الثلاثاء، 4 أكتوبر 2022

ج7.وج8.مفاتيح الغيب للفخر الرازي

 ج7.وج8.مفاتيح الغيب للفخر الرازي

 

ج7. مفاتيح الغيب ـ ترقيم الشاملة موافق للمطبوع
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي الشافعي

أما قوله تعالى وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَة َ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال بعضهم آتاه الله الملك والنبوة جزاء على ما فعل من الطاعة العظيمة وبذل النفس في سبيل الله مع أنه تعالى كان عالماً بأنه صالح لتحمل أمر النبوة والنبوة لا يمتنع جعلها جزاء على الطاعات كما قال تعالى وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ وَءاتَيْنَاهُم مِنَ الاْيَاتِ مَا فِيهِ بَلَؤٌ اْ مُّبِينٌ ( الدخان 32 33 ) وقال اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ( الأنعام 124 ) وظاهر هذه الآية يدل أيضاً على ذلك لأنه تعالى لما حكى عن داود أنه قتل جالوت قال بعده وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَة َ والسلطان إذا أنعم على بعض عبيده الذين قاموا بخدمة شاقة يغلب على الظن أن ذلك الإنعام لأجل تلك الخدمة وقال الأكثرون إن النبوة لا يجوز جعلها جزاء على الأعمال بل ذلك محض التفضل والإنعام قال تعالى اللَّهُ يَصْطَفِى مِنَ الْمَلَائِكَة ِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ ( الحج 75 )
المسألة الثانية قال بعضهم ظاهر الآية يدل على أن داود حين قتل جالوت آتاه الله الملك والنبوة وذلك لأنه تعالى ذكر إيتاء الملك والنبوة عقيب ذكره لقتل داود جالوت وترتيب الحكم على الوصف المناسب مشعر بكون ذلك الوصف علة لذلك الحكم وبيان المناسبة أنه عليه السلام لما قتل مثل ذلك الخصم العظيم بالمقلاع والحجر كان ذلك معجزاً لا سيما وقد تعلقت الأحجار معه وقالت خذنا فإنك تقتل جالوت بنا فظهور المعجز يدل على النبوة وأما الملك فلأن القوم لما شاهدوا منه قهر ذلك العدو العظيم المهيب بذلك العمل القليل فلا شك أن النفوس تميل إليه وذلك يقتضي حصول الملك له ظاهراً وقال الأكثرون إن حصول الملك والنبوة له تأخر عن ذلك الوقت بسبع سنين على ما قاله الضحاك قالوا والروايات وردت بذلك قالوا لأن الله تعالى كان قد عين طالوت للملك فيبعد أن يعزله عن الملك حال حياته والمشهور في أحوال بني إسرائيل كان نبي ذلك الزمان أشمويل وملك ذلك الزمان طالوت فلما توفي أشمويل أعطى الله تعالى النبوة لداود ولما مات طالوت أعطى الله تعالى الملك لداود فاجتمع الملك والنبوة فيه
المسألة الثالثة الْحِكْمَة َ هي وضع الأمور مواضعها على الصواب والصلاح وكمال هذا المعنى إنما يحصل بالنبوة فلا يبعد أن يكون المراد بالحكمة ههنا النبوة قال تعالى مَا ءاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ ءاتَيْنَا ءالَ إِبْراهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ وَءاتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً فَمِنْهُمْ مَّنْ ءامَنَ بِهِ ( النساء 54 ) وقال فيما بعث به نبيه عليه السلام وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ ( آل عمران 146 )
فإن قيل فإذا كان المراد من الحكمة النبوة فلم قدم الملك على الحكمة مع أن الملك أدون حالاً من النبوة
قلنا لأن الله تعالى بين في هذه الآية كيفية ترقي داود عليه السلام إلى المراتب العالية وإذا تكلم المتكلم في كيفية الترقي فكل ما كان أكثر تأخراً في الذكر كان أعلى حالاً وأعظم رتبة
أما قوله تعالى وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء ففيه وجوه أحدها أن المراد به ما ذكره في قوله وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَة َ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مّن بَأْسِكُمْ ( الأنبياء 80 ) وقال وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدّرْ فِى السَّرْدِ ( سبأ 10 11 ) وثانيها أن المراد كلام الطير والنمل قال تعالى حكاية عنه عُلّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ ( النمل 16 )

وثالثها أن المراد به ما يتعلق بمصالح الدنيا وضبط الملك فإنه ما ورث الملك من آبائه لأنهم ما كانوا ملوكاً بل كانوا رعاة ورابعها علم الدين قال تعالى وَءاتَيْنَا دَاوُودُ زَبُوراً ( النساء 163 ) وذلك لأنه كان حاكماً بين الناس فلا بد وأن يعلمه الله تعالى كيفية الحكم والقضاء وخامسها الألحان الطيبة ولا يبعد حمل اللفظ على الكل
فإن قيل إنه تعالى لما ذكر إنه آتاه الحكمة وكان المراد بالحكمة النبوة فقد دخل العلم في ذلك فلم ذكر بعده عِلْمِهِ مِمَّا يَشَاء
قلنا المقصود منه التنبيه على أن العبد قط لا ينتهي إلى حالة يستغني عن التعلم سواء كان نبياً أو لم يكن ولهذا السبب قال لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وَقُل رَّبّ زِدْنِى عِلْماً ( طه 114 ) ثم قال تعالى وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الارْضُ
اعلم أنه تعالى لما بين أن الفساد الواقع بجالوت وجنوده زال بما كان من طالوت وجنوده وبما كان من داود من قتل جالوت بين عقيب ذلك جملة تشتمل كل تفصيل في هذا الباب وهو أنه تعالى يدفع الناس بعضهم ببعض لكي لا تفسد الأرض فقال وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الارْضُ وههنا مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير وأبو عمرو وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ ( البقرة 25 ) بغير ألف وكذلك في سورة الحج وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ وقرآ جميعاً إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( الحج 38 ) بغير ألف ووافقهما عاصم وحمزة والكسائي وابن عامر اليحصبي على دفع الله بغير ألف إلا أنهم قرؤا إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ ءامَنُواْ بالألف وقرأ نافع وَلَوْلاَ عَبْدُ اللَّهِ و إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ بالألف
إذا عرفت هذه الروايات فنقول أما من قرأ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ فوجهه ظاهر وأما من قرأ وَلَوْلاَ عَبْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ ءامَنُواْ فوجه الإشكال فيه أن المدافعة مفاعلة وهي عبارة عن كون كل واحد من المدافعين دافعاً لصاحبه ومانعاً له من فعله وذلك من العبد في حق الله تعالى محال وجوابه أن لأهل اللغة في لفظ دفاع قولين أحدهما أنه مصدر لدفع تقول دفعته دفعاً ودفاعاً كما تقول كتبته كتباً وكتاباً قالوا وفعال كثيراً يجيء مصدراً للثلاثي من فعل وفعل تقول جمح جماحاً وطمح طماحاً وتقول لقيته لقاء وقمت قياماً وعلى هذا التأويل كان قوله وَلَوْلاَ عَبْدُ اللَّهِ معناه ولولا دفع الله
والقول الثاني قول من جعل دفاع من دافع فالمعنى أنه سبحانه إنما يكف الظلمة والعصاة عن ظلم المؤمنين على أيدي أنبيائه ورسله وأئمة دينه وكان يقع بين أولئك المحقين وأولئك المبطلين مدافعات ومكافحات فحسن الإخبار عنه بلفظ المدافعة كما قال يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ( المائدة 33 ) وَشَاقُّواْ اللَّهِ ( الأنفال 13 ) وكما قال قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ( التوبة 30 ) ونظائره والله أعلم
المسألة الثانية اعلم أنه تعالى ذكر في هذه الآية المدفوع والمدفوع به فقوله وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم إشارة إلى المدفوع وقوله بِبَعْضِ إشارة إلى المدفوع به فأما المدفوع عنه فغير مذكور في الآية فيحتمل أن يكون المدفوع عنه الشرور في الدين ويحتمل أن يكون المدفوع عنه الشرور في الدنيا ويحتمل أن يكون مجموعهما

أما القسم الأول وهو أن يكون المدفوع عنه الشرور في الدين فتلك الشرور إما أن يكون المرجع بها إلى الكفر أو إلى الفسق أو إليهما فلنذكر هذه الاحتمالات
الاحتمال الأول أن يكون المعنى ولولا دفع الله بعض الناس عن الكفر بسبب البعض وعلى هذا التقدير فالدافعون هم الأنبياء وأئمة الهدى فإنهم الذين يمنعون الناس عن الوقوع في الكفر بإظهار الدلائل والبراهين والبينات قال تعالى كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ( إبراهيم 1 )
والاحتمال الثاني أن يكون المراد ولولا دفع الله بعض الناس عن المعاصي والمنكرات بسبب البعض وعلى هذا التقدير فالدافعون هم القائمون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ما قال تعالى كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة ٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ( آل عمران 110 ) ويدخل في هذا الباب الأئمة المنصوبون من قبل الله تعالى لأجل إقامة الحدود وإظهار شعائر الإسلام ونظيره قوله تعالى ادْفَعْ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ السَّيّئَة َ ( المؤمنون 96 ) وفي موضع آخر وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَة ِ السَّيّئَة َ ( الرعد 22 )
الاحتمال الثالث ولولا دفع الله بعض الناس عن الهرج والمرج وإثارة الفتن في الدنيا بسبب البعض واعلم أن الدافعين على هذا التقدير هم الأنبياء عليهم السلام ثم الأئمة والملوك الذابون عن شرائعهم وتقريره أن الإنسان الواحد لا يمكنه أن يعيش وحده لأنه ما لم يخبز هذا لذاك ولا يطحن ذاك لهذا ولا يبني هذا لذاك ولا ينسج ذاك لهذا لا تتم مصلحة الإنسان الواحد ولا تتم إلا عند اجتماع جمع في موضع واحد فلهذا قيل الإنسان مدني بالطبع ثم إن الاجتماع بسبب المنازعة المفضية إلى المخاصمة أولاً والمقاتلة ثانياً فلا بد في الحكمة الإلهية من وضع شريعة بين الخلق لتكون الشريعة قاطعة للخصومات والمنازعات فالأنبياء عليهم السلام الذين أوتوا من عند الله بهذه الشرائع هم الذين دفع الله بسببهم وبسبب شريعتهم الآفات عن الخلق فإن الخلق ما داموا يبقون متمسكين بالشرائع لا يقع بينهم خصام ولا نزاع فالملوك والأئمة متى كانوا يتمسكون بهذه الشرائع كانت الفتن زائلة والمصالح حاصلة فظهر أن الله تعالى يدفع عن المؤمنين أنواع شرور الدنيا بسبب بعثة الأنبياء عليهم السلام واعلم أنه كما لا بد في قطع الخصومات والمنازعات من الشريعة فكذا لا بد في تنفيذ الشريعة من الملك ولهذا قال عليه الصلاة والسلام ( الإسلام والسلطان أخوان توأمان ) وقال أيضاً ( الإسلام أمير والسلطان حارس فما لا أمير له فهو منهزم وما لا حارس له فهو ضائع ) ولهذا يدفع الله تعالى عن المسلمين أنواع شرور الدنيا بسبب وضع الشرائع وبسبب نصب الملوك وتقويتهم ومن قال بهذا القول قال في تفسير قوله لَفَسَدَتِ الارْضُ أي لغلب على أهل الأرض القتل والمعاصي وذلك يسمى فساداً قال الله تعالى وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ ( البقرة 205 ) وقال أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِى كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالاْمْسِ إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِى الاْرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ ( القصص 19 ) وقال إِنّى أَخَافُ أَن يُبَدّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِى الاْرْضِ الْفَسَادَ ( غافر 26 ) وقال أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ ( الأعراف 127 ) وقال ظَهَرَ الْفَسَادُ فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى النَّاسِ ( الروم 41 ) وهذا التأويل يشهد له قوله في سورة الحج وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَسَاجِدُ ( الحج 40 )
الاحتمال الرابع ولولا دفع الله بالمؤمنين والأبرار عن الكفار والفجار لفسدت الأرض ولهلكت بمن

فيها وتصديق هذا ما روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( يدفع بمن يصلي من أمتي عمن لا يصلي وبمن يزكي عمن لا يزكي وبمن يصوم عمن لا يصوم وبمن يحج عمن لا يحج وبمن يجاهد عمن لا يجاهد ولو اجتمعوا على ترك هذه الأشياء لما أنظرهم الله طرفة عين ) ثم تلا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هذه الآية على صحة هذا القول من القرآن قوله تعالى وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِى الْمَدِينَة ِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً ( الكهف 82 ) وقال تعالى وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ ( الفتح 25 ) إلى قوله وَلَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ( الفتح 25 ) وقال وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ( الأنفال 33 ) ومن قال بهذا القول قال في تفسير قوله لَفَسَدَتِ الارْضُ أي لأهلك الله أهلها لكثرة الكفار والعصاة
والاحتمال الخامس أن يكون اللفظ محمولاً على الكل لأن بين هذه الأقسام قدراً مشتركاً وهو دفع المفسدة فإذا حملنا اللفظ عليه دخلت الأقسام بأسرها فيه
المسألة الثالثة قال القاضي هذه الآية من أقوى ما يدل على بطلان الجبر لأنه إذا كان الفساد من خلقه فكيف يصلح أن يقول تعالى وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الارْضُ ويجب أن لا يكون على قولهم لدفاع الناس بعضهم ببعض تأثير في زوال الفساد وذلك لأن على قولهم الفساد إنما لا يقع بسبب أن لا يفعله الله تعالى ولا يخلقه لا لأمر يرجع إلى الناس
والجواب أن الله تعالى لما كان عالماً بوقوع الفساد فإذا صح مع ذلك العلم أن لا يفعل الفساد كان المعنى أنه يصح من العبد أن يجمع بين عدم الفساد وبين العلم بوجود الفساد فيلزم أن يكون قادراً على الجمع بين النفي والإثبات وهو محال
أما قوله وَلَاكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ فالمقصود منه أن دفع الفساد بهذا الطريق إنعام يعم الناس كلهم واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن الكل بقضاء الله تعالى فقالوا لو لم يكن فعل العبد خلقاً لله تعالى لم يكن دفع المحققين شر المبطلين فضلاً من الله تعالى على أهل الدنيا لأن المتولي لذلك الدفع إذا كان هو العبد من قبل نفسه وباختياره ولم يكن لله تعالى وَلَاكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ عقيب قوله وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ يدل على أنه تعالى ذو فضل على العالمين بسبب ذلك الدفع فدل هذا على أن ذلك الدفع الذي هو فعلهم هو من خلق الله تعالى ومن تقديره
فإن قالوا يحمل هذا على البيان والإرشاد والأمر
قلنا كل ذلك قائم في حق الكفار والفجار ولم يحصل منه الدفع فعلمنا أن فضل الله ونعمته علينا إنما كان بسبب نفس ذلك الدفع وذلك يوجب قولنا والله أعلم
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ
اعلم أن قوله تِلْكَ إشارة إلى القصص التي ذكرها من حديث الألوف وإماتتهم وإحيائهم وتمليك طالوت وإظهار الآية التي هي نزول التابوت من السماء وغلب الجبابرة على يد داود وهو صبي فقير ولا شك

أن هذه الأحوال آيات باهرة دالة على كمال قدرة الله تعالى وحكمته ورحمته
فإن قيل لم قال تِلْكَ ولم يقل ( هذه ) مع أن تلك يشار بها إلى غائب لا إلى حاضر
قلنا قد بينا في تفسير قوله ذالِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ ( البقرة 2 ) أن تلك وذلك يرجع إلى معنى هذه وهذا وأيضاً فهذه القصص لما ذكرت صارت بعد ذكرها كالشيء الذي انقضى ومضى فكانت في حكم الغائب فلهذا التأويل قال تِلْكَ
أما قوله تعالى نَتْلُوهَا يعني يتلوها جبريل عليه السلام عليك لكنه تعالى جعل تلاوة جبريل عليه السلام تلاوة لنفسه وهذا تشريف عظيم لجبريل عليه السلام وهو كقوله إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ ( الفتح 10 )
أما قوله بِالْحَقّ ففيه وجوه أحدها أن المراد من ذكر هذه القصص أن يعتبر بها محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وتعتبر بها أمته في احتمال الشدائد في الجهاد كما احتملها المؤمنون في الأمم المتقدمة وثانيها بِالْحَقّ أي باليقين الذي لا يشك فيه أهل الكتاب لأنه في كتبهم كذلك من غير تفاوت أصلاً وثالثها إنا أنزلنا هذه الآيات على وجه تكون دالة في نبوتك بسبب ما فيها من الفصاحة والبلاغة ورابعها تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقّ أي يجب أن يعلم أن نزول هذه الآيات عليك من قبل الله تعالى وليس بسبب إلقاء الشياطين ولا بسبب تحريف الكهنة والسحرة
ثم قال وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ وإنما ذكر هذا عقيب ما تقدم لوجوه أحدها أنك أخبرت عن هذه الأقاصيص من غير تعلم ولا دراسة وذلك يدل على أنه عليه الصلاة والسلام إنما ذكرها وعرفها بسبب الوحي من الله تعالى وثانيها أنك قد عرفت بهذه الآيات ما جرى على الأنبياء عليهم السلام في بني إسرائيل من الخوف عليهم والرد لقولهم فلا يعظمن عليك كفر من كفر بك وخلاف من خالف عليك لأنك مثلهم وإنما بعث الكل لتأدية الرسالة ولامتثال الأمر على سبيل الاختيار والتطوع لا على سبيل الإكراه فلا عتب عليك في خلافهم وكفرهم والوبال في ذلك يرجع عليهم فيكون تسلية للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فيما يظهر من الكفار والمنافقين ويكون قوله وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ كالتنبيه على ذلك
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَءَاتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَاكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُمْ مَّنْ ءَامَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ
في الآية مسائل

المسألة الأولى تِلْكَ ابتداء وإنما قال تِلْكَ ولم يقل أولئك الرسل لأنه ذهب إلى الجماعة كأنه قيل تلك الجماعة الرسل بالرفع لأنه صفة لتلك وخبر الابتداء فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ
المسألة الثانية في قوله تِلْكَ الرُّسُلُ أقوال أحدها أن المراد منه من تقدم ذكرهم من الأنبياء عليهم السلام في القرآن كإبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب وموسى وغيرهم صلوات الله عليهم والثاني أن المراد منه من تقدم ذكرهم في هذه الآية كأشمويل وداود وطالوت على قول من يجعله نبياً والثالث وهو قول الأصم تلك الرسل الذين أرسلهم الله لدفع الفساد الذين إليهم الإشارة بقوله تعالى وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الارْضُ ( البقرة 251 )
المسألة الثالثة وجه تعليق هذه الآية بما قبلها ما ذكره أبو مسلم وهو أنه تعالى أنبأ محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) من أخبار المتقدمين مع قومهم كسؤال قوم موسى أَرِنَا اللَّهِ جَهْرَة ً ( النساء 153 ) وقولهم اجْعَلْ لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ ءالِهَة ٌ ( الأعراف 138 ) وكقوم عيسى بعد أن شاهدوا منه إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص بإذن الله فكذبوه وراموا قتله ثم أقام فريق على الكفر به وهم اليهود وفريق زعموا أنهم أولياؤه وادعت على اليهود من قتله وصلبه ما كذبهم الله تعالى فيه كالملأ من بني إسرائيل حسدوا طالوت ودفعوا ملكه بعد المسألة وكذلك ما جرى من أمر النهر فعزى الله رسوله عما رأى من قومه من التكذيب والحسد فقال هؤلاء الرسل الذين كلم الله تعالى بعضهم ورفع الباقين درجات وأيد عيسى بروح القدس قد نالهم من قومهم ما ذكرناه بعد مشاهدة المعجزات وأنت رسول مثلهم فلا تحزن على ما ترى من قومك فلو شاء الله لم تختلفوا أنتم وأولئك ولكن ما قضى الله فهو كائن وما قدره فهو واقع وبالجملة فالمقصود من هذا الكلام تسلية الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) على إيذاء قومه له
المسألة الرابعة أجمعت الأمة على أن بعض الأنبياء أفضل من بعض وعلى أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) أفضل من الكل ويدل عليه وجوه أحدها قوله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَة ً لّلْعَالَمِينَ ( الأنبياء 107 ) فلما كان رحمة لكل العالمين لزم أن يكون أفضل من كل العالمين
الحجة الثانية قوله تعالى وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ فقيل فيه لأنه قرن ذكر محمد بذكره في كلمة الشهادة وفي الأذان وفي التشهد ولم يكن ذكر سائر الأنبياء كذلك
الحجة الثالثة أنه تعالى قرن طاعته بطاعته فقال مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ( النساء 80 ) وبيعته ببيعته فقال إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَكَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ( الفتح 10 ) وعزته بعزته فقال وَلِلَّهِ الْعِزَّة ُ وَلِرَسُولِهِ ( المنافقون 8 ) ورضاه برضاه فقال وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ ( التوبة 62 ) وإجابته بإجابته فقال مُّعْرِضُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ ( الأنفال 24 )
الحجة الرابعة أن الله تعالى أمر محمداً بأن يتحدى بكل سورة من القرآن فقال فَأْتُواْ بِسُورَة ٍ مّن مِّثْلِهِ ( البقرة 23 ) وأقصر السور سورة الكوثر وهي ثلاث آيات وكان الله تحداهم بكل ثلاث آيات من القرآن ولما كان كل القرآن ستة آلاف آية وكذا آية لزم أن لا يكون معجز القرآن معجزاً واحداً بل يكون ألفي معجزة وأزيد

وإذا ثبت هذا فنقول إن الله سبحانه ذكر تشريف موسى بتسع آيات بينات فلأن يحصل التشريف لمحمد بهذه الآيات الكثيرة كان أولى
الحجة الخامسة أن معجزة رسولنا ( صلى الله عليه وسلم ) أفضل من معجزات سائر الأنبياء فوجب أن يكون رسولنا أفضل من سائر الأنبياء
بيان الأول قوله عليه السلام ( القرآن في الكلام كآدم في الموجودات )
بيان الثاني أن الخلعة كلما كانت أشرف كان صاحبها أكرم عند الملك
الحجة السادسة أن معجزته عليه السلام هي القرآن وهي من جنس الحروف والأصوات وهي أعراض غير باقية وسائر معجزات سائر الأنبياء من جنس الأمور الباقية ثم إنه سبحانه جعل معجزة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) باقية إلى آخر الدهر ومعجزات سائر الأنبياء فانية منقضية
الحجة السابعة أنه تعالى بعد ما حكى أحوال الأنبياء عليهم السلام قال أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ( الأنعام 90 ) فأمر محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بالاقتداء بمن قبله فإما أن يقال إنه كان مأموراً بالاقتداء بهم في أصول الدين وهو غير جائز لأنه تقليد أو في فروع الدين وهو غير جائز لأن شرعه نسخ سائر الشرائع فلم يبق إلا أن يكون المراد محاسن الأخلاق فكأنه سبحانه قال إنا أطلعناك على أحوالهم وسيرهم فاختر أنت منها أجودها وأحسنها وكن مقتدياً بهم في كلها وهذا يقتضي أنه اجتمع فيه من الخصال المرضية ما كان متفرقاً فيهم فوجب أن يكون أفضل منهم
الحجة الثامنة أنه عليه السلام بعث إلى كل الخلق وذلك يقتضي أن تكون مشقته أكثر فوجب أن يكون أفضل أما إنه بعث إلى كل الخلق فلقوله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّة ً لّلنَّاسِ ( سبأ 28 ) وأما أن ذلك يقتضي أن تكون مشتقه أكثر فلأنه كان إنساناً فرداً من غير مال ولا أعوان وأنصار فإذا قال لجميع العالمين يا أيها الكافرون صار الكل أعداء له وحينئذٍ يصير خائفاً من الكل فكانت المشقة عظيمة وكذلك فإن موسى عليه السلام لما بعث إلى بني إسرائيل فهو ما كان يخاف أحداً إلا من فرعون وقومه وأما محمد عليه السلام فالكل كانوا أعداء له يبين ذلك أن إنساناً لو قيل له هذا البلد الخالي عن الصديق والرفيق فيه رجل واحد ذو قوة وسلاح فاذهب إليه اليوم وحيداً وبلغ إليه خبراً يوحشه ويؤذيه فإنه قلما سمحت نفسه بذلك مع أنه إنسان واحد ولو قيل له اذهب إلى بادية بعيدة ليس فيها أنس ولا صديق وبلغ إلى صاحب البادية كذا وكذا من الأخبار الموحشة لشق ذلك على الإنسان أما النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فإنه كان مأموراً بأن يذهب طول ليله ونهاره في كل عمره إلى الجن والإنس الذين لا عهد له بهم بل المعتاد منهم أنهم يعادونه ويؤذونه ويستخفونه ثم إنه عليه السلام لم يمل من هذه الحالة ولم يتلكأ بل سارع إليها سامعاً مطيعاً فهذا يقتضي أنه تحمل في إظهار دين الله أعظم المشاق ولهذا قال تعالى لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ( الحديد 10 ) ومعلوم أن ذلك البلاء كان على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فإذا عظم فضل الصحابة بسبب تلك الشدة فما ظنك بالرسول وإذا ثبت أن مشقته أعظم من مشقة غيره وجب أن يكون فضله أكثر من فضل غيره لقوله عليه السلام ( أفضل العبادات أحمزها )

الحجة التاسعة أن دين محمد عليه السلام أفضل الأديان فيلزم أن يكون محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أفضل الأنبياء بيان الأول أنه تعالى جعل الإسلام ناسخاً لسائر الأديان والناسخ يجب أن يكون أفضل لقوله عليه السلام ( من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ) فلما كان هذا الدين أفضل وأكثر ثواباً كان واضعه أكثر ثواباً من واضعي سائر الأديان فيلزم أن يكون محمد عليه السلام أفضل من سائر الأنبياء
الحجة العاشرة أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أفضل الأمم فوجب أن يكون محمد أفضل الأنبياء بيان الأول قوله تعالى كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة ٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ( آل عمران 110 ) بيان الثاني أن هذه الأمة إنما نالت هذه الفضيلة لمتابعة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) قال تعالى قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ( آل عمران 31 ) وفضيلة التابع توجب فضيلة المتبوع وأيضاً أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) أكثر ثواباً لأنه مبعوث إلى الجن والإنس فوجب أن يكون ثوابه أكثر لأن لكثرة المستجيبين أثراً في علو شأن المتبوع
الحجة الحادية عشر أنه عليه السلام خاتم الرسل فوجب أن يكون أفضل لأن نسخ الفاضل بالمفضول قبيح في المعقول
الحجة الثانية عشرة أن تفضيل بعض الأنبياء على بعض يكون لأمور منها كثرة المعجزات التي هي دالة على صدقهم وموجبة لتشريفهم وقد حصل في حق نبينا عليه السلام ما يفضل على ثلاثة آلاف وهي بالجملة على أقسام منها ما يتعلق بالقدرة كإشباع الخلق الكثير من الطعام القليل وإروائهم من الماء القليل ومنها ما يتعلق لعلوم كالإخبار عن الغيوب وفصاحة القرآن ومنها اختصاصه في ذاته بالفضائل نحو كونه أشرف نسباً من أشراف العرب وأيضاً كان في غاية الشجاعة كما روي أنه قال بعد محاربة علي رضي الله عنه لعمرو بن ود كيف وجدت نفسك يا علي قال وجدتها لو كان كل أهل المدينة في جانب وأنا في جانب لقدرت عليهم فقال تأهب فإنه يخرج من هذا الوادي فتى يقاتلك الحديث إلى آخره وهو مشهور ومنها في خلقه وحلمه ووفائه وفصاحته وسخائه وكتب الحديث ناطقة بتفصيل هذه الأبواب
الحجة الثالثة عشرة قوله عليه السلام ( آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيام ) وذلك يدل على أنه أفضل من آدم ومن كل أولاده وقال عليه السلام ( أنا سيد ولد آدم ولا فخر ) وقال عليه السلام ( لا يدخل الجنة أحد من النبيين حتى أدخلها أنا ولا يدخلها أحد من الأمم حتى تدخلها أمتي ) وروى أنس قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( أنا أول الناس خروجاً إذا بعثوا وأنا خطيبهم إذا وفدوا وأنا مبشرهم إذا أيسوا لواء الحمد بيدي وأنا أكرم ولد آدم على ربي ولا فخر ) وعن ابن عباس قال جلس ناس من الصحابة يتذاكرون فسمع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حديثهم فقال بعضهم عجباً إن الله اتخذ إبراهيم خليلاً وقال آخر ماذا بأعجب من كلام موسى كلمه تكليماً وقال آخر فعيسى كلمة الله وروحه وقال آخر آدم اصطفاه الله فخرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال قد سمعت كلامكم وحجتكم أن إبراهيم خليل الله وهو كذلك وموسى نجى الله وهو كذلك وعيسى روح الله وهو كذلك وآدم اصطفاه الله تعالى وهو كذلك ألا وأنا حبيب الله ولا فخر وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر وأنا أول شافع وأنا أول مشفع يوم القيامة ولا فخر وأنا أول من يحرك حلقة الجنة فيفتح لي فأدخلها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر وأنا أكرم الأولين والآخرين ولا فخر

الحجة الرابعة عشرة روى البيهقي في ( فضائل الصحابة ) أنه ظهر علي بن أبي طالب من بعيد فقال عليه السلام هذا سيد العرب فقالت عائشة ألست أنت سيد العرب فقال أنا أسيد العالمين وهو سيد العرب وهذا يدل على أنه أفضل الأنبياء عليهم السلام
الحجة الخامسة عشرة روى مجاهد عن ابن عباس قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي ولا فخر بعثت إلى الأحمر والأسود وكان النبي قبلي يبعث إلى قومه وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ونصرت بالرعب أمامي مسيرة شهر وأحلت لي الغنائم ولم تكن لأحد قبلي وأعطيت الشفاعة فادخرتها لأمتي فهي نائلة إن شاء الله تعالى لمن لا يشرك بالله شيئاً ) وجه الاستدلال أنه صريح في أن الله فضله بهذه الفضائل على غيره
الحجة السادسة عشرة قال محمد بن عيسى الحكيم الترمذي في تقرير هذا المعنى إن كل أمير فإنه تكون مؤنته على قدر رعيته فالأمير الذي تكون أمارته على قرية تكون مؤنته بقدر تلك القرية ومن ملك الشرق والغرب احتاج إلى أموال وذخائر أكثر من أموال أمير تلك القرية فكذلك كل رسول بعث إلى قومه فأعطي من كنوز التوحيد وجواهر المعرفة على قدر ما حمل من الرسالة فالمرسل إلى قومه في طرف مخصوص من الأرض إنما يعطي من هذه الكنوز الروحانية بقدر ذلك الموضع والمرسل إلى كل أهل الشرق والغرب إنسهم وجنهم لا بد وأن يعطي من المعرفة بقدر ما يمكنه أن يقوم بسعيه بأمور أهل الشرق والغرب وإذا كان كذلك كانت نسبة نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) إلى نبوة سائر الأنبياء كنسبة كل المشارق والمغارب إلى ملك بعض البلاد المخصوصة ولما كان كذلك لا جرم أعطي من كنوز الحكمة والعلم ما لم يعط أحد قبله فلا جرم بلغ في العلم إلى الحد الذي لم يبلغه أحد من البشر قال تعالى في حقه فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ( النجم 10 ) وفي الفصاحة إلى أن قال ( أوتيت جوامع الكلم ) وصار كتابه مهيمناً على الكتب وصارت أمته خير الأمم
الحجة السابعة عشرة روى محمد بن الحكيم الترمذي رحمه الله في كتاب ( النوادر ) عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( إن الله اتخذ إبراهيم خليلاً وموسى نجياً واتخذني حبيباً ثم قال وعزتي وجلالي لأوثرن حبيبي على خليلي ونجيي )
الحجة الثامنة عشرة في ( الصحيحين ) عن همام بن منبه عن أبي هريرة قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل ابتنى بيوتاً فأحسنها وأجملها وأكملها إلا موضع لبنة من زاوية من زواياها فجعل الناس يطوفون به ويعجبهم البنيان فيقولون ألا وضعت ههنا لبنة فيتم بناؤك فقال محمد كنت أنا تلك اللبنة )
الحجة التاسعة عشرة أن الله تعالى كلما نادى نبياً في القرآن ناداه باسمه أَجْمَعِينَ وَيَئَادَمُ اسْكُنْ ( البقرة 35 ) وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإِبْراهِيمُ إِبْرَاهِيمَ ( الصافات 104 ) حَدِيثُ مُوسَى إِنّى أَنَاْ رَبُّكَ ( طه 10 11 ) وأما النبي عليه السلام فإنه ناداه بقوله مُّنتَظِرُونَ ياأَيُّهَا النَّبِى ّ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وذلك يفيد الفضل
واحتج المخالف بوجوه الأول أن معجزات الأنبياء كانت أعظم من معجزاته فإن آدم عليه السلام كان مسجوداً للملائكة وما كان محمد عليه السلام كذلك وإن إبراهيم عليه السلام ألقى في النيران العظيمة فانقلبت روحاً وريحاناً عليه وأن موسى عليه السلام أوتي تلك المعجزات العظيمة ومحمد ما كان

له مثلها وداود لأن له الحديد في يده وسليمان كان الجن والإنس والطير والوحش والرياح مسخرين له وما كان ذلك حاصلاً لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وعيسى أنطقه الله في الطفولية وأقدره على إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وما كان ذلك حاصلاً لمحمد ( صلى الله عليه وسلم )
الحجة الثانية أنه تعالى سمى إبراهيم في كتابه خليلاً فقال وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً ( النساء 125 ) وقال في موسى عليه السلام وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً ( النساء 164 ) وقال في عيسى عليه السلام فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا ( التحريم 12 ) وشيء من ذلك لم يقله في حق محمد عليه السلام
الحجة الثالثة قوله عليه السلام ( لا تفضلوني على يونس بن متى ) وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا تخيروا بين الأنبياء )
الحجة الرابعة روي عن ابن عباس قال كنا في المسجد نتذاكر فضل الأنبياء فذكرنا نوحاً بطول عبادته وإبراهيم بخلته وموسى بتكليم الله تعالى إياه وعيسى برفعه إلى السماء وقلنا رسول الله أفضل منهم بعث إلى الناس كافة وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وهو خاتم الأنبياء فدخل رسول الله فقال فيم أنتم فذكرنا له فقال ( لا ينبغي لأحد أن يكون خيراً من يحيى بن زكريا ) وذلك أنه لم يعمل سيئة قط ولم يهم بها
والجواب أن كون آدم عليه السلام مسجوداً للملائكة لا يوجب أن يكون أفضل من محمد عليه السلام بدليل قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( آدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة ) وقال ( كنت نبياً وآدم بين الماء والطين ) ونقل أن جبريل عليه السلام أخذ بركاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ليلة المعراج وهذا أعظم من السجود وأيضاً أنه تعالى صلى بنفسه على محمد وأمر الملائكة والمؤمنين بالصلاة عليه وذلك أفضل من سجود الملائكة ويدل عليه وجوه الأول أنه تعالى أمر الملائكة بسجود آدم تأديباً وأمرهم بالصلاة على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) تقريباً والثاني أن الصلاة على محمد عليه السلام دائمة إلى يوم القيامة وأما سجود الملائكة لآدم عليه السلام ما كان إلا مرة واحدة الثالث أن السجود لآدم إنما تولاه الملائكة وأما الصلاة على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإنما تولاها رب العالمين ثم أمر بها الملائكة والمؤمنين والرابع أن الملائكة أمروا بالسجود لآدم لأجل أن نور محمد عليه السلام في جبهة آدم
فإن قيل إنه تعالى خص آدم بالعلم فقال وَعَلَّمَ ءادَمَ الاسْمَاء كُلَّهَا ( البقرة 31 ) وأما محمد عليه السلام فقال في حقه مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ ( الشورى 52 ) وقال وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى ( الضحى 7 ) وأيضاً فمعلم آدم هو الله تعالى قال وَعَلَّمَ ءادَمَ الاسْمَاء ومعلم محمد عليه السلام جبريل عليه السلام لقوله عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ( النجم 5 )
والجواب أنه تعالى قال في علم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ( النساء 113 ) وقال عليه السلام ( أدبني ربي فأحسن تأديبي ) وقال تعالى الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْءانَ ( الرحمن 2 ) وكان عليه السلام يقول ( أرنا الأشياء كما هي ) وقال تعالى لمحمد عليه السلام وَقُل رَّبّ زِدْنِى عِلْماً ( طه 114 ) وأما الجمع بينه وبين قوله تعالى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى فذاك بحسب التلقين وأما التعليم فمن الله تعالى كما أنه تعالى قال قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ ( السجدة 11 ) ثم قال تعالى اللَّهُ يَتَوَفَّى الاْنفُسَ حِينَ مِوْتِهَا ( الزمر 42 )

فإن قيل قال نوح عليه السلام وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ ( الشعراء 114 ) وقال الله تعالى لمحمد عليه السلام وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ ( الأنعام 52 ) وهذا يدل على أن خلق نوح أحسن
قلنا إنه تعالى قال إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( نوح 1 ) فكان أول أمره العذاب وأما محمد عليه السلام فقيل فيه وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَة ً لّلْعَالَمِينَ ( الأنبياء 107 ) لقد جاءكم رسول من أنفسكم ( التوبة 128 ) إلى قوله ( التوبة 128 ) إلى قوله رَءوفٌ رَّحِيمٌ فكان عاقبة نوح أن قال رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الاْرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً ( نوح 26 ) وعاقبة محمد عليه السلام الشفاعة عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا ( الإسراء 79 ) وأما سائر المعجزات فقد ذكر في ( كتب دلائل النبوة ) في مقابلة كل واحد منها معجزة أفضل منها لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهذا الكتاب لا يحتمل أكثر مما ذكرناه والله أعلم
وأما قوله تعالى مّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ اللَّهِ ففيه مسائل
المسألة الأولى المراد منه من كلمه الله تعالى والهاء تحذف كثيراً كقوله تعالى وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الاْنْفُسُ وَتَلَذُّ الاْعْيُنُ ( الزخرف 71 )
المسألة الثانية قرىء كَلَامَ اللَّهِ بالنصب والقراءة الأولى أدل على الفضل لأن كل مؤمن فإنه يكلم الله على ما قال عليه السلام ( المصلي مناج ربه ) إنما الشرف في أن يكلمه الله تعالى وقرأ اليماني عَبْدُ اللَّهِ من المكالمة ويدل عليه قولهم كليم الله بمعنى مكالمه
المسألة الثالثة اختلفوا في أن من كلمه الله فالمسموع هو الكلام القديم الأزلي الذي ليس بحرف ولا صوت أم غيره فقال الأشعري وأتباعه المسموع هو ذلك فإنه لما لم يمتنع رؤية ما ليس بمكيف فكذا لا يستبعد سماع ما ليس بمكيف وقال الماتريدي سماع ذلك الكلام محال وإنما المسموع هو الحرف والصوت
المسألة الرابعة اتفقوا على أن موسى عليه السلام مراد بقوله تعالى مّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ اللَّهُ قالوا وقد سمع من قوم موسى السبعون المختارون وهم الذين أرادهم الله بقوله وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً ( الأعراف 155 ) وهل سمعه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ليلة المعراج اختلفوا فيه منهم من قال نعم بدليل قوله فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ( النجم 10 )
فإن قيل إن قوله تعالى مّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ اللَّهُ المقصود منه بيان غاية منقبة أولئك الأنبياء الذين كلم الله تعالى ولهذا السبب لما بالغ في تعظيم موسى عليه السلام قال وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً ثم جاء في القرآن مكالمة بين الله وبين إبليس حيث قال أَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ لِلَّهِ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ( ص 79 81 ) إلى آخر هذه الآيات وظاهر هذه الآيات يدل على مكالمة كثيرة بين الله وبين إبليس فإن كان ذلك يوجب غاية الشرف فكيف حصل لإبليس الذم وإن لم يوجب شرفاً فكيف ذكره في معرض التشريف لموسى عليه السلام حيث قال وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً
والجواب أن قصة إبليس ليس فيها ما يدل على أنه تعالى قال تلك الجوابات معه من غير واسطة فلعل

الواسطة كانت موجودة
أما قوله تعالى وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ففيه قولان الأول أن المراد منه بيان أن مراتب الرسل متفاوتة وذلك لأنه تعالى اتخذ إبراهيم خليلاً ولم يؤت أحداً مثله هذه الفضيلة وجمع لداود الملك والنبوة ولم يحصل هذا لغيره وسخر لسليمان الإنس والجن والطير والريح ولم يكن هذا حاصلاً لأبيه داود عليه السلام ومحمد عليه السلام مخصوص بأنه مبعوث إلى الجن والإنس وبأن شرعه ناسخ لكل الشرائع وهذا إن حملنا الدرجات على المناصب والمراتب أما إذا حملناها على المعجزات ففيه أيضاً وجه لأن كل واحد من الأنبياء أوتي نوعاً آخر من المعجزة لائقاً بزمانه فمعجزات موسى عليه السلام وهي قلب العصا حية واليد البيضاء وفلق البحر كان كالشبيه بما كان أهل ذلك العصر متقدمين فيه وهو السحر ومعجزات عيسى عليه السلام وهي إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى كانت كالشبيه بما كان أهل ذلك العصر متقدمين فيه وهو الطب ومعجزة محمد عليه السلام وهي القرآن كانت من جنس البلاغة والفصاحة والخطب والأشعار وبالجملة فالمعجزات متفاوتة بالقلة والكثرة وبالبقاء وعدم البقاء وبالقوة وعدم القوة وفيه وجه ثالث وهو أن يكون المراد بتفاوت الدرجات ما يتعلق بالدنيا وهو كثرة الأمة والصحابة وقوة الدولة فإذا تأملت الوجوه الثلاثة علمت أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) كان مستجمعاً للكل فمنصبه أعلى ومعجزاته أبقى وأقوى وقومه أكثر ودولته أعظم وأوفر
القول الثاني أن المراد بهذه الآية محمد عليه السلام لأنه هو المفضل على الكل وإنما قال وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ على سبيل التنبيه والرمز كمن فعل فعلاً عظيماً فيقال له من فعل هذا فيقول أحدكم أو بعضكم ويريد به نفسه ويكون ذلك أفخم من التصريح به وسئل الحطيئة عن أشعر الناس فذكر زهيراً والنابغة ثم قال ولو شئت لذكرت الثالث أراد نفسه ولو قال ولو شئت لذكرت نفسي لم يبق فيه فخامة
فإن قيل المفهوم من قوله وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ هو المفهوم من قوله تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ فما الفائدة في التكرير وأيضاً قوله تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ كلام كلي وقوله بعد ذلك مّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ اللَّهُ شروع في تفصيل تلك الجملة وقوله بعد ذلك وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ إعادة لذلك الكلي ومعلوم أن إعادة الكلام بعد الشروع في تفصيل جزئياته يكون مستدركاً
والجواب أن قوله تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ يدل على إثبات تفضيل البعض على البعض فأما أن يدل على أن ذلك التفضيل حصل بدرجات كثيرة أو بدرجات قليلة فليس فيه دلالة عليه فكان قوله وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ فيه فائدة زائدة فلم يكن تكريراً
أما قوله تعالى وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا ففيه سؤالات
السؤال الأول أنه تعالى قال في أول الآية فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ثم عدل عن هذا النوع من الكلام إلى المغايبة فقال مّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ثم عدل من المغايبة إلى النوع الأول فقال وَلَقَدْ ءاتَيْنَا ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ فما الفائدة في العدول عن المخاطبة إلى المغايبة ثم عنها إلى المخاطبة مرة أخرى

والجواب أن قوله مّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ اللَّهُ أهيب وأكثر وقعاً من أن يقال منهم من كلمنا ولذلك قال وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً فلهذا المقصود اختار لفظة الغيبة
وأما قوله وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا فإنما اختار لفظ المخاطبة لأن الضمير في قوله وَءاتَيْنَا ضمير التعظيم وتعظيم المؤتى يدل على عظمة الإيتاء
السؤال الثاني لم خص موسى وعيسى من بين الأنبياء بالذكر وهل يدل ذلك على أنهما أفضل من غيرهما
والجواب سبب التخصيص أن معجزاتهما أبر وأقوى من معجزات غيرهما وأيضاً فأمتهما موجودون حاضرون في هذا الزمان وأمم سائر الأنبياء ليسوا موجودين فتخصيصهما بالذكر تنبيه على الطعن في أمتهما كأنه قيل هذان الرسولان مع علو درجتهما وكثرة معجزاتهما لم يحصل الانقياد من أمتهما بل نازعوا وخالفوا وعن الواجب عليهم في طاعتهما أعرضوا
السؤال الثالث تخصيص عيسى بن مريم بإيتاء البينات يدل أو يوهم أن إيتاء البينات ما حصل في غيره ومعلوم أن ذلك غير جائز فإن قلت إنما خصهما بالذكر لأن تلك البينات أقوى فنقول إن بينات موسى عليه السلام كانت أقوى من بينات عيسى عليه السلام فإن لم تكن أقوى فلا أقل من المساواة
الجواب المقصود منه التنبيه على قبح أفعال اليهود حيث أنكروا نبوة عيسى عليه السلام مع ما ظهر على يديه من البينات اللائحة
السؤال الرابع البينات جمع قلة وذلك لا يليق بهذا المقام
قلنا لا نسلم أنه جمع قلة والله أعلم
أما قوله تعالى وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ففيه مسألتان
المسألة الأولى القدس تثقله أهل الحجاز وتخففه تميم
المسألة الثانية في تفسيره أقوال الأول قال الحسن القدس هو الله تعالى وروحه جبريل عليه السلام والإضافة للتشريف والمعنى أعناه بجبريل عليه السلام في أول أمره وفي وسطه وفي آخره أما في أول الأمر فلقوله فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا ( التحريم 12 ) وأما في وسطه فلأن جبريل عليه السلام علمه العلوم وحفظه من الأعداء وأما في آخر الأمر فحين أرادت اليهود قتله أعانه جبريل عليه السلام ورفعه إلى السماء والذي يدل على أن روح القدس جبريل عليه السلام قوله تعالى قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ ( النحل 102 )
والقول الثاني وهو المنقول عن ابن عباس أن روح القدس هو الاسم الذي كان يحيي به عيسى عليه السلام الموتى
والقول الثالث وهو قول أبي مسلم أن روح القدس الذي أيد به يجوز أن يكون الروح الطاهرة التي نفخها الله تعالى فيه وأبانه بها عن غيره ممن خلق من اجتماع نطفتي الذكر والأنثى
ثم قال تعالى وَلَوْ شَاء اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وفيه مسائل

المسألة الأولى تعلق هذه بما قبلها هو أن الرسل بعدما جاءتهم البينات ووضحت لهم الدلائل والبراهين اختلفت أقوامهم فمنهم من آمن ومنهم من كفر وبسبب ذلك الاختلاف تقاتلوا وتحاربوا
المسألة الثانية احتج القائلون بأن كل الحوادث بقضاء الله وقدره بهذه الآية وقالوا تقدير الآية ولو شاء الله أن لا يقتتلوا لم يقتتلوا والمعنى أن عدم الاقتتال لازم لمشيئة عدم الاقتتال وعدم اللازم يدل على عدم اللزوم فحيث وجد الاقتتال علمنا أن مشيئه عدم الاقتتال مفقودة بل كان الحاصل هو مشيئة الاقتتال ولا شك أن ذلك الاقتتال معصية فدل ذلك على أن الكفر والإيمان والطاعة والعصيان بقضاء الله وقدره ومشيئته وعلى أن قتل الكفار وقتالهم للمؤمنين بإرادة الله تعالى
وأما المعتزلة فقد أجابوا عن الاستدلال وقالوا المقصود من الآية بيان أن الكفار إذا قتلوا فليس ذلك بغلبة منهم لله تعالى وهذا المقصود يحصل بأن يقال إنه تعالى لو شاء لأهلكهم وأبادهم أو يقال لو شاء لسلب القوى والقدر منهم أو يقال لو شاء لمنعهم من القتال جبراً وقسراً وإذا كان كذلك فقوله وَلَوْ شَاء اللَّهُ المراد منه هذه الأنواع من المشيئة وهذا كما يقال لو شاء الإمام لم يعبد المجوس النار في مملكته ولم تشرب النصارى الخمر والمراد منه المشيئة التي ذكرناها وكذا ههنا ثم أكد القاضي هذه الأجوبة وقال إذا كانت المشيئة تقع على وجوه وتنتفي على وجوه لم يكن في الظاهر دلالة على الوجه المخصوص لا سيما وهذه الأنواع من المشيئة متباينة متنافية
والجواب أن أنواع المشيئة وإن اختلفت وتباينت إلا أنها مشتركة في عموم كونها مشيئة والمذكور في الآية في معرض الشرط هو المشيئة من حيث إنها مشيئة لا من حيث إنها مشيئة خاصة فوجب أن يكون هذا المسمى حاصلاً وتخصيص المشيئة بمشيئة خاصة وهي إما مشيئة الهلاك أو مشيئة سلب القوى والقدر أو مشيئة القهر والإجبار تقييد للمطلق وهو غير جائز وكما أن هذا التخصيص على خلاف ظاهر اللفظ فهو على خلاف الدليل القاطع وذلك لأن الله تعالى إذا كان عالماً بوقوع الاقتتال والعلم بوقوع الاقتتال حال عدم وقوع الاقتتال جمع بين النفي والإثبات وبين السلب والإيجاب فحال حصول العلم بوجود الاقتتال لو أراد عدم الاقتتال لكان قد أراد الجمع بين النفي والإثبات وذلك محال فثبت أن ظاهر الآية على ضد قولهم والبرهان القاطع على ضد قولهم وبالله التوفيق
ثم قال وَلَاكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُمْ مَّنْ ءامَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ فقد ذكرنا في أول الآية أن المعنى ولو شاء لم يختلفوا وإذا لم يختلفوا لم يقتتلوا وإذا اختلفوا فلا جرم اقتتلوا وهذه الآية دالة على أن الفعل لا يقع إلا بعد حصول الداعي لأنه بين أن الاختلاف يستلزم التقاتل والمعنى أن اختلافهم في الدين يدعوهم إلى المقاتلة وذلك يدل على أن المقاتلة لا تقع إلا لهذا الداعي وعلى أنه متى حصل هذا الداعي وقعت المقاتلة فمن هذا الوجه يدل على أن الفعل ممتنع الوقوع عند عدم الداعي وواجب عند حصول الداعي ومتى ثبت ذلك ظهر أن الكل بقضاء الله وقدره لأن الدواعي تستند لا محالة إلى داعية يخلقها الله في العبد دفعاً للتسلسل فكانت الآية دالة أيضاً من هذا الوجه على صحة مذهبنا
ثم قال وَلَوْ شَاء اللَّهُ مَا اقْتَتَلُواْ فإن قيل فما الفائدة في التكرير
قلنا قال الواحدي رحمه الله تعالى إنما كرره تأكيداً للكلام وتكذيباً لمن زعم أنهم فعلوا ذلك من عند

أنفسهم ولم يجر به قضاء ولا قدر من الله تعالى
ثم قال وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ فيوفق من يشاء ويخذل من يشاء لا اعتراض عليه في فعله واحتج الأصحاب بهذه الآية على أنه تعالى هو الخالق لإيمان المؤمنين وقالوا لأن الخصم يساعد على أنه تعالى يريد الإيمان من المؤمن ودلت الآية على أنه يفعل كل ما يريد فوجب أن يكون الفاعل لإيمان المؤمن هو الله تعالى وأيضاً لما دل على أنه يفعل كل ما يريد فلو كان يريد الإيمان من الكفار لفعل فيهم الإيمان ولكانوا مؤمنين ولما لم يكن كذلك دل على أنه تعالى لا يريد الإيمان منهم فكانت هذه الآية دالة على مسألة خلق الأعمال وعلى مسألة إرادة الكائنات والمعتزلة يقيدون المطلق ويقولون المراد يفعل كل ما يريد من أفعال نفسه وهذا ضعيف لوجوه أحدها أنه تقييد للمطلق والثاني أنه على هذا التقييد تصير الآية بياناً للواضحات فإنه يصير معنى الآية أنه يفعل ما يفعله الثالث أن كل أحد كذلك فلا يكون في وصف الله تعالى بذلك دليلاً على كمال قدرته وعلو مرتبته والله أعلم
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِى َ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّة ٌ وَلاَ شَفَاعَة ٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ
اعلم أن أصعب الأشياء على الإنسان بذل النفس في القتال وبذل المال في الإنفاق فلما قدم الأمر بالقتال أعقبه بالأمر بالإنفاق وأيضاً فيه وجه آخر وهو أنه تعالى أمر بالقتال فيما سبق بقوله وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثم أعقبه بقوله مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ( البقرة 245 ) والمقصود منه إنفاق المال في الجهاد ثم إنه مرة ثانية أكد الأمر بالقتال وذكر فيه قصة طالوت ثم أعقبه بالأمر بالإنفاق في الجهاد وهو قوله يُرِيدُ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَنفِقُواْ
إذا عرفت وجه النظم فنقول في الآية مسائل
المسألة الأولى المعتزلة احتجوا على أن الرزق لا يكون إلا حلالاً بقوله أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم فنقول الله تعالى أمر بالإنفاق من كل ما كان رزقاً بالإجماع أما ما كان حراماً فإنه لا يجوز إنفاقه وهذا يفيد القطع بأن الرزق لا يكون حراماً والأصحاب قالوا ظاهر الآية وإن كان يدل على الأمر بإنفاق كل ما كان رزقاً إلا أنا نخصص هذا الأمر بإنفاق كل ما كان رزقاً حلالاً
المسألة الثانية اختلفوا في أن قوله أَنفَقُواْ مختص بالإنفاق الواجب كالزكاة أم هو عام في كل الإنفاقات سواء كانت واجبة أو مندوبة فقال الحسن هذا الأمر مختص بالزكاة قال لأن قوله مّن قَبْلِ أَن يَأْتِى َ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّة ٌ كالوعد والوعيد لا يتوجه إلا على الواجب وقال الأكثرون هذا الأمر يتناول الواجب والمندوب وليس في الآية وعيد فكأنه قيل حصلوا منافع الآخرة حين تكونون في الدنيا فإنكم

إذا خرجتم من الدنيا لا يمكنكم تحصيلها واكتسابها في الآخرة والقول الثالث أن المراد منه الإنفاق في الجهاد والدليل عليه أنه مذكور بعد الأمر بالجهاد فكان المراد منه الإنفاق في الجهاد وهذا قول الأصم
المسألة الثالثة قرأ ابن كثير وأبو عمرو لاَّ بَيْعٌ وَلاَ خُلَّة ٌ وَلاَ شَفَاعَة ٌ بالنصب وفي سورة إبراهيم عليه السلام لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلَالٌ ( إبراهيم 31 ) وفي الطور لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ ( الطور 23 ) والباقون جميعاً بالرفع والفرق بين النصب والرفع قد ذكرناه في قوله فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ ( البقرة 197 )
المسألة الرابعة المقصود من الآية أن الإنسان يجىء وحده ولا يكون معه شيء مما حصله في الدنيا قال تعالى وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّة ٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ ( الأنعام 94 ) وقال وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً ( مريم 80 )
أما قوله لاَّ بَيْعٌ فِيهِ ففيه وجهان الأول أن البيع ههنا بمعنى الفدية كما قال فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَة ٌ ( الحديد 15 ) وقال وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ ( البقرة 123 ) وقال وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا ( الأنعام 7 ) فكأنه قال من قبل أن يأتي يوم لا تجارة فيه فتكتسب ما تفتدي به من العذاب والثاني أن يكون المعنى قدموا لأنفسكم من المال الذي هو في ملككم قبل أن يأتي اليوم الذي لا يكون فيه تجارة ولا مبايعة حتى يكتسب شيء من المال
أما قوله وَلاَ خُلَّة ٌ فالمراد المودة ونظيره من الآيات قوله تعالى الاْخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ ( الزخرف 67 ) وقال وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الاْسْبَابُ ( البقرة 166 ) وقال وَيَوْمَ الْقِيَامَة ِ يَكْفُرُونَ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ( العنكبوت 25 ) وقال حكاية عن الكفار فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ ( الشعراء 100 ) وقال وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ( البقرة 270 ) وأما قوله وَلاَ شَفَاعَة ٌ يقتضي نفي كل الشفاعات
واعلم أن قوله وَلاَ خُلَّة ٌ وَلاَ شَفَاعَة ٌ عام في الكل إلا أن سائر الدلائل دلت على ثبوت المودة والمحبة بين المؤمنين وعلى ثبوت الشفاعة للمؤمنين وقد بيناه في تفسير قوله تعالى وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ( البقرة 281 ) لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَة ٌ ( البقرة 48 )
واعلم أن السبب في عدم الخلة والشفاعة يوم القيامة أمور أحدها أن كل أحد يكون مشغولاً بنفسه على ما قال تعالى لِكُلّ امْرِىء مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ ( عبس 37 ) والثاني أن الخوف الشديد غالب على كل أحد على ما قال عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَة ٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى ( الحج 2 ) والثالث أنه إذا نزل العذاب بسبب الكفر والفسق صار مبغضاً لهذين الأمرين وإذا صار مبغضاً لهما صار مبغضاً لمن كان موصوفاً بهما
أما قوله تعالى وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ فنقل عن عطاء بن يسار أنه كان يقول الحمد لله الذي قال وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ولم يقل الظالمون هم الكافرون ثم ذكروا في تأويل هذه الآية وجوهاً أحدها أنه تعالى لما قال وَلاَ خُلَّة ٌ وَلاَ شَفَاعَة ٌ أوهم ذلك نفي الخلة والشفاعة مطلقاً فذكر تعالى عقيبه وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ليدل على أن ذلك النفي مختص بالكافرين وعلى هذا التقدير تصير الآية دالة

على إثبات الشفاعة في حق الفساق قال القاضي هذا التأويل غير صحيح لأن قوله وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ كلام مبتدأ فلم يجب تعليقه بما تقدم
والجواب أنا لو جعلنا هذا الكلام مبتدأ تطرق الخلف إلى كلام الله تعالى لأن غير الكافرين قد يكون ظالماً أما إذا علقناه بما تقدم زال الإشكال فوجب المصير إلى تعليقه بما قبله
التأويل الثاني أن الكافرين إذا دخلوا النار عجزوا عن التخلص عن ذلك العذاب فالله تعالى لم يظلمهم بذلك العذاب بل هم الذين ظلموا أنفسهم حيث اختاروا الكفر والفسق حتى صاروا مستحقين لهذا العذاب ونظيره قوله تعالى وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ( الكهف 49 )
والتأويل الثالث أن الكافرين هم الظالمون حيث تركوا تقديم الخيرات ليوم فاقتهم وحاجتهم وأنتم أيها الحاضرون لا تقتدوا بهم في هذا الاختيار الردىء ولكن قدموا لأنفسكم ما تجعلونه يوم القيامة فدية لأنفسكم من عذاب الله
والتأويل الرابع الكافرون هم الظالمون لأنفسهم بوضع الأمور في غير مواضعها لتوقعهم الشفاعة ممن لا يشفع لهم عند الله فإنهم كانوا يقولون في الأوثان هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ ( يونس 18 ) وقالوا أيضاً مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ( الزمر 3 ) فمن عبد جماداً وتوقع أن يكون شفيعاً له عند الله فقد ظلم نفسه حيث توقع الخير ممن لا يجوز التوقع منه
والتأويل الخامس المراد من الظلم ترك الإنفاق قال تعالى اتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمِ مّنْهُ شَيْئًا ( الكهف 3 ) أي أعطت ولم تمنع فيكون معنى الآية والكافرون التاركون للإنفاق في سبيل الله وأما المسلم فلا بد وأن ينفق منه شيئاً قل أو كثر
والتأويل السادس وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ أي هم الكاملون في الظلم البالغون المبلغ العظيم فيه كما يقال العلماء هم المتكلمون أي هم الكاملون في العلم فكذا ههنا وأكثر هذه الوجوه قد ذكرها القفال رحمه الله والله أعلم

بداية الجزء السابع من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32

اللَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ الْحَى ُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَة ٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرض مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ والأرض وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِى ُّ الْعَظِيمُ
اعلم أن من عادته سبحانه وتعالى في هذا الكتاب الكريم أنه يخلط هذه الأنواع الثلاثة بعضها بالبعض أعني علم التوحيد وعلم الأحكام وعلم القصص والمقصود من ذكر القصص إما تقرير دلائل التوحيد وإما المبالغة في إلزام الأحكام والتكاليف وهذا الطريق هو الطريق الأحسن لا إبقاء الإنسان في النوع الواحد لأنه يوجب الملال فأما إذا انتقل من نوع من العلوم إلى نوع آخر فكأنه يشرح به الصدر ويفرح به القلب فكأنه سافر من بلد إلى بلد آخر وانتقل من بستان إلى بستان آخر وانتقل من تناول طعام لذيذ إلى تناول نوع آخر ولا شك أنه يكون ألذ وأشهى ولما ذكر فيما تقدم من علم الأحكام ومن علم القصص ما رآه مصلحة ذكر الآن ما يتعلق بعلم التوحيد فقال اللَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ الْحَى ُّ الْقَيُّومُ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في فضائل هذه الآية روي عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( ما قرئت هذه الآية في دار إلا اهتجرتها الشياطين ثلاثين يوماً ولا يدخلها ساحر ولا ساحرة أربعين ليلة ) وعن علي أنه قال سمعت نبيّكم على أعواد المنبر وهو يقول ( من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت ولا يواظب عليها إلا صديق أو عابد ومن قرأها إذا أخذ مضجعه أمنه الله على نفسه وجاره وجار جاره والأبيات التي حوله ) وتذاكر الصحابة أفضل ما في القرآن فقال لهم علي أين أنتم من آية الكرسي ثم قال قال لي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يا علي سيد البشر آدم وسيد العرب محمد ولا فخر وسيد الكلام القرآن وسيد

القرآن البقرة وسيد البقرة آية الكرسي ) وعن علي أنه قال لما كان يوم بدر قاتلت ثم جئت إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنظر ماذا يصنع قال فجئت وهو ساجد يقول يا حي يا قيوم لا يزيد على ذلك ثم رجعت إلى القتال ثم جئت وهو يقول ذلك فلا أزال أذهب وأرجع وأنظر إليه وكان لا يزيد على ذلك إلى أن فتح الله له
واعلم أن الذكر والعلم يتبعان المذكور والمعلوم فكلما كان المذكور والمعلوم أشرف كان الذكر والعلم أشرف وأشرف المذكورات والمعلومات هو الله سبحانه بل هو متعال عن أن يقال إنه أشرف من غيره لأن ذلك يقتضي نوع مجانسة ومشاكلة وهو مقدس عن مجانسة ما سواه فلهذا السبب كل كلام اشتمل على نعوت جلاله وصفات كبريائه كان ذلك الكلام في نهاية الجلال والشرف ولما كانت هذه الآية كذلك لا جرم كانت هذه الآية بالغة في الشرف إلى أقصى الغايات وأبلغ النهايات
المسألة الثانية اعلم أن تفسير لفظة اللَّهِ قد تقدم في أول الكتاب وتفسير قوله لاَ إله إِلاَّ هُوَ قد تقدم في قوله وَإِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ واحِدٌ لاَّ إله إِلاَّ هُوَ ( البقرة 163 ) بقي هاهنا أن نتكلم في تفسير قوله الْحَى ُّ الْقَيُّومُ وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه كان يقول أعظم أسماء الله الْحَى ُّ الْقَيُّومُ وما روينا أنه صلوات الله وسلامه عليه ما كان يزيد على ذكره في السجود يوم بدر يدل على عظمة هذا الاسم والبراهين العقلية دالة على صحته وتقريره ومن الله التوفيق أنه لا شك في وجود الموجودات فهي إما أن تكون بأسراها ممكنة وإما أن تكون بأسراها واجبة وإما أن تكون بعضها ممكنة وبعضها واجبة لا جائز أن تكون بأسراها ممكنة لأن كل مجموع فهو مفتقر إلى كل واحد من أجزائه وكل واحد من أجزاء هذا المجموع ممكن والمفتقر إلى الممكن أولى بالإمكان فهذا المجموع ممكن بذاته وكل واحد من أجزائه ممكن فإنه لا يترجح وجوده على عدمه إلا لمرجح مغاير له فهذا المجموع مفتقر بحسب كونه مجموعاً وبحسب كل واحد من أجزائه إلى مرجح مغاير له وكل ما كان مغايراً لكل الممكنات لم يكن ممكناً فقد وجد موجود ليس بممكن فبطل القول بأن كل موجود ممكن وأما القسم الثاني وهو أن يقال الموجودات بأسرها واجبة فهذا أيضاً باطل لأنه لو حصل وجودان كل واحد منهما واجب لذاته لكانا مشتركين في الوجوب بالذات ومتغايرين بالنفي وما به المشاركة مغاير لما به الممايزة فيكون كل واحد منهما مركباً في الوجوب الذي به المشاركة ومن الغير الذي به الممايزة وكل مركب فهو مفتقر إلى كل واحد من جزئه وجزء غيره وكل مركب فهو مفتقر إلى غيره وكل مفتقر إلى غيره فهو ممكن لذاته فلو كان واجب الوجود أكثر من واحد لما كان شيء منها واجب الوجود وذلك محال ولما بطلل هذان القسمان ثبت أنه حصل في مجموع الموجودات موجود واحد واجب الوجود لذاته وإن كل ما عداه فهو ممكن لذاته موجود بإيجاد ذلك الموجود الذي هو واجب الوجود لذاته ولما بطل هذان فالواجب لذاته موجود لذاته وبذاته ومستغن في وجوده عن كل ما سواه وأما كل ما سواه فمفتقر في وجوده وماهيته إلى إيجاد الواجب لذاته فالواجب لذاته قائم بذاته وسبب لتقوم كل ما سواه في ماهيته وفي وجوده فهو القيوم الحي بالنسبة إلى كل الموجودات فالقيوم هو المتقوم بذاته المقوم لكل ما عداه في ماهيته ووجوده ولما كان واجب الوجود لذاته كان هو القيوم الحق بالنسبة إلى الكل ثم إنه لما كان المؤثر في الغير إما أن يكون مؤثراً على سبيل العلية والإيجاب وإما أن يكون مؤثراً على سبيل الفعل والاختيار لا جرم أزال وهم كونه مؤثراً بالعلية والإيجاب بقوله الْحَى ُّ الْقَيُّومُ فإن الْحَى ّ هو الدرك

الفعال فبقوله الْحَى ّ دل على كونه عالماً قادراً وبقوله الْقَيُّومُ دل على كونه قائماً بذاته ومقوماً لكل ما عداه ومن هذين الأصلين تتشعب جميع المسائل المعتبرة في علم التوحيد
فأولها أن واجب الوجود واحد بمعنى أن ماهيته غير مركبة من الأجزاء وبرهانه أن كل مركب فإنه مفتقر في تحققه إلى تحقق كل واحد من أجزائه وجزؤه غيره وكل مركب فهو متقوم بغيره والمتقوم بغيره لا يكون متقوماً بذاته فلا يكون قيوماً وقد بينا بالبرهان أنه قيوم وإذا ثبت أنه تعالى في ذاته واحد فهذا الأصل له لازمان أحدها أن واجب الوجود واحد بمعنى أنه ليس في الوجود شيئان كل واحد منهما واجب لذاته إذ لو فرض ذلك لاشتركا في الوجوب وتباينا في التعين وما به المشاركة غير ما به المباينة فيلزم كون كل واحد منهما في ذاته مركباً من جزأين وقد بينا بيان أنه محال
اللازم الثاني أنه لما امتنع في حقيقته أن تكون مركبة من جزأين امتنع كونه متحيزاً لأن كل متحيز فهو منقسم وقد ثبت أن التركيب عليه ممتنع وإذا ثبت أنه ليس بمتحيزاً امتنع كونه في الجهة لأنه لا معنى للمتحيز إلا ما يمكن أن يشار إليه إشارة حسيّة وإذا ثبت أنه ليس بمتحيز وليس في الجهة امتنع أن يكون له أعضاء وحركة وسكون
وثانيها أنه لما كان قيوماً كان قائماً بذاته وكونه قائماً بذاته يستلزم أمور
اللازم الأول أن لا يكون عرضاً في موضوع ولا صورة في مادة ولا حالا في محل أصلاً لأن الحال مفتقر إلى المحل والمفتقر إلى الغير لا يكون قيوماً بذاته
واللازم الثاني قال بعض العلماء لا معنى للعلم إلا حضور حقيقة المعلوم للعالم فإذا كان قيوماً بمعنى كونه قائماً بنفسه لا بغيره كانت حقيقته حاضررة عند ذاته وإذا كان لا معنى للعلم إلا هذا الحضور وجب أن تكون حقيقته معلومة لذاته فإذن ذاته معلومة لذاته وكل ما عداه فإنه إنما يحصل بتأثيره ولأنا بينا أنه قيوم بمعنى كونه مقوماً لغيره وذلك التأثير إن كان بالاختيار فالفاعل المختار لا بدّ وأن يكون له شعور بفعله وإن كان بالإيجاب لزم أيضاً كونه عالماً بكل ما سواه لأن ذاته موجبة لكل ما سواه وقد دللنا على أنه يلزم من كونه قائماً بالنفس لذاته كونه عالماً بذاته والعلم بالعلة علة للعلم بالمعلول فعلى التقديرات كلها يلزم من كونه قيوماً كونه عالماً بجميع المعلومات
وثالثها لما كان قيوماً لكل ما سواه كان كل ما سواه محدثاً لأن تأثيره في تقويم ذلك الغير يمتنع أن يكون حال بقاء ذلك الغير لأن تحصيل الحاصل محال فهو إما حال عدمه وإما حال حدوثه وعلى التقديرين وجب أن يكون الكل محدثاً
ورابعها أنه لما كان قيوماً لكل الممكنات استندت كل الممكنات إليه إما بواسطة أو بغير واسطة وعلى التقديرين كان القول بالقضاء والقدر حقاً وهذا مما قد فصلناه وأوضحناه في هذا الكتاب في آيات كثيرة فأنت إن ساعدك التوفيق وتأملت في هذه المعاقد التي ذكرناها علمت أنه لا سبيل إلى الإحاطة بشيء من المسائل المتعلقة بالعلم الإلاهي إلا بواسطة كونه تعالى حياً قيوماً فلا جرم لا يبعد أن يكون الاسم الأعظم هو هذا وأما سائر الآيات الإلاهية كقوله وَإِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ واحِدٌ لاَّ إله إِلاَّ هُوَ ( البقرة 163 ) وقوله شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ

لا إله إِلاَّ هُوَ ( آل عمران 18 ) ففيه بيان التوحيد بمعنى نفي الضد والند وأما قوله قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ( الصمد 1 ) ففيه بيان التوحيد بمعنى نفي الضد والند وبمعنى أن حقيقته غير مركبة من الأجزاء وأما قوله إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الأعراف 54 ) ففيه بيان صفة الربوبية وليس فيه بيان وحدة الحقيقة أما قوله الْحَى ُّ الْقَيُّومُ فإنه يدل على الكل لأن كونه قيوماً يقتضي أن يكون قائماً بذاته وأن يكون مقوماً لغيره وكونه قائماً بذاته يقتضي الوحدة بمعنى نفي الكثرة في حقيقته وذلك يقتضي الوحدة بمعنى نفي الضد والند ويقتضي نفي التحيز وبواسطته يقتضي نفي الجهة وأيضاً كونه قيوماً بمعنى كونه مقوماً لغيره يقتضي حدوث كل ما سواه جسماً كان أو روحاً عقلاً كان أو نفساً ويقتضي استناد الكل إليه وانتهاء جملة الأسباب والمسببات إليه وذلك يوجب القول بالقضاء والقدر فظهر أن هذين اللفظين كالمحيطين بجميع مباحث العلم الإلاهي فلا جرم بلغت هذه الآية في الشرف إلى المقصد الأقصى واستوجب أن يكون هو الاسم الأعظم من أسماء الله تعالى
ثم إنه تعالى لما بين أنه حي قيوم أكد ذلك بقوله لاَ تَأْخُذُهُ سِنَة ٌ وَلاَ نَوْمٌ والمعنى أنه لا يغفل عن تدبير الخلق لأن القيم بأمر الطفل لو غفل عنه ساعة لاختل أمر الطفل فهو سبحانه قيم جميع المحدثات وقيوم الممكنات فلا يمكن أن يغفل عن تدبيرهم فقوله لاَ تَأْخُذُهُ سِنَة ٌ وَلاَ نَوْمٌ كالتأكيد لبيان كونه تعالى قائماً وهو كما يقال لمن ضيع وأهمل إنك لو سنان نائم ثم إنه تعالى لما بيّن كونه قيوماً بمعنى كونه قائماً بذاته مقوماً لغيره رتب عليه حكماً وهو قوله لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ لأنه لما كان كل ما سواه إنما تقومت ماهيته وإنما يحصل وجوده بتقويمه وتكوينه وتخليقه لزم أن يكون كل ما سواه ملكاً له وملكاً له وهو المراد من قوله لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ثم لما ثبت أنه هو الملك والمالك لكل ما سواه ثبت أن حكمه في الكل جار ليس لغيره في شيء من الأشياء حكم إلا بإذنه وأمره وهو المراد بقوله مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ثم لما بيّن أنه يلزم من كونه مالكاً للكل أن لا يكون لغيره في ملكه تصرف بوجه من الوجوه بيّن أيضاً أنه يلزم من كونه عالماً بالكل وكون غيره غير عالم بالكل أن لا يكون لغيره في ملكه تصرف بوجه من الوجوه إلا بإذنه وهو قوله يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وهو إشارة إلى كونه سبحانه عالماً بالكل ثم قال وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْء مّنْ عِلْمِهِ وهو إشارة إلى كون غيره غير عالم بجميع المعلومات ثم إنه لما بيّن كمال ملكه وحكمه في السماوات وفي الأرض بيّن أن ملكه فيما وراء السماوات والأرض أعظم وأجل وأن ذلك مما لا تصل إليه أوهام المتوهمين وينقطع دون الارتقاء إلى أدنى درجة من درجاتها المتخيلين فقال وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ثم بيّن أن نفاذ حكمه وملكه في الكل على نعت واحد وصورة واحدة فقال وَلاَ يُؤَدّهِ حِفْظُهُمَا ثم لما بين كونه قيوماً بمعنى كونه مقوماً للمحدثات والممكنات والمخلوقات بيّن كونه قيوماً بمعنى قائماً بنفسه وذاته منزّهاً عن الاحتياج إلى غيره في أمر من الأمور فتعالى عن أن يكون متحيزاً حتى يحتاج إلى مكان أو متغيراً حتى يحتاج إلى زمان فقال وَهُوَ الْعَلِى ُّ الْعَظِيمُ فالمراد منه العلو والعظمة بمعنى أنه لا يحتاج إلى غيره في أمر من الأمور ولا ينسب غيره في صفة من الصفات ولا في نعت من النعوت فقال وَهُوَ الْعَلِى ُّ الْعَظِيمُ إشارة إلى ما بدأ به في الآية من كونه قيوماً بمعنى كونه قائماً بذاته مقوماً لغيره ومن أحاط عقله بما ذكرنا علم أنه ليس عند العقول البشرية من الأمور الإلاهية كلام أكمل ولا برهان أوضح مما اشتملت عليه هذه الآيات

وإذا عرفت هذه الأسرار فلنرجع إلى ظاهر التفسير
أما قوله اللَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ ففيه مسألتان
المسألة الأولى اللَّهِ رفع بالابتداء وما بعده خبره
المسألة الثانية قال بعضهم الإله هو المعبود وهو خطأ لوجهين الأول أنه تعالى كان إلاهاً في الأزل وما كان معبوداً والثاني أنه تعالى أثبت معبوداً سواه في القرآن بقوله إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ( الأنبياء 98 ) بل الإله هو القادر على ما إذا فعله كان مسحتقاً للعبادة
أما قوله الْحَى ّ ففيه مسائل
المسألة الأولى الحي أصله حيي كقوله حذر وطمع فأدغمت الياء في الياء عند اجتماعهما وقال ابن الأنباري أصله الحيو فلما اجتمعت الياء والواو ثم كان السابق ساكناً فجعلنا ياء مشددة
المسألة الثانية قال المتكلمون الحي كل ذات يصح أن يعلم ويقدر واختلفوا في أن هذا المفهوم صفة موجودة أم لا فقال بعضهم إنه عبارة عن كون الشيء بحيث لا يمتنع أنه يعلم ويقدر وعدم الامتناع لا يكون صفة موجودة وقال المحققون ولما كانت الحياة عبارة عن عدم الامتناع وقد ثبت أن الامتناع أمر عدمي إذ لو كان وصفاً موجوداً لكان الموصوف به موجوداً فيكون ممتنع الوجود موجوداً وهو محال وثبت أن الامتناع عدم وثبت أن الحياة عدم هذا الامتناع وثبت أن عدم العدم وجود لزم أي يكون المفهوم من الحياة صفة موجودة وهو المطلوب
المسألة الثالثة لقائل أن يقول لما كان معنى الحي هو أنه الذي يصح أن يعلم ويقدر وهذا القدر حاصل لجميع الحيوانات فكيف يحسن أن يمدح الله نفسه بصفة يشاركه فيها أخس الحيوانات
والذي عندي في هذا الباب أن الحي في أصل اللغة ليس عبارة عن هذه الصحة بل كل شيء كان كاملاً في جنسه فإنه يسمى حياً ألا ترى أن عمارة الأرض الخربة تسمى إحياء الموات وقال تعالى فَانظُرْ إِلَى ءاثَارِ رَحْمَة ِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْى ِ الاْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ( الروم 50 ) وقال إِلَى بَلَدٍ مَّيّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الاْرْضَ ( فاطر 9 ) والصفة المسماة في عرف المتكلمين إنما سميت بالحياة لأن كمال حال الجسم أن يكون موصوفاً بتلك الصفة فلا جرم سميت تلك الصفة حياة وكمال حال الأشجار أن لا تكون مورقة خضرة فلا جرم سميت هذه الحالة حياة وكمال الأرض أن تكون معمورة فلا جرم سميت هذه الحالة حياة فثبت أن المفهوم الأصلي من لفظ الحي كونه واقعاً على أكمل أحواله وصفاته وإذا كان كذلك فقد زال الإشكال لأن المفهوم من الحي هو الكامل ولما لم يكن ذلك مقيداً بأنه كامل في هذا دون ذاك دل على أنه كامل على الإطلاق فقوله الحي يفيد كونه كاملاً على الإطلاق والكامل هو أن لا يكون قابلاً للعدم لا في ذاته ولا في صفاته الحقيقة ولا في صفاته النسبية والإضافية ثم عند هذا إن خصصنا القيوم بكونه سبباً لتقويم غيره فقد زال الإشكال لأن كونه سبباً لتقويم غيره يدل على كونه متقوماً بذاته وكونه قيوماً يدل على كونه مقوماً لغيره وإن جعلنا القيوم اسماً يدل على كونه يتناول المتقوم بذاته والمقوم لغيره كان لفظ القيوم مفيداً فائدة لفظ الحي مع زيادة فهذا ما عندي في هذا الباب والله أعلم

أما قوله تعالى الْقَيُّومُ ففيه مسائل
المسألة الأولى القيوم في اللغة مبالغة في القائم فلما اجتمعت الياء والواو ثم كان السابق ساكناً جعلتا ياء مشددة ولا يجوز أن يكون على فعول لأنه لو كان كذا لكان قووما وفيه ثلاث لغات قيوم وقيام وقيم ويروى عن عمر رضي الله عنه أنه قرأ الحي القيام ومن الناس من قال هذه اللفظة عبرية لا عربية لأنهم يقولون حياً قيوماً وليس الأمر كذلك لأنا بينا أن له وجهاً صحيحاً في اللغة ومثله ما في الدار ديار وديور ودير وهو من الدوران أي ما بها خلق يدور يعني يجيء ويذهب وقال أُمية بن أبي الصلت قدرها المهيمن القيوم
المسألة الثانية اختلفت عبارات المفسرين في هذا الباب فقال مجاهد القيوم القائم على كل شيء وتأويله أنه قائم بتدبير أمر الخلق في إيجادهم وفي أرزاقهم ونظيره من الآيات قوله تعالى أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ( الرعد 33 ) وقال شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ ( آل عمران 18 ) إلى قوله قَائِمَاً بِالْقِسْطِ وقال إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مّن بَعْدِهِ ( فاطر 41 ) وهذا القول يرجع حاصله إلى كونه مقوماً لغيره وقال الضحاك القيوم الدائم الوجود الذي يمتنع عليه التغير وأقول هذا القول يرجع معناه إلى كونه قائماً بنفسه في ذاته وفي وجوده وقال بعضهم القيوم الذي لا ينام بالسريانية وهذا القول بعيد لأنه يصير قوله لاَ تَأْخُذُهُ سِنَة ٌ وَلاَ نَوْمٌ
أما قوله تعالى لاَ تَأْخُذُهُ سِنَة ٌ وَلاَ نَوْمٌ ففيه مسائل
المسألة الأولى السنة ما يتقدم من الفتور الذي يسمى النعاس
فإن قيل إذ كانت السنة عبارة عن مقدمة النوم فإذا قال الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَة ٌ فقد دل ذلك على أنه لا يأخذه نوم بطريق الأولى وكان ذكر النوم تكريراً
قلنا تقدير الآية لا تأخذه سنة فضلاً عن أن يأخذه النوم
المسألة الثانية الدليل العقلي دل على أن النوم والسهو والغفلة محالات على الله تعالى لأن هذه الأشياء إما أن تكون عبارات عن عدم العلم أو عن أضداد العلم وعلى التقديرين فجواز طريانها يقتضي جواز زوال علم الله تعالى فلو كان كذلك لكانت ذاته تعالى بحيث يصح أن يكون عالماً ويصح أن لا يكون عالماً فحينئذ يفتقر حصول صفة العلم له إلى الفاعل والكلام فيه كما في الأول والتسلسل محال فلا بد وأن ينتهي إلى من يكون علمه صفة واجبة الثبوت ممتنعة الزوال وإذا كان كذلك كان النوم والغفلة والسهو عليه محالا
المسألة الثالثة يروى عن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أنه حكي عن موسى عليه السلام أنه وقع في نفسه هل ينام الله تعالى أم لا فأرسل الله إليه ملكاً فأرقه ثلاثا ثم أعطاه قارورتين في كل يد واحدة وأمره بالاحتفاظ بهما وكان يتحرز بجهده إلى أن نام في آخر الأمر فاصطفقت يداه فانكسرت القارورتان فضرب الله تعالى ذلك مثلاً له في بيان أنه لو كان ينام لم يقدر على حفظ السماوات والأرض

واعلم أن مثل هذا لا يمكن نسبته إلى موسى عليه السلام فإن من جوز النوم على الله أو كان شاكاً في جوازه كان كافراً فكيف يجوز نسبة هذا إلى موسى بل إن صحت الرواية فالواجب نسبة هذا السؤال إلى جهال قومه
أما قوله تعالى لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ فالمراد من هذه الإضافة إضافة الخلق والملك وتقديره ما ذكرنا من أنه لما كان واجب الوجود واحداً كان ما عداه ممكن الوجود لذاته وكل ممكن فله مؤثر وكل ما له مؤثر فهو محدث فإذن كل ما سواه فهو محدث بإحداثه مبدع بإبداعه فكانت هذه الإضافة إضافة الملك والإيجاد
فإن قيل لم قال لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ ولم يقل له من في السماوات
قلنا لما كان المراد إضافة ما سواه إليه بالمخلوقية وكان الغالب عليه ما لا يعقل أجرى الغالب مجرى الكل فعبر عنه بلفظ مَا وأيضاً فهذه الأشياء إنما أسندت إليه من حيث إنها مخلوقة وهي من حيث إنها مخلوقة غير عاقلة فعبّر عنها بلفظ مَا للتنبيه على أن المراد من هذه الإضافة إليه الإضافة من هذه الجهة
واعلم أن الأصحاب قد احتجوا بهذه الآية على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى قالوا لأن قوله لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ يتناول كل ما في السماوات والأرض وأفعال العباد من جملة ما في السماوات والأرض فوجب أن تكون منتسبة إلى الله تعالى انتساب الملك والخلق وكما أن اللفظ يدل على هذا المعنى فالعقل يؤكده وذلك لأن كل ما سواه فهو ممكن لذاته والممكن لذاته لا يترجح إلا بتأثير واجب الوجود لذاته وإلا لزم ترجح الممكن من غير مرجح وهو محال
أما قوله تعالى مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ففيه مسألتان
المسألة الأولى قوله مَن ذَا الَّذِى استفهام معناه الإنكار والنفي أي لا يشفع عنده أحد إلا بأمره وذلك أن المشركين كانوا يزعمون أن الأصنام تشفع لهم وقد أخبر الله تعالى عنهم بأنهم يقولون مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ( الزمر 3 ) وقولهم هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ ( يونس 18 ) ثم بيّن تعالى أنهم لا يجدون هذا المطلوب فقال وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ ( يونس 18 ) فأخبر الله تعالى أنه لا شفاعة عنده لأحد إلا من استثناه الله تعالى بقوله إِلاَّ بِإِذْنِهِ ونظيره قوله تعالى يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَة ُ صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً ( النبأ 38 )
المسألة الثانية قال القفال إنه تعالى لا يأذن في الشفاعة لغير المطيعين إذ كان لا يجوز في حكمته التسوية بين أهل الطاعة وأهل المعصية وطول في تقريره
وأقول إن هذا القفال عظيم الرغبة في الاعتزال حسن الاعتقاد في كلماتهم ومع ذلك فقد كان قليل الإحاطة بأصولهم وذلك لأن من مذهب البصريين منهم أن العفو عن صاحب الكبيرة حسن في العقول إلا أن السمع دل على أن ذلك لا يقع وإذا كان كذلك كان الاستدلال العقلي على المنع من الشفاعة في حق العصاة خطأ على قولهم بل على مذهب الكعبي أن العفو عن المعاصي قبيح عقلاً فإن كان القفال على

مذهب الكعبي فحينئذ يستقيم هذا الاستدلال إلا أن الجواب عنه يرد ذلك من وجوه الأول أن العقاب حق الله تعالى وللمستحق أن يسقط حق نفسه بخلاف الثواب فإنه حق العبد فلا يكون لله تعالى أن يسقطه وهذا الفرق ذكره البصريون في الجواب عن شبهة الكعبي والثاني أن قوله لا يجوز التسوية بين المطيع والعاصي إن أراد به أنه لا يجوز التسوية بينهما في أمر من الأمور فهو جهل لأنه تعالى قد سوى بينهما في الخلق والحياة والرزق وإطعام الطيبات والتمكين من المرادات وإن كان المراد أنه لا يجوز التسوية بينهما في كل الأمور فنحن نقول بموجبه فكيف لا يقول ذلك والمطيع لا يكون له جزع ولا يكون خائفاً من العقاب والمذنب يكون في غاية الخوف وربما يدخل النار ويتألم مدة ثم يخلصه الله تعالى عن ذلك العذاب بشفاعة الرسول ( صلى الله عليه وسلم )
واعلم أن القفال رحمه الله كان حسن الكلام في التفسير دقيق النظر في تأويلات الألفاظ إلا أنه كان عظيم المبالغة في تقرير مذهب المعتزلة مع أنه كان قليل الحظ من علم الكلام قليل النصيب من معرفة كلام المعتزلة
أما قوله تعالى يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ففيه مسألتان
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) الضمير لما في السماوات والأرض لأن فيهم العقلاء أو لما دل عليه مَن ذَا من الملائكة والأنبياء
المسألة الثانية في الآية وجوه أحدها قال مجاهد وعطاء والسدي مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ما كان قبلهم من أمور الدنيا وَمَا خَلْفَهُمْ ما يكون بعدهم من أمر الآخرة والثاني قال الضحاك والكلبي يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ يعني الآخرة لأنهم يقدمون عليها وَمَا خَلْفَهُمْ الدنيا لأنهم يخلفونها وراء ظهورهم والثالث قال عطاء عن ابن عباس يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ من السماء إلى الأرض وَمَا خَلْفَهُمْ يُرِيدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ بعد انقضاء آجالهم وَمَا خَلْفَهُمْ أي ما كان من قبل أن يخلقهم والخامس ما فعلوا من خير وشر وما يفعلونه بعد ذلك
واعلم أن المقصود من هذا الكلام أنه سبحانه عالم بأحوال الشافع والمشفوع له فيما يتعلق باستحقاق العقاب والثواب لأنه عالم بجميع المعلومات لا يخفى عليه خافية والشفعاء لا يعلمون من أنفسهم أن لهم من الطاعة ما يستحقون به هذه المنزلة العظيمة عند الله تعالى ولا يعلمون أن الله تعالى هل أذن لهم في تلك الشفاعة وأنهم يستحقون المقت والزجر على ذلك وهذا يدل على أنه ليس لأحد من الخلائق أن يقدم على الشفاعة إلا بإذن الله تعالى
المسألة الثالثة هؤلاء المذكورون في هذه الآية يحتمل أن يكون هم الملائكة وسائر من يشفع يوم القيامة من النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين
أما قوله وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْء مّنْ عِلْمِهِ ففيه مسائل
المسألة الأولى المراد بالعلم هاهنا كما يقال اللّهم اغفر لنا علمك فينا أي معلومك وإذا ظهرت آية عظيمة قيل هذه قدرة الله أي مقدوره والمعنى أن أحداً لا يحيط بمعلومات الله تعالى

المسألة الثانية احتج بعض الأصحاب بهذه الآية في إثبات صفة العلم لله تعالى وهو ضعيف لوجوه أحدها أن كلمة مِنْ للتبعيض وهي داخلة هاهنا على العلم فلو كان المراد من العلم نفس الصفة لزم دخول التبعيض في صفة الله تعالى وهو محال والثاني أن قوله بِمَا شَاء لا يأتي في العلم إنما يأتي في المعلوم والثالث أن الكلام إنما وقع هاهنا في المعلومات والمراد أنه تعالى عالم بكل المعلومات والخلق لا يعلمون كل المعلومات بل لا يعلمون منها إلا القليل
المسألة الثالثة قال الليث يقال لكل من أحرز شيئاً أو بلغ علمه أقصاه قد أحاط به وذلك لأنه علم بأول الشيء وآخره بتمامه صار العلم كالمحيط به
أما قوله إِلاَّ بِمَا شَاء ففيه قولان أحدها أنهم لا يعلمون شيئاً من معلوماته إلا ما شاء هو أن يعلمهم كما حكي عنهم أنهم قالوا لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا والثاني أنهم لا يعلمون الغيب إلا عند إطلاع الله بعض أنبيائه على بعض الغيب كما قال عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ
أما قوله تعالى وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فاعلم أنه يقال وسع فلانا الشيء يسعه سعة إذا احتمله وأطاقه وأمكنه القيام به ولا يسعك هذا أي لا تطبقه ولا تحتمله ومنه قوله عليه السلام ( لو كان موسى حياً ما وسعه إلا أتباعي ) أي لا يحتمل غير ذلك وأما الكرسي فأصله في اللغة من تركب الشيء بعضه على بعض والكرسي أبوال الدواب وأبعارها يتلبد بعضها فوق بعض وأكرست الدار إذا كثرت فيها الأبعار والأبوال وتلبد بعضها على بعض وتكارس الشيء إذا تركب ومنه الكراسة لتركب بعض أوراقها على بعض والكرسي هو هذا الشيء المعروف لتركب خشباته بعضها فوق بعض
واختلف المفسرون على أربعة أقوال الأول أنه جسم عظيم يسع السماوات والأرض ثم اختلفوا فيه فقال الحسن الكرسي هو نفس العرش لأن السرير قد يوصف بأنه عرش وبأنه كرسي لكون كل واحد منهما بحيث يصح التمكن عليه وقال بعضهم بل الكرسي غير العرش ثم اختلفوا فمنهم من قال إنه دون العرش وفوق السماء السابعة وقال آخرون إنه تحت الأرض وهو منقول عن السدي
واعلم أن لفظ الكرسي ورد في الآية وجاء في الأخبار الصحيحة أنه جسم عظيم تحت العرش وفوق السماء السابعة ولا امتناع في القول به فوجب القول باتباعه وأما ما روي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال موضع القدمين ومن البعيد أن يقول ابن عباس هو موضع قدمي الله تعالى وتقدس عن الجوارح والأعضاء وقد ذكرنا الدلائل الكثيرة على نفي الجسمية في مواضع كثيرة من هذا الكتاب فوجب رد هذه الرواية أو حملها على أن المراد أن الكرسي موضع قدمي الروح الأعظم أو ملك آخر عظيم القدر عند الله تعالى
القول الثاني أن المراد من الكرسي السلطان والقدرة والملك ثم تارة يقال الإلاهية لا تحصل إلا بالقدرة والخلق والإيجاد والعرب يسمون أصل كل شيء الكرسي وتارة يسمى الملك بالكرسي لأن الملك يجلس على الكرسي فيسمى الملك باسم مكان الملك

القول الثالث أن الكرسي هو العلم لأن العلم موضع العالم وهو الكرسي فسميت صفة الشيء باسم مكان ذلك الشيء على سبيل المجاز لأن العلم هو الأمر المعتمد عليه والكرسي هو الشيء الذي يعتمد عليه ومنه يقال للعلماء كراسي لأنهم الذين يعتمد عليهم كما يقال لهم أوتاد الأرض
والقول الرابع ما اختاره القفال وهو أن المقصود من هذا الكلام تصوير عظمة الله وكبريائه وتقريره أنه تعالى خاطب الخلق في تعريف ذاته وصفاته بما اعتادوه في ملوكهم وعظمائهم من ذلك أنه جعل الكعبة بيتاً له يطوف الناس به كما يطوفون ببيوت ملوكهم وأمر الناس بزيارته كما يزور الناس بيوت ملوكهم وذكر في الحجر الأسود أنه يمين الله في أرضه ثم جعله موضعاً للتقبيل كما يقبل الناس أيدي ملوكهم وكذلك ما ذكر في محاسبة العباد يوم القيامة من حضور الملائكة والنبيّين والشهداء ووضع الموازين فعلى هذا القياس أثبت لنفسه عرشاً فقال الْعُلَى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ( طه 5 ) ثم وصف عرشه فقال وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء ( هود 7 ) ثم قال وَتَرَى الْمَلَائِكَة َ حَافّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِهِ رَّبُّهُمْ ( الزمر 75 ) وقال وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَة ٌ وقال الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ ( غافر 7 ) ثم أثبت لنفسه كرسياً فقال وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ
إذا عرفت هذا فنقول كل ما جاء من الألفاظ الموهمة للتشبيه في العرش والكرسي فقد ورد مثلها بل أقوى منها في الكعبة والطواف وتقبيل الحجر ولما توافقنا هاهنا على أن المقصود تعريف عظمة الله وكبريائه مع القطع بأنه منزّه عن الكعبة فكذا الكلام في العرش والكرسي وهذا جواب مبين إلا أن المعتمد هو الأول لأن ترك الظاهر بغير دليل لا يجوز والله أعلم
أما قوله تعالى وَلاَ يُؤَدّهِ حِفْظُهُمَا فاعلم أنه يقال آده يؤده إذا أثقله وأجهده وأدت العود أوداً وذلك إذا اعتمدت عليه بالثقل حتى أملته والمعنى لا يثقله ولا يشق عليه حفظهما أي حفظ السماوات والأرض
ثم قال وَهُوَ الْعَلِى ُّ الْعَظِيمُ واعلم أنه لا يجوز أن يكون المراد منه العلو بالجهة وقد دللنا على ذلك بوجوه كثيرة ونزيد هاهنا وجهين آخرين الأول أنه لو كان علوه بسبب المكان لكان لا يخلو إما أن يكون متناهياً في جهة فوق أو غير متناه في تلك الجهة والأول باطل لأنه إذا كان متناهياً في جهة فوق كان الجزء المفروض فوقه أعلى منه فلا يكون هو أعلى من كل ما عداه بل يكون غيره أعلى منه وإن كان غير متناه فهذا محال لأن القول بإثبات بعد لا نهاية له باطل بالبراهين اليقينية وأيضاً فإنا إذا قدرنا بعداً لا نهاية له لافترض في ذلك البعد نقط غير متناهية فلا يخلو إما أن يحصل في تلك النقط نقطة واحدة لا يفترض فوقها نقطة أخرى وإما أن لا يحصل فإن كان الأول كانت النقطة طرفاً لذلك البعد فيكون ذلك البعد متناهياً وقد فرضناه غير متناه هذا خلف وإن لم يوجد فيها نقطة إلا وفوقها نقطة أخرى كان كل واحدة من تلك النقط المفترضة في ذلك البعد سفلاً ولا يكون فيها ما يكون فوقاً على الاطلاق فحينئذ لا يكون لشيء من النفقات المفترضة في ذلك البعد علو مطلق ألبتة وذلك ينفي صفة العلوية

الحجة الثانية أن العالم كرة ومتى كان الأمر كذلك فكل جانب يفرض علواً بالنسبة إلى أحد وجهي الأرض يكون سفلاً بالنسبة إلى الوجه الثاني فينقلب غاية العلو غاية السفل
الحجة الثالثة أن كل وصف يكون ثبوته لأحد الأمرين بذاته وللآخر بتبعية الأول كان ذلك الحكم في الذاتي أتم وأكمل وفي العرضي أقل وأضعف فلو كان علو الله تعالى بسبب المكان لكان علو المكان الذي بسببه حصل هذا العلو لله تعالى صفة ذاتية ولكان حصول هذا العلو لله تعالى حصولاً بتبعية حصوله في المكان فكان علو المكان أتم وأكمل من علو ذات الله تعالى فيكون علو الله ناقصاً وعلو غيره كاملاً وذلك محال فهذه الوجوه قاطعة في أن علو الله تعالى يمتنع أن يكون بالجهة وما أحسن ما قال أبو مسلم بن بحر الأصفهاني في تفسير قوله قُل لّمَن مَّا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ قُل لِلَّهِ ( الأنعام 12 ) قال وهذا يدل على أن المكان والمكانيات بأسرها ملك الله تعالى وملكوته ثم قال وَلَهُ مَا سَكَنَ فِى الَّيْلِ وَالنَّهَارِ ( الأنعام 13 ) وهذا يدل على أن الزمان والزمانيات بأسرها ملك الله تعالى وملكوته فتعالى وتقدس عن أن يكون علوه بسبب المكان وأما عظمته فهي أيضاً بالمهابة والقهر والكبرياء ويمتنع أن تكون بسبب المقدار والحجم لأنه إن كان غير متناه في كل الجهات أو في بعض الجهات فهو محال لما ثبت بالبراهين القاطعة عدم إثبات أبعاد غير متناهية وإن كان متناهياً من كل الجهات كانت الأحياز المحيطة بذلك المتناهي أعظم منه فلا يكون مثل هذا الشيء عظيماً على الاطلاق فالحق أنه سبحانه وتعالى أعلى وأعظم من أن يكون من جنس الجواهر والأجسام تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً
لاَ إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَة ِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
فيه مسألتان
المسألة الأولى اللام في الدّينِ فيه قولان أحدهما أنه لام العهد والثاني أنه بدل من الإضافة كقوله فَإِنَّ الْجَنَّة َ هِى َ الْمَأْوَى ( النازعات 41 ) أي مأواه والمراد في دين الله
المسألة الثانية في تأويل الآية وجوه أحدها وهو قول أبي مسلم والقفال وهو الأليق بأصول المعتزلة معناه أنه تعالى ما بنى أمر الإيمان على الإجبار والقسر وإنما بناه على التمكن والاختيار ثم احتج القفال على أن هذا هو المراد بأنه تعالى لما بيّن دلائل التوحيد بياناً شافياً قاطعاً للعذر قال بعد ذلك إنه لم يبق بعد إيضاح هذه الدلائل للكافر عذر في الإقامة على الكفر إلا أن يقسر على الإيمان ويجبر عليه وذلك مما لا يجوز في دار الدنيا التي هي دار الابتلاء إذ في القهر والإكراه على الدين بطلان معنى الابتلاء والامتحان ونظير هذا قوله تعالى فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ ( الكهف 29 ) وقال في سورة أخرى وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى الاْرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ( الشعراء 3 4 ) وقال في سورة الشعراء لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزّلْ عَلَيْهِمْ مّنَ السَّمَاء ءايَة ً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ

لَهَا خَاضِعِينَ ومما يؤكد هذا القول أنه تعالى قال بعد هذه الآية قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ يعني ظهرت الدلائل ووضحت البينات ولم يبق بعدها إلا طريق القسر والإلجاء والإكراه وذلك غير جائز لأنه ينافي التكليف فهذا تقرير هذا التأويل
القول الثاني في التأويل هو أن الإكراه أن يقول المسلم للكافر إن آمنت وإلا قتلتك فقال تعالى لا إِكْرَاهَ فِى الدّينِ أما في حق أهل الكتاب وفي حق المجوس فلأنهم إذا قبلوا الجزية سقط القتل عنهم وأما سائر الكفار فإذا تهودوا أو تنصروا فقد اختلف الفقهاء فيهم فقال بعضهم إنه يقر عليه وعلى هذا التقدير يسقط عنه القتل إذا قبل الجزية وعلى مذهب هؤلاء كان قوله لا إِكْرَاهَ فِى الدّينِ عاماً في كل الكفار أما من يقول من الفقهاء بأن سائر الكفار إذا تهودوا أو تنصروا فإنهم لا يقرون عليه فعلى قوله يصح الإكراه في حقهم وكان قوله لا إِكْرَاهَ مخصوصاً بأهل الكتاب
والقول الثالث لا تقولوا لمن دخل في الدين بعد الحرب إنه دخل مكرهاً لأنه إذا رضي بعد الحرب وصح إسلامه فليس بمكره ومعناه لا تنسبوهم إلى الإكراه ونظيره قوله تعالى وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِناً ( النساء 94 )
أما قوله تعالى قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ ففيه مسألتان
المسألة الأولى يقال بان الشيء واستبان وتبين إذا ظهر ووضح ومنه المثل قد تبين الصبح لذي عينين وعندي أن الإيضاح والتعريف إنما سمي بياناً لأنه يوقع الفصل والبينونة بين المقصود وغيره والرشد في اللغة معناه إصابة الخير وفيه لغتان رشد ورشد والرشاد مصدر أيضاً كالرشد والغي نقيض الرشد يقال غوي يغوي غياً وغواية إذا سلك غير طريق الرشد
المسألة الثانية تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ أي تميز الحق من الباطل والإيمان من الكفر والهدى من الضلالة بكثرة الحجج والآيات الدالة قال القاضي ومعنى قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ أي أنه قد اتضح وانجلى بالأدلة لا أن كل مكلف تنبه لأن المعلوم ذلك وأقول قد ذكرنا أن معنى تَّبَيَّنَ انفصل وامتاز فكان المراد أنه حصلت البينونة بين الرشد والغي بسبب قوة الدلائل وتأكيد البراهين وعلى هذا كان اللفظ مجري على ظاهره
أما قوله تعالى فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ فقد قال النحويون الطاغوت وزنه فعلوت نحو جبروت والتاء زائدة وهي مشتقة من طغا وتقديره طغووت إلا أن لام الفعل قلبت إلى موضع العين كعادتهم في القلب نحو الصاقعة والصاعقة ثم قلبت الواو ألفاً لوقوعها في موضع حركة وانفتاح ما قبلها قال المبرد في الطاغوت الأصوب عندي أنه جمع قال أبو علي الفارسي وليس الأمر عندنا كذلك وذلك لأن الطاغوت مصدر كالرغبوت والرهبوت والملكوت فكما أن هذه الأسماء آحاد كذلك هذا الاسم مفرد وليس بجمع ومما يدل على أنه مصدر مفرد قوله أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ فأفرد في موضع الجمع كما يقال هم رضاهم عدل قالوا وهذا اللفظ يقع على الواحد وعلى الجمع أما في الواحد فكما في قوله تعالى يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ ( النساء 60 ) وأما في الجمع فكما في

قوله تعالى وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ ( البقرة 257 ) وقالوا الأصل فيه التذكير فأما قوله وَالَّذِينَ اجْتَنَبُواْ الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا ( الزمر 17 ) فإنما أنثت إرادة الآلهة
إذا عرفت هذا فنقول ذكر المفسرون فيه خمسة أقوال الأول قال عمر ومجاهد وقتادة هو الشيطان الثاني قال سعيد بن جبير الكاهن الثالث قال أبو العالية هو الساحر الرابع قال بعضهم الأصنام الخامس أنه مردة الجن والإنس وكل ما يطغى والتحقيق أنه لما حصل الطغيان عند الاتصال بهذه الأشياء جعلت هذه الأشياء أسباباً للطغيان كما في قوله رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ النَّاسِ ( إبراهيم 36 )
أما قوله وَيُؤْمِن بِاللَّهِ ففيه إشارة إلى أنه لا بد للكافر من أن يتوب أولاً عن الكفر ثم يؤمن بعد ذلك
أما قوله فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَة ِ الْوُثْقَى فاعلم أنه يقال استمسك بالشيء إذا تمسك به والعروة جمعها عرا نحو عروة الدلو والكوز وإنما سميت بذلك لأن العروة عبارة عن الشيء الذي يتعلق به والوثقى تأنيث الأوثق وهذا من باب استعارة المحسوس للمعقول لأن من أراد إمساك شيء يتعلق بعروته فكذا هاهنا من أراد إمساك هذا الدين تعلق بالدلائل الدالة عليه ولما كانت دلائل الإسلام أقوى الدلائل وأوضحها لا جرم وصفها بأنها العروة الوثقى
أما قوله لاَ انفِصَامَ لَهَا ففيه مسائل
المسألة الأولى الفصم كسر الشيء من غير إبانة والانفصام مطاوع الفصم فصمته فانفصم والمقصود من هذا اللفظ المبالغة لأنه إذا لم يكن لها انفصام فإن لا يكون لها انقطاع أولى
المسألة الثانية قال النحويون نظم الآية بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها والعرب تضمر الَّتِى و الَّذِى و مِنْ وتكتفي بصلاتها منها قال سلامة بن جندل والعاديات أسامي للدماء بها
كأن أعناقها أنصاب ترحيب
يريد العاديات التي قال الله وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ ( الصافات 164 ) أي من له
ثم قال وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وفيه قولان
القول الأول أنه تعالى يسمع قول من يتكلم بالشهادتين وقول من يتكلم بالكفر ويعلم ما في قلب المؤمن من الاعتقاد الطاهر وما في قلب الكافر من الاعتقاد الخبيث
والقول الثاني روى عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يحب إسلام أهل الكتاب من اليهود الذين كانوا حول المدينة وكان يسأل الله تعالى ذلك سراً وعلانية فمعنى قوله وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يريد لدعائك يا محمد بحرصك عليه واجتهادك

اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءامَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
فيه مسألتان
المسألة الأولى الْوَلِى ُّ فعيل بمعنى فاعل من قولهم ولى فلان الشيء يليه ولاية فهو وال وولى وأصله من الولي الذي هو القرب قال الهذلي
وعدت عواد دون وليك تشغب
ومنه يقال داري تلى دارها أي تقرب منها ومنه يقال للمحب المعاون ولي لأنه يقرب منك بالمحبة والنصرة ولا يفارقك ومنه الوالي لأنه يلي القوم بالتدبير والأمر والنهي ومنه المولى ومن ثم قالوا في خلاف الولاية العداوة من عدا الشيء إذا جاوزه فلأجل هذا كانت الولاية خلاف العداوة
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية على أن ألطاف الله تعالى في حق المؤمن فيما يتعلق بالدين أكثر من ألطافه في حق الكافر بأن قالوا الآية دلت على أنه تعالى ولي الذين آمنوا على التعيين ومعلوم أن الولي للشيء هو المتولي لما يكون سبباً لصلاح الإنسان واستقامة أمره في الغرض المطلوب ولأجله قال تعالى يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَاءهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ ( الأنفال 34 ) فجعل القيم بعمارة المسجد ولياً له ونفى في الكفار أن يكونوا أولياءه فلما كان معنى الولي المتكفل بالمصالح ثم إنه تعالى جعل نفسه ولياً للمؤمنين على التخصيص علمنا أنه تعالى تكفل بمصالحهم فوق ما تكفل بمصالح الكفار وعند المعتزلة أنه تعالى سوى بين الكفار والمؤمنين في الهداية والتوفيق والألطاف فكانت هذه الآية مبطلة لقولهم قالت المعتزلة هذا التخصيص محمول على أحد وجوه الأول أن هذا محمول على زيادة الألطاف كما ذكره في قوله وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى ( محمد 17 ) وتقريره من حيث العقل أن الخير والطاعة يدعو بعضه إلى بعض وذلك لأن المؤمن إذا حضر مجلساً يجري فيه الوعظ فإنه يلحق قلبه خشوع وخضوع وانكسار ويكون حاله مفارقاً لحال من قسا قلبه بالكفر والمعاصي وذلك يدل على أنه يصح في المؤمن من الألطاف ما لا يصح في غيره فكان تخصيص المؤمنين بأنه تعالى وليهم محمولاً على ذلك
والوجه الثاني أنه تعالى يثيبهم في الآخرة ويخصهم بالنعيم المقيم والإكرام العظيم فكان التخصيص محمولاً عليه
والوجه الثالث وهو أنه تعالى وإن كان ولياً للكل بمعنى كونه متكفلاً بمصالح الكل على السوية إلا أن المنتفع بتلك الولاية هو المؤمن فصح تخصيصه بهذه الآية كما في قوله هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2 )

الوجه الرابع أنه تعالى ولي المؤمنين بمعنى أنه يحبهم والمراد أنه يحب تعظيمهم
أجاب الأصحاب عن الأول بأن زيادة الألطاف متى أمكنت وجبت عندكم ولا يكون لله تعالى في حق المؤمن إلا أداء الواجب وهذا المعنى بتمامه حاصل في حق الكافر بل المؤمن فعل مالأجله استوجب من الله ذلك المزيد من اللطف
أما السؤال الثاني وهو أنه تعالى يثيبه في الآخرة فهو أيضاً بعيد لأن ذلك الثواب واجب على الله تعالى فولي المؤمن هو الذي جعله مستحقاً على الله ذلك الثواب فيكون وليه هو نفسه ولا يكون الله هو ولياً له
وأما السؤال الثالث وهو أن المنتفع بولاية الله هو المؤمن فنقول هذا الأمر الذي امتاز به المؤمن عن الكافر في باب الولاية صدر من العبد لا من الله تعالى فكان ولي العبد على هذا القول هو العبد نفسه لا غير
وأما السؤال الرابع وهو أن الولاية هاهنا معناها المحبة والجواب أن المحبة معناها إعطاء الثواب وذلك هو السؤال الثاني وقد أجبنا عنه
أما قوله تعالى يُخْرِجُهُم مّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ففيه مسألتان
المسألة الأولى أجمع المفسرون على أن المراد هاهنا من الظلمات والنور الكفر والإيمان فتكون الآية صريحة في أن الله تعالى هو الذي أخرج الإنسان من الكفر وأدخله في الإيمان فيلزم أن يكون الإيمان بخلق الله لأنه لو حصل بخلق العبد لكان هو الذي أخرج نفسه من الكفر إلى الإيمان وذلك يناقض صريح الآية
أجابت المعتزلة عنه من وجهين الأول أن الإخراج من الظلمات إلى النور محمول على نصب الدلائل وإرسال الأنبياء وإنزال الكتب والترغيب في الإيمان بأبلغ الوجوه والتحذير عن الكفر بأقصى الوجوه وقال القاضي قد نسب الله تعالى الإضلال إلى الصنم في قوله رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ النَّاسِ ( إبراهيم 36 ) لأجل أن الأصنام سبب بوجه ما لضالهم فإن يضاف الإخراج من الظلمات إلى النور إلى الله تعالى مع قوة الأسباب التي فعلها بمن يؤمن كان أولى
والوجه الثاني أن يحمل الإخراج من الظلمات إلى النور على أنه تعالى يعدل بهم من النار إلى الجنة قال القاضي هذا أدخل في الحقيقة لأن ما يقع من ذلك في الآخرة يكون من فعله تعالى فكأنه فعله
والجواب عن الأول من وجهين أحدهما أن هذه الإضافة حقيقة في الفعل مجاز في الحث والترغيب والأصل حمل اللفظ على الحقيقة والثاني أن هذه الترغيبات إن كانت مؤثرة في ترجيح الداعية صار الراجح واجباً والمرجوح ممتنعاً وحينئذ يبطل قول المعتزلة وإن لم يكن لها أثر في الترجيح لم يصح تسميتها بالإخراج
وأما السؤال الثاني وهو حمل اللفظ على العدول بهم من النار إلى الجنة فهو أيضاً مدفوع من وجهين الأول قال الواقدي كل ما كان في القرآن مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ فإنه أراد به الكفر والإيمان

غير قوله تعالى في سورة الأنعام وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ( الأنعام 1 ) فإنه يعني به الليل والنهار وقال وجعل الكفر ظلمة لأنه كالظلمة في المنع من الإدراك وجعل الإيمان نوراً لأنه كالسبب في حصول الإدراك
والجواب الثاني أن العدول بالمؤمن من النار إلى الجنة أمر واجب على الله تعالى عند المعتزلة فلا يجوز حمل اللفظ عليه
المسألة الثانية قوله يُخْرِجُهُم مّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ظاهره يقتضي أنهم كانوا في الكفر ثم أخرجهم الله تعالى من ذلك الكفر إلى الإيمان ثم هاهنا قولان
القول الأول أن يجري اللفظ على ظاهره وهو أن هذه الآية مختصة بمن كان كافراً ثم أسلم والقائلون بهذا القول ذكروا في سبب النزول روايات أحدهما قال مجاهد هذه الآية نزلت في قوم آمنوا بعيسى عليه السلام وقوم كفروا به فلما بعث الله محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) آمن به من كفر بعيسى وكفر به من آمن بعيسى عليه السلام وثانيتها أن الآية نزلت في قوم آمنوا بعيسى عليه السلام على طريقة النصارى ثم آمنوا بعده بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فقد كان إيمانهم بعيسى حين آمنوا به ظلمة ً وكفراً لأن القول بالاتحاد كفر والله تعالى أخرجهم من تلك الظلمات إلى نور الإسلام وثالثتها أن الآية نزلت في كل كافر أسلم بمحمد ( صلى الله عليه وسلم )
والقول الثاني أن يحمل اللفظ على كل من آمن بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) سواء كان ذلك الإيمان بعد الكفر أو لم يكن كذلك وتقريره أنه لا يبعد أن يقال يخرجهم من النور إلى الظلمات وإن لم يكونوا في الظلمات ألبتة ويدل على جوازه القرآن والخبر والعرف أما القرآن فقوله تعالى وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَة ٍ مّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مّنْهَا ( آل عمران 103 ) ومعلوم أنهم ما كانوا قط في النار وقال لَمَّا ءامَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْى ِ ( يونس 98 ) ولم يكن نزل بهم عذاب ألبتة وقال في قصة يوسف عليه السلام تَرَكْتُ مِلَّة َ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ( يوسف 37 ) ولم يكن فيها قط وقال وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ ( النحل 70 ) وما كانوا فيه قط وأما الخبر فروي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) سمع إنساناً قال أشهد أن لا إلاه إلا الله فقال على الفطرة فلما قال أشهد أن محمداً رسول الله فقال خرج من النار ومعلوم أنه ما كان فيها وروي أيضاً أنه ( صلى الله عليه وسلم ) أقبل على أصحابه فقال تتهافتون في النار تهافت الجراد وها أنا آخذ بحجزكم ومعلوم أنهم ما كانوا متهافتين في النار وأما العرف فهو أن الأب إذا أنفق كل ماله فالابن قد يقول له أخرجتني من مالك أي لم تجعل لي فيه شيئاً لا أنه كان فيه ثم أخرج منه وتحقيقه أن العبد لو خلا عن توفيق الله تعالى لوقع في الظلمات فصار توفيقه تعالى سبباً لدفع تلك الظلمات عنه وبين الدفع والرفع مشابهة فهذا الطريق يجوز استعمال الإخراج والإبعاد في معنى الدفع والرفع والله أعلم
أما قوله تعالى وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ فاعلم أنه قرأ الحسن أَوْلِيَاؤُهُمُ واحتج بقوله تعالى بعده الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم إلا أنه شاذ مخالف للمصحف وأيضاً قد بينا في اشتقاق هذا اللفظ أنه مفرد لا جمع
أما قوله تعالى يُخْرِجُونَهُم مّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ فقد استدلت المعتزلة بهذه الآية على أن الكفر ليس من الله تعالى قالوا لأنه تعالى أضافه إلى الطاغوت مجازاً باتفاق لأن المراد من الطاغوت على أظهر

الأقوال هو الصنم ويتأكد هذا بقوله تعالى رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ النَّاسِ ( إبراهيم 36 ) فأضاف الإضلال إلى الصنم وإذا كانت هذه الإضافة بالاتفاق بيننا وبينكم مجازاً خرجت عن أن تكون حجة لكم
ثم قال تعالى أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يحتمل أن يرجع ذلك إلى الكفار فقط ويحتمل أن يرجع إلى الكفار والطواغيت معاً فيكون زجراً للكل ووعيداً لأن لفظ أُوْلَائِكَ إذا كان جمعاً وصح رجوعه إلى كلا المذكورين وجب رجوعه إليهما معاً والله تعالى أعلم بالصواب
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِى حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِى رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِى يُحْى ِ وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْى ِ وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِى بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِى كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أَوْ كَالَّذِى مَرَّ عَلَى قَرْيَة ٍ وَهِى َ خَاوِيَة ٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْى ِ هَاذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِاْئَة َ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِاْئَة َ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ ءَايَة ً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
إعلم أنه تعالى ذكر هاهنا قصصاً ثلاثة الأولى منها في بيان إثبات العلم بالصانع والثانية في إثبات الحشر والنشر والبعث والقصة الأولى مناظرة إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) مع ملك زمانه وهي هذه الآية التي نحن في تفسيرها فنقول
أما قوله تعالى أَلَمْ تَرَ فهي كلمة يوقف بها المخاطب على تعجب منها ولفظها لفظ الاستفهام

وهي كما يقال ألم تر إلى فلان كيف يصنع معناه هل رأيت كفلان في صنعه كذا
أما قوله إِلَى الَّذِى حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِى رِبّهِ فقال مجاهد هو نمروذ بن كنعان وهو أول من تجبر وادعى الربوبية واختلفوا في وقت هذه المحاجة قيل إنه عند كسر الأصنام قبل الإلقاء في النار عن مقاتل وقيل بعد إلقائه في النار والمحاجة المغالبة يقال حاججته فحججته أي غالبته فغلبته والضمير في قوله فِى رِبّهِ يحتمل أن يعود إلى إبراهيم ويحتمل أن يرجع إلى الطاعن والأول أظهر كما قال وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونّى فِى اللَّهِ ( الأنعام 80 ) والمعنى وحاجه قومه في ربه
أما قوله أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ فاعلم أن في الآية قولين الأول أن الهاء في آتاه عائد إلى إبراهيم يعني أن الله تعالى آتى إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) الملك واحتجوا على هذا القول بوجوه الأول قوله تعالى فَقَدْ ءاتَيْنَا ءالَ إِبْراهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ وَءاتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً ( النساء 54 ) أي سلطاناً بالنبوّة والقيام بدين الله تعالى والثاني أنه تعالى لا يجوز أن يؤتي الملك الكفار ويدعي الربوبية لنفسه والثالث أن عود الضمير إلى أقرب المذكورين واجب وإبراهيم أقرب المذكورين إلى هذا الضمير فوجب أن يكون هذا الضمير عائداً إليه والقول الثاني وهو قول جمهور المفسرين أن الضمير عائد إلى ذلك الإنسان الذي حاج إبراهيم
وأجابو عن الحجة الأولى بأن هذه الآية دالة على حصول الملك لآل إبراهيم وليس فيها دلالة على حصول الملك لإبراهيم عليه السلام
وعن الحجة الثانية بأن المراد من الملك هاهنا التمكن والقدرة والبسطة في الدنيا والحس يدل على أنه تعالى قد يعطي الكافر هذا المعنى وأيضاً فلم لا يجوز أن يقال إنه تعالى أعطاه الملك حال ما كان مؤمناً ثم أنه بعد ذلك كفر بالله تعالى
وعن الحجة الثالثة بأن إبراهيم عليه السلام وإن كان أقرب المذكورين إلا أن الروايات الكثيرة واردة بأن الذي حاج إبراهيم كان هو الملك فعود الضمير إليه أولى من هذه الجهة ثم احتج القائلون بهذا القول على مذهبهم من وجوه الأول أن قوله تعالى أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ يحتمل تأويلات ثلاثة وكل واحد منها إنما يصح إذا قلنا الضمير عائد إلى الملك لا إلى إبراهيم وأحد تلك التأويلات أن يكون المعنى حاج إبراهيم في ربه لأجل أن آتاه الله الملك على معنى أن إيتاء الملك أبطره وأورثه الكبر والعتو فحاج لذلك ومعلوم أن هذا إنما يليق بالملك العاتي والتأويل الثاني أن يكون المعنى أنه جعل محاجته في ربه شكراً على أن آتاه ربه الملك كما يقال عاداني فلان لأني أحسنت إليه يريد أنه عكس ما يجب عليه من الموالاة لأجل الإحسان ونظيره قوله تعالى وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ ( الواقعة 82 ) وهذا التأويل أيضاً لا يليق بالنبي فإنه يجب عليه إظهار المحاجة قبل حصول الملك وبعده أما الملك العاتي فإنه لا يليق به إظهار هذا العتو الشديد إلا بعد أن يحصل الملك العظيم له فثبت أنه لا يستقيم لقوله أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ معنى وتأويل إلا إذا حملناه على الملك العاتي
الحجة الثانية أن المقصود من هذه الآية بيان كمال حال إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) في إظهار الدعوة إلى الدين الحق ومتى كان الكافر سلطاناً مهيباً وإبراهيم ما كان ملكاً كان هذا المعنى أتم مما إذا كان إبراهيم ملكاً ولما كان الكافر ملكاً فوجب المصير إلى ما ذكرنا

الحجة الثانية ما ذكره أبو بكر الأصم وهو أن إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) لو كان هو الملك لما قدر الكافر أن يقتل أحد الرجلين ويستبقي الآخر بل كان إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) يمنعه منه أشد منع بل كان يجب أن يكون كالملجأ إلى أن لا يفعل ذلك قال القاضي هذا الاستدلال ضعيف لأنه من المحتمل أن يقال إن إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) كان ملكاً وسلطاناً في الدين والتمكن من إظهار المعجزات وذلك الكافر كان ملكاً مسلطاً قادراً على الظلم فلهذا السبب أمكنه قتل أحد الرجلين وأيضاً فيجوز أن يقال إنما قتل أحد الرجلين قوماً وكان الاختيار إليه واستبقى الآخر إما لأنه لا قتل عليه أو بذل الدية واستبقاه
وأيضاً قوله أَلَمْ تَرَ إِلَى خبر ووعد ولا دليل في القرآن على أنه فعله فهذا ما يتعلق بهذه المسألة
أما قوله تعالى أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِى حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِى ففيه مسائل
المسألة الأولى الظاهر أن هذا جواب سؤال سابق غير مذكور وذلك لأن من المعلوم أن الأنبياء عليهم السلام بعثوا للدعوة والظاهر أنه متى ادعى الرسالة فإن المنكر يطالبه بإثبات أن للعالم إلاهاً ألا ترى أن موسى عليه السلام لما قال إِنّى رَسُولُ رَبّ الْعَالَمِينَ ( الزخرف 46 ) قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ( الشعراء 23 ) فاحتج موسى عليه السلام على إثبات الإلاهية بقوله رَبّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فكذا هاهنا الظاهر أن إبراهيم ادعى الرسالة فقال نمروذ من ربك فقال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت إلا أن تلك المقدمة حذفت لأن الواقعة تدل عليها
المسألة الثانية دليل إبراهيم عليه السلام كان في غاية الصحة وذلك لا سبيل إلى معرفة الله تعالى إلا بواسطة أفعاله التي لا يشاركه فيها أحد من القادرين والأحياء والاماتة كذلك لأن الخلق عاجزون عنهما والعلم بعد الاختيار ضروري فلا بد من مؤثر آخر غير هؤلاء القادرين الذين تراهم وذلك المؤثر إما أن يكون موجباً أو مختاراً والأول باطل لأنه يلزم من دوامه دوام الأثر فكان يجب أن لا يتبدل الأحياء بالاماتة وأن لا تتبدل الاماتة بالأحياء والثاني وهو أنا نرى في الحيوان أعضاء مختلفة في الشكل والصفة والطبيعة والخاصية وتأثير المؤثر الموجب بالذات لا يكون كذلك فعلمنا أنه لا بد في الأحياء والاماتة من وجود آخر يؤثر على سبيل القدرة والاختيار في إحياء هذه الحيوانات وفي إماتتها وذلك هو الله سبحانه وتعالى وهو دليل متين قوي ذكره الله سبحانه وتعالى في مواضع في كتابه كقوله وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلَالَة ٍ مّن طِينٍ ( المؤمنون 12 ) إلى آخره وقوله لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ( التين 4 5 ) وقال تعالى الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَواة َ
المسألة الثانية لقائل أن يقول إنه تعالى قدم الموت على الحياة في آيات منها قوله تعالى كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْواتًا فَأَحْيَاكُمْ ( البقرة 28 ) وقال الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَواة َ ( الملك 2 ) وحكي عن إبراهيم أنه قال في ثنائه على الله تعالى وَالَّذِى يُمِيتُنِى ثُمَّ يُحْيِينِ ( الشعراء 81 ) فلأي سبب قدم في هذه الآية ذكر الحياة على الموت حيث قال رَبّيَ الَّذِى يُحْى ِ وَيُمِيتُ
والجواب لأن المقصود من ذكر الدليل إذا كان هو الدعوة إلى الله تعالى وجب أن يكون الدليل في

غاية الوضوح ولا شك أن عجائب الخلقة حال الحياة أكثر واطلاع الإنسان عليها أتم فلا جرم وجب تقديم الحياة هاهنا في الذكر
أما قوله تعالى قَالَ إِبْراهِيمُ رَبّيَ الَّذِى ففيه مسائل
المسألة الأولى يروى أن إبراهيم عليه السلام لما احتج بتلك الحجة دعا ذلك الملك الكافر شخصين وقتل أحدهما واستبقى الآخر وقال أنا أيضاً أحيي وأميت هذا هو المنقول في التفسير وعندي أنه بعيد وذلك لأن الظاهر من حال إبراهيم أنه شرح حقيقة الأحياء وحقيقة الإماتة على الوجه الذي لخصناه في الاستدلال ومتى شرحه على ذلك الوجه امتنع أن يشتبه على العاقل الإماتة والإحياء على ذلك الوجه بالإماتة والإحياء بمعنى القتل وتركه ويبعد في الجمع العظيم أن يكونوا في الحماقة بحيث لا يعرفون هذا القدر من الفرق والمراد من الآية والله أعلم شيء آخر وهو أن إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) لما احتج بالإحياء والإماتة من الله قال المنكر تدعى الإحياء والإماتة من الله ابتداء من غير واسطة الأسباب الأرضية والأسباب السماوية أو تدعى صدور الأحياء والاماتة من الله تعالى بواسطة الأسباب الأرضية والأسباب السماوية أما الأول فلا سبيل إليه وأما الثاني فلا يدل على المقصود لأن الواحد منا يقدر على الاحياء والاماتة بواسطة سائر الأسباب فإن الجماع قد يفضي إلى الولد الحي بواسطة الأسباب الأرضية والسماوية وتناول السم قد يفضي إلى الموت فلما ذكر نمروذ هذا السؤال على هذا الوجه أجاب إبراهيم عليه السلام بأن قال هب أن الإحياء والإماتة حصلا من الله تعالى بواسطة الاتصالات الفلكية إلا أنه لا بد لتلك الاتصالات والحركات الفلكية من فاعل مدبر فإذا كان المدبر لتلك الحركات الفلكية هو الله تعالى كان الإحياء والإماتة الحاصلان بواسطة تلك الحركات الفلكية أيضاً من الله تعالى وأما الإحياء والإماتة الصادران على البشر بواسطة الأسباب الفلكية والعنصرية فليست كذلك لأنه لا قدرة للبشر على الاتصالات الفلكية فظهر الفرق
وإذا عرفت هذا فقوله إِنَّ اللَّهَ يَأْتِ بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ ليس دليلاً آخر بل تمام الدليل الأول ومعناه أنه وإن كان الإحياء والإماتة من الله بواسطة حركات الأفلاك إلا أن حركات الأفلاك من الله فكان الإحياء والإماتة أيضاً من الله تعالى وأما البشر فإنه وإن صدر منه الإحياء والإماتة بواسطة الاستعانة بالأسباب السماوية والأرضية إلا أن الأسباب ليست واقعة بقدرته فثبت أن الإحياء والإماتة الصادرين عن البشر ليست على ذلك الوجه وأنه لا يصلح نقضاً عليه فهذا هو الذي أعتقده في كيفية جريان هذه المناظرة لا ما هو المشهور عند الكل والله أعلم بحقيقة الحال
المسألة الثانية أجمع القرّاء على إسقاط ألف أَنَاْ في الوصل في جميع القرآن إلا ما روي عن نافع من إثباته عند استقبال الهمزة والصحيح ما عليه الجمهور لأن ضمير المتكلم هو ءانٍ وهو الهمزة والنون فأما الألف فإنما تلحقها في الوقف كما تلحق الهاء في سكوته للوقف وكما إن هذه الهاء تسقط عند الوصل فكذا هذه الألف تسقط عند الوصل لأن ما يتصل به يقوم مقامه ألا ترى أن همزة الوصل إذا اتصلت الكلمة التي هي فيها بشيء سقطت ولم تثبت لأن ما يتصل به يتوصل به إلى النطق بما بعد الهمزة فلا تثبت الهمزة فكذا الألف في أَنَاْ والهاء التي في الوقف يجب سقوطها عند الوصل كما يجب سقوط الهمزة عند الوصل

أما قوله تعالى قَالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِى بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فاعلم أن للناس في هذا المقام طريقين الأول وهو طريقة أكثر المفسرين أن إبراهيم عليه السلام لما رأى من نمروذ أنه ألقى تلك الشبهة عدل عن ذلك إلى دليل آخر أوضح منه فقال إِنَّ اللَّهَ يَأْتِى بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فزعم أن الانتقال من دليل إلى دليل آخر أوضح منه جائز للمستدل
فإن قيل هلا قال نمروذ فليأت ربك بها من المغرب
قلنا الجواب من وجهين أحدهما أن هذه المحاجة كانت مع إبراهيم بعد إلقائه في النار وخروجه منها سالماً فعلم أن من قدر على حفظ إبراهيم في تلك النار العظيمة من الاحتراق يقدر على أن يأتي بالشمس من المغرب والثاني أن الله خذله وأنساه إيراد هذه الشبهة نصرة لنبيه عليه السلام
والطريق الثاني وهو الذي قال به المحققون إن هذا ما كان انتقالاً من دليل إلى دليل آخر بل الدليل واحد في الموضعين وهو أنا نرى حدوث أشياء لا يقدر الخلق على إحداثها فلا بد من قادر آخر يتولى إحداثها وهو الله سبحانه وتعالى ثم إن قولنا نرى حدوث أشياء لا يقدر الخلق على إحداثها له أمثلة منها الإحياء والإماتة ومنها السحاب والرعد والبرق ومنها حركات الأفلاك والكواكب والمستدل لا يجوز له أن ينتقل من دليل إلى دليل آخر لكن إذا ذكر لإيضاح كلام مثالاً فله أن ينتقل من ذلك المثال إلى مثال آخر فكان ما فعله إبراهيم من باب ما يكون الدليل واحد إلا أنه يقع الانتقال عند إيضاحه من مثال إلى مثال آخر وليس من باب ما يقع الانتقال من دليل إلى دليل آخر وهذا الوجه أحسن من الأول وأليق بكلام أهل التحقيق منه والإشكال عليهما من وجوه
الإشكال الأول أن صاحب الشبهة إذا ذكر الشبهة ووقعت تلك الشبهة في الأسماع وجب على المحق القادر على الجواب أن يذكر الجواب في الحال إزالة لذلك التلبيس والجهل عن العقول فلما طعن الملك الكافر في الدليل الأول أو في المثال الأول بتلك الشبهة كان الاشتغال بإزالة تلك الشبهة واجباً مضيقاً فكيف يليق بالمعصوم أن يترك ذلك الواجب
والإشكال الثاني أنه لما أورد المبطل ذلك السؤال فإذا ترك المحق الكلام الأول وانتقل إلى كلام آخر أوهم أن كلامه الأول كان ضعيفاً ساقطاً وأنه ما كان عالماً بضعفه وأن ذلك المبطل علم وجه ضعفه وكونه ساقطاً وأنه كأنه عالماً بضعفه فنبه عليه وهذا ربما يوجب سقوط وقع الرسول وحقارة شأنه وأنه غير جائز
والإشكال الثالث وهو أنه وإن كان يحسن الانتقال من دليل إلى دليل أو من مثال إلى مثال لكنه يجب أن يكون المنتقل إليه أوضح وأقرب وهاهنا ليس الأمر كذلك لأن جنس الإحياء لا قدرة للخلق عليه وأما جنس تحريك الأجسام فللخلق قدرة عليه ولا يبعد في العقل وجود ملك عظيم في الجثة أعظم من السماوات وأنه هو الذي يكون محركاً للسماوات وعلى هذا التقدير الاستدلال بالإحياء والإماتة على وجود الصانع أظهر وأقوى من الاستدلال بطلوع الشمس على وجود الصانع فكيف يليق بالنبي المعصوم أن ينتقل من الدليل الأوضح الأظهر إلى الدليل الخفي الذي لا يكون في نفس الأمر قوياً

والإشكال الرابع أن دلالة الإحياء والإماتة على وجود الصانع أقوى من دلالة طلوع الشمس عليه وذلك لأنا نرى في ذات الإنسان وصفاته تبديلات واختلافات والتبدل قوى الدلالة على الحاجة إلى المؤثر القادر أما الشمس فلا نرى في ذاتها تبدلاً ولا في صفاتها تبدلاً ولا في منهج حركاتها تبدلاً ألبتة فكانت دلالة الإحياء والإماتة على الصانع أقوى فكان العدول منه إلى طلوع الشمس انتقالاً من الأقوى الأجلى إلى الأخفى الأضعف وأنه لا يجوز
الإشكال الخامس أن نمروذ لما لم يستح من معارضة الإحياء والإماتة الصادرين عن الله تعالى بالقتل والتخلية فكيف يؤمن منه عند استدلال إبراهيم بطلوع الشمس أن يقول طلوع الشمس من المشرق مني فإن كان لك إلاه فقل له حتى يطلعها من المغرب وعند ذلك التزم المحققون من المفسرين ذلك فقالوا إنه لو أورد هذا السؤال لكان من الواجب أن تطلع الشمس من المغرب ومن المعلوم أن الاشتغال بإظهار فساد سؤاله في الإحياء والإماتة أسهل بكثير من التزام إطلاع الشمس من المغرب فبتقدير أن يحصل طلوع الشمس من المغرب إلا أنه يكون الدليل على وجود الصانع هو طلوع الشمس من المغرب ولا يكون طلوع الشمس من المشرق دليلاً على وجود الصانع وحينئذ يصير دليله الثاني ضائعاً كما صار دليله الأول ضائعاً وأيضاً فما الدليل الذي جمل إبراهيم عليه السلام على أن ترك الجواب عن ذلك السؤال الركيك والتزم الانقطاع واعترف بالحاجة إلى الانتقال إلى تمسك بدليل لا يمكنه تمشيته إلا بالتزام طلوع الشمس من المغرب وبتقدير أن يأتي باطلاع الشمس من المغرب فإنه يضيع دليله الثاني كما ضاع الأول ومن المعلوم أن التزام هذه المحذورات لا يليق بأقل الناس علماً فضلاً عن أفضل العقلاء وأعلم العلماء فظهر بهذا أن هذا التفسير الذي أجمع المفسرون عليه ضعيف وأما الوجه الذي ذكرناه فلا يتوجه عليه شيء من هذه الإشكالات لأنا نقول لما احتج إبراهيم عليه السلام بالإحياء والإماتة أورد الخصم عليه سؤالاً لا يليق بالعقلاء وهو أنك إذا ادعيت الإحياء والإماتة لا بواسطة فذلك لا تجد إلى إثباته سبيلاً وإن ادعيت حصولهما بواسطة حركات الأفلاك فنظيره أو ما يقرب منه حاصل للبشر فأجاب إبراهيم عليه السلام بأن الإحياء والإماتة وإن حصلا بواسطة حركات الأفلاك لكن تلك الحركات حصلت من الله تعالى وذلك لا يقدح في كون الإحياء والإماتة من الله تعالى بخلاف الخلق فإنه لا قدرة لهم على تحريكات الأفلاك فلا جرم لا يكون الإحياء والإماتة صادرين منهم ومتى حملنا الكلام على هذا الوجه لم يكن شيء من المحذورات المذكورة لازماً عليه والله أعلم بحقيقة كلامه
أما قوله تعالى فَبُهِتَ الَّذِى كَفَرَ فالمعنى فبقي مغلوباً لا يجد مقالاً ولا للمسألة جوابه وهو كقوله بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَة ً فَتَبْهَتُهُمْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا ( الأنبياء 40 ) قال الواحدي وفيه ثلاث لغات بهت الرجل فهو مبهوت وبهت وبهت قال عروة العذري فما هو إلا أن أراها فجاءة
فأبهت حتى ما أكاد أجيب
أي أتجير وأسكت
ثم قال وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ وتأويله على قولنا ظاهر أما المعتزلة فقال القاضي يحتمل

وجوهاً منها أنه لا يهديهم لظلمهم وكفرهم للحجاج وللحق كما يهدي المؤمن فإنه لا بد في الكافر من أن يعجز وينقطع
وأقول هذا ضعيف لأن قوله لا يهديهم للحجاج إنما يصح حيث يكون الحجاج موجوداً ولا حجاج على الكفر فكيف يصح أن يقال إن الله تعالى لا يهديه إليه قال القاضي ومنها أن يريد أنه لا يهديهم لزيادات الألطاف من حيث أنهم بالكفر والظلم سدوا على أنفسهم طريق الانتفاع به
وأقول هذا أيضاً ضعيف لأن تلك الزيادات إذا كانت في حقهم ممتنعة عقلاً لم يصح أن يقال إنه تعالى لا يهديهم كما لا يقال إنه تعالى يجمع بين الضدين فلا يجمع بين الوجود والعدم قال القاضي ومنها أنه تعالى لا يهديهم إلى الثواب في الآخرة ولا يهديهم إلى الجنة
وأقول هذا أيضاً ضعيف لأن المذكور هاهنا أمر الاستدلال وتحصيل المعرفة ولم يجر للجنة ذكر فيبعد صرف اللفظ إلى الجنة بل أقول اللائق بسياق الآية أن يقال إنه تعالى لما بيّن أن الدليل كان قد بلغ في الظهور والحجة إلى حيث صار المبطل كالمبهوت عند سماعه إلا أن الله تعالى لما لم يقدر له الاهتداء لم ينفعه ذلك الدليل الظاهر ونظير هذا التفسير قوله وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَئِكَة َ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَى ْء قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ الأنعام 111 )
القصة الثانية
والمقصود منها إثبات المعاد قوله تعالى أَوْ كَالَّذِى مَرَّ عَلَى قَرْيَة ٍ وَهِى َ خَاوِيَة ٌ عَلَى عُرُوشِهَا
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اختلف النحويون في إدخال الكاف في قوله أَوْ كَالَّذِى وذكروا فيه ثلاثة أوجه الأول أن يكون قوله أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِى حَاجَّ إِبْراهِيمَ ( البقرة 258 ) في معنى أَلَمْ تَرَ كَالَّذِى حَاجَّ إِبْراهِيمَ وتكون هذه الآية معطوفة عليه والتقدير أرأيت كالذي حاج إبراهيم أو كالذي مرّ على قرية فيكون هذا عطفاً على المعنى وهو قول الكسائي والفرّاء وأبي علي الفارسي وأكثر النحويين قالوا ونظيره من القرآن قوله تعالى قُل لّمَنِ الاْرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ( المؤمنون 84 85 ) ثم قال مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ( المؤمنون 85 86 ) فهذا عطف على المعنى لأن معناه لمن السماوات فقيل لله قال الشاعر معاوي إننا بشر فأسجح
فلسنا بالجبال ولا الحديدا
فحمل على المعنى وترك اللفظ
والقول الثاني وهو اختيار الأخفش أن الكاف زائدة والتقدير ألم تر إلى الذي حاج والذي مرّ على قرية
والقول الثالث وهو اختيار المبرد أنا نضمر في الآية زيادة والتقدير ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم وألم تر إلى من كان كالذي مرّ على قرية

المسألة الثانية اختلفوا في الذي مرّ بالقرية فقال قوم كان رجلاً كافراً شاكاً في البعث وهو قول مجاهد وأكثر المفسرين من المعتزلة وقال الباقون إنه كان مسلماً ثم قال قتادة وعكرمة والضحاك والسدي هو عزير وقال عطاء عن ابن عباس هو أرمياء ثم من هؤلاء من قال إن أرمياء هو الخضر عليه السلام وهو رجل من سبط هارون بن عمران عليهما السلام وهو قول محمد بن إسحاق وقال وهب بن منبه إن أرمياء هو النبي الذي بعثه الله عندما خرب بختنصر بيت المقدس وأحرق التوراة حجة من قال إن هذا المار كان كافراً وجوه الأول أن الله حكى عنه أنه قال أَوْ كَالَّذِى مَرَّ عَلَى قَرْيَة ٍ وَهِى َ وهذا كلام من يستبعد من الله الإحياء بعد الإماتة وذلك كفر
فإن قيل يجوز أن ذلك وقع منه قبل البلوغ
قلنا لو كان كذلك لم يجز من الله تعالى أن يعجب رسوله منه إذ الصبي لا يتعجب من شكه في مثل ذلك وهذه الحجة ضعيفة لاحتمال أن ذلك الاستبعاد ما كان بسبب الشك في قدرة الله تعالى على ذلك بل كان بسبب إطراد العادات في أن مثل ذلك الموضع الخراب قلما يصيره الله معموراً وهذا كما أن الواحد منا يشير إلى جبل فيقول متى يقلبه الله ذهباً أو ياقوتاً لا أن مراده منه الشك في قدرة الله تعالى بل على أن مراده منه أن ذلك لا يقع ولا يحصل في مطرد العادات فكذا هاهنا
الوجه الثاني قالوا إنه تعالى قال في حقه فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ وهذا يدل على أنه قبل ذلك لم يكن ذلك التبين حاصلاً له وهذا أيضاً ضعيف لأن تبين الإحياء على سبيل المشاهدة ما كان حاصلاً له قبل ذلك فأما أن تبين ذلك على سبيل الاستدلال ما كان حاصلاً فهو ممنوع
الوجه الثالث أنه قال أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ وهذا يدل على أن هذا العالم إنما حصل له في ذلك الوقت وأنه كان خالياً عن مثل ذلك العلم قبل ذلك الوقت وهذا أيضاً ضعيف لأن تلك المشاهدة لا شك أنها أفادت نوع توكيد وطمأنينة ووثوق وذلك القدر من التأكيد إنما حصل في ذلك الوقت وهذا لا يدل على أن أصل العلم ما كان حاصلاً قبل ذلك
الوجه الرابع لهم أن هذا المار كان كافراً لانتظامه مع نمروذ في سلك واحد وهو ضعيف أيضاً لأن قبله وإن كان قصة نمروذ ولكن بعده قصة سؤال إبراهيم فوجب أن يكون نبياً من جنس إبراهيم
وحجة من قال إنه كان مؤمناً وكان نبياً وجوه الأول أن قوله أَوْ كَالَّذِى مَرَّ عَلَى قَرْيَة ٍ وَهِى َ يدل على أنه كان عالماً بالله وعلى أنه كان عالماً بأنه تعالى يصح منه الإحياء في الجملة لأن تخصيص هذا الشيء باستبعاد الإحياء إنما يصح أن لو حصل الاعتراف بالقدرة على الإحياء في الجملة فأما من يعتقد أن القدرة على الإحياء ممتنعة لم يبق لهذا التخصيص فائدة
الحجة الثانية أن قوله كَمْ لَبِثْتَ لا بد له من قائل والمذكور السابق هو الله تعالى فصار التقدير قال الله تعالى كَمْ لَبِثْتَ فقال ذلك الإنسان لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فقال الله تعالى بَل لَّبِثْتَ مِاْئَة َ عَامٍ ومما يؤكد أن قائل هذا القول هو الله تعالى قوله وَلِنَجْعَلَكَ ءايَة ً لِلنَّاسِ ومن المعلوم أن القادر على جعله آية للناس هو الله تعالى ثم قال وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا ولا شك أن قائل هذا

القول هو الله تعالى فثبت أن هذه الآية دالة من هذه الوجوه الكثيرة على أنه تكلم معه ومعلوم أن هذا لا يليق بحال هذا الكافر
فإن قيل لعله تعالى بعث إليه رسولاً أو ملكاً حتى قال له هذا القول عن الله تعالى
قلنا ظاهر هذا الكلام يدل على أن قائل هذه الأقوال معه هو الله تعالى فصرف اللفظ عن هذا الظاهر إلى المجاز من غير دليل يوجبه غير جائز
والحجة الثالثة أن إعادته حياً وإبقاء الطعام والشراب على حالهما وإعادة الحمار حياً بعد ما صار رميماً مع كونه مشاهداً لإعادة أجزاء الحمار إلى التركيب وإلى الحياة إكرام عظيم وتشريف كريم وذلك لا يليق بحال الكافر له
فإن قيل لم لا يجوز أن يقال إن كل هذه الأشياء إنما أدخلها الله تعالى في الوجود إكراماً لإنسان آخر كان نبياً في ذلك الزمان
قلنا لم يجر في هذه الآية ذكر هذا النبي وليس في هذه القصة حالة مشعرة بوجود النبي أصلاً فلو كان المقصود من إظهار هذه الأشياء إكرام ذلك النبي وتأييد رسالته بالمعجزة لكان ترك ذكر ذلك الرسول إهمالاً لما هو الغرض الأصلي من الكلام وأنه لا يجوز
فإن قيل لو كان ذلك الشخص لكان إما أن يقال إنه ادعى النبوّة من قبل الإماتة والإحياء أو بعدهما والأول باطل لأن أرسال النبي من قبل الله يكون لمصلحة تعود على الأمة وذلك لا يتم بعد الإماتة وإن ادعى النبوّة بعد الإحياء فالمعجز قد تقدم على الدعوى وذلك غير جائز
قلنا إظهار خوارق العادات على يد من يعلم الله أنه سيصير رسولاً جائز عندنا وعلى هذا الطريق زال السؤال
الحجة الرابعة أنه تعالى قال في حق هذا الشخص وَلِنَجْعَلَكَ ءايَة ً لِلنَّاسِ وهذا اللفظ إنما يستعمل في حق الأنبياء والرسل قال تعالى وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا ءايَة ً لّلْعَالَمِينَ ( الأنبياء 91 ) فكان هذا وعداً من الله تعالى بأنه يجعله نبياً وأيضاً فهذا الكلام لم يدل على النبوّة بصريحه فلا شك أنه يفيد التشريف العظيم وذلك لا يليق بحال من مات على الكفر وعلى الشك في قدرة الله تعالى
فإن قيل لم لا يجوز أن يكون المراد من جعله آية أن من عرفه من الناس شاباً كاملاً إذا شاهدوه بعد مائة سنة على شبابه وقد شاخوا أو هرموا أو سمعوا بالخبر أنه كان مات منذ زمان وقد عاد شاباً صح أن يقال لأجل ذلك إنه آية للناس لأنهم يعتبرون بذلك ويعرفون به قدرة الله تعالى ونبوّة نبي ذلك الزمان
والجواب من وجهين الأول أن قوله وَلِنَجْعَلَكَ ءايَة ً إخبار عن أنه تعالى يجعله آية وهذا الاخبار إنما وقع بعد أن أحياه الله وتكلم معه والمجعول لا يجعل ثانياً فوجب حمل قوله وَلِنَجْعَلَكَ ءايَة ً لِلنَّاسِ على أمر زائد عن هذا الإحياء وأنتم تحملونه على نفس هذا الإحياء فكان باطلاً والثاني أنه وجه التمسك أن قوله وَلِنَجْعَلَكَ ءايَة ً لِلنَّاسِ يدل على التشريف العظيم وذلك لا يليق بحال من مات على الكفر والشك في قدرة الله تعالى

الحجة الخامسة ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في سبب نزول الآية قال إن بختنصر غزا بني إسرائيل فسبى منهم الكثيرون ومنهم عزير وكان من علمائهم فجاء بهم إلى بابل فدخل عزير يوماً تلك القرية ونزل تحت شجرة وهو على حمار فربط حماره وطاف في القرية فلم ير فيها أحداً فعجب من ذلك وقال أَوْ كَالَّذِى مَرَّ عَلَى قَرْيَة ٍ وَهِى َ لا على سبيل الشك في القدرة بل على سبيل الاستبعاد بحسب العادة وكانت الأشجار مثمرة فتناول من الفاكهة التين والعنب وشرب من عصير العنب ونام فأماته الله تعالى في منامه مائة عام وهو شاب ثم أعمى عن موته أيضاً الإنس والسباع والطير ثم أحياه الله تعالى بعد المائة ونودي من السماء يا عزير كَمْ لَبِثْتَ بعد الموت فقال يَوْماً فأبصر من الشمس بقية فقال أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فقال الله تعالى بَل لَّبِثْتَ مِاْئَة َ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ من التين والعنب وشرابك من العصير لم يتغير طعمهما فنظر فإذا التين والعنب كما شاهدهما ثم قال وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ فنظر فإذا هو عظام بيض تلوح وقد تفرقت أوصاله وسمع صوتاً أيتها العظام البالية إني جاعل فيك روحاً فانضم أجزاء العظام بعضها إلى بعض ثم التصق كل عضو بما يليق به الضلع إلى الضلع والذراع إلى مكانه ثم جاء الرأس إلى مكانه ثم العصب والعروق ثم أنبت طراء اللحم عليه ثم انبسط الجلد عليه ثم خرجت الشعور عن الجلد ثم نفخ فيه الروح فإذا هو قائم ينهق فخر عزير ساجداً وقال أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ ثم إنه دخل بيت المقدس فقال القوم حدثنا آباؤنا أن عزير بن شرخياء مات ببابل وقد كان بختنصر قتل ببيت المقدس أربعين ألفاً ممن قرأ التوراة وكان فيهم عزير والقوم ما عرفوا أنه يقرأ التوراة فلما أتاهم بعد مائة عام جدد لهم التوراة وأملاها عليهم عن ظهر قلبه لم يخرم منها حرفاً وكانت التوراة قد دفنت في موضع فأخرجت وعورض بما أملاه فما اختلفا في حرف فعند ذلك قالوا عزير بن الله وهذه الرواية مشهورة فيما بين الناس وذلك يدل على أن ذلك المار كان نبياً
المسألة الثالثة اختلفوا في تلك القرية فقال وهب وقتادة وعكرمة والربيع إيلياء وهي بيت المقدس وقال ابن زيد هي القرية التي خرج منها الألوف حذر الموت
أما قوله تعالى وَهِى َ خَاوِيَة ٌ عَلَى عُرُوشِهَا قال الأصمعي خوى البيت فهو يخوى خواء ممدود إذا ما خلا من أهله والخوا خلو البطن من الطعام وفي الحديث ( كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إذا سجد خوى ) أي خلى ما بين عضديه وجنبيه وبطنه وفخذيه وخوى الفرس ما بين قوائمه ثم يقال للبيت إذا انهدم خوى لأنه بتهدمه يخلو من أهله وكذلك خوت النجوم وأخوت إذا سقطت ولم تمطر لأنها خلت عن المطر والعرش سقف البيت والعروش الأبنية والسقوف من الخشب يقال عرش الرجل يعرش ويعرش إذا بني وسقف بخشب فقوله وَهِى َ خَاوِيَة ٌ عَلَى عُرُوشِهَا أي منهدمة ساقطة خراب قاله ابن عباس رضي الله عنهما وفيه وجوه أحدها أن حيطانها كانت قائمة وقد تهدمت سقوفها ثم انقعرت الحيطان من قواعدها فتساقطت على السقوف المنهدمة ومعنى الخاوية المنقلعة وهي المنقلعة من أصولها يدل عليه قوله تعالى أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَة ٍ ( الحاقة 7 ) وموضع آخر أَعْجَازُ نَخْلٍ ( القمر 20 ) وهذه الصفة في خراب المنازل من أحسن ما يوصف به والثاني قوله تعالى وَهِى َ خَاوِيَة ٌ عَلَى عُرُوشِهَا أي خاوية عن عروشها جعل عَلَى بمعنى عَنْ كقوله إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ ( المطففين 2 ) أي عنهم والثالث أن المراد أن القرية خاوية

مع كون أشجارها معروشة فكان التعجب من ذلك أكثر لأن الغالب من القرية الخالية الخاوية أن يبطل ما فيها من عروش الفاكهة فلما خربت القرية مع بقاء عروشها كان التعجب أكثر
أما قوله تعالى قَالَ أَنَّى يُحْى ِ هَاذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فقد ذكرنا أن من قال المار كان كافراً حمله على الشك في قدرة الله تعالى ومن قال كان نبياً حمله على الاستبعاد بحسب مجاري العرف والعادة أو كان المقصود منه طلب زيادة الدلائل لأجل التأكيد كما قال إبراهيم عليه السلام ( أرني كيف تحيي الموتى ) وقوله إِنّى أي من أين كقوله أَنَّى لَكِ هَاذَا والمراد بإحياء هذه القرية عمارتها أي متى يفعل الله تعالى ذلك على معنى أنه لا يفعله فأحب الله أن يريه في نفسه وفي إحياء القرية آية فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِاْئَة َ عَامٍ وقد ذكرنا القصة
فإن قيل ما الفائدة في إماتة الله له مائة عام مع أن الاستدلال بالإحياء يوم أو بعد بعض يوم حاصل
قلنا لأن الإحياء بعد تراخي المدة أبعد في العقول من الإحياء بعد قرب المدة وأيضاً فلأن بعد تراخي المدة ما يشاهد منه ويشاهد هو من غيره أعجب
أما قوله تعالى ثُمَّ بَعَثَهُ فالمعنى ثم أحياه ويوم القيامة يسمى يوم البعث لأنهم يبعثون من قبورهم وأصله من بعثت الناقة إذا أقمتها من مكانها وإنما قال ثُمَّ بَعَثَهُ ولم يقل ثم أحياه لأن قوله ثُمَّ بَعَثَهُ يدل على أنه عاد كما كان أولاً حياً عاقلاً فهما مستعدا للنظر والاستدلال في المعارف الإلاهية ولو قال ثم أحياه لم تحصل هذه الفوائد
أما قوله تعالى قَالَ كَمْ لَبِثْتَ ففيه مسائل
المسألة الأولى فيه وجهان من القراءة قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بالإدغام والباقون بالإظهار فمن أدغم فلقرب المخرجين ومن أظهر فلتباين المخرجين وإن كانا قريبين
المسألة الثانية أجمعوا على أن قائل هذا القول هو الله تعالى وإنما عرف أن هذا الخطاب من الله تعالى لأن ذلك الخطاب كان مقروناً بالمعجز ولأنه بعد الإحياء شاهد من أحوال حماره وظهور البلى في عظامه ما عرف به أن تلك الخوارق لم تصدر إلا من الله تعالى
المسألة الثالثة في الآية إشكال وهو أن الله تعالى كان عالماً بأنه كان ميتاً وكان عالماً بأن الميت لا يمكنه بعد أن صار حياً أن يعلم أن مدة موته كانت طويلة أم قصيرة فمع ذلك لأي حكمة سأله عن مقدار تلك المدة
والجواب عنه أن المقصود من هذا السؤال التنبيه على حدوث ما حدث من الخوارق
أما قوله تعالى لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ففيه سؤالات
السؤال الأول لم ذكر هذا الترديد
الجواب أن الميت طالت مدة موته أو قصرت فالحال واحدة بالنسبة إليه فأجاب بأقل ما يمكن أن يكون ميتاً لأنه اليقين وفي التفسير أن إماتته كانت في أول النهار فقال يَوْماً ثم لما نظر إلى ضوء

الشمس باقياً على رؤوس الجدران فقال أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ
السؤال الثاني أنه لما كان اللبث مائة عام ثم قال لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ أليس هذا يكون كذباً
والجواب أنه قال ذلك على حسب الظن ولا يكون مؤاخذاً بهذا الكذب ونظيره أنه تعالى حكى عن أصحاب الكهف أنهم قالوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ على ما توهموه ووقع عندهم وأيضاً قال أخوة يوسف عليه السلام فَقُولُواْ يأَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا ( يوسف 81 ) وإنما قالوا ذلك بناء على الأمارة من إخراج الصواع من رحله
السؤال الثالث هل علم أن ذلك اللبث كان بسبب الموت أو لم يعلم ذلك بل كان يعتقد أن ذلك اللبث بسبب الموت
الجواب الأظهر أنه علم أن ذلك اللبث كان بسبب الموت وذلك لأن الغرض الأصلي في إماتته ثم إحيائه بعد مائة عام أن يشاهد الإحياء بعد الإماتة وذلك لا يحصل إلا إذا عرف أن ذلك اللبث كان بسبب الموت وهو أيضاً قد شاهد إما في نفسه أو في حماره أحوالاً دالة على أن ذلك اللبث كان بسبب الموت
أما قوله تعالى قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِاْئَة َ عَامٍ فالمعنى ظاهر وقيل العام أصله من العوم الذي هو السباحة لأن فيه سبحاً طويلاً لا يمكن من التصرف فيه
أما قوله تعالى فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ففيه مسائل
المسألة الأولى اختلف القراء في إثبات الهاء في الوصل من قوله لَمْ يَتَسَنَّهْ و اقْتَدِهْ و مَالِيَهْ و سُلْطَانِيَهْ و ماهيه بعد أن اتفقوا على إثباتها في الوقف فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم هذه الحروف كلها بإثبات الهاء في الوصل وكان حمزة يحذفهن في الوصل وكان الكسائي يحذف الهاء في الوصل من قوله وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ و اقْتَدِهْ ويثبتها في الوصل في الباقي ولم يختلفوا في قوله لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ ( الحاقة 25 26 ) أنها بالهاء في الوصل والوقف
إذا عرفت هذا فنقول أما الحذف ففيه وجوه أحدهما أن اشتقاق قوله يَتَسَنَّهْ من السنة وزعم كثير من الناس أن أصل السنة سنوة قالوا والدليل عليه أنهم يقولون في الاشتقاق منها أسنت القوم إذا أصابتهم السنة وقال الشاعر ورجال مكة مسنتون عجاف
ويقولون في جمعها سنوات وفي الفعل منها سانيت الرجل مساناة إذا عامله سنة سنة وفي التصغير سنية إذا ثبت هذا كان الهاء في قوله لَمْ يَتَسَنَّهْ للسكت لا للأصل وثانيها نقل الواحدي عن الفرّاء أنه قال يجوز أن تكون أصل سنة سننة لأنهم قالوا في تصغيرها سنينة وإن كان ذلك قليلاً فعلى هذا يجوز أن يكون لَمْ يَتَسَنَّهْ أصله لم يتسنن ثم أسقطت النون الأخيرة ثم أدخل عليها هاء السكت عن الوقف عليه كما أن أصل لم يتقض البازي لم يتقضض البازي ثم أسقطت الضاد الأخيرة ثم أدخل عليه هاء

السكت عند الوقف فيقال لم يتقضه وثالثها أن يكون لَمْ يَتَسَنَّهْ مأخوذاً من قوله تعالى مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ ( الحجر 26 ) والسن في اللغة هو الصب هكذا قال أبو علي الفارسي فقوله لم يتسنن أي الشراب بقي بحاله لم ينضب وقد أتى عليه مائة عام ثم أنه حذفت النون الأخيرة وأبدلت بها السكت عند الوقف على ما قررناه في الوجه الثاني فهذه الوجوه الثلاثة لبيان الحذف وأما بيان الإثبات فهو أن لَمْ يَتَسَنَّهْ مأخوذ من السنة والسنة أصلها سنهه بدليل أنه يقال في تصغيرها سنيهة ويقال سانهت النخلة بمعنى عاومت وآجرت الدار مسانهة وإذا كان كذلك فالهاء في لَمْ يَتَسَنَّهْ لام الفعل فلا جرم لم يحذف ألبتة لا عند الوصل ولا عند الوقف
المسألة الثانية قوله تعالى لَمْ يَتَسَنَّهْ أي لم يتغير وأصل معنى لَمْ يَتَسَنَّهْ أي لم يأت عليه السنون لأن مر السنين إذا لم يتغير فكأنها لم تأت عليه ونقلنا عن أبي علي الفارسي لم يتسنن أي لم ينضب الشراب بقي في الآية سؤالان
السؤال الأول أنه تعالى لما قال بَل لَّبِثْتَ مِاْئَة َ عَامٍ كان من حقه أن يذكر عقيبه ما يدل على ذلك وقوله فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ لا يدل على أنه لبث مائة عام بل يدل ظاهراً على ما قاله من أنه لبث يوماً أو بعض يوم
والجواب أنه كلما كانت الشبهة أقوى مع علم الإنسان في الجملة أنها شبهة كان سماع الدليل المزيل لتلك الشبهة آكد ووقوعه في العمل أكمل فكأنه تعالى لما قال بَل لَّبِثْتَ مِاْئَة َ عَامٍ قال فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ فإن هذا مما يؤكد قولك لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فحينئذ يعظم اشتياقك إلى الدليل الذي يكشف عن هذه الشبهة ثم قال بعده وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ فرأى الحمار صار رميماً وعظاماً نخرة فعظم تعجبه من قدرة الله تعالى فإن الطعام والشراب يسرع التغير فيهما والحمار ربما بقي دهراً طويلاً وزماناً عظيماً فرأى ما لا يبقى باقياً وهو الطعام والشراب وما يبقى غير باق وهو العظام فعظم تعجبه من قدرة الله تعالى وتمكن وقوع هذه الحجة في عقله وفي قلبه
السؤال الثاني أنه تعالى ذكر الطعام والشراب وقوله لَمْ يَتَسَنَّهْ راجع إلى الشراب لا إلى الطعام
والجواب كما يوصف الشراب بأنه لم يتغير كذلك يوصف الطعام بأنه لم يتغير لا سيما إذا كان الطعام لطيفاً يتسارع الفساد إليه والمروى أن طعامه كان التين والعنب وشرابه كان عصير العنب واللبن وفي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه وَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَهَاذَا
أما قوله تعالى وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ فالمعنى أنه عرفه طول مدة موته بأن شاهد عظام حماره نخرة رميمة وهذا في الحقيقة لا يدل بذاته لأنه لما شاهد انقلاب العظام النخرة حياً في الحال علم أن القادر على ذلك قادر على أن يميت الحمار في الحال ويجعل عظامه رميمة نخرة في الحال وحينئذ لا يمكن الاستدلال بعظام الحمار على طول مدة الموت بل انقلاب عظام الحمار إلى الحياة معجزة دالة على صدق ما سمع من قوله بَل لَّبِثْتَ مِاْئَة َ عَامٍ قال الضحاك معنى قوله أنه لما أحيى بعد الموت كان دليلاً على صحة البعث وقال غيره كان آية لأن الله تعالى أحياه شاباً أسود الرأس وبنو بنيه شيوخ بيض اللحى والرؤوس

أما قوله تعالى وَلِنَجْعَلَكَ ءايَة ً لِلنَّاسِ فقد بينا أن المراد منه التشريف والتعظيم والوعد بالدرجة العالية في الدين والدنيا وذلك لا يليق بمن مات على الكفر والشك في قدرة الله تعالى
فإن قيل ما فائدة الواو في قوله وَلِنَجْعَلَكَ قلنا قال الفرّاء دخلت الواو لأنه فعل بعدها مضمر لأنه لو قال وانظر إلى حمارك لنجعلك آية كان النظر إلى الحمار شرطاً وجعله آية جزاء وهذا المعنى غير مطلوب من هذا الكلام أما لما قال وَلِنَجْعَلَكَ ءايَة ً كان المعنى ولنجعلك آية فعلنا ما فعلنا من الإماتة والإحياء ومثله قوله تعالى وَكَذالِكَ نُصَرّفُ الاْيَاتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ ( الأنعام 105 ) والمعنى وليقولوا درست صرفنا الآيات وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ( الأنعام 75 ) أي ونريه الملكوت
أما قوله تعالى وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ فأكثر المفسرين على أن المراد بالعظام عظام حماره فإن اللام فيه بدل الكناية وقال آخرون أرادوا به عظام هذا الرجل نفسه قالوا إنه تعالى أحيا رأسه وعينيه وكانت بقية بدنه عظاماً نخرة فكان ينظر إلى أجزاء عظام نفسه فرآها تجتمع وينضم البعض إلى البعض وكان يرى حماره واقفاً كما ربطه حين كان حياً لم يأكل ولم يشرب مائة عام وتقدير الكلام على هذا الوجه وانظر إلى عظامك وهذا قول قتادة والربيع وابن زيد وهو عندي ضعيف لوجوه أحدها أن قوله لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ إنما يليق بمن لا يرى أثر التغير في نفسه فيظن أنه كان نائماً في بعض يوم أما من شاهد أجزاء بدنة متفرقة وعظام بدنة رميمة نخرة فلا يليق به ذلك القول وثانيها أنه تعالى حكي عنه أن خاطبه وأجاب فيجب أن يكون المجيب هو الذي أماته الله فإذا كانت الإماتة راجعة إلي كله فالمجيب أيضاً الذي بعثه الله يجب أن يكون جملة الشخص وثالثها أن قوله فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِاْئَة َ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ يدل على أن تلك الجملة أحياها وبعثها
أما قوله كَيْفَ فالمراد يحييها يقال أنشر الله الميت ونشره قال تعالى فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ وقد وصف الله العظام بالإحياء في قوله تعالى قَالَ مَن يُحى ِ الْعِظَامَ وَهِى َ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا ( ي س 78 79 ) وقرىء ننشرها بفتح النون وضم الشين قال الفرّاء كأنه ذهب إلى النشر بعد الطي وذلك أن بالحياة يكون الانبساط في التصرف فهو كأنه مطوي ما دام ميتاً فإذا عاد صار كأنه نشر بعد الطي وقرأ حمزة والكسائي كَيْفَ نُنشِزُهَا بالزاي المنقوطة من فوق والمعنى نرفع بعضها إلى بعض وانشاز الشيء رفعه يقال أنشزته فنشز أي رفعته فارتفع ويقال لما ارتفع من الأرض نشز ومنه نشوز المرأة وهو أن ترتفع عن حد رضا الزوج ومعنى الآية على هذه القراءة كيف نرفعها من الأرض فتردها إلى أماكنها من الجسد ونركب بعضها على البعض وروي عن النخعي أنه كان يقرأ نُنشِزُهَا بفتح النون وضم الشين والزاي ووجهه ما قال الأخفش أنه يقال نشزته وأنشزته أي رفعته والمعنى من جميع القراءات أنه تعالى ركب العظام بعضها على بعض حتى اتصلت على نظام ثم بسط اللحم عليها ونشر العروق والأعصاب واللحوم والجلود عليها ورفع بعضه إلى جنب البعض فيكون كل القراءات داخلاً في ذلك
ثم قال تعالى فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ وهذا راجع إلى ما تقدم ذكره من قوله أَوْ كَالَّذِى مَرَّ عَلَى قَرْيَة ٍ وَهِى َ

والمعنى فلما تبين له وقوع ما كان يستبعد وقوعه وقال صاحب ( الكشاف ) فاعل تَبَيَّنَ لَهُ مضمر تقديره فلما تبين له أن الله على كل شيء قدير قال أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ فحذف الأول لدلالة الثاني عليه وهذا عندي فيه تعسف بل الصحيح أنه لما تبين له أمر الإماتة والإحياء على سبيل المشاهدة قال أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ وتأويله أني قد علمت مشاهدة ما كنت أعلمه قبل ذلك الاستدلال وقرأ حمزة والكسائي قَالَ أَعْلَمُ على لفظ الأمر وفيه وجهان أحدهما أنه عند التبين أمر نفسه بذلك قال الأعشى ودع أمامة إن الركب قد رحلوا
والثاني أن الله تعالى قال أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ ويدل على صحة هذا التأويل قراءة عبد الله والأعمش قيل أعلم أن الله على كل شيء قدير ويؤكده قوله في قصة إبراهيم رَبّى وَإِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ رَبّ ( البقرة 260 ) ثم قال في آخرها وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( البقرة 260 ) قال القاضي والقراءة الأولى وذلك لأن الأمر بالشيء إنما يحسن عند عدم المأمور به وهاهنا العلم حاصل بدليل قوله فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ فكان الأمر بتحصيل العلم بعد ذلك غير جائز أما الاخبار عن أنه حصل كان جائزاً
القصة الثالثة
وهي أيضاً دالة على صحة البعث
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْى ِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَاكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَة ً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
في الآية مسائل
المسألة الأولى في عامل إِذْ قولان قال الزجاج التقدير اذكر إذ قال إبراهيم وقال غيره إنه معطوف على قوله أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِى حَاجَّ إِبْراهِيمَ ألم تر إذ حاج إبراهيم في ربه وألم تر إذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى
المسألة الثانية أنه تعالى لم يسم عزيراً حين قال أَوْ كَالَّذِى مَرَّ عَلَى قَرْيَة ٍ ( البقرة 259 ) وسمى هاهنا إبراهيم مع أن المقصود من البحث في كلتا القصتين شيء واحد والسبب أن عزيراً لم يحفظ الأدب بل قال أَوْ كَالَّذِى مَرَّ عَلَى قَرْيَة ٍ وَهِى َ وإبراهيم حفظ الأدب فإنه أثنى على الله أولاً بقوله رَبّ ثم دعا حيث قال أَرِنِى وأيضاً أن إبراهيم لما راعى الأدب جعل الإحياء والإماتة في الطيور وعزيراً لما لم يراع الأدب جعل الإحياء والإماتة في نفسه

المسألة الثالثة ذكروا في سبب سؤال إبراهيم وجوهاً الأول قال الحسن والضحاك وقتادة وعطاء وابن جريج أنه رأى جيفة مطروحة في شط البحر فإذا مد البحر أكل منها دواب البحر وإذا جزر البحر جاءت السباع فأكلت وإذا ذهبت السباع جاءت الطيور فأكلت وطارت فقال إبراهيم رب أرني كيف تجمع أجزاء الحيوان من بطون السباع والطيور ودواب البحر فقيل أو لم تؤمن قال بلى ولكن المطلوب من السؤال أن يصير العلم بالاستدلال ضرورياً
الوجه الثاني قال محمد بن إسحاق والقاضي سبب السؤال أنه مع مناظرته مع نمروذ لما قال رَبّيَ الَّذِى يُحْى ِ وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْى ِ وَأُمِيتُ فأطلق محبوساً وقتل رجلاً قال إبراهيم ليس هذا بإحياء وإماتة وعند ذلك قال رَبّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْى ِ الْمَوْتَى لتنكشف هذه المسألة عند نمروذ وأتباعه وروي عن نمرود أنه قال قل لربك حتى يحيي وإلا قتلتك فسأل الله تعالى ذلك وقوله لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى بنجاتي من القتل أو ليطمئن قلبي بقوة حجتي وبرهاني وإن عدولي منها إلى غيرها ما كان بسبب ضعف تلك الحجة بل كان بسبب جهل المستمع
والوجه الثالث قال ابن عباس وسعيد بن جبير والسدي رضي الله عنهم أن الله تعالى أوحى إليه إني متخذ بشراً خليلاً فاستعظم ذلك إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) وقال إلاهي ما علامات ذلك فقال علامته أنه يحيي الميت بدعائه فلما عظم مقام إبراهيم عليه السلام في درجات العبودية وأداء الرسالة خطر بباله إني لعلي أن أكون ذلك الخليل فسأل إحياء الميت فقال الله أَوَلَمْ نُؤْمِنُ قَالَ بَلَى وَلَاكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى على أنني خليل لك
الوجه الرابع أنه ( صلى الله عليه وسلم ) إنما سأل ذلك لقومه وذلك أتباع الأنبياء كانوا يطالبونهم بأشياء تارة باطلة وتارة حقة كقولهم لموسى عليه السلام ( اجعل لنا إلاهاً كما لهم آلهة ) فسأل إبراهيم ذلك والمقصود أن يشاهده فيزول الإنكار عن قلوبهم
الوجه الخامس ما خطر ببالي فقلت لا شك أن الأمة كما يحتاجون في العلم بأن الرسول صادق في ادعاء الرسالة إلى معجز يظهر على يده فكذلك الرسول عند وصول الملك إليه وإخباره إياه بأن الله بعثه رسولاً يحتاج إلى معجز يظهر على يد ذلك الملك ليعلم الرسول أن ذلك الواصل ملك كريم لا شيطان رجيم وكذا إذا سمع الملك كلام الله احتاج إلى معجز يدل على أن ذلك الكلام كلام الله تعالى لا كلام غيره وإذا كان كذلك فلا يبعد أن يقال إنه لما جاء الملك إلى إبراهيم وأخبره بأن الله تعالى بعثك رسولاً إلى الخلق طلب المعجز فقال رَبّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْى ِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَاكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى على أن الآتي ملك كريم لا شيطان رجيم
الوجه السادس وهو على لسان أهل التصوف أن المراد من الموتى القلوب المحجوبة عن أنوار المكاشفات والتجلي والإحياء عبارة عن حصول ذلك التجلي والأنوار الإلاهية فقوله وَإِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ رَبّ طلب لذلك التجلي والمكاشفات فقال أولم تؤمن قال بلى أو من به إيمان الغيب ولكن أطلب حصولها ليطمئن قلبي بسبب حصول ذلك التجلي وعلى قول المتكلمين العلم الاستدلالي مما يتطرق إليه

الشبهات والشكوك فطلب علماً ضرورياً يستقر القلب معه استقرار لا يتخالجه شيء من الشكوك والشبهات
الوجه السابع لعله طالع في الصحف التي أنزلها الله تعالى عليه أنه يشرف ولده عيسى بأنه يحيي الموتى بدعائه فطلب ذلك فقيل له أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَاكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى على أني لست أقل منزلة في حضرتك من ولدي عيسى
الوجه الثامن أن إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) أمر بذبح الولد فسارع إليه ثم قال أمرتني أن أجعل ذا روح بلا روح ففعلت وأنا أسألك أن تجعل غير ذي روح روحانياً فقال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي على أنك اتخذتني خليلاً
الوجه التاسع نظر إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) في قلبه فرآه ميتاً بحب ولده فاستحيي من الله وقال أرني كيف تحيي الموتى أي القلب إذا مات بسبب الغفلة كيف يكون إحياؤه بذكر الله تعالى
الوجه العاشر تقدير الآية أن جميع الخلق يشاهدون الحشر يوم القيامة فأرني ذلك في الدنيا فقال أولم نؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي على أن خصصتني في الدنيا بمزيد هذا التشريف
الوجه الحادي عشر لم يكن قصد إبراهيم إحياء الموتى بل كان قصده سماع الكلام بلا واسطة
الثاني عشر ما قاله قوم من الجهال وهو أن إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) كان شاكاً في معرفة المبدأ وفي معرفة المعاد أما شكه في معرفة المبدأ فقوله هَاذَا رَبّى وقوله لَئِن لَّمْ يَهْدِنِى رَبّى لاَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالّينَ ( الأنعام 77 ) وأما شكه في المعاد فهو في هذه الآية وهذا القول سخيف بل كفر وذلك لأن الجاهل بقدرة الله تعالى على إحياء الموتى كافر فمن نسب النبي المعصوم إلى ذلك فقد كفر النبي المعصوم فكان هذا بالكفر أولى ومما يدل على فساد ذلك وجوه أحدها قوله تعالى أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَاكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى ولو كان شاكاً لم يصح ذلك وثانيها قوله وَلَاكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى وذلك كلام عارف طالب لمزيد اليقين ومنها أن الشك في قدرة الله تعالى يوجب الشك في النبوّة فكيف يعرف نبوّة نفسه
أما قوله تعالى أَوَلَمْ تُؤْمِن ففيه وجهان أحدهما أنه استفهام بمعنى التقرير قال الشاعر ألستم خير من ركب المطايا
وأندى العالمين بطون راح
والثاني المقصود من هذا السؤال أن يجيب بما أجاب به ليعلم السامعون أنه عليه السلام كان مؤمناً بذلك عارفاً به وأن المقصود من هذا السؤال شيء آخر
أما قوله تعالى قَالَ بَلَى وَلَاكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى فاعلم أن اللام في لّيَطْمَئِنَّ متعلق بمحذوف والتقدير سألت ذلك إرادة طمأنينة القلب قالوا والمراد منه أن يزول عنه الخواطر التي تعرض للمستدل وإلا فاليقين حاصل على كلتا الحالتين
وهاهنا بحث عقلي وهو أن التفسير مفرع على أن العلوم يجوز أن يكون بعضها أقوى من بعض وفيه سؤال صعب وهو أن الإنسان حال حصول العلم له إما أن يكون مجوزاً لنقيضه وإما أن لا يكون فإن

جوّز نقيضه بوجه من الوجوه فذاك ظن قوي لا اعتقاد جازم وإن لم يجوز نقيضه بوجه من الوجوه امتنع وقوع التفاوت في العلوم
واعلم أن هذا الإشكال إنما يتوجه إذا قلنا المطلوب هو حصول الطمأنينة في اعتقاد قدرة الله تعالى على الإحياء أما لو قلنا المقصود شيء آخر فالسؤال زائل
أما قوله تعالى فَخُذْ أَرْبَعَة ً مّنَ الطَّيْرِ فقال ابن عباس رضي الله عنهما أخذ طاوساً ونسراً وغراباً وديكاً وفي قول مجاهد وابن زيد رضي الله عنهما حمامة بدل النسر وهاهنا أبحاث
البحث الأول أنه لما خص الطير من جملة الحيوانات بهذه الحالة ذكروا فيه وجهين الأول أن الطيران في السماء والارتفاع في الهواء والخليل كانت همته العلو والوصول إلى الملكوت فجعلت معجزته مشاكلة لهمته
والوجه الثاني أن الخليل عليه السلام لما ذبح الطيور وجعلها قطعة قطعة ووضع على رأس كل جبل قطعاً مختلطة ثم دعاها طار كل جزء إلى مشاكله فقيل له كما طار كل جزء إلى مشاكله كذا يوم القيامة يطير كل جزء إلى مشاكله حتى تتألف الأبدان وتتصل به الأرواح ويقرره قوله تعالى يَخْرُجُونَ مِنَ الاْجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ ( القمر 7 )
البحث الثاني أن المقصود من الإحياء والإماتة كان حاصلاً بحيوان واحد فلم أمر بأخذ أربع حيوانات وفيه وجهان الأول أن المعنى فيه أنك سألت واحداً على قدر العبودية وأنا أعطي أربعاً على قدر الربوبية والثاني أن الطيور الأربعة إشارة إلى الأركان الأربعة التي منها تركيب أبدان الحيوانات والنباتات والإشارة فيه أنك ما لم تفرق بين هذه الطيور الأربعة لا يقدر طير الروح على الارتفاع إلى هواء الربوبية وصفاء عالم القدس
البحث الثالث إنما خص هذه الحيوانات لأن الطاوس إشارة إلى ما في الإنسان من حب الزينة والجاه والترفع قال تعالى زُيّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ ( آل عمران 14 ) والنسر إشارة إلى شدة الشغف بالأكل والديك إشارة إلى شدة الشغف بقضاء الشهوة من الفرج والغراب إشارة إلى شدة الحرص على الجمع والطلب فإن من حرص الغراب أنه يطير بالليل ويخرج بالنهار في غاية البرد للطلب والإشارة فيه إلى أن الإنسان ما لم يسع في قتل شهوة النفس والفرج وفي إبطال الحرص وإبطال التزين للخلق لم يجد في قلبه روحاً وراحة من نور جلال الله
أما قوله تعالى فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ بكسر الصاد والباقون بضم الصاد أما الضم ففيه قولان الأول أن من صرت الشيء أصوره إذا أملته إليه ورجل أصور أي مائل العنق ويقال صار فلان إلى كذا إذا قال به ومال إليه وعلى هذا التفسير يحصل في الكلام محذوف كأنه قيل أملهن إليك وقطعهن ثم اجعل على كل جبل منهن جزأ فحذف الجملة التي هي قطعهن لدلالة الكلام عليه كقوله أَنِ اضْرِب بّعَصَاكَ

