الثلاثاء، 4 أكتوبر 2022

ج15.و16.مفاتيح الغيب للفخر الرازي

 ج15وج16.مفاتيح الغيب للفخر الرازي

ج15.مفاتيح الغيب ـ ترقيم الشاملة موافق للمطبوع
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي الشافعي

فعل مضارع وعطف الفعل على الاسم غير حسن وذكر الواحدي فيه ثلاثة أوجه الأول أن يكون قوله وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بمنزلة صادين والثاني أن يكون قوله بَطَراً وَرِئَاء بمنزلة يبطرون ويراؤن وأقول إن شيئاً من هذه الوجوه لا يشفي الغليل لأنه تارة يقيم الفعل مقام الاسم وأخرى يقيم الاسم مقام الفعل ليصح له كون الكلمة معطوفة على جنسها وكان من الواجب عليه أن يذكر السبب الذي لأجله عبر عن الأولين بالمصدر وعن الثالث بالفعل وأقول إن الشيخ عبد القاهر الجرجاني ذكر أن الاسم يدل على التمكين والاستمرار والفعل على التجدد والحدوث قال ومثاله في الاسم قوله تعالى وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالوَصِيدِ ( الكهف 18 ) وذلك يقتضي كون تلك الحالة ثابتة راسخة ومثال الفعل قوله تعالى قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السَّمَاء وَالاْرْضِ ( يونس 31 ) وذلك يدل على أنه تعالى يوصل الرزق إليهم ساعة فساعة هذا ما ذكره الشيخ عبد القاهر
إذا عرفت هذا فنقول إن أبا جهل ورهطه وشيعته كانوا مجبولين على البطر والمفاخرة والعجب وأما صدهم عن سبيل الله فإنما حصل في الزمان الذي ادعى محمد عليه الصلاة والسلام النبوة ولهذا السبب ذكر البطر والرئاء بصيغة الاسم وذكر الصد عن سبيل الله بصيغة الفعل والله أعلم
وحاصل الكلام أنه تعالى أمرهم عند لقاء العدو بالثبات والاشتغال بذكر الله ومنعهم من أن يكون الحامل لهم على ذلك الثبات البطر والرئاء بل أوجب عليهم أن يكون الحامل لهم عليه طلب عبودية الله
واعلم أن حاصل القرآن من أوله إلى آخره دعوة الخلق من الاشتغال بالخلق وأمرهم بالعناء في طريق عبودية الحق والمعصية مع الانكسار أقرب إلى الإخلاص من الطاعة مع الافتخار ثم ختم هذه الآية بقوله وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ والمقصود أن الإنسان ربما أظهر من نفسه أن الحامل له والداعي إلى الفعل المخصوص طلب مرضاة الله تعالى مع أنه لا يكون الأمر كذلك في الحقيقة فبين تعالى كونه عالماً بما في دواخل القلوب وذلك كالتهديد والزجر عن الرئاء والتصنع
وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَآءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِى ءٌ مِّنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ
اعلم أن هذا من جملة النعم التي خص أهل بدر بها وفيه مسائل
المسألة الأولى العامل في إِذْ فيه وجوه قيل تقديره اذكر إذ زين لهم وقيل هو عطف على ما تقدم من تذكير النعم وتقديره واذكروا إذ يريكموهم وإذ زين وقيل هو عطف على قوله خرجوا بطراً ورئاء

الناس وتقديره لا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورثاء الناس وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم
المسألة الثانية في كيفية هذا التزيين وجهان الأول أن الشيطان زين بوسوسته من غير أن يتحول في صورة الإنسان وهو قول الحسن والأصم والثاني أنه ظهر في صورة الإنسان قالوا إن المشركين حين أرادوا المسير إلى بدر خافوا من بني بكر بن كنانة لأنهم كانوا قتلوا منهم واحداً فلم يأمنوا أن يأتوهم من ورائهم فتصور لهم إبليس بصورة سراقة بن مالك بن جعشم وهو من بني بكر بن كنانة وكان من أشرافهم في جند من الشياطين ومعه راية وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم مجيركم من بني كنانة فلما رأى إبليس نزول الملائكة نكص على عقيبه وقيل كانت يده في يد الحرث بن هشام فلما نكص قال له الحرث أتخذ لنا في هذه الحال فقال إني أرى ما لا ترونا ودفع في صدر الحرث وانهزموا وفي هذه القصة سؤالات
السؤال الأول ما الفائدة في تغيير صورة إبليس إلى صورة سراقة
والجواب فيه معجزة عظيمة للرسول عليه السلام وذلك لأن كفار قريش لما رجعوا إلى مكة قالوا هزم الناس سراقة فبلغ ذلك سراقة فقال والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم فعند ذلك تبين للقوم أن ذلك الشخص ما كان سراقة بل كان شيطاناً
فإن قيل فإذا حضر إبليس لمحاربة المؤمنين ومعلوم أنه في غاية القوة فلم لم يهزموا جيوش المسلمين
قلنا لأنه رأى في جيش المسلمين جبريل مع ألف من الملائكة فلهذا السبب خاف وفر
فإن قيل فعلى هذا الطريق وجب أن ينهزم جميع جيوش المسلمين لأنه يتشبه بصورة البشر ويحضر ويعين جمع الكفار ويهزم جموع المسلمين والحاصل أنه إن قدر على هذا المعنى فلم لا يفعل ذلك في سائر وقائع المسلمين وإن لم يقدر عليه فكيف أضفتم إليه هذا العمل في واقعة بدر
الجواب لعله تعالى إنما غير صورته إلى صورة البشر في تلك الواقعة أما في سائر الوقائع فلا يفعل ذلك التغيير
السؤال الثاني أنه تعالى لما غير صورته إلى صورة البشر فما بقي شيطاناً بل صار بشراً
الجواب أن الإنسان إنما كان إنساناً بجوهر نفسه الناطقة ونفوس الشياطين مخالفة لنفوس البشر فلم يلزم من تغيير الصورة تغيير الحقيقة وهذا الباب أحد الدلائل السمعية على أن الإنسان ليس إنساناً بحسب بنيته الظاهرة وصورته المخصوصة
السؤال الثالث ما معنى قول الشيطان لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وما الفائدة في هذا الكلام مع أنهم كانوا كثيرين غالبين
والجواب أنهم وإن كانوا كثيرين في العدد إلا أنهم كانوا يشاهدون أن دولة محمد عليه الصلاة والسلام كل يوم في الترقي والتزايد ولأن محمداً كلما أخبر عن شيء فقد وقع فكانوا لهذا السبب خائفين جداً من قوم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فذكر إبليس هذا الكلام إزالة للخوف عن قلوبهم ويحتمل أن يكون المراد أنه كان يؤمنهم من شر بني بكر بن كنانة خصوصاً وقد تصور بصورة زعيم منهم وقال إِنّى جَارٌ لَّكُمْ والمعنى إني إذا كنت وقومي ظهيراً لكم فلا يغلبكم أحد من الناس ومعنى الجار ههنا الدافع عن صاحبه أنواع الضرر كما

يدفع الجار عن جاره والعرب تقول أنا جار لك من فلان أي حافظ من مضرته فلا يصل إليك مكروه منه
ثم قال تعالى فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ أي التقى الجمعان بحيث رأت كل واحدة الأخرى نكص على عقيبه والنكوص الأحجام عن الشيء والمعنى رجع وقال إني أرى مالا ترون وفيه وجوه الأول أنه روحاني فرأى الملائكة فخافهم قيل رأى جبريل يمشي بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام وقيل رأى ألفاً من الملائكة مردفين الثاني أنه رأى أثر النصرة والظفر في حق النبي عليه الصلاة والسلام فعلم أنه لو وقف لنزلت عليه بلية
ثم قال إِنّى أَخَافُ اللَّهَ قال قتادة صدق في قوله إِنّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ وكذب في قوله إِنّى أَخَافُ اللَّهَ وقيل لما رأى الملائكة ينزلون من السماء خاف أن يكون الوقت الذي أنظر إليه قد حضر فقال ما قال إشفاقاً على نفسه
أما قوله وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ فيجوز أن يكون من بقية كلام إبليس ويجوز أن ينقطع كلامه عند قوله أخاف الله
ثم قال تعالى بعده وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ
إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَاؤُلا ءِ دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
وفيه مسائل
المسألة الأولى إنما لم تدخل الواو في قوله إِذْ يَقُولُ ودخلت في قوله وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ ( الأنفال 48 ) لأن قوله وَإِذْ زَيَّنَ عطف على هذا التزيين على حالهم وخروجهم بطراً ورئاء وأما هنا وهو قوله إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ فليس فيه عطف لهذا الكلام على ما قبله بل هو كلام مبتدأ منقطع عما قبله وعامل الإعراب في إِذْ فيه وجهان الأول التقدير والله شديد العقاب إذ يقول المنافقون والثاني اذكروا إذ يقول المنافقون
المسألة الثانية أما المنافقون فهم قوم من الأوس والخزرج وأما الذين في قلوبهم مرض فهم قوم من قريش أسلموا وما قوي إسلامهم في قلوبهم ولم يهاجروا ثم إن قريشاً لما خرجوا لحرب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال أولئك نخرج مع قومنا فإن كان محمد في كثرة خرجنا إليه وإن كان في قلة أقمنا في قومنا قال محمد بن إسحق ثم قتل هؤلاء جميعاً مع المشركين يوم بدر وقوله غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ قال ابن عباس معناه أنه خرج بثلثمائة وثلاثة عشر يقاتلون ألف رجل وما ذاك إلا أنهم اعتمدوا على دينهم وقيل المراد إن هؤلاء يسعون في قتل أنفسهم رجاء أن يجعلوا أحياء بعد الموت ويثابون على هذا القتل
ثم قال تعالى وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أي ومن يسلم أمره إلى الله ويثق بفضله

ويعول على إحسان الله فإن الله حافظه وناصره لأنه عزيز لا يغلبه شيء حكيم يوصل العذاب إلى أعدائه والرحمة والثواب إلى أوليائه
وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلَائِكَة ُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ
اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال هؤلاء الكفار شرح أحوال موتهم والعذاب الذي يصل إليهم في ذلك الوقت وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن عامر وحده إِذْ بالتاء على تأنيث لفظ الملائكة والجمع والباقون بالياء على المعنى
المسألة الثانية جواب عَلَيْهِمْ لَوْ محذوف والتقدير لرأيت منظراً هائلاً وأمراً فظيعاً وعذاباً شديداً
المسألة الثالثة وَلَوْ تَرَى ولو عاينت وشاهدت لأن لو ترد المضارع إلى الماضي كما ترد إن الماضي إلى المضارع
المسألة الرابعة الملائكة رفعها بالفعل ويضربون حال منهم ويجوز أن يكون في قوله يَتَوَفَّى ضمير لله تعالى والملائكة مرفوعة بالابتداء ويضربون خبر
المسألة الخامسة قال الواحدي معنى يتوفى الذين كفروا يقبضون أرواحهم على استيفائها وهذا يدل على أن الإنسان شيء مغاير لهذا الجسد وأنه هو الروح فقط لأن قوله يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ يدل على أنه استوفى الذات الكافرة وذلك يدل على أن الذات الكافرة هي التي استوفيت من هذا الجسد وهذا برهان ظاهر على أن الإنسان شيء مغاير لهذا الجسد وقوله يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ قال ابن عباس كان المشركون إذا أقبلوا بوجوههم إلى المسلمين ضربوا وجوههم بالسيف وإذا ولوا ضربوا أدبارهم فلا جرم قابلهم الله بمثله في وقت نزع الروح وأقول فيه معنى آخر ألطف منه وهو أن روح الكافر إذا خرج من جسده فهو معرض عن عالم الدنيا مقبل على الآخرة وهو لكفره لا يشاهد في عالم الآخرة إلا الظلمات وهو لشدة حبه للجسمانيات ومفارقته لها لا ينال من مباعدته عنها إلا الآلام والحسرات فسبب مفارقته لعالم الدنيا تحصل له الآلام بعد الآلام والحسرات وبسبب إقباله على الآخرة مع عدم النور والمعرفة ينتقل من ظلمات إلى ظلمات فهاتان الجهتان هما المراد من قوله يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ
ثم قال تعالى وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ وفيه إضمار والتقدير ونقول ذوقوا عذاب الحريق ونظيره في القرآن كثير قال تعالى وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ( البقرة 127 ) أي ويقولان ربنا وكذا قوله تعالى وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُؤُوسَهُمْ عِندَ رَبّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا ( السجدة 12 ) أي يقولون ربنا قال ابن عباس قول الملائكة لهم وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ إنما صح لأنه كان مع الملائكة

مقامع وكلما ضربوا بها التهبت النار في الأجزاء والأبعاض فذاك قوله وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ قال الواحدي والصحيح أن هذا تقوله الملائكة لهم في الآخرة وأقول أما العذاب الجسماني فحق وصدق وأما الروحاني فحق أيضاً لدلالة العقل عليه وذلك لأنا بينا أن الجاهل إذا فارق الدنيا حصل له الحزن الشديد بسبب مفارقة الدنيا المحبوبة والخوف الشديد بسبب تراكم الظلمات عليه في عالم الخوف والحزن والخوف والحزن كلاهما يوجبان الحرقة الروحانية والنار الروحانية
ثم قال تعالى ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ قيل هذا إخبار عن قول الملائكة وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي يجوز أن يقال ذلك مبتدأ وخبره قوله بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ ويجوز أن يكون محل ذلك نصباً والتقدير فعلنا ذلك بما قدمت أيديكم
المسألة الثانية المراد من قوله ذالِكَ هذا أي هذا العذاب الذي هو عذاب الحريق حصل بسبب ما قدمت أيديكم وذكرنا في قوله الم ذالِكَ الْكِتَابُ أن معناه هذا الكتاب وهذا المعنى جائز
المسألة الثالثة ظاهر قوله ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يقتضي أن فاعل هذا الفعل هو اليد وذلك ممتنع من وجوه أحدها أن هذا العذاب إنما وصل إليهم بسبب كفرهم ومحل الكفر هو القلب لا اليد وثانيها أن اليد ليست محلاً للمعرفة والعلم فلا يتوجه التكليف عليها فلا يمكن إيصا العذاب إليها فوجب حمل اليد ههنا على القدرة وسبب هذا المجازان اليد آلة العمل والقدرة هي المؤثرة في العمل فحسن جعل اليد كناية عن القدرة
واعلم أن التحقيق أن الإنسان جوهر واحد وهو الفعل وهو الدراك وهو المؤمن وهو الكافر وهو المطيع والعاصي وهذه الأعضاء آلات له وأدوات له في الفعل فأضيف الفعل في الظاهر إلى الآلة وهو في الحقيقة مضاف إلى جوهر ذات الإنسان
المسألة الرابعة قوله بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ يقتضي أن ذلك العقاب كالأمر المتولد من الفعل الذي صدر عنه وقد عرفت أن العقاب إنما يتولد من العقائد الباطلة التي يكتبها الإنسان ومن الملكات الراسخة التي يكتسبها الإنسان فكان هذا الكلام مطابقاً للمعقول
ثم قال تعالى وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ وفيه مسائل
المسألة الأولى في محل أن وجهان أحدهما النصب بنزع الخافض يعني بأن الله والثاني أنك إن جعلت قوله ذالِكَ في موضع رفع جعلت أن في موضع رفع أيضاً بمعنى وذلك أن الله قال الكسائي ولو كسرت ألف أن على الابتداء كان صواباً وعلى هذا التقدير يكون هذا كلاماً مبتدأ منقطعاً عما قبله
المسألة الثانية قالت المعتزلة لو كان تعالى يخلق الكفر في الكافر ثم يعذبه عليه لكان ظالماً وأيضاً قوله تعالى ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ يدل على أنه تعالى إنما لم يكن ظالماً بهذا العذاب لأنه قدم ما استوجب عليه هذا العذاب وذلك يدل على أنه لو لم يصدر منه ذلك التقديم لكان الله تعالى ظالماً في هذا العذاب فلو كان الموجد للكفر والمعصية هو الله لا العبد لوجب كون الله ظالماً وأيضاً تدل هذه الآية على كونه قادراً على الظلم إذ لو لم يصح منه لما كان في التمدح بنفيه فائدة

واعلم أن هذه المسألة قد سبق ذكرها على الاستقصاء في سورة آل عمران فلا فائدة في الإعادة والله أعلم
كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِى ٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَة ً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَآ ءَالَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى لما بين ما أنزله بأهل بدر من الكفار عاجلاً وآجلاً كما شرحناه أتبعه بأن بين أن هذه طريقته وسنته في الكل فقال كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ والمعنى عادة هؤلاء في كفرهم كعادة آل فرعون في كفرهم فجوزي هؤلاء بالقتل والسبي كما جوزي أولئك بالإغراق وأصل الدأب في اللغة إدامة العمل يقال فلان يدأب في كذا أي يداوم عليه ويواظب ويتعب نفسه ثم سميت العادة دأباً لأن الإنسان مداوم على عادته ومواظب عليها
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ قَوِى ٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ والغرض منه التنبيه على أن لهم عذاباً مدخراً سوى ما نزل بهم من العذاب العاجل ثم ذكر ما يجري مجرى العلة في العقاب الذي أنزله بهم فقال ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَة ً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله لَمْ يَكُ أكثر النحويين يقولون إنما حذفت النون لأنها لم تشبه الغنة المحضة فأشبهت حروف اللين ووقعت طرفاً فحذفت تشبيهاً بها كما تقول لم يدع ولم يرم ولم يل وقال الواحدي وهذا ينتقض بقولهم لم يزن ولم يخن فلم يسمع حذف النون ههنا
وأجاب علي بن عيسى عنه فقال إن كان ويكون أم الأفعال من أجل أن كل فعل قد حصل فيه معنى كان فقولنا ضرب معناه كان ضرب ويضرب معناه يكون ضرب وهكذا القول في الكل فثبت أن هذه الكلمة أم الأفعال فاحتيج إلى استعمالها في أكثر الأوقات فاحتملت هذا الحذف بخلاف قولنا لم يخن ولم يزن فإنه لا حاجة إلى ذكرها كثيرًا فظهر الفرق والله أعلم
المسألة الثانية قال القاضي معنى الآية أنه تعالى أنعم عليهم بالعقل والقدرة وإزالة الموانع وتسهيل السبل والمقصود أن يشتغلوا بالعبادة والشكر ويعدلوا عن الكفر فإذا صرفوا هذه الأحوال إلى

الفسق والكفر فقد غيروا نعمة الله تعالى على أنفسهم فلا جرم استحقوا تبديل النعم بالنقم والمنح بالمحن قال وهذا من أوكد ما يدل على أنه تعالى لا يبتدىء أحداً بالعذاب والمضرة والذي يفعله لا يكون الأجزاء على معاص سلفت ولو كان تعالى خلقهم وخلق جسمانهم وعقولهم ابتداء للنار كما يقوله القوم لما صح ذلك قال أصحابنا ظاهر الآية مشعر بما قاله القاضي الإمام إلا أنا لو حملنا الآية عليه لزم أن يكون صفة الله تعالى معللة بفعل الإنسان وذلك لأن حكم الله بذلك التغيير وإرادته لما كان لا يحصل إلا عند إتيان الأنسان بذلك الفعل فلو لم يصدر عند ذلك الفعل لم يحصل لله تعالى ذلك الحكم وتلك الإرادة فحينئذ يكون فعل الإنسان مؤثراً في حدوث صفة في ذات الله تعالى ويكون الإنسان مغيراً صفة الله ومؤثراً فيها وذلك محال في بديهة العقل فثبت أنه لا يمكن حمل هذا الكلام على ظاهره بل الحق أن صفة الله غالبة على صفات المحدثات فلولا حكمه وقضاؤه أولاً لما أمكن للعبد أن يأتي بشيء من الأفعال والأقوال
المسألة الثالثة أنه تعالى ذكر مرة أخرى قوله تعالى كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ ذكروا فيه وجوهاً كثيرة الأول أن الكلام الثاني يجري مجرى التفصيل للكلام الأول لأن الكلام الأول فيه ذكر أخذهم وفي الثاني ذكر إغراقهم وذلك تفصيل والثاني أنه أريد بالأول ما نزل بهم من العقوبة في حال الموت وبالثاني ما ينزل بهم في القبر في الآخرة الثالث أن الكلام الأول هو قوله كَفَرُواْ بِئَايَاتِ اللَّهِ والكلام الثاني هو قوله كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبّهِمْ فالأول إشارة إلى أنهم أنكروا الدلائل الإلهية والثاني إشارة إلى أنه سبحانه رباهم وأنعم عليهم بالوجوه الكثيرة فأنكروا دلائل التربية والإحسان مع كثرتها وتواليها عليهم فكان الأثر اللازم من الأول هو الأخذ والأثر اللازم من الثاني هو الإهلاك والإغراق وذلك يدل على أن لكفران النعمة أثراً عظيماً في حصول الهلاك والبوار ثم ختم تعالى الكلام بقوله وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ والمراد منه أنهم كانوا ظالمي أنفسهم بالكفر والمعصية وظالمي سائر الناس بسبب الإيذاء والإيحاش وأن الله تعالى إنما هلكهم بسبب ظلمهم وأقول في هذا المقام اللهم أهلك الظالمين وطهر وجه الأرض منهم فقد عظمت فتنتهم وكثر شرهم ولا يقدر أحد على دفعهم إلا أنت فادفع يا قهار يا جبار يا منتقم
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّة ٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ
اعلم أنه تعالى لما وصف كل الكفار بقوله وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ أفرد بعضهم بمزية في الشر والعناد فقال إِنَّ شَرَّ الدَّوَابّ عِندَ اللَّهِ أي في حكمه وعلمه من حصلت له صفتان

الصفة الأولى الكافر الذي يكون مستمراً على كفره مصراً عليه لا يتغير عنه البتة
الصفة الثانية أن يكون ناقضاً للعهد على الدوام فقوله الَّذِينَ عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ بدل من قوله الَّذِينَ كَفَرُواْ أي الذين عاهدت من الذين كفروا وهم شر الدواب وقوله مِنْهُمْ لتبعيض فإن المعاهدة إنما تكون مع أشرافهم وقوله ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلّ مَرَّة ٍ قال أهل المعاني إنما عطف المستقبل على الماضي لبيان أن من شأنهم نقض العهد مرة بعد مرة قال ابن عباس هم قريظة فإنهم نقضوا عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأعانوا عليه المشركين بالسلاح في يوم بدر ثم قالوا أخطأنا فعاهدهم مرة أخرى فنقضوه أيضاً يوم الخندق وقوله وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ معناه أن عادة من رجع إلى عقل وحزم أن يتقي نقض العهد حتى يسكن الناس إلى قوله ويثقوا بكلامه فبين تعالى أن من جمع بين الكفر الدائم وبين نقض العهد على هذا الوجه كان شر الدواب
فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِى الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَة ً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَآءٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُوا إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ
اعلم أنه تعالى تارة يرشد رسوله إلى الرفق واللطف في آيات كثيرة منها قوله وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَة ً لّلْعَالَمِينَ ( الأنبياء 107 ) ومنها قوله فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الاْمْرِ ( آل عمران 159 ) وتارة يرشد إلى التغليظ والتشديد كما في هذه الآية وذلك لأنه تعالى لما ذكر الذين ينقضون عهدهم في كل مرة بين ما يجب أن يعاملوا به فقال فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِى الْحَرْبِ قال الليث ثقفنا فلاناً في موضع كذا أي أخذناه وظفرنا به والتشريد عبارة عن التفريق مع الاضطراب يقال شرد يشرد شروداً وشرده تشريداً فمعنى الآية أنك إن ظفرت في الحرب بهؤلاء الكفار الذين ينقضون العهد فافعل بهم فعلاً يفرق بهم من خلفهم قال عطاء تثخن فيهم القتل حتى يخافك غيرهم وقيل نكل بهم تنكيلاً يشرد غيرهم من ناقضي العهد لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ أي لعل من خلفهم يذكرون ذلك النكال فيمنعهم ذلك عن نقض العهد وقرأ ابن مسعود فشرذ بالذال المنقطة من فوق بمعنى ففرق وكأنه مقلوب شذر وقرأ أبو حيوة من خلفهم والمعنى فشرد تشريداً متلبساً بهم من خلفهم لأن أحد العسكرين إذا كسروا الثاني فالكاسرون يعدون خلف المكسرين فأمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يشردهم في ذلك الوقت
وأما قوله وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَة ً يعني من قوم معاهدين خيانة ونكثاً بأمارات ظاهرة فَانبِذْ إِلَيْهِمْ فاطرح إليهم العهد على طريق مستو ظاهر وذلك أن تظهر لهم نبذ العهد وتخبرهم أخباراً مكشوفاً بينا أنك قطعت ما بينك وبينهم ولاتبادرهم الحرب وهم على توهم بقاء العهد فيكون ذلك خيانة منك إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ في العهود وحاصل الكلام في هذه الآية أنه تعالى أمره بنبذ من ينقض العهد على أقبح الوجوه وأمره أن يتباعد على أقصى الوجوه من كل ما يوهم نكث العهد ونقضه قال أهل العلم آثار نقض العهد إذا ظهرت فإما أن تظهر ظهوراً محتملاً أو ظهوراً مقطوعاً به فإن كان الأول وجب الإعلام على ما هو مذكور في هذه الآية وذلك لأن قريظة عاهدوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ثم أجابوا أبا سفيان ومن معه من المشركين إلى مظاهرتهم على رسول الله فحصل لرسول الله خوف الغدر منهم به وبأصحابه فههنا يجب على الإمام أن ينبذ إليهم عهودهم على سواء ويؤذنهم بالحرب أما إذا ظهر نقض العهد ظهوراً مقطوعاً به فههنا لا حاجة

إلى نبذ العهد كما فعل رسول الله بأهل مكة فإنهم لما نقضوا العهد بقتل خزاعة وهم من ذمة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وصل إليهم جيش رسول الله بمر الظهران وذلك على أربعة فراسخ من مكة والله تعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما بين ما يفعل الرسول في حق من يجده في الحرب ويتمكن منه وذكر أيضاً ما يجب أن يفعله فيمن ظهر منه نقض العهد بين أيضاً حال من وفاته في يوم بدر وغيره لئلا يبقى حسرة في قلبه فقد كان فيهم من بلغ في أذية الرسول عليه الصلاة والسلام مبلغاً عظيماً فقال لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ والمعنى أنهم لما سبقوا فقد فاتوك ولم تقدر على إنزال ما يستحقونه بهم ثم ههنا قولان الأول أن المراد ولا تحسبن أنهم انفلتوا منك فإن الله يظفرك بعيرهم والثاني لا تحسبن أنهم لما تخلصوا من الأسر والقتل أنهم قد تخلصوا من عقاب الله ومن عذاب الآخرة إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ أي أنهم بهذا السبق لا يعجزون الله من الانتقام منهم والمقصود تسلية الرسول فيمن فاته ولم يتمكن من التشفي والانتقام منه
المسألة الثانية قرأ ابن عامر وحفص عن عاصم ( لا يحسبن ) بالياء المنقطة من تحت وفي تصحيحه ثلاثة أوجه الأول قال الزجاج ولا يحسبن الذين كفروا أن يسبقونا لأنها في حرف ابن مسعود أنهم سبقونا فإذا كان الأمر كذلك فهي بمنزلة قولك حسبت أن أقوم وحسبت أقوم وحذف أن كثير في القرآن قال تعالى قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونّى أَعْبُدُ ( الزمر 64 ) والمعنى أن أعبد الثاني أن نضمر فاعلاً للحسبان ونجعل الذين كفروا المفعول الأول والتقدير ولا يحسبن أحد الذين كفروا والثالث قال أبو علي ويجوز أيضاً أن يضمر المفعول الأول والتقدير ولا يحسبن الذين كفروا أنفسهم سبقوا أو إياهم سبقوا وأما أكثر القراء فقرؤا وَلاَ تَحْسَبَنَّ بالتاء المنقطة من فوق على مخاطبة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والذين كفروا المفعول الأول وسبقوا المفعول الثاني وموضعه نصب والمعنى ولا تحسبن الذين كفروا سابقين
المسألة الثالثة أكثر القراء على كسر ءانٍ في قوله إِنَّهُمْ لا وهو الوجه لأنه ابتداء كلام غير متصل بالأول كقوله الْكَاذِبِينَ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا وتم الكلام ثم قال سَاء مَا يَحْكُمُونَ فكما أن قوله سَاء مَا يَحْكُمُونَ منقطع من الجملة التي قبلها كذلك قوله إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ وقرأ ابن عامر أَنَّهُمْ بفتح الألف وجعله متعلقاً بالجملة الأولى وفيه وجهان الأول التقدير لا تحسبنهم سبقوا لأنهم لا يفوتون فهم يجزون على كفرهم الثاني قال أبو عبيد يجعل لا صلة والتقدير لا تحسبن أنهم يعجزون

وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّة ٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَى ْءٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ
اعلم أنه تعالى لما أوجب على رسوله أن يشرد من صدر منه نقض العهد وأن ينبذ العهد إلى من خاف منه النقض أمره في هذه الآية بالإعداد لهؤلاء الكفار قيل إنه لما اتفق أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في قصة بدر أن قصدوا الكفار بلا آلة ولا عدة أمرهم الله أن لا يعودوا لمثله وأن يعدوا للكفار ما يمكنهم من آلة وعدة وقوة والمراد بالقوة ههنا ما يكون سبباً لحصول القوة وذكروا فيه وجوهاً الأول المراد من القوة أنواع الأسلحة الثاني روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قرأ هذه الآية على المنبر وقال ( ألا إن القوة الرمي ) قالها ثلاثاً الثالث قال بعضهم القوة هي الحصون الرابع قال أصحاب المعاني الأولى أن يقال هذا عام في كل ما يتقوى به على حرب العدو وكل ما هو آلة للغزو والجهاد فهو من جملة القوة وقوله عليه الصلاة والسلام ( القوة هي الرمي ) لا ينفي كون غير الرمي معتبراً كما أن قوله عليه الصلاة والسلام ( الحج عرفة ) و ( الندم توبة ) لا ينفي اعتبار غيره بل يدل على أن هذا المذكور جزء شريف من المقصود فكذا ههنا وهذه الآية تدل على أن الاستعداد للجهاد بالنبل والسلاح وتعليم الفروسية والرمي فريضة إلا أنه من فروض الكفايات وقوله ومن رباط الخيل ) الرباط المرابطة أو جمع ربيط كفصال وفصيل ولا شك أن ربط الخيل من أقوى آلات الجهاد روي أن رجلاً قال لابن سيرين إن فلاناً أوصى بثلث ماله للحصون فقال ابن سيرين يشتري به الخيل فتربط في سبيل الله ويغزى عليها فقال الرجل إنما أوصى للحصون فقال هي الخيل ألم تسمع قول الشاعر ولقد علمت على تجنبي الردى
إن الحصون الخيل لا مدر القرى
قال عكرمة ومن رباط الخيل الأناث وهو قول الفراء ووجه هذا القول أن العرب تسمي الخيل إذا ربطت في الأفنية وعلفت ربطاً واحدها ربيط ويجمع ربط على رباط وهو جمع الجمع فمعنى الرباط ههنا الخيل المربوط في سبيل الله وفسر بالإناث لأنها أولى ما يربط لتناسلها ونمائها بأولادها فارتباطها أولى من ارتباط الفحول هذا ما ذكره الواحدي
ولقائل أن يقول بل حمل هذا اللفظ على الفحول أولى لأن المقصود من رباط الخيل المحاربة عليها ولا شك أن الفحول أقوى على الكر والفر والعدو فكانت المحاربة عليها أسهل فوجب تخصيص هذا اللفظ بها ولما وقع التعارض بين هذين الوجهين وجب حمل اللفظ على مفهومه الأصلي وهو كونه خيلاً مربوطاً سواء كان من الفحول أو من الإناث ثم إنه تعالى ذكر ما لأجله أمر بإعداد هذه الأشياء فقال ترهبون به عدو الله وعدوكم وذلك أن الكفار إذا علموا كون المسلمين متأهبين للجهاد ومستعدين له

مستكملين لجميع الأسلحة والآلات خافوهم وذلك الخوف يفيد أموراً كثيرة أولها أنهم لا يقصدون دخول دار الإسلام وثانيها أنه إذا اشتد خوفهم فربما التزموا من عند أنفسهم جزية وثالثها أنه ربما صار ذلك داعياً لهم إلى الإيمان ورابعها أنهم لا يعينون سائر الكفار وخامسها أن يصير ذلك سبباً لمزيد الزينة في دار الإسلام
ثم قال تعالى وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مّن قُوَّة ٍ وَمِن والمراد أن تكثير آلات الجهاد وأدواتها كما يرهب الأعداء الذين نعلم كونهم أعداء كذلك يرهب الأعداء الذين لا نعلم أنهم أعداء ثم فيه وجوه الأول وهو الأصح أنهم هم المنافقون والمعنى أن تكثير أسباب الغزو كما يوجب رهبة الكفار فكذلك يوجب رهبة المنافقين
فإن قيل المنافقون لا يخافون القتال فكيف يوجب ما ذكرتموه الإرهاب
قلنا هذا الإرهاب من وجهين الأول أنهم إذا شاهدوا قوة المسلمين وكثرة آلاتهم وأدواتهم انقطع عنهم طمعهم من أن يصيروا مغلوبين وذلك يحملهم على أن يتركوا الكفر في قلوبهم وبواطنهم ويصيروا مخلصين في الإيمان والثاني أن المنافق من عادته أن يتربص ظهور الآفات ويحتال في إلقاء الإفساد والتفريق فيما بين المسلمين فإذا شاهد كون المسلمين في غاية القوة خافهم وترك هذه الأفعال المذمومة
والقول الثاني في هذا الباب ما رواه ابن جريج عن سليمان بن موسى قال المراد كفار الجن روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قرأ وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مّن قُوَّة ٍ وَمِن فقال إنهم الجن ثم قال ( إن الشيطان لا يخبل أحداً في دار فيها فرس عتيق ) وقال الحسن صهيل الفرس يرهب الجن وهذا القول مشكل لأن تكثير آلات الجهاد لا يعقل تأثيره في إرهاب الجن
والقول الثالث أن المسلم كما يعاديه الكافر فكذلك قد يعاديه المسلم أيضاً فإذا كان قوي الحال كثير السلاح فكما يخافه أعداؤه من الكفار فكذلك يخافه كل من يعاديه مسلماً كان أو كافراً
ثم إنه تعالى قال وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَى ْء فِى سَبِيلِ اللَّهِ وهو عام في الجهاد وفي سائر وجوه الخيرات يُوَفَّ إِلَيْكُمْ قال ابن عباس يوف لكم أجره أي لا يضيع في الآخرة أجره ويعجل الله عوضه في الدنيا وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ أي لا تنقصون من الثواب ولما ذكر ابن عباس هذا التفسير تلا قوله تعالى اتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمِ مّنْهُ شَيْئًا ( الكهف 33 )
وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
واعلم أنه لما بين ما يرهب به العدو من القوة والاستظهار بين بعده أنهم عند الإرهاب إذا جنحوا أي مالوا إلى الصلح فالحكم قبول الصلح قال النضر جنح الرجل إلى فلان وأجنح له إذا تابعه وخضع له والمعنى إن مالوا إلى الصلح فمل إليه وأنث الهاء في لها لأنه قصد بها قصد الفعلة والجنحة كقوله إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ أراد من بعد فعلتهم قال صاحب ( الكشاف ) السلم تؤنث

تأنيث نقيضها وهي الحرب قال الشاعر السلم تأخذ منها ما رضيت به
والحرب تكفيك من أنفاسها جرع
وقرأ أبو بكر عن عاصم للسلم بكسر السين والباقون بالفتح وهما لغتان قال قتادة هذه الآية منسوخة بقوله اقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ( التوبة 5 ) وقوله قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ( التوبة 29 ) وقال بعضهم الآية غير منسوخة لكنها تضمنت الأمر بالصلح إذا كان الصلاح فيه فإذا رأى مصالحتهم فلا يجوز أن يهادنهم سنة كاملة وإن كانت القوة للمشركين جاز مهادنتهم للمسلمين عشر سنين ولا يجوز الزيادة عليها اقتداء برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فإنه هادن أهل مكة عشر سنين ثم إنهم نقضوا العهد قبل كمال المدة
أما قوله تعالى وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فالمعنى فوض الأمر فيما عقدته معهم إلى الله ليكون عوناً لك على السلامة ولكي ينصرك عليهم إذا نقضوا العهد وعدلوا عن الوفاء ولذلك قال إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ تنبيهاً بذلك على الزجر عن نقض الصلح لأنه عالم بما يضمره العباد وسامع لما يقولون قال مجاهد الآية نزلت في قريظة والنضير وورودها فيهم لا يمنع من إجرائها على ظاهر عمومها والله أعلم
وَإِن يُرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِى أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى الأرض جَمِيعاً مَّآ أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَاكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
اعلم أنه تعالى لما أمر في الآية المتقدمة بالصلح ذكر في هذه الآية حكماً من أحكام الصلح وهو أنهم إن صالحوا على سبيل المخادعة وجب قبول ذلك الصلح لأن الحكم يبنى على الظاهر لأن الصلح لا يكون أقوى حالاً من الإيمان فلما بنينا أمر الإيمان عن الظاهر لا على الباطن فههنا أولى ولذلك قال وَإِن يُرِيدُواْ المراد من تقدم ذكره في قوله وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ
فإن قيل أليس قال وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَة ً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ أي أظهر نقض ذلك العهد وهذا يناقض ما ذكره في هذه الآية
قلنا قوله وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَة ً محمول على ما إذا تأكد ذلك الخوف بأمارات قوية دالة عليها وتحمل هذه المخادعة على ما إذا حصل في قلوبهم نوع نفاق وتزوير إلا أنه لم تظهر أمارات تدل على كونهم قاصدين للشر وإثارة الفتنة بل كان الظاهر من أحوالهم الثبات على المسألة وترك المنازعة ثم إنه تعالى لما ذكر ذلك قال فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ أي فالله يكفيك وهو حسبك وسواء قولك هذا يكفيني وهذا حسبي هو الذي أيدك بنصره قال المفسرون يرد قواك وأعانك بنصره يوم بدر وأقول هذا التقييد خطأ لأن أمر النبي عليه السلام من أول حياته إلى آخر وقت وفاته ساعة فساعة كان أمراً إلهياً وتدبيراً

علوياً وما كان لكسب الخلق فيه مدخل ثم قال وَبِالْمُؤْمِنِينَ قال ابن عباس يعني الأنصار
فإن قيل لما قال هُوَ الَّذِى أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ فأي حاجة مع نصره إلى المؤمنين حتى قال وَبِالْمُؤْمِنِينَ
قلنا التأييد ليس إلا من الله لكنه على قسمين أحدهما ما يحصل من غير واسطة أسباب معلومة معتادة والثاني ما يحصل بواسطة أسباب معلومة معتادة فالأول هو المراد من قوله أيدك بنصره والثاني هو المراد من قوله وَبِالْمُؤْمِنِينَ ثم إنه تعالى بين أنه كيف أيده بالمؤمنين فقال وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَاكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعث إلى قوم أنفتهم شديدة وحميتهم عظيمة حتى لو لطم رجل من قبيلة لطمة قاتل عنه قبيلته حتى يدركوا ثأره ثم إنهم انقلبوا عن تلك الحالة حتى قاتل الرجل أخاه وأباه وابنه واتفقوا على الطاعة وصاروا أنصاراً وعادوا أعواناً وقيل هم الأوس والخزرج فإن الخصومة كانت بينهم شديدة والمحاربة دائمة ثم زالت الضغائن وحصلت الألفة والمحبة فإزالة تلك العداوة الشديدة وتبديلها بالمحبة القوية والمخالصة التامة مما لا يقدر عليها إلا الله تعالى وصارت تلك معجزة ظاهرة على صدق نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم )
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية على أن أحوال القلوب من العقائد والإرادات والكرامات كلها من خلق الله تعالى وذلك لأن تلك الألفة والمودة والمحبة الشديدة إنما حصلت بسبب الإيمان ومتابعة الرسول عليه الصلاة والسلام فلو كان الإيمان فعلاً للعبد لا فعلاً لله تعالى لكانت المحبة المرتبة عليه فعلاً للعبد لا فعلاً لله تعالى وذلك على خلاف صريح الآية قال القاضي لولا ألطاف الله تعالى ساعة فساعة لما حصلت هذه الأحوال فأضيفت تلك المخالصة إلى الله تعالى على هذا التأويل ونظيره أنه يضاف علم الولد وأدبه إلى أبيه لأجل أنه لم يحصل ذلك إلا بمعونة الأب وتربيته فكذا ههنا
والجواب كل ما ذكرتموه عدول عن الظاهر وحمل للكلام على المجاز وأيضاً كل هذه الألطاف كانت حاصلة في حق الكفار مثل حصولها في حق المؤمنين فلو لم يحصل هناك شيء سوى الألطاف لم يكن لتخصيص المؤمنين بهذه المعاني فائدة وأيضاً فالبرهان العقلي مقو لظاهر هذه الآية وذلك لأن القلب يصح أن يصير موصوفاً بالرغبة بدلاً عن النفرة وبالعكس فرجحان أحد الطرفين على الآخر لا بد له من مرجح فإن كان ذلك المرجح هو العبد عاد التقسيم وإن كان هو الله تعالى فهو المقصود فعلم أن صريح هذه الآية متأكد بصريح البرهان العقلي فلا حاجة إلى ما ذكره القاضي في هذا الباب
المسألة الثالثة دلت هذه الآية على أن القوم كانوا قبل شروعهم في الإسلام ومتابعة الرسول في الخصومة الدائمة والمحاربة الشديدة يقتل بعضهم بعضاً ويغير بعضهم على البعض فلما آمنوا بالله ورسوله واليوم الآخر زالت الخصومات وارتفعت الخشونات وحصلت المودة التامة والمحبة الشديدة
واعلم أن التحقيق في هذا الباب أن المحبة لا تحصل إلا عند تصور حصول خير وكمال فالمحبة حالة معللة بهذا التصور المخصوص فمتى كان هذا التصور حاصلاً كانت المحبة حاصلة ومتى حصل

تصوير الشر والبغضاء كانت النفرة حاصلة ثم إن الخيرات والكمالات على قسمين أحدهما الخيرات والكمالات الباقية الدائمة المبرأة عن جهات التغيير والتبديل وذلك هو الكمالات الروحانية والسعادات الإلهية والثاني وهو الكمالات المتبدلة المتغيرة وهي الكمالات الجسمانية والسعادات البدنية فإنها سريعة التغيير والتبدل كالزئبق ينتقل من حال إلى حال فالإنسان يتصور أن له في صحبة زيد مالاً عظيماً فيحبه ثم يخطر بباله أن ذلك المال لا يحصل فيبغضه ولذلك قيل إن العاشق والمعشوق ربما حصلت الرغبة والنفرة بينهما في اليوم الواحد مراراً لأن المعشوق إنما يريد العاشق لماله والعاشق إنما يريد المعشوق لأجل اللذة الجسمانية وهذان الأمران مستعدان للتغير والانتقال فلا جرم كانت المحبة الحاصلة بينهما والعداوة الحاصلة بينهما غير باقيتين بل كانتا سريعتي لزوال والانتقال
إذا عرفت هذا فنقول الموجب للمحبة والمودة إن كان طلب الخيرات الدنيوية والسعادات الجسمانية كانت تلك المحبة سريعة الزوال والانتقال لأجل أن المحبة تابعة لتصور الكمال وتصور الكمال تابع لحصول ذلك الكمال فإذا كان ذلك الكمال سريع الزوال والانتقال كانت معلولاته سريعة التبدل والزوال وأما إن كان الموجب للمحبة تصور الكمالات الباقية المقدسة عن التغير والزوال كانت تلك المحبة أيضاً باقية آمنة من التغير لأن حال المعلول في البقاء والتبدل تبع لحالة العلة وهذا هو المراد من قوله تعالى الاْخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ ( الزخرف 67 )
إذا عرفت هذا فنقول العرب كانوا قبل مقدم الرسول طالبين للمال والجاه والمفاخرة وكانت محبتهم معللة بهذه العلة فلا جرم كانت تلك المحبة سريعة الزوال وكانوا بأدنى سبب يقعون في الحروب والفتن فلما جاء الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ودعاهم إلى عبادة الله تعالى والإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة زالت الخصومة والخشونة عنهم وعادوا إخواناً متوافقين ثم بعد وفاته عليه السلام لما انفتحت عليهم أبواب الدنيا وتوجهوا إلى طلبها عادوا إلى محاربة بعضهم بعضاً ومقاتلة بعضهم مع بعض فهذا هو السبب الحقيقي في هذا الباب ثم إنه تعالى ختم هذه الآية بقوله إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أي قادر قاهر يمكنه التصرف في القلوب ويقلبها من العداوة إلى الصداقة ومن النفرة إلى الرغبة حكيم بفعل ما يفعله على وجه الإحكام والإتقان أو مطابقاً للمصلحة والصواب على اختلاف القولين في الجبر والقدر
يَاأَيُّهَا النَّبِى ُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَاأَيُّهَا النَّبِى ُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مُّنكُمْ مِّاْئَة ٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ
اعلم أنه تعالى لما وعده بالنصر عند مخادعة الأعداء وعده بالنصر والظفر في هذه الآية مطلقاً على

جميع التقديرات وعلى هذا الوجه لا يلزم حصول التكرار لأن المعنى في الآية الأولى إن أرادوا خداعك كفاك الله أمرهم والمعنى في هذه الآية عام في كل ما يحتاج إليه في الدين والدنيا وهذه الآية نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال والمراد بقوله وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الأنصار وعن ابن عباس رضي الله عنهما نزلت في إسلام عمر قال سعيد بن جبير أسلم مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ثلاثة وثلاثون رجلاً وست نسوة ثم أسلم عمر فنزلت هذه الآية قال المفسرون فعلى هذا القول هذه الآية مكية كتبت في سورة مدنية بأمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وفي الآية قولان الأول التقدير الله كافيك وكافي أتباعك من المؤمنين قال الفراء الكاف في حسبك خفض و مِنْ في موضع نصب والمعنى يكفيك الله ويكفي من اتبعك قال الشاعر إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا
فحسبك والضحاك سيف مهند
قال وليس بكثير من كلامهم أن يقولوا حسبك وأخاك بل المعتاد أن يقال حسبك وحسب أخيك والثاني أن يكون المعنى كفاك الله وكفاك أتباعك من المؤمنين قال الفراء وهذا أحسن الوجهين أي ويمكن أن ينصر القول الأول بأن من كان الله ناصره امتنع أن يزداد حاله أو ينقص بسبب نصرة غير الله وأيضاً إسناد الحكم إلى المجموع يوهم أن الواحد من ذلك المجموع لا يكفي في حصول ذلك المهم وتعالى الله عنه ويمكن أن يجاب عنه بأن الكل من الله إلا أن من أنواع النصرة ما لا يحصل بناء على الأسباب المألوفة المعتادة ومنها ما يحصل بناء على الأسباب المألوفة المعتادة فلهذا الفرق اعتبر نصرة المؤمنين ثم بين أنه تعالى وإن كان يكفيك بنصره وبنصر المؤمنين فليس من الواجب أن تتكل على ذلك إلا بشرط أن تحرض المؤمنين على القتال فإنه تعالى إنما يكفيك بالكفاية بشرط أن يحصل منهم بذل النفس والمال في المجاهدة فقال الْمُؤْمِنِينَ يَاأَيُّهَا النَّبِى ُّ حَرّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ والتحريض في اللغة كالتحضيض وهو الحث على الشيء وذكر الزجاج في اشتقاقه وجهاً آخر بعيداً فقال التحريض في اللغة أن يحث الإنسان غيره على شيء حثاً يعلم منه أنه إن تخلف عنه كان حارضاً والحارض الذي قارب الهلاك أشار بهذا إلى أن المؤمنين لو تخلفوا عن القتال بعد حث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كانوا حارضين أي هالكين فعنده التحريض مشتق من لفظ الحارض والحرض
ثم قال إِن يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ وليس المراد منه الخبر بل المراد الأمر كأنه قال إِن يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ فليصبروا وليجتهدوا في القتال حتى يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ والذي يدل على أنه ليس المراد من هذا الكلام الخبر وجوه الأول لو كان المراد منه الخبر لزم أن يقال إنه لم يغلب قط مائتان من الكفار عشرين من المؤمنين ومعلوم أنه باطل الثاني أنه قال الئَانَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ ( الأنفال 66 ) والنسخ أليق بالأمر منه بالخبر الثالث قوله من بعد وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ( الأنفال 66 ) وذلك ترغيباً في الثبات على الجهاد فثبت أن المراد من هذا الكلام هو الأمر وإن كان وارداً بلفظ الخبر وهو كقوله تعالى وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ( البقرة 233 ) وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ( البقرة 228 ) وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله إِن يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يدل على أنه تعالى ما أوجب هذا الحكم إلا بشرط كونه صابراً قاهراً على ذلك وإنما يحصل هذا الشرط عند حصول أشياء منها أن يكون شديد الأعضاء قوياً جلداً ومنها أن يكون قوي القلب شجاعاً غير جبان ومنها أن يكون غير منحرف إلا لقتال أو متحيزاً إلى فئة فإن الله استثنى هاتين الحالتين في الآيات المتقدمة فعند حصول هذه الشرائط كان يجب على الواحد أن يثبت للعشرة
واعلم أن هذا التكليف إنما حسن لأنه مسبوق بقوله تعالى حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فلما وعد المؤمنين بالكفاية والنصر كان هذا التكليف سهلاً لأن من تكفل الله بنصره فإن أهل العالم لا يقدرون على إيذائه
المسألة الثانية قوله إِن يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مّنكُمْ مّاْئَة ٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ حاصله وجوب ثبات الواحد في مقابلة العشرة فما الفائدة في العدول عن هذه اللفظة

الوجيزة إلى تلك الكلمات الطويلة
وجوابه أن هذا الكلام إنما ورد على وفق الواقعة وكان رسول الله يبعث السرايا والغالب أن تلك السرايا ما كان ينتقص عددها عن العشرين وما كانت تزيد على المائة فلهذا المعنى ذكر الله هذين العددين
المسألة الثالثة قرأ نافع وابن كثير وابن عامر ءانٍ تَكُنْ بالتاء وكذلك الذي بعده وَأَنْ تَكُنْ مّنكُمْ مّاْئَة ٌ صَابِرَة ٌ وقرأ أبو عمرو الأول بالياء والثاني بالتاء والباقون بالياء فيهما
المسألة الرابعة أنه تعالى بين العلة في هذه الغلبة وهو قوله بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ وتقرير هذا الكلام من وجوه
الوجه الأول أن من لا يؤمن بالله ولا يؤمن بالمعاد فإن غاية السعادة والبهجة عنده ليست إلا هذه الحياة الدنيوية ومن كان هذا معتقده فإنه يشح بهذه الحياة ولا يعرضها للزوال أما من اعتقد أنه لا سعادة في هذه الحياة وأن السعادة لا تحصل إلا في الدار الآخرة فإنه لا يبالي بهذه الحياة الدنيا ولا يلتفت إليها ولا يقيم لها وزناً فيقدم على الجهاد بقلب قوي وعزم صحيح ومتى كان الأمر كذلك كان الواحد من هذا الباب يقاوم العدد الكثير من الباب الأول
الوجه الثاني أن الكفار إنما يعولون على قوتهم وشوكتهم والمسلمون يستعينون بربهم بالدعاء والتضرع ومن كان كذلك كان النصر والظفر به أليق وأولى
الوجه الثالث وهو وجه لا يعرفه إلا أصحاب الرياضات والمكاشفات وهو أن كل قلب اختص بالعلم والمعرفة كان صاحبه مهيباً عند الخلق ولذلك إذا حضر الرجل العالم عند عالم من الناس الأقوياء الجهال الأشداء فإن أولئك الأقوياء الأشداء الجهال يهابون ذلك العالم ويحترمونه ويخدمونه بل نقول إن السباع القوية إذا رأت الآدمي هابته وانحرفت عنه وما ذاك إلا أن الآدمي بسبب ما فيه من نور العقل يكون مهيباً وأيضاً الرجل الحكيم إذا استولى على قلبه نور معرفة الله تعالى فإنه تقوى أعضاؤه وتشتد جوارحه وربما قوي عند ظهور التجلي في قلبه على أعمال يعجز عنها قبل ذلك الوقت
إذا عرفت هذا فالمؤمن إذا أقدم على الجهاد فكأنه بذل نفسه وماله في طلب رضوان الله فكان في هذه الحالة كالمشاهد لنور جلال الله فيقوى قلبه وتكمل روحه ويقدر على ما لا يقدر غيره عليه فهذه أحوال من باب المكاشفات تدل على أن المؤمن يجب أن يكون أقوى قوة من الكافر فإن لم يحصل فذاك لأن ظهور هذا التجلي لا يحصل إلا نادراً وللفرد بعد الفرد والله أعلم
اأانَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُمْ مِّاْئَة ٌ صَابِرَة ٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ

في الآية مسائل
المسألة الأولى روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان يبعث العشرة إلى وجه المائة بعث حمزة في ثلاثين راكباً قبل بدر إلى قوم فلقيهم أبو جهل في ثلثمائة راكب وأرادوا قتالهم فمنعهم حمزة وبعث رسول الله عبد الله بن أنيس إلى خالد بن صفوان الهذلي وكان في جماعة فابتدر عبد الله وقال يا رسول الله صفه لي فقال ( إنك إذا رأيته ذكرت الشيطان ووجدت لذلك قشعريرة وقد بلغني أنه جمع لي فاخرج إليه واقتله ) قال فخرجت نحوه فلما دنوت منه وجدت القشعريرة فقال لي من الرجل قلت له من العرب سمعت بك وبجمعك ومشيت معه حتى إذا تمكنت منه قتلته بالسيف وأسرعت إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وذكرت أني قتلته فأعطاني عصا وقال ( أمسكها فإنها آية بيني وبينك يوم القيامة ) ثم إن هذا التكليف شق على المسلمين فأزاله الله عنهم بهذه الآية قال عطاء عن ابن عباس لما نزل التكليف الأول ضج المهاجرون وقالوا يا رب نحن جياع وعدونا شباع ونحن في غربة وعدونا في أهليهم ونحن قد أخرجنا من ديارنا وأموالنا وأولادنا وعدونا ليس كذلك وقال الأنصار شغلنا بعدونا وواسينا إخواننا فنزل التخفيف وقال عكرمة إنما أمر الرجل أن يصبر لعشرة والعشرة لمائة حال ما كان المسلمون قليلين فلما كثروا خفف الله تعالى عنهم ولهذا قال ابن عباس أيما رجل فر من ثلاثة فلم يفر فإن فر من اثنين فقد فر والحاصل أن الجمهور ادعوا أن قوله الئَانَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ ناسخ للآية المتقدمة وأنكر أبو مسلم الأصفهاني هذا النسخ وتقرير قوله أن يقال إنه تعالى قال في الآية الأولى إِن يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ فهب أنا نحمل هذا الخبر على الأمر إلا أن هذا الأمر كان مشروطاً بكون العشرين قادرين على الصبر في مقابلة المائتين وقوله الئَانَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً يدل على أن ذلك الشرط غير حاصل في حق هؤلاء فصار حاصل الكلام أن الآية الأولى دلت على ثبوت حكم عند شرط مخصوص وهذه الآية دلت على أن ذلك الشرط مفقود في حق هذه الجماعة فلا جرم لم يثبت ذلك الحكم وعلى هذا التقدير لم يحصل النسخ البتة
فإن قالوا قوله إِن يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ معناه ليكن العشرون الصابرون في مقابلة المائتين وعلى هذا التقدير فالنسخ لازم
قلنا لم لا يجوز أن يقال إن المراد من الآية إن حصل عشرون صابرون في مقابلة المائتين فليشتغلوا بجهادهم والحاصل أن لفظ الآية ورد على صورة الخبر خالفنا هذا الظاهر وحملناه على الأمر أما في رعاية الشرط فقد تركناه على ظاهره وتقديره إن حصل منكم عشرون موصوفون بالصبر على مقاومة المائتين فليشتغلوا بمقاومتهم وعلى هذا التقدير فلا نسخ
فإن قالوا قوله الئَانَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ مشعر بأن هذاالتكليف كان متوجهاً عليهم قبل هذا التكليف
قلنا لا نسلم أن لفظ التخفيف يدل على حصول التثقيل قبله لأن عادة العرب الرخصة بمثل هذا الكلام كقوله تعالى عند الرخصة للحر في نكاح الأمة يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفّفَ عَنْكُمْ ( النساء 28 ) وليس هناك نسخ وإنما هو إطلاق نكاح الأمة لمن لا يستطيع نكاح الحرائر فكذا ههنا وتحقيق القول أن هؤلاء العشرين كانوا في محل أن يقال إن ذلك الشرط حاصل فيهم فكان ذلك التكليف لازماً عليهم فلما بين الله أن ذلك الشرط غير حاصل وأنه تعالى علم أن فيهم ضعفاء لا يقدرون على ذلك فقد تخلصوا عن ذلك

الخوف فصح أن يقال خفف الله عنكم ومما يدل على عدم النسخ أنه تعالى ذكر هذه الآية مقارنة للآية الأولى وجعل الناسخ مقارناً للمنسوخ لا يجوز
فإن قالوا العبرة في الناسخ والمنسوخ بالنزول دون التلاوة فإنها قد تتقدم وقد تتأخر ألا ترى أن في عدة الوفاة الناسخ مقدم على المنسوخ
قلنا لما كان كون الناسخ مقارناً للمنسوخ غير جائز في الوجود وجب أن لا يكون جائزاً في الذكر اللهم إلا لدليل قاهر وأنتم ما ذكرتم ذلك وأما قوله في عدة الوفاة الناسخ مقدم على المنسوخ فنقول إن أبا مسلم ينكر كل أنواع النسخ في القرآن فكيف يمكن إلزام هذا الكلام عليه فهذا تقرير قول أبي مسلم وأقول إن ثبت إجماع الأمة على الإطلاق قبل أبي مسلم على حصول هذا النسخ فلا كلام عليه فإن لم يحصل هذا الإجماع القاطع فنقول قول أبي مسلم صحيح حسن
المسألة الثانية احتج هشام على قوله إن الله تعالى لا يعلم الجزئيات إلا عند وقوعها بقوله الئَانَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً قال فإن معنى الآية الآن علم الله أن فيكم ضعفاً وهذا يقتضي أن علمه بضعفهم ما حصل إلا في هذا الوقت والمتكلمون أجابوا بأن معنى الآية أنه تعالى قبل حدوث الشيء لا يعلمه حاصلاً واقعاً بل يعلم منه أنه سيحدث أما عند حدوثه ووقوعه فإن يعلمه حادثاً واقعاً فقوله الئَانَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً معنا أن الآن حصل العلم بوقوعه وحصوله وقبل ذلك فقد كان الحاصل هو العلم بأنه سيقع أو سيحدث
المسألة الثالثة قرأ عاصم وحمزة عِلْمٌ إِنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً بفتح الضاد وفي الروم مثله والباقون فيهما بالضم وهما لغتان صحيحتان الضعف والضعف كالمكث والمكث وخالف حفص عاصماً في هذا الحرف وقرأهما بالضم وقال ما خالفت عاصماً في شيء من القرآن إلا في هذا الحرف
المسألة الرابعة الذي استقر حكم التكليف عليه بمقتضى هذه الآية أن كل مسلم بالغ مكلف وقف بإزاء مشركين عبداً كان أو حراً فالهزيمة عليه محرمة ما دام معه سلاح يقاتل به فإن لم يبق معه سلاح فله أن ينهزم وإن قاتله ثلاثة حلت له الهزيمة والصبر أحسن روى الواحدي في ( البسيط ) أنه وقف جيش موتة وهم ثلاثة آلاف وأمراؤهم على التعاقب زيد بن حارثة ثم جعفر بن أبي طالب ثم عبد الله بن رواحة في مقابلة مائتي ألف من المشركين مائة ألف من الروم ومائة ألف من المستعربة وهم لخم وجذام
المسألة الخامسة قوله بِإِذُنِ اللَّهِ فيه بيان أنه لا تقع الغلبة إلا بإذن الله والإذن ههنا هو الإرادة وذلك يدل على قولنا في مسألة خلق الأفعال وإرادة الكائنات
واعلم أنه تعالى ختم الآية بقوله وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ والمراد ما ذكره في الآية الأولى من قوله إِن يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ ( الأنفال 65 ) فبين في آخر هذه الآية أن الله مع الصابرين والمقصود أن العشرين لو صبروا ووقفوا فإن نصرتي معهم وتوفيقي مقارن لهم وذلك يدل على صحة مذهب أبي مسلم وهو أن ذلك الحكم ما صار منسوخاً بل هو ثابت كما كان فإن العشرين إن قدروا على مصابرة المائتين بقي ذلك الحكم وإن لم يقدروا على مصابرتهم فالحكم المذكور ههنا زائل

مَا كَانَ لِنَبِى ٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرض تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الاٌّ خِرَة َ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
واعلم أن المقصود من هذه الآية تعليم حكم آخر من أحكام الغزو والجهاد في حق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ أبو عمر وَتَكُونُ بالتاء والباقون بالياء أما قراءة أبي عمرو بالتاء فعلى لفظ الأسرى لأن الأسرى وإن كان المراد به التذكير للرجال فهو مؤنث اللفظ وأما القراءة بالياء فلأن الفعل متقدم والأسرى مذكرون في المعنى وقد وقع الفصل بين الفعل والفاعل وكل واحد من هذه الثلاثة إذا انفرد أوجب تذكير الفعل كقولك جاء الرجال وحضر قبيلتك وحضر القاضي امرأة فإذا اجتمعت هذه الأشياء كان التذكير أولى وقال صاحب ( الكشاف ) قرىء للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) على التعريف و أُسَارَى و يُثْخِنَ بالتشديد
المسألة الثانية روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أتى بسبعين أسيراً فيهم العباس عمه وعقيل بن أبي طالب فاستشار أبا بكر فيهم فقال قومك وأهلك استبقهم لعل الله أن يتوب عليهم وخذ منهم فدية تقوى بها أصحابك فقام عمر وقال كذبوك وأخرجوك فقدمهم واضرب أعناقهم فإن هؤلاء أئمة الكفر وإن الله أغناك عن الفداء فمكن علياً من عقيل وحمزة من العباس ومكني من فلان ينسب له فنضرب أعناقهم فقال عليه الصلاة والسلام ( إن الله ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن وإن الله ليشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنّى وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( إبراهيم 36 ) ومثل عيسى في قوله إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( المائدة 118 ) ومثلك يا عمر مثل نوح وَقَالَ نُوحٌ رَّبّ تَذَرْ عَلَى الاْرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً ( نوح 26 ) ومثل موسى حيث قال رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ ( يونس 88 ) ومال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى قول أبي بكر روي أنه قال لعمر يا أبا حفص وذلك أول ما كناه تأمرني أن أقتل العباس فجعل عمر يقول ويل لعمر ثكلته أمه وروي أن عبد الله بن رواحة أشار بأن تضرم عليهم نار كثيرة الحطب فقال له العباس قطعت رحمك وروي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( لا تخرجوا أحداً منهم إلا بفداء أو بضرب العنق ) فقال ابن مسعود إلا سهيل بن بيضاء فإني سمعته يذكر الإسلام فسكت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) واشتد خوفي ثم قال من بعد ( إلا سهيل بن بيضاء ) وعن عبيدة السلماني قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) للقوم ( إن شئتم قتلتموهم وإن شئتم فاديتموهم واستشهد منكم بعدتهم ) فقالوا بل نأخذ الفداء فاستشهدوا بأحد وكان فداء الأسارى عشرين أوقية وفداء العباس أربعين أوقية وعن محمد بن سيرين كان فداؤهم مائة أوقية والأوقية أربعون درهماً أو ستة دنانير

وروي أنهم أخذوا الفداء نزلت هذه الآية فدخل عمر على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فإذا هو وأبو بكر يبكيان فقال يا رسول الله أخبرني فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد تباكيت فقال أبكي على أصحابك في أخذهم الفداء ولقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة لشجرة قريبة منه ولو نزل عذاب من السماء لما نجا منه غير عمر وسعد بن معاذ هذا هو الكلام في سبب نزول هذه الآية
المسألة الثالثة تمسك الطاعنون في عصمة الأنبياء عليهم السلام بهذه الآية من وجوه
الوجه الأول أن قوله تعالى مَا كَانَ لِنَبِى ٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى صريح في أن هذا المعنى منهي عنه وممنوع من قبل الله تعالى ثم إن هذا المعنى قد حصل ويدل عليه وجهان الأول قوله تعالى بعد هذه الآية رَّحِيمٌ يَاأَيُّهَا النَّبِى ُّ قُل لّمَن فِى أَيْدِيكُم مّنَ الاْسْرَى ( الأنفال 70 ) الثاني أن الرواية التي ذكرناها قد دلت على أنه عليه الصلاة والسلام ما قتل أولئك الكفار بل أسرهم فكان الذنب لازماً من هذا الوجه
الوجه الثاني أنه تعالى أمر النبي عليه الصلاة والسلام وجميع قومه يوم بدر بقتل الكفار وهو قوله فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الاعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ( الأنفال 12 ) وظاهر الأمر للوجوب فلما لم يقتلوا بل أسروا كان الأسر معصية
الوجه الثالث أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حكم بأخذ الفداء وكان أخذ الفداء معصية ويدل عليه وجهان الأول قوله تعالى تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الاْخِرَة َ وأجمع المفسرون على أن المراد من عرض الدنيا ههنا هو أخذ الفداء والثاني قوله تعالى لَّوْلاَ كِتَابٌ مّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ وأجمعوا على أن المراد بقوله أَخَذْتُمْ ذلك الفداء
الوجه الرابع أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأبا بكر بكيا وصرح الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أنه إنما بكى لأجل أنه حكم بأخذ الفداء وذلك يدل على أنه ذنب
الوجه الخامس أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( إن العذاب قرب نزوله ولو نزل لما نجا منه إلا عمر ) وذلك يدل على الذنب فهذه جملة وجوه تمسك القوم بهذه الآية
والجواب عن الوجه الذي ذكروه أولاً أن قوله مَا كَانَ لِنَبِى ٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الاْرْضِ يدل على أنه كان الأسر مشروعاً ولكن بشرط سبق الأثخان في الأرض والمراد بالإثخان هو القتل والتخويف الشديد ولا شك أن الصحابة قتلوا يوم بدر خلقاً عظيماً وليس من شرط الأثخان في الأرض قتل جميع الناس ثم إنهم بعد القتل الكثير أسروا جماعة والآية تدل على أن بعد الإثخان يجوز الأسر فصارت هذه الآية دالة دلالة بينة على أن ذلك الأسر كان جائزاً بحكم هذه الآية فكيف يمكن التمسك بهذه الآية في أن ذلك الأسر كان ذنباً ومعصية ويتأكد هذا الكلام بقوله تعالى حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء ( محمد 4 )
فإن قالوا فعلى ما شرحتموه دلت الآية على أن ذلك الأسر كان جائزاً والإتيان بالجائز المشروع لا يليق ترتيب لعقاب عليه فلم ذكر الله بعده ما يدل على العقاب فنقول الوجه فيه أن الإثخان في الأرض ليس مضبوطاً بضابط معلوم معين بل المقصود منه إكثار القتل بحيث يوجب وقوع الرعب في قلوب الكافرين وأن لا يجترئوا على محاربة المؤمنين وبلوغ القتل إلى هذا الحد المعين لا شك أنه يكون مفوضاً إلى

الاجتهاد فلعله غلب على ظن الرسول عليه الصلاة والسلام أن ذلك القدر من القتل الذي تقدم كفى في حصول هذا المقصود مع أنه ما كان الأمر كذلك فكان هذا خطأ واقعاً في الاجتهاد في صورة ليس فيها نص وحسنات الأبرار سيئات المقربين فحسن ترتيب العقاب على ذكر هذا الكلام لهذا السبب مع أن ذلك لا يكون البتة ذنباً ولا معصية
والجواب عن الوجه الذي ذكروه ثانياً أن نقول إن ظاهر قوله تعالى فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الاعْنَاقِ أن هذا الخطاب إنما كان مع الصحابة لإجماع المسلمين على أنه عليه الصلاة والسلام ما كان مأموراً أن يباشر قتل الكفار بنفسه وإذا كان هذا الخطاب مختصاً بالصحابة فهم لما تركوا القتل وأقدموا على الأسر كان الذنب صادراً منهم لا من الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ونقل أن الصحابة لما هزموا الكفار وقتلوا منهم جمعاً عظيماً والكفار فروا ذهب الصحابة خلفهم وتباعدوا عن الرسول وأسروا أولئك الأقوام ولم يعلم الرسول بإقدامهم على الأسر إلا بعد رجوع الصحابة إلى حضرته وهو عليه السلام ما أسر وما أمر بالأسر فزال هذا السؤال
فإن قالوا هب أن الأمر كذلك لكنهم لما حملوا الأسارى إلى حضرته فلم لم يأمر بقتلهم امتثالاً لقوله تعالى فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الاعْنَاقِ
قلنا إن قوله فَاضْرِبُواْ تكليف مختص بحالة الحرب عند اشتغال الكفار بالحرب فأما بعد انقضاء الحرب فهذا التكليف ما كان متناولاً له والدليل القاطع عليه أنه عليه الصلاة والسلام استشار الصحابة في أنه بماذا يعاملهم ولو كان ذلك النص متناولاً لتلك الحالة لكان مع قيام النص القاطع تاركاً لحكمه وطالباً ذلك الحكم من مشاورة الصحابة وذلك محال وأيضاً فقوله فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الاعْنَاقِ أمر والأمر لا يفيد إلا المرة الواحدة وثبت بالإجماع أن هذا المعنى كان واجباً حال المحاربة فوجب أن يبقى عديم الدلالة على ما وراء وقت المحاربة وهذا الجواب شاف
والجواب عما ذكروه ثالثاً وهو قولهم إنه عليه الصلاة والسلام حكم بأخذ الفداء وأخذ الفداء محرم فنقول لا نسلم أن أخذ الفداء محرم
وأما قوله تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الاْخِرَة َ فنقول هذا لا يدل على قولكم وبيانه من وجهين الأول أن المراد من هذه الآية حصول العتاب على الأسر لغرض أخذ الفداء وذلك لا يدل على أن أخذ الفداء محرم مطلقاً الثاني أن أبا بكر رضي الله عنه قال الأولى أن نأخذ الفداء لتقوى العسكر به على الجهاد وذلك يدل على أنهم إنما طلبوا ذلك الفداء للتقوى به على الدين وهذه الآية تدل على ذم من طلب الفداء لمحض عرض الدنيا ولا تعلق لأحد البابين بالثاني وهذان الجوابان بعينهما هما الجوابان عن تمسكهم بقوله تعالى لَّوْلاَ كِتَابٌ مّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
والجواب عما ذكروه رابعاً أن بكاء الرسول عليه الصلاة والسلام يحتمل أن يكون لأجل أن بعض الصحابة لما خالف أمر الله في القتل واشتغل بالأسر استوجب العذاب فبكى الرسول عليه الصلاة والسلام خوفاً من نزول العذاب عليهم ويحتمل أيضاً ما ذكرناه أنه عليه الصلاة والسلام اجتهد في أن القتل الذي حصل هل بلغ مبلغ الإثخان الذي أمره الله به في قوله حَتَّى يُثْخِنَ فِي الاْرْضِ ووقع الخطأ في ذلك الاجتهاد وحسنات الأبرار سيئات المقربين فأقدم على البكاء لأجل هذا المعنى

والجواب عما ذكروه خامساً أن ذلك العذاب إنما نزل بسبب أن أولئك الأقوام خالفوا أمر الله بالقتل وأقدموا على الأسر حال ما وجب عليهم الاشتغال بالقتل فهذا تمام الكلام في هذه المسألة والله أعلم
المسألة الرابعة في شرح الألفاظ المشكلة في هذه الآية
أما قوله مَا كَانَ لِنَبِى ٍّ أَن تَكُونَ لَهُ أَسْرَى فلقائل أن يقول كيف حسن إدخال لفظة كان على لفظة تكون في هذه الآية
والجواب قوله مَا كَانَ معناه النفي والتنزيه أي ما يجب وما ينبغي أن يكون له المعنى المذكور ونظيره ما كان لله أن يتخذ من ولد قال أبو عبيدة يقول لم يكن لنبي ذلك فلا يكون لك وأما من قرأ مَا كَانَ لِلنَّبِى ّ فمعناه أن هذا الحكم ما كان ينبغي حصوله لهذا النبي وهو محمد عليه الصلاة والسلام قال الزجاج أَسْرَى جمع و أُسَارَى جمع الجمع قال ولا أعلم أحداً قرأ أُسَارَى وهي جائزة كما نقلنا عن صاحب ( الكشاف ) أنه نقل أن بعضهم قرأ به وقوله حَتَّى يُثْخِنَ فِي الاْرْضِ فيه بحثان
البحث الأول قال الواحدي الإثخان في كل شيء عبارة عن قوته وشدته يقال قد أثخنه المرض إذا اشتد قوة المرض عليه وكذلك أثخنه الجراح والثخانة الغلظة فكل شيء غليظ فهو ثخين فقوله حَتَّى يُثْخِنَ فِي الاْرْضِ معناه حتى يقوى ويشتد ويغلب ويبالغ ويقهر ثم إن كثيراً من المفسرين قالوا المراد منه أن يبالغ في قتل أعدائه قالوا وإنما حملنا اللفظ عليه لأن الملك والدولة إنما تقوى وتشتد بالقتل قال الشاعر لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى
حتى يراق على جوانبه الدم
ولأن كثرة القتل توجب قوة الرعب وشدة المهابة وذلك يمنع من الجراءة ومن الإقدام على ما لا ينبغي فلهذا السبب أمر الله تعالى بذلك
البحث الثاني أن كلمة حَتَّى لانتهاء الغاية فقوله مَا كَانَ لِنَبِى ٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الاْرْضِ يدل على أن بعد حصول الإثخان في الأرض له أن يقدم على الأسر
أما قوله تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا فالمراد الفداء وإنما سمى منافع الدنيا ومتاعها عرضاً لأنه لا ثبات له ولا دوام فكأنه يعرض ثم يزول ولذلك سمى المتكلمون الأعراض أعراضاً لأنه لا ثبات لها كثبات الأجسام لأنها تطرأ على الأجسام وتزول عنها مع كون الأجسام باقية ثم قال وَاللَّهُ يُرِيدُ الاْخِرَة َ يعني أنه تعالى لا يريد ما يفضي إلى السعادات الدنيوية التي تعرض وتزول وإنما يريد ما يفضي إلى السعادات الأخروية الباقية الدائمة المصونة عن التبديل والزوال واحتج الجبائي والقاضي بهذه الآية على فساد قول من يقول لا كائن من العبد إلا والله يريده لأن هذا الأسر وقع منهم على هذا الوجه ونص الله على أنه لا يريده بل يريد منهم ما يؤدي إلى ثواب الآخرة وهو الطاعة دون ما يكون فيه عصيان
وأجاب أهل السنة عنه بأن قالوا إنه تعالى ما أراد أن يكون هذا الأسر منهم طاعة وعملاً جائزاً مأذوناً ولا يلزم من نفي إرادة كون هذا الأسر طاعة نفي كونه مراد الوجود وأما الحكماء فإنهم يقولون الشيء مراد بالعرض مكروه بالذات

ثم قال وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ والمراد أنكم إن طلبتم الآخرة لم يغلبكم عدوكم لأن الله عزيز لا يقهر ولا يغلب حكيم في تدبير مصالح العالم قال ابن عباس هذا الحكم إنما كان يوم بدر لأن المسلمين كانوا قليلين فلما كثروا وقوي سلطانهم أنزل الله بعد ذلك في الأسارى حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ( محمد 4 ) وأقول إن هذا الكلام يوهم أن قوله فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء يزيد على حكم الآية التي نحن في تفسيرها وليس الأمر كذلك لأن كلتا الآيتين متوافقتان فإن كلتاهما يدلان على أنه لا بد من تقديم الإثخان ثم بعده أخذ الفداء
ثم قال تعالى لَّوْلاَ كِتَابٌ مّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
واعلم أنه كثر أقاويل الناس في تفسير هذا الكتاب السابق ونحن نذكرها ونذكر ما فيها من المباحث
فالقول الأول وهو قول سعيد بن جبير وقتادة لولا كتاب من الله سبق يا محمد بحل الغنائم لك ولأمتك لمسكم العذاب وهو مشكل لأن تحليل الغنائم والفداء هل كان حاصلاً في ذلك الوقت أو ما كان حاصلاً في ذلك الوقت فإن كان التحليل والإذن حاصلاً في ذلك الوقت امتنع إنزال العذاب عليهم لأن ما كان مأذوناً فيه من قبل لم يحصل العقاب على فعله وإن قلنا إن الإذن ما كان حاصلاً في ذلك الوقت كان ذلك الفعل حراماً في ذلك الوقت أقصى ما في الباب أنه كان في علم الله أنه سيحكم بحله بعد ذلك إلا أن هذا لا يقدح في كونه حراماً في ذلك الوقت
فإن قالوا إن كونه بحيث سيصير حلالاً بعد ذلك يوجب تخفيف العقاب
قلنا فإذا كان الأمر كذلك امتنع إنزال العقاب بسببه وذلك يمنع من التخويف بسبب ذلك العقاب
القول الثاني قال محمد بن إسحاق لَّوْلاَ كِتَابٌ مّنَ اللَّهِ سَبَقَ إني لا أعذب إلا بعد النهي لعذبتكم فيما صنعتم وأنه تعالى ما نهاهم عن أخذ الفداء وهذا أيضاً ضعيف لأنا نقول حاصل هذا القول أنه ما وجد دليل شرعي يوجب حرمة ذلك الفداء فهل حصل دليل عقلي يقتضي حرمته أم لا فإن قلنا حصل فيكون الله تعالى قد بين تحريمه بواسطة ذلك الدليل العقلي ولا يمكن أن يقال إنه تعالى لم يبين تلك الحرمة وإن قلنا إنه ليس في العقل ولا في الشرع ما يقتضي المنع فحينئذ امتنع أن يكون المنع حاصلاً وإلا لكان ذلك تكليف ما لا يطاق وإذا لم يكن المنع حاصلاً كان الإذن حاصلاً وإذا كان الإذن حاصلاً فكيف يمكن ترتيب العقاب على فعله
القول الثالث قال قوم قد سبق حكم الله بأنه لا يعذب أحداً ممن شهد بدراً مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهذا أيضاً مشكل لأنه يقتضي أن يقال إنهم ما منعوا عن الكفر والمعاصي والزنا والخمر وما هددوا بترتيب العقاب على هذه القبائح وذلك يوجب سقوط التكاليف عنهم ولا يقوله عاقل وأيضاً فلو صار كذلك فكيف آخذهم الله تعالى في ذلك الموضع بعينه في تلك الواقعة بعينها وكيف وجه عليهم هذا العقاب القوي
والقول الرابع لولا كتاب من الله سبق في أن من أتى ذنباً بجهالة فإنه لا يؤاخذه به لمسهم العذاب وهذا من جنس ما سبق
واعلم أن الناس قد أكثروا فيه والمعتمد في هذا الباب أن نقول أما على قولنا فنقول يجوز أن

يعفو الله عن الكبائر فقوله لَّوْلاَ كِتَابٌ مّنَ اللَّهِ سَبَقَ معناه لولا أنه تعالى حكم في الأزل بالعفو عن هذه الواقعة لمسهم عذاب عظيم وهذا هو المراد من قوله كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة َ ( الأنعام 54 ) ومن قوله ( سبقت رحمتى غضبي ) وأما على قول المعتزلة فهم لا يجوزون العفو عن الكبائر فكان معناه لَّوْلاَ كِتَابٌ مّنَ اللَّهِ سَبَقَ في أن من احترز عن الكبائر صارت صغائره مغفورة وإلا لمسهم عذاب عظيم وهذا الحكم وإن كان ثابتاً في حق جميع المسلمين إلا أن طاعات أهل بدر كانت عظيمة وهو قبولهم الإسلام وانقيادهم لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وإقدامهم على مقاتلة الكفار من غير سلاح وأهبة فلا يبعد أن يقال إن الثواب الذي استحقوه على هذه الطاعات كان أزيد من العقاب الذي استحقوه على هذا الذنب فلا جرم صار هذا الذنب مغفوراً ولو قدرنا صدور هذا الذنب من سائر المسلمين لما صار مغفوراً فبسبب هذا القدر من التفاوت حصل لأهل بدر هذا الاختصاص
ثم قال تعالى فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالاً طَيّباً روى أنهم أمسكوا عن الغنائم ولم يمدوا أيديهم إليها فنزلت هذه الآية وقيل هو إباحة الفداء
فإن قيل ما معنى الفاء في قوله فَكُلُواْ
قلنا التقدير قد أبحت لكم الغنائم فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالاً نصب على الحال من المغنوم أو صفة للمصدر أي أكلاً حلالاً وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ والمعنى واتقوا الله فلا تقدموا على المعاصي بعد ذلك واعلموا أن الله غفور ما أقدمتم عليه في الماضي من الزلة رحيم ما أتيتم من الجرم والمعصية فقوله وَاتَّقُواْ اللَّهَ إشارة إلى لمستقبل وقوله إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ إشارة إلى الحالة الماضية
يَاأَيُّهَا النَّبِى ُّ قُل لِّمَن فِى أَيْدِيكُم مِّنَ الاٌّ سْرَى إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
اعلم أن الرسول لما أخذ الفداء من الأسارى وشق عليهم أخذ أموالهم منهم ذكر الله هذه الآية استمالة لهم فقال رَّحِيمٌ يَاأَيُّهَا النَّبِى ُّ قُل لّمَن فِى أَيْدِيكُم مّنَ الاْسْرَى قال ابن عباس رضي الله عنهما نزلت في العباس وعقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحرث كان العباس أسيراً يوم بدر ومعه عشرون أوقية من الذهب أخرجها ليطعم الناس وكان أحد العشرة الذين ضمنوا الطعام لأهل بدر فلم تبلغه التوبة حتى أسر فقال العباس كنت مسلماً إلا أنهم أكرهوني فقال عليه السلام ( إن يكن ما تذكره حقاً فالله يجزيك ) فأما ظاهر أمرك فقد كان علينا قال العباس فكلمت رسول الله أن يرد ذلك الذهب علي فقال ( أما شيء خرجت لتستعين به علينا فلا ) قال وكلفني الرسول فداء ابن أخي عقيل بن أبي طالب عشرين أوقية وفداء نوفل بن

الحرث فقال العباس تركتني يا محمد أتكفف قريشاً فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أين الذهب الذي دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك من مكة وقلت لها لا أدري ما يصيبني فإن حدث بي حادث فهو لك ولعبد الله وعبيد الله والفضل ) فقال العباس وما يدريك قال ( أخبرني به ربي ) قال العباس فأنا أشهد أنك صادق وأن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله والله لم يطلع عليه أحد إلا الله ولقد دفعته إليها في سواد الليل ولقد كنت مرتاباً في أمرك فأما إذ أخبرتني بذلك فلا ريب قال العباس فأبدلني الله خيراً من ذلك لي الآن عشرون عبداً وإن أدناهم ليضرب في عشرين ألفاً وأعطاني زمزم وما أحب أن لي بها جميع أموال أهل مكة وأنا أنتظر المغفرة من ربي وروي أنه قدم على رسول الله مال البحرين ثمانون ألفاً فتوضأ لصلاة الظهر وما صلى حتى فرقه وأمر العباس أن يأخذ منه فأخذ ما قدر على حمله وكان يقول هذا خير مما أخذ مني وأنا أرجو المغفرة واختلف المفسرون في أن الآية نازلة في العباس خاصة أو في جملة الأسارى قال قوم إنها في العباس خاصة وقال آخرون إنها نزلت في الكل وهذا أولى لأن ظاهر الآية يقتضي العموم من ستة أوجه أحدها قوله قُل لّمَن فِى أَيْدِيكُم وثانيها قوله مّنَ الاْسْرَى وثالثها قوله فِي قُلُوبِكُمْ ورابعها قوله يُؤْتِكُمْ خَيْراً وخامسها قوله مّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وسادسها قوله وَيَغْفِرْ لَكُمْ فلما دلت هذه الألفاظ الستة على العموم فما الموجب للتخصيص أقصى ما في الباب أن يقال سبب نزول الآية هو العباس إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب
أما قوله إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً ففيه مسألتان
المسألة الأولى يجب أن يكون المراد من هذا الخير الإيمان والعزم على طاعة الله وطاعة رسوله في جميع التكاليف والتوبة عن الكفر وعن جميع المعاصي ويدخل فيه العزم على نصرة الرسول والتوبة عن محاربته
المسألة الثانية احتج هشام بن الحكم على قوله إنه تعالى لا يعلم الشيء إلا عند حدوثه بهذه الآية لأن قوله إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً فعل كذا وكذا شرط وجزاء والشرط هو حصول هذا العلم والشرط والجزاء لا يصح وجودهما إلا في المستقبل وذلك يوجب حدوث علم الله تعالى
والجواب أن ظاهر اللفظ وإن كان يقتضي ما ذكره هشام إلا أنه لما دل الدليل على أن علم الله يمتنع أن يكون محدثاً وجب أن يقال ذكر العلم وأراد به المعلوم من حيث إنه يدل حصول العلم على حصول المعلوم
أما قوله يُؤْتِكُمْ خَيْراً مّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ففيه مسألتان
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) قرأ الحسن مّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ على البناء للفاعل
المسألة الثانية للمفسرين في هذا الخير أقوال
القول الأول المراد الخلف مما أخذ منهم في الدنيا قال القاضي لأنه تعالى عطف عليه أمر الآخرة بقوله وَيَغْفِرْ لَكُمْ فما تقدم يجب أن يكون المراد منه منافع الدنيا
ولقائل أن يقول إن قوله وَيَغْفِرْ لَكُمْ المراد منه إزالة العقاب وعلى هذا التقدير لم يبعد أن

يكون المراد من هذا الخير المذكور أيضاً الثواب والتفضل في الآخرة
والقول الثاني المراد من هذا الخير ثواب الآخرة فإن قوله وَيَغْفِرْ لَكُمْ المراد منه في الآخرة فالخير الذي تقدمه يجب أيضاً أن يكون في الدنيا
والقول الثالث أنه محمول على الكل
فإن قيل إذا حملتم الخير على خيرات الدنيا فهل تقولون إن كل من أخلص من الأسارى قد آتاه الله خيراً مما أخذ منه
قلنا هكذا يجب أن يكون بحكم الآية إلا أنا لا نعلم من المخلص بقلبه حتى يتوجه علينا فيه السؤال ولا نعلم أيضاً من الذي آتاه الله علماً وقد علمنا أن قليل الدنيا مع الإيمان أعظم من كثير الدنيا مع الكفر
ثم قال وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وهو تأكيد لما مضى ذكره من قوله وَيَغْفِرْ لَكُمْ والمعنى كيف لا يفي بوعده المغفرة وأنه غفور رحيم
أما قوله وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ ففيه مسائل
المسألة الأولى في تفسير هذه الخيانة وجوه الأول أن المراد منه الخيانة في الدين وهو الكفر يعني إن كفروا بك فقد خانوا الله من قبل الثاني أن المراد من الخيانة منع ما ضمنوا من الفداء الثالث روي أنه عليه السلام لما أطلقهم من الأسر عهد معهم أن لا يعودوا إلى محاربته وإلى معاهدة المشركين وهذا هو العادة فيمن يطلق من الحبس والأسر فقال تعالى وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ أي نكث هذا العهد فقد خانوا الله من قبل والمراد أنهم كانوا يقولون لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَاذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ( يونس 22 ) وَلَئِنِ صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا ( الأعراف 189 ) ثم إذا وصلوا إلى النعمة وتخلصوا من البلية نكثوا العهد ونقضوا الميثاق ولا يمنع دخول الكل فيه وإن كان الأظهر هو هذا الأخير
ثم قال تعالى فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ قال الأزهري يقال أمكنني الأمر يمكنني فهو ممكن ومفعول الإمكان محذوف والمعنى فأمكن المؤمنين منهم والمعنى أنهم خانوا الله بما أقدموا عليه من محاربة الرسول يوم بدر فأمكن الله منهم قتلاً وأسراً وذلك نهاية الإمكان والطفر فنبه الله بذلك على أنهم قد ذاقوا وبال ما فعلوه ثم فإن عادوا كان التمكين منهم ثابتاً حاصلاً وفيه بشارة للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بأنه يتمكن من كل من يخونه وينقض عهده
ثم قال وَاللَّهُ عَلِيمٌ أي ببواطنهم وضمائرهم حَكِيمٌ يجازيهم بأعمالهم
إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُوا أُوْلَائِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلايَتِهِم مِّن شَى ْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِى الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَة ٌ فِى الأرض وَفَسَادٌ كَبِيرٌ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُوا أُولَائِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُم مَّغْفِرَة ٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَائِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَى ْءٍ عَلِيمٌ

اعلم أنه تعالى قسم المؤمنين في زمان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إلى أربعة أقسام وذكر حكم كل واحد منهم وتقرير هذه القسمة أنه عليه السلام ظهرت نبوته بمكة ودعا الناس هناك إلى الدين ثم انتقل من مكة إلى المدينة فحين هاجر من مكة إلى المدينة صار المؤمنون على قسمين منهم من وافقه في تلك الهجرة ومنهم من لم يوافقه فيها بل بقي هناك
أما القسم الأول فهم المهاجرون الأولون وقد وصفهم بقول إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وإنما قلنا إن المراد منهم المهاجرون الأولون لأنه تعالى قال في آخر الآية وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وإذا ثبت هذا ظهر أن هؤلاء موصوفون بهذه الصفات الأربعة أولها أنهم آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وقبلوا جميع التكاليف التي بلغها محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ولم يتمردوا فقوله إِنَّ الَّذِينَ يفيد هذا المعنى
والصفة الثانية قوله وَهَاجَرُواْ يعني فارقوا الأوطان وتركوا الأقارب والجيران في طلب مرضاة الله ومعلوم أن هذه الحالة حالة شديدة قال تعالى أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُمْ ( النساء 66 ) جعل مفارقة الأوطان معادلة لقتل النفس فهؤلاء في المرتبة الأولى تركوا الأديان القديمة لطلب مرضاة الله تعالى وفي المرتبة الثانية تركوا الأقارب والخلان والأوطان والجيران لمرضاة الله تعالى
والصفة الثالثة قوله وَجَاهَدُواْ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أما المجاهدة بالمال فلأنهم لما فارقوا الأوطان فقد ضاعت دورهم ومساكنهم وضياعهم ومزارعهم وبقيت في أيدي الأعداء وأيضاً فقد احتاجوا إلى الإنفاق الكثير بسبب تلك العزيمة وأيضاً كانوا ينفقون أموالهم على تلك الغزوات وأما المجاهدة بالنفس فلأنهم كانوا أقدموا على محاربة بدر من غير آلة ولا أهبة ولا عدة مع الأعداء الموصوفين بالكثرة والشدة وذلك يدل على أنهم أزالوا أطماعهم عن الحياة وبذلوا أنفسهم في سبيل الله

وأما الصفة الرابعة فهي أنهم كانوا أول الناس إقداماً على هذه الأفعال والتزاماً لهذه الأحوال ولهذه السابقة أثر عظيم في تقوية الدين قال تعالى لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَة ً مّنَ الَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ وَكُلاًّ ( الحديد 10 ) وقال وَالسَّابِقُونَ الاْوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالانْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِى َ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ( التوبة 100 ) وإنما كان السبق موجباً للفضيلة لأن إقدامهم على هذه الأفعال يوجب اقتداء غيرهم بهم فيصير ذلك سبباً للقوة أو الكمال ولهذا المعنى قال تعالى وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ( المائدة 32 ) وقال عليه السلام ( من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ) ومن عادة الناس أن دواعيهم تقوى بما يرون من أمثالهم في أحوال الدين والدنيا كما أن المحن تخف على قلوبهم بالمشاركة فيها فثبت أن حصول هذه الصفات الأربعة للمهاجرين الأولين يدل على غاية الفضيلة ونهاية المنقبة وأن ذلك يوجب الاعتراف بكونهم رؤساء المسلمين وسادة لهم
وأما القسم الثاني من المؤمنين الموجودين في زمان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فهم الأنصار وذلك لأنه عليه السلام لما هاجر إليهم مع طائفة من أصحابه فلولا أنهم آووا ونصروا وبذلوا النفس والمال في خدمة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وإصلاح مهمات أصحابه لما تم المقصود البتة ويجب أن يكون حال المهاجرين أعلى في الفضيلة من حال الأنصار لوجوه أولها أنهم هم السابقون في الإيمان الذي هو رئيس الفضائل وعنوان المناقب وثانيها أنهم تحملوا العناء والمشقة دهراً دهيراً وزماناً مديداً من كفار قريش وصبروا عليه وهذه الحال ما حصلت للأنصار وثالثها أنهم تحملوا المضار الناشئة من مفارقة الأوطان والأهل والجيران ولم يحصل ذلك للأنصار ورابعها أن فتح الباب في قبول الدين والشريعة من الرسول عليه السلام إنما حصل من المهاجرين والأنصار اقتدوا بهم وتشبهوا بهم وقد ذكرنا أنه عليه السلام قال ( من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ) فوجب أن يكون المقتدى أقل مرتبة من المقتدى به فجملة هذه الأحوال توجب تقديم المهاجرين الأولين على الأنصار في الفضل والدرجة والمنقبة فلهذا السبب أينما ذكر الله هذين الفريقين قدم المهاجرين على الأنصار وعلى هذا الترتيب ورد ذكرهما في هذه الآية
واعلم أن الله تعالى لما ذكر هذين القسمين في هذه الآية قال أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ واختلفوا في المراد بهذه الولاية فنقل الواحدي عن ابن عباس والمفسرين كلهم أن المراد هو الولاية في الميراث وقالوا جعل الله تعالى سبب الإرث الهجرة والنصرة دون القرابة وكان القريب الذي آمن ولم يهاجر لم يرث من أجل أنه لم يهاجر ولم ينصر واعلم أن لفظ الولاية غير مشعر بهذا المعنى لأن هذا اللفظ مشع بالقرب على ما قررناه في مواضع من هذا الكتاب ويقال ( السلطان ولي من لا ولي له ) ولا يفيد الإرث وقال تعالى أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ( يونس 62 ) ولا يفيد الإرث بل الولاية تفيد القرب فيمكن حمله على غير الإرث وهو كون بعضهم معظماً للبعض مهتماً بشأنه مخصوصاً بمعاونته ومناصرته والمقصود أن يكونوا يداً واحدة على الأعداء وأن يكون حب كل واحد لغيره جارياً مجرى حبسه لنفسه وإذا كان اللفظ محتملاً لهذا المعنى كان حمله على الإرث بعيداً عن دلالة اللفظ لا سيما وهم يقولون إن ذلك الحكم صار منسوخاً بقوله تعالى في آخر الآية وَأُوْلُواْ الارْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ وأي حاجة تحملنا على

حمل اللفظ على معنى لا إشعار لذلك اللفظ به ثم الحكم بأنه صار منسوخاً بآية أخرى مذكورة معه هذا في غاية البعد اللهم إلا إذا حصل إجماع المفسرين على أن المراد ذلك فحينئذ يجب المصير إليه إلا أن دعوى الإجماع بعيد
القسم الثالث من أقسام مؤمني زمان الرسول عليه السلام وهم المؤمنون الذين ما وافقوا الرسول في الهجرة وبقوا في مكة وهم المعنيون بقول وَالَّذِينَ ءاوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ فبين تعالى حكمهم من وجهين الأول قوله مَالَكُمْ مّن وَلايَتِهِم مّن شَى ْء حَتَّى يُهَاجِرُواْ وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن الولاية المنفية في هذه الصورة هي الولاية المثبتة في القسم الذي تقدم فمن حمل تلك الولاية على الإرث زعم أن الولاية المنفية ههنا هي الإرث ومن حمل تلك الولاية على سائر الاعتبارات المذكورة فكذا ههنا واحتج الذاهبون إلى أن المراد من هذه الولاية الإرث بأن قالوا لا يجوز أن يكون المراد منها الولاية بمعنى النصرة والدليل عليه أنه تعالى عطف عليه قوله وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِى الدّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ ولا شك أن ذلك عبارة عن الموالاة في الدين والمعطوف مغاير للمعطوف عليه فوجب أن يكون المراد بالولاية المذكورة أمراً مغايراً لمعنى النصرة وهذا الاستدلال ضعيف لأنا حملنا تلك الولاية على التعظيم والإكرام وهو أمر مغاير للنصرة ألا ترى أن الإنسان قد ينصر بعض أهل الذمة في بعض المهمات وقد ينصر عبده وأمته بمعنى الإعانة مع أنه لا يواليه بمعنى التعظيم والإجلال فسقط هذا الدليل
المسألة الثانية قوله تعالى حَتَّى يُهَاجِرُواْ
واعلم أن قوله تعالى مَالَكُمْ مّن وَلايَتِهِم مّن شَى ْء يوهم أنهم لما لم يهاجروا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سقطت ولايتهم مطلقاً فأزال الله تعالى هذا الوهم بقوله مَالَكُمْ مّن وَلايَتِهِم مّن شَى ْء حَتَّى يُهَاجِرُواْ يعني أنهم لو هاجروا لعادت تلك الولاية وحصلت والمقصود منه الحمل على المهاجرة والترغيب فيها لأن المسلم متى سمع أن الله تعالى يقول إن قطع المهاجرة انقطعت الولاية بينه وبين المسلمين ولو هاجر حصلت تلك الولاية وعادت على أكمل الوجوه فلا شك أن هذا يصير مرغباً له في الهجرة والمقصود من المهاجرة كثرة المسلمين واجتماعهم وإعانة بعضهم لبعض وحصول الألفة الشوكة وعدم التفرقة
المسألة الثالثة قرأ حمزة مّن وَلايَتِهِم بكسر الواو والباقون بالفتح قال الزجاج من فتح جعلها من النصرة والنسب وقال والولاية التي بمنزلة الإمارة مكسورة للفصل بين المعنيين وقد يجوز كسر الولاية لأن في تولي بعض القوم بعضاً جنساً من الصناعة كالقصارة والخياطة فهي مكسورة وقال أبو علي الفارسي الفتح أجود لأن الولاية ههنا من الدين والكسر في السلطان
والحكم الثاني من أحكام هذا القسم الثالث قوله تعالى وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِى الدّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ
واعلم أنه تعالى لما بين الحكم في قطع الولاية بين تلك الطائفة من المؤمنين بين أنه ليس المراد منه المقاطعة التامة كما في حق الكفار بل هؤلاء المؤمنون الذين لم يهاجروا لم استنصروكم فانصروهم ولا تخذلوهم روي أنه لما نزل قوله تعالى مَالَكُمْ مّن وَلايَتِهِم مّن شَى ْء حَتَّى يُهَاجِرُواْ قام الزبير وقال فهل

نعينهم على أمر إن استعانوا بنا فنزل وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِى الدّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ
ثم قال تعالى إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مّيثَاقٌ والمعنى أنه لا يجوز لكم نصرهم عليهم إذ الميثاق مانع من ذلك
ثم قال تعالى وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن هذا الترتيب الذي اعتبره الله في هذه الآية في غاية الحسن لأنه ذكر ههنا أقساماً ثلاثة فالأول المؤمنون من المهاجرين والأنصار وهم أفضل الناس وبين أنه يجب أن يوالي بعضهم بعضاً
والقسم الثاني المؤمنون الذين لم يهاجروا فهؤلاء بسبب إيمانهم لهم فضل وكرامة وبسبب ترك الهجرة لهم حالة نازلة فوجب أن يكون حكمهم حكماً متوسطاً بين الإجلال والإذلال وذلك هو أن الولاية المثبتة للقسم الأول تكون منفية عن هذا القسم إلا أنهم يكونون بحيث لو استنصروا المؤمنين واستعانوا بهم نصروهم وأعانوهم فهذا الحكم متوسط بين الإجلال والإذلال وأما الكفار فليس لهم البتة ما يوجب شيئاً من أسباب الفضيلة فوجب كون المسلمين منقطعين عنهم من كل الوجوه فلا يكون بينهم ولاية ولا مناصلة بوجه من الوجوه فظهر أن هذا التريب في غاية الحسن
المسألة الثانية قال بعض العلماء قوله وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يدل على أن الكفار في الموارثة مع اختلاف مللهم كأهل ملة واحدة فالمجوسي يرث الوثني والنصراني يرث المجوسي لأن الله تعالى قال وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ
واعلم أن هذا الكلام إنما يستقيم إذا حملنا الولاية على الإرث وقد سبق القول فيه بل الحق أن يقال إن كفار قريش كانوا في غاية العداوة لليهود فلما ظهرت دعوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) تناصروا وتعاونوا على إيذائه ومحاربته فكان المراد من الآية ذلك وتمام التحقيق فيه أن الجنسية علة الضم وشبيه الشيء منجذب إليه والمشركون واليهود والنصارى لما اشتركوا في عداوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) صارت هذه الجهة موجبة لانضمام بعضهم إلى بعض وقرب بعضهم من بعض وذلك يدل على أنهم ما أقدموا على تلك العداوة لأجل الدين لأن كل واحد منهم كان في نهاية الإنكار لدين صاحبه بل كان ذلك من أدل الدلائل على أن تلك العداوة لمحض الحسد والبغي والعناد
ثم إنه تعالى لما بين هذه الأحكام قال إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَة ٌ فِى الاْرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ والمعنى إن لم تفعلوا ما أمرتكم به في هذه التفاصيل المذكورة المتقدمة تحصل فتنة في الأرض ومفسدة عظيمة وبيان هذه الفتنة والفساد من وجوه الأول أن المسلمين لو اختلطوا بالكفار في زمان ضعف المسلمين وقلة عددهم وزمان قوة الكفار وكثرة عددهم فربما صارت تلك المخالطة سبباً لالتحاق المسلم بالكفار الثاني أن المسلمين لو كانوا متفرقين لم يظهر منهم جمع عظيم فيصير ذلك سبباً لجراءة الكفار عليهم الثالث أنه إذا كان جمع المسلمين كل يوم في الزيادة في العدة والعدة صار ذلك سبباً لمزيد رغبتهم فيما هم فيه ورغبة المخالف في الالتحاق بهم

واعلم أنه تعالى لما ذكر هذا القسم الثالث عاد إلى ذكر القسم الأول والثاني مرة أخرى فقال وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءاوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً فَلَمْ مَّغْفِرَة ٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ
واعلم أن هذا ليس بتكرار وذلك لأنه تعالى ذكرهم أولاً ليبين حكمهم وهو ولاية بعضهم بعضاً ثم إنه تعالى ذكرهم ههنا لبيان تعظيم شأنهم وعلو درجتهم وبيانه من وجهين الأول أن الإعادة تدل على مزيد الاهتمام بحالهم وذلك يدل على الشرف التعظيم والثاني وهو أنه تعالى أثنى عليهم ههنا من ثلاثة أوجه أولها قوله أُوْلئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً فقوله أُوْلئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ يفيد الحصر وقوله حَقّاً يفيد المبالغة في وصفهم بكونهم محقين محققين في طريق الدين والأمر في الحقيقة كذلك لأن من لم يكن محقاً في دينه لم يتحمل ترك الأديان السالفة ولم يفارق الأهل والوطن ولم يبذل النفس والمال ولم يكن في هذه الأحوال من المتسارعين المتسابقين وثانيها قوله لَهُم مَّغْفِرَة ٌ وتنكير لفظ المغفرة يدل على الكمال كما أن التنكير في قوله وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَواة ٍ ( البقرة 96 ) يدل على كمال تلك الحياة والمعنى لهم مغفرة تامة كاملة عن جميع الذنوب والتبعات وثالثها قوله وَرِزْقٌ كَرِيمٌ والمراد منه الثواب الرفيع الشريف والحاصل أنه تعالى شرح حالهم في الدنيا وفي الآخرة أما في الدنيا فقد وصفهم بقوله أُوْلئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً وأما في الآخرة فالمقصود إما دفع العقاب وإما جلب الثواب أما دفع العقاب فهو المراد بقوله لَهُم مَّغْفِرَة ٌ وأما جلب الثواب فهو المراد بقوله وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وهذه السعادات العالية إنما حصلت لأنهم أعرضوا عن اللذات الجسمانية فتركوا الأهل والوطن وبذلوا النفس والمال وذلك تنبيه على أنه لا طريق إلى تحصيل السعادات إلا بالإعراض عن هذه الجسمانيات
القسم الرابع من مؤمني زمان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) هم الذين لم يوافقوا الرسول في الهجرة إلا أنهم بعد ذلك هاجروا إليه وهو المراد من قوله تعالى وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في المراد من قوله تعالى مِن بَعْدِ نقل الواحدي عن ابن عباس بعد الحديبية وهي الهجرة الثانية وقيل بعد نزول هذه الآية وقيل بعد يوم بدر والأصح أن المراد والذين هاجروا بعد الهجرة الأولى وهؤلاء هم التابعون بإحسان كما قال وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِى َ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ( التوبة 100 )
المسألة الثانية الأصح أن الهجرة انقطعت بفتح مكة لأن عنده صارت مكة بلد الإسلام وقال الحسن الهجرة غير منقطعة أبداً وأما قوله عليه السلام ( لا هجرة بعد الفتح ) فالمراد الهجرة المخصوصة فإنها انقطعت بالفتح وبقوة الإسلام أما لو اتفق في بعض الأزمان كون المؤمنين في بلد وفى عددهم قلة ويحصل للكفار بسبب كونهم معهم شوكة وإن هاجر المسلمون من تلك البلدة وانتقلوا إلى بلدة أخرى ضعفت شوكة الكفار فههنا تلزمهم الهجرة على ما قاله الحسن لأنه قد حصل فيهم مثل العلة في الهجرة من مكة إلى المدينة
المسألة الثالثة قوله فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ يدل على أن مرتبة هؤلاء دون مرتبة المهاجرين السابقين لأنه

ألحق هؤلاء بهم وجعلهم منهم في معرض التشريف ولولا كون القسم الأول أشرف وإلا لما صح هذا المعنى فهذا شرح هذه الأقسام الأربعة التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية
ثم قال تعالى وَأُوْلُواْ الارْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ وفيه مسائل
المسألة الأولى الذين قالوا المراد من قوله تعالى أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ولاية الميراث قالوا هذه الآية ناسخة له فإنه تعالى بين أن الإرث كان بسبب النصرة والهجرة والآن قد صار ذلك منسوخاً فلا يحصل الإرث إلا بسبب القرابة وقوله فِى كِتَابِ اللَّهِ المراد منه السهام المذكورة في سورة النساء وأما الذين فسروا تلك الآية بالنصرة والمحبة والتعظيم قالوا إن تلك الولاية لما كانت محتملة للولاية بسبب الميراث بين الله تعالى في هذه الآية أن ولاية الإرث إنما تحصل بسبب القرابة إلا ما خصه الدليل فيكون المقصود من هذا الكلام إزالة هذا الوهم وهذا أولى لأن تكثير النسخ من غير ضرورة ولا حاجة لا يجوز
المسألة الثانية تمسك محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم في كتابه إلى أبي جعفر المنصور بهذه الآية في أن الإمام بعد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هو علي بن أبي طالب فقال قوله تعالى وَأُوْلُواْ الارْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ يدل على ثبوت الولاية وليس في الآية شيء معين في ثبوت هذه الأولوية فوجب حمله على الكل إلا ما خصه الدليل وحينئذ يندرج فيه الإمامة ولا يجوز أن يقال إن أبا بكر كان من أولي الأرحام لما نقل أنه عليه السلام أعطاه سورة براءة ليبلغها إلى القوم ثم بعث علياً خلفه وأمر بأن يكون المبلغ هو علي وقال ( لا يؤديها إلا رجل مني ) وذلك يدل على أن أبا بكر ما كان منه فهذا هو وجه الاستدلال بهذه الآية
والجواب إن صحت هذه الدلالة كان العباس أولى بالإمامة لأنه كان أقرب إلى رسول الله من علي وبهذا الوجه أجاب أبو جعفر المنصور عنه
المسألة الثالثة تمسك أصحاب أبي حنيفة رحمه الله بهذه الآية في توريث ذوي الأرحام وأجاب أصحابنا عنه بأن قوله وَأُوْلُواْ الارْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ مجمل في الشيء الذي حصلت فيه هذه الأولوية فلما قال فِى كِتَابِ اللَّهِ كان معناه في الحكم الذي بينه الله في كتابه فصارت هذه الأولوية مقيدة بالأحكام التي بينها الله في كتابه وتلك الأحكام ليست إلا ميراث العصبات فوجب أن يكون المراد من هذا المجمل هو ذلك فقط فلا يتعدى إلى توريث ذوي الأرحام
ثم قال في ختم السورة أَنَّ اللَّهَ بِكُلّ شَى ْء عَلِيمٌ والمراد أن هذه الأحكام التي ذكرتها وفصلتها كلها حكمة وصواب وصلاح وليس فيها شيء من العبث والباطل لأن العالم بجميع المعلومات لا يحكم إلا بالصواب ونظيره أن الملائكة لما قالوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ وَيَسْفِكُ الدِّمَاء قال مجيباً لهم إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ( البقرة 30 ) يعني لما علمتم كوني عالماً بكل المعلومات فاعلموا أن حكمي يكون منزهاً عن الغلط كذا ههنا والله أعلم
تم تفسير هذه السورة ولله الحمد والشكر كما هو أهله ومستحقه يوم الأحد في رمضان سنة إحدى

وستمائة في قرية يقال لها بغدان ونسأل الله الخلاص من الأهوال وشدة الزمان وكيد أهل البغي والخذلان إنه الملك الديان وصلاته وسلامه على حبيب الرحمن محمد المصطفى صاحب المعجزات والبرهان

سورة التوبة
مدنية إلا الآيتين الأخيرتين فمكيتان
وآياتها 129 نزلت بعد المائدة
سورة التوبة
مائة وثلاثة وثلاثون وقيل عشرون وتسع آيات مدنية
قال صاحب ( الكشاف ) لها عدة أسماء براءة والتوبة والمقشقشة والمبعثرة والمشردة والمخزية والفاضحة والمثيرة والحافرة والمنكلة والمدمدمة وسورة العذاب قال لأن فيها التوبة على المؤمنين وهي تقشقش من النفاق أي تبرىء منه وتبعثر عن أسرار المنافقين وتبحث عنها وتثيرها وتحفر عنها وتفضحهم وتنكل بهم وتشردهم وتخزيهم وتدمدم عليهم وعن حذيفة إنكم تسمونها سورة التوبة والله ما تركت أحداً إلا نالت منه وعن ابن عباس في هذه السورة قال إنها الفاضحة ما زالت تنزل فيهم وتنال منهم حتى خشينا أن لا تدع أحداً وسورة الأنفال نزلت في بدر وسورة الحشر نزلت في بني النضير
فإن قيل ما السبب في إسقاط التسمية من أولها
قلنا ذكروا فيه وجوها
الوجه الأول روي عن ابن عباس قال قلت لعثمان بن عفان ما حملكم على أن عمدتم إلى سورة براءة وهي من المئين وإلى سورة الأنفال وهي من المثاني فقرنتم بينهما وما فصلتم ببسم الله الرحمن الرحيم فقال كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كلما نزلت عليه سورة يقول ( ضعوها في موضع كذا ) وكانت براءة من آخر القرآن نزولاً فتوفي ( صلى الله عليه وسلم ) ولم يبين موضعها وكانت قصتها شبيهة بقصتها فقرن بينهما قال القاضي يبعد أن يقال إنه عليه السلام لم يبين كون هذه السورة تالية لسورة الأنفال لأن القرآن مرتب من قبل الله تعالى ومن قبل رسوله على الوجه الذي نقل ولو جوزنا في بعض السور أن لا يكون ترتيبها من الله على سبيل الوحي لجوزنا مثله في سائر السور وفي آيات السور الواحدة وتجويزه يطرف ما يقوله الإمامية من تجويز الزيادة والنقصان في القرآن وذلك يخرجه من كونه حجة بل الصحيح أنه عليه السلام أمر بوضع هذه السورة بعد سورة الأنفال وحياً وأنه عليه السلام حذف بسم الله الرحمن الرحيم من أول هذه السورة وحياً
الوجه الثاني في هذا الباب ما يروى عن أبي بن كعب أنه قال إنما توهموا ذلك لأن في الأنفال ذكر العهود وفي براءة نبذ العهود فوضعت إحداهما بجنب الأخرى والسؤال المذكور عائد ههنا لأن هذا الوجه إنما يتم إذا قلنا إنهم إنما وضعوا هذه السورة بعد الأنفال من قبل أنفسهم لهذه العلة

والوجه الثالث أن الصحابة اختلفوا في أن سورة الأنفال وسورة التوبة سورة واحدة أم سورتان فقال بعضهم هما سورة واحدة لأن كلتيهما نزلت في القتال ومجموعهما هذه السورة السابعة من الطوال وهي سبع وما بعدها المئون وهذا قول ظاهر لأنهما معاً ومائتان وست آيات فهما بمنزلة سورة واحدة ومنهم من قال هما سورتان فلما ظهر الاختلاف بين الصحابة في هذا الباب تركوا بينهما فرجة تنبيهاً على قول من يقول هما سورتان وما كتبوا بسم الله الرحمن الرحيم بينهما تنبيهاً على قول من يقول هما سورة واحدة وعلى هذا القول لا يلزمنا تجويز مذهب الإمامية وذلك لأنه لما وقع الاشتباه في هذا المعنى بين الصحابة لم يقطعوا بأحد القولين وعملوا عملاً يدل على أن هذا الاشتباه كان حاصلاً فلما لم يتسامحوا بهذا القدر من الشبهة دل على أنهم كانوا مشددين في ضبط القرآن عن التحريف والتغيير وذلك يبطل قول الإمامية
الوجه الرابع في هذا الباب أنه تعالى ختم سورة الأنفال بإيجاب أن يوالي المؤمنون بعضهم بعضاً وأن يكونوا منقطعين عن الكفار بالكلية ثم إنه تعالى صرح بهذا المعنى في قوله بَرَاءة ٌ مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ( التوبة 1 ) فلما كان هذا عين ذلك الكلام وتأكيداً له وتقريراً له لزم وقوع الفاصل بينهما فكان إيقاع الفصل بينهما تنبيهاً على كونهما سورتين متغايرتين وترك كتب بسم الله الرحمن الرحيم بينهما تنبيهاً على أن هذا المعنى هو عين ذلك المعنى
الوجه الخامس قال ابن عباس سألت علياً رضي الله عنه لم لم يكتب بسم الله الرحمن الرحيم بينهما قال لأن بسم الله الرحمن الرحيم أمان وهذه السورة نزلت بالسيف ونبذ العهود وليس فيها أمان ويروى أن سفيان بن عيينة ذكر هذا المعنى وأكده بقوله تعالى وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِناً ( النساء 94 ) فقيل له أليس أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كتب إلى أهل الحرب بسم الله الرحمن الرحيم فإجاب عنه بأن ذلك ابتداء منه بدعوتهم إلى الله ولم ينبذ إليهم عهدهم ألا تراه قال في آخر الكتاب ( والسلام على من اتبع الهدى ) وأما في هذه السورة فقد اشتملت على المقاتلة ونبذ العهود فظهر الفرق
والوجه السادس قال أصحابنا لعل الله تعالى لما علم من بعض الناس أنهم يتنازعون في كون بسم الله الرحمن الرحيم من القرآن أمر بأن لا تكتب ههنا تنبيهاً على كونها آية من أول كل سورة وأنها لما لم تكن آية من هذه السورة لا جرم لم تكتب وذلك يدل على أنها لما كتبت في أول سائر السور وجب كونها آية من كل سورة
بَرَآءَة ٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُواْ فِى الأرض أَرْبَعَة َ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِى الْكَافِرِينَ

وفي الآية مسائل
المسألة الأولى معنى البراءة انقطاع العصمة يقال برئت من فلان أبرأ براءة أي انقطعت بيننا العصمة ولم يبق بيننا علقة ومن هنا يقال برئت من الدين وفي رفع قوله بَرَاءة ٌ قولان الأول أنه خبر مبتدأ محذوف أي هذه براءة قال الفراء ونظيره قولك إذا نظرت إلى رجل جميل جميل والله أي هذا جميل والله وقوله مِنْ لابتداء الغاية والمعنى هذه براءة واصلة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم كما تقول كتاب من فلان إلى فلان الثاني أن يكون قوله بَرَاءة ٌ مبتدأ وقوله مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صفتها وقوله إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ هو الخبر كما تقول رجل من بني تميم في الدار
فإن قالوا ما السبب في أن نسب البراءة إلى الله ورسوله ونسب المعاهدة إلى المشركين
قلنا قد أذن الله في معاهدة المشركين فاتفق المسلمون مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وعاهدهم ثم إن المشركين نقضوا العهد فأوجب الله النبذ إليهم فخوطب المسلمون بما يحذرهم من ذلك وقيل اعلموا أن الله ورسوله قد برئا مما عاهدتم من المشركين
المسألة الثالثة روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما خرج إلى غزوة تبوك وتخلف النافقون وأرجفوا بالأراجيف جعل المشركون ينقضون العهد فنبذ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) العهد إليهم
فإن قيل كيف يجوز أن ينقض النبي ( صلى الله عليه وسلم ) العهد
قلنا لا يجوز أن ينقض العهد إلا على ثلاثة أوجه أحدها أن يظهر له منهم خيانة مستورة ويخاف ضررهم فينبذ العهد إليهم حتى يستووا في معرفة نقض العهد لقوله وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَة ً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء ( الأنفال 58 ) وقال أيضاً الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلّ مَرَّة ٍ ( الأنفال 56 ) والثاني أن يكون قد شرط لبعضهم في وقت العهد أن يقرهم على العهد فيما ذكر من المدة إلى أن يأمر الله تعالى بقطعه فلما أمره الله تعالى بقطع العهد بينهم قطع لأجل الشرط والثالث أن يكون مؤجلاً فتنقضي المدة وينقضي العهد ويكون الغرض من إظهار هذه البراءة أن يظهر لهم أنه لا يعود إلى العهد وأنه على عزم المحاربة والمقاتلة فأما فيما وراء هذه الأحوال الثلاثة لا يجوز نقض العهد البتة لأنه يجري مجرى الغدر وخلف القول والله ورسوله منه بريئان ولهذا المعنى قال الله تعالى إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ ( التوبة 4 ) وقيل إن أكثر المشركين نقضوا العهد إلا أناساً منهم وهم بنو ضمرة وبنو كنانة
المسألة الثالثة روي أن فتح مكة كان سنة ثمان وكان الأمير فيها عتاب بن أسيد ونزول هذه السورة سنة تسع وأمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أبا بكر رضي الله عنه سنة تسع أن يكون على الموسم فلما نزلت هذه السورة أمر علياً أن يذهب إلى أهل الموسم ليقرأها عليهم فقيل له لو بعثت بها إلى أبي بكر فقال لا يؤدي عني إلا رجل مني فلما دنا علي سمع أبو بكر الرغاء فوقف وقال هذا رغاء ناقة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلما لحقه قال أمير أو مأمور قال مأمور ثم ساروا فلما كان قبل التروية خطب أبو بكر وحدثهم عن مناسكهم وقام علي يوم النحر عند جمرة العقبة فقال يا أيها الناس إني رسول رسول الله إليكم فقالوا بماذا فقرأ عليهم

ثلاثين أو أربعين آية وعن مجاهد ثلاث عشرة آية ثم قال أمرت بأربع أن لا يقرب هذا البيت بعد هذا العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده فقالوا عند ذلك يا علي أبلغ ابن عمك أنا قد نبذنا العهد وراء ظهورنا وأنه ليس بيننا وبينه عهد إلا طعن بالرماح وضرب بالسيوف واختلفوا في السبب الذي لأجله أمر علياً بقراءة هذه السورة عليهم وتبليغ هذه الرسالة إليهم فقالوا السبب فيه أن عادة العرب أن لا يتولى تقرير العهد ونقضه إلا رجل من الأقارب فلو تولاه أبو بكر لجاز أن يقولوا هذا خلاف ما نعرف فينا من نقض العهود فربما لم يقبلوا فأزيحت علتهم بتولية ذلك علياً رضي الله عنه وقيل لما خص أبا بكر رضي الله عنه بتوليته أمير الموسم خص علياً بهذا التبليغ تطييباً للقلوب ورعاية للجوانب وقيل قرر أبا بكر علي الموسم وبعث علياً خلفه لتبليغ هذه الرسالة حتى يصلي على خلف أبي بكر ويكون ذلك جارياً مجرى التنبيه على إمامة أبي بكر والله أعلم
وقرر الجاحظ هذا المعنى فقال إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعث أبا بكر أميراً على الحاج وولاه الموسم وبعث علياً يقرأ على الناس آيات من سورة براءة فكان أبو بكر الإمام وعلي المؤتم وكان أبو بكر الخطيب وعلي المستمع وكان أبو بكر الرافع بالموسم والسابق لهم والآمر لهم ولم يكن ذلك لعلي رضي الله عنه وأما قوله عليه الصلاة والسلام ( لا يبلغ عني إلا رجل مني ) فهذا لا يدل على تفضيل علي على أبي بكر ولكنه عامل العرب بما يتعارفونه فيما بينهم وكان السيد الكبير منهم إذا عقد لقوم حلفاً أو عاهد عهداً لم يحل ذلك العهد والعقد إلا هو أو رجل من أقاربه القريبين منه كأخ أو عم فلهذا المعنى قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك القول
وأما قوله فَسِيحُواْ فِى الاْرْضِ أَرْبَعَة َ أَشْهُرٍ ففيه أبحاث الأول أصل السياحة الضرب في الأرض والاتساع في السير والبعد عن المدن وموضع العمارة مع الإقلال من الطعام والشراب يقال للصائم سائح لأنه يشبه السائح لتركه المطعم والمشرب قال المفسرون فَسِيحُواْ فِى الاْرْضِ يعني اذهبوا فيها كيف شئتم وليس ذلك من باب الأمر بل المقصود الإباحة والإطلاق والإعلام بحصول الأمان وإزالة الخوف يعني أنتم آمنون من القتل والقتال في هذه المدة
البحث الثاني قال المفسرون هذا تأجيل من الله للمشركين أربعة أشهر فمن كانت مدة عهده أكثر من أربعة أشهر حطه إلى الأربعة ومن كانت مدته أقل من أربعة أشهر رفعه إلى الأربعة والمقصود من هذا الإعلام أمور الأول أن يتفكروا لأنفسهم ويحتاطوا في هذا الأمر ويعلموا أنه ليس لهم بعد هذه المدة إلا أحد أمور ثلاثة إما الإسلام أو قبول الجزية أو السيف فيصير ذلك حاملاً لهم على قبول الإسلام ظاهراً والثاني لئلا ينسب المسلمون إلى نكث العهد والثالث أراد الله أن يعم جميع المشركين بالجهاد فعم الكل بالبراءة وأجلهم أربعة أشهر وذلك لقوة الإسلام وتخويف الكفار ولا يصح ذلك إلا بنقض العهود والرابع أراد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يحج في السنة الآتية فأمر بإظهار هذه البراءة لئلا يشاهد العراة
البحث الثالث قال ابن الأنباري قوله فَسِيحُواْ القول فيه مضمر والتقدير فقل لهم سيحوا أو يكون هذا رجوعاً من الغيبة إلى الحضور كقوله وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً إِنَّ هَاذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً ( الإنسان 21 22 )
البحث الرابع اختلفوا في هذه الأشهر الأربعة وعن الزهري أن براءة نزلت في شوال وهي أربعة

أشهر شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم وقيل هي عشرون من ذي الحجة والمحرم وصفر وربيع الأول وعشر من ربيع الآخر وإنما سميت حرماً لأنه كان يحرم فيها القتل والقتال فهذه الأشهر الحرم لما حرم القتل والقتال فيها كانت حرماً وقيل إنما سميت حرماً لأن أحد أقسام هذه المدة من الأشهر الحرم لأن عشرين من ذي الحجة مع المحرم من الأشهر الحرم وقيل ابتداء تلك المدة كان من عشر ذي القعدة إلى عشر من ربيع الأول لأن الحج في تلك السنة كان في ذلك الوقت بسبب النسيء الذي كان فيهم ثم صار في السنة الثانية في ذي الحجة وهي حجة الوداع والدليل عليه قوله عليه الصلاة والسلام ( ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض )
وأما قوله وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ فقيل اعلموا أن هذا الإمهال ليس لعجز ولكن لمصلحة ولطف ليتوب من تاب وقيل تقديره فسيحوا عالمين أنكم لا تعجزون الله في حال والمقصود أني أمهلتكم وأطلقت لكم فافعلوا كل ما أمكنكم فعله من إعداد الآلات والأدوات فإنكم لا تعجزون الله بل الله يعجزكم ويقهركم وقيل اعملوا أن هذا الإمهال لأجل أنه لا يخاف الفوت لأنكم حيث كنتم فأنتم في ملك الله وسلطانه وقوله وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِى الْكَافِرِينَ قال ابن عباس بالقتل في الدنيا والعذاب في الآخرة وقال الزجاج هذا ضمان من الله عز وجل لنصرة المؤمنين على الكافرين والإخزاء والإذلال مع إظهار الفضيحة والعار والخزي النكال الفاضح
وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الاٌّ كْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِى ءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِى اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
اعلم أن قوله بَرَاءة ٌ مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مّنَ الْمُشْرِكِينَ ( التوبة 1 ) جملة تامة مخصوصة بالمشركين وقوله وَأَذَانٌ مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجّ الاْكْبَرِ جملة أخرى تامة معطوفة على الجملة الأولى وهي عامة في حق جميع الناس لأن ذلك مما يجب أن يعرفه المؤمن والمشرك من حيث كان الحكم المتعلق بذلك يلزمهما جميعاً فيجب على المؤمنين أن يعرفوا الوقت الذي يكون فيه القتال من الوقت الذي يحرم فيه فأمر الله تعالى بهذا الإعلام يوم الحج الأكبر وهو الجمع الأعظم ليصل ذلك الخبر إلى الكل ويشتهر وفيه مسائل
المسألة الأولى الأذان الأعلام قال الأزهري يقال آذنته أوذنه إيذاناً فالأذان اسم يقوم مقام الإيذان وهو المصدر الحقيقي ومنه أذان الصلاة وقوله مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ أي أذان صادر من الله ورسوله واصل إلى الناس كقولك إعلام صادر من فلان إلى فلان
المسألة الثانية اختلفوا في يوم الحج الأكبر فقال ابن عباس في رواية عكرمة إنه يوم عرفة وهو قول

عمر وسعيد بن المسيب وابن الزبير وعطاء وطاوس ومجاهد وإحدى الروايتين عن علي ورواية عن المسور بن مخرمة عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو أنه قال خطب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عشية عرفة فقال أما بعد فإن هذا يوم الحج الأكبر وقال ابن عباس في رواية عطاء يوم الحج الأكبر يوم النحر وهو قول الشعبي والنخعي والسدي وأحد الروايتين عن علي وقول المغيرة بن شعبة وسعيد بن جبير والقول الثالث ما رواه ابن جريج عن مجاهد أنه قال يوم الحج الأكبر أيام منى كلها وهو مذهب سفيان الثوري وكان يقول يوم الحج الأكبر أيامه كلها ويقول يوم صفين ويوم الجمل يراد به الحين والزمان لأن كل حرب من هذه الحروب دامت أياماً كثيرة حجة من قال يوم عرفة قوله عليه الصلاة والسلام ( الحج عرفة ) ولأن أعظم أعمال الحج هو الوقوف بعرفة لأن من أدركه فقد أدرك الحج ومن فاته فقد فاته الحج وذلك إنما يحصل في هذا اليوم وحجة من قال إنه يوم النحر هي أن أعمال الحج إنما تتم في هذا اليوم وهي الطواف والنحر والحلق والرمي وعن علي رضي الله عنه أن رجلاً أخذ بلجام دابته فقال ما الحج الأكبر قال يومك هذا خل عن دابتي وعن ابن عمر أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقف يوم النحر عند الجمرات في حجة الوداع فقال هذا يوم الحج الأكبر وأما قول من قال المراد مجموع تلك الأيام فبعيد لأنه يقتضي تفسي اليوم بالأيام الكثيرة وهو خلاف الظاهر
فإن قيل لم سمي ذلك بالحج الأكبر
قلنا فيه وجوه الأول أن هذا هو الحج الأكبر لأن العمر تسمى الحج الأصغر الثاني أنه جعل الوقوف بعرفة هو الحج الأكبر لأنه معظم واجباته لأنه إذا فات الحج وكذلك إن أريد به يوم النحر لأن ما يفعل فيه معظم أفعال الحج الأكبر الثالث قال الحسن سمي ذلك اليوم بيوم الحج الأكبر لاجتماع المسلمين والمشركين فيه وموافقته لأعياد أهل الكتاب ولم يتفق ذلك قبله ولا بعده فعظم ذلك اليوم في قلب كل مؤمن وكافر طعن الأصم في هذا الوجه وقال عيد الكفار فيه سخط وهذا الطعن ضعيف لأن المراد أن ذلك اليوم يو استعظمه جميع الطوائف وكان من وصفه بالأكبر أولئك والرابع سمي بذلك لأن المسلمين والمشركين حجوا في تلك السنة والخامس الأكبر الوقوف بعرفة والأصغر النحر وهو قول عطاء ومجاهد السادس الحج الأكبر القران والأصغر الإفراد وهو منقول عن مجاهد ثم إنه تعالى بين أن ذلك الأذان بأي شيء كان فقال أَنَّ اللَّهَ بَرِىء مّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ وفيه مباحث
البحث اللأول لقائل أن يقول لا فرق بين قوله بَرَاءة ٌ مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مّنَ الْمُشْرِكِينَ وبين قوله أَنَّ اللَّهَ بَرِىء مّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فما الفائدة في هذا التكرير
والجواب عنه من وجوه
الوجه الأول أن المقصود من الكلام الأول الإخبار بثبوت البراءة والمقصود من هذا الكلام إعلام جميع الناس بما حصل وثبت
والوجه الثاني أن المراد من الكلام الأول البراءة من العهد ومن الكلام الثاني البراءة التي هي نقيض الموالاة الجارية مجرى الزجر والوعيد والذي يدل على حصول هذا الفرق أن في البراءة الأولى برىء إليهم وفي الثانية برىء منهم والمقصود أنه تعالى أمر في آخر سورة الأنفال المسلمين بأن يوالي بعضهم

بعضاً ونبه به على أنه يجب عليهم أن لا يوالوا الكفار وأن يتبرؤا منهم فههنا بين أنه تعالى كما يتولى المؤمنين فهو يتبرأ عن المشركين ويذمهم ويلعنهم وكذلك الرسول ولذلك أتبعه بذكر التوبة المزيلة للبراءة
والوجه الثالث في الفرق أنه تعالى في الكلام الأول أظهر البراءة عن المشركين الذين عاهدوا ونقضوا العهد وفي هذه الآية أظهر البراءة عن المشركين من غير أن وصفهم بوصف معين تنبيهاً على أن الموجب لهذه البراءة كفرهم وشركهم
البحث الثاني قوله أَنَّ اللَّهَ بَرِىء مّنَ الْمُشْرِكِينَ فيه حذف والتقدير وَأَذَانٌ مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بأن الله بريء من المشركين إلا أنه حذف الباء لدلالة الكلام عليه
واعلم أن في رفع قوله وَرَسُولُهُ وجوهاً الأول أنه رفع بالابتداء وخبره مضمر والتقدير ورسوله أيضاً بريء والخبر عن الله دل على الخبر عن الرسول والثاني أنه عطف على المنوي في بريء فإن التقدير بريء هو ورسوله من المشركين الثالث أن قوله إِنَّ اللَّهَ رفع بالابتداء وقوله بَرِىء خبره وقوله وَرَسُولُهُ عطف على المبتدأ الأول قال صاحب ( الكشاف ) وقد قرىء بالنصب عطفاً على اسم أن لأن الواو بمعنى مع أي برىء مع رسوله منهم وقرىء بالجر على الجوار وقيل على القسم والتقدير أن الله بريء من المشركين وحق رسوله
ثم قال تعالى فَإِن تُبْتُمْ أي عن الشرك فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وذلك ترغيب من الله في التوبة والإقلاع عن الشرك الموجب لكون الله ورسوله موصوفين بالبراءة منه وَإِن تَوَلَّيْتُمْ أي أعرضتم عن التوبة عن الشرك فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِى اللَّهِ وذلك وعيد عظيم لأن هذا الكلام يدل على كونه تعالى قادراً على إنزال أشد العذاب بهم
ثم قال وَبَشّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ في الآخرة لكي لا يظن أن عذاب الدنيا لما فات وزال فقد تخلص عن العذاب بل العذاب الشديد معد له يوم القيامة ولفظ البشارة ورد ههنا على سبيل استهزاء كما يقال تحيتهم الضرب وإكرامهم الشتم
إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ
هذا الاستثناء إلى أي شيء عاد فيه وجهان الأول قال الزجاج إنه عائد إلى قوله بَرَاءة ٌ والتقدير بَرَاءة ٌ مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلى المشركين المعاهدين إلا من الذين لم ينقضوا العهد والثاني قال صاحب ( الكشاف ) وجهه أن يكون مستثنى من قوله فَسِيحُواْ فِى الاْرْضِ لأن الكلام خطاب للمسلمين والتقدير براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم منهم ثم لم ينقصوكم فأتموا إليهم عهدهم
واعلم أنه تعالى وصفهم بأمرين أحدهما قوله ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ والثاني قوله وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً والأقرب أن يكون المراد من الأول أن يقدموا على المحاربة بأنفسهم ومن الثاني أن يهيجوا أقواماً آخرين وينصروهم ويرغبوهم في الحرب ثم قال فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ والمعنى أن الذين ما غادروا من هذين الوجهين فأتموا إليهم عهدهم ولا تجعلوا الوافين كالغادرين وقوله فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ أي أدوه إليهم تاماً كاملاً قال ابن عباس بقي لحي من كنانة من عهدهم تسعة أشهر فأتم إليهم عهدهم إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ

يعني أن قضية التقوى أن لا يسوى بين القبيلتين أو يكون المراد أن هذه الطائفة لما أنفوا النكث ونقض العهد استحقوا من الله أن يصان عهدهم أيضاً عن النقض والنكث روى أنه عدت بنو بكر على بن خزاعة في حال غيبة رسول الله وظاهرتهم قريش بالسلاح حتى وقد عمرو بن سالم الخزاعي على رسول الله فأنشده لا هم إني ناشد محمدا
حلف أبينا وأبيك ألا تلدا
إن قريشاً أخلفوك الموعدا
ونقضوا ذمامك المؤكدا
هم بيتونا بالحطيم هجدا
وقتلونا ركعاً وسجدا
فقال عليه الصلاة والسلام ( لا نصرت إن لم أنصركم ) وقرىء لَمْ بالضاد المعجمة أي لم ينقضوا عهدكم
فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَواة َ وَءاتَوُاْ الزَّكَواة َ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
قوله تعالى الْمُتَّقِينَ فَإِذَا انسَلَخَ الاشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَواة َ وَءاتَوُاْ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قال الليث يقال سلخت الشهر إذا خرجت منه وكشف أبو الهيثم عن هذا المعنى فقال يقال أهللنا هلال شهر كذا أي دخلنا فيه ولبسناه فنحن نزداد كل ليلة إلى مضي نصفه لباساً منه ثم نسلخه عن أنفسنا بعد تكامل النصف منه جزءاً فجزءاً حتى نسلخه عن أنفسنا وأنشد إذا ما سلخت الشهر أهللت مثله
كفى قائلاً سلخي الشهور وإهلالي
وأقول تمام البيان فيه أن الزمان محيط بالشيء وظرف له كماأن المكان محيط به وظرف له ومكان الشيء عبارة عن السطح الباطن من الجسم الحاوي المماس للسطح الظاهر ومن الجسم المحوي فإذا انسلخ الشيء من جلده فقد انفصل من السطح الباطن من ذلك الجلد وذلك السطح وهو مكانه في الحقيقة فكذلك إذا تم الشهر فقد انفصل عن إحاطة ذلك الشهر به ودخل في شهر آخر والسلخ اسم لانفصال الشيء عن مكانه المعين فجعل أيضاً اسماً لانفصاله عن زمانه المعين لما بين المكان والزمان من المناسبة التامة الشديدة وأما الأشهر الحرم فقد فسرناها في قوله فَسِيحُواْ فِى الاْرْضِ أَرْبَعَة َ أَشْهُرٍ ( التوبة 2 ) وهي يوم النحر إلى العاشر من ربيع الآخر والمراد من كونها حرماً أن الله حرم القتل والقتال فيها ثم إنه تعالى عند انقضاء هذه الأشهر الحرم أذن في أربعة أشياء أولها قوله وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ( النساء 89 ) وذلك أمر بقتلهم على الإطلاق في أي وقت وأي مكان وثانيها قوله وَخُذُوهُمْ أي بالأسر والأخيذ الأسير

وثالثها قوله وَاحْصُرُوهُمْ معنى الحصر المنع من الخروج من محيط قال ابن عباس يريد إن تحصنوا فاحصروهم وقال الفراء حصرهم أن يمنعوا من البيت الحرام ورابعها قوله تعالى وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ والمرصد الموضع الذي يرقب فيه العدو من قولهم رصدت فلاناً أرصده إذا ترقبته قال المفسرون المعنى اقعدوا لهم على كل طريق يأخذون فيه إلى البيت أو إلى الصحراء أو إلى التجارة قال الأخفش في الكلام محذوف والتقدير اقعدوا لهم على كل مرصد
ثم قال تعالى فَإِذَا انسَلَخَ الاشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى احتج الشافعي رحمه الله بهذه الآية على أن تارك الصلاة يقتل قال لأنه تعالى أباح دماء الكفار مطلقاً بجميع الطرق ثم حرمها عند مجموع هذه الثلاثة وهي التوبة عن الكفر وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة فعندما لم يوجد هذا المجموع وجب أن يبقى إباحة الدم على الأصل
فإن قالوا لم لا يجوز أن يكون المراد الإقرار بهما واعتقاد وجوبهما والدليل عليه أن تارك الزكاة لا يقتل
أجابوا عنه بأن ما ذكرتم عدول عن الظاهر وأما في تارك الزكاة فقد دخله التخصيص
فإن قالوا لم كان حمل التخصيص أولى من حمل الكلام على اعتقاد وجوب الصلاة والزكاة
قلنا لأنه ثبت في أصول الفقه أنه مهما وقع التعارض بين المجاز وبين التخصيص فالتخصيص أولى بالحمل
المسألة الثانية نقل عن أب بكر الصديق رضي الله عنه أنه كان يقول في مانعي الزكاة لا أفرق بين ما جمع الله ولعل مراده كان هذه الآية لأنه تعالى لم يأمر بتخلية سبيلهم إلا لمن تاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة فأوجب مقاتلة أهل الردة لما امتنعوا من الزكاة وهذا بين إن جحدوا وجوبها أما إن أقروا بوجوبها وامتنعوا من الدفع إليه خاصة فمن الجائز أنه كان يذهب إلى وجوب مقاتلتهم من حيث امتنعوا من دفع الزكاة إلى الإمام وقد كان مذهبه أن ذلك معلوم من دين الرسول عليه السلام كما يعلم سائر الشرائع الظاهرة
المسألة الثالثة قد تكلمنا في حقيقة التوبة في سورة البقرة في قوله فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ( البقرة 37 ) روى الحسن أن أسيراً نادى بحيث يسمع الرسول أتوب إلى الله ولا أتوب إلى محمد ثلاثاً فقال عليه السلام عرف الحق لأهله فأرسلوه
المسألة الرابعة قوله فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ قيل إلى البيت الحرام وقيل إلى التصرف في مهماتهم إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ لمن تاب وآمن وفيه لطيفة وهو أنه تعالى ضيق عليهم جميع الخيرات وألقاهم في جميع الآفات ثم بين أنهم لو تابوا عن الكفر وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فقد تخلصوا عن كل تلك الآفات في الدنيا فنرجو من فضل الله أن يكون الأمر كذلك يوم القيامة أيضاً فالتوبة عبارة عن تطهير القوة النظرية عن الجهل والصلاة والزكاة عبارة عن تطهير القوة العملية عما لا ينبغي وذلك يدل على أن كمال السعادة منوط بهذا المعنى

وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذالِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى في تقرير وجه النظم نقل عن ابن عباس أنه قال إن رجلاً من المشركين قال لعلي بن أبي طالب إن أردنا أن نأتي الرسول بعد انقضاء هذا الأجل لسماع كلام الله أو لحاجة أخرى فهل نقتل فقال علي ( لا ) إن الله تعالى قال وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ أي فأمنه حتى يسمع كلام الله وتقرير هذا الكلام أن نقول إنه تعالى لما أوجب بعد انسلاخ الأشهر الحرم قتل المشركين دل ذلك على أن حجة الله تعالى قد قامت عليهم وأن ما ذكره الرسول قبل ذلك من أنواع الدلائل والبينات كفى في إزاحة عذرهم وعلتهم وذلك يقتضي أن أحداً من المشركين لو طلب الدليل والحجة لا يلتفت إليه بل يطالب إما بالإسلام وإما بالقتل فلما كان هذا الكلام واقعاً في القلب لا جرم ذكر الله هذه الآية إزالة لهذه الشبهة والمقصود منه بيان أن الكافر إذا جاء طالباً للحجة والدليل أو جاء طالباً لاستماع القرآن فإنه يجب إمهاله ويحرم قتله ويجب إيصاله إلى مأمنه وهذا يدل على أن المقصود من شرع القتل قبول الدين والإقرار بالتوحيد ويدل أيضاً على أن النظر في دين الله أعلى المقامات وأعلى الدرجات فإن الكافر الذي صار دمه مهدراً لما أظهر من نفسه كونه طالباً للنظر والاستدلال زال ذلك الإهدار ووجب على الرسول أن يبلغه مأمنه
المسألة الثانية أحد مرتفع بفعل مضمر يفسره الظاهر وتقديره وإن استجارك أحد ولا يجوز أن يرتفع بالابتداء لأن إن من عوامل الفعل لا يدخل على غيره
فإن قيل لما كان التقدير ما ذكرتم فما الحكمة في ترك هذا الترتيب الحقيقي
قلنا الحكمة فيه ما ذكره سيبويه وهو أنهم يقدمون الأهم والذي هم بشأنه أعني وقد بينا ههنا أن ظاهر الدليل يقتضي إباحة دم المشركين فقدم ذكره ليدل ذلك على مزيد العناية بصون دمه عن الإهدار قال الزجاج المعنى إن طلب منك أحد منهم أن تجيره من القتل إلى أن يسمع كلام الله فأجره
المسألة الثالثة قالت المعتزلة هذه الآية تدل على أن كلام الله يسمعه الكافر والمؤمن والزنديق والصديق والذي يسمعه جمهور الخلق ليس إلا هذه الحروف والأصوات فدل ذلك على أن كلام الله ليس إلا هذه الحروف والأصوات ثم من المعلوم بالضرورة أن الحروف والأصوات لا تكون قديمة لأن تكلم الله بهذه الحروف إما أن يكون معاً أو على الترتيب فإن تكلم بها معاً لم يحصل منه هذا الكلام المنتظم لأن الكلام لا يحصل منتظماً إلا عند دخول هذه الحروف في الوجود على التعاقب فلو حصلت معاً لا متعاقبة لما حصل الانتظام فلم يحصل الكلام وأما إن حصلت متعاقبة لزم أن ينقضي المتقدم ويحدث المتأخر

وذلك يوجب الحدوث فدل هذا عن أن كلام الله محدث قالوا فإن قلتم إن كلام الله شيء مغاير لهذه الحروف والأصوات فهذا باطل لأن الرسول ما كان يشير بقوله كلام الله إلا هذه الحروف والأصوات وأما الحشوية والحمقى من الناس فقالوا ثبت بهذه الآية أن كلام الله ليس إلا هذه الحروف والأصوات وثبت أن كلام الله قديم فوجب القول بقدم الحروف والأصوات
واعلم أن الأستاذ أبا بكر بن فورك زعم أنا إذا سمعنا هذه الحروف والأصوات فقد سمعنا مع ذلك كلام الله تعالى وأما سائر الأصحاب فقد أنكروا عليه هذا القول وذلك لأن ذلك الكلام القديم إما أن يكون نفس هذه الحروف والأصوات وإما أن يكون شيئاً آخر مغايراً لها والأول هو قول الرعاع والحشوية وذلك لا يليق بالعقلاء
وأما الثاني فباطل لأنا على هذا التقدير لما سمعنا هذه الحروف والأصوات فقد سمعنا شيئاً آخر يخالف ماهية هذه الحروف والأصوات لكنا نعلم بالضرورة أن عند سماع هذه الحروف والأصوات لم نسمع شيئاً آخر سواها ولم ندرك بحاسة السمع أمراً آخر مغايراً لها فسقط هذا الكلام
والجواب الصحيح عن كلام المعتزلة أن نقول هذا الذي نسمعه ليس عين كلام الله على مذهبكم لأن كلام الله ليس إلا الحروف والأصوات التي خلقها أولاً بل تلك الحروف والأصوات انقضت وهذه التي نسمعها حروف وأصوات فعلها الإنسان فما ألزمتموه علينا فهو لازم عليكم
واعلم أن أبا علي الجبائي لقوة هذا الإلزام ارتكب مذهباً عجيباً فقال كلام الله شيء مغاير للحروف والأصوات وهو باق مع قراءة كل قارىء وقد أطبق المعتزلة على سقوط هذا المذهب والله أعلم
المسألة الرابعة اعلم أن هذه الآية تدل على أن التقليد غير كاف في الدين وأنه لا بد من النظر والاستدلال وذلك لأنه لو كان التقليد كافياً لوجب أن لا يمهل هذا الكافر بل يقال له إما أن تؤمن وإما أن نقتلك فلما لم يقل له ذلك بل أمهلناه وأزلنا الخوف عنه ووجب علينا أن نبلغه مأمنه علمنا أن ذلك إنما كان لأجل أن التقليد في الدين غير كاف بل لا بد من الحجة والدليل فأمهلناه وأخرناه ليحصل له مهلة النظر والاستدلال
إذا ثبت هذا فنقول ليس في الآية ما يدل على أن مقدار هذه المهلة كم يكون ولعله لا يعرف مقداره إلا بالعرف فمتى ظهر على المشرك علامات كونه طالباً للحق باحثاً عن وجه الاستدلال أمهل وترك ومتى ظهر عليه كونه معرضاً عن الحق دافعاً للزمان بالأكاذيب لم يلتفت إليه والله أعلم
المسألة الخامسة المذكور في هذه الآية كونه طالباً لسماع القرآن فنقول ويلتحق به كونه طالباً لسماع الدلائل وكونه طالباً للجواب عن الشبهات والدليل عليه أنه تعالى علل وجوب تلك الإجارة بكونه غير عالم لأنه قال ذلك بأنهم قوم لا يعلمون وكان المعنى فأجره لكونه طالباً للعلم مسترشداً للحق وكل من حصلت فيه هذه العلة وجبت إجارته
المسألة السادسة في قوله حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ وجوه قيل أراد سماع جميع القرآن لأن تمام الدليل والبينات فيه وقيل أراد سماع سورة براءة لأنها مشتملة على كيفية المعاملة مع المشركين وقيل

أراد سماع كل الدلائل وإنما خص القرآن بالذكر لأنه الكتاب الجاري لمعظم الدلائل وقوله ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ معناه أوصله إلى ديار قومه التي يأمنون فيها على أنفسهم وأموالهم ثم بعد ذلك يجوز قتالهم وقتلهم
المسألة السابعة قال الفقهاء والكافر الحربي إذا دخل دار الإسلام كان مغنوماً مع ماله إلا أن يدخل مستجيراً لغرض شرعي كاستماع كلام الله رجا الإسلام أو دخل لتجارة فإن دخل بأمان صبي أو مجنون فأمانهما شبهة أمان فيجب تبليغه مأمنه وهو أن يبلغ محروساً في نفسه وماله إلى مكانه الذي هو مأمن له ومن دخل منهم دار الإسلام رسولاً فالرسالة أمان ومن دخل ليأخذ مالاً في دار الإسلام ولماله أمان فأمان له والله أعلم
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ
قوله كَيْفَ استفهام بمعنى الإنكار كما تقول كيف يسبقني مثلك أي لا ينبغي أن يسبقني وفي الآية محذوف وتقديره كيف يكون للمشركين عهد مع إضمار الغدر فيما وقع من العهد إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام لأجل أنهم ما نكثوا وما نقضوا قيل إنهم بنو كنانة وبنو ضمرة فتربصوا أمرهم ولا تقتلوهم فما استقاموا لكم على العهد فاستقيموا لهم على مثله إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ يعني من اتقى الله يوفي بعهده لمن عاهد والله أعلم
كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّة ً يُرْضُونَكُم بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ اشْتَرَوْاْ بِأايَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ لاَ يَرْقُبُونَ فِى مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّة ً وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ
اعلم أن قوله كَيْفَ تكرار لاستبعاد ثبات المشركين على العهد وحذف الفعل كونه معلوماً أي كيف يكون عهدهم وحالهم أنهم إن يظهروا عليكم بعد ما سبق لهم من تأكيد الإيمان والمواثيق لم ينظروا إلى حلف ولا عهد وَلَمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ هذا هو المعنى ولا بد من تفسير الألفاظ المذكورة في الآية يقال

ظهرت على فلان إذا علوته وظهرت على السطح إذا صرت فوقه قال الليث الظهور الظفر بالشيء وأظهر الله المسلمين على المشركين أي أعلاهم عليهم ومنه قوله تعالى فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ ( الصف 14 ) وقوله لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ ( التوبة 33 ) أي ليعليه وتحقيق القول فيه أن من غلب غيره حصلت له صفة كمال ومن كان كذلك أظهر نفسه ومن صار مغلوباً صار كالناقص والناقص لا يظهر نفسه ويخفي نقصانه فصار الظهور كناية للغلبة لكونه من لوازمها فقوله إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يريد أن يقدروا عليكم وقوله لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ قال الليث رقب الإنسان يرقبه رقبة ورقوباً وهو أن ينتظره ورقيب القوم حارسهم وقوله وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِى ( طه 94 ) أي لم تحفظه أما الأول ففيه أقوال الأول أنه العهد قال الشاعر وجدناهم كاذباً الهم
وذو الال والعهد لا يكذب
يعني العهد الثاني قال الفراء الال القرابة قال حسان لعمرك أن الك من قريش
كال السقب من رأل النعام
يعني القرابة والثالث الأل الحلف قال أوس بن حجر لولا بنو مالك والأل مرقبه
ومالك فيهم الآلاء والشرف
يعني الحلف والرابع الأل هو الله عز وجل وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه لما سمع هذيان مسيلمة قال إن هذا الكلام لم يخرج من إل وطعن الزجاج في هذا القول وقال أسماء الله معلومة من الأخبار والقرآن ولم يسمع أحد يقول يا إل الخامس قال الزجاج حقيقة الإل عندي على ما توجبه اللغة تحديد الشديد فمن ذلك الألة الحربة وأذن مؤللة فالإل يخرج في جميع ما فسر من العهد والقرابة السادس قال الأزهري أيل من أسماء الله عز وجل بالعبرانية فجائز أن يكون عرب فقيل إل السابع قال بعضهم الإل مأخوذ من قولهم إل يؤل ألا إذا صفا ولمع ومنه الآل للمعانه وأذن مؤللة شبيهة بالحربة في تحديدها وله أليل أي أنين يرفه به صوته ورفعت المرأة أليلها إذا ولولت فالعهد سمى إلا لظهوره وصفائه من شوائب الغدر أو لأن القوم إذا تحالفوا رفعوا به أصواتهم وشهروه
أما قوله وَلاَ ذِمَّة ً فالذمة العهد وجمعها ذمم وذمام كل أمر لزمك وكان بحيث لو ضيعته لزمتك مذمة وقال أبو عبد الله الذمة ما يتذمم منه يعني ما يجتنب فيه الذم يقال تذمم فلان أي ألقى على نفسه الذم ونظيره تحوب وتأثم وتحرج
أما قوله يُرْضُونَكُم بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ أي يقولون بألسنتهم كلاماً حلواً طيباً والذي في قلوبهم بخلاف ذلك فإنهم لا يضمرون إلا الشر والإيذاء إن قدروا عليه وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ وفيه سؤالان
السؤال الأول الموصوفين بهذه الصفة كفار والكفر أقبح وأخبث من الفسق فكيف يحسن وصفهم بالفسق في معرض المبالغة في الذم
السؤال الثاني أن الكفار كلهم فاسقون فلا يبقى لقوله وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ فائدة
والجواب عن الأول أن الكافر قد يكون عدلاً في دينه وقد يكون فاسقاً خبيث النفس في دينه

فالمراد ههنا أن هؤلاء الكفار الذين من عادتهم نقض العهود أَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ في دينهم وعند أقوامهم وذلك يوجب المبالغة في الذم
والجواب عن الثاني عين ما تقدم لأن الكافر قد يكون محترزاً عن الكذب ونقض العهد والمكر والخديعة وقد يكون موصوفاً بذلك ومثل هذا الشخص يكون مذموماً عند جميع الناس وفي جميع الأديان فالمراد بقوله وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ أن أكثرهم موصوفون بهذه الصفات المذمومة وأيضاً قال ابن عباس لا يبعد أن يكون بعض أولئك الكفار قد أسلم وتاب فلهذا السبب قال وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ حتى يخرج عن هذا الحكم أولئك الذين دخلوا في الإسلام
أما قوله اشْتَرَوْاْ بِئَايَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً عَن سَبِيلِهِ ففيه قولان الأول المراد منه المشركون قال مجاهد أطعم أبو سفيان بن حرب حلفاءه وترك حلفاء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فنقضوا العهد الذي كان بينهم بسبب تلك الأكلة الثاني لا يبعد أن تكون طائفة من اليهود أعانوا المشركين على نقض تلك العهود فكان المراد من هذه الآية ذم أولئك اليهود وهذا اللفظ في القرآن كالأمر المختص باليهود ويقوى هذا الوجه بما أن الله تعالى أعاد قوله لاَ يَرْقُبُونَ فِى مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّة ً ( التوبة 10 ) ولو كان المراد منه المشركين لكان هذا تكراراً محضاً ولو كان المراد منه اليهود لم يكن هذا تكراراً فكان ذلك أولى
ثم قال وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ ( التوبة 10 ) يعني يعتدون ما حده الله في دينه وما يوجبه العقد والعهد وفي ذلك نهاية الذم والله أعلم
( 11 )
فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَواة َ وَءااتَوُاْ الزَّكَواة َ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الاٌّ يَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
( 12 )
وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِى دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّة َ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين حال من لا يرقب في الله إلا ولا ذمة وينقض العهد وينطوي على النفاق ويتعدى ما حد له بين من بعد أنهم إن أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة كيف حكمهم فجمع ذلك الشيء بقوله فَإِخوَانُكُمْ فِى الدّينِ وهو يفيد جملة أحكام الإيمان ولو شرح لطال
فإن قيل المعلق على

الشيء بكلمة ءانٍ عدم عند عدم ذلك الشيء فهذا يقتضي أنه متى لم توجد هذه الثلاثة لا يحصل الأخوة في الدين وهو مشكل لأنه ربما كان فقيراً أو إن كان غنياً لكن قبل انقضاء الحول لا تلزمه الزكاة
قلنا قد بينا في تفسير قوله تعالى إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ ( النساء 31 ) أن المعلق على الشيء بكلمة ءانٍ لا يلزم من عدمه عدم ذلك الشيء فزال هذا السؤال ومن الناس من قال المعلق على الشيء بكلمة ءانٍ عدم عند عدم ذلك الشيء فههنا قال المواخاة بالإسلام بين المسلمين موقوفة على فعل الصلاة والزكاة جميعاً فإن الله تعالى شرطها في إثبات المواخاة ومن لم يكن أهلاً لوجوب الزكاة عليه وجب عليه أن يقر بحكمها فإذا أقر بهذا الحكم دخل في الشرط الذي به تجب الأخوة وكان ابن مسعود يقول رحم الله أبا بكر ما أفقهه في الدين أراد به ما ذكره أبو بكر في حق مانعي الزكاة وهو قوله والله لا أفرق بين شيئين جمع الله بينهما بقي في قوله فَإِخوَانُكُمْ فِى الدّينِ بحثان الأول قوله فَإِخوَانُكُمْ قال الفراء معناه فهم إخوانكم بإضمار المبتدأ كقوله تعالى ادْعُوهُمْ لاِبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ( الأحزاب 5 ) أي فهم إخوانكم الثاني قال أبو حاتم قال أهل البصرة أجمعون الأخوة في النسب والأخوان في الصداقة وهذا غلط يقال للأصدقاء وغير الأصدقاء أخوة وأخوان قال الله تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة ٌ ( الحجرات 10 ) ولم يعن النسب وقال تعالى أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ ( النور 61 ) وهذا في النسب قال ابن عباس حرمت هذه الآية دماء أهل القبلة
ثم قال وَنُفَصّلُ الاْيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ قال صاحب ( الكشاف ) وهذا اعتراض وقع بين الكلامين والمقصود الحث والتحريض على تأمل ما فصل من أحكام المشركين المعاهدين وعلى المحافظة عليها
ثم قال وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِى دِينِكُمْ يقال نكث فلان عهده إذا نقضه بعد أحكامه كما ينكث خيط الصوف بعد إبرامه ومنه قوله تعالى مِن بَعْدِ قُوَّة ٍ أَنكَاثًا ( النحل 92 ) والأيمان جمع يمين بمعنى الحلف والقسم وقيل للحلف يمين وهو اسم اليد لأنهم كانوا يبسطون أيمانهم إذا حلفوا أو تحالفوا وقيل سمي القسم يميناً ليمين البر فيه فقوله وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم أي نقضوا عهودهم وفيه قولان الأول هو قول الأكثرين إن المراد نكثهم لعهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والثاني أن المراد حمل العهد على الإسلام بعد الإيمان فيكون المراد ردتهم بعد الإيمان ولذلك قرأ بعضهم وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ والأول أولى للقراءة المشهورة ولأن الآية وردت في ناقضي العهد لأنه تعالى صنفهم صنفين فإذا ميز منهم من تاب لم يبق إلا من أقام على نقض العهد وقوله وَطَعَنُواْ فِى دِينِكُمْ يقال طعنه بالرمح يطعنه وطعن بالقول السيء يطعن قال الليث وبعضهم يقول يطعن بالرمح ويطعن بالقول فيفرق بينهما والمعنى أنهم عابوا دينكم وقدحوا فيه
ثم قال فَقَاتِلُواْ أَئِمَّة َ الْكُفْرِ أي متى فعلوا ذلك فافعلوا هذا وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو أَئِمَّة َ الْكُفْرِ بهمزة واحدة غير ممدودة وتليين الثانية والباقون بهمزتين على التحقيق قال الزجاج الأصل في الأئمة أأمة لأنها جمع إمام مثل مثال وأمثلة لكن الميمين إذا اجتمعتا أدغمت الأولى في الثانية وألقيت حركتها على الهمزة فصارت أأمة فأبدلت من المكسورة الياء لكراهة اجتماع الهمزتين في كلمة واحدة هذا هو الاختيار عند جميع النحويين
إذا عرفت هذا فنقول قال صاحب ( الكشاف ) لفظة ( أئمة ) همزة بعدها همزة بين بين والمراد بين مخرج الهمزة والياء أما بتحقيق الهمزتين فقراءة مشهورة وإن لم تكن مقبولة عند البصريين وأما التصريح بالياء فليس بقراءة ولا يجوز أن يكون قراءة ومن صرح بها فهو لاحن محرف

المسألة الثانية قوله فَقَاتِلُواْ أَئِمَّة َ الْكُفْرِ معناه قاتلوا الكفار بأسرهم إلا أنه تعالى خص الأئمة والسادة منهم الذكر لأنهم هم الذين يحرضون الأتباع على هذه الأعمال الباطلة
المسألة الثالثة قال الزجاج هذه الآية توجب قتل الذمي إذا أظهر الطعن في الإسلام لأن عهده مشروط بأن لا يطعن فإن طعن فقد نكث ونقض عهدهم
ثم قال تعالى إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ قرأ ابن عامر لا أَيْمَانَ لَهُمْ بكسر الألف ولها وجهان أحدها لا أمان لهم أي لا تؤمنوهم فيكون مصدراً من الإيمان الذي هو ضد الإخافة والثاني أنهم كفرة لا إيمان لهم أي لا تصديق ولا دين لهم والباقون بفتح الهمزة وهو جمع يمين ومعناه لا أيمان لهم على الحقيقة وأيمانهم ليست بأيمان وبه تمسك أبو حنيفة رحمه الله في أن يمين الكافر لا يكون يميناً وعند الشافعي رحمه الله يمينهم يمين ومعنى هذه الآية عنده أنهم لما لم يفوا بها صارت أيمانهم كأنها ليست بأيمان والدليل على أن أيمانهم أيمان أنه تعالى وصفها بالنكث في قوله وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم ولو لم يكن منعقداً لما صح وصفها بالنكث
ثم قال تعالى لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ وهو متعلق بقوله فَقَاتِلُواْ أَئِمَّة َ الْكُفْرِ أي ليكن غرضكم في مقاتلتهم بعدما وجد منهم ما وجد من العظائم أن تكون المقاتلة سبباً في انتهائهم عما هم عليه من الكفر وهذا من غاية كرم الله وفضله على الإحسان
( 13 )
أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّة ٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ
اعلم أنه تعالى لما قال قَاتَلُواْ أَئِمَّة َ الْكُفْرِ ( التوبة 12 ) أتبعه بذكر السبب الذي يبعثهم على مقاتلتهم فقال أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ
واعلم أنه تعالى ذكر ثلاثة أسباب كل واحد منها يوجب مقاتلتهم لو انفرد فكيف بها حال الاجتماع أحدها نكثهم العهد وكل المفسرين حمله على نقض العهد قال ابن عباس والسدي والكلبي نزلت في كفار مكة نكثوا أيمانهم بعد عهد الحديبية وأعانوا بني بكر على خزاعة وهذه الآية تدل على أن قتال الناكثين أولى من قتال غيرهم من الكفار ليكون ذلك زجراً لغيرهم وثانيها قوله وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ فإن هذا من أوكد ما يجب القتال لأجله واختلفوا فيه فقال بعضهم المراد إخراجه من مكة حين هاجر وقال بعضهم بل المراد من المدينة لما أقدموا عليه من المشورة والاجتماع على قصده بالقتل وقال آخرون بل هموا بإخراجه من حيث أقدموا على ما يدعوه إلى الخروج وهو نقض العهد وإعانة أعدائه فأضيف الإخراج إليهم توسعاً لما وقع منهم من الأمور الداعية إليه وقوله وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ إما

بالفعل وإما بالعزم عليه وإن لم يوجد ذلك الفعل بتمامه وثالثها قوله وَهُمْ بَدَءوكُمْ أَوَّلَ مَرَّة ٍ يعني بالقتال يوم بدر لأنهم حين سلم العير قالوا لا ننصرف حتى نستأصل محمداً ومن معه
والقول الثاني أراد أنهم قاتلوا حلفاء خزاعة فبدؤا بنقض العهد وهذا قول الأكثرين وإنما قال بدؤكم تنبيهاً على أن البادىء أظلم ولما شرح تعالى هذه الموجبات الثلاثة زاد فيها فقال مَرَّة ٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ وهذا الكلام يقوي داعية القتال من وجوه الأول أن تعديد الموجبات القوية وتفصيلها مما يقوي هذه الداعية والثاني أنك إذا قلت للرجل أتخشى خصمك كان ذلك تحريكاً منه لأن يستنكف أن ينسب إلى كونه خائفاً من خصمه والثالث أن قوله فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ يفيد ذلك كأنه قيل إن كنت تخشى أحداً فالله أحق أن تخشاه لكونه في غاية القدرة والكبرياء والجلالة والضرر المتوقع منهم غايته القتل أما المتوقع من الله فالعقاب الشديد في القيامة والذم اللازم في الدنيا والرابع أن قوله إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ معناه أنكم إن كنتم مؤمنين بالإيمان وجب عليكم أن تقدموا على هذه المقاتلة ومعناه أنكم إن لم تقدموا عليها وجب أن لا تكونوا مؤمنين فثبت أن هذا كلام مشتمل على سبعة أنواع من الأمور التي تحملهم على مقاتلة أولئك الكفار الناقضين للعهد
بقي في الآية أبحاث
البحث الأول حكى الواحدي عن أهل المعاني أنهم قالوا إذا قلت لا تفعل كذا فإنما يستعمل ذلك في فعل مقدر وجوده وإذا قلت ألست تفعل فإنما تقول ذلك في فعل تحقق وجوده والفرق بينهما أن لا ينفي بها المستقبل فإذا دخلت عليها الألف صار تحضيضاً على فعل ما يستقبل وليس إنما تستعمل لنفي الحال فإذا دخلت عليها الألف صار لتحقيق الحال
البحث الثاني نقل عن ابن عباس أنه قال قوله تعالى أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً ترغيب في فتح مكة وقوله قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ أي عهدهم يعني قريشاً حين أعانوا بني الديل بن بكر على خزاعة خلفاء الرسول عليه الصلاة والسلام فأمر الله رسوله أن يسير إليهم فينصر خزاعة ففعل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك وأمر الناس أن يتجهزوا إلى مكة وأبو سفيان عند هرقل بالروم فرجع وقدم المدينة ودخل على فاطمة بنت الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يستجير بها فأبت وقالت ذلك لابنيها الحسن والحسين فأبيا فخاطب أبا بكر فأبى ثم خاطب عمر فتشدد ثم خاطب علياً فلم يجبه فاستجار بالعباس وكان مصافياً له فأجاره وأجاره الرسول لإجارته وخلى سبيله فقال العباس يا رسول الله إن أبا سفيان فيه أبهة فاجعل له شيئاً فقال من دخل دار أبي سفيان فهو آمن فعاد إلى مكة ونادى من دخل داري فهو آمن فقاموا إليه وضربوه ضرباً شديداً وحصل الفتح عند ذلك فهذا ما قاله ابن عباس وقال الحسن لا يجوز أن يكون المراد منه ذلك لأن سورة براءة نزلت بعد فتح مكة بسنة وتمييز حق هذا الباب من باطله لا يعرف إلا بالأخبار
البحث الثالث قال أبو بكر الأصم دلت هذه الآية على أنهم كرهوا هذا القتال لقوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ( البقرة 216 ) فآمنهم الله تعالى بهذه الآيات قال القاضي إنه تعالى قد يحث على فعل الواجب من لا يكون كارهاً له ولا مقصراً فيه فإن أراد أن مثل هذا التحريض علي الجهاد لا ينفع إلا

وهناك كره للقتال لم يصح أيضاً لأنه يجوز أن يحث الله تعالى بهذا الجنس على الجهاد لكي لا يحصل الكره الذي لولا هذا التحريض كان يقع
البحث الرابع دلت هذه الآية على أن المؤمن ينبغي أن يخشى ربه وأن لا يخشى أحداً سواه

بداية الجزء السادس عشر من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32

قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
اعلم أنه تعالى لما قال في الآية الأولى أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً ذكر عقيبه سبعة أشياء كل واحد منها يوجب إقدامهم على القتال ثم إنه تعالى في هذه الآية أعاد الأمر بالقتال وذكر في ذلك القتال خمسة أنواع من الفوائد كل واحد منها يعظم موقعه إذا انفرد فكيف بها إذا اجتمعت فأولها قوله يُعَذّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وفيه مباحث
البحث الأول أنه تعالى سمى ذلك عذاباً وهو حق فإنه تعالى يعذب الكافرين فإن شاء عجله في الدنيا وإن شاء أخره إلى الآخرة
البحث الثاني أن المراد من هذا التعذيب القتل تارة والأسر أخرى واغتنام الأموال ثالثاً فيدخل فيه كل ما ذكرناه
فإن قالوا أليس أنه تعالى قال وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ( الأنفال 33 ) فكيف قال ههنا يُعَذّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ
قلنا المراد من قوله وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ عذاب الاستئصال والمراد من قوله يُعَذّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ عذاب القتل والحرب والفرق بين البابين أن عذاب الاستئصال قد يتعدى إلى غير المذنب وإن كان في حقه سبباً لمزيد الثواب أما عذاب القتل فالظاهر أنه يبقى مقصوراً على المذنب
البحث الثالث احتج أصحابنا على قولهم بأن فعل العبد مخلوق لله تعالى بقوله يُعَذّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ فإن المراد من هذا التعذيب القتل والأسر وظاهر النص يدل على أن ذلك القتل والأسر فعل الله تعالى إلا أنه تعالى يدخله في الوجود على أيدي العباد وهو صريح قولنا ومذهبنا أجاب الجبائي عنه فقال لو جاز أن يقال إنه تعالى يعذب الكفار بأيدي المؤمنين لجاز أن يقال إنه يعذب المؤمنين بأيدي الكافرين ولجاز أن يقال إنه يكذب أنبياءه على ألسنة الكفار ويلعن المؤمنين على ألسنتهم لأنه تعالى خالق لذلك فلما لم يجز

ذلك عند المجبرة علم أنه تعالى لم يخلق أعمال العباد وإنما نسب ما ذكرناه إلى نفسه على سبيل التوسع من حيث إنه حصل بأمره وألطافه كما يضيف جميع الطاعات إليه بهذا التفسير وأجاب أصحابنا عنه فقالوا أما الذي ألزمتموه علينا فالأمر كذلك إلا أنا لا نقوله باللسان كما أنا نعلم أنه تعالى هو الخالق لجميع الأجسام ثم إنا لا نقول يا خالق الأبوال والعذرات ويا مكون الخنافس والديدان فكذا ههنا وأيضاً أنا توافقنا على أن الزنا واللواط وسائر القبائح إنما حصلت بأقدار الله تعالى وتيسيره ثم لا يجوز أن يقال يا مسهل الزنا واللواط ويا دافع الموانع عنها فكذا هنا أما قوله إن المراد إذن الأقدار فنقول هذا صرف للكلام عن ظاهره وذلك لا يجوز إلا لدليل قاهر والدليل القاهر من جانبنا ههنا فإن الفعل لا يصدر إلا عند الداعية الحاصلة وحصول تلك الداعية ليس إلا من الله تعالى وثانيها قوله تعالى وَيُخْزِهِمْ معناه ما ينزل بهم من الذل والهوان حيث شاهدوا أنفسهم مقهورين في أيدي المؤمنين ذليلين مهينين قال الواحدي قوله وَيُخْزِهِمْ أي بعد قتلكم إياهم وهذا يدل على أن هذا الإخزاء إنما وقع بهم في الآخرة وهذا ضعيف لما بينا أن الإخزاء واقع في الدنيا وثالثها قوله تعالى وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ والمعنى أنه لما حصل الخزي لهم بسبب كونهم مقهورين فقد حصل النصر للمسلمين بسبب كونهم قاهرين
فإن قالوا لما كان حصول ذلك الخزي مستلزماً لحصول هذا النصر كان إفراده بالذكر عبثاً فنقول ليس الأمل كذلك لأنه من المحتمل أن يحصل الخزي لهم من جهة المؤمنين إلا أن المؤمنين يحصل لهم آفة بسبب آخر فلما قال وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ دل على أنهم ينتفعون بهذا النصر والفتح والظفر ورابعها قوله وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ وقد ذكرنا أن خزاعة أسلموا فأعانت قريش بني بكر عليهم حتى نكلوا بهم فشفى الله صدورهم من بني بكر ومن المعلوم أن من طال تأذيه من خصمه ثم مكنه الله منه على أحسن الوجوه فإنه يعظم سروره به ويصير ذلك سبباً لقوة النفس وثبات العزيمة وخامسها قوله وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ
ولقائل أن يقول قوله وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ معناه أنه يشفي من ألم الغيظ وهذا هو عين إذهاب الغيظ فكان قوله وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ تكرار
والجواب أنه تعالى وعدهم بحصول هذا الفتح فكانوا في زحمة الانتظار كما قيل الانتظار الموت الأحمر فشفى صدورهم من زحمة الانتظار وعلى هذا الوجه يظهر الفرق بين قوله وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ وبين قوله وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ فهذه هي المنافع الخمسة التي ذكرها الله تعالى في هذا القتال وكلها ترجع إلى تسكين الدواعي الناشئة من القوة الغضبية وهي التشفي ودرك الثأر وإزالة الغيظ ولم يذكر تعالى فيها وجدان الأموال والفوز بالمطاعم والمشارب وذلك لأن العرب قوم جبلوا على الحمية والأنفة فرغبهم في هذه المعاني لكنها لائقة بطباعهم بقي ههنا مباحث
البحث الأول أن هذه الأوصاف مناسبة لفتح مكة لأن ذلك جرى في تلك الواقعة مشاكل لهذه الأحوال ولهذا المعنى جاز أن يقال الآية واردة فيه
البحث الثاني الآية دالة على المعجزة لأنه تعالى أخبر عن حصول هذه الأحوال وقد وقعت موافقة لهذه الأخبار فيكون ذلك إخباراً عن الغيب والأخبار عن الغيب معجز

البحث الثالث هذه الآية تدل على كون الصحابة مؤمنين في علم الله تعالى إيماناً حقيقياً لأنها تدل على أن قلوبهم كانت مملوءة من الغضب ومن الحمية لأجل الدين ومن الرغبة الشديدة في علو دين الإسلام وهذه الأحوال لا تحصل إلا في قلوب المؤمنين
واعلم أن وصف الله لهم بذلك لا ينفي كونهم موصوفين بالرحمة والرأفة فإنه تعالى قال في صفتهم أَذِلَّة ٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّة ٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ( المائدة 54 ) وقال أيضاً أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ ( الفتح 290 )
ثم قال وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَاء قال الفراء والزجاج هذا مذكور على سبيل الاستئناف ولا يمكن أن يكون جواباً لقوله قَاتِلُوهُمْ لأن قوله وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَاء لا يمكن جعله جزاء لمقاتلتهم مع الكفار قالوا ونظيره فَإِن يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ ( الشورى 24 ) وتم الكلام ههنا ثم استأنف فقال وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ ( الشورى 24 ) ومن الناس من قال يمكن جعل هذه التوبة جزاء لتلك المقاتلة وبيانه من وجوه الأول أنه تعالى لما أمرهم بالمقاتلة فربما شق ذلك على بعضهم على ما ذهب إليه الأصم فإذا أقدموا على المقاتلة صار ذلك العمل جارياً مجرى التوبة عن تلك الكراهية الثاني أن حصول النصرة والظفر إنعام عظيم والعبد إذا شاهد توالي نعم الله لم يبعد أن يصير ذلك داعياً له إلى التوبة من جميع الذنوب الثالث أنه إذا حصل النصر والظفر والفتح وكثرت الأموال والنعم وكانت لذاته تطلب بالطريق الحرام فإن عند حصول المال والجاه يمكن تحصيلها بطريق حلال فيصير كثرة المال والجاه داعياً إلى التوبة من هذه الوجوه الرابع قال بعضهم إن النفس شديدة الميل إلى الدنيا ولذاتها فإذا انفتحت أبواب الدنيا على الإنسان وأراد الله به خير عرف أن لذاتها حقيرة يسيرة فحينئذ تصير الدنيا حقيرة في عينه فيصير ذلك سبباً لانقباض النفس عن الدنيا وهذا هو أحد الوجوه المذكورة في تفسير قوله تعالى حكاية عن سليمان عليه السلام هَبْ لِى مُلْكاً لاَّ يَنبَغِى لاِحَدٍ مّن بَعْدِى يعني أن بعد حصول هذا الملك لا يبقى للنفس اشتغال بطلب الدنيا ثم يعرف أن عند حصول هذا الملك الذي هو أعظم الممالك لا حاصل للدنيا ولا فائدة في لذاتها وشهواتها فحينئذ يعرض القلب عن الدنيا ولا يقيم لها وزناً فثبت أن حصول المقاتلة يفضي إلى المنافع الخمسة المذكورة وتلك المنافع حصولها يوجب التوبة فكانت التوبة متعلقة بتلك المقاتلة وإنما قال عَلَى مَن يَشَاء لأن وجدان الدنيا وانفتاح أبوابها على الإنسان قد يصير سبباً لانقباض القلب عن الدنيا وذلك في حق من أراد به الخير وقد يصير سبباً لاستغراق الإنسان فيها وتهالكه عليها وانقطاعه بسببها عن سبيل الله فلما اختلف الأمر على الوجه الذي ذكرناه قال وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَاء
ثم قال وَاللَّهُ عَلِيمٌ أي بكل ما يعمل ويفعل في ملكه وملكوته حَكِيمٌ مصيب في أحكامه وأفعاله
أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَة ً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ

اعلم أن الآيات المتقدمة كانت مرغبة في الجهاد والمقصود من هذه الآية مزيد بيان في الترغيب وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الفراء قوله أَمْ من الاستفهام الذي يتوسط الكلام ولو أريد به الابتداء لكان بالألف أو بها
المسألة الثانية قال أبو عبيدة كل شيء أدخلته في شيء ليس منه فهو وليجة وأصله من الولوج فالداخل الذي يكون في القوم وليس منهم وليجة فالوليجة فعيلة من ولج كالدخيلة من دخل قال الواحدي يقال هو وليجتي وهم وليجتي للواحد والجمع
المسألة الثالثة المقصود من الآية بيان أن المكلف في هذه الواقعة لا يتخلص عن العقاب إلا عند حصول أمرين الأول أن يعلم الله الذين جاهدوا منكم وذكر العلم والمراد منه المعلوم والمراد أن يصدر الجهاد عنهم إلا أنه إنما كان وجود الشيء يلزمه معلوم الوجود عند الله لا جرم جعل علم الله بوجوده كناية عن وجوده واحتج هشام بن الحكم بهذه الآية على أنه تعالى لا يعلم الشيء إلا حال وجوده
واعلم أن ظاهر الآية وإن كان يوهم ما ذكره إلا أن المقصود ما بيناه والثاني قوله وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَة ً والمقصود من ذكر هذا الشرط أن المجاهد قد يجاهد ولا يكون مخلصاً بل يكون منافقاً باطنه خلاف ظاهره وهو الذي يتخذ الوليجة من دون الله ورسوله والمؤمنين فبين تعالى أنه لا يتركهم إلا إذا أتوا بالجهاد مع الإخلاص خالياً عن النفاق والرياء والتودد إلى الكفار وإبطال ما يخالف طريقة الدين والمقصود بيان أنه ليس الغرض من إيجاب القتال نفس القتال فقط بل الغرض أن يؤتى به انقياداً لأمر الله عز وجل ولحكمه وتكليفه ليظهر به بذل النفس والمال في طلب رضوان الله تعالى فحينئذ يحصل به الانتفاع وأما الإقدام على القتال لسائر الأغراض فذاك مما لا يفيد أصلاً
ثم قال وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ أي عالم بنياتهم وأغراضهم مطلع عليها لا يخفى عليه منها شيء فيجب على الإنسان أن يبالغ في أمر النية ورعاية القلب قال ابن عباس رضي الله عنهما إن الله لا يرضى أن يكون الباطن خلاف الظاهر وإنما يريد الله من خلقه الاستقامة كما قال إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ ( فصلت 30 الأحقاف 130 ) قال ولما فرض القتال تبين المنافق من غيره وتميز من يوالي المؤمنين ممن يعاديهم
مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ أُوْلَائِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِى النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ وَأَقَامَ الصَّلَواة َ وَءاتَى الزَّكَواة َ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَائِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ

