء فإن رأيهن إلى أفن وعزمهن إلى وهن اكفف أبصارهن بالحجاب فإن شدة الحجاب خير لهن من الارتياب وليس خروجهن بأضر من دخول من لا يوثق به عليهن فإن استطعت أن لا يعرفهن غيرك فافعل قال السمعاني
( لا تأمنن على النساء ولو أخا ... ما في الرجال على النساء أمين )
( إن الأمين وإن تحفظ جهده ... لا بد أن بنظرة سيخون ) وقال غيره
( لا تركنن إلى النساء ... ولا تثق بعهودهن )

( فرضاؤهن جميعهن ... معلق بفروجهن ) وقال علي رضي الله تعالى عنه لا تطلعوا النساء على حال ولا تأمنوهن على مال ولا تذروهن إلا لتدبير العيال إن تركن وما يردن أو ردن المهالك وأفسدن الممالك ينسين الخير ويحفظن الشر يتهافتن في البهتان ويتمادين في الطغيان وقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه ذل من أسند أمره إلى امرأة وقيل إن صيادا أتى أبرويز بسمكة فأعجبه حسنها وسمتها فأمر له بأربعة آلاف درهم فخطأته سيرين زوجته فقال لها ماذا أفعل فقالت له إذا جاءك فقل له أذكر كانت أم أنثى فإن قال لك ذكر فاطلب منه الأنثى وإن قال لك أنثى فاطلب منه الذكر فلما أتاه سأله فقال كانت أنثى فقال ائتني بذكرها فقال عمر الله الملك كنت بكرا لم تتزوج فقال زه وأمر له بثمانية آلاف درهم وقال اكتبوا في الحكمة الغدر ومطاوعة النساء يؤديان إلى الغرم الثقيل وقال حكيم اعص النساء وهواك وافعل ماشئت وقال عمر رضي الله تعالى عنه أكثروا لهن من قول لا فإن نعم تغريهن على المسألة قال أستعيذ بالله من أشرار النساء وكونوا من خيارهن على حذر
ومما قيل في الباءة ذكر الجماع عند الإمام مالك بن أنس رضي الله تعالى عنه قال هو نور وجهك ومخ ساقك منه أو أكثر وقال معاوية رضي الله تعالى عنه ما رأيت نهما في النساء إلا عرفت ذلك في وجهه وخلا تمام بجارية له فعجز عنها فقال ما أوسع حرك فأنشأت تقول
( أنت الفداء لمن قد كان يملؤه ... ويشتكي الضيق منه حين يلقاه ) وقال آخر
( شفاء الحب تقبيل ولمس ... وسحب بالبطون على البطون )

( ورهز تذرف العينان منه ... وأخذ بالمناكب والقرون ) وقالت امرأة من أهل الكوفة دخلت على عائشة بنت طلحة فسألت عنها فقيل هي مع زوجها في القيطون فسمعت شهيقا وشخيرا لم أسمع مثله ثم خرجت إلي وجبينها يتصبب عرقا فقلت لها ما ظننت حرة تفعل هذا بنفسها فقالت إن الخيل تشرب بالصفير وعاتبت امرأة زوجها على قلة إتيانها فأجابها يقول
( أنا شيخ ولي امرأة عجوز ... تراودني على ما لا يجوز )
( وقالت رق أيرك مذ كبرنا ... فقلت بلى قد اتسع القفيز ) وكان لرجل امرأة تخاصمه وكلما خاصمته قام إليها فواقعها فقالت ويحك كلما تخاصمني تأتيني بشفيع لا أقدر على رده وأتى رجل إلى علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وقال إن لي امرأة كلما غشيتها تقول قتلتني فقال اقتلها بهذه القتلة وعلي إثمها وقالوا من ل جماعه فهو أصح بدنا وأنقى جلدا وأطول عمرا ويعتبر ذلك بذكور الحيوان وذلك أنه ليس في الحيوان أطول أعمارا من البغال ولا أقصر أعمارا من العصافير وهي أكثرها سفادا والله تعالى أعلم بالصواب
الفصل الخامس في الطلاق وما جاء فيه
عن عبد الرحمن بن محمد بن أخي الأصمعي قال قال عمي للرشيد في بعض حديثه يا أمير المؤمنين بلغني إن رجلا من العرب طلق في يوم واحد خمس نسوة قال وكيف ذلك وإنما لا يجوز للرجل غير أربعة قال يا أمير المؤمنين كان متزوجا بأربعة فدخل عليهن يوما فوجدهن متنازعات وكان شريرا فقال إلى متى هذا النزاع ما أظن

هذا إلا من قبلك يا فلانة لامرأة منهن اذهبي فأنت طالق فقالت له صاحبتها عجلت عليها بالطلاق ولو أدبتها بغير ذلك لكان أصلح فقال لها وأنت أيضا طالق فقالت له الثالثة قبحك الله فوالله لقد كانتا إليك محسنتين فقال لها وأنت أيضا أيتها المتعددة أياديهما طالق فقالت الرابعة وكانت هلالية ضاق صدرك إلا أن تؤدب نساءك بالطلاق فقال لها وأنت طالق أيضا فسمعته جاره له فأشرفت عليه وقالت له والله ما شهدت العرب عليك ولا على قومك بالضعف إلا لما بلوه منكم ووجدوه فيكم أبيت إلا طلاق نسائك في ساعة واحدة فقال لها وأنت أيتها المتكلمة فيما لا يعنيك طالق إن أجازني بعلك فأجابه زوجها قد أجزت لك ذلك فعجب الرشيد من ذلك وطلق امرأته فلما أرادت الارتحال قال لها اسمعي وليسمع من حضر إني والله اعتمدتك برغبة وعاشرتك بمحبة ولم أجد منك زلة ولم يدخلني عنك ملة ولكن القضاء كان غالبا فقالت المرأة جزيت من صاحب ومصحوب خيرا فما استقللت خيرك ولا شكوت ضيرك ولا تمنيت غيرك ولا أجد لك في الرجال شبيها وليس لقضاء الله مدفع ولا من حكمة علينا ممنع وقال رجل لابن عباس رضي الله تعالى عنهما ما تقول في رجل طلق امرأته عدد نجوم السماء فقال يكفيه من ذلك عدد نجوم الجوزاء
ذكر من طلق امرأته فتبعها نفسه قال الهيثم بن عدي كانت تحت ابن الغربان بن الأسود بنت عم له فطلقها فتبعتها نفسه فكتب إليها يعرض لها بالرجوع فكتبت إليه تقول
( إن كنت ذا حاجة فاطلب لها بذلا ... إن الغزال الذي ضيعت مشغول ) فكتب إليها يقول
( إن كان ذا شغل فالله يكلؤه ... فقد لهونا به والحبل موصول )
( وقد قضينا من استظرافه وطرا ... وفي الليالي وفي أيامها طول )

وطلق الوليد بن يزيد زوجته سعدى فلما تزوجت اشتد ذلك عليه وندم على ما كان منه فدخل عليه أشعب فقال له هل لك أن تبلغ سعدى عني رسالة ولك عشرة آلاف درهم قال أقبضنيها فأمر له بها فلما قبضها قال له هات رسالتك قال ائتها فأنشدها
( أسعدى هل إليك لنا سبيل ... ولا حتى القيامة من تلاق )
( بلى ولعل دهرا أن يؤاتي ... بموت من خليلك أو فراق ) قال فأتاها أشعب فاستأذن عليها فأذنت له فدخل فقالت له ما بدا لك في زيارتنا يا أشعب فقال يا سيدتي أرسلني إليك برسالة ثم أنشدها الشعر فقالت لجواريها عليكن بهذا الخبيث فقال يا سيدتي إنه دفع إلي عشرة آلاف درهم فهي لك واعتقيني لوجه الله فقالت والله لا أعتقك أو تبلغ إليه ما أقول لك قال يا سيدتي فاجعل لي جعلا قالت لك بساطي هذا قال قومي عنه فقامت فأخذه وألقاه على ظهره وقال هاتي رسالتك فقالت
( أتبكي على سعدى وأنت تركتها ... فقد ذهبت سعدى فما أنت صانع ) فلما بلغه الرسالة ضاقت عليه الأرض بما رحبت وأخذته كظمة فقال لأشعب اختر مني إحدى ثلاث إما أن أقتلك وأما أن أطرحك من هذا القصر وأما أن ألقيك إلى هذه السباع فتفترسك فتحير أشعب وأطرق مليا ثم قال يا سيدي ما كنت لتعذب عينا نظرت إلى سعدى فتبسم وخلى سبيله وممن طلق امرأته فتبعتها نفسه الفرزدق الشاعر طلق النوار ثم ندم على طلاقها وقال
( ندمت ندامة الكسعي لما ... غدت مني مطلقة نوار )
( فأصبحت الغداة ألوم نفسي ... بأمر ليس لي فيه اختيار )
( وكانت جنتي فخرجت منها ... كآدم حين أخرجه الضرار )

( ولو أني ملكت بها يميني ... لكان علي للقدر الخيار ) وممن طلق امرأته فتبعتها نفسه فندم قيس بن ذريح وكان أبوه أمره بطلاقها فطلقها وندم على ذلك فأنشأ يقول
( فنى صبري وعاودني رداعي ... وكان فراق لبتي كالخداع )
( تكنفني الوشاة فأزعجوني ... فيا للناس للواشي المطاع )
( فأصبحت الغداة ألوم نفسي ... على أمر وليس بمستطاع )
( كمغبون يعض على يديه ... تبين غبنه عند البياع ) وحدث العتبي قال جاء رجل بامرأة كأنها برج من فضة إلى عبد الرحمن بن الحكم وهو على الكوفة فقال إن امرأتي هذه شجتني فسألها عبد الرحمن فقالت نعم يا مولاي غير متعمدة لذلك كنت أعالج طيبا فوقع الفهر من يدي على رأسه وليس عندي علم ولا يقوى بدني على القصاص فقال للرجل علام تمسكها وقد فعلت بك ما أرى فقال يا مولاي إن صداقها علي أربعة آلاف درهم ولا تطيب نفسي بفراقها قال فإن أعطيتك الأربعة آلاف درهم تفارقها قال نعم قال هي لك قال فهي إذن طالق فقال لها عبد الرحمن احبسي علينا نفسك وأنشأ يقول
( يا شيخ يا شيخ من دلاك بالغزل ... قد كنت يا شيخ عن هذا بمعتزل )
( رضت الصعاب فلم تحسن رياضتها ... فاعمد لنفسك نحو القرح الذلل ) والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

الباب الرابع والسبعون في تحريم الخمر وذمها والنهي عنها قد أنزل الله تعالى في الخمر ثلاث آيات الأولى قوله تعالى ( يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس ) الآية فكان من المسلمين من شارب ومن تارك إلى أن شرب رجل فدخل في الصلاة فهجر فنزل قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولوا ) فشربها من شربها من المسلمين وتركها من تركها حتى شربها عمر رضي الله تعالى عنه فأخذ بلحى بعير وشج به رأس عبد الرحمن بن عوف ثم قعد ينوح على قتلى بدر بشعر الأسود بن يعفر يقول
( وكائن بالقليب قليب بدر ... من الفتيان والعرب الكرام )
( أيوعدني ابن كبشة أن سنحيا ... وكيف حياة أصداء وهام )
( أيعجز أن يرد الموت عني ... وينشرني إذا بليت عظامي )
( إلا من مبلغ الرحمن عني ... بأني تارك شهر الصيام )
( فقل لله يمنعني شرابي ... وقل لله يمنعني طعامي ) فبلغ ذلك رسول الله فخرج مغضبا يجر رداءه فرفع شيئا كان

في يده فضربه به فقال أعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله فأنزل الله تعالى ( إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ) فقال عمر رضي الله تعالى عنه انتهينا انتهينا
ومن الأخبار المتفق عليها في تحريمها قول سيدنا رسول الله " لا يدخل الجنة مدمن خمر " وقوله " أول ما نهاني ربي بعد عبادة الأوثان عن شرب الخمر وملاحات الرجال " وممن تركها في الجاهلية عبد الله بن جدعان وكان جوادا من سادات قريش وذلك أنه شرب مع أمية بن أبي الصلت الثقفي فضربه على عينه فأصبحت عين أمية مخضرة يخاف عليها الذهاب فقال له عبد الله ما بال عينك فسكت فألح عليه فقال ألست ضاربها بالأمس فقال أو بلغ مني الشراب ما أبلغ معه إلى هذا لا أشربها بعد اليوم ثم دفع له عشرة آلاف درهم وقال الخمر علي حرام لا أذوقها بعد اليوم أبدا وممن حرمها في الجاهلية أيضا قيس بن عاصم وذلك أنه سكر ذات ليلة فقال لابنته أو لأخته فهربت منه فلما أصبح سأل عنها فقيل له أو ما علمت ما صنعت البارحة فأخبر بالقصة فحرم الخمر على نفسه وممن حرمها في الجاهلية أيضا العباس بن مرداس وقيس بن عاصم وذلك أن قيسا شرب ذات ليلة فجعل يتناول القمر ويقول والله لا أبرح حتى أنزله ثم يثب الوثبة بعد الوثبة ويقع على وجهه فلما أصبح وأفاق قال مالي هكذا فأخبروه بالقصة فقال والله لا أشربها أبدا وقيل للعباس بن مرداس لم تركت الشراب وهو يزيد في سماحتك فقال أكره أن أصبح سيد قومي وأمسي سفيههم ودخل نصيب على عبد الملك بن مروان فأنشده فأعجبه انشاده وشعره ووصله ثم دعا بالطعام فطعم منه فقال له عبد الملك يا نصيب هل لك فيما ينادم عليه قال يا أمير المؤمنين جلدي أسود وخلقي مشوه ووجهي قبيح وتكفيني مجالستك ومؤاكلتك ولم يوصلني إلى ذلك

إلا عقلي وأنا أكره أن يدخل عليه ما ينقصه فأعجبه كلامه ووصله وقال الوليد بن عبد الملك للحجاج في وفدة وفدها عليه هل لك في الشراب فقال يا أمير المؤمنين لا خلاف لما أمرت ولكن أنا أمنع أهل عملي منه وأكره أن أمنعهم عن شيء ولا أمتنع منه وقال الله تعالى ( وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ) وقال تعالى ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم ) وقيل لأعرابي لم لا تشرب النبيذ فقال لا أشرب ما يشرب عقلي وقال الضحاك بن مزاحم لرجل ما تصنع بشرب النبيذ قال يهضم طعامي قال أما أنه يهضم من دينك وعقلك أكثر قال ابن أبي أوفى لقزمه حين نهوا عن الخمر
( ألا يا لقومي ليس في الخمر رفعة ... فلا تقربوا منها فلست بفاعل )
( فإني رأيت الخمر شيئا ولم يزل ... أخو الخمر دخالا لشر المنازل ) وقال الحسن لو كان العقل يشترى لتغالى الناس في ثمنه فالعجب ممن يشتري بماله ما يفسده وقال عليه السلام حب الدنيا رأس كل خطئية والنساء حبائل الشيطان والخمر داعية إلى كل شر وقال بعضهم
( بلوت نبيذ الخمر في كل بلدة ... فليس لأخوان النبيذ حفاظ )
( إذا دارت الأرطال أرضوك بالمنى ... وإن فقدوها فالوجوه غلاظ ) وقال حكيم إياك وإخوان النبيذ فبينما أنت متوج عندهم مخدوم مكرم معظم إذ زلت بك القدم فجروك على شوك السلم فاحفظ قول القائل فيه
( وكل أناس يحفظون حريمهم ... وليس لأصحاب النبيذ حريم )
( فإن قلت هذا لم أقل عن جهالة ... ولكنني بالفاسقين عليم ) وللأعرج الطائي
( تركت الشعر واستبدلت منه ... إذا داعي صلاة الصبح قاما )

الصفدي
( دع الخمر فالراحات في ترك راحها ... وفي كأسها للمرء كسوة عار )
( وكم ألبست نفس الفتى بعد نورها ... مدارع قار في مدار عقار )
نكتة اجتمع نصراني ومحدث في سفينة فصب النصراني خمرا من زق كان معه في شربة وشرب ثم صب فيها وعرض على المحدث فتناولها من غير فكر ولا مبالاة فقال النصراني جعلت فداءك إنما هي خمر قال من أين علمت أنها خمر قال اشتراها غلامي من يهودي وحلف أنها خمر فشربها المحدث على عجل وقال للنصراني يا أحمق نحن أصحاب الحديث نضعف مثل سفيان ابن عيينة ويزيد بن هارون أفنصدق نصرانيا عن غلامه عن يهودي والله ما شربتها إلا لضعف الإسناد
ومن المجون في ذلك ما حكي أن سكرانا استلقى على طريق فجاء كلب فلحس شفتيه فقال خدمك بنوك ولا عدموك فبال على وجهه فقال وماء حارا أيضا بارك الله فيك وقيل حالة السكارى ثلاثة قرد حرك رأسه فرقص وكلب هارش فنبح وحية زويت فنامت ومر عقال الناسك بمرداس بن خدام الأسدي فاستسقاه لبنا فصب له خمرا وعلاه بلبن فشربه وسكر ولم يتحرك ثلاثة أيام فقال
( سقيت عقالا بالعشية شربة ... فمالت بعقل الكاهلي عقالي )
( قرعت بأم الخل حبة قلبه ... فلم ينتعش منها ثلاث ليالي ) ويقال الخمر مصباح السرور ولكنها مفتاح الشرور اللهم تب علينا وعلى العصاة المذنبين برحمتك يا أرحم الراحمين آمين

الباب الخامس والسبعون في المزاح والنهي عنه وما جاء في الترخيص فيه والبسط والتنعم وفيه فصول
الفصل الأول في النهي عن المزاح
قال رسول الله " المزاح استدراج من الشيطان واختلاع من الهوى " وعن علي ما مزح أحد مزحة إلا مج الله من عقله مجة وعنه إياك أن تذكر من الكلام منا يكون مضحكا وإن حكيت ذلك عن غيرك وكتب عمر رضي الله تعالى عنه إلى عماله أمنعوا الناس من المزاح فإنه يذهب بالمروءة ويوغر الصدور وقال بعض الحكماء تجنب سوء المزاح ونكد الهزل فإنهما بابان إذا فتحا لم يغلقا إلا بعد غم وقال آخر لكل شيء بذر وبذر العداوة المزاح وعن محمد بن المنكدر قال قالت لي أمي لا تمازح الصبيان تهن عندهم وخرج أعرابي بالليل فإذا بجارية جميلة فراودها فقالت أما لك زاجر من عقلك إذا لم يكن لك واعظ من دينك فقال والله ما يرانا إلا الكواكب فقالت له يا هذا وأين مكوكبها فأخجله كلامها فقال لها إنما كنت مازحا فقالت
( فإياك إياك المزاح فإنه يجري ... عليك الطفل والرجل النذلا )

( ويذهب ماء الوجه بعد بهائه ... ويورث بعد العز صاحبه ذلا ) وقال الأحنف كثرة الضحك تذهب الهيبة وكثرة المزاح تذهب المروءة ومن لزم شيئا عرف به ومما روي عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم كانوا يتحادثون ويتناشدون الأشعار فإذا جاء ذكر الله انقلبت حماليقهم كأنهم لم يعرفوا أحدا
الفصل الثاني فيما جاء في الترخيص في المزاح والبسط والتنعم
لا بأس بالمزاح ما لم يكن سفها والله تعالى وعد في اللمم بالتجاوز والعفو فقال ( الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم ) وقيل إن يحيى بن زكريا لقي عيسى عليه الصلاة و السلام فقال مالي أراك لاهيا كأنك آمن فقال هل عيسى مالي أراك عابسا كأنك أيس فقال لا تبرح حتى يتنزل علينا الوحي فأوحى الله إليهما أن أحبكما إلي أحسنكما ظنا بي ويروى إن أحبكما إلى الطلق البسام وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه لجارية خلقني خالق الخير وخلقك خالق الشر فبكت الجارية فقال عمر لا بأس عليك فإن الله خالق الخير والشر قال الشاعر
( إن الصديق يريد بسطك مازحا ... فإذا رأى منك الملالة يقصر )
( وترى العدو إذا تيق أنه ... يؤذيك بالمزح العنيف يكثر ) وكان رسول الله يمزح ولا يقول إلا حقا فمن مزحه أنه جاء رجل فقال يا رسول الله احملني على جمل فقال عليه الصلاة و السلام لا أحملك إلا على ولد الناقة فقال يا رسول الله إنه لا يطيقني فقال له الناس ويحك وهل الجمل إلا ولد الناقة وقال رسول الله لامرأة من الأنصار إلحقي زوجك ففي عينيه بياض فسعت إلى زوجها

مرعوبة فقال لها ما دهاك قالت إن النبي قال لي إن في عينيك بياضا فقال نعم والله وسوادا وأتته أيضا عجوز أنصارية فقالت يا رسول الله أدع الله لي أن يدخلني الجنة فقال لها يا أم فلان إن الجنة لا يدخلها عجوز فولت المرأة تبكي فتبسم وقال لها أما قرأت قوله تعالى ( إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا عربا أترابا ) وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها سابقت رسول الله فسبقته فلما كثر لحمي سابقته فسبقني فضرب بكتفي وقال هذه بتلك وعنها أيضا قالت كان رسول الله يدخل وأنا ألعب مع صويحباتي ولا يعيب علي وسئل النخعي هل كان أصحاب رسول الله يضحكون قال نعم والإيمان في قلوبهم مثل الجبال الرواسي وكان نعيمان الصحابي من أولع الناس بالمزاح والضحك قيل إنه يدخل الجنة وهو يضحك فمن مزحه إنه مر يوما بمخرمة بن نوفل الزهري وهو ضرير فقال له قدني حتى أبول فأخذه بيده حتى أتى به إلى المسجد فأجلسه في مؤخره فصاح به الناس إنك في المسجد فقال من قادني قالوا نعيمان قال لله علي نذر أن أضربه بعصاي هذه إن وجدته فبلغ ذلك نعيمان فجاء إليه وقال له يا أبا المنور هل لك في نعيمان قال نعم قال ها هو قائم يصلي وأخذه بيده وجاء به إلى عثمان بن عفان وهو يصلي وقال هذا نعيمان فعلاه بعصاه فصاح الناس أمير المؤمنين فقال من قادني قالوا نعيمان فقال والله لا تعرضت بسوء بعدها وقال عطاء بن السائب كان سعيد بن جبير يقص علينا حتى يبكينا وربما لم يقم حتى يضحكنا وكان رجل يسمى تاج الوعظ يعظ الناس ويقص عليهم حتى يبكيهم ثم لم يقم حتى يضحكهم ويبسط آمالهم
فمن لطائفه أنه حكى يوما بعدما فرغ من ميعاده قال سمعت الناس يتكلمون في التصحيف وكنت لا أعرفه فوقع في قلبي أن أتعلمه فدخلت في سوق الكتيبة واشتريت كتابا في التصحيف فأول ما تصحفته

وجدت فيه سكباج تصحيفه سك تاج فرميت الكتاب من يدي وحلفت أني لا أشتغل به أبدا فضحك الناس حتى غشي عليهم ودخل عبد الله بن جعفر على عبد الملك بن مروان فوجده يتأوه فقال يا أمير المؤمنين لو أدخلت عليك من يؤنسك بأحاديث العرب ويباسطك استرحت فقال لست بصاحب لهو فقال ما الذي تشكوه يا أمير المؤمنين قال هاج بي عرق النسا في ليلتي هذه فبلغ مني ما ترى فقال إن بديحا مولاي أرقى الخلق منه فأمر باحضاره فلما مثل بين يديه قال عبد الملك يا بديح أرق رجلي فقال يا مولاي أنا أرقي الناس لها ثم وضع يده عليها وجعل يقول ما لا يسمع فقال عبد الملك قد وجدت راحة بهذه الرقية اين فلانة ائتوني بها تكتبها لئلا يهيج بي الوجع بالليل فقال له بديح الطلاق يلزمه ما اكتبها إلا بتعجيل جائزتي فأمر له بأربعة آلاف درهم فقال يا أمير المؤمنين الطلاق يلزمه ما أكتبها حتى تحمل جائزتي إلى بيتي قال تحمل فحملت فقال يا أمير المؤمنين الطلاق يلزمه ما رقيت رجلك إلا مباسطة بقول نصيب حيث قال
( ألا إن ليلى العامرية أصبحت ... على البعد مني ذنب غيري تنقم ) فقال ويلك ما تقول فقال الطلاق يلزمه ما رقيتك إلا بها فقال اكتمها علي فقال كيف وقد سارت بها الركبان إلى أخيك بمصر فضحك حتى فحص برجليه وأعجبه هذا البسط وروي أن ابن سيرين كان ينشد قول الشاعر
( أنبئت أن فتاة كنت أخطبها ... عرقوبها مثل شهر الصوم في الطول ) ثم يضحك حتى يسيل لعابه

ومما جاء في الشطرنج والملعب به والنهي عنه والترخيص فيه أما النهي عنه فقد قيل إن عليا كرم الله وجهه مر بقوم يلعبون الشطرنج فقال لهم ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون وكان أبو القاسم الكسروي يقول لا ترى شطرنجيا غنيا إلا بخيلا ولا فقيرا إلا طفيليا ولا تسمع نادرة باردة إلا على الشطرنج واحتضر شطرنجي فصار يقول شاه مات شاه مات مكان الشهادتين حتى مات وأما الترخيص فيه فقد سئل الشعبي عن اللعب بالشطرنج فقال لا بأس به إذا لم يكن هناك تقامر وتبادل وقال بعضهم كنا في السجن مع ابن سيرين فكان يرانا ونحن نلعب بالشطرنج فيقوم فيأتي ويقول ارفع الفرس ارفع كذا افعل كذا ولا يعيب علينا وعن سعيد بن المسيب قال كنت ألعب الشطرنج مع صديق في بيته حين خفت الحجاج ومما قيل لعلي بن الجهم في الشطرنج وقيل للمأمون
( أرض مربعة حمراء من أدم ... ما بين خرين معروفين بالكرم )
( تذكر الحرب فاحتالا لها فطنا ... من غير أن يأثما فيها بسفك دم )
( هذا يغير على هذا وذاك على ... هذا يغير وعين الحزم لم تنم )
( فانظر إلى همم جاشت بمعركة ... في عسكرين بلا طبل ولا علم ) قالوا إن سبب وضع الشطرنج أن ملوك الهند ما كانوا يرون بقتال فإذا تنازع ملكان في كورة أو مملكة تلاعبا بالشطرنج فيأخذها الغالب من غير قتال وقيل إنه كان لبعض ملوك الفرس شطرنج من ياقوت أحمر وأصفر القطعة منه بثلاثة آلاف دينار
ما حكي أن غلمانا من أهل البحرين خرجوا يلعبون بالصوالجة وأسقف البحرين قاعد فوقعت الأكرة على صدره فأخذها فجعلوا يطلبونها

منه فأبى فقال غلام منهم سألتك بحق محمد إلا رددتها علينا فأبى لعنه الله وسب رسول الله فأقبلوا عليه بصوالجهم فما زالوا يخبطونه حتى مات لعنة الله عليه فرفع ذلك إلى عمر رضي الله تعالى عنه فوالله ما فرح بفتح ولا غنيمة كفرحته بقتل الغلمان لذلك الأسقف وقال الآن عز الإسلام إن أطفالا صغارا شتم نبيهم فغضبوا له وانتصروا وأهدر دم الأسقف والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

الباب السادس والسبعون في النوادر وفيه فصول
الفصل الأول من هذا الباب في نوادر العرب
خرج المهدي يتصيد فغار به فرسه حتى وقع في خباء اعرابي فقال يا اعرابي هل من قرى فأخرج له قرص شعير فأكله ثم أخرج له فضله من لبن فسقاه ثم أتاه بنبيذ في ركوة فسقاه فلما شرب قال أتدري من أنا قال لا قال أنا من خدم أمير المؤمنين الخاصة قال بارك الله لك في موضعك ثم سقاه مرة أخرى فشرب فقال يا اعرابي أتدري من أنا قال زعمت أنك من خدم أمير المؤمنين الخاصة قال لا أنا من قواد أمير المؤمنين قال رحبت بلادك وطاب مرادك ثم سقاه الثالثة فلما فرغ قال يا أعرابي أتدري من أنا قال زعمت أنك من قواد أمير المؤمنين قال لا ولكني أمير المؤمنين قال فأخذ الأعرابي الركوة فوكأها وقال إليك عني فوالله لو شربت الرابعة لادعيت أنك رسول الله فضحك المهدي حتى غشي عليه ثم أحاطت به الخيل ونزلت إليه الملوك والأشراف فطار قلب الأعرابي فقال له لا بأس عليك ولا خوف ثم أمر له بكسوة ومال جزيل ووجد أعرابي يأكل ويتغوط ويفلي ثوبه فقيل له في ذلك فقال أخرج عتيقا وأدخل جديدا وأقتل عدوا وقيل لبعض الأعراب إن شهر رمضان قدم فقال والله لأبددن شمله بالأسفار وسمع أعرابي قارئا يقرأ القرآن حتى أتى على قوله تعالى ( الأعراب أشد

كفرا ونفاقا ) فقال لقد هجانا ثم بعد ذلك يقرأ ( ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ) فقال لا بأس هجا ومدح هذا كما قال شاعرنا
( هجوت زهيرا ثم إني مدحته ... وما زالت الأشراف تهجى وتمدح ) وحضر أعرابي على مائدة يزيد بن مزيد فقال لأصحابه افرجوا لأخيكم فقال الأعرابي لا حاجة لي بأفراجكم إن أطنابي طوال يعني سواعده فلما مد يده ضرط فضحك يزيد فقال يا أخا العرب أظن أن طنبا من أطنابك قد انقطع ورؤي اعرابي يغطس في البحر ومعه خيط وكلما غطس غطسة عقد عقدة فقيل له ما هذا قال جنابات الشتاء أقضيها في الصيف وسرق أعرابي غاشية من على سرج ثم دخل المسجد يصلي فقرأ الإمام ( هل أتاك حديث الغاشية ) فقال يا فقيه لا تدخل في الفضول فلما قرأ ( وجوه يومئذ خاشعة ) قال خذوا غاشيتكم ولا يخشع وجهي لا بارك الله لكم فيها ثم رماها من يده وخرج وحضر أعرابي مجلس قوم فتذاكروا قيام الليل فقيل له باأمامة أتقوم الليل فقال نعم قالوا ما تصنع قال أبول وأرجع أنام وسرق أعرابي صرة فيها دراهم ثم دخل المسجد يصلي وكان اسمه موسى فقرأ الإمام ( وما تلك بيمينك يا موسى ) فقال الأعرابي والله إنك لساحر ثم رمى الصرة وخرج
وحكى الأصمعي قال ضلت لي إبل فخرجت في طلبها وكان البرد شديدا فالتجأت إلى حي من أحياء العرب وإذا بجماعة يصلون وبقربهم شيخ ملتف بكساء وهو يرتعد من البرد وينشد
( أيا رب إن البرد أصبح كالحا ... وأنت بحالي يا إلهي أعلم )
( فإن كنت يوما في جهنم مدخلي ... ففي مثل هذا اليوم طابت جهنم )