الْبَحْرَ فَانفَلَقَ على معنى فضرب فانفلق لأن قوله ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلّ جَبَلٍ مّنْهُنَّ يدل على التقطيع
فإن قيل ما الفائدة في أمره بضمها إلى نفسه بعد أن يأخذها
قلنا الفائدة أن يتأمل فيها ويعرف أشكالها وهيآتها لئلا تلتبس عليه بعد الإحياء ولا يتوهم أنها غير تلك
والقول الثاني وهو قول ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد أَنزَلْنَا إِلَيْكَ معناه قطعهن يقال صار الشيء يصوره صوراً إذ قطعه قال رؤبة يصف خصماً ألد صرناه بالحكم أي قطعناه وعلى هذا القول لا يحتاج إلى الإضمار وأما قراءة حمزة بكسر الصاد فقد فسّر هذه الكلمة أيضاً تارة بالإمالة وأخرى بالتقطيع أما الإمالة فقال الفرّاء هذه لغة هذيل وسليم صاره يصيره إذا أماته وقال الأخفش وغيره صرهن بكسر الصاد قطعهن يقال صاره يصيره إذا قطعه قال الفرّاء أظن أن ذلك مقلوب من صرى يصري إذا قطع فقدمت ياؤها كما قالوا عثا وعاث قال المبرّد وهذا لا يصح لأن كل واحد من هذين اللفظين أصل في نفسه مستقل بذاته فلا يجوز جعل أحدهما فرعاً عن الآخر
المسألة الثانية أجمع أهل التفسير على أن المراد بالآية قطعهن وأن إبراهيم قطع أعضاءها ولحومها وريشها ودماءها وخلط بعضها على بعض غير أبي مسلم فإنه أنكر ذلك وقال إن إبراهيم عليه السلام لما طلب إحياء الميت من الله تعالى أراه الله تعالى مثالا قرب به الأمر عليه والمراد بصرهن إليك الإمالة والتمرين على الإجابة أي فعود الطيور الأربعة أن تصير بحيث إذا دعوتها أجابتك وأتتك فإذا صارت كذلك فاجعل على كل جبل واحداً حال حياته ثم ادعهن يأتينك سعياً والغرض منه ذكر مثال محسوس في عود الأرواح إلى الأجساد على سبيل السهولة وأنكر القول بأن المراد منه فقطعهن واحتج عليه بوجوه الأول أن المشهور في اللغة في قوله الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ أملهن وأما التقطيع والذبح فليس في الآية ما يدل عليه فكان إدراجه في الآية إلحاقاً لزيادة بالآية لم يدل الدليل عليها وأنه لا يجوز والثاني أنه لو كان المراد بصرهن قطعهن لم يقل إليك فإن ذلك لا يتعدى بإلي وإنما يتعدى بهذا الحرف إذا كان بمعنى الإمالة
فإن قيل لم لا يجوز أن يقال في الكلام تقديم وتأخير والتقدير فخذ إليك أربعة من الطير فصرهن
قلنا التزام التقديم والتأخير من غير دليل ملجىء إلى التزامه خلاف الظاهر والثالث أن الضمير في قوله ثُمَّ ادْعُهُنَّ عائد إليها لا إلى أجزائها وإذا كانت الأجزاء متفرقة متفاصلة وكان الموضوع على كل جبل بعض تلك الأجزاء يلزم أن يكون الضمير عائداً إلى تلك الأجزاء لا إليها وهو خلاف الظاهر وأيضاً الضمير في قوله يَأْتِينَكَ سَعْيًا عائداً إليها لا إلى إجزائها وعلى قولكم إذا سعى بعض الأجزاء إلى بعض كان الضمير في يَأْتِينَكَ عائداً إلى أجزائها لا إليها واحتج القائلون بالقول المشهور بوجوه الأول أن كل المفسرين الذين كانوا قبل أبو مسلم أجمعوا على أنه حصل ذبح تلك الطيور وتقطيع أجزائها فيكون إنكار ذلك إنكاراً للإجماع والثاني أن ما ذكره غير مختص بإبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) فلا يكون له فيه مزية على العير والثالث أن إبراهيم أراد أن يريه الله كيف يحيي الموتى وظاهر الآية يدل على أنه أجيب إلى ذلك وعلى قول أبي مسلم لا تحصل الإجابة في الحقيقة والرابع أن قوله ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلّ جَبَلٍ مّنْهُنَّ جُزْءا يدل

على أن تلك الطيور جعلت جزأ جزأ قال أبو مسلم في الجواب عن هذا الوجه أنه أضاف الجزء إلى الأربعة فيجب أن يكون المراد بالجزء هو الواحد من تلك الأربعة والجواب أن ما ذكرته وإن كان محتملاً إلا أن حمل الجزء على ما ذكرناه أظهر والتقدير فاجعل على كل جبل من كل واحد منهن جزأً أو بعضاً
أما قوله تعالى ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلّ جَبَلٍ مّنْهُنَّ جُزْءا ففيه مسائل
المسألة الأولى ظاهر قوله عَلَى كُلّ جَبَلٍ جميع جبال الدنيا فذهب مجاهد والضحاك إلى العموم بحسب الإمكان كأنه قيل فرقها على كل جبل يمكنك التفرقة عليه وقال ابن عباس والحسن وقتادة والربيع أربعة جبال على حسب الطيور الأربعة وعلى حسب الجهات الأربعة أيضاً أعني المشرق والمغرب والشمال والجنوب وقال السدي وابن جريج سبعة من الجبال لأن المراد كل جبل يشاهده إبراهيم عليه السلام حتى يصح منه دعاء الطير لأن ذلك لا يتم إلا بالمشاهدة والجبال التي كان يشاهدها إبراهيم عليه السلام سبعة
المسألة الثانية روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) أمر بذبحها ونتف ريشها وتقطيعها جزءاً جزءاً وخلط دمائها ولحومها وأن يمسك رؤوسها ثم أمر بأن يجعل أجزاءها على الجبال على كل جبل ربعاً من كل طائر ثم يصيح بها تعالين بإذن الله تعالى ثم أخذ كل جزء يطير إلى الآخر حتى تكاملت الجثث ثم أقبلت كل جثة إلى رأسها وانضم كل رأس إلى جثته وصار الكل أحياء بإذن الله تعالى
المسألة الثالثة قرأ عاصم في رواية أبي بكر والفضل جُزْءا مثقلاً مهموزاً حيث وقع والباقون مهمزاً مخففاً وهما لغتان بمعنى واحد
أما قوله تعالى ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا فقيل عدواً ومشياً على أرجلهن لأن ذلك أبلغ في الحجة وقيل طيراناً وليس يصح لأنه لا يقال للطير إذا طار سعى ومنهم من أجاب عنه بأن السعي هو الاشتداد في الحركة فإن كانت الحركة طيراناً فالسعي فيها هو الاشتداد في تلك الحركة
وقد احتج أصحابنا بهذه الآية على أن البنية ليست شرطاً في صحة الحياة وذلك لأنه تعالى جعل كل واحد من تلك الأجزاء والأبعاض حياً فاهماً للنداء قادراً على السعي والعدو فدل ذلك على أن البنية ليست شرطاً في صحة الحياة قال القاضي الآية دالة على أنه لا بد من البنية من حيث أوجب التقطيع بطلان حياتها
والجواب أنه ضعيف لأن حصول المقارنة لا يدل على وجوب المقارنة أما الانفكاك عنه في بعض الأحوال فإنه يدل على أن المقارنة حيث حصلت ما كانت واجبة ولما دلّت الآية على حصول فهم النداء والقدرة على السعي لتلك الأجزاء حال تفرقها كان دليلاً قاطعاً على أن البنية ليست شرطاً للحياة
أما قوله تعالى وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فالمعنى أنه غالب على جميع الممكنات حَكِيمٌ أي عليم بعواقب الأمور وغايات الأشياء

مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّة ٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَة ٍ مِّاْئَة ُ حَبَّة ٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
إعلم أنه سبحانه لما ذكر من بيان أصول العلم بالمبدأ وبالمعاد ومن دلائل صحتهما ما أراد أتبع ذلك ببيان الشرائع والأحكام والتكاليف
فالحكم الأول في بيان التكاليف المعتبرة في إنفاق الأموال وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في كيفية النظم وجوه الأول قال القاضي رحمه الله إنه تعالى لما أجمل في قوله مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَة ً فصل بعد ذلك في هذه الآية تلك الأضعاف وإنما ذكر بين الآيتين الأدلة على قدرته بالإحياء ولإماتة من حيث لولا ذلك لم يحسن التكليف بالإنفاق لأنه لولا وجود الإله المثيب المعاقب لكان الإنفاق في سائر الطاعات عبثاً فكأنه تعالى قال لمن رغبه في الإنفاق قد عرفت أني خلقتك وأكملت نعمتي عليك بالإحياء والأقدار وقد علمت قدرتي على المجازاة والإثابة فليكن علمك بهذه الأحوال داعياً إلى إنفاق المال فإنه يجازي القليل بالكثير ثم ضرب لذلك الكثير مثلاً وهو أن من بذر حبة أخرجت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة فصارت الواحدة سبعمائة
الوجه الثاني في بيان النظم ما ذكره الأصم وهو أنه تعالى ضرب هذا المثل بعد أن احتج على الكل بما يوجب تصديق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ليرغبوا في المجاهدة بالنفس والمال في نصرته وإعلاء شريعته
والوجه الثالث لما بين تعالى أنه ولي المؤمنين وأن الكفار أولياؤهم الطاغوت بين مثل ما ينفق المؤمن في سبيل الله وما ينفق الكافر في سبيل الطاغوت
المسألة الثانية في الآية إضمار والتقدير مثل صدقات الذين ينفقون أموالهم كمثل حبة وقيل مثل الذين ينفقون أموالهم كمثل زارع حبة
المسألة الثالثة معنى يُنفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يعني في دينه قيل أراد النفقة في الجهاد خاصة وقيل جميع أبواب البر ويدخل فيه الواجب والنفل من الإنفاق في الهجرة مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ومن الإنفاق في الجهاد على نفسه وعلى الغير ومن صرف المال إلى الصدقات ومن إنفاقها في المصالح لأن كل ذلك معدود في السبيل الذي هو دين الله وطريقته لأن كل ذلك إنفاق في سبيل الله
فإن قيل فهل رأيت سنبلة فيها مائة حبة حتى يضرب المثل بها
قلنا الجواب عنه من وجوه الأول أن المقصود من الآية أنه لو علم إنسان يطلب الزيادة والربح أنه

إذا بذر حبة واحدة أخرجت له سبعمائة حبة ما كان ينبغي له ترك ذلك ولا التقصير فيه فكذلك ينبغي لمن طلب الأجر في الآخرة عند الله أن لا يتركه إذا علم أنه يحصل له على الواحدة عشرة ومائة وسبعمائة وإذا كان هذا المعنى معقولاً سواء وجد في الدنيا سنبلة بهذه الصفة أو لم يوجد كان المعنى حاصلاً مستقيماً وهذا قول القفال رحمه الله وهو حسن جداً
والجواب الثاني أنه شوهد ذلك في سنبلة الجاورس وهذا الجواب في غاية الركاكة
المسألة الرابعة كان أبو عمرو وحمزة والكسائي يدغمون التاء في السين في قوله أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ لأنهما حرفان مهموسان والباقون بالإظهار على الأصل
ثم قال وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وليس فيه بيان كمية تلك المضاعفة ولا بيان من يشرفه الله بهذه المضاعفة بل يجب أن يجوز أنه تعالى يضاعف لكل المتقين ويجوز أن يضاعف لبعضهم من حيث يكون إنفاقه أدخل في الإخلاص أو لأنه تعالى بفضله وإحسانه يجعل طاعته مقرونة بمزيد القبول والثواب
ثم قال وَاللَّهُ سَمِيعٌ أي واسع القدرة على المجازاة على الجود والافضال عليهم بمقادير الانفاقات وكيفية ما يستحق عليها ومتى كان الأمر كذلك لم يصر عمل العامل ضائعاً عند الله تعالى
الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواْ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
إعلم أنه تعالى لما اعظم أمر الانفاق في سبيل الله أتبعه ببيان الأمور التي يجب تحصيلها حتى يبقى ذلك الثواب منها ترك المن والأذى ثم في الآية مسائل
المسألة الأولى نزلت الآية في عثمان وعبد الرحمن بن عوف أما عثمان فجهز جيش العسرة في غزوة تبوك بألف بعير بأقتابها وألف دينار فرفع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يديه يقول يا رب عثمان رضيت عنه فارض عنه وأما عبد الرحمن بن عوف فإنه تصدق بنصف ماله أربعة آلاف دينار فنزلت الآية
المسألة الثانية قال بعض المفسرين إن الآية المتقدمة مختصة بمن أنفق على نفسه وهذه الآية بمن أنفق على غيره فبيّن تعالى أن الانفاق على الغير إنما يوجب الثواب العظيم المذكور في الآية إذا لم يتبعه بمن ولا أذى قال القفال رحمه الله وقد يحتمل أن يكون هذا الشرط معتبراً أيضاً فيمن أنفق على نفسه وذلك هو أن ينفق على نفسه ويحضر الجهاد مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والمسلمين ابتغاء لمرضاة الله تعالى ولا يمن به على

النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنين ولا يؤذي أحداً من المؤمنين مثل أن يقول لو لم أحضر لما تم هذا الأمر ويقول لغيره أنت ضعيف بطال لا منفعة منك في الجهاد
المسألة الثالثة الْمَنَّ في اللغة على وجوه أحدها بمعنى الانعام يقال قد من الله على فلان إذا أنعم أو لفلان على منّة وأنشد ابن الأنباري فمني علينا بالسلام فإنما
كلامك ياقوت ودر منظم
ومنه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما من الناس أحد أمن علينا في صحبته ولا ذات يده من ابن أبي قحافة ) يريد أكثر إنعاماً بماله وأيضاً الله تعالى يوصف بأنه منان أي منعم
والوجه الثاني في التفسير الْمَنَّ النقص من الحق والبخس له قال تعالى وَإِنَّ لَكَ لاَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ أي غير مقطوع وغير ممنوع ومنه سمي الموت منوناً لأنه ينقص الأعمار ويقطع الأعذار ومن هذا الباب المنة المذمومة لأن ينقص النعمة ويكدرها والعرب يمتدحون بترك المن بالنعمة قال قائلهم زاد معروفك عندي عظما
أنه عندي مستور حقير
تتناساه كأن لم تأته
وهو في العالم مشهور كثير
إذا عرفت هذا فنقول المن هو إظهار الاصطناع إليهم والأذى شكايته منهم بسبب ما أعطاهم وإنما كان المن مذموماً لوجوه الأول أن الفقير الآخذ للصدقة منكسر القلب لأجل حاجته إلى صدقة غير معترف باليد العليا للمعطي فإذا أضاف المعطي إلى ذلك إظهار ذلك الإنعام زاد ذلك في انكسار قلبه فيكون في حكم المضرة بعد المنفعة وفي حكم المسيء إليه بعد أن أحسن إليه والثاني إظهار المن يبعد أهل الحاجة عن الرغبة في صدقته إذا اشتهر من طريقه ذلك الثالث أن المعطي يجب أن يعتقد أن هذه النعمة من الله تعالى عليه وأن يعتقد أن لله عليه نعماً عظيمة حيث وفقه لهذا العمل وأن يخاف أنه هل قرن بهذا الانعام ما يخرجه عن قبول الله إياه ومتى كان الأمر كذلك امتنع أن يجعله منة على الغير الرابع وهو السر الأصلي أنه إن علم أن ذلك الإعطاء إنما تيسر لأن الله تعالى هيأ له أسباب الاعطاء وأزال أسباب المنع ومتى كان الأمر كذلك كان المعطي هو الله في الحقيقة لا العبد فالعبد إذا كان في هذه الدرجة كان قلبه مستنيراً بنور الله تعالى وإذا لم يكن كذلك بل كان مشغولاً بالأسباب الجسمانية الظاهرة وكان محروماً عن مطالعة الأسباب الربانية الحقيقة فكان في درجة البهائم الذين لا يترقى نظرهم عن المحسوس إلى المعقول وعن الآثار إلى المؤثر وأما الأذى فقد اختلفوا فيه منهم من حمله على الإطلاق في أذى المؤمنين وليس ذلك بالمن بل يجب أن يكون مختصاً بما تقدم ذكره وهو مثل أن يقول للفقير أنت أبداً تجيئني بالإيلام وفرج الله عني منك وباعد ما بيني وبينك فبيّن سبحانه وتعالى أن من أنفق ماله ثم أنه لا يتبعه المن والأذى فله الأجر العظيم والثواب الجزيل
فإن قيل ظاهر اللفظ أنهما بمجموعهما يبطلان الأجر فيلزم أنه لو وجد أحدهما دون الثاني لا يبطل الأجر

قلنا بل الشرط أن لا يوجد واحد منهما لأن قوله لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُواْ مَنّا وَلا أَذًى يقتضي أن لا يقع منه لا هذا ولا ذاك
المسألة الرابعة قالت المعتزلة الآية دالة على أن الكبائر تحبط ثواب فاعلها وذلك لأنه تعالى بيّن أن هذا الثواب إنما يبقى إذا لم يوجد المن والأذى لأنه لو ثبت مع فقدهما ومع وجودهما لم يكن لهذا الاشتراط فائدة
أجاب أصحابنا بأن المراد من الآية أن حصول المن والأذى يخرجان الانفاق من أن يكون فيه أجر وثواب أصلاً من حيث يدلان على أنه إنما أنفق لكي يمن ولم ينفق لطلب رضوان الله ولا على وجه القربة والعبادة فلا جرم بطل الأجر طعن القاضي في هذا الجواب فقال إنه تعالى بيّن أن هذا الانفاق قد صح ولذلك قال ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُواْ وكلمة ثُمَّ للتراخي وما يكون متأخراً عن الانفاق موجب للثواب لأن شرط المتأثر يجب أن يكون حاصلاً حال حصول المؤثر لا بعده
أجاب أصحابنا عنه من وجوه الأول أن ذكر المن والأذى وإن كان متأخراً عن الانفاق إلا أن هذا الذكر المتأخر يدل ظاهراً على أنه حين أنفق ما كان إنفاقه لوجه الله بل لأجل الترفع على الناس وطلب الرياء والسمعة ومتى كان الأمر كذلك كان إنفاقه غير موجب للثواب والثاني هب أن هذا الشرط متأخر ولكن لم يجوز أن يقال إن تأثير المؤثر يتوقف على أن لا يوجد بعده ما يضاده على ما هو مذهب أصحاب الموافاة وتقريره معلوم في علم الكلام
المسألة الخامسة الآية دلت أن المن والأذى من الكبائر حيث تخرج هذه الطاعة العظيمة بسبب كل واحد منهما عن أن تفيد ذلك الثواب الجزيل
أما قوله لَهُمْ أَجْرُهُمْ ففيه مسائل
المسألة الأولى احتجت المعتزلة بهذه الآية على أن العمل يوجب الأجر على الله تعالى وأصحابنا يقولون حصول الأجر بسبب الوعد لا بسبب نفس العمل لأن العمل واجب على العبد وأداء الواجب لا يوجب الأجر
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية على نفي الإحباط وذلك لأنها تدل على أن الأجر حاصل لهم على الاطلاق فوجب أن يكون الأجر حاصلاً لهم بعد فعل الكبائر وذلك يبطل القول بالإحباط
المسألة الثالثة أجمعت الأمة على أن قوله لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ مشروط بأن لا يوجد منه الكفر وذلك يدل على أنه يجوز التكلم بالعام لإرادة الخاص ومتى جاز ذلك في الجملة لم تكن دلالة اللفظ العام على الاستغراق دلالة قطعية وذلك يوجب سقوط دلائل المعتزلة في التمسك بالعمومات على القطع بالوعيد
أما قوله وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ففيه قولان الأول أن إنفاقهم في سبيل الله لا يضيع بل ثوابه موفر عليهم يوم القيامة لا يخافون من أن لا يوجد ولا يحزنون بسبب أن لا يوجد وهو كقوله تعالى وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً ( طه 112 ) والثاني أن يكون

المراد أنهم يوم القيامة لا يخافون العذاب ألبتة كما قال وَهُمْ مّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ ءامِنُونَ ( النمل 89 ) وقال لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاْكْبَرُ ( الأنبياء 103 )
قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَة ٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَة ٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَاللَّهُ غَنِى ٌّ حَلِيمٌ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالاٌّ ذَى كَالَّذِى يُنفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَى ْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّة ٍ بِرَبْوَة ٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَأَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
أما القول المعروف فهو القول الذي تقبله القلوب ولا تنكره والمراد منه هاهنا أن يرد السائل بطريق جميل حسن وقال عطاء عدة حسنة أما المغفرة ففيه وجوه أحدها أن الفقير إذا رد بغير مقصوده شق عليه ذلك فربما حمله ذلك على بذاءة اللسان فأمر بالعفو عن بذاءة الفقير والصفح عن إساءته وثانيها أن يكون المراد ونيل مغفرة من الله بسبب الرد الجميل وثالثها أن يكون المراد من المغفرة أن يستر حاجة الفقير ولا يهتك ستره والمراد من القول المعرروف رده بأحسن الطرق وبالمغفرة أن لا يهتك ستره بأن يذكر حاله عند من يكره الفقير وقوفه على حاله ورابعها أن قوله قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ خطاب مع المسؤول بأن يرد السائل بأحسن الطرق وقوله وَمَغْفِرَة ٌ خطاب مع السائل بأن يعذر المسؤول في ذلك الرد فربما لم يقدر على ذلك الشيء في تلك الحالة ثم بيّن تعالى أن فعل الرجل لهذين الأمرين خير له من صدقة يتبعها أذى وسبب هذا الترجيح أنه إذا أعطى ثم أتبع الإعطاء بالإيذاء فهناك جمع بين الانفاع والإضرار وربما لم يف ثواب الانفاع بعقاب الإضرار وأما القول المعروف ففيه إنفاع من حيث إنه يتضمن إيصال السرور إلى قلب المسلم ولم يقترن به الإضرار فكان هذا خيراً من الأول

واعلم أن من الناس من قال إن الآية واردة في التطوع لأن الواجب لا يحل منعه ولا رد السائل منه وقد يحتمل أن يراد به الواجب وقد يعدل به عن سائل إلى سائل وعن فقير إلى فقير
ثم قال وَاللَّهُ غَنِى ٌّ عن صدقة العباد فإنما أمركم بها ليثيبكم عليها حَلِيمٌ إذا لم يعجل بالعقوبة على من يمن ويؤذي بصدقته وهذا سخط منه ووعيد له ثم إنه تعالى وصف هذين النوعين على الإنفاق أحدهما الذي يتبعه المن والأذى والثاني الذي لا يتبعه المن والأذى فشرح حال كل واحد منهما وضرب مثلاً لكل واحد منهما
فقال في القسم الأول الذي يتبعه المن والأذى حَلِيمٌ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنّ وَالاْذَى كَالَّذِى يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال القاضي إنه تعالى آكد النهي عن إبطال الصدقة بالمن والأذى وأزال كل شبهة للمرجئة بأن بيّن أن المراد أن المن والأذى يبطلان الصدقة ومعلوم أن الصدقة قد وقعت وتقدمت فلا يصح أن تبطل فالمراد إبطال أجرها وثوابها لأن الأجر لم يحصل بعد وهو مستقبل فيصح إبطاله بما يأتيه من المن والأذى
واعلم أنه تعالى ذكر لكيفية إبطال أجر الصدقة بالمن والأذى مثلين فمثله أولاً بمن ينفق ماله رئاء الناس وهو مع ذلك كافر لا يؤمن بالله واليوم الآخر لأن بطلان أجر نفقة هذا المرائي الكافر أظهر من بطلان أجر صدقة من يتبعها المن والأذى ثم مثله ثانياً بالصفوان الذي وقع عليه تراب وغبار ثم أصابه المطر القوي فيزيل ذلك الغبار عنه حتى يصير كأنه ما كان عليه غبار ولا تراب أصلاً فالكافر كالصفوان والتراب مثل ذلك الإنفاق والوابل كالكفر الذي يحبط عمل الكافر وكالمن والأذى اللذين يحبطان عمل هذا المنفق قال فكما أن الوابل أزال التراب الذي وقع على الصفوان فكذا المن والأذى يوجب أن يكونا مبطلين لأجر الانفاق بعد حصوله وذلك صريح في القول بالاحباط والتفكير قال الجبائي وكما دل هذا النص على صحة قولنا فالعقل دل عليه أيضاً وذلك لأن من أطاع وعصى فلو استحق ثواب طاعته وعقاب معصيته لوجب أن يستحق النقيضين لأن شرط الثواب أن يكون منفعة خالصة دائمة مقرونة بالإجلال وشرط العقاب أن يكون مضرة خالصة دائمة مقرونة بالإذلال فلو لم تقع المحابطة لحصل استحقاق النقيضين وذلك محال ولأنه حين يعاقبه فقد منعه الإثابة ومنع الإثابة ظلم وهذا العقاب عدل فيلزم أن يكون هذا العقاب عدلاً من حيث إنه حقه وأن يكون ظلماً من حيث إنه منع الإثابة فيكون ظالماً بنفس الفعل الذي هو عادل فيه وذلك محال فصح بهذا قولنا في الإحباط والتفكير بهذا النص وبدلالة العقل هذا كلام المعتزلة
وأما أصحابنا فإنهم قالوا ليس المراد بقوله لاَ تُبْطِلُواْ النهي عن إزالة هذا الثواب بعد ثبوته بل المراد به أن يأتي بهذا العمل باطلاً وذلك لأنه إذا قصد به غير وجه الله تعالى فقد أتى به من الابتداء على نعت البطلان واحتج أصحابنا على بطلان قول المعتزلة بوجوه من الدلائل
أولها أن النافي والطارىء إن لم يكن بينهما منافاة لم يلزم من طريان الطارىء زوال النافي وإن

حصلت بينهما منافاة لم يكن اندفاع الطارىء أولى من زوال النافي بل ربما كان هذا أولى لأن الدفع أسهل من الرفع
ثانيها أن الطارىء لو أبطل لكان إما أن يبطل ما دخل منه في الوجود في الماضي وهو محال لأن الماضي انقضى ولم يبق في الحال وإعدام المعدوم محال وإما أن يبطل ما هو موجود في الحال وهو أيضاً محال لأن الموجود في الحال لو أعدمه في الحال لزم الجمع بين العدم والوجود وهو محال وإما أن يبطل ما سيوجد في المستقبل وهو محال لأن الذي سيوجد في المستقبل معدوم في الحال وإعدام ما لم يوجد بعد محال
وثالثها أن شرط طريان الطارىء زوال النافي فلو جعلنا زوال النافي معللاً بطريان الطارىء لزم الدور وهو محال
ورابعها أن الطارىء إذا طرأ وأعدم الثواب السابق فالثواب السابق إما أن يعدم من هذا الطارىء شيئاً أو لا يعدم منه شيئاً والأول هو الموازنة وهو قول أبي هاشم وهو باطل وذلك لأن الموجب لعدم كل واحد منهما وجود الآخر فلو حصل العدمان معاً اللذان هما معلولان لزم حصول الوجودين اللذين هما علتان فيلزم أن يكون كل واحد منهما موجوداً حال كون كل واحد منهما معدوماً وهو محال
وأما الثاني وهو قول أبي علي الجبائي فهو أيضاً باطل لأن العقاب الطارىء لما أزال الثواب السابق وذلك الثواب السابق ليس له أثر ألبتة في إزالة الشيء من هذا العقاب الطارىء فحينئذ لا يحصل له من العمل الذي أوجب الثواب السابق فائدة أصلاً لا في جلب ثواب ولا في دفع عقاب وذلك على مضادة النص الصريح في قوله فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ خَيْراً يَرَهُ ( الزلزلة 7 ) ولأنه خلاف العدل حيث يحمل العبد مشقة الطاعة ولم يظهر له منها أثر لا في جلب المنفعة ولا في دفع المضرة
وخامسها وهو أنكم تقولون الصغيرة تحبط بعض أجزاء الثواب دون البعض وذلك محال من القول لأن أجزاء الاستحقاقات متساوية في الماهية فالصغيرة الطارئة إذا انصرف تأثيرها إلى بعض تلك الاستحقاقات دون البعض مع استواء الكل في الماهية كان ذلك ترجيحاً للممكن من غير مرجح وهو محال فلم يبق إلا أن يقال بأن الصغيرة الطارئة تزيل كل تلك الاستحقاقات وهو باطل بالاتفاق أو لا نزيل شيئاً منها وهو المطلوب
وسادسها وهو أن عقاب الكبيرة إذا كان أكثر من ثواب العمل المتقدم فإما أن يقال بأن المؤثر في إبطال الثواب بعض أجزاء العقاب الطارىء أو كلها والأول باطل لأن اختصاص بعض تلك الأجزاء بالمؤثرية دون البعض مع استواء كلها في الماهية ترجيح للمكن من غير مرجح وهو محال والقسم الثاني باطل لأنه حينئذ يجتمع على إبطال الجزء الواحد من الثواب جزآن من العقاب مع أن كل واحد من ذينك الجزأين مستقل بإيطال ذلك الثواب فقد اجتمع على الأثر الواحد مؤثران مستقلان وذلك محال لأنه يستغني بكل واحد منهما فيكون غنياً عنهما معاً حال كونه محتاجاً إليهما معاً وهو محال
وسابعها وهو أنه لا منافاة بين هذين الاستحقاقين لأن السيد إذا قال لعبده احفظ المتاع لئلا يسرقه

السارق ثم في ذلك الوقت جاء العدو وقصد قتل السيد فاشتغل العبد بمحاربة ذلك العدو وقتله فذلك الفعل من العبد يستوجب استحقاقه للمدح والتعظيم حيث دفع القتل عن سيده ويوجب استحقاقه للذم حيث عرض ماله للسرقة وكل واحد من الاستحقاقين ثابت والعقلاء يرجعون في مثل هذه الواقعة إلى الترجيح أو إلى المهايأة فأما أن يحكموا بانتفاء أحد الاستحقاقين وزواله فذلك مدفوع في بداهة العقول
وثامنها أن الموجب لحصول هذا الاستحقاق هو الفعل المتقدم فهذا الطارىء إما أن يكون له أثر في جهة اقتضاء ذلك الفعل لذلك الاستحقاق أو لا يكون والأول محال لأن ذلك الفعل إنما يكون موجوداً في الزمان الماضي فلو كان لهذا الطارىء أثر في ذلك الفعل الماضي لكان هذا إيقاعاً للتأثير في الزمان الماضي وهو محال وإن لم يكن للطارىء أثر في اقتضاء ذلك الفعل السابق لذلك الاستحقاق وجب أن يبقى ذلك الاقتضاء كما كان وأن لا يزول ولا يقال لم لا يجوز أن يكون هذا الطارىء مانعاً من ظهور الأثر على ذلك السابق لأنا نقول إذا كان هذا الطارىء لا يمكنه أن يعمل بجهة اقتضاء ذلك الفعل السابق أصلاً وألبتة من حيث إيقاع الأثر في الماضي محال واندفاع أثر هذا الطارىء ممكن في الجملة كان الماضي على هذا التقدير أقوى من هذا الحادث فكان الماضي بدفع هذا الحادث أولى من العكس
وتاسعها أن هؤلاء المعتزلة يقولون إن شرب جرعة من الخمر يحبط ثواب الإيمان وطاعة سبعين سنة على سبيل الإخلاص وذلك محال لأنا نعلم بالضرورة أن ثواب هذه الطاعات أكثر من عقاب هذه المعصية الواحدة والأعظم لا يحيط بالأقل قال الجبائي إنه لا يمتنع أن تكون الكبيرة الواحدة أعظم من كل طاعة لأن معصية الله تعظم على قدر كثرة نعمه وإحسانه كما أن استحقاق قيام الربانية وقد رباه وملكه وبلغه إلى النهاية العظيمة أعظم من قيامه بحقه لكثرة نعمه فإذا كانت نعم الله على عباده بحيث لا تضبط عظماً وكثرة لم يمتنع أن يستحق على المعصية الواحدة العقاب العظيم الذي يوافي على ثواب جملة الطاعات واعلم أن هذا العذر ضعيف لأن الملك إذا عظمت نعمه على عبده ثم إن ذلك العبد قام بحق عبوديته خمسين سنة ثم إنه كسر رأس قلم ذلك الملك قصداً فلو أحبط الملك جميع طاعاته بسبب ذلك القدر من الجرم فكل أحد يذمه وينسبه إلى ترك الانصاف والقسوة ومعلوم أن جميع المعاصي بالنسبة إلى جلال الله تعالى أقل من كسر رأس القلم فظهر أن ما قالوه على خلاف قياس العقول
وعاشرها أن إيمان ساعة يهدم كفر سبعين سنة فالإيمان سبعين سنة كيف يهدم بفسق ساعة وهذا مما لا يقبله العقل والله أعلم فهذه جملة الدلائل العقلية على فساد القول بالمحابطة في تمسك المعتزلة بهذه الآية فنقول قوله تعالى لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنّ وَالاْذَى يحتمل أمرين أحدهما لا تأتوا به باطلاً وذلك أن ينوي بالصدقة الرياء والسمعة فتكون هذه الصدقة حين وجدت حصلت باطلة وهذا التأويل لا يضرنا ألبتة
الوجه الثاني أن يكون المراد بالإبطال أن يؤتي بها على وجه يوجب الثواب ثم بعد ذلك إذا اتبعت بالمن والأذى صار عقاب المن والأذى مزيلاً لثواب تلك الصدقة وعلى هذا الوجه ينفعهم التمسك بالآية فلم كان حمل اللفظ على هذا الوجه الثاني أولى من حمله على الوجه الأول واعلم أن الله تعالى ذكر لذلك مثلين أحدهما يطابق الاحتمال الأول وهو قوله كَالَّذِى يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ إذ من

المعلوم أن المراد من كونه عمل هذا باطلاً أنه دخل في الوجود باطلاً لا أنه دخل صحيحاً ثم يزول لأن المانع من صحة هذا العمل هو الكفر والكفر مقارن له فيمتنع دخوله صحيحاً في الوجود فهذا المثل يشهد لما ذهبنا إليه من التأويل وأما المثل الثاني وهو الصفوان الذي وقع عليه غبار وتراب ثم أصابه وابل فهذا يشهد لتأويلهم لأنه تعالى جعل الوابل مزيلاً لذلك الغبار بعد وقوع الغبار على الصفوان فكذا هاهنا يجب أن يكون المن والأذى مزبلين للأجر والثواب بعد حصول استحقاق الأجر إلا أن لنا أن نقول لا نسلم أن المشبه بوقوع الغبار على الصفوان حصول الأجر للكافر بل المشبه بذلك صدور هذا العمل الذي لولا كونه مقروناً بالنية الفاسدة لكان موجباً لحصول الأجر والثواب فالمشبه بالتراب الواقع على الصفوان هو ذلك العمل الصادر منه وحمل الكلام على ما ذكرناه أولى لأن الغبار إذا وقع على الصفوان لم يكن ملتصقاً به ولا غائصاً فيه ألبتة بل كان ذلك الاتصال كالانفصال فهو في مرأى العين متصل وفي الحقيقة غير متصل فكذا الانفاق المقرون بالمن والأذى يرى في الظاهر أنه عمل من أعمال البر وفي الحقيقة ليس كذلك فظهر أن استدلالهم بهذه الآية ضعيف وأما الحجة العقلية التي تمسكوا بها فقد بينا أنه لا منافاة في الجمع بين الاستحقاقين وأن مقتضى ذلك الجمع إما الترجيح وإما المهايأة
المسألة الثانية قال ابن عباس رضي الله عنهما لا تبطلوا صدقاتكم بالمن على الله بسبب صدقتكم وبالأذى لذلك السائل وقال الباقون بالمن على الفقير وبالأذى للفقير وقول ابن عباس رضي الله عنهما محتمل لأن الإنسان إذا أنفق متبجحاً بفعله ولم يسلك طريقة التواضع والانقطاع إلى الله والاعتراف بأن ذلك من فضله وتوفيقه وإحسانه فكان كالمان على الله تعالى وإن كان القول الثاني أظهر له
أما قوله كَالَّذِى يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ ففيه مسألتان
المسألة الأولى الكاف في قوله كَالَّذِى فيه قولان الأول أنه متعلق بمحذوف والتقدير لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كإبطال الذي ينفق ماله رئاء الناس فبيّن تعالى أن المن والأذى يبطلان الصدقة كما أن النفاق والرياء يبطلانها وتحقيق القول فيه أن المنافق والمرائي يأتيان بالصدقة لا لوجه الله تعالى ومن يقرن الصدقة بالمن والأذى فقد أتى بتلك الصدقة لا لوجه الله أيضاً إذ لو كان غرضه من تلك الصدقة مرضاة الله تعالى لما من على الفقير ولا آذاه فثبت اشتراك الصورتين في كون تلك الصدقة ما أتى بها لوجه الله تعالى وهذا يحقق ما قلنا أن المقصود من الابطال الإتيان به باطلاً لا أن المقصود الإتيان به صحيحاً ثم إزالته وإحباطه بسبب المن والأذى
والقول الثاني أن يكون الكاف في محل النصب على الحال أي لا تبطلوا صدقاتكم مماثلين الذي ينفق ماله رئاء الناس
المسألة الثانية الرياء مصدر كالمراءاة يقال راأيته رياء ومراءاة مثل راعيته مراعاة ورعاء وهو أن ترائي بعملك غيرك وتحقيق الكلام في الرياء قد تقدم ثم إنه تعالى لما ذكر هذا المثل أتبعه بالمثل الثاني فقال فَمَثَلُهُ وفي هذا الضمير وجهان أحدهما أنه عائد إلى المنافق فيكون المعنى أن الله تعالى شبه المان والمؤذي بالمنافق ثم شبه المنافق بالحجر ثم قال كَمَثَلِ صَفْوَانٍ وهو الحجر الأملس وحكى أبو عبيد عن الأصمعي أن الصفوان والصفا والصفوا واحد وكل ذلك مقصور وقال بعضهم الصفوان جمع

صفوانه كمرجان ومرجانة وسعدان وسعدانة ثم قال أَصَابَهُ وَابِلٌ الوابل المطر الشديد يقال وبلت السماء تبل وبلا وأرض موبولة أي أصابها وابل ثم قال فَتَرَكَهُ صَلْدًا الصلد الأمس اليابس يقال حجر صلد وجبل صلد إذا كان براقاً أملس وأرض صلدة أي لا تنبت شيئاً كالحجر الصلد وصلد الزند إذا لم يور ناراً
واعلم أن هذا مثل ضربة الله تعالى لعمل المان المؤذي ولعمل المنافق فإن الناس يرون في الظاهر أن لهؤلاء أعمالاً كما يرى التراب على هذا الصفوان فإذا كان يوم القيامة اضمحل كله وبطل لأنه تبين أن تلك الأعمال ما كانت لله تعالى كما أذهب الوابل ما كان على الصفوان من التراب وأما المعتزلة فقالوا إن المعنى أن تلك الصدقة أوجبت الأجر والثواب ثم إن المن والأذى أزالا ذلك الأجر كما يزيل الوابل التراب عن وجه الصفوان واعلم أن في كيفية هذا التشبيه وجهين الأول ما ذكرنا أن العمل الظاهر كالتراب والمان والأذى والمنافق كالصفوان ويوم القيامة كالوابل هذا على قولنا وأما على قول المعتزلة فالمن والأذى كالوابل
الوجه الثاني في التشبيه قال القفال رحمه الله تعالى وفيه احتمال آخر وهو أن أعمال العباد ذخائر لهم يوم القيامة فمن عمل بإخلاص فكأنه طرح بذراً في أرض فهو يضاعف له وينمو حتى يحصده في وقته ويجده وقت حاجته والصفوان محل بذر المنافق ومعلوم أنه لا ينمو فيه شيء ولا يكون فيه قبول للبذر والمعنى أن عمل المان والمؤذي والمنافق يشبه إذا طرح بذراً في صفوان صلد عليه غبار قليل فإذا أصابه مطر جود بقي مستودعاً بذره خالياً لا شيء فيه ألا ترى أنه تعالى ضرب مثل المخلص بجنة فوق ربوة والجنة ما يكون فيه أشجار ونخيل فمن أخلص لله تعالى كان كمن غرس بستاناً في ربوة من الأرض فهو يجني ثمر غراسه في أوجات الحاجة وهي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها متضاعفة زائدة وأما عمل المان والمؤذي والمنافق فهو كمن بذر في الصفوان الذي عليه تراب فعند الحاجة إلى الزرع لا يجد فيه شيئاً ومن الملحدة من طعن في التشبيه فقال إن الوابل إذا أصاب الصفوان جعله طاهراً نقياً نظيفاً عن الغبار والتراب فكيف يجوز أن يشبه الله به عمل المنافق والجواب أن وجه التشبيه ما ذكرناه فلا يعتبر باختلافها فيما وراءه قال القاضي وأيضاً فوقع التراب على الصفوان يفيد منافع من وجوه أحدها أنه أصلح في الاستقرار عليه وثانيها الانتفاع بها في التيمم وثالثها الانتفاع به فيما يتصل بالنبات وهذا الوجه الذي ذكره القاضي حسن إلا أن الاعتماد على الأول
أما قوله تعالى لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَى ْء مّمَّا كَسَبُواْ فاعلم أن الضمير في قوله لاَّ يَقْدِرُونَ إلى ماذا يرجع فيه قولان أحدهما أنه عائد إلى معلوم غير مذكور أي لا يقدر أحد من الخلق على ذلك البذر الملقى في ذلك التراب الذي كان على ذلك الصفوان لأنه زال ذلك التراب وذلك ما كان فيه فلم يبق لأحد قدرة على الانتفاع بذلك البذر وهذا يقوي الوجه الثاني في التشبيه الذي ذكره القفال رحمه الله تعالى وكذا المان والمؤذي والمنافق لا ينتفع أحد منهم بعمله يوم القيامة والثاني أنه عائد إلى قوله كَالَّذِى يُنفِقُ مَالَهُ وخرج على هذا المعنى لأن قوله كَالَّذِى يُنفِقُ مَالَهُ إنما أشير به إلى الجنس والجنس في حكم العام قال القفال رحمه الله وفيه وجه ثالث وهو أن يكون ذلك مردوداً على قوله لاَ

تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنّ وَالاْذَى فإنكم إذا فعلتم ذلك لم تقدروا على شيء مما كسبتم فرجع عن الخطاب إلى الغائب كقوله تعالى حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ نَخْسِفْ بِهِمُ ( يونس 22 )
ثم قال وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ومعناه على قولهم سلب الإيمان وعلى قول المعتزلة إنه تعالى يضلهم عن الثواب وطريق الجنة بسوء اختيارهم
ثم قال تعالى وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتَ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّة ٍ بِرَبْوَة ٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَأَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا
إعلم أن الله تعالى لما ذكر مثل المنفق الذي يكون ماناً ومؤذياً ذكر مثل المنفق الذي لا يكون كذلك وهو هذه الآية وبيّن تعالى أن غرض هؤلاء المنفقين من هذا الانفاق أمران أحدهما طلب مرضاة الله تعالى والابتغاء افتعال من بغيت أي طلبت وسواء قولك بغيت وابتغيت
والغرض الثاني هو تثبيت النفس وفيه وجوه أحدها أنهم يوطنون أنفسهم على حفظ هذه الطاعة وترك ما يفسدها ومن جملة ذلك ترك اتباعها بالمن والأذى وهذا قول القاضي وثانيها وتثبيتاً من أنفسهم عند المؤمنين أنها صادقة في الإيمان مخلصة فيه ويعضده قراءة مجاهد وَتَثْبِيتًا مّنْ بَعْضُ أَنفُسِهِمْ وثالثها أن النفس لا ثبات لها في موقف العبودية إلا إذا صارت مقهورة بالمجاهدة ومعشوقها أمران الحياة العاجلة والمال فإذا كلفت بإنفاق المال فقد صارت مقهورة من بعض الوجوه وإذا كلفت يبذل الروح فقد صارت مقهورة من بعض الوجوه فلا جرم حصل بعض التثبيت فلهذا دخل فيه مِنْ التي هي التبعيض والمعنى أن من بذل ماله لوجه الله فقد ثبت بعض نفسه ومن بذل ماله وروحه معاً فهو الذي ثبتها كلها وهو المراد من قوله وَتُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ( الصف 11 ) وهذا الوجه ذكره صاحب ( الكشاف ) وهو كلام حسن وتفسير لطيف ورابعها وهو الذي خطر ببالي وقت كتابة هذا الموضع أن ثبات القلب لا يحصل إلا بذكر الله على ما قال أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ( الرعد 28 ) فمن أنفق ماله في سبيل الله لم يحصل له اطمئنان القلب في مقام التجلي إلا إذا كان إنفاقه لمحض غرض العبودية ولهذا السبب حكي عن علي رضي الله عنه أنه قال في إنفاقه إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُوراً ( الإنسان 9 ) ووصف إنفاق أبي بكر فقال وَمَا لاِحَدٍ عِندَهُ مِن نّعْمَة ٍ تُجْزَى إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبّهِ الاْعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى ( الليل 19 20 21 ) فإذا كان إنفاق العبد لأجل عبودية الحق لا لأجل غرض النفس وطلب الحض فهناك اطمأن قلبه واستقرت نفسه ولم يحصل لنفسه منازعه مع قلبه ولهذا قال أولاً في هذا الانفاق إنه لطلب مراضاة الله ثم أتبع ذلك بقوله وَتَثْبِيتًا مّنْ أَنفُسِهِمْ وخامسها أنه ثبت في العلوم العقلية أن تكرير الأفعال سبب لحصول الملكات
إذا عرفت هذا فنقول إن من يواظب على الانفاق مرة بعد أخرى لابتغاء مرضاة الله حصل له من تلك المواظبة أمران أحدهما حصول هذا المعنى والثاني صيرورة هذا الابتغاء والطلب ملكة مستقرة في النفس حتى يصير القلب بحيث لو صدر عنه فعل على سبيل الغفلة والاتفاق رجع القلب في الحال إلى جناب القدس وذلك بسبب أن تلك العبادة صارت كالعادة والخلق للروح فإتيان العبد بالطاعة لله ولابتغاء مرضاة الله يفيد هذه الملكة المستقرة التي وقع التعبير عنها في القرآن بتثبيت النفس وهو المراد أيضاً بقوله

يُثَبّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وعند حصول هذا التثبيت تصير الروح في هذا العالم من جوهر الملائكة الروحانية والجواهر القدسية فصار العبد كما قاله بعض المحققين غائباً حاضراً ظاعناً مقيماً وسادسها قال الزجاج المراد من التثبيت أنهم ينفقونها جازمين بأن الله تعالى لا يضيع عملهم ولا يخيب رجاءهم لأنها مقرونة بالثواب والعقاب والنشور بخلاف المنافق فإنه إذا أنفق عد ذلك الإنفاق ضائعاً لأنه لا يؤمن بالثواب فهذا الجزم هو المراد بالتثبيت وسابعها قال الحسن ومجاهد وعطاء المراد أن المنفق يتثبت في إعطاء الصدقة فيضعها في أهل الصلاح والعفاف قال الحسن كان الرجل إذا هم بصدقة تثبت فإذا كان لله أعطى وإن خالطه أمسك قال الواحدي وإنما جاز أن يكون التثبيت بمعنى التثبيت لأنهم ثبتوا أنفسهم في طلب المستحق وصرف المال في وجهه ثم إنه تعالى بعد أن شرح أن غرضهم من الانفاق هذان الأمران ضرب لإنفاقهم مثلاً فقال كَمَثَلِ جَنَّة ٍ بِرَبْوَة ٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ عاصم وابن عامر بِرَبْوَة ٍ بفتح الراء وفي المؤمنين إِلَى رَبْوَة ٍ وهو لغة تميم والباقون بضم الراء فيهما وهو أن أشهر اللغات ولغة قريش وفيه سبع لغات رَبْوَة ٍ بتعاقب الحركات الثلاث على الراء و رباوة بالألف بتعاقب الحركات الثلاث على الراء و ربو والربوة المكان المرتفع قال الأخفش والذي اختاره إِلَى رَبْوَة ٍ بالضم لأن جمعها الربى وأصلها من قولهم ربا الشيء يربو إذا ازداد وارتفع ومنه الرابية لأن أجزاءها ارتفعت ومنه الربو إذا أصابه نفس في جوفه زائد ومنه الربا لأنه يأخذ الزيادة
واعلم أن المفسرين قالوا البستان إذا كان في ربوة من الأرض كان أحسن وأكثر ريعاً
ولي فيه إشكال وهو أن البستان إذا كان في مرتفع من الأرض كان فوق الماء ولا ترتفع إليه أنهار وتضربه الرياح كثيراً فلا يحسن ريعه وإذا كان في وهدة من الأرض انصبت مياه الأنهار ولا يصل إليه إثارة الرياح فلا يحسن أيضاً ريعه فإذن البستان إنما يحسن ريعه إذا كان على الأرض المستوية التي لا تكون ربوة ولا وهدة فإذن ليس المراد من هذه الربوة ما ذكروه بل المراد منه كون الأرض طيناً حراً بحيث إذا نزل المطر عليه انتفخ وربا ونما فإن الأرض متى كانت على هذه الصفة يكثر ربعها وتكمل الأشجار فيها وهذا التأويل الذي ذكرته متأكد بدليلين أحدهما قوله تعالى وَتَرَى الاْرْضَ هَامِدَة ً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ( الحج 5 ) والمراد من ربوها ما ذكرنا فكذا هاهنا والثاني أنه تعالى ذكر هذا المثل في مقابلة المثل الأول ثم كان المثل الأول هو الصفوان الذي لا يؤثر فيه المطر ولا يربو ولا ينمو بسبب نزول المطر عليه فكان المراد بالربوة في هذا المثل كون الأرض بحيث تربو وتنمو فهذا ما خطر ببالي والله أعلم بمراده
ثم قال تعالى أَصَابَهَا وَابِلٌ فَأَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو أُكُلُهَا بالتخفيف والباقون بالتثقيل وهو الأصل والأكل بالضم الطعام لأن من شأنه أن يؤكل قال الله تعالى تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبّهَا ( إبراهيم 25 ) أي ثمرتها وما يؤكل منها فالأكل في المعنى مثل الطعمة وأنشد الأخفش فما أكلة إن نلتها بغنيمة
ولا جوعة إن جعتها بقرام

وقال أبو زيد يقال إنه لذو أكل إذا كان له حظ من الدنيا
المسألة الثانية قال الزجاج اتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ يعني مثلين لأن ضعف الشيء مثله زائداً عليه وقيل ضعف الشيء مثلاه قال عطاء حملت في سنة من الريع ما يحمل غيرها في سنتين وقال الأصم ضعف ما يكون في غيرها وقال أبو مسلم مثلي ما كان يعهد منها
ثم قال تعالى فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ الطل مطر صغير الفطر ثم في المعنى وجوه
الأول المعنى أن هذه الجنّة إن لم يصبها وابل فيصيبها مطر دون الوابل إلا أن ثمرتها باقية بحالها على التقديرين لا ينقص بسبب انتقاص المطر وذلك بسبب كرم المنبت الثاني معنى الآية إن لم يصبها وابل حتى تضاعف ثمرتها فلا بد وأن يصيبها طل يعطي ثمراً دون ثمر الوابل فهي على جميع الأحوال لا تخلوا من أن تثمر فكذلك من أخرج صدقة لوجه الله تعالى لا يضيع كسبه قليلاً كان أو كثيراً
ثم قال وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ والمراد من البصير العليم أي هو تعالى عالم بكمية النفقات وكيفيتها والأمور الباعثة عليها وأنه تعالى مجاز بها إن خيراً فخير وإن شراً فشر
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّة ٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّة ٌ ضُعَفَآءُ فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَالِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ
اعلم أن هذا مثل آخر ذكره الله تعالى في حق من يتبع إنفاقه بالمن والأذى والمعنى أن يكون للإنسان جنّة في غاية الحسن والنهاية كثيرة النفع وكان الإنسان في غاية العجز عن الكسب وفي غاية شدة الحاجة وكما أن الإنسان كذلك فله ذرية أيضاً في غاية الحاجة وفي غاية العجز ولا شك أن كونه محتاجاً أو عاجزاً مظنة الشدة والمحنة وتعلق جمع من المحتاجين العاجزين به زيادة محنة على محنة فإذا أصبح الإنسان وشاهد تلك الجنة محرقة بالكلية فانظر كم يكون في قلبه من الغم والحسرة والمحنة والبلية تارة بسبب أنه ضاع مثل ذلك المملوك الشريف النفيس وثانياً بسبب أنه بقي في الحاجة والشدة مع العجز عن الاكتساب واليأس عن أن يدفع إليه أحد شيئاً وثالثاً بسبب تعلق غيره به ومطالبتهم إياه بوجوه النفقة فكذلك من أنفق لأجل الله كان ذلك نظيراً للجنة المذكورة وهو يوم القيامة كذلك الشخص العاجز الذي يكون كل اعتماده

في وجوه الانتفاع على تلك الجنة وأما إذا أعقب إنفاقه بالمن أو بالأذى كان ذلك كالإعصار الذي يحرق تلك الجنّة ويعقب الحسرة والحيرة والندامة فكذا هذا المال المؤذي إذا قدم يوم القيامة وكان في غاية الاحتياج إلى الانتفاع بثواب عمله لم يجد هناك شيئاً فيبقى لا محالة في أعظم غم وفي أكمل حسرة وحيرة وهذا المثل في غاية الحسن ونهاية الكمال ولنذكر ما يتعلق بألفاظ الآية
أما قوله أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ فيه مسألتان
المسألة الأولى الود هو المحبة الكاملة
المسألة الثانية الهمزة في أَيَوَدُّ استفهام لأجل الإنكار وإنما قال أَيَوَدُّ ولم يقل أيريد لأنا ذكرنا أن المودة هي المحبة التامة ومعلوم أن محبة كل أحد لعدم هذه الحالة محبة كاملة تامة فلما كان الحاصل هو مودة عدم هذه الحالة ذكر هذا اللفظ في جانب الثبوت فقال أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ حصول مثل هذه الحالة تنبيهاً على الإنكار التام والنفرة البالغة إلى الحد الذي لا مرتبة فوقه
أما قوله جَنَّة ٌ مّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ فاعلم أن الله تعالى وصف هذه الجنة بصفات ثلاث
الصفة الأول كونها من نخيل وأعناب واعلم أن الجنة تكون محتوية على النخيل والأعناب ولا تكون الجنة من النخيل والأعناب إلا أن بسبب كثرة النخيل والأعناب صار كأن الجنة إنما تكون من النخيل والأعناب وإنما خص النخيل والأعناب بالذكر لأنهما أشرف الفواكه ولأنهما أحسن الفواكه مناظر حين تكون باقية على أشجارها
والصفة الثانية قوله تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ ولا شك أن هذا سبب لزيادة الحسن في هذه الجنة
الصفة الثالثة قوله لَهُ فِيهَا مِن كُلّ الثَّمَراتِ ولا شك أن هذا يكون سبباً لكمال حال هذا البستان فهذه هي الصفات الثلاثة التي وصف الله تعالى هذه الجنة بها ولا شك أن هذه الجنة تكون في غاية الحسن لأنها مع هذه الصفات حسنة الرؤية والمنظر كثيرة النفع والريع ولا تمكن الزيادة في حسن الجنة على ذلك ثم إنه تعالى بعد ذلك شرع في بيان شدة حاجة المالك إلى هذه الجنة فقال وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وذلك لأنه إذا صار كبيراً وعجز عن الاكتساب كثرت جهات حاجاته في مطعمه وملبسه ومسكنه ومن يقوم بخدمته وتحصيل مصالحه فإذا تزايدت جهات الحاجات وتناقصت جهات الدخل والكسب إلا من تلك الجنة فحينئذ يكون في نهاية الاحتياج إلى تلك الجنة
فإن قيل كيف عطف وَأَصَابَهُ على أَيَوَدُّ وكيف يجوز عطف الماضي على المستقبل
قلنا الجواب عنه من وجوه الأول قال صاحب ( الكشاف ) الواو للحال لا للعطف ومعناه بَصِيرٌ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّة ٌ حال ما أصابه الكبر ثم إنها تحرق
والجواب الثاني قال الفرّاء وددت أن يكون كذا ووددت لو كان كذا فحمل العطف على المعنى كأنه قيل أيود أحدكم إن كان له جنّة وأصابه الكبر
ثم إنه تعالى زاد في بيان احتياج ذلك الإنسان إلى تلك الجنّة فقال وَلَهُ ذُرّيَّة ٌ ضُعَفَاء والمراد من

ضعف الذرية الضعف بسبب الصغر والطفولية فيصير المعنى أن ذلك الإنسان كان في غاية الضعف والحاجة إلى تلك الجنة بسبب الشيخوخة والكبر وله ذرية في غاية الضعف والحاجة بسبب الطفولية والصغر
ثم قال تعالى فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ والاعصار ريح ترتفع وتستدير نحو السماء كأنها عمود وهي التي يسميها الناس الزوبعة وهي ريح في غاية الشدة ومنه قول شاعر إن كنت ريحاً فقد لاقيت إعصارا
والمقصود من هذا المثل بيان أنه يحصل في قلب هذا الإنسان من الغم والمحنة والحسرة والحيرة ما لا يعلمه إلا الله فكذلك من أتى بالأعمال الحسنة إلا أنه لا يقصد بها وجه الله بل يقرن بها أموراً تخرجها عن كونها موجبة للثواب فحين يقدم يوم القيامة وهو حينئذ في غاية الحاجة ونهاية العجز عن الاكتساب عظمت حسرته وتناهت حيرته ونظير هذه الآية قوله تعالى وَبَدَا لَهُمْ مّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ ( الزمر 47 ) وقوله وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً ( الفرقان 23 )
ثم قال كَذالِكَ يُبيّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ أي كما بيّن الله لكم آياته ودلائله في هذا الباب ترغيباً وترهيباً كذلك يبين الله لكم آياته ودلائله في سائر أمور الدين لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى أن لعل للترجي وهو لا يليق بالله تعالى
المسألة الثانية أن المعتزلة تمسكوا به في أنه يدل على أنه تعالى أراد من الكل الإيمان وقد تقدم شرح هاتين الآيتين مراراً
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأرض وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِأَخِذِيهِ إِلاَ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ
إعلم أنه رغب في الإنفاق ثم بيّن أن الإنفاق على قسمين منه ما يتبعه المن والأذى ومنه ما لا يتبعه ذلك
ثم إنه تعالى شرح ما يتعلق بكل واحد من هذين القسمين وضرب لكل واحد منهما مثلا يكشف عن المعنى ويوضح المقصود منه على أبلغ الوجوه

ثم إنه تعالى ذكر في هذه الآية أن المال الذي أمر بإنفاقه في سبيل الله كيف ينبغي أن يكون فقال أَنفِقُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ واختلفوا في أن قوله أَنفَقُواْ المراد منه ماذا فقال الحسن المراد منه الزكاة المفروضة وقال قوم المراد منه التطوع وقال ثالث إنه يتناول الفرض والنفل حجة من قال المراد منه الزكاة المفروضة أن قوله أَنفَقُواْ أمر وظاهر الأمر للوجوب والإنفاق الواجب ليس إلا الزكاة وسائر النفقات الواجبة حجة من قال المراد صدقة التطوع ما روي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه والحسن ومجاهد أنهم كانوا يتصدقون بشرار ثمارهم ورديء أموالهم فأنزل الله هذه الآية وعن ابن عباس رضي الله عنهما جاء رجل ذات يوم بعذق حشف فوضعه في الصدقة فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( بئس ما صنع صاحب هذا ) فأنزل الله تعالى هذه الآية حجة من قال الفرض والنفل داخلان في هذه الآية أن المفهوم من الأمر ترجيح جانب الفعل على جانب الترك من غير أن يكون فيه بيان أنه يجوز الترك أو لا يجوز وهذا المفهوم قدر مشترك بين الفرض والنفل فوجب أن يكونا داخلين تحت الأمر
إذا عرفت هذا فنقول أما على القول الأول وهو أنه للوجوب فيتفرع عليه مسائل
المسألة الأولى ظاهر الآية يدل على وجوب الزكاة في كل مال يكتسبه الإنسان فيدخل فيه زكاة التجارة وزكاة الذهب والفضة وزكاة النعم لأن ذلك مما يوصف بأنه مكتسب ويدل على وجوب الزكاة في كل ما تنبته الأرض على ما هو قول أبي حنيفة رحمه الله واستدلاله بهذه الآية ظاهر جداً إلا أن مخالفيه خصصوا هذا الغموم بقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ليس في الخضراوات صدقة ) وأيضاً مذهب أبي حنيفة أن إخراج الزكاة من كل ما أنبتته الأرض واجب قليلاً كان أو كثيراً وظاهر الآية يدل على قوله إلا أن مخالفيه خصصوا هذا العموم بقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة )
المسألة الثانية اختلفوا في المراد بالطيب في هذه الآية على قولين
القول الأول أنه الجيد من المال دون الرديء فأطلق لفظ الطيب على الجيد على سبيل الاستعارة وعلى هذا التفسير فالمراد من الخبيث المذكور في هذه الآية الرديء
والقول الثاني وهو قول ابن مسعود ومجاهد أن الطيب هو الحلال والخبيث هو الحرام حجة الأول وجوه
الحجة الأولى إنا ذكرنا في سبب النزول أنهم يتصدقون برديء أموالهم فنزلت الآية وذلك يدل على أن المراد من الطيب الجيد
الحجة الثانية أن المحرم لا يجوز أخذه لا بإغماض ولا بغير إغماض والآية تدل على أن الخبيث يجوز أخذه بالإغماض قال القفال رحمه الله ويمكن أن يجاب عنه بأن المراد من الإغماض المسامحة وترك الاستقصاء فيكون المعنى ولستم بآخذيه وأنتم تعلمون أنه محرم إلا أن ترخصوا لأنفسكم أخذ الحرام ولا تبالوا من أي وجه أخذتم المال أمن حلاله أو من حرامه
الحجة الثالثة أن هذا القول متأيد بقوله تعالى لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُونَ مِمَّا تُحِبُّونَ ( آل عمران 92 ) وذلك يدل على أن المراد بالطيبات الأشياء النفيسة التي يستطاب ملكها لا الأشياء الخسيسة التي يجب

على كل أحد دفعها عن نفسه وإخراجها عن بيته واحتج القاضي للقول الثاني فقال أجمعنا على أن المراد من الطيب في هذه الآية إما الجيد وإما الحلال فإذا بطل الأول تعين الثاني وإنما قلنا إنه بطل الأول لأن المراد لو كان هو الجيد لكان ذلك أمراً بإنفاق مطلق الجيد سواء كان حراماً أو حلالاً وذلك غير جائز والتزام التخصيص خلاف الأصل فثبت أن المراد ليس هو الجيد بل الحلال ويمكن أن يذكر فيه قول ثالث وهو أن المراد من الطيب هاهنا ما يكون طيباً من كل الوجوه فيكون طيباً بمعنى الحلال ويكون طيباً بمعنى الجودة وليس لقائل أن يقول حمل اللفظ المشترك على مفهوميه لا يجوز لأنا نقول الحلال إنما سمي طيباً لأنه يستطيبه العقل والدين والجيد إنما يسمى طيباً لأنه يستطيبه الميل والشهوة فمعنى الاستطابة مفهوم واحد مشترك بين القسمين فكان اللفظ محمولاً عليه إذا أثبت أن المراد منه الجيد الحلال فنقول الأموال الزكية إما أن تكون كلها شريفة أو كلها خسيسة أو تكون متوسطة أو تكون مختلطة فإن كان الكل شريفاً كان المأخوذ بحساب الزكاة كذلك وإن كان الكل خسيساً كان الزكاة أيضاً من ذلك الخسيس ولا يكون خلافاً للآية لأن المأخوذ في هذه الحالة لا يكون خسيساً من ذلك المال بل إن كان في المال جيد ورديء فحينئذ يقال للإنسان لا تجعل الزكاة من رديء مالك وأما إن كان المال مختلطاً فالواجب هو الوسط قال ( صلى الله عليه وسلم ) لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن ( أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد إلى فقرائهم وإياك وكرائم أموالهم ) هذا كله إذا قلنا المراد من قوله أَنفِقُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ الزكاة الواجبة أما على القول الثاني وهو أن يكون المراد منه صدقة التطوع أو قلنا المراد منه الإنفاق الواجب والتطوع فنقول إن الله تعالى ندبهم إلى أن يتقربوا إليه بأفضل ما يملكونه كمن تقرب إلى السلطان الكبير بتحفة وهدية فإنه لا بد وأن تكون تلك التحفة أفضل ما في ملكه وأشرفها فكذا هاهنا بقي في الآية سؤال واحد وهو أن يقال ما الفائدة في كلمة مِنْ في قوله وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مّنَ الاْرْضِ
وجوابه تقدير الآية أنفقوا من طيبات ما كسبتم وأنفقوا من طيبات ما أخرجنا لكم من الأرض إلا أن ذكر الطيبات لما حصل مرة واحدة حذف في المرة الثانية لدلالة المرة الأولى عليه
أما قوله تعالى وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ ففيه مسألتان
المسألة الأولى يقال أممته ويممته وتأممته كله بمعنى قصدته قال الأعشى
تيممت قيساً وكم دونه
من الأرض من مهمه ذي شرف
المسألة الثانية قرأ ابن كثير وحده وَلاَ تَيَمَّمُواْ بتشديد التاء لأنه كان في الأصل تاءان تاء المخاطبة وتاء الفعل فأدغم إحداهما في الأخرى والباقون بفتح التاء مخففة وعلى هذا الخلاف في أخواتها وهي ثلاثة وعشرون موضعاً لا تفرقوا توفاهم تعاونوا فتفرق بكم تلقف تولوا تنازعوا تربصون فإن تولوا لا تكلم تلقونه تبرجن تبدل تناصرون تجسسوا تنابزوا لتعارفوا تميز تخيرون تلهى تلظى تنزل الملائكة وهاهنا بحثان
البحث الأول قال أبو علي هذا الإدغام غير جائز لأن المدغم يسكن وإذا سكن لزم أن تجلب همزة الوصل عند الابتداء به كما جلبت في أمثلة الماضي نحو أدارأتم وارتبتم وأطيرنا لكن أجمعوا على أن همزة الوصل لا تدخل على المضارع

البحث الثاني اختلفوا في التاء المحذوفة على قراءة العامة فقال بعضهم هي التاء الأولى وسيبويه لا يسقط إلا الثانية والفرّاء يقول أيهما أسقطت جاز لنيابة الباقية عنها
أما قوله تعالى مِنْهُ تُنفِقُونَ
فاعلم أن في كيفية نظم الآية وجهين الأول أنه تم الكلام عند قوله وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ ثم ابتدأ فقال مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِأَخِذِيهِ إِلا أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ فقوله مِنْهُ تُنفِقُونَ استفهام على سبيل الإنكار والمعنى أمنه تنفقون مع أنكم لستم بآخذيه إلا مع الاغماض والثاني أن الكلام إنما يتم عند قوله إِلا أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ ويكون الذي مضمراً والتقدير ولا تيمموا الخبيث منه الذي تنفقونه ولستم بآخذيه إلا بالإغماض فيه ونظيره إضمار التي في قوله تعالى فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَة ِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا ( البقرة 256 ) والمعنى الوثقى التي لا انفصام لها
أما قوله تعالى وَلَسْتُم بِأَخِذِيهِ إِلا أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ ففيه مسائل
المسألة الأولى الاغماض في اللغة غض البصر وإطباق جفن على جفن وأصله من الغموض وهو الخفاء يقال هذا الكلام غامض أي خفي الإدراك والغمض المتطامن الخفي من الأرض
المسألة الثانية في معنى الإغماض في هذه الآية وجوه الأول أن المراد بالإغماض هاهنا المساهلة وذلك لأن الإنسان إذا رأى ما يكره أغمض عينيه لئلا يرى ذلك ثم كثر ذلك حتى جعل كل تجاوز ومساهلة في البيع وغيره إغماضاً فقوله وَلَسْتُم بِأَخِذِيهِ إِلا أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ يقول لو أهدى إليكم مثل هذه الأشياء لما أخذتموها إلا على استحياء وإغماض فكيف ترضون لي ما لا ترضونه لأنفسكم والثاني أن يحمل الإغماض على المتعدى كما تقول أغمضت بصر الميت وغمضته والمعنى ولستم بآخذيه إلا إذا أغمضتم بصر البائع يعني أمرتموه بالإغماض والحط من الثمن
ثم ختم الآية بقوله وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ والمعنى أنه غني عن صدقاتكم ومعنى حميد أي محمود على ما أنعم بالبيان وفيه وجه آخر وهو أن قوله غَنِى ٌّ كالتهديد على إعطاء الأشياء الرديئة في الصدقات و حَمِيدٌ بمعنى حامد أي أنا أحمدكم على ما تفعلونه من الخيرات وهو كقوله فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا
الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَآءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَة ً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
إعلم أنه تعالى لما رغب الإنسان في إنفاق أجود ما يملكه حذره بعد ذلك من وسوسة الشيطان فقال

الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ أي يقال إن أنفقت الأجود صرت فقيراً فلا تبال بقوله فإن الرحمن يَعِدُكُم مَّغْفِرَة ً مّنْهُ وَفَضْلاً وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في الشيطان فقيل إبليس وقيل سائر الشياطين وقيل شياطين الجن والإنس وقيل النفس الأمارة بالسوء
المسألة الثانية الوعد يستعمل في الخير والشر قال الله تعالى النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( الحج 72 ) ويمكن أن يكون هذا محمولاً على التهكم كما في قوله فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
المسألة الثالثة الفقر والفقر لغتان وهو الضعيف بسبب قلة المال وأصل الفقر في اللغة كسر الفقار يقال رجل فقر وفقير إذا كان مكسور الفقار قال طرفة
إنني لست بمرهون فقر
قال صاحب ( الكشاف ) قرىء الفقر بالضم والفقر بفتحتين
المسألة الرابعة أما الكلام في حقيقة الوسوسة فقد ذكرناه في أول الكتاب في تفسير أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ روي عن ابن مسعود رضي الله عنه إن للشيطان لمة وهي الإيعاد بالشر وللملك لمة وهي الوعد بالخير فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله ومن وجد الأول فليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم وقرأ هذه الآية وروى الحسن قال بعض المهاجرين من سره أن يعلم مكان الشيطان منه فليتأمل موضعه من المكان الذي منه يجد الرغبة في فعل المنكر
أما قوله تعالى وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء ففيه وجوه الأول أن الفحشاء هي البخل وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء أي ويغريكم على البخل إغراء الآمر للمأمور والفاحش عند العرب البخيل قال طرفة أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي
عقيلة مال الفاحش المتشدد
ويعتام منقول من عام فلان إلى اللبن إذا اشتهاه وأراد بالفاحش البخيل قال تعالى وَإِنَّهُ لِحُبّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ( العاديات 8 ) وقد نبّه الله تعالى في هذه الآية على لطيفة وهي أن الشيطان يخوفه أولاً بالفقر ثم يتوصل بهذا التخويف إلى أن يأمره بالفحشاء ويغريه بالبخل وذلك لأن البخل صفة مذمومة عند كل أحد فالشيطان لا يمكنه تحسين البخل في عينه إلا بتقديم تلك المقدمة وهي التخويف من الفقر
الوجه الثاني في تفسير الفحشاء وهو أنه يقول لا تنفق الجيد من مالك في طاعة الله لئلا تصير فقيراً فإذا أطاع الرجل الشيطان في ذلك زاد الشيطان فيمنعه من الإنفاق في الكلية حتى لا يعطي لا الجيد ولا الرديء وحتى يمنع الحقوق الواجبة فلا يؤدي الزكاة ولا يصل الرحم ولا يرد الوديعة فإذا صار هكذا سقط وقع الذنوب عن قلبه ويصير غير مبال بارتكابها وهناك يتسع الخرق ويصير مقداماً على كل الذنوب وذلك هو الفحشاء وتحقيقه أن لكل خلق طرفين ووسطاً فالطرف الكامل هو أن يكون بحيث يبذل كل ما يملكه في سبيل الله الجيد والرديء والطرف الفاحش الناقص لا ينفق شيئاً في سبيل الله لا الجيد ولا الرديء والأمر المتوسط أن يبخل بالجيد وينفق الرديء فالشيطان إذا أراد نقله من الطرف الفاضل إلى الطرف الفاحش لا يمكنه إلا بأن يجره إلى الوسط فإن عصى الإنسان الشيطان في هذا المقام انقطع طمعه عنه

وإن أطاعه فيه طمع في أن يجره من الوسط إلى الطرف الفاحش فالوسط هو قوله تعالى يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ والطرف الفاحش قوله وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء ثم لما ذكر سبحانه وتعالى درجات وسوسة الشيطان أردفها بذكر إلهامات الرحمن فقال وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَة ً مّنْهُ وَفَضْلاً فالمغفرة إشارة إلى منافع الآخرة والفضل إشارة إلى ما يحصل في الدنيا من الخلق وروي عنه ( صلى الله عليه وسلم ) أن الملك ينادي كل ليلة ( اللّهم أعط كل منفق خلفاً وكل ممسك تلفاً )
وفي هذه الآية لطيفة وهي أن الشيطان يعدك الفقر في غد دنياك والرحمان يعدك المغفرة في غد عقباك ووعد الرحمن في غد العقبى أولى بالقبول من وجوه أحدها أن وجدان غد الدنيا مشكوك فيه ووجدان غد العقبى متيقن مقطوع به وثانيها أن بتقدير وجدان غد الدنيا فقد يبقى المال المبخول به وقد لا يبقى وعند وجدان غد العقبى لا بد من وجدان المغفرة الموعود بها من عند الله تعالى لأنه الصادق الذي يمتنع وجود الكذب في كلامه وثالثها أن بتقدير بقاء المال المبخول به في غد الدنيا فقد يتمكن الإنسان من الانتفاع به وقد لا يتمكن إما بسبب خوف أو مرض أو اشتغال بمهم آخر وعند وجدان غد العقبى الانتفاع حاصل بمغفرة الله وفضله وإحسانه ورابعها أن بتقدير حصول الانتفاع بالمال المبخول به غد الدنيا لا شك أن ذلك الانتفاع ينقطع ولا يبقى وأما الانتفاع بمغفرة الله وفضله وإحسانه فهو الباقي الذي لا ينقطع ولا يزول وخامسها أن الانتفاع بلذات الدنيا مشوب بالمضار فلا ترى شيئاً من اللذات إلا ويكون سبباً للمحنة من ألف وجه بخلاف منافع الآخرة فإنها خالصة عن الشوائب ومن تأمل فيما ذكرناه علم أن الانقياد لوعد الرحمن بالفضل والمغفرة أولى من الانقياد لوعد الشيطان
إذا عرفت هذا فنقول المراد بالمغفرة تكفير الذنوب كما قال خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَة ً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا ( التوبة 103 ) وفي الآية لفظان يدلان على كمال هذه المغفرة أحدها التنكير في لفظة المغفرة والمعنى مغفرة أي مغفرة والثاني قوله مَّغْفِرَة ً مّنْهُ فقوله مِنْهُ يدل على كمال حال هذه المغفرة لأن كمال كرمه ونهاية جوده معلوم لجميع العقلاء وكون المغفرة منه معلوم أيضاً لكل أحد فلما خص هذه المغفرة بأنها منه علم أن المقصود تعظيم حال هذه المغفرة لأن عظم المعطي يدل على عظم العطية وكمال هذه المغفرة يحتمل أن يكون المراد منه ما قاله في آية أخرى فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ اللَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ( الفرقان 70 ) ويحتمل أن يكون المراد منه أن يجعله شفيعاً في غفران ذنوب سائر المذنبين ويحتمل أن يكون كمال تلك المغفرة أمراً لا يصل إليه عقلنا ما دمنا في دار الدنيا فإن تفاصيل أحوال الآخرة أكثرها محجوبة عنا ما دمنا في الدنيا وأما معنى الفضل فهو الخلف المعجل في الدنيا وهذا الفضل يحتمل عندي وجوهاً أحدها أن المراد من هذا الفضل الفضيلة الحاصلة للنفس وهي فضيلة الجود والسخاء وذلك لأن مراتب السعادة ثلاث نفسانية وبدنية وخارجية وملك المال من الفضائل الخارجية وحصول خلق الجود والسخاوة من الفضائل النفسانية وأجمعوا على أن أشرف هذه المراتب الثلاث السعادات النفسانية وأخسها السعادات الخارجية فمتى لم يحصل إنفاق المال كانت السعادة الخارجية حاصلة والنقيضة النفسانية معها حاصلها ومتى حصل الإنفاق حصل الكمال النفساني والنقصان الخارجي ولا شك أن هذه الحالة أكمل فثبت أن مجرد الإنفاق يقتضي حصول ما وعد الله به من حصول الفضل والثاني وهو أنه متى حصل ملكة الإنفاق زالت عن الروح هيئة الاشتغال بلذات الدنيا والتهالك في مطالبها ولا مانع للروح من تجلي نور جلال الله لها إلا

حب الدنيا ولذلك قال عليه الصلاة والسلام ( لولا أن الشياطين يوحون إلى قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماوات ) وإذا زال عن وجه القلب غبار حب الدنيا استنار بأنوار عالم القدس وصار كالكوكب الدري والتحق بأرواح الملائكة وهذا هو الفضل لا غير والثالث وهو أحسن الوجوه أنه مهما عرف من الإنسان كونه منفقاً لأمواله في وجوه الخيرات مالت القلوب إليه فلا يضايقونه في مطالبه فحينئذ تنفتح عليه أبواب الدنيا ولأن أولئك الذين أنفق ماله عليهم يعينونه بالدعاء والهمة فيفتح الله عليه أبواب الخير
ثم ختم الآية بقوله وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ أي أنه واسع المغفرة قادر على إغنائكم وإخلاف ما تنفقونه وهو عليم لا يخفى عليه ما تنفقون فهو يخلفه عليكم
يُؤْتِى الْحِكْمَة َ مَن يَشَآءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَة َ فَقَدْ أُوتِى َ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ
إعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية المتقدمة أن الشيطان يعد بالفقر ويأمر بالفحشاء وأن الرحمن يعد بالمغفرة والفضل نبّه على أن الأمر الذي لأجله وجب ترجيح وعد الرحمن على وعد الشيطان هو أن وعد الرحمن ترجحه الحكمة والعقل ووعد الشيطان ترجحه الشهوة والنفس من حيث إنهما يأمران بتحصيل اللذة الحاضرة واتباع أحكام الخيال والوهم ولا شك أن حكم الحكمة والعقل هو الحكم الصادق المبرأ عن الزيغ والخلل وحكم الحس والشهوة والنفس توقع الإنسان في البلاء والمحنة فكان حكم الحكمة والعقل أولى بالقبول فهذا هو الإشارة إلى وجه النظم بقي في الآية مسائل
المسألة الأولى المراد من الحكمة إما العلم وإما فعل الصواب يروى عن مقاتل أنه قال تفسير الحكمة في القرآن على أربعة أوجه أحدها مواعظ القرآن قال في البقرة وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَة ِ يَعِظُكُم بِهِ يعني مواعظ القرآن وفي النساء وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَة ِ يعني المواعظ ومثلها في آل عمران وثانيها الحكمة بمعنى الفهم والعلم ومنه قوله تعالى وَاتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً ( مريم 12 ) وفي لقمان وَلَقَدْ ءاتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَة َ ( لقمان 12 ) يعني الفهم والعلم وفي الأنعام أُوْلَائكَ الَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ ( الأنعام 89 ) وثالثها الحكمة بمعنى النبوّة في النساء فَقَدْ ءاتَيْنَا ءالَ إِبْراهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ ( النساء 54 ) يعني النبوّة وفي ص وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَءاتَيْنَاهُ الْحِكْمَة َ ( ص 20 ) يعني النبوّة وفي البقرة وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَة َ ( البقرة 251 ) ورابعها القرآن بما فيه من عجائب الأسرار في النحل ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَة ِ ( النحل 125 ) وفي هذه الآية وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَة َ فَقَدْ أُوتِى َ خَيْرًا كَثِيرًا ( البقرة 269 ) وجميع هذه الوجوه عند التحقيق ترجع إلى العلم ثم تأمل أيها المسكين فإنه تعالى ما أعطى إلا القليل من العلم قال تعالى وَمَا أُوتِيتُم مّن الْعِلْمِ

إِلاَّ قَلِيلاً ( الإسراء 85 ) وسمى الدنيا بأسرها قليلا فقال قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ ( النساء 77 ) وانظر كم مقدار هذا القليل حتى تعرف عظمة ذلك الكثير والبرهان العقلي أيضاً يطابقه لأن الدنيا متناهية المقدار متناهية المدة والعلوم لا نهاية لمراتبها وعددها ومدة بقائها والسعادة الحاصلة منها وذلك ينبئك على فضيلة العلم والاستقصاء في هذا الباب قد مرّ في تفسير قوله تعالى وَعَلَّمَ ءادَمَ الاسْمَاء كُلَّهَا ( البقرة 31 ) وأما الحكمة بمعنى فعل الصواب فقيل في حدها إنها التخلق بأخلاق الله بقدر الطاقة البشرية ومداد هذا المعنى على قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( تخلقوا بأخلاق الله تعالى ) واعلم أن الحكمة لا يمكن خروجها عن هذين المعنيين وذلك لأن كمال الإنسان في شيئين أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به فالمرجع بالأول إلى العلم والإدراك المطابق وبالثاني إلى فعل العدل والصواب فحكي عن إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) قوله رَبّ هَبْ لِى حُكْماً ( الشعراء 83 ) وهو الحكمة النظرية وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ ( الشعراء 83 ) الحكمة العملية ونادى موسى عليه السلام فقال إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ لا إله إِلا أَنَاْ وهو الحكمة النظرية ثم قال فَاعْبُدْنِى وهو الحكمة العملية وقال عن عيسى عليه السلام إنه قال إِنّى عَبْدُ اللَّهِ ( مريم 30 ) الآية وكل ذلك للحكمة النظرية ثم قال وَجَعَلَنِى مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِى ( مريم 31 ) وهو الحكمة العملية وقال في حق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إله إِلائَ اللَّهِ ( محمد 19 ) وهو الحكمة النظرية ثم قال وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ ( غافر 55 ) ( محمد 19 ) وهو الحكمة العملية وقال في جميع الأنبياء يُنَزّلُ الْمَلَائِكَة َ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَآء مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُواْ أَنَّهُ لا إله إِلا أَنَاْ ( النحل 2 ) وهو الحكمة النظرية ثم قال فَاتَّقُونِ وهو الحكمة العملية والقرآن هو من الآية الدالة على أن كمال حال الإنسان ليس إلا في هاتين القوتين قال أبو مسلم الحكمة فعلة من الحكم وهي كالنحلة من النحل ورجل حكيم إذا كان ذا حجى ولب وإصابة رأي وهو في هذا الموضع في معنى الفاعل ويقال أمر حكيم أي محكم وهو فعيل بمعنى مفعول قال الله تعالى فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ( الدخان 4 ) وهذا الذي قاله أبو مسلم من اشتقاق اللغة يطابق ما ذكرناه من المعنى
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) قرىء وَمِنْ يُؤْتِى الْحِكْمَة َ بمعنى ومن يؤته الله الحكمة وهكذا قرأ الأعمش
المسألة الثالثة احتج أصحابنا بهذه الآية على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى وذلك لأن الحكمة إن فسرناها بالعلم لم تكن مفسرة بالعلوم الضرورية لأنها حاصلة للبهائم والمجانين والأطفال وهذه الأشياء لا توصف بأنها حكم فهي مفسرة بالعلوم النظرية وإن فسرناها بالأفعال الحسيّة فالأمر ظاهر وعلى التقديرين فيلزم أن يكون حصول العلوم النظرية والأفعال الحسيّة ثابتاً من غيرهم وبتقدير مقدر غيرهم وذلك الغير ليس إلا الله تعالى بالاتفاق فدل على أن فعل العبد خلق لله تعالى
فإن قيل لم لا يجوز أن يكون المراد من الحكمة النبوّة والقرآن أو قوة الفهم والحسيّة على ما هو قول الربيع بن أنس
قلنا الدليل الذي ذكرناه يدفع هذه الاحتمالات وذلك لأنه بالنقل المتواتر ثبت أنه يستعمل لفظ الحكيم في غير الأنبياء فتكون الحكمة مغايرة للنبوّة والقرآن بل هي مفسرة إما بمعرفة حقائق الأشياء أو

بالإقدام على الأفعال الحسنة الصائبة وعلى التقديرين فالمقصود حاصل فإن حاولت المعتزلة حمل الإيتاء على التوفيق والإعانة والألطاف قلنا كل ما فعله من هذا الجنس في حق المؤمنين فقد فعل مثله في حق الكفار مع أن هذا المدح العظيم المذكور في هذه الآية لا يتناولهم فعلمنا أن الحكمة المذكورة في هذه الآية شيء آخر سوى فعل الالطاف والله أعلم
ثم قال وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الالْبَابِ والمراد به عندي والله أعلم أن الإنسان إذا رأى الحكم والمعارف حاصلة في قلبه ثم تأمل وتدبر وعرف أنها لم تحصل إلا بإيتاء الله تعالى وتيسيره كان من أولي الألباب لأنه لم يقف عند المسببات بل ترقى منها إلى أسبابها فهذا الانتقال من المسبب إلى السبب هو التذكر الذي لا يحصل إلا لأولي الألباب وأما من أضاف هذه الأحوال إلى نفسه واعتقد أنه هو السبب في حصولها وتحصيلها كان من الظاهر بين الذين عجزوا عن الانتقال من المسببات إلى الأسباب وأما المعتزلة فإنهم لما فسروا الحكمة بقوة الفهم ووضع الدلائل قالوا هذه الحكمة لا تقوم بنفسها وإنما ينتفع بها المرء بأن يتدبر ويتفكر فيعرف ماله وما عليه وعند ذلك يقدم أو يحجم
وَمَآ أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَة ٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ
اعلم أنه تعالى لما بيّن أن الإنفاق يجب أن يكون من أجود المال ثم حث أولاً بقوله وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ ( البقرة 267 ) وثانياً بقوله الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ ( البقرة 268 ) حيث عليه ثالثاً بقوله وَمَا أَنفَقْتُم مّن نَّفَقَة ٍ أَوْ نَذَرْتُم مّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في قوله فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ على اختصاره يفيد الوعد العظيم للمطيعين والوعيد الشديد للمتمردين وبيانه من وجوه أحدها أنه تعالى عالم بما في قلب المتصدق من نية الإخلاص والعبودية أو من نيّة الرياء والسمعة وثانيها أن علمه بكيفية نية المتصدق يوجب قبول تلك الطاعات كما قال إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ( المائدة 27 ) وقوله فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ شَرّاً يَرَهُ ( الزلزلة 7 8 ) وثالثها أنه تعالى يعلم القدر المستحق من الثواب والعقاب على تلك الدواعي والنيات فلا يهمل شيئاً منها ولا يشتبه عليه شيء منها
المسألة الثانية إنما قال فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ ولم يقل يعلمها لوجهين الأول أن الضمير عائد إلى الأخير كقوله وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَة ً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً وهذا قول الأخفش والثاني أن الكتابة عادت إلى ما في قوله وَمَا أَنفَقْتُم مّن نَّفَقَة ٍ لأنها اسم كقوله وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَة ِ يَعِظُكُم بِهِ ( البقرة 231 )

المسألة الثالثة النذر ما يلتزمه الإنسان بإيجابه على نفسه يقال نذر ينذر وأصله من الخوف لأن الإنسان إنما يعقد على نفسه خوف التقصير في الأمر المهم عنده وأنذرت القوم إنذاراً بالتخويف وفي الشريعة على ضربين مفسر وغير مفسر فالمفسر أن يقول لله علي عتق رقبة ولله علي حج فههنا يلزم الوفاء به ولا يجزيه غيره وغير المفسر أن يقول نذرت لله أن لا أفعل كذا ثم يفعله أو يقول لله علي نذر من غير تسمية فيلزم فيه كفارة يمين لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من نذر نذراً وسمى فعليه ما سمى ومن نذر نذراً ولم يسم فعليه كفارة يمين )
أما قوله تعالى وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ففيه مسألتان
المسألة الأولى أنه وعيد شديد للظالمين وهو قسمان أما ظلمه نفسه فذاك حاصل في كل المعاصي وأما ظلمه غيره فبأن لا ينفق أو يصرف الانفاق عن المستحق إلى غيره أو يكون نيته في الانفاق على المستحق الرياء والسمعة أو يفسدها بالمعاصي وهذان القسمان الأخيران ليسا من باب الظلم على الغير بل من باب الظلم على النفس
المسألة الثانية المعتزلة تمسكوا بهذه الآية في نفي الشفاعة عن أهل الكبائر قالوا لأن ناصر الإنسان من يدفع الضرر عنه فلو اندفعت العقوبة عنهم بشفاعة الشفعاء لكان أولئك أنصاراً لهم وذلك يبطل قوله تعالى وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ
واعلم أن العرف لا يسمي الشفيع ناصراً بدليل قوله تعالى وَاتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَة ٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ( البقرة 48 ) ففرق تعالى بين الشفيع والناصر فلا يلزم من نفي الأنصار نفي الشفعاء
والجواب الثاني ليس لمجموع الظالمين أنصار فلم قلتم ليس لبعض الظالمين أنصار
فإن قيل لفظ الظالمين ولفظ الأنصار جمع والجمع إذا قوبل بالجمع توزع الفرد على الفرد فكان المعنى ليس لأحد من الظالمين أحد من الأنصار
قلنا لا نسلم أن مقابلة الجمع بالجمع توجب توزع الفرد على الفرد لاحتمال أن يكون المراد مقابلة الجمع بالجمع فقط لا مقابلة الفرد بالفرد
والجواب الثالث أن هذا الدليل النافي للشفاعة عام في حق الكل وفي كل الأوقات والدليل المثبت للشفاعة خاص في حق البعض وفي بعض الأوقات والخاص مقدم على العام والله أعلم
والجواب الرابع ما بينا أن اللفظ العام لا يكون قاطعاً في الاستغراق بل ظاهراً على سبيل الظن القوي فصار الدليل ظنياً والمسألة ليست ظنية فكان التمسك بها ساقطاً
المسألة الثالثة الأنصار جمع نصير كإشراف وشريف وأحباب وحبيب

إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِى َ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
إعلم أنه تعالى بيّن أولاً أن الانفاق منه ما يتبعه المن والأذى ومنه ما لا يكون كذلك وذكر حكم كل واحد من القسمين ثم ذكر ثانياً أن الانفاق قد يكون من جيد ومن رديء وذكر حكم كل واحد من القسمين وذكر في هذه الآية أن الانفاق قد يكون ظاهراً وقد يكون خفياً وذكر كل واحد من القسمين فقال إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِى َ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى سألوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) صدقة السر أفضل أم صدقة العلانية فنزلت هذه الآية
المسألة الثانية الصدقة تطلق على الفرض والنفل قال تعالى خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَة ً تُطَهّرُهُمْ ( التوبة 103 ) وقال إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( نفقة المرء على عياله صدقة ) والزكاة لا تطلق إلا على الفرض قال أهل اللغة أصل الصدقة ( ص د ق ) على هذا الترتيب موضوع للصحة والكمال ومنه قولهم رجل صدق النظر وصدق اللقاء وصدقوهم القتال وفلان صادق المودة وهذا خل صادق الحموضة وشيء صادق الحلاوة وصدق فلان في خبره إذا أخبر به على الوجه الذي هو عليه صحيحاً كاملاً والصديق يسمى صديقاً لصدقه في المودة والصداق سمي صداقاً لأن عقد النكاح به يتم ويكمل وسمى الله تعالى الزكاة صدقة لأن المال بها يصح ويكمل فهي سبب إما لكمال المال وبقائه وإما لأنه يستدل بها على صدق العبد في إيمانه وكماله فيه
المسألة الثالثة الأصل في قوله فَنِعِمَّا نعم ما إلا أنه أدغم أحد الميمين في الآخر ثم فيه ثلاثة أوجه من القراءة قرأ أبو عمرو وقالون وأبو بكر عن عاصم فَنِعِمَّا بكسر النون وإسكان العين وهو اختيار أبي عبيد قال لأنها لغة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حين قال لعمرو بن العاص ( نعما بالمال الصالح للرجل الصالح ) هكذا روي في الحديث بسكون العين والنحويون قالوا هذا يقتضي الجمع بين الساكنين وهو غير جائز إلا فيما يكون الحرف الأول منهما حرف المد واللين نحو دابة وشابة لأن ما في الحرف من المد يصير عوضاً عن الحركة وأما الحديث فلأنه لما دل الحس على أنه لا يمكن الجمع بين هذين الساكنين علمنا أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما تكلم به أوقع في العين حركة خفيفة على سبيل الاختلاس والقراءة الثانية قرأ ابن كثير ونافع برواية ورش وعاصم في رواية حفص فَنِعِمَّا هِى َ بكسر النون والعين وفي تقريره وجهان أحدهما أنهم لما احتاجوا إلى تحريك العين حركوها مثل حركة ما قبلها والثاني أن هذا على لغة من يقول نِعْمَ بكسر النون والعين قال سيبويه وهي لغة هذيل القراء الثالثة وهي قراءة سائر القرّاء فَنِعِمَّا هِى َ بفتح النون وكسر العين ومن قرأ بهذه القراءة فقد أتى بهذه الكلمة على أصلها وهي نِعْمَ قال طرفة

نعم الساعون في الأمر المير
المسألة الرابعة قال الزجاج ما في تأويل الشيء أي نعم الشيء هو قال أبو علي الجيد في تمثيل هذا أن يقال ما في تأويل شيء لأن ما هاهنا نكرة فتمثيله بالنكرة أبين والدليل على أن ما نكرة هاهنا أنها لو كانت معرفة فلا بد لها من الصلة وليس هاهنا ما يوصل به لأن الموجود بعد ما هو هي وكلمة هي مفردة والمفرد لا يكون صلة لما وإذا بطل هذا القول فنقول ما نصب على التمييز والتقدير نعم شيئاً هي إبداء الصدقات فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه
المسألة الخامسة اختلفوا في أن المراد بالصدقة المذكورة في هذه الآية التطوع أو الواجب أو مجموعهما
فالقول الأول وهو قول الأكثرين أن المراد منه صدقة التطوع قالوا لأن الإخفاء في صدقة التطوع أفضل والإظهار في الزكاة أفضل وفيه بحثان
البحث الأول في أن الأفضل في إعطاء صدقة التطوع إخفاؤه أو إظهاره فلنذكر أولاً الوجوه الدالة على إخفاءه أفضل فالأول أنها تكون أبعد عن الرياء والسمعة قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا يقبل الله مسمع ولا مراء ولا منان ) والمتحدث بصدقته لا شك أنه يطلب السمعة والمعطى في ملأ من الناس يطلب الرياء والإخفاء والسكوت هو المخلص منهما وقد بالغ قوم في قصد الإخفاء واجتهدوا أن لا يعرفهم الآخذ فكان بعضهم يلقيه في يد أعمى وبعضهم يلقيه في طريق الفقير وفي موضع جلوسه حيث يراه ولا يرى المعطي وبعضهم كان يشده في أثواب الفقير وهو نائم وبعضهم كان يوصل إلى يد الفقير على يد غيره والمقصود عن الكل الاحتراز عن الرياء والسمعة والمنة لأن الفقير إذا عرف المعطي فقد حصل الرياء والمنة معاً وليس في معرفة المتوسط الرياء وثانيها أنه إذا أخفى صدقته لم يحصل له بين الناس شهرة ومدح وتعظيم فكان ذلك يشق على النفس فوجب أن يكون ذلك أكثر ثواباً وثالثها قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أفضل الصدقة جهد المقل إلى الفقير في سر ) وقال أيضاً ( إن العبد ليعمل عملاً في السر يكتبه الله له سراً فإن أظهره نقل من السر وكتب في العلانية فإن تحدث به نقل من السر والعلانية وكتب في الرياء ) وفي الحديث المشهور ( سبعة يظلهم الله تعالى يوم القيامة في ظله يوم لا ظل إلا ظله أحدهم رجل تصدق بصدقة فلم تعلم شماله بما أعطاه يمينه ) وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( صدقة السر تطفيء غضب الرب ) ورابعها أن الإظهار يوجب إلحاق الضرر بالآخذ من وجوه والإخفاء لا يتضمن ذلك فوجب أن يكون الإخفاء أولى وبيان تلك المضار من وجوه الأول أن في الإظهار هتك عرض الفقير وإظهار فقره وربما لا يرضى الفقير بذلك والثاني أن في الإظهار إخراج الفقير من هيئة التعفف وعدم السؤال والله تعالى مدح ذلك في الآية التي تأتي بعد هذه الآية وهو قوله تعالى يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ( البقرة 273 ) والثالث أن الناس ربما أنكروا على الفقير أخذ تلك الصدقة ويظنون أنه أخذها مع الاستغناء عنها فيقع الفقير في المذمة والناس في الغيبة والرابع أن في إظهر الإعطاء إذلالاً للآخذ وإهانة له وإزلال المؤمن غير جائز والخامس أن الصدقة جارية مجرى الهدية وقال عليه الصلاة والسلام ( من أهدى إليه هدية وعنده قوم فهم شركاؤه فيها ) وربما لا يدفع الفقير من تلك الصدقة شيئاً إلى

شركائه الحاضرين فيقع الفقير بسبب إظهار تلك الصدقة في فعل ما لا ينبغي فهذه جملة الوجوه الدالة على أن إخفاء صدقة التطوع أولى
وأما الوجه في جواز إظهار الصدقة فهو أن الإنسان إذا علم أنه إذا أظهرها صار ذلك سبباً لاقتداء الخلق به في إعطاء الصدقات فينتفع الفقراء بها فلا يمتنع والحال هذه أن يكون الإظهار أفضل وروي ابن عمر عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( السر أفضل من العلانية والعلانية أفضل لمن أراد الاقتداء به ) قال محمد بن عيسى الحكيم الترمذي الإنسان إذا أتى بعمل وهو يخفيه عن الخلق وفي نفسه شهوة أن يرى الخلق منه ذلك وهو يدفع تلك الشهوة فههنا الشيطان يورد عليه ذكر رؤية الخلق والقلب ينكر ذلك ويدفعه فهذا الإنسان في محاربة الشيطان فضوعف العمل سبعين ضعفاً على العلانية ثم إن الله عباداً راضوا أنفسهم حتى من الله عليهم بأنواع هدايته فتراكمت على قلوبهم أنوار المعرفة وذهبت عنهم وساوس النفس لأن الشهوات قد ماتت منهم ووقعت قلوبهم في بحار عظمة الله تعالى فإذا عمل عملاً علانية لم يحتج أن يجاهد لأن شهوة النفس قد بطلت ومنازعة النفس قد اضمحلت فإذا أعلن به فإنما يريد به أن يقتدي به غيره فهذا عبد كملت ذاته فسعى في تكميل غيره ليكون تاماً وفوق التمام ألا ترى أن الله تعالى أثنى على قوم في تنزيله وسماهم عباد الرحمن وأوجب لهم أعلى الدرجات في الجنة فقال أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَة َ ( الفرقان 75 ) ثم ذكر من الخصال التي طلبوها بالدعاء أن قالوا وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً ( الفرقان 74 ) ومدح أمة موسى عليه السلام فقال وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّة ٌ يَهْدُونَ بِالْحَقّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ( الأعراف 159 ) ومدح أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فقال كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة ٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ( آل عمران 110 ) ثم أبهم المنكر فقال وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّة ٌ يَهْدُونَ بِالْحَقّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ( الأعراف 181 ) فهؤلاء أئمة الهدى وأعلام الدين وسادة الخلق بهم يهتدون في الذهاب إلى الله
فإن قيل إن كان الأمر على ما ذكرتم فلم رجح الإخفاء على الإظهار في قوله وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ
والجواب من وجهين الأول لا نسلم قوله فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ يفيد الترجيح فإنه يحتمل أن يكون المعنى أن إعطاء الصدقة حال الاخفاء خير من الخيرات وطاعة من جملة الطاعات فيكون المراد منه بيان كونه في نفسه خيراً وطاعة لا أن المقصود منه بيان الترجيح
والوجه الثاني سلمنا أن المراد منه الترجيح لكن المراد من الآية أنه إذا كانت الحال واحدة في الإبداء والإخفاء فالأفضل هو الإخفاء فأما إذا حصل في الإبداء أمر آخر لم يبعد ترجيح الإبداء على الإخفاء
البحث الثاني أن الإظهار في إعطاء الزكاة الواجبة أفضل ويدل عليه وجوه الأول أن الله تعالى أمر الأئمة بتوجيه السعاة لطلب الزكاة وفي دفعها إلى السعاة إظهارها وثانيها أن في إظهارها نفي التهمة روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان أكثر صلاته في البيت إلا المكتوبة فإذا اختلف حكم فرض الصلاة ونفلها في الإظهار والإخفاء لنفي التهمة فكذا في الزكاة وثالثها أن إظهارها يتضمن المسارعة إلى أمر الله تعالى وتكليفه وإخفاءها يوهم ترك الالتفات إلى أداء الواجب فكان الإظهار أولى هذا كله في بيان قول من قال المراد

بالصدقات المذكورة في هذه الآية صدقة التطوع فقط
القول الثاني وهو قول الحسن البصري أن اللفظ متناول للواجب والمندوب وأجاب عن قول من قال الإظهار في الواجب أولى من وجوه الأول أن إظهار زكاة الأموال توجب إظهار قدر المال وربما كان ذلك سبباً للضرر بأن يطمع الظلمة في ماله أو بكثرة حساده وإذا كان الأفضل له إخفاء ماله لزم منه لا محالة أن يكون إخفاء الزكاة أولى والثاني أن هذه الآية إنما نزلت في أيام الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) والصحابة ما كانوا متهمين في ترك الزكاة فلا جرم كان إخفاء الزكاة أولى لهم لأنه أبعد عن الرياء والسمعة أما الآن فلما حصلت التهمة كان الإظهار أولى بسبب حصول التهمة الثالث أن لا نسلم دلالة قوله فَهُوَ خَيْرٌ على الترجيح وقد سبق بيانه
أما قوله تعالى وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ فالإخفاء نقيض الإظهار وقوله فَهُوَ كناية عن الإخفاء لأن الفعل يدل على المصدر أي الإخفاء خير لكم وقد ذكرنا أن قوله خَيْرٌ لَّكُمْ يحتمل أن يكون المراد منه أنه في نفسه خير من الخيرات كما يقال الثريد خير وأن يكون المراد منه الترجيح وإنما شرط تعالى في كون الإخفاء أفضل أن تؤتوها الفقراء لأن عند الإخفاء الأقرب أن يعدل بالزكاة عن الفقراء إلى الأحباب والأصدقاء الذين لا يكونون مستحقين للزكاة ولذلك شرط في الإخفاء أن يحصل معه إيتاء الفقراء والمقصود بعث المتصدق على أن يتحرى موضع الصدقة فيصير عالماً بالفقراء فيميزهم عن غيرهم فإذا تقدم منه هذا الاستظهار ثم أخفاها حصلت الفضيلة
أما قوله تعالى وَيُكَفّرُ عَنكُم مّن سَيّئَاتِكُمْ ففيه مسائل
المسألة الأولى التكفير في اللغة التغطية والستر ورجل مكفر في السلاح مغطى فيه ومنه يقال كفر عن يمينه أي ستر ذنب الحنث بما بذل من الصدقة والكفارة ستارة لما حصل من الذنب
المسألة الثانية قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر نَّكْفُرَ بالنون ورفع الراء وفيه وجوه أحدها أن يكون عطفاً على محل ما بعد الفاء والثاني أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي ونحن نكفر والثالث أنه جملة من فعل وفاعل مبتدأ بمستأنفة منقطعة عما قبلها والقراءة الثانية قراءة حمزة ونافع والكسائي بالنون والجزم ووجهه أن يحمل الكلام على موضع قوله فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ فإن موضعه جزم ألا ترى أنه لو قال وإن تخفوها تكن أعظم لثوابكم لجزم فيظهر أن قوله خَيْرٌ لَّكُمْ في موضع جزم ومثله في الحمل على موضع الجزم قراءة من قرأ مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ ( الأعراف 186 ) بالجزم والقراءة الثالثة قراءة ابن عامر وحفص عن عاصم يَكْفُرْ بالياء وكسر الفاء ورفع الراء والمعنى يكفر الله أو يكفر الاخفاء وحجتهم أن ما بعده على لفظ الافراد وهو قوله وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فقوله يَكْفُرْ يكون أشبه بما بعده والأولون أجابوا وقالوا لا بأس بأن يذكر لفظ الجمع أولاً ثم لفظ الأفراد ثانياً كما أتى بلفظ الأفراد أولاً والجمع ثانياً في قوله سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً ( الإسراء 1 ) ثم قال وَءاتَيْنَآ مُوسَى الْكِتَابَ ( الإسراء 2 ) ونقل صاحب ( الكشاف ) قراءة رابعة وتكفر بالتاء مرفوعاً ومجزوماً والفاعل الصدقات وقراءة خامسة وهي قراءة الحسن بالتاء والنصب بإضمار حَمِيمٍ ءانٍ ومعناها إن تخفوها يكن خير لكم وإن نكفر عنكم سيئاتكم فهو خير لكم

المسألة الثالثة في دخول مِنْ في قوله مّن سَيّئَاتِكُمْ وجوه أحدها المراد ونكفر عنكم بعض سيئاتكم لأن السيئات كلها لا تكفر بذلك وإنما يكفر بعضها ثم أبهم الكلام في ذلك البعض لأن بيانه كالإغواء بارتكابها إذا علم أنها مكفرة بل الواجب أن يكون العبد في كل أحواله بين الخوف والرجاء وذلك إنما يكون مع الإبهام والثاني أن يكون مِنْ بمعنى من أجل والمعنى ونكفر عنكم من أجل ذنوبكم كما تقول ضربتك من سوء خلقك أي من أجل ذلك والثالث أنها صلة زائدة كقوله فِيهَا مِن كُلّ الثَّمَراتِ ( محمد 15 ) والتقدير ونكفر عنكم جميع سيئاتكم والأول أولى وهو الأصح
ثم قال وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ وهو إشارة إلى تفضيل صدقة السر على العلانية والمعنى أن الله عالم بالسر والعلانية وأنتم إنما تريدون بالصدقة طلب مرضاته فقد حصل مقصودكم في السر فما معنى الإبداء فكأنهم ندبوا بهذا الكلام إلى الإخفاء ليكون أبعد من الرياء
لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلاًّنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَآءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ
هذا هو الحكم الرابع من أحكام الإنفاق وهو بيان أن الذي يجوز الإنفاق عليه من هو ثم في الآية مسائل
المسألة الأولى في بيان سبب النزول وجوه أحدها أن هذه الآية نزلت حين جاءت نتيلة أم أسماء بنت أبي بكر إليها تسألها وكذلك جدتها وهما مشركتان أتيا أسماء يسألانها شيئاً فقالت لا أعطيكما حتى أستأمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فإنكما لستما على ديني فاستأمرته في ذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية فأمرها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن تتصدق عليهما
والرواية الثانية كان أناس من الأنصار لهم قرابة من قريظة والنضير وكانوا لا يتصدقون عليهم ويقولون ما لم تسلموا لا نعطيكم شيئاً فنزلت هذه الآية
والرواية الثالثة أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان لا يتصدق على المشركين حتى نزلت هذه الآية فتصدق علهيم والمعنى على جميع الروايات ليس عليك هدى من خالفك حتى تمنعهم الصدقة لأجل أن يدخلوا في الإسلام فتصدق عليهم لوجه الله ولا توقف ذلك على إسلامهم ونظيره قوله تعالى لاَّ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ ( الممتحنة 8 ) فرخص في صلة هذا الضرب من المشركين

المسألة الثانية أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان شديد الحرص على إيمانهم كما قال تعالى فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى ءاثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَاذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً ( الكهف 6 ) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ( الشعراء 3 ) وقال أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ( يونس 99 ) وقال لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ ( التوبة 128 ) فأعلمه الله تعالى أنه بعثه بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً ومبيناً للدلائل فأما كونهم مهتدين فليس ذلك منك ولا بك فالهدى هاهنا بمعنى الإهتداء فسواء اهتدوا أو لم يهتدوا فلا تقطع معونتك وبرك وصدقتك عنهم وفيه وجه آخر ليس عليك أن تلجئهم إلى الاهتداء بواسطة أن توقف صدقتك عنهم على إيمانهم فإن مثل هذا الإيمان لا ينتفعون به بل الإيمان المطلوب منهم الإيمان على سبيل التطوع والاختيار
المسألة الثالثة ظاهر قوله لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ خطاب مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولكن المراد به هو وأمته ألا تراه قال إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ ( البقرة 271 ) وهذا خطاب عام ثم قال لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وهو في الظاهر خاص ثم قال بعده وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلاِنفُسِكُمْ وهذا عام فيفهم من عموم ما قبل الآية وعموم ما بعدها عمومها أيضاً
أما قوله تعالى وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء فقد احتج به الأصحاب على أن هداية الله تعالى غير عامة بل هي مخصوصة بالمؤمنين قالوا لأن قوله وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء إثبات للهداية التي نفاها بقوله لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ لكن المنفي بقوله لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ هو حصول الاهتداء على سبيل الاختيار فكان قوله وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء عبارة عن حصول الاهتداء على سبيل الاختيار وهذا يقتضي أن يكون الاهتداء الحاصل بالاختيار واقعاً بتقدير الله تعالى وتخليقه وتكوينه وذلك هو المطلوب
قالت المعتزلة وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء يحتمل وجوهاً أحدها أنه يهدي بالإثابة والمجازاة من يشاء ممن استحق ذلك وثانيها يهدي بالألطاف وزيادات الهدى من يشاء وثالثها ولكن الله يهدي بالإكراه من يشاء على معنى أنه قادر على ذلك وإن لم يفعله ورابعها أنه يهدي بالاسم والحكم من يشاء فمن اهتدى استحق أن يمدح بذلك
أجاب الأصحاب عن هذه الوجوه بأسرها أن المثبت في قوله وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء هو المنفي أولاً بقوله لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ لكن المراد بذلك المنفي بقوله أولاً لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ هو الاهتداء على سبيل الاختيار فالمثبت بقوله وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء يجب أن يكون هو الاهتداء على سبيل الاختيار وعلى هذا التقدير يسقط كل الوجوه
ثم قال وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلاِنفُسِكُمْ فالمعنى وكل نفقة تنفقونها من نفقات الخير فإنما هو لأنفسكم أي ليحصل لأنفسكم ثوابه فليس يضركم كفرهم
ثم قال تعالى وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللَّهِ وفيه مسائل
المسألة الأولى في هذه الآية وجوه الأول أن يكون المعنى ولستم في صدقتكم على أقاربكم من المشركين تقصدون إلا وجه الله فقد علم الله هذا من قلوبكم فانفقوا عليهم إذا كنتم إنما تبتغون بذلك

وجه الله في صلة رحم وسد خلة مضطر وليس عليكم اهتداؤهم حتى يمنعكم ذلك من الإنفاق عليهم الثاني أن هذا وإن كان ظاهره خبراً إلا أن معناه نهي أي ولا تنفقوا إلا ابتغاء وجه الله وورد الخبر بمعنى الأمر والنهي كثيراً قال تعالى وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ ( البقرة 233 ) وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ ( البقرة 228 ) الثالث أن قوله وَمَا تُنفِقُونَ أي ولا تكونوا منفقين مستحقين لهذا الاسم الذي يفيد المدح حتى تبتغوا بذلك وجه الله
المسألة الثانية ذكر في الوجه في قوله إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللَّهِ قولان أحدهما أنك إذا قلت فعلته لوجه زيد فهو أشرف في الذكر من قولك فعلته له لأن وجه الشيء أشرف ما فيه ثم كثر حتى صار يعبر عن الشرف بهذا اللفظ والثاني أنك إذا قلت فعلت هذا الفعل له فههنا يحتمل أن يقال فعلته له ولغيره أيضاً أما إذا قلت فعلت هذا الفعل لوجهه فهذا يدل على أنك فعلت الفعل له فقط وليس لغيره فيه شركة
المسألة الثالثة أجمعوا على أنه لا يجوز صرف الزكاة إلى غير المسلم فتكون هذه الآية مختصة بصدقة التطوع وجوّز أبو حنيفة رضي الله عنه صرف صدقة الفطر إلى أهل الذمة وأباه غيره وعن بعض العلماء لو كان شر خلق الله لكان لك ثواب نفقتك
ثم قال تعالى وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ أي يوف إليكم جزاؤه في الآخرة وإنما حسن قوله إِلَيْكُمْ مع الترفيه لأنها تضمنت معنى التأدية
ثم قال وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ أي لا تنقصون من ثواب أعمالكم شيئاً لقوله تعالى اتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمِ وَمِنْهُ شَيْئاً ( الكهف 33 ) يريد لم تنقص
لِلْفُقَرَآءِ الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى الأرض يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْألُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ
إعلم أنه تعالى لما بيّن في الآية الأولى أنه يجوز صرف الصدقة إلى أي فقير كان بيّن في هذه الآية أن الذي يكون أشد الناس استحقاقاً بصرف الصدقة إليه من هو فقال لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اللام في قوله لِلْفُقَرَاء متعلق بماذا فيه وجوه الأول لما تقدمت الآيات الكثيرة في الحث على الانفاق قال بعدها لِلْفُقَرَاء أي ذلك الإنفاق المحثوث عليه للفقراء وهذا كما إذا تقدم

ذكر رجل فتقول عاقل لبيب والمعنى أن ذلك الذي مر وصفه عاقل لبيب وكذلك الناس يكتبون على الكيس الذي يجعلون فيه الذهب والدراهم ألفان ومائتان أي ذلك الذي في الكيس ألفان ومائتان هذا أحسن الوجوه الثاني أن تقدير الآية اعمدوا للفقراء واجعلوا ما تنفقون للقراء الثالث يجوز أن يكون خبر المبتدأ محذوف والتقدير وصدقاتكم للفقراء
المسألة الثانية نزلت في فقراء المهاجرين وكانوا نحو أربعمائة وهم أصحاب الصفة لم يكن لهم مسكن ولا عشائر بالمدينة وكانوا ملازمين المسجد ويتعلمون القرآن ويصومون ويخرجون في كل غزوة عن ابن عباس وقف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوماً على أصحاب الصفة فرأى فقرهم وجدهم فطيب قلوبهم فقال ( أبشروا يا أصحاب الصفة فمن لقيني من أمتي على النعت الذي أنتم عليه راضياً بما فيه فإنه من رفاقي )
واعلم أن الله تعالى وصف هؤلاء الفقراء بصفات خمس
الصفة الأولى قوله الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ( البقرة 273 ) فنقول الإحصار في اللغة أن يعرض للرجل ما يحول بينه وبين سفره من مرض أو كبر أو عدو أو ذهاب نفقة أو ما يجري مجرى هذه الأشياء يقال أحصر الرجل فهو محصر ومضى الكلام في معنى الإحصار عند قوله فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ بما يعني عن الإعادة أما التفسير فقد فسرت هذه الآية بجميع الأعداد الممكنة في معنى الإحصار فالأول أن المعنى إنهم حصروا أنفسهم ووقفوها على الجهاد وأن قوله فِى سَبِيلِ اللَّهِ مختص بالجهاد في عرف القرآن ولأن الجهاد كان واجباً في ذلك الزمان وكان تشتد الحاجة إلى من يحبس نفسه للمجاهدة مع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فيكون مستعداً لذلك متى مست الحاجة فبيّن تعالى في هؤلاء الفقراء أنهم بهذه الصفة ومن هذا حاله يكون وضع الصدقة فيهم يفيد وجوهاً من الخير أحدها إزالة عيلتهم والثاني تقوية قلبهم لما انتصبوا إليه وثالثها تقوية الإسلام بتقوية المجاهدين ورابعها أنهم كانوا محتاجين جداً مع أنهم كانوا لا يظهرون حاجتهم على ما قال تعالى لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى الاْرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ
والقول الثاني وهو قول قتادة وابن زيد منعوا أنفسهم من التصرفات في التجارة للمعاش خوف العدو من الكفار لأن الكفار كانوا مجتمعين حول المدينة وكانوا متى وجدوهم قتلوهم
والقول الثالث وهو قول سعيد بن المسيب واختيار الكسائي أن هؤلاء القوم أصابتهم جراحات مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وصاروا زمنى فأحصرهم المرض والزمانة عن الضرب في الأرض
والقول الرابع قال ابن عباس هؤلاء قوم من المهاجرين حبسهم الفقر عن الجهاد في سبيل الله فعذرهم الله
والقول الخامس هؤلاء قوم كانوا مشتغلين بذكر الله وطاعته وعبوديته وكانت شدة استغراقهم في تلك الطاعة أحصرتهم عن الاشتغال بسائر المهمات
الصفة الثانية لهؤلاء الفقراء قوله تعالى لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى الاْرْضِ يقال ضربت في الأرض ضرباً إذا سرت فيها ثم عدم الاستطاعة إما أن يكون لأن اشتغالهم بصلاح الدين وبأمر الجهاد يمنعهم من

الاشتغال بالكسب والتجارة وإما لأن خوفهم من الأعداء يمنعهم من السفر وإما لأن مرضهم وعجزهم يمنعهم منه وعلى جميع الوجوه فلا شك في شدة احتياجهم إلى من يكون معيناً لهم على مهماتهم
الصفة الثالثة لهم قوله تعالى يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ عاصم وابن عامر وحمزة يَحْسَبُهُمُ بفتح السين والباقون بكسرها وهما اللتان بمعنى واحد وقرىء في القرآن ما كان من الحسبان باللغتين جميعاً الفتح والكسر والفتح عند أهل اللغة أقيس لأن الماضي إذا كان على فعل نحو حسب كان المضارع على يفعل مثل فرق يفرق وشرب يشرب وشذ حسب يحسب فجاء على يفعل مع كلمات أُخر والكسر حسن لمجيء السمع به وإن كان شاذاً عن القياس
المسألة الثانية الحسبان هو الظن وقوله الْجَاهِلُ لم يرد به الجهل الذي هو ضد العقل وإنما أراد الجهل الذي هو ضد الاختبار يقول يحسبهم من لم يختبر أمرهم أغنياء من التعفف وهو تفعل من العفة ومعنى العفة في اللغة ترك الشيء والكف عنه وأراد من التعفف عن السؤال فتركه للعلم وإنما يحسبهم أغنياء لإظهارهم التجمل وتركهم المسألة
الصفة الرابعة لهؤلاء الفقراء قوله تعالى تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ السيما والسيميا العلامة التي يعرف بها الشيء وأصلها من السمة التي هي العلامة قلبت الواو إلى موضع العين قال الواحدي وزنه يكون فعلاً كما قالوا له جاه عند الناس أي وجه وقال قوم السيما الارتفاع لأنها علامة وضعت للظهور قال مجاهد سِيمَاهُمْ التخشع والتواضع قال الربيع والسدي أثر الجهد من الفقر والحاجة وقال الضحاك صفرة ألوانهم من الجوع وقال ابن زيد رثاثة ثيابهم والجوع خفي وعندي أن كل ذلك فيه نظر لأن كل ما ذكروه علامات دالة على حصول الفقر وذلك يناقضه قوله يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ بل المراد شيء آخر هو أن لعباد الله المخلصين هيبة ووقعاً في قلوب الخلق كل من رآهم تأثر منهم وتواضع لهم وذلك إدراكات روحانية لا علات جسمانية ألا ترى أن الأسد إذا مرّ هابته سائر السباع بطباعها لا بالتجربة لأن الظاهر أن تلك التجربة ما وقعت والبازي إذا طار تهرب منه الطيور الضعيفة وكل ذلك إدراكات روحانية لا جسمانية فكذا هاهنا ومن هذا الباب آثار الخشوع في الصلاة كما قال تعالى سِيمَاهُمْ فِى وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ( الفتح 29 ) وأيضاً ظهور آثار الفكر روي أنهم كانوا يقومون الليل للتهجد ويحتطبون بالنهار للتعفف
الصفة الخامسة لهؤلاء الفقراء قوله تعالى لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى عن ابن مسعود رضي الله عنه إن الله يحب العفيف المتعفف ويبغض الفاحش البذيء السائل الملحف الذي إن أعطى كثيراً أفرط في المدح وإن أعطى قليلاً أفرط في الذم وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا يفتح أحد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر ومن يستغن يغنه الله ومن يستعفف يعفه الله تعالى لأن يأخذ أحدكم حبلاً يحتطب فيبيعه بمد من تمر خير له من أن يسأل الناس )
واعلم أن هذه الآية مشكلة وذكروا في تأويلها وجوهاً الأول أن الإلحاف هو الإلحاح والمعنى أنهم سألوا بتلطف ولم يلحوا وهو اختيار صاحب ( الكشاف ) وهو ضعيف لأن الله تعالى وصفهم بالتعفف عن

السؤال قبل ذلك فقال يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ وذلك ينافي صدور السؤال عنهم والثاني وهو الذي خطر ببالي عند كتابة هذا الموضوع أنه ليس المقصود من قوله لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى وصفهم بأنهم لا يسألون الناس إلحافاً وذلك لأنه تعالى وصفهم قبل ذلك بأنهم يتعففون عن السؤال وإذا علم أنهم لا يسألون ألبتة فقد علم أيضاً أنهم لا يسألون إلحافاً بل المراد التنبيه على سوء طريقة من يسأل الناس إلحافاً ومثاله إذا حضر عندك رجلان أحدهما عاقل وقور ثابت والآخر طياش مهذار سفيه فإذا أردت أن تمدح أحدهما وتعرض بذم الآخر قلت فلان رجل عاقل وقور قليل الكلام لا يخوض في الترهات ولا يشرع في السفاهات ولم يكن غرضك من قولك لا يخوض في الترهات والسفاهات وصفه بذلك لأن ما تقدم من الأوصاف الحسنة يغني عن ذلك بل غرضك التنبيه على مذمة الثاني وكذا هاهنا قوله لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى بعد قوله يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ الغرض منه التنبيه على من يسأل الناس إلحافاً وبيان مباينة أحد الجنسين عن الآخر في استيجاب المدح والتعظيم
الوجه الثالث أن السائل الملحف الملح هو الذي يستخرج المال بكثرة تلطفه فقوله لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا بالرفق والتلطف وإذا لم يوجد السؤال على هذا الوجه فبأن لا يوجد على وجه العنف أولى فإذا امتنع القسمان فقد امتنع حصول السؤال فعلى هذا يكون قوله لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى كالموجب لعدم صدور السؤال منهم أصلاً
والوجه الرابع هو الذي خطر ببالي أيضاً في هذا الوقت وهو أنه تعالى بيّن فيما تقدم شدة حاجة هؤلاء الفقراء ومن اشتدت حاجته فإنه لا يمكنه ترك السؤال إلا بإلحاح شديد منه على نفسه فكانوا لا يسألون الناس وإنما أمكنهم ترك السؤال عندما ألحوا على النفس ومنعوها بالتكليف الشديد عن ذلك السؤال ومنه قول عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ولي نفس أقول لها إذا ما
تنازعني لعلي أو عساني
الوجه الخامس أن كل من سأل فلا بد وأن يلح في بعض الأوقات لأنه إذا سأل فقد أراق ماء وجهه ويحمل الذلة في إظهار ذلك السؤال فيقول لما تحملت هذه المشاق فلا أرجع بغير مقصود فهذا الخاطر يحمله على الإلحاف والإلحاح فثبت أن كل من سأل فلا بد وأن يقدم على الإلحاح في بعض الأوقات فكان نفي الإلحاح عنهم مطلقاً موجباً لنفي السؤال عنهم مطلقاً
الوجه السادس وهو أيضاً خطر ببالي في هذا الوقت وهو أن من أظهر من نفسه آثار الفقر والذلة والمسكنة ثم سكت عن السؤال فكأنه أتى بالسؤال الملح الملحف لأن ظهور إمارات الحاجة تدل على الحاجة وسكوته يدل على أنه ليس عنده ما يدفع به تلك الحاجة ومتى تصور الإنسان من غير ذلك رق قلبه جداً وصار حاملاً له على أن يدفع إليه شيئاً فكان إظهار هذه الحالة هو السؤال على سبيل الإلحاف فقوله لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى معناه أنهم سكتوا عن السؤال لكنهم لا يضمون إلى ذلك السكوت من رثاثة الحال وإظهار الانكسار ما يقوم مقام السؤال على سبيل الإلحاف بل يزينون أنفسهم عند الناس ويتجملون بهذا الخلق ويجعلون فقرهم وحاجتهم بحيث لا يطلع عليه إلا الخالق فهذا الوجه أيضاً مناسب معقول

وهذه الآية من المشكلات وللناس فيها كلمات كثيرة وقد لاحت هذه الوجوه الثلاثة بتوفيق الله تعالى وقت كتب تفسير هذه الآية والله أعلم بمراده
واعلم أنه تعالى ذكر صفات هؤلاء الفقراء ثم قال بعده وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ( البقرة 273 ) وهو نظير ما ذكر قبل هذه الآية من قوله وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ( البقرة 272 ) وليس هذا من باب التكرار وفيه وجهان أحدهما أنه تعالى لما قال وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وكان من المعلوم أن توفية الأجر من غير بخس ونقصان لا يمكن إلا عند العلم بمقدار العمل وكيفية جهاته المؤثرة في استحقاق الثواب لا جرم قرر في هذه الآية كونه تعالى عالماً بمقادير الأعمال وكيفياتها
والوجه الثاني وهو أنه تعالى لما رغب في التصدق على المسلم والذمي قال وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ بين أن أجره واصل لا محالة ثم لما رغب في هذه الآية في التصدق على الفقراء الموصوفين بهذه الأوصاف الكاملة وكان هذا الإنفاق أعظم وجوه الإنفاقات لا جرم أردفه بما يدل على عظمة ثوابه فقال وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ وهو يجري مجرى ما إذا قال السلطان العظيم لعبده الذي استحسن خدمته ما يكفيك بأن يكون علي شاهداً بكيفية طاعتك وحسن خدمتك فإن هذا أعظم وقعاً مما إذا قال له إن أجرك واصل إليك
الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَة ً فَلَهُمْ أَجْرُهُم عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في كيفية النظم أقوال الأول لما بيّن في هذه الآية المتقدمة أن أكمل من تصرف إليه النفقة من هو بيّن في هذه الآية أن أكمل وجوه الإنفاق كيف هو فقال الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّا وَعَلاَنِيَة ً فَلَهُمْ والثاني أنه تعالى ذكر هذه الآية لتأكيد ما تقدم من قوله إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِى َ ( البقرة 274 ) والثالث أن هذه الآية آخر الآيات المذكورة في أحكام الإنفاق فلا جرم أرشد الخلق إلى أكمل وجوه الإنفاقات
المسألة الثانية في سبب النزول وجوه الأول لما نزل قوله تعالى لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بعت عبد الرحمن بن عوف إلى أصحاب الصفة بدنانير وبعث علي رضي الله عنه بوسق من تمر ليلاً فكان أحب الصدقتين إلى الله تعالى صدقته فنزلت هذه الآية فصدقة الليل كانت أكمل والثاني قال ابن عباس إن علياً عليه السلام ما كان يملك غير أربعة دراهم فتصدق بدرهم ليلاً وبدرهم نهاراً وبدرهم سراً وبدرهم علانية فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما حملك على هذا فقال أن استوجب ما وعدني ربي فقال لك ذلك

فأنزل الله تعالى هذه الآية والثالث قال صاحب ( الكشاف ) نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين تصدق بأربعين ألف دينار عشرة بالليل وعشرة بالنهار وعشرة في السر وعشرة في العلانية والرابع نزلت في علف الخيل وارتباطها في سبيل الله فكان أبو هريرة إذا مرّ بفرس سمين قرأ هذه الآية الخامس أن الآية عامة في الذين يعمون الأوقات والأحوال بالصدقة تحرضهم على الخير فكلما نزلت بهم حاجة محتاج عجلوا قضاءها ولم يؤخروها ولم يعلقوها بوقت ولا حال وهذا هو أحسن الوجوه لأن هذا آخر الآيات المذكورة في بيان حكم الإنفاقات فلا جرم ذكر فيها أكمل وجوه الإنفاقات والله أعلم
المسألة الثالثة قال الزجاج الَّذِينَ رفع بالابتداء وجاز أن تكون الفاء من قوله فَلَهُمْ جواب الذين لأنها تأتي بمعنى الشرط والجزاء فكان التقدير من أنفق فلا يضيع أجره وتقديره أنه لو قال الذي أكرمني له درهم لم يفد أن الدرهم بسبب الإكرام أما لو قال الذي أكرمني فله درهم يفيد أن الدرهم بسبب الإكرام فههنا الفاء دلّت على أن حصول الأجر إنما كان بسبب الإنفاق والله أعلم
المسألة الرابعة في الآية إشارة إلى أن صدقة السر أفضل من صدقة العلانية وذلك لأنه قدم الليل على النهار والسر على العلانية في الذكر
ثم قال في خاتمة الآية فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ( البقرة 274 ) والمعنى معلوم وفيه مسألتان
المسألة الأولى أنها تدل على أن أهل الثواب لا خوف عليهم يوم القيامة ويتأكد ذلك بقوله تعالى لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاْكْبَرُ ( الأنبياء 103 )
المسألة الثانية أن هذا مشروط عند الكل بأن لا يحصل عقيبه الكفر وعند المعتزلة أن لا يحصل عقيبه كبيرة محبطة وقد أحكمنا هذه المسألة وههنا آخر الآيات المذكورة في بيان أحكام الإنفاق
الحكم الثاني من الأحكام الشرعية المذكورة في هذا الموضع من هذه السورة حكم الربا
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَوااْ لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِى يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَوااْ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَوااْ فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَة ٌ مِّنْ رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
إعلم أن بين الربا وبين الصدقة مناسبة من جهة التضاد وذلك لأن الصدقة عبارة عن تنقيص المال

بسبب أمر الله بذلك والربا عبارة عن طلب الزيادة على المال مع نهي الله عنه فكانا متضادين ولهذا قال الله تعالى يَمْحَقُ اللَّهُ الْرّبَوااْ وَيُرْبِى الصَّدَقَاتِ فلما حصل بين هذين الحكمين هذا النوع من المناسبة لا جرم ذكر عقيب حكم الصدقات حكم الربا
أما قوله الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرّبَوااْ فالمراد الذين يعاملون به وخص الأكل لأنه معظم الأمر كما قال الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتَامَى ظُلْماً ( النساء 10 ) وكما لا يجوز أكل مال اليتيم لا يجوز إتلافه ولكنه نبّه بالأكل على ما سواه وكذلك قوله وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ ( البقرة 188 ) وأيضاً فلأن نفس الربا الذي هو الزيادة في المال على ما كانوا يفعلون في الجاهلية لا يؤكل إنما يصرف في المأكول فيؤكل والمراد التصرف فيه فمنع الله من التصرف في الربا بما ذكرنا من الوعيد وأيضاً فقد ثبت أنه ( صلى الله عليه وسلم ) ( لعن آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه والمحلل له ) فعلمنا أن الحرمة غير مختصة بالآكل وأيضاً فقد ثبت بشهادة الطرد والعكس أن ما يحرم لا يوقف تحريمه على الأكل دون غيره من التصرفات فثبت بهذه الوجوه الأربعة أن المراد من أكل الربا في هذه الآية التصرف في الربا وأما الربا ففيه مسائل
المسألة الأولى الربا في اللغة عبارة عن الزيادة يقال ربا الشيء يربو ومنه قوله اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ( الحج 5 ) أي زادت وأربى الرجل إذا عامل في الربا ومنه الحديث ( من أجبى فقد أربى ) أي عامل بالربا والاجباء بيع الزرع قبل أن يبدو صلاحه هذا معنى الربا في اللغة
المسألة الثانية قرأ حمزة والكسائي الرّبَا بالإمالة لمكان كسرة الراء والباقون بالتفخيم بفتح الباء وهي في المصاحف مكتوبة بالواو وأنت مخير في كتابتها بالألف والواو والياء قال صاحب ( الكشاف ) الربا كتبت بالواو على لغة من يفخم كما كتبت الصلاة والزكاة وزيدت الألف بعدها تشبيهاً بواو الجمع
المسألة الثالثة إعلم أن الربا قسمان ربا النسيئة وربا الفضل
أما ربا النسيئة فهو الأمر الذي كان مشهوراً متعارفاً في الجاهلية وذلك أنهم كانوا يدفعون المال على أن يأخذوا كل شهر قدراً معيناً ويكون رأس المال باقياً ثم إذا حل الدين طالبوا المديون برأس المال فإن تعذر عليه الأداء زادوا في الحق والأجل فهذا هو الربا الذي كانوا في الجاهلية يتعاملون به
وأما ربا النقد فهو أن يباع من الحنطة بمنوين منها وما أشبه ذلك
إذا عرفت هذا فنقول المروي عن ابن عباس أنه كان لا يحرم إلا القسم الأول فكان يقول لا ربا إلا في النسيئة وكان يجوز بالنقد فقال له أبو سعيد الخدري شهدت ما لم تشهد أو سمعت من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما لم تسمع ثم روي أنه رجع عنه قال محمد بن سيرين كنا في بيت ومعنا عكرمة فقال رجل يا عكرمة ما تذكر ونحن في بيت فلان ومعنا ابن عباس فقال إنما كنت استحللت التصرف برأيي ثم بلغني أنه ( صلى الله عليه وسلم ) حرمه فاشهدوا أني حرمته وبرئت منه إلى الله وحجة ابن عباس أن قوله وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ يتناول بيع الدرهم بالدرهمين نقداً وقوله وَحَرَّمَ الرّبَوااْ لا يتناوله لأن الربا عبارة عن الزيادة وليست كل زيادة محرمة بل قوله وَحَرَّمَ الرّبَوااْ إنما يتناول العقد المخصوص الذي كان مسمى فيما بينهم بأنه ربا وذلك هو ربا النسيئة فكان قوله وَحَرَّمَ الرّبَوااْ مخصوصاً بالنسيئة فثبت أن قوله وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ يتناول ربا النقد وقوله وَحَرَّمَ الرّبَوااْ لا يتناوله فوجب أن يبقى على الحل ولا يمكن أن يقال إنما يحرمه

بالحديث لأنه يقتضي تخصيص ظاهر القرآن مخبر الواحد وأنه غير جائز وهذا هو عرف ابن عباس وحقيقته راجعة إلى أن تخصيص القرآن بخبر الواحد هل يجوز أم لا
وأما جمهور المجتهدين فقد اتفقوا على تحريم الربا في القسمين أما القسم الأول فبالقرآن وأما ربا النقد فبالخبر ثم إن الخبر دل على حرمة ربا النقد في الأشياء الستة ثم اختلفوا فقال عامة الفقهاء حرمة التفاضل غير مقصورة على هذه الستة بل ثابتة في غيرها وقال نفاة القياس بل الحرمة مقصورة عليها وحجة هؤلاء من وجوه
الحجة الأولى أن الشارع خص من المكيلات والمطعومات والأقوات أشياء أربعة فلو كان الحكم ثابتاً في كل المكيلات أو في كل المطعومات لقال لا تبيعوا المكيل بالمكيل متفاضلاً أو قال لا تبيعوا المطعوم بالمطعوم متفاضلاً فإن هذا الكلام يكون أشد اختصاراً وأكثرر فائدة فلما لم يقل ذلك بل عد الأربعة علمنا أن حكم الحرمة مقصور عيها فقط
الحجة الثانية أنا بينا في قوله تعالى وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ يقتضي حل ربا النقد فأنتم أخرجتم ربا النقد من تحت هذا العموم بخبر الواحد في الأشياء الستة ثم أثبتم الحرمة في غيرها بالقياس عليها فكان هذا تخصيصاً لعموم نص القرآن في الأشياء الستة بخبر الواحد وفي غيرها بالقياس على الأشياء الستة ثبت الحكم فيها بخبر الواحد ومثل هذا القياس يكون أضعف بكثير من خبر الواحد وخبر الواحد أضعف من ظاهر القرآن فكان هذا ترجيحاً للأضعف على الأقوى وأنه غير جائز
الحجة الثالثة أن التعدية من محل النص إلى غير محل النص لا تمكن إلا بواسطة تعليل الحكم في مورد النص وذلك غير جائز أما أولاً فلأنه يقتضي تعليل حكم الله وذلك محال على ما ثبت في الأصول وأما ثانياً فلأن الحكم في مورد النص معلوم واللغة مظنونة وربط المعلوم بالمظنون غير جائز وأما جمهور الفقهاء فقد اتفقوا على أن حرمة ربا النقد غير مقصورة على هذه الأشياء الستة بل هي ثابتة في غيرها ثم من المعلوم أنه لا يمكن تعدية الحكم عن محل النص إلى غير محل النص إلا بتعليل الحكم الثابت في محل النص بعلة حاصلة في غير محل النص فلهذا المعنى اختلفوا في العلة على مذاهب
فالقول الأول وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه أن العلة في حرمة الربا الطعم في الأشياء الأربعة واشتراط اتحاد الجنس وفي الذهب والفضة النقدية
والقول الثاني قول أبي حنيفة رضي الله عنه أن كل ما كان مقدراً ففيه الربا والعلة في الدراهم والدنانير الوزن وفي الأشياء الأربعة الكيل واتحاد الجنس
والقول الثالث قول مالك رضي الله عنه أن العلة هو القوت أو ما يصلح به القوت وهو الملح
والقول الرابع وهو قول عبد الملك بن الماجشون أن كل ما ينتفع به ففيه الربا فهذا ضبط مذاهب الناس في حكم الربا والكلام في تفاريع هذه المسائل لا يليق بالتفسير
المسألة الرابعة ذكروا في سبب تحريم الربا وجوهاً أحدها الربا يقتضي أخذ مال الإنسان من غير عوض لأن من يبيع الدرهم بالدرهمين نقداً أو نسيئة فيحصل له زيادة درهم من غير عوض ومال الإنسان

متعلق حاجته وله حرمة عظيمة قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( حرمة مال الإنسان كحرمة دمه ) فوجب أن يكون أخذ ماله من غير عوض محرماً
فإن قيل لم لا يجوز أن يكون لبقاء رأس المال في يده مدة مديدة عوضاً عن الدرهم الزائد وذلك لأن رأس المال لو بقي في يده هذه المدة لكان يمكن المالك أن يتجر فيه ويستفيد بسبب تلك التجارة ربحاً فلما تركه في يد المديون وانتفع به المديون لم يبعد أن يدفع إلى رب المال ذلك الدرهم الزائد عوضاً عن انتفاعه بماله
قلنا إن هذا الانتفاع الذي ذكرتم أمر موهوم قد يحصل وقد لا يحصل وأخذ الدرهم الزائد أمر متيقن فتفويت المتيقن لأجل الأمر الموهوم لا ينفك عن نوع ضرر وثانيها قال بعضهم الله تعالى إنما حرم الربا من حيث إنه يمنع الناس عن الاشتغال بالمكاسب وذلك لأن صاحب الدرهم إذا تمكن بواسطة عقد الربا من تحصيل الدرهم الزائد نقداً كان أو نسيئة خف عليه اكتساب وجه المعيشة فلا يكاد يتحمل مشقة الكسب والتجارة والصناعات الشاقة وذلك يفضي إلى انقطاع منافع الخلق ومن المعلوم أن مصالح العالم لا تنتظم إلا بالتجارات والحرف والصناعات والعمارات وثالثها قيل السبب في تحريم عقد الربا أنه يفضي إلى انقطاع المعروف بين الناس من القرض لأن الربا إذا طابت النفوس بقرض الدرهم واسترجاع مثله ولو حل الربا لكانت حاجة المحتاج تحمله على أخذ الدرهم بدرهمين فيفضي ذلك إلى انقطاع المواساة والمعروف والإحسان ورابعها هو أن الغالب أن المقرض يكون غنياً والمستقرض يكون فقيراً فالقول بتجويز عقد الربا تمكين للغنى من أن يأخذ من الفقير الضعيف ما لا زائداً وذلك غير جائز برحمة الرحيم وخامسها أن حرمة الربا قد ثبتت بالنص ولا يجب أن يكون حكم جميع التكاليف معلومة للخلق فوجب القطع بحرمة عقد الربا وإن كنا لا نعلم الوجه فيه
أما قوله تعالى لاَ يَقُومُونَ فأكثر المفسرين قالوا المراد منه القيام يوم القيامة وقال بعضهم المراد منه القيام من القبر واعلم أنه لا منافاة بين الوجهين فوجب حمل اللفظ عليهما
أما قوله تعالى إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِى يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسّ ففيه مسائل
المسألة الأولى التخبط معناه الضرب على غير استواء ويقال للرجل الذي يتصرف في أمر ولا يهتدي فيه إنه يخبط خبط عشواء وخبط البعير للأرض بأخفافه وتخبطه الشيطان إذا مسّه بخبل أو جنون لأنه كالضرب على غير الاستواء في الادهاش وتسمى إصابة الشيطان بالجنون والخبل خبطة ويقال به خبطة من جنون والمس الجنون يقال مس الرجل فهو ممسوس وبه مس وأصله من المس باليد كأن الشيطان يمس الإنسان فيجنه ثم سمي الجنون مساً كما أن الشيطان يتخبطه ويطؤه برجله فيخبله فسمي الجنون خبطة فالتخبط بالرجل والمس باليد ثم فيه سؤالان
السؤال الأول التخبط تفعل فكيف يكون متعدياً
الجواب تفعل بمعنى فعل كثير نحو تقسمه بمعنى قسمه وتقطعه بمعنى قطعه
السؤال الثاني بم تعلق قوله مِنَ الْمَسّ

قلنا فيه وجهان أحدهما بقوله لاَ يَقُومُونَ والتقدير لا يقومون من المس الذي لهم إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان والثاني أنه متعلق بقوله ياقَوْمِ والتقدير لا يقومون إلا كما يقوم المتخبط بسبب المس
المسألة الثانية قال الجبائي الناس يقولون المصروع إنما حدثت به تلك الحالة لأن الشيطان يمسه ويصرعه وهذا باطل لأن الشيطان ضعيف لا يقدر على صرع الناس وقتلهم ويدل عليه وجوه
أحدها قوله تعالى حكاية عن الشيطان وَمَا كَانَ لِى َ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى ( إبراهيم 22 ) وهذا صريح في أنه ليس للشيطان قدرة على الصرع والقتل والإيذاء والثاني الشيطان إما أن يقال إنه كثيف الجسم أو يقال إنه من الأجسام اللطيفة فإن كان الأول وجب أن يرى ويشاهد إذ لو جاز فيه أن يكون كثيفاً ويحضر ثم لا يرى لجاز أن يكون بحضرتنا شموس ورعود وبروق وجبال ونحن لا نراها وذلك جهالة عظيمة ولأنه لو كان جسماً كثيفاً فكيف يمكنه أن يدخل في باطن بدن الإنسان وأما إن كان جسماً لطيفاً كالهواء فمثل هذا يمتنع أن يكون فيه صلابة وقوة فيمتنع أن يكون قادراً على أن يصرع الإنسان ويقتله الثالث لو كان الشيطان يقدر على أن يصرع ويقتل لصح أن يفعل مثل معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وذلك يجر إلى الطعن في النبوّة الرابع أن الشيطان لو قدر على ذلك فلم لا يصرع جميع المؤمنين ولم لا يخبطهم مع شدة عداوته لأهل الإيمان ولم لا يغصب أموالهم ويفسد أحوالهم ويفشي أسرارهم ويزيل عقولهم وكل ذلك ظاهر الفساد واحتج القائلون بأن الشيطان يقدر على هذه الأشياء بوجهين الأول ما روي أن الشياطين في زمان سليمان بن داود عليهما السلام كانوا يعملون الأعمال الشاقة على ما حكى الله عنهم أنهم كانوا يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجوابي وقدور راسيات
والجواب عنه أنه تعالى كلفهم في زمن سليمان فعند ذلك قدروا على هذه الأفعال وكان ذلك من المعجزات لسليمان عليه السلام والثاني أن هذه الآية وهي قوله يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ صريح في أن يتخبطه الشيطان بسبب مسّه
والجواب عنه أن الشيطان يمسّه بوسوسته المؤذية التي يحدث عندها الصرع وهو كقول أيوب عليه السلام أَنّى مَسَّنِى َ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ( ص 41 ) وإنما يحدث الصرع عند تلك الوسوسة لأن الله تعالى خلقه من ضعف الطباع وغلبة السوداء عليه بحيث يخاف عند الوسوسة فلا يجترىء فيصرع عند تلك الوسوسة كما يصرع الجبان من الموضع الخالي ولهذا المعنى لا يوجد هذا الخبط في الفضلاء الكاملين وأهل الحزم والعقل وإنما يوجد فيمن به نقص في المزاج وخلل في الدماغ فهذا جملة كلام الجبائي في هذا الباب وذكر القفال فيه وجه آخر وهو أن الناس يضيفون الصرع إلى الشيطان وإلى الجن فخوطبوا على ما تعارفوه من هذا وأيضاً من عادة الناس أنهم إذا أرادوا تقبيح شيء أن يضيفوه إلى الشيطان كما في قوله تعالى طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءوسُ الشَّياطِينِ ( الصافات 65 )
المسألة الثالثة للمفسرين في الآية أقوال الأول أن آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنوناً وذلك كالعلامة المخصوصة بآكل الربا فعرفه أهل الموقف لتلك العلامة أنه آكل الربا في الدنيا فعلى هذا معنى

الآية أنهم يقومون مجانين كمن أصابه الشيطان بجنون
والقول الثاني قال ابن منبه يريد إذا بعث الناس من قبورهم خرجوا مسرعين لقوله يَخْرُجُونَ مِنَ الاْجْدَاثِ سِرَاعاً ( المعارج 43 ) إلا آكلة الربا فإنهم يقومون ويسقطون كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس وذلك لأنهم أكلوا الربا في الدنيا فأرباه الله في بطونهم يوم القيامة حتى أثقلهم فهم ينهضون ويسقطون ويريدون الإسراع ولا يقدرون وهذا القول غير الأول لأنه يريد أن آكلة الربا لا يمكنهم الإسراع في المشي بسبب ثقل البطن وهذا ليس من الجنون في شيء ويتأكد هذا القول بما روي في قصة الإسراء أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) انطلق به جبريل إلى رجال كل واحد منهم كالبيت الضخم يقوم أحدهم فتميل به بطنه فيصرع فقلت يا جبريل من هؤلاء قال الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرّبَوااْ لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِى يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسّ
والقول الثالث أنه مأخوذ من قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَئِفٌ مّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ( الأعراف 201 ) وذلك لأن الشيطان يدعو إلى طلب اللذات والشهوات والاشتغال بغير الله فهذا هو المراد من مس الشيطان ومن كان كذلك كان في أمر الدنيا متخبطاً فتارة الشيطان يجره إلى النفس والهوى وتارة الملك يجره إلى الدين والتقوى فحدثت هناك حركات مضطربة وأفعال مختلفة فهذا هو الخبط الحاصل بفعل الشيطان وآكل الربا لا شك أنه يكون مفرطاً في حب الدنيا متهالكاً فيها فإذا مات على ذلك الحب صار ذلك الحب حجاباً بينه وبين الله تعالى فالخبط الذي كان حاصلاً في الدنيا بسبب حب المال أورثه الخبط في الآخرة وأوقعه في ذل الحجاب وهذا التأويل أقرب عندي من الوجهين اللذين نقلناهما عمن نقلنا
أما قوله تعالى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرّبَوااْ ففيه مسائل
المسألة الأولى القوم كانوا في تحليل الربا على هذه الشبهة وهي أن من اشترى ثوباً بعشرة ثم باعه بأحد عشر فهذا حلال فكذا إذا باع العشرة بأحد عشرة يجب أن يكون حلال لأنه لا فرق في العقل بين الأمرين فهذا في ربا النقد وأما في ربا النسيئة فكذلك أيضاً لأنه لو باع الثوب الذي يساوي عشرة في الحال بأحد عشر إلى شهر جاز فكذا إذا أعطى العشرة بأحد عشر إلى شهر وجب أن يجوز لأنه لا فرق في العقل بين الصورتين وذلك لأنه إنما جاز هناك لأنه حصل التراضي من الجانبين فكذا ههنا لما حصل التراضي من الجانبين وجب أن يجوز أيضاً فالبياعات إنما شرعت لدفع الحاجات ولعلل الإنسان أن يكون صفر اليد في الحال شديد الحاجة ويكون له في المستقبل من الزمان أموال كثيرة فإذا لم يجز الربا لم يعطه رب المال شيئاً فيبقى الإنسان في الشدة والحاجة إما بتقدير جواز الربا فيعطيه رب المال طمعاً في الزيادة والمديون يرده عند وجدان المال وإعطاء تلك الزيادة عند وجدان المال أسهل عليه من البقاء في الحاجة قبل وجدان المال فهذا يقتضي حل الربا كما حكمنا بحل سائر البياعات لأجل دفع الحاجة فهذا هو شبهة القوم والله تعالى أجاب عنه بحرف واحد وهو قوله وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرّبَوااْ ووجه الجواب أن ما ذكرتم معارضة للنص بالقياس وهو من عمل إبليس فإنه تعالى لما أمره بالسجود لآدم ( صلى الله عليه وسلم ) عارض النص بالقياس فقال أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ( الأعراف 12 ) ( ص 76 ) واعلم أن نفاة القياس

يتمسكون بهذا الحرف فقالوا لو كان الدين بالقياس لكانت هذه الشبهة لازمة فلما كانت مدفوعة علمنا أن الدين بالنص لا بالقياس وذكر القفال رحمة الله عليه الفرق بين البابين فقال من باع ثوباً يساوي عشرة بعشرين فقد جعل ذات الثوب مقابلاً بالعشرين فلما حصل التراضي على هذا التقابل صار كل واحد منهما مقابلاً للآخر في المالية عندهما فلم يكن أخذ من صاحبه شيئاً بغير عوض أما إذا باع العشرة بالعشرة فقد أخذ العشرة الزائدة من غير عوض ولا يمكن أن يقال إن غرضه هو الامهال في مدة الأجل لأن الامهال ليس مالاً أو شيئاً يشار إليه حتى يجعله عوضاً عن العشرة الزائدة فظهر الفرق بين الصورتين
المسألة الثانية ظاهر قوله تعالى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرّبَوااْ يدل على أن الوعيد إنما يحصل باستحلالهم الربا دون الإقدام عليه وأكله مع التحريم وعلى هذا التقدير لا يثبت بهذه الآية كون الربا من الكبائر
فإن قيل مقدمة الآية تدل على أن قيامهم يوم القيامة متخبطين كان بسبب أنهم أكلوا الربا
قلنا إن قوله ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرّبَوااْ صريح في أن العلة لذلك التخبط هو هذا القول والاعتقاد فقط وعند هذا يجب تأويل مقدمة الآية وقد بينا أنه ليس المراد من الأكل نفس الأكل وذكرنا عليه وجوهاً من الدلائل فأنتم حملتموه على التصرف في الربا ونحن نحمله على استحلال الربا واستطابته وذلك لأن الأكل قد يعبر به عن الاستحلال يقال فلان يأكل مال الله قضماً خصماً أي يستحل التصرف فيه وإذا حملنا الأكل على الاستحلال صارت مقدمة الآية مطابقة لمؤخرتها فهذا ما يدل عليه لفظ الآية إلا أن جمهور المفسرين حملوا الآية على وعيد من يتصرف في مال الربا لا على وعيد من يستحل هذا العقد
المسألة الثالثة في الآية سؤال وهو أنه لم لم يقل إنما الربا مثل البيع وذلك لأن حل البيع متفق عليه فهم أرادوا أن يقيسوا عليه الربا ومن حق القياس أن يشبه محل الخلاف بمحل الوفاق فكان نظم الآية أن يقال إنما الربا مثل البيع فما الحكمة في أن قلب هذه القضية فقال إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرّبَوااْ
والجواب أنه لم يكن مقصود القوم أن يتمسكوا بنظم القياس بل كان غرضهم أن الربا والبيع متماثلان من جميع الوجوه المطلوبة فكيف يجوز تخصيص أحد المثلين بالحل والثاني بالحرمة وعلى هذا التقدير فأيهما قدم أو أخر جاز
أما قوله تعالى وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرّبَوااْ ففيه مسائل
المسألة الأولى يحتمل أن يكون هذا الكلام من تمام كلام الكفار والمعنى أنهم قالوا البيع مثل الربا ثم إنكم تقولون وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرّبَوااْ فكيف يعقل هذا يعني أنهما لما كانا متماثلين فلو حل أحدهما وحرم الآخر لكان ذلك إيقاعاً للتفرقة بين المثلين وذلك غير لائق بحكمة الحكيم فقوله أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرّبَوااْ ذكره الكفار على سبيل الاستبعاد وأما أكثر المفسرين فقد اتفقوا على أن كلام الكفار انقطع عند قوله إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرّبَوااْ وأما قوله أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرّبَوااْ فهو كلام الله تعالى ونصه على هذا الفرق ذكره إبطالاً لقول الكفار إنما البيع مثل الربا والحجة على صحة هذا القول وجوه

الحجة الأولى أن قول من قال هذا كلام الكفار لا يتم إلا بإضمار زيادات بأن يحمل ذلك على الاستفهام على سبيل الإنكار أو يحمل ذلك على الرواية من قول المسلمين ومعلوم أن الإضمار خلاف الأصل وأما إذا جعلناه كلام الله ابتداء لم يحتج فيه إلى هذا الإضمار فكان ذلك أولى
الحجة الثانية أن المسلمين أبداً كانوا متمسكين في جميع مسائل البيع بهذه الآية ولولا أنهم علموا أن ذلك كلام الله لا كلام الكفار وإلا لما جاز لهم أن يستدلوا به وفي هذه الحجة كلام سيأتي في المسألة الثانية
الحجة الثالثة أنه تعالى ذكر عقيب هذه الكلمة قوله فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَة ٌ مّنْ رَّبّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا فظاهر هذا الكلام يقتضي أنهم لما تمسكوا بتلك الشبهة وهي قوله إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرّبَوااْ فالله تعالى قد كشف عن فساد تلك الشبهة وعن ضعفها ولو لم يكن قوله وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرّبَوااْ كلام الله لم يكن جواب تلك الشبهة مذكوراً فلم يكن قوله فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَة ٌ مّنْ رَّبّهِ لائقاً بهذا الموضع
المسألة الثانية مذهب الشافعي رضي الله عنه أن قوله وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرّبَوااْ من المجملات التي لا يجوز التمسك بها وهذا هو المختار عندي ويدل عليه وجوه الأول أنا بينا في أصول الفقه أن الاسم المفرد المحلي بلام التعريف لا يفيد العموم ألبتة بل ليس فيه إلا تعريف الماهية ومتى كان كذلك كفى العمل به في ثبوت حكمه في صورة واحدة
والوجه الثاني وهو أنا إذا سلمنا أنه يفيد العموم ولكنا لا نشك أن إفادته العموم أضعف من إفادة ألفاظ الجمع للعموم مثلاً قوله وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وإن أفاد الاستغراق إلا أن قوله وأحل الله البيعات أقوى في إفادة الاستغراق فثبت أن قوله وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ لا يفيد الاستغراق إلا إفادة ضعيفة ثم تقدير العموم لا بد وأن يطرق إليها تخصيصات كثيرة خارجة عن الحصر والضبط ومثل هذا العموم لا يليق بكلام الله تعالى وكلام رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه كذب والكذب على الله تعالى محال فأما العام الذي يكون موضع التخصيص منه قليلاً جداً فذلك جائز لأن إطلاق لفظ الاستغراق على الأغلب عرف مشهور في كلام العرب فثبت أن حمل هذا على العموم غير جائز
الوجه الثالث ما روي عن عمر رضي الله عنه قال خرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من الدنيا وما سألناه عن الربا ولو كان هذا اللفظ مفيداً للعموم لما قال ذلك فعلمنا أن هذه الآية من المجملات
الوجه الرابع أن قوله وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ يقتضي أن يكون كل بيع حلالاً وقوله وَحَرَّمَ الرّبَوااْ يقتضي أن يكون كل ربا حراماً لأن الربا هو الزيادة ولا بيع إلا ويقصد به الزيادة فأول الآية أباح جميع البيوع وآخرها حرم الجميع فلا يعرف الحلال من الحرام بهذه الآية فكانت مجملة فوجب الرجوع في الحلال والحرام إلى بيان الرسول ( صلى الله عليه وسلم )
أما قوله فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَة ٌ مّنْ رَّبّهِ فاعلم أنه ذكر فعل الموعظة لأن تأنيثها غير حقيقي ولأنها في معنى الوعظ وقرأ أبي والحسن فَمَنْ جَاءتْهُ مَّوْعِظَة ٌ ثم قال فَانتَهَى أي فامتنع ثم قال فَلَهُ مَا سَلَفَ وفيه مسألتان

المسألة الأولى في التأويل وجهان الأول قال الزجاج أي صفح له عما مضى من ذنبه من قبل نزول هذه الآية وهو كقوله قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ ( الأنفال 38 ) وهذا التأويل ضعيف لأنه قبل نزول الآية في التحريم لم يكن ذلك حراماً ولا ذنباً فكيف يقال المراد من الآية الصفح عن ذلك الذنب مع أنه ما كان هناك ذنب والنهي المتأخر لا يؤثر في الفعل المتقدم ولأنه تعالى أضاف ذلك إليه بلام التمليك وهو قوله فَلَهُ مَا سَلَفَ فكيف يكون ذلك ذنباً الثاني قال السدي له ما سلف أي له ما أكل من الربا وليس عليه رد ما سلف فأما من لم يقض بعد فلا يجوز له أخذه وإنما له رأس ماله فقط كما بينه بعد ذلك بقوله فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ ( البقرة 279 )
المسألة الثانية قال الواحدي السلف المتقدم وكل شيء قدمته أمامك فهو سلف ومنه الأمة السالفة والسالفة العنق لتقدمه في جهة العلو والسلفة ما يقدم قبل الطعام وسلافة الخمر صفوتها لأنه أول ما يخرج من عصيرها
أما قوله تعالى وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ ففيه وجوه للمفسرين إلا أن الذي أقوله إن هذه الآية مختصة بمن ترك استحلال الربا من غير بيان أنه ترك أكل الربا أو لم يترك والدليل عليه مقدمة الآية ومؤخرتها
أما مقدمة الآية فلأن قوله فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَة ٌ مّنْ رَّبّهِ فَانتَهَى ليسس فيه بيان أنه انتهى عماذا فلا بد وأن يصرف ذلك المذكور إلى السابق وأقرب المذكورات في هذه الكلمة ما حكى الله أنهم قالوا إنما البيع مثل الربا فكان قوله فَانتَهَى عائداً إليه فكان المعنى فانتهى عن هذا القول
وأما مؤخرة الآية فقوله وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ومعناه عاد إلى الكلام المتقدم وهو استحلال الربا أَمْرِى إِلَى اللَّهِ ثم هذا الإنسان إما أن يقال إنه كما انتهى عن استحلال الربا انتهى أيضاً عن أكل الربا أو ليس كذلك فإن كان الأول كان هذا الشخص مقراً بدين الله عالماً بتكليف الله فحينئذ يستحق المدح والتعظيم والإكرام لكن قوله أَمْرِى إِلَى اللَّهِ ليس كذلك لأنه يفيد أنه تعالى إن شاء عذبه وإن شاء غفر له فثبت أن هذه الآية لا تليق بالكافر ولا بالمؤمن المطيع فلم يبق إلا أن يكون مختصاً بمن أقر بحرمة الربا ثم أكل الربا فههنا أمره لله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له وهو كقوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء فيكون ذلك دليلاً ظاهراً على صحة قولنا أن العفو من الله مرجو
أما قوله وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ فالمعنى ومن عاد إلى استحلال الربا حتى يصير كافراً
واعلم أن قوله فَأُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ دليل قاطع في أن الخلود لا يكون إلا للكافر لأن قوله أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ يفيد الحصر فيمن عاد إلى قول الكافر وكذلك قوله هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يفيد الحصر وهذا يدل على أن كونه صاحب النار وكونه خالداً في النار لا يحصل إلا في الكفار أقصى ما في الباب أنا خالفنا هذا الظاهر وأدخلنا سائر الكفار فيه لكنه يبقى على ظاهره في صاحب الكبيرة فتأمل في هذه المواضع وذلك أن مذهبنا أن صاحب الكبيرة إذا كان مؤمناً بالله ورسوله يجوز في حقه أن يعفو الله عنه ويجوز أن يعاقبه الله وأمره في البابين موكل إلى الله ثم بتقدير أن يعاقبه الله فإنه لا يخلد في النار بل

يخرجه منها والله تعالى بيّن صحة هذا المذهب في هذه الآيات بقوله أَمْرِى إِلَى اللَّهِ على جواز العفو في حق صاحب الكبيرة على ما بيناه
ثم قوله فَأُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يدل على أن بتقدير أن يدخله الله النار لكنه لا يخلده فيها الأن الخلود مختص بالكفار لا بأهل الإيمان وهذا بيان شريف وتفسير حسن
يَمْحَقُ اللَّهُ الْرِّبَوااْ وَيُرْبِى الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ
إعلم أنه تعالى لما بالغ في الزجر عن الربا وكان قد بالغ في الآيات المتقدمة في الأمر بالصدقات ذكر هاهنا ما يجري مجرى الدعاء إلى ترك الصدقات وفعل الربا وكشف عن فساده وذلك لأن الداعي إلى فعل الربا تحصيل المزيد في الخيرات والصارف عن الصدقات الاحتراز عن نقصان الخير فبين تعالى أن الربا وإن كان زيادة في الحال إلا أنه نقصان في الحقيقة وأن الصدقة وإن كانت نقصاناً في الصورة إلا أنها زيادة في المعنى ولما كان الأمر كذلك كان اللائق بالعاقل أن لا يلتفت إلى ما يقضي به الطبع والحس من الدواعي والصوارف بل يعول على ما ندبه الشرع إليه من الدواعي والصوارف فهذا وجه النظم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى المحق نقصان الشيء حالا بعد حال ومنه المحاق في الهلال يقال محقه الله فانمحق وامتحق ويقال هجير ما حق إذا نقص في كل شيء بحرارته
المسألة الثانية إعلم أن محق الربا وإرباء الصدقات يحتمل أن يكون في الدنيا وأن يكون في الآخرة أما في الدنيا فنقول محق الربا في الدنيا من وجوه أحدها أن الغالب في المرابي وإن كثر ماله أن تؤل عاقبته إلى الفقر وتزول البركة عن ماله قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( الربا وإن كثر فإلى قل ) وثانيها إن لم ينقص ماله فإن عاقبته الذم والنقص وسقوط العدالة وزوال الأمانة وحصول اسم الفسق والقسوة والغلظة وثالثها أن الفقراء الذين يشاهدون أنه أخذ أموالهم بسبب الربا يلعنونه ويبغضونه ويدعون عليه وذلك يكون سبباً لزوال الخير والبركة عنه في نفسه وماله ورابعها أنه متى اشتهر بين الخلق أنه إنما جمع ماله من الربا توجهت إلى الأطماع وقصده كل ظالم ومارق وطماع ويقولون إن ذلك المال ليس له في الحقيقة فلا يترك في يده وأما إن الربا سبب للمحق في الآخرة فلوجوه الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما معنى هذا المحق أن الله تعالى لا يقبل منه صدقة ولا جهاداً ولا حجاً ولا صلة رحم وثانيها إن مال الدنيا لا يبقى عند الموت ويبقى التبعة والعقوبة وذلك هو الخسار الأكبر وثالثها أنه ثبت في الحديث أن الأغنياء يدخلون الجنة بعد الفقراء بخمسمائة عام فإذا كان الغني من الوجه الحلال كذلك فما ظنك بالغني من الوجه الحرام المقطوع بحرمته كيف يكون فذلك هو المحق والنقصان
وأما أرباء الصدقات فيحتمل أن يكون المراد في الدنيا وأن يكون المراد في الآخرة

أما في الدنيا فمن وجوه أحدها أن من كان لله كان الله له فإذا كان الإنسان مع فقره وحاجته يحسن إلى عبيد الله فالله تعالى لا يتركه ضائعاً في الدنيا وفي الحديث الذي رويناه فيما تقدم أن الملك ينادي كل يوم جائعاً ( اللّهم يسر لكل منفق خلفا ولممسك تلفا ) وثانيها أنه يزداد كل يوم في جاهه وذكره الجميل وميل القلوب إليه وسكون الناس إليه وذلك أفضل من المال مع أضداد هذه الأحوال وثالثها أن الفقراء يعينونه بالدعوات الصالحة ورابعها الأطماع تنقطع عنه فإنه متى اشتهر أنه متشمر لإصلاح مهمات الفقراء والضعفاء فكل أحد يحترز عن منازعته وكل ظالم وكل طماع لا يجوز أخذ شيء من ماله اللّهم إلا نادراً فهذا هو المراد بأرباء الصدقات في الدنيا
وأما إرباؤها في الآخرة فقد روى أبو هريرة أنه قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الله تعالى يقبل الصدقات ولا يقبل منها إلا الطيب ويأخذها بيمينه فيربيها كما يربي أحدكم مهره أو فلوه حتى أن اللقمة تصير مثل أحد ) وتصديق ذلك بين في كتاب الله أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَة َ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ ( التوبة 104 ) يَمْحَقُ اللَّهُ الْرّبَوااْ وَيُرْبِى الصَّدَقَاتِ ( البقرة 276 ) قال القفال رحمه الله تعالى ونظير قوله يَمْحَقُ اللَّهُ الْرّبَوااْ المثل الذي ضربه فيما تقدم بصفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلداً ونظير قوله وَيُرْبِى الصَّدَقَاتِ المثل الذي ضربه الله بحبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة
أما قوله وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ فاعلم أن الكفار فعال من الكفر ومعناه من كان ذلك منه عادة والعرب تسمي المقيم على الشيء بهذا فتقول فلان فعال للخير أمار به والأثيم فعيل بمعنى فاعل وهو الآثم وهو أيضاً مبالغة في الاستمرار على اكتساب الآثام والتمادي فيه وذلك لا يليق إلا بمن ينكر تحريم الربا فيكون جاحداً وفيه وجه آخر وهو أن يكون الكفار راجعاً إلى المستحيل والأثيم يكون راجعاً إلى من يفعله مع اعتقاد التحريم فتكون الآية جامعة للفريقين
إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلَواة َ وَآتَوُاْ الزَّكَواة َ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
إعلم أن عادة الله في القرآن مطردة بأنه تعالى مهما ذكر وعيداً ذكر بعده وعداً فلما بالغ ههنا في وعيد المرابي أتبعه بهذا الوعد وقد مضى تفسير هذه الآية في غير موضع وفيه مسائل
المسألة الأولى احتج من قال بأن العمل الصالح خارج عن مسمى الإيمان بهذه الآية فإنه قال إِنّ

َ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فعطف عمل الصالحات على الإيمان والمعطوف مغاير للمعطوف عليه ومن الناس من أجاب عنه أليس أنه قال في هذه الآية وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلَواة َ وَآتَوُاْ الزَّكَواة َ مع أنه لا نزاع في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة داخلان تحت وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فكذا فيما ذكرتم وأيضاً قال تعالى الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ( محمد 34 ) وقال الَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا ( البقرة 239 ) ( المائدة 5 10 )
وللمستدل الأول أن يجيب عنه بأن الأصل حمل كل لفظة على فائدة جديدة ترك العمل به عند التعذر فيبقى في غير موضع التعذر على الأصل
المسألة الثانية لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ أقوى من قوله على ربهم أجرهم لأن الأول يجري مجرى ما إذا باع بالنقد فذاك النقد هناك حاضر متى شاء البائع أخذه وقوله أجرهم على ربهم يجري مجرى ما إذا باع بالنسيئة في الذمة ولا شك أن الأول أفضل
المسألة الثالثة اختلفوا في قوله وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ فقال ابن عباس لا خوف عليهم فيما يستقبلهم من أحوال القيامة ولا هم يحزنون بسبب ما تركوه في الدنيا فإن المنتقل من حالة إلى حالة أخرى فوقها ربما يحزن على بعض ما فاته من الأحوال السالفة وإن كان مغتبطاً بالثانية لأجل إلفه وعادته فبيّن تعالى أن هذا القدر من الغصة لا يلحق أهل الثواب والكرامة وقال الأصم لا خوف عليهم من عذاب يومئذ ولا هم يحزنون بسبب أنه فاتهم النعيم الزائد الذي قد حصل لغيرهم من السعداء لأنه لا منافسة في الآخرة ولا هم يحزنون أيضاً بسبب أنه لم يصدر منا في الدنيا طاعة أزيد مما صدر حتى صرنا مستحقين لثواب أزيد مما وجدناه وذلك لأن هذه الخواطر لا توجد في الآخرة
المسألة الرابعة في قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلَواة َ وَآتَوُاْ الزَّكَواة َ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ إشكال هو أن المرأة إذا بلغت عارفة بالله وكما بلغت حاضت ثم عند انقطاع حيضها ماتت أو الرجل بلغ عارفاً بالله وقبل أن تجب عليه الصلاة والزكاة مات فهما بالاتفاق من أهل الثواب فدل ذلك على أن استحقاق الأجر والثواب لا يتوقف على حصول الأعمال وأيضاً من مذهبنا أن الله تعالى قد يثيب المؤمن الفاسق الخالي عن جميع الأعمال وإذا كان كذلك فكيف وقف الله هاهنا حصول الأجر على حصول الأعمال
الجواب أنه تعالى إنما ذكر هذه الخصال لا لأجل أن استحقاق الثواب مشروط بهذا بل لأجل أن لكل واحد منهما أثراً في جلب الثواب كما قال في ضد هذا وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَاهَا ءاخَرَ ( الفرقان 68 ) ثم قال وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ يَلْقَ أَثَاماً ( الفرقان 68 ) ومعلوم أن من ادعى مع الله إلاهاً آخر لا يحتاج في استحقاقه العذاب إلى عمل آخر ولكن الله جمع الزنا وقتل النفس على سبيل الاستحلال مع دعاء غير الله إلاهاً لبيان أن كل واحد من هذه الخصال يوجب العقوبة
( 278 )

ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِى َ مِنَ الرِّبَوااْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَة ٍ فَنَظِرَة ٌ إِلَى مَيْسَرَة ٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى إعلم أنه تعالى لما بين في الآية المتقدمة أن من انتهى عن الربا فله ما سلف فقد كان يجوز أن يظن أنه لا فرق بين المقبوض منه وبين الباقي في ذمة القوم فقال تعالى في هذه الآية وَذَرُواْ مَا بَقِى َ مِنَ الرّبَوااْ وبين به أن ذلك إذا كان عليهم ولم يقبض فالزيادة تحرم وليس لهم أن يأخذوا إلا رؤوس أموالهم وإنما شدد تعالى في ذلك لأن من انتظر مدة طويلة في حلول الأجل ثم حضر الوقت وظن نفسه على أن تلك الزيادة قد حصلت له فيحتاج في منعه عنه إلى تشديد عظيم فقال اتَّقُواْ اللَّهَ واتقاؤه ما نهى عنه وَذَرُواْ مَا بَقِى َ مِنَ الرّبَوااْ يعني إن كنتم قد قبضتم شيئاً فيعفو عنه وإن لم تقبضوه أو لم تقبضوا بعضه فذلك الذي لم تقبضوه كلا كان أو بعضاً فإنه محرم قبضه
وإعلم أن هذه الآية أصل كبير في أحكام الكفار إذا أسلموا وذلك لأن ما مضى في وقت الكفر فإنه يبقى ولا ينقص ولا يفسخ وما لا يوجد منه شيء في حال الكفر فحكمه محمول على الإسلام فإذا تناكحوا على ما يجوز عندهم ولا يجوز في الإسلام فهو عفو لا يتعقب وإن كان النكاح وقع على محرم فقبضته المرأة فقد مضى وإن كانت لم تقبضه فلها مهر مثلها دون المهر المسمى هذا مذهب الشافعي رضي الله عنه
فإن قيل كيف قال مّسْتَقِيمٍ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ ثم قال في آخره إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ
الجواب من وجوه الأول أن هذا مثل ما يقال إن كنت أخاً فأكرمني معناه إن من كان أخا أكرم أخاه والثاني قيل معناه إن كنتم مؤمنين قبله الثالث إن كنتم تريدون استدامة الحكم لكم بالإيمان الرابع يا أيها الذين آمنوا بلسانهم ذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين بقلوبكم
المسألة الثانية في سبب نزول الآية روايات

الرواية الأولى أنها خطاب لأهل مكة كانوا يرابون فلما أسلموا عند فتح مكة أمرهم الله تعالى أن يأخذوا رؤوس أموالهم دون الزيادة
والرواية الثانية قال مقاتل إن الآية نزلت في أربعة أخوة من ثقيف مسعود وعبد يا ليل وحبيب وربيعة بنو عمرو بن عمير الثقفي كانوا يداينون بني المغيرة فلما ظهر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على الطائف أسلم الأخوة ثم طالبوا برباهم بني المغيرة فأنزل الله تعالى هذه الآية
والرواية الثالثة نزلت في العباس وعثمان بن عفان رضي الله عنهما وكانا أسلفا في التمر فلما حضر الجداد قبضا بعضاً وزاد في الباقي فنزلت الآية وهذا قول عطاء وعكرمة
الرواية الرابعة نزلت في العباس وخالد بن الوليد وكانا يسلفان في الربا وهو قول السدي
المسألة الثالثة قال القاضي قوله إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ كالدلالة على أن الإيمان لا يتكامل إذا أصر الإنسان على كبيرة وإنما يصير مؤمناً بالإطلاق إذا اجتنب كل الكبائر
والجواب لما دلّت الدلائل الكثيرة المذكورة في تفسير قوله الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ( البقرة 3 ) على أن العمل خارج عن مسمى الإيمان كانت هذه الآية محمولة على كمال الإيمان وشرائعه فكان التقدير إن كنتم عاملين بمقتضى شرائع الإيمان وهذا وإن كان تركاً للظاهر لكنا ذهبنا إليه لتلك الدلائل
ثم قال تعالى فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ عاصم وحمزة فَأْذَنُواْ مفتوحة الألف ممدودة مكسورة الذال على مثال فَئَامِنُواْ والباقون فَأْذَنُواْ بسكون الهمزة مفتوحة الذال مقصورة وروي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وعن علي رضي الله عنه أنهما قرآ كذلك فَأْذَنُواْ ممدودة أي فاعلموا من قوله تعالى فَقُلْ ءاذَنتُكُمْ عَلَى سَوَاء ( الأنبياء 109 ) ومفعول الإيذان محذوف في هذه الآية والتقدير فاعلموا من لم ينته عن الربا بحرب من الله ورسوله وإذا أمروا بإعلام غيرهم فهم أيضاً قد علموا ذلك لكن ليس في علمهم دلالة على إعلام غيرهم فهذه القراءة في البلاغة آكد وقال أحمد بن يحيى قراءة العامة من الاذن أي كونوا على علم وإذن وقرأ الحسن فأيقنوا وهو دليل لقراءة العامة
المسألة الثانية اختلفوا في أن الخطاب بقوله مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ اللَّهِ خطاب مع المؤمنين المصرين على معاملة الربا أو هو خطاب مع الكفار المستحلين للربا الذين قالوا إنما البيع مثل الربا قال القاضي والاحتمال الأول أولى لأن قوله فَأْذَنُواْ خطاب مع قوم تقدم ذكرهم وهم المخاطبون بقوله يَحْزَنُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِى َ مِنَ الرّبَوااْ وذلك يدل على أن الخطاب مع المؤمنين
فإن قيل كيف أمر بالمحاربة مع المسلمين
قلنا هذه اللفظة قد تطلق على من عصى الله غير مستحل كما جاء في الخبر ( من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة ) وعن جابر عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( من لم يدع المخابرة فليأذن بحرب من الله ورسوله ) وقد جعل كثير من المفسرين والفقهاء قوله تعالى إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ( المائدة 33 ) أصلاً في قطع

الطريق من المسلمين فثبت أن ذكر هذا النوع من التهديد مع المسلمين وارد في كتاب الله وفي سنّة رسوله
إذا عرفت هذا فنقول في الجواب عن السؤال المذكور وجهان الأول المراد المبالغة في التهديد دون نفس الحرب والثاني المراد نفس الحرب وفيه تفصيل فنقول الإصرار على عمل الربا إن كان من شخص وقدر الإمام عليه قبض عليه وأجرى فيه حكم الله من التعزيز والحبس إلى أن تظهر منه التوبة وإن وقع ممن يكون له عسكر وشوكة حاربه الإمام كما يحارب الفئة الباغية وكما حارب أبو بكر رضي الله عنه ما نعي الزكاة وكذا القوم لو اجتمعوا على ترك الأذان وتترك دفن الموتى فإنه يفعل بهم ما ذكرناه وقال ابن عباس رضي الله عنهما من عامل بالربا يستتاب فإن تاب وإلا ضرب عنقه
والقول الثاني في هذه الآية أن قوله فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ ( البقرة 279 ) خطاب للكفار وأن معنى الآية وَذَرُواْ مَا بَقِى َ مِنَ الرّبَوااْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ ( البقرة 278 ) معترفين بتحريم الربا فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ أي فإن لم تكونوا معترفين بتحريمه فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ومن ذهب إلى هذا القول قال إن فيه دليلاً على أن من كفر بشريعة واحدة من شرائع الإسلام كان كافراً كما لو كفر بجميع شرائعه
ثم قال تعالى وَإِن تُبتُمْ والمعنى على القول الأول تبتم من معاملة الربا وعلى القول الثاني من استحلال الربا فَلَكُمْ رُءوسُ أَمْوالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ أي لا تظلمون الغريم بطلب الزيادة على رأس المال ولا تظلمون أي بنقصان رأس المال
ثم قال تعالى وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَة ٍ فَنَظِرَة ٌ إِلَى مَيْسَرَة ٍ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قال النحويون كَانَ كلمة تستعمل على وجوه أحدها أن تكون بمنزلة حدث ووقع وذلك في قوله قد كان الأمر أي وجد وحينئذ لا يحتاج إلى خبر والثاني أن يخلع منه معنى الحدث فتبقى الكلمة مجردة للزمان وحينئذ يحتاج إلى الخبر وذلك كقوله كان زيد ذاهباً
واعلم أني حين كنت مقيماً بخوارزم وكان هناك جمع من أكابر الأدباء أوردت عليهم إشكالاً في هذا الباب فقلت إنكم تقولون إن كَانَ إذا كانت ناقصة إنها تكون فعلاً وهذا محال لأن الفعل ما دلّ على اقتران حدث بزمان فقولك كَانَ يدل على حصول معنى الكون في الزمان الماضي وإذا أفاد هذا المعنى كانت تامة لا ناقصة فهذا الدليل يقتضي أنها إن كانت فعلاً كانت تامة لا ناقصة وإن لم تكن تامة لم تكن فعلاً ألبتة بل كانت حرفاً وأنتم تنكرون ذلك فبقوا في هذا الإشكال زماناً طويلاً وصنفوا في الجواب عنه كتباً وما أفلحوا فيه ثم انكشف لي فيه سر أذكره هاهنا وهو أن كان لا معنى له إلا حدث ووقع ووجد إلا أن قولك وجد وحدث على قسمين أحدها أن يكون المعنى وجد وحدث الشيء كقولك وجد الجوهر وحدث العرض والثاني أن يكون المعنى وجد وحدث موصوفية الشيء بالشيء فإذا قلت كان زيد عالماً فمعناه حدث في الزمان الماضي موصوفية زيد بالعلم والقسم الأول هو المسمى بكان التامة والقسم الثاني هو المسمى بالناقصة وفي الحقيقة فالمفهوم من كَانَ في الموضعين هو الحدوث والوقوع إلا أن في القسم الأول المراد حدوث الشيء في نفسه فلا جرم كان الاسم الواحد كافياً والمراد في القسم الثاني حدوث موصوفية أحد الأمرين بالآخر فلا جرم لم يكن الاسم الواحد كافياً بل لا بد فيه من ذكر الاسمين