في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى بدأ السورة بذكر البراءة عن الكفار وبالغ في إيجاب ذلك وذكر من أنواع فضائحهم وقبائهم ما يوجب تلك البراءة ثم إنه تعالى حكى عنهم شبهاً احتجوا بها في أن هذه البراءة غير جائزة وأنه يجب أن تكون المخالطة والمناصرة حاصلة فأولها ما ذكره في هذه الآية وذلك أنهم موصوفون بصفات حميدة وخصال مرضية وهي توجب مخالطتهم ومعاونتهم ومناصرتهم ومن جملة تلك الصفات كونهم عامرين للمسجد الحرام قال ابن عباس رضي الله عنهما لما أسر العباس يوم بدر أقبل عليه المسلمون فعيروه بكفره بالله وقطيعة الرحم وأغلظ له علي وقال ألكم محاسن فقال نعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقي الحاج ونفك العاني فأنزل الله تعالى رداً على العباس مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله
المسألة الثانية عمارة المساجد قسمان إما بلزومها وكثرة إتيانها يقال فلان يعمر مجلس فلان إذا كثر غشيانه إياه وإما بالعمارة المعروفة في البناء فإن كان المراد هو الثاني كان المعنى أنه ليس للكافر أن يقدم على مرمة المساجد وإنما لم يجز له ذلك لأن المسجد موضع العبادة فيجب أن يكون معظماً والكافر يهينه ولا يعظمه وأيضاً الكافر نجس في الحكم لقوله تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ( التوبة 28 ) وتطهير المساجد واجب لقوله تعالى أَن طَهّرَا بَيْتِى َ لِلطَّائِفِينَ ( البقرة 125 ) وأيضاً الكافر لا يحترز من النجاسات فدخوله في المسجد تلويث للمسجد وذلك قد يؤدي إلى فساد عبادة المسلمين وأيضاً إقدامه على مرمة المسجد يجري مجرى الأنعام على المسلمين ولا يجوز أن يصير الكافر صاحب المنة على المسلمين
المسألة الثالثة قرأ ابن كثير وأبو عمرو أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ اللَّهِ على الواحد والباقون مَسَاجِدَ اللَّهِ على الجمع حجة ابن كثير وأبي عمرو وقوله عمارة المسجد الحرام وحجة من قرأ على لفظ الجمع وجوه الأول أن يراد المسجد الحرام وإنما قيل مساجد لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها فعامره كعامر جميع المساجد والثاني أن يقال مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله معناه ما كان للمشركين أن يعمروا شيئاً من مساجد الله وإذا كان الأمر كذلك فأولى أن لا يمكنوا من عمارة المسجد الحرام الذي هو أشرف المساجد وأعظمها الثالث قال الفراء العرب قد يضعون الواحد مكان الجمع والجمع مكان الواحد أما وضع الواحد مكان الجمع ففي قولهم فلان كثير الدرهم وأما وضع الجمع مكان الواحد ففي قولهم فلان يجالس الملوك مع أنه لا يجلس إلا مع ملك واحد الرابع أن المسجد موضع السجود فكل بقعة من المسجد الحرام فهي مسجد
المسألة الرابعة قال الواحدي ذلت على أن الكفار ممنوعون من عمارة مسجد من مساجد المسلمين ولو أوصى بها لم تقبل وصيته ويمنع عن دخول المساجد وإن دخل بغير إذن مسلم استحق التعزير وإن دخل بإذن لم يعزر والأولى تعظيم المساجد ومنعهم منها وقد أنزل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقد ثقيف

في المسجد وهم كفار وشد ثمامة بن أثال الحنفي في سارية من سواري المسجد الحرام وهو كافر
أما قوله تعالى شَهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ قال الزجاج قوله شَاهِدِينَ حال والمعنى ما كان لهم أن يعمروا المساجد حال كونهم شاهدين على أنفسهم بالكفر وذكروا في تفسير هذه الشهادة وجوها الأول وهو الأصح أنهم أقروا على أنفسهم بعبادة الأوثان وتكذيب القرآن وإنكار نبوة محمد عليه الصلاة والسلام وكل ذلك كفر فمن يشهد على نفسه بكل هذه الأشياء فقد شهد على نفسه بما هو كفر في نفس الأمر وليس المراد أنهم شهدوا على أنفسهم بأنهم كافرين الثاني قال السدي شهادتهم على أنفسهم بالكفر هو أن النصراني إذا قيل له من أنت فيقول نصراني واليهودي يقول يهودي وعابد الوثن يقول أنا عابد الوثن وهذا الوجه إنما يتقرر بما ذكرناه في الوجه الأول الثالث أن الغلاة منهم كانوا يقولون كفرنا بدين محمد وبالقرآن فلعل المراد ذلك الرابع أنهم كانوا يطوفون عراة يقولون لا نطوف عليها بثياب عصينا الله فيها وكلما طافوا شوطاً سجدوا للأصنام فهذا هو شهادتهم على أنفسهم بالشرك الخامس أنهم كانوا يقولون لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك السادس نقل عن ابن عباس أنه قال المراد أنهم يشهدون على الرسول بالكفر قال وإنما جاز هذا التفسير لقوله تعالى لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ قال القاضي هذا الوجه عدول عن الحقيقة وإنما يجوز المصير إليه لو تعذر إجراء اللفظ على حقيقته أما لما بينا أن ذلك جائز لم يجز المصير إلى هذا المجاز وأقول لو قرأ أحد من السلف شَهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ من قولك زيد نفيس وعمرو أنفس منه لصح هذا الوجه من عدول فيه عن الظاهر
ثم قال أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ والمراد منه ما هو الفصل الحق في هذا الكتاب وهو أنه إن كان قد صدر عنهم عمل من أعمال البر مثل إكرام الوالدين وبناء الرباطات وإطعام الجائع وإكرام الضيف فكل ذلك باطل لأن عقاب كفرهم زائد على ثواب هذه الاْشياء فلا يبقى لشيء منها أثر في استحقاق الثواب والتعظيم مع الكفر وأما الكلام في الأحباط فقد تقدم في هذا الكتاب مراراً فلا نعيده
ثم قال وَفِى النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ وهو إشارة إلى كونهم مخلدين في النار واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن الفاسق من أهل الصلاة لا يبقى مخلداً في النار من وجهين الأول أن قوله وَفِى النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ يفيد الحصر أي هم فيها خالدون لا غيرهم ولما كان هذا الكلام وارد في حق الكفار ثبت أن الخلود لا يحصل إلا للكافر الثاني أنه تعالى جعل الخلود في النار جزاء للكفار على كفرهم ولو كان هذا الحكم ثابتاً لغير الله لما صح تهديد الكافر به ثم إنه تعالى لما بين أن الكافر ليس له أن يشتغل بعمارة المسجد بين أن المشتغل بهذا العمل يجب أن يكون موصوفاً بصفات أربعة
الصفة الأولى قوله إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وإنما قلنا إنه لا بد من الإيمان بالله لأن المسجد عبارة عن الموضع الذي يعبد الله فيه فما لم يكن مؤمناً بالله امتنع أن يبني موضعاً يعبد الله فيه وإنما قلنا إنه لا بد من أن يكون مؤمناً بالله واليوم الآخر لأن الاشتغال بعبادة الله تعالى إنما تفيد في القيامة فمن أنكر القيامة لم يعبد الله ومن لم يعبد الله لم يبن بناء لعبادة الله تعالى
فإن قيل لم لم يذكر الإيمان برسول الله

قلنا فيه وجوه الأول أن المشركين كانوا يقولون إن محمداً إنما ادعى رسالة الله طلباً للرياسة والملك فههنا ذكر الإيمان بالله واليوم الآخر وترك النبوة كأنه يقول مطلوبي من تبليغ الرسالة ليس إلا الإيمان بالمبدأ والمعاد فذكر المقصود الأصلي وحذف ذكر النبوة تنبيهاً للكفار على أنه لا مطلوب له من الرسالة إلا هذا القدر الثاني أنه لما ذكر الصلاة والصلاة لا تتم إلا بالأذان والإقامة والتشهد وهذه الأشياء مشتملة على ذكر النبوة كان ذلك كافياً الثالث أنه ذكر الصلاة والمفرد المحلى بالألف واللام ينصرف إلى المعهود السابق ثم المعهود السابق من الصلاة من المسلمين ليس إلا الأعمال التي كان أتى بها محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فكان ذكر الصلاة دليلاً على النبوة من هذا الوجه
الصفة الثانية قوله لَّيْسَ الْبِرَّ والسبب فيه أن المقصود الأعظم من بناء المساجد إقامة الصلوات فالإنسان ما لم يكن مقراً بوجوب الصلوات امتنع أن يقدم على بناء المساجد
الصفة الثالثة قوله لَّيْسَ الْبِرَّ
واعلم أن اعتبار إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة في عمارة المسجد كأنه يدل على أن المراد من عمارة المسجد الحضور فيه وذلك لأن الإنسان إذا كان مقيماً للصلاة فإنه يحضر في المسجد فتحصل عمارة المسجد به وإذا كان مؤتياً للزكاة فإنه يحضر في المسجد طوائف الفقراء والمساكين لطلب أخذ الزكاة فتحصل عمارة المسجد به وأما إذا حملنا العمارة على مصالح البناء فإيتاء الزكاة معتبر في هذا الباب أيضاً لأن إيتاء الزكاة واجب وبناء المسجد نافلة والإنسان ما لم يفرغ عن الواجب لا يشتغل بالنافلة والظاهر أن الإنسان ما لم يكن مؤدياً للزكاة لم يشتغل ببناء المساجد
والصفة الرابعة قوله وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ وفيه وجوه الأول أن أبا بكر رضي الله عنه بني في أول الإسلام على باب داره مسجداً وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن والكفار يؤذونه بسببه فيحتمل أن يكون المراد هو تلك الحالة يعني إنا وإن خاف الناس من بناء المسجد إلا أنه لا يلتفت إليهم ولا يخشاهم ولكنه يبني المسجد للخوف من الله تعالى الثاني يحتمل أن يكون المراد منه أن يبني المسجد لا لأجل الرياء والسمعة وأن يقال إن فلاناً يبني مسجداً ولكنه يبنيه لمجرد طلب رضوان الله تعالى ولمجرد تقوية دين الله
فإن قيل كيف قال وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ والمؤمن قد يخاف الظلمة والمفسدين
قلنا المراد من هذه الخشية الخوف والتقوى في باب الدين وأن لا يختار على رضا الله رضا غيره
اعلم أنه تعالى قال إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ أي من كان موصوفاً بهذه الصفات الأربعة وكلما إِنَّمَا تفيد الحصر وفيه تنبيه على أن المسجد يجب صونه عن غير العبادة فيدخل فيه فضول الحديث وإصلاح مهمات الدنيا وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( يأتي في آخر الزمان أناس من أمتي يأتون المساجد يقعدون فيها حلقاً ذكرهم الدنيا وحب الدنيا لا تجالسوهم فليس لله بهم حاجة ) وفي الحديث ( الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش ) قال عليه الصلاة والسلام قال الله تعالى ( إن بيوتي في الأرض المساجد وإن زواري فيها عمارها طوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني في بيتي فحق على المزور أن يكرم زائره ) وعنه عليه الصلاة والسلام ( من ألف المسجد ألفه الله تعالى ) وعنه عليه الصلاة والسلام ( إذا رأيتم الرجل يتعاهد المسجد فاشهدوا له بالإيمان ) وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( من أسرج في مسجد سراجاً لم تزل الملائكة

وحملة العرش يستغفرون له ما دام في المسجد ضوؤه ) وهذه الأحاديث نقلها صاحب ( الكشاف )
ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الأوصاف قال فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ وفيه وجوه الأول قال المفسرون عَسَى من الله واجب لكونه متعالياً عن الشك والتردد الثاني قال أبو مسلم عَسَى ههنا راجع إلى العباد وهو يفيد الرجاء فكان المعنى إن الذين يأتون بهذه الطاعات إنما يأتون بها على رجاء الفوز بالاهتداء لقوله تعالى يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً والتحقيق فيه أن العبد عند الإتيان بهذه الأعمال لا يقطع على الفوز بالثواب لأنه يجوز على نفسه أنه قد أخل بقيد من القيود المعتبرة في حصول القبول والثالث وهو أحسن الوجوه ما ذكره صاحب ( الكشاف ) وهو أن المراد منه تبعيد المشركين عن مواقف الاهتداء وحسم أطماعهم في الانتفاع بأعمالهم التي استعظموها وافتخروا بها فإنه تعالى بين أن الذين آمنوا وضموا إلى إيمانهم العمل بالشرائع وضموا إليها الخشية من الله فهؤلاء صار حصول الاهتداء لهم دائراً بين لعل وعسى فما بال هؤلاء المشركين يقطعون بأنهم مهتدون ويجزمون بفوزهم بالخير من عند الله تعالى وفي هذا الكلام ونحوه لطف بالمؤمنين في ترجيح الخشية على الرجاء
أَجَعَلْتُمْ سِقَايَة َ الْحَاجِّ وَعِمَارَة َ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ وَجَاهَدَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى ذكر المفسرون أقوالاً في نزول الآية قال ابن عباس في بعض الروايات عنه أن علياً لما أغلظ الكلام للعباس قال العباس إن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد فلقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاج فنزلت هذه الآية وقيل إن المشركين قالوا لليهود نحن سقاة الحاج وعمار المسجد الحرام فنحن أفضل أم محمد وأصحابه فقالت اليهود لهم أنتم أفضل وقيل إن علياً عليه السلام قال للعباس رضي الله عنه بعد إسلامه يا عمي ألا تهاجرون ألا تلحقون برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال ألست في أفضل من الهجرة أسقي حاج بيت الله وأعمر المسجد الحرام فلما نزلت هذه الآية قال ما أراني إلا تارك سقايتنا فقال عليه الصلاة والسلام ( أقيموا على سقياتكم فإن لكم فيها خيراً ) وقيل افتخر طلحة بن شيبة والعباس وعلي فقال طلحة أنا صاحب البيت بيدي مفتاحه ولو أردت بت فيه قال العباس أنا صاحب السقاية والقائم عليها قال علي أنا صاحب الجهاد فأنزل الله تعالى هذه الآية قال المصنف رضي الله عنه حاصل الكلام أنه يحتمل أن يقال هذه الآية مفاضلة جرت بين المسلمين ويحتمل أنها جرت بين المسلمين والكافرين أما الذين قالوا إنها جرت بين المسلمين فقد احتجوا بقوله تعالى بعد هذه الآية في حق المؤمنين المهاجرين أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَة ً عَندَ اللَّهِ وهذا يقتضي أيضاً أن يكون للمرجوح أيضاً درجة عند الله وهذا يقتضي أيضاً أن يكون للمرجوح أيضاً درجة عند الله وذلك لا يليق إلا بالمؤمن وسنجيب عن هذا الكلام إذا انتهينا إليه وإما الذين قالوا

إنها جرت بين المسلمين والكافرين فقد احتجوا على صحة قولهم بقوله تعالى كَمَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ وبين من آمن بالله وهذا هو الأقرب عندي وتقرير الكلام أن نقول إنا قد نقلنا في تفسير قوله تعالى إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ أن العباس احتج على فضائل نفسه بأنه عمر المسجد الحرام وسقي الحاج فأجاب الله عنه بوجهين
الوجه الأول ما بين في الآية الأولى أن عمارة المسجد إنما توجب الفضيلة إذا كانت صادرة عن المؤمن أما إذا كانت صادرة عن الكافر فلا فائدة فيها البتة
والوجه الثاني من الجواب كل ما ذكره في هذه الآية وهو أن يقال هب أنا سلمنا أن عمارة المسجد الحرام وسقي الحاج يوجب نوعاً من أنواع الفضيلة إلا أنها بالنسبة إلى الإيمان بالله والجهاد قليل جداً فكان ذكر هذه الأعمال في مقابلة الإيمان بالله والجهاد خطأ لأنه يقتضي مقابلة الشيء الشريف الرفيع جداً بالشيء الحقير التافه جداً وأنه باطل فهذا هو الوجه في تخريج هذه الآية وبهذا الطريق يحصل النظم الصحيح لهذه الآية بما قبلها
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) السقاية والعمارة مصدران من سقى وعمر كالصيانة والوقاية
واعلم أن السقاية والعمارة فعل قوله مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ إشارة إلى الفاعل فظاهر اللفظ يقتضي تشبيه الفعل بالفاعل والصفة بالذات وأنه محال فلا بد من التأويل وهو من وجهين الأول أن نقول التقدير أجعلتم أهل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كم آمن بالله ويقويه قراءة عبد الله بن الزبير بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ والثاني أن نقول التقدير أجعلتم سقاية الحاج كإيمان من آمن بالله ونظيره قوله تعالى لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ ( البقرة 177 ) إلى قوله وَلَاكِنَّ الْبِرَّ مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ
المسألة الثالثة قال الحسن رحمه الله تعالى كانت السقاية بنبيذ الزبيب وعن عمر أنه وجد نبيذ السقاية من الزبيب شديداً فكسر منه بالماء ثلاثاً وقال إذا اشتد عليكم فاكسروا منه بالماء وأما عمارة المسجد الحرام فالمراد تجهيزه وتحسين صورة جدرانه ولما ذكر تعالى وصف الفريقين قال لاَّ يَسْتَوُونَ ولكن لما كان نفي المساواة بينهما لا يفيد أن الراجح من هو نبه على الراجح بقوله وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فبين أن الكافرين ظالمون لأنفسهم فإنهم خلقوا للإيمان وهم رضوا بالكفر وكانوا ظالمين لأن الظلم عبارة عن وضع الشيء في غير موضعه وأيضاً ظلموا المسجد الحرام فإنه تعالى خلقه ليكون موضعاً لعبادة الله تعالى فجعلوه موضعاً لعبادة الأوثان فكان هذا ظلماً
الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَة ً عِندَ اللَّهِ وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَة ٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ

اعلم أنه تعالى ذكر ترجيح الإيمان والجهاد على السقاية وعمارة المسجد الحرام على طريق الرمز ثم أتبعه بذكر هذا الترجيح على سبيل التصريح في هذه الآية فقال إن من كان موصوفاً بهذه الصفات الأربعة كان أعظم درجة عند الله ممن اتصف بالسقاية والعمارة وتلك الصفات الأربعة هي هذه فأولها الإيمان وثانيها الهجرة وثالثها الجهاد في سبيل الله بالمال ورابعها الجهاد بالنفس وإنما قلنا إن الموصوفين بهذه الصفات الأربعة في غاية الجلالة والرفعة لأن الإنسان ليس له إلا مجموع أمور ثلاثة الروح والبدن والمال أما الروح فلما زال عنه الكفر وحصل فيه الإيمان فقد وصل إلى مراتب السعادات اللائقة بها وأما البدن والمال فبسبب الهجرة وقعا في النقصان وبسبب الاشتغال بالجهاد صارا معرضين للهلاك والبطلان ولا شك أن النفس والمال محبوب الإنسان والإنسان لا يعرض عن محبوبه إلا للفوز بمحبوب أكمل من الأول فلولا أن طلب الرضوان أتم عندهم من النفس والمال وإلا لما رجحوا جانب الآخرة على جانب النفس والمال ولما رضوا بإهدار النفس والمال لطلب مرضاة الله تعالى فثبت أن عند حصول الصفات الأربعة صار الإنسان واصلاً إلى آخر درجات البشرية وأول مراتب درجات الملائكة وأي مناسبة بين هذه الدرجة وبين الأقدام على السقاية والعمارة لمجرد الاقتداء بالآباء والأسلاف ولطلب الرياسة والسمعة فثبت بهذا البرهان اليقين صحة قوله تعالى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَة ً عِندَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ( التوبة 20 )
واعلم أنه تعالى لم يقل أعظم درجة من المشتغلين بالسقاية والعمارة لأنه لو عين ذكرهم لأوهم أن فضيلتهم إنما حصلت بالنسبة إليهم ولما ترك ذكر المرجوح دل ذلك على أنهم أفضل من كل من سواهم على الإطلاق لأنه لا يعقل حصول سعادة وفضيلة للأنسان أعلى وأكمل من هذا الصفات
واعلم أن قوله عَندَ اللَّهِ يدل على أن المراد من كون العبد عند الله الاستغراق في عبوديته وطاعته وليس المراد منه العندية بحسب الجهة والمكان وعند هذا يلوح أن الملائكة كما حصلت لهم منقبة العندية في قوله وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ ( الأنبياء 19 ) فكذلك الأرواح القدسية البشرية إذا تطهرت عن دنس الأوصاف البدنية والقاذورات الجسدانية أشرقت بأنوار الجلالة وتجلى فيها أضواء عالم الكمال وترقت من العبدية إلى العندية بل كأنه لا كمال في العبدية إلا مشاهدة حقيقة العندية ولذلك قال سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً
فإن قيل لما أخبرتم أن هذه الصفات كانت بين المسلمين والكافرين فكيف قال في وصفهم أولئك أعظم درجة مع أنه ليس للكفار درجة
قلنا الجواب عنه من وجوه الأول أن هذا ورد على حسب ما كانوا يقدرون لأنفسهم من الدرجة والفضيلة عند الله ونظيره قوله قُلِ اللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ( النمل 59 ) وقوله أَذالِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَة ُ الزَّقُّومِ ( الصافات 62 ) الثاني أن يكون المراد أن أولئك أعظم درجة من كل من لم يكن موصوفاً بهذه

الصفات تنبيهاً على أنهم لما كانوا أفضل من المؤمنين الذين ما كانوا موصوفين بهذه الصفات فبأن لا يقاسوا إلى الكفار أولى الثالث أن يكون المراد أن المؤمن المجاهد المهاجر أفضل ممن على السقاية والعمارة والمراد منه ترجيح تلك الأعمال على هذه الأعمال ولا شك أن السقاية والعمارة من أعمال الخير وإنما بطل إيجابهما للثواب في حق الكفار لأن قيام الكفر الذي هو أعظم الجنايات يمنع ظهور ذلك الأثر
واعلم أنه تعالى لما بين أن الموصوفين بالإيمان والهجرة أعظم درجة عند الله بين تعالى أنهم هم الفائزون وهذا للحصر والمعنى أنهم هم الفائزون بالدرجة العالية الشريفة المقدسة التي وقعت الإشارة إليها بقوله تعالى عِندَ رَبّهِمْ وهي درجة العندية وذلك لأن من آمن بالله وعرفه فقل أن يبقى قلبه ملتفتاً إلى الدنيا ثم عند هذا يحتال إلى إزالة هذه العقدة عن جوهر الروح وإزالة حب الدنيا لا يتم له إلا بالتفريق بين النفس وبين لذات الدنيا فإذا دام ذلك التفريق وانتقص تعلقه بحب الدنيا فهذا التفريق والنقص يحصلان بالهجرة ثم إنه بعده لا بد من استحقار الدنيا والوقوف على معايبها وصيرورتها في عين العاقل بحيث يوجب على نفسه تركها ورفضها وذلك إنما يتم بالجهاد لأنه تعريض النفس والمال للهلاك والبوار ولولا أنه استحقر الدنيا وإلا لما فعل ذلك وعند هذا يتم ما قاله بعض المحققين وهو أن العرفان مبتدأ من تفريق ونقص وترك ورفض ثم عند حصول هذه الحالة يصير القلب مشتغلاً بالنظر إلى صفات الجلال والإكرام وفي مشاهدتها يحصل بذل النفس والمال فيصير الإنسان شهيداً مشاهداً لعالم الجلال مكاشفاً بنور الجلالة مشهوداً له بقوله تعالى يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَة ٍ مّنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وعند هذا يحصل الانتهاء إلى حضرة الأحد الصمد وهو المراد من قوله عِندَ رَبّهِمْ وهنا يحق الوقوف في الوصول
ثم قال تعالى يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَة ٍ مّنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
واعلم أن هذه الإشارة اشتملت على أنواع من الدرجات العالية وأنه تعالى ابتدأ فيها بالأشرف فالأشرف نازلاً إلى الأدون فالأدون ونحن نفسرها تارة على طريق المتكلمين وأخرى على طريقة العارفين
أما الأول فنقول فالمرتبة الأولى منها وهي أعلاها وأشرفها كون تلك البشارة حاصلة من ربهم بالرحمة والرضوان وهذا هو التعظيم والإجلال من قبل الله وقوله وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ إشارة إلى حصول المنافع العظيمة وقوله فِيهَا نَعِيمٌ إشارة إلى كون المنافع خالصة عن المكدرات لأن النعيم مبالغة في النعمة ولا معنى للمبالغة في النعمة إلا خلوها عن ممازجة الكدورات وقوله مُّقِيمٌ عبارة عن كونها دائمة غير منقطعة ثم إنه تعالى عبر عن دوامها بثلاث عبارات أولها مُّقِيمٌ وثانيها قوله خَالِدِينَ فِيهَا وثالثها قوله أَبَدًا فحصل من مجموع ما ذكرنا أنه تعالى يبشر هؤلاء المؤمنين المهاجرين المجاهدين بمنفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم وذلك هو حد الثواب وفائدة تخصيص هؤلاء المؤمنين بكون هذا الثواب كامل الدرجة عالي الرتبة بحسب كل واحد من هذه القيود الأربعة ومن المتكلمين من قال قوله يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَة ٍ مّنْهُ المراد منه خيرات الدنيا وقوله وَرِضْوَانٍ لَهُمْ المراد منه كونه تعالى راضياً عنهم حال كونهم في الحياة الدنيا وقوله وَجَنَّاتٍ المراد منه المنافع وقوله لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ المراد منه كون تلك النعم

خالصة عن المكدرات لأن النعيم مبالغة في النعمة وقوله مُّقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً المراد منه الإجلال والتعظيم الذي يجب حصوله في الثواب
وأما تفسير هذه الآية على طريقة العارفين المحبين المشتاقين فنقول المرتبة الأولى من الأمور المذكورة في هذه الآية قوله يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم
واعلم أن الفرح بالنعمة يقع على قسمين أحدهما أن يفرح بالنعمة لأنها نعمة والثاني أن يفرح بها لا من حيث هي بل من حيث إن المنعم خصه بها وشرفه وإن عجز ذهنك عن الوصول إلى الفرق بين القسمين فتأمل فيما إذا كان العبد واقفاً في حضرة السلطان الأعظم وسائر العبيد كانوا واقفين في خدمته فإذا رمى ذلك السلطان تفاحة إلى أحد أولئك العبيد عظم فرحه بها فذلك الفرح العظيم ما حصل بسبب حصول تلك التفاحة بل بسبب أن ذلك السلطان خصه بذلك الأكرام فكذلك ههنا قوله يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَة ٍ مّنْهُ وَرِضْوانٍ منهم من كان فرحهم بسبب الفوز بتلك الرحمة ومنهم من لم يفرح بالفوز بتلك الرحمة وإنما فرح لأن مولاه خصه بتلك الرحمة وحينئذ يكون فرحه لا بالرحمة بل بمن أعطى الرحمة ثم إن هذا المقام يحصل فيه أيضاً درجات فمنهم من يكون فرحه بالراحم لأنه رحم ومنهم من يتوغل في الخلوص فينسى الرحمة ولا يكون فرحه إلا بالمولى لأنه هو المقصد وذلك لأن العبد ما دام مشغولاً بالحق من حيث أنه راحم فهو غير مستغرق في الحق بل تارة مع الحق وتارة مع الخلق فإذا تم الأمر انقطع عن الخلق وغرق في بحر نور الحق وغفل عن المحبة والمحنة والنقمة والنعمة والبلاء والآلاء والمحققون وقفوا عند قوله يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم فكان ابتهاجهم بهذا وسرورهم به وتعويلهم عليه ورجوعهم إليه ومنهم من لم يصل إلى تلك الدرجة العالية فلا تقنع نفسه إلا بمجموع قوله يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَة ٍ مّنْهُ فلا يعرف أن الاستبشار بسماع قول ربهم بل إنما يستبشر بمجموع كونه مبشراً بالرحمة والمرتبة الثانية هي أن يكون استبشاره بالرحمة وههذ المرتبة هي النازلة عند المحققين واللطيفة الثانية من لطائف هذه الآية هي أنه تعالى قال يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم وهي مشتملة على أنواع من الرحمة والكرامة أولها أن البشارة لا تكون إلا بالرحمة والإحسان والثاني أن بشارة كل أحد يجب أن تكون لائقة بحاله فلما كان المبشر ههنا هو أكرم الأكرمين وجب أن تكون البشرة بخيرات تعجز العقول عن وصفها وتتقاصر الأفهام عن نعتها والثالث أنه تعالى سمى نفسه ههنا بالرب وهو مشتق من التربية كأنه قال الذي رباكم في الدنيا بالنعم التي لا حد لها ولا حصر لها يبشركم بخيرات عالية وسعادات كاملة والرابع أنه تعالى قال رَّبُّهُمْ فأضاف نفسه إليهم وما أضافهم إلى نفسه والخامس أنه تعالى قدم ذكرهم على ذكر نفسه فقال يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم والسادس أن البشارة هي الأخبار عن حدوث شيء ما كان معلوم الوقوع أما لو كان معلوم الوقوع لم يكن بشارة ألا ترى أن الفقهاء قالوا لو أن رجلاً قال من يبشرني من عبيدي بقدوم ولدي فهو حر فأول من أخبر بذلك الخبر يعتق والذين يخبرون بعده لا يعتقون وإذا كان الأمر كذلك فقوله يُبَشّرُهُمْ لا بد أن يكون إخباراً عن حصول مرتبة من مراتب السعادات ما عرفوها قبل ذلك وجميع لذات الجنة وخيراتها وطيباتها قد عرفوه في الدنيا من القرآن والإخبار عن حصول بشارة فلا بد وأن تكون هذه البشارة بشارة عن سعادات لا تصل العقول إلى وصفها البتة رزقنا الله تعالى الوصول إليها بفضله وكرمه

واعلم أنه تعالى لما قال يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم بين الشيء الذي به يبشرهم وهو أمور أولها قوله بِرَحْمَة ٍ مّنْهُ وثانيها قوله وَرِضْوَانٍ وأنا أظن والعلم عند الله أن المراد بهذين الأمرين ما ذكره في قوله ارْجِعِى إِلَى رَبّكِ رَاضِيَة ً مَّرْضِيَّة ً ( الفجر 28 ) والرحمة كون العبد راضياً بقضاء الله وذلك لأن من حصلت له هذه الحالة كان نظره على المبلي والمنعم لا على النعمة والبلاء ومن كان نظره على المبلي والمنعم لم يتغير حاله لأن المبلي والمنعم منزه عن التغير
فالحاصل أن حاله يجب أن يكون منزهاً عن التغير أما من كان طالباً لمحض النفس كان أبداً في التغير من الفرح إلى الحزن ومن السرور إلى الغم ومن الصحة إلى الجراحة ومن اللذة إلى الألم فثبت أن الرحمة التامة لا تحصل إلا عند ما يصير العبد راضياً بقضاء الله فقوله يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَة ٍ مّنْهُ هو أنه يزيل عن قلبه الالتفات إلى غير هذه الحالة ويجعله راضياً بقضائه ثم إنه تعالى يصير راضياً وهو قوله وَرِضْوَانٍ وعند هذا تصير هاتان الحالتان هما المذكورتان في قوله رَاضِيَة ً مَّرْضِيَّة ً وهذه هي الجنة الروحانية النورانية العقلية القدسية الإلهية ثم إنه تعالى بعد أن ذكر هذه الجنة العالية المقدسة ذكر الجنة الجسمانية وهي قوله وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وقد سبق شرح هذه المراتب ولما ذكر هذه الأحوال قال إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ والمقصود شرح تعظيم هذه الأحوال ولنختم هذا الفصل ببيان أن أصحابنا يقولون إن الخلود يدل على طول المكث ولا يدل على التأبيد واحتجوا على قولهم في هذا الباب بهذه الآية وهي قوله تعالى خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ولو كان الخلود يفيد التأبيد لكان ذكر التأبيد بعد ذكر الخلود تكراراً وأنه لا يجوز
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُوا ءَابَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَآءَ إِنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
اعلم أن المقصود من ذكر هذه الآية أن يكون جواباً عن شبهة أخرى ذكروها في أن البراءة من الكفار غير ممكنة وتلك الشبهة إن قالوا إن الرجل المسلم قد يكون أبوه كافراً والرجل الكافر قد يكون أبوه أو أخوه مسلماً وحصول المقاصعة التامة بين الرجل وأبيه وأخيه كالمتعذر الممتنع وإذا كان الأمر كذلك كانت تلك البراءة التي أمر الله بها كالشاق الممتنع المتعذر فذكر الله تعالى هذه الآية ليزل هذه الشبهة ونقل الواحدي عن ابن عباس أنه قال لما أمر المؤمنون بالهجرة قبل فتح مكة فمن لم يهاجر لم يقبل الله إيمانه حتى يجانب الآباء والأقارب إن كانوا كفاراً قال المصنف رضي الله عنه هذا مشكل لأن الصحيح أن هذه السورة إنما نزلت بعد فتح مكة فكيف يمكن حمل هذه الآية على ما ذكروه والأقرب عندي أن يكون محمولاً على ما ذكرته وهو أنه تعالى لما أمر المؤمنين بالتبري عن المشركين وبالغ في إيجابه قالوا كيف تمكن هذه المقاطعة التامة بين الرجل وبين أبيه وأمه وأخيه فذكر الله تعالى أن الانقطاع عن الآباء والأولاد

والأخوان واجب بسبب الكفر وهو قوله إِنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ والاستحباب طلب المحبة يقال استحب له بمعنى أحبه كأنه طلب محبته ثم إنه تعالى بعد أن نهى عن مخالطتهم وكان لفظ النهي يحتمل أن يكون نهي تنزيه وأن يكون نهي تحريم ذكر ما يزيل الشبهة فقال وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قال ابن عباس يريد مشركاً مثلهم لأنه رضي بشركهم والرضا بالكفر كفر كما أن الرضا بالفسق فسق قال القاضي هذا النهي لا يمنع من أن يتبرأ المرء من أبيه في الدنيا كما لا يمنع من قضاء دين الكافر ومن استعماله في أعماله
قُلْ إِن كَانَ ءَابَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَة ٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَآ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِى َ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ
اعلم أن هذه الآية هي تقرير الجواب الذي ذكره في الآية الأولى وذلك لأن جماعة من المؤمنين قالوا يا رسول الله كيف يمكن البراءة منهم بالكلية وأن هذه البراءة توجب انقطاعنا عن آبائنا وإخواننا وعشيرتنا وذهاب تجارتنا وهلاك أموالنا وخراب ديارنا وإبقاءنا ضائعين فبين تعالى أنه يجب تحمل جميع هذه المضار الدنيوية ليبقى الدين سليماً وذكر أنه إن كانت رعاية هذه المصالح الدنيوية عندكم أولى من طاعة الله وطاعة رسوله ومن المجاهدة في سبيل الله فتربصوا بما تحبون حتى يأتي الله بأمره أي بعقوبة عاجلة أو آجلة والمقصود منه الوعيد
ثم قال وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ أي الخارجين عن طاعته إلى معصيته وهذا أيضاً تهديد وهذه الآية تدل على أنه إذا وقع التعارض بين مصلحة واحدة من مصالح الدين وبين جميع مهمات الدنيا وجب على المسلم ترجيح الدين على الدنيا قال الواحدي قوله وَعَشِيرَتُكُمْ عشيرة الرجل أهله الأدنون وهم الذين يعاشرونه وقرأ أبو بكر عن عاصم وعشيراتكم بالجمع والباقون على الواحد أما من قرأ بالجمع فذلك لأن كل واحد من المخاطبين له عشيرة فإذا جمعت قلت عشيراتكم ومن أفرد قال العشيرة واقعة على الجمع واستغنى عن جمعها ويقوي ذلك أن الأخفش قال لا تكاد العرب تجمع عشيرة على عشيرات إنما يجمعونها على عشائر وقوله وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا الاقتراف الاكتساب
واعلم أنه تعالى ذكر الأمور الداعية إلى مخالطة الكفار وهى أمور أربعة أولها مخالطة الأقارب وذكر منهم أربعة أصناف على التفصيل وهم الآباء والأبناء والأخوان والأزواج ثم ذكر البقية بلفظ واحد يتناول الكل وهي لفظ العشيرة وثانيها الميل إلى إمساك الأموال المكتسبة وثالثها الرغبة في تحصيل

الأموال بالتجارة ورابعها الرغبة في المساكن ولا شك أن هذا الترتيب ترتيب حسن فإن أعظم الأسباب الداعية إلى المخالطة القرابة ثم إنه يتوصل بتلك المخالطة إلى إبقاء الأموال الحاصلة ثم إنه يتوصل بالمخالطة إلى اكتساب الأموال التي هي غير حاصلة وفي آخر المراتب الرغبة في البناء في الأوطان والدور التي بنيت لأجل السكنى فذكر تعالى هذه الأشياء على هذا الترتيب الواجب وبين بالآخرة أن رعاية الدين خير من رعاية جملة هذه الأمور
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَة ٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذالِكَ جَزَآءُ الْكَافِرِينَ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِن بَعْدِ ذالِكَ عَلَى مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
وفي هذه الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى ذكر في الآية المتقدمة أنه يجب الإعراض عن مخالطة الآباء والأبناء والأخوان والعشائر وعن الأموال والتجارات والمساكن رعاية لمصالح الدين ولما علم الله تعالى أن هذا يشق جداً على النفوس والقلوب ذكر ما يدل على أن من ترك الدنيا لأجل الدين فإنه يوصله إلى مطلوبه من الدنيا أيضاً وضرب تعالى لهذا مثلاً وذلك أن عسكر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في واقعة حنين كانوا في غاية الكثرة والقوة فلما أعجبوا بكثرتهم صاروا منهزمين ثم في حال الانهزام لما تضرعوا إلى الله قواهم حتى هزموا عسكر الكفار وذلك يدل على أن الإنسان متى اعتمد على الدنيا فاته الدين والدنيا ومتى أطاع الله ورجح الدين على الدنيا آتاه الله الدين والدنيا على أحسن الوجوه فكان ذكر هذا تسلية لأولئك الذين أمرهم الله بمقاطعة الآباء والأبناء والأموال والمساكن لأجل مصلحة الدين وتصبيراً لهم عليها ووعداً لهم على سبيل الرمز بأنهم إن فعلوا ذلك فالله تعالى يوصلهم إلى أقاربهم وأموالهم ومساكنهم على أحسن الوجوه هذا تقرير النظم وهو في غاية الحسن
المسألة الثانية قال الواحدي النصر المعونة على العدو خاصة والمواطن جمع موطن وهو كل موضع أقام به الإنسان لأمر فعلى هذا مواطن الحرب مقاماتها مواقفها وامتناعها من الصرف لأنه جمع

على صيغة لم يأت عليها واحد والمواطن الكثيرة غزوات رسول الله ويقال إنها ثمانون موطناً فأعلمهم الله تعالى بأنه هو الذي نصر المؤمنين ومن نصره الله فلا غالب له
ثم قال وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ أي واذكروا يوم حنين من جملة تلك المواطن حال ما أعجبتكم كثرتكم
المسألة الثالثة لما فتح رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مكة وقد بقيت أيام من شهر رمضان خرج متوجهاً إلى حنين لقتال هوازن وثقيف واختلفوا في عدد عسكر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال عطاء عن ابن عباس كانوا ستة عشر ألفاً وقال قتادة كانوا اثني عشر ألفاً عشرة آلاف الذين حضروا مكة وألفان من الطلقاء وقال الكلبي كانوا عشرة آلاف وبالجملة فكانوا عدداً كثيرين وكان هوازن وثقيف أربعة آلاف فلما التلقوا قال رجل من المسلمين لن نغلب اليوم من قلة فهذه الكلمة ساءت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهي المراد من قوله إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ وقيل إنه قالها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقيل قالها أبو بكر وإسناد هذه الكلمة إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعيد لأنه كان في أكثر الأحوال متوكلاً على الله منقطع القلب عن الدنيا وأسبابها
ثم قال تعالى فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً ومعنى الإغناء إعطاء ما يدفع الحاجة فقوله فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً أي لم تعطكم شيئاً يدفع حاجتكم والمقصود من هذا الكلام أن الله تعالى أعلمهم أنهم لا يغلبون بكثرتهم وإنما يغلبون بنصر الله فلما أعجبوا بكثرتهم صاروا منهزمين وقوله وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الارْضُ بِمَا رَحُبَتْ يقال رحب يرحب رحباً ورحابة فقوله بِمَا رَحُبَتْ أي برحبها ومعناه مع رحبها ( فما ) ههنا مع الفعل بمنزلة المصدر والمعنى أنكم لشدة ما لحقكم من الخوف ضاقت عليكم الأرض فلم تجدوا فيها موضعاً يصلح لفراركم عن عدوكم قال البراء بن عازب كانت هوازن رماة فلما حملنا عليهم انكشفوا وكببنا على الغنائم فاستقبلونا بالسهام وانكشف المسلمون عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولم يبق معه إلا العباس بن عبد المطلب وأبو سفيان بن الحرث قال البراء والذي إله إلا هو ما ولَّى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) دبره قط قال ورأيته وأبو سفيان آخذ بالركاب والعباس آخذ بلجام دابته وهو يقول ( أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب ) وطفق يركض بغلته نحو الكفار لا يبالي وكانت بغلته شهباء ثم قال للعباس ناد المهاجرين والأنصار وكان العباس رجلاً صيتاً فجعل ينادي يا عباد الله يا أصحاب الشجرة يا أصحاب سورة البقرة فجاء المسلمون حين سمعوا صوته عنقاً واحداً وأخذ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بيده كفاً من الحصى فرماهم بها وقال ( شاهت الوجوه ) فما زال أمرهم مدبراً وحدهم كليلاً حتى هزمهم الله تعالى ولم يبق منهم يومئذ أحد إلا وقد امتلأت عيناه من ذلك التراب فذلك قوله ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ
واعلم أنه تعالى لما بين أن الكثرة لا تنفع وأن الذي أوجب النصر ما كان إلا من الله ذكر أموراً ثلاثة أحدها إنزال السكينة والسكينة ما يسكن إليه القلب والنفس ويوجب الأمنة والطمأنينة وأظن وجه الاستعارة فيه أن الإنسان إذا خاف فر وفؤاده متحرك وإذا أمن سكن وثبت فلما كان الأمن موجباً للسكون جعل لفظ السكينة كناية عن الأمن
واعلم أن قوله تعالى ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ يدل على أن الفعل موقوف على حصول الداعي ويدل على أن حصول الداعي ليس إلا من قبل الله تعالى

أما بيان الأول فهو أن حال انهزام القوم لم تحصل داعية السكون والثبات في قلوبهم فلا جرم لم يحصل السكون والثبات بل فر القوم وانهزموا ولما حصلت السكينة التي هي عبارة عن داعية السكون والثبات رجعوا إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام وثبتوا عنده وسكنوا فدل هذا على أن حصول الفعل موقوف على حصول الداعية
وأما بيان الثاني وهو أن حصول تلك الداعية من الله تعالى فهو صريح
قوله تعالى ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ والعقل أيضاً دل عليه وهو أنه لو كان حصول ذلك الداعي في القلب من جهة العبد لتوقف على حصول داع آخر ولزم التسلسل وهو محال
ثم قال تعالى وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا واعلم أن هذا هو الأمر الثاني الذي فعله الله في ذلك اليوم ولا خلاف أن المراد إنزال الملائكة وليس في الظاهر ما يدل على عدة الملائكة كما هو مذكور في قصة بدر وقال سعيد بن جبير أمد الله نبيه بخمسة آلاف من الملائكة ولعله إنما ذكر هذا العدد قياساً على يوم بدر وقال سعيد بن المسيب حدثني رجل كان في المشركين يوم حنين قال لما كشفنا المسلمين جعلنا نسوقهم فلما انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء تلقانا رجال بيض الوجوه حسان فقالوا شاهت الوجوه ارجعوا فرجعنا فركبوا أكتافنا وأيضاً اختلفوا أن الملائكة هل قاتلوا ذلك اليوم والرواية التي نقلناها عن سعيد بن المسيب تدل على أنهم قاتلوا ومنهم من قال إن الملائكة ما قاتلوا إلا يوم بدر وأما فائدة نزولهم في هذا اليوم فهو إلقاء الخواطر الحسنة في قلوب المؤمنين
ثم قال تعالى وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وهذا هو الأمر الثالث الذي فعله رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في ذلك اليوم والمراد من هذا التعذيب قتلهم وأسرهم وأخذ أموالهم وسبي ذراريهم واحتج أصحابنا بهذا على أن فعل العبد خلق الله لأن المراد من التعذيب ليس إلا الأخذ والأسر وهو تعالى نسب تلك الأشياء إلى نفسه وقد بينا أن قوله ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ يدل على ذلك فصار مجموع هذين الكلامين دليلاً بيناً ثابتاً وفي هذه المسألة قالت المعتزلة إنما نسب تعالى ذلك الفعل إلى نفسه لأنه حصل بأمره وقد سبق جوابه غير مرة
ثم قال وَذالِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ والمراد أن ذلك التعذيب هو جزاء الكافرين واعلم أن أهل الحقيقة تمسكوا في مسألة الجلد مع التعزيز بقوله الزَّانِيَة ُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُواْ قالوا الفاء تدل على كون الجلد جزاء والجزاء اسم للكافي وكون الجلد كافياً يمنع كون غيره مشروعاً معه فنقول في الجواب عنه الجزاء ليس اسماً للكافي وذلك باعتبار أنه تعالى سمى هذا التعذيب جزاء مع أن المسلمين أجمعوا على أن العقوبة الدائمة في القيامة مدخرة لهم فدلت هذه الآية على أن الجزاء ليس اسماً لما يقع به الكفاية
ثم قال الله تعالى ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِن بَعْدِ ذالِكَ عَلَى مَن يَشَاء يعني أن مع كل ما جرى عليهم من الخذلان فإن الله تعالى قد يتوب عليهم قال أصحابنا إنه تعالى قد يتوب على بعضهم بأن يزيل عن قلبه الكفر ويخلق فيه الإسلام قال القاضي معناه فإنهم بعد أن جرى عليهم ما جرى إذا أسلموا وتابوا فإن الله تعالى يقبل توبتهم وهذا ضعيف لأن قوله تعالى ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ ظاهره يدل على أن تلك التوبة إنما حصلت

لهم من قبل الله تعالى وتمام الكلام في هذا المعنى مذكور في سورة البقرة في قوله فَتَابَ عَلَيْهِ ثم قال وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ أي غفور لمن تاب رحيم لمن آمن وعمل صالحاً والله أعلم
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَاذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَة ً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن هذه هي الشبهة الثالثة التي وقعت في قلوب القوم وذلك لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) لما أمر علياً أن يقرأ على مشركي مكة أول سورة براءة وينبذ إليهم عهدهم وأن الله برىء من المشركين ورسوله قال أناس يا أهل مكة ستعلمون ما تلقونه من الشدة لانقطاع السبل وفقد الحمولات فنزلت هذه الآية لدفع هذه الشبهة وأجاب الله تعالى عنها بقوله وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَة ً ( التوبة 28 ) أي فقراً وحاجة فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فهذا وجه النظم وهو حسن موافق
المسألة الثانية قال الأكثرون لفظ المشركين يتناول عبدة الأوثان وقال قوم بل يتناول جميع الكفار وقد سبقت هذه المسألة وصححنا هذا القول بالدلائل الكثيرة والذي يفيد ههنا التمسك بقوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ( النساء 116 ) ومعلوم أنه باطل
المسألة الثالثة قال صاحب ( الكشاف ) النجس مصدر نجس نجساً وقذر قذراً ومعناه ذو نجس وقال الليث النجس الشيء القذر من الناس ومن كل شيء ورجل نجس وقوم أنجاس ولغة أخرى رجل نجس وقوم نجس وفلان نجس ورجل نجس وامرأة نجس واختلفوا في تفسير كون المشرك نجساً نقل صاحب ( الكشاف ) عن ابن عباس أن أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير وعن الحسن من صافح مشركاً توضأ وهذا هو قول الهادي من أئمة الزيدية وأما الفقهاء فقد اتفقوا على طهارة أبدانهم
واعلم أن ظاهر القرآن يدل على كونهم أنجاساً فلا يرجع عنه إلا بدليل منفصل ولا يمكن ادعاء الإجماع فيه لما بينا أن الاختلاف فيه حاصل واحتج القاضي على طهارتهم بما روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) شرب من أوانيهم وأيضاً لو كان جسمه نجساً لم يبدل ذلك بسبب الإسلام والقائلون بالقول الأول أجابوا عنه بأن القرآن أقوى من خبر الواحد وأيضاً فبتقدير صحة الخبر وجب أن يعتقد أن حل الشرب من أوانيهم كان متقدماً على نزول هذه الآية وبيانه من وجهين الأول أن هذه السورة من آخر ما نزل من القرآن وأيضاً كانت المخالطة مع الكفار جائزة فحرمها الله تعالى وكانت المعاهدات معهم حاصلة فأزالها الله فلا يبعد أن يقال أيضاً الشرب من أوانيهم كان جائزاً فحرمه الله تعالى الثاني أن الأصل حل الشرب من أي إناء كان فلو

قلنا إنه حرم بحكم الآية ثم حل بحكم الخبر فقد حصل نسخان أما إذا قلنا إنه كان حلالاً بحكم الأصل والرسول شرب من آنيتهم بحكم الأصل ثم جاء التحريم بحكم هذه الآية لم يحصل النسخ إلا مرة واحدة فوجب أن يكون هذا أولى أما قول القاضي لو كان الكافر نجس الجسم لما تبدلت النجاسة بالطهارة بسبب الإسلام فجوابه أنه قياس في معارضة النص الصريح وأيضاً أن أصحاب هذا المذهب يقولون إن الكافر إذا أسلم وجب عليه الاغتسال إزالة للنجاسة الحاصلة بحكم الكفر فهذا تقرير هذا القول وأما جمهور الفقهاء فإنهم حكموا بكون الكافر طاهراً في جسمه ثم اختلفوا في تأويل هذه الآية على وجوه الأول قال ابن عباس وقتادة معناه أنهم لا يغتسلون من الجنابة ولا يتوضؤن من الحدث الثاني المراد أنهم بمنزلة الشيء النجس في وجوب النفرة عنه الثالث أن كفرهم الذي هو صفة لهم بمنزلة النجاسة الملتصقة بالشيء
واعلم أن كل هذه الوجوه عدول عن الظاهر بغير دليل
المسألة الرابعة قال أبو حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم أعضاء المحدث نجسة نجاسة حكمية وبنوا عليه أن الماء المستعمل في الوضوء والجنابة نجس ثم روى أبو يوسف رحمه الله تعالى أنه نجس نجاسة خفيفة وروى الحسن بن زياد أنه نجس نجاسة غليظة وروى محمد بن الحسن أن ذلك الماء طاهر
واعلم أن قوله تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ يدل على فساد هذا القول لأن كلمة ( إنما ) للحصر وهذا يقتضي أن لا نجس إلا المشرك فالقول بأن أعضاء المحدث نجسة مخالف لهذا النص والعجب أن هذا النص صريح في أن المشرك نجس وفي أن المؤمن ليس بنجس ثم إن قوماً ما قلبوا القضية وقالوا المشرك طاهر والمؤمن حال كونه محدثاً أو جنباً نجس وزعموا أن المياه التي استعملها المشركون في أعضائهم بقيت طاهرة مطهرة والمياه التي يستعملها أكابر الأنبياء في أعضائهم نجسة نجاسة غليظة وهذا من العجائب ومما يؤكد القول بطهارة أعضاء المسلم قوله عليه السلام ( المؤمن لا ينجس حياً ولا ميتاً ) فصار هذا الخبر مطابقاً للقرآن ثم الاعتبارات الحكمية طابقت القرآن والأخبار في هذا الباب لأن المسلمين أجمعوا على أن إنساناً لو حمل محدثاً في صلاته لم تبطل صلاته ولو كانت يده رطبة فوصلت إلى يد محدث لم تنجس يده ولو عرق المحدث ووصلت تلك النداوة إلى ثوبه لم ينجس ذلك الثوب فالقرآن والخبر والإجماع تطابقت على القول بطهارة أعضاء المحدث فكيف يمكن مخالفته وشبهة المخالف أن الوضوء يسمى طهارة والطهارة لا تكون إلا بعد سبق النجاسة وهذا ضعيف لأن الطهارة قد تستعمل في إزالة الأوزار والآثام قال الله تعالى في صفة أهل البيت إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً ( الأحزاب 33 ) وليست هذه الطهارة إلا عن الآثام والأوزار وقال في صفة مريم إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ والمراد تطهيرها عن التهمة الفاسدة
وإذا ثبت هذا فنقول جاءت الأخبار الصحيحة في أن الوضوء تطهير الأعضاء عن الآثام والأوزار فلما فسر الشارع كون الوضوء طهارة بهذا المعنى فما الذي حملنا على مخالفته والذهاب إلى شيء يبطل القرآن والأخبار والأحكام الإجماعية
المسألة الخامسة قال الشافعي رضي الله تعالى عنه الكفار يمنعون من المسجد الحرام خاصة

وعند مالك يمنعون من كل المساجد وعند أبي حنيفة رحمه الله لا يمنعون من المسجد الحرام ولا من سائر المساجد والآية بمنطوقها تبطل قول أبي حنيفة رحمه الله وبمفهومها تبطل قول مالك أو نقول الأصل عدم المنع وخالفناه في المسجد الحرام لهذا النص الصريح القاطع فوجب أن يبقى في غيره على وفق الأصل
المسألة السادسة اختلفوا في أن المراد من المسجد الحرام هل هو نفس المسجد أو المراد منه جميع الحرم والأقرب هو هذا الثاني والدليل عليه قوله تعالى وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَة ً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وذلك لأن موضع التجارات ليس هو عين المسجد فلو كان المقصود من هذه الآية المنع من المسجد خاصة لما خافوا بسبب هذا المنع من العيلة وإنما يخافون العيلة إذا منعوا من حضور الأسواق والمواسم وهذا استدلال حسن من الآية ويتأكد هذا القول بقوله سبحانه وتعالى سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الاْقْصَى ( الإسراء 1 ) مع أنهم أجمعوا على أنه إنما رفع الرسول عليه الصلاة والسلام من بيت أم هانىء وأيضاً يتأكد هذا بما روي عن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( لا يجتمع دينان في جزيرة العرب )
واعلم أن أصحابنا قالوا الحرم حرام على المشركين ولو كان الإمام بمكة فجاء رسول المشركين فليخرج إلى الحل لاستماع الرسالة وإن دخل مشرك الحرم متوارياً فمرض فيه أخرجناه مريضاً وإن مات ودفن ولم يعلم نبشناه وأخرجنا عظامه إذا أمكن
المسألة السابعة لا شبهة في أن المراد بقوله بَعْدَ عَامِهِمْ هَاذَا السنة التي حصل فيها النداء بالبراءة من المشركين وهي السنة التاسعة من الهجرة
ثم قال تعالى وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَة ً والعيلة الفقر يقال عال الرجل يعيل عيلة إذا افتقر والمعنى إن خفتم فقراً بسبب منع الكفار فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وفيه مسألتان
المسألة الأولى ذكروا في تفسير هذا الفضل وجوهاً الأول قال مقاتل أسلم أهل جدة وصنعاء وحنين وحملوا الطعام إلى مكة وكفاهم الله الحاجة إلى مبايعة الكفار والثاني قال الحسن جعل الله ما يوجد من الجزية بدلاً من ذلك وقيل أغناهم بالفيء الثالث قال عكرمة أنزل الله عليهم المطر وكثر خيرهم
المسألة الثانية قوله فُسُوقٌ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إخبار عن غيب في المستقبل على سبيل الجزم في حادثة عظيمة وقد وقع الأمر مطابقاً لذلك الخبر فكان معجزة
ثم قال تعالى إِن شَاء ولسائل أن يسأل فيقول الغرض بهذا الخبر إزالة الخوف بالعيلة وهذا الشرط يمنع من إفادة هذا المقصود وجوابه من وجوه الأول أن لا يحصل الاعتماد على حصول هذا المطلوب فيكون الإنسان أبداً متضرعاً إلى الله تعالى في طلب الخيرات ودفع الآفات الثاني أن المقصود من ذكر هذا الشرط تعليم رعاية الأدب كما في قوله لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ ءامِنِينَ الثالث أن المقصود التنبيه على أن حصول هذا المعنى لا يكون في كل الأوقات وفي جميع الأمور لأن إبراهيم عليه السلام قال في دعائه وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ ( البقرة 126 ) وكلمة ( من ) تفيد التبعيض فقوله تعالى في هذه الآية إِن شَاء المراد منه ذلك التبعيض

ثم قال إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أي عليم بأحوالكم وحكيم لا يعطي ولا يمنع إلا عن حكمة وصواب والله أعلم
قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَة َ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر حكم المشركين في إظهار البراءة عن عهدهم وفي إظهار البراءة عنهم في أنفسهم وفي وجوب مقاتلتهم وفي تبعيدهم عن المسجد الحرام وأورد الإشكالات التي ذكروها وأجاب عنها بالجوابات الصحيحة ذكر بعده حكم أهل الكتاب وهو أن يقاتلوا إلى أن يعطوا الجزية فحينئذ يقرون على ما هم عليه بشرائط ويكونون عند ذلك من أهل الذمة والعهد وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى ذكر أن أهل الكتاب إذا كانوا موصوفين بصفات أربعة وجبت مقاتلتهم إلى أن يسلموا أو إلى أن يعطوا الجزية
فالصفة الأولى أنهم لا يؤمنون بالله واعلم أن القوم يقولون نحن نؤمن بالله إلا أن التحقيق أن أكثر اليهود مشبهة والمشبه يزعم أن لا موجود إلا الجسم وما يحل فيه فأما الموجود الذي لا يكون جسماً ولا حالاً فيه فهو منكر له وما ثبت بالدلائل أن الإله موجود ليس بجسم ولا حالاً في جسم فحينئذ يكون المشبه منكراً لوجود الإله فثبت أن اليهود منكرون لوجود الإله
فإن قيل فاليهود قسمان منهم مشبهة ومنهم موحدة كما أن المسلمين كذلك فهب أن المشبهة منهم منكرون لوجود الإله فما قولكم في موحدة اليهود
قلنا أولئك لا يكونون داخلين تحت هذه الآية ولكن إيجاب الجزية عليهم بأن يقال لما ثبت وجوب الجزية على بعضهم وجب القول به في حق الكل ضرورة أنه لا قائل بالفرق وأما النصارى فهم يقولون بالأب والابن وروح القدس والحلول والاتحاد وكل ذلك ينافي الإلهية
فإن قيل حاصل الكلام أن كل من نازع في صفة من صفات الله كان منكراً لوجود الله تعالى وحينئذ يلزم أن تقولوا إن أكثر المتكلمين منكرون لوجود الله تعالى لأن أكثرهم مختلفون في صفات الله تعالى ألا ترى أن أهل السنة اختلفوا اختلافاً شديداً في هذا الباب فالأشعري أثبت البقاء صفة والقاضي أنكره وعبد الله بن سعيد أثبت القدم صفة والباقون أنكروه والقاضي أثبت إدراك الطعوم وإدراك الروائح وإدراك الحرارة والبرودة وهي التي تسمى في حق البشر بإدراك الشم والذوق واللمس والأستاذ أبو إسحق أنكره وأثبت القاضي للصفات السبع أحوالاً سبعة معللة بتلك الصفات ونفاة الأحوال أنكروه وعبد الله بن سعيد زعم أن كلام الله في الأزل ما كان أمراً ولا نهياً ولا خبراً ثم صار ذلك في الإنزال والباقون أنكروه وقوم من قدماء الأصحاب أثبتوا لله خمس كلمات في الأمر والنهي والخبر والاستخبار والنداء

والمشهور أن كلام الله تعالى واحد واختلفوا في أن خلاف المعلوم هل هو مقدور أم لا فثبت بهذا حصول الاختلاف بين أصحابنا في صفات الله تعالى من هذه الوجوه الكثيرة وأما اختلافات المعتزلة وسائر الفرق في صفات الله تعالى فأكثر من أن يمكن ذكره في موضع واحد
إذا ثبت هذا فنقول إما أن يكون الاختلاف في الصفات موجباً إنكار الذات أو لا يوجب ذلك فإن أوجبه لزم في أكثر فرق المسلمين أن يقال إنهم أنكروا الإله وإن لم يوجب ذلك لم يلزم من ذهاب بعض اليهود وذهاب النصارى إلى الحلول والاتحاد كونهم منكرين للإيمان بالله وأيضاً فمذهب النصارى أن أقنوم الكلمة حل في عيسى وحشوية المسلمين يقولون إن من قرأ كلام الله فالذي يقرؤه هو عين كلام تعالى وكلام الله تعالى مع أنه صفة الله يدخل في لسان هذا القارىء وفي لسان جميع القراء وإذا كتب كلام الله في جسم فقد حل كلام الله تعالى في ذلك الجسم فالنصارى إنما أثبتوا الحلول والاتحاد في حق عيسى وأما هؤلاء الحمقى فأثبتوا كلمة الله في كل إنسان قرأ القرآن وفي كل جسم كتب فيه القرآن فإن صح في حق النصارى أنهم لا يؤمنون بالله بهذا السبب وجب أن يصح في حق هؤلاء الحروفية والحلولية أنهم لا يؤمنون بالله فهذا تقرير هذا السؤال
والجواب أن الدليل دل على أن من قال إن الإله جسم فهو منكر للإله تعالى وذلك لأن إله العالم موجود ليس بجسم ولا حال في الجسم فإذا أنكر المجسم هذا الموجود فقد أنكر ذات الإله تعالى فالخلاف بين المجسم والموحد ليس في الصفة بل في الذات فصح في المجسم أنه لا يؤمن بالله أما المسائل التي حكيتموها فهي اختلافات في الصفة فظهر الفرق وأما إلزام مذهب الحلولية والحروفية فنحن نكفرهم قطعاً فإنه تعالى كفر النصارى بسبب أنهم اعتقدوا حلول كلمة اللَّهِ في عيسى وهؤلاء اعتقدوا حلول كلمة اللَّهِ في ألسنة جميع من قرأ القرآن وفي جميع الأجسام التي كتب فيها القرآن فإذا كان القول بالحلول في حق الذات الواحدة يوجب التكفير فلأن يكون القول بالحلول في حق جميع الأشخاص والأجسام موجباً للقول بالتكفير كان أولى
والصفة الثانية من صفاتهم أنهم لا يؤمنون باليوم الآخر
واعلم أن المنقول عن اليهود والنصارى إنكار البعث الجسماني فكأنهم يميلون إلى البعث الروحاني
واعلم أنا بينا في هذا الكتاب أنواع السعادات والشقاوات الروحانية ودللنا على صحة القول بها وبينا دلالة الآيات الكثيرة عليها إلا أنا مع ذلك نثبت السعادات والشقاوات الجسمانية ونعترف بأن الله يجعل أهل الجنة بحيث يأكلون ويشربون وبالجواري يتمتعون ولا شك أن من أنكر الحشر والبعث الجسماني فقد أنكر صريح القرآن ولما كان اليهود والنصارى منكرين لهذا المعنى ثبت كونهم منكرين لليوم الآخر
الصفة الثالثة من صفاتهم قوله تعالى وَلاَ يُحَرِمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وفيه وجهان الأول أنهم لا يحرمون ما حرم في القرآن وسنة الرسول والثاني قال أبو روق لا يعلمون بما في التوراة والإنجيل بل حرفوهما وأتوا بأحكام كثيرة من قبل أنفسهم

الصفة الرابعة قوله وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يقال فلان يدين بكذا إذا اتخذه ديناً فهو معتقده فقوله وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ أي لا يعتقدون في صحة دين الإسلام الذي هو الدين الحق ولما ذكر تعالى هذه الصفات الأربعة قال مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ فبين بهذا أن المراد من الموصوفين بهذه الصفات الأربعة من كان من أهل الكتاب والمقصود تمييزهم من المشركين في الحكم لأن الواجب في المشركين القتال أو الإسلام والواجب في أهل الكتاب القتال أو الإسلام أو الجزية
ثم قال تعالى حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَة َ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي الجزية هي ما يعطي المعاهد على عهده وهي فعلة من جزى يجزى إذا قضى ما عليه واختلفوا في قوله عَن يَدٍ قال صاحب ( الكشاف ) قوله عَن يَدٍ إما أن يراد به يد المعطي أو يد الآخذ فإن كان المراد به المعطي ففيه وجهان أحدهما أن يكون المراد عَن يَدٍ مؤاتية غير ممتنعة لأن من أبى وامتنع لم يعط يده بخلاف المطيع المنقاد ولذلك يقال أعطى يده إذا انقاد وأطاع ألا ترى إلى قولهم نزع يده عن الطاعة كما يقال خلع ربقة الطاعة من عنقه وثانيهما أن يكون المراد حتى يعطوها عن يد إلى يد نقداً غير نسيئة ولا مبعوثاً على يد أحد بل على يد المعطي إلى يد الآخذ وأما إذا كان المراد يد الآخذ ففيه أيضاً وجهان الأول أن يكون المراد حتى يعطوا الجزية عن يد قاهرة مستولية للمسلمين عليهم كما تقول اليد في هذا لفلان وثانيهما أن يكون المراد عن إنعام عليهم لأن قبول الجزية منهم وترك أرواحهم عليهم نعمة عظيمة
وأما قوله وَهُمْ صَاغِرُونَ فالمعنى أن الجزية تؤخذ منهم على الصغار والذل والهوان بأن يأتي بها بنفسه ماشياً غير راكب ويسلمها وهو قائم والمتسلم جالس ويؤخذ بلحيته فيقال له أد الجزية وإن كان يؤديها ويزج في قفاه فهذا معنى الصغار وقيل معنى الصغار ههنا هو نفس إعطاء الجزية وللفقهاء أحكام كثيرة من توابع الذل والصغار مذكورة في كتب الفقه
الحكم الأول
استدللت بهذه الآية على أن المسلم لا يقتل بالذمي والوجه في تقريره أن قوله قَاتِلُوهُمْ يقتضي إيجاب مقاتلتهم وذلك مشتمل على إباحة قتلهم وعلى عدم وجوب القصاص بسبب قتلهم فلما قال حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَة َ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ علمنا أن مجموع هذه الأحكام قد انتهت عند إعطاء الجزية ويكفي في انتهاء المجموع ارتفاع أحد أجزائه فإذا ارتفع وجوب قتله وإباحة دمه فقد ارتفع ذلك المجموع ولا حاجة في ارتفاع المجموع إلى ارتفاع جميع أجزاء المجموع
إذا ثبت هذا فنقول قوله قَاتَلُواْ طَّائِفَة ٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يدل على عدم وجوب القصاص بقتلهم وقوله حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَة َ لا يوجب ارتفاع ذلك الحكم لأنه كفى في انتهاء ذلك المجموع انتهاء أحد أجزائه وهو وجوب قتلهم فوجب أن يبقى بعد أداء الجزية عدم وجوب القصاص كما كان

الحكم الثاني
الكفار فريقان فريق عبدة الأوثان وعبدة ما استحسنوا فهؤلاء لا يقرون على دينهم بأخذ الجزية ويجب قتالهم حتى يقولوا لا إله إلا الله وفريق هم أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى والسامرة والصابئون وهذان الصنفان سبيلهم في أهل الكتاب سبيل أهل البدع فينا والمجوس أيضاً سبيلهم سبيل أهل الكتاب لقوله عليه السلام ( سنوا بهم سنة أهل الكتاب ) وروى أنه ( صلى الله عليه وسلم ) أخذ الجزية من مجوس هجر فهؤلاء يجب قتالهم حتى يعطوا الجزية ويعاهدوا المسلمين على أداء الجزية وإنما قلنا إنه لا تؤخذ الجزية إلا من أهل الكتاب لأنه تعالى لما ذكر الصفات الأربعة وهي قوله تعالى قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الاْخِرِ وَلاَ يُحَرِمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ قيدهم بكونهم من أهل الكتاب وهو قوله مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وإثبات ذلك الحكم في غيرهم يقتضي إلغاء هذا القيد المنصوص عليه وأنه لا يجوز
الحكم الثالث
في قدر الجزية قال أنس قسم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على كل محتلم ديناراً وقسم عمر على الفقراء من أهل الذمة اثني عشر درهماً وعلى الأوساط أربعة وعشرين وعلى أهل الثروة ثمانية وأربعين قال أصحابنا وأقل الجزية دينار ولا يزاد على الدينار إلا بالتراضي فإذا رضوا والتزموا الزيادة ضربنا على المتوسط دينارين وعلى الغني أربعة دنانير والدليل على ما ذكرنا أن الأصل تحريم أخذ مال المكلف إلا أن قوله حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَة َ يدل على أخذ شيء فهذا الذي قلناه هو القدر الأقل فيجوز أخذه والزائد عليه لم يدل عليه لفظ الجزية والأصل فيه الحرمة فوجب أن يبقى عليها
الحكم الرابع
تؤخذ الجزية عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى في أول السنة وعند الشافعي رحمه الله تعالى في آخرها
الحكم الخامس
تسقط الجزية بالإسلام والموت عند أبي حنيفة رحمه الله لقوله عليه الصلاة والسلام ( ليس على المسلم جزية ) وعند الشافعي رحمه الله لا تسقط
الحكم السادس
قال أصحابنا هؤلاء إنما أقروا على دينهم الباطل بأخذ الجزية حرمة لآبائهم الذين انقرضوا على الحق من شريعة التوراة والإنجيل وأيضاً مكناهم من أيديهم فربما يتفكرون فيعرفون صدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ونبوته فأمهلوا لهذا المعنى والله أعلم وبقي ههنا سؤالان
السؤال الأول كان ابن الراوندي يطعن في القرآن ويقول إنه ذكر في تعظيم كفر النصارى قوله تَكَادُ السَّمَاوَاتِ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الاْرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَانِ وَلَداً وَمَا يَنبَغِى لِلرَّحْمَانِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً ( مريم 90 92 )

فبين أن إظهارهم لهذا القول بلغ إلى هذا الحد ثم إنه لما أخذ منهم ديناراً واحداً قررهم عليه وما منعهم منه
والجواب ليس المقصود من أخذ الجزية تقريره على الكفر بل المقصود منها حقن دمه وإمهاله مدة رجاء أنه ربما وقف في هذه المدة على محاسن الإسلام وقوة دلائله فينتقل من الكفر إلى الإيمان
السؤال الثاني هل يكفي في حقن الدم دفع الجزية أم لا
والجواب أنه لابد معه من إلحاق الذل والصغار للكفر والسبب فيه أن طبع العاقل ينفر عن تحمل الذل والصغار فإذا أمهل الكافر مدة وهو يشاهد عز الإسلام ويسمع دلائل صحته ويشاهد الذل والصغار في الكفر فالظاهر أنه يحمله ذلك على الانتقال إلى الإسلام فهذا هو المقصود من شرع الجزية
وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذالِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما حكم في الآية المتقدمة على اليهود والنصارى بأنهم لا يؤمنون بالله شرح ذلك في هذه الآية وذلك بأن نقل عنهم أنهم أثبتوا لله ابنا ومن جوز ذلك في حق الإله فهو في الحقيقة قد أنكر الإله وأيضاً بين تعالى أنهم بمنزلة المشركين في الشرك وإن كانت طرق القول بالشرك مختلفة إذ لا فرق بين من يعبد الصنم وبين من يعبد المسيح وغيره لأنه لا معنى للشرك إلا أن يتخذ الإنسان مع الله معبوداً فإذا حصل هذا المعنى فقد حصل الشرك بل إنا لو تأملنا لعلمنا أن كفر عابد الوثن أخف من كفر النصارى لأن عابد الوثن لا يقول إن هذا الوثن خالق العالم وإله العالم بل يجريه مجرى الشيء الذي يتوسل به إلى طاعة الله أما النصارى فإنهم يثبتون الحلول والاتحاد وذلك كفر قبيح جداً فثبت أنه لا فرق بين هؤلاء الحلولية وبين سائر المشركين وأنهم إنما خصهم بقبول الجزية منهم لأنهم في الظاهر ألصقوا أنفسهم بموسى وعيسى وادعى أنهم يعملون بالتوراة والإنجيل فلأجل تعظيم هذين الرسولين المعظمين وتعظيم كتابيهما وتعظيم أسلاف هؤلاء اليهود والنصارى بسبب أنهم كانوا على الدين الحق حكم الله تعالى بقبول الجزية منهم وإلا ففي الحقيقة لا فرق بينهم وبين المشركين
المسألة الثانية في قوله وَقَالَتِ الْيَهُودُ عَزِيزٌ ابْنُ اللَّهِ أقوال الأول قال عبيد بن عمير إنما قال هذا القول رجل واحد من اليهود اسمه فنحاص بن عازوراء الثاني قال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير وعكرمة أتى جماعة من اليهود إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهم سلام بن مشكم والنعمان بن أوفى ومالك بن

الصيف وقالوا كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا ولا تزعم أن عزيراً ابن الله فنزلت هذه الآية وعلى هذين القولين فالقائلون بهذا المذهب بعض اليهود إلا أن الله نسب ذلك القول إلى اليهود بناء على عادة العرب في إيقاع اسم الجماعة على الواحد يقال فلان يركب الخيول ولعله لم يركب إلا واحداً منها وفلان يجالس السلاطين ولعله لا يجالس إلا واحداً
والقول الثالث لعل هذا المذهب كان فاشياً فيهم ثم انقطع فحكى الله ذلك عنهم ولا عبرة بإنكار اليهود ذلك فإن حكاية الله عنهم أصدق والسبب الذي لأجله قالوا هذا القول ما رواه ابن عباس أن اليهود أضاعوا التوراة وعملوا بغير الحق فأنساهم الله تعالى التوراة ونسخها من صدورهم فتضرع عزير إلى الله وابتهل إليه فعاد حفظ التوراة إلى قلبه فأنذر قومه به فلما جربوه وجدوه صادقاً فيه فقالوا ما تيسر هذا لعزير إلا أنه ابن الله وقال الكلبي قتل بختنصر علماءهم فلم يبق فيهم أحد يعرف التوراة وقال السدي العمالقة قتلوهم فلم يبق فيهم أحد يعرف التوراة فهذا ما قيل في هذا الباب وأما حكاية الله عن النصارى أنهم يقولون المسيح ابن الله فهي ظاهرة لكن فيها إشكال قوي وهي أنا نقطع أن المسيح صلوات الله عليه وأصحابه كانوا مبرئين من دعوة الناس إلا الأبوة والبنوة فإن هذا أفحش أنواع الكفر فكيف يليق بأكابر الأنبياء عليهم السلام وإذا كان الأمر كذلك فكيف يعقل إطباق جملة محبي عيسى من النصارى على هذا الكفر ومن الذي وضع هذا المذهب الفاسد وكيف قدر على نسبته إلى المسيح عليه السلام فقال المفسرون في الجواب عن هذا السؤال أن أتباع عيسى عليه الصلاة والسلام كانوا على الحق بعد رفع عيسى حتى وقع حرب بينهم وبين اليهود وكان في اليهود رجل شجاع يقال له بولس قتل جمعاً من أصحاب عيسى ثم قال لليهود إن كان الحق مع عيسى فقد كفرنا والنار مصيرنا ونحن مغبونون إن دخلوا الجنة ودخلنا النار وإني أحتال فأضلهم فعوقب فرسه وأظهر الندامة مما كان يصنع ووضع على رأسه التراب وقال نوديت من السماء ليس لك توبة إلا أن تتنصر وقد تبت فأدخله النصارى الكنيسة ومكث سنة لا يخرج وتعلم الإنجيل فصدقوه وأحبوه ثم مضى إلى بيت المقدس واستخلف عليهم رجلاً اسمه نسطور وعلمه أن عيسى ومريم والإله كانوا ثلاثة وتوجه إلى الروم وعلمهم اللاهوت والناسوت وقال ما كان عيسى إنساناً ولا جسماً ولكنه الله وعلم رجلاً آخر يقال له يعقوب ذلك ثم دعا رجلاً يقال له ملكاً فقال له إن الإله لم يزل ولا يزال عيسى ثم دعا لهؤلاء الثلاثة وقال لكل واحد منهم أنت خليفتي فادع الناس إلى إنجيلك ولقد رأيت عيسى في المنام ورضي عني وإني غداً أذبح نفس لمرضاة عيسى ثم دخل المذبح فذبح نفسه ثم دعا كل واحد من هؤلاء الثلاثة الناس إلى قوله ومذهبه فهذا هو السبب في وقوع هذا الكفر في طوائف النصارى هذا ما حكاه الواحدي رحمه الله تعالى والأقرب عندي أن يقال لعله ورد لفظ الابن في الإنجيل على سبيل التشريف كما ورد لفظ الخليل في حق إبراهيم على سبيل التشريف ثم إن القوم لأجل عداوة اليهود ولأجل أن يقابلوا غلوهم الفاسد في أحد الطرفين بغلو فاسد في الطرف الثاني فبالغوا وفسروا لفظ الابن بالبنوة الحقيقية والجهال قبلوا ذلك وفشا هذا المذهب الفاسد في أتباع عيسى عليه السلام والله أعلم بحقيقة الحال
المسألة الثالثة قرأ عاصم والكسائي وعبد الوارث عن أبي عمرو عُزَيْرٌ بالتنوين والباقون بغير

التنوين قال الزجاج الوجه إثبات التنوين فقوله عُزَيْرٌ مبتدأ وقوله ابْنُ اللَّهِ خبره وإذا كان كذلك فلا بد من التنوين في حال السعة لأن عزيراً ينصرف سواء كان أعجمياً أو عربياً وسبب كونه منصرفاً أمران أحدهما أنه اسم خفيف فينصرف وإن كان أعجمياً كهود ولوط والثاني أنه على صيغة التصغير وأن الأسماء الأعجمية لا تصغر وأما الذين تركوا التنوين فلهم فيه ثلاثة أوجه
الوجه الأول أنه أعجمي ومعرفة فوجب أن لا ينصرف
الوجه الثاني أن قوله ابْنُ صفة والخبر محذوف والتقدير عزير ابن الله معبودنا وطعن عبد القاهر الجرجاني في هذا الوجه في كتاب ( دلائل الإعجاز ) وقال الاسم إذا وصف بصفة ثم أخبر عنه فمن كذبه انصرف التكذيب إلى الخبر وصار ذلك الوصف مسلماً فلما كان المقصود بالإنكار هو قولهم عزير ابن الله معبودنا لتوجه الإنكار إلى كونه معبوداً لهم وحصل كونه ابناً لله ومعلوم أن ذلك كفر وهذا الطعن عندي ضعيف أما قوله إن من أخبر عن ذات موصوفة بصفة بأمر من الأمور وأنكره منكر توجه الإنكار إلى الخبر فهذا مسلم وأما قوله ويكون ذلك تسليماً لذلك الوصف فهذا ممنوع لأنه لا يلزم من كونه مكذباً لذلك الخبر بالتكذيب أن يدل على أن ما سواه لا يكذبه بل يصدقه وهذا بناء على دليل الخطاب وهو ضعيف لا سيما في مثل هذا المقام
الوجه الثالث قال الفراء نون التنوين ساكنة من عزير والباء في قوله ابْنُ اللَّهِ ساكنة فحصل ههنا التقاء الساكنين فحذف نون التنوين للتخفيف وأنشد الفراء فألفيته غير مستعتب
ولا ذاكر الله إلا قليلاً
واعلم أنه لما حكى عنهم بهذه الحكاية قال ذالِكَ قَوْلُهُم بِأَفْواهِهِمْ
ولقائل أن يقول إن كل قول إنما يقال بالفم فما معنى تخصيصهم لهذا القول بهذه الصفة
والجواب من وجوه الأول أن يراد به قول لا يعضده برهان فما هو إلا لفظ يفوهون به فارغ من معنى معتبر لحقه والحاصل أنهم قالوا باللسان قولاً ولكن لم يحصل عند العقل من ذلك القول أثر لأن إثبات الولد للإله مع أنه منزه عن الحاجة والشهوة والمضاجعة والمباضعة قول باطل ليس عند العقل منه أثر ونظيره قوله تعالى يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ ( آل عمران 167 ) والثاني أن الإنسان قد يختار مذهباً إما على سبيل الكناية وإما على سبيل الرمز والتعريض فإذا صرح به وذكره بلسانه فذلك هو الغاية في اختياره لذلك المذهب والنهاية في كونه ذاهباً إليه قائلاً به والمراد ههنا أنهم يصرحون بهذا المذهب ولا يخفونه البتة والثالث أن المراد أنهم دعوا الخلق إلى هذه المقالة حتى وقعت هذه المقالة في الأفواة والألسنة والمراد منه مبالغتهم في دعوة الخلق إلى المذهب
ثم قال تعالى يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ وفيه مسائل
المسألة الأولى في تفسير هذه الآية وجوه الأول أن المراد أن هذا القول من اليهود والنصارى يضاهي قول المشركين الملائكة بنات الله الثاني أن الضمير للنصارى أي قولهم المسيح ابن الله يضاهي قول اليهود عزير ابن الله لأنهم أقدم منهم الثالث أن هذا القول من النصارى يضاهي قول قدمائهم يعني

أنه كفر قديم فهو غير مستحدث
المسألة الثانية المضاهاة المشابهة قال الفراء يقال ضاهيته ضهياً ومضاهاة هذا قول أكثر أهل اللغة في المضاهاة وقال شمر المضاهاة المتابعة يقال فلان يضاهي فلاناً أي يتابعه
المسألة الثالثة قرأ عاصم يضاهؤن بالهمزة وبكسر الهاء والباقون بغير همزة وضم الهاء يقال ضاهيته وضاهأته لغتان مثل أرجيت وأرجأت وقال أحمد بن يحيى لم يتابع عاصماً أحد على الهمزة
ثم قال تعالى قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ أي هم أحقاء بأن يقال لهم هذا القول تعجباً من بشاعة قولهم كما يقال القوم ركبوا سبعاً قاتلهم الله ما أعجب فعلهما أنى يؤفكون الأفك الصرف يقال أفك الرجل عن الخير أي قلب وصرف ورجل مأفوك أي مصروف عن الخير فقوله تعالى أَنَّى يُؤْفَكُونَ معناه كيف يصدون ويصرفون عن الحق بعد وضوح الدليل حتى يجعلوا لله ولداً وهذا التعجب إنما هو راجع إلى الخلق والله تعالى لا يتعجب من شيء ولكن هذا الخطاب على عادة العرب في مخاطباتهم والله تعالى عجب نبيه من تركهم الحق وإصرارهم على الباطل
اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَآ أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إله إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ
واعلم أنه تعالى وصف اليهود والنصارى بضرب آخر من الشرك بقوله اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ أَرْبَابًا مّن دُونِ اللَّهِ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال أبو عبيدة الأحبار الفقهاء واختلفوا في واحده فبعضهم يقول حبر وبعضهم يقول حبر وقال الأصمعي لا أدري أهو الحبر أو الحبر وكان أبو الهيثم يقول واحد الأحبار حبر بالفتح لا غير وينكر الكسر وكان الليث وابن السكيت يقولان حبر وحبر للعالم ذمياً كان أو مسلماً بعد أن يكون من أهل الكتاب وقال أهل المعاني الحبر العالم الذي بصناعته يحبر المعاني ويحسن البيان عنها والراهب الذي تمكنت الرهبة والخشية في قلبه وظهرت آثار الرهبة على وجهه ولباسه وفي عرف الاستعمال صار الأحبار مختصاً بعلماء اليهود من ولد هرون والرهبان بعلماء النصارى أصحاب الصوامع
المسألة الثانية الأكثرون من المفسرين قالوا ليس المراد من الأرباب أنهم اعتقدوا فيهم أنهم آلهة العالم بل المراد أنهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم نقل أن عدي بن حاتم كان نصرانياً فانتهى إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو يقرأ سورة براءة فوصل إلى هذه الآية قال فقلت لسنا نعبدهم فقال ( أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحلون ما حرم الله فتستحلونه ) فقلت بلى قال ( فتلك عبادتهم ) وقال الربيع قلت لأبي العالية كيف كانت تلك الربوبية في بني إسرائيل فقال إنهم ربما وجدوا في كتاب الله ما يخالف أقوال الأحبار

والرهبان فكانوا يأخذون بأقوالهم وما كانوا يقبلون حكم كتاب الله تعالى قال شيخنا ومولانا خاتمة المحققين والمجتهدين رضي الله عنه قد شاهدت جماعة من مقلدة الفقهاء قرأت عليهم آيات كثيرة من كتاب الله تعالى في بعض المسائل وكانت مذاهبهم بخلاف تلك الآيات فلم يقبلوا تلك الآيات ولم يلتفتوا إليها وبقوا ينظرون إلي كالمتعجب يعني كيف يمكن العمل بظواهر هذه الآيات مع أن الرواية عن سلفنا وردت على خلافها ولو تأملت حق التأمل وجدت هذا الداء سارياً في عروق الأكثرين من أهل الدنيا
فإن قيل إنه تعالى لما كفرهم بسبب أنهم أطاعوا الأحبار والرهبان فالفاسق يطيع الشيطان فوجب الحكم بكفره كما هو قول الخوارج
والجواب أن الفاسق وإن كان يقبل دعوة الشيطان إلا أنه لا يعظمه لكن يلعنه ويستخف به أما أولئك الأتباع كانوا يقبلون قول الأحبار والرهبان ويعظمونهم فظهر الفرق
والقول الثاني في تفسير هذه الربوبية أن الجهال والحشوية إذا بالغوا في تعظيم شيخهم وقدوتهم فقد يميل طبعهم إلى القول بالحلول والاتحاد وذلك الشيخ إذا كان طالباً للدنيا بعيداً عن الدين فقد يلقى إليهم أن الأمر كما يقولون ويعتقدون وشاهدت بعض المزورين ممن كان بعيداً عن الدين كان يأمر أتباعه وأصحابه بأن يسجدوا له وكان يقول لهم أنتم عبيدي فكان يلقي إليهم من حديث الحلول والاتحاد أشياء ولو خلا ببعض الحمقى من أتباعه فربما ادعى الإلهية فإذا كان مشاهداً في هذه الأمة فكيف يبعد ثبوته في الأمم السالفة وحاصل الكلام أن تلك الربوبية يحتمل أن يكون المراد منها أنهم أطاعوهم فيما كانوا مخالفين فيه لحكم الله وأن يكون المراد منها أنهم قبلوا أنواع الكفر فكفروا بالله فصار ذلك جارياً مجرى أنهم اتخذوهم أرباباً من دون الله ويحتمل أنهم أثبتوا في حقهم الحلول والاتحاد وكل هذه الوجوه الأربعة مشاهد وواقع في هذه الأمة
ثم قال تعالى وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً واحِداً ومعناه ظاهر وهو أن التوراة والإنجيل والكتب الإلهية ناطقة بذلك
ثم قال لاَّ إله إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أي سبحانه من أن يكون له شريك في الأمر والتكليف وأن يكون له شريك في كونه مسجوداً ومعبوداً وأن يكون له شريك في وجوب نهاية التعظيم والإجلال
يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ
اعلم أن المقصود منه بيان نوع ثالث من الأفعال القبيحة الصادرة عن رؤساء اليهود والنصارى وهو سعيهم في إبطال أمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وجدهم في إخفاء الدلائل الدالة على صحة شرعه وقوة دينه والمراد من النور الدلائل الدالة على صحة نبوته وهي أمور كثيرة جداً أحدها المعجزات القاهرة التي ظهرت على

يده فإن المعجز إما أن يكون دليلاً على الصدق أو لا يكون فإن كان دليلاً على الصدق فحيث ظهر المعجز لا بد من حصول الصدق فوجب كون محمد ( صلى الله عليه وسلم ) صادقاً وإن لم يدل على الصدق قدح ذلك في نبوة موسى وعيسى عليهما السلام وثانيها القرآن العظيم الذي ظهر على لسان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) مع أنه من أول عمره إلى آخره ما تعلم وما طالع وما استفاد وما نظر في كتاب وذلك من أعظم المعجزات وثالثها أن حاصل شريعته تعظيم الله والثناء عليه والانقياد لطاعته وصرف النفس عن حب الدنيا والترغيب في سعادات الآخرة والعقل يدل على أنه لا طريق إلى الله إلا من هذا الوجه ورابعها أن شرعه كان خالياً عن جميع العيوب فليس فيه إثبات ما لا يليق بالله وليس فيه دعوة إلى غير الله وقد ملك البلاد العظيمة وما غير طريقته في استحقار الدنيا وعدم الالتفات إليها ولو كان مقصوده طلب الدنيا لما بقي الأمر كذلك فهذه الأحوال دلائل نيرة وبراهين قاهرة في صحة قوله ثم إنهم بكلماتهم الركيكة وشبهاتهم السخيفة وأنواع كيدهم ومكرهم أرادوا إبطال هذه الدلائل فكان هذا جارياً مجرى من يريد إبطال نور الشمس بسبب أن ينفخ فيها وكما أن ذلك باطل وعمل ضائع فكذا ههنا فهذا هو المراد من قوله يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ ثم إنه تعالى وعد محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) مزيد النصرة والقوة وإعلاء الدرجة وكمال الرتبة فقال وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ
فإن قيل كيف جاز أبى الله إلا كذا ولا يقال كرهت أو أبغضت إلا زيداً
قلنا أجرى أَبَى مجرى لم يرد والتقدير ما أراد الله إلا ذلك إلا أن الإباء يفيد زيادة عدم الإرادة وهي المنع والامتناع والدليل عليه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( وإن أرادوا ظلمنا أبينا ) فامتدح بذلك ولا يجوز أن يمتدح بأنه يكره الظلم لأن ذلك يصح من القوي والضعيف ويقال فلان أبى الضيم والمعنى ما ذكرناه وإنما سمى الدلائل بالنور لأن النور يهدي إلى الصواب فكذلك الدلائل تهدي إلى الصواب في الأديان
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ
اعلم أنه تعالى لما حكى عن الأعداء أنهم يحاولون إبطال أمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وبين تعالى أنه يأبى ذلك الإبطال وأنه يتم أمره بين كيفية ذلك الإتمام فقال هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقّ
واعلم أن كمال حال الأنبياء صلوات الله عليهم لا تحصل إلا بمجموع أمور أولها كثرة الدلائل والمعجزات وهو المراد من قوله أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وثانيها كون دينه مشتملاً على أمور يظهر لكل أحد كونها موصوفة بالصواب والصلاح ومطابقة الحكمة وموافقة المنفعة في الدنيا والآخرة وهو المراد من قوله وَدِينِ الْحَقّ وثالثها صيرورة دينه مستعلياً على سائر الأديان غالباً عليها غالباً لأضدادها قاهراً

لمنكريها وهو المراد من قوله لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ
واعلم أن ظهور الشيء على غيره قد يكون بالحجة وقد يكون بالكثرة والوفور وقد يكون بالغلبة والاستيلاء ومعلوم أنه تعالى بشر بذلك ولا يجوز أن يبشر إلا بأمر مستقبل غير حاصل وظهور هذا الدين بالحجة مقرر معلوم فالواجب حمله على الظهور بالغلبة
فإن قيل ظاهر قوله لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ يقتضي كونه غالباً لكل الأديان وليس الأمر كذلك فإن الإسلام لم يصر غالباً لسائر الأديان في أرض الهند والصين والروم وسائر أراضي الكفرة
قلنا أجابوا عنه من وجوه
الوجه الأول أنه لا دين بخلاف الإسلام إلا وقد قهرهم المسلمون وظهروا عليهم في بعض المواضع وإن لم يكن كذلك في جميع مواضعهم فقهروا اليهود وأخرجوهم من بلاد العرب وغلبوا النصارى على بلاد الشام وما والاها إلى ناحية الروم والغرب وغلبوا المجوس على ملكهم وغلبوا عباد الأصنام على كثير من بلادهم مما يلي الترك والهند وكذلك سائر الأديان فثبت أن الذي أخبر الله عنه في هذه الآية قد وقع وحصل وكان ذلك إخباراً عن الغيب فكان معجزاً
الوجه الثاني في الجواب أن نقول روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال هذا وعد من الله بأنه تعالى يجعل الإسلام عالياً على جميع الأديان وتمام هذا إنما يحصل عند خروج عيسى وقال السدي ذلك عند خروج المهدي لا يبقى أحد إلا دخل في الإسلام أو أدى الخراج
الوجه الثالث المراد ليظهر الإسلام على الدين كله في جزيرة العرب وقد حصل ذلك فإنه تعالى ما أبقى فيها أحداً من الكفار
الوجه الرابع أن المراد من قوله لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ أن يوقفه على جميع شرائع الدين ويطلعه عليها بالكلية حتى لا يخفى عليه منها شيء
الوجه الخامس أن المراد من قوله لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ بالحجة والبيان إلا أن هذا ضعيف لأن هذا وعد بأنه تعالى سيفعله والتقوية بالحجة والبيان كانت حاصلة من أول الأمر ويمكن أن يجاب عنه بأن في مبدأ الأمر كثرت الشبهات بسبب ضعف المؤمنين واستيلاء الكفار ومنع الكفار سائر الناس من التأمل في تلك الدلائل أما بعد قوة دولة الإسلام عجزت الكفار فضعفت الشبهات فقوي ظهور دلائل الإسلام فكان المراد من تلك البشارة هذه الزيادة
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الاٌّ حْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّة َ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَاذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ

اعلم أنه تعالى لما وصف رؤساء اليهود والنصارى بالتكبر والتجبر وادعاء الربوبية والترفع على الخلق وصفهم في هذه الآية بالطمع والحرص على أخذ أموال الناس تنبيهاً على أن المقصود من إظهار تلك الربوبية والتجبر والفخر أخذ أموال الناس بالباطل ولعمري من تأمل أحوال أهل الناموس والتزوير في زماننا وجد هذه الآيات كأنها ما أنزلت إلا في شأنهم وفي شرح أحوالهم فترى الواحد منهم يدعي أنه لا يلتفت إلى الدنيا ولا يتعلق خاطره بجميع المخلوقات وأنه في الطهارة والعصمة مثل الملائكة المقربين حتى إذا آل الأمر إلى الرغيف الواحد تراه يتهالك عليه ويتحمل نهاية الذل والدناءة في تحصيله وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قد عرفت أن الأحبار من اليهود والرهبان من النصارى بحسب العرف فالله تعالى حكى عن كثير منهم أنهم ليأكلون أموال الناس بالباطل وفيه أبحاث
البحث الأول أنه تعالى قيد ذلك بقوله كَثِيراً ليدل بذلك على أن هذه الطريقة طريقة بعضهم لا طريقة الكل فإن العالم لا يخلو عن الحق وإطباق الكل على الباطل كالممتنع هذا يوهم أنه كما أن إجماع هذه الأمة على الباطل لا يحصل فكذلك سائر الأمم
البحث الثاني أنه تعالى عبر عن أخذ الأموال بالأكل وهو قوله لَيَأْكُلُونَ والسبب في هذه الاستعارة أن المقصود الأعظم من جمع الأموال هو الأكل فسمى الشيء باسم ما هو أعظم مقاصده أو يقال من أكل شيئاً فقد ضمنه إلى نفسه ومنعه من الوصول إلى غيره ومن جمع المال فقد ضم تلك الأموال إلى نفسه ومنعها من الوصول إلى غيره فلما حصلت المشابهة بين الأكل وبين الأخذ من هذا الوجه سمى الأخذ بالأكل أو يقال إن من أخذ أموال الناس فإذا طولب بردها قال أكلتها وما بقيت فلا أقدر على ردها فلهذا السبب سمى الأخذ بالأكل
البحث الثالث أنه قال لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وقد اختلفوا في تفسير هذا الباطل على وجوه الأول أنهم كانوا يأخذون الرشا في تخفيف الأحكام والمسامحة في الشرائع والثاني أنهم كانوا يدعون عند الحشرات والعوام منهم أنه لا سبيل لأحد إلى الفوز بمرضاة الله تعالى إلا بخدمتهم وطاعتهم وبذل الأموال في طلب مرضاتهم والعوام كانوا يغترون بتلك الأكاذيب الثالث التوراة كانت مشتملة على آيات دالة على مبعث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فأولئك الأحبار والرهبان كانوا يذكرون في تأويلها وجوهاً فاسدة ويحملونها على محامل باطلة وكانوا يطيبون قلوب عوامهم بهذا السبب ويأخذون الرشوة والرابع أنهم كانوا يقررون عند عوامهم أن الدين الحق هو الذي هم عليه فإذا قرروا ذلك قالوا وتقوية الدين الحق واجب ثم قالوا ولا طريق إلى تقويته إلا إذا كان أولئك الفقهاء أقواماً عظماء أصحاب الأموال الكثيرة والجمع العظيم فبهذا الطريق يحملون العوام على أن يبذلوا في خدمتهم نفوسهم وأموالهم فهذا هو الباطل الذي كانوا به يأكلون أموال الناس وهي بأسرها حاضرة في زماننا وهو الطريق لأكثر الجهال والمزورين إلى أخذ أموال العوام والحمقى من الخلق

ثم قال وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لأنهم كانوا يقتلون على متابعتهم ويمنعون عن متابعة الأخيار من الخلق والعلماء في الزمان وفي زمان محمد عليه الصلاة والسلام كانوا يبالغون في المنع عن متابعته بجميع وجوه المكر والخداع
قال المصنف رضي الله عنه غاية مطلوب الخلق في الدنيا المال والجاه فبين تعالى في صفة الأحبار والرهبان كونهم مشغوفين بهذين الأمرين فالمال هو المراد بقوله لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وأما الجاه فهو المراد بقوله وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ فإنهم لو أقروا بأن محمداً على الحق لزمهم متابعته وحينئذ فكان يبطل حكمهم وتزول حرمتهم فلأجل الخوف من هذا المحذور كانوا يبالغون في المنع من متابعة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ويبالغون في إلقاء الشبهات وفي استخراج وجوه المكر والخديعة وفي منع الخلق من قبول دينه الحق والإتباع لمنهجه الصحيح
ثم قال وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّة َ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في قوله وَالَّذِينَ احتمالات ثلاثة لأنه يحتمل أن يكون المراد بقوله الَّذِينَ أولئك الأحبار والرهبان ويحتمل أن يكون المراد كلاماً مبتدأ على ما قال بعضهم المراد منه مانعو الزكاة من المسلمين ويحتمل أن يكون المراد منه كل من كنز المال ولم يخرج منه الحقوق الواجبة سواء كان من الأحبار والرهبان أو كان من المسلمين فلا شك أن اللفظ محتمل لكل واحد من هذه الوجوه الثلاثة وروي عن زيد بن وهب قال مررت بأبي ذر فقلت يا أبا ذر ما أنزلك هذه البلاد فقال كنت بالشام فقرأت وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّة َ فقال معاوية هذه الآية نزلت في أهل الكتاب فقلت إنها فيهم وفينا فصار ذلك سبباً للوحشة بيني وبينه فكتب إلى عثمان أن أقبل إلي فلما قدمت المدينة انحرف الناس عني كأنهم لم يروني من قبل فشكوت ذلك إلى عثمان فقال لي تنح قريباً إني والله لن أدع ما كنت أقول وعن الأحنف قال لما قدمت المدينة رأيت أبا ذر يقول بشر الكافرين برضف يحمى عليه في نار جهنم فتوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى تخرج من نغض كتفه حتى يرفض بدنه وتوضع على نغض كتفه حتى تخرج من حلمة ثديه فلما سمع القوم ذلك تركوه فاتبعته وقلت ما رأيت هؤلاء إلا كرهوا ما قلت لهم فقال ما عسى أن يصنع في قريش
قال مولانا رضي الله عنه إن كان المراد تخصيص هذا الوعيد بمن سبق ذكرهم وهم أهل الكتاب كان التقدير أنه تعالى وصفهم بالحرص الشديد على أخذ أموال الناس بقوله لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ ووصفهم أيضاً بالبخل الشديد والامتناع عن إخراج الواجبات عن أموال أنفسهم بقوله وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّة َ وإن كان المراد مانعي الزكاة من المؤمنين كان التقدير أنه تعالى وصف قبح طريقتهم في الحرص على أخذ أموال الناس بالباطل ثم ندب المسلمين إلى إخراج الحقوق الواجبة من أموالهم وبين ما في تركه من الوعيد الشديد وإن كان المراد الكل كان التقدير أنه تعالى وصفهم بالحرص على أخذ أموال الناس بالباطل ثم أردفه بوعيد كل من امتنع عن إخراج الحقوق الواجبة من ماله تنبيهاً على أنه لما

كان حال من أمسك مال نفسه بالباطل كذلك فما ظنك بحال من سعى في أخذ مال غيره بالباطل والتزوير والمكر
المسألة الثانية أصل الكنز في كلام العرب هو الجمع وكل شيء جمع بعضه إلى بعض فهو مكنوز يقال هذا جسم مكتنز الأجزاء إذا كان مجتمع الأجزاء واختلف علماء الصحابة في المراد بهذا الكنز المذموم فقال الأكثرون هو المال الذي لم تؤد زكاته وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما أديت زكاته فليس بكنز وقال ابن عمر كل ما أديت زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين وكل ما لم تؤد زكاته فهو كنز وإن كان فوق الأرض وقال جابر إذا أخرجت الصدقة من تلك فقد أذهبت عنه شره وليس بكنز وقال ابن عباس في قوله وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ يريد الذين لا يؤدون زكاة أموالهم قال القاضي تخصيص هذا المعنى بمنع الزكاة لا سبيل إليه بل الواجب أن يقال الكنز هو المال الذي ما أخرج عنه ما وجب إخراجه عنه ولا فرق بين الزكاة وبين ما يجب من الكفارات وبين ما يلزم من نفقة الحج أو الجمعة وبين ما يجب إخراجه في الدين والحقوق والإنفاق على الأهل أو العيال وضمان المتلفات وأروش الجنايات فيجب في كل هذه الأقسام أن يكون داخلاً في الوعيد
والقول الثاني أن المال الكثير إذا جمع فهو الكنز المذموم سواء أديت زكاته أو لم تؤد واحتج الذاهبون إلى القول الأول على صحة قولهم بأمور الأول عموم قوله تعالى لَهَا مَا كَسَبَتْ فإن ذلك يدل على أن كل ما اكتسبه الإنسان فهو حقه وكذا قوله تعالى وَلاَ يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ ( محمد 36 ) وقوله عليه الصلاة والسلام ( نعم المال الصالح للرجل الصالح ) وقوله عليه السلام ( كل امرىء أحق بكسبه ) وقوله عليه السلام ( ما أدى زكاته فليس بكنز وإن كان باطناً وما بلغ أن يزكى ولم يزك فهو كنز ) وإن كان ظاهراً الثاني أنه كان في زمان الرسول عليه الصلاة والسلام جماعة كعثمان وعبد الرحمن بن عوف وكان عليه السلام يعدهم من أكابر المؤمنين الثالث أنه عليه السلام ندب إلى إخراج الثلث أو أقل في المرض ولو كان جمع المال محرماً لكان عليه السلام أقر المريض بالتصدق بكله بل كان يأمر الصحيح في حال صحته بذلك واحتج الذاهبون إلى القول الثاني بوجوه الأول عموم هذه الآية ولا شك أن ظاهرها دليل على المنع من جمع المال فالمصير إلى أن الجمع مباح بعد إخراج الزكاة ترك لظاهر هذه الآية فلا يصار إليه إلا بدليل منفصل والثاني ما روى سالم بن الجعد أنه لما نزلت هذه الآية قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( تباً للذهب تباً للفضة قالها ثلاثاً فقالوا له أي مال نتخذ قال لساناً ذاكراً وقلباً خاشعاً وزوجة تعين أحدكم على دينه وقال عليه السلام ( من برك صفراء أو بيضاء كوى بها وتوفى رجل فوجد في مئزره دينار فقال عليه السلام ( كية ) وتوفي آخر فوجد في مئزره ديناران فقال عليه الصلاة والسلام ( كيتان ) والثالث ما روي عن الصحابة في هذا الباب فقال علي كل مال زاد على أربعة آلاف فهو كنز أديت منه الزكاة أو لم تؤد وعن أبي هريرة كل صفراء أو بيضاء أوكى عليها صاحبها فهي كنز وعن أبي الدرداء أنه كان إذا رأى أن العسير تقدم بالمال صعد على موضع مرتفع ويقول جاءت القطار تحمل النار وبشر الكنازين بكى في الجباه والجنوب والظهور والبطون والرابع أنه تعالى إنما خلق الأموال ليتوسل بها إلى دفع الحاجات فإذا حصل للإنسان قدر ما يدفع به حاجته ثم جمع الأموال الزائدة عليه فهو لا ينتفع بها لكونها زائدة على قدر حاجته

ومنعها من الغير الذي يمكنه أن يدفع حاجته بها فكان هذا الإنسان بهذا المنع مانعاً من ظهور حكمته ومانعاً من وصول إحسان الله إلى عبيده
واعلم أن الطريق الحق أن يقال الأولى أن لا يجمع الرجل الطالب للدين المال الكثير إلا أنه لم يمنع عنه في ظاهر الشرع فالأول محمول على التقوى والثاني على ظاهر الفتوى أما بيان أن الأولى الاحتراز عن طلب المال الكثير فبوجوه
الوجه الأول أن الإنسان إذا أحب شيئاً فكلما كان وصوله إليه أكثر والتذاذه بوجدانه أكثر كان حبه له أشد وميله أقوى فالإنسان إذا كان فقيراً فكأنه لم يذق لذة الانتفاع بالمال وكأنه غافل عن تلك اللذة فإذا ملك القليل من المال وجد بقدره اللذة فصار ميله أشد فكلما صارت أمواله أزيد كان التذاذه به أكثر وكان حرصه في طلبه وميله إلى تحصيله أشد فثبت أن تكثير المال سبب لتكثير الحرص في الطلب فالحرص متعب للروح والنفس والقلب وضرره شديد فوجب على العاقل أن يحترز عن الإضرار بالنفس وأيضاً قد بينا أنه كلما كان المال أكثر كان الحرص أشد فلو قدرنا أنه كان ينتهي طلب المال إلى حد ينقطع عنده الطلب ويزول الحرص لقد كان الأنسان يسعى في الوصول إلى ذلك الحد أما لما ثبت بالدليل أنه كلما كان تملك الأموال أكثر كان الضرر الناشىء من الحرص أكبر وأنه لا نهاية لهذا الضرر ولهذا الطلب فوجب على الإنسان أن يتركه في أول الأمر كما قال رأى الأمر يفضي إلى آخر
فيصير آخره أولاً
والوجه الثاني أن كسب المال شاق شديد وحفظه بعد حصوله أشد وأشق وأصعب فيبقى الإنسان طول عمره تارة في طلب التحصيل وأخرى في تعب الحفظ ثم إنه لا ينتفع بها إلا بالقليل وبالآخر يتركها مع الحسرات والزفرات وذلك هو الخسران المبين
والوجه الثالث أن كثرة المال والجاه ثورت الطغيان كما قال تعالى إِنَّ الإنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّءاهُ اسْتَغْنَى ( العلق 6 7 ) والطغيان يمنع من وصول العبد إلى مقام رضوان الرحمن ويوقعه في الخسران والخذلان
الوجه الرابع أنه تعالى أوجب الزكاة وذلك سعي في تنقيص المال ولو كان تكثيره فضيلة لما سعى الشرع في تنقيصه
فإن قيل لم قال عليه السلام ( اليد العليا خير من اليد السفلى )
قلنا اليد العليا إنما أفادته صفة الخيرية لأنه أعطى ذلك القليل فبسبب أنه حصل في ماله ذلك النقصان القليلة حصلت له الخيرية وبسبب أنه حصل للفقير تلك الزيادة القليل حصلت المرجوحية
المسألة الثالثة جاءت الأخبار الكثيرة في وعيد مانعي الزكاة أما منع زكاة النقود فقوله في هذه الآية يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ وأما منع زكاة المواشي فما روي في الحديث أنه تعالى يعذب أصحاب المواشي إذا لم يؤدوا زكاتها بأن يسوق إليه تلك المواشي كأعظم ما تكون في أجسامها فتمر على أربابها

فتطؤهم بأظلافها وتنطحهم بقرونها كلما نفدت أخراها عادت إليهم أولاها فلا يزال كذلك حتى يفرغ الناس من الحساب
المسألة الرابعة الصحيح عندنا وجوب الزكاة في الحلي والدليل عليه قوله تعالى وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّة َ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
فإن قيل هذا الوعيد إنما يتناول الرجال لا النساء
قلنا نتكلم في الرجل الذي اتخذ الحلي لنسائه وأيضاً ترتيب هذا الوعيد على جمع الذهب والفضة حكم مرتب على وصف يناسبه وهو أن جمع ذلك المال يمنعه من صرفه إلى المحتاجين مع أنه لا حاجة إليه إذ لو احتاج إلى إنفاقه لما قدر على جمعه وإقدام غير المحتاج على منع المال من المحتاج يناسب أن يمنع منه فثبت أن هذا الوعيد مرتب على وصف يناسبه والحكم المذكور عقيب وصف يناسبه يجب كونه معللاً به فثبت أن هذا الوعيد لذلك الجمع فأينما حصل ذلك الوصف وجب أن يحصل معه ذلك الوعيد وأيضاً أن العمومات الواردة في إيجاب الزكاة موجودة في الحلي المباح قال عليه السلام ( هاتوا ربع عشر أموالكم ) وقال ( في الرقة ربع العشر ) وقال ( يا علي عليك زكاة فإذا ملكت عشرين مثقالاً فأخرج نصف مثقال ) وقال ( ليس في المال حق سوى الزكاة وقال لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول ) فهذه الآية مع جميع هذه الأخبار توجب الزكاة في الحلي المباح ثم نقول ولم يوجد لهذا الدليل معارض من الكتاب وهو ظاهر لأنه ليس في القرآن ما يدل على أنه زكاة في الحلي المباح ولم يوجد في الأخبار أيضاً معارض إلا أن أصحابنا نقلوا فيه خبراً وهو قوله عليه السلام ( لا زكاة في الحلي المباح ) إلا أن أبا عيسى الترمذي قال لم يصح عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في الحلي خبر صحيح وأيضاً بتقدير أن يصح هذا الخبر فنحمله على اللآلىء لأنه قال لا زكاة في الحلي ولفظ الحلي مفرد محلى بالألف واللام وقد دللنا على أنه لو كان هناك معهود سابق وجب انصرافه إليه والمعهود في القرآن في لفظ الحلي اللآلىء قال تعالى وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَة ً تَلْبَسُونَهَا ( النحل 14 ) وإذا كان كذلك انصرف لفظ الحلي إلى اللآلىء فسقطت دلالته وأيضاً الاحتياط في القول بوجوب الزكاة وأيضاً لا يمكن معارضة هذا النص بالقياس لأن النص خير من القياس فثبت أن الحق ما ذكرناه
المسألة الخامسة أنه تعالى ذكر شيئين وهما الذهب والفضة
ثم قال وَلاَ يُنفِقُونَهَا وفيه وجهان الأول أن الضمير عائد إلى المعنى من وجوه أحدها أن كل واحد منهما جملة وآنية دنانير ودراهم فهو كقوله تعالى وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ ( الحجرات 9 ) وثانيها أن يكون التقدير ولا ينفقون الكنوز وثالثها قال الزجاج التقدير ولا ينفقون تلك الأموال
الوجه الثاني أن يكون الضمير عائداً إلى اللفظ وفيه وجوه أحدها أن يكون التقدير ولا ينفقون الفضة وحذف الذهب لأنه داخل في الفضة من حيث إنهما معاً يشتركان في ثمنية الأشياء وفي كونهما جوهرين شريفين وفي كونهما مقصودين بالكنز فلما كانا متشاركين في أكثر الصفات كان ذكر أحدهما مغنياً عن ذكر الآخر وثانيها أن ذكر أحدهما قد يغني عن الآخر كقوله تعالى وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَة ً أَوْ لَهْواً انفَضُّواْ إِلَيْهَا

( الجمعة 11 ) جعل الضمير للتجارة وقال وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَة ً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً ( النساء 112 ) فجعل الضمير للإثم وثالثها أن يكون التقدير ولا ينفقونها والذهب كذلك كما أن معنى قوله وإني وقيار بها لغريب
أي وقيا كذلك
فإن قيل ما السبب في أن خصا بالذكر من بين سائر الأموال
قلنا لأنهما الأصل المعتبر في الأموال وهما اللذان يقصدان بالكنز
واعلم أنه تعالى لما ذكر الذين يكنزون الذهب والفضة قال فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ أي فأخبرهم على سبيل التهكم لأن الذين يكنزون الذهب والفضة إنما يكنزونهما ليتوسلوا بهما إلى تحصيل الفرج يوم الحاجة فقيل هذا هو الفرج كما يقال تحيتهم ليس إلا الضرب وإكرامهم ليس إلا الشتم وأيضاً فالبشارة عن الخير الذي يؤثر في القلب فيتغير بسببه لون بشرة الوجه وهذا يتناول ما إذا تغيرت البشرة بسبب الفرح أو بسبب الغم
ثم قال تعالى يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كنزتم لأنفسكم وفي قراءة أبي وبطونهم وفيه سؤالات
السؤال الأول لا يقال أحميت على الحديد بل يقال أحميت الحديد فما الفائدة في قوله أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا
والجواب ليس المراد أن تلك الأموال تحمى على النار بل المراد أن النار تحمى على تلك الأموال التي هي الذهب والفضة أي يوقد عليها نار ذات حمى وحر شديد وهو مأخوذ من قوله نَارٌ حَامِيَة ٌ ولو قيل يوم تحمى لم يفد هذه الفائدة
فإن قالوا لما كان المراد يوم تحمى النار عليها فلم ذكر الفعل
فلنا لأن النار تأنيثها لفظي والفعل غير مسند في الظاهر إليه بل إلى قوله عَلَيْهَا فلا جرم حسن التذكير والتأنيث وعن ابن عامر أنه قرأ تحمى بالتاء
السؤال الثاني ما الناصب لقوله لايّ يَوْمٍ
الجواب التقدير فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها
السؤال الثالث لم خصت هذه الأعضاء
والجواب لوجوه أحدها أن المقصود من كسب الأموال حصول فرح في القلب يظهر أثره في الوجوه وحصول شبع ينتفخ بسببه الجنبان ولبس ثياب فاخرة يطرحونها على ظهورهم فلما طلبوا تزين هذه الأعضاء الثلاثة لا جرم حصل الكي على الجباه والجنوب والظهور وثانيها أن هذه الأعضاء الثلاثة مجوفة قد حصل في داخلها آلات ضعيفة يعظم تألمها بسبب وصول أدنى أثر إليها بخلاف سائر الأعضاء وثالثها قال أبو بكر الوراق خصت هذه المواضع بالذكر لأن صاحب المال إذا رأى الفقير بجنبه تباعد

عنه وولى ظهره ورابعها أن المعنى أنهم يكوون على الجهات الأربع إما من مقدمه فعلى الجبهة وإما من خلفه فعلى الظهور وإما من يمينه ويساره فعلى الجنبين وخامسها أن ألطف أعضاء الإنسان جبينه والعضو المتوسط في اللطافة والصلابة جنبه والعضو الذي هو أصلب أعضاء الإنسان ظهره فبين تعالى أن هذه الأقسام الثلاثة من أعضائه تصير مغمورة في الكي والغرض منه التنبيه على أن ذلك الكي يحصل في تلك الأعضاء وسادسها أن كمال حال بدن الإنسان في جماله وقوته أما الجمال فمحله الوجه وأعز الأعضاء في الوجه الجبهة فإذا وقع الكي في الجبهة فقد زال الجمال بالكلية وأما القوة فمحلها الظهر والجنبان فإذا حصل الكي عليها فقد زالت القوة عن البدن فالحاصل أن حصول الكي في هذه الأعضاء الثلاثة يوجب زوال الجمال وزوال القوة والإنسان إنما طلب المال لحصول الجمال ولحصول القوة
السؤال الرابع الذي يجعل كياً على بدن الإنسان هو كل ذلك المال أو القدر الواجب من الزكاة
والجواب مقتضى الآية الكل لأنه لما يخرج منه لم يكن الحق منه جزءاً معيناً بل لا جزء إلا والحق متعلق به فوجب أن يعذبه الله بكل الأجزاء
ثم إنه تعالى قال هَاذَا مَا كَنَزْتُمْ لانفُسِكُمْ والتقدير فيقال لهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا والغرض منه تعظيم الوعيد لأنهم إذا عاينوا ما يعذبون به من درهم أو من دينار أو من صفيحة معمولة منهما أو من أحدهما جوزوا فيه أن يكون عن الحق الذي منعه وجوزوا خلاف ذلك فعظم الله تبكيتهم بأن يقال لهم هذا ما كنزتم لأنفسكم لم تأثروا به رضا ربكم ولا قصدتم بالإنفاق منه نفع أنفسكم والخلاص به من عقاب ربكم فصرتم كأنكم ادخرتموه ليجعل عقاباً لكم على ما تشاهدونه ثم يقول تعالى فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ومعناه لم تصرفوه لمنافع دينكم ودنياكم على ما أمركم الله به فَذُوقُواْ وبال ذلك به لا بغيره
إِنَّ عِدَّة َ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات والأرض مِنْهَآ أَرْبَعَة ٌ حُرُمٌ ذالِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّة ً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّة ً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ
اعلم أن هذا شرح النوع الثالث من قبائح أعمال اليهود والنصارى والمشركين وهو إقدامهم على السعي في تغييرهم أحكام الله وذلك لأنه تعالى لما حكم في كل وقت بحكم خاص فإذا غيروا تلك الأحكام بسبب النسىء فحينئذ كان ذلك سعياً منهم في تغيير حكم السنة بحسب أهوائهم وآرائهم فكان ذلك زيادة في كفرهم وحسرتهم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن السنة عند العرب عبارة عن اثني عشر شهراً من الشهور القمرية والدليل عليه هذه الآية وأيضاً قوله تعالى هُوَ الَّذِى جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السّنِينَ وَالْحِسَابَ ( يونس 5 ) فجعل تقدير القمر بالمنازل علة للسنين والحساب وذلك إنما يصح إذا كانت السنة

معلقة بسير القمر وأيضاً قال تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ الاهِلَّة ِ قُلْ هِى َ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجّ ( البقرة 189 ) وعند سائر الطوائف عبارة عن المدة التي تدور الشمس فيها دورة تامة والسنة القمرية أقل من السنة الشمسية بمقدار معلوم وبسبب ذلك النقصان تنتقل الشهور القمرية من فصل إلى فصل فيكون الحج واقعاً في الشتاء مرة وفي الصيف أخرى وكان يشق الأمر عليهم بهذا السبب وأيضاً إذا حضروا الحج حضروا للتجارة فربما كان ذلك الوقت غير موافق لحضور التجارات من الأطراف وكان يخل أسباب تجاراتهم بهذا السبب فلهذا السبب أقدموا على عمل الكبيسة على ما هو معلوم في علم الزيجات واعتبروا السنة الشمسية وعند ذلك بقي زمان الحج مختصاً بوقت واحد معين موافق لمصلحتهم وانتفعوا بتجاراتهم ومصالحهم فهذا النسىء وإن كان سبباً لحصول المصالح الدنيوية إلا أنه لزم منه تغير حكم الله تعالى لأنه تعالى لما خص الحج بأشهر معلومة على التعيين وكان بسبب ذلك النسىء يقع في سائر الشهور تغير حكم الله وتكليفه فالحاصل أنهم لرعاية مصالحهم في الدنيا سعوا في تغيير أحكام الله وإبطال تكليفه فلهذا المعنى استوجبوا الذم العظيم في هذه الآية
واعلم أن السنة الشمسية لما كانت زائدة على السنة القمرية جمعوا تلك الزيادة فإذا بلغ مقدارها إلى شهر جعلوا تلك السنة ثلاثة عشر شهراً فأنكر الله تعالى ذلك عليهم وقال إن حكم الله أن تكون السنة اثني عشر شهراً لا أقل ولا أزيد وتحكمهم على بعض السنين أنه صار ثلاثة عشر شهراً حكم واقع على خلاف حكم الله تعالى ويوجب تغيير تكاليف الله تعالى وكل ذلك على خلاف الدين
واعلم أن مذهب العرب من الزمان الأول أن تكون السنة قمرية لا شمسية وهذا حكم تورثوه عن إبراهيم وإسمعيل عليهما الصلاة والسلام فأما عند اليهود والنصارى فليس كذلك ثم إن بعض العرب تعلم صفة الكبيسة من اليهود والنصارى فأظهر ذلك في بلاد العرب
المسألة الثانية قال أبو علي الفارسي لا يجوز أن يتعلق قوله في كتاب الله بقوله عِدَّة َ لأنه يقتضي الفصل بين الصلة والموصول بالخبر الذي هو قوله اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً وأنه لا يجوز وأقول في إعراب هذه الآية وجوه الأول أن نقول قوله عِدَّة َ الشُّهُورِ مبتدأ وقوله اثْنَا عَشَرَ شَهْراً خبر وقوله عَندَ اللَّهِ في كتاب الله يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ظروف أبدل البعض من البعض والتقدير إن عدة الشهور اثنا عشر شهراً عند الله في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض والفائدة في ذكر هذه الإبدالات المتوالية تقرير أن ذلك العدد واجب متقرر في علم الله وفي كتاب الله من أول ما خلق الله تعالى العالم الثاني أن يكون قوله تعالى فِى كِتَابِ اللَّهِ متعلقاً بمحذوف يكون صفة للخبر تقديره اثنا عشر شهراً مثبتة في كتاب الله ثم لا يجوز أن يكون المراد بهذا الكتاب كتاب من الكتب لأنه متعلق بقوله يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَة ٌ حُرُمٌ وأسماء الأعيان لا تتعلق بالظروف فلا تقول غلامك يوم الجمعة بل الكتاب ههنا مصدر والتقدير إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله أي في حكمه الواقع يوم خلق السموات والثالث أن يكون الكتاب اسماً وقوله يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ متعلق بفعل محذوف والتقدير إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً مكتوباً في كتاب الله كتبه يوم خلق السموات والأرض

المسألة الثالثة في تفسير أحكام الآية إِنَّ عِدَّة َ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ أي في علمه اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ وفي تفسير كتاب الله وجوه الأول قال ابن عباس إن اللوح المحفوظ الذي كتب فيه أحوال مخلوقاته بأسرها على التفصيل وهو الأصل للكتب التي أنزلها الله على جميع الأنبياء عليهم السلام الثاني قال بعضهم المراد من الكتاب القرآن وقد ذكرنا آيات تدل على أن السنة المعتبرة في دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) هي السنة القمرية وإذا كان كذلك كان هذا الحكم مكتوباً في القرآن الثالث قال أبو مسلم فِى كِتَابِ اللَّهِ أي فيما أوجبه وحكم به والكتاب في هذا الموضع هو الحكم والإيجاب كقوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ ( البقرة 216 ) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ ( البقرة 178 ) كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة َ ( الأنعام 54 ) قال القاضي هذا الوجه بعيد لأنه تعالى جعل الكتاب في هذه الآية كالظرف وإذا حمل الكتاب على الحساب لم يستقم ذلك إلا على طريق المجاز ويمكن أن يجاب عنه بأنه وإن كان مجازاً إلا أنه مجاز متعارف يقال إن الأمر كذا وكذا في حساب فلان وفي حكمه
وأما قوله يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فقد ذكرنا في المسألة الثانية وجوهاً فيما يتعلق به والأقرب ما ذكرناه في الوجه الثالث وهو أن يكون المراد أنه كتب هذا الحكم وحكم به يوم خلق السموات والأرض والمقصود بيان أن هذا الحكم حكم محكوم به من أول خلق العالم وذلك يدل على المبالغة والتأكيد
وأما قوله مِنْهَا أَرْبَعَة ٌ حُرُمٌ فقد أجمعوا على أن هذه الأربعة ثلاثة منها سرد وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم وواحد فرد وهو رجب ومعنى الحرم أن المعصية فيها أشد عقاباً والطاعة فيها أكثر ثواباً والعرب كانوا يعظمونها جداً حتى لو لقي الرجل قاتل أبيه لم يتعرض له
فإن قيل أجزاء الزمان متشابهة في الحقيقة فما السبب في هذا التمييز
قلنا إن هذا المعنى غير مستبعد في الشرائع فإن أمثلته كثيرة ألا ترى أنه تعالى ميز البلد الحرام عن سائر البلاد بمزيد الحرمة وميز يوم الجمعة عن سائر أيام الأسبوع بمزيد الحرمة وميز يوم عرفة عن سائر الأيام بتلك العبادة المخصوصة وميز شهر رمضان عن سائر الشهور بمزيد حرمة وهو وجوب الصوم وميز بعض ساعات اليوم بوجوب الصلاة فيها وميز بعض الليالي عن سائرها وهي ليلة القدر وميز بعض الأشخاص عن سائر الناس بإعطاء خلعة الرسالة وإذا كانت هذه الأمثلة ظاهرة مشهورة فأي استبعاد في تخصيص بعض الأشهر بمزيد الحرمة ثم نقول لا يبعد أن يعلم الله تعالى أن وقوع الطاعة في هذه الأوقات أكثر تأثيراً في طهارة النفس ووقوع المعاصي فيها أقوى تأثيراً في خبث النفس وهذا غير مستبعد عند الحكماء ألا ترى أن فيهم من صنف كتباً في الأوقات التي ترجى فيها إجابة الدعوات وذكروا أن تلك الأوقات المعينة حصلت فيها أسباب توجب ذلك وسئل النبي عليه الصلاة والسلام أي الصيام أفضل فقال عليه الصلاة والسلام ( أفضله بعد صيام شهر رمضان صيام شهر الله المحرم ) وقال عليه الصلاة والسلام ( من صام يوماً من أشهر الله الحرم كان له بكل يوم ثلاثون يوماً ) وكثير من الفقهاء غلظوا الدية على القاتل بسبب وقوع القتل في هذه الاْشهر وفيه فائدة أخرى وهي أن الطباع مجبولة على الظلم والفساد وامتناعهم من هذه القبائح على الإطلاق شاق عليهم فالله سبحانه وتعالى خص بعض الأوقات بمزيد التعظيم والاحترام وخص بعض الأماكن بمزيد التعظيم والاحترام حتى أن

الإنسان ربما امتنع في تلك الأزمنة وفي تلك الأمكنة من القبائح والمنكرات وذلك يوجب أنواعاً من الفضائل والفوائد أحدها أن ترك تلك القبائح في تلك الأوقات أمر مطلوب لأنه يقل القبائح وثانيها أنه لما تركها في تلك الأوقات فربما صار تركه لها في تلك الأوقات سبباً لميل طبعه إلى الإعراض عنها مطلقاً وثالثها أن الإنسان إذا أتى بالطاعات في تلك الأوقات وأعرض عن المعاصي فيها فبعد انقضاء تلك الأوقات لو شرع في القبائح والمعاصي صار شروعه فيها سبباً لبطلان ما تحمله من العناء والمشقة في أداء تلك الطاعات في تلك الأوقات والظاهر من حال العاقل أن لا يرضى بذلك فيصير ذلك سبباً لاجتنابه عن المعاصي بالكلية فهذا هو الحكمة في تخصيص بعض الأوقات وبعض البقاع بمزيد التعظيم والاحترام
ثم قال تعالى ذالِكَ الدّينُ الْقَيّمُ وفيه بحثان
البحث الأول أن قوله ذالِكَ إشارة إلى قوله إِنَّ عِدَّة َ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً لا أزيد ولا أنقص أو إلى قوله مِنْهَا أَرْبَعَة ٌ حُرُمٌ وعندي أن الأول أولى لأن الكفار سلموا أن أربعة منها حرم إلا أنهم بسبب الكبسة ربما جعلوا السنة ثلاثة عشر شهراً وكانوا يغيرون مواقع الشهور والمقصود من هذه الآية الرد على هؤلاء فوجب حمل اللفظ عليه
البحث الثاني في تفسير لفظ الدين وجوه الأول أن الدين قد يراد به الحساب يقال الكيس من دان نفسه أي حاسبها والقيم معناه المستقيم فتفسير الآية على هذا التقدير ذلك الحساب المستقيم الصحيح والعدل المستوفى الثاني قال الحسن ذلك الذين القيم الذي لا يبدل ولا يغير فالقيم ههنا بمعنى القائم الذي لا يبدل ولا يغير الدائم الذي لا يزول وهو الدين الذي فطر الناس عليه الثالث قال بعضهم المراد أن هذا التعبد هو الدين اللازم في الإسلام وقال القاضي حمل لفظ الدين على العبادة أولى من حمله على الحساب لأنه مجاز فيه ويمكن أن يقال الأصل في لفظ الدين الانقياد يقال يا من دانت له الرقاب أي انقادت فالحساب يسمى ديناً لأنه يوجب الانقياد والعدة تسمى ديناً فلم يكن حمل هذا اللفظ على التعبد أولى من حمله على الحساب قال أهل العلم الواجب على المسلمين بحكم هذه الآية أن يعتبروا في بيوعهم ومدد ديونهم وأحوال زكواتهم وسائر أحكامهم السنة العربية بالأهلة ولا يجوز لهم اعتبار السنة العجمية والرومية
ثم قال تعالى فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وفيه بحثان
البحث الأول الضمير في قوله فِيهِنَّ فيه قولان الأول وهو قول ابن عباس أن المراد فلا تظلموا في الشهور الإثني عشر أنفسكم والمقصود منع الإنسان من الإقدام على الفساد مطلقاً في جميع العمر والثاني وهو قول الأكثرين أن الضمير في قوله فِيهِنَّ عائد إلى الأربعة الحرم قالوا والسبب فيه ما ذكرنا أن لبعض الأوقات أثراً في زيادة الثواب على الطاعات والعقاب على المحظورات والدليل على أن هذا القول أولى وجوه الأول أن الضمير في قوله فِيهِنَّ عائد إلى المذكور السابق فوجب عوده إلى أقرب المذكورات وما ذاك إلا قوله مِنْهَا أَرْبَعَة ٌ حُرُمٌ الثاني أن الله تعالى خص هذه الأشهر بمزيد الاحترام في آية أخرى وهو قوله الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجّ

فهذه الأشياء غير جائزة في غير الحج أيضاً إلا أنه تعالى أكد في المنع منها في هذه الأيام تنبيهاً على زيادتها في الشرف الثالث قال الفراء الأولى رجوعها إلى الأربعة لأن العرب تقول فيما بين الثلاثة إلى العشرة فِيهِنَّ فإذا جاوز هذا العدد قالوا فيها والأصل فيه أن جمع القلة يكنى عنه كما يكنى عن جماعة مؤنثة ويكنى عن جمع الكثرة كما يكنى عن واحدة مؤنثة كما قال حسان بن ثابت لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى
وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
قال يلمعن ويقطرن لأن الأسياف والجفنات جمع قلة ولو جمع جمع الكثرة لقال تلمع وتقطر هذا هو الاختيار ثم يجوز إجراء أحدهما مجرى الآخر كقول النابغة ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
بهن فلول من قراع الكتائب
فقال بهن والسيوف جمع كثرة
البحث الثاني في تفسير هذا الظلم أقوال الأول المراد منه النسىء الذي كانوا يعملونه فينقلون الحج من الشهر الذي أمر الله بإقامته فيه إلى شهر آخر ويغيرون تكاليف الله تعالى والثاني أنه نهى عن المقاتلة في هذه الأشهر والثالث أنه نهى عن جميع المعاصي بسبب ما ذكرنا أن لهذه الأشهر مزيد أثر في تعظيم الثواب والعقاب والأقرب عندي حمله على المنع من النسىء لأن الله تعالى ذكره عقيب الآية
ثم قال وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَافَّة ً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّة ً وفيه مباحث
البحث الأول قال الفراء كَافَّة ً أي جميعاً والكافة لا تكون مذكرة ولا مجموعة على عدد الرجال فنقول كافين أو كافات للنساء ولكنها كَافَّة ً بالهاء والتوحيد لأنها وإن كانت على لفظ فاعلة فإنها في ترتيب مصدر مثل الخاصة والعامة ولذلك لم تدخل العرب فيها الألف واللام لأنها في مذهب قولك قاموا معاً وقاموا جميعاً وقال الزجاج كافة منصوب على الحال ولا يجوز أن يثنى ولا يجمع كما أنك إذا قلت قاتلوهم عامة لم تثن ولم تجمع وكذلك خاصة
البحث الثاني في قوله كَافَّة ً قولان الأول أن يكون المراد قاتلوهم بأجمعهم مجتمعين على قتالهم كما أنهم يقاتلونكم على هذه الصفة يريد تعاونوا وتناصروا على ذلك ولا تتخاذلوا ولا تتقاطعوا وكونوا عباد الله مجتمعين متوافقين في مقاتلة الأعداء والثاني قال ابن عباس قاتلوهم بكليتهم ولا تحابوا بعضهم بترك القتال كما أنهم يستحلون قتال جميعكم والقول الأول أقرب حتى يصح قياس أحد الجانبين على الآخر
البحث الثالث ظاهر قوله قَاتَلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَافَّة ً إباحة قتالهم في جميع الأشهر ومن الناس من يقول المقاتلة مع الكفار محرمة بدليل قوله مِنْهَا أَرْبَعَة ٌ حُرُمٌ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ أي فلا تظلموا فيهن أنفسكم باستحلال القتال والغارة فيهن وقد ذكرنا هذه المسألة في سورة البقرة في تفسير قوله يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ( البقرة 217 )

ثم قال وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ يريد مع أوليائه الذين يخشونه في أداء الطاعات والاجتناب عن المحرمات قال الزجاج تأويله أنه ضامن لهم النصر
إِنَّمَا النَّسِى ءُ زِيَادَة ٌ فِى الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّة َ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُو ءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في النَّسِىء قولان
القول الأول أنه التأخير قال أبو زيد نسأت الإبل عن الحوض أنسأها نسأ إذا أخرتها وأنسأته إنساء إذا أخرته عنه والاسم النسيئة والنسء ومنه أنسأ الله فلاناً أجله ونسأ في أجله قال أبو علي الفارسي النسىء مصدر كالنذير والنكير ويحتمل أيضاً أن يكون نسىء بمعنى منسوء كقتيل بمعنى مقتول إلا أنه لا يمكن أن يكون المراد منه ههنا المفعول لأنه إن حمل على ذلك كان معناه إنما المؤخر زيادة في الكفر والمؤخر الشهر فيلزم كون الشهر كفراً وذلك باطل بل المراد من النسيء ههنا المصدر بمعنى الإنساء وهو التأخير وكان النسىء في الشهور عبارة عن تأخير حرمة شهر إلى شهر آخر ليست له تلك الحرمة وروي عن ابن كثير من طريق شبل النسء بوزن النفع وهو المصدر الحقيقي كقولهم نسأت أي أخرت وروي عنه أيضاً النسىء مخففة الياء ولعله لغة في النسء بالهمزة مثل أرجيت وأرجأت وروي عنه النسي مشدد الياء بغير همزة وهذا على التخفيف القياسي
والقول الثاني قال قطرب النسىء أصله من الزيادة يقال نسأل في الأجل وأنسأ إذا زاد فيه وكذلك قيل للبن النسء لزيادة الماء فيه ونسأت المرأة حبلت جعل زيادة الولد فيها كزيادة الماء في اللبن وقيل للناقة نسأتها أي زجرتها ليزداد سيرها وكل زيادة حدثت في شيء فهو نسىء قال الواحدي الصحيح القول الأول وهو أن أصل النسىء التأخير ونسأت المرأة إذا حبلت لتأخر حيضها ونسأت الناقة أي أخرتها عن غيرها لئلا يصير اختلاط بعضها ببعض مانعاً من حسن المسير ونسأت اللبن إذا أخرته حتى كثر الماء فيه
إذا عرفت هذين القولين فنقول إن القوم علموا أنهم لو رتبوا حسابهم على السنة القمرية فإنه يقع حجهم تارة في الصيف وتارة في الشتاء وكان يشق عليهم الأسفار ولم ينتفعوا بها في المرابحات والتجارات لأن سائر الناس من سائر البلاد ما كانوا يحضرون إلا في الأوقات اللائقة الموافقة فعلموا أن

بناء الأمر على رعاية السنة القمرية يخل بمصالح الدنيا فتركوا ذلك واعتبروا السنة الشمسية ولما كانت السنة الشمسية زائدة على السنة القمرية بمقدار معين احتاجوا إلى الكبيسة وحصل لهم بسبب تلك الكبيسة أمران أحدهما أنهم كانوا يجعلون بعض السنين ثلاثة عشر شهراً بسبب اجتماع تلك الزيادات والثاني أنه كان ينتقل الحج من بعض الشهور القمرية إلى غيره فكان الحج يقع في بعض السنين في ذي الحجة وبعده في المحرم وبعده في صفر وهكذا في الدور حتى ينتهي بعد مدة مخصوصة مرة أخرى إلى ذي الحجة فحصل بسبب الكبيسة هذان الأمران أحدهما الزيادة في عدة الشهور والثاني تأخير الحرمة الحاصلة لشهر إلى شهر آخر وقد بينا أن لفظ النسىء يفيد التأخير عند الأكثرين ويفيد الزيادة عند الباقين وعلى التقديرين فإنه منطبق على هذين الأمرين
والحاصل من هذا الكلام أن بناء العبادات على السنة القمرية يخل مصالح الدنيا وبناؤها على السنة الشمسية يفيد رعاية مصالح الدنيا والله تعالى أمرهم من وقت إبراهيم وإسمعيل عليهما السلام ببناء الأمر على رعاية السنة القمرية فهم تركوا أمر الله في رعاية السنة القمرية واعتبروا السنة الشمسية رعاية لمصالح الدنيا وأوقعوا الحج في شهر آخر سوى الأشهر الحرم فلهذا السبب عاب الله عليهم وجعله سبباً لزيادة كفرهم وإنما كان ذلك سبباً لزيادة الكفر لأن الله تعالى أمرهم بإيقاع الحج في الأشهر الحرم ثم إنهم بسبب هذه الكبيسة أوقعوه في غير هذه الأشهر وذكروا لأتباعهم أن هذا الذي عملناه هو الواجب وأن إيقاعه في الشهور القمرية غير واجب فكان هذا إنكاراً منهم لحكم الله مع العلم به وتمرداً عن طاعته وذلك يوجب الكفر بإجماع المسلمين فثبت أن عملهم في ذلك النسىء يوجب زيادة في الكفر وأما الحساب الذي به يعرف مقادير الزيادة الحاصلة بسبب تلك الكبائس فمذكور في الزيجات وأما المفسرون فإنهم ذكروا في سبب هذا التأخير وجهاً آخر فقالوا إن العرب كانت تحرم الشهور الأربعة وكان ذلك شريعة ثابتة من زمان إبراهيم وإسمعيل عليهما السلام وكان العرب أصحاب حروب وغارات فشق عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية لا يغزون فيها وقالوا إن توالت ثلاثة أشهر حرم لا نصيب فيها شيئاً لنهلكن وكانوا يؤخرون تحريم المحرم إلى صفر فيحرمونه ويستحلون المحرم قال الواحدي وأكثر العلماء على أن هذا التأخير ما كان يختص بشهر واحد بل كان ذلك حاصلاً في كل الشهور وهذا القول عندنا هو الصحيح على ما قررناه واتفقوا أنه عليه السلام لما أراد أن يحج في سنة حجة الوداع عاد الحج إلى شهر ذي الحجة في نفس الأمر فقال عليه السلام ( ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض السنة إثنا عشر شراً ) وأراد أن الأشهر الحرم رجعت إلى مواضعها
المسألة الثانية قوله تعالى زِيَادَة ٌ فِى الْكُفْرِ معناه أنه تعالى حكى عنهم أنواعاً كثيرة من الكفر فلما ضموا إليها هذا العمل ونحن قد دللنا على أن هذا العمل كفر كان ضم هذا العمل إلى تلك الأنواع المذكورة سالفاً من الكفر زيادة في الكفر احتج الجبائي بهذه الآية على فساد قول من يقول الإيمان مجرد الاعتقاد والإقرار قال لأنه تعالى بين أن هذا العمل زيادة في الكفر والزيادة على الكفر يجب أن تكون إتماماً فكان ترك هذا التأخير إيماناً وظاهر أن هذا الترك ليس بمعرفة ولا بإقرار فثبت أن غير المعرفة والإقرار قد يكون إيماناً قال المصنف رضي الله عنه هذا الاستدلال ضعيف لأنا بينا أنه تعالى لما أوجب عليهم إيقاع الحج في شهر ذي الحجة مثلاً من الأشهر القمرية فإذا اعتبرنا السنة الشمسية فربما وقع الحج

في المحرم مرة وفي صفر أخرى فقولهم بأن هذا الحج صحيح يجزى وأنه لا يجب عليهم إيقاع الحج في شهر ذي الحجة إن كان منهم بحكم علم بالضرورة كونه من دين إبراهيم وإسمعيل عليهما السلام فكان هذا كفراً بسبب عدم العلم وبسبب عدم الإقرار
أما قوله تعالى يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فهذا قراءة العامة وهي حسنة لإسناد الضلال إلى الذين كفروا لأنهم إن كانوا ضالين في أنفسهم فقد حسن إسناد الضلال إليهم وإن كانوا مضلين لغيرهم حسن أيضاً لأن المضل لغيره ضال في نفسه لامحال وقراءة أهل الكوفة يُضِلَّ بضم الياء وفتح الضاد ومعناه أن كبراءهم يضلونهم بحملهم على هذا التأخير في الشهور فأسند الفعل إلى المفعول كقوله في هذه الآية زُيّنَ لَهُمْ سُوء أَعْمَالِهِمْ أي زين لهم ذلك حاملوهم عليه وقرأ أبو عمرو في رواية من طريق ابن مقسم يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بضم الياء وكسر الضاد وله ثلاثة أوجه أحدها يضل الله به الذين كفروا والثاني يضل الشيطان به الذين كفروا والثالث وهو أقواها يضل به الذين كفروا تابعيهم والآخذين بأقوالهم وإنما كان هذا الوجه أقوى لأنه لم يجر ذكر الله ولا ذكر الشيطان
واعلم أن الكناية في قوله يُضِلُّ بِهِ يعود إلى النسىء وقوله يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرّمُونَهُ عَامًا فالضمير عائد إلى النسىء والمعنى يحلون ذلك الإنساء عاماً ويحرمونه عاماً قال الواحدي يحلون التأخير عاماً وهو العام الذي يريدون أن يقاتلوا في المحرم ويحرمون التأخير عاماً آخر وهو العام الذي يدعون المحرم على تحريمه قال رضي الله عنه هذا التأويل إنما يصح إذا فسرنا النسىء بأنهم كانوا يؤخرون المحرم في بعض السنين وذلك يوجب أن ينقلب الشهر المحرم إلى الحل وبالعكس إلا أن هذا إنما يصلح لو حملنا النسىء على المفعول وهو المنسوء المؤخر وقد ذكرنا أنه مشكل لأنه يقتضي أن يكون الشهر المؤخر كفراً وأنه غير جائز إلا إذا قلنا إن المراد من النسىء المنسوء وهو المفعول وحملنا قوله إِنَّمَا النَّسِىء زيادة في الكفر على أن المراد العمل الذي به يصير النسىء سبباً في زيادة الكفر وبسبب هذا الإضمار يقوى هذا التأويل
أما قوله لّيُوَاطِئُواْ عِدَّة َ مَا حَرَّمَ اللَّهُ قال أهل اللغة يقال واطأت فلاناً على كذا إذا وافقته عليه قال المبرد يقال تواطأ القوم على كذا إذا اجتمعوا عليه كان كل واحد يطأ حيث يطأ صاحبه والإيطاء في الشعر من هذا وهو أن يأتي في القصيدة بقافيتين على لفظ واحد ومعنى واحد قال ابن عباس رضي الله عنهما أنهم ما أحلوا شهراً من الحرام إلا حرموا مكانه شهراً من الحلال ولم يحرموا شهراً من الحلال إلا أحلوا مكانه شهراً من الحرام لأجل أن يكون عدد الأشهر الحرم أربعة مطابقة لما ذكره الله تعالى هذا هو المراد من المواطأة ولما بين تعالى كون هذا العمل كفراً ومنكراً قال زُيّنَ لَهُمْ سُوء أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ قال ابن عباس والحسن يريد زين لهم الشيطان هذا العمل والله لا يرشد كل كفار أثيم
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأرض أَرَضِيتُم بِالْحَيَواة ِ الدُّنْيَا مِنَ الاٌّ خِرَة ِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاة ِ الدُّنْيَا فِى الاٌّ خِرَة ِ إِلاَّ قَلِيلٌ

في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما شرح معايب هؤلاء الكفاء وفضائحهم عاد إلى الترغيب في مقاتلتهم وقال ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الاْرْضِ وتقرير الكلام أنه تعالى ذكر في الآيات السابقة أسباباً كثيرة موجبة لقتالهم وذكر منافع كثيرة تحصل من مقاتلتهم كقوله يُعَذّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ ( التوبة 14 ) وذكر أقوالهم المنكرة وأعمالهم القبيحة في الدين والدنيا وعند هذا لا يبقى للإنسان مانع من قتالهم إلا مجرد أن يخاف القتل ويحب الحياة فبين تعالى أن هذا المانع خسيس لأن سعادة الدنيا بالنسبة إلى سعادة الآخرة كالقطرة في البحر وترك الخير الكثير لأجل الشر القليل جهل وسفه
المسألة الثانية المروي عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في غزوة تبوك وذلك لأنه عليه السلام لما رجع من الطائف أقام بالمدينة وأمر بجهاد الروم وكان ذلك الوقت زمان شدة الحر وطابت ثمار المدينة وأينعت واستعظموا غزو الروم وهابوه فنزلت هذه الآية قال المحققون وإنما استثقل الناس ذلك لوجوه أحدها شدة الزمان في الصيف والقحط وثانيها بعد المسافة والحاجة إلى الاستعداد الكثير الزائد على ما جرت به العادة في سائر الغزوات وثالثها إدراك الثمار بالمدينة في ذلك الوقت ورابعها شدة الحر في ذلك الوقت وخامسها مهابة عسكر الروم فهذه الجهات الكثيرة اجتمعت فاقتضت تثاقل الناس عن ذلك الغزو والله أعلم
المسألة الثالثة يقال استنفر الإمام الناس لجهاد العدو فنفروا ينفرون نفراً ونفوراً إذا حثهم ودعاهم إليه ومنه قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا استنفرتم فانفروا ) وأصل النفر الخروج إلى مكان لأمر واجب واسم ذلك القوم الذين يخرجون النفير ومنه قولهم فلان لا في العير ولا في النفير وقوله اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الاْرْضِ أصله تثاقلتم وبه قرأ الأعمش ومعناه تباطأتم ونظيره قوله ادارأتم وقوله قَالُواْ اطَّيَّرْنَا بِكَ قال صاحب ( الكشاف ) وضمن معنى الميل والإخلاد فعدي بالى والمعنى ملتم إلى الدنيا وشهواتها وكرهتم مشاق السفر ومتاعبه ونظيره أَخْلَدَ إِلَى الاْرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ( الأعراف 176 ) وقيل معناه ملتم إلى الإقامة بأرضكم والبقاء فيها وقوله مَالَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ( التوبة 38 ) وإن كان في الظاهر استفهاماً إلا أن المراد منه المبالغة في الإنكار
ثم قال تعالى ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ والمعنى كأنه قيل قد ذكرنا الموجبات الكثيرة الداعية إلى القتال وقد شرحنا المنافع العظيمة التي تحصل عند القتال وبينا أنواع فضائحهم وقبائحهم التي تحمل العاقل على مقاتلتهم فتركتم جميع هذه الأمور أليس أن معبودكم يأمركم بمقاتلتهم وتعلمون أن طاعة المعبود توجب الثواب العظيم في الآخرة فهل يليق بالعاقل ترك الثواب العظيم في الآخرة لأجل المنفعة اليسيرة الحاصلة في الدنيا والدليل على أن متاع الدنيا في الآخرة قليل إن لذات الدنيا خسيسة في أنفسها ومشوبة بالآفات والبليات ومنقطعة عن قريب لا محالة ومنافع

الآخرة شريفة عالية خالصة عن كل الآفات ودائمة أبدية سرمدية وذلك يوجب القطع بأن متاع الدنيا قليل حقير خسيس
المسألة الرابعة اعلم أن هذه الآية تدل على وجوب الجهاد في كل حال لأنه تعالى نص على أن تثاقلهم عن الجهاد أمر منكر ولو لم يكن الجهاد واجباً لما كان هذا التثاقل منكراً وليس لقائل أن يقول الجهاد إنما يجب في الوقت الذي يخاف هجوم الكفار فيه لأنه عليه السلام ما كان يخاف هجوم الروم عليه ومع ذلك فقد أوجب الجهاد معهم ومنافع الجهاد مستقصاة في سورة آل عمران وأيضاً هو واجب على الكفاية فإذا قام به البعض سقط عن الباقين
المسألة الخامسة لقائل أن يقول إن قوله ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ خطاب مع كل المؤمنين
ثم قال مَالَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الاْرْضِ وهذا يدل على أن كل المؤمنين كانوا متثاقلين في ذلك التكليف وذلك التثاقل معصية وهذا يدل على إطباق كل الأمة على المعصية وذلك يقدح في أن إجماع الأمة حجة
الجواب أن خطاب الكل لإرادة البعض مجاز مشهور في القرآن وفي سائر أنواع الكلام كقوله إياك أعني واسمعي يا جاره
إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدِيرٌ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما رغبهم في الآية الأولى في الجهاد بناء على الترغيب في ثواب الآخرة رغبهم في هذه الآية في الجهاد بناء على أنواع أخر من الأمور المقوية للدواعي وهي ثلاثة أنواع الأول قوله تعالى يُعَذّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً
ع واعلم أن يحتمل أن يكون المراد منه عذاب الدنيا وأن يكون المراد منه عذاب الآخرة وقال ابن عباس رضي الله عنهما استنفر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) القوم فتثاقلوا فأمسك الله عنهم المطر وقال الحسن الله أعلم بالعذاب الذي كان ينزل عليهم وقيل المراد منه عذاب الآخرة إذ الأليم لا يليق إلا به وقيل إنه تهديد بكل الأقسام وهي عذاب الدنيا وعذاب الآخرة وقطع منافع الدنيا ومنافع الآخرة الثاني قوله وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ والمراد تنبيههم على أنه تعالى متكفل بنصره على أعدائه فإن سارعوا معه إلى الخروج حصلت النصرة بهم وإن تخلفوا وقعت النصرة بغيرهم وحصل العتبى لهم لئلا يتوهموا أن غلبة أعداء الدين وعز الإسلام لا يحصل إلا بهم وليس في النص دلالة على أن ذلك المعنى منهم ونظيره قوله تعالى

خَاسِرِينَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ( المائدة 54 ) ثم اختلف المفسرون فقال ابن عباس هم التابعون وقال سعيد بن جبير هم أبناء فارس وقال أبو روق هم أهل اليمن وهذه الوجوه ليست تفسيراً للآية لأن الآية ليس فيها إشعار بها بل حمل ذلك الكلام المطلق على صورة معينة شاهدوها قال الأصم معناه أن يخرجه من بين أظهركم وهي المدينة قال القاضي هذا ضعيف لأن اللفظ لا دلالة فيه على أنه عليه السلام ينقل من المدينة إلى غيرها فلا يمتنع أن يظهر الله في المدينة أقواماً يعينونه على الغزو ولا يمتنع أن يعينه بأقوام من الملائكة أيضاً حال كونه هناك والثالث قوله وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا والكناية في قول الحسن راجعة إلى الله تعالى أي لا تضروا الله لأنه غني عن العالمين وفي قول الباقين يعود إلى الرسول أي لا تضروا الرسول لأن الله عصمه من الناس ولأنه تعالى لا يخذله إن تثاقلتم عنه
ثم قال وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ وهو تنبيه على شدة الزجر من حيث إنه تعالى قادر لا يجوز عليه العجز فإذا توعد بالعقاب فعل
المسألة الثانية قال الحسن وعكرمة هذه الآية منسوخة بقوله وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّة ً قال المحققون إن هذه الآية خطاب لمن استنفرهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلم ينفروا وعلى هذا التقدير فلا نسخ قال الجبائي هذه الآية تدل على وعيد أهل الصلاة حيث بين أن المؤمنين إن لم ينفروا يعذبهم عذاباً إليماً وهو عذاب النار فإن ترك الجهاد لا يكون إلا من المؤمنين فبطل بذل قول المرجئة إن أهل الصلاة لا وعيد لهم وإذا ثبت الوعيد لهم في ترك الجهاد فكذا في غيره لأنه لا قائل بالفرق واعلم أن مسألة الوعيد ذكرناها بالاستقصاء في سورة البقرة
المسألة الثالثة قال القاضي هذه الآية دالة على وجوب الجهاد سواء كان مع الرسول أو لا معه لأنه تعالى قال ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ ولم ينص على أن ذلك القائل هو الرسول
فإن قالوا يجب أن يكون المراد هو الرسول لقوله تعالى وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ( التوبة 39 ) ولقوله وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا ( التوبة 39 ) إذ لا يمكن أن يكون المراد بذلك إلا الرسول
قلنا خصوص آخر الآية لا يمنع من عموم أولها على ما قررنا في أصول الفقه
إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَة َ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَة ُ اللَّهِ هِى َ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ

اعلم أن هذا ذكر طريق آخر في ترغيبهم في الجهاد وذلك لأنه تعالى ذكر في الآية الأولى أنهم إن لم ينفروا باستنفاره ولم يشتغلوا بنصرته فإن الله ينصره بدليل أن الله نصره وقواه حال ما لم يكن معه إلا رجل واحد فههنا أولى وفي الآية مسائل
المسألة الأولى لقائل أن يقول كيف يكون قوله فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ جواباً للشرط
وجوابه أن التقدير إلا تنصروه فسينصره من نصره حين ما لم يكن معه إلا رجل واحد ولا أقل من الواحد والمعنى أنه ينصره الآن كما نصره في ذلك الوقت
المسألة الثانية قوله إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ يعني قد نصره الله في الوقت الذي أخرجه الذين كفروا من مكة وقوله ثَانِيَ اثْنَيْنِ نصب على الحال أي في الحال التي كان فيها ثَانِيَ اثْنَيْنِ وتفسير قوله ثَانِيَ اثْنَيْنِ سبق في قوله ثَالِثُ ثَلَاثَة ٍ وتحقيق القول أنه إذا حضر اثنان فكل واحد منهما يكون ثانياً في ذينك الاثنين للآخر فلهدا السبب قالوا يقال فلان ثاني اثنين أي هو أحدهما قال صاحب ( الكشاف ) وقرىء ثَانِيَ اثْنَيْنِ بالسكون و إِذْ هُمَا بدل من قوله إِذْ أَخْرَجَهُ والغار ثقب عظيم في الجبل وكان ذلك الجبل يقال له ثور في يمين مكة على مسيرة ساعة مكث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيه مع أبي بكر ثلاثاً وقوله إذ يقول بدل ثان
المسألة الثالثة ذكروا أن قريشاً ومن بمكة من المشركين تعاقدوا على قتل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فنزل وإذ يمكر بك الذين كفروا ( الأنفال 30 ) فأمره الله تعالى أن يخرج هو وأبو بكر أول الليل إلى الغار والمراد من قوله أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ هو أنهم جعلوه كالمضطر إلى الخروج وخرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأبو بكر أول الليل إلى الغار وأمر علياً أن يضطجع على فراشه ليمنعهم السواد من طلبه حتى يبلغ هو وصاحبه إلى ما أمر الله به فلما وصلا إلى الغار دخل أبو بكر الغار أولاً يلتمس ما في الغار فقال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مالك فقال بأبي أنت وأمي الغيران مأوى السباع والهوام فإن كان فيه شيء كان بي لا بك وكان في الغار جحر فوضع عقبه عليه لئلا يخرج ما يؤذي الرسول فلما طلب المشركون الأثر وقربوا بكى أبو بكر خوفاً على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال عليه السلام ( لا تحزن إن الله معنا ) فقال أبو بكر إن الله لمعنا فقال الرسول ( نعم ) فجعل يمسح الدموع عن خده ويروى عن الحسن أنه كان إذا ذكر بكاء أبي بكر بكى وإذا ذكر مسحه الدموع مسح هو الدموع عن خده وقيل لما طلع المشركون فوق الغار أشفق أبو بكر على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال إن تصب اليوم ذهب دين الله فقال رسول الله ( ما ظنك باثنين الله ثالثهما ) وقيل لما دخل الغار وضع أبو بكر ثمامة على باب الغار وبعث الله حمامتين فباضتا في أسفله والعنكبوت نسجت عليه وقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( اللهم أعم أبصارهم ) فجعلوا يترددون حول الغار ولا يرون أحداً
المسألة الرابعة دلت هذه الآية على فضيلة أبي بكر رضي الله عنه من وجوه الأول أنه عليه السلام لما ذهب إلى الغار لأجل أنه كان يخاف الكفار من أن يقدموا على قتله فلولا أنه عليه السلام كان قاطعاً على باطن أبي بكر بأنه من المؤمنين المحققين الصادقين الصديقين وإلا لما أصحبه نفسه في ذلك الموضع لأنه لو جوز أن يكون باطنه بخلاف ظاهره لخافه من أن يدل أعداءه عليه وأيضاً لخافه من أن يقدم على

قتله فلما استخلصه لنفسه في تلك الحالة دل على أنه عليه السلام كان قاطعاً بأن باطنه على وفق ظاهره الثاني وهو أن الهجرة كانت بإذن الله تعالى وكان في خدمة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) جماعة من المخلصين وكانوا في النسب إلى شجرة رسول الله أقرب من أبي بكر فلولا أن الله تعالى أمره بأن يستصحب أبا بكر في تلك الواقعة الصعبة الهائلة وإلا لكان الظاهر أن لا يخصه بهذه الصحبة وتخصيص الله إياه بهذا التشريف دل على منصب عال له في الدين الثالث أن كل من سوى أبي بكر فارقوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أما هو فما سبق رسول الله كغيره بل صبر على مؤانسته وملازمته وخدمته عند هذا الخوف الشديد الذي لم يبق معه أحد وذلك يوجب الفضل العظيم الرابع أنه تعالى سماه ثَانِيَ اثْنَيْنِ فجعل ثاني محمد عليه السلام حال كونهما في الغار والعلماء أثبتوا أنه رضي الله عنه كان ثاني محمد في أكثر المناصب الدينية فإنه ( صلى الله عليه وسلم ) لما أرسل إلى الخلق وعرض الإسلام على أبي بكر آمن أبو بكر ثم ذهب وعرض الإسلام على طلحة والزبير وعثمان بن عفان وجماعة آخرين من أجلة الصحابة رضي الله تعالى عنهم والكل آمنوا على يديه ثم إنه جاء بهم إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعد أيام قلائل فكان هو رضي الله عنه ثَانِيَ اثْنَيْنِ في الدعوة إلى الله وأيضاً كلما وقف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في غزوة كان أبو بكر رضي الله عنه يقف في خدمته ولا يفارقه فكان ثاني اثنين في مجلسه ولما مرض رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قام مقامه في إمامة الناس في الصلاة فكان ثاني اثنين ولما توفي دفن بجنبه فكان ثاني اثنين هناك أيضاً وطعن بعض الحمقى من الروافض في هذا الوجه وقال كونه ثاني اثنين للرسول لا يكون أعظم من كون الله تعالى رابعاً لكل ثلاث في قوله مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَة ٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَة ٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ ( المجادلة 7 ) ثم إن هذا الحكم عام في حق الكافر والمؤمن فلما لم يكن هذا المعنى من الله تعالى دالاً على فضيلة الإنسان فلأن لا يدل من النبي على فضيلة الإنسان كان أولى
والجواب أن هذا تعسف بارد لأن المراد هناك كونه تعالى مع الكل بالعلم والتدبير وكونه مطلعاً على ضمير كل أحد أما ههنا فالمراد بقوله تعالى ثَانِيَ اثْنَيْنِ تخصيصه بهذه الصفة في معرض التعظيم وأيضاً قد دللنا بالوجوه الثلاثة المتقدمة على أن كونه معه في هذا الموضع دليل قاطع على أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان قاطعاً بأن باطنه كظاهره فأين أحد الجانبين من الآخر
والوجه الخامس من التمسك بهذه الآية ما جاء في الأخبار أن أبا بكر رضي الله عنه لما حزن قال عليه الصلاة والسلام ما ظنك باثنين الله ثالثهما ولا شك أن هذا منصب علي ودرجة رفيعة
واعلم أن الروافض في الدين كانوا إذا حلفوا قالوا وحق خمسة سادسهم جبريل وأرادوا به أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وعلياً وفاطمة والحسن والحسين كانوا قد احتجبوا تحت عباءة يوم المباهلة فجاء جبريل وجعل نفسه سادساً لهم فذكروا للشيخ الإمام الوالد رحمه الله تعالى أن القوم هكذا يقولون فقال رحمه الله لكم ما هو خير منه بقوله ( ما ظنك باثنين الله ثالثهما ) ومن المعلوم بالضرورة أن هذا أفضل وأكمل
والوجه السادس أنه تعالى وصف أبا بكر بكونه صاحباً للرسول وذلك يدل على كمال الفضل قال الحسين بن فضيل البجلي من أنكر أن يكون أبو بكر صاحب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان كافراً لأن الأمة مجمعة على أن المراد من إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ هو أبو بكر وذلك يدل على أن الله تعالى وصفه بكونه صاحباً له اعترضوا وقالوا إن الله تعالى وصف الكافر بكونه صاحباً للمؤمن وهو قوله قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ( الكهف 37 )

والجواب أن هناك وإن وصفه بكونه صاحباً له ذكراً إلا أنه أردفه بما يدل على الإهانة والإذلال وهو قوله أَكَفَرْتَ أما ههنا فبعد أن وصفه بكونه صاحباً له ذكر ما يدل على الإجلال والتعظيم وهو قوله لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فأي مناسبة بين البابين لولا فرط العداوة
والوجه السابع في دلالة هذه الآية على فضل أبي بكر قوله لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ولا شك أن المراد من هذه المعية المعية بالحفظ والنصرة والحراسة والمعونة وبالجملة فالرسول عليه الصلاة والسلام شرك بين نفسه وبين أبي بكر في هذه المعية فإن حملوا هذه المعية على وجه فاسد لزمهم إدخال الرسول فيه وإن حملوها على محمل رفيع شريف لزمهم إدخال أبي بكر فيه ونقول بعبارة أخرى دلت الآية على أن أبا بكر كان الله معه وكل من كان الله معه فإنه يكون من المتقين المحسنين لقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ ( النحل 128 ) والمراد منه الحصر والمعنى إن الله مع الذين اتقوا لا مع غيرهم وذلك يدل على أن أبا بكر من المتقين المحسنين
والوجه الثامن في تقرير هذا المطلوب أن قوله إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا يدل على كونه ثاني اثنين في الشرف الحاصل من هذه المعية كما كان ثاني اثنين إذ هما في الغار وذلك منصب في غاية الشرف
والوجه التاسع أن قوله لاَ تَحْزَنْ نهى عن الحزن مطلقاً والنهي يوجب الدوام والتكرار وذلك يقتضي أن لا يحزن أبو بكر بعد ذلك البتة قبل الموت وعند الموت وبعد الموت
والوجه العاشر قوله فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ ومن قال الضمير في قوله عَلَيْهِ عائداً إلى الرسول فهذا باطل لوجوه
الوجه الأول أن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات وأقرب المذكورات المتقدمة في هذه الآية هو أبو بكر لأنه تعالى قال إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ والتقدير إذ يقول محمد لصاحبه أبي بكر لا تحزن وعلى هذا التقدير فأقرب المذكورات السابقة هو أبو بكر فوجب عود الضمير إليه
والوجه الثاني أن الحزن والخوف كان حاصلاً لأبي بكر لا للرسول عليه الصلاة والسلام فإنه عليه السلام كان آمناً ساكن القلب بما وعده الله أن ينصره على قريش فلما قال لأبي بكر لا تحزن صار آمناً فصرف السكينة إلى أبي بكر ليصير ذلك سبباً لزوال خوفه أولى من صرفها إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) مع أنه قبل ذلك ساكن القلب قوي النفس
والوجه الثالث أنه لو كان المراد إنزال السكينة على الرسول لوجب أن يقال إن الرسول كان قبل ذلك خائفاً ولو كان الأمر كذلك لما أمكنه أن يقول لأبي بكر لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فمن كان خائفاً كيف يمكنه أن يزيل الخوف عن قلب غيره ولو كان الأمر على ما قالوه لوجب أن يقال فأنزل الله سكينته عليه فقال لصاحبه لا تحزن ولما لم يكن كذلك بل ذكر أولاً أنه عليه الصلاة والسلام قال لصاحبه لا تحزن ثم ذكر بفاء التعقيب نزول السكينة وهو قوله فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ علمنا أن نزول هذه السكينة مسبوق بحصول السكينة في قلب الرسول عليه الصلاة والسلام ومتى كان الأمر كذلك وجب أن تكون هذه السكينة نازلة

على قلب أبي بكر
فإن قيل وجب أن يكون قوله فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ ( التوبة 40 ) المراد منه أنه أنزل سكينته على قلب الرسول والدليل عليه أنه عطف عليه قوله وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وهذا لا يليق إلا بالرسول والمعطوف يجب كونه مشاركاً للمعطوف عليه فلما كان هذا المعطوف عائداً إلى الرسول وجب في المعطوف عليه أن يكون عائداً إلى الرسول
قلنا هذا ضعيف لأن قوله وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا إشارة إلى قصة بدر وهو معطوف على قوله فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ وتقدير الآية إلا تنصروه فقد نصره الله في واقعة الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها في واقعة بدر وإذا كان الأمر كذلك فقد سقط هذا السؤال
الوجه الحادي عشر من الوجوه الدالة على فضل أبي بكر من هذه الآية إطباق الكل على أن أبا بكر هو الذي اشترى الراحلة لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وعلى أن عبد الرحمن بن أبي بكر وأسماء بنت أبي بكر هما اللذان كانا يأتيانهما بالطعام روي أنه عليه الصلاة والسلام قال ( لقد كنت أنا وصاحبي في الغار بضعة عشر يوماً وليس لنا طعام إلا التمر ) وذكروا أن جبريل أتاه وهو جائع فقال هذه أسماء قد أتت بحيس ففرح رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بذلك وأخبر به أبا بكر ولما أمر الله رسوله بالخروج إلى المدينة أظهره لأبي بكر فأمر ابنه عبد الرحمن أن يشتري جملين ورحلين وكسوتين ويفصل أحدهما للرسول عليه الصلاة والسلام فلما قربا من المدينة وصل الخبر إلى الأنصار فخرجوا مسرعين فخاف أبو بكر أنهم لا يعرفون الرسول عليه الصلاة والسلام فألبس رسول الله ثوبه ليعرفوا أن الرسول هو هو فلما دنوا خروا له سجداً فقال لهم ( اسجدوا لربكم وأكرموا أخاً لكم ) ثم أناخت ناقته بباب أبي أيوب روينا هذه الروايات من تفسيرأبي بكر الأصم
الوجه الثاني عشر أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حين دخل المدينة ما كان معه إلا أبو بكر والأنصار ما رأوا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أحداً إلا أبا بكر وذلك يدل على أنه كان يصطفيه لنفسه من بين أصحابه في السفر والحضر وأن أصحابنا زادوا عليه وقالوا لما لم يحضر معه في ذلك السفر أحد إلا أبو بكر فلو قدرنا أنه توفى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في ذلك السفر لزم أن لا يقوم بأمره إلا أبو بكر وأن لا يكون وصيه على أمته إلا أبو بكر وأن لا يبلغ ما حدث من الوحي والتنزيل في ذلك الطريق إلى أمته إلا أبو بكر وكل ذلك يدل على الفضائل العالية والدرجات الرفيعة لأبي بكر
واعلم أن الروافض احتجوا بهذه الآية وبهذه الواقعة على الطعن في أبي بكر من وجوه ضعيفة حقيرة جارية مجرى إخفاء الشمس بكف من الطين فالأول قالوا إنه عليه الصلاة والسلام قال لأبي بكر ( لا تحزن ) فذلك الحزن إن كان حقاً فكيف نهى الرسول عليه الصلاة والسلام عنه وإن كان خطأ لزم أن يكون أبو بكر مذنباً وعاصياً في ذلك الحزن والثاني قالوا يحتمل أن يقال إنه استخلصه لنفسه لأنه كان يخاف منه أنه لو تركه في مكة أن يدل الكفار عليه وأن يوقفهم على أسراره ومعانيه فأخذه مع نفسه دفعاً لهذا الشر والثالث وإن دلت هذه الحالة على فضل أبي بكر إلا أنه أمر علياً بأن يضطجع على فراشه ومعلوم أن الاضطجاع على فراش رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في مثل تلك الليلة الظلماء مع كون الكفار قاصدين قتل رسول الله تعريض

النفس للفداء فهذا العمل من علي أعلى وأعظم من كون أبي بكر صاحباً للرسول فهذه جملة ما ذكروه في ذلك الباب
والجواب عن الأول أن أبا علي الجبائي لما حكى عنهم تلك الشبهة قال فيقال لهم يجب في قوله تعالى لموسى عليه السلام لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الاْعْلَى ( طه 68 ) أن يدل على أنه كان عاصياً في خوفه وذلك طعن في الأنبياء ويجب في قوله تعالى في إبراهيم حيث قالت الملائكة له لاَ تَخَفْ في قصة العجل المشوي مثل ذلك وفي قولهم للوط لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ ( العنكبوت 33 ) مثل ذلك
فإذا قالوا إن ذلك الخوف إنما حصل بمقتضى البشرية وإنما ذكر الله تعالى ذلك في قوله لاَ تَخَفْ ليفيد الأمن وفراغ القلب
قلنا لهم في هذه المسألة كذلك
فإن قالوا أليس إنه تعالى قال وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ( المائدة 67 ) فكيف خاف مع سماع هذه الآية فنقول هذه الآية إنما نزلت في المدينة وهذه الواقعة سابقة على نزولها وأيضاً فهب أنه كان آمناً على عدم القتل ولكنه ما كان آمناً من الضرب والجرح والإيلام الشديد والعجب منهم فإنا لو قدرنا أن أبا بكر ما كان خائفاً لقالوا إنه فرح بسبب وقوع الرسول في البلاء ولما خاف وبكى قالوا هذا السؤال الركيك وذلك يدل على أنهم لا يطلبون الحق وإنما مقصودهم محض الطعنا
والجواب عن الثاني أن الذي قالوه أخس من شبهات السوفسطائية فإن أبا بكر لو كان قاصداً له لصالح بالكفار عند وصولهم إلى باب الغار وقال لهم نحن ههنا ولقال ابنه وابنته عبد الرحمن وأسماء للكفار نحن نعرف مكان محمد فندلكم عليه فنسأل الله العصمة من عصبية تحمل الإنسان على مثل هذا الكلام الركيك
والجواب عن الثالث من وجوه الأول أنا لا ننكر أن اضطجاع علي بن أبي طالب في تلك الليلة المظلمة على فراش رسول الله طاعة عظيمة ومنصب رفيع إلا أنا ندعي أن أبا بكر بمصاحبته كان حاضراً في خدمة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وعلي كان غائباً والحاضر أعلى حالاً من الغائب الثاني أن علياً ما تحمل المحنة إلا في تلك الليلة أما بعدها لما عرفوا أن محمداً غاب تركوه ولم يتعرضوا له أما أبو بكر فإنه بسبب كونه مع محمد عليه الصلاة والسلام ثلاثة أيام في الغار كان في أشد أسباب المحنة فكان بلاؤه أشد الثالث أن أبا بكر رضي الله عنه كان مشهوراً فيما بين الناس بأنه يرغب الناس في دين محمد عليه الصلاة والسلام ويدعوهم إليه وشاهدوا منه أنه دعا جمعاً من أكابر الصحابة رضي الله عنهم إلى ذلك الدين وأنهم إنما قبلوا ذلك الدين بسبب دعوته وكان يخاصم الكفار بقدر الإمكان وكان يذب عن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بالنفس والمال وأما علي بن أبي طالب رضي الله عنه فإنه كان في ذلك الوقت صغير السن وما ظهر منه دعوة لا بالدليل والحجة ولا جهاد بالسيف والسنان لأن محاربته مع الكفار إنما ظهرت بعد انتقالهم إلى المدينة بمدة مديدة فحال الهجرة ما ظهر منه شيء من هذه الأحوال وإذا كان كذلك كان غضب الكفار على أبي بكر لا محالة أشد من غضبهم على علي ولهذا السبب فإنهم لما عرفوا أن المضطجع على ذلك الفراش

هو علي لم يتعرضوا له ألبتة ولم يقصدوه بضرب ولا ألم فعلمنا أن خوف أبي بكر على نفسه في خدمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أشد من خوف علي كرم الله وجهه فكانت تلك الدرجة أفضل وأكمل هذا ما نقوله في هذا الباب على سبيل الاختصار
أما قوله تعالى وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا فاعلم أن تقدير الآية أن يقال إِلاَّ تَنصُرُوهُ فلا بد له ذلك بدليل صورتين
الصورة الأولى أنه قد نصره في واقعة الهجرة إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ
والصورة الثانية واقعة بدر وهي المراد من قوله وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا لأنه تعالى أنزل الملائكة يوم بدر وأيد رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) بهم فقوله وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا معطوف على قوله فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ
ثم قال تعالى وَجَعَلَ كَلِمَة َ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَة ُ اللَّهِ هِى َ الْعُلْيَا والمعنى أنه تعالى جعل يوم بدر كلمة الشرك سافلة دنيئة حقيرة وكلمة الله هي العليا وهي قوله لا إله إلا الله قال الواحدي والاختيار في قوله وَكَلِمَة ُ اللَّهِ الرفع وهي قراءة العامة على الاستئناف قال الفراء ويجوز كَلِمَة َ اللَّهِ بالنصب ولا أحب هذه القراءة لأنه لو نصبها لكان الأجود أن يقال وكلمة الله العليا ألا ترى أنك تقول أعتق أبوك غلامك ولا تقول أعتق غلامه أبوك
ثم قال وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ أي قاهر غالب لا يفعل إلا الصواب
انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ذالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
اعلم أنه تعالى لما توعد من لا ينفر مع الرسول وضرب له من الأمثال ما وصفنا أتبعه بهذا الأمر الجزم فقال انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً والمراد انفروا سواء كنتم على الصفة التي يخف عليكم الجهاد أو على الصفة التي يثقل وهذا الوصف يدخل تحته أقسام كثيرة والمفسرون ذكروها فالأول خِفَافًا في النفور لنشاطكم له وَثِقَالاً عنه لمشتقه عليكم الثاني خِفَافًا لقلة عيالكم وَثِقَالاً لكثرتها الثالث خِفَافًا من السلاح وَثِقَالاً منه الرابع ركباناً ومشاة الخامس شباناً وشيوخاً السادس مهازيل وسمانا السابع صحاحاً ومراضاً والصحيح ما ذكرنا إذ الكل داخل فيه لأن الوصف المذكور وصف كلي يدخل فيه كل هذه الجزئيات
فإن قيل أتقولون إن هذا الأمر يتناول جميع الناس حتى المرضى والعاجزين

قلنا ظاهره يقتضي ذلك عن ابن أم مكتوم أنه قال لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أعلي أن أنفر قال ( ما أنت إلا خفيف أو ثقيل ) فرجع إلى أهله ولبس سلاحه ووقف بين يديه فنزل قوله تعالى لَّيْسَ عَلَى الاْعْمَى حَرَجٌ ( الفتح 17 النور 61 ) وقال مجاهد إن أبا أيوب شهد بدراً مع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ولم يتخلف عن غزوات المسلمين ويقول قال الله انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً فلا أجدني إلا خفيفاً أو ثقيلاً وعن صفوان بن عمرو قال كنت والياً على حمص فلقيت شيخاً قد سقط حاجباه من أهل دمشق على راحلته يريد الغزو قلت يا عم أنت معذور عند الله فرفع حاجبيه وقال يا ابن أخي استنفرنا الله خفافاً وثقالاً ألا إن من أحبه ابتلاه وعن الزهري خرج سعيد بن المسيب إلى الغزو وقد ذهبت إحدى عينيه فقيل له إنك عليل صاحب ضرر فقال استنفر الله الخفيف والثقيل فإن عجزت عن الجهاد كثرت السواد وحفظت المتاع وقيل للمقداد بن الأسود وهو يريد الغزو أنت معذور فقال أنزل الله علينا في سورة براءة انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً
واعلم أن القائلين بهذا القول الذي قررناه يقولون هذه الآية صارت منسوخة بقوله تعالى لَّيْسَ عَلَى الاْعْمَى حَرَجٌ ( الفتح 17 النور 61 ) وقال عطاء الخراساني منسوخة بقوله وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّة ً ( التوبة 122 )
ولقائل أن يقول اتفقوا على أن هذه الآية نزلت في غزوة تبوك واتفقوا على أنه عليه الصلاة والسلام خلف النساء وخلف من الرجال أقواماً وذلك يدل على أن هذا الوجوب ليس على الأعيان لكنه من فروض الكفايات فمن أمره الرسول بأن يخرج لزمه ذلك خفافاً وثقالاً ومن أمره بأن يبقى هناك لزمه أن يبقى ويترك النفر وعلى هذا التقدير فلا حاجة إلى التزام النسخ
ثم قال تعالى وَجَاهِدُواْ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وفيه قولان
القول الأول أن هذا يدل على أن الجهاد إنما يجب على من له المال والنفس فدل على أن من لم يكن له نفس سليمة صالحة للجهاد ولا مال يتقوى به على تحصيل آلات الجهاد لا يجب عليه الجهاد
والقول الثاني أن الجهاد يجب بالنفس إذا انفرد وقوي عليه وبالمال إذا ضعف عن الجهاد بنفسه فيلزم على هذا القول أن من عجز أن ينيب عنه نفراً بنفقة من عنده فيكون مجاهداً بماله لما تعذر عليه بنفسه وقد ذهب إلى هذا القول كثير من العلماء
ثم قال تعالى ذالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
فإن قيل كيف يصح أن يقال الجهاد خير من القعود عنه ولا خير في القعود عنه
قلنا الجواب عنه من وجهين
الوجه الأول أن لفظ خَيْرٌ يستعمل في معنيين أحدهما بمعنى هذا خير من ذاك والثاني بمعنى أنه في نفسه خير كقوله إِنّى لِمَا أَنزَلْتَ إِلَى َّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ( القصص 24 ) وقوله وَإِنَّهُ لِحُبّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ( العاديات 8 ) ويقال الثريد خير من الله أي هو خير في نفسه وقد حصل من الله تعالى فقوله ذالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ المراد هذا الثاني وعلى هذا الوجه يسقط السؤال
الوجه الثاني سلمنا أن المراد كونه خيراً من غيره إلا أن التقدير أن ما يستفاد بالجهاد من نعيم الآخرة خير مما يستفيده القاعد عنه من الراحة والدعة والتنعم بهما ولذلك قال تعالى إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ

لأن ما يحصل من الخيرات في الآخرة على الجهاد لا يدرك إلا بالتأمل ولا يعرفه إلا المؤمن الذي عرف بالدليل أن القول بالقيامة حق وأن القول بالثواب والعقاب حق وصدق
لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وَلَاكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّة ُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
اعلم أنه تعالى لما بالغ في ترغيبهم في الجهاد في سبيل الله وكان قد ذكر قوله ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الاْرْضِ عاد إلى تقرير كونهم متثاقلين وبين أن أقواماً مع كل ما تقدم من الوعيد والحث على الجهاد تخلفوا في غزوة تبوك وبين أنه لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى العرض ما عرض لك من منافع الدنيا يقال الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر قال الزجاج فيه محذوف والتقدير لو كان المدعو إليه سفراً قاصداً فحذف اسم كَانَ لدلالة ما تقدم عليه وقوله وَسَفَرًا قَاصِدًا قال الزجاج أي سهلاً قريباً وإنما قيل لمثل هذا قاصداً لأن المتوسط بين الإفراط والتفريط يقال له مقتصد قال تعالى فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ ( فاطر 32 ) وتحقيقه أن المتوسط بين الكثرة والقلة يقصده كل أحد فسمي قاصداً وتفسير القاصد ذو قصد كقولهم لابن وتامر ورابح قوله وَلَاكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّة ُ قال الليث الشقة بعد مسيره إلى أرض بعيدة يقال شقة شاقة والمعنى بعدت عليهم الشاقة البعيدة والسبب في هذا الاسم أنه شق على الإنسان سلوكها ونقل صاحب ( الكشاف ) عن عيسى بن عمر أنه قرأ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّة ُ بكسر العين والشين
المسألة الثانية هذه الآية نزلت في المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك ومعنى الكلام أنه لو كانت المنافع قريبة والسفر قريباً لاتبعوك طمعاً منهم في الفوز بتلك المنافع ولكن طال السفر فكانوا كالآيسين من الفوز بالغنيمة بسبب أنهم كانوا يستعظمون غزو الروم فلهذا السبب تخلفوا ثم أخبر الله تعالى أنه إذا رجع من الجهاد يجدهم يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ إما عند ما يعاتبهم بسبب التخلف وإما ابتداء على طريقة إقامة العذر في التخلف ثم بين تعالى أنهم يهلكون أنفسهم بسبب ذلك الكذب والنفاق وهذا يدل على أن الأيمان الكاذبة توجب الهلاك ولهذا قال عليه الصلاة والسلام ( اليمين الغموس تدع الديار بلاقع )
ثم قال وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ في قولهم ما كنا نستطيع الخروج فإنهم كانوا مستطيعين الخروج
المسألة الثالثة دلت الآية على أن قوله انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً إنما يتناول من كان قادراً متمكناً إذ عدم الاستطاعة عذر في التخلف

المسألة الرابعة استدل أبو علي الجبائي بهذه الآية على بطلان أن الاستطاعة مع الفعل فقال لو كانت الاستطاعة مع الفعل لكان من يخرج إلى القتال لم يكن مستطيعاً إلى القتال ولو كان الأمر كذلك لكانوا صادقين في قولهم ما كنا نستطيع ذلك ولما كذبهم الله تعالى في هذا القول علمنا أن الاستطاعة قبل الفعل واستدل الكعبي بهذا الوجه أيضاً له وسأل نفسه لا يجوز أن يكون المراد به ما كان لهم زاد ولا راحلة وما أرادوا به نفس القدرة
وأجاب إن كان من لا راحلة له يعذر في ترك الخروج فمن لا استطاعة له أولى بالعذر وأيضاً الظاهر من الاستطاعة قوة البدن دون وجود المال وإذا أريد به المال فإنما يراد لأنه يعين على ما يفعله الإنسان بقوة البدن فلا معنى لترك الحقيقة من غير ضرورة
وأجاب أصحابنا بأن المعتزلة سلموا أن القدرة على الفعل لا تتقدم على الفعل إلا بوقت واحد فأما أن تتقدم عليه بأوقات كثيرة فذلك ممتنع فإن الإنسان الجالس في المكان لا يكون قادراً في هذا الزمان أن يفعل فعلاً في مكان بعيد عنه بل إنما يقدر على أن يفعل فعلاً في المكان الملاصق لمكانه فإذا ثبت أن القدرة عند القوم لا تتقدم الفعل إلا بزمان واحد فالقوم الذين تخلفوا عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما كانوا قادرين على أصول المعتزلة فيلزمهم من هذه الآية ما ألزموه علينا وعند هذا يجب علينا وعليهم أن نحمل الاستطاعة على الزاد والراحلة وحينئذ يسقط الاستدلال
المسألة الخامسة قالوا الرسول عليه الصلاة والسلام أخبر عنهم أنهم سيحلفون وهذا إخبار عن غيب يقع في المستقبل والأمر لما وقع كما أخبر كان هذا إخباراً عن الغيب فكان معجزاً والله أعلم
عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ
اعلم أنه تعالى بين بقوله لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً لاتبعوك أنه تخلف قوم من ذلك الغزو وليس فيه بيان أن ذلك التخلف كان بإذن الرسول أم لا فلما قال بعده عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ دل هذا على أن فيهم من تخلف بإذنه وفيه مسائل
المسألة الأولى احتج بعضهم بهذه الآية على صدور الذنب عن الرسول من وجهين الأول أنه تعالى قال عَفَا اللَّهُ عَنكَ والعفو يستدعي سابقة الذنب والثاني أنه تعالى قال لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ وهذا استفهام بمعنى الإنكار فدل هذا على أن ذلك الإذن كان معصية وذنباً قال قتادة وعمرو بن ميمون اثنان فعلهما الرسول لم يؤمر بشيء فيهما إذنه للمنافقين وأخذه الفداء من الأسارى فعاتبه الله كما تسمعون
والجواب عن الأول لا نسلم أن قوله عَفَا اللَّهُ عَنكَ يوجب الذنب ولم لا يجوز أن يقال إن ذلك يدل على مبالغة الله في تعظيمه وتوقيره كما يقول الرجل لغيره إذا كان معظماً عنده عفا الله عنك ما صنعت في أمري ورضي الله عنك ما جوابك عن كلامي وعافاك الله ما عرفت حقي فلا يكون غرضة من هذا الكلام إلا مزيد التبجيل والتعظيم وقال علي بن الجهم فيما يخاطب به المتوكل وقد أمر بنفيه

عفا الله عنك ألا حرمة
تعود بعفوك إن أبعدا
ألم تر عبداً عدا طوره
ومولى عفا ورشيداً هدى
أقلني أقالك من لم يزل
يقيك ويصرف عنك الردى
والجواب عن الثاني أن نقول لا يجوز أن يقال المراد بقوله لَمْ عَرَّفَهَا لَهُمْ الإنكار لأنا نقول إما أن يكون صدر عن الرسول ذنب في هذه الواقعة أو لم يصدر عنه ذنب فإن قلنا إنه ما صدر عنه ذنب امتنع على هذا التقدير أن يكون قوله لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ إنكار عليه وإن قلنا إنه كان قد صدر عنه ذنب فقوله عَفَا اللَّهُ عَنكَ يدل على حصول العفو عنه وبعد حصول العفو عنه يستحيل أن يتوجه الإنكار عليه فثبت أنه على جميع التقادير يمتنع أن يقال إن قوله لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ يدل على كون الرسول مذنباً وهذا جواب شاف قاطع وعند هذا يحمل قوله لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ على ترك الأولى والأكمل لا سيما وهذه الواقعة كانت من جنس ما يتعلق بالحروب ومصالح الدنيا
المسألة الثانية من الناس من قال إن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) كان يحكم بمقتضى الاجتهاد في بعض الوقائع واحتج عليه بأن قوله فَاعْتَبِرُواْ ياأُوْلِى أُوْلِى الاْبْصَارِ ( الحشر 2 ) أمر لأولي الأبصار بالاعتبار والاجتهاد والرسول كان سيداً لهم فكان داخلاً تحت هذا الأمر ثم أكدوا ذلك بهذه الآية فقالوا إما أن يقال إنه تعالى أذن له في ذلك الإذن أو منعه عنه أو ما أذن له فيه وما منعه عنه والأول باطل وإلا امتنع أن يقول له لم أذنت لهم والثاني باطل أيضاً لأن على هذا التقدير يلزم أن يقال إنه حكم بغير ما أنزل الله فيلزم دخوله تحت قوله وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ( المائدة 44 ) أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( المائدة 45 ) أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ( المائدة 47 ) وذلك باطل بصريح القول فلم يبق إلا القسم الثالث وهو أنه عليه الصلاة والسلام أذن في تلك الواقعة من تلقاء نفسه فإما أن يكون ذلك مبنياً على الاجتهاد أو ما كان كذلك والثاني باطل لأنه حكم بمجرد التشهي وهو باطل لقوله تعالى فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصَّلَواة َ وَاتَّبَعُواْ الشَّهَواتِ ( مريم 59 ) فلم يبق إلا أنه عليه الصلاة والسلام أذن في تلك الواقعة بناء على الاجتهاد وذلك يدل على أنه عليه الصلاة والسلام كان يحكم بمقتضى الاجتهاد
فإن قيل فهذا بأن يدل على أنه لا يجوز له الحكم بالاجتهاد أولى لأنه تعالى منعه من هذا الحكم بقوله لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ
قلنا إنه تعالى ما منعه من ذلك الإذن مطلقاً لأنه قال حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ والحكم الممدود إلى غاية بكلمة حتى يجب انتهاؤه عند حصول تلك الغاية فهذا يدل على صحة قولنا
فإن قالوا فلم لا يجوز أن يكون المراد من ذلك التبين هو التبين بطريق الوحي
قلنا ما ذكرتموه محتمل إلا أن على التقدير الذي ذكرتم يصير تكليفه أن لا يحكم البتة وأن يصبر حتى ينزل الوحي ويظهر النص فلما ترك ذلك كان ذلك كبيرة وعلى التقدير الذي ذكرنا كان ذلك الخطأ خطأ واقعاً في الاجتهاد فدخل تحت قوله ( ومن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد ) فكان حمل الكلام عليه أولى
المسألة الثالثة دلت هذه الآية على وجوب الاحتراز عن العجلة ووجوب التثبت والتأني وترك

الاغترار بظواهر الأمور والمبالغة في التفحص حتى يمكنه أن يعامل كل فريق بما يستحقه من التقريب أو الإبعاد
المسألة الرابعة قال قتادة عاتبه الله كما تسمعون في هذه الآية ثم رخص له في سورة النور فقال فَإِذَا اسْتَذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ ( النور 62 )
المسألة الخامسة قال أبو مسلم الأصفهاني قوله لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ليس فيه ما يدل على أن ذلك الإذن فيما ذا ا فيحتمل أن بعضهم استأذن في القعود فأذن له ويحتمل أن بعضهم استأذن في الخروج فأذن له مع أنه ما كان خروجهم معه صواباً لأجل أنهم كانوا عيوناً للمنافقين على المسلمين فكانوا يثيرون الفتن ويبغون الغوائل فلهذا السبب ما كان في خروجهم مع الرسول مصلحة قال القاضي هذا بعيد لأن هذه الآية نزلت في غزوة تبوك على وجه الذم للمتخلفين والمدح للمبادرين وأيضاً ما بعد هذه الآية يدل على ذم القاعدين وبيان حالهم
لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِى رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّة ً وَلَاكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس قوله لاَ يَسْتَأْذِنُكَ أي بعد غزوة تبوك وقال الباقون هذا لا يجوز لأن ما قبل هذه الآية وما بعدها وردت في قصة تبوك والمقصود من هذا الكلام تمييز المؤمنين عن المنافقين فإن المؤمنين متى أمروا بالخروج إلى الجهاد تبادروا إليه ولم يتوقفوا والمنافقون يتوقفون ويتبلدون ويأتون بالعلل والأعذار وهذا المقصود حاصل سواء عبر عنه بلفظ المستقبل أو الماضي والمقصود أنه تعالى جعل علامة النفاق في ذلك لوقت الاستئذان والله أعلم
المسألة الثانية قوله لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ فيه محذوف والتقدير في أن يجاهدوا إلا أنه حسن الحذف لظهوره ثم ههنا قولان
القول الأول إجراء هذا الكلام على ظاهره من غير إضمار آخر وعلى هذا التقدير فالمعنى أنه ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوك في أن يجاهدوا وكان الأكابر من المهاجرين والأنصار يقولون لا نستأذن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في الجهاد فإن ربنا ندبنا إليه مرة بعد أخرى فأي فائدة في الاستئذان وكانوا بحيث لو أمرهم

الرسول بالقعود لشق عليهم ذلك ألا ترى أن علي بن أبي طالب لما أمره رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بأن يبقى في المدينة شق عليه ذلك ولم يرض إلى أن قال له الرسول ( أنت مني بمنزلة هرون من موسى )
القول الثاني أنه لا بد ههنا من إضمار آخر قالوا لأن ترك استئذان الإمام في الجهاد غير جائز وهؤلاء ذمهم الله في ترك هذا الاستئذان فثبت أنه لا بد من الإضمار والتقدير لا يستأذنك هؤلاء في أن لا يجاهدوا إلا أنه حذف حرف النفي ونظير قوله يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ ( النساء 176 ) والذي دل على هذا المحذوف أن ما قبل الآية وما بعدها يدل على أن حصول هذا الذم إنما كان على الاستئذان في القعود والله أعلم
ثم قال تعالى إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِى رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ وفيه مسائل
المسألة الأولى بين أن هذا الانتقال لا يصدر إلا عند عدم الإيمان بالله واليوم الآخر ثم لما كان عدم الإيمان قد يكون بسبب الشك فيه وقد يكون بسبب الجزم والقطع بعدمه بين تعالى أن عدم إيمان هؤلاء إنما كان بسبب الشك والريب وهذا يدل على أن الشاك المرتاب غير مؤمن بالله وههنا سؤالان
السؤال الأول أن العلم إذا كان استدلالياً كان وقوع الشك في الدليل يوجب وقوع الشك في المدلول ووقع الشك في مقدمة واحدة من مقدمات الدليل يكفي في حصول الشك في صحة الدليل فهذا يقتضي أن الرجل المؤمن إذا وقع له سؤال وإشكال في مقدمة من مقدمات دليله أن يصير شاكاً في المدلول وهذا يقتضي أن يخرج المؤمن عن إيمانه في كل لحظة بسبب أنه خطر بباله سؤال وإشكال ومعلوم أن ذلك باطل فثبت أن بناء الإيمان ليس على الدليل بل على التقليد فصارت هذه الآية دالة على أن الأصل في الإيمان هو التقليد من هذا الوجه
والجواب أن المسلم وإن عرض له الشك في صحة بعض مقدمات دليل واحد إلا أن سائر الدلائل سليمة عنده من الطعن فلهذا السبب بقي إيمانه دائماً مستمراً
السؤال الثاني أليس أن أصحابكم يقولون أنا مؤمن إن شاء الله تعالى وذلك يقتضي حصول الشك
والجواب أنا استقصينا في تحقيق هذه المسألة في سورة الأنفال في تفسير قوله أُوْلئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً ( الأنفال 74 )
المسألة الثانية قالت الكرامية الإيمان هو مجرد الإقرار مع أنه تعالى شهد عليهم في هذه الآية بأنهم ليسوا مؤمنين
المسألة الثالثة قوله وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ يدل على أن محل الريب هو القلب فقط ومتى كان محل الريب هو القلب كان محل المعرفة والإيمان أيضاً هو القلب لأن محل أحد الضدين يجب أن يكون هو محلاً للضد الآخر ولهذا السبب قال تعالى أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ ( المجادلة 22 ) وإذا كان محل المعرفة والكفر القلب كان المثاب والمعاقب في الحقيقة هو القلب والبواقي تكون تبعاً له
المسألة الرابعة قوله فَهُمْ فِى رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ معناه أن الشاك المرتاب يبقى متردداً بين النفي

والإثبات غير حاكم بأحد القسمين ولا جازم بأحد النقيضين وتقريره أن الاعتقاد إما أن يكون جازماً أو لا يكون فالجازم إن كان غير مطابق فهو الجهل وإن كان مطابقاً فإن كان غير يقين فهو العلم وإلا فهو اعتقاد المقلد وإن كان غير جازم فإن كان أحد الطرفين راجحاً فالراجح هو الظن والمرجوح هو الوهم وإن اعتدل الطرفان فهو الريب والشك وحينئذ يبقى الإنسان متردداً بين الطرفين
ثم قال تعالى وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لاعَدُّواْ لَهُ عُدَّة ً قرىء عدته وقرىء أيضاً إِنَّ عِدَّة َ بكسر العين بغير إضافة وبإضافة قال ابن عباس يريد من الزاد والماء والراحلة لأن سفرهم بعيد وفي زمان شديد وتركهم العدة دليل على أنهم أرادوا التخلف وقال آخرون هذا إشارة إلى أنهم كانوا مياسير قادرين على تحصيل الأهبة والعدة
ثم قال تعالى وَلَاكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى الانبعاث الانطلاق في الأمر يقال بعثت البعير فانبعث وبعثته لأمر كذا فانبعث وبعثه لأمر كذا أي نفذه فيه والتثبيط رد الإنسان على الفعل الذي هم به والمعنى أنه تعالى كره خروجهم مع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فصرفهم عنه
فإن قيل إن خروجهم مع الرسول إما أن يقال إنه كان مفسدة وإما أن يقال إنه كان مصلحة
فإن قلنا إنه كان مفسدة فلم عاتب الرسول في إذنه إياهم في القعود وإن قلنا إنه كان مصلحة فلم قال إنه تعالى كره انبعاثهم وخروجهم
والجواب الصحيح أن خروجهم مع الرسول ما كان مصلحة بدليل أنه تعالى صرح بعد هذه الآية وشرح تلك المفاسد وهو قوله لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ( التوبة 47 ) بقي أن يقال فلما كان الأصوب الأصلح أن لا يخرجوا فلم عاتب الرسول في الإذن فنقول قد حكينا عن أبي مسلم أنه قال ليس في قوله لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ أنه عليه الصلاة والسلام كان قد أذن لهم في القعود بل يحتمل أن يقال إنهم استأذنوه في الخروج معه فأذن لهم وعلى هذا التقدير فإنه يسقط السؤال قال أبو مسلم والدليل على صحة ما قلنا إن هذه الآية دلت على أن خروجهم معه كان مفسدة فوجب حمل ذلك العتاب على أنه عليه الصلاة والسلام أذن لهم في الخروج معه وتأكد ذلك بسائر الآيات منها قوله تعالى فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَة ٍ مّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِى َ أَبَدًا ( التوبة 83 ) ومنها قوله تعالى سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ ( الفتح 15 ) إلى قوله قُل لَّن تَتَّبِعُونَا فهذا دفع هذا السؤال على طريقة أبي مسلم
والوجه الثاني من الجواب أن نسلم أن العتاب في قوله لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ إنما توجه لأنه عليه الصلاة والسلام أذن لهم في القعود فنقول ذلك العتاب ما كان لأجل أن ذلك القعود كان مفسدة بل لأجل أن إذنه عليه الصلاة والسلام بذلك القعود كان مفسدة وبيانه من وجوه الأول أنه عليه الصلاة والسلام أذن قبل إتمام التفحص وإكمال التأمل والتدبر ولهذا السبب قال تعالى لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ والثاني أن بتقدير أنه عليه الصلاة والسلام ما كان يأذن لهم في القعود فهم كانوا يقعدون من تلقاء أنفسهم وكان يصير ذلك القعود علامة على نفاقهم وإذا ظهر نفاقهم احترز المسلمون منهم ولم

يغتروا بقولهم فلما أذن الرسول في القعود بقي نفاقهم مخفياً وفاتت تلك المصالح والثالث أنهم لما استأذنوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) غضب عليهم وقال اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ على سبيل الزجر كما حكاه الله في آخر هذه الآية وهو قوله وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ ثم إنهم اغتنموا هذه اللفظة وقالوا قد أذن لنا فقال تعالى لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ أي لم ذكرت عندهم هذا اللفظ الذي أمكنهم أن يتوسلوا به إلى تحصيل غرضهم الرابع أن الذين يقولون الاجتهاد غير جائز على الأنبياء عليهم السلام قالوا إنه إنما أذن بمقتضى الاجتهاد وذلك غير جائز لأنهم لما تمكنوا من الوحي وكان الإقدام على الاجتهاد مع التمكن من الوحي جارياً مجرى الإقدام على الاجتهاد مع حصول النص فكما أن هذا غير جائز فكذا ذاك
المسألة الثانية قالت المعتزلة البصرية الآية دالة على أنه تعالى كما هو موصوف بصفة المريدية هو موصوف بصفة الكارهية بدليل قوله تعالى وَلَاكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ قال أصحابنا معنى كَرِهَ اللَّهُ أراد عدم ذلك الشيء قال البصرية العدم لا يصلح أن يكون متعلقاً وذلك لأن الإرادة عبارة عن صفة تقتضي ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر والعدم نفي محض وأيضاً فالعدم المستمر لا تعلق للإرادة بالعدم به لأن تحصيل الحاصل محال وجعل العدم عدماً محال فثبت أن تعلق الإرادة بالعدم محال فامتنع القول بأن المراد من الكراهة إرادة العدم
أجاب أصحابنا بأنا نفسر الكراهة في حق الله بإرادة ضد ذلك الشيء فهو تعالى أراد منهم السكون فوقع التعبير عن هذه الإرادة بكونه تعالى كارهاً لخروجهم مع الرسول
المسألة الثالثة احتج أصحابنا في مسألة القضاء والقدر بقوله تعالى فَثَبَّطَهُمْ أي فكسلهم وضعف رغبتهم في الانبعاث وحاصل الكلام فيه لا يتم إلا إذا صرحنا بالحق وهو أن صدور الفعل يتوقف على حصول الداعي إليه فإذا صارت الداعية فاترة مرجوحة امتنع صدور الفعل عنه ثم إن صيرورة تلك الداعية جازمة أو فاترة إن كانت من العبد لزم التسلسل وإن كانت من الله فحينئذ لزم المقصود لأن تقوية الداعية ليست إلا من الله ومتى حصلت تلك التقوية لزم حصول الفعل وحينئذ يصح قولنا في مسألة القضاء والقدر ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى المقصود منه التنبيه على ذمهم وإلحاقهم بالنساء والصبيان والعاجزين الذين شأنهم القعود في البيوت وهم القاعدون والخالفون والخوالف على ما ذكره في قوله رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوالِفِ
المسألة الثانية اختلفوا في أن هذا القول ممن كان فيحتمل أن يكون القائل بذلك هو الشيطان على سبيل الوسوسة ويحتمل أن يكون بعضهم قال ذلك لبعض لما أرادوا الاجتماع على التخلف لأن من يتولى الفساد يحب التكثر بأشكاله ويحتمل أن يكون القائل هو الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لما أذن لهم في التخلف فعاتبه الله ويحتمل أن يكون القائل هو الله سبحانه لأنه قد كره خروجهم للإفساد وكان المراد إذا كنتم مفسدين فقد كره الله انبعاثكم على هذا الوجه فأمركم بالقعود عن هذا الخروج المخصوص

لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولاّوْضَعُواْ خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَة َ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ
اعلم أنه تعالى بين في هذه الآية أنواع المفاسد الحاصلة من خروجهم وهي ثلاثة الأول قوله لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وفيه مسائل
المسألة الأولى الخبال والشر والفساد في كل شيء ومنه يسمى العته بالخبل والمعتوه بالمخبول وللمفسرين عبارات قال الكلبي إلا شراً وقال يمان إلا مكراً وقيل إلا غياً وقال الضحاك إلا غدراً وقيل الخبال الاضطراب في الرأي وذلك بتزيين أمر لقوم وتقبيحه لقوم أخرين ليختلفوا وتفترق كلمتهم
المسألة الثانية قال بعض النحويين قوله إِلاَّ خَبَالاً من الاستثناء المنقطع وهو أن لا يكون المستثنى من جنس المستثنى منه كقولك ما زادوكم خيراً إلا خبالاً وههنا المستثنى منه غير مذكور وإذا لم يذكر وقع الاستثناء من الأعم والعام هو الشيء فكان الاستثناء متصلاً والتقدير ما زادوكم شيئاً إلا خبالاً
المسألة الثالثة قالت المعتزلة إنه تعالى بين في الآية الأولى أنه كره انبعاثهم وبين في هذه الآية أنه إنما كره ذلك الانبعاث لكونه مشتملاً على هذا الخبال والشر والفتنة وذلك يدل على أنه تعالى يكره الشر والفتنة والفساد على الإطلاق ولا يرضى إلا بالخير ولا يريد إلا الطاعة
النوع الثاني من المفاسد الناشئة من خروجهم قوله تعالى ولاَوْضَعُواْ خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَة َ وفي الإيضاح قولان نقلهما الواحدي
القول الأول وهو قول أكثر أهل اللغة أن الأيضاع حمل البعير على العدو ولا يجوز أن يقال أوضع الرجل إذا سار بنفسه سيراً حثيثاً يقال وضع البعير إذا عدا وأوضعه الراكب إذا حمله عليه قال الفراء العرب تقول وضعت الناقة وأوضع الراكب وربما قالوا للراكب وضع
والقول الثاني وهو قول الأخفش وأبي عبيد أنه يجوز أن يقال أوضع الرجل إذا سار بنفسه سيراً حثيثاً من غير أن يراد أنه وضع ناقته روى أبو عبيد أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أفاض من عرفة وعليه السكينة وأوضع في وادي محسر وقال لبيد أرانا موضعين لحكم غيب
ونسخو بالطعام وبالشراب
أراد مسرعين ولا يجوز أن يكون يريد موضعين الإبل لأنه لم يرد السير في الطريق وقال عمر بن أبي ربيعة تبالهن بالعدوان لما عرفنني
وقلن امرؤ باغ أكل وأوضعا
قال الواحدي والآية تشهد لقول الأخفش وأبي عبيد

واعلم أن على القولين فالمراد من الآية السعي بين المسلمين بالتضريب والنمائم فإن اعتبرنا القول الأول كان المعنى ولأوضعوا ركائبهم بينكم والمراد الإسراع بالنمائم لأن الراكب أسرع من الماشي وإن اعتبرنا القول الثاني كان المراد أنهم يسرعون في هذا التضريب
المسألة الرابعة نقل صاحب ( الكشاف ) عن ابن الزبير أنه قرأ ولأوقصوا من وقصت الناقة وقصا إذا أسرعت وأوقصتها وقرىء ولأرفضوا
فإن قيل كيف كتب في المصحف وَلاَ بزيادة الألف
أجاب صاحب ( الكشاف ) بأن الفتحة كانت ألفاً قبل الخط العربي والخط العربي اخترع قريباً من نزول القرآن وقد بقي في ذلك الألف أثر في الطباع فكتبوا صورة الهمزة ألفاً وفتحتها ألفاً أخرى ونحوه أَوَلاَ
المسألة الخامسة قوله ولاَوْضَعُواْ خِلَالَكُمْ أي فيما بينكم ومنه قوله وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَراً ( الكهف 33 ) وقوله فَجَاسُواْ خِلَالَ الدّيَارِ ( الإسراء 5 ) وأصله من الخلل وهو الفرجة بين الشيئين وجمعه خلال ومنه قوله فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ ( النور 43 ) وقرىء من خلله وهي مخارج مصب القطر وقال الأصمعي تخللت القوم إذا دخلت بين خللهم وخلالهم ويقال جلسنا خلال بيوت الحي وخلال دورهم أي جلسنا بين البيوت ووسط الدور
إذا عرفت هذا فنقول قوله خَبَالاً ولاَوْضَعُواْ خِلَالَكُمْ أي بالنميمة والإفساد وقوله يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَة َ أي يبغون لكم وقال الأصمعي ابغني كذا أي اطلبه لي ومعنى ابغني وابغ لي سواء وإذا قال ابغني فمعناه أعني على ما بغيته ومعنى الْفِتْنِة ِ ههنا افتراق الكلمة وظهور التشويش
واعلم أن حاصل الكلام هو أنهم لو خرجوا فيهم ما زادوهم إلا خبالاً والخبال هو الإفساد الذي يوجب اختلاف الرأي وهو من أعظم الأمور التي يجب الاحتراز عنها في الحروب لأن عند حصول الاختلاف في الرأي يحصل الانهزام والانكسار على أسهل الوجوه ثم بين تعالى أنهم لا يقتصرون على ذلك بل يمشون بين الأكابر بالنميمة فيكون الإفساد أكثر وهو المراد بقوله ولاَوْضَعُواْ خِلَالَكُمْ
فأما قوله وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ففيه قولان الأول المراد فيكم عيون لهم ينقلون إليهم ما يسمعون منكم وهذا قول مجاهد وابن زيد والثاني قال قتادة فيكم من يسمع كلامهم ويقبل قولهم فإذا ألقوا إليهم أنواعاً من الكلمات الموجبة لضعف القلب قبلوها وفتروا بسببها عن القيام بأمر الجهاد كما ينبغي
فإن قيل كيف يجوز ذلك على المؤمنين مع قوة دينهم ونيتهم في الجهاد
قلنا لا يمتنع فيمن قرب عهده بالإسلام أن يؤثر قول المنافقين فيهم ولا يمتنع كون بعض الناس مجبولين على الجبن والفشل وضعف القلب فيؤثر قولهم فيهم ولا يمتنع أن يكون بعض المسلمين من أقارب رؤساء المنافقين فينظرون إليهم بعين الإجلال والتعظيم فلهذا السبب يؤثر قول هؤلاء الأكابر من المنافقين فيهم ولا يمتنع أيضاً أن يقال المنافقون على قسمين منهم من يقتصر على النفاق ولا يسعى في الأرض بالفساد ثم إن الفريق الثاني من المنافقين يحملونهم على السعي بالفساد بسبب إلقاء الشبهات والأراجيف إليهم

ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ الذين ظلموا أنفسهم بسبب كفرهم ونفاقهم وظلموا غيرهم بسبب أنهم سعوا في إلقاء غيرهم في وجوه الآفات والمخالفات والله أعلم
لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَة َ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَآءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّى أَلا فِى الْفِتْنَة ِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَة ٌ بِالْكَافِرِينَ
اعلم أن المذكور في هذه الآية نوع آخر من مكر المنافقين وخبث باطنه فقال لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَة َ مِن قَبْلُ أي من قبل واقعة تبوك قال ابن جريج هو أن اثني عشر رجلاً من المنافقين وقفوا على ثنية الوداع ليلة العقبة ليفتكوا بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقيل المراد ما فعله عبد الله بن أبي يوم أحد حين انصرف عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مع أصحابه وقيل طلبوا صد أصحابك عن الدين وردهم إلى الكفر وتخذيل الناس عنك ومعنى الفتنة هو الاختلاف الموجب للفرقة بعد الألفة وهو الذي طلبه المنافقون للمسلمين وسلمهم الله منه وقوله وَقَلَّبُواْ لَكَ الامُورَ تقليب الأمر تصريفه وترديده لأجل التدبر والتأمل فيه يعني اجتهدوا في الحيلة عليك والكيد بك يقال في الرجل المتصرف في وجوه الحيل فلان حول قلب أي يتقلب في وجوه الحيل
ثم قال تعالى حَتَّى جَاء الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ والمعنى أن هؤلاء المنافقين كانوا مواظبين على وجه الكيد والمكر وإثارة الفتنة وتنفير الناس عن قبول الدين حتى جاء الحق الذي كان في حكم المذاهب والمراد منه القرآن ودعوة محمد وظهر أمر الله الذي كان كالمستور والمراد بأمر الله الأسباب التي أظهرها الله تعالى وجعلها مؤثرة في قوة شرع محمد عليه الصلاة والسلام وهم لها كارهون أي وهم لمجيء هذا الحق وظهور أمر الله كارهون وفيه تنبيه على أنه لا أثر لمكرهم وكيدهم ومبالغتهم في إثارة الشر فإنهم منذ كانوا في طلب هذا المكر والكيد والله تعالى رده في نحرهم وقلب مرادهم وأتى بضد مقصودهم فلما كان الأمر كذلك في الماضي فهذا يكون في المستقبل
ثم قال تعالى وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائْذَن لّي وَلاَ تَفْتِنّى يريد ائذن لي في القعود ولاتفتني بسبب الأمر بالخروج وذكروا فيه وجوها الأول لا تفتني أي لا توقعني في الفتنة وهي الإثم بأن لا تأذن لي فإنك إن منعتني من القعود وقعدت بغير إذنك وقعت في الإثم وعلى هذا التقدير فيحتمل أن يكونوا ذكروه على سبيل السخرية وإن يكونوا أيضاً ذكروه على سبيل الجد وإن كان ذلك المنافق منافقاً كان يغلب على ظنه كون محمد عليه السلام صادقاً وإن كان غير قاطع بذلك والثاني لا تفتني أي لا تلقني في الهلاك فإن الزمان زمان شدة الحر ولا طاقة لي بها والثالث لا تفتني فإني إن خرجت معك هلك مالي وعيالي والرابع قال الجد بن قيس قد علمت الأنصار أني مغرم بالنساء فلا تفتني ببنات الأصفر يعني نساء الروم ولكني أعينك بمال

فاتركني وقرىء وَلاَ تَفْتِنّى من أفتنة أَلا فِى الْفِتْنَة ِ سَقَطُواْ والمعنى أنهم يحترزون عن الوقوع في الفتنة وهم في الحال ما وقعوا إلا في الفتنة فإن أعظم أنواع الفتنة الكفر بالله ورسوله والتمرد عن قبول التكليف وأيضاً فهم يبقون خالفين عن المسلمين خائفين من أن يفضحهم الله وينزل آيات في شرح نفاقهم وفي مصحف أبي سُقِطَ لأن لفظ من موحد اللفظ مجموع المعنى قال أهل المعاني وفيه تنبيه على أن من عصى الله لغرض ما فإنه تعالى يبطل عليه ذلك الغرض ألا ترى أن القوم إنما اختاروا القعود لئلا يقعوا في الفتنة فالله تعالى بين أنهم في عين الفتنة واقعون ساقطون
ثم قال تعالى وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَة ٌ بِالْكَافِرِينَ قيل إنها تحيط بهم يوم القيامة وقيل إن أسباب تلك الإحاطة حاصلة في الحال فكأنهم في وسطها وقال الحكماء الإسلامية إنهم كانوا محرومين من نور معرفة الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وما كانوا يعتقدون لأنفسهم كمالاً وسعادة سوى الدنيا وما فيها من المال والجاه ثم إنهم اشتهروا بين الناس بالنفاق والطعن في الدين وقصد الرسول بكل سوء وكانوا يشاهدون أن دولة الإسلام أبداً في الترقي والاستعلاء والتزايد وكانوا في أشد الخوف على أنفسهم وأولادهم وأموالهم والحاصل أنهم كانوا محرومين عن كل السعادات الروحانية فكانوا في أشد الخوف بسبب الأحوال العاجلة والخوف الشديد مع الجهل الشديد أعظم أنواع العقوبات الروحانية فعبر الله تعالى عن تلك الأحوال بقوله وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَة ٌ بِالْكَافِرِينَ
إِن تُصِبْكَ حَسَنَة ٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَة ٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ
اعلم أن هذا نوع آخر من كيد المنافقين ومن حبث بواطنهم والمعنى إن تصبك في بعض الغزوات حسنة سواء كان ظفراً أو كان غنيمة أو كان انقياداً لبعض ملوك الأطراف يسؤهم ذلك وإن تصبك مصيبة من نكبة وشدة ومصيبة ومكروه يفرحوا به ويقولوا قد أخذنا أمرنا الذي نحن مشهورون به وهو الحذر والتيقظ والعمل بالحزم من قبل أي قبل ما وقع وتولوا عن مقام التحدث بذلك والاجتماع له إلى أهاليهم وهم فرحون مسرورون ونقل عن ابن عباس أن الحسنة في يوم بدر والمصيبة في يوم أحد فإن ثبت بخبر أن هذا هو المراد وجب المصير إليه وإلا فالواجب حمله على كل حسنة وعلى كل مصيبة إذ المعلوم من حال المنافقين أنهم في كل حسنة وعند كل مصيبة بالوصف الذي ذكره الله ههنا
ثم قال تعالى قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا وفيه أقوال
القول الأول أن المعنى أنه لن يصيبنا خير ولا شر ولا خوف ولا رجاء ولا شدة ولا رخاء إلا وهو

مقدرعلينا مكتوب عند الله وكونه مكتوباً عند الله يدل على كونه معلوماً عند الله مقضياً به عند الله فإن ما سواه ممكن والممكن لا يترجح إلا بترجيح الواجب والممكنات بأسرها منتهية إلى قضائه وقدره
واعلم أن أصحابنا يتمسكون بهذه الآية في أن قضاء الله شامل لكل المحدثات وأن تغير الشيء عما قضى الله به محال وتقرير هذا الكلام من وجوه أحدها أن الموجود إما واجب وإما ممكن والممكن يمتنع أن يترجح أحد طرفيه على الآخر لنفسه فوجب انتهاؤه إلى ترجيح الواجب لذاته وما سواه فواجب بإيجاده وتأثيره وتكوينه ولهذا المعنى قال النبي عليه السلام ( جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة ) وثانيها أن الله تعالى لما كتب جميع الأحوال في اللوح المحفوظ فقد علمها وحكم بها فلو وقع الأمر بخلافها لزم انقلاب العلم جهلاً والحكم الصدق كذباً وكل ذلك محال وقد أطنبنا في شرح هذه المناظرة في تفسير قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ( البقرة 6 )
فإن قيل إنه تعالى إنما ذكر هذا الكلام تسلية للرسول في فرحهم بحزنه ومكارهه فأي تعلق لهذا المذهب بذلك
قلنا السبب فيه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من علم سر الله في القدر هانت عليه المصائب ) فإنه إذا علم الإنسان أن الذي وقع امتنع أن لا يقع زالت المنازعة عن النفس وحصل الرضا به
القول الثاني في تفسير هذه الآية أن يكون المعنى لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا أي في عاقبة أمرنا من الظفر بالعدو والاستيلاء عليهم والمقصود أن يظهر للمنافقين أن أحوال الرسول والمسلمين وإن كانت مختلفة في السرور والغم إلا أن في العاقبة الدولة لهم والفتح والنصر والظفر من جانبهم فيكون ذلك اغتياظاً للمنافقين ورداً عليهم في ذلك الفرح
والقول الثالث قال الزجاج المعنى إذا صرنا مغلوبين صرنا مستحقين للأجر العظيم والثواب الكثير وإن صرنا غالبين صرنا مستحقين للثواب في الآخرة وفزنا بالمال الكثير والثناء الجميل في الدنيا وإذا كان الأمر كذلك صارت تلك المصائب والمحزنات في جنب هذا الفوز بهذه الدرجات العالية متحملة وهذه الأقوال وإن كانت حسنة إلا أن الحق الصحيح هو الأول
ثم قال تعالى هُوَ مَوْلَانَا والمراد به ما يقوله أصحابنا أنه سبحانه يحسن منه التصرف في العالم كيف شاء وأراد لأجل أنه مالك لهم وخالق لهم ولأنه لا اعتراض عليه في شيء من أفعاله فهذا الكلام ينطبق على ما تقدم ولذا قلنا إنه تعالى وإن أوصل إلى بعض عبيده أنواعاً من المصائب فإنه يجب الرضا بها لأنه تعالى مولاهم وهم عبيده فحسن منه تعالى تلك التصرفات بمجرد كونه مولى لهم ولا اعتراض لأحد عليه في شيء من أفعاله
ثم قال تعالى وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ معناه أنه وإن لم يجب عليه لأحد من العبيد شيء من الأشياء ولا أمر من الأمور إلا أنه مع هذا عظيم الرحمة كثير الفضل والإحسان فوجب أن لا يتوكل المؤمن في الأصل إلا عليه وأن يقطع طمعه إلا من فضله ورحمته لأن قوله وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ يفيد الحصر وهذا كالتنبيه على أن حال المنافقين بالضد من ذلك وأنهم لا يتوكلون إلا على الأساب الدنيوية واللذات العاجلة الفانية

قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ
اعلم أن هذا هو الجواب الثاني عن فرح المنافقين بمصائب المؤمنين وذلك لأن المسلم إذا ذهب إلى الغزو فإن صار مغلوباً مقتولاً فاز بالاسم الحسن في الدنيا والثواب العظيم الذي أعده الله للشهداء في الآخرة وإن صار غالباً فاز في الدنيا بالمال الحلال والاسم الجميل وهي الرجولية والشوكة والقوة وفي الآخرة بالثواب العظيم وأما المنافق إذا قعد في بيته فهو في الحال في بيته مذموماً منسوباً إلى الجبن والفشل وضعف القلب والقناعة بالأمور الخسيسة من الدنيا على وجه يشاركه فيها النسوان والصبيان والعاجزون من النساء ثم يكونون أبداً خائفين على أنفسهم وأولادهم وأموالهم وفي الآخرة إن ماتوا فقد انتقلوا إلى العذاب الدائم في القيامة وإن أذن الله في قتلهم وقعوا في القتل والأسر والنهب وانتقلوا من الدنيا إلى عذاب النار فالمنافق لا يتربص بالمؤمن إلا إحدى الحالتين المذكورتين وكل واحدة منهما في غاية الجلالة والرفعة والشرف والمسلم يتربص بالمنافق إحدى الحالتين المذكورتين أعني البقاء في الدنيا مع الخزي والذل والهوان ثم الانتقال إلى عذاب القيامة والوقوع في القتل والنهب مع الخزي والذل وكل واحدة من هاتين الحالتين في غاية الخساسة والدناءة ثم قال تعالى للمنافقين فَتَرَبَّصُواْ بنا إحدى الحالتين الشريفتين إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبّصُونَ وقوعكم في إحدى الحالتين الخسيستين النازلتين قال الواحدي يقال فلان يتربص بفلان الدوائر وإذا كان ينتظر وقوع مكروه به وهذا قد سبق الكلام فيه وقال أهل المعاني التربص التمسك بما ينتظر به مجيء حينه ولذلك قيل فلان يتربص بالطعام إذا تمسك به إلى حين زيادة سعره والحسنى تأنيث الأحسن واختلفوا في تفسير قوله بِعَذَابٍ مّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا قيل من عند الله أي بعذاب ينزله الله عليهم في الدنيا أو بأيدينا بأن يأذن لنا في قتلكم وقيل بعذاب من عند الله يتناول عذاب الدنيا والآخرة أو بأيدينا القتل
فإن قيل إذا كانوا منافقين لا يحل قتلهم مع إظهارهم الإيمان فكيف يقول تعالى ذلك
قلنا قال الحسن المراد بأيدينا إن ظهر نفاقكم لأن نفاقهم إذا ظهر كانوا كسائر المشركين في كونهم حرباً للمؤمنين وقوله فَتَرَبَّصُواْ وإن كان بصيغة الأمر إلا أن المراد منه التهديد كما في قوله ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ والله أعلم
قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ

اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أن عاقبة هؤلاء المنافقين هي العذاب في الدنيا وفي الآخرة بين أنهم وإن أتوا بشيء من أعمال البر فإنهم لا ينتفعون به في الآخرة والمقصود بيان أن أسباب العذاب في الدنيا والآخرة مجتمعة في حقهم وأن أسباب الراحة والخير زائلة عنهم في الدنيا وفي الآخرة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي كَرْهاً بضم الكاف ههنا وفي النساء والأحقاف وقرأ عاصم وابن عامر في الأحقاف بالضم من المشقة وفي النساء والتوبة بالفتح من الإكراه والباقون بفتح الكاف في جميع ذلك فقيل هما لغتان وقيل بالضم المشقة وبالفتح ما أكرهت عليه
المسألة الثانية قال ابن عباس نزلت في الجد بن قيس حين قال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ائذن لي في القعود وهذا ما لي أعينك به
واعلم أن السبب وإن كان خاصاً إلا أن الحكم عام فقوله أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً وإن كان لفظه لفظ أمر إلا أن معناه معنى الشرط والجزاء والمعنى سواء أنفقتم طائعين أو مكرهين فلن يقبل ذلك منكم
واعلم أن الخبر والأمر يتقاربان فيحسن إقامة كل واحد منهما مقام الآخر أما إقامة الأمر مقام الخبر فكما ههنا وكما في قوله اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ( التوبة 80 ) وفي قوله قُلْ مَن كَانَ فِى الضَّلَالَة ِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً ( مريم 75 ) وأما إقامة الخبر مقام الأمر فكقوله وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ ( البقرة 233 ) المطلقات يتربصن بأنفسهن ( البقرة 288 ) وقال كثير أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة
لدينا ولا مقلية إن تقلت
وقوله المطلقات يتربصن بأنفسهن ( البقرة 288 ) وقال كثير أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة
لدينا ولا مقلية إن تقلت
وقوله ( البقرة 288 ) وقال كثير أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة
لدينا ولا مقلية إن تقلت
وقوله طَوْعاً أَوْ كَرْهاً يريد طائعين أو كارهين وفيه وجهان الأول طائعين من غير إلزام من الله ورسوله أو مكرهين من قبل الله ورسوله وسمى الإلزام إكراهاً لأنهم منافقون فكان إلزام الله إياهم الإنفاق شاقاً عليهم كالإكراه والثاني أن يكون التقدير طائعين من غير إكراه من رؤسائكم لأن رؤساء أهل النفاق كانوا يحملون الاتباع على الإنفاق لما يرون من المصلحة فيه أو مكرهين من جهتهم
ثم قال تعالى لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ يحتمل أن يكون المراد أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لا يتقبل تلك الأموال منهم ويحتمل أن يكون المراد أنها لا تصير مقبولة عند الله
ثم قال تعالى إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ وهذا إشارة إلى أن عدم القبول معلل بكونهم فاسقين قال الجبائي دلت الآية على أن الفسق يحبط الطاعات لأنه تعالى بين أن نفقتهم لا تقبل البتة وعلل ذلك بكونهم فاسقين ومعنى التقبل هو الثواب والمدح وإذا لم يتقبل ذلك كان معناه أنه لا ثواب ولا مدح فلما علل ذلك بالفسق دل على أن الفسق يؤثر في إزالة هذا المعنى ثم إن الجبائي أكد ذلك بدليلهم المشهور في هذه المسألة وهو أن الفسق يوجب الذم والعقاب الدائمين والطاعة توجب المدح والثواب الدائمين والجمع بينهما محال فكان الجمع بين حصول استحقاقهما محالاً
واعلم أنه كان الواجب عليه أن لا يذكر هذا الاستدلال بعد ما أزال الله هذه الشبهة على أبلغ الوجوه وهو قوله وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ فبين تعالى بصريح هذا اللفظ أنه

لا مؤثر في منع قبول هذه الأعمال إلا الكفر وعند هذا يصير هذا الكلام من أوضح الدلائل على أن الفسق لا يحبط الطاعات لأنه تعالى لما قال إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ فكأنه سأل سائل وقال هذا الحكم معلل بعموم كون تلك الأعمال فسقاً أو بخصوص كون تلك الأعمال موصوفة بذلك الفسق فبين تعالى به ما أزال هذه الشبهة وهو أن عدم القبول غير معلل بعموم كونه فسقاً بل بخصوص وصفه وهو كون ذلك الفسق كفراً فثبت أن هذا الاستدلال باطل
وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلَواة َ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى دل صريح هذه الآية على أنه لا تأثير للفسق من حيث إنه فسق في هذا المنع وذلك صريح في بطلان قول المعتزلة على ما لخصناه وبيناه
المسألة الثانية ظاهر اللفظ يدل على أن منع القبول بمجموع الأمور الثلاثة وهي الكفر بالله ورسوله وعدم الإتيان بالصلاة إلا على وجه الكسل والإنفاق على سبيل الكراهية
ولقائل أن يقول الكفر بالله سبب مستقل في المنع من القبول وعند حصول السبب المستقل لا يبقى لغيره أثر فكيف يمكن إسناد هذا الحكم إلى السببين الباقيين
وجوابه أن هذا الإشكال إنما يتوجه على قول المعتزلة حيث قالوا إن الكفر لكونه كفراً يؤثر في هذا الحكم أما عندنا فإن شيئاً من الأفعال لا يوجب ثواباً ولا عقاباً البتة وإنما هي معرفات واجتماع المعرفات الكثيرة على الشيء الواحد محال بل نقول إن هذا من أقوى الدلائل اليقينية على أن هذه الأفعال غير مؤثرة في هذه الأحكام لوجوه عائدة إليها والدليل عليه أنه تعالى بين أنه حصلت هذه الأمور الثلاثة في حقهم فلو كان كل واحد منها موجباً تاماً لهذا الحكم لزم أن يجتمع على الأثر الواحد أسباب مستقلة وذلك محال لأن المعلول يستغنى بكل واحد منها عن كل واحد منها فيلزم افتقاره إليها بأسرها حال استغنائه عنها بأسرها وذلك محال فثبت أن القول بكون هذه الأفعال مؤثرة في هذه الأحكام يفضي إلى هذا المحال فكان القول به باطلاً
المسألة الثالثة دلت هذه الآية على أن شيئاً من أعمال البر لا يكون مقبولاً عند الله مع الكفر بالله
فإن قيل فكيف الجمع بينه وبين قوله فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ خَيْراً يَرَهُ
قلنا وجب أن يصرف ذلك إلى تأثيره في تخفيف العقاب ودلت الآية على أن الصلاة لازمة للكافر ولولا ذلك لما ذمهم الله تعالى على فعلهاعلى وجه الكسل

فإن قالوا لم لا يجوز أن يقال الموجب للذم ليس هو ترك الصلاة بل الموجب للذم هو الإتيان بها على وجه الكسل جارياً مجرى سائر تصرفاتها من قيام وقعود وكما لا يكون قعودهم على وجه الكسل مانعاً من تقبل طاعتهم فكذلك كان يجب في صلاتهم لو لم تجب عليهم
المسألة الرابعة مضى تفسير الكسالى في سورة النساء قال صاحب ( الكشاف ) كُسَالَى بالضم والفتح جمع الكسلان نحو سكارى وحيارى في سكران وحيران قال المفسرون هذا الكسل معناه أنه إن كان في جماعة صلى وإن كان وحده لم يصل قال المصنف إن هذا المعنى إنما أثر في منع قبول الطاعات لأن هذا المعنى يدل على أنه لا يصلي طاعة لأمر الله وإنما يصلي خوفاً من مذمة الناس وهذا القدر لا يدل على الكفر أما لما ذكره الله تعالى بعد أن وصفهم بالكفر دل على أن الكسل إنما كان لأنهم يعتقدون أنه غير واجب وذلك يوجب الكفر
أما قوله وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ فالمعنى أنهم لا ينفقون لغرض الطاعة بل رعاية للمصلحة الظاهرة وذلك أنهم كانوا يعدون الإنفاق مغرماً وضيعة بينهم وهذا يوجب أن تكون النفس طيبة عند أداء الزكاة والإنفاق في سبيل الله لأن الله تعالى ذم المنافقين بكراهتهم الإنفاق وهذا معنى قوله عليه السلام ( أدوا زكاة أموالكم طيبة بها نفوسكم ) فإن أداها وهو كاره لذلك كان من علامات الكفر والنفاق قال المصنف رضي الله عنه حاصل هذه المباحث يدل على أن روح الطاعات الإتيان بها لغرض العبودية والانقياد في الطاعة فإن لم يؤت بها لهذا الغرض فلا فائدة فيه بل ربما صارت وبالاً على صاحبها
المسألة الخامسة وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ قرأ حمزة والكسائي ءانٍ يَقْبَلُ بالياء والباقون بالتاء على التأنيث وجه الأولين أن النفقات في معنى الإنفاق كقوله فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَة ٌ ووجه من قرأ بالتأنيث أن الفعل مسند إلى مؤنث قال صاحب ( الكشاف ) قرىء نَفَقَاتُهُمْ و نَفَقَاتُهُمْ على الجمع والتوحيد وقرأ السلمي ءانٍ يَقْبَلُ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ على إسناد الفعل إلى الله عز وجل
فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ
اعلم أنه تعالى لما قطع في الآية الأولى رجاء المنافقين عن جميع منافع الآخرة بين أن الأشياء التي يظنونها من باب المنافع في الدنيا فإنه تعالى جعلها أسباب تعظيمهم في الدنيا وأسباب اجتماع المحن والآفات عليهم ومن تأمل في هذه الآيات عرف أنها مرتبة على أحسن الوجوه فإنه تعالى لما بين قبائح أفعالهم وفضائح أعمالهم بين مالهم في الآخرة من العذاب الشديد ومالهم في الدنيا من وجوه المحنة والبلية ثم بين بعد ذلك أن ما يفعلونه من أعمال البر لا ينتفعون به يوم القيامة البتة ثم بين في هذه الآية أن ما يظنون أنه من منافع الدنيا فهو في الحقيقة سببب لعذابهم وبلائهم وتشديد المحنة عليهم وعند هذا يظهر

أن النفاق جالب لجميع الآفات في الدين والدنيا ومبطل لجميع الخيرات في الدين والدنيا وإذا وقف الإنسان على هذا الترتيب عرف أنه لا يمكن ترتيب الكلام على وجه أحسن من هذا ومن الله التوفيق وفيه مسائل
المسألة الأولى هذا الخطاب وإن كان في الظاهر مختصاً بالرسول عليه السلام إلا أن المراد منه كل المؤمنين أي لا ينبغي أن تعجبوا بأموال هؤلاء المنافقين والكافرين ولا بأولادهم ولا بسائر نعم الله عليهم ونظيره قوله تعالى وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ( طه 131 ) الآية
المسألة الثانية الإعجاب السرور بالشيء مع نوع الافتخار به ومع اعتقاد أنه ليس لغيره ما يساويه وهذه الحالة تدل على استغراق النفس في ذلك الشيء وانقطاعها عن الله فإنه لا يبعد في حكم الله أن يزيل ذلك الشيء عن ذلك الإنسان ويجعله لغيره والإنسان متى كان متذكراً لهذا المعنى زال إعجابه بالشيء ولذلك قال عليه السلام ( ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه ) وكان عليه السلام يقول ( هلك المكثرون ) وقال عليه السلام ( مالك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت ) وذكر عبيد بن عمير ورفعه إلى الرسول عليه السلام ( من كثر ماله اشتد حسابه ومن كثر بيعه كثرت شياطينه ومن ازداد من السلطان قرباً ازداد من الله بعداً ) والأخبار المناسبة لهذا الباب كثيرة والمقصود منها الزجر عن الارتكان إلى الدنيا والمنع من التهالك في حبها والافتخار بها قال بعض المحققين الموجودات بحسب القسمة العقلية على أربعة أقسام الأول الذي يكون أزلياً أبدياً وهو الله جل جلاله والثاني الذي لا يكون أزلياً ولا أبدياً وهو الدنيا والثالث الذي يكون أزلياً ولا يكون أبدياً وهذا محال الوجود لأنه ثبت بالدليل أن ما ثبت قدمه امتنع عدمه والرابع الذي يكون أبدياً ولا يكون أزلياً وهو الآخرة وجميع المكلفين فإن الآخرة لها أول لكن لا آخر لها وكذلك المكلف سواء كان مطيعاً أو كان عاصياً فلحياته أول ولا آخر لها
وإذا ثبت هذا ثبت أن المناسبة الحاصلة بين الإنسان المكلف وبني الآخرة أشد من المناسبة بنيه وبين الدنيا ويظهر من هذا أنه خلق للآخرة لا للدنيا فينبغي أن لا يشتد عجبه بالدنيا وأن لا يميل قلبه إليها فإن المسكن الأصلي له هو الآخرة لا الدنيا
أما قوله فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلاَ أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال النحويون في الآية محذوف كأنه قيل إنما يريد الله أن يملي لهم فيها ليعذبهم ويجوز أيضاً أن يكون هذا اللام بمعنى ( أن ) كقوله يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيّنَ لَكُمْ ( النساء 26 ) أي أن يبين لكم
المسألة الثانية قال مجاهد والسدي وقتادة في الآية تقديم وتأخير والتقدير فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة وقال القاضي وههنا سؤالان الأول وهو أن يقال المال والولد لا يكونان عذاباً بل هما من جملة النعم التي من الله بها على عباده فعند هذا التزم هؤلاء التقديم والتأخير إلا أن هذ الالتزام لا يدفع هذا السؤال لأنه يقال بعد هذا التقديم والتأخير

فكيف يكون المال والولد عذاباً فلا بد لهم من تقدير حذف في الكلام بأن يقولوا أراد التعذيب بها من حيث كانت سبباً للعذاب وإذا قالوا ذلك فقد استغنوا عن التقديم والتأخير لأنه يصح أن يقال يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا من حيث كانت سبباً للعذاب وأيضاً فلو أنه قال فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلاَ أَوْلَادُهُمْ وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ لم يكن لهذه الزيادة كثير فائدة لأن من المعلوم أن الإعجاب بالمال والولد لا يكون إلا في الدنيا وليس كذلك حال العذاب فإنها قد تكون في الدنيا كما تكون في الآخرة فثبت أن القول بهذا التقديم والتأخير ليس بشيء
المسألة الثالثة الأموال والأولاد يحتمل أن تكون سبباً للعذاب في الدنيا ويحتمل أن تكون سبباً للعذاب في الآخرة أما كونها سبباً للعذاب في الدنيا فمن وجوه الأول أن كل من كان حبه للشيء أشد وأقوى كان حزنه وتألم قلبه على فواته أعظم وأصعب وكان خوفه على فواته أشد وأصعب فالذين حصلت لهم الأموال الكثيرة والأولاد إن كانت تلك الأشياء باقية عندهم كانوا في ألم الخوف الشديد من فواتها وإن فاتت وهلكت كانوا في ألم الحزن الشديد بسبب فواتها فثبت أنه بحصول موجبات السعادات الجسمانية لا ينفك عن تلك القلب إما بسبب خوف فواتها وإما بسبب الحزن من وقوع فواتها والثاني أن هذه يحتاج في اكتسابها وتحصيلها إلى تعب شديد ومشقة عظيمة ثم عند حصولها يحتاج إلى متاعب أشد وأشق وأصعب وأعظم في حفظها فكان حفظ المال بعد حصوله أصعب من اكتسابه فالمشغوف بالمال والولد أبداً يكون في تعب الحفظ والصون عن الهلاك ثم إنه لا ينتفع إلا بالقليل من تلك الأموال فالتعب كثير والنفع قليل والثالث أن الإنسان إذا عظم حبه لهذه الأموال والأولاد فإما أن تبقى عليه هذه الأموال والأولاد إلى آخر عمره أولا تبقى بل تهلك وتبطل فإن كان الأول فعند الموت يعظم حزنه وتشتد حسرته لأن مفارقة المحبوب شديدة وترك المحبوب أشد وأشق وإن كان الثاني وهو أن هذه الأشياء تهلك وتبطل حال حياة الإنسان عظم أسفه عليها واشتد تألم قلبه بسببها فثبت أن حصول الأموال والأولاد سبب لحصول العذاب في الدنيا الرابع أن الدنيا حلوة خضرة والحواس مائلة إليها فإذا كثرت وتوالت استغرقت فيها وانصرفت النفس بكليتها إليها فيصير ذلك سبباً لحرمانه عن ذكر الله ثم إنه يحصل في قلبه نوع قسوة وقوة وقهر وكلما كان المال والجاه أكثر كانت تلك القسوة أقوى وإليه الإشارة بقوله تعالى إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّءاهُ اسْتَغْنَى ( العلق 6 7 ) فظهر أن كثرة الأموال والأولاد سبب قوي في زوال حب الله وحب الآخرة عن القلب وفي حصول حب الدنيا وشهواتها في القلب فعند الموت كان الإنسان ينتقل من البستان إلى السجن ومن مجالسة الأقرباء والأحباء إلى موضع الكربة والغربة فيعظم تألمه وتقوى حسرته ثم عند الحشر حلالها حساب وحرامها عقاب فثبت أن كثرة الأموال والأولاد سبب لحصول العذاب في الدنيا والآخرة
فإن قيل هذا المعنى حاصل للكل فما الفائدة في تخصيص هؤلاء المنافقين بهذا العذاب
قلنا المنافقون مخصوصون بزيادات في هذا الباب أحدها أن الرجل إذا آمن بالله واليوم الآخر علم أنه خلق للآخرة لا للدنيا فبهذا العلم يفتر حبه للدنيا وأما المنافق لمااعتقد أنه لا سعادة إلا في هذه الخيرات العاجلة عظمت رغبته فيها واشتد حبه لها وكانت الآلام الحاصلة بسبب فواتها أكثر في حقه

وتقوى عند قرب الموت وظهور علاماته فهذا النوع من العذاب حاصل لهم في الدنيا بسبب حب الأموال والأولاد وثانيها أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يكلفهم إنفاق تلك الأموال في وجوه الخيرات ويكلفهم إرسال أموالهم وأولادهم إلى الجهاد والغزو وذلك يوجب تعريض أولادهم للقتل والقوم كانوا يعتقدون أن محمداً ليس بصادق في كونه رسولاً من عند الله وكانوا يعتقدون أن إنفاق تلك الأموال تضييع لها من غير فائدة وأن تعريض أولادهم للقتل التزام لهذا المكروه الشديد من غير فائدة ولا شك أن هذا أشق على القلب جداً فهذه الزيادة من التعذيب كانت حاصلة للمنافقين وثالثها أنهم كانوا يبغضون محمداً عليه الصلاة والسلام بقلوبهم ثم كانوا يحتاجون إلى بذل أموالهم وأولادهم ونفوسهم في خدمته ولا شك أن هذه الحالة شاقة شديدة ورابعها أنهم كانوا خائفين من أن يفتضحوا ويظهر نفاقهم وكفرهم ظهوراً تاماً فيصيرون أمثال سائر أهل الحرب من الكفار وحينئذ يتعرض الرسول لهم بالقتل وسبي الأولاد ونهب الأموال وكلما نزلت آية خافوا من ظهور الفضيحة وكلما دعاهم الرسول خافوا من أنه ربما وقف على وجه من وجوه مكرهم وخبثهم وكل ذلك مما يوجب تألم القلب ومزيد العذاب وخامسها أن كثيراً من المنافقين كان لهم أولاد أتقياء كحنظلة بن أبي عامر غسلته الملائكة وعبد الله بن عبد الله بن أبي شهد بدراً وكان من الله بمكان وهم خلق كثير مبرؤن عن النفاق وهم كانوا لا يرتضون طريقة آبائهم في النفاق ويقدحون فيهم ويعترضون عليهم والابن إذا صار هكذا عظم تأذى الأب به واستيحاشه منه فصار حصول تلك الأولاد سبباً لعذابهم وسادسها أن فقراء الصحابة وضعافهم كانوا يذهبون في خدمة الرسول عليه الصلاة والسلام إلى الغزوات ثم يرجعون مع الاسم الشريف والثناء العظيم والفوز بالغنائم وهؤلاء المنافقون مع الأموال الكثيرة والأولاد الأقوياء كانوا يبقون في زوايا بيوتهم أشباه الزمنى والضعفاء من الناس ثم إن الخلق ينظرون إليهم بعين المقت والازدراء والسمة بالنفاق وكأن كثرة الأموال والأولاد صارت سبباً لحصول هذه الأحوال فثبت بهذه الوجوه أن كثرة أموالهم وأولادهم صارت سبباً لمزيد العذاب في الدنيا في حقهم
المسألة الرابعة احتج أصحابنا في إثبات أن كل ما دخل في الوجود فهو مراد الله تعالى بقوله وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ قالوا لأن معنى الآية أن الله تعالى أراد إزهاق أنفسهم مع الكفر ومن أراد ذلك فقد أراد الكفر
أجاب الجبائي فقال معنى الآية أنه تعالى أراد إزهاق أنفسهم حال ما كانوا كافرين وهذا لا يقتضي كونه تعالى مريداً للكفر ألا ترى أن المريض قد يقول للطبيب أريد أن تدخل علي في وقت مرضي فهذه الإرادة لا توجب كونه مريداً لمرض نفسه وقد يقول للطبيب أريد أن تطيب جراحتي وهذا لا يقتضي أن يكون مريداً لحصول تلك الجراحة وقد يقول السلطان لعسكره اقتلوا البغاة حال إقدامهم على الحرب وهذا لا يدل على كونه مريداً لذلك الحرب فكذا ههنا
والجواب أن الذي قاله تمويه عجيب وذلك لأن جميع الأمثلة التي ذكرها حاصلها يرجع إلى حرف واحد وهو أنه يريد إزالة ذلك الشيء فإذا قال المريض للطبيب أريد أن تدخل علي في وقت مرضي كان معناه أريد أن تسعى في إزالة مرضي وإذا قال له أريد أن تطيب جراحتي كان معناه أريد أن تزيل عني هذه الجراحة وإذا قال السلطان اقتلوا البغاة حال إقدامهم على الحرب كان معناه طلب إزالة تلك

المحاربة وإبطالها وإعدامها فثبت أن المراد والمطلوب في كل هذه الأمثلة إعدام ذلك الشيء وإزالته فيمتنع أن يكون وجوده مراداً بخلاف هذه الآية وذلك لأن إزهاق نفس الكافر ليس عبارة عن إزالة كفره وليس أيضاً مستلزماً لتلك الإزالة بل هما أمران متناسبان ولا منافاة بينهما البتة فلما ذكر الله في هذه الآية أنه أراد إزهاق أنفسهم حال كونهم كافرين وجب أن يكون مريداً لكونهم كافرين حال حصول ذلك الإزهاق كما أنه لو قال أريد ألقى ( أن ) فلاناً حال كونه في الدار فإنه يقتضي أن يكون قد أراد كونه في الدار وتمام التحقيق في هذا التقدير أن الإزهاق في حال الكفر يمتنع حصوله إلا حال حصول الكفر ومريد الشيء مريد لما هو من ضروراته فلما أراد الله الإزهاق حال الكفر وثبت أن من أراد شيئاً فقد أراد جميع ما هو من ضروراته لزم كونه تعالى مريداً لذلك الكفر فثبت أن الأمثلة التي أوردها الجبائي محض التمويه
وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَاكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين كونهم مستجمعين لكل مضار الآخرة والدنيا خائبين عن جميع منافع الآخرة والدنيا عاد إلى ذكر قبائحهم وفضائحهم وبين إقدامهم على الأيمان الكاذبة فقال وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ أي المنافقون للمؤمنين إذا جالسوهم إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ أي على دينكم
ثم قال تعالى وَمَا هُم مّنكُمْ أي ليسوا على دينكم وَلَاكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ القتل فأظهروا الإيمان وأسروا النفاق وهو كقوله تعالى وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ ( البقرة 14 ) والفرق الخوف ومنه يقال رجل فروق وهو الشديد الخوف ومنها أنهم لو وجدوا مفراً يتحصنون فيه آمنين على أنفسهم منكم لفروا إليه ولفارقوكم فلا تظنوا أن موافقتهم إياكم في الدار والمسكن عن القلب فقوله لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأَ الملجأ المكان الذي يتحصن فيه ومثله اللجأ مقصوراً مهموزاً وأصله من لجأ إلى كذا يلجأ لجأ بفتح اللام وسكون الجيم ومثله التجأ والجأته إلى كذا أي جعلته مضطراً إليه وقوله أَوْ مَغَارَاتٍ هي جمع مغارة وهي الموضع الذي يغور الإنسان فيه أي يستتر قال أبو عبيد كل شيء جزت فيه فغبت فهو مغارة لك ومنه غار الماء في الأرض وغارت العين وقوله مُّدْخَلاً قال الزجاج أصله مدتخل والتاء بعد الدال تبدل دالاً لأن التاء مهموسة والدال مهجورة وهما من مخرج واحد وهو مفتعل من الدخول كالمتلج من الولوج ومعناه المسلك الذي يستتر بالدخول فيه قال الكلبي وابن زيد نفقا كنفق اليربوع والمعنى أنهم لو جدوا مكاناً على أحد هذه الوجوه الثلاثة مع أنها شر الأمكنة لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ أي رجعوا إليه يقال ولى بنفسه إذا انصرف وولى غيره إذا صرفه وقوله وَهُمْ يَجْمَحُونَ أي يسرعون إسراعاً لا يرد وجوههم شيء ومن هذا يقال جمح الفرس وهو فرس جموح وهو الذي إذا حمل لم يرده اللجام والمراد من الآية أنهم من شدة تأذيهم من الرسول ومن

المسلمين صاروا بهذه الحالة
واعلم أنه تعالى ذكر ثلاثة أشياء وهي الملجأ والمغارات والمدخل والأقرب أن يحمل كل واحد منها على غير ما يحمل الآخر عليه فالملجأ يحتمل الحصون والمغارات الكهوف في الجبال والمدخل السرب تحت الأرض نحو الآبار قال صاحب ( الكشاف ) قرىء مُّدْخَلاً من دخل و مُّدْخَلاً من أدخل وهو مكان يدخلون فيه أنفسهم وقرأ أبي بن كعب متدخلاً وقرأ لَوْ ءاوَى إِلَيْهِ أي لالتجاؤا وقرأ أنس يجمزون فسئل عنه فقال يجمحون ويجمزون ويشتدون واحد
وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَآ ءَاتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّآ إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ
اعلم أن المقصود من هذا شرح نوع آخر من قبائحهم وفضائحهم وهو طعنهم في الرسول بسبب أخذ الصدقات من الأغنياء ويقولون إنه يؤثر بها من يشاء من أقاربه وأهل مودته وينسبونه إلى أنه لا يراعي العدل وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه بينا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقسم مالاً إذ جاءه المقداد بن ذي الخويصرة التميمي وهو حرقوص بن زهير أصل الخوارج فقال اعدل يا رسول الله فقال ( ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل ) فنزلت هذه الآية قال الكلبي قال رجل من المنافقين يقال له أبو الجواظ لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تزعم أن الله أمرك أن تضع الصدقات في الفقراء والمساكين ولم تضعها في رعاء الشاء فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا أبالك أما كان موسى راعياً أما كان داود راعياً ) فلما ذهب قال عليه الصلاة والسلام ( احذروا هذا وأصحابه فإنهم منافقون ) وروى أبو بكر الأصم رضي الله عنه في ( تفسيره ) أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال لرجل من أصحابه ( ما علمك بفلان ) فقال مالي به علم إلا إنك ندنيه في المجلس وتجزل له العطاء فقال عليه الصلاة والسلام ( إنه منافق أداري عن نفاقه وأخاف أن يفسد على غيره ) فقال لو أعطيت فلاناً بعض ما تعطيه فقال عليه الصلاة والسلام ( إنه مؤمن أكله إلى إيمانه وأما هذا فمنافق أداريه خوف إفساده )
المسألة الثانية قوله مَّن يَلْمِزُكَ قال الليث اللمز كالهمز في الوجه يقال رجل لمزة يعيبك في وجهك ورجل همزة يعيبك بالغيب وقال الزجاج يقال لمزت الرجل ألمزه بالكسر وألمزه بضم الميم إذا عيبته وكذلك همزته أهمزه همزاً إذا عيبته والهمزة اللمزة الذي يغتاب الناس ويعيبهم وهذا يدل على أن الزجاج لم يفرق بين الهمز واللمز قال الأزهري وأصل الهمز واللمز الدفع يقال همزته ولمزته إذا دفعته وفرق أبو بكر الأصم بينهما فقال اللمز أن يشير إلى صاحبه بعيب جليسه والهمز أن يكسر عينه على جليسه إلى صاحبه

إذا عرفت هذا فنقول قال ابن عباس يلمزك يغتابك وقال قتادة يطعن عليك وقال الكلبي يعيبك في أمر ما ولا تفاوت بين هذه الروايات إلا في الألفاظ قال أبو علي الفارسي ههنا محذوف والتقدير يعيبك في تفريق الصدقات قال مولانا العلامة الداعي إلى الله لفظ القرآن وهو قوله وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ لا يدل على أن ذلك اللمز كان لهذا السبب إلا أن الروايات التي ذكرناها دلت أن سبب اللمز هو ذلك ولولا هذه الروايات لكان يحتمل وجوهاً أخر سواها فأحدها أن يقولوا أخذ الزكوات مطلقاً غير جائز لأن انتزاع كسب الإنسان من يده غير جائز أقصى ما في الباب أن يقال يأخذها ليصرفها إلى الفقراء إلا أن الجهال منهم كانوا يقولون إن الله تعالى أغنى الأغنياء فوجب أن يكون هو المتكفل بمصالح عبيده الفقراء فأما أن يأمرنا بذلك فهو غير معقول فهذا هو الذي حكاه الله تعالى عن بعض اليهود وهو أنهم قالوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء وثانيها أن يقولوا هب أنك تأخذ الزكوات إلا أن الذي تأخذه كثير فوجب أن تقنع بأقل من ذلك وثالثها أن يقولوا هب أنك تأخذ هذا الكثير إلا أنك تصرفه إلى غير مصرفه وهذا هو الذي دلت الأخبار على أن القوم أرادوه قال أهل المعاني هذه الآية تدل على ركاكة أخلاق أولئك المنافقين ودناءة طباعهم وذلك لأنه لشدة شرههم إلى أخذ الصدقات عابوا الرسول فنسبوه إلى الجور في القسمة مع أنه كان أبعد خلق الله تعالى عن الميل إلى الدنيا قال الضحاك كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقسم بينهم ما آتاه الله من قليل المال وكثيره وكان المؤمنون يرضون بما أعطوا ويحمدون الله عليه وأما المنافقون فإن أعطوا كثيراً فرحوا وإن أعطوا قليلاً سخطوا وذلك يدل على أن رضاهم وسخطهم لطلب النصيب لا لأجل الدين وقيل إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يستعطف قلوب أهل مكة يومئذ بتوفر الغنائم عليهم فسخط المنافقون وقوله إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ كلمة إِذَا للمفاجأة أي وإن لم يعطوا منها فاجؤا السخط
ثم قال وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ الآية والمعنى ولو أنهم رضوا بما أعطاهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من الغنيمة وطابت نفوسهم وإن قل وقالوا كفانا ذلك وسيرزقنا الله غنيمة أخرى فيعطينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أكثر مما أعطانا اليوم إنا إلى طاعة الله وإفضاله وإحسانه لراغبون
واعلم أن جواب ( لو ) محذوف والتقدير لكان خيراً لهم وأعود عليهم وذلك لأنه غلب عليهم النفاق ولم يحضر الإيمان في قلوبهم فيتوكلوا على الله حق توكله وترك الجواب في هذا المعرض أدل على التعظيم والتهويل وهو كقولك للرجل لو جئتنا ثم لا تذكر الجواب أي لو فعلت ذلك لرأيت أمراً عظيماً
المسألة الثانية الآية تدل على أن من طلب الدنيا آل أمره في الدين إلى النفاق وأما من طلب الدنيا بقدر ما أذن الله فيه وكان غرضه من الدنيا أن يتوسل إلى مصالح الدين فهذا هو الطريق الحق والأصل في هذا الباب أن يكون راضياً بقضاء الله ألا ترى أنه قال وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا ءاتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ فذكر فيه مراتب أربعة
المرتبة الأولى الرضا بما آتاهم الله ورسوله لعلمه بأنه تعالى حكيم منزه عن العبث والخطأ وحكيم بمعنى أنه عليم بعواقب الأمور وكل ما كان حكماً له وقضاء كان حقاً وصواباً ولااعتراض عليه
والمرتبة الثانية أن يظهر آثار ذلك الرضا على لسانهم وهو قوله وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ يعني أن غيرنا أخذوا المال ونحن لما رضينا بحكم الله وقضائه فقد فزنا بهذه المرتبة العظيمة في العبودية فحسبنا الله

والمرتبة الثالثة وهي أن الإنسان إذا لم يبلغ إلى تلك الدرجة العالية التي عندها يقول حَسْبُنَا اللَّهُ نزل منها إلى مرتبة أخرى وهي أن يقول سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إما في الدنيا إن اقتضاه التقدير وإما في الآخرة وهي أولى وأفضل
والمرتبة الرابعة أن يقول إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ فنحن لا نطلب من الإيمان والطاعة أخذ الأموال والفوز بالمناصب في الدنيا وإنما المراد إما اكتساب سعادات الآخرة وإما الاستغراق في العبودية على ما دل لفظ الآية عليه فإنه قال إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ ولم يقل إنا إلى ثواب الله راغبون ونقل أن عيسى عليه السلام مر بقوم يذكرون الله تعالى فقال ما الذي يحملكم عليه قالوا الخوف من عقاب الله فقال أصبتم ثم مر على قوم آخرين يذكرون الله فقال ما الذي يحملكم عليه فقالوا الرغبة في الثواب فقال أصبتم ثم مر على قوم قالق مشتغلين بالذكر فسألهم فقالوا لا نذكره للخوف من العقاب ولا للرغبة في الثواب بل لإظهار ذلة العبودية وعزة الربوبية وتشريف القلب بمعرفته وتشريف اللسان بالألفاظ الدالة على صفات قدسه وعزته فقال أنتم المحقون المحققون
إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَة ِ قُلُوبُهُمْ وَفِى الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَة ً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
اعلم أن المنافقين لما لمزوا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في الصدقات بين لهم أن مصرف الصدقات هؤلاء ولا تعلق لي بها ولا آخذ لنفسي نصيباً منها فلم يبق لهم طعن في الرسول بسبب أخذ الصدقات وههنا مقامات
المقام الأول بيان الحكمة في أخذ القليل من أموال الأغنياء وصرفها إلى المحتاجين من الناس
والمقام الثاني بيان حال هؤلاء الأصناف الثمانية المذكورين في هذه الآية
أما المقام الأول فنقول الحكمة في إيجاب الزكاة أمور بعضها مصالح عائدة إلى معطى الزكاة وبعضها عائدة إلى آخذ الزكاة
أما القسم الأول فهو أمور الأول أن المال محبوب بالطبع والسبب فيه أن القدرة صفة من صفات الكمال محبوبة لذاتها ولعينها لا لغيرها لأنه لا يمكن أن يقال إن كل شيء فهو محبوب لمعنى آخر وإلا لزم إما التسلسل وإما الدور وهما محالان فوجب الانتهاء في الآشياء المحبوبة إلى ما يكون محبوباً لذاته والكمال محبوب لذاته والنقصان مكروه لذاته فلما كانت القدرة صفة كمال وصفة الكمال محبوبة لذاتها كانت القدرة محبوبة لذاتها والمال سبب لحصول تلك القدرة ولكمالها في حق البشر فكان أقوى أسباب القدرة في حق البشر هو المال والذي يتوقف عليه المحبوب فهو محبوب فكان المال محبوباً فهذا هو السبب في كونه محبوباً إلا أن الاستغراق في حبه يذهل النفس عن حب الله وعن التأهب للآخرة فاقتضت

حكمة الشرع تكليف مالك المال بإخراج طائفة منه من يده ليصير ذلك الإخراج كسراً من شدة الميل إلى المال ومنعاً من انصراف النفس بالكلية إليها وتنبيهاً لها على أن سعادة الإنسان لا تحصل عند الاشتغال بطلب المال وإنما تحصل بإنفاق المال في طلب مرضاة الله تعالى فإيجاب الزكاة علاج صالح متعين لإزالة مرض حب الدنيا عن القلب فالله سبحانه أوجب الزكاة لهذه الحكمة وهو المراد من قوله خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَة ً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا ( التوبة 103 ) أي تطهرهم وتزكيهم عن الاستغراق في طلب الدنيا
والوجه الثاني وهو أن كثرة المال توجب شدة القوة وكمال القدرة وتزايد المال يوجب تزايد القدرة وتزايد القدرة يوجب تزايد الالتذاذ بتلك القدرة وتزايد تلك اللذات يدعو الإنسان إلى أن يسعى في تحصيل المال الذي صار سبباً لحصول هذه اللذات المتزايدة وبهذا الطريق تصير المسألة مسألة الدور لأنه إذا بالغ في السعي ازداد المال وذلك يوجب ازدياد القدرة وهو يوجب ازدياد اللذة وهو يحمل الإنسان على أن يزيد في طلب المال ولما صارت المسألة مسألة الدور لم يظهر لها مقطع ولا آخر فأثبت الشرع لها مقطعاً وآخراً وهو أنه أوجب على صاحبه صرف طائفة من تلك الأموال إلى الإنفاق في طلب مرضاة الله تعالى ليصرف النفس عن ذلك الطريق الظلماني الذي لا آخر له ويتوجه إلى عالم عبودية الله وطلب رضوانه
والوجه الثالث أن كثرة المال سبب لحصول الطغيان والقسوة في القلب وسببه ما ذكرنا من أن كثرة المال سبب لحصول القدرة والقدرة محبوبة لذاتها والعاشق إذا وصل لمعشوقه استغرق فيه فالإنسان يصير غرقاً في طلب المال فإن عرض له مانع يمنعه عن طلبه استعان بماله وقدرته على دفع ذلك المانع وهذا هو المراد بالطغيان وإليه الإشارة بقوله سبحانه وتعالى إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّءاهُ اسْتَغْنَى ( العلق 6 7 ) فإيجاب الزكاة يقلل الطغيان ويرد القلب إلى طلب رضوان الرحمن
والوجه الرابع أن النفس الناطقة لها قوتان نظرية وعملية فالقوة النظرية كمالها في التعظيم لأمر الله والقوة العملية كمالها في الشفقة على خلق الله فأوجب الله الزكاة ليحصل لجوهر الروح هذا الكمال وهو اتصافه بكونه محسناً إلى الخلق ساعياً في إيصال الخيرات إليهم دافعاً للآفات عنهم ولهذا السر قال عليه الصلاة والسلام ( تخلقوا بأخلاق الله )
والوجه الخامس أن الخلق إذا علموا في الإنسان كونه ساعياً في إيصال الخيرات إليهم وفي دفع الآفات عنهم أحبوه بالطبع ومالت نفوسهم إليه لا محالة على ما قاله عليه الصلاة والسلام ( جبلت القلوب على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها ) فالفقراء إذا علموا أن الرجل الغني يصرف إليهم طائفة من ماله وأنه كلما كان ماله أكثر كان الذي يصرفه إليهم من ذلك المال أكثر أمدوه بالدعاء والهمة وللقلوب آثار وللأرواح حرارة فصارت تلك الدعوات سبباً لبقاء ذلك الإنسان في الخير والخصب وإليه الإشارة بقوله تعالى وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى الاْرْضِ ( الرعد 17 ) وبقوله عليه الصلاة والسلام حصنوا أموالكم بالزكاة )
والوجه السادس أن الاستغناء عن الشيء أعظم من الاستغناء بالشيء فإن الاستغناء بالشيء يوجب الاحتياج إليه إلا أنه يتوسل به إلى الاستغناء عن غيره فأما الاستغناء عن الشيء فهو الغنى التام ولذلك فإن الاستغناء عن الشيء صفة الحق والاستغناء بالشيء صفة الخلق فالله سبحانه لما أعطى بعض عبيده

أموالاً كثيرة فقد رزقه نصيباً وافراً من باب الاستغناء بالشيء فإذا أمره بالزكاة كان المقصود أن ينقله من درجة الاستغناء بالشيء إلى المقام الذي هو أعلى منه وأشرف منه وهو الاستغناء عن الشيء
والوجه السابع أن المال سمي مالاً لكثرة ميل كل أحد إليه فهو غاد ورائح وهو سريع الزوال مشرف على التفرق فما دام يبقى في يده كان كالمشرف على الهلاك والتفرق فإذا أنفقه الإنسان في وجوه البر والخير والمصالح بقي بقاء لا يمكن زواله فإنه يوجب المدح الدائم في الدنيا والثواب الدائم في الآخرة وسمعت واحداً يقول الإنسان لا يقدر أن يذهب بذهبه إلى القبر فقلت بل يمكنه ذلك فإنه إذا أنفقه في طلب الرضوان الأكبر فقد ذهب به إلى القبر وإلى القيامة
والوجه الثامن وهو أن بذل المال تشبه بالملائكة والأنبياء وإمساكه تشبه بالبخلاء المذمومين فكان البذل أولى
والوجه التاسع أن إفاضة الخير والرحمة من صفات الحق سبحانه وتعالى والسعي في تحصيل هذه الصفة بقدر القدرة تخلق بأخلاق الله وذلك منتهى كمالات الإنسانية
والوجه العاشر أن الإنسان ليس له إلا ثلاثة أشياء الروح والبدن والمال فإذا أمر بالإيمان فقد صار جوهر الروح مستغرقاً في هذا التكليف ولما أمر بالصلاة فقد صار اللسان مستغرقاً بالذكر والقراءة والبدن مستغرقاً في تلك الأعمال بقي المال فلو لم يصر المال مصروفاً إلى أوجه البر والخير لزم أن يكون شح الإنسان بماله فوق شحه بروحه وبدنه وذلك جهل لأن مراتب السعادات ثلاثة أولها السعادات الروحانية وثانيها السعادات البدنية وهي المرتبة الوسطى وثالثها السعادات الخارجية وهي المال والجاه فهذه المراتب تجري مجرى خادم السعادات النفسانية فإذا صار الروح مبذولاً في مقام العبودية ثم حصل الشح ببذل المال لزم جعل الخادم في مرتبة أعلى من المخدوم الأصلي وذلك جهل فثبت أنه يجب على العاقل أيضاً بذل المال في طلب مرضاة الله تعالى
والوجه الحادي عشر أن العلماء قالوا شكر النعمة عبارة عن صرفها إلى طلب مرضاة المنعم والزكاة شكر النعمة فوجب القول بوجوبها لما ثبت أن شكر المنعم واجب
والوجه الثاني عشر أن إيجاب الزكاة يوجب حصول الألف بالمودة بين المسلمين وزوال الحقد والحسد عنهم وكل ذلك من المهمات فهذه وجوه معتبرة في بيان الحكمة الناشئة من إيجاب الزكاة العائدة إلى معطي الزكاة فأما المصالح العائدة من إيجاب الزكاة إلى من يأخذ الزكاة فهي كثيرة الأول أن الله تعالى خلق الأموال وليس المطلوب منها أعيانها وذواتها فإن الذهب والفضة لا يمكن الانتفاع بهما في أعيانهما إلا في الأمر القليل بل المقصود من خلقهما أن يتوسل بهما إلى تحصيل المنافع ودفع المفاسد فالإنسان إذا حصل له من المال بقدر حاجته كان هو أولى بإمساكه لأنه يشاركه سائر المحتاجين في صفة الحاجة وهو ممتاز عنهم بكونه ساعياً في تحصيل ذلك المال فكان اختصاصه بذلك المال أولى من اختصاص غيره وأما إذا فضل المال على قدر الحاجة وحضر إنسان آخر محتاج فههنا حصل سببان كل واحد منهما يوجب تملك ذلك المال أما في حق المالك فهو أنه سعى في اكتسابه وتحصيله وأيضاً شدة تعلق قلبه به فإن ذلك التعلق أيضاً نوع من أنواع الحاجة وأما في حق الفقير فاحتياجه إلى ذلك المال

يوجب تعلقه به فلما وجد هذان السببان المتدافعان اقتضت الحكمة الإلهية رعاية كل واحد من هذين السببين بقدر الإمكان فيقال حصل للمالك حق الاكتساب وحق تعلق قلبه به وحصل للفقير حق الاحتياج فرجحنا جانب المالك وأبقينا عليه الكثير وصرفنا إلى الفقير يسيراً منه توفيقاً بين الدلائل بقدر الإمكان الثاني أن المال الفاضل عن الحاجات الأصلية إذا أمسكه الإنسان في بيته بقي معطلاً عن المقصود الذي لأجله خلق المال وذلك سعي في المنع من ظهور حكمة الله تعالى وهو غير جائز فأمر الله بصرف طائفة منه إلى الفقير حتى لا تصير تلك الحكمة معطلة بالكلية الثالث أن الفقراء عيال الله لقوله تعالى وَمَا مِن دَابَّة ٍ فِي الاْرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ( هود 6 ) والأغنياء خزان الله لأن الأموال التي في أيديهم أموال الله ولولا أن الله تعالى ألقاها في أيديهم وإلا لما ملكوا منها حبة فكم من عاقل ذكي يسعى أشد السعي ولا يملك ملء بطنه طعاماً وكم من أبله جلف تأتيه الدنيا عفواً صفواً
إذا ثبت هذا فليس بمستبعد أن يقول الملك لخازنه اصرف طائفة مما في تلك الخزانة إلى المحتاجين من عبيدي
الوجه الرابع أن يقال المال بالكلية في يد الغني مع أنه غير محتاج إليه وإهمال جانب الفقير العاجز عن الكسب بالكلية لا يليق بحكمة الحكيم الرحيم فوجب أن يجب على الغني صرف طائفة من ذلك المال إلى الفقير
الوجه الخامس أن الشرع لما أبقى في يد المالك أكثر ذلك المال وصرف إلى الفقير منه جزأ قليلاً تمكن المالك من جبر ذلك النقصان بسبب أن يتجر بما بقي في يده من ذلك المال ويربح ويزول ذلك النقصان أما الفقير ليس له شيء أصلاً فلو لم يصرف إليه طائفة من أموال الأغنياء لبقي معطلاً وليس له ما يجبره فكان ذلك أولى
الوجه السادس أن الأغنياء لو لم يقوموا بإصلاح مهمات الفقراء فربما حملهم شدة الحاجة ومضرة المسكنة على الالتحاق بأعداء المسلمين أو على الإقدام على الأفعال المنكرة كالسرقة وغيرها فكان إيجاب الزكاة يفيد هذه الفائدة فوجب القول بوجوبها
الوجه السابع قال عليه الصلاة والسلام ( الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر ) والمال محبوب بالطبع فوجدانه يوجب الشكر وفقدانه يوجب الصبر وكأنه قيل أيها الغني أعطيتك المال فشكرت فصرت من الشاكرين فأخرج من يدك نصيباً منه حتى تصبر على فقدان ذلك المقدار فتصير بسببه من الصابرين وأيها الفقير ما أعطيتك الأموال الكثيرة فصبرت فصرت من الصابرين ولكني أوجب على الغني أن يصرف إليك طائفة من ذلك المال حتى إذا دخل ذلك المقدار في ملكك شكرتني فصرت من الشاكرين فكان إيجاب الزكاة سبباً في جعل جميع المكلفين موصوفين بصفة الصبر والشكر معاً
الوجه الثامن كأنه سبحانه يقول للفقير إن كنت قد منعتك الأموال الكثيرة ولكني جعلت نفسي مديوناً من قبلك وإن كنت قد أعطيت الغني أموالاً كثيرة لكني كلفته أن يعدوا خلفك وأن يتضرع إليك حتى تأخذ ذلك القدر منه فتكون كالمنعم عليه بأن خلصته من النار

فإن قال الغني قد أنعمت عليك بهذا الدينار فقل أيها الفقير بل أنا المنعم عليك حيث خلصتك في الدنيا من الذم والعار وفي الآخرة من عذاب النار فهذه جملة من الوجوه في حكمة إيجاب الزكاة بعضها يقينية وبعضها إقناعية والعالم بأسرار حكم الله وحكمته ليس إلا الله والله أعلم
المقام الثاني في تفسير هذه الآية وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء الآية تدل على أنه لا حق في الصدقات لأحد إلا لهذه الأصناف الثمانية وذلك مجمع عليه وأيضاً فلفظة إِنَّمَا تفيد الحصر ويدل عليه وجوه الأول أن كلمة إِنَّمَا مركبة من ( إن ) و ( ما ) وكلمة إن للإثبات وكلمة ما للنفي فعند اجتماعهما وجب بقاؤهما على هذا المفهوم فوجب أن يفيد الثبوت المذكور وعدم ما يغايره الثاني أن ابن عباس تمسك في نفي ربا الفضل بقوله عليه الصلاة والسلام ( إنما الربا في النسيئة ) ولولا أن هذا اللفظ يفيد الحصر وإلا لما كان الأمر كذلك وأيضاً تمسك بعض الصحابة في أن الإكسال لا يوجب الاغتسال بقوله عليه الصلاة والسلام ( إنما الماء من الماء ) ولولا أن هذه الكلمة تفيد الحصر وإلا لما كان كذلك وقال تعالى إِنَّمَا اللَّهُ إِلَاهٌ واحِدٌ ( النساء 171 ) والمقصود بيان نفي الإلهية للغير والثالث الشعر قال الأعشى ولست بالأكثر منهم حصى
وإنما العزة للكاثر
وقال الفرزدق أنا الذائد الحامي الذمار وإنما
يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي
فثبت بهذه الوجوه أن كلمة إِنَّمَا للحصر ومما يدل على أن الصدقات لا تصرف إلا لهذه الأصناف الثمانية أنه عليه الصلاة والسلام قال لرجل ( إن كنت من الأصناف الثمانية فلك فيها حق وإلا فهو صداع في الرأس وداء في البطن ) وقال ( لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوى )
المسألة الثانية اعلم أنه تعالى لما أخبر عن المنافقين أنهم يلمزون الرسول عليه السلام في أخذ الصدقات بين تعالى أنه إنما يأخذها لهؤلاء الأصناف الثمانية ولا يأخذها لنفسه ولا لأقاربه ومتصليه وقد بينا أن أخذ القليل من مال الغني ليصرف إلى الفقير في دفع حاجته هو الحكمة المعينة والمصلحة اللازمة وإذا كان الأمر كذلك كان همز المنافقين ولمزهم عين السفه والجهالة فكان عليه الصلاة والسلام يقول ( ما أوتيكم شيئاً ولا أمنعكم إنما أنا خازن أضع حيث أمرت )
المسألة الثالثة مذهب أبي حنيفة رحمه الله أنه يجوز صرف الصدقة إلى بعض هؤلاء الأصناف فقط وهو قول عمر وحذيفة وابن عباس وسعيد بن جبير وأبي العالية والنخعي وعن سعيد بن جبير لو نظرت إلى أهل بيت من المسلمين فقراء متعففين فحبوتهم بها كان أحب إلي وقال الشافعي رحمه الله لا بد من صرفها إلى الأصناف الثمانية وهو قول عكرمة والزهري وعمر بن عبد العزيز واحتج بأنه تعالى ذكر هذه القسمة في نص الكتاب ثم أكدها بقوله فَرِيضَة ً مّنَ اللَّهِ قال ولا بد في كل صنف من ثلاثة لأن أقل الجمع ثلاثة فإن دفع سهم الفقراء إلى فقيرين ضمن نصيب الثالث وهو ثلث سهم الفقراء قال ولا بد من التسوية في أنصباء هذه الأصناف الثمانية مثل أنك إن وجدت خمسة أصناف ولزمك أن تتصدق بعشرة

دراهم جعلت العشرة خمسة أسهم كل سهم درهمان ولا يجوز التفاضل ثم يلزمك أن تدفع إلى كل صنف درهمين وأقل عددهم ثلاثة ولا يلزمك التسوية بينهم فلك أن تعطي فقيراً درهماً وفقيراً خمسة أسداس درهم وفقيراً سدس درهم هذه صفة قسمة الصدقات على مذهب الشافعي رحمه الله قال المصنف الداعي إلى الله رضي الله عنه الآية لا دلالة فيها على قول الشافعي رحمه الله لأنه تعالى جعل جملة الصدقات لهؤلاء الأصناف الثمانية وذلك لا يقتضي في صدقة زيد بعينه أن تكون لجملة هؤلاء الثمانية والدليل عليه العقل والنقل
أما النقل فقوله تعالى وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَى ْء فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ ( الأنفال 41 ) الآية فأثبت خمس الغنيمة لهؤلاء الطوائف الخمس ثم لم يقل أحد إن كل شيء يغنم بعينه فإنه يحب تفرقته على هذه الطوائف بل اتفقوا على أن المراد إثبات مجموع الغنيمة لهؤلاء الأصناف فإما أن يكون كل جزء من أجزاء الغنيمة موزعاً على كل هؤلاء فلا فكذا ههنا مجموع الصدقات تكون لمجموع هذه الأصناف الثمانية فإما أن يقال إن صدقة زيد بعينها يجب توزيعها على هذه الأصناف الثمانية فاللفظ لا يدل عليه البتة
وأما العقل فهو أن الحكم الثابت في مجموع لا يوجب ثبوته في كل جزء من أجزاء ذلك المجموع ولا يلزم أن لا يبقى فرق بين الكل وبين الجزء فثبت بما ذكرنا أن لفظ الآية لا دلالة فيه على ما ذكره والذي يدل على صحة قولنا وجوه الأول أن الرجل الذي لا يملك إلا عشرين ديناراً لما وجب عليه إخراج نصف دينار فلو كلفناه أن نجعله على أربعة وعشرين قسماً لصار كل واحد من تلك الأقسام حقيراً صغيراً غير منتفع به في مهم معتبر الثاني أن هذا التوقيف لو كان معتبراً لكان أولى الناس برعايته أكابر الصحابة ولو كان الأمر كذلك لوصل هذا الخبر إلى عمر بن الخطاب وإلى ابن عباس وحذيفة وسائر الأكابر ولو كان كذلك لما خالفوا فيه وحيث خالفوا فيه علمنا أنه غير معتبر الثالث وهو أن الشافعي رحمه الله له اختلاف رأي في جواز نقل الصدقات أما لم يقل أحد بوجوب نقل الصدقات فالإنسان إذا كان في بعض القرى ولا يكون هناك مكاتب ولا مجاهد غاز ولا عامل ولا أحد من المؤلفة ولا يمر به أحد من الغرباء واتفق أنه لم يحضر في تلك القرية من كان مديوناً فكيف تكليفه فإن قلنا وجب عليه أن يسافر بما وجب عليه من الزكاة إلى بلد يجد هذه الأصناف فيه فذاك قول لم يقل به أحدا وإذا أسقطنا عنه ذلك فحينئذ يصح قولنا فهذا ما نقوله في هذا الباب والله أعلم
المسألة الرابعة في تعريف الأصناف الثمانية فالأول والثاني هم الفقراء والمساكين ولا شك أنهم هم المحتاجون الذي لا يفي خرجهم بدخلهم ثم اختلفوا فقال بعضهم الذي يكون أشد حاجة هو الفقير وهو قول الشافعي رحمه الله وأصحابه وقال آخرون الذي أشد حاجة هو المسكين وهو قول أبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله ومن الناس من قال لا فرق بين الفقراء والمساكين والله تعالى وصفهم بهذين الوصفين والمقصود شيء واحد وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله واختيار أبي علي الجبائي وفائدته تظهر في هذه المسألة وهو أنه لو أوصى لفلان وللفقراء والمساكين فالذين قالوا الفقراء غير المساكين قالوا لفلان الثلث والذين قالوا الفقراء هم المساكين قالوا لفلان النصف وقال الجبائي إنه

تعالى ذكرهم باسمين لتوكيد أمرهم في الصدقات لأنهم هم الأصول في الأصناف الثمانية وأيضاً الفائدة فيه أن يصرف إليهم من الصدقات سهمان لا كسائرهم
واعلم أن فائدة هذا الاختلاف لا تظهر في تفرقة الصدقات وإنما تظهر في الوصايا وهو أن رجلاً لو قال أوصيت للفقراء بمائتين وللمساكين بخمسين وجب دفع المائتين عند الشافعي رحمه الله من كان أشد حاجة وعند أبي حنيفة رحمه الله إلى من كان أقل حاجة وحجة الشافعي رحمه الله وجوه
الوجه الأول أنه تعالى إنما أثبت الصدقات لهؤلاء الأصناف دفعاً لحاجتهم وتحصيلاً لمصلحتهم وهذا يدل عى أن الذي وقع الابتداء بذكره يكون أشد حاجة لأن الظاهر وجوب تقديم الأهم على المهم ألا ترى أنه يقال أبو بكر وعمر ومن فضل عثمان على علي عليه السلام قال في ذكرهما عثمان وعلي ومن فضل علياً على عثمان يقول علي وعثمان وأنشد عمر قول الشاعر كفى الشيب والإسلام للمرء ناهياً
فقال هلا قدم الإسلام على الشيب فلما وقع الابتداء بذكر الفقراء وجب أن تكون حاجتهم أشد من حاجة المساكين الوجه الثاني قال أحمد بن عبيد الفقير أسوأ حالاً من المسكين لأن الفقير أصله في اللغة المفقور الذي نزعت فقرة من فقار ظهره فصرف عن مفقور إلى فقير كما قيل مطبوخ وطبيخ ومجروح وجريح فثبت أن الفقير إنما سمي فقيراً لزمانته مع حاجته الشديدة وتمنعه الزمانة من التقلب في الكسب ومعلوم أنه لا حال في الإقلال والبؤس آكد من هذه الحال وأنشدوا للبيد
لما رأى لبد النسور تطايرت رفع القوادم كالفقير الأعزل
قال ابن الأعرابي في هذا البيت الفقير المكسور الفقار يضرب مثلاً لكل ضعيف لا يتقلب في الأمور ومما يدل على إشعار لفظ الفقير بالشدة العظيمة قوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَة ٌ تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَة ٌ ( القيامة 24 25 ) جعل لفظ الفاقرة كناية عن أعظم أنواع الشر والدواهي
الوجه الثالث ما روي أنه عليه الصلاة والسلام كان يتعوذ من الفقر وقال ( كاد الفقر أن يكون كفراً ) ثم قال ( اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين ) فلو كان المسكين أسوأ حالاً من الفقير لتناقض الحديثان لأنه تعوذ من الفقر ثم سأل حالاً أسوأ منه أما إذا قلنا الفقر أشد من المسكنة فلا تناقض البتة
الوجه الرابع أن كونه مسكيناً لا ينافي كونه مالكاً للمال بدليل قوله تعالى أَمَّا السَّفِينَة ُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ ( الكهف 79 ) فوصف بالمسكنة من له سفينة من سفن البحر تساوي جملة من الدنانير ولم نجد في كتاب الله ما يدل على أن الإنسان سمي فقيراً مع أنه يملك شيئاً
فإن قالوا الدليل عليه قوله تعالى وَاللَّهُ الْغَنِى ُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء ( محمد 38 ) فوصف الكل بالفقر مع أنهم يملكون أشياء

قلنا هذا بالضد أولى لأنه تعالى وصفهم بكونهم فقراء بالنسبة إلى الله تعالى فإن أحداً سوى الله تعالى لا يملك البتة شيئاً بالنسبة إلى الله فصح قولنا
الوجه الخامس قوله تعالى أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَة ٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَة ٍ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَة ٍ ( البلد 14 16 ) والمراد منه المسكين ذي المتربة الفقير الذي يذ ألصق بالتراب من شدة الفقر فتقييد المسكين بهذا القيد يدل على أنه قد يحصل مسكين خال عن وصف كونه ذَا مَتْرَبَة ٍ وإنما يكون كذلك بتقدير أن يملك شيئاً فهذا يدل على أن كونه مسكيناً لا ينافي كونه مالكاً لبعض الأشياء
الوجه السادس قال ابن عباس رضي الله عنهما الفقير هو المحتاج الذي لا يجد شيئاً قال وهم أهل الصفة صفة مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وكانوا نحو أربعمائة رجل لا منزل لهم فمن كان من المسلمين عنده فضل أتاهم به إذا أمسوا والمساكين هم الطوافون الذين يسألون الناس
وجه الاستدلال أن شدة فقر أهل الصفة معلومة بالتواتر فلما فسر ابن عباس الفقراء بهم وفسر المساكين بالطوافين ثم ثبت أن أحوال المحتاج الذي لا يسأل أحداً شيئاً أشد من أحوال من يحتاج ثم يسأل الناس ويطوف عليهم ظهر أن الفقير يجب أن يكون أسوأ حالاً من المسكين
الوجه السابع أن المسكنة لفظ مأخوذ من السكون فالفقير إذا سأل الناس وتضرع إليهم وعلم أنه متى تضرع إليهم أعطوه شيئاً فقد سكن قلبه وزال عنه الخوف والقلق ويحتمل أنه سمي بهذا الاسم لأنه إذا أجيب بالرد ومنع سكن ولم يضطرب وأعاد السؤال فلهذا السبب جعل التمسكن كناية عن السؤال والتضرع عند الغير ويقال تمسكن الرجل إذا لان وتواضع ومنه قوله عليه الصلاة والسلام للمصلي ( تأن وتمسكن ) يريد تواضع وتخشع فدل هذا على أن المسكين هو السائل
إذا ثبت هذا فنقول إنه تعالى قال في آية أخرى وَفِى أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ( الذاريات 19 ) فلما ثبت بما ذكرنا ههنا أن المسكين هو السائل وجب أن يكون المحروم هو الفقير ولا شك أن المحروم مبالغة في تقرير أمر الحرمان فثبت أن الفقير أسوأ حالاً من المسكين
الوجه الثامن أنه عليه الصلاة والسلام قال ( أحيني مسكيناً ) الحديث والظاهر أنه تعالى أجاب دعاءه فأماته مسكيناً وهو عليه الصلاة والسلام حين توفي كان يملك أشياء كثيرة فدل هذا على أن كونه مسكيناً لا ينافي كونه مالكاً لبعض الأشياء أما الفقير فإنه يدل على الحاجة الشديدة لقوله عليه الصلاة والسلام ( كاد الفقر أن يكون كفراً ) فثبت بهذا أن الفقر أشد حالاً من المسكنة
الوجه التاسع أن الناس اتفقوا على أن الفقر والغنى ضدان كما أن السواد والبياض ضدان ولم يقل أحد إن الغنى والمسكنة ضدان بل قالوا الترفع والتمسكن ضدان فمن كان منقاداً لكل أحد خائفاً منهم متحملاً لشرهم ساكتاً عن جوابهم متضرعاً إليهم قالوا إن فلاناً يظهر الذل والمسكنة وقالوا إنه مسكين عاجز وأما الفقير فجعلوه عبارة عن ضد الغنى وعلى هذا فقد يصفون الرجل الغني بكونه مسكيناً إذا كان يظهر من نفسه الخضوع والطاعة وترك المعارضة وقد يصفون الرجل الفقير بكونه مترفعاً عن التواضع والمسكنة فثبت أن الفقر عبارة عن عدم المال والمسكنة عبارة عن إظهار التواضع والأول ينافي حصول المال والثاني لا ينافي حصوله

الوجه العاشر قوله عليه الصلاة والسلام لمعاذ في الزكاة ( خذها من أغنيائهم وردها على فقرائهم ) ولو كانت الحاجة في المساكين أشد لوجب أن يقول وردها على مساكينهم لأن ذكر الأهم أولى فهذه الوجوه التي ذكرناها تدل على أن الفقير أسوأ من المسكين واحتج القائلون بأن المسكين أسوأ حالاً من الفقير بوجوه الأول احتجوا بقوله تعالى أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَة ٍ ( البلد 16 ) وصف المسكين بكونه ذا متربة وذلك يدل على نهاية الضر والشدة وأيضاً أنه تعالى جعل الكفارات من الأطعمة له ولا فاقة أعظم من الحاجة إلى إزالة الجوع الثاني احتجوا بقول الراعي أما الفقير الذي كانت حلوبته
وفق العيال فلم يترك له سيد
سماه فقيراً وله حلوبة الثالث قالوا المسكين هو الذي يسكن حيث يحضر لأجل أنه ليس له بيت يسكن فيه وذلك يدل على نهاية الضر والبؤس الرابع نقلوا عن الأصمعي وعن أبي عمرو بن العلاء أنهما قالا الفقير الذي له ما يأكل والمسكين الذي لا شيء له وقال يونس الفقير قد يكون له بعض ما يكفيه والمسكين هو الذي لا شيء له وقلت لأعرابي أفقير أنت قال لا والله بل مسكين
والجواب عن تمسكهم بالآية أنا بينا أن هذه الآية حجة لنا فإنه لما قيد المسكين المذكور ههنا بكونه ذا متربة دل ذلك على أنه قد يوجد مسكين لا بهذه الصفة وإلا لم يبق لهذا القيد فائدة قوله أنه صرف الطعام الواجب في الكفارات إليه قلنا نعم إنه أوجب صرفه إلى المسكين المقيد بقيد كونه ذا متربة وهذا لا يدل على أنه أوجب الصرف إلى مطلق المسكين
والجواب عن استدلالهم ببيت الراعي أنه ذكر أن هذا الذي هو الآن موصوف بكونه فقيراً فقد كانت له حلوبه ثم السيد لم يترك له شيئاً فلم لا يجوز أن يقال كانت له حلوبة ثم لما لم يترك له شيء وصف بكونه فقيراً
والجواب عن قولهم المسكين هو الذي يسكن حيث يحضر لأجل أنه ليس له بيت
قلنا بل المسكين هو الطواف على الناس الذي يكثر إقدامه على السؤال وسمي مسكيناً إما لسكونه عندما ينتهرونه ويردونه وإما لسكون قلبه بسبب علمه أن الناس لا يضيعونه مع كثرة سؤاله إياهم وأما الروايات التي ذكروها عن أبي عمرو ويونس فهذا معارض بقول الشافعي وابن الأنباري رحمهما الله وأيضاً نقل القفال في ( تفسيره ) عن جابر بن عبد الله أنه قال الفقراء فقراء المهاجرين والمساكين الذين لم يهاجروا وعن الحسن الفقير الجالس في بيته والمسكين الذي يسعى وعن مجاهد الفقير الذي لا يسأل والمسكين الذي يسأل وعن الزهري الفقراء هم المتعففون الذين لا يخرجون والمساكين الذين يسألون قال مولانا الداعي إلى الله هذه الأقوال كلها متوافقة على أن الفقير لا يسأل والمسكين يسأل ومن سأل وجد فكان المسكين أسهل وأقل حاجة
الصنف الثالث قوله تعالى وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وهم السعاة لجباية الصدقة وهؤلاء يعطون من الصدقات بقدر أجور أعمالهم وهو قول الشافعي رحمه الله وقول عبد الله بن عمر وابن زيد وقال مجاهد والضحاك يعطون الثمن من الصدقات وظاهر اللفظ مع مجاهد إلا أن الشافعي رحمه الله يقول هذا أجرة

العمل فيتقدر بقدر العمل والصحيح أن مولى الهاشمي والمطلبي لا يجوز أن يكون عاملاً على الصدقات ليناله منها لأن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أبى أن يبعث أبا رافع عاملاً على الصدقات وقال أما علمت أن مولى القوم منهم وإنما قال وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا لأن كلمة على تفيد الولاية كما يقال فلان على بلد كذا إذا كان والياً عليه
الصنف الرابع قوله تعالى وَالْمُؤَلَّفَة ِ قُلُوبُهُمْ قال ابن عباس هم قوم أشراف من الأحياء أعطاهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوم حنين وكانوا خمسة عشر رجلاً أبو سفيان والأقرع بن حابس وعيينة بن حصن وحويطب بن عبد العزى وسهل بن عمرو من بني عامر والحرث بن هشام وسهيل بن عمرو الجهني وأبو السنابل وحكيم بن حزام ومالك بن عوف وصفوان بن أمية وعبد الرحمن بن يربوع والجد بن قيس وعمرو بن مرداس والعلاء بن الحرث أعطى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كل رجل منهم مائة من الإبل ورغبهم في الإسلام إلا عبد الرحمن بن يربوع أعطاه خمسين من الإبل وأعطى حكيم بن حزام سبعين من الإبل فقال يا رسول الله ما كنت أرى أن أحداً من الناس أحق بعطائك مني فزاده عشرة ثم سأله فزاده عشرة وهكذا حتى بلغ مائة ثم قال حكيم يا رسول الله أعطيتك الأولى التي رغبت عنها خير أم هذه التي قنعت بها فقال عليه الصلاة والسلام ( بل التي رغبت عنها ) فقال والله لا آخذ غيرها فقيل مات حكيم وهو أكثر قريش مالاً وشق على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تلك العطايا لكن ألفهم بذلك قال المصنف رحمه الله هذه العطايا إنما كانت يوم حنين ولا تعلق لها بالصدقات ولا أدري لأي سبب ذكر ابن عباس رضي الله عنهما هذه القصة في تفسير هذه الآية ولعل المراد بيان أنه لا يمتنع في الجملة صرف الأموال إلى المؤلفة فأما أن يجعل ذلك تفسيراً لصرف الزكاة إليهم فلا يليق بابن عباس ونقل القفال أن أبا بكر رضي الله عنه أعطى عدي بن حاتم لما جاءه بصدقاته وصدقات قومه أيام الردة وقال المقصود أن يستعين الإمام بهم على استخراج الصدقات من الملاك قال الواحدي إن الله تعالى أغنى المسلمين عن تألف قلوب المشركين فإن رأى الإمام أن يؤلف قلوب قوم لبعض المصالح التي يعود نفعها على المسلمين إذا كانوا مسلمين جاز إذ لا يجوز صرف شيء من زكوات الأموال إلى المشركين فأما المؤلفة من المشركين فإنما يعطون من مال الفيء لا من الصدقات وأقول إن قول الواحدي إن الله أغنى المسلمين عن تألف قلوب المشركين بناء على أنه ربما يوهم أنه عليه الصلاة والسلام دفع قسماً من الزكاة إليهم لكنا بينا أن هذا لم يحصل البتة وأيضاً فليس في الآية ما يدل على كون المؤلفة مشركين بل قال وَالْمُؤَلَّفَة ِ قُلُوبُهُمْ وهذا عام في المسلم وغيره والصحيح أن هذا الحكم غير منسوخ وأن للإمام أن يتألف قوماً على هذا الوصف ويدفع إليهم سهم المؤلفة لأنه ( لا ) دليل على نسخه البتة
الصنف الخامس قوله وَفِي الرّقَابِ قال الزجاج وفيه محذوف والتقدير وفي فك الرقاب وقد مضى الاستقصاء في ( تفسيره ) في سورة البقرة في قوله وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرّقَابِ ( البقرة 177 ) ثم في تفسير الرقاب أقوال
القول الأول إن سهم الرقاب موضوع في المكاتبين ليعتقوا به وهذا مذهب الشافعي رحمه الله والليث بن سعد واحتجوا بما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال قوله وَفِي الرّقَابِ يريد المكاتب وتأكد هذا بقوله تعالى وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى ( النور 33 )

والقول الثاني وهو مذهب مالك وأحمد وإسحق أنه موضوع لعتق الرقاب يشتري به عبيد فيعتقون
والقول الثالث قول أبي حنيفة وأصحابه وقول سعيد بن جبير والنخعي أنه لا يعتق من الزكاة رقبة كاملة ولكنه يعطي منها في رقبة ويما بها مكاتب لأن قوله وَفِي الرّقَابِ يقتضي أن يكون له فيه مدخل وذلك ينافي كونه تاماً فيه
والقول الرابع قول الزهري قال سهم الرقاب نصفان نصف للمكاتبين من المسلمين ونصف يشتري به رقاب ممن صلوا وصاموا وقدم إسلامهم فيعتقون من الزكاة قال أصحابنا والاحتياط في سهم الرقاب دفعه إلى السيد بإذن المكاتب والدليل عليه أنه تعالى أثبت الصدقات للأصناف الأربعة الذين تقدم ذكرهم بلام التمليك وهو قوله إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء ولما ذكر الرقاب أبدل حرف اللام بحرف في فقال وَفِي الرّقَابِ فلا بد لهذا الفرق من فائدة وتلك الفائدة هي أن تلك الأصناف الأربعة المتقدمة يدفع إليهم نصيبهم من الصدقات حتى يتصرفوا فيها كما شاؤوا وأما فِى الرّقَابِ فيوضع نصيبهم في تخليص رقبتهم عن الرق ولا يدفع إليهم ولا يمكنوا من التصرف في ذلك النصيب كيف شاؤوا بل يوضع في الرقاب بأن يؤدي عنهم وكذا القول في الغارمين يصرف المال في قضاء ديونهم وفي الغزاة يصرف المال إلى إعداد ما يحتاجون إليه في الغزو وابن السبيل كذلك والحاصل أن في الأصناف الأربعة الأول يصرف المال إليهم حتى يتصرفوا فيه كما شاؤوا وفي الأربعة الأخيرة لا يصرف المال إليهم بل يصرف إلى جهات الحاجات المعتبرة في الصفات التي لأجلها استحقوا سهم الزكاة
الصنف السادس قوله تعالى وَالْغَارِمِينَ قال الزجاج أصل الغرم في اللغة لزوم ما يشق والغرام العذاب اللازم وسمي العشق غراماً لكونه أمراً شاقاً ولازماً ومنه فلان مغرم بالنساء إذا كان مولعاً بهن وسمي الدين غراماً لكونه شاقاً على الإنسان ولازماً له فالمراد بالغارمين المديونون ونقول الدين إن حصل بسبب معصية لا يدخل في الآية لأن المقصود من صرف المال المذكور في الآية الإعانة والمعصية لا تستوجب الإعانة وإن حصل لا بسبب معصية فهو قسمان دين حصل بسبب نفقات ضرورية أو في مصلحة ودين حصل بسبب حمالات وإصلاح ذات بين والكل داخل في الآية وروى الأصم في ( تفسيره ) أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما قضى بالغرة في الجنين قال العاقلة لا نملك الغرة يا رسول الله قال لحمد بن مالك بن النابغة ( أعنهم بغرة من صدقاتهم ) وكان حمد على الصدقة يومئذ
الصنف السابع قوله تعالى وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ قال المفسرون يعني الغزاة قال الشافعي رحمه الله يجوز له أن يأخذ من مال الزكاة وإن كان غنياً وهو مذهب مالك وإسحق وأبي عبيد وقال أبو حنيفة وصاحباه رحمهم الله لا يعطى الغازي إلا إذا كان محتاجاً
واعلم أن ظاهر اللفظ في قوله وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ لا يوجب القصر على كل الغزاة فلهذا المعنى نقل القفال في ( تفسيره ) عن بعض الفقهاء أنهم أجازوا صرف الصدقات إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وبناء الحصون وعمارة المساجد لأن قوله وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ عام في الكل
والصنف الثامن ابن السبيل قال الشافعي رحمه الله ابن السبيل المستحق للصدقة وهو الذي يريد السفر في غير معصية فيعجز عن بلوغ سفره إلا بمعونة قال الأصحاب ومن أنشأ السفر من بلده لحاجة

جاز أن يدفع إليه سهم ابن السبيل فهذا هو الكلام في شرح هذه الأصناف الثمانية
المسألة الخامسة في أحكام هذه الأقسام
الحكم الأول
اتفقوا على أن قوله إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ دخل فيه الزكاة الواجبة لأن الزكاة الواجبة مسماة بالصدقة قال تعالى خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَة ً ( التوبة 103 ) وقال عليه الصلاة والسلام ( ليس فيما دون خمسة ذود وليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ) واختلفوا في أنه هل تدخل فيها الصدقة المندوبة فمنهم من قال تدخل فيها لأن لفظ الصدقة مختص بالمندوبة فإذا أدخلنا فيه الزكاة الواجبة فلا أقل من أن تدخل فيه أيضاً الصدقة المندوبة وتكون الفائدة أن مصارف جميع الصدقات ليس إلا هؤلاء والأقرب أن المراد من لفظ الصدقات ههنا هو الزكوات الواجبة ويدل عليه وجوه الأول أنه تعالى أثبت هذه الصدقات بلام التمليك للأصناف الثمانية والصدقة المملوكة لهم ليست إلا الزكاة الواجبة الثاني أن ظاهر هذه الآية يدل على أن مصرف الصدقات ليس إلا لهؤلاء الثمانية وهذا الحصر إنما يصح لو حملنا هذه الصدقات على الزكوات الواجبة أما لو أدخلنا فيها المندوبات لم يصح هذا الحصر لأن الصدقات المندوبة يجوز صرفها إلى بناء المساجد والرباطات والمدارس وتكفين الموتى وتجهيزهم وسائر الوجوه الثالث أن قوله تعالى إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء إنما يحسن ذكره لوكان قد سبق بيان تلك الصدقات وأقسامها حتى ينصرف هذا الكلام إليه والصدقات التي سبق بيانها وتفصيلها هي الصدقات الواجبة فوجب انصراف هذا الكلام إليها
الحكم الثاني
دلت هذه الآية على أن هذه الزكاة يتولى أخدها وتفرقتها الإمام ومن يلي من قبله والدليل عليه أن الله تعالى جعل للعاملين سهماً فيها وذلك يدل على أنه لا بد في أداء هذه الزكوات من عامل والعامل هو الذي نصبه الإمام لأخذ الزكوات فدل هذا النص على أن الإمام هو الذي يأخذ هذه الزكوات وتأكد هذا النص بقوله تعالى خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَة ً فالقول بأن المالك يجوز له إخراج زكاة الأموال الباطنة بنفسه إنما يعرف بدليل آخر ويمكن أن يتمسك في إثباته بقوله تعالى وَفِى أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ فإذا كان ذلك الحق حقاً للسائل والمحروم وجب أن يجوز له دفعه إليه ابتداء
الحكم الثالث
نص القرآن يدل على أن العامل له في مال الزكاة حق واختلفوا في أن الإمام هل له فيه حق فمنهم من أثبته قال لأن العامل إنما قدر على ذلك العمل بتقويته وإمارته فالعامل في الحقيقة هو الإمام ومنهم من منعه وقال الآية دلت على حصر مال الزكاة في هؤلاء الثمانية والإمام خارج عنهم فلا يصرف هذا المال إليه
الحكم الرابع
اختلفوا في هذا العامل إذا كان غنياً هل يأخذ النصيب قال الحسن لا يأخذ إلا مع الحاجة وقال

الباقون يأخذ وإن كان غنياً لأنه يأخذه أجرة على العمل ثم اختلفوا فقال بعضهم للعامل في مال الزكاة الثمن لأن الله تعالى قسم الزكاة على ثمانية أصناف فوجب أن يحصل له الثمن كما أن من أوصى بمال لثمانية أنفس حصل لكل واحد منهم ثمنه وقال الأكثرون بل حقه بقدر مؤنته عند الجباية والجمع
الحكم الخامس
اتفقوا على أن مال الزكاة لا يخرج عن هذه الثمانية واختلفوا أنه هل يجوز وضعه في بعض الأصناف فقط وقد سبق ذكر دلائل هاتين المسألتين إلا أنا إذا قلنا يجوز وضعه في بعض الأصناف فقط فهذا إنما يجوز في غير العامل وأما وضعه بالكلية في العالم فذلك غير جائز بالاتفاق
الحكم السادس
أن العامل والمؤلفة مفقودان في هذا الزمان ففيه الأصناف الستة والأولى صرف الزكاة إلى هذه الأصناف الستة على ما يقوله الشافعي لأنه الغاية في الاحتياط أما إن لم يفعل ذلك أجزأه على ما بيناه
الحكم السابع
عموم قوله لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ يتناول الكافر والمسلم إلا أن الأخبار دلت على أنه لا يجوز صرف الزكاة إلى الفقراء والمساكين وغيرهم إلا إذا كانوا مسلمين
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه الأصناف الثمانية وشرح أحوالهم قال فَرِيضَة ً مّنَ اللَّهِ قال الزجاج فَرِيضَة ً منصوب على التوكيد لأن قوله إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لهؤلاء جار مجرى قوله فرض الله الصدقات لهؤلاء فريضة وذلك كالزجر عن مخالفة هذا الظاهر وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( إن الله تعالى لم يرض بقسمة الزكاة أن يتولاها ملك مقرب ولا نبي مرسل حتى تولى قسمتها بنفسه ) والمقصود من هذه التأكيدات تحريم إخراج الزكاة عن هذه الأصناف
ثم قال وَاللَّهُ عَلِيمٌ أي أعلم بمقادير المصالح حَكِيمٌ لا يشرع إلا ما هو الأصوب الأصلح والله أعلم
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِى َّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَة ٌ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
اعلم أن هذا نوع آخر من جهالات المنافقين وهو أنهم كانوا يقولون في رسول الله أنه أذن على وجه الطعن والذم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ عاصم في رواية الأعمش وعبد الرحمن عن أبي عكرمة عنه أُذُنُ خَيْرٍ مرفوعين

منونين على تقدير إن كان كما تقولون إنه أذن فأذن خير لكم يقبل منكم ويصدقكم خير لكم من أن يكذبكم والباقون أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ بالإضافة أي هو أذن خير لا أذن شر وقرأ نافع أَذِنَ ساكنته الذال في كل القرآن والباقون بالضم وهما لغتان مثل عنق وظفر
المسألة الثانية قال ابن عباس رضي الله عنه أن جماعة من المنافقين ذكروا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بما لا ينبغي من القول فقال بعضهم لا تفعلوا فإنا نخاف أن يبلغه ما نقول فقال الجلاس بن سويد بل نقول ما شئنا ثم نذهب إليه ونحلف أنا ما قلنا فيقبل قولنا وإنما محمد أذن سامعة فنزلت هذه الآية وقال الحسن كان المنافقون يقولون ما هذا الرجل إلا أذن من شاء صرفه حيث شاء لا عزيمة له وروى الأصم أن رجلاً منهم قال لقومه إن كان ما يقول محمد حقاً فنحن شر من الحمير فسمعها ابن امرأته فقال والله إنه لحق وإنك أشر من حمارك ثم بلغ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك فقال بعضهم إنما محمد أذن ولو لقيته وحلفت له ليصدقنك فنزلت هذه الآية على وفق قوله فقال القائل يا رسول الله لم أسلم قط قبل اليوم وإن هذا الغلام لعظيم الثمن علي والله لأشكرنه ثم قال الأصم أظهر الله تعالى عن المنافقين وجوه كفرهم التي كانوا يسرونها لتكون حجة للرسول ولينزجروا فقال وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ
ثم قال وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِى َّ ثم قال وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ إلى غير ذلك من الأخبار عن الغيوب وفي كل ذلك دلائل على كونه نبياً حقاً من عند الله
المسألة الثالثة اعلم أنه تعالى حكى أن من المنافقين من يؤذي النبي ثم فسر ذلك الإيذاء بأنهم يقولون للنبي أنه أذن وغرضهم منه أنه ليس له ذكاء ولا بعد غور بل هو سليم القلب سريع الاغترار بكل ما يسمع فلهذا السبب سموه بأنه أذن كما أن الجاسوس يسمى بالعين يقال جعل فلان علينا عيناً أي جاسوساً متفحصاً عن الأمور فكذا ههنا
ثم إنه تعالى أجاب عنه بقوله قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ والتقدير هب أنه أذن لكنه خير لكم وقوله أُذُنُ خَيْرٍ مثل ما يقال فلان رجل صدق وشاهد عدل ثم بين كونه أُذُنُ خَيْرٍ بقوله يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَة ٌ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ جعل تعالى هذه الثلاثة كالموجبة لكونه عليه الصلاة والسلام أُذُنُ خَيْرٍ فلنبين كيفية اقتضاء هذه المعاني لتلك الخيرية
أما الأول وهو قوله يُؤْمِنُ بِاللَّهِ فلأن كل من آمن بالله خائفاً من الله والخائف من الله لا يقدم على الإيذاء بالباطل
وأما الثاني وهو قوله وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ فالمعنى أنه يسلم للمؤمنين قولهم والمعنى أنهم إذا توافقوا على قول واحد سلم لهم ذلك القول وهذا ينافي كونه سليم القلب سريع الاغترار
فإن قيل لم عدى الإيمان إلى الله بالباء وإلى المؤمنين باللام
قلنا لأن الإيمان المعدى إلى الله المراد منه التصديق الذي هو نقيض الكفر فعدى بالباء والإيمان المعدى إلى المؤمنين معناه الاستماع منهم والتسليم لقولهم فيتعدى باللام كما في قوله وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا ( يوسف 17 ) وقوله فَمَا ءامَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرّيَّة ٌ مّن قَوْمِهِ ( يونس 83 ) وقوله أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الاْرْذَلُونَ

( الشعراء 111 ) وقوله قَالَ ءامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ ( الشعراء 49 )
وأما الثالث وهو قوله وَرَحْمَة ٌ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ فهذا أيضاً يوجب الخيرية لأنه يجري أمركم على الظاهر ولا يبالغ في التفتيش عن بواطنكم ولا يسعى في هتك أستاركم فثبت أن كل واحد من هذه الأوصاف الثلاثة يوجب كونه أُذُنُ خَيْرٍ ولما بين كونه سبباً للخير والرحمة بين أن كل من آذاه استوجب العذاب الأليم لأنه إذا كان يسعى في إيصال الخير والرحمة إليهم مع كونهم في غاية الخبث والخزي ثم إنهم بعد ذلك يقابلون إحسانه بالإساءة وخيراته بالشرور فلا شك أنهم يستحقون العذاب الشديد من الله تعالى
المسألة الرابعة أما قراءة من قرأ أُذُنُ خَيْرٍ بالتنوين في الكلمتين ففيه وجوه
الوجه الأول التقدير قل أذن واعية سامعة للحق خير لكم من هذا الطعن الفاسد الذي تذكرون ثم ذكر بعده ما يدل على فساد هذا الطعن وهو قوله يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَة ٌ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ والمعنى أن من كان موصوفاً بهذه الصفات فكيف يجوز الطعن فيه وكيف يجوز وصفه بكونه سليم القلب سريع الاغترار
الوجه الثاني أن يضمر مبتدأ والتقدير هو أذن خير لكم أي هو أذن موصوف بالخيرية في حقكم لأنه يقبل معاذيركم ويتغافل عن جهالاتكم فكيف جعلتم هذه الصفة طعناً في حقه
الوجه الثالث وهو وجه متكلف ذكره صاحب النظم فقال أَذِنَ وإن كان رفعاً بالابتداء في الظاهر لكن موضعه نصب على الحال وتأويله قل هو أذناً خير إذا كان أذناً فهو خير لكم لأنه يقبل معاذيركم ونظيره وهو حافظاً خير لكم أي هو حال كونه حافظاً لكم إلا أنه لما كان محذوفاً وضع الحال مكان المبتدأ تقديره وهو حافظ خير لكم وإضمار ( هو ) في القرآن كثير قال تعالى سَيَقُولُونَ ثَلَاثَة ٌ أي هم ثلاثة وهذا الوجه شديد التكلف وإن كان قد استحسنه الواحدي جداً
المسألة الخامسة قرأ حمزة وَرَحْمَة ً بالجر عطفاً على خَيْرٌ كأنه قيل أذن خير ورحمة أي مستمع كلام يكون سبباً للخير والرحمة
فإن قيل وكل رحمة خير فأي فائدة في ذكر الرحمة عقيب ذكر الخير
قلنا لأن أشرف أقسام الخير هو الرحمة فجاز ذكر الرحمة عقيب ذكر الخير كما في قوله تعالى وَمَلئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ( البقرة 98 ) قال أبو عبيد هذه القراءة بعيدة لأنه تباعد المعطوف عن المعطوف عليه قال أبو علي الفارسي البعد لا يمنع من صحة العطف ألا ترى أن من قرأ وَقِيلِهِ يارَبّ رَبّ ( الزخرف 88 ) إنما يحمله على قوله وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَة ِ ( لقمان 34 ) تقديره وعنده علم الساعة وعلم قيله
فإن قيل ما وجه قراءة ابن عامر وَرَحْمَة ً بالنصب
قلنا هي علة معللها محذوف والتقدير ورحمة لكم يأذن إلا أنه حذف لأن قوله أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يدل عليه

يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ
اعلم أن هذا نوع آخر من قبائح أفعال المنافقين وهو إقدامهم على اليمين الكاذبة قيل هذا بناء على ما تقدم يعني يؤذون النبي ويسيؤون القول فيه ثم يحلفون لكم وقيل نزلت في رهط من المنافقين تخلفوا عن غزوة تبوك فلما رجع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى المدينة أتوه واعتذروا وحلفوا ففيهم نزلت الآية والمعنى أنهم حلفوا على أنهم ما قالوا ما حكى عنهم ليرضوا المؤمنين بيمينهم وكان من الواجب أن يرضوا الله بالإخلاص والتوبة لا بإظهار ما يستسرون خلافه ونظيره قوله وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا ( البقرة 4 البقرة 76 )
وأما قوله يُرْضُوهُ بعد تقدم ذكر الله وذكر الرسول ففيه وجوه الأول أنه تعالى لا يذكر مع غيره بالذكر المجمل بل يجب أن يفرد بالذكر تعظيماً له والثاني أن المقصود بجميع الطاعات والعبادات هو الله فاقتصر على ذكره ويروى أن واحداً من الكفار رفع صوته وقال إني أتوب إلى الله ولا أتوب إلى محمد فسمع الرسول عليه السلام ذلك وقال ( وضع الحق في أهله ) الثالث يجوز أن يكون المراد يرضوهما فاكتفى بذكر الواحد كقوله نحن بما عندنا وأنت بما
عندك راض والرأي مختلف
والرابع أن العالم بالأسرار والضمائر هو الله تعالى وإخلاص القلب لا يعلمه إلا الله فلهذا السبب خص تعالى نفسه بالذكر الخامس لما وجب أن يكون رضا الرسول مطابقاً لرضا الله تعالى وامتنع حصول المخالفة بينهما وقع الاكتفاء بذكر أحدهما كما يقال إحسان زيد وإجماله نعشني وجبرني السادس التقدير والله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك وقوله إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ فيه قولان الأول إن كانوا مؤمنين على ما ادعوا والثاني أنهم كانوا عالمين بصحة دين الرسول إلا أنهم أصروا على الكفر حسداً وعناداً فلهذا المعنى قال تعالى إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ وفي الآية دلالة على رضا الله لا يحصل بإظهار الإيمان ما لم يقترن به التصديق بالقلب ويبطل قول الكرامية الذين يزعمون أن الإيمان ليس إلا القول باللسان
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذالِكَ الْخِزْى ُ الْعَظِيمُ
اعلم أن المقصود من هذه الآية أيضاً شرح أحوال المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال أهل المعاني قوله أَلَمْ تَعْلَمْ خطاب لمن حاول الإنسان تعليمه مدة وبالغ في ذلك التعليم ثم إنه لم يعلم فيقال له ألم تعلم بعد هذه الساعات الطويلة والمدة المديدة

وإنما حسن ذلك لأنه طال مكث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) معهم وكثرت نهاياته للتحذير عن معصية الله والترغيب في طاعته فالضمير في قوله أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللَّهَ ضمير الأمر والشأن والمعنى أن الأمر والشأن كذا وكذا والفائدة في هذا الضمير هو أنه لو ذكر بعد كلمة ءانٍ ذلك المبتدأ والخبر لم يكن له كثير وقع فأما إذا قلت الأمر والشأن كذا وكذا أوجب مزيد تعظيم وتهويل لذلك الكلام وقوله مَن يُحَادِدِ اللَّهَ قال الليث حاددته أي خالفته والمحاددة كالمجانبة والمعاداة والمخالفة واشتقاقه من الحد ومعنى حاد فلان فلاناً أي صار في حد غيره حده كقوله شاقه أي صار في شق غير شقه ومعنى يُحَادِدِ اللَّهَ أي يصير في حد غير حد أولياء الله بالمخالفة وقال أبو مسلم المحادة مأخوذة من الحديد حديد السلاح ثم للمفسرين ههنا عبارات يحالف الله وقيل يحارب الله وقيل يعاند الله وقيل يعاد الله
ثم قال فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ وفيه وجوه الأول التقدير فحق أن له نار جهنم الثاني معناه فله نار جهنم وإن تكرر للتوكيد الثالث أن نقول جواب مِنْ محذوف والتقدير ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله يهلك فأن له نار جهنم قال الزجاج ويجوز كسر ءانٍ على الاستئناف من بعد الفاء والقراءة بالفتح ونقل الكعبي في ( تفسيره ) أن القراءة بالكسر موجودة قال أبو مسلم جهنم من أسماء النار وأهل اللغة يكون عن العرب أن البئر البعيدة القعر تسمى الجهنام عندهم فجاز في جهنم أن تكون مأخوذة من هذا اللفظ ومعنى بعد قعرها أنه لا آخر لعذابها والخالد الدائم والخزي قد يكون بمعنى الندم وبمعنى الاستحياء والندم هنا أولى لقوله تعالى وَأَسَرُّواْ النَّدَامَة َ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ
يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَة ٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِءُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ
واعلم أنهم كانوا يسمون سورة براءة الحافرة حفرت عما في قلوب المنافقين قال الحسن اجتمع اثنا عشر رجلاً من المنافقين على أمر من النفاق فأخبر جبريل الرسول عليه الصلاة والسلام بأسمائهم فقال عليه الصلاة والسلام ( إن أناساً اجتمعوا على كيت وكيت فليقوموا وليعترفوا وليستغفروا ربهم حتى أشفع لهم ) فلم يقوموا فقال عليه الصلاة والسلام بعد ذلك ( قم يا فلان ويا فلان ) حتى أتى عليهم ثم قالوا نعترف ونستغفر فقال ( الآن أنا كنت في أول الأمر أطيب نفساً بالشفاعة والله كان أسرع في الأجابة اخرجوا عني اخرجوا عني ) فلم يزل يقول حتى خرجوا بالكلية وقال الأصم إن عند رجوع الرسول عليه الصلاة والسلام من تبوك وقف له على العقبة اثنا عشر رجلاً ليفتكوا به فأخبره جبريل وكانوا متلثمين في ليلة مظلمة وأمره أن يرسل إليهم من يضرب وجوه رواحلهم فأمر حذيفة بذلك فضربها حتى نحاهم ثم قال ( من عرفت من القوم ) فقال لم أعرف منهم أحداً فذكر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أسماءهم وعدهم له وقال ( إن جبريل أخبرني بذلك ) فقال حذيفة ألا تبعث إليهم ليقتلوا فقال ( أكره أن تقول العرب قاتل محمد بأصحابه حتى إذا ظفر صار يقتلهم بل يكفينا الله ذلك )

فإن قيل المنافق كافر فكيف يحذر نزول الوحي على الرسول
قلنا فيه وجوه الأول قال أبو مسلم هذا حذر أظهره المنافقون على وجه الاستهزاء حين رأوا الرسول عليه الصلاة والسلام يذكر كل شيء ويدعي أنه عن الوحي وكان المنافقون يكذبون بذلك فيما بينهم فأخبر الله رسوله بذلك وأمره أن يعلمهم أنه يظهر سرهم الذي حذروا ظهوره وفي قوله استهزئوا دلالة على ما قلناه الثاني أن القوم وإن كانوا كافرين بدين الرسول إلا أنهم شاهدوا أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يخبرهم بما يضمرونه ويكتمونه فلهذه التجربة وقع الحذر والخوف في قلوبهم الثالث قال الأصم أنهم كانوا يعرفون كونه رسولاً صادقاً من عند الله تعالى إلا أنهم كفروا به حسداً وعناداً قال القاضي يبعد في العالم بالله وبرسوله وصحة دينه أن يكون محاداً لهما قال الداعي إلى الله هذا غير بعيد لأن الحسد إذا قوي في القلب صار بحيث ينازع في المحسوسات الرابع معنى الحذر الأمر بالحذر أي ليحذر المنافقون ذلك الخامس أنهم كانوا شاكين في صحة نبوته وما كانوا قاطعين بفسادها والشاك خائف فلهذا السبب خافوا أن ينزل عليه في أمرهم ما يفضحهم ثم قال صاحب ( الكشاف ) المضير في قوله سَوَاء عَلَيْهِمْ و تُنَبّئُهُمْ للمؤمنين وفي قوله فِى قُلُوبِهِمْ للمنافقين ويجوز أيضاً أن تكون الضمائر كلها للمنافقين لأن السورة إذا نزلت في معناهم فهي نازلة عليهم ومعنى تُنَبّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم أن السورة كأنها تقول لهم في قلوبهم كيت وكيت يعني أنها تذيع أسرارهم إذاعة ظاهرة فكأنها تخبرهم
ثم قال قُلْ وهو أمر تهديد كقوله الرَّحِيمُ وَقُلِ اعْمَلُواْ ( التوبة 105 ) إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ ( التوبة 64 ) أي ذلك الذي تحذرونه فإن الله يخرجه إلى الوجود فإن الشيء إذا حصل بعد عدمه فكان فاعله أخرجه من العدم إلى الوجود
وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَءَايَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَة ٍ مِّنْكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَة ً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى ذكروا في سبب نزول الآية أموراً الأول روى ابن عمر أن رجلاً من المنافقين قال في غزوة تبوك ما رأيت مثل هؤلاء القوم أرعب قلوباً ولا أكذب ألسنا ولا أجبن عند اللقاء يعني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنين فقال واحد من الصحابة كذبت ولأنت منافق ثم ذهب ليخبر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فوجد القرآن قد سبقه فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله وكان قد ركب ناقته فقال يا رسول الله إنما كنا نلعب ونتحدث بحديث الركب نقطع به الطريق وكان يقول إنما كنا نخوض ونلعب ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون ) ولا يلتفت إليه وما يزيده عليه الثاني قال الحسن وقتادة لما سار الرسول إلى تبوك

قال المنافقون بينهم أتراه يظهر على الشأن ويأخذ حصونها وقصورها هيهات هيهات فعند رجوعه دعاهم وقال أنتم القائلون بكذا وكذا فقالوا ما كان ذلك بالجد في قلوبنا وإنما كنا نخوض ونلعب الثالث روى أن المتخلفين عن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) سألوا عما كانوا يصنعون وعن سبب تخلفهم فقالوا هذا القول الرابع حكينا عن أبي مسلم أنه قال في تفسير قوله يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَة ٌ تُنَبّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم ( التوبة 64 ) أظهروا هذا الحذر على سبيل الاستهزاء فبين تعالى في هذه الآية أنه إذا قيل لهم لم فعلتم ذلك قالوا لم نقل ذلك على سبيل الطعن بل لأجل أنا كنا نخوض ونلعب الخامس اعلم أنه لا حاجة في معرفة هذه الآية إلى هذه الروايات فإنها تدل على أنهم ذكروا كلاماً فاسداً على سبيل الطعن والاستهزاء فلما أخبرهم الرسول بأنهم قالوا ذلك خافوا واعتذروا عنه بأنا إنما قلنا ذلك على وجه اللعب لا على سبيل الجد وذلك قولهم إنما كنا نخوض ونلعب أي ما قلنا ذلك إلا لأجل اللعب وهذا يدل على أن كلمة ( إنما ) تفيد الحصر إذ لو لم يكن ذلك لم يلزم من كونهم لاعبين أن لا يكونوا مستهزئين فحينئذ لا يتم هذا العذر
والجواب قال الواحدي أصل الخوض الدخول في مائع من الماء والطين ثم كثر حتى صار اسماً لكل دخول فيه تلويث وأذى والمعنى أنا كنا نخوض ونعلب في الباطل من الكلام كما يخوض الركب لقطع الطريق فأجابهم الرسول بقوله وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا وفيه مسائل
المسألة الأولى فرق بين قولك أتستهزىء بالله وبين قولك أبالله تستهزىء فالأول يقتضي الإنكار على عمل الاستهزاء والثاني يقتضي الإنكار على إيقاع الاستهزاء في الله كأنه يقول هب أنك قد تقدم على الاستهزاء ولكن كيف أقدمت على إيقاع الاستهزاء في الله ونظيره قوله تعالى لّلشَّارِبِينَ لاَ فِيهَا غَوْلٌ ( الصافات 47 ) والمقصود ليس نفي الغول بل نفي أن يكون خمر الجنة محلاً للغول
المسألة الثانية أنه تعالى حكى عنهم أنهم يستهزئون بالله وآياته ورسوله ومعلوم أن الاستهزاء بالله محال فلا بد له من تأويل وفيه وجوه الأول المراد بالاستهزاء بالله هو الاستهزاء بتكاليف الله تعالى الثاني يحتمل أن يكون المراد الاستهزاء بذكر الله فإن أسماء الله قد يستهزىء الكافر بها كما أن المؤمن يعظمها ويمجدها قال تعالى سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ الاَعْلَى ( الأعلى 1 ) فأمر المؤمن بتعظيم اسم الله وقال وَللَّهِ الاسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى أَسْمَئِهِ ( الأعراف 180 ) فلا يمتنع أن يقال أَبِاللَّهِ ويراد أبذكر الله الثالث لعل المنافقين لما قالوا كيف يقدر محمد على أخذ حصون الشأم وقصورها قال بعض المسلمين الله يعينه على ذلك وينصره عليهم ثم إن بعض الجهال من المنافقين ذكر كلاماً مشعراً بالقدح في قدرة الله كما هو عادات الجهال والملحدة فكان المراد ذلك
وأما قوله وَءايَاتِهِ فالمراد بها القرآن وسائر ما يدل على الدين وقوله وَرَسُولُهُ معلوم وذلك يدل على أن القوم إنما ذكروا ما ذكروه على سبيل الاستهزاء
ثم قال تعالى لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى نقل الواحدي عن أهل اللغة في لفظ الاعتذار قولين
القول الأول أنه عبارة عن محو الذنب من قولهم اعتذرت المنازل إذا درست يقال مررت بمنزل

معتذر والاعتذار هو الدرس وأخذ الاعتذار منه لأن المعتذر يحاول إزالة أثر ذنبه
والقول الثاني حكى ابن الأعرابي أن الاعتذار هو القطع ومنه يقال للقلفة عذرة لأنها تقطع وعذرة الجارية سميت عذرة لأنها تعذر أي تقطع ويقال اعتذرت المياه إذا انقطعت فالعذر لما كان سبباً لقطع اللوم سمي عذراً قال الواحدي والقولان متقاربان لأن محو أثر الذنب وقطع اللوم يتقاربان
المسألة الثانية أنه تعالى بين أن ذلك الاستهزاء كان كفراً والعقل يقتضي أن الإقدام على الكفر لأجل اللعب غير جائز فثبت أن قولهم إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ما كان عذراً حقيقياً في الإقدام على ذلك الاستهزاء فلما لم يكن ذلك عذراً في نفسه نهاهم الله عن أن يعتذروا به لأن المنع عن الكلام الباطل واجب فقال لاَ تَعْتَذِرُواْ أي لا تذكروا هذا العذر في دفع هذا الجرم
المسألة الثالثة قوله قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ يدل على أحكام
الحكم الأول
أن الاستهزاء بالدين كيف كان كفراً بالله وذلك لأن الاستهزاء يدل على الاستخفاف والعمدة الكبرى في الإيمان تعظيم الله تعالى بأقصى الإمكان والجمع بينهما محال
الحكم الثاني
أنه يدل على بطلان قول من يقول الكفر لا يدخل إلا في أفعال القلوب
الحكم الثالث
يدل على أن قولهم الذي صدر منهم كفر في الحقيقة وإن كانوا منافقين من قبل وأن الكفر يمكن أن يتجدد من الكافر حالاً فحالاً
الحكم الرابع
يدل على أن الكفر إنما حدث بعد أن كانوا مؤمنين
ولقائل أن يقول القوم لما كانوا منافقين فكيف يصح وصفهم بذلك
قلنا قال الحسن المراد كفرتم بعد إيمانكم الذي أظهرتموه وقال آخرون ظهر كفركم للمؤمنين بعد أن كنتم عندهم مسلمين والقولان متقاربان
ثم قال تعالى إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَة ٍ مّنْكُمْ نُعَذّبْ طَائِفَة ً وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ عاصم إِن نَّعْفُ بالنون وكسر الذال وطائفة بالنصب والمعنى أنه تعالى حكى عن نفسه أنه يقول إن يعف عن طائفة يعذب طائفة والباقون بالياء وضمها وفتح الفاء على ما لم يسم فاعله إن يعف عن طائفة بالتذكير وتعذب طائفة بالتأنيث وحكى صاحب ( الكشاف ) عن مجاهد إن تعف عن طائفة على البناء للمفعول مع التأنيث ثم قال والوجه التذكير لأن المسند إليه الظرف كما تقول سير بالدابة ولا تقول سيرت بالدابة وأما تأويل قراءته فهو أن مجاهداً لعله ذهب إلى أن المعنى كأنه قيل إن

ترحم طائفة فأنت كذلك وهو غريب والجيد القراءة العامة إن يعف عن طائفة بالتذكير وتعذب طائفة بالتأنيث
المسألة الثانية ذكر المفسرون أن الطائفتين كانوا ثلاثة استهزأ اثنان وضحك واحد فالطائفة الأولى الضاحك والثانية الهازيان وقال المفسرون لما كان ذنب الضاحك أخف لا جرم عفا الله عنه وذنب الهازيين أغلظ فلا جرم ما عفا الله عنهما قال القاضي هذا بعيد لأنه تعالى حكم على الطائفتين بالكفر وأنه تعالى لا يعفو عن الكافر إلا بعد التوبة والرجوع إلى الإسلام وأيضاً لا يعذب الكافر إلا بعد إصراره على الكفر أما لو تاب عنه ورجع إلى الإسلام فإنه لا يعذبه فلما ذكر الله تعالى أنه يعفو عن طائفة ويعذب الأخرى كان فيه إضمار أن الطائفة التي أخبر أنه يعفو عنهم تابوا عن الكفر ورجعوا إلى الإسلام وأن الطائفة التي أخبر أنه يعذبهم أصروا على الكفر ولم يرجعوا إلى الإسلام ولعل ذلك الواحد لما لم يبالغ في الطعن ولم يوافق القوم في الذكر خف كفره ثم إنه تعالى وفقه للإيمان والخروج عن الكفر وذلك يدل على أن من خاض في عمل باطل فليجتهد في التقليل فإنه يرجى له ببركة ذلك التقليل أن يتوب الله عليه في الكل
المسألة الثالثة قالوا ثبت بالروايات أن الطائفتين كانوا ثلاثة فوجب أن تكون إحدى الطائفتين إنساناً واحداً قال الزجاج والطائفة في اللغة أصلها الجماعة لأنها المقدار الذي يمكنها أن تطيف بالشيء ثم يجوز أن يسمى الواحد بالطائفة قال تعالى الاْخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَة ٌ مّنَ الْمُؤْمِنِينَ ( النور 2 ) وأقله الواحد وروى الفراء بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال الطائفة الواحد فما فوقه وفي جواز تسمية الشخص الواحد بالطائفة وجوه الأول أن من اختار مذهباً ونصره فإنه لا يزال يكون ذاباً عنه ناصراً له فكأنه بقلبه يطوف عليه ويذب عنه من كل الجوانب فلا يبعد أن يسمى الواحد طائفة لهذا السبب الثاني قال ابن الأنباري العرب توقع لفظ الجمع على الواحد فتقول خرج فلان إلى مكة على الجمال والله تعالى يقول الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ ( آل عمران 173 ) يعني نعيم بن مسعود الثالث لا يبعد أن تكون الطائفة إذا أريد بها الواحد يكون أصلها طائفاً ثم أدخل الهاء عليه للمبالغة ثم إنه تعالى علل كونه معذباً للطائفة الثانية بأنهم كانوا مجرمين
واعلم أن الطائفتين لما اشتركتا في الكفر فقد اشتركتا في الجرم والتعذيب يختص بإحدى الطائفتين وتعليل الحكم الخاص بالعلة العامة لا يجوز وأيضاً التعذيب حكم حاصل في الحال وقوله كَانُواْ مُجْرِمِينَ يدل على صدور الجرم عنهم في الزمان الماضي وتعليل الحكم الحاصل في الحال بالعلة المتقدمة لا يجوز بل كان الأولى أن يقال ذلك بأنهم مجرمون
واعلم أن الجواب عنه أن هذا تنبيه على أن جرم الطائفة الثانية كان أغلظ وأقوى من جرم الطائفة الأولى فوقع التعليل بذلك الجرم الغليظ وأيضاً ففيه تنبيه على أن ذلك الجرم بقي واستمر ولم يزل فأوجب التعذيب
الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ

اعلم أن هذا شرح نوع آخر من أنواع فضائحهم وقبائحهم والمقصود بيان أن إناثهم كذكورهم في تلك الأعمال المنكرة والأفعال الخبيثة فقال الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ أي في صفة النفاق كما يقول الإنسان أنت مني وأنا منك أي أمرنا واحد لا مباينة فيه ولما ذكر هذا الكلام ذكر تفصيله فقال يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ ولفظ المنكر يدخل فيه كل قبيح إلا أن الأعظم ههنا تكذيب الرسول وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ ولفظ المعروف يدخل فيه كل حسن إلا أن الأعظم ههنا الإيمان بالرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ويقبضون أيديهم قيل من كل خير وقيل عن كل خير واجب من زكاة وصدقة وإنفاق في سبيل الله وهذا أقرب لأنه تعالى لا يذمهم إلا بترك الواجب ويدخل فيه ترك الإنفاق في الجهاد ونبه بذلك على تخلفهم عن الجهاد والأصل في هذا أن المعطي يمد يده ويبسطها بالعطاء فقيل لمن منع وبخل قد قبض يده
ثم قال نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ واعلم أن هدا الكلام لا يمكن إجراؤه على ظاهره لأنا لو حملناه على النسيان على الحقيقة لما استحقوا عليه ذماً لأن النسيان ليس في وسع البشر وأيضاً فهو في حق الله تعالى محال فلا بد من التأويل وهو من وجهين الأول معناه أنهم تركوا أمره حتى صار بمنزلة المنسي فجازاهم بأن صيرهم بمنزلة المنسي من ثوابه ورحمته وجاء هذا على أوجه الكلام كقوله وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا ( الشورى 40 ) الثاني النسيان ضد الذكر فلما تركوا ذكر الله بالعبادة والثناء على الله ترك الله ذكرهم بالرحمة والإحسان وإنما حسن جعل النسيان كناية عن ترك الذكر لأن من نسي شيئاً لم يذكره فجعل اسم الملزوم كناية عن اللازم
ثم قال إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ أي هم الكاملون في الفسق والله أعلم
وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِى َ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّة ً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُوْلَائِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنْيَا وَالاٌّ خِرَة ِ وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ

اعلم أنه تعالى لما بين من قبل في المنافقين والمنافقات أنه نسبهم أي جازاهم على تركهم التمسك بطاعة الله أكد هذا الوعيد وضم المنافقين إلى الكفار فيه فقال وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا ولا شك أن النار المخلدة من أعظم العقوبات
ثم قال هِى َ حَسْبُهُمْ والمعنى أن تلك العقوبة كافية لهم ولا شيء أبلغ منها ولا يمكن الزيادة عليها
ثم قال وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ أي ألحق بتلك العقوبة الشديدة الإهانة والذم واللعن
ثم قال وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ولقائل أن يقول معنى كون العذاب مقيماً وكونه خالداً واحد فكان هذا تكراراً
والجواب ليس ذلك تكريراً وبيان الفرق من وجوه الأول أن لهم نوعاً آخر من العذاب المقيم الدائم سوى العذاب بالنار والخلود المذكور أولاً ولا يدل على أن العذاب بالنار دائم وقوله وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ يدل على أن لهم مع ذلك نوعاً آخر من العذاب
ولقائل أن يقول هذا التأويل مشكل لأنه قال في النار المخلدة هِى َ حَسْبُهُمْ وكونها حسباً بمنع من ضم شيء آخر إليه
وجوابه أنها حسبهم في الإيلام والإيجاع ومع ذلك فيضم إليه نوع آخر زيادة في تعذيبهم والثاني أن المراد بقوله وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ العذاب العاجل الذي لا ينفكون عنه وهو ما يقاسونه من تعب النفاق والخوف من اطلاع الرسول على بواطنهم وما يحذرونه أبداً من أنواع الفضائح
ثم قال كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ واعلم أن هذا رجوع من الغيبة إلى الخطاب وهذا الكاف للتشبيه وهو يحتمل وجوهاً الأول قال الفراء فعلتم كأفعال الذين من قبلكم والمعنى أنه تعالى شبه المنافقين بالكفار الذين كانوا قبلهم في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف وقبض الأيدي عن الخيرات ثم إنه تعالى وصف أولئك الكفار بأنهم كانوا أشد قوة من هؤلاء المنافقين وأكثر أموالاً وأولاداً ثم استمتعوا مدة بالدنيا ثم هلكوا وبادوا وانقلبوا إلى العقاب الدائم فأنتم مع ضعفكم وقلة خيرات الدنيا عندكم أولى أن تكونوا كذلك
والوجه الثاني أنه تعالى شبه المنافقين في عدولهم عن طاعة الله تعالى لأجل طلب لذات الدنيا بمن قبلهم من الكفار ثم وصفهم تعالى بكثرة الأموال والأولاد وبأنهم استمتعوا بخلاقهم والخلاق النصيب وهو ما خلق للإنسان أي قدر له من خير كما قيل له قسم لأنها قسم ونصيب لأنه نصب أي ثبت فذكر تعالى أنهم استمتعوا بخلاقهم فأنتم أيها المنافقون استمتعم بخلاقكم كما استمتع أولئك بخلاقهم
فإن قيل ما الفائدة في ذكر الاستمتاع بالخلاق في حق الأولين مرة ثم ذكره في حق المنافقين ثانياً ثم ذكره في حق الأولين ثالثاً
قلنا الفائدة فيه أنه تعالى ذم الأولين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدنيا وحرمانهم عن سعادة الآخرة بسبب استغراقهم في تلك الحظوظ العاجلة فلما قرر تعالى هذا الذم عاد فشبه حال هؤلاء المنافقين

بحالهم فيكون ذلك نهاية في المبالغة ومثاله أن من أراد أن ينبه بعض الظلمة على قبح ظلمه يقول له أنت مثل فرعون كان يقتل بغير جرم ويعذب من غير موجب وأنت تفعل مثل ما فعله وبالجملة فالتكرير ههنا للتأكيد ولما بين تعالى مشابهة هؤلاء المنافقين لأولئك المتقدمين في طلب الدنيا وفي الإعراض عن طلب الآخرة بين حصول المشابهة بين الفريقين في تكذيب الأنبياء وفي المكر والخديعة والغدر بهم فقال وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ قال الفراء يريد كخوضهم الذي خاضوا ف الَّذِى صفة مصدر محذوف دل عليه الفعل
ثم قال تعالى أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنْيَا وَالاْخِرَة ِ أي بطلت حسناتهم في الدنيا بسبب الموت والفقر والانتقال من العز إلى الذل ومن القوة إلى الضعف وفي الآخرة بسبب أنهم لا يثابون بل يعاقبون أشد العقاب وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ حيث أتعبوا أنفسهم في الرد على الأنبياء والرسل فما وجدوا منه إلا فوات الخيرات في الدنيا والآخرة وإلا حصول العقاب في الدنيا والآخرة والمقصود أنه تعالى لما شبه حال هؤلاء المنافقين بأولئك الكفار بين أن أولئك الكفار لم يحصل لهم إلا حبوط الأعمال وإلا الخزي والخسار مع أنهم كانوا أقوى من هؤلاء المنافقين وأكثر أموالاً وأولاداً منهم فهؤلاء المنافقون المشاركون لهم في هذه الأعمال القبيحة أولى أن يكونوا واقعين في عذاب الدنيا والآخرة محرومين من خيرات الدنيا والآخرة
أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَاكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
اعلم أنه تعالى لما شبه المنافقين بالكفار المتقدمين في الرغبة في الدنيا وفي تكذيب الأنبياء والمبالغة في إيذائهم بين أن أولئك الكفار المتقدمين منهم فذكر هؤلاء الطوائف الستة فأولهم قوم نوح والله أهلكهم بالإغراق وثانيهم عاد والله تعالى أهلكهم بإرسال الريح العقيم عليهم وثالثهم ثمود والله أهلكهم بإرسال الصيحة والصاعقة ورابعهم قوم إبراهيم أهلكهم الله بسبب سلب النعمة عنهم وبما روي في الأخبار أنه تعالى سلط البعوضة على دماغ نمروذ وخامسهم قوم شعيب وهم أصحاب مدين ويقال إنهم من ولد مدين بن إبراهيم والله تعالى أهلكهم بعذاب يوم الظلة والمؤتفكات قوم لوط أهلكهم الله بأن جعل عالي أرضهم سافلها وأمطر عليهم الحجارة وقال الواحدي المؤتفكات جمع مؤتفكة ومعنى الائتفاك في اللغة الانقلاب وتلك القرى ائتفكت بأهلها أي انقلبت فصار أعلاها أسفلها يقال أفكه فائتفك أي قلبه فانقلب وعلى هذا التفسير فالمؤتفكات صفة القرى وقيل ائتفاكهن انقلاب أحوالهن من الخير إلى الشر

واعلم أنه تعالى قال في الآية الأولى الْخَاسِرُونَ أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وذكر هؤلاء الطوائف الستة وإنما قال ذلك لأنه أتاهم نبأ هؤلاء تارة بأن سمعوا هذه الأخبار من الخلق وتارة لأجل أن بلاد هذه الطوائف وهي بلاد الشام قريبة من بلاد العرب وقد بقيت آثارهم مشاهدة وقوله أَلَمْ يَأْتِهِمْ وإن كان في صفة الاستفهام إلا أن المراد هو التقرير أي أتاهم نبأ هؤلاء الأقوام
ثم قال أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ وهو راجع إلى كل هؤلاء الطوائف
ثم قال بِالْبَيِّنَاتِ أي بالمعجزات ولا بدَّ من إضمار في الكلام والتقدير فكذبوا فعجل الله هلاكهم
ثم قال فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ والمعنى أن العذاب الذي أوصله الله إليهم ما كان ظلماً من الله لأنهم استحقوه بسبب أفعالهم القبيحة ومبالغتهم في تكذيب أنبيائهم بل كانوا ظلموا أنفسهم قالت المعتزلة دلت هذه الآية على أنه تعالى لا يصح منه فعل الظلم وإلا لما حسن التمدح به وذلك دل على أنه لا يظلم ألبتة وذلك يدل على أنه تعالى لا يخلق الكفر في الكافر ثم يعذبه عليه ودل على أن فاعل الظلم هو العبد وهو قوله وَلَاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ وهذا الكلام قد مر ذكره في هذا الكتاب مراراً خارجة عن الإحصاء
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَواة َ وَيُؤْتُونَ الزَّكَواة َ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَائِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
اعلم أنه تعالى لما بالغ في وصف المنافقين بالأعمال الفاسدة والأفعال الخبيثة ثم ذكر عقيبه أنواع الوعيد في حقهم في الدنيا والآخرة ذكر بعده في هذه الآية كون المؤمنين موصوفين بصفات الخير وأعمال البر على ضد صفات المنافقين ثم ذكر بعده في هذه الآية أنواع ما أعد الله لهم من الثواب الدائم والنعيم المقيم فأما صفات المؤمنين فهي قوله وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ
فإن قيل ما الفائدة في أنه تعالى قال في صفة المنافقين و الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ فلم ذكر في المنافقين لفظ مِنْ وفي المؤمنين لفظ أَوْلِيَاء
قلنا قوله في صفة المنافقين بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ يدل على أن نفاق الأتباع كالأمر المتفرع على نفاق الأسلاف والأمر في نفسه كذلك لأن نفاق الأتباع وكفرهم حصل بسبب التقليد لأولئك الأكابر وبسبب مقتضى الهوى والطبيعة والعادة أما الموافقة الحاصلة بين المؤمنين فإنما حصلت لا بسبب الميل

والعادة بل بسبب المشاركة في الاستدلال والتوفيق والهداية فلهذا السبب قال تعالى في المنافقين بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ وقال في المؤمنين بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ
واعلم أن الولاية ضد العداوة وقد ذكرنا فيما تقدم أن الأصل في لفظ الولاية القرب ويتأكد ذلك بأن ضد الولاية هو العداوة ولفظة العداوة مأخوذة من عدا الشيء إذا جاوز عنه
واعلم أنه تعالى لما وصف المؤمنين بكون بعضهم أولياء بعض ذكر بعده ما يجري مجرى التفسير والشرح له فقال وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَواة َ فذكر هذه الأمور الخمسة التي بها يتميز المؤمن من المنافق فالمنافق على ما وصفه الله تعالى في الآية المتقدمة يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف والمؤمن بالضد منه والمنافق لا يقوم إلى الصلاة إلا مع نوع من الكسل والمؤمن بالضد منه والمنافق يبخل بالزكاة وسائر الواجبات كما قال وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ والمؤمنون يؤتون الزكاة والمنافق إذا أمره الله ورسوله بالمسارعة إلى الجهاد فإنه يتخلف بنفسه ويثبط غيره كما وصفه الله بذلك والمؤمنون بالضد منهم وهو المراد في هذه الآية بقوله وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ثم لما ذكر صفات المؤمنين بين أنه كما وعد المنافقين نار جهنم فقد وعد المؤمنين الرحمة المستقبلة وهي ثواب الآخرة فلذلك قال أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ وذكر حرف السين في قوله سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ للتوكيد والمبالغة كما تؤكد الوعيد في قولك سأنتقم منك يوماً يعني أنك لا تفوتني وإن تباطأ ذلك ونظيره سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً ( مريم 96 ) لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ( الضحى 5 ) سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ ( النساء 152 )
ثم قال أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وذلك يوجب المبالغة في الترغيب والترهيب لأن العزيز هو من لا يمنع من مراده في عباده من رحمة أو عقوبة والحكيم هو المدبر أمر عباده على ما يقتضيه العدل والصواب
وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَة ً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
اعلم أنه تعالى لما ذكر الوعد في الآية الأولى على سبيل الإجمال ذكره في هذه الآية على سبيل التفصيل وذلك لأنه تعالى وعد بالرحمة ثم بين في هذه الآية أن تلك الرحمة هي هذه الأشياء فأولها قوله جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ خَاالِدِينَ فِيهَا والأقرب أن يقال إنه تعالى أراد بها البساتين التي يتناولها المناظر لأنه تعالى قال بعده وَمَسَاكِنَ طَيّبَة ً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ والمعطوف يجب أن يكون مغايراً للمعطوف عليه فتكون مساكنهم في جنات عدن ومناظرهم الجنات التي هي البساتين فتكون فائدة وصفها بأنها عدن أنها تجري مجرى الدار التي يسكنها الإنسان وأما الجنات الآخرة فهي جارية مجرى البساتين التي قد يذهب الإنسان إليها لأجل التنزه وملاقاة الأحباب وثانيها قوله وَمَسَاكِنَ طَيّبَة ً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ قد كثر كلام أصحاب الآثار في صفة جنات عدن قال الحسن سألت عمران بن الحصين وأبا هريرة عن قوله

وَمَسَاكِنَ طَيّبَة ً فقالا على الخبير سقطت سألنا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) عن ذلك فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( هو قصر في الجنة من اللؤلؤ فيه سبعون داراً من ياقوتة حمراء في كل دار سبعون بيتاً من زمردة خضراء في كل بيت سبعون سريراً على كل سرير سبعون فراشاً على كل فراش زوجة من الحور العين في كل بيت سبعون مائدة على كل مائدة سبعون لوناً من الطعام وفي كل بيت سبعون وصيفة يعطى المؤمن من القوة في غداة واحدة ما يأتي على ذلك أجمع ) وعن ابن عباس أنها دار الله التي لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر وأقول لعل ابن عباس قال إنها دار المقربين عند الله فإنه كان أعلم بالله من أن يثبت له داراً وعن أبي هريرة رضي الله عنه قلت يا رسول الله حدثني عن الجنة ما بناؤها فقال ( لبنة من ذهب ولبنة من فضة وملاطها المسك الأذفر وترابها الزعفران وحصاؤها الدر والياقوت فيها النعيم بلا بؤس والخلود بلا موت لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه ) وقال ابن مسعود جنات عدن بطنان الجنة قال الأزهري بطنانها وسطها وبطنان الأودية المواضع التي يستنفع فيها ماء السيل واحدها بطن وقال عطاء عن ابن عباس هي قصبة الجنة وسقفها عرش الرحمن وهي المدينة التي فيها الرسل والأنبياء والشهداء وأئمة الهدى وسائر الجنات حولها وفيها عين التسنيم وفيها قصور الدر والياقوت والذهب فتهب ريح طيبة من تحت العرش فتدخل عليهم كثبان المسك الأذفر وقال عبد الله بن عمرو إن في الجنة قصراً يقال له عدن حوله البروج وله خمسة آلاف باب كل على كل باب خمسة آلاف حرة لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد وأقول حاصل الكلام إن في جنات عدن قولان أحدهما أنه اسم علم لموضع معين في الجنة وهذه الأخبار والآثار التي نقلناها تقوي هذا القول قال صاحب ( الكشاف ) وعدن علم بدليل قوله جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِى وَعَدَ الرَّحْمَنُ ( مريم 61 )
والقول الثاني أنه صفة للجنة قال الأزهري العدن مأخوذ من قولك عدن فلان بالمكان إذا أقام به يعدن عدونا والعرب تقول تركت إبل بني فلان عودان بمكان كذا وهو أن تلزم الإبل المكان فتألفه ولا تبرحه ومنه المعدن وهو المكان الذي تخلق الجواهر فيه ومنبعها منه والقائلون بهذا الاشتقاق قالوا الجنات كلها جنات عدن
والنوع الثالث من المواعيد التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية قوله وَرِضْوانٌ مّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ والمعنى أن رضوان الله أكبر من كل ما سلف ذكره واعلم أن هذا هو البرهان القاطع على أن السعادات الروحانية أشرف وأعلى من السعادات الجسمانية وذلك لأنه إما أن يكون الابتهاج بكون مولاه راضياً عنه وأن يتوسل بذلك الرضا إلى شيء من اللذات الجسمانية أو ليس الأمر كذلك بل علمه بكونه راضياً عنه يوجب الابتهاج والسعادة لذاته من غير أن يتوسل به إلى مطلوب آخر والأول باطل لأن ما كان وسيلة إلى الشيء لا يكون أعلى حالاً من ذلك المقصود فلو كان المقصود من رضوان الله أن يتوسل به إلى اللذات التي أعدها الله في الجنة من الأكل والشرب لكان الابتهاج بالرضوان ابتهاجاً بحصول الوسيلة ولكان الابتهاج بتلك اللذات ابتهاجاً بالمقصود وقد ذكرنا أن الابتهاج بالوسيلة لا بد وأن يكون أقل حالاً من الابتهاج بالمقصود فوجب أن يكون رضوان الله أقل حالاً وأدون مرتبة من الفوز بالجنات والمساكن الطيبة لكن الأمر ليس كذلك لأنه تعالى نص على أن الفوز بالرضوان أعلى وأعظم وأجل وأكبر وذلك دليل قاطع على أن السعادات الروحانية أكمل وأشرف من السعادات الجسمانية
واعلم أن المذهب الصحيح الحق وجوب الإقرار بهما معاً كما جمع الله بينهما في هذه الآية

ولما ذكر تعالى هذه الأمور الثلاثة قال ذالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وفيه وجهان الأول أن الإنسان مخلوق من جوهرين لطيف علوي روحاني وكثيف سفلي جسماني وانضم إليهما حصول سعادة وشقاوة فإذا حصلت الخيرات الجسمانية وانضم إليها حصول السعادات الروحانية كانت الروح فائزة بالسعادات اللائقة بها والجسد واصلاً إلى السعادات اللائقة به ولا شك أن ذلك هو الفوز العظيم الثاني أنه تعالى بين في وصفه المنافقين أنهم تشبهوا بالكفار الذين كانوا قبلهم في التنعم بالدنيا وطيباتها ثم إنه تعالى بين في هذه الآية وصف ثواب المؤمنين ثم قال ذالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ والمعنى أن هذا هو الفوز العظيم لاما يطلبه المنافقون والكفار من التنعم بطيبات الدنيا وروي أنه تعالى يقول لأهل الجنة ( هل رضيتم فيقولون وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك فيقول أما أعطيكم أفضل من ذلك قالوا وأي شيء أفضل من ذلك قال أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً )
واعلم أن دلالة هذا الحديث على أن السعادات الروحانية أفضل من الجسمانية كدلالة الآية وقد تقدم تقريره على الوجه الكامل
ياأَيُّهَا النَّبِى ُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ
واعلم أنا ذكرنا أنه تعالى لما وصف المنافقين بالصفات الخبيثة وتوعدهم بأنواع العقاب وكانت عادة الله تعالى في هذا الكتاب الكريم جارية بذكر الوعد مع الوعيد لا جرم ذكر عقيبه وصف المؤمنين بالصفات الشريفة الطاهرة الطيبة ووعدم بالثواب الرفيع والدرجات العالية ثم عاد مرة أخرى إلى شرح أحوال الكفار والمنافقين في هذه الآية فقال الْعَظِيمُ ياأَيُّهَا النَّبِى ُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وفي الآية سؤال وهو أن الآية تدل على وجوب مجاهدة المنافقين وذلك غير جائز فإن المنافق هو الذي يستر كفره وينكره بلسانه ومتى كان الأمر كذلك لم يجز محاربته ومجاهدته
واعلم أن الناس ذكروا أقوالاً بسبب هذا الإشكال
فالقول الأول أنه الجهاد مع الكفار وتغليظ القول مع المنافقين وهو قول الضحاك وهذا بعيد لأن ظاهر قوله جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ يقتضي الأمر بجهادهما معاً وكذا ظاهر قوله وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ راجع إلى الفريقين
القول الثاني أنه تعالى لما بين للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بأن يحكم بالظاهر قال عليه السلام ( نحن نحكم بالظاهر ) والقوم كانوا يظهرون الإسلام وينكرون الكفر فكانت المحاربة معهم غير جائزة )
والقول الثالث وهو الصحيح أن الجهاد عبارة عن بذل الجهد وليس في اللفظ ما يدل على أن ذلك الجهاد بالسيف أو باللسان أو بطريق آخر فنقول إن الآية تدل على وجوب الجهاد مع الفريقين فأما كيفية

تلك المجاهد فلفظ الآية لا يدل عليها بل إنما يعرف من دليل آخر
وإذا ثبت هذا فنقول دلت الدلائل المنفصلة على أن المجاهدة مع الكفار يجب أن تكون بالسيف ومع المنافقين بإظهار الحجة تارة وبترك الرفق ثانياً وبالانتهار ثالثاً قال عبد الله في قوله جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ قال تارة باليد وتارة باللسان فمن لم يستطع فليكشر في وجهه فمن لم يستطع فبالقلب وحمل الحسن جهاد المنافقين على إقامة الحدود عليهم إذا تعاطوا أسبابها قال القاضي وهذا ليس بشيء لأن إقامة الحد واجبة على من ليس بمنافق فلا يكون لهذا تعلق بالنفاق ثم قال وإنما قال الحسن ذلك لأحد أمرين إما لأن كل فاسق منافق وإما لأجل أن الغالب ممن يقام عليه الحد في زمن الرسول عليه السلام كانوا منافقين
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَة َ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُوا إِلاَ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِى الدُّنْيَا وَالاٌّ خِرَة ِ وَمَا لَهُمْ فِى الأرض مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ
اعلم أن هذه الآية تدل على أن أقواماً من المنافقين قالوا كلمات فاسدة ثم لما قيل لهم إنكم ذكرتم هذه الكلمات خافوا وحلفوا أنهم ما قالوا والمفسرون ذكروا في أسباب النزول وجوهاً الأول روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أقام في غزوة تبوك شهرين ينزل عليه القرآن ويعيب المنافقين المتخلفين فقال الجلاس بن سويد والله لئن كان ما يقوله محمد في إخواننا الذين خلفناهم في المدينة حقاً مع أنهم أشرافنا فنحن شر من الحمير فقال عامر بن قيس الأنصاري للجلاس أجل والله إن محمداً صادق وأنت شر من الحمار وبلغ ذلك إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فاستحضر الجلاس فحلف بالله أنه ما قال فرفع عامر يده وقال اللهم أنزل على عبدك ونبيك تصديق الصادق وتكذيب الكاذب فنزلت هذه الآية فقال الجلاس لقد ذكر الله التوبة في هذه الآية ولقد قلت هذا الكلام وصدق عامر فتاب الجلاس وحسنت توبته الثاني روي أنها نزلت في عبد الله بن أبي لما قال لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل وأراد به الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فسمع زيد بن أرقم ذلك وبلغه إلى الرسول فهم عمر بقتل عبد الله بن أبي فجاء عبد الله وحلف أنه لم يقل فنزلت هذه الآية الثالث روى قتادة أن رجلين اقتتلا أحدهما من جهينة والآخر من غفار فظهر الغفاري على الجهيني فنادى عبد الله بن أبي يا بني الأوس انصروا أخاكم والله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قيل سمن كلبك يأكلك فذكروه للرسول عليه السلام فأنكر عبد الله وجعل يحلف قال القاضي يبعد أن يكون المراد من الآية هذه الوقائع وذلك لأن قوله يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَة َ الْكُفْرِ إلى آخر الآية كلها صيغ الجموع وحمل صيغة الجمع على الواحد خلاف الأصل