قال الأصمعي فتعجبت من فصاحته وقلت يا شيخ أما يستحي تقطع الصلاة وأنت شيخ كبير فأنشد يقول
( أيطمع ربي في أن أصلي عاريا ... ويكسو غيري كسوة البرد والحر )
( فوالله لا صليت ما عشت عاريا ... عشاء ولا وقت المغيب ولا الوتر )
( ولا الصبح إلا يوم شمس دفيئة ... وإن غممت فالويل للظهر والعصر )
( وإن يكسني ربي قميصا وجبة ... أصلي له مهما أعيش من العمر ) قال فأعجبني شعره وفصاحته فنزعت قميصا وجبة كانا علي ودفعتهما إليه وقلت له البسهما وقم فاستقبل القبلة وصلي جالسا وجعل يقول
( إليك اعتذاري من صلاتي جالسا ... على غير ظهر موميا نحو قبلتي )
( فمالي ببرد الماء يارب طاقة ... ورجلاي لا تقوى على ثني ركبتي )
( ولكنني استغفر الله شاتيا ... وأقضيكها يارب في وجه صيفتي )
( وإن أنا لم أفعل فأنت محكم ... بما شئت من صفعي ومن نتف لحيتي ) قال فعجبت من فصاحته وضحكت عليه وانصرفت وصلى أعرابي مع قوم فقرأ الإمام ( قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا ) فقال الأعرابي أهلكك الله وحدك ايش كان ذنب الذين معك فقطع القوم الصلاة من شدة الضحك وقيل دخلت أعرابية على قوم يصلون فقرأ الإمام ( فانكحوا ما طاب لكم من النساء ) وجعل يرددها فجلت الأعرابية تعدو وهي هاربة حتى جاءت لأختها فقالت يا أختاه ما زال الإمام يأمرهم أن ينكحونا حتى خشيت أن يقعوا علي وصلى اعرابي خلف إمام فقرأ الإمام ( ألم نهلك الأولين ) وكان في الصف الأول فتأخر إلى الصف الآخر فقرأ ( ثم نتبعهم الآخرين ) فتأخر فقرأ ( كذلك نفعل بالمجرمين ) وكان

اسم البدوي مجرما فترك الصلاة وخرج هاربا وهو يقول والله ما المطلوب غيري فوجده بعض الأعراب فقال له ما لك يا مجرم فقال إن الإمام أهلك الأولين والآخرين وأراد أن يهلكني في الجملة والله لا رأيته بعد اليوم
وجلس بعض الأعراب يشرب مع ندائمه فاحتاج إلى بيت الخلاء فدلوه عليه فلما دخل جعل يضرط ضراطا شنيعا فضحكوا عليه فأنشد يقول
( إذا ما خلا الإنسان في بيت غائط ... تراخت بلا شك مصاريع فتحته )
( فمن كان ذا عقل فيعذر ضارطا ... ومن كان ذا جهل ففي وسط لحيته ) وكان لسابور ملك فارس نديم مضحك يسمى مرزبان فظهر له من الملك جفوة فلما زاد ذلك عليه تعلم نبيح الكلاب وعوي الذئاب ونهيق الحمير وصهيل الخيل وصوت البغال ثم احتال حتى دخل موضعا بقرب خلوة الملك وأخفى أمره فلما خلا الملك بنفسه نبح نبيح الكلاب فلم يشك الملك في أنه كلب فقال انظروا ما هذا فعوى عوي الذئاب فنزل الملك عن سريره فنهق نهيق الحمير فمضى الملك هاربا ومضت الغلمان يتبعون الصوت فلما دنوا منه صهل صهيل الخيل فاقتحموا عليه وأخرجوه عريانا فلما وصلوا به إلى الملك ورآه مرزبان ضحك الملك ضحكا شديدا وقال له ما حملك على ما صنعت قال إن الله عز و جل مسخني كلبا وذئبا وحمارا وفرسا لما غضب علي الملك قال فأمر الملك أن يخلع عليه وأن يرد إلى مرتبته الأولى ومن الملح بعض الشعراء
( أيا من فاق حسنا واعتدالا ... وولج في عطيته الشبابا )
( أما في مال ردفك من زكاة ... فتدخل فيه لي هذا النصابا ) وحكى الأصمعي أن عجوزا من الأعراب جلست في طريق مكة إلى فتيان يشربون نبيذا فسقوها قدحا فطابت نفسها فتبسمت

قدحا آخر فاحمر وجهها وضحكت فسقوها ثالثا فقالت خبروني عن نسائكم بالعراق أيشربن النبيذ قالوا نعم قالت زنين ورب الكعبة والله إن صدقتم ما فيكم من يعرف أباه
وصلى اعرابي خلف إمام فقرأ ( إنا أرسلنا نوحا إلى قومه ) ثم وقف وجعل يرددها فقال الأعرابي أرسل غيره يرحمك الله وأرحنا وأرح نفسك
وصلى آخر خلف إمام فقرأ ( فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي ) ووقف وجعل يرددها فقال الأعرابي يا فقيه إذا لم يأذن ذلك أبوك في هذا الليل نظل نحن وقوفا إلى الصباح ثم تركه وانصرف
ولزم أعرابي سفيان بن عيينة مدة يسمع منه الحديث فلما أن جاء ليسافر قال له سفيان يا أعرابي ما أعجبك من حديثنا قال ثلاثة أحاديث حديث عائشة رضي الله تعالى عنها عن النبي أنه كان يحب الحلوى والعسل وحديثه عليه الصلاة و السلام إذا وضع العشاء وحضرت الصلاة فابدأوا بالعشاء وحديث عائشة عنه ايضا ليس من البر الصوم في السفر وقيل لأعرابية ما صفة الإير عندكم قالت عصبة ينفخ فيها الشيطان فلا يرد أمرها وانفرد الرشيد وعيسى بن جعفر ومعه الفضل ين يحيى فإذا هو بشيخ من الأعراب على حمار وهو رطب العينين فقال له الفضل هل أدلك على دواء لعينيك قال ما أحوجني إلى ذلك قال خذ عيدان الهواء وغبار الماء فصيره في قش بيض الذر واكتحل به ينفعك فانحنى الشيخ وضرط ضرطة قوية وقال خذ هذه في لحيتك أجرة وصفتك وإن زدت زدناك فضحك الرشيد حتى استلقى على ظهر دابته وخرج معن بن زائدة في جماعة من خواصه للصيد فاعترضهم قطيع ظباء فتفرقوا في طلبه وانفرد معن خلف ظبي حتى انقطع عن أصحابه فلما ظفر به نزل فذبحه فرأى شيخا مقبلا من البرية على حمار فركب فرسه واستقبله فسلم عليه فقال من أين وإلى أين قال أتيت من أرض لها عشرون سنة مجدبة وقد أخصبت في هذه السنة فزرعتها مقثاة فطرحت في غير وقتها فجمعت منها ما استحسنته وقصدت به معن بن زائدة لكرمه المشكور وفضله المشهور ومعروفه المأثور واحسانه الموفور قال وكم أملت منه

قال ألف دينار قال فان قال لك كثير قال خمسمائة قال فإن قال لك كثير قال ثلاثمائة قال فان قال لك كثير قال مائة قال فان قال لك كثير قال خمسين قال فان قال لك كثير قال فلا أقل من الثلاثين قال فإن قال لك كثير قال أدخل قوائم حماري في حر أمه وأرجع إلى أهلي خائبا فضحك معن منه وساق جواده حتى لحق بأصحابه ونزل في منزله وقال لحاجبه إذا أتاك شيخ على حمار بقثاء فأدخل به علي فأتى بعد ساعة فلما دخل عليه لم يعرفه لهيبته وجلالته وكثرة حشمه وخدمه وهو متصدر في دسته والخدم والحفدة قيام عن يمينه وشماله وبين يديه فلما سلم عليه قال ما الذي أتى بك يا أخا العرب قال أملت الأمير وأتيته بقثاء في غير أوان فقال كم أملت فينا قال ألف دينار قال كثير فقال والله لقد كان ذلك الرجل ميشوما علي ثم قال خمسمائة دينار قال كثير فما زال إلى أن قال خمسين دينار فقال له كثير فقال لا أقل من الثلاثين فضحك معن فعلم الأعرابي أنه صاحبه فقال يا سيدي إن لم تجب إلى الثلاثين فالحمار مربوط بالباب وها معن جالس فضحك معن حتى استلقى على فراشه ثم دعا بوكيله فقال أعطه ألف دينار وخمسمائة دينار وثلاثمائة دينار ومائة دينار وخمسين دينار وثلاثين دينار ودع الحمار مكانه فتسلم الأعرابي المال وانصرف
الفصل الثاني في نوادر القراء والفقهاء
عن محمد بن عبد الله قال كنا في دهليز عثمان بن شيبة فخرج إلينا فقال إن والقلم في أي سورة ومر بعضهم بقارئ يقرأ ( ألم غلبت الترك في أدنى الأرض ) فقال له الروم فقال له كلهم أعداؤنا قاتلهم الله وكان جماعة يجلسون إلى أبي العيناء وفيهم رجل لا يتكلم فقيل له يوما كيف علمك بكتاب الله قال أنا عالم به فقيل له هذه الآية في أي سورة ( الحمد لله لا شريك له ) فقال له في سورة

الحمد فضحكوا عليه وجاء رجل إلى فقيه فقال أفطرت يوما في رمضان فقال اقض يوما مكانه قال قضيت وأتيت أهلي وقد علموا مأمونية فسبقتني يدي إليها فأكلت منها فقال اقض يوما آخر مكانه قال قضيت وأتيت أهلي وقد عملوا هريسة فسبقتني يدي إلهيا فقال أرى أن لا تصوم إلا ويدك مغلولة إلى عنقك وجاء رجل إلى بعض الفقهاء فقال له أنا عبد اله على مذهب ابن حنبل وإني توضأت وصليت فبينما أنا في الصلاة إذ أحسست ببلل في سراويلي يتلزق فشممته فإذا رائحته كريهة خبيثة فقال الفقيه عافاك الله خريت باجماع المذاهب وجاء رجل إلى فقيه قال أنا رجل أفسو في ثيابي حتى تفوح روائحي فهل يجوز لي أن أصلي في ثيابي قال نعم لكن لا كثر الله في المسلمين مثلك ووقع بين الأعمش وبين امرأته وحشة فسأل بعض أصحابه من الفقهاء أن يرضيها ويصلح بينها فدخل إليها وقال إن أبا محمد شيخ كبير فلا يزهدنك فيه عمش عينيه ودقة ساقيه وضعف ركبتيه ونتن إبطيه وبخر فيه وجمود كفيه فقال له الأعمش قم قبحك الله فقد أريتها من عيوبي ما لم تكن تعرفه وسكن بعض الفقهاء في بيت سقفه يقرقع في كل وقت فجاءه صاحب البيت يطلب الأجرة فقال له أصلح السقف فإنه يقرقع قال لا تخف فإنه يسبح الله تعالى قال أخشى أن تدركه رقة فيسجد
الفصل الثالث في نوادر القضاة
كان لبعض القضاة بغلة فقرأ يوما في المصحف ( وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ) فقال لغلامه اطلق البغلة ورزقها على الله فصارت البغلة تدور الأسواق والأزقة وتأكل من قشور الباذنجان وقشور الرمان وقشور البطيخ وقمامات الطريق فماتت فأمر الغلام بإحضار المشاعلية ليحملوها لظاهر المدينة فأحضرهم فطلبوا من القاضي عشرة

أجرة حملها وقالوا ليس لنا شيء نرتزق منه إلا من مثل هذا وسيدنا رجل غني وله أشياء كثيرة العدالة والتزويج والعقود والوراقة والسجن والإطلاق وجامكية الحكم وأجرة اليمين والتدريس والأقاف فقال لهم القاضي ألمثلي يقال هذا وأنتم لكم اثنا عشر بابا من المنافع منها الوسخ والزفر والهلع والولع وبيت النبذة وشركة النفوس وجباية الأسواق وحرق النار وسلب الشطار ولكم الضياح وثمن الإصلاح وما تروحوا من هذه البغلة بلا شيء جلدها للدباغين وذنبها للغرابلية ومعرفتها للشعار وتطبيقتها للبيطار قال فتقدم أحدهم إليه وقال بحق من تاب عليك ورد عاقبتك إلى خير وأراحك من هذا المعاش تصدق علينا بشيء ولا تدعنا نروح بلاش
تفسير هذه الألفاظ الزفر النساء الزانيات والوسخ المراحيض والهلع جباية الأسواق والولع القمار وبيت النبذة محل المزر وشركة النفوس كل من حمل ميتا ولحقوه قبل أن يخرج من باب البلد كانوا شركائه وسلب الشطار كل من شنقوه لهم سلبه وولي يحيى ابن أكثم قاضيا على أهل جبلة فبلغة أن الرشيد انحدر إلى البصرة فقال لأهل جبلة إذا اجتاز الرشيد فاذكروني عنده بخير فوعدوه بذلك فلما جاء الرشيد تقاعدوا عنه فسرح القاضي لحيته وكبر عمته وخرج فرأى الرشيد في الحراقة ومعه أبو يوسف القاضي فقال يا أمير المؤمنين نعم القاضي قاضي جبلة عدل فينا وفعل كذا وكذا وجعل يثني على نفسه فلما رآه أبو يوسف عرفه فضحك فقال له الرشيد مم تضحك فقال يا أمير المؤمنين المثني على القاضي هو القاضي فضحك الرشيد حتى فحص برجله الأرض ثم أمر بعزله فعزل وأحضر رجل ولده إلى القاضي فقال يا مولانا إن ولدي هذا يشرب الخمر ولا يصلي فأنكر ولده ذلك فقال أبوه يا سيدي أفتكون صلاة بغير قراءة فقال الولد إني أقرأ القرآن فقال له القاضي اقرأ حتى أسمع فقال
( علق القلب الربابا ... بعدما شابت وشابا )
( إن دين الله حق ... لا أرى فيه ارتيابا )

فقال أبوه إنه لم يتعلم هذا إلا البارحة سرق مصحف الجيران وحفظ هذا منه قال القاضي وأنا الآخر أحفظ آيه منها وهي
( فارحمي مضنى كئيبا ... قد رأى الهجر عذابا ) ثم قال القاضي قاتلكم الله يعلم أحدكم القرآن ولا يعمل به وتقدم اثنان إلى أبي صمصامة القاضي فادعى أحدهما على الآخر طنبور فأنكر فقال للمدعى ألك بينة فقال لي شاهدان فأحضر رجلين شهدا له فقال المدعى عليه سلهما يا سيدي عن صناعتهما فأخبر أحدهما أنه نباذ وقال الآخر أنه قواد فالتفت القاضي إلى المدعى عليه وقال أتريد على طنبور أعدل من هذين ادفع إليه طنبوره
وتحاكم الرشيد وزبيدة إلى أبي يوسف القاضي في الفالوذج واللوزينج أيهما أطيب فقال أبو يوسف أنا لا أحكم على غائب فأمر الرشيد باحضارهما وقدما بين يدي أبي يوسف فجعل يأكل من هذا مرة ومن هذا مرة حتى نصف الجامين ثم قال يا أمير المؤمنين ما رأيت أعدل منهما كلما أردت أن أحكم لأحدهما أتى الآخر بحجته وأتى بعض المجان لبعض القضاة فقال يا سيدي إن امرأتي قحبانا فقال له القاضي طلقهانا فقال عشقانا فقال قودهانا وادعى رجل عند قاض على امرأة حسناء بدين فجعل القاضي يميل إليها بالحكم فقال الرجل أصلح الله القاضي حجتي أوضح من هذا النهار فقال له القاضي اسكت يا عدو الله فإن الشمس أوضح من النهار قم لا حق لك عليها فقالت المرأة جزاك الله عن ضعفي خيرا فقد قويته فقال الرجل لا جزاك الله عن قوتي خيرا فقد أوهيتها ورفعت امرأة زوجها إلى القاضي تبغي الفرقة وزعمت أنه يبول في الفراش كل ليلة فقال الرجل للقاضي يا سيدي لا تعجل علي حتى أقص عليك قصتي إني أرى في منامي كأني في جزيرة في البحر وفيها قصر عالي وفوق القصر قبة عالية وفوق القبة جمل وأنا على ظهر الجمل وإن الجمل يطأطئ برأسه ليشرب من البحر فإذا رأيت ذلك بلت من شدة الخوف فلما

سمع القاضي ذلك بال في فراشه وثيابه وقال يا هذه أنا قد أخذني البول من هول حديثه فكيف بمن يرى الأمر عيانا
وحكي أن تاجرا عبر إلى حمص فسمع مؤذنا يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن أهل حمص يشهدون أن محمدا رسول الله فقال والله لأمضين إلى الإمام وأسأله فجاء إليه فرآه قد أقام الصلاة وهو يصلي على رجل ورجله الأخرى ملوثة بالعذرة فمضى إلى المحتسب ليخبره بهذا الخبر فسأل عنه فقيل إنه في الجامع يبيع الخمر فمضى إليه فوجده جالسا وفي حجره مصحف وبين يديه باطية مملؤة خمرا وهو يحلف للناس بحق المصحف أن الخمرة صرف ليس فيها ماء وقد ازدحمت الناس عليه وهو يبيع فقال والله لأمضين إلى القاضي وأخبره فجاء إلى القاضي فدفع الباب فانفتح فوجد القاضي نائما على بطنه وعلى ظهره غلام يفعل فيه الفاحشة فقال التاجر قلب الله حمص فقال القاضي لم تقول هذا فأخبره بجميع ما رأى فقال يا جاهل أما المؤذن فإن مؤذننا مرض فاستأجرنا يهوديا صيتا يؤذن مكانه فهو يقول ما سمعت وأما الإمام فإنهم لما أقاموا الصلاة خرج مسرعا فتلوثت رجله بالعذرة وضاق الوقت فأخرجها من الصلاة واعتمد على رجله الأخرى ولما فرغ غسلها وأما المحتسب فإن ذلك الجامع ليس له وقف إلا كرم وعنبه ما يؤكل فهو يعصره خمرا ويبيعه ويصرف ثمنه في مصالح الجامع وأما الغلام الذي رأيته فإن أباه مات وخلف مالا كثيرا وهو تحت الحجر وقد كبر وجاء جماعة شهدوا عندي أنه بلغ فأنا أمتحنه فخرج التاجر ن البلد وحلف أنه لا يعود إليها أبدا
الفصل الرابع في نوادر النحاة
وقف نحوي على بياع يبيع أرزا بعسل وبقلا بخل فقال بكم الأرز بالأعسل والأخلل بالأبقل فقال بالأصفع في الأرؤس والأضرط في الأذقن ووقع نحوي في كنيف فجاء كناس ليخرجه فصاح به الكناس ليعلم أهو حي أم لا فقال له النحوي أطلب لي حبلا دقيقا وشدني شدا وثيقا واجذبني جذبا رفيقا فقال الكناس امرأته طالق إن أخرجتك منه ثم تركه وانصرف وكان لبعضهم ولد نحوي يتقعر في كلامه فاعتل أبوه علة شديدة أشرف منها على الموت فاجتمع عليه أولاده وقالوا له ندعو لك فلانا أخانا قال لا إن جاءني قتلني فقالوا نحن نوصيه أن لا يتكلم فدعوه فلما دخل عليه قال له يا أبت قل لا إليه إلا الله تدخل بها الجنة وتفوز من النار يا أبت والله ما أشغلني عنك إلا فلان فإنه دعاني بالأمس فأهرس وأعدس واستبذج وسكبج وطهبج وأفرج ودجج وأبصل وأمضر ولوزج وافلوزج فصاح أبوه غمضوني فقد سبق ابن الزانية ملك الموت إلى قبض روحي وجاء نحوي يعود مريضا فطرق بابه فخرج إليه ولده فقال كيف وجدت أباك قال يا عم ورمت رجليه قال لا تلحن قل رجلاه ثم ماذا قال ثم وصل الورم إلى ركبتاه قال لا تلحن قل إلى ركبتيه ثم ماذا قال مات وأدخله الله في بظر عيالك وعيال سيبويه ونفطويه وجحشويه وعاد بعضهم نحويا فقال ما الذي تشكوه قال حمى جاسية نارا حامية منها الأعضاء واهية والعظام باليه فقال له لا شفاك الله بعافية يا ليتها كانت القاضية
الفصل الخامس في نوادر المعلمين
قال الجاحظ مررت بمعلم صبيان وعنده عصا طويلة وعصا قصيرة وصولجان وكرة وطبل وبوق فقلت ما هذه فقال عندي صغار أوباش فأقول لأحدهم اقرأ لوحك فيصفر لي بضرطة فأضربه بالعصا القصيرة فيتأخر فأضربه بالعصا الطويلة فيفر من بين يدي فأضع الكرة في الصولجان وأضربه فأشجه فتقوم إلي الصغار كلهم بالألواح

في الأذقن ووقع نحوي في كنيف فجاء كناس ليخرجه فصاح به الكناس ليعلم أهو حي أم لا فقال له النحوي أطلب لي حبلا دقيقا وشدني شدا وثيقا واجذبني جذبا رفيقا فقال الكناس امرأته طالق إن أخرجتك منه ثم تركه وانصرف وكان لبعضهم ولد نحوي يتقعر في كلامه فاعتل أبوه علة شديدة أشرف منها على الموت فاجتمع عليه أولاده وقالوا له ندعو لك فلانا أخانا قال لا إن جاءني قتلني فقالوا نحن نوصيه أن لا يتكلم فدعوه فلما دخل عليه قال له يا أبت قل لا إله إلا الله تدخل بها الجنة وتفوز من النار يا أبت والله ما أشغلني عنك إلا فلان فإنه دعاني بالأمس فأهرس وأعدس واستبذج وسكبج وطهبج وأفرج ودجج وأبصل وأمضر ولوزج وافلوزج فصاح أبوه غمضوني فقد سبق ابن الزانية ملك الموت إلى قبض روحي
وجاء نحوي يعود مريضا فطرق بابه فخرج إليه ولده فقال كيف وجدت أباك قال يا عم ورمت رجليه قال لا تلحن قل رجلاه ثم ماذا قال ثم وصل الورم إلى ركبتاه قال لا تلحن قل إلى ركبتيه ثم ماذا قال مات وأدخله الله في بظر عيالك وعيال سيبويه ونفطويه وجحشويه وعاد بعضهم نحويا فقال ما الذي تشكوه قال حمى جاسية نارها حامية منها الأعضاء واهية والعظام بالية فقال له لا شفاك الله بعافية يا ليتها كانت القاضية
الفصل الخامس في نوادر المعلمين
قال الجاحظ مررت بمعلم صبيان وعنده عصا طويلة وعصا قصيرة وصولجان وكرة وطبل وبوق فقلت ما هذه فقال عندي صغار أوباش فأقول لأحدهم اقرأ لوحك فيصفر لي بضرطة فأضربه بالعصا القصيرة فيتأخر فأضربه بالعصا الطويلة فيفر من بين يدي فأضع الكرة في الصولجان وأضربه فأشجه فتقوم إلي الصغار كلهم بالألواح

فأجعل الطبل في عنقي والبوق في فمي وأضرب الطبل وأنفخ في البوق فيسمع أهل الدرب ذلك فيسارعون إلي ويخلصوني منهم
وحكى الجاحظ أيضا قال مررت على خربة فإذا بها معلم وهو ينبح نبيح الكلاب فوقفت أنظر إليه وإذا بصبي قد خرج من دار فقبض عليه المعلم وجعل يلطمه ويسبه فقلت عرفني خبره فقال هذا صبي لئيم يكره التعليم ويهرب ويدخل الدار ولا يخرج وله كلب يلعب به فإذا سمع صوتي ظن أنه صوت الكلب فيخرج فأمسكه وجاءت امرأة إلى المعلم بولدها تشكوه فقال له ما إن تنتهي وإلا فعلت بأمك فقالت يا معلم هذا صبي ما ينفع فيه الكلام فافعل ما شئت لعله ينظر بعينه ويتوب فقام وفعل بها أمام ولدها وقال الجاحظ رأيت معلما في الكتاب وحده فسألته فقال الصغار داخل الدرب يتصارعون فقلت أحب أن أراهم فقال أشير عليك بذلك فقلت لا بد قال فإذا جئت إلى رأس الدرب اكشف رأسك لئلا يعتقدوك المعلم فيصفعونك حتى تعمى وقال بعضهم رأيت معلما وقد جاء صغيران يتماسكان فقال أحدهما هذا عض أذني فقال الآخر لا والله يا سيدنا هو الذي عض أذن نفسه فقال المعلم يا ابن الزانية هو كان جمل يعض أذن نفسه وقال بعضهم رأيت معلما وهو يصلي العصر فلما ركع ادخل رأسه بين رجليه ونظر إلى الصغار وهم يلعبون وقال يا ابن البقال قد رأيت الذي عملت وسوف أكافئك إذا فرغت من الصلاة
وحكي عن الجاحظ أنه قال ألفت كتابا في نوادر المعلمين وما هم عليه من التغفل ثم رجعت عن ذلك وعزمت على تقطيع ذلك فدخلت يوما مدينة فوجدت فيها معلما في هيئة حسنة فسلمت عليه فرد علي أحسن رد ورحب بي فجلست عنده وباحثته في القرآن فإذا هو ماهر فيه ثم فاتحته في الفقه والنحو وعلم المعقول وأشعار العرب فإذا هو كامل الآداب فقلت هذا والله مما يقوي عزمي على تقطيع الكتاب قال فكنت أختلف إليه وأزوره فجئت يوما لزيارته فإذا بالكتاب مغلق ولم أجده فسألت عنه فقيل مات فحزن عليه

وجلس في بيته للعزاء فذهبت إلى بيته وطرقت الباب فخرجت إلي جارية وقالت ما تريد قلت سيدك فدخلت وخرجت وقالت باسم الله فدخلت إليه وإذا به جالس فقلت عظم الله أجرك لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة كل نفس ذائق الموت فعليك بالصبر ثم قلت له هذا الذي توفي ولدك قال لا قلت فوالدك قال لا قلت فأخاك قال لا قلت فزوجتك قال لا فقلت وما هو منك قال حبيبتي فقلت في نفسي هذه أول المناحس فقلت سبحان الله النساء كثير وستجد غيرها فقال أتظن أني رأيتها قلت وهذه منحسة ثانية ثم قلت وكيف عشقت من لم تر فقال اعلم أني كنت جالسا في هذا المكان وأنا أنظر من الطاق إذ رأيت رجلا عليه برد وهو يقول
( يا أم عمرو جزاك الله مكرمة ... ردي علي فؤادي أينما كانا )
( لا تأخذين فؤادي تلعبين به ... فكيف يلعب بالإنسان إنسانا ) فقلت في نفسي لولا أن أم عمرو هذه ما في الدنيا أحسن منها ما قيل فيها هذا الشعر فعشقتها فلما كان منذ يومين مر ذلك الرجل بعينه وهو يقول
( لقد ذهب الحمار بأم عمرو ... فلا رجعت ولا رجع الحمار ) فعلمت أنها ماتت فحزنت عليها وأغلقت المكتب وجلست في الدار فقلت يا هذا إني كنت ألفت كتابا في نوادركم معشر المعلمين وكنت حين صاحبتك عزمت على تقطيعه والآن قد قويت عزمي على إبقائه وأول ما أبدأ أبدأ بك إن شاء الله تعالى
الفصل السادس في نوادر المتنبئين
ادعى رجل النبوة في أيام الرشيد فلما مثل بين يديه قال له ما الذي يقال عنك قال إني نبي كريم قال فأي شيء يدل على صدق دعواك قال سل عما شئت قال أريد أن تجعل هذه المماليك

المرد القيام الساعة بلحى فاطرق ساعة ثم رفع رأسه وقال كيف يحل أن أجعل هؤلاء المرد بلحى وأغير هذه الصورة الحسنة وإنما أجعل أصحاب هذه اللحى مردا في لحظة واحدة فضحك منه الرشيد وعفا عنه وأمر له بصلة وتنبأ إنسان فطالبون بحضرة المأمون بمعجزة فقال أطرح لكم حصاة في الماء فتذوب قالوا رضينا فأخرج حصاة معه وطرحها في الماء فذابت فقالوا هذه حيلة ولكن نعطيك حصاة من عندنا ودعها تذوب فقال لستم أجل من فرعون ولا أنا أعظم حكمة من موسى ولم يقل فرعون لموسى لم أرض بما تفعله بعصاك حتى أعطيك عصا من عندي تجعلها ثعبانا فضحك المأمون وأجازه وتنبأ رجل في أيام المعتصم فلما حضر بين يديه قال أنت نبي قال نعم قال وإلى من بعثت قال إليك قال أشهد أنك لسفيه أحمق قال إنما يبعث إلى كل قوم مثلهم فضحك المعتصم وأمر له بشيء وتنبأ رجل في أيام المأمون وادعى إنه إبراهيم الخليل فقال له المأمون إن إبراهيم كانت له معجزات وبراهين قال وما براهينه قال أضرمت له نارا وألقي فيها فصارت عليه بردا وسلاما ونحن نوقد لك نارا ونطرحك فيها فإن كانت عليك كما كانت عليه آمنا بك قال أريد واحدة أخف من هذه قال فبراهين موسى قال وما براهينه قال ألقى عصاه فإذا هي حية تسعى وضرب بها البحر فانفلق وأدخل يده في جيبه فأخرجها بيضاء قال وهذه علي أصعب من الأولى قال فبراهين عيسى قال وما هي قال إحياء الموتى قال مكانك قد وصلت أنا أضرب رقبة القاضي يحيى بن أكثم وأحييه لكم الساعة فقال يحيى أنا أول من آمن بك صدق وتنبأ آخر في زمن المأمون فقال المأمون أريد منك بطيخا في هذه الساعة قال أمهلني ثلاثة أيام قال ما أريده إلا الساعة قال ما أنصفتني يا أمير المؤمنين إذا كان الله تعالى الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ما يخرجه إلا في ثلاثة أشهر فما تصبر أنت علي ثلاثة أيام فضحك منه ووصله وتنبأ آخر في زمن المأمون فلما مثل بين يديه قال له من أنت قال أنا أحمد النبي قال لقد ادعيت زورا فلما رأى

الأعوان قد أحاطت به وهو ذاهب معهم قال يا أمير المؤمنين أنا أحمد النبي فهل تذمه أنت فضحك المأمون منه وخلى سبيله وتنبأ آخر في زمن المتوكل فلما حضر بين يديه قال له أنت نبي قال نعم قال فما الدليل على صحة نبوتك قال القرآن العزيز يشهد بنبوتي في قوله تعالى ( إذا جاء نصر الله والفتح ) وأنا إسمي نصر الله قال فما معجزتك قال ائتوني بامرأة عاقر أنكحها تحمل بولد يتكلم في الساعة ويؤمن بي فقال المتوكل لوزيره الحسن بن عيسى أعطه زوجتك حتى تبصر كرامته فقال الوزير أما أنا فأشهد أنه نبي الله وإنما يعطي زوجته من لا يؤمن به فضحك المتوكل وأطلقه وادعى رجل النبوة زمن خالد بن عبد الله القسري وعارض القرآن فأتى به إلى خالد فقال له ما تقول قال عارضت القرآن قال بماذا قال قال الله تعالى ( إنا أعطيناك الكوثر ) الآية وقلت إنا أعطيناك الجماهر فصل لربك وجاهر ولا تطع كل ساحر فأمر به خالد فضرب عنقه وصلب فمر به خلف بن خليفة الشاعر فضرب بيده على الخشبة وقال إنا أعطيناك العود فصل لربك من قعود وأنا ضامن لك أن لا تعود
وأتي المأمون برجل ادعى النبوة فقال له ألك علامة على نبوتك قال علامتي أني أعلم ما في نفسك قال وما في نفسي قال في نفسك أني كاذب قال صدقت ثم أمر به إلى السجن فأقام فيه أياما ثم أخرجه فقال هل أوحى إليك بشيء قال لا قال ولم قال لأن الملائكة لا تدخل الحبوس فضحك منه وخلى سبيله وأتي بامرأة تنبأت في أيام المتوكل فقال لها أنت نبية قالت نعم قال أتؤمنين بمحمد قالت نعم قال فإنه قال لا نبي بعدي قالت فهل قال لا نبية بعدي فضحك المتوكل وأطلقها وتنبأ رجل ي سمى نوحا وكان له صديق نهاه فلم يقبل فأمر السلطان بقتله فمر به صديقه فقال له يا نوح ما حصلت من السفينة إلا على الصاري