حتى يمكنه أن يشير إلى موصوفية أحدهما بالآخر وهذا من لطائف الأبحاث فأما إن قلنا إنه فعل كان دالاً على وقوع المصدر في الزمان الماضي فحينئذ تكون تامة لا ناقصة وإن قلنا إنه ليس بفعل بل حرف فكيف يدخل فيه الماضي والمستقبل والأمر وجميع خواص الأفعال وإذا حمل الأمر على ما قلناه تبين أنه فعل وزال الإشكال بالكلية
المفهوم الثالث لكان يكون بمعنى صار وأنشدوا
بتيهاء قفر والمطي كأنها
قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها
وعندي أن هذا اللفظ هاهنا محمول على ما ذكرناه فإن معنى صار أنه حدث موصوفية الذات بهذه الصفة بعد أنها ما كانت موصوفة بذلك فيكون هنا بمعنى حدث ووقع إلا أنه حدوث مخصوص وهو أنه حدث موصوفية الذات بهذه الصفة بعد أن كان الحاصل موصوفية الذات بصفة أخرى
المفهوم الرابع أن تكون زائدة وأنشدوا
سراة بني أبي بكر تسامى
على كان المسومة الجياد
إذا عرفت هذه القاعدة فلنرجع إلى التفسير فنقول في كَانَ في هذه الآية وجهان الأول أنها بمعنى وقع وحدث والمعنى وإن وجد ذو عسرة ونظيره قوله إِلا أَن تَكُونَ تِجَارَة ً حَاضِرَة ً بالرفع على معنى وإن وقعت تجارة حاضرة ومقصود الآية إنما يصح على هذا اللفظ وذلك لأنه لو قيل وإن كان ذا عسرة لكان المعنى وإن كان المشتري ذا عسرة فنظرة فتكون النظرة مقصورة عليه وليس الأمر كذلك لأن المشتري وغيره إذا كان ذا عسرة فله النظرة إلى الميسرة الثاني أنها ناقصة على حذف الخبر تقديره وإن كان ذو عسرة غريماً لكم وقرأ عثمان ذَا عُسْرَة ٍ والتقدير إن كان الغريم ذا عسرة وقريء وَمَن كَانَ ذَا عُسْرَة ٍ
المسألة الثانية العسرة اسم من الأعسار وهو تعذر الموجود من المال يقال أعسر الرجل إذا صار إلى حالة العسرة وهي الحالة التي يتعسر فيها وجود المال
ثم قالل تعالى فَنَظِرَة ٌ إِلَى مَيْسَرَة ٍ وفيه مسائل
المسألة الأولى في الآية حذف والتقدير فالحكم أو فالأمر نظرة أو فالذي تعاملونه نظرة
المسألة الثانية نظرة أي تأخير والنظرة الاسم من الأنظار وهو الإمهال تقول بعته الشيء بنظرة وبانظار قال تعالى قَالَ رَبّ أَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ( الحجر 36 37 38 )
المسألة الثالثة قرىء فَنَظِرَة ٌ بسكون الظاء وقرأ عطاء فناظره أي فصاحب الحق أي منتظره أو صاحب نظرته على طريق النسب كقولهم مكان عاشب وباقل أي ذو عشب وذو بقل وعنه فناظره على الأمر أي فسامحه بالنظرة إلى الميسرة
المسألة الرابعة الميسرة مفعلة من اليسر واليسار الذي هو ضد الأعسار وهو تيسر الموجود من المال ومنه يقال أيسر الرجل فهو موسر أي صار إلى اليسر فالميسرة واليسر والميسور الغنى

المسألة الخامسة قرأ نافع إِلَى مَيْسَرَة ٍ بضم السين والباقون بفتحها وهما لغتان مشهورتان كالمقبرة والمشرفة والمشربة والمسربة والفتح أشهر اللغتين لأنه جاء في كلامهم كثيراً
المسألة السادسة اختلفوا في أن حكم الأنظار مختص بالربا أو عام في الكل فقال ابن عباس وشريح والضحاك والسدي وإبراهيم الآية في الربا وذكر عن شريح أنه أمر بحبس أحد الخصمين فقيل إنه معسر فقال شريح إنما ذلك في الربا والله تعالى قال في كتابه إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الاحمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ( النساء 58 ) وذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية أنه لما نزل قوله تعالى فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ قالت الاخوة الأربعة الذين كانوا يعاملون بالربا بل نتوب إلى الله فإنه لا طاقة لنا بحرب الله ورسوله فرضوا برأس المال وطلبوا بني المغيرة بذلك فشكا بنو المغيرة العسرة وقالوا أخرونا إلى أن تدرك الغلات فأبوا أن يؤخروهم فأنزل الله تعالى وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَة ٍ فَنَظِرَة ٌ إِلَى مَيْسَرَة ٍ
القول الثاني وهو قول مجاهد وجماعة من المفسرين إنها عامة في كل دين واحتجوا بما ذكرنا من أنه تعالى قال وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَة ٍ ولم يقل وإن كان ذا عسرة ليكون الحكم عاماً في كل المفسرين قال القاضي والقول الأول أرجح لأنه تعالى قال في الآية المتقدمة فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ من غير بخس ولا نقص ثم قال في هذه الآية وإن كان من عليه المال معسراً وجب إنظاره إلى وقت القدرة لأن النظرة يراد بها التأخر فلا بد من حق تقدم ذكره حتى يلزم التأخر بل لما ثبت وجوب الإنظار في هذه بحكم النص ثبت وجوبه في سائر الصور ضرورة الاشتراك في المعنى وهو أن العاجز عن أداء المال لا يجوز تكليفه به وهذا قول أكثر الفقهاء كأبي حنيفة ومالك والشافعي رضي الله عنهم
المسألة السابعة إعلم أنه لا بد من تفسير الإعسار فنقول الإعسار هو أن لا يجد في ملكه ما يؤديه بعينه ولا يكون له ما لو باعه لأمكنه أداء الدين من ثمنه فلهذا قلنا من وحد داراً وثياباً لا يعد في ذوي العسرة إذا ما أمكنه بيعها وأداء ثمنها ولا يجوز أن يحبس إلا قوت يوم لنفسه وعياله وما لا بد لهم من كسوة لصلاتهم ودفع البرد والحر عنهم واختلفوا إذا كان قوياً هل يلزمه أن يؤاجر نفسه من صاحب الدين أو غيره فقال بعضهم يلزمه ذلك كما يلزمه إذا احتاج لنفسه ولعياله وقال بعضهم لا يلزمه ذلك واختلفوا أيضاً إذا كان معسراً وقد بذل غيره ما يؤديه هل يلزمه القبول والأداء أو لا يلزمه ذلك فأما من له بضاعة كسدت عليه فواجب عليه أن يبيعها بالنقصان إن لم يكن إلا ذلك ويؤديه في الدين
المسألة الثامنة إذا علم الإنسان أن غريمه معسر جرم عليه حبسه وأن يطالبه بما له عليه فوجب الإنظار إلى وقت اليسار فأما إن كانت له ريبة في إعساره فيجوز له أن يحبسه إلى وقت ظهور الإعسار واعلم أنه إذا ادعى الإعسار وكذبه للغريم فهذا الدين الذي لزمه إما أن يكون عن عوض حصل له كالبيع والقرض أو لا يكون كذلك وفي القسم الأول لا بد من إقامة شاهدين عدلين على أن ذلك العوض قد هلك وفي القسم الثاني وهو أن يثبت الدين عليه لا بعوض مثل إتلاف أو صداق أو ضمان كان القول قوله وعلى الغرماء البينة لأن الأصل هو الفقر
ثم قال تعالى وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وفيه مسائل

المسألة الأولى قرأ عاصم تَصَدَّقُواْ بتخفيف الصاد والباقون بتشديدها والأصل فيه أن تتصدقوا بتاءين فمن خفف حذف إحدى التاءين تخفيفاً ومن شدد أدغم إحدى التاءين في الأخرى
المسألة الثانية في التصدق قولان الأول معناه وأن تصدقوا على المعسر بما عليه من الدين إذ لا يصح التصدق به على غيره وإنما جاز هذا الحذف للعلم به لأنه قد جرى ذكر المعسر وذكر رأس المال فعلم أن التصدق راجع إليهما وهو كقوله وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ( البقرة 237 ) والثاني أن المراد بالتصدق الإنظار لقوله عليه السلام ( لا يحل دين رجل مسلم فيؤخره إلا كان له بكل يوم صدقة ) وهذا القول ضعيف لأن الإنظار ثبت وجوبه بالآية الأولى فلا بد من حمل هذه الآية على فائدة جديدة ولأن قوله خَيْرٌ لَّكُمْ لا يليق بالواجب بل بالمندوب
المسألة الثالثة المراد بالخير حصول الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في الآخرة
ثم قال إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ وفيه وجوه الأول معناه إن كنتم تعلمون أن هذا التصدق خير لكم إن عملتموه فجعل العمل من لوازم العلم وفيه تهديد شديد على العصاة والثاني إن كنتم تعلمون فضل التصدق على الإنظار والقبض والثالث إن كنتم تعلمون أن ما يأمركم به ربكم أصلح لكم
ثم قال تعالى وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ إعلم أن هذه الآية في العظماء الذين كانوا يعاملون بالربا وكانوا أصحاب ثروة وجلال وأنصار وأعوان وكان قد يجري منهم التغلب على الناس بسبب ثروتهم فاحتاجوا إلى مزيد زجر ووعيد وتهديد حتى يمتنعوا عن الربا وعن أخذ أموال الناس بالباطل فلا جرم توعدهم الله بهذه الآية وخوفهم على أعظم الوجوه وفيه مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس هذه الآية آخر أية نزلت على الرسول عليه الصلاة والسلام وذلك لأنه عليه السلام لما حج نزلت يَسْتَفْتُونَكَ ( النساء 127 ) وهي آية الكلالة ثم نزل وهو واقف بعرفة الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى ( المائدة 3 ) ثم نزل وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ( البقرة 281 ) فقال جبريل عليه السلام يا محمد ضعها على رأس ثمانين آية ومائتي آية من البقرة وعاش رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعدها أحدا وثمانين يوماً وقيل أحدا وعشرين وقيل سبعة أيام وقيل ثلاث ساعات
المسألة الثانية قرأ أبو عمرو تُرْجَعُونَ بفتح التاء والباقون بضم التاء واعلم أن الرجوع لازم والرجع متعد وعليه تخرج القراءتان
المسألة الثالثة انتصب يَوْماً على المفعول به لا على الظرف لأنه ليس المعنى واتقوا في هذا اليوم لكن المعنى تأهبوا للقائه بما تقدمون من العمل الصالح ومثله قوله فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً ( المزمل 17 ) أي كيف تتقون هذا اليوم الذي هذا وصفه مع الكفر بالله
المسألة الرابعة قال القاضي اليوم عبارة عن زمان مخصوص وذلك لا يتقي وإنما يتقي ما يحدث فيه من الشدة والأهوال واتقاء تلك الأهوال لا يمكن إلا في دار الدنيا بمجانبة المعاصي الواجبات فصار قوله وَاتَّقُواْ يَوْمًا يتضمن الأمر بجميع أقسام التكاليف

المسألة الخامسة الرجوع إلى الله تعالى ليس المراد منه ما يتعلق بالمكان والجهة فإن ذلك محال على الله تعالى وليس المراد منه الرجوع إلى علمه وحفظه فإنه معهم أينما كانوا لكن كل ما في القرآن من قوله تُرْجَعُونَ إِلَى اللَّهِ له معنيان الأول أن الإنسان له أحوال ثلاثة على الترتيب
فالحالة الأولى كونهم في بطون أمهاتهم ثم لا يملكون نفعهم ولا ضرهم بل المتصرف فيهم ليس إلا الله سبحانه وتعالى
والحالة الثانية كونهم بعد البروز عن بطون أمهاتهم وهناك يكون المتكفل بإصلاح أحوالهم في أول الأمر الأبوين ثم بعد ذلك يتصرف بعضهم في البعض في حكم الظاهر
والحالة الثالثة بعد الموت وهناك لا يكون المتصرف فيهم ظاهراً في الحقيقة إلا الله سبحانه فكأنه بعد الخروج عن الدنيا عاد إلى الحالة التي كان عليها قبل الدخول في الدنيا فهذا هو معنى الرجوع إلى الله والثاني أن يكون المراد يرجعون إلى ما أعد الله لهم من ثواب أو عقاب وكلا التأويلين حسن مطابق للفظ
ثم قال ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وفيه مسألتان
المسألة الأولى المراد أن كل مكلف فهو عند الرجوع إلى الله لا بد وأن يصل إليه جزاء عمله بالتمام كما قال فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ شَرّاً يَرَهُ ( الزلزلة 7 8 ) وقال إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّة ٍ مّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِى صَخْرَة ٍ أَوْ فِى السَّمَاوَاتِ أَوْ فِى الاْرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ وقال وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَة ِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّة ٍ مّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا ( الأنبياء 47 ) وفي تأويل قوله مَّا كَسَبَتْ وجهان الأول أن فيه حذفاً والتقدير جزاء ما كسبت والثاني أن المكتسب هو ذلك الجزاء لأن ما يحصله الرجل بتجارته من المال فإنه يوصف في اللغة بأنه مكتسبه فقوله تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ أي توفى كل نفس مكتسبها وهذا التأويل أولى لأنه مهما أمكن تفسير الكلام بحيث لا يحتاج فيه إلى الإضمار كان أولى
المسألة الثانية الوعيدية يتمسكون بهذه الآية على القطع بوعيد الفساق وأصحابنا يتمسكون بها في القطع بعدم الخلود لأنه لما آمن فلا بد وأن يصل ثواب الإيمان إليه ولا يمكن ذلك إلا بأن يخرج من النار ويدخل الجنة
ثم قال وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ وفيه سؤال وهو أن قوله تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ لا معنى له إلا أنهم لا يظلمون فكان ذلك تكريراً
وجوابه أنه تعالى لما قال تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ كان ذلك دليلاً على إيصال العذاب إلى الفساق والكفار فكان لقائل أن يقول كيف يليق بكرم أكرم الأكرمين أن يعذب عبيده فأجاب عنه بقوله وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ والمعنى أن العبد هو الذي أوقع نفسه في تلك الورطة لأن الله تعالى مكنه وأزاح عذره وسهل عليه طريق الاستدلال وأمهله فمن قصر فهو الذي أساء إلى نفسه وهذا الجواب إنما يستقيم على أصول المعتزلة وأما على أصول أصحابنا فهو أنه سبحانه مالك الخلق والمالك إذا تصرف في ملكه كيف شاء وأراد لم يكن ظلماً فكان قوله وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ بعد ذكر الوعيد إشارة إلى ما ذكرناه

الحكم الثالث من الأحكام الشرعية المذكورة في هذا الموضع من هذه السورة آية المداينة
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُم كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِى عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإن كَانَ الَّذِى عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَآءِ أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الاٍّ خْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَالِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَة ِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا إِلاَ أَن تَكُونَ تِجَارَة ً حَاضِرَة ً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
إعلم أن في الآية مسائل
المسألة الأولى أن في كيفية النظم وجهين الأول أن الله سبحانه لما ذكر قبل هذا الحكم نوعين من الحكم أحدهما الإنفاق في سبيل الله وهو يوجب تنقيص المال والثاني ترك الربا وهو أيضاً سبب لتنقيص المال ثم إنه تعالى ختم ذينك الحكمين بالتهديد العظيم فقال وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ والتقوى تسد على الإنسان أكثر أبواب المكاسب والمنافع أتبع ذلك بأن ندبه إلى كيفية حفظ المال الحلال وصونه عن الفساد والبوار فإن القدرة على الإنفاق في سبيل الله وعلى ترك الربا وعلى ملازمة التقوى لا يتم

ولا يكمل إلا عند حصول المال ثم إنه تعال لأجل هذه الدقيقة بالغ في الوصية بحفظ المال الحلال عن وجوه التوي والتلف وقد ورد نظيره في سورة النساء وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوالَكُمُ الَّتِى جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً ( النساء 5 ) فحث على الاحتياط في أمر الأموال لكونها سبباً لمصالح المعاش والمعاد قال القفال رحمه الله تعالى والذي يدل على ذلك أن ألفاظ القرآن جارية في الأكثر على الاختصار وفي هذه الآية بسط شديد ألا ترى أنه قال إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ثم قال ثانياً وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُم كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ثم قال ثالثاً وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فكان هذا كالتكرار لقوله وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُم كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ لأن العدل هو ما علمه الله ثم قال رابعاً فَلْيَكْتُبْ وهذا إعادة الأمر الأول ثم قال خامساً وَلْيُمْلِلِ الَّذِى عَلَيْهِ الْحَقُّ وفي قوله وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُم كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ كفاية عن قوله فَلْيُمْلِلْ الَّذِى عَلَيْهِ الْحَقُّ لأن الكاتب بالعدل إنما يكتب ما يملى عليه ثم قال سادساً وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وهذا تأكيد ثم قال سابعاً وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فهذا كالمستفاد من قوله وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ثم قال ثامناً وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وهو أيضاً تأكيد لما مضى ثم قال تاسعاً ذالِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ الشَّهَادَة َ وَأَدْنَى أَن لا تَرْتَابُواْ فذكر هذه الفوائد الثلاثة لتلك التأكيدات السالفة وكل ذلك يدل على أنه لما حث على ما يجري مجرى سبب تنقيص المال في الحكمين الأولين بالغ في هذا الحكم في الوصية بحفظ المال الحلال وصونه عن الهلاك والبوار ليتمكن الإنسان بواسطته من الانفاق في سبيل الله والإعراض عن مساخط الله من الربا وغيره والمواظبة على تقوى الله فهذا هو الوجه الأول من وجوه النظم وهو حسن لطيف
والوجه الثاني أن قوماً من المفسرين قالوا المراد بالمداينة السلم فالله سبحانه وتعالى لما منع الربا في الآية المتقدمة أذن في السلم في جميع هذه الآية مع أن جميع المنافع المطلوبة من الربا حاصلة في السلم ولهذا قال بعض العلماء لا لذة ولا منفعة يوصل إليها بالطريق الحرام إلا وضعه الله سبحانه وتعالى لتحصيل مثل ذلك اللذة طريقاً حلالاً وسبيلاً مشروعاً فهذا ما يتعلق بوجه النظم
المسألة الثانية التداين تفاعل من الدين ومعناه داين بعضكم بعضاً وتداينتم تبايعتم بدين قال أهل اللغة القرض غير الدين لأن القرض أن يقرض الإنسان دراهم أو دنانير أو حباً أو تمراً أو ما أشبه ذلك ولا يجوز فيه الأجل والدين يجوز فيه الأجل ويقال من الدين أدان إذا باع سلعته بثمن إلى أجل ودان يدين إذا أقرض ودان إذا استقرض وأنشد الأحمر ندين ويقضي الله عنا وقد نرى
مصارع قوم لا يدينون ضيقا
إذا عرفت هذا فنقول في المراد بهذه المداينة أقوال قال ابن عباس أنها نزلت في السلف لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قدم المدينة وهم يسلفون في التمر السنتين والثلاث فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم ) ثم أن الله تعالى عرف المكلفين وجه الاحتياط في الكيل والوزن والأجل فقال إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ
والقول الثاني أنه القرض وهو ضعيف لما بينا أن القرض لا يمكن أن يشترط فيه الأجل والدين المذكور في الآية قد اشترط فيه الأجل
والقول الثالث وهو قول أكثر المفسرين أن البياعات على أربعة أوجه أحدها بيع العين بالعين

وذلك ليس بمداينة ألبتة والثاني بيع الدين بالدين وهو باطل فلا يكون داخلاً تحت هذه الآية بقي هنا قسمان بيع العين بالدين وهو ما إذا باع شيئاً بثمن مؤجل وبيع الدين بالعين وهو المسمى بالسلم وكلاهما داخلان تحت هذه الآية وفي الآية سؤالات
السؤال الأول المداينة مفاعلة وحقيقتها أن يحصل من كل واحد منهما دين وذلك هو بيع الدين بالدين وهو باطل بالاتفاق
والجواب أن المراد من تداينتم تعاملتم والتقدير إذا تعاملتم بما فيه دين
السؤال الثاني قوله تَدَايَنتُم يدل على الدين فما الفائدة بقوله بِدَيْنٍ
الجواب من وجوه الأول قال ابن الأنباري التداين يكون لمعنيين أحدهما التداين بالمال والآخر التداين بمعنى المجازاة من قولهم كما تدين تدان والدين الجزاء فذكر الله تعالى الدين لتخصيص أحد المعنيين الثاني قال صاحب ( الكشاف ) إنما ذكر الدين ليرجع الضمير إليه في قوله فَاكْتُبُوهُ إذ لو لم يذكر ذلك لوجب أن يقال فاكتبوا الدين فلم يكن النظم بذلك الحسن الثالث أنه تعالى ذكره للتأكيد كقوله تعالى فَسَجَدَ الْمَلَائِكَة ُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ( الحجر 30 ) ( ص 73 ) وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ ( الأنعام 38 ) الرابع فإذا تداينتم أي دين كان صغيراً أو كبيراً على أي وجه كان من قرض أو سلم أو بيع عين إلى أجل الخامس ما خطر ببالي أنا ذكرنا أن المداينة مفاعلة وذكل إنما يتناول بيع الدين بالدين وهو باطل فلو قال إذا تداينتم لبقي النص مقصوراً على بيع الدين بالدين وهو باطل أما لما قال إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ كان المعنى إذا تداينتم تداينا يحصل فيه دين واحد وحينئذ يخرج عن النص بيع الدين بالدين ويبقى بيع العين بالدين أو بيع الدين بالعين فإن الحاصل في كل واحد منهما دين واحد لا غير
السؤال الثالث المراد من الآية كلما تداينتم بدين فاكتبوه وكلمة إِذَا لا تفيد العموم فلم قال تَدَايَنتُم ولم يقل كلما تداينتم
الجواب أن كلمة إِذَا وإن كانت لا تقتضي العموم إلا أنها لا تمنع من العموم وهاهنا قام الدليل على أن المراد هو العموم لأنه تعالى بيّن العلة في الأمر بالكتبة في آخر الآية وهو قوله ذالِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَة ِ وَأَدْنَى أَن لا تَرْتَابُواْ والمعنى إذا وقعت المعاملة بالدين ولم يكتب فالظاهر أنه تنسى الكيفية فربما توهم الزيادة فطلب الزيادة وهو ظلم وربما توهم النقصان فترك حقه من غير حمد ولا أجر فأما إذا كتب كيفية الواقعة أمن من هذه المحذورات فلما دلّ النص على أن هذا هو العلة ثم إن هذه العلة قائمة في الكل كان الحكم أيضاً حاصلاً في الكل
أما قوله تعالى إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ففيه سؤالان
السؤال الأول ما الأجل
الجواب الأجل في اللغة هو الوقت المضروب لانقضاء الأمد وأجل الإنسان هو الوقت لانقضاء عمره وأجل الدين لوقت معين في المستقبل وأصله من التأخير يقال أجل الشيء يأجل أجولا إذا تأخر والآجل نقيض العاجل

السؤال الثاني المداينة لا تكون إلا مؤجلة فما الفائدة في ذكر الأجل بعد ذكر المداينة
الجواب إنما ذكر الأجل ليمكنه أن يصفه بقوله مُّسَمًّى والفائدة في قوله مُّسَمًّى ليعلم أن من حق الأجل أن يكون معلوماً كالتوقيت بالسنة والشهر والأيام ولو قال إلى الحصاد أو إلى الدياس أو إلى قدوم الحاج لم يجز لعدم التسمية
أما قوله تعالى فَاكْتُبُوهُ فاعلم أنه تعالى أمر في المداينة بأمرين أحدهما الكتبة وهي قوله هاهنا فَاكْتُبُوهُ الثاني الإشهاد وهو قوله فَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مّن رّجَالِكُمْ وفيه مسألتان
المسألة الأولى فائدة الكتبة والإشهاد أن ما يدخل فيه الأجل تتأخر فيه المطالبة ويتخلله النسيان ويدخل فيه الجحد فصارت الكتابة كالسبب لحفظ المال من الجانبين لأن صاحب الدين إذا علم أن حقه قد قيد بالكتابة والإشهاد يحذر من طلب الزيادة ومن تقديم المطالبة قبل حلول الأجل ومن عليه الدين إذا عرف ذلك يحذر عن الجحود ويأخذ قبل حلول الأجل في تحصيل المال ليتمكن من أدائه وقت حلول الدين فلما حصل في الكتابة والإشهاد هذه الفوائد لا جرم أمر الله به والله أعلم
المسألة الثانية القائلون بأن ظاهر الأمر للندب لا إشكال عليهم في هذه وأما القائلون بأن ظاهره للوجوب فقد اختلفوا فيه فقال قوم بالوجوب وهو مذهب عطاء وابن جريج والنخعي واختيار محمد بن جرير الطبري وقال النخعي يشهد ولو على دستجة بقل وقال آخرون هذا الأمر محمول على الندب وعلى هذا جمهور الفقهاء المجتهدين والدليل عليه أنا نرى جمهور المسلمين في جميع ديار الإسلام يبيعون بالأثمان المؤجلة من غير كتابة ولا إشهاد وذلك إجماع على عدم وجوبهما ولأن في إيجابهما أعظم التشديد على المسلمين والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( بعثت بالحنيفية السهلة السمحة ) وقال قوم بل كانت واجبة إلا أن ذلك صار منسوخاً بقوله فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدّ الَّذِى اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ ( البقرة 283 ) وهذا مذهب الحسن والشعبي والحكم وابن عيينة وقال التيمي سألت الحسن عنها فقال إن شاء أشهد وإن شاء لم يشهد ألا تسمع قوله تعالى فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا واعلم أنه تعالى لما أمر بكتب هذه المداينة اعتبر في تلك الكتبة شرطين
الشرط الأول أن يكون الكاتب عدلاً وهو قوله وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُم كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ واعلم أن قوله تعالى فَاكْتُبُوهُ ظاهره يقتضي أنه يجب على كل أحد أن يكتب لكن ذلك غير ممكن فقد لا يكون ذلك الإنسان كاتباً فصار معنى قوله فَاكْتُبُوهُ أي لا بد من حصول هذه الكتبة وهو كقوله تعالى وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَة ُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء ( المائدة 38 ) فإن ظاهره وإن كان يقتضي خطاب الكل بهذا الفعل إلا أنا علمنا أن المقصود منه أنه لا بد من حصول قطع اليد من إنسان واحد إما الإمام أو نائبه أو المولى فكذا هاهنا ثم تأكد هذا الذي قلناه بقوله تعالى وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُم كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ فإن هذا يدل على أن المقصود حصول هذه الكتبة من أي شخص كان
أما قوله بِالْعَدْلِ ففيه وجوه الأول أن يكتب بحيث لا يزيد في الدين ولا ينقص منه ويكتبه بحيث يصلح أن يكون حجة له عند الحاجة إليه الثاني إذا كان فقيهاً وجب أن يكتب بحيث لا يخص

أحدهما بالاحتياط دون الآخر بل لا بد وأن يكتبه بحيث يكون كل واحد من الخصمين آمنا من تمكن الآخر من إبطال حقه الثالث قال بعض الفقهاء العدل أن يكون ما يكتبه متفقاً عليه بين أهل العلم ولا يكون بحيث يجد قاض من قضاة المسلمين سبيلاً إلى إبطاله على مذهب بعض المجتهدين الرابع أن يحترز عن الألفاظ المجملة التي يقع النزاع في المراد بها وهذه الأمور التي ذكرناها لا يمكن رعايتها إلا إذا كان الكاتب فقيهاً عارفاً بمذاهب المجتهدين وأن يكون أديباً مميزاً بين الألفاظ المتشابهة ثم قال وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ وفيه مسائل
المسألة الأولى ظاهر هذا الكلام نهى لكل من كان كاتباً عن الامتناع عن الكتبة وإيجاب الكتبة على كل من كان كاتباً وفيه وجوه الأول أن هذا على سبيل الارشاد إلى الأولى لا على سبيل الإيجاب والمعنى أن الله تعالى لما علمه الكتبة وشرّفه بمعرفة الأحكام الشرعية فالأولى أن يكتب تحصيلاً لمهم أخيه المسلم شكراً لتلك النعمة وهو كقوله تعالى وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ( القصص 77 ) فإنه ينتفع الناس بكتابته كما نفعه الله بتعليمها
والقول الثاني وهو قول الشعبي أنه فرض كفاية فإن لم يجد أحداً يكتب إلا ذلك الواحد وجب الكتبة عليه فإن وجد أقواماً كان الواجب على واحد منهم أن يكتب
والقول الثالث أن هذا كان واجباً على الكاتب ثم نسخ بقوله تعالى وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ
والقول الرابع أن متعلق الإيجاب هو أن يكتب كما علمه الله يعني أن بتقدير أن يكتب فالواجب أن يكتب على ما علمه الله وأن لا يخل بشرط من الشرائط ولا يدرج فيه قيداً يخل بمقصود الإنسان وذلك لأنه لو كتبه من غير مراعاة هذه الشروط اختل مقصود الإنسان وضاع ماله فكأنه قيل له إن كنت تكتب فاكتبه عن العدل واعتبار كل الشرائط التي اعتبرها الله تعالى
المسألة الثانية قوله كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فيه احتمالان الأول أن يكون متعلقاً بما قبله ولا يأب كاتب عن الكتابة التي علمه الله إياها ولا ينبغي أن يكتب غير الكتابة التي علمه الله إياها ثم قال بعد ذلك فليكتب تلك الكتابة التي علمه الله إياها
والاحتمال الثاني أن يكون متعلقاً بما بعده والتقدير ولا يأب كاتب أن يكتب وهاهنا تم الكلام ثم قال بعده كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ فيكون الأول أمراً بالكتابة مطلقاً ثم أردفه بالأمر بالكتابة التي علمه الله إياها والوجهان ذكرهما الزجاج
الشرط الثاني في الكتابة قوله تعالى وَلْيُمْلِلِ الَّذِى عَلَيْهِ الْحَقُّ وفيه مسألتان
المسألة الأولى أن الكتابة وإن وجب أن يختار لها العالم بكيفية كتب الشروط والسجلات لكن ذلك لا يتم إلا بإملاء من عليه الحق فليدخل في جملة إملائه اعترافه بما عليه من الحق في قدره وجنسه وصفته وأجله إلى غير ذلك فلأجل ذلك قال تعالى وَلْيُمْلِلِ الَّذِى عَلَيْهِ الْحَقُّ
المسألة الثانية الأملال والإملاء لغتان قال الفرّاء أمللت عليه الكتاب لغة أهل الحجاز وبني أسد

وأمليت لغة تميم وقيس ونزل القرآن باللغتين قال تعالى في اللغة الثانية فَهِى َ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَة ً وَأَصِيلاً ( الفرقان 5 )
ثم قال وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً وهذا أمر لهذا المملى الذي عليه الحق بأن يقر بمبلغ المال الذي عليه ولا ينقص منه شيئاً
ثم قال تعالى وَإِن كَانَ الَّذِى عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ والمعنى أن من عليه الدين إذا لم يكن إقراره معتبراً فالمعتبر هو إقرار وليّه
ثم في الآية مسائل
المسألة الأولى إدخال حرف أَوْ بين هذه الألفاظ الثلاثة أعني السفيه والضعيف ومن لا يستطيع أن يمل يقتضي كونها أموراً متغايرة لأن معناه أن الذي عليه الحق إذا كان موصوفاً بإحدى هذه الصفات الثلاث فليملل وليه بالعدل فيجب في الثلاثة أن تكون متغايرة وإذا ثبت هذا وجب حمل السفيه على الضعيف الرأي ناقص العقل من البالغين والضعيف على الصغير والمجنون والشيخ الخرف وهم الذين فقدوا العقل بالكلية والذي لا يستطيع لأن يمل من يضعف لسانه عن الإملاء لخرس أو جهله بماله وما عليه فكل هؤلاء لا يصح منهم الإملاء والإقرار فلا بد من أن يقوم غيرهم مقامهم فقال تعالى فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ والمراد ولي كل واحد من هؤلاء الثلاثة لأن ولي المحجور السفيه وولي الصبي هو الذي يقر عليه بالدين كما يقرب بسائر أموره وهذا هو القول الصحيح وقال ابن عباس ومقاتل والربيع المراد بوليه ولي الدين يعني أن الذي له الدين يملي وهذا بعيد لأنه كيف يقبل قول المدعي وإن كان قوله معتبراً فأي حاجة بنا إلى الكتابة والإشهاد
النوع الثاني من الأمور التي اعتبرها الله تعالى في المداينة الإشهاد وهو قوله تعالى وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مّن رّجَالِكُمْ واعلم أن المقصود من الكتابة هو الاستشهاد لكي يتمكن بالشهود عند الجحود من التوصل إلى تحصيل الحق وفي الآية مسائل
المسألة الأولى استشهدوا أي أشهدوا يقال أشهدت الرجل واستشهدته بمعنى والشهيدان هما الشاهدان فعيل بمعنى فاعل
المسألة الثانية الإضافة في قوله شَهِيدَيْنِ مّن رّجَالِكُمْ فيه وجوه الأول يعني من أهل ملتكم وهم المسلمون والثاني قال بعضهم يعني الأحرار والثالث مّن رّجَالِكُمْ الذين تعتدونهم للشهادة بسبب العدالة
المسألة الثالثة شرائط الشهادة كثيرة مذكورة في كتب الفقه ونذكر هاهنا مسألة واحدة وهي أن عند شريح وابن سيرين وأحمد تجوز شهادة العبد وعند الشافعي وأبي حنيفة رضي الله عنهما لا تجوز حجة شريح أن قوله تعالى وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مّن رّجَالِكُمْ عام يتناول العبيد وغيرهم والمعنى المستفاد من النص أيضاً دال عليه وذلك لأن عقل الإنسان ودينه وعدالته تمنعه من الكذب فإذا شهد عند اجتماع هذه الشرائط تأكد به قول المدعي فصار ذلك سبباً في إحياء حقه والعقل والدين والعدالة لا تختلف بسبب

الحرية والرق فوجب أن تكون شهادة العبيد مقبولة حجة الشافعي وأبي حنيفة رضي الله عنهما قوله تعالى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ فهذا يقتضي أنه يجب على كل من كان شاهداً الذهاب إلى موضع أداء الشهادة ويحرم عليه عدم الذهاب إلى أداء الشهادة فلما دلّت الآية على أن كل من كان شاهداً وجب عليه الذهاب والإجماع دل على أن العبد لا يجب عليه الذهاب فوجب أن لا يكون العبد شاهداً وهذا الاستدلال حسن
وأما قوله تعالى وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مّن رّجَالِكُمْ فقد بينا أن منهم من قال واستشهدوا شهيدين من رجالكم الذين تعتدونهم لأداء الشهادة وعلى هذا التقدير فلم قلتم أن العبيد كذلك
ثم قال تعالى فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ وفي ارتفاع رجل وامرأتان أربعة أوجه الأول فليكن رجل وامرأتان والثاني فليشهد رجل وامرأتان والثالث فالشاهد رجل وامرأتان والرابع فرجل وامرأتان يشهدون كل هذه التقديرات جائز حسن ذكرها علي بن عيسى رحمه الله
ثم قال مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء وهو كقوله تعالى في الطلاق وَأَشْهِدُواْ ذَوَى عَدْلٍ مّنكُمْ ( الطلاق 2 ) واعلم أن هذه الآية تدل على أنه ليس كل أحد صالحاً للشهادة والفقهاء قالوا شرائط قبول الشهادة عشرة أن يكون حراً بالغاً مسلماً عدلاً عالماً بما شهد به ولم يجر بتلك الشهادة منفعة إلى نفسه ولا يدفع بها مضرة عن نفسه ولا يكون معروفاً بكثرة الغلط ولا بترك المروأة ولا يكون بينه وبين من يشهد عليه عداوة
ثم قال أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا الاْخْرَى والمعنى أن النسيان غالب طباع النساء لكثرة البرد والرطوبة في أمزجتهن واجتماع المرأتين على النسيان أبعد في العقل من صدور النسيان على المرأة الواحدة فأقيمت المرأتان مقام الرجل الواحد حتى أن إحداهما لو نسيت ذكرتها الأخرى فهذا هو المقصود من الآية ثم فيها مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة أَن تَضِلَّ بكسر إن فَتُذَكّرَ بالرفع والتشديد ومعناه الجزاء موضع تَضِلَّ جزم إلا أنه لا يتبين في التضعيف فَتُذَكّرَ رفع لأن ما بعد الجزاء مبتدأ وأما سائر القراء فقرؤا بنصب ءانٍ وفيه وجهان أحدهما التقدير لأن تضل فحذف منه الخافض والثاني على أنه مفعول له أي إرادة أن تضل
فإن قيل كيف يصح هذا الكلام والإشهاد للاذكار لا الإضلال
قلنا هاهنا غرضان أحدهما حصول الإشهاد وذلك لا يأتي إلا بتذكير إحدى المرأتين الثانية والثاني بيان تفضيل الرجل على المرأة حتى يبين أن إقامة المرأتين مقام الرجل الواحد هو العدل في القضية وذلك لا يأتي إلا في ضلال إحدى المرأتين فإذا كان كل واحد من هذين الأمرين أعني الإشهاد وبيان فضل الرجل على المرأة مقصوداً ولا سبيل إلى ذلك إلا بضلال إحداهما وتذكر الأخرى لا جرم صار هذان الأمران مطلوبين هذا ما خطر ببالي من الجواب عن هذا السؤال وقت كتبه هذا الموضع وللنحويين أجوبة أخرى ما استحسنتها والكتب مشتملة عليها والله أعلم

المسألة الثانية الضلال في قوله أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فيه وجهان أحدهما أنه بمعنى النسيان قال تعالى وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ أي ذهب عنهم الثاني أن يكون ذلك من ضل في الطريق إذا لم يهتد له والوجهان متقاربان وقال أبو عمرو أصل الضلال في اللغة الغيبوبة
المسألة الثالثة قرأ نافع وابن عامر وعاصم والكسائي فَتُذَكّرَ بالتشديد والنصب وقرأ حمزة بالتشديد والرفع وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتخفيف والنصب وهما لغتان ذكر وأذكر نحو نزل وأنزل والتشديد أكثر استعمالاً قال تعالى فَذَكّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكّرٌ ( الغاشية 21 ) ومن قرأ بالتخفيف فقد جعل الفعل متعدياً بهمزة الأفعال وعامة المفسرين على أن هذا التذكير والإذكار من النسيان إلا ما يروى عن سفيان بن عيينة أنه قال في قوله فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا الاْخْرَى أن تجعلها ذكراً يعني أن مجموع شهادة المرأتين مثل شهادة الرجل الواحد وهذا الوجه منقول عن أبي عمرو بن العلاء قال إذا شهدت المرأة ثم جاءت الأخرى فشهدت معها أذكرتها لأنهما يقومان مقام رجل واحد وهذا الوجه باطل باتفاق عامة المفسرين ويدل على ضعفه وجهان الأول أن النساء لو بلغن ما بلغن ولم يكن معهن رجل لم تجز شهادتهن فإذا كان كذلك فالمرأة الثانية ما ذكرت الأولى
الوجه الثاني أن قوله فَتُذَكّرَ مقابل لما قبله من قوله أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فلما كان الضلال مفسر بالنسيان كان الإذكار مفسراً بما يقابل النسيان
ثم قال تعالى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ وفيه مسائل
المسألة الأولى في هذه الآية وجوه الأول وهو الأصح أنه نهى الشاهد عن الامتناع عن أداء الشهادة عند احتياج صاحب الحق إليها والثاني أن المراد تحمل الشهادة على الإطلاق وهو قول قتادة واختيار القفال قال كما أمر الكاتب أن لا يأبى الكتابة كذلك أمر الشاهد أن لا يأبى عن تحمل الشهادة لأن كل واحد منهما يتعلق بالآخر وفي عدمهما ضياع الحقوق الثالث أن المراد تحمل الشهادة إذا لم يوجد غيره الرابع وهو قول الزجاج أن المراد بمجموع الأمرين التحمل أولاً والأداء ثانياً واحتج القائلون بالقول الأول من وجوه الأول أن قوله وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ يقتضي تقديم كونهم شهداء وذلك لا يصح إلا عند أداء الشهادة فأما وقت التحمل فإنه لم يتقدم ذلك الوقت كونهم شهداء
فإن قيل يشكل هذا بقوله وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مّن رّجَالِكُمْ وكذلك سماه كاتباً قبل أن يكتب
قلنا الدليل الذي ذكرناه صار متروكاً بالضرورة في هذه الآية فلا يجوز أن نتركه لعلة ضرورة في تلك الآية والثاني أن ظاهر قوله وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ النهي عن الامتناع والأمر بالفعل وذلك للوجوب في حق الكل ومعلوم أن التحمل غير واجب على الكل فلم يجز حمله عليه وأما الأداء بعد التحمل فإنه واجب على الكل ومتأكد بقوله تعالى وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَة َ فكان هذا أولى الثالث أن الأمر بالإشهاد يفيد أمر الشاهد بالتحمل من بعض الوجوه فصار الأمرر بتحمل الشهادة داخلاً في قوله وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مّن رّجَالِكُمْ فكان صرف قوله وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ إلى الأمر بالأداء حملاً له على فائدة جديدة فكان ذلك أولى فقد ظهر بما ذكرنا دلالة الآية على أنه يجب على الشاهد أن لا يمتنع من إقامة الشهادة إذا دعي إليها

واعلم أن الشاهد إما أن يكون متعيناً وإما أن يكون فيهم كثرة فإن كان متعيناً وجب عليه أداء الشهادة وإن كان فيهم كثرة صار ذلك فرضاً على الكفاية
المسألة الثانية قد شرحنا دلالة هذه الآية على أن العبد لا يجوز أن يكون شاهداً فلا نعيده الثالثة قال الشافعي رضي الله عنه يجوز القضاء بالشاهد واليمين وقال أبو حنيفة رضي الله عنه لا يجوز واحتج أبو حنيفة بهذه الآية فقال إن الله تعالى أوجب عند عدم شهادة رجلين شهادة الرجل والمرأتين على التعيين فلو جوزنا الاكتفاء بالشاهد واليمين لبطل ذلك التعيين وحجة الشافعي رضي الله عنه أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قضى بالشاهد واليمين وتمام الكلام فيه مذكور في خلافيات الفقه
واعلم أنه تعالى لما أمر عند المداينة بالكتبة أولاً ثم بالإشهاد ثانياً أعاد ذلك مرة أخرى على سبيل التأكيد فأمر بالكتبة فقال وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وفيه مسائل
المسألة الأولى السآمة الملال والضجر يقال سئمت الشيء سأماً وسآمة والمقصود من الآية البعث على الكتابة قل المال أو كثر فإن القليل من المال في هذا الاحتياط كالكثير فإن النزاع الحاصل بسبب القليل من المال ربما أدى إلى فساد عظيم ولجاج شديد فأمر تعالى في الكثير والقليل بالكتابة فقال وَلاَ يَأْبَ أي ولا تملوا فتتركوا ثم تندموا
فإن قيل فهل تدخل الحبة والقيراط في هذا الأمر
قلنا لا لأن هذا محمول على العادة ليس في العادة أن يكتبوا التافه
المسألة الثانية ءانٍ في محل النصب لوجهين إن شئت جعلته مع الفعل مصدراً فتقديره ولا تسأموا كتابته وإن شئت بنزع الخافض تقديره ولا تسأموا من أن تكتبوه إلى أجله
المسألة الثالثة الضمير في قوله أَن تَكْتُبُوهُ لا بد وأن يعود إلى المذكورر سابقاً وهو هاهنا إما الدين وإما الحق
المسألة الرابعة قرىء وَلاَ بالياء فيهما
ثم قال تعالى ذالِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَة ِ وَأَدْنَى أَن لا تَرْتَابُواْ اعلم أن الله تعالى بيّن أن الكتبة مشتملة على هذه الفوائد الثلاث
الفائدة الأولى قوله ذالِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وفي قوله ذالِكُمْ وجهان الأول أنه إشارة إلى قوله أَن تَكْتُبُوهُ لأنه في معنى المصدر أي ذلك الكتب أقسط والثاني قال القفال رحمه الله ذلاكم الذي أمرتكم به من الكتب والإشهاد لأهل الرضا ومعنى أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ أعدل عند الله والقسط اسم والإقساط مصدر يقال أقسط فلان في الحكم يقسط إقساطاً إذا عدل فهو مقسط قال تعالى إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ( الممتحنة 8 ) ( الحجرات 9 ) ويقال هو قاسط إذا جار قال تعالى وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً ( الجن 15 ) وإنما كان هذا أعدل عند الله لأنه إذا كان مكتوباً كان إلى اليقين والصدق أقرب وعن الجهل والكذب أبعد فكان أعدل عند الله وهو كقوله تعالى ادْعُوهُمْ لاِبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ ( الأحزاب 5 ) أي أعدل عند الله وأقرب إلى الحقيقة من أن تنسبوهم إلى غير آبائهم

والفائدة الثانية قوله أَقْوَمُ لِلشَّهَادَة ِ معنى أَقْوَمُ أبلغ في الاستقامة التي هي ضد الاعوجاج وذلك لأن المنتصب القائم ضد المنحني المعوج
فإن قيل مم بنى أفعل التفضيل أعني أقسط وأقوم
قلنا يجوز على مذهب سيبويه أن يكونا مبنيين من أقسط وأقام ويجوز أن يكون أقسط من قاسط وأقوم من قويم
واعلم أن الكتابة إنما كانت أقوم للشهادة لأنها سبب للحفظ والذكر فكانت أقرب إلى الاستقامة والفرق بين الفائدة الأولى والثانية أن الأولى تتعلق بتحصيل مرضاة الله تعالى والثانية بتحصيل مصلحة الدنيا وإنما قدمت الأولى على الثانية إشعاراً بأن الدين يجب تقديمه على الدنيا
والفائدة الثالثة هي قوله وَأَدْنَى أَن لا تَرْتَابُواْ يعني أقرب إلى زوال الشك والارتياب عن قلوب المتداينين والفرق بين الوجهين الأولين وهذا الثالث الوجهين الأولين يشيران إلى تحصيل المصلحة فالأول إشارة إلى تحصيل مصلحة الدين والثاني إشارة إلى تحصيل مصلحة الدنيا وهذا الثالث إشارة إلى دفع الضرر عن النفس وعن الغير أما عن النفس فإنه لا يبقى في الفكر أن هذا الأمر كيف كان وهذا الذي قلت هل كان صدقاً أو كذباً وأما دفع الضر عن الغير فلأن ذلك الغير ربما نسبه إلى الكذب والتقصير فيقع في عقاب الغيبة والبهتان فما أحسن هذه الفوائد وما أدخلها في القسط وما أحسن ما فيها من الترتيب
ثم قال تعالى إِلا أَن تَكُونَ تِجَارَة ً حَاضِرَة ً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى إِلا فيه وجهان أحدهما أنه استثناء متصل والثاني أنه منقطع أما الأول ففيه وجهان الأول أنه راجع إلى قوله تعالى إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وذلك لأن البيع بالدين قد يكون إلى أجل قريب وقد يكون إلى أجل بعيد فلما أمر بالكتبة عند المداينة استثنى عنها ما إذا كان الأجل قريباً والتقدير إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه إلا أن يكون الأجل قريباً وهو المراد من التجارة الحاضرة والثاني أن هذا استثناء من قوله وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ وأما الاحتمال الثاني وهو أن يكون هذا استثناءً منقطعاً فالتقدير لكنه إذا كانت التجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها فهذا يكون كلاماً مستأنفاً وإنما رخص تعالى في ترك الكتبة والإشهاد في هذا النوع من التجارة لكثرة ما يجري بين الناس فلو تكلف فيها الكتبة والإشهاد لشق الأمر على الخلق ولأنه إذا أخذ كل واحد من المتعاملين حقه من صاحبه في ذلك المجلس لم يكن هناك خوف التجاحد فلم يكن هناك حاجة إلى الكتبة والإشهاد
المسألة الثانية قوله أَن تَكُونَ فيه قولان أحدهما أنه من الكون بمعنى الحدوث والوقوع كما ذكرناه في قوله وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَة ٍ والثاني قال الفرّاء إن شئت جعلت كَانَ ههنا ناقصة على أن الاسم تجارة حاضرة والخبر تديرونها والتقدير إلا أن تكون تجارة حاضرة دائرة بينكم
المسألة الثالثة قرأ عاصم تِجَارَة ً بالنصب والباقون بالرفع أما القراءة بالنصب فعلى أنه خبر كان ولا بد فيه من إضمار الاسم وفيه وجوه أحدها التقدير إلا أن تكون التجارة تجارة حاضرة كتبة الكتاب ومنه قول الشاعر

بني أسد هل تعلمون بلاءنا
إذا كان يوما ذا كواكب أشهبا
أي إذا كان اليوم وثانيها أن يكون التقدير إلا أن يكون الأمر والشأن تجارة وثالثها قال الزجاج التقدير إلا أن تكون المداينة تجارة حاضر قال أبو علي الفارسي هذا غير جائز لأن المداينة لا تكون تجارة حاضرة ويمكن أن يجاب عنه بأن المداين إذا كانت إلى أجل ساعة صح تسميتها بالتجارة الحاضرة فإن من باع ثوباً بدرهم في الذمة بشرط أن تؤدي الدرهم في هذه الساعة كان ذلك مداينة وتجارة حاضرة وأما القراءة بالرفع فالوجه فيها ما ذكرناه في المسألة الثانية والله أعلم
المسألة الرابعة التجارة عبارة عن التصرف في المال سواء كان حاضراً أو في الذمة لطلب الربح يقال تجر الرجل يتجر تجارة فهو تاجر واعلم أنه سواء كانت المبايعة بدين أو بعين فالتجارة تجارة حاضرة فقوله إِلا أَن تَكُونَ تِجَارَة ً حَاضِرَة ً لا يمكن حمله على ظاهره بل المراد من التجارة ما يتجر فيه من الإبدال ألا ومعنى إدارتها بينهم معاملتهم فيها يداً بيد ثم قال فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن لا تَكْتُبُوهَا ( البقرة 282 ) معناه لا مضرة عليكم في ترك الكتابة ولم يرد الإثم عليكم لأنه لو أراد الإثم لكانت الكتابة المذكورة واجبة عليهم ويأثم صاحب الحق بتركها وقد ثبت خلاف ذلك وبيان أنه لا مضرة عليهم في تركها ما قدمناه
ثم قال تعالى وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وأكثر المفسرين قالوا المراد أن الكتابة وإن رفعت عنهم في التجارة إلا أن الاشهاد ما رفع عنهم لأن الإشهاد بلا كتابة أخف مؤنة ولأن الحاجة إذا وقعت إليها لا يخاف فيها النسيان
واعلم أنه لا شك أن المقصود من هذا الأمر الإرشاد إلى طريق الاحتياط
ثم قال تعالى وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ واعلم أنه يحتمل أن يكون هذا نهياً للكاتب والشهيد عن إضرار من له الحق أما الكاتب فبأن يزيد أو ينقص أو يترك الاحتياط وأما الشهيد فبأن لا يشهد أو يشهد بحيث لا يحصل معه نفع ويحتمل أن يكون نهياً لصاحب الحق عن إضرار الكاتب والشهيد بأن يضرهما أو يمنعهما عن مهماتهما والأول قول أكثر المفسرين والحسن وطاوس وقتادة والثاني قول ابن مسعود وعطاء ومجاهد
واعلم أن كلا الوجهين جائز في اللغة وإنما احتمل الوجهين بسبب الإدغام الواقع في لا يُضَارَّ أحدهما أن يكون أصله لا يضارر بكسر الراء الأولى فيكون الكاتب والشهيد هما الفاعلان للضرار والثاني أن يكون أصله لا يضارر بفتح الراء الأولى فيكون هما المفعول بهما الضرار ونظير هذه الآية التي تقدمت في هذه السورة وهو قوله لاَ تُضَارَّ والِدَة ٌ بِوَلَدِهَا وقد أحكمنا بيان هذا اللفظ هناك والدليل على ما ذكرنا من احتمال الوجهين قراءة عمر رضي الله عنه وَلاَ بالإظهار والكسر وقراءة ابن عباس وَلاَ بالإظهار والفتح واختار الزجاج القول الأول واحتج عليه بقوله تعالى بعد ذلك وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ قَالَ وَذَلِكَ لاِنْ اسْمَ بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَة ٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدّ الَّذِى اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَة َ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءاثِمٌ قَلْبُهُ ( البقرة 283 ) والإثم والفاسق متقاربان واحتج من نصر القول الثاني بأن هذا لو كان

خطاباً للكاتب والشهيد لقيل وإن تفعلا فإنه فسوق بكم وإذا كان هذا خطاباً للذين يقدمون على المداينة فالمنهيون عن الضرار هم والله أعلم
ثم قال وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وفيه وجهان أحدهما يحتمل أنه يحمل على هذا الموضع خاصة والمعنى فإن تفعلوا ما نهيتكم عنه من الضرار والثاني أنه عام في جميع التكليف والمعنى وإن تفعلوا شيئاً مما نهيتكم عنه أو تتركوا شيئاً مما أمرتكم به فإنه فسوق بكم أي خروج عن أمر الله تعالى وطاعته
ثم قال تعالى وَاتَّقُواْ اللَّهَ يعني فيما حذر منه هاهنا وهو المضارة أو يكون عاماً والمعنى اتقوا الله في جميع أوامره ونواهيه
ثم قال وَيُعَلّمُكُمُ اللَّهُ والمعنى أنه يعلمكم ما يكون إرشاداً واحتياطاً في أمر الدنيا كما يعلمكم ما يكون إرشاداً في أمر الدين وَاللَّهُ بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ إشارة إلى كونه سبحانه وتعالى عالماً بجميع مصالح الدنيا والآخرة
وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَة ٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِى اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَة َ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءَاثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ
إعلم أنه تعالى جعل البياعات في هذه الآية على ثلاثة أقسام بيع بكتاب وشهود وبيع برهان مقبوضة وبيع الأمانة ولما أمر في آخر الآية المتقدمة بالكتبة والإشهاد واعلم أنه ربما تعذر ذلك في السفر إما بأن لا يوجد الكاتب أو إن وجد لكنه لا توجد آلات الكتابة ذكر نوعاً آخر من الاستيثاق وهو أخذ الرهن فهذا وجه النظم وهذا أبلغ في الاحتياط من الكتبة والإشهاد ثم في الآية مسائل
المسألة الأولى ذكرنا اشتقاق في السفر في قوله تعالى فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّة ٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ( البقرة 184 ) ونعيده هاهنا قال أهل اللغة تركيب هذه الحروف للظهور والكشف فالسفر هو الكتاب لأنه يبين الشيء ويوضحه وسمي السفر سفراً لأنه يسفر عن أخلاق الرجال أي يكشف أو لأنه لما خرج من الكن إلى الصحراء فقد انكشف للناس أو لأنه لما خرج إلى الصحراء فقد صارت أرض البيت منكشفة خالية وأسفر الصبح إذا ظهر وأسفرت المرأة عن وجهها أي كشفت وسفرت عن القوم أسفر سفارة إذا كشفت ما في قلوبهم وسفرت أسفر إذا كنست والسفر الكنس وذلك لأنك إذا كنست

فقد أظهرت ما كان تحت الغبار والسفر من الورق ما سفر به الريح ويقال لبقية بياض النهار بعد مغيب الشمس سفر لوضوحه والله أعلم
المسألة الثانية أصل الرهن من الدوام يقال رهن الشيء إذا دام وثبت ونعمة راهنة أي دائمة ثابتة
إذا عرفت أصل المعنى فنقول أصل الرهن مصدر يقال رهنت عند الرجل أرهنه رهناً إذا وضعت عنده قال الشاعر يراهنني فيرهنني بنيه
وأرهنه بني بما أقول
إذا عرفت هذا فنقول إن المصادر قد تنقل فتجعل أسماء ويزول عنها عمل الفعل فإذا قال رهنت عند زيد رهناً لم يكن انتصابه انتصاب المصدر لكن انتصاب المفعول به كما تقول رهنت عند زيد ثوباً ولما جعل اسماً بهذا الطريق جمع كما تجعل الأسماء وله جمعان رهن ورهان ومما جاء على رهن قول الأعشى آليت لا أعطيه من أبنائنا
رهناً فيفسدهم كمن قد أفسدا
وقال بعيث بانت سعاد وأمسى دونها عدن
وغلقت عندها من قبلك الرهن
ونظيره قولنا رهن ورهن سقف وسقف ونشر ونشر وخلق وخلق قال الزجاج فعل وفعلى قليل وزعم الفرّاء أن الرهن جمعه رهان ثم الرهان جمعه رهن فيكون رهن جمع الجمع وهو كقولهم ثمار وثمر ومن الناس من عكس هذا فقال الرهن جمعه رهن والرهن جمعه رهان واعلم أنهما لما تعارضا تساقطا لا سيما وسيبويه لا يرى جمع الجمع مطرداً فوجب أن لا يقال به إلا عند الاتفاق وأما أن الرهان جمع رهن فهو قياس ظاهر مثل نعل ونعال وكبش وكباش وكعب وكعاب وكلب وكلاب
المسألة الثالثة قرأ ابن كثير أبو عمرو فَرِهَانٌ بضم الراء والهاء وروي عنهما أيضاً فَرِهَانٌ برفع الراء وإسكان الهاء والباقون فَرِهَانٌ قال أبو عمرو لا أعرف الرهان إلا في الخيل فقرأت فَرِهَانٌ للفصل بين الرهان في الخيل وبين جمع الرهن وأما قراءة أبي عمرو بضم الراء وسكون الهاء فقال الأخفش إنها قبيحة لأن فعلاً لا يجمع على فعل إلا قليلاً شاذاً كما يقال سقف وسقف تارة بضم القاف وأخرى بتسكينها وقلب للنخل ولحد ولحد وبسط وبسط وفرس ورد وخيل ورد
المسأل الرابعة في الآية حذف فإن شئنا جعلناه مبتدأ وأضمرنا الخبر والتقدير فرهن مقبوضة بدل من الشاهدين أو ما يقوم مقامهما أو فعليه رهن مقبوضة وإن شئنا جعلناه خبراً وأضمرنا المبتدأ والتقدير فالوثيقة رهن مقبوضة
المسألة الخامسة اتفقت الفقهاء اليوم على أن الرهن في السفر والحضر سواء في حال وجود الكاتب وعدمه وكان مجاهد يذهب إلى أن الرهن لا يجوز إلا في السفر أخذاً بظاهر الآية ولا يعمل بقوله اليوم وإنما تقيدت الآية بذكر السفر على سبيل الغالب كقوله فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلواة ِ إِن

ْ خِفْتُمْ ( النساء 101 ) وليس الخوف من شرط جواز القصر
المسألة السادسة مسائل الرهن كثيرة واحتج من قال بأن رهن المشاع لا يجوز بأن الآية دلّت على أن الرهن يجب أن يكون مقبوضاً والعقل أيضاً يدل عليه لأن المقصود من الرهن استيثاق جانب صاحب الحق بمنع الجحود وذلك لا يحصل إلا بالقبض والمشاع لا يمكن أن يكون مقبوضاً فوجب ألا يصح رهن المشاع
ثم قال تعالى فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدّ الَّذِى اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ واعلم أن هذا هو القسم الثالث من البياعات المذكورة في الآية وهو بيع الأمانة أعني ما لا يكون فيه كتابة ولا شهود ولا يكون فيه رهن وفيه مسائل
المسألة الأولى أمن فلان غيره إذا لم يكن خائفاً منه قال تعالى هَلْ امَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ ( يوسف 64 ) فقوله فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا أي لم يخف خيانته وجحوده فَلْيُؤَدّ الَّذِى اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ أي فليؤد المديون الذي كان أميناً ومؤتمناً في ظن الدائن فلا يخلف ظنه في أداء أمانته وحقه إليه يقال أمنته وائتمنته فهو مأمون ومؤتمن
ثم قال وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ أي هذا المديون يجب أن يتقي الله ولا يجحد لأن الدائن لما عامله المعاملة الحسنة حيث عول على أمانته ولم يطالبه بالوثائق من الكتابة والإشهاد والرهن فينبغي لهذا المديون أن يتقي الله ويعامله بالمعاملة الحسنة في أن لا ينكر ذلك الحق وفي أن يؤديه إليه عند حلول الأجل وفي الآية قول آخر وهو أنه خطاب للمرتهن بأن يؤدي الرهن عند استيفاء المال فإنه أمانة في يده والوجه هو الأول
المسألة الثانية من الناس من قال هذه الآية ناسخة للآيات المتقدمة الدالة على وجوب الكتابة والإشهاد وأخذ الرهن واعلم أن التزام وقوع النسخ من غير دليل يلجىء إليه خطأ بل تلك الأوامر محمولة على الإرشاد ورعاية الاحتياط وهذه الآية محمولة على الرخصة وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال ليس في آية المداينة نسخ ثم قال وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَة َ وفي التأويل وجوه
الوجه الأول قال القفال رحمه الله إنه تعالى لما أباح ترك الكتابة والإشهاد والرهن عند اعتقاد كون المديون أميناً ثم كان من الجائز في هذا المديون أن يخلف هذا الظن وأن يخرج خائناً جاحداً للحق إلا أنه من الجائز أن يكون بعض الناس مطلعاً على أحوالهم فههنا ندب الله تعالى ذلك الإنسان إلى أن يسعى في إحياء ذلك الحق وأن يشهد لصاحب الحق بحقه ومنعه من كتمان تلك الشهادة سواء عرف صاحب الحق تلك الشهادة أو لم يعرف وشدد فيه بأن جعله آثم القلب لو تركها وقد روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) خبر يدل على صحة هذا التأويل وهو قوله ( خير الشهود من شهد قبل أن يستشهد )
الوجه الثاني في تأويل أن يكون المراد من كتمان الشهادة أن ينكر العلم بتلك الواقعة ونظيره قوله تعالى أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالاسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ ءأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ ( البقرة 140 ) والمراد الجحود وإنكار العلم
الوجه الثالث في كتمان الشهادة والامتناع من أدائها عند الحاجة إلى إقامتها وقد تقدم ذلك في قوله

وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ ( البقرة 282 ) وذلك لأنه متى امتنع عن إقامة الشهادة فقد بطل حقه وكان هو بالامتناع من الشهادة كالمبطل لحقه وحرمة مال المسلم كحرمة دمه فهذا بالغ في الوعيد
ثم قال وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءاثِمٌ قَلْبُهُ وفيه مسائل
المسألة الأولى الآثم الفاجر روي أن عمر كان يعلم أعرابياً إِنَّ شَجَرَة َ الزَّقُّومِ طَعَامُ الاْثِيمِ ( الدخان 43 44 ) فكان يقول طعام اليتيم فقال له عمر طعام الفاجر فهذا يدل على أن الآثم بمعنى الفجور
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) آثم خبر إن وقلبه رفع بآثم على الفاعلية كأنه قيل فإنه يأثم قلبه وقرىء قَلْبَهُ بالفتح كقوله سَفِهَ نَفْسَهُ ( البقرة 130 ) وقرأ ابن أبي عبلة قَلْبُهُ وَاللَّهُ أي جعله آثماً
المسألة الثالثة إعلم أن كثيراً من المتكلمين قالوا إن الفاعل والعارف والمأمور والمنهي هو القلب وقد استقصينا هذه المسألة في سورة الشعراء في تفسير قوله تعالى نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ عَلَى قَلْبِكَ ( الشعراء 193 ) وذكرنا طرفاً منه في تفسير قوله قُلْ مَن كَانَ عَدُوّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ ( البقرة 97 ) وهؤلاء يتمسكون بهذه الآية ويقولون إنه تعالى أضاف الآثم إلى القلب فلولا أن القلب هو الفاعل وإلا لما كان آثماً
وأجاب من خالف في هذا القول بأن إضافة الفعل إلى جزء من أجزاء البدن إنما يكون لأجل أن أعظم أسباب الإعانة على ذلك الفعل إنما يحصل من ذلك العضو فيقال هذا مما أبصرته عيني وسمعته أذني وعرفه قلبي ويقال فلان خبيث الفرج ومن المعلوم أن أفعال الجوارح تابعة لأفعال القلوب ومتولدة مما يحدث في القلوب من الدواعي والصوارف فلما كان الأمر كذلك فلهذا السبب أضيف الآثم ههنا إلى القلب
ثم قال عزّ وجلّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وهو تحذير من الإقدام على هذا الكتمان لأن المكلف إذا علم أنه لا يعزب عن علم الله ضمير قلبه كان خائفاً حذراً من مخالفة أمر الله تعالى فإنه يعلم أنه تعالى يحاسبه على كل تلك الأفعال ويجازيه عليها إن خيراً فخيراً وإن شراً فشراً
لِّلَّهِ مَا فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِى الأرض وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
في الآية مسائل

المسألة الأولى في كيفية النظم وجوه الأول قال الأصم إنه تعالى لما جمع في هذه السورة أشياء كثيرة من علم الأصول وهو دليل التوحيد والنبوّة وأشياء كثيرة من علم الأصول ببيان الشرائع والتكاليف وهي في الصلاة والزكاة والقصاص والصوم والحج والجهاد والحيض والطلاق والعدة والصداق والخلع والإيلاء والرضاع والبيع والربا وكيفية المداينة ختم الله تعالى هذه السورة بهذه الآية على سبيل التهديد
وأقول إنه قد ثبت أن الصفات التي هي كمالات حقيقية ليست إلا القدرة والعلم فعبّر سبحانه عن كمال القدرة بقوله للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ملكا وملكاً وعبر عن كمال العلم المحيط بالكليات والجزئيات بقوله وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ وإذا حصل كمال القدرة والعلم فكان كل من في السماوات والأرض عبيداً مربوبين وجدوا بتخليقه وتكوينه كان ذلك غاية الوعد للمطيعين ونهاية الوعيد للمذنبين فلهذا السبب ختم الله هذه السورة بهذه الآية
والوجه الثاني في كيفية النظم قال أبو مسلم إنه تعالى لما قال في آخر الآية المتقدمة وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ( البقرة 283 ) ذكر عقيبه ما يجري مجرى الدليل العقلي فقال للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ومعنى هذا الملك أن هذه الأشياء لما كانت محدثة فقد وجدت بتخليقه وتكوينه وإبداعه ومن كان فاعلاً لهذه الأفعال المحكمة المتقنة العجيبة الغريبة المشتملة على الحكم المتكاثرة والمنافع العظيمة لا بد وأن يكون عالماً بها إذ من المحال صدور الفعل المحكم المتقن عن الجاهل به فكان الله تعالى احتج بخلقه السماوات والأرض مع ما فيهما من وجوه الإحكام والإتقان على كونه تعالى عالماً بها محيطاً بأجزائها وجزئياتها
الوجه الثالث في كيفية النظم قال القاضي إنه تعالى لما أمر بهذه الوثائق أعني الكتبة والإشهاد والرهن فكان المقصود من الأمر بها صيانة الأموال والاحتياط في حفظها بيّن الله تعالى أنه إنما المقصود لمنفعة ترجع إلى الخلق لا لمنفعة تعود إليه سبحانه منها فإنه له ملك السماوات والأرض
الوجه الرابع قال الشعبي وعكرمة ومجاهد إنه تعالى لما نهى عن كتمان الشهادة وأوعد عليه بيّن أنه له ملك السماوات والأرض فيجازي على الكتمان والإظهار
المسألة الثانية احتج الأصحاب بقوله للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ على أن فعل العبد خلق الله تعالى لأنه من جملة ما في السماوات والأرض بدليل صحة الاستثناء واللام في قوله لِلَّهِ ليس لام الغرض فإنه ليس غرض الفاسق من فسقه طاعة الله فلا بد وأن يكون المراد منه لام الملك والتخليق
المسألة الثالثة احتج الأصحاب بهذه الآية على أن المعدوم ليس بشيء لأن من جملة ما في السماوات والأرض حقائق الأشياء وماهياتها فهي لا بد وأن تكون تحت قدرة الله سبحانه وتعالى وإنما تكون الحقائق والماهيات تحت قدرته لو كان قادراً على تحقيق تلك الحقائق وتكوين تلك الماهيات فإذا كان كذلك كانت قدرة الله تعالى مكونة للذوات ومحققة للحقاق فكان القول بأن المعدوم شيءً باطلاً
ثم قال تعالى وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ يروى عن ابن عباس أنه قال لما

نزلت هذه الآية جاء أبو بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف ومعاذ وناس إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا يا رسول الله كلفنا من العمل ما لا نطيق إن أحدنا ليحدث نفسه بما لا يحب أن يثبت في قلبه وإن له الدنيا فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( فلعلّكم تقولون كما قال بنو إسرائيل سمعنا وعصينا قولوا سمعنا وأطعنا فقالوا سمعنا وأطعنا واشتد ذلك عليهم فمكثوا في ذلك حولاً فأنزل الله تعالى لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ( البقرة 286 ) فنسخت هذه الآية فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثوا به أنفسهم مالم يعملوا أو يتكلموا به )
واعلم أن محل البحث في هذه الآية أن قوله وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ يتناول حديث النفس والخواطر الفاسدة التي ترد على القلب ولا يتمكن من دفعها فالمؤاخذة بها تجري مجرى تكليف ما لا يطاق والعلماء أجابوا عنه من وجوه
الوجه الأول أن الخواطر الحاصلة في القلب على قسمين فمنها ما يوطن الإنسان نفسه عليه ويعزم على إدخاله في الوجود ومنها ما لا يكون كذلك بل تكون أموراً خاطرة بالبال مع أن الإنسان يكرهها ولكنه لا يمكنه دفعها عن النفس فالقسم الأول يكون مؤاخذاً به والثاني لا يكون مؤاخذاً به ألا ترى إلى قوله تعالى لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِالَّلغْوِ فِى أَيْمَانِكُمْ وَلَاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ( البقرة 225 ) وقال في آخر هذه السورة لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ( البقرة 286 ) وقال إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَة ُ فِى الَّذِينَ ءامَنُواْ ( النور 19 ) هذا هو الجواب المعتمد
والوجه الثاني أن كل ما كان في القلب مما لا يدخل في العمل فهو في محل العفو وقوله وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ فالمراد منه أنه يدخل ذلك العمل في الوجود إما ظاهراً وإما على سبيل الخفية وأما ما وجد في القلب من العزائم والإرادات ولم يتصل بالعمل فكل ذلك في محل العفو وهذا الجواب ضعيف لأن أكثر المؤاخذات إنما تكون بأفعال القلوب ألا ترى أن اعتقاد الكفر والبدع ليس إلا من أعمال القلوب وأعظم أنواع العقاب مرتب عليه وأيضاً فأفعال الجوارح إذا خلت عن أفعال القلوب لا يترتب عليها عقاب كأفعال النائم والساهي فثبت ضعف هذا الجواب
والوجه الثالث في الجواب أن الله تعالى يؤاخذه بها لكن مؤاخذتها هي العموم والغموم في الدنيا روى الضحاك عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت ما حدث العبد به نفسه من شر كانت محاسبة الله عليه بغم يبتليه به في الدنيا أو حزن أو أذى فإذا جاءت الآخرة لم يسأل عنه ولم يعاقب عليه وروت أنها سألت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن هذه الآية فأجابها بما هذا معناه
فإن قيل المؤاخذة كيف تحصل في الدنيا مع قوله تعالى الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ( غافر 17 )
قلنا هذا خاص فيكون مقدماً على ذلك العام
الوجه الرابع في الجواب أنه تعالى قال يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ ولم يقل يؤاخذكم به الله وقد ذكرنا في معنى كونه حسيباً ومحاسباً وجوهاً كثيرة وذكرنا أن من جملة تفاسيره كونه تعالى عالماً بها فرجع معنى هذه الآية إلى كونه تعالى عالماً بكل ما في الضمائر والسرائر روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال

إن الله تعالى إذا جمع الخلائق يخبرهم بما كان في نفوسهم فالمؤمن يخبره ثم يعفو عنه وأهل الذنوب يخبرهم بما أخفوا من التكذيب والذنب
الوجه السابع في الجواب أنه تعالى ذكر بعد هذه الآية قوله فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء فيكون الغفران نصيباً لمن كان كارهاً لورود تلك الخواطر والعذاب يكون نصيباً لمن يكون مصراً على تلك الخواطر مستحسناً لها
الوجه السادس قال بعضهم المراد بهذه الآية كتمان الشهادة وهو ضعيف لأن اللفظ عام وإن كان واراه عقيب تلك القضية لا يلزم قصره عليه
الوجه السابع في الجواب ما روينا عن بعض المفسرين أن هذه الآية منسوخة بقوله لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ( القرة 286 ) وهذا أيضاً ضعيف لوجوه أحدها أن هذا النسخ إنما يصح لو قلنا أنهم كانوا قبل هذا النسخ مأمورين بالاحتراز عن تلك الخواطر التي كانوا عاجزين عن دفعها وذلك باطل لأن التكليف قط ما ورد إلا بما في القدرة ولذلك قال عليه السلام ( بعثت بالحنيفية السهلة السمحة ) والثاني أن النسخ إنما يحتاج إليه لو دلت الآية على حصول العقاب على تلك الخواطر وقد بينا أن الآية لا تدل على ذلك والثالث أن نسخ الخبر لا يجوز إنما الجائز هو نسخ الأوامر والنواهي
واعلم أن الناس اختلافاً في أن الخبر هل ينسخ أم لا وقد ذكرنا في أصول الفقه والله أعلم
ثم قال فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء وفيه مسألتان
المسألة الأولى الأصحاب قد احتجوا بهذه الآية على جواز غفران ذنوب أصحاب الكبائر وذلك لأن المؤمن المطيع مقطوع بأنه يثاب ولا يعاقب والكافر مقطوع بأنه يعاقب ولا يثاب وقوله فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء رفع للقطع واحد من الأمرين فلم يبق إلا أن يكون ذلك نصيباً للمؤمن يرثه المذنب بأعماله
المسألة الثانية قرأ عاصم وابن عامر فَيَغْفِرُ يُعَذّبُ برفع الراء والباء وأما الباقون فبالجزم أما الرفع فعلى الاستئناف والتقدير فهو يغفر وأما الجزم فبالعطف على يحاسبكم ونقل عن أبي عمرو أنه أدغم الراء في اللام في قوله يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء قال صاحب ( الكشاف ) إنه لحن ونسبته إلى أبي عمرو كذب وكيف يليق مثل هذا اللحن بأعلم الناس بالعربية
ثم قال وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ وقد بيّن بقوله للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ أنه كامل الملك والملكوت وبين بقوله وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ أنه كامل العلم والإحاطة ثم بيّن بقوله وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ أنه كامل القدرة مستولي على كل الممكنات بالقهر والقدرة والتكوين والإعدام ولا كمال أعلى وأعظم من حصول الكمال في هذه الصفات والموصوف بهذه الكمالات يجب على كل عاقل أن يكون عبداً منقاداً له خاضعاً لأوامره ونواهيه محترزاً عن سخطه ونواهيه وبالله التوفيق

ءَامَنَ الرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ
في الآية مسائل
المسألة الأولى في كيفية النظم وجوه الأول وهو أنه تعالى لما بيّن في الآية المتقدمة كمال الملك وكمال العلم وكمال القدرة لله تعالى وذلك يوجب كمال صفات الربوبية أتبع ذلك بأن بين كون المؤمنين في نهاية الانقياد والطاعة والخضوع لله تعالى وذلك هو كمال العبودية وإذا ظهر لنا كمال الربوبية وقد ظهر منا كمال العبودية فالمرجو من عميم فضله وإحسانه أن يظهر يوم القيامة في حقنا كمال العناية والرحمة والإحسان اللّهم حقق هذا الأمل
الوجه الثاني في النظم أنه تعالى لما قال وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ ( القبرة 284 ) بين أنه لا يخفى عليه من سرنا وجهرنا وباطننا وظاهرنا شيء ألبتة ثم إنه تعالى ذكر عقيب ذلك ما يجري مجرى المدح لنا والثناء علينا فقال الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ كأنه بفضله يقول عبدي أنا وإن كنت أعلم جميع أحوالك فلا أظهر من أحوالك ولا أذكر منها إلا ما يكون مدحاً لك وثناء عليك حتى تعلم أني كما أنا الكامل في الملك والعلم والقدرة فأنا الكامل في الجود والرحمة وفي إظهار الحسنات وفي الستر على السيئات
الوجه الثالث أنه بدأ في السورة بمدح المتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون وبيّن في آخر السورة أن الذين مدحهم في أول السورة هم أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فقال وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ءامَنَ بِاللَّهِ وَمَلَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ وهذا هو المراد بقوله في أول السورة الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ( البقرة 3 )
ثم قال ههنا وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وهو المراد بقوله في أول السورة وَيُقِيمُونَ الصَّلواة َ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ
ثم قال ههنا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ وهو المراد بقوله في أول السورة وَبِالأْخِرَة ِ هُمْ يُوقِنُونَ ( البقرة 4 ) ثم حكى عنهم ههنا كيفية تضرعهم إلى ربهم في قولهم رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ( البقرة 286 ) إلى آخر السورة وهو المراد بقوله في أول السورة أُوْلَائِكَ عَلَى هُدًى مّن رَّبّهِمْ وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( البقرة 5 ) فانظر كيف حصلت الموافقة بين أول السورة وآخرها
والوجه الرابع وهو أن الرسول إذا جاءه الملك من عند الله وقال له إن الله بعثك رسولاً إلى الخلق فههنا الرسول لا يمكنه أن يعرف صدق ذلك الملك إلا بمعجزة يظهرها الله تعالى على صدق ذلك الملك في

دعواه ولولا ذلك المعجز لجوز الرسول أن يكون ذلك المخبر شيطاناً ضالاً مضلاً وذلك الملك أيضاً إذا سمع كلام الله تعالى افتقر إلى معجز يدل على أن المسموع هو كلام الله تعالى لا غير وهذه المراتب معتبرة أولها قيام المعجز على أن المسموع كلام الله لا غيره فيعرف الملك بواسطة ذلك المعجز أنه سمع كلام الله تعالى وثانيها قيام المعجزة عند النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على أن ذلك الملك صادق في دعواه وأنه ملك بعثه الله تعالى وليس بشيطان وثالثها أن تقوم المعجزة على يد الرسولعند الأمة حتى تستدل الأمة بها على أن الرسول صادق في دعواه فإذن لما لم يعرف الرسول كونه رسولاً من عند الله لا تتمكن الأمة من أن يعرفوا ذلك فلما ذكر الله تعالى في هذه السورة أنواع الشرائع وأقسام الأحكام قال الرَّسُولُ بِمَا فبيّن أن الرسول عرف أن ذلك وحي من الله تعالى وصف إليه وأن الذي أخبره بذلك ملك مبعوث من قبل الله تعالى معصوم من التحريف وليس بشيطان مضل ثم ذكر إيمان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بذلك وهو المرتبة المتقدمة وذكر عقيبه إيمان المؤمنين بذلك وهو المرتبة المتأخرة فقال وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ءامَنَ بِاللَّهِ ومن تأمل في لطائف نظم هذه السورة وفي بدائع ترتيبها علم أن القرآن كما أنه معجز بحسب فصاحة ألفاظه وشرف معانيه فهو أيضاً معجز بحسب ترتيبه ونظم آياته ولعلّ الذين قالوا إنه معجز بحسب أسلوبه أرادوا ذلك إلا أني رأيت جمهور المفسرين معرضين عن هذه اللطائف غير متنبهين لهذه الأمور وليس الأمر في هذا الباب كما قيل والنجم تستصغر الأبصار رؤيته
والذنب للطرف لا للنجم في الصغر
ونسأل الله تعالى أن ينفعنا بما علمنا ويعلمنا ما ينفعنا به بفضله ورحمته
المسألة الثانية قوله تعالى الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ فالمعنى أنه عرف بالدلائل القاهرة والمعجزات الباهرة أن هذا القرآن وجملة ما فيه من الشرائع والأحكام نزل من عند الله تعالى وليس ذلك من باب إلقاء الشياطين ولا من نوع السحر والكهانة والشعبذة وإنما عرف الرسول لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك بما ظهر من المعجزات القاهرة على يد جبريل عليه السلام
فأما قوله وَالْمُؤْمِنُونَ ففيه احتمالان أحدهما أن يتم الكلام عند قوله وَالْمُؤْمِنُونَ فيكون المعنى آمن الرسول والمؤمنون بما أنزل إليه من ربه ثم ابتدأ بعد ذلك بقوله كُلٌّ ءامَنَ بِاللَّهِ والمعنى كل واحد من المذكورين فيما تقدم وهم الرسول والمؤمنون آمن بالله
الاحتمال الثاني أن يتم الكلام عند قوله بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبّهِ ثم يبتدىء من قوله وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ءامَنَ بِاللَّهِ ويكون المعنى أن الرسول آمن بكل ما أنزل إليه من ربه وأما المؤمنون فإنهم آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله فالوجه الأول يشعر بأنه عليه الصلاة والسلام ما كان مؤمناً بربه ثم صار مؤمناً به ويحتمل عدم الإيمان على وقت الاستدلال وعلى الوجه الثاني يشعر اللفظ بأن الذي حدث هو إيمانه بالشرائع التي أنزلت عليه كما قال مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ ( الشورى 52 ) وأما الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله على الإجمال فقد كان حاصلاً منذ خلقه الله من أول الأمر وكيف يستبعد ذلك مع أن عيسى عليه السلام حين انفصل عن أمه قال إني عبد الله آتاني الكتاب فإذا لم يبعد أن عيسى عليه السلام رسولاً من عند الله حين كان طفلاً فكيف يستبعد أن يقال إن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) كان عارفاً بربه من أول ما خلق كامل العقل

المسألة الثالثة دلّت الآية على أن الرسول آمن بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله وإنما خص الرسول بذلك لأن الذي أنزل إليه من ربه قد يكون كلاماً متلواً يسمه الغير ويعرفه ويمكنه أن يؤمن به وقد يكون وحياً لا يعلمه سواه فيكون هو ( صلى الله عليه وسلم ) مختصاً بالإيمان به ولا يتمكن غيره من الإيمان به فلهذا السبب كان الرسول مختصاً في باب الإيمان بما لا يمكن حصوله في غيره
ثم قال الله تعالى وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ءامَنَ بِاللَّهِ وَمَلَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وفيه مسائل
المسألة الأولى إعلم أن هذه الآية دلّت على أن معرفة هذه المراتب الأربعة من ضرورات الإيمان
فالمرتبة الأولى هي الإيمان بالله سبحانه وتعالى وذلك لأنه ما لم يثبت أن للعالم صانعاً قادراً على جميع المقدورات عالماً بجميع المعلومات غنياً عن كل الحاجات لا يمكن معرفة صدق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فكانت معرفة الله تعالى هي الأصل فلذلك قدم الله تعالى هذه المرتبة في الذكر
والمرتبة الثانية أنه سبحانه وتعالى إنما يوحي إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بواسطة الملائكة فقال يُنَزّلُ الْمَلَائِكَة َ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَآء مِنْ عِبَادِهِ ( النحل 2 ) وقال وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِى َ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء ( الشورى 51 ) وقال فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ ( البقرة 97 ) وقال نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ عَلَى قَلْبِكَ ( الشعراء 193 194 ) وقال عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ( النجم 5 ) فإذا ثبت أن وحي الله تعالى إنما يصل إلى البشر بواسطة الملائك فالملائكة يكونون كالواسطة بين الله تعالى وبين البشر فلهذا السبب جعل ذكر الملائكة في المرتبة الثانية ولهذا السر قال أيضاً شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَائِكَة ُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِمَاً بِالْقِسْطِ ( آل عمران 18 )
والمرتبة الثالثة الكتب وهو الوحي الذي يتلقفه الملك من الله تعالى ويوصله إلى البشر وذلك في ضرب المثال يجري مجرى استنارة سطح القمر من نور الشمس فذات الملك كالقمر وذات الوحي كاستنارة القمر فكما أن ذات القمر مقدمة في الرتبة على استنارته فكذلك ذات الملك متقدم على حصول ذلك الوحي المعبر عنه بهذه الكتب فلهذا السبب كانت الكتب متأخرة في الرتبة عن الملائكة فلا جرم أخر الله تعالى ذكر الكتب عن ذكر الملائكة
والمرتبة الرابعة الرسل وهم الذين يقتبسون أنوار الوحي من الملائكة فيكونون متأخرين في الدرجة عن الكتب فلهذا السبب جعل الله تعالى ذكر الرسل في المرتبة الرابعة واعلم أن ترتيب هذه المراتب الأربعة على هذا الوجه أسرار غامضة وحكماً عظيمة لا يحسن إيداعها في الكتب والقدر الذي ذكرناه كاف في التشريف
المسألة الثانية المراد بالإيمان بالله عبارة عن الإيمان بوجوده وبصفاته وبأفعاله وبأحكامه وبأسمائه
أما الإيمان بوجوده فهو أن يعلم أن وراء المتحيزات موجوداً خالقاً لها وعلى هذا التقدير فالمجسم لا يكون مقراً بوجود الإله تعالى لأنه لا يثبت ما وراء المتحيزات شيئاً آخر فيكون اختلافه معنا في إثبات ذات

الله تعالى أما الفلاسفة والمعتزلة فإنهم مقرون بإثبات موجود سوى المتحيزات موجد لها فيكون الخلاف معهم لا في الذات بل في الصفات
وأما الإيمان بصفاته فالصفات إما سلبية وإما ثبوتية
فأما السلبية فهي أن يعلم أنه فرد منزّه عن جميع جهات التركيب فإن كل مركب مفتقر إلى كل واحد من أجزائه وكل واحد من أجزائه غيره فهو مركب فهو مفتقر إلى غيره ممكن لذاته فإذن كل مركب فهو ممكن لذاته وكل ما ليس ممكناً لذاته بل كان واجباً لذاته امتنع أن يكون مركباً بوجه من الوجوه بل كان فرداً مطلقاً وإذا كان فرداً في ذاته لزم أن لا يكون متحيزاً ولا جسماً ولا جوهراً ولا في مكان ولا حالاً ولا في محل ولا متغيراً ولا محتاجاً بوجه من الوجوه ألبتة
وأما الصفات الثبوتية فبأن يعلم أن الموجب لذاته نسبته إلى بعض الممكنات كنسبته إلى البواقي فلما رأينا أن هذه المخلوقات وقعت على وجه يمكن وقوعها على خلاف تلك الأحوال علمنا أن المؤثر فيها قادر مختار لا موجب بالذات ثم يستدل بما في أفعاله من الإحكام والإتقان على كمال علمه فحينئذ يعرفه قادراً عالماً حياً سميعاً بصيراً موصوفاً منعوتاً بالجلال وصفات الكمال وقد استقصينا ذلك في تفسير قوله اللَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ الْحَى ُّ الْقَيُّومُ ( البقرة 255 )
وأما الإيمان بأفعاله فبأن تعلم أن كل ما سواه فهو ممكن محدث وتعلم ببديهة عقلك أن الممكن المحدث لا يوجد بذاته بل لا بد له من موجد يوجده وهو القديم وهذا الدليل يحملك على أن تجزم بأن كل ما سواه فإنما حصل بتخليقه وإيجاده وتكوينه إلا أنه وقع في البين عقدة وهي الحوادث التي هي الأفعال الاختيارية للحيوانات فالحكم الأول وهو أنها ممكنة محدثة فلا بد من إسنادها إلى واجب الوجود مطرد فيها
فإن قلت إني أجد من نفسي أني إن شئت أن أتحرك تحركت وإن شئت أن لا أتحرك لم أتحرك فكانت حركاتي وسكناتي بي لا بغيري
فنقول قد علقت حركتك بمشيئتك لحركتك وسكونك بمشيئتك لسكونك فقبل حصول مشيئة الحركة لا تتحرك وقبل حصول مشيئة السكون لا تسكن وعند حصول مشيئة الحركة لا بد وأن تتحرك
إذا ثبت هذا فنقول هذه المشيئة كيف حدثت فإن حدوثها إما أن يكون لا بمحدث أصلاً أو يكون بمحدث ثم ذلك المحدث إما أن يكون هو العبد أو الله تعالى فإن حدثت لا بمحدث فقد لزم نفي الصانع وإن كان محدثها هو العبد افتقر في إحداثها إلى مشيئة أخرى ولزم التسلسل فثبت أن محدثها هو الله سبحانه وتعالى
إذا ثبت هذا فنقول لا اختيار للإنسان في حدوث تلك المشيئة وبعد حدوثها فلا اختيار له في ترتب الفعل عليها إلا بالمشيئة به ولا حصول الفعل بعد المشيئة فالإنسان مضطر في صورة مختار فهذا كلام قاهر قوي وفي معارضته إشكالان أحدهما كيف يليق بكمال حكمة الله تعالى إيجاد هذه القبائح والفواحش من الكفر والفسق والثاني أنه لو كان الكل بتخليقه فكيف توجه الأمر والنهي والمدح والذم

والثواب والعقاب على العبد فهذا هو الحرف المعول عليه من جانب الخصم إلا أنه وارد عليه أيضاً في العلم على ما قررناه في مواضع عدة
وأما المرتبة الرابعة في الإيمان بالله فهي معرفة أحكامه ويجب أن يعلم في أحكامه أموراً أربعة أحدها أنها غير معللة بعلة أصلاً لأن كل ما كان معللاً بعلة كان صاحبه ناقصاً بذاته كاملاً بغيره وذلك على الحق سبحانه محال وثانيها أن يعلم أن المقصود من شرعها منفعة عائدة إلى العبد لا إلى الحق فإنه منزّه عن جلب المنافع ودفع المضار وثالثها أن يعلم أن له الإلزام والحكم في الدنيا كيف شاء وأراد ورابعها أنه يعلم أنه لا يجب لأحد على الحق بسبب أعماله وأفعاله شيء وأنه سبحانه في الآخرة يغفر لمن يشاء بفضله ويعذب من يشاء بعدله وأنه لا يقبح منه شيء ولا يجب عليه شيء لأن الكل ملكه وملكه والمملوك المجازى لا حق له على المالك المجازي فكيف المملوك الحقيقي مع المالك الحقيقي
وأما الرتبة الخامسة في الإيمان بالله فمعرفة أسمائه قال في الأعراف وَللَّهِ الاسْمَاء الْحُسْنَى ( الأعراف 180 ) وقال في بني إسرائيل أَيّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الاْسْمَاء الْحُسْنَى ( الإسراء 110 ) وقال في طه اللَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ لَهُ الاْسْمَاء الْحُسْنَى ( طه 8 ) وقال في آخر الحشر لَهُ الاْسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبّحُ لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الحشر 24 ) والأسماء الحسنى هي الأسماء الواردة في كتب الله المنزّلة على ألسنة أنبيائه المعصومين وهذه الإشارة إلى معاقد الإيمان بالله
وأما الإيمان بالملائكة فهو من أربعة أوجه أولها الإيمان بوجودها والبحث عن أنها روحانية محضة أو جسمانية أو مركبة من القسمين وبتقدير كونها جسمانية فهي أجسام لطيفة أو كثيفة فإن كانت لطيفة فهي أجسام نورانية أو هوائية وإن كانت كذلك فكيف يمكن أن تكون مع لطافة أجسامها بالغة في القوة إلى الغاية القصوى فذاك مقام العلماء الراسخين في علوم الحكمة القرآنية والبرهانية
والمرتبة الثانية في الإيمان بالملائكة العلم بأنهم معصومون مطهرون يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ( النحل 50 ) لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ ( الأنبياء 19 ) فإن لذتهم بذكر الله وأنسهم بعبادة الله وكما أن حياة كل واحد منا بنفسه الذي هو عبارة عن استنشاق الهواء فكذلك حياتهم بذكر الله تعالى ومعرفته وطاعته
والمرتبة الثالثة أنهم وسائط بين الله وبين البشر فكل قسم منهم متوكل على قسم من أقسام هذا العالم كما قال سبحانه وَالصَّافَّاتِ صَفَّا فَالزجِراتِ زَجْراً ( الصافات 1 2 ) وقال وَالذرِيَاتِ ذَرْواً فَالْحَامِلَاتِ وِقْراً ( الذاريات 1 2 ) وقال وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفاً فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً ( المرسلات 1 2 ) وقال وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً ( النازعات 1 2 ) ولقد ذكرنا في تفسير هذه الآيات أسراراً مخفية إذا طالعها الراسخون في العلم وقفوا عليها
والمرتبة الرابعة أن كتب الله المنزلة إنما وصلت إلى الأنبياء بواسطة الملائكة قال الله تعالى إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِى قُوَّة ٍ عِندَ ذِى الْعَرْشِ مَكِينٍ مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ( التكوير 19 20 21 ) فهذه المراتب لا بد منها في حصول الإيمان بالملائكة فكلما كان غوص العقل في هذه المراتب أشد كان إيمانه بالملائكة أتم

وأما الإيمان بالكتب فلا بد فيه من أمور أربعة أولها أن يعلم أن هذه الكتب وحي من الله تعالى إلى رسوله وأنها ليست من باب الكهانة ولا من باب السحر ولا من باب إلقاء الشياطين والأرواح الخبيثة وثانيها أن يعلم أن الوحي بهذه الكتب وإن كان من قبل الملائكة المطهرين فالله تعالى لم يمكن أحداً من الشياطين من إلقاء شيء من ضلالاتهم في أثناء هذا الوحي الطاهر وعند هذا يعلم أن من قال إن الشيطان ألقى قوله تلك الغرانيق العلا في أثناء الوحي فقد قال قولاً عظيماً وطرق الطعن والتهمة إلى القرآن
والمرتبة الثالثة أن هذا القرآن لم يغير ولم يحرف ودخل فيه فساد قول من قال إن ترتيب القرآن على هذا الوجه شيء فعله عثمان رضي الله عنه فإن من قال ذلك أخرج القرآن عن كونه حجة
والمرتبة الرابعة أن يعلم أن القرآن مشتمل على المحكم والمتشابه وأن محكمه يكشف عن متشابهه
وأما الإيمان بالرسل فلا بد فيه من أمور أربعة
المرتبة الأولى أن يعلم كونهم معصومين من الذنوب وقد أحكمنا هذه المسألة في تفسير قوله فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ( البقرة 36 ) وجميع الآيات التي يتمسك بها المخالفون قد ذكرنا وجه تأويلاتها في هذا التفسير بعون الله سبحانه وتعالى
والمرتبة الثانية من مراتب الإيمان بهم أن يعلم أن النبي أفضل ممن ليس بنبي ومن الصوفية من ينازع في هذا الباب
المرتبة الثالثة قال بعضهم أنهم أفضل من الملائكة وقال كثير من العلماء إن الملائكة السماوية أفضل منهم وهم أفضل من الملائكة الأرضية وقد ذكرنا هذه المسألة في تفسير قوله وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَة ِ اسْجُدُواْ لاِدَمَ ( البقرة 34 ) ولأرباب المكاشفات في هذه المسألة مباحثات غامضة
المرتبة الرابعة أن يعلم أن بعضهم أفضل من البعض وقد بينا ذلك في تفسير قوله تعالى تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ( البقرة 253 ) ومنهم من أنكر ذلك وتمسك بقوله تعالى له في هذه الآية لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ ( البقرة 253 )
وأجاب العلماء عنه بأن المقصود من هذا الكلام شيء آخر وهو أن الطريق إلى إثبات نبوّة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذا كانوا حاضرين هو ظهور المعجزة على وفق دعاويهم فإذا كان هذا هو الطريق وجب في حق كل من ظهرت المعجزة على وفق دعواه أن يكون صادقاً وإن لم يصح هذا الطريق وجب أن لا يدل في حق أحد منهم على صحة رسالته فأما أن يدل على رسالة البعض دون البعض فقول فاسد متناقض والغرض منه تزييف طريقة اليهود والنصارى الذين يقرون بنبوّة موسى وعيسى ويكذبون بنبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فهذا هو المقصود من قوله تعالى لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ لا ما ذكرتم من أنه لا يجوز أن يكون بعضهم أفضل من البعض فهذا هو الإشارة إلى أصول الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله
المسألة الثالثة قرأ حمزة وكتابه على الواحد والباقون أُوتِى َ كِتَابَهُ على الجمع أما الأول ففيه وجهان

أحدهما أن المراد هو القرآن ثم الإيمان به ويتضمن الإيمان بجميع الكتب والرسل والثاني على معنى الجنس فيوافق معنى الجمع ونظيره قوله تعالى فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيّينَ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِ ( البقرة 213 )
فإن قيل اسم الجنس إنما يفيد العموم إذا كان مقروناً بالألف واللام وهذه مضافة
قلنا قد جاء المضاف من الأسماء ونعني به الكثرة قال الله تعالى وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا ( إبراهيم 34 ) وقال الله تعالى أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَة َ الصّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ( البقرة 187 ) وهذا الإحلال شائع في جميع الصيام قال العلماء والقراءة بالجمع أفضل لمشاكلة ما قبله وما بعده من لفظ الجمع ولأن أكثر القراءة عليه واعلم أن القراء أجمعوا في قوله وَرُسُلِهِ على ضم السين وعن أبي عمرو سكونها وعن نافع وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ مخففين وحجة الجمهور أن أصل الكلمة على فعل بضم العين وحجة أبي عمرو هي أن لا تتوالى أربع متحركات لأنهم كرهوا ذلك ولهذا لم تتوال هذه الحركات في شعر إلا أن يكون مزاحفاً وأجاب الأولون أن ذلك مكروه في الكلمة الواحدة أما في الكلمتين فلا بدليل أن الإدغام غير لازم في وجعل ذلك مع أنه قد توالى فيه خمس متحركات والكلمة إذا اتصل بها ضمير فهي كلمتان لا كلمة واحدة
المسألة الرابعة قوله لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ فيه محذوف والتقدير يقولون لا نفرق بين أحد من رسله كقوله وَالْمَلَئِكَة ُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ ( الأنعام 93 ) معناه يقولون أخرجوا وقال وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى اللَّهِ ( الزمر 3 ) أي قالوا هذا
المسألة الخامسة قرأ أبو عمرو يُفْرَقُ بالياء على أن الفعل لكل وقرأ عبد الله لا يَفْرَقُونَ
المسألة السادسة أحد في معنى الجمع كقوله فَمَا مِنكُم مّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ( الحاقة 47 ) والتقدير لا نفرق بين جميع رسله هذا هو الذي قالوه وعندي أنه لا يجوز أن يكون أحد ههنا في معنى الجمع لأنه يصير التقدير لا نفرق بين جميع رسله وهذا لا ينافي كونهم مفرقين بين بعض الرسل والمقصود بالنفي هو هذا لأن اليهود والنصارى ما كانوا يفرقون بين كل الرسل بل بين البعض وهو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فثبت أن التأويل الذي ذكروه باطل بل معنى الآية لا نفرق بين أحد من الرسل وبين غيره في النبوّة فإذا فسرنا بهذا حصل المقصود من الكلام والله أعلم
ثم قال الله تعالى وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى الكلام في نظم هذه الآية من وجوه الأول وهو أن كمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به واستكمال القوة النظرية بالعلم واستكمال القوة العملية بفعل الخيرات والقوة النظرية أشرف من القوة العملية والقرآن مملوء من ذكرهما بشرط أن تكون القوة النظرية مقدمة على العملية قال عن إبراهيم رَبّ هَبْ لِى حُكْماً وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ ( الشعراء 83 ) فالحكم كمال القوة النظرية وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ كمال القوة العملية وقد أطنبنا في شواهد هذا المعنى من القرآن فيما تقدم من هذا الكتاب

إذا عرفت هذا فنقول الأمر في هذه الآية أيضاً كذلك فقوله كُلٌّ ءامَنَ بِاللَّهِ وَمَلَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ إشارة إلى استكمال القوة النظرية بهذه المعارف الشريفة وقوله وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا إشارة إلى استكمال القوة العملية الإنسانية بهذه الأعمال الفاضلة الكاملة ومن وقف على هذه النكتة علم اشتمال القرآن على أسرار عجيبة غفل عنها الأكثرون
والوجه الثاني من النظم في هذه الآية أن للإنسان أياماً ثلاثة الأمس والبحث عنه يسمى بمعرفة المبدأ واليوم الحاضر والبحث عنه يسمى بعلم الوسط والغد والبحث عنه يسمى بعلم المعاد والقرآن مشتمل على رعاية هذه المراتب الثلاثة قال في آخر سورة هود وَللَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الاْمْرُ كُلُّهُ ( هود 123 ) وذلك إشارة إلى معرفة المبدأ ولما كانت الكمالات الحقيقية ليست إلا العلم والقدرة لا جرم ذكرها في هذه الآية وقوله وَللَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ إشارة إلى كمال العلم وقوله وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الاْمْرُ كُلُّهُ إشارة إلى كمال القدرة فهذا هو الإشارة إلى علم المبدأ وأما علم الوسط وهو علم ما يجب اليوم أن يشتغل به فله أيضاً مرتبتان البداية والنهاية أما البداية فالاشتغال بالعبودية وأما النهاية فقطع النظر عن الأسباب وتفويض الأمور كلها إلى مسبب الأسباب وذلك هو المسمى بالتوكل فذكر هذين المقامين فقال فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ( هود 123 ) وأما علم المعاد فهو قوله وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ( الأنعام 132 ) أي فيومك غداً سيصل فيه نتائج أعمالك إليك فقد اشتملت هذه الآية على كمال ما يبحث عنه في هذه المراتب الثلاثة ونظيرها أيضاً قوله سبحانه وتعالى سُبْحَانَ رَبّكَ رَبّ الْعِزَّة ِ عَمَّا يَصِفُونَ ( الصافات 180 ) وهو إشارة إلى علم المبدأ ثم قال وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ( الصافات 181 ) وهو إشارة إلى علم الوسط ثم قال وَالْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ ( الصافات 182 ) وهو إشارة إلى علم المعاد على ما قال في صفة أهل الجنة دَعْواهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ ( يونس 100 )
إذا عرفت هذا فنقول تعريف هذه المراتب الثلاثة مذكور في آخر سورة البقرة فقوله الرَّسُولُ بِمَا إلى قوله لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ إشارة إلى معرفة المبدأ وقوله وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا إشارة إلى علم الوسط وهو معرفة الأحوال التي يجب أن يكون الإنسان عالماً مشتغلاً بها ما دام يكون في هذه الحياة الدنيا وقوله غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ إشارة إلى علم المعاد والوقوف على هذه الأسرار ينور القلب ويجذبه من ضيق عالم الأجسام إلى فسحة عالم الأفلاك وأنوار بهجة السماوات
الوجه الثالث في النظم أن المطالب قسمان أحدهما البحث عن حقائق الموجودات والثاني البحث عن أحكام الأفعال في الوجوب والجواز والحظر أما القسم الأول فمستفاد من العقل والثاني مستفاد من السمع والقسم الأول هو المراد بقوله وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ءامَنَ بِاللَّهِ والقسم الثاني هو المراد بقوله وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا
المسألة الثانية قال الواحدي رحمه الله قوله سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا أي سمعنا قوله وأطعنا أمره إلا أنه حذف المفعول لأن في الكلام دليلاً عليه من حيث مدحوا به
وأقول هذا من الباب الذي ذكره عبد القاهر النحوي رحمه الله أن حذف المفعول فيه ظاهراً وتقديراً أولى لأنك إذا جعلت التقدير سمعنا قوله وأطعنا أمره فإذن ههنا قول آخر غير قوله وأمر آخر يطاع سوى

أمره فإذا لم يقدر فيه ذلك المفعول أفاد أنه ليس في الوجود قول يجب سمعه إلا قوله وليس في الوجود أمر يقال في مقابلته أطعنا إلا أمره فكان حذف المفعول صورة ومعنى في هذا الموضع أولى
المسألة الثالثة إعلم أنه تعالى لما وصف إيمان هؤلاء المؤمنين وصفهم بعد ذلك بأنهم يقولون سمعنا وأطعنا فقوله سَمِعْنَا ليس المراد منه السماع الظاهر لأن ذلك لا يفيد المدح بل المراد أنا سمعناه بآذان عقولنا أي عقلناه وعلمنا صحته وتيقنا أن كل تكليف ورد على لسان الملائكة والأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلينا فهو حق صحيح واجب القبول والسمع بمعنى القبول والفهم وارد في القرآن قال الله تعالى إِنَّ فِى ذالِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ( ق 37 ) والمعنى لمن سمع الذكرى بفهم حاضر وعكسه قوله تعالى كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِى أُذُنَيْهِ وَقْراً ( لقمان 7 ) ثم قال بعد ذلك وَأَطَعْنَا فدل هذا على أنه كما صح اعتقادهم في هذه التكاليف فهم ما أخلوا بشيء منها فجمع الله تعالى بهذين اللفظين كل ما يتعلق بأبواب التكليف علماً وعملاً
ثم حكي عنهم بعد ذلك أنهم قالوا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ وفيه مسائل
المسألة الأولى في هذه الآية سؤال وهو أن القوم لما قبلوا التكاليف وعملوا بها فأي حاجة بهم إلى طلبهم المغفرة
والجواب من وجوه الأول أنهم وإن بذلوا مجهودهم في أداء هذه التكاليف إلا أنهم كانوا خائفين من تقصير يصدر عنهم فلما جوزوا ذلك قالوا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا ومعناه أنهم يلتمسون من قبله الغفران فيما يخافون من تقصيرهم فيما يأتون ويذرون والثاني روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة ) فذكروا لهذا الحديث تأويلات من جملتها أنه عليه الصلاة والسلام كان في الترقي في درجات العبودية فكان كلما ترقى من مقام إلى مقام أعلى من الأول رأى الأول حقيراً فكان يستغفر الله منه فحمل طلب الغفران في القرآن في هذه الآية على هذا الوجه أيضاً غير مستبعد والثالث أن جميع الطاعات في مقابلة حقوق إلاهيته جنايات وكل أنواع المعارف الحاصلة عند الخلق في مقابلة أنوار كبريائه تقصير وقصور وجهل ولذلك قال وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ( الأنعام 91 ) وإذا كان كذلك فالعبد في أي مقام كان من مقام العبودية وإن كان عالماً جداً إذا قوبل ذلك بجلال كبرياء الله تعالى صار عين التقصير الذي يجب الاستغفار منه وهذا هو السر في قوله تعالى لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إله إِلائَ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ ( محمد 19 ) فإن مقامات عبوديته وإن كانت عالية إلا أنه كان ينكشف له في درجات مكاشفاته أنها بالنسبة إلى ما يليق بالحضرة الصمدية عن التقصير فكان يستغفر منها وكذلك حكي عن أهل الجنة كلامهم فقال دَعْواهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ ( يونس 10 ) فسبحانك اللّهم إشارة إلى التنزيه
ثم إنه قال دَعْواهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ ( يونس 10 ) يعني أن كل الحمد لله وإن كنا لا نقدر على فهم ذلك الحمد بعقولنا ولا على ذكره بألسنتنا
المسألة الثانية قوله غُفْرَانَكَ تقديره اغفر غفرانك ويستغني بالمصدر عن الفعل في الدعاء نحو

سقياً ورعياً قال الفرّاء هو مصدر وقع موقع الأمر فنصب ومثله الصلاة الصلاة والأسد الأسد وهذا أولى من قول من قال نسألك غفرانك لأن هذه الصيغة لما كانت موضوعة لهذا المعنى ابتداء كانت أدل عليه ونظيره قولك حمداً حمداً وشكراً شكراً أي أحمد حمداً وأشكر شكر
المسألة الثالثة أن طلب هذا الغفران مقرون بأمرين أحدهما بالإضافة إليه وهو قوله غُفْرَانَكَ والثاني أردفه بقوله رَبَّنَا وهذان القيدان يتضمنان فوائد إحداها أنت الكامل في هذه الصفة فأنت غافر الذنب وأنت غفور وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ( الكهف 58 ) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ( البروج 14 ) وأنت الغفار اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً ( نوح 10 ) يعني أنه ليست غفاريته من هذا الوقت بل كانت قبل هذا الوقت غفار الذنوب فهذه الغفارية كالحرفة له فقوله ههنا غُفْرَانَكَ يعني أطلب الغفران منك وأنت الكامل في هذه الصفة والمطموع من الكامل في صفة أن يعطي عطية كاملة فقوله غُفْرَانَكَ طلب لغفران كامل وما ذاك إلا بأن يغفر جميع الذنوب بفضله ورحمته ويبدلها بالحسنات كما قال فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ اللَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ( الفرقان 70 ) وثانيها روي في الحديث الصحيح ( إن لله مائة جزء من الرحمة قسم جزءاً واحداً منها على الملائكة والجن والإنس وجميع الحيوانات فيها يتراحمون وادخر تسعة وتسعين جزءاً ليوم القيامة ) فأظن أن المراد من قوله غُفْرَانَكَ هو ذلك الغفران الكبير كان العبد يقول هب أن جرمي كبير لكن غفرانك أعظم من جرمي وثالثها كأن العبد يقول كل صفة من صفات جلالك وإلاهيتك فإنما يظهر أثرها في محل معين فلولا الوجود بعد العدم لما ظهرت آثار قدرتك ولولا الترتيب العجيب والتأليف الأنيق لما ظهرت آثار علمك فكذا لولا جرم العبد وجنايته وعجزه وحاجته لما ظهرت آثار غفرانك فقوله غُفْرَانَكَ معناه طلب الغفران الذي لا يمكن ظهور أثره إلا في حقي وفي حق أمثالي من المجرمين
وأما القيد الثاني وهو قوله رَبَّنَا ففيه فوائد أولها ربيتني حين ما لم أذكرك بالتوحيد فكيف يليق بكرمك أن لا تريني عندما أفنيت عمري في توحيدك وثانيها ربيتني حين كنت معدوماً ولو لم تربني في ذلك الوقت لما تضررت به لأني كنت أبقى حينئذ في العدم وأما الآن فلو لم تربني وقعت في الضرر الشديد فأسألك أن لا تهملي وثالثها ربيتني في الماضي فاجعل لي في الماضي شفيعي إليك في أن تربيني في المستقبل ورابعها ربيتني في الماضي فإتمام المعروف خير من ابتدائه فتمم هذه التربية بفضلك ورحمتك
ثم قال الله تعالى وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ وفيه فائدتان إحداهما بيان أنهم كما أقروا بالمبدأ فكذلك أقروا بالمعاد لأن الإيمان بالمبدأ أصل الإيمان بالمعاد فإن من أقر أن الله عالم بالجزئيات وقادر على كل الممكنات لا بد وأن يقر بالمعاد والثانية بيان أن العبد متى علم أنه لا بد من المصير إليه والذهاب إلى حيث لا حكم إلا حكم الله ولا يستطيع أحد أن يشفع إلا بإذن الله كان إخلاصه في الطاعات أتم واحترازه عن السيئات أكمل وهاهنا آخر ما شرح الله تعالى من إيمان المؤمنين

لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَة َ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ
إعلم أن في الآية مسائل
المسألة الأولى قوله لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا يحتمل أن يكون ابتداء خبر من الله ويحتمل أن يكون حكاية عن الرسول والمؤمنين على نسق الكلام في قوله وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ( البقرة 285 ) وقالوا لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ويؤيد ذلك ما أردفه من قوله رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا ( البقرة 286 ) فكأنه تعالى حكى عنهم طريقتهم في التمسك بالإيمان والعمل الصالح وحكى عنهم في جملة ذلك أنهم وصفوا ربهم بأنه لا يكلف نفساً إلا وسعها
المسألة الثانية في كيفية النظم إن قلنا إن هذا من كلام المؤمنين فوجه النظم أنهم لما قالوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا فكأنهم قالوا كيف لا نسمع ولا نطيع وأنه تعالى لا يكلفنا إلا ما في وسعنا وطاقتنا فإذا كان هو تعالي بحكم الرحمة الإلاهية لا يطالبنا إلا بالشيء السهل الهين فكذلك نحن بحكم العبودية وجب أن نكون سامعين مطيعين وإن قلنا إن هذا من كلام الله تعالى فوجه النظم أنهم لما قالوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ثم قالوا بعده غُفْرَانَكَ رَبَّنَا دل ذلك على أن قولهم غُفْرَانَكَ طلباً للمغفرة فيما يصدر عنهم من وجوه التقصير منهم على سبيل العمد فلما كان قولهم غُفْرَانَكَ طلباً للمغفرة في ذلك التقصير لا جرم خفف الله تعالى عنهم ذلك وقال لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا والمعنى أنكم إذا سمعتم وأطعتم وما تعمدتم التقصير فعند ذلك لو وقع منكم نوع تقصير على سبيل السهو والغفلة فلا تكونوا خائفين منه فإن الله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها وبالجملة فهذا إجابة لهم في دعائهم في قولهم غُفْرَانَكَ رَبَّنَا
المسألة الثالثة يقال كلفته الشيء فتكلف والكلف اسم منه والوسع ما يسع الإنسان ولا يضيق عليه ولا يحرج فيه قال الفرّاء هو اسم كالوجد والجهد وقال بعضهم الوسع دون المجهود في المشقة وهو ما يتسع له قدرة الإنسان
المسألة الرابعة المعتزلة عولوا على هذه الآية في أنه تعالى لا يكلف العبد ما لا يطيقه ولا يقدر عليه ونظيره قوله تعالى وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ ( الحج 78 ) وقوله يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفّفَ عَنْكُمْ ( النساء 28 ) وقوله يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وقالوا هذه الآية صريحة في نفي تكليف ما لا يطاق قالوا وإذا ثبت هذا فههنا أصلان الأول أن العبد موجد لأفعال نفسه فإنه لو كان موجدها هو الله تعالى لكان تكليف العبد بالفعل تكليفاً بما لا يطاق فإن الله تعالى إذا خلق الفعل وقع لا محالة ولا قدرة ألبتة للعبد على ذلك الفعل ولا على تركه أما إنه لا قدرة له على الفعل فلأن ذلك الفعل وجد بقدرة الله تعالى والموجود لا يوجد ثانياً وأما إنه لا قدر له على الدفع فلأن قدرته أضعف من قدرة الله تعالى فكيف

تقوى قدرته على دفع قدرة الله تعالى وإذا لم يخلق الله الفعل استحال أن يكون للعبد قدرة على التحصيل فثبت أنه لو كان الموجد لفعل العبد هو الله تعالى لكان تكليف العبد بالفعل تكليفاً بما لا يطاق والثاني أن الاستطاعة قبل الفعل وإلا لكان الكافر المأمور بالإيمان لم يكن قادراً على الإيمان فكان ذلك التكليف بما لا يطاق هذا تمام استدلال المعتزلة في هذا الموضع
أما الأصحاب فقالوا دلّت الدلائل العقلية على وقوع التكليف على هذا الوجه فوجب المصير إلى تأويل هذه الآية
الحجة الأولى أن من مات على الكفر ينبىء موته على الكفر أن الله تعالى كان عالماً في الأزل بأنه يموت على الكفر ولا يؤمن قط فكان العلم بعدم الإيمان موجوداً والعلم بعدم الإيمان ينافي وجود الإيمان على ما قررناه في مواضع وهو أيضاً مقدم بينة بنفسها فكان تكليفه بالإيمان مع حصول العلم بعدم الإيمان تكليفاً بالجمع بين النقيضين وهذه الحجة كما أنها جارية في العلم فهي أيضاً جارية في الجبر
الحجة الثانية أن صدور الفعل عن العبد يتوقف على الداهي وتلك الداعية مخلوقة لله تعالى ومتى كان الأمر كذلك كان تكليف ما لا يطاق لازماً إنما قلنا إن صدور الفعل عن العبد يتوقف على الداعي لأن قدرة العبد لما كانت صالح للفعل والترك فلو ترجح أحد الجانبين على الآخر من غير مرجح لزم وقوع الممكن من غير مرجح وهو نفي الصانع وإنما قلنا إن تلك الداعية من الله تعالى لأنها لو كانت من العبد لافتقر إيجادها إلى داعية أخرى ولزم التسلسل وإنما قلنا إنه متى كان الأمر كذلك لزم الجبر لأن عند حصول الداعية المرجحة لأحد الطرفين صار الطرف الآخر مرجوحاً والمرجوح ممتنع الوقوع وإذا كان المرجوح ممتنعاً كان الراجح واجباً ضرورة أنه لا خروج عن النقيضين فإذن صدور الإيمان من الكافر يكون ممتنعاً وهو مكلف به فكان التكليف تكليف ما لا يطاق
الحجة الثالثة أن التكليف إما أن يتوجه على العبد حال استواء الداعيين أو حال رجحان أحدهما فإن كان الأول فهو تكليف ما لا يطاق لأن الاستواء يناقض الرجحان فإذا كلف حال حصول الاستواء بالرجحان فقد كلف بالجمع بين النقيضين وإن كان الثاني فالراجح واجب والمرجوح ممتنع وإن وقع التكليف بالراجح فقد وقع بالواجب وإن وقع بالمرجوح فقد وقع بالممتنع
الحجة الرابعة أنه تعالى كلف أبا لهب الإيمان والإيمان تصديق الله في كل ما أخبر عنه وهو مما أخبر أنه لا يؤمن فقد صار أبو لهب مكلفاً بأن يؤمن بأنه لا يؤمن وذلك تكليف ما لا يطاق
الحجة الخامسة العبد غير عالم بتفاصيل فعله لأن من حرك أصبعه لم يعرف عدد الأحيان التي حرك أصبعه فيها لأن الحركة البطيئة عبارة عند المتكلمين عن حركات مختلطة بسكنات والعبد لم يخطر بباله أنه يتحرك في بعض الأحيان ويسكن في بعضها وأنه أين تحرك وأين سكن وإذا لم يكن عالماً بتفاصيل فعله لم يكن موجداً لها لأنه لم يقصد إيجاد ذلك العدد المخصوص من الأفعال فلو فعل ذلك العدد دون الأزيد ودون الأنقص فقد ترجح الممكن لا لمرجح وهو محال فثبت أن العبد غير موجد فإذا لم يكن موجداً كان تكليف ما لا يطاق لازماً على ما ذكرتم فهذه وجوه عقلية قطعية يقينية في هذا الباب فعلمنا أنه

لا بد للآية من التأويل وفيه وجوه الأول وهو الأصوب أنه قد ثبت أنه متى وقع التعارض من القاطع العقلي والظاهر السمعي فإما أن يصدقهما وهو محال لأنه جمع بين النقيضين وإما أن يكذبهما وهو محال لأنه إبطال النقيضين وإما أن يكذب القاطع العقلي ويرجح الظاهر السمعي وذلك يوجب تطرق الطعن في الدلائل العقلية ومتى كان كذلك بطل التوحيد والنبوّة والقرآن وترجيح الدليل السمعي يوجب القدح في الدليل العقلي والدليل السمعي معاً فلم يبق إلا أن يقطع بصحة الدلائل العقلية ويحمل الظاهر السمعي على التأويل وهذا الكلام هو الذي تعول المعتزلة عليه أبداً في دفع الظواهر التي تمسك بها أهل التشبيه فبهذا الطريق علمنا أن لهذه الآية تأويلاً في الجملة سواء عرفناه أو لم نعرفه وحينئذ لا يحتاج إلى الخوض فيه على سبيل التفصيل
الوجه الثاني في الجواب هو أنه لا معنى للتكليف في الأمر والنهي إلا الإعلام بأنه متى فعل كذا فإنه يثاب ومتى لم يفعل فإنه يعاقب فإذا وجد ظاهر الأمر فإن كان المأمور به ممكناً كان ذلك أمراً وتكليفاً في الحقيقة وإلا لم يكن في الحقيقة تكليفاً بل كان إعلاماً بنزول العقاب به في الدار الآخرة وإشعاراً بأنه إنما خلق للنار
والجواب الثالث وهو أن الإنسان ما دام لم يمت وأنا لا ندري أن الله تعالى علم منه أنه يموت على الكفر أو ليس كذلك فنحن شاكون في قيام المانع فلا جرم نأمره بالإيمان ونحثه عليه فإذا مات على الكفر علمنا بعد موته أن المانع كان قائماً في حقه فتبين أن شرط التكليف كان زائلاً عنه حال حياته وهذا قول طائفة من قدماء أهل الجبر
الجواب الرابع أنا بينا أن قوله لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ليس قول الله تعالى بل هو قول المؤمنين فلا يكون حجة إلا أن هذا ضعيف وذلك لأن الله تعالى لما حكاه عنهم في معرض المدح لهم والثناء عليهم فبسبب هذا الكلام وجب أن يكونوا صادقين في هذا الكلام إذ لو كانوا كاذبين فيه لما جاز تعظيمهم بسببه فهذا أقصى ما يمكن أن يقال في هذا الموضع ونسأل الله العظيم أن يرحم عجزنا وقصور فهمنا وأن يعفو عن خطايانا فإنا لا نطلب إلا الحق ولا نروم إلا الصدق
أما قوله تعالى لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ففيه مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في أنه هل في اللغة فرق بين الكسب والاكتساب قال الواحدي رحمه الله الصحيح عند أهل اللغة أن الكسب والاكتساب واحد لا فرق بينهما قال ذو الرمة
ألفى أباه بذاك الكسب يكتسب
والقرآن أيضاً ناطق بذلك قال الله تعالى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَة ٌ ( المدثر 38 ) وقال وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا ( الأنعام 164 ) وقال بَلَى مَن كَسَبَ سَيّئَة ً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَة ً ( البقرة 81 ) وقال وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ ( الأحزاب 58 ) فدل هذا على إقامة كل واحد من هذين اللفظين مقام الآخر ومن الناس من سلم الفرق ثم فيه قولان أحدهما أن الاكتساب أخص من الكسب لأن الكسب ينقسم إلى كسبه لنفسه ولغيره والاكتساب لا يكون إلا ما يكتسب الإنسان لنفسه

خاصة يقال فلان كاسب لأهله ولا يقال مكتسب لأهله والثاني قال صاحب ( الكشاف ) إنما خص الخير بالكسب والشر بالاكتساب لأن الاكتساب اعتمال فلما كان الشر مما تشتهيه النفس وهي منجذبة إليه وأمارة به كانت في تحصيله أعمل وأجد فجعلت لهذا المعنى مكتسبة فيه ولما لم يكن كذلك في باب الخير وصفت بما لا دلالة فيه على الاعتمال والله أعلم
المسألة الثانية المعتزلة احتجوا بهذه الآية على أن فعل العبد بإيجاده وتكوينه قالوا لأن الآية صريحة في إضافة خيره وشره إليه ولو كان ذلك بتخليق الله تعالى لبطلت هذه الإضافة ويجري صدور أفعاله منه مجرى لونه وطوله وشكله وسائر الأمور التي لا قدرة له عليها ألبتة والكلام فيه معلوم وبالله التوفيق قال القاضي لو كان خالقاً أفعالهم فما الفائدة في التكليف وأما الوجه في أن يسألوه أن لا يثقل عليهم والثقيل على قولهم كالخفيف في أنه تعالى يخلقه فيهم وليس يلحقهم به نصب ولا لغوب
المسألة الثالثة احتج أصحابنا بهذه الآية على فساد القول بالمحابطة قالوا لأنه تعالى أثبت كلا الأمرين على سبيل الجمع فبيّن أن لها ثواب ما كسبت وعليها عقاب ما اكتسبت وهذا صريح في أن هذين الاستحقاقين يجتمعان وأنه لا يلزم من طريان أحدهما زوال الآخر قال الجبائي ظاهر الآية وإن دل على الإطلاق إلا أنه مشروط والتقدير لها ما كسبت من ثواب العمل الصالح إذا لم تبطله وعليها ما اكتسبت من العقاب إذا لم تكفره بالتوبة وإنما صرنا إلى إضمار هذا الشرط لما بينا أن الثواب يجب أن يكون منفعة خالصة دائمة وأن العقاب يجب أن يكون مضرة خالصة دائمة والجمع بينهما محال في العقول فكان الجمع بين استحقاقيهما أيضاً محالاً
واعلم أن الكلام على هذه المسألة مرّ على الاستقصاء في تفسير قوله تعالى لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنّ وَالاْذَى ( القرة 264 ) فلا نعيده
المسألة الرابعة احتج كثير من المتكلمين بهذه الآية على أن الله تعالى لا يعذب الأطفال بذنوب آبائهم ووجه الاستدلال ظاهر فيه ونظيره قوله تعالى وَلاَ تَزِرُ وَازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى ( الأنعام 164 )
المسألة الخامسة الفقهاء تمسكوا بهذه الآية في إثبات أن الأصل في الإمساك البقاء والاستمرار لأن اللام في قوله لَهَا مَا كَسَبَتْ يدل على ثبوت هذا الاختصاص وتأكد ذلك بقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( كل امرىء أحق بكسبه من والده وولده وسائر الناس أجمعين ) وإذا تمهد هذا الأصل خرج عليه شيء كثير من مسائل الفقه
منها أن المضمونات لا تملك بأداء الضمان لأن المقتضي لبقاء الملك قائم وهو قوله لَهَا مَا كَسَبَتْ والعارض الموجود إما الغضب وإما الضمان وهما لا يوجبان زوال الملك بدليل أم الولد والمدبرة
ومنها أنه إذا غصب ساحة وأدرجها في بنائه أو غصب حنطة فطحنها لا يزول الملك لقوله لَهَا مَا كَسَبَتْ
ومنها أنه لا شفعة للجار لأن المقتضي لبقاء الملك قائم وهو قوله لَهَا مَا كَسَبَتْ والفرق بين الشريك والجار ظاهر بدليل أن الجار لا يقدم على الشريك وذلك يمنع من حصول الاستواء ولأن التضرر

بمخالطة الجار أقل ولأن في الشركة يحتاج إلى تحمل مؤنة القسمة وهذا المعنى مفقود في الجار
ومنها أن القطع لا يمنع وجوب الضمان لأن المقتضي لبقاء الملك قائم وهو قوله لَهَا مَا كَسَبَتْ والقطع لا يوجب زوال الملك بدليل أن المسروق متى كان باقياً قائماً فإنه يجب رده على المالك ولا يكون القطع مقتضياً زوال ملكه عنه
ومنها أن منكري وجوب الزكاة احتجوا به وجوابه أن الدلائل الموجبة للزكاة أخص والخاص مقدم على العام وبالجملة فهذه الآية أصل كبير في فروع الفقه والله أعلم
ثم إعلم أنه تعالى حكى عن المؤمنين دعاءهم وذلك لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( الدعاء مخ العبادة ) لأن الداعي يشاهد نفسه في مقام الفقر والحاجة والذلة والمسكنة ويشاهد جلال الله تعالى وكرمه وعزته وعظمته بنعت الاستغناء والتعالي وهو المقصود من جميع العبادات والطاعات فلهذا السبب ختم هذه السورة الشريفة المشتملة على هذه العلوم العظيمة بالدعاء والتضرع إلى الله والكلام في حقائق الدعاء ذكرناه في تفسير قوله تعالى وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ ( البقرة 186 ) فقال رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا وفي الآية مسائل
المسألة الأولى إعلم أنه تعالى حكى عن المؤمنين أربعة أنواع من الدعاء وذكر في مطلع كل واحد منها قوله رَبَّنَا إلا في النوع الرابع من الدعاء فإنه حذف هذه الكلمة عنها وهو قوله وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا
أما النوع الأول فهو قوله رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا وفيه مسائل
المسألة الأولى لا تؤاخذنا أي لا تعاقبنا وإنما جاء بلفظ المفاعلة وهو فعل واحد لأن الناسي قد أمكن من نفسه وطرق السبيل إليها بفعله فصار من يعاقبه بذنبه كالمعين لنفسه في إيذاء نفسه وعندي فيه وجه آخر وهو أن الله يأخذ المذنب بالعقوبة فالمذنب كأنه يأخذ ربه بالمطالبة بالعفو والكرم فإنه لا يجد من يخلصه من عذابه إلا هو فلهذا يتمسك العبد عند الخوف منه به فلما كان كل واحد منهما يأخذ الآخر عبر عنه بلفظ المؤاخذة
المسألة الثانية في النسيان وجهان الأول أن المراد منه هو النسيان نفسه الذي هو ضد الذكر
فإن قيل أليس أن فعل الناسي في محل العفو بحكم دليل العقل حيث لا يجوز تكليف ما لا يطاق وبدليل السمع وهو قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه فإذا كان النسيان في محل العفو قطعاً فما معنى طلب العفو عنه في الدعاء )
والجواب عنه من وجوه الأول أن النسيان منه ما يعذر فيه صاحبه ومنه ما لا يعذر ألا ترى أن من رأى في ثوبه دماً فأخر إزالته إلى أن نسي فصلّى وهو على ثوبه عد مقصراً إذ كان يلزمه المبادر إلى إزالته وأما إذا لم يره في ثوبه فإنه يعذر فيه ومن رمى صيداً في موضع فأصاب إنساناً فقد يكون بحيث لا يعلم الرامي أنه يصيب ذلك الصيد أو غيره فإذا رمى ولم يتحرز كان ملوماً أما إذا لم تكن أمارات الغلط ظاهرة ثم رمى وأصاب إنساناً كان ههنا معذوراً وكذلك الإنسان إذا تغافل عن الدرس والتكرار حتى نسي القرآن يكون

ملوماً وأما إذا واظب على القراءة لكنه بعد ذلك نسي فههنا يكون معذوراً فثبت أن النسيان على قسمين منه ما يكون معذوراً ومنه ما لا يكون معذوراً وروي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان إذا أراد أن يذكر حاجته شد خيطاً في أصبعه فثبت بما ذكرنا أن الناسي قد لا يكون معذوراً وذلك ما إذا ترك التحفظ وأعرض عن أسباب التذكر وإذا كان كذلك صح طلب غفرانه بالدعاء
الوجه الثاني في الجواب أن يكون هذا دعاء على سبيل التقدير وذلك لأن هؤلاء المؤمنين الذين ذكروا هذا الدعاء كانوا متقين لله حق تقاته فما كان يصدر عنهم ما لا ينبغي إلا على وجه النسيان والخطأ فكان وصفهم بالدعاء بذلك إشعاراً ببراءة ساحتهم عما يؤاخذون به كأن قيل إن كان النسيان مما تجوز المؤاخذة به فلا تؤاخذنا به
الوجه الثالث في الجواب أن المقصود من الدعاء إظهار التضرع إلى الله تعالى لا طلب الفعل ولذلك فإن الداعي كثيراً ما يدعو بما يقطع بأن الله تعالى يفعله سواء دعا أو لم يدع قال الله تعالى قَالَ رَبّ احْكُم بِالْحَقّ ( الأنبياء 112 ) وقال رَبَّنَا وَءاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَة ِ ( آل عمران 194 ) وقالت الملائكة في دعائهم فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَاتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ ( غافر 7 ) فكذا في هذه الآية العلم بأن النسيان مغفور لا يمنع من حسن طلبه في الدعاء
الوجه الرابع في الجواب أن مؤاخذة الناسي غير ممتنعة عقلاً وذلك لأن الإنسان إذا علم أنه بعد النسيان يكون مؤاخذاً فإنه بخوف المؤاخذة يستديم الذكر فحينئذ لا يصدر عنه إلا أن استدامة ذلك التذكر فعل شاق على النفس فلما كان ذلك جائزاً في العقول لا جرم حسن طلب المغفرة منه بالدعاء
الوجه الخامس أن أصحابنا الذين يجوزون تكليف ما لا يطاق يتمسكون بهذه الآية فقالوا الناسي غير قادر على الاحتراز عن الفعل فلولا أنه جائز عقلاً من الله تعالى أن يعاقب عليه لما طلب بالدعاء ترك المؤاخذة عليه
والقول الثاني في تفسير النسيان أن يحمل على الترك قال الله تعالى فَنَسِى َ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ( طه 115 ) وقال تعالى نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ( التوبة 67 ) أي تركوا العمل لله فتركهم ويقول الرجل لصاحبه لا تنسني من عطيتك أي لا تتركني فالمراد بهذا النسيان أن يترك الفعل لتأويل فاسد والمراد بالخطأ أن يفعل الفعل لتأويل فاسد
المسألة الثالثة علم أن النسيان والخطأ المذكورين في هذه الآية إما أن يكونا مفسرين بتفسير ينبغي فيه القصد إلى فعل ما لا ينبغي أو يكون أحدهما كذلك دون الآخر فأما الاحتمال الأول فإنه يدل على حصول العفو لأصحاب الكبائر لأن العمد إلى المعصية لما كان حاصلاً في النسيان وفي الخطأ ثم إنه تعالى أمر المسلمين أن يدعوه بقولهم لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا فكان ذلك أمراً من الله تعالى لهم بأن يطلبوا من الله أن لا يعذبهم على المعاصي ولما أمرهم بطلب ذلك دلّ على أنه يعطيهم هذا المطلوب وذلك يدل على حصول العفو لأصحاب الكبائر وأما القسم الثاني والثالث فباطلان لأن المؤاخذة على ذلك قبيحة عند الخصم وما يقبح فعله من الله يمتنع أن يطلب بالدعاء

فإن قيل الناسي قد يؤاخذ في ترك التحفظ قصداً وعمداً على ما قررتم في المسألة المتقدمة
قلنا فهو في الحقيقة مؤاخذ بترك التحفظ قصداً وعمداً فالمؤاخذة إنما حصلت على ما تركه عمداً وظاهر ما ذكرنا دلالة هذه الآية على رجاء العفو لأهل الكبائر
قوله تعالى رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا
إعلم أن هذا هو النوع الثاني من الدعاء وفيه مسائل
المسألة الأولى الإصر في اللغة الثقل والشدة قال النابغة
يا مانع الضيم أن يغشى سراتهم
والحامل الإصر عنهم بعد ما عرفوا
ثم سمي العهد إصراً لأنه ثقيل قال الله تعالى وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذالِكُمْ إِصْرِى ( آل عمران 81 ) أي عهدي وميثاقي والإصر العطف يقال ما يأصرني عليه آصرة أي رحم وقرابة وإنما سمي العطف إصراً لأن عطفك عليه يثقل على قلبك كل ما يصل إليه من المكاره
المسألة الثانية ذكر أهل التفسير فيه وجهين الأول لا تشدد علينا في التكاليف كما شددت على من قبلنا من اليهود قال المفسرون إن الله تعالى فرض عليهم خمسين صلاة وأمرهم بأداء ربع أموالهم في الزكاة ومن أصاب ثوبه نجاسة أمر بقطعها وكانوا إذا نسوا شيئاً عجلت لهم العقوبة في الدنيا وكانوا إذا أتوا بخطيئة حرم عليهم من الطعام بعض ما كان حلالاً لهم قال الله تعالى فَبِظُلْمٍ مّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ ( النساء 160 ) وقال تعالى وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُمْ مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مّنْهُمْ وقد حرم على المسافرين من قوم طالوت الشرب من النهر وكان عذابهم معجلاً في الدنيا كما قال مّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً وكانوا يمسخون قرد وخنازير قال القفال ومن نظر في السفر الخامس من التوراة التي تدعيها هؤلاء اليهود وقف على ما أخذ عليهم من غلظ العهود والمواثيق ورأى الأعاجيب الكثيرة فالمؤمنون سألوا ربهم أن يصونهم عن أمثال هذه التغليظات وهو بفضله ورحمته قد أزال ذلك عنهم قال الله تعالى في صفة هذه الأمة وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالاْغْلَالَ الَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ ( الأعراف 157 ) وقال عليه السلام ( رفع عن أمتي المسخ والخسف والغرق ) وقال الله تعالى وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وقال عليه الصلاة والسلام ( بعثت بالحنيفية السهلة السمحة ) والمؤمنون إنما طلبوا هذا التخفيف لأن التشديد مظنة التقصير والتقصير موجب للعقوبة ولا طاقة لهم بعذاب الله تعالى فلا جرم طلبوا السهولة في التكاليف
والقول الثاني لا تحمل علينا عهداً وميثاقاً يشبه ميثاق من قبلنا في الغلظ والشدة وهذا القول يرجع إلى الأول في الحقيقة لكن بإضمار شيء زائد على الملفوظ فيكون القول الأول أولى
المسألة الثالثة لقائل أن يقول دلّت الدلائل العقلية والسمعية على أنه أكرم الأكرمين وأرحم

الراحمين فما السبب في أن شدد التكليف على اليهود حتى أدى ذلك إلى وقوعهم في المخالفات والتمرد قالت المعتزلة من الجائز أن يكون الشيء مصلحة في حق إنسان مفسدة في حق غيره فاليهود كانت الفظاظة والغلظة غالبة على طباعهم فما كانوا ينصلحون إلا بالتكاليف الشاقة والشدة وهذه الأمة كانت الرقة وكرم الخلق غالباً على طباعهم فكانت مصلحتهم في التخفيف وترك التغليظ
أجاب الأصحاب بأن السؤال الذي ذكرناه في المقام الأول ننقله إلى المقام الثاني فنقول ولماذا خص اليهود بغلظة الطبع وقسوة القلب ودناءة الهمة حتى احتاجوا إلى التشديدات العظيمة في التكاليف ولماذا خص هذه الأمة بلطافة الطبع وكرم الخلق وعلو الهمة حتى صار يكفيهم التكاليف السهلة في حصول مصالحهم
ومن تأمل وأنصف علم أن هذه التعليلات عليلة فجل جناب الجلال عن أن يوزن بميزان الاعتزال وهو سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ
قوله تعالى رَبَّنَا وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَة َ لَنَا بِهِ
إعلم أن هذا هو النوع الثالث من دعاء المؤمنين وفيه مسائل
المسألة الأولى الطاقة اسم من الإطاقة كالطاعة من الإطاعة والجابة من الإجابة وهي توضع موضع المصدر
المسألة الثانية من الأصحاب من تمسك به في أن تكليف ما لا يطاق جائز إذ لو لم يكن جائزاً لما حسن طلبه بالدعاء من الله تعالى
أجاب المعتزلة عنه من وجوه الأول أن قوله مَا لاَ طَاقَة َ لَنَا بِهِ أي يشق فعله مشقة عظيمة وهو كما يقول الرجل لا أستطيع أن أنظر إلى فلان إذا كان مستثقلاً له قال الشاعر
إنك إن كلفتني ما لم أطق
ساءك ما سرك مني من خلق
وفي الحديث أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال في المملوك ( له طعامه وكسوته ولا يكلف من العمل ما لا يطيق ) أي ما يشق عليه وروى عمران بن الحصين أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( المريض يصلي جالساً فإن لم يستطع فعلى جنب ) فقوله فإن لم يستطع ليس معناه عدم القوة على الجلوس بل كل الفقهاء يقولون المراد منه إذا كان يلحقه في الجلوس مشقة عظيمة شديدة وقال الله تعالى في وصف الكفار مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ ( هود 20 ) أي كان يشق عليهم
الوجه الثاني أنه تعالى لم يقل لا تكلفنا ما لا طاقة لنا به بل قال لا تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَة َ لَنَا بِهِ والتحميل هو أن يضع عليه ما لا طاقة له بتحمله فيكون المراد منه العذاب والمعنى لا تحملنا عذابك الذي لا نطيق احتماله فلو حملنا الآية على ذلك كان قوله لا تُحَمّلْنَا حقيقة فيه ولو حملناه على التكليف كان قوله لا تُحَمّلْنَا مجازاً فيه فكان الأول أولى

الوجه الثالث هب أنهم سألوا الله تعالى أن لا يكلفهم بما لا قدرة لهم عليه لكن ذلك لا يدل على جواز أن يفعل خلافه لأنه لو دل على ذلك لدل قوله رَبّ احْكُم بِالْحَقّ ( الأنبياء 112 ) على جواز أن يحكم بباطل وكذلك يدل قول إبراهيم عليه السلام وَلاَ تُخْزِنِى يَوْمَ يُبْعَثُونَ ( الشعراء 87 ) على جواز أن يخزي الأنبياء وقال الله تعالى لرسوله ( صلى الله عليه وسلم ) وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ( الأحزاب 48 ) ولا يدل هذا على جواز أن يطيع الرسول الكافرين والمنافقين وكذا الكلام في قوله لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ( الزمر 65 ) هذا جملة أجوبة المعتزلة
أجاب الأصحاب فقالوا
أما الوجه الأول فمدفوع من وجهين الأول أنه لو كان قوله وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَة َ لَنَا بِهِ محمولاً على أن لا يشدد عليهم في التكليف لكان معناه ومعنى الآية المتقدمة عليه وهو قوله وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا واحداً فتكون هذه الآية تكراراً محضاً وذلك غير جائز الثاني أنا بينا أن الطاقة هي الإطاقة والقدرة فقوله لا تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَة َ لَنَا بِهِ ظاهره لا تحملنا ما لا قدرة لنا عليه أقصى ما في الباب أنه جاء هذا اللفظ بمعنى الاستقبال في بعض وجوه الاستعمال على سبيل المجاز إلا أن الأصل حمل اللفظ على الحقيقة
وأما الوجه الثاني فجوابه أن التحمل مخصوص في عرف القرآن بالتكليف قال الله تعالى إِنَّا عَرَضْنَا الاْمَانَة َ عَلَى السَّمَاوَاتِ ( الأحزاب 72 ) إلى قوله وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ ( الأحزاب 72 ) ثم هب أنه لم يوجد هذا العرف إلا أن قوله لا تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَة َ لَنَا بِهِ عام في العذاب وفي التكليف فوجب إجراؤه على ظاهره أما التخصيص بغير حجة فإنه لا يجوز
وأما الوجه الثالث فجوابه أن فعل الشيء إذا كان ممتنعاً لم يجز طلب الامتناع منه على سبيل الدعاء والتضرع ويصير ذلك جارياً مجرى من يقول في دعائه وتضرعه ربنا لا تجمع بين الضدين ولا تقلب القديم محدثاً كما أن ذلك غير جائز فكذا ما ذكرتم
إذا ثبت هذا فنقول هذا هو الأصل فإذا صار ذلك متروكاً في بعض الصور لدليل مفصل لم يجب تركه في سائر الصور بغير دليل وبالله التوفيق
المسألة الثالثة إعلم أنه بقي في الآية سؤالات
السؤال الأول لم قال في الآية الأولى لاَّ تَحْمِلُ عَلَيْنَا إِصْرًا وقال في هذه الآية لا تُحَمّلْنَا خص ذلك بالحمل وهذا بالتحميل
الجواب أن الشاق يمكن حمله أما ما لا يكون مقدوراً لا يمكن حمله فالحاصل فيما لا يطاق هو التحميل فقط أما الحمل فغير ممكن وأما الشاق فالحمل والتحميل يمكنان فيه فلهذا السبب خص الآية الأخيرة بالتحميل
السؤال الثاني أنه لما طلب أن لا يكلفه بالفعل الشاق قوله لاَّ تَحْمِلُ عَلَيْنَا إِصْرًا كان من لوازمه أن لا يكلفه ما لا يطاق وعلى هذا التقدير كان عكس هذا الترتيب أولى

والجواب الذي أتخيله فيه والعلم عند الله تعالى أن للعبد مقامين أحدهما قيامه بظاهر الشريعة والثاني شروعه في بدء المكاشفات وذلك هو أن يشتغل بمعرفة الله وخدمته وطاعته وشكر نعمته ففي المقام الأول طلب ترك التشديد وفي المقام الثاني قال لا تطلب مني حمداً يليق بجلالك ولا شكراً يليق بآلائك ونعمائك ولا معرفة تليق بقدس عظمتك فإن ذلك لا يليق بذكري وشكري وفكري ولا طاقة لي بذلك ولما كانت الشريعة متقدمة على الحقيقة لا جرم كان قوله وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا مقدماً في الذكر على قوله لا تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَة َ لَنَا بِهِ
السؤال الثالث أنه تعالى حكى عن المؤمنين هذه الأدعية بصيغة الجمع بأنهم قالوا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَة َ لَنَا بِهِ فما الفائدة في هذه الجمعية وقت الدعاء
والجواب المقصود منه ببيان أن قبول الدعاء عند الاجتماع أكمل وذلك لأن للهمم تأثيرات فإذا اجتمعت الأرواح والدواعي على شيء واحد كان حصوله أكمل
قوله تعالى وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ
إعلم أن تلك الأنواع الثلاثة من الأدعية كان المطلوب فيها الترك وكانت مقرونة بلفظ رَبَّنَا وأما هذا الدعاء الرابع فقد حذف منه لفظ رَبَّنَا وظاهره يدل على طلب الفعل ففيه سؤالان
السؤال الأول لم لم يذكر ههنا لفظ ربنا
الجواب النداء إنما يحتاج إليه عند البعد أما عند القرب فلا وإنما حذف النداء إشعاراً بأن العبد إذا واظب على التضرع نال القرب من الله تعالى وهذا سر عظيم يطلع منه على أسرار أُخر
السؤال الثاني ما الفرق بين العفو والمغفرة والرحمة
الجواب أن العفو أن يسقط عنه العقاب والمغفرة أن يستر عليه جرمه صوناً له من عذاب التخجيل والفضيحة كأن العبد يقول أطلب منك العفو وإذا عفوت عني فاستره علي فإن الخلاص من عذاب القبر إنما يطيب إذا حصل عقيبه الخلاص من عذاب الفضيحة والأول هو العذاب الجسماني والثاني هو العذاب الروحاني فلما تخلص منهما أقبل على طلب الثواب وهو أيضاً قسمان ثواب جسماني وهو نعيم الجنة ولذاتها وطيباتها وثواب روحاني وغايته أن يتجلى له نور جلال الله تعالى وينكشف له بقدر الطاقة علو كبرياء الله وذلك بأن يصير غائباً عن كل ما سوى الله تعالى مستغرقاً بالكلية في نور حضور جلال الله تعالى فقوله وَارْحَمْنَا طلب للثواب الجسماني وقوله بعد ذلك أَنتَ مَوْلَانَا طلب للثواب الروحاني ولأن يصير العبد مقبلا بكليته على الله تعالى لأن قوله أَنتَ مَوْلَانَا خطاب الحاضرين ولعلّ كثيراً من

المتكلمين يستبعدون هذه الكلمات ويقولون إنها من باب الطاعات ولقد صدقوا فيما يقولون فذلك مبلغهم من العلم إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى ( النجم 30 )
وفي قوله أَنتَ مَوْلَانَا فائدة أخرى وذلك أن هذه الكلمة تدل على نهاية الخضوع والتذلل والاعتراف بأنه سبحانه هو المتولي لكل نعمة يصلون إليها وهو المعطي لكل مكرمة يفوزون بها فلا جرم أظهروا عند الدعاء أنهم في كونهم متكلمين على فضله وإحسانه بمنزلة الطفل الذي لا تتم مصلحته إلا بتدبير قيمه والعبد الذي لا ينتظم شمل مهماته إلا بإصلاح مولاه فهو سبحانه قيوم السماوات والأرض والقائم بإصلاح مهمات الكل وهو المتولي في الحقيقة للكل على ما قال نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ( الأنفال 40 ) ونظير هذه الآية اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( البقرة 257 ) أي ناصرهم وقوله فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ ( التحريم 4 ) أي ناصره وقوله ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ ( محمد 11 )
ثم قال فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ أي انصرنا عليهم في محاربتنا معهم وفي مناظرتنا بالحجة معهم وفي إعلاء دولة الإسلام على دولتهم على ما قال لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ ( التوبة 33 ) ومن المحققين من قال فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ المراد منه إعانة الله بالقوة الروحانية الملكية على قهر القوى الجسمانية الداعية إلى ما سوى الله وهذا آخر السورة
وروى الواحدي رحمه الله عن مقاتل بن سليمان أنه لما أسري بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى السماء أعطى خواتيم سورة البقرة فقالت الملائكة إن الله عزّ وجلّ قد أكرمك بحسن الثناء عليك بقوله الرَّسُولُ بِمَا فسله وارغب إليه فعلمه جبريل عليهما الصلاة والسلام كيف يدعو فقال محمد ( صلى الله عليه وسلم ) غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ فقال الله تعالى ( قد غفرت لكم ) فقال لاَ تُؤَاخِذْنَا فقال الله لا فقال رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا فقال ( لا أشدد عليكم ) فقال محمد لا تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَة َ لَنَا بِهِ فقال ( لا أحملكم ذلك ) فقال محمد وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا فقال الله تعالى ( قد عفوت عنكم وغفرت لكم ورحمتكم وأنصركم على القوم الكافرين ) وفي بعض الروايات أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) كان يذكر هذه الدعوات والملائكة كانوا يقولون آمين
وهذا المسكين البائس الفقير كاتب هذه الكلمات يقول إلاهي وسيدي كل ما للبته وكتبته ما أردت به إلا وجهك ومرضاتك فإن أصبت فبتوفيقك أصبت فاقبله من هذا المكدي بفضلك وإن أخطأت فتجاوز عني بفضلك ورحمتك يا من لا يبرمه إلحاح الملحين ولا يشغله سؤال السائلين وهذا آخر الكلام في تفسير هذه والسورة الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على سيدنا محمد النبي وعلى آله وأصحابه وسلّم

سورة ال عمران
مائتا آية مدنية
الم
اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ
أما تفسير الم فقد تقدم في سورة البقرة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ أبو بكر عن عاصم الم اللَّهِ بسكون الميم ونصب همزة الله والباقون موصولاً بفتح الميم أما قراءة عاصم فلها وجهان الأول نية الوقف ثم إظهار الهمزة لأجل الابتداء والثاني أن يكون ذلك على لغة من يقطع ألف الوصل فمن فصل وأظهر الهمزة فللتفخيم والتعظيم وأما من نصب الميم ففيه قولان
القول الأول وهو قول الفراء واختيار كثير من البصريين أن أسماء الحروف موقوفة الأواخر يقول ألف لام ميم كما تقول واحد اثنان ثلاثة وعلى هذا التقدير وجب الابتداء بقوله الله فإذا ابتدأنا به نثبت الهمزة متحركة إلا أنهم أسقطوا الهمزة للتخفيف ثم ألقيت حركتها على الميم لتدل حركتها على أنها في حكم المبقاة بسبب كون هذه اللفظة مبتدأ بها
فإن قيل إن كان التقدير فصل إحدى الكلمتين عن الأخرى امتنع إسقاط الهمزة وإن كان التقدير هو

الوصل امتنع بقاء الهمزة مع حركتها وإذا امتنع بقاؤها امتنعت حركتها وامتنع إلقاء حركتها على الميم
قلنا لم لا يجوز أن يكون ساقطاً بصورته باقياً بمعناه فأبقيت حركتها لتدل على بقائها في المعنى هذا تمام تقرير قول الفرّاء
والقول الثاني قول سيبويه وهو أن السبب في حركة الميم التقاء الساكنين وهذا القول رده كثير من الناس وفيه دقة ولطف والكلام في تلخيصه طويل
وأقول فيه بحثان أحدهما سبب أصل الحركة والثاني كون تلك الحركة فتحة
أما البحث الأول فهو بناء على مقدمات
المقدمة الأولى أن الساكنين إذا اجتمعا فإن كان السابق منهما حرفاً من حروف المد واللين لم يجب التحريك لأنه يسهل النطق بمثل هذين الساكنين كقولك هذا إبراهيم وإسحاق ويعقوب موقوفة الأواخر أما إذا لم يكن كذلك وجب التحريك لأنه لا يسهل النطق بمثل هذين لأنه لا يمكن النطق إلا بالحركة
المقدمة الثانية مذهب سيبويه أن حرف التعريف هي اللام وهي ساكنة والساكن لا يمكن الابتداء به فقدموا عليها همزة الوصل وحركوها ليتوصلوا بها إلى النطق باللام فعلى هذا إن وجدوا قبل لام التعريف حرفاً آخر فإن كان متحركاً توصلوا به إلى النطق بهذه اللام الساكنة وإن كان ساكناً حركوه وتوصلوا به إلى النطق بهذه اللام وعلى هذا التقدير يحصل الاستغناء عن همزة الوصل لأن الحاجة إليها أن يتوصل بحركتها إلى النطق باللام فإذا حصل حرف آخر توصلوا بحركته إلى النطق بهذه اللام فتحذف هذه الهمزة صورة ومعنى حقيقة وحكماً وإذا كان كذلك امتنع أن يقال ألقيت حركتها على الميم لتدل تلك الحركة عل كونها باقية حكماً لأن هذا إنما يصار إليه حيث يتعلق بوجوده حكم من الأحكام أو أثر من الآثار لكنا بينا أنه ليس الأمر كذلك فعلمنا أن تلك الهمزة سقطت بذاتها وبآثارها سقوطاً كلياً وبهذا يبطل قول الفرّاء
المقدمة الثالثة أسماء هذه الحروف موقوفة الأواخر وذلك متفق عليه
إذا عرفت هذه المقدمات فنقول الميم من قولنا الم ساكن ولام التعريف من قولنا اللَّهِ ساكن وقد اجتمعا فوجب تحريك الميم ولزم سقوط الهمزة بالكلية صورة ومعنى وصح بهذا البيان قول سيبويه وبطل قول الفرّاء
أما البحث الثاني فلقائل أن يقول الساكن إذا حرك حرك إلى الكسر فلم اختير الفتح ههنا قال الزجاج في الجواب عنه الكسر ههنا لا يليق لأن الميم من قولنا الم مسبوقة بالياء فلو جعلت الميم مكسورة لاجتمعت الكسرة مع الياء وذلك ثقيل فتركت الكسرة واختيرت الفتحة وطعن أبو علي الفارسي في كلام الزجاج وقال ينتقض قوله بقولنا جير فإن الراء مكسورة مع أنها مسبوقة بالياء وهذا الطعن عندي ضعيف لأن الكسرة حركة فيها بعض الثقل والياء أختها فإذا اجتمعا عظم الثقل ثم يحصل الانتقال منه إلى النطق بالألف في قولك اللَّهِ وهو في غاية الخفة فيصير اللسان منتقلاً من أثقل الحركات إلى أخف الحركات والانتقال من الضد إلى الضد دفعة واحدة صعب على اللسان أما إذا جعلنا الميم مفتوحة انتقل

اللسان من فتحة الميم إلى الألف في قولنا اللَّهِ فكان النطق به سهلاً فهذا وجه تقرير قول سيبويه والله أعلم
المسألة الثانية في سبب نزول أول هذه السورة قولان
القول الأول وهو قول مقاتل بن سليمان أن بعض أول هذه السورة في اليهود وقد ذكرناه في تفسير الم ذالِكَ الْكِتَابُ ( البقرة 1 2 )
والقول الثاني من ابتداء السورة إلى آية المباهلة في النصارى وهو قول محمد بن إسحاق قال قدم على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وفد نجران ستون راكباً فيهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم وثلاثة منهم كانوا أكابر القوم أحدهم أميرهم واسمه عبد المسيح والثاني مشيرهم وذو رأيهم وكانوا يقولون له السيد واسمه الأيهم والثالث حبرهم وأسقفهم وصاحب مدراسهم يقال له أبو حارثة بن علقمة أحد بني بكر بن وائل وملوك الروم كانوا شرفوه ومولوه وأكرموه لما بلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم فلما قدموا من بحران ركب أبو حارثة بغلته وكان إلى جنبه أخوه كرز بن علقمة فبينا بغلة أبي حارثة تسير إذ عثرت فقال كرز أخوه تعس الأبعد يريد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال أبو حارثة بل تعست أمك فقال ولم يا أخي فقال إنه والله النبي الذي كنا ننتظره فقال له أخوه كرز فما يمنعك منه وأنت تعلم هذا قال لأن هؤلاء الملوك أعطونا أموالاً كثيرة وأكرمونا فلو آمنا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) لأخذوا منا كل هذه الأشياء فوقع ذلك في قلب أخيه كرز وكان يضمره إلى أن أسلم فكان يحدث بذلك ثم تكلم أولئك الثلاثة الأمير والسيد والحبر مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على اختلاف من أديانهم فتارة يقولون عيسى هو الله وتارة يقولون هو ابن الله وتارة يقولون ثالث ثلاثة ويحتجون لقولهم هو الله بأنه كان يحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص ويبرىء الأسقام ويخبر بالغيوب ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيطير ويحتجون في قولهم إنه ولد الله بأنه لم يكن له أب يعلم ويحتجون على ثالث ثلاثة بقول الله تعالى فعلنا وجعلنا ولو كان واحداً لقال فعلت فقال لهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أسلموا فقالوا قد أسلمنا فقال ( صلى الله عليه وسلم ) كذبتم كيف يصح إسلامكم وأنتم تثبتون لله ولداً وتعبدون الصليب وتأكلون الخنزير قالوا فمن أبوه فسكت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأنزل الله تعالى في ذلك أول سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها
ثم أخذ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يناظر معهم فقال ألستم تعلمون أن الله حي لا يموت وأن عيسى يأتي عليه الفناء قالوا بلى قال ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا ويشبه أباه قالوا بلى قال ألستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شيء يكلؤه ويحفظه ويرزقه فهل يملك عيسى شيئاً من ذلك قالوا لا قال ألستم تعلمون أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء فهل يعلم عيسى شيئاً من ذلك إلا ما علم قالوا لا قال فإن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء فهل تعلمون أن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يحدث الحدث وتعلمون أن عيسى حملته امرأة كحمل المرأة ووضعته كما تضع المرأة ثم كان يطعم الطعام ويشرب الشراب ويحدث الحدث قالوا بلى فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( فكيف يكون كما زعمتم فعرفوا ثم أبوا إلا جحوداً ثم قالوا يا محمد ألست تزعم أنه كلمة الله وروح منه قال بلى ) قالوا فحسبنا فأنزل الله تعالى فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ الآية

ثم إن الله تعالى أمر محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بملاعنتهم إذ ردوا عليه ذلك فدعاهم رسول الله إلى الملاعنة فقالوا يا أبا القاسم دعنا ننظر في أمرنا ثم نأتيك بما تريد أن نفعل فانصرفوا ثم قال بعض أولئك الثلاثة لبعض ما ترى فقال والله يا معشر النصارى لقد عرفتم أن محمداً نبي مرسل ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم ولقد علمتم ما لا عن قوم نبياً قط إلا وفى كبيرهم وصغيرهم وأنه الاستئصال منكم إن فعلتم وأنتم قد أبيتم إلا دينكم والإقامة على ما أنتم عليه فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم فأتوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا يا أبا القاسم قد رأينا أن لا نلاعنك وأن نتركك على دينك ونرجع نحن على ديننا فابعث رجلاً من أصحابك معنا يحكم بيننا في أشياء قد اختلفنا فيها من أموالنا فإنكم عندنا رضا فقال عليه السلام آتوني العشية أبعث معكم الحكم القوي الأمين وكان عمر يقول ما أحببت الإمارة قط إلا يومئذ رجاء أن أكون صاحبها فلما صلينا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الظهر سلم ثم نظر عن يمينه وعن يساره وجعلت أتطاول له ليراني فلم يزل يردد بصره حتى رأى أبا عبيدة بن الجراح فدعاه فقال اخرج معهم واقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه قال عمر فذهب بها أبو عبيدة
واعلم أن هذه الرواية دالة على أن المناظرة فيي تقرير الدين وإزالة الشبهات حرفة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأن مذهب الحشوية في إنكار البحث والنظر باطل قطعاً والله أعلم
المسألة الثالثة إعلم أن مطلع هذه السورة له نظم لطيف عجيب وذلك لأن أولئك النصارى الذين نازعوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كأنه قيل لهم إما أن تنازعوه في معرفة الإله أو في النبوّة فإن كان النزاع في معرفة الإله وهو أنكم تثبتون له ولداً وأن محمداً لا يثبت له ولداً فالحق معه بالدلائل العقلية القطعية فإنه قد ثبت بالبرهان أنه حي قيوم والحي القيوم يستحيل عقلاً أن يكون له ولد وإن كان النزاع في النبوّة فهذا أيضاً باطل لأن بالطريق الذي عرفتم أن الله تعالى أنزل التوراة والإنجيل على موسى وعيسى فهو بعينه قائم في محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وما ذاك إلا بالمعجزة وهو حاصل ههنا فكيف يمكن منازعته في صحة النبوّة فهذا هو وجه النظم وهو مضبوط حسن جداً فلننظر ههنا إلى بحثين
البحث الأول ما يتعلق بالإلاهيات فنقول إنه تعالى حي قيوم وكل من كان حياً قيوماً يمتنع أن يكون له ولد وإنما قلنا إنه حي قيوم لأنه واجب الوجود لذاته وكل ما سواه فإنه ممكن لذاته محدث حصل تكوينه وتخليقه وإيجاده على ما بينا كل ذلك في تفسير قوله تعالى اللَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ الْحَى ُّ الْقَيُّومُ وإذا كان الكل محدثاً مخلوقاً امتنع كون شيء منها ولداً له وإلاهاً كما قال إِن كُلُّ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ إِلاَّ اتِى الرَّحْمَنِ عَبْداً ( مريم 93 ) وأيضاً لما ثبت أن الإله يجب أن يكون حياً قيوماً وثبت أن عيسى ما كان حياً قيوماً لأنه ولد وكان يأكل ويشرب ويحدث والنصارى زعموا أنه قتل وما قدر على دفع القتل عن نفسه فثبت أنه ما كان حياً قيوماً وذلك يقتضي القطع والجزم بأنه ما كان إلاهاً فهذه الكلمة وهي قوله الْحَى ُّ الْقَيُّومُ جامعة لجميع وجوه الدلائل على بطلان قول النصارى في التثليث
وأما البحث الثاني وهو ما يتعلق بالنبوّة فقد ذكره الله تعالى ههنا في غاية الحسن ونهاية الجودة وذلك لأنه قال نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ ( آل عمران 3 ) وهذا يجري مجرى الدعوى ثم إنه تعالى أقام الدلالة على صحة هذه الدعوى فقال وافقتمونا أيها اليهود والنصارى على أنه تعالى أنزل التوراة والإنجيل

من قبل هدى ً للناس فإنما عرفتم أن التوراة والإنجيل كتابان إلاهيان لأنه تعالى قرن بإنزالهما المعجزة الدالة على الفرق بين قول المحق وقول المبطل والمعجز لما حصل به الفرق بين الدعوى الصادقة والدعوى الكاذبة كان فرقاً لا محالة ثم أن الفرقان الذي هو المعجز كما حصل في كون التوراة والإنجيل نازلين من عند الله فكذلك حصل في كون القرآن نازلاً من عند الله وإذا كان الطريق مشتركاً فإما أن يكون الواجب تكذيب الكل على ما هو قول البراهمة أو تصديق الكل على ما هو قول المسلمين وأما قبول البعض ورد البعض فذلك جهل وتقليد ثم إنه تعالى لما ذكر ما هو العمدة في معرفة الإله على ما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام وما هو العمدة في إثبات نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لم يبق بعد ذلك عذر لمن ينازعه في دينه فلا جرم أردفه بالتهديد والوعيد فقال إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ ( آل عمران 4 ) فقد ظهر أنه لا يمكن أن يكون كلام أقرب إلى الضبط وإلى حسن الترتيب وجودة التأليف من هذا الكلام والحمد لله على ما هدى هذا المسكين إليه وله الشكر على نعمه التي لا حد لها ولا حصر
ولما لخصنا ما هو المقصود الكلي من الكلام فلنرجع إلى تفسير كل واحد من الألفاظ
أما قوله اللَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ فهو رد على النصارى لأنهم كانوا يقولون بعبادة عيسى عليه السلام فبيّن الله تعالى أن أحداً لا يستحق العبادة سواه
ثم أتبع ذلك بما يجري مجرى الدلالة عليه فقال الْحَى ُّ الْقَيُّومُ فأما الحي فهو الفعال الدراك وأما القيوم فهو القائم بذاته والقائم بتدبير الخلق والمصالح لما يحتاجون إليه في معاشهم من الليل والنهار والحر والبرد والرياح والأمطار والنعم التي لا يقدر عليها سواه ولا يحصيها غيره كما قال تعالى وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا ( إبراهيم 34 ) وقرأ عمر رضي الله عنه الْحَى ُّ الْقَيُّومُ قال قتادة الحي الذي لا يموت والقيوم القائم على خلقه بأعمالهم وآجالهم وأرزاقهم وعن سعيد بن جبير الحي قبل كل حي والقيوم الذي لا ند له وقد ذكرنا في سورة البقرة أن قولنا الحي القيوم محيط بجميع الصفات المعتبرة في الإلاهية ولما ثبت أن المعبود يجب أن يكون حياً قيوماً ودلّت البديهة والحسن على أن عيسى عليه السلام ما كان حياً قيوماً وكيف وهم يقولون بأنه قتل وأظهر الجزع من الموت علمنا قطعاً أن عيسى ما كان إلاهاً ولا ولداً للإلاه تعالى وتقدس عما يقول الظالمون علواً كبيراً
نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاة َ وَالإِنجِيلَ
فاعلم أن الكتاب ههنا هو القرآن وقد ذكرنا في أول سورة البقرة اشتقاقه وإنما خص القرآن بالتنزيل والتوراة والإنجيل بالإنزال لأن التنزيل للتكثير والله تعالى نزل القرآن نجما نجما فكان معنى التكثير حاصلاً فيه وأما التوراة والإنجيل فإنه تعالى أنزلهما دفعة واحدة فلهذا خصهما بالإنزال ولقائل أن

يقول هذا يشكل بقوله تعالى الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ ( الكهف 1 ) وبقوله وَبِالْحَقّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقّ نَزَلَ ( الإسراء 105 )
واعلم أنه تعالى وصف القرآن المنزّل بوصفين
الوصف الأول قوله بِالْحَقّ قال أبو مسلم إنه يحتمل وجوهاً أحدها أنه صدق فيما تضمنه من الأخبار عن الأمم السالفة وثانيها أن ما فيه من الوعد والوعيد يحمل المكلف على ملازمة الطريق الحق في العقائد والأعمال ويمنعه عن سلوك الطريق الباطل وثالثها أنه حق بمعنى أنه قول فصل وليس بالهزل ورابعها قال الأصم المعنى أنه تعالى أنزله بالحق الذي يجب له على خلقه من العبودية وشكر النعمة وإظهار الخضوع وما يجب لبعضهم على بعض من العدل والإنصاف في المعاملات وخامسها أنزله بالحق لا بالمعاني الفاسدة المتناقضة كما قال أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا وقال وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً ( النساء 82 )
والوصف الثاني لهذا الكتاب قوله مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ والمعنى أنه مصدق لكتب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولما أخبروا به عن الله عزّ وجلّ ثم في الآية وجهان الأول أنه تعالى دلّ بذلك على صحة القرآن لأنه لو كان من عند غير الله لم يكن موافقاً لسائر الكتب لأنه كان أُمياً لم يختلط بأحد من العلماء ولا تتلمذ لأحد ولا قرأ على أحد شيئاً والمفتري إذا كان هكذا امتنع أن يسلم عن الكذب والتحريف فلما لم يكن كذلك ثبت أنه إنما عرف هذه القصص بوحي الله تعالى الثاني قال أبو مسلم المراد منه أنه تعالى لم يبعث نبياً قط إلا بالدعاء إلى توحيده والإيمان به وتنزيهه عما لا يليق به والأمر بالعدل والإحسان وبالشرائع التي هي صلاح كل زمان فالقرآن مصدق لتلك الكتب في كل ذلك بقي في الآية سؤالان
السؤال الأول كيف سمي ما مضى بأنه بين يديه
والجواب أن تلك الأخبار لغاية ظهورها سماها بهذا الاسم
السؤال الثاني كيف يكون مصدقاً لما تقدمه من الكتب مع أن القرآن ناسخ لأكثر تلك الأحكام
والجواب إذا كانت الكتب مبشرة بالقرآن وبالرسول ودالة على أن أحكامها تثبت إلى حين بعثه وأنها تصير منسوخة عند نزول القرآن كانت موافقة للقرآن فكان القرآن مصدقاً لها وأما فيما عدا الأحكام فلا شبهة في أن القرآن مصدق لها لأن دلائل المباحث الإلاهية لا تختلف في ذلك فهو مصدق لها في الأخبار الواردة في التوراة والإنجيل
ثم قال الله تعالى وَأَنزَلَ التَّوْرَاة َ وَالإِنجِيلَ وفيه مسائل

المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) التوراة والإنجيل اسمان أعجميان والاشتغال باشتقاقهما غير مفيد وقرأ الحسن وَالإِنجِيلَ بفتح الهمزة وهو دليل على العجمية لأن أفعيل بفتح الهمزة معدوم في أوزان العرب واعلم أن هذا القول هو الحق الذي لا محيد عنه ومع ذلك فننقل كلام الأدباء فيه
أما لفظ التَّوْرَاة َ ففيه أبحاث ثلاثة
البحث الأول في اشتقاقه قال الفرّاء التَّوْرَاة َ معناها الضياء والنور من قول العرب ورى الزند يرى إذا قدح وظهرت النار قال الله تعالى فَالمُورِيَاتِ قَدْحاً ( العاديات 2 ) ويقولون وريت بك زنادي ومعناه ظهر بك الخير لي فالتوراة سميت بهذا الاسم لظهور الحق بها ويدل على هذا المعنى قوله تعالى وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاء ( الأنبياء 48 )
البحث الثاني لهم في وزنه ثلاثة أقوال
القول الأول قال الفرّاء أصل التَّوْرَاة َ تورية تفعلة بفتح التاء وسكون الواو وفتح الراء والياء إلا أنه صارت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها
القول الثاني قال الفرّاء ويجوز أن تكون تفعلة على وزن ترفية وتوصية فيكون أصلها تورية إلا أن الراء نقلت من الكسر إلى الفتح على لغة طيىء فإنهم يقولون في جارية جاراة وفي ناصية ناصاة قال الشاعر
فما الدنيا بباقاة لحي
وما حي على الدنيا بباق
والقول الثالث وهو قول الخليل والبصريين إن أصلها وورية فوعلة ثم قلبت الواو الأولى تاء وهذا القلب كثير في كلامهم نحو تجاه وتراث وتخمة وتكلان ثم قلبت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها فصارت توراة وكتبت بالياء على أصل الكلمة ثم طعنوا في قول الفرّاء أما الأول فقالوا هذا البناء نادر وأما فوعلة فكثير نحو صومعة وحوصلة ودوسرة والحمل على الأكثر أولى وأما الثاني فلأنه لا يتم إلا بحمل اللفظ على لغة طيىء والقرآن ما نزل بها ألبتة
البحث الثالث في التوراة قراءتان الإمالة والتفخيم فمن فخم فلأن الراء حرف يمنع الإمالة لما فيه من التكرير والله أعلم
وأما الإنجيل ففيه أقوال الأول قال الزجاج إنه افعيل من النجل وهو الأصل يقال لعن الله ناجليه أي والديه فسمي ذلك الكتاب بهذا الاسم لأن الأصل المرجوع إليه في ذلك الدين والثاني قال قوم الإنجيل مأخوذ من قول العرب نجلت الشيء إذا استخرجته وأظهرته ويقال للماء الذي يخرج من البئر نجل ويقال قد استنجل الوادي إذا خرج الماء من النز فسمي الإنجيل إنجيلاً لأنه تعالى أظهر الحق بواسطته والثالث قال أبو عمرو الشيباني التناجل التنازع فسمي ذلك الكتاب بالإنجيل لأن القوم تنازعوا فيه والرابع أنه من النجل الذي هو سعة العين ومنه طعنة نجلاء سمي بذلك لأنه سعة ونور وضياء أخرجه لهم
وأقول أمر هؤلاء الأدباء عجيب كأنهم أوجبوا في كل لفظ أن يكون مأخوذاً من شيء آخر ولو كان

كذلك لزم إما التسلسل وإما الدور ولما كانا باطلين وجب الاعتراف بأنه لا بد من ألفاظ موضوعة وضعاً أولا حتى يجعل سائر الألفاظ مشتقة منها وإذا كان الأمر كذلك فلم لا يجوز في هذا اللفظ الذي جعلوه مشتقاً من ذلك الآخر أن يكون الأصل هو هذا والفرع هو ذاك الآخر ومن الذي أخبرهم بأن هذا فرع وذاك أصل وربما كان هذا الذي يجعلونه فرعاً ومشتقاً في غاية الشهرة وذاك الذي يجعلونه أصلاً في غاية الخفاء وأيضاً فلو كانت التوراة إنما سميت توراة لظهورها والإنجيل إنما سمي إنجيلاً لكونه أصلاً وجب في كل ما ظهر أن يسمى بالتوراة فوجب تسمية كل الحوادث بالتوراة ووجب في كل ما كان أصلاً لشيء آخر أن يسمى بالإنجيل والطين أصل الكوز فوجب أن يكون الطين إنجيلاً والذهب أصل الخاتم والغزل أصل الثوب فوجب تسمية هذه الأشياء بالإنجيل ومعلوم أنه ليس كذلك ثم أنهم عند إيراد هذه الإلزامات عليهم لا بدّ وأن يتمسكوا بالوضع ويقولوا العرب خصصوا هذين اللفظين بهذين الشيئين على سبيل الوضع وإذا كان لا يتم المقصود في آخر الأمر إلا بالرجوع إلى وضع اللغة فلم لا نتمسك به في أول الأمر ونريح أنفسنا من الخوض في هذه الكلمات وأيضاً فالتوراة والإنجيل اسمان أعجميان أحدهما بالعبرية والآخر بالسريانية فكيف يليق بالعاقل أن يشتغل بتطبيقها على أوزان لغة العرب فظهر أن الأولى بالعاقل أن لا يلتفت إلى هذه المباحث والله أعلم
مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ
أما قوله تعالى وَالإِنجِيلَ مِن قَبْلُ هُدًى لّلنَّاسِ
فاعلم أنه تعالى بيّن أنه أنزل التوراة والإنجيل قبل أن أنزل القرآن ثم بيّن أنه إنما أنزلهما هدى للناس قال الكعبي هذه الآية دالة على بطلان قول من يزعم أن القرآن عمي على الكافرين وليس بهدى لهم ويدل على معنى قوله وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ( فصلت 44 ) أن عند نزوله اختاروا العمى على وجه المجاز كقول نوح عليه السلام فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِى إِلاَّ فِرَاراً ( نوح 6 ) لما فروا عنده
واعلم أن قوله هُدًى لّلنَّاسِ فيه احتمالان الأول أن يكون ذلك عائداً إلى التوراة والإنجيل فقط وعلى هذا التقدير يكون قد وصف القرآن بأنه حق ووصف التوراة والإنجيل بأنهما هدى والوصفان متقاربان
فإن قيل إنه وصف القرآن في أول سورة البقرة بأنه هدى ً للمتقين فلم لم يصفه ههنا به
قلنا فيه لطيفة وذلك لأنا ذكرنا في سورة البقرة أنه إنما قال هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2 ) لأنهم هم المنتفعون به فصار من الوجه هدى ً لهم لا لغيرهم أما ههنا فالمناظرة كانت مع النصارى وهم لا يهتدون بالقرآن فلا جرم لم يقل ههنا في القرآنه أنه هدى ً بل قال إنه حق في نفسه سواء قبلوه أو لم يقبلوه وأما التوراة والإنجيل فهم يعتقدون في صحتهما ويدعون بأنا إنما نتقول في ديننا عليهما فلا جرم وصفهما الله تعالى لأجل هذا التأويل بأنهما هدى ً فهذا ما خطر بالبال والله أعلم

القول الثاني وهو قول الأكثرين أنه تعالى وصف الكتب الثلاثة بأنها هدى فهذا الوصف عائد إلى كل ما تقدم وغير مخصوص بالتوراة والإنجيل والله أعلم بمراده
ثم قال وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ
ولجمهور المفسرين فيه أقوال الأول أن المراد هو الزبور كما قال وَءاتَيْنَا دَاوُودُ زَبُوراً ( النساء 163 ) والثاني أن المراد هو القرآن وإنما أعاده تعظيماً لشأنه ومدحاً بكونه فارقاً بين الحق والباطل أو يقال إنه تعالى أعاد ذكره ليبين أنه أنزله بعد التوراة والإنجيل ليجعله فرقاً بين ما اختلف فيه اليهود والنصارى من الحق والباطل وعلى هذا التقدير فلا تكرار
والقول الثالث وهو قول الأكثرين أن المراد أنه تعالى كما جعل الكتب الثلاثة هدى ودلالة فقد جعلها فارقة بين الحلال والحرام وسائر الشرائع فصار هذا الكلام دالاً على أن الله تعالى بيّن بهذه الكتب ما يلزم عقلاً وسمعاً هذا جملة ما قاله أهل التفسير في هذه الآية وهي عندي مشكلة أما حمله على الزبور فهو بعيد لأن الزبور ليس فيه شيء من الشرائع والأحكام بل ليس فيه إلا المواعظ ووصف التوراة والإنجيل مع اشتمالهما على الدلائل وبيان الأحكام بالفرقان أولى من وصف الزبور بذلك وأما القول الثاني وهو حمله على القرآن فبعيد من حيث إن قوله وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ عطف على ما قبله والمعطوف مغاير للمعطوف عليه والقرآن مذكور قبل هذا فهذا يقتضي أن يكون هذا الفرقان مغايراً للقرآن وبهذا الوجه يظهر ضعف القول الثالث لأن كون هذه الكتب فارقة بين الحق والباطل صفة لهذه الكتب وعطف الصفة على الموصوف وإن كان قد ورد في بعض الأشعار النادرة إلا أنه ضعيف بعيد عن وجه الفصاحة اللائقة بكلام الله تعالى والمختار عندي في تفسير هذه الآية وجه رابع وهو أن المراد من هذا الفرقان المعجزات التي قرنها الله تعالى بإنزال هذه الكتب وذلك لأنهم لما أتوا بهذه الكتب وادعوا أنها كتب نازلة عليهم من عند الله تعالى افتقروا في إثبات هذه الدعوى إلى دليل حتى يحصل الفرق بين دعواهم وبين دعوى الكذابين فلما أظهر الله تعالى على وفق دعواهم تلك المعجزات حصلت المفارقة بين دعوى الصادق وبين دعوى الكاذب فالمعجزة هي الفرقان فلما ذكر الله تعالى أنه أنزل الكتاب بالحق وأنه أنزل التوراة والإنجيل من قبل ذلك بين أنه تعالى أنزل معها ما هو الفرقان الحق وهو المعجز القاهر الذي يدل على صحتها ويفيد الفرق بينها وبين سائر الكتب المختلفة فهذا هو ما عندي في تفسير هذه الآية وهب أن أحداً من المفسرين ما ذكره إلا أن حمل كلام الله تعالى عليه يفيد قوة المعنى وجزالة اللفظ واستقامة الترتيب والنظم والوجوه التي ذكروها تنافي كل ذلك فكان ما ذكرناه أولى والله أعلم بمراده
واعلم أنه سبحانه وتعالى لما قرر في هذه الألفاظ القليلة جميع ما يتعلق بمعرفة الإله وجميع ما يتعلق بتقرير النبوّة أتبع ذلك بالوعيد زجراً للمعرضين عن هذه الدلائل الباهرة فقال