فإن قيل لعل ذلك الواحد قال في محفل ورضي به الباقون
قلنا هذا أيضاً خلاف الظاهر لأن إسناد القول إلى من سمعه ورضي به خلاف الأصل ثم قال بل الأولى أن تحمل هذه الآية على ما روي أن المنافقين هموا بقتله عند رجوعه من تبوك وهم خمسة عشر تعاهدوا أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي إذا تسنم العقبة بالليل وكان عمار بن ياسر آخذاً بالخطام على راحلته وحذيفة خلفها يسوقها فسمع حذيفة وقع أخفاف الإبل وقعقعة السلاح فالتفت فإذا قوم متلثمون فقال إليكم إليكم يا أعداء الله فهربوا والظاهر أنهم لما اجتمعوا لذلك الغرض فقد طعنوا في نبوته ونسبوه إلى الكذب والتصنع في ادعاء الرسالة وذلك هو قول كلمة الكفر وهذا القول اختيار الزجاج
فأما قوله وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ فلقائل أن يقول إنهم أسلموا فكيف يليق بهم هذا الكلام
والجواب من وجهين الأول المراد من الإسلام السلم الذي هو نقيض الحرب لأنهم لما نافقوا فقد أظهروا الإسلام وجنحوا إليه فإذا جاهروا بالحرب وجب حربهم والثاني أنهم أظهروا الكفر بعد أن أظهروا الإسلام
وأما قوله وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ المراد إطباقهم على الفتك بالرسول والله تعالى أخبر الرسول عليه السلام بذلك حتى احترز عنهم ولم يصلوا إلى مقصودهم
وأما قوله وَمَا نَقَمُواْ إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ ففيه بحثان
البحث الأول أن في هذا الفضل وجهين الأول أن هؤلاء المنافقين كانوا قبل قدوم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) المدينة في ضنك من العيش لا يركبون الخيل ولا يحوزون الغنيمة وبعد قدومه أخذوا الغنائم وفازوا بالأموال ووجدوا الدولة وذلك يوجب عليهم أن يكونوا محبين له مجتهدين في بذل النفس والمال لأجله والثاني روي أنه قتل للجلاس مولى فأمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بديته اثني عشر ألفاً فاستغنى
البحث الثاني أن قوله وَمَا نَقَمُواْ إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ تنبيه على أنه ليس هناك شيء ينقمون منه وهذا كقول الشاعر ما نقموا من بني أمية إلا
أنهم يحلمون إن غضبوا
وكقول النابغة ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
بهن فلول من قراع الكتائب
أي ليس فيهم عيب ثم قال تعالى فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ والمراد استعطاف قلوبهم بعد ما صدرت الجناية العظيمة عنهم وليس في الظاهر إلا أنهم إن تابوا فازوا بالخير فأما أنهم تابوا فليس في الآية وقد ذكرنا ما قالوه في توبة الجلاس
ثم قال وَإِن يَتَوَلَّوْا أي عن التوبة يُعَذّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِى الدُّنْيَا وَالاْخِرَة ِ أما عذاب الآخرة فمعلوم وأما العذاب في الدنيا فقيل المراد به أنه لما ظهر كفرهم بين الناس صاروا مثل أهل الحرب فيحل قتالهم وقتلهم وسبي أولادهم وأزواجهم واغتنام أموالهم وقيل بما ينالهم عند الموت ومعاينة ملائكة

العذاب وقيل المراد عذاب القبر وَمَا لَهُمْ فِى الاْرْضِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ يعني أن عذاب الله إذا حق لم ينفعه ولي ولا نصير
وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ ءاتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّآ ءَاتَاهُمْ مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِى قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَآ أَخْلَفُواْ اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ
اعلم أن هذه السورة أكثرها في شرح أحوال المنافقين ولا شك أنهم أقسام وأصناف فلهذا السبب يذكرهم على التفصيل فيقول وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِى َّ وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائْذَن لّي وَلاَ تَفْتِنّى وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ ءاتَانَا مِن فَضْلِهِ قال ابن عباس رضي الله عنهما أن حاطب بن أبي بلتعة أبطأ عنه ماله بالشأم فلحقه شدة فحلف بالله وهو واقف ببعض مجالس الأنصار لئن آتانا من فضله لأصدقن ولأؤدين منه حق الله إلى آخر الآية والمشهور في سبب نزول هذه الآية أن ثعلبة بن حاطب قال يارسول الله ادع الله أن يرزقني مالاً فقال عليه السلام ( يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه ) فراجعه وقال والذي بعثك بالحق لئن رزقني الله مالاً لأعطين كل ذي حق حقه فدعا له فاتخذ غنماً فنمت كما ينمو الدود حتى ضاقت بها المدينة فنزل وادياً بها فجعل يصلي الظهر والعصر ويترك ما سواهما ثم نمت وكثرت حتى ترك الصلوات إلا الجمعة وطفق يتلقى الركبان يسأل عن الأخبار وسأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عنه فأخبر بخبره فقال ( يا ويح ثعلبة ) فنزل قوله خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَة ً فبعث إليه رجلين وقال ( مرا بثعلبة فخذا صدقاته ) فعند ذلك قال لهما ما هذه إلا جزية أو أحت الجزية فلم يدفع الصدقة فأنزل الله تعالى وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ فقيل له قد أنزل فيك كذا وكذا فأتي الرسول عليه السلام وسأله أن يقبل صدقته فقال إن الله منعني من قبول ذلك فجعل يحثي التراب على رأسه فقال عليه الصلاة والسلام ( قد قلت لك فما أطعتني ) فرجع إلى منزله وقبض رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثم أتى أبا بكر بصدقته فلم يقبلها اقتداء بالرسول عليه السلام ثم لم يقبلها عمر اقتداء بأبي بكر ثم لم يقبلها عثمان وهلك ثعلبة في خلافة عثمان
فإن قيل إن الله تعالى أمره بإخراج الصدقة فكيف يجوز من الرسول عليه السلام أن لا يقبلها منه
قلنا لا يبعد أن يقال إنه تعالى منع الرسول عليه السلام عن قبول الصدقة منه على سبيل الإهانة له

ليعتبر غيره به فلا يمتنع عن أداء الصدقات ولا يبعد أيضاً أنه إنما أتى بتلك الصدقة على وجه الرياء لا على وجه الإخلاص وأعلم الله الرسول عليه السلام ذلك فلم يقبل تلك الصدقة لهذا السبب ويحتمل أيضاً أنه تعالى لما قال خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَة ً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا وكان هذا المقصود غير حاصل في ثعلبة مع نفاقه فلهذا السبب امتنع رسول الله عليه السلام من أخذ تلك الصدقة والله أعلم
المسألة الثانية ظاهر الآية يدل على أن بعض المنافقين عاهد الله في أنه لو آتاه مالاً لصرف بعضه إلى مصارف الخيرات ثم إنه تعالى آتاه المال وذلك الإنسان ما وفى بذلك العهد وههنا سؤالات
السؤال الأول المنافق كافر والكافر كيف يمكنه أن يعاهد الله تعالى
والجواب المنافق قد يكون عارفاً بالله إلا أنه كان منكراً لنبوة محمد عليه السلام فلكونه عارفاً بالله يمكنه أن يعاهد الله ولكونه منكراً لنبوة محمد عليه الصلاة والسلام كان كافراً وكيف لا أقول ذلك وأكثر هذا العالم مقرون بوجود الصانع القادر ويقل في أصناف الكفار من ينكره والكل معترفون بأنه تعالى هو الذي يفتح على الإنسان أبواب الخيرات ويعلمون أنه يمكن التقرب إليه بالطاعات وأعمال البر والإحسان إلى الخلق فهذه أمور متفق عليها بين الأكثرين وأيضاً فلعله حين عاهد الله تعالى بهذا العهد كان مسلماً ثم لما بخل بالمال ولم يف بالعهد صار منافقاً ولفظ الآية مشعر بما ذكرناه حيث قال فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً
السؤال الثاني هل من شرط هذه المعاهدة أن يحصل التلفظ بها باللسان أو لا حاجة إلى التلفظ حتى لو نواه بقلبه دخل تحت هذه المعاهدة
الجواب منهم من قال كل ما ذكره باللسان أو لم يذكره ولكن نواه بقلبه فهو داخل في هذا العهد يروى عن المعتمر بن سليمان قال أصابتنا ريح شديدة في البحر فنذر قوم منا أنواعاً من النذور ونويت أنا شيئاً وما تكلمت به فلما قدمت البصرة سألت أبي فقال يا بني ف به وقال أصحاب هذا القول إن قوله وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ كان شيئاً نووه في أنفسهم ألا ترى أنه تعالى قال أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وقال المحققون هذه المعاهدة مقيدة بما إذا حصل التلفظ بها باللسان والدليل عليه قوله عليه السلام ( إن الله عفا عن أمتي ما حدثت به نفوسها ولم يتلفظوا به ) أو لفظ هذا معناه وأيضاً فقوله تعالى وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ ءاتَانَا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ إخبار عن تكلمه بهذا القول وظاهره مشعر بالقول باللسان
السؤال الثالث قوله لَنَصَّدَّقَنَّ المراد منه إخراج مال ثم إن إخراج المال على قسمين قد يكون واجباً وقد يكون غير واجب والواجب قسمان قسم وجب بإلزام الشرع ابتداء كإخراج الزكاة الواجبة وإخراج النفقات الواجبة وقسم لم يجب إلا إذا التزمه العبد من عند نفسه مثل النذور
إذا عرفت هذه الأقسام الثلاثة فقوله لَنَصَّدَّقَنَّ هل يتناول الأقسام الثلاثة أو ليس الأمر كذلك
والجواب قلنا أما الصدقات التي لا تكون واجبة فغير داخلة تحت هذه الآية والدليل عليه أنه تعالى وصفه بقوله بَخِلُواْ بِهِ والبخل في عرف الشرع عبارة عن منع الواجب وأيضاً أنه تعالى ذمهم بهذا الترك وتارك المندوب لا يستحق الذم وأما القسمان الباقيان فالذي يجب بإلزام الشرع داخل تحت الآية

لا محالة وهو مثل الزكوات والمال الذي يحتاج إلى إنفاقه في طريق الحج والغزو والمال الذي يحتاج إليه في النفقات الواجبة
بقي أن يقال هل تدل هذه الآية على أن ذلك القائل كان قد التزم إخراج مال على سبيل النذر والأظهر أن اللفظ لا يدل عليه لأن المذكور في اللفظ ليس إلا قوله لَئِنْ ءاتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وهذا لا يشعر بالنذر لأن الرجل قد يعاهد ربه في أن يقوم بما يلزمه من الإنفاقات الواجبة إن وسع الله عليه فدل هذا على أن الذي لزمهم إنما لزمهم بسبب هذا الالتزام والزكاة لا تلزم بسبب هذا الالتزام وإنما تلزم بسبب ملك النصاب وحولان الحول
قلنا قوله لَنَصَّدَّقَنَّ لا يوجب أنهم يفعلون ذلك على الفور لأن هذا إخبار عن إيقاع هذا الفعل فس المستقبل وهذا القدر لا يوجب الفور فكأنهم قالوا لنصدقن في وقت كما قالوا وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ أي في أوقات لزوم الصلاة فخرج من التقدير الذي ذكرناه أن الداخل تحت هذا العهد إخراج الأموال التي يجب إخراجها بمقتضى إلزام الشرع ابتداء ويتأكد ذلك بما روينا أن هذه الآية إنما نزلت في حق من امتنع من أداء الزكاة فكأنه تعالى بين من حال هؤلاء المنافقين أنهم كما ينافقون الرسول والمؤمنين فكذلك ينافقون ربهم فيما يعاهدونه عليه ولا يقومون بما يقولون والغرض منه المبالغة في وصفهم بالنفاق وأكثر هذه الفصول من كلام القاضي
السؤال الرابع ما المراد من الفضل في قوله لَئِنْ ءاتَانَا مِن فَضْلِهِ
والجواب المراد إيتاء المال بأي طريق كان سواء كان بطريق التجارة أو بطريق الاستنتاج أو بغيرهما
السؤال الخامس كيف اشتقاق لَنَصَّدَّقَنَّ
الجواب قال الزجاج الأصل لنتصدقن ولكن التاء أدغمت في الصاد لقربها منها قال الليث المصدق المعطي والمتصدق السائل قال الأصمعي والفراء هذا خطأ فالمتصدق هو المعطي قال تعالى وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِى الْمُتَصَدّقِينَ
السؤال السادس ما المراد من قوله وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ
الجواب الصالح ضد المفسد والمفسد عبارة عن الذي بخل بما يلزمه في التكليف فوجب أن يكون الصالح عبارة عما يقوم بما يلزمه في التكليف قال ابن عباس رضي الله عنهما كان ثعلبة قد عاهد الله تعالى لئن فتح الله عليه أبواب الخير ليصدقن وليجعن وأقول التقييد لا دليل عليه بل قوله لَنَصَّدَّقَنَّ إشارة إلى إخراج الزكاة الواجبة وقوله وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ إشارة إلى إخراج كل مال يجب إخراجه على الإطلاق
ثم قال تعالى فَلَمَّا ءاتَاهُمْ مّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ وهذا يدل على أنه تعالى وصفهم بصفات ثلاثة
الصفة الأولى البخل وهو عبارة عن منع الحق

والصفة الثانية التولي عن العهد
والصفة الثالثة الإعراض عن تكاليف الله وأوامره
ثم قال تعالى فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِى قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فعل ولا بد من إسناده إلى شيء تقدم ذكره والذي تقدم ذكره هو الله جل ذكره والمعاهدة والتصدق والصلاح والبخل والتولي والإعراض ولا يجوز إسناد أعقاب النفاق إلى المعاهدة أو التصدق أو الصلاح لأن هذه الثلاثة أعمال الخير فلا يجوز جعلها مؤثره في حصول النفاق ولا يجوز إسناد هذا الإعقاب إلى البخل والتولي والإعراض لأن حاصل هذه الثلاثة كونه تاركاً لأداء الواجب وذلك لا يمكن جعله مؤثراً في حصول النفاق في القلب لأن ذلك النفاق عبارة عن الكفر وهو جهل وترك بعض الواجب لا يجوز أن يكون مؤثراً في حصول الجهل في القلب أما أولاً فلأن ترك الواجب عدم والجهل وجود العدم لا يكون مؤثراً في الوجود وأما ثانياً فلأن هذا البخل والتولي والإعراض قد يوجد في حق كثير من الفساق مع أنه لا يحصل معه النفاق وأما ثالثاً فلأن هذا الترك لو أوجب حصول الكفر في القلب لأوجبه سواء كان هذا الترك جائزاً شرعاً أو كان محرماً شرعاً لأن سبب اختلاف الأحكام الشرعية لا يخرج المؤثر عن كونه مؤثراً وأما رابعاً فلأنه تعالى قال بعد هذه الآية بِمَا أَخْلَفُواْ اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ فلو كان فعل الأعقاب مسند إلى البخل والتولي والإعراض لصار تقدير الآية فأعقبهم بخلهم وإعراضهم وتوليهم نفاقاً في قلوبهم بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون وذلك لا يجوز لأنه فرق بين التولي وحصول النفاق في القلب بسبب التولي ومعلوم أنه كلام باطل فثبت بهذه الوجوه أنه لا يجوز إسناد هذا الإعقاب إلى شيء من الأشياء التي تقدم ذكرها إلا إلى الله سبحانه فوجب إسناده إليه فصار المعنى أنه تعالى هو الذي يعقب النفاق في قلوبهم وذلك يدل على أن خالق الكفر في القلوب هو الله تعالى وهذا هو الذي قال الزجاج إن معناه أنهم لما ضلوا في الماضي فهو تعالى أضلهم عن الدين في المستقبل والذي يؤكد القول بأن قوله فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً مسند إلى الله جل ذكره أنه قال إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ والضمير في قوله تعالى يَلْقَوْنَهُ عائد إلى الله تعالى فكان الأولى أن يكون قوله فَأَعْقَبَهُمْ مسنداً إلى الله تعالى قال القاضي المراد من قوله فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِى قُلُوبِهِمْ أي فأعقبهم العقوبة على النفاق وتلك العقوبة هي حدوث الغم في قلوبهم وضيق الصدر وما ينالهم من الذل والذم ويدوم ذلك بهم إلى الآخرة قلنا هذا بعيد لأنه عدول عن الظاهر من غير حجة ولا شبهة فإن ذكر أن الدلائل العقلية دلت على أن الله تعالى لا يخلق الكفر قابلنا دلائلهم بدلائل عقلية لو وضعت على الجبال الراسيات لاندكت
المسألة الثانية قال الليث يقال أعقبت فلاناً ندامة إذا صيرت عاقبة أمره ذلك قال الهذلي أودى بني وأعقبوني حسرة
بعد الرقاد وعبرة لا تقلع
ويقاتل أكل فلان أكلة أعقبته سقماً وأعقبه الله خيراً وحاصل الكلام فيه أنه إذا حصل شيء عقيب شيء آخر يقال أعقبه الله
المسألة الثالثة ظاهر هذه الآية يدل على أن نقض العهد وخلف الوعد يورث النفاق فيجب على المسلم أن يبالغ في الاحتراز عنه فإذا عاهد الله في أمر فليجتهد في الوفاء به ومذهب الحسن البصري رحمة

الله أنه يوجب النفاق لا محالة وتمسك فيه بهذه الآية وبقوله عليه السلام ( ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صلى وصام وزعم أنه مؤمن إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن حان ) وعن النبي عليه السلام ( تقبلوا لي ستاً أتقبل لكم الجنة إذا حدثتم فلا تكذبوا وإذا وعدتم فلا تخلفوا وإذا ائتمنتم فلا تخونوا وكفوا أبصاركم وأيديكم وفروجكم أبصاركم عن الخيانة وأيديكم عن السرقة وفروجكم عن الزنا ) قال عطاء بن أبي رباح حدثني جابر بن عبد الله أنه ( صلى الله عليه وسلم ) إنما ذكر قوله ثلاث من كن فيه فهو منافق في المنافقين خاصة الذين حدثوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فكذبوه وائتمنهم على سره فخانوه ووعدوا أن يخرجوا معه فأخلفوه ونقل أن عمرو بن عبيد فسر الحديث فقال إذا حدث عن الله كذب عليه وعلى دينه ورسوله وإذا وعد أخلف كما ذكره فيمن عاهد الله وإذا ائتمن على دين الله خان في السر فكان قلبه على خلاف لسانه ونقل أن واصل بن عطاء قال أتى الحسن رجل فقال له إن أولاد يعقوب حدثوه في قولهم أكله الذئب وكذبوه ووعدوه في قولهم وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ فأخلفوه وائتمنهم أبوهم على يوسف فخانوه فهل نحكم بكونهم منافقين فتوقف الحسن رحمه الله
المسألة الرابعة إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ يدل على أن ذلك المعاهد مات منافقاً وهذا الخبر وقع مخبره مطابقاً له فإنه روي أن ثعلبة أتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بصدقته فقال إن الله تعالى منعني أن أقبل صدقتك وبقي على تلك الحالة وما قبل صدقته أحد حتى مات فدل على أن مخبر هذا الخبر وقع موافقاً فكان إخباراً عن الغيب فكان معجزاً
المسألة الخامسة قال الجبائي إن المشبهة تمسكوا في إثبات رؤية الله تعالى بقوله تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ قال واللقاء ليس عبارة عن الرؤية بدليل أنه قال في صفة المنافقين إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ وأجمعوا على أن الكفار لا يرونه فهذا يدل على أن اللقاء ليس عبارة عن الرؤية قال والذي يقويه قوله عليه السلام ( من حلف على يمين كاذبة ليقطع بها حق امرىء مسلم لقي الله وهو عليه غضبان ) وأجمعوا على أن المراد من اللقاء ههنا لقاء ما عند الله من العقاب فكذا ههنا والقاضي استحسن هذا الكلام وأقول أنا شديد التعجب من أمثال هؤلاء الأفاضل كيف قنعت نفوسهم بأمثال هذه الوجوه الضعيفة ا وذلك لأنا تركنا حمل لفظ اللقاء على الرؤية في هذه الآية وفي هذا الخبر لدليل منفصل فلم يلزمنا ذلك في سائر الصور ألا ترى أنا لما أدخلنا التخصيص في بعض العمومات لدليل منفصل لم يلزمنا مثله في جميع العمومات أن نخصصها من غير دليل فكما لا يلزم هذا لم يلزم ذلك فإن قال هذا الكلام إنما يقوى لو ثبت أن اللقاء في اللغة عبارة عن الرؤية وذلك ممنوع فنقول لا شك أن اللقاء عبارة عن الوصول ومن رأى شيئاً فقد وصل إليه فكانت الرؤية لقاء كما أن الإدراك هو البلوغ قال تعالى قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ( الشعراء 61 ) أي لملحقون ثم حملناه على الرؤية فكذا ههنا ثم نقول لا شك أن اللقاء ههنا ليس هو الرؤية بل المقصود أنه تعالى فِى قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ أي حكمه وقضاءه وهو كقول الرجل ستلقى عملك غداً أي تجازى عليه قال تعالى بِمَا أَخْلَفُواْ اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ والمعنى أنه تعالى عاقبهم بتحصيل ذلك النفاق في قلوبهم لأجل أنهم أقدموا قبل ذلك على خلف الوعد وعلى الكذب

ثم قال تعالى أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ والسر ما ينطوي عليه صدورهم والنجوى ما يفاوض فيه بعضهم بعضاً فيما بينهم وهو مأخوذ من النجوة وهو الكلام الخفي كأن المتناجيين منعا إدخال غيرهما معهما وتباعدا من غيرهما ونظيره قوله تعالى وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً ( مريم 52 ) وقوله فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّا ( يوسف 80 ) وقوله فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَتَنَاجَوْاْ بِالْبِرّ وَالتَّقْوَى ( المجادلة 9 ) وقوله إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَى ْ نَجْواكُمْ صَدَقَة ً ( المجادلة 12 )
إذا عرفت الفرق بين السر والنجوى فالمقصود من الآية كأنه تعالى قال ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم يكفي يتجرؤن على النفاق الذي الأصل فيه الاستسرار والتناجي فيما بينهم مع علمهم بأنه تعالى يعلم ذلك من حالهم كما يعلم الظاهر وأنه يعاقب عليه كما يعاقب على الظاهر
ثم قال وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ والعلام مبالغة في العالم والغيب ما كان غائباً عن الخلق والمراد أنه تعالى ذاته تقتضي العلم بجميع الأشياء فوجب أن يحصل له العلم بجميع المعلومات فيجب كونه عالماً بما في الضمائر والسرائر فكيف يمكن الأخفاء منه ونظير لفظ علام الغيوب ههنا قول عيسى عليه السلام إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ( المائدة 116 ) فأما وصف الله بالعلامة فإنه لا يجوز لأنه مشعر بنوع تكلف فيها يعلم والتكلف في حق الله محال
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
اعلم أن هذا نوع آخر من أعمالهم القبيحة وهو لمزهم من يأتي بالصدقات طوعاً وطبعاً قال ابن عباس رضي الله عنهما إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خطبهم ذات يوم وحث على أن يجمعوا الصدقات فجاءه عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم وقال كان لي ثمانية آلاف درهم فأمسكت لنفسي وعيالي أربعة وهذه الأربعة أقرضتها ربي فقال بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت قيل قبل الله دعاء الرسول فيه حتى صالحت امرأته ناضر عن ربع الثمن على ثمانين ألفاً وجاء عمر بنحو ذلك وجاء عاصم بن عدي الأنصاري بسبعين وسقاً من تمر الصدقة وجاء عثمان بن عفان بصدقة عظيمة وجاء أبو عقيل بصاع من تمر وقال آجرت الليلة الماضية نفسي من رجل لإرسال الماء إلى نخيله فأخذت صاعين من تمر فأمسكت أحدهما لعيالي وأقرضت الآخر ربي فأمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بوضعه في الصدقات فقال المنافقون على وجه الطعن ما جاؤوا بصدقاتهم إلا رياء وسمعة وأما أبو عقيل فإنما جاء بصاعه ليذكر مع سائر الأكابر والله غني عن صاعه فأنزل الله تعالى هذه الآية والكلام في تفسير اللمز مضى عند قوله وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ والمطوعون المتطوعون والتطوع التنفل وهو الطاعة لله تعالى بما ليس بواجب وسبب إدغام التاء في الطاء قرب المخرج قال الليث الجهد شيء قليل يعيش به المقل قال الزجاج إِلاّ

َ جُهْدَهُمْ وجهدهم بالضم والفتح قال الفراء الضم لغة أهل الحجاز والفتح لغيرهم وحكى ابن السكيت عنه الفرق بينهما فقال الجهد الطاقة تقول هذا جهدي أي طاقتي
إذا عرفت هذا فالمراد بالمطوعين في الصدقات أولئك الأغنياء الذين أتوا بالصدقات الكثيرة وبقوله وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ أبو عقيل حيث جاء بالصاع من التمر ثم حكى عن المنافقين أنهم يسخرون منهم ثم بين أن الله تعالى سخر منهم
واعلم أن إخراج المال لطلب مرضاة الله قد يكون واجباً كما في الزكوات وسائر الإنفاقات الواجبة وقد يكون نافلة وهو المراد من هذه الآية ثم الآتي بالصدقة النافلة قد يكون غنياً فيأتي بالكثير كعبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان وقد يكون فقيراً فيأتي بالقليل وهو جهد المقل ولا تفاوت بين البابين في استحقاق الثواب لأن المقصود من الأعمال الظاهرة كيفية النية واعتبار حال الدواعي والصوارف فقد يكون القليل الذي يأتي به الفقير أكثر موقعاً عند الله تعالى من الكثير الذي يأتي به الغني ثم إن أولئك الجهال من المنافقين ما كان يتجاوز نظرهم عن ظواهر الأمور فعيروا ذلك الفقير الذي جاء بالصدقة القليلة وذلك التعيير يحتمل وجوهاً الأول أن يقولوا إنه لفقره محتاج إليه فكيف يتصدق به إلا أن هذا من موجبات الفضيلة كما قال تعالى وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة ٌ ( الحشر 9 ) وثانيها أن يقولوا أي أثر لهذا القليل وهذا أيضاً جهل لأن هذا الرجل لما لم يقدر إلا عليه فإذا جاء به فقد بذل كل ما يقدر عليه فهو أعظم موقعاً عند الله من عمل غيره لأنه قطع تعلق قلبه عما كان في يده من الدنيا واكتفى بالتوكل على المولى وثالثها أن يقولوا إن هذا الفقير إنما جاء بهذا القليل ليضم نفسه إلى الأكابر من الناس في هذا المنصب وهذا أيضاً جهل لأن سعى الإنسان في أن يضم نفسه إلى أهل الخير والدين خير له من أن يسعى في أن يضم نفسه إلى أهل الكسل والبطالة
وأما قوله سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ فقد عرفت القانون في هذا الباب وقال الأصم المراد أنه تعالى قبل من هؤلاء المنافقين ما أظهروه من أعمال البر مع أنه لا يثيبهم عليها فكان ذلك كالسخرية
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّة ً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذالِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس رضي الله عنهما إن عند نزول الآية الأولى في المنافقين قالوا يا رسول الله استغفر لنا فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سأستغفر لكم وأشتغل بالاستغفار لهم فنزلت هذه الآية فترك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الاستغفار وقال الحسن كانوا يأتون رسول الله فيعتذرون إليه ويقولون إن أردنا إلا الحسنى وما أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً فنزلت هذه الآية وروى الأصم أنه كان عبد الله بن أبي بن سلول إذا خطب

الرسول قام وقال هذا رسول الله أكرمه الله وأعزه ونصره فلما قام ذلك ذلك المقام بعد أحد قال له عمر اجلس يا عدو الله فقد ظهر كفرك وجبهه الناس من كل جهة فخرج من المسجد ولم يصل فلقيه رجل من قومه فقال له ما صرفك فحكى القصة فقال ارجع إلى رسول الله يستغفر لك فقال ما أبالي أستغفر لي أو لم يستغفر لي فنزل وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْاْ رُؤُوسَهُمْ ( المنافقون 5 ) وجاء المنافقون بعد أحد يعتذرون ويتعللون بالباطل أن يستغفر هم
المسألة الثانية إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّة ً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ وروى الشعبي قال دعا عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى جنازة أبيه فقال له عليه السلام ( من أنت ) فقال أنا الحباب بن عبد الله قال بل أنت عبد الله بن عبد الله إن الحباب هو الشيطان ثم قرأ هذه الآية قال القاضي ظاهر قوله اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ كالدلالة على طلب القوم منه الاستغفار وقد حكيت ما روي فيه من الأخبار والأقرب في تعلق هذه الآية بما قبلها ما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما أن الذين كانوا يلمزون هم الذين طلبوا الاستغفار فنزلت هذه الآية
المسألة الثالثة من الناس من قال إن التخصيص بالعدد المعين يدل على أن الحال فيما وراء ذلك العدد بخلافه وهو مذهب القائلين بدليل الخطاب قالوا والدليل عليه أنه لما نزل قوله تعالى إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّة ً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ قال عليه السلام ( والله لأزيدن على السبعين ) ولم ينصرف عنه حتى نزل قوله تعالى سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ( المنافقون 6 ) الآية فكف عنهم
ولقائل أن يقول هذا الاستدلال بالعكس أولى لأنه تعالى لما بين للرسول عليه السلام أنه لا يغفر لهم ألبتة ثبت أن الحال فيما وراء العدد المذكور مساو للحال في العدد المذكور وذلك يدل على أن التقييد بالعدد لا يوجب أن يكون الحكم فيما وراءه بخلافه
المسألة الرابعة من الناس من قال إن الرسول عليه السلام اشتغل بالاستغفار للقوم فمنعه الله منه ومنهم من قال إن المنافقين طلبوا من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يستغفر لهم فالله تعالى نهاه عنه والنهي عن الشيء لا يدل على كون المنهي مقدماً على ذلك الفعل وإنما قلنا إنه عليه السلام ما اشتغل بالاستغفار لهم لوجوه الأول أن المنافق كافر وقد ظهر في شرعه عليه السلام أن الاستغفار للكافر لا يجوز ولهذا السبب أمر الله رسوله بالاقتداء بإبراهيم عليه السلام إلا في قوله لأبيه لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ( الممتحنة 4 ) وإذا كان هذا مشهوراً في الشرع فكيف يجوز الإقدام عليه الثاني أن استغفار الغير للغير لا ينفعه إذا كان ذلك الغير مصراً على القبح والمعصية الثالث أن إقدامه على الاستغفار للمنافقين يجري مجرى إغرائهم بالإقدام على الذنب الرابع أنه تعالى إذا كان لا يجيبه إليه بقي دعاء الرسول عليه السلام مردوداً عند الله وذلك يوجب نقصان منصبه الخامس أن هذا الدعاء لو كان مقبولاً من الرسول لكان قليله مثل كثيره في حصول الإجابة فثبت أن المقصود من هذا الكلام أن القوم لما طلبوا منه أن يستغفر لهم منعه الله منه وليس المقصود من ذكر هذا العدد تحديد المنع بل هو كما يقول القائل لمن سأله الحاجة لو سألتني سبعين مرة لم أقضها لك ولا يريد بذلك أنه إذا زاد قضاها فكذا ههنا والذي يؤكد ذلك قوله تعالى في الآية ذالِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ فبين أن العلة التي لأجلها لا ينفعهم استغفار الرسول وإن بلغ سبعين مرة

كفرهم وفسقهم وهذا المعنى قائم في الزيادة على السبعين فصار هذا التعليل شاهداً بأن المراد إزالة الطمع في أن ينفعهم استغفار الرسول عليه السلام مع إصرارهم على الكفر ويؤكده أيضاً قوله تعالى وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ والمعنى أن فسقهم مانع من الهداية فثبت أن الحق ما ذكرناه
المسألة الخامسة قال المتأخرون من أهل التفسير السبعون عند العرب غاية مستقصاة لأنه عبارة عن جميع السبعة عشر مرات والسبعة عدد شريف لأن عدد السموات والأرض والبحار والأقاليم والنجوم والأعضاء هو هذا العدد وقال بعضهم هذا العدد إنما خص بالذكر ههنا لأنه روى أن النبي عليه السلام كبر على حمزة سبعين تكبيرة فكأنه قيل إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّة ً عَزِيزٌ حَكِيمٌ مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّة ٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلّ سُنبُلَة ٍ مّاْئَة ُ حَبَّة ٍ ( البقرة 261 ) وقال عليه السلام ( الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ) فلما ذكر الله تعالى هذا العدد في معرض التضعيف لرسوله صار أصلاً فيه
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِى الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ
اعلم أن هذا نوع آخر من قبائح أعمال المنافقين وهو فرحهم بالقعود وكراهتهم الجهاد قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد المنافقين الذين تخلفوا عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في غزوة تبوك والمخلف المتروك ممن مضى
فإن قيل إنهم احتالوا حتى تخلفوا فكان الأولى أن يقال فرح المتخلفون
والجواب من وجوه الأول أن الرسول عليه السلام منع أقواماً من الخروج معه لعلمه بأنهم يفسدون ويشوشون فهؤلاء كانوا مخلفين لا متخلفين والثاني أن أولئك المتخلفين صاروا مخلفين في الآية التي تأتي بعد هذه الآية وهي قوله فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَة ٍ مّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِى َ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِى َ عَدُوّا ( التوبة 83 ) فلما منعهم الله تعالى من الخروج معه صاروا بهذا السبب مخلفين الثالث أن من يتخلف عن الرسول عليه السلام بعد خروجه إلى الجهاد مع المؤمنين يوصف بأنه مخلف من حيث لم ينهض فبقي وأقام وقوله بِمَقْعَدِهِمْ قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد المدينة فعلى هذا المقعد اسم للمكان وقال مقاتل بِمَقْعَدِهِمْ بقعودهم وعلى هذا هو اسم للمصدر وقوله خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ فيه قولان الأول وهو قول قطرب والمؤرج والزجاج يعني مخالفة لرسول الله حين سار وأقاموا

قالوا وهو منصوب لأنه مفعول له والمعنى بأن قعدوا لمخالفة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والثاني قال الأخفش إن خِلَافٍ بمعنى خلف وأن يونس رواه عن عيسى بن عمر ومعناه بعد رسول الله ويقوي هذا الوجه قراءة من قرأ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وعلى هذا القول الخلاف اسم للجهة المعينة كالخلف والسبب فيه أن الإنسان متوجه إلى قدامه فجهة خلفه مخالفة لجهة قدامه في كونها جهة متوجهاً إليها وخلاف بمعنى خلف مستعمل أنشد أبو عبيدة للأحوص عقب الربيع خلافهم فكأنما
بسط الشواطب بينهن حصيرا
وقوله وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ والمعنى أنهم فرحوا بسبب التخلف وكرهوا الذهاب إلى الغزو
واعلم أن الفرح بالإقامة على كراهة الذهاب إلا أنه تعالى أعاده للتأكيد وأيضاً لعل المراد أنه مال طبعه إلى الإقامة لأجل إلفه تلك البلدة واستئناسه بأهله وولده وكره الخروج إلى الغزو لأنه تعريض للمال والنفس للقتل والإهدار وأيضاً مما منعهم من ذلك الخروج شدة الحر في وقت خروج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو المراد من قوله وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِى الْحَرّ
فأجاب الله تعالى عن هذا السبب الأخير بقوله قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ أي إن بعد هذه الدار داراً أخرى وإن بعد هذه الحياة حياة أخرى وأيضاً هذه مشقة منقضية وتلك مشقة باقية وروى صاحب ( الكشاف ) لبعضهم مسرة أحقاب تلقيت بعدها
مساءة يوم أنها شبه أنصاب
فكيف بأن تلقى مسرة ساعة
وراء تقضيها مساءة أحقاب
ثم قال تعالى فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا وهذا وإن ورد بصيغة الأمر إلا أن معناه الإخبار بأنه ستحصل هذه الحالة والدليل عليه قوله بعد ذلك جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ومعنى الآية أنهم وإن فرحوا وضحكوا في كل عمرهم فهذا قليل لأن الدنيا بأسرها قليلة وأما حزنهم وبكاؤهم في الآخرة فكثير لأنه عقاب دائم لا ينقطع والمنقطع بالنسبة إلى الدائم قليل فلهذا المعنى قال فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا قال الزجاج قوله جَزَاء مفعول له والمعنى وليبكوا لهذا الغرض وقوله بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ أي في الدنيا من النفاق واستدلال المعتزلة بهذه الآية على كون العبد موجداً لأفعاله وعلى أنه تعالى لو أوصل الضرر إليهم ابتداء لا بواسطة كسبهم لكان ظالماً مشهور وقد تقدم الرد عليهم قبل ذلك مراراً تغني عن الإعادة
فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَآئِفَة ٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِى َ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِى َ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّة ٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ

واعلم أنه تعالى لما بين مخازي المنافقين وسوء طريقتهم بين بعد ما عرف به الرسول أن الصلاح في أن لا يستصحبهم في غزواته لأن خروجهم معه يوجب أنواعاً من الفساد فقال فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ طَّائِفَة ٌ مّنْهُمْ أي من المنافقين فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِى َ أَبَدًا قوله فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ يريد إن ردك الله إلى المدينة ومعنى الرجع مصير الشيء إلى المكان الذي كان فيه يقال رجعته رجعاً كقولك رددته رداً وقوله إِلَى طَائِفَة ٍ مّنْهُمْ إنما خصص لأن جميع من أقام بالمدينة ما كانوا منافقين بل كان بعضهم مخلصين معذورين وقوله فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ أي للغزو معك فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِى َ أَبَدًا إلى غزوة وهذا يجري مجرى الذم واللعن لهم ومجري إظهار نفاقهم وفضائحهم وذلك لأن ترغيب المسلمين في الجهاد أمر معلوم بالضرورة من دين محمد عليه السلام ثم إن هؤلاء إذا منعوا من الخروج إلى الغزو بعد إقدامهم على الاستئذان كان ذلك تصريحاً بكونهم خارجين عن الإسلام موصوفين بالمكر والخداع لأنه عليه السلام إنما منعهم من الخروج حذراً من مكرهم وكيدهم وخداعهم فصار هذا المعنى من هذا الوجه جارياً مجرى اللعن والطرد ونظيره قوله تعالى سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ( الفتح 15 ) إلى قوله قُل لَّن تَتَّبِعُونَا ثم إنه تعالى علل ذلك المنع بقوله إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّة ٍ والمراد منه القعود عن غزوة تبوك يعني أن الحاجة في المرة الأولى إلى موافقتكم كانت أشد وبعد ذلك زالت تلك الحاجة فلما تخلفتم عند مسيس الحاجة إلى حضوركم فعند ذلك لا نقبلكم ولا نلتفت إليكم وفي اللفظ بحث ذكره صاحب ( الكشاف ) وهو أن قوله مَرَّة ٍ في أَوَّلَ مَرَّة ٍ وضعت موضع المرات ثم أضيف لفظ الأول إليها وهو دال على واحدة من المرات فكان الأولى أن يقال أولى مرة
وأجاب عنه بأن أكثر اللغتين أن يقال هند أكبر النساء ولا يقال هند كبرى النساء
ثم قال تعالى فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ ذكروا في تفسير الخالف أقوالاً الأول قال الأخفش وأبو عبيدة الخالفون جمع واحدهم خالف وهو من يخلف الرجل في قومه ومعناه مع الخالفين من الرجال الذين يخلفون في البيت فلا يبرحون والثاني أن الخالفين مفسر بالمخالفين قال الفراء يقال عبد خالف وصاحب خالف إذا كان مخالفاً وقال الأخفش فلان خالفة أهل بيته إذا كان مخالفاً لهم وقال الليث هذا الرجل خالفة أي مخالف كثير الخلاف وقوم خالفون فإذا جمعت قلت الخالفون
والقول الثالث الخالف هو الفاسد قال الأصمعي يقال خلف عن كل خير يخلف خلوفاً إذا فسد وخلف اللبن وخلف النبيذ إذا فسد
وإذا عرفت هذه الوجوه الثلاثة فلا شك أن اللفظ يصلح حمله على كل واحد منها لأن أولئك المنافقين كانوا موصوفين بجميع هذه الصفات
واعلم أن هذه الآية تدل على أن الرجل إذا ظهر له من بعض متعلقيه مكر وخداع وكيد ورآه مشدداً فيه مبالغاً في تقرير موجباته فإنه يجب عليه أن يقطع العلقة بينه وبينه وأن يحترز عن مصاحبته
وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ

اعلم أنه تعالى أمر رسوله بأن يسعى في تخذيلهم وإهانتهم وإذلالهم فالذي سبق ذكره في الآية الأولى وهو منعهم من الخروج معه إلى الغزوات سبب قوى من أسباب إذلالهم وإهانتهم وهذا الذي ذكره في هذه الآية وهو منع الرسول من أن يصلي على من مات منهم سبب آخر قوي في إذلالهم وتخذيلهم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه لما اشتكى عبد الله بن أبي بن سلول عاده رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فطلب منه أن يصلي عليه إذا مات ويقوم على قبره ثم إنه أرسل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام يطلب منه قميصه ليكفن فيه فأرسل إليه القميص الفوقاني فرده وطلب الذي يلي جلده ليكفن فيه فقال عمر رضي الله عنه لم تعطي قميصك الرجس النجس فقال عليه الصلاة والسلام ( إن قميصي لا يغني عنه من الله شيئاً فلعل الله أن يدخل به ألفاً في الإسلام ) وكان المنافقون لا يفارقون عبد الله فلما رأوه يطلب هذا القميص ويرجو أن ينفعه أسلم منهم يومئذ ألف فلما مات جاء ابنه يعرفه فقال عليه الصلاة والسلام لابنه ( صل عليه وادفنه ) فقال إن لم تصل عليه يا رسول الله لم يصل عليه مسلم فقام عليه الصلاة والسلام ليصلي عليه فقام عمر فحال بين رسول الله وبين القبلة لئلا يصلي عليه فنزلت هذه الآية وأخذ جبريل عليه السلام بثوبه وقال وَلاَ تُصَلّ عَلَى أَحَدٍ مّنْهُم مَّاتَ أَبَداً واعلم أن هذا يدل على منقبة عظيمة من مناقب عمر رضي الله عنه وذلك لأن الوحي نزل على وفق قوله في آيات كثيرة منها آية أخذ الفداء عن أسارى بدر وقد سبق شرحه وثانيها آية تحريم الخمر وثالثها آية تحويل القبلة ورابعها آية أمر النسوان بالحجاب وخامسها هذه الآية فصار نزول الوحي على مطابقة قول عمر رضي الله عنه منصباً عالياً ودرجة رفيعة له في الدين فلهذا قال عليه الصلاة والسلام في حقه ( لو لم أبعث لبعثت يا عمر نبياً )
فإن قيل كيف يجوز أن يقال إن الرسول رغب في أن يصلي عليه بعد أن علم كونه كافراً وقد مات على كفره وأن صلاة الرسول عليه تجري مجرى الإجلال والتعظيم له وأيضاً إذا صلى عليه فقد دعا له وذلك محظور لأنه تعالى أعلمه أنه لا يغفر للكفار البتة وأيضاً دفع القميص إليه يوجب إعزازه
والجواب لعل السبب فيه أنه لما طلب من الرسول أن يرسل إليه قميصه الذي مس جلده ليدفن فيه غلب على ظن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه انتقل إلى الإيمان لأن ذلك الوقت وقت يتوب فيه الفاجر ويؤمن فيه الكافر فلما رأى منه إظهار الإسلام وشاهد منه هذه الأمارة التي دلت على دخوله في الإسلام غلب على ظنه أنه صار مسلماً فبنى على هذا الظن ورغب في أن يصلي عليه فلما نزل جبريل عليه السلام وأخبره بأنه مات على كفره ونفاقه امتنع من الصلاة عليه وأما دفع القميص إليه فذكروا فيه وجوهاً الأول أن العباس عم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لما أخذ أسيراً ببدر لم يجدوا له قميصاً وكان رجلاً طويلاً فكساه عبد الله

قميصه الثاني أن المشركين قالوا له يوم الحديبية إنا لا ننقاد لمحمد ولكنا ننقاد لك فقال لا إن لي في رسول الله أسوة حسنة فشكر رسول الله له ذلك والثالث أن الله تعالى أمره أن لا يرد سائلاً بقوله وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ ( الضحى 10 ) فلما طلب القميص منه دفعه إليه لهذا المعنى الرابع أن منع القميص لا يليق بأهل الكرم الخامس أن ابنه عبد الله بن عبد الله بن أبي كان من الصالحين وأن الرسول أكرمه لمكان ابنه السادس لعل الله تعالى أوحى إليه أنك إذا دفعت قميصك إليه صار ذلك حاملاً لألف نفر من المنافقين في الدخول في الإسلام ففعل ذلك لهذا الغرض وروى أنهم لما شاهدوا ذلك أسلم ألف من المنافقين السابع أن الرحمة والرأفة كانت غالبة عليه كما قال وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَة ً لّلْعَالَمِينَ ( الأنبياء 107 ) وقال فَبِمَا رَحْمَة ٍ مّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ( آل عمران 159 ) فامتنع من الصلاة عليه رعاية لأمر الله تعالى ودفع إليه القميص لإظهار الرحمة والرأفة
إذا عرفت هذا فنقول قوله وَلاَ تُصَلّ عَلَى أَحَدٍ مّنْهُم مَّاتَ أَبَداً قال الواحدي مَّاتَ في موضع جر لأنه صفة للنكرة كأنه قيل على أحد منهم ميت وقوله أَبَدًا متعلق بقوله أَحَدٌ والتقدير ولا تصل أبداً على أحد منهم واعلم أن قوله ولا تصل أبداً يحتمل تأييد النفي ويحتمل تأييد المنفي والمقصود هو الأول لأن قرائن هذه الآيات دالة على أن المقصود منعه من أن يصلي على أحد منهم منعاً كلياً دائماً
ثم قال تعالى وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ وفيه وجهان الأول قال الزجاج كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا دفن الميت وقف على قبره ودعا له فمنع ههنا منه الثاني قال الكلبي لا تقم بإصلاح مهمات قبره وهو من قولهم قام فلان بأمر فلان إذا كفاه أمره وتولاه ثم إنه تعالى علل المنع من الصلاة عليه والقيام على قبره بقوله إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ وفيه سؤالات
السؤال الأول الفسق أدنى حالاً من الكفر ولما ذكر في تعليل هذا النهي كونه كافراً فما الفائدة في وصفه بعد ذلك بكونه فاسقاً
والجواب أن الكافر قد يكون عدلاً في دينه وقد يكون فاسقاً في دينه خبيثاً ممقوتاً عند قومه والكذب والنفاق والخداع والمكر والكيد أمر مستقبح في جميع الأديان فالمنافقون لما كانوا موصوفين بهذه الصفات وصفهم الله تعالى بالفسق بعد أن وصفهم بالكفر تنبيهاً على أن طريقة النفاق طريقة مذمومة عند كل أهل العالم
السؤال الثاني أليس أن المنافق يصلى عليه إذا أظهر الإيمان مع قيام الكفر فيه
والجواب أن التكاليف مبنية على الظاهر قال عليه الصلاة والسلام ( نحن نحكم بالظاهر والله تعالى يتولى السرائر )
السؤال الثالث قوله ذالِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ تصريح بكون ذلك النهي معللاً بهذه العلة وذلك يقتضي تعليل حكم الله تعالى وهو محال لأن حكم الله قديم وهذه العلة محدثة وتعليل القديم بالمحدث محال
والجواب الكلام في أن تعليل حكم الله تعالى بالمصالح هل يجوز أم لا بحث طويل ولا شك أن هذا الظاهر يدل عليه

وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِى الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ
اعلم أن هذه الآية قد سبق ذكرها بعينها في هذه السورة وذكرت ههنا وقد حصل التفاوت بينهما في ألفاظ فأولها في الآية المتقدمة قال فَلاَ تُعْجِبْكَ بالفاء وههنا قال وَلاَ تُعْجِبْكَ بالواو وثانيها أنه قال هناك أَمْوالُهُمْ وَلاَ أَوْلَادُهُمْ وههنا كلمة لا محذوفة وثالثها أنه قال هناك إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وههنا حذف اللام وأبدلها بكلمة ءانٍ ورابعها أنه قال هناك وَقَالَ إِنَّمَا وههنا حذف لفظ الحياة وقال فِى الدُّنْيَا فقد حصل التفاوت بين هاتين الآيتين من هذه الوجوه الأربعة فوجب علينا أن نذكر فوائد هذه الوجوه الأربعة في التفاوت ثم نذكر فائدة هذا التكرير
أما المقام الأول فنقول
أما النوع الأول من التفاوت وهو أنه تعالى ذكر قوله فَلاَ تُعْجِبْكَ بالفاء في الآية الأولى وبالواو في الآية الثانية فالسبب أن في الآية الأولى إنما ذكر هذه الآية بعد قوله وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ وصفهم بكونهم كارهين للإنفاق وإنما كرهوا ذلك الإنفاق لكونهم معجبين بكثرة تلك الأموال فلهذا المعنى نهاه الله عن ذلك الإعجاب بفاء التعقيب فقال فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلاَ أَوْلَادُهُمْ وأما ههنا فلا تعلق لهذا الكلام بما قبله فجاء بحرف الواو
وأما النوع الثاني وهوأنه تعالى قال في الآية الأولى فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلاَ أَوْلَادُهُمْ فالسبب فيه أن مثل هذا الترتيب يبتدأ بالأدون ثم يترقى إلى الأشرف فيقال لا يعجبني أمر الأمير ولا أمر الوزير وهذا يدل على أنه كان إعجاب أولئك الأقوام بأولادهم فوق إعجابهم بأموالهم وفي هذه الآية يدل على عدم التفاوت بين الأمرين عندهم
أما النوع الثالث وهو أنه قال هناك إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وههنا قال إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذّبَهُمْ فالفائدة فيه التنبيه على أن التعليل في أحكام الله تعالى محال وأنه أينما ورد حرف التعليل فمعناه ( أن ) كقوله وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ ( البينة 5 ) أي وما أمروا إلا بأن يعبدوا الله
وأما النوع الرابع وهو أنه ذكر في الآية الأولى وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ وههنا ذكر فِى الدُّنْيَا وأسقط لفظ الحياة تنبيهاً على أن الحياة الدنيا بلغت في الخسة إلى أنها لا تستحق أن تسمى حياة بل يجب الاقتصار عند ذكرها على لفظ الدنيا تنبيهاً على كمال دناءتها فهذه وجوه في الفرق بين هذه الألفاظ والعالم

بحقائق القرآن هو الله تعالى
وأما المقام الثاني وهو بيان حكمة التكرير فهو أن أشد الأشياء جذباً للقلوب وجلباً للخواطر إلى الاشتغال بالدنيا هو الاشتغال بالأموال والأولاد وما كان كذلك يجب التحذير عنه مرة بعد أخرى إلا أنه لما كان أشد الأشياء في المطلوبية والمرغوبية للرجل المؤمن هو مغفرة الله تعالى لا جرم أعاد الله قوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء في سورة النساء مرتين وبالجملة فالتكرير يكون لأجل التأكيد فههنا للمبالغة في التحذير وفي آية المغفرة للمبالغة في التفريح وقيل أيضاً إنما كرر هذا المعنى لأنه أراد بالآية الأولى قوماً من المنافقين لهم أموال وأولاد في وقت نزولها وأراد بهذه الآية أقواماً آخرين والكلام الواحد إذا احتيج إلى ذكره مع أقوام كثيرين في أوقات مختلفة لم يكن ذكره مع بعضهم مغنياً عن ذكره مع الآخرين
وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَة ٌ أَنْ ءَامِنُواْ بِاللَّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ الْقَاعِدِينَ رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ
واعلم أنه تعالى بين في الآيات المتقدمة أن المنافقين احتالوا في رخصة التخلف عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والقعود عن الغزو وفي هذه الآية زاد دقيقة أخرى وهي أنه متى نزلت آية مشتملة على الأمر بالإيمان وعلى الأمر بالجهاد مع الرسول استأذن أولو الثروة والقدرة منهم في التخلف عن الغزو وقالوا لرسول الله ذرنا نكن مع القاعدين أي مع الضعفاء من الناس والساكنين في البلد
أما قوله وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَة ٌ أَنْ ءامِنُواْ بِاللَّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ ففيه أبحاث
البحث الأول يجوز أن يراد بالسورة تمامها وأن يراد بعضها كما يقع القرآن والكتاب على كله وبعضه وقيل المراد بالسورة هي سورة براءة لأن فيها الأمر بالإيمان والجهاد
البحث الثاني قوله وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَة ٌ قال الواحدي موضع ءانٍ نصب بحذف حرف الجر والتقدير بأن آمنوا أي بالإيمان
البحث الثالث لقائل أن يقول كيف يأمر المؤمنين بالإيمان فإن ذلك يقتضي الأمر بتحصيل الحاصل وهو محال
أجابوا عنه بأن معنى أمر المؤمنين بالإيمان الدوام عليه والتمسك به في المستقبل وأقول لا حاجة إلى هذا الجواب فإن الأمر متوجه عليهم وإنما قدم الأمر بالإيمان على الأمر بالجهاد لأن التقدير كأنه قيل للمنافقين الإقدام على الجهاد قبل الإيمان لا يفيد فائدة أصلاً فالواجب عليكم أن تؤمنوا أولاً ثم تشتغلوا بالجهاد ثانياً حتى يفيدكم اشتغالكم بالجهاد فائدة في الدين ثم حكى تعالى أن عند نزول هذه السورة ماذا يقولون فقال اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ الْقَاعِدِينَ وفي أُوْلُواْ الطَّوْلِ قولان الأول قال ابن عباس والحسن المراد أهل السعة في المال الثاني قال الأصم يعني الرؤساء والكبراء المنظور إليهم وفي تخصيص أُوْلُواْ الطَّوْلِ بالذكر قولان الأول أن الذم لهم ألزم لأجل كونهم قادرين على السفر والجهاد والثاني أنه تعالى ذكر أولوا الطول لأن من لا مال له ولا قدرة على السفر لا يحتاج إلى الاستئذان

ثم قال تعالى رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوالِفِ وذكرنا الكلام المستقصى في الخالف في قوله فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ وههنا فيه وجهان الأول قال الفراء الْخَوَالِفِ عبارة عن النساء اللاتي تخلفن في البيت فلا يبرحن والمعنى رضوا بأن يكونوا في تخلفهم عن الجهاد كالنساء الثاني يجوز أيضاً أن يكون الخوالف جمع خالفة في حال والخالفة الذي هو غير نجيب قال الفراء ولم يأت فاعل صيغة جمعه فواعل إلا حرفان فارس وفوارس وهالك وهوالك والقول الأول أولى لأن أدل على القلة والذلة قال المفسرون وكان يصعب على المنافقين تشبيههم بالخواف
ثم قال وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ وقد عرفت أن الطبع والختم عبارة عندنا عن حصول الداعية القوية للكفر المانعة من حصول الإيمان وذلك لأن الفعل بدون الداعي لما كان محالاً فعند حصول الداعية الراسخة القوية للكفر صار القلب كالمطبوع على الكفر ثم حصول تلك الداعية إن كان من العبد لزم التسلسل وإن كان من الله فالمقصود حاصل وقال الحسن الطبع عبارة عن بلوغ القلب في الميل في الكفر إلى الحد الذي كأنه مات عن الإيمان وعند المعتزلة عبارة عن علامة تحصل في القلب والاستقصاء فيه مذكور في سورة البقرة في قوله خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وقوله فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ أي لا يفهمون أسرار حكمة الله في الأمر بالجهاد
لَاكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَائِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
واعلم أنه تعالى لما شرح حال المنافقين في الفرار عن الجهاد بين أن حال الرسول والذين آمنوا معه بالضد منه حيث بذلوا المال والنفس في طلب رضوان الله والتقرب إليه وقوله لَكِنِ فيه فائدة وهي أن التقدير أنه إن تخلف هؤلاء المنافقون عن الغزو فقد توجه من هو خير منهم وأخلص نية واعتقاداً كقوله فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً ( الأنعام 89 ) وقوله فَإِنِ اسْتَكْبَرُواْ فَالَّذِينَ عِندَ رَبّكَ ( فصلت 38 ) ولما وصفهم بالمسارعة إلى الجهاد ذكر ما حصل لهم من الفوائد والمنافع وهو أنواع أولها قوله وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ واعلم أن لفظ الخيرات يتناول منافع الدارين لأجل أن اللفظ مطلق وقيل الخَيْرَاتِ الحور لقوله تعالى فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسَانٌ ( الرحمن 70 ) وثانيها قوله وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فقوله لَهُمُ الْخَيْرَاتُ المراد منه الثواب وقوله هُمُ الْمُفْلِحُونَ المراد منه التخلص من العقاب والعذاب وثالثها قوله أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا يحتمل أن تكون هذه الجنات كالتفسير للخيرات وللفلاح ويحتمل أن تحمل تلك الخيرات والفلاح على منافع الدنيا مثل

الغزو والكرامة والثروة والقدرة والغلبة وتحمل الجنات على ثواب الآخرة و الْفَوْزُ الْعَظِيمُ عبارة عن كون تلك الحالة مرتبة رفيعة ودرجة عالية
وَجَآءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الاٌّ عْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال المنافقين الذين كانوا في المدينة ابتدأ في هذه الآية بشرح أحوال المنافقين من الأعراب في قوله وَجَاء الْمُعَذّرُونَ وقال لعن الله المعذرين وذهب إلى أن المعذر هو المجتهد الذي له عذر والمعذر بالتشديد الذي يعتذر بلا عدر والحاصل أن المعذر هو المجتهد البالغ في العذر ومنه قولهم قد أعذر من أنذر وعلى هذه القراءة فمعنى الآية أن الله تعالى فصل بين أصحاب العذر وبين الكاذبين فالمعذرون هم الذين أتوا بالعذر قيل هم أسد وغطفان قالوا إن لنا عيالاً وإنا بنا جهداً فائذن لنا في التخلف وقيل هم رهط عامر بن الطفيل قالوا إن غزونا معك أغارت أعراب طيء علينا فأذن رسول الله لهم وعن مجاهد نفر من غطفان اعتذروا والذين قرؤوا الْمُعَذّرُونَ بالتشديد وهي قراءة العامة فله وجهان من العربية
الوجه الأول ما ذكره الفراء والزجاج وابن الأنباري وهو أن الأصل في هذا اللفظ المعتذرون فحولت فتحة التاء إلى العين وأبدلت الذال من التاء وأدغمت في الذال التي بعدها فصارت التاء ذالاً مشددة والاعتذار قد يكون بالكذب كما في قوله تعالى يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ ( التوبة 94 ) فبين كون هذا الاعتذار فاسداً بقوله قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ وقد يكون بالصدق كما في قول لبيد ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر
يريد فقد جاء بعذر صحيح
الوجه الثاني أن يكون الْمُعَذّرُونَ على وزن قولنا مفعلون من التعذير الذي هو التقصير يقال عذراً تعذيراً إذا قصر ولم يبالغ يقال قام فلان قيام تعذير إذا اسكتفيته في أمر فقصر فيه فإن أخذنا بقراءة الخفيف كان الْمُعَذّرُونَ كاذبين وأما إن أخذنا بقراءة التشديد وفسرناها بالمعتذرين فعلى هذا التقدير يحتمل أنهم كانوا صادقين وأنهم كانوا كاذبين ومن المفسرين من قال المعذرون كانوا صادقين بدليل أنه تعالى لما ذكرهم قال بعدهم وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فلما ميزهم عن الكاذبين دل ذلك على أنهم ليسوا بكاذبين وروى الواحدي بإسناده عن أبي عمرو أنه لما قيل له هذا الكلام قال إن أقواماً تكلفوا عذراً بباطل فهم الذين عناهم الله تعالى بقوله وَجَاء الْمُعَذّرُونَ وتخلف الآخرون لا لعذر ولا لشبهة عذر جراءة على الله تعالى فهم المرادون بقوله وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ والذي قاله أبو

عمرو محتمل إلا أن الأول أظهر وقوله وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وهم منافقو الأعراب الذين ما جاؤوا وما اعتذروا وظهر بذلك أنهم كذبوا الله ورسوله في ادعائهم الإيمان وقرأ أبي كَذَّبُواْ بالتشديد سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالنار وإنما قال مِنْهُمْ لأنه تعالى كان عالماً بأن بعضهم سيؤمن ويتخلص عن هذا العقاب فذكر لفظة من الدالة على التبعيض
لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَآءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين الوعيد في حق من يوهم العذر مع أنه لا عذر له ذكر أصحاب الأعذار الحقيقية وبين أن تكليف الله تعالى بالغزو والجهاد عنهم ساقط وهم أقسام
القسم الأول الصحيح في بدنه الضعيف مثل الشيوخ ومن خلق في أصل الفطرة ضعيفاً نحيفاً وهؤلاء هم المرادون بالضعفاء والدليل عليه أنه عطف عليهم المرضى والمعطوف مباين للمعطوف عليه فما لم يحمل الضعفاء على الذين ذكرناهم لم يتميزوا عن المرضى
وأما المرضى فيدخل فيهم أصحاب العمى والعرج والزمانة وكل من كان موصوفاً بمرض يمنعه من التمكن من المحاربة
والقسم الثالث الذين لا يجدون الأهبة والزاد والراحلة وهم الذين لا يجدون ما ينفقون لأن حضوره في الغزو إنما ينفع إذا قدر على الإنفاق على نفسه أما من مال نفسه أو من مال إنسان آخر يعينه عليه فإن لم تحصل هذه القدرة صار كلاً ووبالاً على المجاهدين ويمنعهم من الاشتغال بالمقصود ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الأقسام الثلاثة قال لا حرج على هؤلاء والمراد أنه يجوز لهم أن يتخلفوا عن الغزو وليس في الآية بيان أنه يحرم عليهم الخروج لأن الواحد من هؤلاء لو خرج ليعين المجاهدين بمقدار القدرة إما بحفظ متاعهم أو بتكثير سوادهم بشرط أن لايجعل نفسه كلاً ووبالاً عليهم كان ذلك طاعة مقبولة ثم إنه تعالى شرط في جواز هذا التأخير شرطاً معيناً وهو قوله إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ومعناه أنهم إذا أقاموا في البلد احترزوا عن إلقاء الأراجيف وعن إثارة الفتن وسعوا في إيصال الخير إلى المجاهدين الذين سافروا إما بأن يقوموا بإصلاح مهمات بيوتهم وإما بأن يسعوا في إيصال الأخبار السارة من بيوتهم إليهم فإن جملة هذه الأمور جارية مجرى الإعانة على الجهاد

ثم قال تعالى مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وقد اتفقوا على أنه دخل تحت قوله تعالى مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ هو أنه لا إثم عليه بسبب القعود عن الجهاد واختلفوا في أنه هل يفيد العموم في كل الوجوه فمنهم من زعم أن اللفظ مقصور على هذا المعنى لأن هذه الآية نزلت فيهم ومنهم من زعم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب والمحسن هو الآتي بالإحسان ورأس أبواب الإحسان ورئيسها هو قول لا إله إلا الله وكل من قال هذه الكلمة واعتقدها كان من المسلمين وقوله تعالى مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ يقتضي نفي جميع المسلمين فهذا بعمومه يقتضي أن الأصل في حال كل مسلم براءة الذمة وعدم توجه مطالبة الغير عليه في نفسه وماله فيدل على أن الأصل في نفسه حرمة القتل إلا لدليل منفصل والأصل في ماله حرمة الأخذ إلا لدليل منفصل وأن لا يتوجه عليه شيء من التكاليف إلا لدليل منفصل فتصير هذه الآية بهذا الطريق أصلاً معتبراً في الشريعة في تقرير أن الأصل براءة الذمة فإن ورد نص خاص يدل على وجوب حكم خاص في واقعة خاصة قضينا بذل النص الخاص تقديماً للخاص على العام وإلا فهذا النص كاف في تقرير البراءة الأصلية ومن الناس من يحتج بهذا على نفي القياس قال لأن هذا النص دل على أن الأصل هو براءة الذمة وعدم الإلزام والتكليف فالقياس إما أن يدل على براءة الذمة أو على شغل الذمة والأول باطل لأن براءة الذمة لما ثبتت بمقتضى هذا النص كان إثباتها بالقياس عبثاً والثاني أيضاً باطل لأن على هذا التقدير يصير ذلك القياس مخصصاً لعموم هذا النص وأنه لا يجوز لما ثبت أن النص أقوى من القياس قالوا وبهذا الطريق تصير الشريعة مضبوطة معلومة ملخصة بعيدة عن الاضطراب والاختلافات التي لا نهاية لها وذلك لأن السلطان إذا بعث واحداً من عماله إلى سياسة بلدة فقال له أيها الرجل تكليفي عليك وعلى أهل تلك المملكة كذا وكذا وعد عليهم مائة نوع من التكاليف مثلاً ثم قال وبعد هذه التكاليف ليس لأحد عليهم سبيل كان هذا تنصيصاً منه على أنه لا تكليف عليهم فيما وراء تلك الأقسام المائة المذكورة ولو أنه كلف ذلك السلطان بأن ينص على ما سوى تلك المائة بالنفي على سبيل التفصيل كان ذلك محالاً لأن باب النفي لا نهاية له بل كفاه في النفي أن يقول ليس لأحد على أحد سبيل إلا فيما ذكرت وفصلت فكذا ههنا أنه تعالى لما قال مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وهذا يقتضي أن لا يتوجه على أحد سبيل ثم إنه تعالى ذكر في القرآن ألف تكليف أو أقل أو أكثر كان ذلك تنصيصاً على أن التكاليف محصورة في ذلك الألف المذكور وأما فيما وراءه فليس لله على الخلق تكليف وأمر ونهي وبهذا الطريق تصير الشريعة مضبوطة سهلة المؤنة كثيرة المعونة ويكون القرآن وافياً ببيان التكاليف والأحكام ويكون قوله الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ( المائدة 3 ) حقاً ويصير قوله لِتُبَيّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ ( النحل 44 ) حقاً ولا حاجة ألبتة إلى التمسك بالقياس في حكم من الأحكام أصلاً فهذا ما يقرره أصحاب الظواهر مثل داود الأصفهاني وأصحابه في تقرير هذا الباب
واعلم أنه تعالى لما ذكر الضعفاء والمرضى والفقراء بين أنه يجوز لهم التخلف عن الجهاد بشرط أن يكونوا ناصحين لله ورسوله وبين كونهم محسنين وأنه ليس لأحد عليهم سبيل ذكر قسماً رابعاً من المعذورين فقال وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً
فإن قيل أليس أن هؤلاء داخلون تحت قوله وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ فما الفائدة في إعادته

قلنا الذين لا يجدون ما ينفقون هم الفقراء الذين ليس معهم دون النفقة وهؤلاء المذكورون في الآية الأخيرة هم الذين ملكوا قدر النفقة إلا أنهم لم يجدوا المركوب والمفسرون ذكروا في سبب نزول هذه الآية وجوهاً الأول قال مجاهد هم ثلاثة إخوة معقل وسويد والنعمان بنو مقرن سألوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يحملهم على الخفاف المدبوغة والنعال المخصوفة فقال عليه السلام ( لا أجد ما أحملكم عليه ) فتولوا وهم يبكون والثاني قال الحسن نزلت في أبي موسى الأشعري وأصحابه أتوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يستحملونه ووافق ذلك منه غضباً فقال عليه السلام ( والله ما أحملكم ولا أجد ما أحملكم عليه ) فتولوا وهم يبكون فدعاهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأعطاهم ذوداً خير الذود فقال أبو موسى ألست حلفت يا رسول الله فقال ( أما أني إن شاء الله لا أحلف بيمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يمين )
والرواية الثالثة قال ابن عباس رضي الله عنهما سألوه أن يحملهم على الدواب فقال عليه السلام ( لا أجد ما أحملكم عليه ) لأن الشقة بعيدة والرجل يحتاج إلى بعيرين بعير يركبه وبعير يحمل عليه ماءه وزاده قال صاحب ( الكشاف ) قوله تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً كقولك تفيض دمعاً وهو أبلغ من يفيض دمعها لأن العين جعلت كأن كلها دمع فائض
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَآءُ رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى لما قال في الآية الأولى مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ قال في هذه الآية إنما السبيل على من كان كذا وكذا ثم الذين قالوا في الآية الأولى المراد مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ في أمر الغزو والجهاد وأن نفي السبيل في تلك الآية مخصوص بهذا الحكم قالوا السبيل الذي نفاه عن المحسنين هو الذي أثبته في هؤلاء المنافقين وهو الذي يختص بالجهاد والمعنى أن هؤلاء الأغنياء الذين يستأذنونك في التخلف سبيل الله عليهم لازم وتكليفه عليهم بالذهاب إلى الغزو متوجه ولا عذر لهم ألبتة في التخلف
فإن قيل قوله رَضُواْ ما موقعه
قلنا كأنه استئناف كأنه قيل ما بالهم استأذنوا وهم أغنياء فقيل رضوا بالدناءة والضعة والانتظام

في جملة الخوالف وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ يعني أن السبب في نفرتهم عن الجهاد هو أن الله طبع على قلوبهم فلأجل ذلك الطبع لا يعلمون ما في الجهاد من منافع الدين والدنيا
ثم قال يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ علة للمنع من الاعتذار لأن غرض المعتذر أن يصير عذره مقبولاً فإذا علم بأن القوم يكذبونه فيه وجب عليه تركه وقوله قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ علة لانتفاء التصديق لأنه تعالى لما أطلع رسوله على ما في ضمائرهم من الخبث والمكر والنفاق امتنع أن يصدقهم الرسول عليه الصلاة والسلام في تلك الأعذار
ثم قال وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ والمعنى أنهم كانوا يظهرون من أنفسهم عند تقرير تلك المعاذير حباً للرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين وشفقة عليهم ورغبة في نصرتهم فقال تعالى وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ أنكم هل تبقون بعد ذلك على هذه الحالة التي تظهرونها من الصدق والصفاء أو لا تبقون عليها
ثم قال ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ
فإن قيل لماقال وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ فلم لم يقل ثم تردون إليه وما الفائدة من قوله ثُمَّ
قلنا في وصفه تعالى بكونه عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ ما يدل على كونه مطلعاً على بواطنهم الخبيثة وضمائرهم المملوءة من الكذب والكيد وفيه تخويف شديد وزجر عظيم لهم
سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ
اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم في الآية الأولى أنهم يعتذرون ذكر في هذه الآية أنهم كانوا يؤكدون تلك الأعذار بالإيمان الكاذبة
أما قوله سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فاعلم أن هذا الكلام يدل على أنهم حلفوا بالله ولم يدل على أنهم على أي شيء حلفوا فقيل إنهم حلفوا على أنهم ما قدروا على الخروج وإنما حلفوا على ذلك لتعرضوا عنهم أي لتصفحوا عنهم ولتعرضوا عن ذمهم
ثم قال تعالى فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد ترك الكلام والسلام قال مقاتل قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حين قدم المدينة ( لا تجالسوهم ولا تكلموهم ) قال أهل المعاني هؤلاء طلبوا إعراض الصفح فأعطوا إعراض المقت ثم ذكر العلة في وجوب الإعراض عنهم فقال إِنَّهُمْ رِجْسٌ والمعنى أن خبث باطنهم رجس روحاني فكما يجب الاحتراز عن الأرجاس الجسمانية فوجوب الاحتراز عن

الأرجاس الروحانية أولى خوفاً من سريانها إلى الإنسان وحذراً من أن يميل طبع الإنسان إلى تلك الأعمال
ثم قال تعالى وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ومعناه ظاهر ولما بين في الآية أنهم يحلفون بالله ليعرض المسلمون عن إيذائهم بين أيضاً أنهم يحلفون ليرضى المسلمون عنهم ثم إنه تعالى نهى المسلمين عن أن يرضوا عنهم فقال فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ والمعنى أنكم إن رضيتم عنهم مع أن الله لا يرضى عنهم كانت إرادتكم مخالفة لإرادة الله وأن ذلك لا يجوز وأقول إن هذه المعاني مذكورة في الآيات السالفة وقد أعادها الله ههنا مرة أخرى وأظن أن الأول خطاب مع المنافقين الذين كانوا في المدينة وهذا خطاب مع المنافقين من الأعراب وأصحاب البوادي ولما كانت طرق المنافقين متقاربة سواء كانوا من أهل الحضر أو من أهل البادية لا جرم كان الكلام معهم على مناهج متقاربة
الاٌّ عْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَمِنَ الاٌّ عْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَآئِرَة ُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
اعلم أن هذه الآية تدل على صحة ما ذكرنا من أنه تعالى إنما أعاد هذه الأحكام لأن المقصود منها مخاطبة منافقي الأعراب ولهذا السبب بين أن كفرهم ونفاقهم أشد وجهلهم بحدود ما أنزل الله أكمل وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال العلماء من أهل اللغة يقال رجل عربي إذا كان نسبه في العرب وجمعه العرب كما تقول مجوسي ويهودي ثم يحذف ياء النسبة في الجمع فيقال المجوس واليهود ورجل أعرابي بالألف إذا كان بدوياً يطلب مساقط الغيث والكلأ سواء كان من العرب أو من مواليهم ويجمع الأعرابي على الأعراب والأعاريب فالأعرابي إذا قيل له يا عربي فرح والعربي إذا قيل له يا أعرابي غضب له فمن استوطن القرى العربية فهم عرب ومن نزل البادية فهم أعراب والذي يدل على الفرق وجوه الأول أنه عليه السلام قال ( حب العرب من الإيمان ) وأما الأعراب فقد ذمهم الله في هذه الآية والثاني أنه لا يجوز أن يقال للمهاجرين والأنصار أعراب إنما هم عرب وهم متقدمون في مراتب الدين على الأعراب قال عليه السلام ( لا تؤمن امرأة رجلاً ولا فاسق مؤمناً ولاأعرابي مهاجراً ) الثالث قيل إنما سمي العرب عرباً لأن أولاد إسمعيل نشأوا بعربة وهي من تهامة فنسبوا إلى بلدهم وكل من يسكن جزيرة العرب وينطق بلسانهم فهو منهم لأنهم إنما تولدوا من أولاد إسمعيل وقيل سموا بالعرب لأنه ألسنتهم معربة عما في ضمائرهم ولا شك أن اللسان العربي مختص بأنواع من الفصاحة والجزالة لا توجد في سائر الألسنة

ورأيت في بعض الكتب عن بعض الحكماء أنه قال حكمة الروم في أدمغتهم وذلك لأنهم يقدرون على التركيبات العجيبة وحكمة الهند في أوهامهم وحكمة يونان في أفئدتهم وذلك لكثرة ما لهم من المباحث العقلية وحكمة العرب في ألسنتهم وذلك لحلاوة ألفاظهم وعذوبة عباراتهم
المسألة الثانية من الناس من قال الجمع المحلى بالألف واللام الأصل فيه أن ينصر إلى المعهود السابق فإن لم يوجد المعهود السابق حمل على الاستغراق للضرورة قالوا لأن صيغة الجمع يكفي في حصول معناها الثلاثة فما فوقها والألف واللام للتعريف فإن حصل جمع هو معهود سابق وجب الانصراف إليه وإن لم يوجد فحينئذ يحمل على الاستغراق دفعاً للإجمال
قالوا إذا ثبت هذا فنقول قوله الاْعْرَابُ المراد منه جمع معينون من منافقي الأعراب كانوا يوالون منافقي المدينة فانصرف هذا اللفظ إليهم
المسألة الثالثة أنه تعالى حكم على الأعراب بحكمين
الحكم الأول
أنهم أشد كفراً ونفاقاً والسبب فيه وجوه الأول أن أهل البدو يشبهون الوحوش والثاني استيلاء الهواء الحار اليابس عليهم وذلك يوجب مزيد التيه والتكبر والنخوة والفخر والطيش عليهم والثالث أنهم ما كانوا تحت سياسة سائس ولا تأديب مؤدب ولا ضبط ضابط فنشاؤا كما شاؤوا ومن كان كذلك خرج على أشد الجهات فساداً والرابع أن من أصبح وأمسى مشاهداً لوعظ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وبياناته الشافية وتأديباته الكاملة كيف يكون مساوياً لمن لم يؤاثر هذا الخير ولم يسمع خبره والخامس قابل الفواكه الجبلية بالفواكه البستانية لتعرف الفرق بين أهل الحضر والبادية
الحكم الثاني
قوله وَأَجْدَرُ أَن لا يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وقوله أجدر أي أولى وأحق وفي الآية حذف والتقدير وأجدر بأن لا يعلموا وقيل في تفسير حدود ما أنزل الله مقادير التكاليف والأحكام وقيل مراتب أدلة العدل والتوحيد والنبوة والمعاد أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بمافي قلوب خلقه حَكِيمٌ فيما فرض من فرائضه
ثم قال وَمِنَ الاْعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا والمغرم مصدر كالغرامة والمعنى أن من الأعراب من يعتقد أن الذي ينفقه في سبيل الله غرامة وخسران وإنما يعتقد ذلك لأنه لا ينفق إلا تقية من المسلمين ورياء لا لوجه الله وابتغاء ثوابه وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ يعني الموت والقتل أي ينتظر أن تنقلب الأمور عليكم بموت الرسول ويظهر عليكم المشركون ثم إنه أعاده إليهم فقال عَلَيْهِمْ دَائِرَة ُ السَّوْء والدائرة يجوز أن تكون واحدة ويجوز أن تكون صفة غالبة وهي إنما تستعمل في آفة تحيط بالإنسان كالدائرة بحيث لا يكون له منها مخلص وقوله السَّوْء قرىء بفتح السين وضمه قال الفراء فتح السين هو الوجه لأنه مصدر قولك ساء يسوء سوأ أو مساءة ومن ضم السين جعله اسماً كقولك عليهم دائرة البلاء والعذاب ولا يجوز ضم السين في قوله مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْء ( مريم 28 ) ولا في قوله وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْء

( الفتح 12 ) وإلا لصار التقدير ما كان أبوك امرأ عذاب وظننتم ظن العذاب ومعلوم أنه لا يجوز وقال الأخفش وأبو عبيد من فتح السين فهو كقولك رجل سوء وامرأة سوء ثم يدخل الألف واللام فيقول رجل السوء وأنشد الأخفش وكنت كذئب السوء لما رأى دما
بصاحبه يوماً أحال على الدم
ومن ضم السين أراد بالسوء المضرة والشر والبلاء والمكروه كأنه قيل عليهم دائرة الهزيمة والمكروه وبهم يحيق ذلك قال أبو علي الفارسي لو لم تضف الدائرة إلى السوء أو السوء عرف منها معنى السوء لأن دائرة الدهر لا تستعمل إلا في المكروه
إذا عرفت هذا فنقول المعنى يدور عليهم البلاء والحزن فلا يرون في محمد عليه الصلاة والسلام ودينه إلا ما يسوءهم
ثم قال وَاللَّهُ سَمِيعٌ لقولهم عَلِيمٌ بنياتهم
وَمِنَ الاٌّ عْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَة ٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِى رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
اعلم أنه تعالى لما بين أنه حصل في الأعراب من يتخذ إنفاقه في سبيل الله مغرماً بين أيضاً أن فيهم قوماً مؤمنين صالحين مجاهدين يتخذ إنفاقه في سبيل الله مغنماً
واعلم أنه تعالى وصف هذا الفريق بوصفين فالأول كونه مؤمناً بالله واليوم الآخر والمقصود التنبيه على أنه لا بد في جميع الطاعات من تقدم الإيمان وفي الجهاد أيضاً كذلك والثاني كونه بحيث يتخذ ما ينفقه قربات عند الله وصلوات الرسول وفيه بحثان الأول قال الزجاج يجوز في القربات ثلاثة أوجه ضم الراء وإسكانها وفتحها الثاني قال صاحب ( الكشاف ) قربات مفعول ثان ليتخذ والمعنى أن ما ينفقه لسبب حصول القربات عند الله تعالى وصلوات الرسول لأن الرسول كان يدعو للمتصدقين بالخير والبركة ويستغفر لهم كقوله ( اللهم صل على آل أبي أوفى ) وقال تعالى وَصَلّ عَلَيْهِمْ فلما كان ما ينفق سبباً لحصول القربات والصلوات قيل إنه يتخذ ما ينفق قربات وصلوات وقال تعالى أَلا إِنَّهَا قُرْبَة ٌ لَّهُمْ وهذا شهادة من الله تعالى للمتصدق بصحة ما اعتقد من كون نفقته قربات وصلوات وقد أكد تعالى هذه الشهادة بحرف التنبيه وهو قوله إِلا وبحرف التحقيق وهو قوله أَنَّهَا ثم زاد في التأكيد فقال سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِى رَحْمَتِهِ وقد ذكرنا أن إدخال هذا السين يوجب مزيد التأكيد ثم قال أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لسيآتهم رَّحِيمٌ بهم حيث وفقهم لهذه الطاعات وقرأ نافع أَلا إِنَّهَا قُرْبَة ٌ بضم الراء وهو الأصل ثم خففت نحو كتب ورسل وطنب والأصل هو الضم والإسكان تخفيف

وَالسَّابِقُونَ الاٌّ وَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِى َ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
واعلم أنه تعالى لما ذكر فضائل الأعراب الذين يتخذون ما ينفقون قربات عند الله وصلوات الرسول وما أعد لهم من الثواب بين أن فوق منزلتهم منازل أعلى وأعظم منها وهي منازل السابقين الأولين وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار من هم وذكروا وجوهاً الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما هم الذين صلوا إلى القبلتين وشهدوا بدراً وعن الشعبي هم الذين بايعوا بيعة الرضوان والصحيح عندي أنهم السابقون في الهجرة وفي النصرة والذي يدل عليه أنه ذكر كونهم سابقين ولم يبين أنهم سابقون فيماذا فبقي اللفظ مجملاً إلا أنه وصفهم بكونهم مهاجرين وأنصاراً فوجب صرف ذلك اللفظ إلى ما به صاروا مهاجرين وأنصاراً وهو الهجرة والنصرة فوجب أن يكون المراد منه السابقون الأولون في الهجرة والنصرة إزالة للإجمال عن اللفظ وأيضاً فالسبق إلى الهجرة طاعة عظيمة من حيث إن الهجرة فعل شاق على النفس ومخالف للطبع فمن أقدم عليه أولاً صار قدوة لغيره من هذه الطاعة وكان ذلك مقوياً لقلب الرسول عليه الصلاة والسلام وسبباً لزوال الوحشة عن خاطره وكذلك السبق في النصرة فإن الرسول عليه الصلاة والسلام لما قدم المدينة فلا شك أن الذين سبقوا إلى النصرة والخدمة فازوا بمنصب عظيم فلهذه الوجوه يجب أن يكون المراد والسابقون الأولون في الهجرة
إذا ثبت هذا فنقول إن أسبق الناس إلى الهجرة هو أبو بكر لأنه كان في خدمة الرسول عليه الصلاة والسلام وكان مصاحباً له في كل مسكن وموضع فكان نصيبه من هذا المنصب أعلى من نصيب غيره وعلي بن أبي طالب وإن كان من المهاجرين الأولين إلا أنه إنما هاجر بعد هجرة الرسول عليه الصلاة والسلام ولا شك أنه إنما بقي بمكة لمهمات الرسول إلا أن السبق إلى الهجرة إنما حصل لأبي بكر فكان نصيب أبي بكر من هذه الفضيلة أوفر فإذا ثبت هذا صار أبو بكر محكوماً عليه بأنه رضي الله عنه ورضي هو عن الله وذلك في أعلى الدرجات من الفضل
وإذا ثبت هذا وجب أن يكون إماماً حقاً بعد رسول الله إذ لو كانت إمامته باطلة لاستحق اللعن والمقت وذلك ينافي حصول مثل هذا التعظيم فصارت هذه الآية من أدل الدلائل على فضل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وعلى صحة إمامتهما
فإن قيل لم لا يجوز أن يكون المراد من سبق إلى الإسلام من المهاجرين والأنصار لأن هؤلاء

آمنوا وفي عدد المسلمين في مكة والمدينة قلة وضعف فقوي الإسلام بسببهم وكثر عدد المسلمين بسبب إسلامهم وقوي قلب الرسول بسبب دخولهم في الإسلام واقتدى بهم غيرهم فكان حالهم فيه كحال من سن سنة حسنة فيكون له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ثم نقول هب أن أبا بكر دخل تحت هذه الآية بحكم كونه أول المهاجرين لكن لم قلتم أنه بقي على تلك الحالة ولم لا يجوز أن يقال إنه تغير عن تلك الحالة وزالت عنه تلك الفضيلة بسبب إقدامه على تلك الإمامة
والجواب عن الأول أن حمل السابقين على السابقين في المدة تحكم لا دلالة عليه لأن لفظ السابق مطلق فلم يكن حمله على السبق في المدة أولى من حمله على السبق في سائر الأمور ونحن بينا أن حمله على السبق في الهجرة أولى قوله المراد منه السبق في الإسلام
قلنا السبق في الهجرة يتضمن السبق في الإسلام والسبق في الإسلام لا يتضمن السبق في الهجرة فكان حمل اللفظ على السبق في الهجرة أولى وأيضاً فهب أنا نحمل اللفظ على السبق في الإيمان إلا أنا نقول قوله وَالسَّابِقُونَ الاْوَّلُونَ صيغة جمع فلا بد من حمله على جماعة فوجب أن يدخل فيه علي رضي الله عنه وغيره وهب أن الناس اختلفوا في أن إيمان أبي بكر أسبق أم إيمان علي لكنهم اتفقوا على أن أبا بكر من السابقين الأولين واتفق أهل الحديث على أن أول من أسلم من الرجال أبو بكر ومن النساء خديجة ومن الصبيان علي ومن الموالي زيد فعلى هذا التقدير يكون أبو بكر من السابقين الأولين وأيضاً قد بينا أن السبق في الإيمان إنما أوجب الفضل العظيم من حيث إنه يتقوى به قلب الرسول عليه السلام ويصير هو قدوة لغيره وهذا المعنى في حق أبي بكر أكمل وذلك لأنه حين أسلم كان رجلاً كبير السن مشهوراً فيما بين الناس واقتدى به جماعة من أكابر الصحابة رضي الله عنهم فإنه نقل أنه لما أسلم ذهب إلى طلحة والزبير وعثمان بن عفان وعرض الإسلام عليهم ثم جاء بهم بعد أيام إلى الرسول عليه السلام وأسلموا على يد الرسول عليه السلام فظهر أنه دخل بسبب دخوله في الإسلام قوة في الإسلام وصار هذا قدوة لغيره وهذه المعاني ما حصلت في علي رضي الله عنه لأنه في ذلك الوقت كان صغير السن وكان جارياً مجرى صبي في داخل البيت فما كان يحصل بإسلامه في ذلك الوقت مزيد قوة للإسلام وما صار قدوة في ذلك الوقت لغيره فثبت أن الرأس والرئيس في قوله وَالسَّابِقُونَ الاْوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ ليس إلا أبا بكر أما قوله لم قلتم إنه بقي موصوفاً بهذه الصفة بعد إقدامه على طلب الإمامة
قلنا قوله تعالى رَضِيَ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ يتناول جميع الأحوال والأوقات بدليل أنه لا وقت ولا حال إلا ويصح استثناؤه منه فيقال رضي الله عنهم إلا في وقت طلب الإمامة ومقتضى الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل تحت اللفظ أو نقول إنا بينا أنه تعالى وصفهم بكونهم سابقين مهاجرين وذلك يقتضي أن المراد كونهم سابقين في الهجرة ثم لما وصفهم بهذا الوصف أثبت لهم ما يوجب التعظيم وهو قوله رَّضِى َ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ والسبق في الهجرة وصف مناسب للتعظيم وذكر الحكم عقيب الوصف المناسب يدل على كون ذلك الحكم معللاً بذلك الوصف فدل هذا على أن التعظيم الحاصل من قوله رَّضِى َ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ معلل بكونهم سابقين في الهجرة والعلة ما دامت موجودة وجب ترتب المعلول عليها وكونهم سابقين في الهجرة وصف دائم في جميع مدة وجودهم فوجب أن يكون ذلك الرضوان حاصلاً في جميع مدة وجودهم أو نقول إنه تعالى قال وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الانْهَارُ وذلك يقتضي أنه تعالى قد أعد تلك الجنات وعينها لهم وذلك يقتضي بقاءهم على تلك الصفة

التي لأجلها صاروا مستحقين لتلك الجنات وليس لأحد أن يقول المراد أنه تعالى أعدها لهم لو بقوا على صفة الإيمان لأنا نقول هذا زيادة إضمار وهو خلاف الظاهر وأيضاً فعلى هذا التقدير لا يبقى بين هؤلاء المذكورين في هذا المدح وبين سائر الفرق فرق لأنه تعالى أَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الانْهَارُ ولفرعون وهامان وأبي جهل وأبي لهب لو صاروا مؤمنين ومعلوم أنه تعالى إنما ذكر هذا الكلام في معرض المدح العظيم والثناء الكامل وحمله على ما ذكروه يوجب بطلان هذا المدح والثناء فسقط هذا السؤال فظهر أن هذه الآية دالة على فضل أبي بكر وعلى صحة القول بإمامته قطعاً
المسألة الثانية اختلفوا في أن المدح الحاصل في هذه الآية هل يتناول جميع الصحابة أم يتناول بعضهم فقال قوم إنه يتناول الذين سبقوا في الهجرة والنصرة وعلى هذا فهو لا يتناول إلا قدماء الصحابة لأن كلمة مِنْ تفيد التبعيض ومنهم من قال بل يتناول جميع الصحابة لأن جملة الصحابة موصوفون بكونهم سابقين أولين بالنسبة إلى سائر المسلمين وكلمة مِنْ في قوله مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالانْصَارِ ليست للتبعيض بل للتبيين أي والسابقون الأولون الموصوفون بوصف كونهم مهاجرين وأنصاراً كما في قوله تعالى فَاجْتَنِبُواْ الرّجْسَ مِنَ الاْوْثَانِ ( الحج 30 ) وكثير من الناس ذهبوا إلى هذا القول روي عن حميد بن زياد أنه قال قلت يوماً لمحمد بن كعب القرظي ألا تخبرني عن أصحاب الرسول عليه السلام فيما كان بينهم وأردت الفتن فقال لي إن الله تعالى قد غفر لجميعهم وأوجب لهم الجنة في كتابه محسنهم ومسيئهم قلت له وفي أي موضع أوجب لهم الجنة قال سبحان الله ألا تقرأ قوله تعالى وَالسَّابِقُونَ الاْوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالانْصَارِ إلى آخر الآية فأوجب الله لجميع أصحاب النبي عليه السلام الجنة والرضوان وشرط على التابعين شرطاً شرطه عليهم قلت وما ذاك الشرط قال اشترط عليهم أن يتبعوهم بإحسان في العمل وهو أن يقتدوا بهم في أعمالهم الحسنة ولا يقتدوا بهم في غير ذلك أو يقال المراد أن يتبعوهم بإحسان في القول وهو أن لا يقولوا فيهم سوءا وأن لا يوجهوا الطعن فيما أقدموا عليه قال حميد بن زياد فكأني ما قرأت هذه الآية قطا
المسألة الثالثة روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقرأ وَالسَّابِقُونَ الاْوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالانْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ فكان يعطف قوله الأنصار على قوله رَّحِيمٌ وَالسَّابِقُونَ وكان يحذف الواو من قوله وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ ويجعله وصفاً للأنصار وروي أن عمر رضي الله عنه كان يقرأ هذه الآية على هذا الوجه قال أبي والله لقد أقرأنيها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على هذا الوجه وإنك لتبيع القرظ يومئذ ببقيع المدينة فقال عمر رضي الله عنه صدقت شهدتم وغبنا وفرغتم وشغلنا ولئن شئت لتقولن نحن أوينا ونصرنا وروي أنه جرت هذه المناظرة بين عمر وبين زيد بن ثابت واستشهد زيد بأبي بن كعب والتفاوت أن على قراءة عمر يكون التعظيم الحاصل من قوله وَالسَّابِقُونَ الاْوَّلُونَ مختصاً بالمهاجرين ولا يشاركهم الأنصار فيها فوجب مزيد التعظيم للمهاجرين والله أعلم وروي أن أبيا احتج على صحة القراءة المشهورة بآخر الأنفال وهو قوله وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ ( الأنفال 75 ) بعد تقدم ذكر المهاجرين والأنصار في الآية الأولى وبأواسط سورة الحشر وهو قوله وَالَّذِينَ ذُرّيَّة ً مّن بَعْدِهِمْ ( الحشر 10 ) وبأول سورة الجمعة وهو قوله وَءاخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ ( الجمعة 3 )

المسألة الرابعة قوله وَالسَّابِقُونَ مرتفع بالابتداء وخبره قوله رَّضِى َ اللَّهُ عَنْهُمْ ومعناه رضي الله عنهم لأعمالهم وكثرة طاعاتهم ورضوا عنه لما أفاض عليهم من نعمه الجليلة في الدين والدنيا وفي مصاحف أهل مكة تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ وهي قراءة ابن كثير وفي سائر المصاحف تَحْتِهَا من غير كلمة مِنْ
المسألة الخامسة قوله وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ قال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهم يريد يذكرون المهاجرين والأنصار بالجنة والرحمة والدعاء لهم ويذكرون محاسنهم وقال في رواية أخرى والذين اتبعوهم بإحسان على دينهم إلى يوم القيامة واعلم أن الآية دلت على أن من اتبعهم إنما يستحقون الرضوان والثواب بشرط كونهم متبعين لهم بإحسان وفسرنا هذا الإحسان بإحسان القول فيهم والحكم المشروط بشرط ينتفي عند انتفاء ذلك الشرط فوجب أن من لم يحسن القول في المهاجرين والأنصار لا يكون مستحقاً للرضوان من الله تعالى وأن لا يكون من أهل الثواب لهذا السبب فإن أهل الدين يبالغون في تعظيم أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولا يطلقون ألسنتهم في اغتيابهم وذكرهم بما لا ينبغي
وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الاٌّ عْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَة ِ مَرَدُواْ عَلَى النَّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ
اعلم أنه تعالى شرح أحوال منافقي المدينة ثم ذكر بعده أحوال منافقي الأعراب ثم بين أن في الأعراب من هو مؤمن صالح مخلص ثم بين أن رؤساء المؤمنين من هم وهم السابقون المهاجرون والأنصار فذكر في هذه الآية أن جماعة من حول المدينة موصوفون بالنفاق وإن كنتم لا تعلمون كونهم كذلك فقال وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مّنَ الاْعْرَابِ مُنَافِقُونَ وهم جهينة وأسلم وأشجع وغفار وكانوا نازلين حولها
وأما قوله وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَة ِ مَرَدُواْ عَلَى النّفَاقِ ففيه بحثان
البحث الأول قال الزجاج أنه حصل فيه تقديم وتأخير والتقدير وممن حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة منافقون مردوا على النفاق الثاني قال ابن الأنباري يجوز أن يكون التقدير ومن أهل المدينة من مردوا على النفاق فأضمر ( من ) لدلالة مِنْ عليها كما في قوله تعالى وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ ( الصافات 164 ) يريد إلا من له مقام معلوم
البحث الثاني يقال مرد يمرد مردوا فهو مارد ومريد إذا عتا والمريد من شياطين الإنس والجن وقد تمرد علينا أي عتا وقال ابن الأعرابي المراد التطاول بالكبر والمعاصي ومنه مَرَدُواْ عَلَى النّفَاقِ وأصل المرود الملاسة ومنه صرح ممرد وغلام أمرد والمرداء الرملة التي لا تنبت شيئاً كأن من لم يقبل قول غيره ولم يلتفت إليه بقي كما كان على صفته الأصلية من غير حدوث تغير فيه ألبتة وذلك هو الملاسة

إذا عرفت أصل اللفظ فنقول قوله مَرَدُواْ عَلَى النّفَاقِ أي ثبتوا واستمروا فيه ولم يتوبوا عنه
ثم قال تعالى لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ وهو كقوله لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ والمعنى أنهم تمردوا في حرفة النفاق فصاروا فيها أستاذين وبلغوا إلى حيث لا تعلم أنت نفاقهم مع قوة خاطرك وصفاء حدسك ونفسك
ثم قال سَنُعَذّبُهُم مَّرَّتَيْنِ وذكروا في تفسير المرتين وجوهاً كثيرة
الوجه الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد الأمراض في الدنيا وعذاب الآخرة وذلك أن مرض المؤمن يفيده تكفير السيئات ومرض الكافر يفيده زيادة الكفر وكفران النعم
الوجه الثاني روى السدي عن أنس بن مالك أن النبي عليه السلام قام خطيباً يوم الجمعة فقال ( اخرج يا فلان فإنك منافق اخرج يا فلان فإنك منافق ) فأخرج من المسجد ناساً وفضحهم فهذا هو العذاب الأول والثاني عذاب القبر
والوجه الثالث قال مجاهد في الدنيا بالقتل والسبي وبعد ذلك بعذاب القبر
والوجه الرابع قال قتادة بالدببيلة وعذاب القبر وذلك أن النبي عليه السلام أسر إلى حذيفة اثني عشر رجلاً من المنافقين وقال ستة يبتليهم الله بالدبيلة سراج من نار يأخذ أحدهم حتى يخرج من صدره وستة يموتون موتاً
والوجه الخامس قال الحسن يأخذ الزكاة من أموالهم وعذاب القبر
والوجه السادس قال محمد بن إسحق هو ما يدخل عليهم من غيظ الإسلام ودخولهم فيه من غير حسنة ثم عذابهم في القبور
والوجه السابع أحد العذابين ضرب الملائكة الوجوه والأدبار والآخر عند البعث يوكل بهم عنق النار والأولى أن يقال مراتب الحياة ثلاثة حياة الدنيا وحياة القبر وحياة القيامة فقوله سَنُعَذّبُهُم مَّرَّتَيْنِ المراد منه عذاب الدنيا بجميع أقسامه وعذاب القبر وقوله ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ المرا دمنه العذاب في الحياة الثالثة وهي الحياة في القيامة
ثم قال تعالى في آخر الآية ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ يعني النار المخلدة المؤبدة
وَءَاخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَءَاخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَة ً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَوَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ

وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قوله وَءاخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ فيه قولان الأول أنهم قوم من المنافقين تابوا عن النفاق والثاني أنهم قوم من المسلمين تخلفوا عن غزوة تبوك لا للكفر والنفاق لكن للكسل ثم ندموا على ما فعلوا ثم تابوا واحتج القائلون بالقول الأول بأن قوله وَءاخَرُونَ عطف على قوله وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مّنَ الاْعْرَابِ مُنَافِقُونَ والعطف يوهم التشريك إلا أنه تعالى وفقهم حتى تابوا فلما ذكر الفريق الأول بالمرود على النفاق والمبالغة فيه وصف هذه الفرقة بالتوبة والإقلاع عن النفاق
المسألة الثانية روي أنهم كانوا ثلاثة أبو لبابة مروان بن عبد المنذر وأوس بن ثعلبة ووديعة بن حزام وقيل كانوا عشرة فسبعة منهم أوثقوا أنفسهم لما بلغهم ما نزل من المتخلفين فأيقنوا بالهلاك وأوثقوا أنفسهم على سواري المسجد فقدم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فدخل المسجد فصلى ركعتين وكانت هذه عادته فلما قدم من سفره ورآهم موثقين سأل عنهم فذكر له أنهم أقسموا أن لا يحلوا أنفسهم حتى يكون رسول الله هو الذي يحلهم فقال وأنا أقسم أني لا أحلهم حتى أومر فيهم فنزلت هذه الآية فأطلقهم وعذرهم فقالوا يا رسول الله هذه أموالنا وإنما تخلفنا عنك بسببها فتصدق بها وطهرنا فقال ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً فنزل قوله خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَة ً الآية
المسألة الثالثة قوله اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ قال أهل اللغة الاعتراف عبارة عن الإقرار بالشيء عن معرفة ومعناه أنهم أقروا بذنبهم وفيه دقيقة كأنه قيل لم يعتذروا عن تخلفهم بالأعذار الباطلة كغيرهم ولكن اعترفوا على أنفسهم بأنهم بئسما فعلوا وأظهروا الندامة وذموا أنفسهم على ذلك التخلف
فإن قيل الاعتراف بالذنب هل يكون توبة أم لا
قلنا مجرد الاعتراف بالذنب لا يكون توبة فأما إذا اقترن به الندم على الماضي والعزم على تركه في المستقبل وكان هذا الندم والتوبة لأجل كونه منهياً عنه من قبل الله تعالى كان هذا المجموع توبة إلا أنه دل الدليل على أن هؤلاء قد تابوا بدليل قوله تعالى عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ والمفسرون قالوا إن عسى من الله يدل على الوجوب
ثم قال تعالى خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَءاخَرَ سَيّئاً وفيه بحثان
البحث الأول في هذا العمل الصالح وجوه الأول العمل الصالح هو الاعتراف بالذنب والندامة عليه والتوبة منه والسيء هو التخلف عن الغزو والثاني العمل الصالح خروجهم مع الرسول إلى سائر الغزوات والسيء هو تخلفهم عن غزوة تبوك والثالث أن هذه الآية نزلت في حق المسلمين كان العمل الصالح إقدامهم على أعمال البر التي صدرت عنهم
البحث الثاني لقائل أن يقول قد جعل كل واحد من العمل الصالح والسيء مخلوطاً فما المخلوط به وجوابه أن الخلط عبارة عن الجمع المطلق وأما قولك خلطته فإنما يحسن في الموضع الذي يمتزج كل واحد منهما بالآخر ويتغير كل واحد منهما بسبب تلك المخالطة عن صفته الأصلية كقولك خلطت الماء باللبن واللائق بهذا الموضع هو الجمع المطلق لأن العمل الصالح والعمل السيء إذا حصلا بقي كل

واحد منهما كما كان على مذهبنا فإن عندنا القول بالأحباط باطل والطاعة تبقى موجبة للمدح والثواب والمعصية تبقى موجبة للذم والعقاب فقوله تعالى خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَءاخَرَ سَيّئاً فيه تنبيه على نفي القول بالمحابطة وأنه بقي كل واحد منهما كما كان من غير أن يتأثر أحدهما بالآخر ومما يعين هذه الآية على نفي القول بالمحابطة أنه تعالى وصف العمل الصالح والعمل السيء بالمخالطة والمختلطان لا بد وأن يكونا باقيين حال اختلاطهما لأن الاختلاط صفة للمختلطين وحصول الصفة حال عدم الموصوف محال فدل على بقاء العملين حال الاختلاط
ثم قال تعالى عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ وفيه مباحث
البحث الأول ههنا سؤال وهو أن كلمة عَسَى شك وهو في حق الله تعالى محال وجوابه من وجوه
الوجه الأول قال المفسرون كلمة عسى من الله واجب والدليل عليه قوله تعالى فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِى َ بِالْفَتْحِ ( المائدة 52 ) وفعل ذلك وتحقيق القول فيه أن القرآن نزل على عرف الناس في الكلام والسلطان العظيم إذا التمس المحتاج منه شيئاً فإنه لا يجيب إليه إلا على سبيل الترجي مع كلمة عسى أو لعل تنبيهاً على أنه ليس لأحد أن يلزمني شيئاً وأن يكلفني بشيء بل كل ما أفعله فإنما أفعله على سبيل التفضل والتطول فذكر كلمة عَسَى الفائدة فيه هذا المعنى مع أنه يفيد القطع بالإجابة
الوجه الثاني في الجواب المقصود منه بيان أنه يجب أن يكون المكلف على الطمع والإشفاق لأنه أبعد من الأنكار والإهمال
البحث الثاني قال أصحابنا قوله عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ صريح في أن التوبة لا تحصل إلا من خلق الله تعالى والعقل أيضاً دليل عليه لأن الأصل في التوبة الندم والندم لا يحصل باختيار العبد لأن إرادة الفعل والترك إن كانت فعلاً للعبد افتقر في فعلها إلى إرادة أخرى وأيضاً فإن الإنسان قد يكون عظيم الرغبة في فعل معين ثم يصير عظيم الندامة عليه وحال كونه راغباً فيه لا يمكنه دفع تلك الرغبة عن القلب وحال صيرورته نادماً عليه لا يمكنه دفع تلك الندامة عن القلب فدل هذا على أنه لا قدرة للعبد على تحصل الندامة وعلى تحصيل الرغبة قالت المعتزلة المراد من قوله يتوب الله أنه يقبل توبته
والجواب أن الصرف عن الظاهر إنما يحسن إذا ثبت بالدليل أنه لا يمكن إجراء اللفظ على ظاهره أما ههنا فالدليل العقلي أنه لا يمكن إجراء اللفظ إلا على ظاهره فكيف يحسن التأويل
البحث الثالث قوله عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ يقتضي أن هذه التوبة إنما تحصل في المستقبل وقوله وَءاخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ دل على أن ذلك الاعتراف حصل في الماضي وذلك يدل على أن ذلك الاعتراف ما كان نفس التوبة بل كان مقدمة للتوبة وأن التوبة إنما تحصل بعدها
ثم قال تعالى خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَة ً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا وفيه مسائل
المسألة الأولى اختلف الناس في المراد فقال بعهضم هذا راجع إلى هؤلاء الذين تابوا وذلك لأنهم بذلوا أموالهم للصدقة فأوجب الله تعالى أخذها وصار ذلك معتبراً في كمال توبتهم لتكون جارية في

حقهم مجرى الكفارة وهذا قول الحسن وكان يقول ليس المراد من هذه الآية الصدقة الواجبة وإنما هي صدقة كفارة الذنب الذي صدر منهم
والقول الثاني أن الزكوات كانت واجبة عليهم فلما تابوا من تخلفهم عن الغزو وحسن إسلامهم وبذلوا الزكاة أمر الله رسوله أن يأخذها منهم
والقول الثالث أن هذه الآية كلام مبتدأ والمقصود منها إيجاب أخذ الزكاة من الأغنياء وعليه أكثر الفقهاء إذ استدلوا بهذه الآية في إيجاب الزكوات وقالوا في الزكاة إنها طهرة أما القائلون بالقول الأول فقد احتجوا على صحة قولهم بأن الآيات لا بد وأن تكون منتظمة متناسقة أما لو حملناها على الزكوات الواجبة ابتداء لم يبق لهذه الآية تعلق بما قبلها ولا بما بعدها وصارت كلمة أجنبية وذلك لا يليق بكلام الله تعالى وأما القائلون بأن المراد منه أخذ الزكوات الواجبة قالوا المناسبة حاصلة أيضاً على هذا التقدير وذلك لأنهم لما أظهروا التوبة والندامة عن تخلفهم عن غزوة تبوك وهم أقروا بأن السبب الموجب لذلك التخلف حبهم للأموال وشدة حرصهم على صونها عن الإنفاق فكأنه قيل لهم إنما يظهر صحة قولكم في ادعاء هذه التوبة والندامة لو أخرجتم الزكاة الواجبة ولم تضايقوا فيها لأن الدعوى لا تتقرر إلا بالمعنى وعند الامتحان يكرم الرجل أو يهان فإن أدوا تلك الزكوات عن طيبة النفس ظهر كونهم صادقين في تلك التوبة والإنابة وإلا فهم كاذبون مزورون بهذا الطريق لكن حمل هذه الآية على التكليف بإخراج الزكوات الواجبة مع أنه يبق نظم هذه الآيات سليماً أولى ومما يدل على أن المراد الصدقات الواجبة قوله تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا والمعنى تطهرهم عن الذنب بسبب أخذ تلك الصدقات وهذا إنما يصح لو قلنا إنه لو لم يأخذ تلك الصدقة لحصل الذنب وذلك إنما يصح حصوله في الصدقات الواجبة وأما القائلون بالقول الأول فقالوا إنه عليه الصلاة والسلام لما عذر أولئك التائبين وأطلقهم قالوا يا رسول الله هذه أموالنا التي بسببها تخلفنا عنك فتصدق بها عنا وطهرنا واستغفر لنا فقال عليه الصلاة والسلام ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً فأنزل الله تعالى هذه الآيات فأخذ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثلث أموالهم وترك الثلثين لأنه تعالى قال خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَة ً ولم يقل خذ أموالهم وكلمة مِنْ تفيد التبعيض واعلم أن هذه الرواية لا تمنع القول الذي اخترناه كأنه قيل لهم إنكم لما رضيتم بإخراج الصدقة التي هي غير واجبة فلأن تصيروا راضين بإخراج الواجبات أولى
المسألة الثانية هذه الآية تدل على كثير من أحكام الزكاة
الحكم الأول
أن قوله خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ يدل على أن القدر المأخوذ بعض تلك الأموال لا كلها إذ مقدار ذلك البعض غير مذكور ههنا بصريح اللفظ بل المذكور ههنا قوله صَدَقَة ٍ ومعلوم أنه ليس المراد منه التنكير حتى يكفي أخد أي جزء كان وإن كان في غاية القلة مثل الحبة الواحدة من الحنطة أو الجزء الحقير من الذهب فوجب أن يكون المراد منه صدقة معلومة الصفة والكيفية والكمية عندهم حتى يكون قوله خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَة ً أمراً بأخذ تلك الصدقة المعلومة فحينئذ يزول الإجمال ومعلوم أن تلك الصدقة ليست إلا الصدقات التي وصفها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وبين كيفيتها والصدقة التي بين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هي أنه أمر

بأن يؤخذ في خمس وعشرين بنت مخاض وفي ستة وثلاثين بنت لبون إلى غير ذلك من المراتب فكان قوله خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَة ً أمراً بأن يأخذ تلك الأشياء المخصوصة والأعيان المخصوصة وظاهر الآية للوجوب فدل هذا النص على أن أخذها واجب وذلك يدل على أن القيمة لا تكون مجزئة على ما هو قول الشافعي رحمه الله
الحكم الثاني
أن قوله مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَة ً يقتضي أن يكون المال مالاً لهم ومتى كان الأمر كذلك لم يكن الفقير شريكاً للمالك في النصاب وحينئذ يلزم أن تكون الزكاة متعلقة بالذمة وأن لا يكون لها تعلق ألبتة بالنصاب
وإذا ثبت هذا فنقول إنه إذا فرط في الزكاة حتى هلك النصاب فالذي هلك ما كان محلاً للحق بل محل الحق باق كما كان فوجب أن يبقى ذلك الوجوب بعد هلاك النصاب كما كان وهذا قول الشافعي رحمه الله
الحكم الثالث
ظاهر هذا العموم يوجب الزكاة في مال المديون وفي مال الضمان وهو ظاهر
الحكم الرابع
ظاهر الآية يدل على أن الزكاة إنما وجبت طهرة عن الآثام فلا تجب إلا حيث تصير طهرة عن الآثام وكونها طهرة عن الآثام لا يتقرر إلا حيث يمكن حصول الآثام وذلك لا يعقل إلا في حق البالغ فوجب أن لا يثبت وجوب الزكاة إلا في حق البالغ كما هو قول أبي حنيفة رحمه الله إلا أن الشافعي رحمه الله يجيب ويقول إن الآية تدل على أخذ الصدقة من أموالهم وأخذ الصدقة من أموالهم يستلزم كونها طهرة فلم قلتم إن أخذ الزكاة من أموال الصبي والمجنون طهرة لأنه لا يلزم من انتفاء سبب معين انتفاء الحكم مطلقاً
المسألة الثالثة في قوله تُطَهّرُهُمْ أقوال
القول الأول أن يكون التقدير خذ يا محمد من أموالهم صدقة فإنك تطهرهم
القول الثاني أن يكون تطهرهم معلقاً بالصدقة والتقدير خذ من أموالهم صدقة مطهرة وإنما حسن جعل الصدقة مطهرة لما جاء أن الصدقة أوساخ الناس فإذا أخذت الصدقة فقد اندفعت تلك الأوساخ فكان اندفاعها جارياً مجرى التطهير والله أعلم
إن على هذا القول وجب أن نقول إن قوله وَتُزَكّيهِمْ يكون منقطعاً عن الأول ويكون التقدير خُذِ يا محمد مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَة ً تُطَهّرُهُمْ تلك الصدقة وتزكيهم أنت بها
القول الثالث أن يجعل التاء في تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ ضمير المخاطب ويكون المعنى تطهرهم أنت أيها الآخذ بأخذها منهم وتزكيهم بواسطة تلك الصدقة
المسألة الرابعة قال صاحب ( الكشاف ) قرىء تُطَهّرُهُمْ من أطهره بمعنى طهره وتطهرهم بالجزم جواباً للأمر ولم يقرأ تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ إلا بإثبات الياء

ثم قال تعالى وَتُزَكّيهِمْ واعلم أن التزكية لما كانت معطوفة على التطهير وجب حصول المغايرة فقيل التزكية مبالغة في التطهير وقيل التزكية بمعنى الإنماء والمعنى أنه تعالى يجعل النقصان الحاصل بسبب إخراج قدر الزكاة سبباً للإنماء وقيل الصدقة تطهرهم عن نجاسة الذنب والمعصية والرسول عليه السلام يزكيهم ويعظم شأنهم ويثني عليهم عند إخراجها إلى الفقراء
ثم قال تعالى وَصَلّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَواتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم ءانٍ بغير واو وفتح التاء على التوحيد والمراد منه الجنس وكذلك في سورة هود أَصَلَواتُكَ تَأْمُرُكَ بغير واو وعلى التوحيد والباقون صَلَواتَكَ وكذلك في هود على الجمع قال أبو عبيدة والقراءة الأولى أولى لأن الصلاة أكثر ألا ترى أنه قال وَأَنْ أَقِيمُواْ والصلوات جمع قلة تقول ثلاث صلوات وخمس صلوات قال أبو حاتم هذا غلط لأن بناء الصلوات ليس للقلة لأنه تعالى قال مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ ( لقمان 27 ) ولم يرد القليل وقال وَهُمْ فِى الْغُرُفَاتِ ءامِنُونَ ( سبأ 37 ) وقال إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ ( الأحزاب 35 )
المسألة الثانية احتج مانعو الزكاة في زمان أبي بكر بهذه الآية وقالوا إنه تعالى أمر رسوله بأخذ الصدقات ثم أمره بأن يصلي عليهم وذكر أن صلاته سكن لهم فكان وجوب الزكاة مشروطاً بحصول ذلك السكن ومعلوم أن غير الرسول لا يقوم مقامه في حصول ذلك السكن فوجب أن لا يجب دفع الزكاة إلى أحد غير الرسول عليه الصلاة والسلام واعلم أنه ضعيف لأن سائر الآيات دلت على أن الزكاة إنما وجبت دفعاً لحاجة الفقير كما في قوله إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء ( التوبة 60 ) وكما في قوله وَفِى أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ( الذاريات 19 )
المسألة الثالثة لا شك أن الصلاة في أصل اللغة عبارة عن الدعاء فإذا قلنا صلى فلان على فلان أفاد الدعاء بحسب اللغة الأصلية إلا أنه صار بحسب العرف يفيد أنه قال له اللهم صل عليه فلهذا السبب اختلف المفسرون فنقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال معناه ادع لهم قال الشافعي رحمه الله والسنة للإمام إذا أخذ الصدقة أن يدعو للمتصدق ويقول آجرك الله فيما أعطيت وبارك لك فيما أبقيت وقال آخرون معناه أن يقول اللهم صل على فلان ونقلوا عن النبي عليه الصلاة والسلام أن آل أبي أوفى لما أتوه بالصدقة قال ( اللهم صل على آل أبي أوفى ) ونقل القاضي في ( تفسيره ) عن الكعبي في ( تفسيره ) أنه قال علي لعمر وهو مسجى عليك الصلاة والسلام ومن الناس من أنكر ذلك ونقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لا تنبغي الصلاة من أحد على أحد إلا في حق النبي عليه الصلاة والسلام
المسألة الرابعة أن أصحابنا يمنعون من ذكر صلوات الله عليه وعليه الصلاة والسلام إلا في حق الرسول والشيعة يذكرونه في علي وأولاده واحتجوا عليه بأن نص القرآن دل على أن هذا الذكر جائز في حق من يؤدي الزكاة فكيف يمنع ذكره في حق علي والحسن والحسين رضي الله عنهم ورأيت بعضهم قال أليس أن الرجل إذا قال سلام عليكم يقال له وعليكم السلام فدل هذا على أن ذكر هذا اللفظ جائز في حق جمهور المسلمين فكيف يمتنع ذكره في حق آل بيت الرسول عليه الصلاة والسلام قال القاضي إنه جائز في حق الرسول عليه الصلاة والسلام والدليل عليه أنهم قالوا يا رسول الله قد عرفنا السلام عليك فكيف

الصلاة عليك فقال على وجه التعليم قولوا ( اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ) ومعلوم أنه ليس في آل محمد نبي فيتناول علياً ذلك كما يجوز مثله في آل إبراهيم والله أعلم
المسألة الخامسة كنت قد ذكرت لطائف في قول بعضهم لبعض سلام عليكم وهي غير لائقة بهذا الموضع إلا أني رأيت أن أكتبها ههنا لئلا تضيع فقلت إذا قال الرجل لغيره سلام عليكم فقوله سلام عليكم مبتدأ وهو نكرة وزعموا أن جعل النكرة مبتدأ لا يجوز قالوا لأن الأخبار إنما يفيد إذا أخير على المعلوم بأمر غير معلوم إلا أنهم قالوا النكرة إذا كانت موصوفة حسن جعلها مبتدأ كما في قوله تعالى وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مّن مُّشْرِكٍ ( البقرة 221 )
إذا عرفت هذا فههنا وجهان الأول أن التنكير يدل على الكمال ألا ترى إلى قوله تعالى وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَواة ٍ ( البقرة 96 ) والمعنى ولتجدنهم أحرص الناس على حياة دائمة كاملة غير منقطعة
إذا ثبت هذا فقوله ( سلام ) لفظة منكرة فكان المراد منه سلام كامل تام وعلى هذا التقدير فقد صارت هذه النكرة موصوفة فصح جعلها مبتدأ وإذا كان كذلك فحينئذ يحصل الخبر وهو قوله ( عليكم ) والتقدير سلام كامل تام عليكم والثاني أن يجعل قوله ( عليكم ) صفة لقوله ( سلام ) فيكون مجموع قوله ( سلام عليكم ) مبتدأ ويضمر له خبر والتقدير سلام عليكم واقع كائن حاصل وربما كان حذف الخبر أدل على التهويل والتفخيم
إذا عرفت هذا فنقول إنه عند الجواب يقلب هذا الترتيب فيقال وعليكم السلام والسبب فيه ما قاله سيبويه أنهم يقدمون الأهم والذي هم بشأنه أعنى فلما قال وعليكم السلام دل على أن اهتمام هذا المجيب بشأن ذلك القائل شديد كامل وأيضاً فقوله ( وعليكم السلام ) يفيد الحصر فكأنه يقول إن كنت قد أوصلت السلام إلي فأنا أزيد عليه وأجعل السلام مختصاً بك ومحصوراً فيك امتثالاً لقوله تعالى وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيَّة ٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ( النساء 86 ) ومن لطائف قوله ( سلام عليكم ) أنها أكمل من قوله ( السلام عليك ) وذلك لأن قوله ( سلام عليك ) معناه سلام كامل تام شريف رفيع عليك وأما قوله السلام عليك فالسلام لفظ مفرد محلى بالألف واللام وأنه لا يفيد إلا أصل الماهية واللفظ الدال على أصل الماهية لا إشعار فيه بالأحوال العارضة للماهية وبكمالات الماهية فكان قوله ( سلام عليك ) أكمل من قوله ( السلام عليك ) ومما يؤكد هذا المعنى أنه أينما جاء لفظ ( السلام ) من الله تعالى ورد على سبيل التنكير كقوله وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِئَايَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ( الأنعام 54 ) وقوله قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ( النمل 59 ) وفي القرآن من هذا الجنس كثير أما لفظ ( السلام ) بالألف واللام فإنما جاء من الأنبياء عليهم السلام كقول موسى عليه السلام قَدْ جِئْنَاكَ بِئَايَة ٍ مّن رَّبّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ( طه 47 ) وأما في سورة مريم فلما ذكر الله يحيى عليه السلام قال وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ ( مريم 15 ) وهذا السلام من الله تعالى وفي قصة عيسى عليه السلام قال وَالسَّلَامُ عَلَى َّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ ( مريم 33 ) وهذا كلام عيسى عليه السلام فثبت بهذه الوجوه أن قوله ( سلام عليك ) أكمل من قوله ( السلام

عليك ) فلهذا السبب اختار الشافعي رحمه الله في قراءة التشهد قوله سلام عليك أيها النبي على سبيل التنكير ومن لطائف السلام أنه لا شك أن هذا العالم معدن الشرور والآفات والمحن والمخالفات واختلف العلماء الباحثون عن أسرار الأخلاق أن الأصل في جبلة الحيوان الخير أو الشر فمنهم من قال الأصل فيها الشر وهذا كالإجماع المنعقد بين جميع أفراد الإنسان بل نزيد ونقول إنه كالإجماع المنعقد بين جميع الحيوان والدليل عليه أن كل إنسان يرى إنساناً يعدو إليه مع أنه لا يعرفه فإن طبعه يحمله على الاحتراز عنه والتأهب لدفعه ولولا أن طبعه يشهد بأن الأصل في الإنسان الشر وإلا لما أوجبت فطرة العقل التأهب لدفع شر ذلك الساعي إليه بل قالوا هذا المعنى حاصل في كل الحيوانات فإن كل حيوان عدا إليه حيوان آخر فر ذلك الحيوان الأول واحترز منه فلو تقرر في طبعه أن الأصل في هذا الواصل هو الخير لوجب أن يقف لأن أصل الطبيعة يحمل على الرغبة في وجدان الخير ولو كان الأصل في طبع الحيوان أن يكون خيره وشره على التعادل والتساوي وجب أن يكون الفرار والوقوف متعادلين فلما لم يكن الأمر كذلك بل كل حيوان نوجه إليه حيوان مجهول الصفة عند الأول فإن ذلك الأول يحترز عنه بمجرد فطرته الأصلية علمنا أن الأصل في الحيوان هو الشر
إذا ثبت هذا فنقول دفع الشر أهم من جلب الخير ويدل عليه وجوه الأول أن دفع الشر يقتضي إبقاء الأصل أهم من تحصيل الزائد والثاني أن إيصال الخير إلى كل أحد ليس في الوسع أما كف الشر عن كل أحد داخل في الوسع لأن الأول فعل والثاني ترك وفعل ما لا نهاية له غير ممكن أما ترك ما لا نهاية له ممكن والثالث أنه إذا لم يحصل دفع الشر فقد حصل الشر وذلك يوجب حصول الألم والحزن وهو في غاية المشقة وأما إذا لم يحصل أيضاً إيصال الخير بقي الإنسان لا في الخير ولا في الشر بل على السلامة الأصلية وتحمل هذه الحالة سهل فثبت أن دفع الشر أهم من إيصال الخير وثبت أن الدنيا دار الشرور والآفات والمحن والبليات وثبت أن الحيوان في أصل الخلقة وموجب الفطرة منشأ للشرور وإذا وصل إنسان إلى إنسان كان أهم المهمات أن يعرفه أنه منه في السلامة والأمن والأمان فلهذا السبب وقع الاصطلاح على أن يقع ابتداء الكلام بذكر السلام وهو أن يقول ( سلام عليكم ) ومن لطائف قولنا ( سلام عليكم ) أن ظاهره يقتضي إيقاع السلام على جماعة والأمر كذلك بحسب العقل وبحسب الشرع أما بحسب الشرع فلأن القرآن دل على أن الإنسان لا يخلو عن جمع من الملائكة يحفظونه ويراقبون أمره كما قال تعالى وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ ( الانفطار 10 11 ) والعقل أيضاً يدل عليه وذلك لأن الأرواح البشرية أنواع مختلفة فبعضها أرواح خيرة عاقلة وبعضها كدرة خبيثة وبعضها شهوانية وبعضها غضبية ولكل طائفة من طوائف الأرواح البشرية السفلية روح علوي قوي يكون كالأب لتلك الأرواح البشرية وتكون هذه الأرواح بالنسبة إلى ذلك الروح العلوي كالأبناء بالنسبة إلى الأب وذلك الروح العلوي هو الذي يخصها بالإلهامات تارة في اليقظة وتارة في النوم وأيضاً الأرواح المفارقة عن أبدانها المشاكلة لهذه الأرواح في الصفات والطبيعة والخاصية يحصل لها نوع تعلق بهذا البدن بسبب المشاكلة والمجانسة وتصير كالمعاونة لهذه الروح على أعمالها إن خيراً فخير وأن شراً فشر وإذا عرفت هذا السر فالإنسان لا بد وأن يكون مصحوباً بتلك الأرواح المجانسة له فقوله ( سلام عليكم ) إشارة إلى تسليم هذا الشخص المخصوص على جميع الأرواح الملازمة المصاحبة إياه بسبب المصاحبة الروحانية ومن لطائف هذا الباب

أن الأرواح الإنسانية إذا اتصفت بالمعارف الحقيقية والأخلاق الفاضلة وقويت وتجردت ثم قوي تعلق بعضها ببعض انعكس أنوارها بعضها على بعض على مثال المرآة المشرقة المتقابلة فلهذا السبب فإن من أراد أن يقرأ وظيفة على أستاذه فالأدب أن يبدأ بحمد الله والثناء على الملائكة الأنبياء ثم يدعو لأستاذه ثم يشرع في القراءة والمقصود منها أن يقوي التعلق بين روحه وبين هذه الأرواح المقدسة الطاهرة حتى أن بسبب قوة ذلك التعلق ربما ظهر شيء من أنوارها وآثارها في روح هذا الطالب فيستقر في عقله من الأنوار الفائضة منها ويقوي روحه يمدد ذلك الفيض على إدراك المعارف والعلوم إذا عرفت هذا فإذا قال لغيره ( سلام عليكم ) حدث بينهما تعلق شديد وحصل بسبب ذلك التعلق تطابق الأرواح وتعاكس الأنوار ولنكتف بهذا القدر في هذا الباب فإنا قد ذكرنا أن هذا الفصل أجنبي عن هذا الكلام والله أعلم
المسألة السادسة قوله ءانٍ صَلَواتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ قال الواحدي السكن في اللغة ما سكنت إليه والمعنى أن صلاتك عليهم توجب سكون نفوسهم إليك وللمفسرين عبارات قال ابن عباس رضي الله عنهما دعاؤك رحمة لهم وقال قتادة وقار لهم وقال الكلبي طمأنينة لهم وقال الفراء إذا استغفرت لهم سكنت نفوسهم إلى أن الله تعالى قبل توبتهم وأقول إن روح محمد عليه السلام كانت روحاً قوية مشرقة صافية باهرة فإذا دعا محمد لهم وذكرهم بالخير فاضت آثار من قوته الروحانية على أرواحهم فأشرقت بهذا السبب أرواحهم وصفت أسرارهم وانتقلوا من الظلمة إلى النور ومن الجسمانية إلى الروحانية وتقريره ما تقدم في المسألة الخامسة
ثم قال وَاللَّهُ سَمِيعٌ لقولهم عَلِيمٌ بنياتهم
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَة َ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ
واعلم أنه تعالى لما حكى عن القوم الذين تقدم ذكرهم أنهم تابوا عن ذنوبهم وأنهم تصدقوا وهناك لم يذكر إلا قوله عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ وما كان ذلك صريحاً في قبول التوبة ذكر في هذه الآية أنه يقبل التوبة وأنه يأخذ الصدقات والمقصود ترغيب من لم يتب في التوبة وترغيب كل العصاة في الطاعة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال أبو مسلم قوله أَلَمْ يَعْلَمُواْ وإن كان بصيغة الاستفهام إلا أن المقصود منه التقرير في النفس ومن عادة العرب في إيهام المخاطب وإزالة الشك عنه أن يقولوا أما علمت أن من علمك يجب عليك خدمته أما علمت أن من أحسن إليك يجب عليك شكره فبشر الله تعالى هؤلاء التائبين بقبول توبتهم وصدقاتهم
ثم زاده تأكيداً بقوله وَهُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ

المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) قرىء أَلَمْ يَعْلَمُواْ بالياء والتاء وفيه وجهان الأول أن يكون المراد من هذه الآية هؤلاء الذين تابوا يعني أَلَمْ يَعْلَمُواْ قبل أن يتاب عليهم وتقبل صدقاتهم أن الله يقبل التوبة الصحيحة ويقبل الصدقات الصادرة عن خلوص النية والثاني أن يكون المراد من هذه الآية غير التائبين ترغيباً لهم في التوبة روي أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لما حكم بصحة توبتهم قال ( الذين لم يتوبوا هؤلاء الذين تابوا كانوا بالأمس معنا لا يكلمون ولا يجالسون فما لهم ) فنزلت هذه الآية
المسألة الثالثة قوله هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَة َ في فوائد
الفائدة الأولى أنه تعالى سمى نفسه ههنا باسم الله ثم قال عقيبه هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَة َ وفيه تنبيه على أن كونه إلهاً يوجب قبول التوبة وذلك لأن الإله هو الذي يمتنع تطرق الزيادة والنقصان إليه ويمتنع أن يزداد حاله بطاعة المطيعين وأن ينتقص حاله بمعصية المذنبين ويمتنع أيضاً أن يكون له شهوة إلى الطاعة ونفرة عن المعصية حتى يقال إن نفرته وغضبه يحمله على الانتقام بل المقصود من النهي عن المعصية والترغيب في الطاعة هو أن كل ما دعا القلب إلى عالم الآخرة ومنازل السعداء ونهاه عن الاشتغال بالجسمانيات الباطلة فهو العبادة والعمل الحق والطريق الصالح وكل ما كان بالضد منه فهو المعصية والعمل الباطل فالمذنب لا يضر إلا نفسه والمطيع لا ينفع إلا نفسه كما قال تعالى إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لاِنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ( الإسراء 7 ) فإن كان الإله رحيماً حكيماً كريماً ولم يكن غضبه على المذنب لأجل أنه تضرر بمعصيته فإذا انتقل العبد من المعصية إلى الطاعة كان كرمه كالموجب عليه قبول توبته فثبت أن الإلهية لما كانت عبارة عن الاستغناء المطلق وكان الاستغناء المطلق ممتنع الحصول لغيره كان قبول التوبة من الغير كالممتنع إلا لسبب آخر منفصل أو لمعارض أو لمباين
الفائدة الثانية في هذا التخصيص هو أن قبول التوبة ليس إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إنما إلى الله الذي هو يقبل التوبة تارة ويردها أخرى فاقصدوا الله بها ووجهوها إليه وقيل لهؤلاء التائبين اعملوا فإن عملكم لا يخفى على الله خيراً كان أو شراً
المسألة الرابعة قالت المعتزلة قبول التوبة واجب عقلاً على الله تعالى وقال أصحابنا قبول التوبة واجب بحكم الوعد والتفضل والإحسان أما عقلاً فلا وحجة أصحابنا على عدم وجوب قبول التوبة وجوه الأول أن الوجوب لا يتقرر معناه ألا إذا كان بحيث لو لم يفعله الفاعل لاستحق الذم فلو وجب قبول التوبة على الله تعالى لكان بحيث لو لم يقبلها لصار مستحقاً للذم وهذا محال لأن من كان كذلك فإنه يكون مستكملاً بفعل القبول والمستكمل بالغير ناقص لذاته وذلك في حق الله تعالى محال الثاني أن الذم إنما يمنع من الفعل إذا كان بحيث يتأذى عن سماع ذلك الذم وينفر عنه طبعه ويظهر له بسببه نقصان حال أما من كان متعالياً عن الشهوة والنفرة والزيادة والنقصان لا يعقل تحقق الوجوب في حقه بهذا المعنى الثالث أنه تعالى تمدح بقبول التوبة في هذه الآية ولو كان ذلك واجباً لما تمدح به لأن أداء الواجب لا يفيد المدح والثناء والتعظيم
المسألة الخامسة عَنْ في قوله تعالى عَنْ عِبَادِهِ فيه وجهان الأول أنه لا فرق بين قوله عَنْ

عِبَادِهِ وبين قوله من عباده يقال أخذت هذا منك وأخذت هذا عنك والثاني قال القاضي لعل عَنْ أبلغ لأنه ينبىء عن القبول مع تسهيل سبيله إلى التوبة التي قبلت وأقول إنه لم يبين كيفية دلالة لفظة عَنْ على هذا المعنى والذي أقوله إن كلمة عَنْ وكلمة ( من ) متقاربتان إلا أن كلمة عَنْ تفيد البعد فإذا قيل جلس فلان عن يمين الأمير أفاد أنه جلس في ذلك الجانب لكن مع ضرب من البعد فقوله عَنْ عِبَادِهِ يفيد أن التائب يجب أن يعتقد في نفسه أنه صار مبعداً عن قبول الله تعالى له بسبب ذلك الذنب ويحصل له انكسار العبد الذي طرده مولاه وبعده عن حضرة نفسه فلفظة عَنْ كالتنبيه على أنه لا بد من حصول هذا المعنى للتائب
المسألة السادسة قوله وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ فيه سؤال وهو أن ظاهر هذه الآية يدل على أن الآخذ هو الله وقوله خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَة ً يدل على أن الآخذ هو الرسول عليه الصلاة والسلام وقوله عليه السلام لمعاذ ( خذها من أغنيائهم ) يدل على أن آخذ تلك الصدقات هو معاذ وإذا دفعت الصدقة إلى الفقير فالحس يشهد أن آخذها هو الفقير فكيف الجمع بين هذه الألفاظ
والجواب من وجهين الأول أنه تعالى لما بين في قوله خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَة ً أن الآخذ هو الرسول ثم ذكر في هذه الآية أن الآخذ هو الله تعالى كان المقصود منه أن أخذ الرسول قائم مقام أخذ الله تعالى والمقصود منه التنبيه على تعظيم شأن الرسول من حيث إن أخذه للصدقة جار مجرى أن يأخذها الله ونظيره قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ ( الفتح 10 ) وقوله إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ ( الأحزاب 57 ) والمراد منه إيذاء النبي عليه السلام
والجواب الثاني أنه أضيف إلى الرسول عليه السلام بمعنى أنه يأمر بأخذها ويبلغ حكم الله في هذه الواقعة إلى الناس وأضيف إلى الفقير بمعنى أنه هو الذي يباشر الأخذ ونظيره أنه تعالى أضاف التوفي إلى نفسه بقوله تعالى وَهُوَ الَّذِى يَتَوَفَّاكُم ( الأنعام 60 ) وأضافه إلى ملك الموت وهو قوله تعالى قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ ( السجدة 11 ) وأضافه إلى الملائكة الذين هم أتباع ملك الموت وهو قوله حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا ( الأنعام 61 ) فأضيف إلى الله بالخلق وإلى ملك الموت للرياسة في ذلك النوع من العمل وإلى أتباع ملك الموت يعني أنهم هم الذين يباشرون الأعمال التي عندها يخلق الله الموت فكذا ههنا
إذا عرفت هذا فنقول قوله وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ تشريف عظيم لهذه الطاعة والأخبار فيه كثيرة عن النبي عليه السلام أنه قال ( إن الله يقبل الصدقة ولا يقبل منها إلا طيباً وأنه يقبلها بيمينه ويربيها لصاحبها كما يربى أحدكم مهره أو فصيله حتى أن اللقمة تكون عند الله أعظم من أحد ) وقال عليه السلام ( والذي نفس محمد بيده ما من عبد مسلم يتصدق بصدقة فتصل إلى الذي يتصدق بها عليه حتى تقع في كف الله ولما روى الحسن هذين الخبرين قال ويمين الله وكفه وقبضته لا توصف لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ْء ( الشورى 11 ) واعلم أن لفظ اليمين والكف من التقديس
وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ

وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن هذا الكلام جامع للترغيب والترهيب وذلك لأن المعبود إذا كان لا يعلم أفعال العباد لم ينتفع العبد بفعله ولهذا قال إبراهيم عليه السلام لأبيه لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً ( مريم 42 ) وقلت في بعض المجالس ليس المقصود من هذه الحجة التي ذكرها إبراهيم عليه السلام القدح في إلهية الصنم لأن كل أحد يعلم بالضرورة أنه حجر وخشب وأنه معرض لتصرف المتصرفين فمن شاء أحرقه ومن شاء كسره ومن كان كذلك كيف يتوهم العاقل كونه إلهاً بل المقصود أن أكثر عبدة الأصنام كانوا في زمان إبراهيم عليه السلام أتباع الفلاسفة القائلين بأن إله العالم موجب بالذات وليس بموجد بالمشيئة والاختيار فقال الموجب بالذات إذا لم يكن عالماً بالخيرات ولم يكن قادراً على الإنفاع والإضرار ولا يسمع دعاء المحتاجين ولا يرى تضرع المساكين فأي فائدة في عبادته فكان المقصود من دليل إبراهيم عليه السلام الطعن في قول من يقول إله العالم موجب بالذات أما إذا كان فاعلاً مختاراً وكان عالماً بالجزئيات فحينئذ يحصل للعباد الفوائد العظيمة وذلك لأن العبد إذا أطاع علم المعبود طاعته وقدر على إيصال الثواب إليه في الدنيا والآخرة وإن عصاه علم المعبود ذلك وقدر على إيصال العقاب إليه في الدنيا والآخرة فقوله وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ ترغيب عظيم للمطيعين وترهيب عظيم للمذنبين فكأنه تعالى قال اجتهدوا في المستقبل فإن لعملكم في الدنيا حكماً وفي الآخرة حكماً أما حكمه في الدنيا فهو أنه يراه الله ويراه الرسول ويراه المسلمون فإن كان طاعة حصل منه الثناء العظيم والثواب العظيم في الدنيا والآخرة وإن كان معصية حصل منه الذم العظيم في الدنيا والعقاب الشديد في الآخرة فثبت أن هذه اللفظة الواحدة جامعة لجميع ما يحتاج المرء إليه في دينه ودنياه ومعاشه ومعاده
المسألة الثانية دلت الآية على مسائل أصولية
الحكم الأول
إنها تدل على كونه تعالى رائياً للمرئيات لأن الرؤية المعداة إلى مفعول واحد هي الإبصار والمعداة إلى مفعولين هي العلم كما تقول رأيت زيداً فقيهاً وههنا الرؤية معداة إلى مفعول واحد فتكون بمعنى الإبصار وذلك يدل على كونه مبصراً للأشياء كما أن قول إبراهيم عليه السلام لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ ( مريم 42 ) يدل على كونه تعالى مبصراً ورائياً للأشياء ومما يقوي أن الرؤية لا يمكن حملها ههنا على العلم أنه تعالى وصف نفسه بالعلم بعد هذه الآية فقال وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ ولو كانت هذه الرؤية هي العلم لزم حصول التكرير الخالي عن الفائدة وهو باطل
الحكم الثاني
مذهب أصحابنا أن كل موجود فإنه يصح رؤيته واحتجوا عليه بهذه الآية وقالوا قد دللنا على بأن الرؤية المذكورة في هذه الآية معداة إلى مفعول واحد والقوانين اللغوية شاهدة أن الرؤية المعداة إلى

المفعول الواحد معناها الإبصار فكانت هذه الرؤية معناها الإبصار ثم إنه تعالى عدى هذه الرؤية إلى عملهم والعمل ينقسم إلى أعمال القلوب كالإرادات والكراهات والأنظار وإلى أعمال الجوارح كالحركات والسكنات فوجب كونه تعالى رائياً للكل وذلك يدل على أن هذه الأشياء كلها مرئية لله تعالى وأما الجبائي فإنه كان يحتج بهذه الآية على كونه تعالى رائياً للحركات والسكنات والاجتماعات والافتراقات فلما قيل له إن صح هذا الاستدلال فيلزمك كونه تعالى رائياً لأعمال القلوب فأجاب عنه أنه تعالى عطف عليه قوله وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وهم إنما يرون أفعال الجوارح فلما تقيدت هذه الرؤية بأعمال الجوارح في حق المعطوف وجب تقييدها بهذا القيد في حق المعطوف عليه وهذا بعيد لأن العطف لا يفيد إلا أصل التشريك فأما التسوية في كل الأمور فغير واجب فدخول التخصيص في المعطوف لا يوجب دخول التخصيص في المعطوف عليه ويمكن الجواب عن أصل الاستدلال فيقال رؤية الله تعالى حاصلة في الحال والمعنى الذي يدل عليه لفظ الآية وهو قوله فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ أمر غير حاصل في الحال لأن السين تختص بالاستقبال فثبت أن المراد منه الجزاء على الأعمال فقوله فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ أي فسيوصل لكم جزاء أعمالكم ولمجيب أن يجيب عنه بأن إيصال الجزاء إليهم مذكور بقوله فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فلو حملنا هذه الرؤية على إيصال الجزاء لزم التكرار وأنه غير جائز
المسألة الثالثة في قوله فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ سؤال وهو أن عملهم لا يراه كل أحد فما معنى هذا الكلام
والجواب معناه وصول خبر ذلك العمل إلى الكل قال عليه السلام ( لو أن رجلاً عمل عملاً في صخرة لا باب لها ولا كوة لخرج عمله إلى الناس كائناً ما كان )
فإن قيل فما الفائدة في ذكر الرسول والمؤمنين بعد ذكر الله في أنهم يرون أعمال هؤلاء التائبين
قلنا فيه وجهان
الوجه الأول أن أجدر ما يدعو المرء إلى العمل الصالح ما يحصل له من المدح والتعظيم والعز الذي يلحقه عند ذلك فإذا علم أنه إذا فعل ذلك الفعل عظمه الرسول والمؤمنون عظم فرحه بذلك وقويت رغبته فيه ومما ينبه على هذه الدقيقة أنه ذكر رؤية الله تعالى أولاً ثم ذكر عقيبها رؤية الرسول عليه السلام والمؤمنين فكأنه قيل إن كنت من المحقين المحققين في عبودية الحق فاعمل الأعمال الصالحة لله تعالى وإن كنت من الضعفاء المشغولين بثناء الخلق فاعمل الأعمال الصالحة لتفوز بثناء الخلق وهو الرسول والمؤمنون
الوجه الثاني في الجواب ما ذكره أبو مسلم أن المؤمنين شهداء الله يوم القيامة كما قال وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا ( البقرة 143 ) الآية والرسول شهيد الأمة كما قال فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّة ٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً ( النساء 41 ) فثبت أن الرسول والمؤمنين شهداء الله يوم القيامة والشهادة لا تصح إلا بعد الرؤية فذكر الله أن الرسول عليه السلام والمؤمنين يرون أعمالهم والمقصود التنبيه على أنهم يشهدون يوم القيامة عند حضور الأولين والآخرين بأنهم أهل الصدق والسداد والعفاف والرشاد
ثم قال تعالى وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ وفيه مسائل

المسألة الأولى قال ابن عباس رضي الله عنهما الغيب ما يسرونه والشهادة ما يظهرونه وأقول لا يبعد أن يكون الغيب ما حصل في قلوبهم من الدواعي والصوارف والشهادة الأعمال التي تظهر على جوارحهم وأقول أيضاً مذهب حكماء الإسلام أن الموجودات الغائبة عن الحواس علل أو كالعلل للموجودات المحسوسات وعندهم أن العلم بالعلة علة للعلم بالمعلول فوجب كون العلم بالغيب سابقاً على العلم بالشهادة فلهذا السبب أينما جاء هذا الكلام في القرآن كان الغيب مقدماً على الشهادة
المسألة الثانية إن حملنا قوله تعالى فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ على الرؤية فحينئذ يظهر أن معناه مغاير لمعنى قوله وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ وإن حملنا تلك الرؤية على العلم أو على إيصال الثواب جعلنا قوله وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ جارياً مجرى التفسير لقوله فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ معناه بإظهار المدح والثناء والإعزاز في الدنيا أو بإظهار أضدادها وقوله وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ معناه ما يظره في القيامة من حال الثواب والعقاب
ثم قال فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ والمعنى يعرفكم أحوال أعمالكم ثم يجازيكم عليها لأن المجازاة من الله تعالى لا تحصل في الآخرة إلا بعد التعريف ليعرف كل أحد أن الذي وصل إليه عدل لا ظلم فإن كان من أهل الثواب كان فرحه وسعادته أكثر وإن كان من أهل العقاب كان غمه وخسرانه أكثر وقال حكماء الإسلام المراد من قوله تعالى فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ الإشارة إلى الثواب الروحاني وذلك لأن العبد إذا تحمل أنواعاً من المشاق في الأمور التي أمره بها مولاه فإذا علم العبد أن مولاه يرى كونه متحملاً لتلك المشاق عظم فرحه وقوي ابتهاجه بها وكان ذلك عنده ألذ من الخلع النفيسة والأموال العظيمة
وأما قوله وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ فالمراد منه تعريف عقاب الخزي والفضيحة ومثاله أن العبد الذي خصه السلطان بالوجوه الكثيرة من الإحسان إذا أتى بأنواع كثيرة من المعاصي فإذا حضر ذلك العبد عند ذلك السلطان وعدد عليه أنواع قبائحه وفضائحه قوي حزنه وعظم غمه وكملت فضيحته وهذا نوع من العذاب الروحاني وربما رضي العاقل بأشد أنواع العذاب الجسماني حذراً منه والمقصود من هذه الآية تعريف هذا النوع من العقاب الروحاني نسأل الله العصمة منه ومن سائر العذاب
وَءَاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لاٌّ مْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة ونافع والكسائي وحفص عن عاصم مرجون بغير همز والباقون بالهمز وهما لغتان أرجأت الأمر وأرجيته بالهمز وتركه إذا أخرته وسميت المرجئة بهذا الاسم لأنهم لا يجزمون القول بمغفرة التائب ولكن يؤخرونها إلى مشيئة الله تعالى وقال الأوزاعي لأنهم يؤخرون العمل عن الإيمان
المسألة الثانية اعلم أنه تعالى قسم المتخلفين عن الجهاد ثلاثة أقسام
القسم الأول المنافقون الذين مردوا على النفاق

القسم الثاني التائبون وهم المرادون بقوله وَءاخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ وبين تعالى أنه قبل توبتهم
والقسم الثالث الذين بقوا موقوفين وهم المذكورون في هذه الآية والفرق بين القسم الثاني وبين هذا الثالث أو أولئك سارعوا إلى التوبة وهؤلاء لم يسارعوا إليها قال ابن عباس رضي الله عنهما نزلت هذه الآية في كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية فقال كعب أنا أفره أهل المدينة جملاً فمتى شئت لحقت الرسول فتأخر أياماً وأيس بعدها من اللحوق به فندم على صنيعه وكذلك صاحباه فلما قدم رسول الله قيل لكعب اعتذر إليه من صنيعك فقال لا والله حتى تنزل توبتي وأما صاحباه فاعتذرا إليه عليه السلام فقال ( ما خلفكم عني ) فقالا لا عذر لنا إلا الخطيئة فنزل قوله تعالى وَءاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لاْمْرِ اللَّهِ فوقفهم الرسول بعد نزول هذه الآية ونهى الناس عن مجالستهم وأمرهم باعتزال نسائهم وإرسالهن إلى أهاليهن فجاءت امرأة هلال تسأل أن تأتيه بطعام فإنه شيخ كبير فأذن لها في ذلك خاصة وجاء رسول من الشأم إلى كعب يرغبه في اللحاق بهم فقال كعب بلغ من خطيئتي أن طمع في المشركون قال فضاقت عليَّ الأرض بما رحبت وبكى هلال بن أمية حتى خيف على بصره فلما مضى خمسون يوماً نزلت توبتهم بقوله لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِى ّ ( التوبة 117 ) وبقوله تعالى وَعَلَى الثَّلَاثَة ِ الَّذِينَ خُلّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الارْضُ ( التوبة 118 ) الآية وقال الحسن يعني بقوله وَءاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لاْمْرِ اللَّهِ قوماً من المنافقين أرجأهم رسول الله عن حضرته وقال الأصم يعني المنافقين وهو مثل قوله وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مّنَ الاْعْرَابِ مُنَافِقُونَ أرجأهم الله فلم يخبر عنهم ما علمه منهم وحذرهم بهذه الآية إن لم يتوبوا أن ينزل فيهم قرآناً فقال الله تعالى إِمَّا يُعَذّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى لقائل أن يقول إن كلمة ( إما ) و ( أما ) للشك والله تعالى منزه عنه وجوابه المراد منه ليكن أمرهم على الخوف والرجاء فجعل أناس يقولون هلكوا إذا لم ينزل الله تعالى لهم عذراً وآخرون يقولون عسى الله أن يغفر لهم
المسألة الثانية لا شك أن القوم كانوا نادمين على تأخرهم عن الغزو وتخلفهم عن الرسول عليه اسلام ثم إنه تعالى لم يحكم بكونهم تائبين بل قال إِمَّا يُعَذّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وذلك يدل على أن الندم وحده لا يكون كافياً في صحة التوبة
فإن قيل فما تلك الشرائط
قلنا لعلهم خافوا من أمر الرسول بإيذائهم أو خافوا من الخجلة والفضيحة وعلى هذا التقدير فتوبتهم غير صحيحة ولا مقبولة فاستمر عدم قبول التوبة إلى أن سهل أحوال الخلق في قدحهم ومدحهم عندهم فعند ذلك ندموا على المعصية لنفس كونها معصية وعند ذلك صحت توبتهم
المسألة الثالثة احتج الجبائي بهذه الآية على أنه تعالى لا يعفو عن غير التائب وذلك لأنه قال في حق هؤلاء المذنبين إِمَّا يُعَذّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وذلك يدل على أنه لا حكم إلا أحد هذين الأمرين وهو إما التعذيب وإما التوبة وأما العفو عن الذنب من غير التوبة فهو قسم ثالث فلما أهمل الله تعالى ذكره دل على أنه باطل وغير معتبر

والجواب أنا لا نقطع بحصول العفو عن جميع المذنبين بل نقطع بحصول العفو في الجملة وأما في حق كل واحد بعينه فذلك مشكوك فيه ألا ترى أنه تعالى قال وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء فقطع بغفران ما سوى الشرك لكن لا في حق كل أحد بل في حق من يشاء فلم يلزم من عدم العفو في حق هؤلاء عدم العفو على الإطلاق وأيضاً فعدم الذكر لا يدل على العدم ألا ترى أنه تعالى قال وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَة ٌ ضَاحِكَة ٌ مُّسْتَبْشِرَة ٌ ( عبس 38 39 ) وهم المؤمنون وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَة ٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَة ٌ أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَة ُ الْفَجَرَة ُ ( عبس 40 41 ) فههنا المذكورون إما المؤمنون وإما الكافرون ثم إن عدم ذكر القسم الثالث لم يدل عند الجبائي على نفيه فكذا ههنا
وأما قوله تعالى وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أي عَلِيمٌ بما في قلوب هؤلاء المؤمنين حَكِيمٌ فيما يحكم فيهم ويقضي عليهم
وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر أصناف المنافقين وطرائقهم المختلفة قال وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وابن عامر الَّذِينَ اتَّخَذُواْ بغير واو وكذلك هو في مصاحف أهل المدينة والباقون بالواو وكذلك هو في مصاحف مكة والعراف فالأول على أنه بدل من قوله وَءاخَرُونَ مُرْجَوْنَ والثاني أن يكون التقدير ومنهم الذين اتخذوا مسجداً ضراراً
المسألة الثانية قال الواحدي قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وعامة أهل التفسير رضي الله عنهم الذين اتخذوا مسجداً ضراراً كانوا اثني عشر رجلاً من المنافقين بنوا مسجداً يضارون به مسجد قباء وأقول إنه تعالى وصفه بصفات أربعة
الصفة الأولى ضراراً والضرار محاولة الضر كما أن الشقاق محاولة ما يشق قال الزجاج وانتصب قوله ضِرَارًا لأنه مفعول له والمعنى اتخذوه للضرار ولسائر الأمور المذكورة بعده فلما حذفت اللام اقتضاه الفعل فنصب قال وجائز أن يكون مصدراً محمولاً على المعنى والتقدير اتخذوا مسجداً ضروا به ضراراً
والصفة الثانية قوله وَكُفْراً قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد به ضرراً للمؤمنين وكفراً بالنبي عليه السلام وبما جاء به وقال غيره اتخذوه ليكفروا فيه بالطعن على النبي عليه السلام والإسلام
الصفة الثالثة قوله وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ أي يفرقون بواسطته جماعة المؤمنين وذلك لأن

المنافقين قالوا نبني مسجداً فنصلي فيه ولا نصلي خلف محمد فإن أتانا فيه صلينا معه وفرقنا بينه وبين الذين يصلون في مسجده فيؤدي ذلك إلى اختلاف الكلمة وبطلان الألفة
والصفة الرابعة قوله وَإِرْصَادًا لّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قالوا المراد أبو عامر الراهب والد حنظلة الذي غسلته الملائكة وسماه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الفاسق وكان قد تنصر في الجاهلية وترهب وطلب العلم فلما خرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عاداه لأنه زالت رياسته وقال لا أجد قوماً يقاتلونك إلا قاتلتك معهم ولم يزل يقاتله إلى يوم حنين فلما انهزمت هوازن خرج إلى الشأم وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح وابنوا لي مسجداً فإن ذاهب إلى قيصر وآت من عنده بجند فأخرج محمداً وأصحابه فبنوا هذا المسجد وانتظروا مجيء أبي عامر ليصلى بهم في ذلك المسجد قال الزجاج الإرصاد الانتظار وقال ابن قتيبة الإرصاد الانتظار مع العداوة وقال الأكثرون الإرصاد الأعداد قال تعالى إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ( الفجر 14 ) وقوله مِن قَبْلُ يعني من قبل بناء مسجد الضرار ثم إنه تعالى لما وصف هذا المسجد بهذه الصفات الأربعة قال وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى أي ليحلفن ما أردنا ببنائه إلا الفعلة الحسنى وهو الرفق بالمسلمين في التوسعة على أهل الضعف والعلة والعجز عن المصير إلى مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك أنهم قالوا لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إنا قد بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة الممطرة والليلة الشاتية
ثم قال تعالى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ والمعنى أن الله تعالى أطلع الرسول على أنهم حلفوا كاذبين
واعلم أن قوله وَالَّذِينَ محله الرفع على الابتداء وخبره محذوف أي وممن ذكرنا الذين
لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِى بَنَوْاْ رِيبَة ً فِى قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
قال المفسرون إن المنافقين لما بنوا ذلك المسجد لتلك الأغراض الفاسدة عند ذهاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )

إلى غزوة تبوك قالوا يا رسول الله بنينا مسجداً لذي العلة والليلة الممطرة والشاتية ونحن نحب أن تصلي لنا فيه وتدعو لنا بالبركة فقال عليه السلام إني على جناح سفر وإذا قدمنا إن شاء الله صلينا فيه فلما رجع من غزوة تبوك سألوه إتيان المسجد فنزلت هذه الآية فدعا بعض القوم وقال انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وخربوه ففعلوا ذلك وأمر أن يتخذ مكانه كناسة يلقي فيها الجيف والقمامة وقال الحسن هم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يذهب إلى ذلك المسجد فنادى جبريل عليه السلام لا تقم فيه أبداً
إذا عرفت هذا فنقول قوله لاَ تَقُمْ فِيهِ نهى له عليه السلام عن أن يقوم فيه قال ابن جريج فرغوا من إتمام ذلك المسجد يوم الجمعة فصلوا فيه ذلك اليوم ويوم السبت والأحد وانهار في يوم الاثنين ثم إنه تعالى بين العلة في هذا النهي وهي أن أحد المسجدين لما كان مبنياً على التقوى من أول يوم وكانت الصلاة في مسجد آخر تمنع من الصلاة في مسجد التقوى كان من المعلوم بالضرورة أن يمنع من الصلاة في المسجد الثاني
فإن قيل كون أحد المسجدين أفضل لا يوجب المنع من إقامة الصلاة في المسجد الثاني
قلنا التعليل وقع بمجموع الأمرين أعني كون مسجد الضرار سبباً للمفاسد الأربعة المذكورة ومسجد التقوى مشتملاً على الخيرات الكثيرة ومن الروافض من يقول بين الله تعالى أن المسجد الذي بني من أول الأمر على التقوى أحق بالقيام فيه من المسجد الذي لا يكون كذلك وثبت أن علياً ما كفر بالله طرفة عين فوجب أن يكون أولى بالقيام بالإمامة ممن كفر بالله في أول أمره وجوابنا أن التعليل وقع بمجموع الأمور المذكورة فزال هذا السؤال واختلفوا في أن مسجد التقوى ما هو قيل إنه مسجد قباء وكان عليه السلام يأتيه في كل سنة فيصلي فيه والأكثرون أنه مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال سعيد بن المسيب المسجد الذي أسس على التقوى مسجد الرسول عليه السلام وذكر أن الرجلين اختلفا فيه فقال أحدهما مسجد الرسول وقال آخر قباء فسألاه عليه السلام فقال هو مسجدي هذا وقال القاضي لا يمنع دخولهما جميعاً تحت هذا الذكر لأن قوله لَّمَسْجِدٌ أُسّسَ عَلَى التَّقْوَى هو كقول القائل لرجل صالح أحق أن تجالسه فلا يكون ذلك مقصوراً على واحد
فإن قيل لم قال أحق أن تقوم فيه مع أنه لا يجوز قيامه في الآخر
قلنا المعنى أنه لو كان ذلك جائزاً لكان هذا أولى للسبب المذكور
ثم قال تعالى فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهّرِينَ وفيه مباحث
البحث الأول أنه تعالى رجح مسجد التقوى بأمرين أحدهما أنه بني على التقوى وهو الذي تقدم تفسيره والثاني إن فيه رجالاً يحبون أن يتطهروا وفي تفسير هذه الطهارة قولان الأول المراد منه التطهر عن الذنوب والمعاصي وهذا القول متعين لوجوه أولها أن التطهر عن الذنوب والمعاصي هو المؤثر في القرب من الله تعالى واستحقاق ثوابه ومدحه والثاني أنه تعالى وصف أصحاب مسجد الضرار بمضارة المسلمين والكفر بالله والتفريق بين المسلمين فوجب كون هؤلاء بالضد من صفاتهم وما ذاك إلا كونهم مبرئين عن الكفر والمعاصي والثالث أن طهارة الظاهر إنما يحصل لها أثر وقدر عند الله لو حصلت طهارة الباطن من الكفر والمعاصي أما لو حصلت طهارة الباطن من الكفر والمعاصي ولم تحصل نظافة الظاهر

كأن طهارة الباطن لها أثر فكان طهارة الباطن أولى الرابع روى صاحب ( الكشاف ) أنه لما نزلت هذه الآية مشى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ومعه المهاجرون حتى وقف على باب مسجد قباء فإذا الأنصار جلوس فقال ( أمؤمنون أنتم ) فسكت القوم ثم أعادها فقال عمر يا رسول الله إنهم لمؤمنون وأنا معهم فقال عليه السلام ( أترضون بالقضاء ) قالوا نعم قال ( أتصبرون على البلاء ) قالوا نعم قال ( أتشكرون في الرخاء ) قالوا نعم قال عليه السلام ( مؤمنون ورب الكعبة ) ثم قال ( يا معشر الأنصار إن الله أثنى عليكم فما الذي تصنعون في الوضوء ) قالوا نتبع الماء الحجر فقرأ النبي عليه السلام فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ الآية
والقول الثاني أن المراد منه الطهارة بالماء بعد الحجر وهو قول أكثر المفسرين من أهل الأخبار
والقول الثالث أنه محمول على كلا الأمرين وفيه سؤال وهو أن لفظ الطهارة حقيقة في الطهارة عن النجاسات العينية ومجاز في البراءة عن المعاصي والذنوب واستعمال اللفظ الواحد في الحقيقة والمجاز معاً لا يجوز
والجواب أن لفظ النجس اسم للمستقذر وهو القدر مفهوم مشترك فيه بين القسمين وعلى هذا التقدير فإنه يزول السؤال ثم إنه تعالى أعاد السبب الأول وهو كون المسجد مبنياً على التقوى فقال أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ وفيه مباحث
البحث الأول البنيان مصدر كالغفران والمراد ههنا المبني وإطلاق لفظ المصدر على المفعول مجاز مشهور يقال هذا ضرب الأمير ونسج زيد والمراد مضروبه ومنسوجه وقال الواحدي يجوز أن يكون لبيان جمع بنيانة إذا جعلته اسماً لأنهم قالوا بنيانة في الواحد
البحث الثاني قرأ نافع وابن عامر أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على فعل ما لم يسم فاعله وذلك الفاعل هو الباني والمؤسس أما قوله عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ أي للخوف من عقاب الله والرغبة في ثوابه وذلك لأن الطاعة لا تكون طاعة إلا عند هذه الرهبة والرغبة وحاصل الكلام أن الباني لما بنى ذلك البناء لوجه الله تعالى وللرهبة من عقابه والرغبة في ثوابه كان ذلك البناء أفضل وأكمل من البناء الذي بناه الباني لداعية الكفر بالله والإضرار بعباد الله أما قوله مِن أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ ففيه مباحث
البحث الأول قرأ ابن عامر وحمزة وأبو بكر عن عاصم جُرُفٍ ساكنة الراء والباقون بضم الراء وهما لغتان جرف وجرف كشغل وشغل وعنق وعنق
البحث الثاني قال أبو عبيدة الشفا الشفير وشفا الشيء حرفه ومنه يقال أشفى على كذا إذا دنا منه والجرف هو ما إذا سال السيل وانحرف الوادي ويبقى على طرف السيل طين واه مشرف على السقوط ساعة فساعة فذلك الشيء هو الجرف وقوله هَارٍ قال الليث الهور مصدر هار الجرف يهور إذا انصدع من خلفه وهو ثابت بعد في مكانه وهو جرف هار هائر فإذا سقط فقد انهار وتهور
إذا عرفت هذه الألفاظ فنقول المعنى أفمن أسس بنيان دينه على قاعدة قوية محكمة وهي الحق الذي هو تقوى الله ورضوانه خير أمن أسس على قاعدة هي أضعف القواعد وأقلها بقاء وهو الباطل والنفاق

الذي مثله مثل شفا جرف هار من أودية جهنم فلكونه شَفَا جُرُفٍ هَارٍ كان مشرفاً على السقوط ولكونه على طرف جهنم كان إذا انهار فإنما ينهار في قعر جهنم ولا نرى في العالم مثالاً أكثر مطابقة لأمر المنافقين من هذا المثالا وحاصل الكلام أن أحد البناءين قصد بانيه ببنائه تقوى الله ورضوانه والبناء الثاني قصد بانيه ببنائه المعصية والكفر فكان البناء الأول شريفاً واجب الإبقاء وكان الثاني خسيساً واجب الهدم
ثم قال تعالى لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِى بَنَوْاْ رِيبَة ً فِى قُلُوبِهِمْ والمعنى أن بناء ذلك البنيان صار سبباً لحصول الريبة في قلوبهم فجعل نفس ذلك البنيان ريبة لكونه سبباً للريبة وفي كونه سبباً للريبة وجوه الأول أن المنافقين عظم فرحهم ببناء مسجد الضرار فلما أمر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بتخريبه ثقل ذلك عليهم وازداد بغضهم له وازداد ارتيابهم في نبوته الثاني أن الرسول عليه الصلاة والسلام لما أمر بتخريب ذلك المسجد ظنوا أنه إنما أمر بتخريبه لأجل الحسد فارتفع أمانهم عنه وعظم خوفهم منه في كل الأوقات وصاروا مرتابين في أنه هل يتركهم على ما هم فيه أو يأمر بقتلهم ونهب أموالهم الثالث أنهم اعتقدوا أنهم كانوا محسنين في بناء ذلك المسجد فلما أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بتخريبه بقوا شاكين مرتابين في أنه لأي سبب أمر بتخريبه الرابع بقوا شاكين مرتابين في أن الله تعالى هل يغفر تلك المعصية أعني سعيهم في بناء ذلك المسجد والصحيح هو الوجه الأول
ثم قال إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وفيه مباحث
البحث الأول قرأ ابن عامر وحفص عن عاصم وحمزة أَن تَقَطَّعَ بفتح التاء والطاء مشددة بمعنى تتقطع فحذفت إحدى التاءين والباقون بضم التاء وتشديد الطاء على ما لم يسم فاعله وعن ابن كثير تُقَطَّعَ بفتح الطاء وتسكين القاف قُلُوبِهِمْ بالنصب أي تفعل أنت بقلوبهم هذا القطع وقوله تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ أي تجعل قلوبهم قطعاً وتفرق أجزاء إما بالسيف وإما بالحزن والبكاء فحينئذ تزول تلك الريبة والمقصود أن هذه الريبة باقية في قلوبهم أبداً ويموتون على هذا النفاق وقيل معناه إلا أن يتوبوا توبة تنقطع بها قلوبهم ندماً وأسفاً على تفريطهم وقيل حتى تنشق قلوبهم غماً وحسرة وقرأ الحسن إِلَى أَن وفي قراءة عبد الله وَلَوْ قُطّعَتْ قُلُوبِهِمْ وعن طلحة وَلَوْ قُطّعَتْ قُلُوبِهِمْ على خطاب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أو كل مخاطب
ثم قال وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ والمعنى عليم بأحوالهم حكيم في الأحكام التي يحكم بها عليهم
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّة َ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاة ِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْءانِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ

اعلم أنه تعالى لما شرع في شرح فضائح المنافقين وقبائحهم لسبب تخلفهم عن غزوة تبوك فلما تمم ذلك الشرح والبيان وذكر أقسامهم وفرع على كل قسم ما كان لائقاً به عاد إلى بيان فضيلة الجهاد وحقيقته فقال إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال القرطبي لما بايعت الأنصار رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ليلة العقبة بمكة وهم سبعون نفساً قال عبد الله بن رواحة اشترط لربك ولنفسك ما شئت فقال ( أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً ولنفسي أن تمنعوني ما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم ) قالوا فإذا فعلنا ذلك فماذا لنا قال ( الجنة ) قالوا ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل فنزلت هذه الآية قال مجاهد والحسن ومقاتل ثامنهم فأغلى ثمنهم
المسألة الثانية قال أهل المعاني لا يجوز أن يشتري الله شيئاً في الحقيقة لأن المشتري إنما يشتري ما لا يملك ولهذا قال الحسن اشترى أنفساً هو خلقها وأموالاً هو رزقها لكن هذا ذكره تعالى لحسن التلطف في الدعاء إلى الطاعة وحقيقة هذا أن المؤمن متى قاتل في سبيل الله حتى يقتل فتذهب روحه وينفق ماله في سبيل الله أخذ من الله في الآخرة الجنة جزاء لما فعل فجعل هذا استبدالاً وشراء هذا معنى قوله اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّة َ أي بالجنة وكذا قراءة عمر بن الخطاب والأعمش قال الحسن اسمعوا والله بيعة رابحة وكفة راجحة بايع الله بها كل مؤمن والله ما على الأرض مؤمن إلا وقد دخل في هذه البيعة وقال الصادق عليه الصلاة والسلام ( ليس لأبدانكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها ) وقوله وَأَمْوالَهُمْ يريد التي ينفقونها في سبيل الله وعلى أنفسهم وأهليهم وعيالهم وفي الآية لطائف
اللطيفة الأولى المشتري لا بد له من بائع وههنا البائع هو الله والمشتري هو الله وهذا إنما يصح في حق القيم بأمر الطفل الذي لا يمكنه رعاية المصالح في البيع والشراء وصحة هذا البيع مشروطة برعاية الغبطة العظيمة فهذا المثل جار مجرى التنبيه على كون العبد شبيهاً بالطفل الذي لا يهتدي إلى رعاية مصالح نفسه وأنه تعالى هو المراعي لمصالحه بشرط الغبطة التامة والمقصود منه التنبيه على السهولة والمسامحة والعفو عن الذنوب والإيصال إلى درجات الخيرات ومراتب السعادات
واللطيفة الثانية أنه تعالى أضاف الأنفس والأموال إليهم فوجب أن كون الأنفس والأموال مضافة إليهم يوجب أمرين مغايرين لهم والأمر في نفسه كذلك لأن الأنسان عبارة عن الجوهر الأصلي الباقي وهذا البدن يجري مجرى الآلة والأدوات والمركب وكذلك المال خلق وسيلة إلى رعاية مصالح هذا المركب فالحق سبحانه اشترى من الإنسان هذا المركب وهذا المال بالجنة وهو التحقيق لأن الإنسان ما دام يبقى متعلق القلب بمصالح عالم الجسم المتغير المتبدل وهو البدن والمال امتنع وصوله إلى السعادات العالية والدرجات الشريفة فإذا انقطع التفاته إليها وبلغ ذلك الانقطاع إلى أن عرض البدن للقتل والمال للإنفاق في طلب رضوان الله فقد بلغ إلى حيث رجح الهدى على الهوى والمولى على الدنيا والآخرة على الأولى فعند هذا يكون من السعداء الأبرار والأفاضل الأخيار فالبائع هو جوهر الروح القدسية والمشتري هو الله وأحد العوضين الجسد البالي والمال الفاني والعوض الثاني الجنة الباقية والسعادات الدائمة فالربح حاصل والهم والغم زائل ولهذا قال فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ

ثم قال يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ قال صاحب ( الكشاف ) قوله يُقَاتَلُونَ فيه معنى الأمر كقوله وَتُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وقيل جعل يُقَاتَلُونَ كالتفسير لتلك المبايعة وكالأمر اللازم لها قرأ حمزة والكسائي بتقديم المفعول على الفاعل وهو كونهم مقتولين على كونهم قاتلين والباقون بتقديم الفاعل على المفعول أما تقديم الفاعل على المفعول فظاهر لأن المعنى أنهم يقتلون الكفار ولا يرجعون عنهم إلى أن يصيروا مقتولين وأما تقديم المفعول على الفاعل فالمعنى أن طائفة كبيرة من المسلمين وإن صاروا مقتولين لم يصر ذلك رادعاً للباقين عن المقاتلة بل يبقون بعد ذلك مقاتلين مع الأعداء قاتلين لهم بقدر الإمكان وهو كقوله فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ( آل عمران 146 ) أي ما وهن من بقي منهم واختلفوا في أنه هل دخل تحت هذه الآية مجاهدة الأعداء بالحجة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أم لا فمنهم من قال هو مختص بالجهاد بالمقاتلة لأنه تعالى فسر تلك المبايعة بالمقاتلة بقوله يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ومنهم من قال كل أنواع الجهاد داخل فيه بدليل الخبر الذي رويناه عن عبد الله بن رواحة وأيضاً فالجهاد بالحجة والدعوة إلى دلائل التوحيد أكمل آثاراً من القتال ولذلك قال ( صلى الله عليه وسلم ) لعلي رضي الله عنه ( لأن يهدي الله على يدك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس ) ولأن الجهاد بالمقاتلة لا يحسن أثرها إلا بعد تقديم الجهاد بالحجة وأما الجهاد بالحجة فإنه غني عن الجهاد بالمقاتلة والأنفس جوهرها جوهر شريف خصه الله تعالى بمزيد الإكرام في هذا العالم ولا فساد في ذاته إنما الفساد في الصفة القائمة به وهي الكفر والجهل ومتى أمكن إزالة الصفة الفاسدة مع إبقاء الذات والجوهر كان أولى ألا ترى أن جلد الميتة لما كان منتفعاً به من بعض الوجوه لا جرم حث الشرع على إبقائه فقال ( هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به ) فالجهاد بالحجة يجري مجرى الدباغة وهو إبقاء الذات مع إزالة الصفة الفاسدة والجهاد بالمقاتلة يجري مجرى إفناء الذات فكان المقام الأول أولى وأفضل
ثم قال تعالى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّا فِي التَّوْرَاة ِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْءانِ قال الزجاج نصب وَعْداً على المعنى لأن معنى قوله بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّة َ أنه وعدهم الجنة فكان وعداً مصدراً مؤكداً واختلفوا في أن هذا الذي حصل في الكتب ما هو
فالقول الأول أن هذا الوعد الذي وعده للمجاهدين في سبيل الله وعد ثابت فقد أثبته الله في التوراة والإنجيل كما أثبته في القرآن
والقول الثاني المراد أن الله تعالى بين في التوراة والإنجيل أنه اشترى من أمة محمد عليه الصلاة والسلام أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة كما بين في القرآن
والقول الثالث أن الأمر بالقتال والجهاد هو موجود في جميع الشرائع
ثم قال تعالى وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ والمعنى أن نقض العهد كذب وأيضاً أنه مكر وخديعة وكل ذلك من القبائح وهي قبيحة من الإنسان مع احتياجه إليها فالغني عن كل الحاجات أولى أن يكون منزهاً عنها وقوله وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ استفهام بمعنى الإنكار أي لا أحد أوفى بما وعد من الله
ثم قال فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ وَذالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ واعلم أن هذه الآية مشتملة على

أنواع من التأكيدات فأولها قوله إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ فيكون المشتري هو الله المقدس عن الكذب والخيانة وذلك من أدل الدلائل على تأكيد هذا العهد والثاني أنه عبر عن إيصال هذا الثواب بالبيع والشراء وذلك حق مؤكد وثالثها قوله وَعْداً ووعد الله حق ورابعها قوله عَلَيْهِ وكلمة ( على ) للوجوب وخامسها قوله حَقّاً وهو التأكيد للتحقيق وسادسها قوله فِي التَّوْرَاة ِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْءانِ وذلك يجري مجرى إشهاد جميع الكتب الإلهية وجميع الأنبياء والرسل على هذه المبايعة وسابعها قوله وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ وهو غاية في التأكيد وثامنها قوله فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ وهو أيضاً مبالغة في التأكيد وتاسعها قوله وَذالِكَ هُوَ الْفَوْزُ وعاشرها قوله الْعَظِيمِ فثبت اشتمال هذه الآية على هذه الوجوه العشرة في التأكيد والتقرير والتحقيق ونختم الآية بخاتمة وهي أن أبا القاسم البلخي استدل بهذه الآية على أنه لا بد من حصول الأعواض عن آلام الأطفال والبهائم قال لأن الآية دلت على أنه لا يجوز إيصال ألم القتل وأخذ الأموال إلى البالغين إلا بثمن هو الجنة فلا جرم قال إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّة َ فوجب أن يكون الحال كذلك في الأطفال والبهائم ولو جاز عليهم التمني لتمنوا أن آلامهم تتضاعف حتى تحصل لهم تلك الأعواض الرفيعة الشريفة ونحن نقول لا ننكر حصول الخيرات للأطفال والحيوانات في مقابلة هذه الآلام وإنما الخلاف وقع في أن ذلك العوض عندنا غير واجب وعندكم واجب والآية ساكتة عن بيان الوجوب
التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَاكِعُونَ السَّاجِدونَ الاٌّ مِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية الأولى أنه اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّة َ بين في هذه الآية أن أولئك المؤمنين هم الموصوفون بهذه الصفات التسعة وفيه مسألتان
المسألة الأولى في رفع قوله التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ وجوه الأول أنه رفع على المدح والتقدير هم التائبون يعني المؤمنين المذكورين في قوله اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ هم التائبون الثاني قال الزجاج لا يبعد أن يكون قوله التَّائِبُونَ مبتدأ وخبره محذوف أي التائبون العابدون من أهل الجنة أيضاً وإن لم يجاهدوا كقوله تعالى وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وهذا وجه حسن لأن على هذا التقدير يكون الوعد بالجنة حاصلاً لجميع المؤمنين وإذا جعلنا قوله التَّائِبُونَ تابعاً لأول الكلام كان الوعد بالجنة حاصلاً للمجاهدين الثالث التَّائِبُونَ مبتدأ أو رفع على البدل من الضمير في قوله يُقَاتَلُونَ الرابع قوله التَّائِبُونَ مبتدأ وقوله الْعَابِدُونَ إلى آخر الآية خبر بعد خبر أي التائبون من الكفر على الحقيقة هم الجامعون لهذه الخصال وقرأ أبي وعبد الله التائبين بالياء إلى قوله والصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ وفيه وجهان أحدهما أن يكون ذلك نصباً على المدح الثاني أن يكون جراً صفة للمؤمنين

المسألة الثانية في تفسير هذه الصفات التسعة
فالصفة الأولى قوله التَّائِبُونَ قال ابن عباس رضي الله عنه التائبون من الشرك وقال الحسن التائبون من الشرك والنفاق وقال الأصوليون التائبون من كل معصية وهذا أولى لأن التوبة قد تكون توبة من الكفر وقد تكون من المعصية وقوله التَّائِبُونَ صيغة عموم محلاة بالألف واللام فتتناول الكل فالتخصيص بالتوبة عن الكفر محض التحكم
واعلم أنا بالغنا في شرح حقيقة التوبة في تفسير قوله تعالى في سورة البقرة فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ( البقرة 37 )
واعلم أن التوبة إنما تحصل عند حصول أمور أربعة أولها احتراق القلب في الحال على صدور تلك المعصية عنه وثانيها ندمه على ما مضى وثالثها عزمه على الترك في المستقبل ورابعها أن يكون الحامل له على هذه الأمور الثلاثة طلب رضوان الله تعالى وعبوديته فإن كان غرضه منها دفع مذمة الناس وتحصيل مدحهم أو سائر الأغراض فهو ليس من التائبين
والصفة الثانية قوله تعالى الْعَابِدُونَ قال ابن عباس رضي الله عنهما الذين يرون عبادة الله واجبة عليهم وقال المتكلمون هم الذين أتوا بالعبادة وهي عبارة عن الإتيان بفعل مشعر بتعظيم الله تعالى على أقصى الوجوه في التعظيم ولابن عباس رضي الله عنهما أن يقول إن معرفة الله والإقرار بوجوب طاعته عمل من أعمال القلب وحصول الاسم في جانب الثبوت يكفي فيه حصول فرد من أفراد تلك الماهية قال الحسن الْعَابِدُونَ هم الذين عبدوا الله في السراء والضراء وقال قتادة قوم أخدوا من أبدانهم في ليلهم ونهارهم
الصفة الثالثة قوله الْحَامِدُونَ وهم الذين يقومون بحق شكر الله تعالى على نعمه ديناً ودنيا ويجعلون إظهار ذلك عادة لهم وقد ذكرنا التسبيح والتهليل والتحميد صفة الذين كانوا يعبدون الله قبل خلق الدنيا وهم الملائكة لأنه تعالى أخبر عنهم أنهم قالوا قبل خلق آدم ونحن نسبح بحمدك وهو صفة الذين يعبدون الله بعد خراب الدنيا لأنه تعالى أخبر عن أهل الجنة بأنهم يحمدون الله تعالى وهو دَعْواهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ ( يونس 10 ) وهم المرادون بقوله والحامدون
الصفة الرابعة قوله الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ وفيه أقوال
القول الأول قال عامة المفسرين هم الصائمون وقال ابن عباس كل ما ذكر في القرآن من السياحة فهو الصيام وقال النبي عليه الصلاة والسلام ( سياحة أمتي الصيام ) وعن الحسن أن هذا صوم الفرض وقيل هم الذين يديمون الصيام وفي المعنى الذي لأجله حسن تفسير السائح بالصائم وجهان الأول قال الأزهري قيل للصائم سائح لأن الذي يسيح في الأرض متعبداً لا زاد معه كان ممسكاً عن الأكل والصائم يمسك عن الأكل فلهذه المشابهة سمي الصائم سائحاً الثاني أن أصل السياحة الاستمرار على الذهاب في الأرض كالماء الذي يسيح والصائم يستمر على فعل الطاعة وترك المشتهي وهو الأكل والشرب والوقاع وعندي فيه وجه آخر وهو أن الإنسان إذا امتنع من الأكل والشرب والوقاع وسد=