الفصل السابع في نوادر السؤال
وقف أعرابي بباب يسأل فقال له صغير من باب الدار بورك فيك فقال قبح الله هذا الفم لقد تعلمت الشر صغيرا ووقف سائل على باب فقال يا أصحاب المنزل فبادر صاحب الدار قبل أن يتم كلامه وقال فتح الله عليك فقال السائل يا قرنان كنت تصبر لعلي جئت أدعوك إلى وليمة وقال أبو عثمان الجاحظ وقف سائل بقوم فقال إني جائع فقالوا له كذبت فقال جربوني برطلين من الخبز ورطلين من اللحم ووقف سائل على باب فقالوا يفتح الله عليك فقال كسرة فقالوا ما نقدر عليها قال فقليل من بر أو فول أو شعيرقالوا لا نقدر عليه قال فقطعة دهن أو قليل زيت أو لبن قالوا لا نجده قال فشربة ماء قالوا وليس عندنا ماء قال فما جلوسكم ههنا قوموا فاسألوا فأنتم أحق مني بالسؤال
الفصل الثامن في نوادر المؤذنين
قيل لمؤذن ما نسمع أذانك فلو رفعت صوتك فقال إني أسمع صوتي من مسيرة ميل وقال بعضهم رأيت مؤذنا أذن ثم غدا يهرول فقلت له إلى أين فقال أحب أن أسمع أذاني أين بلغ واختصم رجلان في جارية فأودعاها عند مؤذن فلما أصبح وفرغ من الأذان قال لا إله إلا الله ذهبت الأمانة من الناس فقالوا له كيف ذهبت الأمانة من الناس قال هذه الجارية التي وضعت عندي قيل إنها بكر فلما أتيتها وجدتها ثيبا وسمع مؤذن حمص يقول في سحور رمضان تسحروا فقد أمرتكم وعجلوا في أكلكم قبل أن أؤذن فيسخم الله وجوهكم وشوهد مؤذن يؤذن من رقعة فقيل له ما تحفظ الأذان فقال سلوا القاضي فأتوه فقالوا السلام عليكم فأخرج دفترا وتصحيفة وقال وعليكم فعذروا المؤذن وسمعت امرأة

مؤذنا يؤذن بعد طلوع الشمس ويقول الصلاة خير من النوم فقالت النوم خير من هذه الصلاة ومر سكران بمؤذن رديء الصوت فجلد به الأرض وجعل يدوس بطنه فاجتمع إليه الناس فقال والله ما بي رداءة صوته ولكن شماتة اليهود والنصارى بالمسلمين
الفصل التاسع في نوادر النواتية
حكي أن بعض النواتية تولى أحد الكراسي السلطانية لما ساعده الزمان فبينما هو جالس في داره إذ سمع صوتا وراء الباب فقال لزوجته إني أسمع غاغة في البر حلي قلوعي واعملي أسفيرتي على جاموري وقدمي إلى إسقالة الرجل وقيميني بمدرة فامتثلت كلامه فنزل وجلس على مصطبته وقد علت مرتبته واصطفت المقدمون بين يديه ووقفت الحبرتية حوليه وإذا بشيخ قد أقبل وثيابه مقطعة وعمامته في حلقه والدم نازل من أنفه وهو يصيح بصوت عال أنا بالله وبالوالي فقال تعالى يا شيخ مالي أرى أرطمونك في حلقك وشبورتك مكسورة وأنت بتزلع ماء متغير وتقيم الهليلا في الساحل دخل عليك شرد غربي وإلا دخلت على بواجي فقال الشيخ والله يا سيدي بعض نواتية البحر عمل بي هذا فقال يا أولاد جيبوا غريمو بخنسوا عدته وقشطوا ظهره وجروه على مقدمه فامتثلوا كلام الأمير وجاءوا بالغريم فلما مثل بين يديه قال له ويلك هو أ نت بغنوس بسفر البحر أنت الذي قطعت القلس وخرجت في الشعث حتى لقيت هذا الرجل نطحت مخطمته وكسرت اسقالته لو انصلح كنت علمتك في بدراوة وعلقتك في الصاري فلما سمع الرجل كلام الوالي علم أنه من أولاد المعيشة فقال له بهمترة النواتية والله يا خوند هو كار زني في معاشي اجصطن على الوحسة وأنا عايم في الليل إلا وشرد جاني من الشرق كابس هز أطرافي وكسر شابورتي وقطع لباني وها هو يحمد الله على بر السلامة وإن كان انصلح فيه شيء فأنا بمرسوم الأمير أجيب له القلفاط أسد فتحه وأعيد له وسقه وأخليه يروح

في طريقه فقال له الوالي أنت بتقذف في وجهي وتطرح مقاديفك حتى نعبر على الحجر يا رجالة الصاري سلسلوا أطرافه وعروا مقاديفه وبلوا شيبنة اللبان وانزلوا عليه وأوسقوه الجنبين والظهر حتى تلعب المية على بطونسته هيا قوامك خلوا جنب برا وجنب جوا قدام الخن وراء الصاري فأكل علقة من كعبه إلى أذنه فقالت النواتية يا خوند هو خنفست عليه الطمية البحرية قال مدراتين وقيموه فلما أقاموه باس يد الأمير وقال يا خوند سألتك بهبوب الرياح وطيب النسيم الرب لا يبليك بجر اللبان في الحلافي وأنت حافي الصيافي ويكفيك شر الأربعينيات قال فرق عليه قلب الأمير وقال هل وحق من ضرب القلع باللبان الحلفا عند بخنسة الريح وفروغ الزاد بعيد من البلاد وعياط الركاب عند قيام الموجة وبعد البر في أيام النيل لولا شفاعة الركاب لكنت أهد سقالتك وأقعد في زوايدك حتى أخلي ظهرك جيفة فقال له والله يا خوند ما بقي جنبي يحمل هذا الوسق العظيم ولكن إن عدت أعبر لهذا الوجه أخسف من أضلاعي لوح غرقني بالقايم فقال له الأمير أحمد الله على السلامة واخرج في دي الطيابة وكتب له مرسوم وعلم عليه علامة الرياس البحرية للنواتية الله لك الله لي يا عملات على أبوس
الفصل العاشر في نوادر جامعة
سمعت امرأة في الحديث أن صوم يوم عاشوراء كفارة سنة فصامت إلى الظهر ثم أفطرت وقالت يكفيني كفارة ستة أشهر منها شهره رمضان وأسلم مجوسي في شهر رمضان فثقل عليه الصيام فنزل إلى سرداب وقعد يأكل فسمع ابنه حسه فقال من هذا فقال أبوك الشقي يأكل خبز نفسه ويفزع من الناس وسئل بعض القصاص عن نصراني قال لا إله إلا الله لا غير إذا مات أين يده قال يدفن بين مقابر المسلمين والنصارى ليكون مذبذبا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء وأهدى إلى سالم القصاص خاتم بلا فص فقال إن صاحب هذا الخاتم يعطى في الجنة

غرفة بلا سقف وبنى بعض المغفلين نصف دار وبنى رجل آخر النصف الآخر فقال المغفل يوما قد عولت على بيع النصف الذي لي وأشتري به النصف الآخر لتكمل لي الدار كلها وسئل جامع الصيدلاني عن عمر ابنته فقال لا أدري إلا أن أمها ذكرت أنها ولدتها في أيام البراغيث وقيل لطفيلي أي سورة تعجبك من القرآن قال المائدة قال فأي آية قال ( ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ) قيل ثم ماذا قال ( آتنا غداءنا ) قيل ثم ماذا قال ( ادخلوها بسلام آمنين ) قيل ثم ماذا قال ( وما هم منها بمخرجين ) وقيل لعثمان بن دراج الطفيلي يوما كيف تصنع بدار العرس إذا لم يدخلك أصحابها قال أنوح على بابهم فيتطيرون من ذلك فيدخلوني وقيل له أتعرف بستان فلان قال إي والله إنه الجنة الحاضرة في الدنيا قيل لم لا تدخله وتأكل من ثماره وتستظل بأشجاره وتسبح في أنهاره قال لأن فيه كلبا لا يتمضمض إلا بدماء عراقيب الرجال وقيل له يوما ما هذه الصفرة التي في لونك قال من الفترة من المضيفين وقال مرت بنا جنازة يوما ومعي ابني ومع الجنازة امرأة تبكي وتقول الآن يذهبون بك إلى بيت لا فراش فيه ولا غطاء ولا وطاء ولا خبز ولا ماء فقال ابني يا أبت إلى بيتنا والله يذهبون وحكي عن هارون الرشيد أنه أرق ذات ليلة أرقا شديدا فقال لوزيره جعفر بن يحيى البرمكي إني أرقت هذه الليلة وضاق صدري ولم أعرف ما أصنع وكان خادمه مسرور واقفا أمامه فضحك فقال له ما يضحكك استهزاء بي أم استخفافا فقال وقرابتك من سيد المرسلين ما فعلت ذلك عمدا ولكن خرجت بالأمس أتمشى بظاهر القصر إلى أن جئت إلى جانب الدجلة فوجدت الناس مجتمعين فوقفت فرأيت رجلا واقفا يضحك الناس يقال له ابن المغازلي فتفكرت الآن في شيء من حديثه وكلامه فضحكت والعفو يا أمير المؤمنين فقال له الرشيد ائتني الساعة به فخرج مسرور مسرعا إلى أن جاء إلى ابن المغازلي فقال له أجب أمير المؤمنين فقال سمعا وطاعة فقال له بشرط أنه إذا أنعم عليك بشيء يكون لك منه الربع والبقية لي فقال له بل اجعل لي النصف

ولك النصف فأبى فقال الثلث لي ولك الثلثان فأجابه إلى ذلك بعد جهد عظيم فلما دخل على الرشيد سلم فأبلغ وترجم فأحسن ووقف بين يديه فقال له أمير المؤمنين إن أنت أضحكتني أعطيتك خمسمائة دينار وإن لم تضحكني أضربك بهذا الجراب ثلاث ضربات فقال ابن المغازلي في نفسه وما عسى أن تكون ثلاث ضربات بهذا الجراب وظن في نفسه أن الجراب فارغ فوقف يتكلم ويتمسخر وفعل أفعالا عجيبة تضحك الجلمود فلم يضحك الرشيد ولم يتبسم فتعجب ابن المغازلي وضجر وخاف فقال له الرشيد الآن استحقيت الضرب ثم أنه أخذ الجراب ولفه وكان فيه أربع زلطات كل واحدة وزنها رطلان فضربه ضربة فلما وقعت الضربة في رقبته صرخ صرخة عظيمة وافتكر الشرط الذي شرطه عليه مسرور فقال العفو يا أمير المؤمنين اسمع مني كلمتين قال قل ما بدا لك قال إن مسرورا شرط علي شرطا واتفقت أنا وإياه على مصلحة وهو أن ما حصل لي من الصدقات يكون له فيه الثلثان ولي فيه الثلث وما أجابني إلى ذلك إلا بعد جهد عظيم وقد شرط علي أمير المؤمنين ثلاث ضربات فنصيبي منها واحدة ونصيبه اثنتان وقد أخذت نصيبي وبقي نصيبه قال فضحك الرشيد ودعا مسرورا فضربه فصاح وقال يا أمير المؤمنين قد وهبت له ما بقي فضحك الرشيد وأمر لهما بألف دينار فأخذ كل واحد منهما خمسمائة دينار ورجع ابن المغازلي شاكرا والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

الباب السابع والسبعون في الدعاء وآدابه وشروطه وفيه فصول
الفصل الأول في الدعاء وآدابه
قال الله تعالى ( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان ) اختلف في سبب نزولها فقال مقاتل إن عمر ابن الخطاب رضي الله تعالى عنه واقع امرأته بعدما صلى العشاء في رمضان فندم على ذلك وبكى وجاء إلى رسول الله فأخبره بذلك ورجع مغتما وكان ذلك قبل الرخصة فنزلت هذه الآية ( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب ) وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال قالت اليهود كيف يسمع ربنا دعاءنا وأنت تزعم أن بيننا وبين السماء خمسمائة عام وغلظ كل سماء مثل ذلك فنزلت هذه الآية وقال الحسن إن قوما قالوا للنبي أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه فنزلت هذه الآية قوله تعالى ( أجيب دعوة الداع إذا دعان ) أي أقبل عبادة من عبدني فالدعاء بمعنى العبادة والإجابة بمعنى القبول وقال قوم إن الله تعالى يجيب كل الدعاء فأما أن يعجل الإجابة في الدنيا وإما أن يكفر عن الداعي وإما أن يدخر له في الآخرة لما رواه أبو سعيد الخدري قال قال رسول الله ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث إما

يعجل له دعوته وإما أن يدخر له ثوابها وإما أن يكف عنه من السوء بمثلها وروي أنه إذا كان يوم القيامة واستقر أهل الجنة في الجنة فبينما العبد المؤمن في قصره وإذا ملائكة من عند ربه يأتونه بتحف من عند الله فيقول ما هذا أليس الله قد أنعم علي وأكرمني فيقولون ألست كنت تدعو الله في الدنيا هذا دعاؤك الذي كنت تدعوه قد أدخر لك
واعلم أن إجابة الدعاء لا بد لها من شروط فشرط الداعي أن يكون عالما بأن لا قادر إلا الله وأن الوسائط في قبضته ومسخرة بتسخيره وأن يدعو بنية صادقة وحضور قلب فإن الله تعالى لا يستجيب دعاء من قلب لاه وأن يكون متجنبا لأكل الحرام ولا يمل من الدعاء ومن شروط المدعو فيه أن يكون من الأمور الجائزة الطلب والفعل شرعا كما قال عليه الصلاة و السلام ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم فيدخل في الإثم كل ما يأثم به من الذنوب ويدخل في الرحم جميع حقوق المسلمين ومظالمهم قال ابن عطاء الله إن الدعاء أركانا وأجنحة وأسبابا وأوقاتا فإن وافق أركانه قوي وإن وافق أجنحته طار إلى السماء وإن وافق مواقيته فاز وإن وافق أسبابه نجح فأركانه حضور القلب والخشوع وأجنحته الصدق ومواقيته الأسحار وأسبابه الصلاة على النبي ومن شروط الدعاء أن يكون سليما من اللحن كما قال بعضهم
( ينادي ربه باللحن ليث ... كذلك إذ دعاه لا يجاب ) وقيل إن الله تعالى لا يستجيب دعاء عريف ولا شرطي ولا جاب ولا عشار ولا صاحب عرطبة وهي الطنبور ولا صاحب كوبة وهي الطبل الكبير الضيق الوسط ومن آداب الدعاء أن يدعو الداعي مستقبل القبلة ويرفع يديه لما روي عن رسول الله قال إن الله ربكم حي كريم ليستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا أو أن يمسح بهما وجهه بعد الدعاء لما روي عن عمر قال كان رسول الله إذا مد يديه في الدعاء لم يردهما حتى يمسح بهما وجهه وأن لا يرفع بصره إلى السماء لقوله " لينتهن أقوام عن رفع أبصارهم إلى السماء عند الدعاء أو ليخطفن الله أبصارهم " وأن يخفض الداعي صوته

بالدعاء لقوله تعالى ( ادعوا ربكم تضرعا وخفية ) وعن ابي عبد الرحمن الهمداني قال صليت مع أبي إسحاق الغداة فسمع رجلا يجهر في الدعاء فقال كن كزكريا إذ نادى ربه نداء خفيا وينبغي للداعي أن لا يتكلف وأن يأتي بالكلام المطبوع غير المسجوع لقوله ( إياكم والسجع في الدعاء بحسب أحدكم يقول اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل ) وقيل ادعوا بلسان الذلة والاحتقار ولا تدعوا بلسان الفصاحة والانطلاق وكانوا لا يزيدون في الدعاء على سبع كلمات فما دونها كما في آخر سورة البقرة وعن سفيان بن عيينة لا يمنعن أحدكم من الدعاء ما يعلم من نفسه فقد أجاب الله دعاء شر الخلق إبليس إذ قال ( رب انظرني إلى يوم يبعثون ) وعن النبي إذا سأل أحدكم مسألة فتعرف الإجابة فليقل الحمد لله على الذي بنعمته تتم الصالحات ومن أبطأ عليه من ذلك شيء فليقل الحمد لله على كل حال وعن سلمة بن الأكوع قال ما سمعت رسول الله يستفتح الدعاء يستفتح الدعاء إلا قال ( سبحان ربي الأعلى الوهاب ) وعن أبي سليمان الداراني من أراد أن يسأل الله حاجة فليبدأ بالصلاة على رسول الله وينبغي للمؤمن أن يجتهد في الدعاء وأن يكون على رجاء من الإجابة ولا يقنط من رحمة الله لأنه يدعو كريما
وللدعاء أوقات وأحوال يكون الغالب فيها الإجابة وذلك وقت السحر ووقت الفطر وما بين الأذان والإقامة وعند جلسة الخطيب بين الخطبتين إلى أن يسلم من الصلاة وعند نزول الغيث وعند التقاء الجيش في الجهاد في سبيل الله تعالى وفي الثلث الأخير من الليل لما جاء في الحديث ( إن في الليل ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله شيئا إلا أعطاه ) وفي حالة السجود لقوله عليه الصلاة و السلام أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء وما بين الظهر والعصر في يوم الأربعاء وأوقات الاضطرار وحالة السفر والمرض هذه كله جاءت به الآثار

قال جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه دعا رسول الله في مسجد الفتح ثلاثة أيام يوم الاثنين ويوم الثلاثاء واستجيب له يوم الأربعاء بين الصلاتين فعرفت السرور في وجهه قال جابر ما نزل بي أمر مهم غليظ إلا توخيت تلك الساعة فادعو فيها فاعرف الإجابة وفي بعض الكتب المنزلة يا عبدي إذا سألت فاسألني فإني غني وإذا طلبت النصرة فاطلبها مني فإني قوي وإذا أفشيت سرك فافشه إلي فإني وفي وإذا أقرضت فأقرضني فإني ملي وإذا دعوت فادعني فإني حفي ) وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله قال " ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له " وقال وهب بن منبه بلغني أن موسى مر برجل قائم يبكي ويتضرع طويلا فقال موسى يا رب أما تستجيب لعبدك ؟ فأوحى الله تعالى إليه " يا موسى لو أنه بكي حتى تلفت نفسه ورفع يديه حتى بلغ عنان السماء ما استجبت له " قال يا رب لم ذلك ؟ قال لأن في بطنه الحرام ومر إبراهيم بن أدهم بسوق البصرة فاجتمع الناس إليه وقالوا يا أبا إسحاق ما لنا ندعوا فلا يستجاب لنا ؟ قال لأن قلوبكم ماتت بعشرة أشياء الأول أنكم عرفتم الله فلم تؤدوا حقه الثاني زعمتم أنكم تحبون رسول الله ثم تركتم سنته الثالث قرأتم القرآن ولم تعملوا به الرابع أكلتم نعمة الله ولم تؤدوا شكرها الخامس قلتم إن الشيطان عدوكم ووافقتموه السادس قلتم إن الجنة حق فلم تعملوا لها السابع قلتم إن النار حق ولم تهربوا منها الثامن قلتم إن الموت حق فلم تستعدوا له التاسع انتبهتم من النوم واشتغلتم بعيوب الناس وتركتم عيوبكم العاشر دفنتم موتاكم ولم تعتبروا بهم
وكان يحيى بن معاذ يقول من أقر لله باساءته جاد الله عليه بمغفرته ومن لم يمن على الله بطاعته أوصله إلى جنته ومن أخلص لله في دعوته من الله عليه بإجابة وقال علي رضي الله تعالى عنه ارفعوا أفواج البلايا بالدعاء وعن أنس رضي الله تعالى عنه ( يرفعه ) " لا تعجزوا عن الدعاء فإنه لن يهلك مع الدعاء أحد "

الفصل الثاني في الأدعية وما جاء فيها
كان من دعاء شريح رحمه الله تعالى اللهم إني أسألك الجنة بلا عمل عملته وأعوذ بك من النار بلا ذنب تركته ودعت إعرابية عند البيت فقالت إلهي لك أذل وعليك أدل وكان من دعاء بعض الصالحين اللهم إن كنا عصيناك فقد تركنا من معاصيك أبغضها إليك وهو الإشراك وإن كنا قصرنا عن بعض طاعتك فقد تمسكنا بأحبها إليك وهو شهادة أن لا إله إلا أنت وإن رسلك جاءت بالحق من عندك
ومن دعاء سلام بن مطيع " اللهم إن كنت بلغت أحدا من عبادك الصالحين درجة ببلاء فبلغنيها بالعافية " وقيل لفتح الموصلي ادع الله لنا فقال اللهم هبنا عطاءك ولا تكشف عنا غطاءك وكان من دعاء بعض السلف اللهم لا تحرمني خير ما عندك لشر ما عندي فإن لم تقبل تعبي ونصبي فلا تحرمني أجر المصاب على مصيبته اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا ولا إلى الناس فنضيع وقال الحسن من دخل المقابر فقال اللهم رب الأرواح الفانية والأجساد البالية والعظام النخرة التي خرجت من الدنيا وهي بك مؤمنة أدخل عليها روحا من عندك وسلاما مني كتب الله بعدد من مات من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة حسنات
وحكي عن معروف القاضي أن الحجيج كانوا يجتهدون في الدعاء وفيهم رجل من التركمان ساكت لا يحسن أن يدعو فخشع قلبه وبكى فقال بلغته اللهم إنك تعلم أني لا أحسن شيئا من الدعاء فاسألك ما يطلبون منك بما دعوا فرأى بعض الصالحين في منامه أن الله قبل حج الناس بدعوة ذلك التركماني لما نظر إلى نفسه بالفقر والفاقة وقال الأصمعي حسدت عبد الملك على كلمة تكلم بها عند الموت وهي اللهم إن ذنوبي وإن كثرت وجلت عن الصفة فإنها صغيرة في جنب عفوك فاعف عني وركب إبراهيم بن أدهم في سفينة فهاجت الريح وبكى الناس وأيقنوا بالهلاك وكان إبراهيم نائما في كساء فاستوى جالسا وقال أريتنا

قدرتنا فأرنا عفوك فذهب الريح وسكن البحر وقال الثوري كان من دعاء السلف اللهم زهدنا في الدنيا ووسع علينا فيها ولا تزوها عنا ولا ترغبنا فيها وكان بعض الأعراب إذا آوى إلى فراشه قال اللهم إني أكفر بكل ما كفر به محمد وأؤمن بكل ما آمن به ثم يضع رأسه وسمعت بدوية تقول في دعائها يا صباح يا مناح يا مطعم يا عريض الجفنة يا أبا المكارم فزجرها رجل فقالت دعني أصف ربي وأمجد إلهي بما تستحسنه العرب وقال الزمخشري في كتابه " ربيع الأبرار " سمعت أنا من يدعو من العرب عند الركن اليماني يا أبا المكارم يا أبيض الوجه وهذا ونحوه منهم إنما يقصدون به الثناء على الله تعالى بالكرم والنزاهة عن القبيح على طريق الاستعارة لأنه لا فرق عندهم بين الكريم وأبي المكارم ولا بين الجواد والعريض الجفنة ولا بين المنزه والأبيض الوجه وقيل لأعرابي أتحسن أن تدعو ربك ؟ قال نعم قال اللهم إنك أعطيتنا الإسلام من غير أن نسألك فلا تحرمنا الجنة ونحن نسألك وذكر لعبد السلام بن مطيع أن الرجل تصيبه البلوى فيدعو فتبطئ عنه الإجابة فقال بلغني أن الله تعالى يقول كيف أرحمه من شيء به أرحمه وقال طاوس بينما أنا في الحجر ذات ليلة إذ دخل علي علي ابن الحسين فقلت رجل صالح من أهل بيت الخير لأسمعن دعاءه فسمعته يقول عبيدك بفنائك مسكينك بفنائك فقيرك بفنائك فما دعوت بهما في كرب إلا فرج عني ودعا أعرابي فقال اللهم إنا نبات نعمتك وقال ابن المسيب سمعت من يدعو بين القبر والمنبر اللهم إني أسألك عملا بارا ورزقا دارا وعيشا قارا فدعوت به فما وجدت إلا خيرا ودعت أعرابية بالموفق فقالت أسألك سترك الذي لا تزيله الرياح ولا تخرقه الرماح وقيل اتقوا مجانيق الضعفاء أي دعواتهم ودعا أعرابي فقال اللهم أمح ما في قلبي من كذب وخيانة واجعل مكانه صدقا وأمانة وصلى رجل إلى جنب عبد الله بن المبارك وبادر القيام فجذب ثوبه وقال أما لك إلى ربك حاجة ؟ وقال سفيان الثوري سمعت أعرابيا يقول اللهم إن كان رزقي في السماء فأنزله وإن كان في الأرض فأخرجه وإن كان بعيدان فقربه وإن

كان قريبا فيسره وإن كان قليلا فكثره وأن كان كثيرا فبارك لي فيه
وقال أبو نواس
( أحببت من شعر بشار وكلمته ... بيتا لهجت به من شعر بشار )
( يا رحمة الله حلي في منازلنا ... وجاورينا فدتك النفس من جار ) وكان بشار يعني بذلك جارية بصرية كان يحبها ويتغزل بها ونعني بها هنا رحمة الله التي وسعت كل شيء وسمع علي بن أبي طالب رضي الله عنه رجلا يقول وهو متعلق بأستار الكعبة يا من لا يشغله سمع عن سمع ولا تغلطه المسائل ولا يبرمه إلحاح الملحين أذقني برد عفوك وحلاوة مغفرتك فقال علي والذي نفسي بيده لو قلتها وعليك ملء السماوات والأرض من الذنوب لغفر لك ومن دعائه رضي الله عنه اللهم صن وجهي باليسار ولا تبدل جاهي بالاقتار فأسترزق طامعا رزقك من غيرك وأستعطف شرار خلقك وأبتلي بحمد من أعطاني وأفتتن بذم من منعني وأنت من وراء ذلك كله ولي الإجابة والمنع وعن أبي عباس رضي الله عنهما عن النبي قال " ما انتهيت إلى الركن اليماني قط إلا وجدت جبريل قد سبقني إليه يقول قل يا محمد " اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر والفاقة وهي من مواقف الخزي " وهبط جبريل على يعقوب فقال يا يعقوب إن الله تعالى يقول لك قل يا كثير الخير يا دائم المعروف رد علي ابني فقالها فأوحى الله تعالى إليه وعزتي لو كان ميتين لنشرتهما لك وكان أبو مسلم الخراساني إذا نابه أمر قال يا مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين وقال جعفر بن محمد ما المبتلي الذي اشتد بلاؤه بأحق بالدعاء من المعافى الذي لا يأمن وقوع البلاء وكان الزهري يدعو بعد الحديث بدعاء جامع فيقول اللهم إني أسألك من خير ما أحاط به علمك في الدنيا والآخرة وأعوذ بك من شر ما أحاط به علمك في الدنيا والآخرة وعن عقبة بن عبد الغافر دعوة في السر أفضل من سبعين دعوة في العلانية واعلم أن التوحيد والدعاء عند نوازل الملمات هو سفينة النجاة من الحوادث المهلكات

أبي الدرداء قال صلى بنا رسول الله العصر فمر بنا كلب فما بلغت يده رجله حتى وقع ميتا فلما انصرف رسول الله من صلاته قال من الداعي على الكلب آنفا ؟ قال رجل من القوم أنا يا رسول الله قال لقد دعوت الله باسمه الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى كيف دعوت الله ؟ قال قلت اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام وقيل أنه دخلت أذن رجل من أهل البصرة حصاة فعالجها الأطباء فلم يقدروا عليها حتى وصلت إلى صماخه فأتى إلى رجل من أصحاب الحسن فشكا له ما أصابه من الحصاة فدعا له بدعاء العلاء بن الحضرمي وهو " يا علي يا عظيم يا حليم يا عليم " قال الراوي فما برحنا حتى خرجت الحصاة من أذنه ولها طنين حتى ضربت الحائط وعن أنس إذا قال العبد يا رب يا رب يا رب يقول الله عز و جل لبيك عبدي وعنه قال مر رسول الله برجل وهو يقول يا أرحم الراحمين فقال له الرسول سل حاجتك فقد نظر إليك
وروي عن رسول الله أنه قال " إذا فتح الله على عبد الدعاء فليكثر فإن يستجيب له " وروي عن علي بن أبي زفر عن أخ له وكان فاضلا صالحا فقال دعوت الله أن يريني الاسم الأعظم الذي إذا دعي به أجاب فقمت ليلة أصلي فسمعت قعقعة في سقف البيت ثم هبط نور حتى صار تلقاء وجهي وإذا مكتوب بالنور فقرأته يا الله يا رحمن يا ذا الجلال والإكرام ومن دعاء الكرب ما روي عن وهب أن ابن عباس رضي الله عنهما قال له هل تجد فيما تقرأ من الكتب دعاء تدعو به عند الكرب ؟ قال نعم اللهم إني أسألك يا من يملك حوائج السائلين و يعلم ضمير الصامتين فإن لكل مسألة منك سمعا حاضرا و جوابا عتيدا ولكل صامت منك علما ناطقا محيطا أسألك بمواعيدك الصادقة وأياديك الفاضلة ورحمتك الواسعة أن تفعل بي كذا وكذا فقال ابن عباس هذا دعاء علمته في النوم ما كنت أرى أن أحدا يحسنه وعن وهب أيضا قال لما أهبط الله تعالى آدم من الجنة إلى الأرض استوحش لفقد أصوات الملائكة فهبط إليه جبريل وقال يا آدم هل

أعلمك شيئا تنتفع به في الدنيا والآخرة ؟ قال بلى قال قل اللهم أتمم النعمة حتى تهنيني المعيشة اللهم اختم لي بخير حتى لا تضرني ذنوبي اللهم أكفني مؤنة الدنيا وكل هول في القيامة حتى تدخلني الجنة معافى وعن معروف الكرخي قال اجتمعت اليهود أخزاهم الله على قتل عيسى عليه الصلاة و السلام بزعمهم وأهبط الله تعالى عليه جبريل وفي باطن جناحيه مكتوب اللهم إني أدعوك باسمك الأجل الأعز وأدعوك اللهم باسمك الأحد الصمد وأدعوك باسمك العظيم الوتر وأدعوك اللهم باسمك الكبير المتعالي الذي ملأ الأركان كلها أن تكشف عني ضر ما أصبحت وأمسيت فيه فأوحى الله عز و جل إلى جبريل أن أرفع عبدي إلي فقال رسول الله لأصحابه عليكم بهذا الدعاء ولا تستبطئوا الإجابة فإن ما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إسناد هذا متصل إلى معروف الكرخي ثم هو منقطع ولو لم يكن فيه من البركة إلا رواية معروف لكان كافيا في قبوله والعمل به حدث عبد الله بن أبان الثقفي رضي الله عنه قال وجهني الحجاج ابن يوسف في طلب أنس بن مالك فظننت أنه يتوارى عني فأتيته بخيلي ورجلي فإذا هو جالس على باب داره مادا رجليه فقلت له أجب الأمير فقال أي الأمراء ؟ فقلت أبو محمد الحجاج فقال غير مكترث به قد أذله الله ما أراني أعزه لأن العزيز من عز بطاعة الله والذليل من ذل بمعصية الله وصاحبك قد بغى وطغى واعتدى وخالف كتاب الله والسنة والله لينتقم الله منه فقلت له أقصر عن الكلام وأجب الأمير فقام معنا حتى حضر بين يدي الحجاج فقال له أنت أنس بن مالك ؟ قال نعم قال أنت الذي تدعو علينا وتسبنا ؟ قال نعم قال ومم ذاك ؟ قال لأنك عاص لربك مخالف لسنة نبيك تعز أعداء الله وتذل أوليائه فقال له أتدري ما أريد أن أفعل بك قال لا قال أريد أن أقتلك شر قتلة قال أنس لو علمت أن ذلك بيدك لعبدتك من دون الله قال الحجاج ولم ذاك قال لأن رسول الله علمني دعاء وقال من دعاء به في كل صباحي لم يكن لأحد عليه سبيل وقد دعوت به في صباح هذا فقال الحجاج