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ
واعلم أن بعض المفسرين خصص ذلك بالنصارى فقصر اللفظ العام على سبب نزوله والمحققون من المفسرين قالوا خصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ فهو يتناول كل من أعرض عن دلائل الله تعالى
ثم قال وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ
والعزيز الغالب الذي لا يغلب والانتقام العقوبة يقال انتقم منه انتقاماً أي عاقبه وقال الليث يقال لم أرض عنه حتى نقمت منه وانتقمت إذا كافأه عقوب بما صنع والعزيز إشار إلى القدرة التامة على العقاب وذو الانتقام إشارة إلى كونه فاعلاً للعقاب فالأول صفة الذات والثاني صفة الفعل والله أعلم
إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَى ْءٌ فِي الأرض وَلاَ فِى السَّمَآءِ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الاٌّ رْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
إعلم أن هذا الكلام يحتمل وجهين
الاحتمال الأول أنه تعالى لما ذكر أنه قيوم والقيوم هو القائم بإصلاح مصالح الخلق ومهماتهم وكونه كذلك لا يتم إلا بمجموع أمرين أحدهما أن يكون عالماً بحاجاتهم على جميع وجوه الكمية والكيفية والثاني أن يكون بحيث متى علم جهات حاجاتهم قدر على دفعها والأول لا يتم إلا إذا كان عالماً بجميع المعلومات والثاني لا يتم إلا إذا كان قادراً على جميع الممكنات فقوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَى ْء فِي الاْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء إشارة إلى كمال علمه المتعلق بجميع المعلومات فحينئذ يكون عالماً لا محالة مقادير الحاجات ومراتب الضرورات لا يشغله سؤال عن سؤال ولا يشتبه الأمر عليه بسبب كثرة أسئلة السائلين ثم قوله هُوَ الَّذِي يُصَوّرُكُمْ فِي الاْرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء إشارة إلى كونه تعالى قادراً على جميع الممكنات وحينئذ يكون قادراً على تحصيل مصالح جميع الخلق ومنافعهم وعند حصول هذين الأمرين يظهر كونه قائماً بالقسط قيوماً بجميع الممكنات والكائنات ثم فيه لطيفة أخرى وهي أن قوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَى ْء فِي الاْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء كما ذكرناه إشارة إلى كمال علمه سبحانه والطريق إلى إثبات كونه تعالى عالماً لا يجوز أن يكون هو السمع لأن معرفة صحة السمع مرقوفة على العلم بكونه تعالى عالماً بجميع المعلومات بل الطريق إليه ليس إلا الدليل العقلي وذلك هو أن نقول إن أفعال الله تعالى محكمة متقنة والفعل المحكم المتقن يدل على كون فاعله عالماً فلما كان دليل كونه تعالى عالماً هو ما ذكرنا فحين ادعى كونه عالماً بكل المعلومات بقوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَى ْء فِي الاْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء أتبعه بالدليل العقلي الدال على ذلك وهو أنه هو الذي صور في ظلمات الأرحام هذه البنية العجيبة والتركيب الغريب وركبه من أعضاء مختلفة في الشكل والطبع والصفة فبعضها عظام وبعضها غضاريف وبعضها

شرايين وبعضها أوردة وبعضها عضلات ثم إنه ضم بعضها إلى بعض على التركيب الأحسن والتأليف الأكمل وذلك يدل على كمال قدرته حيث قدر أن يخلق من قطرة من النطفة هذه الأعضاء المختلفة في الطبائع والشكل واللون ويدل على كونه عالماً من حيث إن الفعل المحكم لا يصدر إلا عن العالم فكان قوله هُوَ الَّذِي يُصَوّرُكُمْ فِي الاْرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء دالاً على كونه قادراً على كل الممكنات ودالاً على صحة ما تقدم من قوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَى ْء فِي الاْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء وإذا ثبت أنه تعالى عالم بجميع المعلومات وقادر على كل الممكنات ثبت أنه قيوم المحدثات والممكنات فظهر أن هذا كالتقرير لما ذكره تعالى أولاً من أنه هو الحي القيوم ومن تأمل في هذه اللطائف علم أنه لا يعقل كلام أكثر فائدة ولا أحسن ترتيباً ولا أكثر تأثيراً في القلوب من هذه الكلمات
والاحتمال الثاني أن تنزل هذه الآيات على سبب نزولها وذلك لأن النصارى ادعوا إلاهية عيسى عليه السلام وعولوا في ذلك على نوعين من الشبه أحد النوعين شبه مستخرجة من مقدمات مشاهدة والنوع الثاني شبه مستخرجة من مقدمات إلزامية
أما النوع الأول من الشبه فاعتمادهم في ذلك على أمرين أحدهما يتعلق بالعلم والثاني يتعلق بالقدرة
أما ما يتعلق بالعلم فهو أن عيسى عليه السلام كان يخبر عن الغيوب وكان يقول لهذا أنت أكلت في دارك كذا ويقول لذاك إنك صنعت في دارك كذا فهذا النوع من شبه النصارى يتعلق بالعلم
وأما الأمر الثاني من شبههم فهو متعلق بالقدرة وهو أن عيسى عليه السلام كان يحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله وهذا النوع من شبه النصارى يتعلق بالقدرة وليس للنصارى شبه في المسألة سوى هذين النوعين ثم إنه تعالى لما استدل على بطلان قولهم في إلاهية عيسى وفي التثليث بقوله الْحَى ُّ الْقَيُّومُ ( البقرة 255 ) يعني الإله يجب أن يكون حياً قيوماً وعيسى ما كان حياً قيوماً لزم القطع إنه ما كان إلاهاً فأتبعه بهذه الآية ليقرر فيها ما يكون جواباً عن هاتين الشبهتين
أما الشبهة الأولى وهي المتعلقة بالعلم وهي قولهم إنه أخبر عن الغيوب فوجب أن يكون إلاهاً فأجاب الله تعالى عنه بقوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَى ْء فِي الاْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء وتقرير الجواب أنه لا يلزم من كونه عالماً ببعض المغيبات أن يكون إلاهاً لاحتمال أنه إنما علم ذلك بوحي من الله إليه وتعليم الله تعالى له ذلك لكن عدم إحاطته ببعض المغيبات يدل دلالة قاطعة على أنه ليس بإلاه لأن الإله هو الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء فإن الإله هو الذي يكون خالقاً والخالق لا بد وأن يكون عالماً بمخلوقه ومن المعلوم بالضرورة أن عيسى عليه السلام ما كان عالماً بجميع المعلومات والمغيبات فكيف والنصارى يقولون إنه أظهر الجزع من الموت فلو كان عالماً بالغيب كله لعلم أن القوم يريدون أخذه وقتله وأنه يتأذى بذلك ويتألم فكان يفر منهم قبل وصولهم إليه فلما لم يعلم هذا الغيب ظهر أنه ما كان عالماً بجميع المعلومات والمغيبات والإلاه هو الذي لا يخفى عليه شيء من المعلومات فوجب القطع بأن عيسى عليه السلام ما كان إلاهاً فثبت أن الاستدلال بمعرفة بعض الغيب لا يدل على حصول الإلاهية وأما

الجهل ببعض الغيب يدل قطعاً على عدم الإلاهية فهذا هو الجواب عن النوع الأول من الشبه المتعلقة بالعلم
أما النوع الثاني من الشبه وهو الشبهة المتعلقة بالقدرة فأجاب الله تعالى عنها بقوله هُوَ الَّذِي يُصَوّرُكُمْ فِي الاْرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء والمعنى أن حصول الإحياء والإماتة على وفق قوله في بعض الصور لا يدل على كونه إلاهاً لاحتمال أن الله تعالى أكرمه بذلك الإحياء إظهاراً لمعجزته وإكراماً له
أما العجز عن الإحياء والإماتة في بعض الصور يدل على عدم الإلاهية وذلك لأن الإله هو الذي يكون قادراً على أن يصور في الأرحام من قطرة صغيرة من النطفة هذا التركيب العجيب والتأليف الغريب ومعلوم أن عيسى عليه السلام ما كان قادراً على الإحياء والإماتة على هذا الوجه وكيف ولو قدر على ذلك لأمات أولئك الذين أخذوه على زعم النصارى وقتلوه فثبت أن حصول الإحياء والإماتة على وفق قوله في بعض الصور لا يدل على كونه إلاهاً أما عدم حصولهما على وفق مراده في سائر الصور يدل على أنه ما كان إلاهاً فظهر بما ذكر أن هذه الشبهة الثانية أيضاً ساقطة
وأما النوع الثاني من الشبه فهي الشبه المبنية على مقدمات إلزامية وحاصلها يرجع إلى نوعين
النوع الأول أن النصارى يقولون أيها المسلمون أنتم توافقوننا على أنه ما كان له أب من البشر فوجب أن يكون ابناً له فأجاب الله تعالى عنه أيضاً بقوله هُوَ الَّذِي يُصَوّرُكُمْ فِي الاْرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء لأن هذا التصوير لما كان منه فإن شاء صوره من نطفة الأب وإن شاء صوره ابتداء من غير الأب
والنوع الثاني أن النصارى قالوا للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ألست تقول إن عيسى روح الله وكلمته فهذا يدل على أنه ابن الله فأجاب الله تعالى عنه بأن هذا إلزام لفظي واللفظ محتمل للحقيقة والمجاز فإذا ورد اللفظ بحيث يكون ظاهره مخالفاً للدليل العقلي كان من باب المتشابهات فوجب رده إلى التأويل وذلك هو المراد بقوله هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ( آل عمران 7 ) فظهر بما ذكرنا أن قوله الْحَى ُّ الْقَيُّومُ إشارة إلى ما يدل على أن المسيح ليس بإلاه ولا ابن له وأما قوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَى ْء فِي الاْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء فهو جواب عن الشبهة المتعلقة بالعلم وقوله هُوَ الَّذِي يُصَوّرُكُمْ فِي الاْرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء جواب عن تمسكهم بقدرته على الإحياء والإماتة وعن تمسكهم بأنه ما كان له أب من البشر فوجب أن يكون ابناً لله وأما قوله هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ( آل عمران 7 ) فهو جواب عن تمسكهم بما ورد في القرآن أن عيسى روح الله وكلمته ومن أحاط علماً بما ذكرناه ولخصناه علم أن هذا الكلام على اختصاره أكثر تحصيلاً من كل ما ذكره المتكلمون في هذا الباب وأنه ليس في المسألة حجة ولا شبهة ولا سؤال ولا جواب إلا وقد اشتملت هذه الآية عليه فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله وأما كلام من قبلنا من المفسرين في تفسير هذه الآيات فلم نذكره لأنه لا حاجة إليه فمن أراد ذلك طالع الكتب ثم أنه تعالى لما أجاب عن شبههم أعاد كلمة التوحيد زجراً للنصارى عن قولهم بالتثليث فقال لا إله إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فالعزيز إشارة إلى كمال القدرة والحكيم إشارة إلى كمال العلم وهو تقرير لما تقدم من أن علم المسيح ببعض الغيوب وقدرته على الإحياء والإماتة في بعض الصور

لا يكفي في كونه إلاهاً فإن الإله لا بد وأن يكون كامل القدرة وهو العزيز وكامل العلم وهو الحكيم وبقي في الآية أبحاث لطيفة أما قوله لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَى ْء فِي الاْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء فالمراد أنه لا يخفى عليه شيء
فإن قيل ما الفائدة في قوله فِي الاْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء مع أنه لو أطلق كان أبلغ
قلنا الغرض بذلك إفهام العباد كمال علمه وفهمهم هذا المعنى عند ذكر السماوات والأرض أقوى وذلك لأن الحس يرى عظمة السماوات والأرض فيعين العقل على معرفة عظمة علم الله عزّ وجلّ والحس متى أعان العقل على المطلوب كان الفهم أتم والإدراك أكمل ولذلك فإن المعاني الدقيقة إذا أُريد إيضاحها ذكر لها مثال فإن المثال يعين على الفهم
أما قوله هُوَ الَّذِي يُصَوّرُكُمْ قال الواحدي التصوير جعل الشيء على صورة والصورة هيأة حاصلة للشيء عند إيقاع التأليف بين أجزائه وأصله من صاره يصوره إذا أماله فهي صورة لأنها مائلة إلى شكل أبويه وتمام الكلام فيه ذكرناه في قوله تعالى فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ( البقرة 260 ) وأما الاْرْحَامِ فهي جمع رحم وأصلها من الرحمة وذلك لأن الاشتراك في الرحم يوجب الرحمة والعطف فلهذا سمي ذلك العضو رحماً والله أعلم
هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَآءَ الْفِتْنَة ِ وَابْتِغَآءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ
إعلم أن في هذه الآية مسائل
المسألة الأولى قد ذكرنا في اتصال قوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَى ْء فِي الاْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء بما قبله احتمالين أحدهما أن ذلك كالتقرير لكونه قيوماً والثاني أن ذلك الجواب عن شبه النصارى فأما على الاحتمال الأول فنقول إنه تعالى أراد أن يبين أنه قيوم وقائم بمصالح الخلق ومصالح الخلق قسمان جسمانية وروحانية أما الجسمانية فأشرفها تعديل البنية وتسوية المزاج على أحسن الصور وأكمل الأشكال وهو المراد بقوله هُوَ الَّذِي يُصَوّرُكُمْ فِي الاْرْحَامِ ( آل عمران 6 ) وأما الروحانية فأشرفها العلم الذي تصير الروح معه كالمرآة المجلوة التي تجلت صور جميع الموجودات فيها وهو المراد بقوله هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وأما على الاحتمال الثاني فقد ذكرنا أن من جملة شبه النصارى تمسكهم بما جاء في القرآن من قوله تعالى في صفة عيسى عليه السلام إنه روح الله وكلمته فبيّن الله تعالى بهذه الآية أن القرآن مشتمل على

محكم وعلى متشابه والتمسك بالمتشابهات غير جائز فهذا ما يتعلق بكيفية النظم هو في غاية الحسن والاستقامة
المسألة الثانية إعلم أن القرآن دل على أنه بكليته محكم ودل على أنه بكليته متشابه ودل على أن بعضه محكم وبعضه متشابه
أما ما دل على أنه بكليته محكم فهو قوله الر تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ( يونس 1 ) الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءايَاتُهُ ( هود 1 ) فذكر في هاتين الآيتين أن جميعه محكم والمراد من المحكم بهذا المعنى كونه كلاماً حقاً فصيح الألفاظ صحيح المعاني وكل قول وكلام يوجد كان القرآن أفضل منه في فصاحة اللفظ وقوة المعنى ولا يتمكن أحد من إتيان كلام يساوي القرآن في هذين الوصفين والعرب تقول في البناء الوثيق والعقد الوثيق الذي لا يمكن حله محكم فهذا معنى وصف جميعه بأنه محكم
وأما ما دل على أنه بكليته متشابه فهو قوله تعالى كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ ( الزمر 23 ) والمعنى أنه يشبه بعضه بعضاً في الحسن ويصدق بعضه بعضاً وإليه الإشارة بقوله تعالى وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً ( النساء 82 ) أي لكان بعضه وارداً على نقيض الآخر ولتفاوت نسق الكلام في الفصاحة والركاكة
وأما ما دل على أن بعضه محكم وبعضه متشابه فهو هذه الآية التي نحن في تفسيرها ولا بد لنا من تفسير المحكم والمتشابه بحسب أصل اللغة ثم من تفسيرهما في عرف الشريعة أما المحكم فالعرب تقول حاكمت وحكمت وأحكمت بمعنى رددت ومنعت والحاكم يمنع الظالم عن الظلم وحكمة اللجام التي هي تمنع الفرس عن الاضطراب وفي حديث النخعي احكم اليتيم كما تحكم ولدك أي امنعه عن الفساد وقال جرير أحكموا سفهاءكم أي امنعوهم وبناء محكم أي وثيق يمنع من تعرض له وسميت الحكمة حكمة لأنها تمنع عما لا ينبغي وأما المتشابه فهو أن يكون أحد الشيئين مشابهاً للآخر بحيث يعجز الذهن عن التمييز قال الله تعالى إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا ( البقرة 70 ) وقال في وصف ثمار الجنة وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً ( البقرة 25 ) أي متفق المنظر مختلف الطعوم وقال الله تعالى تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ( البقرة 118 ) ومنه يقال اشتبه علي الأمران إذا لم يفرق بينهما ويقال لأصحاب المخاريق أصحاب الشبه وقال عليه السلام ( الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور متشابهات ) وفي رواية أخرى مشتبهات
ثم لما كان من شأن المتشابهين عجز الإنسان عن التمييز بينهما سمي كل ما لا يهتدي الإنسان إليه بالمتشابه إطلاقاً لاسم السبب على المسبب ونظيره المشكل سمي بذلك لأنه أشكل أي دخل في شكل غيره فأشبهه وشابهه ثم يقال لكل ما غمض وإن لم يكن غموضه من هذه الجهة مشكل ويحتمل أن يقال إنه الذي لا يعرف أن الحق ثبوته أو عدمه وكان الحكم بثبوته مساوياً للحكم بعدمه في العقل والذهن ومشابهاً له وغير متميز أحدهما عن الآخر بمزيد رجحان فلا جرم سمي غير المعلوم بأنه متشابه فهذا تحقيق القول في المحكم والمتشابه بحسب أصل اللغة فنقول
الناس قد أكثروا من الوجوه في تفسير المحكم والمتشابه ونحن نذكر الوجه الملخص الذي عليه أكثر المحققين ثم نذكر عقيبه أقوال الناس فيه فنقول

اللفظ الذي جعل موضوعاً لمعنى فإما أن يكون محتملاً لغير ذلك المعنى وإما أن لا يكون فإذا كان اللفظ موضوعاً لمعنى ولا يكون محتملاً لغيره فهذا هو النص وأما إن كان محتملاً لغيره فلا يخلو إما أن يكون احتماله لأحدهما راجحاً على الآخر وإما أن لا يكون كذلك بل يكون احتماله لهما على السواء فإن كان احتماله لأحدهما راجحاً على الآخر سمي ذلك اللفظ بالنسبة إلى الراجح ظاهراً وبالنسبة إلى المرجوح مؤولاً وأما إن كان احتماله لهما على السوية كان اللفظ بالنسبة إليهما معاً مشتركاً وبالنسبة إلى كل واحد منهما على التعيين مجملاً فقد خرج من التقسيم الذي ذكرناه أن اللفظ إما أن يكون نصاً أو ظاهراً أو مؤولاً أو مشتركاً أو مجملاً أما النص والظاهر فيشتركان في حصول الترجيح إلا أن النص راجح مانع من الغير والظاهر راجح غير مانع من الغير فهذا القدر المشترك هو المسمى بالمحكم
وأما المجمل والمؤول فهما مشتركان في أن دلالة اللفظ عليه غير راجحة وإن لم يكن راجحاً لكنه غير مرجوح والمؤول مع أنه غير راجح فهو مرجوح لا بحسب الدليل المنفرد فهذا القدر المشترك هو المسمى بالمتشابه لأن عدم الفهم حاصل في القسمين جميعاً وقد بينا أن ذلك يسمى متشابهاً إما لأن الذي لا يعلم يكون النفي فيه مشابهاً للإثبات في الذهن وإما لأجل أن الذي يحصل فيه التشابه يصير غير معلوم فأطلق لفظ المتشابه على ما لا يعلم إطلاقاً لاسم السبب على المسبب فهذا هو الكلام المحصل في المحكم والمتشابه ثم اعلم أن اللفظ إذا كان بالنسبة إلى المفهومين على السوية فههنا يتوقف الذهن مثل القرء بالنسبة إلى الحيض والطهر إنما المشكل بأن يكون اللفظ بأصل وضعه راجحاً في أحد المعنيين ومرجوحاً في الآخر ثم كان الراجح باطلاً والمرجوح حقاً ومثاله من القرآن قوله تعالى وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَة ً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ ( الإسراء 16 ) فظاهر هذا الكلام أنهم يؤمرون بأن يفسقوا ومحكمه قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء ( الأعراف 28 ) رداً على الكفار فيما حكى عنهم وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَة ً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا ءابَاءنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ( الأعراف 28 ) وكذلك قوله تعالى نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ( التوبة 67 ) وظاهر النسيان ما يكون ضداً للعلم ومرجوحه الترك والآية المحكمة فيه قوله تعالى وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً ( مريم 64 ) وقوله تعالى لاَّ يَضِلُّ رَبّى وَلاَ يَنسَى ( طه 52 )
واعلم أن هذا موضع عظيم فنقول إن كل واحد من أصحاب المذاهب يدعي أن الآيات الموافقة لمذهبه محكمة وأن الآيات الموافقة لقول خصمه متشابهة فالمعتزلي يقول قوله فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ ( الكهف 29 ) محكم وقوله وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ( التكوير 29 ) متشابه والسيء يقلب الأمر في ذلك فلا بد ههنا من قانون يرجع إليه في هذا الباب فنقول اللفظ إذا كان محتملاً لمعنيين وكان بالنسبة إلى أحدهما راجحاً وبالنسبة إلى الآخر مرجوحاً فإن حملناه على الراجح ولم نحمله على المرجوح فهذا هو المحكم وأما إن حملناه على المرجوح ولم نحمله على الراجح فهذا هو المتشابه فنقول صرف اللفظ عن الراجح إلى المرجوح لا بد فيه من دليل منفصل وذلك الدليل المنفصل إما أن يكون لفظياً وإما أن يكون عقلياً
أما القسم الأول فنقول هذا إنما يتم إذا حصل بين ذينك الدليلين اللفظيين تعارض وإذا وقع التعارض بينهما فليس ترك ظاهر أحدهما رعاية لظاهر الآخر أولى من العكس اللّهم إلا أن يقال إن

أحدهما قاطع في دلالته والآخر غير قاطع فحينئذ يحصل الرجحان أو يقال كل واحد منهما وإن كان راجحاً إلا أن أحدهما يكون أرجح وحينئذ يحصل الرجحان إلا أنا نقول
أما الأول فباطل لأن الدلائل اللفظية لا تكون قاطعة ألبتة لأن كل دليل لفظي فإنه موقوف على نقل اللغات ونقل وجوه النحو والتصريف وموقوف على عدم الاشتراك وعدم المجاز وعدم التخصيص وعدم الإضمار وعدم المعارض النقلي والعقلي وكان ذلك مظنون والموقوف على المظنون أولى أن يكون مظنوناً فثبت أن شيئاً من الدلائل اللفظية لا يكون قاطعاً
وأما الثاني وهو أن يقال أحد الدليلين أقوى من الدليل الثاني وإن كان أصل الاحتمال قائماً فيهما معاً فهذا صحيح ولكن على هذا التقدير يصير صرف الدليل اللفظي عن ظاهره إلى المعنى المرجوح ظنياً ومثل هذا لا يجوز التعويل عليه في المسائل الأصولية بل يجوز التعويل عليه في المسائل الفقهيه فثبت بما ذكرناه أن صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى معناه المرجوح في المسائل القطعية لا يجوز إلا عند قيام الدليل القطعي العقلي على أن ما أشعر به ظاهر اللفظ محال وقد علمنا في الجملة أن استعمال اللفظ في معناه المرجوح جائز عند تعذر حمله على ظاهره فعنذ هذا يتعين التأويل فظهر أنه لا سبيل إلى صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى معناه المرجوح إلا بواسطة إقامة الدلالة العقلية القاطعة على أن معناه الراجح محال عقلاً ثم إذا أقامت هذه الدلالة وعرف المكلف أنه ليس مراد الله تعالى من هذا اللفظ ما أشعر به ظاهره فعند هذا لا يحتاج إلى أن يعرف أن ذلك المرجوح الذي هو المراد ماذا لأن السبيل إلى ذلك إنما يكون بترجيح مجاز على مجاز وترجيح تأويل على تأويل وذلك الترجيح لا يمكن إلا بالدلائل اللفظية والدلائل اللفظية على ما بينا ظنية لا سيما الدلائل المستعملة في ترجيح مرجوح على مرجوح آخر يكون في غاية الضعف وكل هذا لا يفيد إلا الظن الضعيف والتعويل على مثل هذه الدلائل في المسائل القطعية محال فلهذا التحقيق المتين مذهباً أن بعد إقامة الدلائل القطعية على أن حمل اللفظ على الظاهر محال لا يجوز الخوض في تعيين التأويل فهذا منتهى ما حصلناه في هذا الباب والله ولي الهداية والرشاد
المسألة الثالثة في حكاية أقوال الناس في المحكم والمتشابه فالأول ما نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال المحكمات هي الثلاث آيات التي في سورة الأنعام قُلْ تَعَالَوْاْ ( الأنعام 151 ) إلى آخر الآيات الثلاث والمتشابهات هي التي تشابهت على اليهود وهي أسماء حروف الهجاء المذكور في أوائل السور وذلك أنهم أولوها على حساب الجمل فطلبوا أن يستخرجوا منها مدة بقاء هذه الأمة فاختلط الأمر عليهم واشتبه وأقول التكاليف الواردة من الله تعالى تنقسم إلى قسمين منها ما لا يجوز أن يتغير بشرع وشرع وذلك كالأمر بطاعة الله تعالى والاحتراز عن الظلم والكذب والجهل وقتل النفس بغير حق ومنها ما يختلف بشرع وشرع كأعداد الصلوات ومقادير الزكوات وشرائط البيع والنكاح وغير ذلك فالقسم الأول هو المسمى بالمحكم عند ابن عباس لأن الآيات الثلاث في سورة الأنعام مشتملة على هذا القسم
وأما المتشابه فهو الذي سميناه بالمجمل وهو ما يكون دلالة اللفظ بالنسبة إليه وإلى غيره على السوية فإن دلالة هذه الألفاظ على جميع الوجوه التي تفسر هذه الألفاظ بها على السوية لا بدليل منفصل على ما لخصناه في أول سورة البقرة

القول الثاني وهو أيضاً مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المحكم هو الناسخ والمتشابه هو المنسوخ
والقول الثالث قال الأصم المحكم هو الذي يكون دليله واضحاً لائحاً مثل ما أخبر الله تعالى به من إنشاء الخلق في قوله تعالى ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَة َ عَلَقَة ً ( المؤمنون 14 ) وقوله وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَى ْء حَى ّ ( الأنبياء 30 ) وقوله وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَّكُمْ ( البقرة 22 ) والمتشابه ما يحتاج في معرفته إلى التدبر والتأمل نحو الحكم بأنه تعالى يبعثهم بعد أن صاروا تراباً ولو تأملوا لصار المتشابه عندهم محكماً لأن من قدر على الإنشاء أو لا قدر على الإعادة ثانياً
واعلم أن كلام الأصم غير ملخص فإنه إن عني بقوله المحكم ما يكون دلائله واضحة أن المحكم هو الذي يكون دلالة لفظه على معناه متعينة راجحة والمتشابه ما لا يكون كذلك وهو إما المجمل المتساوي أو المؤول المرجوح فهذا هو الذي ذكرناه أولاً وإن عني به أن المحكم هو الذي يعرف صحة معناه من غير دليل فيصير المحكم على قوله ما يعلم صحته بضرورة العقل والمتشابه ما يعلم صحته بدليل العقل وعلى هذا يصير جملة القرآن متشابهاً لأن قوله فَخَلَقْنَا النُّطْفَة َ عَلَقَة ً أمر يحتاج في معرفة صحته إلى الدلائل العقلية وإن أهل الطبيعة يقولون السبب في ذلك الطبائع والفصول أو تأثيرات الكواكب وتركيبات العناصر وامتزاجاتها فكما أن إثبات الحشر والنشر مفتقر إلى الدليل فكذلك إسناد هذه الحوادث إلى الله تعالى مفتقر إلى الدليل ولعلّ الأصم يقول هذه الأشياء وإن كانت كلها مفتقرة إلى الدليل إلا أنها تنقسم إلى ما يكون الدليل فيه ظاهراً بحيث تكون مقدماته قليلة مرتبة مبينة يؤمن الغلط معها إلا نادراً ومنها ما يكون الدليل فيه خفياً كثير المقدمات غير مرتبة فالقسم الأول هو المحكم والثاني هو المتشابه
القول الرابع أن كل ما أمكن تحصيل العلم به سواء كان ذلك بدليل جلي أو بدليل خفي فذاك هو المحكم وكل ما لا سبيل إلى معرفته فذاك هو المتشابه وذلك كالعلم بوقت قيام الساعة والعلم بمقادير الثواب والعقاب في حق المكلفين ونظيره قوله تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَة ِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ( الأعراف 187 ) ( النازعات 42 )
المسألة الرابعة في الفوائد التي لأجلها جعل بعض القرآن محكماً وبعضه متشابهاً
إعلم أن من الملحدة من طعن في القرآن لأجل اشتماله على المتشابهات وقال إنكم تقولون إن تكاليف الخلق مرتبطة بهذا القرآن إلى قيام الساعة ثم إنا نراه بحيث يتمسك به كل صاحب مذهب على مذهبه فالجبري يتمسك بآيات الجبر كقوله تعالى وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّة ً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءاذَانِهِمْ وَقْراً ( الأنعام 103 ) والقدري يقول بل هذا مذهب الكفار بدليل أنه تعالى حكى ذلك عن الكفار في معرض الذم لهم في قوله وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّة ٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ ( الأنعام 25 ) وفي موضع آخر وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ ( الإسراء 46 ) وأيضاً مثبت الرؤية يتمسك بقوله وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة ٌ إِلَى رَبّهَا نَاظِرَة ٌ ( القيامة 22 23 ) والنافي يتمسك بقوله لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَارُ ( الأنعام 103 ) ومثبت الجهة يتمسك بقوله يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ

( النحل 50 ) وبقوله الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ( طه 5 ) والنافي يتمسك بقوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ْء ( الشورى 11 ) ثم إن كل واحد يسمي الآيات الموافقة لمذهبه محكمة والآيات المخالفة لمذهبه متشابهة وربما آل الأمر في ترجيح بعضها على بعض إلى ترجيحات خفية ووجوه ضعيفة فكيف يليق بالحكيم أن يجعل الكتاب الذي هو المرجوع إليه في كل الدين إلى قيام الساعة هكذا أليس أنه لو جعله ظاهراً جلياً نقياً عن هذه المتشابهات كان أقرب إلى حصول الغرض
واعلم أن العلماء ذكروا في فوائد المتشابهات وجوهاً
الوجه الأول أنه متى كانت المتشابهات موجودة كان الوصول إلى الحق أصعب وأشق وزيادة المشقة توجب مزيد الثواب قال الله تعالى أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّة َ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ( آل عمران 142 )
الوجه الثاني لو كان القرآن محكماً بالكلية لما كان مطابقاً إلا لمذهب واحد وكان تصريحه مبطلاً لكل ما سوى ذلك المذهب وذلك مما ينفر أرباب المذاهب عن قبوله وعن النظر فيه فالانتفاع به إنما حصل لما كان مشتملاً على المحكم وعلى المتشابه فحينئذ يطمع صاحب كل مذهب أن يجد فيه ما يقوي مذهبه ويؤثر مقالته فحينئذ ينظر فيه جميع أرباب المذاهب ويجتهد في التأمل فيه كل صاحب مذهب فإذا بالغوا في ذلك صارت المحكمات مفسرة للمتشابهات فبهذا الطريق يتخلص المبطل عن باطله ويصل إلى الحق
الوجه الثالث أن القرآن إذا كان مشتملاً على المحكم والمتشابه افتقر الناظر فيه إلى الاستعانة بدليل العقل وحينئذ يتخلص عن ظلمة التقليد ويصل إلى ضياء الاستدلال والبينة أما لو كان كله محكماً لم يفتقر إلى التمسك بالدلائل العقلية فحينئذ كان يبقى في الجهل والتقليد
الوجه الرابع لما كان القرآن مشتملاً على المحكم والمتشابه افتقروا إلى تعلم طرق التأويلات وترجيح بعضها على بعض وافتقر تعلم ذلك إلى تحصيل علوم كثيرة من علم اللغة والنحو وعلم أصول الفقه ولو لم يكن الأمر كذلك ما كان يحتاج الإنسان إلى تحصيل هذه العلوم الكثيرة فكان إيراد هذه المتشابهات لأجل هذه الفوائد الكثيرة
الوجه الخامس وهو السبب الأقوى في هذا الباب أن القرآن كتاب مشتمل على دعوة الخواص والعوام بالكلية وطبائع العوام تنبو في أكثر الأمر عن إدراك الحقائق فمن سمع من العوام في أول الأمر إثبات موجود ليس بجسم ولا بمتحيز ولا مشار إليه ظن أن هذا عدم ونفي فوقع في التعطيل فكان الأصلح أن يخاطبوا بألفاظ دالة على بعض ما يناسب ما يتوهمونه ويتخيلونه ويكون ذلك مخلوطاً بما يدل على الحق الصريح فالقسم الأول وهو الذي يخاطبون به في أول الأمر يكون من باب المتشابهات والقسم الثاني وهو الذي يكشف لهم في آخر الأمر هو المحكمات فهذا ما حضرنا في هذا الباب والله أعلم بمراده
وإذا عرفت هذه المباحث فلنرجع إلى التفسير
أما قوله تعالى هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ فالمراد به هو القرآن مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ وهي التي

يكون مدلولاتها متأكدة إما بالدلائل العقلية القاطعة وذلك في المسائل القطعية أو يكون مدلولاتها خالية عن معارضات أقوى منها
ثم قال هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وفيه سؤالان
السؤال الأول ما معنى كون المحكم أماً للمتشابه
الجواب الأم في حقيقة اللغة الأصل الذي منه يكون الشيء فلما كانت المحكمات مفهومة بذواتها والمتشابهات إنما تصير مفهومة بإعانة المحكمات لا جرم صارت المحكمات كالأم للمتشابهات وقيل أن ما جرى في الإنجيل من ذكر الأب وهو أنه قال إن الباري القديم المكون للأشياء الذي به قامت الخلائق وبه ثبتت إلى أن يبعثها فعبّر عن هذا المعنى بلفظ الأب من جهة أن الأب هو الذي حصل منه تكوين الإبن ثم وقع في الترجمة ما أوهم الأبوة الواقعة من جهة الولادة فكان قوله مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ ( مريم 35 ) محكماً لأن معناه متأكد بالدلائل العقلية القطعية وكان قوله عيسى روح الله وكلمته من المتشابهات التي يجب ردها إلى ذلك المحكم
السؤال الثاني لم قال أُمُّ الْكِتَابِ ولم يقل أمهات الكتاب
الجواب أن مجموع المحكمات في تقدير شيء واحد ومجموع المتشابهات في تقدير شيء آخر وأحدهما أم الآخر ونظيره قوله تعالى وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ءايَة ً ( المؤمنون 50 ) ولم يقل آيتين وإنما قال ذلك على معنى أن مجموعهما آية واحدة فكذلك ههنا
ثم قال وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ وقد عرفت حقيقة المتشابهات قال الخليل وسيبويه أن ءاخَرَ فارقت أخواتها في حكم واحد وذلك لأن أُخر جمع أخرى وأخرى تأنيث آخر وأُخر على وزن أفعل وما كان على وزن أفعل فإنه يستعمل مع مِنْ أو بالألف واللام فيقال زيد أفضل من عمرو وزيد الأفضل فالألف واللام معقبتان لمن في باب أفعل فكان القياس أن يقال زيد آخر من عمرو أو يقال زيد الآخر إلا أنهم حذفوا منه لفظ مِنْ لأن لفظه اقتضى معنى مِنْ فاسقطوها اكتفاء بدلالة اللفظ عليه والألف واللام معاقبتان لمن فسقط الألف واللام أيضاً فلما جاز استعماله بغير الألف واللام صار أُخر فأخر جمعه فصارت هذه اللفظة معدولة عن حكم نظائرها في سقوط الألف واللام عن جمعها ووحدانها
ثم قال فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ إعلم أنه تعالى لما بيّن أن الكتاب ينقسم إلى قسمين منه محكم ومنه متشابه بيّن أن أهل الزيغ لا يتمسكون إلا بالمتشابه والزيغ الميل عن الحق يقال زاغ زيغاً أي مال ميلاً واختلفوا في هؤلاء الذين أُريدوا بقوله فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فقال الربيع هم وفد نجران لما حاجوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في المسيح فقالوا أليس هو كلمة الله وروح منه قال بلى فقالوا حسبنا فأنزل الله هذه الآية ثم أنزل إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءادَمَ ( آل عمران 59 ) وقال الكلبي هم اليهود طلبوا علم مدة بقاء هذه الأمة واستخراجه من الحروف المقطعة في أوائل السور وقال قتادة والزجاج هم الكفار الذين ينكرون البعث لأنه قال في آخر الآية وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وما ذاك إلا وقت القيامة لأنه تعالى أخفاه عن كل الخلق حتى عن الملائكة والأنبياء عليهم الصلاة والسلام

وقال المحققون إن هذا يعم جميع المبطلين وكل من احتج لباطله بالمتشابه لأن اللفظ عام وخصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ ويدخل فيه كل ما فيه لبس واشتباه ومن جملته ما وعد الله به الرسول من النصرة وما أوعد الكفار من النقمة ويقولون ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ ( العنكبوت 29 ) لاَ تَأْتِينَا السَّاعَة ُ ( سبأ 3 ) لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَئِكَة ِ ( الحجر 7 ) فموهوا الأمر على الضعفة ويدخل في هذا الباب استدلال المشبهة بقوله تعالى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ( طه 5 ) فإنه لما ثبت بصريح العقل أن كل ما كان مختصاً بالحيز فإما أن يكون في الصغر كالجزء الذي لا يتجزأ وهو باطل بالاتفاق وإما أن يكون أكبر فيكون منقسماً مركباً وكل مركب فإنه ممكن ومحدث فبهذا الدليل الظاهر يمتنع أن يكون الإله في مكان فيكون قوله الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى متشابهاً فمن تمسك به كان متمسكاً بالمتشابهات ومن جملة ذلك استدلال المعتزلة بالظواهر الدالة على تفويض الفعل بالكلية إلى العبد فإنه لما ثبت بالبرهان العقلي أن صدور الفعل يتوقف على حصول الداعي وثبت أن حصول ذلك الداعي من الله تعالى وثبت متى كان الأمر كذلك كان حصول الفعل عند تلك الداعية واجباً وعدمه عند عدم هذه الداعية واجباً فحينئذ يبطل ذلك التفويض وثبت أن الكل بقضاء الله تعالى وقدره ومشيئته فيصير استدلال المعتزلة بتلك الظواهر وإن كثرت استدلالاً بالمتشابهات فبيّن الله تعالى في كل هؤلاء الذين يعرضون عن الدلائل القاطعة ويقتصرون على الظواهر الموهمة أنهم يتمسكون بالمتشابهات لأجل أن في قلوبهم زيغاً عن الحق وطلباً لتقرير الباطل
واعلم أنك لا ترى طائفة في الدنيا إلا وتسمي الآيات المطابقة لمذهبهم محكمة والآيات المطابقة لمذهب خصمهم متشابهة ثم هو الأمر في ذلك ألا ترى إلى الجبائي فإنه يقوله المجبرة الذين يضيفون الظلم والكذب وتكليف ما لا يطاق إلى الله تعالى هم المتمسكون بالمتشابهات
وقال أبو مسلم الأصفهاني الزائغ الطالب للفتنة هو من يتعلق بآيات الضلال ولا يتأوله على المحكم الذي بيّنه الله تعالى بقوله وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِى ُّ ( طه 85 ) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى ( طه 79 ) وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ ( البقرة 26 ) وفسروا أيضاً قوله وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَة ً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا ( الإسراء 16 ) على أنه تعالى أهلكهم وأراد فسقهم وأن الله تعالى يطلب العلل على خلقه ليهلكهم مع أنه تعالى قال يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ( البقرة 185 ) وَيُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ ( النساء 26 ) وتأولوا قوله تعالى زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ ( النمل 4 ) على أنه تعالى زين لهم النعمة ونقضوا بذلك ما في القرآن كقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ ( الرعد 11 ) وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ( القصص 59 ) وقال وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى ( فصلت 17 ) وقال فَمَنُ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ ( يونس 108 ) وقال وَلَاكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الاْيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ ( الحجرات 7 ) فكيف يزين النعمة فهذا ما قاله أبو مسلم وليت شعري لم حكم على الآيات الموافقة لمذهبه بأنها محكمات وعلى الآيات المخالفة لمذهبه بأنها متشابهات ولم أوجب في تلك الآيات المطابقة لمذهبه إجرائها على الظاهر وفي الآيات المخالفة لمذهبه صرفها عن الظاهر ومعلوم أن ذلك لا يتم إلا بالرجوع إلى الدلائل العقلية الباهرة فإذا دلّ على بطلان مذهب المعتزلة الأدلة العقلية فإن مذهبهم لا يتم إلا إذا قلنا بأنه صدر عن أحد الفعلين دون الثاني من غير مرجح وذلك تصريح بنفي الصانع ولا يتم إلا إذا

قلنا بأن صدور الفعل المحكم المتقن عن العبد لا يدل على علم فاعله به فحينئذ يكون قد تخصص ذلك العدد بالوقوع دون الأزيد والأنقص لا لمخصص وذلك نفي للصانع ولزم منه أيضاً أن لا يدل صدور الفعل المحكم على كون الفاعل عالماً وحينئذ ينسد باب الاستدلال بأحكام أفعال الله تعالى على كون فاعلها عالماً ولو أن أهل السماوات والأرض اجتمعوا على هذه الدلائل لم يقدروا على دفعها فإذا لاحت هذه الدلائل العقلية الباهرة فكيف يجوز لعاقل أن يسمي الآيات الدالة على القضاء والقدر بالمتشابه فظهر بما ذكرناه أن القانون المستمر عند جمهور الناس أن كل آية توافق مذهبهم فهي المحكمة وكل آية تخالفهم فهي المتشابهة
وأما المحقق المنصف فإنه يحمل الأمر في الآيات على أقسام ثلاثة أحدها ما يتأكد ظاهرها بالدلائل العقلية فذاك هو المحكم حقاً وثانيها الذي قامت الدلائل القاطعة على امتناع ظواهرها فذاك هو الذي يحكم فيه بأن مراد الله تعالى غير ظاهره وثالثها الذي لا يوجد مثل هذه الدلائل على طرفي ثبوته وانتفائه فيكون من حقه التوقف فيه ويكون ذلك متشابهاً بمعنى أن الأمر اشتبه فيه ولم يتميز أحد الجانبين عن الآخر إلا أن الظن الراجح حاصل في إجرائها على ظواهرها فهذا ما عندي في هذا الباب والله أعلم بمراده
واعلم أنه تعالى لما بيّن أن الزائغين يتبعون المتشابه بيّن أن لهم فيه غرضين فالأول هو قوله تعالى ابْتِغَاء الْفِتْنَة ِ والثاني هو قوله وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ
فأما الأول فاعلم أن الفتنة في اللغة الاستهتار بالشيء والغلو فيه يقال فلان مفتون بطلب الدنيا أي قد غلا في طلبها وتجاوز القدر وذكر المفسرون في تفسير هذه الفتنة وجوهاً أولها قال الأصم إنهم متى أوقعوا تلك المتشابهات في الدين صار بعضهم مخالفاً للبعض في الدين وذلك يفضي إلى التقاتل والهرج والمرج فذاك هو الفتنة وثانيها أن التمسك بذلك المتشابه يقرر البدعة والباطل في قلبه فيصير مفتوناً بذلك الباطل عاكفاً عليه لا ينقلع عنه بحيلة ألبتة وثالثها أن الفتنة في الدين هو الضلال عنه ومعلوم أنه لا فتنة ولا فساد أعظم من الفتنة في الدين والفساد فيه
وأما الغرض الثاني لهم وهو قوله تعالى وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ فاعلم أن التأويل هو التفسير وأصله في اللغة المرجع والمصير من قولك آل الأمر إلى كذا إذا صار إليه وأولته تأويلاً إذا صيرته إليه هذا معنى التأويل في اللغة ثم يسمى التفسير تأويلاً قال تعالى سَأُنَبّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً ( الكهف 78 ) وقال تعالى وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ( النساء 59 ) وذلك أنه إخبار عما يرجع إليه اللفظ من المعنى واعلم أن المراد منه أنهم يطلبون التأويل الذي ليس في كتاب الله عليه دليل ولا بيان مثل طلبهم أن الساعة متى تقوم وأن مقادير الثواب والعقاب لكل مطيع وعاص كم تكون قال القاضي هؤلاء الزائغون قد ابتغوا المتشابه من وجهين أحدهما أن يحملوه على غير الحق وهو المراد من قوله ابْتِغَاء الْفِتْنَة ِ والثاني أن يحكموا بحكم في الموضع الذي لا دليل فيه وهو المراد من قوله وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ ثم بيّن تعالى ما يكون زيادة في ذم طريقة هؤلاء الزائغين فقال وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ واختلف الناس في هذا الموضع فمنهم من قال تم الكلام ههنا ثم الواو في قوله وَالرسِخُونَ فِي الْعِلْمِ واو الابتداء وعلى هذا القول لا يعلم المتشابه

إلا الله وهذا قول ابن عباس وعائشة ومالك بن أنس والكسائي والفرّاء ومن المعتزلة قول أبي علي الجبائي وهو المختار عندنا
والقول الثاني أن الكلام إنما يتم عند قوله وَالرسِخُونَ فِي الْعِلْمِ وعلى هذا القول يكون العلم بالمتشابه حاصلاً عند الله تعالى وعند الراسخين في العلم وهذا القول أيضاً مروي عن ابن عباس ومجاهد والربيع بن أنس وأكثر المتكلمين والذي يدل على صحة القول الأول وجوه
الحجة الأولى أن اللفظ إذا كان له معنى راجح ثم دل دليل أقوى منه على أن ذلك الظاهر غير مراد علمنا أن مراد الله تعالى بعض مجازات تلك الحقيقة وفي المجازات كثرة وترجيح البعض على البعض لا يكون إلا بالترجيحات اللغوية والترجيحات اللغوية لا تفيد إلا الظن الضعيف فإذا كانت المسألة قطعية يقينية كان القول فيها بالدلائل الظنية الضعيفة غير جائز مثاله قال الله تعالى لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ( البقرة 286 ) ثم قال الدليل القاطع على أن مثل هذا التكليف قد وجد على ما بينا في البراهين الخمسة في تفسير هذه الآية فعلمنا أن مراد الله تعالى ليس ما يدل عليه ظاهر هذه الآية فلا بد من صرف اللفظ إلى بعض المجازات وفي المجازات كثرة وترجيح بعضها على بعض لا يكون إلا بالترجيحات اللغوية وأنها لا تفيد إلا الظن الضعيف وهذه المسألة ليست من المسائل الظنية فوجب أن يكون القول فيها بالدلائل الظنية باطلاً وأيضاً قال الله تعالى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ( طه 5 ) دلّ الدليل على أنه يمتنع أن يكون الإله في المكان فعرفنا أنه ليس مراد الله تعالى من هذه الآية ما أشعر به ظاهرها إلا أن في مجازات هذه اللفظة كثرة فصرف اللفظ إلى البعض دون البعض لا يكون إلا بالترجيحات اللغوية الظنية والقول بالظن في ذات الله تعالى وصفاته غير جائز بإجماع المسلمين وهذه حجة قاطعة في المسألة والقلب الخالي عن التعصب يميل إليه والفطرة الأصلية تشهد بصحته وبالله التوفيق
الحجة الثانية وهو أن ما قبل هذه الآية يدل على أن طلب تأويل المتشابه مذموم حيث قال فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَة ِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ ولو كان طلب تأويل المتشابه جائزاً لما ذم الله تعالى ذلك
فإن قيل لم لا يجوز أن يكون المراد منه طلب وقت قيام الساعة كما في قوله يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَة ِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبّي ( الأعراف 178 ) وأيضاً طلب مقادير الثواب والعقاب وطلب ظهور الفتح والنصرة كما قالوا لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَئِكَة ِ ( الحجر 7 )
قلنا إنه تعالى لما قسم الكتاب إلى قسمين محكم ومتشابه ودلّ العقل على صحة هذه القسمة من حيث إن حمل اللفظ على معناه الراجح هو المحكم وحمله على معناه الذي ليس براجح هو المتشابه ثم أنه تعالى ذم طريقة من طلب تأويل المتشابه كان تخصيص ذلك ببعض المتشابهات دون البعض تركاً للظاهر وأنه لا يجوز
الحجة الثالثة أن الله مدح الراسخين في العلم بأنهم يقولون آمنا به وقال في أول سورة البقرة فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ ءامَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ فهؤلاء الراسخون لو كانوا عالمين بتأويل ذلك المتشابه

على التفصيل لما كان لهم في الإيمان به مدح لأن كل من عرف شيئاً على سبيل التفصيل فإنه لا بد وأن يؤمن به إنما الراسخون في العلم هم الذين علموا بالدلائل القطعية أن الله تعالى عالم بالمعلومات التي لا نهاية لها وعلموا أن القرآن كلام الله تعالى وعلموا أنه لا يتكلم بالباطل والعبث فإذا سمعوا آية ودلّت الدلائل القطعية على أنه لا يجوز أن يكون ظاهرها مراد الله تعالى بل مراده منه غير ذلك الظاهر ثم فوضوا تعيين ذلك المراد إلى علمه وقطعوا بأن ذلك المعنى أي شيء كان فهو الحق والصواب فهؤلاء هم الراسخون في العلم بالله حيث لم يزعزعهم قطعهم بترك الظاهر ولا عدم علمهم بالمراد على التعيين عن الإيمان بالله والجزم بصحة القرآن
الحجة الرابعة لو كان قوله وَالرسِخُونَ فِي الْعِلْمِ معطوفاً على قوله إِلاَّ اللَّهُ لصار قوله يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ ابتداء وأنه بعيد عن ذوق الفصاحة بل كان الأولى أن يقال وهم يقولون آمنا به أو يقال ويقولون آمنا به
فإن قيل في تصحيحه وجهان الأول أن قوله يَقُولُونَ كلام مبتدأ والتقدير هؤلاء العالمون بالتأويل يقولون آمنا به والثاني أن يكون يَقُولُونَ حالا من الراسخين
قلنا أما الأول فمدفوع لأن تفسير كلام الله تعالى بما لا يحتاج معه إلى الاضمار أولى من تفسيره بما يحتاج معه إلى الاضمار والثاني أن ذا الحال هو الذي تقدم ذكره وههنا قد تقدم ذكر الله تعالى وذكر الراسخين في العلم فوجب أن يجعل قوله يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ حالا من الراسخين لا من الله تعالى فيكون ذلك تركاً للظاهر فثبت أن ذلك المذهب لا يتم إلا بالعدول عن الظاهر ومذهبنا لا يحتاج إليه فكان هذا القول أولى
الحج الخامسة قوله تعالى كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا يعني أنهم آمنوا بما عرفوه على التفصيل وبما لم يعرفوا تفصيله وتأويله فلو كانوا عالمين بالتفصيل في الكل لم يبق لهذا الكلام فائدة
الحجة السادسة نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال تفسير القرآن على أربعة أوجه تفسير لا يسع أحداً جهله وتفسير تعرفه العرب بألسنتها وتفسير تعلمه العلماء وتفسير لا يعلمه إلا الله تعالى
وسئل مالك بن أنس رحمه الله عن الاستواء فقال الاستواء معلوم والكيفية مجهولة والإيمان به واجب والسؤال عند بدعة وقد ذكرنا بعض هذه المسألة في أول سورة البقرة فإذا ضم ما ذكرناه ههنا إلى ما ذكرنا هناك تم الكلام في هذه المسألة وبالله التوفيق
ثم قال تعالى وَالرسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا وفيه مسائل
المسألة الأولى الرسوخ في اللغة الثبوت في الشيء
واعلم أن الراسخ في العلم هو الذي عرف ذات الله وصفاته بالدلائل اليقينية القطعية وعرف أن القرآن كلام الله تعالى بالدلائل اليقينية فإذا رأى شيئاً متشابهاً ودل القطعي على أن الظاهر ليس مراد الله تعالى علم حينئذ قطعاً أن مراد الله شيء آخر سوى ما دلّ عليه ظاهره وأن ذلك المراد حق ولا يصير كون ظاهره مردوداً شبهة في الطعن في صحة القرآن

ثم حكي عنهم أيضاً أنهم يقولون كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا والمعنى أن كل واحد من المحكم والمتشابه من عند ربنا وفيه سؤالان
السؤال الأول لو قال كل من ربنا كان صحيحاً فما الفائدة في لفظ عِندَ
الجواب الإيمان بالمتشابه يحتاج فيه إلى مزيد التأكيد فذكر كلمة عِندَ لمزيد التأكيد
السؤال الثاني لم جاز حذف المضاف إليه من كُلٌّ
الجواب لأن دلالة المضاف عليه قوية فبعد الحذف الأمن من اللبس حاصل
ثم قال وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الالْبَابِ وهذا ثناء من الله تعالى على الذين قالوا آمنا به ومعناه ما يتعظ بما في القرآن إلا ذوو العقول الكاملة فصار هذا اللفظ كالدلالة على أنهم يستعملون عقولهم في فهم القرآن فيعلمون الذي يطابق ظاهره دلائل العقول فيكون محكماً وأما الذي يخالف ظاهره دلائل العقول فيكون متشابهاً ثم يعلمون أن الكل كلام من لا يجوز في كلامه التناقض والباطل فيعلمون أن ذلك المتشابه لا بد وأن يكون له معنى صحيح عند الله تعالى وهذه الآية دالة على علو شأن المتكلمين الذين يبحثون عن الدلائل العقلية ويتوسلون بها إلى معرفة ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله ولا يفسرون القرآن إلا بما يطابق دلائل العقول وتوافق اللغة والإعراب
واعلم أن الشيء كلما كان أشرف كان ضده أخس فكذلك مفسر القرآن متى كان موصوفاً بهذه الصفة كانت درجته هذه الدرجة العظمى التي عظم الله الثناء عليه ومتى تكلم في القرآن من غير أن يكون متبحراً في علم الأصول وفي علم اللغة والنحو كان في غاية البعد عن الله ولهذا قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار )
رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَة ً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ
واعلم أنه تعالى كما حكى عن الراسخين أنهم يقولون آمنا به حكي عنهم أنهم يقولون رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا وحذف يَقُولُونَ لدلالة الأول عليه وكما في قوله وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً ( آل عمران 191 ) وفي هذه الآية اختلف كلام أهل السنة وكلام المعتزلة
أما كلام أهل السنة فظاهر وذلك لأن القلب صالح لأن يميل إلى الإيمان وصالح لأن يميل إلى الكفر ويمتنع أن يميل إلى أحد الجانبين إلا عند حدوث داعية وإرادة يحدثها الله تعالى فإن كانت تلك الداعية داعية الكفر فهي الخذلان والإزاغة والصد والختم والطبع والرين والقسوة والوقر والكنان وغيرها من الألفاظ الواردة في القرآن وإن كانت تلك الداعية داعية الإيمان فهي التوفيق

والرشاد والهداية والتسديد والتثبيت والعصمة وغيرها من الألفاظ الواردة في القرآن وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن ) والمراد من هذين الأصبعين الداعيتان فكما أن الشيء الذي يكون بين أصبعي الإنسان يتقلب كما يقلبه الإنسان بواسطة ذينك الأصبعين فكذلك القلب لكونه بين الداعيتين يتقلب كما يقلبه الحق بواسطة تينك الداعيتين ومن أنصف ولم يتعسف وجرب نفسه وجد هذا المعنى كالشيء المحسوس ولو جوّز حدوث إحدى الداعيتين من غير محدث ومؤثر لزمه نفي الصانع وكان ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك ) ومعناه ما ذكرنا فلما آمن الراسخون في العلم بكل ما أنزل الله تعالى من المحكمات والمتشابهات تضرعوا إليه سبحانه وتعالى في أن لا يجعل قلوبهم مائلة إلى الباطل بعد أن جعلها مائلة إلى الحق فهذا كلام برهاني متأكد بتحقيق قرآني
ومما يؤكد ما ذكرناه أن الله تعالى مدح هؤلاء المؤمنين بأنهم لا يتبعون المتشابهات بل يؤمنون بها على سبيل الإجمال وترك الخوض فيها فيبعد منهم في مثل هذا الوقت أن يتكلموا بالمتشابه فلا بد وأن يكونوا قد تكلموا بهذا الدعاء لاعتقادهم أن من المحكمات ثم إن الله تعالى حكى ذلك عنهم في معرض المدح لهم والثناء عليهم بسبب أنهم قالوا ذلك وهذا يدل على أن هذه الآية من أقوى المحكمات وهذا كلام متين
وأما المعتزلة فقد قالوا لما دلّت الدلائل على أن الزيغ لا يجوز أن يكون بفعل الله تعالى وجب صرف هذه الآية إلى التأويل فأما دلائلهم فقد ذكرناها في تفسير قوله تعالى سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ( البقرة 6 )
ومما احتجوا به في هذا الموضع خاصة قوله تعالى فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وهو صريح في أن ابتداء الزيغ منهم وأما تأويلاتهم في هذه الآية فمن وجوه الأول وهو الذي قاله الجبائي واختاره القاضي أن المراد بقوله لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا ( الصف 5 ) يعني لا تمنعها الألطاف التي معها يستمر قلبهم على صفة الإيمان وذلك لأنه تعالى لما منعهم ألطافه عند استحقاقهم منع ذلك جاز أن يقال أزاغهم ويدل على هذا قوله تعالى فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ والثاني قال الأصم لا تبلنا ببلوى تزيغ عندها قلوبنا فهو كقوله وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُمْ مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مّنْهُمْ ( النساء 66 ) وقال لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَانِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مّن فِضَّة ٍ ( الزخرف 33 ) والمعنى لا تكلفنا من العبادات ما لا نأمن معه الزيغ وقد يقول القائل لا تحملني على إيذائك أي لا تفعل ما أصير عنده مؤذياً لك الثالث قال الكعبي لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا أي لا تسمنا باسم الزائغ كما يقال فلان يكفر فلاناً إذا سماه كافراً والرابع قال الجبائي أي لا تزغ قلوبنا عن جنتك وثوابك بعد إذ هديتنا وهذا قريب من الوجه الأول إلا أن يحمل على شيء آخر وهو أنه تعالى إذا علم أنه مؤمن في الحال وعلم أنه لو بقي إلى السنة الثانية لكفر فقوله لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا محمول على أن يميته قبل أن يصير كافراً وذلك لأن إبقاءه حياً إلى السنة الثانية يجري مجرى ما إذا أزاغه عن طريق الجنة الخامس قال الأصم لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا عن كمال العقل بالجنون بعد إذ هديتنا بنور العقل السادس قال أبو مسلم احرسنا من الشيطان ومن شرور أنفسنا حتى لا نزيغ فهذا جمل ما ذكروه في تأويل هذه الآية وهي بأسرها ضعيفة

أما الأول فلأن من مذهبم أن كل ما صحّ في قدرة الله تعالى أن يفعل في حقهم لطفاً وجب عليه ذلك وجوباً لو تركه لبطلت إلاهيته ولصار جاهلاً ومحتاجاً والشيء الذي يكون كذلك فأي حاجة إلى الدعاء في طلبه بل هذا القول يستمر على قول بشر بن المعتمر وأصحابه الذين لا يوجبون على الله فعل جميع الألطاف
وأما الثاني فضعيف لأن التشديد في التكليف إن علم الله تعالى له أثراً في حمل المكلف على القبيح قبح من الله تعالى وإن علم الله تعالى أنه لا أثر له ألبتة في حمل المكلف على فعل القبيح كان وجوده كعدمه فيما يرجع إلى كون العبد مطيعاً وعاصياً فلا فائدة في صرف الدعاء إليه
وأما الثالث فهو أن التسمية بالزيغ والكفر دائر مع الكفر وجوداً وعدماً والكفر والزيغ باختيار العبد فلا فائدة في قوله لا تسمنا باسم الزيغ والكفر
وأما الرابع فهو أنه لو كان علمه تعالى بأنه يكفر في السنة الثانية يوجب عليه أن يميته لكان علمه بأن لا يؤمن قط ويكفر طول عمره يوجب عليه لا يخلقه
وأما الخامس وهو حمله على إبقاء العقل فضعيف لأن هذا متعلق بما قال قبل هذه الآية فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ ( آل عمران 7 )
وأما السادس وهو أن الحراسة من الشيطان ومن شرور النفس إن كان مقدوراً وجب فعله فلا فائدة في الدعاء وإن لم يكن مقدوراً تعذر فعله فلا فائدة في الدعاء فظهر بما ذكرنا سقوط هذه الوجوه وأن الحق ما ذهبنا إليه
فإن قيل فعلى ذلك القول كيف الكلام في تفسير قوله تعالى فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ( الصف 5 )
قلنا لا يبعد أن يقال إن الله تعالى يزيغهم ابتداء فعند ذلك يزيغون ثم يترتب على هذا الزيغ إزاغة أخرى سوى الأولى من الله تعالى وكل ذلك لا منافاة فيه
أما قوله تعالى بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ( آل عمران 8 ) أي بعد أن جعلتنا مهتدين وهذا أيضاً صريح في أن حصول الهداية في القلب بتخليق الله تعالى
ثم قال وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَة ً واعلم أن تطهير القلب عما لا ينبغي مقدم على تنويره مما ينبغي فهؤلاء المؤمنون سألوا ربهم أولاً أن لا يجعل قلوبهم مائلة إلى الباطل والعقائد الفاسدة ثم أنهم ابتغوا ذلك بأن طلبوا من ربهم أن ينور قلوبهم بأنوار المعرفة وجوارحهم وأعضائهم بزينة الطاعة وإنما قال رَحْمَة ً ليكون ذلك شاملاً لجميع أنواع الرحمة فأولها أن يحصل في القلب نور الإيمان والتوحيد والمعرفة وثانيها أن يحصل في الجوارح والأعضاء نور الطاعة والعبودية والخدمة وثالثها أن يحصل في الدنيا سهولة أسباب المعيشة من الأمن والصحة والكفاية ورابعها أن يحصل عند الموت سهولة سكرات الموت وخامسها أن يحصل في القبر سهولة السؤال وسهولة ظلمة القبر
وسادسها أن يحصل في القيامة سهولة العقاب والخطاب وغفران السيئات وترجيح الحسنات فقوله مِن لَّدُنكَ رَحْمَة ً يتناول جميع هذه الأقسام

ولما ثبت بالبراهين الباهرة القاهرة أنه لا رحيم إلا هو ولا كريم إلا هو لا جرم أكد ذلك بقوله مِن لَّدُنْكَ تنبيهاً للعقل والقلب والروح على أن المقصود لا يحصل إلا منه سبحانه ولما كان هذا المطلوب في غاية العظمة بالنسبة إلى العبد لا جرم ذكرها على سبيل التنكير كأنه يقول أطلب رحمة وأية رحمة أطلب رحمة من لدنك وتليق بك وذلك يوجب غاية العظمة
ثم قال إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ كأن العبد يقول إلاهي هذا الذي طلبته منك في هذا الدعاء عظيم بالنسبة إلي لكنه حقير بالنسبة إلى كمال كرمك وغاية جودك ورحمتك فأنت الوهاب الذي من هبتك حصلت حقائق الأشياء وذواتها وماهياتها ووجوداتها فكل ما سواك فمن جودك وإحسانك وكرمك يا دائم المعروف يا قديم الإحسان لا تخيب رجاء هذا المسكين ولا ترد دعاءه واجعله بفضلك أهلاً لرحمتك يا أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين
رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ
واعلم أن هذا الدعاء من بقية كلام الراسخين في العلم وذلك لأنهم لما طلبوا من الله تعالى أن يصونهم عن الزيغ وأن يخصهم بالهداية والرحمة فكأنهم قالوا ليس الغرض من هذا السؤال ما يتعلق بمصالح الدنيا فإنها منقضية منقرضة وإنما الغرض الأعظم منه ما يتعلق بالآخرة فإنا نعلم أنك يا إلاهنا جامع الناس للجزاء في يوم القيامة ونعلم أن وعدك لا يكون خلفاً وكلامك لا يكون كذباً فمن زاغ قلبه بقي هناك في العذاب أبد الآباد ومن أعطيته التوفيق والهداية والرحمة وجعلته من المؤمنين بقي هناك في السعادة والكرامة أبد الآباد فالغرض الأعظم من ذلك الدعاء ما يتعلق بالآخرة بقي في الآية مسائل
المسألة الأولى قوله رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ تقديره جامع الناس للجزاء في يوم لا ريب فيه فحذف لكون المراد ظاهراً
المسألة الثانية قال الجبائي إن كلام المؤمنين تم عند قوله لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ فأما قوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ فهو كلام الله عزّ وجلّ كأن القوم لما قالوا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ صدقهم الله تعالى في ذلك وأيد كلامهم بقوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ كما قال حكاية عن المؤمنين في آخر هذه السورة رَبَّنَا وَءاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَة ِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ( آل عمران 194 ) ومن الناس من قال لا يبعد ورود هذا على طريقة العدول في الكلام من الغيبة إلى الحضور ومثله في كتاب الله تعالى كثير قال تعالى حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيّبَة ٍ ( يونس 22 )
فإن قيل فلم قالوا في هذه الآية إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ وقالوا في تلك الآية إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ

قلت الفرق والله أعلم أن هذه الآية في مقام الهيبة يعني أن الإلاهية تقتضي الحشر والنشر لينتصف المظلومين من الظالمين فكان ذكره باسمه الأعظم أولى في هذا المقام أما قوله في آخر السورة إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ( آل عمران 194 ) فذاك المقام مقام طلب العبد من ربه أن ينعم عليه بفضله وأن يتجاوز عن سيئاته فلم يكن المقام مقام الهيبة فلا جرم قال إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ
المسألة الثالثة احتج الجبائي بهذه الآية على القطع بوعيد الفساق قال وذلك لأن الوعيد داخل تحت لفظ الوعد بدليل قوله تعالى أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّا ( الأعراف 44 ) والوعد والموعد والميعاد واحد وقد أخبر في هذه الآية أنه لا يخلف الميعاد فكان هذا دليلاً على أنه لا يخلف في الوعيد
والجواب لا نسلم أنه تعالى يوعد الفساق مطلقاً بل ذلك الوعيد عندنا مشروط بشرط عدم العفو كما أنه بالاتفاق مشروط بشرط عدم التوبة فكما أنكم أثبتم ذلك الشرط بدليل منفصل فكذا نحن أثبتنا شرط عدم العفو بدليل منفصل سلمنا أنه يوعدهم ولكن لا نسلم أن الوعيد داخل تحت لفظ الوعد أما قوله تعالى فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّا
قلنا لم لا يجوز أن يكون ذلك كما في قوله فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( آل عمران 21 ) وقوله ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ( الدخان 49 ) وأيضاً لم لا يجوز أن يكون المراد منه أنهم كانوا يتوقعون من أوثانهم أنها تشفع لهم عند الله فكان المراد من الوعد تلك المنافع وتمام الكلام في مسألة الوعيد قد مرّ في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى بَلِ مَن كَسَبَ سَيّئَة ً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( البقرة 81 ) وذكر الواحدي في البسيط طريقة أخرى فقال لم لا يجوز أن يحمل هذا على ميعاد الأولياء دون وعيد الأعداء لأن خلف الوعيد كرم عند العرب قال والدليل عليه أنهم يمدحون بذلك قال الشاعر
إذ وعد السراء أنجز وعده
وإن أوعد الضراء فالعفو مانعه
وروي المناظرة التي دارت بين أبي عمرو بن العلاء وبين عمرو بن عبيد قال أبو عمرو بن العلاء لعمرو بن عبيد ما تقول في أصحاب الكبائر قال أقول إن الله وعد وعداً وأوعد إيعاداً فهو منجز إيعاده كما هو منجز وعده فقال أبو عمرو بن العلاء إنك رجل أعجم لا أقول أعجم اللسان ولكن أعجم القلب إن العرب تعد الرجوع عن الوعد لؤما وعن الإيعاد كرما وأنشد وإني وإن أوعدته أو وعدته
لمكذب إيعادي ومنجز موعدي
واعلم أن المعتزلة حكوا أن أبا عمرو بن العلاء لما قال هذا الكلام قال له عمرو بن عبيد يا أبا عمرو فهل يسمى الله مكذب نفسه فقال لا فقال عمرو بن عبيد فقد سقطت حجتك قالوا فانقطع أبو عمرو بن العلاء
وعندي أنه كان لأبي عمرو بن العلاء أن يجيب عن هذا السؤال فيقول إنك قست الوعيد على الوعد وأنا إنما ذكرت هذا لبيان الفرق بين البابين وذلك لأن الوعد حق عليه والوعيد حق له ومن أسقط حق نفسه

فقد أتى بالجود والكرم ومن أسقط حق غيره فذلك هو اللؤم فظهر الفرق بين الوعد والوعيد وبطل قياسك وإنما ذكرت هذا الشعر لإيضاح هذا الفرق فأما قولك لو لم يفعل لصار كاذباً ومكذباً نفسه فجوابه أن هذا إنما يلزم لو كان الوعيد ثابتاً جزماً من غير شرط وعندي جميع الوعيدات مشروطة بعدم العفو فلا يلزم من تركه دخول الكذب في كلام الله تعالى فهذا ما يتعلق بهذه الحكاية والله أعلم
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِى َ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَائِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ
إعلم أن الله سبحانه وتعالى لما حكى عن المؤمنين دعاءهم وتضرعهم حكى كيفية حال الكافرين وشديد عقابهم فهذا هو وجه النظم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في قوله إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِى َ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُم مّنَ اللَّهِ شَيْئًا قولان الأول المراد بهم وفد نجران وذلك لأنا روينا في بعض قصتهم أن أبا حارثة بن علقمة قال لأخيه إني لأعلم أنه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حقاً ولكنني إن أظهرت ذلك أخذ ملوك الروم مني ما أعطوني من المال والجاه فالله تعالى بيّن أن أموالهم وأولادهم لا تدفع عنهم عذاب الله في الدنيا والآخرة
والقول الثاني أن اللفظ عام وخصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ
المسألة الثانية إعلم أن كمال العذاب هو أن يزول عنه كل ما كان منتفعاً به ثم يجتمع عليه جميع الأسباب المؤلمة
أما الأول فهو المراد بقوله لَن تُغْنِى َ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُم وذلك لأن المرء عند الخطوب والنوائب في الدنيا يفزع إلى المال والولد فهما أقرب الأمور التي يفزع المرء إليها في دفع الخطوب فبيّن الله تعالى أن صفة ذلك اليوم مخالفة لصفة الدنيا لأن أقرب الطرق إلى دفع المضار إذا لم يتأت في ذلك اليوم فما عداه بالتعذر أولى ونظير هذه الآية قوله تعالى يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ( الشعراء 88 89 ) وقوله الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَة ُ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا ( الكهف 46 ) وقوله وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً ( مريم 80 ) وقوله وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّة ٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ ( مريم 80 )
وأما القسم الثاني من أسباب كمال العذاب فهو أن يجتمع عليه الأسباب المؤلمة وإليه الإشارة بقوله تعالى وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ وهذا هو النهاية في شرح العذاب فإنه لا عذاب أزيد من أن تشتعل النار

فيهم كاشتعالها في الحطب اليابس والوقود بفتح الواو الحطب الذي توقد به النار وبالضم هو مصدر وقدت النار وقوداً كقوله وردت وروداً
المسألة الثالثة في قوله مِنَ اللَّهِ قولان أحدهما التقدير لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه والثاني قال أبو عبيدة مِنْ بمعنى عند والمعنى لن تغني عند الله شيئاً
كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِأَيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ
يقال دأبت الشيء أدأب دأبا ودؤبا إذا أجهدت في الشيء وتعبت فيه قال الله تعالى سَبْعُ سِنِينَ دَأَبًا ( يوسف 47 ) أي بجد واجتهاد ودوام ويقال سار فلان يوماً دائباً إذا أجهد في السير يومه كله هذا معناه في اللغة ثم صار الدأب عبارة عن الشأن والأمر والعادة يقال هذا دأب فلان أي عادته وقال بعضهم الدؤب والدأب الدوام
إذا عرفت هذا فنقول في كيفية التشبيه وجوه الأول أن يفسر الدأب بالاجتهاد كما هو معناه في أصل اللغة وهذا قول الأصم والزجاج ووجه التشبيه أن دأب الكفار أي جدهم واجتهادهم في تكذيبهم بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وكفرهم بدينه كدأب آل فرعون مع موسى عليه السلام ثم إنا أهلكنا أولئك بذنوبهم فكذا نهلك هؤلاء
الوجه الثاني أن يفسر الدأب بالشأن والصنع وفيه وجوه الأول كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ أي شأن هؤلاء وصنعهم في تكذيب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كشأن آل فرعون في التكذيب بموسى ولا فرق بين هذا الوجه وبين ما قبله إلا أنا حملنا اللفظ في الوجه الأول على الاجتهاد وفي هذا الوجه على الصنع والعادة والثاني أن تقدير الآية أن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً ويجعلهم الله وقود النار كعادته وصنعه في آل فرعون فإنهم لما كذبوا رسولهم أخذهم بذنوبهم والمصدر تارة يضاف إلى الفاعل وتارة إلى المفعول والمراد ههنا كدأب الله في آل فرعون فإنهم لما كذبوا برسولهم أخذهم بذنوبهم ونظيره قوله تعالى يُحِبُّونَهُمْ كَحُبّ اللَّهِ ( البقرة 165 ) أي كحبهم الله وقال سُنَّة َ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا ( الإسراء 77 ) والمعنى سنتي فيمن أرسلنا قبلك والثالث قال القفال رحمه الله يحتمل أن تكون الآية جامعة للعادة المضافة إلى الله تعالى والعادة المضافة إلى الكفار كأنه قيل إن عادة هؤلاء الكفار ومذهبهم في إيذاء محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كعادة من قبلهم في إيذاء رسلهم وعادتنا أيضاً في إهلاك هؤلاء كعادتنا في إهلاك

أولئك الكفار المتقدمين والمقصود على جميع التقديرات نصر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على إيذاء الكفرة وبشارته بأن الله سينتقم منهم
الوجه الثالث في تفسير الدأب والدؤب وهو اللبث والدوام وطول البقاء في الشيء وتقدير الآية وأولئك هم وقود النار كدأب آل فرعون أي دؤبهم في النار كدؤب آل فرعون
والوجه الرابع أن الدأب هو الاجتهاد كما ذكرناه ومن لوازم ذلك التعب والمشقة ليكون المعنى ومشقتهم وتعبهم من العذاب كمشقة آل فرعون بالعذاب وتعبهم به فإنه تعالى بيّن أن عذابهم حصل في غاية القرب وهو قوله تعالى أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً ( نوح 25 ) وفي غاية الشدة أيضاً وهو قوله النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَة ُ أَدْخِلُواْ ءالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ( غافر 46 )
الوجه الخامس أن المشبه هو أن أموالهم وأولادهم لا تنفعهم في إزالة العذاب فكان التشبيه بآل فرعون حاصلاً في هذين الوجهين والمعنى أنكم قد عرفتم ما حل بآل فرعون ومن قبلهم من المكذبين بالرسل من العذاب المعجل الذي عنده لم ينفعهم مال ولا ولد بل صاروا مضطرين إلى ما نزل بهم فكذلك حالكم أيها الكفار المكذبون بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) في أنه ينزل بكم مثل ما نزل بالقوم تقدم أو تأخر ولا تغني عنكم الأموال والأولاد
الوجه السادس يحتمل أن يكون وجه التشبيه أنه كما نزل بمن تقدم العذاب المعجل بالاستئصال فكذلك ينزل بكم أيها الكفار بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك من القتل والسبي وسلب الأموال ويكون قوله تعالى قُلْ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ ( آل عمران 12 ) كالدلالة على ذلك فكأنه تعالى بيّن أنه كما نزل بالقوم العذاب المعجل ثم يصيرون إلى دوام العذاب فسينزل بمن كذب بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) أمران أحدهما المحن المعجلة وهي القتل والسبي والإذلال ثم يكون بعده المصير إلى العذاب الأليم الدائم وهذان الوجهان الأخيران ذكرهما القاضي رحمه الله تعالى
أما قوله تعالى وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فالمعنى والذين من قبلهم من مكذبي الرسل وقوله كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا المراد بالآيات المعجزات ومتى كذبوا بها فقد كذبوا لا محالة بالأنبياء
ثم قال فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وإنما استعمل فيه الأخذ لأن من ينزل به العقاب يصير كالمأخوذ المأسور الذي لا يقدر على التخلص
ثم قال وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ وهو ظاهر
قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي سَيَغْلِبُونَ بالياء فيهما والباقون بالتاء المنقطة من

فوق فيهما فمن قرأ بالياء المنقطة من تحت فالمعنى بلغهم أنهم سيغلبون ويدل على صحة الياء قوله تعالى يَتَفَكَّرُونَ قُل لّلَّذِينَ ءامَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ ( الجاثية 14 ) و قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ ( النور 30 ) ولم يقل غضوا ومن قرأ بالتاء فللمخاطبة ويدل على حسن التاء قوله وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيّيْنَ لَمَا ءاتَيْتُكُم مّن كِتَابٍ ( آل عمران 81 ) والفرق بين القراءتين من حيث المعنى أن القراءة بالتاء أمر بأن يخبرهم بما سيجري عليهم من الغلبة والحشر إلى جهنم والقراءة بالياء أمر بأن يحكي لهم والله أعلم
المسألة الثانية ذكروا في سبب نزول هذه الآية وجوهاً الأول لما غزا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قريشاً يوم بدر وقدم المدينة جمع يهود في سوق بني قينقاع وقال يا معشر اليهود أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشاً فقالوا يا محمد لا تغرنك نفسك أن قتلت نفراً من قريش لا يعرفون القتال لو قاتلتنا لعرفت فأنزل الله تعالى هذه الآية
الرواية الثانية أن يهود أهل المدينة لما شاهدوا وقعة أهل بدر قالوا والله هو النبي الأمي الذي بشرنا به موسى في التوراة ونعته وأنه لا ترد له راية ثم قال بعضهم لبعض لا تعجلوا فلما كان يوم أُحد ونكب أصحابه قالوا ليس هذا هو ذاك وغلب الشقاء عليهم فلم يسلموا فأنزل الله تعالى هذه الآية
والرواية الثالثة أن هذه الآية واردة في جمع من الكفار بأعيانهم علم الله تعالى أنهم يموتون على كفرهم وليس في الآية ما يدل على أنهم من هم
المسألة الثالثة احتج من قال بتكليف ما لا يطاق بهذه الآية فقال إن الله تعالى أخبر عن تلك الفرقة من الكفار أنهم يحشرون إلى جهنم فلو آمنوا وأطاعوا لانقلب هذا الخبر كذباً وذلك محال ومستلزم المحال محال فكان الإيمان والطاعة محالاً منهم وقد أمروا به فقد أمروا بالمحال وبما لا يطاق وتمام تقريره قد تقدم في تفسير قوله تعالى سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ( البقرة 6 )
المسألة الرابعة قوله سَتُغْلَبُونَ إخبار عن أمر يحصل في المستقبل وقد وقع مخبره على موافقته فكان هذا إخباراً عن الغيب وهو معجز ونظيره قوله تعالى غُلِبَتِ الرُّومُ فِى أَدْنَى الاْرْضِ وَهُم مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ( الروم 2 3 ) الآية ونظيره في حق عيسى عليه السلام وَأُنَبّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِى بُيُوتِكُمْ ( آل عمران 49 )
المسأُلة الخامسة دلّت الآية على حصول البعث في القيامة وحصول الحشر والنشر وأن مرد الكافرين إلى النار
ثم قال وَبِئْسَ الْمِهَادُ وذلك لأنه تعالى لما ذكر حشرهم إلى جهنم وصفه فقال بِئْسَ الْمِهَادُ والمهاد الموضع الذي يتمهد فيه وينام عليه كالفراش قال الله تعالى وَالاْرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ ( الذاريات 48 ) فلما ذكر الله تعالى مصير الكافرين إلى جهنم أخبر عنها بالشر لأن بئس مأخوذ من البأساء هو الشر والشدة قال الله تعالى وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ ( الأعراف 165 ) أي شديد وجهنم معروفة أعاذنا الله منها بفضله

قَدْ كَانَ لَكُمْ ءَايَة ٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَة ٌ تُقَاتِلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَة ٌ يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْى َ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنَّ فِى ذالِكَ لَعِبْرَة ً لاوْلِى الاٌّ بْصَارِ
إعلم أن في الآية مسائل
المسألة الأولى لم يقل قد كانت لكم آية بل قال قَدْ كَانَ لَكُمْ ءايَة ٌ وفيه وجهان
الأول أنه محمول على المعنى والمراد قد كان لكم إتيان هذا آية
والثاني قال الفرّاء إنما ذكر للفصل الواقع بينهما وهو قوله لَكُمْ
المسألة الثانية وجه النظم أنا ذكرنا أن الآية المتقدمة وهي قوله تعالى سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ نزلت في اليهود وأن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لما دعاهم إلى الإسلام أظهروا التمرد وقالوا ألسنا أمثال قريش في الضعف وقلة المعرفة بالقتال بل معنا من الشوكة والمعرفة بالقتال ما يغلب كل من ينازعنا فالله تعالى قال لهم إنكم وإن كنتم أقوياء وأرباب العدة والعدة فإنكم ستغلبون ثم ذكر الله تعالى ما يجري الدلالة على صحة ذلك الحكم فقال قَدْ كَانَ لَكُمْ ءايَة ٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَة ٌ يعني واقعة بدر كانت كالدلالة على ذلك لأن الكثرة والعدة كانت من جانب الكفار والقلة وعدم السلاح من جانب المسلمين ثم إن الله تعالى قهر الكفار وجعل المسلمين مظفرين منصورين وذلك يدل على أن تلك الغلبة كانت بتأييد الله ونصره ومن كان كذلك فإنه يكون غالباً لجميع الخصوم سواء كانوا أقوياء أو لم يكونوا كذلك فهذا ما يجري مجرى الدلالة على أنه عليه السلام يهزم هؤلاء اليهود ويقهرهم وإن كانوا أرباب السلاح والقوة فصارت هذه الآية كالدلالة على صحة قوله قُلْ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ الآية فهذا هو الكلام في وجه النظم
المسألة الثالثة الفئة الجماعة وأجمع المفسرون على أن المراد بالفئتين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه يوم بدر ومشركوا مكة روي أن المشركين يوم بدر كانوا تسعمائة وخمسين رجلاً وفيهم أبو سفيان وأبو جهل وقادوا مائة فرس وكانت معهم من الإبل سبعمائة بعير وأهل الخيل كلهم كانوا دارعين وهم مائة نفر وكان في الرجال دروع سوى ذلك وكان المسلمون ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً بين كل أربعة منهم بعير ومعهم من الدروع ستة ومن الخيل فرسان ولا شك أن في غلبة المسلمين للكفار على هذه الصفة آية بينة ومعجزة قاهرة
واعلم أن العلماء ذكروا في تفسير كون تلك الواقعة آية بينة وجوهاً الأول أن المسلمين كان قد اجتمع فيهم من أسباب الضعف عن المقاومة أمور منها قل العدد ومنها أنهم خرجوا غير قاصدين

للحرب فلم يتأهبوا ومنها قلة السلاح والفرس ومنها أن ذلك ابتداء غارة في الحرب لأنها أول غزوات رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وكان قد حصل للمشركين أضداد هذه المعاني منها كثرة العدد ومنها أنهم خرجوا متأهبين للحرب ومنها كثرة سلاحهم وخيلهم ومنها أن أولئك الأقوام كانوا ممارسين للمحاربة والمقاتلة في الأزمنة الماضية وإذا كان كذلك فلم تجر العادة أن مثل هؤلاء العدد في القلة والضعف وعدم السلاح وقلة المعرفة بأمر المحاربة يغلبون مثل ذلك الجمع الكثير مع كثرة سلاحهم وتأهبهم للمحاربة ولما كان ذلك خارجاً عن العادة كان معجزاً
والوجه الثاني في كون هذه الواقعة آية أنه عليه الصلاة والسلام كان قد أخبر قومه بأن الله ينصره على قريش بقوله يَنظُرُونَ وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ ( الأنفال 7 ) يعني جمع قريش أو عير أبي سفيان وكان قد أخبر قبل الحرب بأن هذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان فلما وجد مخبر خبره في المستقبل على وفق خبره كان ذلك إخباراً عن الغيب فكان معجزاً
والوجه الثالث في بيان كون هذه الواقعة آية ما ذكره تعالى بعد هذه الآية وهو قوله تعالى يَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ رَأْى َ الْعَيْنِ والأصح في تفسير هذه الآية أن الرائين هم المشركون والمرئيين هم المؤمنون والمعنى أن المشركين كانوا يرون المؤمنون مثلي عدد المشركين قريباً من ألفين أو مثلي عدد المسلمين وهو ستمائة وذلك معجز
فإن قيل تجويز رؤية ما ليس بموجود يفضي إلى السفسطة
قلنا نحمل الرؤية على الظن والحسبان وذلك لأن من اشتد خوفه قد يظن في الجمع القليل أنهم في غاية الكثرة وإما أن نقول إن الله تعالى أنزل الملائكة حتى صار عسكر المسلمين كثيرين والجواب الأول أقرب لأن الكلام مقتصر على الفئتين ولم يدخل فيهما قصة الملائكة
والوجه الرابع في بيان كون هذه القصة آية قال الحسن إن الله تعالى أمد رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) في تلك الغزوة بخمسة آلاف من الملائكة لأنه قال فَاسْتَجَابَ لَكُمْ إِنّى مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ ( الأنفال 9 ) وقال بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مّن فَوْرِهِمْ هَاذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَة ِ ءالافٍ مّنَ الْمَلَئِكَة ِ ( آل عمران 125 ) والألف مع الأربعة آلاف خمسة آلاف من الملائكة وكان سيماهم هو أنه كان على أذناب خيولهم ونواصيها صوف أبيض وهو المراد بقوله وَاللَّهُ يُؤَيّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء والله أعلم
ثم قال الله تعالى فِئَة ٌ تُقَاتِلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَة ٌ وفيه مسألتان
المسألة الأولى القراءة المشهورة فِئَة ٌ بالرفع وكذا قوله وَأُخْرَى كَافِرَة ٌ وقرىء فِئَة ٌ فَقَاتِلْ وَأُخْرَى كَافِرَة ٌ بالجر على البدل من فئتين وقرىء بالنصب إما على الاختصاص أو على الحال من الضمير في التقتا قال الواحدي رحمه الله والرفع هو الوجه لأن المعنى إحداهما تقاتل في سبيل الله فهو رفع على استئناف الكلام
المسألة الثانية المراد بالفئة التي تقاتل في سبيل الله هم المسلمون لأنهم قاتلوا لنصرة دين الله
وقوله وَأُخْرَى كَافِرَة ٌ المراد بها كفار قريش

ثم قال تعالى يَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ رَأْى َ الْعَيْنِ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ نافع وأبان عن عاصم تَرَوْنَهُمْ بالتاء المنقطة من فوق والباقون بالياء فمن قرأ بالتاء فلأن ما قبله خطاب لليهود والمعنى ترون أيها اليهود المسلمين مثل ما كانوا أو مثلي الفئة الكافرة أو تكون الآية خطاباً مع مشركي قريش والمعنى ترون يا مشركي قريش المسلمون مثلي فئتكم الكافرة ومن قرأ بالياء فللمغالبة التي جاءت بعد الخطاب وهو قوله فِئَة ٌ تُقَاتِلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَة ٌ يَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ فقوله يَرَوْنَهُمْ يعود إلى الإخبار عن إحدى الفئتين
المسألة الثانية إعلم أنه قد تقدم في هذه الآية ذكر الفئة الكافرة وذكر الفئة المسلمة فقوله يَرَوْنَهُمْ مّثْلُهُمْ يحتمل أن يكون الراؤن هم الفئة الكافرة والمرئيون هم الفئة المسلمة ويحتمل أن يكون بالعكس من ذلك فهذان احتمالان وأيضاً فقوله مّثْلَيْهِمْ يحتمل أن يكون المراد مثلي الرائين وأن يكون المراد مثلي المرئين فإذن هذه الآية تحتمل وجوهاً أربعة الأول أن يكون المراد أن الفئة الكافرة رأت المسلمين مثلي عدد المشركين قريباً من ألفين
والاحتمال الثاني أن الفئة الكافرة رأت المسلمين مثلي عدد المسلمين ستمائة ونيفاً وعشرين والحكمة في ذلك أنه تعالى كثر المسلمين في أعين المشركين مع قلتهم ليهابوهم فيحترزوا عن قتالهم
فإن قيل هذا متناقض لقوله تعالى في سورة الأنفال وَيُقَلّلُكُمْ فِى أَعْيُنِهِمْ ( الأنفال 44 )
فالجواب أنه كان التقليل والتكثير في حالين مختلفين فقللوا أولاً في أعينهم حتى اجترؤا عليهم فلما تلاقوا كثرهم الله في أعينهم حتى صاروا معلوبين ثم إن تقليلهم في أول الأمر وتكثيرهم في آخر الأمر أبلغ في القدرة وإظهار الآية
والاحتمال الثالث أن الرائين هم المسلمون والمرئيين هم المشركون فالمسلمون رأوا المشركين مثلى المسلمين ستمائة وأزيد والسبب فيه أن الله تعالى أمر المسلم الواحد بمقاومة الكافرين قال الله تعالى إِن يَكُن مّنكُمْ مّاْئَة ٌ صَابِرَة ٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ ( الأنفال 66 )
فإن قيل كيف يرونهم مثليهم رأي العين وكانوا ثلاثة أمثالهم
الجواب أن الله تعالى إنما أظهر للمسلمين من عدد المشركين القدر الذي علم المسلمون أنهم يغلبونهم وذلك لأنه تعالى قال إِن يَكُن مّنكُمْ مّاْئَة ٌ صَابِرَة ٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ فأظهر ذلك العدد من المشركين للمؤمنين تقوية لقلوبهم وإزالة للخوف عن صدورهم
والاحتمال الرابع أن الرائين هم المسلمون وأنهم رأوا المشركين على الضعف من عدد المشركين فهذا قول لا يمكن أن يقول به أحد لأن هذا يوجب نصرة المشركين بإيقاع الخوف في قلوب المؤمنين والآية تنافي ذلك وفي الآية احتمال خامس وهو أنا أول الآية قد بينا أن الخطاب مع اليهود فيكون المراد ترون أيها اليهود المشركين مثلي المؤمنين في القوة والشوكة
فإن قيل كيف رأوهم مثليهم فقد كانوا ثلاثة أمثالهم فقد سبق الجواب عنه

بقي من مباحث هذا الموضع أمران
البحث الأول أن الاحتمال الأول والثاني يقتضي أن المعدوم صار مرئياً والاحتمال الثالث يقتضي أن ما وجد وحضر لم يصر مرئياً أما الأول فهو محال عقلاً لأن المعدوم لا يرى فلا جرم وجب حمل الرؤية على الظن القوي وأما الثاني فهو جائز عند أصحابنا لأن عندنا مع حصول الشرائط وصحة الحاسد يكون الإدراك جائزاً لا واجباً وكان ذلك الزمان زمان ظهور المعجزات وخوارق العادات فلم يبعد أن يقال إنه حصل ذلك المعجز وأما المعتزلة فعندهم الإدراك واجب الحصول عند اجتماع الشرائط وسلامة الحاسد فلهذا المعنى اعتذر القاضي عن هذا الموضع من وجوه أحدها أن عند الاشتغال بالمحاربة والمقاتلة قد لا يتفرغ الإنسان لأن يدير حدقته حول العسكر وينظر إليهم على سبيل التأمل التام فلا جرم يرى البعض دون البعض وثانيها لعلّه يحدث عند المحاربة من الغبار ما يصير مانعاً عن إدراك البعض وثالثها يجوز أن يقال إنه تعالى خلق في الهواء ما صار مانعاً عن إدراك ثلث العسكر وكل ذلك محتمل
البحث الثاني اللفظ وإن احتمل أن يكون الراؤن هم المشركون وأن يكون هم المسلمون فأي الاحتمالين أظهر فقيل إن كون المشرك رائياً أولى ويدل عليه وجوه الأول أن تعلق الفعل بالفاعل أشد من تعلقه بالمفعول فجعل أقرب المذكورين السابقين فاعلاً وأبعدهما مفعولاً أولى من العكس وأقرب المذكورين هو قوله وَأُخْرَى كَافِرَة ٌ والثاني أن مقدمة الآية وهو قوله قَدْ كَانَ لَكُمْ ءايَة ٌ خطاب مع الكفار فقراءة نافع بالتاء يكون خطاباً مع أولئك الكفار والمعنى ترون يا مشركي قريش المسلمين مثليهم فهذه القراءة لا تساعد إلا على كون الرائي مشركاً الثالث أن الله تعالى جعل هذه الحالة آية الكفار حيث قال قَدْ كَانَ لَكُمْ ءايَة ٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فوجب أن تكون هذه الحالة مما يشاهدها الكافر حتى تكون حجة عليه أما لو كانت هذه الحالة حاصلة للمؤمن لم يصح جعلها حجة الكافر والله أعلم
واحتج من قال الراؤن هم المسلمون وذلك لأن الرائين لو كانوا هم المشركين لزم رؤية ما ليس بموجود وهو محال ولو كان الراؤن هم المؤمنون لزم أن لا يرى ما هو موجود وهذا ليس بمحال وكان ذلك أولى والله أعلم
ثم قال رَأْى َ الْعَيْنِ يقال رأيته رأياً ورؤية ورأيت في المنام رؤيا حسنة فالرؤية مختص بالمنام ويقول هو مني مرأى العين حيث يقع عليه بصري فقوله رَأْى َ الْعَيْنِ يجوز أن ينتصب على المصدر ويجوز أن يكون ظرفاً للمكان كما تقول ترونهم أمامكم ومثله هو مني مناط العنق ومزجر الكلب
ثم قال وَاللَّهُ يُؤَيّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء نصر الله المسلمين على وجهين نصر بالغلبة كنصر يوم بدر ونصر بالحجة فلهذا المعنى لو قدرنا أنه هزم قوم من المؤمنين لجاز أن يقال هم المنصورون لأنهم هم المنصورون بالحجة وبالعاقبة الحميدة والمقصود من الآية أن النصر والظفر إنما يحصلان بتأييد الله ونصره لا بكثرة العدد والشوكة والسلاح
ثم قال إِنَّ فِى ذالِكَ لَعِبْرَة ً والعبرة الاعتبار وهي الآية التي يعبر بها من منزلة الجهل إلى العلم وأصله

من العبور وهو النفوذ من أحد الجانبين إلى الآخر ومنه العبارة وهي كلام الذي يعبر بالمعنى إلى المخاطب وعبارة الرؤيا من ذلك لأنها تعبير لها وقوله لاِوْلِى الاْبْصَارِ أي لأولي العقول كما يقال لفلان بصر بهذا الأمر أي علم ومعرفة والله أعلم
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَآءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَة ِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّة ِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَة ِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذالِكَ مَتَاعُ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَأَبِ
في الآية مسائل
المسألة الأولى في كيفية النظم قولان الأول ما يتعلق بالقصة فإنا روينا أن أبا حارثة بن علقمة النصراني اعترف لأخيه بأنه يعرف صدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في قوله إلا أنه لا يقر بذلك خوفاً من أن يأخذ منه ملوك الروم المال والجاه وأيضاً روينا أنه عليه الصلاة والسلام لما دعا اليهود إلى الإسلام بعد غزوة بدر أظهروا من أنفسهم القوة والشدة والاستظهار بالمال والسلاح فبيّن الله تعالى في هذه الآية أن هذه الأشياء وغيرها من متاع الدنيا زائلة باطلة وأن الآخرة خير وأبقى
القول الثاني وهو على التأويل العام أنه تعالى لما قال في الآية المتقدمة وَاللَّهُ يُؤَيّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء إِنَّ فِى ذالِكَ لَعِبْرَة ً لاِوْلِى الاْبْصَارِ ذكر بعد هذه الآية ما هو كالشرح والبيان لتلك العبرة وذلك هو أنه تعالى بيّن أنه زين للناس حب الشهوات الجسمانية واللذات الدنيوية ثم أنها فانية منقضية تذهب لذاتها وتبقى تبعاتها ثم إنه تعالى حث على الرغبة في الآخرة بقوله قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ مّن ذالِكُمْ ( آل عمران 15 ) ثم بيّن طيبات الآخرة معدة لمن واظب على العبودية من الصابرين والصادقين إلى آخر الآية
المسألة الثانية اختلفوا في أن قوله زُيّنَ لِلنَّاسِ من الذي زين ذلك أما أصحابنا فقولهم فيه ظاهر وذلك لأن عندهم خالق جميع الأفعال هو الله تعالى وأيضاً قالوا لو كان المزين الشيطان فمن الذي زين الكفر والبدعة للشيطان فإن كان ذلك شيطاناً آخر لزم التسلسل وإن وقع ذلك من نفس ذلك الشيطان في الإنسان فليكن كذلك الإنسان وإن كان من الله تعالى وهو الحق فليكن في حق الإنسان كذلك وفي القرآن إشارة إلى هذه النكتة في سورة القصص في قوله رَبَّنَا هَؤُلاء الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا ( القصص 63 ) يعني إن اعتقد أحد أنا أغويناهم فمن الذي أغوانا وهذا الكلام ظاهر جداً
أما المعتزلة فالقاضي نقل عنهم ثلاثة أقوال
القول الأول حكي عن الحسن أنه قال الشيطان زين لهم وكان يحلف على ذلك بالله واحتج القاضي لهم بوجوه أحدها أنه تعالى أطلق حب الشهوات فيدخل فيه الشهوات المحرمة ومزين الشهوات المحرمة هو الشيطان وثانيها أنه تعالى ذكر القناطير المقنطرة من الذهب والفضة وحب هذا المال الكثير

إلى هذا الحد لا يليق إلا بمن جعل الدنيا قبلة طلبه ومنتهى مقصوده لأن أهل الآخرة يكتفون بالغلبة وثالثها قوله تعالى ذالِكَ مَتَاعُ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا ولا شك أن الله تعالى ذكر ذلك في معرض الذم للدنيا والذم للشيء يمتنع أن يكون مزيناً له ورابعها قوله بعد هذه الآية قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ مّن ذالِكُمْ ( آل عمران 15 ) والمقصود من هذا الكلام صرف العبد عن الدنيا وتقبيحها في عينه وذلك لا يليق بمن يزين الدنيا في عينه
والقول الثاني قول قوم آخرين من المعتزلة وهو أن المزين لهذه الأشياء هو الله واحتجوا عليه بوجوه أحدها أنه تعالى كما رغب في منافع الآخر فقد خلق ملاذ الدنيا وأباحها لعبيده وإباحتها للعبيد تزيين لها فإنه تعالى إذا خلق الشهوة والمشتهى وخلق للمشتهي علماً بما في تناول المشتهى من اللذة ثم أباح له ذلك التناول كان تعالى مزيناً لها وثانيها أن الانتفاع بهذه المشتهيات وسائل إلى منافع الآخرة والله تعالى قد ندب إليها فكان مزيناً لها وإنما قلنا إن الانتفاع بها وسائل إلى ثواب الآخرة لوجوه الأول أن يتصدق بها والثاني أن يتقوى بها على طاعة الله تعالى والثالث أنه إذا انتفع بها وعلم أن تلك المنافع إنما تيسرت بتخليق الله تعالى وإعانته صار ذلك سبباً لاشتغال العبد بالشكر العظيم ولذلك كان الصاحب ابن عباد يقول شرب الماء البارد في الصيف يستخرج الحمد من أقصى القلب وذكر شعراً هذا معناه والرابع أن القادر على التمتع بهذه اللذات والطيبات إذا تركها واشتغل بالعبودية وتحمل ما فيها من المشقة كان أكثر ثواباً فثبت بهذه الوجوه أن الانتفاع بهذه الطيبات وسائل إلى ثواب الآخر والخامس قوله تعالى هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً ( البقرة 29 ) وقال قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَة َ اللَّهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرّزْقِ ( الأعراف 32 ) وقال إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الاْرْضِ زِينَة ً لَّهَا ( الكهف 7 ) وقال خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ ( الأعراف 31 ) وقال في سورة البقرة وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَّكُمْ ( البقرة 22 ) وقال كُلُواْ مِمَّا فِى الاْرْضِ حَلَالاً طَيّباً ( البقرة 168 ) وكل ذلك يدل على أن التزيين من الله تعالى ومما يؤكد ذلك قراءة مجاهد زُيّنَ لِلنَّاسِ على تسمية الفاعل
والقول الثالث وهو اختيار أبي علي الجبائي والقاضي وهو التفصيل وذلك أن كل ما كان من هذا الباب واجباً أو مندوباً كان التزيين فيه من الله تعالى وكل ما كان حراماً كان التزيين فيه من الشيطان هذا ما ذكره القاضي وبقي قسم ثالث وهو المباح الذي لا يكون في فعله ولا في تركه ثواب ولا عقاب والقاضي ما ذكر هذا القسم وكان من حقه أن يذكره ويبيّن أن التزيين فيه من الله تعالى أو من الشيطان
المسألة الثالثة قوله حُبُّ الشَّهَواتِ فيه أبحاث ثلاثة
البحث الأول أن الشهوات ههنا هي الأشياء المشتهيات سميت بذلك على الاستعارة للتعلق والاتصال كما يقال للمقدور قدرة وللمرجو رجاء وللمعلوم علم وهذه استعارة مشهورة في اللغة يقال هذه شهوة فلان أي مشتهاه قال صاحب ( الكشاف ) وفي تسميتها بهذا الاسم فائدتان إحداهما أنه جعل الأعيان التي ذكرها شهوات مبالغة في كونها مشتهاة محروصاً على الاستمتاع بها والثانية أن الشهوة صفة مسترذلة عند الحكماء مذمومة من اتبعها شاهد على نفسه بالبهيمية فكان المقصود من ذكر هذا اللفظ التنفير عنها

البحث الثاني قال المتكلمون دلّت هذه الآية على أن الحب غير الشهوة لأنه أضاف الحب إلى الشهوة والمضاف غير المضاف إليه والشهوة من فعل الله تعالى والمحبة من أفعال العباد وهي عبارة عن أن يجعل الإنسان كل غرضه وعيشه في طلب اللذات والطيبات
البحث الثالث قال الحكماء الإنسان قد يحب شيئاً ولكنه يحب أن لا يحبه مثل المسلم فإنه قد يميل طبعه إلى بعض المحرمات لكنه يحب أن لا يحب وأما من أحب شيئاً وأحب إن يحبه فذاك هو كمال المحبة فإن كان ذلك في جانب الخير فهو كمال السعادة كما في قوله تعالى حكاية عن سليمان عليه السلام إِنّى أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ ( ص 32 ) ومعناه أحب الخير وأحب أن أكون محباً للخير وإن كان ذلك في جانب الشر فهو كما قال في هذه الآية فإن قوله زُيّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ يدل على أمور ثلاثة مرتبة أولها أنه يشتهي أنواع المشتهيات وثانيها أنه يحب شهوته لها وثالثها أنه يعتقد أن تلك المحبة حسنة وفضيلة ولما اجتمعت في هذه القضية الدرجات الثلاثة بلغت الغاية القصوى في الشدة والقوة ولا يكاد ينحل إلا بتوفيق عظيم من الله تعالى ثم إنه تعالى أضاف ذلك إلى الناس وهو لفظ عام دخله حرف التعريف فيفيد الاستغراق فظاهر اللفظ يقتضي أن هذا المعنى حاصل لجميع الناس والعقل أيضاً يدل عليه وهو أن كل ما كان لذيذاً ونافعاً فهو محبوب ومطلوب لذاته واللذيذ النافع قسمان جسماني وروحاني والقسم الجسماني حاصل لكل أحد في أول الأمر وأما القسم الروحاني فلا يكون إلا في الإنسان الواحد على سبيل الندرة ثم ذلك الإنسان إنما يحصل له تلك اللذة الروحانية بعد استئناس النفس باللذات الجسمانية فيكون انجذاب النفس إلى اللذات الجسمانية كالملكة المستقرة المتأكدة وانجذابها إلى اللذات الروحانية كالحالة الطارئة التي تزول بأدنى سبب فلا جرم كان الغالب على الخلق إنما هو الميل الشديد إلى اللذات الجسمانية وأما الميل إلى طلب اللذات الروحانية فذاك لا يحصل إلا للشخص النادر ثم حصوله لذلك النادر لا يتفق إلا في أوقات نادرة فلهذا السبب عم الله هذا الحكم فقال زُيّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ
وأما قوله تعالى مِنَ النّسَاء وَالْبَنِينَ ففيه بحثان
البحث الأول مِنْ في قوله مِنَ النّسَاء وَالْبَنِينَ كما في قوله فَاجْتَنِبُواْ الرّجْسَ مِنَ الاْوْثَانِ ( الحج 30 ) فكما أن المعنى فاجتنبوا الأوثان التي هي رجس فكذا أيضاً معنى هذه الآية زين للناس حب النساء وكذا وكذا التي هي مشتهاة
البحث الثاني إعلم أنه تعالى عدد ههنا من المشتهيات أموراً سبعة أولها النساء وإنما قدمهن على الكل لأن الالتذاذ بهن أكثر والاستئناس بهن أتم ولذلك قال تعالى خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْواجاً لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّة ً وَرَحْمَة ً ( الروم 21 ) ومما يؤكد ذلك أن العشق الشديد المفلق المهلك لا يتفق إلا في هذا النوع من الشهوة
المرتبة الثانية حب الولد ولما كان حب الولد الذكر أكثر من حب الأنثى لا جرم خصه الله تعالى بالذكر ووجه التمتع بهم ظاهر من حيث السرور والتكثر بهم إلى غير ذلك

واعلم أن الله تعالى في إيجاد حب الزوجة والولد في قلب الإنسان حكمة بالغة فإنه لولا هذا الحب لما حصل التوالد والتناسل ولأدى ذلك إلى انقطاع النسل وهذه المحبة كأنها حالة غريزية ولذلك فإنها حاصلة لجميع الحيوانات والحكمة فيه ما ذكرنا من بقاء النسل
المرتبة الثالثة والرابعة وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَة ِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّة ِ وفيه أبحاث
البحث الأول قال الزجاج القنطار مأخوذ من عقد الشيء وإحكامه والقنطرة مأخوذة من ذلك لتوثقها بعقد الطاق فالقنطار مال كثير يتوثق الإنسان به في دفع أصناف النوائب وحكى أبو عبيد عن العرب أنهم يقولون إنه وزن لا يحد واعلم أن هذا هو الصحيح ومن الناس من حاول تحديده وفيه روايات فروى أبو هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( القنطار إثنا عشر ألف أوقية ) وروى أنس عنه أيضاً أن القنطار ألف دينار وروى أُبي بن كعب أنه عليه السلام قال القنطار ألف ومائتا أوقية وقال ابن عباس القنطار ألف دينار أو إثنا عشر ألف درهم وهو مقدار الدية وبه قاس الحسن وقال الكلبي القنطار بلسان الروم ملء مسك ثور من ذهب أو فضة وفيه أقوال سوى ما ذكرنا لكنا تركناها لأنها غير مقصودة بحجة ألبتة
البحث الثاني الْمُقَنطَرَة ِ منفعلة من القنطار وهو للتأكيد كقولهم ألف مؤلفة وبدرة مبدرة وإبل مؤبلة ودراهم مدرهمة وقال الكلبي القناطير ثلاثة والمقنطرة المضاعفة فكان المجموع ستة
البحث الثالث الذهب والفضة إنما كانا محبوبين لأنهما جعلا ثمن جميع الأشياء فمالكهما كالمالك لجميع الأشياء وصفة المالكية هي القدرة والقدرة صفة كمال والكمال محبوب لذاته فلما كان الذهب والفضة أكمل الوسائل إلى تحصيل هذا الكمال الذي هو محبوب لذاته وما لا يوجد المحبوب إلا به فهو محبوب لا جرم كانا محبوبين
المسألة الخامسة الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَة ِ قال الواحدي الخيل جمع لا واحد له من لفظه كالقوم والنساء والرهط وسميت الأفراس خيلاً لخيلائها في مشيها وسميت حركة الإنسان على سبيل الجولان اختيالا وسمي الخيال خيالا والتخيل تخيلا لجولان هذه القوة في استحضار تلك الصورة والأخيل الشقراق لأنه يتخيل تارة أخضر وتارة أحمر واختلفوا في معنى الْمُسَوَّمَة ِ على ثلاثة أقوال الأول أنها الراعية يقال أسمت الدابة وسومتها إذا أرسلتها في مروجها للرعي كما يقال أقمت الشيء وقومته وأجدته وجودته وأنمته ونومته والمقصود أنها إذا رعت ازدادت حسناً ومنه قوله تعالى فِيهِ تُسِيمُونَ ( النحل 10 )
والقول الثاني المسومة المعلمة قال أبو مسلم الأصفهاني وهو مأخوذ من السيما بالقصر والسيماء بالمد ومعناه واحد وهو الهيئة الحسنة قال الله تعالى سِيمَاهُمْ فِى وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ( الفتح 29 ) ثم القائلون بهذا القول اختلفوا في تلك العلامة فقال أبو مسلم المراد من هذه العلامات الأوضاح والغرر التي تكون في الخيل وهي أن تكون الأفراس غراً محجلة وقال الأصم إنما هي البلق وقال قتادة الشية وقال المؤرج الكي وقول أبي مسلم أحسن لأن الإشارة في هذه الآية إلى شرائف الأموال وذلك هو أن يكون الفرس أغر محجلا وأما سائر الوجوه التي ذكروها فإنها لا تفيد شرفاً في الفرس

القول الثالث وهو قول مجاهد وعكرمة أنها الخيل المطهمة الحسان قال القفال المطهمة المرأة الجميلة
المرتبة السادسة الاْنْعَامِ وهيي جمع نعم وهي الإبل والبقر والغنم ولا يقال للجنس الواحد منها نعم إلا للإبل خاصة فإنها غلبت عليها
المرتبة السابعة الْحَرْثِ وقد ذكرنا اشتقاقه في قوله وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ( البقرة 205 )
ثم إنه تعالى لما عدد هذه السبعة قال ذالِكَ مَتَاعُ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا قال القاضي ومعلوم أن متاعها إنما خلق ليستمتع به فكيف يقال إنه لا يجوز إضافة التزيين إلى الله تعالى ثم قال للاستمتاع بمتاع الدنيا وجوه منها أن ينفرد به من خصه الله تعالى بهذه النعم فيكون مذموماً ومنها أن يترك الانتفاع به مع الحاجة إليه فيكون أيضاً مذموماً ومنها أن ينتفع به في وجه مباح من غير أن يتوصل بذلك إلى مصالح الآخرة وذلك لا ممدوح ولا مذموم ومنها أن ينتفع به على وجه يتوصل به إلى مصالح الآخرة وذلك هو الممدوح
ثم قال تعالى وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَأَبِ اعلم أن المآب في اللغة المرجع يقال آب الرجل إياباً وأوبة وأبية ومآبا قال الله تعالى إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ والمقصود من هذا الكلام بيان أن من آتاه الله الدنيا كان الواجب عليه أن يصرفها إلى ما يكون فيه عمارة لمعاده ويتوصل بها إلى سعادة آخرته ثم لما كان الغرض الترغيب في المآب وصف المآب بالحسن
فإن قيل المآب قسما الجنة وهي في غاية الحسن والنار وهي خالية عن الحسن فكيف وصف المآب المطلق بالحسن
قلنا المآب المقصود بالذات هو الجنة فأما النار فهي المقصود بالغرض لأنه سبحانه خلق الخلق للرحمة لا للعذاب كما قال سبقت رحمتي غضبي وهذا سر يطلع منه على أسرار غامضة
قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذالِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ خَاالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَة ٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي أَؤُنَبّئُكُمْ بهمزتين واختلفت الرواية عن نافع وأبي عمرو
المسألة الثانية ذكروا في متعلق الاستفهام ثلاثة أوجه الأول أن يكون المعنى هل أؤنبئكم بخير

من ذلاكم ثم يبتدأ فيقال للذين اتقوا عند ربهم كذا وكذا والثاني هل أؤنبئكم بخير من ذلاكم للذين اتقوا ثم يبتدأ فيقال عند ربهم جنّات تجري والثالث هل أنبئكم بخير من ذلاكم للذين اتقوا عند ربهم ثم يبتدى فيقال جنّات تجري
المسألة الثالثة في وجه النظم وجوه الأول أنه تعالى لما قال وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَأَبِ ( آل عمران 14 ) بيّن في هذه الآية أن ذلك المآب كما أنه حسن في نفسه فهو أحسن وأفضل من هذه الدنيا فقال قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ مّن ذالِكُمْ الثاني أنه تعالى لما عدد نعم الدنيا بين أن منافع الآخرة خير منها كما قال في آية أخرى وَالاْخِرَة ُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ( الأعلى 7 ) الثالث كأنه تعالى نبّه على أن أمرك في الدنيا وإن كان حسناً منتظماً إلا أن أمرك في الآخرة خير وأفضل والمقصود منه أن يعلم العبد أنه كما أن الدنيا أطيب وأوسع وأفسح من بطن الأم فكذلك الآخرة أطيب وأوسع وأفسح من الدنيا
المسألة الرابعة إنما قلنا إن نعم الآخرة خير من نعم الدنيا لأن نعم الدنيا مشوبة بالمضرة ونعم الآخرة خالية عن شوب المضار بالكلية وأيضاً فنعم الدنيا منقطعة لا محالة ونعم الآخرة باقية لا محالة
أما قوله تعالى لّلَّذِينَ اتَّقَواْ فقد بينا في تفسير قوله تعالى هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2 ) أن التقوى ما هي وبالجملة فإن الإنسان لا يكون متقياً إلا إذا كان آتياً بالواجبات متحرزاً عن المحظورات وقال بعض أصحابنا التقوى عبارة عن اتقاء الشرك وذلك لأن التقوى صارت في عرف القرآن مختصة بالإيمان قال تعالى وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَة َ التَّقْوَى ( الفتح 26 ) وظاهر اللفظ أيضاً مطابق له لأن الاتقاء عن الشرك أعم من الاتقاء عن جميع المحظورات ومن الاتقاء عن بعض المحظورات لأن ماهية الاشتراك لا تدل على ماهية الامتياز فحقيقة التقوى وماهيتها حاصلة عند حصول الاتقاء عن الشرك وعرف القرآن مطابق لذلك فوجب حمله عليه فكان قوله لّلَّذِينَ اتَّقَواْ محمولاً على كل من اتقى الكفر بالله
أما قوله تعالى لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ عِندَ رَبّهِمْ ففيه احتمالان الأول أن يكون ذلك صفة للخير والتقدير هل أنبئكم بخير من ذلاكم عند ربهم للذين اتقوا والثاني أن يكون ذلك صفة للذين اتقوا والتقدير للذين اتقوا عند ربهم خير من منافع الدنيا ويكون ذلك إشارة إلى أن هذا الثواب العظيم لا يحصل إلا لمن كان متقياً عند الله تعالى فيخرج عنه المنافق ويدخل فيه من كان مؤمناً في علم الله
وأما قوله جَنَّاتُ فالتقدير هو جنّات وقرأ بعضهم جَنَّاتُ بالجر على البدل من خير واعلم أن قوله جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ وصف لطيب الجنّة ودخل تحته جميع النعم الموجودة فيها من المطعم والمشرب والملبس والمفرش والمنظر وبالجملة فالجنة مشتملة على جميع المطالب كما قال تعالى فِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الاْنْفُسُ وَتَلَذُّ الاْعْيُنُ ( الزخرف 71 )
ثم قال خَالِدِينَ فِيهَا والمراد كون تلك النعم دائمة
ثم قال وَأَزْواجٌ مُّطَهَّرَة ٌ وَرِضْوانٌ مّنَ اللَّهِ وقد ذكرنا لطائفها عند قوله تعالى في سورة البقرة وَلَهُمْ فِيهَا أَزْواجٌ مُّطَهَّرَة ٌ ( البقرة 25 ) وتحقيق القول فيه أن النعمة وإن عظمت فلن تتكامل إلا بالأزواج اللواتي لا يحصل الأنس إلا بهن ثم وصف الأزواج بصفة واحدة جامعة لكل مطلوب فقال مُّطَهَّرَة ٍ ويدخل في

ذلك الطهارة من الحيض والنفاس وسائر الأحوال التي تظهر عن النساء في الدنيا مما ينفر عنه الطبع ويدخل فيه كونهن مطهرات من الأخلاق الذميمة ومن القبح وتشويه الخلقة ويدخل فيه كونهن مطهرات من سوء العشرة
ثم قال تعالى وَرِضْوانٌ مّنَ اللَّهِ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ عاصم وَرِضْوَانٍ بضم الراء والباقون بكسرها أما الضم فهو لغة قيس وتميم وقال الفرّاء يقال رضيت رضا ورضوانا ومثل الراضون بالكسر الحرمان والقربان وبالضم الطغيان والرجحان والكفران والشكران
المسألة الثانية قال المتكلمون الثواب له ركنان أحدهما المنفعة وهي التي ذكرناها والثاني التعظيم وهو المراد بالرضوان وذلك لأن معرفة أهل الجنة مع هذا النعيم المقيم بأنه تعالى راض عنهم حامد لهم مثن عليهم أزيد في إيجاب السرور من تلك المنافع وأما الحكماء فإنهم قالوا الجنّات بما فيها إشارة إلى الجنة الجسمانية والرضوان فهو إشارة إلى الجنة الروحانية وأعلى المقامات إنما هو الجنة الروحانية وهو عبارة عن تجلي نور جلال الله تعالى في روح العبد واستغراق العبد في معرفته ثم يصير في أول هذه المقامات راضياً عن الله تعالى وفي آخرها مرضياً عند الله تعالى والله الإشارة بقوله رَاضِيَة ً مَّرْضِيَّة ً ( الفجر 28 ) ونظير هذه الآية قوله تعالى وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيّبَة ً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مّنَ اللَّهِ ( التوبة 72 )
ثم قال وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ أي عالم بمصالحهم فيجب أن يرضوا لأنفسهم ما اختاره لهم من نعيم الآخرة وأن يزهدوا فيما زهدهم فيه من أمور الدنيا
الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ إِنَّنَآ ءَامَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ
في الآية مسائل
المسألة الأولى في إعراب موضع الَّذِينَ يَقُولُونَ وجوه الأول أنه خفض صفة للذين اتقوا وتقدير الآية للذين اتقوا الذين يقولون ويجوز أن يكون صفة للعباد والتقدير والله بصير بالعباد وأولئك هم المتقون الذين لهم عند ربهم جنّات هم الذين يقولون كذا وكذا والثاني أن يكون نصباً على المدح والثالث أن يكون رفعاً على التخصيص والتقدير هم الذين يقول كذا وكذا
المسألة الثانية إعلم أنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا رَبَّنَا إِنَّنَا ءامَنَّا ثم إنهم قالوا بعد ذلك فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وذلك يدل على أنهم توسلوا بمجرد الإيمان إلى طلب المغفرة والله تعالى حكى ذلك عنهم في معرض المدح لهم والثناء عليهم فدل هذا على أن العبد بمجرد الإيمان يستوجب الرحمة والمغفرة من الله

تعالى فإن قالوا الإيمان عبارة عن جميع الطاعات أبطلنا ذلك عليهم بالدلائل المذكورة في تفسير قوله الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وأيضاً فمن أطاع الله تعالى في جميع الأمور وتاب عن جميع الذنوب كان إدخاله النار قبيحاً من الله عندهم والقبيح هو الذي يلزم من فعله إما الجهل وإما الحاجة فهما محالان ومستلزم المحال محال فإدخال الله تعالى إياهم النار محال وما كان محال الوقوع عقلاً كان الدعاء والتضرع في أن لا يفعله الله عبثاً وقبيحاً ونظير هذه الآية قوله تعالى في آخر هذه السورة رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِى لِلإِيمَانِ أَنْ ءامِنُواْ بِرَبّكُمْ فَئَامَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفّرْ عَنَّا سَيّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ ( آل عمران 193 )
فإن قيل أليس أنه تعالى اعتبر جملة الطاعات في حصول المغفرة حيث اتبع هذه الآية بقوله الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ ( آل عمران 17 )
قلنا تأويل هذه الآية ما ذكرناه وذلك لأنه تعالى جعل مجرّد الإيمان وسيلة إلى طلب المغفرة ثم ذكر بعدها صفات المطيعين وهي كونهم صابرين صادقين ولو كانت هذه الصفات شرائط لحصول هذه المغفرة لكان ذكرها قبل طلب المغفرة أولى فلما رتب طلب المغفرة على مجرد الإيمان ثم ذكر بعد ذلك هذه الصفات علمنا أن هذه الصفات غير معتبرة في حصول أصل المغفرة وإنما هي معتبرة في حصول كمال الدرجات
الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالاٌّ سْحَارِ
وفيه مسائل
المسألة الأولى الصَّابِرِينَ قيل نصب على المدح بتقدير أعني الصابرين وقيل الصابرين في موضع جر على البدل من الذين
المسألة الثانية إعلم أنه تعالى ذكر ههنا صفات خمسة
الصفة الأولى كونهم صابرين والمراد كونهم صابرين في أداء الواجبات والمندوبات وفي ترك المحظورات وكونهم صابرين في كل ما ينزل بهم من المحن والشدائد وذلك بأن لا يجزعوا بل يكونوا راضين في قلوبهم عن الله تعالى كما قال الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَة ٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعونَ ( البقرة 156 ) قال سفيان بن عيينة في قوله وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّة ً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ ( السجدة 24 ) إن هذه الآية تدل على أنهم إنما استحقوا تلك الدرجات العالية من الله تعالى بسبب الصبر ويروى أنه وقف رجل على الشلبي فقال أي صبر أشد على الصابرين فقال الصبر في الله تعالى فقال لا فقال الصبر لله تعالى فقال لا فقال الصبر مع الله تعالى قال لا قال فايش قال الصبر عن الله تعالى فصرخ الشبلي صرخة كادت روحه تتلف

وقد كثر مدح الله تعالى للصابرين فقال وَالصَّابِرِينَ فِى الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ ( البقرة 177 )
الصفة الثانية كونهم صادقين إعلم أن لفظ الصدق قد يجري على القول والفعل والنيّة فالصدق في القول مشهور وهو مجانبة الكذب والصدق في الفعل الإتيان به وترك الانصراف عنه قبل تمامه يقال صدق فلان في القتال وصدق في الحملة ويقال في ضده كذب في القتال وكذب في الحملة والصدق في النيّة إمضاء العزم والإقامة عليه حتى يبلغ الفعل
الصفة الثالثة كونهم قانتين وقد فسرناه في قوله تعالى وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ ( البقرة 238 ) وبالجملة فهو عبارة عن الدوام على العبادة والمواظبة عليها
الصفة الرابعة كونهم منفقين ويدخل فيه إنفاق المرء على نفسه وأهله وأقاربه وصلة رحمه وفي الزكاة والجهاد وسائر وجوه البر
الصفة الخامسة كونهم مستغفرين بالأسحار والسحر الوقت الذي قبل طلوع الفجر وتسحر إذا أكل في ذلك الوقت واعلم أن المراد منه من يصلي بالليل ثم يتبعه بالاستغفار والدعاء لأن الإنسان لا يشتغل بالدعاء والاستغفار إلا أن يكون قد صلّى قبل ذلك فقوله وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالاْسْحَارِ يدل على أنهم كانوا قد صلوا بالليل واعلم أن الاستغفار بالسحر له مزيد أثر في قوة الإيمان وفي كمال العبودية من وجوه الأول أن في وقت السحر يطلع نور الصبح بعد أن كانت الظلمة شاملة للكل وبسبب طلوع نور الصبح كأن الأموات يصيرون أحياء فهناك وقت الجود العام والفيض التام فلا يبعد أن يكون عند طلوع صبح العالم الكبير يطلع صبح العالم الصغير وهو ظهور نور جلال الله تعالى في القلب والثاني أن وقت السحر أطيب أوقات النوم فإذا أعرض العبد عن تلك اللذة وأقبل على العبودية كانت الطاعة أكمل والثالث نقل عن ابن عباس وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالاْسْحَارِ يريد المصلين صلاة الصبح
المسألة الثالثة قوله وَالصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ أكمل من قوله الذين يصبرون ويصدقون لأن قوله الصَّابِرِينَ يدل على أن هذا المعنى عادتهم وخلقهم وأنهم لا ينفكون عنها
المسألة الرابعة اعلم أن لله تعالى على عباده أنواعاً من التكليف والصابر هو من يصبر على أداء جميع أنواعها ثم إن العبد قد يلتزم من عند نفسه أنواعاً أُخر من الطاعات وإما بسبب الشروع فيه وكمال هذه المرتبة أنه إذا التزم طاعة أن يصدق نفسه في التزامه وذلك بأن يأتي بذلك للملتزم من غير خلل ألبتة ولما كانت هذه المرتبة متأخرة عن الأولى لا جرم ذكر سبحانه الصابرين أولاً ثم قال الصَّادِقِينَ ثانياً ثم إنه تعالى ندب إلى المواظبة على هذين النوعين من الطاعة فقال وَالْقَانِتِينَ فهذه الألفاظ الثلاثة للترغيب في المواظبة على جميع أنواع الطاعات ثم بعد ذلك ذكر الطاعات المعينة وكان أعظم الطاعات قدراً أمران أحدهما الخدمة بالمال وإليه الإشارة بقوله عليه السلام ( والشفقة على خلق الله ) فذكر هنا بقوله وَالْمُنَافِقِينَ والثانية الخدمة بالنفس وإليه الإشارة بقوله ( التعظيم لأمر الله ) فذكره هنا بقوله وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالاْسْحَارِ

فإن قيل فلم قدم ههنا ذكر المنفقين على ذكر المستغفرين وأخر في قوله ( التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله )
قلنا لأن هذه الآية في شرح عروج العبد من الأدنى إلى الأشرف فلا جرم وقع الختم بذكر المستغفرين بالأسحار وقوله ( التعظيم لأمر الله ) في شرح نزول العبد من الأشرف إلى الأدنى فلا جرم كان الترتيب بالعكس
المسألة الرابعة هذه الخمسة إشارة إلى تعديد الصفات لموصوف واحد فكان الواجب حذف واو العطف عنها كما في قوله هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِىء الْمُصَوّرُ ( الحشر 24 ) إلا أنه ذكر ههنا واو العطف وأظن والعلم عند الله أن كل من كان معه واحدة من هذه الخصال دخل تحت المدح العظيم واستوجب هذا الثواب الجزيل والله أعلم
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَائِكَة ُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إله إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
إعلم أنه تعالى لما مدح المؤمنين وأثنى عليهم بقوله الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا ءامَنَّا ( آل عمران 16 ) أردفه بأن بيّن أن دلائل الإيمان ظاهرة جلية فقال شَهِدَ اللَّهُ وفيه مسائل
المسألة الأولى إعلم أن كل ما يتوقف العلم بنبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) على العلم به فإنه لا يمكن إثباته بالدلائل السمعية أما ما يكون كذلك فإنه يجوز إثباته بالدلائل السمعية وفي حق الملائكة وفي حق أولي العلم لكن العلم بصحة نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لا يتوقف على العلم بكون الله تعالى واحداً فلا جرم يجوز إثبات كون الله تعالى واحداً بمجرد الدلائل السمعية القرآنية
إذا عرفت هذا فنقول ذكروا في قوله شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَائِكَة ُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قولين أحدهما أن الشهادة من الله تعالى ومن الملائكة ومن أولي العلم بمعنى واحد الثاني أنه ليس كذلك أما القول الأول فيمكن تقريره من وجهين
الوجه الأول أن تجعل الشهادة عبارة عن الإخبار المقرون بالعلم فهذا المعنى مفهوم واحد وهو حاصل في حق الله تعالى وفي حق الملائكة وفي حق أولي العلم أما من الله تعالى فقد أخبر في القرآن عن كونه واحداً لا إلاه معه وقد بينا أن التمسك بالدلالة السمعية في هذه المسألة جائز وأما من الملائكة وأولي العلم فكلهم أخبروا أيضاً أن الله تعالى واحد لا شريك له فثبت على هذا التقرير أن المفهوم من الشهادة معنى واحد في حق الله وفي حق الملائكة وفي حق أولي العلم

الوجه الثاني أن نجعل الشهادة عبارة عن الإظهار والبيان ثم نقول إنه تعالى أظهر ذلك وبينه بأن خلق ما يدل على ذلك أما الملائكة وأولوا العلم فقد أظهروا ذلك وبيّنوه بتقرير الدلائل والبراهين أما الملائكة فقد بيّنوا ذلك للرسل عليهم الصلاة والسلام والرسل للعلماء والعلماء لعامة الخلق فالتفاوت إنما وقع في الشيء الذي به حصل الإظهار والبيان فالمفهوم الإظهار والبيان فهو مفهوم واحد في حق الله سبحانه وتعالى وفي حق أولي العلم فظهر أن المفهوم من الشهادة واحد على هذين الوجهين والمقصود من ذلك كأنه يقول للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إن وحدانية الله تعالى أمر قد ثبت بشهادة الله تعالى وشهادة جميع المعتبرين من خلقه ومثل هذا الدين المتين والمنهج القويم لا يضعف بخلاف بعض الجهال من النصارى وعبدة الأوثان فاثبت أنت وقومك يا محمد على ذلك فإنه هو الإسلام والدين عند الله هو الإسلام
القول الثاني قول من يقول شهادة الله تعالى على توحيده عبارة عن أنه خلق الدلائل الدالة على توحيده وشهادة الملائكة وأولي العلم عبارة عن إقرارهم بذلك ولما كان كل واحد من هذين الأمرين يسمى شهادة لم يبعد أن يجمع بين الكل في اللفظ ونظيره قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِى ّ ياأَيُّهَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً ( الأحزاب 56 ) ومعلوم أن الصلاة من الله غير الصلاة من الملائكة ومن الملائكة غير الصلاة من الناس مع أنه قد جمعهم في اللفظ
فإن قيل المدعي للوحدانية هو الله فكيف يكون المدعي شاهداً
الجواب من وجوه الأول وهو أن الشاهد الحقيقي ليس إلا الله وذلك لأنه تعالى هو الذي خلق الأشياء وجعلها دلائل على توحيده ولولا تلك الدلائل لما صحت الشهادة ثم بعد ذلك نصب تلك الدلائل هو الذي وفق العلماء لمعرفة تلك الدلائل ولولا تلك الدلائل التي نصبها الله تعالى وهدى إليها لعجزوا عن التوصل بها إلى معرفة التوحيد وإذا كان الأمر كذلك كان الشاهد على الوحدانية ليس إلا الله وحده ولهذا قال قُلْ أَى ُّ شَى ْء أَكْبَرُ شَهَادة ً قُلِ اللَّهِ ( الأنعام 19 )
الوجه الثاني في الجواب أنه هو الموجود أزلاً وأبداً وكل ما سواه فقد كان في الأزل عدماً صرفاً ونفياً محضاً والعدم يشبه الغائب والموجود يشبه الحاضر فكل ما سواه فقد كان غائباً وبشهادة الحق صار شاهداً فكان الحق شاهداً عل الكل فلهذا قال شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ
الوجه الثالث أن هذا وإن كان في صورة الشهادة إلا أنه في معنى الإقرار لأنه لما أخبر أنه لا إلاه سواه كان الكل عبيداً له والمولى الكريم لا يليق به أن لا يخل بمصالح العبيد فكان هذا الكلام جارياً مجرى الإقرار بأنه يجب وجوب الكريم عليه أن يصلح جهات جميع الخلق
الوجه الرابع في الجواب قرأ ابن عباس شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ بكسر أَنَّهُ ثم قرأ إِنَّ الدّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَامُ ( آل عمران 19 ) بفتح ءانٍ فعلى هذا يكون المعنى شهد الله أن الدين عند الله الإسلام ويكون قوله أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ اعتراضاً في الكلام واعلم أن الجواب لا يعتمد عليه لأن هذه القراءة غير مقبولة عند العلماء وبتقدير ءانٍ تكون مقبولة لكن القراءة الأولى متفق عليها فالإشكال الوارد عليها لا يندفع بسبب القراءة الأخرى

المسألة الثانية المراد من أُوْلِى الْعِلْمِ في هذه الآية الذين عرفوا وحدانيته بالدلائل القاطعة لأن الشهادة إنما تكون مقبولة إذا كان الإخبار مقروناً بالعلم ولذلك قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا علمت مثل الشمس فاشهد ) وهذا يدل على أن هذه الدرجة العالية والمرتبة الشريفة ليست إلا لعلماء الأصول
أما قوله تعالى قَائِمَاً بِالْقِسْطِ ففيه مسائل
المسألة الأولى قَائِمَاً بِالْقِسْطِ منتصب وفيه وجوه
الوجه الأول نصب على الحال ثم فيه وجوه أحدها التقدير شهد الله قائماً بالقسط وثانيها يجوز أن يكون حالا من هو تقديره لا إلاه إلا هو قائماً بالقسط ويسمى هذا حالاً مؤكدة كقولك أتانا عبد الله شجاعاً وكقولك لا رجل إلا عبد الله شجاعاً
الوجه الثاني أن يكون صفة المنفي كأنه قيل لا إلاه قائماً بالقسط إلا هو وهذا غير بعيد لأنهم يفصلون بين الصفة والموصوف
والوجه الثالث أن يكون نصباً على المدح
فإن قيل أليس من حق المدح أن يكون معرفة كقولك الحمد لله الحميد
قلنا وقد جاء نكرة أيضاً وأنشد سيبويه ويأوي إلى نسوة عطل
وشعثاً مراضع مثل السعالي
المسألة الثانية قوله قَائِمَاً بِالْقِسْطِ فيه وجهان الأول أنه حال من المؤمنين والتقدير وأولوا العلم حال كون كل واحد منهم قائماً بالقسط في أداء هذه الشهادة والثاني وهو قول جمهور المفسرين أنه حال من شَهِدَ اللَّهُ
المسألة الثالثة معنى كونه قَائِمَاً بِالْقِسْطِ قائماً بالعدل كما يقال فلان قائم بالتدبير أي يجريه على الاستقامة
واعلم أن هذا العدل منه ما هو متصل بباب الدنيا ومنه ما هو متصل بباب الدين أما المتصل بالدين فانظر أولاً في كيفية خلقة أعضاء الإنسان حتى تعرف عدل الله تعالى فيها ثم انظر إلى اختلاف أحوال الخلق في الحسن والقبح والغنى والفقر والصحة والسقم وطول العمر وقصره واللذة والآلام واقطع بأن كل ذلك عدل من الله وحكمة وصواب ثم انظر في كيفية خلقة العناصر وأجرام الأفلاك وتقدير كل واحد منها بقدر معين وخاصية معينة واقطع بأن كل ذلك حكمة وصواب أما ما يتصل بأمر الدين فانظر إلى اختلاف الخلق في العلم والجهل والفطانة والبلادة والهداية والغواية واقطع بأن كل ذلك عدل وقسط ولقد خاض صاحب ( الكشاف ) ههنا في التعصب للاعتزال وزعم أن الآية دالة على أن الإسلام هو العدل والتوحيد وكان ذلك المسكين بعيداً عن معرفة هذه الأشياء إلا أنه فضولي كثير الخوض فيما لا يعرف وزعم أن الآية دلّت على أن من أجاز الرؤية أو ذهب إلى الجبر لم يكن على دين الله الذي هو الإسلام والعجب أن أكابر المعتزلة وعظماءهم أفنوا أعمارهم في طلب الدليل على أنه لو كان مرئياً لكان جسماً وما وجدوا فيه سوى الرجوع إلى الشاهد من غير جامع عقلي قاطع فهذا المسكين الذي ما شم رائحة العلم من أين وجد ذلك

وأما حديث الجبر فالخوض فيه من ذلك المسكين خوض فيما لا يعنيه لأنه لما اعترف بأن الله تعالى عالم بجميع الجزئيات واعترف بأن العبد لا يمكنه أن يقلب علم الله جهلاً فقد اعترف بهذا الجبر فمن أين هو والخوض في أمثال هذه المباحث
ثم قال الله تعالى لاَ إله إِلاَّ هُوَ والفائدة في إعادته وجوه الأول أن تقدير الآية شهد الله أنه لا إلاه إلا هو وإذا شهد بذلك فقد صح أنه لا إلاه إلا هو ونظيره قول من يقول الدليل دلّ على وحدانية الله تعالى ومتى كان كذلك صح القول بوحدانية الله تعالى الثاني أنه تعالى لما أخبر أن الله شهد أنه لا إلاه إلا هو وشهدت الملائكة وأولوا العلم بذلك صار التقدير كأنه قال يا أمة محمد فقولوا أنتم على وفق شهادة الله وشهادة الملائكة وأولي العلم لاَ إله إِلاَّ هُوَ فكان الغرض من الإعادة الأمر بذكر هذه الكلمة على وفق تلك الشهادات الثالث فائدة هذا التكرير الإعلام بأن المسلم يجب أن يكون أبداً في تكرير هذه الكلمة فإن أشرف كلمة يذكرها الإنسان هي هذه الكلمة فإذا كان في أكثر الأوقات مشتغلاً بذكرها وبتكريرها كان مشتغلاً بأعظم أنواع العبادات فكان الغرض من التكرير في هذه الآية حث العباد على تكريرها الرابع ذكر قوله لاَ إله إِلاَّ هُوَ أولاً ليعلم أنه لا تحق العبادة إلا لله تعالى وذكرها ثانيا ليعلم أنه القائم بالقسط لا يجور ولا يظلم
أما قوله العَزِيزُ الحَكِيمُ فالعزيز إشارة إلى كمال القدرة والحكيم إشارة إلى كمال العلم وهما الصفتان اللتان يمتنع حصول الإلاهية إلا معهما لأن كونه قائماً بالقسط لا يتم إلا إذا كان عالماً بمقادير الحاجات وكان قادراً على تحصيل المهمات وقدم العزيز على الحكيم في الذكر لأن العلم بكونه تعالى قادراً متقدم على العلم بكونه عالماً في طريق المعرفة الإستدلالية فلما كان مقدماً في المعرفة الإستدلالية وكان هذا الخطاب مع المستدلين لا جرم قدم تعالى ذكر العزيز على الحكيم
إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ
وفيه مسائل
المسألة الأولى اتفق القرّاء على كسر ءانٍ إلا الكسائي فإنه فتح ءانٍ وقراءة الجمهور ظاهرة لأن الكلام الذي قبله قد تم وأما قراءة الكسائي فالنحويون ذكروا فيه ثلاثة أوجه الأول أن التقدير شهد الله أنه لا إلاه إلا هو أن الدين عند الله الإسلام وذلك لأن كونه تعالى واحداً موجب أن يكون الدين الحق هو الإسلام لأن دين الإسلام هو المشتمل على هذه الوحدانية والثاني أن التقدير شهد الله أنه لا إلاه إلا هو وأن الدين عند الله الإسلام الثالث وهو قول البصريين أن يجعل الثاني بدلاً من الأول ثم إن قلنا بأن دين الإسلام مشتمل على التوحيد نفسه كان هذا من باب قولك ضربت زيداً نفسه وإن قلنا دين الإسلام مشتمل على التوحيد كان هذا من باب بدل الاشتمال كقولك ضربت زيداً رأسه
فإن قيل فعلى هذا الوجه وجب أن لا يحسب إعادة اسم الله تعالى كما يقال ضربت زيداً رأس زيد
قلنا قد يظهرون الاسم في موضع الكناية قال الشاعر

لا أرى الموت يسبق الموت شي
وأمثاله كثيرة
المسألة الثانية في كيفية النظم من قرأ إِنَّ الدّينَ بفتح ءانٍ كان التقدير شهد الله لأجل أنه لا إلاه إلا هو أن الدين عند الله الإسلام فإن الإسلام إذا كان هو الدين المشتمل على التوحيد والله تعالى شهد بهذه الوحدانية كان اللازم من ذلك أن يكون الدين عند الله الإسلام ومن قرأ إِنَّ الدّينَ بكسر الهمزة فوجه الاتصال هو أنه تعالى بيّن أن التوحيد أمر شهد الله بصحته وشهد به الملائكة وأولوا العلم ومتى كان الأمر كذلك لزم أن يقال إِنَّ الدّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَامُ
المسألة الثالثة أصل الدين في اللغة الجزاء ثم الطاعة تسمى ديناً لأنها سبب الجزاء وأما الإسلام ففي معناه في أصل اللغة أوجه الأول أنه عبارة عن الدخول في الإسلام أي في الانقياد والمتابعة قال تعالى وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ ( النساء 94 ) أي لمن صار منقاداً لكم ومتابعاً لكم والثاني من أسلم أي دخل في السلم كقولهم أسنى وأقحط وأصل السلم السلامة الثالث قال ابن الأنباري المسلم معناه المخلص لله عبادته من قولهم سلم الشيء لفلان أي خلص له فالإسلام معناه إخلاص الدين والعقيدة لله تعالى هذا ما يتعلق بتفسير لفظ الإسلام في أصل اللغة أما في عرف الشرع فالإسلام هو الإيمان والدليل عليه وجهان الأول هذه الآية فإن قوله إِنَّ الدّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَامُ يقتضي أن يكون الدين المقبول عند الله ليس إلا الإسلام فلو كان الإيمان غير الإسلام وجب أن لا يكون الإيمان ديناً مقبولاً عند الله ولا شك في أنه باطل الثاني قوله تعالى وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ ( آل عمران 85 ) فلو كان الإيمان غير الإسلام لوجب أن لا يكون الإيمان ديناً مقبولاً عند الله تعالى
فإن قيل قوله تعالى قَالَتِ الاْعْرَابُ ءامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَاكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا ( الحجرات 14 ) هذا صريح في أن الإسلام مغاير للإيمان
قلنا الإسلام عبارة عن الانقياد في أصل اللغة على ما بينا والمنافقون انقادوا في الظاهر من خوف السيف فلا جرم كان الإسلام حاصلاً في حكم الظاهر والإيمان كان أيضاً حاصلاً في حكم الظاهر لأنه تعالى قال وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ( البقرة 221 ) والإيمان الذي يمكن إدارة الحكم عليه هو الإقرار الظاهر فعلى هذا الإسلام والإيمان تارة يعتبران في الظاهر وتارة في الحقيقة والمنافق حصل له الإسلام الظاهر ولم يحصل له الإسلام الباطن لأن باطنه غير منقاد لدين الله فكان تقدير الآية لم تسلموا في القلب والباطن ولكن قولوا أسلمنا في الظاهر والله أعلم
أما قوله تعالى وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ فيه مسائل

المسألة الأولى الغرض من الآية بيان إن الله تعالى أوضح الدلائل وأزال الشبهات والقوم ما كفروا إلا لأجل التقصير فقوله وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ فيه وجوه الأول المراد بهم اليهود واختلافهم أن موسى عليه السلام لما قربت وفاته سلم التوراة إلى سبعين حبراً وجعلهم أمناء عليها واستخلف يوشع فلما مضى قرن بعد قرن اختلف أبناء السبعين من بعد ما جاءهم العلم في التوراة بغياً بينهم وتحاسدوا في طلب الدنيا والثاني المراد النصارى واختلافهم في أمر عيسى عليه السلام بعد ما جاءهم العلم بأنه عبد الله ورسوله والثالث المراد اليهود والنصارى واختلافهم هو أنه قالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله وأنكروا نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وقالوا نحن أحق بالنبوّة من قريش لأنهم أميون ونحن أهل الكتاب
المسألة الثانية قوله إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ المراد منه إلا من بعد ما جاءتهم الدلائل التي لو نظروا فيها لحصل لهم العلم لأنا لو حملناه على العلم لصاروا معاندين والعناد على الجمع العظيم لا يصح وهذه الآية وردت في كل أهل الكتاب وهم جمع عظيم
المسألة الثالثة في انتصاب قوله بَغِيّاً وجهان الأول قول الأخفش إنه انتصب على أنه مفعول له أي للبغي كقولك جئتك طلب الخير ومنع الشر والثاني قول الزجاج إنه انتصب على المصدر من طريق المعنى فإن قوله وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ قائم مقام قوله وما بغى الذين أوتوا الكتاب فجعل بَغِيّاً مصدراً والفرق بين المفعول له وبين المصدر أن المفعول له غرض للفعل وأما المصدر فهو المفعول المطلق الذي أحدثه الفاعل
المسألة الرابعة قال الأخفش قوله بَغْياً بَيْنَهُمْ من صلة قوله اخْتَلَفَ والمعنى وما اختلفوا بغياً بينهم إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم وقال غيره المعنى وما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم إلا للبغي بينهم فيكون هذا إخباراً عن أنهم إنما اختلفوا للبغي وقال القفال وهذا أجود من الأول لأن الأول يوهم أنهم اختلفوا بسبب ما جاءهم من العلم والثاني يفيد أنهم إنما اختلفوا لأجل الحسد والبغي
ثم قال تعالى وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ وهذا تهديد وفيه وجهان الأول المعنى فإنه سيصير إلى الله تعالى سريعاً فيحاسبه أي يجزيه على كفره والثاني أن الله تعالى سيعلمه بأعماله ومعاصيه وأنواع كفره بإحصاء سريع مع كثرة الأعمال
فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِى َ للَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالاٍّ مِّيِّينَ ءَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ

إعلم أنه تعالى لما ذكر من قبل أن أهل الكتاب اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم وأنهم أصروا على الكفر مع ذلك بيّن الله تعالى للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ما يقوله في محاجتهم فقال فَإنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِى َ للَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وفي كيفية إيراد هذا الكلام طريقان
الطريق الأول أن هذا إعراض عن المحاجة وذلك لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان قد أظهر لهم الحجة على صدقه قبل نزول هذه الآية مراراً وأطواراً فإن هذه السورة مدنيّة وكان قد أظهر لهم المعجزات بالقرآن ودعاء الشجرة وكلام الذئب وغيرها وأيضاً قد ذكر قبل هذه الآية آيات دالة على صحة دينه فأولها أنه تعالى ذكر الحجة بقوله الْحَى ُّ الْقَيُّومُ على فساد قول النصارى في إلاهية عيسى عليه السلام وبقوله نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ ( آل عمران 3 ) على صحة النبوّة وذكر شبه القوم وأجاب عنها بأسرها على ما قررناه فيما تقدم ثم ذكر لهم معجزة أخرى وهي المعجزات التي شاهدوها يوم بدر على ما بيناه في تفسير قوله تعالى قَدْ كَانَ لَكُمْ ءايَة ٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا ( آل عمران 13 ) ثم بيّن صحة القول بالتوحيد ونفى الضد والند والصاحبة والولد بقوله شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ ( آل عمران 18 ) ثم بيّن تعالى أن ذهاب هؤلاء اليهود والنصارى عن الحق واختلافهم في الدين إنما كان لأجل البغي والحسد وذلك ما يحملهم على الانقياد للحق والتأمل في الدلائل لو كانوا مخلصين فظهر أنه لم يبق من أسباب إقامة الحجة على فرق الكفار شيء إلا وقد حصل فبعد هذا قال فَإنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِى َ للَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ يعني إنا بالغنا في تقرير الدلائل وإيضاح البينات فإن تركتم الأنف والحسد وتمسكتم بها كنتم أنتم المهتدين وإن أعرضتم فإن الله تعالى من وراء مجازاتكم وهذا التأويل طريق معتاد في الكلام فإن المحق إذا ابتلى بالمبطل اللجوج وأورد عليه الحجة حالاً بعد حال فقد يقول في آخر الأمر أما أنا ومن اتبعني فمنقادون للحق مستسلمون له مقبلون على عبودية الله تعالى فإن وافقتم واتبعتم الحق الذي أنا عليه بعد هذه الدلائل التي ذكرتها فقد اهتديتم وإن أعرضتم فإن الله بالمرصاد فهذا الطريق قد يذكره المحتج المحق مع المبطل المصر في آخر كلامه
الطريق الثاني وهو أن نقول إن قوله أَسْلَمْتُ وَجْهِى َ للَّهِ محاجة وإظهار للدليل وبيانه من وجوه
الوجه الأول أن القوم كانوا مقرين بوجود الصانع وكونه مستحقاً للعبادة فكأنه عليه الصلاة والسلام قال للقوم هذا متفق عليه بين الكل فأنا مستمسك بهذا القدر المتفق عليه وداع للخلق إليه وإنما الخلاف في أمور وراء ذلك وأنتم المدعون فعليكم الاثبات فإن اليهود يدعون التشبيه والجسمية والنصارى يدعون إلاهية عيسى والمشركين يدعون وجوب عبادة الأوثان فهؤلاء هم المدعون لهذه الأشياء فعليهم إثباتها وأما أنا فلا أدعي إلا وجوب طااعة الله تعالى وعبوديته وهذا القدر متفق عليه ونظيره هذه الآية قوله تعالى بِالْمُفْسِدِينَ قُلْ ياأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَة ٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً ( آل عمران 64 )
والوجه الثاني في كيفية الاستدلال ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني وهو أن اليهود والنصارى وعبدة الأوثان كانوا مقرين بتعظيم إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه والإقرار بأنه كان محقاً في قوله صادقاً في دينه إلا في زيادات من الشرائع والأحكام فأمر الله تعالى محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بأن يتبع ملته فقال ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ

اتَّبِعْ مِلَّة َ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا ( النحل 123 ) ثم إنه تعالى أمر محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) في هذا الموضع أن يقول كقول إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) حيث قال إِنّى وَجَّهْتُ وَجْهِى َ لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الأنعام 79 ) فقول محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أَسْلَمْتُ وَجْهِى َ كقول إبراهيم عليه السلام وَجَّهْتُ وَجْهِى َ أي اعترضت عن كل معبود سوى الله تعالى وقصدته بالعبادة وأخلصت له فتقدير الآية كأنه تعالى قال فإن نازعوك يا محمد في هذه التفاصيل فقل أنا مستمسك بطريقة إبراهيم وأنتم معترفون بأن طريقته حقة بعيدة عن كل شبهة وتهمة فكان هذا من باب التمسك بالإلزامات وداخلاً تحت قوله وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ ( النحل 125 )
والوجه الثالث في كيفية الاستدلال ما خطر ببالي عند كتبة هذا الموضع وهو أنه ادعى قبل هذه الآية أن الدين عند الله الإسلام لا غير ثم قال فَإنْ حَاجُّوكَ يعني فإن نازعوك في قولك إِنَّ الدّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَامُ ( آل عمران 19 ) فقل الدليل عليه أني أسلمت وجهي لله وذلك لأن المقصود من الدين إنما هو الوفاء بلوازم الربوبية فإذا أسلمت وجهي لله فلا أعبد غيره ولا أتوقع الخير إلا منه ولا أخاف إلا من قهره وسطوته ولا أشرك به غيره كان هذا هو تمام الوفاء بلوازم الربوبية والعبودية فصح أن الدين الكامل هو الإسلام وهذا الوجه يناسب الآية
الوجه الرابع في كيفية الاستدلال ما خطر ببالي أن هذه الآية مناسبة لقوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً ( مريم 42 ) يعني لا تجوز العبادة إلا لمن يكون نافعاً ضاراً ويكون أمري في يديه وحكمي في قبضة قدرته فإن كان كل واحد يعلم أن عيسى ما كان قادراً على هذه الأشياء امتنع في العقل أن أسلم له وأن انقاد له وإنما أسلم وجهي للذي منه الخير والشر والنفع والضر والتدبير والتقدير
الوجه الخامس يحتمل أيضاً أن يكون هذا الكلام إشارة إلى طريقة إبراهيم عليه الصلاة والسلام في قوله إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ ( البقرة 131 ) وهذا مروي عن ابن عباس
أما قوله أَسْلَمْتُ وَجْهِى َ للَّهِ ففيه وجوه الأول قال الفرّاء أسلمت وجهي لله أي أخلصت عملي لله يقال أسلمت الشيء لفلان أي أخلصته له ولم يشاركه غيره قال ويعني بالوجه ههنا العمل كقوله يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ( الكهف 28 ) أي عبادته ويقال هذا وجه الأمر أي خالص الأمر وإذا قصد الرجل غيره لحاجة يقول وجهت وجهي إليك ويقال للمنهمك في الشيء الذي لا يرجع عنه مرّ على وجهه الثاني أسلمت وجهي لله أي أسلمت وجه عملي لله والمعنى أن كل ما يصدر مني من الأعمال فالوجه في الإتيان بها هو عبودية الله تعالى والانقياد لإلاهيته وحكمه الثالث أسلمت وجهي لله أي أسلمت نفسي لله وليس في العبادة مقام أعلى من إسلام النفس لله فيصير كأنه موقوف على عبادته عادل عن كل ما سواه
وأما قوله وَمَنِ اتَّبَعَنِ ففيه مسألتان
المسألة الأولى حذف عاصم وحمزة والكسائي الياء من اتبعن اجتزاء بالكسر واتباعاً للمصحف وأثبته الآخرون على الأصل

المسألة الثانية مِنْ في محل الرفع عطفاً على التاء في قوله أَسْلَمْتُ أي ومعنى اتبعني أسلم أيضاً
فإن قيل لم قال أسلمت ومن اتبعن ولم يقل أسلمت أنا ومن اتبعن
قلنا إن الكلام طال بقوله وَجْهِى َ للَّهِ فصار عوضاً من تأكيد الضمير المتصل ولو قيل أسلمت وزيد لم يحسن حتى يقال أسلمت أنا وزيد ولو قال أسلمت اليوم بانشراح صدر ومن جاء معي جاز وحسن
ثم قال تعالى وَقُلْ لّلَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالاْمّيّينَ ءأَسْلَمْتُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى هذه الآية متناولة لجميع المخالفين لدين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك لأن منهم من كان من أهل الكتاب سواء كان محقاً في تلك الدعوى كاليهود والنصارى أو كان كاذباً فيه كالمجوس ومنهم من لم يكن من أهل الكتاب وهم عبدة الأوثان
المسألة الثانية إنما وصف مشركي العرب بأنهم أميون لوجهين الأول أنهم لما لم يدعوا الكتاب الإلاهي وصفوا بأنهم أُميون تشبيهاً بمن لا يقرأ ولا يكتب والثاني أن يكون المراد أنهم ليسوا من أهل القراءة والكتابة فهذه كانت صفة عامتهم وإن كان فيهم من يكتب فنادر من بينهم والله أعلم
المسألة الثالثة دلّت هذه الآية على أن المراد بقوله فَانٍ عام في كل الكفار لأنه دخل كل من يدعي الكتاب تحت قوله يَأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ودخل من لا كتاب له تحت قوله الامّيّينَ
ثم قال الله تعالى ءأَسْلَمْتُمْ فهو استفهام في معرض التقرير والمقصود منه الأمر قال النحويون إنما جاء بالأمر في صورة الاستفهام لأنه بمنزلته في طلب الفعل والاستدعاء إليه إلا أن في التعبير عن معنى الأمر بلفظ الاستفهام فائدة زائدة وهي التعبير بكون المخاطب معانداً بعيداً عن الانصاف لأن المنصف إذا ظهرت له الحجة لم يتوقف بل في الحال يقبل ونظيره قولك لمن لخصت له المسألة في غاية التلخيص والكشف والبيان هل فهمتها فإن فيه الإشارة إلى كون المخاطب بليداً قليل الفهم وقال الله تعالى في آية الخمر فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ ( المائدة 91 ) وفيه إشارة إلى التقاعد عن الانتهاء والحرص الشديد على تعاطي المنهى عنه
ثم قال الله تعالى فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وذلك لأن هذا الإسلام تمسك بما هدي إليه والمتمسك بهداية الله تعالى يكون مهتدياً ويحتمل أن يريد فقد اهتدوا للفوز والنجاة في الآخرة إن ثبتوا عليه ثم قال وَإِن تَوَلَّوْاْ عن الإسلام واتباع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ والغرض منه تسلية الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وتعريفه أن الذي عليه ليس إلا إبلاغ الأدلة وإظهار الحجة فإذا بلغ ما جاء به فقد أدى ما عليه وليس عليه قبولهم ثم قال وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ وذلك يفيد الوعد والوعيد وهو ظاهر

إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ أُولَائِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالاٌّ خِرَة ِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ
إعلم أنه تعالى لما ذكر من قبل حال من يعرض ويتولى بقوله أَن تُوَلُّواْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ أردفه بصفة هذا المتولي فذكر ثلاثة أنواع من الصفات
الصفة الأولى قوله إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ
فإن قيل ظاهر الآية يقتضي كونهم كافرين بجميع آيات الله واليهود والنصارى ما كانوا كذلك لأنهم كانوا مقرين بالصانع وعلمه وقدرته والمعاد
قلنا الجواب من وجهين الأول أن نصرف آيات الله إلى المعهود السابق وهو القرآن ومحمد ( صلى الله عليه وسلم ) الثاني أن نحمله على العموم ونقول إن من كذب بنبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) يلزمه أن يكذب بجميع آيات الله تعالى لأن من تناقض لا يكون مؤمناً بشيء من الآيات إذ لو كان مؤمناً بشيء منها لآمن بالجميع
الصفة الثانية قوله تعالى وَيَقْتُلُونَ النَّبِيّينَ بِغَيْرِ حَقّ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ الحسن وَيَقْتُلُونَ النَّبِيّينَ بِغَيْرِ حَقّ وهو للمبالغة
المسألة الثانية روي عن أبي عبيدة بن الجراح أنه قال قلت يا رسول الله أي الناس أشد عذاباً يوم القيامة قال رجل قتل نبياً أو رجلاً أمر بالمعروف ونهى عن المنكر وقرأ هذه الآية ثم قال يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيّاً من أول النهار في ساعة واحدة فقام مائة رجل وإثنا عشر رجلاً من عباد بني إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعاً من آخر النهار في ذلك اليوم فهم الذين ذكرهم الله تعالى وأيضاً القوم قتلوا يحيى بن ذكريا وزعموا أنهم قتلوا عيسى بن مريم فعلى قولهم ثبت أنهم كانوا يقتلون الأنبياء
وفي الآية سؤالات
السؤال الأول إذا كان قوله إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ في حكم المستقبل لأنه وعيد لمن كان في زمن الرسول عليه الصلاة والسلام ولم يقع منهم قتل الأنبياء ولا القائمين بالقسط فكيف يصح ذلك
والجواب من وجهين الأول أن هذه الطريقة لما كانت طريقة أسلافهم صحت هذه الإضافة إليهم إذ كانوا مصوبين وبطريقتهم راضين فإن صنع الأب قد يضاف إلى الابن إذا كان راضياً به وجارياً على طريقته الثاني إن القوم كانوا يريدون قتل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقتل والمؤمنين إلا أنه تعالى عصمه منهم فلما كانوا في

غاية الرغبة في ذلك صح إطلاق هذا الاسم عليهم على سبيل المجاز كما يقال النار محرقة والسم قاتل أي ذلك من شأنهما إذا وجد القابل فكذا ههنا لا يصح أن يكون إلا كذلك
السؤال الثاني ما الفائدة في قوله وَيَقْتُلُونَ النَّبِيّينَ بِغَيْرِ حَقّ وقتل الأنبياء لا يكون إلا كذلك
والجواب ذكرنا وجوه ذلك في سورة البقرة والمراد منه شرح عظم ذنبهم وأيضاً يجوز أن يكون المراد أنهم قصدوا بطريقة الظلم في قتلهم طريقة العدل
السؤال الثالث قوله وَيَقْتُلُونَ النَّبِيّينَ ظاهره مشعر بأنهم قتلوا الكل ومعلوم أنهم ما قتلوا الكل ولا الأكثر ولا النصف
والجواب الألف واللام محمولان على المعهود لا على الاستغراق
الصفة الثالثة قوله وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة وحده ويقاتلون بالألف والباقون اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ وهما سواء لأنهم قد يقاتلون فيقتلون بالقتال وقد يقتلون ابتداء من غير قتال وقرأ أُبي وَيَقْتُلُونَ النَّبِيّينَ وَالَّذِينَ يَأْمُرُونَ
المسألة الثانية قال الحسن هذه الآية تدل على أن القائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند الخوف تلي منزلته في العظم منزلة الأنبياء وروي أن رجلاً قام إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال أي الجهاد أفضل فقال عليه الصلاة والسلام ( أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر )
واعلم أنه تعالى كما وصفهم بهذه الصفات الثلاثة فقد ذكر وعيدهم من ثلاثة أوجه الأول قوله فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وفيه مسألتان
المسألة الأولى إنما دخلت الفاء في قوله فَبَشّرْهُم مع أنه خبران لأنه في معنى الجزاء والتقدير من يكفر فبشرهم
المسألة الثانية هذا محمول على الاستعارة وهو أن إنذار هؤلاء بالعذاب قائم مقام بشرى المحسنين بالنعيم والكلام في حقيقة البشارة تقدم في قوله تعالى وَبَشّرِ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ( البقرة 25 )
النوع الثاني من الوعيد قوله أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالاْخِرَة ِ
إعلم أنه تعالى بيّن بهذا أن محاسن أعمال الكفار محبطة في الدنيا والآخرة أما الدنيا فإبدال المدح بالذم والثناء باللعن ويدخل فيه ما ينزل بهم من القتل والسبي وأخذ الأموال منهم غنيمة والاسترقاق لهم إلى غير ذلك من الذل الظاهر فيهم وأما حبوطها في الآخرة فبإزالة الثواب إلى العقاب
النوع الثالث من وعيدهم قوله تعالى وَمَا لَهُم مّن نَّاصِرِينَ
إعلم أنه تعالى بيّن بالنوع الأول من الوعيد اجتماع أسباب الآلام والمكروهات في حقهم وبيّن بالنوع الثاني زوال أسباب المنافع عنهم بالكلية وبيّن بهذا الوجه الثالث لزوم ذلك في حقهم على وجه لا يكون لهم ناصر ولا دافع والله أعلم
( 23 )

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ ذالِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِى دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
إعلم أنه تعالى لما نبّه على عناد القوم بقوله فَإنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِى َ للَّهِ ( آل عمران 20 ) بيّن في هذه الآية غاية عنادهم وهو أنهم يدعون إلى الكتاب الذي يزعمون أنهم يؤمنون به وهو التوراة ثم إنهم يتمردون ويتولون وذلك يدل على غاية عنادهم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى ظاهر قوله أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الْكِتَابِ يتناول كلهم ولا شك أن هذا مذكور في معرض الذم إلا أنه قد دلّ دليل آخر على أنه ليس كل أهل الكتاب كذلك لأنه تعالى يقول مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّة ٌ قَائِمَة ٌ يَتْلُونَ ءايَاتِ اللَّهِ ءانَاء الَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ( آل عمران 113 )
المسألة الثانية قوله تعالى أوتوا نصيباً من الكتاب المراد به غير القرآن لأنه أضاف الكتاب إلى الكفار وهم اليهود والنصارى وإذا كان كذلك وجب حمله على الكتاب الذي كانوا مقرين بأنه حق ومن عند الله
المسألة الثالثة ذكروا في سبب النزول وجوهاً أحدها روي عن ابن عباس أن رجلاً وامرأة من اليهود زنيا وكانا ذوي شرف وكان في كتابهم الرجم فكرهوا رجمهما لشرفهما فرجعوا في أمرهما إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) رجاء أن يكون عنده رخصة في ترك الرجم فحكم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بالرجم فأنكروا ذلك فقال عليه الصلاة والسلام بيني وبينكم التوراة فإن فيها الرجم فمن أعلمكم قالوا عبد الله بن صوريا الفدكي فأتوا به وأحضروا التوراة فلما أتى على آية الرجم وضع يده عليها فقال ابن سلام قد جاوز موضعها يا رسول الله فرفع كفه عنها فوجدوا آية الرجم فأمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بهما فرجما فغضبت اليهود لعنهم الله لذلك غضباً شديداً فأنزل الله تعالى هذه الآية
والرواية الثانية أنه ( صلى الله عليه وسلم ) دخل مدرسة اليهود وكان فيها جماعة منهم فدعاهم إلى الإسلام فقالوا على أي دين أنت فقال على ملة إبراهيم فقالوا إن إبراهيم كان يهودياً فقال ( صلى الله عليه وسلم ) هلموا إلى التوراة فأبوا ذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية
والرواية الثالثة أن علامات بعثة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) مذكورة في التوراة والدلائل الدالة على صحة نبوّته

موجودة فيها فدعاهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى التوراة وإلى تلك الآيات الدالة على نبوّته فأبوا فأنزل الله تعالى هذه الآية والمعنى أنهم إذا أبوا أن يجيبوا إلى التحاكم إلى كتابهم فلا تعجب من مخالفتهم كتابك فلذلك قال الله تعالى قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ( آل عمران 93 ) وهذه الآية على هذه الرواية دلّت على أنه وجد في التوراة دلائل صحة نبوّته إذ لو علموا أنه ليس في التوراة ما يدل على صحة نبوّته لسارعوا إلى بيان ما فيها ولكنهم أسروا ذلك
والرواية الرابعة أن هذا الحكم عام في اليهود والنصارى وذلك لأن دلائل نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كانت موجودة في التوراة والإنجيل وكانوا يدعون إلى حكم التوراة والإنجيل وكانوا يأبون
أما قوله نَصِيباً مّنَ الْكِتَابِ فالمراد منه نصيباً من علم الكتاب لأنا لو أجريناه على ظاهره فهم أنهم قد أوتوا كل الكتاب والمراد بذلك العلماء منهم وهم الذين يدعون إلى الكتاب لأن من لا علم له بذلك لا يدعي إليه
أما قوله تعالى يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ ففيه قولان
القول الأول وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما والحسن أنه القرآن
فإن قيل كيف دعوا إلى حكم كتاب لا يؤمنون به
قلنا إنهم إنما دعوا إليه بعد قيام الحجج الدالة على أنه كتاب من عند الله
والقول الثاني وهو قول أكثر المفسرين إنه التوراة واحتج القائلون به بوجوه الأول أن الروايات المذكورة في سبب النزول دالة على أن القوم كانوا يدعون إلى التوراة فكانوا يأبون والثاني أنه تعالى عجب رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) من تمردهم وإعراضهم والتعجب إنما يحصل إذا تمردوا عن حكم الكتاب الذي يعتقدون في صحته ويقرون بحقيته الثالث أن هذا هو المناسب لما قبل الآية وذلك لأنه تعالى لما بيّن أنه ليس عليه إلا البلاغ وصبره على ما قالوه في تكذيبه مع ظهور الحجة بيّن أنهم إنما استعملوا طريق المكابرة في نفس كتابهم الذي أقروا بصحته فستروا ما فيه من الدلائل الدالة على نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فهذا يدل على أنهم في غاية التعصب والبعد عن قبول الحق
وأما قوله لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ فالمعنى ليحكم الكتاب بينهم وإضافة الحكم إلى الكتاب مجاز مشهور وقرىء لِيَحْكُمَ على البناء للمفعول قال صاحب ( الكشاف ) وقوله لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ يقتضي أن يكون الاختلاف واقعاً فيما بينهم لا فيما بينهم وبين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثم بيّن الله أنهم عند الدعاء يتولى فريق منهم وهم الرؤساء الذين يزعمون أنهم هم العلماء
ثم قال وَهُم مُّعْرِضُونَ وفيه وجهان
الأول المتولون هم الرؤساء والعلماء والمعرضون الباقون منهم كأنه قيل ثم يتولى العلماء والأتباع معرضون عن القبول من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لأجل تولي علمائهم
والثاني أن المتولي والمعرض هو ذلك الفريق والمعنى أنه متولي عن استماع الحجة في ذلك المقام ومعرض عن استماع سائر الحجج في سائر المسائل والمطالب كأنه قيل لا تظن أنه تولى عن هذه

المسأُلة بل هو معرض عن الكل
وأما قوله تعالى ذالِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَّعْدُوداتٍ ( آل عمران 24 ) فالكلام في تفسيره قد تقدم في سورة البقرة ووجه النظم أنه تعالى لما قال في الآية الأولى ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ قال في هذه الآية ذلك التولي والإعراض إنما حصل بسبب أنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات قال الجبائي وفيها دلالة على بطلان قول من يقول إن أهل النار يخرجون من النار قال لأنه لو صحّ ذلك في هذه الأمة لصح في سائر الأمم ولو ثبت ذلك في سائر الأمم لما كان المخبر بذلك كاذباً ولما استحق الذم فلما ذكر الله تعالى ذلك في معرض الذم علمنا أن القول بخروج أهل النار قول باطل
وأقول كان من حقه أن لا يذكر مثل هذا الكلام وذلك لأن مذهبه أن العفو حسن جائز من الله تعالى وإذا كان كذلك لم يلزم من حصول العفو في هذه الأمة حصوله في سائر الأمم
سلمنا أنه يلزم ذلك لكن لم قلتم إن القوم إنما استحقوا الذم على مجرد الإخبار بأن الفاسق يخرج من النار بل ههنا وجوه أُخر الأول لعلمهم استوجبوا الذم على أنهم قطعوا بأن مدة عذاب الفاسق قصيرة قليلة فإنه روي أنهم كانوا يقولون مدة عذابنا سبعة أيام ومنهم من قال بل أربعون ليلة على قدر مدة عبادة العجل والثاني أنهم كانوا يتساهلون في أصول الدين ويقولون بتقدير وقوع الخطأ منا فإن عذابنا قليل وهذا خطأ لأن عندنا المخطىء في التوحيد والنبوّة والمعاد عذابه دائم لأنه كافر والكافر عذابه دائم والثالث أنهم لما قالوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَّعْدُوداتٍ فقد استحقروا تكذيب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) واعتقدوا أنه لا تأثير له في تغليظ العقاب فكان ذلك تصريحاً بتكذيب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك كفر والكافر المصر على كفره لا شك أن عذابه مخلد وإذا كان الأمر على ما ذكرناه ثبت أن احتجاج الجبائي بهذه الآية ضعيف وتمام الكلام على سبيل الاستقصاء مذكور في سورة البقرة
أما قوله تعالى وَغَرَّهُمْ فِى دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ فاعلم أنهم اختلفوا في المراد بقوله مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ فقيل هو قولهم نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ( المائدة 18 ) وقيل هو قولهم لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَّعْدُوداتٍ وقيل غرهم قولهم نحن على الحق وأنت على الباطل
أما قوله تعالى فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ رَيْبَ فِيهِ فالمعنى أنه تعالى لما حكى عنهم اغترارهم بما هم عليه من الجهل بيّن أنه سيجيء يوم يزول فيه ذلك الجهل ويكشف فيه ذلك الغرور فقال فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وفي الكلام حذف والتقدير فكيف صورتهم وحالهم ويحذف الحال كثيراً مع كيف لدلالته عليها تقول كنت أكرمه وهو لم يزرني فكيف لو زارني أي كيف حاله إذا زارني واعلم أن هذا الحذف يوجب مزيد البلاغة لما فيه من تحريك النفس على استحضار كل نوع من أنواع الكرامة في قول القائل لو زارني وكل نوع من أنواع العذاب في هذه الآية
أما قوله تعالى إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ ولم يقل في يوم لأن المراد لجزاء يوم أو لحساب يوم فحذف المضاف ودلّت اللام عليه قال الفرّاء اللام لفعل مضمر إذا قلت جمعوا ليوم الخميس كان المعنى جمعوا لفعل يوجد في يوم الخميس وإذا قلت جمعوا في يوم الخميس لم تضمر فعلاً وأيضاً فمن المعلوم

أن ذلك اليوم لا فائدة فيه إلا المجازاة وإظهار الفرق بين المثاب والمعاقب وقوله لاَ رَيْبَ فِيهِ أي لا شك فيه
ثم قال وَوُفّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ فإن حملت ما كسبت على عمل العبد جعل في الكلام حذف والتقدير ووفيت كل نفس جزاء ما كسبت من ثواب أو عقاب وإن حملت ما كسبت على الثواب والعقاب استغنيت عن هذا الإضمار
ثم قال وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ فلا ينقص من ثواب الطاعات ولا يزاد على عقاب السيئات
واعلم أن قوله وَوُفّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ يستدل به القائلون بالوعيد ويستدل به أصحابنا القائلون بأن صاحب الكبيرة من أهل الصلاة لا يخلد في النار أما الأولون قالوا لأن صاحب الكبيرة لا شك أنه مستحق العقاب بتلك الكبيرة والآية دلّت على أن كل نفس توفي عملها وما كسبت وذلك يقتضي وصول العقاب إلى صاحب الكبيرة
وجوابنا أن هذا من العمومات وقد تكلمنا في تمسك المعتزلة بالعمومات
وأما أصحابنا فإنهم يقولون إن المؤمن استحق ثواب الإيمان فلا بد وأن يوفي عليه ذلك الثواب لقوله وَوُفّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ فإما أن يثاب في الجنة ثم ينقل إلى دار العقاب وذلك باطل بالإجماع وإما أن يقال يعاقب بالنار ثم ينقل إلى دار الثواب أبداً مخلداً وهو المطلوب
فإن قيل لم لا يجوز أن يقال إن ثواب إيمانهم يحبط بعقاب معصيتهم
قلنا هذا باطل لأنا بينا أن القول بالمحابطة محال في سورة البقرة وأيضاً فإنا نعلم بالضرورة أن ثواب توحيد سبعين سنة أزيد من عقاب شرب جرعة من الخمر والمنازع فيه مكابر فبتقدير القول بصحة المحابطة يمتنع سقوط كل ثواب الإيمان بعقاب شرب جرعة من الخمر وكان يحيى بن معاذ رحمة الله عليه يقول ثواب إيمان لحظة يسقط كفر سبعين سنة فثواب إيمان سبعين سنة كيف يعقل أن يحبط بعقاب ذنب لحظة ولا شك أنه كلام ظاهر

بداية الجزء الثامن من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32

قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدِيرٌ تُولِجُ الَّيْلَ فِى الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَى َّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيِّتَ مِنَ الْحَى ِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ
إعلم أنه تعالى لما ذكر دلائل التوحيد والنبوّة وصحة دين الإسلام ثم قال لرسوله فَإنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِى َ للَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ ثم ذكر من صفات المخالفين كفرهم بالله وقتلهم الأنبياء والصالحين بغير حق وذكر شدة عنادهم وتمردهم في قوله أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الْكِتَابِ ( آل عمران 23 ) ثم ذكر شدة غرورهم بقوله لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَّعْدُوداتٍ ( آل عمران 24 ) ثم ذكر وعيدهم بقوله فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ ( آل عمران 25 ) أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بدعاء وتمجيد يدل على مباينة طريقه وطريق أتباعه لطريقة هؤلاء الكافرين المعاندين المعرضين فقال معلماً نبيّه كيف يمجد ويعظم ويدعو ويطلب قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اختلف النحويون في قوله اللَّهُمَّ فقال الخليل وسيبويه اللَّهُمَّ معناه يا الله والميم المشددة عوض من يا وقال الفرّاء كان أصلها يا الله أم بخير فلما كثر في الكلام حذفوا حرف النداء وحذفوا الهمزة من أم فصار اللَّهُمَّ ونظيره قول العرب هلم والأصل هل فضم أم إليها حجة الأولين على فساد قول الفرّاء وجوه الأول لو كان الأمر على ما قاله الفراء لما صحّ أن يقال اللّهم افعل كذا إلا بحرف العطف لأن التقدير يا الله أمنا واغفر لنا ولم نجد أحداً يذكر هذا الحرف العاطف والثاني وهو حجة الزجاج أنه لو كان الأمر كما قال لجاز أن يتكلم به على أصله فيقال اللَّهِ إِمَّا كما يقال ويلم ثم يتكلم به على الأصل فيقال وَيْلٌ أُمُّهُ الثالث لو كان الأمر على ما قاله الفراء لكان حرف النداء محذوفاً فكان يجوز أن يقال يا اللّهم فلما لم يكن هذا جائزاً علمنا فساد قول الفراء بل نقول كان يجب أن يكون حرف النداء لازماً كما يقال يا الله اغفر لي وأجاب الفراء عن هذه الوجوه فقال أما الأول فضعيف لأن قوله لاْمْرِ اللَّهِ إِمَّا معناه يا الله اقصد فلو قال واغفر لكان المعطوف مغايراً للمعطوف عليه فحينئذ يصير السؤال سؤالين أحدهما قوله مِنَ والثاني قوله وَاغْفِرْ لَنَا أما إذا حذفنا العطف صار

قوله اغفر لنا تفسيراً لقوله أمنا فكان المطلوب في الحالين شيئاً واحداً فكان ذلك آكد ونظائره كثيرة في القرآن وأما الثاني فضعيف أيضاً لأن أصله عندنا أن يقال يا الله أمنا ومن الذي ينكر جواز التكلم بذلك وأيضاً فلأن كثيراً من الألفاظ لا يجوز فيها إقامة الفرع مقام الأصل ألا ترى أن مذهب الخليل وسيبويه أن قوله ما أكرمه معناه أي شيء أكرمه ثم إنه قط لا يستعمل هذا الكلام الذي زعموا أنه الأصل في معرض التعجب فكذا ههنا وأما الثالث فمن الذي سلم لكم أنه لا يجوز أن يقالّ يا اللّهم وأنشد الفرّاء وأما عليك أن تقولي كلما
سبحت أو صليت يا اللّهما
وقول البصريين إن هذا الشعر غير معروف فحاصله تكذيب النقل ولو فتحنا هذا الباب لم يبق شيء من اللغة والنحو سليماً عن الطعن وأما قوله كان يلزم أن يكون ذكر حرف النداء لازماً فجوابه أنه قد يحذف حرف النداء كقوله يُوسُفُ أَيُّهَا الصّدِيقُ أَفْتِنَا ( يوسف 46 ) فلا يبعد أن يختص هذا الاسم بإلزام هذا الحذف ثم احتج الفراء على فساد قول البصريين من وجوه الأول أنا لو جعلنا الميم قائماً مقام حرف النداء لكنا قد أخرنا النداء عن ذكر المنادى وهذا غير جائز ألبتة فإنه لا يقال ألبتة ( الله يا ) وعلى قولكم يكون الأمر كذلك الثاني لو كان هذا الحرف قائماً مقام النداء لجاز مثله في سائر الأسماء حتى يقال زيدم وبكرم كما يجوز أن يقال يا زيد ويا بكر والثالث لو كان الميم بدلاً عن حرف النداء لما اجتمعا لكنهما اجتمعا في الشعر الذي رويناه الرابع لم نجد العرب يزيدون هذه المييم في الأسماء التامة لإفادة معنى بعض الحروف المباينة للكلمة الداخلة عليها فكان المصير إليه في هذه اللفظة الواحدة حكماً على خلاف الاستقراء العام في اللغة وأنه غير جائز فهذا جملة الكلام في هذا الموضع
المسأل الثانية مَالِكَ الْمُلْكِ في نصبه وجهان الأول وهو قول سيبويه أنه منصوب على النداء وكذلك قوله قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الزمر 46 ) ولا يجوز أن يكون نعتاً لقوله اللَّهُمَّ لأن قولنا اللَّهُمَّ مجموع الاسم والحرف وهذا المجموع لا يمكن وصفه والثاني وهو قول المبرد والزجاج أن مَالِكَ وصف للمنادى المفرد لأن هذا الاسم ومعه الميم بمنزلته ومعه يا ولا يمتنع الصفة مع الميم كما لا يمتنع مع الياء
المسألة الثالثة روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حين افتتح مكة وعد أمته ملك فارس والروم فقال المنافقون واليهود هيهات هيهات من أين لمحمد ملك فارس والروم وهم أعز وأمنع من ذلك وروي أنه عليه الصلاة والسلام لما خط الخندق عام الأحزاب وقطع لكل عشرة أربعين ذراعاً وأخذوا يحفرون خرج من بطن الخندق صخرة كالتل العظيم لم تعمل فيها المعاول فوجهوا سلمان إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فخبره فأخذ المعول من سلمان فلما ضربها ضرب صدعها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها كأنه مصباح في جوف ليل مظلم فكبّر وكبر المسلمون وقال عليه الصلاة والسلام ( أضاءت لي منها قصور الحيرة كأنها أنياب الكلاب ) ثم ضرب الثانية فقال ( أضاءت لي منها القصور الحمر من أرض الروم ) ثم ضرب الثالثة فقال ( أضاءت لي منها قصور صنعاء وأخبرني جبريل عليه السلام أن أمتي ظاهرة على كلها فأبشروا ) فقال المنافقون ألا تعجبون من نبيّكم يعدكم الباطل ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومداين كسرى وأنها تفتح لكم وأنتم تحفرون الخندق من الخوف لا تستطيعون أن تخرجوا فنزلت هذه الآية والله أعلم وقال الحسن إن الله تعالى أمر نبيّه