ج16. مفاتيح الغيب ـ ترقيم الشاملة موافق للمطبوع
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي الشافعي

على نفسه أبواب الشهوات انفتحت عليه أبواب الحكمة وتجلت له أنوار عالم الجلال ولذلك قال عليه الصلاة والسلام ( من أخلص لله أربعين صباحاً ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه ) فيصير من السائحين في عالم جلال الله المنتقلين من مقام إلى مقام ومن درجة إلى درجة فيحصل له سياحة في عالم الروحانيات
والقول الثاني أن المراد من السائحين طلاب العلم ينتقلون من بلد إلى بلد في طلب العلم وهو قول عكرمة وعن وهب بن منبه كانت السياحة في بني إسرائيل وكان الرجل إذا ساح أربعين سنة رأى ما كان يرى السائحون قبله فساح ولد بغي منهم أربعين سنة فلم ير شيئاً فقال يا رب ما ذنبي بأن أساءت أمي فعند ذلك أراه الله ما أرى السائحين وأقول للسياحة أثر عظيم في تكميل النفس لأنه يلقاه أنواع من الضر والبؤس فلا بد له من الصبر عليها وقد ينقطع زاده فيحتاج إلى التوكل على الله وقد يلقى أفاضل مختلفين فيستفيد من كل أحد فائدة مخصوصة وقد يلقى الأكابر من الناس فيستحقر نفسه في مقابلتهم وقد يصل إلى المرادات الكثيرة فينتفع بها وقد يشاهد اختلاف أحوال أهل الدنيا بسبب ما خلق الله تعالى في كل طرف من الأحوال الخاصة بهم فتقوى معرفته وبالجملة فالسياحة لها آثار قوية في الدين
والقول الثالث قال أبو مسلم السَّائِحُونَ السائرون في الأرض وهو مأخوذ من السيح سيح الماء الجاري والمراد به من خرج مجاهداً مهاجراً وتقريره أنه تعالى حث المؤمنين في الآية الأولى على الجهاد ثم ذكر هذه الآية في بيان صفات المجاهدين فينبغي أن يكونوا موصوفين بمجموع هذه الصفات
الصفة الخامسة والسادسة قوله الركِعُونَ السَّاجِدونَ والمراد منه إقامة الصلوات قال القاضي وإنما جعل ذكر الركوع والسجود كناية عن الصلاة لأن سائر أشكال المصلي موافق للعادة وهو قيامه وقعوده والذي يخرج عن العادة في ذلك هو الركوع والسجود وبه يتبين الفضل بين المصلي وغيره ويمكن أن يقال القيام أول مراتب التواضع لله تعالى والركوع وسطها والسجود غايتها فخص الركوع والسجود بالذكر لدلالتهما على غاية التواضع والعبودية تنبيهاً على أن المقصود من الصلاة نهاية الخضوع والتعظيم
الصفة السابعة والثامنة قوله الاْمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ واعلم أن كتاب أحكام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كتاب كبير مذكور في علم الأصول فلا يمكن إيراده ههنا وفيه إشارة إلى إيجاب الجهاد لأن رأس المعروف الإيمان بالله ورأس المنكر الكفر بالله والجهاد يوجب الترغيب في الإيمان والزجر عن الكفر والجهاد داخل في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأما دخول الواو في قوله وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ ففيه وجوه
الوجه الأول أن التسوية قد تجيء بالواو تارة وبغير الواو أخرى قال تعالى غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِى الطَّوْلِ ( غافر 3 ) فجاء بعض بالواو وبعض بغير الواو
الوجه الثاني أن المقصود من هذه الآيات الترغيب في الجهاد فالله سبحانه ذكر الصفات الستة ثم قال الاْمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ والتقدير أن الموصوفين بالصفات الستة الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر وقد ذكرنا أن رأس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ورئيسه هو الجهاد فالمقصود من إدخال الواو عليه التنبيه على ما ذكرنا

الوجه الثالث في إدخال الواو على هؤلاء وذلك لأن كل ما سبق من الصفات عبادات يأتي بها الإنسان لنفسه ولا تعلق لشيء منها بالغير أما النهي عن المنكر فعبادة متعلقة بالغير وهذا النهي يوجب ثوران الغضب وظهور الخصومة وربما أقدم ذلك المنهي على ضرب الناهي وربما حاول قتله فكان النهي عن المنكر أصعب أقسام العبادات والطاعات فأدخل عليها الواو تنبيهاً على ما يحصل فيها من زيادة المشقة والمحنة
الصفة التاسعة قوله وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ والمقصود أن تكاليف الله كثيرة وهي محصورة في نوعين أحدهما ما يتعلق بالعبادات والثاني ما يتعلق بالمعاملات أما العبادات فهي التي أمر الله بها لا لمصلحة مرعية في الدنيا بل لمصالح مرعية في الدين وهي الصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد والإعتاق والنذور وسائر أعمال البر وأما المعاملات فهي إما لجلب المنافع وإما لدفع المضار
والقسم الأول وهو ما يتعلق بجلب المنافع فتلك المنافع إما أن تكون مقصودة بالأصالة أو بالتبعية أما المنافع المقصودة بالأصالة فهي المنافع الحاصلة من طرف الحواس الخمسة فأولها المذوقات ويدخل فيها كتاب الأطعمة والأشربة من الفقه ولما كان الطعام قد يكون نباتاً وقد يكون حيواناً والحيوان لا يمكن أكله إلا بعد الذبح والله تعالى شرط في الذبح شرائط مخصوصة فلأجل هذا دخل في الفقه كتاب الصيد والذبائح وكتاب الضحايا وثانيها الملموسات ويدخل فيها باب أحكام الوقاع من جملتها ما يفيد حله وهو باب النكاح ومنه أيضاً باب الرضاع ومنها ما هو بحث عن لوازم النكاح مثل المهر والنفقة والمسكن ويتصل به أحوال القسم والنشوز ومنها ما هو بحث عن الأسباب المزيلة للنكاح ويدخل فيه كتاب الطلاق والخلع والإيلاء والظهار واللعان ومن الأحكام المتعلقة بالملموسات البحث عما يحل لبسه وعما لا يحل وعما يحل استعماله وعما لا يحل استعماله وما لا يحل كاستعماله الأواني الذهبية والفضية وطال كلام الفقهاء في هذا الباب وثالثها المبصرات وهي باب ما يحل النظر إليه وما لا يحل ورابعها المسموعات وهو باب هل يحل سماعه أم لا وخامسها المشمومات وليس للفقهاء فيها مجال وأما المنافع المقصودة بالتبع فهي الأموال والبحث عنها من ثلاثة أوجه الأول الأسباب المفيدة للملك وهي إما البيع أو غيره أما البيع فهو إما بيع الأعيان أو بيع المنافع وبيع الأعيان فأما أن يكون بيع العين بالعين أو بيع الدين بالعين وهو السلم أو بيع العين بالدين كما إذا اشترى شيئاً في الذمة أو بيع الدين بالدين وقيل إنه لا يجوز لما روي أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع الكالىء بالكالىء ولكن حصل له مثال في الشرع وهو تقاضي الدينين وأما بيع المنفعة فيدخل فيه كتاب الإجارة وكتاب الجعالة وكتاب عقد المضاربة وأما سائر الأسباب الموجبة للملك فهي الإرث والهبة والوصية وإحياء الموات والالتقاط وأخد الفيء والغنائم وأخذ الزكوات وغيرها ولا طريق إلى ضبط أسباب الملك إلا بالاستقراء
والنوع الثاني من مباحث الفقهاء الأسباب التي توجب لغير المالك التصرف في الشيء وهو باب الوكالة والوديعة وغيرهما
والنوع الثالث الأسباب التي تمنع المالك من التصرف في ملك نفسه وهو الرهن والتفليس والإجارة وغيرها فهذا ضبط أقسام تكاليف الله في باب جلب المنافع وأما تكاليف الله تعالى في باب دفع المضار

فنقول أقسام المضار خمسة لأن المضرة إما أن تحصل في النفوس أو في الأموال أو في الأديان أو في الأنساب أو في العقول أما المضار الحاصلة في النفوس فهي إما أن تحصل في كل النفس والحكم فيه إما القصاص أو الدية أو الكفارة وإما في بعض من أبعاض البدن كقطع اليد وغيرها والواجب فيه إما القصاص أو الدية أو الإرش وأما المضار الحاصلة في الأموال فذلك الضرر إما أن يحصل على سبيل الإعلان والإظهار وهو كتاب الغصب أو على سبيل الخفية وهو كتاب السرقة وأما المضار الحاصلة في الأديان فهي إما الكفر وإما البدعة أما الكفر فيدخل فيه أحكام المرتدين وليس للفقهاء كتاب مقرر في أحكام المبتدعين وأما المضار الحاصلة في الأنساب فيتصل به تحريم الزنا واللواط وبيان العقوبة المشروعة فيهما ويدخل فيه أيضاً باب حد القذف وباب اللعان وههنا بحث آخر وهو أن كل أحد لا يمكنه استيفاء حقوقه من المنافع ودفع المضار بنفسه لأنه ربما كان ضعيفاً فلا يلتفت إليه خصمه فلهذا السر نصب الله تعالى الإمام لتنفيد الأحكام ويجب أن يكون لذلك الإمام نواب وهم الأمراء والقضاة فلما لم يجز أن يكون قول الغير مقبولاً على الغير إلا بالحجة فالشرع أثبت لإظهار الحق حجة مخصوصة وهي الشهادة ولا بد أن يكون للدعوى ولإقامة البينة شرائط مخصوصة فلا بد من باب مشتمل عليها فهذا ضبط معاقد تكاليف الله تعالى وأحكامه وحدوده ولما كانت كثيرة والله تعالى إنما بينها في كل القرآن تارة على وجه التفصيل وتارة بأن أمر الرسول عليه السلام حتى يبينها للمكلفين لا جرم أنه تعالى أجمل ذكرها في هذه الآية فقال وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وهو يتناول جملة هذه التكاليف
واعلم أن الفقهاء ظنوا أن الذي ذكروه في بيان التكاليف وليس الأمر كذلك فإن أعمال المكلفين قسمان أعمال الجوارح وأعمال القلوب وكتب الفقه مشتملة على شرح أقسام التكاليف المتعلقة بأعمال الجوارح فأما التكاليف المتعلقة بأعمال القلوب فلم يبحثوا عنها ألبتة ولم ينصفوا لها كتباً وأبواباً وفصولاً ولم يبحثوا عن دقائقها ولا شك أن البحث عنها أهم والمبالغة في الكشف عن حقائقها أولى لأن أعمال الجوارح إنما تراد لأجل تحصيل أعمال القلوب والآيات الكثيرة في كتاب الله تعالى ناطقة بذلك إلا أن قوله سبحانه وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ متناول لكل هذه الأقسام على سبيل الشمول والإحاطة
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه الصفات التسعة قال وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ والمقصود منه أنه قال في الآية المتقدمة فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ فذكر هذه الصفات التسعة ثم ذكر عقيبها قوله وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ تنبيهاً على أن البشارة المذكورة في قوله فَاسْتَبْشِرُواْ لم تتناول إلا المؤمنين الموصوفين بهذه الصفات
فإن قيل ما السبب في أنه تعالى ذكر تلك الصفات الثمانية على التفصيل ثم ذكر تعالى عقيبها سائر أقسام التكاليف على سبيل الإجمال في هذه الصفة التاسعة
قلنا لأن التوبة والعبادة والاشتغال بتحميد الله والسياحة لطلب العلم والركوع والسجود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمور لا ينفك المكلف عنها في أغلب أوقاته فلهذا ذكرها الله تعالى على سبيل التفصيل وأما البقية فقد ينفك المكلف عنها في أكثر أوقاته مثل أحكام البيع والشراء ومثل معرفة أحكام الجنايات وأيضاً فتلك الأمور الثمانية أعمال القلوب وإن كانت أعمال الجوارح إلا أن المقصود منها ظهور أحوال القلوب وقد عرفت أن رعاية أحوال القلوب أهم من رعاية أحوال الظاهر فلهذا السبب ذكر هذا

القسم على سبيل التفصيل وذكر هذا القسم على سبيل الإجمال
مَا كَانَ لِلنَّبِى ِّ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِى قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لاًّبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَة ٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ
اعلم أنه تعالى لما بين من أول هذه السورة إلى هذا الموضع وجوب إظهار البراءة عن الكفار والمنافقين من جميع الوجوه بين في هذه الآية أنه تجب البراءة عن أمواتهم وإن كانوا في غاية القرب من الإنسان كالأب والأم كما أوجبت البراءة عن أحيائهم والمقصود منه بيان وجوب مقاطعتهم على أقصى الغايات والمنع من مواصلتهم بسبب من الأسباب وفيه مسائل
المسألة الأولى ذكروا في سبب نزول هذه الآية وجوهاً الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما لما فتح الله تعالى مكة سأل النبي عليه الصلاة والسلام ( أي أبويه أحدث به عهداً ) قيل أمك فذهب إلى قبرها ووقف دونه ثم قعد عند رأسها وبكى فسأله عمر وقال نهيتنا عن زيارة القبور والبكاء ثم زرت وبكيت فقال قد أذن لي فيه فلما علمت ما هي فيه من عذاب الله وإني لا أغني عنها من الله شيئاً بكيت رحمة لها الثاني روي عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال لما حضرت أبا طالب الوفاة قال له الرسول عليه الصلاة والسلام ( يا عم قل لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله ) فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية أترغب عن ملة عبد المطلب فقال أنا على ملة عبد المطلب فقال عليه الصلاة والسلام ( لأستغفرن لك ما لم أنه عنك ) فنزلت هذه الآية قوله إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ قال الواحدي وقد استبعده الحسين بن الفضل لأن هذه السورة من آخر القرآن نزولاً ووفاة أبي طالب كانت بمكة في أول الإسلام وأقول هذا الاستبعاد عندي مستبعد فأي بأس أن يقال إن النبي عليه الصلاة والسلام بقي يستغفر لأبي طالب من ذلك الوقت إلى وقت نزول هذه الآية فإن التشديد مع الكفار إنما ظهر في هذه السورة فلعل المؤمنين كان يجوز لهم أن يستغفروا لأبويهم من الكافرين وكان النبي عليه الصلاة والسلام أيضاً يفعل ذلك ثم عند نزول هذه السورة منعهم الله منه فهذا غير مستبعد في الجملة الثالث يروى عن علي أنه سمع رجلاً يستغفر لأبويه المشركين قال فقلت له أتستغفر لأبويك وهما مشركان فقال أليس قد استغفر إبراهيم لأبويه وهما مشركان فذكرت ذلك لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فنزلت هذه الآية الرابع يروى أن رجلاً أتى الرسول عليه الصلاة والسلام وقال كان أبي في الجاهلية يصل الرحم ويقري الضيف ويمنح من ماله وأي أبي فقال أمات مشركاً قال نعم قال في ضحضاح من النار فولى الرجل يبكي فدعاه عليه الصلاة والسلام فقال ( إن أبي وأباك وأبا إبراهيم في النار إن أباك لم يقل يوماً أعوذ بالله من النار )

المسألة الثانية قوله مَا كَانَ لِلنَّبِى ّ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ يحتمل أن يكون المعنى ما ينبغي لهم ذلك فيكون كالوصف وأن يكون معناه ليس لهم ذلك على معنى النهي فالأول معناه أن النبوة والإيمان يمنع من الاستغفار للمشركين والثاني معناه لا تستغفروا والأمران مقاربان وسبب هذا المنع ما ذكره الله تعالى في قوله مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ وأيضاً قال إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء والمعنى أنه تعالى لما أخبر عنهم أنه يدخلهم النار فطلب الغفران لهم جار مجرى طلب أن يخلف الله وعده ووعيده وأنه لا يجوز وأيضاً لما سبق قضاء الله تعالى بأنه يعذبهم فلو طلبوا غفرانه لصاروا مردودين وذلك يوجب نقصان درجة النبي عليه الصلاة والسلام وحظ مرتبته وأيضاً أنه قال ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ ( غافر 60 ) وقال عنهم أنهم أصحاب الجحيم فهذا الاستغفار يوجب الخلف في أحد هذين النصين وإنه لا يجوز وقد جوز أبو هاشم أن يسأل العبد ربه شيئاً بعد ما أخبر الله عنه أنه لا يفعله واحتج عليه بقول أهل النار رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا ( المؤمنون 107 ) مع علمهم بأنه تعالى لا يفعل ذلك وهذا في غاية البعد من وجوه الأول أم هذا مبني على مذهبه أن أهل الآخرة لا يجهلون ولا يكذبون وذلك ممنوع بل نص القرآن يبطله وهو قوله ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ( الأنعام 23 ) انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ( الأنعام 24 ) والثاني أن في حقهم يحسن ردهم عن ذلك السؤال وإسكاتهم أما في حق الرسول عليه الصلاة والسلام فغير جائز لأنه يوجب نقصان منصبه والثالث أن مثل هذا السؤال الذي يعلم أنه لا فائدة فيه إما أن يكون عبثاً أو معصية وكلاهما جائزان على أهل النار وغير جائزين على أكابر الأنبياء عليهم السلام
المسألة الثالثة أنه تعالى لما بين أن العلة المانعة من هذا الاستغفار هو تبين كونهم من أصحاب النار وهذه العلة لا تختلف بأن يكونوا من الأقارب أو من الأباعد فلهذا السبب قال تعالى وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِى قُرْبَى وكون سبب النزول ما حكينا يقوي هذا الذي قلناه
أما قوله تعالى وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْراهِيمَ لاِبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَة ٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ ففيه مسائل
المسألة الأولى في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوه الأول أن المقصود منه أن لا يتوهم إنسان أنه تعالى منع محمداً من بعض ما أذن لإبراهيم فيه والثاني أن يقال إنا ذكرنا في سبب اتصال هذه الآية بما قبلها المبالغة في إيجاب الانقطاع عن الكفار أحيائهم وأمواتهم ثم بين تعالى أن هذا الحكم غير مختص بدين محمد عليه الصلاة والسلام بل المبالغة في تقرير وجوب الانقطاع كانت مشروعة أيضاً في دين إبراهيم عليه السلام فتكون المبالغة في تقرير وجوب المقاطعة والمباينة من الكفار أقوى الثالث أنه تعالى وصف إبراهيم عليه السلام في هذه الآية بكونه حليماً أي قليل الغضب وبكونه أواها أي كثير التوجع والتفجع عند نزول المضار بالناس والمقصود أن من كان موصوفاً بهذه الصفات كان ميل قلبه إلى الاستغفار لأبيه شديداً فكأنه قيل إن إبراهيم مع جلالة قدره ومع كونه موصوفاً بالأواهية والحليمية منعه الله تعالى من الاستغفار لأبيه الكافر فلأن يكون غيره ممنوعاً من هذا المعنى كان أولى
المسألة الثانية دل القرآن على أن إبراهيم عليه السلام استغفر لأبيه قال تعالى حكاية عنه وَاغْفِرْ لاِبِى إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالّينَ ( الشعراء 86 )

وأيضاً قال عنه رَبَّنَا اغْفِرْ لِى وَلِوَالِدَى َّ ( إبراهيم 41 ) وقال تعالى حكاية عنه في سورة مريم قال سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي ( مريم 47 ) وقال أيضاً لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ( الممتحنة 4 ) وثبت أن الاستغفار للكافر لا يجوز فهذا يدل على صدور هذا الذنب من إبراهيم عليه السلام
واعلم أنه تعالى أجاب عن هذا الإشكال بقوله وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْراهِيمَ لاِبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَة ٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ ( التوبة 114 ) وفيه قولان الأول أن يكون الواعد أبا إبراهيم عليه السلام والمعنى أن أباه وعده أن يؤمن فكان إبراهيم عليه السلام يستغفر لأجل أن يحصل هذا المعنى فلما تبين له أنه لا يؤمن وأنه عدو لله تبرأ منه وترك ذلك الاستغفار الثاني أن يكون الواعد إبراهيم عليه السلام وذلك أنه وعد أباه أن يستغفر له رجاء إسلامه فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ والدليل على صحة هذا التأويل قراءة الحسن وَعَدَهَا أَبَاهُ بالباء ومن الناس من ذكر في الجواب وجهين آخرين
الوجه الأول المراد من استغفار إبراهيم لأبيه دعاؤه له إلى الإيمان والإسلام وكان يقول له آمن حتى تتخلص من العقاب وتفوز بالغفران وكان يتضرع إلى الله في أن يرزقه الإيمان الذي يوجب المغفرة فهذا هو الاستغفار فلما أخبره الله تعالى بأنه يموت مصراً على الكفر ترك تلك الدعوة
والوجه الثاني في الجواب أن من الناس من حمل قوله مَا كَانَ لِلنَّبِى ّ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ ( التوبة 113 ) على صلاة الجنازة وبهذا الطريق فلا امتناع في الاستغفار للكافر لكون الفائدة في ذلك الاستغفار تخفيف العقاب قالوا والدليل على أن المراد ما ذكرناه أنه تعالى منع من الصلاة على المنافقين وهو قوله وَلاَ تُصَلّ عَلَى أَحَدٍ مّنْهُم مَّاتَ أَبَداً ( التوبة 84 ) وفي هذه الآية عم هذا الحكم ومنه من الصلاة على المشركين سواء كان منافقاً أو كان مظهراً لذلك الشرك وهذا قول غريب
المسألة الثالثة اختلفوا في السبب الذي به تبين لإبراهيم أن أباه عدو لله فقال بعضهم بالإصرار والموت وقال بعضهم بالإصرار وحده وقال آخرون لا يبعد أن الله تعالى عرفه ذلك بالوحي وعند ذلك تبرأ منه فكان تعالى يقول لما تبين لإبراهيم أن أباه عدو لله تبرأ منه فكونوا كذلك لأني أمرتكم بمتابعة إبراهيم في قوله واتَّبَعَ مِلَّة َ إِبْراهِيمَ ( النساء 125 )
واعلم أنه تعالى لما ذكر حال إبراهيم في هذه الواقعة قال إِنَّ إِبْراهِيمَ لاوَّاهٌ حَلِيمٌ ( التوبة 114 ) واعلم أن اشتقاق الأواه من قول الرجل عند شدة حزنه أوه والسبب فيه أن عند الحزن يختنق الروح القلبي في داخل القلب ويشتد حرقه فالإنسان يخرج ذلك النفس المحترق من القلب ليخفف بعض ما به هذا هو الأصل في اشتقاق هذا اللفظ وللمفسرين فيه عبارات روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( الأواه الخاشع المتضرع ) وعن عمر أنه سأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن الأواه فقال ( الدعاء ) ويروى أن زينب تكلمت عند الرسول عليه الصلاة والسلام بما يغير لونه فأنكر عمر فقال عليه الصلاة والسلام ( دعها فإنها أواهة ) قيل يا رسول الله وما الأواهة قال ( الداعية الخاشعة المتضرعة ) وقيل معنى كون إبراهيم عليه السلام أواها كلما ذكر

لنفسه تقصيراً أو ذكر له شيء من شدائد الآخرة كان يتأوه إشفاقاً من ذلك واستعظاماً له وعن ابن عباس رضي الله عنهما الأواه المؤمن بالخشية وأما وصفه بأنه حليم فهو معلوم واعلم أنه تعالى إنما وصفه بهذين الوصفين في هذا المقام لأنه تعالى وصفه بشدة الرقة والشفقة والخوف والوجل ومن كذلك فإنه تعظم رقته على أبيه وأولاده فبين تعالى أنه مع هذه العادة تبرأ من أبيه وغلظ قلبه عليه لما ظهر له إصراره على الكفر فأنتم بهذا المعنى أولى وكذلك وصفه أيضاً بأنه حليم لأن أحد أسباب الحلم رقة القلب وشدة العطف لأن المرء إذا كان حاله هكذا اشتد حلمه عند الغضب
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ والأرض يُحْى ِ وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِى ٍّ وَلاَ نَصِيرٍ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما منه المؤمنين من أن يستغفروا للمشركين والمسلمون كانوا قد استغفروا للمشركين قبل نزول هذه الآية فإنهم قبل نزول هذه الآية كانوا يستغفرون لآبائهم وأمهاتهم وسائر أقربائهم ممن مات على الكفر فلما نزلت هذه الآية خافوا بسبب ما صدر عنهم قبل ذلك من الاستغفار للمشركين وأيضاً فإن أقواماً من المسلمين الذين استغفروا للمشركين كانوا قد ماتوا قبل نزول هذه الآية فوقع الخوف عليهم في قلوب المسلمين أنه كيف يكون حالهم فأزال الله تعالى ذلك الخوف عنهم بهذه الآية وبين أنه تعالى لا يؤاخذهم بعمل إلا بعد أن يبين لهم أنه يجب عليهم أن يتقوه ويحترزوا عنه فهذا وجه حسن في النظم وقيل المراد إن من أول السورة إلى هذا الموضع في بيان المنع من مخالطة الكفار والمنافقين ووجوب مباينتهم والاحتراز عن موالاتهم فكأنه قيل إن الإله الرحيم الكريم كيف يليق به هذا التشديد الشديد في حق هؤلاء الكفار والمنافقين فأجيب عنه بأنه تعالى لا يؤاخذ أقواماً بالعقوبة بعد إذ دعاهم إلى الرشد حتى يبين لهم ما يجب عليهم أن يتقوه فأما بعد أن فعل ذلك وأزاح العذر وأزال العلة فله أن يؤاخذهم بأشد أنواع المؤاخذة والعقوبة وفي قوله تعالى لِيُضِلَّ وجوه الأول أن المراد أنه أضله عن طريق الجنة أي صرفه عنه ومنعه من التوجه إليه والثاني قالت المعتزلة المراد من هذا الإضلال الحكم عليهم بالضلال واحتجوا بقول الكميت وطائفة قد أكفروني بحبكم

وقال أبو بكر الأنباري هذا التأويل فاسد لأن العرب إذا أرادوا ذلك المعنى قالوا ضلل يضلل واحتجاجهم ببيت الكميت باطل لأنه لا يلزم من قولنا أكفر في الحكم صحة قولنا أضل وليس كل موضع صح فيع فعل صح أفعل ألا ترى أنه يجوز أن يقال كسره ولا يجوز أن يقال أكسره بل يجب فيه الرجوع إلى السماع
والوجه الثالث في تفسير الآية وما كان الله ليوقع الضلالة في قلوبهم بعد الهدى حتى يكون منهم الأمر الذي به يستحق العقاب
المسألة الثانية قالت المعتزلة حاصل الآية أنه تعالى لا يؤاخذ أحداً إلا بعد أن يبين له كون ذلك الفعل قبيحاً ومنهياً عنه وقرر ذلك بأنه عالم بكل المعلومات وهو قوله أَنَّ اللَّهَ بِكُلّ شَى ْء عَلِيمٌ وبأنه قادر على كل الممكنات وهو قوله لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لاَ إله فكان التقدير أن من كان عالماً قادراً هكذا لم يكن محتاجاً والعالم القادر الغني لا يفعل القبيح والعقاب قبل البيان وإزالة العذر قبيح فوجب أن لا يفعله الله تعالى فنظم الآية إنما يصح إذا فسرناها بهذا الوجه وهذا يقتضي أنه يقبح من الله تعالى الابتداء بالعقاب وأنتم لا تقولون به
والجواب أن ما ذكرتموه يدل على أنه تعالى لا يعاقب إلا بعد التبيين وإزالة العذر وإزاحة العلة وليس فيها دلالة على أنه تعالى ليس له ذلك فسقط ما ذكرتموه في هذا الباب
ثم قال تعالى لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لاَ إله في ذكر هذا المعنى ههنا فوائد إحداها أنه تعالى لما أمر بالبراءة من الكفار بين أنه له ملك السموات والأرض فإذا كان هو ناصراً لكم فهم لا يقدرون على إضراركم وثانيها أن القوم من المسلمين قالوا لما أمرتنا بالانقطاع من الكفار فحينئذ لا يمكننا أن نختلط بآبائنا وأولادنا وإخواننا لأنه ربما كان الكثير منهم كافرين والمراد أنكم إن صرتم محرومين عن معاونتهم ومناصرتهم فالإله الذي هو المالك للسموات والأرض والمحيي والمميت ناصركم فلا يضركم أن ينقطعوا عنكم وثالثها أنه تعالى لما أمر بهذه التكاليف الشاقة كأنه قال وجب عليكم أن تنقادوا لحكمي وتكليفي لكوني إلهكم ولكونكم عبيداً لي
لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِى ِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالاٌّ نصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِى سَاعَة ِ الْعُسْرَة ِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ

اعلم أنه تعالى لما استقصى في شرح أحوال غزوة تبوك وبين أحوال المتخلفين عنها وأطال القول في ذلك على الترتيب الذي لخصناه في هذا التفسير عاد في هذه الآية إلى شرح ما بقي من أحكامها ومن بقية تلك الأحكام أنه قد صدر عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) نوع زلة جارية مجرى ترك الأولى وصدر أيضاً عن المؤمنين نوع زلة فذكر تعالى أنه تفضل عليهم وتاب عليهم في تلك الزلات فقال لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِى ّ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى دلت الأخبار على أن هذا السفر كان شاقاً شديداً على الرسول عليه الصلاة والسلام وعلى المؤمنين على ما سيجيء شرحها وهذا يوجب الثناء فكيف يليق بها قوله لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِى ّ وَالْمُهَاجِرِينَ
والجواب من وجوه الأول أنه صدر عن النبي عليه الصلاة والسلام شيء من باب ترك الأفضل وهو المشار إليه بقوله تعالى عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ( التوبة 43 ) وأيضاً لما اشتد الزمان في هذه الغزوة على المؤمنين على ما سيجيء شرحها فربما وقع في قلبهم نوع نفرة عن تلك السفرة وربما وقع في خاطر بعضهم أنا لسنا نقدر على الفرار ولست أقول عزموا عليه بل أقول وساوس كانت تقع في قلوبهم فالله تعالى بين في آخر هذه السورة أنه بفضله عفا عنها فقال لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِى ّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالاْنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ
والوجه الثاني في الجواب أن الإنسان طول عمره لا ينفك عن زلات وهفوات إما من باب الصغائر وإما من باب ترك الأفضل ثم إن النبي عليه السلام وسائر المؤمنون لما تحملوا مشاق هذا السفر ومتاعبه وصبروا على تلك الشدائد والمحن أخبر الله تعالى أن تحمل تلك الشدائد صار مكفراً لجميع الزلات التي صدرت عنهم في طول العمر وصار قائماً مقام التوبة المقرونة بالإخلاص عن كلها فلهذا السبب قال تعالى لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِى ّ الآية
والوجه الثالث في الجواب أن الزمان لما اشتد عليهم في ذلك السفر وكانت الوساوس تقع في قلوبهم فكلما وقعت وسوسة في قلب واحد منهم تاب إلى الله منها وتضرع إلى الله في إزالتها عن قلبه فلكثرة إقدامهم على التوبة بسبب خطرات تلك الوساوس ببالهم قال تعالى لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِى ّ الآية
والوجه الرابع لا يبعد أن يكون قد صدر عن أولئك الأقوام أنواع من المعاصي إلا أنه تعالى تاب عليهم وعفا عنهم لأجل أنهم تحملوا مشاق ذلك السفر ثم إنه تعالى ضم ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام إلى ذكرهم تنبيهاً على عظم مراتبهم في الدين وأنهم قد بلغوا إلى الدرجة التي لأجلها ضم الرسول عليه الصلاة والسلام إليهم في قبول التوبة
المسألة الثانية في المراد بساعة العسرة قولان
القول الأول أنها مختصة بغزوة تبوك والمراد منها الزمان الذي صعب الأمر عليهم جداً في ذلك السفر والعسرة تعذر الأمر وصعوبته قال جابر حصلت عسرة الظهر وعسرة الماء وعسرة الزاد أما عسرة

الظهر فقال الحسن كان العشرة من المسلمين يخرجون على بعير يعتقبونه بينهم وأما عسرة الزاد فربما مص التمرة الواحدة جماعة يتناوبونها حتى لا يبقى من التمرة إلا النواة وكان معهم شيء من شعير مسوس فكان أحدهم إذا وضع اللقمة في فيه أخذ أنفه من نتن اللقمة وأما عسرة الماء فقال عمر خرجنا في قيظ شديد وأصابنا فيه عطش شديد حتى أن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه ويشربه
واعلم أن هذه الغزوة تسمى غزوة العسرة ومن خرج فيها فهو جيش العسرة وجهزهم عثمان وغيره من الصحابة رضي الله تعالى عنهم
والقول الثاني قال أبو مسلم يجوز أن يكون المراد بساعة العسرة جميع الأحوال والأوقات الشديدة على الرسول وعلى المؤمنين فيدخل فيه غزوة الخندق وغيرها وقد ذكر الله تعالى بعضها في كتابه كقوله تعالى وَإِذَا زَاغَتِ الاْبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ ( الأحزاب 10 ) وقوله لَقَدِ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ ( آل عمران 152 ) الآية والمقصود منه وصف المهاجرين والأنصار بأنهم اتبعوا الرسول عليه السلام في الأوقات الشديدة والأحوال الصعبة وذلك يفيد نهاية المدح والتعظيم
ثم قال تعالى مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مّنْهُمْ وفيه مباحث
البحث الأول فاعل كَادَ يجوز أن يكون قُلُوبٍ والتقدير كاد قلوب فريق منهم تزيغ ويجوز أن يكون فيه ضمير الأمر والشأن والفعل والفاعل تفسير للأمر والشأن والمعنى كادوا لا يثبتون على اتباع الرسول عليه الصلاة والسلام في تلك الغزوة لشدة العسرة
البحث الثاني قرأ حمزة وحفص عن عاصم يَزِيغُ بالياء لتقدم الفعل والباقون بالتاء لتأنيث قلوب وفي قراءة عبد الله مّن بَعْدِ مَا زَاغَتِ قُلُوبُ فَرِيقٍ مّنْهُمْ
البحث الثالث كَادَ عند بعضهم تفيد المقاربة فقط وعند آخرين تفيد المقارية مع عدم الوقوع فهذه التوبة المذكورة توبة عن تلك المقاربة واختلفوا في ذلك الذي وقع في قلوبهم فقيل هم بعضهم عند تلك الشدة العظيمة أن يفارق الرسول لكنه صبر واحتسب فلذلك قال تعالى ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لما صبروا وثبتوا وندموا على ذلك الأمر اليسير وقال الأخرون بل كان ذلك لحديث النفس الذي يكون مقدمة العزيمة فلما نالتهم الشدة وقع ذلك في قلوبهم ومع ذلك تلافوا هذا اليسير خوفاً منه أن يكون معصية فلذلك قال تعالى ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ
فإن قيل ذكر التوبة في أول الآية وفي آخرها فما الفائدة في التكرار
قلنا فيه وجوه
الوجه الأول أنه تعالى ابتدأ بذكر التوبة قبل ذكر الذنب تطييباً لقلوبهم ثم ذكر الذنب ثم أردفه مرة أخرى بذكر التوبة والمقصود منه تعظيم شأنهم
والوجه الثاني أنه إذا قيل عفا السلطان عن فلان ثم عفا عنه دل ذلك على أن ذلك العفو عفو متأكد بلغ الغاية القصوى في الكمال والقوة قال عليه الصلاة والسلام ( إن الله ليغفر ذنب الرجل المسلم عشرين مرة ) وهذا معنى قول ابن عباس في قوله ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ يريد ازداد عنهم رضا

والوجه الثالث أنه قال لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِى ّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالاْنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِى سَاعَة ِ الْعُسْرَة ِ وهذا الترتيب يدل على أن المراد أنه تعالى تاب عليهم من الوساوس التي كانت تقع في قلوبهم في ساعة العسرة ثم إنه تعالى زاد عليه فقال مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مّنْهُمْ فهذه الزيادة أفادت حصول وساوس قوية فلا جرم أتبعها تعالى بذكر التوبة مرة أخرى لئلا يبقى في خاطر أحدهم شك في كونهم مؤاخذين بتلك الوساوس
ثم قال تعالى إِنَّهُ بِهِمْ رَءوفٌ رَّحِيمٌ وهما صفتان لله تعالى ومعناهما متقارب ويشبه أن تكون الرأفة عبارة عن السعي في إزالة الضر والرحمة عبارة عن السعي في إيصال المنفعة وقيل إحداهما للرحمة السالفة والأخرى للمستقبلة
وَعَلَى الثَّلَاثَة ِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ
في الآية مسائل
المسألة الأولى هذا معطوف على الآية الأولى والتقدير لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة وعلى الثلاثة الذين خلفوا والفائدة في هذا العطف أنا بينا أن من ضم ذكر توبته إلى توبة النبي عليه الصلاة والسلام كان ذلك دليلاً على تعظيمه وإجلاله وهذا العطف يوجب أن يكون قبول توبة النبي عليه الصلاة والسلام وتوبة المهاجرين والأنصار في حكم واحد وذلك يوجب إعلاء شأنهم وكونهم مستحقين لذلك
المسألة الثانية إن هؤلاء الثلاثة هم المذكورون في قوله تعالى وَءاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لاْمْرِ اللَّهِ واختلفوا في السبب الذي لأجله وصفوا بكونهم خلفين وذكروا وجوهاً أحدها أنه ليس المراد أن هؤلاء أمروا بالتخلف أو حصل الرضا من الرسول عليه الصلاة والسلام بذلك بل هو كقولك لصاحبك أين خلفت فلاناً فيقول بموضع كذا لا يريد به أنه أمره بالتخلف بل لعله نهاه عنه وإنما يريد أنه تخلف عنه وثانيها لا يمتنع أن هؤلاء الثلاثة كانوا على عزيمة الذهاب إلى الغزو فأذن لهم الرسول عليه الصلاة والسلام قدر ما يحصل الآلات والأدوات فلما بقوا مدة ظهر التواني والكسل فصح أن يقال خلفهم الرسول وثالثها أنه حكى قصة أقوام وهم المرادون بقوله وَءاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لاْمْرِ اللَّهِ فالمراد من كون هؤلاء مخلفين كونهم مؤخرين في قبول التوبة عن الطائفة الأولى قال كعب بن مالك وهو أحد هؤلاء الثلاثة قول الله تعالى في حقنا وَعَلَى الثَّلَاثَة ِ الَّذِينَ خُلّفُواْ ليس من تخلفنا إنما هو تأخير رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أمرنا ليشير به إلى قوله وَءاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لاْمْرِ اللَّهِ

المسألة الثالثة قال صاحب ( الكشاف ) قرىء خُلّفُواْ أي خلفوا الغازين بالمدينة أي صاروا خلفاء للذين ذهبوا إلى الغزو وفسدوا من الخالفة وخلوف الفم وقرأ جعفر الصادق خالفوا وقرأ الأعمش وعلى الثلاثة المخلفين
المسألة الرابعة هؤلاء الثلاثة هم كعب بن مالك الشاعر وهلال بن أمية الذي نزلت فيه آية اللعان ومرارة بن الربيع وللناس في هذه القصة قولان
القول الأول أنهم ذهبوا خلف الرسول عليه الصلاة والسلام قال الحسن كان لأحدهم أرض ثمنها مائة ألف درهم فقال يا أرضاه ما خلفني عن رسول الله إلا أمرك إذهبي فأنت في سبيل الله فلأكابدن المفاوز حتى أصل إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وفعل وكان للثاني أهل فقال يا أهلاه ما خلفني عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلا أمرك فلأكابدن المفاوز حتى أصل إليه وفعل والثالث ما كان له مال ولا أهل فقال مالي سبب إلا الضن بالحياة والله لأكابدن المفاوز حتى أصل إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلحقوا بالرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فأنزل الله تعالى تَعْمَلُونَ وَءاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لاْمْرِ اللَّهِ
والقول الثاني وهو قول الأكثرين أنهم ما ذهبوا خلف الرسول عليه الصلاة والسلام قال كعب كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يحب حديثي فلما أبطأت عنه في الخروج قال عليه الصلاة والسلام ( ما الذي حبس كعباً ) فلما قدم المدينة اعتذر المنافقون فعذرهم وأتيته وقلت إن كراعي وزادي كان حاضراً واحتبست بذنبي فاستغفر لي فأبى الرسول ذلك ثم إنه عليه الصلاة والسلام نهى عن مجالسة هؤلاء الثلاثة وأمر بمباينتهم حتى أمر بذلك نساءهم فضاقت عليهم الأرض بما رحبت وجاءت امرأة هلال بن أمية وقالت يا رسول الله لقد بكى هلال حتى خفت على بصره حتى إذا مضى خمسون يوماً أنزل الله تعالى لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِى ّ وَالْمُهَاجِرِينَ وأنزل قوله وَعَلَى الثَّلَاثَة ِ الَّذِينَ خُلّفُواْ فعند ذلك خرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى حجرته وهو عند أم سلمة فقال ( الله أكبر قد أنزل الله عذر أصحابنا ) فلما صلى الفجر ذكر ذلك لأصحابه وبشرهم بأن الله تاب عليهم فانطلقوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وتلا عليهم ما نزل فيهم فقال كعب توبني إلى الله تعالى أن أخرج مالي صدقة فقال ( لا ) قلت فنصفه قال ( لا ) قلت فثلثه قال ( نعم ) واعلم أنه تعالى وصف هؤلاء الثلاثة بصفات ثلاثة
الصفة الأولى قوله حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الارْضُ بِمَا رَحُبَتْ قال المفسرون معناه أن النبي عليه الصلاة والسلام صار معرضاً عنهم ومنع المؤمنين من مكالمتهم وأمر أزواجهم باعتزالهم وبقوا على هذه الحالة خمسين يوماً وقيل أكثر ومعنى وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الارْضُ بِمَا رَحُبَتْ تقدم تفسيره في هذه السورة
والصفة الثانية قوله وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ والمراد ضيق صدورهم بسبب الهم والغم ومجانبة الأولياء والأحباء ونظر الناس لهم بعين الإهانة
الصفة الثالثة قوله وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ويقرب معناه من قوله عليه الصلاة والسلام في دعائه ( أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بعفوك من غضبك وأعوذ بك منك ) ومن الناس من قال معنى قوله وَظَنُّواْ أي علموا كما في قوله الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُوا رَبّهِمْ ( البقرة 46 ) والدليل عليه أنه تعالى ذكر

هذا الوصف في حقهم في معرض المدح والثناء ولا يكون كذلك إلا وكانوا عالمين بأنه لا ملجأ من الله إلا إليه وقال آخرون وقف أمرهم على الوحي وهم ما كانوا قاطعين أن الله ينزل الوحي ببراءتهم عن النفاق ولكنهم كانوا يجوزون أن تطول المدة في بقائهم في الشدة فالطعن عاد إلى تجويز كون تلك المدة قصيرة ولما وصفهم الله بهذه الصفات الثلاث قال ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه لا بد ههنا من إضمار والتقدير حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه تاب عليهم ثم تاب عليهم فما الفائدة في هذا التكرير
قلنا هذا التكرير حسن للتأكيد كما أن السلطان إذا أراد أن يبالغ في تقرير العفو لبعض عبيده يقول عفوت عنك ثم عفوت عنك
فإن قيل فما معنى قوله ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ
قلنا فيه وجوه الأول قال أصحابنا المقصود منه بيان أن فعل العبد مخلوق لله تعالى فقوله ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ يدل على أن التوبة فعل الله وقوله لِيَتُوبُواْ يدل على أنها فعل العبد فهذا صريح قولنا ونظيره فَلْيَضْحَكُواْ مع قوله وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى وقوله كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مع قوله إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وقوله هُوَ الَّذِى يُسَيّرُكُمْ مع قوله قُلْ سِيرُواْ والثاني المراد تاب الله عليهم في الماضي ليكون ذلك داعياً لهم إلى التوبة في المستقبل والثالث أصل التوبة الرجوع فالمراد ثم تاب عليهم ليرجعوا إلى حالهم وعادتهم في الاختلاط بالمؤمنين وزوال المباينة فتسكن نفوسهم عند ذلك الرابع ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ أي ليدوموا على التوبة ولا يراجعوا ما يبطلها الخامس ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لينتفعوا بالتوبة ويتوفر عليهم ثوابها وهذان النفعان لا يحصلان إلا بعد توبة الله عليهم
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية على أن قبول التوبة غير واجب على الله عقلاً قالوا لأن شرائط التوبة في حق هؤلاء قد حصلت من أول الأمر ثم إنه عليه الصلاة والسلام ما قبلهم ولم يلتفت إليهم وتركهم مدة خمسين يوماً أو أكثر ولو كان قبول التوبة واجباً عقلاً لما جاز ذلك
أجاب الجبائي عنه بأن قال يقال إن تلك التوبة صارت مقبولة من أول الأمر لكنه يقال أراد تشديد التكليف عليهم لئلا يتجرأ أحد على التخلف عن الرسول فيما يأمر به من جهاد وغيره وأيضاً لم يكن نهيه عليه الصلاة والسلام عن كلامهم عقوبة بل كان على سبيل التشديد في التكليف قال القاضي وإنما خص الرسول عليه الصلاة والسلام هؤلاء الثلاثة بهذا التشديد لأنهم أذعنوا بالحق واعترفوا بالذنب فالذي يجري عليهم وهذه حالهم يكون في الزجر أبلغ مما يجري على من يظهر العذر من المنافقين
والجواب أنا متمسكون بظاهر قوله تعالى ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ وكلمة ثُمَّ للتراخي فمقتضى هذا اللفظ تأخير قبول التوبة فإن حملتم ذلك على تأخير إظهار هذا القبول كان ذلك عدولاً عن الظاهر من غير دليل

فإن قالوا الموجب لهذا العدول قوله تعالى وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَة َ عَنْ عِبَادِهِ
قلنا صيغة يقبل للمستقبل وهو لا يفيد الفور أصلاً بالإجماع ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ
واعلم أن ذكر الرحيم عقيب ذكر التواب يدل على أن قبول التوبة لأجل محض الرحمة والكرم لا لأجل الوجوب وذلك يقوي قولنا في أنه لا يجب عقلاً على الله قبول التوبة
يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ
واعلم أنه تعالى لما حكم بقبول توبة هؤلاء الثلاثة ذكر ما يكون كالزاجر عن فعل ما مضى وهو التخلف عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في الجهاد فقال مّسْتَقِيمٍ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ في مخالفة أمر الرسول وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ يعني مع الرسول وأصحابه في الغزوات ولا تكونوا متخلفين عنها وجالسين مع المنافقين في البيوت وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى أمر المؤمنين بالكون مع الصادقين ومتى وجب الكون مع الصادقين فلا بد من وجود الصادقين في كل وقت وذلك يمنع من إطباق الكل على الباطل ومتى امتنع إطباق الكل على الباطل وجب إذا أطبقوا على شيء أن يكونوا محقين فهذا يدل على أن إجماع الأمة حجة
فإن قيل لم لا يجوز أن يقال المراد بقوله كُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ أي كونوا على طريقة الصادقين كما أن الرجل إذا قال لولده كن مع الصالحين لا يفيد إلا ذلك سلمنا ذلك لكن نقول إن هذا الأمر كان موجوداً في زمان الرسول فقط فكان هذا أمراً بالكون مع الرسول فلا يدل على وجود صادق في سائر الأزمنة سلمنا ذلك لكن لم لا يجوز أن يكون الصادق هو المعصوم الذي يمتنع خلو زمان التكليف عنه كما تقوله الشيعة
والجواب عن الأول أن قوله كُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ أمر بموافقة الصادقين ونهى عن مفارقتهم وذلك مشروط بوجود الصادقين وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب فدلت هذه الآية على وجود الصادقين وقوله إنه محمول على أن يكونوا على طريقة الصادقين فنقول إنه عدول عن الظاهر من غير دليل قوله هذا الأمر مختص بزمان الرسول عليه الصلاة والسلام
قلنا هذا باطل لوجوه الأول أنه ثبت بالتواتر الظاهر من دين محمد عليه الصلاة والسلام أن التكاليف المذكورة في القرآن متوجهة على المكلفين إلى قيام القيامة فكان الأمر في هذا التكليف كذلك والثاني أن الصيغة تتناول الأوقات كلها بدليل صحة الاستثناء والثالث لما لم يكن الوقت المعين مذكوراً في لفظ الآية لم يكن حمل الآية على البعض أولى من حمله على الباقي فأما أن لا يحمل على شيء من الأوقات فيفضي إلى التعطيل وهو باطل أو على الكل وهو المطلوب والرابع وهو أن قوله الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ أمر لهم بالتقوى وهذا الأمر إنما يتناول من يصح منه أن لا يكون متقياً وإنما يكون كذلك لو كان جائز الخطأ فكانت الآية دالة على أن من كان جائز الخطأ وجب كونه مقتدياً بمن

كان واجب العصمة وهم الذين حكم الله تعالى بكونهم صادقين فهذا يدل على أنه واجب على جائز الخطأ كونه مع المعصوم عن الخطأ حتى يكون المعصوم عن الخطأ مانعاً لجائز الخطأ عن الخطأ وهذا المعنى قائم في جميع الأزمان فوجب حصوله في كل الأزمان قوله لم لا يجوز أن يكون المراد هو كون المؤمن مع المعصوم الموجود في كل زمان
قلنا نحن نعترف بأنه لا بد من معصوم في كل زمان إلا أنا نقول ذلك المعصوم هو مجموع الأمة وأنتم تقولون ذلك المعصوم واحد منهم فنقول هذا الثاني باطل لأنه تعالى أوجب على كل واحد من المؤمنين أن يكون مع الصادقين وإنما يمكنه ذلك لو كان عالماً بأن ذلك الصادق من هو لا الجاهل بأنه من هو فلو كان مأموراً بالكون معه كان ذلك تكليف ما لا يطاق وأنه لا يجوز لكنا لا نعلم إنساناً معيناً موصوفاً بوصف العصمة والعلم بأنا لا نعلم هذا الإنسان حاصل بالضرورة فثبت أن قوله وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ ليس أمراً بالكون مع شخص معين ولما بطل هذا بقي أن المراد منه الكون مع مجموع الأمة وذلك يدل على أن قول مجموع الأمة حق وصواب ولا معنى لقولنا الإجماع إلا ذلك
المسألة الثانية الآية دالة على فضل الصدق وكمال درجته والذي يؤيده من الوجوه الدالة على أن الأمر كذلك وجوه الأول روي أن واحداً جاء إلى النبي عليه السلام وقال إني رجل أريد أن أومن بك إلا أني أحب الخمر والزنا والسرقة والكذب والناس يقولون إنك تحرم هذه الأشياء ولا طاقة لي على تركها بأسرها فإن قنعت مني بترك واحد منها آمنت بك فقال عليه السلام ( اترك الكذب ) فقبل ذلك ثم أسلم فلما خرج من عند النبي عليه السلام عرضوا عليه الخمر فقال إن شربت وسألني الرسول عن شربها وكذبت فقد نقضت العهد وإن صدقت أقام الحد علي فتركها ثم عرضوا عليه الزنا فجاء ذلك الخاطر فتركه وكذا في السرقة فعاد إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال ما أحسن ما فعلت لما منعتني عن الكذب انسدت أبواب المعاصي علي وتاب عن الكل الثاني روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال عليكم بالصدق فإنه يقرب إلى البر والبر يقرب إلى الجنة وإن العبد ليصدق فيكتب عند الله صديقاً وإياكم والكذب فإن الكذب يقرب إلى الفجور والفجور يقرب إلى النار وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً ألا ترى أنه يقال صدقت وبررت وكذبت وفجرت الثالث قيل في قوله تعالى حكاية عن إبليس فَبِعِزَّتِكَ لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ( ص 82 83 ) إن إبليس إنما ذكر هذا الاستثناء لأنه لو لم يذكره لصار كاذباً في ادعاء إغواء الكل فكأنه استنكف عن الكذب فذكر هذا الاستثناء وإذا كان الكذب شيئاً يستنكف منه إبليس فالمسلم أولى أن يستنكف منه الرابع من فضائل الصدق أن الإيمان منه لا من سائر الطاعات ومن معايب الكذب أن الكفر منه لا من سائر الذنوب واختلف الناس في أن المقتضي لقبحه ما هو فقال أصحابنا المقتضي بقبحه هو كونه مخلاً لمصالح العالم ومصالح النفس وقالت المعتزلة المقتضى لقبحه هو كونه كذباً ودليلنا قوله تعالى رَّحِيمٌ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ أَن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَة ٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ( الحجرات 6 ) يعني لا تقبلوا قول الفاسق فربما كان كذباً فيتولد عن قبول ذلك الكذب فعل تصيرون نادمين عليه وذلك يدل على أنه تعالى إنما أوجب رد ما يجوز كونه كذباً لاحتمال كونه مفضياً إلى ما يضاد المصالح فوجب أن يكون المقتضى لقبح الكذب إفضاءه إلى المفاسد واحتج القاضي

على قوله بأن من دفع إلى طلب منفعة أو دفع مضرة وأمكنه الوصول إلى ذلك بأن يكذب وبأن يصدق فقد علم ببديهة العقل أنه لا يجوز أن يعدل عن الصدق إلى الكذب ولو أمكنه أن يصل إلى ذلك بصدقين لجاز أن يعدل من أحدهما إلى الآخر فلو كان الكذب يحسن لمنفعة أو إزالة مضرة لكان حاله حال الصدق ولما لم يكن كذلك علم أنه لا يكون إلا قبيحاً ولأنه لو جاز أن يحسن لوجب أن يجوز أن يأمر الله تعالى به إذا كان مصلحة وذلك يؤدي إلى أن لا يوثق بأخباره هذا ما ذكره في التفسير فيقال له في الجواب عن الأول إن الإنسان لما تقرر عنده من أول عمره تقبيح الكذب لأجل كونه مخلاً لمصالح العالم صار ذلك نصب عينه وصورة خياله فتلك الصورة النادرة إذا اتفقت للحكم عليها حكمت العادة الراسخة عليها بالقبح فلو فرضتم كون الإنسان خالياً عن هذه العادة وفرضتم استواء الصدق والكذب في الإفضاء إلى المطلوب فعلى هذا التقدير لا نسلم حصول الترجيح ويقال له في الجواب عن الحجة الثانية إنكم تثبتون امتناع الكذب على الله تعالى بكونه قبيحاً لكونه كذباً فلو أثبتم هذا المعنى بامتناع صدوره عن الله لزم الدور وهو باطل
مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَة ِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ الاٌّ عْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذالِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَة ٌ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَة ً صَغِيرَة ً وَلاَ كَبِيرَة ً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
اعلم أن الله تعالى لما أمر بقوله وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ بوجوب الكون في موافقة الرسول عليه السلام في جميع الغزوات والمشاهد أكد ذلك فنهى في هذه الآية عن التخلف عنه فقال مَا كَانَ لاهْلِ الْمَدِينَة ِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مّنَ الاْعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللَّهِ والأعراب الذين كانوا حول المدينة مزينة وجهينة وأشجع وأسلم وغفار هكذا قاله ابن عباس وقيل بل هذا يتناول جميع الأعراب الذين كانوا حول المدينة فإن اللفظ عام والتخصيص تحكم وعلى القولين فليس لهم أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يطلبوا لأنفسهم الحفظ والدعة حال ما يكون رسول الله في الحر والمشقة وقوله وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ يقال رغبت بنفسي عن هذا الأمر أي توقفت عنه وتركته وأنا أرغب بفلان عن هذا أي أبخل به عليه ولا أتركه والمعنى ليس لهم أن يكرهوا لأنفسهم ما يرضاه الرسول عليه الصلاة والسلام لنفسه

واعلم أن ظاهر هذه الألفاظ وجوب الجهاد على كل هؤلاء إلا أنا نقول المرضى والضعفاء والعاجزون مخصوصون بدليل العقل وأيضاً بقوله تعالى لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ( البقرة 286 ) وأيضاً بقوله لَّيْسَ عَلَى الاْعْمَى حَرَجٌ ( النور 61 الفتح 17 ) الآية وأما أن الجهاد غير واجب على كل أحد بعينه فقد دل الإجماع عليه فيكون مخصوصاً من هذا العموم وبقي ما وراء هاتين الصورتين داخلاً تحت هذا العموم
واعلم أنه تعالى لما منع من التخلف بين أنه لا يصيبهم في ذلك السفر نوع من أنواع المشقة إلا وهو يوجب الثواب العظيم عند الله تعالى ثم إنه ذكر أموراً خمسة أولها قوله ذالِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وهو شدة العطش يقال ظمىء فلان إذا اشتد عطشه وثانيها قوله وَلاَ نَصَبٌ ومعناه الإعياء والتعب وثالثها وَلاَ مَخْمَصَة ٌ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يريد مجاعة شديدة يظهر بها ضمور البطن ومنه يقال فلان خميص البطن ورابعها قوله وَلاَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ أي ولا يضع الإنسان قدمه ولا يضع فرسه حافره ولا يضع بعيره خفه بحيث يصير ذلك سبباً لغيظ الكفار قال ابن الأعرابي يقال غاظه وغيظه وأغاظه بمعنى واحد أي أغضبه وخامسها قوله وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوّ نَّيْلاً أي أسراً وقتلاً وهزيمة قليلاً كان أو كثيراً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ أي إلا كان ذلك قربة لهم عند الله ونقول دلت هذه الآية على أن من قصد طاعة الله كان قيامه وقعوده ومشيته وحركته وسكونه كلها حسنات مكتوبة عند الله وكذا القول في طرف المعصية فما أعظم بركة الطاعة وما أعظم شؤم المعصية واختلفوا فقال قتادة هذا الحكم من خواص رسول الله إذا غزا بنفسه فليس لأحد أن يتخلف عنه إلا بعذر وقال ابن زيد هذا حين كان المسلمون قليلين فلما كثروا نسخها الله تعالى بقوله وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّة ً ( التوبة 122 ) وقال عطية ما كان لهم أن يتخلفوا عن رسول الله إذا دعاهم وأمرهم وهذا هو الصحيح لأنه تتعين الإجابة والطاعة لرسول الله إذا أمر وكذلك غيره من الولاة والأئمة إذا ندبوا وعينوا لأنا لو سوغنا للمندوب أن يتقاعد لم يختص بذلك بعض دون بعض ولأدى ذلك إلى تعطيل الجهاد
ثم قال وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَة ً صَغِيرَة ً وَلاَ كَبِيرَة ً يريد تمرة فما فوقها وعلاقة سوط فما فوقها ولا يقطعون وادياً والوداي كل مفرج بين جبال وآكام يكون مسلكاً للسيل والجمع الأودية إلا كتب الله لهم ذلك الإنفاق وذلك المسير
ثم قال لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وفيه وجهان الأول أن الأحسن من صفة فعلهم وفيها الواجب والمندوب والمباح والله تعالى يجزيهم على الأحسن وهو الواجب والمندوب دون المباح والثاني أن الأحسن صفة للجزاء أي يجزيهم جزاء هو أحسن من أعمالهم وأجل وأفضل وهو الثواب
وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّة ً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَة ٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَة ٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِى الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ

في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه يمكن أن يقال هذه الآية من بقية أحكام الجهاد ويمكن أن يقال إنها كلام مبتدأ لا تعلق لها بالجهاد
أما الاحتمال الأول نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه عليه السلام كان إذا خرج إلى الغزو لم يتخلف عنه إلا منافق أو صاحب عذر فلما بالغ الله سبحانه في عيوب المنافقين في غزوة تبوك قال المؤمنون والله لا نتخلف عن شيء من الغزوات مع الرسول عليه السلام ولا عن سرية فلما قدم الرسول عليه السلام المدينة وأرسل السرايا إلى الكفار نفر المسلمون جميعاً إلى الغزو وتركوه وحده بالمدينة فنزلت هذه الآية والمعنى أنه لا يجوز للمؤمنين أن ينفروا بكليتهم إلى الغزو والجهاد بل يجب أن يصيروا طائفتين تبقى طائفة في خدمة الرسول وتنفر طائفة أخرى إلى الغزو وذلك لأن الإسلام في ذلك الوقت كان محتاجاً إلى الغزو والجهاد وقهر الكفار وأيضاً كانت التكاليف تحدث والشرائع تنزل وكان بالمسلمين حاجة إلى من يكون مقيماً بحضرة الرسول عليه السلام فيتعلم تلك الشرائع ويحفظ تلك التكاليف ويبلغها إلى الغائبين فثبت أن في ذلك الوقت كان الواجب انقسام أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى قسمين أحد القسمين ينفرون إلى الغزو والجهاد والثاني يكونون مقيمين بحضرة الرسول فالطائفة النافرة إلى الغزو يكونون نائبين عن المقيمين في الغزو والطائفة المقيمة يكونون نائبين عن النافرين في التفقه وبهذا الطريق يتم أمر الدين بهاتين الطائفتين
إذا عرفت هذا فنقول على هذا القول احتمالان أحدهما أن تكون الطائفة المقيمة هم الذين يتفقهون في الدين بسبب أنهم لما لازموا خدمة الرسول عليه الصلاة والسلام وشاهدوا الوحي والتنزيل فكلما نزل تكليف وحدث شرع عرفوه وضبطوه فإذا رجعت الطائفة النافرة من الغزو إليهم فالطائفة المقيمة ينذرونهم ما تعلموه من التكاليف والشرائع وبهذا التقرير فلا بد في الآية من إضمار والتقدير فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة وأقامت طائفة ليتفقه المقيمون في الدين ولينذروا قومهم يعني النافرين إلى الغزو إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون معاصي الله تعالى عند ذلك التعلم
والاحتمال الثاني هو أن يقال التفقه صفة للطائفة النافرة وهذا قول الحسن ومعنى الآية فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة حتى تصير هذه الطائفة النافرة فقهاء في الدين وذلك التفقه المراد منه أنهم يشاهدون ظهور المسلمين على المشركين وأن العدد القليل منهم يغلبون العالم من المشركين فحينئذ يعلمون أن ذلك بسبب أن الله تعالى خصهم بالنصرة والتأييد وأنه تعالى يريد إعلاء دين محمد عليه السلام وتقوية شريعته فإذا رجعوا من ذلك النفر إلى قومهم من الكفار أنذروهم بما شاهدوا من دلائل النصر والفتح والظفر لعلهم يحذرون فيتركوا الكفر والشك والنفاق فهذا القول أيضاً محتمل وطعن القاضي في هذا القول قال لأن هذا الحس لا يعد فقهاً في الدين ويمكن أن يجاب عنه بأنهم إذا شاهدوا أن القوم القليل الذين ليس لهم سلاح ولا زاد يغلبون الجمع العظيم من الكفار الذين كثر زادهم وسلاحهم وقويت شوكتهم فحينئذ انتبهوا لما هو المقصود وهو أن هذا الأمر من الله تعالى وليس من البشر إذ لو كان من البشر لما غلب القليل الكثير ولما بقي هذا الدين في التزايد والتصاعد كل يوم فالتنبه لفهم هذه الدقائق

واللطائف لا شك أنه تفقه
وأما الاحتمال الثالث وهو أن يقال هذه الآية ليست من بقايا أحكام الجهاد بل هو حكم مبتدأ مستقل بنفسه وتقريره أن يقال إنه تعالى لما بين في هذه السورة أمر الهجرة ثم أمر الجهاد وهما عبادتان بالسفر بين أيضاً عبادة التفقه من جهة الرسول عليه السلام وله تعلق بالسفر فقال وما كان المؤمنون لينفروا كافة إلى حضرة الرسول ليتفقهوا في الدين بل ذلك غير واجب وغير جائز وليس حاله كحال الجهاد معه الذي يجب أن يخرج فيه كل من لا عذر له
ثم قال فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلّ فِرْقَة ٍ مّنْهُمْ يعني من الفرق الساكنين في البلاد طائفة إلى حضرة الرسول ليتفقهوا في ا لدين وليعرفوا الحلال والحرام ويعودوا إلى أوطانهم فينذروا ويحذروا قومهم لكي يرجعوا عن كفرهم وعلى هذا التقدير يكون المراد وجوب الخروج إلى حضرة الرسول للتفقه والتعلم
فإن قيل أفتدل الآية على وجوب الخروج للتفقه في كل زمان
قلنا متى عجز عن التفقه إلا بالسفر وجب عليه السفر وفي زمان الرسول عليه السلام كان الأمر كذلك لأن الشريعة ما كانت مستقرة بل كان يحدث كل يوم تكليف جديد وشرع حادث أما في زماننا فقد صارت الشريعة مستقرة فإذا أمكنه تحصيل العلم في الوطن لم يكن السفر واجباً إلا أنه لما كان لفظ الآية دليلاً على السفر لا جرم رأينا أن العلم المبارك المنتفع به لا يحصل إلا في السفر
المسألة الثانية في تفسير الألفاظ المذكورة في هذه الآية ( لولا ) إذا دخل على الفعل كان بمعنى التحضيض مثل هلا وإنما جاز أن يكون لولا بمعنى هلا لأن هلا كلمتان هل وهو استفهام وعرض لأنك إذا قلت للرجل هل تأكل هل تدخل فكأنك عرضت ذلك عليه و ( لا ) وهو جحد فهلا مركب من أمرين العرض والجحد فإذا قلت هلا فعلت كذا فكأنك قلت هل فعلت ثم قلت معه ( لا ) أي ما فعلته ففيه تنبيه على وجوب الفعل وتنبيه على أنه حصل الإخلال بهذا الواجب وهكذا الكلام في ( لولا ) لأنك إذا قلت لولا دخلت علي ولولا أكلت عندي فمعناه أيضاً عرض وإخبار عن سرورك به لو فعل وهكذا الكلام في ( لوما ) ومنه قوله مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَئِكَة ِ ( الحجر 7 ) فثبت أن لولا وهلا ولوما ألفاظ متقاربة والمقصود من الكل الترغيب والتحضيض فقوله فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلّ فِرْقَة ٍ مّنْهُمْ طَائِفَة ٌ أي فهلا فعلوا ذلك
المسألة الثالثة هذه الآية حجة قوية لمن يرى أن خبر الواحد حجة وقد أطنبنا في تقريره في كتاب ( المحصول من الأصول ) والذي نقوله ههنا أن كل ثلاثة فرقة وقد أوجب الله تعالى أن يخرج من كل فرقة طائفة والخارج من الثلاثة يكون اثنين أو واحداً فوجب أن يكون الطائفة إما اثنين وإما واحداً ثم إنه تعالى أوجب العمل بأخبارهم لأن قوله وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ عبارة عن أخبارهم وقوله لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ إيجاب على قومهم أن يعلموا بأخبارهم وذلك يقتضي أن يكون خبر الواحد أو الاثنين حجة في الشرع قال القاضي هذه الآية لا تدل على وجوب العمل بخبر الواحد لأن الطائفة قد تكون جماعة يقع بخبرها الحجة ولأن قوله وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ يصح وإن لم يجب القبول كما أن الشاهد الواحد يلزمه الشهادة وإن لم يلزم القبول ولأن الإنذار يتضمن التخويف وهذا القدر لا يقتضي وجوب العمل به

والجواب أما قوله الطائفة قد تكون جماعة فجوابه أنا بينا أن كل ثلاثة فرقة فلما أوجب الله تعالى أن يخرج من كل فرقة طائفة لزم كون الطائفة إما اثنين أو واحداً وذلك يبطل كون الطائفة جماعة يحصل العلم بخبرهم
فإن قالوا إنه تعالى أوجب العمل بقول أولئك الطوائف ولعلهم بلغوا في الكثرة إلى حيث يحصل العلم بقولهم
قلنا إنه تعالى أوجب على كل طائفة أن يرجعوا إلى قومهم وذلك يقتضي رجوع كل طائفة إلى قوم خاص ثم إنه تعالى أوجب العلم بقول تلك الطائفة وذلك يفيد المطلوب
وأما قوله الدّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ يصح وإن لم يجب القبول فنقول إنا لا نتمسك في وجوب العمل بخبر الواحد بقوله وَلِيُنذَرُواْ بل بقوله لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ترغيب منه تعالى في الحذر بناء على أن ذلك الإنذار يقتضي إيجاب العمل على وفق ذلك الإنذار وبهذا الجواب خرج الجواب عن سؤاله الثالث وهو قوله الإنذار يتضمن التخويف وهذا القدر لا يقتضي وجوب العمل به
المسألة الرابعة دلت الآية على أنه يجب أن يكون المقصود من التفقه والتعلم دعوة الخلق إلى الحق وإرشادهم إلى الدين القويم والصراط المستقيم لأن الآية تدل على أنه تعالى أمرهم بالتفقه في الدين لأجل أنهم إذا رجعوا إلى قومهم أنذروهم بالدين الحق وأولئك يحذرون الجهل والمعصية ويرغبون في قبول الدين فكل من تفقه وتعلم لهذا الغرض كان على المنهج القويم والصراط المستقيم ومن عدل عنه وطلب الدنيا بالدين كان من الأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَة ً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ
اعلم أنه نقل عن الحسن أنه قال هذه الآية نزلت قبل الأمر بقتال المشركين كافة ثم إنها صارت منسوخة بقوله قَاتَلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَافَّة ً ( التوبة 36 ) وأما المحققون فإنهم أنكروا هذا النسخ وقالوا إنه تعالى لما أمر بقتال المشركين كافة أرشدهم في ذلك الباب إلى الطريق الأصوب الأصلح وهو أن يبتدؤا من الأقرب فالأقرب منتقلاً إلى الأبعد فالأبعد ألا ترى أن أمر الدعوة وقع على هذا الترتيب قال تعالى وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاْقْرَبِينَ ( الشعراء 214 ) وأمر الغزوات وقع على هذا الترتيب لأنه عليه السلام حارب قومه ثم انتقل منهم إلى غزو سائر العرب ثم انتقل منهم إلى غزو الشام والصحابة رضي الله عنهم لما فرغوا من أمر الشأم دخلوا العراق وإنما قلنا إن الابتداء بالغزو من المواضع القريبة أولى لوجوه الأول أن مقابلة الكل دفعة واحدة متعذرة ولما تساوى الكل في وجوب القتال لما فيهم من الكفر والمحاربة وامتنع الجمع وجب الترجيح

والقرب مرجح ظاهر كما في الدعوة وكما في سائر المهمات ألا ترى أن في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الابتداء بالحاضر أولى من الذهاب إلى البلاد البعيدة لهذا المهم فوجب الابتداء بالأقرب والثاني أن الابتداء بالأقرب أولى لأن النفقات فيه أقل والحاجة إلى الدواب والآلات والأدوات أقل الثالث أن الفرقة المجاهدة إذا تجاوزوا من الأقرب إلى الأبعد فقد عرضوا الذراري للفتنة الرابع أن المجاورين لدار الإسلام إما أن يكونوا أقوياء أو ضعفاء فإن كانوا أقوياء كان تعرضهم لدار الإسلام أشد وأكثر من تعرض الكفار المتباعدين والشر الأقوى الأكثر أولى بالدفع وإن كانوا ضعفاء كان استيلاء المسلمين عليهم أسهل وحصول عز الإسلام لسبب انكسارهم أقرب وأيسر فكان الابتداء بهم أولى الخامس أن وقوف الإنسان على حال من يقرب منه أسهل من وقوفه على حال من يبعد منه وإذا كان كذلك كان اقتدار المسلمين على مقاتلة الأقربين أسهل لعلمهم بكيفية أحوالهم وبمقادير أسلحتهم وعدد عساكرهم السادس أن دار الإسلام واسعة فإذا اشتغل أهل كل بلد بقتال من يقرب منهم من الكفار كانت المؤنة أسهل وحصول المقصود أيسر السابع أنه إذا اجتمع واجبان وكان أحدهما أيسر حصولاً وجب تقديمه والقرب سبب السهولة فوجب الابتداء بالأقرب الثامن أنا بينا أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ابتدأ في الدعوة بالأقرب فالأقرب وفي الغزو بالأقرب فالأقرب وفي جميع المهمات كذلك فإن الأعرابي لما جلس على المائدة وكان يمد يده إلى الجوانب البعيدة من تلك المائدة قال عليه السلام له ( كل مما يليك ) فدلت هذه الوجوه على أن الابتداء بالأقرب فالأقرب واجب
فإن قيل ربما كان التخطي من الأقرب إلى الأبعد أصلح لأن الأبعد يقع في قلبه أنه إنما جاوز الأقرب لأنه لا يقيم له وزناً
قلنا ذاك احتمال واحد وما ذكرنا احتمالات كثيرة ومصالح الدنيا مبنية على ترجيح ما هو أكثر مصلحة على ما هو الأقل وهذا الذي قلناه إنما قلناه إذا تعذر الجمع بين مقاتلة الأقرب والأبعد أما إذا أمكن الجمع بين الكل فلا كلام في أن الأولى هو الجمع فثبت أن هذه الآية غير منسوخة ألبتة
وأما قوله تعالى وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَة ً قال الزجاج فيها ثلاث لغات فتح الغين وضمها وكسرها قال صاحب ( الكشاف ) الغلظة بالكسر الشدة العظيمة والغلظة كالضغطة والغلظة كالسخطة وهذه الآية تدل على الأمر بالتغليظ عليهم ونظيره قوله تعالى وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ( التوبة 73 ) وقوله وَلاَ تَهِنُواْ ( آل عمران 139 النساء 104 ) وقوله في صفحة الصحابة رضي الله عنهم أَعِزَّة ٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ( المائدة 54 ) وقوله أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ ( الفتح 29 ) وللمفسرين عبارات في تفسير الغلظة قيل شجاعة وقيل شدة وقيل غيظاً
واعلم أن الغلظة ضد الرقة وهي الشدة في إحلال النقمة والفائدة فيها أنها أقوى تأثيراً في الزجر والمنع عن القبيح ثم إن الأمر في هذا الباب لا يكون مطرداً بل قد يحتاج تارة إلى الرفق واللطف وأخرى إلى العنف ولهذا السبب قال وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَة ً تنبيهاً على أنه لا يجوز الاقتصار على الغلظة ألبتة فإنه ينفر ويوجب تفرق القوم فقوله وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَة ً يدل على تقليل الغلظة كأنه قيل لا بد وأن يكونوا بحيث لو فتشوا على أخلاقكم وطبائعكم لوجدوا فيكم غلظة وهذا الكلام إنما يصح فيمن أكثر أحواله الرحمة والرأفة ومع ذلك فلا يخلو عن نوع غلظة

واعلم أن هذه الغلظة إنما تعتبر فيما يتصل بالدعوة إلى الدين وذلك إما بإقامة الحجة والبينة وإما بالقتال والجهاد فإما أن يحصل هذا التغليظ فيما يتصل بالبيع والشراء والمجالسة والمؤاكلة فلا
ثم قال وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ والمراد أن يكون إقدامه على الجهاد والقتال بسبب تقوى الله لا بسبب طلب المال والجاه فإذا رآه قبل الإسلام أحجم عن قتاله وإذا رآه مال إلى قبوله الجزية تركه وإذا كثر العدو أخذ الغنائم على وفق حكم الله تعالى
وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَة ٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَاذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ ءامَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر مخازي المنافقين وذكر أعمالهم القبيحة فقال وإذا ما أنزلت سورة فمن المنافقين من يقول أيكم زادته هذه إيماناً واختلفوا فقال بعضهم يقول بعض المنافقين لبعض ومقصودهم تثبيتهم قومهم على النفاق وقال آخرون بل يقولونه لأقوام من المسلمين وغرضهم صرفهم عن الإيمان وقال آخرون بل ذكروه على وجه الهزؤ والكل محتمل ولا يمكن حمله على الكل لأن حكاية الحال لا تفيد العموم ثم إنه تعالى أجاب فقال إنه حصل للمؤمنين بسبب نزول هذه السورة أمران وحصل للكافرين أيضاً أمران أما الذي حصل للمؤمنين فالأول هو أنها تزيدهم إيماناً إذ لا بد عند نزولها من أن يقروا بها ويعترفوا بأنها حق من عند الله والكلام في زيادة الإيمان ونقصانه قد ذكرناه في أول سورة الأنفال بالاستقصاء والثاني ما يحصل لهم من الاستبشار فمنهم من حمله على ثواب الآخرة ومنهم من حمله على ما يحصل في الدنيا من النصر والظفر ومنهم من حمله على الفرح والسرور الحاصل بسبب تلك التكاليف الزائدة من حيث إنه يتوسل به إلى مزيد في الثواب ثم جمع للمنافقين أمرين مقابلين للأمرين المذكورين في المؤمنين فقال وَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يعني المنافقين فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ والمراد من الرجس إما العقائد الباطلة أو الأخلاق المذمومة فإن كان الأول كان المعنى أنهم كانوا مكذبين بالسور النازلة قبل ذلك والآن صاروا مكذبين بهذه السورة الجديدة فقد انضم كفر إلى كفر وإن كال الثاني كان المراد أنهم كانوا في الحسد والعداوة واستنباط وجوه المكر والكيد والآن ازدادت تلك الأخلاق الذميمة بسبب نزول هذه السورة الجديدة
والأمر الثاني أنهم يموتون على كفرهم فتكون هذه الحالة كالأمر المضاد للاستبشار الذي حصل في المؤمنين وهذه الحالة أسوأ وأقبح من الحالة الأولى وذلك لأن الحالة الأولى عبارة عن ازدياد الرجاسة وهذه الحالة عبارة عن مداومة الكفر وموتهم عليه واحتج أصحابنا بقوله فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ على أنه تعالى قد يصد عن الإيمان ويصرف عنه قالوا إنه تعالى كان عالماً بأن سماع هذه السورة يورث حصول

الحسد والحقد في قلوبهم وأن حصول ذلك الحسد يورث مزيد الكفر في قلوبهم أجابوا وقالوا نزول تلك السورة لا يوجب ذلك الكفر الزائد بدليل أن الآخرين سمعوا تلك السورة وازدادوا إيماناً فثبت أن تلك الرجاسة هم فعلوها من قبل أنفسهم
قلنا لا ندعي أن استماع هذه السورة سبب مستقل بترجيح جانب الكفر على جانب الإيمان بل نقول استماع هذه السورة للنفس المخصوصة والموصوفة بالخلق المعين والعادة المعينة يوجب الكفر والدليل عليه أن الإنسان الحسود لو أراد إزالة خلق الحسد عن نفسه يمكنه أن يترك الأفعال المشعرة بالحسد وأما الحالة القلبية المسماة بالحسد فلا يمكنه إزالتها عن نفسه وكذا القول في جميع الأخلاق فأصل القدرة غير والفعل غير والخلق غير فإن أصل القدرة حاصل للكل أما الأخلاق فالناس فيها متفاوتون والحاصل أن النفس الطاهرة النقية عن حب الدنيا الموصوفة باستيلاء حب الله تعالى والآخرة إذا سمعت السورة صار سماعها موجباً لازدياد رغبته في الآخرة ونفرته عن الدنيا وأما النفس الحريصة على الدنيا المتهالكة على لذاتها الراغبة في طيباتها الغافلة عن حب الله تعالى والآخرة إذا سمعت هذه السورة المشتملة على الجهاد وتعريض النفس للقتل والمال للنهب ازداد كفراً على كفره فثبت أن إنزال هذه السورة في حق هذا الكافر موجب لأن يزيد رجساً على رجس فكان إنزالها سبباً في تقوية الكفر على قلب الكافر وذلك يدل على ما ذكرنا أنه تعالى قد يصد الإنسان ويمنعه عن الإيمان والرشد ويلقيه في الغي والكفر
بقي في الآية مباحث الأول ما في قوله وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَة ٌ صلة مؤكدة الثاني الاستبشار استدعاء البشارة لأنه كلما تذكر تلك النعمة حصلت البشرة فهو بواسطة تجديد ذلك التذكر يطلب تجديد البشارة الثالث قوله وَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يدل على أن الروح لها مرض فمرضها الكفر والأخلاق الذميمة وصحتها العلم والأخلاق الفاضلة والله أعلم
أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِى كُلِّ عَامٍ مَّرَّة ً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ
اعلم أن الله تعالى لما بين أن الذين في قلوبهم مرض يموتون وهم كافرون وذلك يدل على عذاب الآخرة بين أنهم لا يتخلصون في كل عام مرة أو مرتين عن عذاب الدنيا وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة أَوْ لاَ تَرَوْنَ بالتاء على الخطاب للمؤمنين والباقون بالياء خبراً عن المنافقين فعلى قراءة المخاطبة كان المعنى أن المؤمنين نبهوا على إعراض المنافقين عن النظر والتدبر ومن قرأ على المغايبة كان المعنى تقريع المنافقين بالإعراض عن الاعتبار بما يحدث في حقهم من الأمور الموجبة للاعتبار
المسألة الثانية قال الواحدي رحمه الله قوله أَوْ لاَ يَرَوْنَ هذه ألف الاستفهام دخلت على واو العطف فهو متصل بذكر المنافقين وهو خطاب على سبيل التنبيه قال سيبويه عن الخليل في قوله أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء

المعنى أنه أنزل الله من السماء ماء فكان كذا وكذا
المسألة الثالثة ذكروا في هذه الفتنة وجوهاً الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما يمتحنون بالمرض في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون من ذلك النفاق ولا يتعظون بذلك المرض كما يتعظ بذلك المؤمن إذا مرض فإنه عند ذلك يتذكر ذنوبه وموقفه بين يدي الله فيزيده ذلك إيماناً وخوفاً من الله فيصير ذلك سبباً لاستحقاقه لمزيد الرحمة والرضوان من عند الله الثاني قال مجاهد يُفْتَنُونَ بالقحط والجوع الثالث قال قتادة يفتنون بالغزو والجهاد فإنه تعالى أمر بالغزو والجهاد فهم إن تخلفوا وقعوا في ألسنة الناس باللعن والخزي والذكر القبيح وإن ذهبوا إلى الغزو مع كونهم كافرين كانوا قد عرضوا أنفسهم للقتل وأموالهم للنهب من غير فائدة الرابع قال مقاتل يفضحهم رسول الله بإظهار نفاقهم وكفرهم قيل إنهم كانوا يجتمعون على ذكر الرسول بالطعن فكان جبريل عليه السلام ينزل عليه ويخبره بما قالوه فيه فكان يذكر تلك الحادثة لهم ويوبخهم عليها ويعظهم فما كانوا يتعظون ولا ينزجرون
وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَة ٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون
اعلم أن هذا نوع آخر من مخازي المنافقين وهو أنه كلما نزلت سورة مشتملة على ذكر المنافقين وشرح فضائحهم وسمعوها تأذوا من سماعها ونظر بعضهم إلى بعض نظراً مخصوصاً دالاً على الطعن في تلك السورة والاستهزاء بها وتحقير شأنها ويحتمل أن لا يكون ذلك مختصاً بالسورة المشتملة على فضائح المنافقين بل كانوا يستخفون بالقرآن فكلما سمعوا سورة استهزؤوا بها وطعنوا فيها وأخذوا في التغامز والتضاحك على سبيل الطعن والهزء ثم قال بعضهم لبعض هل يراكم من أحد أي لو رآكم من أحد وهذا فيه وجوه الأول أن ذلك النظر دال على ما في الباطن من الإنكار الشديد والنفرة التامة فخافوا أن يرى أحد من المسلمين ذلك النظر وتلك الأحوال الدالة على النفاق والكفر فعند ذلك قالوا هَلْ يَرَاكُمْ مّنْ أَحَدٍ أي لو رآكم أحد على هذا النظر وهذا الشكل لضركم جداً والثاني أنهم كانوا إذا سمعوا تلك السورة تأذوا من سماعها فأرادوا الخروج من المسجد فقال بعضهم لبعض هَلْ يَرَاكُمْ مّنْ أَحَدٍ يعني إن رأوكم فلا تخرجوا إن كان ما رآكم أحد فاخرجوا من المسجد لتتخلصوا عن هذا الإيذاء والثالث هَلْ يَرَاكُمْ مّنْ أَحَدٍ يمكنكم أن تقولوا نحبه فوجب علينا الخروج من المسجد قال تعالى ثُمَّ انصَرَفُواْ يحتمل أن يكون المراد نفس هربهم من مكان الوحي واستماع القرآن ويجوز أن يراد به ثم انصرفوا عن استماع القرآن إلى الطعن فيه وإن ثبتوا في مكانهم
فإن قيل ما التفاوت بين هذه الآية وبين الآية المتقدمة وهي قوله وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَة ٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَاذِهِ إِيمَاناً

قلنا في تلك الآية حكى عنهم أنهم ذكروا قولهم أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَاذِهِ إِيمَاناً وفي هذه الآية حكى عنهم أنهم اكتفوا بنظر بعضهم إلى بعض على سبيل الهزؤ وطلبوا الفرار
ثم قال تعالى صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون واحتج أصحابنا به على أنه تعالى صرفهم عن الإيمان وصدهم عنه وهو صحيح فيه قال ابن عباس رضي الله عنهما عن كل رشد وخير وهدى وقال الحسن صرف الله قلوبهم وطبع عليها بكفرهم وقال الزجاج أضلهم الله تعالى قالت المعتزلة لو كان تعالى هو الذي صرفهم عن الإيمان فكيف قال أَنَّى يُصْرَفُونَ وكيف عاقبهم على الانصراف عن الإيمان قال القاضي ظاهر الآية يدل على أن هذا الصرف عقوبة لهم على انصرافهم والصرف عن الإيمان لا يكون عقوبة لأنه لو كان كذلك لكان كما يجوز أن يأمر أنبياءه بإقامة الحدود يجوز أن يأمرهم بصرف الناس عن الإيمان وتجويز ذلك يؤدي أن لا يوثق بما جاء به الرسول ثم قال هذا الصرف يحتمل وجهين أحدهما أنه تعالى صرف قلوبهم بما أورثهم من الغم والكيد الثاني صرفهم عن الألطاف التي يختص بها من آمن واهتدى
والجواب أن هذه الوجوه التي ذكرها القاضي ظاهر أنها متكلفة جداً وأما الوجه الصحيح الذي يشهد بصحته كل عقل سليم هو أن الفعل يتوقف على حصول الداعي وإلا لزم رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح وهو محال وحصول ذلك الداعي ليس من العبد وإلا لزم التسلسل بل هومن الله تعالى فالعبد إنما يقدم على الكفر إذا حصل في قلبه داعي الكفر وذلك الحصول من الله تعالى وإذا حصل ذلك الداعي انصرف ذلك القلب من جانب الإيمان إلى الكفر فهذا هو المراد من صرف القلب وهو كلام مقرر ببرهان قطعي وهو منطبق على هذا النص فبلغ في الوضوح إلى أعلى الغايات ومما بقي من مباحث الآية ما نقل عن محمد بن إسحق أنه قال لا تقولوا انصرفنا من الصلاة فإن قوماً انصرفوا صرف الله قلوبهم لكن قولوا قد قضينا الصلاة وكان المقصود منه التفاؤل بترك هذه اللفظة الواردة فيما لا ينبغي والترغيب في تلك اللفظة الواردة في الخير فإنه تعالى قال فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَواة ُ فَانتَشِرُواْ فِى الاْرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ ( الجمعة 10 )
لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ
فيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما أمر رسوله عليه السلام أن يبلغ في هذه السورة إلى الخلق تكاليف شاقة شديدة صعبة يعسر تحملها إلا لمن خصه الله تعالى بوجوه التوفيق والكرامة ختم السورة بما يوجب سهولة تحمل تلك التكاليف وهو أن هذا الرسول منكم فكل ما يحصل له من العز والشرف في الدنيا فهو

عائد إليكم وأيضاً فإنه بحال يشق عليه ضرركم وتعظم رغبته في إيصال خير الدنيا والآخرة إليكم فهو كالطبيب المشفق والأب الرحيم في حقكم والطبيب المشفق ربما أقدم على علاجات صعبة يعسر تحملها والأب الرحيم ربما أقدم على تأديبات شاقة إلا أنه لما عرف أن الطبيب حاذق وأن الأب مشفق صارت تلك المعالجات المؤلمة متحملة وصارت تلك التأديبات جارية مجرى الإحسان فكذا ههنا لما عرفتم أنه رسول حق من عند الله فاقبلوا منه هذه التكاليف الشاقة لتفوزوا بكل خير ثم قال للرسول عليه السلام فإن لم يقبلوها بل أعرضوا عنها وتولوا فاتركهم ولا تلتفت إليهم وعول على الله وارجع في جميع أمورك إلى الله فَقُلْ حَسْبِى َ اللَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ( التوبة 129 ) وهذه الخاتمة لهذه السورة جاءت في غاية الحسن ونهاية الكمال
المسألة الثانية اعلم أنه تعالى وصف الرسول في هذه الآية بخمسة أنواع من الصفات
الصفة الأولى قوله مّنْ أَنفُسِكُمْ وفي تفسيره وجوه الأول يريد أنه بشر مثلكم كقوله أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مّنْهُمْ ( يونس 2 ) وقوله إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ ( فصلت 6 ) والمقصود أنه لو كان من جنس الملائكة لصعب الأمر بسببه على الناس على ما مر تقريره في سورة الأنعام والثاني مّنْ أَنفُسِكُمْ أي من العرب قال ابن عباس ليس في العرب قبيلة إلا وقد ولدت النبي عليه السلام بسبب الجدات مضرها وربيعها ويمانيها فالمضريون والربيعيون هم العدنانية واليمانيون هم القحطانية ونظيره قوله تعالى لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ ( آل عمران 164 ) والمقصود منه ترغيب العرب في نصرته والقيام بخدمته كأنه قيل لهم كل ما يحصل له من الدولة والرفعة في الدنيا فهو سبب لعزكم ولفخركم لأنه منكم ومن نسبكم والثالث مّنْ أَنفُسِكُمْ خطاب لأهل الحرم وذلك لأن العرب كانوا يسمون أهل الحرم أهل الله وخاصته وكانوا يخدمونهم ويقومون بإصلاح مهماتهم فكأنه قيل للعرب كنتم قبل مقدمه مجدين مجتهدين في خدمة أسلافه وآبائه فلم تتكاسلون في خدمته مع أنه لا نسبة له في الشرف والرفعة إلى أسلافه
والقول الرابع أن المقصود من ذكر هذه الصفة التنبيه على طهارته كأنه قيل هو من عشيرتكم تعرفونه بالصدق والأمانة والعفاف والصيانة وتعرفون كونه حريصاً على دفع الآفات عنكم وإيصال الخيرات إليكم وإرسال من هذه حالته وصفته يكون من أعظم نعم الله عليكم وقرىء مّنْ أَنفُسِكُمْ أي من أشرفكم وأفضلكم وقيل هي قراءة رسول الله وفاطمة وعائشة رضي الله عنهما
الصفة الثانية قوله تعالى عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ اعلم أن العزيز هو الغالب الشديد والعزة هي الغلبة والشدة فإذا وصلت مشقة إلى الإنسان عرف أنه كان عاجزاً عن دفعها إذ لو قدر على دفعها لما قصر في ذلك الدفع فحيث لم يدفعها علم أنه كان عاجزاً عن دفعها وأنها كانت غالبة على الإنسان فلهذا السبب إذا اشتد على الإنسان شيء قال عز علي هذا وأما العنت فيقال عنت الرجل يعنت عنتاً إذا وقع في مشقة وشدة لا يمكنه الخروج منها ومنه قوله تعالى ذَلِكَ لِمَنْ خَشِى َ الْعَنَتَ مِنْكُمْ ( النساء 25 ) وقوله وَلَوْ شَاء اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ ( البقرة 220 ) وقال الفراء مَا في قوله مَا عَنِتُّمْ في موضع رفع والمعنى عزيز عليه عنتكم أي يشق عليه مكروهكم وأولى المكاره بالدفع مكروه عقاب الله تعالى وهو إنما أرسل ليدفع هذا المكروه

والصفة الثالثة قوله حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ والحرص يمتنع أن يكون متعلقاً بذواتهم بل المراد حريص على إيصال الخيرات إليكم في الدنيا والآخرة
واعلم أن على هذا التقدير يكون قوله عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ معناه شديدة معزته عن وصول شيء من آفات الدنيا والآخرة إليكم وبهذا التقدير لا يحصل التكرار قال الفراء الحريص الشحيح ومعناه أنه شحيح عليكم أن تدخلوا النار وهذا بعيد لأنه يوجب الخلو عن الفائدة
والصفة الرابعة والخامسة قوله بِالْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ قال ابن عباس رضي الله عنهما سماه الله تعالى باسمين من أسمائه بقي ههنا سؤالان
السؤال الأول كيف يكون كذلك وقد كلفهم في هذه السورة بأنواع من التكاليف الشاقة التي لا يقدر على تحملها إلا الموفق من عند الله تعالى
قلنا قد ضربنا لهذا المعنى مثل الطبيب الحاذق والأب المشفق والمعنى أنه إنما فعل بهم ذلك ليتخلصوا من العقاب المؤبد ويفوزوا بالثواب المؤبد
السؤال الثاني لما قال عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ فهذا النسق يوجب أن يقال رؤوف رحيم بالمؤمنين فلم ترك هذا النسق وقال بِالْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ
الجواب أن قوله بِالْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ يفيد الحصر بمعنى أنه لا رأفة ولا رحمة له إلا بالمؤمنين فأما الكافرون فليس له عليهم رأفة ورحمة وهذا كالمتمم لقدر ما ورد في هذه السورة من التغليظ كأنه يقول إني وإن بالغت في هذه السورة في التغليظ إلا أن ذلك التغليط على الكافرين والمنافقين وأما رحمتي ورأفتي فمخصوصة بالمؤمنين فقط فلهذه الدقيقة عدل على ذلك النسق
فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِى َ اللَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ
أما قوله فَإِن تَوَلَّوْاْ يريد المشركين والمنافقين ثم قيل تَوَلَّوْاْ أي أعرضوا عنك وقيل تولوا عن طاعة الله تعالى وتصديق الرسول عليه الصلاة والسلام وقيل تولوا عن قبول التكاليف الشاقة المذكورة في هذه السورة وقيل تولوا عن نصرتك في الجهاد واعلم أن المقصود من هذه الآية بيان أن الكفار لو أعرضوا ولم يقبلوا هذه التكاليف لم يدخل في قلب الرسول حزن ولا أسف لأن الله حسبه وكافيه في نصره على الأعداء وفي إيصاله إلى مقامات الآلاء والنعماء لاَ إله إِلاَّ هُوَ وإذا كان لا إله إلا هو وجب أن يكون لا مبدىء لشيء من الممكنات ولا محدث لشيء من المحدثات إلا هو وإذا كان هو الذي أرسلني بهذه الرسالة وأمرني بهذا التبليغ كانت النصرة عليه والمعونة مرتقبة منه
ثم قال عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وهو يفيد الحصر أي لا أتوكل إلا عليه وهو رب العرش العظيم والسبب في تخصيصه بالذكر أنه كلما كانت الآثار أعظم وأكرم كان ظهور جلالة المؤثر في العقل والخاطر أعظم ولما كان أعظم الأجسام هو العرض كان المقصود من ذكره تعظيم جلال الله سبحانه

فإن قالوا العرش غير محسوس فلا يعرف وجوده إلا بعد ثبوت الشريعة فكيف يمكن ذكره في معرض شرح عظمة الله تعالى
قلنا وجود العرش أمر مشهور والكفار سمعوه من اليهود و النصارى ولا يبعد أيضاً أنهم كانوا قد سمعوه من أسلافهم ومن الناس من قرأ قوله الْعَظِيمِ بالرفع ليكون صفة للرب سبحانه قال أبو بكر وهذه القراءة أعجب لأن جعل العظيم صفة لله تعالى أولى من جعله صفة للعرش وأيضاً فإن جعلناه صفة للعرش كان المراد من كونه عظيماً كبر جرمه وعظم حجمه واتساع جوانبه على ما هو مذكور في الأخبار وإن جعلناه صفة لله سبحانه كان المراد من العظمة وجوب الوجود والتقديس عن الحجمية والأجزاء والأبعاض وكمال العلم والقدرة وكونه منزهاً عن أن يتمثل في الأوهام أو تصل إليه الأفهام وقال الحسن هاتان الآيتان آخر ما أنزل الله من القرآن وما أنزل بعدهما قرآن وقال أبي بن كعب أحدث القرآن عهد بالله عز وجل هاتان الآيتان وهو قول سعيد بن جبير ومنهم من يقول آخر ما أنزل من القرآن قوله تعالى وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ( البقرة 281 )
ونقل عن حذيفة أنه قال أنتم تسمون هذه السورة بالتوبة وهي سورة العذاب ما تركتم أحداً إلا نالت منه والله ما تقرؤن ربعها
اعلم أن هذه الرواية يجب تكذيبها لأنا لو جوزنا ذلك لكان ذلك دليلاً على تطرق الزيادة والنقصان إلى القرآن وذلك يخرجه عن كونه حجة ولا خفاء أن القول به باطل والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده
وهذا آخر تفسير هذه السورة ولله الحمد والشكر
فرغ المؤلف رحمه الله من تفسيرها في يوم الجمعة الرابع عشر من رمضان سنة إحدى وستمائة والحمد لله وحده والصلاة على سيدنا محمد وآله وصحبه أجميعن

بداية الجزء السابع عشر من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32

سورة يونس
مكية
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن هذه السورة مكية إلا قوله وَمِنهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ فإنها مدنية نزلت في اليهود
ال ر تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ
قوله جل جلاله الر وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وابن كثير وعاصم الر بفتح الراء على التفخيم وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي ويحيى عن أبي بكر بكسر الراء على الإمالة وروي عن نافع وابن عامر وحماد عن عاصم بين الفتح والكسر واعلم أن كلها لغات صحيحة قال الواحدي الأصل ترك الإمالة في هذه الكلمات نحو ما ولا لأن ألفاتها ليست منقلبة عن الياء وأما من أمال فلأن هذه الألفاظ أسماء للحروف المخصوصة فقصد بذكر الإمالة التنبيه على أنها أسماء لا حروف
المسألة الثانية اتفقوا على أن قوله الر وحده ليس آية واتفقوا على أن قوله طه وحده آية والفرق أن قوله الر لا يشاكل مقاطع الآي التي بعده بخلاف قوله طه فإنه يشاكل مقاطع الآي التي بعده
المسألة الثالثة الكلام المستقصى في تفسير هذا النوع من الكلمات قد تقدم في أول سورة البقرة إلا أنا نذكر ههنا أيضاً بعض ما قيل قال ابن عباس الر معناه أنا الله أرى وقيل أنا الرب لا رب غيري وقيل الر و حم و ن اسم الرحمن
قوله تعالى تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ فيه مسألتان
المسألة الأولى قوله تِلْكَ يحتمل أن يكون إشارة إلى ما في هذه السورة من الآيات ويحتمل أن

يكون إشارة إلى ما تقدم هذه السورة من آيات القرآن وأيضاً فالكتاب الحكيم يحتمل أن يكون المراد منه هو القرآن ويحتمل أن يكون المراد منه غير القرآن وهو الكتاب المخزون المكنون عند الله تعالى الذي منه نسخ كل كتاب كما قال تعالى إِنَّهُ لَقُرْءانٌ كَرِيمٌ فِى كِتَابٍ مَّكْنُونٍ ( الواقعة 77 78 ) وقال تعالى بَلْ هُوَ قُرْءانٌ مَّجِيدٌ فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ( البروج 22 ) وقال وَإِنَّهُ فِى أُمّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِى ٌّ حَكِيمٌ ( الزخرف 4 ) وقال يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ( الرعد 39 )
وإذا عرفت ما ذكرنا من الاحتمالات تحصل ههنا حينئذ وجوه أربعة من الاحتمالات
الاحتمال الأول أن يقال المراد من لفظة تِلْكَ الإشارة إلى الآيات الموجودة في هذه السورة فكان التقدير تلك الآيات هي آيات الكتاب الحكيم الذي هو القرآن وذلك لأنه تعالى وعد رسوله عليه الصلاة والسلام أن ينزل عليه كتاباً لا يمحوه الماء ولا يغيره كرور الدهر فالتقدير أن تلك الآيات الحاصلة في سورة الر هي آيات ذلك الكتاب المحكم الذي لا يمحوه الماء
الاحتمال الثاني أن يقال المراد أن تلك الآيات الموجودة في هذه السورة هي آيات الكتاب المخزون المكنون عند الله
واعلم أن على هذين القولين تكون الإشارة بقولنا تِلْكَ إلى آيات هذه السورة وفيه إشكال وهو أن تِلْكَ يشار بها إلى الغائب وآيات هذه السورة حاضرة فكيف يحسن أن يشار إليه بلفظ تِلْكَ
واعلم أن هذا السؤال قد سبق مع جوابه في تفسير قوله تعالى الم ذالِكَ الْكِتَابُ ( البقرة 1 2 )
الاحتمال الثالث والرابع أن يقال لفظ تِلْكَ إشارة إلى ما تقدم هذه السورة من آيات القرآن والمراد بها هي آيات القرآن الحكيم والمراد أنها هي آيات ذلك الكتاب المكنون المخزون عند الله تعالى وفي الآية قولان آخران أحدهما أن يكون المراد من الْكِتَابِ الْحَكِيمِ التوراة والإنجيل والتقدير أن الآيات المذكورة في هذه السورة هي الآيات المذكورة في التوراة والإنجيل والمعنى أن القصص المذكورة في هذه السورة موافقة للقصص المذكورة في التوراة والإنجيل مع أن محمداً عليه الصلاة والسلام ما كان عالماً بالتوراة والإنجيل فحصل هذه الموافقة لا يمكن إلا إذا خص الله تعالى محمداً بإنزال الوحي عليه والثاني وهو قول أبي مسلم أن قوله الر إشارة إلى حروف التهجي فقوله الر تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ يعني هذه الحروف هي الأشياء التي جعلت وعلامات لهذا الكتاب الذي آيات به وقع التحدي فلولا امتياز هذا الكتاب عن كلام الناس بالوصف المعجز وإلا لكان اختصاصه بهذا النظم دون سائر الناس القادرين على التلفظ بهذه الحروف محالاً
المسألة الثانية في وصف الكتاب بكونه حكيماً وجوه الأول أن الحكيم هو ذو الحكمة بمعنى اشتمال الكتاب على الحكمة الثاني أن يكون المراد وصف الكلام بصفة من تكلم به قال الأعشى وغريبة تأتي الملوك حكيمة
قد قلتها ليقال من ذا قالها
الثالث قال الأكثرون الْحَكِيمُ بمعنى الحاكم فعيل بمعنى فاعل دليله قوله تعالى وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ ( البقرة 213 ) فالقرآن كالحاكم في الاعتقادات لتميز حقها عن باطلها

وفي الأفعال لتميز صوابها عن خطئها وكالحاكم على أن محمداً صادق في دعوى النبوة لأن المعجزة الكبرى لرسولنا عليه الصلاة والسلام ليست إلا القرآن الرابع أن الْحَكِيمُ بمعنى المحكم والأحكام معناه المنع من الفساد فيكون المراد منه أنه لا يمحوه الماء ولا تحرقه النار ولا تغيره الدهور أو المراد منه براءته عن الكذب والتناقض الخامس قال الحسن وصف الكتاب بالحكيم لأنه تعالى حكم فيه بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي وحكم فيه بالجنة لمن أطاعه وبالنار لمن عصاه فعلى هذا الْحَكِيمُ يكون معناه المحكوم فيه السادس أن الْحَكِيمُ في أصل اللغة عبارة عن الذي يفعل الحكمة والصواب فكان وصف القرآن به مجازاً ووجه المجاز هو أنه يدل على الحكمة والصواب فمن حيث أنه يدل على هذه المعاني صار كأنه هو الحكيم في نفسه
أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَآ إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ ءامَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَاذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ
في الآية مسائل
المسألة الأولى أن كفار قريش تعجبوا من تخصيص الله تعالى محمداً بالرسالة والوحي فأنكر الله تعالى عليهم ذلك التعجب أما بيان كون الكفار تعجبوا من هذا التخصيص فمن وجوه الأول قوله تعالى أَجَعَلَ الاْلِهَة َ إِلَهاً واحِداً إِنَّ هَاذَا لَشَى ْء عُجَابٌ وَانطَلَقَ الْمَلا مِنْهُمْ أَنِ امْشُواْ وَاْصْبِرُواْ عَلَى ءالِهَتِكُمْ إِنَّ هَاذَا لَشَى ْء يُرَادُ ( ص 5 و 6 ) وإذا بلغوا في الجهالة إلى أن تعجبوا من كون الإله تعالى واحداً لم يبعد أيضاً أن يتعجبوا من تخصيص الله تعالى محمداً بالوحي والرسالة ا والثاني أن أهل مكة كانوا يقولون إن الله تعالى ما وجد رسولاً إلى خلقه إلا يتيم أبي طالبا والثالث أنهم قالوا لَوْلاَ نُزّلَ هَاذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ( الزخرف 31 ) وبالجملة فهذا التعجب يحتمل وجهين أحدهما أن يتعجبوا من أن يجعل الله بشراً رسولاً كما حكي عن الكفار أنهم قالوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَّسُولاً ( الإسراء 94 ) والثاني أن لا يتعجبوا من ذلك بل يتعجبوا من تخصيص محمد عليه الصلاة والسلام بالوحي والنبوة مع كونه فقيراً يتيماً فهذا بيان أن الكفار تعجبوا من ذلك وأما بيان أن الله تعالى أنكر عليهم هذا التعجب فهو قوله في هذه الآية أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مّنْهُمْ فإن قوله أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا لفظه لفظ الاستفهام ومعناه الإنكار لأن يكون ذلك عجباً وإنما وجب إنكار هذا التعجب لوجوه الأول أنه تعالى مالك الخلق وملك لهم والمالك والملك هو الذي له الأمر والنهي والإذن والمنع ولا بد من إيصال تلك التكاليف إلى أولئك المكلفين بواسطة بعض العباد وإذا كان الأمر كذلك كان إرسال الرسول أمراً غير ممتنع بل كان مجوزاً في العقول الثاني أنه تعالى خلق الخلق للاشتغال بالعبودية كما قال وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( الذاريات 56 ) وقال إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَة ٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ ( الإنسان 2 ) وقال قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبّهِ فَصَلَّى ( الأعلى 14 15 )

ثم إنه تعالى أكمل عقولهم ومكنهم من الخير والشر ثم علم تعالى أن عباده لا يشتغلون بما كلفوا به إلا إذا أرسل إليهم رسولاً ومنبهاً فعند هذا يجب وجوب الفضل والكرم والرحمة أن يرسل إليهم ذلك الرسول وإذا كان ذلك واجباً فكيف يتعجب منه الثالث أن إرسال الرسل أمر ما أخلى الله تعالى شيئاً من أزمنة وجود المكلفين منه كما قال وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ ( يوسف 109 ) فكيف يتعجب منه مع أنه قد سبقه النظير ويؤكده قوله تعالى وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ الأعراف 59 ) وسائر قصص الأنبياء عليهم السلام الرابع أنه تعالى إنما أرسل إليهم رجلاً عرفوا نسبه وعرفوا كونه أميناً بعيداً عن أنواع التهم والأكاذيب ملازماً للصدق والعفاف ثم إنه كان أمياً لم يخالط أهل الأديان وما قرأ كتاباً أصلاً ألبتة ثم إنه مع ذلك يتلو عليهم أقاصيصهم ويخبرهم عن وقائعهم وذلك يدل على كونه صادقاً مصدقاً من عند الله ويزيل التعجب وهو من قوله هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الامّيّينَ رَسُولاً مّنْهُمْ ( الجمعة 2 ) وقال وَمَا كُنْتَ تَتْلُواْ مِنْهُ قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ( العنكبوت 48 ) الخامس أن مثل هذا التعجب كان موجوداً عند بعثة كل رسول كما في قوله وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا ( لأعراف 65 ) وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ( الأعراف 73 ) إلى قوله عَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مّن رَّبّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مّنْكُمْ ( الأعراف 63 ) السادس أن هذا التعجب إما أن يكون من إرسال الله تعالى رسولاً من البشر أو سلموا أنه لا تعجب في ذلك وإنما تعجبوا من تخصيص الله تعالى محمداً عليه الصلاة والسلام بالوحي والرسالة
أما الأول فبعيد لأن العقل شاهد بأن مع حصول التكليف لا بد من منبه ورسول يعرفهم تمام ما يحتاجون إليه في أديانهم كالعبادات وغيرها
وإذا ثبت هذا فنقول الأولى أن يبعث إليهم من كان من جنسهم ليكون سكونهم إليه أكمل والفهم به أقوى كما قال تعالى وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً ( الأنعام 9 ) وقال قُل لَوْ كَانَ فِى الاْرْضِ مَلَائِكَة ٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً ( الإسراء 95 )
وأما الثاني فبعيد لأن محمداً عليه الصلاة والسلام كان موصوفاً بصفات الخير والتقوى والأمانة وما كانوا يعيبونه إلا بكونه يتيماً فقيراً وهذا في غاية البعد لأنه تعالى غني عن العالمين فلا ينبغي أن يكون الفقر سبباً لنقصان الحال عنده ولا أن يكون الغنى سبباً لكمال الحال عنده كما قال تعالى وَمَا أَمْوالُكُمْ وَلاَ أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِى تُقَرّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى ( سبأ 37 ) فثبت أن تعجب الكفار من تخصيص الله تعالى محمداً بالوحي والرسالة كلام فاسد
المسألة الثانية الهمزة في قوله أَكَانَ لإنكار التعجب ولأجل التعجيب من هذا التعجب و أَنْ أَوْحَيْنَا اسم كان وعجباً خبره وقرأ ابن عباس عجب فجعله اسماً وهو نكرة و عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا خبره وهو معرفة كقوله يكون مزاجها عسل وماء والأجود أن تكون ( كان ) تامة وأن أوحينا بدلاً من عجب
المسألة الثالثة أنه تعالى قال أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا ولم يقل أكان عند الناس عجباً والفرق أن قوله أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا معناه أنهم جعلوه لأنفسهم أعجوبة يتعجبون منها ونصبوه وعينوه لتوجيه الطيرة والاستهزاء والتعجب إليها وليس في قوله ( أكان عند الناس عجباً ) هذا المعنى
المسألة الرابعة ءانٍ مع الفعل في قولنا أَنْ أَوْحَيْنَا في تقدير المصدر وهو اسم كان وخبره هو

قوله عَجَبًا وإنما تقدم الخبر على المبتدأ ههنا لأنهم يقدمون الأهم والمقصود بالإنكار في هذه الآية إنما هو تعجبهم وأما ءانٍ في قوله أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ فمفسرة لأن الإيحاء فيه معني القول ويجوز أن تكون مخففة من الثقيلة وأصله أنه أنذر الناس على معنى أن الشأن قولنا أنذر الناس
المسألة الخامسة أنه تعالى لما بين أنه أوحى إلى رسوله بين بعده تفصيل ما أوحى إليه وهو الإنذار والتبشير أما الإنذار فللكفار والفساق ليرتدعوا بسبب ذلك الإنذار عن فعل ما لا ينبغي وأما التبشير فلأهل الطاعة لتقوى رغبتهم فيها وإنما قدم الإنذار على التبشير لأن التخلية مقدمة على التحلية وإزالة ما لا ينبغي مقدم في الرتبة على فعل ما ينبغي
المسألة السادسة قوله قَدَمَ صِدْقٍ فيه أقوال لأهل اللغة وأقوال المفسرين أما أقوال أهل اللغة فقد نقل الواحدي في ( البسيط ) منها وجوهاً قال الليث وأبو الهيثم القدم السابقة والمعنى أنهم قد سبق لهم عند الله خير قال ذو الرمة وأنت امرؤ من أهل بيت ذؤابة
لهم قدم معروفة ومفاخر
وقال أحمد بن يحيى القدم كل ما قدمت من خير وقال ابن الأنباري القدم كناية عن العمل الذي يتقدم فيه ولا يقع فيه تأخير ولا إبطاء
واعلم أن السبب في إطلاق لفظ القدم على هذه المعاني أن السعي والسبق لا يحصل إلا بالقدم فسمى المسبب باسم السبب كما سميت النعمة يداً لأنها تعطى باليد
فإن قيل فما الفائدة في إضافة القدم إلى الصدق في قوله سبحانه قَدَمَ صِدْقٍ
قلنا الفائدة التنبيه على زيادة الفضل وأنه من السوابق العظيمة وقال بعضهم المراد مقام صدق وأما المفسرون فلهم أقوال فبعضهم حمل قَدَمَ صِدْقٍ على الأعمال الصالحة وبعضهم حمله على الثواب ومنهم من حمله على شفاعة محمد عليه الصلاة والسلام واختار ابن الأنباري هذا الثاني وأنشد صل لذي العرش واتخذ قدما
بنجيك يوم العثار والزلل
المسألة السابعة أن الكافرين لما جاءهم رسول منهم فأنذرهم وبشرهم وأتاهم من عند الله تعالى بما هو اللائق بحكمته وفضله قالوا متعجبين إِنَّ هَاذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ أي إن هذا الذي يدعي أنه رسول هو ساحر والابتداء بقوله قَالَ الْكَافِرُونَ على تقدير فلما أنذرهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين قال القفال وإضمار هذا غير قليل في القرآن
المسألة الثامنة قرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي إِنَّ هَاذَا لَسَاحِرٌ والمراد منه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والباقون لَسَاحِرٌ والمراد به القرآن
واعلم أن وصف الكفار القرآن بكونه سحراً يدل على عظم محل القرآن عندهم وكونه معجزاً وأنه تعذر عليهم فيه المعارضة فاحتاجوا إلى هذا الكلام
واعلم أن إقدامهم على وصف القرآن بكونه سحراً يحتمل أن يكونوا ذكروه في معرض الذم

ويحتمل أنهم ذكروه في معرض المدح فلهذا السبب اختلف المفسرون فيه فقال بعضهم أرادوا به أنه كلام مزخرف حسن الظاهر ولكنه باطل في الحقيقة ولا حاصل له وقال أخرون أرادوا به أنه لكمال فصاحته وتعذر مثله جار مجرى السحر
واعلم أن هذا الكلام لما كان في غاية الفساد لم يذكر جوابه وإنما قلنا إنه في غاية الفساد لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان منهم ونشأ بينهم وما غاب عنهم وما خالط أحداً سواهم وما كان مكة بلدة العلماء والأذكياء حتى يقال إنه تعلم السحر أو تعلم العلوم الكثيرة منهم فقدر على الإتيان بمثل هذا القرآن وإذا كان الأمر كذلك كان حمل القرآن على السحر كلاماً في غاية الفساد فلهذا السبب ترك جوابه
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض فِى سِتَّة ِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الاٌّ مْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذالِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ
اعلم أنه تعالى لما حكى عن الكفار أنهم تعجبوا من الوحي والبعثة والرسالة ثم إنه تعالى أزال ذلك التعجب بأنه لا يبعد البتة في أن يبعث خالق الخلق إليهم رسولاً يبشرهم على الأعمال الصالحة بالثواب وعلى الأعمال الباطلة الفاسدة بالعقاب كان هذا الجواب إنما يتم ويكمل بإثبات أمرين أحدهما إثبات أن لهذاالعالم إلهاً قاهراً قادراً نافذاً لحكم بالأمر والنهي والتكليف والثاني إثبات الحشر والنشر والبعث والقيامة حتى يحصل الثواب والعقاب اللذان أخبر الأنبياء عن حصولهما فلا جرم أنه سبحانه ذكر في هذا الموضع ما يدل على تحقيق هذين المطلوبين
أما الأول وهو إثبات الإلهية فبقوله تعالى إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ
وأما الثاني وهو إثبات المعاد والحشر والنشر فبقوله إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقّا ( يونس 4 ) فثبت أن هذا الترتيب في غاية الحسن ونهاية الكمال وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قد ذكرنا في هذا الكتاب وفي الكتب العقلية أن الدليل الدال على وجود الصانع تعالى إما الامكان وإما الحدوث وكلاهما إما في الذوات وإما في الصفات فيكون مجموع الطرق الدالة على وجود الصانع أربعة وهي إمكان الذوات وإمكان الصفات وحدوث الذوات وحدوث الصفات وهذه الأربعة معتبرة تارة في العالم العلوي وهو عالم السموات والكواكب وتارة في العالم السفلي والأغلب من الدلائل المذكورة في الكتب الإلهية التمسك بإمكان الصفات وحدوثها تارة في أحوال العالم العلوي وتارة في أحوال العالم السفلي والمذكور في هذا الموضع هو التمسك بإمكان الأجرام العلوية في مقاديرها وصفاتها وتقريره من وجوه الأول أن أجرام الأفلاك لا شك أنها مركبة من الأجزاء التي لا تتجزى ومتى كان الأمر كذلك كانت لا محالة محتاجة إلى الخالق والمقدر
أما بيان المقام الأول فهو أن أجرام الأفلاك لا شك أنها قابلة للقسمة الوهمية وقد دللنا في الكتب

العقلية على أن كل ما كان قابلاً للقسمة الوهمية فإنه يكون مركباً من الأجزاء والأبعاض ودللنا على أن الذي تقوله الفلاسفة من أن الجسم قابل للقسمة ولكنه يكون في نفسه شيئاً واحداً كلام فاسد باطل فثبت بما ذكرنا أن أجرام الأفلاك مركبة من الأجزاء التي لا تتجزى وإذا ثبت هذا وجب افتقارها إلى خالق ومقدر وذلك لأنها لما تركبت فقد وقع بعض تلك الأجزاء في داخل ذلك الجرم وبعضها حصلت على سطحها وتلك الأجزاء متساوية في الطبع والماهية والحقيقة والفلاسفة أقروا لنا بصحة هذه المقدمة حيث قالوا إنها بسائط ويمتنع كونها مركبة من أجزاء مختلفة الطبائع
وإذا ثبت هذا فنقول حصول بعضها في الداخل وحصول بعضها في الخارج أمر ممكن الحصول جائز الثبوت يجوز أن ينقلب الظاهر باطناً والباطن ظاهراً وإذا كان الأمر كذلك وجب افتقار هذه الأجزاء حال تركيبها إلى مدبر وقاهر يخصص بعضها بالداخل وبعضها بالخارج فدل هذا على أن الأفلاك مفتقرة في تركيبها وأشكالها وصفاتها إلى مدبر قدير عليم حكيم
الوجه الثاني في الاستدلال بصفات الأفلاك على وجود الإله القادر أن نقول حركات هذه الأفلاك لها بداية ومتى كان الأمر كذلك افتقرت هذه الأفلاك في حركاتها إلى محرك ومدبر قاهر
أما المقام الأول فالدليل على صحته أن الحركة عبارة عن التغير من حال إلى حال وهذه الماهية تقتضي المسبوقية بالحالة المنتقل عنها والأزل ينافي المسبوقية بالغير فكان الجمع بين الحركة وبين الأزل محالاً فثبت أن لحركات الأفلاك أولاً وإذا ثبت هذا وجب أن يقال هذه الأجرام الفلكية كانت معدومة في الأزل وإن كانت موجودة لكنها كانت واقفة وساكنة وما كانت متحركة وعلى التقديرين فلحركاتها أول وبداية
( وأما المقام الثاني ) وهو أنه لما كان الأمر كذلك وجب افتقارها إلى مدبر قاهر فالدليل عليه أن ابتداء هذه الأجرام بالحركة في ذلك الوقت المعين دون ما قبله ودون ما بعده لا بد وأن يكون لتخصيص مخصص وترجيح مرجح وذلك المرجح يمتنع أن يكون موجباً بالذات وإلا لحصلت تلك الحركة قبل ذلك الوقت لأجل أن موجب تلك الحركة كان حاصلاً قبل ذلك الوقت ولما بطل هذا ثبت أن ذلك المرجح قادر مختار وهو المطلوب
الوجه الثالث في الاستدلال بصفات الأفلاك على وجود الإله المختار وهو أن أجزاء الفلك حاصلة فيه لا في الفلك الآخر وأجزاء الفلك الآخر حاصلة فيه لا في الفلك الأول فاختصاص كل واحد منها بتلك الأجزاء أمر ممكن ولا بد له من مرجح ويعود التقرير الأول فيه فهذا تقرير هذا الدليل الذي ذكره الله تعالى في هذه الآية وفي الآية سؤالات
السؤال الأول أن كلمة الَّذِى كلمة وضعت للإشارة إلى شيء مفرد عند محاولة تعريفه بقضية معلومة كما إذا قيل لك من زيد فتقول الذي أبوه منطلق فهذا التعريف إنما يحسن لو كان كون أبيه منطلقاً أمراً معلوماً عند السامع فهنا لما قال إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فِي سِتَّة ِ أَيَّامٍ فهذا إنما يحسن لو كان كونه سبحانه وتعالى خالقاً للسموات والأرض في ستة أيام أمراً معلوماً عند السامع والعرب ما كانوا عالمين بذلك فكيف يحسن هذا التعريف

وجوابه أن يقال هذا الكلام مشهور عند اليهود والنصارى لأنه مذكور في أول ما يزعمون أنه هو التوراة ولما كان ذلك مشهوراً عندهم والعرب كانوا يخالطونهم فالظاهر أنهم أيضاً سمعوه منهم فلهذا السبب حسن هذا التعريف
السؤال الثاني ما الفائدة في بيان الأيام التي خلقها الله فيها
والجواب أنه تعالى قادر على خلق جميع العالم في أقل من لمح البصر والدليل عليه أن العالم مركب من الأجزاء التي لا تتجزى والجزء الذي لا يتجزى لا يمكن إيجاده إلا دفعه لأنا لو فرضنا أن إيجاده إنما يحصل في زمان فذلك الزمان منقسم لا محالة من آنات متعاقبة فهل حصل شيء من ذلك الإيجاد في الأن الأول أو لم يحصل فإن لم يحصل منه شيء في الآن الأول فهو خارج عن مدة الإيجاد وإن حصل في ذلك الآن إيجاد شيء وحصل في الآن الثاني إيجاد شيء آخر فهما إن كانا جزأين من ذلك الجزء الذي لا يتجزى فحينئذ يكون الجزء الذي لا يتجزى متجزئاً وهو محال وإن كان شيئاً آخر فحينئذ يكون إيجاد الجزء الذي لا يتجزى لا يمكن إلا في آن واحد دفعة واحدة وكذا القول في إيجاد جميع الأجزاء فثبت أنه تعالى قادر على إيجاد جميع العالم دفعة واحدة ولا شك أيضاً أنه تعالى قادر على إيجاده وتكوينه على التدريج
وإذا ثبت هذا فنقول ههنا مذهبان الأول قول أصحابنا وهو أنه يحسن منه كلما أراد ولا يعلل شيء من أفعاله بشيء من الحكمة والمصالح وعلى هذا القول يسقط قول من يقول لم خلق العالم في ستة أيام وما خلقه في لحظة واحدة لأنا نقول كل شيء صنعه ولا علة لصنعه فلا يعلل شيء من أحكامه ولا شيء من أفعاله بعلة فسقط هذا السؤال الثاني قول المعتزلة وهو أنهم يقولون يجب أن تكون أفعاله تعالى مشتملة على المصلحة والحكمة فعند هذا قال القاضي لا يبعد أن يكون خلق الله تعالى السموات والأرض في هذه المدة المخصوصة أدخل في الاعتبار في حق بعض المكلفين ثم قال القاضي
فإن قيل فمن المعتبر وما وجه الاعتبار ثم أجاب وقال أما المعتبر فهو أنه لا بد من مكلف أو غير مكلف من الحيوان خلقه الله تعالى قبل خلقه للسموات والأرضين أو معهما وإلا لكان خلقهما عبثاً
فإن قيل فهلا جاز أن يخلقهما لأجل حيوان يخلقه من بعد ا
قلنا إنه تعالى لا يخاف الفوت فلا يجوز أن يقدم خلق ما لا ينتفع به أحد لأجل حيوان سيحدث بعد ذلك وإنما يصح منا ذلك في مقدمات الأمور لأنا نخشى الفوت ونخاف العجز والقصور قال وإذا ثبت هذا فقد صح ما روي في الخبر أن خلق الملائكة كان سابقاً على خلق السموات والأرض
فإن قيل أولئك الملائكة لا بد لهم من مكان فقبل خلق السموات والأرض لا مكان فكيف يمكن وجودهم بلا مكان
قلنا الذي يقدر على تسكين العرش والسموات والأرض في أمكنتها كيف يعجز عن تسكين أولئك الملائكة في أحيازها بقدرته وحكمته وأما وجه الاعتبار في ذلك فهو أنه لما حصل هناك معتبر لم يمتنع أن يكون اعتباره بما يشاهده حالاً بعد حال أقوى والدليل عليه أن ما يحدث على هذا الوجه فإنه يدل على أنه صادر من فاعل حكيم وأما المخلوق دفعة واحدة فإنه لا يدل على ذلك

والسؤال الثالث فهل هذه الأيام كأيام الدنيا أو كما روي عن ابن عباس أنه قال إنها ستة أيام من أيام الآخرة كل يوم منها ألف سنة مما تعدون
والجواب قال القاضي الظاهر في ذلك أنه تعريف لعباده مدة خلقه لهما ولا يجوز أن يكون ذلك تعريفاً إلا والمدة هذه الأيام المعلومة
ولقائل أن يقول لما وقع التعريف بالأيام المذكورة في التوراة والإنجيل وكان المذكور هناك أيام الآخرة لا أيام الدنيا لم يكن ذلك قادحاً في صحة التعريف
السؤال الرابع هذه الأيام إنما تتقدر بحسب طلوع الشمس وغروبها وهذا المعنى مفقود قبل خلقها فكيف يعقل هذا التعريف
والجواب التعريف يحصل بما أنه لو وقع حدوث السموات والأرض في مدة لو حصل هناك أفلاك دائرة وشمس وقمر لكانت تلك المدة مساوية لستة أيام
ولقائل أن يقول فهذا يقتضي حصول مدة قبل خلق العالم يحصل فيها حدوث العالم وذلك يوجب قدم المدة
وجوابه أن تلك المدة غير موجودة بل هي مفروضة موهومة والدليل عليه أن تلك المدة المعينة حادثة وحدوثها لا يحتاج إلى مدة أخرى وإلا لزم إثبات أزمنة لا نهاية لها وذلك محال فكل ما يقولون في حدوث المدة فنحن نقوله في حدوث العالم
السؤال الخامس أن اليوم قد يراد به اليوم مع ليلته وقد يراد به النهار وحده فالمراد بهذه الآية أيهما
والجواب الغالب في اللغة أنه يراد باليوم اليوم بليلته
المسألة الثانية أما قوله ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ففيه مباحث الأول أن هذا يوهم كونه تعالى مستقراً على العرش والكلام المستقصى فيه مذكور في أول سورة طه ولكنا نكتفي ههنا بعبارة وجيزة فنقول هذه الآية لا يمكن حملها على ظاهرها ويدل عليه وجوه الأول أن الاستواء على العرش معناه كونه معتمداً عليه مستقراً عليه بحيث لولا العرش لسقط ونزل كما أنا إذا قلنا إن فلاناً مستو على سريره فإنه يفهم منه هذا هذا المعنى إلا أن إثبات هذا المعنى يقتضي كونه محتاجاً إلى العرش وإنه لولا العرش لسقط ونزل وذلك محال لأن المسلمين أطبقوا على أن الله تعالى هو الممسك للعرش والحافظ له ولا يقول أحد أن العرش هو الممسك لله تعالى والحافظ له والثاني أن قوله ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يدل على أنه قبل ذلك ما كان مستوياً عليه وذلك يدل على أنه تعالى يتغير من حال إلى حال وكل من كان متغيراً كان محدثاً وذلك بالاتفاق باطل الثالث أنه لما حدث الاستواء في هذا الوقت فهذا يقتضي أنه تعالى كان قبل هذا الوقت مضظرباً متحركاً وكل ذلك من صفات المحدثات الرابع أن ظاهر الآية يدل على أنه تعالى إنما استوى على العرش بعد أن خلق السموات والأرض لأن كلمة ثُمَّ تقتضي التراخي وذلك يدل على أنه تعالى كان قبل خلق العرش غنياً عن العرش فإذا خلق العرش امتنع أن تنقلب حقيقته وذاته من

الاستغناء إلى الحاجة فوجب أن يبقى بعد خلق العرش غنياً عن العرش ومن كان كذلك امتنع أن يكون مستقراً على العرش فثبت بهذه الوجوه أن هذه الآية لا يمكن حملها على ظاهرها بالاتفاق وإذا كان كذلك امتنع الاستدلال بها في إثبات المكان والجهة لله تعالى
المسألة الثالثة اتفق المسلمون على أن فوق السموات جسماً عظيماً هو العرش
إذا ثبت هذا فنقول العرش المذكور في هذه الآية هل المراد منه ذلك العرش أو غيره فيه قولان
القول الأول وهو الذي اختاره أبو مسلم الأصفهاني أنه ليس المراد منه ذلك بل المراد من قوله ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ أنه لما خلق السموات والأرض سطحها ورفع سمكها فإن كل بناء فإنه يسمى عرشاً وبانيه يسمى عارشاً قال تعالى وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ( النحل 68 ) أي يبنون وقال في صفة القرية فَهِى َ خَاوِيَة ٌ عَلَى عُرُوشِهَا ( الحج 45 ) والمراد أن تلك القرية خلت منهم مع سلامة بنائها وقيام سقوفها وقال وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء ( هود 7 ) أي بناؤه وإنما ذكر الله تعالى ذلك لأنه أعجب في القدرة فالباني يبني البناء متباعداً عن الماء على الأرض الصلبة لئلا ينهدم والله تعالى بنى السموات والأرض على الماء ليعرف العقلاء قدرته وكمال جلالته والاستواء على العرش هو الاستعلاء عليه بالقهر والدليل عليه قوله تعالى وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ الْفُلْكِ وَالاْنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُواْ عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَة َ رَبّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ ( الزخرف 12 13 ) قال أبو مسلم فثبت أن اللفظ يحتمل هذا الذي ذكرناه فنقول وجب حمل اللفظ عليه ولا يجوز حمله على العرش الذي في السماء والدليل عليه هو أن الاستدلال على وجود الصانع تعالى يجب أن يحصل بشيء معلوم مشاهد والعرش الذي في السماء ليس كذلك وأما أجرام السموات والأرضين فهي مشاهدة محسوسة فكان الاستدلال بأحوالها على وجود الصانع الحكيم جائزاً صواباً حسناً ثم قال ومما يؤكد ذلك أن قوله تعالى خُلِقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فِي سِتَّة ِ أَيَّامٍ إشارة إلى تخليق ذواتها وقوله ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يكون إشارة إلى تسطيحها وتشكيلها بالأشكال الموافقة لمصالحها وعلى هذا الوجه تصير هذه الآية موافقة لقوله سبحانه وتعالى أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا رَفَعَ رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا ( النازعات 27 28 ) فذكر أولاً أنه بناها ثم ذكر ثانياً أنه رفع سمكها فسواها وكذلك ههنا ذكر بقوله خُلِقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أنه خلق ذواتها ثم ذكر بقوله ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ أنه قصد إلى تعريشها وتسطيحها وتشكيلها بالأشكال الموافقة لها
والقول الثاني وهو القول المشهور لجمهور المفسرين أن المراد من العرش المذكور في هذه الآية الجسم العظيم الذي في السماء وهؤلاء قالوا إن قوله تعالى ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ لا يمكن أن يكون معناه أنه تعالى خلق العرش بعد خلق السموات والأرضين بدليل أنه تعالى قال في آية أخرى وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء ( هود 7 ) وذلك يدل على أن تكوين العرش سابق على تخليق السموات والأرضين بل يجب تفسير هذه الآية بوجوه أخر وهو أن يكون المراد ثم يدبر الأمر وهو مستو على العرش
والقول الثالث أن المراد من العرش الملك يقال فلان ولي عرشه أي ملكه فقوله ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ المراد أنه تعالى لما خلق السموات والأرض واستدارت الأفلاك والكواكب وجعل بسبب دورانها الفصول الأربعة والأحوال المختلفة من المعادن والنبات والحيوانات ففي هذا الوقت قد حصل وجود هذه

المخلوقات والكائنات والحاصل أن العرش عبارة عن الملك وملك الله تعالى عبارة عن وجود مخلوقاته ووجود مخلوقاته إنما حصل بعد تخليق السموات والأرض لا جرم صح إدخال حرف ثُمَّ الذي يفيد التراخي على الاستواء على العرش والله أعلم بمراده
المسألة الرابعة أما قوله يُدَبّرُ الاْمْرَ معناه أنه يقضي ويقدر على حسب مقتضى الحكمة ويفعل ما يفعله المصيب في أفعاله الناظر في أدبار الأمور وعواقبها كي لا يدخل في الوجود ما لا ينبغي والمراد من الاْمْرُ الشأن يعني يدبر أحوال الخلق وأحوال ملكوت السموات والأرض
فإن قيل ما موقع هذه الجملة
قلنا قد دل بكونه خالقاً للسموات والأرض في ستة أيام وبكونه مستوياً على العرش على نهاية العظمة وغاية الجلالة ثم أتبعها بهذه الجملة ليدل على أنه لا يحدث في العالم العلوي ولا في العالم السفلي أمر من الأمور ولاحادث من الحوادث إلا بتقديره وتدبيره وقضائه وحكمه فيصير ذلك دليلاً على نهاية القدرة والحكمة والعلم والإحاطة التدبير وأنه سبحانه مبدع جميع الممكنات وإليه تنتهي الحاجات
وأما قوله تعالى مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ففيه قولان
القول الأول وهو المشهور أن المراد منه أن تدبيره للأشياء وصنعه لها لا يكون بشفاعة شفيع وتدبير مدبر ولا يستجرىء أحد أن يشفع إليه في شيء إلا بعد إذنه لأنه تعالى أعلم بموضع الحكمة والصواب فلا يجوز لهم أن يسألوه ما لا يعلمون أنه صواب وصلاح
فإن قيل كيف يليق ذكر الشفيع بصفة مبدئية الخلق وإنما يليق ذكره بأحوال القيامة
والجواب من وجوه
الوجه الأول ما ذكره الزجاج وهو أن الكفار الذين كانوا مخاطبين بهذه الآية كانوا يقولون إن الأصنام شفعاؤنا عند الله فالمراد منه الرد عليهم في هذا القول وهو كقوله تعالى يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَة ُ صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ ( النبأ 38 )
والوجه الثاني وهو يمكن أن يقال إنه تعالى لما بين كونه إلهاً للعالم مستقلاً بالتصرف فيه من غير شريك ولا منازع بين أمر المبدأ بقوله يُدَبّرُ الاْمْرَ وبين حال المعاد بقوله مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ
والوجه الثالث يمكن أيضاً أن يقال إنه تعالى وضع تدبير الأمور في أول خلق العالم على أحسن الوجوه وأقربها من رعاية المصالح مع أنه ما كان هناك شفيع يشفع في طلب تحصيل المصالح فدل هذا على أن إله العالم ناظر لعباده محسن إليهم مريد للخير والرأفة بهم ولا حاجة في كونه سبحانه كذلك إلى حضور شفيع يشفع فيه
والقول الثاني في تفسير هذا الشفيع ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني فقال الشفيع ههنا هو الثاني وهو مأخوذ من الشفع الذي يخالف الوتر كما يقال الزوج والفرد فمعنى الآية خلق السموات والأرض وحده

ولا حي معه ولا شريك يعينه ثم خلق الملائكة والجن والبشر وهو المراد من قوله إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ أي لم يحدث أحد ولم يدخل في الوجود إلا من بعد أن قال له كن حتى كان وحصل
واعلم أنه تعالى لما بين هذه الدلائل وشرح هذه الأحوال ختمها بعد ذلك بقوله ذالِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ مبيناً بذلك أن العبادة لا تصلح إلا له ومنبهاً على أنه سبحانه هو المستحق لجميع العبادات لأجل أنه هو المنعم بجميع النعم التي ذكرها ووصفها
ثم قال بعده أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ دالاً بذلك على وجوب التفكر في تلك الدلائل القاهرة الباهرة وذلك يدل على أن التفكر في مخلوقات الله تعالى والاستدلال بها على جلالته وعزته وعظمته أعلى المراتب وأكمل الدرجات
إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِى َ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما ذكر الدلائل الدالة على إثبات المبدأ أردفه بما يدل على صحة القول بالمعاد وفيه مسائل
المسألة الأولى في بيان أن إنكار الحشر والنشر ليس من العلوم البديهية ويدل عليه وجوه الأول أن العقلاء اختلفوا في وقوعه وعدم وقوعه وقال بإمكانه عالم من الناس وهم جمهور أرباب الملل والأديان وما كان معلوم الامتناع بالبديهة امتنع وقوع الاختلاف فيه الثاني أنا إذا رجعنا إلى عقولنا السليمة وعرضنا عليها أن الواحد ضعف الاثنين وعرضنا عليها أيضاً هذه القضية لم نجد هذه القضية في قوة الامتناع مثل القضية الأولى الثالث أنا إما أن نقول بثبوت النفس الناطقة أولا نقول به فإن قلنا به فقد زال الإشكال بالكلية فإنه كما لا يمتنع تعلق هذه النفس بالبدن في المرة الأولى لم يمتنع تعلقها بالبدن مرة أخرى وإن أنكرنا القول بالنفس فالاحتمال أيضاً قائم لأنه لا يبعد أن يقال إنه سبحانه يركب تلك الأجزاء المفرقة تركيباً ثانياً ويخلق الأنسان الأول مرة أخرى والرابع أنه سبحانه ذكر أمثلة كثيرة دالة على إمكان الحشر والنشر ونحن نجمعها ههنا
فالمثال الأول أنا نرى الأرض خاشعة وقت الخريف ونرى اليبس مستولياً عليها بسبب شدة الحر في الصيف ثم إنه تعالى ينزل المطر عليها وقت الشتاء والربيع فتصير بعد ذلك متحلية بالأزهار العجيبة والأنوار الغريبة كما قال تعالى وَاللَّهُ الَّذِى أَرْسَلَ الرّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الاْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ ( فاطر 9 ) وثانيها قوله تعالى وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الاْرْضَ خَاشِعَة ً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ( فصلت 39 ) إلى قوله ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْى ِ الْمَوْتَى ( الحج 6 ) وثالثها قوله تعالى أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِى الاْرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ ( الزمر 21 )

والمراد كونه منبهاً على أمر المعاد ورابعها قوله ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ ( عبس 21 24 ) وقال عليه السلام ( إذا رأيتم الربيع فأكثروا ذكر النشور ) ولم تحصل المشابهة بين الربيع وبين النشور إلا من الوجه الذي ذكرناه
المثال الثاني ما يجده كل واحد منا من نفسه من الزيادة والنمو بسبب السمن ومن النقصان والذبول بسبب الهزال ثم إنه قد يعود إلى حالته الأولى بالسمن
وإذا ثبت هذا فنقول ما جاز تكون بعضه لم يمتنع أيضاً تكون كله ولما ثبت ذلك ظهر أن الإعادة غير ممتنعة وإليه الإشارة بقوله تعالى وَنُنشِئَكُمْ فِيمَا لاَ تَعْلَمُونَ ( الواقعة 61 ) يعني أنه سبحانه لما كان قادراً على إنشاء ذواتكم أولاً ثم على إنشاء أجزائكم حال حياتكم ثانياً شيئاً فشيئاً من غير أن تكونوا عالمين بوقت حدوثه وبوقت نقصانه فوجب القطع أيضاً بأنه لا يمتنع عليه سبحانه إعادتكم بعد البلى في القبور لحشر يوم القيامة
المثال الثالث أنه تعالى لما كان قادراً على أن يخلقنا ابتداء من غير مثال سبق فلأن يكون قادراً على إيجادنا مرة أخرى مع سبق الإيجاد الأول كان أولى وهذا الكلام قرره تعالى في آيات كثيرة منها في هذه الآية وهو قوله إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وثانيها قوله تعالى في سورة يس قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّة ٍ ( يس 79 ) وثالثها قوله تعالى وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَة َ الاْولَى فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ ( الواقعة 62 ) ورابعها قوله تعالى أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الاْوَّلِ بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍ مّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ( ق 15 ) وخامسها قوله تعالى أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَة ً مّن مَّنِى ّ يُمْنَى ( القيامة 36 33 ) إلى قوله أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِى َ الْمَوْتَى ( القيامة 40 ) وسادسها قوله تعالى السَّعِيرِ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مّن تُرَابٍ ( الحج 5 ) إلى قوله ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْى ِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلّ شَى ْء قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَة َ ءاتِيَة ٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِى الْقُبُورِ ( الحج 6 7 ) فاستشهد تعالى في هذه الآية على صحة الحشر بأمور الأول أنه استدل بالخلق الأول على إمكان الخلق الثاني وهو قوله إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مّن تُرَابٍ كأنه تعالى يقول لما حصل الخلق الأول بانتقال هذه الأجسام من أحوال إلى أحوال أخرى فلم لا يجوز أن يحصل الخلق الثاني بعد تغيرات كثيرة واختلافات متعاقبة والثاني أنه تعالى شبهها بإحياء الأرض الميتة والثالث أنه تعالى هو الحق وإنما يكون كذلك لو كان كامل القدرة تام العلم والحكمة فهذه هي الوجوه المستنبطة من هذه الآية على إمكان صحة الحشر والنشر
والآية السابعة في هذا الباب قوله تعالى قُلْ كُونُواْ حِجَارَة ً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقًا مّمَّا يَكْبُرُ فِى صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِى فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّة ٍ ( الإسراء 50 51 )
المثال الرابع أنه تعالى لما قدر على تخليق ما هو أعظم من أبدان الناس فكيف يقال إنه لا يقدر على إعادتها فإن من كان الفعل الأصعب عليه سهلاً فلأن يكون الفعل السهل الحقير عليه سهلاً كان أولى وهذا المعنى مذكور في آيات كثيرة منها قوله تعالى أَوَلَيْسَ الَذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم ( يس 81 )

وثانيها قوله تعالى أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَلَمْ يَعْى َ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْى ِ الْمَوْتَى ( الأحقاف 33 ) وثالثها أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا رَفَعَ ( النازعات 27 )
المثال الخامس الاستدلال بحصول اليقظة بعد النوم على جواز الحشر والنشر فإن النوم أخو الموت واليقظة بعد الموت قال تعالى وَهُوَ الَّذِى يَتَوَفَّاكُم بِالَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ( الأنعام 60 ) ثم ذكر عقيبه أمر الموت والبعث فقال وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَة ً حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرّطُونَ ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقّ ( الأنعام 61 62 ) وقال في آية أخرى اللَّهُ يَتَوَفَّى الاْنفُسَ حِينَ مِوْتِهَا وَالَّتِى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا ( الزمر 42 ) إلى قوله إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ( الرعد 3 ) والمراد منه الاستدلال بحصول هذه الأحوال على صحة البعث والحشر والنشر
المثال السادس أن الإحياء بعد الموت لا يستنكر إلا من حيث إنه يحصل الضد بعد حصول الضد إلا أن ذلك غير مستنكر في قدرة الله تعالى لأنه لما جاز حصول الموت عقيب الحياة فكيف يستبعد حصول الحياة مرة أخرى بعد الموت فإن حكم الضدين واحد قال تعالى مقرراً لهذا المعنى نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ( الواقعة 60 ) وأيضاً نجد النار مع حرها ويبسها تتولد من الشجر الأخضر مع برده ورطوبته فقال الَّذِى جَعَلَ لَكُم مّنَ الشَّجَرِ الاْخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنتُم مّنْه تُوقِدُونَ ( يس 80 ) فكذا ههنا فهذا جملة الكلام في بيان أن القول بالمعاد وحصول الحشر والنشر غير مستبعد في العقول
المسألة الثانية في إقامة الدلالة على أن المعاد حق واجب
اعلم أن الأمة فريقان منهم من يقول يجب عقلاً أن يكون إله العالم رحيماً عادلاً منزهاً عن الإيلام والإضرار إلا لمنافع أجل وأعظم منها ومنهم من ينكر هذه القاعدة ويقول لا يجب على الله تعالى شيء أصلاً بل يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد أما الفريق الأول فقد احتجوا على وجود المعاد من وجوه
الحجة الأولى أنه تعالى خلق الخلق وأعطاهم عقولاً بها يميزون بين الحسن والقبيح وأعطاهم قدراً بها يقدرون على الخير والشر وإذا ثبت هذا فمن الواجب في حكمة الله تعالى وعدله أن يمنع الخلق عن شتم الله وذكره بالسوء وأن يمنعهم عن الجهل والكذب وإيذاء أنبيائه وأوليائه والصالحين من خلقه ومن الواجب في حكمته أن يرغبهم في الطاعات والخيرات والحسنات فإنه لو لم يمنع عن تلك القبائح ولم يرغب في هذه الخيرات قدح ذلك في كونه محسناً عادلاً ناظراً لعباده ومن المعلوم أن الترغيب في الطاعات لا يمكن إلا بربط الثواب بفعلها والزجر عن القبائح لا يمكن إلا بربط العقاب بفعلها وذلك الثواب المرغب فيه والعقاب المهدد به غير حاصل في دار الدنيا فلا بد من دار أخرى يحصل فيها هذا الثواب وهذا العقاب وهو المطلوب وإلا لزم كونه كاذباً وأنه باطل وهذا هو المراد من الآية التي نحن فيها وهي قوله تعالى إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقّا
فإن قيل لم لا يجوز أن يقال إنه يكفي في الترغيب في فعل الخيرات وفي الردع عن المنكرات ما أودع الله في العقول من تحسين الخيرات وتقبيح المنكرات ولا حاجة مع ذلك إلى الوعد والوعيد سلمنا أنه لا بد من الوعد والوعيد فلم لا يجوز أن يقال الغرض منه مجرد الترغيب والترهيب ليحصل به نظام العالم

كما قال تعالى ذالِكَ يُخَوّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ ياعِبَادِ عِبَادِ فَاتَّقُونِ ( الزمر 16 ) فإما أن يفعل تعالى ذلك فما الدليل عليه قوله لو لم يفعل ما أخبر عنه من الوعد والوعيد لصار كلامه كذباً فنقول ألستم تخصصون أكثر عمومات القرآن لقيام الدلالة على وجوب ذلك التخصيص فإن كان هذا كذباً وجب فيما تحكمون به من تلك التخصيصات أن يكون كذباً سلمنا أنه لا بد وأن يفعل الله تعالى ذلك لكن لم لا يجوز أن يقال إن ذلك الثواب والعقاب عبارة عما يصل إلى الإنسان من أنواع الراحات واللذات ومن أنواع الآلام والأسقام وأقسام الهموم والغموم
والجواب عن السؤال الأول أن العقل وإن كان يدعوه إلى فعل الخير وترك الشر إلا أن الهوى والنفس يدعوانه إلى الانهماك في الشهوات الجسمانية واللذات الجسدانية وإذا حصل هذا التعارض فلا بد من مرجح قوي ومعاضد كامل وما ذاك إلا ترتيب الوعد والوعيد والثواب والعقاب على الفعل والترك
والجواب عن السؤال الثاني أنه إذا جوز الإنسان حصول الكذب على الله تعالى فحينئذ لا يحصل من الوعد رغبة ولا من الوعيد رهبة لأن السامع يجوز كونه كذباً
والجواب عن السؤال الثالث أن العبد ما دامت حياته في الدنيا فهو كالأجير المشتغل بالعمل والأجير حال اشتغاله بالعمل لا يجوز دفع الأجرة بكمالها إليه لأنه إذا أخذها فإنه لا يجتهد في العمل وأما إذا كان محل أخذ الأجرة هو الدار الآخرة كان الاجتهاد في العمل أشد وأكمل وأيضاً نرى في هذه الدنيا أن أزهد الناس وأعلمهم مبتلي بأنواع الغموم والهموم والأحزان وأجهلهم وأفسقهم في اللذات والمسرات فعلمنا أن دار الجزاء يمتنع أن تكون هذه الدار فلا بد من دار أخرى ومن حياة أخرى ليحصل فيها الجزاء
الحجة الثانية أن صريح العقل يوجب في حكمة الحكيم أن يفرق بين المحسن وبين المسيء وأن لا يجعل من كفر به أو جحده بمنزلة من أطاعه ولما وجب إظهار هذه التفرقة فحصول هذه التفرقة إما أن يكون في دار الدنيا أو في دار الآخرة والأول باطل لأنا نرى الكفار والفساق في الدنيا في أعظم الراحات ونرى العلماء والزهاد بالضد منه ولهذا المعنى قال تعالى وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّة ً واحِدَة ً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَانِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مّن فِضَّة ٍ ( الزخرف 33 ) فثبت أنه لا بد بعد هذه الدار من دار أخرى وهو المراد من الآية التي نحن في تفسيرها وهي قوله إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقّا وهو المراد أيضاً بقوله تعالى في سورة طه إِنَّ السَّاعَة َ ءاتِيَة ٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ( طه 15 ) وبقوله تعالى في سورة ص أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِى الاْرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ( ص 28 )
فإن قيل أما أنكرتم أن يقال إنه تعالى لا يفصل بين المحسن وبين المسيء في الثواب والعقاب كما لم فصل بينهما في حسن الصورة وفي كثرة المال
والجواب أن هذا الذي ذكرته مما يقوي دليلنا فإنه ثبت في صريح العقل وجوب التفرقة ودل الحس على أنه لم تحصل هذه التفرقة في الدنيا بل كان الأمر على الضد منه فإنا نرى العالم والزاهد في أشد البلاء ونرى الكافر والفاسق في أعظم النعم فعلمنا أنه لا بد من دار أخرى يظهر فيها هذا التفاوت وأيضاً لا يبعد أن يقال إنه تعالى علم أن هذا الزاهد العابد لو أعطاه ما دفع إلى الكافر الفاسق لطغى وبغى

وآثر الحياة الدنيا وأن ذلك الكافر الفاسق لو زاد عليه في التضييق لزاد في الشر وإليه الإشارة بقوله تعالى وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِى الاْرْضِ ( الشورى 27 )
الحجة الثالثة أنه تعالى كلف عبيده بالعبودية فقال وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( الطاريات 56 ) والحكيم إذا أمر عبده بشيء فلا بد وأن يجعله فارغ الباب منتظم الأحوال حتى يمكنه الاشتغال بأداء تلك التكاليف والناس جبلوا على طلب اللذات وتحصيل الراحات لأنفسهم فلو لم يكن لهم زاجر من خوف المعاد لكثر الهرج والمرج ولعظمت الفتن وحينئذ لا يتفرغ المكلف للاشتغال بأداء العبادات فوجب القطع بحصول دار الثواب والعقاب لتنتظم أحوال العالم حتى يقدر المكلف على الاشتغال بأداء العبودية
فإن قيل لم لا يجوز أن يقال إنه يكفي في بقاء نظام العالم مهابة الملوك وسياساتهم وأيضاً فالأوباش يعلمون أنهم لو حكموا بحسن الهرج والمرج لانقلب الأمر عليهم ولقدر غيرهم على قتلهم وأخذ أموالهم فلهذا المعنى يحترزون عن إثارة الفتن
والجواب أن مجرد مهابة السلاطين لا تكفي في ذلك وذلك لأن السلطان إما أن يكون قد بلغ في القدرة والقوة إلى حيث لا يخاف من الرعية وإما أن يكون خائفاً منهم فإن كان لا يخاف الرعية مع أنه لا خوف له من المعاد فحينئذ يقدم على الظلم والإيذاء على أقبح الوجوه لأن الداعية النفسانية قائمة ولا رادع له في الدنيا ولا في الآخرة وأما إن كان يخاف الرعية فحينئذ الرعية لا يخافون منه خوفاً شديداً فلا يصير ذلك رادعاً لهم عن القبائح والظلم فثبت أن نظام العالم لا يتم ولا يكمل إلا بالرغبة في المعاد والرهبة عنه
الحجة الرابعة أن السلطان القاهر إذا كان له جمع من العبيد وكان بعضهم أقوياء وبعضهم ضعفاء وجب على ذلك السلطان إن كان رحيماً ناظراً مشفقاً عليهم أن ينتصف للمظلوم الضعيف من الظالم القادر القوي فإن لم يفعل ذلك كان راضياً بذلك الظلم والرضا بالظلم لا يليق بالرحيم الناظر المحسن
إذا ثبت هذا فنقول إنه سبحانه سلطان قاهر قادر حكيم منزه عن الظلم والعبث فوجب أن ينتصف لعبيده المظلومين من عبيده الظالمين وهذا الانتصاف لم يحصل في هذه الدار لأن المظلوم قد يبقى في غاية الذلة والمهانة والظالم يبقى في غاية العزة والقدرة فلا بد من دار أخرى يظهر فيها هذا العدل وهذا الإنصاف وهذه الحجة يصلح جعلها تفسيراً لهذه الآية التي نحن في تفسيرها
فإن قالوا إنه تعالى لما أقدر الظالم على الظلم في هذه الدار وما أعجزه عنه دل على كونه راضياً بذلك الظلم
قلنا الإقدار على الظلم عين الإقدار على العدل والطاعة فلو لم يقدره تعالى على الظلم لكان قد أعجزه عن فعل الخيرات والطاعات وذلك لا يليق بالحكيم فوجب في العقل إقداره على الظلم والعدل ثم إنه تعالى ينتقم للمظلوم من الظالم
الحجة الخامسة أنه تعالى خلق هذا العالم وخلق كل من فيه من الناس فإما أن يقال إنه تعالى

خلقهم لا لمنفعة ولا لمصلحة أو يقال إنه تعالى خلقهم لمصلحة ومنفعة والأول يليق بالرحيم الكريم والثاني وهو أن يقال إنه خلقهم لمقصود ومصلحة وخير فذلك الخير والمصلحة إما أن يحصل في هذه الدنيا أو في دار أخرى والأول باطل من وجهين الأول أن لذات هذا العالم جسمانية واللذات الجسمانية لا حقيقية لها إلا إزالة الألم وإزالة الألم أمر عدمي وهذا العدم كان حاصلاً حال كون كل واحد من الخلائق معدوماً وحينئذ لا يبقى للتخليق فائدة والثاني أن لذات هذا العالم ممزوجة بالآلام والمحن بل الدنيا طافحة بالشرور والآفات والمحن والبليات واللذة فيها كالقطرة في البحر فعلمنا أن الدار التي يصل فيها الخلق إلى تلك الراحات المقصودة دار أخرى سوى دار الدنيا
فإن قالوا أليس أنه تعالى يؤلم أهل النار بأشد العذاب لا لأجل مصلحة وحكمة فلم لا يجوز أن يقال إنه تعالى يخلق الخلق في هذا العالم لا لمصلحة ولا لحكمة
قلنا الفرق أن ذلك الضرر ضرر مستحق على أعمالهم الخبيثة وأما الضرر الحاصل في الدنيا فغير مستحق فوجب أن يعقبه خيرات عظيمة ومنافع جابرة لتلك المضار السالفة وإلا لزم أن يكون الفاعل شريراً مؤذياً وذلك ينافي كونه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين
الحجة السادسة لو لم يحصل للإنسان معاد لكان الإنسان أخس من جميع الحيوانات في المنزلة والشرف واللازم باطل فالملزوم مثله بيان الملازمة أن مضار الإنسان في الدنيا أكثر من مضار جميع الحيوانات فإن سائر الحيوانات قبل وقوعها في الآلام والأسقام تكون فارغة البال طيبة النفس لأنه ليس لها فكر وتأمل أما الإنسان فإنه بسبب ما يحصل له من العقل يتفكر أبداً في الأحوال الماضية والأحوال المستقبلة فيحصل له بسبب أكثر الأحوال الماضية أنواع من الحزن والأسف ويحصل له بسبب أكثر الأحوال الآتية أنواع من الخوف لأنه لا يدري أنه كيف تحدث الأحوال فثبت أن حصول العقل للإنسان سبب لحصول المضار العظيمة في الدنيا والآلام النفسانية الشديدة القوية وأما اللذات الجسمانية فهي مشتركة بين الناس وبين سائر الحيوانات لأن السرقين في مذاق الجعل طيب كما أن اللوزينج في مذاق الإنسان طيب
إذا ثبت هذا فنقول لو لم يحصل للإنسان معاد به تكمل حالته وتظهر سعادته لوجب أن يكون كمال العقل سبباً لمزيد الهموم والغموم والأحزان من غير جابر يجبر ومعلوم أن كل ما كان كذلك فإنه يكون سبباً لمزيد الخسة والدناءة والشقاء والتعب الخالية عن المنفعة فثبت أنه لولا حصول السعادة الأخروية لكان الأنسان أخس الحيوانات حتى الخنافس والديدان ولما كان ذلك باطلاً قطعاً علمنا أنه لا بد من الدار الآخرة وأن الإنسان خلق للآخرة لا للدنيا وأنه بعقله يكتسب موجبات السعادات الأخروية فلهذا السبب كان العقل شريفاً
الحجة السابعة أنه تعالى قادر على إيصال النعم إلى عبيده على وجهين أحدهما أن تكون النعم مشوبة بالآفات والأحزان والثاني أن تكون خالصة عنها فلما أنعم الله تعالى في الدنيا بالمرتبة الأولى وجب أن ينعم علينا بالمرتبة الثانية في دار أخرى إظهاراً لكمال القدرة والرحمة والحكمة فهناك ينعم على المطيعين ويعفو عن المذنبين ويزيل الغموم والهموم والشهوات والشبهات والذي يقوي ذلك ويقرر هذا

الكلام أن الإنسان حين كان جنيناً في بطن أمه كان في أضيق المواضع وأشدها عفونة وفساداً ثم إذا خرج من بطن أمه كانت الحالة الثانية أطيب وأشرف من الحالة الأولى ثم إنه عند ذلك يوضع في المهد ويشد شداً وثيقاً ثم بعد حين يخرج من المهد ويعدو يميناً وشمالاً وينتقل من تناول اللبن إلى تناول الأطعمة الطيبة وهذه الحالة الثالثة لا شك أنها أطيب من الحالة الثانية ثم إنه بعد حين يصير أميراً نافذ الحكم على الخلق أو عالماً مشرفاً على حقائق الأشياء ولا شك أن هذه الحالة الرابعة أطيب وأشرف من الحالة الثالثة وإذا ثبت هذا وجب بحكم هذا الاستقراء أن يقال الحالة الحاصلة بعد الموت تكون أشرف وأعلى وأبهج من اللذات الجسدانية والخيرات الجسمانية
الحجة الثامنة طريقة الاحتياط فإنا إذا آمنا بالمعاد وتأهبنا له فإن كان هذا المذهب حقاً فقد نجونا وهلك المنكر وإن كان باطلاً لم يضرنا هذا الاعتقاد غاية ما في الباب أن يقال إنه تفوتنا هذه اللذات الجسمانية إلا أنا نقول يجب على العاقل أن لا يبالي بفوتها لأمرين أحدهما أنها في غاية الخساسة لأنها مشترك فيها بين الخنافس والديدان والكلاب والثاني أنها منقطعة سريعة الزوال فثبت أن الاحتياط ليس إلا في الإيمان بالمعاد ولهذا قال الشاعر قال المنجم والطبيب كلاهما
لا تحشر الأموات قلت إليكما
إن صح لكما فلست بخاسر
أو صح قولي فالخسار عليكما
الحجة التاسعة اعلم أن الحيوان ما دام يكون حيواناً فإنه إن قطع منه شيء مثل ظفر أو ظلف أو شعر فإنه يعود ذلك الشيء وإن جرح اندمل ويكون الدم جارياً في عروقه وأعضائه جريان الماء في عروق الشجر وأغصانه ثم إذا مات انقلبت هذه الأحوال فإن قطع منه شيء من شعره أو ظفره لم ينبت وإن جرح لم يندمل ولم يلتحم ورأيت الدم يتجمد في عروقه ثم بالآخرة يؤول حاله إلى الفساد والانحلال ثم إنا لما نظرنا إلى الأرض وجدناها شبيهة بهذه الصفة فإنا نراها في زمان الربيع تفور عيونها وتربو تلالها وينجذب الماء إلى أغصان الأشجار وعروقها والماء في الأرض بمنزلة الدم الجاري في بدن الحيوان ثم تخرج أزهارها وأنوارها وثمارها كما قال تعالى فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ( الحج 5 ) وإن جذ من نباتها شيء أخلف ونبت مكانه آخر مثله وإن قطع غصن من أغصان الأشجار أخلف وإن جرح التأم وهذه الأحوال شبيهة بالأحوال التي ذكرناها للحيوان ثم إذا جاء الشتاء واشتد البرد غارت عيونها وجفت رطوبتها وفسدت بقولها ولو قطعنا غصناً من شجرة ما أخلف فكانت هذه الأحوال شبيهة بالموت بعد الحياة ثم إنا نرى الأرض في الربيع الثاني تعود إلى تلك الحياة فإذا عقلنا هذه المعاني في إحدى الصورتين فلم لا نعقل مثله في الصورة الثانية بل نقول لا شك أن الإنسان أشرف من سائر الحيوانات والحيوان أشرف من النبات وهو أشرف من الجمادات فإذا حصلت هذه الأحوال في الأرض فلم لا يجوز حصولها في الإنسان
فإن قالوا إن أجساد الحيوان تتفرق وتتمزق بالموت وأما الأرض فليست كذلك
فالجواب أن الإنسان عبارة عن النفس الناطقة وهو جوهر باق أو إن لم نقل بهذا المذهب فهو عبارة عن أجزاء أصلية باقية من أول وقت تكون الجنين إلى آخر العمر وهي جارية في البدن وتلك الأجزاء

باقية فزال هذا السؤال
الحجة العاشرة لا شك أن بدن الحيوان إنما تولد من النطفة وهذه النطفة إنما اجتمعت من جميع البدن بدليل أن عند انفصال النطفة يحصل الضعف والفتور في جميع البدن ثم إن مادة تلك النطفة إنما تولدت من الأغذية المأكولة وتلك الأغذية إنما تولدت من الأجزاء العنصرية وتلك الأجزاء كانت متفرقة في مشارق الأرض ومغاربها واتفق لها أن اجتمعت فتولد منها حيوان أو نبات فأكله إنسان فتولد منه دم فتوزع ذلك الدم على أعضائه فتولد منها أجزاء لطيفة ثم عند استيلاء الشهوة سال من تلك الرطوبات مقدار معين وهو النطفة فانصب إلى فم الرحم فتولد منه هذا الإنسان فثبت أن الأجزاء التي منها تولد بدن الأنسان كانت متفرقة في البحار والجبال وأوج الهواء ثم إنها اجتمعت بالطريق المذكور فتولد منها هذا البدن فإذا مات تفرقت تلك الأجزاء على مثال التفرق الأول
وإذا ثبت هذا فنقول وجب القطع أيضاً بأنه لا يمتنع أن يجتمع مرة أخرى على مثال الاجتماع الأول وأيضاً فذلك المني لما وقع في رحم الأم فقد كان قطرة صغيرة ثم تولد منه بدن الإنسان وتعلقت الروح به حال ما كان ذلك البدن في غاية الصغر ثم إن ذلك البدن لا شك أنه في غاية الرطوبة ولا شك أنه يتحلل منه أجزاء كثيرة بسبب عمل الحرارة الغريزية فيها وأيضاً فتلك الأجزاء البدنية الباقية أبداً في طول العمر تكون في التحلل ولولا ذلك لما حصل الجوع ولما حصلت الحاجة إلى الغذاء مع أنا نقطع بأن هذا الإنسان الشيخ هو عين ذلك الإنسان الذي كان في بطن أمه ثم انفصل وكان طفلاً ثم شاباً فثبت أن الأجزاء البدنية دائمة التحلل وأن الإنسان هو هو بعينه فوجب القطع بأن الإنسان إما أن يكون جوهراً مفارقاً مجرداً وإما أن يكون جسماً نورانياً لطيفاً باقياً مع تحلل هذا البدن فإذا كان الأمر كذلك فعلى التقديرين لا يمتنع عوده إلى الجثة مرة أخرى ويكون هذا الإنسان العائد عين الإنسان الأول فثبت أن القول بالمعاد صدق
الحجة الحادية عشر ما ذكره الله تعالى في قوله أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَة ٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّ بِينٌ واعلم أن قوله سبحانه خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَة ٍ ( يس 77 ) إشارة إلى ما ذكرناه في الحجة العاشرة من أن تلك الأجزاء كانت متفرقة في مشارق الأرض ومغاربها فجمعها الله تعالى وخلق من تركيبها هذا الحيوان والذي يقويه قوله سبحانه وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلَالَة ٍ مّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَة ً فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ ( المؤمنون 12 13 ) فإن تفسيره هذه الآية إنما يصح بالوجه الذي ذكرناه وهو أن السلالة من الطين يتكون منها نبات ثم إن ذلك النبات يأكله الإنسان فيتولد منه الدم ثم الدم ينقلب نطفة فبهذا الطريق ينتظم ظاهر هذه الآية ثم إنه سبحانه بعد أن ذكر هذا المعنى حكى كلام المنكر وهو قوله تعالى قَالَ مَن يُحى ِ الْعِظَامَ وَهِى َ رَمِيمٌ ( يس 78 ) ثم إنه تعالى بين إمكان هذا المذهب
واعلم أن إثبات إمكان الشيء لا يعقل إلا بطريقين أحدهما أن يقال إن مثله ممكن فوجب أن يكون هذا أيضاً ممكناً والثاني أن يقال إن ما هو أعظم منه وأعلى حالاً منه فهو أيضاً ممكن ثم إنه تعالى ذكر الطريق الأول أولاً فقال قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّة ٍ وَهُوَ بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ( يس 79 ) ثم فيه دقيقة وهي أن قوله قُلْ يُحْيِيهَا إشارة إلى كمال القدرة وقوله وَهُوَ بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيمٌ إشارة إلى كمال

العلم ومنكروا الحشر والنشر لا ينكرونه إلا لجهلهم بهذين الأصلين لأنهم تارة يقولون إنه تعالى موجب بالذات والموجب بالذات لا يصح منه القصد إلى التكوين وتارة يقولون إنه يمتنع كونه عالماً بالجزئيات فيمتنع منه تمييز أجزاء بدن زيد عن أجزاء بدن عمرو ولما كانت شبه الفلاسفة مستخرجة من هذين الأصلين لا جرم كلما ذكر الله تعالى مسألة المعاد أردفه بتقرير هذين الأصلين ثم إنه تعالى ذكر بعده الطريق الثاني وهو الاستدلال بالأعلى على الأدنى وتقريره من وجهين الأول أن الحياة لا تحصل إلا بالحرارة والرطوبة والتراب بارد يابس فحصلت المضادة بينهما إلا أنا نقول الحرارة النارية أقوى في صفة الحرارة من الحرارة الغريزية فلما لم يمتنع تولد الحرارة النارية عن الشجر الأخضر مع كمال ما بينهما من المضادة فكيف يمتنع حدوث الحرارة الغريزية في جرم التراب الثاني قوله تعالى أَوَلَيْسَ الَذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم ( يس 81 ) بمعنى أنه لما سلمتم أنه تعالى هو الخالق لأجرام الأفلاك والكواكب فكيف يمكنكم الامتناع من كونه قادراً على الحشر والنشر ثم إنه تعالى حسم مادة الشبهات بقوله إِنَّمَا أَمْرُنَا لِشَى ْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( النحل 40 ) والمراد أن تخليقه وتكوينه لا يتوقف على حصول الآلات والأدوات ونطفة الأب ورحم الأم والدليل عليه أنه خلق الأب الأول لا عن أب سابق عليه فدل ذلك على كونه سبحانه غنياً في الخلق والإيجاد والتكوين عن الوسائط والآلات ثم قال سبحانه فَسُبْحَانَ الَّذِى بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَى ْء وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( يس 83 ) أي سبحانه من أن لا يعيدهم ويهمل أمر المظلومين ولا ينتصف للعاجزين من الظالمين وهو المعنى المذكور في هذه الآية التي نحن في تفسيرها وهي قوله سبحانه إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقّا
الحجة الثانية عشر دلت الدلائل على أن العالم محدث ولا بد له من محدث قادر ويجب أن يكون عالماً لأن الفعل المحكم المتقن لا يصدر إلا من العالم ويجب أن يكون غنياً عنها وإلا لكان قد خلقها في الأزل وهو محال فثبت أن لهذا العالم إلهاً قادراً عالماً غنياً ثم لما تأملنا فقلنا هل يجوز في حق هذا الحكيم الغني عن الكل أن يهمل عبيده ويتركهم سدى ويجوز لهم أن يكذبوا عليه ويبيح لهم أن يشتموه ويجحدوا ربوبيته ويأكلوا نعمته ويعبدوا الجبت والطاغوت ويجعلوا له أنداداً وينكروا أمره ونهيه ووعده ووعيده فههنا حكمت بديهة العقل بأن هذه المعاني لا تليق إلا بالسفيه الجاهل البعيد من الحكمة القريب من العبث فحكمنا لأجل هذه المقدمة أن له أمراً ونهياً ثم تأملنا فقلنا هل يجوز أن يكون له أمر ونهي مع أنه لا يكون له وعد ووعيد فحكم صريح العقل بأن ذلك غير جائز لأنه إن لم يقرن الأمر بالوعد بالثواب ولم يقرن النهي بالوعيد بالعقاب لم يتأكد الأمر والنهي ولم يحصل المقصود فثبت أنه لا بد من وعد ووعيد ثم تأملنا فقلنا هل يجوز أن يكون له وعد ووعيد ثم إنه لا يفي بوعده لأهل الثواب ولا بوعيده لأهل العقاب فقلنا إن ذلك لا يجوز لأنه لو جاز ذلك لما حصل الوثوق بوعده ولا بوعيده وهذا يوجب أن لا يبقى فائدة في الوعد والوعيد فعلمنا أنه لا بد من تحقيق الثواب والعقاب ومعلوم أن ذلك لا يتم إلا بالحشر والبعث وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب فهذه مقدمات يتعلق بعضها بالبعض كالسلسلة متى صح بعضها صح كلها ومتى فسد بعضها فسد كلها فدل مشاهدة أبصارنا لهذه التغيرات على حدوث العالم ودل حدوث العالم على وجود الصانع الحكيم الغني ودل ذلك على وجود الأمر والنهي ودل ذلك على وجود الثواب والعقاب ودل ذلك على وجوب الحشر فإن لم يثبت الحشر أدى ذلك إلى بطلان جميع

المقدمات المذكورة ولزم إنكار العلوم البديهية وإنكار العلوم النظرية القطعية فثبت أنه لا بد لهذه الأجساد البالية والعظام النخرة والأجزاء المتفرقة المتمزقة من البعث بعد الموت ليصل المحسن إلى ثوابه والمسيء إلى عقابه فإن لم تحصل هذه الحالة لم يحصل الوعد والوعيد وإن لم يحصلا لم يحصل الأمر والنهي وإن لم يحصلا لم تحصل الإلهية وإن لم تحصل الإلهية لم تحصل هذه التغيرات في العالم وهذه الحجة هي المراد من الآية التي نحن في تفسيرها وهي قوله إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقّا هذا كله تقرير إثبات المعاد بناء على أن لهذا العالم إلهاً رحيماً ناظراً محسناً إلى العباد
أما الفريق الثاني وهم الذين لا يعللون أفعال الله تعالى برعاية المصالح فطريقهم إلى إثبات المعاد أن قالوا المعاد أمر جائز الوجود والأنبياء عليهم السلام أخبروا عنه فوجب القطع بصحته أما إثبات الإمكان فهو مبني على مقدمات ثلاثة
المقدمة الأولى البحث عن حال القابل فنقول الإنسان إما أن يكون عبارة عن النفس أو عن البدن فإن كان عبارة عن النفس وهو القول الحق فنقول لما كان تعلق النفس بالبدن في المرة الأولى جائزاً كان تعلقها بالبدن في المرة الثانية يجب أن يكون جائزاً وهذا الكلام لا يختلف سواء قلنا النفس عبارة عن جوهر مجرد أو قلنا إنه جسم لطيف مشاكل لهذا البدن باق في جميع أحوال البدن مصون عن التحلل والتبدل وأما إن كان الأنسان عبارة عن البدن وهذا القول أبعد الأقاويل فنقول إن تألف تلك الأجزاء على الوجه المخصوص في المرة الأولى كان ممكناً فوجب أيضاً أن يكون في المرة الثانية ممكناً فثبت أن عود الحياة إلى هذا البدن مرة أخرى أمره ممكن في نفسه
وأما المقدمة الثانية فهي في بيان أن إله العالم قادر مختار لا علة موجبة وأن هذا القادر قادر على كل الممكنات
وأما المقدمة الثالثة فهي في بيان أن إله العالم عالم بجميع الجزئيات فلا جرم أجزاء بدن زيد وإن اختطلت بأجزاء التراب والبحار إلا أنه تعالى لما كان عالماً بالجزئيات أمكنه تمييز بعضها عن بعض ومتى ثبتت هذه المقدمات الثلاثة لزم القطع بأن الحشر والنشر أمر ممكن في نفسه
وإذا ثبت هذا الإمكان فنقول دل الدليل على صدق الأنبياء وهم قطعوا بوقوع هذا الممكن فوجب القطع بوقوعه وإلا لزمنا تكذيبهم وذلك باطل بالدلائل الدالة على صدقهم فهذا خلاصة ما وصل إليه عقلنا في تقرير أمر المعاد
المسألة الثالثة في الجواب عن شبهات المنكرين للحشر والنشر
الشبهة الأولى قالوا لو بدلت هذه الدار بدار أخرى لكانت تلك الدار إما أن تكون مثل هذه الدار أو شراً منها أو خيراً منها فإن كان الأول كان التبديل عبثاً وإن كان شراً منها كان هذا التبديل سفهاً وإن كان خيراً منها ففي أول الأمر هل كان قادراً على خلق ذلك الأجود أو ما كان قادراً عليه فإن قدر عليه ثم تركه وفعل الأردأ كان ذلك سفهاً وإن قلنا إنه ما كان قادراً ثم صار قادراً عليه فقد انتقل من العجز إلى القدرة أو من الجهل إلى الحكمة وأن ذلك على خالق العالم محال
والجواب لم لا يجوز أن يقال تقديم هذه الدار على تلك الدار هو المصلحة لأن الكمالات

النفسانية الموجبة للسعادة الأخروية لا يمكن تحصيلها إلا في هذه الدار ثم عند حصول هذه الكمالات كان البقاء في هذه الدار سبباً للفساد والحرمان عن الخيرات
الشبهة الثانية قالوا حركات الأفلاك مستديرة والمستدير لا ضد له وما لا ضد له لا يقبل الفساد
والجواب أنا أبطلنا هذه الشبهة في الكتب الفلسفية فلا حاجة إلى الإعادة والأصل في إبطال أمثال هذه الشبهات أن نقيم الدليل على أن أجرام الأفلاك مخلوقة ومتى ثبت ذلك ثبت كونها قابلة للعدم والتفرق والتمزق ولهذا السر فإنه تعالى في هذه السورة بدأ بالدلائل الدالة على حدوث الأفلاك ثم أردفها بما يدل على صحة القول بالمعاد
الشبهة الثالثة الإنسان عبارة عن هذا البدن وهو ليس عبارة عن هذه الأجزاء كيف كانت لأن هذه الأجزاء كانت موجودة قبل حدوث هذا الإنسان مع أنا نعلم بالضرورة أن هذا الإنسان ما كان موجوداً وأيضاً أنه إذا أحرق هذا الجسد فإنه تبقى تلك الأجزاء البسيطة ومعلوم أن مجموع تلك الأجزاء البسيطة من الأرض والماء والهواء والنار ما كان عبارة عن هذا الإنسان العاقل الناطق فثبت أن تلك الأجزاء إنما تكون هذا الإنسان بشرط وقوعها على تأليف مخصوص ومزاج مخصوص وصورة مخصوصة فإذا مات الإنسان وتفرقت أجزاؤه فقد عدمت تلك الصور والأعراض وعود المعدوم محال وعلى هذا التقدير فإنه يمتنع عود بعض الأجزاء المعتبرة في حصول هذا الأنسان فوجب أن يمتنع عوده بعينه مرة أخرى
والجواب لا نسلم أن هذا الأنسان المعين عبارة عن هذا الجسد المشاهد بل هو عبارة عن النفس سواء فسرنا النفس بأنه جوهر مفارق مجرد أو قلنا إنه جسم لطيف مخصوص مشاكل لهذا الجسد مصون عن التغير والله أعلم به
الشبهة الرابعة إذا قتل إنسان واغتذى به إنسان آخر فيلزم أن يقال تلك الأجزاء في بدن كل واحد من الشخصين وذلك محال
والجواب هذه الشبهة أيضاً مبنية على أن الإنسان المعين عبارة عن مجموع هذا البدن وقد بينا أنه باطل بل الحق أنه عبارة عن النفس سواء
قلنا النفس جوهر مجرد وأجسام لطيفة باقية مشاكلة للجسد وهي التي سمتها المتكلمون بالأجزاء الأصلية وهذا آخر البحث العقلي عن مسألة المعاد
المسألة الرابعة قوله تعالى إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فيه أبحاث
البحث الأول أن كلمة ( إلى ) لانتهاء الغاية وظاهره يقتضي أن يكون الله سبحانه مختصاً بحيز وجهة حتى يصح أن يقال إليه مرجع الخلق
والجواب عنه من وجوه الأول أنا إذا قلنا النفس جوهر مجرد فالسؤال زائل الثاني أن يكون المراد منه أن مرجعهم إلى حيث لا حاكم سواه الثالث أن يكون المراد أن مرجعهم إلى حيث حصل الوعد فيه بالمجازاة
البحث الثاني ظاهر الآيات الكثيرة يدل على أن الإنسان عبارة عن النفس لا عن البدن ويدل أيضاً