علمنيه فقال معاذ الله أن أعلمه لأحد ما دمت أنت في الحياة فقال الحجاج خلوا سبيله فقال الحاجب أيها الأمير لنا في طلبه كذا وكذا يوما حتى أخذناه فكيف تخلي سبيله قال رأيت على عاتقه أسدين عظيمين فاتحين أفواههما ثم أن أنسا رضي الله عنه لما حضرته الوفاة علم الدعاء لأخوانه وهو بسم الله الرحمن الرحيم باسم الله خير الأسماء باسم الله الذي لا يضر مع اسمه أذى باسم الله الكافي باسم الله المعافي باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم باسم الله على نفسي وديني باسم الله على أهلي ومالي باسم الله على كل شيء أعطانيه ربي الله أكبر الله أكبر الله أكبر أعوذ بالله مما أخاف وأحذر الله ربي لا أشرك به شيئا عز جارك وجل ثناؤك وتقدست أسماؤك ولا إله غيرك اللهم إني أعوذ بك من شر كل جبار عنيد وشيطان مريد ومن شر قضاء السوء ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم وهذا دعاء مشهور الإجابة وله شرح طويل وتركناه لطوله وهو اللهم كما لطفت في عظمتك دون اللطفاء وعلوت بعظمتك على العظماء وعلمت ما تحت أرضك كعلمك بما فوق عرشك وكانت وساوس الصدور كالعلانية عندك وعلانية القول كالسر في علمك وانقاد كل شيء لعظمتك وخضع كل ذي سلطان لسلطانك وصار أمر الدنيا والآخرة كله بيدك لا بيد غيرك اجعل لي من كل هم وغم أصبحت أو أمسيت فيه فرجا ومخرجا إنك على كل شيء قدير اللهم إن عفوك عن ذنوبي وتجاوزك عن خطيئتي وسترك عن قبيح عملي أظعمني أن أسألك ما لا أستوجبه منك مما قضيته لي أدعوك آمنا وأسألك مستأنسا لا خائفا ولا وجلا لأنك أنت المحسن إلي وأنا المسيء إلى نفسي فيما بيني وبينك تتودد إلي بالنعم مع غناك عني واتبغض إليك بالمعاصي مع فقري إليك فلم أر مولى كريما أعطف منك على عبد لئيم مثلي لكن الثقة بك حملتني على الجرأة على الذنوب فاسألك بجودك وكرمك وإحسانك مع طولك أن تصلي على محمد وآله وأن تفتح لي باب الفرج بطولك وتحبس عني باب الهم بقدرتك ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين فأعجز ولا إلى الناس فأضيع برحمتك يا أرحم الراحمين

وروى الحافظ النسفي باسناده عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال مر رسول الله برجل ساجد وهو يقول في سجوده اللهم إني استغفرك وأتوب إليك من مظالم كثير لعبادك قبلي فأيما عبد من عبادك أو أمة من إمائك كانت له قبلي مظلمة ظلمتها إياه في مال أو بدن أو عرض علمتها أو لم أستطع أن أتحللها فأسألك أن ترضيه عني بما شئت وكيف شئت ثم تهبها لي من لدنك إنك واسع المغفرة ولديك الخير كله يارب ما تصنع بعذابي ورحمتك وسعت كل شيء فلتسعني رحمتك فإني لا شيء وأسألك يارب أن تكرمني برحمتك ولا تهني بذنوبي وما عليك أن تعطيني الذي سألتك يارب يا الله فقال رسول الله ارفع رأسك فقد غفر الله لك إن هذا دعاء أخي شعيب عليه السلام وقال صالح المزني قال لي قائل في منامي إذا أحببت أن يستجاب لك فقل اللهم إني أسألك باسمك المحزون المكنون المبارك الطيب الطاهر المطهر المقدس فما دعوت بها في شيء إلا تعرفت الاجابة
وقيل إن هذا الدعاء فيه اسم الله الأعظم وهو بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إني أسألك بالعزة التي لا ترام والملك الذي لا يضام والعين التي لا تنام والنور الذي لا يطفأ وبالوجه الذي لا يبلى وبالديمومة التي لا تفنى وبالحياة التي لا تموت وبالصمدية التي لا تقهر وبالربوبية التي لا تستذل أن تجعل لنا في أمورنا فرجا ومخرجا حتى لا نرجو غيرك يا أرحم الراحمين وقال سيعد بن المسيب دخلت المسجد في ليلة مقمرة وأظن أني قد أصبحت وإذا الليل على حاله فقمت أصلي وجلست أدعو وإذا بهاتف يهتف من خلفي يا عبد الله قل قلت ما أقول قال قل اللهم إني أسألك بأنك ملك وأنت على كل شيء قدير وما تشاء من أمر يكون قال سعيد فما دعوت به قط في شيء إلا رأيت نجحه وعن الشيخ كمال لدين الدميري قال روينا عن قاضي القضاة عز الدين ابن جماعة قال أنبأنا الشيخ شرف الدين أبو العباس أحمد بن ابراهيم ابن مناع الفزاري خطيب دمشق أنبأنا الشيخ زين الدين أبو البقاء خالد بن يوسف النابلسي بقراءتي عليه قال أنبأنا الحافظ بهاء الدين ناصر السنة محمد بن الامام أبي محمد بن الحافظ أبي القاسم علي بن الحسين بن هبة الله

ابن عساكر قراءه عليه وأنا أسمع قال رويت بالاسناد وذكر إسناده إلى الإمام الحجة التابعي الجليل محمد بن سيرين قال نزلنا بنهر تيرا فأتانا أهل ذلك المنزل فقالوا لنا ارحلوا فإنه لم ينزل هذا المنزل أحد إلا أخذ متاعه فرحل أصحابي وتخلفت فلما أمسينا قرأت آيات فما نمت حتى رأيت أقواما قد أقبلوا وجاءوا إلى جهتي أكثر من ثلاثين نفرا وقد جردوا سيوفهم فلم يصلوا إلى فلما أصبحت رحلت فلقيني شيخ على فرس ومعه قوس عربية فقال لي يا هذا أنسي أنت أم جني فقلت بل أنا من بني آدم قال فما بالك لقد أتيناك في هذه الليلة أكثر من سبعين مرة وفي كل ذلك يحال بيننا وبينك بسور من حديد قلت حدثني ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله أنه قال من قرأ في ليلة ثلاثا وثلاثين آية لم يضره في تلك الليلة لص طار ولا سبع ضار وعوفي في نفسه وأهله وماله حتى يصبح فنزل عن فرسه وكسر قوسه وأعطى الله تعالى عهدا أن لا يعود لهذا الأمر وهذه الآيات وهي أن تقرأ بعد الفاتحة ( ألم ذلك الكتاب ) إلى قوله ( المفلحون ) وآية الكرسي إلى قوله ( هم فيها خالدون ) و ( آمن الرسول ) إلى آخر السورة و ( أن ربكم الله الذي ) إلى قوله ( المحسنين ) و ( قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن ) إلى آخر السورة ( والصافات صفا ) إلى قوله تعالى ( لازب ) و ( يا معشر الجن والإنس إن استطعتم ) إلى قوله ( فلا تنتصران ) ( لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا ) إلى آخرها ( وأنه تعالى جد ربنا ) إلى قوله ( شططا ) زاد البوني إلى قوله ( شهابا رصدا ) و ( الله من ورائهم محيط ) إلى قوله ( محفوظ ) قال محمد بن سيرين فذكرت هذا الحديث لشعيب بن حرب فقال كنا نسميها آيات الحرز ويقال إن فيها شفاء من مائة داء وعدوا منها الجذام وغير ذلك قال محمد بن علي قرأتها على شيخ لنا قد أفلج فأذهب الله تعالى ذلك الفالج قال البوني هذه الآيات شرفها مشهور وفضلها مذكور لا ينكرها إلا غبي أو غيور وقد جربها المشايخ وعرف سرها من له في العلم قدم راسخ وقدر شامخ وهي على ما رويناه بل ما رأيناه أولها الفاتحة ثم أول البقرة إلى آخر الآيات
وقال أبو العباس أحمد القسطلاني سمعت الشيخ أبا عبد الله القرشي

يقول سمعت أبا زيد القرطبي يقول في بعض الآثار أن من قال لا إله إلا الله سبعين ألف مرة كانت فداءه من النار فعملت ذلك رجاء بركة الوعد ففعلت منها لأهلي وعملت أعمالا ادخرتها لنفسي وكان إذ ذاك يبيت معنا شاب يكاشف بالجنة والنار وكانت الجماعة ترى له فضلا على صغر سنه وكان في قلبي منه شيء فاتفق أن استدعانا بعض الإخوان إلى منزله فنحن نتناول الطعام والشاب معنا إذ صاح صيحة منكرة واجتمع في نفسه وهو يقول يا عم هذه أمي في النار ويصيح بصياح عظيم لا شك من سمعه أنه عن أمر فلما رأيت ما به من الانزعاج قلت اليوم أجرب صدقه فألهمني الله تعالى السبعين ألفا ولم يطلع على ذلك إلا الله تعالى فقلت في نفسي الأثر حق والذين رووه لنا صادقون اللهم أن هذه السبعين ألفا فداء أم هذا الشاب من النار فما استتممت هذا الخاطر في نفسي إن قال يا عم هذه أمي أخرجت من النار والحمد لله فحصل عندي فائدتان امتحاني لصدق الأثر وسلامتي من الشاب وعلمي بصدقه ومن خاف إنسانا فليصل ركعتين بعد صلاة المغرب ثم يضع جبهته على التراب ويقول يا شديد المحال يا عزيزا أذللت بعزتك جميع من خلقت صل على محمد وآله وأكفني فلانا بما شئت كفاه الله تعالى شره وروى الثقفي رحمه الله تعالى بإسناده إلى محمد بن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنه أنه كان يقول لولده يا بني من أصابته مصيبة في الدنيا أو نزلت به نازلة فليتوضأ وليحسن الوضوء وليصل أربع ركعات أو ركعتين فإذا انصرف من صلاته يقول يا موضع كل شكوى ويا سامع كل نجوى ويا شاهد كل بلوى ويا منجي موسى والمصطفى محمد والخليل إبراهيم عليهم السلام أدعوك دعاء من اشتدت فاقته وضعفت حركته وقلت حيلته دعاء الغريب الغريق الفقير الذي لا يجد لكشف ما هو فيه إلا أنت يا أرحم الراحمين لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين قال علي بن الحسين رضي الله عنهما لا يدعو به مبتلي إلا فرج الله عنه وقيل الاسم الأعظم هو بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إني أسألك يا مؤنس كل وحيد يا قريبا غير بعيد يا شاهدا غير غائب يا غالبا غير مغلوب يا حي يا قيوم يا بديع السموات والأرض

ذا الجلال والإكرام أسألك باسمك بسم الله الرحمن الرحيم الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم وأسألك باسمك بسم الله الرحمن الرحيم الذي عنت له الوجوه وخشعت له الأصوات ووجلت له القلوب أن تصلي على محمد وعلى آله وأن تعطيني كذا وكذا إنك على كل شيء قدير وهذه أبيات الفرج لأحمد بن حمزة البوني قيل إن فيها اسم الله الأعظم وهي هذه
( إني لأرجو عطفة الله ولا ... أقول إن قيل متى ذاك متى )
( لا بد أن ينشر ما كان طوى ... جودا وأن يمطر ما كان خوى )
( وربما ينشر ما كان زوى ... وربما قدر ما كان لوى )
( وكل شيء ينتهي إلى مدى ... والشيء يرجى كشفه إذا انتهى )
( لطائف الله وإن طال المدى ... كلمحة الطرف إذا الطرف رمى )
( كم فرج بعد إياس قد أتى ... وكم سرور قد أتى بعد الأسى )
( من لاذ بالله نجا فيمن نجا ... من كل ما يخشى ونال ما رجا )
( سبحان من نهفوا ويعفوا دائما ... ولم يزل مهما هفا العبد عفا )
( يعطي الذي يخطي ولا يمنعه ... جلاله من العطا لذي الخطا ) ومن المنظوم أيضا
( يا من يرى ما في الضمير ويسمع ... أنت المعد لكل ما يتوقع )
( يا من يرجى للشدائد كلها ... يا من إليه المشتكى والمفزع )
( يا من خزائن رزقه في قول كن ... أمنن فإن الخير عندك أجمع )
( مالي سوى فقري إليك وسيلة ... فبالافتقار إليك فقري أدفع )
( مالي سوى قرعي لبابك حيلة ... فلئن رددت فأي باب أقرع )
( ومن الذي أدعو وأهتف باسمه ... إن كان فضلك عن فقيرك يمنع )

( حاشا لجودك أن تقنط عاصيا ... الفضل أجزل والمواهب أوسع )
( ثم الصلاة على النبي وآله ... خير الأنام ومن به يتشفع ) وقال آخر
( يا خالق الخلق يارب العباد ومن ... قد قال في محكم التنزيل أدعوني )
( إني دعوتك مضطرا فخذ بيدي ... يا جاعل الأمر بين الكاف والنون )
( نجيت أيوب من بلواه حين دعا ... بصير أيوب يا ذا اللطف نجيني )
( واطلق سراحي وامنن بالخلاص كما ... نجيت من ظلمات البحر ذا النون ) ثم يقرأ ( وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ) قال بعضهم
( يارب ما زال لطف منك يشملني ... وقد تجدد بي ما أنت تعلمه )
( فاصرفه عني كما عودتني كرما ... فمن سواك لهذا العبد يرحمه ) وقال آخر
( يا من تحل بذكره ... عقد النوائب والشدائد )
( يا من إليه المشتكى ... وإليه أمر الخلق عائد )
( يا حي يا قيوم يا ... صمد تنزه عن مضادد )
( أنت الرقيب على العباد ... وأنت في الملكوت واحد )
( أنت المعز لمن أطاعك ... والمذل لكل جاحد )
( إني دعوتك والهموم ... جيوشها نحوي تطارد )
( فافرج بحولك كربتي ... يا من له حسن العوائد )

( فخفي لطفك يستعان ... به على الزمن المعاند )
( أنت الميسر والمسبب ... والمسهل والمساعد )
( يسر لنا فرجا قريبا ... يا إلهي لا تباعد )
( كن راحمي فلقد يئست ... من الأقارب والأباعد )
( ثم الصلاة على النبي ... وآله الغر الأماجد )
( وعلى الصحابة كلهم ... ما خر للرحمن ساجد )
دعاء عظيم مأثور اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني إلى بغيض يتجهمني أو إلى قوي ملكته أمري إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ولكن عافيتك أوسع لي أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن يحل بي غضبك أو ينزل بي سخطك فلك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة لنا إلا بك يارب العالمين
ومما جاء في أدعية الناس بعضهم لبعض دعا رجل لآخر فقال سرك الله بما ساءك ولا ساءك فيما سرك ودعا رجل لآخر فقال لا أخلاك الله تعالى من ثناء صادق باق ودعاء صالح واق ودعا أعرابي لآخر فقال رحب واديك وعز ناديك ولا ألم بك ولا طاف بك عدم وسلمك الله ولا أسلمك وسمعت بعض العرب يدعو لرجل ويقول سلمك الله تعالى من الرهق والوهق وعافاك الله تعالى من الوحل والزحل وسلمك الله من الشاردات والواردات وسلمك الله بين الأعنة والأسنة ودعا أعرابي لعبد الله بن جعفر رضي الله عنه فقال لا ابتلاك الله تعالى ببلاء يعجز عنه صبرك وأنعم عليك نعمة يعجز عنها شكرك وأبقاك ما تعاقب الليل والنهار وتناسخت الظلم والأنوار ودعا بعضهم لآخر فقال زودك الله تعالى

الأمن في مسيرك والسعد في مصيرك ولا أخلاك من شهر تستجده وخير من الله تستمده وعزى شبيب بن شبة يهوديا فقال أعطاك الله على مصيبتك ما أعطى أحدا من أهل ملتك
ومما جاء في الدعاء على الأعداء والظلمة ونحوهم دعا اعرابي على ظالم فقال لا ترك الله لك شفرا ولا ظفرا أي عينا ولا يدا ومن دعاء العرب فته الله فتا وحته حتا وجعل أمره شتى وخرج أعرابي إلى سفر وكانت له امرأة تكرهه فاتبعته نواة وقالت شط نواك ونأى سفرك ثم أتبعته روثة وقالت رثتك أهلك وورث خيرك ثم أتبعته حصاة وقالت حاص رزقك وحص أثرك ودعا أعرابي على آخر فقال أطفأ الله ناره وخلع نعليه أي جعله أعمى مقعدا ودعا أعرابي على آخر فقال سقاه الله دم جوفه أي قتل ابنه وأخذ ديته فشرب لبنها ودعا أعرابي على آخر فقال بعث الله عليه سنة فاشورة تحلقه كلما يحلق الشعر بالنورة ودعا رجل على أمير فقال
( أزال الله دولته سريعا ... فقد ثقلت على عنق الليالي ) وقالت امرأة من بني ضبة في زوجها
( وما دعوت عليه حين ألعنه ... إلا وآخر يتلوه بآمين )
( فليته كان أرض الروم منزله ... وليتني قبله قد صرت للصين ) وقال رسول في خطبته يوم الأحزاب اللهم كل سلاحهم واضرب وجوههم ومزقهم في البلاد تمزيق الريح للجراد ودعا رجل فقال اللهم أكفنا أعداءنا ومن أرادنا بسوء فلتحط به ذلك السوء إحاطة القلائد بترائب الولائد ثم أرسخه على هامته كرسوخ السجيل على هام أصحاب الفيل وحسبنا الله ونعم الوكيل
ولنختم هذا الباب بهذا الدعاء المبارك وهو اللهم إنك وغرقتنا بربوبيتك وغرقنا في بحار نعمتك ودعوتنا إلى دار قدسك ونعمتنا بذكرك وأنسك إلهي إن ظلمة ظلمنا لنفوسنا قد عمت وبحار الغفلة

على قلوبنا قد طمت والعجز شامل والحصر حاصر والتسليم أسلم وأنت بالحال أعلم إلهي ما عصيتك جهلا بعاقبك بعقابك ولا تعرضا لعذابك ولكن سولتها نفوسنا وأعانتنا شقوتنا وغرنا سترك علينا وأطمعنا عفوك برك بنا فالآن من عذابك من ينقذنا وبحبل من نعتصم إن قطعت حبلك عنا واخجلتاه غدا من الوقوف بين يديك وافضيحتاه إن عرضت فعالنا القبيحة عليك اللهم اغفر ما علمت ولا تهتك ما سترت إلهي إن كنا عصيناك بجهل فقد دعوناك بعقل حيث علمنا أن لنا ربا يغفر لنا ولا يبالي إلهي تحرق بالنار وجها كان لك مصليا ولسانا كان لك ذاكرا وداعيا لا بالذي دلنا عليك وأمرنا بالخشوع بين يديك وهو محمد خاتم أنبيائك وسيد أصفيائك فإن حقه علينا أعظم الحقوق بعد حقك كما أن منزلته لديك أشرف المنازل سيد خلقك ومعدن أسرارك صل يارب على محمد وآله وأصحابه وارحم عبادا غرهم طول أمهالك وأطمعهم كثرة أفضالك فقد ذلوا لعزك وجلالك ومدوا أكفهم لطلب نوالك ولولا ذلك لم يصلوا إلى ذلك اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولكل المسلمين أجمعين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

الباب الثامن والسبعون في القضاء والقدر وأحكامه والتوكل على الله عز و جل أعلم أن كل ما يجري في العالم من حركة وسكون وخير وشر ونفع وضر وإيمان وكفر وطاعة ومعصية فكل بقضاء الله وقدره وكذلك فلا طائر يطير بجناحيه ولا حيوان يدب على بطنه ورجليه ولا تطن بعوضة ولا تسقط ورقه إلا بقضائه وقدره وإرادته ومشيئته كما لا يجري شيء من ذلك إلا وقد سبق علمه به واعلم أن كل ما قضاه الله تعالى وقدره فهو كائن لا محالة كما أن ما في علم الله تعالى يكون فهو كائن قريب وما قدر الله وصوله إليك بعد الطلب فهو لا يصل إليك إلا بالطلب والطلب أيضا من القدر فإن تعسر شيء فبتقديره وإن اتفق شيء فبتيسيره فمن رام أمرا من الأمور ليس الطريق في تحصيله أنه يغلق بابه عليه ويفوض أمره لربه وينتظر حصول ذلك الأمر بل الطريق أن يشرع في طلبه على الوجه الذي شرعه له فيه وقد ظاهر النبي بين درعين واتخذ خندقا حول المدينة حين تحزبت عليه الأحزاب يحترس به من العدو وأقام الرماة يوم أحد ليحفظوه من خالد بن الوليد وكان يلبس لأمة الحرب ويهيئ الجيوش ويأمرهم وينهاهم لما فيه من مصالحهم واسترقى وأمر بالرقية وتداوى وأمر بالمداواة وقال الذي أنزل الداء أنزل الدواء فإن قيل قد روي أن النبي قال من استرقى أو اكتوى فهو برئ من التوكل قلنا أليس قد قال أعقلها وتوكل فإن قيل فما الجمع بين ذلك قلنا معناه من استرقى أو اكتوى متكلا على الرقية أو الكي وأن البرء من قبلهما خاصة فهذا يخرجه عن التوكل وإنما يفعله كافر يضيف

الحوادث إلى غير الله وقد أمرنا بالكسب والتسبب ألا ترى أن الله قال لمريم عليها السلام وهزي إليك بجذع النخلة فهلا أمرها بالسكون وحمل الرطب إلى فمها وأنشدوا في ذلك
( ألم تر أن الله قال لمريم ... وهزي إليك الجذع يساقط الرطب )
( ولو شاء أن تجنيه من غير هزها ... جنته ولكن كل شيء له سبب ) وقد تقدم هذا الشعر في باب الكسب والتسبب ولهذا قال رسول الله " لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا فلم يحمل أرزاقها إليها في أوكارها بل ألهمها طلبه بالغدو والرواح " وقد جمعوا بين الطلب والقدر فقالوا إنهما كالعدلين على ظهر الدابة أن أحمل في واحد منهما أرجح مما في الآخر سقط حمله وتعب ظهره وثقل عليه سفره وإن عادل بينهما سلم ظهره ونجح سفره وتمت بغيته وضربوا فيه مثالا عجيبا فقالوا إن أعمى ومقعدا كانا في قرية بفقر وضر لا قائد للأعمى ولا حامل للمقعد وكان في القرية رجل يطعمهما قوتهما في كل يوم احتسابا لله تعالى فلم يزالا بنعمة إلى أن هلك ذلك الرجل فلبثا أياما واشتد جوعهما وبلغ الضر منهما جهده فأجمع رأيهما على أن الأعمى يحمل المقعد فيدله المقعد على الطريق ببصره فاشتغل الأعمى بحمل المقعد ويدور به ويرشده إلى الطريق وأهل القرية يتصدقون عليهما فنجح أمرهما ولولا ذلك لهلكا فكذلك القدر سببه الطلب والطلب سببه القدر وكل واحد منهما معين لصاحبه ألا ترى أن من طلب الرزق والولد ثم قعد في بيته لم يطأ زوجته ولم يبذر أرضه معتمدا في ذلك على الله واثقا به أن تلد امرأته من غير مواقعة وأن ينبت الزرع من غير بذر كان عن المعقول خارجا ولأمر الله كارها قال الغزالي أما المعيل فلا يخرج عن حد التوكل بادخار قوت سنة لعياله جبرا لضعفهم وتسكينا لقلوبهم وقد أدخر رسول الله قوت

ونهى أم أيمن وغيرها أن تدخر شيئا وقال أنفق يا بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالا وقال عبد الله بن الفرج أطلعت على إبراهيم بن أدهم وهو في بستان بالشام فوجدته مستلقيا على قفاه وإذا بحية في فمها باقة نرجس فما زالت تذب عنه حتى انتبه فحسبك توكل يؤدي إلى هذا وعن عبد الله الهروي قال كنا مع الفضيل بن عياض على جبل أبي قيس فقال لو أن رجلا صدق في توكله على الله ثم قال لهذا الجبل اهتز لاهتز فوالله لقد رأيت الجبل اهتز وتحرك فقال له الفضيل رحمه الله تعالى لم أعنك رحمك الله فسكن وفي الإسرائيليات أن رجلا احتاج إلى أن يقترض ألف دينار فجاء إلى رجل من المتمولين فسأله في ذلك وقال له تمهل علي بدينك إلى أن أسافر إلى البلد الفلاني فإن لي مالا آتيك به وأوفيك منه وتكون مدة الأجل بيني وبينك كذا وكذا فقال له هذا غرر فأنا ما أعطيك مالي إلا أن تجعل لي كفيلا إن لم تحضر طلبته منه فقال الرجل الله كفيل بمالك وشاهد على أن لا أغفل عن وفائك فإن رضيت فافعل فداخل الرجل خشية الله تعالى وحمله التوكل على أن دفع المال للرجل فأخذه ومضى إلى البلد الذي ذكر فلما قرب الأجل الذي بينه وبين صاحبه جهز المال وقصد السفر في البحر فعسر عليه وجود مركب ومضت المدة وبعدها أيام وهو لا يجد مركبا فاغتم لذلك وأخذ الألف دينار وجعلها في خشبة وسمر عليها ثم قال اللهم إني جعلتك كفيلا بإيصال هذه إلى صاحبها وقد تعذر علي وجود مركب وعزمت على طرحها في البحر وتوكلت عليك في إيصالها إليه ثم نقش على الخشبة رسالة إلى صاحبها بصورة الحال وطرحها في البحر بيده وأقام في البلدة مدة بعد ذلك إلى أن جاءت مركب فسافر فيها إلى صاحب المال فابتدأه وقال أنت سيرت الألف دينار في خشبة صفتها كيت وكيت وعلهيا منقوش كذا وكذا قال نعم قال قد أوصلها الله تعالى إلي والله نعم الكفيل فقال فكيف وصلت إليك قال لما مضى الأجل المقدر بيني وبينك بقيت أتردد إلى

البحر لأجدك أو أجد من يخبرني عنك فوقفت ذات يوم إلى الشط وإذا بالخشبة قد استندت إلي ولم أر لها طالبا فأخذها الغلام ليجعلها حطبا فلما كسرها وجد ما فيها فأخبرني بذلك فقرأت ما عليها فعلمت أن الله تعالى حقق أملك لما توكلت عليه حق التوكل وقيل إن سبب بداية ذي النون المصري رحمه الله تعالى أنه رأى طيرا أعمى بعيدا عن الماء والمرعى فبينما هو يتفكر في أمر ذلك الطائر فإذا هو بسكرجتين برزتا من الأرض إحداهما ذهب والأخرى فضة هذه فيها ماء والأخرى فيها قمح فلقط القملبح وشرب الماء ثم غابا بعد ذلك فذهل ذو النون وانقطع إلى الله تعالى من ذلك الوقت
وحكي أن رجلا من أبناء الناس كانت له يد في صناعة الصياغة وكان أوحد أهل زمانه فساء حاله وافتقر بعد غناء فكره الإقامة في بلده فانتقل إلى بلد آخر فسأل عن سوق الصاغة فوجد دكانا لمعلم السلطنة وتحت يده صناع كثيرة يعملون الأشغال للسلطنة وله سعادة ظاهرة ما بين مماليك وخدم وقماش وغير ذلك فتوصل الصائغ الغريب إلى أن بقي من أحد الصناع الذين في دكان هذا المعلم وأقام يعمل عنده مدة وكلما فرغ النهار دفع له درهمين من فضة وتكون أجرة عمله تساوي عشرة دراهم فيكسب عليه ثمانية دراهم في كل يوم فاتفق أن الملك طلب المعلم وناوله فردة سوار من ذهب مرصعة بفصوص في غاية من الحسن قد علمت في غير بلاده كانت في يد إحدى محاظيه فانكسرت فقال له إلحمها فأخذها المعلم وقد اضطرب عليه في عملها فلما أخذها وأراها للصناع الذين عنده وعند غيره فما قال له أحد إنه يقدر على عملها فازداد المعلم لذلك غما ومضت مدة وهي عنده لا يعلم ما يصنع فاشتد الملك على إحضارها وقال هذا المعلم نال من جهتنا هذه النعمة العظيمة ولا يحسن أن يلحم سوارا فلما رأى الصانع الغريب شدة ما نال المعلم قال في نفسه هذا وقت المروءة اعملها ولا أؤاخذه ببخله علي وعدم إنصافه ولعله يسحن إلي بعد ذلك فحط يده في درج المعلم وأخذها وفك جواهرها وسبكها ثم صاغها كما كانت ونظم علهيا جواهرها فعادت أحسن مما كانت فلما رآها المعلم فرح

فرحا شديدا ثم مضى بها إلى الملك فلما رآها استحسنها وادعى المعلم أنها صنعته فأحسن إليه وخلع عليه خلعة سنية فجاء وجلس مكانه فبقي الصائغ يرجو مكافأته عما عامله به فما التفت إليه المعلم ولما كان النهار ما زاده على الدرهمين شيئا فما مضت إلا أيام قلائل وإذا الملك اختار أ يعمل زوجين أساور على تلك الصورة فطلب المعلم ورسم له بكل ما يحتاج إليه وأكد عليه في تحسين الصفة وسرعة العمل فجاء إلى الصانع وأخبره بما قال الملك فامتثل مرسومه ولم يزل منتصبا إلى أن عمل الزوجين وهو لا يزيده شيئا على الدرهمين في كل يوم ولا يشكره ولا يعده بخير ولا يتجمل معه فرأى المصلحة أن ينقش على زوج الأساور أبياتا يشرح فيها حاله ليقف عليها الملك فنقش في باطن أحدهما هذه الأبيات نقشا خفيفا يقول
( مصائب الدهر كفي ... إن لم تكفي فعفي )
( خرجت أطلب رزقي ... وجدت رزقي توفي )
( فلا برزقي أحظى ... ولا بصنعة كفي )
( كم جاهل في الثريا ... وعالم متخفي ) قال وعزم الصانع على أنه ظهرت الأبيات للمعلم إن شرح له ما عنده وإن غم عليه ولم يرها كان ذلك سبب توصله إلى الملك ثم لفهما في قطن وناولهما للمعلم فرأى ظاهرهما ولم ير باطنهما لجهله بالصنعة ولما سبق له في القضاء فأخذها المعلم ومضى بهما فرحا إلى الملك وقدمهما إليه فلم يشك الملك في أنهما صنعته فخلع عليه وشكره ثم جاء فجلس مكانه ولم يلتفت إلى الصانع وما زاده في آخر النهار شيئا على الدرهمين فلما كان اليوم الثاني خلا خاطر الملك فاستحضر الحظية التي عمل لها السوارين الذهب فحضرت وهما في يديها فأخذهما ليعيد نظره فيهما وفي حسن صنعتهما فقرأ الأبيات فتعجب وقال هذا شرح حال صانعهما والمعلم يكذب فغضب عند ذلك وأمر باحضار المعلم فلما حضر قال له من عمل هذين السوارين قال أنا أيها الملك قال فما سبب نقش هذه الأبيات قال لم يكن عليهما أبيات

قال كذبت ثم أراه النقش وقال إن لم تصدقني الحق لأضربن عنقك فأصدقه الحق فأمر الملك باحضار الصانع فلما حضر سأله عن حاله فحكى له قصته وما جرى له مع المعلم فرسم الملك بعزل المعلم وأن تسلب نعمته وتعطى للصانع وإن يكون عوضا عنه في الخدمة ثم خلع عليه خلعة سنية وصار مقدما سعيدا فلما نال هذه الدرجة وتمكن عند الملك تلطف به حتى رضي عن المعلم الأول وصارا شريكين ومكثا على ذلك إلى آخر العمر ورحم الله من قال
( إذا كان سعد المرء في الدهر مقبلا ... تدانت له الأشياء من كل جانب ) وقال آخر
( ما سلم الله هو السالم ... ليس كما يزعم الزاعم )
( تجري المقادير التي قدرت ... وأنف من لا يرتضي راغم ) وقال كعب بن زهير
( لو كنت أعجب من شيء لأعجبني ... سعي الفتى وهو مخبوء له القدر )
( يسعى الفتى لأمور ليس يدركها ... والنفس واحدة والهم منتشر )
( والمرء ما عاش ممدود له أمل ... لا ينتهي ذاك حتى ينتهي العمر ) وروي في الإسرائيليات أن نبيا من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مر بفخ منصوب وإذا بطائر قريب منه فقال له الطائر يا نبي الله هل رأيت أقل عقلا ممن نصب هذا الفخ ليصيدني به وأنا أنظر إليه قال فذهب عنه ذلك النبي ثم رجع وإذا بطائر في الفخ فقال له عجبا لك ألست القائل كذا وكذا آنفا فقال يا نبي الله إذا جاء الحين لم يبق أذن ولا عين ويروى أن رجلا قال لبرزجمهر تعال نتناظر في