أن يسأله أن يعطيه ملك فارس والروم ويرد ذل العرب عليهما وأمره بذلك دليل على أنه يستجيب له هذا الدعاء وهكذا منازل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذا أمروا بدعاء استجيب دعاءهم
المسألة الرابعة وَقَالَ الْمَلِكُ هو القدرة والمالك هو القادر فقوله مَالِكَ الْمُلْكِ معناه القادر على القدرة والمعنى إن قدرة الخلق على كل ما يقدرون عليه ليست إلا بإقدار الله تعالى فهو الذي يقدر كل قادر على مقدوره ويملك كل مالك مملوكه قال صاحب ( الكشاف ) مَالِكَ الْمُلْكِ أي يملك جنس الملك فيتصرف فيه تصرف الملاك فيما يملكون واعلم أنه تعالى لما بيّن كونه مَالِكَ الْمُلْكِ على الإطلاق فصل بعد ذلك وذكر أنواعاً خمسة
النوع الأول قوله تعالى تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وذكروا فيه وجوهاً الأول المراد منه ملك النبوّة والرسالة كما قال تعالى فَقَدْ ءاتَيْنَا ءالَ إِبْراهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ وَءاتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً ( النساء 54 ) والنبوّة أعظم مراتب الملك لأن العلماء لهم أمر عظيم على بواطن الخلق والجبابرة لهم أمر على ظواهر الخلق والأنبياء أمرهم نافذ في البواطن والظواهر فأما على البواطن فلأنه يجب على كل أحد أن يقبل دينهم وشريعتهم وأن يعتقد أنه هو الحق وأما على الظواهر فلأنهم لو تمردوا واستكبروا لاستوجبوا القتل ومما يؤكد هذا التأويل أن بعضهم كان يستبعد أن يجعل الله تعالى بشراً رسولاً فحكى الله عنهم قولهم أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَّسُولاً ( الإسراء 94 ) وقال الله تعالى وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً ( الأنعام 9 ) وقوم آخرون جوزوا من الله تعالى أن يرسل رسولاً من البشر إلا أنهم كانوا يقولون إن محمداً فقير يتيم فكيف يليق به هذا المنصب العظيم على ما حكى الله عنهم أنهم قالوا لَوْلاَ نُزّلَ هَاذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ( الزخرف 31 ) وأما اليهود فكانوا يقولون النبوّة كانت في آبائنا وأسلافنا وأما قريش فهم ما كانوا أهل النبوّة والكتاب فكيف يليق النبوّة بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وأما المنافقون فكانوا يحسدونه على النبوّة على ما حكى الله ذلك عنهم في قوله مَا ءاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ ءاتَيْنَا ءالَ إِبْراهِيمَ ( النساء 37 )
وأيضاً فقد ذكرنا في تفسير قوله تعالى قُلْ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ( آل عمران 12 ) أن اليهود تكبروا على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بكثرة عددهم وسلاحهم وشدتهم ثم إنه تعالى رد على جميع هؤلاء الطوائف بأن بيّن أنه سبحانه هو مالك الملك فيؤتي ملكه من يشاء فقال تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء
فإن قيل فإذا حملتم قوله تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَاء على إيتاء ملك النبوّة وجب أن تحملوا قوله وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء على أنه قد يعزل عن النبوّة من جعله نبياً ومعلوم أن ذلك لا يجوز
قلنا الجواب من وجهين الأول أن الله تعالى إذا جعل النبوّة في نسل رجل فإذا أخرجها الله من نسله وشرَّف بها إنساناً آخر من غير ذلك النسل صح أن يقال إنه تعالى نزعها منهم واليهود كانوا معتقدين أن النبوّة لا بد وأن تكون في بني إسرائيل فلما شرف الله تعالى محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بها صح أن يقال إنه ينزع ملك النبوّة من بني إسرائيل إلى العرب
والجواب الثاني أن يكون المراد من قوله وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء أي تحرمهم ولا تعطيهم هذا=

ج8. مفاتيح الغيب ـ ترقيم الشاملة موافق للمطبوع
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي الشافعي

الملك لا على معنى أنه يسلبه ذلك بعد أن أعطاه ونظيره قوله تعالى اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءامَنُواْ يُخْرِجُهُم مّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ( البقرة 257 ) مع أن هذا الكلام يتناول من لم يكن في ظلمة الكفر قط وقال الله تعالى مخبراً عن الكفار أنهم قالوا للأنبياء عليهم الصلاة والسلام أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا ( الأعراف 88 ) وأولئك الأنبياء قالوا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلا أَن يَشَاء اللَّهُ ( الأعراف 89 ) مع أنهم ما كانوا فيها قط فهذا جملة الكلام في تقرير قول من فسّر قوله تعالى تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَاء بملك النبوة
القول الثاني أن يكون المراد من الملك ما يسمى ملكاً في العرف وهو عبارة عن مجموع أشياء أحدها تكثير المال والجاه أما تكثير المال فيدخل فيه ملك الصامت والناطق والدور والضياع والحرث والنسل وأما تكثير الجاه فهو أن يكون مهيباً عن الناس مقبول القول مطاعاً في الخلق والثاني أن يكون بحيث يجب على غيره أن يكون في طاعته وتحت أمره ونهيه والثالث أن يكون بحيث لو نازعه في ملكه أحد قدر على قهر ذلك المنازع وعلى غلبته ومعلوم أن كل ذلك لا يحصل إلا من الله تعالى أما تكثير المال فقد نرى جمعاً في غاية الكياسة لا يحصل لهم مع الكد الشديد والعناء العظيم قليل من المال ونرى الأبله الغافل قد يحصل له من الأموال ما لا يعلم كميته وأما الجاه فالأمر أظهر فإنا رأينا كثيراً من الملوك بذلوا الأموال العظيمة لأجل الجاه وكانوا كل يوم أكثر حقارة ومهانة في أعين الرعية وقد يكون على العكس من ذلك وهو أن يكون الإنسان معظماً في العقائد مهيباً في القلوب ينقاد له الصغير والكبير ويتواضع له القاصي والداني وأما القسم الثاني وهو كونه واجب الطاعة فمعلوم أن هذا تشريف يشرف الله تعالى به بعض عباده وأما القسم الثالث وهو حصول النصرة والظفر فمعلوم أن ذلك مما لا يحصل إلا من الله تعالى فكم شاهدنا من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله وعند هذا يظهر بالبرهان العقلي صحة ما ذكره الله تعالى من قوله تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَاء
واعلم أن المعتزلة ههنا بحثا قال الكعبي قوله تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء ليس على سبيل المختارية ولكن بالاستحقاق فيؤتيه من يقوم به ولا ينزعه إلا ممن فسق عن أمر ربه ويدل عليه قوله لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ( البقرة 124 ) وقال في حق العبد الصالح إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَة ً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ( البقرة 247 ) فجعله سبباً للملك وقال الجبائي هذا الحكم مختص بملوك العدل فأما ملوك الظلم فلا يجوز أن يكون ملكهم بإيتاء الله وكيف يصح أن يكون ذلك بإيتاء الله وقد ألزمهم أن لا يتملكوه ومنعهم من ذلك فصح بما ذكرنا أن الملوك العادلين هم المختصون بأن الله تعالى آتاهم ذلك الملك فأما الظالمون فلا قالوا ونظير هذا ما قلناه في الرزق أنه لا يدخل تحته الحرام الذي زجره الله عن الانتفاع به وأمره بأن يرده على مالكه فكذا ههنا قالوا وأما النزع فبخلاف ذلك لأنه كما ينزع الملك من الملوك العادلين لمصلحة تقتضي ذلك فقد ينزع الملك عن الملوك الظالمين ونزع الملك يكون بوجوه منها بالموت وإزالة العقل وإزالة القوى والقدر والحواس ومنها بورود الهلاك والتلف عن الأموال ومنها أن يأمر الله تعالى المحق بأن يسلب الملك الذي في يد المتغلب المبطل ويؤتيه القوة والنصرة فإذا حاربه المحق وقهره وسلب ملكه جاز أن يضاف هذا السلب والنزع إليه تعالى لأنه وقع عن أمره وعلى هذا الوجه نزع الله تعالى ملك فارس على يد الرسول هذا جملة كلام المعتزلة في هذا الباب

واعلم أن هذا الموضع مقام بحث مهم وذلك لأن حصول الملك للظالم إما أن يقال إنه وقع لا عن فاعل وإنما حصل بفعل ذلك المتغلب أو إنما حصل بالأسباب الربانية والأول نفي للصانع والثاني باطل لأن كل أحد يريد تحصيل الملك والدولة لنفسه ولا يتيسر له ألبتة فلم يبق إلا أن يقال بأن ملك الظالمين إنما حصل بإيتاء الله تعالى وهذا الكلام ظاهر ومما يؤكد ذلك أن الرجل قد يكون بحيث تهابه النفوس وتميل إليه القلوب ويكون النصر قريناً له والظفر جليساً معه فأينما توجه حصل مقصوده وقد يكون على الضد من ذلك ومن تأمل في كيفية أحوال الملوك اضطر إلى العلم بأن ذلك ليس إلا بتقدير الله تعالى ولذلك قال حكيم الشعراء لو كان بالحيل الغنى لوجدتني
بأجل أسباب السماء تعلقي
من رزق الحجا حرم الغنى
ضدان مفترقان أي تفرق
ومن الدليل على القضاء وكونه
بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق
والقول الثاني أن قوله تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَاء محمول على جميع أنواع الملك فيدخل فيه ملك النبوّة وملك العلم وملك العقل والصحة والأخلاق الحسنة وملك النفاذ والقدرة وملك المحبة وملك الأموال وذلك لأن اللفظ عام فالتخصيص من غير دليل لا يجوز
وأما قوله تعالى وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء فاعلم أن العزة قد تكون في الدين وقد تكون في الدنيا أما في الدين فأشرف أنواع العزة الإيمان قال الله تعالى وَلِلَّهِ الْعِزَّة ُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ( المنافقون 8 ) إذا ثبت هذا فنقول لما كان أعز الأشياء الموجبة للعزة هو الإيمان وأذل الأشياء الموجبة للمذلة هو الكفر فلو كان حصول الإيمان والكفر بمجرد مشيئة العبد لكان إعزاز العبد نفسه بالإيمان وإذلاله نفسه بالكفر أعظم من إعزاز الله عبده بكل ما أعزه به ومن إذلال الله عبده بكل ما أذله به ولو كان الأمر كذلك لكان حظ العبد من هذا الوصف أتم وأكمل من حظ الله تعالى منه ومعلوم أن ذلك باطل قطعاً فعلمنا أن الإعزاز بالإيمان والحق ليس إلا من الله والإذلال بالكفر والباطل ليس إلا من الله وهذا وجه قوي في المسألة قال القاضي الإعزاز المضاف إليه تعالى قد يكون في الدين وقد يكون في الدنيا أما الذي في الدين فهو أن الثواب لا بد وأن يكون مشتملاً على التعظيم والمدح والكرامة في الدنيا والآخرة وأيضاً فإنه تعالى يمدهم بمزيد الألطاف ويعليهم على الأعداء بحسب المصلحة وأما ما يتعلق بالدنيا فبإعطاء الأموال الكثيرة من الناطق والصامت وتكثير الحرث وتكثير النتاج في الدواب وإلقاء الهيبة في قلوب الخلق
واعلم أن كلامنا يأبى ذلك لأن كل ما يفعله الله تعالى من التعظيم في باب الثواب فهو حق واجب على الله تعالى ولو لم يفعله لانعزل عن الإلاهية ولخرج عن كونه إلاهاً للخلق فهو تعالى بإعطاء هذه التعظيمات يحفظ إلاهية نفسه عن الزوال فأما العبد فلما خص نفسه بالإيمان الذي يوجب هذه التعظيمات فهو الذي أعز نفسه فكان إعزازه لنفسه أعظم من إعزاز الله تعالى إياه فعلمنا أن هذا الكلام المذكور لازم على القوم
أما قوله وَتُذِلُّ مَن تَشَاء فقال الجبائي في ( تفسيره ) إنه تعالى إنما يذل أعداءه في الدنيا والآخرة ولا يذل أحداً من أوليائه وإن أفقرهم وأمرضهم وأحوجهم إلى غيرهم لأنه تعالى إنما يفعل هذه الأشياء ليعزهم في الآخرة إما بالثواب وإما بالعوض فصار ذلك كالفصد والحجامة فإنهما وإن كانا يؤلمان في الحال إلا

أنهما لما كانا يستعقبان نفعاً عظيماً لا جرم لا يقال فيهما إنهما تعذيب قال وإذا وصف الفقر بأنه ذل فعلى وجه المجاز كما سمى الله تعالى لين المؤمنين ذلا بقوله أَذِلَّة ٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ( المائدة 54 )
إذا عرفت هذا فنقول إذلال الله تعالى عبده المبطل إنما يكون بوجوه منها بالذم واللعن ومنها بأن يخذلهم بالحجة والنصرة ومنها بأن يجعلهم خولاً لأهل دينه ويجعل مالهم غنيمة لهم ومنها بالعقوبة لهم في الآخرة هذا جملة كلام المعتزلة ومذهبنا أنه تعالى يعز البعض بالإيمان والمعرفة ويذل البعض بالكفر والضلالة وأعظم أنواع الإعزاز والإذلال هو هذا والذي يدل عليه وجوه الأول وهو أن عز الإسلام وذل الكفر لا بد فيه من فاعل وذلك الفاعل إما أن يكون هو العبد أو الله تعالى والأول باطل لأن أحداً لا يختار الكفر لنفسه بل إنما يريد الإيمان والمعرفة والهداية فلما أراد العبد الإيمان ولم يحصل له بل حصل له الجهل علمنا أن حصوله من الله تعالى لا من العبد الثاني وهو أن الجهل الذي يحصل للعبد إما أن يكون بواسطة شبهة وإما أن يقال يفعله العبد ابتداء والأول باطل إذ لو كان كل جهل إنما يحصل بجهل آخر يسبقه ويتقدمه لزم التسلسل وهو محال فبقي أن يقال تلك الجهات تنتهي إلى جهل يفعله العبد ابتداء من غير سبق موجب البتة لكنا نجد من أنفسنا أن العاقل لا يرضى لنفسه أن يصير على الجهل ابتداء من غير موجب فعلمنا أن ذلك بإذلال الله عبده وبخذلانه إياه الثالث ما بينا أن الفعل لا بد فيه من الداعي والمرجح وذلك المرجح يكون من الله تعالى فإن كان في طرف الخير كان إعزازاً وإن كان في طرف الجهل والشر والضلالة كان إذلالاً فثبت أن المعز والمذل هو الله تعالى
أما قوله تعالى بِيَدِكَ الْخَيْرُ
فاعلم أن المراد من اليد هو القدرة والمعنى بقدرتك الخير والألف واللام في الخير يوجبان العموم فالمعنى بقدرتك تحصل كل البركات والخيرات وأيضاً فقوله بِيَدِكَ الْخَيْرُ يفيد الحصر كأنه قال بيدك الخير لا بيد غيرك كما أن قوله تعالى لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِى َ دِينِ ( الكافرين 6 ) أي لكم دينكم أي لا لغيركم وذلك الحصر ينافي حصول الخير بيد غيره فثبت دلالة هذه الآية من هذين الوجهين على أن جميع الخيرات منه وبتكوينه وتخليقه وإيجاده وإبداعه إذا عرفت هذا فنقول أفضل الخيرات هو الإيمان بالله تعالى ومعرفته فوجب أن يكون الخير من تخليق الله تعالى لا من تخليق العبد وهذا استدلال ظاهر ومن الأصحاب من زاد في هذا التقدير فقال كل فاعلين فعل أحدهما أشرف وأفضل من فعل الآخر كان ذلك الفاعل أشرف وأكمل من الآخر ولا شك أن الإيمان أفضل من الخير ومن كل ما سوى الإيمان فلو كان الإيمان بخلق العبد لا بخلق الله لوجب كون العبد زائداً في الخيرية على الله تعالى وفي الفضيلة والكمال وذلك كفر قبيح فدلت هذه الآية من هذين الوجهين على أن الإيمان بخلق الله تعالى
فإن قيل فهذه الآية حجة عليكم من وجه آخر لأنه تعالى لما قال بِيَدِكَ الْخَيْرُ كان معناه أنه ليس بيدك إلا الخير وهذا يقتضي أن لا يكون الكفر والمعصية واقعين بتخليق الله
والجواب أن قوله بِيَدِكَ الْخَيْرُ يفيد أن بيده الخير لا بيد غيره وهذا ينافي أن يكون بيد غيره ولكن لا ينافي أن يكون بيده الخير وبيده ما سوى الخير إلا أنه خص الخير بالذكر لأنه الأمر المنتفع به فوقع التنصيص عليه لهذا المعنى قال القاضي كل خير حصل من جهة العباد فلولا أنه تعالى أقدرهم عليه

وهداهم إليه لما تمكنوا منه فلهذا السبب كان مضافاً إلى الله تعالى إلا أن هذا ضعيف لأن على هذا التقدير يصير بعض الخير مضافاً إلى الله تعالى ويصير أشرف الخيرات مضافاً إلى العبد وذلك على خلاف هذا النص
أما قوله إِنَّكَ عَلَى كُلّ شَى ْء قَدِيرٌ فهذا كالتأكيد لما تقدم من كونه مالكاً لإيتاء الملك ونزعه والإعزاز والإذلال
أما قوله تعالى تُولِجُ الَّيْلَ فِى الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ فيه وجهان الأول أن يجعل الليل قصيراً ويجعل ذلك القدر الزائد داخلاً في النهار وتارة على العكس من ذلك وإنما فعل سبحانه وتعالى ذلك لأنه علق قوام العالم ونظامه بذلك والثاني أن المراد هو أنه تعالى يأتي بالليل عقيب النهار فيلبس الدنيا ظلمة بعد أن كان فيها ضوء النهار ثم يأتي بالنهار عقيب الليل فيلبس الدنيا ضوءه فكان المراد من إيلاج أحدهما في الآخر إيجاد كل واحد منهما عقيب الآخر والأول أقرب إلى اللفظ لأنه إذا كان النهار طويلاً فجعل ما نقص منه زيادة في الليل كان ما نقص منه داخلاً في الليل
وأما قوله وَتُخْرِجُ الْحَى َّ مِنَ الْمَيّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيّتَ مِنَ الْحَى ِّ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وحمزة والكسائي الْمَيّتِ بالتشديد والباقون بالتخفيف وهما لغتان بمعنى واحد قال المبرد أجمع البصريون على أنهما سواء وأنشدوا
إنما الميت ميت الأحياء
وهو مثل قوله هين وهين ولين ولين وقد ذهب ذاهبون إلى أن الميت من قد مات والميت من لم يمت
المسألة الثانية ذكر المفسرون فيه وجوهاً أحدها يخرج المؤمن من الكافر كإبراهيم من آزر والكافر من المؤمن مثل كنعان من نوح عليه السلام والثاني يخرج الطيب من الخبيث وبالعكس والثالث يخرج الحيوان من النطفة والطير من البيضة وبالعكس والرابع يخرج السنبلة من الحبة وبالعكس والنخلة من النواة وبالعكس قال القفال رحمه الله والكلمة محتملة للكل أما الكفر والإيمان فقال تعالى أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ ( الأنعام 122 ) يريد كان كافراً فهديناه فجعل الموت كفراً والحياة إيماناً وسمى إخراج النبات من الأرض إحياء وجعل قبل ذلك ميتة فقال فَانظُرْ إِلَى ءاثَارِ رَحْمَة ِ ( الروم 19 ) وقال فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الاْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ( فاطر 9 ) وقال كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْواتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ( البقرة 28 )
أما قوله وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ ففيه وجوه الأول أنه يعطي من يشاء ما يشاء لا يحاسبه على ذلك أحد إذ ليس فوقه ملك يحاسبه بل هو الملك يعطي من يشاء بغير حساب والثاني ترزق من تشاء غير مقدور ولا محدود بل تبسطه له وتوسعه عليه كما يقال فلان ينفق بغير حساب إذا وصف عطاؤه بالكثرة ونظيره قولهم في تكثير مال الإنسان عنده مال لا يحصى والثالث ترزق من تشاء بغير حساب يعني على سبيل التفضل من غير استحقاق لأن من أعطى على قدر الاستحقاق فقد أعطى بحساب وقال بعض من ذهب إلى هذا المعنى إنك لا ترزق عبادك على مقادير أعمالهم والله أعلم

لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَى ْءٍ إِلاَ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاة ً وَيُحَذِّرْكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ
في كيفية النظم وجهان الأول أنه تعالى لما ذكر ما يجب أن يكون المؤمن عليه في تعظيم الله تعالى ثم ذكر بعده ما يجب أن يكون المؤمن عليه في المعاملة مع الناس لأن كمال الأمر ليس إلا في شيئين التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلق الله قال لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ الثاني لما بيّن أنه تعالى مالك الدنيا والآخرة بين أنه ينبغي أن تكون الرغبة فيما عنده وعند أوليائه دون أعدائه
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في سبب النزول وجوه الأول جاء قوم من اليهود إلى قوم المسلمين ليفتنوهم عن دينهم فقال رفاعة بن المنذر وعبد الرحمن بن جبير وسعيد بن خيثمة لأولئك النفر من المسلمين اجتنبوا هؤلاء اليهود واحذروا أن يفتنوكم عن دينكم فنزلت هذه الآية والثاني قال مقاتل نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وغيره وكانوا يتولون اليهود والمشركين ويخبرونهم بالأخبار ويرجون أن يكون لهم الظفر على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فنزلت هذه الآية الثالث أنها نزلت في عبادة بن الصامت وكان له حلفاء من اليهود ففي يوم الأحزاب قال يا نبي الله إن معي خمسمائة من اليهود وقد رأيت أن يخرجوا معي فنزلت هذه الآية
فإن قيل إنه تعالى قال وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَى ْء وهذه صفة الكافر
قلنا معنى الآية فليس من ولاية الله في شيء وهذا لا يوجب الكفر في تحريم موالاة الكافرين
واعلم أنه تعالى أنزل آيات كثيرة في هذا المعنى منها قوله تعالى لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَة ً مّن دُونِكُمْ ( آل عمران 118 ) وقوله لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ( المجادلة 22 ) وقوله لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء وقوله الْحَكِيمُ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء ( الممتحنة 1 ) وقال وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ( التوبة 71 )
واعلم أن كون المؤمن موالياً للكافر يحتمل ثلاثة أوجه أحدها أن يكون راضياً بكفره ويتولاه لأجله وهذا ممنوع منه لأن كل من فعل ذلك كان مصوباً له في ذلك الدين وتصويب الكفر كفر والرضا بالكفر كفر فيستحيل أن يبقى مؤمناً مع كونه بهذه الصفة
فإن قيل أليس أنه تعالى قال وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَى ْء وهذا لا يوجب الكفر فلا يكون داخلاً تحت هذه الآية لأنه تعالى قال ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ فلا بد وأن يكون خطاباً في

شيء يبقى المؤمن معه مؤمناً وثانيها المعاشرة الجميلة في الدنيا بحسب الظاهر وذلك غير ممنوع منه
والقسم الثالث وهو كالمتوسط بين القسمين الأولين هو أن موالاة الكفار بمعنى الركون إليهم والمعونة والمظاهرة والنصرة إما بسبب القرابة أو بسبب المحبة مع اعتقاد أن دينه باطل فهذا لا يوجب الكفر إلا أنه منهي عنه لأن الموالاة بهذا المعنى قد تجره إلى استحسان طريقته والرضا بدينه وذلك يخرجه عن الإسلام فلا جرم هدد الله تعالى فيه فقال وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَى ْء
فإن قيل لم لا يجوز أن يكون المراد من الآية النهي عن اتخاذ الكافرين أولياء بمعنى أن يتولوهم دون المؤمنين فأما إذا تولوهم وتولوا المؤمنين معهم فذلك ليس بمنهي عنه وأيضاً فقوله لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء فيه زيادة مزية لأن الرجل قد يوالي غيره ولا يتخذه موالياً فالنهي عن اتخاذه موالياً لا يوجب النهي عن أصل مولاته
قلنا هذان الاحتمالان وإن قاما في الآية إلا أن سائر الآيات الدالة على أنه لا تجوز موالاتهم دلّت على سقوط هذين الاحتمالين
المسألة الثانية إنما كسرت الذال من يتخذ لأنها مجزوم للنهي وحركت لاجتماع الساكنين قال الزجاج ولو رفع على الخبر لجاز ويكون المعنى على الرفع أن من كان مؤمناً فلا ينبغي أن يتخذ الكافر ولياً
واعلم أن معنى النهي ومعنى الخبر يتقاربان لأنه متى كانت صفة المؤمن أن لا يوالي الكافر كان لا محالة منهياً عن موالاة الكافر ومتى كان منهياً عن ذلك كان لا محالة من شأنه وطريقته أن لا يفعل ذلك
المسألة الثالثة قوله مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أي من غير المؤمنين كقوله وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللَّهِ ( البقرة 23 ) أي من غير الله وذلك لأن لفظ دون مختص بالمكان تقول زيد جلس دون عمرو أي في مكان أسفل منه ثم إن من كان مبايناً لغيره في المكان فهو مغاير له فجعل لفظ دون مستعملاً في معنى غير ثم قال تعالى وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَى ْء وفيه حذف والمعنى فليس من ولاية الله في شيء يقع عليه اسم الولاية يعني أنه منسلخ من ولاية الله تعالى رأساً وهذا أمر معقول فإن موالاة الولي وموالاة عدوه ضدان قال الشاعر تود عدوي ثم تزعم أنني
صديقك ليس النوك عنك بعازب
ويحتمل أن يكون المعنى فليس من دين الله في شيء وهذا أبلغ
ثم قال تعالى إِلا أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاة ً وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ الكسائي تقاة بالإمالة وقرأ نافع وحمزة بين التفخيم والإمالة والباقون بالتفخيم وقرأ يعقوب تقية وإنما جازت الإمالة لتؤذن أن الألف من الياء وتقاة وزنها فعلة نحو تؤدة وتخمة ومن فخم فلأجل الحرف المستعلي وهو القاف
المسألة الثانية قال الواحدي تقيته تقاة وتقى وتقية وتقوى فإذا قلت اتقيت كان مصدره

الاتقياء وإنما قال تتقوا ثم قال تقاة ولم يقل اتقاء اسم وضع موضع المصدر كما يقال جلس جلسة وركب ركبة وقال الله تعالى فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا ( آل عمران 37 ) وقال الشاعر
وبعد عطائك المائة الرتاعا
فأجراه مجرى الإعطاء قال ويجوز أن يجعل تقاة ههنا مثل رماة فيكون حالاً مؤكدة
المسألة الثالثة قال الحسن أخذ مسيلمة الكذاب رجلين من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال لأحدهما أتشهد أن محمداً رسول الله قال نعم نعم نعم فقال أفتشهد أني رسول الله قال نعم وكان مسيلمة يزعم أنه رسول بني حنيفة ومحمد رسول قريش فتركه ودعا الآخر فقال أتشهد أن محمداً رسول الله قال نعم قال أفتشهد أني رسول الله فقال إني أصم ثلاثا فقدمه وقتله فبلغ ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال أما هذا المقتول فمضى على يقينه وصدقه فهنيئاً له وأما الآخر فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه
واعلم أن نظير هذه الآية قوله تعالى إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ( النحل 106 )
المسألة الرابعة اعلم أن للتقية أحكاماً كثيرة ونحن نذكر بعضها
الحكم الأول أن التقية إنما تكون إذا كان الرجل في قوم كفار ويخاف منهم على نفسه وماله فيداريهم باللسان وذلك بأن لا يظهر العداوة باللسان بل يجوز أيضاً أن يظهر الكلام الموهم للمحبة والموالاة ولكن بشرط أن يضمر خلافه وأن يعرض في كل ما يقول فإن التقية تأثيرها في الظاهر لا في أحوال القلوب
الحكم الثاني للتقية هو أنه لو أفصح بالإيمان والحق حيث يجوز له التقية كان ذلك أفضل ودليله ما ذكرناه في قصة مسيلمة
الحكم الثالث للتقية أنها إنما تجوز فيما يتعلق بإظهار الموالاة والمعاداة وقد تجوز أيضاً فيما يتعلق بإظهار الدين فأما ما يرجع ضرره إلى الغير كالقتل والزنا وغصب الأموال والشهادة بالزور وقذف المحصنات واطلاع الكفار على عورات المسلمين فذلك غير جائز ألبتة
الحكم الرابع ظاهر الآية يدل أن التقية إنما تحل مع الكفار الغالبين إلا أن مذهب الشافعي رضي الله عنه أن الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين المسلمين والمشركين حلت التقية محاماة على النفس
الحكم الخامس التقية جائزة لصون النفس وهل هي جائزة لصون المال يحتمل أن يحكم فيها بالجواز لقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( حرمة مال المسلم كحرمة دمه ) ولقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قتل دون ماله فهو شهيد ) ولأن الحاجة إلى المال شديدة والماء إذا بيع بالغبن سقط فرض الوضوء وجاز الاقتصار على التيمم دفعاً لذلك القدر من نقصان المال فكيف لا يجوز ههنا والله أعلم
الحكم السادس قال مجاهد هذا الحكم كان ثابتاً في أول الإسلام لأجل ضعف المؤمنين فأما بعد قوة دولة الإسلام فلا وروى عوف عن الحسن أنه قال التقية جائزة للمؤمنين إلى يوم القيامة وهذا القول أولى لأن دفع الضرر عن النفس واجب بقدر الإمكان

ثم قال تعالى وَيُحَذّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وفيه قولان الأول أن فيه محذوفاً والتقدير ويحذركم الله عقاب نفسه وقال أبو مسلم المعنى وَيُحَذّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ أن تعصوه فتستحقوا عقابه والفائدة في ذكر النفس أنه لو قال ويحذركم الله فهذا لا يفيد أن الذي أريد التحذير منه هو عقاب يصدر من الله أو من غيره فلما ذكر النفس زال هذا الاشتباه ومعلوم أن العقاب الصادر عنه يكون أعظم أنواع العقاب لكونه قادراً على ما لا نهاية له وأنه لا قدرة لأحد على دفعه ومنعه مما أراد
والقول الثاني أن النفس ههنا تعود إلى اتخاذ الأولياء من الكفار أي ينهاهم الله عن نفس هذا الفعل
ثم قال وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ والمعنى إن الله يحذركم عقابه عند مصيركم إلى الله
قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِى صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأرض وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدِيرٌ
إعلم أنه تعالى لما نهى المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء ظاهراً وباطناً واستثنى عنه التقية في الظاهر أتبع ذلك بالوعيد على أن يصير الباطن موافقاً للظاهر في وقت التقية وذلك لأن من أقدم عند التقية على إظهار الموالاة فقد يصير إقدامه على ذلك الفعل بحسب الظاهر سبباً لحصول تلك الموالاة في الباطن فلا جرم بيّن تعالى أنه عالم بالبواطن كعلمه بالظواهر فيعلم العبد أنه لا بد أن يجازيه على كل ما عزم عليه في قلبه وفي الآية سؤالات
السؤال الأول هذه الآية جملة شرطية فقوله إِن تُخْفُواْ مَا فِى صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ شرط وقوله يَعْلَمْهُ اللَّهُ جزاء ولا شك أن الجزاء مترتب على الشرط متأخر عنه فهذا يقتضي حدوث علم الله تعالى
والجواب أن تعلق علم الله تعالى بأنه حصل الآن لا يحصل إلا عند حصوله الآن ثم إن هذه التبدل والتجدد إنما وقع في النسب والإضافات والتعليقات لا في حقيقة العلم وهذه المسألة لها غور عظيم وهي مذكورة في علم الكلام
السؤال الثاني محل البواعث والضمائر هو القلب فلم قال إِن تُخْفُواْ مَا فِى صُدُورِكُمْ ولم يقل إن تخفوا ما في قلوبكم
الجواب لأن القلب في الصدر فجاز إقامة الصدر مقام القلب كما قال يُوَسْوِسُ فِى صُدُورِ النَّاسِ ( الناس 5 ) وقال فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الاْبْصَارُ وَلَاكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ ( الحج 46 )

السؤال الثالث إن كانت هذه الآية وعيداً على كل ما يخطر بالبال فهو تكليف ما لا يطاق
الجواب ذكرنا تفصيل هذه الكلام في آخر سورة البقرة في قوله للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ ( البقرة 284 )
ثم قال تعالى وَيَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ
واعلم أنه رفع على الاستئناف وهو كقوله قَاتِلُوهُمْ يُعَذّبْهُمُ اللَّهُ ( التوبة 14 ) جزم الأفاعيل ثم قال وَيَتُوبَ اللَّهُ فرفع ومثله قوله فَإِن يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ ( الشورى 24 ) رفعاً وفي قوله وَيَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ غاية التحذير لأنه إذا كان لا يخفى عليه شيء فيهما فكيف يخفى عليه الضمير
ثم قال تعالى وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ إتماماً للتحذير وذلك لأنه لما بيّن أنه تعالى عالم بكل المعلومات كان عالماً بما في قلبه وكان عالماً بمقادير استحقاقه من الثواب والعقاب ثم بيّن أنه قادر على جميع المقدورات فكان لا محالة قادراً على إيصال حق كل أحد إليه فيكون في هذا تمام الوعد والوعيد والترغيب والترهيب
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُو ءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفُ بِالْعِبَادِ
اعلم أن هذه الآية من باب الترغيب والترهيب ومن تمام الكلام الذي تقدم
وفيه مسائل
المسألة الأولى ذكروا في العامل في قوله يَوْمٍ وجوهاً الأول قال ابن الأنباري اليوم متعلق بالمصير والتقدير وإلى الله المصير يوم تجد الثاني العامل فيه قوله وَيُحَذّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ في الآية السابقة كأنه قال ويحذركم الله نفسه في ذلك اليوم الثالث العامل فيه قوله وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ أي قدير في ذلك اليوم الذي تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وخص هذا اليوم بالذكر وإن كان غيره من الأيام بمنزلته في قدرة الله تعالى تفضيلاً له لعظم شأنه كقوله مَالِكِ يَوْمِ الدّينِ ( الفاتحة 4 ) الرابع أن العامل فيه قوله تَوَدُّ والمعنى تود كل نفس كذا وكذا في ذلك اليوم الخامس يجوز أن يكون منتصباً بمضمر والتقدير واذكر يوم تجد كل نفس
المسألة الثانية اعلم أن العمل لا يبقى ولا يمكن وجدانه يوم القيامة فلا بد فيه من التأويل وهو من

وجهين الأول أنه يجد صحائف الأعمال وهو قوله تعالى إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( الجاثية 29 ) وقال فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ ( المجادلة 6 ) الثاني أنه يجد جزاء الأعمال وقوله تعالى مُّحْضَرًا يحتمل أن يكون المراد أن تلك الصحائف تكون محضرة يوم القيامة ويحتمل أن يكون المعنى أن جزاء العمل يكون محضراً كقوله وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا ( الكهف 49 ) وعلى كلا الوجهين فالترغيب والترهيب حاصلان
أما قوله وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا ففيه مسألتان
المسألة الأولى قال الواحدي الأظهر أن يجعل مَا ههنا بمنزلة الذي ويكون عَمِلَتْ صلة لها ويكون معطوفاً على مَا الأول ولا يجوز أن تكون مَا شرطية وإلا كان يلزم أن ينصب تَوَدُّ أو يخفضه ولم يقرأه أحد إلا بالرفع فكان هذا دليلاً على أن مَا ههنا بمعنى الذي
فإن قيل فهل يصح أن تكون شرطية على قراءة عبد الله ودت
قلنا لا كلام في صحته لكن الحمل على الابتداء والخبر أوقع لأنه حكاية حال الكافر في ذلك اليوم وأكثر موافقة للقراءة المشهورة
المسألة الثانية الواو في قوله وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء فيه قولان الأول وهو قول أبي مسلم الأصفهاني الواو واو العطف والتقدير تجد ما عملت من خير وما عملت من سوء وأما قوله تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا ففيه وجهان الأول أنه صفة للسوء والتقدير وما عملت من سوء الذي تود أن يبعد ما بينها وبينه والثاني أن يكون حالاً والتقدير يوم تجد ما عملت من سوء محضراً حال ما تود بعده عنها
والقول الثاني أن الواو للاستئناف وعلى هذا القول لا تكون الآية دليلاً على القطع بوعيد المذنبين وموضع الكرم واللطف هذا وذلك لأنه نص في جانب الثواب على كونه محضراً وأما في جانب العقاب فلم ينص على الحضور بل ذكر أنهم يودون الفرار منه والبعد عنه وذلك ينبه على أن جانب الوعد أولى بالوقوع من جانب الوعيد
المسألة الثالثة الأمد الغاية التي ينتهي إليها ونظيره قوله تعالى قَالَ يالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ( الزخرف 38 )
واعلم أن المراد من هذا التمني معلوم سواء حملنا لفظ الأمد على الزمان أو على المكان إذ المقصود تمني بعده ثم قال وَيُحَذّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وهو لتأكيد الوعيد ثم قال وَاللَّهُ رَءوفٌ بِالْعِبَادِ وفيه وجوه الأول أنه رؤوف بهم حيث حذرهم من نفسه وعرفهم كمال علمه وقدرته وأنه يمهل ولا يمهل ورغبهم في استيجاب رحمته وحذرهم من استحقاق غضبه قال الحسن ومن رأفته بهم أن حذرهم نفسه الثاني أنه رؤوف بالعباد حيث أمهلهم للتوبة والتدارك والتلافي الثالث أنه لما قال وَيُحَذّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وهو للوعيد أتبعه بقوله وَاللَّهُ رَءوفٌ بِالْعِبَادِ وهو الموعد ليعلم العبد أن وعده ورحمته غالب على وعيده وسخطه والرابع وهو أن لفظ العباد في القرآن مختص قال تعالى وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الاْرْضِ هَوْناً ( الفرقان 63 ) وقال تعالى عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ ( الإنسان 6 )

فكان المعنى أنه لما ذكر وعيد الكفار والفساق ذكر وعد أهل الطاعة فقال وَاللَّهُ رَءوفٌ بِالْعِبَادِ أي كما هو منتقم من الفساق فهو رؤوف بالمطيعين والمحسنين
قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
اعلم أنه تعالى لما دعا القوم إلى الإيمان به والإيمان برسله على سبيل التهديد والوعيد دعاهم إلى ذلك من طريق آخر وهو أن اليهود كانوا يقولون نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ( المائدة 18 ) فنزلت هذه الآية ويروى أنه ( صلى الله عليه وسلم ) وقف على قريش وهم في المسجد الحرام يسجدون للأصنام فقال يا معشر قريش والله لقد خالفتم ملة إبراهيم فقالت قريش إنما نعبد هذه حباً لله تعالى ليقربونا إلى الله زلفى فنزلت هذه الآية ويروى أن النصارى قالوا إنما نعظم المسيح حباً لله فنزلت هذه الآية وبالجملة فكل واحد من فرق العقلاء يدعي أنه يحب الله ويطلب رضاه وطاعته فقال لرسوله ( صلى الله عليه وسلم ) قل إن كنتم صادقين في ادعاء محبة الله تعالى فكونوا منقادين لأوامره محترزين عن مخالفته وتقدير الكلام أن من كان محباً لله تعالى لا بد وأن يكون في غاية الحذر مما يوجب سخطه وإذا قامت الدلالة القاطعة على نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وجبت متابتعه فإن لم تحصل هذه المتابعة دلّ ذلك على أن تلك المحبة ما حصلت
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أما الكلام المستقصى في المحبة فقد تقدم في تفسير قوله تعالى وَالَّذِينَ ءامَنُواْ أَشَدُّ حُبّا لِلَّهِ ( البقرة 165 ) والمتكلمون مصرون على أن محبة الله تعالى عبارة عن محبة إعظامه وإجلاله أو محبة طاعته أو محبة ثوابه قالوا لأن المحبة من جنس الإرادة والإرادة لا تعلق لها إلا بالحوادث وإلا بالمنافع
واعلم أن هذا القول ضعيف وذلك لأنه لا يمكن أن يقال في كل شيء إنه إنما كان محبوباً لأجل معنى آخر وإلا لزم التسلسل والدور فلا بد من الانتهاء إلى شيء يكون محبوباً بالذات كما أنا نعلم أن اللذة محبوبة لذاتها فكذلك نعلم أن الكمال محبوب لذاته وكذلك أنا إذا سمعنا أخبار رستم واسفنديار في شجاعتهما مال القلب إليهما مع أنا نقطع بأنه لا فائدة لنا في ذلك الميل بل ربما نعتقد أن تلك المحبة معصية لا يجوز لنا أن نصر عليها فعلمنا أن الكمال محبوب لذاته كما أن اللذة محبوبة لذاتها وكمال الكمال لله سبحانه وتعالى فكان ذلك يقتضي كونه محبوباً لذاته من ذاته ومن المقربين عنده الذين تجلى لهم أثر من آثار كماله وجلاله قال المتكلمون وأما محبة الله تعالى للعبد فهي عبارة عن إرادته تعالى إيصال الخيرات والمنافع في الدين والدنيا إليه
المسألة الثانية القوم كانوا يدعون أنهم كانوا محبين لله تعالى وكانوا يظهرون الرغبة في أن يحبهم الله تعالى والآية مشتملة على أن الإلزام من وجهين أحدهما إن كنتم تحبون الله فاتبعوني لأن المعجزات دلّت على أنه تعالى أوجب عليكم متابعتي الثاني إن كنتم تحبون أن يحبكم الله فاتبعوني لأنكم

إذا اتبعتموني فقد أطعتم الله والله تعالى يحب كل من أطاعه وأيضاً فليس في متابعتي إلا أني دعوتكم إلى طاعة الله تعالى وتعظيمه وترك تعظيم غيره ومن أحب الله كان راغباً فيه لأن المحبة توجب الإقبال بالكلية على المحبوب والإعراض بالكلية عن غير المحبوب
المسألة الثالثة خاض صاحب ( الكشاف ) في هذا المقام في الطعن في أولياء الله تعالى وكتب ههنا ما لا يليق بالعاقل أن يكتب مثله في كتب الفحش فهب أنه اجترأ على الطعن في أولياء الله تعالى فكيف اجترأ على كتبه مثل ذلك الكلام الفاحش في تفسير كلام الله تعالى نسأل الله العصمة والهداية ثم قال تعالى وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ والمراد من محبة الله تعالى له إعطاؤه الثواب ومن غفران ذنبه إزالة العقاب وهذا غاية ما يطلبه كل عاقل ثم قال وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ يعني غفور في الدنيا يستر على العبد أنواع المعاصي رحيم في الآخرة بفضله وكرمه
قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ
يروى أنه لما نزل قوله قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ الآية قال عبد الله بن أُبي إن محمداً يجعل طاعته كطاعة الله ويأمرنا أن نحبه كما أحبت النصارى عيسى فنزلت هذه الآية وتحقيق الكلام أن الآية الأولى لما اقتضت وجوب متابعته ثم إن المنافق ألقى شبهة في الدين وهي أن محمداً يدعي لنفسه ما يقوله النصارى في عيسى ذكر الله تعالى هذه الآية إزالة لتلك الشبهة فقال قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ يعني إنما أوجب الله عليكم متابعتي لا كما تقول النصارى في عيسى بل لكوني رسولاً من عند الله ولما كان مبلغ التكاليف عن الله هو الرسول لزم أن تكون طاعته واجبة فكان إيجاب المتابعة لهذا المعنى لا لأجل الشبه التي ألقاها المنافق في الدين
ثم قال تعالى فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ يعني إن أعرضوا فإنه لا يحصل لهم محبة الله لأنه تعالى إنما أوجب الثناء والمدح لمن أطاعه ومن كفر استوجب الذلة والإهانة وذلك ضد المحبة والله أعلم

إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَءَالَ إِبْرَاهِيمَ وَءَالَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّة ً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
اعلم أنه تعالى لما بيّن أن محبته لا تتم إلا بمتابعة الرسل بيّن علو درجات الرسل وشرف مناصبهم فقال إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن المخلوقات على قسمين المكلف وغير المكلف واتفقوا على أن المكلف أفضل من غير المكلف واتفقوا على أن أصناف المكلف أربعة الملائكة والإنس والجن والشياطين أما الملائكة فقد روي في الأخبار أن الله تعالى خلقهم من الريح ومنهم من احتج بوجوه عقلية على صحة ذلك فالأول أنهم لهذا السبب قدروا على الطيران على أسرع الوجوه والثاني لهذا السبب قدروا على حمل العرش لأن الريح تقوم بحمل الأشياء الثالث لهذا السبب سموا روحانيين وجاء في رواية أخرى أنهم خلقوا من النور ولهذا صفت وأخلصت لله تعالى والأولى أن يجمع بين القولين فنقول أبدانهم من الريح وأرواحهم من النور فهؤلاء هم سكان عالم السماوات أما الشياطين فهم كفرة أما إبليس فكفره ظاهر لقوله تعالى وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ( البقرة 34 ) وأما سائر الشياطين فهم أيضاً كفرة بدليل قوله تعالى وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ( الأنعام 121 ) ومن خواص الشياطين أنهم بأسرها أعداء للبشر قال تعالى فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِى وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ( الكهف 50 ) وقال وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِى ّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنّ ( الأنعام 112 ) ومن خواص الشياطين كونهم مخلوقين من النار قال الله تعالى حكاية عن إبليس خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ( الأعراف 12 ) وقال وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ ( الحجر 27 ) فأما الجن فمنهم كافر ومنهم مؤمن قال تعالى وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْاْ رَشَداً ( الجن 14 ) أما الإنس فلا شك أن لهم والداً هو والدهم الأول وإلا لذهب إلى ما لا نهاية والقرآن دلّ على أن ذلك الأول هو آدم ( صلى الله عليه وسلم ) على ما قال تعالى في هذه السورة إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ( آل عمران 59 ) وقال تُفْلِحُونَ يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَة ٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ( النساء 1 )
إذا عرفت هذا فنقول اتفق العلماء على أن البشر أفضل من الجن والشياطين واختلفوا في أن البشر أفضل أم الملائكة وقد استقصينا هذه المسألة في تفسير قوله تعالى اسْجُدُواْ لاِدَمَ فَسَجَدُواْ ( الأعراف 11 ) والقائلون بأن البشر أفضل تمسكوا بهذه الآية وذلك لأن الاصطفاء يدل على مزيد الكرامة وعلو الدرجة فلما بيّن تعالى أنه اصطفى آدم وأولاده من الأنبياء على كل العالمين وجب أن يكونوا أفضل من الملائكة لكونهم من العالمين
فإن قيل إن حملنا هذه الآية على تفضيل المذكورين فيها على كل العالمين أدى إلى التناقض لأن الجمع الكثير إذا وصفوا بأن كل واحد منهم أفضل من كل العالمين يلزم كون كل واحد منهم أفضل من كل العالمين يلزم كون كل واحد منهم أفضل من الآخر وذلك محال ولو حملناه على كونه أفضل عالمي زمانه أو عالمي جنسه لم يلزم التناقض فوجب حمله على هذا المعنى دفعاً للتناقض وأيضاً قال تعالى في صفة بني إسرائيل وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ( البقرة 47 ) ولا يلزم كونهم أفضل من محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بل قلنا المراد به عالمو زمان كل واحد منهم والجواب ظاهر في قوله اصطفى آدم على العالمين يتناول كل من يصح إطلاق لفظ العالم

عليه فيندرج فيه الملك غاية ما في هذا الباب أنه ترك العمل بعمومه في بعض الصور لدليل قام عليه فلا يجوز أن نتركه في سائر الصور من غير دليل
المسألة الثانية اصْطَفَى في اللغة اختار فمعنى اصطفاهم أي جعلهم صفوة خلقه تمثيلاً بما يشاهد من الشيء الذي يصفى وينقى من الكدورة ويقال على ثلاثة أوجه صفوة وصفوة وصفوة ونظير هذه الآية قوله لموسى إِنْى اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي ( الأعراف 144 ) وقال في إبراهيم وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الاْخْيَارِ ( ص 47 )
إذا عرفت هذا فنقول في الآية قولان الأول المعنى أن الله اصطفى دين آدم ودين نوح فيكون الاصطفاء راجعاً إلى دينهم وشرعهم وملتهم ويكون هذا المعنى على تقدير حذف المضاف والثاني أن يكون المعنى إن الله اصطفاهم أي صفاهم من الصفات الذميمة وزينهم بالخصال الحميدة وهذا القول أولى لوجهين أحدهما أنا لا نحتاج فيه إلى الإضمار والثاني أنه موافق لقوله تعالى اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ ( الأنعام 124 ) وذكر الحليمي في كتاب ( المنهاج ) أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا بد وأن يكونوا مخالفين لغيرهم في القوى الجسمانية والقوى الروحانية أما القوى الجسمانية فهي إما مدركة وإما محركة
أما المدركة فهي إما الحواس الظاهرة وإما الحواس الباطنة أما الحواس الظاهرة فهي خمسة أحدها القوة الباصرة ولقد كان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) مخصوصاً بكمال هذه الصفة ويدل عليه وجهان الأول قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( زويت لي الأرض فأريت مشارقها مغاربها ) والثاني قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أقيموا صفوفكم وتراصوا فإني أراكم من وراء ظهري ) ونظير هذه القوة ما حصل لإبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) وهو قوله تعالى وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الأنعام 75 ) ذكروا في تفسيره أنه تعالى قوَّى بصره حتى شاهد جميع الملكوت من الأعلى والأسفل قال الحليمي رحمه الله وهذا غير مستبعد لأن البصراء يتفاوتون فروي أن زرقاء اليمامة كانت تبصر الشيء من مسيرة ثلاثة أيام فلا يبعد أن يكون بصر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أقوى من بصرها وثانيها القوة السامعة وكان ( صلى الله عليه وسلم ) أقوى الناس في هذه القوة ويدل عليه وجهان أحدهما قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد لله تعالى ) فسمع أطيط السماء والثاني أنه سمع دوياً وذكر أنه هوي صخرة قذفت في جهنم فلم تبلغ قعرها إلى الآن قال الحليمي ولا سبيل للفلاسفة إلى استبعاد هذا فإنهم زعموا أن فيثاغورث راض نفسه حتى سمع خفيف الفلك ونظير هذه القوة لسليمان عليه السلام في قصة النمل قَالَتْ نَمْلَة ٌ يأَيُّهَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ ( النمل 18 ) فالله تعالى أسمع سليمان كلام النمل وأوقفه على معناه وهذا داخل أيضاً في باب تقوية الفهم وكان ذلك حاصلاً لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) حين تكلم مع الذئب ومع البعير ثالثها تقوية قوة الشم كما في حق يعقوب عليه السلام فإن يوسف عليه السلام لما أمر بحمل قميصه إليه وإلقائه على وجهه فلما فصلت العير قال يعقوب إِنّى لاجِدُ رِيحَ يُوسُفَ ( يوسف 94 ) فأحس بها من مسيرة أيام ورابعها تقوية قوة الذوق كما في حق رسولنا ( صلى الله عليه وسلم ) حين قال ( إن هذا الذراع يخبرني أنه مسموم ) وخامسها تقوية القوة اللامسة كما في حق الخليل حيث جعل الله تعالى النار برداً وسلاماً عليه فكيف يستبعد هذا ويشاهد مثله في السمندل والنعامة وأما الحواس الباطنة فمنها قوة

الحفظ قال تعالى سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى ( الأعلى 6 ) ومنها قوة الذكاء قال علي عليه السلام ( علمني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ألف باب من العلم واستنبطت من كل باب ألف باب ) فإذا كان حال الولي هكذا فكيف حال النبي ( صلى الله عليه وسلم )
وأما القوى المحركة فمثل عروج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى المعراج وعروج عيسى حياً إلى السماء ورفع إدريس وإلياس على ما وردت به الأخبار وقال الله تعالى قَالَ الَّذِى عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الْكِتَابِ أَنَاْ ءاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ( النمل 40 )
وأما القوى الروحانية العقلية فلا بد وأن تكون في غاية الكمال ونهاية الصفاء
واعلم أن تمام الكلام في هذا الباب أن النفس القدسية النبوية مخالفة بماهيتها لسائر النفوس ومن لوازم تلك النفس الكمال في الذكاء والفطنة والحرية والاستعلاء والترفع عن الجسمانيات والشهوات فإذا كانت الروح في غاية الصفاء والشرف وكان البدن في غاية النقاء والطهارة كانت هذه القوى المحركة المدركة في غاية الكمال لأنها جارية مجرى أنوار فائضة من جوهر الروح واصلة إلى البدن ومتى كان الفاعل والقابل في غاية الكمال كانت الآثار في غاية القوة والشرف والصفاء
إذا عرفت هذا فقوله إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا معناه إن الله تعالى اصطفى آدم إما من سكان العالم السفلي على قول من يقول الملك أفضل من البشر أو من سكان العالم العلوي على قول من يقول البشر أشرف المخلوقات ثم وضع كمال القوة الروحانية في شعبة معينة من أولاد آدم عليه السلام هم شيث وأولاده إلى إدريس ثم إلى نوح ثم إلى إبراهيم ثم حصل من إبراهيم شعبتان إسماعيل وإسحاق فجعل إسماعيل مبدأ لظهور الروح القدسية لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وجعل إسحاق مبدأ لشعبتين يعقوب وعيصو فوضع النبوّة في نسل يعقوب ووضع الملك في نسل عيصو واستمر ذلك إلى زمان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فلما ظهر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) نقل نور النبوّة ونور الملك إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وبقيا أعني الدين والملك لأتباعه إلى قيام القيامة ومن تأمل في هذا الباب وصل إلى أسرار عجيبة
المسألة الثالثة من الناس من قال المراد بآل إبراهيم المؤمنون كما في قوله النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا ( غافر 46 ) والصحيح أن المراد بهم الأولاد وهم المراد بقوله تعالى إِنّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرّيَّتِى قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ( البقرة 124 ) وأما آل عمران فقد اختلفوا فيه فمنهم من قال المراد عمران ولد موسى وهارون وهو عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم فيكون المراد من آل عمران موسى وهارون وأتباعهما من الأنبياء ومنهم من قال بل المراد عمران بن ماثان والد مريم وكان هو من نسل سليمان بن داود بن إيشا وكانوا من نسل يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام قالوا وبين العمرانين ألف وثمانمائة سنة واحتج من قال بهذا القول على صحته بأمور أحدها أن المذكور عقيب قوله إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ هو عمران بن ماثان جد عيسى عليه السلام من قبل الأم فكان صرف الكلام إليه أولى وثانيها أن المقصود من الكلام أن النصارى كانوا يحتجون على إلاهية عيس بالخوارق التي ظهرت على يديه فالله تعالى يقول إنما ظهرت على يده إكراماً من الله تعالى إياه بها وذلك لأنه تعالى اصطفاه على العالمين وخصه بالكرامات العظيمة فكان حمل هذا

الكلام على عمران بن ماثان أولى في هذا المقام من حمله على عمران والد موسى وهارون وثالثها أن هذا اللفظ شديد المطابقة لقوله تعالى وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا ءايَة ً لّلْعَالَمِينَ ( الأنبياء 91 ) واعلم أن هذه الوجوه ليست دلائل قوية بل هي أمور ظنية وأصل الاحتمال قائم
أما قوله تعالى ذُرّيَّة ً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ ففيه مسألتان
المسألة الأولى في نصب قوله ذُرّيَّة ِ وجهان الأول أنه بدل من آل إبراهيم والثاني أن يكون نصباً على الحال أي اصطفاهم في حال كون بعضهم من بعض
المسألة الثانية في تأويل الآية وجوه الأول ذرية بعضها من بعض في التوحيد والإخلاص والطاعة ونظيره قوله تعالى الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ ( التوبة 67 ) وذلك بسبب اشتراكهم في النفاق والثاني ذرية بعضها من بعض بمعنى أن غير آدم عليه السلام كانوا متولدين من آدم عليه السلام ويكون المراد بالذرية من سوى آدم
أما قوله تعالى وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فقال القفال المعنى والله سميع لأقوال العباد عليم بضمائرهم وأفعالهم وإنما يصطفى من خلقه من يعلم استقامته قولاً وفعلاً ونظيره قوله تعالى اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ ( الأنعام 124 ) وقوله زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ ( الأنبياء 90 ) وفيه وجه آخر وهو أن اليهود كانوا يقولون نحن من ولد إبراهيم ومن آل عمران فنحن أبناء الله وأحباؤه والنصارى كانوا يقولون المسيح ابن الله وكان بعضهم عالماً بأن هذا الكلام باطل إلا أنه لتطييب قلوب العوام بقي مصراً عليه فالله تعالى كأنه يقول والله سميع لهذه الأقوال الباطلة منكم عليم بأغراضكم الفاسدة من هذه الأقوال فيجازيكم عليها فكان أول الآية بياناً لشرف الأنبياء والرسل وآخرها تهديداً لهؤلاء الكاذبين الذين يزعمون أنهم مستقرون على أديانهم
واعلم أنه تعالى ذكر عقيب هذه الآية قصصاً كثيرة
القصة الاولى
واقعة حنة أم مريم عليهما السلام
إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّى وَضَعْتُهَآ أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالاٍّ نثَى وَإِنِّى سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَاذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ

وفيه مسائل
المسألة الأولى في موضع إِذْ من الإعراب أقوال الأول قال أبو عبيدة إنها زائدة لغواً والمعنى قالت امرأة عمران ولا موضع لها من الإعراب قال الزجاج لم يصنع أبو عبيدة في هذا شيئاً لأنه لا يجوز إلغاء حرف من كتاب الله تعالى ولا يجوز حذف حرف من كتاب الله تعالى من غير ضرورة والثاني قال الأخفش والمبرد التقدير اذكر إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ ومثله في كتاب الله تعالى كثير الثالث قال الزجاج التقدير واصطفى آل عمران على العالمين إذ قالت امرأة عمران وطعن ابن الأنباري فيه وقال إن الله تعالى قرن اصطفاء آل عمران باصطفاء آدم ونوح ولما كان اصطفاؤه تعالى آدم ونوحاً قبل قول امرأة عمران استحال أن يقال إن هذا الاصطفاء مقيد بذلك الوقت الذي قالت امرأة عمران هذا الكلام فيه ويمكن أن يجاب عنه بأن أثر اصطفاء كل واحد إنما ظهرر عند وجوده وظهور طاعاته فجاز أن يقال إن الله اصطفى آدم عند وجوده ونوحاً عند وجوده وآل عمران عندما قالت امرأة عمران هذا الكلام الرابع قال بعضهم هذا متعلق بما قبله والتقدير والله سميع عليم إذ قالت امرأة عمران هذا القول
فإن قيل إن الله سميع عليم قبل أن قالت المرأة هذا القول فما معنى هذا التقييد
قلنا إن سمعه تعالى لذلك الكلام مقيد بوجود ذلك الكلام وعلمه تعالى بأنها تذكر ذلك مقيد بذكرها لذلك والتغير في العلم والسمع إنما يقع في النسب والمتعلقات
المسألة الثانية أن زكريا بن أذن وعمران بن ماثان كانا في عصر واحد وامرأة عمران حنة بنت فاقوذ وقد تزوج زكريا بابنته إيشاع أخت مريم وكان يحيى وعيسى عليهما السلام ابني خالة ثم في كيفية هذا النذر روايات
الرواية الأولى قال عكرمة إنها كانت عاقراً لا تلد وكانت تغبط النساء بالأولاد ثم قالت ( اللّهم إن لك علي نذراً إن رزقتني ولداً أن أتصدق به على بيت المقدس ليكون من سدنته )
والرواية الثانية قال محمد بن إسحاق إن أم مريم ما كان يحصل لها ولد حتى شاخت وكانت يوماً في ظل شجرة فرأت طائراً يطعم فرخاً له فتحركت نفسها للولد فدعت ربها أن يهب لها ولداً فحملت بمريم وهلك عمران فلما عرفت جعلته لله محرراً أي خادماً للمسجد قال الحسن البصري إنها إنما فعلت ذلك بإلهام من الله ولولاه ما فعلت كما رأى إبراهيم ذبح ابنه في المنام فعلم أن ذلك أمر من الله وإن لم يكن عن وحي وكما ألهم الله أم موسى فقذفته في اليم وليس بوحي

المسألة الثالثة المحرر الذي جعل حراً خالصاً يقال حررت العبد إذا خلصته عن الرق وحررت الكتاب إذا أصلحته وخلصته فلم تبق فيه شيئاً من وجوه الغلط ورجل حر إذا كان خالصاً لنفسه ليس لأحد عليه تعلق والطين الحر الخالص عن الرمل والحجارة والحمأة والعيوب أما التفسير فقيل مخلصاً للعبادة عن الشعبي وقيل خادماً للبيعة وقيل عتيقاً من أمر الدنيا لطاعة الله وقيل خادماً لمن يدرس الكتاب ويعلم في البيع والمعنى أنها نذرت أن تجعل ذلك الولد وقفاً على طاعة الله قال الأصم لم يكن لبني إسرائيل غنيمة ولا سبي فكان تحريرهم جعلهم أولادهم على الصفة التي ذكرنا وذلك لأنه كان الأمر في دينهم أن الولد إذا صار بحيث يمكن استخدامه كان يجب عليه خدمة الأبوين فكانوا بالنذر يتركون ذلك النوع من الانتفاع ويجعلونهم محررين لخدمة المسجد وطاعة الله تعالى وقيل كان المحرر يجعل في الكنيسة يقوم بخدمتها حتى يبلغ الحلم ثم يخير بين المقام والذهاب فإن أبى المقام وأراد أن يذهب ذهب وإن اختار المقام فليس له بعد ذلك خيار ولم يكن نبي إلا ومن نسله محرر في بيت المقدس
المسألة الرابعة هذا التحرير لم يكن جائزاً إلا في الغلمان أما الجارية فكانت لا تصلح لذلك لما يصيبها من الحيض والأذى ثم إن حنة نذرت مطلقاً إما لأنها بنت الأمر على التقدير أو لأنها جعلت ذلك النذر وسيلة إلى طلب الذكر
المسألة الخامسة في انتصاب قوله مُحَرَّرًا وجهان الأول أنه نصب على الحال من مَا وتقديره نذرت لك الذي في بطني محرراً والثاني وهو قول ابن قتيبة أن المعنى نذرت لك أن أجعل ما في بطني محرراً
ثم قال الله تعالى حاكياً عنها فَتَقَبَّلْ مِنّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ التقبل أخذ الشيء على الرضا قال الواحدي وأصله من المقابلة لأنه يقبل بالجزاء وهذا كلام من لا يريد بما فعله إلا الطلب لرضا الله تعالى والإخلاص في عبادته ثم قالت إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ والمعنى أنك أنت السميع لتضرعي ودعائي وندائي العليم بما في ضميري وقلبي ونيتي
واعلم أن هذا النوع من النذر كان في شرع بني إسرائيل وغير موجود في شرعنا والشرائع لا يمتنع اختلافها في مثل هذه الأحكام
قال تعالى فَلَمَّا وَضَعَتْهَا واعلم أن هذا الضمير إما أن يكون عائداً إلى الأنثى التي كانت في بطنها وكان عالماً بأنها كانت أنثى أو يقال إنها عادت إلى النفس والنسمة أو يقال عادت إلى المنذورة
ثم قال تعالى قَالَتْ رَبّ إِنّى وَضَعْتُهَا أُنثَى واعلم أن الفائدة في هذا الكلام أنه تقدم منها النذر في تحرير ما في بطنها وكان الغالب على ظنها أنه ذكر فلم تشترط ذلك في كلامها وكانت العادة عندهم أن الذي يحرر ويفرغ لخدمة المسجد وطاعة الله هو الذكر دون الأنثى فقالت رَبّ إِنّى وَضَعْتُهَا أُنثَى خائفة أن نذرها لم يقع الموقع الذي يعتمد به ومعتذرة من إطلاقها النذر المتقدم فذكرت ذلك لا على سبيل الإعلام لله تعالى

تعالى الله عن أن يحتاج إلى إعلامها بل ذكرت ذلك على سبيل الاعتذار
ثم قال الله تعالى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ قرأ أبو بكر عن عاصم وابن عامر وَضَعَتْ برفع التاء على تقدير أنها حكاية كلامها والفائدة في هذا الكلام أنها لما قالت إِنّى وَضَعْتُهَا أُنثَى خافت أن يظن بها أنها تخبر الله تعالى فأزالت الشبهة بقولها وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وثبت أنها إنما قالت ذلك للاعتذار لا للاعلام والباقون بالجزم على أنه كلام الله وعلى هذه القراءة يكون المعنى أنه تعالى قال والله أعلم بما وضعت تعظيماً لولدها وتجهيلاً لها بقدر ذلك الولد ومعناه والله أعلم بالشيء الذي وضعت وبما علق به من عظائم الأمور وأن يجعله وولده آية للعالمين وهي جاهلة بذلك لا تعلم منه شيئاً فلذلك تحسرت وفي قراءة ابن عباس وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ على خطاب الله لها أي أنك لا تعلمين قدر هذا الموهوب والله هو العالم بما فيه من العجائب والآيات
ثم قال تعالى حكاية عنها وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالاْنثَى وفيه قولان الأول أن مرادها تفضيل الولد الذكر على الأنثى وسبب هذا التفضيل من وجوه أحدها أن شرعهم أنه لا يجوز تحرير الذكور دون الإناث والثاني أن الذكر يصح أن يستمر على خدمة موضع العبادة ولا يصح ذلك في الأنثى لمكان الحيض وسائر عوارض النسوان والثالث الذكر يصلح لقوته وشدته للخدمة دون الأنثى فإنها ضعيفة لا تقوى على الخدمة والرابع أن الذكر لا يلحقه عيب في الخدمة والاختلاط بالناس وليس كذلك الأنثى والخامس أن الذكر لا يلحقه من التهمة عند الاختلاط ما يلحق الأنثى فهذه الوجوه تقتضي فضل الذكر على الأنثى في هذا المعنى
والقول الثاني أن المقصود من هذا الكلام ترجيح هذه الأنثى على الذكر كأنها قالت الذكر مطلوبي وهذه الأنثى موهوبة الله تعالى وليس الذكر الذي يكون مطلوبي كالأنثى التي هي موهوبة لله وهذا الكلام يدل على أن تلك المرأة كانت مستغرقة في معرفة جلال الله عالمة بأن ما يفعله الرب بالعبد خير مما يريده العبد لنفسه
ثم حكى تعالى عنها كلاماً ثانياً وهو قولها وَإِنّى سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وفيه أبحاث
البحث الأول أن ظاهر هذا الكلام يدل على ما حكينا من أن عمران كان قد مات في حال حمل حنة بمريم فلذلك تولت الأم تسميتها لأن العادة أن ذلك يتولاه الآباء
البحث الثاني أن مريم في لغتهم العابدة فأرادت بهذه التسمية أن تطلب من الله تعالى أن يعصمها من آفات الدين والدنيا والذي يؤكد هذا قولها بعد ذلك وِإِنّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
البحث الثالث أن قوله وَإِنّى سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ معناه وإني سميتها بهذا اللفظ أي جعلت هذا اللفظ اسماً لها وهذا يدل على أن الاسم والمسمى والتسمية أمور ثلاثة متغايرة
ثم حكى الله تعالى عنها كلاماً ثالثاً وهو قولها وِإِنّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ وذلك

لأنه لما فاتها ما كانت تريد من أن يكون رجلاً خادماً للمسجد تضرعت إلى الله تعالى في أن يحفظها من الشيطان الرجيم وأن يجعلها من الصالحات القانتات وتفسير الشيطان الرجيم قد تقدم في أول الكتاب
ولما حكى الله تعالى عن حنة هذه الكلمات قال فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ وفيه مسألتان
المسألة الأولى إنما قال فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ ولم يقل فتقبلها ربها بتقبل لأن القبول والتقبل متقاربان قال تعالى وَاللَّهُ أَنبَتَكُمْ مّنَ الاْرْضِ نَبَاتاً ( نوح 17 ) أي إنباتاً والقبول مصدر قولهم قبل فلان الشيء قبولاً إذا رضيه قال سيبويه خمسة مصادر جاءت على فعول قبول وطهور ووضوء ووقود وولوغ إلا أن الأكثر في الوقود إذا كان مصدرا الضم وأجاز الفراء والزجاج قبولاً بالضم وروى ثعلب عن ابن الأعرابي يقال قبلته قبولاً وقبولا وفي الآية وجه آخر وهو أن ما كان من باب التفعل فإنه يدل على شدة اعتناء ذلك الفاعل بإظهار ذلك الفعل كالتصبر والتجلد ونحوهما فإنهما يفيدان الجد في إظهار الصبر والجلادة فكذا ههنا التقبل يفيد المبالغة في إظهار القبول
فإن قيل فلم لم يقل فتقبلها ربها بتقبل حسن حتى صارت المبالغة أكمل
والجواب أن لفظ التقبل وإن أفاد ما ذكرنا إلا أنه يفيد نوع تكلف على خلاف الطبع أما القبول فإنه يفيد معنى القبول على وفق الطبع فذكر التقبل ليفيد الجد والمبالغة ثم ذكر القبول ليفيد أن ذلك ليس على خلاف الطبع بل على وفق الطبع وهذه الوجوه وإن كانت ممتنعة في حق الله تعالى إلا أنها تدل من حيث الاستعارة على حصول العناية العظيمة في تربيتها وهذا الوجه مناسب معقول
المسألة الثانية ذكر المفسرون في تفسير ذلك القبول الحسن وجوهاً
الوجه الأول أنه تعالى عصمها وعصم ولدها عيسى عليه السلام من مس الشيطان روى أبو هريرة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخاً من مس الشيطان إلا مريم وابنها ) ثم قال أبو هريرة اقرؤا إن شئتم وِإِنّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ طعن القاضي في هذا الخبر وقال إنه خبر واحد على خلاف الدليل فوجب رده وإنما قلنا إنه على خلاف الدليل لوجوه أحدها أن الشيطان إنما يدعو إلى الشر من يعرف الخير والشر والصبي ليس كذلك والثاني أن الشيطان لو تمكن من هذا النخس لفعل أكثر من ذلك من إهلاك الصالحين وإفساد أحوالهم والثالث لم خص بهذا الاستثناء مريم وعيسى عليهما السلام دون سائر الأنبياء عليهم السلام الرابع أن ذلك النخس لو وجد بقي أثره ولو بقي أثره لدام الصراخ والبكاء فلما لم يكن كذلك علمنا بطلانه واعلم أن هذه الوجوه محتملة وبأمثالها لا يجوز دفع الخبر والله أعلم
الوجه الثاني في تفسير أن الله تعالى تقبلها بقبول حسن ما روي أن حنة حين ولدت مريم لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد ووضعتها عند الأحبار أبناء هارون وهم في بيت المقدس كالحجبة في الكعبة وقالت خذوا هذه النذيرة فتنافسوا فيها لأنها كانت بنت إمامهم وكانت بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وأحبارهم وملوكهم فقال لهم زكريا أنا أحق بها عندي خالتها فقالوا لا حتى نقترع عليها فانطلقوا وكانوا سبعة وعشرين إلى نهر فألقوا فيه أقلامهم التي كانوا يكتبون الوحي بها على أن كل من ارتفع قلمه فهو

الراجح ثم ألقوا أقلامهم ثلاث مرات ففي كل مرة كان يرتفع قلم زكريا فوق الماء وترسب أقلامهم فأخذها زكريا
الوجه الثالث روى القفال عن الحسن أنه قال إن مريم تكلمت في صباها كما تكلم المسيح ولم تلتقم ثدياً قط وإن رزقها كان يأتيها من الجنة
الوجه الرابع في تفسير القبول الحسن أن المعتاد في تلك الشريعة أن التحرير لا يجوز إلا في حق الغلام حين يصير عاقلاً قادراً على خدمة المسجد وههنا لما علم الله تعالى تضرع تلك المرأة قبل تلك الجارية حال صغرها وعدم قدرتها على خدمة المسجد فهذا كله هو الوجوه المذكورة في تفسير القبول الحسن
ثم قال الله تعالى وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا قال ابن الأنباري التقدير أنبتها فنبتت هي نباتاً حسناً ثم منهم من صرف هذا النبات الحسن إلى ما يتعلق بالدنيا ومنهم من صرفه إلى ما يتعلق بالدين أما الأول فقالوا المعنى أنها كانت تنبت في اليوم مثل ما ينبت المولود في عام واحد وأما في الدين فلأنها نبتت في الصلاح والسداد والعفة والطاعة
ثم قال الله تعالى وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا وفيه مسألتان
المسألة الأولى يقال كفل يكفل كفالة وكفلاً فهو كافل وهو الذي ينفق على إنسان ويهتم بإصلاح مصالحه وفي الحديث ( أنا وكافل اليتيم كهاتين ) وقال الله تعالى أَكْفِلْنِيهَا
المسألة الثانية قرأ عاصم وحمزة والكسائي وَكَفَّلَهَا بالتشديد ثم اختلفوا في زكريا فقرأ عاصم بالمد وقرأ حمزة والكسائي بالقصر على معنى ضمها الله تعالى إلى زكريا فمن قرأ ( زكرياء ) بالمد أظهر النصب ومن قرأ بالقصر كان في محل النصب والباقون قرأوا بالمد والرفع على معنى ضمها زكرياء إلى نفسه وهو الاختيار لأن هذا مناسب لقوله تعالى أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وعليه الأكثر وعن ابن كثير في رواية كفلها بكسر الفاء وأما القصر والمد في زكريا فهما لغتان كالهيجاء والهيجا وقرأ مجاهد فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا وَأَنبَتَهَا وَكَفَّلَهَا على لفظ الأمر في الأفعال الثلاثة ونصب رَبُّهَا كأنها كانت تدعو الله فقالت اقبلها يا ربها وأنبتها يا ربها واجعل زكريا كافلاً لها
المسألة الثالثة اختلفوا في كفالة زكريا عليه السلام إياها متى كانت فقال الأكثرون كان ذلك حال طفوليتها وبه جاءت الروايات وقال بعضهم بل إنما كفلها بعد أن فطمت واحتجوا عليه بوجهين الأول أنه تعالى قال وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا ثم قال وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا وهذا يوهم أن تلك الكفالة بعد ذلك النبات الحسن والثاني أنه تعالى قال وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يامَرْيَمُ مَرْيَمَ أَنَّى لَكِ هَاذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وهذا يدل على أنها كانت قد فارقت الرضاع وقت تلك الكفالة وأصحاب القول الأول أجابوا بأن الواو لا توجب الترتيب فلعل الانبات الحسن وكفالة زكرياء حصلا معاً
وأما الحجة الثانية فلعل دخوله عليها وسؤاله منها هذا السؤال إنما وقع في آخر زمان الكفالة

ثم قال الله كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا وفيه مسائل
المسألة الأولى الْمِحْرَابَ الموضع العالي الشريف قال عمر بن أبي ربيعة
ربة محراب إذا جئتها
لم أدن حتى أرتقي سلما
واحتج الأصمعي على أن المحراب هو الغرفة بقوله تعالى إِذْ تَسَوَّرُواْ الْمِحْرَابَ ( ص 21 ) والتسور لا يكون إلا من علو وقيل المحراب أشرف المجالس وأرفعها يروى أنها لما صارت شابة بنى زكريا عليه السلام لها غرفة في المسجد وجعل بابها في وسطه لا يصعد إليه إلا بسلم وكان إذا خرج أغلق عليها سبعة أبواب
المسألة الثانية احتج أصحابنا على صحة القول بكرامة الأولياء بهذه الآية ووجه الاستدلال أنه تعالى أخبر أن زكرياء كلما دخل عليها المحراب وجد عندها رزقاً قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله فحصول ذلك الرزق عندها إما أن يكون خارقاً للعادة أو لا يكون فإن قلنا إنه غير خارق للعادة فهو باطل من خمسة أوجه الأول أن على هذا التقدير لا يكون حصول ذلك الرزق عند مريم دليلاً على علو شأنها وشرف درجتها وامتيازها عن سائر الناس بتلك الخاصية ومعلوم أن المراد من الآية هذا المعنى والثاني أنه تعالى قال بعد هذه الآية هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبّ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرّيَّة ً طَيّبَة ً والقرآن دل على أنه كان آيساً من الولد بسبب شيخوخته وشيخوخة زوجته فلما رأى انخراق العادة في حق مريم طمع في حصول الولد فيستقيم قوله هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ أما لو كان الذي شاهده في حق مريم لم يكن خارقاً للعادة لم تكن مشاهدة ذلك سبباً لطمعه في انخراق العادة بحصول الولد من المرأة الشيخة العاقر الثالث أن التنكر في قوله وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا يدل على تعظيم حال ذلك الرزق كأنه قيل رزقاً أي رزق غريب عجيب وذلك إنما يفيد الغرض اللائق لسياق هذه الآية لو كان خارقاً للعادة الرابع هو أنه تعالى قال وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا ءايَة ً لّلْعَالَمِينَ ( الأنبياء 91 ) ولولا أنه ظهر عليهما من الخوارق وإلا لم يصح ذلك
فإن قيل لم لا يجوز أن يقال المراد من ذلك هو أن الله تعالى خلق لها ولداً من غير ذكر
قلنا ليس هذا بآية بل يحتاج تصحيحه إلى آية فكيف نحمل الآية على ذلك بل المراد من الآية ما يدل على صدقها وطهارتها وذلك لا يكون إلا بظهور خوارق العادات على يدها كما ظهرت على يد ولدها عيسى عليه السلام الخامس ما تواترت الروايات به أن زكريا عليه السلام كان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء فثبت أن الذي ظهر في حق مريم عليها السلام كان فعلاً خارقاً للعادة فنقول إما أن يقال إنه كان معجزة لبعض الأنبياء أو ما كان كذلك والأول باطل لأن النبي الموجود في ذلك الزمان هو زكريا عليه السلام ولو كان ذلك معجزة له لكان هو عالماً بحاله وشأنه فكان يجب أن لا يشتبه أمره عليه وأن لا يقول لمريم أَنَّى لَكِ هَاذَا وأيضاً فقوله تعالى هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ مشعر بأنه لما سألها عن أمر تلك الأشياء ثم إنها ذكرت له أن ذلك من عند الله فهنالك طمع في انخراق العادة في حصول الولد من المرأة العقيمة الشيخة العاقر وذلك يدل على أنه ما وقف على تلك الأحوال

إلا بأخبار مريم ومتى كان الأمر كذلك ثبت أن تلك الخوارق ما كانت معجزة لزكريا عليه السلام فلم يبق إلا أن يقال إنها كانت كرامة لعيسى عليه السلام أو كانت كرامة لمريم عليها السلام وعلى التقديرين فالمقصود حاصل فهذا هو وجه الاستدلال بهذه الآية على وقوع كرامات الأولياء
اعترض أبو علي الجبائي وقال لم لا يجوز أن يقال إن تلك الخوارق كانت من معجزات زكريا عليه السلام وبيانه من وجهين الأول أن زكريا عليه السلام دعا لها على الإجمال أن يوصل الله إليها رزقاً وأنه ربما كان غافلاً عن تفاصيل ما يأتيها من الأرزاق من عند الله تعالى فإذا رأى شيئاً بعينه في وقت معين قال لها أَنَّى لَكِ هَاذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ فعنذ ذلك يعلم أن الله تعالى أظهر بدعائه تلك المعجزة والثاني يحتمل أن يكون زكريا يشاهد عند مريم رزقاً معتاداً إلا أنه كان يأتيها من السماء وكان زكريا يسألها عن ذلك حذراً من أن يكون يأتيها من عند إنسان يبعثه إليها فقالت هو من عند الله لا من عند غيره
المقام الثاني أنا لا نسلم أنه كان قد ظهر على مريم شيء من خوارق العادات بل معنى الآية أن الله تعالى كان قد سبب لها رزقاً على أيدي المؤمنين الذين كانوا يرغبون في الإنفاق على الزاهدات العابدات فكان زكريا عليه السلام إذا رأى شيئاً من ذلك خاف أنه ربما أتاها ذلك الرزق من وجه لا ينبغي فكان يسألها عن كيفية الحال هذا مجموع ما قاله الجبائي في ( تفسيره ) وهو في غاية الضعف لأنه لو كان ذلك معجزاً لزكريا عليه السلام كان مأذوناً له من عند الله تعالى في طلب ذلك ومتى كان مأذوناً في ذلك الطلب كان عالماً قطعاً بأن يحصل وإذا علم ذلك امتنع أن يطلب منها كيفية الحال ولم يبق أيضاً لقوله هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ فائدة وهذا هو الجواب بعينه عن الوجه الثاني
وأما سؤاله الثالث ففي غاية الركاكة لأن هذا التقدير لا يبقى فيه وجه اختصاص لمريم بمثل هذه الواقعة وأيضاً فإن كان في قلبه احتمال أنه ربما أتاها هذا الرزق من الوجه الذي لا ينبغي فبمجرد إخبارها كيف يعقل زوال تلك التهمة فعلمنا سقوط هذه الأسئلة وبالله التوفيق
أما المعتزلة فقد احتجوا على امتناع الكرامات بأنها دلالات صدق الأنبياء ودليل النبوّة لا يوجد مع غير الأنبياء كما أن الفعل المحكم لما كان دليلاً على العلم لا جرم لا يوجد في حق غير العالم
والجواب من وجوه الأول وهو أن ظهور الفعل الخارق للعادة دليل على صدق المدعي فإن ادعى صاحبه النبوّة فذاك الفعل الخارق للعادة يدل على كونه نبياً وإن ادعى الولاية فذلك يدل على كونه ولياً والثاني قال بعضهم الأنبياء مأمورون بإظهارها والأولياء مأمورون بإخفائها والثالث وهو أن النبي يدعي المعجز ويقطع به والولي لا يمكنه أن يقطع به والرابع أن المعجزة يجب انفكاكها عن المعارضة والكرامة لا يجب انفكاكها عن المعارضة فهذا جملة الكلام في هذا الباب وبالله التوفيق
ثم قال تعالى حكاية عن مريم عليها السلام إنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ فهذا يحتمل أن يكون من جملة كلام مريم وأن يكون من كلام الله سبحانه وتعالى وقوله بِغَيْرِ حِسَابٍ أي بغير تقدير لكثرته أو من غير مسألة سألها على سبيل يناسب حصولها وهذا كقوله وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ ( الطلاق 3 ) وههنا آخر الكلام في قصة حنة

القصة الثانية
واقعة زكريا عليه السلام
هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّة ً طَيِّبَة ً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَآءِ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن قولنا ثم وهناك وهنالك يستعمل في المكان ولفظة عند وحين يستعملان في الزمان قال تعالى فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ ( الأعراف 119 ) وهو إشارة إلى المكان الذي كانوا فيه وقال تعالى إِذَا أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيّقاً مُّقَرَّنِينَ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً ( الفرقان 13 ) أي في ذلك المكان الضيق ثم قد يستعمل لفظة هُنَالِكَ في الزمان أيضاً قال تعالى هُنَالِكَ الْوَلَايَة ُ لِلَّهِ الْحَقّ ( الكهف 44 ) فهذا إشارة إلى الحال والزمان
إذا عرفت هذا فنقول قوله هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ إن حملناه على المكان فهو جائز أي في ذلك المكان الذي كان قاعداً فيه عند مريم عليها السلام وشاهد تلك الكرامات دعا ربه وإن حملناه على الزمان فهو أيضاً جائز يعني في ذلك الوقت دعا ربه
المسألة الثانية اعلم أن قوله هُنَالِكَ دَعَا يقتضي أنه دعا بهذا الدعاء عند أمر عرفه في ذلك الوقت له تعلق بهذا الدعاء وقد اختلفوا فيه والجمهور الأعظم من العلماء المحققين والمفسرين قالوا هو أن زكريا عليه السلام رأى عند مريم من فاكهة الصيف في الشتاء ومن فاكهة الشتاء في الصيف فلما رأى خوارق العادات عندها طمع في أن يخرقها الله تعالى في حقه أيضاً فيرزقه الولد من الزوجة الشيخة العاقر
والقول الثاني وهو قول المعتزلة الذين ينكرون كرامات الأولياء وإرهاصات الأنبياء قالوا إن زكريا عليه السلام لما رأى آثار الصلاح والعفاف والتقوى مجتمعة في حق مريم عليها السلام اشتهى الولد وتمناه فدعا عند ذلك واعلم أن القول الأول أولى وذلك لأن حصول الزهد والعفاف والسيرة المرضية لا يدل على انخراق العادات فرؤية ذلك لا يحمل الإنسان على طلب ما يخرق العادة وأما رؤية ما يخرق العادة قد يطمعه في أن يطلب أيضاً فعلاً خارقاً للعادة ومعلوم أن حدوث الولد من الشيخ الهرم والزوجة العاقر من خوارق العادات فكان حمل الكلام على هذا الوجه أولى
فإن قيل إن قلتم إن زكريا عليه السلام ما كان يعلم قدرة الله تعالى على خرق العادات إلا عندما شاهد تلك الكرامات عند مريم عليها السلام كان في هذا نسبة الشك في قدرة الله تعالى إلى زكريا عليه السلام
فإن قلنا إنه كان عالماً بقدرة الله على ذلك لمن تكن مشاهدة تلك الأشياء سبباً لزيادة علمه بقدرة الله

تعالى فلم يكن لمشاهدة تلك الكرامات أثر في ذلك فلا يبقى لقوله هنالك أثر
والجواب أنه كان قبل ذلك عالماً بالجواز فأما أنه هل يقع أم لا فلم يكن عالماً به فلما شاهد علم أنه إذا وقع كرامة لولي فبأن يجوز وقوع معجزة لنبي كان أولى فلا جرم قوي طمعه عند مشاهدة تلك الكرامات
المسألة الثالثة إن دعاء الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام لا يكون إلا بعد الإذن لاحتمال أن لا تكون الإجابة مصلحة فحينئذ تصير دعوته مردودة وذلك نقصان في منصب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هكذا قاله المتكلمون وعندي فيه بحث وذلك لأنه تعالى لما أذن في الدعاء مطلقاً وبين أنه تارة يجيب وأخرى لا يجيب فللرسول أن يدعو كلما شاء وأراد مما لا يكون معصية ثم إنه تعالى تارة يجيب وأخرى لا يجيب وذلك لا يكون نقصاناً بمنصب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لأنهم على باب رحمة الله تعالى سائلون فإن أجابهم فبفضله وإحسانه وإن لم يجبهم فمن المخلوق حتى يكون له منصب على باب الخالق
أما قوله تعالى حكاية عن زكريا عليه السلام هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرّيَّة ً طَيّبَة ً ففيه مسائل
المسألة الأولى أما الكلام في لفظة لَّدُنْ فسيأتي في سورة الكهف والفائدة في ذكره ههنا أن حصول الولد في العرف والعادة له أسباب مخصوصة فلما طلب الولد مع فقدان تلك الأسباب كان المعنى أُريد منك إلاهي أن تعزل الأسباب في هذه الواقعة وأن تحدث هذا الولد بمحض قدرتك من غير توسط شيء من هذه الأسباب
المسألة الثانية لذرية النسل وهو لفظ يقع على الواحد والجمع والذكر والأنثى والمراد منه ههنا ولد واحد وهو مثل قوله فَهَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً ( مريم 5 ) قال الفراء وأنث طَيّبَة ً لتأنيث الذرية في الظاهر فالتأنيث والتذكير تارة يجيء على اللفظ وتارة على المعنى وهذا إنما نقوله في أسماء الأجناس أما في أسماء الأعلام فلا لأنه لا يجوز أن يقال جاءت طلحة لأن أسماء الأعلام لا تفيد إلا ذلك الشخص فإذا كان ذلك الشخص مذكراً لم يجز فيها إلا التذكير
المسألة الثالثة قوله تعالى إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء ليس المراد منه أن يسمع صوت الدعاء فذلك معلوم بل المراد منه أن يجيب دعاءه ولا يخيب رجاءه وهو كقول المصلين سمع الله لمن حمده يريدون قبل حمد من حمد من المؤمنين وهذا متأكد بما قال تعالى حكاية عن زكريا عليه السلام في سورة مريم وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبّ شَقِيّاً ( مريم 4 )
فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَة ُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّى فِى الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَة ٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وَامْرَأَتِى عَاقِرٌ قَالَ كَذَالِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ
وفيه مسألتان

المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي فناداه الملائكة على التذكير والإمالة والباقون على التأنيث على اللفظ وقيل من ذكر فلأن الفعل قبل الاسم ومن أنث فلأن الفعل للملائكة وقرأ ابن عامر الْمِحْرَابَ بالإمالة والباقون بالتفخيم وفي قراءة ابن مسعود فناداه جبريل
المسألة الثانية ظاهر اللفظ يدل على أن النداء كان من الملائكة ولا شك أن هذا في التشريف أعظم فإن دل دليل منفصل أن المنادي كان جبريل عليه السلام فقط صرنا إليه وحملنا هذ اللفظ على التأويل فإنه يقال فلان يأكل الأطعمة الطيبة ويلبس الثياب النفيسة أي يأكل من هذا الجنس ويلبس من هذا الجنس مع أن المعلوم أنه لم يأكل جميع الأطعمة ولم يلبس جميع الأثواب فكذا ههنا ومثله في القرآن الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ ( آل عمران 173 ) وهم نعيم بن مسعود إن الناس يعني أبا سفيان قال المفضل بن سلمة إذا كان القائل رئيساً جاز الإخبار عنه بالجمع لاجتماع أصحابه معه فلما كان جبريل رئيس الملائكة وقلما يبعث إلا ومعه جمع صح ذلك
أما قوله وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلّى فِى الْمِحْرَابِ فهو يدل على أن الصلاة كانت مشروعة في دينهم والمحراب قد ذكرنا معناه
أما قوله أَنَّ اللَّهَ يُبَشّرُكَ بِيَحْيَى ففيه مسائل
المسألة الأولى أما البشارة فقد فسرناها في قوله تعالى وَبَشّرِ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ( البقرة 25 ) وفي قوله يُبَشّرُكَ بِيَحْيَى وجهان الأول أنه تعالى كان قد عرف زكريا أنه سيكون في الأنبياء رجل اسمه يحيى وله ذرية عالية فإذا قيل إن ذلك النبي المسمى بيحيى هو ولدك كان ذلك بشارة له بيحيى عليه السلام والثاني أن الله يبشرك بولد اسمه يحيى
المسألة الثانية قرأ ابن عامر وحمزة ءانٍ بكسر الهمزة والباقون بفتحها أما الكسر فعلى إرادة القول أو لأن النداء نوع من القول وأما الفتح فتقديره فنادته الملائكة بأن الله يبشرك
المسألة الثالثة قرأ حمزة والكسائي يُبَشّرُكِ بفتح الياء وسكون الباء وضم الشين وقرأ الباقون يُبَشّرُكِ وقرىء أيضاً يُبَشّرُكِ قال أبو زيد يقال بشر يبشر بشراً وبشر يبشر تبشيراً وأبشر يبشر ثلاث لغات
المسألة الرابعة قرأ حمزة والكسائي يَحْيَى بالإمالة لأجل الياء والباقون بالتفخيم وأما أنه لم سمى يحيى فقد ذكرناه في سورة مريم واعلم أنه تعالى ذكر من صفات يحيى ثلاثة أنواع
الصفة الأولى قوله مُصَدّقاً بِكَلِمَة ٍ مّنَ اللَّهِ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قال الواحدي قوله مُصَدّقاً بِكَلِمَة ٍ مّنَ اللَّهِ نصب على الحال لأنه نكرة ويحيى معرفة
المسألة الثانية في المراد بِكَلِمَة ٍ مّنَ اللَّهِ قولان الأول وهو قول أبي عبيدة أنها كتاب من الله واستشهد بقولهم أنشد فلان كلمة والمراد به القصيدة الطويلة

والقول الثاني وهو اختيار الجمهور أن المراد من قوله بِكَلِمَة ٍ مّنَ اللَّهِ هو عيسى عليه السلام قال السدي لقيت أم عيسى أم يحيى عليهما السلام وهذه حامل بيحيى وتلك بعيسى فقالت يا مريم أشعرت أني حبلى فقالت مريم وأنا أيضاً حبلى قالت امرأة زكريا فإني وجدت ما في بطني يسجد لما في بطنك فذلك قوله مُصَدّقاً بِكَلِمَة ٍ مّنَ اللَّهِ وقال ابن عباس إن يحيى كان أكبر سناً من عيسى بستة أشهر وكان يحيى أول من آمن وصدق بأنه كلمة الله وروحه ثم قتل يحيى قبل رفع عيسى عليهما السلام فإن قيل لم سمي عيسى كلمة في هذه الآية وفي قوله إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ ( النساء 171 ) قلنا فيه وجوه الأول أنه خلق بكلمة الله وهو قوله كُنَّ من غير واسطة الأب فلما كان تكوينه بمحض قول الله كُنَّ وبمحض تكوينه وتخليقه من غير واسطة الأب والبذر لا جرم سمى كلمة كما يسمى المخلوق خلقاً والمقدور قدرة والمرجو رجاء والمشتهي شهوة وهذا باب مشهور في اللغة والثاني أنه تكلم في الطفولية وآتاه الله الكتاب في زمان الطفولية فكان في كونه متكلماً بالغاً مبلغاً عظيماً فسمي كلمة بهذا التأويل وهو مثل ما يقال فلان جود وإقبال إذا كان كاملاً فيهما والثالث أن الكلمة كما أنها تفيد المعاني والحقائق كذلك عيسى كان يرشد إلى الحقائق والأسرار الإلاهية فسمى كلمة بهذا التأويل وهو مثل تسميته روحاً من حيث إن الله تعالى أحيا به من الضلالة كما يحيا الإنسان بالروح وقد سمى الله القرآن روحاً فقال وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا ( الشورى 52 ) والرابع أنه قد وردت البشارة به في كتب الأنبياء الذين كانوا قبله فلما جاء قيل هذا هو تلك الكلمة فسمى كلمة بهذا التأويل قالوا ووجه المجاز فيه أن من أخبر عن حدوث أمر فإذا حدث ذلك الأمر قال قد جاء قولي وجاء كلامي أي ما كنت أقول وأتكلم به ونظيره قوله تعالى وَكَذالِكَ حَقَّتْ كَلِمَة ُ رَبّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ( غافر 6 ) وقال وَلَاكِنْ حَقَّتْ كَلِمَة ُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ ( الزمر 71 ) الخامس أن الإنسان قد يسمى بفضل الله ولطف الله فكذا عيسى عليه السلام كان اسمه العلم كلمة الله وروح الله واعلم أن كلمة الله هي كلامه وكلامه على قول أهل السنة صفة قديمة قائمة بذاته وعلى قول المعتزلة أصوات يخلقها الله تعالى في جسم مخصوص دالة بالوضع على معان مخصوصة والعلم الضروري حاصل بأن الصفة القديمة أو الأصوات التي هي أعراض غير باقية يستحيل أن يقال أنها هي ذات عيسى عليه السلام ولما كان ذلك باطلاً في بداهة العقول لم يبق إلا التأويل
الصفة الثانية ليحيى عليه السلام قوله وَسَيّدًا والمفسرون ذكروا فيه وجوهاً الأول قال ابن عباس السيد الحليم وقال الجبائي إنه كان سيداً للمؤمنين رئيساً لهم في الدين أعني في العلم والحلم والعبادة والورع وقال مجاهد الكريم على الله وقال ابن المسيب الفقيه العالم وقال عكرمة الذي لا يغلبه الغضب قال القاضي السيد هو المتقدم المرجوع إليه فلما كان سيداً في الدين كان مرجوعاً إليه في الدين وقدوة في الدين فيدخل فيه جميع الصفات المذكورة من العلم والحلم والكرم والعفة والزهد والورع
الصفة الثالثة قوله وَحَصُورًا وفيه مسألتان
المسألة الأولى في تفسير الحصور والحصر في اللغة الحبس يقال حصره يحصره حصراً وحصر الرجل أي اعتقل بطنه والحصور الذي يكتم السر ويحبسه والحصور الضيق البخيل وأما المفسرون

فلهم قولان أحدهما أنه كان عاجزاً عن إتيان النساء ثم منهم من قال كان ذلك لصغر الآلة ومنهم من قال كان ذلك لتعذر الإنزال ومنهم من قال كان ذلك لعدم القدرة فعلى هذا الحصور فعول بمعنى مفعول كأنه قال محصور عنهن أي محبوس ومثله ركوب بمعنى مركوب وحلوب بمعنى محلوب وهذا القول عندنا فاسد لأن هذا من صفات النقصان وذكر صفة النقصان في معرض المدح لا يجوز ولأن على هذا التقدير لا يستحق به ثواباً ولا تعظيماً
والقول الثاني وهو اختيار المحققين أنه الذي لا يأتي النساء لا للعجز بل للعفة والزهد وذلك لأن الحصور هو الذي يكثر منه حصر النفس ومنعها كالأكول الذي يكثر منه الأكل وكذا الشروب والظلوم والغشوم والمنع إنما يحصل أن لو كان المقتضي قائماً فلولا أن القدرة والداعية كانتا موجودتين وإلا لما كان حاصراً لنفسه فضلاً عن أن يكون حصوراً لأن الحاجة إلى تكثير الحصر والدفع إنما تحصل عند قوة الرغبة والداعية والقدرة وعلى هذا الحصور بمعنى الحاصر فعول بمعنى فاعل
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية على أن ترك النكاح أفضل وذلك لأنه تعالى مدحه بترك النكاح وذلك يدل على أن ترك النكاح أفضل في تلك الشريعة وإذا ثبت أن الترك في تلك الشريعة أفضل وجب أن يكون الأمر كذلك في هذه الشريعة بالنص والمعقول أما النص فقوله تعالى أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ( الأنعام 90 ) وأما المعقول فهو أن الأصل في الثابت بقاؤه على ما كان والنسخ على خلاف الأصل
الصفة الرابعة قوله وَنَبِيّا واعلم أن السيادة إشارة إلى أمرين أحدهما قدرته على ضبط مصالح الخلق فيما يرجع إلى تعليم الدين والثاني ضبط مصالحهم فيما يرجع إلى التأديب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأما الحصور فهو إشارة إلى الزهد التام فلما اجتمعا حصلت النبوة بعد ذلك لأنه ليس بعدهما إلا النبوة
الصفة الخامسة قوله مّنَ الصَّالِحِينَ وفيه ثلاثة أوجه الأول معناه أنه من أولاد الصالحين والثاني أنه خير كما يقال في الرجل الخير ( أنه من الصالحين ) والثالث أن صلاحه كان أتم من صلاح سائر الأنبياء بدليل قوله عليه الصلاة والسلام ( ما من نبي إلا وقد عصى أو هم بمعصية غير يحيى فإنه لم يعص ولم يهم )
فإن قيل لما كان منصب النبوة أعلى من منصب الصلاح فلما وصفه بالنبوة فما الفائدة في وصفه بعد ذلك بالصلاح
قلنا أليس أن سليمان عليه السلام بعد حصول النبوة قال وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ( النمل 19 ) وتحقيق القول فيه أن للأنبياء قدراً من الصلاح لو انتقص لانتفت النبوة فذلك القدر بالنسبة إليهم يجري مجرى حفظ الواجبات بالنسبة إلينا ثم بعد اشتراكهم في ذلك القدر تتفاوت درجاتهم في الزيادة على ذلك القدر وكل من كان أكثر نصيباً منه كان أعلى قدراً والله أعلم
قوله تعالى قَالَ رَبّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ في الآية سؤالات

السؤال الأول قوله رَبّ خطاب مع الله أو مع الملائكة لأنه جائز أن يكون خطاباً مع الله لأن الآية المتقدمة دلت على أن الذين نادوه هم الملائكة وهذا الكلام لا بد أن يكون خطاباً مع ذلك المنادي لا مع غيره ولا جائز أن يكون خطاباً مع الملك لأنه لا يجوز للإنسان أن يقول للملك يا رب
والجواب للمفسرين فيه قولان الأول أن الملائكة لما نادوه بذلك وبشروه به تعجب زكريا عليه السلام ورجع في إزالة ذلك التعجب إلى الله تعالى والثاني أنه خطاب مع الملائكة والرب إشارة إلى المربي ويجوز وصف المخلوق به فإنه يقال فلان يربيني ويحسن إلي
السؤال الثاني لما كان زكريا عليه السلام هو الذي سأل الولد ثم أجابه الله تعالى إليه فلم تعجب منه ولم استبعده
الجواب لم يكن هذا الكلام لأجل أنه كان شاكاً في قدرة الله تعالى على ذلك والدليل عليه وجهان الأول أن كل أحد يعلم أن خلق الولد من النطفة إنما كان على سبيل العادة لأنه لو كان لا نطفة إلا من خلق ولا خلق إلا من نطفة لزم التسلسل ولزم حدوث الحوادث في الأزل وهو محال فعلمنا أنه لا بد من الانتهاء إلى مخلوق خلقه الله تعالى لا من نطفة أو من نطفة خلقها الله تعالى لا من إنسان
والوجه الثاني أن زكريا عليه السلام طلب ذلك من الله تعالى فلو كان ذلك محالاً ممتنعاً لما طلبه من الله تعالى فثبت بهذين الوجهين أن قوله أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ ليس للاستبعاد بل ذكر العلماء فيه وجوهاً الأول أنه قوله إِنّى معناه من أين ويحتمل أن يكون معناه كيف تعطي ولداً على القسم الأول أم على القسم الثاني وذلك لأن حدوث الولد يحتمل وجهين أحدهما أن يعيد الله شبابه ثم يعطيه الولد مع شيخوخته فقوله أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ معناه كيف تعطي الولد على القسم الأول أم على القسم الثاني فقيل له كذلك أي على هذا الحال والله يفعل ما يشاء وهذا القول ذكره الحسن والأصم والثاني أن من كان آيساً من الشيء مستبعداً لحصوله ووقوعه إذا اتفق أن حصل له ذلك المقصود فربما صار كالمدهوش من شدة الفرح فيقول كيف حصل هذا ومن أين وقع هذا كمن يرى إنساناً وهبه أموالاً عظيمة يقول كيف وهبت هذه الأموال ومن أين سمحت نفسك بهبتها فكذا ههنا لما كان زكريا عليه السلام مستبعداً لذلك ثم اتفق إجابة الله تعالى إليه صار من عظم فرحه وسروره قال ذلك الكلام الثالث أن الملائكة لما بشّروه بيحيى لم يعلم أنه يرزق الولد من جهة أنثى أو من صلبه فذكر هذا الكلام لذلك الاحتمال الرابع أن العبد إذا كان في غاية الاشتياق إلى شيء فطلبه من السيد ثم إن السيد يعده بأنه سيعطيه بعد ذلك فالتذ السائل بسماع ذلك الكلام فربما أعاد السؤال ليعيد ذلك الجواب فحينئذ يلتذ بسماع تلك الإجابة مرة أخرى فالسبب في إعادة زكريا هذا الكلام يحتمل أن يكون من هذا الباب الخامس نقل سفيان بن عيينة أنه قال كان دعاؤه قبل البشارة بستين سنة حتى كان قد نسي ذلك السؤال وقت البشارة فلما سمع البشارة زمان الشيخوخة لا جرم استبعد ذلك على مجرى العادة لا شكا في قدرة الله تعالى فقال ما قال السادس نقل عن السدي أن زكريا عليه السلام جاءه الشيطان عند سماع البشارة فقال إن هذا الصوت من الشيطان وقد سخر منك فاشتبه الأمر على زكريا عليه السلام فقال رَبّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وكان مقصوده من هذا الكلام أن يريه الله تعالى آية تدل على أن ذلك الكلام من الوحي والملائكة لا من إلقاء

الشيطان قال القاضي لا يجوز أن يشتبه كلام الملائكة بكلام الشيطان عند الوحي على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذ لو جوزنا ذلك لارتفع الوثوق عن كل الشرائع ويمكن أن يقال لما قامت المعجزات على صدق الوحي في كل ما يتعلق بالدين لا جرم حصل الوثوق هناك بأن الوحي من الله تعالى بواسطة الملائكة ولا مدخل للشيطان فيه أما ما يتعلق بمصالح الدنيا وبالولد فربما لم يتأكد ذلك المعجز فلا جرم بقي احتمال كون ذلك من الشيطان فلا جرم رجع إلى الله تعالى في أن يزيل عن خاطره ذلك الاحتمال
أما قوله تعالى وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ ففيه مسائل
المسألة الأولى الكبر مصدر كبر الرجل يكبر إذا أسن قال ابن عباس كان يوم بشر بالولد ابن عشرين ومائة سنة وكانت امرأته بنت تسعين وثمان
المسألة الثانية قال أهل المعاني كل شيء صادفته وبلغته فقد صادفك وبلغك وكلما جاز أن يقول بلغت الكبر جاز أن يقول بلغني الكبر يدل عليه قول العرب لقيت الحائط وتلقاني الحائط
فإن قيل يجوز بلغني البلد في موضع بلغت البلد قلنا هذا لا يجوز والفرق بين الموضعين أن الكبر كالشيء الطالب للإنسان فهو يأتيه بحدوثه فيه والإنسان أيضاً يأتيه بمرور السنين عليه أما البلد فليس كالطالب للإنسان الذاهب فظهر الفرق
أما قوله وَامْرَأَتِى عَاقِرٌ
اعلم أن العاقر من النساء التي لا تلد يقال عقر يعقر عقراً ويقال أيضاً عقر الرجل وعقر بالحركات الثلاثة في القاف إذا لم يحمل له ورمل عاقر لا ينبت شيئاً واعلم أن زكريا عليه السلام ذكر كبر نفسه مع كون زوجته عاقراً لتأكيد حال الاستبعاد
أما قوله قَالَ كَذالِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء ففيه بحثان الأول أن قوله قَالَ عائد إلى مذكور سابق وهو الرب المذكور في قوله قَالَ رَبّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وقد ذكرنا أن ذلك يحتمل أن يكون هو الله تعالى وأن يكون هو جبريل
البحث الثاني قال صاحب ( الكشاف ) كَذالِكَ اللَّهُ مبتدأ وخبر أي على نحو هذه الصفة الله ويفعل ما يشاء بيان له أي يفعل ما يريد من الأفاعيل الخارقة للعادة
قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّى ءَايَة ً قَالَ ءَايَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَة َ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِى ِّ وَالإِبْكَارِ
واعلم أن زكريا عليه السلام لفرط سروره بما بشّر به وثقته بكرم ربه وإنعامه عليه أحب أن يجعل له

علامة تدل على حصول العلوق وذلك لأن العلوق لا يظهر في أول الأمر فقال رَبّ اجْعَل لِّى ءايَة ً فقال الله تعالى أَلاَّ تُكَلّمَ النَّاسَ ثَلَاثَة َ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا وَاذْكُر وفيه مسائل
المسألة الأولى ذكره ههنا ثلاثة أيام وذكر في سورة مريم ثلاثة ليالي فدل مجموع الآيتين على أن تلك الآية كانت حاصلة في الأيام الثلاثة مع لياليها
المسألة الثانية ذكروا في تفسير هذه الآية وجوهاً أحدها أنه تعالى حبس لسانه ثلاثة أيام فلم يقدر أن يكلم الناس إلا رمزاً وفيه فائدتان إحداهما أن يكون ذلك آية على علوق الولد والثانية أنه تعالى حبس لسانه عن أمور الدنيا وأقدره على الذكر والتسبيح والتهليل ليكون في تلك المدة مشتغلاً بذكر الله تعالى وبالطاعة والشكر على تلك النعمة الجسيمة وعلى هذا التقدير يصير الشيء الواحد علامة على المقصود وأداء لشكر تلك النعمة فيكون جامعاً لكل المقاصد
ثم اعلم أن تلك الواقعة كانت مشتملة على المعجز من وجوه أحدها أن قدرته على التكلم بالتسبيح والذكر وعجزه عن التكلم بأمور الدنيا من أعظم المعجزات وثانيها أن حصول ذلك المعجز في تلك الأيام المقدورة مع سلامة البنية واعتدال المزاج من جملة المعجزات وثالثها أن إخباره بأنه متى حصلت هذه الحالة فقد حصل الولد ثم إن الأمر خرج على وفق هذا الخبر يكون أيضاً من المعجزات
القول الثاني في تفسير هذه الآية وهو قول أبي مسلم أن المعنى أن زكريا عليه السلام لما طلب من الله تعالى آية تدله على حصول العلوق قال آيتك أن لا تكلم أي تصير مأموراً بأن لا تتكلم ثلاثة أيام بلياليها مع الخلق أي تكون مشتغلاً بالذكر والتسبيح والتهليل معرضاً عن الخلق والدنيا شاكراً لله تعالى على إعطاء مثل هذه الموهبة فإن كانت لك حاجة دل عليها بالرمز فإذا أمرت بهذه الطاعة فاعلم أنه قد حصل المطلوب وهذا القول عندي حسن معقول وأبو مسلم حسن الكلام في التفسير كثير الغوص على الدقائق واللطائف
القول الثالث روي عن قتادة أنه عليه الصلاة والسلام عوقب بذلك من حيث سأل الآية بعد بشارة الملائكة فأخذ لسانه وصير بحيث لا يقدر على الكلام
أما قوله إِلاَّ رَمْزًا ففيه مسألتان
المسألة الأولى أصل الرمز الحركة يقال ارتمز إذا تحرك ومنه قيل للبحر الراموز ثم اختلفوا في المراد بالرمز ههنا على أقوال أحدها أنه عبارة عن الإشارة كيف كانت باليد أو الرأس أو الحاجب أو العين أو الشفة والثاني أنه عبارة عن تحريك الشفتين باللفظ من غير نطق وصوت قالوا وحمل الرمز على هذا المعنى أولى لأن الإشارة بالشفتين يمكن وقوعها بحيث تكون حركات الشفتين وقت الرمز مطابقة لحركاتهما عند النطق فيكون الاستدلال بتلك الحركات على المعاني الذهنية أسهل والثالث وهو أنه كان يمكنه أن يتكلم بالكلام الخفي وأما رفع الصوت بالكلام فكان ممنوعاً منه
فإن قيل الرمز ليس من جنس الكلام فكيف استثنى منه
قلنا لما أدى ما هو المقصود من الكلام سمي كلاماً ويجوز أيضاً أن يكون استثناءً منقطعاً فأما إن

حملنا الرمز على الكلام الخفي فإن الإشكال زائل
المسألة الثانية قرأ يحيى بن وثاب إِلاَّ رَمْزًا بضمتين جمع رموز كرسول ورسل وقرىء رَمْزًا بفتح الراء والميم جمع رامز كخادم وخدم وهو حال منه ومن الناس ومعنى إِلاَّ رَمْزًا إلا مترامزين كما يتكلم الناس مع الأخرس بالإشارة ويكلمهم
ثم قال الله تعالى وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وفيه قولان أحدهما أنه تعالى حبس لسانه عن أمور الدنيا إِلاَّ رَمْزًا فأما في الذكر والتسبيح فقد كان لسانه جيداً وكان ذلك من المعجزات الباهرة والثاني إن المراد منه الذكر بالقلب وذلك لأن المستغرقين في بحار معرفة الله تعالى عادتهم في الأول أن يواظبوا على الذكر اللساني مدة فإذا امتلأ القلب من نور ذكر الله سكت اللسان وبقي الذكر في القلب ولذلك قالوا من عرف الله كل لسانه فكأن زكريا عليه السلام أمر بالسكوت واستحضار معاني الذكر والمعرفة واستدامتها
وَسَبّحْ بِالْعَشِى ّ وَالإبْكَارِ وفيه مسألتان
المسألة الأولى العشي من حين نزول الشمس إلى أن تغيب قال الشاعر فلا الظل من برد الضحى تستطيعه
ولا الفيء من برد العشى تذوق
والفيء إنما يكون من حين زوال الشمس إلى أن يتناهى غروبها وأما الإبكار فهو مصدر بكرر يبكر إذا خرج للأمر في أول النهار ومثله بكر وابتكر وبكر ومنه الباكورة لأول الثمرة هذا هو أصل اللغة ثم سمي ما بين طلوع الفجر إلى الضحى إبكاراً كما سمي إصباحاً وقرأ بعضهم بِالْعَشِى ّ وَالإبْكَارِ بفتح الهمزة جمع بكر كسحر وأسحار ويقال أتيته بكراً بفتحتين
المسألة الثانية في قوله وَسَبّحْ قولان أحدهما المراد منه وصل لأن الصلاة تسمى تسبيحاً قال الله تعالى فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وأيضاً الصلاة مشتملة على التسبيح فجاز تسمية الصلاة بالتسبيح وههنا الدليل دل على وقوع هذا المحتمل وهو من وجهين الأول أنا لو حملناه على التسبيح والتهليل لم يبق بين هذه الآية وبين ما قبلها وهو قوله وَاذْكُر رَّبَّكَ فرق وحينئذ يبطل لأن عطف الشيء على نفسه غير جائز والثاني وهو أنه شديد الموافقة لقوله تعالى أَقِمِ الصَّلَواة َ طَرَفَى ِ النَّهَارِ وثانيهما أن قوله وَاذْكُر رَّبَّكَ محمول على الذكر باللسان
القصة الثالثة
وصفه طهارة مريم صلوات الله عليها
وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَة ُ يامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَآءِ الْعَالَمِينَ يامَرْيَمُ اقْنُتِى لِرَبِّكِ وَاسْجُدِى وَارْكَعِى مَعَ الرَاكِعِينَ
وفيه مسائل

المسألة الأولى عامل الإعراب ههنا في إِذْ هو ما ذكرناه في قوله إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ ( آل عمران 35 ) من قوله سَمِيعٌ عَلِيمٌ ثم عطف عليه إِذْ قَالَتِ الْمَلَئِكَة ُ وقيل تقديره واذكر إذ قالت الملائكة
المسألة الثانية قالوا المراد بالملائكة ههنا جبريل وحده وهذا كقوله يُنَزّلُ الْمَلَائِكَة َ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ( النحل 2 ) يعني جبريل وهذا وإن كان عدولاً عن الظاهر إلا أنه يجب المصير إليه لأن سورة مريم دلت على أن المتكلم مع مريم عليها السلام هو جبريل عليه السلام وهو قوله فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً ( مريم 17 )
المسألة الثالثة اعلم أن مريم عليها السلام ما كانت من الأنبياء لقوله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ مّنْ أَهْلِ الْقُرَى ( يوسف 109 ) وإذا كان كذلك كان إرسال جبريل عليه السلام إليها إما أن يكون كرامة لها وهو مذهب من يجوز كرامات الأولياء أو إرهاصاً لعيسى عليه السلام وذلك جائز عندنا وعند الكعبي من المعتزلة أو معجزة لزكرياء عليه السلام وهو قول جمهور المعتزلة ومن الناس من قال إن ذلك كان على سبيل النفث في الروع والإلهام والإلقاء في القلب كما كان في حق أم موسى عليه السلام في قوله وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمّ مُوسَى ( القصص 7 )
المسألة الرابعة اعلم أن المذكور في هذه الآية أولاً هو الاصطفاء وثانياً التطهير وثالثاً الاصطفاء على نساء العالمين ولا يجوز أن يكون الاصطفاء أولاً من الاصطفاء الثاني لما أن التصريح بالتكرير غير لائق فلا بد من صرف الاصطفاء الأول إلى ما اتفق لها من الأمور الحسنة في أول عمرها والاصطفاء الثاني إلى ما اتفق لها في آخر عمرها
النوع الأول من الاصطفاء فهو أمور أحدها أنه تعالى قبل تحريرها مع أنها كانت أنثى ولم يحصل مثل هذا المعنى لغيرها من الإناث وثانيها قال الحسن إن أمها لما وضعتها ما غذتها طرفة عين بل ألقتها إلى زكريا وكان رزقها يأتيها من الجنة وثالثها أنه تعالى فرغها لعبادته وخصها في هذا المعنى بأنواع اللطف والهداية والعصمة ورابعها أنه كفاها أمر معيشتها فكان يأتيها رزقها من عند الله تعالى على ما قال الله تعالى أَنَّى لَكِ هَاذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وخامسها أنه تعالى أسمعها كلام الملائكة شفاها ولم يتفق ذلك لأنثى غيرها فهذا هو المراد من الاصطفاء الأول وأما التطهير ففيه وجوه أحدها أنه تعالى طهرها عن الكفر والمعصية فهو كقوله تعالى في أزواج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً ( الأحزاب 33 ) وثانيها أنه تعالى طهرها عن مسيس الرجال وثالثها طهرها عن الحيض قالوا كانت مريم لا تحيض ورابعها وطهرك من الأفعال الذميمة والعادات القبيحة وخامسها وطهرك عن مقالة اليهود وتهمتهم وكذبهم
وأما الاصطفاء الثاني فالمراد أنه تعالى وهب لها عيسى عليه السلام من غير أب وأنطق عيسى حال انفصاله منها حتى شهد بما يدل على براءتها عن التهمة وجعلها وابنها آية للعالمين فهذا هو المراد من هذه الألفاظ الثلاثة

المسألة الخامسة روي أنه عليه الصلاة والسلام قال ( حسبك من نساء العالمين أربع مريم وآسية امرأة فرعون وخديجة وفاطمة عليهن السلام ) فقيل هذا الحديث دل على أن هؤلاء الأربع أفضل من النساء وهذه الآي دلت على أن مريم عليها السلام أفضل من الكل وقول من قال المراد إنها مصطفاة على عالمي زمانها فهذا ترك الظاهر
ثم قال تعالى الْعَالَمِينَ يامَرْيَمُ اقْنُتِى لِرَبّكِ وَاسْجُدِى وقد تقدم تفسير القنوت في سورة البقرة في قوله تعالى وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ ( البقرة 238 ) وبالجملة فلما بيّن تعالى أنها مخصوصة بمزيد المواهب والعطايا من الله أوجب عليها مزيد الطاعات شكراً لتلك النعم السنية وفي الآية سؤالات
السؤال الأول لم قدم ذكر السجود على ذكر الركوع
والجواب من وجوه الأول أن الواو تفيد الاشتراك ولا تفيد الترتيب الثاني أن غاية قرب العبد من الله أن يكون ساجداً قال عليه الصلاة والسلام ( أقرب ما يكون العبد من ربه إذا سجد ) فلما كان السجود مختصاً بهذا النوع من الرتبة والفضيلة لا جرم قدمه على سائر الطاعات
ثم قال وَارْكَعِى مَعَ الركِعِينَ وهو إشارة إلى الأمر بالصلاة فكأنه تعالى يأمرها بالمواظبة على السجود في أكثر الأوقات وأما الصلاة فإنها تأتي بها في أوقاتها المعينة لها والثالث قال ابن الأنباري قوله تعالى اقْنُتِى أمر بالعبادة على العموم ثم قال بعد ذلك وَاسْجُدِى وَارْكَعِى يعني استعملي السجود في وقته اللائق به واستعملي الركوع في وقته اللائق به وليس المراد أن يجمع بينهما ثم يقدم السجود على الركوع والله أعلم الرابع أن الصلاة تسمى سجوداً كما قيل في قوله وَأَدْبَارَ السُّجُودِ ( ق 40 ) وفي الحديث ( إذا دخل أحدكم المسجد فليسجد سجدتين ) وأيضاً المسجد سمي باسم مشتق من السجود والمراد منه موضع الصلاة وأيضاً أشرف أجزاء الصلاة السجود وتسمية الشيء باسم أشرف أجزائه نوع مشهور في المجاز
إذا ثبت هذا فنقول قوله الْعَالَمِينَ يامَرْيَمُ اقْنُتِى معناه يا مريم قومي وقوله وَاسْجُدِى أي صلي فكان المراد من هذا السجود الصلاة ثم قال وَارْكَعِى مَعَ الركِعِينَ إما أن يكون أمراً لها بالصلاة بالجماعة فيكون قوله وَاسْجُدِى أمراً بالصلاة حال الانفراد وقوله وَارْكَعِى مَعَ الركِعِينَ أمراً بالصلاة في الجماعة أو يكون المراد من الركوع التواضع ويكون قوله وَاسْجُدِى أمراً ظاهراً بالصلاة وقوله وَارْكَعِى مَعَ الركِعِينَ أمراً بالخضوع والخشوع بالقلب
الوجه الخامس في الجواب لعلّه كان السجود في ذلك الدين متقدماً على الركوع
السؤال الثاني اما المراد من قوله وَارْكَعِى مَعَ الركِعِينَ
والجواب قيل معناه افعلي كفعلهم وقيل المراد به الصلاة في الجماعة كانت مأمورة بأن تصلي في بيت المقدس مع المجاورين فيه وإن كانت لا تختلط بهم
السؤال الثالث لم لم يقل واركعي مع الراكعات
والجواب لأن الاقتداء بالرجال حال الاختفاء من الرجال أفضل من الاقتداء بالنساء

واعلم أن المفسرين قالوا لما ذكرت الملائكة هذه الكلمات مع مريم عليها السلام شفاها قامت مريم في الصلاة حتى ورمت قدماها وسال الدم والقيح من قدميها
ذالِكَ مِنْ أَنبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى ذالِكَ إشارة إلى ما تقدم والمعنى أن الذي مضى ذكره من حديث حنة وزكريا ويحيى وعيسى بن مريم إنما هو من إخبار الغيب فلا يمكنك أن تعلمه إلا بالوحي
فإن قيل لم نفيت هذه المشاهدة وانتفاؤها معلوم بغير شبهة وترك نفي استماع هذه الأشياء من حفاظها وهو موهوم
قلنا كان معلوماً عندهم علماً يقينياً أنه ليس من أهل السماع والقراءة وكانوا منكرين للوحي فلم يبق إلا المشاهدة وهي وإن كانت في غاية الاستبعاد إلا أنها نفيت على سبيل التهكم بالمنكرين للوحي مع علمهم بأنه لا سماع ولا قراءة ونظيره وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِى ّ ( القصص 44 ) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ ( القصص 46 ) وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم ( يوسف 102 ) ( يوسف 102 ) وَمَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَاذَا ( هود 49 )
المسألة الثانية الأنباء الإخبار عما غاب عنك وأما الإيحاء فقد ورد الكتاب به على معان مختلفة يجمعها تعريف الموحى إليه بأمر خفي من إشارة أو كتابة أو غيرهما وبهذا التفسير يعد الإلهام وحياً كقوله تعالى وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ( النحل 68 ) وقال في الشياطين لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ ( الأنعام 121 ) وقال فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبّحُواْ بُكْرَة ً وَعَشِيّاً ( مريم 11 ) فلما كان الله سبحانه ألقى هذه الأشياء إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بواسطة جبريل عليه السلام بحيث يخفى ذلك على غيره سماه وحياً
أما قوله تعالى إِذْ يُلْقُون أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ففيه مسائل
المسألة الأولى ذكروا في تلك الأقلام وجوهاً الأول المراد بالأقلام التي كانوا يكتبون بها التوراة وسائر كتب الله تعالى وكان القراع على أن كل من جرى قلمه على عكس جري الماء فالحق معه فلما فعلوا ذلك صار قلم زكريا كذلك فسلموا الأمر له وهذا قول الأكثرين والثاني أنهم ألقوا عصيهم في الماء الجاري جرت عصا زكريا على ضد جرية الماء فغلبهم هذا قول الربيع والثالث قال أبو مسلم معنى يلقون أقلامهم مما كانت الأمم تفعله من المساهمة عند التنازع فيطرحون منها ما يكتبون عليها أسماءهم فمن خرج له السهم سلم له الأمر وقد قال الله تعالى فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ( الصافات 141 ) وهو شبيه

بأمر القداح التي تتقاسم بها العرب لحم الجزور وإنما سميت هذه السهام أقلاماً لأنها تقلم وتبرى وكل ما قطعت منه شيئاً بعد شيء فقد قلمته ولهذا السبب يسمى ما يكتب به قلماً
قال القاضي وقوع لفظ القلم على هذه الأشياء وإن كان صحيحاً نظراً إلى أصل الاشتقاق إلا أن العرف أوجب اختصاص القلم بهذا الذي يكتب به فوجب حمل لفظ القلم عليه
المسألة الثانية ظاهر الآية يدل على أنهم كانوا يلقون أقلامهم في شيء على وجه يظهر به امتياز بعضهم عن البعض في استحقاق ذلك المطلوب وإما ليس فيه دلالة على كيفية ذلك الإلقاء إلا أنه روي في الخبر أنهم كانوا يلقونها في الماء بشرط أن من جرى قلمه على خلاف جري الماء فاليد له ثم إنه حصل هذا المعنى لزكريا عليه السلام فلا جرم صار هو أولى بكفالتها والله أعلم
المسألة الثالثة اختلفوا في السبب الذي لأجله رغبوا في كفالتها حتى أدتهم تلك الرغبة إلى المنازعة فقال بعضهم إن عمران أباها كان رئيساً لهم ومقدماً عليهم فلأجل حق أبيها رغبوا في كفالتها وقال بعضهم إن أمها حررتها لعبادة الله تعالى ولخدمة بيت الله تعالى ولأجل ذلك حرصوا على التكفل بها وقال آخرون بل لأن في الكتب الإلاهية كان بيان أمرها وأمر عيسى عليه السلام حاصلاً فتقربوا لهذا السبب حتى اختصموا
المسألة الرابعة اختلفوا في أن أولئك المختصمين من كانوا فمنهم من قال كانوا هم خدمة البيت ومنهم من قال بل العلماء والأحبار وكتاب الوحي ولا شبهة في أنهم كانوا من الخواص وأهل الفضل في الدين والرغبة في الطريق
أما قوله أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ففيه حذف والتقدير يلقون أقلامهم لينظروا أيهم يكفل مريم وإنما حسن لكونه معلوماً
أما قوله وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ فالمعنى وما كنت هناك إذ يتقارعون على التكفل بها وإذ يختصمون بسببها فيحتمل أن يكون المراد بهذا الاختصام ما كان قبل الإقراع ويحتمل أن يكون اختصاماً آخر حصل بعد الإقراع وبالجملة فالمقصود من الآية شدة رغبتهم في التكفل بشأنها والقيام بإصلاح مهماتها وما ذاك إلا لدعاء أمها حيث قالت فَتَقَبَّلْ مِنّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( آل عمران 35 ) وقالت إِنّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ( آل عمران 36 )
إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَة ُ يامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَة ٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالاٌّ خِرَة ِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِى الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ

اعلم أنه تعالى لما شرح حال مريم عليها السلام في أول أمرها وفي آخر أمرها وشرح كيفية ولادتها لعيسى عليه السلام فقال إِذْ قَالَتِ الْمَلَئِكَة ُ وفيه مسألتان
المسألة الأولى اختلفوا في العامل في إِذْ قيل العامل فيه وما كنت لديهم إذ قالت الملائكة وقيل يختصمون إذ قالت الملائكة وقيل إنه معطوف على إِذْ الأولى في قوله إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ وقيل التقدير إن ما وصفته من أمور زكريا وهبة الله له يحيى كان إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك وأما أبو عبيدة فإنه يجري في هذا الباب على مذهب له معروف وهو أن إِذْ صلة في الكلام وزيادة واعلم أن القولين الأولين فيهما بعض الضعف وذلك لأن مريم حال ما كانوا يلقون الأقلام وحال ما كانوا يختصمون ما بلغت الجد الذي تبشر فيه بعيسى عليه السلام إلا قول الحسن فإنه يقول إنها كانت عاقلة في حال الصغر فإن ذلك كان من كراماتها فإن صح ذلك جاز في تلك الحال أن يرد عليها البشرى من الملائكة وإلا فلا بد من تأخر هذه البشرى إلى حين العقل ومنهم من تكلف الجواب فقال يحتمل أن يقال الاختصام والبشرى وقعا في زمان واسع كما تقول لقيته في سنة كذا وهذا الجواب بعيد والأصوب هو الوجه الثالث والرابع أما قول أبي عبيدة فقد عرفت ضعفه والله أعلم
المسألة الثانية ظاهر قوله إِذْ قَالَتِ الْمَلَئِكَة ُ يفيد الجمع إلا أن المشهور أن ذلك المنادي كان جبريل عليه السلام وقد قررناه فيما تقدم وأما البشارة فقد ذكرنا تفسيرها في سورة البقرة في قوله وَبَشّرِ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ( البقرة 25 )
وأما قوله تعالى بِكَلِمَة ٍ مّنْهُ فقد ذكرنا تفسير الكلمة من وجوه وأليقها بهذا الموضع وجهان الأول أن كل علوق وإن كان مخلوقاً بواسطة الكلمة وهي قوله كُنَّ إلا أن ما هو السبب المتعارف كان مفقوداً في حق عيسى عليه السلام وهو الأب فلا جرم كان إضافة حدوثه إلى الكلمة أكل وأتم فجعل بهذا التأويل كأنه نفس الكلمة كما أن من غلب عليه الجود والكرم والإقبال يقال فيه على سبيل المبالغة إنه نفس الجود ومحض الكرم وصريح الإقبال فكذا ههنا
والوجه الثاني أن السلطان العادل قد يوصف بأنه ظل الله في أرضه وبأنه نور الله لما أنه سبب لظهور ظل العدل ونور الإحسان فكذلك كان عيسى عليه السلام سبباً لظهور كلام الله عزّ وجلّ بسبب كثرة بياناته وإزالة الشبهات والتحريفات عنه فلا يبعد أن يسمى بكلمة الله تعالى على هذا التأويل
فإن قيل ولم قلتم إن حدوث الشخص من غير نطفة الأب ممكن قلنا أما على أصول المسلمين فالأمر فيه ظاهر ويدل عليه وجهان الأول أن تركيب الأجسام وتأليفها على وجه يحصل فيها الحياة والفهم والنطق أمر ممكن وثبت أنه تعالى قادر على الممكنات بأسرها وكان سبحانه وتعالى قادراً على إيجاد الشخص لا من نطفة الأب وإذا ثبت الإمكان ثم إن المعجز قام على صدق النبي فوجب أن يكون صادقاً ثم أخبر عن وقوع ذلك الممكن والصادق إذا أخبر عن وقوع الممكن وجب القطع بكونه كذلك فثبت صحة ما ذكرناه الثاني ما ذكره الله تعالى في قوله إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءادَمَ ( آل عمران 59 ) فلما لم يبعد تخليق آدم من غير أب فلأن لا يبعد تخليق عيسى من غير آب كان أولى وهذه حجة ظاهرة وأما على أصول الفلاسفة فالأمر في تجويزه ظاهر ويدل عليه وجوه الأول أن الفلاسفة اتفقوا على

أنه لا يمتنع حدوث الإنسان على سبيل التوالد من غير تولد قالوا لأن بدن الإنسان إنما استعد لقبول النفس الناطقة التي تدبر بواسطة حصول المزاج المخصوص في ذلك البدن وذلك المزاج إنما جعل لامتزاج العناصر الأربعة على قدر معين في مدة معينة فحصول أجزاء العناصر على ذلك القدر الذي يناسب بدن الإنسان غير ممتنع وامتزاجها غير ممتنع فامتزاجها يكون عند حدوث الكيفية المزاجية واجباً وعند حدوث الكيفية المزاجية يكون تعلق النفس بذلك البدن واجباً فثبت أن حدوث الإنسان على سبيل التولد معقول ممكن وإذا كان الأمر كذلك فحدوث الإنسان لا عن الأب أولى بالجواز والإمكان
الوجه الثاني وهو أنا نشاهد حدوث كثير من الحيوانات على سبيل التولد كتولد الفأر عن المدر والحيات عن الشعر والعقارب عن الباذروج وإذا كان كذلك فتولد الولد لا عن الأب أولى أن لا يكون ممتنعاً
الوجه الثالث وهو أن التخيلات الذهنية كثيراً ما تكون أسباباً لحدوث الحوادث الكثيرة ليس أن تصور المنافي يوجب حصول كيفية الغضب ويوجب حصول السخونة الشديدة في البدن أليس اللوح الطويل إذا كان موضوعاً على الأرض قدر الإنسان على المشي عليه ولو جعل كالقنطرة على وهدة لم يقدر على المشي عليه بل كلما مشى عليه يسقط وما ذاك إلا أن تصور السقوط يوجب حصول السقوط وقد ذكروا في ( كتب الفلسفة ) أمثلة كثيرة لهذا الباب وجعلوها كالأصل في بيان جواز المعجزات والكرامات فما المانع من أن يقال إنه لما تخيلت صورته عليه السلام كفى ذلك في علوق الولد في رحمها وإذا كان كل هذه الوجوه ممكناً محتملاً كان القول بحدوث عيسى عليه السلام من غير واسطة الأب قولاً غير ممتنع ولو أنك طالبت جميع الأولين والآخرين من أرباب الطبائع والطب والفلسفة على إقامة حجة إقناعية في امتناع حدوث الولد من غير الأب لم يجدوا إليه سبيلاً إلا الرجوع إلا استقراء العرف والعادة وقد اتفق علماء الفلاسفة على أن مثل هذا الاستقراء لا يفيد الظن القوي فضلاً عن العلم فعلمنا أن ذلك أمر ممكن فلما أخبر العباد عن وقوعه وجب الجزم به والقطع بصحته
أما قوله تعالى بِكَلِمَة ٍ مّنْهُ فلفظة مِنْ ليست للتبعيض ههنا إذ لو كان كذلك لكان الله تعالى متجزئاً متبعضاً متحملاً للاجتماع والافتراق وكل من كان كذلك فهو محدث وتعالى الله عنه بل المراد من كلمة مِنْ ههنا ابتداء الغاية وذلك لأن في حق عيسى عليه السلام لما لم تكن واسطة الأب موجودة صار تأثير كلمة الله تعالى في تكوينه وتخليقه أكمل وأظهر فكان كونه كلمة اللَّهِ مبدأ لظهوره ولحدوثه أكمل فكان المعنى لفظ ما ذكرناه لا ما يتوهمه النصارى والحلولية
وأما قوله تعالى اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ففيه سؤالات
السؤال الأول المسيح هل هو اسم مشتق أو موضوع
والجواب فيه قولان الأول قال أبو عبيدة والليث أصله بالعبرانية مشيحا فعربته العرب وغيروا لفظه وعيسى أصله يشوع كما قالوا في موسى أصله موشى أو ميشا بالعبرانية وعلى هذا القول لا يكون له اشتقاق

والقول الثاني أنه مشتق وعليه الأكثرون ثم ذكروا فيه وجوهاً الأول قال ابن عباس إنما سمي عيسى عليه السلام مسيحاً لأنه ما كان يمسح بيده ذا عاهة إلا برىء من مرضه الثاني قال أحمد بن يحيى سمي مسيحاً لأنه كان يمسح الأرض أي يقطعها ومنه مساحة أقسام الأرض وعلى هذا المعنى يجوز أن يقال لعيسى مسيح بالتشديد على المبالغة كما يقال للرجل فسيق وشريب الثالث أنه كان مسيحاً لأنه كان يمسح رأس اليتامى لله تعالى فعلى هذه الأقوال هو فعيل بمعنى فاعل كرحيم بمعنى راحم الرابع أنه مسح من الأوزار والآثام والخامس سمي مسيحاً لأنه ما كان في قدمه خمص فكان ممسوح القدمين والسادس سمي مسيحاً لأنه كان ممسوحاً بدهن طاهر مبارك يمسح به الأنبياء ولا يمسح به غيرهم ثم قالوا وهذا الدهن يجوز أن يكون الله تعالى جعله علامة حتى تعرف الملائكة أن كل من مسح به وقت الولادة فإنه يكون نبياً السابع سمي مسيحاً لأنه مسحه جبريل ( صلى الله عليه وسلم ) بجناحه وقت ولادته ليكون ذلك صوناً له عن مس الشيطان الثامن سمي مسيحاً لأنه خرج من بطن أمه ممسوحاً بالدهن وعلى هذه الأقوال يكون المسيح بمعنى الممسوح فعيل بمعنى مفعول قال أبو عمرو بن العلاء المسيح الملك وقال النخعي المسيح الصديق والله أعلم ولعلّهما قالا ذلك من جهة كونه مدحاً لا لدلالة اللغة عليه وأما المسيح الدجال فإنما سمي مسيحاً لأحد وجهين أحدهما لأنه ممسوح أحد العينين والثاني أنه يمسح الأرض أي يقطعها في المدة القليلة قالوا ولهذا قيل له دجال لضربه في الأرض وقطعه أكثر نواحيها يقال قد دجل الدجال إذا فعل ذلك وقيل سمي دجالاً من قوله دجل الرجل إذا موه ولبس
السؤال الثاني المسيح كان كاللقب له وعيسى كالاسم فلم قدم اللقب على الاسم
الجواب أن المسيح كاللقب الذي يفيد كونه شريفاً رفيع الدرجة مثل الصديق والفاروق فذكره الله تعالى أولاً بلقبه ليفيد علو درجته ثم ذكره باسمه الخاص
السؤال الثالث لم قال عيسى بن مريم والخطاب مع مريم
الجواب لأن الأنبياء ينسبون إلى الآباء لا إلى الأمهات فلما نسبه الله تعالى إلى الأم دون الأب كان ذلك إعلاماً لها بأنه محدث بغير الأب فكان ذلك سبباً لزيادة فضله وعلو درجته
السؤال الرابع الضمير في قوله اسمه عائد إلى الكلمة وهي مؤنثة فلم ذكر الضمير
الجواب لأن المسمى بها مذكر
السؤال الخامس لم قال اسمه المسيح عيسى بن مريم والاسم ليس إلا عيسى وأما المسيح فهو لقب وأما ابن مريم فهو صفة
الجواب الاسم علامة المسمى ومعرف له فكأنه قيل الذي يعرف به هو مجموع هذه الثلاثة
أما قوله تعالى وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالاْخِرَة ِ ففيه مسألتان
المسألة الأولى معنى الوجيه ذو الجاه والشرف والقدر يقال وجه الرجل يوجه وجاهة هو وجيه إذا صارت له منزلة رفيعة عند الناس والسلطان وقال بعض أهل اللغة الوجيه هو الكريم لأن أشرف

أعضاء الإنسان وجهه فجعل الوجه استعارة عن الكرم والكمال
واعلم أن الله تعالى وصف موسى ( صلى الله عليه وسلم ) بأنه كان وجيهاً قال الله تعالى كَبِيراً ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ ءاذَوْاْ مُوسَى فَبرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُواْ وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً ( الأحزاب 69 ) ثم للمفسرين أقوال الأول قال الحسن كان وجيهاً في الدنيا بسبب النبوة وفي الآخرة بسبب علو المنزلة عند الله تعالى والثاني أنه وجيه عند الله تعالى وأما عيسى عليه السلام فهو وجيه في الدنيا بسبب أنه يستجاب دعاؤه ويحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص بسبب دعائه ووجيه في الآخرة بسبب أنه يجعله شفيع أمته المحقين ويقبل شفاعتهم فيهم كما يقبل شفاعة أكابر الأنبياء عليهم السلام والثالث أنه وجهه في الدنيا بسبب أنه كان مبرأ من العيوب التي وصفه اليهود بها ووجيه في الآخرة بسبب كثرة ثوابه وعلو درجته عن الله تعالى
فإن قيل كيف كان وجيهاً في الدنيا واليهود عاملوه بما عاملوه قلنا قد ذكرنا أنه تعالى سمى موسى عليه السلام بالوجيه مع أن اليهود طعنوا فيه وآذوه إلى أن برأه الله تعالى مما قالوا وذلك لم يقدح في وجاهة موسى عليه السلام فكذا ههنا
المسألة الثانية قال الزجاج وَجِيهاً منصوب على الحال المعنى أن الله يبشرك بهذا الولد وجيهاً في الدنيا والآخرة والفراء يسمي هذا قطعاً كأنه قال عيسى بن مريم الوجيه فقطع منه التعريف
أما قوله وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ففيه وجوه أحدها أنه تعالى جعل ذلك كالمدح العظيم للملائكة فألحقه بمثل منزلتهم ودرجتهم بواسطة هذه الصفة وثانيها أن هذا الوصف كالتنبيه على أنه عليه السلام سيرفع إلى السماء وتصاحبه الملائكة وثالثها أنه ليس كل وجيه في الآخرة يكون مقرباً لأن أهل الجنة على منازل ودرجات ولذلك قال تعالى وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَة ً ( الواقعة 7 ) إلى قوله وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ( الواقعة 10 )
أما قوله تعالى وَيُكَلّمُ النَّاسَ فِى الْمَهْدِ وَكَهْلاً ففيه مسائل
المسألة الأولى الواو للعطف على قوله وَجِيهاً والتقدير كأنه قال وجيهاً ومكلماً للناس وهذا عندي ضعيف لأن عطف الجملة الفعلية على الإسمية غير جائز إلا للضرورة أو الفائدة والأولى أن يقال تقدير الآية إِنَّ اللَّهَ يُبَشّرُكِ بِكَلِمَة ٍ مّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ الوجيه في الدنيا والآخرة المعدود من المقربين وهذا المجموع جملة واحدة ثم قال وَيُكَلّمُ النَّاسَ فقوله وَيُكَلّمُ النَّاسَ عطف على قوله إِنَّ اللَّهَ يُبَشّرُكِ
المسألة الثانية في المهد قولان أحدهما أنه حجر أمه والثاني هو هذا الشيء المعروف الذي هو مضجع الصبي وقت الرضاع وكيف كان المراد منه فإنه يكلم الناس في الحالة التي يحتاج الصبي فيها إلى المهد ولا يختلف هذا المقصود سواء كان في حجر أمه و كان في المهد
المسألة الثالثة قوله وَكَهْلاً عطف على الظرف من قوله فِى الْمَهْدِ كأنه قيل يكلم الناس صغيراً وكهلاً وههنا سؤالات
السؤال الأول ما الكهل

الجواب الكهل في اللغة ما اجتمع قوته وكمل شبابه وهو مأخوذ من قول العرب اكتهل النبات إذا قوي وتم قال الأعشى
يضاحك الشمس منها كوكب شرق
مؤزر بجميم النبت مكتهل
أراد بالمكتهل المتناهي في الحسن والكمال
السؤال الثاني أن تكلمه حال كونه في المهد من المعجزات فأما تكلمه حال الكهولة فليس من المعجزات فما الفائدة في ذكره
والجواب من وجوه الأول أن المراد منه بيان كونه متقلباً في الأحوال من الصبا إلى الكهولة والتغير على الإله تعالى محال والمراد منه الرد على وفد نجران في قولهم إن عيسى كان إلاهاً والثاني المراد منه أن يكلم الناس مرة واحدة في المهد لإظهار طهارة أمه ثم عند الكهولة يتكلم بالوحي والنبوة والثالث قال أبو مسلم معناه أنه يكلم حال كونه في المهد وحال كونه كهلاً على حد واحد وصفة واحدة وذلك لا شك أنه غاية في المعجز الرابع قال الأصم المراد منه أنه يبلغ حال الكهولة
السؤال الثالث نقل أن عمر عيسى عليه السلام إلى أن رفع كان ثلاثاً وثلاثين سنة وستة أشهر وعلى هذا التقدير فهو ما بلغ الكهولة
والجواب من وجهين الأول بينا أن الكهل في أصل اللغة عبارة عن الكامل التام وأكمل أحوال الإنسان إذا كان بين الثلاثين والأربعين فصح وصفه بكونه كهلاً في هذا الوقت والثاني هو قول الحسين بن الفضل البجلي أن المراد بقوله وَكَهْلاً أن يكون كهلاً بعد أن ينزل من السماء في آخر الزمان ويكلم الناس ويقتل الدجال قال الحسين بن الفضل وفي هذه الآية نص في أنه عليه الصلاة والسلام سينزل إلى الأرض
المسألة الرابعة أنكرت النصارى كلام المسيح عليه السلام في المهد واحتجوا على صحة قولهم بأن كلامه في المهد من أعجب الأمور وأغربها ولا شك أن هذه الواقعة لو وقعت لوجب أن يكون وقوعها في حضور الجمع العظيم الذي يحصل القطع واليقين بقولهم لأن تخصيص مثل هذا المعجز بالواحد والإثنين لا يجوز ومتى حدثت الواقعة العجيبة جداً عند حضور الجمع العظيم فلا بد وأن تتوفر الدواعي على النقل فيصير ذلك بالغاً حد التواتر وإخفاء ما يكون بالغاً إلى حد التواتر ممتنع وأيضاً فلو كان ذلك لكان ذلك الإخفاء ههنا ممتنعاً لأن النصارى بالغوا في إفراط محبته إلى حيث قالوا إنه كان إلاهاً ومن كان كذلك يمتنع أن يسعى في إخفاء مناقبه وفضائله بل ربما يجعل الواحد ألفاً فثبت أن لو كانت هذه الواقعة موجودة لكان أولى الناس بمعرفتها النصارى ولما أطبقوا على إنكارها علمنا أنه ما كان موجوداً ألبتة
أجاب المتكلمون عن هذه الشبهة وقالوا إن كلام عيسى عليه السلام في المهد إنما كان للدلالة على براءة حال مريم عليها السلام من الفاحشة وكان الحاضرون جمعاً قليلين فالسامعون لذلك الكلام كان جمعاً قليلاً ولا يبعد في مثله التواطؤ على الإخفاء وبتقدير أن يذكروا ذلك إلا أن اليهود كانوا يكذبونهم في ذلك وينسبونهم إلى البهت فهم أيضاً قد سكتوا لهذه العلة فلأجل هذه الأسباب بقي الأمر مكتوماً

مخفياً إلى أن أخبر الله سبحانه وتعالى محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بذلك وأيضاً فليس كل النصارى ينكرون ذلك فإنه نقل عن جعفر بن أبي طالب لما قرأ على النجاشي سورة مريم قال النجاشي لا تفاوت بين واقعة عيسى وبين المذكور في هذا الكلام بذرة
ثم قال تعالى وَمِنَ الصَّالِحِينَ
فإن قيل كون عيسى كلمة من الله تعالى وكونه وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالاْخِرَة ِ وكونه من المقربين عند الله تعالى وكونه مكلماً للناس في المهد وفي الكهولة كل واحد من هذه الصفات أعظم وأشرف من كونه صالحاً فلم ختم الله تعالى أوصاف عيسى بقوله وَمِنَ الصَّالِحِينَ
قلنا إنه لا رتبة أعظم من كون المرء صالحاً لأنه لا يكون كذلك إلا ويكون في جميع الأفعال والتروك مواظباً على النهج الأصلح والطريق الأكمل ومعلوم أن ذلك يتناول جميع المقامات في الدنيا والدين في أفعال القلوب وفي أفعال الجوارح فلما ذكر الله تعالى بعض التفاصيل أردفه بهذا الكلام الذي يدل على أرفع الدرجات
قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِى وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ قَالَ كَذَالِكَ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ وَالتَّوْرَاة َ وَالإِنجِيلَ
قال المفسرون إنها إنما قالت ذلك لأن التبشير به يقتضي التعجب مما وقع على خلاف العادة وقد قررنا مثله في قصة زكريا عليه السلام وقوله إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ( غافر 68 ) تقدم تفسيره في سورة البقرة
أما قوله تعالى وَيُعَلّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ وَالتَّوْرَاة َ وَالإِنجِيلَ ففيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ نافع وعاصم وَيُعَلّمُهُ بالياء والباقون بالنون أما الياء فعطف على قوله يَخْلُقُ مَا يَشَاء وقال المبرد عطف على يبشرك بكلمة وكذا وكذا وَيُعَلّمُهُ الْكِتَابَ ومن قرأ بالنون قال تقدير الآية أنها قالت رب أنى يكون لي ولد فقال لها الله كَذالِكَ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ فهذا وإن كان إخباراً على وجه المغايبة فقال ونعلمه لأن معنى قوله قَالَ كَذالِكَ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء معناه كذلك نحن نخلق ما نشاء إِبْراهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ والله أعلم
المسألة الثانية في هذه الآية أمور أربعة معطوف بعضها على بعض بواو العطف والأقرب عندي أن يقال المراد من الكتاب تعليم الخط والكتابة ثم المراد بالحكمة تعليم العلوم وتهذيب الأخلاق لأن كمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به ومجموعهما هو المسمى بالحكمة ثم بعد أن صار

عالماً بالخط والكتابة ومحيطاً بالعلوم العقلية والشرعية يعلمه التوراة وإنما أخر تعليم التوراة عن تعليم الخط والحكمة لأن التوراة كتاب إلاهي وفيه أسرار عظيمة والإنسان ما لم يتعلم العلوم الكثيرة لا يمكنه أن يخوض في البحث على أسرار الكتب الإلاهية ثم قال في المرتبة الرابعة والإنجيل وإنما أخر ذكر الإنجيل عن ذكر التوراة لأن من تعلم الخط ثم تعلم علوم الحق ثم أحاط بأسرار الكتاب الذي أنزله الله تعالى على من قبله من الأنبياء فقد عظمت درجته في العلم فإذا أنزل الله تعالى عليه بعد ذلك كتاباً آخر وأوقفه على أسراره فذلك هو الغاية القصوى والمرتبة العليا في العلم والفهم والإحاطة بالأسرار العقلية والشرعية والاطلاع على الحكم العلوية والسفلية فهذا ما عندي في ترتيب هذه الألفاظ الأربعة
وَرَسُولاً إِلَى بَنِى إِسْرَاءِيلَ أَنِّى قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَة ٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِى أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَة ِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِى ءُ الاٌّ كْمَهَ والاٌّ بْرَصَ وَأُحْى ِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِى بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذالِكَ لأَيَة ً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ
فيه مسائل
المسألة الأولى في هذه الآية وجوه الأول تقدير الآية ونعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ونبعثه رسولاً إلى بني إسرائيل قائلاً أَنّى قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَة ٍ مّن رَّبّكُمْ والحذف حسن إذا لم يفض إلى الاشتباه الثاني قال الزجاج الاختيار عندي أن تقديره ويكلم الناس رسولاً وإنما أضمرنا ذلك لقوله أَنّى قَدْ جِئْتُكُمْ والمعنى ويكلمهم رسولاً بأني قد جئتكم الثالث قال الأخفش إن شئت جعلت الواو زائدة والتقدير ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل رسولاً إلى بني إسرائيل قائلاً أني قد جئتكم بآية
المسألة الثانية هذه الآية تدل على أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان رسولاً إلى كل بني إسرائيل بخلاف قول بعض اليهود إنه كان مبعوثاً إلى قوم مخصوصين منهم
المسألة الثالثة المراد بالآية الجنس لا الفرد لأنه تعالى عدد ههنا أنواعاً من الآيات وهي إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص والإخبار عن المغيبات فكان المراد من قوله قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَة ٍ مّن رَّبّكُمْ الجنس لا الفرد
ثم قال أَنِى أَخْلُقُ لَكُمْ مّنَ الطّينِ كَهَيْئَة ِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ
اعلم أنه تعالى حكى ههنا خمسة أنواع من معجزات عيسى عليه السلام
النوع الأول
ما ذكره ههنا في هذه الآية وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة إِنّى بفتح الهمزة وقرأ نافع بكسر الهمزة فمن فتح إِنّى فقد جعلها بدلاً

من آية كأنه قال وجئتكم بأنى أخلق لكم من الطين ومن كسر فله وجهان أحدهما الاستئناف وقطع الكلام مما قبله والثاني أنه فسّر الآية بقوله أَنِى أَخْلُقُ لَكُمْ ويجوز أن يفسر الجملة المتقدمة بما يكون على وجه الابتداء قال الله تعالى وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ( الفتح 29 ) ثم فسّر الموعود بقوله لَهُم مَّغْفِرَة ٌ وقال إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءادَمَ ( آل عمران 59 ) ثم فسّر المثل بقوله خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ( آل عمران 59 ) وهذا الوجه أحسن لأنه في المعنى كقراءة من فتح إِنّى على جعله بدلاً من آية
المسألة الثانية أَخْلُقُ لَكُمْ مّنَ الطّينِ أي أقدر وأصور وقد بينا في تفسير قوله تعالى قَدِيرٌ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى ْ خَلَقَكُمْ ( البقرة 21 ) إن الخلق هو التقدير ولا بأس بأن نذكره ههنا أيضاً فنقول الذي يدل عليه القرآن والشعر والاستشهاد أما القرآن فآيات أحدها قوله تعالى فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ( المؤمنون 14 ) أي المقدرين وذلك لأنه ثبت أن العبد لا يكون خالقاً بمعنى التكوين والإبداع فوجب تفسير كونه خالقاً بالتقدير والتسوية وثانيها أن لفظ الخلق يطلق على الكذب قال تعالى في سورة الشعراء إِنْ هَاذَا إِلاَّ خُلُقُ الاْوَّلِينَ ( الشعراء 137 ) وفي العنكبوت وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً ( العنكبوت 17 ) وفي سورة ص إِنْ هَاذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ ( ص 7 ) والكاذب إنما سمي خالقاً لأنه يقدر الكذب في خاطره ويصوره وثالثها هذه الآية التي نحن في تفسيرها وهي قوله أَنِى أَخْلُقُ لَكُمْ مّنَ الطّينِ أي أصور وأقدر وقال تعالى في المائدة وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطّينِ كَهَيْئَة ِ الطَّيْرِ ( المائدة 110 ) وكل ذلك يدل على أن الخلق هو التصوير والتقدير ورابعها قوله تعالى هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً ( البقرة 29 ) وقوله خُلِقَ إشارة إلى الماضي فلو حملنا قوله خُلِقَ على الإيجاد والإبداع لكان المعنى أن كل ما في الأرض فهو تعالى قد أوجده في الزمان الماضي وذلك باطل بالاتفاق فإذن وجب حمل الخلق على التقدير حتى يصح الكلام وهو أنه تعالى قدر في الماضي كل ما وجد الآن في الأرض وأما الشعر فقوله
ولأنت تفري ما خلقت وبع
ض القوم يخلق ثم لا يفري
وقوله
ولا يعطي بأيدي الخالق ولا
أيدي الخوالق إلا جيد الأدم
وأما الاستشهاد فهو أنه يقال خلق النعل إذا قدرها وسواها بالقياس والخلاق المقدار من الخير وفلان خليق بكذا أي له هذا المقدار من الاستحقاق والصخرة الخلقاء الملساء لأن الملاسة استواء وفي الخشونة اختلاف فثبت أن الخلق عبارة عن التقدير والتسوية
إذا عرفت هذا فنقول اختلف الناس في لفظ الْخَالِقُ قال أبو عبد الله البصري إنه لا يجوز إطلاقه على الله في الحقيقة لأن التقدير والتسوية عبارة عن الظن والحسبان وذلك على الله محال وقال أصحابنا الخالق ليس إلا الله واحتجوا عليه بقوله تعالى اللَّهُ خَالِقُ كُلّ شَى ْء ( الرعد 16 ) ومنهم من احتج بقوله هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ ( فاطر 3 ) وهذا ضعيف لأنه تعالى قال هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مّنَ السَّمَاء ( فاطر 3 ) فالمعنى هل من خالق غير الله موصوف بوصف كونه رازقاً من السماء ولا يلزم من صدق قولنا الخالق الذي يكون هذا شأنه ليس إلا الله صدق قولنا أنه لا خالق إلا الله

وأجابوا عن كلام أبي عبد الله بأن التقدير والتسوية عبارة عن العلم والظن لكن الظن وإن كان محالاً في حق الله تعالى فالعلم ثابت
إذا عرفت هذا فنقول أَنِى أَخْلُقُ لَكُمْ مّنَ الطّينِ معناه أصور وأقدر وقوله كَهَيْئَة ِ الطَّيْرِ فالهيئة الصورة المهيئة من قولهم هيأت الشيء إذا قدرته وقوله فَأَنفُخُ فِيهِ أي في ذلك الطين المصور وقوله فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع فَيَكُونُ بالألف على الواحد والباقون عَلَيْهِمْ طَيْراً على الجمع وكذلك في المائدة والطير اسم الجنس يقع على الواحد وعلى الجمع
يروى أن عيسى عليه السلام لما ادعى النبوة وأظهر المعجزات أخذوا يتعنتون عليه وطالبوه بخلق خفاش فأخذ طيناً وصوره ثم نفخ فيه فإذا هو يطير بين السماء والأرض قال وهب كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتاً ثم اختلف الناس فقال قوم إنه لم يخلق غير الخفاش وكانت قراءة نافع عليه وقال آخرون إنه خلق أنواعاً من الطير وكانت قراءة الباقين عليه
المسألة الثانية قال بعض المتكلمين الآية تدل على أن الروح جسم رقيق كالريح ولذلك وصفها بالفتح ثم ههنا بحث وهو أنه هل يجوز أن يقال إنه تعالى أودع في نفس عيسى عليه السلام خاصية بحيث متى نفخ في شيء كان نفخه فيه موجباً لصيرورة ذلك الشيء حياً أو يقال ليس الأمر كذلك بل الله تعالى كان يخلق الحياة في ذلك الجسم بقدرته عند نفخة عيسى عليه السلام فيه على سبيل إظهار المعجزات وهذا الثاني هو الحق لقوله تعالى الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَواة َ ( الملك 2 ) وحكي عن إبراهيم عليه السلام أنه قال في مناظرته مع الملك رَبّيَ الَّذِى يُحْى ِ وَيُمِيتُ ( البقرة 258 ) فلو حصل لغيره هذه الصفة لبطل ذلك الاستدلال
المسألة الثالثة القرآن دلّ على أنه عليه الصلاة والسلام إنما تولد من نفخ جبريل عليه السلام في مريم وجبريل ( صلى الله عليه وسلم ) روح محض وروحاني محض فلا جرم كانت نفخة عيسى عليه السلام للحياة والروح
المسألة الرابعة قوله بِإِذُنِ اللَّهِ معناه بتكوين الله تعالى وتخليقه لقوله تعالى وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله ( آل عمران 145 ) أي إلا بأن يوجد الله الموت وإنما ذكر عيسى عليه السلام هذا القيد إزالة للشبهة وتنبيهاً على إني أعمل هذا التصوير فأما خلق الحياة فهو من الله تعالى على سبيل إظهار المعجزات على يد الرسل
واما النوع الثاني والثالث والرابع من المعجزات
فهو قوله وَرَسُولاً إِلَى بَنِى إِسْراءيلَ أَنّى قَدْ جِئْتُكُمْ

ذهب أكثر أهل اللغة إلى أن الأكمه هو الذي ولد أعمى وقال الخليل وغيره هو الذي عمي بعد أن كان بصيراً وعن مجاهد هو الذي لا يبصر بالليل ويقال إنه لم يكن في هذه الأمة أكمه غير قتادة بن دعامة السدوسي صاحب ( التفسير ) وروي أنه عليه الصلاة والسلام ربما اجتمع عليه خمسون ألفاً من المرضى من أطاق منهم أتاه ومن لم يطق أتاه عيسى عليه السلام وما كانت مداواته إلا بالدعاء وحده قال الكلبي كان عيسى عليه السلام يحيي الأموات بيا حي يا قيوم وأحيا عاذر وكان صديقاً له ودعا سام بن نوح من قبره فخرج حياً ومرّ على ابن ميت لعجوز فدعا الله فنزل عن سريره حياً ورجع إلى أهله وولد له وقوله بِإِذُنِ اللَّهِ رفع لتوهم من اعتقد فيه الإلاهية
وأما النوع الخامس
من المعجزات إخباره عن الغيوب فهو قوله تعالى حكاية عنه وَأُنَبّئُكُم بِمَا تَأْكُلُواْ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِى بُيُوتِكُمْ وفيه مسألتان
المسألة الأولى في هذه الآية قولان أحدهما أنه عليه الصلاة والسلام كان من أول مرة يخبر عن الغيوب روى السدي أنه كان يلعب مع الصبيان ثم يخبرهم بأفعال آبائهم وأمهاتهم وكان يخبر الصبي بأن أمك قد خبأت لك كذا فيرجع الصبي إلى أهله ويبكي إلى أن يأخذ ذلك الشيء ثم قالوا لصبيانهم لا تلعبوا مع هذا الساحر وجمعوهم في بيت فجاء عيسى عليه السلام يطلبهم فقالوا له ليسوا في البيت فقال فمن في هذا البيت قالوا خنازير قال عيسى عليه السلام كذلك يكونون فإذا هم خنازير
والقول الثاني إن الإخبار عن الغيوب إنما ظهر وقت نزول المائدة وذلك لأن القوم نهوا عن الادخار فكانوا يخزنون ويدخرون فكان عيسى عليه السلام يخبرهم بذلك
المسألة الثانية الإخبار عن الغيوب على هذا الوجه معجزة وذلك لأن المنجمين الذين يدعون استخراج الخير لا يمكنهم ذلك إلا عن سؤال يتقدم ثم يستعينون عند ذلك بآلة ويتوصلون بها إلى معرفة أحوال الكواكب ثم يعترفون بأنهم يغلطون كثيراً فأما الإخبار عن الغيب من غير استعانة بآلة ولا تقدم مسألة لا يكون إلا بالوحي من الله تعالى
ثم إنه عليه السلام ختم كلامه بقوله إِنَّ فِي ذالِكَ لأَيَة ً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ
والمعنى إن في هذه الخمسة لمعجزة قاهرة قوية دالة على صدق المدعي لكل من آمن بدلائل

المعجزة في الحمل على الصدق بلى من أنكر دلالة أصل المعجز على صدق المدعي وهم البراهمة فإنه لا يكفيه ظهور هذه الآيات أما من آمن بدلالة المعجز على الصدق لا يبقى له في هذه المعجزات كلام البتة
وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاة ِ وَلاٌّ حِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِأَيَة ٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ رَبِّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَاذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ
اعلم أنه عليه السلام لما بيّن بهذه المعجزات الباهرة كونه رسولاً من عند الله تعالى بيّن بعد ذلك أنه بماذا أرسل وهو أمران أحدهما قوله وَمُصَدّقًا لّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاة ِ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى قد ذكرنا في قوله وَرَسُولاً إِلَى بَنِى إِسْراءيلَ أَنّى قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَة ٍ ( آل عمران 49 ) أن تقديره وأبعثه رسولاً إلى بني إسرائيل قائلاً أَنّى قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَة ٍ فقوله وَمُصَدّقًا معطوف عليه والتقدير وأبعثه رسولاً إلى بني إسرائيل قائلاً أَنّى قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَة ٍ وإني بعثت مُّصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَى َّ مِنَ التَّوْرَاة ِ وإنما حسن حذف هذه الألفاظ لدلالة الكلام عليها
المسألة الثانية إنه يجب على كل نبي أن يكون مصدقاً لجميع الأنبياء عليهم السلام لأن الطريق إلى ثبوت نبوتهم هو المعجزة فكل من حصل له المعجز وجب الاعتراف بنبوته فلهذا قلنا بأن عيسى عليه السلام يجب أن يكون مصدقاً لموسى بالتوراة ولعلّ من جملة الأغراض في بعثة عيسى عليه السلام إليهم تقرير التوراة وإزالة شبهات المنكرين وتحريفات الجاهلين
وأما المقصود الثاني من بعثة عيسى عليه السلام قوله وَلاِحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرّمَ عَلَيْكُمْ
وفيه سؤال وهو أنه يقال هذه الآية الأخيرة مناقضة لما قبلها لأن هذه الآية الأخيرة صريحة في أنه جاء ليحل بعد الذي كان محرماً عليه في التوراة وهذا يقتضي أن يكون حكمه بخلاف حكم التوراة وهذا يناقض قوله وَمُصَدّقًا لّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاة ِ
والجواب إنه لا تناقض بين الكلام وذلك لأن التصديق بالتوراة لا معنى له إلا اعتقاد أن كل ما فيها فهو حق وصواب وإذا لم يكن الثاني مذكوراً في التوراة لم يكن حكم عيسى بتحليل ما كان محرماً فيها مناقضاً

لكونه مصدقاً بالتوراة وأيضاً إذا كانت البشارة بعيسى عليه السلام موجودة في التوراة لم يكن مجيء عيسى عليه السلام وشرعه مناقضاً للتوراة ثم اختلفوا فقال بعضهم إنه عليه السلام ما غير شيئاً من أحكام التوراة قال وهب بن منبه إن عيسى عليه السلام كان على شريعة موسى عليه السلام كان يقرر السبت ويستقبل بيت المقدس ثم إنه فسّر قوله وَلاِحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرّمَ عَلَيْكُمْ بأمرين أحدهما إن الأحبار كانوا قد وضعوا من عند أنفسهم شرائع باطلة ونسبوها إلى موسى فجاء عيسى عليه السلام ورفعها وأبطلها وأعاد الأمر إلى ما كان في زمن موسى عليه السلام والثاني أن الله تعالى كان قد حرم بعض الأشياء على اليهود عقوبة لهم على بعض ما صدر عنهم من الجنايات كما قال الله تعالى فَبِظُلْمٍ مّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ( النساء 160 ) ثم بقي ذلك التحريم مستمراً على اليهود فجاء عيسى عليه السلام ورفع تلك التشديدات عنهم وقال آخرون إن عيسى عليه السلام رفع كثيراً من أحكام التوراة ولم يكن ذلك قادحاً في كونه مصدقاً بالتوراة على ما بيناه ورفع السبت ووضع الأحد قائماً مقامه وكان محقاً في كل ما عمل لما بينا أن الناسخ والمنسوخ كلاهما حق وصدق
ثم قال وَجِئْتُكُمْ بِأَيَة ٍ مّن رَّبّكُمْ وإنما أعاده لأن إخراج الإنسان عن المألوف المعتاد من قديم الزمان عسر فأعاد ذكر المعجزات ليصير كلامه ناجعاً في قلوبهم ومؤثراً في طباعهم ثم خوفهم فقال فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ لأن طاعة الرسول من لوازم تقوى الله تعالى فبيّن أنه إذا لزمكم أن تتقوا الله لزمكم أن تطيعوني فيما آمركم به عن ربي ثم إنه ختم كلامه بقوله إِنَّ اللَّهَ رَبّى وَرَبُّكُمْ ومقصوده إظهار الخضوع والاعتراف بالعبودية لكيلا يتقولوا عليه الباطل فيقولون إنه إلاه وابن إلاه لأن إقراره لله بالعبودية يمنع ما تدعيه جهال النصارى عليه ثم قال فَاعْبُدُوهُ والمعنى أنه تعالى لما كان رب الخلائق بأسرهم وجب على الكل أن يعبدوه ثم أكد ذلك بقوله هَاذَا صِراطٌ مُّسْتَقِيمٌ
فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِى إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ رَبَّنَآ ءَامَنَّا بِمَآ أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ
اعلم أنه تعالى لما حكى بشارة مريم بولد مثل عيسى واستقصى في بيان صفاته وشرح معجزاته وترك

ههنا قصة ولادته وقد ذكرها في سورة مريم على الاستقصاء شرع في بيان أن عيسى لما شرح لهم تلك المعجزات وأظهر لهم تلك الدلائل فهم بماذا عاملوه فقال تعالى فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى الإحساس عبارة عن وجدان الشيء بالحاسة وههنا وجهان أحدهما أن يجري اللفظ على ظاهره وهو أنهم تكلموا بالكفر فأحس ذلك بإذنه والثاني أن نحمله على التأويل وهو أن المراد أنه عرف منهم إصرارهم على الكفر وعزمهم على قتله ولما كان ذلك العلم علماً لا شبهة فيه مثل العلم الحاصل من الحواس لا جرم عبر عن ذلك العلم بالإحساس
المسألة الثانية اختلفوا في السبب الذي به ظهر كفرهم على وجوه الأول قال السدي أنه تعالى لما بعثه رسولاً إلى بني إسرائيل جاءهم ودعاهم إلى دين الله فتمردوا وعصوا فخافهم واختفى عنهم وكان أمر عيسى عليه السلام في قومه كأمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهو بمكة فكان مستضعفاً وكان يختفي من بني إسرائيل كما اختفى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في الغار وفي منازل من آمن به لما أرادوا قتله ثم إنه عليه الصلاة والسلام خرج مع أمه يسيحان في الأرض فاتفق أنه نزل في قرية على رجل فأحسن ذلك الرجل ضيافته وكان في تلك المدينة ملك جبار فجاء ذلك الرجل يوماً حزيناً فسأله عيسى عن السبب فقال ملك هذه المدينة رجل جبار ومن عادته أنه جعل على كل رجل منا يوماً يطعمه ويسقيه هو وجنوده وهذا اليوم نوبتي والأمر متعذر علي فلما سمعت مريم عليها السلام ذلك قالت يا بني ادع الله ليكفي ذلك فقال يا أماه إن فعلت ذلك كان شر فقالت قد أحسن وأكرم ولا بد من إكرامه فقال عيسى عليه السلام إذا قرب مجيء الملك فاملأ قدورك وخوابيك ماء ثم أعلمني فلما فعل ذلك دعا الله تعالى فتحول ما في القدور طبيخاً وما في الخوابي خمراً فلما جاءه الملك أكل وشرب وسأله من أين هذا الخمر فتعلل الرجل في الجواب فلم يزل الملك يطالبه بذلك حتى أخبره بالواقعة فقال إن من دعا الله حتى جعل الماء خمراً إذا دعا أن يحيي الله تعالى ولدي لا بد وأن يجاب وكان ابنه قد مات قبل ذلك بأيام فدعا عيسى عليه السلام وطلب منه ذلك فقال عيسى لا تفعل فإنه إن عاش كان شراً فقال ما أبالي ما كان إذا رأيته وإن أحييته تركتك على ما تفعل فدعا الله عيسى فعاش الغلام فلما رآه أهل مملكته قد عاش تبادروا بالسلاح واقتتلوا وصار أمر عيسى عليه السلام مشهوراً في الخلق وقصد اليهود قتله وأظهروا الطعن فيه والكفر به
والقول الثاني إن اليهود كانوا عارفين بأنه هو المسيح المبشر به في التوراة وأنه ينسخ دينهم فكانوا من أول الأمر طاعنين فيه طالبين قتله فلما أظهر الدعوة اشتد غضبهم وأخذوا في إيذائه وإيحاشه وطلبوا قتله
والقول الثالث إن عيسى عليه السلام ظن من قومه الذين دعاهم إلى الإيمان أنهم لا يؤمنون به وأن دعوته لا تنجع فيهم فأحب أن يمتحنهم ليتحقق ما ظنه بهم فقال لهم مَنْ أَنصَارِى إِلَى اللَّهِ فما أجابه إلا الحواريون فعند ذلك أحس بأن من سوى الحواريين كافرون مصرون على إنكار دينه وطلب قتله
أما قوله تعالى قَالَ مَنْ أَنصَارِى إِلَى اللَّهِ ففيه مسألتان

المسألة الأولى في الآية أقوال الأول أن عيسى عليه السلام لما دعا بني إسرائيل إلى الدين وتمردوا عليه فر منهم وأخذ يسيح في الأرض فمر بجماعة من صيادي السمك وكان فيهم شمعون ويعقوب ويوحنا ابنا زيدي وهم من جملة الحواريين الاثنى عشر فقال عيسى عليه السلام الآن تصيد السمك فإن تبعتني صرت بحيث تصيد الناس لحياة الأبد فطلبوا منه المعجزة وكان شمعون قد رمى شبكته تلك الليلة في الماء فما اصطاد شيئاً فأمره عيسى بإلقاء شبكته في الماء مرة أخرى فاجتمع في تلك الشبكة من السمك ما كادت تتمزق منه واستعانوا بأهل سفينة أخرى وملؤا السفينتين فعند ذلك آمنوا بعيسى عليه السلام
والقول الثاني أن قوله مَنْ أَنصَارِى إِلَى اللَّهِ إنما كان في آخر أمره حين اجتمع اليهود عليه طلباً لقتله ثم ههنا احتمالات الأول أن اليهود لما طلبوه للقتل وكان هو في الهرب عنهم قال لأولئك الاثنى عشر من الحواريين أيكم يحب أن يكون رفيقي في الجنة على أن يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني
فأجابه إلى ذلك بعضهم وفيما تذكره النصارى في إنجيلهم أن اليهود لما أخذوا عيسى سل شمعون سيفه فضرب به عبداً كان فيهم لرجل من الأحبار عظيم فرمى باذنه فقال له عيسى حسبك ثم أخذ اذن العبد فردها إلى موضعها فصارت كما كانت والحاصل أن الغرض من طلب النصرة إقدامهم على دفع الشر عنه
والاحتمال الثاني أنه دعاهم إلى القتال مع القوم لقوله تعالى في سورة أخرى يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيّينَ مَنْ أَنَّصَارِى ( الصف 14 )
المسألة الثانية قوله إِلَى اللَّهِ فيه وجوه الأول التقدير من أنصاري حال ذهابي إلى الله أو حال التجائي إلى الله والثاني التقدير من أنصاري إلى أن أبين أمر الله تعالى وإلى أن أظهر دينه ويكون إلى ههنا غاية كأنه أراد من يثبت على نصرتي إلى أن تتم دعوتي ويظهر أمر الله تعالى الثالث قال الأكثرون من أهل اللغة إلى ههنا بمعنى مع قال تعالى وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَهُمْ إِلَى أَمْوالِكُمْ ( النساء 2 ) أي معها وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( الذود إلى الذود إبل ) أي مع الذود
قال الزجاج كلمة إِلَى ليست بمعنى مع فإنك لو قلت ذهب زيد إلى عمرو لم يجز أن تقول ذهب زيد مع عمرو لأن إِلَى تفيد الغاية و مَّعَ تفيد ضم الشيء إلى الشيء بل المراد من قولنا أن إِلَى ههنا بمعنى مَّعَ هو أنه يفيد فائدتها من حيث أن المراد من يضيف نصرته إلى نصرة الله إياي وكذلك المراد من قوله وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَهُمْ إِلَى أَمْوالِكُمْ ( النساء 2 ) أي لا تأكلوا أموالهم مضمومة إلى أموالكم وكذلك قوله عليه السلام ( الذود إلى الذود إبل ) معناه الذود مضموماً إلى الذود إبل والرابع أن يكون المعنى من أنصاري فيما يكون قربة إلى الله ووسيلة إليه وفي الحديث أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان يقول إذا ضحى ( اللّهم منك وإليك ) أي تقرباً إليك ويقول الرجل لغيره عند دعائه إياته إِلَى أي انضم إلى فكذا ههنا المعنى من أنصاري فيما يكون قربة إلى الله تعالى الخامس أن يكون إِلَى بمعنى اللام كأنه قال من أنصاري لله نظيره قوله تعالى قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَهْدِى إِلَى الْحَقّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِى لِلْحَقّ ( يونس 35 ) والسادس تقدير الآية من أنصاري في سبيل الله و ( إلى ) بمعنى ( في ) جائز وهذا قول الحسن

أما قوله تعالى قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ ففيه مسائل
المسألة الأولى ذكروا في لفظ الحواري وجوهاً الأول أن الحواري اسم موضوع لخاصة الرجل وخالصته ومنه يقال للدقيق حواري لأنه هو الخالص منه وقال ( صلى الله عليه وسلم ) للزبير ( إنه ابن عمتي وحواري من أمتي ) والحواريات من النساء النقيات الألوان والجلود فعلى هذا الحواريون هم صفوة الأنبياء الذي خلصوا وأخلصوا في التصديق بهم وفي نصرتهم
القول الثاني الحواري أصله من الحور وهو شدة البياض ومنه قيل للدقيق حواري ومنه الأحور والحور نقاء بياض العين وحورت الثياب بيضتها وعلى هذا القول اختلفوا في أن أولئك لم سموا بهذا الاسم فقال سعيد بن جبير لبياض ثيابهم وقيل كانوا قصارين يبيضون الثياب وقيل لأن قلوبهم كانت نقية طاهرة من كل نفاق وريبة فسموا بذلك مدحاً لهم وإشارة إلى نقاء قلوبهم كالثوب الأبيض وهذا كما يقال فلان نقي الجيب طاهر الذيل إذا كان بعيداً عن الأفعال الذميمة وفلان دنس الثياب إذا كان مقدماً على ما لا ينبغي
القول الثالث قال الضحاك مرّ عيسى عليه السلام بقوم من الذين كانوا يغسلون الثياب فدعاهم إلى الإيمان فآمنوا والذي يغسل الثياب يسمى بلغة النبط هواري وهو القصار فعربت هذه اللفظة فصارت حواري وقال مقاتل بن سليمان الحواريون هم القصارون وإذا عرفت أصل هذا اللفظ فقد صار بعرف الاستعمال دليلاً على خواص الرجل وبطانته
المسألة الثانية اختلفوا في أن هؤلاء الحواريين من كانوا
فالقول الأول إنه عليه السلام مرّ بهم وهم يصطادون السمك فقال لهم ( تعالوا نصطاد الناس ) قالوا من أنت قال ( أنا عيسى بن مريم عبد الله ورسوله ) فطلبوا من المعجز على ما قال فلما أظهر المعجز آمنوا به فهم الحواريون
القول الثاني قالوا سلمته أمه إلى صباغ فكان إذا أراد أن يعلمه شيئاً كان هو أعلم به منه وأراد الصباغ أن يغيب لبعض مهماته فقال له ههنا ثياب مختلفة وقد علمت على كل واحد علامة معينة فاصبغها بتلك الألوان بحيث يتم المقصود عند رجوعي ثم غاب فطبخ عيسى عليه السلام جباً واحداً وجعل الجميع فيه وقال ( كوني بإذن الله كما أريد ) فرجع الصباغ فأخبره بما فعل فقال قد أفسدت علي الثياب قال ( قم فانظر ) فكان يخرج ثوباً أحمر وثوباً أخضر وثوباً أصفر كما كان يريد إلى أن أخرج الجميع على الألوان التي أرادها فتعجب الحاضرون منه وآمنوا به فهم الحواريون
القول الثالث كانوا الحواريون إثنى عشر رجلاً اتبعوا عيسى عليه السلام وكانوا إذا قالوا يا روح الله جعنا فيضرب بيده إلى الأرض فيخرج لكل واحد رغيفان وإذا عطشوا قالوا يا روح الله عطشنا فيضرب بيده إلى الأرض فيخرج الماء فيشربون فقالوا من أفضل منا إذا شئنا أطعمتنا وإذا شئنا سقيتنا وقد آمنا بك فقال ( أفضل منكم من يعمل بيده ويأكل من كسبه ) فصاروا يغسلون الثياب بالكراء فسموا حواريين
القول الرابع أنهم كانوا ملوكاً قالوا وذلك أن واحداً من الملوك صنع طعاماً وجمع الناس عليه وكان