على أن النفس كانت موجودة قبل البدن أما أن الإنسان شيء غير هذا البدن فلقوله تعالى وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْيَاء فالعلم الضروري حاصل بأن بدن المقتول ميت والنص دال على أنه حي فوجب أن تكون حقيقته شيئاً مغايراً لهذا البدن الميت وأيضاً قال الله تعالى في صفة نزع روح الكفار أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ ( الأنعام 93 ) وأما إن النفس كانت موجودة قبل البدن فلأن قوله تعالى في هذه الآية إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ يدل على ما قلنا لأن الرجوع إلى الموضع إنما يحصل لو كان ذلك الشيء قد كان هناك قبل ذلك ونظيره قوله تعالى أَحَدٌ يأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّة ُ ارْجِعِى إِلَى رَبّكِ رَاضِيَة ً ( الفجر 27 28 ) وقوله ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقّ ( الأنعام 62 )
البحث الثالث المرجع بمعنى الرجوع و جَمِيعاً نصب على الحال أي ذلك الرجوع يحصل حال الاجتماع وهذا يدل على أنه ليس المراد من هذا المرجع الموت وإنما المراد منه القيامة
البحث الرابع قوله تعالى إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ يفيد الحصر وأنه لا رجوع إلا إلى الله تعالى ولا حكم إلا حكمه ولا نافذ إلا أمره وأما قوله وَعْدَ اللَّهِ حَقّا ففيه مسألتان
المسألة الأولى قوله وَعَدَ اللَّهُ منصوب على معنى وعدكم الله وعداً لأن قوله إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ معناه الوعد بالرجوع فعلى هذا التقدير يكون قوله وَعَدَ اللَّهُ مصدراً مؤكداً لقوله إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ وقوله حَقّاً مصدراً مؤكداً لقوله وَعَدَ اللَّهُ فهذه التأكيدات قد اجتمعت في هذا الحكم
المسألة الثانية قرىء وَعَدَ اللَّهُ على لفظ الفعل واعلم أنه تعالى لما أخبر عن وقوع الحشر والنشر ذكر بعده ما يدل على كونه في نفسه ممكن الوجود ثم ذكر بعده ما يدل على وقوعه أما ما يدل على إمكانه في نفسه فهو قوله سبحانه إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وفيه مسائل
المسألة الأولى تقرير هذا الدليل أنه تعالى بين بالدليل كونه خالقاً للأفلاك والأرضين ويدخل فيه أيضاً كونه خالقاً لكل ما في هذا العالم من الجمادات والمعادن والنبات والحيوان والإنسان وقد ثبت في العقل أن كل من كان قادراً على شيء وكانت قدرته باقية ممتنعة الزوال وكان عالماً بجميع المعلومات فإنه يمكنه إعادته بعينه فدل هذا الدليل على أنه تعالى قادر على إعادة الإنسان بعد موته
المسألة الثانية اتفق المسلمون على أنه تعالى قادر على إعدام أجسام العالم واختلفوا في أنه تعالى هل يعدمها أم لا فقال قوم إنه تعالى يعدمها واحتجوا بهذه الآية وذلك لأنه تعالى حكم على جميع المخلوقات بأنه يعيدها فوجب أن يعيد الأجسام أيضاً وإعادتها لا تمكن إلا بعد إعدامها وإلا لزم إيجاد الموجود وهو محال ونظيره قوله تعالى يَوْمَ نَطْوِى السَّمَاء كَطَى ّ السّجِلّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ ( الأنبياء 104 ) فحكم بأن الإعادة تكون مثل الابتداء ثم ثبت بالدليل أنه تعالى إنما يخلقها في الابتداء من العدم فوجب أن يقال إنه تعالى يعيدها أيضاً من العدم
المسألة الثالثة في هذه الآية إضمار كأنه قيل إنه يبدأ الخلق ليأمرهم بالعبادة ثم يميتهم ثم يعيدهم كما قال في سورة البقرة كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْواتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ ( البقرة 28 ) إلا أنه تعالى حذف ذكر الأمر بالعبادة ههنا لأجل أنه تعالى قال قبل هذه الآية إِذْنِهِ ذالِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ( يونس 3 )

وحذف ذكر الإماتة لأن ذكر الأعادة يدل عليها
المسألة الرابعة قرأ بعضهم إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ بالكسر وبعضهم بالفتح قال الزجاج من كسر الهمزة من ( أن ) فعلى الاستئناف وفي الفتح وجهان الأول أن يكون التقدير إليه مرجعكم جميعاً لأنه يبدأ الخلق ثم يعيده والثاني أن يكون التقدير وعد الله وعداً بدأ الخلق ثم إعادته وقرىء يُبْدِىء من أبدأ وقرىء حَقّ إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ كقولك حق إن زيداً منطلق
أما قوله تعالى إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقّا فاعلم أن المقصود منه إقامة الدلالة على أنه لا بد من حصول الحشر والنشر حتى يحصل الفرق بين المحسن والمسيء وحتى يصل الثواب إلى المطيع والعقاب إلى العاصي وقد سبق الاستقصاء في تقرير هذا الدليل وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الكعبي اللام في قوله تعالى إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً يدل على أنه تعالى خلق العباد للثواب والرحمة وأيضاً فإنه أدخل لام التعليل على الثواب وأما العقاب فما أدخل فيه لام التعليل بل قال وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مّنْ حَمِيمٍ وذلك يدل على أنه خلق الخلق للرحمة لا للعذاب وذلك يدل على أنه ما أراد منهم الكفر وما خلق فيهم الكفر ألبتة
والجواب أن لام التعليل في أفعال الله تعالى محال لأنه تعالى لو فعل فعلاً لعلة لكانت تلك العلة إن كانت قديمة لزم قدم الفعل وإن كانت حادثة لزم التسلسل وهو محال
المسألة الثانية قال الكعبي أيضاً هذه الآية تدل على أنه لا يجوز من الله تعالى أن يبدأ خلقهم في الجنة لأنه لو حسن إيصال تلك النعم إليهم من غير واسطة خلقهم في هذا العالم ومن غير واسطة تكليفهم لما كان خلقهم وتكليفهم معللاً بإيصال تلك النعم إليهم وظاهر الآية يدل على ذلك
والجواب هذا بناء على صحة تعليل أحكام الله تعالى وهو باطل سلمنا صحته إلا أن كلامه إنما يصح لو عللنا بدء الخلق وإعادته بهذا المعنى وذلك ممنوع فلم لا يجوز أن يقال إنه يبدأ الخلق لمحض التفضل ثم إنه تعالى يعيدهم لغرض إيصال نعم الجنة إليهم وعلى هذا التقدير سقط كلامه أما قوله تعالى بِالْقِسْطِ ففيه وجهان
الوجه الأول بِالْقِسْطِ بالعدل وهو يتعلق بقوله لِيَجْزِى َ والمعنى ليجزيهم بقسطه وفيه سؤالان
السؤال الأول أن القسط إذا كان مفسراً بالعدل فالعدل هو الذي يكون لا زائداً ولا ناقصاً وذلك يقتضي أنه تعالى لا يزيدهم على ما يستحقونه بأعمالهم ولا يعطيهم شيئاً على سبيل التفضل ابتداء
والجواب عندنا أن الثواب أيضاً محض التفضل وأيضاً فبتقدير أن يساعد على حصول الاستحقاق إلا أن لفظ الْقِسْطَ يدل على توفية الأجر فأما المنع من الزيادة فلفظ الْقِسْطَ لا يدل عليه
السؤال الثاني لم خص المؤمنين بالقسط مع أنه تعالى يجازي الكافرين أيضاً بالقسط
والجواب أن تخصيص المؤمنين بذلك يدل على مزيد العناية في حقهم وعلى كونهم مخصوصين بمزيد هذا الاحتياط

الوجه الثاني في تفسير الآية أن يكون المعنى ليجزي الذين آمنوا بقسطهم وبما أقسطوا وعدلوا ولم يظلموا أنفسهم حيث آمنوا وعملوا الصالحات لأن الشرك ظلم قال الله تعالى إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( لقمان 13 ) والعصاة أيضاً قد ظلموا أنفسهم قال الله تعالى فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ ( فاطر 32 ) وهذا الوجه أقوى لأنه في مقابلة قوله بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ ( يونس 70 )
وأما قوله تعالى وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي الحميم الذي سخن بالنار حتى انتهى حره يقال حممت الماء أي سخنته فهو حميم ومنه الحمام
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه لا واسطة بين أن يكون المكلف مؤمناً وبين أن يكون كافراً لأنه تعالى اقتصر في هذه الآية على ذكر هذين القسمين
وأجاب القاضي عنه بأن ذكر هذين القسمين لا يدل على نفي القسم الثالث والدليل عليه قوله تعالى وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّة ٍ مّن مَّاء فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِى عَلَى بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِى عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِى ( النور 45 ) ولم يدل ذلك على نفي القسم الرابع بل نقول إن في مثل ذلك ربما يذكر المقصود أو الأكثر ويترك ذكر ما عداه إذا كان قد بين في موضع آخر وقد بين الله تعالى القسم الثالث في سائر الآيات
والجواب أن نقول إنما يترك القسم الثالث الذي يجري مجرى النادر ومعلوم أن الفساق أكثر من أهل الطاعات وكيف يجوز ترك ذكرهم في هذا الباب وأما قوله تعالى وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّة ٍ مّن مَّاء فإنما ترك ذكر القسم الرابع والخامس لأن أقسام ذوات الأرجل كثيرة فكان ذكرها بأسرها يوجب الإطناب بخلاف هذه المسألة فإنه ليس ههنا إلا القسم الثالث وهو الفاسق الذي يزعم الخصم أنه لا مؤمن ولا كافر فظهر الفرق
هُوَ الَّذِى جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَآءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذالِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما ذكر الدلائل الدالة على الإلهية ثم فرع عليها صحة القول بالحشر والنشر عاد مرة أخرى إلى ذكر الدلائل الدالة على الإلهية
واعلم أن الدلائل المتقدمة في إثبات التوحيد والإلهية هي التمسك بخلق السموات والأرض وهذا النوع إشارة إلى التمسك بأحوال الشمس والقمر وهذا النوع الأخير إشارة إلى ما يؤكد الدليل الدال على

صحة الحشر والنشر وذلك لأنه تعالى أثبت القول بصحة الحشر والنشر بناء على أنه لا بد من إيصال الثواب إلى أهل الطاعة وإيصال العقاب إلى أهل الكفر وأنه يجب في الحكمة تمييز المحسن عن المسيء ثم إنه تعالى ذكر في هذه الآية أنه جعل الشمس ضياء والقمر نوراً وقدره منازل ليتوصل المكلف بذلك إلى معرفة السنين والحساب فيمكنه ترتيب مهمات معاشه من الزراعة والحراثة وإعداد مهمات الشتاء والصيف فكأنه تعالى يقول تمييز المحسن عن المسيء والمطيع عن العاصي أوجب في الحكمة من تعليم أحوال السنين والشهور فلما اقتضت الحكمة والرحمة خلق الشمس والقمر لهذا المهم الذي لا نفع له إلا في الدنيا فبأن تقتضي الحكمة والرحمة تمييز المحسن عن المسيء بعد الموت مع أنه يقتضي النفع الأبدي والسعادة السرمدية كان ذلك أولى فلما كان الاستدلال بأحوال الشمس والقمر من الوجه المذكور في هذه الآية مما يدل على التوحيد من وجه وعلى صحة القول بالمعاد من الوجه الذي ذكرناه لا جرم ذكر الله هذا الدليل بعد ذكر الدليل على صحة المعاد
المسألة الثانية الاستدلال بأحوال الشمس والقمر على وجود الصانع المقدر هو أن يقال الأجسام في ذواتها متماثلة وفي ماهياتها متساوية ومتى كان الأمر كذلك كان اختصاص جسم الشمس بضوئه الباهر وشعاعه القاهر واختصاص جسم القمر بنوره المخصوص لأجل الفاعل الحكيم المختار أما بيان أن الأجسام متماثلة في ذواتها وماهياتها فالدليل عليه أن الأجسام لا شك أنها متساوية في الحجمية والتحيز والجرمية فلو خالف بعضها بعضاً لكانت تلك المخالفة في أمر وراء الحجمية والجرمية ضرورة أن ما به المخالفة غير ما به المشاركة وإذا كان كذلك فنقول أن ما به حصلت المخالفة من الأجسام إما أن يكون صفة لها أو موصوفاً بها أو لا صفة لها ولا موصوفاً بها والكل باطل
أما القسم الأول فلأن ما به حصلت المخالفة لو كانت صفات قائمة بتلك الذوات فتكون الذوات في أنفسها مع قطع النظر عن تلك الصفات متساوية في تمام الماهية وإذا كان الأمر كذلك فكل ما يصح على جسم وجب أن يصح على كل جسم وذلك هو المطلوب
وأما القسم الثاني وهو أن يقال إن الذي به خالف بعض الأجسام بعضاً أمور موصوفة بالجسمية والتحيز والمقدار فنقول هذا أيضاً باطل لأن ذلك الموصوف إما أن يكون حجماً ومتحيزاً أو لا يكون والأول باطل وإلا لزم افتقاره إلى محل آخر ويستمر ذلك إلى غير النهاية وأيضاً فعلى هذا التقدير يكون المحل مثلاً للحال ولم يكن كون أحدهما محلاً والآخر حالاً أولى من العكس فيلزم كون كل واحد منهما محلاً للآخر وحالاً فيه وذلك محال وأما إن كان ذلك المحل غير متحيز وله حجم فنقول مثل هذا الشيء لا يكون له اختصاص بحيز ولا تعلق بجهة والجسم مختص بالحيز وحاصل في الجهة والشيء الذي يكون واجب الحصول في الحيز والجهة يمتنع أن يكون حالاً في الشيء الذي يمتنع حصوله في الحيز والجهة
وأما القسم الثالث وهو أن يقال ما به خالف جسم جسماً لا حال في الجسم ولا محل له فهذا أيضاً باطل لأن على هذا التقدير يكون ذلك الشيء شيئاً مبايناً عن الجسم لا تعلق له به فحينئذ تكون ذوات الأجسام من حيث ذواتها متساوية في تمام الماهية وذلك هو المطلوب فثبت أن الأجسام بأسرها

متساوية في تمام الماهية
وإذا ثبت هذا فنقول الأشياء المتساوية في تمام الماهية تكون متساوية في جميع لوازم الماهية فكل ما صح على بعضها وجب أن يصح على الباقي فلما صح على جرم الشمس اختصاصه بالضوء القاهر الباهر وجب أن يصح مثل ذلك الضوء القاهر على جرم القمر أيضاً وبالعكس وإذا كان كذلك وجب أن يكون اختصاص جرم الشمس بضوئه القاهر واختصاص القمر بنوره الضعيف بتخصيص مخصص وإيجاد موجد وتقدير مقدر وذلك هو المطلوب فثبت أن اختصاص الشمس بذلك الضوء بجعل جاعل وأن اختصاص القمر بذلك النوع من النور بجعل جاعل فثبت بالدليل القاطع صحة قوله سبحانه وتعالى هُوَ الَّذِى جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً وهو المطلوب
المسألة الثالثة قال أبو علي الفارسي الضياء لا يخلو من أحد أمرين إما أن يكون جمع ضوء كسوط وسياط وحوض وحياض أو مصدر ضاء يضوء ضياء كقولك قام قياماً وصام صياماً وعلى أي الوجهين حملته فالمضاف محذوف والمعنى جعل الشمس ذات ضياء والقمر ذا نور ويجوز أن يكون من غير ذلك لأنه لما عظم الضوء والنور فيهما جعلا نفس الضياء والنور كما يقال للرجل الكريم أنه كرم وجود
المسألة الرابعة قال الواحدي روي عن ابن كثير من طريق قنبل ضئاء بهمزتين وأكثر الناس على تغليطه فيه لأن ياء ضياء منقلبة من واو مثل ياء قيام وصيام فلا وجه للهمزة فيها ثم قال وعلى البعد يجوز أن يقال قدم اللام التي هي الهمزة إلى موضع العين وأخر العين التي هي واو إلى موضع اللام فلما وقعت طرفاً بعد ألف زائدة انقلبت همزة كما انقلبت في سقاء وبابه والله أعلم
المسألة الخامسة اعلم أن النور كيفية قابلة للأشد والأضعف فإن نور الصباح أضعف من النور الحاصل في أفنية الجدران عند طلوع الشمس وهو أضعف من النور الساطع من الشمس على الجدران وهو أضعف من الضوء القائم بجرم الشمس فكما هذه الكيفية المسماة بالضوء على ما يحس به في جرم الشمس وهو في الإمكان وجود مرتبة في الضوء أقوى من الكيفية القائمة بالشمس فهو من مواقف العقول واختلف الناس في أن الشعاع الفائض من الشمس هل هو جسم أو عرض والحق أنه عرض وهو كيفية مخصوصة وإذا ثبت أنه عرض فهل حدوثه في هذا العالم بتأثير قرص الشمس أو لأجل أن الله تعالى أجرى عادته بخلق هذه الكيفية في الأجرام المقابلة لقرص الشمس على سبيل العادة فهي مباحث عميقة وإنما يليق الاستقصاء فيها بعلوم المعقولات
وإذا عرفت هذا فنقول النور اسم لأصل هذه الكيفية وأما الضوء فهو اسم لهذه الكيفية إذا كانت كاملة تامة قوية والدليل عليه أنه تعالى سمى الكيفية القائمة بالشمس الشَّمْسَ ضِيَاء والكيفية القائمة بالقمر نُوراً ولا شك أن الكيفية القائمة بالشمس أقوى وأكمل من الكيفية القائمة بالقمر وقال في موضع آخر وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً وقال في آية أخرى وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً وفي آية أخرى وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً

المسألة السادسة قوله وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ نظيره قوله تعالى في سورة يس وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ ( يس 39 ) وفيه وجهان أحدهما أن يكون المعنى وقدر مسيره منازل والثاني أن يكون المعنى وقدره ذا منازل
المسألة السابعة الضمير في قوله وَقَدَّرَهُ فيه وجهان الأول أنه لهما وإنما وحد الضمير للإيجاز وإلا فهو في معنى التثنية اكتفاء بالمعلوم لأن عدد السنين والحساب إنما يعرف بسير الشمس والقمر ونظيره قوله تعالى وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ ( التوبة 62 ) والثاني أن يكون هذا الضمير راجعاً إلى القمر وحده لأن بسير القمر تعرف الشهور وذلك لأن الشهور المعتبرة في الشريعة مبنية على رؤية الأهلة والسنة المعتبرة في الشريعة هي السنة القمرية كما قال تعالى إِنَّ عِدَّة َ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ ( التوبة 36 )
المسألة الثامنة اعلم أن انتفاع الخلق بضوء الشمس وبنور القمر عظيم فالشمس سلطان النهار والقمر سلطان الليل وبحركة الشمس تنفصل السنة إلى الفصول الأربعة وبالفصول الأربعة تنتظم مصالح هذا العالم وبحركة القمر تحصل الشهور وباختلاف حاله في زيادة الضوء ونقصانه تختلف أحوال رطوبات هذا العالم وبسبب الحركة اليومية يحصل النهار والليل فالنهار يكون زماناً للتكسب والطلب والليل يكون زماناً للراحة وقد استقصينا في منافع الشمس والقمر في تفسير الآيات اللائقة بها فيما سلف وكل ذلك يدل على كثرة رحمة الله على الخلق وعظم عنايته بهم فإنا قد دللنا على أن الأجسام متساوية ومتى كان كذلك كان اختصاص كل جسم بشكله المعين ووضعه المعين وحيزه المعين وصفته المعينة ليس إلا بتدبير مدبر حكيم رحيم قادر قاهر وذلك يدل على أن جميع المنافع الحاصلة في هذا العالم بسبب حركات الأفلاك ومسير الشمس والقمر والكواكب ما حصل إلا بتدبير المدبر المقدر الرحيم الحكيم سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً ثم إنه تعالى لما قرر هذه الدلائل ختمها بقوله مَا خَلَقَ اللَّهُ ذالِكَ إِلاَّ بِالْحَقّ ومعناه أنه تعالى خلقه على وفق الحكمة ومطابقة المصلحة ونظيره قوله تعالى في آل عمران وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ ( آل عمران 191 ) وقال في سورة آخرى وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذالِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( ص 27 ) وفيه مسائل
المسألة الأولى قال القاضي هذه الآية تدل على بطلان الجبر لأنه تعالى لو كان مريداً لكل ظلم وخالقاً لكل قبيح ومريداً لإضلال من ضل لما صح أن يصف نفسه بأنه ما خلق ذلك إلا بالحق
المسألة الثانية قال حكماء الإسلام هذا يدل على أنه سبحانه أودع في أجرام الأفلاك والكواكب خواص معينة وقوى مخصوصة باعتبارها تنتظم مصالح هذا العالم السفلي إذ لو لم يكن لها آثار وفوائد في هذا العالم لكان خلقها عبثاً وباطلاً وغير مفيد وهذه النصوص تنافي ذلك والله أعلم
ثم بين تعالى أنه يفصل الآيات ومعنى التفصيل هو ذكر هذه الدلائل الباهرة واحداً عقيب الآخر فصلاً فصلاً مع الشرع والبيان وفي قوله نُفَصّلُ قراءتان قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم يُفَصّلُ بالياء وقرأ الباقون بالنون
ثم قال لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وفيه قولان الأول أن المراد منه العقل الذي يعم الكل والثاني أن المراد منه من تفكر وعلم فوائد مخلوقاته وآثار إحسانه وحجة القول الأول عموم اللفظ وحجة القول الثاني أنه

لا يمتنع أن يخص الله سبحانه وتعالى العلماء بهذا الذكر لأنهم هم الذين انتفعوا بهذه الدلائل فجاء كما في قوله إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا ( النازعات 45 ) مع أنه عليه السلام كان منذراً للكل
إِنَّ فِى اخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِى السَّمَاوَاتِ والأرض لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ
اعلم أنه تعالى استدل على التوحيد والإلهيات أولاً بتخليق السموات والأرض وثانياً بأحوال الشمس والقمر وثالثاً في هذه الآية بالمنافع الحاصلة من اختلاف الليل والنهار وقد تقدم تفسيره في سورة البقرة في تفسير قوله إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( آل عمران 9 ) ورابعاً بكل ما خلق الله في السموات والأرض وهي أقسام الحوادث الحادثة في هذا العالم وهي محصورة في أربعة أقسام أحدها الأحوال الحادثة في العناصر الأربعة ويدخل فيها أحوال الرعد والبرق والسحاب والأمطار والثلوج ويدخل فيها أيضاً أحوال البحار وأحوال المد والجزر وأحوال الصواعق والزلازل والخسف وثانيها أحوال المعادن وهي عجيبة كثيرة وثالثها اختلاف أحوال النبات ورابعها اختلاف أحوال الحيوانات وجملة هذه الأقسام الأربعة داخلة في قوله تعالى وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ والاستقصاء في شرح هذه الأحوال مما لا يمكن في ألف مجلد بل كل ما ذكره العقلاء في أحوال أقسام هذا العالم فهو جزء مختصر من هذا الباب
ثم إنه تعالى بعد ذكر هذه الدلائل قال لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ فخصها بالمتقين لأنهم يحذرون العاقبة فيدعوهم الحذر إلى التدبر والنظر قال القفال من تدبر في هذه الأحوال علم أن الدنيا مخلوقة لشقاء الناس فيها وأن خالقها وخالقهم ما أهملهم بل جعلها لهم دار عمل وإذا كان كذلك فلا بد من أمر ونهي ثم من ثواب وعقاب ليتميز المحسن عن المسيء فهذه الأحوال في الحقيقة دالة على صحة القول بإثبات المبدأ وإثبات المعاد
إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا وَرَضُواْ بِالْحَيواة ِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ ءَايَاتِنَا غَافِلُونَ أُوْلَائِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ
اعلم أنه تعالى لما أقام الدلائل القاهرة على صحة القول بإثبات الإله الرحيم الحكيم وعلى صحة القول بالمعاد والحشر والنشر شرع بعده في شرح أحوال من يكفر بها وفي شرح أحوال من يؤمن بها فأما شرح أحوال الكافرين فهو المذكور في هذه الآية واعلم أنه تعالى وصفهم بصفات أربعة
الصفة الأولى قوله إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وفيه مسائل

المسألة الأولى في تفسير هذا الرجاء قولان
القول الأول وهو قول ابن عباس ومقاتل والكلبي معناه لا يخافون البعث والمعنى أنهم لا يخافون ذلك لأنهم لا يؤمنون بها والدليل على تفسير الرجاء ههنا بالخوف قوله تعالى إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا ( النازعات 45 ) وقوله وَهُمْ مّنَ السَّاعَة ِ مُشْفِقُونَ ( الأنبياء 49 ) وتفسير الرجاء بالخوف جائز كما قال تعالى مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً ( نوح 13 ) قال الهذلي
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها
والقول الثاني تفسير الرجاء بالطمع فقوله لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا أي لا يطمعون في ثوابنا فيكون هذا الرجاء هو الذي ضده اليأس كما قال قَدْ يَئِسُواْ مِنَ الاْخِرَة ِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ
واعلم أن حمل الرجاء على الخوف بعيد لأن تفسير الضد بالضد غير جائز ولا مانع ههنا من حمل الرجاء على ظاهره ألبتة والدليل عليه أن لقاء الله إما أن يكون المراد منه تجلي جلال الله تعالى للعبد وإشراق نور كبريائه في روحه وإما أن يكون المراد منه الوصول إلى ثواب الله تعالى وإلى رحمته فإن كان الأول فهو أعظم الدرجات وأشرف السعادات وأكمل الخيرات فالعاقل كيف لا يرجوه وكيف لا يتمناه وإن كان الثاني فكذلك لأن كل أحد يرجو من الله تعالى أن يوصله إلى ثوابه ومقامات رحمته وإذا كان كذلك فكل من آمن بالله فهو يرجو ثوابه وكل من لم يؤمن بالله ولا بالمعاد فقد أبطل على نفسه هذا الرجاء فلا جرم حسن جعل عدم هذا الرجاء كناية عن عدم الإيمان بالله واليوم الآخر
المسألة الثانية اللقاء هو الوصول إلى الشيء وهذا في حق الله تعالى محال لكونه منزهاً عن الحد والنهاية فوجب أن يجعل مجازاً عن الرؤية وهذا مجاز ظاهر فإنه يقال لقيت فلاناً إذا رأيته وحمله على لقاء ثواب الله يقتضي زيادة في الإضمار وهو خلاف الدليل
واعلم أنه ثبت بالدلائل اليقينية أن سعادة النفس بعد الموت في أن تتجلى فيها معرفة الله تعالى ويكمل إشراقها ويقوي لمعانها وذلك هو الرؤية وهي من أعظم السعادات فمن كان غافلاً عن طلبها معرضاً عنها مكتفياً بعد الموت بوجدان اللذات الحسية من الأكل والشرب والوقاع كان من الضالين
الصفة الثانية من صفات هؤلاء الكفار قوله تعالى وَرَضُواْ بِالْحَيواة ِ الدُّنْيَا
واعلم أن الصفة الأولى إشارة إلى خلو قلبه عن طلب اللذات الروحانية وفراغه عن طلب السعادات الحاصلة بالمعارف الربانية وأما هذه الصفة الثانية فهي إشارة إلى استغراقه في طلب اللذات الجسمانية واكتفائه بها واستغراقه في طلبها
والصفة الثالثة قوله تعالى وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وفيه مسألتان
المسألة الأولى صفة السعداء أن يحصل لهم عند ذكر الله نوع من الوجل والخوف كما قال تعالى الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ( الحج 35 ) ثم إذا قويت هذه الحالة حصلت الطمأنينة في ذكر الله تعالى كما قال تعالى وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ( الرعد 28 ) وصفة الأشقياء أن تحصل لهم الطمأنينة في حب الدنيا وفي الاشتغال بطلب لذاتها كما قال في هذه الآية وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا

فحقيقة الطمأنينة أن يزول عن قلوبهم الوجل فإذا سمعوا الإنذار والتخويف لم توجل قلوبهم وصارت كالميتة عند ذكر الله تعالى
المسألة الثانية مقتضى اللغة أن يقال واطمأنوا إليها إلا أن حروف الجر يحسن إقامة بعضها مقام البعض فلهذا السبب قال وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا
والصفة الرابعة قوله تعالى وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ ءايَاتِنَا غَافِلُونَ والمراد أنهم صاروا في الإعراض عن طلب لقاء الله تعالى بمنزلة الغافل عن الشيء الذي لا يخطر بباله طول عمره ذكر ذلك الشيء وبالجملة فهذه الصفات الأربعة دالة على شدة بعده عن طلب الاستسعاد بالسعادات الأخروية الروحانية وعلى شدة استغراقه في طلب هذه الخيرات الجسمانية والسعادات الدنيوية
واعلم أنه تعالى لما وصفهم بهذه الصفات الأربعة قال أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى النيران على أقسام النار التي هي جسم محسوس مضيء محرق صاعداً بالطبع والإقرار به واجب لأجل أنه ثبت بالدلائل المذكورة أن الإقرار بالجنة والنار حق
القسم الثاني النار الروحانية العقلية وتقريره أن من أحب شيئاً حباً شديداً ثم ضاع عنه ذلك الشيء بحيث لا يمكنه الوصول إليه فإنه يحترق قلبه وباطنه وكل عاقل يقول إن فلاناً محترق القلب محترق الباطن بسبب فراق ذلك المحبوب وألم هذه النار أقوى بكثير من ألم النار المحسوسة
إذا عرفت هذا فنقول إن الأرواح التي كانت مستغرقة في حب الجسمانيات وكانت غافلة عن حب عالم الروحانيات فإذا مات ذلك الإنسان وقعت الفرقة بين ذلك الروح وبين معشوقاته ومحبوباته وهي أحوال هذا العالم وليس له معرفة بذلك العالم ولا إلف مع أهل ذلك العالم فيكون مثاله مثال من أخرج من مجالسة معشوقه وألقي في بئر ظلمانية لا إلف له بها ولا معرفة له بأحوالها فهذا الإنسان يكون في غاية الوحشة وتألم الروح فكذا هنا أما لو كان نفوراً عن هذه الجسمانيات عارفاً بمقابحها ومعايبها وكان شديد الرغبة في اعتلاق العروة الوثقى عظيم الحب لله كان مثاله مثال من كان محبوساً في سجن مظلم عفن مملوء من الحشرات المؤذية والآفات المهلكة ثم اتفق أن فتح باب السجن وأخرج منه وأحضر في مجلس السلطان الأعظم مع الأحباب والأصدقاء كما قال تعالى فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ النَّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً ( النساء 69 ) فهذا هو الإشارة إلى تعريف النار الروحانية والجنة الروحانية
المسألة الثانية الباء في قوله بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ مشعر بأن الأعمال السابقة هي المؤثرة في حصول هذا العذاب ونظيره قوله تعالى ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لّلعَبِيدِ
إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الاٌّ نْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَءَاخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال المنكرين والجاحدين في الآية المتقدمة ذكر في هذه الآية أحوال المؤمنين المحقين واعلم أنه تعالى ذكر صفاتهم أولاً ثم ذكر مالهم من الأحوال السنية والدرجات الرفيعة ثانياً أما أحوالهم وصفاتهم فهي قوله إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وفي تفسيره وجوه
الوجه الأول أن النفس الإنسانية لها قوتان
القوة النظرية وكمالها في معرفة الأشياء ورئيس المعارف وسلطانها معرفة الله
والقوة العملية وكمالها في فعل الخيرات والطاعات ورئيس الأعمال الصالحة وسلطانها خدمة الله فقوله إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ إشارة إلى كمال القوة النظرية بمعرفة الله تعالى وقوله وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ إشارة إلى كمال القوة العملية بخدمة الله تعالى ولما كانت القوة النظرية مقدمة على القوة العملية بالشرف والرتبة لا جرم وجب تقديمها في الذكر
الوجه الثاني في تفسير هذه الآية قال القفال إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أي صدقوا بقلوبهم ثم حققوا التصديق بالعمل الصالح الذي جاءت به الأنبياء والكتب من عند الله تعالى
الوجه الثالث الَّذِينَ كَفَرُواْ أي شغلوا قلوبهم وأرواحهم بتحصيل المعرفة وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أي شغلوا جوارحهم بالخدمة فعينهم مشغولة بالاعتبار كما قال فَاعْتَبِرُواْ ياأُوْلِى أُوْلِى الاْبْصَارِ ( الحشر 2 ) وأذنهم مشغولة بسماع كلام الله تعالى كما قال وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ ( المائدة 83 ) ولسانهم مشغول بذكر الله كما قال تعالى عَلِيماً ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اذْكُرُواْ اللَّهَ ( الأحزاب 41 ) وجوارحهم مشغولة بنور طاعة الله كما قال أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ الَّذِى يُخْرِجُ الْخَبْء فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( النمل 25 )
واعلم أنه تعالى لما وصفهم بالإيمان والأعمال الصالحة ذكر بعد ذلك درجات كراماتهم ومراتب سعاداتهم وهي أربعة
المرتبة الأولى قوله يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الاْنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ وفيه مسائل
المسألة الأولى في تفسير قوله يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ وجوه الأول أنه تعالى يهديهم إلى الجنة ثواباً لهم على إيمانهم وأعمالهم الصالحة والذي يدل على صحة هذا التأويل وجوه أحدها قوله تعالى يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم ( الحديد 12 ) وثانيها ما روي أنه عليه السلام قال ( إن المؤمن إذا خرج من قبره صور له عمله في صورة حسنة فيقول له أنا عملك فيكون له نوراً وقائداً إلى الجنة والكافر إذا خرج من قبره صور له عمله في صورة سيئة فيقول له أنا عملك فينطلق به حتى يدخله النار ) وثالثها قال مجاهد المؤمنون يكون لهم نور يمشي بهم إلى الجنة ورابعها وهو الوجه العقلي أن الإيمان عبارة عن نور اتصل به من عالم القدس وذلك النور كالخيط المتصل بين قلب المؤمن وبين ذلك العالم المقدس فإن حصل هذا الخط النوراني قدر العبد على أن يقتدي بذلك النور ويرجع إلى

عالم القدس فأما إذا لم يوجد هذا الحبل النوراني تاه في ظلمات عالم الضلالات نعوذ بالله منه
والتأويل الثاني قال ابن الأنباري إن إيمانهم يهديهم إلى خصائص في المعرفة ومزايا في الألفاظ ولوامع من النور تستنير بها قلوبهم وتزول بواسطتها الشكوك والشبهات عنهم كقوله تعالى وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى ( محمد 17 ) وهذه الزوائد والفوائد والمزايا يجوز حصولها في الدنيا قبل الموت ويجوز حصولها في الآخرة بعد الموت قال القفال وإذا حملنا الآية على هذا الوجه كان المعنى يهديهم ربهم بإيمانهم وتجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم إلا أن حذف الواو وجعل قوله تَجْرِى خبراً مستأنفاً منقطعاً عما قبله
والتأويل الثالث أن الكلام في تفسير هذه الآية يجب أن يكون مسبوقاً بمقدمات
المقدمة الأولى أن العلم نور والجهل ظلمة وصريح العقل يشهد بأن الأمر كذلك ومما يقرره أنك إذا ألقيت مسألة جليلة شريفة على شخصين فاتفق أن فهمها أحدهما وما فهمها الآخر فإنك ترى وجه الفاهم متهللاً مشرقاً مضيئاً ووجه من لم يفهم عبوساً مظلماً منقبضاً ولهذا السبب جرت عادة القرآن بالتعبير عن العلم والإيمان والنور وعن الجهل والكفر بالظلمات
والمقدمة الثانية أن الروح كاللوح والعلوم والمعارف كالنقوش المنقوشة في ذلك اللوح ثم ههنا دقيقة وهي أن اللوح الجسماني إذا رسمت فيه نقوش جسمانية فحصول بعض النقوش في ذلك اللوح مانع من حصول سائر النقوش فيه فأما لوح الروح فخاصيته على الضد من ذلك فإن الروح إذا كانت خالية عن نقوش المعارف والعلوم فإنه يصعب عليه تحصيل المعارف والعلوم فإذا احتال وحصل شيء منها كان حصول ما حصل منها معيناً له على سهولة تحصيل الباقي وكلما كان الحاصل أكثر كان تحصيل البقية أسهل فالنقوش الجسمانية يكون بعضها مانعاً من حصول الباقي والنقوش الروحانية يكون بعضها معيناً على حصول البقية وذلك يدل على أن أحوال العالم الروحاني بالضد من أحوال العالم الجسماني
المقدمة الثالثة أن الأعمال الصالحة عبارة عن الأعمال التي تحمل النفس على ترك الدنيا وطلب الآخرة والأعمال المذمومة ما تكون بالضد من ذلك
إذا عرفت هذه المقدمات فنقول الإنسان إذا آمن بالله فقد أشرق روحه بنور هذه المعرفة ثم إذا واظب على الأعمال الصالحة حصلت له ملكة مستقرة في التوجه إلى الآخرة وفي الإعراض عن الدنيا وكلما كانت هذه الأحوال أكمل كان استعداد النفس لتحصيل سائر المعارف أشد وكلما كان الاستعداد أقوى وأكمل كانت معارج المعارف أكثر وإشراقها ولمعانها أقوى ولما كان لا نهاية لمراتب المعارف والأنوار العقلية لا جرم لا نهاية لمراتب هذه الهداية المشار إليها بقوله تعالى يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ
المسألة الثانية قوله تعالى تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الاْنْهَارُ المراد منه أنهم يكونون جالسين على سرر مرفوعة في البساتين والأنهار تجري من بين أيديهم ونظيره قوله تعالى قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً ( مريم 24 ) وهي ما كانت قاعدة عليها ولكن المعنى بين يديك وكذا قوله وَهَاذِهِ الاْنْهَارُ تَجْرِى مِن تَحْتِى ( الزخرف 51 ) المعنى بين يدي فكذا ههنا

المسألة الثالثة الإيمان هو المعرفة والهداية المترتبة عليها أيضاً من جنس المعارف ثم إنه تعالى لم يقل يهديهم ربهم إيمانهم بل قال يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ وذلك يدل على أن العلم بالمقدمتين لا يوجب العلم بالنتيجة بل العلم بالمقدمتين سبب لحصول الاستعداد التام لقبول النفس للنتيجة ثم إذا حصل هذا الاستعداد كان التكوين من الحق سبحانه وتعالى وهذا معنى قول الحكماء أن الفياض المطلق والجواد الحق ليس إلا الله سبحانه وتعالى
المرتبة الثانية من مراتب سعاداتهم ودرجات كمالاتهم قوله سبحانه وتعالى دَعْواهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وفيه مسائل
المسألة الأولى في دعواهم وجوه الأول أن الدعوى ههنا بمعنى الدعاء يقال دعا يدعو دعاء ودعوى كما يقال شكى يشكو شكاية وشكوى قال بعض المفسرين دَعْوَاهُمْ أي دعاؤهم وقال تعالى في أهل الجنة لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَة ٌ وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ ( يس 57 ) وقال في آية أخرى يَدْعُونَ فِيهَا بِكلّ فَاكِهَة ٍ ءامِنِينَ ( الدخان 55 ) ومما يقوى أن المراد من الدعوى ههنا الدعاء هو أنهم قالوا اللهم وهذا نداء لله سبحانه وتعالى ومعنى قولهم سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ إنا نسبحك كقول القانت في دعاء القنوت ( اللهم إياك نعبد ) الثاني أن يراد بالدعاء العبادة ونظيره قوله تعالى وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ( مريم 48 ) أي وما تعبدون فيكون معنى الآية أنه لا عبادة لأهل الجنة إلا أن يسبحوا الله ويحمدوه ويكون اشتغالهم بذلك الذكر لا على سبيل التكليف بل على سبيل الابتهاج بذكر الله تعالى الثالث قال بعضهم لا يبعد أن يكون المراد من الدعوى نفس الدعوى التي تكون للخصم على الخصم والمعنى أن أهل الجنة يدعون في الدنيا وفي الآخرة تنزيه الله تعالى عن كل المعايب والإقرار له بالإلهية قال القفال أصل ذلك أيضاً من الدعاء لأن الخصم يدعو خصمه إلى من يحكم بينهما الرابع قال مسلم دَعْوَاهُمْ أي قولهم وإقرارهم ونداؤهم وذلك هو قولهم سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ الخامس قال القاضي المراد من قوله دَعْوَاهُمْ أي طريقتهم في تمجيد الله تعالى وتقديسه وشأنهم وسنتهم والدليل على أن المراد ذلك أن قوله سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ ليس بدعاء ولا بدعوى إلا أن المدعي للشيء يكون مواظباً على ذكره لا جرم جعل لفظ الدعوى كناية عن تلك المواظبة والملازمة فأهل الجنة لما كانوا مواظبين على هذا الذكر لا جرم أطلق لفظ الدعوى عليها السادس قال القفال قيل في قوله لَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ ( يس 57 ) أي ما يتمنونه والعرب تقول ادع ما شئت علي أي تمن وقال ابن جريج أخبرت أن قوله دَعْواهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ هو أنه إذا مر بهم طير يشتهونه قالوا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ فيأتيهم الملك بذلك المشتهى فقد خرج تأويل الآية من هذا الوجه على أنهم إذا اشتهوا الشيء قالوا سبحانك اللهم فكان المراد من دعواهم ما حصل في قلوبهم من التمني وفي هذا التفسير وجه آخر هو أفضل وأشرف مما تقدم وهو أن يكون المعنى أن تمنيهم في الجنة أن يسبحوا الله تعالى أي تمنيهم لما يتمنونه ليس إلا في تسبيح الله تعالى وتقديسه وتنزيهه السابع قال القفال أيضاً ويحتمل أن يكون المعنى في الدعوى ما كانوا يتداعونه في الدنيا في أوقات حروبهم ممن يسكنون إليه ويستنصرونه كقولهم يا آل فلان فأخبر الله تعالى أن أنسهم في الجنة بذكرهم الله تعالى وسكونهم بتحميدهم الله ولذتهم بتمجيدهم الله تعالى

المسألة الثانية أن قوله سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ فيه وجهان
الوجه الأول قول من يقول أن أهل الجنة جعلوا هذا الذكر علامة على طلب المشتهيات قال ابن جريج إذا مر بهم طيراً اشتهوه قالوا سبحانك اللهم فيؤتون به فإذا نالوا منه شهوتهم قالوا الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ وقال الكلبي قوله سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ علم بين أهل الجنة والخدام فإذا سمعوا ذلك من قولهم أتوهم بما يشتهون واعلم أن هذا القول عندي ضعيف جداً وبيانه من وجوه أحدها أن حاصل هذا الكلام يرجع إلى أن أهل الجنة جعلوا هذا الذكر العالي المقدس علامة على طلب المأكول والمشروب والمنكوح وهذا في غاية الخساسة وثانيها أنه تعالى قال في صفة أهل الجنة وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ فإذا اشتهوا أكل ذلك الطير فلا حاجة بهم إلى الطلب وإذا لم يكن بهم حاجة إلى الطلب فقد سقط هذا الكلام وثالثها أن هذا يقتضي صرف الكلام عن ظاهره الشريف العالي إلى محمل خسيس لا إشعار للفظ به وهذا باطل
الوجه الثاني في تأويل هذه الآية أن نقول المراد اشتغال أهل الجنة بتقديس الله سبحانه وتمجيده والثناء عليه لأجل أن سعادتهم في هذا الذكر وابتهاجهم به وسرورهم به وكمال حالهم لا يحصل إلا منه وهذا القول هو الصحيح الذي لا محيد عنه ثم على هذا التقدير ففي الآية وجوه أحدها قال القاضي إنه تعالى وعد المتقين بالثواب العظيم كما ذكر في أول هذه السورة من قوله إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقّا ( يونس 4 ) فإذا دخل أهل الجنة الجنة ووجدوا تلك النعم العظيمة عرفوا أن الله تعالى كان صادقاً في وعده إياهم بتلك النعم فعند هذا قالوا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ أي نسبحك عن الخلف في الوعد والكذب في القول وثانيها أن نقول غاية سعادة السعداء ونهاية درجات الأنبياء والأولياء استسعادهم بمراتب معارف الجلال
واعلم أن معرفة ذات الله تعالى والاطلاع على كنه حقيقته مما لا سبيل للخلق إليه بل الغاية القصوى معرفة صفاته السلبية أو صفاته الإضافية إما الصفات السلبية فهي المسماة بصفات الجلال وأما الصفات الإضافية فهي المسماة بصفات الإكرام فلذلك كان كمال الذكر العالي مقصوراً عليها كما قال سبحانه وتعالى تَبَارَكَ اسْمُ رَبّكَ ذِى الْجَلَالِ وَالإكْرَامِ ( الرحمن 78 ) وكان ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام ) ولما كانت السلوب متقدمة بالرتبة على الإضافات لا جرم كان ذكر الجلال متقدماً على ذكر الإكرام في اللفظ وإذا ثبت أن غاية سعادة السعداء ليس إلا في هذين المقامين لا جرم ذكر الله سبحانه وتعالى كونهم مواظبين على هذا الذكر العالي المقدس ولما كان لا نهاية لمعارج جلال الله ولا غاية لمدارج إلهيته وإكرامه وإحسانه فكذلك لا نهاية لدرجات ترقي الأرواح المقدسة في هذه المقامات العلية الإلهية وثالثها أن الملائكة المقربين كانوا قبل تخليق آدم عليه السلام مشتغلين بهذا الذكر ألا ترى أنهم قالوا وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ ( البقرة 30 ) فالحق سبحانه ألهم السعداء من أولاد آدم حتى أتوا بهذا التسبيح والتحميد ليدل ذلك على أن الذي أتى به الملائكة المقربون قبل خلق العالم من الذكر العالي فهو بعينه أتى به السعداء من أولاد آدم عليه السلام بعد انقراض العالم ولما كان هذا الذكر مشتملاً على هذا الشرف العالي لا جرم جاءت الرواية بقراءته في أول الصلاة فإن المصلي إذا كبر قال ( سبحانك اللهم وبحمدك

تبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك )
المرتبة الثالثة من مراتب سعادات أهل الجنة قوله تعالى وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ قال المفسرون تحية بعضهم لبعض تكون بالسلام وتحية الملائكة لهم بالسلام كما قال تعالى وَالمَلَائِكَة ُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ( الرعد 23 ) وتحية الله تعالى لهم أيضاً بالسلام كما قال تعالى سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ ( يس 58 ) قال الواحدي وعلى هذا التقدير يكون هذا من إضافة المصدر إلى المفعول وعندي فيه وجه آخر وهو أن مواظبتهم على ذكر هذه الكلمة مشعرة بأنهم كانوا في الدنيا في منزل الآفات وفي معرض المخافات فإذا أخرجوا من الدنيا ووصلوا إلى كرامة الله تعالى فقد صاروا سالمين من الآفات آمنين من المخافات والنقصانات وقد أخبر الله تعالى عنهم بأنهم يذكرون هذا المعنى في قوله وَقَالُواْ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِى أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَة ِ مِن فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ( فاطر 34 35 )
المرتبة الرابعة من مراتب سعاداتهم قوله سبحانه وتعالى دَعْواهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وفيه مسائل
المسألة الأولى قد ذكرنا أن جماعة من المفسرين حملوا هذه الكلمات العالية المقدسة على أحوال أهل الجنة بسبب الأكل والشرب فقالوا إن أهل الجنة إذا اشتهوا شيئاً قالوا سبحانك اللهم وبحمدك وإذا أكلوا وفرغوا قالوا الحمد لله رب العالمين وهذا القائل ما ترقى نظره في دنياه وأخراه عن المأكول والمشروب وحقيق لمثل هذا الإنسان أن يعد في زمرة البهائم وأما المحقون المحققون فقد تركوا ذلك ولهم فيه أقوال روى الحسن البصري عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( إن أهل الجنة يلهمون الحمد والتسبيح كما تلهمون أنفاسكم ) وقال الزجاج أعلم الله تعالى أن أهل الجنة يفتتحون بتعظيم الله تعالى وتنزيهه ويختتمون بشكره والثناء عليه وأقول عندي في هذا الباب وجوه أخر فأحدها أن أهل الجنة لما استسعدوا بذكر سبحانك اللهم وبحمدك وعاينوا ما هم فيه من السلامة عن الآفات والمخافات علموا أن كل هذه الأحوال السنية والمقامات القدسية إنما تيسرت بإحسان الحق سبحانه وإفضاله وإنعامه فلا جرم اشتغلوا بالحمد والثناء فقالوا الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ وإنما وقع الختم على هذا الكلام لأن اشتغالهم بتسبيح الله تعالى وتمجيده من أعظم نعم الله تعالى عليهم والاشتغال بشكر النعمة متأخر عن رؤية تلك النعمة فلهذا السبب وقع الختم على هذه الكلمة وثانيها أن لكل إنسان بحسب قوته معراجاً فتارة ينزل عن ذلك المعراج وتارة يصعد إليه ومعراج العارفين الصادقين معرفة الله تعالى وتسبيح الله وتحميد الله فإذا قالوا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ فهم في عين المعراج وإذا نزلوا منه إلى عالم المخلوقات كان الحاصل عند ذلك النزول إفاضة الخير على جميع المحتاجين وإليه الإشارة بقوله وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ ثم أنه مرة أخرى يصعد إلى معراجه وعند الصعود يقول الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ فهذه الكلمات العالية إشارة إلى اختلاف أحوال العبد بسبب النزول والعروج وثالثها أن نقول إن قولنا الله اسم لذات الحق سبحانه فتارة ينظر العبد إلى صفات الجلال وهي المشار إليها بقوله سُبْحَانَكَ ثم يحاول الترقي منها إلى حضرة جلال الذات ترقياً يليق بالطاقة البشرية وهي المشار إليها بقوله اللَّهُمَّ فإذا عرج عن ذلك المكان واخترق في أوائل تلك الأنوار رجع إلى عالم الإكرام وهو المشار إليه بقوله الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ فهذه كلمات خطرت بالبال ودارت في الخيال فإن حقت فالتوفيق من الله تعالى وإن لم يكن كذلك فالتكلان على رحمة الله تعالى

المسألة الثانية قال الواحدي ءانٍ في قوله أَنِ الْحَمْدُ للَّهِ هي المخففة من الشديدة فلذلك لم تعمل لخروجها بالتخفيف عن شبه الفعل كقوله
أن هالك كل من يخفى وينتعل
على معنى أنه هالك وقال صاحب ( النظم ) ءانٍ ههنا زائدة والتقدير وآخر دعواهم الحمد لله رب العالمين وهذا القول ليس بشيء وقرأ بعضهم ءانٍ الحمد لله بالتشديد ونصب الحمد
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِى َ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى أن الذي يغلب على ظني أن ابتداء هذه السورة في ذكر شبهات المنكرين للنبوة مع الجواب عنها
فالشبهة الأولى أن القوم تعجبوا من تخصيص الله تعالى محمداً عليه السلام بالنبوة فأزال الله تعالى ذلك التعجب بقوله أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مّنْهُمْ ( يونس 2 ) ثم ذكر دلائل التوحيد ودلائل صحة المعاد وحاصل الجواب أنه يقول إني ما جئتكم إلا بالتوحيد والإقرار بالمعاد وقد دللت على صحتها فلم يبق للتعجب من نبوتي معنى
والشبهة الثانية للقوم أنهم كانوا أبداً يقولون اللهم إن كان ما يقول محمد حقاً في ادعاء الرسالة فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب إليم فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بما ذكره في هذه الآية فهذا هو الكلام في كيفية النظم ومن الناس من ذكر فيه وجوهاً أخرى فالأول قال القاضي لما بين تعالى فيما تقدم الوعد والوعيد أتبعه بما دل على أن من حقهما أن يتأخرا عن هذه الحياة الدنيوية لأن حصولهما في الدنيا كالمانع من بقاء التكليف والثاني ما ذكره القفال وهو أنه تعالى لما وصف الكفار بأنهم لا يرجون لقاء الله ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها وكانوا عن آيات الله غافلين بين أن من غفلتهم أن الرسول متى أنذرهم استعجلوا العذاب جهلاً منهم وسفهاً
المسألة الثانية أنه تعالى أخبر في آيات كثيرة أن هؤلاء المشركين متى خوفوا بنزول العذاب في الدنيا استعجلوا ذلك العذاب كما قالوا اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَة ً مّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( الأنفال 32 ) وقال تعالى سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ( المعارج 1 ) الآية ثم إنهم لما توعدوا بعذاب الآخرة في هذه الآية وهو قوله أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ( يونس 8 ) استعجلوا ذلك العذاب وقالوا متى يحصل ذلك كما قال تعالى يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا ( الشورى 18 ) وقال في هذه

السورة بعد هذه الآية وَيَقُولُونَ مَتَى هَاذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( الأنبياء 38 ) إلى قوله وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ثُمَّ ( يونس 51 ) وقال في سورة الرعد وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيّئَة ِ قَبْلَ الْحَسَنَة ِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ ( الرعد 6 ) فبين تعالى أنهم لا مصلحة لهم في تعجيل إيصال الشر إليهم لأنه تعالى لو أوصل ذلك العقاب إليهم لماتوا وهلكوا لأن تركيبهم في الدنيا لا يحتمل ذلك ولا صلاح في إماتتهم فربما آمنوا بعد ذلك وربما خرج من صلبهم من كان مؤمناً وذلك يقتضي أن لا يعاجلهم بإيصال ذلك الشر
المسألة الثالثة في لفظ الآية إشكال وهو أن يقال كيف قابل التعجل بالاستعجال وكان الواجب أن يقابل التعجيل بالتعجيل والاستعجال بالاستعجال
والجواب عنه من وجوه الأول قال صاحب ( الكشاف ) أصل هذا الكلام ولو يعجل الله للناس الشر تعجيله لهم الخير إلا أنه وضع استعجالهم بالخير موضع تعجيله لهم الخير إشعاراً بسرعة إجابته وإسعافه بطلبهم حتى كأن استعجالهم بالخير تعجيل لهم الثاني قال بعضهم حقيقة قولك عجلت فلاناً طلبت عجلته وكذلك عجلت الأمر إذا أتيت به عاجلاً كأنك طلبت فيه العجلة والاستعجال أشهر وأظهر في هذا المعنى وعلى هذا الوجه يصير معنى الآية لو أراد الله عجلة الشر للناس كما أرادوا عجلة الخير لهم لقضى إليهم أجلهم قال صاحب هذا الوجه وعلى هذا التقدير فلا حاجة إلى العدول عن ظاهر الآية الثالث أن كل من عجل شيئاً فقد طلب تعجيله وإذا كان كذلك فكل من كان معجلاً كان مستعجلاً فيصير التقدير ولو استعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير إلا أنه تعالى وصف نفسه بتكوين العجلة ووصفهم بطلبها لأن اللائق به تعالى هو التكوين واللائق بهم هو الطلب
المسألة الرابعة أنه تعالى سمى العذاب شراً في هذه الآية لأن أذى في حق المعاقب ومكروه عنده كما أنه سماه سيئة في قوله وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيّئَة ِ قَبْلَ الْحَسَنَة ِ ( الرعد 6 ) وفي قوله وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا ( الشورى 40 )
المسألة الخامسة قرأ ابن عامر لَقُضِى َ بفتح اللام والقاف أَجَلُهُمْ بالنصب يعني لقضى الله وينصره قراءة عبدالله لَقُضِى َ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ وقرأ الباقون بضم القاف وكسر الضاد وفتح الياء أَجَلُهُمْ بالرفع على ما لم يسم فاعله
المسألة السادسة المراد من استعجال هؤلاء المشركين الخير هو أنهم كانوا عند نزول الشدائد يدعون الله تعالى بكشفها وقد حكى الله تعالى عنهم ذلك في آيات كثيرة كقوله ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ ( النمل 53 ) وقوله وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا ( يونس 12 )
المسألة السابعة لسائل أن يسأل فيقول كيف اتصل قوله فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ( يونس 11 ) بما قبله وما معناه
وجوابه أن قوله وَلَوْ يُعَجّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ متضمن معنى نفي التعجيل كأنه قيل ولا يعجل لهم الشر ولا يقضي إليهم أجلهم فيذرهم في طغيانهم أي فيمهلهم مع طغيانهم إلزاماً للحجة
المسألة الثامنة قال أصحابنا إنه تعالى لما حكم عليهم بالطغيان والعمه امتنع أن لا يكونوا كذلك

وإلا لزم أن ينقلب خبر الله الصدق كذباً وعلمه جهله وحكمه باطلاً وكل ذلك محال ثم إنه مع هذا كلفهم وذلك يكون جارياً مجرى التكليف بالجمع بين الضدين
وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذالِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى في كيفية النظم وجهان الأول أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أنه لو أنزل العذاب على العبد في الدنيا لهلك ولقضى عليه فبين في هذه الآية ما يدل على غاية ضعفه ونهاية عجزه ليكون ذلك مؤكداً لما ذكره من أنه لو أنزل عليه العذاب لمات الثاني أنه تعالى حكى عنهم أنهم يستعجلون في نزول العذاب ثم بين في هذه الآية أنهم كاذبون في ذلك الطلب والاستعجال لأنه لو نزل بالإنسان أدنى شيء يكرهه ويؤذيه فإنه يتضرع إلى الله تعالى في إزالته عنه وفي دفعه عنه وذلك يدل على أنه ليس صادقاً في هذا الطلب
المسألة الثانية المقصود من هذه الآية بيان أن الإنسان قليل الصبر عند نزول البلاء قليل الشكر عند وجدان النعماء والآلاء فإذا مسه الضر أقبل على التضرع والدعاء مضطجعاً أو قائماً أو قاعداً مجتهداً في ذلك الدعاء طالباً من الله تعالى إزالة تلك المحنة وتبديلها بالنعمة والمنحة فإذا كشف تعالى عنه ذلك بالعافية أعرض عن الشكر ولم يتذكر ذلك الضر ولم يعرف قدر الإنعام وصار بمنزلة من لم يدع الله تعالى لكشف ضره وذلك يدل على ضعف طبيعة الإنسان وشدة استيلاء الغفلة والشهوة عليه وإنما ذكر الله تعالى ذلك تنبيهاً على أن هذه الطريقة مذمومة بل الواجب على الإنسان العاقل أن يكون صابراً عند نزول البلاء شاكراً عند الفوز بالنعماء ومن شأنه أن يكون كثير الدعاء والتضرع في أوقات الراحة والرفاهية حتى يكون مجاب الدعوة في وقت المحنة عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( من سره أن يستجاب له عند الكرب والشدائد فليكثر الدعاء عند الرخاء )
واعلم أن المؤمن إذا ابتلي ببلية ومحنة وجب عليه رعاية أمور فأولها أن يكون راضياً بقضاء الله تعالى غير معترض بالقلب واللسان عليه وإنما وجب عليه ذلك لأنه تعالى مالك على الإطلاق وملك بالاستحقاق فله أن يفعل في ملكه وملكه ما شاء كما يشاء ولأنه تعالى حكيم على الإطلاق وهو منزه عن فعل الباطل والعبث فكل ما فعله فهو حكمة وصواب وإذا كان كذلك فحينئذ يعلم أنه تعالى إن أبقى عليه تلك المحنة فهو عدل وإن أزالها عنه فهو فضل وحينئذ يجب عليه الصبر والسكوت وترك القلق والاضطراب وثانيها أنه في ذلك الوقت إن اشتغل بذكر الله تعالى والثناء عليه بدلاً عن الدعاء كان أفضل لقوله عليه السلام حكاية عن رب العزة ( من شغله ذكرى عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين ) ولأن الاشتغال

بالذكر اشتغال بالحق والاشتغال بالدعاء اشتغال بطلب حظ النفس ولا شك أن الأول أفضل ثم إن اشتغل بالدعاء وجب أن يشترط فيه أن يكون إزالته صلاحاً في الدين وبالجملة فإنه يجب أن يكون الدين راجحاً عنده على الدنيا وثالثها أنه سبحانه إذا أزال عنه تلك البلية فإنه يجب عليه أن يبالغ في الشكر وأن لا يخلو عن ذلك الشكر في السراء والضراء وأحوال الشدة والرخاء فهذا هو الطريق الصحيح عند نزول البلاء وههنا مقام آخر أعلى وأفضل مما ذكرناه وهو أن أهل التحقيق قالوا إن من كان في وقت وجدان النعمة مشغولاً بالنعمة لا بالمنعم كان عند البلية مشغولاً بالبلاء لا بالمبلى ومثل هذا الشخص يكون أبداً في البلاء أما في وقت البلاء فلا شك أنه يكون في البلاء وأما في وقت حصول النعماء فإن خوفه من زوالها يكون أشد أنواع البلاء فإن النعمة كلما كانت أكمل وألذ وأقوى وأفضل كان خوف زوالها أشد إيذاء وأقوى إيحاشاً فثبت أن من كان مشغولاً بالنعمة كان أبداً في لجة البلية أما من كان في وقت النعمة مشغولاً بالمنعم لزم أن يكون في وقت البلاء مشغولاً بالمبلي وإذا كان المنعم والمبلي واحداً كان نظره أبداً على مطلوب واحد وكان مطلوبه منزهاً عن التغير مقدساً عن التبدل ومن كان كذلك كان في وقت البلاء وفي وقت النعماء غرقاً في بحر السعادات واصلاً إلى أقصى الكمالات وهذا النوع من البيان بحر لا ساحل له ومن أراد أن يصل إليه فليكن من الواصلين إلى العين دون السامعين للأثر
المسألة الثالثة اختلفوا في الإِنسَانَ في قوله وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ فقال بعضهم إنه الكافر ومنهم من بالغ وقال كل موضع في القرآن ورد فيه ذكر الإنسان فالمراد هو الكافر وهذا باطل لأن قوله فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَة ٌ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَة ٌ فَأَمَّا مَنْ أُوتِى َ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ( الانشقاق 6 7 ) لا شبهة في أن المؤمن داخل فيه وكذلك قوله هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مّنَ الدَّهْرِ ( الدهر 1 ) وقوله وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلَالَة ٍ مّن طِينٍ ( المؤمنون 12 ) وقوله وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ( ق 16 ) فالذي قالوه بعيد بل الحق أن نقول اللفظ المفرد المحلى بالألف واللام حكمه أنه إذا حصل هناك معهود سابق انصرف إليه وإن لم يحصل هناك معهود سابق وجب حمله على الاستغراق صوناً له عن الإجمال والتعطيل ولفظ الإِنسَانَ ههنا لائق بالكافر لأن العمل المذكور لا يليق بالمسلم البتة
المسألة الرابعة في قوله دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا وجهان
الوجه الأول أن المراد منه ذكر أحوال الدعاء فقوله لِجَنبِهِ في موضع الحال بدليل عطف الحالين عليه والتقدير دعانا مضطجعاً أو قاعداً أو قائماً
فإن قالوا فما فائدة ذكر هذه الأحوال
قلنا معناه إن المضرور لا يزال داعياً لا يفتر عن الدعاء إلى أن يزول عنه الضر سواء كان مضطجعاً أو قاعداً أو قائماً
والوجه الثاني أن تكون هذه الأحوال الثلاثة تعديداً لأحوال الضر والتقدير وإذا مس الإنسان الضر لجنبه أو قاعداً أو قائماً دعانا وهو قول الزجاج والأول أصح لأن ذكر الدعاء أقرب إلى هذه الأحوال من ذكر الضر ولأن القول بأن هذه الأحوال أحوال للدعاء يقتضي مبالغة الإنسان في الدعاء ثم إذا ترك الدعاء بالكلية وأعرض عنه كان ذلك أعجب

المسألة الخامسة في قوله مَرَّ وجوه الأول المراد منه أنه مضى على طريقته الأولى قبل مس الضر ونسي حال الجهد الثاني مر عن موقف الابتهال والتضرع لا يرجع إليه كأنه لا عهد له به
المسألة السادسة قوله تعالى كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرّ مَّسَّهُ تقديره كأنه لم يدعنا ثم أسقط الضمير عنه على سبيل التخفيف ونظيره قوله تعالى كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ ( يونس 45 ) قال الحسن نسي ما دعا الله فيه وما صنع الله به في إزالة ذلك البلاء عنه
المسألة السابعة قال صاحب ( النظم ) قوله وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ إِذَا موضوعة للمستقبل
ثم قال فَلَمَّا كَشَفْنَا وهذا للماضي فهذا النظم يدل على أن معنى الآية أنه هكذا كان فيما مضى وهكذا يكون في المستقبل فدل ما في الآية من الفعل المستقبل على ما فيه من المعنى المستقبل وما فيه من الفعل الماضي على ما فيه من المعنى الماضي وأقول البرهان العقلي مساعد على هذا المعنى وذلك لأن الإنسان جبل على الضعف والعجز وقلة الصبر وجبل أيضاً على الغرور والبطر والنسيان والتمرد والعتو فإذا نزل به البلاء حمله ضعفه وعجزه على كثرة الدعاء والتضرع وإظهار الخضوع والانقياد وإذا زال البلاء ووقع في الراحة استولى عليه النسيان فنسي إحسان الله تعالى إليه ووقع في البغي والطغيان والجحود والكفران فهذه الأحوال من نتائج طبيعته ولوازم خلقته وبالجملة فهؤلاء المساكين معذورون ولا عذر لهم
المسألة الثامنة في قوله تعالى كَذالِكَ زُيّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ أبحاث
البحث الأول أن هذا المزين هو الله تعالى أو النفس أو الشيطان فرع على مسألة الجبر والقدر وهو معلوم
البحث الثاني في بيان السبب الذي لأجله سمى الله سبحنه الكافر مسرفاً وفيه وجوه
الوجه الأول قال أبو بكر الأصم الكافر مسرف في نفسه وفي ماله ومضيع لهما أما في النفس فلأنه جعلها عبداً للوثن وأما في المال فلأنهم كانوا يضيعون أموالهم في البحيرة والسائبة والوصيلة والحام
الوجه الثاني قال القاضي إن من كانت عادته أن يكون عند نزول البلاء كثير التضرع والدعاء وعند زوال البلاء ونزول الآلاء معرضاً عن ذكر الله متغافلاً عنه غير مشتغل بشكره كان مسرفاً في أمر دينه متجاوزاً للحد في الغفلة عنه ولا شبهة في أن المرء كما يكون مسرفاً في الإنفاق فكذلك يكون مسرفاً فيما يتركه من واجب أو يقدم عليه من قبيح إذا تجاوز الحد فيه
الوجه الثالث وهو الذي خطر بالبال في هذا الوقت أن المسرف هو الذي ينفق المال الكثير لأجل الغرض الخسيس ومعلوم أن لذات الدنيا وطيباتها خسيسة جداً في مقابلة سعادات الدار الآخرة والله تعالى أعطاه الحواس والعقل والفهم والقدرة لاكتساب تلك السعادات العظيمة فمن بذل هذه الآلات الشريفة لأجل أن يفوز بهذه السعادات الجسمانية الخسيسة كان قد أنفق أشياء عظيمة كثيرة لأجل أن يفوز بأشياء حقيرة خسيسة فوجب أن يكون من المسرفين
البحث الثالث الكاف في قوله تعالى كَذالِكَ للتشبيه والمعنى كما زين لهذا الكافر هذا العمل القبيح المنكرزين للمسرفين ما كانوا يعملون من الإعراض عن الذكر ومتابعة الشهوات

وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذالِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِى الأرض مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى في بيان كيفية النظم اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم كانوا يقولون اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَة ً مّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( الأنفال 32 ) ثم إنه أجاب عنه بأن ذكر أنه لا صلاح في إجابة دعائهم ثم بين أنهم كاذبون في هذا الطلب لأنه لو نزلت بهم آفة أخذوا في التضرع إلى الله تعالى في إزالتها والكشف لها بين في هذه الآية ما يجري مجرى التهديد وهو أنه تعالى قد ينزل بهم عذاب الاستئصال ولا يزيله عنهم والغرض منه أن يكون ذلك رادعاً لهم عن قولهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء لأنهم متى سمعوا أن الله تعالى قد يجيب دعاءهم وينزل عليهم عذاب الاستئصال ثم سمعوا من اليهود والنصارى أن ذلك قد وقع مراراً كثيرة صار ذلك رادعاً لهم وزاجراً عن ذكر ذلك الكلام فهذا وجه حسن مقبول في كيفية النظم
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) لَّمّاً ظرف لأهلكنا والواو في قوله وَجَاءتْهُمْ للحال أي ظلموا بالتكذيب وقد جاءتهم رسلهم بالدلائل والشواهد على صدقهم وهي المعجزات وقوله وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ يجوز أن يكون عطفاً على ظلموا وأن يكون اعتراضاً واللام لتأكيد النفي وأن الله قد علم منهم أنهم يصرون على الكفر وهذا يدل على أنه تعالى إنما أهلكهم لأجل تكذيبهم الرسل فكذلك يجزى كل مجرم وهو وعيد لأهل مكة على تكذيبهم رسول الله وقرىء يَجْزِى بالياء وقوله ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ الخطاب للذين بعث إليهم محمد عليه الصلاة والسلام أي استخلفناكم في الأرض بعد القرون التي أهلكناهم لننظر كيف تعملون خيراً أو شراً فنعاملكم على حسب عملكم بقي في الآية سؤالان
السؤال الأول كيف جاز النظر إلى الله تعالى وفيه معنى المقابلة
والجواب أنه استعير لفظ النظر للعلم الحقيقي الذي لا يتطرق الشك إليه وشبه هذا العلم بنظر الناظر وعيان المعاين
السؤال الثاني قوله ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِى الاْرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ مشعر بأن الله تعالى ما كان عالماً بأحوالهم قبل وجودهم
والجواب المراد منه أنه تعالى يعامل العباد معاملة من يطلب العلم بما يكون منهم ليجازيهم بحسبه كقوله لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ( هود 7 ) وقد مر نظائر هذا وقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الدنيا خضرة حلوة

وأن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون ) وقال قتادة صدق الله ربنا ما جعلنا خلفاء إلا لينظر إلى أعمالنا فأروا الله من أعمالكم خيراً بالليل والنهار
المسألة الثالثة قال الزجاج موضع كَيْفَ نصب بقوله تَعْمَلُونَ لأنها حرف لاستفهام والاستفهام لا يعمل فيه ما قبله ولو قلت لننظر خيراً تعملون أم شراً كان العالم في خير وشر تعملون
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا ائْتِ بِقُرْءَانٍ غَيْرِ هَاذَآ أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِى أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نَفْسِى إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَى َّ إِنِّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ
فيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن هذا الكلام هو النوع الثالث من شبهاتهم وكلماتهم التي ذكروها في الطعن في نبوة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حكاها الله تعالى في كتابه وأجاب عنها
واعلم أن من وقف على هذا الترتيب الذي نذكره علم أن القرآن مرتب على أحسن الوجوه
المسألة الثانية روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن خمسة من الكفار كانوا يستهزئون بالرسول عليه الصلاة والسلام وبالقرآن الوليد بن المغيرة المخزومي والعاص بن وائل السهمي والأسود بن المطلب والأسود بن عبد يغوث والحرث بن حنظلة فقتل الله كل رجل منهم بطريق آخر كما قال إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِءينَ ( الحجر 95 ) فذكر الله تعالى أنهم كلما تلي عليهم آيات قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْءانٍ غَيْرِ هَاذَا أَوْ بَدّلْهُ وفيه بحثان
البحث الأول أن وصفهم بأنهم لا يرجون لقاء الله أريد به كونهم مكذبين بالحشر والنشر منكرين للبعث والقيامة ثم في تقرير حسن هذه الاستعارة وجوه الأول قال الأصم لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا أي لا يرجون في لقائنا خيراً على طاعة فهم من السيئات أبعد أن يخافوها الثاني قال القاضي الرجاء لا يستعمل إلا في المنافع لكنه قد يدل على المضار من بعض الوجوه لأن من لا يرجو لقاء ما وعد ربه من الثواب وهو القصد بالتكليف لا يخاف أيضاً ما يوعده به من العقاب فصار ذلك كناية عن جحدهم للبعث والنشور
واعلم أن كلام القاضي قريب من كلام الأصم إلا أن البيان التام أن يقال كل من كان مؤمناً بالبعث والنشور فإنه لا بد وأن يكون راجياً ثواب الله وخائفاً من عقابه وعدم اللازم يدل على عدم الملزوم فلزم من نفي الرجاء نفي الإيمان بالبعث فهذا هو الوجه في حسن هذه الاستعارة
البحث الثاني أنهم طلبوا من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أحد أمرين على البدل فالأول أن يأتيهم بقرآن غير هذا

القرآن والثاني أن يبدل هذا القرآن وفيه إشكال لأنه إذا بدل هذا القرآن بغيره فقد أتى بقرآن غير هذا القرآن وإذا كان كذلك كان كل واحد منهما شيئاً واحداً وأيضاً مما يدل على أن كل واحد منهما هو عين الآخر أنه عليه الصلاة والسلام اقتصر في الجواب على نفي أحدهما وهو قوله مَا يَكُونُ لِى أَنْ أُبَدّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِى وإذا ثبت أن كل واحد من هذين الأمرين هو نفس الآخر كان إلقاء اللفظ على الترديد والتخيير فيه باطلاً
والجواب أن أحد الأمرين غير الآخر فالإتيان بكتاب آخر لا على ترتيب هذا القرآن ولا على نظمه يكون إتياناً بقرآن آخر وأما إذا أتى بهذا القرآن إلا أنه وضع مكان ذم بعض الأشياء مدحها ومكان آية رحمة آية عذاب كان هذا تبديلاً أو نقول الإتيان بقرآن غير هذا هو أن يأتيهم بكتاب آخر سوى هذا الكتاب مع كون هذا الكتاب باقياً بحاله والتبديل هو أن يغير هذا الكتاب وأما قوله إنه اكتفى في الجواب على نفي أحد القسمين
قلنا الجواب المذكور عن أحد القسمين هو عين الجواب عن القسم الثاني وإذا كان كذلك وقع الاكتفاء بذكر أحدهما عن ذكر الثاني وإنما قلنا الجواب عن أحد القسمين عين الجواب عن الثاني لوجهين الأول أنه عليه الصلاة والسلام لما بين أنه لا يجوز أن يبدله من تلقاء نفسه لأنه وارد من الله تعالى ولا يقدر على مثله كما لا يقدر سائر العرب على مثله فكان ذلك متقرراً في نفوسهم بسبب ما تقدم من تحديه لهم بمثل هذا القرآن فقد دلهم بذلك على أنه لا يتمكن من قرآن غير هذا والثاني أن التبديل أقرب إلى الإمكان من المجيء بقرآن غير هذا القرآن فجوابه عن الأسهل يكون جواباً عن الأصعب ومن الناس من قال لا فرق بين الإتيان بقرآن غير هذا القرآن وبين تبديل هذا القرآن وجعل قوله مَا يَكُونُ لِى أَنْ أُبَدّلَهُ جواباً عن الأمرين إلا أنه ضعيف على ما بيناه
المسألة الثالثة اعلم أن إقدام الكفار على هذا الالتماس يحتمل وجهين أحدهما أنهم ذكروا ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء مثل أن يقولوا إنك لو جئتنا بقرآن آخر غير هذا القرآن أو بدلته لآمنا بك وغرضهم من هذا الكلام السخرية والتطير والثاني أن يكونوا قالوه على سبيل الجد وذلك أيضاً يحتمل وجوهاً أحدها أن يكونوا قالوا ذلك على سبيل التجربة والامتحان حتى أنه إن فعل ذلك علموا أنه كان كذاباً في قوله إن هذا القرآن نزل عليه من عند الله وثانيها أن يكون المقصود من هذا الالتماس أن هذا القرآن مشتمل على ذم آلهتهم والطعن في طرائقهم وهم كانوا يتأذون منها فالتمسوا كتاباً آخر ليس فيه ذلك وثالثها أن بتقدير أن يكونوا قد جوزوا كون هذا القرآن من عند الله التمسوا منه أن يلتمس من الله نسخ هذا القرآن وتبديله بقرآن آخر وهذا الوجه أبعد الوجوه
واعلم أن القوم لما ذكروا ذلك أمره الله تعالى أن يقول إن هذا التبديل غير جائز مني إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَى َّ ثم بين تعالى أنه بمنزلة غيره في أنه متوعد بالعذاب العظيم إن عصى ويتفرع على هذه الآية فروع
الفرع الأول أن قوله إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَى َّ معناه لا أتبع إلا ما يوحى إلي فهذا يدل على أنه عليه الصلاة والسلام ما حكم إلا بالوحي وهذا يدل على أنه لم يحكم قط بالاجتهاد

الفرع الثاني تمسك نفاة القياس بهذه الآية فقالوا دل هذا النص على أنه عليه الصلاة والسلام ما حكم إلا بالنص فوجب أن يجب على جميع الأمة أن لا يحكموا إلا بمقتضى النص لقوله تعالى وَاتَّبِعُوهُ
الفرع الثالث نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال إن ذلك منسوخ بقوله لّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ( الفتح 2 ) وهذا بعيد لأن النسخ إنما يدخل في الأحكام والتعبدات لا في ترتيب العقاب على المعصية
الفرع الرابع قالت المعتزلة إن قوله إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ مشروط بما يكون واقعاً بلا توبة ولا طاعة أعظم منها ونحن نقول فيه تخصيص ثالث وهو أن لا يعفو عنه ابتداء لأن عندنا يجوز من الله تعالى أن يعفو عن أصحاب الكبائر
قُل لَّوْ شَآءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنا بينا فيما سلف أن القوم إنما التمسوا منه ذلك الالتماس لأجل أنهم اتهموه بأنه هو الذي يأتي بهذا الكتاب من عند نفسه على سبيل الاختلاق والافتعال لا على سبيل كونه وحياً من عند الله فلهذا المعنى احتج النبي عليه الصلاة والسلام على فساد هذا الوهم بما ذكره الله تعالى في هذه الآية وتقريره أن أولئك الكفار كانوا قد شاهدوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من أول عمره إلى ذلك الوقت وكانوا عالمين بأحواله وأنه ما طالع كتاباً ولا تلمذ لأستاذ ولا تعلم من أحد ثم بعد انقراض أربعين سنة على هذا الوجه جاءهم بهذا الكتاب العظيم المشتمل على نفائس علم الأصول ودقائق علم الأحكام ولطائف علم الأخلاق وأسرار قصص الأولين وعجز عن معارضته العلماء والفصحاء والبلغاء وكل من له عقل سليم فإنه يعرف أن مثل هذا لا يحصل إلا بالوحي والإلهام من الله تعالى فقوله لَّوْ شَاء اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ حكم منه عليه الصلاة والسلام بأن هذا القرآن وحي من عند الله تعالى لا من اختلاقي ولا من افتعالي وقوله فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مّن قَبْلِهِ إشارة إلى الدليل الذي قررناه وقوله أَفَلاَ تَعْقِلُونَ يعني أن مثل هذا الكتاب العظيم إذا جاء على يد من لم يتعلم ولم يتلمذ ولم يطالع كتاباً ولم يمارس مجادلة يعلم بالضرورة أنه لا يكون إلا على سبيل الوحي والتنزيل وإنكار العلوم الضرورية يقدح في صحة العقل فلهذا السبب قال أَفَلاَ تَعْقِلُونَ
المسألة الثانية قوله وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ هو من الدراية بمعنى العلم قال سيبويه يقال دريته ودريت به والأكثر هو الاستعمال بالباء والدليل عليه قوله تعالى وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ ولو كان على اللغة الأخرى لقال ولا أدراكموه

إذا عرفت هذا فنقول معنى وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ أي ولا أعلمكم الله به ولا أخبركم به قال صاحب ( الكشاف ) قرأ الحسن وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ على لغة من يقول أعطأته وأرضأته في معنى أعطيته وأرضيته ويعضده قراءة ابن عباس وَلاَ أَنذَرْتُكُمْ بِهِ ورواه الفراء وَلاَ به بالهمز والوجه فيه أن يكون من أدرأته إذا دفعته وأدرأته إذا جعلته دارياً والمعنى ولا أجعلكم بتلاوته خصماء تدرؤنني بالجدال وتكذبونني وعن ابن كثير ولأدرأكم بلام الابتداء لإثبات الإدراء
وأما قوله تعالى بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مّن قَبْلِهِ فالقراءة المشهورة بضم الميم وقرىء عُمُراً بسكون الميم
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ
واعلم أن تعلق هذه الآية بما قبلها ظاهر وذلك لأنهم التمسوا منه قرآناً يذكره من عند نفسه ونسبوه إلى أنه إنما يأتي بهذا القرآن من عند نفسه ثم إنه أقام البرهان القاهر الظاهر على أن ذلك باطل وأن هذا القرآن ليس إلا بوحي الله تعالى وتنزيله فعند هذا قال فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا والمراد أن هذا القرآن لو لم يكن من عند الله لما كان في الدنيا أحد أظلم على نفسه مني حيث افتريته على الله ولما أقمت الدلالة على أنه ليس الأمر كذلك بل هو بوحي من الله تعالى وجب أن يقال إنه ليس في الدنيا أحد أجهل ولا أظلم على نفسه منكم لأنه لما ظهر بالبرهان المذكور كونه من عند الله فإذا أنكرتموه كنتم قد كذبتم بآيات الله فوجب أن تكونوا أظلم الناس والحاصل أن قوله وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً المقصود منه نفي الكذب عن نفسه وقوله وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ المقصود منه إلحاق الوعيد الشديد بهم حيث أنكروا دلائل الله وكذبوا بآيات الله تعالى
وأما قوله إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ فهو تأكيد لما سبق من هذين الكلامين والله أعلم
وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَاؤُلا ءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِى السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِى الأرض سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ
اعلم أنا ذكرنا أن القوم إنما التمسوا من الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قرآناً غير هذا القرآن أو تبديل هذا القرآن لأن هذا القرآن مشتمل على شتم الأصنام التي جعلوها آلهة لأنفسهم فلهذا السبب ذكر الله تعالى في هذا الموضع ما يدل على قبح عبادة الأصنام ليبين أن تحقيرها والاستخفاف بها أمر حق وطريق متيقن
واعلم أنه تعالى حكى عنهم أمرين أحدهما أنهم كانوا يعبدون الأصنام والثاني أنهم كانوا

يقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله أما الأول فقد نبه الله تعالى على فساده بقوله مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وتقريره من وجوه الأول قال الزجاج لا يضرهم إن لم يعبدوه ولا ينفعهم إن عبدوه الثاني أن المعبود لا بد وأن يكون أكمل قدرة من العابد وهذه الأصنام لا تنفع ولا تضر ألبتة وأما هؤلاء الكفار فهم قادرون على التصرف في هذه الأصنام تارة بالإصلاح وأخرى بالإفساد وإذا كان العابد أكمل حالاً من المعبود كانت العبادة باطلة الثالث أن العبادة أعظم أنواع التعظيم فهي لا تليق إلا بمن صدر عنه أعظم أنواع الأنعام وذلك ليس إلا الحياة والعقل والقدرة ومصالح المعاش والمعاد فإذا كانت المنافع والمضار كلها من الله سبحانه وتعالى وجب أن لا تليق العبادة إلا بالله سبحانه
وأما النوع الثاني ما حكاه الله تعالى عنهم في هذه الآية وهو قولهم هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ فاعلم أن من الناس من قال إن أولئك الكفار توهموا أن عبادة الأصنام أشد في تعظيم الله من عبادة الله سبحانه وتعالى فقالوا ليست لنا أهلية أن نشتغل بعبادة الله تعالى بل نحن نشتغل بعبادة هذه الأصنام وأنها تكون شفعاء لنا عند الله تعالى ثم اختلفوا في أنهم كيف قالوا في الأصنام إنها شفعاؤنا عند الله وذكروا فيه أقوالاً كثيرة فأحدها أنهم اعتقدوا أن المتولي لكل أقليم من أقاليم العالم روح معين من أرواح عالم الأفلاك فعينوا لذلك الروح صنماً معيناً واشتغلوا بعبادة ذلك الصنم ومقصودهم عبادة ذلك الروح ثم اعتقدوا أن ذلك الروح يكون عبداً للإله الأعظم ومشتغلاً بعبوديته وثانيها أنهم كانوا يعبدون الكواكب وزعموا أن الكواكب هي التي لها أهلية عبودية الله تعالى ثم لما رأوا أن الكواكب تطلع وتغرب وضعوا لها أصناماً معينة واشتغلوا بعبادتها ومقصودهم توجيه العبادة إلى الكواكب وثالثها أنهم وضعوا طلسمات معينة على تلك الأصنام والأوثان ثم تقربوا إليها كما يفعله أصحاب الطلسمات ورابعها أنهم وضعوا هذه الأصنام والأوثان على صور أنبيائهم وأكابرهم وزعموا أنهم متى اشتغلوا بعبادة هذه التماثيل فإن أولئك الأكابر تكون شفعاء لهم عند الله تعالى ونظيره في هذا الزمان اشتغال كثير من الخلق بتعظيم قبور الأكابر على اعتقاد أنهم إذا عظموا قبورهم فإنهم يكونون شفعاء لهم عند الله وخامسها أنهم اعتقدوا أن الإله نور عظيم وأن الملائكة أنوار فوضعوا على صورة الإله الأكبر الصنم الأكبر وعلى صورة الملائكة صوراً أخرى وسادسها لعل القوم حلولية وجوزوا حلول الإله في بعض الأجسام العالية الشريفة
واعلم أن كل هذه الوجوه باطلة بالدليل الذي ذكره الله تعالى وهو قوله وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وتقريره ما ذكرناه من الوجوه الثلاثة
قوله تعالى قُلْ أَتُنَبّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِى السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِى الاْرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ
اعلم أن المفسرين قرروا وجهاً واحداً وهو أن المراد من نفي علم الله تعالى بذلك تقرير نفيه في نفسه وبيان أن لا وجود له ألبتة وذلك لأنه لو كان موجوداً لكان معلوماً لله تعالى وحيث لم يكن معلوماً لله تعالى وجب أن لا يكون موجوداً ومثل هذا الكلام مشهور في العرف فإن الإنسان إذا أراد نفي شيء عن نفسه يقول ما علم الله هذا مني ومقصوده أنه ما حصل ذلك قط وقرىء أَتُنَبّئُونَ بالتخفيف أما قوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ فالمقصود تنزيه الله تعالى نفسه عن ذلك الشرك قرأ حمزة والكسائي تُشْرِكُونَ بالتاء ومثله في أول النحل في موضعين وفي الروم كلها بالتاء على الخطاب قال صاحب

( الكشاف ) ( ما ) موصولة أو مصدرية أي عن الشركاء الذين يشركونهم به أو عن إشراكهم قال الواحدي من قرأ بالتاء فلقوله أَتُنَبّئُونَ اللَّهَ ومن قرأ بالياء فكأنه قيل للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) قل أنت سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ويجوز أن يكون الله سبحانه هو الذي نزه نفسه عما قالوه فقال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ
وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّة ً وَاحِدَة ً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَة ٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ
اعلم أنه تعالى لما أقام الدلالة القاهرة على فساد القول بعبادة الأصنام بين السبب في كيفية حدوث هذا المذهب الفاسد والمقالة الباطلة فقال وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّة ً وَاحِدَة ً واعلم أن ظاهر قوله وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّة ً وَاحِدَة ً لا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّة ً وَاحِدَة ً فيماذا وفيه ثلاثة أقوال
القول الأول أنهم كانوا جميعاً على الدين الحق وهو دين الإسلام واحتجوا عليه بأمور الأول أن المقصود من هذه الآيات بيان كون الكفر باطلاً وتزييف طريق عبادة الأصنام وتقرير أن الإسلام هو الدين الفاضل فوجب أن يكون المراد من قوله كَانَ النَّاسُ أُمَّة ً واحِدَة ً هو أنهم كانوا أمة واحدة إما في الإسلام وإما في الكفر ولا يجوز أن يقال إنهم كانوا أمة واحدة في الكفر فبقي أنهم كانوا أمة واحدة في الإسلام إنما قلنا إنه لا يجوز أن يقال إنهم كانوا أمة واحدة في الكفر لوجوه الأول قوله تعالى فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّة ٍ بِشَهِيدٍ ( النساء 41 ) وشهيد الله لا بد وأن يكون مؤمناً عدلاً فثبت أنه ما خلت أمة من الأمم إلا وفيهم مؤمن الثاني أن الأحاديث وردت بأن الأرض لا تخلو عمن يعبد الله تعالى وعن أقوام بهم يمطر أهل الأرض وبهم يرزقون الثالث أنه لما كانت الحكمة الأصلية في الخلق هو العبودية فيبعد خلو أهل الأرض بالكلية عن هذا المقصود روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( إن الله تعالى نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقية من أهل الكتاب ) وهذا يدل على قوم تمسكوا بالإيمان قبل مجيء الرسول عليه الصلاة والسلام فكيف يقال إنهم كانوا أمة واحدة في الكفر وإذا ثبت أن الناس كانوا أمة واحدة إما في الكفر وإما في الإيمان وأنهم ما كانوا أمة واحدة في الكفر ثبت أنهم كانوا أمة واحدة في الإيمان ثم اختلف القائلون بهذا القول أنهم متى كانوا كذلك فقال ابن عباس ومجاهد كانوا على دين الإسلام في عهد آدم وفي عهد ولده واختلفوا عند قتل أحد ابنيه الابن الثاني وقال قوم إنهم بقوا على دين الإسلام إلى زمن نوح وكانوا عشرة قرون ثم اختلفوا على عهد نوح فبعث الله تعالى إليهم نوحاً وقال آخرون كانوا على دين الإسلام في زمن نوح بعد الغرق إلى أن ظهر الكفر فيهم وقال آخرون كانوا على دين الإسلام من عهد إبراهيم عليه السلام إلى أن غيره عمرو بن لحي وهذا القائل قال المراد من الناس في قوله تعالى وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّة ً وَاحِدَة ً فاختلفوا العرب خاصة
إذا عرفت تفصيل هذا القول فنقول إنه تعالى لما بين فيما قبل فساد القول بعبادة الأصنام بالدليل

الذي قررناه بين في هذه الآية أن هذا المذهب ليس مذهباً للعرب من أول الأمر بل كانوا على دين الإسلام ونفي عبادة الأصنام ثم حذف هذا المذهب الفاسد فيهم والغرض منه أن العرب إذا علموا أن هذا المذهب ما كان أصلياً فيهم وأنه إنما حدث بعد أن لم يكن لم يتعصبوا لنصرته ولم يتأذوا من تزييف هذا المذهب ولم تنفر طباعهم من إبطاله ومما يقوي هذا القول وجهان الأول أنه تعالى قال وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ ( يونس 18 ) ثم بالغ في إبطاله بالدليل ثم قال عقيبه وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّة ً وَاحِدَة ً فلو كان المراد منه بيان أن هذا الكفر كان حاصلاً فيهم من الزمان القديم لم يصح جعل هذا الكلام دليلاً على إبطال تلك المقالة أما لو حملناه على أن الناس في أول الأمر كانوا مسلمين وهذا الكفر إنما حدث فيهم من زمان أمكن التوسل به إلى تزييف اعتقاد الكفار في هذه المقالة وفي تقبيح صورتها عندهم فوجب حمل اللفظ عليه تحصيلاً لهذا الغرض الثاني أنه تعالى قال وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّة ً وَاحِدَة ً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَة ٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ لَّقُضِى َ بِيْنَهُمْ ولا شك أن هذا وعيد وصرف هذا الوعيد إلى أقرب الأشياء المذكورة أولى والأقرب هو ذكر الاختلاف فوجب صرف هذا الوعيد إلى هذا الاختلاف لا إلى ما سبق من كون الناس أمة واحدة وإذا كان كذلك وجب أن يقال كانوا أمة واحدة في الإسلام لا في الكفر لأنهم لو كانوا أمة واحدة في الكفر لكان اختلافهم بسبب الإيمان ولا يجوز أن يكون الاختلاف الحاصل بسبب الإيمان سبباً لحصول الوعيد أما لو كانوا أمة واحدة في الإيمان لكان اختلافهم بسبب الكفر وحينئذ يصح جعل ذلك الاختلاف سبباً للوعيد
القول الثاني قول من يقول المراد كانوا أمة واحدة في الكفر وهذا القول منقول عن طائفة من المفسرين قالوا وعلى هذا التقدير ففائدة هذا الكلام في هذا المقام هي أنه تعالى بين للرسول عليه الصلاة والسلام أنه لا تطمع في أن يصير كل من تدعوه إلى الدين مجيباً لك قابلاً لدينك فإن الناس كلهم كانوا على الكفر وإنما حدث الإسلام في بعضهم بعد ذلك فكيف تطمع في اتفاق الكل على الإيمان
القول الثالث قول من يقول المراد إنهم كانوا أمة واحدة في أنهم خلقوا على فطرة الإسلام ثم اختلفوا في الأديان وإليه الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام ( كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ) ومنهم من يقول المراد كانوا أمة واحدة في الشرائع العقلية وحاصلها يرجع إلى أمرين التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلق الله وإليه الإشارة بقوله تعالى قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً ( الأنعام 151 ) واعلم أن هذه المسألة قد استقصينا فيها في سورة البقرة فلنكتف بهذا القدر ههنا
أما قوله تعالى وَلَوْلاَ كَلِمَة ٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ فاعلم أنه ليس في الآية ما يدل على أن تلك الكلمة ما هي وذكروا فيه وجوهاً الأول أن يقال لولا أنه تعالى أخبر بأنه يبقى التكليف على عباده وإن كانوا به كافرين لقضى بينهم بتعجيل الحساب والعقاب لكفرهم لكن لما كان ذلك سبباً لزوال التكليف ويوجب الإلجاء وكان إبقاء التكليف أصوب وأصلح لا جرم أنه تعالى أخر هذا العقاب إلى الآخرة ثم قال هذا القائل وفي ذلك تصبير للمؤمنين على احتمال المكاره من قبل الكافرين والظالمين الثاني وَلَوْلاَ كَلِمَة ٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ في أنه لا يعاجل العصاة بالعقوبة إنعاماً عليهم لقضى

بينهم في اختلافهم بما يمتاز المحق من المبطل والمصيب من المخطىء الثالث أن تلك الكلمة هي قوله ( سبقت رحمتي غضبي ) فلما كانت رحمته غالبة اقتضت تلك الرحمة الغالبة إسبال الستر على الجاهل الضال وإمهاله إلى وقت الوجدان
وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءَايَة ٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ للَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّى مَعَكُمْ مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ
اعلم أن هذا الكلام هو النوع الرابع من شبهات القوم في إنكارهم نبوته وذلك أنهم قالوا أن القرآن الذي جئتنا به كتاب مشتمل على أنواع من الكلمات والكتاب لا يكون معجزاً ألا ترى أن كتاب موسى وعيسى ما كان معجزة لهما بل كان لهما أنواع من المعجزات دلت على نبوتهما سوى الكتاب وأيضاً فقد كان فيهم من يدعي إمكان المعارضة كما أخبر الله تعالى أنهم قالوا لَوْ شِئْنَا لَقُلْنَا مِثْلَ هَاذَا وإذا كان الأمر كذلك لا جرم طلبوا منه شيئاً آخر سوى القرآن ليكون معجزة له فحكى الله تعالى عنهم ذلك بقوله وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَة ٌ مّن رَّبّهِ فأمر الله رسوله عليه الصلاة والسلام أن يقول عند هذا السؤال إِنَّمَا الْغَيْبُ للَّهِ فَانْتَظِرُواْ إِنّى مَعَكُمْ مّنَ الْمُنتَظِرِينَ
واعلم أن الوجه في تقرير هذا الجواب أن يقال أقام الدلالة القاهرة على أن ظهور القرآن عليه معجزة قاهرة ظاهرة لأنه عليه الصلاة والسلام بين أنه نشأ فيما بينهم وتربى عندهم وهم علموا أنه لم يطالع كتاباً ولم يتلمذ لأستاذ بل كان مدة أربعين سنة معهم ومخالطاً لهم وما كان مشتغلاً بالفكر والتعلم قط ثم إنه دفعة واحدة ظهر هذا القرآن العظيم عليه وظهور مثل هذا الكتاب الشريف العالي على مثل ذلك الإنسان الذي لم يتفق له شيء من أسباب التعلم لا يكون إلا بالوحي فهذا برهان قاهر على أن القرآن معجز قاهر ظاهر وإذا ثبت هذا كان طلب آية أخرى سوى القرآن من الاقتراحات التي لا حاجة إليها في إثبات نبوته عليه الصلاة والسلام وتقرير رسالته ومثل هذا يكون مفوضاً إلى مشيئة الله تعالى فإن شاء أظهرها وإن شاء لم يظهرها فكان ذلك من باب الغيب فوجب على كل أحد أن ينتظر أنه هل يفعله الله أم لا ولكن سواء فعل أو لم يفعل فقد ثبتت النبوة وظهر صدقه في ادعاء الرسالة ولا يختلف هذا المقصود بحصول تلك الزيادة وبعدمها فظهر أن هذا الوجه جواب ظاهر في تقرير هذا المطلوب
وَإِذَآ أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَة ً مِّن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ فِى ءايَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ

في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن القوم لما طلبوا من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) آية أخرى سوى القرآن وأجاب الجواب الذي قررناه وهو قوله إِنَّمَا الْغَيْبُ للَّهِ ( يونس 20 ) ذكر جواباً آخر وهو المذكور في هذه الآية وتقريره من وجهين
الوجه الأول أنه تعالى بين في هذه الآية أن عادة هؤلاء الأقوام المكر واللجاج والعناد وعدم الإنصاف وإذا كانوا كذلك فبتقدير أن يعطوا ما سألوه من إنزال معجزات أخرى فإنهم لا يؤمنون بل يبقون على كفرهم وجهلهم فنفتقر ههنا إلى بيان أمرين إلى بيان أن عادة هؤلاء الأقوام المكر واللجاج والعناد ثم إلى بيان أنه متى كان الأمر كذلك لم يكن في إظهار سائر المعجزات فائدة
أما المقام الأول فتقريره أنه روي أن الله تعالى سلط القحط على أهل مكة سبع سنين ثم رحمهم وأنزل الأمطار النافعة على أراضيهم ثم إنهم أضافوا تلك المنافع الجليلة إلى الأصنام وإلى الأنواء وعلى التقديرين فهو مقابلة للنعمة بالكفران فقوله وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَة ً المراد منه تلك الأمطار النافعة وقوله مّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ المراد منه ذلك القحط الشديد وقوله وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَة ً مّن المراد منه إضافتهم تلك المنافع الجليلة إلى الأنواء والكواكب أو إلى الأصنام
واعلم أنه تعالى ذكر هذا المعنى بعينه فيما تقدم من هذه السورة وهو قوله تعالى وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ( يونس 12 ) إلا أنه تعالى زاد في هذه الآية التي نحن في تفسيرها دقيقة أخرى ما ذكرها في تلك الآية وتلك الدقيقة هي أنهم يمكرون عند وجدان الرحمة ويطلبون الغوائل وفي الآية المتقدمة ما كانت هذه الدقيقة مذكورة فثبت بما ذكرنا أن عادة هؤلاء الأقوام اللجاج والعناد والمكر وطلب الغوائل
وأما المقام الثاني وهو بيان أنه متى كان الأمر كذلك فلا فائدة في إظهار سائر الآيات لأنه تعالى لو أظهر لهم جميع ما طلبوه من المعجزات الظاهرة فإنهم لا يقبلونها لأنه ليس غرضهم من هذه الاقتراحات التشدد في طلب الدين وإنما غرضهم الدفع والمنع والمبالغة في صون مناصبهم الدنيوية والامتناع من المتابعة للغير والدليل عليه أنه تعالى لما شدد الأمر عليهم وسلط البلاء عليهم ثم أزالها عنهم وأبدل تلك البليات بالخيرات فهم مع ذلك استمروا على التكذيب والجحود فدل ذلك على أنه تعالى لو أنزل عليهم الآيات التي طلبوها لم يلتفتوا إليها فظهر بما ذكرنا أن هذا الكلام جواب قاطع عن السؤال المتقدم
الوجه الثاني في تقرير هذا الجواب أن أهل مكة قد حصل لهم أسباب الرفاهية وطيب العيش ومن كان كذلك تمرد وتكبر كما قال تعالى إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّءاهُ اسْتَغْنَى ( العلق 6 7 ) وقرر تعالى هذا المعنى بالمثال المذكور فإقدامهم على طلب الآيات الزائدة والاقتراحات الفاسدة إنما كان لأجل ما هم فيه من النعم الكثيرة والخيرات المتوالية وقوله قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا كالتنبيه على أنه تعالى يزيل عنهم تلك النعم ويجعلهم منقادين للرسول مطيعين له تاركين لهذه الاعتراضات الفاسدة والله أعلم
المسألة الثانية قوله تعالى وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَة ً كلام ورد على سبيل المبالغة والمراد منه إيصال الرحمة إليهم

واعلم أن رحمة الله تعالى لا تذاق بالفم وإنما تذاق بالعقل وذلك يدل على أن القول بوجود السعادات الروحانية حق
المسألة الثالثة قال الزجاج إِذَا في قوله وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَة ً للشرط و إِذَا في قوله إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ جواب الشرط وهو كقوله وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَة ٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ ( الروم 36 ) والمعنى إذا أذقنا الناس رحمة مكروا وإن تصبهم سيئة قنطوا واعلم أن إِذَا في قوله إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ تفيد المفاجأة معناه أنهم في الحال أقدموا على المكر وسارعوا إليه
المسألة الرابعة سمي تكذيبهم بآيات الله مكراً لأن المكر عبارة عن صرف الشيء عن وجهه الظاهر بطريق الحيلة وهؤلاء يحتالون لدفع آيات الله بكل ما يقدرون عليه من إلقاء شبهة أو تخليط في مناظرة أو غير ذلك من الأمور الفاسدة قال مقاتل المراد من هذا المكر هو أن هؤلاء لا يقولون هذا رزق الله بل يقولون سقينا بنوء كذا
أما قوله تعالى قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ فالمعنى أن هؤلاء الكفار لما قابلوا نعمة الله بالمكر فالله سبحانه وتعالى قابل مكرهم بمكر أشد من ذلك وهو من وجهين الأول ما أعد لهم يوم القيامة من العذاب الشديد وفي الدنيا من الفضيحة والخزي والنكال والثاني أن رسل الله يكتبون مكرهم ويحفظونه وتعرض عليهم ما في بواطنهم الخبيثة يوم القيامة ويكون ذلك سبباً للفضيحة التامة والخزي والنكال نعوذ بالله تعالى منه
هُوَ الَّذِى يُسَيِّرُكُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَة ٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَاذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّآ أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِى الأرض بِغَيْرِ الْحَقِّ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُمْ مَّتَاعَ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما قال وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَة ً مّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ فِى ءايَاتِنَا كان هذا الكلام كلاماً كلياً لا ينكشف معناه تمام الانكشاف إلا بذكر مثال كامل فذكر الله تعالى لنقل الإنسان من الضر الشديد إلى الرحمة مثالاً ولمكر الإنسان مثالاً حتى تكون هذه الآية كالمفسرة للآية

التي قبلها وذلك لأن المعنى الكلي لا يصل إلى أفهام السامعين إلا بذكر مثال جلي واضح يكشف عن حقيقة ذلك المعنى الكلي
واعلم أن الإنسان إذا ركب السفينة ووجد الريح الطيبة الموافقة للمقصود حصل له الفرح التام والمسرة القوية ثم قد تظهر علامات الهلاك دفعة واحدة فأولها أن تجيئهم الرياح العاصفة الشديدة وثانيها أن تأتيهم الأمواج العظيمة من كل جانب وثالثها أن يغلب على ظنونهم أن الهلاك واقع وأن النجاة ليست متوقعة ولا شك أن الانتقال من تلك الأحوال الطيبة الموافقة إلى هذه الأحوال القاهرة الشديدة يوجب الخوف العظيم والرعب الشديد وأيضاً مشاهدة هذه الأحوال والأهوال في البحر مختصة بإيجاب مزيد الرعب والخوف ثم إن الإنسان في هذه الحالة لا يطمع إلا في فضل الله ورحمته ويصير منقطع الطمع عن جميع الخلق ويصير بقلبه وروحه وجميع أجزائه متضرعاً إلى الله تعالى ثم إذا نجاه الله تعالى من هذه البلية العظيمة ونقله من هذه المضرة القوية إلى الخلاص والنجاة ففي الحال ينسى تلك النعمة ويرجع إلى ما ألفه واعتاده من العقائد الباطلة والأخلاق الذميمة فظهر أنه لا يمكن تقرير ذلك المعنى الكلي المذكور في الآية المتقدمة بمثال أحسن وأكمل من المثال المذكور في هذه الآية
المسألة الثانية يحكى أن واحداً قال لجعفر الصادق اذكر لي دليلاً على إثبات الصانع فقال أخبرني عن حرفتك فقال أنا رجل أتجر في البحر فقال صف لي كيفية حالك فقال ركبت البحر فانكسرت السفينة وبقيت على لوح واحد من ألواحها وجاءت الرياح العاصفة فقال جعفر هل وجدت في قلبك تضرعاً ودعاء فقال نعم فقال جعفر فإلهك هو الذي تضرعت إليه في ذلك الوقت
المسألة الثالثة قرأ ابن عامر ينشركم من النشر الذي هو خلاف الطي كأنه أخذه من قوله تعالى الصَّلَواة ُ فَانتَشِرُواْ فِى الاْرْضِ ( الجمعة 10 ) والباقون قرؤا يُسَيّرُكُمْ من التسيير
المسألة الرابعة احتج أصحابنا بهذه الآية على أن فعل العبد يجب أن يكون خلقاً لله تعالى قالوا دلت هذه الآية على أن سير العباد من الله تعالى ودل قوله تعالى قُلْ سِيرُواْ فِى الاْرْضِ ( الأنعام 11 ) على أن سيرهم منهم وهذا يدل على أن سيرهم منهم ومن الله فيكون كسبياً لهم وخلقاً لله ونظيره قوله تعالى كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقّ ( الأنفال 5 ) وقال في آية أخرى إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( التوبة 40 ) وقال في آية أخرى فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا ( التوبة 82 ) ثم قال في آية أخرى وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى ( النجم 43 ) وقال في آية أخرى وَمَا رَمَيْتَ إِذَا رَمَيْتَ وَلَاكِنَّ اللَّهَ رَمَى ( الأفال 7 ) قال الجبائي أما كونه تعالى مسيراً لهم في البحر على الحقيقة فالأمر كذلك وأما سيرهم في البر فإنما أضيف إلى الله تعالى على التوسع فما كان منه طاعة فبأمره وتسهيله وما كان منه معصية فلأنه تعالى هو الذي أقدره عليه وزاد القاضي فيه يجوز أن يضاف ذلك إليه تعالى من حيث أنه تعالى سخر لهم المركب في البر وسخر لهم الأرض التي يتصرفون عليها بإمساكه لها لأنه تعالى لو لم يفعل ذلك لتعذر عليهم السير وقال القفال هُوَ الَّذِى يُسَيّرُكُمْ فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ أي هو الله الهادي لكم إلى السير في البر والبحر طلباً للمعاش لكم وهو المسير لكم لأجل أنه هيأ لكم أسباب ذلك السير هذا جملة ما قيل في الجواب عنه ونحن نقول لا شك أن المسير في البحر هو الله تعالى لأن الله تعالى هو المحدث لتلك الحركات في أجزاء السفينة ولا شك

أن إضافة الفعل إلى الفاعل هو الحقيقة فنقول وجب أيضاً أن يكون مسيراً لهم في البر بهذا التفسير إذ لو كان مسيراً لهم في البر بمعنى إعطاء الآلات والأدوات لكان مجازاً بهذا الوجه فيلزم كون اللفظ الواحد حقيقة ومجازاً دفعة واحدة وذلك باطل
واعلم أن مذهب الجبائي أنه لامتناع في كون اللفظ حقيقة ومجازاً بالنسبة إلى المعنى الواحد وأما أبو هاشم فإنه يقول إن ذلك ممتنع إلا أنه يقول لا يبعد أن يقال إنه تعالى تكلم به مرتين
واعلم أن قول الجبائي قد أبطلناه في أصول الفقه وقول أبي هاشم أنه تعالى تكلم به مرتين أيضاً بعيد لأن هذا قول لم يقل به أحد من الأمة ممن كانوا قبله فكان هذا على خلاف الإجماع فيكون باطلاً
واعلم أنه بقي في هذه الآية سؤالات
السؤال الأول كيف جعل الكون في الفلك غاية للتسيير في البحر مع أن الكون في الفلك متقدم لا محالة على التسيير في البحر
والجواب لم يجعل الكون في الفلك غاية للتسيير بل تقدير الكلام كأنه قيل هو الذي يسيركم حتى إذا وقع في جملة تلك التسييرات الحصول في الفلك كان كذا وكذا
السؤال الثاني ما جواب إِذَا في قوله حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ
الجواب هو أن جوابها هو قوله جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ ثم قال صاحب ( الكشاف )
وأما قوله دَّعَوَا اللَّهَ فهو بدل من ظنوا لأن دعاءهم من لوازم ظنهم الهلاك وقال بعض الأفاضل لو حمل قوله دَّعَوَا اللَّهَ على الاستئناف كان أوضح كأنه لما قيل جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ قال قائل فما صنعوا فقيل دَّعَوَا اللَّهَ
السؤال الثالث ما الفائدة في صرف الكلام من الخطاب إلى الغيبة
الجواب فيه وجوه الأول قال صاحب ( الكشاف ) المقصود هو المبالغة كأنه تعالى يذكر حالهم لغيرهم لتعجيبهم منها ويستدعى منهم مزيد الإنكار والتقبيح الثاني قال أبو علي الجبائي إن مخاطبته تعالى لعباده هي على لسان الرسول عليه الصلاة والسلام فهي بمنزلة الخبر عن الغائب وكل من أقام الغائب مقام المخاطب حسن منه أن يرده مرة أخرى إلى الغائب الثالث وهو الذي خطر بالبال في الحال أن الانتقال في الكلام من لفظ الغيبة إلى لفظ الحضور فإنه يدل على مزيد التقرب والإكرام وأما ضده وهو الانتقال من لفظ الحضور إلى لفظ الغيبة يدل على المقت والتبعيد
أما الأول فكما في سورة الفاتحة فإن قوله الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( الفاتحة 2 3 ) كله مقام الغيبة ثم انتقل منها إلى قوله إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ( الفاتحة 5 ) وهذا يدل على أن العبد كأنه انتقل من مقام الغيبة إلى مقام الحضور وهو يوجب علو الدرجة وكمال القرب من خدمة رب العالمين
وأما الثاني فكما في هذه الآية لأن قوله حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ خطاب الحضور وقوله وَجَرَيْنَ بِهِم مقام الغيبة فههنا انتقل من مقام الحضور إلى مقام الغيبة وذلك يدل على المقت والتبعيد

والطرد وهو اللائق بحال هؤلاء لأن من كان صفته أنه يقابل إحسان الله تعالى إليه بالكفران كان اللائق به ما ذكرناه
السؤال الرابع كم القيود المعتبرة في الشرط والقيود المعتبرة في الجزاء
الجواب أما القيود المعتبرة في الشرط فثلاثة أولها الكون في الفلك وثانيها جرى الفلك بالريح الطيبة وثالثها فرحهم بها وأما القيود المعتبرة في الجزاء فثلاثة أيضاً أولها قوله جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وفيه سؤالان
السؤال الأول الضمير في قوله جَاءتْهَا عائد إلى الفلك وهو ضمير الواحد والضمير في قوله وَجَرَيْنَ بِهِم عائد إلى الفلك وهو الضمير الجمع فما السبب فيه
الجواب عنه من وجهين الأول أنا لا نسلم أن الضمير في قوله جَاءتْهَا عائد إلى الفلك بل نقول إنه عائد إلى الريح الطيبة المذكورة في قوله وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيّبَة ٍ الثاني لو سلمنا ما ذكرتم إلا أن لفظ الفلك يصلح للواحد والجمع فحسن الضميران
السؤال الثاني ما العاطف الجواب قال القراء والزجاج يقال ريح عاصف وعاصفة وقد عصفت عصوفاً وأعصفت فهي معصف ومعصفة قال الفراء والألف لغة بني أسد ومعنى عصفت الريح اشتدت وأصل العصف السرعة يقال ناقة عاصف وعصوف سريعة وإنما قيل الفلك يصلح للواحد والجمع فحسن الضميران
السؤال الثاني ما العاطف الجواب قال القراء والزجاج يقال ريح عاصف وعاصفة وقد عصفت عصوفاً وأعصفت فهي معصف ومعصفة قال الفراء والألف لغة بني أسد ومعنى عصفت الريح اشتدت وأصل العصف السرعة يقال ناقة عاصف وعصوف سريعة وإنما قيل يصلح للواحد والجمع فحسن الضميران
السؤال الثاني ما العاطف الجواب قال القراء والزجاج يقال ريح عاصف وعاصفة وقد عصفت عصوفاً وأعصفت فهي معصف ومعصفة قال الفراء والألف لغة بني أسد ومعنى عصفت الريح اشتدت وأصل العصف السرعة يقال ناقة عاصف وعصوف سريعة وإنما قيل رِيحٌ عَاصِفٌ لأنه يراد ذات عصوف كما قيل لابن وتامر أو لأجل أن لفظ الريح مذكر
أما القيد الثاني فهو قوله وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلّ مَكَانٍ والموج ما ارتفع من الماء فوق البحر
أما القيد الثالث فهو قوله وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ والمراد أنهم ظنوا القرب من الهلاك وأصله أن العدو إذا أحاط بقوم أو بلد فقد دنوا من الهلاك
السؤال الخامس ما المراد من الإخلاص في قوله دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ
والجواب قال ابن عباس يريد تركوا الشرك ولم يشركوا به من آلهتهم شيئاً وأقروا لله بالربوبية والوحدانية قال الحسن دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ الإخلاص الإيمان لكن لأجل العلم بأنه لا ينجيهم من ذلك إلا الله تعالى فيكون جارياً مجرى الإيمان الاضطراري وقال ابن زيد هؤلاء المشركون يدعون مع الله ما يدعون فإذا جاء الضر والبلاء لم يدعوا إلا الله وعن أبي عبيدة أن المراد من ذلك الدعاء قولهم أهيا شراهيا تفسيره يا حي يا قيوم
السؤال السادس ما الشيء المشاء إليه بقوله هذه في قوله لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَاذِهِ
والجواب المراد لئن أنجيتنا من هذه الريح العاصفة وقيل المراد لئن أنجيتنا من هذه الأمواج أو من هذه الشدائد وهذه الألفاظ وإن لم يسبق ذكرها إلا أنه سبق ذكر ما يدل عليها
السؤال السابع هل يحتاج في هذه الآية إلى إضمار
الجواب نعم والتقدير دعوا الله مخلصين له الدين مريدين أن يقولوا لئن أنجيتنا ويمكن أن يقال

لا حاجة إلا الإضمار لأن قوله دَّعَوَا اللَّهَ يصير مفسراً بقوله لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَاذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فهم في الحقيقة ما قالوا إلا هذا القول
واعلم أنه تعالى لما حكى عنهم هذا التضرع الكامل بين أنهم بعد الخلاص من تلك البلية والمحنة أقدموا في الحال على البغي في الأرض بغير الحق قال ابن عباس يريد به الفساد والتكذيب والجراءة على الله تعالى ومعنى البغي قصد الاستعلاء بالظلم قال الزجاج البغي الترقي في الفساد قال الأصمعي يقال بغى الجرح يبغي بغياً إذا ترقى إلى الفساد وبغت المرأة إذا فجرت قال الواحدي أصل هذا اللفظ من الطلب
فإن قيل فما معنى قوله بِغَيْرِ الْحَقّ والبغي لا يكون بحق
قلنا البغي قد يكون بالحق وهو استيلاء المسلمين عل أرض الكفرة وهدم دورهم وإحراق زروعهم وقطع أشجارهم كما فعل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ببني قريظة ثم إنه تعالى بين أن هذا البغي أمر باطل يجب على العاقل أن يحترز منه فقال الْحَقّ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُمْ مَّتَاعَ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ الأكثرون مَتَاعٌ برفع العين وقرأ حفص عن عاصم مَتَاعٌ بنصب العين أما الرفع ففيه وجهان الأول أن يكون قوله بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُمْ مبتدأ وقوله مَّتَاعَ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا خبراً والمراد من قوله بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُمْ بغي بعضكم على بعض كما في قوله فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ( البقرة 54 ) ومعنى الكلام أن بغي بعضكم عن بعض منفعة الحياة الدنيا ولا بقاء لها والثاني أن قوله بَغْيُكُمْ مبتدأ وقوله عَلَى أَنفُسِكُمْ خبره وقوله وَأَبْقَى قَالُواْ لَن خبر مبتدأ محذوف والتقدير هو متاع الحياة الدنيا وأما القراءة بالنصب فوجهها أن نقول إن قوله بَغْيُكُمْ مبتدأ وقوله عَلَى أَنفُسِكُمْ خبره وقوله مَّتَاعَ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا في موضع المصدر المؤكد والتقدير تتمتعون متاع الحياة الدنيا
المسألة الثانية البغي من منكرات المعاصي قال عليه الصلاة والسلام ( أسرع الخير ثواباً صلة الرحم وأعجل الشر عقاباً البغي واليمين الفاجرة ) وروى ( ثنتان يعجلهما الله في الدنيا البغي وعقوق الوالدين ) وعن ابن عباس رضي الله عنهما لو بغى جبل على جبل لاندك الباغي وكان المأمون يتمثل بهذين البيتين في أخيه ف يا صاحب البغي إن البغي مصرعة
فأربع فخير فعال المرء أعدله
فلو بغى جبل يوماً على جبل
لاندك منه أعاليه وأسفله
وعن محمد بن كعب القرظي ثلاث من كن فيه كن عليه البغي والنكث والمكر قال تعالى إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُمْ
المسألة الثالثة حاصل الكلام في قوله تعالى الْحَقّ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أي لا يتهيأ لكم بغي بعضكم على بعض إلا أياماً قليلة وهي مدة حياتكم مع قصرها وسرعة انقضائها ثُمَّ إِلَيْنَا أي ما وعدنا من المجازاة على أعمالكم مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ في الدنيا والأنباء هو الأخبار وهو في هذا الموضع وعيد بالعذاب كقول الرجل لغيره سأخبرك بما فعلت

إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَآءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرض مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالاٌّ نْعَامُ حَتَّى إِذَآ أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالاٌّ مْسِ كَذالِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما قال الْحَقّ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُمْ مَّتَاعَ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا ( يونس 23 ) أتبعه بهذا المثل العجيب الذي ضربه لمن يبغي في الأرض ويغتر بالدنيا ويشتد تمسكه بها ويقوي إعراضه عن أمر الآخرة والتأهب لها فقال إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الاْرْضِ وهذا الكلام يحتمل وجهين أحدهما أن يكون المعنى فاختلط به نبات الأرض بسبب هذا الماء النازل من السماء وذلك لأنه إذا نزل المطر ينبت بسببه أنواع كثيرة من النبات وتكون تلك الأنواع مختلطة وهذا فيما لم يكن نابتاً قبل نزول المطر والثاني أن يكون المراد منه الذي نبت ولكنه لم يترعرع ولم يهتز وإنما هو في أول بروزه من الأرض ومبدأ حدوثه فإذا نزل المطر عليه واختلط بذلك المطر أي اتصل كل واحد منهما بالآخر اهتز ذلك النبات وربا وحسن وكمل واكتسى كمال الرونق والزينة وهو المراد من قوله تعالى حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الاْرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وذلك لأن التزخرف عبارة عن كمال حسن الشيء فجعلت الأرض آخذة زخرفها على التشبيه بالعروس إذا لبست الثياب الفاخرة من كل لون وتزينت بجميع الألوان الممكنة في الزينة من حمرة وخضرة وصفرة وذهبية وبياض ولا شك أنه متى صار البستان على هذا الوجه وبهذه الصفة فإنه يفرح به المالك ويعظم رجاؤه في الانتفاع به ويصير قلبه مستغرقاً فيه ثم إنه تعالى يرسل على هذا البستان العجيب آفة عظيمة دفعة واحدة في ليل أو نهار من برد أو ريح أو سيل فصارت تلك الأشجار والزروع باطلة هالكة كأنها ما حصلت ألبتة فلا شك أنه تعظم حسرة مالك ذلك البستان ويشتد حزنه فكذلك من وضع قلبه على لذات الدنيا وطيباتها فإذا فاتته تلك الأشياء يعظم حزنه وتلهفه عليها
واعلم أن تشبيه الحياة الدنيا بهذا النبات يحتمل وجوهاً لخصها القاضي رحمه الله تعالى
الوجه الأول أن عاقبة هذه الحياة الدنيا التي ينفقها المرء في باب الدنيا كعاقبة هذا النبات الذي حين عظم الرجاء في الانتفاع به وقع اليأس منه لأن الغالب أن المتمسك بالدنيا إذا وضع عليها قلبه وعظمت رغبته فيها يأتيه الموت وهو معنى قوله تعالى حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَة ً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ ( الأنعام 44 ) خاسرون الدنيا وقد أنفقوا أعمارهم فيها وخاسرون من الآخرة مع أنهم متوجهون إليها
والوجه الثاني في التشبيه أنه تعالى بين أنه كما لم يحصل لذلك الزرع عاقبة تحمد فكذلك المغتر بالدنيا المحب لها لا يحصل له عاقبة تحمد

والوجه الثالث أن يكون وجه التشبيه مثل قوله سبحانه وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً ( ) فلما صار سعي هذا الزراع باطلاً بسبب حدوث الأسباب المهلكة فكذلك سعي المغتر بالدنيا
والوجه الرابع أن مالك ذلك البستان لما عمره بأتعاب النفس وكد الروح وعلق قلبه على الانتفاع به فإذا حدث ذلك السبب المهلك وصار العناء الشديد الذي تحمله في الماضي سبباً لحصول الشقاء الشديد له في المستقبل وهو ما يحصل له في قلبه من الحسرات فكذلك حال من وضع قلبه على الدنيا وأتعب نفسه في تحصيلها فإذا مات وفاته كل ما نال صار العناء الذي تحمله في تحصيل أسباب الدنيا سبباً لحصول الشقاء العظيم له في الآخرة
والوجه الخامس لعله تعالى إنما ضرب هذا المثل لمن لا يؤمن بالمعاد وذلك لأنا نرى الزرع الذي قد انتهى إلى الغاية القصوى في التربية قد بلغ الغاية في الزينة والحسن ثم يعرض للأرض المتزينة به آفة فيزول ذلك الحسن بالكلية ثم تصير تلك الأرض موصوفة بتلك الزينة مرة أخرى فذكر هذا المثال ليدل عل أن من قدر على ذلك كان قادراً على إعادة الأحياء في الآخرة ليجازيهم على أعمالهم إن خيراً فخير وإن شراً فشر
المسألة الثانية المثل قول يشبه به حال الثاني بالأول ويجوز أن يكون المراد من المثل الصفة والتقدير إنما صفة الحياة الدنيا وأما قوله وَازَّيَّنَتْ فقال الزجاج يعني تزينت فأدغمت التاء في الزاي وسكنت الزاي فاجتلب لها ألف الوصل وهذا مثل ما ذكرنا في قوله ادارأتم ( البقرة 72 ) إِذَا ادَّارَكُواْ ( الأعراف 38 )
وأما قوله وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا فقال ابن عباس رضي الله عنهما يريد أن أهل تلك الأرض قادرون على حصادها وتحصيل ثمراتها والتحقيق أن الضمير وإن كان في الظاهر عائداً إلى الأرض إلا أنه عائد إلى النبات الموجود في الأرض وأما قوله أَتَاهَا أَمْرُنَا فقال ابن عباس رضي الله عنهما يريد عذابنا والتحقيق أن المعنى أتاها أمرنا بهلاكها وقوله فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا قال ابن عباس لا شيء فيها وقال الضحاك يعني المحصود وعلى هذا المراد بالحصيد الأرض التي حصد نبتها ويجوز أن يكون المراد بالحصيد النبات قال أبو عبيدة الحصيد المستأصل وقال غيره الحصيد المقطوع والمقلوع وقوله كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالاْمْسِ قال الليث يقال للشيء إذا فنى كأن لم يغن بالأمس أي كأن لم يكن من قولهم غني القوم في دارهم إذا أقاموا بها وعلى هذا الوجه يكون هذا صفة للنبات وقال الزجاج معناه كأن لم تعمر بالأمس وعلى هذا الوجه فالمراد هو الأرض وقوله كَذالِكَ نُفَصّلُ الآيَاتِ أي نذكر واحدة منها بعد الأخرى على الترتيب ليكون تواليها وكثرتها سبباً لقوة اليقين وموجباً لزوال الشك والشبهة
وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ

المسألة الأولى في كيفية النظم اعلم أنه تعالى لما نفر الغافلين عن الميل إلى الدنيا بالمثل السابق رغبهم في الآخرة بهذه الآية ووجه الترغيب في الآخرة ما روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( مثلي ومثلكم شبه سيد بنى داراً ووضع مائدة وأرسل داعياً فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المائدة ورضي عنه السيد ومن لم يجب لم يدخل ولم يأكل ولم يرض عنه السيد فالله السيد والدار دار الإسلام والمائدة الجنة والداعي محمد عليه السلام وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا وبجنيبها ملكان يناديان بحيث يسمع كل الخلائق إلا الثقلين أيها الناس هلموا إلى ربكم والله يدعوا إلى دار السلام )
المسألة الثانية لا شبهة أن المراد من دار السلام الجنة إلا أنهم اختلفوا في السبب الذي لأجله حصل هذا الاسم على وجوه الأول أن السلام هو الله تعالى والجنة داره ويجب علينا ههنا بيان فائدة تسمية الله تعالى بالسلام وفيه وجوه أحدها أنه لما كان واجب الوجود لذاته فقد سلم من الفناء والتغير وسلم من احتياجه في ذاته وصفاته إلى الافتقار إلى الغير وهذه الصفة ليست إلا له سبحانه كما قال وَاللَّهُ الْغَنِى ُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء ( محمد 38 ) وقال خَبِيرٍ ياأَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ ( فاطر 15 ) وثانيها أنه تعالى يوصف بالسلام بمعنى أن الخلق سلموا من ظلمه قال وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ ( فصلت 46 ) ولأن كل ما سواه فهو ملكه وملكه وتصرف الفاعل في ملك نفسه لا يكون ظلماً ولأن الظلم إنما يصدر إما عن العاجز أو الجاهل أو المحتاج ولما كان الكل محالاً على الله تعالى كان الظلم محالاً في حقه وثالثها قال المبرد إنه تعالى يوصف بالسلام بمعنى أنه ذو السلام أي الذي لا يقدر على السلام إلا هو والسلام عبارة عن تخليص العاجزين عن المكاره والآفات فالحق تعالى هو الساتر لعيوب المعيوبين وهو المجيب لدعوة المضطرين وهو المنتصف للمظلومين من الظالمين قال المبرد وعلى هذا التقدير السلام مصدر سلم
القول الثاني السلام جمع سلامة ومعنى دار السلام الدار التي من دخلها سلم من الآفات فالسلام ههنا بمعنى السلامة كالرضاع بمعنى الرضاعة فإن الإنسان هناك سلم من كل الآفات كالموت والمرض والألم والمصائب ونزعات الشيطان والكفر والبدعة والكد والتعب
والقول الثالث أنه سميت الجنة بدار السلام لأنه تعالى يسلم على أهلها قال تعالى سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ ( يس 58 ) والملائكة يسلمون عليهم أيضاً قال تعالى وَالمَلَائِكَة ُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ( الرعد 23 24 ) وهم أيضاً يحيي بعضهم بعضاً بالسلام قال تعالى تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ ( يونس 10 ) وأيضاً فسلامهم يصل إلى السعداء من أهل الدنيا قال تعالى وَأَمَّا إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ( الواقعة 90 91 )
المسألة الثالثة اعلم أن كمال جود الله تعالى وكمال قدرته وكمال رحمته بعباده معلوم فدعوته عبيده إلى دار السلام تدل على أن دار السلام قد حصل فيها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر لأن العظيم إذا استعظم شيئاً ورغب فيه وبالغ في ذلك الترغيب دل ذلك على كمال حال ذلك الشيء لا سيما وقد ملأ الله هذا الكتاب المقدس من وصف الجنة مثل قوله فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّة ٍ نَعِيمٍ ( الواقعة 89 ) ونحن نذكر ههنا كلاماً كلياً في تقرير هذا المطلوب فنقول الإنسان إنما يسعى في يومه لغده ولكل إنسان غدان غد في الدنيا وغد في الآخرة فنقول غد الآخرة خير من غد الدنيا من وجوه

أربعة أولها أن الإنسان قد لا يدرك غد الدنيا وبالضرورة يدرك غد الآخرة وثانيها أن بتقدير أن يدرك غد الدنيا فلعله لا يمكنه أن ينتفع بما جمعه إما لأنه يضيع منه ذلك المال أو لأنه يحصل في بدنه مرض يمنعه من الانتفاع به أما غد الآخرة فكلما اكتسبه الإنسان لأجل هذا اليوم فإنه لا بد وأن ينتفع به وثالثها أن بتقدير أن يجد غد الدنيا ويقدر على أن ينتفع بماله إلا أن تلك المنافع مخلوطة بالمضار والمتاعب لأن سعادات الدنيا غير خالصة عن الآفات بل هي ممزوجة بالبليات والاستقراء يدل عليه ولذلك قال عليه السلام ( من طلب مالم يخلق أتعب نفسه ولم يرزق ) فقيل يا رسول الله وما هو قال ( سرور يوم بتمامه ) وأما منافع عز الآخرة فهي خالصة عن الغموم والهموم والأحزان سالمة عن كل المنفرات ورابعها أن بتقدير أن يصل الإنسان إلى عز الدنيا وينتفع بسببه وكان ذلك الانتفاع خالياً عن خلط الآفات إلا أنه لا بد وأن يكون منقطعاً ومنافع الآخرة دائمة مبرأة عن الانقطاع فثبت أن سعادات الدنيا مشوبة بهذه العيوب الأربعة وأن سعادات الآخرة سالمة عنها فلهذا السبب كانت الجنة دار السلام
المسألة الرابعة احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الكفر والإيمان بقضاء الله تعالى قالوا إنه تعالى بين في هذه الآية أنه دعا جميع الخلق إلى دار السلام ثم بين أنه ما هدى إلا بعضهم فهذه الهداية الخاصة يجب أن تكون مغايرة لتلك الدعوة العامة ولا شك أيضاً أن الأقدار والتمكين وإرسال الرسل وإنزال الكتب أمور عامة فوجب أن تكون هذه الهداية الخاصة مغايرة لكل هذه الأشياء وما ذاك إلا ما ذكرناه من أنه تعالى خصه بالعلم والمعرفة دون غيره واعلم أن هذه الآية مشكلة على المعتزلة وما قدروا على إيراد الأسئلة الكثيرة وحاصل ما ذكره القاضي في وجهين الأول أن يكون المراد ويهدي الله من يشاء إلى إجابة تلك الدعوة بمعنى أن من أجاب الدعاء وأطاع واتقى فإن الله يهديه إليها والثاني أن المراد من هذه الآية الألطاف وأجاب أصحابنا عن هذين الوجهين بحرف واحد وهو أن عندهم أنه يجب على الله فعل هذه الهداية وما كان واجباً لا يكون معلقاً بالمشيئة وهذا معلق بالمشيئة فامتنع حمله على ما ذكروه
لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَة ٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّة ٌ أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
اعلم أنه تعالى لما دعا عباده إلى دار السلام ذكر السعادات التي تحصل لهم فيها فقال لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَة ٌ فيحتاج إلى تفسير هذه الألفاظ الثلاثة
أما اللفظ الأول وهو قوله لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فقال ابن عباس معناه للذين ذكروا كلمة لا إله إلا الله وقال الأصم معناه للذين أحسنوا في كل ما تعبدوا به ومعناه أنهم أتوا بالمأمور به كما ينبغي واجتنبوا المنهيات من الوجه الذي صارت منهياً عنها
والقول الثاني أقرب إلى الصواب لأن الدرجات العالية لا تحصل إلا لأهل الطاعات

وأما اللفظ الثاني وهو الْحُسْنَى فقال ابن الأنباري الحسنى في اللغة تأنيث الأحسن والعرب توقع هذه اللفظة على الحالة المحبوبة والخصلة المرغوب فيها ولذلك لم تؤكد ولم تنعت بشيء وقال صاحب ( الكشاف ) المراد المثوبة الحسنى ونظير هذه الآية قوله هَلْ جَزَاء الإحْسَانِ إِلاَّ الإحْسَانُ ( الرحمن 60 )
وأما اللفظ الثالث وهو الزيادة فنقول هذه الكلمة مبهمة ولأجل هذا اختلف الناس في تفسيرها وحاصل كلامهم يرجع إلى قولين
القول الأول أن المراد من منها رؤية الله سبحانه وتعالى قالوا والدليل عليه النقل والعقل
أما النقل فالحديث الصحيح الوارد فيه وهو أن الحسنى هي الجنة والزيادة هي النظر إلى الله سبحانه وتعالى
وأما العقل فهو أن الحسنى لفظة مفردة دخل عليها حرف التعريف فانصرف إلى المعهود السابق وهو دار للسلام والمعروف من المسلمين والمتقرر بين أهل الإسلام من هذه اللفظة هو الجنة وما فيها من المنافع والتعظيم وإذا ثبت هذا وجب أن يكون المراد من الزيادة أمراً مغايراً لكل ما في الجنة من المنافع والتعظيم وإلا لزم التكرار وكل من قال بذلك قال إنما هي رؤية الله تعالى فدل ذلك على أن المراد من هذه الزيادة الرؤية ومما يؤكد هذا وجهان الأول أنه تعالى قال وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة ٌ إِلَى رَبّهَا نَاظِرَة ٌ ( القيامة 22 23 ) فأثبت لأهل الجنة أمرين أحدهما نضرة الوجوه والثاني النظر إلى الله تعالى وآيات القرآن يفسر بعضها بعضاً فوجب حمل الحسنى ههنا على نضرة الوجوه وحمل الزيادة على رؤية الله تعالى الثاني أنه تعالى قال لرسوله ( صلى الله عليه وسلم ) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً ( الإنسان 20 ) أثبت له النعيم ورأية الملك الكبير فوجب ههنا حمل الحسنى والزيادة على هذين الأمرين
القول الثاني أنه لا يجوز حمل هذه الزيادة على الرؤية قالت المعتزلة ويدل على ذلك وجوه الأول أن الدلائل العقلية دلت على أن رؤية الله تعالى ممتنعة والثاني أن الزيادة يجب أن تكون من جنس المزيد عليه ورؤية الله تعالى ليست من جنس نعيم الجنة الثالث أن الخبر الذي تمسكتم به في هذا الباب هو ما روي أن الزيادة هي النظر إلى وجه الله تعالى وهذا الخبر يوجب التشبيه لأن النظر عبارة عن تقليب الحدقة إلى جهة المرئي وذلك يقتضي كون المرئي في الجهة لأن الوجه اسم للعضو المخصوص وذلك أيضاً يوجب التشبيه فثبت أن هذا اللفظ لا يمكن حمله على الرؤية فوجب حمله على شيء آخر وعند هذا قال الجبائي الحسنى عبارة عن الثواب المستحق والزيادة هي ما يزيده الله تعالى على هذا الثواب من التفضل قال والذي يدل على صحته القرآن وأقوال المفسرين
أما القرآن فقوله تعالى لِيُوَفّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ ( فاطر 30 )
وأما أقوال المفسرين فنقل عن علي رضي الله عنه أنه قال الزيادة غرفة من لؤلؤة واحدة وعن ابن عباس أن الحسنى هي الحسنة والزيادة عشر أمثالها وعن الحسن عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف وعن مجاهد الزيادة مغفرة الله ورضوانه ورضوانه وعن يزيد بن سمرة الزيادة أن تمر السحابة بأهل الجنة

فتقول ما تريدون أن أمطركم فلا يريدون شيئاً إلا أمطرتهم أجاب أصحابنا عن هذه الوجوه فقالوا أما قولكم إن الدلائل العقلية دلت على امتناع رؤية الله تعالى فهذا ممنوع لأنا بينا في كتب الأصول أن تلك الدلائل في غاية الضعف ونهاية السخافة وإذا لم يوجد في العقل ما يمنع من رؤية الله تعالى وجاءت الأخبار الصحيحة بإثبات الرؤية وجب إجراؤها على ظواهرها أما قوله الزيادة يجب أن تكون من جنس المزيد عليه فنقول المزيد عليه إذا كان مقدراً بمقدار معين وجب أن تكون الزيادة عليه مخالفة له
مثال الأول قول الرجل لغيره أعطيتك عشرة أمداد من الحنطة وزيادة فههنا يجب أن تكون تلك الزيادة من الحنطة
ومثال الثاني قوله أعطيتك الحنطة وزيادة فههنا يجب أن تكون تلك الزيادة غير الحنطة والمذكور في هذه الآية لفظ الْحُسْنَى وهي الجنة وهي مطلقة غير مقدرة بقدر معين فوجب أن تكون تلك الزيادة عليها شيئاً مغايراً لكل ما في الجنة وأما قوله الخبر المذكور في هذا الباب اشتمل على لفظ النظر وعلى إثبات الوجه لله تعالى وكلاهما يوجبان التشبيه فنقول هذا الخبر أفاد إثبات الرؤية وأفاد إثبات الجسمية ثم قام الدليل على أنه ليس بجسم ولم يقم الدليل على امتناع رأيته فوجب ترك العمل بما قام الدليل على فساده فقط وأيضاً فقد بينا أن لفظ هذه الآية يدل على أن الزيادة هي الرؤية من غير حاجة تنافي تقرير ذلك الخبر والله أعلم
واعلم أنه تعالى لما شرح ما يحصل لأهل الجنة من السعادات شرح بعد ذلك الآفات التي صانهم الله بفضله عنها فقال وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّة ٌ والمعنى لا يغشاها قتر وهي غبرة فيها سواد وَلاَ ذِلَّة ٌ ولا أثر هوان ولا كسوف
فالصفة الأولى هي قوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَة ٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَة ٌ ( عبس 40 )
والصفة الثانية هي قوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَة ٌ عَامِلَة ٌ نَّاصِبَة ٌ ( الغاشية 2 3 ) والغرض من نفي هاتين الصفتين نفي أسباب الخوف والحزن والذل عنهم ليعلم أن نعيمهم الذي ذكره الله تعالى خالص غير مشوب بالمكروهات وإنه لا يجوز عليهم ما إذا حصل غير صفحة الوجه ويزيل ما فيها من النضارة والطلاقة ثم بين أنهم خالدون في الجنة لا يخافون الانقطاع
واعلم أن علماء الأصول قالوا الثواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم فقوله وَاللَّهُ يَدْعُواْ إِلَى دَارُ السَّلَامِ ( يونس 25 ) يدل على غاية التعظيم وقوله لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَة ٌ يدل على حصول المنفعة وقوله وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّة ٌ يدل على كونها خالصة وقوله أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ إشارة إلى كونها دائمة آمنة من الانقطاع والله أعلم
وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَآءُ سَيِّئَة ٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّة ٌ مَّا لَهُمْ مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ الَّيْلِ مُظْلِماً أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ

في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه كما شرح حال المسلمين في الآية المتقدمة شرح حال من أقدم على السيئات في هذه الآية وذكر تعالى من أحوالهم أموراً أربعة أولها قوله جَزَاء سَيّئَة ٍ بِمِثْلِهَا والمقصود من هذا القيد التنبيه على الفرق بين الحسنات وبين السيئات لأنه تعالى ذكر في أعمال البر أنه يوصل إلى المشتغلين بها الثواب مع الزيادة وأما في عمل السيئات فإنه تعالى ذكر أنه لا يجازي إلا بالمثل والفرق هو أن الزيادة على الثواب تكون تفضلاً وذلك حسن ويكون فيه تأكيد للترغيب في الطاعة وأما الزيادة على قدر الاستحقاق في عمل السيئات فهو ظلم ولو فعله لبطل الوعد والوعيد والترهيب والتحذير لأن الثقة بذلك إنما تحصل إذا ثبتت حكمته ولو فعل الظلم لبطلت حكمته تعالى الله عن ذلك هكذا قرره القاضي تفريعاً على مذهبه وثانيها قوله وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّة ٌ وذلك كناية عن الهوان والتحقير واعلم أن الكمال محبوب لذاته والنقصان مكروه لذاته فالإنسان الناقص إذا مات بقيت روحه ناقصة خالية عن الكمالات فيكون شعوره بكونه ناقصاً سبباً لحصول الذلة والمهانة والخزي والنكال وثالثها قوله مَّا لَهُمْ مّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ واعلم أنه لا عاصم من الله لا في الدنيا ولا في الآخرة فإن قضاءه محيط بجميع الكائنات وقدره نافذ في كل المحدثات إلا أن الغالب على الطباع العاصية أنهم في الحياة العاجلة مشتغلون بأعمالهم ومراداتهم أما بعد الموت فكل أحد يقر بأنه ليس له من الله من عاصم ورابعها قوله وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيّئَاتِ جَزَاء سَيّئَة ٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ والمراد من هذا الكلام إثبات ما نفاه عن السعداء حيث قال وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّة ٌ ( يونس 26 )
واعلم أن حكماء الإسلام قالوا المراد من هذا السواد المذكور ههنا سواد الجهل وظلمة الضلالة فإن العلم طبعه طبع النور والجهل طبعه طبع الظلمة فقوله وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَة ٌ ضَاحِكَة ٌ مُّسْتَبْشِرَة ٌ المراد منه نور العلم وروحه وبشره وبشارته وقوله وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَة ٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَة ٌ المراد منه ظلمة الجهل وكدورة الضلالة
المسألة الثانية قوله وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيّئَاتِ فيه وجهان أحدهما أن يكون معطوفاً على قوله لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ ( آل عمران 172 ) كأنه قيل للذين أحسنوا الحسنى وللذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها والثاني أن يكون التقدير وجزاء الذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها على معنى أن جزاءهم أن يجازي سيئة واحدة بسيئة مثلها لا يزاد عليها وهذا يدل على أن حكم الله في حق المحسنين ليس إلا بالفضل وفي حق المسيئين ليس إلا بالعدل
المسألة الثالثة قال بعضهم المراد بقوله وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيّئَاتِ الكفار واحتجوا عليه بأن سواد الوجه من علامات الكفر بدليل قوله تعالى فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ( آل عمران 106 ) وكذلك قوله وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَة ٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَة ٌ أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَة ُ الْفَجَرَة ُ ولأنه تعالى قال بعد هذه الآية وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ( الأنعام 22 ) والضمير في قوله هُمْ عائد إلى هؤلاء ثم إنه تعالى وصفهم

بالشرك وذلك يدل على أن هؤلاء هم الكفار ولأن العلم نور وسلطان العلوم والمعارف هو معرفة الله تعالى فكل قلب حصل فيه معرفة الله تعالى لم يحصل فيه الظلمة أصلاً وكان الشبلي رحمة الله تعالى عليه يتمثل بهذا ويقول كل بيت أنت ساكنه
غير محتاج إلى السرج
وجهك المأمول حجتنا
يوم يأتي الناس بالحجج
وقال القاضي إن قوله وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيّئَاتِ عام يتناول الكافر والفاسق إلا أنا نقول الصيغة وإن كانت عامة إلا أن الدلائل التي ذكرناها تخصصه
المسألة الرابعة قال الفراء في قوله جَزَاء سَيّئَة ٍ بِمِثْلِهَا وجهان الأول أن يكون التقدير فلهم جزاء السيئة بمثلها كما قال فَفِدْيَة ٌ مّن صِيَامٍ ( البقرة 196 ) أي فعليه والثاني أن يعلق الجزاء بالباء في قوله بِمِثْلِهَا قال ابن الأنباري وعلى هذا التقدير الثاني فلا بد من عائد الموصول والتقدير فجزاء سيئة منهم بمثلها
أما قوله وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّة ٌ فهو معطوف على يجازي لأن قوله جَزَاء سَيّئَة ٍ بِمِثْلِهَا تقديره يجازي سيئة بمثلها وقرىء وَلاَ ذِلَّة ٌ بالياء
أما قوله تعالى وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيّئَاتِ جَزَاء سَيّئَة ٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ففيه مسائل
المسألة الأولى أُغْشِيَتْ أي ألبست وُجُوهُهُمْ قِطَعًا قرأ ابن كثير والكسائي قِطَعًا بسكون الطاء وقرأ الباقون بفتح الطاء والقطع بسكون القطعة وهي البعض ومنه قوله تعالى قَالُواْ يالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبّكَ ( هود 81 ) أي قطعة وأما قطع بفتح الطاء فهو جمع قطعة ومعنى الآية وصف وجوههم بالسواد حتى كأنها ألبست سواداً من الليل كقوله تعالى تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّة ٌ ( الزمر 60 ) وكقوله فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ( آل عمران 106 ) وكقوله يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ ( الرحمن 41 ) وتلك العلامة هي سواد الوجه وزرقة العين
المسألة الثانية قوله مُظْلِماً قال الفراء والزجاج هو نعت لقوله قِطَعًا وقال أبو علي الفارسي ويجوز أن يجعل حالاً كأنه قيل أغشيت وجوههم قطعاً من الليل في حال ظلمته
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُمْ مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ

وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن هذا نوع آخر من شرح فضائح أولئك الكفار فالضمير في قوله وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ عائد إلى المذكور السابق وذلك هو قوله وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيّئَاتِ ( يونس 27 ) فلما وصف الله هؤلاء الذين يحشرهم بالشرك والكفر دل على أن المراد من قوله وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيّئَاتِ الكفار وحاصل الكلام أنه تعالى يحشر العابد والمعبود ثم إن المعبود يتبرأ من العابد ويتبين له أنه ما فعل ذلك بعلمه وإرادته والمقصود منه أن القوم كانوا يقولون هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ ( يونس 180 ) فبين الله تعالى أنهم لا يشفعون لهؤلاء الكفار بل يتبرؤن منهم وذلك يدل على نهاية الخزي والنكال في حق هؤلاء الكفار ونظيره آيات منها قوله تعالى إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ ( البقرة 166 ) ومنها قوله تعالى ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَة ِ أَهَؤُلاَء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ قَالُواْ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ ( سبأ 40 41 )
واعلم أن هذا الكلام يشير على سبيل الرمز إلى دقيقة عقلية وهي أن ما سوى الواحد الأحد الحق ممكن لذاته والممكن لذاته محتاج بحسب ماهيته والشيء الواحد يمتنع أن يكون قابلاً وفاعلاً معاً فما سوى الواحد لأحد الحق لا تأثير له في الإيجاد والتكوين فالممكن المحدث لا يليق به أن يكون معبوداً لغيره بل المعبود الحق ليس إلا الموجد الحق وذلك ليس إلا الموجود الحق الذي هو واجب الوجود لذاته فبراءة المعبود من العابدين يحتمل أن يكون المراد منه ما ذكرناه والله أعلم بمراده
المسألة الثانية الْحَشْرِ الجمع من كل جانب إلى موقف واحد و جَمِيعاً نصب على الحال أي نحشر الكل حال اجتماعهم و مَكَانَكُمْ منصوب بإضمار الزموا والتقدير الزموا مكانكم و أَنتُمْ تأكيد للضمير وَشُرَكَاؤُكُمْ عطف عليه واعلم أن قوله مَكَانَكُمْ كلمة مختصة بالتهديد والوعيد والمراد أنه تعالى يقول للعابدين والمعبودين مكانكم أي الزموا مكانكم حتى تسألوا ونظيره قوله تعالى احْشُرُواْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْواجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِراطِ الْجَحِيمِ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ ( الصافات 22 24 )
أما قوله وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ ففيه بحثان
البحث الأول أن هذه الكلمة جاءت على لفظ المضي بعد قوله ثُمَّ نَقُولُ وهو منتظر والسبب فيه أن الذي حكم الله فيه بأن سيكون صار كالكائن الراهن الآن ونظيره قوله تعالى وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ ( الأعراف 44 )
البحث الثاني زيلنا فرقنا وميزنا قال الفراء قوله فَزَيَّلْنَا ليس من أزلت إنما هو من زلت إذا فرقت تقول العرب زلت الضأن من المعز فلم تزل أي ميزتها فلم تتميز ثم قال الواحدي فالزيل والتزييل والمزايلة والتمييز والتفريق قال الواحدي وقرىء لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ وهو مثل فَزَيَّلْنَا وحكى الواحدي عن ابن قتيبة أنه قال في هذه الآية هو من زال يزول وأزلته أنا ثم حكى عن الأزهري أنه قال هذا غلط لأنه لم يميز بين زال يزول وبين زال يزيل وبينهما بون بعيد والقول ما قاله الفراء ثم قال المفسرون فَزَيَّلْنَا أي فرقنا بين المشركين وبين شركائهم من الآلهة والأصنام وانقطع ما كان بينهم من التواصل في الدنيا

وأما قوله وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ ففيه مباحث
البحث الأول إنما أضاف الشركاء إليهم لوجوه الأول أنهم جعلوا نصيباً من أموالهم لتلك الأصنام فصيروها شركاء لأنفسهم في تلك الأموال فلهذا قال تعالى وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ الثاني أنه يكفي في الإضافة أدنى تعلق فلما كان الكفار هم الذين أثبتوا هذه الشركة لا جرم حسنت إضافة الشركاء إليهم الثالث أنه تعالى لما خاطب العابدين والمعبودين بقوله مَكَانَكُمْ صاروا شركاء في هذا الخطاب
البحث الثاني اختلفوا في المراد بهؤلاء الشركاء فقال بعضهم هم الملائكة واستشهدوا بقوله تعالى يَوْمٍ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَة ِ أَهَؤُلاَء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ ( سبأ 40 ) ومنهم من قال بل هي الأصنام والدليل عليه أن هذا الخطاب مشتمل على التهديد والوعيد وذلك لا يليق بالملائكة المقربين ثم اختلفوا في أن هذه الأصنام كيف ذكرت هذا الكلام فقال بعضهم إن الله تعالى يخلق الحياة والعقل والنطق فيها فلا جرم قدرت على ذكر هذا الكلام وقال آخرون إنه تعالى يخلق فيها الكلام من غير أن يخلق فيها الحياة حتى يسمع منها ذلك الكلام وهو ضعيف لأن ظاهر قوله وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ يقتضي أن يكون فاعل ذلك القول هم الشركاء
فإن قيل إذا أحياهم الله تعالى فهل يبقيهم أو يفنيهم
قلنا الكل محتمل ولا اعتراض على الله في شيء من أفعاله وأحوال القيامة غير معلومة إلا القليل الذي أخبر الله تعالى عنه في القرآن
والقول الثالث إن المراد بهؤلاء الشركاء كل من عبد من دون الله تعالى من صنم وشمس وقمر وأنسي وجني وملك
البحث الثالث هذا الخطاب لا شك أنه تهديد في حق العابدين فهل يكون تهديداً في حق المعبودين أما المعتزلة فإنهم قطعوا بأن ذلك لا يجوز قالوا لأنه لا ذنب للمعبود ومن لا ذنب له فإنه يقبح من الله تعالى أن يوجه التخويف والتهديد والوعيد إليه وأما أصحابنا فإنهم قالوا إنه تعالى لا يسئل عما يفعل
البحث الرابع أن الشركاء قالوا مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ وهم كانوا قد عبدوهم فكان هذا كذباً وقد ذكرنا في سورة الأنعام اختلاف الناس في أن أهل القيامة هل يكذبون أم لا وقد تقدمت هذه المسألة على الاستقصاء والذي نذكره ههنا أن منهم من قال إن المراد من قولهم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ هو أنكم ما عبدتمونا بأمرنا وإرادتنا قالوا والدليل على أن المراد ما ذكرناه وجهان الأول أنهم استشهدوا بالله في ذلك حيث قالوا فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ والثاني أنهم قالوا إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ فأثبتوا لهم عبادة إلا أنهم زعموا أنهم كانوا غافلين عن تلك العبادة وقد صدقوا في ذلك لأن من أعظم أسباب الغفلة كونها جمادات لا حس لها بشيء ولا شعور ألبتة ومن الناس من أجرى الآية على ظاهرها وقالوا إن الشركاء أخبروا أن الكفار ما عبدوها ثم ذكروا فيه وجوهاً الأول أن ذلك الموقف موقف الدهشة والحيرة فذلك الكذب يكون جارياً مجرى كذب الصبيان ومجرى كذب

المجانين والمدهوشين والثاني أنهم ما أقاموا لأعمال الكفار وزنا وجعلوها لبطلانها كالعدم ولهذا المعنى قالوا إنهم ما عبدونا والثالث أنهم تخيلوا في الأصنام التي عبدوها صفات كثيرة فهم في الحقيقة إنما عبدوا ذوات موصوفة بتلك الصفات ولما كانت ذواتها خالية عن تلك الصفات فهم ما عبدوها وإنما عبدوا أموراً تخيلوها ولا وجود لها في الأعيان وتلك الصفات التي تخيلوها في أصنامهم أنها تضر وتنفع وتشفع عند الله بغير إذنه
هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ
واعلم أن هذه الآية كالتتمة لما قبلها وقوله هُنَالِكَ معناه في ذلك المقام وفي ذلك الموقف أو يكون المراد في ذلك الوقت على استعارة اسم المكان للزمان وفي قوله تَبْلُواْ مباحث
البحث الأول قرأ حمزة والكسائي تَتْلُواْ بتاءين وقرأ عاصم تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ بالنون ونصب كل والباقون تَبْلُواْ بالتاء والباء أما قراءة حمزة والكسائي فلها وجهان الأول أن يكون معنى قوله تَتْلُواْ أي تتبع ما أسلفت لأن عمله هو الذي يهديه إلى طريق الجنة وإلى طريق النار الثاني أن يكون المعنى أن كل نفس تقرأ ما في صحيفتها من خير أو شر ومنه قوله تعالى اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ( الإسراء 14 ) وقال فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءونَ كِتَابَهُمْ ( الإسراء 71 ) وأما قراءة عاصم فمعناها أن الله تعالى يقول في ذلك الوقت نختبر كل نفس بسبب اختبار ما أسلفت من العمل والمعنى أنا نعرف حالها بمعرفة حال عملها إن كان حسناً فهي سعيدة وإن كان قبيحاً فهي شقية والمعنى نفعل بها فعل المختبر كقوله تعالى لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ( الملك 2 ) وأما القراءة المشهورة فمعناها أن كل نفس نختبر أعمالها في ذلك الوقت
البحث الثاني الابتلاء عبارة عن الاختبار قال تعالى وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيّئَاتِ ( الأعراف 168 ) ويقال البلاء ثم الابتلاء أي الاختبار ينبغي أن يكون قبل الابتلاء
ولقائل أن يقول إن في ذلك الوقت تنكشف نتائج الأعمال وتظهر آثار الأفعال فكيف يجوز تسمية حدوث العلم بالابتلاء
وجوابه أن الابتلاء سبب لحدوث العلم وإطلاق اسم السبب على المسبب مجاز مشهور
وأما قوله وَرُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقّ فاعلم أن الرد عبارة عن صرف الشيء إلى الموضع الذي جاء منه وههنا فيه احتمالات الأول أن يكون المراد من قوله وَرُدُّواْ إِلَى اللَّهِ أي وردوا إلى حيث لا حكم إلا لله على ما تقدم من نظائره والثاني أن يكون المراد وَرُدُّواْ إلى ما يظهر لهم من الله من ثواب وعقاب منبهاً بذلك على أن حكم الله بالثواب والعقاب لا يتغير الثالث أن يكون المراد من قوله وَرُدُّواْ إِلَى اللَّهِ أي جعلوا ملجئين إلى الإقرار بإلهيته بعد أن كانوا في الدنيا يعبدون غير الله تعالى ولذلك قال

مَوْلَاهُمُ الْحَقّ أعني أعرضوا عن المولى الباطل ورجعوا إلى المولى الحق
وأما قوله مَوْلَاهُمُ الْحَقّ فقد مر تفسيره في سورة الأنعام
وأما قوله وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ فالمراد أنهم كانوا يدعون فيما يعبدونه أنهم شفعاء وأن عبادتهم مقربة إلى الله تعالى فنبه تعالى على أن ذلك يزول في الآخرة ويعلمون أن ذلك باطل وافتراء واختلاق
قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ والأرض أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والاٌّ بْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَى َّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَى ِّ وَمَن يُدَبِّرُ الاٌّ مْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَة ُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين فضائح عبدة الأوثان أتبعها بذكر الدلائل الدالة على فساد هذا المذهب
فالحجة الأولى ما ذكره في هذه الآية وهو أحوال الرزق وأحوال الحواس وأحوال الموت والحياة أما الرزق فإنه إنما يحصل من السماء والأرض أما من السماء فبنزول الأمطار الموافقة وأما من الأرض فلأن الغذاء إما أن يكون نباتاً أو حيواناً أما النبات فلا ينبت إلا من الأرض وأما الحيوان فهو محتاج أيضاً إلى الغذاء ولا يمكن أن يكون غذاء كل حيوان حيواناً آخر وإلا لزم الذهاب إلى ما لا نهاية له وذلك محال فثبت أن أغذية الحيوانات يجب انتهاؤها إلى النبات وثبت أن تولد النبات من الأرض فلزم القطع بأن الأرزاق لا تحصل إلا من السماء والأرض ومعلوم أن مدبر السموات والأرضين ليس إلا الله سبحانه وتعالى فثبت أن الرزق ليس إلا من الله تعالى وأما أحوال الحواس فكذلك لأن أشرفها السمع والبصر وكان علي رضي الله عنه يقول سبحان من بصر بشحم وأسمع بعظم وأنطق بلحم وأما أحوال الموت والحياة فهو قوله وَمَن يُخْرِجُ الْحَى َّ مِنَ الْمَيّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيّتَ مِنَ الْحَى ّ وفيه وجهان الأول أنه يخرج الإنسان والطائر من النطفة والبيضة وَيُخْرِجُ الْمَيّتَ مِنَ الْحَى ّ أي يخرج النطفة والبيضة من الإنسان والطائر والثاني أن المراد منه أنه يخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن والأكثرون على القول الأول وهو إلى الحقيقة أقرب ثم إنه تعالى لما ذكر هذا التفصيل ذكر بعده كلاماً كلياً وهو قوله وَمَن يُدَبّرُ الاْمْرَ وذلك لأن أقسام تدبير الله تعالى في العالم العلوي وفي العالم السفلي وفي عالمي الأرواح والأجساد أمور لا نهاية لها وذكر كلها كالمتعذر فلما ذكر بعض تلك التفاصيل لا جرم عقبها بالكلام الكلي ليدل على الباقي ثم بين تعالى أن الرسول عليه السلام إذا سألهم عن مدبر هذه الأحوال فسيقولون إنه الله سبحانه

وتعالى وهذا يدل على أن المخاطبين بهذا الكلام كانوا يعرفون الله ويقرون به وهم الذين قالوا في عبادتهم للأصنام إنها تقربنا إلى الله زلفى وإنهم شفعاؤنا عند الله وكانوا يعلمون أن هذه الأصنام لا تنفع ولا تضر فعند ذلك قال لرسوله عليه السلام فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ يعني أفلا تتقون أن تجعلوا هذه الأوثان شركاء لله في المعبودية مع اعترافكم بأن كل الخيرات في الدنيا والآخرة إنما تحصل من رحمة الله وإحسانه واعترافكم بأن هذه الأوثان لا تنفع ولا تضر ألبتة
ثم قال تعالى فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ ومعناه أن من هذه قدرته ورحمته هو رَبُّكُمُ الْحَقُّ الثابت ربوبيته ثباتاً لا ريب فيه وإذا ثبت أن هذا هو الحق وجب أن يكون ما سواه ضلالاً لأن النقيضين يمتنع أن يكونا حقين وأن يكونا باطلين فإذا كان أحدهما حقاً وجب أن يكون ما سواه باطلاً
ثم قال فَأَنَّى تُصْرَفُونَ والمعنى أنكم لما عرفتم هذا الأمر الواضح الظاهر فَأَنَّى تُصْرَفُونَ وكيف تستجيزون العدول عن هذا الحق الظاهر واعلم أن الجبائي قد استدل بهذه الآية وقال هذا يدل على بطلان قول المجبرة أنه تعالى يصرف الكفار عن الإيمان لأنه لو كان كذلك لما جاز أن يقول فَأَنَّى تُصْرَفُونَ كما لا يقول إذا أعمى بصر أحدهم إني عميت واعلم أن الجواب عنه سيأتي عن قريب
أما قوله كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ففيه مسائل
المسألة الأولى احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الكفر بقضاء الله تعالى وإرادته وتقريره أنه تعالى أخبر عنهم خبراً جزماً قطعاً أنهم لا يؤمنون فلو آمنوا لكان إما أن يبقى ذلك الخبر صدقاً أو لا يبقى والأول باطل لأن الخبر بأنه لا يؤمن يمتنع أن يبقى صدقاً حال ما يوجد الإيمان منه والثاني أيضاً باطل لأن انقلاب خبر الله تعالى كذباً محال فثبت أن صدور الإيمان منهم محال والمحال لا يكون مراداً فثبت أنه تعالى ما أراد الإيمان من هذا الكافر وأنه أراد الكفر منه ثم نقول إن كان قوله فَأَنَّى تُصْرَفُونَ يدل على صحة مذهب القدرية فهذه الآية الموضوعة بجنبه تدل على فساده وقد كان من الواجب على الجبائي مع قوة خاطره حين استدل بتلك الآية على صحة قوله أن يذكر هذه الحجة ويجيب عنها حتى يحصل مقصوده
المسألة الثانية قرأ نافع وابن عامر كَلِمَاتُ رَبَّكَ على الجمع وبعده إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَاتُ رَبَّكَ ( يونس 96 ) وفي حم المؤمن كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَاتُ ( غافر 6 ) كله بالألف على الجمع والباقون كَلِمَتُ رَبّكَ في جميع ذلك على لفظ الوحدان
المسألة الثالثة الكاف في قوله كَذالِكَ للتشبيه وفيه قولان الأول أنه كما ثبت وحق أنه ليس بعد الحق إلا الضلال كذلك حقت كلمة ربك بأنهم لا يؤمنون الثاني كما حق صدور العصيان منهم كذلك حقت كلمة العذاب عليهم
المسألة الرابعة أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ بدل من كَلِمَاتُ أي حق عليهم انتفاء الإيمان
المسألة الخامسة المراد من كلمة الله إما إخباره عن ذلك وخبره صدق لا يقبل التغير والزوال أو علمه بذلك وعلمه لا يقبل التغير والجهل وقال بعض المحققين علم الله تعلق بأنه لا يؤمن وخبره

تعالى تعلق بأنه لا يؤمن وقدرته لم تتعلق بخلق الإيمان فيه بل بخلق الكفر فيه وإرادته لم تتعلق بخلق الإيمان فيه بل بخلق الكفر فيه وأثبت ذلك في اللوح المحفوظ وأشهد عليه ملائكته وأنزله على أنبيائه وأشهدهم عليه فلو حصل الإيمان لبطلت هذه الأشياء فينقلب علمه جهلاً وخبره الصدق كذباً وقدرته عجزاً وإرادته كرهاً وإشهاده باطلاً وإخبار الملائكة والأنبياء كذباً وكل ذلك محال
قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ
اعلم أن هذا هو الحجة الثانية وتقريرها ما شرح الله تعالى في سائر الآيات من كيفية ابتداء تخليق الإنسان من النطفة والعلقة والمضغة وكيفية إعادته ومن كيفية ابتداء تخليق السموات والأرض فلما فصل هذه المقامات لا جرم اكتفى تعالى بذكرها ههنا على سبيل الإجمال وههنا سؤالات
السؤال الأول ما الفائدة في ذكر هذه الحجة على سبيل السؤال والاستفهام
والجواب أن الكلام إذا كان ظاهراً جلياً ثم ذكر على سبيل الاستفهام وتفويض الجواب إلى المسؤول كان ذلك أبلغ وأوقع في القلب
السؤال الثاني القوم كانوا منكرين الإعادة والحشر والنشر فكيف احتج عليهم بذلك
والجواب أنه تعالى قدم في هذه السورة ذكر ما يدل عليه وهو وجوب التمييز بين المحسن وبين المسيء وهذه الدلالة ظاهرة قوية لا يتمكن العاقل من دفعها فلأجل كمال قوتها وظهورها تمسك به سواء ساعد الخصم عليه أو لم يساعد
السؤال الثالث لم أمر رسوله بأن يعترف بذلك والإلزام إنما يحصل لو اعترف الخصم به
والجواب أن الدليل لما كان ظاهراً جلياً فإذا أورد على الخصم في معرض الاستفهام ثم إنه بنفسه يقول الأمر كذلك كان هذا تنبيهاً على أن هذا الكلام بلغ في الوضوح إلى حيث لا حاجة فيه إلى إقرار الخصم به وأنه سواء أقر أو أنكر فالأمر متقرر ظاهر
أما قوله فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ فالمراد التعجب منهم في الذهاب عن هذا الأمر الواضح الذي دعاهم الهوى والتقليد أو الشبهة الضعيفة إلى مخالفته لأن الإخبار عن كون الأوثان آلهة كذب وإفك والاشتغال بعبادتها مع أنها لا تستحق هذه العبادة يشبه الإفك
قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَهْدِى إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِى لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِى إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّى إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ

وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن هذا هو الحجة الثالثة واعلم أن الاستدلال على وجود الصانع بالخلق أولاً ثم بالهداية ثانياً عادة مطردة في القرآن فحكى تعالى عن الخليل عليه السلام أنه ذكر ذلك فقال الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ ( الشعراء 78 ) وعن موسى عليه السلام أنه ذكر ذلك فقال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى وأمر محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) فقال سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ الاَعْلَى الَّذِى خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِى قَدَّرَ فَهَدَى ( الأعلى 1 3 ) وهو في الحقيقة دليل شريف لأن الإنسان له جسد وله روح فالاستدلال على وجود الصانع بأحوال الجسد هو الخلق والاستدلال بأحوال الروح هو الهداية فههنا أيضاً لما ذكر دليل الخلق في الآية الأولى وهو قوله أَم مَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ( النمل 64 ) أتبعه بدليل الهداية في هذه الآية
واعلم أن المقصود من خلق الجسد حصول الهداية للروح كما قال تعالى وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالاْبْصَارَ وَالافْئِدَة َ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( الحل 78 ) وهذا كالتصريح بأنه تعالى إنما خلق الجسد وإنما أعطى الحواس لتكون آلة في اكتساب المعارف والعلوم وأيضاً فالأحوال الجسدية خسيسة يرجع حاصلها إلى الالتذاذ بذوق شيء من الطعوم أو لمس شيء من الكيفيات الملموسة أما الأحوال الروحانية والمعارف الإلهية فإنها كمالات باقية أبد الآباد مصونة عن الكون والفساد فعلمنا أن الخلق تبع للهداية والمقصود الأشرف الأعلى حصول الهداية
إذا ثبت هذا فنقول العقول مضطربة والحق صعب والأفكار مختلطة ولم يسلم من الغلط إلا الأقلون فوجب أن الهداية وإدراك الحق لا يكون إلا بإعانة الله سبحانه وتعالى وهدايته وإرشاده ولصعوبة هذا الأمر قال الكليم عليه السلام بعد استماع الكلام القديم رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى ( طه 25 ) وكل الخلق يطلبون الهداية ويحترزون عن الضلالة مع أن الأكثرين وقعوا في الضلالة وكل ذلك يدل على أن حصول الهداية والعلم والمعرفة ليس إلا من الله تعالى
إذا عرفت هذا فنقول الهداية إما أن تكون عبارة عن الدعوة إلى الحق وإما أن تكون عبارة عن تحصيل تلك المعرفة وعلى التقديرين فقد دللنا على أنها أشرف المراتب البشرية وأعلى السعادات الحقيقية ودللنا على أنها ليست إلا من الله تعالى وأما الأصنام فإنها جمادات لا تأثير لها في الدعوة إلى الحق ولا في الإرشاد إلى الصدق فثبت أنه تعالى هو الموصل إلى جميع الخيرات في الدنيا والآخرة والمرشد إلى كل الكمالات في النفس والجسد وأن الأصنام لا تأثير لها في شيء من ذلك وإذا كان كذلك كان الاشتغال بعبادتها جهلاً محضاً وسفهاً صرفاً فهذا حاصل الكلام في هذا الاستدلال
المسألة الثانية قال الزجاج يقال هديت إلى الحق وهديت للحق بمعنى واحد والله تعالى ذكر هاتين اللغتين في قوله قُلِ اللَّهُ يَهْدِى لِلْحَقّ أَفَمَن يَهْدِى إِلَى الْحَقّ

المسألة الثالثة في قوله أَم مَّنْ لاَّ يَهِدِّى ست قراءات الأول قرأ ابن كثير وابن عامر وورش عن نافع يَهْدِى بفتح الياء والهاء وتشديد الدال وهو اختيار أبي عبيدة وأبي حاتم لأن أصله يهتدي أدغمت التاء في الدال ونقلت فتحة التاء المدغمة إلى الهاء الثانية قرأ نافع ساكنة الهاء مشددة الدال أدغمت التاء في الدال وتركت الهاء على حالها فجمع في قراءته بين ساكنين كما جمعوا في يَخِصّمُونَ ( يس 49 ) قال علي بن عيسى وهو غلط على نافع الثالثة قرأ أبو عمرو بالإشارة إلى فتحة الهاء من غير إشباع فهو بين الفتح والجزم مختلسة على أصل مذهبه اختياراً للتخفيف وذكر علي بن عيسى أنه الصحيح من قراءة نافع الرابعة قرأ عاصم بفتح الياء وكسر الهاء وتشديد الدال فراراً من التقاء الساكنين والجزم يحرك بالكسر الخامسة قرأ حماد ويحيى بن آدم عن أبي بكر عن عاصم بكسر الياء والهاء أتبع الكسرة للكسرة وقيل هو لغة من قرأ نَسْتَعِينُ السادسة قرأ حمزة والكسائي مَّن يَهْدِى ساكنة الهاء وبتخفيف الدال على معنى يهتدي والعرب تقول يهدي بمعنى يهتدي يقال هديته فهدى أي اهتدى
المسألة الرابعة في لفظ الآية إشكال وهو أن المراد من الشركاء في هذه الآية الأصنام وأنها جمادات لا تقبل الهداية فقوله أَم مَّنْ لاَّ يَهِدِّى إِلاَّ أَن يَهْدِى لا يليق بها
والجواب من وجوه الأول لا يبعد أن يكون المراد من قوله قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ هو الأصنام والمراد من قوله قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَهْدِى إِلَى الْحَقّ رؤساء الكفر والضلالة والدعاة إليها والدليل عليه قوله سبحانه اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مّن دُونِ اللَّهِ إلى قوله لاَّ إله إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( التوبة 31 ) والمراد أن الله سبحانه وتعالى هدى الخلق إلى الدين الحق بواسطة ما أظهر من الدلائل العقلية والنقلية وأما هؤلاء الدعاة والرؤساء فإنهم لا يقدرون على أن يهدوا غيرهم إلا إذا هداهم الله تعالى فكان التمسك بدين الله تعالى أولى من قبول قول هؤلاء الجهال
الوجه الثاني في الجواب أن يقال إن القوم لما اتخذوها آلهة لا جرم عبر عنها كما يعبر عمن يعلم ويعقل ألا ترى أنه تعالى قال إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ ( الأعراف 194 ) مع أنها جمادات وقال إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءكُمْ ( فاطر 14 ) فأجرى اللفظ على الأوثان على حسب ما يجري على من يعقل ويعلم فكذا ههنا وصفهم الله تعالى بصفة من يعقل وإن لم يكن الأمر كذلك الثالث أنا نحمل ذلك على التقدير يعني أنها لو كانت بحيث يمكنها أن تهدي فإنها لا تهدي غيرها إلا بعد أن يهديها غيرها وإذا حملنا الكلام على هذا التقدير فقد زال السؤال الرابع أن البنية عندنا ليست شرطاً لصحة الحياة والعقل فتلك الأصنام حال كونها خشباً وحجراً قابلة للحياة والعقل وعلى هذا التقدير فيصح من الله تعالى أن يجعلها حية عاقلة ثم إنها تشتغل بهداية الغير الخامس أن الهدى عبارة عن النقل والحركة يقال هديت المرأة إلى زوجها هدى إذا نقلت إليه والهدي ما يهدى إلى الحرم من النعم وسميت الهدية هدية لانتقالها من رجل إلى غيره وجاء فلان يهادى بين اثنين إذا كان يمشي بينهما معتمداً عليهما من ضعفه وتمايله
إذا ثبت هذا فنقول قوله أَم مَّنْ لاَّ يَهِدِّى إِلاَّ أَن يَهْدِى يحتمل أن يكون معناه أنه لا ينتقل إلى مكان إلا إذا نقل إليه وعلى هذا التقدير فالمراد الإشارة إلى كون هذه الأصنام جمادات خالية عن الحياة

والقدرة واعلم أنه تعالى لما قرر على الكفار هذه الحجة الظاهرة قال فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ يعجب من مذهبهم الفاسد ومقالتهم الباطلة أرباب العقول
ثم قال تعالى وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّا وفيه وجهان الأول وما يتبع أكثرهم في إقرارهم بالله تعالى إلا ظناً لأنه قول غير مستند إلى برهان عندهم بل سمعوه من أسلافهم الثاني وما يتبع أكثرهم في قولهم الأصنام آلهة وأنها شفعاء عند الله إلا الظن والقول الأول أقوى لأنا في القول الثاني نحتاج إلى أن نفسر الأكثر بالكل
ثم قال تعالى إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ الْحَقّ شَيْئًا وفيه مسألتان
المسألة الأولى تمسك نفاة القياس بهذه الآية فقالوا العمل بالقياس عمل بالظن فوجب أن لا يجوز لقوله تعالى إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ الْحَقّ شَيْئًا
أجاب مثبتو القياس فقالوا الدليل الذي دل على وجوب العمل بالقياس دليل قاطع فكان وجوب العمل بالقياس معلوماً فلم يكن العمل بالقياس مظنوناً بل كان معلوماً
أجاب المستدل عن هذا السؤال فقال لو كان الحكم المستفاد من القياس يعلم كونه حكماً لله تعالى لكان ترك العمل به كفراً لقوله تعالى وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ( المائدة 44 ) ولما لم يكن كذلك بطل العمل به وقد يعدون عن هذه الحجة بأنهم قالوا الحكم المستفاد من القياس إما أن يعلم كونه حكماً لله تعالى أو يظن أو لا يعلم ولا يظن والأول باطل وإلا لكان من لم يحكم به كافراً لقوله تعالى وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ( المائدة 44 ) وبالاتفاق ليس كذلك والثاني باطل لأن العمل بالظن لا يجوز لقوله تعالى إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ الْحَقّ شَيْئًا والثالث باطل لأنه إذا لم يكن ذلك الحكم معلوماً ولا مظنوناً كان مجرد التشهي فكان باطلاً لقوله تعالى فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصَّلَواة َ وَاتَّبَعُواْ الشَّهَواتِ ( مريم 59 )
وأجاب مثبتو القياس بأن حاصل هذا الدليل يرجع إلى التمسك بالعمومات والتمسك بالعمومات لا يفيد إلا الظن فلما كانت هذه العمومات دالة على المنع من التمسك بالظن لزم كونها دالة على المنع من التمسك بها وما أفضى ثبوته إلى نفيه كان متروكاً
المسألة الثانية دلت هذه الآية على أن كل من كان ظاناً في مسائل الأصول وما كان قاطعاً فإنه لا يكون مؤمناً
فإن قيل فقول أهل السنة أنا مؤمن إن شاء الله يمنع من القطع فوجب أن يلزمهم الكفر
قلنا هذا ضعيف من وجوه الأول مذهب الشافعي رحمه الله أن الإيمان عبارة عن مجموع الاعتقاد والإقرار والعمل والشك أصل في أن هذه الأعمال هل هي موافقة لأمر الله تعالى والشك في أحد أجزاء الماهية لا يوجب الشك في تمام الماهية الثاني أن الغرض من قوله إن شاء الله بقاء الإيمان عند الخاتمة الثالث الغرض منه هضم النفس وكسرها والله أعلم

وَمَا كَانَ هَاذَا الْقُرْءَانُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللَّهِ وَلَاكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَة ٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الظَّالِمِينَ
فيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنا حين شرعنا في تفسير قوله تعالى وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَة ٌ مّن رَّبّهِ ( بونس 20 ) ذكرنا أن القوم إنما ذكروا ذلك لاعتقادهم أن القرآن ليس بمعجز وأن محمداً إنما يأتي به من عند نفسه على سبيل الافتعال والاختلاق ثم إنه تعالى ذكر الجوابات الكثيرة عن هذا الكلام وامتدت تلك البيانات على الترتيب الذي شرحناه وفصلناه إلى هذا الموضع ثم إنه تعالى بين في هذا المقام أن إتيان محمد عليه السلام بهذا القرآن ليس على سبيل الافتراء على الله تعالى ولكنه وحي نازل عليه من عند الله ثم إنه تعالى احتج على صحة هذا الكلام بقوله أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَة ٍ مّثْلِهِ وذلك يدل على أنه معجز نازل عليه من عند الله تعالى وأنه مبرأ عن الافتراء والافتعال فهذا هو الترتيب الصحيح في نظم هذه الآيات
المسألة الثانية قوله تعالى وَمَا كَانَ هَاذَا الْقُرْءانُ أَن يُفْتَرَى فيه وجهان الأول أن قوله أَن يُفْتَرَى في تقدير المصدر والمعنى وما كان هذا القرآن افتراء من دون الله كما تقول ما كان هذا الكلام إلا كذباً والثاني أن يقال إن كلمة ءانٍ جاءت ههنا بمعنى اللام والتقدير ما كان هذا القرآن ليفترى من دون الله كقوله وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّة ً ( التوبة 122 ) مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ ( آل عمران 179 ) أي لم يكن ينبغي لهم أن يفعلوا ذلك فكذلك ما ينبغي لهذا القرآن أن يفترى أي ليس وصفه وصف شيء يمكن أن يفترى به على الله لأن المفترى هو الذي يأتي به البشر والقرآن معجز لا يقدر عليه البشر والافتراء افتعال من فريت الأديم إذا قدرته للقطع ثم استعمل في الكذب كما استعمل قولهم اختلف فلان هذا الحديث في الكذب فصار حاصل هذا الكلام أن هذا القرآن لا يقدر عليه أحد إلا الله عز وجل ثم إنه تعالى احتج على هذه الدعوى بأمور
الحجة الأولى قوله وَلَاكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وتقرير هذه الحجة من وجوه أحدها أن محمداً عليه السلام كان رجلاً أمياً ما سافر إلى بلدة لأجل التعلم وما كانت مكة بلدة العلماء وما كان فيها