القدر قال وما تصنع بالمناظرة قال رأيت شيئا ظاهرا استدللت به على الباطن رأيت جاهلا مبرورا وعالما محروما فعلمت أن التدبير ليس للعباد ولما قدم موسى بن نصير بعد فتح الأندلس على سليمان بن عبد الملك قال له يزيد بن المهلب أنت أدهى الناس وأعلمهم فكيف طرحت نفسك في يد سليمان فقال إن الهدهد ينظر إلى الماء في الأرض على ألف قامة ويبصر القريب منه والبعيد على بعد في التخوم ثم ينصب له الصبي الفخ بالدودة أو الحبة فلا يبصره حتى يقع فيه وأنشدوا في ذلك
( وإذا خشيت من الأمور مقدرا ... وفررت منه فنحوه تتوجه ) وقال آخر
( أقام على المسير وقد أنيخت ... مطاياه وغرد حادياها )
( وقال أخاف عادية الليالي ... على نفسي وأن ألقى رداها )
( مشيناها خطا كتبت علينا ... ومن كتبت عليه خطا مشاها )
( ومن كانت منيته بأرض ... فليس يموت في أرض سواها ) ولما قتل كسرى بزرجهمر وجد في منطقته كتاب فيه إذا كان القضاء حقا فالحرص باطل وإذا كان الغدر في الناس طباعا فالثقة بكل أحد عجز وإذا كان الموت بكل أحد نازلا فالطمأنينة إلى الدنيا حمق وقال ابن عباس وجعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى ( وكان تحته كنز لهما ) إنما كان الكنز لوحا من ذهب مكتوب فيه بسم الله الرحمن الرحيم عجبت لمن يوقن بالقدر كيف يحزن وعجبت لم يوقن بالرزق كيف ينصب وعجبت لمن يوقن بالموت كيف يفرح وعجبت لمن يوقن بالحساب كيف وعجبت لمن يرى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها لا إله إلا الله محمد رسول الله وحكي الطرطوشي رحمه الله تعالى في كتابه سراج الملوك قال من عجيب ما اتفق بالاسكندرية أن رجلا من خدم نائب الاسكندرية غاب

خدمته أياما ففي بعض الأيام قبض عليه صاحب الشرطة وحمله إلى دار النائب فانفلت في بعض الطرق وترامى في بئر والمدينة إذ ذاك مسردبة بسرداب يمشي الماشي فيه قائما فما زال الرجل يمشي إلى أن لاحت له بئر مضيئة فطلع منها فاذا البئر في دار النائب فملا طلع أمسكه النائب وأدبه فكان فيه المثل السائر الفار من القضاء الغالب كالمتقلب في يد الطالب وأنشدوا فيه
( قالوا تقيم وقد أحاط ... بك العدو ولا تفر )
( لا نلت خيرا أن بقيت ... ولا عداني الدهر شر )
( إن كنت أعلم أن ... غير الله ينفع أو يضر )

الباب التاسع والسبعون في التوبة والاستغفار قد تظاهرت دلائل الكتاب والسنة وإجماع الأمة على وجوب التوبة وأمر الله تعالى بالتوبة فقال ( وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون ) ووعد بالقبول فقال تعالى ( وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ) وفتح باب الرجاء فقال ( يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقطنوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم ) وروي في الصحيح عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه سمع رسول الله يقول أيها الناس توبوا إلى الله تعالى فإني أتوب إلى الله تعالى في اليوم مائة مرة وروى أحمد بن عبد الرحمن السلماني قال اجتمع أربعة من أصحاب رسول الله فقال أحدهم سمعت رسول الله يقول إن الله تعالى يقبل التوبة من عبده قبل أن يموت بيوم فقال الثاني أنت سمعت هذا من رسول الله قال نعم قال وأنا سمعته يقول إن الله تعالى يقبل توبته قبل أن يموت بنصف يوم فقال الثالث أنت سمعت هذا من رسول الله قال نعم قال وأنا سمعته يقول إن الله تعالى يقبل توبة العبد قبل موته بضحوة أو قال بضجعة

فقال الرابع أنت سمعت هذا من رسول الله ؟ قال نعم قال وأنا سمعته يقول إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن الرسول الله قال الله أفرح بتوبة عبده من رجل نزل بأرض دوية مهلكة معه راحلته فنام واستيقظ وقد ذهبت راحلته فطلبها حتى إذا أدركه الموت قال أرجع إلى المكان الذي ضللتها فيه وأموت فإني مكانه فغلبته عينه فاستيقظ وإذا راحلته عند رأسه فيها طعامه وشرابه وزاده وما يصلحه فالله أشد فرحا بتوبة عبده المؤمن من هذا براحلته وزاده وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال سمعت رسول الله يقول والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة رواه البخاري وعن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري رضي الله عنه عن النبي قال إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها رواه مسلم وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن نبي الله قال كان فيمن قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسا فسأل عن أعبد أهل الأرض فدل على راهب فأتاه فقال إنه قتل تسعة وتسعين نفسا فهل له من توبة ؟ قال لا فقتله وكمل به المائة ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم فأتاه وقال له أنه قد قتل مائة نفس فهل له من توبة ؟ قال نعم ومن يحل بينك وبين التوبة انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناسا يعبدون الله تعالى فأعبد الله تعالى معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء فانطلق حتى كان نصف الطريق أدركه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فقالت ملائكة الرحمة جاء تائبا مقبلا بقلبه إلى الله تعالى وقالت ملائكة العذاب إنه لم يعمل خيرا قط فأتاهم ملك في صورة آدمي فحكموه بينهم فقال قيسوا ما بين الأرضين فالى أيتهما كان أدنى ؟ فهو أقرب لها فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد فقبضته ملائكة الرحمة متفق عليه وفي الصحيحين فكان أدنى إلى أرض التوبة الصالحة فجعل من أهلها

وعن أبي نجيد بضم النون وفتح الجيم عمران بن الحصين الخزاعي رضي الله عنه أن امرأة من جهينة أتت رسول الله وهي حبلى من الزنا فقالت يا رسول الله أصبت حدا فأقمه علي فدعاني رسول الله فشدت عليها ثيابها ثم أمر بها فرجمت ثم صلى عليها فقال عمر يا رسول الله تصلي عليها وقد زنت ؟ قال لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم وهل وجدت أفضل ممن جادت بنفسها لله عز و جل رواه مسلم وعن أبي نصرة قال لقين مولى لأبي بكر رضي الله عنه فقلت له سمعت من أبي بكر شيئا قال نعم سمعته يقول قال رسول الله ما أصر من استغفر ولو عاد إلى الذنب في اليوم سبعين مرة وحكي أن نبهان التمار وكنيته أبو مقبل أتته امرأة حسناء تشتري تمرا فقال لها هذا التمر ليس بجيد وفي البيت أجود منه فذهب بها إلى بيته وضمها إلى نفسه وقبلها فقالت له اتق الله فتركها وندم على ذلك فأتى النبي فذكر له ذلك فأنزل الله تعالى ( والذين إذا فعلوا فاحشة ) إلى آخر الآية وعن أسماء بن الحكم الفزاري قال سمعت عليا يقول إني كنت رجلا إذا سمعت من رسول الله حديثا ينفعني الله منه بما شاء أن ينفعني وإذا حدثني أحد من أصحابه استحلفته فإذا حلف لي صدقته وإنه حدثني أبو بكر وصدق أبو بكر أنه سمع رسول الله يقول ما من عبد يذنب ذنبا فيحسن الطهور ويصلي ثم يستغفر الله إلا غفر له وروي في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال سمعت رسول الله يقول إذا أذنب العبد ذنبا فقال يا رب أذنبت ذنبا فاغفره لي قال الله عز و جل علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به فغفر له ثم إذا مكث ما شاء الله وأصاب ذنبا آخر فقال يا رب أذنبت

ذنبا فأغفر لي قال ربه علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي فليفعل ما شاء وكان قتادة رضي الله تعالى عنه يقول القرآن يدلكم على دائكم ودوائكم أما دواؤكم فالاستغفار وأما داؤكم فالذنوب وكان علي رضي الله تعالى عنه يقول العجب لمن هلك ومعه كلمة النجاة قيل وما هي ؟ قال الاستغفار وقال رسول الله من قال عشرا حين يصبح وحين يمسي أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه وأسأله التوبة والمغفرة من جميع الذنوب غفرت ذنوبه ولو كانت مثل رمل عالج ومن قال سبحانك ظلمت نفسي وعملت سوءا فأغفر لي ذنوبي فانه لا يغفر الذنوب إلا أنت غفرت ذنوبه ولو كانت مثل دبيب النمل وقال أبو عبد الله الوراق لو كان عليك من الذنوب مثل عدد القطر وزبد البحر محيت عنك إذا استغفرت بهذا الاستغفار وهو هذا اللهم إني أسألك وأستغفرك من كل ذنب تبت إليك منه عدت فيه وأستغفرك من كل ما وعدتك من نفسي ثم لم أوف لك به وأستغفرك من كل عمل أردت به وجهك فخالطه غيرك وأستغفرك من كل نعمة أنعمت بها علي فاستعنت بها على معصيتك يقول الله عز و جل لملائكته ويح ابن آدم يذنب الذنب ثم يستغفرني فأغفر له ثم يذنب الذنب فيستغفرني فاغف له لا هو يترك الذنب من مخالفتي ولا ييأس من مغفرتي أشهدكم يا ملائكتي إني قد غفرت له وقال بشر الحافي بلغني أن العبد إذا عمل الخطيئة أوحى الله تعالى إلى الملائكة الموكلين ترفقوا عليه سبع ساعات فان استغفرني فلا تكتبوها وإن لم يستغفرني فاكتبوها

نكتة قيل انقطع الغيث عن بني إسرائيل في زمن موسى عليه الصلاة و السلام حتى احترق النبات وهلك الحيوان فخرج موسى عليه الصلاة و السلام في بني إسرائيل وكانوا سبعين رجلا من نسل الأنبياء مستغيثين إلى الله تعالى قد بسطوا أيدي صدقهم وخضوعهم وقربوا قربان تذللهم وخشوعهم ودموعهم تجري على خدودهم ثلاثة أيام فلم يمطر لهم فقال موسى اللهم أنت القائل ادعوني أستجب لكم وقد دعوتك وعبادك على ما ترى من الفاقة والحاجة والذل فأوحى الله تعالى إليه يا موسى إن فيهم من غذاؤه حرام وفيهم من يبسط لسانه بالغيبة والنميمة وهؤلاء استحقوا أن أنزل عليهم غضبي وأنت تطلب لهم الرحمة كيف يجتمع موضع الرحمة وموضع العذاب ؟ فقال موسى ومن هم يا رب حتى نخرجهم من بيننا ؟ فقال الله تعالى يا موسى لست بهتاك ولا نمام ولكن يا موسى توبوا كلكم بقلوب خالصة فعساهم يتوبوا معكم فأجود بانعامي عليكم فنادى منادي موسى في بني إسرائيل إن اجتمعوا فاجتمعوا فاعلمهم موسى عليه الصلاة و السلام بما أوحى إليه و العصاة يسمعون فذرفت أعينهم ورفعوا مع ببني إسرائيل أيديهم إلى الله عز و جل وقالوا إلهنا جئناك من أوزارنا هاربين ورجعنا إلى بابك طالبين فارحمنا يا أرحم الراحمين فما زالوا كذلك حتى سقوا بتوبتهم إلى الله تعالى اللهم تب علينا وعلى سائر العصاة والمذنبين يا رب العالمين أوحى الله إلى داود عليه الصلاة و السلام يا داود لو يعلم المدبرون عني كيف انتظاري لهم ورفقي بهم وشوقي إلى ترك معاصيهم لماتوا شوقا إلي وتقطعت أوصالهم من محبتي يا داود هذه إرادتي في المدبرين عني فكيف إرادتي بالمقبلين على ولقد أحسن من قال
( أسيء فيجزي بالإساءة إفضالا ... وأعصي فيوليني برا وإمهالا )
( فحتى متى أجفوه وهو يبرني ... وأبعد عنه وهو يبدل إيصالا )
( وكم مرة قد عن نهج طاعة ... ولا حال عن ستر القبيح ولا زالا ) وهذا آخر ما يسره الله تعالى في هذا الباب والله أعلم بالصواب

الباب الثمانون فيما جاء في ذكر الأمراض والعلل والطب والدواء وما جاء في السنة من العبادة وما أشبه ذلك وفيه فصول
الفصل الأول في الأمراض والعلل وما جاء في ذلك من الاجر والثواب
روي عن عبد الله بن أنيس رضي الله تعالى عنه عن النبي أنه قال أيكم يحب أن يصح جسمه فلا يسقم ؟ فقالوا كلنا يا رسول الله قال أتحبون أن تكونوا كالحمير الصوالة ألا تحبون أن تكونوا أصحاب بلايا وأصحاب كفارات والذي بعثني بالحق نبيا أن الرجل لتكونن له الدرجة في الجنة فلا يبلغها بشيء من عمله فيبتليه الله تعالى ليبلغ درجة لا يبلغها بعمله وقال ما من مسلم يمرض إلا حط الله من خطاياه كما تحط الشجرة ورقها وكان يقول لا تزال الأوصاب والمصائب بالعبد حتى تتركه كالفضة البيضاء والنقية المصفاة
وقيل إن الناس قد حموا في فتح خيبر فشكوا إلى رسول الله فقال أيها الناس إن الحمى رائد الموت وسجن الله في الأرض وقطعة من النار فإذا وجدتم ذلك فبردوا لها الماء في الشنان ثم صبوا عليكم بين المغرب والعشاء ففعلوا ذلك فزالت عنهم
وعن انس رضي الله تعالى عنه قال دخل رسول الله على شاب وهو في الموت فقال له كيف تجدك ؟ فقال أرجو الله وأخاف ذنوبي فقال عليه الصلاة و السلام هما لا يجتمعان في قلب عبد في هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وآمنه مما يخاف

عفيرة بنت الوليد البصرية العابدة الزاهدة رحمها الله تعالى أنها سمعت رجلا يقول ما أشد العمى على من كان بصيرا فقالت له يا عبد الله عمى القلب عن الله أشد من عمي العين عن الدنيا والله لوددت أن الله وهب لي كنه معرفته ولم يبق مني جارحة إلا أخذها
وكتب مبارك لأخيه سفيان الثوري يشكو إليه ذهاب بصره فكتب إليه أما بعد فقد فهمت كتابك فيه شكاية ربك فاذكر الموت يهن عيك ذهاب بصرك والسلام وقيل لعطاء في مرضه ما تشتهي ؟ قال ما ترك خوف جهنم في قلبي موضعا للشهوة وأصاب ابن أدهم بطن فتوضأ في ليلة سبعين مرة وقيل لأعرابي في مرضه ما تشتهي ؟ قال الجنة فقيل أفلا ندعوا لك طبيبا ؟ قال طبيبي هو الذي أمرضني
الفصل الثاني من هذا الباب في ذكر العلل كالبخر والعرج والعمى والصمم والرمد والفالج وغير ذلك نسأل الله العفو والعافية والمعافاة في الدنيا والآخرة
قيل تسارر أبخر وأصم فقال له الأصم قد فهمت ثم فارقه فسأله رجل فقال والله لا أدري غير انه فسا في أذني وقيل ان عبد الملك بن مروان كان أبخرا فعض يوما على تفاحة ورمى بها إلى زوجته فدعت بسكين فقال ما تصنعين بها ؟ قالت أميط الأذى عنها فشق عليه ذلك منها فطلقها و سارر أبو الأسود الدؤلي سليمان ابن عبد الملك وكان أبو الأسود أبخر فستر سلميان أنفه بكمه فعبر أبو الأسود وهو يقول لا يصلح للخلافة من لا يقدر على مناجاة الشيوخ البخر وقيل طول انطباق الفم يورث البخر وكل رطب الفم سائل اللعاب سالم منه وقيل ان الزنج أطيب الناس أفواها والسباع موصوفة بالبخر ولا المثل مضروب بالأسد والصقر في البخر والكلب من بينهما طيب الفم وليس في البهائم أطيب أفواها من الظباء

وحكي أن أبخر تزوج بامرأة فلما ضاجعها عافته وتولت عنه بوجهها ثم أنشدت تقول
( يا حب والرحمن إن فاكا ... أهلكني فولني قفاكا )
( إذا غدوت فاتخذ مسواكا ... من عرفط ان لم تجد أراكا )
( لا تقربني بالذي سواكا ... إني أراك ماضغا خراكا ) في ديوان المنثور كم من ذي عرج في درج المعالي عرج وكم من صحيح قدم ليس له في الخير قدم وقيل ان من الصم من يسمع السر فإذا رفعت إليه الصوت لم يسمعه ورأيت من العمش من لا ينظر صورة الإنسان من قريب ولكن يقرأ الخط الرقيق الحواشي وقيل إن طريفا الشاعر مدح عمرو بن هداب وكان أبرص فلما انتهى إلى قوله ابرص فياض اليدين مهذب صاح به الناس وقالوا قطع الله لسانك فقال عمرو مه إن البرص مما تتفاخر به العرب أما سمعتم قول سهل حيث قال
( أيشتمني زيد بأن كنت أبرصا ... وكل كريم لا أبا لك أبرص )
( كفى حزنا أني أعاشر معشرا يخوضون ... بعض الحديث وأمسك )
( وما ذاك من عي ولا من جهالة ... ولكنه ما في للصوت مسلك )
( فان سد مني السمع فالله قادر ... على فتحه والله للعبد أملك ) ومما جاء في العمى ما روى عن النبي أنه قال من عدم أحدى كريمتيه ضمنت له على الله الجنة وكان أبو عبد الرحمن بن الحرث بن هشام يطعم الطعام وكان أعور فجعل أعرابي يطيل النظر إليه حابسا نفسه عن طعامه فكلمه المغيرة في ذلك فقال والله إني ليعجبني طعامك وتريبني عينك قال فما يريبك من عيني ؟ قال أعور وأراك تطمع الطعام وهذه صفة

فقيل له إن عينه اصيبت في فتح الروم فقال ان الدجال لا تصاب عينه في سبيل الله وعن أنس رضي الله تعالى عنه عن النبي أنه قال من قاد أعمى أربعين خطوة لم تمسه النار وقال علي كرم الله وجهه ربما أخطأ البصير قصده وأصاب الأعمى رشده وقال أبو علي البصير
( لئن كان يهديني الغلام لوجهتي ... ويقتادني في السير إذ أنا راكب )
( لقد يستضيء القوم بي في وجوههم ... ويخبو ضياء العين والقلب ثاقب ) وقال
( إذا عدمت طلابة العلم مالها ... من العلم إلا ماتسطر في القلب )
( غدوت بتشمير وجد عليهم ... ومحبرتي سمعي وها دفتري قلبي )
وقال
( إن يأخذ الله من عيني نورهما ... ففي لساني وسمعي منهما نور )
( فهمي ذكي وقلبي غير ذي غفل ... وفي فمي صارم كالسيف مشهور ) وقال
( عزاءك أيها العين السكوب ... وحقك انها نوب تنوب )
( وكنت كريمتي وسراج وجهي ... وكانت لي بك الدنيا تطيب )
( على الدنيا السلام فيما لشيخ ... ضرير العين في الدنيا نصيب )
( يموت المرء وهو يعد حيا ... ويخلف ظنه الأمل الكذوب )
( إذا ما مات بعضك فابك بعضا ... فإن البعض من بعض قريب ) وحكى أن ربيعة رمدت عينه فارسل إلى امرأة كان يحبها ثم أنشد يقول
( عينا ربيعة رمداوان فاحتسبي ... بنظرة منك تشفيه من الرمد )
( ان تكتحل بك عيناه فلا رمد ... على ربيعة يخشى آخر الأمد )

وعن عبد الرحمن بن قيس عن النبي أنه قال داء الأنبياء الفالج واللقوة قال الجاحظ ومن المفاليج سيدنا إدريس عليه الصلاة و السلام وأكثر ما يعتري المتوسطين من الناس لأن الشاب كثير الحرارة والشيخ كثير اليبس وقيل أن أبان بن عثمان كان أفلج حتى صار مثلا فكانت الناس تقول لا رماك الله بفالج ابن عثمان وكان معاوية ألوق وعبد الملك بن مروان أبخر وحسان أعمى وابن سيرين أصم وممن فلج ابن أبي دؤاد قاضي قضاة المعتصم كان من الشرف والكرم بمنزلة عظيمة قد ضرب المثل بفالجه قال الشاعر في رجل ضرب غلامه
( أتضرب مثله بالسوط عشرا ... ضربت بفالج ابن أبي دؤاد ) وشجة عبد الحميد كانت مثلا في الحسن وهو عبد الحميد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهم وكان بارعا في الحسن والجمال فزادته حسنا إلى حسنه حتى إن النساء كن يخططن في وجوههن شجة عبد الحميد وكان يقال لعمر بن عبد العزيز أشج بني أمية وكان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يقول ان من ولدي رجلا بوجهه أثر في جبهته قال أصبغ الله أكبر هذا أشج بني أمية يملأ الأرض عدلا وقال أعور لأبي الأسود ما الشيء ونصف الشيء ولا شيء فقال أما الشيء فالبصير كأنا وأما لا شيء فالأعمى وأما نصف الشيء فانت يا أعور اللهم اكفنا شر العاهات برحمتك ومنك وكرمك آمين
الفصل الثالث من هذا الباب في التداوي من الأمراض والطب
قال رسول الله تداووا فإن الذي أنزل الداء أنزل الدواء وقال ما أنزل الله داء إلا وله دواء عرفه من عرفه وجهله من جهله
وسئل رسول الله عن الدواء والرقي هل يردان شيئا من قضاء الله تعالى قال هما من قدر الله تعالى وقال عبد الله بن عكرمة عجيب لمن يحتمي من الطعام خوف الداء ولا يحتمي من الذنوب خوف النار

ان الربيع بن خيثم لما مرض قالوا له ألا ندعوا لك طبيبا فقال لهم إن مرضي من الطبيب وأنه متى أراد عافاني ولا حاجة لي بطبيبكم وأنشد
( فأصبحت لا أدعو طبيبا لطبه ... ولكنني أدعوك يا منزل القطر ) وعاد الفرزدق مريضا فقال
( يا طالب الطب من داء تخوفه ... إن الطبيب الذي أبلاك بالداء )
( فهو الطبيب الذي يرجى لعافية ... لا من يذيب لك الترياق بالماء ) قال ولما مرض بشر الحافي رحمه الله تعالى قالوا أندعوا لك طبيبا فقال إني بعين الطبيب يفعل بي ما يريد فألح عليه أهله وقالوا لا بد أن ندفع ماءك إلى الطبيب فقال لأخته ادفعي إليهم الماء في قارورة وكان بالقرب منهم رجل ذمي وكان حاذقا في الطب فأتوه بمائه في القارورة فلما رآه قال حركوه فحركوه ثم قال ضعوه ثم قال ارفعوه فقالوا له ما بهذا وصفت لنا قال وبم وصفت لكم قالوا بالحذق والمعرفة قال هو كما تقولون غير أن هذا الماء إن كان ماء نصراني فهو راهب قد فتتت كبده العبادة وإن كان مسلما فهو ماء بشر الحافي فإنه أوحد أهل زمانه في السلوك مع الله تعالى قالوا هو ماء بشر الحافي فاسلم النصراني وقطع زناره فلما رجعوا إلى بشر قال لهم أسلم الطبيب فقالوا ومن أعلمك قال لما خرجتم من عندي هتف لي هاتف وقال يا بشر ببركة مائك أسلم الطبيب وصار من أهل الجنة وفلج الربيع بن خيثم فقيل له هلا تداويت فقال قد عرفت أن الدواء حق ولكن عاد وثمود وقرون بين ذلك كثير كانت فيهم الأوجاع كثيرة والأطباء أكثر فلم يبق المداوي ولا المداوى وقد أبادهم الموت ثم قال هذا المفرد
( هلك المداوي والمداوى والذي ... جلب الدواء وباعه والمشتري ) وقيل لجالينوس حين نهكته العلة أما تتعالج فقال إذا كان الداء من السماء بطل الدواء من الأرض وإذا نزل قضاء الرب بطل حذر

المربوب ومر قوم بماء من مياه العرب فوصف لهم ثلاث بنات مطببات وهن من أجمل الناس فأحبوا أن يروهن فحكوا ساق أحدهم حتى أدموها ثم قصدوهن فقالوا هذا جريح مريض فهل من طبيب فخرجت صغراهن وهي كأنها الشمس الطالعة فلما رأت جرحه قالت ليس هو بمريض بل خدشه عود بالت عليه حية فإذا طلعت الشمس مات فكان الأمر كما قالت وقيل دواء كل مريض بعقاقير أرضه فإن الطبيعة تتطلع لهوائها وقالوا من قدم إلى أرض غير أرضه وأخذ من ترابها وجعله في مائها وشربه لم يمرض فيها وعوفي من وبائها واحتمى أحمد بن العدل لعلة أصابته فبرئ فقال الحمية طالع الصحة لأهل الدنيا تبرئهم من المرض ولأهل الآخرة تبرئهم من النار وقيل إن الأبدان المعتادة بالحمية آفتها التخليط والمعتادة بالتخليط آفتها الحمية لأن الحكماء تقول عودوا كل جسد بما اعتاد وكان كسرى أنو شروان يمسك عما تميل إليه شهوته ولا ينهمك عليه ويقول تركنا ما نحبه لنستغني عن العلاج بما نكرهه وقال لقمان لا تطيلوا الجلوس على الخلاء فإنه يورث الباسور وكانت هذه الحكمة مكتوبة على أبواب الحشوس أي الكنف وقيل كفى بالمرء عارا أن يكون صريع مأكله وقتيل أنامله
( فكم أكلة أكلت نفس حر ... وكم أكلة جلبت كل ضر ) وقيل من غرس الطعام أثمره الأسقام وعن بعض أهل البيت النبوي عليهم السلام أنه كان إذا أصابته علة جمع بين ماء زمزم والعسل واستوهب من مهر أهله شيئا وكان يقول قال الله تعالى ( ونزلنا من السماء ماء مباركا ) وقال تعالى ( فيه شفاء للناس ) وقال عليه الصلاة و السلام ماء زمزم لما شرب له وقال تعالى ( فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا ) من جمع بين ما بورك فيه وبين ما فيه شفاء وبين الهني المريء يوشك أن يلقى العافية وقيل خمسة من

المهلكات دخول الحمام على الشبع والمجامعة على الشبع وأكل القديد وشرب الماء البارد على الريق ومجامعة المرأة العجوز وقال لا تنكح العجوز ولا تخرج الدم وأنت مستغن عن إخراجه وقال الإمام رضي الله عنه
( توق مدى الأيام ادخال مطعم ... على مطعم من قبل هضم المطاعم )
( وكل طعام يعجز السن مضغة ... فلا تقربنه فهو شر لطاعم )
( ووفر على الجسم الدماء فإنها ... لقوة جسم المرء خير الدعائم )
( وإياك أن تنكح طواعن سنهم ... فإن لها سما كسم الأراقم )
( وفي كل أسبوع عليك بقيئة ... تكن آمنا من شر كل البلاغم ) ومما يورث الهزال النوم على غير وطاء وكثرة الكلام برفع الصوت وقال النظام رحمه الله تعالى ثلاثة تخرب العقل طول النظر في المرآة وكثرة الضحك والنظر إلى النجوم وفي الحديث احتجم رسول الله في أم مغيث وهي وسط الرأس وكان يحتجم في الأخدعين ونهى عن الحجامة في نقرة القفا فإنها تورث النسيان وأمر بالاستنجاء بالماء البارد فإنه أما من الباسور وخبط المأمون بمسجد مروان فوجد غالب أهل المسجد يشكون السعال فقال في آخر خطبته من كان يشكو سعالا فليتداو بالخل ففعلوا فعافاهم الله وقال بعض الحكماء إياك أن تطيل النظر في عين أمرد وإياك أن تسجد على حضير جديدة قبل أن تمسها بيدك فرب شظية حقرة قلعت عينا خطيرة وقيل كانت الأدوية تنبت في محراب سليمان عليه الصلاة و السلام ويقول كل دواء يا نبي الهل أنا دواء لكذا وكذا وقال لجالينوس البطنة تقتل الرجال وتورث الفالج والإسهال الذريع والاقعاد وصنفا من الجذام يقال له الفهد لا يسمع صاحبه ولا يبصر نسأل الله العفو والعافية وقيل البطنة تورث الصداع والكمنة في العينين والضربان في الأذنين والقولنج في البدن فعليك أيها الإنسان بالطريقة الوسطى واتق الليل وطعامه جهدك وقال

جالينوس الغم المفرط يميت القلب ويجمد الدم في العروق فيهلك صاحبه والسرور المفرط يلهب حرارة الدم حتى يغلب الحرارة الغريزية فيهلك صاحبه وقيل أنه وضع على مائدة المأمون في يوم عيد أكثر من ثلاثين لونا فكان يصف وهو على المائدة منفعة كل لون ومضرته فقال يحيى بن أكثم يا أمير المؤمنين أن خضنا في الطب فانت جالينوس في معرفته أو في النجوم فانت هرمس في صناعته أو في الفقه فانت علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه في علمه أو في السخاء فانت حاتم في كرمه أو في الحديث فانت أبو ذر في صدق لهجته أو في الوفاء فانت السمرءل ابن عادباء في وفائه فسر بكلامه وقال يا أبا محمد إنما فضل الإنسان على غيره بالعقل ولولا ذاك لكانت الناس والبهائم سواء وقال طبيب الهند إن منفعة الحقنة للجسد كمنفعة الماء للشجر وقال سفيان بن عيينة أجمع أطباء فارس على أن الداء ادخال الطعام على الطعام وقالوا ادخال اللحم على اللحم يقتل السباع في البر وقيل الشرب في آنية الرصاص أمان من القولنج وعرض رجل على طبيب قارورته فقال له ما هي قارورتك لأنه ماء ميت وأنت حي تكلمني فما فرغ من كلامه حتى خر الرجل ميتا وقيل إن ملكا من الملوك حصل عنده صداع في رأسه فأحضر الطبيب فأمره أن يضع قدميه في الماء الحار وكان عنده خصي فقال أين القدمان من الرأس فقال له الطبيب وأين وجهك من خصيتك نزعتا فذهبت لحيتك وقيل إن المأمون حصل له صداع بطرسوس فأحضر طبيبا كان عنده فلم ينفعه علاجه فبلغ قيصر فأرسل إليه قلنسوة وكتب له بلغني صداعك فضعها على رأسك يزل ما بك فخاف أن تكون مسمومة فوضعها على رأس القاصد فلم يصبه شيء ثم إنه أحضر رجلا به صداع فوضعها على رأسه فزال ما به فتعجب المأمون ثم إنه فتحها فوجد فيها رقعة مكتوبا فيها بسم الله الرحمن الرحيم كم من نعمة لله تعالى في عرق ساكن وغير ساكن حمسق لا يصدعون عنها ولا ينزفون من كلام الرحمن خمدت النيران ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وقال علي رضي الله تعالى عنه ادهنوا بالبنفسج فإنه حار في الشتاء بارد في الصيف وقال أيضا رضي الله عنه عليكم بالزيت فإنه يذهب البلغم ويشد العصب ويحسن