عيسى عليه السلام على قصعة منها فكانت القصعة لا تنقص فذكروا هذه الواقعة لذلك الملك فقال تعرفونه قالوا نعم فذهبوا بعيسى عليه السلام قال من أنت قال أنا عيسى بن مريم قال فإني أترك ملكي وأتبعك فتبعه ذلك الملك مع أقاربه فأولئك هم الحواريون قال القفال ويجوز أن يكون بعض هؤلاء الحواريين الاثني عشر من الملوك وبعضهم من صيادي السمك وبعضهم من القصارين والكل سموا بالحواريين لأنهم كانوا أنصار عيسى عليه السلام وأعوانه والمخلصين في محبته وطاعته وخدمته
المسألة الثالثة المراد من قوله الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ أي نحن أنصار دين الله وأنصار أنبيائه لأن نصرة الله تعالى في الحقيقة محال فالمراد منه ما ذكرناه
أما قوله بِاللَّهِ فَإِذَا فهذا يجري مجرى ذكر العلة والمعنى يجب علينا أن نكون من أنصار الله لأجل أنا آمنا بالله فإن الإيمان بالله يوجب نصرة دين الله والذب عن أوليائه والمحاربة مع أعدائه
ثم قالوا وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ وذلك لأن إشهادهم عيسى عليه السلام على أنفسهم إشهاد لله تعالى أيضاً ثم فيه قولان الأول المراد واشهد أنا منقادون لما تريده منا في نصرتك والذب عنك مستسلمون لأمر الله تعالى فيه الثاني أن ذلك إقرار منهم بأن دينهم الإسلام وأنه دين كل الأنبياء صلوات الله عليهم
واعلم أنهم لما أشهدوا عيسى عليه السلام على إيمانهم وعلى إسلامهم تضرعوا إلى الله تعالى وقالوا رَبَّنَا ءامَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ وذلك لأن القوم آمنوا بالله حين قالوا في الآية المتقدمة بِاللَّهِ فَإِذَا ثم آمنوا بكتب الله تعالى حيث قالوا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا وآمنوا برسول الله حيث قالوا وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فعند ذلك طلبوا الزلفة والثواب فقالوا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ وهذا يقتضي أن يكون للشاهدين فضل يزيد على فضل الحواريين ويفضل على درجته لأنهم هم المخصوصون بأداء الشهادة قال الله تعالى وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ( البقرة 143 ) الثاني وهو منقول أيضاً عن ابن عباس فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ أي اكتبنا في زمرة الأنبياء لأن كل نبي شاهد لقومه قال الله تعالى فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ( الأعراف 6 )
وقد أجاب الله تعالى دعاءهم وجعلهم أنبياء ورسلاً فأحيوا الموتى وصنعوا كل ما صنع عيسى عليه السلام
والقول الثالث فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ أي اكتبنا في جملة من شهد لك بالتوحيد ولأنبيائك بالتصديق والمقصود من هذا أنهم لما أشهدوا عيسى عليه السلام على إسلام أنفسهم حيث قالوا وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ فقد أشهدوا الله تعالى على ذلك تأكيداً للأمر وتقوية له وأيضاً طلبوا من الله مثل ثواب كل مؤمن شهد لله بالتوحيد ولأنبيائه بالنبوّة
القول الرابع إن قوله فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ إشارة إلى أن كتاب الأبرار إنما يكون في السماوات مع الملائكة قال الله تعالى كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الاْبْرَارِ لَفِى عِلّيّينَ ( المطففين 18 ) فإذا كتب الله ذكرهم مع الشاهدين المؤمنين كان ذكرهم مشهوراً في الملأ الأعلى وعند الملائكة المقربين

القول الخامس إنه تعالى قال شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَائِكَة ُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ ( آل عمران 18 ) فجعل أولو العلم من الشاهدين وقرن ذكرهم بذكر نفسه وذلك درجة عظيمة ومرتبة عالية فقالوا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ أي اجعلنا من تلك الفرقة الذين قرنت ذكرهم بذكرك
والقول السادس إن جبريل عليه السلام لما سأل محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) عن الإحسان فقال ( أن تعبد الله كأنك تراه ) وهذا غاية درجة العبد في الاشتغال بالعبودية وهو أن يكون العبد في مقام الشهود لا في مقام الغيبة فهؤلاء القوم لما صاروا كاملين في درجة الاستدلال أرادوا الترقي من مقام الاستدلال إلى مقام الشهود والمكاشفة فقالوا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ
القول السابع إن كل من كان في مقام شهود الحق لم يبال بما يصل إليه من المشاق والآلام فلما قبلوا من عيسى عليه السلام أن يكونوا ناصرين له ذابين عنه قالوا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ أي اجعلنا ممن يكون في شهود جلالك حتى نصير مستحقرين لكل ما يصل إلينا من المشاق والمتاعب فحينئذ يسهل علينا الوفاء بما التزمناه من نصرة رسولك ونبيك
ثم قال تعالى وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ وفيه مسائل
المسألة الأولى أصل المكر في اللغة السعي بالفساد في خفية ومداجاة قال الزجاج يقال مكر الليل وأمكر إذا أظلم وقال الله تعالى وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( الأنفال 30 ) وقال وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ( يوسف 102 ) وقيل أصله من اجتماع الأمر وإحكامه ومنه امرأة ممكورة أي مجتمعة الخلق وإحكام الرأي يقال له الإجماع والجمع قال الله تعالى فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ( يونس 71 ) فلما كان المكر رأياً محكماً قوياً مصوناً عن جهات النقص والفتور لا جرم سمي مكراً
المسألة الثانية أما مكرهم بعيسى عليه السلام فهو أنهم هموا بقتله وأما مكر الله تعالى بهم ففيه وجوه الأول مكر الله تعالى بهم هو أنه رفع عيسى عليه السلام إلى السماء وذلك أن يهودا ملك اليهود أراد قتل عيسى عليه السلام وكان جبريل عليه السلام لا يفارقه ساعة وهو معنى قوله وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ( البقرة 87 ) فلما أرادوا ذلك أمره جبريل عليه السلام أن يدخل بيتاً فيه روزنة فلما دخلوا البيت أخرجه جبريل عليه السلام من تلك الروزنة وكان قد ألقى شبهه على غيره فأخذ وصلب فتفرق الحاضرون ثلاث فرق فرقة قالت كان الله فينا فذهب وأخرى قالت كان ابن الله والأخرى قالت كان عبد الله ورسوله فأكرمه بأن رفعه إلى السماء وصار لكل فرقة جمع فظهرت الكافرتان على الفرقة المؤمنة إلى أن بعث الله تعالى محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) وفي الجملة فالمراد من مكر الله بهم أن رفعه إلى السماء وما مكنهم من إيصال الشر إليه
الوجه الثاني أن الحواريين كانوا إثنى عشر وكانوا مجتمعين في بيت فنافق رجل منهم ودل اليهود عليه فألقى الله شبهه عليه ورفع عيسى فأخذوا ذلك المنافق الذي كان فيهم وقتلوه وصلبوه على ظن أنه عيسى عليه السلام فكان ذلك هو مكر الله بهمه
الوجه الثالث ذكر محمد بن إسحاق أن اليهود عذبوا الحواريين بعد أن رفع عيسى عليه السلام

فشمسوهم وعذبوهم فلقوا منهم الجهد فبلغ ذلك ملك الروم وكان ملك اليهود من رعيته فقيل له إن رجلاً من بني إسرائيل ممن تحت أمرك كان يخبرهم أنه رسول الله وأراهم إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص فقتل فقال لو علمت ذلك لحلت بينه وبينهم ثم بعث إلى الحواريين فانتزعهم من أيديهم وسألهم عن عيسى عليه السلام فأخبروه فتابعهم على دينهم وأنزل المصلوب فغيبه وأخذ الخشبة فأكرمها وصانها ثم غزا بني إسرائيل وقتل منهم خلقاً عظيماً ومنه ظهر أصل النصرانية في الروم وكان اسم هذا الملك طباريس وهو صار نصرانياً إلا أنه ما أظهر ذلك ثم إنه جاء بعده ملك آخر يقال له مطليس وغزا بيت المقدس بعد ارتفاع عيسى بنحو من أربعين سنة فقتل وسبى ولم يترك في مدينة بيت المقدس حجراً على حجر فخرج عند ذلك قريظة والنضير إلى الحجاز فهذا كله مما جازاهم الله تعالى على تكذيب المسيح وألهم بقتله
القول الرابع أن الله تعالى سلّط عليهم ملك فارس حتى قتلهم وسباهم وهو قوله تعالى بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ ( الإسراء 5 ) فهذا هو مكر الله تعالى بهم
القول الخامس يحتمل أن يكون المراد أنهم مكروا في إخفاء أمره وإبطال دينه ومكر الله بهم حيث أعلى دينه وأظهر شريعته وقهر بالذل والدناءة أعداءه وهم اليهود والله أعلم
المسألة الثالثة المكر عبارة عن الاحتيال في إيصال الشر والاحتيال على الله تعالى محال فصار لفظ المكر في حقه من المتشابهات وذكروا في تأويله وجوهاً أحدها أنه تعالى سمى جزاء المكر بالمكر كقوله وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا ( الشورى 40 ) وسمى جزاء المخادعة بالمخادعة وجزاء الاستهزاء بالاستهزاء والثاني أن معاملة الله معهم كانت شبيهة بالمكر فسمي بذلك الثالث أن هذا اللفظ ليس من المتشابهات لأنه عبارة عن التدبير المحكم الكامل ثم اختص في العرف بالتدبير في إيصال الشر إلى الغير وذلك في حق الله تعالى غير ممتنع والله أعلم
إِذْ قَالَ اللَّهُ ياعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَى َّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى العامل في إِذْ قوله وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ أي وجد هذا المكر إذ قال الله هذا القول وقيل التقدير ذاك إذ قال الله

المسألة الثانية اعترفوا بأن الله تعالى شرف عيسى في هذه الآية بصفات
الصفة الأولى إِنّي مُتَوَفّيكَ ونظيره قوله تعالى حكاية عنه فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ( المائدة 117 ) واختلف أهل التأويل في هاتين الآيتين على طريقين أحدهما إجراء الآية على ظاهرها من غير تقديم ولا تأخير فيها والثاني فرض التقديم والتأخير فيها أما الطريق الأول فبيانه من وجوه الأول معنى قوله إِنّي مُتَوَفّيكَ أي متمم عمرك فحينئذ أتوفاك فلا أتركهم حتى يقتلوك بل أنا رافعك إلى سمائي ومقربك بملائكتي وأصونك عن أن يتمكنوا من قتلك وهذا تأويل حسن والثاني مُتَوَفّيكَ أي مميتك وهو مروي عن ابن عباس ومحمد بن إسحاق قالوا والمقصود أن لا يصل أعداؤه من اليهود إلى قتله ثم إنه بعد ذلك أكرمه بأن رفعه إلى السماء ثم اختلفوا على ثلاثة أوجه أحدها قال وهب توفي ثلاثة ساعات ثم رفع وثانيها قال محمد بن إسحاق توفي سبع ساعات ثم أحياه الله ورفعه الثالث قال الربيع بن أنس أنه تعالى توفاه حين رفعه إلى السماء قال تعالى اللَّهُ يَتَوَفَّى الاْنفُسَ حِينَ مِوْتِهَا وَالَّتِى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا ( الزمر 42 )
الوجه الرابع في تأويل الآية أن الواو في قوله مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَى َّ تفيد الترتيب فالآية تدل على أنه تعالى يفعل به هذه الأفعال فأما كيف يفعل ومتى يفعل فالأمر فيه موقوف على الدليل وقد ثبت الدليل أنه حي وورد الخبر عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( أنه سينزل ويقتل الدجال ) ثم إنه تعالى يتوفاه بعد ذلك
الوجه الخامس في التأويل ما قاله أبو بكر الواسطي وهو أن المراد إِنّي مُتَوَفّيكَ عن شهواتك وحظوظ نفسك ثم قال وَرَافِعُكَ إِلَى َّ وذلك لأن من لم يصر فانياً عما سوى الله لا يكون له وصول إلى مقام معرفة الله وأيضاً فعيسى لما رفع إلى السماء صار حاله كحال الملائكة في زوال الشهوة والغضب والأخلاق الذميمة
والوجه السادس إن التوفي أخذ الشيء وافياً ولما علم الله إن من الناس من يخطر بباله أن الذي رفعه الله هو روحه لا جسده ذكر هذا الكلام ليدل على أنه عليه الصلاة والسلام رفع بتمامه إلى السماء بروحه وبجسده ويدل على صحة هذا التأويل قوله تعالى وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَى ْء ( النساء 113 )
والوجه السابع إِنّي مُتَوَفّيكَ أي أجعلك كالمتوفى لأنه إذا رفع إلى السماء وانقطع خبره وأثره عن الأرض كان كالمتوفى وإطلاق اسم الشيء على ما يشابهه في أكثر خواصه وصفاته جائز حسن
الوجه الثامن إن التوفي هو القبض يقال وفاني فلان دراهمي وأوفاني وتوفيتها منه كما يقال سلم فلان دراهمي إلي وتسلمتها منه وقد يكون أيضاً توفي بمعنى استوفى وعلى كلا الاحتمالين كان إخراجه من الأرض وإصعاده إلى السماء توفياً له
فإن قيل فعلى هذا الوجه كان التوفي عين الرفع إليه فيصير قوله وَرَافِعُكَ إِلَى َّ تكراراً
قلنا قوله إِنّي مُتَوَفّيكَ يدل على حصول التوفي وهو جنس تحته أنواع بعضها بالموت وبعضها بالإصعاد إلى السماء فلما قال بعده وَرَافِعُكَ إِلَى َّ كان هذا تعييناً للنوع ولم يكن تكراراً
الوجه التاسع أن يقدر فيه حذف المضاف والتقدير متوفي عملك بمعنى مستوفي عملك وَرَافِعُكَ

إِلَى َّ أي ورافع عملك إلي وهو كقوله إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيّبُ ( فاطر 10 ) والمراد من هذه الآية أنه تعالى بشّره بقبول طاعته وأعماله وعرفه أن ما يصل إليه من المتاعب والمشاق في تمشية دينه وإظهار شريعته من الأعداء فهو لا يضيع أجره ولا يهدم ثوابه فهذه جملة الوجوه المذكورة على قول من يجري الآية على ظاهرها
الطريق الثاني وهو قول من قال لا بد في الآية من تقديم وتأخير من غير أن يحتاج فيها إلى تقديم أو تأخير قالوا إن قوله وَرَافِعُكَ إِلَى َّ يقتضي أنه رفعه حياً والواو لا تقتضي الترتيب فلم يبق إلا أن يقول فيها تقديم وتأخير والمعنى أني رافعك إليّ ومطهرك من الذين كفروا ومتوفيك بعد إنزالي إياك في الدنيا ومثله من التقديم والتأخير كثير في القرآن
واعلم أن الوجوه الكثيرة التي قدمناها تغني عن التزام مخالفة الظاهر والله أعلم
والمشبهة يتمسكون بهذه الآية في إثبات المكان لله تعالى وأنه في المساء وقد دللنا في المواضع الكثيرة من هذا الكتاب بالدلائل القاطعة على أنه يمتنع كونه تعالى في المكان فوجب حمل اللفظ على التأويل وهو من وجوه
الوجه الأول أن المراد إلى محل كرامتي وجعل ذلك رفعاً إليه للتفخيم والتعظيم ومثله قوله إِنّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبّى ( الصافات 99 ) وإنما ذهب إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ) من العراق إلى الشام وقد يقول السلطان ارفعوا هذا الأمر إلى القاضي وقد يسمي الحجاج زوار الله ويسمى المجاورون جيران الله والمراد من كل ذلك التفخيم والتعظيم فكذا ههنا
الوجه الثاني في التأويل أن يكون قوله وَرَافِعُكَ إِلَى َّ معناه إنه يرفع إلى مكان لا يملك الحكم عليه فيه غير الله لأن في الأرض قد يتولى الخلق أنواع الأحكام فأما السماوات فلا حاكم هناك في الحقيقة وفي الظاهر إلا الله
الوجه الثالث إن بتقدير القول بأن الله في مكان لم يكن ارتفاع عيسى إلى ذلك سبباً لانتفاعه وفرحه بل إنما ينتفع بذلك لو وجد هناك مطلوبه من الثواب والروح والراحة والريحان فعلى كلا القولين لا بد من حمل اللفظ على أن المراد ورافعك إلى محل ثوابك ومجازاتك وإذا كان لا بد من إضمار ما ذكرناه لم يبق في الآية دلالة على إثبات المكان لله تعالى
الصفة الثالثة من صفات عيسى قوله تعالى وَمُطَهّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ والمعنى مخرجك من بينهم ومفرق بينك وبينهم وكما عظم شأنه بلفظ الرفع إليه أخبر عن معنى التخليص بلفظ التطهير وكل ذلك يدل على المبالغة في إعلاء شأنه وتعظيم منصبه عند الله تعالى
الصفة الرابعة قوله وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ وجهان الأول أن المعنى الذين اتبعوا دين عيسى يكونون فوق الذين كفروا به وهم اليهود بالقهر والسلطان والاستعلاء إلى يوم القيامة فيكون ذلك إخباراً عن ذل اليهود وإنهم يكونون مقهورين إلى يوم القيامة فأما الذين اتبعوا المسيح عليه السلام فهم الذين كانوا يؤمنون بأنه عبد الله ورسوله وأما بعد الإسلام فهم المسلمون وأما

النصارى فهم وإن أظهروا من أنفسهم موافقته فهم يخالفونه أشد المخالفة من حيث أن صريح العقل يشهد أنه عليه السلام ما كان يرضى بشيء مما يقوله هؤلاء الجهال ومع ذلك فإنا نرى أن دولة النصارى في الدنيا أعظم وأقوى من أمر اليهود فلا نرى في طرف من أطراف الدنيا ملكاً يهودياً ولا بلدة مملوءة من اليهود بل يكونون أين كانوا بالذلة والمسكنة وأما النصارى فأمرهم بخلاف ذلك الثاني أن المراد من هذه الفوقية الفوقية بالحجة والدليل
واعلم أن هذه الآية تدل على أن رفعه في قوله وَرَافِعُكَ إِلَى َّ هو الرفعة بالدرجة والمنقبة لا بالمكان والجهة كما أن الفوقية في هذه ليست بالمكان بل بالدرجة والرفعة
أما قوله ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فالمعنى أنه تعالى بشّر عيسى عليه السلام بأنه يعطيه في الدنيا تلك الخواص الشريفة والدرجات الرفيعة العالية وأما في القيامة فإنه يحكم بين المؤمنين به وبين الجاحدين برسالته وكيفية ذلك الحكم ما ذكره في الآية التي بعد هذه الآية وبقي من مباحث هذه الآية موضع مشكل وهو أن نص القرآن دل على أنه تعالى حين رفعه ألقى شبهه على غيره على ما قال وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَاكِن شُبّهَ لَهُمْ ( النساء 157 ) والأخبار أيضاً واردة بذلك إلا أن الروايات اختلفت فتارة يروى أن الله تعالى ألقى شبهه على بعض الأعداء الذين دلوا اليهود على مكانه حتى قتلوه وصلبوه وتارة يروى أنه عليه السلام رغب بعض خواص أصحابه في أن يلقي شبهه حتى يقتل مكانه وبالجملة فكيفما كان ففي إلقاء شبهه على الغير إشكالات
الإشكال الأول إنا لو جوزنا إلقاء شبه إنسان على إنسان آخر لزم السفسطة فإني إذا رأيت ولدي ثم رأيته ثانياً فحينئذ أجوز أن يكون هذا الذي رأيته ثانياً ليس بولدي بل هو إنسان ألقي شبهه عليه وحينئذ يرتفع الأمان على المحسوسات وأيضاً فالصحابة الذين رأوا محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) يأمرهم وينهاهم وجب أن لا يعرفوا أنه محمد لاحتمال أنه ألقي شبهه على غيره وذلك يفضي إلى سقوط الشرائع وأيضاً فمدار الأمر في الأخبار المتواترة على أن يكون المخبر الأول إنما أخبر عن المحسوس فإذا جاز وقوع الغلط في المبصرات كان سقوط خبر المتواتر أولى وبالجملة ففتح هذا الباب أوله سفسطة وآخره إبطال النبوات بالكلية
والإشكال الثاني وهو أن الله تعالى كان قد أمر جبريل عليه السلام بأن يكون معه في أكثر الأحوال هكذا قاله المفسرون في تفسير قوله إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ ( المائدة 110 ) ثم إن طرف جناح واحد من أجنحة جبريل عليه السلام كان يكفي العالم من البشر فكيف لم يكف في منع أولئك اليهود عنه وأيضاً أنه عليه السلام لما كان قادراً على إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص فكيف لم يقدر على إماتة أولئك اليهود الذين قصدوه بالسوء وعلى إسقامهم وإلقاء الزمانة والفلج عليهم حتى يصيروا عاجزين عن التعرض له
والإشكال الثالث إنه تعالى كان قادراً على تخليصه من أولئك الأعداء بأن يرفعه إلى السماء فما الفائدة في إلقاء شبهه على غيره وهل فيه إلا إلقاء مسكين في القتل من غير فائدة إليه
والإشكال الرابع أنه إذا ألقي شبهه على غيره ثم إنه رفع بعد ذلك إلى السماء فالقوم اعتقدوا فيه أنه

هو عيسى مع أنه ما كان عيسى فهذا كان إلقاء لهم في الجهل والتلبيس وهذا لا يليق بحكمة الله تعالى
والإشكال الخامس أن النصارى على كثرتهم في مشارق الأرض ومغاربها وشدة محبتهم للمسيح عليه السلام وغلوهم في أمره أخبروا أنهم شاهدوه مقتولاً مصلوباً فلو أنكرنا ذلك كان طعناً فيما ثبت بالتواتر والطعن في التواتر يوجب الطعن في نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ونبوّة عيسى بل في وجودهما ووجود سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وكل ذلك باطل
والإشكال السادس أنه ثبت بالتواتر أن المصلوب بقي حياً زماناً طويلاً فلو لم يكن ذلك عيسى بل كان غيره لأظهر الجزع ولقال إني لست بعيسى بل إنما أنا غيره ولبالغ في تعريف هذا المعنى ولو ذكر ذلك لاشتهر عند الخلق هذا المعنى فلما لم يوجد شيء من هذا علمنا أن ليس الأمر على ما ذكرتم فهذا جملة ما في الموضع من السؤالات
والجواب عن الأول أن كل من أثبت القادر المختار سلم أنه تعالى قادر على أن يخلق إنساناً آخر على صورة زيد مثلاً ثم إن هذا التصوير لا يوجب الشك المذكور فكذا القول فيما ذكرتم
والجواب عن الثاني أن جبريل عليه السلام لو دفع الأعداء عنه أو أقدر الله تعالى عيسى عليه السلام على دفع الأعداء عن نفسه لبلغت معجزته إلى حد الإلجاء وذلك غير جائز
وهذا هو الجواب عن الإشكال الثالث فإنه تعالى لو رفعه إلى السماء وما ألقي شبهه على الغير لبلغت تلك المعجزة إلى حد الإلجاء
والجواب عن الرابع أن تلامذة عيسى كانوا حاضرين وكانوا عالمين بكيفية الواقعة وهم كانوا يزيلون ذلك التلبيس
والجواب عن الخامس أن الحاضرين في ذلك الوقت كانوا قليلين ودخول الشبهة على الجمع القليل جائز والتواتر إذا انتهى في آخر الأمر إلى الجمع القليل لم يكن مفيداً للعلم
والجواب عن السادس إن بتقدير أن يكون الذي ألقي شبه عيسى عليه السلام عليه كان مسلماً وقبل ذلك عن عيسى جائز أن يسكت عن تعريف حقيقة الحال في تلك الواقعة وبالجملة فالأسئلة التي ذكروها أمور تتطرق الاحتمالات إليها من بعض الوجوه ولما ثبت بالمعجز القاطع صدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في كل ما أخبر عنه امتنع صيرورة هذه الأسئلة المحتملة معارضة للنص القاطع والله ولي الهداية
فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا وَالاٌّ خِرَة ِ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ بيّن بعد ذلك مفصلاً ما في

ذلك الاختلاف أما الاختلاف فهو أن كفر قوم وآمن آخرون وأما الحكم فيمن كفر فهو أن يعذبه عذاباً شديداً في الدنيا والآخرة وأما الحكم فيمن آمن وعمل الصالحات فهو أن يوفيهم أجورهم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أما عذاب الكافر في الدنيا فهو من وجهين أحدهما القتل والسبي وما شاكله حتى لو ترك الكفر لم يحسن إيقاعه به فذلك داخل في عذاب الدنيا والثاني ما يلحق الكافر من الأمراض والمصائب وقد اختلفوا في أن ذلك هل هو عقاب أم لا قال بعضهم إنه عقاب في حق الكافر وإذا وقع مثله للمؤمن فإنه لا يكون عقاباً بل يكون ابتلاءً وامتحاناً وقال الحسن إن مثل هذا إذا وقع للكافر لا يكون عقاباً بل يكون أيضاً ابتلاءً وامتحاناً ويكون جارياً مجرى الحدود التي تقام على النائب فإنها لا تكون عقاباً بل امتحاناً والدليل عليه أنه تعالى يعد الكل بالصبر عليها والرضا بها والتسليم لها وما هذا حاله لا يكون عقاباً
فإن قيل فقد سلمتم في الوجه الأول إنه عذاب للكافر على كفره وهذا على خلاف قوله تعالى وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّة ٍ ( النحل 61 ) وكلمة لَوْ تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره فوجب أن لا توجد المؤاخذة في الدنيا وأيضاً قال تعالى الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ( غافر 17 ) وذلك يقتضي حصول المجازاة في ذلك اليوم لا في الدنيا قلنا الآية الدالة على حصول العقاب في الدنيا خاصة والآيات التي ذكرتموها عامة والخاص مقدم على العام
المسألة الثانية لقائل أن يقول وصف العذاب بالشدة يقتضي أن يكون عقاب الكافر في الدنيا أشد ولسنا نجد الأمرر كذلك فإن الأمر تارة يكون على الكفار وأخرى على المسلمين ولا نجد بين الناس تفاوتاً
قلنا بل التفاوت موجود في الدنيا لأن الآية في بيان أمر اليهود الذين كذبوا بعيسى عليه السلام ونري الذلة والمسكنة لازمة لهم فزال الإشكال
المسألة الثالثة وصف تعالى هذا العذاب بأنه ليس لهم من ينصرهم ويدفع ذلك العذاب عنهم
فإن قيل أليس قد يمتنع على الأئمة والمؤمنين قتل الكفار بسبب العهد وعقد الذمة
قلنا المانع هو العهد ولذلك إذا زال العهد حل قتله
وَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ
فيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حفص عن عاصم فَيُوَفّيهِمْ بالياء يعني فيوفيهم الله والباقون بالنون حملاً على ما تقدم من قوله فَاحْكُمْ فَأُعَذّبُهُمْ وهو الأولى لأنه نسق الكلام

المسألة الثانية ذكر الذين آمنوا ثم وصفهم بأنهم عملوا الصالحات وذلك يدل على أن العمل الصالح خارج عن مسمى الإيمان وقد تقدم ذكر هذه الدلالة مراراً
المسألة الثالثة احتج من قال بأن العمل علة للجزاء بقوله فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ فشبههم في عبادتهم لأجل طلب الثواب بالمستأجر والكلام فيه أيضاً قد تقدم والله أعلم
المسألة الرابعة المعتزلة احتجوا بقوله وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ على أنه تعالى لا يريد الكفر والمعاصي قالوا لأن مريد الشيء لا بد وأن يكون محباً له إذا كان ذلك الشيء من الأفعال وإنما تخالف المحبة الإرادة إذا علقتا بالأشخاص فقد يقال أحب زيداً ولا يقال أريده وأما إذا علقتا بالأفعال فمعناهما واحد إذا استعملتا على حقيقة اللغة فصار قوله وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ بمنزلة قوله ( لا يريد ظلم الظالمين ) هكذا قرره القاضي وعند أصحابنا أن المحبة عبارة عن إرادة إيصال الخير إليه فهو تعالى وإن أراد كفر الكافر إلا أنه لا يريد إيصال الثواب إليه وهذه المسألة قد ذكرناها مراراً وأطواراً
ذالِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ
فيه مسائل
المسألة الأولى ذالِكَ إشارة إلى ما تقدم من نبأ عيسى وزكريا وغيرهما وهو مبتدأ خبره نَتْلُوهُ و مِنَ الاْيَاتِ خبر بعد خبر أو خبر مبتدأ محذوف ويجوز أن يكون ذلك بمعنى الذي و نَتْلُوهُ صلته و مِنَ الاْيَاتِ الخبر
المسألة الثانية التلاوة والقصص واحد في المعنى فإن كلا منهما يرجع معناه إلى شيء يذكر بعضه على إثر بعض ثم إنه تعالى أضاف التلاوة إلى نفسه في هذه الآية وفي قوله نَتْلُواْ عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى ( القصص 3 ) وأضاف القصص إلى نفسه فقال نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ( يوسف 3 ) وكل ذلك يدل على أنه تعالى جعل تلاوة الملك جارية مجرى تلاوته سبحانه وتعالى وهذا تشريف عظيم للملك وإنما حسن ذلك لأن تلاوة جبريل ( صلى الله عليه وسلم ) لما كان بأمره من غير تفاوت أصلاً أُضيف ذلك إليه سبحانه وتعالى
المسألة الثالثة قوله مِنَ الاْيَاتِ يحتمل أن يكون المراد منه أن ذلك من آيات القرآن ويحتمل أن يكون المراد منه أنه من العلامات الدالة على ثبوت رسالتك لأنها أخبار لا يعلمها إلا قارىء من كتاب أو من يوحى إليه فظاهر أنك لا تكتب ولا تقرأ فبقي أن ذلك من الوحي
المسألة الرابعة وَالذّكْرِ الْحَكِيمِ فيه قولان الأول المراد منه القرآن وفي وصف القرآن بكونه ذكراً حكيماً وجوه الأول إنه بمعنى الحاكم مثل القدير والعليم والقرآن حاكم بمعنى أن الأحكام تستفاد منه والثاني معناه ذو الحكمة في تأليفه ونظمه وكثرة علومه والثالث أنه بمعنى المحكم فعيل بمعنى مفعل قال الأزهري وهو شائع في اللغة لأن حكمت يجري مجرى أحكمت في المعنى فرد إلى الأصل

ومعنى المحكم في القرآن أنه أحكم عن تطرق وجوه الخلل إليه قال تعالى الر كِتَابٌ ( هود 1 ) والرابع أن يقال القرآن لكثرة حكمه إنه ينطق بالحكمة فوصف بكونه حكيماً على هذا التأويل
القول الثاني أن المراد بالذكر الحكيم ههنا غير القرآن وهو اللوح المحفوظ الذي منه نقلت جميع الكتب المنزلة على الأنبياء عليهم السلام أخبر أنه تعالى أنزل هذا القصص مما كتب هنالك والله أعلم بالصواب
إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ
أجمع المفسرون على أن هذه الآية نزلت عند حضور وفد نجران على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وكان من جملة شبههم أن قالوا يا محمد لما سلمت أنه لا أب له من البشر وجب أن يكون أبوه هو الله تعالى فقال إن آدم ما كان له أب ولا أم ولم يلزم أن يكون ابناً لله تعالى فكذا القول في عيسى عليه السلام هذا حاصل الكلام وأيضاً إذا جاز أن يخلق الله تعالى آدم من التراب فلم لا يجوز أن يخلق عيسى من دم مريم بل هذا أقرب إلى العقل فإن تولد الحيوان من الدم الذي يجتمع في رحم الأم أقرب من تولده من التراب اليابس هذا تلخيص الكلام
ثم ههنا مسائل
المسألة الأولى مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءادَمَ أي صفته كصفة آدم ونظيره قوله تعالى مَّثَلُ الْجَنَّة ِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ( الرعد 35 ) أي صفة الجنة
المسألة الثانية قوله تعالى خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ليس بصلة لآدم ولا صفة ولكنه خبر مستأنف على جهة التفسير بحال آدم قال الزجاج هذا كما تقول في الكلام مثلك كمثل زيد تريد أن تشبهه به في أمر من الأمور ثم تخبر بقصة زيد فتقول فعل كذا وكذا
المسألة الثالثة اعلم أن العقل دل على أنه لا بد للناس من والد أول وإلا لزم أن يكون كل ولد مسبوق بوالد لا إلى أول وهو محال والقرآن دل على أن ذلك الوالد الأول هو آدم عليه السلام كما في هذه الآية وقال تُفْلِحُونَ يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَة ٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ( النساء 1 ) وقال هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَة ٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ( الأعراف 189 ) ثم إنه تعالى ذكر في كيفية خلق آدم عليه السلام وجوهاً كثيرة أحدها أنه مخلوق من التراب كما في هذه الآية والثاني أنه مخلوق من الماء قال الله تعالى وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً ( الفرقان 54 ) والثالث أنه مخلوق من الطين قال الله تعالى الَّذِى أَحْسَنَ كُلَّ شَى ْء خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِن طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَة ٍ مّن مَّاء مَّهِينٍ ( السجدة 7 8 ) والرابع أنه مخلوق من سلالة من

طين قال تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلَالَة ٍ مّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَة ً فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ ( المؤمنون 11 13 ) الخامس أنه مخلوق من طين لازب قال تعالى إِنَّا خَلَقْنَاهُم مّن طِينٍ لاَّزِبٍ ( الصافات 11 ) السادس إنه مخلوق من صلصال قال تعالى إِنّى خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ ( الحجر 28 ) السابع أنه مخلوق من عجل قال تعالى خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ( الأنبياء 37 ) الثامن قال تعالى لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى كَبَدٍ ( البلد 4 ) أما الحكماء فقالوا إنما خلق آدم عليه السلام من تراب لوجوه الأول ليكون متواضعاً الثاني ليكون ستاراً الثالث ليكون أشد التصاقاً بالأرض وذلك لأنه إنما خلق لخلافة أهل الأرض قال تعالى إِنّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَة ً ( البقرة 30 ) الرابع أراد إظهار القدرة فخلق الشياطين من النار التي هي أضوأ الأجرام وابتلاهم بظلمات الضلالة وخلق الملائكة من الهواء الذي هو ألطف الأجرام وأعطاهم كمال الشدة والقوة وخلق آدم عليه السلام من التراب الذي هو أكثف الأجرام ثم أعطاه المحبة والمعرفة والنور والهداية وخلق السماوات من أمواج مياه البحار وأبقاها معلقة في الهواء حتى يكون خلقه هذه الأجرام برهاناً باهراً ودليلاً ظاهراً على أنه تعالى هو المدبر بغير احتياج والخالق بلا مزاج وعلاج الخامس خلق الإنسان من تراب ليكون مطفئاً لنار الشهوة والغضب والحرص فإن هذه النيران لا تطفأ إلا بالتراب وإنما خلقه من الماء ليكون صافياً تتجلى فيه صور الأشياء ثم إنه تعالى مزج بين الأرض والماء ليمتزج الكثيف فيصير طيناً وهو قوله إِنّى خَالِقٌ بَشَراً مّن طِينٍ ثم إنه في المرتبة الرابعة قال وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلَالَة ٍ مّن طِينٍ والسلالة بمعنى المفعولة لأنها هي التي تسل من ألطف أجزاء الطين ثم إنه في المرتبة السادسة أثبت له من الصفات ثلاثة أنواع
أحدها أنه من صلصال والصلصال اليابس الذي إذا حرك تصلصل كالخزف الذي يسمع من داخله صوت والثاني الحمأ وهو الذي استقر في الماء مدة وتغير لونه إلى السواد والثالث تغير رائحته قال تعالى فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ( البقرة 259 ) أي لم يتغير
فهذه جملة الكلام في التوفيق بين الآيات الواردة في خلق آدم عليه السلام
المسألة الرابعة في الآية إشكال وهو أنه تعالى قال خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ فهذا يقتضي أن يكون خلق آدم متقدماً على قول الله له كُنَّ وذلك غير جائز
وأجاب عنه من وجوه الأول قال أبو مسلم قد بينا أن الخلق هو التقدير والتسوية ويرجع معناه إلى علم الله تعالى بكيفية وقوعه وإراداته لإيقاعه على الوجه المخصوص وكل ذلك متقدم على وجود آدم عليه السلام تقديماً من الأزل إلى الأبد وأما قوله كُنَّ فهو عبارة عن إدخاله في الوجود فثبت أن خلق آدم متقدم على قوله كُنَّ
والجواب الثاني وهو الذي عول عليه القاضي أنه تعالى خلقه من الطين ثم قال له كُنَّ أي أحياه كما قال ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَة َ عَلَقَة ً فإن قيل الضمير في قوله خلقه راجع إلى آدم وحين كان تراباً لم يكن آدم عليه السلام موجوداً
أجاب القاضي وقال بل كان موجوداً وإنما وجد بعد حياته وليست الحياة نفس آدم وهذا ضعيف لأن

آدم عليه السلام ليس عبارة عن مجرد الأجسام المشكلة بالشكل المخصوص بل هو عبارة عن هوية أخرى مخصوصة وهي إما المزاج المعتدل أو النفس وينجر الكلام من هذا البحث إلى أن النفس ما هي ولا شك أنها من أغمض المسائل
الجواب الصحيح أن يقال لما كان ذلك الهيكل بحيث سيصير آدم عن قريب سماه آدم عليه السلام قبل ذلك تسمية لما سيقع بالواقع
والجواب الثالث أن قوله ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ يفيد تراخي هذا الخبر عن ذلك الخبر كما في قوله تعالى ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( البلد 17 ) ويقول القائل أعطيت زيداً اليوم ألفاً ثم أعطيته أمس ألفين ومراده أعطيته اليوم ألفاً ثم أنا أخبركم أني أعطيته أمس ألفين فكذا قوله خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ أي صيره خلقاً سوياً ثم إنه يخبركم أني إنما خلقته بأن قلت له كُنَّ
المسألة الخامسة في الآية إشكال آخر وهو أنه كان ينبغي أن يقال ثم قال له كن فكان فلم يقل كذلك بل قال كُنْ فَيَكُونُ
والجواب تأويل الكلام ثم قال له كُنْ فَيَكُونُ فكان
واعلم يا محمد أن ما قال له ربك كُنَّ فإنه يكون لا محالة
الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِّن الْمُمْتَرِينَ
فيه مسائل
المسألة الأولى قال الفرّاء والزجاج قوله الْحَقّ خبر مبتدأ محذوف والمعنى الذي أنبأتك من قصة عيسى عليه السلام أو ذلك النبأ في أمر عيسى عليه السلام الْحَقّ فحذف لكونه معلوماً وقال أبو عبيدة هو استئناف بعد انقضاء الكلام وخبره قوله مِن رَبّكَ وهذا كما تقول الحق من الله والباطل من الشيطان وقال آخرون الحق رفع بإضمار فعل أي جاءك الحق
وقيل أيضاً إنه مرفوع بالصفة وفيه تقديم وتأخير تقديره من ربك الحق فلا تكن
المسألة الثانية الامتراء الشك قال ابن الأنباري هو مأخوذ من قول العرب مريت الناقة والشاة إذا حلبتها فكأن الشاك يجتذب بشكه مراء كاللبن الذي يجتذب عند الحلب يقال قد مارى فلان فلاناً إذا جادله كأنه يستخرج غضبه ومنه قيل الشكر يمتري المزيد أي يجلبه
المسألة الثالثة في الحق تأويلان الأول قال أبو مسلم المراد أن هذا الذي أنزلت عليك هو الحق من خبر عيسى عليه السلام لا ما قالت النصارى واليهود فالنصارى قالوا إن مريم ولدت إلاهاً واليهود رموا مريم عليها السلام بالإفك ونسبوها إلى يوسف النجار فالله تعالى بيّن أن هذا الذي أنزل في القرآن هو الحق ثم نهى عن الشك فيه ومعنى ممتري مفتعل من المرية وهي الشك

والقول الثاني أن المراد أن الحق في بين هذه المسألة ما ذكرناه من المثل وهو قصة آدم عليه السلام فإنه لا بيان لهذه المسألة ولا برهان أقوى من التمسك بهذه الواقعة والله أعلم
المسألة الرابعة قوله تعالى فَلاَ تَكُنْ مّن الْمُمْتَرِينَ خطاب في الظاهر مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهذا بظاهره يقتضي أنه كان شاكاً في صحة ما أنزل عليه وذلك غير جائز واختلف الناس في الجواب عنه فمنهم من قال الخطاب وإن كان ظاهره مع النبي عليه الصلاة والسلام إلا أنه في المعنى مع الأمة قال تعالى الْحَكِيمُ يأيُّهَا النَّبِى ُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاء والثاني أنه خطاب للنبي عليه الصلاة والسلام والمعنى فدم على يقينك وعلى ما أنت عليه من ترك الامتراء
فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَآءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتُ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ
اعلم أن الله تعالى بيّن في أول هذه السورة وجوهاً من الدلائل القاطعة على فساد قول النصارى بالزوجة والولد وأتبعها بذكر الجواب عن جميع شبههم على سبيل الاستقصاء التام وختم الكلام بهذه النكتة القاطعة لفساد كلامهم وهو أنه لما لم يلزم من عدم الأب والأم البشريين لآدم عليه السلام أن يكون ابناً لله تعالى لم يلزم من عدم الأب البشري لعيسى عليه السلام أن يكون ابناً لله تعالى الله عن ذلك ولما لم يبعد انخلاق آدم عليه السلام من التراب لم يبعد أيضاً انخلاق عيسى عليه السلام من الدم الذي كان يجتمع في رحم أم عيسى عليه السلام ومن أنصف وطلب الحق علم أن البيان قد بلغ إلى الغاية القصوى فعند ذلك قال تعالى فَمَنْ حَاجَّكَ بعد هذه الدلائل الواضحة والجوابات اللائحة فاقطع الكلام معهم وعاملهم بما يعامل به المعاند وهو أن تدعوهم إلى الملاعنة فقال فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ إلى آخر الآية ثم ههنا مسائل
المسألة الأولى اتفق أني حين كنت بخوارزم أخبرت أنه جاء نصراني يدعي التحقيق والتعمق في مذهبهم فذهبت إليه وشرعنا في الحديث وقال لي ما الدليل على نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فقلت له كما نقل إلينا ظهور الخوارق على يد موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء عليهم السلام نقل إلينا ظهور الخوارق على يد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإن رددنا التواتر أو قبلناه لكن قلنا إن المعجزة لا تدل على الصدق فحينئذ بطلت نبوّة سائر الأنبياء عليهم السلام وإن اعترفنا بصحة التواتر واعترفنا بدلالة المعجزة على الصدق ثم إنهما حاصلان في حق محمد وجب الاعتراف قطعاً بنبوّة محمد عليه السلام ضرورة أن عند الاستواء في الدليل لا بد من الاستواء في حصول المدلول فقال النصراني أنا لا أقول في عيسى عليه السلام إنه كان نبياً بل أقول إنه

كان إلاهاً فقلت له الكلام في النبوّة لا بد وأن يكون مسبوقاً بمعرفة الإله وهذا الذي تقوله باطل ويدل عليه أن الإله عبارة عن موجود واجب الوجود لذاته يجب أن لا يكون جسماً ولا متحيزاً ولا عرضاً وعيسى عبارة عن هذا الشخص البشري الجسماني الذي وجد بعد أن كان معدوماً وقتل بعد أن كان حياً على قولكم وكان طفلاً أولاً ثم صار مترعرعاً ثم صار شاباً وكان يأكل ويشرب ويحدث وينام ويستيقظ وقد تقرر في بداهة العقول أن المحدث لا يكون قديماً والمحتاج لا يكون غنياً والممكن لا يكون واجباً والمتغير لا يكون دائماً
والوجه الثاني في إبطال هذه المقالة أنكم تعترفون بأن اليهود أخذوه وصلبوه وتركوه حياً على الخشبة وقد مزقوا ضلعه وأنه كان يحتال في الهرب منهم وفي الاختفاء عنهم وحين عاملوه بتلك المعاملات أظهر الجزع الشديد فإن كان إلاهاً أو كان الإله حالاً فيه أو كان جزءاً من الإله حاك فيه فلم لم يدفعهم عن نفسه ولم لم يهلكهم بالكلية وأي حاجة به إلى إظهار الجزع منهم والاحتيال في الفرار منهما وبالله أنني لأتعجب جداً إن العاقل كيف يليق به أن يقول هذا القول ويعتقد صحته فتكاد أن تكون بديهة العقل شاهدة بفساده
والوجه الثالث وهو أنه إما أن يقال بأن الإله هو هذا الشخص الجسماني المشاهد أو يقال حل الإله بكليته فيه أو حل بعض الإله وجزء منه فيه والأقسام الثلاثة باطلة أما الأول فلأن إلاه العالم لو كان هو ذلك الجسم فحين قتله اليهود كان ذلك قولاً بأن اليهود قتلوا إلاه العالم فكيف بقي العالم بعد ذلك من غير إلاها ثم إن أشد الناس ذلاً ودناءة اليهود فالإلاه الذي تقتله اليهود إلاه في غاية العجزا وأما الثاني وهو أن الإله بكليته حل في هذا الجسم فهو أيضاً فاسد لأن الإله لم يكن جسماً ولا عرضاً امتنع حلوله في الجسم وإن كان جسماً فحينئذ يكون حلوله في جسم آخر عبارة عن اختلاط أجزاءه بأجزاء ذلك الجسم وذلك يوجب وقوع التفرق في أجزاء ذلك الإله وإن كان عرضاً كان محتاجاً إلى المحل وكان الإله محتاجاً إلى غيره وكل ذلك سخف وأما الثالث وهو أنه حل فيه بعض من أبعاض الإله وجزء من أجزائه فذلك أيضاً محال لأن ذلك الجزء إن كان معتبراً في الإلاهية فعند انفصاله عن الإله وجب أن لا يبقى الإله إلاهاً وإن لم يكن معتبر في تحقق الإلاهية لم يكن جزأ من الإله فثبت فساد هذه الأقسام فكان قول النصارى باطلاً
الوجه الرابع في بطلان قول النصارى ما ثبت بالتواتر أن عيسى عليه السلام كان عظيم الرغبة في العبادة والطاعة لله تعالى ولو كان إلاهاً لاستحال ذلك لأن الإله لا يعبد نفسه فهذه وجوه في غاية الجلاء والظهور دالة على فساد قولهم ثم قلت للنصراني وما الذي دلك على كونه إلاهاً فقال الذي دل عليه ظهور العجائب عليه من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وذلك لا يمكن حصوله إلا بقدرة الإله تعالى فقلت له هل تسلم إنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول أم لا فإن لم تسلم لزمك من نفي العالم في الأزل نفي الصانع وإن سلمت أنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول فأقول لما جوّزت حلول الإله في بدن عيسى عليه السلام فكيف عرفت أن الإله ما حل في بدني وبدنك وفي بدن كل حيوان ونبات وجماد فقال الفرق ظاهر وذلك لأني إنما حكمت بذلك الحلول لأنه ظهرت تلك الأفعال العجيبة عليه والأفعال العجيبة ما ظهرت على يدي ولا على يدك فعلمنا أن ذلك الحلول مفقود ههنا فقلت له تبين

الآن أنك ما عرفت معنى قولي إنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول وذلك لأن ظهور تلك الخوارق دالة على حلول الإله في بدن عيسى فعدم ظهور تلك الخوارق مني ومنك ليس فيه إلا أنه لم يوجد ذلك الدليل فإذا ثبت أنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول لا يلزم من عدم ظهور تلك الخوارق مني ومنك عدم الحلول في حقي وفي حقك وفي حق الكلب والسنور والفأر ثم قلت إن مذهباً يؤدي القول به إلى تجويز حلول ذات الله في بدن الكلب والذباب لفي غاية النحسة والركاكة
الوجه الخامس أن قلب العصا حية أبعد في العقل من إعادة الميت حياً لأن المشاكلة بين بدن الحي وبدن الميت أكثر من المشاكلة بين الخشبة وبين بدن الثعبان فإذا لم يوجب قلب العصا حية كون موسى إلاهاً ولا ابناً للإلاه فبأن لا يدل إحياء الموتى على الإلاهية كان ذلك أولى وعند هذا انقطع النصراني ولم يبق له كلام والله أعلم
المسألة الثانية روي أنه عليه السلام لما أورد الدلائل على نصارى نجران ثم إنهم أصروا على جهلهم فقال عليه السلام ( إن الله أمرني إن لم تقبلوا الحجة أن أباهلكم ) فقالوا يا أبا القاسم بل نرجع فننظر في أمرنا ثم نأتيك فلما رجعوا قالوا للعاقب وكان ذا رأيهم يا عبد المسيح ما ترى فقال والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أن محمداً نبي مرسل ولقد جاءكم بالكلام الحق في أمر صاحبكم والله ما باهل قوم نبياً قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم ولئن فعلتم لكان الاستئصال فإن أبيتم إلا الإصرار على دينكم والإقامة على ما أنتم عليه فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خرج وعليه مرط من شعر أسود وكان قد احتضن الحسين وأخذ بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه وعلي رضي الله عنه خلفها وهو يقول إذا دعوت فأمنوا فقال أسقف نجران يا معشر النصارى إني لأرى وجوهاً لو سألوا الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله بها فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة ثم قالوا يا أبا القاسم رأينا أن لا نباهلك وأن نقرك على دينك فقال صلوات الله عليه فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما على المسلمين فأبوا فقال فإني أناجزكم القتال فقالوا ما لنا بحرب العرب طاقة ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ولا تردنا عن ديننا على أن نؤدي إليك في كل عام ألفى حلة ألفا في صفر وألفا في رجب وثلاثين درعاً عادية من حديد فصالحهم على ذلك وقال والذي نفسي بيده إن الهلاك قد تدلى على أهل نجران ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ولاضطرم عليهم الوادي ناراً ولاستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على رؤوس الشجر ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى يهلكوا وروي أنه عليه السلام لما خرج في المرط الأسود فجاء الحسن رضي الله عنه فأدخله ثم جاء الحسين رضي الله عنه فأدخله ثم فاطمة ثم علي رضي الله عنهما ثم قال إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً ( الأحزاب 33 ) واعلم أن هذه الرواية كالمتفق على صحتها بين أهل التفسير والحديث
المسألة الثالثة فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ أي في عيسى عليه السلام وقيل الهاء تعود إلى الحق في قوله الْحَقُّ مِن رَّبّكَ ( هود 17 ) مّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ ( البقرة 145 ) بأن عيسى عبد الله ورسوله عليه السلام وليس المراد ههنا بالعلم نفس العلم لأن العلم الذي في قلبه لا يؤثر في ذلك بل المراد بالعلم ما ذكره بالدلائل العقلية

والدلائل الواصلة إليه بالوحي والتنزيل فقل تعالوا أصله تعاليوا لأنه تفاعلوا من العلو فاستثقلت الضمة على الياء فسكنت ثم حذفت لاجتماع الساكنين وأصله العلو والارتفاع فمعنى تعالى ارتفع إلا أنه كثر في الاستعمال حتى صار لكل مجيء وصار بمنزلة هلم
المسألة الرابعة هذه الآية دالة على أن الحسن والحسين عليهما السلام كانا ابني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وعد أن يدعو أبناءه فدعا الحسن والحسين فوجب أن يكونا ابنيه ومما يؤكد هذا قوله تعالى في سورة الأنعام وَمِن ذُرّيَّتِهِ دَاوُودُ وَسُلَيْمَانَ ( الأنعام 84 ) إلى قوله وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى ( الأنعام 85 ) ومعلوم أن عيسى عليه السلام إنما انتسب إلى إبراهيم عليه السلام بالأم لا بالأب فثبت أن ابن البنت قد يسمى ابناً والله أعلم
المسألة الخامسة كان في الري رجل يقال له محمود بن الحسن الحمصي وكان معلم الاثنى عشرية وكان يزعم أن علياً رضي الله عنه أفضل من جميع الأنبياء سوى محمد عليه السلام قال والذي يدل عليه قوله تعالى وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ وليس المراد بقوله وَأَنفُسَنَا نفس محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لأن الإنسان لا يدعو نفسه بل المراد به غيره وأجمعوا على أن ذلك الغير كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه فدلت الآية على أن نفس علي هي نفس محمد ولا يمكن أن يكون المراد منه أن هذه النفس هي عين تلك النفس فالمراد أن هذه النفس مثل تلك النفس وذلك يقتضي الاستواء في جميع الوجوه ترك العمل بهذا العموم في حق النبوة وفي حق الفضل لقيام الدلائل على أن محمداً عليه السلام كان نبياً وما كان علي كذلك ولانعقاد الإجماع على أن محمداً عليه السلام كان أفضل من علي رضي الله عنه فيبقى فيما وراءه معمولاً به ثم الإجماع دل على أن محمداً عليه السلام كان أفضل من سائر الأنبياء عليهم السلام فيلزم أن يكون علي أفضل من سائر الأنبياء فهذا وجه الاستدلال بظاهر هذه الآية ثم قال ويؤيد الاستدلال بهذه الآية الحديث المقبول عند الموافق والمخالف وهو قوله عليه السلام ( من أراد أن يرى آدم في علمه ونوحاً في طاعته وإبراهيم في خلته وموسى في هيبته وعيسى في صفوته فلينظر إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه ) فالحديث دل على أنه اجتمع فيه ما كان متفرقاً فيهم وذلك يدل على أن علياً رضي الله عنه أفضل من جميع الأنبياء سوى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وأما سائر الشيعة فقد كانوا قديماً وحديثاً يستدلون بهذه الآية على أن علياً رضي الله عنه مثل نفس محمد عليه السلام إلا فيما خصه الدليل وكان نفس محمد أفضل من الصحابة رضوان الله عليهم فوجب أن يكون نفس علي أفضل أيضاً من سائر الصحابة هذا تقدير كلام الشيعة والجواب أنه كما انعقد الإجماع بين المسلمين على أن محمداً عليه السلام أفضل من علي فكذلك انعقد الإجماع بينهم قبل ظهور هذا الإنسان على أن النبي أفضل ممن ليس بنبي وأجمعوا على أن علياً رضي الله عنه ما كان نبياً فلزم القطع بأن ظاهر الآية كما أنه مخصوص في حق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فكذلك مخصوص في حق سائر الأنبياء عليهم السلام
المسألة السادسة قوله ثُمَّ نَبْتَهِلْ أي نتباهل كما يقال اقتتل القوم وتقاتلوا واصطحبوا وتصاحبوا والابتهال فيه وجهان أحدهما أن الابتهال هو الاجتهاد في الدعاء وإن لم يكن باللعن ولا يقال ابتهل في الدعاء إلا إذا كان هناك اجتهاد والثاني أنه مأخوذ من قولهم عليه بهلة الله أي لعنته وأصله مأخوذ مما

يرجع إلى معنى اللعن لأن معنى اللعن هو الإبعاد والطرد وبهله الله أي لعنه وأبعده من رحمته من قولك أبهله إذا أهمله وناقة باهل لا صرار عليها بل هي مرسلة مخلاة كالرجل الطريد المنفي وتحقيق معنى الكلمة أن البهل إذا كان هو الإرسال والتخلية فكان من بهله الله فقد خلاه الله ووكله إلى نفسه ومن وكله إلى نفسه فهو هالك لا شك فيه فمن باهل إنساناً فقال علي بهلة الله إن كان كذا يقول وكلني الله إلى نفسي وفرضني إلى حولي وقوتي أي من كلاءته وحفظه كالناقة الباهل التي لا حافظ لها في ضرعها فكل من شاء حلبها وأخذ لبنها لا قوة لها في الدفع عن نفسها ويقال أيضاً رجل باهل إذا لم يكن معه عصاً وإنما معناه أنه ليس معه ما يدفع عن نفسه والقول الأول أولى لأنه يكون قوله ثُمَّ نَبْتَهِلْ أي ثم نجتهد في الدعاء ونجعل اللعنة على الكاذب وعلى القول الثاني يصير التقدير ثم نبتهل أي ثم نلتعن فَنَجْعَل لَّعْنَتُ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ وهي تكرار بقي في الآية سؤالات أربع
السؤال الأول الأولاد إذا كانوا صغاراً لم يجز نزول العذاب بهم وقد ورد في الخبر أنه صلوات الله عليه أدخل في المباهلة الحسن والحسين عليهما السلام فما الفائدة فيه
والجواب إن عادة الله تعالى جارية بأن عقوبة الاستئصال إذا نزلت بقوم هلكت معهم الأولاد والنساء فيكون ذلك في حق البالغين عقاباً وفي حق الصبيان لا يكون عقاباً بل يكون جارياً مجرى إماتتهم وإيصال الآلام والأسقام إليهم ومعلوم أن شفقة الإنسان على أولاده وأهله شديدة جداً فربما جعل الإنسان نفسه فداءً لهم وجنة لهم وإذا كان كذلك فهو عليه السلام أحضر صبيانه ونساءه مع نفسه وأمرهم بأن يفعلوا مثل ذلك ليكون ذلك أبلغ في الزجر وأقوى في تخويف الخصم وأدل على وثوقه صلوات الله عليه وعلى آله بأن الحق معه
السؤال الثاني هل دلت هذه الواقعة على صحة نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم )
الجواب أنها دلّت على صحة نبوته عليه السلام من وجهين أحدهما وهو أنه عليه السلام خوفهم بنزول العذاب عليهم ولو لم يكن واثقاً بذلك لكان ذلك منه سعياً في إظهار كذب نفسه لأن بتقدير أن يرغبوا في مباهلته ثم لا ينزل العذاب فحينئذ كان يظهر كذبه فيما أخبر ومعلوم أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) كان من أعقل الناس فلا يليق به أن يعمل عملاً يفضي إلى ظهور كذبه فلما أصر على ذلك علمنا أنه إنما أصر عليه لكونه واثقاً بنزول العذاب عليهم وثانيهما إن القوم لما تركوا مباهلته فلولا أنهم عرفوا من التوراة والإنجيل ما يدل على نبوته وإلا لما أحجموا عن مباهلته
فإن قيل لم لا يجوز أن يقال إنهم كانوا شاكين فتركوا مباهلته خوفاً من أن يكون صادقاً فينزل بهم ما ذكر من العذاب
قلنا هذا مدفوع من وجهين الأول أن القوم كانوا يبذلونه النفوس والأموال في المنازعة مع الرسول عليه الصلاة والسلام ولو كانوا شاكين لما فعلوا ذلك الثاني أنه قد نقل عن أولئك النصارى أنهم قالوا إنه والله هو النبي المبشر به في التوراة والإنجيل وإنكم لو باهلتموه لحصل الاستئصال فكان ذلك تصريحاً منهم بأن الامتناع عن المباهلة كان لأجل علمهم بأنه نبي مرسل من عند الله تعالى

السؤال الثالث أليس إن بعض الكفار اشتغلوا بالمباهلة مع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) حيث قالوا اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَة ً مّنَ السَّمَاء ( الأنفال 32 ) ثم إنه لم ينزل العذاب بهم ألبتة فكذا ههنا وأيضاً فبتقدير نزول العذاب كان ذلك مناقضاً لقوله وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ( الأنفال 33 )
والجواب الخاص مقدم على العام فلما أخبر عليه السلام بنزول العذاب في هذه السورة على التعيين وجب أن يعتقد أن الأمر كذلك
السؤال الرابع قوله إِنَّ هَاذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ هل هو متصل بما قبله أم لا
والجواب قال أبو مسلم إنه متصل بما قبله ولا يجوز الوقف على قوله الْكَاذِبِينَ وتقدير الآية فنجعل لعنة الله على الكاذبين بأن هذا هو القصص الحق وعلى هذا التقدير كان حق ءانٍ أن تكون مفتوحة إلا أنها كسرت لدخول اللام في قوله لَهُوَ كما في قوله إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ ( العاديات 11 ) وقال الباقون الكلام تم عند قوله عَلَى الْكَاذِبِينَ وما بعده جملة أخرى مستقلة غير متعلقة بما قبلها والله أعلم
إِنَّ هَاذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَاهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ
فيه مسائل
المسألة الأولى قوله إِنَّ هَذَا إشارة إلى ما تقدم ذكره من الدلائل ومن الدعاء إلى المباهلة لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ والقصص هو مجموع الكلام المشتمل على ما يهدي إلى الدين ويرشد إلى الحق ويأمر بطلب النجاة فبين تعالى إن الذي أنزله على نبيه هو القصص الحق ليكون على ثقة من أمره والخطاب وإن كان معه فالمراد به الكل
المسألة الثانية هُوَ في قوله لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ فيه قولان أحدهما أن يكون فصلاً وعماداً ويكون خبر ءانٍ هو قوله الْقَصَصُ الْحَقُّ
فإن قيل فكيف جاز دخول اللام على الفصل
قلنا إذا جاز دخولها على الخبر كان دخولها على الفصل أجود لأنه أقرب إلى المبتدأ منه وأصلها أن تدخل على المبتدأ
والقول الثاني إنه مبتدأ والقصص خبره والجملة خبر ءانٍ
المسألة الثالثة قرىء لَهُوَ بتحريك الهاء على الأصل وبالسكون لأن اللام ينزل من هُوَ منزلة بعضه فخفف كما خفف عضد

المسألة الرابعة يقال قص فلان الحديث يقصه قصاً وقصصاً وأصله اتباع الأثر يقال خرج فلان قصصاً وفي أثر فلان وقصاً وذلك إذا اقتص أثره ومنه قوله تعالى وَقَالَتْ لاخْتِهِ قُصّيهِ ( القصص 11 ) وقيل للقاص إنه قاص لاتباعه خبراً بعد خبر وسوقه الكلام سوقاً فمعنى القصص الخبر المشتمل على المعاني المتتابعة
ثم قال وَمَا مِنْ إِلَاهٍ إِلاَّ اللَّهُ وهذا يفيد تأكيد النفي لأنك لو قلت عندي من الناس أحد أفاد أن عندك بعض الناس فإذا قلت ما عندي من الناس من أحد أفاد أنه ليس عندك بعضهم وإذا لم يكن عندك بعضهم فبأن لا يكون عندك كلهم أولى فثبت أن قوله وَمَا مِنْ إِلَاهٍ إِلاَّ اللَّهُ مبالغة في أنه لا إلاه إلا الله الواحد الحق سبحانه وتعالى
ثم قال وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وفيه إشارة إلى الجواب عن شبهات النصارى وذلك لأن اعتمادهم على أمرين أحدهما أنه قدر على إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص فكأنه تعالى قال هذا القدر من القدرة لا يكفي في الإلاهية بل لا بد وأن يكون عزيزاً غالباً لا يدفع ولا يمنع وأنتم قد اعترفتم بأن عيسى ما كان كذلك وكيف وأنتم تقولون إن اليهود قتلوه والثاني أنهم قالوا إنه كان يخبر عن الغيوب وغيرها فيكون إلاهاً فكأنه تعالى قال هذا القدر من العلم لا يكفي في الإلاهية بل لا بد وأن يكون حكيماً أي عالماً بجميع المعلومات وبجميع عواقب الأمور فذكر العَزِيزُ الحَكِيمُ ههنا إشارة إلى الجواب عن هاتين الشبهتين ونظير هذه الآية ما ذكره تعالى في أول السورة من قوله هُوَ الَّذِي يُصَوّرُكُمْ فِي الاْرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء لا إله إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( آل عمران 6 )
ثم قال فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ والمعنى فإن تولوا عما وصفت من أن الله هو الواحد وأنه يجب أن يكون عزيزاً غالباً قادراً على جميع المقدورات حكيماً عالماً بالعواقب والنهايات مع أن عيسى عليه السلام ما كان عزيزاً غالباً وما كان حكيماً عالماً بالعواقب والنهايات فاعلم أن توليهم وإعراضهم ليس إلا على سبيل العناد فاقطع كلامك عنهم وفوض أمرهم إلى الله فإن الله عليم بفساد المفسدين مطلع على ما في قلوبهم من الأغراض الفاسدة قادر على مجازاتهم
قُلْ ياأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَة ٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ

واعلم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما أورد على نصارى نجران أنواع الدلائل وانقطعوا ثم دعاهم إلى المباهلة فخافوا وما شرعوا فيها وقبلوا الصغار بأداء الجزية وقد كان عليه السلام حريصاً على إيمانهم فكأنه تعالى قال يا محمد اترك ذلك المنهج من الكلام واعدل إلى منهج آخر يشهد كل عقل سليم وطبع مستقيم أنه كلام مبني على الإنصاف وترك الجدال و قُلْ ياأَهْلَ أَهْلِ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَة ٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أي هلموا إلى كلمة فيها إنصاف من بعضنا لبعض ولا ميل فيه لأحد على صاحبه وهي أَن لا نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً هذا هو المراد من الكلام ولنذكر الآن تفسير الألفاظ
أما قوله تعالى مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ففيه ثلاثة أقوال أحدها المراد نصارى نجران والثاني المراد يهود المدينة والثالث أنها نزلت في الفريقين ويدل عليه وجهان الأول أن ظاهر اللفظ يتناولهما والثاني روي في سبب النزول أن اليهود قالوا للنبي عليه الصلاة والسلام ما تريد إلا أن نتخذك رباً كما اتخذت النصارى عيسى وقالت النصارى يا محمد ما تريد إلا أن نقول فيك ما قالت اليهود في عزيرا فأنزل الله تعالى هذه الآية وعندي أن الأقرب حمله على النصارى لما بينا أنه لما أورد الدلائل عليهم أولاً ثم باهلهم ثانياً فعدل في هذا المقام إلى الكلام المبني على رعاية الإنصاف وترك المجادلة وطلب الإفحام والإلزام ومما يدل عليه أنه خاطبهم ههنا بقوله تعالى مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وهذا الاسم من أحسن الأسماء وأكمل الألقاب حيث جعلهم أهلاً لكتاب الله ونظيره ما يقال لحافظ القرآن يا حامل كتاب الله وللمفسر يا مفسر كلام الله فإن هذا اللقب يدل على أن قاتله أراد المبالغة في تعظيم المخاطب وفي تطييب قلبه وذلك إنما يقال عند عدول الإنسان مع خصمه عن طريقة اللجاج والنزاع إلى طريقة طلب الإنصاف
أما قوله تعالى تَعَالَوْاْ فالمراد تعيين ما دعوا إليه والتوجه إلى النظر فيه وإن لم يكن انتقالاً من مكان إلى مكان لأن أصل اللفظ مأخوذ من التعالي وهو الارتفاع من موضع هابط إلى مكان عال ثم كثر استعماله حتى صار دالاً على طلب التوجه إلى حيث يدعى إليه
أما قوله تعالى إِلَى كَلِمَة ٍ سَوَاء بَيْنَنَا فالمعنى هلموا إلى كلمة فيها إنصاف من بعضنا لبعض لا ميل فيه لأحد على صاحبه والسواء هو العدل والإنصاف وذلك لأن حقيقة الإنصاف إعطاء النصف فإن الواجب في العقول ترك الظلم على النفس وعلى الغير وذلك لا يحصل إلا بإعطاء النصف فإذا أنصف وترك ظلمه أعطاه النصف فقد سوى بين نفسه وبين غيره وحصل الاعتدال وإذا ظلم وأخذ أكثر مما أعطى زال الاعتدال فلما كان من لوازم العدل والإنصاف التسوية جعل لفظ التسوية عبارة عن العدل
ثم قال الزجاج سَوَآء نعت للكملة يريد ذات سواء فعلى هذا قوله كَلِمَة ٍ سَوَاء أي كلمة عادلة مستقيمة مستوية فإذا آمنا بها نحن وأنتم كنا على السواء والاستقامة ثم قال أَن لا نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى محل ءانٍ في قوله أن لا نعبد فيه وجهان الأول إنه رفع بإضمار هي كأن قائلاً قال ما تلك الكلمة فقيل هي أن لا نعبد إلا الله والثاني خفض على البدل من كلمة
المسألة الثانية إنه تعالى ذكر ثلاثة أشياء أولها أَن لا نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وثانيها أن لا نُشْرِكَ بِهِ

شَيْئاً وثالثها أن لاَّ يَتَّخِذِ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مّن دُونِ اللَّهِ وإنما ذكر هذه الثلاثة لأن النصارى جمعوا بين هذه الثلاثة فيعبدون غير الله وهو المسيح ويشركون به غيره وذلك لأنهم يقولون إنه ثلاثة أب وابن وروح القدس فأثبتوا ذوات ثلاثة قديمة سواء وإنما قلنا إنهم أثبتوا ذوات ثلاثة قديمة لأنهم قالوا إن أقنوم الكلمة تدرعت بناسوت المسيح وأقنوم روح القدس تدرعت بناسوت مريم ولولا كون هذين الأقنومين ذاتين مستقلتين وإلا لما جازت عليهما مفارقة ذات الأب والتدرع بناسوت عيسى ومريم ولما أثبتوا ذوات ثلاثة مستقلة فقد أشركوا وأما إنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله فيدل عليه وجوه
أحدها إنهم كانوا يطيعونهم في التحليل والتحريم والثاني إنهم كانوا يسجدون لأحبارهم والثالث قال أبو مسلم من مذهبهم أن من صار كاملاً في الرياضة والمجاهدة يظهر فيه أثر حلول اللاهوت فيقدر على إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص فهم وإن لم يطلقوا عليه لفظ الرب إلا أنهم أثبتوا في حقه معنى الربوبية والرابع هو أنهم كانوا يطيعون أحبارهم في المعاصي ولا معنى للربوبية إلا ذلك ونظيره قوله تعالى أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَاهَهُ هَوَاهُ ( الجاثية 23 ) فثبت أن النصارى جمعوا بين هذه الأمور الثلاثة وكان القول ببطلان هذه الأمور الثلاثة كالأمر المتفق عليه بين جمهور العقلاء وذلك لأن قبل المسيح ما كان المعبود إلا الله فوجب أن يبقى الأمر بعد ظهور المسيح على هذا الوجه وأيضاً القول بالشركة باطل باتفاق الكل وأيضاً إذا كان الخالق والمنعم بجميع النعم هو الله وجب أن لا يرجع في التحليل والتحريم والانقياد والطاعة إلا إليه دون الأحبار والرهبان فهذا هو شرح هذه الأمور الثلاثة
ثم قال تعالى فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ والمعنى إن أبوا إلا الإصرار فقولوا إنا مسلمون يعني أظهروا أنكم على هذا الدين لا تكونوا في قيد أن تحملوا غيركم عليه
ياأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِى إِبْرَاهِيمَ وَمَآ أُنزِلَتِ التَّورَاة ُ وَالإْنْجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ
اعلم أن اليهود كانوا يقولون إن إبراهيم كان على ديننا والنصارى كانوا يقولون كان إبراهيم على ديننا فأبطل الله عليهم ذلك بأن التوراة والإنجيل ما أنزلا إلا من بعده فكيف يعقل أن يكون يهودياً أو نصرانياً
فإن قيل فهذا أيضاً لازم عليكم لأنكم تقولون إن إبراهيم كان على دين الإسلام والإسلام إنما أنزل بعده بزمان طويل فإن قلتم إن المراد أن إبراهيم كان في أصول الدين على المذهب الذي عليه المسلمون الآن فنقول فلم لا يجوز أيضاً أن تقول اليهود إن إبراهيم كان يهودياً بمعنى أنه كان على الدين الذي عليه

اليهود وتقول النصارى إن إبراهيم كان نصرانياً بمعنى أنه كان على الدين الذي عليه النصارى فكون التوراة والإنجيل نازلين بعد إبراهيم لا ينافي كونه يهودياً أو نصرانياً بهذا التفسير كما إن كون القرآن نازلاً بعده لا ينافي كونه مسلماً
والجواب إن القرآن أخبر أن إبراهيم كان حنيفاً مسلماً وليس في التوراة والإنجيل أن إبراهيم كان يهودياً أو نصرانياً فظهر الفرق ثم نقول أما إن النصارى ليسوا على ملة إبراهيم فالأمر فيه ظاهر لأن المسيح ما كان موجوداً في زمن إبراهيم فما كانت عبادته مشروعة في زمن إبراهيم لا محالة فكان الاشتغال بعبادة المسيح مخالفة لملة إبراهيم لا محالة وأما إن اليهود ليسوا على ملة إبراهيم فذلك لأنه لا شك إنه كان لله سبحانه وتعالى تكاليف على الخلق قبل مجيء موسى عليه السلام ولا شك أن الموصل لتلك التكاليف إلى الخلق واحد من البشر ولا شك أن ذلك الإنسان قد كان مؤيداً بالمعجزات وإلا لم يجب على الخلق قبول تلك التكاليف منه فإذن قد كان قبل مجيء موسى أنبياء وكانت لهم شرائع معينة فإذا جاء موسى فإما أن يقال إنه جاء بتقرير تلك الشرائع أو بغيرهما فإن جاء بتقريرها لم يكن موسى صاحب تلك الشريعة بل كان كالفقيه المقرر لشرع من قبله واليهود لا يرضون بذلك وإن كان قد جاء بشرع آخر سوى شرع من تقدمه فقد قال بالنسخ فثبت أنه لا بد وأن يكون دين كل الأنبياء جواز القول بالنسخ واليهود ينكرون ذلك فثبت أن اليهود ليسوا على ملة إبراهيم فبطل قول اليهود والنصارى بأن إبراهيم كان يهودياً أو نصرانياً فهذا هو المراد من الآية والله أعلم
هاأَنتُمْ هَاؤُلا ءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَاذَا النَّبِى ُّ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَاللَّهُ وَلِى ُّ الْمُؤْمِنِينَ
فيه مسائل
المسألة الأولى قرأ عاصم وحمزة والكسائي وَإِذْ أَنتُمْ بالمد والهمزة وقرأ نافع وأبو عمرو بغير همز ولا مد إلا بقدر خروج الألف الساكنة وقرأ ابن كثير بالهمز والقصر على وزن صنعتم وقرأ ابن عامر بالمد دون الهمز فمن حقق فعلى الأصل لأنهما حرفان ها و وَإِذْ أَنتُمْ ومن لم يمد ولم يهمز فللتخفيف من غير إخلال

المسألة الثانية اختلفوا في أصل وَإِذْ أَنتُمْ فقيل ها تنبيه والأصل وَإِذْ أَنتُمْ وقيل أصله أَءنتُمْ فقلبت الهمزة الأولى هاء كقولهم هرقت الماء وأرقت و هَؤُلاء مبني على الكسر وأصله أولاء دخلت عليه ها التنبيه وفيه لغتان القصر والمد فإن قيل أين خبر أنتم في قوله ها أنتم قلنا في ثلاثة أوجه الأول قال صاحب ( الكشاف ) ها للتنبيه و وَإِذْ أَنتُمْ مبتدأ و هَؤُلاء خبره و حَاجَجْتُمْ جملة مستأنفة مبينة للجملة الأولى بمعنى أنتم هؤلاء الأشخاص الحمقى وبيان حماقتكم وقلة عقولكم أنكم وإن جادلتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والثاني أن يكون أَنتُمْ مبتدأ وخبر هَؤُلاء بمعنى أولاء على معنى الذي وما بعده صلة له الثالث أن يكون أَنتُمْ مبتدأ وَهَؤُلاء عطف بيان وحاججتم خبره وتقديره أنتم يا هؤلاء حاججتم
المسألة الثالثة المراد من قوله هَاؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ هو أنهم زعموا أن شريعة التوراة والإنجيل مخالفة لشريعة القرآن فكيف تحاجون فيما لا علم لكم به وهو ادعاؤكم أن شريعة إبراهيم كانت مخالفة لشريعة محمد عليه السلام
ثم يحتمل في قوله تَعْقِلُونَ هأَنتُمْ هَاؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ أنه لم يصفهم في العلم حقيقة وإنما أراد إنكم تستجيزون محاجته فيما تدعون علمه فكيف تحاجونه فيما لا علم لكم به ألبتة
ثم حقق ذلك بقوله وَاللَّهُ يَعْلَمُ كيف كانت حال هذه الشرائع في المخالفة والموافقة وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ كيفية تلك الأحوال
ثم بيّن تعالى ذلك مفصلاً فقال مَا كَانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيّا وَلاَ نَصْرَانِيّا فكذبهم فيما ادعوه من موافقة لهما
ثم قال وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وقد سبق تفسير الحنيف في سورة البقرة
ثم قال وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وهو تعريض بكون النصارى مشركين في قولهم بإلاهية المسيح وبكون اليهود مشركين في قولهم بالتشبيه
فإن قيل قولكم إبراهيم على دين الإسلام أتريدون به الموافقة في الأصول أو في الفروع فإن كان الأول لم يكن مختصاً بدين الإسلام بل نقطع بأن إبراهيم أيضاً على دين اليهود أعني ذلك الدين الذي جاء به موسى فكان أيضاً على دين النصارى أعني تلك النصرانية التي جاء بها عيسى فإن أديان الأنبياء لا يجوز أن تكون مختلفة في الأصول وإن أردتم به الموافقة في الفروع فلزم أن لا يكون محمد عليه السلام صاحب الشرع البتة بل كان كالمقرر لدين غيره وأيضاً من المعلوم كالضرورة أن التعبد بالقرآن ما كان موجوداً في زمان إبراهيم عليه السلام فتلاوة القرآن مشروعة في صلاتنا وغير مشروعة في صلاتهم قلنا جاز أن يكون المراد به الموافقة في الأصول والغرض منه بيان إنه ما كان موافقاً في أصول الدين لمذهب هؤلاء الذين هم اليهود والنصارى في زماننا هذا وجاز أيضاً أن يقال المراد به الفروع وذلك لأن الله نسخ تلك الفروع بشرع

موسى ثم في زمن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) نسخ شرع موسى عليه السلام الشريعة التي كانت ثابتة في زمن إبراهيم عليه السلام وعلى هذا التقدير يكون محمد عليه السلام صاحب الشريعة ثم لما كان غالب شرع محمد عليه السلام موافقاً لشرع إبراهيم عليه السلام فلو وقعت المخالفة في القليل لم يقدح ذلك في حصول الموافقة
ثم ذكر تعالى إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ فريقان أحدهما من اتبعه ممن تقدم والآخر النبي وسائر المؤمنين
ثم قال وَاللَّهُ وَلِى ُّ الْمُؤْمِنِينَ بالنصرة والمعونة والتوفيق والإعظام والإكرام
وَدَّت طَّآئِفَة ٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ
اعلم أنه تعالى لما بيّن أن من طريقة أهل الكتاب العدول عن الحق والإعراض عن قبول الحجة بيّن أنهم لا يقتصرون على هذا القدر بل يجتهدون في إضلال من آمن بالرسول عليه السلام بإلقاء الشبهات كقولهم إن محمداً عليه السلام مقر بموسى وعيسى ويدعي لنفسه النبوّة وأيضاً إن موسى عليه السلام أخبر في التوراة بأن شرعه لا يزول وأيضاً القول بالنسخ يفضي إلى البداء والغرض منه تنبيه المؤمنين على أن لا يغتروا بكلام اليهود ونظير قوله تعالى في سورة البقرة وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ ( البقرة 109 ) وقوله وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء ( النساء 89 )
واعلم أن مِنْ ههنا للتبعيض وإنما ذكر بعضهم ولم يعمهم لأن منهم من آمن وأثنى الله عليهم بقوله مّنْهُمْ أُمَّة ٌ مُّقْتَصِدَة ٌ ( المائدة 66 ) وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّة ٌ قَائِمَة ٌ ( آل عمران 113 ) وقيل نزلت هذه الآية في معاذ وعمّار بن ياسر وحذيفة دعاهم اليهود إلى دينهم وإنما قال لَوْ يُضِلُّونَكُمْ ولم يقل أن يضلوكم لأن لَوْ للتمني فإن قولك لو كان كذا يفيد التمني ونظيره قوله تعالى يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَة ٍ ( البقرة 96 )
ثم قال تعالى وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنفُسَهُمْ وهو يحتمل وجوهاً منها إهلاكهم أنفسهم باستحقاق العقاب على قصدهم إضلال الغير وهو كقوله وَمَا ظَلَمُونَا وَلَاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ( البقرة 57 ) وقوله وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ ( العنكبوت 13 ) لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَة ً يَوْمَ الْقِيَامَة ِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَآء مَا يَزِرُونَ ( النحل 25 ) ومنها إخراجهم أنفسهم عن معرفة الهدى والحق لأن الذاهب عن الاهتداء يوصف بأنه ضال ومنها أنهم لما اجتهدوا في إضلال المؤمنين ثم إن المؤمنين لم يلتفتوا إليهم فهم قد صاروا خائبين خاسرين حيث اعتقدوا شيئاً ولاح لهم أن الأمر بخلاف ما تصوروه
ثم قال تعالى وَمَا يَشْعُرُونَ أي ما يعلمون أن هذا يضرهم ولا يضر المؤمنين

ياأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِأَيَاتِ اللَّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ
اعلم أنه تعالى لما بيّن حال الطائفة التي لا تشعر بما في التوراة من دلالة نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بيّن أيضاً حال الطائفة العارفة بذلك من أحبارهم
فقال يَشْعُرُونَ يأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِأَيَاتِ اللَّهِ وفيه مسائل
المسألة الأولى لَمْ أصلها لما لأنها ما التي للاستفهام دخلت عليها اللام فحذفت الألف لطلب الخفة ولأن حرف الجر صار كالعوض عنها ولأنها وقعت طرفاً ويدل عليها الفتحة وعلى هذا قوله عَمَّ يَتَسَاءلُونَ ( النبأ 1 ) و فَبِمَ تُبَشّرُونَ ( الحجر 54 ) والوقف على هذه الحروف يكون بالهاء نحو فبمه ولمه
المسألة الثانية في قوله لَّهُ مَقَالِيدُ وجوه الأول أن المراد منها الآيات الواردة في التوراة والإنجيل وعلى هذا القول فيه وجوه أحدها ما في هذين الكتابين من البشارة بمحمد عليه السلام ومنها ما في هذين الكتابين أن إبراهيم عليه السلام كان حنيفاً مسلماً ومنها أن فيهما أن الدين هو الإسلام
واعلم أن على هذا القول المحتمل لهذه الوجوه نقول إن الكفر بالآيات يحتمل وجهين أحدهما أنهم ما كانوا كافرين بالتوراة بل كانوا كافرين بما يدل عليه التوراة فأطلق اسم الدليل على المدلول على سبيل المجاز والثاني أنهم كانوا كافرين بنفس التوراة لأنهم كانوا يحرفونها وكانوا ينكرون وجود تلك الآيات الدالة على نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم )
فأما قوله تعالى وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ فالمعنى على هذا القول أنهم عند حضور المسلمين وعند حضور عوامهم كانوا ينكرون اشتمال التوراة والإنجيل على الآيات الدالة على نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ثم إذا خلا بعضهم مع بعض شهدوا بصحتها ومثله قوله تعالى تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَاء ( آل عمران 99 )
واعلم أن تفسير الآية بهذا القول يدل على اشتمال هذه الآية على الإخبار عن الغيب لأنه عليه الصلاة والسلام أخبرهم بما يكتمونه في أنفسهم ويظهرون غيره ولا شك أن الإخبار عن الغيب معجز
القول الثاني في تفسير آيات الله أنها هي القرآن وقوله وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ يعني أنكم تنكرون عند العوام كون القرآن معجزاً ثم تشهدون بقلوبكم وعقولكم كونه معجزاً
القول الثالث أن المراد بآيات الله جملة المعجزات التي ظهرت على يد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وعلى هذا القول فقوله تعالى وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ معناه أنكم إنما اعترفتم بدلالة المعجزات التي ظهرت على سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الدالة على صدقهم من حيث أن المعجز قائم مقام التصديق من الله تعالى فإذا شهدتهم بأن المعجز إنما دل على صدق سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من هذا الوجه وأنتم تشهدون حصول هذا الوجه في حق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كان إصراركم على إنكار نبوته ورسالته مناقضاً لما شهدتهم بحقيته من دلالة معجزات سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على صدقهم

ياأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ
اعلم أن علماء اليهود والنصارى كانت لهم حرفتان إحداهما أنهم كانوا يكفرون بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) مع أنهم كانوا يعلمون بقلوبهم أنه رسول حق من عند الله والله تعالى نهاهم عن هذه الحرفة في الآية الأولى وثانيتهما إنهم كانوا يجتهدون في إلقاء الشبهات وفي إخفاء الدلائل والبينات والله تعالى نهاهم عن هذه الحرفة في هذه الآية الثانية فالمقام الأول مقام الغواية والضلالة والمقام الثاني مقام الإغواء والإضلال وفيه مسائل
المسألة الأولى قرىء تَلْبِسُونَ بالتشديد وقرأ يحيى بن و ثاب تَلْبِسُونَ بفتح الباء أي تلبسون الحق مع الباطل كقوله عليه السلام ( كلابس ثوبي زور ) وقوله
إذا هو بالمجد ارتدى وتأزرا
المسألة الثانية اعلم أن الساعي في إخفاء الحق لا سبيل له إلى ذلك إلا من أحد وجهين إما بإلقاء شبهة تدل على الباطل وإما بإخفاء الدليل الذي يدل على الحق فقوله لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ إشارة إلى المقام الأول وقوله وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ إشارة إلى المقام الثاني أما لبس الحق بالباطل فإنه يحتمل ههنا وجوهاً أحدها تحريف التوراة فيخلطون المنزل بالمحرف عن الحسن وابن زيد وثانيها إنهم تواضعوا على إظهار الإسلام أول النهار ثم الرجوع عنه في آخر النهار تشكيكاً للناس عن ابن عباس وقتادة وثالثها أن يكون في التوراة ما يدل على نبوته ( صلى الله عليه وسلم ) من البشارة والنعت والصفة ويكون في التوراة أيضاً ما يوهم خلاف ذلك فيكون كالمحكم والمتشابه فيلبسون على الضعفاء أحد الأمرين بالآخر كما يفعله كثير من المشبهة وهذا قول القاضي ورابعها أنهم كانوا يقولون محمداً معترف بأن موسى عليه السلام حق ثم إن التوراة دالة على أن شرع موسى عليه السلام لا ينسخ وكل ذلك إلقاء للشبهات
أما قوله تعالى وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ فالمراد أن الآيات الموجودة في التوراة الدالة على نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كان الاستدلال بها مفتقراً إلى التفكر والتأمل والقوم كانوا يجتهدون في إخفاء تلك الألفاظ التي كان بمجموعها يتم هذا الاستدلال مثل ما أن أهل البدعة في زماننا يسعون في أن لا يصل إلى عوامهم دلائل المحققين
أما قوله وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ففيه وجوه أحدها إنكم تعلمون أنكم إنما تفعلون ذلك عناداً وحسداً وثانيها وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ أي أنتم أرباب العلم والمعرفة لا أرباب الجهل والخرافة وثالثها وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ أن عقاب من يفعل مثل هذه الأفعال عظيم
المسألة الثالثة قال القاضي قوله تعالى لِمَ تَكْفُرُونَ و لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ دال على أن ذلك فعلهم لأنه لا يجوز أن يخلقه فيهم ثم يقول لم فعلتم وجوابه أن الفعل يتوقف على الداعية فتلك الداعية إن حدثت لا لمحدث لزم نفي الصانع وإن كان محدثها هو العبد افتقر إلى إرادة أخرى وإن كان محدثها هو الله تعالى لزمكم ما ألزمتموه علينا والله أعلم

وَقَالَت طَّآئِفَة ٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ءَامِنُواْ بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا ءَاخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم يلبسون الحق بالباطل أردف ذلك بأن حكى عنهم نوعاً واحداً من أنواع تلبيساتهم وهو المذكور في هذه الآية وههنا مسائل
المسألة الأولى قول بعضهم لبعض وَقَالَت طَّائِفَة ٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ءامِنُواْ بِالَّذِي أُنزِلَ ويحتمل أن يكون المراد كل ما أنزل وأن يكون المراد بعض ما أنزل
أما الاحتمال الأول ففيه وجوه الأول أن اليهود والنصارى استخرجوا حيلة في تشكيك ضعفه المسلمين في صحة الإسلام وهو أن يظهروا تصديق ما ينزل على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من الشرائع في بعض الأوقات ثم يظهروا بعد ذلك تكذيبه فإن الناس متى شاهدوا هذا التكذيب قالوا هذا التكذيب ليس لأجل الحسد والعناد وإلا لما آمنوا به في أول الأمر وإذا لم يكن هذا التكذيب لأجل الحسد والعناد وجب أن يكون ذلك لأجل أنهم أهل الكتاب وقد تفكروا في أمره واستقصوا في البحث عن دلائل نبوته فلاح لهم بعد التأمل التام والبحث الوافي أنه كذاب فيصير هذا الطريق شبهة لضعفة المسلمين في صحة نبوته وقيل تواطأ اثنا عشر رجلاً من أحبار يهود خيبر على هذا الطريق
وقوله لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ معناه أنا متى ألقينا هذه الشبهة فلعل أصحابه يرجعون عن دينه
الوجه الثاني يحتمل أن يكون معنى الآية أن رؤساء اليهود والنصارى قال بعضهم لبعض نافقوا وأظهروا الوفاق للمؤمنين ولكن بشرط أن تثبتوا على دينكم إذا خلوتم بإخوانكم من أهل الكتاب فإن أمر هؤلاء المؤمنين في اضطراب فزجوا الأيام معهم بالنفاق فربما ضعف أمرهم واضمحل دينهم ويرجعوا إلى دينكم وهذا قول أبي مسلم الأصفهاني ويدل عليه وجهان الأول أنه تعالى لما قال إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ءامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ( النساء 137 ) أتبعه بقوله بَشّرِ الْمُنَافِقِينَ وهو بمنزلة قوله وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ ( البقرة 14 ) الثاني أنه تعالى اتبع هذه الآية بقوله يَرْجِعُونَ وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ فهذا يدل على أنهم نهوا عن غير دينهم الذي كانوا عليه فكان قولهم وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ أمر بالنفاق
الوجه الثالث قال الأصم قال بعضهم لبعض إن كذبتموه في جميع ما جاء به فإن عوامكم يعلمون كذبكم لأن كثيراً مما جاء به حق ولكن صدقوه في بعض وكذبوه في بعض حتى يحمل الناس تكذيبكم له على الإنصاف لا على العناد فيقبلوا قولكم

الاحتمال الثاني أن يكون قوله وَقَالَت طَّائِفَة ٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ءامِنُواْ بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ بعض ما أنزل الله والقائلون بهذا القول حملوه على أمر القبلة وذكروا فيه وجهين الأول قال ابن عباس وجه النهار أوله وهو صلاة الصبح واكفروا آخره يعني صلاة الظهر وتقريره أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان يصلي إلى بيت المقدس بعد أن قدم المدينة ففرح اليهود بذلك وطمعوا أن يكون منهم فلما حوله الله إلى الكعبة كان ذلك عند صلاة الظهر قال كعب بن الأشرف وغيره وَقَالَت طَّائِفَة ٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ءامِنُواْ بِالَّذِي أُنزِلَ يعني آمنوا بالقبلة التي صلّى إليها صلاة الصبح فهي الحق واكفروا بالقبلة التي صلّى إليها صلاة الظهر وهي آخر النهار وهي الكفر الثاني أنه لما حولت القبلة إلى الكعبة شق ذلك عليهم فقال بعضهم لبعض صلوا إلى الكعبة في أول النهار ثم اكفروا بهذه القبلة في آخر النهار وصلوا إلى الصخرة لعلّهم يقولون إن أهل الكتاب أصحاب العلم فلولا أنهم عرفوا بطلان هذه القبلة لما تركوها فحينئذ يرجعون عن هذه القبلة
المسألة الثانية الفائدة في إخبار الله تعالى عن تواضعهم على هذه الحيلة من وجوه الأول أن هذه الحيلة كانت مخفية فيما بينهم وما أطلعوا عليها أحداً من الأجانب فلما أخبر الرسول عنها كان ذلك إخباراً عن الغيب فيكون معجزاً الثاني أنه تعالى لما أطلع المؤمنين على تواطئهم على هذه الحيلة لم يحصل لهذه الحيلة أثر في قلوب المؤمنين ولولا هذا الإعلان لكان ربما أثرت هذه الحيلة في قلب بعض من كان في إيمانه ضعف الثالث أن القوم لما افتضحوا في هذه الحيلة صار ذلك رادعاً لهم عن الإقدام على أمثالها من الحيل والتلبيس
المسألة الثالثة وجه النهار هو أوله والوجه في اللغة هو مستقبل كل شيء لأنه أول ما يواجه منه كما يقال لأول الثوب وجه الثوب روى ثعلب عن ابن الأعرابي أتيته بوجه نهار وصدر نهار وشباب نهار أي أول النهار وأنشد الربيع بن زياد فقال من كان مسروراً بمقتل مالك
فليأت نسوتنا بوجه نهار
وَلاَ تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
اتفق المفسرون على أن هذا بقية كلام اليهود وفيه وجهان الأول المعنى ولا تصدقوا إلا نبياً يقرر

شرائع التوراة فأما من جاء بتغيير شيء من أحكام التوراة فلا تصدقوه وهذا هو مذهب اليهود إلى اليوم وعلى هذا التفسير تكون اللام في قوله تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ صلة زائدة فإنه يقال صدقت فلاناً ولا يقال صدقت لفلان وكون هذه اللام صلة زائدة جائز كقوله تعالى رَدِفَ لَكُم ( النمل 72 ) والمراد ردفكم والثاني أنه ذكر قبل هذه الآية قوله وَقَالَت طَّائِفَة ٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ
ثم قال في هذه الآية وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ أي لا تأتوا بذلك الإيمان إلا لأجل من تبع دينكم كأنهم قالوا ليس الغرض من الإتيان بذلك التلبيس إلا بقاء أتباعكم على دينكم فالمعنى ولا تأتوا بذلك الإيمان إلا لأجل من تبع دينكم فإن مقصود كل واحد حفظ أتباعه وأشياعه على متابعته
ثم قال تعالى قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ قال ابن عباس رضي الله عنهما معناه الدين دين الله ومثله في سورة البقرة قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى ( البقرة 120 )
واعلم أنه لا بد من بيان أنه كيف صار هذا الكلام جواباً عما حكاه عنهم فنقول أما على الوجه الأول وهو قولهم لا دين إلا ما هم عليه فهذا الكلام إنما صلح جواباً عنه من حيث أن الذي هم عليه إنما ثبت ديناً من جهة الله لأنه تعالى أمر به وأرشد إليه وأوجب الانقياد له وإذا كان كذلك فمتى أمر بعد ذلك بغيره وأرشد إلى غيره وأوجب الانقياد إلى غيره كان نبياً يجب أن يتبع وإن كان مخالفاً لما تقدم لأن الدين إنما صار ديناً بحكمه وهدايته فحيثما كان حكمه وجبت متابعته ونظيره قوله تعالى جواباً لهم عن قولهم مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ( البقرة 142 ) يعني الجهات كلها لله فله أن يحول القبلة إلى أي جهة شاء وأما على الوجه الثاني فالمعنى أن الهدى هدى الله وقد جئتكم به فلن ينفعكم في دفعه هذا الكيد الضعيف
ثم قال تعالى أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبّكُمْ
واعلم أن هذه الآية من المشكلات الصعبة فنقول هذا إما أن يكون من جملة كلام الله تعالى أو يكون من جملة كلام اليهود ومن تتمة قولهم ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم وقد ذهب إلى كل واحد من هذين الاحتمالين قوم من المفسرين
أما الاحتمال الأول ففيه وجوه الأول قرأ ابن كثير آن يؤتي بمد الألف على الاستفهام والباقون بفتح الألف من غير مد ولا استفهام فإن أخذنا بقراءة ابن كثير فالوجه ظاهر وذلك لأن هذه اللفظة موضوعة للتوبيخ كقوله تعالى أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءايَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الاْوَّلِينَ ( القلم 14 15 ) والمعنى أمن أجل أن يؤتي أحد شرائع مثل ما أوتيتم من الشرائع ينكرون اتباعه ثم حذف الجواب للاختصار وهذا الحذف كثير يقول الرجل بعد طول العتاب لصاحبه وتعديده عليه ذنوبه بعد كثرة إحسانه إليه أمن قلة إحساني إليك أمن إهانتي لك والمعنى أمن أجل هذا فعلت ما فعلت ونظيره قوله تعالى أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء الَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الاْخِرَة َ وَيَرْجُواْ رَحْمَة َ رَبّهِ ( الزمر 9 ) وهذا الوجه مروي عن مجاهد وعيسى بن عمر أما قراءة من قرأ بقصر الألف من ءانٍ فقد يمكن أيضاً حملها على معنى الاستفهام كما قرىء سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ ( البقرة 6 ) بالمد والقصر وكذا قوله أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ قرىء بالمد والقصر وقال امرؤ القيس

تروح من الحي أم تبتكر
وماذا عليك ولم تنتظر
أراد أروح من الحي فحذف ألف الاستفهام وإذا ثبت أن هذه القراءة محتملة لمعنى الاستفهام كان التقدير ما شرحناه في القراءة الأولى
الوجه الثاني أن أولئك لما قالوا لأتباعهم لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم أمر الله تعالى نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) أن يقول لهم إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ فلا تنكروا أَن يُؤْتِيَنِ أَحَدٌ سواكم من الهدى مّثْلُ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ يعني هؤلاء المسلمين بذلك عِندَ رَبّكُمْ إن لم تقبلوا ذلك منهم أقصى ما في الباب أنه يفتقر في هذا التأويل إلى إضمار قوله فلا تنكروا لأن عليه دليلاً وهو قوله إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ فإنه لما كان الهدى هدى الله كان له تعالى أن يؤتيه من يشاء من عباده ومتى كان كذلك لزم ترك الإنكار
الوجه الثالث إن الهدى اسم للبيان كقوله تعالى وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى ( فصلت 17 ) فقوله إِنَّ الْهُدَى مبتدأ وقوله هُدَى اللَّهِ بدل منه وقوله أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ خبر بإضمار حرف لا والتقدير قل يا محمد لا شك أن بيان الله هو أن لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم وهو دين الإسلام الذي هو أفضل الأديان وأن لا يحاجوكم يعني هؤلاء اليهود عند ربكم في الآخرة لأنه يظهر لهم في الآخرة أنكم محقون وأنهم مضلون وهذا التأويل ليس فيه إلا أنه لا بد من إضمار حرف لا وهو جائز كما في قوله تعالى أَن تَضِلُّواْ ( النساء 44 ) أي أن لا تضلوا
الوجه الرابع الْهُدَى اسم و هُدَى اللَّهِ بدل منه و أَن يُؤْتَى أَحَدٌ خبره والتقدير إن هدى الله هو أن يؤتي أحد مثل ما أوتيتم وعلى هذا التأويل فقوله أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبّكُمْ لا بد فيه من إضمار والتقدير أو يحاجوكم عند ربكم فيقضى لكم عليهم والمعنى أن الهدى هو ما هديتكم به من دين الإسلام الذي من حاجكم به عندي قضيت لكم عليه وفي قوله عِندَ رَبّكُمْ ما يدل على هذا الإضمار ولأن حكمه بكونه رباً لهم يدل على كونه راضياً عنهم وذلك مشعر بأنه يحكم لهم ولا يحكم عليهم
والاحتمال الثاني أن يكون قوله أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ من تتمة كلام اليهود وفيه تقديم وتأخير والتقدير ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم أن يؤتي أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم قل إن الهدى هدى الله وأن الفضل

بيد الله قالوا والمعنى لا تظهروا إيمانكم بأن يؤتي أحد مثل ما أوتيتم إلا لأهل دينكم وأسروا تصديقكم بأن المسلمين قد أوتوا من كتب الله مثل ما أوتيتم ولا تفشوه إلا إلى أشياعكم وحدهم دون المسلمين لئلا يزيدهم ثباتاً ودون المشركين لئلا يدعوهم ذلك إلى الإسلام
أما قوله أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبّكُمْ فهو عطف على أن يؤتى والضمير في يحاجوكم لأحد لأنه في معنى الجمع بمعنى ولا تؤمنوا لغير أتباعكم إن المسلمين يحاجونكم يوم القيامة بالحق ويغالبونكم عند الله بالحجة وعندي أن هذا التفسير ضعيف وبيانه من وجوه الأول إن جد القوم في حفظ أتباعهم عن قبول دين محمد عليه السلام كان أعظم من جدهم في حفظ غير أتباعهم وأشياعهم عنه فكيف يليق أن يوصي بعضهم بعضاً بالإقرار بما يدل على صحة دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) عند أتباعهم وأشياعهم وأن يمتنعوا من ذلك عند الأجانب هذا في غاية البعد الثاني أن على هذا التقدير يختل النظم ويقع فيه تقديم وتأخير لا يليق بكلام الفصحاء والثالث إن على هذا التقدير لا بد من الحذف فإن التقدير قبل إن الهدى هدى الله وإن الفضل بيد الله ولا بد من حذف قُلْ في قوله قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ الرابع إنه كيف وقع قوله قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ فيما بين جزأى كلام واحد فإن هذا في غاية البعد عن الكلام المستقيم قال القفال يحتمل أن يكون قوله قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ كلام أمر الله نبيه أن يقوله عند انتهاء الحكاية عن اليهود إلى هذا الموضع لأنه لما حكى عنهم في هذا الموضع قولاً باطلاً لا جرم أدب رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) بأن يقابله بقول حق ثم يعود إلى حكاية تمام كلامهم كما إذا حكى المسلم عن بعض الكفار قولاً فيه كفر فيقول عند بلوغه إلى تلك الكلمة آمنت بالله أو يقول لا إلاه إلا الله أو يقول تعالى الله ثم يعود إلى تمام الحكاية فيكون قوله تعالى قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ من هذا الباب ثم أتى بعده بتمام قول اليهود إلى قوله أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبّكُمْ ثم أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بمحاجتهم في هذا وتنبيههم على بطلان قولهم فقيل له قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ إلى آخر الآية
الإشكال الخامس في هذه الوجوه أن الإيمان إذا كان بمعنى التصديق لا يتعدى إلى المصدق بحرف اللام لا يقال صدقت لزيد بل يقال صدقت زيداً فكان ينبغي أن يقال ولا تؤمنوا إلا من تبع دينكم وعلى هذا التقدير يحتاج إلى حذف اللام في قوله لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ ويحتاج إلى إضمار الباء أو ما يجري مجراه في قوله أَن يُؤْتَى لأن التقدير ولا تصدقوا إلا من تبع دينكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم فقد اجتمع في هذا التفسير الحذف والإضمار وسوء النظم وفساد المعنى قال أبو علي الفارسي لا يبعد أن يحمل الإيمان على الإقرار فيكون المعنى ولا تقروا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لمن تبع دينكم وعلى هذا التقدير لا تكون اللام زائدة لكن لا بد من إضمار حرف الباء أو ما يجري مجراه على كل حال فهذا محصل ما قيل في تفسير هذه الآية والله أعلم بمراده
ثم قال تعالى قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ
واعلم أنه تعالى حكى عن اليهود أمرين أحدهما أن يؤمنوا وجه النهار ويكفروا آخره ليصير ذلك شبهة للمسلمين في صحة الإسلام
فأجاب عنه بقوله قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ والمعنى أن مع كمال هداية الله وقوة بيانه لا يكون لهذه الشبهة الركيكة قوة ولا أثر والثاني أنه حكى عنهم أنهم استنكروا أن يؤتى أحد مثل ما أوتوا من الكتاب والحكم والنبوة
فأجاب عنه بقوله قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء والمراد بالفضل الرسالة وهو في اللغة عبارة عن الزيادة وأكثر ما يستعمل في زيادة الإحسان والفاضل الزائد على غيره في خصال الخير ثم كثر استعمال الفضل لكل نفع قصد به فاعله الإحسان إلى الغير وقوله بِيَدِ اللَّهِ أي إنه مالك له قادر عليه وقوله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء أي هو تفضل موقوف على مشيئته وهذا يدل على أن النبوة تحصل بالتفضل لا بالاستحقاق لأنه تعالى جعلها من باب الفضل الذي لفاعله أن يفعله وأن لا يفعله ولا يصح ذلك في المستحق إلا على وجه المجاز وقوله وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ مؤكد لهذا المعنى لأن كونه واسعاً يدل على كمال القدرة وكونه عليماً على كمال العلم فيصح منه لمكان القدرة أن يتفضل على أي عبد شاء بأي تفضل شاء ويصح منه لمكان كمال العلم أن لا يكون شيء من أفعاله إلا على وجه الحكمة والصواب

ثم قال يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ وهذا كالتأكيد لما تقدم والفرق بين هذه الآية وبين ما قبلها أن الفضل عبارة عن الزيادة ثم إن الزيادة من جنس المزيد عليه فبيّن بقوله إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ إنه قادر على أن يؤتى بعض عباده مثل ما آتاهم من المناصب العالية ويزيد عليها من جنسها ثم قال يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء والرحمة المضافة إلى الله سبحانه أمر أعلى من ذلك الفضل فإن هذه الرحمة ربما بلغت في الشرف وعلو الرتبة إلى أن لا تكون من جنس ما آتاهم بل تكون أعلى وأجل من أن تقاس إلى ما آتاهم ويحصل من مجموع الآيتين إنه لا نهاية لمراتب إعزاز الله وإكرامه لعباده وأن قصر إنعامه وإكرامه على مراتب معينة وعلى أشخاص معينين جهل بكمال الله في القدرة والحكمة
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا ذالِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ
اعلم أن تعلق هذه الآية بما قبلها من وجهين الأول أنه تعالى حكى عنهم في الآية المتقدمة أنهم ادعوا أنهم أوتوا من المناصب الدينية ما لم يؤت أحد غيرهم مثله ثم إنه تعالى بيّن أن الخيانة مستقبحة عند جميع أرباب الأديان وهم مصرون عليها فدل هذا على كذبهم والثاني أنه تعالى لما حكى عنهم في الآية المتقدمة قبائح أحوالهم فيما يتعلق بالأديان وهو أنهم قالوا لاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ ( آل عمران 73 ) حكى في هذه الآية بعض قبائح أحوالهم فيما يتعلق بمعاملة الناس وهو إصرارهم على الخيانة والظلم وأخذ أموال الناس في القليل والكثير وههنا مسائل
المسألة الأولى الآية دالة على انقسامهم إلى قسمين بعضهم أهل الأمانة وبعضهم أهل الخيانة وفيه أقوال الأول أن أهل الأمانة منهم هم الذين أسلموا أما الذين بقوا على اليهودية فهم مصرون على الخيانة لأن مذهبهم أن يحل لهم قتل كل من خالفهم في الدين وأخذ أموالهم ونظير هذه الآية قوله تعالى لَيْسُواْ سَوَاء مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّة ٌ قَائِمَة ٌ يَتْلُونَ ءايَاتِ اللَّهِ ءانَاء الَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ( آل عمران 113 ) مع قوله مّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ( آل عمران 110 ) الثاني أن أهل الأمانة هم النصارى وأهل الخيانة هم اليهود والدليل عليه ما ذكرنا أن مذهب اليهود أنه يحل قتل المخالف ويحل أخذ ماله بأي طريق كان الثالث قال ابن عباس أودع رجل عبد الله بن سلاّم ألفاً ومائتي أوقية من ذهب فأدى إليه

وأودع آخر فنحاص بن عازوراء ديناراً فخانه فنزلت الآية
المسألة الثانية يقال أمنته بكذا وعلى كذا كما يقال مررت به وعليه فمعنى الباء إلصاق الأمانة ومعنى على استعلاء الأمانة فمن اؤتمن على شيء فقد صار ذلك الشيء في معنى الملتصق به لقربه منه واتصاله بحفظه وحياطته وأيضاً صار المودع كالمستعلي على تلك الأمانة والمستولي عليها فلهذا حسن التعبير عن هذا المعنى بكلتا العبارتين وقيل إن معنى قولك أمنتك بدينار أي وثقت بك فيه وقولك أمنتك عليه أي جعلتك أميناً عليه وحافظاً له
المسألة الثالثة المراد من ذكر القنطار والدينار ههنا العدد الكثير والعدد القليل يعني أن فيهم من هو في غاية الأمانة حتى لو اؤتمن على الأموال الكثيرة أدى الأمانة فيها ومنهم من هو في غاية الخيانة حتى لو اؤتمن على الشيء القليل فإنه يجوز فيه الخيانة ونظيره قوله تعالى وَإِنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَءاتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً ( النساء 20 ) وعلى هذا الوجه فلا حاجة بنا إلى ذكر مقدار القنطار وذكروا فيه وجوهاً الأول إن القنطار ألف ومائتا أوقية قالوا لأن الآية نزلت في عبد الله بن سلاّم حين استودعه رجل من قريش ألفاً ومائتي أوقية من الذهب فرده ولم يخن فيه فهذا يدل على القنطار هو ذلك المقدار الثاني روي عن ابن عباس أنه ملء جلد ثور من المال الثالث قيل القنطار هو ألف ألف دينار أو ألف ألف درهم وقد تقدم القول في تفسير القنطار
المسألة الرابعة قرأ حمزة وعاصم في رواية أبي بكر يُؤَدّهِ بسكون الهاء وروي ذلك عن أبي عمرو وقال الزجاج هذا غلط من الراوي عن أبي عمرو كما غلط في بَارِئِكُمْ بإسكان الهمزة وإنما كان أبو عمرو يختلس الحركة واحتج الزجاج على فساد هذه القراءة بأن قال الجزاء ليس في الهاء وإنما هو فيما قبل الهاء والهاء اسم المكنى والأسماء لا تجزم في الوصل وقال الفراء من العرب من يجزم الهاء إذا تحرك ما قبلها فيقول ضربته ضرباً شديداً كما يسكنون ( ميم ) أنتم وقمتم وأصلها الرفع وأنشد لما رأى أن لا دعه ولا شبع
وقرىء أيضاً باختلاس حركة الهاء اكتفاء بالكسرة من الياء وقرىء بإشباع الكسرة في الهاء وهو الأصل
ثم قال تعالى وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا وفيه مسألتان
المسألة الأولى في لفظ ( القائم ) وجهان منهم من حمله على حقيقته قال السدي يعني إلا ما دمت قائماً على رأسه بالاجتماع معه والملازمة له والمعنى أنه إنما يكون معترفاً بما دفعت إليه ما دمت قائماً على رأسه فإن أنظرت وأخرت أنكر ومنهم من حمل لفظ ( القائم ) على مجازه ثم ذكروا فيه وجوهاً الأول قال ابن عباس المراد من هذا القيام الإلحاح والخصومة والتقاضي والمطالبة قال ابن قتيبة أصله أن المطالب للشيء يقوم فيه والتارك له يقعد عنه دليل قوله تعالى أُمَّة ٌ قَائِمَة ٌ ( آل عمران 113 ) أي عامله بأمر الله غير تاركه ثم قيل لكل من واظب على مطالبة أمر أنه قام به وإن لم يكن ثم قيام الثاني قال أبو علي الفارسي القيام في اللغة بمعنى الدوام والثبات وذكرنا ذلك في قوله تعالى يُقِيمُونَ الصَّلَواة َ ( البقرة 3 ) ومنه قوله دِينًا قِيَمًا ( الأنعام 161 ) أي دائماً ثابتاً لا ينسخ فمعنى قوله إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا أي دائماً ثابتاً في مطالبتك إياه بذلك المال

المسألة الثانية يدخل تحت قوله مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ و بِدِينَارٍ العين والدين لأن الإنسان قد يأتمن غيره على الوديعة وعلى المبايعة وعلى المقاوضة وليس في الآية ما يدل على التعيين والمنقول عن ابن عباس أنه حمله على المبايعة فقال منهم من تبايعه بثمن القنطار فيؤده إليك ومنهم من تبايعه بثمن الدينار فلا يؤده إليك ونقلنا أيضاً أن الآية نزلت في أن رجلاً أودع مالاً كثيراً عند عبد الله بن سلام ومالاً قليلاً عند فنحاص بن عازوراء فخان هذا اليهودي في القليل وعبد الله بن سلام أدى الأمانة فثبت أن اللفظ محتمل لكل الأقسام
ثم قال تعالى ذالِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الامّيِينَ سَبِيلٌ والمعنى إن ذلك الاستحلال والخيانة هو بسبب أنهم يقولون ليس علينا فيما أصبنا من أموال العرب سبيل وههنا مسائل
المسألة الأولى ذكروا في السبب الذي لأجله اعتقد اليهود هذا الاستحلال وجوهاً الأول أنهم مبالغون في التعصب لدينهم فلا جرم يقولون يحل قتل المخالف ويحل أخذ ماله بأي طريق كان وروي في الخبر أنه لما نزلت هذه الآية قال عليه السلام ( كذب أعداء الله ما من شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر ) الثاني أن اليهود قالوا نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ( المائدة 18 ) والخلق لنا عبيد فلا سبيل لأحد علينا إذا أكلنا أموال عبيدنا الثالث أن اليهود إنما ذكروا هذا الكلام لا مطلقاً لكل من خالفهم بل للعرب الذين آمنوا بالرسول ( صلى الله عليه وسلم ) روي أن اليهود بايعوا رجالاً في الجاهلية فلما أسلموا طالبوهم بالأموال فقالوا ليس لكم علينا حق لأنكم تركتم دينكم وأقول من المحتمل أنه كان من مذهب اليهود أن من انتقل من دين باطل إلى دين آخر باطل كان في حكم المرتد فهم وإن اعتقدوا أن العرب كفار إلا أنهم لما اعتقدوا في الإسلام أنه كفر حكموا على العرب الذين أسلموا بالردة
المسألة الثانية نفي السبيل المراد منه نفي القدرة على المطالبة والإلزام قال تعالى مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ ( التوبة 91 ) وقال وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ( النساء 141 ) وقال وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مّن سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ ( الشورى 41 42 )
المسألة الثالثة الامّى ّ منسوب إلى الأم وسمي النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أُمياً قيل لأنه كان لا يكتب وذلك لأن الأم أصل الشيء فمن لا يكتب فقد بقي على أصله في أن لا يكتب وقيل نسب إلى مكة وهي أم القرى
ثم قال تعالى وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ وفيه وجوه الأول أنهم قالوا إن جواز الخيانة مع المخالف مذكور في التوراة وكانوا كاذبين في ذلك وعالمين بكونهم كاذبين فيه ومن كان كذلك كانت خيانته أعظم وجرمه أفحش الثاني أنهم يعلمون كون الخيانة محرمة الثالث أنهم يعلمون ما على الخائن من الإثم
ثم قال تعالى بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ
اعلم أن في بَلَى وجهين أحدهما أنه لمجرد نفي ما قبله وهو قوله لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الامّيِينَ سَبِيلٌ فقال الله تعالى راداً عليهم بَلَى عليهم سبيل في ذلك وهذا اختيار الزجاج قال وعندي وقف التمام على بَلَى وبعده استئناف والثاني أن كلمة بَلَى كلمة تذكر ابتداء لكلام آخر يذكر بعده وذلك

لأن قولهم ليس علينا فيما نفعل جناح قائم مقام قولهم نحن أحباء الله تعالى فذكر الله تعالى أن أهل الوفاء بالعهد والتقى هم الذين يحبهم الله تعالى لا غيرهم وعلى هذا الوجه فإنه لا يحسن الوقف على بَلَى وقوله مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مضى الكلام في معنى الوفاء بالعهد والضمير في بِعَهْدِهِ يجوز أن يعود على اسم اللَّهِ في قوله وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ويجوز أن يعود على مِنْ لأن العهد مصدر فيضاف إلى المفعول وإلى الفاعل وههنا سؤالان
السؤال الأول بتقدير ءانٍ يكون الضمير عائداً إلى الفاعل وهو مِنْ فإنه يحتمل أنه لو وفى أهل الكتاب بعهودهم وتركوا الخيانة فإنهم يكتسبون محبة الله تعالى
الجواب الأمر كذلك فإنهم إذا أوفوا بالعهود أوفوا أول كل شيء بالعهد الأعظم وهو ما أخذ الله عليهم في كتابهم من الإيمان بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ولو اتقوا الله في ترك الخيانة لاتقوه في ترك الكذب على الله وفي ترك تحريف التوراة
السؤال الثاني أين الضمير الراجع من الجزاء إلى مِنْ
الجواب عموم المتقين قام مقام رجوع الضمير
واعلم أن هذه الآية دالة على تعظيم أمر الوفاء بالعهد وذلك لأن الطاعات محصورة في أمرين التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله فالوفاء بالعهد مشتمل عليهما معاً لأن ذلك سبب لمنفعة الخلق فهو شفقة على خلق الله ولما أمر الله به كان الوفاء به تعظيماً لأمر الله فثبت أن العبارة مشتملة على جميع أنواع الطاعات والوفاء بالعهد كما يمكن في حق الغير يمكن أيضاً في حق النفس لأن الوافي بعهد النفس هو الآتي بالطاعات والتارك للمحرمات لأن عند ذلك تفوز النفس بالثواب وتبعد عن العقاب
إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيًلا أُوْلَائِكَ لاَ خَلَاقَ لَهُمْ فِى الاٌّ خِرَة ِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
اعلم أن في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوهاً الأول أنه تعالى لما وصف اليهود بالخيانة في أموال الناس ثم من المعلوم أن الخيانة في أموال الناس لا تتمشى إلا بالأيمان الكاذبة لا جرم ذكر عقيب تلك الآية هذه الآية المشتملة على وعيد من يقدم على الأيمان الكاذبة الثاني أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ( آل عمران 75 ) ولا شك أن عهد الله على كل مكلف أن لا يكذب على الله ولا يخون في دينه لا جرم ذكر هذا الوعيد عقيب ذلك الثالث أنه تعالى ذكر في الآية السابقة خيانتهم في أموال الناس ثم ذكر في هذه الآية خيانتهم في عهد الله وخيانتهم في تعظيم أسمائه حين يحلفون بها كذباً ومن الناس من

قال هذه الآية ابتداء كلام مستقل بنفسه في المنع عن الأيمان الكاذبة وذلك لأن اللفظ عام والروايات الكثيرة دلت على أنها إنما نزلت في أقوام أقدموا على الأيمان الكاذبة وإذا كان كذلك وجب اعتقاد كون هذا الوعيد عاماً في حق كل من يفعل هذا الفعل وأنه غير مخصوص باليهود
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اختلفت الروايات في سبب النزول فمنهم من خصها باليهود الذين شرح الله أحوالهم في الآيات المتقدمة ومنهم من خصها بغيرهم
أما الأول ففيه وجهان الأول قال عكرمة إنها نزلت في أحبار اليهود كتموا ما عهد الله إليهم في التوراة من أمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وكتبوا بأيديهم غيره وحلفوا بأنه من عند الله لئلا يفوتهم الرشا واحتج هؤلاء بقوله تعالى في سورة البقرة وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بَعْدِكُم ( البقرة 40 ) الثاني أنها نزلت في ادعائهم أنه لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الامّيِينَ سَبِيلٌ ( آل عمران 75 ) كتبوا بأيديهم كتاباً في ذلك وحلفوا أنه من عند الله وهو قول الحسن
وأما الاحتمال الثاني ففيه وجوه الأول أنها نزلت في الأشعث بن قيس وخصم له في أرض اختصما إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال للرجل ( أقم بيِّنَتَك ) فقال الرجل ليس لي بينة فقال للأشعث ( فعليك اليمين ) فهم الأشعث باليمين فأنزل الله تعالى هذه الآية فنكل الأشعث عن اليمين ورد الأرض إلى الخصم واعترف بالحق وهو قول ابن جريج الثاني قال مجاهد نزلت في رجل حلف يميناً فاجرة في تنفيق سلعته الثالث نزلت في عبدان وامرىء القيس اختصما إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في أرض فتوجه اليمين على امرىء القيس فقال أنظرني إلى الغد ثم جاء من الغد وأقر له بالأرض والأقرب الحمل على الكل
فقوله إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ يدخل فيه جميع ما أمر الله به ويدخل فيه ما نصب عليه الأدلة ويدخل فيه المواثيق المأخوذة من جهة الرسول ويدخل فيه ما يلزم الرجل نفسه لأن كل ذلك من عهد الله الذي يلزم الوفاء به
قال تعالى وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ ءاتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ ( التوبة 75 ) الآية وقال وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً ( الإسراء 34 ) وقال يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ( الإنسان 7 ) وقال مّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ ( الأحزاب 23 ) وقد ذكرنا في سورة البقرة معنى الشراء وذلك لأن المشتري يأخذ شيئاً ويعطي شيئاً فكل واحد من المعطى والمأخوذ ثمن للآخر وأما الأيمان فحالها معلوم وهي الحلف التي يؤكد بها الإنسان خبره من وعد أو وعيد أو إنكار أو إثبات
ثم قال تعالى أُوْلَئِكَ لاَ خَلَاقَ لَهُمْ فِى الاْخِرَة ِ وَلاَ يُكَلّمُهُمُ اللَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ وَلاَ يُزَكّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ واعلم أنه تعالى فرع على ذلك الشرط وهو الشراء بعهد الله والأيمان ثمناً قليلاً خمسة أنواع من الجزاء أربعة منها في بيان صيرورتهم محرومين عن الثواب والخامس في بيان وقوعهم في أشد العذاب أما المنع من الثواب فاعلم أن الثواب عبارة عن المنفعة الخالصة المقرونة بالتعظيم
فالأول وهو قوله أُوْلَئِكَ لاَ خَلَاقَ لَهُمْ فِى الاْخِرَة ِ إشارة إلى حرمانهم عن منافع الآخرة

وأما الثلاثة الباقية وهي قوله وَلاَ يُكَلّمُهُمُ اللَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ وَلاَ يُزَكّيهِمْ فهو إشارة إلى حرمانهم عن التعظيم والإعزاز
وأما الخامس وهو قوله وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فهو إشارة إلى العقاب ولما نبهت لهذا الترتيب فلنتكلم في شرح كل واحد من هذه الخمسة
أما الأول وهو قوله لاَ خَلَاقَ لَهُمْ فِى الاْخِرَة ِ فالمعنى لا نصيب لهم في خير الآخرة ونعيمها واعلم أن هذا العموم مشروط بإجماع الأمة بعدم التوبة فإنه إن تاب عنها سقط الوعيد بالإجماع وعلى مذهبنا مشروط أيضاً بعدم العفو فإنه تعالى قال إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ( النساء 48 )
وأما الثاني وهو قوله وَلاَ يُكَلّمُهُمُ اللَّهُ ففيه سؤال وهو أنه تعالى قال فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( الحجر 92 93 ) وقال فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ( الأعراف 6 ) فكيف الجمع بين هاتين الآيتين وبين تلك الآية قال القفال في الجواب المقصود من كل هذه الكلمات بيان شدة سخط الله عليهم لأن من منع غيره كلامه في الدنيا فإنما ذلك بسخط الله عليه وإذا سخط إنسان على آخر قال له لا أكلمك وقد يأمر بحجبه عنه ويقول لا أرى وجه فلان وإذا جرى ذكره لم يذكره بالجميل فثبت أن هذه الكلمات كنايات عن شدة الغضب نعوذ بالله منه وهذا هو الجواب الصحيح ومنهم من قال لا يبعد أن يكون إسماع الله جلّ جلاله أولياءه كلامه بغير سفير تشريفاً عالياً يختص به أولياءه ولا يكلم هؤلاء الكفرة والفساق وتكون المحاسبة معهم بكلام الملائكة ومنهم من قال معنى هذه الآية أنه تعالى لا يكلمهم بكلام يسرهم وينفعهم والمعتد هو الجواب الأول
وأما الثالث وهو قوله تعالى وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ فالمراد إنه لا ينظر إليهم بالإحسان يقال فلان لا ينظر إلى فلان والمراد به نفي الاعتداد به وترك الإحسان إليه والسبب لهذا المجاز أن من اعتد بالإنسان التفت إليه وأعاد نظره إليه مرة بعد أخرى فهلذا السبب صار نظر الله عبارة عن الاعتداد والإحسان وإن لم يكن ثم نظر ولا يجوز أن يكون المراد من هذا النظر الرؤية لأنه تعالى يراهم كما يرى غيرهم ولا يجوز أن يكون المراد من النظر تقليب الحدقة إلى جانب المرئي التماساً لرؤيته لأن هذا من صفات الأجسام وتعالى إلاهنا عن أن يكون جسماً وقد احتج المخالف بهذه الآية على أن النظر المقرون بحرف ( إلى ) ليس للرؤية وإلا لزم في هذه الآية أن لا يكون الله تعالى رائياً لهم وذلك باطل
وأما الرابع وهو قوله وَلاَ يُزَكّيهِمْ ففيه وجوه الأول أن لا يطهرهم من دنس ذنوبهم بالمغفرة بل يعاقبهم عليها والثاني لا يزكيهم أي لا يثني عليهم كما يثني على أوليائه الأزكياء والتزكية من المزكى للشاهد مدح منه له
واعلم أن تزكية الله عباده قد تكون على ألسنة الملائكة كما قال وَالمَلَائِكَة ُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ( الرعد 23 24 ) وقال وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَئِكَة ُ هَاذَا يَوْمُكُمُ الَّذِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ ( الأنبياء 103 ) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَفِى الاْخِرَة ِ ( فصلت 21 ) وقد تكون بغير واسطة أما في الدنيا فكقوله التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ ( التوبة 112 ) وأما في الآخرة فكقوله سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ ( يس 58 )

وأما الخامس وهو قوله وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فاعلم أنه تعالى لما بيّن حرمانهم من الثواب بيّن كونهم في العقاب الشديد المؤلم
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
اعلم أن هذه الآية تدل على أن الآية المتقدمة نازلة في اليهود بلا شك لأن هذه الآية نازلة في حق اليهود وهي معطوفة على ما قبلها فهذا يقتضي كون تلك الآية المتقدمة نازلة في اليهود أيضاً واعلم أن اللي عبارة عن عطف الشيء ورده عن الاستقامة إلى الاعوجاج يقال لويت يده والتوى الشيء إذا انحرف والتوى فلان على إذا غير أخلافه عن الاستواء إلى ضده ولوى لسانه عن كذا إذا غيره ولوى فلاناً عن رأيه إذا أماله عنه وفي الحديث ( لي الواجد ظلم ) وقال تعالى مُسْمَعٍ وَراعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِى الدّينِ ( النساء 46 )
إذا عرفت هذا الأصل ففي تأويل الآية وجوه الأول قال القفال رحمه الله قوله يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم معناه وأن يعمدوا إلى اللفظة فيحرفونها في حركات الإعراب تحريفاً يتغير به المعنى وهذا كثير في لسان العرب فلا يبعد مثله في العبرانية فلما فعلوا مثل ذلك في الآيات الدالة على نبوّة محمد عليه الصلاة والسلام من التوراة كان ذلك هو المراد من قوله تعالى يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم وهذا تأويل في غاية الحسن الثاني نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال إن النفر الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم كتبوا كتاباً شوشوا فيه نعت محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وخلطوه بالكتاب الذي كان فيه نعت محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ثم قالوا هَاذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ
إذا عرفت هذا فنقول إن لي اللسان تثنيه بالتشدق والتنطع والتكلف وذلك مذموم فعبّر الله تعالى عن قراءتهم لذلك الكتاب الباطل بلى اللسان ذماً لهم وعيباً ولم يعبر عنها بالقراءة والعرب تفرق بين ألفاظ المدح والذم في الشيء الواحد فيقولون في المدح خطيب مصقع وفي الذم مكثار ثرثار
فقوله وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ المراد قراءة ذلك الكتاب الباطل وهو الذي ذكره الله تعالى في قوله فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَاذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ ( البقرة 79 ) ثم قال وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ أي وما هو الكتاب الحق المنزّل من عند الله بقي ههنا سؤالان
السؤال الأول إلى ما يرجع الضمير في قوله لِتَحْسَبُوهُ

الجواب إلى ما دل عليه قوله يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم وهو المحرّف
السؤال الثاني كيف يمكن إدخال التحريف في التوراة مع شهرتها العظيمة بين الناس
الجواب لعله صدر هذا العمل عن نفر قليل يجوز عليهم التواطؤ على التحريف ثم إنهم عرضوا ذلك المحرف على بعض العوام وعلى هذا التقدير يكون هذا التحريف ممكناً والأصوب عندي في تفسير الآية وجه آخر وهو أن الآيات الدالة على نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كان يحتاج فيها إلى تدقيق النظر وتأمل القلب والقوم كانوا يوردون عليها الأسئلة المشوشة والاعتراضات المظلمة فكانت تصير تلك الدلائل مشتبهة على السامعين واليهود كانوا يقولون مراد الله من هذه الآيات ما ذكرناه لا ما ذكرتم فكان هذا هو المراد بالتحريف وبلي الألسنة وهذا مثل ما أن المحق في زماننا إذا استدل بآية من كتاب الله تعالى فالمبطل يورد عليه الأسئلة والشبهات ويقول ليس مراد الله ما ذكرت فكذا في هذه الصورة
ثم قال تعالى وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ واعلم أن من الناس من قال إنه لا فرق بين قوله لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وبين قوله وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ( آل عمران 78 ) وكرر هذا الكلام بلفظين مختلفين لأجل التأكيد أما المحققون فقالوا المغايرة حاصلة وذلك لأنه ليس كل ما لم يكن في الكتاب لم يكن من عند الله فإن الحكم الشرعي قد ثبت تارة بالكتاب وتارة بالسنة وتارة بالإجماع وتارة بالقياس والكل من عند الله
فقوله لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ هذا نفي خاص ثم عطف عليه النفي العام فقال وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وأيضاً يجوز أن يكون المراد من الكتاب التوراة ويكون المراد من قولهم هو من عند الله أنه موجود في كتب سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مثل أشعياء وأرمياء وحيقوق وذلك لأن القوم في نسبة التحريف إلى الله كانوا متحيرين فإن وجدوا قوماً من الأغمار والبله الجاهلين بالتوراة نسبوا ذلك المحرف إلى أنه من التوراة وإن وجدوا قوماً عقلاء أذكياء زعموا أنه موجود في كتب سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الذين جاؤا بعد موسى عليه السلام واحتج الجبائي والكعبي به على أن فعل العبد غير مخلوق لله تعالى فقالا لو كان لي اللسان بالتحريف والكذب خلقاً لله تعالى لصدق اليهود في قولهم إنه من عند الله ولزم الكذب في قوله تعالى إنه ليس من عند الله وذلك لأنهم أضافوا إلى الله ما هو من عنده والله ينفي عن نفسه ما هو من عنده ثم قال وكفى خزياً لقوم يجعلون اليهود أولى بالصدق من الله قال ليس لأحد أن يقول المراد من قولهم لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وبين قوله وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ فرق وإذا لم يبق الفرق لم يحسن العطف وأجاب الكعبي عن هذا السؤال أيضاً من وجهين آخرين الأول أن كون المخلوق من عند الخالق أوكد من كون المأمور به من عند الآمر به وحمل الكلام على الوجه الأقوى أولى والثاني أن قوله وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ نفي مطلق لكونه من عند الله وهذا ينفي كونه من عند الله بوجه من الوجوه فوجب أن لا يكون من عنده لا بالخلق ولا بالحكم
والجواب أما قول الجبائي لو حملنا قوله تعالى وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ على أنه كلام الله لزم التكرار فجوابه ما ذكرنا أن قوله وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ معناه أنه غير موجود في الكتاب وهذا لا يمنع من

كونه حكماً لله تعالى ثابتاً بقول الرسول أو بطريق آخر فلما قال وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثبت نفي كونه حكماً لله تعالى وعلى هذا الوجه زال التكرار
وأما الوجه الأول من الوجهين اللذين ذكرهما الكعبي فجوابه أن الجواب لا بد وأن يكون منطبقاً على السؤال والقوم ما كانوا في ادعاء أن ما ذكروه وفعلوه خلق الله تعالى بل كانوا يدعون أنه حكم الله ونازل في كتابه
فوجب أن يكون قوله وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ عائداً إلى هذا المعنى لا إلى غيره وبهذا الطريق يظهر فساد ما ذكره في الوجه الثاني والله أعلم
ثم قال تعالى وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ والمعنى أنهم يتعمدون ذلك الكذب مع العلم
واعلم أنه إن كان المراد من التحريف تغيير ألفاظ التوراة وإعراب ألفاظها فالمقدمون عليه يجب أن يكونوا طائفة يسيرة يجوز التواطؤ منهم على الكذب وإن كان المراد منه تشويش دلالة تلك الآيات على نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بسبب إلقاء الشكوك والشبهات في وجوه الاستدلالات لم يبعد إطباق الخلق الكثير عليه والله أعلم
مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّة َ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّى مِن دُونِ اللَّهِ وَلَاكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلَائِكَة َ وَالنَّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ
اعلم أنه تعالى لما بيّن أن عادة علماء أهل الكتاب التحريف والتبديل أتبعه بما يدل على أن من جملة ما حرّفوه ما زعموا أن عيسى عليه السلام كان يدعي الإلاهية وأنه كان يأمر قومه بعبادته فلهذا قال مَا كَانَ لِبَشَرٍ الآية وههنا مسائل
المسألة الأولى في سبب نزول هذه الآية وجوه الأول قال ابن عباس لما قالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله نزلت هذه الآية الثاني قيل إن أبا رافع القرظي من اليهود ورئيس وفد نجران من النصارى قالا لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أتريد أن نعبدك ونتخذك رباً فقال عليه الصلاة والسلام ( معاذ الله أن نعبد غير الله أو أن نأمر بغير عبادة الله فما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني ) فنزلت هذه الآية الثالث

قال رجل يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك فقال عليه الصلاة والسلام ( لا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد من دون الله ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله ) الرابع أن اليهود لما ادعوا أن أحداً لا ينال من درجات الفضل والمنزلة ما نالوه فالله تعالى قال لهم إن كان الأمر كما قلتم وجب أن لا تشتغلوا باستعباد الناس واستخدامهم ولكن يجب أن تأمروا الناس بالطاعة لله والانقياد لتكاليفه وحينئذ يلزمكم أن تحثوا الناس على الإقرار بنبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لأن ظهور المعجزات عليه يوجب ذلك وهذا الوجه يحتمله لفظ الآية فإن قوله ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا مِن دُونِ اللَّهِ مثل قوله اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مّن دُونِ اللَّهِ ( التوبة 31 )
المسألة الثانية اختلفوا في المراد بقوله مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّة َ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لّى مِن دُونِ اللَّهِ على وجوه الأول قال الأصم معناه أنهم لو أرادوا أن يقولوا ذلك لمنعهم الدليل عليه قوله تعالى وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الاْقَاوِيلِ لاخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ( الحاقه 44 ) قال لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَواة ِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ( الاسراء 74 75 ) الثاني أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام موصوفون بصفات لا يحسن مع تلك الصفات ادعاء الإلاهية والربوبية منها أن الله تعالى آتاهم الكتاب والوحي وهذا لا يكون إلا في النفوس الطاهرة والأرواح الطيبة كما قال الله تعالى اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ ( الأنعام 124 ) وقال الْمُسْرِفِينَ وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ( الدخان 32 ) وقال الله تعالى اللَّهُ يَصْطَفِى مِنَ الْمَلَائِكَة ِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ ( الحج 75 ) والنفس الطاهرة يمتنع أن يصدر عنها هذه الدعوى ومنها أن إيتاء النبوّة لا يكون إلا بعد كمال العلم وذلك لا يمنع من هذه الدعوى وبالجملة فللإنسان قوتان نظرية وعملية وما لم تكن القوة النظرية كاملة بالعلوم والمعارف الحقيقية ولم تكن القوة العملية مطهرة عن الأخلاق الذميمة لا تكون النفس مستعدة لقبول الوحي والنبوّة وحصول الكمالات في القوة النظرية والعملية يمنع من مثل هذا القول والاعتقاد الثالث أن الله تعالى لا يشرف عبده بالنبوّة والرسالة إلا إذا علم منه أنه لا يقول مثل هذا الكلام الرابع أن الرسول ادعى أنه يبلغ الأحكام عن الله تعالى واحتج على صدقه في هذه الدعوى فلو أمرهم بعبادة نفسه فحينئذ تبطل دلالة المعجزة على كونه صادقاً وذلك غير جائز واعلم أنه ليس المراد من قوله مَا كَانَ لِبَشَرٍ ذلك أنه يحرم عليه هذا الكلام لأن ذلك محرم على كل الخلق وظاهر الآية يدل على أنه إنما لم يكن له ذلك لأجل أن الله آتاه الكتاب والحكم والنبوّة وأيضاً لو كان المراد منه التحريم لما كان ذلك تكذيباً للنصارى في ادعائهم ذلك على المسيح عليه السلام لأن من ادعى على رجل فعلاً فقيل له إن فلان لا يحل له أن يفعل ذلك لم يكن تكذيباً له فيما ادعى عليه وإنما أراد في ادعائهم أن عيسى عليه السلام قال لهم اتخذوني إلاهاً من دون الله فالمراد إذن ما قدمناه ونظيره قوله تعالى مَّا كَانَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ ( مريم 35 ) على سبيل النفي لذلك عن نفسه لا على وجه التحريم والحظر وكذا قوله تعالى مَا كَانَ لِنَبِى ٍّ أَن يَغُلَّ ( آل عمران 161 ) والمراد النفي لا النهي والله أعلم
المسألة الثالثة قوله أَن يُؤْتِيهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّة َ إشارة إلى ثلاثة أشياء ذكرها على ترتيب في غاية الحسن وذلك لأن الكتاب السماوي ينزل أولاً ثم إنه يحصل في عقل النبي فهم ذلك الكتاب وإليه

الإشارة بالحكم فإن أهل اللغة والتفسير اتفقوا على أن هذا الحكم هو العلم قال تعالى وَاتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً ( مريم 12 ) يعني العلم والفهم ثم إذا حصل فهم الكتاب فحينئذ يبلغ ذلك إلى الخلق وهو النبوّة فما أحسن هذا الترتيب
ثم قال تعالى ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لّى مِن دُونِ اللَّهِ وفيه مسألتان
المسألة الأولى القراءة الظاهرة ثم يقول بنصب اللام وروي عن أبي عمرو برفعها أما النصب فعلى تقدير لا تجتمع النبوّة وهذا القول والعامل فيه ( أن ) وهو معطوف عليه بمعنى ثم أن يقول وأما الرفع فعلى الاستئناف
المسألة الثانية حكى الواحدي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في قوله تعالى كُونُواْ عِبَادًا لّى إنه لغة مزينة يقولون للعبيد عباداً
ثم قال وَلَاكِن كُونُواْ رَبَّانِيّينَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى في هذه الآية إضمار والتقدير ولكن يقول لهم كونوا ربانيين فأضمر القول على حسب مذهب العرب في جواز الاضمار إذا كان في الكلام ما يدل عليه ونظيره قوله تعالى وَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ( آل عمران 106 ) أي فيقال لهم ذلك
المسألة الثانية ذكروا في تفسير ( الرباني ) أقوالاً الأول قال سيبويه الرباني المنسوب إلى الرب بمعنى كونه عالماً به ومواظباً على طاعته كما يقال رجل إلاهي إذا كان مقبلاً على معرفة الإله وطاعته وزيادة الألف والنون فيه للدلالة على كمال هذه الصفة كما قالوا شعراني ولحياني ورقباني إذا وصف بكثرة الشعر وطول اللحية وغلظ الرقبة فإذا نسبوا إلى الشعر قالوا شعري وإلى الرقبة رقبي وإلى اللحية لحيي والثاني قال المبرّد الرَّبَّانِيُّونَ أرباب العلم وأحدهم رباني وهو الذي يرب العلم ويرب الناس أي يعلمهم ويصلحهم ويقوم بأمرهم فالألف والنون للمبالغة كما قالوا ربان وعطشان وشبعان وعريان ثم ضمت إليه ياء النسبة كما قيل لحياني ورقباني قال الواحدي فعلى قول سيبويه الرباني منسوب إلى الرب على معنى التخصيص بمعرفة الرب وبطاعته وعلى قول المبرد الرباني مأخوذ من التربية الثالث قال ابن زيد الرباني هو الذي يرب الناس فالربانيون هم ولاة الأمة والعلماء وذكر هذا أيضاً في قوله تعالى يَعْمَلُونَ لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالاْحْبَارُ ( المائدة 63 ) أي الولاة والعلماء وهما الفريقان اللذان يطاعان ومعنى الآية على هذا التقدير لا أدعوكم إلى أن تكونوا عباداً لي ولكن أدعوكم إلى أن تكونوا ملوكاً وعلماء باستعمالكم أمر الله تعالى ومواظبتكم على طاعته قال القفال رحمه الله ويحتمل أن يكون الوالي سمي ربانياً لأنه يطاع كالرب تعالى فنسب إليه الرابع قال أبو عبيدة أحسب أن هذه الكلمة ليست بعربية إنما هي عبرانية أو سريانية وسواء كانت عربية أو عبرانية فهي تدل على الإنسان الذي علم وعمل بما علم واشتغل بتعليم طرق الخير
ثم قال تعالى بِمَا كُنتُمْ تُعَلّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ وفيه مسائل
المسألة الأولى في قوله بِمَا كُنتُمْ تُعَلّمُونَ الْكِتَابَ قراءتان إحداهما تَعْلَمُونَ من العلم وهي

قراءة عبد الله بن كثير وأبي عمرو ونافع والثانية تَعْلَمُونَ من التعليم وهي قراءة الباقين من السبعة وكلاهما صواب لأنهم كانوا يعلمونه في أنفسهم ويعلمونه غيرهم واحتج أبو عمرو على أن قراءته أرجح بوجهين الأول أنه قال تَدْرُسُونَ ولم يقل تَدْرُسُونَ بالتشديد الثاني أن التشديد يقتضي مفعولين والمفعول هاهنا واحد وأما الذين قرؤا بالتشديد فزعموا أن المفعول الثاني محذوف تقديره بما كنتم تعلمون الناس الكتاب أو غيركم الكتاب وحذف لأن المفعول به قد يحذف من الكلام كثيراً ثم احتجوا على أن التشديد أولى بوجهين الأول أن التعليم يشتمل على العلم ولا ينعكس فكان التعليم أولى الثاني أن الربانيين لا يكتفون بالعلم حتى يضموا إليه التعليم لله تعالى ألا ترى أنه تعالى أمر محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بذلك فقال ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَة ِ وَالْمَوْعِظَة ِ الْحَسَنَة ِ ( النحل 125 ) ويدل عليه قول مرة بن شراحيل كان علقمة من الربانيين الذين يعلمون الناس القرآن
المسألة الثانية نقل ابن جني في ( المحتسب ) عن أبي حيوة أنه قرأ تَدْرُسُونَ بضم التاء ساكنة الدال مكسورة الراء قال ابن جني ينبغي أن يكون هذا منقولاً من درس هو أو درس غيره وكذلك قرأ وأقرأ غيره وأكثر العرب على درس ودرس وعليه جاء المصدر على التدريس
المسألة الثالثة ( ما ) في القراءتين هي التي بمعنى المصدر مع الفعل والتقدير كونوا ربانيين بسبب كونكم عالمين ومعلمين وبسبب دراستكم الكتاب ومثل هذا من كون ( ما ) مع الفعل بمعنى المصدر قوله تعالى فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَاذَا ( الأعراف 5 ) وحاصل الكلام أن العلم والتعليم والدراسة توجب على صاحبها كونه ربانياً والسبب لا محالة مغاير للمسبب فهذا يقتضي أن يكون كونه ربانياً أمراً مغايراً لكونه عالماً ومعلماً ومواظباً على الدراسة وما ذاك إلا أن يكون بحيث يكون تعلمه لله وتعليمه ودراسته لله وبالجملة أن يكون الداعي له إلى جميع الأفعال طلب مرضاة الله والصارف له عن كل الأفعال الهرب عن عقاب الله وإذا ثبت أن الرسول يأمر جميع الخلق بهذا المعنى ثبت أنه يمتنع منه أن يأمر الخلق بعبادته وحاصل الحرف شيء واحد وهو أن الرسول هو الذي يكون منتهى جهده وجده صرف الأرواح والقلوب عن الخلق إلى الحق فمثل هذا الإنسان كيف يمكن أن يصرف عقول الخلق عن طاعة الحق إلى طاعة نفسه وعند هذا يظهر أنه يمتنع في أحد من الأنبياء صلوات الله عليهم أن يأمر غيره بعبادته
المسألة الرابعة دلّت الآية على أن العلم والتعليم والدراسة توجب كون الإنسان ربانياً فمن اشتغل بالتعلم والتعليم لا لهذا المقصود ضاع سعيه وخاب عمله وكان مثله مثل من غرس شجرة حسناء مونقة بمنظرها ولا منفعة بثمرها ولهذا قال عليه الصلاة والسلام ( نعوذ بالله من علم لا ينفع وقلب لا يخشع )
ثم قال تعالى وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلَائِكَة َ وَالنَّبِيّيْنَ أَرْبَابًا وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ عاصم وحمزة وابن عامر وَلاَ يَأْمُرَكُمْ بنصب الراء والباقون بالرفع أما النصب فوجهه أن يكون عطفاً على ثُمَّ يَقُولُ وفيه وجهان أحدهما أن تجعل لا مزيدة والمعنى ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوّة أن يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله ويأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيّين أرباباً كما تقول ما كان لزيد أن أكرمه ثم يهينني ويستخف بي والثاني أن تجعل لا غير

مزيدة والمعنى أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان ينهى قريشاً عن عبادة الملائكة واليهود والنصارى عن عبادة عزير والمسيح فلما قالوا أتريد أن نتخذك رباً قيل لهم ما كان لبشر أن يجعله الله نبياً ثم يأمر الناس بعبادة نفسه وينهاهم عن عبادة الملائكة والأنبياء وأما القراءة بالرفع على سبيل الاستئناف فظاهر لأنه بعد انقضاء الآية وتمام الكلام ومما يدل على الانقطاع عن الأول ما روي عن ابن مسعود أنه قرأ وَلَنْ يَأْمُرُكُمْ
المسألة الثانية قال الزجاج ولا يأمركم الله وقال ابن جريج لا يأمركم محمد وقيل لا يأمركم الأنبياء بأن تتخذوا الملائكة أرباباً كما فعلته قريش
المسألة الثالثة إنما خص الملائكة والنبيّين بالذكر لأن الذين وصفوا من أهل الكتاب بعبادة غير الله لم يحك عنهم إلا عبادة الملائكة وعبادة المسيح وعزير فلهذا المعنى خصهما بالذكر
ثم قال تعالى أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ وفيه ومسائل
المسألة الأولى الهمزة في أَيَأْمُرُكُم استفهام بمعنى الإنكار أي لا يفعل ذلك
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) قوله بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ دليل على أن المخاطبين كانوا مسلمين وهم الذين استأذنوا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في أن يسجدوا له
المسألة الثالثة قال الجبائي الآية دالة على فساد قول من يقول الكفر بالله هو الجهل به والإيمان بالله هو المعرفة به وذلك لأن الله تعالى حكم بكفر هؤلاء وهو قوله تعالى أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ ثم إن هؤلاء كانوا عارفين بالله تعالى بدليل قوله ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لّى مِن دُونِ اللَّهِ وظاهر هذا يدل على معرفته بالله فلما حصل الكفر ههنا مع المعرفة بالله دل ذلك على أن الإيمان به ليس هو المعرفة والكفر به تعالى ليس هو الجهل به
والجواب أن قولنا الكفر بالله هو الجهل به لا نعني به مجرد الجهل بكونه موجوداً بل نعني به الجهل بذاته وبصفاته السلبية وصفاته الإضافية أن لا شريك له في المعبودية فلما جهل هذا فقد جهل بعض صفاته
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَآ ءَاتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَة ٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ ءَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذالِكُمْ إِصْرِى قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشَّاهِدِينَ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذالِكَ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ

اعلم أن المقصود من هذه الآيات تعديد تقرير الأشياء المعروفة عند أهل الكتاب مما يدل على نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) قطعاً لعذرهم وإظهاراً لعنادهم ومن جملتها ما ذكره الله تعالى في هذه الآية وهو أنه تعالى أخذ الميثاق من الأنبياء الذين آتاهم الكتاب والحكمة بأنهم كلما جاءهم رسول مصدق لما معهم آمنوا به ونصروه وأخبر أنهم قبلوا ذلك وحكم تعالى بأن من رجع عن ذلك كان من الفاسقين فهذا هو المقصود من الآية فحصل الكلام أنه تعالى أوجب على جميع الأنبياء الإيمان بكل رسول جاء مصدقاً لما معهم إلا أن هذه المقدمة الواحدة لا تكفي في إثبات نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ما لم يضم إليها مقدمة أخرى وهي أن محمداً رسول الله جاء مصدقاً لما معهم وعند هذا لقائل أن يقول هذا إثبات للشيء بنفسه لأنه إثبات لكونه رسولاً بكونه رسولاً
والجواب أن المراد من كونه رسولاً ظهور المعجز عليه وحينئذ يسقط هذا السؤال والله أعلم ولنرجع إلى تفسير الألفاظ
أما قوله وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ فقال ابن جرير الطبري معناه واذكروا يا أهل الكتاب إذ أخذ الله ميثاق النبيّين وقال الزجاج واذكر يا محمد في القرآن إذ أخذ الله ميثاق النبيّين
أما قوله مِيثَاقَ النَّبِيّيْنَ فاعلم أن المصدر يجوز إضافته إلى الفاعل وإلى المفعول فيحتمل أن يكون الميثاق مأخوذاً منهم ويحتمل أن يكون مأخوذاً لهم من غيرهم فلهذا السبب اختلفوا في تفسير هذه الآية على هذين الوجهين
أما الاحتمال الأول وهو أنه تعالى أخذ الميثاق منهم في أن يصدق بعضهم بعضاً وهذا قول سعيد بن جبير والحسن وطاوس رحمهم الله وقيل إن الميثاق هذا مختص بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهو مروي عن علي وابن عباس وقتادة والسدي رضوان الله عليهم واحتج أصحاب هذا القول على صحته من وجوه الأول أن قوله تعالى وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيّيْنَ يشعر بأن آخذ الميثاق هو الله تعالى والمأخوذ منهم هم النبيون فليس في الآية ذكر الأمة فلم يحسن صرف الميثاق إلى الأمة ويمكن أن يجاب عنه من وجوه الأول أن على الوجوه الذي قلتم يكون الميثاق مضافاً إلى الموثق عليه وعلى الوجه الذي قلنا يكون إضافته إليهم إضافة الفعل إلى الفاعل وهو الموثق له ولا شك أن إضافة الفعل إلى الفاعل أقوى من إضافته إلى المفعول فإن لم يكن فلا أقل من المساواة وهو كما يقال ميثاق الله وعهده فيكون التقدير وإذ أخذ الله الميثاق الذي وثقه الله للأنبياء على أممهم الثاني أن يراد ميثاق أولاد النبيّين وهو بنو إسرائيل على حذف المضاف وهو كما يقال فعل بكر بن وائل كذا وفعل معد بن عدنان كذا والمراد أولادهم وقومهم فكذا ههنا الثالث أن يكون المراد من لفظ النَّبِيّينَ أهل الكتاب وأطلق هذا اللفظ عليهم تهكماً بهم على زعمهم لأنهم كانوا يقولون نحن أولى بالنبوّة من محمد عليه الصلاة والسلام لأنا أهل الكتاب ومنا كان النبيون الرابع أنه كثيراً ورد في القرآن لفظ النبي والمراد منه أمته قال تعالى الْحَكِيمُ يأيُّهَا النَّبِى ُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاء ( الطلاق 1 )
الحجة الثانية لأصحاب هذا القول ما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال ( لقد جئتكم بها بيضاء نقية أما والله لو كان موسى بن عمران حياً لما وسعه إلا اتباعي )

الحجة الثالثة ما نقل عن علي رضي الله عنه أنه قال إن الله تعالى ما بعث آدم عليه السلام ومن بعده من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلا أخذ عليهم العهد لئن بعث محمد عليه الصلاة والسلام وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه فهذا يمكن نصرة هذا القول به والله أعلم
الاحتمال الثاني إن المراد من الآية أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا يأخذون الميثاق من أممهم بأنه إذا بعث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإنه يجب عليهم أن يؤمنوا به وأن ينصروه وهذا قول كثير من العلماء وقد بينا أن اللفظ محتمل له وقد احتجوا على صحته بوجوه الأول ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني فقال ظاهر الآية يدل على أن الذين أخذ الله الميثاق منهم يجب عليهم الإيمان بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) عند مبعثه وكل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يكونون عند مبعث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من زمرة الأموات والميت لا يكون مكلفاً فلما كان الذين أخذ الميثاق عليهم يجب عليهم الإيمان بمحمد عليه السلام عند مبعثه ولا يمكن إيجاب الإيمان على الأنبياء عند مبعث محمد عليه السلام علمنا أن الذين أخذ الميثاق عليهم ليسوا هم النبيّين بل هم أمم النبيّين قال ومما يؤكد هذا أنه تعالى حكم على الذين أخذ عليهم الميثاق أنهم لو تولوا لكانوا فاسقين وهذا الوصف لا يليق بالأنبياء عليهم السلام وإنما يليق بالأمم أجاب القفال رحمه الله فقال لم لا يجوز أن يكون المراد من الآية أن الأنبياء لو كانوا في الحياة لوجب عليهم الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام ونظيره قوله تعالى لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ( الزمر 65 ) وقد علم الله تعالى أنه لا يشرك قط ولكن خرج هذا الكلام على سبيل التقدير والفرض فكذا ههنا وقال وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الاْقَاوِيلِ لاخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ( الحاقه 44 45 46 ) وقال في صفة الملائكة وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنّى إِلَاهٌ مّن دُونِهِ فَذالِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِى الظَّالِمِينَ ( الأنبياء 29 ) مع أنه تعالى أخبر عنهم بأنهم لا يسبقونه بالقول وبأنهم يخافون ربهم من فوقهم فكل ذلك خرج على سبيل الفرض والتقدير فكذا ههنا ونقول إنه سماهم فاسقين على تقدير التولي فإن اسم الفسق ليس أقبح من اسم الشرك وقد ذكر تعالى ذلك على سبيل الفرض والتقدير في قوله لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ( الزمر 65 ) فكذا ههنا
الحجة الثانية أن المقصود من هذه الآية أن يؤمن الذين كانوا في زمان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وإذا كان الميثاق مأخوذاً عليهم كان ذلك أبلغ في تحصيل هذا المقصود من أن يكون مأخوذاً على الأنبياء عليهم السلام وقد أجيب عن ذلك بأن درجات الأنبياء عليهم السلام أعلى وأشرف من درجات الأمم فإذا دلت هذه الآية على أن الله تعالى أوجب على جميع الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد عليه السلام لو كانوا في الأحياء وأنهم لو تركوا ذلك لصاروا من زمرة الفاسقين فلأن يكون الإيمان بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) واجباً على أممهم لو كان ذلك أولى فكان صرف هذا الميثاق إلى الأنبياء أقوى في تحصيل المطلوب من هذا الوجه
الحجة الثالثة ما روي عن ابن عباس أنه قيل له إن أصحاب عبد الله يقرؤن وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ونحن نقرأ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيّيْنَ فقال ابن عباس رضي الله عنهما إنما أخذ الله ميثاق النبيّين على قومهم
الحجة الرابعة أن هذا الاحتمال متأكد بقوله تعالى خَالِدُونَ يَابَنِى إِسْراءيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وبقوله تعالى وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيّنُنَّهُ لِلنَّاسِ

وَلاَ تَكْتُمُونَهُ ( آل عمران 187 ) فهذا جملة ما قيل في هذا الموضوع والله أعلم بمراده
وأما قوله تعالى لَمَا ءاتَيْتُكُم مّن كِتَابٍ وَحِكْمَة ٍ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ الجمهور لَّمّاً بفتح اللام وقرأ حمزة بكسر اللام وقرأ سعيد بن جبير لَّمّاً مشددة أما القراءة بالفتح فلها وجهان الأول أن مَا اسم موصول والذي بعده صلة له وخبره قوله لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ والتقدير للذي آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به وعلى هذا التقدير مَا رفع بالابتداء والراجع إلى لفظة مَا وموصولتها محذوف والتقدير لما آتيتكموه فحذف الراجع كما حذف من قوله أَهَاذَا الَّذِى بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً ( الفرقان 41 ) وعليه سؤالان
السؤال الأول إذا كانت مَا موصولة لزم أن يرجع من الجملة المعطوفة على الصلة ذكر إلى الموصول وإلا لم يجز ألا ترى أنك لو قلت الذي قام أبوه ثم انطلق زيد لم يجز
وقوله ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ ليس فيه راجع إلى الموصول قلنا يجوز إقامة المظهر مقام المضمر عند الأخفش والدليل عليه قوله تعالى إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ( يوسف 90 ) ولم يقل فإن الله لا يضيع أجره وقال إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً ( الكهف 30 ) ولم يقل إنا لا نضيع أجرهم وذلك لأن المظهر المذكور قائم مقام المضمر فكذا ههنا
السؤال الثاني ما فائدة اللام في قوله لَّمّاً قلنا هذه اللام هي لام الابتداء بمنزلة قولك لزيد أفضل من عمرو ويحسن إدخالها على ما يجري مجرى المقسم عليه لأن قوله إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيّيْنَ بمنزلة القسم والمعنى استحلفهم وهذه اللام المتلقية للقسم فهذا تقرير هذا الكلام
الوجه الثاني وهو اختيار سيبويه والمازني والزجاج أن مَا ههنا هي المتضمنة لمعنى الشرط والتقدير ما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به فاللام في قوله لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ هي المتلقية للقسم أما اللام في لَّمّاً هي لام تحذف تارة وتذكر أخرى ولا يتفاوت المعنى ونظيره قولك والله لو أن فعلت فعلت فلفظة ( أن ) لا يتفاوت الحال بين ذكرها وحذفها فكذا ههنا وعلى هذا التقدير كانت ( ما ) في موضع نصب بأتيتكم وَجَاءكُمُ جزم بالعطف على ءاتَيْتُكُم و لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ هو الجزاء وإنما لم يرض سيبويه بالقول الأول لأنه لا يرى إقامة المظهر مقام المضمر وأما الوجه في قراءة لَّمّاً بكسر اللام فهو أن هذا لام التعليل كأنه قيل أخذ ميثاقهم لهذا لأن من يؤتى الكتاب والحكمة فإن اختصاصه بهذه الفضيلة يوجب عليه تصديق سائر الأنبياء والرسل وَمَا على هذه القراءة تكون موصولة وتمام البحث فيه ما قدمناه في الوجه الأول وأما قراءة لَّمّاً بالتشديد فذكر صاحب ( الكشاف ) فيه وجهين الأول أن المعنى حين آتيتكم بعض الكتاب والحكمة ثم جاءكم رسول مصدق له وجب عليكم الإيمان به ونصرته والثاني أن أصل لَّمّاً لمن ما فاستثقلوا اجتماع ثلاث ميمات وهي الميمان والنون المنقلبة ميماً بإدغامها في الميم فحذفوا إحداها فصارت لَّمّاً ومعناه لمن أجل ما آتيتكم لتؤمنن به وهذا قريب من قراءة حمزة في المعنى

المسألة الثانية قرأ نافع ءاتَيْنَاكُم بالنون على التفخيم والباقون بالتاء على التوحيد حجة نافع قوله وَءاتَيْنَا دَاوُودُ زَبُوراً ( النساء 163 ) وَاتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً ( مريم 12 ) وَءاتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ ( الصافات 117 ) ولأن هذا أدل على العظمة فكان أكثر هيبة في قلب السامع وهذا الموضع يليق به هذا المعنى وحجة الجمهور قوله هُوَ الَّذِى يُنَزّلُ عَلَى عَبْدِهِ ءايَاتٍ بَيّنَاتٍ ( الحديد 9 ) و الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ ( الكهف 1 ) وأيضاً هذه القراءة أشبه بما قبل هذه الآية وبما بعدها لأنه تعالى قال قبل هذه الآية وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ وقال بعدها إِصْرِى وأجاب نافع عنه بأن أحد أبواب الفصاحة تغيير العبارة من الواحد إلى الجمع ومن الجمع إلى الواحد قال تعالى وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لّبَنِى إِسْراءيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِى ( الإسراء 2 ) ولم يقل من دوننا كما قال وَجَعَلْنَاهُ والله أعلم
المسألة الثالثة أنه تعالى ذكر النبيّين على سبيل المغايبة ثم قال ءاتَيْتُكُم وهو مخاطبة إضمار والتقدير وإذ أخذ الله ميثاق النبيّين فقال مخاطباً لهم لما آتيتكم من كتاب وحكمة والإضمار باب واسع في القرآن ومن العلماء من التزم في هذه الآية إضماراً آخر وأراح نفسه عن تلك التكلفات التي حكيناها عن النحويين فقال تقدير الآية وإذ أخذ الله ميثاق النبيّين لتبلغن الناس ما آتيتكم من كتاب وحكمة قال إلا أنه حذف لتبلغن لدلالة الكلام عليه لأن لام القسم إنما يقع على الفعل فلما دلت هذه اللام على هذا الفعل لا جرم حذفه اختصاراً ثم قال تعالى بعده ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ وهو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ وعلى هذا التقدير يستقيم النظم ولا يحتاج إلى تكليف تلك التعسفات وإذا كان لا بد من التزام الإضمار فهذا الإضمار الذي به ينتظم الكلام نظماً بيناً جلياً أولى من تلك التكلفات
المسألة الرابعة في قوله لَمَا ءاتَيْتُكُم مّن كِتَابٍ إشكال وهو أن هذا الخطاب إما أن يكون مع الأنبياء أو مع الأمم فإن كان مع الأنبياء فجميع الأنبياء ما أوتوا الكتاب وإنما أوتي بعضهم وإن كان مع الأمم فالإشكال أظهر والجواب عنه من وجهين الأول أن جميع الأنبياء عليهم السلام أوتوا الكتاب بمعنى كونه مهتدياً به داعياً إلى العمل به وإن لم ينزل عليه والثاني أن أشرف الأنبياء عليهم السلام هم الذين أوتوا الكتاب فوصف الكل بوصف أشرف الأنواع
المسألة الخامسة الكتاب هو المنزل المقروء والحكمة هي الوحي الوارد بالتكاليف المفصلة التي لم يشتمل الكتاب عليها
المسألة السادسة كلمة مِنْ في قوله مِن كِتَابِ دخلت تبييناً لما كقولك ما عندي من الورق دانقان
أما قوله تعالى ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ ففيه سؤالات
السؤال الأول ما وجه قوله ثُمَّ جَاءكُمْ والرسول لا يجيء إلى النبيّين وإنما يجيء إلى الأمم
والجواب إن حملنا قوله وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيّيْنَ على أخذ ميثاق أممهم فقد زال السؤال وإن حملناه على أخذ ميثاق النبيّين أنفسهم كان قوله ثُمَّ جَاءكُمْ أي جاء في زمانكم
السؤال الثاني كيف يكون محمد ( صلى الله عليه وسلم ) مصدقاً لما معهم مع مخالفة شرعه لشرعهم

قلنا المراد به حصول الموافقة في التوحيد والنبوات وأصول الشرائع فأما تفاصيلها وإن وقع الخلاف فيها فذلك في الحقيقة ليس بخلاف لأن جميع الأنبياء عليهم السلام متفقون على أن الحق في زمان موسى عليه السلام ليس إلا شرعه وأن الحق في زمان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ليس إلا شرعه فهذا وإن كان يوهم الخلاف إلا أنه في الحقيقة وفاق وأيضاً فالمراد من قوله ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ هو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والمراد بكونه مصدقاً لما معهم هو أن وصفه وكيفية أحواله مذكورة في التوراة والإنجيل فلما ظهر على أحوال مطابقة لما كان مذكوراً في تلك الكتب كان نفس مجيئه تصديقاً لما كان معهم فهذا هو المراد بكونه مصدقاً لما معهم
السؤال الثالث حاصل الكلام أن الله تعالى أخذ الميثاق على جميع الأنبياء بأن يؤمنوا بكل رسول يجيء مصدقاً لما معهم فما معنى ذلك الميثاق
والجواب يحتمل أن يكون هذا الميثاق ما قرر في عقولهم من الدلائل الدالة على أن الانقياد لأمر الله واجب فإذا جاء الرسول فهو إنما يكون رسولاً عند ظهور المعجزات الدالة على صدقه فإذا أخبرهم بعد ذلك أن الله أمر الخلق بالإيمان به عرفوا عند ذلك وجوبه فتقدير هذا الدليل في عقولهم هو المراد من أخذ الميثاق ويحتمل أن يكون المراد من أخذ الميثاق أنه تعالى شرح صفاته في كتب الأنبياء المتقدمين فإذا صارت أحواله مطابقة لما جاء في الكتب الإلاهية المتقدمة وجب الانقياد له فقوله تعالى ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ يدل على هذين الوجهين أما على الوجه الأول فقوله رَّسُولٍ وأما على الوجه الثاني فقوله مُّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ
أما قوله لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ فالمعنى ظاهر وذلك لأنه تعالى أوجب الإيمان به أولاً ثم الاشتغال بنصرته ثانياً واللام في لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ لام القسم كأنه قيل والله لتؤمنن به
ثم قال تعالى قَالَ ءأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذالِكُمْ إِصْرِى وفيه مسائل
المسألة الأولى إن فسرنا قوله تعالى وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيّيْنَ بأنه تعالى أخذ المواثيق على الأنبياء كان قوله تعالى أأقرتم معناه قال الله تعالى للنبيّين أأقرتم بالإيمان به والنصرة له وإن فسرنا أخذ الميثاق بأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أخذوا المواثيق على الأمم كان معنى قوله قَالَ أي قال كل نبي لأمته أأقرتم وذلك لأنه تعالى أضاف أخذ الميثاق إلى نفسه وإن كانت النبيون أخذوه على الأمم فكذلك طلب هذا الإقرار أضافه إلى نفسه وإن وقع من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والمقصود أن الأنبياء بالغوا في إثبات هذا المعنى وتأكيده فلم يقتصروا على أخذ الميثاق على الأمم بل طالبوهم بالإقرار بالقول وأكدوا ذلك بالإشهاد
المسألة الثانية الإقرار في اللغة منقول بالألف من قر الشيء يقر إذا ثبت ولزم مكانه وأقره غيره والمقر بالشيء يقره على نفسه أي يثبته
أما قوله تعالى ءأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذالِكُمْ إِصْرِى أي قبلتم عهدي والأخذ بمعنى القبول كثير في الكلام قال تعالى وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ ( البقرة 48 ) أي يقبل منها فدية وقال وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ ( التوبة 104 ) أي

يقبلها والإصر هو الذي يلحق الإنسان لأجل ما يلزمه من عمل قال تعالى وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا ( البقرة 286 ) فسمى العهد إصراً لهذا المعنى قال صاحب ( الكشاف ) سمى العهد إصراً لأنه مما يؤصر أي يشد ويعقد ومنه الإصار الذي يعقد به وقرىء إِصْرِى ويجوز أن يكون لغة في إصر
ثم قال تعالى قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُمْ مّنَ الشَّاهِدِينَ وفي تفسير قوله فَأَشْهِدُواْ وجوه الأول فليشهد بعضكم على بعض بالإقرار وأنا على إقراركم وإشهاد بعضكم بعضاً مّنَ الشَّاهِدِينَ وهذا توكيد عليهم وتحذير من الرجوع إذا علموا شهادة الله وشهادة بعضهم على بعض الثاني أن قوله فَأَشْهِدُواْ خطاب للملائكة الثالث أن قوله فَأَشْهِدُواْ أي ليجعل كل أحد نفسه شاهداً على نفسه ونظيره قوله وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا ( الأعراف 172 ) على أنفسنا وهذا من باب المبالغة الرابع فَأَشْهِدُواْ أي بينوا هذا الميثاق للخاص والعام لكي لا يبقى لأحد عذر في الجهل به وأصله أن الشاهد هو الذي يبين صدق الدعوى الخامس فَأَشْهِدُواْ أي فاستيقنوا ما قررته عليكم من هذا الميثاق وكونوا فيه كالمشاهد للشيء المعاين له السادس إذا قلنا إن أخذ الميثاق كان من الأمم فقوله فَأَشْهِدُواْ خطاب للأنبياء عليهم السلام بأن يكونوا شاهدين عليهم
وأما قوله تعالى وَأَنَاْ مَعَكُمْ مّنَ الشَّاهِدِينَ فهو للتأكيد وتقوية الإلزام وفيه فائدة أخرى وهي أنه تعالى وإن أشهد غيره فليس محتاجاً إلى ذلك الإشهاد لأنه تعالى لا يخفى عليه خافية لكن لضرب من المصلحة لأنه سبحانه وتعالى يعلم السر وأخفى ثم إنه تعالى ضم إليه تأكيداً آخر فقال فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذالِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ يعني من أعرض عن الإيمان بهذا الرسول وبنصرته بعد ما تقدم من هذه الدلائل كان من الفاسقين ووعيد الفاسق معلوم وقوله فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذالِكَ هذا شرط والفعل الماضي ينقلب مستقبلاً في الشرط والجزاء والله أعلم
أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ والأرض طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ
اعلم أنه تعالى لما بيّن في الآية الأولى أن الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام شرع شرعه الله وأوجبه على جميع من مضى من الأنبياء والأمم لزم أن كل من كره ذلك فإنه يكون طالباً ديناً غير دين الله فلهذا قال بعده أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ حفص عن عاصم يَبْغُونَ و يَرْجِعُونَ

بالياء المنقطة من تحتها لوجهين أحدهما رداً لهذا إلى قوله وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ( آل عمران 82 ) والثاني أنه تعالى إنما ذكر حكاية أخذ الميثاق حتى يبين أن اليهود والنصارى يلزمهم الإيمان بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فلما أصروا على كفرهم قال على جهة الاستنكار أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وقرأ أبو عمرو تبغون بالتاء خطاباً لليهود وغيرهم من الكافر و لاَ يَرْجِعُونَ بالياء ليرجع إلى جميع المكلفين المذكورين في قوله وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وقرأ الباقون فيهما بالتاء على الخطاب لأن ما قبله خطاب كقوله ءأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ ( آل عمران 81 ) وأيضاً فلا يبعد أن يقال للمسلم والكافر ولكل أحد أفغير دين الله تبغون مع علمكم بأنه أسلم له من في السماوات والأرض وأن مرجعكم إليه وهو كقوله وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ ءايَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ ( آل عمران 101 )
المسألة الثانية الهمزة للاستفهام والمراد استنكار أن يفعلوا ذلك أو تقرير أنهم يفعلونه وموضع الهمزة هو لفظة يَبْغُونَ تقديره أيبغون غير دين الله لأن الاستفهام إنما يكون عن الأفعال والحوادث إلا أنه تعالى قدم المفعول الذي هو غَيْرِ دِينِ اللَّهِ على فعله لأنه أهم من حيث أن الإنكار الذي هو معنى الهمزة متوجه إلى المعبود الباطل وأما الفاء فلعطف جملة على جملة وفيه وجهان أحدهما التقدير فأولئك هم الفاسقون فغير دين الله يبغون
واعلم أنه لو قيل أو غير دين الله يبغون جاز إلا أن في الفاء فائدة زائدة كأنه قيل أفبعد أخذ هذا الميثاق المؤكد بهذه التأكيدات البليغة تبغون
المسألة الثالثة روي أن فريقين من أهل الكتاب اختصموا إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فيما اختلفوا فيه من دين إبراهيم عليه السلام وكل واحد من الفريقين ادعى أنه أولى به فقال عليه الصلاة والسلام كلا الفريقين برىء من دين إبراهيم عليه السلام فقالوا ما نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك فنزلت هذه الآية ويبعد عندي حمل هذه الآية على هذا السبب لأن على هذا التقدير تكون هذه الآية منقطعة عما قبلها والاستفهام على سبيل الإنكار يقتضي تعلقها بما قبلها فالوجه في الآية أن هذا الميثاق لما كان مذكوراً في كتبهم وهم كانوا عارفين بذلك فقد كانوا عالمين بصدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في النبوّة فلم يبق لكفرهم سبب إلا مجرد العداوة والحسد فصاروا كإبليس الذي دعاه الحسد إلى الكفر فأعلمهم الله تعالى أنهم متى كانوا طالبين ديناً غير دين الله ومعبوداً سوى الله سبحانه ثم بيّن أن التمرد على الله تعالى والإعراض عن حكمه مما لا يليق بالعقلاء فقال وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى الإسلام هو الاستسلام والانقياد والخضوع
إذا عرفت هذا ففي خضوع كل من في السماوات والأرض لله وجوه الأول وهو الأصح عندي أن كل ما سوى الله سبحانه ممكن لذاته وكل ممكن لذاته فإنه لا يوجد إلا بإيجاده ولا يعدم إلا بإعدامه فإذن كل ما سوى الله فهو منقاد خاضع لجلال الله في طرفي وجوده وعدمه وهذا هو نهاية الانقياد والخضوع ثم إن في هذا الوجه لطيفة أخرى وهي أن قوله وَلَهُ أَسْلَمَ يفيد الحصر أي وله أسلم كل من في السماوات والأرض لا لغيره فهذه الآية تفيد أن واجب الوجود واحد وأن كل ما سواه فإنه لا يوجد إلا بتكوينه ولا يفنى إلا بإفنائه سواء كان عقلاً أو نفساً أو روحاً أو جسماً أو جوهراً أو عرضاً أو فاعلاً أو فعلاً ونظير هذه الآية في الدلالة على هذا المعنى قوله تعالى وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الرعد 15 ) وقوله وَإِن مّن شَى ْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ ( الإسراء 44 )
الوجه الثاني في تفسير هذه الآية أنه لا سبيل لأحد إلى الامتناع عليه في مراده وإما أن ينزلوا عليه

طوعاً أو كرهاً فالمسلمون الصالحون ينقادون لله طوعاً فيما يتعلق بالدين وينقادون له كرهاً فيما يخالف طباعهم من المرض والفقر والموت وأشباه ذلك وأما الكافرون فهم ينقادون لله تعالى على كل حال كرهاً لأنهم لا ينقادون فيما يتعلق بالدين وفي غير ذلك مستسلمون له سبحانه كرهاً لأنه لا يمكنهم دفع قضائه وقدره الثالث أسلم المسلمون طوعاً والكافرون عند موتهم كرهاً لقوله تعالى فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا ( غافر 85 ) الرابع أن كل الخلق منقادون لإلاهيته طوعاً بدليل قوله تعالى وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ( لقمان 25 ) ومنقادون لتكاليفه وإيجاده للآلام كرهاً الخامس أن انقياد الكل إنما حصل وقت أخذ الميثاق وهو قوله تعالى وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَى ( الأعراف 172 ) السادس قال الحسن الطوع لأهل السماوات خاصة وأما أهل الأرض فبعضهم بالطوع وبعضهم بالكره وأقول إنه سبحانه ذكر في تخليق السماوات والأرض هذا وهو قوله فَقَالَ لَهَا وَلِلاْرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ( فصلت 11 ) وفيه أسرار عجيبة
أما قوله وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فالمراد أن من خالفه في العاجل فسيكون مرجعه إليه والمراد إلى حيث لا يملك الضر والنفع سواه هذا وعيد عظيم لمن خالف الدين الحق
المسألة الثانية قال الواحدي رحمه الله الطوع الانقياد يقال طاعه يطوعه طوعاً إذا انقاد له وخضع وإذا مضى لأمره فقد أطاعه وإذا وافقه فقد طاوعه قال ابن السكيت يقال طاع له وأطاع فانتصب طوعاً وكرهاً على أنه مصدر وقع موقع الحال وتقديره طائعاً وكارهاً كقولك أتاني راكضاً ولا يجوز أن يقال أتاني كلاماً أي متكلماً لأن الكلام ليس يضرب للإتيان والله أعلم
قُلْ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالاٌّ سْبَاطِ وَمَا أُوتِى َ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية المتقدمة أنه إنما أخذ الميثاق على الأنبياء في تصديق الرسول الذي يأتي مصدق لما معهم بيّن في هذه الآية أن من صفة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كونه مصدقاً لما معهم فقال قُلْ ءامَنَّا بِاللَّهِ إلى آخر الآية وههنا مسائل
المسألة الأولى وحد الضمير في قُلْ وجمع في مِنَ وفيه وجوه الأول إنه تعالى حين خاطبه إنما خاطبه بلفظ الوحدان وعلمه أنه حين يخاطب القوم يخاطبهم بلفظ الجمع على وجه التعظيم

والتفخيم مثل ما يتكلم الملوك والعظماء والثاني أنه خاطبه أولاً بخطاب الوجدان ليدل هذا الكلام على أنه لا مبلغ لهذا التكليف من الله إلى الخلق إلا هو ثم قال مِنَ تنبيهاً على أنه حين يقول هذا القول فإن أصحابه يوافقونه عليه الثالث إنه تعالى عينه في هذا التكليف بقوله قُلْ ليظهر به كونه مصدقاً لما معهم ثم قال مِنَ تنبيهاً على أن هذا التكليف ليس من خواصه بل هو لازم لكل المؤمنين كما قال وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ءامَنَ بِاللَّهِ وَمَلَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ ( البقرة 285 )
المسألة الثانية قدم الإيمان بالله على الإيمان بالأنبياء لأن الإيمان بالله أصل الإيمان بالنبوة وفي المرتبة الثانية ذكر الإيمان بما أنزل عليه لأن كتب سائر الأنبياء حرفوها وبدلوها فلا سبيل إلى معرفة أحوالها إلا بما أنزل الله على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فكان ما أنزل على محمد كالأصل لما أنزل على سائر الأنبياء فلهذا قدمه عليه وفي المرتبة الثالثة ذكر بعض الأنبياء وهم الأنبياء الذين يعترف أهل الكتاب بوجودهم ويختلفون في نبوتهم وَالاسْبَاطَ هم أسباط يعقوب عليه السلام الذين ذكر الله أممهم الاثنى عشر في سورة الأعراف وإنما أوجب الله تعالى الإقرار بنبوّة كل الأنبياء عليهم السلام لفوائد إحداها إثبات كونه عليه السلام مصدقاً لجميع الأنبياء لأن هذا الشرط كان معتبراً في أخذ الميثاق وثانيها التنبيه على أن مذاهب أهل الكتاب متناقضة وذلك لأنهم إنما يصدقون النبي الذي يصدقونه لمكان ظهور المعجزة عليه وهذا يقتضي أن كل من ظهرت المعجزة عليه كان نبياً وعلى هذا يكون تخصيص البعض بالتصديق والبعض بالتكذيب متناقضاً بل الحق تصديق الكل والاعتراف بنبوّة الكل وثالثها إنه قال قبل هذه الآية أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( آل عمران 83 ) وهذا تنبيه على أن إصرارهم على تكذيب بعض الأنبياء إعراض عن دين الله ومنازعة مع الله فههنا أظهر الإيمان بنبوّة جميع الأنبياء ليزول عنه وعن أمته ما وصف أهل الكتاب به من منازعة الله في الحكم والتكليف ورابعها أن في الآية الأولى ذكر أنه أخذ الميثاق على جميع النبيّين أن يؤمنوا بكل من أتى بعدهم من الرسل وههنا أخذ الميثاق على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بأن يؤمن بكل من أتى قبله من الرسل ولم يأخذ عليه الميثاق لمن يأتي بعده من الرسل فكانت هذه الآية دالة من هذا الوجه على أنه لا نبي بعده ألبتة فإن قيل لم عدَّى أَنَزلَ في هذه الآية بحرف الاستعلاء وفيما تقدم من مثلها بحرف الانتهاء قلنا لوجود المعنيين جميعاً لأن الوحي ينزل من فوق وينتهي إلى الرسل فجاء تارة بأحد المعنيين وأخرى بالآخر وقيل أيضاً إنما قيل عَلَيْنَا في حق الرسول لأن الوحي ينزل عليه وإلينا في حق الأمة لأن الوحي يأتيهم من الرسول على وجه الانتهاء وهذا تعسف ألا ترى إلى قوله بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ ( البقرة 4 ) وأنزل إليك الكتاب وإلى قوله وَقَالَت طَّائِفَة ٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ءامِنُواْ ( آل عمران 72 )
المسألة الثانية اختلف العلماء في أن الإيمان بهؤلاء الأنبياء الذين تقدموا ونسخت شرائعهم كيف يكون وحقيقة الخلاف أن شرعه لما صار منسوخاً فهل تصير نبوته منسوخة فمن قال إنها تصير منسوخة قال نؤمن أنهم كانوا أنبياء ورسلاً ولا نؤمن بأنهم الآن أنبياء ورسل ومن قال إن نسخ الشريعة لا يقتضي نسخ النبوّة قال نؤمن أنهم أنبياء ورسل في الحال فتنبه لهذا الموضع
المسألة الرابعة قوله لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ فيه وجوه الأول قال الأصم التفرق قد يكون بتفضيل البعض على البعض وقد يكون لأجل القول بأنهم ما كانوا على سبيل واحد في الطاعة لله والمراد