شيء من كتب العلم ثم إنه عليه السلام أتى بها القرآن فكان هذا القرآن مشتملاً على أقاصيص الأولين والقوم كانوا في غاية العداوة له فلو لم تكن هذه الأقاصيص موافقة لما في التوراة والإنجيل لقدحوا فيه ولبالغوا في الطعن فيه ولقالوا له إنك جئت بهذه الأقاصيص لا كما ينبغي فلما لم يقل أحد ذلك مع شدة حرصهم على الطعن فيه وعلى تقبيح صورته علمنا أنه أتى بتلك الأقاصيص مطابقة لما في التوراة والإنجيل مع أنه ما طالعهما ولا تلمذ لأحد فيهما وذلك يدل على أنه عليه السلام إنما أخبر عن هذه الأشياء بوحي من قبل الله تعالى
الحجة الثانية أن كتب الله المنزلة دلت على مقدم محمد عليه السلام على ما استقصينا في تقريره في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ( البقرة 40 ) وإذا كان الأمر كذلك كان مجيء محمد عليه السلام تصديقاً لما في تلك الكتب من البشارة بمجيئه ( صلى الله عليه وسلم ) فكان هذا عبارة عن تصديق الذي بين يديه
الحجة الثالثة أنه عليه السلام أخبر في القرآن عن الغيوب الكثيرة في المستقبل ووقعت مطابقة لذلك الخبر كقوله تعالى الم غُلِبَتِ الرُّومُ ( الروم 1 2 ) الآية وكقوله تعالى لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقّ ( الفتح 27 ) وكقوله وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الاْرْضِ ( النور 55 ) وذلك يدل على أن الإخبار عن هذه الغيوب المستقبلة إنما حصل بالوحي من الله تعالى فكان ذلك عبارة عن تصديق الذي بين يديه فالوجهان الأولان إخبار عن الغيوب الماضية والوجه الثالث إخبار عن الغيوب المستقبلة ومجموعها عبارة عن تصديق الذي بين يديه
النوع الثاني من الدلائل المذكورة في هذه الآية قوله تعالى وَتَفْصِيلَ كُلّ شَى ْء
واعلم أن الناس اختلفوا في أن القرآن معجز من أي الوجوه فقال بعضهم إنه معجز لاشتماله على الإخبار عن الغيوب الماضية والمستقبلة وهذا هو المراد من قوله تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ ومنهم من قال إنه معجز لاشتماله على العلوم الكثيرة وإليه الإشارة بقوله وَتَفْصِيلَ كُلّ شَى ْء وتحقيق الكلام في هذا الباب أن العلوم إما أن تكون دينية أو ليست دينية ولا شك أن القسم الأول أرفع حالاً وأعظم شأناً وأكمل درجة من القسم الثاني وأما العلوم الدينية فإما أن تكون علم العقائد والأديان وإما أن تكون علم الأعمال أما علم العقائد والأديان فهو عبارة عن معرفة الله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر أما معرفة الله تعالى فهي عبارة عن معرفة ذاته ومعرفة صفات جلاله ومعرفة صفات إكرامه ومعرفة أفعاله ومعرفة أحكامه ومعرفة أسمائه والقرآن مشتمل على دلائل هذه المسائل وتفاريعها وتفاصيلها على وجه لا يساويه شيء من الكتب بل لا يقرب منه شيء من المصنفات وأما علم الأعمال فهو إما أن يكون عبارة عن علم التكاليف المتعلقة بالظواهر وهو علم الفقه ومعلوم أن جميع الفقهاء إنما استنبطوا مباحثهم من القرآن وإما أن يكون علماً بتصفية الباطن أو رياضة القلوب وقد حصل في القرآن من مباحث هذا العلم ما لا يكاد يوجد في غيره كقوله خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِض عَنِ الْجَاهِلِينَ ( الأعراف 199 ) وقوله إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْى ( النمل 90 ) فثبت أن القرآن مشتمل على تفاصيل جميع العلوم الشريفة عقليها ونقليها اشتمالاً يمتنع حصوله في سائر الكتب

فكان ذلك معجزاً وإليه الإشارة بقوله وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ
أما قوله لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبّ الْعَالَمِينَ فتقريره أن الكتاب الطويل المشتمل على هذه العلوم الكثيرة لا بد وأن يشتمل على نوع من أنواع التناقض وحيث خلي هذا الكتاب عنه علمنا أنه من عند الله وبوحيه وتنزيله ونظيره قوله تعالى وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً ( النساء 82 )
واعلم أنه تعالى لما ذكر في أول هذه الآية أن هذا القرآن لا يليق بحاله وصفته أن يكون كلاماً مفترى على الله تعالى وأقام عليه هذين النوعين من الدلائل المذكورة عاد مرة أخرى بلفظ الاستفهام على سبيل الإنكار فقال أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ثم إنه تعالى ذكر حجة أخرى على إبطال هذا القول فقال قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَة ٍ مّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وهذه الحجة بالغنا في تقريرها في تفسير قوله تعالى في سورة البقرة وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَة ٍ مّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ ( البقرة 23 ) وههنا سؤالات
السؤال الأول لم قال في سورة البقرة مّن مّثْلِهِ وقال ههنا فَأْتُواْ بِسُورَة ٍ مّثْلِهِ
والجواب أن محمداً عليه السلام كان رجلاً أمياً لم يتلمذ لأحد ولم يطالع كتاباً فقال في سورة البقرة فَأْتُواْ بِسُورَة ٍ مّن مِّثْلِهِ يعني فليأت إنسان يساوي محمداً عليه السلام في عدم التلمذ وعدم مطالعة الكتب وعدم الاشتغال بالعلوم بسورة تساوي هذه السورة وحيث ظهر العجز ظهر المعجز فهذا لا يدل على أن السورة في نفسها معجزة ولكنه يدل على أن ظهور مثل هذه السورة من إنسان مثل محمد عليه السلام في عدم التلمذ والتعلم معجز ثم إنه تعالى بين في هذه السورة أن تلك السورة في نفسها معجز فإن الخلق وإن تلمذوا وتعلموا وطالعوا وتفكروا فإنه لا يمكنهم الإتيان بمعارضة سورة واحدة من هذه السور فلا جرم قال تعالى في هذه الآية فَأْتُواْ بِسُورَة ٍ مّثْلِهِ ولا شك أن هذا ترتيب عجيب في باب التحدي وإظهار المعجز
السؤال الثاني قوله فَأْتُواْ بِسُورَة ٍ مّثْلِهِ هل يتناول جميع السور الصغار والكبار أو يختص بالسور الكبار
الجواب هذه الآية في سورة يونس وهي مكية فالمراد مثل هذه السورة لأنها أقرب ما يمكن أن يشار إليه
السؤال الثالث أن المعتزلة تمسكوا بهذه الآية على أن القرآن مخلوق قالوا إنه عليه السلام تحدى العرب بالقرآن والمراد من التحدي أنه طلب منهم الإتيان بمثله فإذا عجزوا عنه ظهر كونه حجة من عند الله على صدقه وهذا إنما يمكن لو كان الإتيان بمثله صحيح الوجود في الجملة ولو كان قديماً لكان الإتيان بمثل القديم محالاً في نفس الأمر فوجب أن لا يصح التحدي
والجواب أن القرآن اسم يقال بالاشتراك على الصفة القديمة القائمة بذات الله تعالى وعلى هذه الحروف والأصوات ولا نزاع في أن الكلمات المركبة من هذه الحروف والأصوات محدثة مخلوقة والتحدي إنما وقع بها لا بالصفة القديمة

أما قوله وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فالمراد منه تعليم أنه كيف يمكن الإتيان بهذه المعارضة لو كانوا قادرين عليها وتقريره أن الجماعة إذا تعاونت وتعاضدت صارت تلك العقول الكثيرة كالعقل الواحد فإذا توجهوا نحو شيء واحد قدر مجموعهم على ما يعجز كل واحد منهم فكأنه تعالى يقول هب أن عقل الواحد والاثنين منكم لا يفي باستخراج معارضة القرآن فاجتمعوا وليعن بعضكم بعضاً في هذه المعارضة فإذا عرفتم عجزكم حالة الاجتماع وحالة الانفراد عن هذه المعارضة فحينئذ يظهر أن تعذر هذه المعارضة إنما كان لأن قدرة البشر غير وافية بها فحينئذ يظهر أن ذلك فعل الله لا فعل البشر
واعلم أنه قد ظهر بهذا الذي قررناه أن مراتب تحدي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالقرآن ستة فأولها أنه تحداهم بكل القرآن كما قال قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَاذَا الْقُرْءانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ( الإسراء 88 ) وثانيها أنه عليه السلام تحداهم بعشر سور قال تعالى فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وثالثها أنه تحداهم بسورة واحدة كما قال فَأْتُواْ بِسُورَة ٍ مّن مِّثْلِهِ ( الطور 34 ) ورابعها أنه تحداهم بحديث مثله فقال فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مّثْلِهِ وخامسها أن في تلك المراتب الأربعة كان يطلب منهم أن يأتي بالمعارضة رجل يساوي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في عدم التلمذ والتعلم ثم في سورة يونس طلب منهم معارضة سورة واحدة من أي إنسان سواء تعلم العلوم أو لم يتعلمها وسادسها أن في المراتب المتقدمة تحدى كل واحد من الخلق وفي هذه المرتبة تحدى جميعهم وجوز أن يستعين البعض بالبعض في الإتيان بهذه المعارضة كما قال وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وههنا آخر المراتب فهذا مجموع الدلائل التي ذكرها الله تعالى في إثبات أن القرآن معجز ثم إنه تعالى ذكر السبب الذي لأجله كذبوا القرآن فقال بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِيهِمُ تَأْوِيلِهِ واعلم أن هذا الكلام يحتمل وجوهاً
الوجه الأول أنهم كلما سمعوا شيئاً من القصص قالوا ليس في هذا الكتاب إلا أساطير الأولين ولم يعرفوا أن المقصود منها ليس هو نفس الحكاية بل أمور أخرى مغايرة لها فأولها بيان قدرة الله تعالى على التصرف في هذا العالم ونقل أهله من العز إلى الذل ومن الذل إلى العز وذلك يدل على قدرة كاملة وثانيها أنها تدل على العبرة من حيث إن الإنسان يعرف بها أن الدنيا لا تبقى فنهاية كل متحرك سكون وغاية كل متكون أن لا يكون فيرفع قلبه عن حب الدنيا وتقوى رغبته في طلب الآخرة كما قال لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَة ٌ لاّوْلِى الالْبَابِ ( يوسف 111 ) وثالثها أنه ( صلى الله عليه وسلم ) لما ذكر قصص الأولين من غير تحريف ولا تغيير مع أنه لم يتعلم ولم يتلمذ دل ذلك على أنه بوحي من الله تعالى كما قال في سورة الشعراء بعد أن ذكر القصص وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ( الشعراء 192 194 )
والوجه الثاني أنهم كلما سمعوا حروف التهجي في أوائل السور ولم يفهموا منها شيئاً ساء ظنهم بالقرآن وقد أجاب الله تعالى عنه بقوله هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ ( آل عمران 7 )
والوجه الثالث أنهم رأوا أن القرآن يظهر شيئاً فشيئاً فصار ذلك سبباً للطعن الرديء فقالوا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة فأجاب الله تعالى عنه بقوله كَذَلِكَ لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ( الفرقان 32 ) وقد شرحنا هذا الجواب في سورة الفرقان

والوجه الرابع أن القرآن مملوء من إثبات الحشر والنشر والقوم كانوا قد ألفوا المحسوسات فاستبعدوا حصول الحياة بعد الموت ولم يتقرر ذلك في قلوبهم فظنوا أن محمداً عليه السلام إنما يذكر ذلك على سبيل الكذب والله تعالى بين صحة القول بالمعاد بالدلائل القاهرة الكثيرة
الوجه الخامس أن القرآن مملوء من الأمر بالصلاة والزكاة وسائر العبادات والقوم كانوا يقولون إله العالمين غني عنا وعن طاعتنا وإنه تعالى أجل من أن يأمر بشيء لا فائدة فيه فأجاب الله تعالى عنه بقوله أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً ( المؤمنون 115 ) وبقوله إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لاِنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ( الإسراء 7 ) وبالجملة فشبهات الكفار كثيرة فهم لما رأوا القرآن مشتملاً على أمور ما عرفوا حقيقتها ولم يطلعوا على وجه الحكمة فيها لا جرم كذبوا بالقرآن والحاصل أن القوم ما كانوا يعرفون أسرار الإلهيات وكانوا يجرون الأمور على الأحوال المألوفة من عالم المحسوسات وما كانوا يطلبون حكمها ولا وجوه تأويلاتها فلا جرم وقعوا في التكذيب والجهل فقوله بَلْ كَذَّبُواْ لَّمّاً لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ إشارة إلى عدم علمهم بهذه الأشياء وقوله وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ إشارة إلى عدم جدهم واجتهادهم في طلب تلك الأسرار
ثم قال فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الظَّالِمِينَ والمراد أنهم طلبوا الدنيا وتركوا الآخرة فلما ماتوا فاتتهم الدنيا والآخرة فبقوا في الخسار العظيم ومن الناس من قال المراد منه عذاب الاستئصال وهو الذي نزل بالأمم الذين كذبوا الرسل من ضروب العذاب في الدنيا قال أهل التحقيق قوله وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ يدل على أن من كان غير عارف بالتأويلات وقع في الكفر والبدعة لأن ظواهر النصوص قد يوجد فيها ما تكون متعارضة فإذا لم يعرف الإنسان وجه التأويل فيها وقع في قلبه أن هذا الكتاب ليس بحق أما إذا عرف وجه التأويل طبق التنزيل على التأويل فيصير ذلك نوراً على نور يهدي الله لنوره من يشاء
وَمِنهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّى عَمَلِى وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِي ئُونَ مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِى ءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية المتقدمة قوله فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الظَّالِمِينَ وكان المراد منه تسليط العذاب عليهم في الدنيا أتبعه بقوله وَمِنهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ منبهاً على أن الصلاح عنده تعالى كان في هذه الطائفة التبقية دون الاستئصال من حيث كان المعلوم أن منهم من يؤمن به والأقرب أن يكون الضمير في قوله بِهِ رجعاً إلى القرآن لأنه هو المذكور من قبل ثم يعلم أنه متى حصل الإيمان بالقرآن فقد حصل معه الإيمان بالرسول عليه الصلاة والسلام أيضاً واختلفوا في قوله وَمِنهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ لأن كلمة يؤمن فعل مستقبل وهو يصلح للحال والاستقبال فمنهم من حمله على الحال وقال المراد أن منهم من يؤمن بالقرآن باطناً لكنه يتعمد الجحد وإظهار التكذيب ومنهم من باطنه كظاهره في التكذيب ويدخل فيه أصحاب الشبهات وأصحاب التقليد ومنهم

من قال المراد هو المستقبل يعني أن منهم من يؤمن به في المستقبل بأن يتوب عن الفكر ويبدله بالإيمان ومنهم من بصر ويستمر على الكفر
ثم قال وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ أي هو العالم بأحوالهم في أنه هل يبقى مصراً على الكفر أو يرجع عنه
ثم قال وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لّى عَمَلِى وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ قيل فقل لي عملي الطاعة والإيمان ولكم عملكم الشرك وقيل لي جزاء عملي ولكم جزاء عملكم
ثم قال أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِىء مّمَّا تَعْمَلُونَ قيل معنى الآية الزجر والردع وقيل بل معناه استمالة قلوبهم قال مقاتل والكلبي هذه الآية منسوخة بآية السيف وهذا بعيد لأن شرط الناسخ أن يكون رافعاً لحكم المنسوخ ومدلول هذه الآية اختصاص كل واحد بأفعاله وبثمرات أفعاله من الثواب والعقاب وذلك لا يقتضي حرمة القتال فآية القتال ما رفعت شيئاً من مدلولات هذه الآية فكان القول بالنسخ باطلاً
وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِى الْعُمْى َ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَاكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى في الآية الأولى قسم الكفار إلى قسمين منهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وفي هذه الآية قسم من لا يؤمن به قسمين منهم من يكون في غاية البغض له والعداوة له ونهاية النفرة عن قبول دينه ومنهم من لا يكون كذلك فوصف القسم الأول في هذه الآية فقال ومنهم من يستمع كلامك مع أنه يكون كالأصم من حيث إنه لا ينتفع ألبتة بذلك الكلام فإن الإنسان إذا قوي بغضه لإنسان آخر وعظمت نفرته عنه صارت نفسه متوجهة إلى طلب مقابح كلامه معرضة عن جميع جهات محاسن كلامه فالصمم في الأذن معنى ينافي حصول إدراك الصوت فكذلك حصول هذا البغض الشديد كالمنافي للوقوف على محاسن ذلك الكلام والعمى في العين معنى ينافي حصول إدراك الصورة فكذلك البغض ينافي وقوف الإنسان على محاسن من يعاديه والوقوف على ما آتاه الله تعالى من الفضائل فبين تعالى أن في أولئك الكفار من بلغت حالته في البغض والعداوة إلى هذا الحد ثم كما أنه لا يمكن جعل الأصم سميعاً ولا جعل الأعمى بصيراً فكذلك لا يمكن جعل العدو البالغ في العداوة إلى هذا الحد صديقاً تابعاً للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) والمقصود من هذا الكلام تسلية الرسول عليه الصلاة والسلام بأن هذه الطائفة قد بلغوا في مرض العقل إلى حيث لا يقبلون العلاج والطبيب إدا رأى مريضاً لا يقبل العلاج أعرض عنه ولم يستوحش من عدم قبوله للعلاج فكذلك وجب عليك أن لا تستوحش من حال هؤلاء الكفار

المسألة الثانية احتج ابن قتيبة بهذه الآية على أن السمع أفضل من البصر فقال إن الله تعالى قرن بذهاب السمع ذهاب العقل ولم يقرن بذهاب النظر إلا ذهاب البصر فوجب أن يكون السمع أفضل من البصر وزيف ابن الأنباري هذا الدليل فقال إن الذي نفاه الله مع السمع بمنزلة الذي نفاه الله مع البصر لأنه تعالى أراد إبصار القلوب ولم يرد إبصار العيون والذي يبصره القلب هو الذي يعقله واحتج ابن قتيبة على هذا المطلوب بحجة أخرى من القرآن فقال كلما ذكر الله السمع والبصر فإنه في الأغلب يقدم السمع على البصر وذلك يدل على أن السمع أفضل من البصر ومن الناس من ذكر في هذا الباب دلائل أخرى فأحدها أن العمى قد وقع في حق الأنبياء عليهم السلام أما الصمم فغير جائز عليهم لأنه يخل بأداء الرسالة من حيث إنه إذا لم يسمع كلام السائلين تعذر عليه الجواب فيعجز عن تبليغ شرائع الله تعالى
الحجة الثانية أن القوة السامعة تدرك المسموع من جميع الجوانب والقوة الباصرة لا تدرك المرئي إلا من جهة واحدة وهي المقابل
الحجة الثالثة أن الإنسان إنما يستفيد العلم بالتعلم من الأستاذ وذلك لا يمكن إلا بقوة السمع فاستكمال النفس بالكمالات العلمية لا يحصل إلا بقوة السمع ولا يتوقف على قوة البصر فكان السمع أفضل من البصر
الحجة الرابعة أنه تعالى قال إِنَّ فِى ذالِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ والمراد من القلب ههنا العقل فجعل السمع قريناً للعقل ويتأكد هذا بقوله تعالى وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِى أَصْحَابِ السَّعِيرِ ( الملك 10 ) فجلوا السمع سبباً للخلاص من عذاب السعير
الحجة الخامسة أن المعنى الذي يمتاز به الإنسان من سائر الحيوانات هو النطق والكلام وإنما ينتفع بذلك القوة السامعة فمتعلق السمع النطق الذي به حصل شرف الإنسان ومتعلق البصر إدراك الألوان والأشكال وذلك أمر مشترك فيه بين الناس وبين سائر الحيوانات فوجب أن يكون السمع أفضل من البصر
الحجة السادسة أن الأنبياء عليهم السلام يراهم الناس ويسمعون كلامهم فنبوتهم ما حصلت بسبب ما معهم من الصفات المرئية وإنما حصلت بسبب ما معهم من الأصوات المسموعة وهو الكلام وتبليغ الشرائع وبيان الأحكام فوجب أن يكون المسموع أفضل من المرئي فلزم أن يكون السمع أفضل من البصر فهذا جملة ما تمسك به القائلون بأن السمع أفضل من البصر ومن الناس من قال البصر أفضل من السمع ويدل عليه وجوه
الحجة الأولى أنهم قالوا في المثل المشهور ليس وراء العيان بيان وذلك يدل على أن أكمل وجوه الإدراكات هو الأبصار
الحجة الثانية أن آلة القوة الباصرة هو النور وآلة القوة السامعة هي الهواء والنور أشرف من الهواء فالقوة الباصرة أشرف من القوة السامعة

الحجة الثالثة أن عجائب حكمة الله تعالى في تخليق العين التي هي محل الأبصار أكثر من عجائب خلقته في الأذن التي هي محل السماع فإنه تعالى جعل تمام روح واحد من الأرواح السبعة الدماغية من العصب آلة للأبصار وركب العين من سبع طبقات وثلاث رطوبات وخلق لتحريكات العين عضلات كثيرة على صورة مختلفة والأذن ليس كذلك وكثرة العناية في تخليق الشيء تدل على كونه أفضل من غيره
الحجة الرابعة أن البصر يرى ماحصل فوق سبع سموات والسمع لا يدرك ما بعد منه على فرسخ فكان البصر أقوى وأفضل وبهذا البيان يدفع قولهم إن السمع يدرك من كل الجوانب والبصر لا يدرك إلا من الجانب الواحد
الحجة الخامسة أن كثيراً من الأنبياء سمع كلام الله في الدنيا واختلفوا في أنه هل رآه أحد في الدنيا أم لا وأيضاً فإن موسى عليه السلام سمع كلامه من غير سبق سؤال والتماس ولما سأل الرؤية قال لَن تَرَانِى ( الأعراف 143 ) وذلك يدل على أن حال الرؤية أعلى من حال السماع
الحجة السادسة قال ابن الأنباري كيف يكون السمع أفضل من البصر وبالبصر يحصل جمال الوجه وبذهابه عيبه وذهاب السمع لا يورث الإنسان عيباً العرب تسمي العينين الكريمتين ولا تصف السمع بمثل هذا ومنه الحديث يقول الله تعالى ( من أذهبت كريمته فصبر واحتسب لم أرض له ثواباً دون الجنة )
المسألة الثالثة احتج أصحابنا بهذه الآية على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى قالوا الآية دالة على أن قلوب أولئك الكفار بالنسبة إلى الإيمان كالأصم بالنسبة إلى استماع الكلام وكالأعمى بالنسبة إلى إبصار الأشياء وكما أن هذا ممتنع فكذلك ما نحن فيه قالوا والذي يقوي ذلك أن حصول العداوة القوية الشديدة وكذلك حصول المحبة الشديدة في القلب ليس باختيار الإنسان لأن عند حصول هذه العداوة الشديدة يجد وجداناً ضرورياً أن القلب يصير كالأصم والأعمى في استماع كلام العدو وفي مطالعة أفعاله الحسنة وإذا كان الأمر كذلك فقد حصل المطلوب وأيضاً لما حكم الله تعالى عليها حكماً جازماً بعدم الإيمان فحينئذ يلزم من حصول الإيمان انقلاب علمه جهلاً وخبره الصدق كذباً وذلك محال وأما المعتزلة فقد احتجوا على صحة قولهم بقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَاكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ وجه الاستدلال به أنه يدل على أنه تعالى ما ألجأ أحداً إلى هذه القبائح والمنكرات ولكنهم باختيار أنفسهم يقدمون عليها ويباشرونها
أجاب الواحدي عنه فقال إنه تعالى إنما نفى الظلم عن نفسه لأنه يتصرف في ملك نفسه ومن كان كذلك لم يكن ظالماً وإنما قال وَلَاكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ لأن الفعل منسوب إليهم بسبب الكسب
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَة ً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ اللَّهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ

اعلم أنه تعالى لما وصف هؤلاء الكفار بقلة الإصغاء وترك التدبر أتبعه بالوعيد فقال وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَة ً مّنَ النَّهَارِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حفص عن عاصم يَحْشُرُهُمْ بالياء والباقون بالنون
المسألة الثانية قوله كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ في موضع الحال أي مشابهين من لم يلبث إلا ساعة من النهار وقوله يَتَعَارَفُونَ يجوز أن يكون متعلقاً بيوم نحشرهم ويجوز أن يكون حالاً بعد حال
المسألة الثالثة كَانَ هذه هي المحففة من الثقيلة التقدير كأنهم لم يلبثوا فخففت كقوله وكأن قد
المسألة الرابعة قيل كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار وقيل في قبورهم والقرآن وارد بهذين الوجهين قال تعالى كَمْ لَبِثْتُمْ فِى الاْرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ( المؤمنون 112 113 ) قال القاضي والوجه الأول أولى لوجهين أحدهما أن حال المؤمنين كحال الكافرين في أنهم لا يعرفون مقدار لبثهم بعد الموت إلى وقت الحشر فيجب أن يحمل ذلك على أمر يختص بالكفار وهو أنهم لما لم ينتفعوا بعمرهم استقلوه والمؤمن لما انتفع بعمره فإنه لا يستقله الثاني أنه قال يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ لأن التعارف إنما يضاف إلى حال الحياة لا إلى حال الممات
المسألة الخامسة ذكروا في سبب هذا الاستقلال وجوهاً الأول قال أبو مسلم لما ضيعوا أعمارهم في طلب الدنيا والحرص على لذاتها لم ينتفعوا بعمرهم ألبتة فكان وجود ذلك العمر كالعدم فلهذا السبب استقلوه ونظيره قوله تعالى وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ ( البقرة 96 ) الثاني قال الأصم قل ذلك عندهم لما شاهدوا من أهوال الآخرة والأنسان إذا عظم خوفه نسي الأمور الظاهرة الثالث أنه قل عندهم مقامهم في الدنيا في جنب مقامهم في الآخرة وفي العذاب المؤبد الرابع أنه قل عندهم مقامهم في الدنيا لطول وقوفهم في الحشر الخامس المراد أنهم عند خروجهم من القبور يتعارفون كما كانوا يتعارفون في الدنيا وكأنهم لم يتعارفوا بسبب الموت إلا مدة قليلة لا تؤثر في ذلك التعارف وأقول تحقيق الكلام في هذا الباب أن عذاب الكافر مضرة خالصة دائمة مقرونة بالإهانة والإذلال والإحساس بالمضرة أقوى من الإحساس باللذة بدليل أن أقوى اللذات هي لذات الوقاع والشعور بأم القولنج وغيره والعياذ بالله تعالى أقوى من الشعور بلذة الوقاع وأيضاً لذات الدنيا مع خساستها ما كانت خالصة بل كانت مخلوطة بالهمومات الكثيرة وكانت تلك اللذات مغلوبة بالمؤلمات والآفات وأيضاً إن لذات الدنيا ما حصلت إلا بعض أوقات الحياة الدنيوية وآلام الآخرة أبدية سرمدية لا تنقطع ألبتة ونسبة عمر جميع الدنيا إلى الآخرة الأبدية أقل من الجزء الذي لا يتجزأ بالنسبة إلى ألف ألف عالم مثل العالم الموجود
إذا عرفت هذا فنقول أنه متى قوبلت الخيرات الحاصلة بسبب الحياة العاجلة بالآفات الحاصلة

للكافر وجدت أقل من اللذة بالنسبة إلى جميع العالم فقوله كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَة ً مّنَ النَّهَارِ إشارة إلى ما ذكرناه من قلتها وحقارتها في جنب ما حصل من العذاب الشديد
أما قوله يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ ففيه وجوه الأول يعرف بعضهم بعضاً كما كانوا يعرفون في الدنيا الثاني يعرف بعضهم بعضاً بما كانوا عليه من الخطأ والكفر ثم تنقطع المعرفة إذا عاينوا العذاب وتبرأ بعضهم من بعض
فإن قيل كيف توافق هذه الآية قوله وَلاَ يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً ( المعارج 10 ) والجواب عنه من وجهين
الوجه الأول أن المراد من هذه الآية أنهم يتعارفون بينهم يوبخ بعضهم بعضاً فيقول كل فريق للآخر أنت أضللتني يوم كذا وزينت لي الفعل الفلاني من القبائح فهذا تعارف تقبيح وتعنيف وتباعد وتقاطع لا تعارف عطف وشفقة وأما قوله تعالى وَلاَ يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً فالمراد سؤال الرحمة والعطف
والوجه الثاني في الجواب حمل هاتين الآيتين على حالتين وهو أنهم يتعارفون إذا بعثوا ثم تنقطع المعرفة فلذلك لا يسأل حميم حميماً
أما قوله تعالى قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللَّهِ ففيه وجهان الأول أن يكون التقدير ويوم يحشرهم حال كونهم متعارفين وحال كونهم قائلين قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللَّهِ الثاني أن يكون قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ كلام الله فيكون هذا شهادة من الله عليهم بالخسران والمعنى أن من باع آخرته بالدنيا فقد خسر لأنه أعطى الكثير الشريف الباقي وأخذ القليل الخسيس الفاني
وأما قوله وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ فالمراد أنهم ما اهتدوا إلى رعاية مصالح هذه التجارة وذلك لأنهم اغتروا بالظاهر وغفلوا عن الحقيقة فصاروا كمن رأى زجاجة حسنة فظنها جوهرة شريفة فاشتراها بكل ما ملكه فإذا عرضها على الناقدين خاب سعيه وفات أمله ووقع في حرقة الروع وعذاب القلب وأما قوله وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فاعلم أن قوله فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ جواب نَتَوَفَّيَنَّكَ وجواب نُرِيَنَّكَ محذوف والتقدير وإما نرينك بعض الذي نعدهم في الدنيا فذاك أو نتوفينك قبل أن نرينك ذلك الموعد فإنك ستراه في الآخرة
واعلم أن هذا يدل على أنه تعالى يُري رسوله أنواعاً من ذل الكافرين وخزيهم في الدنيا وسيزيد عليه بعد وفاته ولا شك أنه حصل الكثير منه في زمان حياة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وحصل الكثير أيضاً بعد وفاته والذي سيحصل يوم القيامة أكثر وهو تنبيه على أن عاقبة المحقين محمودة وعاقبة المذنبين مذمومة
وَلِكُلِّ أُمَّة ٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَآءَ رَسُولُهُمْ قُضِى َ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين حال محمد ( صلى الله عليه وسلم ) مع قومه بين أن حال كل الأنبياء مع أقوامهم كذلك وفي

الآية مسائل
المسألة الأولى هذه الآية تدل على أن كل جماعة ممن تقدم قد بعث الله إليهم رسولاً والله تعالى ما أهمل أمة من الأمم قط ويتأكد هذا بقوله تعالى وَإِن مّنْ أُمَّة ٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ ( فاطر 24 )
فإن قيل كيف يصح هذا مع ما يعلمه من أحوال الفترة ومع قوله سبحانه لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ ءابَاؤُهُمْ ( يس 6 )
قلنا الدليل الذي ذكرناه لا يوجب أن يكون الرسول حاضراً مع القوم لأن تقدم الرسول لا يمنع من كونه رسولاً إليهم كما لا يمنع تقدم رسولنا من كونه مبعوثاً إلينا إلى آخر الأبد وتحمل الفترة على ضعف دعوة الأنبياء ووقوع موجبات التخليط فيها
المسألة الثانية في الكلام إضمار والتقدير فإذا جاء رسولهم وبلغ فكذبه قوم وصدقه آخرون قضى بينهم أي حكم وفصل
المسألة الثالثة المراد من الآية أحد أمرين إما بيان أن الرسول إذا بعث إلى كل أمة فإنه بالتبليغ وإقامة الحجة يزيح كل علة فلا يبقى لهم عذر في مخالفته أو تكذيبه فيدل ذلك على أن ما يجري عليهم من العذاب في الآخرة يكون عدلاً ولا يكون ظلماً لأنهم من قبل أنفسهم وقعوا في ذلك العقاب أو يكون المراد أن القوم إذا اجتمعوا في الآخرة جمع الله بينهم وبين رسولهم في وقت المحاسبة وبأن الفصل بين المطيع والعاصي ليشهد عليهم بما شاهد منهم وليقع منهم الاعتراف بأنه بلغ رسالات ربه فيكون ذلك من جملة ما يؤكد الله به الزجر في الدنيا كالمساءلة وإنطاق الجوارح والشهادة عليهم بأعمالهم والموازين وغيرها وتمام التقرير على هذا الوجه الثاني أنه تعالى ذكر في الآية الأولى أن الله شهيد عليهم فكأنه تعالى يقول أنا شهيد عليهم وعلى أعمالهم يوم القيامة ومع ذلك فإني أحضر في موقف القيامة مع كل قوم رسولهم حتى يشهد عليهم بتلك الأعمال والمراد منه المبالغة في إظهار العدل
واعلم أن دليل القول الأول هو قوله تعالى وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ( الإسراء 15 ) وقوله رُّسُلاً مُّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّة ٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ( النساء 165 ) وقوله وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً ( طه 134 ) ودليل القول الثاني قوله تعالى وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا إلى قوله وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ( البقرة 143 ) وقوله وَقَالَ الرَّسُولُ يارَبّ رَبّ إِنَّ قَوْمِى اتَّخَذُواْ هَاذَا الْقُرْءاَنَ مَهْجُوراً ( الفرقان 30 ) وقوله تعالى قُضِى َ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ فالتكرير لأجل التأكيد والمبالغة في نفي الظلم
وَيَقُولُونَ مَتَى هَاذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِى ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّة ٍ أَجَلٌ إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَة ً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ

اعلم أن هذه الشبهة الخامسة من شبهات منكري النبوة فإنه عليه السلام كلما هددهم بنزول العذاب ومر زمان ولم يظهر ذلك العذاب قالوا متى هذا الوعد إن كنتم صادقين واحتجوا بعدم ظهوره على القدح في نوبته عليه السلام وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أن قوله تعالى وَيَقُولُونَ مَتَى هَاذَا الْوَعْدُ كالدليل على أن المراد مما تقدم من قوله قُضِى َ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ ( يونس 147 ) القضاء بذلك في الدنيا لأنه لا يجوز أن يقولوا متى هذا الوعد عند حضورهم في الدار الآخرة لأن الحال في الآخرة حال يقين ومعرفة لحصول كل وعد ووعيد وإلا ظهر أنهم إنما قالوا ذلك على وجه التكذيب للرسول عليه السلام فيما أخبرهم من نزول العذاب للأعداء والنصرة للأولياء أو على وجه الاستبعاد لكونه محقاً في ذلك الإخبار ويدل هذا القول على أن كل أمة قالت لرسولها مثل ذلك القول بدليل قوله إِن كُنتُمْ وذلك لفظ جمع وهو موافق لقوله يَفْعَلُونَ وَلِكُلّ أُمَّة ٍ رَّسُولٌ ( يونس 47 ) ثم إنه تعالى أمره بأن يجيب عن هذه الشبهة بجواب يحسم المادة وهو قوله قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِى ضَرّا وَلاَ نَفْعًا إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ والمراد أن إنزال العذاب على الأعداء وإظهار النصرة للأولياء لا يقدر عليه أحد إلا الله سبحانه وأنه تعالى ما عين لذلك الوعد والوعيد وقتاً معيناً حتى يقال لما لم يحصل ذلك الموعود في ذلك الوقت دل على حصول الخلف فكان تعيين الوقت مفوضاً إلى الله سبحانه إما بحسب مشيئته وإلهيته عند من لا يعلل أفعاله وأحكامه برعاية المصالح وإما بحسب المصلحة المقدرة عند من يعلل أفعاله وأحكامه برعاية المصالح ثم إذا حضر الوقت الذي وقته الله تعالى لحدوث ذلك الحادث فإنه لا بد وأن يحدث فيه ويمتنع عليه التقدم والتأخر
المسألة الثانية المعتزلة احتجوا بقوله قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِى ضَرّا وَلاَ نَفْعًا إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ فقالوا هذا الاستثناء يدل على أن العبد لا يملمصالح ثم إذا حضر الوقت الذي وقته الله تعالى لحدوث ذلك الحادث فإنه لا بد وأن يحدث فيه ويمتنع عليه التقدم والتأخر
المسألة الثانية المعتزلة احتجوا بقوله قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِى ضَرّا وَلاَ نَفْعًا إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ فقالوا هذا الاستثناء يدل على أن العبد لا يملوله إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَة ً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ يدل على أن أحداً لا يموت إلا بانقضاء أجله وكذلك المقتول لا يقتل إلا على هذا الوجه وهذه مسألة طويلة وقد ذكرناها في هذا الكتاب في مواضع كثيرة
المسألة الخامسة أنه تعالى قال ههنا إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَة ً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ فقوله إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ شرط وقوله فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَة ً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ جزاء والفاء حرف الجزاء فوجب إدخاله على الجزاء كما في هذه الآية وهذه الآية تدل على أن الجزاء يحصل مع حصول الشرط لا متأخراً عنه وأن حرف الفاء لا يدل على التراخي وإنما يدل على كونه جزاء
إذا ثبت هذا فنقول إذا قال الرجل لامرأة أجنبية إن نكحتك فأنت طالق قال الشافعي رضي الله عنه لا يصح هذا التعليق وقال أبو حنيفة رضي الله عنه يصح والدليل على أنه لا يصح أن هذه الآية دلت على

أن الجزاء إنما يحصل حال حصول الشرط فلو صح هذا التعليق لوجب أن يحصل الطلاق مقارناً للنكاح لما ثبت أن الجزاء يجب حصوله مع حصول الشرط وذلك يوجب الجمع بين الضدين ولما كان هذا اللازم باطلاً وجب أن لا يصح هذا التعليق
قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ ءَامَنْتُمْ بِهِ ءَآأنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ
اعلم أن هذا هو الجواب الثاني عن قولهم متى هذا الوعد إن كنتم صادقين وفيه مسائل
المسألة الأولى حاصل الجواب أن يقال لأولئك الكفار الذين يطلبون نزول العذاب بتقدير أن يحصل هذا المطلوب وينزل هذا العذاب ما الفائدة لكم فيه فإن قلتم نؤمن عنده فذلك باطل لأن الإيمان في ذلك الوقت إيمان حاصل في وقت الإلجاء والقسر وذلك لا يفيد نفعاً ألبتة فثبت أن هذا الذي تطلبونه لو حصل لم يحصل منه إلا العذاب في الدنيا ثم يحصل عقيبه يوم القيامة عذاب آخر أشد منه وهو أنه يقال للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد ثم يقرن بذلك العذاب كلام يدل على الإهانة والتحقير وهو أنه تعالى يقول هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ فحاصل هذا الجواب أن هذا الذي تطلبونه هو محض الضرر العاري عن جهات النفع والعاقل لا يفعل ذلك
المسألة الثانية قوله بَيَاتًا أي ليلاً يقال بت ليلتي أفعل كذا والسبب فيه أن الإنسان في الليل يكون ظاهراً في البيت فجعل هذا اللفظ كناية عن الليل والبيات مصدر مثل التبييت كالوداع والسراح ويقال في النهار ظللت أفعل كذا لأن الإنسان في النهار يكون ظاهراً في الظل وانتصب بياتاً على الظرف أي وقت بيات وكلمة مَاذَا فيها وجهان أحدهما أن يكون ماذا اسماً واحداً ويكون منصوب المحل كما لو قال ماذا أراد الله ويجوز أن يكون ذا بمعنى الذي فيكون ماذا كلمتين ومحل ما الرفع على الابتداء وخبره ذا وهو بمعنى الذي فيكون معناه ما الذي يستعجل منه المجرمون ومعناه أي شيء الذي يستعجل من العذاب المجرمون
واعلم أن قوله إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا شرط
وجوابه قوله ماذا يستعجل منه المجرمون وهو كقولك إن أتيتك ماذا تطعمني يعني إن حصل هذا المطلوب فأي مقصود تستعجلونه منه
وأما قوله أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ ءامَنْتُمْ بِهِ فاعلم أن دخول حرف الاستفهام على ثم كدخوله على الواو والفاء في قوله أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى ( الأعراف 98 ) أَفَأَمِنَ ( الأعراف 97 ) وهو يفيد التقريع والتوبيخ ثم أخبر

تعالى أن ذلك الإيمان غير واقع لهم بل يعيرون ويوبخون يقال آلآن تؤمنون وترجون الانتفاع بالإيمان مع أنكم كنتم قبل ذلك به تستعجلون على سبيل السخرية والاستهزاء وقرىء الئَانَ بحذف الهمزة التي بعد اللام وإلقاء حركتها على اللام
وأما قوله ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ فهو عطف عى الفعل المضمر قبل الئَانَ والتقدير قيل آلان وقد كنتم به تستعجلون ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد
وأما قوله تعالى هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ ففيه ثلاث مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى أينما ذكر العقاب والعذاب ذكر هذه العلة كأن سائلاً يسأل وهو يقول يا رب العزة أنت الغني عن الكل فكيف يليق برحمتك هذا التشديد والوعيد فهو تعالى يقول ( أنا ما عالمته بهذه المعاملة ابتداء بل هذا وصل إليه جزاء على عمله الباطل ) وذلك يدل على أن جانب الرحمة راجح غالب وجانب العذاب مرجوح مغلوب
المسألة الثانية ظاهر الآية يدل على أن الجزاء يوجب العمل أما عند الفلاسفة فهو أثر العمل لأن العمل الصالح يوجب تنوير القلب وإشراقه إيجاب العلة معلولها وأما عند المعتزلة فلأن العمل الصالح يوجب استحقاق الثواب على الله تعالى وأما عند أهل السنة فلأن ذلك الجزاء واجب بحكم الوعد المحض
المسألة الثالثة الآية تدل على كون العبد مكتسباً خلافاً للجبرية وعندنا أن كونه مكتسباً معناه أن مجموع القدرة مع الداعية الخالصة يوجب الفعل والمسألة الطويلة معروفة بدلائلها
وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِى وَرَبِّى إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِى الأرض لاَفْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّواْ النَّدَامَة َ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ وَقُضِى َ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
اعلم أنه سبحانه أخبر عن الكفار بقوله وَيَقُولُونَ مَتَى هَاذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
وأجاب عنه بما تقدم فحكى عنهم أنهم رجعوا إلى الرسول مرة أخرى في عين هذه الواقعة وسألوه عن ذلك السؤال مرة أخرى وقالوا أحق هو واعلم أن هذا السؤال جهل محض من وجوه أولها أنه قد تقدم هذا السؤال مع الجواب فلا يكون في الإعادة فائدة وثانيها أنه تقدم ذكر الدلالة العقلية على كون محمد رسولاً من عند الله وهو بيان كون القرآن معجزاً وإذا صحت نبوته لزم القطع بصحة كل ما يخبر عن وقوعه فهذه المعاني توجب الإعراض عنهم وترك الالتفات إلى سؤالهم واختلفوا في الضمير في قوله أَحَقٌّ هُوَ قيل أحق ما جئتنا به من القرآن والنبوة والشرائع وقيل ما تعدنا من البعث والقيامة وقيل ما تعدنا من نزول العذاب علينا في الدنيا

ثم إنه تعالى أمره أن يجيبهم بقوله قُلْ إِى وَرَبّى إِنَّهُ لَحَقٌّ والفائدة فيه أمور أحدها أن يستمليهم ويتكلم معهم بالكلام المعتاد ومن الظاهر أن من أخبر عن شيء وأكده بالقسم فقد أخرجه عن الهزل وأدخله في باب الجد وثانيها أن الناس طبقات فمنهم من لا يقر بالشيء إلا بالبرهان الحقيقي ومنهم من لا ينتفع بالبرهان الحقيقي بل ينتفع بالأشياء الإقناعية نحو القسم فإن الأعرابي الذي جاء الرسول عليه السلام وسأل عن نبوته ورسالته اكتفى في تحقيق تلك الدعوى بالقسم فكذا ههنا
ثم إنه تعالى أكد ذلك بقوله وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ ولا بد فيه من تقدير محذوف فيكون المراد وما أنتم بمعجزين لمن وعدكم بالعذاب أن ينزله عليكم والغرض منه التنبيه على أن أحداً لا يجوز أن يمانع ربه ويدافعه عما أراد وقضى ثم إنه تعالى بين أن هذا الجنس من الكلمات إنما يجوز عليهم ما داموا في الدنيا فأما إذا حضروا محفل القيامة وعاينوا قهر الله تعالى وآثار عظمته تركوا ذلك واشتغلوا بأشياء أخرى ثم إنه تعالى حكى عنهم ثلاثة أشياء أولها قوله وَلَوْ أَنَّ لِكُلّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِى الاْرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ إلا أن ذلك متعذر لأنه في محفل القيامة لا يملك شيئاً كما قال تعالى وَكُلُّهُمْ ءاتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ فَرْداً ( مريم 95 ) وبتقدير أن يملك خزائن الأرض لا ينفعه الفداء لقوله تعالى وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ( البقرة 48 ) وقال في صفة هذا اليوم لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّة ٌ وَلاَ شَفَاعَة ٌ ( البقرة 254 ) وثانيها قوله وَأَسَرُّواْ النَّدَامَة َ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ
واعلم أن قوله وَأَسَرُّواْ النَّدَامَة َ جاء على لفظ الماضي والقيامة من الأمور المستقبلة إلا أنها لما كانت واجبة الوقوع جعل الله مستقبلها كالماضي واعلم أن الإسرار هو الإخفاء والإظهار وهو من الأضداد أما ورود هذه اللفظة بمعنى الإخفاء فظاهر وأما ورودها بمعنى الإظهار فهو من قولهم سر الشيء وأسره إذا أظهره
إذا عرفت هذا فنقول من الناس من قال المراد منه إخفاء تلك الندامة والسبب في هذا الإخفاء وجوه الأول أنهم لما رأوا العذاب الشديد صاروا مبهوتين متحيرين فلم يطيقوا عنده بكاء ولا صراخاً سوى إسرار الندم كالحال فيمن يذهب به ليصلب فإنه يبقى مبهوتاً متخيراً لا ينطق بكلمة الثاني أنهم أسروا الندامة من سفلتهم وأتباعهم حياء منهم وخوفاً من توبيخهم
فإن قيل إن مهاية ذلك الموقف تمنع الإنسان عن هذا التدبير فكيف قدموا عليه
قلنا إن هذا الكتمان إنما يحصل قبل الاحتراق بالنار فإذا احترقوا تركوا هذا الإخفاء وأظهروه بدليل قوله تعالى قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا ( المؤمنون 106 ) الثالث أنهم أسروا تلك الندامة لأنهم اخلصوا لله في تلك الندامة ومن أخلص في الدعاء أسره وفيه تهكم بهم وبإخلاصهم يعني أنهم لما أتوا بهذا الإخلاص في غير وقته ولم ينفعهم بل كان من الواجب عليهم أن يأتوا به في دار الدنيا وقت التكليف وأما من فسر الإسرار بالإظهار فقوله ظاهر لأنهم إنما أخفوا الندامة على الكفر والفسق في الدنيا لأجل حفظ الرياسة وفي القيامة بطل هذا الغرض فوجب الإظهار وثالثها قوله تعالى وَقُضِى َ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ فقيل بين المؤمنين والكافرين وقيل بين الرؤساء والأتباع وقيل بين الكفار بإنزال العقوبة عليهم

واعلم أن الكفار وإن اشتركوا في العذاب فإنه لا بد وأن يقضي الله تعالى بينهم لأنه لا يمتنع أن يكون قد ظلم بعضهم بعضاً في الدنيا وخانه فيكون في ذلك القضاء تخفيف من عذاب بعضهم وتثقيل لعذاب الباقين لأن العدل يقتضي أن ينتصف للمظلومين من الظالمين ولا سبيل إليه إلا بأن يخفف من عذاب المظلومين ويثقل في عذاب الظالمين
أَلا إِنَّ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ والأرض أَلاَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ هُوَ يُحْى ِ وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
اعلم أن من الناس من قال إن تعلق هذه الآية بما قبلها هو أنه تعالى قال قبل هذه الآية وَلَوْ أَنَّ لِكُلّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِى الاْرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ ( يونس 54 ) فلا جرم قال في هذه الآية ليس للظالم شيء يفتدى به فإن كل الأشياء ملك الله تعالى وملكه واعلم أن هذا التوجيه حسن أما الأحسن أن يقال إنا قد ذكرنا أن الناس على طبقات فمنهم من يكون انتفاعه بالإقناعيات أكثر من انتفاعه بالبرهانيات أما المحققون فإنهم لا يلتفتون إلى الإقناعيات أكثر من انتفاعه بالبرهانيات أما المحققون فإنهم لا يلتفتون إلى الإقناعيات وإنما تعويلهم على الدلائل البينة والبراهين القاطعة فلما حكى الله تعالى عن الكفار أنهم قالوا أحق هو أمر الرسول عليه السلام بأن يقول إِى وَرَبّى وهذا جار مجرى الإقناعيات فلما ذكر ذلك أتبعه بما هو البرهان القاطع على صحته وتقريره أن القول بالنبوة والقول بصحة المعاد يتفرعان على إثبات الإله القادر الحكيم وأن كل ما سواه فهو ملكه وملكه فعبر عن هذا المعنى بقوله أَلا إِنَّ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ولم يذكر الدليل على صحة هذه القضية لأنه تعالى قد استقصى في تقرير هذه الدلائل فيما سبق من هذه السورة وهو قوله إِنَّ فِى اخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( يونس 6 ) وقوله هُوَ الَّذِى جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ ( يونس 5 ) فلما تقدم ذكر هذه الدلائل القاهرة اكتفى بذكرها وذكر أن كل ما في العالم من نبات وحيوان وجسد وروح وظلمة ونور فهو ملكه وملكه ومتى كان الأمر كذلك كان قادراً على كل الممكنات عالماً بكل المعلومات غنياً عن جميع الحاجات منزهاً عن النقائص والآفات فهو تعالى لكونه قادراً على جميع الممكنات يكون قادراً على إنزال العذاب على الأعداء في الدنيا وفي الآخرة ويكون قادراً على إيصال الرحمة إلى الأولياء في الدنيا وفي الآخرة ويكون قادراً على تأييد رسوله عليه السلام بالدلائل القاطعة والمعجزات الباهرة ويكون قادراً على إعلاء شأن رسوله وإظهار دينه وتقوية شرعه ولما كان قادراً على كل ذلك فقد بطل الاستهزاء والتعجب ولما كان منزهاً عن النقائص والآفات كان منزهاً عن الخلف والكذب وكل ما وعد به فلا بد وأن يقع هذا إذا قلنا إنه تعالى لا يراعي مصالح العباد أما إذا قلنا إنه تعالى يراعيها فنقول الكذب إنما يصدر عن العاقل إما للعجز أو للجهل أو للحاجة ولما كان الحق سبحانه منزهاً عن الكل كان الكذب عليه محالاً فلما أخبر عن نزول العذاب بهؤلاء الكفار وبحصول الحشر والنشر وجب القطع بوقوعه فثبت بهذا

البيان أن قوله تعالى أَلا إِنَّ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ مقدمة توجب الجزم بصحة قوله أَلاَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ثم قال وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ والمراد أنهم غافلون عن هذه الدلائل مغرورون بظواهر الأمور فلا جرم بقوا محرومين عن هذه المعارف ثم إنه أكد هذه الدلائل فقال هُوَ يُحْى ِ وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ والمراد أنه لما قدر على الإحياء في المرة الأولى فإذا أماته وجب أن يبقى قادراً على إحيائه في المرة الثانية فظهر بما ذكرنا أنه تعالى أمر رسوله بأن يقول إِى وَرَبّى ( يونس 53 ) ثم إنه تعالى أتبع ذلك الكلام بذكر هذه الدلائل القاهرة
واعلم أن في قوله أَلا إِنَّ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ دقيقة أخرى وهي كلمة إِلا وذلك لأن هذه الكلمة إنما تذكر عند تنبيه الغافلين وإيقاظ النائمين وأهل هذا العالم مشغولون بالنظر إلى الأسباب الظاهرة فيقولون البستان للأمير والدار للوزير والغلام لزيد والجارية لعمرو فيضيفون كل شيء إلى مالك آخر والخلق لكونهم مستغرقين في نوم الجهل ورقدة الغفلة يظنون صحة تلك الإضافات فالحق نادى هؤلاء النائمين الغافلين بقوله أَلا إِنَّ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وذلك لأنه لما ثبت بالعقل أن ما سوى الواحد الأحد الحق ممكن لذاته وثبت أن الممكن مستند إلى الواجب لذاته إما ابتداء أو بواسطة فثبت أن ما سواه ملكه وملكه وإذا كان كذلك فليس لغيره في الحقيقة ملك فلما كان أكثر الخلق غافلين عن معرفة هذا المعنى غير عالمين به لا جرم أمر الله رسوله عليه الصلاة والسلام أن يذكر هذا النداء لعل واحداً منهم يستيقظ من نوم الجهالة ورقدة الضلالة
ياأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَة ٌ مَّن رَّبِّكُمْ وَشِفَآءٌ لِّمَا فِى الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَة ٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن الطريق إلى إثبات نبوة الأنبياء عليهم السلام أمران الأول أن نقول إن هذا الشخص قد ادعى النبوة وظهرت المعجزة على يده وكل من كان كذلك فهو رسول من عند الله حقاً وصدقاً وهذا الطريق مما قد ذكره الله تعالى في هذه السورة وقرره على أحسن الوجوه في قوله وَمَا كَانَ هَاذَا الْقُرْءانُ أَن يَفْتَرِى مِن دُونِ اللَّهِ وَلَاكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَة ٍ مّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( يوس 37 38 ) وقد ذكرنا في تفسير هذه الآية ما يقوي الدين ويورث اليقين ويزيل الشكوك والشبهات ويبطل الجهالات والضلالات
وأما الطريق الثاني فهو أن نعلم بعقولنا أن الاعتقاد الحق والعمل الصالح ما هو فكل من جاء ودعا الخلق إليهم وحملهم عليه وكانت لنفسه قوة قوية في نقل الناس من الكفر إلى الإيمان ومن الاعتقاد الباطل إلى الاعتقاد الحق ومن الأعمال الداعية إلى الدنيا إلى الأعمال الداعية إلى الآخرة فهو النبي الحق الصادق

المصدق وتقريره أن نفوس الخلق قد استولى عليها أنواع النقص والجهل وحب الدنيا ونحن نعلم بعقولنا أن سعادة الإنسان لا تحصل إلا بالاعتقاد الحق والعمل الصالح وحاصله يرجع إلى حرف واحد وهو أن كل ما قوى نفرتك عن الدنيا ورغبتك في الآخرة فهو العمل الصالح وكل ما كان بالضد من ذلك فهو العمل الباطل والمعصية وإذا كان الأمر كذلك كانوا محتاجين إلى إنسان كامل قوي النفس مشرق الروح علوي الطبيعة ويكون بحيث يقوى على نقل هؤلاء الناقصين من مقام النقصان إلى مقام الكمال وذلك هو النبي فالحاصل أن الناس أقسام ثلاثة الناقصون والكاملون الذين لا يقدرون على تكميل الناقصين والقسم الثالث هو الكامل الذي يقدر على تكميل الناقصين فالقسم الأول هو عامة الخلق والقسم الثاني هم الأولياء والقسم الثالث هم الأنبياء ولما كانت القدرة على نقل الناقصين من درجة النقصان إلى درجة الكمال مراتبها مختلفة ودرجاتها متفاوتة لا جرم كانت درجات الأنبياء في قوة النبوة مختلفة ولهذا السر قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل )
إذا عرفت هذه المقدمة فنقول إنه تعالى لما بين صحة نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بطريق المعجزة ففي هذه الآية بين صحة نبوته بالطريق الثاني وهذا الطريق طريق كاشف عن حقيقة النبوة معرف لماهيتها فالاستدلال بالمعجز هو الذي يسميه المنطقيون برهان الآن وهذا الطريق هو الطريق الذي يسمونه برهان اللم وهو أشرف وأعلى وأكمل وأفضل
المسألة الثانية اعلم أنه تعالى وصف القرآن في هذه الآية بصفات أربعة أولها كونه موعظة من عند الله وثانيها كونه شفاء لما في الصدور وثالثها كونه هدى ورابعها كونه رحمة للمؤمنين ولا بد لكل واحد من هذه الصفات من فائدة مخصوصة فنقول إن الأرواح لما تعلقت بالأجساد كان ذلك التعلق بسبب عشق طبيعي وجب للروح على الجسد ثم إن جوهر الروح التذ بمشتهيات هذا العالم الجسداني وطيباته بواسطة الحواس الخمس وتمرن على ذلك وألف هذه الطريقة واعتادها ومن المعلوم أن نور العقل إنما يحصل في آخر الدرجة حيث قويت العلائق الحسية والحوادث الجسدانية فصار ذلك الاستغراق سبباً لحصول العقائد الباطلة والأخلاق الذميمة في جوهر الروح وهذه الأحوال تجري مجرى الأمراض الشديدة لجوهر الروح فلا بد لها من طبيب حاذق فإن من وقع في المرض الشديد فإن لم يتفق له طبيب حاذق يعالجه بالعلاجات الصائبة مات لا محالة وإن اتفق أن صادفه مثل هذا الطبيب وكان هذا البدن قابلاً للعلاجات الصائبة فربما حصلت الصحة وزال السقم
إذا عرفت هذا فنقول إن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) كان كالطبيب الحاذق وهذا القرآن عبارة عن مجموع أدويته التي بتركيبها تعالج القلوب المريضة ثم إن الطبيب إذا وصل إلى المريض فله معه مراتب أربعة
المرتبة الأولى أن ينهاه عن تناول ما لا ينبغي ويأمره بالاحتراز عن تلك الأشياء التي بسببها وقع في ذلك المرض وهذا هو الموعظة فإنه لا معنى للوعظ إلا الزجر عن كل ما يبعد عن رضوان الله تعالى والمنع عن كل ما يشغل القلب بغير الله
المرتبة الثانية الشفاء وهو أن يسقيه أدوية تزيل عن باطنه تلك الأخلاط الفاسدة الموجبة للمرض فكذلك الأنبياء عليهم السلام إذا منعوا الخلق عن فعل المحظورات صارت ظواهرهم مطهرة عن فعل ما لا

ينبغي فحينئذ يأمرونهم بطهارة الباطن وذلك بالمجاهدة في إزالة الأخلاق الذميمة وتحصيل الأخلاق الحميدة وأوائلها ما ذكره الله تعالى في قوله إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْى ( النحل 90 ) وذلك لأنا ذكرنا أن العقائد الفاسدة والأخلاق الذميمة جارية مجرى الأمراض فإذا زالت فقد حصل الشفاء للقلب وصار جوهر الروح مطهراً عن جميع النقوش المانعة عن مطالعة عالم الملكوت
والمرتبة الثالثة حصول الهدى وهذه المرتبة لا يمكن حصولها إلا بعد المرتبة الثانية لأن جوهر الروح الناطقة قابل للجلايا القدسية والأضواء الإلهية وفيض الرحمة عام غير منقطع على ما قال عليه الصلاة والسلام ( إن لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها ) وأيضاً فالمنع إنما يكون إما للعجز أو للجهل أو للبخل والكل في حق الحق ممتنع فالمنع في حقه ممتنع فعلى هذا عدم حصول هذه الأضواء الروحانية إنما كان لأجل أن العقائد الفاسدة والأخلاق الذميمة طبعها طبع الظلمة وعند قيام الظلمة يمتنع حصول النور فإذا زالت تلك الأحوال فقد زال العائق فلا بد وأن يقع ضوء عالم القدس في جوهر النفس القدسية ولا معنى لذلك الضوء إلا الهدى فعند هذه الحالة تصير هذه النفس بحيث قد انطبع فيها نقش الملكوت وتجلى لها قدس اللاهوت وأول هذه المرتبة هو قوله أَحَدٌ يأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّة ُ ارْجِعِى إِلَى رَبّكِ ( الفجر 27 ) وأوسطها قوله تعالى فَفِرُّواْ إِلَى اللَّهِ ( الذاريات 50 ) وآخرها قوله قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ( الأنعام 91 ) ومجموعها قوله وَللَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الاْمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ( هود 123 ) وسيجيء تفسير هذه الآيات في مواضعها بإذن الله تعالى وهذه المرتبة هي المراد بقوله سبحانه وَهَدَى
وأما المرتبة الرابعة فهي أن تصير النفس البالغة إلى هذه الدرجات الروحانية والمعارج الربانية بحيث تفيض أنوارها على أرواح الناقصين فيض النور من جوهر الشمس على أجرام هذا العالم وذلك هو المراد بقوله وَرَحْمَة ٌ لّلْمُؤْمِنِينَ وإنما خص المؤمنين بهذا المعنى لأن أرواح المعاندين لا تستضيء بأنوار أرواح الأنبياء عليهم السلام لأن الجسم القابل للنور عن قرص الشمس هو الذي يكون وجهه مقابلاً لوجه الشمس فإن لم تحصل هذه المقابلة لم يقع ضوء الشمس عليه فكذلك كل روح لما لم تتوجه إلى خدمة أرواح الأنبياء المطهرين لم تنتفع بأنوارهم ولم يصل إليها آثار تلك الأرواح المطهرة المقدسة وكما أن الأجسام التي لا تكون مقابلة لقرص الشمس مختلفة الدرجات والمراتب في البعد عن هذه المقابلة ولا تزال تتزايد درجات هذا البعد حتى ينتهي ذلك الجسم إلى غاية بعده عن مقابلة قرص الشمس فلا جرم يبقى خالص الظلمة فكذلك تتفاوت مراتب النفوس في قبول هذه الأنوار عن أرواح الأنبياء ولا تزال تتزايد حتى تنتهي إلى النفس التي كملت ظلمتها وعظمت شقاوتها وانتهت في العقائد الفاسدة والأخلاق الذميمة إلى أقصى الغايات وأبعد النهايات فالحاصل أن الموعظة إشارة إلى تطهير ظواهر الخلق عما لا ينبغي وهو الشريعة والشفاء إشارة إلى تطهير الأرواح عن العقائد الفاسدة والأخلاق الذميمة وهو الطريقة والهدى وهو إشارة إلى ظهور نور الحق في قلوب الصديقين وهو الحقيقة والرحمة وهي إشارة إلى كونها بالغة في الكمال والإشراق إلى حيث تصير مكملة للناقصين وهي النبوة فهذه درجات عقلية ومراتب برهانية مدلول عليها بهذه

الألفاظ القرآنية لا يمكن تأخير ما تقدم ذكره ولا تقديم ما تأخر ذكره ولما نبه الله تعالى في هذه الآية على هذه الأسرار العالية الآلهية قال قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ والمقصود منه الإشارة إلى ما قرره حكماء الإسلام من أن السعادات الروحانية أفضل من السعادات الجسمانية وقد سبق في مواضع كثيرة من هذا الكتاب المبالغة في تقرير هذا المعنى فلا فائدة في الإعادة انتهى
المسألة الثانية قوله قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ وتقديره بفضل الله وبرحمته فليفرحوا ثم يقول مرة أخرى فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ والتكرير للتأكيد وأيضاً قوله فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ يفيد الحصر يعني يجب أن لا يفرح الإنسان إلا بذلك واعلم أن هذا الكلام يدل على أمرين أحدهما أنه يجب أن لا يفرح الإنسان بشيء من الأحوال الجسمانية ويدل عليه وجوه الأول أن جماعة من المحققين قالوا لا معنى لهذه اللذات الجسمانية إلا دفع الآلام والمعنى العدمي لا يستحق أن يفرح به والثاني أن بتقدير أن تكون هذه اللذات صفات ثبوتية لكنها معنوية من وجوه الأول أن التضرر بآلامها أقوى من الانتفاع بلذاتها ألا ترى أن أقوى اللذات الجسمانية لذة الوقاع ولا شك أن الالتذاذ بها أقل مرتبة من الاستضرار بألم القولنج وسائر الآلام القوية والثاني أن مداخل اللذات الجسمانية قليلة فإنه لا سبيل إلى تحصيل اللذات الجسمانية إلا بهذين الطريقين أعني لذة البطن والفرج وأما الآلام فإن كل جزء من أجزاء بدن الإنسان معه نوع آخر من الآلام ولكل نوع منها خاصية ليست للنوع الآخر والثالث أن اللذات الجسمانية لا تكون خالصة ألبتة بل تكون ممزوجة بأنواع من المكاره فلو لم يحصل في لذة الأكل والوقاع إلا إتعاب النفس في مقدماتها وفي لواحقها لكفى الرابع أن اللذات الجسمانية لا تكون باقية فكلما كان الالتذاذ بها أكثر كانت الحسرات الحاصلة من خوف فواتها أكثر وأشد ولذلك قال المعري إن حزنا في ساعة الموت أضعا
ف سرور في ساعة الميلاد
فمن المعلوم أن الفرح الحاصل عند حدوث الولد لا يعادل الحزن الحاصل عند موته الخامس أن اللذات الجسمانية حال حصولها تكون ممتنعة البقاء لأن لذة الأكل لا تبقى بحالها بل كما زال ألم الجوع زال الالتذاذ بالأكل ولا يمكن استبقاء تلك اللذة السادس أن اللذات الجسمانية التذاذ بأشياء خسيسة فإنها التذاذ بكيفيات حاصلة في أجسام رخوة سريعة الفساد مستعدة للتغير فأما اللذات الروحانية فإنها بالضد في جميع هذه الجهات فثبت أن الفرح باللذات الجسمانية فرح باطل وأما الفرح الكامل فهو الفرح بالروحانيات والجواهر المقدسة وعالم الجلال ونور الكبرياء
والبحث الثاني من مباحث هذه الآية أنه إذا حصلت اللذات الروحانية فإنه يجب على العاقل أن لا يفرح بها من حيث هي هي بل يجب أن يفرح بها من حيث إنها من الله تعالى وبفضل الله وبرحمته فلهذا السبب قال الصديقون من فرح بنعمة الله من حيث إنها تلك النعمة فهو مشرك أما من فرح بنعمة الله من حيث إنها من الله كان فرحه بالله وذلك هو غاية الكمال ونهاية السعادة فقوله سبحانه قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ يعني فليفرحوا بتلك النعم لا من حيث هي هي بل من حيث إنها بفضل الله وبرحمة الله فهذه أسرار عالية اشتملت عليها هذه الألفاظ التي ظهرت من عالم الوحي والتنزيل هذا ما تلخص عندنا في هذا الباب أما المفسرون فقالوا فضل الله الإسلام ورحمته القرآن وقال أبو سعيد

الخدري فضل الله القرآن ورحمته أن جعلكم من أهله
المسألة الرابعة قرىء فلتفرحوا بالتاء قال الفراء وقد ذكر عن زيد بن ثابت أنه قرأ بالتاء وقال معناه فبذلك فلتفرحوا يا أصحاب محمد هو خير مما يجمع الكفار قال وقريب من هذه القراءة قراءة أبي فَبِذَلِكَ والأصل في الأمر للمخاطب والغائب اللام نحو لتقم يا زيد وليقم زيد وذلك لأن حكم الأمر في الصورتين واحد إلا أن العرب حذفوا اللام من فعل المأمور المخاطب لكثرة استعماله وحذفوا التاء أيضاً وأدخلوا ألف الوصل نحو اضرب واقتل ليقع الابتداء به وكان الكسائي يعيب قولهم فليفرحوا لأنه وجده قليلاً فجعله عيباً إلا أن ذلك هو الأصل وروي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال في بعض المشاهد ( لتأخذوا مصافكم ) يريد به خذوا هذا كله كلام الفراء وقرىء تجمعون بالتاء ووجهه أنه تعالى عنى المخاطبين والغائبين إلا أنه غلب المخاطب على الغائب كما يغلب التذكير على التأنيث فكأنه أراد المؤمنين هكذا قاله أهل اللغة وفيه دقيقة عقلية وهو أن الإنسان حصل فيه معنى يدعوه إلى خدمة الله تعالى وإلى الاتصال بعالم الغيب ومعارج الروحانيات وفيه معنى آخر يدعوه إلى عالم الحس والجسم واللذات الجسدانية وما دام الروح متعلقاً بهذا الجسد فإنه لا ينفك عن حب الجسد وعن طلب اللذات الجسمانية فكأنه تعالى خاطب الصديقين العارفين وقال حصلت الخصومة بين الحوادث العقلية الإلهية وبين النوازع النفسانية الجسدانية والترجيح لجانب العقل لأنه يدعو إلى فضل الله ورحمته والنفس تدعو إلى جمع الدنيا وشهواتها وفضل الله ورحمته خير لكم مما تجمعون من الدنيا لأن الآخرة خير وأبقى وما كان كذلك فهو أولى بالطلب والتحصيل
قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن الناس ذكروا في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوهاً ولا أستحسن واحداً منها والذي يخطر بالبال والعلم عند الله تعالى وجهان الأول أن المقصود من هذا الكلام ذكر طريق ثالث في إثبات النبوة وتقريره أنه عليه الصلاة والسلام قال للقوم ( إنكم تحكمون بحل بعض الأشياء وحرمة بعضها فهذا الحكم تقولونه على سبيل الافتراء على الله تعالى أو تعلمون أنه حكم حكم الله به ) والأول طريق باطل بالاتفاق فلم يبق إلا الثاني ثم من المعلوم أنه تعالى ما خاطبكم به من غير واسطة ولما بطل هذا ثبت أن هذه الأحكام إنما وصلت إليكم بقول رسول أرسله الله إليكم ونبي بعثه الله إليكم وحاصل الكلام أن

حكمهم بحل بعض الأشياء وحرمة بعضها مع اشتراك الكل في الصفات المحسوسة والمنافع المحسوسة يدل على اعترافكم بصحة النبوة والرسالة وإذا كان الأمر كذلك فكيف يمكنكم أن تبالغوا هذه المبالغات العظيمة في إنكار النبوة والرسالة وحمل الآية على هذا الوجه الذي ذكرته طريق حسن معقول
الطريق الثاني في حسن تعلق هذه الآية بما قبلها هو أنه عليه الصلاة والسلام لما ذكر الدلائل الكثيرة على صحة نبوة نفسه وبين فساد سؤالاتهم وشبهاتهم في إنكارها أتبع ذلك ببيان فساد طريقتهم في شرائعهم وأحكامهم وبين أن التمييز بين هذه الأشياء بالحل والحرمة مع أنه لم يشهد بذلك لا عقل ولا نقل طريق باطل ومنهج فاسد والمقصود إبطال مذاهب القوم في أديانهم وفي أحكامهم وأنهم ليسوا على شيء في باب من الأبواب
المسألة الثانية المراد بالشيء الذي جعلوه حراماً ما ذكروه من تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وأيضاً قوله تعالى يَفْتَرُونَ وَقَالُواْ هَاذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ ( الأنعام 138 ) إلى قوله وَقَالُواْ مَا فِى بُطُونِ هَاذِهِ الانْعَامِ خَالِصَة ٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْواجِنَا ( الأنعام 139 ) وأيضاً قوله تعالى ثَمَانِيَة َ أَزْواجٍ مّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ ( الأنعام 143 ) والدليل عليه أن قوله فَجَعَلْتُمْ مّنْهُ حَرَامًا إشارة إلى أمر تقدم منهم ولم يحك الله تعالى عنهم إلا هذا فوجب توجه هذا الكلام إليه ثم لما حكى تعالى عنهم ذلك قال لرسوله عليه الصلاة والسلام قُلِ اللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ وهذه القسمة صحيحة لأن هذه الأحكام إما أن تكون من الله تعالى أو لم تكن من الله فإن كانت من الله تعالى فهو المراد بقوله اللَّهِ أَذِنَ لَكُمْ وإن كانت ليست من الله فهو المراد بقوله أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ
ثم قال تعالى وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وهذا وإن كان في صورة الاستعلام فالمراد منه تعظيم وعيد من يفتري على الله وقرأ عيسى بن عمر وَمَا ظَنُّ على لفظ الفعل ومعناه أي ظن ظنوه يوم القيامة وجيء به على لفظ الماضي لما ذكرنا أن أحوال القيامة وإن كانت آتية إلا أنها لما كانت واجبة الوقوع في الحكمة ولا جرم عبر الله عنها بصيغة الماضي
ثم قال إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ أي بإعطاء العقل وإرسال الرسل وإنزال الكتب وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ فلا يستعملون للعقل في التأمل في دلائل الله تعالى ولا يقبلون دعوة أنبياء الله ولا ينتفعون باستماع كتب الله
المسألة الثالثة ما في قوله تعالى قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا أَنزَلَ اللَّهُ فيه وجهان أحدهما بمعنى الذي فينتصب برأيتم والآخر أن يكون بمعنى أي في الاستفهام فينتصب بأنزل وهو قول الزجاج ومعنى أنزل ههنا خلق وأنشأ كقوله وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الاْنْعَامِ ثَمَانِيَة َ أَزْواجٍ ( الزمر 6 ) وجاز أن يعبر عن الخلق بالإنزال لأن كل ما في الأرض من رزق فما أنزل من السماء من ضرع وزرع وغيرهما فلما كان إيجاده بالإنزال سمي إنزالاً
وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْءَانٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّة ٍ فِي الأرض وَلاَ فِى السَّمَآءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذالِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ

في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه لما أطال الكلام في أمر الرسول بإيراد الدلائل على فساد مذاهب الكفار وفي أمره بإيراد الجواب عن شبهاتهم وفي أمره بتحمل أذاهم وبالرفق معهم ذكر هذا الكلام ليحصل به تمام السلوة والسرور للمطيعين وتمام الخوف والفزع للمذنبين وهو كونه سبحانه عالماً بعمل كل واحد وبما في قلبه من الدواعي والصوارف فإن الإنسان ربما أظهر من نفسه نسكاً وطاعة وزهداً وتقوى ويكون باطنه مملوأ من الخبث وربما كان بالعكس من ذلك فإذا كان الحق سبحانه عالماً بما في البواطن كان ذلك من أعظم أنواع السرور للمطيعين ومن أعظم أنواع التهديد للمذنبين
المسألة الثانية اعلم أنه تعالى خصص الرسول في أول هذه الآية بالخطاب في أمرين ثم أتبع ذلك بتعميم الخطاب مع كل المكلفين في شيء واحد أما الأمران المخصوصان بالرسول عليه الصلاة والسلام فالأول منهما قوله وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ واعلم أن مَا ههنا جحد والشأن الخطب والجمع الشؤن تقول العرب ما شأن فلان أي ما حاله قال الأخفش وتقول ما شأنت شأنه أي ما عملت عمله وفيه وجهان قال ابن عباس وما تكون يا محمد في شأن يريد من أعمال البر وقال الحسن في شأن من شأن الدنيا وحوائجك فيها والثاني منهما قوله تعالى وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ وَمَا واختلفوا في أن الضمير في قوله مِنْهُ إلى ماذا يعود وذكروا فيه ثلاثة أوجه الأول أنه راجع إلى الشأن لأن تلاوة القرآن شأن من شأن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بل هو معظم شأنه وعلى هذا التقدير فكان هذا داخلاً تحت قوله وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ إلا أنه خصه بالذكر تنبيهاً على علو مرتبته كما في قوله تعالى وَمَلئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ( البقرة 98 ) وكما في قوله وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْراهِيمَ ( الأحزاب 7 ) والثاني أن هذا الضمير عائد إلى القرآن والتقدير وما تتلو من القرآن من قرآن وذلك لأن كما أن القرآن اسم للمجموع فكذلك هو اسم لكل جزء من أجزاء القرآن والإضمار قبل الذكر يدل على التعظيم الثالث أن يكون التقدير وما تتلو من قرآن من الله أي نازل من عند الله وأقول قوله وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْءانٍ أمران مخصوصان بالرسول ( صلى الله عليه وسلم )
وأما قوله وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ فهذا خطاب مع النبي ومع جميع الأمة والسبب في أن خص الرسول بالخطاب أولاً ثم عمم الخطاب مع الكل هو أن قوله وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْءانٍ وإن كان بحسب الظاهر خطاباً مختصاً بالرسول إلا أن الأمة داخلون فيه ومرادون منه لأنه من المعلوم أنه إذا خوطب رئيس القوم كان القوم داخلين في ذلك الخطاب والدليل عليه قوله تعالى الْحَكِيمُ يأيُّهَا النَّبِى ُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاء ( الطلاق 1 ) ثم إنه تعالى بعد أن خص الرسول بذينك الخطابين عمم الكل بالخطاب الثالث فقال وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ فدل ذلك على كونهم داخلين في الخطابين الأولين
ثم قال تعالى إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا وذلك لأن الله تعالى شاهد على كل شيء وعالم بكل شيء

أما على أصول أهل السنة والجماعة فالأمر فيه ظاهر لأنه لا محدث ولا خالق ولا موجد إلا الله تعالى فكل ما يدخل في الوجود من أفعال العباد وأعمالهم الظاهرة والباطنة فكلها حصلت بإيجاد الله تعالى وإحداثه والموجد للشيء لا بد وأن يكون عالماً به فوجب كونه تعالى عالماً بكل المعلومات وأما على أصول المعتزلة فقد قالوا إنه تعالى حي وكل من كان حياً فإنه يصح أن يعلم كل واحد من المعلومات والموجب لتلك العالمية هو ذاته سبحانه فنسبة ذاته إلى اقتضاء حصول العالمية ببعض المعلومات كنسبة ذاته إلى اقتضاء حصول العالمية بسائر المعلومات فلما اقتضت ذاته حصول العالمية ببعض المعلومات وجب أن تقتضي حصول العالمية بجميع المعلومات فثبت كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات
أما قوله تعالى إِذْ لّلْعَالَمِينَ فِيهِ فاعلم أن الإفاضة ههنا الدخول في العمل على جهة الانصباب إليه وهو الانبساط في العمل يقال أفاض القوم في الحديث إذا اندفعوا فيه وقد أفاضوا من عرفة إذا دفعوا منه بكثرتهم فتفرقوا
فإن قيل إِذْ ههنا بمعنى حين فيصير تقدير الكلام إلا كنا عليكم شهوداً حين تفيضون فيه وشهادة الله تعالى عبارة عن علمه فيلزم منه أن يقال إنه تعالى ما علم الأشياء إلا عند وجودها وذلك باطل
قلنا هذا السؤال بناء على أن شهادة الله تعالى عبادة عن علمه وهذا ممنوع فإن الشهادة لا تكون إلا عند وجود المشهود عليه وأما العلم فلا يمتنع تقدمه على الشيء والدليل عليه أن الرسول عليه السلام لو أخبرنا عن زيد أنه يأكل غداً كنا من قبل حصول تلك الحالة عالمين بها ولا نوصف بكوننا شاهدين لها واعلم أن حاصل هذه الكلمات أنه لا يخرج عن علم الله شيء ثم إنه تعالى أكد هذا الكلام زيادة تأكيد فقال وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبّكَ مِن مّثْقَالِ ذَرَّة ٍ فِي الاْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذالِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ وفيه مسائل
المسألة الأولى أصل العزوب من البعد يقال كلأ عازب إذا كان بعيد المطلب وعزب الرجل بإبله إذا أرسلها إلى موضع بعيد من المنزل والرجل سمي عزباً لبعده عن الأهل وعزب الشيء عن علمي إذا بعد
المسألة الثانية قرأ الكسائي وَمَا يَعْزُبُ بكسر الزاي والباقون بالضم وفيه لغتان عزب يعزب وعزب يعزب
المسألة الثالثة قوله مِن مّثْقَالِ ذَرَّة ٍ أي وزن ذرة ومثقال الشيء ما يساويه في الثقل والمعنى ما يساوي ذرة والذر صغار النمل واحدها ذرة وهي تكون خفيفة الوزن جداً وقوله فِي الاْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء فالمعنى ظاهر
فإن قيل لم قدم الله ذكر الأرض ههنا على ذكر السماء مع أنه تعالى قال في سورة سبأ عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّة ٍ فِى السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِى الاْرْضِ ( سبأ 3 )
قلنا حق السماء أن تقدم على الأرض إلا أنه تعالى لما ذكر في هذه الآية شهادته على أحوال أهل الأرض وأعمالهم ثم وصل ذلك قوله لا يعزب عنه ناسب أن تقدم الأرض على السماء في هذا الموضع

ثم قال وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذالِكَ وَلا أَكْبَرَ وفيه قراءتان قرأ حمزة وَلاَ أَصْغَرَ وَلا أَكْبَرَ بالرفع فيهما والباقون بالنصب
واعلم أن قوله وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبّكَ مِن مّثْقَالِ ذَرَّة ٍ تقديره وما يعزب عن ربك مثقال ذرة فلفظ مِثْقَالَ عند دخول كلمة مِنْ عليه مجرور بحسب الظاهر ولكنه مرفوع في المعنى فالمعطوف عليه إن عطف على الظاهر كان مجروراً إلا أن لفظ أصغر وأكبر غير منصرف فكان مفتوحاً وإن عطف على المحل وجب كونه مرفوعاً ونظيره قوله ما أتاني من أحد عاقل وعاقل وكذا قوله مَالَكُمْ مّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ ( الأعراف 59 ) وغيره وقال الشاعر
فلسنا بالجبال ولا الحديدا
هذا ما ذكره النحويون قال صاحب ( الكشاف ) لو صح هذا العطف لصار تقدير هذه الآية وما يعزب عنه شيء في الأرض ولا في السماء إلا في كتاب وحينئذ يلزم أن يكون الشيء الذي في الكتاب خارجاً عن علم الله تعالى وأنه باطل
وأجاب بعض المحققين عنه بوجهين
الوجه الأول أنا بينا أن العزوب عبارة عن مطلق البعد
وإذا ثبت هذا فنقول الأشياء المخلوقة على قسمين قسم أوجده الله تعالى ابتداء من غير واسطة كالملائكة والسموات والأرض وقسم آخر أوجده الله بواسطة القسم الأول مثل الحوادث الحادثة في عالم الكون والفساد ولا شك أن هذا القسم الثاني قد يتباعد في سلسلة العلية والمعلولية عن مرتبة وجود واجب الوجود فقوله وَمَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّة ٍ فِى الاْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذالِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ أي لا يبعد عن مرتبة وجوده مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء إلا وهو في كتاب مبين وهو كتاب كتبه الله تعالى وأثبت صور تلك المعلومات فيه ومتى كان الأمر كذلك فقد كان عالماً بها محيطاً بأحوالها والغرض منه الرد على من يقول إنه تعالى غير عالم بالجزئيات وهو المراد من قوله إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( الجاثية 29 )
والوجه الثاني في الجواب أن نجعل كلمة إِلا في قوله إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ استثناء منقطعاً لكن بمعنى هو في كتاب مبين وذكر أبو علي الجرجاني صاحب ( النظم ) عنه جواباً آخر فقال قوله وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبّكَ مِن مّثْقَالِ ذَرَّة ٍ فِي الاْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذالِكَ وَلا أَكْبَرَ ههنا تم الكلام وانقطع ثم وقع الابتداء بكلام آخر وهو قوله إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ أي وهو أيضاً في كتاب مبين قال والعرب تضع ( إلا ) موضع ( واو النسق ) كثيراً على معنى الابتداء كقوله تعالى لاَ يَخَافُ لَدَى َّ الْمُرْسَلُونَ إَلاَّ مَن ظَلَمَ ( النمل 10 ) يعني ومن ظلم وقوله لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّة ٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ ( البقرة 150 ) يعني والذين ظلموا وهذا الوجه في غاية التعسف
وأجاب صاحب ( الكشاف ) بوجه رابع فقال الإشكال إنما جاء إذا عطفنا قوله وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذالِكَ وَلا أَكْبَرَ على قوله مِن مّثْقَالِ ذَرَّة ٍ فِي الاْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء إما بحسب الظاهر أو بحسب المحل لكنا

لا نقول ذلك بل نقول الوجه في القراءة بالنصب في قوله وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذالِكَ الحمل على نفي الجنس وفي القراءة بالرفع الحمل على الابتداء وخبره قوله فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ وهذا الوجه اختيار الزجاج
أَلا إِنَّ أَوْلِيَآءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيواة ِ الدُّنْيَا وَفِى الاٌّ خِرَة ِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
اعلم أنا بينا أن قوله تعالى وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْءانٍ ( يونس 61 ) مما يقوي قلوب المطيعين ومما يكسر قلوب الفاسقين فأتبعه الله تعالى بشرح أحوال المخلصين الصادقين الصديقين وهو المذكور في هذه الآية وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنا نحتاج في تفسير هذه الآية إلى أن نبين أن الولي من هو ثم نبين تفسير نفي الخوف والحزن عنه فنقول أما إن الوحي من هو فيدل عليه القرآن والخبر والأثر والمعقول أما القرآن فهو قوله في هذه الآية الَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ فقوله ءامَنُواْ إشارة إلى كمال حال القوة النظرية وقوله وَكَانُواْ يَتَّقُونَ إشارة إلى كمال حال القوة العملية وفيه قيام آخر وهو أن يحمل الإيمان على مجموع الاعتقاد والعمل ثم نصف الولي بأنه كان متقياً في الكل أما التقوى في موقف العلم فلأن جلال الله أعلى من أن يحيط به عقل البشر فالصديق إذا وصف الله سبحانه بصفة من صفات الجلال فهو يقدس الله عن أن يكون كماله وجلاله مقتصراً على ذلك المقدار الذي عرفه ووصفه به وإذا عبد الله تعالى فهو يقدس الله تعالى عن أن تكون الخدمة اللائقة بكبريائه متقدرة بذلك المقدار فثبت أنه أبداً يكون في مقام الخوف والتقوى وأما الأخبار فكثيرة روى عمر رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( هم قوم تحابوا في الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها فوالله إن وجوههم لنور وإنهم لعلى منابر من نور لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس ) ثم قرأ هذه الآية وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( هم الذين يذكر الله تعالى برؤيتهم ) قال أهل التحقيق السبب فيه أن مشاهدتهم تذكر أمر الآخرة لما يشاهد فيهم من آيات الخشوع والخضوع ولما ذكر الله تعالى سبحانه في قوله سِيمَاهُمْ فِى وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ( الفتح 29 ) وأما الأثر فقال أبو بكر الأصم أولياء الله هم الذين تولى الله تعالى هدايتهم بالبرهان وتولوا القيام بحق عبودية الله تعالى والدعوة إليه وأما المعقول فنقول ظهر في علم الاشتقاق أن تركيب الواو واللام والياء يدل على معنى القرب فولى كل شيء هو الذي يكون قريباً منه والقرب من الله تعالى بالمكان والجهة محال فالقرب منه إنما يكون إذا كان القلب مستغرقاً في نور معرفة الله تعالى سبحانه فإن رأى رأى دلائل قدرة الله وإن سمع سمع آيات الله وإن نطق نطق بالثناء على الله وإن تحرك تحرك تحرك في خدمة الله وإن اجتهد اجتهد في طاعة الله فهنالك يكون في غاية القرب من الله فهذا الشخص يكون ولياً لله تعالى وإذا كان

كذلك كان الله تعالى ولياً له أيضاً كما قال الله تعالى اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءامَنُواْ يُخْرِجُهُم مّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ( البقرة 257 ) ويجب أن يكون الأمر كذلك لأن القرب لا يحصل إلا من الجانبين وقال المتكلمون ولي الله من يكون آتياً بالاعتقاد الصحيح المبني على الدليل ويكون آتياً بالأعمال الصالحة على وفق ما وردت به الشريعة فهذا كلام مختصر في تفسير الولي
وأما قوله تعالى في صفتهم لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ففيه بحثان
البحث الأول أن الخوف إنما يكون في المستقبل بمعنى أنه يخاف حدوث شيء في المستقبل من المخوف والحزن إنما يكون على الماضي إما لأجل أنه كان قد حصل في الماضي ما كرهه أو لأنه فات شيء أحبه
البحث الثاني قال بعض المحققين إن نفي الحزن والخوف إما أن يحصل للأولياء حال كونهم في الدنيا أو حال انتقالهم إلى الآخرة والأول باطل لوجوه أحدها أن هذا لا يحصل في دار الدنيا لأنها دار خوف وحزن والمؤمن خصوصاً لا يخلو من ذلك على ما قاله الرسول عليه الصلاة والسلام ( الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ) وعلى ما قال ( حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات ) وثانيها أن المؤمن وإن صفا عيشه في الدنيا فإنه لا يخلو من هم بأمر الآخرة شديد وحزن على ما يفوته من القيام بطاعة الله تعالى وإذا بطل هذا القسم وجب حمل قوله تعالى لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ على أمر الآخرة فهذا كلام محقق وقال بعض العارفين إن الولاية عبارة عن القرب فولى الله تعالى هو الذي يكون في غاية القرب من الله تعالى وهذا التقرير قد فسرناه باستغراقه في معرفة الله تعالى بحيث لا يخطر بباله في تلك اللحظة شيء مما سوى الله ففي هذه الساعة تحصل الولاية التامة ومتى كانت هذه الحالة حاصلة فإن صاحبها لا يخاف شيئاً ولا يحزن بسبب شيء وكيف يعقل ذلك والخوف من الشيء والحزن على الشيء لا يحصل إلا بعد الشعور به والمستغرق في نور جلال الله غافل عن كل ما سوى الله تعالى فيمتنع أن يكون له خوف أو حزن وهذه درجة عالية ومن لم يذقها لم يعرفها ثم إن صاحب هذه الحالة قد تزول عنه الحالة وحينئذ يحصل له الخوف والحزن والرجاء والرغبة والرهبة بسبب الأحوال الجسمانية كما يحصل لغيره وسمعت أن إبراهيم الخواص كان بالبادية ومعه واحد يصحبه فاتفق في بعض الليالي ظهور حالة قوية وكشف تام له فجلس في موضعه وجاءت السباع ووقفوا بالقرب منه والمريد تسلق على رأس شجرة خوفاً منها والشيخ ما كان فازعاً من تلك السباع فلما أصبح وزالت تلك الحالة ففي الليلة الثانية وقعت بعوضة على يده فأظهر الجزع من تلك البعوضة فقال المريد كيف تليق هذه الحالة بما قبلها فقال الشيخ إنا إنما تحملنا البارحة ما تحملناه بسبب قوة الوارد الغيبي فلما غاب ذلك الوارد فأنا أضعف خلق الله تعالى
المسألة الثانية قال أكثر المحققين إن أهل الثواب لا يحصل لهم خوف في محقل القيامة واحتجوا على صحة قولهم بقوله تعالى أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وبقوله تعالى لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاْكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَئِكَة ُ ( الأنبياء 103 ) وأيضاً فالقيامة دار الجزاء فلا يليق به إيصال الخوف ومنهم من قال بل يحصل فيه أنواع من الخوف وذكروا فيه أخباراً تدل عليه إلا أن ظاهر القرآن أولى من خبر الواحد

وأما قوله الَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ففيه ثلاثة أوجه الأول النصب بكونه صفة للأولياء والثاني النصب على المدح والثالث الرفع على الابتداء وخبره لهم البشرى
وأما قوله تعالى لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيواة ِ الدُّنْيَا وَفِى الاْخِرَة ِ ففيه أقوال الأول المراد منه الرؤيا الصالحة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( البشرى هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له ) وعنه عليه الصلاة والسلام ( ذهبت النبوة وبقيت المبشرات ) وعنه عليه الصلاة والسلام ( الرؤيا الصالحة من الله والحلم من الشيطان فإذا حلم أحدكم حلماً يخافه فليتعوذ منه وليبصق عن شماله ثلاث مرات فإنه لا يضره ) وعنه ( صلى الله عليه وسلم ) ( الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة ) وعن ابن مسعود الرؤيا ثلاثة الهم يهم به الرجل من النهار فيراه في الليل وحضور الشيطان والرؤيا التي هي الرؤيا الصادقة وعن إبراهيم الرؤيا ثلاثة فالمبشرة من الله جزء من سبعين جزءاً من النبوة والشيء يهم به أحدكم بالنهار فلعله يراه بالليل والتخويف من الشيطان فإذا رأى أحدكم ما يحزنه فليقل أعوذ بما عاذت به ملائكة الله من شر رؤياي التي رؤيتها أن تضرني في دنياي أو في آخرتي
واعلم أنا إذا حملنا قوله لَهُمُ الْبُشْرَى على الرؤيا الصادقة فظاهر هذا النص يقتضي أن لا تحصل هذه الحالة إلا لهم والعقل أيضاً يدل عليه وذلك لأن ولي الله هو الذي يكون مستغرق القلب والروح بذكر الله ومن كان كذلك فهو عند النوم لا يبقى في روحه إلا معرفة الله ومن المعلوم أن معرفة الله ونور جلال الله لا يفيده إلا الحق والصدق وأما من يكون متوزع الفكر على أحوال هذا العالم الكدر المظلم فإنه إذا نام يبقى كذلك فلا جرم لا اعتماد على رؤياه فلهذا السبب قال لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيواة ِ الدُّنْيَا على سبيل الحصر والتخصيص
القول الثاني في تفسير البشرى أنها عبارة عن محبة الناس له وعن ذكرهم إياه بالثناء الحسن عن أبي ذر قال قلت يا رسول الله إن الرجل يعمل العمل لله ويحبه الناس فقال ( تلك عاجل بشرى المؤمن )
واعلم أن المباحث العقلية تقوي هذا المعنى وذلك أن الكمال محبوب لذاته لا لغيره وكل من اتصف بصفة من صفات الكمال صار محبوباً لكل أحد ولا كمال للعبد أعلى وأشرف من كونه مستغرق القلب بمعرفة الله مستغرق اللسان بذكر الله مستغرق الجوارح والأعضاء بعبودية الله فإذا ظهر عليه أمر من هذا الباب صارت الألسنة جارية بمدحه والقلوب مجبولة على حبه وكلما كانت هذه الصفات الشريفة أكثر كانت هذه المحبة أقوى وأيضاً فنور معرفة الله مخدوم بالذات ففي أي قلب حضر صار ذلك الإنسان مخدوماً بالطبع ألا ترى أن البهائم والسباع قد تكون أقوى من الإنسان ثم إنها إذا شاهدت الإنسان هابته وفرت منه وما ذاك إلا لمهابة النفس الناطقة
والقول الثالث في تفسير البشرى أنها عبارة عن حصول البشرى لهم عند الموت قال تعالى تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَئِكَة ُ أَن لا تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنَّة ِ ( فصلت 30 ) وأما البشرى في الآخرة فسلام الملائكة عليهم كما قال تعالى وَالمَلَائِكَة ُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ( الرعد 23 ) وسلام الله عليهم كما قال سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ ( يس 58 ) ويندرج في هذا الباب ما ذكره الله في هذا الكتاب

الكريم من بياض وجوههم وإعطاء الصحائف بأيمانهم وما يلقون فيها من الأحوال السارة فكل ذلك من المبشرات
والقول الرابع إن ذلك عبارة عما بشر الله عباده المتقين في كتابه وعلى ألسنة أنبيائه من جنته وكريم ثوابه ودليله قوله يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَة ٍ مّنْهُ وَرِضْوانٍ ( التوبة 21 )
واعلم أن لفظ البشارة مشتق من خبر سار يظهر أثره في بشرة الوجه فكل ما كان كذلك دخل في هذه الآية ومجموع الأمور المذكورة مشتركة في هذه الصفة فيكون الكل داخلاً فيه فكل ما يتعلق من هذه الوجوه بالدنيا فهو داخل تحت قوله لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيواة ِ الدُّنْيَا وكل ما يتعلق بالآخرة فهو داخل تحت قوله وَفِي الاْخِرَة ِ ثم إنه تعالى لما ذكر صفة أولياء الله وشرح أحوالهم قال تعالى لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ والمراد أنه لا خلف فيها والكلمة والقول سواء ونظيره قوله مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَى َّ ( ق 29 ) وهذا أحد ما يقوي أن المراد بالبشرى وعد الله بالثواب والكرامة لمن أطاعه بقوله يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَة ٍ مّنْهُ وَرِضْوانٍ ثم بين تعالى أن ذالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وهو كقوله تعالى وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً ( الإنسان 20 ) ثم قال القاضي قوله لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ يدل على أنها قابلة للتبديل وكل ما قبل العدم امتنع أن يكون قديماً ونظير هذا الاستدلال بحصول النسخ على أن حكم الله تعالى لا يكون قديماً وقد سبق الكلام على أمثال هذه الوجوه
وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّة َ للَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أَلا إِنَّ للَّهِ مَن فِى السَّمَاوَات وَمَنْ فِى الأرض وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ شُرَكَآءَ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ
اعلم أن القوم لما أوردوا أنواع الشبهات التي حكاها الله تعالى عنهم فيما تقدم من هذه السورة وأجاب الله عنها بالأجوبة التي فسرناها وقررناها عدلوا إلى طريق آخر وهو أنهم هددوه وخوفوه وزعموا أنا أصحاب التبع والمال فنسعى في قهرك وفي إبطال أمرك والله سبحانه أجاب عن هذا الطريق بقوله وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّة َ للَّهِ جَمِيعاً
واعلم أن الإنسان إنما يحزن من وعيد الغير وتهديده ومكره وكيده لو جوز كونه مؤثراً في حاله فإذا علم من جهة علام الغيوب أن ذلك لا يؤثر خرج من أن يكون سبباً لحزنه ثم إنه تعالى كما أزال عن الرسول حزن الآخرة بسبب قوله أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ( يونس 62 ) فكذلك أزال حزن الدنيا بقوله وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّة َ للَّهِ جَمِيعاً فإذا كان الله تعالى هو الذي أرسله إلى الخلق وهو الذي أمره بدعوتهم إلى هذا الدين كان لا محالة ناصراً له ومعيناً ولما ثبت أن العزة والقهر والغلبة ليست إلا له فقد حصل الأمن وزال الخوف

فإن قيل فكيف آمنه من ذلك ولم يزل خائفاً حتى احتاج إلى الهجرة والهرب ثم من بعد ذلك يخاف حالاً بعد حال
قلنا إن الله تعالى وعده الظفر والنصرة مطلقاً والوقت ما كان معيناً فهو في كل وقت كان يخاف من أن لا يكون هذا الوقت المعين ذلك الوقت فحينئذ يحصل الانكسار والانهزام في هذا الوقت
وأما قوله تعالى إِنَّ الْعِزَّة َ للَّهِ جَمِيعاً ففيه أبحاث
البحث الأول قال القاضي إن العزة بالألف المكسورة وفي فتحها فساد يقارب الكفر لأنه يؤدي إلى أن القوم كانوا يقولون إِنَّ الْعِزَّة َ للَّهِ جَمِيعاً وأن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يحزنه ذلك أما إذا كسرت الألف كان ذلك استئنافاً وهذا يدل على فضيلة علم الإعراب قال صاحب ( الكشاف ) وقرأ أبو حيوة إِنَّ الْعِزَّة َ بالفتح على حذف لام العلة يعني لأن العزة على صريح التعليل
البحث الثاني فائدة إِنَّ الْعِزَّة َ للَّهِ في هذا المقام أمور الأول المراد منه أن جميع العزة والقدرة هي لله تعالى يعطي ما يشاء لعباده والغرض منه أنه لا يعطي الكفار قدرة عليه بل يعطيه القدرة عليهم حتى يكون هو بذلك أعز منهم فآمنه الله تعالى بهذا القول من إضرار الكفار به بالقتل والإيذاء ومثله قوله تعالى كَتَبَ اللَّهُ لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى ( المجادلة 21 ) إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا ( غافر 51 ) الثاني قال الأصم المراد أن المشركين يتعززون بكثرة خدمهم وأموالهم ويخوفونك بها وتلك الأشياء كلها لله تعالى فهو القادر على أن يسلب منهم كل تلك الأشياء وأن ينصرك وينقل أموالهم وديارهم إليك
فإن قيل قوله إِنَّ الْعِزَّة َ للَّهِ جَمِيعاً كالمضادة لقوله تعالى وَلِلَّهِ الْعِزَّة ُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ( المنافقون 8 )
قلنا لا مضادة لأن عزة الرسول والمؤمنين كلها بالله فهي لله
أما قوله هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أي يسمع ما يقولون ويعلم ما يعزمون عليه وهو يكافئهم بذلك
وأما قوله أَلا إِنَّ للَّهِ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَمَن فِى الاْرْضِ ففيه وجهان الأول أنه تعالى ذكر في الآيات المتقدمة أَلا إِنَّ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وهذا يدل على أن كل ما لا يعقل فهو ملك لله تعالى وملك له وأما ههنا فكلمة مِنْ مختصة بمن يعقل فتدل على أن كل العقلاء داخلون تحت ملك الله وملكه فيكون مجموع الآيتين دالاً على أن الكل ملكه وملكه والثاني أن المراد مَن فِى السَّمَاوَاتِ العقلاء المميزون وهم الملائكة والثقلان وإنما خصهم بالذكر ليدل على أن هؤلاء إذا كانوا له وفي ملكه فالجمادات أولى بهذه العبودية فيكون ذلك قدحاً في جعل الأصنام شركاء لله تعالى
ثم قال تعالى وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ شُرَكَاء إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وفي كلمة مَا قولان الأول أنه نفي وجحد والمعنى أنهم ما اتبعوا شريك الله تعالى إنما اتبعوا شيئاً ظنوه شريكاً لله تعالى ومثاله أن أحدنا لو ظن أن زيداً في الدار وما كان فيها فخاطب إنساناً في الدار ظنه زيداً فإنه لا يقال إنه خاطب زيداً بل يقال خاطب من ظنه زيداً الثاني أن مَا استفهام كأنه قيل أي شيء يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء والمقصود تقبيح فعلهم يعني أنهم ليسوا على شيء

ثم قال تعالى إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ والمعنى أنهم إنما اتبعوا ظنونهم الباطلة وأوهامهم الفاسدة ثم بين أن هذا الظن لا حكم له وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ وذكرنا معنى الخرص في سورة الأنعام عند قوله إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ ( الأنعام 16 )
هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر قوله إِنَّ الْعِزَّة َ للَّهِ جَمِيعاً احتج عليه بهذه الآية والمعنى أنه تعالى جعل الليل ليزول التعب والكلال بالسكون فيه وجعل النهار مبصراً أي مضيئاً لتهتدوا به في حوائجكم بالأبصار والمبصر الذي يبصر والنهار يبصر فيه وإنما جعله مبصراً على طريق نقل الاسم من السبب إلى المسبب
فإن قيل إن قوله هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ يدل على أنه تعالى ما خلقه إلا لهذا الوجه وقوله إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ يدل على أنه تعالى أراد بتخليق الليل والنهار أنواعاً كثيرة من الدلائل
قلنا إن قوله تعالى لّتَسْكُنُواْ لا يدل على أنه لا حكمة فيه إلا ذلك بل ذلك يقتضي حصول تلك الحكمة
أما قوله تعالى إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ فالمراد يتدبرون ما يسمعون ويعتبرون به
قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِى السَّمَاوَات وَمَا فِى الأرض إِنْ عِندَكُمْ مِّن سُلْطَانٍ بِهَاذَآ أَتقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
اعلم أن هذا نوع آخر من الأباطيل التي حكاها الله تعالى عن الكفار وهي قولهم اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ويحتمل أن يكون المراد حكاية قول من يقول الملائكة بنات الله ويحتمل أن يكون المراد قول من يقول الأوثان أولاد الله ويحتمل أن يكون قد كان فيهم قوم من النصارى قالوا ذلك ثم إنه تعالى لما استنكر هذا القول قال بعده هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ
واعلم أن كونه تعالى غنياً مالكاً لكل ما في السموات والأرض يدل على أنه يستحيل أن يكون له ولد وبيان ذلك من وجوه الأول أنه سبحانه غني مطلقاً على ما في هذه الآية والعقل أيضاً يدل عليه لأنه لو كان محتاجاً لافتقر إلى صانع آخر وهو محال وكل من كان غنياً فإنه لا بد أن يكون فرداً منزهاً عن الأجزاء

والأبعاض وكل من كان كذلك امتنع أن ينفصل عنه جزء من أجزائه والولد عبارة عن أن ينفصل جزء من أجزاء الإنسان ثم يتولد عن ذلك الجزء مثله وإذا كان هذا محالاً ثبت أن كونه تعالى غنياً يمنع ثبوت الولد له
الحجة الثانية أنه تعالى غني وكل من كان غنياً كان قديماً أزلياً باقياً سرمدياً وكل من كان كذلك امتنع عليه الانقراض والانقضاء والولد إنما يحصل للشيء الذي ينقضي وينقرض فيكون ولده قائماً مقامه فثبت أن كونه تعالى غنياً يدل على أنه يمتنع أن يكون له ولد
الحجة الثالثة أنه تعالى غني وكل من كان غنياً فإنه يمتنع أن يكون موصوفاً بالشهوة واللذة وإذا امتنع ذلك امتنع أن يكون له صاحبة وولد
الحجة الرابعة أنه تعالى غني وكل من كان غنياً امتنع أن يكون له ولد لأن اتخاذ الولد إنما يكون في حق من يكون محتاجاً حتى يعينه ولده على المصالح الحاصلة والمتوقعة فمن كان غنياً مطلقاً امتنع عليه اتخاذ الولد
الحجة الخامسة ولد الحيوان إنما يكون ولداً له بشرطين إذا كان مساوياً له في الطبيعة والحقيقة ويكون ابتداء وجوده وتكونه منه وهذا في حق الله تعالى محال لأنه تعالى غني مطلقاً وكل من كان غنياً مطلقاً كان واجب الوجود لذاته فلو كان لواجب الوجود ولد لكان ولده مساوياً له فيلزم أن يكون ولد واجب الوجود أيضاً واجب الوجود لكن كونه واجب الوجود يمنع من تولده من غيره وإذا لم يكن متولداً من غيره لم يكن ولداً فثبت أن كونه تعالى غنياً من أقوى الدلائل على أنه تعالى لا ولد له وهذه الثلاثة مع الثلاثة الأول في غاية القوة
الحجة السادسة أنه تعالى غني وكل من كان غنياً امتنع أن يكون له أب وأم وكل من تقدس عن الوالدين وجب أن يكون مقدساً عن الأولاد
فإن قيل يشكل هذا بالوالد الأول
قلنا الوالد الأول لا يمتنع كونه ولداً لغيره لأنه سبحانه وتعالى قادر على أن يخلق الوالد الأول من أبوين يقدمانه أما الحق سبحانه فإنه يمتنع افتقاره إلى الأبوين وإلا لما كان غنياً مطلقاً
الحجة السابعة إنه تعالى غني مطلقاً وكل من كان غنياً مطلقاً امتنع أن يفتقر في إحداث الأشياء إلى غيره
إذا ثبت هذا فنقول هذا الولد إما أن يكون قديماً أو حادثاً فإن كان قديماً فهو واجب الوجود لذاته آذ لو كان ممكن الوجود لافتقر إلى المؤثر وافتقار القديم إلى المؤثر يقتضي إيجاد الموجود وهو محال وإذا كان واجب الوجود لذاته لم يكن ولداً لغيره بل كان موجوداً مستقلاً بنفسه وأما إن كان هذا الولد حادثاً والحق سبحانه غني مطلقاً فكان قادراً على إحداثه ابتداء من غير تشريك شيء آخر فكان هذا عبداً مطلقاً ولم يكن ولداً فهذه جملة الوجوه المستنبطة من قوله هُوَ الْغَنِى ُّ الدالة على أنه يمتنع أن يكون له ولد

أما قوله لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ فاعلم أنه نظير قوله إِن كُلُّ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ إِلاَّ اتِى الرَّحْمَنِ عَبْداً ( مريم 93 ) وحاصله يرجع إلى أن ما سوى الواحد الأحد الحق ممكن وكل ممكن محتاج وكل محتاج محدث فكل ما سوى الواحد الأحد الحق محدث والله تعالى محدثه وخالقه وموجده وذلك يدل على فساد القول بإثبات الصاحبة والولد ولما بين تعالى بالدليل الواضح امتناع ما أضافوا إليه عطف عليهم بالإنكار والتوبيخ فقال إِنْ عِندَكُمْ مّن سُلْطَانٍ بِهَاذَا منبهاً بهذا على أنه لا حجة عندهم في ذلك ألبتة ثم بالغ في ذلك الإنكار فقال أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وقد ذكرنا أن هذه الآية يحتج بها في إبطال التقليد في أصول الديانات ونفاة القياس وأخبار الآحاد قد يحتجون بها في إبطال هذين الأصلين وقد سبق الكلام فيه
قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ فِى الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين بالدليل القاهر أن إثبات الولد لله تعالى قول باطل ثم بين أنه ليس لهذا القائل دليل على صحة قوله فقد ظهر أن ذلك المذهب افتراء على الله ونسبه لما لا يليق به إليه فبين أن من هذا حاله فإنه لا يفلح ألبتة ألا ترى أنه تعالى قال في أول سورة المؤمنون قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ( المؤمنون 1 ) وقال في آخر هذه السورة إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ( المؤمنون 117 )
واعلم أن قوله إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ يدخل فيه هذه الصورة ولكنه لا يختص بهذه الصورة بل كل من قال في ذات الله تعالى وفي صفاته قولاً بغير علم وبغير حجة بينة كان داخلاً في هذا الوعيد ومعنى قوله لاَ يُفْلِحُ قد ذكرناه في أول سورة البقرة في قوله تعالى وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( آل عمران 104 ) وبالجملة فالفلاح عبارة عن الوصول إلى المقصود والمطلوب فمعنى أنه لا يفلح هو أنه لا ينجح في سعيه ولا يفوز بمطلوبه بل خاب وخسر ومن الناس من إذا فاز بشيء من المطالب العاجلة والمقاصد الخسيسة ظن أنه قد فاز بالمقصد الأقصى والله سبحانه أزال هذا الخيال بأن قال إن ذلك المقصود الخسيس متاع قليل في الدنيا ثم لا بد من الموت وعند الموت لا بد من الرجوع إلى الله وعند هذا الرجوع لا بد من أن يذيقه العذاب الشديد بسبب ذلك الكفر المتقدم وهذا كلام في غاية الانتظام ونهاية الحسن والجزالة والله أعلم
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ ياقَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِى وَتَذْكِيرِى بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّة ً ثُمَّ اقْضُوا إِلَى َّ وَلاَ تُنظِرُونَ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِى َ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ

اعلم أنه سبحانه لما بالغ في تقرير الدلائل والبينات وفي الجواب عن الشبه والسؤالات شرع بعد ذلك في بيان قصص الأنبياء عليهم السلام لوجوه أحدها أن الكلام إذا أطال في تقرير نوع من أنواع العلوم فربما حصل نوع من أنواع الملالة فإذا انتقل الإنسان من ذلك الفن من العلم إلى فن آخر انشرح صدره وطاب قلبه ووجد في نفسه رغبة جديدة وقوة حادثة وميلاً قوياً وثانيها ليكون للرسول عليه الصلاة والسلام ولأصحابه أسوة بمن سلف من الأنبياء فإن الرسول إذا سمع أن معاملة هؤلاء الكفار مع الكل الرسل ما كانت إلا على هذا الوجه خف ذلك على قلبه كما يقال المصيبة إذا عمت خفت وثالثها أن الكفار إذا سمعوا هذه القصص وعلموا أن الجهال وإن بالغوا في إيذاء الأنبياء المتقدمين إلا أن الله تعالى أعانهم بالآخرة ونصرهم وأيدهم وقهر أعداءهم كان سماع هؤلاء الكفار لأمثال هذه القصص سبباً لانكسار قلوبهم ووقوع الخوف والوجل في صدورهم وحينئذ يقللون من أنواع الإيذاء والسفاهة ورابعها أنا قد دللنا على أن محمداً عليه الصلاة والسلام لما لم يتعلم علماً ولم يطالع كتاباً ثم ذكر هذه الأقاصيص من غير تفاوت ومن غير زيادة ومن غير نقصان دل ذلك على أنه ( صلى الله عليه وسلم ) إنما عرفها بالوحي والتنزيل
واعلم أنه تعالى ذكر في هذه السورة من قصص الأنبياء عليهم السلام ثلاثة
فالقصة الأولى قصة نوح عليه السلام وهي المذكورة في هذه الآية وفيها وجهان من الفائدة الأول أن قوم نوح عليهم السلام لما أصروا على الكفر والجحد عجل الله هلاكهم بالغرق فذكر الله تعالى قصتهم لتصير تلك القصة عبرة لهؤلاء الكفار وداعية إلى مفارقة الجحد بالتوحيد والنبوة والثاني أن كفار مكة كانوا يستعجلون العذاب الذي يذكره الرسول عليه السلام لهم وكانوا يقولون له كذبت فإنه ما جاءنا هذا العذاب فالله تعالى ذكر لهم قصة نوح عليه السلام لأنه عليه السلام كان يخوفهم بهذا العذاب وكانوا يكذبونه فيه ثم بالآخرة وقع كما أخبر فكذا ههنا
المسألة الثانية أن نوحاً عليه السلام قال لقومه إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِى وَتَذْكِيرِى بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ وهذا جملة من الشرط والجزاء أما الشرط فهو مركب من قيدين
القيد الأول قوله إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِى قال الواحدي في ( البسيط ) يقال كبر يكبر كبراً في السن وكبر الأمر والشيء إذا عظم يكبر كبراً وكبارة قال ابن عباس ثقل عليكم وشق عليكم وعظم أمره عندكم والمقام بفتح الميم مصدر كالإقامة يقال أقام بين أظهرهم مقاماً وإقامة والمقام بضم الميم الموضع الذي يقام فيه وأراد بالمقام ههنا مكثه ولبثه فيهم وبالجملة فقوله كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِى جار مجرى قولهم فلان ثقيل الظل
واعلم أن سبب هذا الثقل أمران أحدهما أنه عليه السلام مكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً والثاني أن أولئك الكفار كانوا قد ألفوا تلك المذاهب الفاسدة والطرائق الباطلة والغالب أن من ألف طريقة

في الدين فإنه يثقل عليه أن يدعى إلى خلافها ويذكر له ركاكتها فإن اقترن بذلك طول مدة الدعاء كان أثقل وأشد كراهية فإن اقترن به إيراد الدلائل القاهرة على فساد تلك المذهب كانت النفرة أشد فهذا هو السبب في حصول ذلك الثقل
والقيد الثاني هو قوله وَتَذْكِيرِى بِآيَاتِ اللَّهِ
واعلم أن الطباع المشغوفة بالدنيا الحريصة على طلب اللذات الهاجلة تكون شديدة النفرة عن الأمر بالطاعات والنهي عن المعاصي والمنكرات قوية الكراهة لسماع ذكر الموت وتقبيح صورة الدنيا ومن كان كذلك فإنه يستثقل الإنسان الذي يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر وفي الآية وجه آخر وهو أن يكون قوله إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِى وَتَذْكِيرِى بِآيَاتِ اللَّهِ معناه أنهم كانوا إذا وعظوا الجماعة قاموا على أرجلهم يعظونهم ليكون مكانهم ظاهراً وكلامهم مسموعاً كما يحكى عن عيسى عليه السلام أنه كان يعظ الحواريين قائماً وهم قعود
واعلم أن هذا هو الشرط المذكور في هذه الآية أما الجزاء ففيه قولان
القول الأول أن الجزاء هو قوله فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ يعني أن شدة بغضكم لي تحملكم على الإقدام على إيذائي وأنا لا أقابل ذلك الشر إلا بالتوكل على الله
واعلم أنه عليه السلام كان أبداً متوكلاً على الله تعالى وهذا اللفظ يوهم أنه توكل على الله في هذه الساعة لكن المعنى أنه إنما توكل على الله في دفع هذا الشر في هذه الساعة
والقول الثاني وهو قول الأكثرين إن جواب الشرط هو قوله فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ وقوله فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ كلام اعترض به بين الشرط وجوابه كما تقول في الكلام إن كنت أنكرت علي شيئاً فالله حسبي فاعمل ما تريد واعلم أن جواب هذا الشرط مشتمل على قيود خمسة على الترتيب
القيد الأول قوله فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وفيه بحثان
البحث الأول قال الفراء الإجماع الإعداد والعزيمة على الأمر وأنشد ف يا ليت شعري والمنى لا ينفع
هل اغدون يوماً وأمري مجمع
فإذا أردت جمع التفرق قلت جمعت القوم فهم مجموعون وقال أبو الهيثم أجمع أمره أي جعله جميعاً بعد ما كان متفرقاً قال وتفرقه أي جعل يتدبره فيقول مرة أفعل كذا ومرة أفعل كذا فلما عزم على أمر واحد فقد جمعه أي جعله جميعاً فهذا هو الأصل في الإجماع ومنه قوله تعالى وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ ( يوسف 102 ) ثم صار بمعنى العزم حتى وصل بعلى فقيل أجمعت على الأمر أي عزمت عليه والأصل أجمعت الأمر
البحث الثاني روى الأصمعي عن نافع فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ بوصل الألف من الجمع وفيه وجهان الأول قال أبو علي الفارسي فاجمعوا ذوي الأمر منكم فحذف المضاف وجرى على المضاف إليه ما كان يجري على المضاف لو ثبت الثاني قال ابن الأنباري المراد من الأمر ههنا وجوه كيدهم ومكرهم

فالتقدير ولا تدعوا من أمركم شيئاً إلا أحضرتموه
والقيد الثاني قوله وَشُرَكَاءكُمْ وفيه أبحاث
البحث الأول الواو ههنا بمعنى مع والمعنى فأجمعوا أمركم مع شركائكم ونظيره قولهم لو تركت الناقة وفصيلها لرضعها ولو خليت نفسك والأسد لأكلك
البحث الثاني يحتمل أن يكون المراد من الشركاء الأوثان التي سموها بالآلهة ويحتمل أن يكون المراد منها من كان على مثل قولهم ودينهم فإن كان المراد هو الأول فإنما حث الكفار على الاستعانة بالأوثان بناء على مذهبهم من أنها تضر وتنفع وإن كان المراد هو الثاني فوجه الاستعانة بها ظاهر
البحث الثالث قرأ الحسن وجماعة من القراء وَشُرَكَاؤُكُمْ بالرفع عطفاً على الضمير المرفوع والتقدير فأجمعوا أنتم وشركاؤكم قال الواحدي وجاز ذلك من غير تأكيد الضمير كقوله اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّة َ ( البقرة 35 ) لأن قوله أَمَرَكُمُ فصل بين الضمير وبين المنسوق فكان كالعوض من التوكيد وكان الفراء يستقبح هذه القراءة لأنها توجب أن يكتب وشركاؤكم بالواو وهذا الحرف غير موجود في المصاحف
القيد الثالث قوله ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّة ً قال أبو الهيثم أي مبهماً من قولهم غم علينا الهلال فهو مغموم إذا التبس قال طرفة ف لعمري ما أمري علي بغمة
نهاري ولا ليلي علي بسرمد
وقال الليث إنه لفي غمة من أمره إذا لم يهتد له قال الزجاج أي ليكن أمركم ظاهراً منكشفاً
القيد الرابع قوله ثُمَّ اقْضُواْ إِلَى َّ وفيه بحثان
البحث الأول قال ابن الأنباري معناه ثم امضوا إلي بمكروهكم وما توعدونني به تقول العرب قضى فلان يريدون مات ومضى وقال بعضهم قضاء الشيء إحكامه وإمضاؤه والفراغ منه وبه يسمى القاضي لأنه إذا حكم فقد فرغ فقوله ثُمَّ اقْضُواْ إِلَى َّ أي افرغوا من أمركم وامضوا ما في أنفسكم واقطعوا ما بيني وبينكم ومنه قوله تعالى وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِى إِسْراءيلَ فِى الْكِتَابِ ( الإسراء 4 ) أي أعلمناهم إعلاماً قاطعاً قال تعالى وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الاْمْرَ ( الحجر 66 ) قال القفال رحمه الله تعالى ومجاز دخول كلمة إِلَى في هذا الموضع من قولهم برئت إليك وخرجت إليك من العهد وفيه معنى الإخبار فكأنه تعالى قال ثم اقضوا ما يستقر رأيكم عليه محكماً مفروغاً منه
البحث الثاني قرىء ثم أفضوا إلي بالفاء بمعنى ثم انتهوا إلى بشركم وقيل هو من أفضى الرجل إذا خرج إلى الفضاء أي أصحروا به إلي وأبرزوه إلي
القيد الخامس قوله وَلاَ تُنظِرُونَ معناه لا تمهلون بعد إعلامكم إياي ما اتفقتم عليه فهذا هو تفسير هذه الألفاظ وقد نظم القاضي هذا الكلام على أحسن الوجوه فقال إنه عليه السلام قال ( في أول الأمر فعلى الله توكلت فإني واثق بوعد الله جازم بأنه لا يخلف الميعاد ولا تظنوا أن تهديدكم إياي بالقتل والإيذاء يمنعني من الدعاء إلى الله تعالى ) ثم إنه عليه السلام أورد ما يدل على صحة دعوته فقال ( فأجمعوا أمركم ) فكأنه يقول

لهم أجمعوا كل ما تقدرون عليه من الأسباب التي توجب حصول مطلوبكم ثم لم يقتصر على ذلك بل أمرهم أن يضموا إلى أنفسهم شركائهم الذين كانوا يزعمون أن حالهم يقوى بمكانتهم وبالتقرب إليهم ثم لم يقتصر على هذين بل ضم إليهما ثالثاً وهو قوله ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّة ً وأراد أن يبلغوا فيه كل غاية في المكاشفة والمجاهرة ثم لم يقتصر على ذلك حتى ضم إليها رابعاً فقال ثُمَّ اقْضُواْ إِلَى َّ والمراد أن وجهوا كل تلك الشرور إلي ثم ضم إلى ذلك خامساً وهو قوله وَلاَ تُنظِرُونَ أي عجلوا ذلك بأشد ما تقدرون عليه من عير أنظار فهذا آخر هذا الكلام ومعلوم أن مثل هذا الكلام يدل على أنه عليه السلام كان قد بلغ الغاية في التوكل على الله تعالى وأنه كان قاطعاً بأن كيدهم لا يصل إليه ومكرهم لا ينفذ فيه
وأما قوله تعالى فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فقال المفسرون هذا إشارة إلى أنه ما أخذ منهم مالاً على دعوتهم إلى دين الله تعالى ومتى كان الإنسان فارغاً من الطمع كان قوله أقوى تأثيراً في القلب وعندي فيه وجه آخر وهو أن يقال إنه عليه السلام بين أنه لا يخاف منهم بوجه من الوجوه وذلك لأن الخوف إنما يحصل بأحد شيئين إما بإيصال الشر أو بقطع المنافع فبين فيما تقدم أنه لا يخاف شرهم وبين بهذه الآية أنه لا يخاف منهم بسبب أن يقطعوا عنه خيراً لأنه ما أخذ منهم شيئاً فكان يخاف أن يقطعوا منه خيراً
ثم قال إِنْ أَجْرِى َ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وفيه قولان الأول أنكم سواء قبلتم دين الإسلام أو لم تقبلوا فأنا مأمور بأن أكون على دين الإسلام والثاني أني مأمور بالاستسلام لكل ما يصل إلي لأجل هذه الدعوة وهذا الوجه أليق بهذا الموضع لأنه لما قال ثُمَّ اقْضُواْ إِلَى َّ بين لهم أنه مأمور بالاستسلام لكل ما يصل إليه في هذا الباب والله أعلم
فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِى الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الْمُنْذَرِينَ
اعلم أنه تعالى لما حكى الكلمات التي جرت بين نوح وبين أولئك الكفار ذكر ما إليه رجعت عاقبة تلك الواقعة أما في حق نوح وأصحابه فأمران أحدهما أنه تعالى نجاهم من الكفار الثاني أنه جعلهم خلائف بمعنى أنهم يخلفون من هلك بالغرق وأما في حق الكفار فهو أنه تعالى أغرقهم وأهلكهم وهذه القصة إذا سمعها من صدق الرسول ومن كذب به كانت زجراً للمكلفين من حيث يخافون أن ينزل بهم مثل ما نزل بقوم نوح وتكون داعية للمؤمنين على الثبات على الإيمان ليصلوا إلى مثل ما وصل إليه قوم نوح وهذه الطريقة في الترغيب والتحذير إذا جرت على سبيل الحكاية عمن تقدم كانت أبلغ من الوعيد المبتدأ وعلى هذا الوجه ذكر تعالى أقاصيص الأنبياء عليهم السلام
وأما تفاصيل هذه القصة فهي مذكورة في سائر السور
ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ

اعلم أن المراد ثم بعثنا من بعد نوح رسلاً ولم يسمهم وكان منهم هود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب صلوات الله عليهم أجمعين بالبينات وهي المعجزات القاهرة فأخبر تعالى عنهم أنهم جروا على منهاج قوم نوح في التكذيب ولم يزجرهم ما بلغهم من إهلاك الله تعالى المكذبين من قوم نوح عن ذلك فلهذا قال فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ وليس المراد عين ما كذبوا به لأن ذلك لم يحصل في زمانه بل المراد بمثل ما كذبوا به من البينات لأن البينات الظاهرة على الأنبياء عليهم السلام أجمع كأنها واحدة
ثم قال تعالى كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ واحتج أصحابنا على أن الله تعالى قد يمنع المكلف عن الإيمان بهذه الآية وتقريره ظاهر قال القاضي الطبع غير مانع من الإيمان بدليل قوله تعالى بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ( النساء 155 ) ولو كان هذا الطبع مانعاً لما صح هذا الاستثناء
والجواب أن الكلام في هذه المسألة قد سبق على الاستقصاء في تفسير قوله تعالى خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ ( البقرة 7 ) فلا فائدة في الإعادة
القصة الثانية
قصة موسى عليه السلام
ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِمْ مُّوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ فَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا إِنَّ هَاذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ قَالَ مُوسَى أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمْ أَسِحْرٌ هَاذَا وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ
اعلم أن هذا الكلام غني عن التفسير وفيه سؤال واحد وهو أن القوم لما قالوا إِنَّ هَاذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ فكيف حكى موسى عليه السلام أنهم قالوا أَسِحْرٌ هَاذَا على سبيل الاستفهام
وجوابه أن موسى عليه السلام ما حكى عنهم أنهم قالوا أَسِحْرٌ هَاذَا بل قال أَتقُولُونَ لِلْحَقّ لَمَّا جَاءكُمْ

ما تقولون ثم حذف عنه مفعول أَتَقُولُونَ لدلالة الحال عليه ثم قال مرة أخرى أَسِحْرٌ هَاذَا وهذا استفهام على سبيل الإنكار ثم احتج على أنه ليس بسحر وهو قوله وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ يعني أن حاصل صنعهم تخييل وتمويه وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ وأما قلب العصا حية وفلق البحر فمعلوم بالضرورة أنه ليس من باب التخييل والتمويه فثبت أنه ليس بسحر
قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَآءُ فِى الأرض وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِى بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ فَلَمَّا جَآءَ السَّحَرَة ُ قَالَ لَهُمْ مُّوسَى أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ فَلَمَّآ أَلْقُواْ قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى حكى عن فرعون وقومه أنهم لم يقبلوا دعوة موسى عليه السلام وعللوا عدم القبول بأمرين الأول قوله أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَائِنَا قال الواحدي اللفت في أصل اللغة الصرف عن أمر وأصله اللي يقال لفت عنقه إذا لواها ومن هذا يقال التفت إليه أي أمال وجهه إليه قال الأزهري لفت الشيء وفتله إذا لواه وهذا من المقلوب
واعلم أن حاصل هذا الكلام أنهم قالوا لا نترك الدين الذي نحن عليه لأنا وجدنا آبائنا عليه فقد تمسكوا بالتقليد ودفعوا الحجة الظاهرة بمجرد الإصرار
والسبب الثاني في عدم القبول قوله وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِى الاْرْضِ قال المفسرون المعنى ويكون لكما الملك والعز في أرض مصر والخطاب لموسى وهرون قال الزجاج سمى الملك كبرياء لأنه أكبر ما يطلب من أمر الدنيا وأيضاً فالنبي إذا اعترف القوم بصدقه صارت مقاليد أمر أمته إليه فصار أكبر القوم
واعلم أن السبب الأول إشارة إلى التمسكل بالتقليد والسبب الثاني إشارة إلى الحرص على طلب الدنيا والجد في بقاء الرياسة ولما ذكر القوم هذين السببين صرحوا بالحكم وقالوا وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ
واعلم أن القوم لما ذكروا هذه المعاني حاولوا بعد ذلك وأرادوا أن يعارضوا معجزة موسى عليه السلام بأنواع من السحر ليظهروا عند الناس أن ما أتى به موسى من باب السحر فجمع فرعون السحرة وأحضرهم فَقَالَ لَهُمُ مُّوسَى أَلْقُواْ مَا أَنتُمْ مُّلْقُونَ

فإن قيل كيف أمرهم بالكفر والسحر والأمر بالكفر كفر
قلنا إنه عليه السلام أمرهم بإلقاء الحبال والعصي ليظهر للخلق أن ما أتوا به عمل فاسد وسعي باطل لا على طريق أنه عليه السلام أمرهم بالسحر فلما ألقوا حبالهم وعصيهم قال لهم موسى ما جئتم به هو السحر الباطل والغرض منه أن القوم قالوا لموسى إن ما جئت به سحر فذكر موسى عليه السلام أن ما ذكرتموه باطل بل الحق أن الذي جئتم به هو السحر والتمويه الذي يظهر بطلانه ثم أخبرهم بأن الله تعالى يحق الحق ويبطل الباطل وقد أخبر الله تعالى في سائر السور أنه كيف أبطل ذلك السحر وذلك بسبب أن ذلك الثعبان قد تلقف كل تلك الجبال والعصي
المسألة الثانية قوله مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ ما ههنا موصولة بمعنى الذي وهي مرتفعة بالابتداء وخبرها السحر قال الفراء وإنما قال السِّحْرُ بالألف واللام لأنه جواب كلام سبق ألا ترى أنهم قالوا لما جاءهم موسى هذا سحر فقال لهم موسى بل ما جئتم به السحر فوجب دخول الألف واللام لأن النكرة إذا عادت عادت معرفة يقول الرجل لغيره لقيت رجلاً فيقول له من الرجل فيعيده بالألف واللام ولو قال له من رجل لم يقع في فهمه أنه سأله عن الرجل الذي ذكره له وقرأ أبو عمرو السِّحْرُ بالاستفهام وعلى هذه القراءة ما استفهامية مرتفع بالابتداء وجئتم به في موضع الخبر كأنه قيل أي شيء جئتم به ثم قال على وجه التوبيخ والتقريع السِّحْرُ كقوله تعالى قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى ( المائدة 116 ) والسحر بدل من المبتدأ ولزم أن يلحقه الاستفهام ليساوي المبدل منه في أنه استفهام كما تقول كم مالك أعشرون أم ثلاثون فجعلت أعشرون بدلاً من كم ولا يلزم أن يضمر للسحر خبر لأنك إذا أبدلته من المبتدأ صار في موضعه وصار ما كان خبراً عن المبدل منه خبراً عنه
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ أي سيهلكه ويظهر فضيحة صاحبه إِنَّ اللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ أي لا يقويه ولا يكمله
ثم قال وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ ومعنى إحقاق الحق إظهاره وتقويته وقوله بِكَلِمَاتِهِ أي بوعده موسى وقيل بما سبق من قضائه وقدره وفي كلمات الله أبحاث غامضة عميقة عالية وقد ذكرناها في بعض مواضع من هذا الكتاب
فَمَآ ءامَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّة ٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأرض وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ
واعلم أنه تعالى بين فيما تقدم ما كان من موسى عليه السلام من المعجزات العظيمة وما ظهر من تلقف العصا لكل ما أحضروه من آلات السحر ثم إنه تعالى بين أنهم مع مشاهدة المعجزات العظيمة ما آمن به منهم إلا ذرية من قومه وإنما ذكر تعالى ذلك تسلية لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه كان يغتم بسبب إعراض القوم عنه

واستمرارهم على الكفر فبين أن له في هذا الباب بسائر الأنبياء أسوة لأن الذي ظهر من موسى عليه السلام كان في الإعجاز في مرأى العين أعظم ومع ذلك فما آمن به منهم إلا ذرية واختلفوا في المراد بالذرية على وجوه الأول أن الذرية ههنا معناها تقليل العدد قال ابن عباس لفظ الذرية يعبر به عن القوم على وجه التحقير والتصغير ولا سبيل إلى حمله على التقدير على وجه الإهانة في هذا الموضع فوجب حمله على التصغير بمعنى قلة العدد الثاني قال بعضهم المراد أولاد من دعاهم لأن الآباء استمروا على الكفر إما لأن قلوب الأولاد ألين أو دواعيهم على الثبات على الكفر أخف الثالث أن الذرية قوم كان آباؤهم من قوم فرعون وأمهاتهم من بني إسرائيل الرابع الذرية من آل فرعون آسية امرأة فرعون وخازنه وامرأة خازنه وماشطتها وأما الضمير في قوله مِن قَوْمِهِ فقد اختلفوا أن المراد من قوم موسى أو من قوم فرعون لأن ذكرهما جميعاً قد تقدم والأظهر أنه عائد إلى موسى لأنه أقرب المذكورين ولأنه نقل أن الذين آمنوا به كانوا من بني إسرائيل
أما قوله عَلَى خَوْفٍ مّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ ففيه أبحاث
البحث الأول أن أولئك الذين آمنوا بموسى كانوا خائفين من فرعون جداً لأنه كان شديد البطش وكان قد أظهر العداوة مع موسى فإذا علم ميل القوم إلى موسى كان يبالغ في إيذائهم فلهذا السبب كانوا خائفين منه
البحث الثاني إنما قال وَمَلَئِهِمْ مع أن فرعون واحد لوجوه الأول أنه قد يعبر عن الواحد بلفظ الجمع والمراد التعظيم قال الله تعالى إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ ( الحجر 9 ) الثاني أن المراد بفرعون آل فرعون الثالث أن هذا من باب حذف المضاف كأنه أريد بفرعون آل فرعون
ثم قال أَن يَفْتِنَهُمْ أي يصرفهم عن دينهم بتسليط أنواع البلاء عليهم
ثم قال وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الاْرْضِ أي لغالب فيها قاهر وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ قيل المراد أنه كثير القتل كثير التعذيب لمن يخالفه في أمر من الأمور والغرض منه بيان السبب في كون أولئك المؤمنين خائفين وقيل إنما كان مسرفاً لأنه كان من أخس العبيد فادعى الإلهية
وَقَالَ مُوسَى ياقَوْمِ إِن كُنتُمْ ءامَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِن كُنْتُم مُّسْلِمِينَ فَقَالُواْ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَة ً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى أن قوله وَقَالَ مُوسَى ياقَوْمِ إِن كُنتُمْ ءامَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ جزاء معلق على شرطين أحدهما متقدم والآخر متأخر والفقهاء قالوا المتأخر يجب أن يكون متقدماً والمتقدم يجب أن يكون متأخراً ومثاله أن يقول الرجل لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق إن كلمت زيداً وإنما كان الأمر

كذلك لأن مجموع قوله إن دخلت الدار فأنت طالق صار مشروطاً بقوله إن كلمت زيداً والمشروط متأخر عن الشرط وذلك يقتضي أن يكون المتأخر في اللفظ متقدماً في المعنى وأن يكون المتقدم في اللفظ متأخراً في المعنى والتقدير كأنه يقول لامرأته حال ما كلمت زيداً إن دخلت الدار فأنت طالق فلو حصل هذا التعليق قبل إن كلمت زيداً لم يقع الطلاق
إذا عرفت هذا فنقول قوله وَقَالَ مُوسَى ياقَوْمِ إِن كُنتُمْ ءامَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ يقتضي أن يكون كونهم مسلمين شرطاً لأن يصيروا مخاطبين بقوله وَقَالَ مُوسَى ياقَوْمِ إِن كُنتُمْ ءامَنْتُمْ فكأنه تعالى يقول للمسلم حال إسلامه إن كنت من المؤمنين بالله فعلى الله توكل والأمر كذلك لأن الإسلام عبارة عن الاستسلام وهو إشارة إلى الانقياد للتكاليف الصادرة عن الله تعالى وإظهار الخضوع وترك التمرد وأما الإيمان فهو عبارة عن صيرورة القلب عارفاً بأن واجب الوجود لذاته واحد وأن ما سواه محدث مخلوق تحت تدبيره وقهره وتصرفه وإذا حصلت هاتان الحالتان فعند ذلك يفوض العبد جميع أموره إلى الله تعالى ويحصل في القلب نور التوكل على الله فهذه الآية من لطائف الأسرار والتوكل على الله عبارة عن تفويض الأمور بالكلية إلى الله تعالى والاعتماد في كل الأحوال على الله تعالى
واعلم أن من توكل على الله في كل المهمات كفاه الله تعالى كل الملمات لقوله وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ( الطلاق 3 )
المسألة الثانية أن هذا الذي أمر موسى قومه به وهو التوكل على الله هو الذي حكاه الله تعالى عن نوح عليه السلام أنه قال فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ ( يونس 71 ) وعند هذا يظهر التفاوت بين الدرجتين لأن نوحاً عليه السلام وصف نفسه بالتوكل على الله تعالى وموسى عليه السلام أمر قومه بذلك فكان نوحاً عليه السلام تاماً وكان موسى عليه السلام فوق التمام
المسألة الثالثة إنما قال فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ ولم يقل توكلوا عليه لأن الأول يفيد الحصر كأنه عليه السلام أمرهم بالتوكل عليه ونهاهم عن التوكل على الغير والأمر كذلك لأنه لما ثبت أن كل ما سواه فهو ملكه وملكه وتحت تصرفه وتسخيره وتحت حكمه وتدبيره امتنع في العقل أن يتوكل الإنسان على غيره فلهذا السبب جاءت هذ الكلمة بهذه العبارة ثم بين تعالى أن موسى عليه السلام لما أمرهم بذلك قبلوا قوله وَقَالُواْ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا أي توكلنا عليه ولا نلتفت إلى أحد سواه ثم لما فعلوا ذلك اشتغلوا بالدعاء فطلبوا من الله تعالى شيئين أحدهما أن قالوا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَة ً لّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وفيه وجوه الأول أن المراد لا تفتن بنا فرعون وقومه لأنك لو سلطتهم علينا لوقع في قلوبهم أنا لو كنا على الحق لما سلطتهم علينا فيصير ذلك شبهة قوية في إصرارهم على الكفر فيصير تسليطهم علينا فتنة لهم الثاني أنك لو سلطتهم علينا لاستوجبوا العقاب الشديد في الآخرة وذلك يكون فتنة لهم الثالث لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَة ً لَهُمْ أي موضع فتنة لهم أي موضع عذاب لهم الرابع أن يكون المراد من الفتنة المفتون لأن إطلاق لفظ المصدر على المفعول جائز كالخلق بمعنى المخلوق والتكوين بمعنى المكون والمعنى لا تجعلنا مفتونين أي لا تمكنهم من أن يحملونا بالظلم والقهر على أن ننصرف عن هذا الدين الحق الذي قبلناه وهذا التأويل متأكد بما ذكره الله تعالى قبل هذه الآية وهو قوله فَمَا ءامَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرّيَّة ٌ مّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ

وأما المطلوب الثاني في هذا الدعاء فهو قوله تعالى وَنَجّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ
واعلم أن هذا الترتيب يدل على أنه كان اهتمام هؤلاء بأمر دينهم فوق اهتمامهم بأمر دنياهم وذلك لأنا إن حملنا قولهم رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَة ً لّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ على أنهم إن سلطوا على المسلمين صار ذلك شبهة لهم في أن هذا الدين باطل فتضرعوا إلي تعالى في أن يصون أولئك الكفار عن هذه الشبهة وقدموا هذا الدعاء على طلب النجاة لأنفسهم وذلك يدل على أن عنايتهم بمصالح دين أعدائهم فوق عنايتهم بمصالح أنفسهم وإن حملناه على أن لا يمكن الله تعالى أولئك الكفار من أن يحملوهم على ترك هذا الدين كان ذلك أيضاً دليلاً على أن اهتمامهم بمصالح أديانهم فوق اهتمامهم بمصالح أبدانهم وعلى جميع التقديرات فهذه لطيفة شريفة
وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَة ً وَأَقِيمُواْ الصَّلَواة َ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ
اعلم أنه لما شرح خوف المؤمنين من الكافرين وما ظهر منهم من التوكل على الله تعالى أتبعه بأن أمر موسى وهرون باتخاذ المساجد والإقبال على الصلوات يقال تبوأ المكان أي اتخذه مبوأ كقوله توطنه إذا اتخذه موطناً والمعنى اجعلا بمصر بيوتاً لقومكما ومرجعاً ترجعون إليه للعبادة والصلاة
ثم قال وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَة ً وفيه أبحاث
البحث الأول من الناس من قال المراد من البيوت المساجد كما في قوله تعالى فِى بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ بَعْدِى اسْمُهُ ( النور 36 ) ومنهم من قال المراد مطلق البيوت أما الأولون فقد فسروا القبلة بالجانب الذي يستقبل في الصلاة ثم قالوا والمراد من قوله وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَة ً أي اجعلوا بيوتكم مساجد تستقبلونها لأجل الصلاة وقال الفراء واجعلوا بيوتكم قبلة أي إلى القبلة وقال ابن الأنباري واجعلوا بيوتكم قبلة أي قبلاً يعني مساجد فأطلق لفظ الوحدان والمراد الجمع واختلفوا في أن هذه القبلة أين كانت فظاهر أن لفظ القرآن لا يدل على تعيينه إلا أنه نقل عن ابن عباس أنه قال كانت الكعبة قبلة موسى عليه السلام وكان الحسن يقول الكعبة قبلة كل الأنبياء وإنما وقع العدول عنها بأمر الله تعالى في أيام الرسول عليه السلام بعد الهجرة وقال آخرون كانت تلك القبلة جهة بيت المقدس وأما القائلون بأن المراد من لفظ البيوت المذكورة في هذه الآية مطلق البيت فهؤلاء لهم في تفسير قوله قِبْلَة َ وجهان الأول المراد بجعل تلك البيوت قبلة أي متقابلة والمقصود منه حصول الجمعية واعتضاد البعض بالبضع وقال آخرون المراد واجعلوا دوركم قبلة أي صلوا في بيوتكم

البحث الثاني أنه تعالى خص موسى وهرون في أول هذه الآية بالخطاب فقال ءانٍ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا ثم عمم هذا الخطاب فقال وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَة ً والسبب فيه أنه تعالى أمر موسى وهرون أن يتبوآ لقومهما بيوتاً للعبادة وذلك مما يفوض إلى الأنبياء ثم جاء الخطاب بعد ذلك عاماً لهما ولقومهما باتخاذ المساجد والصلاة فيها لأن ذلك واجب على الكل ثم خص موسى عليه السلام في آخر الكلام بالخطاب فقال وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ وذلك لأن الغرض الأصلي من جميع العبادات حصول هذه البشارة فخص الله تعالى موسى بها ليدل بذلك على أن الأصل في الرسالة هو موسى عليه السلام وأن هرون تبع له
البحث الثالث ذكر المفسرون في كيفية هذه الواقعة وجوهاً ثلاثة الأول أن موسى عليه السلام ومن معه كانوا في أول أمرهم مأمورين بأن يصلوا في بيوتهم خفية من الكفرة لئلا يظهروا عليهم فيؤذوهم ويفتنوهم عن دينهم كما كان المؤمنون على هذه الحالة في أول الإسلام في مكة الثاني قيل إنه تعالى لما أرسل موسى إليهم أمر فرعون بتخريب مساجد بني إسرائيل ومنعهم من الصلاة فأمرهم الله تعالى أن يتخذوا مساجد في بيوتهم ويصلوا فيها خوفاً من فرعون الثالث أنه تعالى لما أرسل موسى إليهم وأظهر فرعون تلك العداوة الشديدة أمر الله تعالى موسى وهرون وقومهما باتخاذ المساجد على رغم الأعداء وتكفل تعالى أنه يصونهم عن شر الأعداء
وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَآ إِنَّكَ ءاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلاّهُ زِينَة ً وَأَمْوَالاً فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الاٌّ لِيمَ قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ
اعلم أن موسى لما بالغ في إظهار المعجزات الظاهرة القاهرة ورأى القوم مصرين على الجحود والعناد والإنكار أخذ يدعو عليهم ومن حق من يدعو على الغير أن يذكر أولاً سبب إقدامه على تلك الجرائم وكان جرمهم هو أنهم لأجل حبهم الدنيا تركوا الدين فلهذا السبب قال موسى عليه السلام رَبَّنَا إِنَّكَ ءاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلاَهُ زِينَة ً وَأَمْوَالاً والزينة عبارة عن الصحة والجمال واللباس والدواب وأثاث البيت والمال ما يزيد على هذه الأشياء من الصامت والناطق
ثم قال لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي وعاصم لِيُضِلُّواْ بضم الياء وقرأ الباقون بفتح الياء

المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى يضل الناس ويريد إضلالهم وتقريره من وجهين الأول أن اللام في قوله لِيُضِلُّواْ لام التعليل والمعنى أن موسى قال يا رب العزة إنك أعطيتهم هذه الزينة والأموال لأجل أن يضلوا فدل هذا على أنه تعالى قد يريد إضلال المكلفين الثاني أنه قال وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فقال الله تعالى قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا وذلك أيضاً يدل على المقصود قال القاضي لا يجوز أن يكون المراد من هذه الآية ما ذكرتم ويدل عليه وجوه الأول أنه ثبت أنه تعالى منزه عن فعل القبيح وإرادة الكفر قبيحة والثاني أنه لو أراد ذلك لكان الكفار مطيعين لله تعالى بسبب كفرهم لأنه لا معنى للطاعة إلا الإتيان بما يوافق الإرادة ولو كانوا كذلك لما استحقوا الدعاء عليهم بطمس الأموال وشد القلوب والثالث أنا لو جوزنا أن يريد إضلال العباد لجوزنا أن يبعث الأنبياء عليهم السلام للدعاء إلى الضلال ولجاز أن يقوي الكذابين الضالين المضلين بإظهار المعجزات عليهم وفيه هدم الدين وإبطال الثقة بالقرآن والرابع أنه لا يجوز أن يقول لموسى وهرون عليهما السلام فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ( طه 44 ) وأن يقول وَلَقَدْ أَخَذْنَا ءالَ فِرْعَوْنَ بِالسّنِينَ وَنَقْصٍ مّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ( الأعراف 130 ) ثم إنه تعالى أراد الضلالة منهم وأعطاهم النعم لكي يضلوا لأن ذلك كالمناقضة فلا بد من حمل أحدهما على موافقة الآخر الخامس أنه لا يجوز أن يقال إن موسى عليه السلام دعا ربه بأن يطمس على أموالهم لأجل أن لا يؤمنوا مع تشدده في إرادة الإيمان
واعلم أنا بالغنا في تكثير هذه الوجوه في مواضع كثيرة من هذا الكتاب
وإذا ثبت هذا فنقول وجب تأويل هذه الكلمة وذلك من وجوه الأول أن اللام في قوله لِيُضِلُّواْ لام العاقبة كقوله تعالى فَالْتَقَطَهُ ءالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً ( القصص 8 ) ولما كانت عاقبة قوم فرعون هو الضلال وقد أعلمه الله تعالى لا جرم عبر عن هذا المعنى بهذا اللفظ الثاني أن قوله رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ أي لئلا يضلوا عن سبيلك فحذف لا لدلالة المعقول عليه كقوله يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ ( النساء 176 ) والمراد أن لا تضلوا وكقوله تعالى قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ ( الأعراف 172 ) والمراد لئلا تقولوا ومثل هذا الحذف كثير في الكلام الثالث أن يكون موسى عليه السلام ذكر ذلك على سبيل التعجب المقرون بالإنكار والتقدير كأنك آتيتهم ذلك الغرض فإنهم لا ينفقون هذه الأموال إلا فيه وكأنه قال آتيتهم زينة وأموالاً لأجل أن يضلوا عن سبيل الله ثم حذف حرف الاستفهام كما في قول الشاعر كذبتك عينك أم رأيت بواسط
غلس الظلام من الرباب خيالا
أراد أكذبتك فكذا ههنا الرابع قال بعضهم هذه اللام لام الدعاء وهي لام مكسورة تجزم المستقل ويفتتح بها الكلام فيقال ليغفر الله للمؤمنين وليعذب الله الكافرين والمعنى ربنا ابتلهم بالضلال عن سبيلك الخامس أن هذه اللام لام التعليل لكن بحسب ظاهر الأمر لا في نفس الحقيقة وتقريره أنه تعالى لما أعطاهم هذه الأموال وصارت تلك الأموال سبباً لمزيد البغي والكفر أشبهت هذه الحالة حالة من أعطى المال لأجل الإضلال فورد هذا الكلام بلفظ التعليل لأجل هذا المعنى السادس بينا في تفسير قوله تعالى يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا في أول سورة البقرة إن الضلال قد جاء في القرآن بمعنى الهلاك يقال الماء

في اللبن أي هلك فيه
إذا ثبت هذا فنقول قوله رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ معناه ليهلكون ويموتوا ونظيره قوله تعالى فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلاَ أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا ( التوبة 55 ) فهذا جملة ما قيل في هذا الباب
واعلم أنا قد أجبنا عن هذه الوجوه مراراً كثيرة في هذا الكتاب ولا بأس بأن نعيد بعضها في هذا المقام فنقول الذي يدل على أن حصول الإضلال من الله تعالى وجوه الأول أن العبد لا يقصد إلا حصول الهداية فلما لم تحصل الهداية بل حصل الضلال الذي لا يريده علمنا أن حصوله ليس من العبد بل من الله تعالى
فإن قالوا إنه ظن بهذا الضلال أنه هدى فلا جرم قد أوقعه وأدخله في الوجود فنقول فعلى هذا يكون إقدامه على تحصيل هذا الجهل بسبب الجهل السابق فلو كان حصول ذلك الجهل السابق بسبب جهل آخر لزم التسلسل وهو محال فثبت أن هذه الجهالات والضلالات لا بد من انتهائها إلى جهل أول وضلال أول وذلك لا يمكن أن يكون بإحداث العبد وتكوينه لأنه كرهه وإنما اراد ضده فوجب أن يكون من الله تعالى الثاني إنه تعالى لما خلق الخلق بحيث يحبون المال والجاه حبا شديدا لا يمكنه إزالة هذا الحب عن نفسه البتة وكان حصول هذا الحب يوجب الإعراض عمن يستخدمه ويوجب التكبر عليه وترك الالتفات إلى قوله وذلك يوجب الكفر فهذه الأشياء بعضها يتأدى إلى البعض تأديا على سبيل اللزوم وجب أن يكون فاعل هذا الكفر هو الذي خلق الإنسان مجبولا على حب المال والجاه الثالث وهو الحجة الكبرى أن القدرة بالنسبة إلى الضدين على السوية فلا يترجح أحد الطرفين على الثاني إلا لمرجح وذلك المرجح ليس من العبد وإلا لعاد الكلام فيه فلا بد وأن يكون من الله تعالى وإذا كان كذلك كانت الهداية والإضلال من الله تعالى الرابع أنه تعالى أعطى فرعون وقومه زينة وأموالا وقوى حب ذلك المال والجاه في قلوبهم وأودع في طباعهم نفرة شديدة عن خدمة موسى عليه السلام والانقياد له لا سيما وكان فرعون كالمنعم في حقه والمربي له والنفرة عن خدمة من هذا شأنه راسخة في القلوب وكل ذلك يوجب إعراضهم عن قبول دعوة موسى عليه السلام وإصرارهم على إنكار صدقه فثبت بالدليل العقلي أن إعطاء الله تعالى فرعون وقومه زينة الدنيا وأموال الدنيا لا بد وأن يكون موجبا لضلالهم فثبت أن ما أشعر به ظاهر اللفظ فقد ثبت صحته بالعقل الصريح فكيف يمكن ترك ظاهر اللفظ في مثل هذا المقام وكيف يحسن حمل الكلام على الوجوه المتكلفة الضعيفة جدا
إذا عرفت هذا فنقول
أما الوجه الأول وهو حمل اللام على لام العاقبة فضعيف لأن موسى عليه السلام ما كان عالما بالعواقب
فإن قالوا إن الله تعالى أخبره ب 1 لك
قلنا فلما أخبر الله عنهم أنهم لا يؤمنون كان صدور الإيمان منهم محالا لأن ذلك يستلزم انقلاب خبر الله كذبا وهو محال والمفضي إلى المحال محال

وأما الوجه الثاني وهو قولهم يحمل قوله ليضلوا عن سبيلك على أن المراد لئلا يضلوا عن سبيلك فنقول إن هذا التأويل ذكره أبو علي الجبائي في تفسيره وأقول إنه لما شرع في تفسير
قوله تعالى مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَة ٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيّئَة ٍ فَمِن نَّفْسِكَ ثم نقل عن بعض أصحابنا أنه قرأ فَمِن نَّفْسِكَ على سبيل الاستفهام بمعنى الإنكار ثم إنه استبعد هذه القراءة وقال إنها تقتضي تحريف القرآن وتغييره وتفتح باب تأويلات الباطنية وبالغ في إنكار تلك القراءة وهذا الوجه الذي ذكره ههنا شر من ذلك لأنه قلب النفي إثباتاً والإثبات نفياً وتجويزه يفتح باب أن لا يبقى الاعتماد على القرآن لا في نفيه ولا في إثباته وحينئذ يبطل القرآن بالكلية هذا بعينه هو الجواب عن قوله المراد منه الاستفهام بمعنى الإنكار فإن تجويزه يوجب تجويز مثله في سائر المواطن فلعله تعالى إنما قال وَأَنْ أَقِيمُواْ وَإِذْ أَخَذْنَا على سبيل الإنكار والتعجب وأما بقية الجوابات فلا يخفى ضعفها
ثم إنه تعالى حكى عن موسى عليه السلام أنه قال رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوالِهِمْ وذكرنا معنى الطمس عند قوله تعالى مّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً ( النساء 47 ) والطمس هو المسخ قال ابن عباس رضي الله عنهما بلغنا أن الدراهم والدنانير صارت حجارة منقوشة كهيئتها صحاحاً وأنصافاً وأثلاثاً وجعل سكرهم حجارة
ثم قال وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ ومعنى الشد على القلوب الاستيثاق منها حتى لا يدخلها الإيمان قال الواحدي وهذا دليل على أن الله تعالى يفعل ذلك بمن يشاء ولولا ذلك لما حسن من موسى عليه السلام هذا السؤال
ثم قال فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الاْلِيمَ وفيه وجهان أحدهما أنه يجوز أن يكون معطوفاً على قوله لِيُضِلُّواْ والتقدير ربنا ليضلوا عن سبيلك فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم وقوله رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ يكون اعتراضاً والثاني يجوز أن يكون جواباً لقوله وَاشْدُدْ والتقدير اطبع على قلوبهم وقسها حتى لا يؤمنوا فإنها تستحق ذلك
ثم قال تعالى قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا وفيه وجهان الأول قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن موسى كان يدعو وهرون كان يؤمن فلذلك قال قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا وذلك لأن من يقول عند دعاء الداعي آمين فهو أيضاً داع لأن قوله آمين تأويله استجب فهو سائل كما أن الداعي سائل أيضاً الثاني لا يبعد أن يكون كل واحد منهما ذكر هذا الدعاء غاية ما في الباب أن يقال إنه تعالى حكى هذا الدعاء عن موسى بقوله وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ ءاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلاَهُ زِينَة ً وَأَمْوَالاً إلا أن هذا لا ينافي أن يكون هرون قد ذكر ذلك الدعاء أيضاً
وأما قوله فَاسْتَقِيمَا يعني فاستقيما على الدعوة والرسالة والزيادة في إلزام الحجة فقد لبث نوح في قومه ألف سنة إلا قليلاً فلا تستعجلا قال ابن جريج إن فرعون لبث بعد هذا الدعاء أربعين سنة
وأما قوله وَلاَ تَتَّبِعَانّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ففيه بحثان
البحث الأول المعنى لا تتبعان سبيل الجاهلين الذين يظنون أنه متى كان الدعاء مجاباً كان المقصود

حاصلاً في الحال فربما أجاب الله تعالى دعاء إنسان في مطلوبه إلا أنه إنما يوصله إليه في وقته المقدر والاستعجال لا يصدر إلا من الجهال وهذا كما قال لنوح عليه السلام إِنّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ( هود 46 )
واعلم أن هذا النهي لا يدل على أن ذلك قد صدر من موسى عليه السلام كما أن قوله لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ( الزمر 65 ) لا يدل على صدور الشرك منه
البحث الثاني قال الزجاج قوله وَلاَ تَتَّبِعَانّ موضعه جزم والتقدير ولا تتبعا إلا أن النون الشديدة دخلت على النهي مؤكدة وكسرت لسكونها وسكون النون التي قبلها فاختير لها الكسرة لأنها بعد الألف تشبه نون التثنية وقرأ ابن عامر وَلاَ تَتَّبِعَانّ بتخفيف النون
وَجَاوَزْنَا بِبَنِى إِسْرَاءِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَآ أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ ءَامَنتُ أَنَّهُ لا إِلِاهَ إِلاَّ الَّذِى ءَامَنَتْ بِهِ بَنوا إِسْرَاءِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ءَاأنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ ءَايَة ً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ ءايَاتِنَا لَغَافِلُونَ
اعلم أن تفسير اللفظ في قوله وَجَاوَزْنَا بِبَنِى إِسْراءيلَ الْبَحْرَ مذكور في سورة الأعراف والمعنى أنه تعالى لما أجاب دعاءهما أمر بني إسرائيل بالخروج من مصر في الوقت المعلوم ويسر لهم أسبابه وفرعون كان غافلاً عن ذلك فلما سمع أنهم خرجوا وعزموا على مفارقة مملكته خرج على عقبهم وقوله فَأَتْبَعَهُمْ أي لحقهم يقال أتبعه حتى لحقه وقوله بَغْيًا وَعَدْوًا البغي طلب الاستعلاء بغير حق والعدو الظلم روي أن موسى عليه السلام لما خرج مع قومه وصلوا إلى طرف البحر وقرب فرعون مع عسكره منهم فوقعوا في خوف شديد لأنهم صاروا بين بحر مغرق وجند مهلك فأنعم الله عليهم بأن أظهر لهم طريقاً في البحر على ما ذكر الله تعالى هذه القصة بتمامها في سائر السور ثم إن موسى عليه السلام مع أصحابه دخلوا وخرجوا وأبقى الله تعالى ذلك الطريق يبساً ليطمع فرعون وجوده في التمكن من العبور فلما دخل مع جمعه أغرقه الله تعالى بأن أوصل أجزاء الماء ببعضها وأزال الفلق فهو معنى قوله فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ وبين ما كان في قلوبهم من البغي وهي محبة الإفراط في قتلهم وظلمهم والعدو وهوتجاوز الحد ثم ذكر تعالى أنه لما أدركه الغرق أظهر كلمة الإخلاص ظناً منه أنه ينجيه من تلك الآفات وههنا سؤالان
السؤال الأول أن الإنسان إذا وقع في الغرق لا يمكنه أن يتلفظ بهذا اللفظ فكيف حكى الله تعالى عنه أنه ذكر ذلك

والجواب من وجهين الأول أن مذهبنا أن الكلام الحقيقي هو كلام النفس لا كلام اللسان فهو إنما ذكر هذا الكلام بالنفس لا بكلام اللسان ويمكن أن يستدل بهذه الآية على إثبات كلام النفس لأنه تعالى حكى عنه أنه قال هذا الكلام وثبت بالدليل أنه ما قاله باللسان فوجب الاعتراف بثبوت كلام غير كلام اللسان وهو المطلوب الثاني أن يكون المراد من الغرق مقدماته
السؤال الثاني أنه آمن ثلاث مرات أولها قوله ءامَنتُ وثانيها قوله لا إِلِاهَ إِلاَّ الَّذِى ءامَنَتْ بِهِ بَنواْ إِسْراءيلَ وثالثها قوله وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فما السبب في عدم القبول والله تعالى متعال عن أن يلحقه غيظ وحقد حتى يقال إنه لأجل ذلك الحقد لم يقبل منه هذا الإقرار
والجواب العلماء ذكروا فيه وجوهاً
الوجه الأول أنه إنما آمن عند نزول العذاب والإيمان في هذا الوقت غير مقبول لأن عند نزول العذاب يصير الحال وقت الإلجاء وفي هذا الحال لا تكون التوبة مقبولة ولهذا السبب قال تعالى فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا ( غافر 85 )
الوجه الثاني هو أنه إنما ذكر هذه الكلمة ليتوسل بها إلى دفع تلك البلية الحاضرة والمحنة الناجزة فما كان مقصوده من هذه الكلمة الإقرار بوحدانية الله تعالى والاعتراف بعزة الربوبية وذلة العبودية وعلى هذا التقدير فما كان ذكر هذه الكلمة مقروناً بالإخلاص فلهذا السبب ما كان مقبولاً
الوجه الثالث هو أن ذلك الإقرار كان مبنياً على محض التقليد ألا ترى أنه قال لا إِلِاهَ إِلاَّ الَّذِى ءامَنَتْ بِهِ بَنواْ إِسْراءيلَ فكأنه اعترف بأنه لا يعرف الله إلا أنه سمع من بني إسرائيل أن للعالم إلهاً فهو أقر بذلك الإله الذي سمع من بني إسرائيل أنهم أقروا بوجوده فكان هذا محض التقليد فلهذا السبب لم تصر الكلمة مقبولة منه ومزيد التحقيق فيه أن فرعون على ما بيناه في سورة طه كان من الدهرية وكان من المنكرين لوجود الصانع تعالى ومثل هذا الاعتقاد الفاحش لا تزول ظلمته إلا بنو الحجج القطعية والدلائل اليقينية وأما بالتقليد المحض فهو لا يفيد لأنه يكون ضماً لظلمة التقليد إلى ظلمة الجهل السابق
الوجه الرابع رأيت في بعض الكتب أن بعض أقوام من بني إسرائيل لما جاوزوا البحر اشتغلوا بعبادة العجل فلما قال فرعون أَنَّهُ لا إِلِاهَ إِلاَّ الَّذِى الَّذِينَ بِهِ بَنواْ إِسْراءيلَ إِسْراءيلَ انصرف ذلك إلى العجل الذي آمنوا بعبادته في ذلك الوقت فكانت هذه الكلمة في حقه سبباً لزيادة الكفر
الوجه الخامس أن اليهود كانت قلوبهم مائلة إلى التشبيه والتجسيم ولهذا السبب اشتغلوا بعبادة العجل لظنهم أنه تعالى حل في جسد ذلك العجل ونزل فيه فلما كان الأمر كذلك وقال فرعون وَجَاوَزْنَا بِبَنِى إِسْراءيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا إِسْراءيلَ فكإنه آمن بالإله الموصوف بالجسمية والحلول والنزول وكل من اعتقد ذلك كان كافراً فلهذا السبب ما صح إيمان فرعون
الوجه السادس لعل الإيمان إنما كان يتم بالإقرار بوحدانية الله تعالى والإقرار بنبوة موسى عليه السلام فههنا لما أقر فرعون بالوحدانية ولم يقر بالنبوة لا جرم لم يصح إيمانه ونظيره أن الواحد من الكفار

لو قال ألف مرة أشهد أن لا إله إلا الله فإنه لا يصح إيمان إلا إذا قال معه وأشهد أن محمداً رسول الله فكذا ههنا
الوجه السابع روى صاحب ( الكشاف ) أن جبريل عليه السلام أتى فرعون بفتيا فيها ما قول الأمير في عبد نشأ في مال مولاه ونعمته فكفر نعمته وجحد حقه وادعى السيادة دونه فكتب فرعون فيها يقول أبو العباس الوليد بن مصعب جزاء العبد الخارج على سيده الكافر بنعمته أن يغرق في البحر ثم إن فرعون لما غرق رفع جبريل عليه السلام فتياه إليه
أما قوله تعالى ءالئَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ففيه سؤالات
السؤال الأول من القائل له ءالئَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ
الجواب الأخبار دالة على أن قائل هذا القول هو جبريل وإنما ذكر قوله وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ في مقابلة قوله وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ومن الناس من قال إن قائل هذا القول هو الله تعالى لأنه ذكر بعده فَالْيَوْمَ نُنَجّيكَ بِبَدَنِكَ إلى قوله فَالْيَوْمَ نُنَجّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ ءايَة ً وهذا الكلام ليس إلا كلام الله تعالى
السؤال الثاني ظاهر اللفظ يدل على أنه إنما لم تقبل توبته للمعصية المتقدمة والفساد السابق وصحة هذا التعليل لا تمنع من قبول التوبة
والجواب مذهب أصحابنا أن قبول التوبة غير واجب عقلاً وأحد دلائلهم على صحة ذلك هذه الآية وأيضاً فالتعليل ما وقع بمجرد المعصية السابقة بل بتلك المعصية مع كونه من المفسدين
السؤال الثالث هل يصح أن جبريل عليه السلام أخذ يملأ فمه من الطين لئلا يتوب غضباً عليه
والجواب الأقرب أنه لا يصح لأن في تلك الحالة إما أن يقال التكليف كان ثابتاً أو ما كان ثابتاً فإن كان ثابتاً لم يجز على جبريل عليه السلام أن يمنعه من التوبة بل يجب عليه أن يعينه على التوبة وعلى كل طاعة لقوله تعالى وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ( المائدة 2 ) وأيضاً فلو منعه بما ذكروه لكانت التوبة ممكنة لأن الأخرس قد يتوب بأن يندم بقلبه ويعزم على ترك معاودة القبيح وحينئذ لا يبقى لما فعله جبريل عليه السلام فائدة وأيضاً لو منعه من التوبة لكان قد رضي ببقائه على الكفر والرضا بالكفر كفر وأيضاً فكيف يليق بالله تعالى أن يقول لموسى وهرون عليهما السلام فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ( طه 44 ) ثم يأمر جبريل عليه السلام بأن يمنعه من الإيمان ولو قيل إن جبريل عليه السلام إنما فعل ذلك من عند نفسه لا بأمر الله تعالى فهذا يبطله قول جبريل وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ ( مريم 64 ) وقوله تعالى في صفتهم وَهُمْ مّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ( الأنبياء 28 ) وقوله لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ( الأنبياء 27 ) وأما إن قيل إن التكليف كان زائلاً عن فرعون في ذلك الوقت فحينئذ لا يبقى لهذا الفعل الذي نسب جبريل إليه فائدة أصلاً
ثم قال تعالى فَالْيَوْمَ نُنَجّيكَ بِبَدَنِكَ وفيه وجوه الأول نُنَجّيكَ بِبَدَنِكَ أي نلقيك بنجوة من

الأرض وهي المكان المرتفع الثاني نخرجك من البحر ونخلصك مما وقع فيه قومك من قعر البحر ولكن بعد أن تغرق وقوله بِبَدَنِكَ في موضع الحال أي في الحال التي أنت فيه حينئذ لا روح فيك الثالث أن هذا وعد له بالنجاة على سبيل التهكم كما في قوله فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( آل عمران 21 ) كأنه قيل له ننجيك لكن هذه النجاة إنما تحصل لبدنك لا لروحك ومثل هذا الكلام قد يذكر على سبيل الاستهزاء كما يقال نعتقك ولكن بعد الموت ونخلصك من السجن ولكن بعد أن تموت الرابع قرأ بعضهم نُنَجّيكَ بالحاء المهملة أي نلقيك بناحية مما يلي البحر وذلك أنه طرح بعد الغرق بجانب من جوانب البحر قال كعب رماه الماء إلى الساحل كأنه ثور
وأما قوله بِبَدَنِكَ ففيه وجوه الأول ما ذكرنا أنه في موضع الحال أي في الحال التي كنت بدناً محضاً من غير روح الثاني المراد ننجيك ببدنك كاملاً سوياً لم تتغير الثالث نُنَجّيكَ بِبَدَنِكَ أي نخرجك من البحر عرياناً من غير لباس الرابع نُنَجّيكَ بِبَدَنِكَ أي بدرعك قال الليث البدن هو الدرع الذي يكون قصير الكمين فقوله بِبَدَنِكَ أي بدرعك وهذا منقول عن ابن عباس قال كان عليه درع من ذهب يعرف بها فأخرجه الله من الماء مع ذلك الدرع ليعرف أقول إن صح هذا فقد كان ذلك معجزة لموسى عليه السلام
وأما قوله لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ ءايَة ً ففيه وجوه الأول أن قوماً ممن اعتقدوا فيه الإلهية لما لم يشاهدوا غرقه كذبوا بذلك وزعموا أن مثله لا يموت فأظهر الله تعالى أمره بأن أخرجه من الماء بصورته حتى شاهدوه وزالت الشبهة عن قلوبهم وقيل كان مطرحه على ممر بني إسرائيل الثاني لا يبعد أنه تعالى أراد أن يشاهده الخلق على ذلك الذل والمهانة بعد ما سمعوا منه قوله أَنَاْ رَبُّكُمُ الاْعْلَى ( النازعات 24 ) ليكون ذلك زجراً للخلق عن مثل طريقته ويعرفوا أنه كان بالأمس في نهاية الجلالة والعظمة ثم آل أمره إلى ما يرون الثالث قرأ بعضهم لِمَنْ خَلَقَكَ بالقاف أي لتكون لخالقك آية كسائر آياته الرابع أنه تعالى لما أغرقه مع جميع قومه ثم إنه تعالى ما أخرج أحداً منهم من قعر البحر بل خصه بالإخراج كان تخصيصه بهذه الحالة العجيبة دالاً على كمال قدرة الله تعالى وعلى صدق موسى عليه السلام في دعوى النبوة
وأما قوله فَالْيَوْمَ نُنَجّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ ءايَة ً فالأظهر أنه تعالى لما ذكر قصة موسى وفرعون وذكر حال عاقبة فرعون وختم ذلك بهذا الكلام وخاطب به محمداً عليه الصلاة والسلام فيكون ذلك زاجراً لأمته عن الإعراض عن الدلائل وباعثاً لهم على التأمل فيها والاعتبار بها فإن المقصود من ذكر هذه القصص حصول الاعتبار كما قال تعالى لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَة ٌ لاّوْلِى الالْبَابِ ( يوسف 111 )
وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَآءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ

اعلم أنه تعالى لما ذكر ما وقع عليه الختم في واقعة فرعون وجنوده ذكر أيضاً في هذه الآية ما وقع عليه الختم في أمر بني إسرائيل وههنا بحثان
البحث الأول أن قوله بَوَّأْنَا بَنِى إِسْراءيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ أي أسكناهم مكان صدق أي مكاناً محموداً وقوله مُبَوَّأَ صِدْقٍ فيه وجهان الأول يجوز أن يكون مبوأ صدق مصدراً أي بوأناهم تبوأ صدق الثاني أن يكون المعنى منزلاً صالحاً مرضياً وإنما وصف المبوأ بكونه صدقاً لأن عادة العرب أنها إذا مدحت شيئاً أضافته إلى الصدق تقول رجل صدق وقدم صدق قال تعالى وَقُل رَّبّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ ( الإسراء 80 ) والسبب فيه أن ذلك الشيء إذا كان كاملاً في وقت صالحاً للغرض المطلوب منه فكل ما يظن فيه من الخبر فإنه لا بد وأن يصدق ذلك الظن
البحث الثاني اختلفوا في أن المراد ببني إسرائيل في هذه الآية أهم اليهود الذين كانوا في زمن موسى عليه السلام أم الذين كانوا في زمن محمد عليه السلام
أما القول الأول فقد قال به قوم ودليلهم أنه تعالى لما ذكر هذه الآية عقيب قصة موسى عليه السلام كان حمل هذه الآية على أحوالهم أولى وعلى هذا التقدير كان المراد بقوله وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِى إِسْراءيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ الشام ومصر وتلك البلاد فإنها بلاد كثيرة الخصب قال تعالى سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الاْقْصَى الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ ( الإسراء 1 ) والمراد من قوله وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطَّيّبَاتِ تلك المنافع وأيضاً المراد منها أنه تعالى أورث بني إسرائيل جميع ما كان تحت أيدي قوم فرعون من الناطق والصامت والحرث والنسل كما قال وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الاْرْضِ وَمَغَارِبَهَا ( الأعراف 137 )
ثم قال تعالى فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَاءهُمُ الْعِلْمُ والمراد أن قوم موسى عليه السلام بقوا على ملة واحدة ومقالة واحدة من غير اختلاف حتى قرؤا التوراة فحينئذ تنبهوا للمسائل والمطالب ووقع الاختلاف بينهم ثم بين تعالى أن هذا النوع من الاختلاف لا بد وأن يبقى في دار الدنيا وأنه تعالى يقضي بينهم يوم القيامة
وأما القول الثاني وهو أن المراد ببني إسرائيل في هذه الآية اليهود الذين كانوا في زمان محمد عليه الصلاة والسلام فهذا قال به قوم عظيم من المفسرين قال ابن عباس وهم قريظة والنضير وبنو قينقاع أنزلناهم منزل صدق ما بين المدينة والشام ورزقناهم من الطيبات والمراد ما في تلك البلاد من الرطب والتمر التي ليس مثلها طيباً في البلاد ثم إنهم بقوا على دينهم ولم يظهر فيهم الاختلاف حتى جاءهم العلم والمراد من العلم القرآن النازل على محمد عليه الصلاة والسلام وإنما سماه علماً لأنه سبب العلم وتسمية السبب باسم المسبب مجاز مشهور وفي كون القرآن سبباً لحدوث الاختلاف وجهان الأول أن اليهود كانوا يخبرون بمبعث محمد عليه الصلاة والسلام ويفتخرون به على سائر الناس فلما بعثه الله تعالى كذبوه حسداً وبغياً وإيثاراً لبقاء الرياسة وآمن به طائفة منهم فبهذا الطريق صار نزول القرآن سبباً لحدوث الاختلاف فيهم الثاني أن يقال إن هذه الطائفة من بني إسرائيل كانوا قبل نزول القرآن كفاراً محضاً

بالكلية وبقوا على هذه الحالة حتى جاءهم العلم فعند ذلك اختلفوا فآمن قوم وبقي أقوام آخرون على كفرهم
وأما قوله تعالى إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ فالمراد منه أن هذا النوع من الاختلاف لا حيلة في إزالته في دار الدنيا وأنه تعالى في الآخرة يقضي بينهم فيتميز المحق من المبطل والصديق من الزنديق
فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَآءَكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَة ُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ ءايَة ٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الاٌّ لِيمَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر من قبل اختلافهم عند ما جاءهم العلم أورد على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في هذه الآية ما يقوي قلبه في صحة القرآن والنبوة فقال تعالى فَإِن كُنتَ فِي شَكّ مّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي الشك في وضع اللغة ضم بعض الشيء إلى بعض يقال شك الجواهر في العقد إذا ضم بعضها إلى بعض ويقال شككت الصيد إذا رميته فضممت يده أو رجله إلى رجله والشكائك من الهوادج ما شك بعضها ببعض والشكاك البيوت المصطفة والشكائك الأدعياء لأنهم يشكون أنفسهم إلى قوم ليسوا منهم أي يضمون وشك الرجل في السلاح إذا دخل فيه وضمه إلى نفسه وألزمه إياها فإذا قالوا شك فلان في الأمور أرادوا أنه وقف نفسه بين شيئين فيجوز هذا ويجوز هذا فهو يضم إلى ما يتوهمه شيئاً آخر خلافه
المسألة الثانية اختلف المفسرون في أن المخاطب بهذا الخطاب من هو فقيل النبي عليه الصلاة والسلام وقيل غيره أما من قال بالأول فاختلفوا على وجوه
الوجه الأول أن الخطاب مع النبي عليه الصلاة والسلام في الظاهر والمراد غيره كقوله تعالى مُّنتَظِرُونَ ياأَيُّهَا النَّبِى ّ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ( الأحزاب 1 ) وكقوله لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ( الزمر 65 ) وكقوله اللَّهُ ياعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَءنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ ( المائدة 116 ) ومن الأمثلة المشهورة إياك أعني واسمعي يا جاره
والذي يدل على صحة ما ذكرناه وجوه الأول قوله تعالى في آخر السورة قُلْ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى شَكّ مّن دِينِى ( يونس 104 ) فبين أن المذكور في أول الآية على سبيل الرمز هم المذكورون في هذه

الآية على سبيل التصريح الثاني أن الرسول لو كان شاكاً في نبوة نفسه لكان شك غيره في نبوته أولى وهذا يوجب سقوط الشريعة بالكلية والثالث أن بتقدير أن يكون شاكاً في نبوة نفسه فكيف يزول ذلك الشك بأخبار أهل الكتاب عن نبوته مع أنهم في الأكثر كفار وإن حصل فيهم من كان مؤمناً إلا أن قوله ليس بحجة لا سيما وقد تقرر أن ما في أيديهم من التوراة والإنجيل فالكل مصحف محرف فثبت أن الحق هو أن الخطاب وإن كان في الظاهر مع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إلا أن المراد هو الأمة ومثل هذا معتاد فإن السلطان الكبير إذا كان له أمير وكان تحت راية ذلك الأمير جمع فإذا أراد أن يأمر الرعية بأمر مخصوص فإنه لا يوجه خطابه عليهم بل يوجه ذلك الخطاب على ذلك الأمير الذي جعله أميراً عليهم ليكون ذلك أقوى تأثيراً في قلوبهم
الوجه الثاني أنه تعالى علم أن الرسول لم يشك في ذلك إلا أن المقصود أنه متى سمع هذا الكلام فإنه يصرح ويقول ( يا رب لا أشك ولا أطلب الحجة من قول أهل الكتاب بل يكفيني ما أنزلته علي من الدلائل الظاهرة ) ونظيره قوله تعالى للملائكة أَهَؤُلاَء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ ( سبأ 40 ) أن يصرحوا بالجواب الحق ويقولوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ ( سبأ 41 ) وكما قال لعيسى عليه السلام قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى وَأُمّى َ إِلَاهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ ( المائدة 116 ) والمقصود منه أن يصرح عيسى عليه السلام بالبراءة عن ذلك فكذا ههنا
الوجه الثالث هو أن محمداً عليه الصلاة والسلام كان من البشر وكان حصول الخواطر المشوشة والأفكار المضطربة في قلبه من الجائزات وتلك الخواطر لا تندفع إلا بإيراد الدلائل وتقرير البينات فهو تعالى أنزل هذا النوع من التقريرات حتى أن بسببها تزول عن خاطره تلك الوساوس ونظيره قوله تعالى فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ ( هود 12 ) وأقول تمام التقرير في هذا الباب إن قوله فَإِن كُنتَ فِي شَكّ فافعل كذا وكذا قضية شرطية والقضية الشرطية لا إشعار فيها ألبتة بأن الشرط وقع أو لم يقع ولا بأن الجزاء وقع أو لم يقع بل ليس فيها إلا بيان أن ماهية ذلك الشرط مستلزمة لماهية ذلك الجزاء فقط والدليل عليه أنك إذا قلت إن كانت الخمسة زوجاً كانت منقسمة بمتساويين فهو كلام حق لأن معناه أن كون الخمسة زوجاً يستلزم كونها منقسمة بمتساويين ثم لا يدل هذا الكلام على أن الخمسة زوج ولا على أنها منقسمة بمتساويين فكذا ههنا هذه الآية تدل على أنه لو حصل هذا الشك لكان الواجب فيه هو فعل كذا وكذا فأما إن هذا الشك وقع أو لم يقع فليس في الآية دلالة عليه والفائدة في إنزال هذه الآية على الرسول أن تكثير الدلائل وتقويتها مما يزيد في قوة اليقين وطمأنينة النفس وسكون الصدر ولهذا السبب أكثر الله في كتابه من تقرير دلائل التوحيد والنبوة
والوجه الرابع في تقرير هذا المعنى أن تقول المقصود من ذكر هذا الكلام استمالة قلوب الكفار وتقريبهم من قبول الإيمان وذلك لأنهم طالبوه مرة بعد أخرى بما يدل على صحة نبوته وكأنهم استحيوا من تلك المعاودات والمطالبات وذلك الاستحياء صار مانعاً لهم عن قبول الإيمان فقال تعالى فَإِن كُنتَ فِي شَكّ من نبوتك فتمسك بالدلائل القلائل يعني أولى الناس بأن لا يشك في نبوته هو نفسه ثم مع هذا إن طلب هو من نفسه دليلاً على نبوة نفسه بعد ما سبق من الدلائل الباهرة والبينات القاهرة فإنه ليس فيه عيب