ويطيب النفس ويذهب الغم وعنه رضي الله عنه إن لم يكن في شيء شفاء ففي شرطة حاجم أو شربة من عسل وقال الحجاج لطبيبه أخبرنا بجوامع الطب فقال لا تنكح إلا فتاتا ولا تأكل من اللحم إلا فتيا وإذا تغديت فنم وإذا تعشيت فامش ولو على الشوك ولا تدخلن بطنك طعاما حتى تستمرئ ما فيه ولا تأو إلى فراشك حتى تدخل الخلاء وكل الفاكهة في إقبالها وذرها في إدبارها
وأوصى حكيم خليفته وصية ووعده أنه إذ لازمها لا يمرض إلا مرض الموت فقال إياك أن تدخل طعاما على طعام ولا تمش حتى تعيا ولا تجامع عجوزا ولا تدخل حماما على شبع وإذا جامعت فكن على حال وسط من الغذاء وعليك في كل اسبوع لقيئة ولا تأكل الفاكهة إلا في أوان نضجها ولا تأكل القديد من اللحم وإذا تغديت فنم وإذا تعشيت فأمش أربعين خطوة ونم على يسارك لتقطع الكبد على المعدة فينهضم ما فيها وتستريح الكبد من حرارة المعدة ولا تنم على يمينك فيبطيء الهضم ولا تأكل بشهوة عينيك بعد الشبع ولا تنم ليلا حتى تعرض نفسك على الخلاء أن احتجت إلى ذلك أو لم تحتج واقعد على الطعام وأنت تشتهيه وقم عنه وأنت تشتهيه قال بعضهم
( شره النفوس على الجسوم بلية ... فتعوذوا من كل نفس تشره )
( ما من فتى شرهت له نفس وإن ... نال الغنى إلا رأى ما يكره ) وقال أبو الفيض القضاعي بمدح الفضل وقد فصد
( أرقت دما لو تسكب المزن مثله ... لأصبح وجه الأرض أخضر زاهيا )
( دما طيبا لو يطلق الشرع شربه ... لكان من الأسقام للناس شافيا )

الفصل الرابع فيما جاء في العيادة وفضلها
قال رسول الله ثلاثة في ظل العرش عائد المريض ومشيع الموتى وطائع والديه وفي رواية ومعزى الثكلى ومن السنة تخفيف الجلوس في العيادة مرض بكر بن عبد الله المزني فعاده أصحابه فأطالوا الجلوس عنده فقال المريض يعاد والصحيح يزار قال الشاعر
( يعدن مريضا هن هيجن داءه ... ألا إنما بعض العوائد دائيا ) وقيل إذا دخل العواد على الملك فحقهم أن لا يسلموا عليه فيحوجوه إلى رد السلام ويتعبوه فإذا علموا أنه لاحظهم دعوا له وانصرفوا قيل مرض إنسان فكتب إليه بعض أصدقائه كشف الله عنك ما بك من السقم وطهرك بالعلة من الخطايا ومتعك بأنس العافية وأعقبك دوام الصحة ومرض إنسان فكتب إليه صديقه
( بإخوانك الأدنين لا بك كل ما ... شكوت إلي اليوم من ألم الود )
( فكل امرئ منهم بقدر احتماله ... وإن عجوزا عنه تحلمته وحدي ) ( وقال آخر )
( بي السوء والمكر وه لا بك كلما ... أراداك كانا بي وكان لك الأجر ) ( وقال عبد الله بن مصعب )
( مالي مرضت فلم يعدني عائد ... منكم ويمرض كلبكم فأعود ) فسمى بعد ذلك عائد الكلاب وعاد مالك بن أنس رضي الله تعالى عنه بعض المرضى فقال
( عادني مالك فلست أبالي ... بعد من عادني ومن يعدني )

وقال علي بن الجهم
( أراقد الليل مسرورا عدمت إذا ... عيشي وأحمد يرعى ليلة وصبا )
( الله يعلم أني قد نذرت له ... صيام شهر إذا ما أحمد ركبا ) ( وقال أخر )
( إذا مرضتم أتيناكم نعودكمو ... وتذنبون فنأتيكم ونعتذر ) ( وقال آخر )
( أعاذك الله من أشياء أربعة ... الموت والعشق والإفلاس والجرب ) وقيل إن حق العيادة يوم ويوم بعد يومين وعلى الأول قول الشاعر
( قالت مرضت فعدتها فتبرمت ... فهي الصحيحة والعليل العائد )
( والله لو أن القلوب كقلبها ... ما رق للولد الصغير الوالد ) ( وعلى الثاني قول بعضهم )
( حق العيادة يوم بعد يومين ... وجلسة مثل خلس اللحظ بالعين )
( لا تبرمن عليلا في مساءلة ... يكفيك من ذاك تسآل بحرفين ) وفضل العيادة مشهور وشرفها مذكور وبها تعظم الأجور وهذا ما انتهى إلينا من هذا الباب والله الموفق للصواب

الباب الحادي والثمانون في ذكر الموت وما يتصل به من القبر وأحواله
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال قال رسول الله إذا مات لأحدكم ميت فحسنوا كفنه وعجلوا انجاز وصيته وأعمقوا له في قبره وجنبوه جار السوء قيل يا رسول الله وهل ينفع الجار الصالح في الآخرة قال وهل ينفع في الدنيا قالوا نعم قال وكذلك في الآخرة ومن وصية علي رضي الله عنه لأبي ذر زر القبور تذكر بها الآخرة ولا تزرها بالليل وأغسل الموتى يتحرك قلبك وصل على الجنائز لعل ذلك يحزنك فإن الحزين في ظل الله تعالى ويقال جزعك في مصيبة صديقك أحسن من صبرك وصبرك في مصيبتك أحسن من جزعك ونظر فيلسوف إلى ميت يحمل إلى قبره فقال حبيب تحمله أهله إلى حبس الأبد ودخل عمرو بن العاص رضي الله عنه على معاوية في مرضة مرضها فقال له أعائذ أنت أم شامت فقال له عمر ولم تقول هذا والله ما كلفتني رهقا ولا أصدعتني زلقا ولا جرعتني علقا فلم أستطل حياتك ولم استبطئ وفاتك فأنشد معاوية يقول
( فهل من خالدين إذا هلكنا ... وهل في الموت بين الناس عار ) ولما مرض معاوية رضي الله عنه مرضه الذي مات فيه وفد إليه الناس يعودونه فقال لأهله مهدوا لي فراشا واسندوني وأوسعوا رأسي دهانا ثم أكحلوا عيني بالإثمد ثم ائذنوا للناس يدخلوا ويسلموا علي قياما ولا تجلسوا عندي أحدا ففعلوا ذلك فلما خرجوا من عنده أنشد يقول
( وتجلدي للشامتين أريهم ... أني لريب الدهر لا أتضعضع )
( وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع )

وقيل لما دنا منه الموت تمثل بهذا البيت
( هو الموت لا منجى من الموت والذي ... نحاذر بعد الموت أدهى وأقطع ) ثم قال رفع يديه وقال اللهم أقل العثرة وأعف عن الزلة وعد بحلمك على من لم يرج غيرك ولا يثق إلا بك فإنك واسع المغفرة وليس الذي خطيئة منك مهرب ومات رحمه الله تعالى وذكر أبو العباس الشيباني قال وفد على أبو دلف عشرة من أولاد علي بن أبي طالب رضي الله عنه في العلة التي مات فيها فأقاموا ببابه شهرا لا يؤذن لهم لشدة العلة التي أصيب بها ثم أفاق فقال لخادمه بشر إن قلبي يحدثني إن بالباب قوما لهم إلينا حوائج فافتح الباب ولا تمنعن أحدا قال فكان أول من دخل آل علي رضي الله عنه فسلموا عليه ثم ابتدأ الكلام رجل منهم من ولد جعفر الطيار فقال أصلحك الله أنا من أهل بيت رسول الله وفينا من ولده وقد حطمتنا المصائب وأجحفت بنا النوائب فان رأيت أن تجبر كسيرا وتغني فقيرا لا يملك قطميرا فأفعل فقال لخادمه خذ بيدي وأجلسني ثم أقبل معتذرا إليهم ودعا بدواة وقرطاس وقال ليكتب كل منكم بيده أنه قبض مني ألف دينار قالوا فبقينا والله متحيرين فلما أن كتبنا الرقاع ووضعناها بين يديه قال لخادمه علي بالمال فوزن لكل واحد منا ألف دينار ثم قال لخادمه يا بشر إذا أنا مت فادرج هذه الرقاع في كفني فإذا لقيت محمدا في القيامة كانت حجة لي إني قد أغنيت عشرة من ولده ثم قال يا غلام ادفع لكل واحد منهم ألف درهم ينفقها في طريقه حتى لا ينفق من الألف دينار شيئا حتى يصل إلى موضعه قال فأخذناها ودعونا له وانصرفنا ثم مات رحمه الله وقيل لما دفن عمر بن عبد العزيز نزل عند دفنه مطر من السماء فوجدوا بردة مكتوبا فيها بالنور ( بسم الله الرحمن الرحيم أمان لعمر بن عبد العزيز من النار ) وقيل لأعرابي إنك تموت قال وإلى أين أذهب قالوا إلى الله تعالى فقال لا أكره أن أذهب إلى من لا أرى الخير إلا منه وبكى الخولاني عند موته فقيل له ما يبكيك قال أبكي لطول السفر وقلة الزاد وقد سلكت عقبة ولا أدري إلى أين أهبط وإلى أي مكان

أسقط ودخل ملك الموت على داود عليه السلام فقال له من أنت قال أنا الذي لا يهاب الملوك ولا تمنع منه القصور ولا يقبل الرشا فقال إذن أنت ملك الموت وإني لم أستعد بعد فقال له يا داود أين فلان جارك أين فلان قريبك قال ماتا قال أما كان لك في موت هؤلاء عبرة لتستعد بها ثم قبضه عليه السلام ( وفي الخبر ) من حديث حميد الطويل عن أنس بن مالك عن النبي قال إن الملائكة تكتنف العبد وتحتبسه ولولا ذلك لكان يعدو في الصحراء والبراري من شدة سكرات الموت وقد أجمعت الأمة على أن الموت ليس له زمن من معلوم فليكن المرء على أهبة من ذلك وقيل بينما حسان جالس وفي حجره صبي يطعمه الزبد بالعسل إذ شرق الصبي فمات فقال
( إعمل وأنت صحيح مطلق فرح ... ما دمت ويحك يا مغرور في مهل )
( يرجو الحياة صحيح ربما كمنت ... له المنية بين الزبد والعسل ) وقيل إن المأمون لما قربت وفاته دخل عليه بعض أصدقائه فوجده قد فرش له جلد دابة وبسط عليه الرماد وهو يتمرغ فيه ويقول يا من لا يزول ملكه ارحم من زال ملكه ولما احتضر عمرو بن العاص دعا بغل وقيد وقال ألبسوني أياهما فإني سمعت رسول الله يقول إن التوبة مقبولة ما لم يغرغر ابن آدم بنفسه ثم استقبل القبلة وقال اللهم إنك أمرتنا فعصينا فارتكبنا وهذا مقام العائذ بك فان تعف فأنت أهل العفو وإن تعاقب فبما قدمت يداي لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ثم مات وهو مغلول القيد فبلغ ذلك الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما فقال استسلم الشيخ ولعلها تنفعه
ولما احتضر المعتصم جعلوا يهونون عليه فقال هان على النظارة ما يمر بظهر المجلود وسمع أبو الدرداء رجلا في جنازة يقول من هذا فقال أنت فإن كرهت فأنا وقيل مات عكرمة مولى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وكثير عزة في يوم واحد فقال اللهم كما

جمعتهما في زيارة القبور فلا تفرق بينهما يوم النشور فما بقي في المدينة أحد إلا استحسن كلامه ولما احتضر ابراهيم الخليل عليه الصلاة و السلام قال هل رأيت خليلا يقبض روح خليله فأوحى الله إليه هل رأيت خليلا يكره لقاء خليله قال فاقبض روحي الساعة وقيل إذا قضى الله لرجل أن يموت بأرض جعل له إليها حاجة فيسيره إليها وقال بعضهم
( إذا ما حمام المرء كان ببلدة ... دعته إليها حاجة فيطير )
حكي أن شابا تقيا من بني إسرائيل كان يجتمع مع سليمان عليه السلام ويحضر مجالسه فبينما هو عند سليمان في مجلسه إذ دخل ملك الموت عليه فلما رآه الشاب صفر لونه وارتعدت فرائضه وقال يا نبي الله إني خفت من هذا الرجل فمر الريح أن تذهب بي إلى الهند فأمر سليمان الريح فذهبت به فما كان إلا قليل حتى دخل ملك الموت على سليمان وهو متعجب فقال له سليمان مم تعجب قال أعجب أني أمرت بقبض روح الشاب الذي كان عندك بأرض الهند ودخلت عليك فوجدته عندك فصرت متعجبا ثم توجهت إلى الهند فرأيته هناك وقبضت روحه فهذا عجبي فقال له سليمان إنه لما رآك خاف وانزعج وطلب مني أن تحمله الريح إلى الهند فأمرتها فحملته وفي ذلك المعنى قال محمد بن الحسن
( ومتعب الروح مرتاح إلى بلد ... والموت يطلبه في ذلك البلد ) وقيل إن الإنسان يحصل له عند الموت قوة حركة نحو ما يحصل للسراج عند انطفائه من حركة سريعة وضياء ساطع وتسميها الأطباء النعشة الأخيرة والله أعلم وقيل إن الرشيد ماتت له جارية وكانت من خواص محاظيه فجزع عليها جزعا شديدا فقال لبعض أصدقائه أما ترى ما بليت به ما أحببت أحدا إلا مات فقال يا أمير المؤمنين أحببني فقال ويحك إن الحب ليس هو شيء يصنع إنما هو شيء يقع

القلب تسوقه الأسباب فقال قل أنا أحبك قال نعم أحبك فحم من وقته ومات
وفي الحديث المرفوع كسر عظم الميت ككسره في حياته وقال يزيد بن أسلم لقد كان يمضي في الزمن الأول أربعمائة سنة ما يسمع فيها بجنازة وعن ميمون بن مهران قال شهدت جنازة ابن عباس رضي الله عنه بالطائف فلما وضع ليصلى عليه جاء طائر أبيض حتى وقف على أكفانه ثم دخل فيها فالتمسناه فلم نجده ولما سوينا عليه التراب سمعنا من يسمع صوته ولا نرى شخصه يقول ( يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك ) الآية قال ابن عباس رضي الله عنهما إن قبر آدم عليه السلام بمسجد الخيف بمنى وقال عطاء بلغني أن قبره تحت المنارة التي وسط الخيف وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه إذا وقف على قبر بكى ما لا يبكيه عند ذكر الجنة والنار فقيل له في ذلك فقال سمعت رسول الله يقول " القبر أول منازل الآخرة فإن نجا العبد منه فما بعده أيسر منه " وعن معاذ بن رفاعة الزرقي قال أخبرني رجل من رجال قومي أن جبريل عليه السلام أتى رسول الله في جوف الليل معتجرا بعمامة من استبرق فقال يا محمد من هذا الميت الذي فتحت له أبواب السماء واهتز له العرش فقام رسول الله يجر ثوبه مبادرا إلى سعد بن معاذ رضي الله عنه فوجده قبض وقال الحسن رضي الله عنه ما من يوم إلا وملك الموت يتصفح وجوه الناس خمس مرات فمن رآه على لهو ولعب أو معصية أوضاحكا حرك رأسه وقال له مسكين هذا العبد غافل عما يراد به ثم يقول له اعمل ما شئت فإن لي فيك غمزة أقطع بها وتينك وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لرجاء بن حيوه يا رجاء إذا وضعت في لحدي فاكشف الثوب عن وجهي فإن رأيت خيرا فاحمد الله وإن غير ذلك فاعلم أن عمر قد هلك قال رجاء فلما دفناه كشفت عن وجهه

فرأيت نورا ساطعا فحمدت الله تعالى أن قد صار إلى خير وقال أيضا دخلت على عمر ابن عبد العزيز وهو محتضر فقال يا رجاء إني أرى وجوها كراما ليست بوجوه إنس ولا جان وهو يقلب طرفه يمينا وشمالا ثم رفع يده فقال اللهم أنت ربي أمرتني فقصرت ونهيتني فعصيت فإن غفرت فقد مننت وإن عاقبت فما ظلمت ألا أني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأن محمدا عبدك ورسولك المصطفى ونبيك المرتضى بلغ الرسالة وأدي الأمانة ونصح الأمة فعليه السلام والرحمة ثم قضى نحبه رحمه الله وعن أسماء بنت عميس قالت كنت عند أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعدما ضربه ابن ملجم إذ شهق شهقة بعد أن أغمي عليه ثم أفاق وقال مرحبا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فقيل له ما ترى قال هذا رسول الله وهذا أخي جعفر وعمي حمزة وأبواب السماء مفتحة والملائكة ينزلون علي يبشرونني بالجنة وهذه فاطمة قد أحاط بها وصائفها من الحور العين وهذه منازلي لمثل هذا فليعمل العاملون
ولما احتضر عبد الملك بن مروان قال لإبنه الوليد إذا أنا مت إياك أن تجلس وتعصر عينيك كالمرأة الوكعاء لكن ائتزر وشمر والبس جلد النمر وضعني في حفرتي وخلني وشأني وعليك شأنك وادع الناس إلى بيعتك فمن قال برأسه هكذا فقل له بسيفك هكذا ثم بعث إلى محمد وخالد ابني يزيد بن معاوية فقال هل عندكما ندامة في بيعة الوليد فقالوا لا نعرف أحدا أحق منه بالخلافة فقال أما أنكما لو قلتما غير هذا لضربت الذي فيه أعينكما ثم رفع كنار فراشه فإذا تحته سيف مسلول تحت يمينه كل هذا وروحه تتردد في حنجرته وهو يقول الحمد لله الذي لا يبالي أصغيرا أخذ أم كبيرا لا إله إلا الله محمد رسول الله ثم بعد ساعة نفذت روحه فدخل عليه الوليد ومعه بناته يبكون فتمثل بقول الشاعر
( ومستخبر عنا يريد بنا الردى ... ومستخبرات والعيون سواكن )

وقال محمد بن هرون
( كأني باخواني على جنب حفرتي ... يهيلون فوقي والعيون دما تجري )
( فيا أيها المذري علي دموعه ... ستعرض في يومين عني وعن ذكري )
( عفا الله عني أنزل القبر ثاويا ... أزار فلا أدري وأجفى فلا أدري ) وكان يزيد الرقاشي يقول من كان الموت موعده والقبر بيته والثرى مسكنه والدود أنيسه وهو مع هذا ينتظر الفزع الأكبر كيف تكون حالته ثم يبكي حتى يغشى عليه فيجب على العاقل أن يحاسب نفسه بنفسه على ما فرط من عمره ويستعد لعاقبة أمره بصالح العمل ولا يغتر بالأمل فإن من عاش مات ومن مات فات وكل ما هو آت آت نسأل الله أن يلهمنا رشدنا ويوفقنا لاتباع أوامره واجتناب نواهيه وأن يجعل الموت خير غائب ننتظره وأن يختم لنا بالخير وأن يتغمدنا برحمته إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

الباب الثاني والثمانون في الصبر والتأسي والتعازي والمراثي ونحو ذلك وفيه فصول
الفصل الأول في الصبر
قال الله تعالى ( وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون ) وقال " ما من مسلم يصاب بمصيبة وإن قل عهدها فاحدث استرجاعا إلا أحدث الله له مثله وأعطاه مثل أجره ذلك يوم أصيب بها " وعن أنس بن الملك رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله " من أصبح حزينا أصبح ساخطا على ربه ومن أصبح يشكو مصيبة فكأنما يشكو الله ومن تواضع ليغنى سأله من في يده أحبط الله ثلثي عمله ومن أعطي القرآن ولم يعمل به وتهاون به حتى دخل النار أبعده الله عن رحمته لأنه هو الذي فعل ذلك بنفسه حيث لم يعرف حرمة القرآن " وروي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي أنه قال " من مات له ثلاثة من الولد لا يلج النار إلا تحلة القسم يعني قوله تعالى وإن منكم إلا واردها " وعن أم سلمة رضي الله تعالى عن أن رسول الله قال " من أصيب بمصيبة فقال كما أمر الله إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي وأعقبني خيرا منها إلا فعل الله به

ذلك " وروي أنه لما مات إبراهيم بن رسول الله ذرفت عيناه فقال له عبد الرحمن بن عوف يا رسول الله ألم تنه عن البكاء قال إنما نهيت عن الغناء والصوتين الأحمقين والندب ولكن هذه رحمة جعلها الله تعالى في قلوبنا ومن لا يرحم لا يرحم فإن القلب يخشع والعين تدمع وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون ولا نقول إلا ما يرضي الله ربنا إنا لله وإنا إليه راجعون وقال ابن عباس رضي الله عنهما أول شيء كتبه الله في اللوح المحفوظ إنني أنا لا إله إلا أنا محمد عبدي ورسولي من استسلم لقضائي وصبر على بلائي وشكر نعمائي كتبته صديقا وبعثته مع الصديقين ومن لم يستسلم لقضائي ولم يصبر على بلائي ولم يشكر نعمائي فليتخذ ربا سواي وقال ابن المبارك إن المصيبة واحدة فإذا جزع صاحبها فهما اثنتان لأن لإحداهما المصيبة بعينها والثانية ذهاب أجره وهو أعظم من المصيبة وعن العلاء بن عبد الرحمن أن النبي لما حضرته الوفاة بكت فاطمة فقال لا تبكي يا بنتاه قولي إذا مت إنا لله وإنا إليه راجعون فإن لكل إنسان مصيبة معوضة قالت ومنك يا رسول الله قال ومني عن عطاء بن أبي رباح قال قال رسول الله " من أصابته مصيبة فليذكر مصيبته بي فإنها من أعظم المصائب ) وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال من أخذت حبيبتاه يعني عينيه فصبر واحتسب أدخله الله الجنة وقيل إن امرأة أيوب عليه الصلاة و السلام قالت لو دعوت الله تعالى أن يشفيك فقال لها ويحك كنا في النعماء سبعين عاما أفلا نصبر على الضراء مثلها فلم يلبث إلا يسيرا أن عوفي وقيل الصبر مفتاح الظفر والتوكل على الله تعالى رسول النجاح وقيل من لم يلق نوائب الدهر بالصبر طال عتبه عليه وقيل إن معاوية رضي الله تعالى عنه خرج يوما ومعه عبد العزيز بن زرارة الكلبي وكان ذا منصب وشرف وعقل وأدب فقال له معاوية يا عبد العزيز أتاني نعي سيد شباب العرب فقال له ابني أو ابنك قال لا ابنك قال للموت تلد الوالدة ومما قيل اصبر لحكم من لا تجد معولا إلا عليه ولا مفزوعا إلا إليه وقال سويد السدوسي

( فأوصيكما يا ابني سدوس كلاكما ... بتقوى الذي أعطاكما ويراكما )
( بشكر إذا ما أحدث الله نعمة ... وصبر لأمر الله فيما ابتلاكما ) وقال
( أيا صاحبي إن رمت أن تكسب العلا ... وترقى إلى العلياء غير مزاحم )
( عليك بحسن الصبر في كل حالة ... فما صابر فيما يروم بنادم ) وقال آخر
( هو الدهر قد جربته وبلوته ... فصبرا على مكروهه وتجلدا ) وحدث الزبير قال قامت عائشة بعدما دفن أبوها أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه فقالت نضر الله وجهك وشكر صالح سعيك فقد كنت للدنيا مذلا بادبارك عنها وللآخرة معزا باقبالك عليها ولئن كان رزؤك أعظم المصائب بعد رسول الله وأكبر الأحداث بعده فإن كتاب الله تعالى قد وعدنا بالثواب على الصبر في المصيبة وأنا تابعة له في الصبر فأقول إنا لله وإنا إليه راجعون ومستعيضة بأكثر الاستغفار لك فسلام الله عليك توديع غير قالية لحياتك ولا رازئة على القضاء فيك
ولما مات ذر الهمداني جاء أبوه فوجده ميتا وكان موته فجأة وعياله يبكون عليه فقال مالكم والله ما ظلمناه ولا قهرناه ولا ذهب لنا بحق ولا أصابنا فيه ما أخطأ من كان قبلنا في مثله ولما وضعه في حفرته قال رحمك الله يا بني وجعل أجري فيك لك والله ما بكيت عليك وإنما بكيت لك فوالله لقد كنت بي بارا ولي نافعا وكنت لك محبا وما بي إليك من وحشة وما بي إلى أحد غير الله من فاقة وما ذهبت لنا بعزة وما أبقيت لنا من ذل ولقد شغلنا الحزن لك عن الحزن عليك يا ذر لولا هول المطلع لتمنيت ما صرت إليه فليت شعري ماذا قلت

قيل لك ثم رفع رأسه إلى السماء وقال اللهم إنك وعدت الصابرين على المصيبة ثوابك ورحمتك اللهم وقد وهبت ما جعلت لي من الأجر إلى ذر صلة مني فلا تحرمني ولا تعرفه قبيحا وتجاوز عنه فإنك رحيم بي وبه اللهم قد وهبت لك إساءته لي فهب لي إساءته إليك فإنك أجود مني وأكرم اللهم إنك قد جعلت لك عليه حقا وجعلت لي عليه حقا قرنته بحقك فقلت أشكر لي ولوالديك إلي المصير اللهم إني قد غفرت له ما قصر فيه من حقي فاغفر له ما قصر فيه من حقك فإنك أولى بالجود والكرم فلما أراد الإنصراف قال يا ذر قد انصرفنا وتركناك ولو أقمنا عندك ما نفعناك
وفي الحديث إذا مات ولد العبد يقول الله تعالى للملائكة ماذا قال عبدي عند قبض روح ولده وثمرة فؤاده فيقولون إلهنا حمدك واسترجع فيقول الله تعالى أشهدكم يا ملائكتي أني بنيت له بيتا في الجنة وسميته بيت الحمد وعن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه دفن إبنا له وضحك عند قبره فقيل له أتضحك عند القبر قال أردت أن أرغم أنف الشيطان فينبغي للعبد أن يتفكر في ثواب المصيبة فتسهل عليه فإذا أحسن الصبر استقبله يوم القيامة ثوابها حتى يود لو أن أولاده وأهله وأقاربه ماتوا قبله لينال ثواب المصيبة وقد وعد الله تعالى في المصيبة ثوابا عظيما إذا صبر صاحبها واحتسب وقال تعالى ( ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ) وقال تعالى ( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين ) الآية اللهم رضينا بقضائك وصبرنا على بلائك واغفر لنا ولوالدينا ولكل المسلمين يارب العالمين

الفصل الثاني من هذا الباب في التعازي والتأسي
روى الترمذي في كتاب السنن للبيهقي عن عبد الله بن مسعود عن النبي قال " من عزى مصابا فله مثل أجره " وروينا في كتاب الترمذي أيضا بسند متصل إلى رسول الله قال " من عزى ثكلى كسي برداء في الجنة " وروينا في سنن ابن ماجة والبيهقي باسناد حسن عن عمرو بن حزم عن النبي قال " ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبته إلا كساه الله من حلل الكرامة يوم القيامة "
واعلم أن التعزية هي التصبير وذكر ما يسلي صاحب الميت ويخفف حزنه ويهون مصيبته وهي مستحبة فإنها مشتملة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي أيضا داخلة في قوله تعالى ( وتعاونوا على البر والتقوى ) وهي من أحسن ما يستدل به في التعزية وثبت في الصحيح أن النبي قال " والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه واعلم أن التعزية مستحبة قبل الدفن وبعده وتكره بعد ثلاثة أيام لأن التعزية لتسكين قلب المصاب والغالب سكونه بعد ثلاثة أيام فلا يجدد الحزن هكذا قال الجماهير من أصحاب الشافعي رضي الله تعالى عنه وقيل إنها لا تفعل بعد ثلاثة أيام إلا في صورتين وهما إذا كان المعزى أو صاحب المصيبة غائبا حال الدفن فاتفق رجوعه بعد الثلاثة وأما لفظ التعزية فلا حجر فيه فبأي لفظ عزاه حصلت واستحب أصحاب الشافعي أن يقول في تعزية المسلم بالمسلم عظم الله أجرك وأحسن عزاءك وغفر لميتك وفي المسلم بالكافر أعظم الله أجرك وأحسن عزاءك وفي الكافر بالكافر أخلف الله عليك ولا نقص لك عددا

أن النبي فقد بعض أصحابه فسأل عنه فقالوا يا رسول الله بنيه الذي رأيته هلك فلقيه النبي فسأل عن بنيه فقال يا رسول الله هلك فعزاه فيه ثم قال يا فلان أيما كان أحب إليك أن تتمتع به عمرك أو لا تأتي غدا بابا من أبواب الجنة إلا وجدته وقد سبقك إليه فيفتحه لك فقال يا رسول الله سبقه إلى باب الجنة أحب إلي من التمتع به في دار الدنيا قال ذلك لك وروى البيهقي بإسناده في مناقب الشافعي رحمهما الله أن الشافعي قد بلغه أن عبد الرحمن بن مهدي مات له ابن فجزع عليه جزعا شديدا فبعث إليه الشافعي رحمه الله يقول يا أخي عز نفسك بما تعز به غيرك واستقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك واعلم أن أمض المصائب فقد سرور وحرمان أجر فكيف إذا اجتمعا مع اكتساب وزر ألهمك الله عند المصائب صبرا وأجزل لنا ولك بالصبر أجرا وروي عن ابن المبارك قال مات لي ابن فمر بي مجوسي وقال ينبغي للعاقل أن يفعل اليوم ما يفعله الجاهل بعد خمسة أيام فقال اكتبوها منه عن معاذ بن جبل أنه قال مات لي ابن فكتب إلي رسول الله من محمد رسول الله إلى معاذ بن جبل سلام عليكم فإني أحمد الله الملك الذي لا إله إلا هو أما بعد فعظم الله لك الأجر والهمك الصبر ورزقنا وإياك الشكر ثم اعلم أن أنفسنا وأموالنا وأهلنا وأولادنا من مواهب الله تعالى الهنية وعواريه المستودعة يمتعنا بها إلى أجل معدود ويقبضها لوقت معلوم ثم فرض الله تعالى علينا الشكر إذا أعطى والصبر إذا ابتلى وكان ابنك من موهب الله الهنية وعواريه المستودعة متعك الله به في غبطة وسرور وقبضه بأجر كبير إن صبرت واحتسبت فاصبر واحتسب واعلم أن الجزع لا يرد ميتا ولا يطرد حزنا وروي أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه كان إذا عزى مرزأ قال ليس مع العزاء مصيبة ولا مع الجزع فائدة والموت أشد مما قبله وأهون مما بعده فاذكر مصيبتك برسول الله تهن عليك مصيبتك وعزى الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه صديقا له فقال

( إنا نعزيك لا أنا على ثقة ... من الحياة ولكن سنة الدين )
( فما المعزى بباق بعد ميته ... ولا المعزي ولو شاعا إلى حين ) وكتب بعضهم إلى أخ له يعزيه أنت يا أخي أعزك الله عالم بالدنيا وما خلقت له من الفناء وإنها لم تعط إلا أخذت ولم تسر إلا أحزنت وأن الموت سبيل محتوم على الأولين والآخرين لا دافع عنه ولا مؤخر لما قضى الله عز و جل منه وإنا لله وإنا إليه راجعون وعزى رجل بعض الخلفاء بابن له فكتب إليه يقول
( تعز أمير المؤمنين فإنه ... لما قد ترى يغدو الصغير ويولد )
( هل الابن إلا من سلالة آدم ... لكل على حوض المنية مورد ) وكتب بعضهم إلى صديق له وقد ماتت ابنته فقال
( الموت أخفى سوأة للبنات ... ودفنها يروى من المكرمات )
( أما رأيت الله سبحانه ... قد وضع النعش بجنب البنات ) وكتب بعضهم إلى صديق له يعزيه بأخيه ويسليه ما تصنع يا أخي والقضاء نازل والموت حكم شامل وإن لم تلذ بالصبر فقد اعترضت على مالك الأمر وأنت تعلم أن نوائب الدهر لا تدفع إلا بعزائم الصبر فاجعل بين هذه اللوعة الغالبة والدمعة الساكبة حاجبا من فضلك وحاجزا من عقلك ودافعا من دينك ومانعا من يقينك فإن المحن إذا لم تعالج بالصبر كانت كالمنح إذا لم تقابل بالشكر فصبرا صبرا ففحول الرجال لا تستفزها الأيام بخطوبها كما أن متون الجبال لا تهزها العواصف بهبوبها فعزيز علي أن أخاطب مولاي معزيا وأكاتبه مسليا عن كبير أو صغير مما يتعلق بخدمته أو ينتهي إلى جملته فكيف بالصنو الأكرم والذخر الأعظم والركن الأشد والسهم الأسد والشهاب الأسطع والحسام الأقطع لكن التعزية سيرة سائرة وسنة ماضية غابرة وقدر الله هو المقدر وأجل الله إذا جاء لا يؤخر ولولا أن الذكرى تنفع والتعزية يستوي فيها الأشرف والأوضع لأجللت مولاي أن أفاتحه معزيا وأخاطبه مسليا ولكن بحمد الله العالم لا يعلم والسابق لا يتقدم فبمولاي يقتدي