من هذا الوجه يعني نقر بأنهم كانوا بأسرهم على دين واحد في الدعوة إلى الله وفي الانقياد لتكاليف الله الثاني قال بعضهم المراد لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ بأن نؤمن ببعض دون بعض كما تفرقت اليهود والنصارى الثالث قال أبو مسلم لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ أي لا نفرق ما أجمعوا عليه وهو كقوله وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ ( آل عمران 103 ) وذم قوماً وصفهم بالتفرق فقال لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ( الأنعام 94 )
أما قوله وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ففيه وجوه الأول إن إقرارنا بنبوّة هؤلاء الأنبياء إنما كان لأجل كوننا منقادين لله تعالى مستسلمين لحكمه وأمره وفيه تنبيه على أن حاله على خلاف الذين خاطبهم الله بقوله أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ والثاني قال أبو مسلم وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ أي مستسلمون لأمر الله بالرضا وترك المخالفة وتلك صفة المؤمنين بالله وهم أهل السلم والكافرون يوصفون بالمحاربة لله كما قال إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ( المائدة 33 ) الثالث أن قوله وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ يفيد الحصر والتقدير له أسلمنا لا لغرض آخر من سمعة ورياء وطلب مال وهذا تنبيه على أن حالهم بالضد من ذلك فإنهم لا يفعلون ولا يقولون إلا للسمعة والرياء وطلب الأموال والله أعلم
وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الاٌّ خِرَة ِ مِنَ الْخَاسِرِينَ
اعلم أنه تعالى لما قال في آخر الآية المتقدمة وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ( آل عمران 84 ) أتبعه بأن بيّن في هذه الآية أن الدين ليس إلا الإسلام وأن كل دين سوى الإسلام فإنه غير مقبول عند الله لأن القبول للعمل هو أن يرضى الله ذلك العمل ويرضى عن فاعله ويثيبه عليه ولذلك قال تعالى إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ( المائدة 27 ) ثم بيّن تعالى أن كل من له دين سوى الإسلام فكما أنه لا يكون مقبولاً عند الله فكذلك يكون من الخاسرين والخسران في الآخرة يكون بحرمان الثواب وحصول العقاب ويدخل فيه ما يلحقه من التأسف والتحسر على ما فاته في الدنيا من العمل الصالح وعلى ما تحمله من التعب والمشقة في الدنيا في تقريره ذلك الدين الباطل واعلم أن ظاهر هذه الآية يدل على أن الإيمان هو الإسلام إذ لو كان الإيمان غير الإسلام لوجب أن لا يكون الإيمان مقبولاً لقوله تعالى وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ إلا أن ظاهر قوله تعالى قَالَتِ الاْعْرَابُ ءامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَاكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا ( الحجرات 14 ) يقتضي كون الإسلام مغايراً للإيمان ووجه التوفيق بينهما أن تحمل الآية الأولى على العرف الشرعي والآية الثانية على الوضع اللغوي

كَيْفَ يَهْدِى اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَآءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أُوْلَائِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَة َ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَة ِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذالِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
اعلم أنه تعالى لما عظم أمر الإسلام والإيمان بقوله وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الاْخِرَة ِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( آل عمران 85 ) أكد ذلك التعظيم بأن بيّن وعيد من ترك الإسلام فقال كَيْفَ يَهْدِى اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في سبب النزول أقوال الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما نزلت هذه الآية في عشرة رهط كانوا آمنوا ثم ارتدوا ولحقوا بمكة ثم أخذوا يتربصون به ريب المنون فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية وكان فيهم من تاب فاستثنى التائب منهم بقوله إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ الثاني نقل أيضاً عن ابن عباس أنه قال نزلت في يهود قريظة والنضير ومن دان بدينهم كفروا بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعد أن كانوا مؤمنين قبل مبعثه وكانوا يشهدون له بالنبوّة فلما بعث وجاءهم بالبينات والمعجزات كفروا بغياً وحسداً والثالث نزلت في الحرث بن سويد وهو رجل من الأنصار حين ندم على ردته فأرسل إلى قومه أن اسألوا لي هل لي من توبة فأرسل إليه أخوه بالآية فأقبل إلى المدينة وتاب على يد الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وقبل الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) توبته قال القفال رحمه الله للناس في هذه الآية قولان منهم من قال إن قوله تعالى وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَامِ دِينًا وما بعده من قوله كَيْفَ يَهْدِى اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ إلى قوله وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ نزل جميع ذلك في قصة واحدة ومنهم من جعل ابتداء القصة من قوله إِن الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ ثم على التقديرين ففيها أيضاً قولان أحدهما أنها في أهل الكتاب والثاني أنها في قوم مرتدين عن الإسلام آمنوا ثم ارتدوا على ما شرحناه
المسألة الثانية اختلف العقلاء في تفسير قوله كَيْفَ يَهْدِى اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ أما المعتزلة فقالوا إن أصولنا تشهد بأنه تعالى هدى جميع الخلق إلى الدين بمعنى التعريف ووضع الدلائل وفعل الألطاف إذ لو يعم الكل بهذه الأشياء لصار الكافر والضال معذوراً ثم إنه تعالى حكم بأنه لم يهد هؤلاء الكفار فلا بد من تفسير هذه الهداية بشيء آخر سوى نصب الدلائل ثم ذكروا فيه وجوهاً الأول المراد من هذه الآية منع الألطاف التي يؤتيها المؤمنين ثواباً لهم على إيمانهم كما قال تعالى وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ( العنكبوت 69 ) وقال تعالى وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَواْ هُدًى ( مريم 76 ) وقال تعالى وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى ( محمد 17 ) وقال يَهْدِى بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ ( المائدة 16 )
فدلت هذه الآيات على أن المهتدي قد يزيده الله هدى ً الثاني أن المراد أن الله تعالى لا يهديهم إلى الجنة

قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ ( النساء 168 169 ) وقال يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الاْنْهَارُ ( يونس 9 ) والثالث أنه لا يمكن أن يكون المراد من الهداية خلق المعرفة فيه لأن على هذا التقدير يلزم أن يكون أيضاً من الله تعالى لأنه تعالى إذا خلق المعرفة كان مؤمناً مهتدياً وإذا لم يخلقها كان كافراً ضالاً ولو كان الكفر من الله تعالى لم يصح أن يذمهم الله على الكفر ولم يصح أن يضاف الكفر إليهم لكن الآية ناطقة بكونهم مذمومين بسبب الكفر وكونهم فاعلين للكفر فإنه تعالى قال كَيْفَ يَهْدِى اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ فضاف الكفر إليهم وذمهم على ذلك الكفر فهذا جملة أقوالهم في هذه الآية وأما أهل السنة فقالوا المراد من الهداية خلق المعرفة قالوا وقد جرت سنة الله في دار التكليف أن كل فعل يقصد العبد إلى تحصيله فإن الله تعالى يخلقه عقيب قصد العبد فكأنه تعالى قال كيف يخلق الله فيهم المعرفة وهم قصدوا تحصيل الكفر أو أرادوه والله أعلم
المسألة الثالثة قوله وَأَشْهِدُواْ فيه قولان
الأول أنه عطف والتقدير بعد أن آمنوا وبعد أن شهدوا أن الرسول حق لأن عطف الفعل على الاسم لا يجوز فهو في الظاهر وإن اقتضى عطف الفعل على الاسم لكنه في المعنى عطف الفعل على الفعل الثاني أن الواو للحال بإضمار ( قد ) والتقدير كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم حال ما شهدوا أن الرسول حق
المسألة الرابعة تقدير الآية كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم وبعد الشهادة بأن الرسول حق وقد جاءتهم البينات فعطف الشهادة بأن الرسول حق على الإيمان والمعطوف مغاير للمعطوف عليه فيلزم أن الشهادة بأن الرسول حق مغاير للإيمان وجوابه إن مذهبنا أن الإيمان هو التصديق بالقلب والشهادة هو الإقرار باللسان وهما متغايران فصارت هذه الآية من هذا الوجه دالة على أن الإيمان مغاير للإقرار باللسان وأنه معنى قائم بالقلب
المسألة الخامسة اعلم أنه تعالى استعظم كفر القوم من حيث أنه حصل بعد خصال ثلاث أحدها بعد الإيمان وثانيها بعد شهادة كون الرسول حقاً وثالثها بعد مجيء البينات وإذا كان الأمر كذلك كان ذلك الكفر صلاحاً بعد البصيرة وبعد إظهار الشهادة فيكون الكفر بعد هذه الأشياء أقبح لأن مثل هذا الكفر يكون كالمعاندة والجحود وهذا يدل على أن زلة العالم أقبح من زلة الجاهل
أما قوله تعالى وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ففيه سؤالان
السؤال الأول قال في أول الآية كَيْفَ يَهْدِى اللَّهُ قَوْمًا وقال في آخرها وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ وهذا تكرار
والجواب أن قوله كَيْفَ يَهْدِى اللَّهُ مختص بالمرتدين ثم إنه تعالى عمم ذلك الحكم في المرتد وفي الكافر الأصلي فقال وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
السؤال الثاني لم سمي الكافر ظالماً
الجواب قال تعالى إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( لقمان 13 ) والسبب فيه أن الكافر أورد نفسه موارد

البلاء والعقاب بسبب ذلك الكفر فكان ظالماً لنفسه
ثم قال تعالى أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَة َ اللَّهِ وَالْمَلَئِكَة ِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا والمعنى أنه تعالى حكم بأن الذين كفروا بعد إيمانهم يمنعهم الله تعالى من هدايته ثم بيّن أن الأمر غير مقصور عليه بل كما لا يهديهم في الدنيا يلعنهم اللعن العظيم ويعذبهم في الآخرة على سبيل التأبيد والخلود
واعلم أن لعنة الله مخالفة للعنة الملائكة لأن لعنته بالإبعاد من الجنة وإنزال العقوبة والعذاب واللعنة من الملائكة هي بالقول وكذلك من الناس وكل ذلك مستحق لهم بسبب ظلمهم وكفرهم فصح أن يكون جزاء لذلك وههنا سؤالان
السؤال الأول لم عم جميع الناس ومن يوافقه لا يلعنه
قلنا فيه وجوه الأول قال أبو مسلم له أن يلعنه وإن كان لا يلعنه الثاني أنه في الآخرة يلعن بعضهم بعضاً قال تعالى كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّة ٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا ( الأعراف 38 ) وقال ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ( العنكبوت 25 ) وعلى هذا التقدير فقد حصل اللعن للكفار من الكفار والثالث كأن الناس هم المؤمنون والكفار ليسوا من الناس ثم لما ذكر لعن الثلاث قال أَجْمَعِينَ الرابع وهو الأصح عندي أن جميع الخلق يلعنون المبطل والكافر ولكنه يعتقد في نفسه أنه ليس بمبطل ولا بكافر فإذا لعن الكافر وكان هو في علم الله كافراً فقد لعن نفسه وإن كان لا يعلم ذلك
السؤال الثاني قوله خَالِدِينَ فِيهَا أي خالدين في اللعنة فما خلود اللعنة
قلنا فيه وجهان الأول أن التخليد في اللعنة على معنى أنهم يوم القيامة لا يزال يلعنهم الملائكة والمؤمنون ومن معهم في النار فلا يخلو شيء من أحوالهم من أن يلعنهم لاعن من هؤلاء الثاني أن المراد بخلود اللعن خلود أثر اللعن لأن اللعن يوجب العقاب فعبر عن خلود أثر اللعن بخلود اللعن ونظيره قوله تعالى مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ وِزْراً خَالِدِينَ فِيهِ ( طه 100 101 ) الثالث قال ابن عباس قوله خَالِدِينَ فِيهَا أي في جهنم فعلى هذا الكناية عن غير مذكور واعلم أن قوله خَالِدِينَ فِيهَا نصب على الحال مما قبله وهو قوله تعالى عَلَيْهِمْ لَعْنَة ُ اللَّهِ
ثم قال لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ معنى الانظار التأخير قال تعالى فَنَظِرَة ٌ إِلَى مَيْسَرَة ٍ ( البقرة 280 ) فالمعنى أنه لا يجعل عذابهم أخف ولا يؤخر العقاب من وقت إلى وقت وهذا تحقيق قول المتكلمين إن العذاب الملحق بالكافر مضرة خالصة عن شوائب المنافع دائمة غير منقطعة نعوذ منه بالله
ثم قال إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذالِكَ والمعنى إلا الذين تابوا منه ثم بيّن أن التوبة وحدها لا تكفي حتى ينضاف إليها العمل الصالح فقال وَأَصْلَحُواْ أي أصلحوا باطنهم مع الحق بالمراقبات وظاهرهم مع الخلق بالعبادات وذلك بأن يلعنوا بأنا كنا على الباطل حتى أنه لو اغتر بطريقتهم الفاسدة مغتر رجع عنها
ثم قال فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وفيه وجهان الأول غفور لقبائحهم في الدنيا بالستر رحيم في الآخرة بالعفو الثاني غفور بإزالة العقاب رحيم بإعطاء الثواب ونظيره قوله تعالى قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن

يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ ( الأنفال 38 ) ودخلت الفاء في قوله فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ لأنه الجزاء وتقدير الكلام إن تابوا فإن الله يغفر لهم
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَائِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ
المسألة الأولى اختلفوا فيما به يزداد الكفر والضابط أن المرتد يكون فاعلاً للزيادة بأن يقيم ويصر فيكون الإصرار كالزيادة وقد يكون فاعلاً للزيادة بأن يضم إلى ذلك الكفر كفراً آخر وعلى هذا التقدير الثاني ذكروا فيه وجوهاً الأول أن أهل الكتاب كانوا مؤمنين بمحمد عليه الصلاة والسلام قبل مبعثه ثم كفروا به عند المبعث ثم ازدادوا كفراً بسبب طعنهم فيه في كل وقت ونقضهم ميثاقه وفتنتهم للمؤمنين وإنكارهم لكل معجزة تظهر الثاني أن اليهود كانوا مؤمنين بموسى عليه السلام ثم كفروا بسبب إنكارهم عيسى والإنجيل ثم ازدادوا كفراً بسبب إنكارهم محمداً عليه الصلاة والسلام والقرآن والثالث أن الآية نزلت في الذين ارتدوا وذهبوا إلى مكة وازديادهم الكفر أنهم قالوا نقيم بمكة نتربص بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ريب المنون الرابع المراد فرقة ارتدوا ثم عزموا على الرجوع إلى الإسلام على سبيل النفاق فسمى الله تعالى ذلك النفاق كفراً
المسألة الثانية أنه تعالى حكم في الآية الأولى بقبول توبة المرتدين وحكم في هذه الآية بعدم قبولها وهو يوهم التناقض وأيضاً ثبت بالدليل أنه متى وجدت التوبة بشروطها فإنها تكون مقبولة لا محالة فلهذا اختلف المفسرون في تفسير قوله تعالى لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ على وجوه
الأول قال الحسن وقتادة وعطاء السبب أنهم لا يتوبون إلا عند حضور الموت والله تعالى يقول وَلَيْسَتِ التَّوْبَة ُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنّى تُبْتُ الاْنَ ( النساء 18 ) الثاني أن يحمل هذا على ما إذا تابوا باللسان ولم يحصل في قلوبهم إخلاص الثالث قال القاضي والقفال وابن الأنباري أنه تعالى لما قدم ذكر من كفر بعد الإيمان وبيّن أنه أهل اللعنة إلا أن يتوب ذكر في هذه الآية أنه لو كفر مرة أخرى بعد تلك التوبة فإن التوبة الأولى تصير نير مقبولة وتصير كأنها لم تكن قال وهذا الوجه أليق بالآية من سائر الوجوه لأن التقدير إلا الذين تابوا وأصلحوا فإن الله غفور رحيم فإن كانوا كذلك ثم ازدادوا كفراً لن تقبل توبتهم الرابع قال صاحب ( الكشاف ) قوله لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ جعل كناية عن الموت على الكفر لأن الذي لا تقبل توبته من الكفار هو الذي يموت على الكفر كأنه قيل إن اليهود والمرتدين الذين فعلوا ما فعلوا مائتون على الكفر داخلون في جملة من لا تقبل توبتهم الخامس لعلّ المراد ما إذا تابوا عن تلك الزيادة فقط فإن التوبة عن تلك الزيادة لا تصير مقبولة ما لم تحصل التوبة عن الأصل

وأقول جملة هذه الجوابات إنما تتمشى على ما إذا حملنا قوله إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا على المعهود السابق لا على الاستغراق وإلا فكم من مرتد تاب عن ارتداده توبة صحيحة مقرونة بالإخلاص في زمان التكليف فأما الجواب الذي حكيناه عن القفال والقاضي فهو جواب مطرد سواء حملنا اللفظ على المعهود السابق أو على الاستغراق
أما قوله وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ ففيه سؤالان الأول وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ ينفي كون غيرهم ضالاً وليس الأمر كذلك فإن كل كافر فهو ضال سواء كفر بعد الإيمان أو كان كافراً في الأصل والجواب هذا محمول على أنهم هم الضالون على سبيل الكمال
السؤال الثاني وصفهم أولاً بالتمادي على الكفر والغلو فيه والكفر أقبح أنواع الضلال والوصف إنما يراد للمبالغة والمبالغة إنما تحصل بوصف الشيء بما هو أقوى حالاً منه لا بما هو أضعف حالاً منه والجواب قد ذكرنا أن المراد أنهم هم الضالون على سبيل الكمال وعلى هذا التقدير تحصل المبالغة
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرض ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَائِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ
اعلم أن الكافر على ثلاثة أقسام أحدها الذي يتوب عن الكفر توبة صحيحة مقبولة وهو الذي ذكره الله تعالى في قوله إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( آل عمران 89 ) وثانيهما الذي يتوب عن ذلك الكفر توبة فاسدة وهو الذي ذكره الله في الآية المتقدمة وقال إنه لن تقبل توبته وثالثهما الذي يموت على الكفر من غير توبة ألبتة وهو المذكور في هذه الآية ثم إنه تعالى أخبر عن هؤلاء بثلاثة أنواع
النوع الأول قوله فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مّلْء الاْرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ قال الواحدي ملء الشيء قدر ما يملؤه وانتصب ذَهَبًا على التفسير ومعنى التفسير أن يكون الكلام تاماً إلا أن يكون مبهماً كقوله عندي عشرون فالعدد معلوم والمعدود مبهم فإذا قلت درهماً فسرت العدد وكذلك إذا قلت هو أحسن الناس فقد أخبرت عن حسنه ولم تبين في ماذا فإذا قلت وجهاً أو فعلاً فقد بينته ونصبته على التفسير وإنما نصبته لأنه ليس له ما يخفضه ولا ما يرفعه فلما خلا من هذين نصب لأن النصب أخف الحركات فيجعل كأنه لا عامل فيه قال صاحب ( الكشاف ) وقرأ الأعمش ذَهَبَ بالرفع رداً على ملء كما يقال عندي عشرون نفساً رجال
وههنا ثلاثة أسئلة
السؤال الأول لم قيل في الآية المتقدمة لَّن تُقْبَلَ بغير فاء وفي هذه الآية فَلَن يُقْبَلَ بالفاء

الجواب أن دخول الفاء يدل على أن الكلام مبني على الشرط والجزاء وعند عدم الفاء لم يفهم من الكلام كونه شرطا وجزاء تقول الذي جاءني له درهم فهذا لا يفيد أن الدرهم حصل له بسبب المجيء وإذا قلت الذي جاءني فله درهم فهذا لا يفيد أن الدرهم حصل له بسبب المجيء فذكر الفاء في هذه الآية يدل على أن عدم قبول الفدية معلل بالموت على الكفر
السؤال الثاني ما فائدة الواو في قوله وَلَوِ افْتَدَى بِهِ
الجواب ذكروا فيه وجوهاً الأول قال الزجاج إنها للعطف والتقدير لو تقرب إلى الله بملء الأرض ذهباً لم ينفعه ذلك مع كفره ولو افتدى من العذاب بملء الأرض ذهباً لم قبل منه وهذا اختيار ابن الأنباري قال وهذا أوكد في التغليظ لأنه تصريح بنفي القبول من جميع الوجوه الثاني الواو دخلت لبيان التفصيل بعد الإجمال وذلك لأن قوله كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مّلْء الاْرْضِ ذَهَبًا يحتمل الوجوه الكثيرة فنص على نفي القبول بجهة الفدية الثالث وهو وجه خطر ببالي وهو أن من غضب على بعض عبيده فإذا أتحفه ذلك العبد بتحفة وهدية لم يقبلها ألبتة إلا أنه قد يقبل منه الفدية فأما إذا لم يقبل منه الفدية أيضاً كان ذلك غاية الغضب والمبالغة إنما تحصل بتلك المرتبة التي هي الغاية فحكم تعالى بأنه لا يقبل منهم ملء الأرض ذهباً ولو كان واقعاً على سبيل الفداء تنبيهاً على أنه لما لم يكن مقبولاً بهذا الطريق فبأن لا يكون مقبولاً منه بسائر الطرق أولى
السؤال الثالث أن من المعلوم أن الكافر لا يملك يوم القيامة نقيراً ولا قطميراً ومعلوم أن بتقدير أن يملك الذهب فلا ينفع الذهب ألبتة في الدار الآخرة فما فائدة قوله لَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مّلْء الاْرْضِ ذَهَبًا
الجواب فيه وجهان أحدهما أنهم إذا ماتوا على الكفر فلو أنهم كانوا قد أنفقوا في الدنيا ملء الأرض ذهباً لن يقبل الله تعالى ذلك منهم لأن الطاعة مع الكفر لا تكون مقبولة والثاني أن الكلام وقع على سبيل الفرض والتقدير فالذهب كناية عن أعز الأشياء والتقدير لو أن الكافر يوم القيامة قدر على أعز الأشياء ثم قدر على بذله في غاية الكثرة لعجز أن يتوسل بذلك إلى تخليص نفسه من عذاب الله وبالجملة فالمقصود أنهم آيسون من تخليص النفس من العقاب
النوع الثاني من الوعيد المذكور في هذه الآية قوله وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ واعلم أنه تعالى لما بيّن أن الكافر لا يمكنه تخليص النفس من العذاب أردفه بصفة ذلك العذاب فقال وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أي مؤلم
النوع الثالث من الوعيد قوله وَمَا لَهُم مّن نَّاصِرِينَ والمعنى أنه تعالى لما بيّن أنه لا خلاص لهم عن هذا العذاب الأليم بسبب الفدية بيّن أيضاً أنه لا خلاص لهم عنه بسبب النصرة والإعانة والشفاعة ولأصحابنا أن يحتجوا بهذه الآية على إثبات الشفاعة وذلك لأنه تعالى ختم تعديد وعيد الكفار بعدم النصرة والشفاعة فلو حصل هذا المعنى في حق غير الكافر بطل تخصيص هذا الوعيد بالكفر والله أعلم

لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَى ْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ
اعلم أنه تعالى لما بيّن أن الإنفاق لا ينفع الكافر ألبتة علم المؤمنين كيفية الإنفاق الذي ينتفعون به في الآخرة فقال لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وبيّن في هذه الآية أن من أنفق مما أحب كان من جملة الأبرار ثم قال في آية أخرى إِنَّ الاْبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ ( المطففين 22 ) وقال أيضاً إِنَّ الاْبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً ( الإنسان 5 ) وقال أيضاً إِنَّ الاْبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ عَلَى الاْرَائِكِ يَنظُرُونَ تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَة َ النَّعِيمِ يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ( المطففين 22 26 ) وقال لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ( البقرة 177 ) فالله تعالى لما فصل في سائر الآيات كيفية ثواب الأبرار اكتفى ههنا بأن ذكر أن من أنفق ما أحب نال البر وفيه لطيفة أخرى
وهي أنه تعالى قال لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَاكِنَّ الْبِرَّ مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وَالْمَلَئِكَة ِ إلى آخر الآية فذكر في هذه الآية أكثر أعمال الخير وسماه البر ثم قال في هذه الآية لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ والمعنى أنكم وإن أتيتم بكل تلك الخيرات المذكورة في تلك الآية فإنكم لا تفوزون بفضيلة البر حتى تنفقوا مما تحبون وهذا يدل على أن الإنسان إذا أنفق ما يحبه كان ذلك أفضل الطاعات وههنا بحث وهو أن لقائل أن يقول كلمة حَتَّى لانتهاء الغاية فقوله لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ يقتضي أن من أنفق مما أحب فقد نال البر ومن نال البر دخل تحت الآيات الدالة على عظم الثواب للأبرار فهذا يقتضي أن من أنفق ما أحب وصل إلى الثواب العظيم وإن لم يأت بسائر الطاعات وهو باطل وجواب هذا الإشكال أن الإنسان لا يمكنه أن ينفق محبوبه إلا إذا توسل بإنفاق ذلك المحبوب إلى وجدان محبوب أشرف من الأول فعلى هذا الإنسان لا يمكنه أن ينفق الدنيا في الدنيا إلا إذا تيقن سعادة الآخرة ولا يمكنه أن يعترف بسعادة الآخرة إلا إذا أقر بوجود الصانع العالم القادر وأقر بأنه يجب عليه الانقياد لتكاليفه وأوامره ونواهيه فإذا تأملت علمت أن الإنسان لا يمكنه إنفاق الدنيا في الدنيا إلا إذا كان مستجمعاً لجميع الخصال المحمودة في الدنيا ولنرجع إلى التفسير فنقول في الآية مسائل
المسألة الأولى كان السلف إذا أحبوا شيئاً جعلوه لله روي أنه لما نزلت هذه الآية قال أبو طلحة يا رسول الله لي حائط بالمدينة وهو أحب أموالي إليّ أفأتصدق به فقال عليه السلام ( بخ بخ ذاك مال رابح وإني أرى أن تجعلها في الأقربين ) فقال أبو طلحة أفعل يا رسول الله فقسمها في أقاربه ويروى أنه جعلها بين حسّان بن ثابت وأُبي بن كعب رضي الله عنهما وروي أن زيد بن حارثة رضي الله عنه جاء عند نزول هذه الآية بفرس له كان يحبه وجعله في سبيل الله فحمل عليها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أسامة فوجد زيد في نفسه فقال عليه السلام ( إن الله قد قبلها ) واشترى ابن عمر جارية أعجبته فأعتقها فقيل له لم أعتقتها ولم تصب منها فقال لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ
المسألة الثانية للمفسرين في تفسير البر قولان أحدهما ما به يصيرون أبراراً حتى يدخلوا في قوله

إِنَّ الاْبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ فيكون المراد بالبر ما يحصل منهم من الأعمال المقبولة والثاني الثواب والجنة فكأنه قال لن تنالوا هذه المنزلة إلا بالانفاق على هذا الوجه
أما القائلون بالقول الأول فمنهم من قال الْبَرّ هو التقوى واحتج بقوله وَلَاكِنَّ الْبِرَّ مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ إلى قوله أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ( البقرة 177 ) وقال أبو ذر إن البر هو الخير وهو قريب مما تقدم
وأما الذين قالوا البر هو الجنة فمنهم من قال لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ أي لن تنالوا ثواب البر ومنهم من قال المراد بر الله أولياءه وإكرامه إياهم وتفضله عليهم وهو من قول الناس برني فلان بكذا وبر فلان لا ينقطع عني وقال تعالى لاَّ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدّينِ إلى قول أَن تَبَرُّوهُمْ ( الممتحنة 8 )
المسألة الثالثة اختلف المفسرون في قوله مِمَّا تُحِبُّونَ منهم من قال إنه نفس المال قال تعالى وَإِنَّهُ لِحُبّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ( العاديات 8 ) ومنهم من قال أن تكون الهبة رفيعة جيدة قال تعالى وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ ( البقرة 267 ) ومنهم من قال ما يكون محتاجاً إليه قال تعالى وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبّهِ مِسْكِيناً ( الإنسان 8 ) أحد تفاسير الحب في هذه الآية على حاجتهم إليه وقال وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة ٌ ( الحشر 9 ) وقال عليه السلام ( أفضل الصدقة ما تصدقت به وأنت صحيح شحيح تأمل العيش وتخشى الفقر ) والأولى أن يقال كل ذلك معتبر في باب الفضل وكثرة الثواب
المسألة الرابعة اختلف المفسرون في أن هذا الانفاق هل هو الزكاة أو غيرها قال ابن عباس أراد به الزكاة يعني حتى تخرجوا زكاة أموالكم وقال الحسن كل شيء أنفقه المسلم من ماله طلب به وجه الله فإنه من الذين عنى الله سبحانه بقوله لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ حتى التمرة والقاضي اختار القول الأول واحتج عليه بأن هذا الانفاق وقف الله عليه كون المكلف من الأبرار والفوز بالجنة بحيث لو لم يوجد هذا الانفاق لم يصر العبد بهذه المنزلة وما ذاك إلا الانفاق الواجب وأقول لو خصصنا الآية بغير الزكاة لكان أولى لأن الآية مخصوصة بإيتاء الأحب والزكاة الواجبة ليس فيها إيتاء الأحب فإنه لا يجب على المزكي أن يخرج أشرف أمواله وأكرمها بل الصحيح أن هذه الآية مخصوصة بإيتاء المال على سبيل الندب
المسألة الخامسة نقل الواحدي عن مجاهد والكلبي أن هذه الآية منسوخة بآية الزكاة وهذا في غاية البعد لأن إيجاب الزكاة كيف ينافي الترغيب في بذل المحبوب لوجه الله سبحانه وتعالى
المسألة السادسة قال بعضهم كلمة مِنْ في قوله مِمَّا تُحِبُّونَ للتبعيض وقرأ عبد الله حَتَّى تُنفِقُواْ بَعْضِ مَا تُحِبُّونَ وفيه إشارة إلى أن إنفاق الكل لا يجوز ثم قال وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً ( الفرقان 67 ) وقال آخرون إنها للتبيين

وأما قوله
وما ينفقوا من شيء فإن الله به عليم
ففيه سؤال
وهو أن يقال قيل فإن الله به عليم على جهة جواب الشرط مع أن الله تعالى يعلمه على كل حال
والجواب من وجهين الأول أن فيه معنى الجزاء تقديره وما تنفقوا من شيء فإن الله به يجازيكم قل أم كثر لأنه عليم به لا يخفى عليه شيء منه فجعل كونه عالماً بذلك الإنفاق كناية عن إعطاء الثواب والتعريض في مثل هذا الموضع يكون أبلغ من التصريح والثاني أنه تعالى يعلم الوجه الذي لأجله يفعلونه ويعلم أن الداعي إليه أهو الإخلاص أم الرياء ويعلم أنكم تنفقون الأحب الأجود أم الأخس الأرذل
واعلم أن نظير هذه الآية قوله وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وقوله وَمَا أَنفَقْتُم مّن نَّفَقَة ٍ أَوْ نَذَرْتُم مّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ ( البقرة 270 ) قال صاحب ( الكشاف ) مِنْ في قوله مِن شَى ْء لتبيين ما ينفقونه أي من شيء كان طيباً تحبونه أو خبيثاً تكرهونه فإن الله به عليم يجازيكم على قدره
كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِى إِسْرَاءِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَاءِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاة ُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاة ِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّة َ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
اعلم أن الآيات المتقدمة إلى هذه الآية كانت في تقرير الدلائل الدالة على نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وفي توجيه الإلزامات الواردة على أهل الكتاب في هذا الباب
وأما هذه الآية فهي في بيان الجواب عن شبهات القوم فإن ظاهر الآية يدل على أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان يدعي أن كل الطعام كان حلاً ثم صار البعض حراماً بعد أن كان حلاً والقوم نازعوه في ذلك وزعموا أن الذي هو الآن حرام كان حراماً أبداً
وإذا عرفت هذا فنقول الآية تحتمل وجوهاً الأول أن اليهود كانوا يعولون في إنكار شرع محمد ( صلى الله عليه وسلم )

على إنكار النسخ فأبطل الله عليهم ذلك بأن كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لّبَنِى إِسْراءيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْراءيلُ عَلَى نَفْسِهِ فذاك الذي حرمه على نفسه كان حلالاً ثم صار حراماً عليه وعلى أولاده فقد حصل النسخ فبطل قولكم النسخ غير جائز ثم إن اليهود لما توجه عليهم هذا السؤال أنكروا أن يكون حرمة ذلك الطعام الذي حرم الله بسبب أن إسرائيل حرمه على نفسه بل زعموا أن ذلك كان حراماً من لدن زمان آدم عليه السلام إلى هذا الزمان فعند هذا طلب الرسول عليه السلام منهم أن يحضروا التوراة فإن التوراة ناطقة بأن بعض أنواع الطعام إنما حرم بسبب أن إسرائيل حرمه على نفسه فخافوا من الفضيحة وامتنعوا من إحضار التوراة فحصل عند ذلك أمور كثيرة تقوي دلائل نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أحدها أن هذا السؤال قد توجه عليهم في إنكار النسخ وهو لازم لا محيص عنه وثانيها أنه ظهر للناس كذبهم وأنهم ينسبون إلى التوراة ما ليس فيها تارة ويمتنعون عن الإقرار بما هو فيها أخرى وثالثها أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) كان رجلاً أُمياً لا يقرأ ولا يكتب فامتنع أن يعرف هذه المسألة الغامضة من علوم التوراة إلا بخبر السماء فهذا وجه حسن علمي في تفسير الآية وبيان النظم
الوجه الثاني أن اليهود قالوا له إنك تدعي أنك على ملة إبراهيم فلو كان الأمر كذلك فكيف تأكل لحوم الإبل وألبانها مع أن ذلك كان حراماً في دين إبراهيم فجعلوا هذا الكلام شبهة طاعنة في صحة دعواه فأجاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن هذه الشبهة بأن قال ذلك كان حلاً لإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب عليهم السلام إلا أن يعقوب حرمه على نفسه بسبب من الأسباب وبقيت تلك الحرمة في أولاده فأنكر اليهود ذلك فأمرهم الرسول عليه السلام بإحضار التوراة وطالبهم بأن يستخرجوا منها آية تدل على أن لحوم الإبل وألبانها كانت محرمة على إبراهيم عليه السلام فعجزوا عن ذلك وافتضحوا فظهر عند هذا أنهم كانوا كاذبين في ادعاء حرمة هذه الأشياء على إبراهيم عليه السلام
الوجه الثالث أنه تعالى لما أنزل قوله وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا ( الأنعام 146 ) وقال أيضاً فَبِظُلْمٍ مّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ( النساء 160 ) فدلت هذه الآية على أنه تعالى إنما حرم على اليهود هذه الأشياء جزاءً لهم على بغيهم وظلمهم وقبيح فعلهم وإنه لم يكن شيء من الطعام حراماً غير الطعام الواحد الذي حرمه إسرائيل على نفسه فشق ذلك على اليهود من وجهين أحدهما أن ذلك يدل على أن تلك الأشياء حرمت بعد أن كانت مباحة وذلك يقتضي وقوع النسخ وهم ينكرونه والثاني أن ذلك يدل على أنهم كانوا موصوفين بقبائح الأفعال فلما حق عليهم ذلك من هذين الوجهين أنكروا كون حرمة هذه الأشياء متجددة بل زعموا أنها كانت محرمة أبداً فطالبهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بآية من التوراة تدل على صحة قولهم فعجزوا عنه فافتضحوا فهذا وجه الكلام في تفسير هذه الآية وكله حسن مستقيم ولنرجع إلى تفسير الألفاظ
أما قوله كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لّبَنِى إِسْراءيلَ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) كُلُّ الطَّعَامِ أي كل المطعومات أو كل أنواع الطعام وأقول اختلف الناس في أن اللفظ المفرد المحلى بالألف واللام هل يفيد العموم أم لا

ذهب قوم من الفقهاء والأدباء إلى أنه يفيده واحتجوا عليه بوجوه أحدها أنه تعالى أدخل لفظ كُلٌّ على لفظ الطعام في هذه الآية ولولا أن لفظ الطعام قائم مقام لفظ المطعومات وإلا لما جاز ذلك وثانيها أنه استثنى عنه ما حرم إسرائيل على نفسه والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل فلولا دخول كل الأقسام تحت لفظ الطعام وإلا لم يصح هذا الاستثناء وأكدوا هذا بقوله تعالى إِنَّ الإنسَانَ لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( العصر 2 3 ) وثالثها أنه تعالى وصف هذا اللفظ المفرد بما يوصف به لفظ الجمع فقال وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ رّزْقاً لّلْعِبَادِ ( ق 10 11 ) فعلى هذا من ذهب إلى هذا المذهب لا يحتاج إلى الإضمار الذي ذكره صاحب ( الكشاف ) أما من قال إن الاسم المفرد المحلى بالألف واللام لا يفيد العموم وهو الذي نظرناه في أصول الفقه احتاج إلى الإضمار الذي ذكره صاحب ( الكشاف )
المسألة الثانية الطعام اسم لكل ما يطعم ويؤكل وزعم بعض أصحاب أبي حنيفة رحمة الله عليه إنه اسم للبر خاصة وهذه الآية دالة على ضعف هذا الوجه لأنه استثنى من لفظ الطعام ما حرم إسرائيل على نفسه والمفسرون اتفقوا على أن ذلك الذي حرمه إسرائيل على نفسه كان شيئاً سوى الحنطة وسوى ما يتخذ منها ومما يؤكد ذلك قوله تعالى في صفة الماء وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنّى ( البقرة 249 ) وقال تعالى وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ ( المائدة 5 ) وأراد الذبائح وقالت عائشة رضي الله عنها ما لنا طعام إلا الأسودان والمراد التمر والماء
إذا عرفت هذا فنقول ظاهر هذه الآية يدل على أن جميع المطعومات كان حلاً لبني إسرائيل ثم قال القفال لم يبلغنا أنه كانت الميتة مباحة لهم مع أنها طعام وكذا القول في الخنزير ثم قال فيحتمل أن يكون ذلك على الأطعمة التي كان يدعي اليهود في وقت الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أنها كان محرمة على إبراهيم وعلى هذا التقدير لا تكون الألف واللام في لفظ الطعام للاستغراق بل للعهد السابق وعلى هذا التقدير يزول الإشكال ومثله قوله تعالى قُل لا أَجِدُ فِى مَا أُوْحِى َ إِلَى َّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَة ً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ ( الأنعام 145 ) فإنه إنما خرج هذا الكلام على أشياء سألوا عنها فعرفوا أن المحرم منها كذا وكذا دون غيره فكذا في هذه الآية
المسألة الثالثة الحل مصدر يقال حل الشيء حلاً كقولك ذلت الدابة ذلاً وعز الرجل عزاً ولذلك استوى في الوصف به المذكر والمؤنث والواحد والجمع قال تعالى لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ ( الممتحنة 10 ) والوصف بالمصدر يفيد المبالغة فههنا الحل والمحلل واحد قال ابن عباس رضي الله عنهما في زمزم هي حل وبل رواه سفيان بن عيينة فسئل سفيان ما حل فقال محلل
أما قوله تعالى إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْراءيلُ عَلَى نَفْسِهِ ففيه مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في الشيء الذي حرمه إسرائيل على نفسه على وجوه الأول روى ابن عباس أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( إن يعقوب مرض مرضاً شديداً فنذر لئن عافاه الله ليحرمن أحب الطعام والشراب عليه وكان أحب الطعام إليه لحمان الإبل وأحب الشراب إليه ألبانها ) وهذا قول أبي العالية وعطاء ومقاتل والثاني قيل إنه كان به عرق النسا فنذر إن شفاه الله أن لا يأكل شيئاً من العروق الثالث جاء في بعض الروايات أن الذي حرمه على نفسه زوائد الكبد والشحم إلا ما على الظهر ونقل القفال رحمه الله عن ترجمة التوراة أن

يعقوب لما خرج من حران إلى كنعان بعث برداً إلى عيصو أخيه إلى أرض ساعير فانصرف الرسول إليه وقال إن عيصو هو ذا يتلقاك ومعه أربعمائة رجل فذعر يعقوب وحزن جداً وصلّى ودعا وقدم هدايا لأخيه وذكر القصة إلى أن ذكر الملك الذي لقيه في صورة رجل فدنا ذلك الرجل ووضع أصبعه على موضع عرق النسا فخدرت تلك العصبة وجفت فمن أجل هذا لا يأكل بنو إسرائيل العروق
المسألة الثانية ظاهر الآية يدل على أن إسرائيل حرم ذلك على نفسه وفيه سؤال وهو أن التحريم والتحليل إنما يثبت بخطاب الله تعالى فكيف صار تحريم يعقوب عليه السلام سبباً لحصوله الحرمة
أجاب المفسرون عنه من وجوه الأول أنه لا يبعد أن الإنسان إذا حرم شيئاً على نفسه فإن الله يحرمه عليه ألا ترى أن الإنسان يحرم امرأته على نفسه بالطلاق ويحرم جاريته بالعتق فكذلك جائز أن يقول تعالى إن حرمت شيئاً على نفسك فأنا أيضاً أحرمه عليك الثاني أنه عليه الصلاة والسلام ربما اجتهد فأدى اجتهاده إلى التحريم فقال بحرمته وإنما قلنا إن الاجتهاد جائز من الأنبياء لوجوه الأول قوله تعالى فَاعْتَبِرُواْ ياأُوْلِى أُوْلِى الاْبْصَارِ ( الحشر 2 ) ولا شك أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام رؤساء أولي الأبصار والثاني قال لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ( النساء 83 ) مدح المستنبطين والأنبياء أولى بهذا المدح والثالث قال تعالى لمحمد عليه الصلاة والسلام عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ( التوبة 43 ) فلو كان ذلك الإذن بالنص لم يقل لم أذنت فدل على أنه كان بالاجتهاد الرابع أنه لا طاعة إلا وللأنبياء عليهم الصلاة والسلام فيها أعظم نصيب ولا شك أن استنباط أحكام الله تعالى بطريق الاجتهاد طاعة عظيمة شاقة فوجب أن يكون للأنبياء عليهم الصلاة والسلام فيها نصيب لا سيما ومعارفهم أكثر وعقولهم أنور وأذهانهم أصفى وتوفيق الله وتسديده معهم أكثر ثم إذا حكموا بحكم بسبب الاجتهاد يحرم على الأمة مخالفتهم في ذلك الحكم كما أن الإجماع إذا انعقد على الاجتهاد فإنه يحرم مخالفته والأظهر الأقوى أن إسرائيل صلوات الله عليه إنما حرم ذلك على نفسه بسبب الاجتهاد إذ لو كان ذلك بالنص لقال إلا ما حرّم الله على إسرائيل فلما أضاف التحريم إلى إسرائيل دل هذا على أن ذلك كان بالاجتهاد وهو كما يقال الشافعي يحل لهم الخيل وأبو حنيفة يحرمه بمعنى أن اجتهاده أدى إليه فكذا ههنا
الثالث يحتمل أن التحريم في شرعه كالنذر في شرعنا فكما يجب علينا الوفاء بالنذر كان يجب في شرعه الوفاء بالتحريم
واعلم أن هذا لو كان فإنه كان مختصاً بشرعه أما في شرعنا فهو غير ثابت قال تعالى عِلْمَا ياأَيُّهَا النَّبِى ُّ لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ( التحريم 1 ) الرابع قال الأصم لعل نفسه كانت مائلة إلى أكل تلك الأنواع فامتنع من أكلها قهراً للنفس وطلباً لمرضاة الله تعالى كما يفعله كثير من الزهاد فعبر من ذلك الامتناع بالتحريم الخامس قال قوم من المتكلمين أنه يجوز من الله تعالى أن يقول لعبده احكم فإنك لا تحكم إلا بالصواب فلعل هذه الواقعة كانت من هذا الباب وللمتكلمين في هذه المسألة منازعات كثيرة ذكرناها في أصول الفقه
المسألة الثالثة ظاهر هذه الآية يدل على أن الذي حرمه إسرائيل على نفسه فقد حرمه الله على بني إسرائيل وذلك لأنه تعالى قال كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لّبَنِى إِسْراءيلَ فحكم بحل كل أنواع المطعومات لبني

إسرائيل ثم استثنى عنه ما حرمه إسرائيل على نفسه فوجب بحكم الاستثناء أن يكون ذلك حراماً على بني إسرائيل والله أعلم
أما قوله تعالى مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاة ُ فالمعنى أن قبل نزول التوراة كان حلاً لبني إسرائيل كل أنواع المطعومات سوى ما حرّمه إسرائيل على نفسه أما بعد التوراة فلم يبق كذلك بل حرم الله تعالى عليهم أنواعاً كثيرة روي أن بني إسرائيل كانوا إذا أتوا بذنب عظيم حرم الله عليهم نوعاً من أنواع الطعام أو سلّط عليهم شيئاً لهلاك أو مضرة دليله قوله تعالى فَبِظُلْمٍ مّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ( النساء 160 )
ثم قال تعالى قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاة ِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وهذا يدل على أن القوم نازعوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إما لأنهم ادعوا أن تحريم هذه الأشياء كان موجوداً من لدن آدم عليه السلام إلى هذا الزمان فكذبهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في ذلك وإما لأن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ادعى كون هذه المطعومات مباحة في الزمان القديم وأنها إنما حرمت بسبب أن إسرائيل حرمها على نفسه فنازعوه في ذلك فطلب الرسول عليه السلام إحضار التوراة ليستخرج منها المسلمون من علماء أهل الكتاب آية موافقة لقول الرسول وعلى كلا الوجهين فالتفسير ظاهر ولمنكري القياس أن يحتجوا بهذه الآية وذلك لأن الرسول عليه السلام طالبهم فيما ادعوه بكتاب الله ولو كان القياس حجة لكان لهم أن يقولوا لا يلزم من عدم هذا الحكم في التوراة عدمه لأنا نثبته بالقياس ويمكن أن يجاب عنه بأن النزاع ما وقع في حكم شرعي وإنما وقع في أن هذا الحكم هل كان موجوداً في زمان إبراهيم وسائر الأنبياء عليهم السلام أم لا ومثل هذا لا يمكن إثباته إلا بالنص فلهذا المعنى طالبهم الرسول صلوات الله وسلامه عليه بنص التوراة
ثم قال تعالى فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ الافتراء اختلاق الكذب والفرية الكذب والقذف وأصله من فرى الأديم وهو قطعه فقيل للكذب افتراء لأن الكاذب يقطع به في القول من غير تحقيق في الوجود
ثم قال مِن بَعْدِ ذالِكَ أي من بعد ظهور الحجة بأن التحريم إنما كان من جهة يعقوب ولم يكن محرماً قبله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ المستحقون لعذاب الله لأن كفرهم ظلم منهم لأنفسهم ولمن أضلوه عن الدين
ثم قال تعالى قُلْ صَدَقَ اللَّهُ ويحتمل وجوهاً أحدها قُلْ صَدَقَ في أن ذلك النوع من الطعام صار حراماً على إسرائيل وأولاده بعد أن كان حلالاً لهم فصح القول بالنسخ وبطلت شبهة اليهود وثانيها صَدَقَ اللَّهُ في قوله إن لحوم الإبل وألبانها كانت محللة لإبراهيم عليه السلام وإنما حرمت على بني إسرائيل لأن إسرائيل حرمها على نفسه فثبت أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) لما أفتى بحل لحوم الإبل وألبانها فقد أفتى بملة إبراهيم وثالثها صَدَقَ اللَّهُ في أن سائر الأطعمة كانت محللة لبني إسرائيل وأنها إنما حرمت على اليهود جزاءً على قبائح أفعالهم
ثم قال تعالى فَاتَّبِعُواْ مِلَّة َ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً أي اتبعوا ما يدعوكم إليه محمد صلوات الله عليه من ملة إبراهيم وسواء قال ملة إبراهيم حنيفاً أو قال ملة إبراهيم الحنيف لأن الحال والصفة سواء في المعنى

ثم قال وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أي لم يدع مع الله إلاهاً آخر ولا عبد سواه كما فعله بعضهم من عبادة الشمس والقمر أو كما فعله العرب من عبادة الأوثان أو كما فعله اليهود من ادعاء أن عزير ابن الله وكما فعله النصارى من ادعاء أن المسيح ابن الله والغرض منه بيان أن محمداً صلوات الله عليه على دين إبراهيم عليه السلام في الفروع والأصول
أما في الفروع فلما ثبت أن الحكم بحله كان إبراهيم قد حكم بحله أيضاً وأما في الأصول فلأن محمداً صلوات الله وسلامه عليه لا يدعو إلا إلى التوحيد والبراءة عن كل معبود سوى الله تعالى وما كان إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه إلا على هذا الدين
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّة َ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ فِيهِ ءَايَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءَامِناً وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِى ٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ
قوله تعالى إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّة َ مُبَارَكاً وَهُدًى لّلْعَالَمِينَ فِيهِ ءايَاتٌ بَيّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْراهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً في اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه الأول أن المراد منه الجواب عن شبهة أخرى من شبه اليهود في إنكار نبوّة محمد عليه الصلاة والسلام وذلك لأنه عليه السلام لما حول القبلة إلى الكعبة طعن اليهود في نبوته وقالوا إن بيت المقدس أفضل من الكعبة وأحق بالاستقبال وذلك لأنه وضع قبل الكعبة وهو أرض المحشر وقبلة جملة الأنبياء وإذا كان كذلك كان تحويل القبلة منه إلى الكعبة باطلاً فأجاب الله تعالى عنه بقوله إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ فبيّن تعالى أن الكعبة أفضل من بيت المقدس وأشرف فكان جعلها قبلة أولى والثاني أن المقصود من الآية المتقدمة بيان أن النسخ هل يجوز أم لا فإن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) استدل على جوازه بأن الأطعمة كانت مباحة لبني إسرائيل ثم إن الله تعالى حرم بعضها والقوم نازعوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيه وأعظم الأمور التي أظهر رسول الله نسخها هو القبلة لا جرم ذكر تعالى في هذه الآية بيان ما لأجله حولت الكعبة وهو كون الكعبة أفضل من غيرها الثالث أنه تعالى لما قال في الآية المتقدمة فَاتَّبِعُواْ مِلَّة َ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( آل عمران 95 ) وكان من أعظم شعار ملة إبراهيم الحج ذكر في هذه الآية فضيلة البيت ليفرع عليه إيجاب الحج الرابع أن اليهود والنصارى زعم كل فرقة منهم أنه على ملة إبراهيم وقد سبقت هذه المناظرة في الآيات المتقدمة فإن الله تعالى بيّن كذبهم من حيث أن حج الكعبة كان ملة إبراهيم واليهود والنصارى لا يحجون فيدل هذا على كذبهم في ذلك وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال المحققون الأول هو الفرد السابق فإذا قال أول عبد اشتريه فهو حر فلو اشترى عبدين في المرة الأولى لم يعتق أحد منها لأن الأول هو الفرد ثم لو اشترى في المرة الثانية عبداً واحداً لم يعتق لأن شرط الأول كونه سابقاً فثبت أن الأول هو الفرد السابق
إذا عرفت هذا فنقول إن قوله تعالى إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لا يدل على أنه أول بيت خلقه الله

تعالى ولا أنه أول بيت ظهر في الأرض بل ظاهر الآية يدل على أنه أول بيت وضع للناس وكونه موضوعاً للناس يقتضي كونه مشتركاً فيه بين جميع الناس فأما سائر البيوت فيكون كل واحد منها مختصاً بواحد من الناس فلا يكون شيء من البيوت موضوعاً للناس وكون البيت مشتركاً فيه بين كل الناس لا يحصل إلا إذا كان البيت موضوعاً للطاعات والعبادات وقبلة للخلق فدل قوله تعالى إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ على أن هذا البيت وضعه الله موضعاً للطاعات والخيرات والعبادات فيدخل فيه كون هذا البيت قبلة للصلوات وموضعاً للحج ومكانا يزداد ثواب العبادات والطاعات فيه
فإن قيل كونه أولاً في هذا الوصف يقتضي أن يكون له ثان وهذا يقتضي أن يكون بيت المقدس يشاركه في هذه الصفات التي منها وجوب حجه ومعلوم أنه ليس كذلك
والجواب من وجهين الأول أن لفظ الأول في اللغة اسم للشيء الذي يوجد ابتداء سواء حصل عقيبه شيء آخر أو لم يحصل يقال هذا أول قدومي مكة وهذا أول مال أصبته ولو قال أول عبد ملكته فهو حر فملك عبداً عتق وإن لم يملك بعده عبداً آخر فكذا هنا والثاني أن المراد من قوله إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ أي أول بيت وضع لطاعات الناس وعباداتهم وبيت المقدس يشاركه في كونه بيتاً موضوعاً للطاعات والعبادات بدليل قوله عليه الصلاة والسلام ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاث مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا ) فهذا القدر يكفي في صدق كون الكعبة أول بيت وضع للناس وأما أن يكون بيت المقدس مشاركاً له في جميع الأمور حتى في وجوب الحج فهذا غير لازم والله أعلم
المسألة الثانية اعلم أن قوله إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّة َ مُبَارَكاً يحتمل أن يكون المراد كونه أولاً في الوضع والبناء وأن يكون المراد كونه أولاً في كونه مباركاً وهدى ً فحصل للمفسرين في تفسير هذه الآية قولان الأول أنه أول في البناء والوضع والذاهبون إلى هذا المذهب لهم أقوال أحدها ما روى الواحدي رحمه الله تعالى في ( البسيط ) بإسناده عن مجاهد أنه قال خلق الله تعالى هذا البيت قبل أن يخلق شياً من الأرضين وفي رواية أخرى خلق الله موضع هذا البيت قبل أن يخلق شياً من الأرض بألفي سنة وإن قواعده لفي الأرض السابعة السفلى وروي أيضاً عن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضوان الله تعالى عليهم أجمعين عن أبيه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( إن الله تعالى بعث ملائكته فقال ابنوا لي في الأرض بيتاً على مثال البيت المعمور وأمر الله تعالى من في الأرض أن يطوفوا به كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور وهذا كان قبل خلق آدم )
وأيضاً ورد في سائر كتب التفسير عن عبد الله بن عمر ومجاهد والسدي أنه أول بيت وضع على وجه الماء عند خلق الأرض والسماء وقد خلقه الله تعالى قبل الأرض بألفي عام وكان زبدة بيضاء على الماء ثم دحيت الأرض تحته قال القفال في ( تفسيره ) روى حبيب بن ثابت عن ابن عباس أنه قال وجد في كتاب في المقام أو تحت المقام ( أنا الله ذو بكة وضعتها يوم وضعت الشمس والقمر وحرمتها يوم وضعت هذين الحجرين وحققتها بسبعة أملاك حنفاء ) وثانيها أن آدم صلوات الله عليه وسلامه لما أهبط إلى الأرض شكا الوحشة فأمره الله تعالى ببناء الكعبة وطاف بها وبقي ذلك إلى زمان نوح عليه السلام فلما أرسل الله

تعالى الطوفان رفع البيت إلى السماء السابعة حيال الكعبة يتعبد عنده الملائكة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك سوى من دخل من قبل فيه ثم بعد الطوفان اندرس موضع الكعبة وبقي مختفياً إلى أن بعث الله تعالى جبريل صلوات الله عليه إلى إبراهيم عليه السلام ودله على مكان البيت وأمره بعمارته فكان المهندس جبريل والبناء إبراهيم والمعين إسماعيل عليهم السلام
واعلم أن هذين القولين يشتركان في أن الكعبة كانت موجودة في زمان آدم عليه السلام وهذا هو الأصوب ويدل عليه وجوه الأول أن تكليف الصلاة كان لازماً في دين جميع الأنبياء عليهم السلام بدليل قوله تعالى في سورة مريم أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ النَّبِيّيْنَ مِن ذُرّيَّة ِ ءادَمَ وَمِمَّن حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرّيَّة ِ إِبْراهِيمَ وَإِسْراءيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءايَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً ( مريم 58 ) فدلت الآية على أن جميع الأنبياء عليهم السلام كانوا يسجدون لله والسجدة لا بد لها من قبلة فلو كانت قبلة شيث وإدريس ونوح عليهم السلام موضعاً آخر سوى القبلة لبطل قوله إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّة َ فوجب أن يقال إن قبلة أولئك الأنبياء المتقدمين هي الكعبة فدل هذا على أن هذه الجهة كانت أبداً مشرفة مكرمة الثاني أن الله تعالى سمى مكة أم القرى وظاهر هذا يقتضي أنها كانت سابقة على سائر البقاع في الفضل والشرف منذ كانت موجودة الثالث روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال في خطبته يوم فتح مكة ( ألا إن الله قد حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض والشمس والقمر ) وتحريم مكة لا يمكن إلا بعد وجود مكة الرابع أن الآثار التي حكيناها عن الصحابة والتابعين دالة على أنها كانت مودة قبل زمان إبراهيم عليه السلام
واعلم أن لمن أنكر ذلك أن يحتج بوجوه الأول ما روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( اللّهم إني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة ) وظاهر هذا يقتضي أن مكة بناء إبراهيم عليه السلام ولقائل أن يقول لا يبعد أن يقال البيت كان موجوداً قبل إبراهيم وما كان محرماً ثم حرمه إبراهيم عليه السلام الثاني تمسكوا بقوله تعالى وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ ( البقرة 127 ) ولقائل أن يقول لعل البيت كان موجوداً قبل ذلك ثم انهدم ثم أمر الله إبراهيم برفع قواعده وهذا هو الوارد في أكثر الأخبار الثالث قال القاضي إن الذي يقال من أنه رفع زمان الطوفان إلى السماء بعيد وذلك لأن الموضع الشريف هو تلك الجهة المعينة والجهة لا يمكن رفعها إلى السماء ألا ترى أن الكعبة والعياذ بالله تعالى لو انهدمت ونقل الأحجار والخشب والتراب إلى موضع آخر لم يكن له شرف ألبتة ويكون شرف تلك الجهة باقياً بعد الانهدام ويجب على كل مسلم أن يصلي إلى تلك الجهة بعينها وإذا كان كذلك فلا فائدة في نقل تلك الجدران إلى السماء ولقائل أن يقول لما صارت تلك الأجسام في العزة إلى حيث أمر الله بنقلها إلى السماء وإنما حصلت لها هذه العزة بسبب أنها كانت حاصلة في تلك الجهة فصار نقلها إلى السماء من أعظم الدلائل على غاية تعظيم تلك الجهة وإعزازها فهذا جملة ما في هذا القول
القول الثاني أن المراد من هذه الأولية كون هذا البيت أولاً في كونه مباركاً وهدى ً للخلق روي أن النبي عليه الصلاة والسلام سئل عن أول مسجد وضع للناس فقال عليه الصلاة والسلام ( المسجد الحرام ثم بيت المقدس ) فقيل كم بينهما قال ( أربعون سنة ) وعن علي رضي الله عنه أن رجلاً قال له أهو أول بيت قال لا قد كان قبله بيوت ولكنه أول بيت وضع للناس مباركاً فيه الهدى والرحمة والبركة أول من بناه إبراهيم

ثم بناه قوم من العرب من جرهم ثم هدم فبناه العمالقة وهم ملوك من أولاد عمليق بن سام بن نوح ثم هدم فبناه قريش
واعلم أن دلالة الآية على الأولية في الفضل والشرف أمر لا بد منه لأن المقصود الأصلي من ذكر هذه الأولية بيان الفضيلة لأن المقصود ترجيحه على بيت المقدس وهذا إنما يتم بالأولية في الفضيلة والشرف ولا تأثير للأولية في البناء في هذا المقصود إلا أن ثبوت الأولية بسبب الفضيلة لا ينافي ثبوت الأولية في البناء وقد دللنا على ثبوت هذا المعنى أيضاً
المسألة الثالثة إذا ثبت أن المراد من هذه الأولية زيادة الفضيلة والمنقبة فلنذكر ههنا وجوه فضيلة البيت
الفضيلة الأولى اتفقت الأمم على أن باني هذا البيت هو الخليل عليه السلام وباني بيت المقدس سليمان عليه السلام ولا شك أن الخليل أعظم درجة وأكثر منقبة من سليمان عليه السلام فمن هذا الوجه يجب أن تكون الكعبة أشرف من بيت المقدس
واعلم أن الله تعالى أمر الخليل عليه السلام بعمارة هذا البيت فقال وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْراهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِى شَيْئاً وَطَهّرْ بَيْتِى َ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ( الحج 26 ) والمبلغ لهذا التكليف هو جبريل عليه السلام فلهذا قيل ليس في العالم بناء أشرف من الكعبة فالأمر هو الملك الجليل والمهندس هو جبريل والباني هو الخليل والتلميذ إسماعيل عليهم السلام
الفضيلة الثانية مَّقَامِ إِبْراهِيمَ وهو الحجر الذي وضع إبراهيم قدمه عليه فجعل الله ما تحت قدم إبراهيم عليه السلام من ذلك الحجر دون سائر أجزائه كالطين حتى غاص فيه قدم إبراهيم عليه السلام وهذا مما لا يقدر عليه إلا الله ولا يظهره إلا على الأنبياء ثم لما رفع إبراهيم قدمه عنه خلق فيه الصلابة الحجرية مرة أخرى ثم إنه تعالى أبقى ذلك الحجر على سبيل الاستمرار والدوام فهذه أنواع من الآيات العجيبة والمعجزات الباهرة أظهرها الله سبحانه في ذلك الحجر
الفضيلة الثالثة قلة ما يجتمع فيه من حصى الجمار فإنه منذ آلاف سنة وقد يبلغ من يرمي في كل سنة ستمائة ألف إنسان كل واحد منهم سبعين حصاة ثم لا يرى هناك إلا ما لو اجتمع في سنة واحدة لكان غير كثير وليس الموضع الذي ترمي إليه الجمرات مسيل ماء ولا مهب رياح شديدة وقد جاء في الآثار أن من كانت حجته مقبولة رفعت حجارة جمراته إلى السماء
الفضيلة الرابعة إن الطيور تترك المرور فوق الكعبة عند طيرانها في الهواء بل تنحرف عنها إذا ما وصلت إلى فوقها
الفضيلة الخامسة أن عنده يجتمع الوحش لا يؤذي بعضها بعضاً كالكلاب والظباء ولا يصطاد فيه الكلاب والوحوش وتلك خاصية عجيبة وأيضاً كل من سكن مكة أمن من النهب والغارة وهو بركة دعاء إبراهيم عليه السلام حيث قال رَبِّ اجْعَلْ هَاذَا بَلَدًا آمِنًا ( البقرة 126 ) وقال تعالى في صفة أمنه أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءامِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ( العنكبوت 67 ) وقال فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَاذَا الْبَيْتِ الَّذِى أَطْعَمَهُم مّن

جُوعٍ وَءامَنَهُم مّنْ خوْفٍ ( قريش 3 4 ) ولم ينقل ألبتة أن ظالماً هدم الكعبة وخرب مكة بالكلية وأما بيت المقدس فقد هدمه بختنصر بالكلية
الفضيلة السادسة أن صاحب الفيل وهو أبرهة الأشرم لما قاد الجيوش والفيل إلى مكة لتخريب الكعبة وعجز قريش عن مقاومة أولئك الجيوش وفارقوا مكة وتركوا له الكعبة فأرسل الله عليهم طيراً أبابيل والأبابيل هم الجماعة من الطير بعد الجماعة وكانت صغاراً تحمل أحجاراً ترميهم بها فهلك الملك وهلك العسكر بتلك الأحجار مع أنها كانت في غاية الصغر وهذه آية باهرة دالة على شرف الكعبة وإرهاص لنبوّة محمد عليه الصلاة والسلام
فإن قال قائل لم لا يجوز أن يقال إن كل ذلك بسبب طلسم موضوع هناك بحيث لا يعرفه أحد فإن الأمر في تركيب الطلسمات مشهور
قلنا لو كان هذا من باب الطلسمات لكان هذا طلسماً مخالفاً لسائر الطلسمات فإنه لم يحصل لشيء سوى الكعبة مثل هذا البقاء الطويل في هذه المدة العظيمة ومثل هذا يكون من المعجزات فلا يتمكن منها سوى الأنبياء
الفضيلة السابعة إن الله تعالى وضعها بواد غير ذي زرع والحكمة من وجوه أحدها إنه تعالى قطع بذلك رجاء أهل حرمه وسدنة بيته عمن سواه حتى لا يتوكلوا إلا على الله وثانيها أنه لا يسكنها أحد من الجبابرة والأكاسرة فإنهم يريدون طيبات الدنيا فإذا لم يجدوها هناك تركوا ذلك الموضع وفالمقصود تنزيه ذلك الموضع عن لوث وجود أهل الدنيا وثالثها أنه فعل ذلك لئلا يقصدها أحد للتجارة بل يكون ذلك لمحض العبادة والزيارة فقط ورابعها أظهر الله تعالى بذلك شرف الفقر حيث وضع أشرف البيوت في أقل المواضع نصيباً من الدنيا فكأنه قال جعلت الفقراء في الدنيا أهل البلد الأمين فكذلك أجعلهم في الآخرة أهل المقام الأمين لهم في الدنيا بيت الأمن وفي الآخرة دار الأمن وخامسها كأنه قال لما لم أجعل الكعبة إلا في موضع خال عن جميع نعم الدنيا فكذا لا أجعل كعبة المعرفة إلا في كل قلب خال عن محبة الدنيا فهذا ما يتعلق بفضائل الكعبة وعند هذا ظهر أن هذا البيت أول بيت وضع للناس في أنواع الفضائل والمناقب وإذا ظهر هذا بطل قول اليهود إن بيت المقدس أشرف من الكعبة والله أعلم
ثم قال تعالى لَلَّذِى بِبَكَّة َ وفيه مسائل
المسألة الأولى لا شك أن المراد من بكة هو مكة ثم اختلفوا فمنهم من قال بكة ومكة اسمان لمسمى واحد فإن الباء والميم حرفان متقاربان في المخرج فيقام كل واحد منهما مقام الآخر فيقال هذه ضربة لازم وضربة لازب ويقال هذا دائم ودائب ويقال راتب وراتم ويقال سمد رأسه وسبده وفي اشتقاق بكة وجهان الأول أنه من البك الذي هو عبارة عن دفع البعض بعضاً يقال بكه يبكه بكاً إذا دفعه وزحمه وتباك القوم إذا ازدحموا فلهذا قال سعيد بن جبير سميت مكة بكة لأنهم يتباكون فيها أي يزدحمون في الطواف وهو قول محمد بن علي الباقر ومجاهد وقتادة قال بعضهم رأيت محمد بن علي الباقر يصلي فمرت امرأة بين يديه فذهبت أدفعها فقال دعها فإنها سميت بكة لأنه يبك بعضهم بعضاً تمر المرأة بين

يدي الرجل وهو يصلي والرجل بين يدي المرأة وهي تصلي لا بأس بذلك في هذا المكان
الوجه الثاني سميت بكة لأنها تبك أعناق الجبابرة لا يريدها جبار بسوء إلا اندقت عنقه قال قطرب تقول العرب بككت عنقه أبكه بكاً إذا وضعت منه ورددت نخوته
وأما مكة ففي اشتقاقها وجوه الأول أن اشتقاقها من أنها تمك الذنوب أي تزيلها كلها من قولك أمتك الفصيل ضرع أمه إذا امتص ما فيه الثاني سميت بذلك لاجتلابها الناس من كل جانب من الأرض يقال أمتك الفصيل إذا استقصى ما في الضرع ويقال تمككت العظم إذا استقصيت ما فيه الثالث سميت مكة لقلة مائها كأن أرضها امتكت ماءها الرابع قيل إن مكة وسط الأرض والعيون والمياه تنبع من تحت مكة فالأرض كلها تمك من ماء مكة ومن الناس من فرق بين مكة وبكة فقال بعضهم إن بكة اسم للمسجد خاصة وأما مكة فهو اسم لكل البلد قالوا والدليل عليه أن اشتقاق بكة من الازدحام والمدافعة وهذا إنما يحصل في المسجد عند الطواف لا في سائر المواضع وقال الأكثرون مكة اسم للمسجد والمطاف وبكة اسم البلد والدليل عليه أن قوله تعالى لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّة َ يدل على أن البيت حاصل في بكة ومظروف في بكة فلو كان بكة اسماً للبيت لبطل كون بكة ظرفاً للبيت أما إذا جعلنا بكة اسماً للبلد استقام هذا الكلام
المسألة الثانية لمكة أسماء كثيرة قال القفال رحمه الله في ( تفسيره ) مكة وبكة وأم رحم وكويساء والبشاشة والحاطمة تحطم من استخف بها وأم القرى قال تعالى لّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا ( الأنعام 92 ) وسميت بهذا الاسم لأنها أصل كل بلدة ومنها دحيت الأرض ولهذا المعنى يزار ذلك الموضع من جميع نواحي الأرض
المسألة الثالثة للكعبة أسماء أحدها الكعبة قال تعالى جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَة َ الْبَيْتَ الْحَرَامَ ( المائدة 97 ) والسبب فيه أن هذا الاسم يدل على الإشراف والارتفاع وسمي الكعب كعباً لإشرافه وارتفاعه على الرسغ وسميت المرأة الناهدة الثديين كاعباً لارتفاع ثديها فلما كان هذا البيت أشرف بيوت الأرض وأقدمها زماناً وأكثرها فضيلة سمي بهذا الاسم وثانيها البيت العتيق قال تعالى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ( الحج 33 ) وقال وَلْيَطَّوَّفُواْ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ( الحج 29 ) وفي اشتقاقه وجوه الأول العتيق هو القديم وقد بينا أنه أقدم بيوت الأرض بل عند بعضهم أن الله خلقه قبل الأرض والسماء والثاني أن الله أعتقه من الغرق حيث رفعه إلى السماء الثالث من عتق الطائر إذا قوي في وكره فلما بلغ في القوة إلى حيث أن كل من قصد تربية أهلكه الله سمي عتيقاً الرابع أن الله أعتقه من أن يكون ملكاً لأحد من المخلوقين الخامس أنه عتيق بمعنى أن كل من زاره أعتقه الله تعالى من النار وسادسها المسجد الحرام قال سبحانه سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الاْقْصَى ( الإسراء 1 ) والمراد من كونه حراماً سيجيء إن شاء الله في تفسير هذه الآية
فإن قال قائل كيف الجمع بين قوله إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ وبين قوله وَطَهّرْ بَيْتِى َ لِلطَّائِفِينَ ( الحج 26 ) فأضافه مرة إلى نفسه ومرة إلى الناس

والجواب كأنه قيل البيت لي ولكن وضعته لا لأجل منفعتي فإني منزّه عن الحاجة ولكن وضعته لك ليكون قبلة لدعائك والله أعلم
ثم قال تعالى مُبَارَكاً وَهُدًى لّلْعَالَمِينَ
واعلم أنه تعالى وصف هذا البيت بأنواع الفضائل فأولها أنه أول بيت وضع للناس وقد ذكرنا معنى كونه أولاً في الفضل ونزيد ههنا وجوهاً أُخر الأول قال علي رضي الله عنه هو أول بيت خص بالبركة وبأن من دخله كان آمناً وقال الحسن هو أول مسجد عبد الله فيه في الأرض وقال مطرف أول بيت جعل قبلة وثانيها أنه تعالى وصفه بكونه مباركاً وفيه مسألتان
المسألة الأولى انتصب مُبَارَكاً على الحال والتقدير الذي استقر هو ببكة مباركاً
المسألة الثانية البركة لها معنيان أحدهما النمو والتزايد والثاني البقاء والدوام يقال تبارك الله لثبوته لم يزل والبركة شبه الحوض لثبوت الماء فيها وبرك البعير إذا وضع صدره على الأرض وثبت واستقر فإن فسرنا البركة بالتزايد والنمو فهذا البيت مبارك من وجوه أحدها أن الطاعات إذا أتى بها في هذا البيت ازداد ثوابها قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( فضل المسجد الحرام على مسجدي كفضل مسجدي على سائر المساجد ) ثم قال ( صلى الله عليه وسلم ) صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه ) فهذا في الصلاة وأما الحج فقال عليه الصلاة والسلام ( من حج ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ) وفي حديث آخر ( الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ) ومعلوم أنه لا أكثر بركة مما يجلب المغفرة والرحمة وثانيها قال القفال رحمه الله تعالى ويجوز أن يكون بركته ما ذكر في قوله تعالى يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلّ شَى ْء فيكون كقوله إِلَى الْمَسْجِدِ الاْقْصَى الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ ( الإسراء 1 ) وثالثها أن العاقل يجب أن يستحضر في ذهنه أن الكعبة كالنقطة وليتصور أن صفوف المتوجهين إليها في الصلوات كالدوائر المحيطة بالمركز وليتأمل كم عدد الصفوف المحيطة بهذه الدائرة حال اشتغالهم بالصلاة ولا شك أنه يحصل فيما بين هؤلاء المصلين أشخاص أرواحهم علوية وقلوبهم قدسية وأسرارهم نورانية وضمائرهم ربانية ثم إن تلك الأرواح الصافية إذا توجهت إلى كعبة المعرفة وأجسادهم توجهت إلى هذه الكعبة الحسيّة فمن كان في الكعبة يتصل أنوار أرواح أولئك المتوجهين بنور روحه فتزداد الأنوار الإلاهية في قلبه ويعظم لمعان الأضواء الروحانية في سره وهذا بحر عظيم ومقام شريف وهو ينبهك على معنى كونه مباركاً
وأما إن فسرنا البركة بالدوام فهو أيضاً كذلك لأنه لا تنفك الكعبة من الطائفين والعاكفين والركع السجود وأيضاً الأرض كرة وإذا كان كذلك فكل وقت يمكن أن يفرض فهو صبح لقوم وظهر لثان وعصر لثالث ومغرب لرابع وعشاء لخامس ومتى كان الأمر كذلك لم تكن الكعبة منفكة قط عن توجه قوم إليها من طرف من أطراف العالم لأداء فرض الصلاة فكان الدوام حاصلاً من هذه الجهة وأيضاً بقاء الكعبة على هذه الحالة ألوفاً من السنين دوام أيضاً فثبت كونه مباركاً من الوجهين
الصفة الثالثة من صفات هذا البيت كونه هُدًى لّلْعَالَمِينَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قيل المعنى أنه قبلة للعالمين يهتدون به إلى جهة صلاتهم وقيل هدى ً للعالمين

أي دلالة على وجود الصانع المختار وصدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في النبوّة بما فيه من الآيات التي ذكرناها والعجائب التي حكيناها فإن كل ما يدل على النبوة فهو بعينه يدل أولاً على وجود الصانع وجميع صفاته من العلم والقدرة والحكمة والاستغناء وقيل هدى ً للعالمين إلى الجنة لأن من أدى الصلوات الواجبة إليها استوجب الجنة
المسألة الثانية قال الزجاج المعنى وذا هدى ً للعالمين قال ويجوز أن يكون وَهَدَى في موضع رفع على معنى وهو هدى
أما قوله تعالى فِيهِ ءايَاتٌ بَيّنَاتٌ ففيه قولان الأول أن المراد ما ذكرناه من الآيات التي فيه وهي أمن الخائف وإنمحاق الجمار على كثرة الرمي وامتناع الطير من العلو عليه واستشفاء المريض به وتعجيل العقوبة لمن انتهك فيه حرمة وإهلاك أصحاب الفيل لما قصدوا تخريبه فعلى هذا تفسير الآيات وبيانها غير مذكور
وقوله مَّقَامِ إِبْراهِيمَ لا تعلق له بقوله فِيهِ ءايَاتٌ بَيّنَاتٌ فكأنه تعالى قال فِيهِ ءايَاتٌ بَيّنَاتٌ ومع ذلك فهو مقام إبراهيم ومقره والموضع الذي اختاره وعبد الله فيه لأن كل ذلك من الخلال التي بها يشرف ويعظم
القول الثاني أن تفسير الآيات مذكور وهو قوله مَّقَامِ إِبْراهِيمَ أي هي مقام إبراهيم
فإن قيل الآيات جماعة ولا يصح تفسيرها بشيء واحد أجابوا عنه من وجوه الأول أن مقام إبراهيم بمنزلة آيات كثيرة لأن ما كان معجزة لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فهو دليل على وجود الصانع وعلمه وقدرته وإرادته وحياته وكونه غنياً منزّهاً مقدساً عن مشابهة المحدثات فمقام إبراهيم وإن كان شيئاً واحداً إلا أنه لما حصل فيه هذه الوجوه الكثيرة كان بمنزلة الدلائل كقوله إِنَّ إِبْراهِيمَ كَانَ أُمَّة ً قَانِتًا ( النحل 120 ) الثاني أن مقام إبراهيم اشتمل على الآيات لأن أثر القدم في الصخرة الصماء آية وغوصه فيها إلى الكعبين آية وإلانة بعض الصخرة دون بعض آية لأنه لان من الصخرة ما تحت قدميه فقط وإبقاؤه دون سائر آيات الأنبياء عليهم السلام آية خاصة لإبراهيم عليه السلام وحفظه مع كثرة أعدائه من اليهود والنصارى والمشركين والملحدين ألوف سنين فثبت أن مقام إبراهيم عليه السلام آيات كثيرة الثالث قال الزجاج إن قوله وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً من بقية تفسير الآيات كأنه قيل فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن من دخله ولفظ الجمع قد يستعمل في الاثنين قال تعالى إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ( التحريم 4 ) وقال عليه السلام ( الاثنان فما فوقهما جماعة ) ومنهم من تمم الثلاثة فقال مقام إبراهيم وأن من دخله كان آمناً وأن لله على الناس حجه ثم حذف ( أن ) اختصاراً كما في قوله قُلْ أَمَرَ رَبّي بِالْقِسْطِ ( الأعراف 29 ) أي أمر ربي بأن تقسطوا الرابع يجوز أن يذكر هاتان الآيتان ويطوي ذكر غيرهما دلالة على تكاثر الآيات كأنه قيل فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن من دخله وكثير سواهما الخامس قرأ ابن عباس ومجاهد وأبو جعفر المدني في رواية قتيبة بَيّنَة ً لّقَوْمٍ على التوحيد السادس قال المبرّد مَّقَامِ مصدر فلم يجمع كما قال وَعَلَى سَمْعِهِمْ والمراد مقامات إبراهيم وهي ما أقامه إبراهيم عليه السلام من أمور الحج وأعمال المناسك ولا شك أنها كثيرة وعلى هذا فالمراد بالآيات شعائر الحج كما قال وَمَن يُعَظّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ ( الحج 32 )

ثم قال تعالى مَّقَامِ إِبْراهِيمَ وفيه أقوال أحدها أنه لما ارتفع بنيان الكعبة وضعف إبراهيم عن رفع الحجارة قام على هذا الحجر فغاصت فيه قدماه والثاني أنه جاء زائراً من الشام إلى مكة وكان قد حلف لامرأته أن لا ينزل بمكة حتى يرجع فلما وصل إلى مكة قالت له أم إسماعيل إنزل حتى نغسل رأسك فلم ينزل فجاءته بهذا الحجر فوضعته على الجانب الأيمن فوضع قدمه عليه حتى غسلت أحد جانبي رأسه ثم حولته إلى الجانب الأيسر حتى غسلت الجانب الآخر فبقي أثر قدميه عليه والثالث أنه هو الحجر الذي قام إبراهيم عليه عند الأذان بالحج قال القفال رحمه الله ويجوز أن يكون إبراهيم قام على ذلك الحجر في هذه المواضع كلها
ثم قال تعالى وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً ولهذه الآية نظائر منها قوله تعالى وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَة ً لّلنَّاسِ وَأَمْناً ( البقرة 125 ) وقوله أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءامِناً ( العنكبوت 67 ) وقال إبراهيم رَبِّ اجْعَلْ هَاذَا بَلَدًا آمِنًا ( إبراهيم 35 ) وقال تعالى الَّذِى أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ وَءامَنَهُم مّنْ ( قريش 4 ) قال أبو بكر الرازي لما كانت الآيات المذكورة عقيب قوله إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ موجودة في الحرم ثم قال وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً وجب أن يكون مراده جميع الحرم وأجمعوا على أنه لو قتل في الحرم فإنه يستوفي القصاص منه في الحرم وأجمعوا على أن الحرم لا يفيد الأمان فيما سوى النفس إنما الخلاف فيما إذا وجب القصاص عليه خارج الحرم فالتجأ إلى الحرم فهل يستوفي منه القصاص في الحرم قال الشافعي يستوفي وقال أبو حنيفة لا يستوفي بل يمنع منه الطعام والشراب والبيع والشراء والكلام حتى يخرج ثم يستوفي منه القصاص والكلام في هذه المسألة قد تقدم في تفسير قوله وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَة ً لّلنَّاسِ وَأَمْناً واحتج أبو حنيفة رضي الله عنه بهذه الآية فقال ظاهر الآية الاخبار عن كونه آمناً ولكن لا يمكن حمله عليه إذ قد لا يصير آمناً فيقع الخلف في الخبر فوجب حمله على الأمر ترك العمل به في الجنايات التي دون النفس لأن الضرر فيها أخف من الضرر في القتل وفيما إذا وجب عليه القصاص لجناية أتى بها في الحرم لأنه هو الذي هتك حرمة الحرم فيبقى في محل الخلاف على مقتضى ظاهر الآية
والجواب أن قوله كَانَ ءامِناً إثبات لمسمى الأمن ويكفي في العمل به إثبات الأمن من بعض الوجوه ونحن نقول به وبيانه من وجوه الأول أن من دخله للنسك تقرباً إلى الله تعالى كان آمناً من النار يوم القيامة قال النبي عليه السلام ( من مات في أحد الحرمين بعث يوم القيامة آمناً ) وقال أيضاً ( من صبر على حر مكة ساعة من نهار تباعدت عنه جهنم مسيرة مائتي عام ) وقال ( من حج ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ) والثاني يحتمل أن يكون المراد ما أودع الله في قلوب الخلق من الشفقة على كل من التجأ إليه ودفع المكروه عنه ولما كان الأمر واقعاً على هذا الوجه في الأكثر أخبر بوقوعه على هذا الوجه مطلقاً وهذا أولى مما قالوه لوجهين الأول أنا على هذا التقدير لا نجعل الخبر قائماً مقام الأمر وهم جعلوه قائماً مقام الأمر والثاني أنه تعالى إنما ذكر هذا لبيان فضيلة البيت وذلك إنما يحصل بشيء كان معلوماً للقوم حتى يصير ذلك حجة على فضيلة البيت فأما الحكم الذي بيّنه الله في شرع محمد عليه السلام فإنه لا يصير ذلك حجة على اليهود والنصارى في إثبات فضيلة الكعبة
الوجه الثالث في تأويل الآية أن المعنى من دخله عام عمرة القضاء مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان آمناً لأنه تعالى

قال لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ ءامِنِينَ ( الفتح 27 ) الرابع قال الضحاك من حج حجة كان آمناً من الذنوب التي اكتسبها قبل ذلك
واعلم أن طرق الكلام في جميع هذه الأجوبة شيء واحد وهو أن قوله كَانَ ءامِناً حكم بثبوت الأمن وذلك يكفي في العمل به إثبات الأمن من وجه واحد وفي صورة واحدة فإذا حملناه على بعض هذه الوجوه فقد عملنا بمقتضى هذا النص فلا يبقى للنص دلالة على ما قالوه ثم يتأكد ذلك بأن حمل النص على هذا الوجه لا يفضي إلى تخصيص النصوص الدالة على وجوب القصاص وحمله على ما قالوه يفضي إلى ذلك فكان قولنا أولى والله أعلم
قوله تعالى وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً
اعلم أنه تعالى لما ذكر فضائل البيت ومناقبه أردفه بذكر إيجاب الحج وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم حَجَّ الْبَيْتَ بكسر الحاء والباقون بفتحها قيل الفتح لغة الحجاز والكسر لغة نجد وهما واحد في المعنى وقيل هما جائزان مطلقاً في اللغة مثل رطل ورطل وبزر وبزر وقيل المكسورة اسم للعمل والمفتوحة مصدر وقال سيبويه يجوز أن تكون المكسورة أيضاً مصدراً كالذكر والعلم
المسألة الثانية في قوله مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وجوه الأول قال الزجاج موضع مِنْ خفض على البدل من النَّاسِ والمعنى ولله على من استطاع من الناس حج البيت الثاني قال الفرّاء إن نويت الاستئناف بمن كانت شرطاً وأسقط الجزاء لدلالة ما قبله عليه والتقدير من استطاع إلى الحج سبيلاً فلله عليه حج البيت الثالث قال ابن الأنباري يجوز أن يكون مِنْ في موضع رفع على معنى الترجمة للناس كأنه قيل من الناس الذين عليهم لله حج البيت فقيل هم من استطاع إليه سبيلاً
المسألة الثالثة اتفق الأكثرون على أن الزاد والراحلة شرطان لحصول الاستطاعة روى جماعة من الصحابة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه فسّر استطاعة السبيل إلى الحج بوجود الزاد والراحلة وروى القفال عن جويبر عن الضحاك أنه قال إذا كان شاباً صحيحاً ليس له مال فعليه أن يؤاجر نفسه حتى يقضي حجه فقال له قائل أكلف الله الناس أن يمشوا إلى البيت فقال لو كان لبعضهم ميراث بمكة أكان يتركه قال لا بل ينطلق إليه ولو حبواً قال فكذلك يجب عليه حج البيت عن عكرمة أيضاً أنه قال الاستطاعة هي صحة البدن وإمكان المشي إذا لم يجد ما يركبه
واعلم أن كل من كان صحيح البدن قادراً على المشي إذا لم يجد ما يركب فإنه يصدق عليه أنه يستطيع لذلك الفعل فتخصيص هذه الاستطاعة بالزاد والراحلة ترك لظاهر اللفظ فلا بد فيه من دليل منفصل ولا

يمكن التعويل في ذلك على الأخبار المروية في هذا الباب لأنها أخبار آحاد فلا يترك لأجلها ظاهر الكتاب لا سيما وقد طعن محمد بن جرير الطبري في رواة تلك الأخبار وطعن فيها من وجه آخر وهو أن حصول الزاد والراحلة لا يكفي في حصول الاستطاعة فإنه يعتبر في حصول الاستطاعة صحة البدن وعدم الخوف في الطريق وظاهر هذه الأخبار يقتضي أن لا يكون شيء من ذلك معتبراً فصارت هذه الأخبار مطعوناً فيها من هذا الوجه بل يجب أن يعول في ذلك على ظاهر قوله تعالى وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ ( الحج 78 ) وقوله يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ( البقرة 185 )
المسألة الرابعة احتج بعضهم بهذه الآية على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع قالوا لأن ظاهر قوله تعالى وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ يعم المؤمن والكافر وعدم الإيمان لا يصلح معارضاً ومخصصاً لهذا العموم لأن الدهري مكلف بالإيمان بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) مع أن الإيمان بالله الذي هو شرط صحة الإيمان بمحمد عليه السلام غير حاصل والمحدث مكلف بالصلاة مع أن الوضوء الذي هو شرط صحة الصلاة غير حاصل فلم يكن عدم الشرط مانعاً من كونه مكلفاً بالمشروط فكذا ههنا والله أعلم
المسألة الخامسة احتج جمهور المعتزلة بهذه الآية على أن الاستطاعة قبل الفعل فقالوا لو كانت الاستطاعة مع الفعل لكان من لم يحج مستطيعاً للحج ومن لم يكن مستطيعاً للحج لا يتناوله التكليف المذكور في هذه الآية فيلزم أن كل من لم يحج أن لا يصير مأموراً بالحج بسبب هذه الآية وذلك باطل بالاتفاق
أجاب الأصحاب بأن هذا أيضاً لازم لهم وذلك لأن القادر إما أن يصير مأموراً بالفعل قبل حصول الداعي إلى الفعل أو بعد حصوله أما قبل حصول الداعي فمحال لأن قبل حصول الداعي يمتنع حصول الفعل فيكون التكليف به تكليف ما لا يطاق وأما بعد حصول الداعي فالفعل يصير واجب الحصول فلا يكون في التكليف به فائدة وإذا كانت الاستطاعة منتفية في الحالين وجب أن لا يتوجه التكليف المذكور في هذه الآية على أحد
المسألة السادسة روي أنه لما نزلت هذه الآية قيل يا رسول الله أكتب الحج علينا في كل عام ذكروا ذلك ثلاثاً فسكت الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ثم قال في الرابعة ( لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت ما قمتم بها ولو لم تقوموا بها لكفرتم ألا فوادعوني ما وادعتكم وإذا أمرتكم بأمر فافعلوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن أمر فانتهوا عنه فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة احتلافهم على أنبيائهم ) ثم احتج العلماء بهذا الخبر على أن الأمر لا يفيد التكرار من وجهين الأول أن الأمر ورد بالحج ولم يفد التكرار والثاني أن الصحابة استفهموا أنه هل يوجب التكرار أم لا ولو كانت هذه الصيغة تفيد التكرار لما احتاجوا إلى الاستفهام مع كونهم عالمين باللغة
المسألة السابعة استطاعة السبيل إلى الشيء عبارة عن إمكان الوصول قال تعالى فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مّن سَبِيلٍ ( غافر 11 ) وقال هَلْ إِلَى مَرَدّ مّن سَبِيلٍ ( الشورى 44 ) وقال مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ ( التوبة 91 ) فيعتبر في حصول هذا الإمكان صحة البدن وزوال خوف التلف من السبع أو العدو وفقدان الطعام والشراب والقدرة على المال الذي يشتري به الزاد والراحلة وأن يقضي جميع الديون ويرد جميع

الودائع وإن وجب عليه الإنفاق على أحد لم يجب عليه الحج إلا إذا ترك من المال ما يكفيهم في المجيء والذهاب وتفاصيل هذا الباب مذكور في كتب الفقهاء والله أعلم
ثم قال تعالى وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِى ٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ وفيه مسائل
المسألة الأولى في هذه الآية قولان
القول الأول أنها كلام مستقل بنفسه ووعيد عام في حق كل من كفر بالله ولا تعلق له بما قبله
القول الثاني أنه متعلق بما قبله والقائلون بهذا القول منهم من حمله على تارك الحج ومنهم من حمله على من لم يعتقد وجوب الحج أما الذين حملوه على تارك الحج فقد عولوا فيه على ظاهر الآية فإنه لما تقدم الأمر بالحج ثم أتبعه بقوله وَمَن كَفَرَ فهم منه أن هذا الكفر ليس إلا ترك ما تقدم الأمر به ثم إنهم أكدوا هذا الوجه بالأخبار روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهودياً وإن شاء نصرانياً ) وعن أبي أمامة قال قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( من مات ولم يحج حجة الإسلام ولم تمنعه حاجة ظاهرة أو مرض حابس أو سلطان جائز فليمت على أي حال شاء يهودياً أو نصرانياً ) وعن سعيد بن جبير لو مات جار لي وله ميسرة ولم يحج لم أصل عليه فإن قيل كيف يجوز الحكم عليه بالكفر بسبب ترك الحج
أجاب القفال رحمه الله تعالى عنه يجوز أن يكون المراد منه التغليظ أي قد قارب الكفر وعمل ما يعمله من كفر بالحج ونظيره قوله تعالى وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ ( الأحزاب 10 ) أي كادت تبلغ ونظيره قوله عليه الصلاة والسلام ( من ترك صلاة متعمداً فقد كفر ) وقوله عليه الصلاة والسلام ( من أتى امرأة حائضاً أو في دبرها فقد كفر ) وأما الأكثرون فهم الذين حملوا هذا الوعيد على من ترك اعتقاد وجوب الحج قال الضحاك لما نزلت آية الحج جمع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أهل الأديان الستة المسلمين والنصارى واليهود والصابئين والمجوس والمشركين فخطبهم وقال ( إن الله تعالى كتب عليكم الحج فحجوا ) فآمن به المسلمون وكفرت به الملل الخمس وقالوا لا نؤمن به ولا نصلي إليه ولا نحجه فأنزل الله تعالى قوله وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِى ٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ وهذا القول هو الأقوى
المسألة الثانية اعلم أن تكليف الشرع في العبادات قسمان منها ما يكون أصله معقولاً إلا أن تفاصيله لا تكون معقولة مثل الصلاة فإن أصلها معقول وهو تعظيم الله أما كيفية الصلاة فغير معقولة وكذا الزكاة أصلها دفع حاجة الفقير وكيفيتها غير معقولة والصوم أصله معقول وهو قهر النفس وكيفيته غير معقولة أما الحج فهو سفر إلى موضع معين على كيفيات مخصوصة فالحكمة في كيفيات هذه العبادات غير معقولة وأصلها غير معلومة

إذا عرفت هذا فنقول قال المحققون إن الإتيان بهذا النوع من العبادة أدل على كمال العبودية والخضوع والانقياد من الإتيان بالنوع الأول وذلك لأن الآتي بالنوع الأول يحتمل أنه إنما أتى به لما عرف بعقله من وجوه المنافع فيه أما الآتي بالنوع الثاني فإنه لا يأتي به إلا لمجرد الانقياد والطاعة والعبودية فلأجل هذا المعنى اشتمل الأمر بالحج في هذه الآية على أنواع كثيرة من التوكيد أحدها قوله وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ والمعنى أنه سبحانه لكونه إلاهاً ألزم عبيده هذه الطاعة فيجب الانقياد سواء عرفوا وجه الحكمة فيها أو لم يعرفوا وثانيها أنه ذكر النَّاسِ ثم أبدل منه مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وفيه ضربان من التأكيد أما أولاً فلأن الإبدال تثنية للمراد وتكرير وذلك يدل على شدة العناية وأما ثانياً فلأنه أجمل أولاً وفصل ثانياً وذلك يدل على شدة الاهتمام وثالثها أنه سبحانه عبّر عن هذا الوجوب بعبارتين إحداهما لام الملك في قوله وَللَّهِ وثانيتهما كلمة عَلَى وهي للوجوب في قوله وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ ورابعها أن ظاهر اللفظ يقتضي إيجابه على كل إنسان يستطيعه وتعميم التكليف يدل على شدة الاهتمام وخامسها أنه قال وَمَن كَفَرَ مكان ومن لم يحج وهذا تغليظ شديد في حق تارك الحج وسادسها ذكر الاستغناء وذلك مما يدل على المقت والسخط والخذلان وسابعها قوله عَنِ الْعَالَمِينَ ولم يقل عنه لأن المستغني عن كل العالمين أولى أن يكون مستغنياً عن ذلك الإنسان الواحد وعن طاعته فكان ذلك أدل على السخط وثامنها أن في أول الآية قال وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ فبيّن أن هذا الإيجاب كان لمجرد عزة الإلاهية وكبرياء الربوبية لا لجر نفع ولا لدفع ضر ثم أكد هذا في آخر الآية بقوله فَإِنَّ الله غَنِى ٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ومما يدل من الأخبار على تأكيد الأمر بالحج قوله عليه الصلاة والسلام ( حجوا قبل أن لا تحجوا فإنه قد هدم البيت مرتين ويرفع في الثالث ) وروي ( حجوا قبل أن لا تحجوا حجوا قبل أن يمنع البر جانبه ) قيل معناه أنه يتعذر عليكم السفر في البر في مكة لعدم الأمن أو غيره وعن ابن مسعود ( حجوا هذا البيت قبل أن تنبت في البادية شجرة لا تأكل منها دابة إلا هلكت )
قُلْ ياأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِأيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ قُلْ ياأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ ءَامَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَآءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
إعلم أن في كيفية النظم وجهين الأول وهو الأوفق أنه تعالى لما أورد الدلائل على نبوّة محمد عليه الصلاة والسلام مما ورد في التوراة والإنجيل من البشارة بمقدمه ثم ذكر عقيب ذلك شبهات القوم
فالشبهة الأولى ما يتعلق بإنكار النسخ

وأجاب عنها بقوله كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لّبَنِى إِسْراءيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْراءيلُ عَلَى نَفْسِهِ ( آل عمران 93 )
والشبهة الثانية ما يتعلق بالكعبة ووجوب استقبالها في الصلاة ووجوب حجها
وأجاب عنها بقوله إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ ( آل عمران 96 ) إلى آخرها فعند هذا تمت وظيفة الاستدلال وكمل الجواب عن شبهات أرباب الضلال فعند ذلك خاطبهم بالكلام اللين وقال لِمَ تَكْفُرُونَ بِئَيَاتِ اللَّهِ بعد ظهور البينات وزوال الشبهات وهذا هو الغاية القصوى في ترتيب الكلام وحسن نظمه
الوجه الثاني وهو أنه تعالى لما بين فضائل الكعبة ووجوب الحج والقوم كانوا عالمين بأن هذا هو الدين الحق والملة الصحيحة قال لهم لِمَ تَكْفُرُونَ بِئَيَاتِ اللَّهِ بعد أن علمتم كونها حقة صحيحة
واعلم أن المبطل إما أن يكون ضالاً فقط وإما أن يكون مع كونه ضالاً يكون مضلاً والقوم كانوا موصوفين بالأمرين جميعاً فبدأ تعالى بالإنكار عليهم في الصفة الأولى على سبيل الرفق واللطف
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قوله يَشْعُرُونَ يأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِأَيَاتِ اللَّهِ واختلفوا فيمن المراد بأهل الكتاب فقال الحسن هم علماء أهل الكتاب الذين علموا صحة نبوته واستدل عليه بقوله وَأَنْتُمْ شُهَدَاء وقال بعضهم بل المراد كل أهل الكتاب لأنهم وإن لم يعلموا فالحجة قائمة عليهم فكأنهم بترك الاستدلال والعدول إلى التقليد بمنزلة من علم ثم أنكر
فإن قيل ولم خص أهل الكتاب بالذكر دون سائر الكفار
قلنا لوجهين الأول أنا بينا أنه تعالى أورد الدليل عليهم من التوراة والإنجيل على صحة نبوّة محمد عليه الصلاة والسلام ثم أجاب عن شبههم في ذلك ثم لما تمّ ذلك خاطبهم فقال مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فهذا الترتيب الصحيح الثاني أن معرفتهم بآيات الله أقوى لتقدم اعترافهم بالتوحيد وأصل النبوّة ولمعرفتهم بما في كتبهم من الشهادة بصدق الرسول والبشارة بنبوته
المسألة الثانية قالت المعتزلة في قوله تعالى لِمَ تَكْفُرُونَ بِئَيَاتِ اللَّهِ دلالة على أن الكفر من قبلهم حتى يصح هذا التوبيخ وكذلك لا يصح توبيخهم على طولهم وصحتهم ومرضهم
والجواب عنه المعارضة بالعلم والداعي
المسألة الثالثة المراد مِنْ آيَاتِ اللَّهِ الآيات التي نصبها الله تعالى على نبوّة محمد عليه الصلاة والسلام والمراد بكفرهم بها كفرهم بدلالتها على نبوّة محمد عليه الصلاة والسلام
ثم قال وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ الواو للحال والمعنى لم تكفرون بآيات الله التي دلتكم على صدق محمد عليه الصلاة والسلام والحال أن الله شهيد على أعمالكم ومجازيكم عليها وهذه الحال توجب أن لا تجترؤا على الكفر بآياته

ثم إنه تعالى لما أنكر عليهم في ضلالهم ذكر بعد ذلك الإنكار عليهم في إضلالهم لضعفة المسلمين فقال قُلْ ياأَهْلَ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ ءامَنَ قال الفرّاء يقال صددته أصده صداً وأصددته إصداداً وقرأ الحسن تَصُدُّونَ بضم التاء من أصده قال المفسرون وكان صدهم عن سبيل الله بإلقاء الشبه والشكوك في قلوب الضعفة من المسلمين وكانوا ينكرون كون صفته ( صلى الله عليه وسلم ) في كتابهم
ثم قال تَبْغُونَهَا عِوَجاً العوج بكسر العين الميل عن الاستواء في كل ما لا يرى وهو الدين والقول فأما الشيء الذي يرى فيقال فيه عوج بفتح العين كالحائط والقناة والشجرة قال ابن الأنباري البغي يقتصر له على مفعول واحد إذا لم يكن معه اللام كقولك بغيت المال والأجر والثواب وأُريد ههنا تبغون لها عوجاً ثم أسقطت اللام كما قالوا وهبتك درهماً أي وهبت لك درهماً ومثله صدت لك ظبياً وأنشد فتولى غلامهم ثم نادى
أظليما أصيدكم أم حماراً
أراد أصيد لكم والهاء في تَبْغُونَهَا عائدة إلى السَّبِيلِ لأن السبيل يؤنث ويذكر و العوج يعني به الزيغ والتحريف أي تلتمسون لسبيله الزيغ والتحريف بالشبه التي توردونها على الضعفة نحو قولهم النسخ يدل على البداء وقولهم إنه ورد في التوراة أن شريعة موسى عليه السلام باقية إلى الأبد وفي الآية وجه آخر وهو أن يكون لَّهُ عِوَجَا في موضع الحال والمعنى تبغونها ضالين وذلك أنهم كأنهم كانوا يدعون أنهم على دين الله وسبيله فقال الله تعالى إنكم تبغون سبيل الله ضالين وعلى هذا القول لا يحتاج إلى إضمار اللام في تبغونها
ثم قال وَأَنْتُمْ شُهَدَاء وفيه وجوه الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما يعني أنتم شهداء أن في التوراة أن دين الله الذي لا يقبل غيره هو الإسلام الثاني وأنتم شهداء على ظهور المعجزات على نبوته ( صلى الله عليه وسلم ) الثالث وأنتم شهداء أنه لا يجوز الصد عن سبيل الله الرابع وأنتم شهداء بين أهل دينكم عدول يثقون بأقوالكم ويعولون على شهادتكم في عظام الأمور وهم الأحبار والمعنى أن من كان كذلك فكيف يليق به الإصرار على الباطل والكذب والضلال والإضلال
ثم قال وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ والمراد التهديد وهو كقول الرجل لعبده وقد أنكر طريقة لا يخفى على ما أنت عليه ولست غافلاً عن أمرك وإنما ختم الآية الأولى بقوله وَللَّهِ شَهِيدٌ وهذه الآية بقوله وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وذلك لأنهم كانوا يظهرون الكفر بنبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وما كانوا يظهرون إلقاء الشبه في قلوب المسلمين بل كانوا يحتالون في ذلك بوجوه الحيل فلا جرم قال فيما أظهروه وَاللَّهُ شَهِيدٌ وفيما أضمروه وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وإنما كرر في الآيتين قوله قُلْ ياأَهْلَ أَهْلِ الْكِتَابِ لأن المقصود التوبيخ على ألطف الوجوه وتكرير هذا الخطاب اللطيف أقرب إلى التلطف في صرفهم عن طريقتهم في الضلال والإضلال وأدل على النصح لهم في الدين والإشفاق

ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ ءَايَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِى َ إِلَى صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ
واعلم أنه تعالى لما حذر الفريق من أهل الكتاب في الآية الأولى عن الإغواء والإضلال حذر المؤمنين في هذه الآية عن إغوائهم وإضلالهم ومنعهم عن الالتفات إلى قولهم روي أن شاس بن قيس اليهودي كان عظيم الكفر شديد الطعن على المسلمين شديد الحسد فاتفق أنه مرّ على نفر من الأنصار من الأوس والخزرج فرآهم في مجلس لهم يتحدثون وكان قد زال ما كان بينهم في الجاهلية من العداوة ببركة الإسلام فشق ذلك على اليهودي فجلس إليهم وذكرهم ما كان بينهم من الحروب قبل ذلك وقرأ عليهم بعض ما قيل في تلك الحروب من الأشعار فتنازع القوم وتغاضبوا وقالوا السلاح السلاح فوصل الخبر إلى النبي عليه السلام فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين والأنصار وقال أترجعون إلى أحوال الجاهلية وأنا بين أظهركم وقد أكرمكم الله بالإسلام وألف بين قلوبكم فعرف القوم أن ذلك كان من عمل الشيطان ومن كيد ذلك اليهودي فألقوا السلاح وعانق بعضهم بعضاً ثم انصرفوا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فما كان يوم أقبح أولاً وأحسن آخراً من ذلك اليوم فأنزل الله تعالى هذه الآية فقوله إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يحتمل أن يكون المراد هذه الواقعة ويحتمل أن يكون المراد جميع ما يحاولونه من أنواع الإضلال فبيّن تعالى أن المؤمنين إن لانوا وقبلوا منهم قولهم أدى ذلك حالاً بعد حال إلى أن يعودوا كفاراً والكفر يوجب الهلاك في الدنيا والدين أما في الدنيا فبوقوع العداوة والبغضاء وهيجان الفتنة وثوران المحاربة المؤدية إلى سفك الدماء وأما في الدين فظاهر
ثم قال تعالى وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ ءايَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وكلمة كَيْفَ تعجب والتعجب إنما يليق بمن لا يعلم السبب وذلك على الله محال والمراد منه المنع والتغليظ وذلك لأن تلاوة آيات الله عليهم حالاً بعد حال مع كون الرسول فيهم الذي يزيل كل شبهة ويقرر كل حجة كالمانع من وقوعهم في الكفر فكان صدور الكفر على الذين كانوا بحضرة الرسول أبعد من هذا الوجه فقوله إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ تنبيه على أن المقصد الأقصى لهؤلاء اليهود والمنافقين أن يردوا المسلمين عن الإسلام ثم أرشد المسلمين إلى أنه يجب أن لا يلتفتوا إلى قولهم بل الواجب أن يرجعوا عند كل شبهة يسمعونها من هؤلاء اليهود إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) حتى يكشف عنها ويزيل وجه الشبهة فيها
ثم قال وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِى َ إِلَى صِراطٍ مّسْتَقِيمٍ والمقصود إنه لما ذكر الوعيد أردفه بهذا

الوعد والمعنى ومن يتمسك بدين الله ويجوز أن يكون حثاً لهم على الالتجاء إليه في دفع شرور الكفار والاعتصام في اللغة الاستمساك بالشيء وأصله من العصمة والعصمة المنع في كلام العرب والعاصم المانع واعتصم فلان بالشيء إذا تمسك بالشيء في منع نفسه من الوقوع في آفة ومنه قوله تعالى وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ ( يوسف 32 ) قال قتادة ذكر في الآية أمرين يمنعان عن الوقوع في الكفر أحدهما تلاوة كتاب الله والثاني كون الرسول فيهم أما الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فقد مضى إلى رحمة الله وأما الكتاب فباق على وجه الدهر
وأما قوله فَقَدْ هُدِى َ إِلَى صِراطٍ مّسْتَقِيمٍ فقد احتج به أصحابنا على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى قالوا لأنه جعل اعتصامهم هداية من الله فلما جعل ذلك الاعتصام فعلاً لهم وهداية من الله ثبت ما قلناه أما المعتزلة فقد ذكروا فيه وجوهاً الأول أن المراد بهذه الهداية الزيادة في الألطاف المرتبة على أداء الطاعات كما قال تعالى يَهْدِى بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ ( المائدة 16 ) وهذا اختاره القفال رحمه الله والثاني أن التقدير من يعتصم بالله فنعم ما فعل فإنه إنما هدي إلى الصراط المستقيم ليفعل ذلك الثالث أن من يعتصم بالله فقد هدى إلى طريق الجنة والرابع قال صاحب ( الكشاف ) فَقَدْ هُدِى َ أي فقد حصل له الهدى لا محالة كما تقول إذا جئت فلانا فقد أفلحت كأن الهدى قد حصل فهو يخبر عنه حاصلاً وذلك لأن المعتصم بالله متوقع للهدى كما أن قاصد الكريم متوقع للفلاح عنده
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَة َ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَة ٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا كَذالِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
اعلم أنه تعالى لما حذر المؤمنين من إضلال الكفار ومن تلبيساتهم في الآية الأولى أمر المؤمنين في هذه الآيات بمجامع الطاعات ومعاقد الخيرات فأمرهم أولاً بتقوى الله وهو قوله اتَّقُواْ اللَّهَ وثانياً بالاعتصام بحبل الله وهو قوله وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ وثالثاً بذكر نعم الله وهو قوله وَاذْكُرُواْ نِعْمَة َ اللَّهِ عَلَيْكُمْ والسبب في هذا الترتيب أن فعل الإنسان لا بد وأن يكون معللاً إما بالرهبة وإما بالرغبة والرهبة مقدمة على الرغبة لأن دفع الضرر مقدم على جلب النفع فقوله اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ إشارة إلى التخويف من عقاب الله تعالى ثم جعله سبباً للأمر بالتمسك بدين الله والاعتصام بحبل الله ثم أردفه بالرغبة وهي

قوله وَاذْكُرُواْ نِعْمَة َ اللَّهِ عَلَيْكُمْ فكأنه قال خوف عقاب الله يوجب ذلك وكثرة نعم الله توجب ذلك فلم تبق جهة من الجهات الموجبة للفعل إلا وهي حاصلة في وجوب انقيادكم لأمر الله ووجوب طاعتكم لحكم الله فظهر بما ذكرناه أن الأمور الثلاثة المذكورة في هذه الآية مرتبة على أحسن الوجوه ولنرجع إلى التفسير
أما قوله تعالى اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال بعضهم هذه الآية منسوخة وذلك لما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لما نزلت هذه الآية شق ذلك على المسلمين لأن حق تقاته أن يطاع فلا يعصى طرفة عين وأن يشكر فلا يكفر وأن يذكر فلا ينسى والعباد لا طاقة لهم بذلك فأنزل الله تعالى بعد هذه فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ونسخت هذه الآية أولها ولم ينسخ آخرها وهو قوله وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ وزعم جمهور المحققين أن القول بهذا النسخ باطل واحتجوا عليه من وجوه الأول ما روي عن معاذ أنه عليه السلام قال له ( هل تدري ما حق الله على العباد قال الله ورسوله أعلم قال هو أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ) وهذا لا يجوز أن ينسخ الثاني أن معنى قوله اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ أي كما يحق أن يتقى وذلك بأن يجتنب جميع معاصيه ومثل هذا لا يجوز أن ينسخ لأنه إباحة لبعض المعاصي وإذا كان كذلك صار معنى هذا ومعنى قوله تعالى فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ( التغابن 16 ) واحداً لأن من اتقى الله ما استطاع فقد اتقاه حق تقاته ولا يجوز أن يكون المراد بقوله حَقَّ تُقَاتِهِ ما لا يستطاع من التقوى لأن الله سبحانه أخبر أنه لا يكلف نفساً إلا وسعها والوسع دون الطاقة ونظير هذه الآية قوله وَجَاهِدُوا فِى اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ( الحج 78 )
فإن قيل أليس أنه تعالى قال وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ( الأنعام 91 )
قلنا سنبين في تفسير هذه الآية أنها جاءت في القرآن في ثلاثة مواضع وكلها في صفة الكفار لا في صفة المسلمين أما الذين قالوا إن المراد هو أن يطاع فلا يعصى فهذا صحيح والذي يصدر عن الإنسان على سبيل السهو والنسيان فغير قادح فيه لأن التكليف مرفوع في هذه الأوقات وكذلك قوله أن يشكر فلا يكفر لأن ذلك واجب عليه عند خطور نعم الله بالبال فأما عند السهو فلا يجب وكذلك قوله أن يذكر فلا ينسى فإن هذا إنما يجب عند الدعاء والعبادة وكل ذلك مما لا يطاق فلا وجه لما ظنوه أنه منسوخ
قال المصنف رضي الله تعالى عنه أقول للأولين أن يقرروا قولهم من وجهين الأول أن كنه الإلاهية غير معلوم للخلق فلا يكون كمال قهره وقدرته وعزته معلوماً للخلق وإذا لم يحصل العلم بذلك لم يحصل الخوف اللائق بذلك فلم يحصل الاتقاء اللائق به الثاني أنهم أمروا بالاتقاء المغلظ والمخفف معاً فنسخ المغلظ وبقي المخفف وقيل إن هذا باطل لأن الواجب عليه أن يتقي ما أمكن والنسخ إنما يدخل في الواجبات لا في النفي لأنه يوجب رفع الحجر عما يقتضي أن يكون الإنسان محجوراً عنه وإنه غير جائز
المسألة الثانية قوله تعالى حَقَّ تُقَاتِهِ أي كما يجب أن يتقى يدل عليه قوله تعالى حَقُّ الْيَقِينِ ( الواقعة 95 ) ويقال هو الرجل حقاً ومنه قوله عليه السلام ( أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب ) وعن علي رضي الله عنه أنه قال أنا علي لا كذب أنا ابن عبد المطلب والتقى اسم الفعل من قولك اتقيت كما أن الهدى اسم الفعل من قولك اهتديت

أما قوله تعالى وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ فلفظ النهي واقع على الموت لكن المقصود الأمر بالإقامة على الإسلام وذلك لأنه لما كان يمكنهم الثبات على الإسلام حتى إذا أتاهم الموت أتاهم وهم على الإسلام صار الموت على الإسلام بمنزلة ما قد دخل في إمكانهم ومضى الكلام في هذا عند قوله إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ( البقرة 132 )
ثم قال تعالى وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً
واعلم أنه تعالى لما أمرهم بالاتقاء عن المحظورات أمرهم بالتمسك بالاعتصام بما هو كالأصل لجميع الخيرات والطاعات وهو الاعتصام بحبل الله
واعلم أن كل من يمشي على طريق دقيق يخاف أن تزلق رجله فإذا تمسك بحبل مشدود الطرفين بجانبي ذلك الطريق أمن من الخوف ولا شك أن طريق الحق طريق دقيق وقد انزلق رجل الكثير من الحلق عنه فمن اعتصم بدليل الله وبيناته فإنه يأمن من ذلك الخوف فكان المراد من الحبل ههنا كل شيء يمكن التوصل به إلى الحق في طريق الدين وهو أنواع كثيرة فذكر كل واحد من المفسرين واحداً من تلك الأشياء فقال ابن عباس رضي الله عنهما المراد بالحبل ههنا العهد المذكور في قوله وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ( البقرة 40 ) وقال إِلاَّ بِحَبْلٍ مّنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مّنَ النَّاسِ ( آل عمران 112 ) أي بعهد وإنما سمي العهد حبلاً لأنه يزيل عنه الخوف من الذهاب إلى أي موضع شاء وكان كالحبل الذي من تمسك به زال عنه الخوف وقيل إنه القرآن روي عن علي رضي الله عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( أما إنها ستكون فتنة ) قيل فما المخرج منها قال ( كتاب الله فيه نبأ من قبلكم وخبر من بعدكم وحكم ما بينكم وهو حبل الله المتين ) وروي عن ابن مسعود عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( هذا القرآن حبل الله ) وروي عن أبي سعيد الخدري عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله تعالى حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي ) وقيل إنه دين الله وقيل هو طاعة الله وقيل هو إخلاص التوبة وقيل الجماعة لأنه تعالى ذكر عقيب ذلك قوله وَلاَ تَفَرَّقُواْ وهذه الأقوال كلها متقاربة والتحقيق ما ذكرنا أنه لما كان النازل في البئر يعتصم بحبل تحرزاً من السقوط فيها وكان كتاب الله وعهده ودينه وطاعته وموافقته لجماعة المؤمنين حرزاً لصاحبه من السقوط في قعر جهنم جعل ذلك حبلاً لله وأمروا بالاعتصام به
ثم قال تعالى وَلاَ تَفَرَّقُواْ وفيه مسألتان
المسألة الأولى في التأويل وجوه الأول أنه نهى عن الاختلاف في الدين وذلك لأن الحق لا يكون إلا واحداً وما عداه يكون جهلاً وضلالاً فلما كان كذلك وجب أن يكون النهي عن الاختلاف في الدين وإليه الإشارة بقوله تعالى فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقّ إِلاَّ الضَّلاَلُ ( يونس 32 ) والثاني أنه نهى عن المعاداة والمخاصمة فإنهم كانوا في الجاهلية مواظبين على المحاربة والمنازعة فنهاهم الله عنها الثالث أنه نهى عما يوجب الفرقة ويزيل الألفة والمحبة
واعلم أنه روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( ستفترق أمتي على نيف وسبعين فرقة الناجي منهم واحد والباقي في النار فقيل ومن هم يا رسول الله قال الجماعة ) وروي ( السواد الأعظم ) وروي ( ما أنا عليه وأصحابي )

والوجه المعقول فيه أن النهي عن الاختلاف والأمر بالاتفاق يدل على أن الحق لا يكون إلا واحداً وإذا كان كذلك كان الناجي واحداً
المسألة الثانية استدلت نفاة القياس بهذه الآية فقالوا الأحكام الشرعية إما أن يقال إنه سبحانه نصب عليها دلائل يقينية أو نصب عليها دلائل ظنية فإن كان الأول امتنع الاكتفاء فيها بالقياس الذي يفيد الظن لأن الدليل الظني لا يكتفى به في الموضع اليقيني وإن كان الثاني كان الأمر بالرجوع إلى تلك الدلائل الظنية يتضمن وقوع الاختلاف ووقوع النزاع فكان ينبغي أن لا يكون التفرق والتنازع منهياً عنه لكنه منهي عنه لقوله تعالى وَلاَ تَفَرَّقُواْ وقوله وَلاَ تَنَازَعُواْ ولقائل أن يقول الدلائل الدالة على العمل بالقياس تكون مخصصة لعموم قوله وَلاَ تَفَرَّقُواْ ولعموم قوله وَلاَ تَنَازَعُواْ والله أعلم
ثم قال تعالى وَاذْكُرُواْ نِعْمَة َ اللَّهِ عَلَيْكُمْ واعلم أن نعم الله على الخلق إما دنيوية وإما أُخروية وإنه تعالى ذكرهما في هذه الآية أما النعمة الدنيوية فهي قوله تعالى إِذْ كُنتُم أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وفيه مسائل
المسألة الأولى قيل إن ذلك اليهودي لما ألقى الفتنة بين الأوس والخزرج وهم كل واحد منهما بمحاربة صاحبه فخرج الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ولم يزل يرفق بهم حتى سكنت الفتنة وكان الأوس والخزرج أخوين لأب وأم فوقعت بينهما العداوة وتطاولت الحروب مائة وعشرين سنة إلى أن أطفأ الله ذلك بالإسلام فالآية إشارة إليهم وإلى أحوالهم فإنهم قبل الإسلام كان يحارب بعضهم بعضاً ويبغض بعضهم بعضاً فلما أكرمهم الله تعالى بالإسلام صاروا إخواناً متراحمين متناصحين وصاروا إخوة في الله ونظير هذه الآية قوله لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَاكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ( الأنفال 63 )
واعلم أن كل من كان وجهه إلى الدنيا كان معادياً لأكثر الخلق ومن كان وجهه إلى خدمة الله تعالى لم يكن معادياً لأحد والسبب فيه أنه ينظر من الحق إلى الخلق فيرى الكل أسيراً في قبضة القضاء والقدر فلا يعادي أحداً ولهذا قيل إن العارف إذا أمر أمر برفق ويكون ناصحاً لا يعنف ويعير فهو مستبصر بسر الله في القدر
المسألة الثانية قال الزجاج أصل الأخ في اللغة من التوخي وهو الطلب فالأخ مقصده مقصد أخيه والصديق مأخوذ من أن يصدق كل واحد من الصديقين صاحبه ما في قلبه ولا يخفي عنه شيئاً وقال أبو حاتم قال أهل البصرة الاخوة في النسب والإخوان في الصداقة قال وهذا غلط قال الله تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة ٌ ( الحجرات 10 ) ولم يعن النسب وقال أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ ( النور 61 ) وهذا في النسب
المسألة الثالثة قوله فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً يدل على أن المعاملات الحسنة الجارية بينهم بعد الإسلام إنما حصلت من الله لأنه تعالى خلق تلك الداعية في قلوبهم وكانت تلك الداعية نعمة من الله مستلزمة لحصول الفعل وذلك يبطل قول المعتزلة في خلق الأفعال قال الكعبي إن ذلك بالهداية والبيان والتحذير والمعرفة والألطاف

قلنا كل هذا كان حاصلاً في زمان حصول المحاربات والمقاتلات فاختصاص أحد الزمانين بحصول الألفة والمحبة لا بد أن يكون لأمر زائد على ما ذكرتم
ثم قال تعالى وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَة ٍ مّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مّنْهَا
واعلم أنه تعالى لما شرح النعمة الدنيوية ذكر بعدها النعمة الأخروية وهي ما ذكره في آخر هذه الآية وفي الآية مسائل
المسألة الأولى المعنى أنكم كنتم مشرفين بكفركم على جهنم لأن جهنم مشبهة بالحفرة التي فيها النار فجعل استحقاقهم للنار بكفرهم كالإشراف منهم على النار والمصير منهم إلى حفرتها فبيّن تعالى أنه أنقذهم من هذه الحفرة وقد قربوا من الوقوع فيها
قالت المعتزلة ومعنى ذلك أنه تعالى لطف بهم بالرسول عليه السلام وسائر ألطافه حتى آمنوا قال أصحابنا جميع الألطاف مشترك فيه بين المؤمن والكافر فلو كان فاعل الإيمان وموجده هو العبد لكان العبد هو الذي أنقذ نفسه من النار والله تعالى حكم بأنه هو الذي أنقذهم من النار فدل هذا على أن خالق أفعال العباد هو الله سبحانه وتعالى
المسألة الثانية شفا الشيء حرفه مقصور مثل شفا البئر والجمع الإشفاء ومنه يقال أشفى على الشيء إذا أشرف عليه كأنه بلغ شفاه أي حده وحرفه وقوله فَأَنقَذَكُمْ مّنْهَا قال الأزهري يقال نقذته وأنقذته واستنقذته أي خلصته ونجيته
وفي قوله فَأَنقَذَكُمْ مّنْهَا سؤال وهو أنه تعالى إنما ينقذهم من الموضع الذي كانوا فيه وهم كانوا على شفا حفرة وشفا الحفرة مذكر فكيف قال منها
وأجابوا عنه من وجوه الأول الضمير عائد إلى الحفرة ولما أنقذهم من الحفرة فقد أنقذهم من شفا الحفرة لأن شفاها منها والثاني أنها راجعة إلى النار لأن القصد الإنجاء من النار لا من شفا الحفرة وهذا قول الزجاج الثالث أن شفا الحفرة وشفتها طرفها فجاز أن يخبر عنه بالتذكير والتأنيث
المسألة الثالثة أنهم لو ماتوا على الكفر لوقعوا في النار فمثلت حياتهم التي يتوقع بعدها الوقوع في النار بالعقود على حرفها وهذا فيه تنبيه على تحقير مدة الحياة فإنه ليس بين الحياة وبين الموت المستلزم للوقوع في الحفرة إلا ما بين طرف الشيء وبين ذلك الشيء ثم قال كَذالِكَ يُبَيّنُ اللَّهُ الكاف في موضع نصب أي مثل البيان المذكور يبين الله لكم سائر الآيات لكي تهتدوا بها قال الجبائي الآية تدل على أنه تعالى يريد منهم الاهتداء أجاب الواحدي عنه في ( البسيط ) فقال بل المعنى لتكونوا على رجاء هداية
وأقول وهذا الجواب ضعيف لأن على هذا التقدير يلزم أن يريد الله منهم ذلك الرجاء ومن المعلوم أن على مذهبنا قد لا يريد ذلك الرجاء فالجواب الصحيح أن يقال كلمة ( لعلّ ) للترجي والمعنى أنا فعلنا فعلاً يشبه فعل من يترجى ذلك والله أعلم

وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّة ٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَائِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِى رَحْمَة ِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ تِلْكَ ءَايَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأرض وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الاٍّ مُورُ
اعلم أنه تعالى في الآيات المتقدمة عاب أهل الكتاب على شيئين أحدهما أنه عابهم على الكفر فقال قُلْ ياأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ ( آل عمران 70 ) ثم بعد ذلك عابهم على سعيهم في إلقاء الغير في الكفر فقال قُلْ ياأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ( آل عمران 99 ) فلما انتقل منه إلى مخاطبة المؤمنين أمرهم أولاً بالتقوى والإيمان فقال اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً ( آل عمران 102 103 ) ثم أمرهم بالسعي في إلقاء الغير في الإيمان والطاعة فقال وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّة ٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وهذا هو الترتيب الحسن الموافق للعقل وفي الآية مسألتان
المسألة الأولى في قوله مّنكُمْ قولان أحدهما أن مِنْ ههنا ليست للتبعيض لدليلين الأول أن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على كل الأمة في قوله كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة ٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ( آل عمران 110 ) والثاني هو أنه لا مكلف إلا ويجب عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إما بيده أو بلسانه أو بقلبه ويجب على كل أحد دفع الضرر عن النفس إذا ثبت هذا فنقول معنى هذه الآية كونوا أمة دعاة إلى الخير آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر وأما كلمة مِنْ فهي هنا للتبيين لا للتبعيض كقوله تعالى فَاجْتَنِبُواْ الرّجْسَ مِنَ الاْوْثَانِ ( الحج 30 ) ويقال أيضاً لفلان من أولاده جند وللأمير من غلمانه عسكر يريد بذلك جميع أولاده وغلمانه لا بعضهم كذا ههنا ثم قالوا إن

ذلك وإن كان واجباً على الكل إلا أنه متى قام به قوم سقط التكليف عن الباقين ونظيره قوله تعالى انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً ( التوبة 41 ) وقوله إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( التوبة 39 ) فالأمر عام ثم إذا قامت به طائفة وقعت الكفاية وزال التكليف عن الباقين
والقول الثاني أن مِنْ ههنا للتبعيض والقائلون بهذا القول اختلفوا أيضاً على قولين أحدهما أن فائدة كلمة مِنْ هي أن في القوم من لا يقدر على الدعوة ولا على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل النساء والمرضى والعاجزين والثاني أن هذا التكليف مختص بالعلماء ويدل عليه وجهان الأول أن هذه الآية مشتملة على الأمر بثلاثة أشياء الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومعلوم أن الدعوة إلى الخير مشروطة بالعلم بالخير وبالمعروف وبالمنكر فإن الجاهل ربما عاد إلى الباطل وأمر بالمنكر ونهى عن المعروف وربما عرف الحكم في مذهبه وجهله في مذهب صاحبه فنهاه عن غير منكر وقد يغلظ في موضع اللين ويلين في موضع الغلظة وينكر على من لا يزيده إنكاره إلا تمادياً فثبت أن هذا التكليف متوجه على العلماء ولا شك أنهم بعض الأمة ونظير هذه الآية قوله تعالى فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلّ فِرْقَة ٍ مّنْهُمْ طَائِفَة ٌ لّيَتَفَقَّهُواْ فِى الدّينِ ( التوبة 122 ) والثاني أنا جمعنا على أن ذلك واجب على سبيل الكفاية بمعنى أنه متى قام به البعض سقط عن الباقين وإذا كان كذلك كان المعنى ليقم بذلك بعضكم فكان في الحقيقة هذا إيجاباً على البعض لا على الكل والله أعلم
وفيه قول رابع وهو قول الضحاك إن المراد من هذه الآية أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لأنهم كانوا يتعلمون من الرسول عليه السلام ويعلمون الناس والتأويل على هذا الوجه كونوا أمة مجتمعين على حفظ سنن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وتعلم الدين
المسألة الثانية هذه الآية اشتملت على التكليف بثلاثة أشياء أولها الدعوة إلى الخير ثم الأمر بالمعروف ثم النهي عن المنكر ولأجل العطف يجب كون هذه الثلاثة متغايرة فنقول أما الدعوة إلى الخير فأفضلها الدعوة إلى إثبات ذات الله وصفاته وتقديسه عن مشابهة الممكنات وإنما قلنا إن الدعوة إلى الخير تشتمل على ما ذكرنا لقوله تعالى ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَة ِ ( النحل 125 ) وقوله تعالى قُلْ هَاذِهِ سَبِيلِى ادْعُواْ إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَة ٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِى ( يوسف 108 )
إذا عرفت هذا فنقول الدعوة إلى الخير جنس تحته نوعان أحدهما الترغيب في فعل ما ينبغي وهو بالمعروف والثاني الترغيب في ترك ما لا ينبغي وهو النهي عن المنكر فذكر الجنس أولاً ثم أتبعه بنوعية مبالغة في البيان وأما شرائط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فمذكورة في كتب الكلام
ثم قال تعالى وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وقد سبق تفسيره وفيه مسائل
المسألة الأولى منهم من تمسك بهذه الآية في أن الفاسق ليس له أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر قال لأن هذه الآية تدل على أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر من المفلحين والفاسق ليس من المفلحين فوجب أن يكون الآمر بالمعروف ليس بفاسق وأجيب عنه بأن هذا ورد على سبيل الغالب فإن الظاهر أن من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر لم يشرع فيه إلا بعد صلاح أحوال نفسه لأن العاقل يقدم مهم

نفسه على مهم الغير ثم إنهم أكدوا هذا بقوله تعالى أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ ( التوبة 44 ) قوله لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ ( الصف 2 3 ) ولأنه لو جاز ذلك لجاز لمن يزني بامرأة أن يأمرها بالمعروف في أنها لم كشفت وجهها ومعلوم أن ذلك في غاية القبح والعلماء قالوا الفاسق له أن يأمر بالمعروف لأنه وجب عليه ترك ذلك المنكر ووجب عليه النهي عن ذلك المنكر فبأن ترك أحد الواجبين لا يلزمه ترك الواجب الآخر وعن السلف مروا بالخير وإن لم تفعلوا وعن الحسن أنه سمع مطرف بن عبد الله يقول لا أقول ما لا أفعل فقال وأينا يفعل ما يقول ودَّ الشيطان لو ظفر بهذه الكلمة منكم فلا يأمر أحد بمعروف ولا ينهى عن المنكر
المسألة الثانية عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر كان خليفة الله في أرضه وخليفة رسوله وخليفة كتابه ) وعن علي رضي الله عنه أفضل الجهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقال أيضاً من لم يعرف بقلبه معروفاً ولم ينكر منكراً نكس وجعل أعلاه أسفله وروى الحسن عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال يا أيها الناس ائتمروا بالمعروف وانتهوا عن المنكر تعيشوا بخير وعن الثوري إذا كان الرجل محبباً في جيرانه محموداً عند إخوانه فاعلم أنه مداهن
المسألة الثالثة قال الله سبحانه وتعالى وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الاخْرَى فَقَاتِلُواْ الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِىء إِلَى أَمْرِ ( الحجرات 9 ) قدم الإصلاح على القتال وهذا يقتضي أن يبدأ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالأرفق مترقياً إلى الأغلظ فالأغلظ وكذا قوله تعالى وَاهْجُرُوهُنَّ فِى الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ( النساء 34 ) يدل على ما ذكرناه ثم إذا لم يتم الأمر بالتغليظ والتشديد وجب عليه القهر باليد فإن عجز فباللسان فإن عجز فبالقلب وأحوال الناس مختلفة في هذا الباب
ثم قال تعالى وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيّنَاتُ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في النظم وجهان الأول أنه تعالى ذكر في الآيات المتقدمة أنه بيّن في التوراة والإنجيل ما يدل على صحة دين الإسلام وصحة نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ثم ذكر أن أهل الكتاب حسدوا محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) واحتالوا في إلقاء الشكوك والشبهات في تلك النصوص الظاهرة ثم إنه تعالى أمر المؤمنين بالإيمان بالله والدعوة إلى الله ثم ختم ذلك بأن حذر المؤمنين من مثل فعل أهل الكتاب وهو إلقاء الشبهات في هذه النصوص واستخراج التأويلات الفاسدة الرافعة لدلالة هذه النصوص فقال وَلاَ تَكُونُواْ أيها المؤمنون عند سماع هذه البينات كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ من أهل الكتاب مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ في التوراة والإنجيل تلك النصوص الظاهرة فعلى هذا الوجه تكون الآية من تتمة جملة الآيات المتقدمة والثاني وهو أنه تعالى لما أمر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وذلك مما لا يتم إلا إذا كان الآمر بالمعروف قادراً على تنفيذ هذا التكليف على الظلمة والمتغالين ولا تحصل هذه القدرة إلا إذا حصلت الإلفة والمحبة بين أهل الحق والدين لا جرم حذرهم تعالى من الفرقة والاختلاف لكي لا يصير ذلك سبباً لعجزهم عن القيام بهذا التكليف وعلى هذا الوجه تكون هذه الآية من تتمة الآية السابقة فقط

المسألة الثانية قوله تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ فيه وجوه الأول تفرقوا واختلفوا بسبب اتباع الهوى وطاعة النفس والحسد كما أن إبليس ترك نص الله تعالى بسبب حسده لآدم الثاني تفرقوا حتى صار كل فريق منهم يصدق من الأنبياء بعضاً دون بعض فصاروا بذلك إلى العداوة والفرقة الثالث صاروا مثل مبتدعة هذه الأمة مثل المشبهة والقدرية والحشوية
المسألة الثالثة قال بعضهم تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ معناهما واحد وذكرهما للتأكيد وقيل بل معناهما مختلف ثم اختلفوا فقيل تفرقوا بالعداوة واختلفوا في الدين وقيل تفرقوا بسبب استخراج التأويلات الفاسدة من تلك النصوص ثم اختلفوا بأن حاول كل واحد منهم نصرة قوله ومذهبه والثالث تفرقوا بأبدانهم بأن صار كل واحد من أولئك الأحبار رئيساً في بلد ثم اختلفوا بأن صار كل واحد منهم يدعي أنه على الحق وأن صاحبه على الباطل وأقول إنك إذا أنصفت علمت أن أكثر علماء هذا الزمان صاروا موصوفين بهذه الصفة فنسأل الله العفو والرحمة
المسألة الرابعة إنما قال مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيّنَاتُ ولم يقل جَاءتْهُمْ لجواز حذف علامة من الفعل إذا كان فعل المؤنث متقدماً
ثم قال تعالى وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يعني الذين تفرقوا لهم عذاب عظيم في الآخرة بسبب تفرقهم فكان ذلك زجراً للمؤمنين عن التفرق
ثم قال تعالى يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ اعلم أنه تعالى لما أمر اليهود ببعض الأشياء ونهاهم عن بعض ثم أمر المسلمين بالبعض ونهاهم عن البعض أتبع ذلك بذكر أحوال الآخرة تأكيداً للأمر وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في نصب يَوْمٍ وجهان الأول أنه نصب على الظرف والتقدير ولهم عذاب عظيم في هذا اليوم وعلى هذا التقدير ففيه فائدتان إحداهما أن ذلك العذاب في هذا اليوم والأخرى أن من حكم هذا اليوم أن تبيض فيه وجوه وتسود وجوه والثاني أنه منصوب بإضمار ( اذكر )
المسألة الثانية هذه الآية لها نظائر منها قوله تعالى وَيَوْمَ الْقِيَامَة ِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّة ٌ ( الزمر 60 ) ومنها قوله وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّة ٌ ( يونس 26 ) ومنها قوله وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَة ٌ ضَاحِكَة ٌ مُّسْتَبْشِرَة ٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَة ٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَة ٌ ( عبسى 38 41 ) ومنها قوله وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة ٌ إِلَى رَبّهَا نَاظِرَة ٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَة ٌ تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَة ٌ ( القيامة 22 25 ) ومنها قوله تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَة َ النَّعِيمِ ( المطففين 24 ) ومنها قوله يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ ( الرحمن 41 )
إذا عرفت هذا فنقول في هذا البياض والسواد والغبرة والقترة والنضرة للمفسرين قولان أحدهما أن البياض مجاز عن الفرح والسرور والسواد عن الغم وهذا مجاز مستعمل قال تعالى وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بِالاْنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّا وَهُوَ كَظِيمٌ ( النحل 58 ) ويقال لفلان عندي يد بيضاء أي جلية سارة ولما سلم الحسن بن علي رضي الله عنه الأمر لمعاوية قال له بعضهم يا مسود وجوه المؤمنين ولبعضهم في الشيب

يا بياض القرون سودت وجهي
عند بيض الوجوه سود القرون
فلعمري لأخفينك جهدي
عن عياني وعن عيان العيون
بسواد فيه بياض لوجهي
وسواد لوجهك الملعون
وتقول العرب لمن نال بغيته وفاز بمطلوبه ابيض وجهه ومعناه الاستبشار والتهلل وعند التهنئة بالسرور يقولون الحمد لله الذي بيض وجهك ويقال لمن وصل إليه مكروه إربد وجهه واغبر لونه وتبدلت صورته فعلى هذا معنى الآية أن المؤمن يرد يوم القيامة على ما قدمت يداه فإن كان ذلك من الحسنات ابيض وجهه بمعنى استبشر بنعم الله وفضله وعلى ضد ذلك إذا رأى الكافر أعماله القبيحة محصاة اسود وجهه بمعنى شدة الحزن والغم وهذا قول أبي مسلم الأصفهاني
والقول الثاني إن هذا البياض والسواد يحصلان في وجوه المؤمنين والكافرين وذلك لأن اللفظ حقيقة فيهما ولا دليل يوجب ترك الحقيقة فوجب المصير إليه قلت ولأبي مسلم أن يقول الدليل دل على ما قلناه وذلك لأنه تعالى قال وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَة ٌ ضَاحِكَة ٌ مُّسْتَبْشِرَة ٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَة ٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَة ٌ فجعل الغبرة والقترة في مقابلة الضحك والاستبشار فلو لم يكن المراد بالغبرة والقترة ما ذكرنا من المجاز لما صح جعله مقابلاً فعلمنا أن المراد من هذه الغبرة والقترة الغم والحزن حتى يصح هذا التقابل ثم قال القائلون بهذا القول الحكمة في ذلك أن أهل الموقف إذا رأوا البياض في وجه إنسان عرفوا أنه من أهل الثواب فزادوا في تعظيمه فيحصل له الفرح بذلك من وجهين أحدهما أن السعيد يفرح بأن يعلم قومه أنه من أهل السعادة قال تعالى مخبراً عنهم قَالَ يالَيْتَ قَوْمِى يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِى رَبّى وَجَعَلَنِى مِنَ الْمُكْرَمِينَ ( يس 26 27 ) الثاني أنهم إذا عرفوا ذلك خصوه بمزيد التعظيم فثبت أن ظهور البياض في وجه المكلف سبب لمزيد سروره في الآخرة وبهذا الطريق يكون ظهور السواد في وجه الكفار سبباً لمزيد غمهم في الآخرة فهذا وجه الحكمة في الآخرة وأما في الدنيا فالمكلف حين يكون في الدنيا إذا عرف حصول هذه الحالة في الآخرة صار ذلك مرغباً له في الطاعات وترك المحرمات لكي يكون في الآخرة من قبيل من يبيض وجهه لا من قبيل من يسود وجهه فهذا تقرير هذين القولين
المسألة الثالثة احتج أصحابنا بهذه الآية على أن المكلف إما مؤمن وإما كافر وأنه ليس ههنا منزلة بين المنزلتين كما يذهب إليه المعتزلة فقالوا إنه تعالى قسم أهل القيامة إلى قسمين منهم من يبيض وجهه وهم المؤمنون ومنهم من يسود وجهه وهم الكافرون ولم يذكر الثالث فلو كان ههنا قسم ثالث لذكره الله تعالى قالوا وهذا أيضاً متأكد بقوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَة ٌ ضَاحِكَة ٌ مُّسْتَبْشِرَة ٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَة ٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَة ٌ أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَة ُ الْفَجَرَة ُ ( عبسى 38 42 )
أجاب القاضي عنه بأن عدم ذكر القسم الثالث لا يدل على عدمه يبين ذلك أنه تعالى إنما قال يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فذكرهما على سبيل التنكير وذلك لا يفيد العموم وأيضاً المذكور في الآية المؤمنون والذين كفروا بعد الإيمان ولا شبهة أن الكافر الأصلي من أهل النار مع أنه غير داخل تحت هذين القسمين فكذا القول في الفساق

واعلم أن وجه الاستدلال بالآية هو أنا نقول الآيات المتقدمة ما كانت إلا في الترغيب في الإيمان بالتوحيد والنبوّة وفي الزجر عن الكفر بهما ثم إنه تعالى اتبع ذلك بهذه الآية فظاهرها يقتضي أن يكون ابيضاض الوجه نصيباً لمن آمن بالتوحيد والنبوّة واسوداد الوجه يكون نصيباً لمن أنكر ذلك ثم دل ما بعد هذه الآية على أن صاحب البياض من أهل الجنة وصاحب السواد من أهل النار فحينئذ يلزم نفي المنزلة بين المنزلتين وأما قوله يشكل هذا بالكافر الأصلي فجوابنا عنه من وجهين الأول أن نقول لم لا يجوز أن يكون المراد منه أن كل أحد أسلم وقت استخراج الذرية من صلب آدم وإذا كان كذلك كان الكل داخلاً فيه والثاني وهو أنه تعالى قال في آخر الآية فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ فجعل موجب العذاب هو الكفر من حيث إنه كفر لا الكفر من حيث أنه بعد الإيمان وإذا وقع التعليل بمطلق الكفر دخل كل الكفار فيه سواء كفر بعد الإيمان أو كان كافراً أصلياً والله أعلم
ثم قال فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ وفي الآية سؤالات
السؤال الأول أنه تعالى ذكر القسمين أولاً فقال يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فقدم البياض على السواد في اللفظ ثم لما شرع في حكم هذين القسمين قدم حكم السواد وكان حق الترتيب أن يقدم حكم البياض
والجواب عنه من وجوه أحدها أن الواو للجمع المطلق لا للترتيب وثانيها أن المقصود من الخلق إيصال الرحمة لا إيصال العذاب قال عليه الصلاة والسلام حاكياً عن رب العزة سبحانه ( خلقتهم ليربحوا علي لا لأربح عليهم ) وإذا كان كذلك فهو تعالى ابتدأ بذكر أهل الثواب وهم أهل البياض لأن تقديم الأشرف على الأخس في الذكر أحسن ثم ختم بذكرهم أيضاً تنبيهاً على أن إرادة الرحمة أكثر من إرادة الغضب كما قال ( سبقت رحمتي غضبي ) وثالثها أن الفصحاء والشعراء قالوا يجب أن يكون مطلع الكلام ومقطعه شيئاً يسر الطبع ويشرح الصدر ولا شك أن ذكر رحمة الله هو الذي يكون كذلك فلا جرم وقع الابتداء بذكر أهل الثواب والاختتام بذكرهم
السؤال الثاني أين جواب ( أما )
والجواب هو محذوف والتقدير فيقال لهم أكفرتم بعد إيمانكم وإنما حسن الحذف لدلالة الكلام عليه ومثله في التنزيل كثير قال تعالى وَالمَلَائِكَة ُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ( الرعد 23 24 ) وقال وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ( البقرة 127 ) وقال وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُؤُوسَهُمْ عِندَ رَبّهِمْ رَبَّنَا ( السجدة 12 )
السؤال الثالث من المراد بهؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم
والجواب للمفسرين فيه أقوال أحدها قال أُبي بن كعب الكل آمنوا حال ما استخرجهم من صلب آدم عليه السلام فكل من كفر في الدنيا فقد كفر بعد الإيمان ورواه الواحدي في ( البسيط ) بإسناده عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وثانيها أن المراد أكفرتم بعد ما ظهر لكم ما يوجب الإيمان وهو الدلائل التي نصبها الله تعالى على التوحيد والنبوّة والدليل على صحة هذا التأويل قوله تعالى فيما قبل هذه الآية يَشْعُرُونَ يأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ

تَكْفُرُونَ بِأَيَاتِ اللَّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ ( آل عمران 70 ) فذمهم على الكفر بعد وضوح الآيات وقال للمؤمنين وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيّنَاتُ ( آل عمران 105 )
ثم قال ههنا أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فكان ذلك محمولاً على ما ذكرناه حتى تصير هذه الآية مقررة لما قبلها وعلى هذين الوجهين تكون الآية عامة في حق كل الكفار وأما الذين خصصوا هذه الآية ببعض الكفار فلهم وجوه الأول قال عكرمة والأصم والزجاج المراد أهل الكتاب فإنهم قبل مبعث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كانوا مؤمنين به فلما بعث ( صلى الله عليه وسلم ) كفروا به الثاني قال قتادة المراد الذين كفروا بعد الإيمان بسبب الارتداد الثالث قال الحسن الذين كفروا بعد الإيمان بالنفاق الرابع قيل هم أهل البدع والأهواء من هذه الأمة الخامس قيل هم الخوارج فإنه عليه الصلاة والسلام قال فيهم ( إنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ) وهذان الوجهان الأخيران في غاية البعد لأنهما لا يليقان بما قبل هذه الآية ولأنه تخصيص لغير دليل ولأن الخروج على الإمام لا يوجب الكفر ألبتة
السؤال الرابع ما الفائدة في همزة الاستفهام في قوله أَكْفَرْتُمْ
الجواب هذا استفهام بمعنى الإنكار وهو مؤكد لما ذكر قبل هذه الآية وهو قوله قُلْ ياأَهْلَ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن تَكْفُرُونَ بِئَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ قُلْ ياأَهْلَ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ( آل عمران 98 99 )
ثم قال تعالى فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ
وفيه فوائد الأولى أنه لو لم يذكر ذلك لكان الوعيد مختصاً بمن كفر بعد إيمانه فلما ذكر هذا ثبت الوعيد لمن كفر بعد إيمانه ولمن كان كافراً أصلياً الثانية قال القاضي قوله أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ يدل على أن الكفر منه لا من الله وكذا قوله فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ الثالثة قالت المرجئة الآية تدل على أن كل نوع من أنواع العذاب وقع معللاً بالكفر وهذا ينفي حصول العذاب لغير الكافر
ثم قال تعالى وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِى رَحْمَة ِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وفيه سؤالات
السؤال الأول ما المراد برحمة الله
الجواب قال ابن عباس المراد الجنة وقال المحققون من أصحابنا هذا إشارة إلى أن العبد وإن كثرت طاعته فإنه لا يدخل الجنة إلا برحمة الله وكيف لا نقول ذلك والعبد ما دامت داعيته إلى الفعل وإلى الترك على السوية يمتنع منه الفعل فإذن ما لم يحصل رجحان داعية الطاعة امتنع أن يحصل منه الطاعة وذلك الرجحان لا يكون إلا بخلق الله تعالى فإذن صدور تلك الطاعة من العبد نعمة من الله في حق العبد فكيف يصير ذلك موجباً على الله شيئاً فثبت أن دخول الجنة لا يكون إلا بفضل الله وبرحمته وبكرمه لا باستحقاقنا
السؤال الثاني كيف موقع قوله هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ بعد قوله فَفِى رَحْمَة ِ اللَّهِ
الجواب كأنه قيل كيف يكونون فيها فقيل هم فيها خالدون لا يظعنون عنها ولا يموتون
السؤال الثالث الكفار مخلدون في النار كما أن المؤمنين مخلدون في الجنة ثم إنه تعالى لم ينص على خلود أهل النار في هذه الآية مع أنه نص على خلود أهل الجنة فيها فما الفائدة

والجواب كل ذلك إشعارات بأن جانب الرحمة أغلب وذلك لأنه ابتدأ في الذكر بأهل الرحمة وختم بأهل الرحمة ولما ذكر العذاب ما أضافه إلى نفسه بل قال فَذُوقُواْ الْعَذَابَ مع أنه ذكر الرحمة مضافة إلى نفسه حيث قال فَفِى رَحْمَة ِ اللَّهِ ولما ذكر العذاب ما نص على الخلود مع أنه نص على الخلود في جانب الثواب ولما ذكر العذاب علله بفعلهم فقال فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ولما ذكر الثواب علله برحمته فقال فَفِى رَحْمَة ِ اللَّهِ ثم قال في آخر الآية وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لّلْعَالَمِينَ وهذا جار مجرى الاعتذار عن الوعيد بالعقاب وكل ذلك مما يشعر بأن جانب الرحمة مغلب يا أرحم الراحمين لا تحرمنا من برد رحمتك ومن كرامة غفرانك وإحسانك
ثم قال تعالى تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقّ فقوله تِلْكَ فيه وجهان الأول المراد أن هذه الآيات التي ذكرناها هي دلائل الله وإنما جاز إقامة تِلْكَ مقام هَاذِهِ لأن هذه الآيات المذكورة قد انقضت بعد الذكر فصار كأنها بعدت فقيل فيها تِلْكَ والثاني إن الله تعالى وعده أن ينزل عليه كتاباً مشتملاً على كل ما لابد منه في الدين فلما أنزل هذه الآيات قال تلك الآيات الموعودة هي التي نتلوها عليك بالحق وتمام الكلام في هذه المسألة قد تقدم في سورة البقرة في تفسير قوله ذالِكَ الْكِتَابُ ( البقرة 2 ) وقوله بِالْحَقّ فيه وجهان الأول أي ملتبسة بالحق والعدل من إجزاء المحسن والمسيء بما يستوجبانه الثاني بالحق أي بالمعنى الحق لأن معنى التلو حق
ثم قال تعالى وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لّلْعَالَمِينَ وفيه مسائل
المسألة الأولى إنما حسن ذكر الظلم ههنا لأنه تقدم ذكر العقوبة الشديدة وهو سبحانه وتعالى أكرم الأكرمين فكأنه تعال يعتذر عن ذلك وقال إنهم ما وقعوا فيه إلا بسبب أفعالهم المنكرة فإن مصالح العالم لا تستقيم إلا بتهديد المذنبين وإذا حصل هذا التهديد فلا بد من التحقيق دفعاً للكذب فصار هذا الاعتذار من أدل الدلائل على أن جانب الرحمة غالب ونظيره قوله تعالى في سورة ( عم ) بعد أن ذكر وعيد الكفار إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً وَكَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا كِذَّاباً ( النبأ 27 28 ) أي هذا الوعيد الشديد إنما حصل بسبب هذه الأفعال المنكرة
المسألة الثانية قال الجبائي هذه الآية تدل على أنه سبحانه لا يريد شيئاً من القبائح لا من أفعاله ولا من أفعال عباده ولا يفعل شيئاً من ذلك وبيانه وهو أن الظلم إما أن يفرض صدوره من الله تعالى أو من العبد وبتقدير صدوره من العبد فإما أن يظلم نفسه وذلك بسبب إقدامه على المعاصي أو يظلم غيره فأقسام الظلم هي هذه الثلاثة وقوله تعالى وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لّلْعَالَمِينَ نكرة في سياق النفي فوجب أن لا يريد شيئاً مما يكون ظلماً سواء كان ذلك صادراً عنه أو صادراً عن غيره فثبت أن هذه الآية تدل على أنه لا يريد شيئاً من هذه الأقسام الثلاثة وإذا ثبت ذلك وجب أن لا يكون فاعلاً لشيء من هذه الأقسام ويلزم منه أن لا يكون فاعلاً للظلم أصلاً ويلزم أن لا يكون فاعلاً لأعمال العباد لأن من جملة أعمالهم ظلمهم لأنفسهم وظلم بعضهم بعضاً وإنما قلنا إن الآية تدل على كونه تعالى غير فاعل للظلم ألبتة لأنها دلت على أنه غير مريد لشيء منها ولو كان فاعلاً لشيء من أقسام الظلم لكان مريداً لها وقد بطل ذلك قالوا فثبت بهذه الآية أنه تعالى غير فاعل للظلم وغير فاعل لأعمال العباد وغير مريد للقبائح من أفعال العباد ثم قالوا إنه

تعالى تمدح بأنه لا يريد ذلك والتمدح إنما يصح لو صح منه فعل ذلك الشيء وصح منه كونه مريداً له فدلت هذه الآية على كونه تعالى قادراً على الظلم وعند هذا تبجحوا وقالوا هذه الآية الواحدة وافية بتقرير جميع أصول المعتزلة في مسائل العدل ثم قالوا ولما ذكر تعالى أنه لا يريد الظلم ولا يفعل الظلم قال بعده وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الامُورُ وإنما ذكر هذه الآية عقيب ما تقدم لوجهين الأول أنه تعالى لما ذكر أنه لا يريد الظلم والقبائح استدل عليه بأن فاعل القبيح إنما يفعل القبيح إما للجهل أو العجز أو الحاجة وكل ذلك على الله محال لأنه مالك لكل ما في السماوات وما في الأرض وهذه المالكية تنافي الجهل والعجز والحاجة وإذا امتنع ثبوت هذه الصفات في حقه تعالى امتنع كونه فاعلاً للقبيح والثاني أنه تعالى لما ذكر أنه لا يريد الظلم بوجه من الوجوه كان لقائل أن يقول إنا نشاهد وجود الظلم في العالم فإذا لم يكن وقوعه بإرادته كان على خلاف إرادته فيلزم كونه ضعيفاً عاجزاً مغلوباً وذلك محال
فأجاب الله تعالى عنه بقوله وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ أي أنه تعالى قادر على أن يمنع الظلمة من الظلم على سبيل الإلجاء والقهر ولما كان قادراً على ذلك خرج عن كونه عاجزاً ضعيفاً لا أنه تعالى أراد منهم ترك المعصية اختياراً وطوعاً ليصيروا بسبب ذلك مستحقين للثواب فلو قهرهم على ترك المعصية لبطلت هذه الفائدة فهذا تلخيص كلام المعتزلة في هذه الآية وربما أوردوا هذا الكلام من وجه آخر فقالوا المراد من قوله وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لّلْعَالَمِينَ إما أن يكون هو لا يريد أن يظلمهم أو أنه لا يريد منهم أن يظلم بعضهم بعضاً فإن كان الأول فهذا لا يستقيم على قولكم لأن مذهبكم أنه تعالى لو عذب البريء عن الذنب بأشد العذاب لم يكن ظلماً بل كان عادلاً لأن الظلم تصرف في ملك الغير وهو تعالى إنما يتصرف في ملك نفسه فاستحال كونه ظالماً وإذا كان كذلك لم يكن حمل الآية على أنه لا يريد أن يظلم الخلق وإن حملتم الآية على أنه لا يريد أن يظلم بعض العباد بعضاً فهذا أيضاً لا يتم على قولكم لأن كل ذلك بإرادة الله وتكوينه على قولكم فثبت أن على مذهبكم لا يمكن حمل الآية على وجه صحيح والجواب لم لا يجوز أن يكون المراد أنه تعالى لا يريد أن يظلم أحداً من عباده قوله الظلم منه محال على مذهبكم فامتنع التمدح به قلنا الكلام عليه من وجهين الأول أنه تعالى تمدح بقوله لاَ تَأْخُذُهُ سِنَة ٌ وَلاَ نَوْمٌ ( البقرة 255 ) وبقوله وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ ( الأنعام 14 ) ولا يلزم من ذلك صحة النوم والأكل عليه فكذا ههنا الثاني أنه تعالى إن عذب من لم يكن مستحقاً للعذاب فهو وإن لم يكن ظلماً في نفسه لكنه في صور الظلم وقد يطلق اسم أحد المتشابهين على الآخر كقوله وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا ( الشورى 40 ) ونظائره كثيرة في القرآن هذا تمام الكلام في هذه المناظرة
المسألة الثالثة احتج أصحابنا بقوله وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ على كونه خالقاً لأعمال العباد فقالوا لا شك أن أفعال العباد من جملة ما في السماوات والأرض فوجب كونها له بقوله وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وإنما يصح قولنا إنها له لو كانت مخلوقة له فدلت هذه الآية على أنه خالق لأفعال العباد
أجاب الجبائي عنه بأن قوله لِلَّهِ إضافة ملك لا إضافة فعل ألا ترى أنه يقال هذا البناء لفلان

فيريدون أنه مملوكه لا أنه مفعوله وأيضاً المقصود من الآية تعظيم الله لنفسه ومدحه لإلاهية نفسه ولا يجوز أن يتمدح بأن ينسب إلى نفسه الفواحش والقبائح وأيضاً فقوله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ إنما يتناول ما كان مظروفاً في السماوات والأرض وذلك من صفات الأجسام لا من صفات الأفعال التي هي أعراض
أجاب أصحابنا عنه بأن هذه الإضافة إضافة الفعل بدليل أن القادر على القبيح والحسن لا يرجح الحسن على القبيح إلا إذا حصل في قلبه ما يدعوه إلى فعل الحسن وتلك الداعية حاصلة بتخليق الله تعالى دفعاً للتسلسل وإذا كان المؤثر في حصول فعل العبد هو مجموع القدرة والداعية وثبت أن مجموع القدرة والداعية بخلق الله تعالى ثبت أن فعل العبد مستند إلى الله تعالى خلقاً وتكويناً بواسطة فعل السبب فهذا تمام القول في هذه المناظرة
المسألة الرابعة قوله تعالى وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ زعمت الفلاسفة أنه إنما قدم ذكر ما في السماوات على ذكر ما في الأرض لأن الأحوال السماوية أسباب للأحوال الأرضية فقدم السبب على المسبب وهذا يدل على أن جميع الأحوال الأرضية مستندة إلى الأحوال السماوية ولا شك أن الأحوال السماوية مستندة إلى خلق الله وتكوينه فيكون الجبر لازماً أيضاً من هذا الوجه
المسألة الخامسة قال تعالى وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الامُورُ فأعاد ذكر الله في أول الآيتين والغرض منه تأكيد التعظيم والمقصود أن تمنه مبدأ المخلوقات وإليه معادهم فقوله وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ إشارة إلى أنه سبحانه هو الأول وقوله وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الامُورُ إشارة إلى أنه هو الآخر وذلك يدل إحاطة حكمه وتصرفه وتدبيره بأولهم وآخرهم وأن الأسباب منتسبة إليه وأن الحاجات منقطعة عنده
المسألة السادسة كلمة إِلَى في قوله وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الامُورُ لا تدل على كونه تعالى في مكان وجهة بل المراد أن رجوع الخلق إلى موضع لا ينفذ فيه حكم أحد إلا حكمه ولا يجري فيه قضاء أحد إلا قضاؤه
كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة ٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ ءَامَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الاٌّ دُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ

في النظم وجهان الأول أنه تعالى لما أمر المؤمنين ببعض الأشياء ونهاهم عن بعضها وحذرهم من أن يكونوا مثل أهل الكتاب في التمرد والعصيان وذكر عقيبه ثواب المطيعين وعقاب الكافرين كان الغرض من كل هذه الآيات حمل المؤمنين المكلفين على الانقياد والطاعة ومنعهم عن التمرد والمعصية ثم إنه تعالى أردف ذلك بطريق آخر يقتضي حمل المؤمنين على الانقياد والطاعة فقال كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة ٍ والمعنى أنكم كنتم في اللوح المحفوظ خير الأمم وأفضلهم فاللائق بهذا أن لا تبطلوا على أنفسكم هذه الفضيلة وأن لا تزيلوا عن أنفسكم هذه الخصلة المحمودة وأن تكونوا منقادين مطيعين في كل ما يتوجه عليكم من التكاليف الثاني أن الله تعالى لما ذكر كمال حال الأشقياء وهو قوله فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ ( آل عمران 106 ) وكمال حال السعداء وهو قوله وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ ( آل عمران 107 ) نبه على ما هو السبب لوعيد الأشقياء بقوله وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لّلْعَالَمِينَ ( آل عمران 108 ) يعني أنهم إنما استحقوا ذلك بأفعالهم القبيحة ثم نبه في هذه الآية على ما هو السبب لوعد السعداء بقوله كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة ٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ أي تلك السعادات والكمالات والكرامات إنما فازوا بها في الآخرة لأنهم كانوا في الدنيا خَيْرَ أُمَّة ٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى لفظة كَانَ قد تكون تامة وناقصة وزائدة على ما هو مشروح في النحو واختلف المفسرون في قوله كُنتُمْ على وجوه الأول أن ( كان ) ههنا تامة بمعنى الوقوع والحدوث وهو لا يحتاج إلى خبر والمعنى حدثتم خير أمة ووجدتم وخلقتم خير أمة ويكون قوله خَيْرَ أُمَّة ٍ بمعنى الحال وهذا قول جمع من المفسرين الثاني أن ( كان ) ههنا ناقصة وفيه سؤال وهو أن هذا يوهم أنهم كانوا موصوفين بهذه الصفة وأنهم ما بقوا الآن عليها
والجواب عنه أن قوله ( كان ) عبارة عن وجود الشيء في زمان ماض على سبيل الإبهام ولا يدل ذلك على انقطاع طارىء بدليل قوله اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً ( نوح 10 ) قوله وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ( الفتح 14 ) إذا ثبت هذا فنقول للمفسرين على هذا التقدير أقوال أحدها كنتم في علم الله خير أمة وثانيها كنتم في الأمم الذين كانوا قبلكم مذكورين بأنكم خير أمة وهو كقوله أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ ( الفتح 29 ) إلى قوله ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِى التَّوْرَاة ِ ( الفتح 29 ) فشدتهم على الكفار أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وثالثها كنتم في اللوح المحفوظ موصوفين بأنكم خير أمة ورابعها كنتم منذ آمنتم خير أمة أخرجت للناس وخامسها قال أبو مسلم قوله كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة ٍ تابع لقوله وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ ( آل عمران 107 ) والتقدير أنه يقال لهم عند الخلود في الجنة كنتم في دنياكم خير أمة فاستحقيتم ما أنتم فيه من الرحمة وبياض الوجه بسببه ويكون ما عرض بين أول القصة وآخرها كما لا يزال يعرض في القرآن من مثله وسادسها قال بعضهم لو شاء الله تعالى لقال ( أنتم ) وكان هذا التشريف حاصلاً لكلنا ولكن قوله كُنتُمْ مخصوص بقوم معينين من أصحاب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وهم السابقون الأولون ومن صنع مثل ما صنعوا وسابعها كنتم مذ آمنتم خير أمة تنبيهاً على أنهم كانوا موصوفين بهذه الصفة مذ كانوا
الاحتمال الثالث أن يقال ( كان ) ههنا زائدة وقال بعضهم قوله كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة ٍ هو كقوله وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ ( الأعراف 86 ) وقال في موضع آخر وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ ( الأنفال 26 ) وإضمار كان وإظهارها سواء إلا أنها تذكر للتأكيد ووقوع الأمر لا محالة قال ابن الأنباري هذا القول ظاهر

الاختلال لأن ( كان ) تلغى متوسطة ومؤخرة ولا تلغى متقدمة تقول العرب عبد الله كان قائم وعبد الله قائم كان على أن كان ملغاة ولا يقولون كان عبد الله قائم على إلغائها لأن سبيلهم أن يبدؤا بما تنصرف العناية إليه والمعنى لا يكون في محل العناية وأيضاً لا يجوز إلغاء الكون في الآية لانتصاب خبره وإذا عمل الكون في الخبر فنصبه لم يكن ملغى
الاحتمال الرابع أن تكون ( كان ) بمعنى صار فقوله كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة ٍ معناه صرتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر أي صرتم خير أمة بسبب كونكم آمرين بالمعروف وناهين عن المنكر ومؤمنين بالله
ثم قال وَلَوْ ءامَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ يعني كما أنكم اكتسبتم هذه الخيرية بسبب هذه الخصال فأهل الكتاب لو آمنوا لحصلت لهم أيضاً صفة الخيرية والله أعلم
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية على أن إجماع الأمة حجة وتقريره من وجهين الأول قوله تعالى وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّة ٌ يَهْدُونَ بِالْحَقّ ( الأعراف 159 ) ثم قال في هذه الآية كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة ٍ فوجب بحكم هذه الآية أن تكون هذه الآية أفضل من أولئك الذين يهدون بالحق من قوم موسى وإذا كان هؤلاء أفضل منهم وجب أن تكون هذه الأمة لا تحكم إلا بالحق إذ لو جاز في هذه الآية أن تحكم بما ليس بحق لامتنع كون هذه الأمة أفضل من الأمة التي تهدي بالحق لأن المبطل يمتنع أن يكون خيراً من المحق فثبت أن هذه الأمة لا تحكم إلا بالحق وإذا كان كذلك كان إجماعهم حجة
الوجه الثاني وهو ( أن الألف واللام ) في لفظ الْمَعْرُوفِ ولفظ الْمُنْكَرَ يفيدان الاستغراق وهذا يقتضي كونهم آمرين بكل معروف وناهين عن كل منكر ومتى كانوا كذلك كان إجماعهم حقاً وصدقاً لا محالة فكان حجة والمباحث الكثيرة فيه ذكرناها في الأصول
المسألة الثالثة قال الزجاج قوله كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة ٍ ظاهر الخطاب فيه مع أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولكنه عام في كل الأمة ونظيره قوله كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ ( البقرة 183 ) كِتَابَ عَلِيمٌ الْقِصَاصِ ( البقرة 178 ) فإن كل ذلك خطاب مع الحاضرين بحسب اللفظ ولكنه عام في حق الكل كذا ههنا
المسألة الرابعة قال القفال رحمه الله أصل الأمة الطائفة المجتمعة على الشيء الواحد فأمة نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) هم الجماعة الموصوفون بالإيمان به والإقرار بنبوته وقد يقال لكل من جمعتهم دعوته أنهم أمته إلا أن لفظ الأمة إذا أطلقت وحدها وقع على الأول ألا ترى أنه إذا قيل أجمعت الأمة على كذا فهم منه الأول وقال عليه الصلاة والسلام ( أمتي لا تجتمع على ضلالة ) وروي أنه عليه الصلاة والسلام يقول يوم القيامة ( أمتي أمتي ) فلفظ الأمة في هذه المواضع وأشباهها يفهم منه المقرون بنبوته فأما أهل دعوته فإنه إنما يقال لهم إنهم أمة الدعوة ولا يطلق عليهم إلا لفظ الأمة بهذا الشرط
أما قوله أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ففيه قولان الأول أن المعنى كنتم خير الأمم المخرجة للناس في جميع الأعصار فقوله أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ أي أظهرت للناس حتى تميزت وعرفت وفصل بينها وبين غيرها والثاني أن قوله لِلنَّاسِ من تمام قوله كُنتُمْ والتقدير كنتم للناس خير أمة ومنهم من قال

أُخْرِجَتْ صلة والتقدير كنتم خير أمة للناس
ثم قال تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
واعلم أن هذا كلام مستأنف والمقصود منه بيان علة تلك الخيرية كما تقول زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم ويقوم بما يصلحهم وتحقيق الكلام أنه ثبت في أصول الفقه أن ذكر الحكم مقروناً بالوصف المناسب له يدل على كون ذلك الحكم معللاً بذلك الوصف فههنا حكم تعالى بثبوت وصف الخيرية لهذه الأمة ثم ذكر عقيبه هذا الحكم وهذه الطاعات أعني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان فوجب كون تلك الخيرية معللة بهذه العبادات
وههنا سؤالات
السؤال الأول من أي وجه يقتضي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله كون هذه الأمة خير الأمم مع أن هذه الصفات الثلاثة كانت حاصلة في سائر الأمم
والجواب قال القفال تفضيلهم على الأمم الذين كانوا قبلهم إنما حصل لأجل أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر بآكد الوجوه وهو القتال لأن الأمر بالمعروف قد يكون بالقلب وباللسان وباليد وأقواها ما يكون بالقتال لأنه إلقاء النفس في خطر القتل وأعرف المعروفات الدين الحق والإيمان بالتوحيد والنبوة وأنكر المنكرات الكفر بالله فكان الجهاد في الدين محملاً لأعظم المضار لغرض إيصال الغير إلى أعظم المنافع وتخليصه من أعظم المضار فوجب أن يكون الجهاد أعظم العبادات ولما كان أمر الجهاد في شرعنا أقوى منه في سائر الشرائع لا جرم صار ذلك موجباً لفضل هذه الأمة على سائر الأمم وهذا معنى ما روي عن ابن عباس أنه قال في تفسير هذه الآية قوله كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة ٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تأمرونهم أن يشهدوا أن لا إلاه إلا الله ويقروا بما أنزل الله وتقاتلونهم عليه و ( لا إلاه إلا الله ) أعظم المعروف والتكذيب هو أنكر المنكر
ثم قال القفال فائدة القتال على الدين لا ينكره منصف وذلك لأن أكثر الناس يحبون أديانهم بسبب الألف والعادة ولا يتأملون في الدلائل التي تورد عليهم فإذا أكره على الدخول في الدين بالتخويف بالقتل دخل فيه ثم لا يزال يضعف ما في قلبه من حب الدين الباطل ولا يزال يقوى في قلبه حب الدين الحق إلى أن ينتقل من الباطل إلى الحق ومن استحقاق العذاب الدائم إلى استحقاق الثواب الدائم
السؤال الثاني لم قدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان بالله في الذكر مع أن الإيمان بالله لا بد وأن يكون مقدماً على كل الطاعات
والجواب أن الإيمان بالله أمر مشترك فيه بين جميع الأمم المحقة ثم إنه تعالى فضل هذه الأمة على سائر الأمم المحقة فيمتنع أن يكون المؤثر في حصول هذه الخيرية هو الإيمان الذي هو القدر المشترك بين الكل بل المؤثر في حصول هذه الزيادة هو كون هذه الأمة أقوى حالاً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من سائر الأمم فإذن المؤثر في حصول هذه الخيرية هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأما الإيمان بالله فهو شرط لتأثير هذا المؤثر في هذا الحكم لأنه ما لم يوجد الإيمان لم يصر شيء من الطاعات مؤثراً في

صفة الخيرية فثبت أن الموجب لهذه الخيرية هو كونهم آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر وأما إيمانهم فذاك شرط التأثير والمؤثر ألصق بالأثر من شرط التأثير فلهذا السبب قدم الله تعالى ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ذكر الإيمان
السؤال الثالث لم اكتفى بذكر الإيمان بالله ولم يذكر الإيمان بالنبوة مع أنه لا بد منه
والجواب الإيمان بالله يستلزم الإيمان بالنبوّة لأن الإيمان بالله لا يحصل إلا إذا حصل الإيمان بكونه صادقاً والإيمان بكونه صادقاً لا يحصل إلا إذا كان الذي أظهر المعجز على وفق دعواه صادقاً لأن المعجز قائم مقام التصديق بالقول فلما شاهدنا ظهور المعجز على وفق دعوى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كان من ضرورة الإيمان بالله الإيمان بنبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فكان الاقتصار على ذكر الإيمان بالله تنبيهاً على هذه الدقيقة
ثم قال تعالى وَلَوْ ءامَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وفيه وجهان الأول ولو آمن أهل الكتاب بهذا الدين الذي لأجله حصلت صفة الخيرية لأتباع محمد عليه الصلاة والسلام لحصلت هذه الخيرية أيضاً لهم فالمقصود من هذا الكلام ترغيب أهل الكتاب في هذا الدين الثاني إن أهل الكتاب إنما آثروا دينهم على دين الإسلام حباً للرياسة واستتباع العلوم ولو آمنوا لحصلت لهم هذه الرياسة في الدنيا مع الثواب العظيم في الآخرة فكان ذلك خيراً لهم مما قنعوا به
واعلم أنه تعالى أتبع هذا الكلام بجملتين على سبيل الابتداء من غير عاطف إحداهما قوله مّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ( آل عمران 110 ) وثانيتهما قوله لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الاْدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ قال صاحب ( الكشاف ) هما كلامان واردان على طريق الاستطراد عند إجراء ذكر أهل الكتاب كما يقول القائل وعلى ذكر فلان فإن من شأنه كيت وكيت ولذلك جاء مِن غير عاطف
أما قوله مّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ففيه سؤالان
السؤال الأول الألف واللام في قوله الْمُؤْمِنُونَ للاستغراق أو للمعهود السابق
والجواب بل للمعهود السابق والمراد عبد الله بن سلاّم ورهطه من اليهود والنجاشي ورهطه من النصارى
السؤال الثاني الوصف إنما يذكر للمبالغة فأي مبالغة تحصل في وصف الكافر بأنه فاسق
والجواب الكافر قد يكون عدلاً في دينه وقد يكون فاسقاً في دينه فيكون مردوداً عند الطوائف كلهم لأن المسلمين لا يقبلونه لكفره والكفار لا يقبلونه لكونه فاسقاً فيما بينهم فكأنه قيل أهل الكتاب فريقان منهم من آمن والذين ما آمنوا فهم فاسقون في أديانهم فليسوا ممن يجب الاقتداء بهم ألبتة عند أحد من العقلاء
أما قوله تعالى لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى فاعلم أنه تعالى لما رغب المؤمنين في التصلب في إيمانهم وترك الالتفات إلى أقوال الكفار وأفعالهم بقوله كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة ٍ رغبهم فيه من وجه آخر وهو أنهم لا قدرة لهم على الاضرار بالمسلمين إلا بالقليل من القول الذي لا عبرة به ولو أنهم قاتلوا المسلمين صاروا منهزمين مخذولين وإذا كان كذلك لم يجب الالتفات إلى أقوالهم وأفعالهم وكل ذلك تقرير لما تقدم من

قوله إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ( آل عمران 100 ) فهذا وجه النظم فأما قوله لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى فمعناه أنه ليس على المسلمين من كفار أهل الكتاب ضرر وإنما منتهى أمرهم أن يؤذوكم باللسان إما بالطعن في محمد وعيسى عليهما الصلاة والسلام وإما بإظهار كلمة الكفر كقولهم عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ ( التوبة 30 ) و الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ( التوبة 30 ) و اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَة ٍ ( المائدة 73 ) وإما بتحريف نصوص التوراة والإنجيل وإما بإلقاء الشبه في الأسماع وإما بتخويف الضعفة من المسلمين ومن الناس من قال إن قوله إِلاَّ أَذًى استثناء منقطع وهو بعيد لأن كل الوجوه المذكورة يوجب وقوع الغم في قلوب المسلمين والغم ضرر فالتقدير لا يضروكم إلا الضرر الذي هو الأذى فهو استثناء صحيح والمعنى لن يضروكم إلا ضرراً يسيراً والأذى وقع موقع الضرر والأذى مصدر أذيت الشيء أذى
ثم قال تعالى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الاْدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ وهو إخبار بأنهم لو قاتلوا المسلمين لصاروا منهزمين مخذولين ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ أي إنهم بعد صيرورتهم منهزمين لا يحصل لهم شوكة ولا قوة البتة ومثله قوله تعالى وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الاْدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ ( الحشر 12 ) قوله قُلْ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ ( آل عمران 12 ) وقوله نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ( القمر 44 45 ) وكل ذلك وعد بالفتح والنصرة والظفر
واعلم أن هذه الآية اشتملت على الإخبار عن غيوب كثيرة منها أن المؤمنين آمنون من ضررهم ومنها أنهم لو قاتلوا المؤمنين لانهزموا ومنها أنه لا يحصل لهم قوة وشوكة بعد الانهزام وكل هذه الأخبار وقعت كما أخبر الله عنها فإن اليهود لم يقاتلوا إلا انهزموا وما أقدموا على محاربة وطلب رياسة إلا خذلوا وكل ذلك إخبار عن الغيب فيكون معجزاً وههنا سؤالات
السؤال الأول هب أن اليهود كذلك لكن النصارى ليسوا كذلك فهذا يقدح في صحة هذه الآيات قلنا هذه الآيات مخصوصة باليهود وأسباب النزول على ذلك فزال هذا الإشكال
السؤال الثاني هلا جزم قوله ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ
قلنا عدل به عن حكم الجزاء إلى حكم الأخبار ابتداء كأنه قيل أخبركم أنهم لا ينصرون والفائدة فيه أنه لو جزم لكان نفي النصر مقيداً بمقاتلتهم كتولية الأدبار وحين رفع كان نفي النصر وعداً مطلقاً كأنه قال ثم شأنهم وقصتهم التي أخبركم عنها وأبشركم بها بعد التولية أنهم لا يجدون النصرة بعد ذلك قط بل يبقون في الذلة والمهانة أبداً دائماً
السؤال الثالث ما الذي عطف عليه قوله ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ
الجواب هو جملة الشرط والجزاء كأنه قيل أخبركم أنهم إن يقاتلوكم ينهزموا ثم أخبركم أنهم لا ينصرون وإنما ذكر لفظ ثُمَّ لإفادة معنى التراخي في المرتبة لأن الإخبار بتسليط الخذلان عليهم أعظم من الاخبار بتوليتهم الأدبار

ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّة ُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَة ُ ذالِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِأايَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الاٌّ نْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذالِكَ بِمَا عَصَوْاْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ
واعلم أنه تعالى لما بيّن أنهم إن قاتلوا رجعوا مخذولين غير منصورين ذكر أنهم مع ذلك قد ضربت عليهم الذلة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قد ذكرنا تفسير هذه اللفظة في سورة البقرة والمعنى جعلت الذلة ملصقة ربهم كالشيء يضرب على الشيء فيلصق به ومنه قولهم ما هذا علي بضربة لازب ومنه تسمية الخراج ضريبة
المسألة الثانية الذلة هي الذل وفي المراد بهذا الذل أقوال الأول وهو الأقوى أن المراد أن يحاربوا ويقتلوا وتغنم أموالهم وتسبى ذراريهم وتملك أراضيهم فهو كقوله تعالى وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ( البقرة 191 )
ثم قال تعالى إِلاَّ بِحَبْلٍ مّنْ اللَّهِ والمراد إلا بعهد من الله وعصمة وذمام من الله ومن المؤمنين لأن عند ذلك تزول الأحكام فلا قتل ولا غنيمة ولا سبي الثاني أن هذه الذلة هي الجزية وذلك لأن ضرب الجزية عليهم يوجب الذلة والصغار والثالث أن المراد من هذه الذلة أنك لا ترى فيهم ملكاً قاهراً ولا رئيساً معتبراً بل هم مستخفون في جميع البلاد ذليلون مهينون
واعلم أنه لا يمكن أن يقال المراد من الذلة هي الجزية فقط أو هذه المهانة فقط لأن قول إِلاَّ بِحَبْلٍ مّنْ اللَّهِ يقتضي زوال تلك الذلة عند حصول هذا الحبل والجزية والصغار والدناءة لا يزول شيء منها عند حصول هذا الحبل فامتنع حمل الذلة على الجزية فقط وبعض من نصر هذا القول أجاب عن هذا السؤال بأن قال إن هذا الاستثناء منقطع وهو قول محمد بن جرير الطبري فقال اليهود قد ضربت عليهم الذلة سواء كانوا على عهد من الله أو لم يكونوا فلا يخرجون بهذا الاستثناء من الذلة إلى العزة فقوله إِلاَّ بِحَبْلٍ مّنْ اللَّهِ تقديره لكن قد يعتصمون بحبل من الله وحبل من الناس واعلم أن هذا ضعيف لأن حمل لفظ إِلا على ( لكن ) خلاف الظاهر وأيضاً إذا حملنا الكلام على أن المراد لكن قد يعتصمون بحبل من الله وحبل من الناس لم يتم هذا القدر فلا بد من إضمار الشيء الذي يعتصمون بهذه الأشياء لأجل الحذر عنه والإضمار خلاف الأصل فلا يصار إلى هذه الأشياء إلا عند الضرورة فإذا كان لا ضرورة ههنا إلى ذلك كان المصير إليه غير جائز بل ههنا وجه آخر وهو أن يحمل الذلة على كل هذه الأشياء أعني القتل والأسر وسبي