ولا يحصل بسببه نقصان فإذا لم يستقبح منه ذلك في حق نفسه فلأن لا يستقبح من غيره طلب الدلائل كان أولى فثبت أن المقصود بهذا الكلام استمالة القوم وإزالة الحياء عنهم في تكثير المناظرات
الوجه الخامس أن يكون التقدير أنك لست شاكاً ألبتة ولو كنت شاكاً لكان لك طرق كثيرة في إزالة ذلك الشك كقوله تعالى لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَة ٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ( الأنبياء 22 ) والمعنى أنه لو فرض ذلك الممتنع واقعاً لزم منه المحال الفلاني فكذا ههنا ولو فرضنا وقوع هذا الشك فارجع إلى التوراة والإنجيل لتعرف بهما أن هذا الشك زائل وهذه الشبهة باطلة
الوجه السادس قال الزجاج إن الله خاطب الرسول في قوله فَإِن كُنتَ فِي شَكّ وهو شامل للخلق وهو كقوله الْحَكِيمُ يأيُّهَا النَّبِى ُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاء ( الطلاق 1 ) قال وهذا أحسن الأقاويل قال القاضي هذا بعيد لأنه متى كان الرسول داخلاً تحت هذا الخطاب فقد عاد السؤال سواء أريد معه غيره أو لم يرد وإن جاز أن يراد هو مع غيره فما الذي يمنع أن يراد بانفراده كما يقتضيه الظاهر ثم قال ومثل هذا التأويل يدل على قلة التحصيل
الوجه السابع هو أن لفظ ءانٍ في قوله إِن كُنتَ فِى شَكّ للنفي أي ما كنت في شك قبل يعني لا نأمرك بالسؤال لأنك شاك لكن لتزداد يقيناً كما ازداد إبراهيم عليه السلام بمعاينة إحياء الموتى يقيناً
وأما الوجه الثاني وهو أن يقال هذا الخطاب ليس مع الرسول فتقريره أن الناس في زمانه كانوا فرقاً ثلاثة المصدقون به والمكذبون له والمتوقفون في أمره الشاكون فيه فخاطبهم الله تعالى بهذا الخطاب فقال إن كنت أيها الإنسان في شك مما أنزلنا إليك من الهدى على لسان محمد فاسأل أهل الكتاب ليدلوك على صحة نبوته وإنما وحد الله تعالى ذلك وهو يريد الجمع كما في قوله وَأَخَّرَتْ ياأَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الْكَرِيمِ الَّذِى خَلَقَكَ ( الانفطار 6 7 ) و وَحُقَّتْ يأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ ( الانشقاق 6 ) وقوله فَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ ( الزمر 49 ) ولم يرد في جميع هذه الآيات إنساناً بعينه بل المراد هو الجماعة فكذا ههنا ولما ذكر الله تعالى لهم ما يزيل ذلك الشك عنهم حذرهم من أن يلحقوا بالقسم الثاني وهم المكذبون فقال وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ
المسألة الثالثة اختلفوا في أن المسؤول منه في قوله فَاسْأَلِ الَّذِينَ أُمُّ الْكِتَابِ من هم فقال المحققون هم الذين آمنوا من أهل الكتاب كعبدالله بن سلام وعبدالله بن صوريا وتميم الداري وكعب الأحبار لأنهم هم الذين يوثق بخبرهم ومنهم من قال الكل سواء كانوا من المسلمين أو من الكفار لأنهم إذا بلغوا عدد التواتر ثم قرؤا آية من التوراة والإنجيل وتلك الآية دالة على البشارة بمقدم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فقد حصل الغرض
فإن قيل إذا كان مذهبكم أن هذه الكتب قد دخلها التحريف والتغيير فكيف يمكن التعويل عليها
قلنا إنهم إنما حرفوها بسبب إخفاء الآيات الدالة على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام فإن بقيت فيها آيات دالة على نبوته كان ذلك من أقوى الدلائل على صحة نبوة محمد عليه الصلاة والسلام لأنها لما بقيت مع توفر دواعيهم على إزالتها دل ذلك على أنها كانت في غاية الظهور وأما أن المقصود من ذلك

السؤال معرفة أي الأشياء ففيه قولان الأول أنه القرآن ومعرفة نبوة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) والثاني أنه رجع ذلك إلى قوله تعالى فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَاءهُمُ الْعِلْمُ ( يونس 93 ) والأول أولى لأنه هو الأهم والحاجة إلى معرفته أتم واعلم أنه تعالى لما بين هذا الطريق قال بعده لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ أي فأثبت ودم على ما أنت عليه من انتفاء المرية عنك وانتفاء التكذيب بآيات الله ويجوز أن يكون ذلك على طريق التهييج وإظهار التشدد ولذلك قال عليه الصلاة والسلام عند نزوله ( لا أشك ولا أسأل بل أشهد أنه الحق )
ثم قال وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ لَكُنتُم مّنَ الْخَاسِرِينَ
واعلم أن فرق المكلفين ثلاثة إما أن يكون من المصدقين بالرسول أو من المتوقفين في صدقه أو من المكذبين ولا شك أن أمر المتوقف أسهل من أمر المكذب لا جرم قد ذكر المتوقف بقوله وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ثم أتبعه بذكر المكذب وبين أنه من الخاسرين ثم إنه تعالى لما فصل هذا التفصيل بين أن له عباداً قضى عليهم بالشقاء فلا يتغيرون وعباداً قضى لهم بالكرامة فلا يتغيرون فقال إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَة ُ رَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وابن عامر كلمات على الجمع وقرأ الباقون كلمة على لفظ الواحد وأقول إنها كلمات بحسب الكثرة النوعية أو الصنفية وكلمة واحدة بحسب الواحدة الجنسية
المسألة الثانية المراد من هذه الكلمة حكم الله بذلك وإخباره عنه وخلقه في العبد مجموع القدرة والداعية الذي هو موجب لحصول ذلك الأثر أما الحكم والأخبار والعلم فظاهر وأما مجموع القدرة والداعي فظاهر أيضاً لأن القدرة لما كانت صالحة للطرفين لم يترجح أحد الجانبين على الآخر إلا لمرجح وذلك المرجح من الله تعالى قطعاً للتسلسل وعند حصول هذا المجموع يجب الفعل وقد احتج أصحابنا بهذه الآية على صحة قولهم في إثبات القضاء اللازم والقدر الواجب وهو حق وصدق ولا محيص عنه
ثم قال تعالى وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ ءايَة ٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الاْلِيمَ والمراد أنهم لا يؤمنون ألبتة ولو جاءتهم الدلائل التي لا حد لها ولا حصر وذلك لأن الدليل لا يهدي إلا بإعانة الله تعالى فإذا لم تحصل تلك الإعانة ضاعت تلك الدلائل
القصة الثالثة
من القصص المذكورة في هذه السورة قصة يونس عليه السلام
فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَة ٌ ءَامَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ ءَامَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْى ِ فِى الْحَيَواة َ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ

اعلم أنه تعالى لما بين من قبل إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَة ُ رَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ ءايَة ٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الاْلِيمَ ( يونس 96 97 ) أتبعه بهذه الآية لأنها دالة على أن قوم يونس آمنوا بعد كفرهم وانتفعوا بذلك الإيمان وذلك يدل على أن الكفار فريقان منهم من حكم عليه بخاتمة الكفر ومنهم من حكم عليه بخاتمة الإيمان وكل ما قضى الله به فهو واقع وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في كلمة لَوْلاَ في هذه الآية طريقان
الطريق الأول أن معناه النفي روى الواحدي في ( البسيط ) قال قال أبو مالك صاحب ابن عباس كل ما في كتاب الله تعالى من ذكر لولا فمعناه هلا إلا حرفين فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَة ٌ ءامَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا معناه فما كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها وكذلك فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ ( هود 116 ) معناه فما كان من القرون فعلى هذا تقدير الآية فما كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس وانتصب قوله إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ على أنه استثناء منقطع عن الأول لأن أول الكلام جرى على القرية وإن كان المراد أهلها ووقع استثناء القول من القرية فكان كقوله وما بالربع من أحد
ألاأواري
وقرىء أيضاً بالرفع على البدل
الطريق الثاني أن لَوْلاَ معناه هلا والمعنى هلا كانت قرية واحدة من القرى التي أهلكناها تابت عن الكفر وأخلصت في الإيمان قبل معاينة العذاب إلا قوم يونس وظاهر اللفظ يقتضي استثناء قوم يونس من القرى إلا أن المعنى استثناء قوم يونس من أهل القرى وهو استثناء منقطع بمعنى ولكن قوم يونس لما آمنوا فعلنا بهم كذا وكذا
المسألة الثانية روي أن يونس عليه السلام بعث إلى نينوى من أرض الموصل فكذبوه فذهب عنهم مغاضباً فلما فقدوه خافوا نزول العقاب فلبسوا المسوح وعجوا أربعين ليلة وكان يونس قال لهم إن أجلكم أربعون ليلة فقالوا إن رأينا أسباب الهلاك آمنا بك فلما مضت خمس وثلاثون ليلة ظهر في السماء غيم أسود شديد السواد فظهر منه دخان شديد وهبط ذلك الدخان حتى وقع في المدينة وسود سطوحهم فخرجوا إلى الصحراء وفرقوا بين النساء والصبيان وبين الدواب وأولادها فحن بعضها إلى بعض فعلت الأصوات وكثرت التضرعات وأظهروا الإيمان والتوبة وتضرعوا إلى الله تعالى فرحمهم وكشف عنهم وكان ذلك اليوم يوم عاشوراء يوم الجمعة وعن ابن مسعود بلغ من توبتهم أن يردوا المظالم حتى أن الرجل كان يقلع الحجر بعد أن وضع عليه بناء أساسه فيرده إلى مالكه وقيل خرجوا إلى شيخ من بقية علمائهم فقالوا قد نزل بنا العذاب فما ترى فقال لهم قولوا يا حي حين لاحي ويا حي يا محيي الموتى ويا حي لا إله إلا أنت فقالوا فكشف الله العذاب عنهم وعن الفضل بن عباس أنهم قالوا اللهم إن ذنوبنا قد عظمت وجلت وأنت أعظم منها وأجل افعل بنا ما أنت أهله ولا تفعل بنا ما نحن أهله
المسألة الثالثة إن قال قائل إنه تعالى حكى عن فرعون أنه تاب في آخر الأمر ولم يقبل توبته وحكى عن قوم يونس أنهم تابوا وقبل توبتهم فما الفرق

والجواب أن فرعون إنما تاب بعد أن شاهد العذاب وأما قوم يونس فإنهم تابوا قبل ذلك فإنهم لما ظهرت لهم أمارات دلت على قرب العذاب تابوا قبل أن شاهدوا فظهر الفرق
وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ
اعلم أن هذه السورة من أولها إلى هذا الموضع في بيان حكاية شبهات الكفار في إنكار النبوة مع الجواب عنها وكانت إحدى شبهاتهم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يهددهم بنزول العذاب مع الكافرين وبعد اتباعه إن الله ينصرهم ويعلي شأنهم ويقوي جانبهم ثم إن الكفار ما رأوا ذلك فجعلوا ذلك شبهة في الطعن في نبوته وكانوا يبالغون في استعجال ذلك العذاب على سبيل السخرية ثم إن الله سبحانه وتعالى بين أن تأخير الموعود به لا يقدح في صحة الوعد ثم ضرب لهذا أمثلة وهي واقعة نوح وواقعة موسى عليهما السلام مع فرعون وامتدت هذه البيانات إلى هذه المقامات ثم في هذه الآية بين أن جد الرسول في دخولهم في الإيمان لا ينفع ومبالغته في تقرير الدلائل وفي الجواب عن الشبهات لا تفيد لأن الإيمان لا يحصل إلا بتخليق الله تعالى ومشيئته وإرشاده وهدايته فإذا لم يحصل هذا المعنى لم يحصل الإيمان وفي الآية مسائل
المسألة الأولى احتج أصحابنا على صحة قولهم بأن جميع الكائنات بمشيئة الله تعالى فقالوا كلمة لو تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره فقوله وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى الاْرْضِ كُلُّهُمْ يقتضي أنه ما حصلت تلك المشيئة وما حصل إيمان أهل الأرض بالكلية فدل هذا على أنه تعالى ما أراد إيمان الكل أجاب الجبائي والقاضي وغيرهما بأن المراد مشيئة الإلجاء أي لو شاء الله أن يلجئهم إلى الإيمان لقدر عليه ولصح ذلك منه ولكنه ما فعل ذلك لأن الإيمان الصادر من العبد على سبيل الإلجاء لا ينفعه ولا يفيده فائدة ثم قال الجبائي ومعنى إلجاء الله تعالى إياهم إلى ذلك أن يعرفهم اضطراراً أنهم لو حاولوا تركه حال الله بينهم وبين ذلك وعند هذا لا بد وأن يفعلوا ما ألجئوا إليه كما أن من علم منا أنه إن حاول قتل ملك فإنه يمنعه منه قهراً لم يكن تركه لذلك الفعل سبباً لاستحقاق المدح والثواب فكذا ههنا
واعلم أن هذا الكلام ضعيف وبيانه من وجوه الأول أن الكافر كان قادراً على الكفر فهل كان قادراً على الإيمان أو ما كان قادراً عليه فإن قدر على الكفر ولم يقدر على الإيمان فحينئذ تكون القدرة على الكفر مستلزمة للكفر فإذا كان خالق تلك القدرة هو الله تعالى لزم أن يقال إنه تعالى خلق فيه قدرة مستلزمة للكفر فوجب أن يقال إنه أراد منه الكفر وأما إن كانت القدرة صالحة للضدين كما هو مذهب القوم فرجحان أحد الطرفين على الآخر إن لم يتوقف على المرجح فقد حصل الرجحان لا لمرجح وهذا باطل وإن توقف على مرجح فذلك المرجح إما أن يكون من العبد أو من الله فإن كان من العبد عاد التقسيم فيه ولزم التسلسل

وهو محال وإن كان من الله تعالى فحينئذ يكون مجموع تلك القدرة مع تلك الداعية موجباً لذلك الكفر فإذا كان خالق القدرة والداعية هو الله تعالى فحينئذ عاد الإلزام الثاني أن قوله وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لا يجوز حمله على مشيئة الإلجاء لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ما كان يطلب أن يحصل لهم إيمان لا يفيدهم في الآخرة فبين تعالى أنه لا قدرة للرسول على تحصيل هذا الإيمان ثم قال وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى الاْرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا فوجب أن يكون المراد من الإيمان المذكور في هذه الآية هو هذا الإيمان النافع حتى يكون الكلام منتظماً فأما حمل اللفظ على مشيئة القهر والإلجاء فإنه لا يليق بهذا الموضع الثالث المراد بهذا الإلجاء إما أن يكون هو أن يظهر له آيات هائلة يعظم خوفه عند رؤيتها ثم يأتي بالإيمان عندها وإما أن يكون المراد خلق الإيمان فيهم والأول باطل لأنه تعالى بين فيما قبل هذه الآية أن إنزال هذه الآيات لا يفيد وهو قوله إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَة ُ رَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ ءايَة ٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الاْلِيمَ ( يونس 96 97 ) وقال أيضاً وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَئِكَة َ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَى ْء قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ ( الأنعام 111 ) وإن كان المراد هو الثاني لم يكن هذا الإلجاء إلى الإيمان بل كان ذلك عبارة عن خلق الإيمان فيهم ثم يقال لكنه ما خلق الإيمان فيهم فدل على أنه ما أراد حصول الإيمان لهم وهذا عين مذهبنا
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذا الكلام قال أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ والمعنى أنه لا قدرة لك على التصرف في أحد والمقصود منه بيان أن القدرة القاهرة والمشيئة النافذة ليست إلا للحق سبحانه وتعالى
المسألة الثانية احتج أصحابنا على صحة قولهم أنه لا حكم للأشياء قبل ورود الشرع بقوله وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ قالوا وجه الاستدلال به أن الإذن عبارة عن الإطلاق في الفعل ورفع الحرج وصريح هذه الآية يدل على أنه قبل حصول هذا المعنى ليس له أن يقدم على هذا الإيمان ثم قالوا والذي يدل عليه من جهة العقل وجوه الأول أن معرفة الله تعالى والاشتغال بشكره والثناء عليه لا يدل العقل على حصول نفع فيه فوجب أن لا يجب ذلك بحسب العقل بيان الأول أن ذلك النفع إما أن يكون عائداً إلى المشكور أو إلى الشاكر والأول باطل لأن في الشاهد المشكور ينتفع بالشكر فيسره الشكر ويسوءه الكفران فلا جرم كان الشكر حسناً والكفران قبيحاً أما الله سبحانه فإنه لا يسره الشكر ولا يسوءه الكفران فلا ينتفع بهذا الشكر أصلاً والثاني أيضاً باطل لأن الشاكر يتعب في الحال بذلك الشكر ويبذل الخدمة مع أن المشكور لا ينتفع به ألبتة ولا يمكن أن يقال إن ذلك الشكر علة الثواب لأن الاستحقاق على الله تعالى محال فإن الاستحقاق على الغير إنما يعقل إذا كان ذلك الغير بحيث لو لم يعط لأوجب امتناعه من إعطاء ذلك الحق حصول نقصان في حقه ولما كان الحق سبحانه منزهاً عن النقصان والزيادة لم يعقل ذلك في حقه فثبت أن الاشتغال بالإيمان وبالشكر لا يفيد نفعاً بحسب العقل المحض وما كان كذلك امتنع أن يكون العقل موجباً له فثبت بهذا البرهان القاطع صحة قوله تعالى وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ قال القاضي المراد أن الإيمان لا يصدر عنه إلا بعلم الله أو بتكليفه أو بإقداره عليه
وجوابنا أن حمل الإذن على ما ذكرتم ترك للظاهر وذلك لا يجوز لا سيما وقد بينا أن الدليل القاطع العقلي يقوي قولنا

المسألة الثالثة قرأ أبو بكر عن عاصم وَنَجْعَلُ بالنون وقرأ الباقون بالياء كناية عن اسم الله تعالى
المسألة الرابعة احتج أصحابنا على صحة قولهم بأن خالق الكفر والإيمان هو الله تعالى بقوله تعالى وَيَجْعَلُ الرّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ وتقريره أن الرجس قد يراد به العمل القبيح قال تعالى إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً ( الأحزاب 33 ) والمراد من الرجس ههنا العمل القبيح سواء كان كفراً أو معصية وبالتطهير نقل العبد من رجس الكفر والمعصية إلى طهارة الإيمان والطاعة فلما ذكر الله تعالى فيما قبل هذه الآية أن الإيمان لا يحصل إلا بمشيئة الله تعالى وتخليقه ذكر بعده أن الرجس لا يحصل إلا بتخليقه وتكوينه والرجس الذي يقابل الإيمان ليس إلا الكفر فثبت دلالة هذه الآية على أن الكفر والإيمان من الله تعالى
أجاب أبو علي الفارسي النحوي عنه فقال الرجس يحتمل وجهين آخرين أحدهما أن يكون المراد منه العذاب فقوله وَيَجْعَلُ الرّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ أي يلحق العذاب بهم كما قال وَيُعَذّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ ( الفتح 6 ) والثاني أنه تعالى يحكم عليهم بأنهم رجس كما قال إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ( التوبة 28 ) والمعنى أن الطهارة الثابتة للمسلمين لم تحصل لهم
والجواب أنا قد بينا بالدليل العقلي أن الجهل لا يمكن أن يكون فعلاً للعبد لأنه لا يريده ولا يقصد إلى تكوينه وإنما يريد ضده وإنما قصد إلى تحصيل ضده فلو كان به لما حصل إلا ما قصده وأوردنا السؤالات على هذه الحجة وأجبنا عنها فيما سلف من هذا الكتاب وأما حمل الرجس على العذاب فهو باطل لأن الرجس عبارة عن الفاسد المستقذر المستكره فحمل هذا اللفظ على جهلهم وكفرهم أولى من حمله على عذاب الله مع كونه حقاً صدقاً صواباً وأما حمل لفظ الرجس على حكم الله برجاستهم فهو في غاية البعد لأن حكم الله تعالى بذلك صفته فكيف يجوز أن يقال إن صفة الله رجس فثبت أن الحجة التي ذكرناها ظاهرة
قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِى السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا تُغْنِى الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ عاصم وحمزة قُلِ انظُرُواْ بكسر اللام لالتقاء الساكنين والأصل فيه الكسر والباقون بضمها نقلوا حركة الهمزة إلى اللام
المسألة الثانية اعلم أنه تعالى لما بين في الآيات السالفة أن الإيمان لا يحصل إلا بتخليق الله تعالى ومشيئته أمر بالنظر والاستدلال في الدلائل حتى لا يتوهم أن الحق هو الجبر المحض فقال قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ
واعلم أن هذا يدل على مطلوبين الأول أنه لا سبيل إلى معرفة الله تعالى إلا بالتدبر في الدلائل كما قال عليه الصلاة والسلام ( تفكروا في الخلق ولاتتفكروا في الخلق ) والثاني وهو أن الدلائل إما أن تكون

من عالم السموات أو من عالم الأرض أما الدلائل السماوية فهي حركات الأفلاك ومقاديرها وأوضاعها وما فيها من الشمس والقمر والكواكب وما يختص به كل واحد منها من المنافع والفوائد وأما الدلائل الأرضية فهي النظر في أحوال العناصر العلوية وفي أحوال المعادن وأحوال النبات وأحوال الإنسان خاصة ثم ينقسم كل واحد من هذه الأجناس إلى أنواع لا نهاية لها ولو أن الإنسان أخذ يتفكر في كيفية حكمة الله سبحانه في تخليق جناح بعوضة لانقطع عقله قبل أن يصل إلى أقل مرتبة من مراتب تلك الحكم والفوائد ولا شك أن الله سبحانه أكثر من ذكر هذه الدلائل في القرآن المجيد فلهذا السبب ذكر قوله قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ولم يذكر التفصيل فكأنه تعالى نبه على القاعدة الكلية حتى أن العاقل يتنبه لأقسامها وحينئذ يشرع في تفصيل حكمة كل واحد منها بقدر القوة العقلية والبشرية ثم إنه تعالى لما أمر بهذا التفكر والتأمل بين بعد ذلك أن هذا التفكر والتدبر في هذه الآيات لا ينفع في حق من حكم الله تعالى عليه في الأزل بالشقاء والضلال فقال وَمَا تُغْنِى الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال النحويون مَا في هذا الموضع تحتمل وجهين الأول أن تكون نفياً بمعنى أن هذه الآيات والنذر لا تفيد الفائدة في حق من حكم الله عليه بأنه لا يؤمن كقولك ما يغني عنك المال إذا لم تنفق والثاني أن تكون استفهاماً كقولك أي شيء يغني عنهم وهو استفهام بمعنى الإنكار
المسألة الثانية الآيات هي الدلائل والنذر الرسل المنذرون أو الإنذارات
المسألة الثالثة قرىء وَمَا يُغْنِى بالياء من تحت
فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنَّى مَعَكُمْ مِّنَ الْمُنْتَظِرِينَ ثُمَّ نُنَجِّى رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءامَنُواْ كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ
واعلم أن المعنى هل ينتظرون إلا أياماً مثل أيام الأمم الماضية والمراد أن الأنبياء المتقدمين عليهم السلام كانوا يتوعدون كفار زمانهم بمجيء أيام مشتملة على أنواع العذاب وهم كانوا يكذبون بها ويستعجلونها على سبيل السخرية وكذلك الكفار الذين كانوا في زمان الرسول عليه الصلاة والسلام هكذا كانوا يفعلون ثم إنه تعالى أمره بأن يقول لهم فَانتَظِرُواْ إِنّى مَعَكُم مّنَ الْمُنتَظِرِينَ ثم إنه تعالى قال ثُمَّ نُنَجّى رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ الكسائي في رواية نصير نُنَجّى خفيفة وقرأ الباقون مشددة وهما لغتان وكذلك في قوله نُنجِى الْمُؤْمِنِينَ
المسألة الثانية ثم حرف عطف وتقدير الكلام كانت عادتنا فيما مضى أن نهلكهم سريعاً ثم ننجي رسلنا

المسألة الثالثة لما أمر الرسول في الآية الأولى أن يوافق الكفار في انتظار العذاب ذكر التفصيل فقال العذاب لا ينزل إلا على الكفار وأما الرسول وأتباعه فهم أهل النجاة
ثم قال كَذَلِكَ حَقّا عَلَيْنَا نُنجِى الْمُؤْمِنِينَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) أي مثل ذلك الإنجاء ننصر المؤمنين ونهلك المشركين وحقاً علينا اعتراض يعني حق ذلك علينا حقاً
المسألة الثانية قال القاضي قوله حَقّاً عَلَيْنَا المراد به الوجوب لأن تخليص الرسول والمؤمنين من العذاب إلى الثواب واجب ولولاه لما حسن من الله تعالى أن يلزمهم الأفعال الشاقة وإذا ثبت وجوبه لهذا السبب جرى مجرى قضاء الدين للسبب المتقدم
والجواب أنا نقول إنه حق بسبب الوعد والحكم ولا نقول إنه حق بسبب الاستحقاق لما ثبت أن العبد لا يستحق على خالقه شيئاً
قُلْ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى شَكٍّ مِّن دِينِى فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَلَاكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِى يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ
واعلم أنه تعالى لما ذكر الدلائل على أقصى الغايات وأبلغ النهايات أمر رسوله بإظهار دينه وبإظهار المباينة عن المشركين لكي تزول الشكوك والشبهات في أمره وتخرج عبادة الله من طريقة السر إلى الإظهار فقال قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى شَكّ مّن دِينِى واعلم أن ظاهر هذه الآية يدل على أن هؤلاء الكفار ما كانوا يعرفون دين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وفي الخبر إنهم كانوا يقولون فيه قد صبأ وهو صابىء فأمر الله تعالى أن يبين لهم أنه على دين إبراهيم حنيفاً مسلماً لقوله تعالى إِنَّ إِبْراهِيمَ كَانَ أُمَّة ً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا ( النحل 120 ) ولقوله وَجَّهْتُ وَجْهِى َ لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ حَنِيفاً ( الأنعام 79 ) ولقوله لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ( الكافرون 2 ) والمعنى أنكم إن كنتم لا تعرفون ديني فأنا أبينه لكم على سبيل التفصيل ثم ذكر فيه أموراً
فالقيد الأول قوله فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وإنما وجب تقديم هذا النفي لما ذكرنا أن إزالة النقوش الفاسدة عن اللوح لا بد وأن تكون مقدمة على إثبات النقوش الصحيحة في ذلك اللوح وإنما وجب هذا النفي لأن العبادة غاية التعظيم وهي لا تليق إلا بمن حصلت له غاية الجلال والإكرام وأما الأوثان فإنها أحجار والإنسان أشرف حالاً منها وكيف يليق بالأشرف أن يشتغل بعبادة الأخس

القيد الثاني قوله وَلَاكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِى يَتَوَفَّاكُمْ والمقصود أنه لما بين أنه يجب ترك عبادة غير الله بين أنه يجب الاشتغال بعبادة الله
فإن قيل ما الحكمة في ذكر المعبود الحق في هذا المقام بهذه الصفة وهي قوله الَّذِى يَتَوَفَّاكُم
قلنا فيه وجوه الأول يحتمل أن يكون المراد أني أعبد الله الذي خلقكم أولاً ثم يتوفاكم ثانياً ثم يعيدكم ثالثاً وهذه المراتب الثلاثة قد قررناها في القرآن مراراً وأطواراً فههنا اكتفى بذكر التوفي منها لكونه منبهاً على البواقي الثاني أن الموت أشد الأشياء مهابة فنخص هذا الوصف بالذكر في هذا المقام ليكون أقوى في الزجر والردع الثالث أنهم لما استعجلوا نزول العذاب قال تعالى فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُواْ إِنَّى مَعَكُمْ مّنَ الْمُنْتَظِرِينَ ثُمَّ نُنَجّى رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءامَنُواْ ( يونس 102 103 ) فهذه الآية تدل على أنه تعالى يهلك أولئك الكفار ويبقي المؤمنين ويقوي دولتهم فلما كان قريب العهد بذكر هذا الكلام لا جرم قال ههنا وَلَاكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِى يَتَوَفَّاكُمْ وهو إشارة إلى ما قرره وبينه في تلك الآية كأنه يقول أعبد ذلك الذي وعدني بإهلاكهم وبإبقائي
والقيد الثالث من الأمور المذكورة في هذه الآية قوله وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ واعلم أنه لما ذكر العبادة وهي من جنس أعمال الجوارح انتقل منها إلى الإيمان والمعرفة وهذا يدل على أنه ما لم يصر الظاهر مزيناً بالأعمال الصالحة فإنه لا يحصل في القلب نور الإيمان والمعرفة
والقيد الرابع قوله وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفًا وفيه مسائل
المسألة الأولى الواو في قوله وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ حرف عطف وفي المعطوف عليه وجهان الأول أن قوله وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ قائم مقام قوله وقيل لي كن من المؤمنين ثم عطف عليه وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ الثاني أن قوله وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ قائم مقام قوله وَأُمِرْتُ بإقامة الوجه فصار التقدير وأمرت بأن أكون من المؤمنين وبإقامة الوجه للدين حنيفاً
المسألة الثانية إقامة الوجه كناية عن توجيه العقل بالكلية إلى طلب الدين لأن من يريد أن ينظر إلى شيء نظراً بالاستقصاء فإنه يقيم وجهه في مقابلته بحيث لا يصرفه عنه لا بالقليل ولا بالكثير لأنه لو صرفه عنه ولو بالقليل فقد بطلت تلك المقابلة وإذا بطلت تلك المقابلة فقد اختل الأبصار فلهذا السبب حسن جعل إقامة الوجه للدين كناية عن صرف العقل بالكلية إلى طلب الدين وقوله حَنِيفاً أي مائلاً إليه ميلاً كلياً معرضاً عما سواه إعراضاً كلياً وحاصل هذا الكلام هو الإخلاص التام وترك الالتفات إلى غيره فقوله أولاً وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إشارة إلى تحصيل أصل الإيمان وقوله وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفًا إشارة إلى الاستغراق في نور الإيمان والإعراض بالكلية عما سواه
والقيد الخامس قوله وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ
واعلم أنه لا يمكن أن يكون هذا نهياً عن عبادة الأوثان لأن ذلك صار مذكوراً بقوله تعالى في هذه الآية فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فوجب حمل هذا الكلام على فائدة زائدة وهو أن من عرف مولاه فلو التفت بعد ذلك إلى غيره كان ذلك شركاً وهذا هو الذي تسميه أصحاب القلوب بالشرك الخفي

والقيد السادس قوله تعالى وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ والممكن لذاته معدوم بالنظر إلى ذاته وموجود بإيجاد الحق وإذا كان كذلك فما سوى الحق فلا وجود له إلا إيجاد الحق وعلى هذا التقدير فلا نافع إلا الحق ولا ضار إلا الحق فكل شيء هالك إلا وجهه وإذا كان كذلك فلا حكم إلا لله ولا رجوع في الدارين إلا إلى الله
ثم قال في آخر الآية فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مّنَ الظَّالِمِينَ يعني لو اشتغلت بطلب المنفعة والمضرة من غير الله فأنت من الظالمين لأن الظلم عبارة عن وضع الشيء في غير موضعه فإذا كان ما سوى الحق معزولاً عن التصرف كانت إضافة التصرف إلى ما سوى الحق وضعاً للشيء في غير موضعه فيكون ظلماً
فإن قيل فطلب الشبع من الأكل والري من الشرب هل يقدح في ذلك الإخلاص
قلنا لا لأن وجود الخبز وصفاته كلها بإيجاد الله وتكوينه وطلب الانتفاع بشيء خلقه الله للانتفاع به لا يكون منافياً للرجوع بالكلية إلى الله إلا أن شرط هذا الإخلاص أن لا يقع بصر عقله على شيء من هذه الموجودات إلا ويشاهد بعين عقله أنها معدومة بذواتها وموجودة بإيجاد الحق وهالكة بأنفسها وباقية بإبقاء الحق فحينئذ يرى ما سوى الحق عدماً محضاً بحسب أنفسها ويرى نور وجوده وفيض إحسانه عالياً علي الكل
وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ
وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه سبحانه وتعالى قرر في آخر هذه السورة أن جميع الممكنات مستندة إليه وجميع الكائنات محتاجة إليه والعقول والهة فيه والرحمة والجود والوجود فائض منه
واعلم أن الشيء إما أن يكون ضاراً وإما أن يكون نافعاً وإما أن يكون لا ضاراً ولا نافعاً وهذان القسمان مشتركان في اسم الخير ولما كان الضر أمراً وجودياً لا جرم قال فيه وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرّ ولما كان الخير قد يكون وجودياً وقد يكون عدمياً لا جرم لم يذكر لفظ الإمساس فيه بل قال وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ والآية دالة على أن الضر والخير واقعان بقدرة الله تعالى وبقضائه فيدخل فيه الكفر والإيمان والطاعة والعصيان والسرور والآفات والخيرات والآلام واللذات والراحات والجراحات فبين سبحانه وتعالى أنه إن قضى لأحد شراً فلا كاشف له إلا هو وإن قضى لأحد خيراً فلا راد لفضله ألبتة ثم في الآية دقيقة أخرى وهي أنه تعالى رجح جانب الخير على جانب الشر من ثلاثة أوجه الأول أنه تعالى لما ذكر إمساس الضر بين أنه لا كاشف له إلا هو وذلك يدل على أنه تعالى يزيل المضار لأن الاستثناء من النفي إثبات ولما ذكر الخير لم يقل بأنه يدفعه بل قال إنه لا راد لفضله وذلك يدل على أن الخير مطلوب بالذات وأن الشر مطلوب بالعرض

كما قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) رواية عن رب العزة أنه قال ( سبقت رحمتي غضبي ) الثاني أنه تعالى قال في صفة الخير يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وذلك يدل على أن جانب الخير والرحمة أقوى وأغلب والثالث أنه قال وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وهذا أيضاً يدل على قوة جانب الرحمة وحاصل الكلام في هذه الآية أنه سبحانه وتعالى بين أنه منفرد بالخلق والإيجاد والتكوين والإبداع وأنه لا موجد سواه ولا معبود إلا إياه ثم نبه على أن الخير مراد بالذات والشر مراد بالعرض وتحت هذا الباب أسرار عميقة فهذا ما نقوله في هذه الآية
المسألة الثانية قال المفسرون إنه تعالى لما بين في الآية الأولى في صفة الأصنام أنها لا تضر ولا تنفع بين في هذه الآية أنها لا تقدر أيضاً على دفع الضرر الواصل من الغير وعلى الخير الواصل من الغير قال ابن عباس رضي الله عنهما إِن يَمْسَسْكُمْ اللَّهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ يعني بمرض وفقر فلا دافع له إلا هو
وأما قوله وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فقال الواحدي هو من المقلوب معناه وإن يرد بك الخير ولكنه لما تعلق كل واحد منهما بالآخر جاز إبدال كل واحد منهما بالآخر وأقول التقديم في اللفظ يدل على زيادة العناية فقوله وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ يدل على أن المقصود هو الإنسان وسائر الخيرات مخلوقة لأجله فهذه الدقيقة لا تستفاد إلا من هذا التركيب
قُلْ ياأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنُ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ
واعلم أنه تعالى لما قرر الدلائل المذكورة في التوحيد والنبوة والمعاد وزين آخر هذه السورة بهذه البيانات الدالة على كونه تعالى مستبداً بالخلق والإبداع والتكوين والاختراع ختمها بهذه الخاتمة الشريفة العالية وفي تفسيرها وجهان الأول أنه من حكم له في الأزل بالاهتداء فسيقع له ذلك ومن حكم له بالضلال فكذلك ولا حيلة في دفعه الثاني وهو الكلام اللائق بالمعتزلة قال القاضي إنه تعالى بين أنه أكمل الشريعة وأزاح العلة وقطع المعذرة فَمَنُ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ فلا يجب علي من السعي في إيصالكم إلى الثواب العظيم وفي تخليصكم من العذاب الأليم أزيد مما فعلت قال ابن عباس هذه الآية منسوخة بآية القتال
ثم إنه تعالى ختم هذه الخاتمة بخاتمة أخرى لطيفة فقال وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ
والمعنى أنه تعالى أمره باتباع الوحي والتنزيل فإن وصل إليه بسبب ذلك الاتباع مكروه فليصبر عليه

إلى أن يحكم الله فيه وهو خير الحاكمين وأنشد بعضهم في الصبر شعراً فقال سأصبر حتى يعجز الصبر عن صبري
وأصبر حتى يحكم الله في أمري
أصبر حتى يعلم الصبر أنني
صبرت على شيء أمر من الصبر

سورة هود
مكية إلا الآيات 12 و 17 و 114 فمدنية
وآياتها 123 نزلت بعد سورة يونس
ال ر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءايَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن قوله الر اسم للسورة وهو مبتدأ وقوله كِتَابٌ خبره وقوله الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءايَاتُهُ صفة للكتاب قال الزجاج لا يجوز أن يقال الر مبتدأ وقوله كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءايَاتُهُ ثُمَّ فُصّلَتْ خبر لأن الر ليس هو الموصوف بهذه الصفة وحده وهذا الاعتراض فاسد لأنه ليس من شرط كون الشيء مبتدأ أن يكون خبره محصوراً فيه ولا أدري كيف وقع للزجاج هذا السؤال ثم إن الزجاج اختار قولاً آخر وهو أن يكون التقدير الر هذا كتاب أحكمت آياته وعندي أن هذا القول ضعيف لوجهين الأول أن على هذا التقدير يقع قوله الر كلاماً باطلاً لا فائدة فيه والثاني أنك إذا قلت هذا كتاب فقوله ( هذا ) يكون إشارة إلى أقرب المذكورات وذلك هو قوله الر فيصير حينئذ الر مخبراً عنه بأنه كتاب أحكمت آياته فيلزمه على هذا القول ما لم يرض به في القول الأول فثبت أن الصواب ما ذكرناه
المسألة الثانية في قوله الر كِتَابٌ وجوه الأول الر كِتَابٌ نظمت نظماً رصيفاً محكماً لا يقع فيه نقص ولا خلل كالبناء المحكم المرصف الثاني أن الإحكام عبارة عن منع الفساد من الشيء فقوله الر كِتَابٌ أي لم تنسخ بكتاب كما نسخت الكتب والشرائع بها
واعلم أن على هذا الوجه لا يكون كل الكتاب محكماً لأنه حصل فيه آيات منسوخة إلا أنه لما كان الغالب كذلك صح إطلاق هذا الوصف عليه إجراء للحكم الثابت في الغالب مجرى الحكم الثابت في

الكل الثالث قال صاحب ( الكشاف ) أُحْكِمَتْ يجوز أن يكون نقلاً بالهمزة من حكم بضم الكاف إذا صار حكيماً أي جعلت حكيمة كقوله الْكِتَابِ الْحَكِيمِ أَكَانَ ( يونس 1 ) الرابع جعلت آياته محكمة في أمور أحدها أن معاني هذا الكتاب هي التوحيد والعدل والنبوة والمعاد وهذه المعاني لا تقبل النسخ فهي في غاية الإحكام وثانيها أن الآيات الواردة فيه غير متناقضة والتناقض ضد الإحكام فإذا خلت آياته عن التناقض فقد حصل الإحكام وثالثها أن ألفاظ هذه الآيات بلغت في الفصاحة والجزالة إلى حيث لا تقبل المعارضة وهذا أيضاً مشعر بالقوة والإحكام ورابعها أن العلوم الدينية إما نظرية وإما عملية أما النظرية فهي معرفة الإله تعالى ومعرفة الملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر وهذا الكتاب مشتمل على شرائف هذه العلوم ولطائفها وأما العملية فهي إما أن تكون عبارة عن تهذيب الأعمال الظاهرة وهو الفقه أو عن تهذيب الأحوال الباطنة وهي علم التصفية ورياضة النفس ولا نجد كتاباً في العالم يساوي هذا الكتاب في هذه المطالب فثبت أن هذا الكتاب مشتمل على أشرف المطالب الروحانية وأعلى المباحث الإلهية فكان كتاباً محكماً غير قابل للنقض والهدم وتمام الكلام في تفسير المحكم ذكرناه في تفسير قوله تعالى هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ ( آل عمران 7 )
المسألة الثالثة في قوله فُصّلَتْ وجوه أحدها أن هذا الكتاب فصل كما تفصل الدلائل بالفوائد الروحانية وهي دلائل التوحيد والنبوة والأحكام والمواعظ والقصص والثاني أنها جعلت فصولاً سورة سورة وآية آية الثالث فُصّلَتْ بمعنى أنها فرقت في التنزيل وما نزلت جملة واحدة ونظيره قوله تعالى فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ ءايَاتٍ مّفَصَّلاَتٍ ( الأعراف 133 ) والمعنى مجيء هذه الآيات متفرقة متعاقبة الرابع فصل ما يحتاج إليه العباد أي جعلت مبينة ملخصة الخامس جعلت فصولاً حلالاً وحراماً وأمثالاً وترغيباً وترهيباً ومواعظ وأمراً ونهياً لكل معنى فيها فصل قد أفرد به غير مختلط بغيره حتى تستكمل فوائد كل واحد منها ويحصل الوقوف على كل باب واحد منها على الوجه الأكمل
المسألة الرابعة معنى ثُمَّ في قوله ثُمَّ فُصّلَتْ ليس للتراخي في الوقت لكن في الحال كما تقول هي محكمة أحسن الإحكام ثم مفصلة أحسن التفصيل وكما تقول فلان كريم الأصل ثم كريم الفعل
المسألة الخامسة قال صاحب ( الكشاف ) قرىء الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءايَاتُهُ أي أحكمتها أنا ثم فصلتها وعن عكرمة والضحاك ثُمَّ فُصّلَتْ أي فرقت بين الحق والباطل
المسألة السادسة احتج الجبائي بهذه الآية على أن القرآن محدث مخلوق من ثلاثة أوجه الأول قال المحكم هو الذي أتقنه فاعله ولولا أن الله تعالى يحدث هذا القرآن وإلا لم يصح ذلك لأن الإحكام لا يكون إلا في الأفعال ولا يجوز أن يقال كان موجوداً غير محكم ثم جعله الله محكماً لأن هذا يقتضي في بعضه الذي جعله محكماً أن يكون محدثاً ولم يقل أحد بأن القرآن بعضه قديم وبعضه محدث الثاني أن قوله ثُمَّ فُصّلَتْ يدل على أنه حصل فيه انفصال وافتراق ويدل على أن ذلك الانفصال والافتراق إنما حصل بجعل جاعل وتكوين مكون وذلك أيضاً يدل على المطلوب الثالث قوله مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ

والمراد من عنده والقديم لا يجوز أن يقال إنه حصل من عند قديم آخر لأنهما لو كانا قديمين لم يكن القول بأن أحدهما حصل من عند الآخر أولى من العكس
أجاب أصحابنا بأن هذه النعوت عائدة إلى هذه الحروف والأصوات ونحن معترفون بأنها محدثة مخلوقة وإنما الذي ندعي قدمه أمر آخر سوى هذه الحروف والأصوات
المسألة السابعة قال صاحب ( الكشاف ) قوله مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ يحتمل وجوهاً الأول أنا ذكرنا أن قوله كِتَابٌ خبر و أُحْكِمَتْ صفة لهذا الخبر وقوله مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ صفة ثانية والتقدير الر كتاب من لدن حكيم خبير والثاني أن يكون خبراً بعد خبر والتقدير الر من لدن حكيم خبير والثالث أن يكون ذلك صفة لقوله أُحْكِمَتْ أي أحكمت وفصلت من لدن حكيم خبير وعلى هذا التقدير فقد حصل بين أول هذه الآية وبين آخرها نكتة لطيفة كأنه يقول أحكمت آياته من لدن حكيم وفصلت من لدن خبير عالم بكيفيات الأمور
أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِى لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدِيرٌ
اعلم أن في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن في قوله خَبِيرٍ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ وجوهاً الأول أن يكون مفعولاً له والتقدير كتاب أحكمت آياته ثم فصلت لأجل ألا تعبدوا إلا الله وأقول هذا التأويل يدل على أنه لا مقصود من هذا الكتاب الشريف إلا هذا الحرف الواحد فكل من صرف عمره إلى سائر المطالب فقد خاب وخسر الثاني أن تكون ءانٍ مفسرة لأن في تفصيل الآيات معنى القول والحمل على هذا أولى لأن قوله وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ معطوف على قوله أَلاَّ تَعْبُدُواْ فيجب أن يكون معناه أي لا تعبدوا ليكون الأمر معطوفاً على النهي فإن كونه بمعنى لئلا تعبدوا يمنع عطف الأمر عليه والثالث أن يكون التقدير الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ليأمر الناس أن لا يعبدوا إلا الله ويقول لهم إنني لكم منه نذير وبشير والله أعلم
المسألة الثانية اعلم أن هذه الآية مشتملة على التكليف من وجوه الأول أنه تعالى أمر بأن لا يعبدوا إلا الله وإذا قلنا الاستثناء من النفي إثبات كان معنى هذا الكلام النهي عن عبادة غير الله تعالى والأمر بعبادة الله تعالى وذلك هو الحق لأنا بينا أن ما سوى الله فهو محدث مخلوق مربوب وإنما حصل بتكوين الله وإيجاده والعبادة عبارة عن إظهار الخضوع والخشوع ونهاية التواضع والتذلل وهذا لا يليق إلا بالخالق المدبر الرحيم المحسن فثبت أن عبادة غير الله منكرة والإعراض عن عبادة الله منكر

واعلم أن عبادة الله مشروطة بتحصيل معرفة الله تعالى قبل العبادة لأن من لا يعرف معبوده لا ينتفع بعبادته فكان الأمر بعبادة الله أمراً بتحصيل المعرفة أولاً ونظيره قوله تعالى في أول سورة البقرة قَدِيرٌ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ( البقرة 21 ) ثم أتبعه بالدلائل الدالة على وجود الصانع وهو قوله الَّذِى ْ خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ( البقرة 21 ) إنما حسن ذلك لأن الأمر بالعبادة يتضمن الأمر بتحصيل المعرفة فلا جرم ذكر ما يدل على تحصيل المعرفة
ثم قال إِنَّنِى لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وفيه مباحث
البحث الأول أن الضمير في قوله مِنْهُ عائد إلى الحكيم الخبير والمعنى إنني لكم نذير وبشير من جهته
البحث الثاني أن قوله أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ مشتمل على المنع عن عبادة غير الله وعلى الترغيب في عبادة الله تعالى فهو عليه الصلاة والسلام نذير على الأول بإلحاق العذاب الشديد لمن لم يأت بها وبشير على الثاني بإلحاق الثواب العظيم لمن أتى بها
واعلم أنه ( صلى الله عليه وسلم ) ما بعث إلا لهذين الأمرين وهو الإنذار على فعل ما لا ينبغي والبشارة على فعل ما ينبغي
المرتبة الثانية من الأمور المذكورة في هذه الآية قوله وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ
والمرتبة الثالثة قوله ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ واختلفوا في بيان الفرق بين هاتين المرتبتين على وجوه
الوجه الأول أن معنى قوله وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ اطلبوا من ربكم المغفرة لذنوبكم ثم بين الشيء الذي يطلب به ذلك وهو التوبة فقال ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ لأن الداعي إلى التوبة والمحرض عليها هو الاستغفار الذي هو عبارة عن طلب المغفرة وهذا يدل على أنه لا سبيل إلى طلب المغفرة من عند الله إلا بإظهار التوبة والأمر في الحقيقة كذلك لأن المذنب معرض عن طريق الحق والمعرض المتمادي في التباعد ما لم يرجع عن ذلك الإعراض لا يمكنه التوجه إلى المقصود بالذات فالمقصود بالذات هو التوجه إلى المطلوب إلا أن ذلك لا يمكن إلا بالإعراض عما يضاده فثبت أن الاستغفار مطلوب بالذات وأن التوبة مطلوبة لكونها من متممات الاستغفار وما كان آخراً في الحصول كان أولاً في الطلب فلهذا السبب قدم ذكر الاستغفار على التوبة
الوجه الثاني في فائدة هذا الترتيب أن المراد استغفروا من سالف الذنوب ثم توبوا إليه في المستأنف
الوجه الثالث وأن استغفروا من الشرك والمعاصي ثم توبوا من الأعمال الباطلة
الوجه الرابع الاستغفار طلب من الله لإزالة ما لا ينبغي والتوبة سعي من الإنسان في إزالة ما لا ينبغي فقدم الاستغفار ليدل على أن المرء يجب أن لا يطلب الشيء إلا من مولاه فإنه هو الذي يقدر على تحصيله ثم بعد الاستغفار ذكر التوبة لأنها عمل يأتي به الإنسان ويتوسل به إلى دفع المكروه والاستعانة بفضل الله تعالى مقدمة على الاستعانة بسعي النفس

واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه المراتب الثلاثة ذكر بعدها ما يترتب عليها من الآثار النافعة والنتائج المطلوبة ومن المعلوم أن المطالب محصورة في نوعين لأنه إما أن يكون حصولها في الدنيا أو في الآخرة أما المنافع الدنيوية فهي المراد من قوله يُمَتّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وهذا يدل على أن المقبل على عبادة الله والمشتغل بها يبقى في الدنيا منتظم الحال مرفه البال وفي الآية سؤالات
السؤال الأول أليس أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ) وقال أيضاً ( خص البلاء بالأنبياء ثم الأولياء تم الأمثل فالأمثل ) وقال تعالى وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّة ً واحِدَة ً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَانِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مّن فِضَّة ٍ ( الزخرف 33 ) فهذه النصوص دالة على أن نصيب المشتغل بالطاعات في الدنيا هو الشدة والبلية ومقتضى هذه الآية أن نصيب المشتغل بالطاعات الراحة في الدنيا فكيف الجمع بينهما
الجواب من وجوه الأول المراد أنه تعالى لا يعذبهم بعذاب الاستئصال كما استأصل أهل القرى الذين كفروا الثاني أنه تعالى يوصل إليهم الرزق كيف كان وإليه الإشارة بقوله وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلواة ِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ ( طه 132 ) الثالث وهو الأقوى عندي أن يقال إن المشتغل بعبادة الله وبمحبة الله مشتغل بحب شيء يمتنع تغيره وزواله وفناؤه فكل من كان إمعانه في ذلك الطريق أكثر وتوغله فيه أتم كان انقطاعه عن الخلق أتم وأكمل وكلما كان الكمال في هذا الباب أكثر كان الابتهاج والسرور أتم لأنه أمن من تغير مطلوبه وأمن من زوال محبوبه فأما من كان مشتغلاً بحب غير الله كان أبداً في ألم الخوف من فوات المحبوب وزواله فكان عيشه منغصاً وقلبه مضطرباً ولذلك قال الله تعالى في صفة المشتغلين بخدمته فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَواة ً طَيّبَة ً ( النحل 97 )
السؤال الثاني هل يدل قوله إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى على أن للعبد أجلين وأنه يقع في ذلك التقديم والتأخير
والجواب لا ومعنى الآية أنه تعالى حكم بأن هذا العبد لو اشتغل بالعبادة لكان أجله في الوقت الفلاني ولو أعرض عنها لكان أجله في وقت آخر لكنه تعالى عالم بأنه لو اشتغل بالعبادة أم لا فإن أجله ليس إلا في ذلك الوقت المعين فثبت أن لكل إنسان أجلاً واحداً فقط
السؤال الثالث لم سمى منافع الدنيا بالمتاع
الجواب لأجل التنبيه على حقارتها وقلتها ونبه على كونها منقضية بقوله تعالى إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فصارت هذه الآية دالة على كونها حقيرة خسيسة منقضية ثم لما بين تعالى ذلك قال وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ والمراد منه السعادات الأخروية وفيها لطائف وفوائد
الفائدة الأولى أن قوله وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ معناه ويؤت كل ذي فضل موجب فضله ومعلوله والأمر كذلك وذلك لأن الإنسان إذا كان في نهاية البعد عن الاشتغال بغير الله وكان في غاية الرغبة في تحصيل أسباب معرفة الله تعالى فحينئذ يصير قلبه فصاً لنقش الملكوت ومرآة يتجلى بها قدس اللاهوت إلا أن العلائق الجسدانية الظلمانية تكدر تلك الأنوار الروحانية فإذا زالت هذه العلائق أشرقت تلك الأنوار وتلألأت تلك الأضواء وتوالت موجبات السعادات فهذا هو المراد من قوله وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ

الفائدة الثانية أن هذا تنبيه على أن مراتب السعادات في الآخرة مختلفة وذلك لأنها مقدرة بمقدار الدرجات الحاصلة في الدنيا فلما كان الإعراض عن غير الحق والإقبال على عبودية الحق درجات غير متناهية فكذلك مراتب السعادات الأخروية غير متناهية فلهذا السبب قال وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ
الفائدة الثالثة أنه تعالى قال في منافع الدنيا يُمَتّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا وقال في سعادات الآخرة وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وذلك يدل على أن جميع خيرات الدنيا والآخرة ليس إلا منه وليس إلا بإيجاده وتكوينه وإعطاءه وجوده وكان الشيخ الإمام الوالد رحمه الله تعالى يقول لولا الأسباب لما ارتاب مرتاب فأكثر الناس عقولهم ضعيفة واشتغال عقولهم بهذه الوسائط الفانية يعميها عن مشاهدة أن الكل منه فأما الذين توغلوا في المعارف الإلهية وخاضوا في بحار أنوار الحقيقة علموا أن ما سواه ممكن لذاته موجود بإيجاده فانقطع نظرهم عما سواه وعلموا أنه سبحانه وتعالى هو الضار والنافع والمعطي والمانع
ثم إنه تعالى لما بين هذه الأحوال قال وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ والأمر كذلك لأن من اشتغل بعبادة غير الله صار في الدنيا أعمى مَن كَانَ فِى هَاذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِى الاْخِرَة ِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً ( الإسراء 72 ) والذي يبين ذلك أن من أقبل على طلب الدنيا ولذاتها وطيباتها قوي حبه لها ومال طبعه إليها وعظمت رغبته فيها فإذا مات بقي معه ذلك الحب الشديد والميل التام وصار عاجزاً عن الوصول إلى محبوبه فحينئذ يعظم البلاء ويتكامل الشقاء فهذا القدر المعلوم عندنا من عذاب ذلك اليوم وأما تفاصيل تلك الأحوال فهي غائبة عنا ما دمنا في هذه الحياة الدنيوية ثم بين أنه لا بد من الرجوع إلى الله تعالى بقوله إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى شَى ْء قَدِيرٌ
واعلم أن قوله إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ فيه دقيقة وهي أن هذا اللفظ يفيد الحصر يعني أن مرجعنا إلى الله لا إلى غيره فيدل هذا على أن لا مدبر ولا متصرف هناك إلا هو والأمر كذلك أيضاً في هذه الحياة الدنيوية إلا أن أقواماً اشتغلوا بالنظر إلى الوسائط فعجزوا عن الوصول إلى مسبب الأسباب فظنوا أنهم في دار الدنيا قادرون على شيء وأما في دار الآخرة فهذا الحال الفاسد زائل أيضاً فلهذا المعنى بين هذا الحصر بقوله إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ
ثم قال وَهُوَ عَلَى كُلّ شَى ْء قَدِيرٌ وأقول إن هذا تهديد عظيم من بعض الوجوه وبشارة عظيمة من سائر الوجوه أما إنه تهديد عظيم فلأن قوله تعالى إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ يدل على أنه ليس مرجعنا إلا إليه وقوله وَهُوَ عَلَى كُلّ شَى ْء قَدِيرٌ يدل على أنه قادر على جميع المقدورات لا دافع لقضائه ولا مانع لمشيئته والرجوع إلى الحاكم الموصوف بهذه الصفة مع العيوب الكثيرة والذنوب العظيمة مشكل وأما أنه بشارة عظيمة فلأن ذلك يدل على قدرة غالبة وجلالة عظيمة لهذا الحاكم وعلى ضعف تام وعجز عظيم لهذا العبد والملك القاهر العالي الغالب إذا رأى عاجزاً مشرفاً على الهلاك فإنه يخلصه من الهلاك ومنه المثل المشهور ملكت فاسجح
يقول مصنف هذا الكتاب قد أفنيت عمري في خدمة العلم والمطالعة للكتب ولا رجاء لي في شيء إلا أني في غاية الذلة والقصور والكريم إذا قدر غفر وأسألك يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين وساتر عيوب المعيوبين ومجيب دعوة المضطرين أن تفيض سجال رحمتك على ولدي وفلذة كبدي وأن تخلصنا بالفضل والتجاوز والجود والكرم

أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ
اعلم أنه تعالى لما قال وَإِن تَوَلَّوْاْ يعني عن عبادته وطاعته فَإِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ بين بعده أن التولي عن ذلك باطناً كالتولي عنه ظاهراً فقال أَلاَ إِنَّهُمْ يعني الكفار من قوم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) يثنون صدورهم ليستخفوا منه
واعلم أنه تعالى حكى عن هؤلاء الكفار شيئين الأول أنه يثنون صدورهم يقال ثنيت الشيء إذا عطفته وطويته وفي الآية وجهان
الوجه الأول روي أن طائفة من المشركين قالوا إذا أغلقنا أبوابنا وأرسلنا ستورنا واستغشينا ثيابنا وثنينا صدورنا على عداوة محمد فكيف يعلم بنا وعلى هذا التقدير كان قوله يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ كناية عن النفاق فكأنه قيل يضمرون خلاف ما يظهرون ليستخفوا من الله تعالى ثم نبه بقوله أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ على أنهم يستخفون منه حين يستغشون ثيابهم
الوجه الثاني روي أن بعض الكفار كان إذا مر به رسول الله ثنى صدره وولى ظهره واستغشى ثيابه والتقدير كأنه قيل إنهم يتصرفون عنه ليستخفوا منه حين يستغشون ثيابهم لئلا يسمعوا كلام رسول الله وما يتلو من القرآن وليقولوا في أنفسهم ما يشتهون من الطعن وقوله إِلا للتنبيه فنبه أولاً على أنهم ينصرفوا عنه ليستخفوا ثم كرر كلمة إِلا للتنبيه على ذكر الاستخفاء لينبه على وقت استخفائهم وهو حين يستغشون ثيابهم كأنه قيل ألا إنهم ينصرفون عنه ليستخفوا من الله ألا إنهم يستخفون حين يستغشون ثيابهم ثم ذكر أنه لا فائدة لهم في استخفائهم بقوله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ
وَمَا مِن دَآبَّة ٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ
اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية الأولى أنه يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ أردفه بما يدل على كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات فثبت أن رزق كل حيوان إنما يصل إليه من الله تعالى فلو لم يكن عالماً بجميع المعلومات لما حصلت هذه المهمات وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال الزجاج الدابة اسم لكل حيوان لأن الدابة اسم مأخوذ من الدبيب وبنيت هذه

اللفظة على هاء التأنيث وأطلق على كل حيوان ذي روح ذكراً كان أو أنثى إلا أنه بحسب عرف العرب اختص بالفرس والمراد بهذا اللفظ في هذه الآية الموضوع الأصلي اللغوي فيدخل فيه جميع الحيوانات وهذا متفق عليه بين المفسرين ولا شك أن أقسام الحيوانات وأنواعها كثيرة وهي الأجناس التي تكون في البر والبحر والجبال والله يحصيها دون غيره وهو تعالى عالم بكيفية طبائعها وأعضائها وأحوالها وأغذيتها وسمومها ومساكنها وما يوافقها وما يخالفها فالإله المدبر لإطباق السموات والأرضين وطبائع الحيوان والنبات كيف لا يكون عالماً بأحوالها روي أن موسى عليه السلام عند نزول الوحي إليه تعلق قلبه بأحوال أهله فأمره الله تعالى أن يضرب بعصاه على صخرة فانشقت وخرجت صخرة ثانية ثم ضرب بعصاه عليها فانشقت وخرجت صخرة ثالثة ثم ضربها بعصاه فانشقت فخرجت منها دودة كالذرة وفي فمها شيء يجري مجرى الغذاء لها ورفع الحجاب عن سمع موسى عليه السلام فسمع الدودة تقول سبحان من يراني ويسمع كلامي ويعرف مكاني ويذكرني ولا ينساني
المسألة الثانية تعلق بعضهم بأنه يجب على الله تعالى بعض الأشياء بهذه الآية وقال إن كلمة عَلَى للوجوب وهذا يدل على أن إيصال الرزق إلى الدابة واجب على الله
وجوابه أنه واجب بحسب الوعد والفضل والإحسان
المسألة الثالثة تعلق أصحابنا بهذه الآية في إثبات أن الرزق قد يكون حراماً قالوا لأنه ثبت أن إيصال كل حيوان واجب على الله تعالى بحسب الوعد وبحسب الاستحقاق والله تعالى لا يحل بالواجب ثم قد نرى إنساناً لا يأكل من الحلال طول عمره فلو لم يكن الحرام رزقاً لكان الله تعالى ما أوصل رزقه إليه فيكون تعالى قد أخل بالواجب وذلك محال فعلمنا أن الحرام قد يكون رزقاً وأما قوله وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا فالمستقر هو مكانه من الأرض والمستودع حيث كان مودعاً قبل الاستقرار في صلب أو رحم أو بيضة وقال الفراء مستقرها حيث تأوي إليه ليلاً أو نهاراً ومستودعها موضعها الذي تموت فيه وقد مضى استقصاء تفسير المستقر والمستودع في سورة الأنعام ثم قال كُلٌّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ قال الزجاج المعنى أن ذلك ثابت في علم الله تعالى ومنهم من قال في اللوح المحفوظ وقد ذكرنا ذلك في قوله وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ ( الأنعام 59 )
وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض فِى سِتَّة ِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَآءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَاذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ
واعلم أنه تعالى لما أثبت بالدليل المتقدم كونه عالماً بالمعلومات أثبت بهذا الدليل كونه تعالى قادراً على كل المقدورات وفي الحقيقة فكل واحد من هذين الدليلين يدل على كمال علم الله وعلى كمال قدرته

واعلم أن قوله تعالى وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فِي سِتَّة ِ أَيَّامٍ قد مضى تفسيره في سورة يونس على سبيل الاستقصاء بقي ههنا أن نذكر وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء قال كعب خلق الله تعالى ياقوتة خضراء ثم نظر إليها بالهيبة فصارت ماء يرتعد ثم خلق الريح فجعل الماء على متنها ثم وضع العرش على الماء قال أبو بكر الأصم معنى قوله وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء كقولهم السماء على الأرض وليس ذلك على سبيل كون أحدهما ملتصقاً بالآخر وكيف كانت الواقعة فذلك يدل على أن العرش والماء كانا قبل السموات والأرض وقالت المعتزلة في الآية دلالة على وجود الملائكة قبل خلقهما لأنه لا يجوز أن يخلق ذلك ولا أحد ينتفع بالعرض والماء لأنه تعالى لما خلقهما فإما أن يكون قد خلقهما لمنفعة أو لا لمنفعة والثاني عبث فبقي الأول وهو أنه خلقهما لمنفعة وتلك المنفعة إما أن تكون عائدة إلى الله وهو محال لكونه متعالياً عن النفع والضرر أو إلى الغير فوجب أن يكون ذلك الغير حياً لأن غير الحي لا ينتفع وكل من قال بذلك قال ذلك الحي كان من جنس الملائكة وأما أبو مسلم الأصفهاني فقال معنى قوله وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء أي بناؤه السموات كان على الماء وقد مضى تفسير ذلك في سورة يونس وبين أنه تعالى إذا بنى السموات على الماء كانت أبدع وأعجب فإن البناء الضعيف إذا لم يؤسس على أرض صلبة لم يثبت فكيف بهذا الأمر العظيم إذا بسط على الماء وههنا سؤالات
السؤال الأول ما الفائدة في ذكر أن عرشه كان على الماء قبل خلق السموات والأرض
والجواب فيه دلالة على كمال القدرة من وجوه الأول أن العرش كونه مع أعظم من السموات والأرض كان على الماء فلولا أنه تعالى قادر على إمساك الثقيل بغير عمد لما صح ذلك والثاني أنه تعالى أمسك الماء لا على قرار وإلا لزم أن يكون أقسام العالم غير متناهية وذلك يدل على ما ذكرناه والثالث أن العرش الذي هو أعظم المخلوقات قد أمسكه الله تعالى فوق سبع سموات من غير دعامة تحته ولا علاقة فوقه وذلك يدل أيضاً على ما ذكرنا
السؤال الثاني هل يصح ما يروى أنه قيل يا رسول الله أين كان ربنا قبل خلق السموات والأرض فقال كان في عماء فوقه هواء وتحته هواء
والجواب أن هذه الرواية ضعيفة والأولى أن يكون الخبر المشهور أولى بالقبول وهو قوله ( صلى الله عليه وسلم ) كان الله وما كان معه شيء ثم كان عرشه على الماء
السؤال الثالث اللام في قوله لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً يقتضي أنه تعالى خلق السموات والأرض لابتلاء المكلف فكيف الحال فيه والجواب ظاهر هذا الكلام يقتضي أن الله تعالى خلق هذا العالم الكثير لمصلحة المكلفين وقد قال بهذا القول طوائف من العقلاء ولكل طائفة فيه وجه آخر سوى الوجه الذي قال به الآخرون وشرح تلك المقالات لا يليق بهذا الكتاب والذين قالوا إن أفعاله وأحكامه غير معللة بالمصالح قالوا لام التعليل وردت على ظاهر الأمر ومعناه أنه تعالى فعل فعلاً لو كان يفعله من تجوز عليه رعاية المصالح لما فعله إلا لهذا الغرض
السؤال الرابع الابتلاء إنما يصح على الجاهل بعواقب الأمور وذلك عليه تعالى محال فكيف يعقل حصول معنى الابتلاء في حقه

والجواب أن هذا الكلام على سبيل الاستقصاء ذكرناه في تفسير قوله تعالى في أول سورة البقرة لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( البقرة 21 )
واعلم أنه تعالى لما بين أنه خلق هذا العالم لأجل ابتلاء المكلفين وامتحانهم فهذا يوجب القطع بحصول الحشر والنشر لأن الابتلاء والامتحان يوجب تخصيص المحسن بالرحمة والثواب وتخصيص المسيء بالعقاب وذلك لا يتم إلا مع الاعتراف بالمعاد والقيامة فعند هذا خاطب محمداً عليه الصلاة والسلام وقال وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَاذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ومعناه أنهم ينكرون هذا الكلام ويحكمون بفساد القول بالبعث
فإن قيل الذي يمكن وصفه بأنه سحر ما يكون فعلاً مخصوصاً وكيف يمكن وصف هذا القول بأنه سحر
قلنا الجواب عنه من وجوه الأول قال القفال معناه أن هذا القول خديعة منكم وضعتموها لمنع الناس عن لذات الدنيا وإحرازاً لهم إلى الانقياد لكم والدخول تحت طاعتكم الثاني أن معنى قوله إِنْ هَاذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ هو أن السحر أمر باطل قال تعالى حاكياً عن موسى عليه السلام مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ ( يونس 81 ) فقوله إِنْ هَاذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ أي باطل مبين الثالث أن القرآن هو الحاكم بحصول البعث وطعنوا في القرآن بكونه سحراً لأن الطعن في الأصل يفيد الطعن في الفرع الرابع قرأ حمزة والكسائي إِنْ هَاذَا إِلاَّ سَاحِرٌ يريدون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والساحر كاذب
وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّة ٍ مَّعْدُودَة ٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ
اعلم أنه تعالى حكى عن الكفار أنهم يكذبون الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بقولهم إِنْ هَاذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ فحكى عنهم في هذه الآية نوعاً آخر من أباطيلهم وهو أنه متى تأخر عنهم العذاب الذي توعدهم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) به أخذوا في الاستهزاء ويقولون ما السبب الذي حبسه عنا
فأجاب الله تعالى بأنه إذا جاء الوقت الذي عينه الله لنزول ذلك العذاب الذي كانوا يستهزؤن به لم ينصرف ذلك العذاب عنهم وأحاط بهم ذلك العذاب بقي ههنا سؤالات
السؤال الأول المراد من هذا العذاب هو عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة
الجواب للمفسرين فيه وجوه الأول قال الحسن معنى حكم الله في هذه الآية أنه لا يعذب أحداً منهم بعذاب الاستئصال وأخر ذلك إلى يوم القيامة فلما أخر الله عنهم ذلك العذاب قالوا على سبيل الاستهزاء ما الذي حبسه عنا والثاني أن المراد الأمر بالجهاد وما نزل بهم يوم بدر وعلى هذا الوجه تأولوا

قوله وَحَاقَ بِهِم أي نزل بهم هذا العذاب يوم بدر
السؤال الثاني ما المراد بقوله إِلَى أُمَّة ٍ مَّعْدُودَة ٍ
الجواب من وجهين الأول أن الأصل في الأمة هم الناس والفرقة فإذا قلت جاءني أمة من الناس فالمراد طائفة مجتمعة قال تعالى وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّة ً مّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ ( القصص 23 ) وقوله وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّة ٍ ( يوسف 45 ) أي بعد انقضاء أمة وفنائها فكذا ههنا قوله وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّة ٍ مَّعْدُودَة ٍ أي إلى حين تنقضي أمة من الناس انقرضت بعد هذا الوعيد بالقول لقالوا ماذا يحبسه عنا وقد انقرض من الناس الذين كانوا متوعدين بهذا الوعيد وتسمية الشيء باسم ما يحصل فيه كقولك كنت عند فلان صلاة العصر أي في ذلك الحين الثاني أن اشتقاق الأمة من الأَم وهو القصد كأنه يعني الوقت المقصود بإيقاع هذا الموعود فيه
السؤال الثالث لم قال وَحَاقَ على لفظ الماضي مع أن ذلك لم يقع
والجواب قد مر في هذا الكتاب آيات كثيرة من هذا الجنس والضابط فيها أنه تعالى أخبر عن أحوال القيامة بلفظ الماضي مبالغة في التأكيد والتقرير
وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَة ً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَآءَ بَعْدَ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَائِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَة ٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ
اعلم أنه تعالى لما ذكر أن عذاب أولئك الكفار وإن تأخر إلا أنه لا بد وأن يحيق بهم ذكر بعده ما يدل على كفرهم وعلى كونهم مستحقين لذلك العذاب فقال وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ وفيه مسائل
المسألة الأولى لفظ الإِنسَانَ في هذه الآية فيه قولان
القول الأول أن المراد منه مطلق الإنسان ويدل عليه وجوه الأول أنه تعالى استثنى منه قوله إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل فثبت أن الإنسان المذكور في هذه الآية داخل فيه المؤمن والكافر وذلك يدل على ما قلناه الثاني أن هذه الآية موافقة على هذا التقرير لقوله تعالى وَالْعَصْرِ إِنَّ الإنسَانَ لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ( العصر 1 3 ) وموافقة أيضاً لقوله تعالى إِنَّ الإنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً ( المعارج 19 21 ) الثالث أن مزاج الإنسان مجبول على الضعف والعجز قال ابن جريج في تفسير هذه الآية يا ابن آدم إذا نزلت لك نعمة من الله فأنت كفور فإذا نزعت منك فيؤس قنوط

والقول الثاني أن المراد منه الكافر ويدل عليه وجوه الأول ن الأصل في المفرد المحلى بالألف واللام أن يحمل على المعهود السابق لولا المانع وههنا لا مانع فوجب حمله عليه والمعهود السابق هو الكافر المذكور في الآية المتقدمة الثاني أن الصفات المذكورة للإنسان في هذه الآية لا تليق إلا بالكافر لأنه وصفه بكونه يؤساً وذلك من صفات الكافر لقوله تعالى يبَنِى َّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَايْئَسُواْ مِن ( يوسف 87 ) ووصفه أيضاً بكونه كفوراً وهو تصريح بالكفر ووصفه أيضاً بأنه عند وجدان الراحة يقول ذهب السيئات عني وذلك جراءة على الله تعالى ووصفه أيضاً بكونه فرحاً و اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ( القصص 76 ) ووصفه أيضاً بكونه فخوراً وذلك ليس من صفات أهل الدين ثم قال الناظرون لهذا القول وجب أن يحمل الاستثناء المذكور في هذه الآية على الاستثناء المنقطع حتى لا تلزمنا هذه المحذورات
المسألة الثانية لفظ الإذاقة والذوق يفيد أقل ما يوجد به الطعم فكان المراد أن الإنسان بوجدان أقل القليل من الخيرات العاجلة يقع في التمرد والطغيان وبإدراك أقل القليل من المحنة والبلية يقع في اليأس والقنوط والكفران فالدنيا في نفسها قليلة والحاصل منها للإنسان الواحد قليل والإذاقة من ذلك المقدار خير قليل ثم إنه في سرعة الزوال يشبه أحلام النائمين وخيالات الموسوسين فهذه الإذاقة من قليل ومع ذلك فإن الإنسان لا طاقة له بتحملها ولا صبر له على الإتيان بالطريق الحسن معها وأما النعماء فقال الواحدي إنها إنعام يظهر أثره على صاحبه والضراء مضرة يظهر أثرها على صاحبها لأنها خرجت مخرج الأحوال الظاهرة نحو حمراء وعوراء وهذا هو الفرق بين النعمة والنعماء والمضرة والضراء
المسألة الثالثة اعلم أن أحوال الدنيا غير باقية بل هي أبداً في التغير والزوال والتحول والانتقال إلا أن الضابط فيه أنه إما أن يتحول من النعمة إلى المحنة ومن اللذات إلى الآفات وإما أن يكون بالعكس من ذلك وهو أن ينتقل من المكروه إلى المحبوب ومن المحرمات إلى الطيبات
أما القسم الأول فهو المراد من قوله وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَة ً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ وحاصل الكلام أنه تعالى حكم على هذا الإنسان بأنه يؤس كفور وتقريره أن يقال أنه حال زوال تلك النعمة يصير يؤساً وذلك لأن الكافر يعتقد أن السبب في حصول تلك النعمة سبب اتفاقي ثم إنه يستبعد حدوث ذلك الاتفاق مرة أخرى فلا جرم يستبعد عود تلك النعمة فيقع في اليأس وأما المسلم الذي يعتقد أن تلك النعمة إنما حصلت من الله تعالى وفضله وإحسانه وطوله فإنه لا يحصل له اليأس بل يقول لعله تعالى يردها إلى بعد ذلك أكمل وأحسن وأفضل مما كانت وأما حال كون تلك النعمة حاصلة فإنه يكون كفوراً لأنه لما اعتقد أن حصولها إنما كان على سبيل الاتفاق أو بسبب أن الإنسان حصلها بسبب جده وجهده فحينئذ لا يشتغل بشكر الله تعالى على تلك النعمة فالحاصل أن الكافر يكون عند زوال تلك النعمة يؤوساً وعند حصولها يكون كفوراً
وأما القسم الثاني وهو أن ينتقل الإنسان من المكروه إلى المحبوب ومن المحنة إلى النعمة فههنا الكافر يكون فرحاً فخوراً أما قوة الفرح فلأن منتهى طمع الكافر هو الفوز بهذه السعادات الدنيوية وهو منكر

للسعادات الأخروية الروحانية فإذا وجد الدنيا فكأنه قد فاز بغاية السعادات فلا جرم يعظم فرحه بها وأما كونه فخوراً فلأنه لما كان الفوز بسائر المطلوب نهاية السعادة لا جرم يفتخر به فحاصل الكلام أنه تعالى بين أن الكافر عند البلاء لا يكون من الصابرين وعند الفوز بالنعماء لا يكون من الشاكرين ثم لما قرر ذلك قال إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ والمراد منه ضد ما تقدم فقوله إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ المراد منه أن يكون عند البلاء من الصابرين وقوله وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ المراد منه أن يكون عند الراحة والخير من الشاكرين ثم بين حالهم فقال أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَة ٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ فجمع لهم بين هذين المطلوبين أحدهما زوال العقاب والخلاص منه وهو المراد من قوله لَهُم مَّغْفِرَة ٌ والثاني الفوز بالثواب وهو المراد من قوله وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ومن وقف على هذا التفصيل الذي ذكرناه علم أن هذا الكتاب الكريم كما أنه معجز بحسب ألفاظه فهو أيضاً معجز بحسب معانيه
فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنُزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ وَكِيلٌ
اعلم أن هذا نوع آخر من كلمات الكفار والله تعالى بين أن قلب الرسول ضاق بسببه ثم إنه تعالى قواه وأيده بالإكرام والتأييد وفيه مسائل
المسألة الأولى روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رؤساء مكة قالوا يا محمد اجعل لنا جبال مكة ذهباً إن كنت رسولاً وقال آخرون ائتنا بالملائكة يشهدون بنبوتك فقال لا أقدر على ذلك فنزلت هذه الآية واختلفوا في المراد بقوله تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال المشركون للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( ائتنا بكتاب ليس فيه شتم آلهتنا حتى نتبعك ونؤمن بك وقال الحسن اطلبوا منه لا يقول إِنَّ السَّاعَة َ ءاتِيَة ٌ ( طه 15 ) وقال بعضهم المراد نسبتهم إلى الجهل والتقليد والإصرار على الباطل
المسألة الثانية أجمع المسلمون على أنه لا يجوز على الرسول عليه الصلاة والسلام أن يخون في الوحي والتنزيل وأن يترك بعض ما يوحى إليه لأن تجويزه يؤدي إلى الشك في كل الشرائع والتكاليف وذلك يقدح في النبوة وأيضاً فالمقصود من الرسالة تبليغ تكاليف الله تعالى وأحكامه فإذا لم تحصل هذه الفائدة فقد خرجت الرسالة عن أن تفيد فائدتها المطلوبة منها وإذا ثبت هذا وجب أن يكون المراد من قوله فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ شيئاً آخر سوى أنه عليه السلام فعل ذلك وللناس فيه وجوه الأول لا يمتنع أن يكون في معلوم الله تعالى أنه إنما ترك التقصير في أداء الوحي والتنزيل لسبب يرد عليه من الله تعالى أمثال هذه التهيدات البليغة الثاني أنهم كانوا لا يعتقدون بالقرآن ويتهاونون به فكان يضيق صدر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أن يلقي إليهم ما لا يقبلونه ويضحكون منه فهيجه الله تعالى لأداء الرسالة وطرح المبالاة بكلماتهم الفاسدة وترك الالتفات إلى استهزائهم والغرض منه التنبيه على أنه إن أدى ذلك الوحي وقع في سخريتهم وسفاهتهم

وإن لم يؤد ذلك الوحي إليهم وقع في ترك وحي الله تعالى وفي إيقاع الخيانة فيه فإذا لا بد من تحمل أحد الضررين وتحمل سفاهتهم أسهل من تحمل إيقاع الخيانة في وحي الله تعالى والغرض من ذكر هذا الكلام التنبيه على هذه الدقيقة لأن الإنسان إذا علم أن كل واحد من طرفي الفعل والترك يشتمل على ضرر عظيم ثم علم أن الضرر في جانب الترك أعظم وأقوى سهل عليه ذلك الفعل وخف فالمقصود من ذكر هذا الكلام ما ذكرناه
فإن قيل قوله فَلَعَلَّكَ كلمة شك فما الفائدة فيها
قلنا المراد منه الزجر والعرب تقول للرجل إذا أرادوا إبعاده عن أمر لعلك تقدر أن تفعل كذا مع أنه لا شك فيه ويقول لولده لو أمره لعلك تقصر فيما أمرتك به ويريد توكيد الأمر فمعناه لا تترك
وأما قوله وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ فالضائق بمعنى الضيق قال الواحدي الفرق بينهما أن الضائق يكون بضيق عارض غير لازم لأن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان أفسح الناس صدراً ومثله قولك زيد سيد جواد تريد السيادة والجود الثابتين المستقرين فإذا أردت الحدوث قلت سائد وجائد والمعنى ضائق صدرك لأجل أن يقولوا لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ
فإن قيل الكنز كيف ينزل
قلنا المراد ما يكنز وجرت العادة على أنه يسمي المال الكثير بهذا الاسم فكأن القوم قالوا إن كنت صادقاً في أنك رسول الإله الذي تصفه بالقدرة على كل شيء وإنك عزيز عنده فهلا أنزل عليك ما تستغني به وتغني أحبابك من الكد والعناء وتستعين به على مهماتك وتعين أنصارك وإن كنت صادقاً فهلا أنزل الله معك ملكاً يشهد لك على صدق قولك ويعينك على تحصيل مقصودك فتزول الشبهة في أمرك فلما لم يفعل إلهك ذلك فأنت غير صادق فبين تعالى أنه رسول منذر بالعقاب ومبشر بالثواب ولا قدرة له على إيجاد هذه الأشياء والذي أرسله هو القادر على ذلك فإن شاء فعل وإن شاء لم يفعل ولا اعتراض لأحد عليه في فعله وفي حكمه ومعنى وَكِيلٌ حفيظ أي يحفظ عليهم أعمالهم أي يجازيهم بها ونظير هذه الآية قوله تعالى تَبَارَكَ الَّذِى إِن شَاء جَعَلَ لَكَ خَيْراً مّن ذالِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً ( الفرقان 10 ) وقوله قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ إلى قوله قُلْ سُبْحَانَ رَبّى هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً ( الإسراء 90 93 )
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
اعلم أن القول لما طلبوا منه المعجز قال معجزي هذا القرآن ولما حصل المعجز الواحد كان طلب

الزيادة بغياً وجهلاً ثم قرر كونه معجزاً بأن تحداهم بالمعارضة وتقرير هذا الكلام بالاستقصاء قد تقدم في البقرة وفي سورة يونس وفي الآية مسائل
المسألة الأولى الضمير في قوله افْتَرَاهُ عائد إلى ما سبق من قوله يُوحَى إِلَيْكَ أي إن قالوا إن هذا الذي يوحى إليك مفترى فقل لهم حتى يأتوا بعشر سور مثله مفتريات وقوله مثله بمعنى أمثاله حملا على كل واحد من تلك السور ولا يبعد أيضاً أن يكون المراد هو المجموع لأن مجموع السور العشرة شيء واحد
المسألة الثانية قال ابن عباس هذه السورة التي وقع بها هذا التحدي معينة وهي سورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف والأنفال والتوبة ويونس وهود عليهما السلام وقوله فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ إشارة إلى السور المتقدمة على هذه السورة وهذا فيه إشكال لأن هذه السورة مكية وبعض السور المتقدمة على هذه السورة مدنية فكيف يمكن أن يكون المراد من هذه العشر سور التي ما نزلت عند هذا الكلام فالأولى أن يقال التحدي وقع بمطلق السور التي يظهر فيها قوة تركيب الكلام وتأليفه
واعلم أن التحدي بعشر سور لا بد وأن يكون سابقاً على التحدي بسورة واحدة وهو مثل أن يقول الرجل لغيره أكتب عشرة أسطر مثل ما أكتب فإذا ظهر عجزه عنه قال قد اقتصرت منها على سطر واحد مثله
إذا عرفت هذا فنقول التحدي بالسورة الواحدة ورد في سورة البقرة وفي سورة يونس كما تقدم أما تقدم هذه السورة على سورة البقرة فظاهر لأن هذه السورة مكية وسورة البقرة مدنية وأما في سورة يونس فالإشكال زائل أيضاً لأن كل واحدة من هاتين السورتين مكية والدليل الذي ذكرناه يقتضي أن تكون سورة هود متقدمة في النزول على سورة يونس حتى يستقيم الكلام الذي ذكرناه
المسألة الثالثة اختلف الناس في الوجه الذي لأجله كان القرآن معجزاً فقال بعضهم هو الفصاحة وقال بعضهم هو الأسلوب وقال ثالث هو عدم التناقض وقال رابع هو اشتماله على العلوم الكثيرة وقال خامس هو الصرف وقال سادس هو اشتماله على الإخبار عن الغيوب والمختار عندي وعند الأكثرين أنه معجز بسبب الفصاحة واحتجوا على صحة قولهم بهذه الآية لأنه لو كان وجه الإعجاز هو كثرة العلوم أو الأخبار عن الغيوب أو عدم التناقض لم يكن لقوله مُفْتَرَيَاتٍ معنى أما إذا كان وجه الإعجاز هو الفصاحة صح ذلك لأن فصاحة الفصيح تظهر بالكلام سواء كان الكلام صدقاً أو كذباً وأيضاً لو كان الوجه في كونه معجزاً هو الصرف لكان دلالة الكلام الركيك النازل في الفصاحة على هذا المطلوب أوكد من دلالة الكلام العالي في الفصاحة ثم إنه تعالى لما قرر وجه التحدي قال وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ والمراد إن كنتم صادقين في ادعاء كونه مفترى كما قال أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ
واعلم أن هذا الكلام يدل على أنه لا بد في إثبات الدين من تقرير الدلائل والبراهين وذلك لأنه تعالى أورد في إثبات نبوة محمد عليه السلام هذا الدليل وهذه الحجة ولولا أن الدين لا يتم إلا بالدليل لم يكن في ذكره فائدة

فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَآ أُنزِلِ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَن لاَّ إله إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ
اعلم أن الآية المتقدمة اشتملت على خطابين أحدهما خطاب الرسول وهو قوله قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ والثاني خطاب الكفار وهو قوله وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مّن دُونِ اللَّهِ ( يونس 38 ) فلما أتبعه بقوله فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ احتمل أن يكون المراد أن الكفار لم يستجيبوا في المعارضة لتعذرها عليهم واحتمل أن من يدعونه من دون الله لم يستجيبوا فلهذا السبب اختلف المفسرون على قولين فبعضهم قال هذا خطاب للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وللمؤمنين والمراد أن الكفار إن لم يستجيبوا لكم في الإتيان بالمعارضة فاعلموا أنما أنزل بعلم الله والمعنى فاثبتوا على العلم الذي أنتم عليه وازدادوا يقيناً وثبات قدم على أنه منزل من عند الله ومعنى قوله فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ أي فهل أنتم مخلصون ومنهم من قال فيه إضمار والتقدير فقولوا أيها المسلمون للكفار اعلموا أنما أنزل بعلم الله
والقول الثاني أن هذا خطاب مع الكفار والمعنى أن الذين تدعونهم من دون الله إذا لم يستجيبوا لكم في الإعانة على المعارضة فاعلموا أيها الكفار أن هذا القرآن إنما أنزل بعلم الله فهل أنتم مسلمون بعد لزوم الحجة عليكم والقائلون بهذا القول قالوا هذا أولى من القول الأول لأنكم في القول الأول احتجتم إلى أن حملتم قوله فَاعْلَمُواْ على الأمر بالثبات أو على إضمار القول وعلى هذا الاحتمال لا حاجة فيه إلى إضمار فكان هذا أولى وأيضاً فعود الضمير إلى أقرب المذكورين واجب وأقرب المذكورين في هذه الآية هو هذا الاحتمال الثاني وأيضاً أن الخطاب الأول كان مع الرسول عليه الصلاة والسلام وحده بقوله قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ ( هود 13 ) والخطاب الثاني كان مع جماعة الكفار بقوله وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مّن دُونِ اللَّهِ ( يونس 38 ) وقوله فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ خطاب مع الجماعة فكان حمله على هذا الذي قلناه أولى بقي في الآية سؤالات
السؤال الأول ما الشيء الذي لم يستجيبوا فيه
الجواب المعنى فإن لم يستجيبوا لكم في معارضة القرآن وقال بعضهم فإن لم يستجيبوا لكم في جملة الإيمان وهو بعيد
السؤال الثاني من المشار إليه بقوله لَكُمْ
والجواب إن حملنا قوله فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ على المؤمنين فذلك ظاهر وإن حملناه على الرسول فعنه جوابان الأول المراد فإن لم يستجيبوا لك وللمؤمنين لأن الرسول عليه السلام والمؤمنين كانوا يتحدونهم وقال في موضع آخر فإن لم يستجيبوا لك فاعلم والثاني يجوز أن يكون الجمع لتعظيم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
السؤال الثالث أي تعلق بين الشرط المذكور في هذه الآية وبين ما فيها من الجزاء
والجواب أن القوم ادعوا كون القرآن مفترى على الله تعالى فقال لو كان مفترى على الله لوجب أن

يقدر الخلق على مثله ولما لم يقدروا عليه ثبت أنه من عند الله فقوله أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللَّهِ كناية عن كونه من عند الله ومن قبله كما يقول الحاكم هذا الحكم جرى بعلمي
السؤال الرابع أي تعلق لقوله وَأَن لاَّ إله إِلاَّ هُوَ يعجزهم عن المعارضة
والجواب فيه من وجوه الأول أنه تعالى لما أمر محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) حتى يطلب من الكفار أن يستعينوا بالأصنام في تحقيق المعارضة ثم ظهر عجزهم عنها فحينئذ ظهر أنها لا تنفع ولا تضر في شيء من المطالب ألبتة ومتى كان كذلك فقد بطل القول بإثبات كونهم آلهة فصار عجز القوم المعارضة بعد الاستعانة بالأصنام مبطلاً لإلهية الأصنام ودليلاً على ثبوت نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فكان قوله وَأَن لاَّ إله إِلاَّ هُوَ إشارة إلى ما ظهر من فساد القول بإلهية الأصنام الثاني أنه ثبت في علم الأصول أن القول بنفي الشريك عن الله من المسائل التي يمكن إثباتها بقول الرسول عليه السلام وعلى هذا فكأنه قيل لما ثبت عجز الخصوم عن المعارضة ثبت كون القرآن حقاً وثبت كون محمد ( صلى الله عليه وسلم ) صادقاً في دعوى الرسالة ثم إنه كان يخبر عن أنه لا إله إلا الله فلما ثبت كونه محقاً في دعوى النبوة ثبت قوله أَن لاَّ إله إِلاَّ هُوَ الثالث أن ذكر قوله وَأَن لاَّ إله إِلاَّ هُوَ جار مجرى التهديد كأنه قيل لما ثبت بهذا الدليل كون محمد عليه السلام صادقاً في دعوى الرسالة وعلمتم إنه لا إله إلا الله فكونوا خائفين من قهره وعذابه واتركوا الإصرار على الكفر واقبلوا الإسلام ونظيره قوله تعالى في سورة البقرة عند ذكر آية التحدي فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِى وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَة ُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ( البقرة 24 )
وأما قوله فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ
فإن قلنا إنه خطاب مع المؤمنين كان معناه الترغيب في زيادة الإخلاص وإن قلنا إنه خطاب مع الكفار كان معناه الترغيب في أصل الإسلام
مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَواة َ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِى الاٌّ خِرَة ِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
اعلم أن الكفار كانوا ينازعون محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) في أكثر الأحوال فكانوا يظهرون من أنفسهم أن محمداً مبطل ونحن محقون وإنما نبالغ في منازعته لتحقيق الحق وإبطال الباطل وكانوا كاذبين فيه بل كان غرضهم محض الحسد والاستنكاف من المتابعة فأنزل الله تعالى هذه الآية لتقرير هذا المعنى ونظير هذه الآية قوله تعالى مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَة َ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ( الإسراء 18 ) وقوله مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الاْخِرَة ِ نَزِدْ لَهُ فِى حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا لَهُ فِى الاْخِرَة ِ مِن نَّصِيبٍ ( الشورى 20 ) وفيه الآية مسائل

المسألة الأولى اعلم أن في الآية قولين
القول الأول أنها مختصة بالكفار لأن قوله مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَواة َ الدُّنْيَا يندرج فيه المؤمن والكافر والصديق والزنديق لأن كل أحد يريد التمتع بلذات الدنيا وطيباتها والانتفاع بخيراتها وشهواتها إلا أن آخر الآية يدل على أن المراد من هذا العام الخاص وهو الكافر لأن قوله تعالى أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِى الاْخِرَة ِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ لا يليق إلا بالكفار فصار تقدير الآية من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها فقط أي تكون إرادته مقصورة على حب الدنيا وزينتها ولم يكن طالباً لسعادات الآخرة كان حكمه كذا وكذا ثم القائلون بهذا القول اختلفوا فيه فمنهم من قال المراد منهم منكرو البعث فإنهم ينكرون الآخرة ولا يرغبون إلا في سعادات الدنيا وهذا قول الأصم وكلامه ظاهر
القول الثاني أن الآية نزلت في المنافقين الذين كانوا يطلبون بغزوهم مع الرسول عليه السلام الغنائم من دون أن يؤمنوا بالآخرة وثوابها
والقول الثالث أن المراد اليهود والنصارى وهو منقول عن أنس
والقول الرابع وهو الذي اختاره القاضي أن المراد من كان يريد بعمل الخير الحياة الدنيا وزينتها وعمل الخير قسمان العبادات وإيصال المنفعة إلى الحيوان ويدخل في هذا القسم الثاني البر وصلة الرحم والصدقة وبناء القناظر وتسوية الطرق والسعي في دفع الشرور وإجراء الأنهار فهذه الأشياء إذا أتى بها الكافر لأجل الثناء في الدنيا فإن بسببها تصل الخيرات والمنافع إلى المحتاجين فكلها تكون من أعمال الخير فلا جرم هذه الأعمال تكون طاعات سواء صدرت من الكافر أو المسلم وأما العبادات فهي إنما تكون طاعات بنيات مخصوصة فإذا لم يؤت بتلك النية وإنما أتى فاعلها بها على طلب زينة الدنيا وتحصيل الرياء والسمعة فيها صار وجودها كعدمها فلا تكون من باب الطاعات
وإذا عرفت هذا فنقول قوله مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَواة َ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا المراد منه الطاعات التي يصح صدورها من الكافر
القول الثاني وهو أن تجري الآية على ظاهرها في العموم ونقول إنه يندرج فيه المؤمن الذي يأتي بالطاعات على سبيل الرياء والسمعة ويندرج فيه الكافر الذي هذا صفته وهذا القول مشكل لأن قوله أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِى الاْخِرَة ِ إِلاَّ النَّارُ لا يليق المؤمن إلا إذا قلنا المراد أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ فِى الاْخِرَة ِ إِلاَّ النَّارُ بسبب هذه الأعمال الفاسدة والأفعال الباطلة المقرونة بالرياء ثم القائلون بهذ القول ذكروا أخباراً كثيرة في هذا الباب روي أن الرسول عليه السلام قال ( تعوذوا بالله من جب الحزن قيل وما جب الحزن قال عليه الصلاة والسلام ( واد في جهنم يلقى فيه القراء المراؤون ) وقال عليه الصلاة والسلام ( أشد الناس عذاباً يوم القيامة من يرى الناس أن فيه خيراً ولا خير فيه ) وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( إذا كان يوم القيامة يدعى برجل جمع القرآن فيقال له ما عملت فيه فيقول يا رب قمت به آناء الليل والنهار فيقول الله تعالى كذبت بل أردت أن يقال فلان قارىء وقد قيل ذلك ويؤت بصاحب المال فيقول الله له ألم أوسع عليك فماذا عملت فيما آتيتك فيقول وصلت الرحم وتصدقت فيقول الله

تعالى كذبت بل أردت أن يقال فلان جواد وقد قيل ذلك ويؤتى بمن قتل في سبيل الله فيقول قاتلت في الجهاد حتى قتلت فيقول الله تعالى كذبت بل أردت أن يقال فلان جريء وقد قيل ذلك ) قال أبو هريرة رضي الله عنه ثم ضرب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ركبتي وقال يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق تسعر بهم النار يوم القيامة وروي أن أبا هريرة رضي الله عنه ذكر هذا الحديث عند معاوية قال الراوي فبكى حتى ظننا أنه هالك ثم أفاق وقال صدق الله ورسوله مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَواة َ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا
المسألة الثانية المراد من توفية أجور تلك الأعمال هو أن كل ما يستحقون بها من الثواب فإنه يصل إليهم حال كونهم في دار الدنيا فإذا خرجوا من الدنيا لم يبق معهم من تلك الأعمال أثر من آثار الخيرات بل ليس لهم منها إلا النار
واعلم أن العقل يدل عليه قطعاً وذلك لأن من أتى بالأعمال لأجل طلب الثناء في الدنيا ولأجل الرياء فذلك لأجل أنه غلب على قلبه حب الدنيا ولم يحصل في قلبه حب الآخرة إذ لو عرف حقيقة الآخرة وما فيها من السعادات لامتنع أن يأتي بالخيرات لأجل الدنيا وينسى أمر الآخرة فثبت أن الآتي بأعمال البر لأجل الدنيا لا بد وأن يكون عظيم الرغبة في الدنيا عديم الطلب للآخرة ومن كان كذلك فإذا مات فإنه يفوته جميع منافع الدنيا ويبقى عاجزاً عن وجدانها غير قادر على تحصيلها ومن أحب شيئاً ثم حيل بينه وبين المطلوب فإنه لا بد وأن تشتعل في قلبه نيران الحسرات فثبت بهذا البرهان العقلي أن كل من أتى بعمل من الأعمال لطلب الأحوال الدنيوية فإنه يجد تلك المنفعة الدنيوية اللائقة بذلك العمل ثم إذا مات فإنه لا يحصل له منه إلا النار ويصير ذلك العمل في الدار الآخرة محبطاً باطلاً عديم الأثر
أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَة ٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَامًا وَرَحْمَة ً أُوْلَائِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الاٌّ حْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِى مِرْيَة ٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ
اعلم أن تعلق هذه الآية بما قبلها ظاهر والتقدير أفمن كان على بينة من ربه كمن يريد الحياة الدنيا وزينتها وليس لهم في الآخرة إلا النار إلا أنه حذف الجواب لظهوره ومثله في القرآن كثير كقوله تعالى أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء ( فاطر 8 ) وقوله أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء الَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً ( الزمر 9 ) وقوله قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ( الزمر 9 )
واعلم أن أول هذه الآية مشتمل على ألفاظ أربعة كل واحد محتمل فالأول أن هذا الذي وصفه الله تعالى بأنه على بينة من ربه من هو والثاني أنه ما المراد بهذه البينة والثالث أن المراد بقوله يتلوه

القرآن أو كونه حاصلاً عقيب غيره والرابع أن هذا الشاهد ما هو فهذه الألفاظ الأربعة مجملة فلهذا كثر اختلاف المفسرين في هذه الآية
أما الأول وهو أن هذا الذي وصفه الله تعالى بأنه على بينة من ربه من هو فقيل المراد به النبي عليه الصلاة والسلام وقيل المراد به من آمن من اليهود كعبدالله بن سلام وغيره وهو الأظهر لقوله تعالى في آخر الآية تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وهذا صيغة جمع فلا يجوز رجوعه إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والمراد بالبينة هو البيان والبرهان الذي عرف به صحة الدين الحق والضمير في يتلوه يرجع إلى معنى البينة وهو البيان والبرهان والمراد بالشاهد هو القرآن ومنه أي من الله ومن قبله كتاب موسى أي ويتلو ذلك البرهان من قبل مجيء القرآن كتاب موسى
واعلم أن كون كتاب موسى تابعاً للقرآن ليس في الوجود بل في دلالته على هذا المطلوب و لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً نصب على الحال فالحاصل أنه يقول اجتمع في تقرير صحة هذا الدين أمور ثلاثة أولها دلالة البينات العقلية على صحته وثانيها شهادة القرآن بصحته وثالثها شهادة التوراة بصحته فعند اجتماع هذه الثلاثة لا يبقى في صحته شك ولا ارتياب فهذا القول أحسن الأقاويل في هذه الآية وأقربها إلى مطابقة اللفظ وفيها أقوال أخر
فالقول الأول أن الذي وصفه الله تعالى بأنه على بينة من ربه هو محمد عليه السلام والبينة هو القرآن والمراد بقوله يتلوه هو التلاوة بمعنى القراءة وعلى هذا التقدير فذكروا في تفسير الشاهد وجوهاً أحدها أنه جبريل عليه السلام والمعنى أن جبريل عليه السلام يقرأ القرآن على محمد عليه السلام وثانيها أن ذلك الشاهد هو لسان محمد عليه السلام وهو قول الحسن ورواية عن محمد بن الحنفية عن علي رضي الله عنهما قال قلت لأبي أنت التالي قال وما معنى التالي قلت قوله رَّبّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مّنْهُ قال وددت أني هو ولكنه لسان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولما كان الإنسان إنما يقرأ القرآن ويتلوه بلسانه لا جرم جعل اللسان تالياً على سبيل المجاز كما يقال عين باصرة وأذن سامعة ولسان ناطق وثالثها أن المراد هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه والمعنى أنه يتلو تلك البينة وقوله مِنْهُ أي هذا الشاهد من محمد وبعض منه والمراد منه تشريف هذا الشاهد بأنه بعض من محمد عليه السلام ورابعها أن لا يكون المراد بقوله وَيَتْلُوهُ القرآن بل حصول هذا الشاهد عقيب تلك البينة وعلى هذا الوجه قالوا إن المراد أن صورة النبي عليه السلام ووجهه ومخايله كل ذلك يشهد بصدقه لأن من نظر إليه بعقله علم أنه ليس بمجنون ولا كاهن ولا ساحر ولا كذاب والمراد بكون هذا الشاهد منه كون هذه الأحوال متعلقة بذات النبي ( صلى الله عليه وسلم )
القول الثاني أن الذي وصفه الله تعالى بأنه على بينة هم المؤمنون وهم أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمراد بالبينة القرآن وَيَتْلُوهُ أي ويتلو الكتاب الذي هو الحجة يعني ويعقبه شاهد من الله تعالى وعلى هذا القول اختلفوا في ذلك الشاهد فقال بعضهم إنه محمد عليه السلام وقال آخرون بل ذلك الشاهد هو كون القرآن واقعاً على وجه يعرف كل من نظر فيه أنه معجزة وذلك الوجه هو اشتماله على الفصاحة التامة والبلاغة الكاملة وكونه بحيث لا يقدر البشر على الإتيان بمثله وقوله شَاهِدٌ مّنْهُ أي من تلك البينة لأن أحوال القرآن وصفاته من القراآت متعلقة به وثالثها قال الفراء وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مّنْهُ يعني الإنجيل يتلو القرآن وإن

كان قد أنزل قبله والمعنى أنه يتلوه في التصديق وتقريره أنه تعالى ذكر محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) في الإنجيل وأمر بالإيمان به
واعلم أن هذين القولين وإن كانا محتملين إلا أن القول الأول أقوى وأتم
واعلم أنه تعالى وصف كتاب موسى عليه السلام بكونه إماماً ورحمة ومعنى كونه إماماً أنه كان مقتدى العالمين وإماماً لهم يرجعون إليه في معرفة الدين والشرائع وأما كونه رحمة فلأنه يهدي إلى الحق في الدنيا والدين وذلك سبب لحصول الرحمة والثواب فلما كان سبباً للرحمة أطلق اسم الرحمة عليه إطلاقاً لاسم المسبب على السبب
ثم قال تعالى أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ والمعنى أن الذين وصفهم الله بأنهم على بينة من ربهم في صحة هذا الدين يؤمنون
واعلم أن المطالب على قسمين منها ما يعلم صحتها بالبديهة ومنها ما يحتاج في تحصيل العلم بها إلى طلب واجتهاد وهذا القسم الثاني على قسمين لأن طريق تحصيل المعارف إما الحجة والبرهان المستنبط بالعقل وإما الاستفادة من الوحي والإلهام فهذا الطريقان هما الطريقان اللذان يمكن الرجوع إليهما في تعريف المجهولات فإذا اجتمعا واعتضد كل واحد منهما بالآخر بلغا الغاية في القوة والوثوق ثم إن في أنبياء الله تعالى كثرة فإذا توافقت كلمات الأنبياء على صحته وكان البرهان اليقيني قائماً على صحته فهذه المرتبة قد بلغت في القوة إلى حيث لا يمكن الزيادة فقوله أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيّنَة ٍ مّن رَّبّهِ المراد بالبينة الدلائل العقلية اليقينية وقوله وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مّنْهُ إشارة إلى الوحي الذي حصل لمحمد عليه السلام وقوله وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَامًا وَرَحْمَة ً إشارة إلى الوحي الذي حصل لموسى عليه السلام وعند اجتماع هذه الثلاثة قد بلغ هذا اليقين في القوة والظهور والجلاء إلى حيث لا يمكن الزيادة عليه
ثم قال تعالى وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الاْحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ والمراد من الأحزاب أصناف الكفار فيدخل فيهم اليهود والنصارى والمجوس روى سعيد بن جبير عن أبي موسى أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( لا يسمع بي يهودي ولا نصراني فلا يؤمن بي إلا كان من أهل النار ) قال أبو موسى فقلت في نفسي إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لا يقول مثل هذا إلا عن القرآن فوجدت الله تعالى يقول وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الاْحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ وقال بعضهم لما دلت الآية على أن من يكفر به فالنار موعده دلت على أن من لا يكفر به لم تكن النار موعده
ثم قال تعالى فَلاَ تَكُ فِى مِرْيَة ٍ مّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبّكَ ففيه قولان الأول فلا تك في مرية من صحة هذا الدين ومن كون القرآن نازلاً من عند الله تعالى فكان متعلقاً بما تقدم من قوله تعالى أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ( السجدة 3 ) الثاني فلا تك في مرية من أن موعد الكافر النار وقرىء مِرْيَة ٍ بضم الميم
ثم قال وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ والتقدير لما ظهر الحق ظهوراً في الغاية فكن أنت متابعاً له ولا تبال بالجهال سواء آمنوا أو لم يؤمنوا والأقرب أن يكون المراد لا يؤمنون بما تقدم ذكره من وصف القرآن
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُوْلَائِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الاٌّ شْهَادُ هَاؤُلا ءِ الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَة ُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالاٌّ خِرَة ِ هُمْ كَافِرُونَ

اعلم أن الكفار كانت لهم عادات كثيرة وطرق مختلفة فمنها شدة حرصهم على الدنيا ورغبتهم في تحصيلها وقد أبطل الله هذه الطريقة بقوله مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَواة َ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا ( هود 15 ) إلى آخر الآية ومنها أنهم كانوا ينكرون نبوة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ويقدحون في معجزاته وقد أبطل الله تعالى بقوله أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيّنَة ٍ مّن رَّبّهِ ( محمد 14 ) ومنها أنهم كانوا يزعمون في الأصنام أنها شفعاؤهم عند الله وقد أبطل الله تعالى ذلك بهذه الآية وذلك لأن هذا الكلام افتراء على الله تعالى فلما بين وعيد المفترين على الله فقد دخل فيه هذا الكلام
واعلم أن قوله وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً إنما يورد في معرض المبالغة وفيه دلالة على أن الافتراء على الله تعالى أعظم أنواع الظلم
ثم إنه تعالى بين وعيد هؤلاء بقوله أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبّهِمْ وما وصفهم بذلك لأنهم مختصون بذلك العرض لأن العرض عام في كل العباد كما قال وَعُرِضُواْ عَلَى رَبّكَ صَفَّا ( الكهف 48 ) وإنما أراد به أنهم يعرضون فيفتضحون بأن يقول الأشهاد عند عرضهم هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبّهِمْ فحصل لهم من الخزي والنكال مالا مزيد عليه وفيه سؤالات
السؤال الأول إذا لم يجز أن يكون الله تعالى في مكان فكيف قال يُعْرَضُونَ عَلَى رَبّهِمْ والجواب أنهم يعرضون على الأماكن المعدة للحساب والسؤال ويجوز أيضاً أن يكون ذلك عرضاً على من شاء الله من الخلق بأمر الله من الملائكة والأنبياء والمؤمنين
السؤال الثاني من الأشهاد الذين أضيف إليهم هذا القول
الجواب قال مجاهد هم الملائكة الذين كانوا يحفظون أعمالهم عليهم في الدنيا وقال قتادة ومقاتل الاْشْهَادُ الناس كما يقال على رؤوس الأشهاد يعني على رؤوس الناس وقال الآخرون هم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قال الله تعالى فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ( الأعراف 6 ) والفائدة في اعتبار قول الأشهاد المبالغة في إظهار الفضيحة
السؤال الثالث الأشهاد جمع فما واحده
والجواب يجوز أن يكون جمع شاهد مثل صاحب وأصحاب وناصر وأنصار ويجوز أن يكون جمع شهيد مثل شريف وأشراف قال أبو علي الفارسي وهذا كأنه أرجح لأن ما جاء من ذلك في التنزيل جاء

على فعيل كقوله وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ( البقرة 143 ) جِئْنَا بِكُمْ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً ( النساء 41 ) ثم لما أخبر عن حالهم في عذاب القيامة أخبر عن حالهم في الحال فقال أَلاَ لَعْنَة ُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ وبين أنهم في الحال لملعونون من عند الله ثم ذكر من صفاتهم أنهم يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً يعني أنهم كما ظلموا أنفسهم بالتزام الكفر والضلال فقد أضافوا إليه المنع من الدين الحق وإلقاء الشبهات وتعويج الدلائل المستقيمة لأنه لا يقال في العاصي يبغي عوجاً وإنما يقال ذلك فيمن يعرف كيفية الاستقامة وكيفية العوج بسبب إلقاء الشبهات وتقرير الضلالات
ثم قال وَهُمْ بِالاْخِرَة ِ هُمْ كَافِرُونَ قال الزجاج كلمة ( هم ) كررت على جهة التوكيد لثبتهم في الكفر
أُولَائِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِى الأرض وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الاٌّ خِرَة ِ هُمُ الاٌّ خْسَرُونَ
اعلم أن الله تعالى وصف هؤلاء المنكرين الجاحدين بصفات كثيرة في معرض الذم
الصفة الأولى كونهم مفترين على الله وهي قوله وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً ( الأنعام 93 )
والصفة الثانية أنهم يعرضون على الله في موقف الذل والهوان والخزي والنكال وهي قوله أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبّهِمْ ( هود 18 )
والصفة الثالثة حصول الخزي والنكال والفضيحة العظيمة وهي قوله وَيَقُولُ الاْشْهَادُ هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبّهِمْ ( هود 18 )
والصفة الرابعة كونهم ملعونين من عند الله وهي قوله أَلاَ لَعْنَة ُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ( هود 18 )
والصفة الخامسة كونهم صادين عن سبيل الله مانعين عن متابعة الحق وهي قوله الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ( الأعراف 45 )
والصفة السادسة سعيهم في إلقاء الشبهات وتعويج الدلائل المستقيمة وهي قوله وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا ( الأعراف 45 )
والصفة السابعة كونهم كافرين وهي قوله وَهُمْ بِالاْخِرَة ِ هُمْ كَافِرُونَ ( هود 19 )
والصفة الثامنة كونهم عاجزين عن الفرار من عذاب الله وهي قوله أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِى الاْرْضِ

قال الواحدي معنى الإعجاز المنع من تحصيل المراد يقال أعجزني فلان أي منعني عن مرادي ومعنى معجزين في الأرض أي لا يمكنهم أن يهربوا من عذابنا فإن هرب العبد من عذاب الله محال لأنه سبحانه وتعالى قادر على جميع الممكنات ولا تتفاوت قدرته بالبعد والقرب والقوة والضعف
والصفة التاسعة أنهم ليس لهم أولياء يدفعون عذاب الله عنهم والمراد منه الرد عليهم في وصفهم الأصنام بأنها شفعاؤهم عند الله والمقصود أن قوله أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِى الاْرْضِ دل على أنهم لا قدرة لهم على الفرار وقوله وَمَا كَانَ لَهُمْ مّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاء هو أن أحداً لا يقدر على تخليصهم من ذلك العذاب فجمع تعالى بين ما يرجع إليهم وبين ما يرجع إلى غيرهم وبين بذلك انقطاع حيلهم في الخلاص من عذاب الدنيا والآخرة ثم اختلفوا فقال قوم المراد إن عدم نزول العذاب ليس لأجل أنهم قدروا على منع الله من إنزال العذاب ولا لأجل أن لهم ناصراً يمنع ذلك العذاب عنهم بل إنما حصل ذلك الإمهال لأنه تعالى أمهلهم كي يتوبوا فيزولوا عن كفرهم فإذا أبوا إلا الثبات عليه فلا بد من مضاعفة العذاب في الآخرة وقال بعضهم بل المراد أن يكونوا معجزين لله عما يريد إنزاله عليهم من العذاب في الآخرة أو في الدنيا ولا يجدون ولياً ينصرهم ويدفع ذلك عنهم
والصفة العاشرة قوله تعالى يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ قيل سبب تضعيف العذاب في حقهم أنهم كفروا بالله وبالبعث وبالنشور فكفرهم بالمبدأ والمعاد صار سبباً لتضعيف العذاب والأصوب أن يقال إنهم مع ضلالهم الشديد سعوا في الإضلال ومنع الناس عن الدين الحق فلهذا المعنى حصل هذا التضعيف عليهم
الصفة الحادية عشرة قوله مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ والمراد ما هم عليه في الدنيا من صمم القلب وعمى النفس واحتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى قد يخلق في المكلف ما يمنعه الإيمان روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال إنه تعالى منع الكافر من الإيمان في الدنيا والآخرة أما في الدنيا ففي قوله تعالى مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ وأما في الآخرة فهو قوله يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ ( القلم 42 ) وحاصل الكلام في هذا الاستدلال أنه تعالى أخبر عنهم أنهم لا يستطيعون السمع فإما أن يكون المراد أنهم ما كانوا يستطيعون سمع الأصوات والحروف وإما أن يكون المراد كونهم عاجزين عن الوقوف على دلائل الله تعالى والقول الأول باطل لأن البديهة دلت على أنهم كانوا يسمعون الأصوات والحروف وجب حمل اللفظ على الثاني أجاب الجبائي عنه بأن السمع إما أن يكون عبارة عن الحاسة المخصوصة أو عن معنى يخلقه الله تعالى في صماخ الأذن وكلاهما لا يقدر العبد عليه لأنه لو اجتهد في أن يفعل ذلك أو يتركه لتعذر عليه وإذا ثبت هذا كان إثبات الاستطاعة فيه محالاً وإذا كان إثباتها محالاً كان نفي الاستطاعة عنه هو الحق فثبت أن ظاهر الآية لا يقدح في قولنا ثم قال المراد بقوله مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ إهمالهم له ونفورهم عنه كما يقول القائل هذا كلام لا أستطيع أن أسمعه وهذا مما يمجه سمعي وذكر غير الجبائي عذراً آخر فقال إنه تعالى نفى أن يكون لهم أولياء والمراد الأصنام ثم بين نفي كونهم أولياء بقوله مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ فكيف يصلحون للولاية

والجواب أما حمل الآية على أنه لا قدرة لهم على خلق الحاسة وعلى خلق المعنى فيها فباطل لأن هذه الآية وردت في معرض الوعيد فلا بد وأن يكون ذلك معنى مختصاً بهم والمعنى الذي قالوه حاصل في الملائكة والأنبياء فكيف يمكن حمل اللفظ عليه وأما قوله إن ذلك محمول على أنهم كانوا يستثقلون سماع كلام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وإبصار صورته
فالجواب أنه تعالى نفى الاستطاعة فحمله على معنى آخر خلاف الظاهر وأيضاً أن حصول ذلك الاستثقال إما أن يمنع من الفهم والوصول إلى الغرض أو لم يمنع فإن منع فهو المقصود وإن لم يمنع منه فحينئذ كان ذلك سبباً أجنبياً عن المعاني المعتبرة في الفهم والإدراك ولا تختلف أحوال القلب في العلم والمعرفة بسببه فكيف يمكن جعله ذماً لهم في هذا المعرض وأيضاً قد بينا مراراً كثيرة في هذا الكتاب أن حصول الفعل مع قيام الصارف محال فلما بين تعالى كون هذا المعنى صارفاً عن قبول الدين الحق وبين فيه أنه حصل حصولاً على سبيل اللزوم بحيث لا يزول ألبتة في ذلك الوقت كان المكلف في ذلك الوقت ممنوعاً عن الإيمان وحينئذ يحصل المطلوب وأما قوله فإنا نجعل هذه الصفة من صفة الأوثان فبعيد لأنه تعالى قال يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ ثم قال مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ فوجب أن يكون الضمير في هذه الآية المتأخرة عائداً إلى عين ما عاد إليه الضمير المذكور في هذه الآية الأولى وأما قوله وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ فقيل المراد منه البصيرة وقيل المراد منه أنهم عدلوا عن إبصار ما يكون حجة لهم
الصفة الثانية عشرة قوله أُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ ومعناه أنهم اشتروا عبادة الآلهة بعبادة الله تعالى فكان هذا الخسران أعظم وجوه الخسران
الصفة الثالثة عشرة قوله وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ والمعنى أنهم لما باعوا الدين بالدنيا فقد خسروا لأنهم أعطوا الشريف ورضوا بأخذ الخسيس وهذا عين الخسران في الدنيا ثم في الآخرة فهذا الخسيس يضيع ويهلك ولا يبقى منه أثر وهو المراد بقوله وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ
الصفة الرابعة عشرة قوله لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الاْخِرَة ِ هُمُ الاْخْسَرُونَ وتقريره ما تقدم وهو أنه لما أعطى الشريف الرفيع ورضي بالخسيس الوضيع فقد خسر في التجارة ثم لما كان هذا الخسيس بحيث لا يبقى بل لا بد وأن يهلك ويفنى انقلبت تلك التجارة إلى النهاية في صفة الخسارة فلهذا قال لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الاْخِرَة ِ هُمُ الاْخْسَرُونَ وقوله لاَ جَرَمَ قال الفراء إنها بمنزلة قولنا لا بد ولا محالة ثم كثر استعمالها حتى صارت بمنزلة حقاً تقول العرب لا جرم أنك محسن على معنى حقاً إنك محسن وأما النحويون فلهم فيه وجوه الأول لا حرف نفي وجزم أي قطع فإذا قلنا لا جرم معناه أنه لا قطع قاطع عنهم أنهم في الآخرة هم الأخسرون الثاني قال الزجاج إن كلمة لا نفي لما ظنوا أنه ينفعهم و جَرَمَ معناه كسب ذلك الفعل والمعنى لا ينفعهم ذلك وكسب ذلك الفعل لهم الخسران في الدنيا والآخرة وذكرنا جَرَمَ بمعنى كسب في تفسير قوله تعالى لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ عَلَيْهِ قَوْمٌ ( المائدة 2 ) قال الأزهري وهذا من أحسن ما قيل في هذا الباب الثالث قال سيبويه والأخفش لا رد على أهل الكفر كما ذكرنا وجرم معناه حق وصحح والتأويل أنه حق كفرهم وقوع العذاب والخسران بهم واحتج سيبويه بقول الشاعر

ولقد طعنت أبا عيينة طعنة
جرمت فزاة بعدها أن يغضبوا
أراد حقت الطعنة فزارة أن يغضبوا
إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الجَنَّة ِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر عقوبة الكافرين وخسرانهم أتبعه بذكر أحوال المؤمنين والإخبات هو الخشوع والخضوع وهو مأخوذ من الخبت وهو الأرض المطمئنة وخبت ذكره أي خفي فقوله ( أخبت ) أي دخل في الخبت كما يقال فيمن صار إلى نجد أنجد وإلى تهامة أتهم ومنه المخبت من الناس الذي أخبت إلى ربه أي اطمأن إليه ولفظ الإخبات يتعدى بإلى وباللام فإذا قلنا أخبت فلان إلى كذا فمعناه اطمأن إليه وإذا قلنا أخبت له فمعناه خشع له
إذا عرفت هذا فنقول قوله إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ إشارة إلى جميع الأعمال الصالحة وقوله وَأَخْبَتُواْ إشارة إلى أن هذه الأعمال لا تنفع في الآخرة إلا مع الأحوال القلبية ثم إن فسرنا الإخبات بالطمأنينة كان المراد أنهم يعبدون الله وكانت قلوبهم عند أداء العبادات مطمئنة بذكر الله فارغة عن الالتفات إلى ما سوى الله تعالى أو يقال إنما قلوبهم صارت مطمئنة إلى صدق الله بكل ما وعدهم من الثواب والعقاب وأما إن فسرنا الإخبات بالخشوع كان معناه أنهم يأتون بالأعمال الصالحة خائفين وجلين من أن يكونوا أتوا بها مع وجود الإخلال والتقصير ثم بين أن من حصل له هذه الصفات الثلاثة فهم أصحاب الجنة ويحصل لهم الخلود في الجنة
مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالاٌّ عْمَى وَالاٌّ صَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ
واعلم أنه تعالى لما ذكر الفريقين ذكر فيهما مثالاً مطابقاً ثم اختلفوا فقيل إنه راجع إلى من ذكر آخراً من المؤمنين والكافرين من قبل وقال آخرون بل رجع إلى قوله أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيّنَة ٍ مّن رَّبّهِ ( هود 17 ) ثم ذكر من بعده الكافرين ووصفهم بأنهم لا يستطيعون السمع ولا يبصرون والسميع والبصير هم الذين وصفهم الله بأنهم على بينة من ربهم
واعلم أن وجه التشبيه هو أنه سبحانه خلق الإنسان مركباً من الجسد ومن النفس وكما أن للجسد بصراً وسمعاً فكذلك حصل لجوهر الروح سمع وبصر وكما أن الجسد إذا كان أعمى أصم بقي متحيراً ل

ا يهتدي إلى شيء من المصالح بل يكون كالتائه في حضيض الظلمات لا يبصر نوراً يهتدي به ولا يسمع صوتاً فكذلك الجاهل الضال المضل يكون أعمى وأصم القلب فيبقى في ظلمات الضلالات حائراً تائهاً
ثم قال تعالى أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ منبهاً على أنه يمكنه علاج هذا العمى وهذا الصمم وإذا كان العلاج ممكناً من الضرر الحاصل بسبب حصول هذا العمى وهذا الصمم وجب على العاقل أن يسعى في ذلك العلاج بقدر الإمكان
واعلم أنه قد جرت العادة بأنه تعالى إذا ورد على الكافر أنواع الدلائل أتبعها بالقصص ليصير ذكرها مؤكداً لتلك الدلائل على ما قررنا هذا المعنى في مواضع كثيرة وفي هذه السورة ذكر أنواعاً من القصص
القصة الأولى
قصة نوح عليه السلام
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَن لاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ
اعلم أنه تعالى قد بدأ بذكر هذه القصة في سورة يونس وقد أعادها في هذه السورة أيضاً لما فيها من زوائد الفوائد وبدائع الحكم وفيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي إِنّى بفتح الهمزة والمعنى أرسلنا نوحاً بأني لكم نذير مبين ومعناه أرسلناه ملتبساً بهذا الكلام وهو قوله إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ فلما اتصل به حرف الجر وهو الباء فتح كما فتح في كان وأما سائر القراء فقرؤا إِنّى بالكسر على معنى قال إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ
المسألة الثانية قال بعضهم المراد من النذير كونه مهدداً للعصاة بالعقاب ومن المبين كونه مبيناً ما أعد الله للمطيعين من الثواب والأولى أن يكون المعنى أنه نذير للعصاة من العقاب وأنه مبين بمعنى أنه بين ذلك الإنذار على الطريق الأكمل والبيان الأقوى الأظهر ثم بين تعالى أن ذلك الإنذار إنما حصل في النهي عن عبادة غير الله وفي الأمر بعبادة الله لأن قوله أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ استثناء من النفي وهو يوجب نفي غير المستثنى
واعلم أن تقدير الآية كأنه تعالى قال ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه بهذا الكلام وهو قوله إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ
ثم قال أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ فقوله أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ بدل من قوله إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ ثم إنه أكد ذلك بقوله إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ والمعنى أنه لما حصل الألم العظيم في ذلك اليوم أسند

ذلك الألم إلى اليوم كقولهم نهارك صائم وليلك قائم
فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِى َ الرَّأْى وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ
اعلم أنه تعالى لما حكى عن نوح عليه السلام أنه دعا قومه إلى عبادة الله تعالى حكى عنهم أنهم طعنوا في نبوته بثلاثة أنوع من الشبهات
فالشبهة الأولى أنه بشر مثلهم والتفاوت الحاصل بين آحاد البشر يمتنع انتهاؤه إلى حيث يصير الواحد منهم واجب الطاعة لجميع العالمين
والشبهة الثانية كونه ما أتبعه إلا أراذل من القوم كالحياكة وأهل الصنائع الخسيسة قالوا ولو كنت صادقاً لاتبعك الأكياس من الناس والأشراف منهم ونظيره قوله تعالى في سورة الشعراء أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الاْرْذَلُونَ ( الشعراء 111 )
والشبهة الثالثة قوله تعالى وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ والمعنى لا نرى لكم علينا من فضل لا في العقل ولا في رعاية المصالح العاجلة ولا في قوة الجدل فإذا لم نشاهد فضلك علينا في شيء من هذه الأحوال الظاهرة فكيف نعترف بفضلك علينا في أشرف الدرجات وأعلى المقامات فهذا خلاصة الكلام في تقرير هذه الشبهات
واعلم أن الشبهة الأولى لا تليق إلا بالبراهمة الذين ينكرون نبوة البشر على الإطلاق أما الشبهتان الباقيتان فيمكن أن يتمسك بهما من أقر بنبوة سائر الأنبياء وفي لفظ الآية مسائل
المسألة الأولى الملأ الأشراف وفي اشتقاقه وجوه الأول أنه مأخوذ من قولهم مليء بكذا إذا كان مطيقاً له وقد ملؤا بالأمر والسبب في إطلاق هذا اللفظ عليهم أنهم ملؤا بترتيب المهمات وأحسنوا في تدبيرها الثاني أنهم وصفوا بذلك لأنهم يتمالؤون أي يتظاهرون عليه الثالث وصفوا بذلك لأنهم يملؤون القلوب هيبة والمجالس أبهة الرابع وصفوا به لأنهم ملؤوا العقول الراجحة والآراء الصائبة
ثم حكى الله تعالى عنهم الشبهة الأولى وهي قولهم مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مّثْلَنَا وهو مثل ما حكى الله تعالى عن بعض العرب أنهم قالوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ( الأنعام 8 ) وهذا جهل لأن من حق الرسول أن يباشر الأمة بالدليل والبرهان والتثبت والحجة لا بالصورة والخلقة بل نقول إن الله تعالى لو بعث إلى البشر ملكاً لكانت الشبهة أقوى في الطعن عليه في رسالته لأنه يخطر بالبال أن هذه المعجزات التي ظهرت لعل هذا الملك هو الذي أتى بها من عند نفسه بسبب أن قوته أكمل وقدرته أقوى فلهذه الحكمة ما بعث الله إلى البشر رسولاً إلا من البشر

ثم حكى الشبهة الثانية وهي قوله وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِى َ الرَّأْى والمراد منه قلة ما لهم وقلة جاههم ودناءة حرفهم وصناعتهم هذا أيضاً جهل لأن الرفعة في الدين لا تكون بالحسب والمال والمناصب العالية بل الفقر أهون على الدين من الغنى بل نقول الأنبياء ما بعثوا إلا لترك الدنيا والإقبال على الآخرة فكيف تجعل قلة المال في الدنيا طعناً في النبوة والرسالة
ثم حكى الله تعالى الشبهة الثالثة وهي قوله وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ وهذا أيضاً جهل لأن الفضيلة المعتبرة عند الله ليست إلا بالعلم والعمل فكيف اطلعوا على بواطن الخلق حتى عرفوا نفي هذه الفضيلة ثم قالوا بعد ذكر هذه الشبهات لنوح عليه السلام ومن اتبعه بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ وفيه وجهان الأول أن يكون هذا خطاباً مع نوح ومع قومه والمراد منه تكذيب نوح في دعوى الرسالة والثاني أن يكون هذا خطاباً مع الأراذل فنسبوهم إلى أنهم كذبوا في أن آمنوا به واتبعوه
المسألة الثانية قال الواحدي الأرذل جمع رذل وهو الدون من كل شيء في منظره وحالاته ورجل رذل الثياب والفعل والأراذل جمع الأرذل كقولهم أكابر مجرميها وقوله عليه الصلاة والسلام ( أحاسنكم أخلاقاً ) فعلى هذا الأراذل جمع الجمع وقال بعضهم الأصل فيه أن يقال هو أرذل من كذا ثم كثر حتى قالوا هو الأرذل فصارت الألف واللام عوضاً عن الإضافة وقوله بَادِى َ الرَّأْى البادي هو الظاهر من قولك بدا الشيء إذا ظهر ومنه يقال بادية لظهورها وبروزها للناظر واختلفوا في بادي الرأي وذكروا فيه وجوهاً الأول اتبعوك في الظاهر وباطنهم بخلافه والثاني يجوز أن يكون المراد اتبعوك في ابتداء حدوث الرأي وما احتاطوا في ذلك الرأي وما أعطوه حقه من الفكر الصائب والتدبر الوافي الثالث أنهم لما وصفوا القوم بالرذالة قالوا كونهم كذلك بادي الرأي أمر ظاهر لكل من يراهم والرأي على هذا المعنى من رأي العين لا من رأي القلب ويتأكد هذا التأويل بما نقل عن مجاهد أنه كان يقرأ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِى َ رَأْى َ الْعَيْنِ
المسألة الثالثة قرأ أبو عمرو ونصير عن الكسائي بادىء بالهمزة والباقون بالياء غير مهموز فمن قرأ بادىء بالهمزة فالمعنى أول الرأي وابتداؤه ومن قرأ بالياء غير مهموز كان من بدا يبدو أي ظهر و أَرَاذِلُنَا بَادِى َ نصب على المصدر كقولك ضربت أول الضرب
قَالَ ياقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَة ٍ مِّن رَّبِّى وَءاتَانِى رَحْمَة ً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما حكى شبهات منكري نبوة نوح عليه الصلاة والسلام حكى بعده ما يكون جواباً عن تلك الشبهات

فالشبهة الأولى قولهم مَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا فقال نوح حصول المساواة في البشرية لا يمنع من حصول المفارقة في صفة النبوة والرسالة ثم ذكر الطريق الدال على إمكانه فقال أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيّنَة ٍ مّن رَّبّى من معرفة ذات الله وصفاته وما يجب وما يمتنع وما يجوز عليه ثم إنه تعالى أتاني رحمة من عنده والمراد بتلك الرحمة إما النبوة وإما المعجزة الدالة على النبوة فَعُمّيَتْ عَلَيْكُمْ أي صارت مظنة مشتبهة ملتبسة في عقولكم فهل أقدر على أن أجعلكم بحيث تصلون إلى معرفتها شئتم أم أبيتم والمراد أني لا أقدر على ذلك ألبتة وعن قتادة والله لو استطاع نبي الله لألزمها ولكنه لم يقدر عليه وحاصل الكلام أنهم لما قالوا وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ ( هود 27 ) ذكر نوح عليه السلام أن ذلك بسبب أن الحجة عميت عليكم واشتبهت فأما لو تركتم العناد واللجاج ونظرتم في الدليل لظهر المقصود وتبين أن الله تعالى آتانا عليكم فضلاً عظيماً
المسألة الثانية قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم فَعُمّيَتْ عَلَيْكُمْ بضم العين وتشديد الميم على ما لم يسم فاعله بمعنى ألبست وشبهت والباقون بفتح العين مخففة الميم أي التبست واشتبهت
واعلم أن الشيء إذا بقي مجهولاً محضاً أشبه المعمي لأن العلم نور البصيرة الباطنة والأبصار نور البصر الظاهر فحسن جعل كل واحد منها مجازاً عن الآخر وتحقيقه أن البينة توصف بالأبصار قال تعالى فَلَمَّا جَاءتْهُمْ ءايَاتُنَا مُبْصِرَة ً ( النمل 13 ) وكذلك توصف بالعمى قال تعالى فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الاْنبَاء ( القصص 66 ) وقال في هذه الآية فَعُمّيَتْ عَلَيْكُمْ
المسألة الثالثة أَنُلْزِمُكُمُوهَا فيه ثلاث مضمرات ضمير المتكلم وضمير الغائب وضمير المخاطب وأجاز الفراء إسكان الميم الأولى وروي ذلك عن أبي عمرو قال وذلك أن الحركات توالت فسكنت الميم وهي أيضاً مرفوعة وقبلها كسرة والحركة التي بعدها ضمة ثقيلة قال الزجاج جميع النحوين البصريين لا يجيزون إسكان حرف الإعراب إلا في ضرورة الشعر وما يروى عن أبي عمرو فلم يضبطه عنه الفراء وروي عن سيبويه أنه كان يخفف الحركة ويختلسها وهذا هو الحق وإنما يجوز الإسكان في الشعر كقول امرىء القيس فاليوم أشرب غير مستحقب
وَياقَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِى َ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ ءامَنُوا إِنَّهُمْ مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَلَاكِنِّى أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ وَياقَوْمِ مَن يَنصُرُنِى مِنَ اللَّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّى مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِى أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِى أَنفُسِهِمْ إِنِّى إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ

في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن هذا هو الجواب عن الشبهة الثانية وهي قولهم لا يتبعك إلا الأراذل من الناس وتقرير هذا الجواب من وجوه
الوجه الأول أنه عليه الصلاة والسلام قال ( أنا لا أطلب على تبليغ دعوة الرسالة مالاً حتى يتفاوت الحال بسبب كون المستجيب فقيراً أو غنياً وإنما أجري على هذه الطاعة الشاقة على رب العالمين ) وإذا كان الأمر كذلك فسواء كانوا فقراء أو أغنياء لم يتفاوت الحال في ذلك
الوجه الثاني كأنه عليه الصلاة والسلام قال لهم إنكم لما نظرتم إلى ظواهر الأمور وجدتموني فقيراً وظننتم أني إنما اشتغلت بهذه الحرفة لأتوسل بها إلى أخذ أموالكم وهذا الظن منكم خطأ فإني لا أسئلكم على تبليغ الرسالة أجراً إن أجري إلا على رب العالمين فلا تحرموا أنفسكم من سعادة الدين بسبب هذا الظن الفاسد
والوجه الثالث في تقرير هذا الجواب أنهم قالوا مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مّثْلَنَا إلى قوله وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ ( هود 27 ) فهو عليه السلام بين أنه تعالى أعطاه أنواعاً كثيرة توجب فضله عليهم ولذلك لم يسع في طلب الدنيا وإنما يسعى في طلب الدين والإعراض عن الدنيا من أمهات الفضائل باتفاق الكل فلعل المراد تقرير حصول الفضيلة من هذا الوجه
فأما قوله وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ ءامَنُواْ فهذا كالدليل على أن القوم سألوه طردهم رفعاً لأنفسهم عن مشاركة أولئك الفقراء روى ابن جريج أنهم قالوا إن أحببت يا نوح أن نتبعك فاطردهم فإنا لا نرضى بمشاركتهم فقال عليه الصلاة والسلام وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ ءامَنُواْ وقوله تعالى حكاية عنهم أنهم قالوا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِى َ الرَّأْى ( هود 27 ) كالدليل على أنهم طلبوا منه طردهم لأنه كالدليل على أنهم كانوا يقولون لو اتبعك أشراف القوم لوافقناهم ثم إنه تعالى حكى عنه أنه ما طردهم وذكر في بيان ما يوجب الامتناع من هذا الطرد أموراً الأول أنهم ملاقو ربهم وهذا الكلام يحتمل وجوهاً منها أنهم قالوا هم منافقون فيما أظهروا فلا تغتر بهم فأجاب بأن هذا الأمر ينكشف عند لقاء ربهم في الآخرة ومنها أنه جعله علة في الامتناع من الطرد وأراد أنهم ملاقوا ما وعدهم ربهم فإن طردتهم استخصموني في الآخرة ومنها أنه نبه بذلك الأمر على أنا نجتمع في الآخرة فأعاقب على طردهم فلا أجد من ينصرني ثم بين أنهم يبنون أمرهم على الجهل بالعواقب والاغترار بالظواهر فقال وَلَاكِنّى أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ
ثم قال بعده تَجْهَلُونَ وَياقَوْمِ مَن يَنصُرُنِى مِنَ اللَّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ والمعنى أن العقل والشرع تطابقا على أنه لا بد من تعظيم المؤمن البر التقي ومن إهانة الفاجر الكافر فلو قلبت القصة وعكست القضية وقربت الكافر الفاجر على سبيل التعظيم وطردت المؤمن التقي على سبيل الإهانة كنت على ضد

أمر الله تعالى وعلى عكس حكمه وكنت في هذا الحكم على ضد ما أمر الله تعالى من إيصال الثواب إلى المحقين والعقاب إلى المبطلين وحينئذ أصير مستوجباً للعقاب العظيم فمن ذا الذي ينصرني من الله تعالى ومن الذي يخلصني من عذاب الله أفلا تذكرون فتعلمون أن ذلك لا يصح ثم أكد هذا البيان بوجه ثالث فقال وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ اللَّهِ أي كما لا أسألكم فكذلك لا أدعي أني أملك مالاً ولا لي غرض في المال لا أخذاً ولا دفعاً ولا أعلم الغيب حتى أصل به إلى ما أريد لنفسي ولا أتباعي ولا أقول إني ملك حتى أتعظم بذلك عليكم بل طريقي الخضوع والتواضع ومن كان هذا شأنه وطريقه فإنه لا يستنكف عن مخالطة الفقراء والمساكين ولا يطلب مجالسة الأمراء والسلاطين وإنما شأنه طلب الدين وسيرته مخالطة الخاضعين والخاشعين فلما كانت طريقتي توجب مخالطة الفقراء فكيف جعلتم ذلك عيباً علي ثم إنه أكد هذا البيان بطريق رابع فقال وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِى أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِى أَنفُسِهِمْ وهذا كالدلالة على أنهم كانوا ينسبون أتباعه مع الفقر والذلة إلى النفاق فقال إني لا أقول ذلك لأنه من باب الغيب والغيب لا يعلمه إلا الله فربما كان باطنهم كظاهرهم فيؤتيهم الله ملك الآخرة فأكون كاذباً فيما أخبرت به فإني إن فعلت ذلك كنت من الظالمين لنفسي ومن الظالمين لهم في وصفهم بأنهم لا خير لهم مع أن الله تعالى آتاهم الخير في الآخرة
المسألة الثانية احتج قوم بهذه الآية على تفضيل الملائكة على الأنبياء وقالوا إن الإنسان إذا قال أنا لا أدعي كذا وكذا فهذا إنما يحسن إذا كان ذلك الشيء أشرف من أحوال ذلك القائل فلما كان قائل هذا القول هو نوح عليه السلام وجب أن تكون درجة الملائكة أعلى وأشرف من درجات الأنبياء ثم قالوا وكيف لا يكون الأمر كذلك والملائكة داوموا على عبادة الله تعالى طول الدنيا مذ خلقوا إلى أن تقوم الساعة وتمام التقرير أن الفضائل الحقيقية الروحانية ليست إلا ثلاثة أشياء أولها الاستغناء المطلق وجرت العادة في الدنيا أن من ملك المال الكثير فإنه يوصف بكونه غنياً فقوله وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ اللَّهِ إشارة إلى أني لا أدعي الاستغناء المطلق وثانيها العلم التام وإليه الإشارة بقوله وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وثالثها القدرة التامة الكاملة وقد تقرر في الخواطر أن أكمل المخلوقات في القدرة والقوة هم الملائكة وإليه الإشارة بقوله وَلا أَقُولُ إِنّى مَلَكٌ والمقصود من ذكر هذه الأمور الثلاثة بيان أن ما حصل عندي من هذه المراتب الثلاثة إلا ما يليق بالقوة البشرية والطاقة الإنسانية فأما الكمال المطلق فأنا لا أدعيه وإذا كان الأمر كذلك فقد ظهر أن قوله وَلا أَقُولُ إِنّى مَلَكٌ يدل على أنهم أكمل من البشر وأيضاً يمكن جعل هذا الكلام جواباً عما ذكروه من الشبهة فإنهم طعنوا في أتباعه بالفقر فقال وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ اللَّهِ حتى أجعلهم أغنياء وطعنوا فيهم أيضاً بأنهم منافقون فقال وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ حتى أعرف كيفية باطنهم وإنما أُجري الأحوال على الظواهر وطعنوا فيهم بأنهم قد يأتون بأفعال لا كما ينبغي فقال وَلا أَقُولُ إِنّى مَلَكٌ حتى أكون مبرأ عن جميع الدواعي الشهوانية والبواعث النفسانية
المسألة الثالثة احتج قوم بهذه الآية على صدور الذنب من الأنبياء فقالوا إن هذه الآية دلت على أن طرد المؤمنين لطلب مرضاة الكفار من أصول المعاصي ثم إن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) طرد فقراء المؤمنين لطلب مرضاة الكفار حتى عاتبه الله تعالى في قوله وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاة ِ وَالْعَشِى ّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ( الأنعام 52 )

وذلك يدل على إقدام محمد ( صلى الله عليه وسلم ) على الذنب
والجواب يحمل الطرد المذكور في هذه الآية على الطرد المطلق على سبيل التأبيد والطرد المذكور في واقعة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) على التقليل في أوقات معينة لرعاية المصالح
المسألة الرابعة احتج الجبائي على أنه لا تجوز الشفاعة عند الله في دفع العقاب بقول نوح عليه السلام مَن يَنصُرُنِى مِنَ اللَّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ معناه إن كان هذا الطرد محرماً فمن ذا الذي ينصرني من الله أي من الذي يخلصني من عقابه ولو كانت الشفاعة جائزة لكانت في حق نوح عليه السلام أيضاً جائزة وحينئذ يبطل قوله مَن يَنصُرُنِى مِنَ اللَّهِ واعلم أن هذا الاستدلال يشبه استدلالهم في هذه المسألة بقوله تعالى وَاتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا إلى قوله وَلاَ يُنصَرُونَ ( البقرة 48 ) والجواب المذكور هناك هو الجواب عن هذا الكلام
قَالُواْ يانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِن شَآءَ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن الكفار لما أوردوا تلك الشبهة
وأجاب نوح عليه السلام عنها بالجوابات الموافقة الصحيحة أورد الكفار على نوح كلامين الأول أنهم وصفوه بكثرة المجادلة فقالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا وهذا يدل على أنه عليه السلام كان قد أكثر في الجدال معهم وذلك الجدال ما كان إلا في إثبات التوحيد والنبوة والمعاد وهذا يدل على أن الجدال في تقرير الدلائل وفي إزالة الشبهات حرفة الأنبياء وعلى أن التقليد والجهل والإصرار على الباطل حرفة الكفار والثاني أنهم استعجلوا العذاب الذي كان يتوعدهم به فقالوا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ثم إنه عليه السلام أجاب عنه بجواب صحيح فقال إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِن شَاء وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ والمعنى أن إنزال العذاب ليس إلي وإنما هو خلق الله تعالى فيفعله إن شاء كما شاء وإذا أراد إنزال العذاب فإن أحداً لا يعجزه أي لا يمنعه منه والمعجز هو الذي يفعل ما عنده لتعذر مراد الغير فيوصف بأنه أعجزه فقوله وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ أي لا سبيل لكم إلى فعل ما عنده فلا يمتنع على الله تعالى ما يشاء من العذاب إن أراد إنزاله بكم وقد قيل معناه وما أنتم بمانعين وقيل وما أنتم بمصونين وقيل وما أنتم بسابقين إلى الخلاص وهذه الأقوال متقاربة

واعلم أن نوحاً عليه السلام لما أجاب عن شبهاتهم ختم الكلام بخاتمة قاطعة فقال وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ أي إن كان الله يريد أن يغويكم فإنه لا ينفعكم نصحي ألبتة واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن الله تعالى قد يريد الكفر من العبد وأنه إذا أراد منه ذلك فإنه يمتنع صدور الإيمان منه قالوا إن نوحاً عليه السلام قال وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ والتقدير لا ينفعكم نصحي إن كان الله يريد أن يغويكم ويضلكم وهذا صريح في مذهبنا أما المعتزلة فإنهم قالوا ظاهر الآية يدل على أن الله تعالى إن أراد إغواء القوم لم ينتفعوا بنصح الرسول وهذا مسلم فإنا نعرف أن الله تعالى لو أراد إغواء عبد فإنه لا ينفعه نصح الناصحين لكن لم قلتم إنه تعالى أراد هذا الإغواء فإن النزاع ما وقع إلا فيه بل نقول إن نوحاً عليه السلام إنما ذكر هذا الكلام ليدل على أنه تعالى ما أغواهم بل فوض الاختيار إليهم وبيانه من وجهين الأول أنه عليه السلام بين أنه تعالى لو أراد إغوائهم لما بقي في النصح فائدة فلو لم يكن فيه فائدة لما أمره بأن ينصح الكفار وأجمع المسلمون على أنه عليه السلام مأمور بدعوة الكفار ونصيحتهم فعلمنا أن هذا النصح غير خال عن الفائدة وإذا لم يكن خالياً عن الفائدة وجب القطع بأنه تعالى ما أغواهم فهذا صار حجة لنا من هذا الوجه الثاني أنه لو ثبت الحكم عليهم بأن الله تعالى أغواهم لصار هذا عذراً لهم في عدم إتيانهم بالإيمان ولصار نوح منقطعاً في مناظرتهم لأنهم يقولون له إنك سلمت أن الله أغوانا فإنه لا يبقى في نصحك ولا في جدنا واجتهادنا فائدة فإذا ادعيت بأن الله تعالى قد أغوانا فقد جعلتنا معذورين فلم يلزمنا قبول هذه الدعوة فثبت أن الأمر لو كان كما قاله الخصم لصار هذا حجة للكفار على نوح عليه السلام ومعلوم أن نوحاً عليه السلام لا يجوز أن يذكر كلاماً يصير بسببه مفحماً ملزماً عاجزاً عن تقرير حجة الله تعالى فثبت بما ذكرنا أن هذه الآية لا تدل على قول المجبرة ثم إنهم ذكروا وجوهاً من التأويلات الأول أولئك الكفار كانوا مجبرة وكانوا يقولون إن كفرهم بإرادة الله تعالى فعند هذا قال نوح عليه السلام إن نصحه لا ينفعهم إن كان الأمر كما قالوا ومثاله أن يعاقب الرجل ولده على ذنبه فيقول الولد لا أقدر على غير ما أنا عليه فيقول الوالد فلن ينفعك إذاً نصحي ولا زجري وليس المراد أنه يصدقه على ما ذكره بل على وجه الإنكار لذلك الثاني قال الحسن معنى يُغْوِيَكُمْ أي يعذبكم والمعنى لا ينفعكم نصحي اليوم إذا نزل بكم العذاب فآمنتم في ذلك الوقت لأن الإيمان عند نزول العذاب لا يقبل وإنما ينفعكم نصحي إذا آمنتم قبل مشاهدة العذاب الثالث قال الجبائي الغواية هي الخيبة من الطلب بدليل قوله تعالى فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً ( مريم 59 ) أي خيبة من خير الآخرة قال الشاعر ومن يغو لا يعدم على الغي لائماً
الرابع أنه إذا أصر على الكفر وتمادى فيه منعه الله تعالى الألطاف وفوضه إلى نفسه فهذا شبيه ما إذا أراد إغواءه فلهذا السبب حسن أن يقال إن الله تعالى أغواه هذا جملة كلمات المعتزلة في هذا الباب والجواب عن أمثال هذه الكلمات قد ذكرناه مراراً وأطواراً فلا فائدة في الإعادة
المسألة الثانية قوله وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ جزاء معلق على شرط بعده شرط آخر وهذا يقتضي أن يكون الشرط المؤخر في اللفظ مقدماً في الوجود وذلك

لأن الرجل إذا قال لامرأته أنت طالق إن دخلت الدار كان المفهوم كون ذلك الطلاق من لوازم ذلك الدخول فإذا ذكر بعده شرطاً آخر مثل أن يقول إن أكلت الخبز كان المعنى أن تعلق ذلك الجزاء بذلك الشرط الأول مشروط بحصول هذا الشرط الثاني والشرط مقدم على المشروط في الوجود فعلى هذا إن حصل الشرط الثاني تعلق ذلك الجزاء بذلك الشرط الأول إما إن لم يوجد الشرط المذكور ثانياً لم يتعلق ذلك الجزاء بذلك الشرط الأول هذا هو التحقيق في هذا التركيب فلهذا المعنى قال الفقهاء إن الشرط المؤخر في اللفظ مقدم في المعنى والمقدم في اللفظ مؤخر في المعنى
واعلم أن نوحاً عليه السلام لما قرر هذه المعاني قال هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وهذا نهاية الوعيد أي هو إلهكم الذي خلقكم ورباكم ويملك التصرف في ذواتكم وفي صفاتكم قبل الموت وعند الموت وبعد الموت مرجعكم إليه وهذا يفيد نهاية التحذير
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَى َّ إِجْرَامِى وَأَنَاْ بَرِى ءٌ مِّمَّا تُجْرَمُونَ
اعلم أن معنى افتراه اختلقه وافتعله وجاء به من عند نفسه والهاء ترجع إلى الوحي الذي بلغه إليهم وقوله فَعَلَى َّ إِجْرَامِى الإجرام اقتراح المحظورات واكتسابها وهذا من باب حذف المضاف لأن المعنى فعليَّ عقاب إجرامي وفي الآية محذوف آخر وهو أن المعنى إن كنت افتريته فعليَّ عقاب جرمي وإن كنت صادقاً وكذبتموني فعليكم عقاب ذلك التكذيب إلا أنه حذف هذه البقية لدلالة الكلام عليه كقوله أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء الَّيْلِ ( الزمر 9 ) ولم يذكر البقية وقوله وَأَنَاْ بَرِىء مّمَّا تُجْرَمُونَ أي أنا بريء من عقاب جرمكم وأكثر المفسرين على أن هذا من بقية كلام نوح عليه السلام وهذه الآية وقعت في قصة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في أثناء حكاية نوح وقولهم بعيد جداً وأيضاً قوله قُلْ إِنْ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَى َّ إِجْرَامِى لا يدل على أنه كان شاكاً إلا أنه قول يقال على وجه الإنكار عند اليأس من القبول
وَأُوحِى َ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ ءَامَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ
فيه مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس رضي الله عنهما لما جاء هذا من عند الله تعالى دعا على قومه فقال رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الاْرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً ( نوح 26 ) وقوله فَلاَ تَبْتَئِسْ أي لا تحزن قال أبو زيد ابتأس الرجل إذا بلغه شيء يكرهه وأنشد أبو عبيدة ما يقسم الله أقبل غير مبتئس
به وأقعد كريماً ناعم البال
أي غير حزين ولا كاره
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية على صحة قولهم في القضاء والقدر وقالوا إنه تعالى أخبر

عن قومه أنهم لا يؤمنون بعد ذلك فلو حصل إيمانهم لكان إما مع بقاء هذا الخبر صدقاً ومع بقاء هذا العلم علماً أو مع انقلاب هذا الخبر كذباً ومع انقلاب هذا العلم جهلاً والأول ظاهر البطلان لأن وجود الإيمان مع أن يكون الإخبار عن عدم الإيمان صدقاً ومع كون العلم بعدم الإيمان حاصلاً حال وجود الإيمان جمع بين النقيضين والثاني أيضاً باطل لأن انقلاب خبر الله كذباً وعلم الله جهلاً محال ولما كان صدور الإيمان منهم لا بد وأن يكون على هذين القسمين وثبت أن كل واحد منهما محال كان صدور الإيمان منهم محالاً مع أنهم كانوا مأمورين به وأيضاً القوم كانوا مأمورين بالإيمان ومن الإيمان تصديق الله تعالى في كل ما أخبر عنه ومنه قوله وَأُوحِى َ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ ( هود 36 ) فيلزم أن يقال إنهم كانوا مأمورين بأن يؤمنوا بأنهم لا يؤمنون ألبتة وذلك تكليف الجمع بين النقيضين وتقرير هذا الكلام قد مر في هذا الكتاب مراراً وأطواراً
المسألة الثالثة اختلف المعتزلة في أنه هل يجوز أن ينزل الله تعالى عذاب الاستئصال على قوم كان في المعلوم أن فيهم من يؤمن أو كان في أولادهم من يؤمن فقال قوم إنه لا يجوز واحتجوا بما حكى الله تعالى عن نوح عليه السلام أنه قال رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الاْرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً ( نوح 26 27 ) وهذا يدل على أنه إنما حسن منه تعالى إنزال عذاب الاستئصال عليهم لأجل أنه تعالى علم أنه ليس من يؤمن ولا في أولادهم أحد يؤمن قال القاضي وقال كثير من علمائنا إن ذلك من الله تعالى جائز وإن كان منهم من يؤمن وأما قول نوح عليه السلام رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الاْرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً فذلك يدل على أنه إنما سأل ذلك من حيث إنه كان في المعلوم أنهم يضلون عباده ولايلدون إلا فاجراً كفاراً وذلك يدل على أن ذلك الحكم كان قولاً بمجموع هاتين العلتين وأيضاً فلا دليل فيه على أنهما لو لم يحصلا لما جاز إنزال الإهلاك والأقرب أن يقال إن نوحاً عليه السلام لشدة محبته لإيمانهم كان سأل ربه أن يبقيهم فأعلمه أنه لا يؤمن منهم أحد ليزول عن قلبه ما كان قد حصل فيه من تلك المحبة ولذلك قال تعالى من بعد فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ أي لا تحزن من ذلك ولا تغتم ولا تظن أن في ذلك مذلة فإن الدين عزيز وإن قل عدد من يتمسك به والباطل ذليل وإن كثر عدد من يقول به
وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِى فِى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ
بم قوله تعالى
وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِى فِى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ
واعلم أن قوله تعالى أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ ءامَنَ يقتضي تعريف نوح عليه السلام أنه معذبهم ومهلكهم فكان يحتمل أن يعذبهم بوجوه التعذيب فعرفه الله تعالى أنه يعذبهم بهذا الجنس الذي هو الغرق ولما كان السبيل الذي به يحصل النجاة من الغرق تكوين السفينة لا جرم أمر الله تعالى بإصلاح السفينة وإعدادها فأوحى الله تعالى إليه أن يصنعها على مثال جوجؤ الطائر
فإن قيل قوله تعالى وَاصْنَعِ الْفُلْكَ أمر إيجاب أو أمر إباحة

قلنا الأظهر أنه أمر إيجاب لأنه لا سبيل له إلى صون روح نفسه وأرواح غيره عن الهلاك إلا بهذا الطريق وصون النفس عن الهلاك واجب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ويحتمل أن لا يكون ذلك الأمر أمر إيجاب بل كان أمر إباحة وهو بمنزلة أن يتخذ الإنسان لنفسه داراً ليسكنها ويقيم بها
أما قوله بِأَعْيُنِنَا فهذا لا يمكن أجراؤه على ظاهره من وجوه أحدها أنه يقتضي أن يكون لله تعالى أعين كثيرة وهذا يناقض ظاهر قوله تعالى وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِى وثانيها أنه يقتضي أن يصنع نوح عليه السلام ذلك الفلك بتلك الأعين كما يقال قطعت بالسكين وكتبت بالقلم ومعلوم أن ذلك باطل وثالثها أنه ثبت بالدلائل القطعية العقلية كونه تعالى منزهاً عن الأعضاء والجوارح والأجزاء والأبعاض فوجب المصير فيه إلى التأويل وهو من وجوه الأول أن معنى بِأَعْيُنِنَا أي بعين الملك الذي كان يعرفه كيف يتخذ السفينة يقال فلان عين على فلان نصب عليه ليكون منفحصاً عن أحواله ولا تحول عنه عينه الثاني أن من كان عظيم العناية بالشيء فإنه يضع عينه عليه فلما كان وضع العين على الشيء سبباً لمبالغة الاحتياط والعناية جعل العين كناية عن الاحتياط فلهذا قال المفسرون معناه بحفظنا إياك حفظ من يراك ويملك دفع السوء عنك وحاصل الكلام أن إقدامه على عمل السفينة مشروط بأمرين أحدهما أن لا يمنعه أعداؤه عن ذلك العمل والثاني أن يكون عالماً بأنه كيف ينبغي تأليف السفينة وتركيبها ودفع الشر عنه وقوله وَوَحْيِنَا إشارة إلى أنه تعالى يوحي إليه أنه كيف ينبغي عمل السفينة حتى يحصل منه المطلوب
وأما قوله وَلاَ تُخَاطِبْنِى فِى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُمْ ففيه وجوه الأول يعني لا تطلب مني تأخير العذاب عنهم فإني قد حكمت عليهم بهذا الحكم فلما علم نوح عليه السلام ذلك دعا عليهم بعد ذلك وقال نُوحٌ رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الاْرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً ( نوح 26 ) الثاني وَلاَ تُخَاطِبْنِى في تعجيل ذلك العقاب على الذين ظلموا فإني لما قضيت إنزال ذلك العذاب في وقت معين كان تعجيله ممتنعاً الثالث المراد بالذين ظلموا امرأته وابنه كنعان
وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ
أما قوله تعالى وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ ففيه مسألتان
المسألة الأولى في قوله وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ قولان الأول أنه حكاية حال ماضية أي في ذلك الوقت كان يصدق عليه أنه يصنع الفلك الثاني التقدير وأقبل يصنع الفلك فاقتصر على قوله وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ

المسألة الثانية ذكروا في صفة السفينة أقوالاً كثيرة فأحدها أن نوحاً عليه السلام اتخذ السفينة في سنتين وقيل في أربع سنين وكان طولها ثلثمائة ذراع وعرضها خمسون ذراعاً وطولها في السماء ثلاثون ذراعاً وكانت من خشب الساج وجعل لها ثلاث بطون فحمل في البطن الأسفل الوحوش والسباع والهوام وفي البطن الأوسط الدواب والأنعام وفي البطن الأعلى جلس هو ومن كان معه مع ما احتاجوا إليه من الزاد وحمل معه جسد آدم عليه السلام وثانيها قال الحسن كان طولها ألفاً ومائتي ذراع وعرضها ستمائة ذراع
واعلم أن أمثال هذه المباحث لا تعجبني لأنها أمور لا حاجة إلى معرفتها ألبتة ولا يتعلق بمعرفتها فائدة أصلاً وكان الخوض فيها من باب الفضول لا سيما مع القطع بأنه ليس ههنا ما يدل على الجانب الصحيح والذي نعلمه إنه كان في السعة بحيث يتسع للمؤمنين من قومه ولما يحتاجون إليه ولحصول زوجين من كل حيوان لأن هذا القدر مذكور في القرآن فأما غير ذلك القدر فغير مذكور
أما قوله تعالى وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ ففي تفسير الملأ وجهان قيل جماعة وقيل طبقة من أشرافهم وكبرائهم واختلفوا فيما لأجله كانوا يسخرون وفيه وجوه أحدهما أنهم كانوا يقولون يا نوح كنت تدعي رسالة الله تعالى فصرت بعد ذلك نجاراً وثانيها أنهم كانوا يقولون له لو كنت صادقاً في دعواك لكان إلهك يغنيك عن هذا العمل الشاق وثالثها أنهم ما رأوا السفينة قبل ذلك وما عرفوا كيفية الانتفاع بها وكانوا يتعجبون منه ويسخرون ورابعها أن تلك السفينة كانت كبيرة وهو كان يصنعها في موضع بعيد عن الماء جداً وكانوا يقولون ليس ههنا ماء ولا يمكنك نقلها إلى الأنهار العظيمة وإلى البحار فكانوا يعدون ذلك من باب السفه والجنون وخامسها أنه لما طالت مدته مع القوم وكان ينذرهم بالغرق وما شاهدوا من ذلك المعنى خبراً ولا أثراً غلب على ظنونهم كونه كاذباً في ذلك المقال فلما اشتغل بعمل السفينة لا جرم سخروا منه وكل هذه الوجوه محتملة
ثم إنه تعالى حكى عنه أنه كان يقول إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ وفيه وجوه الأول التقدير إن تسخروا منا في هذه الساعة فإنا نسخر منكم سخرية مثل سخريتكم إذا وقع عليكم الغرق في الدنيا والخزي في الآخرة الثاني إن حكمتم علينا بالجهل فيما نصنع فإنا نحكم عليكم بالجهل فيما أنتم عليه من الكفر والتعرض لسخط الله تعالى وعذابه فأنتم أولى بالسخرية منا الثالث أن تستجهلونا فإنا نستجهلكم واستجهالكم أقبح وأشد لأنكم لا تشتجهلون إلا لأجل الجهل بحقيقة الأمر والاغترار بظاهر الحال كما هو عادة الأطفال والجهال
فإن قيل السخرية من آثار المعاصي فكيف يليق ذلك بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام
قلنا إنه تعالى سمى المقابلة سخرية كما في قوله تعالى وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا ( الشورى 40 )
أما قوله تعالى فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ أي فسوف تعلمون من هو أحق بالسخرية ومن هو أحمد عاقبة وفي قوله مَن يَأْتِيهِ وجهان أحدهما أن يكون استفهاماً بمعنى أي كأنه قيل فسوف تعلمون أينا يأتيه عذاب وعلى هذا الوجه فمحل ( من ) رفع بالابتداء والثاني أن يكون بمعنى الذي ويكون في محل النصب وقوله تعالى وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ أي يجب عليه وينزل به

حَتَّى إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ ءَامَنَ وَمَآ ءَامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) حَتَّى هي التي يبتدأ بعدها الكلام أدخلت على الجملة من الشرط والجزاء ووقعت غاية لقوله وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ أي فكان يصنعها إلى أن جاء وقت الموعد
المسألة الثانية الأمر في قوله تعالى حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا يحتمل وجهين الأول أنه تعالى بين أنه لا يحدث شيء إلا بأمر الله تعالى كما قال إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَى ْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( النحل 40 ) فكان المراد هذا والثاني أن يكون المراد من الأمر ههنا هو العذاب الموعد به
المسألة الثالثة في التنور قولان أحدهما أنه التنورالذي يخبز فيه والثاني أنه غيره أما الأول وهو أنه التنور الذي يخبز فيه فهو قول جماعة عظيمة من المفسرين كابن عباس والحسن ومجاهد وهؤلاء اختلفوا فمنهم من قال إنه تنور لنوح عليه السلام وقيل كان لآدم قال الحسن كان تنوراً من حجارة وكان لحواء حتى صار لنوح عليه السلام واختلفوا في موضعه فقا الشعبي إنه كان بناحية الكوفة وعن علي رضي الله عنه أنه في مسجد الكوفة قال وقد صلى فيه سبعون نبياً وقيل بالشام بموضع يقال له عين وردان وهو قول مقاتل وقيل فار التنور بالهند وقيل إن امرأته كانت تخبز في ذلك التنور فأخبرته بخروج الماء من ذلك التنور فاشتغل في الحال بوضع تلك الأشياء في السفينة
القول الثاني ليس المراد من التنور تنور الخبز وعلى هذا التقدير ففيه أقوال الأول أنه انفجر الماء من وجه الأرض كما قال فَفَتَحْنَا أَبْوابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الاْرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى المَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ والعرب تسمي وجه الأرض تنوراً الثاني أن التنور أشرف موضع في الأرض وأعلى مكان فيها وقد أخرج إليه الماء من ذلك الموضع ليكون ذلك معجزة له وأيضاً المعنى أنه لما نبع الماء من أعالي الأرض ومن الأمكنة المرتفعة فشبهت لارتفاعها بالتنانير الثالث وَفَارَ التَّنُّورُ أي طلع الصبح وهو منقول عن علي رضي الله عنه الرابع وَفَارَ التَّنُّورُ يحتمل أن يكون معناه أشد الأمر كما يقال حمي الوطيس ومعنى الآية إذا رأيت الأمر يشتد والماء يكثر فانج

بنفسك ومن معك إلى السفينة
فإن قيل فما الأصح من هذه اقوال
قلنا الأصل حمل الكلام على حقيقته ولفظ التنور حقيقة في الموضع الذي يخبز فيه فوجب حمل اللفظ عليه ولا امتناع في العقل في أن يقال إن الماء نبع أولاً من موضع معين وكان ذلك الموضع تنوراً
فإن قيل ذكر التنور بالألف واللام وهذا إنما يكون معهود سابق معين معلوم عند السامع وليس في الأرض تنور هذا شأنه فوجب أن يحمل ذلك على أن المراد إذا رأيت الماء يشتد نبوعه والأمر يقوى فانج بنفسك وبمن معك
قلنا لا يبعد أن يقال إن ذلك التنور كان لنوح عليه السلام بأن كان تنور آدم أو حواء أو كان تنوراً عينه الله تعالى لنوح عليه السلام وعرفه أنك إذا رأيت الماء يفور فاعلم أن الأمر قد وقع وعلى هذا التقدير فلا حاجة إلى صرف الكلام عن ظاهره
المسألة الرابعة معنى فار نبع على قوة وشدة تشبيهاً بغليان القدر عند قوة النار ولا شبهة في أن نفس التنور لا يفور فالمراد فار الماء من التنور والذي روى أن فور التنور كان علامة لهلاك القوم لا يمتنع لأن هذه واقعة عظيمة وقد وعد الله تعالى المؤمنين النجاة فلا بد وأن يجعل لهم علامة بها يعرفون الوقت المعين فلا يبعد جعل هذه الحالة علامة لحدوث هذه الواقعة
المسألة الخامسة قال الليث التنور لفظة عمت بكل لسان وصاحبه تنار قال الأزهري وهذا يدل على أن الاسم قد يكون أعجمياً فتعربه العرب فيصير عربياً والدليل على ذلك أن الأصل تنار ولا يعرف في كلام العرب تنور قبل هذا ونظيره ما دخل في كلام العرب من كلام العجم الديباج والدينار والسندس والاستبرق فإن العرب لما تكلموا بهذه الألفاظ صارت عربية
واعلم أنه لما فار التنور فعند ذلك أمره الله تعالى بأن يحمل في السفينة ثلاثة أنواع من الأشياء فالأول قوله التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ قال الأخفش تقول الاثنان هما زوجان قال تعالى وَمِن كُلّ شَى ْء خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ ( الذاريات 49 ) فالسماء زوج والأرض زوج والشتاء زوج والصيف زوج والنهار زوج والليل زوج وتقول للمرأة هي زوج وهو زوجها قال تعالى وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ( النساء 1 ) يعني المرأة وقال وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالاْنثَى ( النجم 45 ) فثبت أن الواحد قد يقال له زوج ومما يدل على ذلك قوله تعالى ثَمَانِيَة َ أَزْواجٍ مّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ ( الأنعام 143 )
إذا عرفت هذا فنقول الزوجان عبارة عن كل شيئين يكون أحدهما ذكراً والآخر أنثى والتقدير كل شيئين هما كذلك فاحمل منهما في السفينة اثنين واحد ذكر والآخر أنثى ولذلك قرأ حفص مِن كُلّ بالتنوين وأرادوا حمل من كل شيء زوجين اثنين الذكر زوج والأنثى زوج لا يقال عليه إن الزوجين لا يكونان إلا اثنين فما الفائدة في قوله زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ لأنا نقول هذا على مثال قوله لاَ تَتَّخِذُواْ إِلاهَيْنِ اثْنَيْنِ ( النحل 51 ) وقوله نَفْخَة ٌ واحِدَة ٌ ( الحاقة 13 ) وأما على القراءة المشهورة فهذا السؤال غير وارد واختلفوا في أنه هل دخل في قوله زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ غير الحيوان أم لا فنقول أما الحيوان فداخل لأن قوله مِن كُلّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يدخل فيه كل الحيوانات وأما النبات فاللفظ لا يدل عليه إلا أنه بحسب قرينة الحال لا يبعد بسبب أن الناس محتاجون إلى النبات بجميع أقسامه وجاء في الروايات عن ابن مسعود رضي الله عنهما أنه قال لم يستطع نوح عليه السلام أن يحمل الأسد حتى ألقيت عليه الحمى وذلك أن نوحاً عليه السلام قال يا رب فمن أين أطعم الأسد إذا حملته قال تعالى ( فسوف أشغله عن الطعام ) فسلط الله تعالى عليه الحمى وأمثال هذه الكلمات الأولى تركها فإن حاجة الفيل إلى الطعام أكثر وليس به حمى الثاني من الأشياء التي أمر الله نوحاً عليه السلام بحملها في السفينة

قوله تعالى وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ قالوا كانوا سبعة نوح عليه السلام وثلاثة أبناء له وهم سام وحام ويافث ولكل واحد منهم زوجة وقيل أيضاً كانوا ثمانية هؤلاء وزوجة نوح عليه السلام
وأما قوله إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ فالمراد ابنه وامرأته وكانا كافرين حكم الله تعالى عليهم بالهلاك
فإن قيل الإنسان أشرف من جميع الحيوانات فما السبب أنه وقع الابتداء بذكر الحيوانات
قلنا الإنسان عاقل وهو لعقله كالمضطر إلى دفع أسباب الهلاك عن نفسه فلا حاجة فيه إلى المبالغة في الترغيب بخلاف السعي في تخليص سائر الحيوانات فلهذا السبب وقع الابتداء به
واعلم أن أصحابنا احتجوا بقوله إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ في إثبات القضاء اللازم والقدر الواجب قالوا لأن قوله سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مشعر بأن كل من سبق عليه القول فإنه لا يتغير عن حاله وهو كقوله عليه الصلاة والسلام ( السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه )
النوع الثالث من تلك الأشياء قوله وَمَنْ ءامَنَ قالوا كانوا ثمانين قال مقاتل في ناحية الموصل قرية يقال لها قرية الثمانين سميت بذلك لأن هؤلاء لما خرجوا من السفينة بنوها فسميت بهذا الاسم وذكروا ماهو أزيد منه وما هو أنقص منه وذلك مما لا سبيل إلى معرفته إلا أن الله تعالى وصفهم بالقلة وهو قوله تعالى وَمَا ءامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ
فإن قيل لما كان الذين آمنوا معه ودخلوا في السفينة كانوا جماعة فلم لم يقل قليلون كما في قوله إِنَّ هَؤُلاء لَشِرْذِمَة ٌ قَلِيلُونَ ( الشعراء 54 )
قلنا كلا اللفظين جائز والتقدير ههنا وما آمن معه إلا نفر قليل فأما الذي يروي أن إبليس دخل السفينة فبعيد لأنه من الجن وهو جسم ناري أو هوائي وكيف يؤثر الغرق فيه وأيضاً كتاب الله تعالى لم يدل عليه وخبر صحيح ما ورد فيه فالأولى ترك الخوض فيه
وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّى لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ
أما قوله وَقَالَ يعني نوح عليه السلام لقومه ارْكَبُواْ والركوب العلو على ظهر الشيء ومنه ركوب الدابة وركوب السفينة وركوب البحر وكل شيء علا شيئاً فقد ركبه يقال ركبه الدين قال الليث وتسمي العرب من يركب السفينة راكب السفينة وأما الركبان والركب من ركبوا الدواب والإبل قال الواحدي ولفظة ( في ) في قوله ارْكَبُواْ فِيهَا لا يجوز أن تكون من صلة الركوب لأنه يقال ركبت السفينة ولا يقال ركبت في السفينة بل الوجه أن يقال مفعول اركبوا محذوف والتقدير اركبوا الماء في السفينة وأيضاً يجوز أن يكون فائدة هذه الزيادة أنه أمرهم أن يكونوا في جوف الفلك لا على ظهرها فلو قال اركبوها لتوهموا أنه أمرهم أن يكونوا على ظهر السفينة

أما قوله تعالى بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم مجريها بفتح الميم والباقون بضم الميم واتفقوا في مرساها أنه بضم الميم وقال صاحب ( الكشاف ) قرأ مجاهد مجريها ومرسيها بلفظ اسم الفاعل مجروري المحل صفتين لله تعالى قال الواحدي المجرى مصدر كالإجراء ومثله قوله رَّبّ أَنزِلْنِى مُنزَلاً مُّبَارَكاً ( المؤمنون 29 ) أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ ( الإسراء 80 ) وأما من قرأ مجريها بفتح الميم فهو أيضاً مصدر مثل الجري واحتج صاحب هذه القراءة بقوله رَّحِيمٌ وَهِى َ تَجْرِى بِهِمْ ( هود 42 ) ولو كان مجراها لكان وهي تجريهم وحجة من ضم الميم أن جرت بهم وأجرتهم يتقاربان في المعنى فإذا قال تَجْرِى بِهِمْ فكأنه قال تجريهم وأما المرسي فهو أيضاً مصدر كالإرساء يقال رسا الشيء يرسو إذا ثبت وأرساه غيره قال تعالى وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ( النازعات 32 ) قال ابن عباس يريد تجري بسم الله وقدرته وترسو بسم الله وقدرته وقيل كان إذا أراد أن تجري بهم قال بِسْمِ اللَّهِ فتجري وإذا أراد أن ترسو قال بسم الله مرساها فترسو
المسألة الثانية ذكروا في عامل الإعراب في بِسْمِ اللَّهِ وجوهاً الأول اركبوا بسم الله والثاني ابدؤا بسم الله والثالث بسم الله إجراؤها وإرساؤها وقيل إنها سارت لأول يوم من رجب وقيل لعشر مضين من رجب فصارت ستة أشهر واستوت يوم العاشر من المحرم على الجودي
المسألة الثالثة في الآية احتمالان
الاحتمال الأول أن يكون مجموع قوله وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا كلاماً واحداً والتقدير وقال اركبوا فيها بسم مجريها ومرساها يعني ينبغي أن يكون الركوب مقروناً بهذا الذكر
والاحتمال الثاني أن يكونا كلامين والتقدير أن نوحاً عليه السلام أمرهم بالركوب ثم أخبرهم بأن مجريها ومرساها ليس إلا بسم الله وأمره وقدرته
فالمعنى الأول يشير إلى أن الإنسان لا ينبغي أن يشرع في أمر من الأمور إلا ويكون في وقت الشروع فيه ذاكراً لاسم الله تعالى بالأذكار المقدسة حتى يكون ببركة ذلك الذكر سبباً لتمام ذلك المقصود
والمعنى الثاني يدل على أنه لما ركب السفينة أخبر القوم بأن السفينة ليست سبباً لحصول النجاة بل الواجب ربط الهمة وتعليق القلب بفضل الله تعالى وأخبرهم أنه تعالى هو المجري والمرسي للسفينة فإياكم أن تعولوا على السفينة بل يجب أن يكون تعويلكم على فضل الله فإنه هو المجري والمرسي لها فعلى التقدير الأول كان نوح عليه السلام وقت ركوب السفينة في مقام الذكر وعلى التقدير الثاني كان في مقام الفكر والبراءة عن الحول والقوة وقطع النظر عن الأسباب واستغراق القلب في نور جلال مسبب الأسباب
واعلم أن الإنسان إذا تفكر في طلب معرفة الله تعالى بالدليل والحجة فكأنه جلس في سفينة التفكر والتدبر وأمواج الظلمات والضلالات قد علت تلك الجبال وارتفعت إلى مصاعد القلال فإذا ابتدأت سفينة الفكرة والروية بالحركة وجب أن يكون هناك اعتماده على الله تعالى وتضرعه إلى الله

تعالى وأن يكون بلسان القلب ونظر العقل يقول بسم الله مجريها ومرساها حتى تصل سفينة فكره إلى ساحل النجاة وتتخلص عن أمواج الضلالات
وأما قوله إِنَّ رَبّى لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ففيه سؤال وهو أن ذلك الوقت وقت الإهلاك وإظهار القهر فكيف يليق به هذا الذكر
وجوابه لعل القوم الذين ركبوا السفينة اعتقدوا في أنفسهم أنا إنما نجونا ببركة علمنا فالله تعالى نبههم بهذا الكلام لإزالة ذلك العجب منهم فإن الإنسان لا ينفك عن أنواع الزلات وظلمات الشهوات وفي جميع الأحوال فهو محتاج إلى إعانة الله وفضله وإحسانه وأن يكون رحيماً لعقوبته غفوراً لذنوبه
وَهِى َ تَجْرِى بِهِمْ فِى مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِى مَعْزِلٍ يابُنَى َّ ارْكَبَ مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ قَالَ سَآوِى إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِى مِنَ الْمَآءِ قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ
واعلم أن قوله وَهِى َ تَجْرِى بِهِمْ فِى مَوْجٍ كَالْجِبَالِ مسائل
المسألة الأولى قوله وَهِى َ تَجْرِى بِهِمْ فِى مَوْجٍ متعلق بمحذوف والتقدير وقال اركبوا فيها فركبوا فيها يقولون بسم الله وهي تجري بهم في موج كالجبال
المسألة الثانية الأمواج العظيمة إنما تحدث عند حصول الرياح القوية الشديدة العاصفة فهذا يدل على أنه حصل في ذلك الوقت رياح عاصفة شديدة والمقصود منه بيان شدة الهول والفزع
المسألة الثالثة الجريان في الموج هو أن تجري السفينة داخل الموج وذلك يوجب الغرق فالمراد أن الأمواج لما أحاطت بالسفينة من الجوانب شبهت تلك السفينة بما إذا جرت في داخل تلك الأمواج
ثم حكى الله تعالى عنه أنه نادى ابنه وفيه مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في أنه كان ابناً له وفيه أقوال
القول الأول أنه ابنه في الحقيقة والدليل عليه أنه تعالى نص عليه فقال وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ ونوح أيضاً نص عليه فقال أَوْ بَنِى وصرف هذا اللفظ إلى أنه رباه فأطلق عليه اسم الابن لهذا السبب صرف للكلام عن حقيقته إلى مجازه من غير ضرورة وأنه لا يجوز والذين خالفوا هذا الظاهر إنما خالفوه لأنهم استبعدوا أن يكون ولد الرسول المعصوم كافراً وهذا بعيد فإنه ثبت أن والد رسولنا ( صلى الله عليه وسلم ) كان كافراً ووالد إبراهيم عليه السلام كان كافراً بنص القرآن فكذلك ههنا ثم القائلون بهذا القول اختلفوا في أنه عليه السلام لما قال رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الاْرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً ( نوح 26 ) فكيف ناداه مع كفره

التالي ان شاء الله ج17.وج18.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب الإبانة عن أصول الديانة علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري أبو الحسن

  كتاب الإبانة عن أصول الديانة علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري أبو الحسن بسم الله الرحمن الرحيم وهو حسبي ونعم الوكيل وصلى الله على...