في الصبر على النوائب وبنوره يهتدى في مشكلات المذاهب وكل ما كان من الرزء أوجع كان الأجر عليه أوسع جعل الله مولاي من الصابرين على المصيبة وأعظم أجره وجعل الجنة نصيبه
وعزى رجل فتى عن أبيه فلم يجده كما أحب فقال يا بني سوء الخلف أضر علينا من فقد السلف ومات لبعض ملوك كندة ابنة فوضع بين يديه بدرة من المال وقال من بالغ في تعزيته فهي له فدخل عليه أعرابي وقال عظم الله أجر الملك كفيت المؤونة وسترت العورة ونعم الصهر القبر فقال قد أبلغت وأوجزت ثم دفعها له وعزت أعرابية قوما فقالت جافى الله عن ميتكم الثرى وأعانه على طول البلى وآجركم ورحمه وكان لعلي بن الحسين جليس مات له ابن فجزع عليه جزعا شديدا فعزاه علي بن الحسين رحمه الله ووعظه فقال يا ابن رسول الله إن ابني كان مسرفا على نفسه فقال لاتجزع فإن من ورائه ثلاث خلال أولهن شهادة أن لا إله إلا الله وأن سيدنا محمدا رسول الله والثانية شفاعة جدي والثالثة رحمه الله التي وسعت كل شيء فأين يخرج ابنك عن واحدة من هذه الخلال وقال سليمان بن عبد الملك عند موت ابنه لعمر بن عبد العزيز ورجاء ابن حيوة إن في كبدي جمرة لا يطفئها إلا عبرة فقال عمر اذكر الله يا أمير المؤمنين وعليك بالصبر فنظر إلى رجاء كالمستريح بمشورته فقال رجاء أفضها يا أمير المؤمنين فما بذلك من بأس لقد دمعت عينا رسول الله على ابنه إبراهيم وقال إن العين لتدمع وإن القلب ليخشع ولانقول ما يسخط الرب وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون فأرسل سليمان عينيه حتى قضى أربه ثم أقبل عليهم قال لولا نزفت هذه العبرة لا نصدع كبدي ثم إنه لم يبك بعدها وكتب الإسكندر إلى أمه قبل وفاته بقليل إذا وصل إليك كتابي هذا فاجمعي أهل بلدك وأعدي لهم طعاما ووكلي بالأبواب من يمنع من إصابته مصيبة في أم أو أب

أو أخت أو ولد ففعلت فلم يدخل إليها أحد فعلمت أن الإسكندر عزاها في نفسه
ولما قتل الفضل بن سهل دخل المأمون على أمه يعزيها فيه فقال يا أماه لا تحزني على الفضل فأنا خلف منه فقالت كيف أحزن على ولد عوضني عنه خليفة مثلك فعجب المأمون من جوابها وكان يقول ما سمعت قط أحسن منه ولا أجلب للقلوب فقال لها عليك بالصبر فإن فيه مزيد الأجر وممن جزع على ولده جعفر بن علية لما قتله الحرث قام نساء الحي يبكون عليه وقام أبوه إلى ولد كل شاة وناقة فذبحه وألقاها بين أيديها وقال لها ابكين معي على جعفر فما زالت النوق ترغو والشياه تيعر والنساء يصرخن ويبكين وهو يبكي معهن فلم ير مأتم كان أوجع منه وقال يحيى بن خالد التعزية بعد ثلاثة أيام تجدد الحزن والتهنئة بعد سنة تجدد الفرح
ومما قيل في التأسي والتسلي بالخلف عن السلف قيل عزى بعض الشعراء يزيد بن معاوية في والده فقال
( أصبر يزيد فقد فارقت ذا ثقة ... واشكر إلهك من بالملك حاباكا )
( لا رزء أصبح في الأيام نعرفه ... كما رزئت ولا عقبى كعقباكا ) وقال آخر
( لا بد من فقد ومن فاقد ... هيهات ما في الناس من خالد ) وقال آخر
( تبصر فلو أن البكا رد هالكا ... على أحد فاكثر بكاك على عمر ) وكتب بعضهم إلى أولاد صديقه يعزيهم ويسليهم في والدهم فقال
( فلو كان فيض الدمع ينفع باكيا ... لعلمت غرب الدمع كيف يسيل )

( فإن غاب بدر فالنجوم طوالع ... ثوابت لا يقضى لهن أفول )
( يغاث بها في ظلمة الليل حائر ... ويسري عليها بالرفاق دليل ) ودخل عبد الملك بن صالح على الرشيد وقد مات له ولد وولد له في تلك الليلة ولد فقال سرك الله يا أمير المؤمنين فيما ساءك ولا ساءك فيما سرك وجمع لك بين أجر الصابر وثواب الشاكر وقال بعضهم
( أليس لهذا صار آخر أمرنا ... فلا كانت الدنيا القليل سرورها )
( فلا تعجبي يا نفس مما ترينه ... فكل أمور الناس هذا مصيرها ) وسئل الأصمعي عن قول الخنساء في نعيها صخر حين مات ونعته فقالت
( يذكرني طلوع الشمس صخرا ... وأندبه لكل غروب شمس ) فقالوا له لماذا أنها خصت الشمس دون القمر والكواكب فقال لكونه كان يركب عند طلوع الشمس يشن الغارات وعند غروبها يجلس مع الضيفان فذكرته بهذا مدحا لأنه كان يغير على أعدائه ويتقيد بضيفه وقد رثته بعد البيت الأول بأبيات منها
( ألا يا نفس لا تنسيه حتى ... أفارق عيشتي وأزور رمسي )
( ولولا كثرة الباكين حولي ... على أمواتهم لقتلت نفسي )
( وما يبكون مثل أخي ولكن ... أسلي النفس عنه بالتأسي ) وقال آخر
( ولولا الأسى ما عشت في الناس ساعة ... ولكن إذا ناديت جاوبني مثلي ) وقال آخر
( وهون وجدي عن خليلي أنني ... إذا شئت لاقيت الذي أنا صاحبه )

وقال آخر
( ومما يؤديني إلى الصبر والعزا ... تردد فكري في عموم المصائب )
الفصل الثالث في المراثي
لما توفي رسول الله رثاه جماعة من أصحابه وآله بمراث كثيرة منها ما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه فإنه كان أقرب الناس إليه وهو أول من رثاه فقال
( لما رأيت نبينا متجندلا ... ضاقت علي بعرضهن الدور )
( فارتاع قلبي عند ذاك لموته ... والعظم مني ما حييت كسير )
( أعتيق ويحك إن خلك قد ثوى ... والصبر عندك ما بقيت يسير )
( يا ليتني من قبل مهلك صاحبي ... غيبت في لحد عليه صخور )
( فلتحدثن بدائع من بعده ... تعيابهن جوانح وصدور ) وقال آخر
( فقدت أرضنا هناك نبيا ... كان يغدو به النبات زكيا )
( خلقا عاليا ودينا كريما ... وصراطا يهدي الأنام سويا )
( وسراجا يجلو الظلام منيرا ... ونبيا مؤيدا عربيا )
( حازما عازما حليما كريما ... عائدا بالنوال برا تقيا )
( إن يوما أتى عليك ليوم ... كورت شمسه وكان خليا )
( فعليك السلام منا جميعا ... دائم الدهر بكرة وعشيا ) ورثاه أبو سفيان بن الحرث فقال
( أرقت فبات ليلي لا يزول ... وليل أخى المصيبة فيه طول )

( وأسعدني البكاء وذاك فيما ... أصيب المسلمون به قليل )
( لقد عظمت مصيبتنا وجلت ... عشية قيل قد قبض الرسول )
( وأضحت أرضنا مما عراها ... تكاد بنا جوانبها تميل )
( فقدنا الوحي والتنزيل فينا ... يروح به ويغدو جبرئيل )
( وذاك أحق ما سالت عليه ... نفوس الناس أو كادت تسيل )
( نبي كان يجلو الشك عنا ... بما يوحى إليه وما يقول )
( ويهدينا فلا نخشى ملاما ... علينا والرسول لنا دليل )
( أفاطم إن جزعت فذاك عذر ... وإن لم تجزعي فهو السبيل )
( فقبر أبيك سيد كل قبر ... وفيه سيد الناس الرسول ) ولما مات أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه رثاه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه بهذه الأبيات حين رجع من دفنه فقال
( ذهب الذين أحبهم ... فعليك يا دنيا السلام )
( لا تذكرين العيش لي ... فالعيش بعدهم حرام )
( إني رضيع وصالهم ... والطفل يؤلمه الفطام ) ورثى بعضهم محمد بن يحيى بعد موته فقال
( سألت الندى والجود مالي أراكما ... تبدلتما عزا بذل مؤبد )
( وما بال ركن المجد أمسى مهدما ... فقالا أصبنا بابن يحيى محمد )
( فقلت فهلا متما بعد موته ... وقد كنتما عبديه في كل مشهد )
( فقالا أقمنا كي نعزى بفقده ... مسافة يوم ثم نتلوه في غد ) وقال آخر
( ولا أرتجي في الموت بعدك طائلا ... لا أتقي للدهر بعدك من خطب ) وفي المعنى لبعضهم
( لقد أمنت نفسي المصائب بعده ... فأصبحت منها آمنا إن أروعا )

( فما أتقي للدهر بعدك نكبة ... ولا أرتجي للعيش بعدك مرتعا ) ورثى أشجع السلمي عبد الله بن سعيد فقال
( مضى ابن سعيد حيث لم يبق مشرق ... ولا مغرب إلا له فيه مادح )
( وما كنت أدري ما فواضل كفه ... على الناس حتى غيبته الصفائح )
( وأصبح في لحد من الأرض ميتا ... وكان به حيا تضيق الصحاصح )
( سأبكيك ما فاضت دموعي فإن تغض ... فحسبك مني ما تكن الجوانح )
( وما أنا من رزء وإن جل جازع ... ولا بسرور بعد فقدك فارح )
( لئن حسنت فيك المراثي بذكرها ... فقد حسنت من قبل فيك المدائح ) وقال آخر
( إلى الله أشكو لا إلى الناس إنني ... أرى الأرض تبقى والأخلاء تذهب )
( أخلاي لو غير الحمام أصابكم ... عتبت ولكن ما على الدهر معتب ) وقال العباس بن الأحنف
( إذا ما دعوت الصبر بعدك والبكا ... أجاب البكا طوعا ولم يجب الصبر )
( فإن ينقطع منك الرجاء فإنه ... سيبقى عليك الحزن ما بقي الدهر ) وقال آخر يرثي صديقه
( خليلي ما أزداد إلا صبابة ... إليك وما تزداد إلا تنائيا )
( خليلي لو نفس فدت نفس ميت ... فديتك مسرورا بنفسي وماليا )
( وقد كنت أرجو أن تعيش وإن أمت ... فحال رجاء الله دون رجائيا )

( ألا فليمت من شاء بعدك إنما ... عليك من الأقدار كان حذاريا ) أخذها بعضهم فقال
( كنت السواد لمقلتي ... يبكي عليك الناظر )
( من شاء بعدك فليمت ... فعليك كنت أحاذر ) وقال أخر يرثي بعض أولاده
( وقاسمني دهري بني مشاطرا ... فلما تقضى شطره عاد في شطري )
( ألا ليت أمي لم تلدني وليتني ... سبقتك إذ كنا إلى غاية تجري )
( وقد كنت ذا ناب وظفر على العدا ... فأصبحت لا يخشون نابي ولا ظفري ) وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه للخنساء أخبريني بأفضل بيت قلته في أخيك فقالت
( وكنت أعير الدمع قبلك من بكى ... فأنت على من مات بعدك شاغله ) ولأبي المحاسن الشواء في صديق له مات وسقط الثلج عقيب موته
( لم أنسه وبنو الملوك أمامه ... يدمون للأسف الأكف عضاضا )
( والثلج قد غطى الربا فكأنها ... من حزنها لبست عليه بياضا ) وقال آخر
( وليس صرير النعش ما تسمعونه ... ولكنه أصلاب قوم تقصفوا )
( وليس نسيم المسك ريا حنوطه ... ولكنه ذاك الثناء المخلف ) وقال مقاتل بن عطية يرثي الوزير نظام الملك
( كان الوزير نظام الملك لؤلؤة ... يتيمة صاغها الرحمن من شرف )
( عزت ولم تعرف الأيام قيمتها ... فردها عندما عزت إلى الصدف ) وقال آخر
( وقبرت وجهك وانصرفت مودعا ... بأبي وأمي وجهك المقبور )

( وأرى ديارك بعد وجهك قفرة ... والقبر منك مشيد معمور )
( فالناس كلهم لفقدك واجد ... في كل بيت رنة وزفير )
( عجبا لأربع أذرع في خمسة ... في جوفها جبل أشم كبير ) وكان رجل توفي ولده في يوم عيد فقال
( لبس الرجال جديدهم في عيدهم ... ولبست حزن أبي الحسين جديدا )
( أيسرني عيد ولم أر وجهه ... فيه ألا بعدا لذلك عيدا )
( فارقته وبقيت اخلد بعده ... لا كان ذاك بقا ولا تخليدا )
( من لم يمت جزعا لفقد حبيبه ... فهو الخؤون مودة وعهودا )
( مت مع حبيبك إن قدرت ولا تعش ... من بعده ذا لوعة مكمودا )
( ما أم خشف قد ملا أحشاءها ... حذرا عليه وجفنها تسهيدا )
( إن نام لم تهجع وطافت حوله ... فيبيت مكلوما بها مرصودا )
( مني بأوجع إذ رأيت نوائحا ... لأبي الحسين وقد لطمن خدودا )
( ولقد عدمت أبا الحسين جلادتي ... لما رأيت جمالك المفقودا )
( كنت الجليد على الرزايا كلها ... وعلى فراقك لم أجد تجليدا )
( ولئن بقيت وما هلكت فإن لي ... أجلا وإن لم أحصه معدودا )
( لا موت لي إلا إذا الأجل انقضى ... فهناك لا أتجاوز المحدودا )
( حزني عليك بقدر حبك لا أرى ... يوما على هذا وذاك مزيدا )
( ما هد ركني بالسنين وإنما ... أصبحت بعدك بالأسى مهدودا )
( يا ليت إني لم أكن لك والدا ... وكذاك إنك لم تكن مولودا )
( فلقد شقيت وربما شقي الفتى ... بفراق من يهوى وكان سعيدا )
( من ذم جفنا باخلا بدموعه ... فعليك جفني لم يزل محمودا )
( فلأنظمن مراثيا مشهورة ... تنسي الأنام كثيرا ولبيدا )
( وجميع من نظم القريض مفارق ... ولدا له أو صاحبا مفقودا ) وقال الفقيه منصور بن إسماعيل المصري
( سألت رسوم القبر عمن ثوى به ... لأعلم ما لاقى فقالت جوانبه )

( أتسأل عمن عاش بعد وفاته ... بإحسانه أخوانه وأقاربه ) وقال الإمام السبكي رحمه الله تعالى يرثي فضل الله العالم
( مصاب ليس يشبهه مصاب ... لذي الألباب إذ فقد الشهاب )
( إمام قد حوى من كل علم ... كنوزا نحوها يسعى الركاب )
( ليبكي كل ذي علم عليه ... فكم علم له ضم التراب )
( وكم كلكم موانع قد أتته ... ثناها وهي عاصية صعاب )
( فسلطان البلاغ بغير شك ... شهاب الدين ما فيه ارتياب )
( سقى الله الكريم ثراه صوبا ... له من كل رضوان رضاب ) وقال الصفدي
( يا غائبا في الثرى تبلى محاسنه ... الله يوليك غفرانا وإحسانا )
( إن كنت جرعت كأس الموت واحدة ... في كل يوم أذوق الموت ألوانا ) وقال محمد بن عبد الله العتبي يرثي إبنا له
( أضحت بخدي للدموع رسوم ... أسفا عليك وفي الفؤاد كلوم )
( والصبر يحمد في المواطن كلها ... إلا عليك فإنه مذموم ) وكتب أحمد بن يوسف إلى عمر بن سعيد يرثي بنتا له فقال
( عجبا للمنون كيف أتتها ... وتخطت عبد الحميد أخاكا )
( شملتنا مصيبتان جميعا ... فقدنا هذه ورؤية ذاكا ) وله يرثي الأمير يلبغا
( ألا إنما الدنيا غرور وباطل ... فطوبى لمن كفاه منها تفرغا )

( وما عجبي إلا لمن بات واثقا ... بأيام دهر ما وعى حق يلبغا ) وقال آخر
( إلى الله أشكو أن كل قبيلة ... من الناس قد أفنى الحمام خيارها ) وقال رجل يرثي صديقا له توفي وكان من الكرماء
( ما درى نعشه ولا حاملوه ... ماعلى النعش من عفاف وجود ) ولبعض الكتاب في ابن مقلة
( استشعر الكتاب فقدك سالفا ... وقضت بصحة ذلك الأيام )
( فلذاك سودت الدواة كآبة ... أسفا عليك وشقت الأقلام ) وقال الحسن بن مطير الأسدي يرثي معن بن زائدة رحمه الله تعالى
( هلما إلى معن وقولا لقبره ... سقتك الغوادي مربعا ثم مربعا )
( فيا قبر معن كنت أول حفرة ... من الأرض خطت للسماحة مضجعا )
( ويا قبر معن كيف واريت جوده ... وقد كان منه البر والبحر مترعا )
( بلى قد وسعت الجود والجود ميت ... ولو كان حيا ضقت حتى تصدعا )
( فتى عاش في معروفه بعد موته ... أناس لهم بالبر قد كان أوسعا )
( ولما مضى معن مضى الجود كله ... وأصبح عرنين المكارم أجدعا ) وقال آخر
( عجبت لصبري بعده وهو ميت ... وقد كنت أبكيه دما وهو غائب ) وقال آخر
( فديتك لم أصبر ولي فيك حيلة ... ولكن دعاني اليأس منك إلى الصبر )

وقالت ريطة بنت عاصم
( وقفت فأبكتني ديار عشيرتي ... على رزئهن الباكيات الحواسر )
( غدوا كسيوف الهند وراد حومة ... من الموت أعيا وردهن المصادر )
( فوارس حاموا عن حريمي وحافظوا ... بدار المنايا والقنا متشاجر )
( ولو أن سلمى نالها مثل رزئنا ... لهدت ولكن محمل الرزء عامر ) ولما قتل إبراهيم بن عبد الله بن الحسين وحمل رأسه إلى المنصور أنفذها المنصور مع الربيع إلى عميه إدريس ومحمد وكانا في حبسه وكان أبوه قائما يصلي فقال له محمد أوجز فأوجز وسلم فلما أتاه وضع الرأس في حجره فقال أهلا وسهلا يا أبا القاسم تالله لقد كنت من الناس الذين قال الله تعالى في حقهم ( الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق ) ثم قبله بين عينيه وأنشأ يقول
( فتى كان يحميه من العار سيفه ... ويكفيه سوآت الأمور اجتنابها ) ثم قال للربيع قل لصاحبك المنصور قد مضى من بؤسنا أيام ومن نعمتك أيام والملتقى غدا بين يدي الله تعالى فكان ذلك فألا على المنصور ولم ير بعد ذلك اليوم راحة وقيل لحسان ما بالك لم ترث رسول الله ؟ قال لم أر شيئا إلا رأيته يقصر عنه والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

الباب الثالث والثمانون في ذكر الدنيا وأحوالها وتقلبها بأهلها والزهد فيها قال الله تعالى ( قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ) فوصف سبحانه وتعالى جميع الدنيا بأنها متاع قليل وأنت أيها الانسان تعلم أنك ما أوتيت من القليل إلا قليلا ثم إن القليل إن تمتعت به فهو لعب ولهو لقوله تعالى ( إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة ) وقال تعالى ( وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون ) فلا تبع أيها العاقل حياة قليلة تفنى بحياة كثيرة تبقى كما قال ابن عياض لو كانت الدنيا ذهبا يفنى والآخرة خزفا يبقى لوجب علينا أن نختار ما يبقى على ما يفنى ثم تأمل بعقلك هل أتاك الله من الدنيا مثل ما أوتي سليمان عليه الصلاة و السلام حيث ملكه الله تعالى جميع الدنيا من إنس وجن وسخر له الريح والطير والوحوش ثم زاده الله تعالى أحسن منها حيث قال ( هذا عطاؤنا فامنن أو امسك بغير حساب ) فوالله ما عدها نعمة مثل ما عددتموها ولا حسبها رفعة مثل ما حسبتموها بل خاف أن يكون استدراجا من حيث لا يعلم فقال ( هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ) وهذا فصل الخطاب لمن تدبر هذا وقد قال لك ولجميع أهل الدنيا ( فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون ) وقال تعالى ( وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين )

عن رسول الله أنه قال لو كانت الدنيا تزن عندالله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال لي رسول الله ألا أريك الدنيا بما فيها قلت بلى يا رسول الله فأخذ بيدي وأتى إلى واد من أودية المدينة فإذا مزبلة فيها رؤوس الناس وعذرات وخرق بالية وعظام البهائم فقال يا أبا هريرة هذه الرؤوس كانت تحرص حرصكم وتأمل آمالكم وهي اليوم صارت عظاما بلا جلد ثم هي صائرة عظما رميما وهذه العذرات ألوان أطعمتهم اكتسبوها من حيث اكتسبتموها في الدنيا فأصبحت والناس يتحامونها وهذه الخرق البالية رياشهم أصبحت والرياح تصفقها وهذه العظام عظام دوابهم التي كانوا ينتجعون عليها أطراف البلاد فمن كان باكيا على الدنيا فليبك قال فما برحنا حتى اشتد بكاؤنا
وروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دخل على النبي وهو على سرير من الليف وقد أثر الشريط في جنبه فبكى عمر رضي الله تعالى عنه فقال رسول الله ما يبكيك يا عمر فقال تذكرت كسرى وقيصر وما كانا فيه من سعة الدينا وأنت رسول الله وقد أثر الشريط بجنبك فقال هؤلاء قوم عجلت لهما طيباتهم في حياتهم الدنيا ونحن قوم أخرت لنا طيباتنا في الآخرة وروى عن الضحاك قال لما أهبط الله آدم وحواء إلى الأرض ووجدا ريح الدنيا وعن ابن معاذ قال الحكمة تهوى من السماء إلى القلوب فلا تسكن في قلب فيه أربع خصال ركون إلى الدنيا وهم عدو وحسد أخ وحب شرف وعن النبي أنه قال لعلي يا علي أربع خصال من الشقاء جمود العين وقسوة القلب وبعد الأمل وحب الدينا وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال يؤتى بالدنيا يوم القيامة على صورة عجوز شمطاء زرقاء العينين أنيابها بادية مشوهة الخلق لا يراها أحد إلا هرب منها فتشرف على الخلائق أجمعين فيقال لهم أتعرفون هذه فيقولون لا نعوذ بالله من معرفة هذه فيقال هذه الدنيا التي تفاخرتم بها وتقاتلتم عليها وعن الفضيل بن عياض أنه قال جعل الخير كله في بيت واحد وجعل

مفتاحه الزهد في الدنيا وجعل الشر كله في بيت واحد وجعل مفتاحه حب الدنيا وقيل إن الدنيا مثل ظل الإنسان إن طلبته فر وإن تركته تبعك وفيه قال بعضهم
( إنما الرزق الذي تطلبه ... يشبه الظل الذي يمشي معك )
( أنت لا تدركه متبعا ... وهو وإن وليت عنه تبعك ) وقد شبهها بعضهم بخيال الظل فقال
( رأيت خيال الظل أعظم عبرة ... لمن كان في علم الحقائق راقي )
( شخوصا وأصواتا يخالف بعضها ... لبعض وأشكالا بغير وفاق )
( تجيء وتمضي بابة بعد بابة ... وتفنى جميعا والمحرك باقي ) وما أحسن ما قال سليمان بن الضحاك
( ما أنعم الله على عبده ... بنعمة أوفى من العافية )
( وكل من عوفي في جسمه ... فإنه في عيشة راضية )
( والمال حلو حسن جيد ... على الفتى لكنه عاريه )
( ما أحسن الدنيا ولكنها ... مع حسنها غدارة فانية ) وتوفي رجل من كندة فكتب على قبره هذه الأبيات
( يا واقفين ألم تكونوا تعلموا ... إن الحمام بكم علينا قادم )
( لو تنزلون بشعبنا لعرفتمو ... أن المفرط في التزود نادم )
( لا تستعزوا بالحياة فإنكم ... تبنون والموت المفرق هادم )
( سلوى الردى ما بيننا في حفرة ... حيث المخدم واحد والخادم ) وقال آخر
( عن قليل أصير كوم تراب ... وتقول الرفاق هذا فلان )
( صار تحت التراب عظما رميما ... وجفاه الأصحاب والخلان )

أحسن ما قال عبد الله بن طاهر
( أليس إلى ذا صار آخر أمرنا ... فلا كانت الدنيا القليل سرورها )
( فلا تعجبي يا نفس مما ترينه ... فكل أمور الناس هذا مصيرها ) وقال شرف الدين بن أسد
( يا من تملك ملكا لا بقاء له ... حملت نفسك آثاما وأوزارا )
( هل الحياة بذي الدنيا وإن عذبت ... إلا كطيف خيال في الكرى زارا ) وقال بعضهم
( وغاية هذي الدار لذة ساعة ... ويعقبها الأحزان والهم والندم )
( وهاتيك دار الأمن والعز والتقى ... ورحمة رب الناس والجود والكرم ) وقال غيره
( حسنت ظنك بالأيام إذ حسنت ... ولم تخف سوء ما يأتي به القدر )
( وسالمتك الليالي فاغتررت بها ... وعند صفو الليالي يحدث الكدر ) وقال آخر
( فإن كنت لا تدري متى الموت فاعلمن ... بأنك لا تبقى إلى آخر الدهر ) يا ابن آدم أين الأولون والآخرون أين نوح شيخ المرسلين أين إدريس رفيع رب العالمين أين إبراهيم خليل الرحمن أين موسى الكليم من بين سائر النبيين أين عيسى روح الله وكلمته رأس الزاهدين وإمام السائحين أين محمد خاتم النبيين أين أصحابه الأبرار أين الأمم الماضية أين الملوك السالفة أين القرون الخالية أين الذين نصبت على مفارقهم التيجان أين الذين قهروا الأبطال والشجعان أين الذين دانت لهم المشارق والمغارب أين الذين تمتعوا باللذات والمشارب أين

الذين تاهوا على الخلائق كبرا وعتيا أين الذين راحوا في الحلل بكرة وعشيا أين الذين اغتروا بالأجناد أين أصحاب الوزراء والقواد أين أصحاب السطوة والأعوان أين أصحاب الإمرة والسلطان أين أصحاب الأعمال والولايات أين الذين خفقت على رؤوسهم الألوية والرايات أين الذين قادوا الجيوش والعساكر أين الذين عمروا القصور والدساكر أين الذين أعطوا النصر في موطن الحروب والمواقف أين الذين آمنوا بسطوتهم كل خائف أين الذين ملأوا ما بين الخافقين فخرا وعزا أين الذين فرشوا القصور حريرا وقزا أين الذين تضعضعت لهم الأرض هيبة وعزا هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ذكرا أفناهم الله مفني الأمم وأبادهم مبيد الرمم وأخرجهم من سعة القصور إلى ضيق القبور تحت الجنادل والصخور فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم لم ينفعهم ما جمعوا ولا أغنى عنهم ما اكتسبوا أسلمهم الأحباء والأولياء وهجرهم الإخوان الأصفياء ونسيهم الأقرباء والبعداء لو نطقوا لأنشدوا
( مقيم بالحجون رهين رمس ... وأهلي راحلون بكل واد )
( كأني لم أكن لهمو حبيبا ... ولا كانوا الأحبة في السواد )
( فعوجوا بالسلام فإن أبيتم ... فأوموا بالسلام على البعاد ) وقالوا لا فخر فيما يزول ولا غنى فيما لا يبقى وهل الدنيا إلا كما قال بعض الحكماء المتقدمين قدر يغلي وكيف يملي وفي هذا المعنى قال الشاعر
( ولقد سألت الدار عن أخبارهم ... فتبسمت عجبا ولم تبدي )
( حتى مررت على الكنيف فقال لي ... أموالهم ونوالهم عندي ) ولقد أصاب ابن السماك حيث قال للرشيد لما قال له عظني وكان بيده شربة ماء فقال له يا أمير المؤمنين لو حبست عنك هذه الشربة أكنت تفديها بملكك قال نعم قال يا أمير المؤمنين لو شربتها وحبست عن الخروج أكنت تفديها بملكك قال نعم فقال له

لا خير في ملك لا يساوي شربة ولا بولة وقال ابن شبرمة إذا كان البدن سقيما لم ينفعه الطعام وإذا كان القلب مغرما لم تنفعه الموعظة وروى أن أبا العتاهية مر بدكان وراق وإذا بكتاب فيه
( لا ترجع الأنفس عن غيها ... ما لم يكن منها لها زاجر ) فقال لمن هذا البيت فقيل لأبي نواس قاله للخليفة هارون الرشيد حين نهاه عن حب الجمال وعشق الملاح فقال وددت أنه لي بنصف شعري
وممن استبصر من أبناء الملوك فرأى عيب الدنيا وتقضيها وزوالها إبراهيم أدهم بن منصور كان من أبناء ملوك خراسان من كورة بلخ لما زهد الدنيا زهد في ثمانين سريرا قال بان بشار سألت ابراهيم بن أدهم كيف كان بدء أمرك حتى صرت إلى هذا ؟ فقال كان أبي من ملوك خراسان وكان قد حبب ألي الصيد فبينا أنا راكب فرسي وكلبي معي إذ رأيت ثعلبا او أرنبا فحركت فرسي نحوه فسمعت نداء من ورائي يا إبراهيم ما لهذا خلقت ولا بهذا أمرت فوقفت أنظر يمنة ويسرة فلم أر أحدا فقلت لعن الله الشيطان ثم حركت فرسي فسمعت نداء أعلى من الأول يا إبراهيم ما لهذا خلقت ولا بهذا أمرت فوقفت أنظر يمنة ويسرة فلم أر شيئا فقلت لعن الله الشيطان ثم حركت فرسي فسمعت نداء من قربوس سرجي يا إبراهيم ما لهذا خلقت ولا بهذا أمرت فوقفت وقلت هيهات جاءني النذير من رب العالمين والله لا عصيت ربي ما عصمني بعد يومي هذا فتوجهت إلى أهلي وخلفت فرسي وجئت إلى بعض رعاة أبي فأخذت جبته وكساءه وألقيت إليه ثيابي فلم أزل أرض تقلني وأرض تضعني حتى صرت إلى العراق فعملت بها أياما فلم يصف لي شيء من الحلال فسألت بعض المشايخ عن الحلال فقال عليك بالشام قال فانصرفت إلى بلد يقال لها المنصورية فعملت بها أياما فلم يصف لي