الذراري وأخذ المال وإلحاق الصغار والمهانة ويكون فائدة الاستثناء هو أنه لا يبقى مجموع هذه الأحكام وذلك لا ينافي بقاء بعض هذه الأحكام وهو أخذ القليل من أموالهم الذي هو مسمى بالجزية وبقاء المهانة والحقارة والصغار فيهم فهذا هو القول في هذا الموضع وقوله أَيْنَمَا ثُقِفُواْ أي وجدوا وصودفوا يقال ثقفت فلاناً في الحرب أي أدركته وقد مضى الكلام فيه عند قوله حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ( البقرة 191 )
المسألة الثالثة قوله إِلاَّ بِحَبْلٍ مّنْ اللَّهِ فيه وجوه الأول قال الفرّاء التقدير إلا أن يعتصموا بحبل من الله وأنشد على ذلك رأتني بحبلها فصدت مخافة
وفي الحبل روعاء الفؤاد فروق
واعترضوا عليه فقالوا لا يجوز حذف الموصول وإبقاء صلته لأن الموصول هو الأصل والصلة فرع فيجوز حذف الفرع لدلالة الأصل عليه أما حذف الأصل وإبقاء الفرع فهو غير جائز الثاني أن هذا الاستثناء واقع على طريق المعنى لأن معنى ضرب الذلة لزومها إياهم على أشد الوجوه بحيث لا تفارقهم ولا تنفك عنهم فكأنه قيل لا تنفك عنهم الذلة ولن يتخلصوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس الثالث أن تكون الباء بمعنى ( مع ) كقولهم اخرج بنا نفعل كذا أي معنا والتقدير إلا مع حبل من الله
المسألة الرابعة المراد من حبل الله عهده وقد ذكرنا فيما تقدم أن العهد إنما سمي بالحبل لأن الإنسان لما كان قبل العهد خائفاً صار ذلك الخوف مانعاً له من الوصول إلى مطلوبه فإذا حصل العهد توصل بذلك العهد إلى الوصول إلى مطلوبه فصار ذلك شبيهاً بالحبل الذي من تمسك به تخلص من خوف الضرر
فإن قيل إنه عطف على حبل الله حبلاً من الناس وذلك يقتضي المغايرة فكيف هذه المغايرة
قلنا قال بعضهم حبل الله هو الإسلام وحبل الناس هو العهد والذمة وهذا بعيد لأنه لو كان المراد ذلك لقال أو حبل من الناس وقال آخرون المراد بكلام الحبلين العهد والذمة والأمان وإنما ذكر تعالى الحبلين لأن الأمان المأخوذ من المؤمنين هو الأمان المأخوذ بإذن الله وهذا عندي أيضاً ضعيف والذي عندي فيه أن الأمان الحاصل للذمي قسمان أحدهما الذي نص الله عليه وهو أخد الجزية والثاني الذي فوض إلى رأي الإمام فيزيد فيه تارة وينقص بحسب الاجتهاد فالأول هو المسمى بحبل الله والثاني هو المسمى بحبل المؤمنين والله أعلم
ثم قال وَبَاءوا بِغَضَبٍ مّنَ اللَّهِ وقد ذكرنا أن معناه أنهم مكثوا ولبثوا وداموا في غضب الله وأصل ذلك مأخوذ من البوء وهو المكان ومنه تبوأ فلان منزل كذا وبوأته إياه والمعنى أنهم مكثوا في غضب من الله وحلوا فيه وسواء قولك حل بهم الغضب وحلوا به
ثم قال وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَة ُ والأكثرون حملوا المسكنة على الجزية وهو قول الحسن قال وذلك لأنه تعالى أخرج المسكنة عن الاستثناء وذلك يدل على أنها باقية عليهم غير زائلة عنهم والباقي عليهم ليس إلا الجزية وقال آخرون المراد بالمسكنة أن اليهودي يظهر من نفسه الفقر وإن كان غنياً موسراً وقال بعضهم هذا إخبار من الله سبحانه بأنه جعل اليهود أرزاقاً للمسلمين فيصيرون مساكين ثم إنه تعالى

لما ذكر هذه الأنواع من الوعيد قال ذالِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِئَايَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الاْنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقّ والمعنى أنه تعالى ألصق باليهود ثلاثة أنواع من المكروهات أولها جعل الذلة لازمة لهم وثانياً جعل غضب الله لازماً لهم وثالثها جعل المسكنة لازمة لهم ثم بيّن في هذه الآية أن العلة لإلصاق هذه الأشياء المكروهة بهم هي أنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق وهنا سؤالات
السؤال الأول هذه الذلة والمسكنة إنما التصقت باليهود بعد ظهور دولة الإسلام والذين قتلوا الأنبياء بغير حق هم الذين كانوا قبل محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بأدوار وأعصار فعلى هذا الموضع الذي حصلت فيه العلة وهو قتل الأنبياء لم يحصل فيه المعلول الذي هو الذلة والمسكنة والموضع الذي حصل فيه هذا المعلول لم تحصل فيه العلة فكان الإشكال لازماً
والجواب عنه أن هؤلاء المتأخرين وإن كان لم يصدر عنهم قتل الأنبياء عليهم السلام لكنهم كانوا راضين بذلك فإن أسلافهم هم الذين قتلوا الأنبياء وهؤلاء المتأخرون كانوا راضين بفعل أسلافهم فنسب ذلك الفعل إليهم من حيث كان ذلك الفعل القبيح فعلاً لآبائهم وأسلافهم مع أنهم كانوا مصوبين لأسلافهم في تلك الأفعال
السؤال الثاني لم كرر قوله ذالِكَ بِمَا عَصَواْ وما الحكمة فيه ولا يجوز أن يقال التكرير للتأكيد لأن التأكيد يجب أن يكون بشيء أقوى من المؤكد والعصيان أقل حالاً من الكفر فلم يجز تأكيد الكفر بالعصيان
والجواب من وجهين الأول أن علة الذلة والغضب والمسكنة هي الكفر وقتل الأنبياء وعلة الكفر وقتل الأنبياء هي المعصية وذلك لأنهم لما توغلوا في المعاصي والذنوب فكانت ظلمات المعاصي تتزايد حالاً فحالاً ونور الإيمان يضعف حالاً فحالاً ولم يزل كذلك إلى أن بطل نور الإيمان وحصلت ظلمة الكفر وإليه الإشارة بقوله كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ( المطففين 14 ) فقوله ذالِكَ بِمَا عَصَواْ إشارة إلى علة العلة ولهذا المعنى قال أرباب المعاملات من ابتلي بترك الآداب وقع في ترك السنن ومن ابتلي بترك السنن وقع في ترك الفريضة ومن ابتلي بترك الفريضة وقع في استحقار الشريعة ومن ابتلي بذلك وقع في الكفر الثاني يحتمل أن يريد بقوله ذالِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ من تقدم منهم ويريد بقوله ذالِكَ بِمَا عَصَواْ من حضر منهم في زمان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وعلى هذا لا يلزم التكرار فكأنه تعالى بيّن علة عقوبة من تقدم ثم بيّن أن من تأخر لما تبع من تقدم كان لأجل معصيته وعداوته مستوجباً لمثل عقوبتهم حتى يظهر للخلق أن ما أنزله الله بالفريقين من البلاء والمحنة ليس إلا من باب العدل والحكمة

لَيْسُواْ سَوَآءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّة ٌ قَآئِمَة ٌ يَتْلُونَ ءَايَاتِ اللَّهِ ءَانَآءَ الَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِى الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَائِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَروهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن في قوله لَيْسُواْ سَوَاء قولين أحدهما أن قوله لَيْسُواْ سَوَاء كلام تام وقوله مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّة ٌ قَائِمَة ٌ كلام مستأنف لبيان قوله لَيْسُواْ سَوَاء كما وقع قوله تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ( آل عمران 110 ) بياناً لقوله كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة ٍ ( آل عمران 110 ) والمعنى أن أهل الكتاب الذين سبق ذكرهم ليسوا سواء وهو تقرير لما تقدم من قوله مّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ثم ابتدأ فقال مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّة ٌ قَائِمَة ٌ وعلى هذا القول احتمالان أحدهما أنه لما قال مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّة ٌ قَائِمَة ٌ كان تمام الكلام أن يقال ومنهم أمة مذمومة إلا أنه أضمر ذكر الأمة المذمومة على مذهب العرب من أن ذكر أحد الضدين يغني عن ذكر الضد الآخر وتحقيقه أن الضدين يعلمان معاً فذكر أحدهما يستقل بإفادة العلم بهما فلا جرم يحسن إهمال الضد الآخر
قال أبو ذؤيب دعاني إليها القلب إني لامرؤ
مطيع فلا أدري أرشد طلابها
أراد ( أم غي ) فاكتفى بذكر الرشد عن ذكر الغي وهذا قول الفراء وابن الأنباري وقال الزجاج لا حاجة إلى إضمار الأمة المذمومة لأن ذكر الأمة المذمومة قد جرى فيما قبل هذه الآيات فلا حاجة إلى إضمارها مرة أخرى لأنا قد ذكرنا أنه لما كان العلم بالضدين معاً كان ذكر أحدهما مغنياً عن ذكر الآخر وهذا كما يقال زيد وعبد الله لا يستويان زيد عاقل دين زكي فيغني هذا عن أن يقال وعبد الله ليس كذلك فكذا ههنا لما تقدم قوله لَيْسُواْ سَوَاء أغنى ذلك عن الإضمار
والقول الثاني أن قوله لَيْسُواْ سَوَاء كلام غير تام ولا يجوز الوقف عنده بل هو متعلق بما بعده والتقدير ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة وأمة مذمومة فأمة رفع بليس وإنما قيل لَّيْسُواْ على مذهب من يقول أكلوني البراغيث وعلى هذا التقدير لا بد من إضمار الأمة المذمومة وهو اختيار أبي عبيدة إلا أن أكثر النحويين أنكروا هذا القول لاتفاق الأكثرين على أن قوله أكلوني البراغيث وأمثالها لغة ركيكة والله أعلم
المسألة الثانية يقال فلان وفلان سواء أي متساويان وقوم سواء لأنه مصدر لا يثنى ولا يجمع ومضى الكلام في سَوَآء في أول سورة البقرة

المسألة الثالثة في المراد بأهل الكتاب قولان الأول وعليه الجمهور أن المراد منه الذين آمنوا بموسى وعيسى عليهما السلام روي أنه لما أسلم عبد الله بن سلاّم وأصحابه قال لهم بعض كبار اليهود لقد كفرتم وخسرتم فأنزل الله تعالى لبيان فضلهم هذه الآية وقيل إنه تعالى لما وصف أهل الكتاب في الآية المتقدمة بالصفات المذمومة ذكر هذه الآية لبيان أن كل أهل الكتاب ليسوا كذلك بل فيهم من يكون موصوفاً بالصفات الحميدة والخصال المرضية قال الثوري بلغني أنها نزلت في قوم كانوا يصلون ما بين المغرب والعشاء وعن عطاء أنها نزلت في أربعين من أهل نجران واثنين وثلاثين من الحبشة وثلاثة من الروم كانوا على دين عيسى وصدقوا بمحمد عليه الصلاة والسلام
والقول الثاني أن يكون المراد بأهل الكتاب كل من أوتي الكتاب من أهل الأديان وعلى هذا القول يكون المسلمين من جملتهم قال تعالى ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ( فاطر 32 ) ومما يدل على هذا ما روى ابن مسعود أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أخر صلاة العشاء ثم خرج إلى المسجد فإذا الناس ينتظرون الصلاة فقال ( أما إنه ليس من أهل الأديان أحد يذكر الله تعالى هذه الساعة غيركم ) وقرأ هذه الآية قال القفال رحمه الله ولا يبعد أن يقال أولئك الحاضرون كانوا نفراً من مؤمني أهل الكتاب فقيل ليس يستوي من أهل الكتاب هؤلاء الذين آمنوا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فأقاموا صلاة العتمة في الساعة التي ينام فيها غيرهم من أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا ولم يبعد أيضاً أن يقال المراد كل من آمن بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فسماهم الله بأهل الكتاب كأنه قيل أولئك الذين سموا أنفسهم بأهل الكتاب حالهم وصفتهم تلك الخصال الذميمة والمسلمون الذين سماهم الله بأهل الكتاب حالهم وصفتهم هكذا يستويان فيكون الغرض من هذه الآية تقرير فضيلة أهل الإسلام تأكيداً لما تقدم من قوله كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة ٍ ( آل عمران 110 ) وهو كقوله أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ ( السجدة 18 )
ثم اعلم أنه تعالى مدح الأمة المذكورة في هذه الآية بصفات ثمانية
الصفة الأولى أنها قائمة وفيها أقوال الأول أنها قائمة في الصلاة يتلون آيات الله آناء الليل فعبّر عن تهجدهم بتلاوة القرآن في ساعات الليل وهو كقوله وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً ( الفرقان 64 ) وقوله إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَى ِ الَّيْلِ ( المزمل 20 ) وقوله قُمِ الَّيْلَ ( المزمل 2 ) وقوله وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ ( البقرة 238 ) والذي يدل على أن المراد من هذا القيام في الصلاة قوله وَهُمْ يَسْجُدُونَ والظاهر أن السجدة لا تكون إلا في الصلاة
والقول الثاني في تفسير كونها قائمة أنها ثابتة على التمسك بالدين الحق ملازمة له غير مضطربة في التمسك به كقوله إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ( آل عمران 75 ) أي ملازماً للاقتضاء ثابتاً على المطالبة مستقصياً فيها ومنه قوله تعالى قَائِمَاً بِالْقِسْطِ ( آل عمران 18 )
وأقول إن هذه الآية دلّت على كون المسلم قائماً بحق العبودية وقوله قَائِمَاً بِالْقِسْطِ يدل على أن المولى قائم بحق الربوبية في العدل والإحسان فتمت المعاهدة بفضل الله تعالى كما قال أَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ( البقرة 40 ) وهذا قول الحسن البصري واحتج عليه بما روي أن عمر بن الخطاب قال يا رسول

الله إن أناساً من أهل الكتاب يحدثوننا بما يعجبنا فلو كتبناه فغضب ( صلى الله عليه وسلم ) وقال أمتهوكون أنتم يا ابن الخطاب كما تهوكت اليهود قال الحسن متحيرون مترددون ( أما والذي نفسي بيده لقد أتيتكم بها بيضاء نقية ) وفي رواية أخرى قال عند ذلك ( إنكم لم تكلفوا أن تعملوا بما في التوراة والإنجيل وإنما أمرتم أن تؤمنوا بهما وتفوضوا علمهما إلى الله تعالى وكلفتم أن تؤمنوا بما أنزل علي في هذا الوحي غدوة ً وعشياً والذي نفس محمد بيده لو أدركني إبراهيم وموسى وعيسى لآمنوا بي واتبعوني ) فهذا الخبر يدل على أن الثبات على هذا الدين واجب وعدم التعلق بغيره واجب فلا جرم مدحهم الله في هذه الآية بذلك فقال مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّة ٌ قَائِمَة ٌ
القول الثالث أُمَّة ٌ قَائِمَة ٌ أي مستقيمة عادلة من قولك أقمت العود فقام بمعنى استقام وهذا كالتقرير لقوله كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة ٍ
الصفة الثانية قوله تعالى يَتْلُونَ ءايَاتِ اللَّهِ ءانَاء الَّيْلِ وفيه مسائل
المسألة الأولى يَتْلُونَ وَيُؤْمِنُونَ في محل الرفع صفتان لقوله أُمَّة ٍ أي أمة قائمة تالون مؤمنون
المسألة الثانية التلاوة القراءة وأصل الكلمة من الاتباع فكأن التلاوة هي اتباع اللفظ اللفظ
المسألة الثالثة آيات الله قد يراد بها آيات القرآن وقد يراد بها أصناف مخلوقاته التي هي دالة على ذاته وصفاته والمراد ههنا الأولى
المسألة الرابعة أَمَّنْ هُوَ أصلها في اللغة الأوقات والساعات وواحدها إنا مثل معى وأمعاء وإنى مثل نحى وإنحاء مكسور الأول ساكن الثاني قال القفال رحمه الله كأن الثاني مأخوذ منه لأنه انتظار الساعات والأوقات وفي الخبر أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال للرجل الذي أخر المجيء إلى الجمعة ( آذيت وآنيت ) أي دافعت الأوقات
الصفة الثالثة قوله تعالى وَهُمْ يَسْجُدُونَ وفيه وجوه الأول يحتمل أن يكون حالاً من التلاوة كأنهم يقرؤن القرآن في السجدة مبالغة في الخضوع والخشوع إلا أن القفال رحمه الله روى في ( تفسيره ) حديثاً أن ذلك غير جائز وهو قوله عليه السلام ( ألا إني نهيت أن أقرأ راكعاً أو ساجداً ) الثاني يحتمل أن يكون كلاماً مستقلاً والمعنى أنهم يقومون تارة يبتغون الفضل والرحمة بأنواع ما يكون في الصلاة من الخضوع لله تعالى وهو كقوله وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً ( الفرقان 64 ) وقوله أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء الَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الاْخِرَة َ وَيَرْجُواْ رَحْمَة َ رَبّهِ ( الزمر 9 ) قال الحسن يريح رأسه بقدميه وقدميه برأسه وهذا على معنى إرادة الراحة وإزالة التعب وإحداث النشاط الثالث يحتمل أن يكون المراد بقوله وَهُمْ يَسْجُدُونَ أنهم يصلون وصفهم بالتهجد بالليل والصلاة تسمى سجوداً وسجدة وركوعاً وركعة وتسبيحاً وتسبيحة قال تعالى وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ ( البقرة 43 ) أي صلوا وقال فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ( الروم 17 ) والمراد الصلاة الرابع يحتمل أن يكون المراد بقوله وَهُمْ يَسْجُدُونَ أي يخضعون ويخشعون لله لأن العرب تسمي الخشوع سجوداً كقوله وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ( النمل 49 ) وكل هذه الوجوه ذكرها القفال رحمه الله

الصفة الرابعة قوله يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ واعلم أن اليهود كانوا أيضاً يقومون في الليالي للتهجد وقراءة التوراة فلما مدح المؤمنين بالتهجد وقراءة القرآن أردف ذلك بقوله يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وقد بينا أن الإيمان بالله يستلزم الإيمان بجميع أنبيائه ورسله والإيمان باليوم الآخر يستلزم الحذر من المعاصي وهؤلاء اليهود ينكرون أنبياء الله ولا يحترزون عن معاصي الله فلم يحصل لهم الإيمان بالمبدأ والمعاد
واعلم أن كمال الإنسان أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به وأفضل الأعمال الصلاة وأفضل الأذكار ذكر الله وأفضل المعارف معرفة المبدأ ومعرفة المعاد فقوله يَتْلُونَ ءايَاتِ اللَّهِ ءانَاء الَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ إشارة إلى الأعمال الصالحة الصادرة عنهم وقوله يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ إشارة إلى فضل المعارف الحاصلة في قلوبهم فكان هذا إشارة إلى كمال حالهم في القوة العملية وفي القوة النظرية وذلك أكمل أحوال الإنسان وهي المرتبة التي يقال لها إنها آخر درجات الإنسانية وأول درجات الملكية
الصفة الخامسة قوله وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
الصفة السادسة قوله وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ واعلم أن الغاية القصوى في الكمال أن يكون تاماً وفوق التمام فكون الإنسان تاماً ليس إلا في كمال قوته العملية والنظرية وقد تقدم ذكره وكونه فوق التمام أن يسعى في تكميل الناقصين وذلك بطريقين إما بإرشادهم إلى ما ينبغي وهو الأمر بالمعروف أو يمنعهم عما لا ينبغي وهو النهي عن المنكر قال ابن عباس رضي الله عنهما يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ أي بتوحيد الله وبنبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ أي ينهون عن الشرك بالله وعن إنكار نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) واعلم أن لفظ المعروف والمنكر مطلق فلم يجز تخصيصه بغير دليل فهو يتناول كل معروف وكل منكر
الصفة السابعة قوله وَيُسَارِعُونَ فِى الْخَيْراتِ وفيه وجهان أحدهما أنهم يتبادرون إليها خوف الفوت بالموت والآخر يعملونها غير متثاقلين فإن قيل أليس أن العجلة مذمومة قال عليه الصلاة والسلام ( العجلة من الشيطان والتأني من الرحمن ) فما الفرق بين السرعة وبين العجلة قلنا السرعة مخصوصة بأن يقدم ما ينبغي تقديمه والعجلة مخصوصة بأن يقدم ما لا ينبغي تقديمه فالمسارعة مخصوصة بفرط الرغبة فيما يتعلق بالدين لأن من رغب في الأمر آثر الفور على التراخي قال تعالى وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَة ٍ مّن رَّبّكُمْ ( آل عمران 133 ) وأيضاً العجلة ليست مذمومة على الإطلاق بدليل قوله تعالى وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبّ لِتَرْضَى ( طه 84 )
الصفة الثامنة قوله وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ والمعنى وأولئك الموصوفون بما وصفوا به من جملة الصالحين الذين صلحت أحوالهم عند الله تعالى ورضيهم واعلم أن الوصف بذلك غاية المدح ويدل عليه القرآن والمعقول أما القرآن فهو أن الله تعالى مدح بهذا الوصف أكابر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقال بعد ذكر إسماعيل وإدريس وذي الكفل وغيرهم وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِى رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مّنَ الصَّالِحِينَ ( الأنبياء 86 ) وذكر حكاية عن سليمان عليه السلام أنه قال وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ( النمل 19 ) وقال فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ( التحريم 4 ) وأما المعقول فهو أن الصلاح ضد الفساد وكل ما لا ينبغي أن يكون فهو فساد سواء كان ذلك في العقائد أو في الأعمال فإذا كان كل ما حصل من باب

ما ينبغي أن يكون فقد حصل الصلاح فكان الصلاح دالاً على أكمل الدرجات
ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الصفات الثمانية قال وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَروهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَروهُ بالياء على المغايبة لأن الكلام متصل بما قبله من ذكر مؤمني أهل الكتاب يتلون ويسجدون ويؤمنون ويأمرون وينهون ويسارعون ولن يضيع لهم ما يعلمون والمقصود أن جهال اليهود لما قالوا لعبد الله بن سلاّم إنكم خسرتم بسبب هذا الإيمان قال تعالى بل فازوا بالدرجات العظمى فكان المقصود تعظيمهم ليزول عن قلبهم أثر كلام أولئك الجهال ثم هذا وإن كان بحسب اللفظ يرجع إلى كل ما تقدم ذكره من مؤمني أهل الكتاب فإن سائر الخلق يدخلون فيه نظراً إلى العلة
وأما الباقون فإنهم قرؤا بالتاء على سبيل المخاطبة فهو ابتداء خطاب لجميع المؤمنين على معنى أن أفعال مؤمني أهل الكتاب ذكرت ثم قال وما تفعلوا من خير معاشر المؤمنين الذين من جملتكم هؤلاء فلن تكفروه والفائدة أن يكون حكم هذه الآية عاماً بحسب اللفظ في حق جميع المكلفين ومما يؤكد ذلك أن نظائر هذه الآية جاءت مخاطبة لجميع الخلائق من غير تخصيص بقوم دون قوم كقوله وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ( البقرة 197 ) وما تفعلوا من خير يوف إليكم وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ وأما أبو عمرو فالمنقول عنه أنه كان يقرأ هذه الآية بالقراءتين
المسألة الثانية فَلَنْ أي لن تمنعوا ثوابه وجزاءه وإنما سمي منع الجزاء كفر لوجهين الأول أنه تعالى سمى إيصال الثواب شكراً قال الله تعالى خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ( البقرة 158 ) وقال فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا ( الإسراء 19 ) فلما سمى إيصال الجزاء شكراً سمى منعه كفراً والثاني أن الكفر في اللغة هو الستر فسمي منع الجزاء كفراً لأنه بمنزلة الجحد والستر
فإن قيل لم قال فَلَنْ فعداه إلى مفعولين مع أن شكر وكفر لا يتعديان إلا إلى واحد يقال شكر النعمة وكفرها
قلنا لأنا بينا أن معنى الكفر ههنا هو المنع والحرمان فكان كأنه قال فلن تحرموه ولن تمنعوا جزاءه
المسألة الثالثة احتج القائلون بالموازنة من الذاهبين إلى الإحباط بهذه الآية فقال صريح هذه الآية يدل على أنه لا بد من وصول أثر فعل العبد إليه فلو انحبط ولم ينحبط من المحبط بمقداره شيء لبطل مقتضى هذه الآية ونظير هذه الآية قوله تعالى أَعْمَالَهُمْ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ شَرّاً يَرَهُ ( الزلزلة 7 8 )
ثم قال وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ والمعنى أنه تعالى لما أخبر عن عدم الحرمان والجزاء أقام ما يجري مجرى الدليل عليه وهو أن عدم إيصال الثواب والجزاء إما أن يكون للسهو والنسيان وذلك محال في حقه لأنه عليم بكل المعلومات وإما أن يكون للعجز والبخل والحاجة وذلك محال لأنه إلاه جميع المحدثات فاسم

الله تعالى يدل على عدم العجز والبخل والحاجة وقوله عَلِيمٌ يدل على عدم الجهل وإذا انتفت هذه الصفات امتنع المنع من الجزاء لأن منع الحق لا بد وأن يكون لأجل هذه الأمور والله أعلم إنما قال عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ مع أنه عالم بالكل بشارة للمتقين بجزيل الثواب ودلالة على أنه لا يفوز عنده إلا أهل التقوى
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَنْ تُغْنِى َ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلَادُهُمْ مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
اعلم أنه تعالى ذكر في هذه الآيات مرة أحوال الكافرين في كيفية العقاب وأخرى أحوال المؤمنين في الثواب جامعاً بين الزجر والترغيب والوعد والوعيد فلما وصف من آمن من الكفار بما تقدم من الصفات الحسنة أتبعه تعالى بوعيد الكفار فقال إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِى َ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في قوله إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ قولان الأول المراد منه بعض الكفار ثم القائلون بهذا القول ذكروا وجوهاً أحدها قال ابن عباس يريد قريظة والنضير وذلك لأن مقصود رؤساء اليهود في معاندة الرسول ما كان إلا المال والدليل عليه قوله تعالى في سورة البقرة وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً ( البقرة 41 ) وثانيها أنها نزلت في مشركي قريش فإن أبا جهل كان كثير الافتخار بماله ولهذا السبب نزل فيه قوله وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً ( مريم 74 ) وقوله خَاطِئَة ٍ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَة َ ( العلق 17 18 ) وثالثها أنها نزلت في أبي سفيان فإنه أنفق مالاً كثيراً على المشركين يوم بدر وأحد في عداوة النبي ( صلى الله عليه وسلم )
والقول الثاني أن الآية عامة في حق جميع الكفار وذلك لأنهم كلهم كانوا يتعززون بكثرة الأموال وكانوا يعيرون الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وأتباعه بالفقر وكان من جملة شبههم أن قالوا لو كان محمد على الحق لما تركه ربه في هذا الفقر والشدة ولأن اللفظ عام ولا دليل يوجب التخصيص فوجب إجراؤه على عمومه وللأولين أن يقولوا إنه تعالى قال بعد هذه الآية مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فالضمير في قوله يُنفِقُونَ عائد إلى هذا الموضع وهو قوله إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثم إن قوله يُنفِقُونَ مخصوص ببعض الكفار فوجب أن يكون هذا أيضاً مخصوصاً
المسألة الثانية إنما خص تعالى الأموال والأولاد بالذكر لأن أنفع الجمادات هو الأموال وأنفع الحيوانات هو الولد ثم بيّن تعالى أن الكافر لا ينتفع بهما ألبتة في الآخرة وذلك يدل على عدم انتفاعه

بسائر الأشياء بطريق الأولى ونظيره قوله تعالى يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ( الشعراء 88 89 ) وقوله وَاتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا ( البقرة 48 ) الآية وقوله فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مّلْء الاْرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ ( آل عمران 91 ) وقوله وَمَا أَمْوالُكُمْ وَلاَ أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِى تُقَرّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى ( سبأ 37 ) ولما بيّن تعالى أنه لا انتفاع لهم بأموالهم ولا بأولادهم قال وَأُوْلئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن فساق أهل الصلاة لا يبقون في النار أبداً فقالوا قوله وَأُوْلئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ كلمة تفيد الحصر فإنه يقال أولئك أصحاب زيد لا غيرهم وهم المنتفعون به لا غيرهم ولما أفادت هذه الكلمة معنى الحصر ثبت أن الخلود في النار ليس إلا للكافر
مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِى هِاذِهِ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَاكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
اعلم أنه تعالى لما بيّن أن أموال الكفار لا تغني عنهم شيئاً ثم إنهم ربما أنفقوا أموالهم في وجوه الخيرات فيخطر ببال الإنسان أنهم ينتفعون بذلك فأزال الله تعالى بهذه الآية تلك الشبهة وبيّن أنهم لا ينتفعون بتلك الإنفاقات وإن كانوا قد قصدوا بها وجه الله
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى المثل الشبه الذي يصير كالعلم لكثرة استعماله فيما يشبه به وحاصل الكلام أن كفرهم يبطل ثواب نفقتهم كما أن الريح الباردة تهلك الزرع
فإن قيل فعلى هذا التقدير مثل إنفاقهم هو الحرث الذي هلك فكيف شبه الإنفاق بالريح الباردة المهلكة
قلنا المثل قسمان منه ما حصلت فيه المشابهة بين ما هو المقصود من الجملتين وإن لم تحصل المشابهة بين أجزاء الجملتين وهذا هو المسمى بالتشبيه المركب ومنه ما حصلت المشابهة فيه بين المقصود من الجملتين وبين أجزاء كل واحدة منهما فإذا جعلنا هذا المثل من القسم الأول زال السؤال وإن جعلناه من القسم الثاني ففيه وجوه الأول أن يكون التقدير مثل الكفر في إهلاك ما ينفقون كمثل الريح المهلكة للحرث الثاني مثل ما ينفقون كمثل مهلك ريح وهو الحرث الثالث لعلّ الإشارة في قوله مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ إلى ما أنفقوا في إيذاء رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في جمع العساكر عليه وكان هذا الإنفاق مهلكاً

لجميع ما أتوا به من أعمال الخير والبر وحينئذ يستقيم التشبيه من غير حاجة إلى إضمار وتقديم وتأخير والتقدير مثل ما ينفقون في كونه مبطلاً لما أتوا به قبل ذلك من أعمال البر كمثل ريح فيها صر في كونها مبطلة للحرث وهذا الوجه خطر ببالي عند كتابتي على هذا الموضع فإن انفاقهم في إيذاء الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) من أعظم أنواع الكفر ومن أشدها تأثيراً في إبطال آثار أعمال البر
المسألة الثانية اختلفوا في تفسير هذا الإنفاق على قولين الأول أن المراد بالإنفاق ههنا هو جميع أعمالهم التي يرجون الانتفاع بها في الآخرة سماه الله إنفاقاً كما سمى ذلك بيعاً وشراء في قوله إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ ( التوبة 111 ) إلى قوله فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ ( التوبة 111 ) ومما يدل على صحة هذا التأويل قوله تعالى لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ( آل عمران 92 ) والمراد به جميع أعمال الخير وقوله تعالى لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ( البقرة 188 ) والمراد جميع أنواع الانتفاعات
والقول الثاني وهو الأشبه أن المراد إنفاق الأموال والدليل عليه ما قبل هذه الآية وهو قوله لَن تُغْنِى َ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُم ( آل عمران 10 )
المسألة الثالثة قوله مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ المراد منه جميع الكفار أو بعضهم فيه قولان الأول المراد بالإخبار عن جميع الكفار وذلك لأن إنفاقهم إما أن يكون لمنافع الدنيا أو لمنافع الآخرة فإن كان لمنافع الدنيا لم يبق منه أثر ألبتة في الآخرة في حق المسلم فضلاً عن الكافر وإن كان لمنافع الآخرة لم ينتفع به في الآخرة لأن الكفر مانع من الانتفاع به فثبت أن جميع نفقات الكفار لا فائدة فيها في الآخرة ولعلّهم أنفقوا أموالهم في الخيرات نحو بناء الرباطات والقناطر والاحسان إلى الضعفاء والأيتام والأرامل وكان ذلك المنفق يرجو من ذلك الإنفاق خيراً كثيراً فإذا قدم الآخرة رأى كفره مبطلاً لآثار الخيرات فكان كمن زرع زرعاً وتوقع منه نفعاً كثيراً فأصابته ريح فأحرقته فلا يبقى معه إلا الحزن والأسف هذا إذا أنفقوا الأموال في وجوه الخيرات أما إذا أنفقوها فيما ظنوه أنه الخيرات لكنه كان من المعاصي مثل إنفاق الأموال في إيذاء الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وفي قتل المسلمين وتخريب ديارهم فالذي قلناه فيه أسد وأشد ونظير هذه الآية قوله تعالى وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً ( الفرقان 23 ) وقال إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَة ً ( الأنفال 36 ) وقوله وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَة ٍ ( النور 39 ) فكل ذلك يدل على الحسنات من الكفار لا تستعقب الثواب وكل ذلك مجموع في قوله تعالى إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ( المائدة 27 ) وهذا القول هو الأقوى والأصح
واعلم أنا إنما فسرنا الآية بخيبة هؤلاء الكفار في الآخرة ولا يبعد أيضاً تفسيرها بخيبتهم في الدنيا فإنهم أنفقوا الأموال الكثيرة في جمع العساكر وتحملوا المشاق ثم انقلب الأمر عليهم وأظهر الله الإسلام وقواه فلم يبق مع الكفار من ذلك الإنفاق إلا الخيبة والحسرة
والقول الثاني المراد منه الإخبار عن بعض الكفار وعلى هذا القول ففي الآية وجوه الأول أن المنافقين كانوا ينفقون أموالهم في سبيل الله ولكن على سبيل التقية والخوف من المسلمين وعلى سبيل المداراة لهم فالآية فيهم الثاني نزلت هذه الآية في أبي سفيان وأصحابه يوم بدر عند تظاهرهم على

الرسول عليه السلام الثالث نزلت في إنفاق سفلة اليهود على أحبارهم لأجل التحريف والرابع المراد ما ينفقون ويظنون أنه تقرب إلى الله تعالى مع أنه ليس كذلك
المسألة الرابعة اختلفوا في الصر على وجوه الأول قال أكثر المفسرين وأهل اللغة الصر البرد الشديد وهو قول ابن عباس وقتادة والسدي وابن زيد والثاني أن الصر هو السموم الحارة والنار التي تغلي وهو اختيار أبي بكر الأصم وأبي بكر بن الأنباري قال ابن الأنباري وإنما وصفت النار بأنها فِيهَا صِرٌّ لتصويتها عند الالتهاب ومنه صرير الباب والصرصر مشهور والصرة الصيحة ومنه قوله تعالى فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِى صَرَّة ٍ ( الذاريات 29 ) وروى ابن الأنباري بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنهما في فِيهَا صِرٌّ قال فيها نار وعلى القولين فالمقصود من التشبيه حاصل لأنه سواء كان برداً مهلكاً أو حراً محرقاً فإنه يصير مبطلاً للحرث والزرع فيصح التشبيه به
المسألة الخامسة المعتزلة احتجوا بهذه الآية على صحة القول بالإحباط وذلك لأنه كما أن هذه الريح تهلك الحرث فكذلك الكفر يهلك الإنفاق وهذا إنما يصح إذا قلنا إنه لولا الكفر لكان ذلك الإنفاق موجباً لمنافع الآخرة وحينئذ يصح القول بالإحباط وأجاب أصحابنا عنه بأن العمل لا يستلزم الثواب إلا بحكم الوعد والوعد من الله مشروط بحصول الإيمان فإذا حصل الكفر فات المشروط لفوات شرطه لأن الكفر أزاله بعد ثبوته ودلائل بطلان القول بالإحباط قد تقدمت في سورة البقرة
ثم قال تعالى أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وفيه سؤال وهو أن يقال لم لم يقتصر على قوله أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ وما الفائدة في قوله ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ
قلنا في تفسير قوله ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وجهان الأول أنهم عصوا الله فاستحقوا هلاك حرثهم عقوبة لهم والفائدة في ذكره هي أن الغرض تشبيه ما ينفقون بشيء يذهب بالكلية حتى لا يبقى منه شيء وحرث الكافرين الظالمين هو الذي يذهب بالكلية ولا يحصل منه منفعة لا في الدنيا ولا في الآخرة فأما حرث المسلم المؤمن فلا يذهب بالكلية لأنه وإن كان يذهب صورة فلا يذهب معنى لأن الله تعالى يزيد في ثوابه لأجل وصول تلك الأحزان إليه والثاني أن يكون المراد من قوله ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ هو أنهم زرعوا في غير موضع الزرع أو في غير وقته لأن الظلم وضع الشيء في غير موضعه وعلى هذا التفسير يتأكد وجه التشبيه فإن من زرع لا في موضعه ولا في وقته يضيع ثم إذا أصابته الريح الباردة كان أولى بأن يصير ضائعاً فكذا ههنا الكفار لما أتوا بالإنفاق لا في موضعه ولا في وقته ثم أصابه شؤم كفرهم امتنع أن لا يصير ضائعاً والله أعلم
ثم قال تعالى وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَاكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ والمعنى أن الله تعالى ما ظلمهم حيث لم يقبل نفقاتهم ولكنهم ظلموا أنفسهم حيث أتوا بها مقرونة بالوجوه المانعة من كونها مقبولة لله تعالى قال صاحب ( الكشاف ) قرىء وَلَاكِنِ بالتشديد بمعنى ولكن أنفسهم يظلمونها ولا يجوز أن يراد ولكنه أنفسهم يظلمون على إسقاط ضمير الشأن لأنه لا يجوز إلا في الشعر

ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَة ً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَآءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الاٌّ يَاتِ إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ
اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال المؤمنين والكافرين شرع في تحذير المؤمنين عن مخالطة الكافرين في هذه الآية وههنا مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في أن الذين نهى الله المؤمنين عن مخالطتهم من هم على أقوال الأول أنهم هم اليهود وذلك لأن المسلمين كانوا يشاورونهم في أمورهم ويؤانسونهم لما كان بينهم من الرضاع والحلف ظناً منهم أنهم وإن خالفوهم في الدين فهم ينصحون لهم في أسباب المعاش فنهاهم الله تعالى بهذه الآية عنه وحجة أصحاب هذا القول أن هذه الآيات من أولها إلى آخرها مخاطبة مع اليهود فتكون هذه الآية أيضاً كذلك الثاني أنهم هم المنافقون وذلك لأن المؤمنين كانوا يغترون بظاهر أقوال المنافقين ويظنون أنهم صادقون فيفشون إليهم الأسرار ويطلعونهم على الأحوال الخفية فالله تعالى منعهم عن ذلك وحجة أصحاب هذا القول أن ما بعد هذه الآية يدل على ذلك وهو قوله هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ ( آل عمران 119 ) ومعلوم أن هذا لا يليق باليهود بل هو صفة المنافقين ونظيره قوله تعالى في سورة البقرة وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ ( البقرة 14 ) الثالث المراد به جميع أصناف الكفار والدليل عليه قوله تعالى تَتَّخِذُواْ بِطَانَة ً مّن دُونِكُمْ فمنع المؤمنين أن يتخذوا بطانة من غير المؤمنين فيكون ذلك نهياً عن جميع الكفار وقال تعالى الْحَكِيمُ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء ( الممتحنة 1 ) ومما يؤكد ذلك ما روي أنه قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه ههنا رجل من أهل الحيرة نصراني لا يعرف أقوى حفظاً ولا أحسن خطأ منه فإن رأيت أن تتخذه كاتباً فامتنع عمر من ذلك وقال إذن اتخذت بطانة من غير المؤمنين فقد جعل عمر رضي الله عنه هذه الآية دليلاً على النهي عن اتخاذ بطانة وأما ما تمسكوا به من أن ما بعد الآية مختص بالمنافقين فهذا لا يمنع عموم أول الآية فإنه ثبت في أصول الفقه أن أول الآية إذا كان عاماً وآخرها إذا كان خاصاً لم يكن خصوص آخر الآية مانعاً من عموم أولها
المسألة الثانية قال أبو حاتم عن الأصمعي بطن فلان بفلان يبطن به بطوناً وبطانة إذا كان خاصاً به داخلاً في أمره فالبطانة مصدر يسمى به الواحد والجمع وبطانة الرجل خاصته الذين يبطنون أمره وأصله من البطن خلاف الظهر ومنه بطانة الثوب خلاف ظهارته والحاصل أن الذي يخصه الإنسان بمزيد التقريب يسمى بطانة لأنه بمنزلة ما يلي بطنه في شدة القرب منه

المسألة الثالثة قوله تعالى لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَة ً نكرة في سياق النفي فيفيد العموم
أما قوله مّن دُونِكُمْ ففيه مسائل
المسألة الأولى من دونكم أي من دون المسلمين ومن غير أهل ملتكم ولفظ مّن دُونِكُمْ يحسن حمله على هذا الوجه كما يقال الرجل قد أحسنتم إلينا وأنعمتم علينا وهو يريد أحسنتم إلى إخواننا وقال تعالى وَيَقْتُلُونَ النَّبِيّينَ بِغَيْرِ حَقّ ( آل عمران 21 ) أي آباؤهم فعلوا ذلك
المسألة الثانية في قوله مّن دُونِكُمْ احتمالان أحدهما أن يكون متعلقاً بقوله لاَ تَتَّخِذُواْ أي لا تتخذوا من دونكم بطانة والثاني أن يجعل وصفاً للبطانة والتقدير بطانة كائنات من دونكم
فإن قيل ما الفرق بين قوله لا تتخدوا من دونكم بطانة وبين قوله لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَة ً مّن دُونِكُمْ
قلنا قال سيبويه إنهم يقدمون الأهم والذي هم بشأنه أعني وههنا ليس المقصود اتخاذ البطانة إنما المقصود أن يتخذ منهم بطانة فكان قوله لا تتخذوا من دونكم بطانة أقوى في إفادة المقصود
المسألة الثالثة قيل مِنْ زائدة وقيل للنبيّين لا تتخذوا بطانة من دون أهل ملتكم فإن قيل هذه الآية تقتضي المنع من مصاحبة الكفار على الإطلاق وقال تعالى لاَّ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ ( الممتحنة 8 9 ) فكيف الجمع بينهما قلنا لا شك أن الخاص يقدم على العام
واعلم أنه تعالى لما منع المؤمنين من أن يتخذوا بطانة من الكافرين ذكر علة هذا النهي وهي أمور أحدها قوله تعالى لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وفيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) يقال ( ألا ) في الأمر يألوا إذا قصر فيه ثم استعمل معدى إلى مفعولين في قولهم لا آلوك نصحاً ولا آلوك جهداً على التضمين والمعنى لا أمنعك نصحاً ولا أنقصك جهداً
المسألة الثانية الخبال الفساد والنقصان وأنشدوا
لستم بيد إلا يداً أبدا مخبولة العضد
أي فاسدة العضد منقوضتها ومنه قيل رجل مخبول ومخبل ومختبل لمن كان ناقص العقل وقال تعالى لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ( التوبة 47 ) أي فساداً وضرراً
المسألة الثالثة قوله لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً أي لا يدعون جهدهم في مضرتكم وفسادكم يقال ما ألوته نصحاً أي ما قصرت في نصيحته وما ألوته شراً مثله
المسألة الرابعة انتصب الخبال بلا يألونكم لأنه يتعدى إلى مفعولين كما ذكرنا وإن شئت نصبته على المصدر لأن معنى قوله لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً لا يخبلونكم خبالا وثانيها قوله تعالى وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ وفيه مسائل

المسألة الأولى يقال وددت كذا أي أحببته و ( العنت ) شدة الضرر والمشقة قال تعالى وَلَوْ شَاء اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ ( البقرة 220 )
المسألة الثانية ما مصدرية كقوله ذَلِكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِى الاْرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ ( غافر 75 ) أي بفرحكم ومرحكم وكقوله وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا وَالاْرْضِ وَمَا طَحَاهَا ( الشمس 5 6 ) أي بنائه إياها وطحيه إياها
المسألة الثالثة تقدير الآية أحبوا أن يضروكم في دينكم ودنياكم أشد الضرر
المسألة الرابعة قال الواحدي رحمه الله لا محل لقوله وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ لأنه استئناف بالجملة وقيل إنه صفة لبطانة ولا يصح هذا لأن البطانة قد وصفت بقوله لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً فلو كان هذا صفة أيضاً لوجب إدخال حرف العطف بينهما
المسألة الخامسة الفرق بين قوله لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وبين قوله وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ في المعنى من وجوه الأول لا يقصرون في إفساد دينكم فإن عجزوا عنه ودوا إلقاءكم في أشد أنواع الضرر الثاني لا يقصرون في إفساد أموركم في الدنيا فإذا عجزوا عنه لم يزل عن قلوبهم حب إعناتكم والثالث لا يقصرون في إفساد أموركم فإن لم يفعلوا ذلك لمانع من خارج فحب ذلك غير زائل عن قلوبهم وثالثها قوله تعالى قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْواهِهِمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى البغضاء أشد البغض فالبغض مع البغضاء كالضر مع الضراء
المسألة الثانية الأفواه جمع الفم والفم أصله فوه بدليل أن جمعه أفواه يقال فوه وأفواه كسوط وأسواط وطوق وأطواق ويقال رجل مفوه إذا أجاد القول وأفوه إذا كان واسع الفهم فثبت أن أصل الفم فوه بوزن سوط ثم حذفت الهاء تخفيفاً ثم أقيم الميم مقام الواو لأنهما حرفان شفويان
المسألة الثالثة قوله قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْواهِهِمْ إن حملناه على المنافقين ففي تفسيره وجهان الأول أنه لا بد في المنافق من أن يجري في كلامه ما يدل على نفاقه ومفارقة لطريق المخالصة في الود والنصيحة ونظيره قوله تعالى وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ الْقَوْلِ ( محمد 30 ) الثاني قال قتادة قد بدت البغضاء لأوليائهم من المنافقين والكفار لاطلاع بعضهم بعضاً على ذلك أما إن حملناه على اليهود فتفسير قوله قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْواهِهِمْ فهو أنهم يظهرون تكذيب نبيّكم وكتابكم وينسبونكم إلى الجهل والحمق ومن اعتقد في غيره الإصرار على الجهل والحمق امتنع أن يحبه بل لا بد وأن يبغضه فهذا هو المراد بقوله قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْواهِهِمْ
ثم قال تعالى وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ يعني الذي يظهر على لسان المنافق من علامات البغضاء أقل مما في قلبه من النفرة والذي يظهر من علامات الحقد على لسانه أقل مما في قلبه من الحقد ثم بيّن تعالى أن إظهار هذه الأسرار للمؤمنين من نعمه عليهم فقال قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الاْيَاتِ إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ أي من أهل العقل والفهم والدراية وقيل إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ الفصل بين ما يستحقه العدو والولي والمقصود بعثهم على استعمال العقل في تأمل هذه الآية وتدبر هذه البينات والله أعلم

هَآأَنتُمْ أُوْلا ءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الاٌّ نَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ
واعلم أن هذا نوع آخر من تحذير المؤمنين عن مخالطة المنافقين وفيه مسائل
المسألة الأولى قال السيد السرخسي سلمه الله ها للتنبيه و وَإِذْ أَنتُمْ مبتدأ و أُوْلاء خبره و تُحِبُّونَهُمْ في موضع النصب على الحال من اسم الإشارة ويجوز أن تكون أُوْلاء بمعنى الذين و تُحِبُّونَهُمْ صلة له والموصول مع الصلة خبر أَنتُمْ وقال الفرّاء أُوْلاء خبر و تُحِبُّونَهُمْ خبر بعد خبر
المسألة الثانية أنه تعالى ذكر في هذه الآية أموراً ثلاثة كل واحد منها على أن المؤمن لا يجوز أن يتخذ غير المؤمن بطانة لنفسه فالأول قوله تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وفيه وجوه أحدها قال المفضل تُحِبُّونَهُمْ تريدون لهم الإسلام وهو خير الأشياء وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ لأنهم يريدون بقاءكم على الكفر ولا شك أنه يوجب الهلاك الثاني تُحِبُّونَهُمْ بسبب ما بينكم وبينهم من الرضاعة والمصاهرة وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ بسبب كونكم مسلمين الثالث تُحِبُّونَهُمْ بسبب أنهم أظهروا لكم الإيمان وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ بسبب أن الكفر مستقر في باطنهم الرابع قال أبو بكر الأصم تُحِبُّونَهُمْ بمعنى أنكم لا تريدون إلقاءهم في الآفات والمحن وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ بمعنى أنهم يريدون إلقاءكم في الآفات والمحن ويتربصون بكم الدوائر الخامس تُحِبُّونَهُمْ بسبب أنهم يظهرون لكم محبة الرسول ومحب المحبوب محبوب وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ لأنهم يعلمون أنكم تحبون الرسول وهم يبغضون الرسول ومحب المبغوض مبغوض السادس تُحِبُّونَهُمْ أي تخالطونهم وتفشون إليهم أسراركم في أمور دينكم وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ أي لا يفعلون مثل ذلك بكم
واعلم أن هذه الوجوه التي ذكرناها إشارة إلى الأسباب الموجبة لكون المؤمنين يحبونهم ولكونهم يبغضون المؤمنين فالكل داخل تحت الآية ولما عرفهم تعالى كونهم مبغضين للمؤمنين وعرفهم أنهم مبطلون في ذلك البغض صار ذلك داعياً من حيث الطبع ومن حيث الشرع إلى أن يصير المؤمنون مبغضين لهؤلاء المنافقين
والسبب الثاني لذلك قوله تعالى وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلّهِ وفيه مسائل
المسألة الأولى في الآية إضمار والتقدير وتؤمنون بالكتاب كله وهم لا يؤمنون به وحسن الحذف لما بينا أن الضدين يعلمان معاً فكان ذكر أحدهما مغنياً عن ذكر الآخر
المسألة الثانية ذكر ( الكتاب ) بلفظ الواحد لوجوه أحدها أنه ذهب به مذهب الجنس كقولهم كثر الدرهم في أيدي الناس وثانيها أن المصدر لا يجمع إلا على التأويل فلهذا لم يقل الكتب بدلاً من الكتاب وإن كان لو قاله لجاز توسعاً

المسألة الثالثة تقدير الكلام أنكم تؤمنون بكتبهم كلها وهم مع ذلك يبغضونكم فما بالكم مع ذلك تحبونهم وهم لا يؤمنون بشيء من كتابكم وفيه توبيخ شديد بأنهم في باطلهم أصلب منكم في حقكم ونظيره قوله تعالى فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ ( النساء 104 )
السبب الثالث لقبح هذه المخالطة قوله تعالى هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ والمعنى أنه إذا خلا بعضهم ببعض أظهروا شدة العداوة وشدة الغيظ على المؤمنين حتى تبلغ تلك الشدة إلى عض الأنامل كما يفعل ذلك أحدنا إذا اشتد غيظه وعظم حزنه على فوات مطلوبه ولما كثر هذا الفعل من الغضبان صار ذلك كناية عن الغضب حتى يقال في الغضبان إنه يعض يده غيظاً وإن لم يكن هناك عض قال المفسرون وإنما حصل لهم هذا الغيظ الشديد لما رأوا من ائتلاف المؤمنين واجتماع كلمتهم وصلاح ذات بينهم
ثم قال تعالى قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ وهو دعاء عليهم بأن يزداد غيظهم حتى يهلكوا به والمراد من ازدياد الغيظ ازدياد ما يوجب لهم ذلك الغيظ من قوة الإسلام وعزة أهله وما لهم في ذلك من الذل والخزي
فإن قيل قوله قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ أمر لهم بالإقامة على الغيظ وذلك الغيظ كفر فكان هذا أمراً بالإقامة على الكفر وذلك غير جائز
قلنا قد بينا أنه دعاء بازدياد ما يوجب هذا الغيظ وهو قوة الإسلام فسقط السؤال
وأيضاً فإنه دعاء عليهم بالموت قبل بلوغ ما يتمنون
ثم قال إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ وفيه مسائل
المسألة الأولى ( ذات ) كلمة وضعت لنسبة المؤنث كما أن ( ذو ) كلمة وضعت لنسبة المذكر والمراد بذات الصدور الخواطر القائمة بالقلب والدواعي والصوارف الموجودة فيه وهي لكونها حالة في القلب منتسبة إليه فكانت ذات الصدور والمعنى أنه تعالى عالم بكل ما حصل في قلوبكم من الخواطر والبواعث والصوارف
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) يحتمل أن تكون هذه الآية داخلة في جملة المقول وأن لا تكون أما الأول فالتقدير أخبرهم بما يسرونه من عضهم الأنامل غيظاً إذا خلوا وقل لهم إن الله عليم بما هو أخفى مما تسرونه بينكم وهو مضمرات الصدور فلا تظنوا أن شيئاً من أسراركم يخفى عليه أما الثاني وهو أن لا يكون داخلاً في المقول فمعناه قل لهم ذلك يا محمد ولا تتعجب من اطلاعي إياك على ما يسرون فإني أعلم ما هو أخفى من ذلك وهو ما أضمروه في صدورهم ولم يظهروه بألسنتهم ويجوز أن لا يكون ثم قول وأن يكون قوله قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ أمر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بطيب النفس وقوة الرجاء والاستبشار بوعد الله إياه أنهم يهلكون غيظاً بإعزاز الإسلام وإذلالهم به كأنه قيل حدث نفسك بذلك والله تعالى أعلم

إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَة ٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَة ٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ
واعلم أن هذه الآية من تمام وصف المنافقين فبيّن تعالى أنهم مع ما لهم من الصفات الذميمة والأفعال القبيحة مترقبون نزول نوع من المحنة والبلاء بالمؤمنين وفي الآية مسائل
المسألة الأولى المس أصله باليد ثم يسمى كل ما يصل إلى الشيء ( ماساً ) على سبيل التشبيه فيقال فلان مسّه التعب والنصب قال تعالى وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ ( ق 38 ) وقال وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِى الْبَحْرِ ( الإسراء 67 ) قال صاحب ( الكشاف ) المس ههنا بمعنى الإصابة قال تعالى إِن تُصِبْكَ حَسَنَة ٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَة ٌ ( التوبة 50 ) وقوله مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَة ٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيّئَة ٍ فَمِن نَّفْسِكَ ( النساء 79 ) وقال إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً ( المعارج 20 21 )
المسألة الثانية المراد من الحسنة ههنا منفعة الدنيا على اختلاف أحوالها فمنها صحة البدن وحصول الخصب والفوز بالغنيمة والاستيلاء على الأعداء وحصول المحبة والالفة بين الأحباب والمراد بالسيئة أضدادها وهي المرض والفقر والهزيمة والانهزام من العدو وحصول التفرق بين الأقارب والقتل والنهب والغارة فبيّن تعالى أنهم يحزنون ويغتمون بحصول نوع من أنواع الحسنة للمسلمين ويفرحون بحصول نوع من أنواع السيئة لهم
المسألة الثالثة يقال ساء الشيء يسوء فهو سيء والأنثى سيئة أي قبح ومنه قوله تعالى سَاء مَا يَعْمَلُونَ ( المائدة 66 ) والسوأى ضد الحسنى
ثم قال وَأَن تَصْبِرُواْ يعني على طاعة الله وعلى ما ينالكم فيها من شدة وغم وَتَتَّقُواْ كل ما نهاكم عنه وتتوكلوا في أموركم على الله لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو لاَ يَضُرُّكُمْ بفتح الياء وكسر الضاد وسكون الراء وهو من ضاره يضيره ويضوره ضوراً إذا ضرَّه والباقون لاَ يَضُرُّكُمْ بضم الضاد والراء المشددة وهو من الضر وأصله يضرركم جزماً فأدغمت الراء في الراء ونقلت ضمة الراء الأولى إلى الضاد وضمت الراء الأخيرة اتباعاً لأقرب الحركات وهي ضمة الضاد وقال بعضهم هو على التقديم والتأخير تقديره ولا يضركم كيدهم شيئاً إن تصبروا وتتقوا قال صاحب ( الكشاف ) وروى المفضل عن عاصم لاَ يَضُرُّكُمْ بفتح الراء
المسألة الثانية الكيد هو أن يحتال الإنسان ليوقع غيره في مكروه وابن عباس فسّر الكيد ههنا بالعداوة

المسألة الثالثة شَيْئاً نصب على المصدر أي شيئاً من الضر
المسألة الرابعة معنى الآية أن كل من صبر على أداء أوامر الله تعالى واتقى كل ما نهى الله عنه كان في حفظ الله فلا يضره كيد الكافرين ولا حيل المحتالين
وتحقيق الكلام في ذلك هو أنه سبحانه إنما خلق الخلق للعبودية كما قال وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( الذاريات 56 ) فمن وفى بعهد العبودية في ذلك فالله سبحانه أكرم من أن لا يفي بعهد الربوبية في حفظه عن الآفات والمخافات وإليه الإشارة بقوله وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ ( الطلاق 2 3 ) إشارة إلى أنه يوصل إليه كل ما يسره وقال بعض الحكماء إذا أردت أن تكبت من يحسد فاجتهد في اكتساب الفضائل
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرىء بما يعملون بالياء على سبيل المغايبة بمعنى أنه عالم بما يعملون في معاداتكم فيعاقبهم عليه ومن قرأ بالتاء على سبيل المخاطبة فالمعنى أنه عالم محيط بما تعملون من الصبر والتقوى فيفعل بكم ما أنتم أهله
المسألة الثانية إطلاق لفظ المحيط على الله مجاز لأن المحيط بالشيء هو الذي يحيط به من كل جوانبه وذلك من صفات الأجسام لكنه تعالى لما كان عالماً بكل الأشياء قادراً على كل الممكنات جاز في مجاز اللغة أنه محيط بها ومنه قوله وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِمْ مُّحِيطٌ ( البروج 20 ) وقال وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ ( البقرة 19 ) وقال وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ( طه 11 ) وقال وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَى ْء عَدَداً ( الجن 28 )
المسألة الثالثة إنما قال إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ولم يقل إن الله محيط بما يعملون لأنهم يقدمون الأهم والذي هم بشأنه أعني وليس المقصود ههنا بيان كونه تعالى عالماً بينا أن جميع أعمالهم معلومة لله تعالى ومجازيهم عليها فلا جرم قد ذكر العمل والله أعلم
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّى ءُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ
اعلم أنه تعالى لما قال وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً ( آل عمران 120 ) أتبعه بما يدلهم على سنة الله تعالى فيهم في باب النصرة والمعونة ودفع مضار العدو إذا هم صبروا واتقوا وخلاف ذلك فيهم إذا لم

يصبروا فقال وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ يعني أنهم يوم أحد كانوا كثيرين للقتال فلما خالفوا أمر الرسول انهزموا ويوم بدر كانوا قليلين غير مستعدين للقتال فلما أطاعوا أمر الرسول غلبوا واستولوا على خصومهم وذلك يؤكد قولنا وفيه وجه آخر وهو أن الانكسار يوم أحد إنما حصل بسبب تخلف عبد الله بن أُبي بن سلول المنافق وذلك يدل على أنه لا يجوز اتخاذ هؤلاء المنافقين بطانة وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ فيه ثلاثة أوجه الأول تقديره واذكر إذ غدوت والثاني قال أبو مسلم هذا كلام معطوف بالواو على قوله قَدْ كَانَ لَكُمْ ءايَة ٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَة ٌ تُقَاتِلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَة ٌ ( آل عمران 13 ) يقول قد كان لكم في نصر الله تلك الطائفة القليلة من المؤمنين على الطائفة الكثيرة من الكافرين موضع اعتبار لتعرفوا به أن الله ناصر المؤمنين وكان لهم مثل ذلك من الآية إذ غدا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يبوىء المؤمنين مقاعد للقتال والثالث العامل فيه محيط تقديره والله بما يعملون محيط إذ غدوت
المسألة الثانية اختلفوا في أن هذا اليوم أي يوم هو فالأكثرون أنه يوم أحد وهو قول ابن عباس والسدي وابن إسحاق والربيع والأصم وأبي مسلم وقيل إنه يوم بدر وهو قول الحسن وقيل إنه يوم الأحزاب وهو قول مجاهد ومقاتل حجة من قال هذا اليوم هو يوم أحد وجوه الأول أن أكثر العلماء بالمغازي زعموا أن هذه الآية نزلت في وقعة أُحد الثاني أنه تعالى قال بعد هذه الآية وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ ( آل عمران 123 ) والظاهر أنه معطوف على ما تقدم ومن حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه وأما يوم الأحزاب فالقوم إنما خالفوا أمر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يوم أحد لا يوم الأحزاب فكانت قصة أحد أليق بهذا الكلام لأن المقصود من ذكر هذه القصة تقرير قوله وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً فثبت أن هذا اليوم هو يوم أحد الثالث أن الانكسار واستيلاء العدو كان في يوم أحد أكثر منه في يوم الأحزاب لأن في يوم أحد قتلوا جمعاً كثيراً من أكابر الصحابة ولم يتفق ذلك يوم الأحزاب فكان حمل الآية على يوم أحد أولى
السمألة الثالثة روي أن المشركين نزلوا بأحد يوم الأربعاء فاستشار رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أصحابه ودعا عبد الله بن أبي بن سلول ولم يدعه قط قبلها فاستشاره فقال عبد الله وأكثر الأنصار يا رسول الله أقم بالمدينة ولا تخرج إليهم والله ما خرجنا منها إلى عدو قط إلا أصاب منا ولا دخل عدو علينا إلا أصبنا منه فكيف وأنت فينا فدعهم فإن أقاموا أقاموا بشر موضع وإن دخلوا قتلهم الرجال في وجوههم ورماهم النساء والصبيان بالحجارة وإن رجعوا رجعوا خائبين وقال آخرون أخرج بنا إلى الأكلب لئلا يظنوا أنا قد خفناهم فقال عليه الصلاة والسلام ( إني قد رأيت في منامي بقراً تذبح حولي فأولتها خيراً ورأيت في ذباب سيفي ثلماً فأولته هزيمة ورأيت كأني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم ) فقال قوم من المسلمين من الذين فاتتهم ( بدر ) وأكرمهم الله بالشهادة يوم أحد أخرج بنا إلى أعدائنا فلم يزالوا به حتى دخل فلبس لأمته فلما لبس ندم القوم وقالوا بئسما صنعنا نشير على رسول الله والوحي يأتيه فقالوا له اصنع يا رسول الله ما رأيت فقال ( لا ينبغي لنبي أن يلبس لأمته فيضعها حتى يقاتل ) فخرج يوم الجمعة بعد صلاة الجمعة وأصبح بالشعب من أحد يوم السبت للنصف من شوال فمشى على رجليه وجعل

يصف أصحابه للقتال كأنما يقوم بهم القدح إن رأى صدراً خارجاً قال له تأخر وكان نزوله في جانب الوادي وجعل ظهره وعسكره إلى أحد وأمر عبد الله بن جبير على الرماة وقال ادفعوا عنا بالنبل حتى لا يأتونا من ورائنا وقال عليه الصلاة والسلام لأصحابه اثبتوا في هذا المقام فإذا عاينوكم ولوكم الأدبار فلا تطلبوا المدبرين ولا تخرجوا من هذا المقام ثم إن الرسول عليه الصلاة والسلام لما خالف رأى عبد الله بن أبي شق عليه ذلك وقال أطاع الولدان وعصاني ثم قال لأصحابه إن محمداً إنما يظفر بعدوه بكم وقد وعد أصحابه أن أعداءهم إذا عاينوهم انهزموا فإذا رأيتم أعداءهم فانهزموا فيتبعوكم فيصير الأمر على خلاف ما قاله محمد عليه السلام فلما التقى الفريقان انهزم عبد الله بالمنافقين وكان جملة عسكر المسلمين ألفاً فانهزم عبد الله بن أُبي مع ثلثمائة فبقيت سبعمائة ثم قواهم الله مع ذلك حتى هزموا المشركين فلما رأى المؤمنون انهزام القوم وكان الله تعالى بشرهم بذلك طمعوا أن تكون هذه الواقعة كواقعة بدر فطلبوا المدبرين وتركوا ذلك الموضع وخالفوا أمر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بعد أن أراهم ما يحبون فأراد الله تعالى أن يفطمهم عن هذا الفعل لئلا يقدموا على مخالفة الرسول عليه السلام وليعلموا أن ظفرهم إنما حصل يوم بدو ببركة طاعتهم لله ولرسوله ومتى تركهم الله مع عدوهم لم يقوموا لهم فنزع الله الرعب من قلوب المشركين فكثر عليهم المشركون وتفرق العسكر عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كما قال تعالى إِذَا تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِى أُخْرَاكُمْ ( آل عمران 153 ) وشج وجه الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وكسرت رباعيته وشلت يد طلحة دونه ولم يبق معه إلا أبو بكر وعلي والعباس وسعد ووقعت الصيحة في العسكر أن محمداً قد قتل وكان رجل يكنى أبا سفيان من الأنصار نادى الأنصار وقال هذا رسول الله فرجع إليه المهاجرون والأنصار وكان قتل منهم سبعون وكثر فيهم الجراح فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( رحم الله رجلاً ذب عن إخوانه ) وشد على المشركين بمن معه حتى كشفهم عن القتلى والجرحى والله أعلم
والمقصود من القصة أن الكفار كانوا ثلاثة آلاف والمسلمون كانوا ألفاً وأقل ثم رجع عبد الله بن أُبي مع ثلثمائة من أصحابه فبقي الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) مع سبعمائة فأعانهم الله حتى هزموا الكفار ثم لما خالفوا أمر الرسول واشتغلوا بطلب الغنائم انقلب الأمر عليهم وانهزموا ووقع ما وقع وكل ذلك يؤكد قوله تعالى وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً ( آل عمران 120 ) وأن المقبل من أعانه الله والمدبر من خذله الله
المسألة الرابعة يقال بوأته منزلاً وبوأت له منزلاً أي أنزلته فيه والمباءة والباءة المنزل وقوله مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ أي مواطن ومواضع وقد اتسعوا في استعمال المقعد والمقام بمعنى المكان ومنه قوله تعالى فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ ( القمر 55 ) وقال قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ ( النمل 39 ) أي من مجلسك وموضع حكمك وإنما عبر عن الأمكنة ههنا بالمقاعد لوجهين الأول وهو أنه عليه السلام أمرهم أن يثبتوا في مقاعدهم لا ينتقلوا عنها والقاعد في مكان لا ينتقل عنه فسمى تلك الأمكنة بالمقاعد تنبيهاً على أنهم مأمورون بأن يثبتوا فيها ولا ينتقلوا عنها ألبتة والثاني أن المقاتلين قد يقعدون في الأمكنة المعينة إلى أن يلاقيهم العدو فيقوموا عند الحاجة إلى المحاربة فسميت تلك الأمكنة بالمقاعد لهذا الوجه
المسألة الخامسة قوله وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوّىء الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ يروى أنه عليه السلام غدا من منزل عائشة رضي الله عنها فمشى على رجليه إلى أحد وهذا قول مجاهد والواقدي فدل هذا

النص على أن عائشة رضي الله عنها كانت أهلاً للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقال تعالى الطَّيّبَاتِ لِلطَّيّبِينَ وَالطَّيّبُونَ لِلْطَّيّبَاتِ ( النور 26 ) فدل هذا النص على أنها مطهرة مبرأة عن كل قبيح ألا ترى أن ولد نوح لما كان كافراً قال إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ( هود 46 ) وكذلك امرأة لوط
ثم قال تعالى وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أي سميع لأقوالكم عليم بضمائركم ونياتكم فإنا ذكرنا أنه عليه السلام شاور أصحابه في ذلك الحرب فمنهم من قال له أقم بالمدينة ومنهم من قال اخرج إليهم وكان لكل أحد غرض آخر فيما يقول فمن موافق ومن مخالف فقال تعالى أنا سميع لما يقولون عليم بما يضمرون
ثم قال تعالى إِذْ هَمَّتْ طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وفيه مسائل
المسألة الأولى العامل في قوله إِذْ هَمَّتْ طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ فيه وجوه الأول قال الزجاج العامل فيه التبوئة والمعنى كانت التبوئة في ذلك الوقت الثاني العامل فيه قوله سَمِيعٌ عَلِيمٌ الثالث يجوز أن يكون بدلاً من إِذْ غَدَوْتَ
المسألة الثانية الطائفتان حيان من الأنصار بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس لما انهزم عبد الله بن أُبي همت الطائفتان باتباعه فعصمهم الله فثبتوا مع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ومن العلماء من قال إن الله تعالى أبهم ذكرهما وستر عليهما فلا يجوز لنا أن نهتك ذلك الستر
المسألة الثالثة الفشل الجبن والخور فإن قيل الهم بالشيء هو العزم فظاهر الآية يدل على أن الطائفتين عزمتا على الفشل والترك وذلك معصية فكيف بهما أن يقال والله وليهما
والجواب الهم قد يراد به العزم وقد يراد به الفكر وقد يراد به حديث النفس وقد يراد به ما يظهر من القول الدال على قوة العدو وكثرة عدده ووفور عدده لأن أي شيء ظهر من هذا الجنس صح أن يوصف من ظهر ذلك منه بأنه هم بأن يفشل من حيث ظهر منه ما يوجب ضعف القلب فكان قوله إِذْ هَمَّتْ طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ لا يدل على أن معصية وقعت منهما وأيضاً فبتقدير أن يقال إن ذلك معصية لكنها من باب الصغائر لا من باب الكبائر بدليل قوله تعالى وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا فإن ذلك الهم لو كان من باب الكبائر لما بقيت ولاية الله لهما
ثم قال تعالى وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ عبد الله وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا كقوله وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ ( الحجرات 9 )
المسألة الثانية في المعنى وجوه الأول أن المراد منه بيان أن ذلك الهم ما أخرجهما عن ولاية الله تعالى الثاني كأنه قيل الله تعالى ناصرهما ومتولي أمرهما فكيف يليق بهما هذا الفشل وترك التوكل على الله تعالى الثالث فيه تنبيه على أن ذلك الفشل إنما لم يدخل في الوجود لأن الله تعالى وليهما فأمدهما بالتوفيق والعصمة والغرض منه بيان أنه لولا توفيقه سبحانه وتسديده لما تخلص أحد عن ظلمات المعاصي ويدل على صحة هذا التأويل قوله تعالى بعده هذه الآية وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ
فإن قيل ما معنى ما روي عن بعضهم عند نزول هذه الآية أنه قال والله ما يسرنا أنا لم نهم بما همت الطائفتان به وقد أخبرنا الله تعالى نأنه وليهما

قلنا معنى ذلك فرط الاستبشار بما حصل لهم من الشرف بثناء الله تعالى وإنزاله فيهم آية ناطقة بصحة الولاية وأن تلك الهمة ما أخرجتهم عن ولاية الله تعالى
ثم قال وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ التوكل تفعل من وكل أمره إلى فلان إذا عتمد فيه كفايته عليه ولم يتوله بنفسه وفي الآية إشارة إلى أنه ينبغي أن يدفع الإنسان ما يعرض له من مكروه وآفة بالتوكل على الله وأن يصرف الجزع عن نفسه بذلك التوكل
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّة ٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
في كيفية النظم وجهان الأول أنه تعالى لما ذكر قصة أحد أتبعها بذكر قصة بدر وذلك لأن المسلمين يوم بدر كانوا في غاية الفقر والعجز والكفار كانوا في غاية الشدة والقوة ثم إنه تعالى سلّط المسلمين على المشركين فصار ذلك من أقوى الدلائل على أن العاقل يجب أن لا يتوسل إلى تحصيل غرضه ومطلوبه إلا بالتوكل على الله والاستعانة به والمقصود من ذكر هذه القصة تأكيد قوله وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً ( آل عمران 120 ) وتأكيد قوله وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ( آل عمران 122 ) الثاني أنه تعالى حكى عن الطائفتين أنهما همتا بالفشل
ثم قال وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ يعني من كان الله ناصراً له ومعيناً له فكيف يليق به هذا الفشل والجبن والضعف ثم أكد ذلك بقصة بدر فإن المسلمين كانوا في غاية الضعف ولكن لما كان الله ناصراً لهم فازوا بمطلوبهم وقهروا خصومهم فكذا ههنا فهذا تقرير وجه النظم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في بدر أقوال الأول بدر اسم بئر لرجل يقال له بدر فسميت البئر باسم صاحبها هذا قول الشعبي الثاني أنه اسم للبئر كما يسمى البلد باسم من غير أن ينقل إليه اسم صاحبه وهذا قول الواقدي وشيوخه وأنكروا قول الشعبي وهو ماء بين مكة والمدينة
المسألة الثانية أَذِلَّة ٍ جمع ذليل قال الواحدي الأصل في الفعيل إذا كان صفة أن يجمع على فعلاء كظريف وظرفاء وكثير وكثراء وشريك وشركاء إلا أن لفظ فعلاء اجتنبوه في التضعيف لأنهم لو قالوا قليل وقللاء وخليل وخللاء لاجتمع حرفان من جنس واحد فعدل إلى أفعلة لأن من جموع الفعيل الأفعلة كجريب وأجربة وقفيز وأقفزة فجعلوه جمع ذليل أذلة قال صاحب ( الكشاف ) الأذلة جمع قلة وإنما ذكر جمع القلة ليدل على أنهم مع ذلهم كانوا قليلين
المسألة الثالثة قوله وَأَنتُمْ أَذِلَّة ٌ في موضع الحال وإنما كانوا أذلة لوجوه الأول أنه تعالى قال وَلِلَّهِ الْعِزَّة ُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ( المنافقون 8 ) فلا بد من تفسير هذا الذل بمعنى لا ينافي مدلول هذه الآية وذلك هو تفسيره بقلة العدد وضعف الحال وقلة السلاح والمال وعدم القدرة على مقاومة العدو ومعنى الذل الضعف عن المقاومة ونقيضه العز وهو القوة والغلبة روي أن المسلمين كانوا ثلثمائة وبضعة عشر وما كان

فيهم إلا فرس واحد وأكثرهم كانوا رجالة وربما كان الجمع منهم يركب جملاً واحداً والكفار قريبين من ألف مقاتل ومعهم مائة فرس مع الأسلحة الكثيرة والعدة الكاملة الثاني لعل المراد أنهم كانوا أذلة في زعم المشركين واعتقادهم لأجل قلة عددهم وسلاحهم وهو مثل ما حكى الله عن الكفار أنهم قالوا لَيُخْرِجَنَّ الاْعَزُّ مِنْهَا الاْذَلَّ ( المنافقون 8 ) الثالث أن الصحابة قد شاهدوا الكفار في مكة في القوة والثروة وإلى ذلك الوقت ما اتفق لهم استيلاء على أولئك الكفار فكانت هيبتهم باقية في قلوبهم واستعظامهم مقرراً في نفوسهم فكانوا لهذا السبب يهابونهم ويخافون منهم
ثم قال تعالى فَاتَّقُواْ اللَّهَ أي في الثبات مع رسوله لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ بتقواكم ما أنعم به عليكم من نصرته أو لعلّ الله ينعم عليكم نعمة أخرى تشكرونها فوضع الشكر موضع الإنعام لأنه سبب له
إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَة ِ ءَالاَفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَة ِ مُنزَلِينَ
فيه مسائل
المسألة الأولى اختلف المفسرون في أن هذا الوعد حصل يوم بدر أو يوم أُحد ويتفرع على هذين القولين بيان العامل في إِذْ فإن قلنا هذا الوعد حصل يوم بدر كان العامل في إِذْ قوله نَصَرَكُمُ اللَّهُ ( آل عمران 123 ) والتقدير إذ نصركم الله ببدر وأنتم أذلة تقول للمؤمنين وإن قلنا إنه حصل يوم أحد كان ذلك بدلاً ثانياً من قوله وَإِذْ غَدَوْتَ
إذا عرفت هذا فنقول
القول الأول أنه يوم أحد وهو مروي عن ابن عباس والكلبي والواقدي ومقاتل ومحمد بن إسحاق والحجة عليه من وجوه
الحجة الأولى أن يوم بدر إنما أمد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بألف من الملائكة قال تعالى في سورة الأنفال إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ إِنّى مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مّنَ الْمَلَئِكَة ِ ( الأنفال 9 ) فكيف يليق ما ذكر فيه ثلاثة آلاف وخمسة آلاف بيوم بدر
الحجة الثانية أن الكفار كانوا يوم بدر ألفاً أو ما يقرب منه والمسلمون كانوا على الثلث منهم لأنهم كانوا ثلثمائة وبضعة عشر فأنزل الله تعالى يوم بدر ألفاً من الملائكة فصار عدد الكفار مقابلاً بعدد الملائكة مع زيادة عدد المسلمين فلا جرم وقعت الهزيمة على الكفار فكذلك يوم أحد كان عدد المسلمين ألفاً وعدد الكفار ثلاثة آلاف فكان عدد المسلمين على الثلث من عدد الكفار في هذا اليوم كما في يوم بدر فوعدهم الله في هذا اليوم أن ينزل ثلاثة آلاف من الملائكة ليصير عدد الكفار مقابلاً بعدد الملائكة مع زيادة عدد المسلمين فيصير ذلك دليلاً على أن المسلمين يهزمونهم في هذا اليوم كما هزموهم يوم بدر ثم جعل الثلاثة

آلاف خمسة آلاف لتزداد قوة قلوب المسلمين في هذا اليوم ويزول الخوف عن قلوبهم ومعلوم أن هذا المعنى إنما يحصل إذا قلنا إن هذا الوعد إنما حصل يوم أحد
الحجة الثالثة أنه تعالى قال في هذه الآية بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مّن فَوْرِهِمْ هَاذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَة ِ ( آل عمران 125 ) والمراد ويأتوكم أعداؤكم من فورهم ويوم أحد هو اليوم الذي كان يأتيهم الأعداء فأما يوم بدر فالأعداء ما أتوهم بل هم ذهبوا إلى الأعداء
فإن قيل لو جرى قوله تعالى إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَة ِ في يوم أحد ثم إنه ما حصل هذا الإمداد لزم الكذب
والجواب عنه من وجهين الأول أن إنزاله خمسة آلاف من الملائكة كان مشروطاً بشرط أن يصبروا ويتقوا في المغانم ثم أنهم لم يصبروا ولم يتقوا في المغانم بل خالفوا أمر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فلما فات الشرط لا جرم فات المشروط وأما إنزال ثلاثة آلاف من الملائكة فإنما وعد الرسول بذلك للمؤمنين الذين بوأهم مقاعد للقتال وأمرهم بالسكون والثبات في تلك المقاعد فهذا يدل على أنه ( صلى الله عليه وسلم ) إنما وعدهم بهذا الوعد بشرط أن يثبتوا في تلك المقاعد فلما أهملوا هذا الشرط لا جرم لم يحصل المشروط
الوجه الثاني في الجواب لا نسلم أن الملائكة ما نزلت روى الواقدي عن مجاهد أنه قال حضرت الملائكة يوم أُحد ولكنهم لم يقاتلوا وروي أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أعطى اللواء معصب بن عمير فقتل مصعب فأخذه ملك في صورة مصعب فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تقدم يا مصعب فقال الملك لست بمصعب فعرف الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أنه ملك أمد به وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قال كنت أرمي السهم يومئذ فيرده على رجل أبيض حسن الوجه وما كنت أعرفه فظننت أنه ملك فهذا ما نقوله في تقرير هذا الوجه
إذا عرفت هذا فنقول نظم الآية على هذا التأويل أنه تعالى ذكر قصة أحد ثم قال وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أي يجب أن يكون توكلهم على الله لا على كثرة عددهم وعددهم فلقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فكذلك هو قادر على مثل هذه النصرة في سائر المواضع ثم بعد هذا أعاد الكلام إلى قصة أحد فقال إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَة ِ ءالاَفٍ مّنَ الْمَلَئِكَة ِ
القول الثاني أن هذا الوعد كان يوم بدر وهو قول أكثر المفسرين واحتجوا على صحته بوجوه
الحجة الأولى أن الله تعالى قال وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّة ٌ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ كذا وكذا فظاهر هذا الكلام يقتضي أن الله تعالى نصرهم ببدر حينما قال الرسول للمؤمنين هذا الكلام وهذا يقتضي أنه عليه الصلاة والسلام قال هذا الكلام يوم بدر
الحجة الثانية أن قلة العدد والعدد كانت يوم بدر أكثر وكان الاحتياج إلى تقوية القلب ذلك اليوم أكثر فكان صرف هذا الكلام إلى ذلك اليوم أولى
الحجة الثالثة أن الوعد بإنزال ثلاثة آلاف من الملائكة كان مطلقاً غير مشروط بشرط فوجب أن يحصل وهو إنما حصل يوم بدر لا يوم أُحد وليس لأحد أن يقول إنهم نزلوا لكنهم ما قاتلوا لأن الوعد كان بالإمداد بثلاثة آلاف من الملائكة وبمجرد الإنزال لا يحصل الإمداد بل لا بد من الإعانة والإعانة حصلت

يوم بدر ولم تحصل يوم أحد ثم القائلون بهذا القول أجابوا عن دلائل الأولين فقالوا
أما الحجة الأولى وهي قولكم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إنما أمد يوم بدر بألف من الملائكة
فالجواب عنها من وجهين الأول أنه تعالى أمد أصحاب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بألف ثم زاد فيهم ألفين فصاروا ثلاثة آلاف ثم زاد ألفين آخرين فصاروا خمسة آلاف فكأنه عليه الصلاة والسلام قال لهم ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بألف من الملائكة فقالوا بلى ثم قال ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف فقالوا بلى ثم قال لهم إن تصبروا وتتقوا يمددكم ربكم بخمسة آلاف وهو كما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال لأصحابه ( أيسركم أن تكونوا ربع أهل الجنة قالوا نعم قال أيسركم أن تكونوا ثلث أهل الجنة قالوا نعم قال فإني أرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة )
الوجه الثاني في الجواب أن أهل بدر إنما أمدوا بألف على ما هو مذكور في سورة الأنفال ثم بلغهم أن بعض المشركين يريد إمداد قريش بعدد كثير فخافوا وشق عليهم ذلك لقلة عددهم فوعدهم الله بأن الكفار إن جاءهم مدد فأنا أمدكم بخمسة آلاف من الملائكة ثم إنه لم يأت قريشاً ذلك المدد بل انصرفوا حين بلغهم هزيمة قريش فاستغنى عن إمداد المسلمين بالزيادة على الألف
وأما الحجة الثانية وهي قولكم إن الكفار كانوا يوم بدر ألفاً فأنزل الله ألفاً من الملائكة ويوم أحد ثلاثة آلاف فأنزل الله ثلاثة آلاف
فالجواب إنه تقريب حسن ولكنه لا يوجب أن لا يكون الأمر كذلك بل الله تعالى قد يزيد وقد ينقص في العدد بحسب ما يريد
وأما الحجة الثالثة وهي التمسك بقوله وَيَأْتُوكُمْ مّن فَوْرِهِمْ ( آل عمران 125 )
فالجواب عنه أن المشركين لما سمعوا أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه قد تعرضوا للعير ثار الغضب في قلوبهم واجتمعوا وقصدوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ثم إن الصحابة لما سمعوا ذلك خافوا فأخبرهم الله تعالى أنهم إن يأتوكم من فورهم يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة فهذا حاصل ما قيل في تقرير هذين القولين والله أعلم بمراده
المسألة الثانية اختلفوا في عدد الملائكة وضبط الأقوال فيها أن من الناس من ضم العدد الناقص إلى العدد الزائد فقالوا لأن الوعد بإمداد الثلاثة لا شرط فيه والوعد بإمداد الخمسة مشروط بالصبر والتقوى ومجيء الكفار من فورهم فلا بد من التغاير وهو ضعيف لأنه لا يلزم من كون الخمسة مشروطة بشرط أن تكون الثلاثة التي جزؤها مشروطة بذلك الشرط ومنهم من أدخل العدد الناقص في العدد الزائد أما على تقدير الأول فإن حملنا الآية على قصة بدر كان عدد الملائكة تسعة آلاف لأنه تعالى ذكر الألف وذكر ثلاثة آلاف وذكر خمسة آلاف والمجموع تسعة آلاف وإن حملناها على قصة أحد فليس فيها ذكر الألف بل فيها ذكر ثلاثة آلاف وخمسة آلاف والمجموع ثمانية آلاف وأما على التقدير الثاني وهو إدخال الناقص في الزائد فقالوا عدد الملائكة خمسة آلاف ثم ضم إليها ألفان آخران فلا جرم وعدوا بالألف ثم ضم إليه ألفان فلا جرم وعدوا بثلاثة آلاف ثم ضم إليها ألفان آخران فلام جر وعدوا بخمسة

آلاف وقد حكينا عن بعضهم أنه قال أمد أهل بدر بألف فقيل إن كرز بن جابر المحاربي يريد أن يمد المشركين فشق ذلك على المسلمين فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لهم ألن يكفيكم يعني بتقدير أن يجيء المشركين مدد فالله تعالى يمدكم أيضاً بثلاثة آلاف وخمسة آلاف ثم إن المشركين ما جاءهم المدد فكذا ههنا الزائد على الألف ما جاء المسلمين فهذه وجوه كلها محتملة والله أعلم بمراده
المسألة الثالثة أجمع أهل التفسير والسير أن الله تعالى أنزل الملائكة يوم بدر وأنهم قاتلوا الكفار قال ابن عباس رضي الله عنهما لم تقاتل الملائكة سوى يوم بدر وفيما سواه كانوا عدداً ومدداً لا يقاتلون ولا يضربون وهذا قول الأكثرين وأما أبو بكر الأصم فإنه أنكر ذلك أشد الإنكار واحتج عليه بوجوه
الحجة الأولى إن الملك الواحد يكفي في إهلاك الأرض ومن المشهور أن جبريل عليه السلام أدخل جناحه تحت المدائن الأربع لقوم لوط وبلغ جناحه إلى الأرض السابعة ثم رفعها إلى السماء وقلب عاليها سافلها فإذا حضر هو يوم بدر فأي حاجة إلى مقاتلة الناس مع الكفار ثم بتقدير حضوره فأي فائدة في إرسال سائر الملائكة
الحجة الثانية أن أكابر الكفار كانوا مشهورين وكل واحد منهم مقابله من الصحابة معلوم وإذا كان كذلك امتنع إسناد قتله إلى الملائكة
الحجة الثالثة الملائكة لو قاتلوا لكانوا إما أن يصيروا بحيث يراهم الناس أو لا يراهم الناس فإن رآهم الناس فإما أن يقال إنهم رأوهم في صورة الناس أو في غير صورة الناس فإن كان الأول فعلى هذا التقدير صار المشاهد من عسكر الرسول ثلاثة آلاف أو أكثر ولم يقل أحد بذلك ولأن هذا على خلاف قوله تعالى وَيُقَلّلُكُمْ فِى أَعْيُنِهِمْ ( الأنفال 44 ) وإن شاهدوهم في صورة غير صور الناس لزم وقوع الرعب الشديد في قلوب الخلق فإن من شاهد الجن لا شك أنه يشتد فزعه ولم ينقل ذلك ألبتة
وأما القسم الثاني وهو أن الناس ما رأوا الملائكة فعلى هذا التقدير إذا حاربوا وحزوا الرؤوس ومزقوا البطون وأسقطوا الكفار عن الأفراس فحينئذ الناس كانوا يشاهدون حصول هذه الأفعال مع أنهم ما كانوا شاهدوا أحداً من الفاعلين ومثل هذا يكون من أعظم المعجزات وحينئذ يجب أن يصير الجاحد لمثل هذه الحالة كافراً متمرداً ولما لم يوجد شيء من ذلك عرف فساد هذا القسم أيضاً
الحجة الرابعة أن هؤلاء الملائكة الذين نزلوا إما أن يقال إنهم كانوا أجساماً كثيفة أو لطيفة فإن كان الأول وجب أن يراهم الكل وأن تكون رؤيتهم كرؤية غيرهم ومعلوم أن الأمر ما كان كذلك وإن كانوا أجساماً لطيفة دقيقة مثل الهواء لم يكن فيهم صلابة وقوة ويمتنع كونهم راكبين على الخيول وكل ذلك مما ترونه
واعلم أن هذه الشبهة إنما تليق بمن ينكر القرآن والنبوّة فأما من يقر بهما فلا يليق به شيء من هذه الكلمات فما كان يليق بأبي بكر الأصم إنكار هذه الأشياء مع أن نص القرآن ناطق بها وورودها في الأخبار قريب من التواتر روى عبد الله بن عمر قال لما رجعت قريش من أحد جعلوا يتحدثون في أنديتهم بما ظفروا ويقولون لم نر الخيل البلق ولا الرجال البيض الذين كنا نراهم يوم بدر والشبهة المذكورة إذا قابلناها

بكمال قدرة الله تعالى زالت وطاحت فإنه تعالى يفعل ما يشاء لكونه قادراً على جميع الممكنات ويحكم ما يريد لكونه منزّهاً عن الحاجات
المسألة الرابعة اختلفوا في كيفية نصرة الملائكة قال بعضهم بالقتال مع المؤمنين وقال بعضهم بل بتقوية نفوسهم وإشعارهم بأن النصرة لهم وبإلقاء الرعب في قلوب الكفار والظاهر في المدد أنهم يشركون الجيش في القتال إن وقعت الحاجة إليهم ويجوز أن لا تقع الحاجة إليهم في نفس القتال وأن يكون مجرد حضورهم كافياً في تقوية القلب وزعم كثير من المفسرين أنهم قاتلوا يوم بدر ولم يقاتلوا في سائر الأيام
المسألة الخامسة قوله تعالى أَلَنْ يَكْفِيكُمْ معنى الكفاية هو سد الخلة والقيام بالأمر يقال كفاه أمر كذا إذا سد خلته ومعنى الإمداد إعطاء الشيء حالاً بعد حال قال المفضل ما كان على جهة القوة والإعانة قيل فيه أمده يمده وما كان على جهة الزيادة قيل فيه مده يمده ومنه قوله وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ ( لقمان 27 )
المسألة السادسة قرأ ابن عامر مُنزَلِينَ مشدد الزاي مفتوحة على التكثير والباقون بفتح الزاي مخففة وهما لغتان
المسألة السابعة قال صاحب ( الكشاف ) إنما قدم لهم الوعد بنزول الملائكة لتقوى قلوبهم ويعزموا على الثبات ويثقوا بنصر الله ومعنى أَلَنْ يَكْفِيكُمْ إنكار أن لا يكفيكم الإمداد بثلاثة آلاف من الملائكة وإنما جيء بلن التي هي لتأكيد النفي للاشعار بأنهم كانوا لقلتهم وضعفهم وكثرة عددهم كالآيسين من النصر
بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هَاذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَة ِ ءَالا فٍ مِّنَ الْمَلَائِكَة ِ مُسَوِّمِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى بلى إيجاب لما بعد ( لن ) يعني بل يكفيكم الإمداد فأوجب الكفاية ثم قال إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مّن فَوْرِهِمْ هَاذَا يعني والمشركون يأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بأكثر من ذلك العدد وهو خمسة آلاف فجعل مجيء خمسة آلاف من الملائكة مشروطة ثلاثة أشياء الصبر والتقوى ومجيء الكفار على الفور فلما لم توجد هذه الشرائط لا جرم لم يوجد المشروط
المسألة الثانية الفور مصدر من فارت القدر إذا غلت قال تعالى حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ ( هود 40 ) قيل إنه أول ارتفاع الماء منه ثم جعلوا هذه اللفظة استعارة في السرعة يقال جاء فلان ورجع من فوره ومنه قول الأصوليين الأمر للفور أو التراخي والمعنى حدة مجيء العدو وحرارته وسرعته

المسألة الثالثة قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم مُسَوّمِينَ بكسر الواو أي معلمين علموا أنفسهم بعلامات مخصوصة وأكثر الأخبار أنهم سوموا خيولهم بعلامات جعلوها عليها والباقون بفتح الواو أي سومهم الله أو بمعنى أنهم سوموا أنفسهم فكان في المراد من التسويم في قوله مُسَوّمِينَ قولان الأول السومة العلامة التي يعرف بها الشيء من غيره ومضى شرح ذلك في قوله وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَة ِ ( آل عمران 14 ) وهذه العلامة يعلمها الفارس يوم اللقاء ليعرف بها وفي الخبر أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال يوم بدر ( سوموا فإن الملائكة قد سومت ) قال ابن عباس كانت الملائكة قد سوموا أنفسهم بالعمائم الصفر وخيولهم وكانوا على خيل بلق بأن علقوا الصوف الأبيض في نواصيها وأذنابها وروي أن حمزة بن عبد المطلب كان يعلم بريشة نعامة وأن علياً كان يعلم بصوفة بيضاء وأن الزبير كان يتعصب بعصابة صفراء وأن أبا دجانة كان يعلم بعصابة حمراء
القول الثاني في تفسير المسومين إنه بمعنى المرسلين مأخوذاً من الإبل السائمة المرسلة في الرعي تقول أسمت الإبل إذا أرسلتها ويقال في التكثير سومت كما تقول أكرمت وكرمت فمن قرأ مُسَوّمِينَ بكسر الواو فالمعنى أن الملائكة أرسلت خيلها على الكفار لقتلهم وأسرهم ومن قرأ بفتح الواو فالمعنى أن الله تعالى أرسلهم على المشركين ليهلكوهم كما تهلك الماشية النبات والحشيش
وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ
الكناية في قوله وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ عائدة على المصدر كأنه قال وما جعل الله المدد والإمداد إلا بشرى لكم بأنكم تنصرون فدل يُمْدِدْكُمْ على الإمداد فكنى عنه كما قال وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ( الأنعام 121 ) معناه وإن أكله لفسق فدل تَأْكُلُواْ على الأكل فكنى عنه وقال الزجاج وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ أي ذكر المدد إِلاَّ بُشْرَى والبشرى اسم من الإبشار ومضى الكلام في معنى التبشير في سورة البقرة في قوله وَبَشّرِ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( البقرة 25 )
ثم قال وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وفيه سؤال
وهو أن قوله وَلِتَطْمَئِنَّ فعل وقوله إِلاَّ بُشْرَى اسم وعطف الفعل على الاسم مستنكر فكان الواجب أن يقال إلا بشرى لكم واطمئناناً أو يقال إلا ليبشركم ولتطمئن قلوبكم به فلم ترك ذلك وعدل عنه إلى عطف الفعل على الاسم
والجواب عنه من وجهين الأول في ذكر الإمداد مطلوبان وأحدهما أقوى في المطلوبية من الآخر

فأحدهما إدخال السرور في قلوبهم وهو المراد بقوله إِلاَّ بُشْرَى والثاني حصول الطمأنينة على أن إعانة الله ونصرته معهم فلا يجبنوا عن المحاربة وهذا هو المقصود الأصلي ففرق بين هاتين العبارتين تنبيهاً على حصول التفاوت بين هذين الأمرين في المطلوبية فكونه بشرى مطلوب ولكن المطلوب الأقوى حصول الطمأنينة فلهذا أدخل حرف التعليل على فعل الطمأنينة فقال وَلِتَطْمَئِنَّ ونظيره قوله وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَة ً ( النحل 8 ) ولما كان المقصود الأصلي هو الركوب أدخل حرف التعليل عليها فكذا ههنا الثاني قال بعضهم في الجواب الواو زائدة والتقدير وما جعله الله إلا بشرى لكم لتطمئن به قلوبكم
ثم قال وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ والغرض منه أن يكون توكلهم على الله لا على الملائكة وهذا تنبيه على أن إيمان العبد لا يكمل إلا عند الإعراض عن الأسباب والإقبال بالكلية على مسبب الأسباب أو قوله العَزِيزُ الحَكِيمُ فالعزيز إشارة إلى كمال قدرته والحكيم إشارة إلى كمال علمه فلا يخفى عليه حاجات العباد ولا يعجز عن إجابة الدعوات وكل من كان كذلك لم يتوقع النصر إلا من رحمته ولا الإعانة إلا من فضله وكرمه
ثم قال لِيَقْطَعَ طَرَفاً مّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ واللام في لِيَقْطَعَ طَرَفاً متعلق بقوله وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ والمعنى أن المقصود من نصركم بواسطة إمداد الملائكة هو أن يقطعوا طرفاً من الذين كفروا أي يهلكوا طائفة منهم ويقتلوا قطعة منهم قيل إنه راجع إلى قوله وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ لِيَقْطَعَ طَرَفاً ولكنه ذكر بغير حرف العطف لأنه إذا كان البعض قريباً من البعض جاز حذف العاطف وهو كما يقول السيد لعبده أكرمتك لتخدمني لتعينني لتقوم بخدمتي حذف العاطف لأن البعض يقرب من البعض فكذا ههنا وقوله طَرَفاً أي طائفة وقطعة وإنما حسن في هذا الموضع ذكر الطرف ولم يحسن ذكر الوسط لأنه لا وصول إلى الوسط إلا بعد الأخذ من الطرف وهذا يوافق قوله تعالى قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُمْ ( التوبة 123 ) وقوله أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِى الاْرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ( الرعد 41 )
ثم قال أَوْ يَكْبِتَهُمْ الكبت في اللغة صرع الشيء على وجهه يقال كبته فانكبت هذا تفسيره ثم قد يذكر والمراد به الاخزاء والإهلاك واللعن والهزيمة والغيظ الإذلال فكل ذلك ذكره المفسرون في تفسير الكبت وقوله خَائِبِينَ الخيبة هي الحرمان والفرق بين الخيبة وبين اليأس أن الخيبة لا تكون إلا بعد التوقع وأما اليأس فإنه قد يكون بعد التوقع وقبله فنقيض اليأس الرجاء ونقيض الخيبة الظفر والله أعلم
لَيْسَ لَكَ مِنَ الاٌّ مْرِ شَى ْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى في سبب نزول هذه الآية قولان الأول وهو المشهور أنها نزلت في قصة أحد ثم

القائلون بهذا القول اختلفوا على ثلاثة أوجه أحدها أنه أراد أن يدعو على الكفار فنزلت هذه الآية والقائلون بهذا ذكروا احتمالات أحدها روي أن عتبة بن أبي وقاص شجه وكسر رباعيته فجعل يمسح الدم عن وجهه وسالم مولى أبي حذيفة يغسل عن وجهه الدم وهو يقول ( كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى ربهم ) ثم أراد أن يدعو عليهم فنزلت هذه الآية وثانيها ما روى سالم بن عبد الله عن أبيه عبد الله بن عمر أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لعن أقواماً فقال ( اللّهم العن أبا سفيان اللّهم العن الحرث بن هشام اللّهم العن صفوان بن أُمية ) فنزلت هذه الآية أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ فتاب الله على هؤلاء وحسن إسلامهم وثالثها أنها نزلت في حمزة بن عبد المطلب وذلك لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) لما رآه ورأى ما فعلوا به من المثلة قال ( لأمثلن منهم بثلاثين ) فنزلت هذه الآية قال القفال رحمه الله وكل هذه الأشياء حصلت يوم أحد فنزلت هذه الآية عند الكل فلا يمتنع حملها على كل الاحتمالات الثاني في سبب نزول هذه الآية أنها نزلت بسبب أنه ( صلى الله عليه وسلم ) أراد أن يلعن المسلمين الذين خالفوا أمره والذين انهزموا فمنعه الله من ذلك وهذا القول مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما
الوجه الثالث أنه ( صلى الله عليه وسلم ) أراد أن يستغفر للمسلمين الذين انهزموا وخالفوا أمره ويدعو عليهم فنزلت الآية فهذه الاحتمالات والوجوه كلها مفرعة على قولنا إن هذه الآية نزلت في قصة أحد
القول الثاني أنها نزلت في واقعة أخرى وهي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعث جمعاً من خيار أصحابه إلى أهل بئر معونة ليعلموهن القرآن فذهب إليهم عامر بن الطفيل مع عسكره وأخذهم وقتلهم فجزع من ذلك الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) جزعاً شديداً ودعا على الكفار أربعين يوماً فنزلت هذه الآية هذا قول مقاتل وهو بعيد لأن أكثر العلماء اتفقوا على أن هذه الآية في قصة أحد وسياق الكلام يدل عليه وإلقاء قصة أجنبية عن أول الكلام وآخره غير لائق
المسألة الثانية ظاهر هذه الآية يدل على أنها وردت في أمر كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يفعل فيه فعلاً وكانت هذه الآية كالمنع منه وعند هذا يتوجه الإشكال وهو أن ذلك الفعل إن كان بأمر الله تعالى فكيف منعه الله منه وإن قلنا إنه ما كان بأمر الله تعالى وبإذنه فكيف يصح هذا مع قوله وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى ( النجم 3 ) وأيضاً دلت الآية على عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فالأمر الممنوع عنه في هذه الآية إن كان حسناً فلم منعه الله وإن كان قبيحاً فكيف يكون فاعله معصوماً
والجواب من وجوه الأول أن المنع من الفعل لا يدل على أن الممنوع منه كان مشتغلاً به فإنه تعالى قال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ( الزمر 65 ) وأنه عليه الصلاة والسلام ما أشرك قط وقال مُّنتَظِرُونَ ياأَيُّهَا النَّبِى ّ اتَّقِ اللَّهَ ( الأحزاب 1 ) فهذا لا يدل على أنه ما كان يتقي الله ثم قال وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وهذا لا يدل على أنه أطاعهم والفائدة في هذا المنع أنه لما حصل ما يوجب الغم الشديد والغضب العظيم وهو مثلة عمه حمزة وقتل المسلمين والظاهر أن الغضب يحمل الإنسان على ما لا ينبغي من القول والفعل فلأجل أن لا تؤدي مشاهدة تلك المكاره إلى ما لا يليق من القول والفعل نص الله تعالى على المنع تقوية لعصمته وتأكيداً لطهارته والثاني لعله عليه الصلاة والسلام إن فعل لكنه كان ذلك من باب ترك الأفضل والأولى فلا جرم أرشده الله إلى اختيار الأفضل والأولى ونظيره قوله تعالى وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ

مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لّلصَّابِرينَ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ ( النحل 126 127 ) كأنه تعالى قال إن كنت تعاقب ذلك الظالم فاكتف بالمثل ثم قال ثانياً وإن تركته كان ذلك أولى ثم أمره أمراً جازماً بتركه فقال وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ
الوجه الثالث في الجواب لعلّه ( صلى الله عليه وسلم ) لما مال قلبه إلى اللعن عليهم استأذن ربه فيه فنص الله تعالى على المنع منه وعلى هذا التقدير لا يدل هذا النهي على القدح في العصمة
المسألة الثالثة قوله لَيْسَ لَكَ مِنَ الاْمْرِ شَى ْء فيه قولان الأول أن معناه ليس لك من قصة هذه الواقعة ومن شأن هذه الحادثة شيء وعلى هذا فنقل عن المفسرين عبارات أحدهما ليس لك من مصالح عبادي شيء إلا ما أوحي إليك وثانيها ليس لك من مسألة إهلاكهم شيء لأنه تعالى أعلم بالمصالح فربما تاب عليهم وثالثها ليس لك في أن يتوب الله عليهم ولا في أن يعذبهم شيء
والقول الثاني أن المراد هو الأمر الذي يضاد النهي والمعنى ليس لك من أمر خلقي شيء إلا إذا كان على وفق أمري وهو كقوله أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ ( الأنعام 62 ) وقوله لِلَّهِ الاْمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ( الروم 4 ) وعلى القولين فالمقصود من الآية منعه ( صلى الله عليه وسلم ) من كل فعل وقول إلا ما كان بإذنه وأمره وهذا هو الإرشاد إلى أكمل درجات العبودية ثم اختلفوا في أن المنع من اللعن لأي معنى كان منهم من قال الحكمة فيه أنه تعالى ربما علم من حال بعض الكفار أنه يتوب أو إن لم يتب لكنه علم أنه سيولد منه ولد يكون مسلماً براً تقياً وكل من كان كذلك فإن اللائق برحمة الله تعالى أن يمهله في الدنيا وأن يصرف عنه الآفات إلى أن يتوب أو إلى أن يحصل ذلك الولد فإذا حصل دعاء الرسول عليهم بالإهلاك فإن قبلت دعوته فات هذا المقصود وإن لم تقبل دعوته كان ذلك كالاستخفاف بالرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فلأجل هذا المعنى منعه الله تعالى من اللعن وأمره بأن يفوض الكل إلى علم الله تعالى ومنهم من قال المقصود منه إظهار عجز العبودية وأن لا يخوض العبد في أسرار الله تعالى في ملكه وملكوته هذا هو الأحسن عندي والأوفق لمعرفة الأصول الدالة على حقيقة الربوبية والعبودية
المسألة الرابعة ذكر الفرّاء والزجاج وغيرهما في هذه الآية قولين أحدهما أن قوله أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ عطف على ما قبله والتقدير ليقطع طرفاً من الذين كفروا أو يكبتهم أو يتوب عليهم أو يعذبهم ويكون قوله لَيْسَ لَكَ مِنَ الاْمْرِ شَى ْء كالكلام الأجنبي الواقع بين المعطوف والمعطوف عليه كما تقول ضربت زيداً فاعلم ذلك عمراً فعلى هذا القول هذه الآية متصلة بما قبلها
والقول الثاني أن معنى أَوْ ههنا معنى حتى أو إلا أن كقولك لألزمنك أو تعطيني حقي والمعنى إلا أن تعطيني أو حتى تعطيني ومعنى الآية ليس لك من أمرهم شيء إلا أن يتوب الله عليهم فتفرح بحالهم أو يعذبهم فتتشفى منهم
المسألة الخامسة قوله تعالى أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ مفسر عند أصحابنا بخلق التوبة فيهم وذلك عبارة عن خلق الندم فيهم على ما مضى وخلق العزم فيهم على أن لا يفعلوا مثل ذلك في المستقبل قال أصحابنا وهذا المعنى متأكد ببرهان العقل وذلك لأن الندم عبارة عن حصول إرادة في المضي متعلقة بترك فعل من

الأفعال في المستقبل وحصول الإرادات والكراهات في القلب لا يكون بفعل العبد لأن فعل العبد مسبوق بالإرادة فلو كانت الإرادات فعلاً للعبد لافتقر العبد في فعل تلك الإرادة إلى إرادة أخرى ويلزم التسلسل وهو محال فعلمنا أن حصول الإرادة والكراهات في القلب ليس إلا بتخليق الله تعالى وتكوينه إبتداء ولما كانت التوبة عبارة عن الندم والعزم وكل ذلك من جنس الإرادات والكراهات علمنا أن التوبة لا تحصل للعبد إلا بخلق الله تعالى فصار هذا البرهان مطابقاً لما دل عليه ظاهر القرآن هو قوله أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ وأما المعتزلة فإنهم فسروا قوله أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إما بفعل الألطاف أو بقبول التوبة
أما قوله تعالى فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ففيه مسائل
المسألة الأولى إن كان الغرض من الآية منعه من الدعاء على الكفر صح الكلام وهو أنه تعالى سماهم ظالمين لأن الشرك ظلم قال تعالى إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( لقمان 13 ) وإن كان الغرض منها منعه من الدعاء على المسلمين الذين خالفوا أمره صح الكلام أيضاً لأن من عصى الله فقد ظلم نفسه
المسألة الثانية يحتمل أن يكون المراد من العذاب المذكور في هذه الآية عذاب الدنيا وهو القتل والأسر وأن يكون عذاب الآخرة وعلى التقديرين فعلم ذلك مفوض إلى الله
المسألة الثالثة قوله تعالى فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ جملة مستقلة إلا أن المقصود من ذكرها تعليل حسن التعذيب والمعنى أو يعذبهم فإنه إن عذبهم إنما يعذبهم لأنهم ظالمون
وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأرض يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
فيه مسألتان
المسألة الأولى إن المقصود من هذا تأكيد ما ذكره أولاً من قوله لَيْسَ لَكَ مِنَ الاْمْرِ شَى ْء والمعنى أن الأمر إنما يكون لمن له الملك وملك السماوات والأرض ليس إلا لله تعالى فالأمر في السماوات والأرض ليس إلا لله وهذا برهان قاطع
المسألة الثانية إنما قال مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ولم يقل ( من ) لأن المراد الإشارة إلى الحقائق والماهيات فدخل فيه الكل
أما قوله يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء فاعلم أن أصحابنا يحتجون بهذه الآية على أنه سبحانه له أن يدخل الجنة بحكم إلاهيته جميع الكفار والمردة وله أن يدخل النار بحكم إلاهيته جميع المقربين والصدّيقين وأنه لا اعتراض عليه في فعل هذه الأشياء ودلالة الآية على هذا المعنى ظاهرة والبرهان العقلي

يؤكد ذلك أيضاً وذلك أن فعل العبد يتوقف على الإرادة وتلك الإرادة مخلوقة لله تعالى فإذا خلق الله تلك الإرادة أطاع وإذا خلق النوع الآخر من الإرادة عصى فطاعة العبد من الله ومعصيته أيضاً من الله وفعل الله لا يوجب على الله شيئاً ألبتة فلا الطاعة توجب الثواب ولا المعصية توجب العقاب بل الكل من الله بحكم إلاهيته وقهره وقدرته فصح ما ادعيناه أنه لو شاء يعذب جميع المقربين حسن منه ولو شاء يرحم جميع الفراعنة حسن منه ذلك وهذا البرهان هو الذي دل عليه ظاهر قوله تعالى يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء
فإن قيل أليس أنه ثبت أنه لا يغفر للكفار ولا يعذب الملائكة والأنبياء
قلنا مدلول الآية أنه لو أراد لفعل ولا اعتراض عليه وهذا القدر لا يقتضي أنه يفعل أو لا يفعل وهذا الكلام في غاية الظهور
ثم ختم الكلام بقوله وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ والمقصود بيان أنه وإن حسن كل ذلك منه إلا أن جانب الرحمة والمغفرة غالب لا على سبيل الوجوب بل على سبيل الفضل والإحسان

بداية الجزء التاسع من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32

يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَة ً وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِى أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ
اعلم أن من الناس من قال انه تعالى لما شرح عظيم نعمه على المؤمنين فيما يتعلق بارشادهم إلى الأصلح لهم في أمر الدين وفي أمر الجهاد أتبع ذلك بما يدخل في الأمر والنهي والترغيب والتحذير فقال رَّحِيمٌ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرّبَا وعلى هذا التقدير تكون هذه الآية ابتداء كلام ولا تعلق لها بما قبلها وقال القفال رحمه الله يحتمل أن يكون ذلك متصلا بما تقدم من جهة أن المشركين إنما أنفقوا على تلك العساكر أموالا جمعوها بسبب الربا فلعل ذلك يصير داعياً للمسلمين إلى الاقدام على الربا حتى يجمعوا المال وينفقوه على العسكر فيتمكنون من الانتقام منهم فلا جرم نهاهم الله عن ذلك وفي قوله أَضْعَافاً مُّضَاعَفَة ً مسألتان
المسألة الأولى كان الرجل في الجاهلية إذا كان له على إنسان مائة درهم إلى أجل فاذا جاء الأجل ولم يكن المديون واجدا لذلك المال قال زد في المال حتى أزيد في الأجل فربما جعله مائتين ثم إذا حل الأجل الثاني فعل ذلك ثم إلى آجال كثيرة فيأخذ بسبب تلك المائة أضعافها فهذا هو المراد من قوله أَضْعَافاً مُّضَاعَفَة ً
المسألة الثانية انتصب أَضْعَافًا على الحال
ثم قال تعالى وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
اعلم أن اتقاء الله في هذا النهي واجب وأن الفلاح يتوقف عليه فلو أكل ولم يتق زال الفلاح وهذا تنصيص على أن الربا من الكبائر لا من الصغائر وتفسير قوله لَعَلَّكُمْ تقدم في سورة البقرة في قوله اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى ْ خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ وتمام الكلام في الربا أيضا مر في سورة البقرة
ثم قال وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِى أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ وفيه سؤالات الأول أن النار التي أعدت للكافرين

تكون بقدر كفرهم وذلك أزيد مما يستحقه المسلم بفسقه فكيق قال وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِى أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ
والجواب تقدير الآية اتقوا أن تجحدوا تحريم الربا فتصيروا كافرين
السؤال الثاني ظاهر قوله أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ يقتضي أنها ما أعدت إلا للكافرين وهذا يقتضي القطع بأن أحدا من المؤمنين لا يدخل النار وهو على خلاف سائر الآيات
والجواب من وجوه الأول أنه لا يبعد أن يكون في النار دركات أعد بعضها للكفار وبعضها للفساق فقوله النَّارَ الَّتِى أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ اشارة الى تلك الدركات المخصوصة التي أعدها الله للكافرين وهذا لا يمنع ثبوت دركات أخرى في النار أعدها الله لغير الكافرين الثاني أن كون النار معدة للكافرين لا يمنع دخول المؤمنين فيها لأنه لما كان أكثر أهل النار هم الكفار فلأجل الغلبة لا يبعد أن يقال انها معدة لهم كما أن الرجل يقول لدابة ركبها الحاجة من الحوائح إنما أعددت هذه الدابة للقاء المشركين فيكون صادقا في ذلك وان كان هو قد ركبها في تلك الساعة لغرض آخر فكذا ههنا
الوجه الثالث في الجواب أن القرآن كالسورة الواحدة فهذه الآية دلت على أن النار معدة للكافرين وسائر الآيات دالة أيضا على أنها معدة لمن سرق وقتل وزنى وقذف ومثاله قوله تعالى كُلَّمَا أُلْقِى َ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ( الملك 8 ) وليس لجميع الكفار يقال ذلك وأيضا قال تعالى فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ ( الشعرا 94 ) الى قوله إِذْ نُسَوّيكُمْ بِرَبّ الْعَالَمِينَ ( الشعرا 98 ) وليس هذا صفة جميعهم ولكن لما كانت هذه الشرائط مذكورة في سائر السور كانت كالمذكورة ههنا فكذا فيما ذكرناه والله أعلم
الوجه الرابع ان قوله أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ اثبات كونها معدة لهم ولا يدل على الحصر كما أن قوله في الجنة أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ( آل عمران 133 ) لا يدل على أنه لا يدخلها سواهم من الصبيان والمجانين والحور العين
الوجه الخامس أن المقصود من وصف النار بأنها أعدت للكافرين تعظيم الزجر وذلك لأن المؤمنين الذين خوطبوا باتقاء المعاصي إذا علموا بانهم متى فارقوا التقوى أدخلوا النار المعدة للكافرين وقد تقرر في عقولهم عظم عقوبة الكفار كان انزجارهم عن المعاصي أتم وهذا بمنزلة أن يخوف الوالد ولده بأنك ان عصيتني أدخلتك دار السباع ولا يدل ذلك على أن تلك الدار لا يدخلها غيرهم فكذا ههنا
السؤال الثالث هل تدل الآية على أن النار مخلوقة الآن أم لا
الجواب نعم لأن قوله أُعِدَّتْ إخبار عن الماضي فلا بد أن يكون قد دخل ذلك الشيء في الوجود
ثم قال تعالى وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ولما ذكر الوعيد ذكر الوعد بعده على ما هو العادة المستمرة في القرآن وقال محمد بن إسحاق بن يسار هذه الآية معاتبة للذين عصوا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) حين أمرهم بما أمرهم يوم أحد وقالت المعتزلة هذه الآية دالة على أن حصول الرحمة موقوف على طاعة الله وطاعة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وهذا عام فيدل الظاهر على أن من عصى الله ورسوله في شيء من الأشياء أنه ليس أهلا للرحمة وذلك يدل على قول أصحاب الوعيد

وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَة ٍمِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّة ٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ والأرض أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ
فيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وابن عامر سارعوا بغير واو وكذلك هو في مصاحف أهل المدينة والشام والباقون بالواو وكذلك هو في مصاحف مكة والعراق ومصحف عثمان فمن قرأ بالواو عطفها على ما قبلها والتقدير أطيعوا الله والرسول وسارعوا ومن ترك الواو فلانه جعل قوله سارعوا وقوله قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ ( آل عمران 32 ) كالشيء الواحد ولقرب كل واحد منها من الآخر في المعنى أسقط العاطف
المسألة الثانية روي عن الكسائي الإمالة في سارعوا راجِعُونَ أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ ( المؤمنون 61 ) ونسارع ( المؤمنون 65 ) وذلك جائز لمكان الراء المسكورة ويمنع كما المفتوحة الإمالة كذلك المسكورة يميلها
المسألة الثالثة قالوا في الكلام حذف والمعنى وسارعوا الى ما يوجب مغفرة من ربكم ولا شك أن الموجب للمغفرة ليس الا فعل المأمورات وترك المنهيات فكان هذا أمرا بالمسارعة الى فعل المأمورات وترك المنهيات وتمسك كثير من الأصوليين بهذه الآية في أن ظاهر الأمر يوجب الفور ويمنع من التراخي ووجهه ظاهر وللمفسرين فيه كلمات إحداها قال ابن عباس هو الإسلام أقول وجهه ظاهر لأنه ذكر المغفرة على سبيل التنكير والمراد منه المغفرة العظيمة المتناهية في العظم وذلك هو المغفرة الحاصلة بسبب الإسلام الثاني روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال هو أداء الفرائض ووجهه أن اللفظ مطلق فيجب أن يعم الكل والثالث انه الاخلاص وهو قول عثمان بن عفان رضي الله عنه ووجهه أن المقصود من جميع العبادات الاخلاص كما قال الْبَيّنَة ُ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ ( البينه 5 ) الرابع قال أبو العالية هو الهجرة والخامس أنه الجهاد وهو قول الضحاك ومحمد بن اسحاق قال لأن من قوله وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ ( آل عمران 121 ) الى تمام ستين آية نزل في يوم أحد فكان كل هذه الأوامر والنواهي مختصة بما يتعلق بباب الجهاد السادس قال سعيد بن جبير انها التكبيرة الأولى والسابع قال عثمان انها الصلوات الخمس والثامن قال عكرمة إنها جميع الطاعات لأن اللفظ عام فيتناول الكل والتاسع قال الأصم سارعوا أي بادروا الى التوبة من الربا والذنوب والوجه فيه أنه تعالى نهى أولا عن الربا ثم قال وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَة ٍ مّن رَّبّكُمْ فهذا يدل على أن المراد منه المسارعة في ترك ما تقدم النهي عنه والأولى ما تقدم من وجوب حمله على أداء الواجبات والتوبة عن جميع المحظورات لأن اللفظ عام فلا وجه في تخصيصه ثم أنه تعالى بين أنه كما تجب المسارعة إلى المغفرة فكذلك تجب المسارعة إلى الجنة وإنما فصل بينهما لأن الغفران معناه إزالة العقاب والجنة معناها إيصال الثواب فجمع بينهما للأشعار بأنه لا بد للمكلف من تحصيل الأمرين فأما وصف الجنة بأن عرضها السموات فمعلوم أن ذلك ليس بحقيقة لأن نفس السموات لا تكون عرضا للجنة فالمراد كعرض السموات والأرض وههنا سؤالات

السؤال الأول ما معنى أن عرضها مثل عرض السموات والأرض وفيه وجوه الأول أن المراد لو جعلت السموات والأرضون طبقا طبقا بحيث يكون كل واحدة من تلك الطبقات سطحا مؤلفا من أجزاء لا تتجزأ ثم وصل البعض بالبعض طبقا واحدا لكان ذلك مثل عرض الجنة وهذا غاية في السعة لا يعلمها إلا الله والثاني أن الجنة التي يكون عرضها مثل عرض السموات والأرض إنما تكون للرجل الواحد لأن الانسان إنما يرغب فيما يصير ملكا فلا بد وأن تكون الجنة المملوكة لكل واحد مقدارها هذا الثالث قال أبو مسلم وفيه وجه آخر وهو أن الجنة لو عرضت بالسموات والأرض على سبيل البيع لكانتا ثمنا للجنة تقول إذا بعت الشيء بالشيء الآخر عرضته عليه وعارضته به فصار العرض يوضع موضع المساواة بين الشيئين في القدر وكذا أيضا معنى القيمة لأنها مأخوذة من مقاومة الشيء بالشيء حتى يكون كل واحد منهما مثلا للآخر الرابع المقصود المبالغة في وصف سعة الجنة وذلك لأنه لا شيء عندنا أعرض منهما ونظيره قوله خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( هود 107 ) فان أطول الأشياء بقاء عندنا هو السموات والأرض فخوطبنا على وفق ما عرفناه فكذا ههنا
السؤال الثاني لم خص العرض بالذكر
والجواب فيه وجهان الأول أنه لما كان العرض ذلك فالظاهر أن الطول يكون أعظم ونظيره قوله بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ ( الرحمن 54 ) وإنما ذكر البطائن لأن من المعلوم أنها تكون أقل حالا من الظهارة فاذا كانت البطانة هكذا فكيف الظهارة فكذا ههنا إذا كان العرض هكذا فكيف الطول والثاني قال القفال ليس المراد بالعرض ههنا ما هو خلاف الطول بل هو عبارة عن السعة كما تقول العرب بلاد عريضة ويقال هذه دعوى عريضة أي واسعة عظيمة والأصل فيه ان ما اتسع عرضه لم يضق وما ضاق عرضه دق فجعل العرض كناية عن السعة
السؤال الثالث أنتم تقولون الجنة في السماء فكيف يكون عرضها كعرض السماء
والجواب من وجهين الأول أن المراد من قولنا انها فوق السموات وتحت العرش قال عليه السلام في صفة الفردوس ( سقفها عرش الرحمن ) وروي أن رسول هرقل سأل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقال انك تدعو الى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين فأين النار فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سبحان الله فأين الليل إذا جاء النهار والمعنى والله أعلم أنه إذا دار الفلك حصل النهار في جانب من العالم والليل في ضد ذلك الجانب فكذا الجنة في جهة العلو والنار في جهة السفل وسئل أنس بن مالك عن الجنة أفي الأرض أم في السماء فقال وأي أرض وسماء تسع الجنة قيل فأين هي قال فوق السموات السبع تحت العرش
والوجه الثاني أن الذين يقولون الجنة والنار غير مخلوقتين الآن بل الله تعالى يخلقهما بعد قيام القيامة فعلى هذا التقدير لا يبعد أن تكون الجنة مخلوقة في مكان السموات والنار في مكان الأرض والله أعلم
أما قوله أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ فظاهره يدل على أن الجنة والنار مخلوقتان الآن وقد سبق تقرير ذلك قوله تعالى

الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّآءِ وَالضَّرَّآءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
اعلم أنه تعالى لما بين أن الجنة معدة للمتقين ذكر صفات المتقين حتى يتمكن الانسان من اكتساب الجنة بواسطة اكتساب تلك الصفات
فالصفة الأولى قوله الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وفيه وجوه الأول أن المعنى أنهم في حال الرخاء واليسر والقدرة والعسر لا يتركون الانفاق وبالجملة فالسراء هو الغنى والضراء هو الفقر يحكى عن بعض السلف أنه ربما تصدق ببصلة وعن عائشة رضي الله عنها أنها تصدقت بحبة عنب والثاني أن المعنى أنهم سواء كانوا في سرور أو في حزن أو في عسر أو في يسر فانهم لا يدعون الاحسان إلى الناس الثالث المعنى أن ذلك الاحسان والانفاق سواء سرهم بأن كان على وفق طبعهم أو ساءهم بأن كان على خلاف طبعهم فانهم لا يتركونه وإنما افتتح الله بذكر الانفاق لأنه طاعة شاقة ولأنه كان في ذلك الوقت أشرف الطاعات لأجل الحاجة اليه في مجاهدة العدو ومواساة فقراء المسلمين
الصفة الثانية قوله تعالى وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وفيه مسئلتان
المسألة الأولى يقال كظم غيظة إذا سكت عليه ولم يظهره لا بقول ولا بفعل قال المبرد تأويله أنه كتم على امتلائه منه يقال كظمت السقاء إذا ملأنه وسددت عليه ويقال فلان لا يكظم على جرته إذا كان لا يحتمل شيئا وكل ما سددت من مجرى ماء أو باب أو طريق فهو كظم والذي يسد به يقال له الكظامة والسدادة ويقال للقناة التي تجري في بطن الأرض كظامة لامتلائها بالماء كامتلاء القرب المكظومة ويقال أخذ فلان بكظم فلان إذا أخذ بمجرى نفسه لأنه موضع الامتلاء بالنفس وكظم البعير كظوماً إذا أمسك على ما في جوفه ولم يجتر ومعنى قوله وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ الذين يكفون غيظهم عن الامضاء يردون غيظهم في أجوافهم وهذا الوصف من أقسام الصبر والحلم وهو كقوله وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ ( الشورى 37 )
المسألة الثانية قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( من كظم غيظا وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله قلبه أمنا وإيمانا ) وقال عليه السلام لأصحابه ( تصدقوا ) فتصدقوا بالذهب والفضة والطعام وأتاه الرجل بقشور التمر فتصدق به وجاءه آخر فقال والله ما عندي ما أتصدق به ولكن أتصدق بعرضي فلا أعاقب أحدا بما يقوله في حديثه فوفد إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من قوم ذلك الرجل وفد فقال عليه السلام ( لقد تصدق منكم رجل بصدقة ولقد قبلها الله منه تصدق بعرضه ) وقال عليه السلام ( من كظم غيظا وهو يستطيع أن ينفذه زوجه الله من الحور العين حيث يشاء ) وقال عليه السلام ( ما من جرعتين أحب إلى الله من جرعة موجعة يجرعها صاحبها بصبر وحسن عزاء ومن جرعة غيظ كظمها ) وقال عليه السلام ( ليس الشديد بالصرعة لكنه الذي يملك نفسه عند الغضب )

الصفة الثالثة قوله تعالى وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ قال القفال رحمه الله يحتمل أن يكون هذا راجعا الى ما ذم من فعل المشركين في أكل الربا فنهى المؤمنون عن ذلك وندبوا الى العفو عن المعسرين قال تعالى عقيب قصة الربا والتداين وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَة ٍ فَنَظِرَة ٌ إِلَى مَيْسَرَة ٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ ( البقرة 280 ) ويحتمل أن يكون كما قال في الدية فَمَنْ عُفِى َ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَى ْء ( البقرة 178 ) الى قوله وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ ( البقرة 280 ) ويحتمل أن يكون هذا بسبب غضب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حين مثلوا بحمزة وقال ( لامثلن بهم ) فندب إلى كظم هذا الغيظ والصبر عليه والكف عن فعل ما ذكر أنه يفعله من المثلة فكان تركه فعل ذلك عفوا قال تعالى في هذه القصة وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لّلصَّابِرينَ ( النحل 126 ) قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا يكون العبد ذا فضل حتى يصل من قطعه ويعفو عمن ظلمه ويعطي من حرمه ) وروي عن عيسى بن مريم صلوات الله عليه ليس الاحسان أن تحسن الى من أحسن اليك ذلك مكافأة انما الاحسان أن تحسن الى من أساء اليك
أما قوله تعالى وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ فاعلم أنه يجوز أن تكون اللام للجنس فيتناول كل محسن ويدخل تحته هؤلاء المذكورون وأن تكون للعهد فيكون إشارة الى هؤلاء
واعلم أن الاحسان إلى الغير إما أن يكون بايصال النفع اليه أو بدفع الضرر عنه أما إيصال النفع اليه فهو المراد بقوله الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّاء وَالضَّرَّاء ويدخل فيه انفاق العلم وذلك بأن يشتغل بتعليم الجاهلين وهداية الضالين ويدخل فيه إنفاق المال في وجوه الخيرات والعبادات وأما دفع الضرر عن الغير فهو إما في الدنيا وهو أن لا يشتغل بمقابلة تلك الاساءة باساءة أخرى وهو المراد بكظم الغيظ وإما في الآخرة وهو أن يبرىء ذمته عن التبعات والمطالبات في الآخرة وهو المراد بقوله تعالى وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ فصارت هذه الآية من هذا الوجه دالة على جميع جهات الاحسان إلى الغير ولما كانت هذه الأمور الثلاثة مشتركة في كونها إحسانا إلى الغير ذكر ثوابها فقال وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ فان محبة الله للعبد أعم درجات الثواب
وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَة ً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُوْلَائِكَ جَزَآؤُهُمْ مَّغْفِرَة ٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ
واعلم أن وجه النظم من وجهين الأول أنه تعالى لما وصف الجنة بأنها معدة للمتقين بين أن المتقين قسمان أحدهما الذين أقبلوا على الطاعات والعبادات وهم الذين وصفهم الله بالانفاق في السراء والضراء وكظم الغيظ والعفو عن الناس وثانيهما الذين أذنبوا ثم تابوا وهو المراد بقوله وَالَّذِينَ إِذَا

فَعَلُواْ فَاحِشَة ً وبين تعالى أن هذه الفرقة كالفرقة الأولى في كونها متقية وذلك لأن المذنب إذا تاب عن الذنب صار حاله كحال من لم يذنب قط في استحقاق المنزلة والكرامة عند الله
والوجه الثاني أنه تعالى ندب في الآية الأولى إلى الاحسان إلى الغير وندب في هذه الآية إلى الاحسان إلى النفس فان المذنب العاصي إذا تاب كانت تلك التوبة إحساناً منه إلى نفسه وفي الآية مسائل
المسألة الأولى روى ابن عباس أن هذه الآية نزلت في رجلين أنصاري وثقفي والرسول ( صلى الله عليه وسلم ) كان قد آخى بينهما وكانا لا يفترقان في أحوالهما فخرج الثقفي مع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بالقرعة في السفر وخلف الأنصاري على أهله ليتعاهدهم فكان يفعل ذلك ثم قام إلى امرأته ليقبلها فوضعت كفها على وجهها فندم الرجل فلما وافى الثقفي مع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لم ير الأنصاري وكان قد هام في الجبال للتوبة فلما عرف الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) سكت حتى نزلت هذه الآية وقال ابن مسعود قال المؤمنون للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) كانت بنو إسرائيل أكرم على الله منا فكان أحدهم إذا أذنب ذنباً أصبحت كفارة ذنبه مكتوبة على عتبة داره اجدع أنفك افعل كذا فأنزل الله تعالى هذه الآية وبين أنهم أكرم على الله منهم حيث جعل كفارة ذنبهم الاستغفار
المسألة الثانية الفاحشة ههنا نعت محذوف والتقدير فعلوا فعلة فاحشة وذكروا في الفرق بين الفاحشة وبين ظلم النفس وجوها الأول قال صاحب ( الكشاف ) الفاحشة ما يكون فعله كاملا في القبح وظلم النفس هو أي ذنب كان مما يؤاخذ الانسان به والثاني أن الفاحشة هي الكبيرة وظلم النفس هي الصغيرة والصغيرة يجب الاستغفار منها بدليل أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان مأموراً بالاستغفار وهو قوله وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ ( محمد 19 ) وما كان استغفاره دالا على الصغائر بل على ترك الأفضل الثالث الفاحشة هي الزنا وظلم النفس هي القبلة واللمسة والنظرة وهذا على قول من حمل الآية على السبب الذي رويناه ولأنه تعالى سمى الزنا فاحشة فقال تعالى وَلاَ تَقْرَبُواْ الزّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَة ً ( الإسراء 32 )
أما قوله ذَكَرُواْ اللَّهَ ففيه وجهان أحدهما أن المعنى ذكروا وعيد الله أو عقابة أو جلاله الموجب للخشية والحياء منه فيكون من باب حذف المضاف والذكر ههنا هو الذي ضد النسيان وهذا معنى قول الضحاك ومقاتل والواقدي فان الضحاك قال ذكروا العرض الأكبر على الله ومقاتل والواقدي قال تفكروا أن الله سائلهم وذلك لأنه قال بعد هذه الآية فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وهذا يدل على أن الاستغفار كالأثر والنتيجة لذلك الذكر ومعلوم أن الذكر الذي يوجب الاستغفار ليس إلا ذكر عقاب الله ونهيه ووعيده ونظير هذه الآية قوله إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَئِفٌ مّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ( الأعراف 201 )
والقول الثاني أن المراد بهذا الذكر ذكر الله بالثناء والتعظيم والاجلال وذلك لأن من أراد أن يسأل الله مسألة فالواجب أن يقدم على تلك المسألة الثناء على الله فهنا لما كان المراد الاستغفار من الذنوب قدموا عليه الثناء على الله تعالى ثم اشتغلوا بالاستغفار عن الذنوب
ثم قال فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ والمراد منه الاتيان بالتوبة على الوجه الصحيح وهو الندم على فعل ما

مضى مع العز على ترك مثله في المستقبل فهذا هو حقيقة التوبة فأما الاستغفار باللسان فذاك لا أثر له في إزالة الذنب بل يجب إظهار هذا الاستغفار لازالة التهمة ولاظهار كونه منقطعاً إلى الله تعالى وقوله لِذُنُوبِهِمْ أي لأجل ذنوبهم
ثم قال وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ والمقصود منه أن لا يطلب العبد المغفرة إلا منه وذلك لأنه تعالى هو القادر على عقاب العبد في الدنيا والآخرة فكان هو القادر على إزالة ذلك العقاب عنه فصح أنه لا يجوز طلب الاستغفار إلا منه
ثم قال وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ واعلم أن قوله وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ جملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه والتقدير فاستغفروا لذنوبهم ولم يصروا على ما فعلوا
وقوله وَهُمْ يَعْلَمُونَ فيه وجهان الأول أنه حال من فعل الاصرار والتقدير ولم يصروا على ما فعلوا من الذنوب حال ما كانوا عالمين بكونها محظورة محرمة لأنه قد يعذر من لا يعلم حرمة الفعل أما العالم بحرمته فانه لا يعذر في فعله البتة الثاني أن يكون المراد منه العقل والتمييز والتمكين من الاحتراز من الفواحش فيجري مجرى قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( رفع القلم عن ثلاث )
ثم قال أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَّغْفِرَة ٌ مّن رَّبّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ والمعنى أن المطلوب أمران الأول الأمن من العقاب واليه الاشارة بقوله مَّغْفِرَة ٌ مّن رَّبّهِمْ والثاني إيصال الثواب اليه وهو المراد بقوله جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ خَاالِدِينَ فِيهَا ثم بين تعالى أن الذي يحصل لهم من ذلك وهو الغفران والجنات يكون أجراً لعملهم وجزاء عليه بقوله وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ قال القاضي وهذا يبطل قول من قال ان الثواب تفضل من الله وليس بجزاء على عملهم
قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِى الأرض فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الْمُكَذِّبِينَ هَاذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَة ٌ لِّلْمُتَّقِينَ
اعلم أن الله تعالى لما وعد على الطاعة والتوبة من المعصية الغفران والجنات أتبعه بذكر ما يحملهم على فعل الطاعة وعلى التوبة من المعصية وهو تأمل أحوال القرون الخالية من المطيعين والعاصين فقال قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي أصل الخلو في اللغة الانفراد والمكان الخالي هو المنفرد عمن يسكن فيه ويستعمل أيضا في الزمان بمعنى المضي لأن ما مضى انفرد عن الوجود وخلا عنه وكذا الأمم الخالية وأما السنة فهي الطريقة المستقيمة والمثال المتبع وفي اشتقاق هذه اللفظة وجوه الأول أنها فعلة من سن الماء يسنه إذا والى صبه والسن الصب للماء والعرب شبهت الطريقة المستقيمة بالماء المصبوب فانه لتوالي أجزاء الماء فيه على نهج واحد يكون كالشيء الواحد والسنة فعلة بمعنى مفعول وثانيها أن تكون

من سننت النصل والسنان أسنه سنا فهو مسنون إذا حددته على المسن فالفعل المنسوب إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سمي سنة على معنى أنه مسنون وثالثها أن يكون من قولهم سن الابل إذا أحسن الرعي والفعل الذي داوم عليه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سمي سنة بمعنى أنه عليه الصلاة والسلام أحسن رعايته وادامته
المسألة الثانية المراد من الآية قد انقضت من قبلكم سنن الله تعالى في الأمم السالفة واختلفوا في ذلك فالاكثرون من المفسرين على أن المراد سنن الهلاك والاستئصال بدليل قوله تعالى فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الْمُكَذّبِينَ وذلك لأنهم خالفوا الأنبياء والرسل للحرص على الدنيا وطلب لذاتها ثم انقرضوا ولم يبق من دنياهم أثر وبقي اللعن في الدنيا والعقاب في الآخرة عليهم فرغب الله تعالى أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في تأمل أحوال هؤلاء الماضين ليصير ذلك داعيا لهم الى الايمان بالله ورسله والاعراض عن الرياسة في الدنيا وطلب الجاه وقال مجاهد بل المراد سنن الله تعالى في الكافرين والمؤمنين فان الدنيا ما بقيت لا مع المؤمن ولا مع الكافر ولكن المؤمن يبقى له بعد موته الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في العقبى والكافر بقي عليه اللعنة في الدنيا والعقاب في العقبى ثم إنه تعالى قال فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الْمُكَذّبِينَ لأن التأمل في حال أحد القسمين يكفي في معرفة حال القسم الآخر وأيضاً يقال الغرض منه زجر الكفار عن كفرهم وذلك انما يعرف بتأمل أحوال المكذبين والمعاندين ونظير هذه الآية قوله تعالى وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ( الصافات 171 173 ) وقوله وَالْعَاقِبَة ُ لِلْمُتَّقِينَ ( الأعراف 128 القصص 83 ) وقوله أَنَّ الاْرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِى َ الصَّالِحُونَ ( الأنبياء 105 )
المسألة الثالثة ليس المراد بقوله فَسِيرُواْ فِى الاْرْضِ فَانْظُرُواْ ( النحل 36 ) الأمر بذلك لا محالة بل المقصود تعرف أحوالهم فان حصلت هذه المعرفة بغير المسير في الأرض كان المقصود حاصلا ولا يمتنع أن يقال أيضا ان لمشاهدة آثار المتقدمين أثراً أقوى من أثر السماع كما قال الشاعر
إن آثارنا تدل علينا فانظروا بعدنا إلى الآثار
ثم قال تعالى هَاذَا بَيَانٌ لّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَة ٌ لّلْمُتَّقِينَ ويعني بقوله هَاذَا ما تقدم من أمره ونهيه ووعده ووعيده وذكره لأنواع البينات والآيات ولا بد من الفرق بين البيان وبين الهدى وبين الموعظة لأن العطف يقتضي المغايرة فنقول فيه وجهان الأول أن البيان هو الدلالة التي تفيد إزالة الشبهة بعد أن كانت الشبهة حاصلة فالفرق أن البيان عام في أي معنى كان وأما الهدى فهو بيان لطريق الرشد ليسلك دون طريق الغي وأما الموعظة فهي الكلام الذي يفيد الزجر عما لا ينبغي في طريق الدين فالحاصل أن البيان جنس تحته نوعان أحدهما الكلام الهادي إلى ما ينبغي في الدين وهو الهدى الثاني الكلام الزاجر عما لا ينبغي في الدين وهو الموعظة
الوجه الثاني أن البيان هو الدلالة وأما الهدى فهو الدلالة بشرط كونها مفضية إلى الاهتداء وقد تقدم هذا البحث في تفسير قوله هُدًى لّلْمُتَّقِينَ في سورة البقرة
المسألة الرابعة في تخصيص هذا البيان والهدى والموعظة للمتقين وجهان أحدهما أنهم هم المنتفعون به فكانت هذه الأشياء في حق غير المتقين كالمعدومة ونظيره قوله تعالى إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا ( النازعات 45 ) إِنَّمَا تُنذِرُ مَّعَ مَنِ اتَّبَعَ الذِكْرَ ( يس 11 ) إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء

( فاطر 28 ) وقد تقدم تقريره في تفسير قوله هُدًى لّلْمُتَّقِينَ الثاني أن قوله هَاذَا بَيَانٌ لّلنَّاسِ كلام عام ثم قوله وَهُدًى وَمَوْعِظَة ٌ للمتقين مخصوص بالمتقين لأن الهدى اسم للدلالة بشرط كونها موصلة إلى البغية ولا شك أن هذا المعنى لا يحصل إلا في حق المتقين والله أعلم بالصواب
وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الاٌّ عْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ
اعلم أن الذي قدمه من قوله قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ ( آل عمران 137 ) وقوله هذا بيان للناس كالمقدمة لقوله وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا ( آل عمران 139 ) كأنه قال إذا بحثتم عن أحوال القرون الماضية علمتم أن أهل الباطل وإن اتفقت لهم الصولة لكن كان مآل الأمر إلى الضعف والفتور وصارت دولة أهل الحق عالية وصولة أهل الباطل مندرسة فلا ينبغي أن تصير صولة الكفار عليكم يوم أحد سبباً لضعف قلبكم ولجبنكم وعجزكم بل يجب أن يقوى قلبكم فان الاستعلاء سيحصل لكم والقوة والدولة راجعة اليكم
ثم نقول قوله وَلاَ تَهِنُواْ أي لا تضعفوا عن الجهاد والوهن الضعف قال تعالى حكاية عن زكريا عليه السلام إِنّى وَهَنَ الْعَظْمُ مِنّى وقوله وَلاَ تَحْزَنُواْ أي على من قتل منكم أو جرح وقوله وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ فيه وجوه الأول أن حالكم أعلى من حالهم في القتل لأنكم أصبتم منهم يوم بدر أكثر مما أصابوا منكم يوم أحد وهو كقوله تعالى أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَة ٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَاذَا ( آل عمران 165 ) أو لأن قتالكم لله وقتالهم للشيطان أو لأن قتالهم للدين الباطل وقتالكم للدين الحق وكل ذلك يوجب كونكم أعلى حالا منهم الثاني أن يكون المراد وأنتم الأعلون بالحجة والتمسك بالدين والعاقبة الحميدة الثالث أن يكون المعنى وأنتم الأعلون من حيث أنكم في العاقبة تظفرون بهم وتستولون عليهم وهذا شديد المناسبة لما قبله لأن القوم انكسرت قلوبهم بسبب ذلك الوهن فهم كانوا محتاجين الى ما يفيدهم قوة في القلب وفرحا في النفس فبشرهم الله تعالى بذلك فأما قوله إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ففيه وجوه الأول وأنتم الأعلون ان بقيتم على إيمانكم والمقصود بيان أن الله تعالى إنما تكفل باعلاء درجتهم لأجل تمسكهم بدين الإسلام الثاني وأنتم الأعلون فكونوا مصدقين لهذه البشارة ان كنتم مصدقين بما يعدكم الله ويبشركم به من الغلبة والثالث التقدير ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون ان كنتم مؤمنين فان الله تعالى وعد بنصرة هذا الدين فان كنتم من المؤمنين علمتم أن هذه الواقعة لا تبقى بحالها وأن الدولة تصير للمسلمين والاستيلاء على العدو يحصل لهم

إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الاٌّ يَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ
واعلم أن هذا من تمام قوله وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ ( آل عمران 139 ) فبين تعالى أن الذي يصيبهم من القرح لا يجب أن يزيل جدهم واجتهادهم في جهاد العدو وذلك لأنه كما أصابهم ذلك فقد أصاب عدوهم مثله قبل ذلك فاذا كانوا مع باطلهم وسوء عاقبتهم لم يفتروا لأجل ذلك في الحرب فبأن لا يلحقكم الفتور مع حسن العاقبة والتمسك بالحق أولى وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم قَرْحٌ بضم القاف وكذلك قوله مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ ( آل عمران 172 ) والباقون بفتح القاف فيهما واختلفوا على وجوه فالأول معناهما واحد وهما لغتان كالجهد والجهد والوجد والوجد والضعف والضعف والثاني أن الفتح لغة تهامة والحجاز والضم لغة نجد والثالث أنه بالفتح مصدر وبالضم اسم والرابع وهو قول الفرار انه بالفتح الجراحة بعينها وبالضم ألم الجراحة والخامس قال ابن مقسم هما لغتان الا أن المفتوحة توهم انها جمع قرحة
المسألة الثانية في الآية قولان أحدهما إن يمسسكم قرح يوم أحد فقد مسهم يوم بدر وهو كقوله تعالى أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَة ٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَاذَا ( آل عمران 165 ) والثاني أن الكفار قد نالهم يوم أحد مثل ما نالكم من الجرح والقتل لأنه قتل منهم نيف وعشرون رجلا وقتل صاحب لوائهم والجراحات كثرت فيهم وعقر عامة خيلهم بالنبل وقد كانت الهزيمة عليهم في أول النهار
فان قيل كيف قال قَرْحٌ مّثْلُهُ وما كان قرحهم يوم أحد مثل قرح المشركين
قلنا يجب أن يفسر القرح في هذا التأويل بمجرد الانهزام لا بكثرة القتلى
ثم قال تعالى وَتِلْكَ الاْيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وفيه مسائل
المسألة الأولى تِلْكَ مبتدأ والأيام صفة ونداولها خبره ويجوز أن يقال تلك الأيام مبتدأ وخبر كما تقول هي الأيام تبلي كل جديد فقوله تِلْكَ الاْيَّامِ إشارة إلى جميع أيام الوقائع العجيبة فبين أنها دول تكون على الرجل حينا وله حينا والحرب سجال
المسألة الثانية قال القفال المداولة نقل الشيء من واحد إلى آخر يقال تداولته الأيدي إذا تناقلته ومنه قوله تعالى كَى لاَ يَكُونَ دُولَة ً بَيْنَ الاْغْنِيَاء مِنكُمْ ( الحشر 7 ) أي تتداولونها ولا تجعلون للفقراء منها نصيباً ويقال الدنيا دول أي تنتقل من قوم الى آخرين ثم عنهم إلى غيرهم ويقال دال له الدهر بكذا إذا انتقل اليه والمعنى أن أيام الدنيا هي دول بين الناس لا يدوم مسارها ولا مضارها فيوم يحصل فيه السرور له والغم لعدوه ويوم آخر بالعكس من ذلك ولا يبقى شيء من أحوالها ولا يستقر أثر من آثارها
واعلم أنه ليس المراد من هذه المداولة أن الله تعالى تارة ينصر المؤمنين وأخرى ينصر الكافرين وذلك لأن نصرة الله منصب شريف وإعزاز عظيم فلا يليق بالكافر بل المراد من هذه المداولة أنه تارة يشدد المحنة على الكفار وأخرى على المؤمنين والفائدة فيه من وجوه الأول أنه تعالى لو شدد المحنة على الكفار في جميع الأوقات وأزالها عن المؤمنين في جميع الأوقات لحصل العلم الاضطراري بأن الايمان حق وما سواه باطل

ولو كان كذلك لبطل التكليف والثواب والعقاب فلهذا المعنى تارة يسلط الله المحنة على أهل الايمان وأخرى على أهل الكفر لتكون الشبهات باقية والمكلف يدفعها بواسطة النظر في الدلائل الدالة على صحة الإسلام فيعظم ثوابه عند الله والثاني أن المؤمن قد يقدم على بعض المعاصي فيكون عند الله تشديد المحنة عليه في الدنيا أدباً له وأما تشديد المحنة على الكافر فانه يكون غضبا من الله عليه والثالث وهو أن لذات الدنيا وآلامها غير باقية وأحوالها غير مستمرة وإنما تحصل السعادات المستمرة في دار الآخرة ولذلك فانه تعالى يميت بعد الاحياء ويسقم بعد الصحة فاذا حسن ذلك فلم لا يحسن أن يبدل السراء بالضراء والقدرة بالعجز وروي أن أبا سفيان صعد الجبل يوم أحد ثم قال أين ابن أبي كبشة أين ابن أبي قحافة أين ابن الخطاب فقال عمر هذا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهذا أبو بكر وها أنا عمر فقال أبو سفيان يوم بيوم والأيام دول والحرب سجال فقال عمر رضي الله عنه لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار فقال ان كان كما تزعمون فقد خبنا اذن وخسرنا
أما قوله تعالى وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ ففيه مسائل
المسألة الأولى اللام في قوله وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ متعلق بفعل مضمر اما بعده أو قبله أما الاضمار بعده فعلى تقدير وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ فعلنا هذه المداولة وأما الاضمار قبله فعلى تقدير وتلك الأيام نداولها بين الناس لأمور منها ليعلم الله الذين آمنوا ومنها ليتخذ منكم شهداء ومنها ليمحص الله الذين آمنوا ومنها ليمحق الكافرين فكل ذلك كالسبب والعلة في تلك المداولة
المسألة الثانية الواو في قوله وليعلم الله الذين آمنوا نظائره كثيرة في القرآن قال تعالى وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ( الأنعام 75 ) وقال تعالى وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَة ُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ( الأنعام 113 ) والتقدير وتلك الأيام نداولها بين الناس ليكون كيت وكيت وليعلم الله وإنما حذف المعطوف عليه للايذان بأن المصلحة في هذه المداولة ليست بواحدة ليسليهم عما جرى وليعرفهم أن تلك الواقعة وأن شأنهم فيها فيه من وجوه المصالح ما لو عرفوه لسرهم
المسألة الثالثة ظاهر قوله تعالى وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ مشعر بأنه تعالى إنما فعل تلك المداولة ليكتسب هذا العلم ومعلوم أن ذلك محال على الله تعالى ونظير هذه الآية في الاشكال قوله تعالى أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّة َ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ( آل عمران 142 ) وقوله وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ( العنكبوت 30 ) وقوله لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُواْ أَمَدًا ( الكهف 12 ) وقوله وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وقوله إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ( هود 7 الملك 2 ) وقد احتج هشام بن الحكم بظواهر هذه الآيات على أن الله تعالى لا يعلم حدوث الحوادث إلا عند وقوعها فقال كل هذه الآيات دالة على أنه تعالى إنما صار عالما بحدوث هذه الأشياء عند حدوثها
أجاب المتكلمون عنه بأن الدلائل العقلية دلت على أنه تعالى يعلم الحوادث قبل وقوعها فثبت أن التغيير في العلم محالا الا أن اطلاق لفظ العلم على المعلوم والقدرة على المقدور مجاز مشهور يقال هذا

علم فلان والمراد معلومه وهذه قدرة فلان والمراد مقدوره فكل آية يشعر ظاهرها بتجدد العلم فالمراد تجدد المعلوم
إذا عرفت هذا فنقول في هذه الآية وجوه أحدها ليظهر الاخلاص من النفاق والمؤمن من الكافر والثاني ليعلم أولياء الله فأضاف الى نفسه تفخيما وثالثها ليحكم بالامتياز فوضع العلم مكان الحكم بالامتياز لأن الحكم بالامتياز لا يحصل إلا بعد العلم ورابعها ليعلم ذلك واقعاً منهم كما كان يعلم أنه سيقع لأن المجازاة تقع على الواقع دون المعلوم الذي لم يوجد
المسألة الرابعة العلم قد يكون بحيث يكتفي فيه بمفعول واحد كما يقال علمت زيداً أي علمت ذاته وعرفته وقد يفتقر إلى مفعولين كما يقال علمت زيداً كريما والمراد منه في هذه الآية هذا القسم الثاني إلا أن المفعول الثاني محذوف والتقدير وليعلم الله الذين آمنوا متميزين بالايمان من غيرهم أي الحكمة في هذه المداولة أن يصير الذين آمنوا متميزين عمن يدعي الايمان بسبب صبرهم وثباتهم على الإسلام ويحتمل أن يكون العلم ههنا من القسم الأول بمعنى معرفة الذات والمعنى وليعلم الله الذين آمنوا لما يظهر من صبرهم على جهاد عدوهم أي ليعرفهم بأعيانهم إلا أن سبب حدوث هذا العلم وهو ظهور الصبر حذف ههنا
أما قوله وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء فالمراد منه ذكر الحكمة الثانية في تلك المداولة وفيه مسائل
المسألة الأولى في هذه الآية قولان الأول يتخذ منكم شهداء على الناس بما صدر منهم من الذنوب والمعاصي فان كونهم شهداء على الناس منصب عال ودرجة عالية والثاني المراد منه وليكرم قوماً بالشهادة وذلك لأن قوما من المسلمين فاتهم يوم بدر وكانوا يتمنون لقاء العدو وأن يكون لهم يوم كيوم بدر يقاتلون فيه العدو ويلتمسون فيه الشهادة وأيضا القرآن مملوء من تعظيم حال الشهداء قال تعالى وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ ( آل عمران 169 ) وقال وَجِىء بِالنَّبِيّيْنَ وَالشُّهَدَاء ( الزمر 69 ) وقال فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ النَّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ ( النساء 69 ) فكانت هذه المنزلة هي المنزلة الثالثة للنبوة وإذا كان كذلك فكان من جملة الفوائد المطلوبة من تلك المداولة حصول هذا المنصب العظيم لبعض المؤمنين
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية على أن جميع الحوادث بارادة الله تعالى فقالوا منصب الشهادة على ما ذكرتم فان كان يمكن تحصيلها بدون تسليط الكفار على المؤمنين لم يبق لحسن التعليل وجه وإن كان لا يمكن فحينئذ يكون قتل الكفار للمؤمنين من لوازم تلك الشهادة فاذا كان تحصيل تلك الشهادة للعبد مطلوباً لله تعالى وجب أن يكون ذلك القتل مطلوباً لله تعالى وأيضاً فقوله وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء تنصيص على أن ما به حصلت تلك الشهادة هو من الله تعالى وذلك يدل على أن فعل العبد خلق الله تعالى
المسألة الثالثة الشهداء جمع شهيد كالكرماء والظرفاء والمقتول من المسلمين بسيف الكفار شهيداً وفي تعليل هذا الاسم وجوه الأول قال النضر بن شميل الشهداء أحياء لقوله بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ ( آل عمران 169 ) فأرواحهم حية وقد حضرت دار السلام وأرواح غيرهم لا تشهدها الثاني قال

ابن الانباري لأن الله تعالى وملائكته شهدوا له بالجنة فالشهيد فعيل بمعنى مفعول الثالث سموا شهداء لأنهم يشهدون يوم القيامة مع الأنبياء والصديقين كما قال تعالى لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ ( البقرة 143 ) الرابع سموا شهداء لأنهم كما قتلوا أدخلوا الجنة بدليل أن الكفار كما ماتوا أدخلوا النار بدليل قوله أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً ( نوح 25 ) فكذا ههنا يجب أن يقال هؤلاء الذين قتلوا في سبيل الله كما ماتوا دخلوا الجنة
ثم قال تعالى وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ قال ابن عباس رضي الله عنهما أي المشركين لقوله تعالى إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( لقمان 13 ) وهو اعتراض بين بعض التعليل وبعض وفيه وجوه الأول والله لا يحب من لا يكون ثابتاً على الايمان صابراً على الجهاد الثاني فيه إشارة إلى أنه تعالى إنما يؤيد الكافرين على المؤمنين لما ذكر من الفوائد لا لأنه يحبهم
ثم قال وَلِيُمَحّصَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ أي ليطهرهم من ذنوبهم ويزيلها عنهم والمحص في اللغة التنقية والمحق في اللغة النقصان وقال المفضل هو أن يذهب الشيء كله حتى لا يرى منه شيء ومنه قوله تعالى يَمْحَقُ اللَّهُ الْرّبَوااْ ( البقرة 276 ) أي يستأصله قال الزجاج معنى الآية أن الله تعالى جعل الأيام مداولة بين المسلمين والكافرين فان حصلت الغلبة للكافرين على المؤمنين كان المراد تمحيص ذنوب المؤمنين وإن كانت الغلبة للمؤمنين على هؤلاء الكافرين كان المراد محق آثار الكافرين ومحوهم فقابل تمحيص المؤمنين بمحق الكافرين لأن تمحيص هؤلاء باهلاك ذنوبهم نظير محق أولئك باهلاك أنفسهم وهذه مقابلة لطيفة في المعنى والأقرب أن المراد بالكافرين ههنا طائفة مخصوصة منهم وهم الذين حاربوا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يوم أحد وإنما قلنا ذلك لعلمنا بأنه تعالى لم يمحق كل الكفار بل كثير منهم بقي على كفره والله أعلم
أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّة َ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى الوجوه التي هي الموجبات والمؤثرات في مداولة الأيام ذكر في هذه الآية ما هو السبب الأصلي لذلك فقال أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّة َ بدون تحمل المشاق وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أم منقطعة وتفسير كونها منقطعة تقدم في سورة البقرة قال أبو مسلم في أَمْ حَسِبْتُمْ إنه نهي وقع بحرف الاستفهام الذي يأتي للتبكيت وتلخيصه لا تحسبوا أن تدخلوا الجنة ولم يقع منكم الجهاد وهو كقوله الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ ( العنكبوت 1 2 ) وافتتح الكلام بذكر ( أم ) التي هي أكثر ما تأتي في كلامهم واقعة بين ضربين يشك في أحدهما لا بعينه يقولون أزيداً ضربت أم عمرواً مع تيقن وقوع الضرب بأحدهما قال وعادة العرب يأتون بهذا الجنس من الاستفهام توكيداً

فلما قال وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا ( آل عمران 139 ) كأنه قال أفتعلمون أن ذلك كما تؤمرون به أم تحسبون أن تدخلوا الجنة من غير مجاهدة وصبر وإنما استبعد هذا لأن الله تعالى أوجب الجهاد قبل هذه الواقعة وأوجب الصبر على تحمل متاعبها وبين وجوه المصالح فيها في الدين وفي الدنيا فلما كان كذلك فمن البعيد أن يصل الانسان إلى السعادة والجنة مع إهمال هذه الطاعة
المسألة الثانية قال الزجاج إذا قيل فعل فلان فجوابه أنه لم يفعل وإذا قيل قد فعل فلان فجوابه لما يفعل لأنه لما أكد في جانب الثبوت بقد لا جرم أكد في جانب النفي بكلمة ( لما )
المسألة الثالثة ظاهر الآية يدل على وقوع النفي على العلم والمراد وقوعه على نفي المعلوم والتقدير أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يصدر الجهاد عنكم وتقريره أن العلم متعلق بالمعلوم كما هو عليه فلما حصلت هذه المطابقة لا جرم حسن إقامة كل واحد منهما مقام الآخر وتمام الكلام فيه قد تقدم
أما قوله وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ فاعلم أنه قرأ الحسن وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ بالجزم عطفاً على وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ وأما النصب فباضمار أن وهذه الواو تسمى واو الصرف كقولك لا تأكل السمك وتشرب اللبن أي لا تجمع بينهما وكذا ههنا المراد أن دخول الجنة وترك المصابرة على الجهاد مما لا يجتمعان وقرأ أبو عمرو وَيَعْلَمَ بالرفع على تقدير أن الواو للحال كأنه قيل ولما تجاهدوا وأنتم صابرون
واعلم أن حاصل الكلام أن حب الدنيا لا يجتمع مع سعادة الآخرة فبقدر ما يزداد أحدهما ينتقص الآخر وذلك لأن سعادة الدنيا لا تحصل إلا باشتغال القلب بطلب الدنيا والسعادة في الآخرة لا تحصل إلا بفراغ القلب من كل ما سوى الله وامتلائه من حب الله وهذان الأمران مما لا يجتمعان فلهذا السر وقع الاستبعاد الشديد في هذه الآية من اجتماعهما وأيضاً حب الله وحب الآخرة لا يتم بالدعوى فليس كل من أقر بدين الله كان صادقا ولكن الفصل فيه تسليط المكروهات والمحبوبات فان الحب هو الذي لا ينتقص بالجفاء ولا يزداد بالوفاء فان بقي الحب عند تسليط أسباب البلاء ظهر أن ذلك الحب كان حقيقياً فلهذه الحكمة قال أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّة َ بمجرد تصديقكم الرسول قبل أن يبتليكم الله بالجهاد وتشديد المحنة والله أعلم
وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِى اللَّهُ الشَّاكِرِينَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس ومجاهد والضحاك لما نزل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بأحد أمر الرماة أن يلزموا أصل الجبل وأن لا ينتقلوا عن ذلك سواء كان الأمر لهم أو عليهم فلما وقفوا وحملوا على الكفار وهزموهم وقتل علي طلحة بن أبي طلحة صاحب لوائهم والزبير والمقداد شدا على المشركين ثم حمل الرسول مع أصحابه

فهزموا أبا سفيان ثم إن بعض القوم لما أن رأوا انهزام الكفار بادر قوم من الرماة إلى الغنيمة وكان خالد بن الوليد صاحب ميمنة الكفار فلما رأى تفرق الرماة حمل على المسلمين فهزمهم وفرق جمعهم وكثر القتل في المسملين ورمى عبدالله بن قميئة الحارثي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بحجر فكسر رباعيته وشج وجهه وأقبل يريد قتله فذب عنه مصعب بن عمير وهو صاحب الراية يوم بدر ويوم أحد حتى قتله ابن قميئة فظن أنه قتل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال قد قتلت محمدا وصرخ صارح ألا ان محمدا قد قتل وكان الصارخ الشيطان ففشا في الناس خبر قتله فهنالك قال بعض المسلمين ليت عبدالله بن أبي يأخذ لنا أمانا من أبي سفيان وقال قوم من المنافقين لو كان نبيا لما قتل ارجعوا الى إخوانكم والى دينكم فقال أنس بن النضر عم أنس بن مالك يا قوم ان كان قد قتل محمد فان رب محمد حي لا يموت وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قاتلوا على ما قاتل عليه وموتوا على ما مات عليه ثم قال اللهم اني أعتذر اليك مما يقول هؤلاء ثم سل سيفه فقاتل حتى قتل رحمه الله تعالى ومر بعض المهاجرين بأنصاري يتشحط في دمه فقال يا فلان أشعرت أن محمدا قد قتل فقال ان كان قد قتل فقد بلغ قاتلوا على دينكم ولما شج ذلك الكافر وجه الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وكسر رباعيته احتمله طلحة بن عبيدالله ودافع عنه أبو بكر وعلي رضي الله عنهم ونفر آخرون معهم ثم ان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) جعل ينادي ويقول الى عباد الله حتى انحازت اليه طائفة من أصحابه فلامهم على هزيمتهم فقالوا يا رسول الله فديناك بآبائنا وأمهاتنا أتانا خبر قتلك فاستولى الرعب على قلوبنا فولينا مدبرين ومعنى الآية وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ فسيخلو كما خلوا وكما أن أتباعهم بقوا متمسكين بدينهم بعد خلوهم فعليكم أن تتمسكوا بدينه بعد خلوه لأن الغرض من بعثة الرسل تبليغ الرسالة والزام الحجة لا وجودهم بين أظهر قومهم أبدا
المسألة الثانية قال أبو علي الرسول جاء على ضربين أحدهما يراد به المرسل والآخر الرسالة وههنا المراد به المرسل بدليل قوله إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ( البقرة 252 ) وقوله يَعْمَلُونَ يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلّغْ ( المائدة 67 ) وفعول قد يراد به المفعول كالركوب والحلوب لما يركب ويحلب والرسول بمعنى الرسالة كقوله
لقد كذب الواشون ما فهت عندهم بسر ولا أرسلتهم برسول
أي برسالة قال ومن هذا قوله تعالى إِنَّا رَسُولاَ رَبّكَ ونذكره في موضعه ان شاء الله تعالى ثم قال وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن وفيه مسائل
المسألة الأولى حرف الاستفهام دخل على الشرط وهو في الحقيقة داخل على الجزاء والمعنى أتنقلبون على أعقابكم ان مات محمد أو قتل ونظيره قوله هل زيد قائم فأنت أنما تستخبر عن قيامه الا انك أدخلت هل على الاسم والله أعلم
المسألة الثانية أنه تعالى بين في آيات كثيرة انه عليه السلام لا يقتل قال إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ ( الزمر 30 ) وقال وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ( المائدة 67 ) وقال لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ ( الصف 9 ) فليس لقائل أن يقول لما علم أنه لا يقتل فلم قال أو قتل فان الجواب عنه من وجوه الأول أن صدق القضية الشرطية لا يقتضي صدق جزأيها فانك

تقول ان كانت الخمسة زوجا كانت منقسمة بمتساويين فالشرطية صادقة وجزآها كاذبان وقال تعالى لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَة ٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ( الأنبياء 22 ) فهذا حق مع أنه ليس فيهما آلهة وليس فيهما فساد فكذا ههنا والثاني ان هذا ورد على سبيل الالزام فان موسى عليه السلام مات ولم ترجع أمته عن ذلك والنصارى زعموا أن عيسى عليه السلام قتل وهم لا يرجعون عن دينه فكذا ههنا والثالث ان الموت لا يوجب رجوع الأمة عن دينه فكذا القتل وجب أن لا يوجب الرجوع عن دينه لانه فارق بين الأمرين فلما رجع الى هذا المعنى كان المقصود منه الرد على أولئك الذين شكوا في صحة الدين وهموا بالارتداد
المسألة الثالثة قوله انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ أي صرتم كفارا بعد إيمانكم يقال لكل من عاد الى ما كان عليه رجع وراءه وانقلب على عقبه ونكص على عقبيه وذلك أن المنافقين قالوا لضعفة المسلمين ان كان محمد قتل فالحقوا بدينكم فقال بعض الانصار ان كان محمد قتل فان رب محمد لم يقتل فقاتلوا على ما قاتل عليه محمد وحاصل الكلام انه تعالى بين أن قلته لا يوجب ضعفا في دينه بدليلين الأول بالقياس على موت سائر الأنبياء وقتلهم والثاني أن الحاجة الى الرسول لتبليغ الدين وبعد ذلك فلا حاجة اليه فلم يلزم من قتله فساد الدين والله أعلم
المسألة الرابعة ليس لقائل أن يقول ان قوله وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ شك وهو على الله تعالى لا يجوز فانا نقول المراد أنه سواء وقع هذا أو ذاك فلا تأثير له في ضعف الدين ووجوب الارتداد
ثم قال تعالى وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً والغرض منه تأكيد الوعيد لأن كل عاقل يعلم ان الله تعالى لا يضره كفر الكافرين بل المراد أنه لا يضر الا نفسه وهذا كما إذا قال الرجل لولده عند العتاب ان هذا الذي تأتي به من الأفعال لا يضر السماء والأرض ويريد به أنه يعود ضرره عليه فكذا ههنا ثم أتبع الوعيد بالوعد فقال وَسَيَجْزِى اللَّهُ الشَّاكِرِينَ فالمراد أنه لما وقعت الشبهة في قلوب بعضهم بسبب تلك الهزيمة ولم تقع الشبهة في قلوب العلماء الاقوياء من المؤمنين فهم شكروا الله على ثباتهم على الايمان وشدة تمسكهم به فلا جرم مدحهم الله تعالى بقوله وَسَيَجْزِى اللَّهُ الشَّاكِرِينَ وروى محمد بن جرير الطبري عن علي رضي الله عنه أنه قال المراد بقوله وَسَيَجْزِى اللَّهُ الشَّاكِرِينَ أبو بكر وأصحابه وروي عنه أنه قال أبو بكر من الشاكرين وهو من أحباء الله والله أعلم بالصواب
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الاٌّ خِرَة ِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِى الشَّاكِرِينَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى في كيفية تعلق هذه الآية بما قبله وجوه الأول أن المنافقين أرجفوا أن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) قد قتل فالله تعالى يقول انه لا تموت نفس الا باذن الله وقضائه وقدره فكان قتله مثل موته في أنه لا

يحصل الا في الوقت المقدر المعين فكما أنه لو مات في داره لم يدل ذلك على فساد دينه فكذا إذا قتل وجب أن لا يؤثر ذلك في فساد دينه والمقصود منه ابطال قول المنافقين لضعفة المسلمين انه لما قتل محمد فارجعوا الى ما كنتم عليه من الأديان الثاني أن يكون المراد تحريض المسلمين على الجهاد باعلامهم أن الحذر لا يدفع القدر وان أحداً لا يموت قبل الأجل وإذا جاء الأجل لا يندفع الموت بشيء فلا فائدة في الجبن والخوف والثالث أن يكون المراد حفظ الله للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وتخليصه من تلك المعركة المخوفة فان تلك الواقعة ما بقي سبب من أسباب الهلاك إلا وقد حصل فيها ولكن لما كان الله تعالى حافظاً وناصراً ما ضره شيء من ذلك وفيه تنبيه على أن أصحابه قصروا في الذب عنه والرابع وما كان لنفس أن تموت إلا باذن الله فليس في ارجاف من أرجف بموت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ما يحقق ذلك فيه أو يعين في تقوية الكفر بل يبقيه الله إلى أن يظهر على الدين كله الخامس أن المقصود منه الجواب عما قاله المنافقون فان الصحابة لما رجعوا وقد قتل منهم من قتل قالوا لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا فاخبر الله تعالى ان الموت والقتل كلاهما لا يكونان الا باذن الله وحضور الأجل والله أعلم بالصواب
المسألة الثانية اخلفوا في تفسير الاذن على أقوال الأول أن يكون الاذن هو الامر وهو قول أبي مسلم والمعنى ان الله تعالى يأمر ملك الموت بقبض الارواح فلا يموت أحد إلا بهذا الامر الثاني ان المراد من هذا الاذن ما هو المراد بقوله إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَى ْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( النحل 40 ) والمراد من هذا الأمر انما هو التكوين والتخليق والايجاد لانه لا يقدر على الموت والحياة أحد الا الله تعالى فاذن المراد أن نفسا لن تموت الا بما أماتها الله تعالى الثالث أن يكون الاذن هو التخلية والاطلاق وترك المنع بالقهر والاجبار وبه فسر قوله تعالى وَمَا هُم بِضَارّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ ( البقرة 102 ) أي بتخليته فانه تعالى قادر على المنع من ذلك بالقهر فيكون المعنى ما كان لنفس أن تموت الا بإذن الله بتخلي الله بين القاتل والمقتول ولكنه تعالى يحفظ نبيه ويجعل من بين يديه ومن خلفه رصدا ليتم على يديه بلاغ ما أرسله به ولا يخلي بين أحد وبين قتله حتى ينتهي الى الاجل الذي كتبه الله له فلا تنكسروا بعد ذلك في غزواتكم بأن يرجف مرجف أن محمدا قد قتل الرابع أن يكون الاذن بمعنى العلم ومعناه أن نفسا لن تموت إلا في الوقت الذي علم الله موتها فيه واذا جاء ذلك الوقت لزم الموت كما قال فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَة ً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ( النحل 61 ) الخامس قال ابن عباس الاذن هو قضاء الله وقدره فانه لا يحدث شيء إلا بمشيئته وارادته فيجعل ذلك على سبيل التمثيل كانه فعل لا ينبغي لاحد أن يقدم عليه إلا باذن الله
المسألة الثالثة قال الاخفش والزجاج اللام في وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ معناها النفي والتقدير وما كانت نفس لتموت الا باذن الله
المسألة الرابعة دلت الآية على أن المقتول ميت بأجله وأن تغيير الآجال ممتنع
وقوله تعالى كِتَاباً مُّؤَجَّلاً فيه مسائل
المسألة الأولى قوله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً منصوب بفعل دل عليه ما قبله فان قوله وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله قام مقام أن يقال كتب الله فالتقدير كتب الله كتابا مؤجلا ونظيره قوله كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ النساء 24

لأن في قوله حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ( النساء 23 ) دلالة على انه كتب هذا التحريم عليكم ومثله صنع الله ووعد الله وفطرة الله وصبغة الله
المسألة الثانية المراد بالكتاب المؤجل الكتاب المشتمل على الآجال ويقال انه هو اللوح المحفوظ كما ورد في الأحاديث أنه تعالى قال للقلم ( اكتب فكتب ما هو كائن الى يوم القيامة )
واعلم أن جميع الحوادث لا بد أن تكون معلومة لله تعالى وجميع حوادث هذا العالم من الخلق والرزق والأجل والسعادة والشقاوة لا بد وأن تكون مكتوبة في اللوح المحفوظ فلو وقعت بخلاف علم الله لانقلب علمه جهلا ولانقلب ذلك الكتاب كذبا وكل ذلك محال وإذا كان الأمر كذلك ثبت ان الكل بقاء الله وقدره وقد ذكر بعض العلماء هذا المعنى في تفسير هذه الآية وأكده بحديث الصادق المصدوق وبالحديث المشهور من قوله عليه السلام ( فحج آدم موسى ) قال القاضي أما الأجل والرزق فهما مضافان الى الله وأما الكفر والفسق والايمان والطاعة فكل ذلك مضاف الى العبد فاذا كتب تعالى ذلك فانما يكتب بعلمه من اختيار العبد وذلك لا يخرج العبد من أن يكون هو المذموم أو الممدوح
واعلم أنه ما كان من حق القاضي أن يتغافل عن موضع الاشكال وذلك لانا نقول إذا علم الله من العبد الكفر وكتب في اللوح المحفوظ منه الكفر فلو أتى بالايمان لكان ذلك جمعا بين المتناقضين لأن العلم بالكفر والخبر الصدق عن الكفر مع عدم الكفر جمع بين النقيضين وهو محال وإذا كان موضع الالزام هو هذا فأنى ينفعه الفرار من ذلك الى الكلمات الأجنبية عن هذا الالزام
وأما قوله تعالى وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الاْخِرَة ِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِى الشَّاكِرِينَ
فاعلم أن الذين حضروا يوم أحد كانوا فريقين منهم من يريد الدنيا ومنهم من يريد الآخرة كما ذكره الله تعالى فيما بعد من هذه السورة فالذين حضروا القتال للدنيا هم الذين حضروا لطلب الغنائم والذكر والثناء وهؤلاء لا بد وأن ينهزموا والذين حضروا للدين فلا بد وأن لا ينهزموا ثم أخبر الله تعالى في هذه الآية أن من طلب الدنيا لا بد وأن يصل الى بعض مقصوده ومن طلب الآخرة فكذلك وتقريره قوله عليه السلام ( إنما الأعمال بالنيات ) الى آخر الحديث
واعلم أن هذه الآية وان وردت في الجهاد خاصة لكنها عامة في جميع الأعمال وذلك لأن المؤثر في جلب الثواب والعقاب المقصود والدواعي لا ظواهر الأعمال فان من وضع الجبهة على الأرض في صلاة الظهر والشمس قدامه فان قصد بذلك السجود عبادة الله تعالى كان ذلك من أعظم دعائم الإسلام وان قصد به عبادة الشمس كان ذلك من أعظم دعائم الكفر وروى أبو هريرة عنه عليه السلام ان الله تعالى يقول يوم القيامة لمقاتل في سبيل الله ( في ماذا قتلت فيقول أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت فيقول تعالى كذبت بل أردت أن يقال فلان محارب وقد قيل ذلك ) ثم ان الله تعالى يأمر به الى النار

وَكَأَيِّن مِّن نَّبِى ٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ
واعلم أنه تعالى من تمام تأديبه قال للمنهزمين يوم أحد إن لكم بالأنبياء المتقدمين وأتباعهم أسوة حسنة فلما كانت طريقة أتباع الأنبياء المتقدمين الصبر على الجهاد وترك الفرار فكيف يليق بكم هذا الفرار والانهزام وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير ( وكائن ) على وزن كاعن ممدوداً مهموزاً مخففا وقرأ الباقون ( كأين ) مشدوداً بوزن كعين وهي لغة قريش ومن اللغة الأولى قول جرير وكائن بالأباطح من صديق
يراني لو أصيب هو المصاب
وأنشد المفضل وكائن ترى في الحي من ذي قرابة
المسألة الثانية قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ( قتل معه ) والباقون ( قاتل معه ) فعلى القراءة الأولى يكون المعنى أن كثيرا من الأنبياء قتلوا والذين بقوا بعدهم ما وهنوا في دينهم بل استمروا على جهاد عدوهم ونصرة دينهم فكان ينبغي أن يكون حالكم يا أمة محمد هكذا قال القفال رحمه الله والوقف على هذا التأويل على قوله ( قتل ) وقوله ( معه ربيون ) حال بمعنى قتل حال ما كان معه ربيون أو يكون على معنى التقديم والتأخير أي وكأين من نبي معه ربيون كثير قتل فما وهن الربيون على كثرتهم وفيه وجه آخر وهو أن يكون المعنى وكأين من نبي قتل من إخوانهم بل مضوا على جهاد عدوهم فقد كان ينبغي أن يكون حالكم كذلك وحجة هذه القراءة أن المقصود من هذه الآية حكاية ما جرى لسائر الأنبياء لتقتدي هذه الأمة بهم وقد قال تعالى وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن ( آل عمران 144 ) فيجب أن يكون المذكور قتل سائر الأنبياء لا قتالهم ومن قرأ ( قاتل معه ) فالمعنى وكم من نبي قاتل معه العدد الكثير من أصحابه فأصابهم من عدوهم قرح فما وهنوا لأن الذي أصابهم إنما هو في سبيل الله وطاعته وإقامة دينه ونصرة رسوله فكذلك كان ينبغي أن تفعلوا مثل ذلك يا أمة محمد وحجة هذه القراءة ان المراد من هذه الآية ترغيب الذين كانوا مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في القتال فوجب أن يكون المذكور هو القتال وأيضا روي عن سعيد بن جبير أنه قال ما سمعنا بنبي قتل في القتال
المسألة الثالثة قال الواحدي رحمه الله أجمعوا على أن معنى ( كأين ) كم وتأويلها التكثير لعدد الأنبياء الذين هذه صفتهم ونظيره قوله فَكَأَيّن مّن قَرْيَة ٍ أَهْلَكْنَاهَا ( الحج 45 ) وَكَأَيّن مّن قَرْيَة ٍ أَمْلَيْتُ لَهَا ( الحج 48 ) والكافي في ( كأين ) كاف التشبيه دخلت على ( أي ) التي هي للاستفهام كما دخلت على ( ذا ) من ( كذا ) و ( أن ) من كأن ولا معنى للتشبيه فيه كما لا معنى للتشبيه في كذا تقول لي عليه كذا وكذا معناه لي عليه عدد ما فلا معنى للتشبيه الا أنها زيادة لازمة لا يجوز حذفها واعلم أنه لم يقع للتنوين صورة في الخط إلا في هذا الحرف خاصة وكذا استعمال هذه الكلمة فصارت كلمة واحدة موضوعة للتكثير
المسألة الرابعة قال صاحب ( الكشاف ) الربيون الربانيون وقرىء بالحركات الثلاث والفتح على

القياس والضم والكسر من تغييرات النسب وحكى الواحدي عن الفراء أنه قال الربيون الأولون وقال الزجاج هم الجماعات الكثيرة الواحد ربي قال ابن قتيبة أصله من الربة وهي الجماعة يقال ربي كأنه نسب الى الربة وقال الأخفش الربيون الذين يعبدون الرب وطعن فيه ثعلب وقال كان يجب أن يقال ربي ليكون منسوبا الى الرب وأجاب من نصر الأخفش وقال العرب إذا نسبت شيئاً الى شيء غيرت حركته كما يقال بصري في النسب الى البصرة ودهري في النسبة الى الدهر وقال ابن زيد الربانيون الأئمة والولاة والربيون الرعية وهم المنتسبون الى الرب
واعلم أنه تعالى مدح هؤلاء الربيين بنوعين أولا بصفات النفي وثانيا بصفات الاثبات أما المدح بصفات النبي فهو قوله تعالى فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ ولا بد من الفرق بين هذه الأمور الثلاثة قال صاحب ( الكشاف ) ما وهنوا عند قتل النبي وما ضعفوا عن الجهاد بعده وما استكانوا للعدو وهذا تعريض بما أصابهم من الوهن والانكسار عند الارجاف بقتل رسولهم وبضعفهم عند ذلك عن مجاهدة المشركين واستكانتهم للكفار حتى أرادوا أن يعتضدوا بالمنافق عبدالله بن أبي وطلب الأمان من أبي سفيان ويحتمل أيضا أن يفسر الوهن باستيلاء الخوف عليهم ويفسر الضعف بأن يضعف إيمانهم وتقع الشكوك والشبهات في قلوبهم والاستكانة هي الانتقال من دينهم إلى دين عدوهم وفيه وجه ثالث وهو ان الوهن ضعف يلحق القلب والضعف المطلق هو اختلال القوة والقدرة بالجسم والاستكانة هي إظهار ذلك العجز وذلك الضعف وكل هذه الوجوه حسنة محتملة قال الواحدي الاستكانة الخضوع وهو أن يسكن لصاحبه ليفعل به ما يريد
ثم قال تعالى وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ والمعنى أن من صبر على تحمل الشدائد في طريق الله ولم يظهر الجزع والعجز والهلع فان الله يحبه ومحبة الله تعالى للعبد عبارة عن إرادة إكرامه واعزازه وتعظيمه والحكم له بالثواب والجنة وذلك نهاية المطلوب
ثم انه تعالى أتبع ذلك بأن مدحهم بصفات الثبوت فقال
وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا

التالي ج9.وج10.بمشيئة الله الواحد

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب الإبانة عن أصول الديانة علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري أبو الحسن

  كتاب الإبانة عن أصول الديانة علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري أبو الحسن بسم الله الرحمن الرحيم وهو حسبي ونعم الوكيل وصلى الله على...