شيء من الحلال فسألت بعض المشايخ فقال إن أردت الحلال فعليك بطرسوس فإن المباحات بها والعمل فيها كثير فانصرفت إليها قال فبينا أنا قاعد على باب البحر إذ جاءني رجل فاكتراني أنظر له بستانا فتوجهت معه فأقمت في البستان أياما كثيرة فإذا خادم له قد أقبل ومعه أصحاب له ولو لممت أن البستان بخادم ما نظرته فقعد في مجلسه ثم قال يا ناظورنا فأجبته قال اذهب فأنتا بأكبر رمان تقدر عليه وأطيبه فأتيته برمان فكسر الخادم واحدة فوجدها حامضة فقال يا ناظورنا أنت منذ كذا وكذا في بستاننا تأكل من فاكهتنا ورماننا ولا تعرف الحلو من الحامض ؟ فقلت والله ما أكلت من فاكهتكم شيئا ولا أعرف الحلو من الحامض قال فغمز الخادم أصحابه وقال ألا تعجبون من هذا ثم قال لي لو كنت إبراهيم بن أدهم ما كنت بهذه الصفة قال ثم تحدث الناس بذلك وجاءوا إلى البستان فلما رأيت كثرة الناس اختفيت والناس داخلون وأنا هارب منهم وكان يأكل من كسب يده وكان يحصد ويحفظ البساتين ويعمل في الطين فبينما هو يوما يحرس كرما إذ مر به جندي فقال اعطنا من هذا العنب فقال له إن صاحبه لم يأذن لي فضربه بالسوط فطأطأ رأسه وقال اضرب رأسا طالما عصى الله يا سيدي الجندي فاستحى الرجل وتركه ومضى وروي أن داود عليه الصلاة و السلام بينما هو في الجبال إذ مر على غار فيه رجل عظيم الخلقة من بني آدم ملقى على ظهره وعند رأسه حجر محفور مكتوب فيه أنا دوسم الملك تملكت ألف عام وفتحت ألف مدينة وهزمت ألف جيش وافتضيت ألف بكر من بنات الملوك ثم صرت إلى ما ترى التراب فراشي والحجر وسادي فمن رآني فلا تغره الدنيا كما غرتني وقال وهب بن منبه خرج عيسى عليه الصلاة و السلام ذات يوم مع أصحابه فلما ارتفع النهار مروا بزرع قد أفرك فقالوا يا نبي الله إنا جياع فأوحى الله تعالى إليه أن ائذن لهم في قوتهم فأذن لهم فتفرقوا في الزرع يفركون ويأكلون فبينما هم كذلك إذ جاء صاحب الزرع يقول زرعي وأرضي ورثتها من أبي وجدي فبإذن

من تأكلون يا هؤلاء ؟ قال فدعا عيسى ربه أن يبعث جميع من ملكها من لدن آدم إلى تلك الساعة فإذا عند كل سنبلة ما شاء الله من رجل وامرأة يقولون أرضنا ورثناها عن آبائنا وأجدادنا ففر الرجل منهم وكان قد بلغه أمر عيسى ولكن لا يعرفه فلما عرفه قال معذرة إليك يا نبي الله لم أعرفك زرعي ومالي حلال لك فبكى عيسى عليه الصلاة و السلام وقال ويحك هؤلاء كلهم ورثوها وعمروها ثم ارتحلوا عنها وأنت مرتحل عنها ولا حق بهم ليس لك أرض ولا مال ولما مات اسكندر قال ارسطاطاليس أيها الملك قلد حركتنا بسكوتك وقال بعض الحكماء من أصحابه لقد كان الملك أمس أنطق منه اليوم وهو اليوم أوعظ منه أمس أخذه أبو العتاهية فقال
( كفى حزنا بدفنك ثم إني ... نفضت تراب قبرك من يديا )
( وكانت في حياتك لي عظات ... وأنت اليوم أوعظ منك حيا ) وقال عبد الله بن المعتز
( نسير إلى الآجال في كل ساعة ... فأيامنا تطوى وهن مراحل )
( ولم أر مثل الموت حتى كأنه ... إذا ما تخطته الأماني باطل )
( وما أقبح التفريط في زمن الصبا ... فيكف به والشيب في الرأس شاعل )
( ترحل من الدنيا بزاد من التقى ... فعمرك أيام تعد قلائل ) وقال عبد الله بن المعلم خرجنا من المدينة حجاجا فإذا أنا برجل من بني هاشم من بني العباس بن عبد المطلب قد رفض الدنيا وأقبل على الآخرة فجمعتني وإياه الطريق فأنست به وقلت له هل لك أن تعادلني فإن معي فضلا من راحلتي فجزاني خيرا وقال لو أردت هذا لكان سهلا ثم أنس إلي فجعل يحدثني فقال أنا رجل من ولد العباس كنت أسكن البصرة وكنت ذا كبر شديد ونعمة طائلة ومال كثير وبذخ زائد فأمرت يوما خادما لي أن يحشو لي فراشا من حرير و مخدة بورد نثير ففعل فإني لنائم إذا بقمع وردة قد نسيه الخادم فقمت

إليه فأوجعته ضربا ثم عدت إلى مضجعي بعد إخراج القمع من المخدة فأتاني آت في منامي في صورة فظيعة فهزني وقال أفق من غشيتك وانتبه من رقدتك ثم أنشأ يقول
( يا خل إنك إن توسد لينا ... وسدت بعد اليوم صم الجندل )
( فامهد لنفسك صالحا تسعد به ... فلتندمن غدا إذا لم تفعل ) فانتبهت مرعوبا وخرجت من ساعتي هاربا إلى ربي كما تراني ثم أنشأ يقول
( من كان يعلم أن الموت يدركه ... والقبر مسكنه والبعث يخرجه )
( وأنه بين جنات مزخرفة ... يوم القيامة أو نار ستنضجه )
( فكل شيء سوى التقوى به سمج ... ومن أقام عليه منه أسمجه )
( ترى الذي اتخذ الدنيا له وطنا ... لم يدر أن المنايا سوف تزعجه ) قال وهب بن منبه أصبت على قصر غمدان وهو قصر سيف بن ذي يزن بأرض صنعاء اليمن وكان من الملوك الأجلة مكتوبا بالقلم المسندي فترجم بالعربي فإذا هي أبيات جليلة وموعظة عظيمة جميلة وهي هذه الأبيات
( باتوا على قلل الأجبال تحرسهم ... غلب الرجال فلم تنفعهم القلل )
( واستنزلوا من أعالي عز معقلهم ... فأسكنوا حفرة يا بئس ما نزلوا )
( فإذا همو صارخ من بعد ما دفنوا ... أين الاسرة والتيجان والحلل )
( أين الوجوه التي كانت محجبة ... وكان من دونها الاستار والكلل )

( فافصح القبر عنهم حين ساءلهم ... تلك الوجوه عليها الدود يقتتل )
( قد طالما أكلوا دهرا وما شربوا ... فأصبحوا بعد ذاك الأكل قد اكلوا )
وروي أن عيسى عليه الصلاة و السلام كان معه صاحب في بعض سياحاته فأصابهما الجوع وقد انتهيا إلى قرية فقال عيسى عليه الصلاة و السلام لصاحبه انطلق فاطلب لنا طعاما من هذه القرية وأعطاه ما يشتري به فذهب الرجل وقام عيسى عليه الصلاة و السلام يصلي فجاء بثلاثة أرغفة فقعد ينتظر انصراف عيس من فأبطأ عليه فأكل رغيفا وكان عيسى عليه الصلاة و السلام رآه حين جاء ورأى الأرغفة ثلاثة فلما انصرف من صلاته لم يجد إلا رغيفين فقال له أين الرغيف الثالث فقال الرجل ما كانا إلا رغيفين فاكلاهما ثم مرا على وجوههما حتى أتيا على ظباء ترعى فدعا عيسى عليه الصلاة و السلام واحدا منها فجاءه فذكاه وأكلا منه فقال له عيسى بالذي أراك هذه الآية من أكل الرغيف الثالث فقال ما كانا إلا اثنين ثم مرا على وجوههما حتى جاءا قرية فدعا عيسى ربه أن ينطق له من يخبره عن حال هذه القرية فأنطق الله له لبنة فسألها عيسى فأخبرته بكل ما أراد وصاحبه يتعجب مما رأى فقال له عيسى بحق من أراك هذه الآية من صاحب الرغيف الثالث فقال ما كانا إلا اثنين فمرا على وجوههما حتى انتهيا إلى نهر عجاج فأخذ عيسى صلوات الله عليه بيد الرجل ومشى به على الماء حتى جاوز النهر فقال الرجل سبحان الله فقال عيسى عليه الصلاة و السلام بالذي أراك هذه الآية من صاحب الرغيف الثالث فقا ما كانا إلا اثنين فمرا على وجوههما حتى اتيا قرية عظيمة خربة وإذا قريب منها ثلاث لبنات عظام وقيل ثلاثة أكوام من الرمل فقال لها كوني ذهبا بإذن الله فكانت فلما رآها الرجل قال هذا مال فقال عيسى نعم واحدة لي وواحدة لك وواحدة لصاحب الرغيف الثالث فقال الرجل أنا صاحب الرغيف الثالث فقال عيسى عليه الصلاة و السلام هي لك كلها ثم فارقه عيسى وأقام الرجل ليس معه ما يحملها عليه فمر به ثلاثة نفر فقتلوه فقال اثنان منهما للثالث انطلق إلى القرية فأتنا بطعام فانطلق فلما غاب قال أحدهما للآخر

( هذي منازل أقوام عهدتهم ... يوفون بالعهد مذ كانوا وبالذمم ) إذا جاء قتلناه واقتسمنا المال بيننا فقال الآخر نعم وأما الذي ذهب ليشتري الطعام فإنه أضمر لصاحبيه السوء وقال أجعل لهما في الطعام سما فاذا اكلاه ماتا وآخذ المال لنفسي فوضع السم في الطعام وجاء فقاما اليه فقتلاه وأكلا الطعام فماتا فمر بهم عيسى عليه الصلاة و السلام وهم مصروعون حولهم فقال هكذا الدنيا تفعل بأهلها وقال الهيثم بن عدي وجد غار في جبل لبنان زمن الوليد بن عبد الملك وفيه رجل مسجى على سرير من الذهب وعند رأسه لوح من الذهب ايضا مكتوب فيه بالرومية انا سبأ بن نواس خدمت عيصو ابن اسحاق بن ابراهيم خليل الرب الاكبر وعشت بعده دهرا طويلا ورأيت عجبا كثيرا ولم ار فيما رأيت أعجب من غافل عن الموت وهو يرى مصارع آبائه ويقف على قبور احبابه ويعلم انه صائر اليهم ثم لا يتوب وقد علمت ان الاجلاف الجفاة يستنزلونني عن سريري ويتولونه وذلك حين يتغير الزمان ويكثر الهذيان ويترأس الصبيان فمن ادرك هذا الزمان عاش قليلا ومات ذليلا . وعن عمرو بن ميمون انه قال افتتحنا مدينة بفارس فدللنا على مغارة فيه سرير من الذهب عليه رجل عند رأسه لوح مكتوب فيه انا بهرام ملك فارس كنت اغناهم بطشا وأقساهم قلبا وأطولهم أملا وأحرصهم على الدنيا قد ملكت البلاد وقتلت الملوك وهزمت الجيوش وأذللت الجبابرة وجمعت من الاموال ما لم يجمعه أحد قبلي ولم استطع أن أفتدي به من الموت إذ نزل بي ويروى في الإسرائيليات أن عيسى عليه الصلاة و السلام بينا هو في سياحته إذ مر بجمجمة نخرة فسأل الله أن تتكلم فأنطقها الله له فقالت يا نبي الله أنا بلوان بن حفص ملك اليمن عشت ألف سنة ورزقت ألف ولد وافتضضت ألف بكر وهزمت ألف جيش وفتحت ألف مدينة فما كان كل ذلك إلا كحلم النائم فمن سمع قصتي فلا يغتر بالدنيا فبكى عيسى عليه الصلاة و السلام بكاء شديدا حتى غشي عليه . ووجد مكتوب على قصر قد خربت أركانه وبادت أهله وأظلمت نواحيه هذه الأبياتهذي منازل أقوام عهدتهم ... يومون بالعهد مذ كانوا وبالذمم

( تبكي عليهم ديار كان يطربها ... ترنم المجد بين الجود والكرم ) وقيل في المعنى
( بالله ربك كم قصر مررت به ... قد كان أعمر باللذات والطرب )
( نادى غراب المنايا في جوانبه ... وصاح من بعده بالويل والحرب ) وفيه
( أيها الرافع البناء رويدا ... لا يرد المنون عنك البناء ) وحكي أن رجلين تنازعا في أرض فأنطق الله تعالى لبنه من جدار تلك الارض فقالت إني كنت ملكا من الملوك ملكت الدنيا ألف سنة ثم صرت رميما ألف سنة ثم أخذني خزاف وعملني إناء فاستعملت ألف سنة حتى تكسرت وصرت ترابا فأخذني طواب وعملني لبنا وأنا في هذا الجدار كذا وكذا سنة فلم تتنازعان في هذه الأرض وأنتم عنها زائلون وإلى غيرها منقلبون والله سبحانه وتعالى أعلم
وروي أن ملكا بنى قصرا وقال انظروا إن كان فيه عيب فأصلحوه فقال رجل أرى فيه عيبين
فقالوا له وما هما ؟ قال يموت الملك ويخرب القصر
قال صدقت ثم أقبل على الله وترك القصر والدنيا
وقيل سئل الخضر عليه السلام عن أعجب رآه في الدنيا مع طول سياحته وقطعه للقفار والفلوات فقال أعجب شيء رأيته أني مررت بمدينة لم أر على وجه الأرض أحسن منها فسألت بعض أهلها متى بنيت هذه المدينة فقالوا سبحان الله لم يذكر آباؤنا ولا اجدادنا متى بنيت وما زالت كذلك من عهد الطوفان ثم غبت عنها خمسمائة سنة ومررت بها فإذا هي خاوية على عروشها ولم أر أحدا أسأله وإذا رعاة غنم فدنوت منهم فقلت أين المدينة التي ههنا ؟ فقالوا سبحان الله لم يذكر آباؤنا ولا أجدادنا أنه كان ههنا مدينة ثم غبت خمسمائة سنه ومررت بها وإذا موضع تلك المدينة بحر وإذا غواصون يخرجون منه شبه الحلية فقلت

للغواصين منذ كم هذا البحر ههنا ؟ فقالوا سبحان الله لم يذكر آباؤنا ولا أجدادنا إلا أن هذا البحر من عهد الطوفان فغبت خمسمائة سنة وجئت فإذا البحر قد غاض ماؤه وإذا مكانه غيضة وصيادون يصيدون فيها السمك في زوارق صغار فقلت لبعضهم أين البحر الذي كان ههنا ؟ فقالوا سبحان الله لم يذكر آباؤنا ولا أجدادنا أنه كان ههنا بحر
فغبت خمسمائة عام ثم جئت إلى ذلك فإذا هو مدينة على الحالة الأولى والحصون والقصور والأسواق قائمة فقلت لبعضهم أين الغيضة التي كانت ههنا ومتى بنيت هذه المدينة ؟ فقالوا سبحان الله لم يذكر آباؤنا ولا أجدادنا إلا أن هذه المدينة على حالها من عهد الطوفان فغبت عنها نحو خمسمائة سنة ثم أتيت إليها فإذا عاليها سافلها وهي تدخن بدخان شديد فلم أر أحدا أسأله ثم أتيت راعيا فسألته أين المدينة ؟ قال سبحان الله لم يذكر آباؤنا ولا أجدادنا إلا أن هذا المكان هكذا منذ كان
فهذا أعجب شيء رأيته في سياحتي
فسبحان مبيد العباد ومفني البلاد ووارث الأرض ومن عليها وباعث من خلق منها بعد رده إليها
ولبعضهم
( قف بالديار فهذه آثارهم ... تبكي الأحبة حسرة وتشوقا )
( كم قد وقفت بها اسائل أهلها ... عن حالها مترحما أو مشفقا )
( فأجابني داعي الهوى في رسمها ... فارقت من تهوى وعز الملتقى ) ولبعضهم
( أيها الربع الذي قد دثرا ... وكان عينا ثم أضحى أثرا )
( أين سكانك ماذا فعلوا ... خبرن عنهم سقيت المطرا )
( فلقد نادى منادي دارهم ... رحلوا واستودعوني عبرا ) وقال عيسى عليه الصلاة و السلام أوحى الله الى الدنيا من خدمني فاخدميه ومن خدمك فاستخدميه يا دنيا مري على أوليائي ولا تحلي لهم فتفتنيهم وقال بعض الحكماء الدنيا كالماء المالح كلما ازداد صاحبها شرابا ازداد عطشا أو كالكأس من عسل وفي أسفله سم فللذائق منه

حلاوة عاجلة وفي أسفله الموت أو كحلم النائم يفرح في منامه فإذا استيقظ زال فرحه او كالبرق يضيء قليلا ثم يذهب
ولما بنى المأمون قصره الذي ضرب به المثل نام فيه فسمع قائلا يقول
( أتبني بناء الخالدين وإنما ... بقاؤك فيها إن عقلت قليل )
( لقد كان في ظل الأراك كفاية ... لمن كل يوم يقتضيه رحيل ) قال فلم يلبث بعدها إلا قليلا ومات وقال
( ومن يأمن الدنيا يكن مثل قابض ... على الماء خانته فروج الأصابع ) ووجد مكتوب على قصر باد أهله
( هذي منازل أقوام عهدتهم ... في خفض عيش نفيس ماله خطر )
( صاحت بهم نائبات الدهر فانقلبوا ... إلى القبور فلا عين ولا أثر ) ولو قيل للدنيا صفي نفسك ما عدت ما وصفها به أبو نواس بقوله
( وما الناس إلا هالك وابن هالك ... وذو نسب في الهالكين عريق )
( إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت ... له عن عدو في ثياب صديق ) وروي أن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه لما رجع من صفين ودخل أوائل الكوفة رأى قبرا فقال قبر من هذا ؟ فقالوا قبر خباب ابن الارث فوقف عليه وقال رحم الله خبابا أسلم راغبا وهاجر طائعا وعاش مجاهدا وابتلي في جسمه آخرا ألا وأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا ثم مشى فإذا هو بقبور فجاء حتى وقف عليها وقال السلام عليكم أهل الديار الموحشة والمحال المقفرة أنتم لنا سلف ونحن لكم تبع وبكم عما قليل لاحقون اللهم اغفر لنا ولهم وتجاوز عنا وعنهم طوبى لمن ذكر المعاد وعمل ليوم الحساب وقنع بالكفاف ورضي عن الله تعالى ثم قال يا أهل القبور أما الأزواج فقد نكحت وأما الديار فقد سكنت وأما الأموال فقد قسمت وهذا ما عندنا فما عندكم ثم التفت إلى أصحابه وقال أما أنهم لو تكلموا لقالوا وجدنا خير الزاد التقوى والله سبحانه وتعالى أعلم

الباب الرابع والثمانون فيما جاء في فضل الصلاة على رسول الله وهو آخر الأبواب وبه يختم الكتاب ولنذكر أربعين حديثا في فضل الصلاة على النبي الحديث الأول عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله " من صلى علي صلت عليه الملائكة ومن صلت عليه الملائكة صلى الله عليه ومن صلى الله عليه لم يبق شيءفي السموات ولا في الأرض إلا صلى عليه " الحديث الثاني قال رسول الله " من صلى علي صلاة واحدة أمر الله حافظيه أن لا يكتبا عليه ذنبا ثلاثة أيام " الحديث الثالث قال رسول الله " من صلى علي مرة خلق الله من قوله ملكا له جناحان جناح بالمشرق وجناح بالمغرب رأسه وعنقه تحت العرش وهو يقول اللهم صل على عبدك ما دام يصلي على نبيك " الحديث الرابع قال رسول الله " من صلى علي مرة صلى الله عليه بها عشرا ومن صلى علي عشرا صلى الله عليه بها مائة ومن صلى علي مائة صلى الله عليه بها ألفا ومن صلى على الفا لم يعذبه الله بالنار " الحديث الخامس قال رسول الله " من صلى علي مرة كتب الله له عشر حسنات ومحا عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات " الحديث السادس قال رسول الله " أتاني جبريل يوما وقال يا محمد جئتك ببشارة لم آت بها أحدا من قبلك وهي أن الله تعالى يقول لك

من صلى عليك من أمتك ثلاث مرات غفر الله له إن كان قائما قبل أن يقعد وإن كان قاعدا غفر له قبل أن يقوم فعند ذلك خر ساجدا لله شاكرا " الحديث السابع قال رسول الله " من صلى علي في الصباح عشرا محيت عنه ذنوب أربعين سنة " الحديث الثامن قال رسول الله " من صلى علي ليلة الجمعة أو يوم الجمعة مائة مرة غفر الله له خطئيته ثمانين سنة " الحديث التاسع قال رسول الله " من صلى علي ليلة الجمعة أو يوم الجمعة مائة مرة قضى الله له مائة حاجة ووكل الله به ملكا حين يدفن في قبره يبشره كما يدخل أحدكم على أخيه بالهدية " الحديث العاشر قال رسول الله " من صلى علي في يوم مائة مرة قضيت له في ذلك اليوم مائة حاجة " الحديث الحادي عشر قال رسول الله " أقربكم مني مجلسا أكثركم علي صلاة " الحديث الثاني عشر قال رسول الله " من صلى علي ألف مرة بشر بالجنة قبل موته " الحديث الثالث عشر قال رسول الله " جاءني جبريل عليه السلام وقال لي يا رسول الله لا يصلي عليك أحد إلا ويصلى عليه سبعون ألفا من الملائكة " الحديث الرابع عشر قال رسول الله " الدعاء بعد الصلاة علي لا يرد " الحديث الخامس عشر قال رسول الله " الصلاة علي نور على الصراط وقال لا يلج النار من يصلي علي " الحديث السادس عشر قال رسول الله " من جعل عبادته الصلاة علي قضى الله له حاجة الدنيا والآخرة "

الحديث السابع عشر قال رسول الله " من نسي الصلاة علي أخطأ طريق الجنة " الحديث الثامن عشر قال رسول الله " إن لله ملائكة في الهواء بأيديهم قراطيس من نور لا يكتبون إلا الصلاة علي وعلى أهل بيتي " الحديث التاسع عشر قال رسول الله " لو أن عبدا جاء يوم القيامة بحسنات أهل الدنيا ولم تكن فيها الصلاة علي ردت عليه ولم تقبل منه " الحديث العشرون قال رسول الله " أولى الناس بي أكثرهم علي صلاة " الحديث الحادي والعشرون قال رسول الله من صلى علي في كتاب ما لم تزل الملائكة تصلي عليه لم يندرس اسمي من ذلك الكتاب " الحديث الثاني والعشرون قال رسول الله إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني الصلاة علي من أمتي فأستغفر لهم الحديث الثالث والعشرون قال رسول الله من صلى علي كنت شفيعه يوم القيامة ومن لم يصل علي فأنا برئ منه " الحديث الرابع والعشرون قال رسول الله يؤمر بقوم إلى الجنة فيخطئون الطريق قالوا يا رسول الله ولم ذاك قال سمعوا اسمي ولم يصلوا علي " الحديث الخامس والعشرون قال رسول الله يؤمر برجل إلى النار فأقول ردوه إلى الميزان فأضع له شيئا كالأنملة معي في ميزانه وهو الصلاة علي فترجح ميزانه وينادي سعد فلان الحديث السادس والعشرون قال رسول الله ما اجتمع قوم في مجلس ولم يصل علي فيه إلا تفرقوا كقوم تفرقوا عن ميت ولم يغسلوه الحديث السابع والعشرون قال رسول الله " إن الله تعالى وكل بقبري ملكا أعطاه أسماء الخلائق كلها فلا يصلي علي أحد إلى يوم القيامة إلا بلغني اسمه وقال رسول الله إن فلان بن فلانة صلى عليك

الحديث الثامن والعشرون عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أنه قال الصلاة على النبي أمحى للذنوب من الماء لسواد اللوح الحديث التاسع والعشرون قال رسول الله إن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام أن أردت أن أكون إليك أقرب من كلامك إلى لسانك ومن روحك لجسدك فأكثر الصلاة على النبي الأمي الحديث الثلاثون قال رسول الله إن ملكا أمره الله تعالى باقتلاع مدينة غضب عليها فرحمها ذلك الملك ولم يبادر إلى اقتلاعها فغضب الله عليه وأكسر أجنحته فمر به جبريل عليه السلام فشكا له حاله فسأل الله فيه فأمره أن يصلي على النبي فصلى عليه فغفر الله له ورد عليه أجنحته ببركة الصلاة على النبي الحديث الحادي والثلاثون عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت من صلى على رسول الله عشر مرات وصلى ركعتين ودعا الله تعالى تقبل صلاته وتقضى حاجته ودعاؤه مقبول غير مردود الحديث الثاني والثلاثون عن زيد بن حارثة قال سألت رسول الله عن الصلاة عليه فقال صلوا علي واجتهدوا في الدعاء وقولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد الحديث الثالث والثلاثون عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلوا علي فإن صلاتكم علي زكاة لكم واسألوا الله لي الوسلية الحديث الرابع والثلاثون عن سهل بن سعد الساعدي أن النبي قال لا صلاة لمن لم يصل على نبيه الحديث الخامس والثلاثون عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصلي علي الحديث السادس والثلاثون عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال قال رسول الله من قال جزى الله عنا محمدا خيرا وجزى الله نبينا محمدا بما هو أهله فقد أتعب كاتبيه

الحديث السابع والثلاثون عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله لا تجعلوا بيوتكم قبورا وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم الحديث الثامن والثلاثون عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله ما من أحد يصلي علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه الحديث التاسع والثلاثون قال رسول الله أقربكم مني منزلا يوم القيامة أكثركم علي صلاة الحديث الأربعون نقل الشيخ كمال الدين الدميري رحمه الله تعالى عن شفاء الصدور لابن سبع أن النبي قال من سره أن يلقى الله وهو عليه راض فليكثر من الصلاة علي فإنه من صلى علي في كل يوم خمسمائة مرة لم يفتقر أبدا وهدمت ذنوبه ومحيت خطاياه ودام سروره واستجيب دعاؤه وأعطي أمله وأعين على عدوه وعلى أسباب الخير وكان ممن يرافق نبيه في الجنان اللهم صل على سيد المرسلين وخاتم النبيين ورسول رب العالمين الذي أنزل عليه في محكم الكتاب العزيز تعظيما له وتوقيرا ( يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا ) فهذا خطاب خاص الخاص ولم يخاطب الله أحدا من المرسلين ولا من الأنبياء ولا رسولا بالرسالة إلا سيد خلقه محمد فإن الله تعالى نادى أبا البشر ( يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة ) ( ويا نوح اهبط بسلام منا ) ( ويا إبراهيم أعرض عن هذا ) ( ويا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض ) ( ويا عيسى اذكر نعمتي ) وقال لمحمد ( يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك ) ( يا أيها الرسول لا يحزنك ) ( يا أيها النبي

حسبك الله ) ( يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال ) ( يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين ) ( يا أيها النبي إذا طلقتم النساء ) ( يا أيها النبي لم تحرم ) ( يا أيها النبي اتق الله ) ( يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ) وما ناداه باسمه يا محمد كغيره إلا في أربع مواضع اقتضت الحكمة أن يذكرهناك باسمه محمد الأول قوله عز و جل ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ) لأن سبب انزالها أن الشيطان صاح يوم أحد قد قتل محمد وكان ما كان فأنزل الله تعالى هذه الآية ولو قال وما رسولي لقال الأعداء ليس هو محمد فذكره باسمه لأنهم كانوا ينكرون ان اسمه محمدا الثاني قوله عز و جل ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين ) الثالث قوله عز و جل ( الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد ) فلو قال وآمنوا بما نزل على رسولي فقال الأعداء ليس هو فعرفه باسمه محمد الرابع قوله عز و جل محمد رسول الله والحكمة في ذكره هنا باسمه أنه سبحانه وتعالى قال قبلها هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله فكان من الأعداء من يقول من هو رسوله الذي أرسله فعرفه باسمه فقال محمد رسول الله وسماه تعالى باسمه أحمد في موضع واحد وله حكمة وهي أن الله تعالى لما أرسل عيسى بن مريم عليه الصلاة و السلام قال لقومه من بني إسرائيل يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة التي انزلت على موسى ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد لأنهم كانوا يعرفونه في التوراة أحمد فما ناداه سبحانه وتعالى باسمه محمد ولا أحمد وإنما ذكر ذلك إعلاما به وتعريفا له وما ناداه إلا بالنبوة والرسالة فقال يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا أي شاهدا بالإيمان للمؤمنين ومبشرا لأهل التمجيد ونذيرا لأهل التجحيد وقيل شاهدا لأهل القرآن ومبشرا لهم بالغفران ونذيرا

لأهل الكفر والعصيان وقيل شاهدا لأمتك ومبشرا بشفاعتك ونذيرا لمن ارتكب مخالفتك وقيل شاهدا بالمنة ومبشرا بالجنة وقوله وداعيا إلى الله بإذنه أي تدعو الناس بأمر الله تعالى إلى لا إله إلا الله قال تعالى وأنه لما قام عبد الله يدعوه وسمى رسول الله نفسه داعيا فقال أنا الداعي إلى الله وقوله تعالى ( وسراجا منيرا ) أي يهتدى به كما يهتدى بالسراج في ظلمة الليل فإن قلت ما الحكمة في قوله تعالى ( وسراجا منيرا ) ولم يقل قمرا منيرا فالجواب عن ذلك أن السراج أعم من القمر لأن المراد بالسراج هنا الشمس قال تعالى ( وجعل الشمس سراجا ) والشمس أعم نفعا ونورا من القمر وقيل المراد بقوله تعالى ( وسراجا منيرا ) السراج الذي يقتبس منه لأن القمر لا تصل إليه الأيدي حتى يقتبسون منه والسراج إذا كان في بلد يملأ ذلك البلد نورا لأن كل من جاء يقتبس منه والقمر ليس كذلك ولهذا كانت الدنيا قبل ولادته ظلاما فلما ولد ظهر سراج دينه بمكة فكان أول من أقتبس من الرجال أبو بكر ومن النساء خديجة ومن الشباب علي ومن الموالي زيد ومن العبيد بلال رضي الله تعالى عنهم أجمعين وجاء سلمان من أرض فارس فاقتبس وصهيب من الروم وبلال من الحبشة ووفد الوفود واقتبسوا وأبو لهب إلى جانب البيت ولم يقتبس واقتبس الناس من مشارق الأرض ومغاربها حتى امتلأت الأرض من نور سراجه فهو أعظم الأنبياء وأكرم المرسلين وسيد الخلق أجمعين لم يخلق الله أحسن ولا أجمل ولا أكمل ولا أفضل ولا أفصح ولا أرجح ولا أسمح ولا أصبح ولا أجل ولا أعظم ولا أسخى ولا أكرم ولا أبهى ولا أنصف ولا أعدل منه فلو أن البحار مداد والنبات أقلام وجميع الخلق تكتب معجزاته لعجزوا عن وصف نزر النزر من معجزاته اللهم اجعلنا من خالص أمته واحشرنا في زمرته وأمتنا على محبته ولا تخالف بنا عن ملته ولا عما جاء به برحمتك يا أرحم الراحمين آمين وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي عدد ما ذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون نحمدك يا من هيأت لكسب الآداب جميع المعدات وفتحت للتحلي بأنوار آياتك سبل الخيرات ونصلي ونسلم

على من كملت آدابه ورشحت بكمال البيان وإعجاز التبيان جنابه سيدنا محمد القائل إن من البيان لسحرا وعلى آله وصحبه ما أطلعت حدائق الأتباع زهرا أما بعد فقد تم بحمده تعالى طبع كتاب المستطرف في كل فن مستظرف تأليف العلامة الفاضل واللوذعي الكامل الشيخ شهاب الدين أحمد الأبشيهي رحمه الله وأعلى منزله في دار رضاه

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب الإبانة عن أصول الديانة علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري أبو الحسن

  كتاب الإبانة عن أصول الديانة علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري أبو الحسن بسم الله الرحمن الرحيم وهو حسبي ونعم الوكيل وصلى الله على...