الثلاثاء، 4 أكتوبر 2022

ج9.وج10.مفاتيح الغيب للرازي

 ج9.وج10.مفاتيح الغيب للرازي

ج9. مفاتيح الغيب ـ ترقيم الشاملة موافق للمطبوع
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي الشافعي

ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ 1
وفيه مسألتان
المسألة الأولى قوله وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا يدل على أن فعل العبد خلق الله تعالى والمعتزلة يحملونه على فعل الألطاف
المسألة الثانية بين تعالى أنهم كانوا مستعدين عند ذلك التصبر والتجلد بالدعاء والتضرع بطلب الامداد والاعانة من الله والغرض منه أن يقتدى بهم في هذه الطريقة أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فان من عول في تحصيل مهماته على نفسه ذل ومن اعتصم بالله فاز بالمطلوب قال القاضي إنما قدموا قولهم ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا لأنه تعالى لما ضمن النصرة للمؤمنين فاذا لم تحصل النصرة وظهر أمارات استيلاء العدو دل ذلك ظاهرا على صدور ذنب وتقصير من المؤمنين فلهذا المعنى يجب عليهم تقديم التوبة والاستغفار على طلب النصرة فبين تعالى أنهم بدأوا بالتوبة عن كل المعاصي وهو المراد بقوله ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا فدخل فيه كل الذنوب سواء كانت من الصغائر أو من الكبائر ثم انهم خصوا الذنوب العظيمة الكبيرة منها بالذكر بعد ذلك لعظمها وعظم عقابها وهو المراد من قوله وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا لان الاسراف في كل شيء هو الافراط فيه قال تعالى قُلْ ياعِبَادِى َ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ( الزمر 53 ) وقال فَلاَ يُسْرِف فّى الْقَتْلِ ( الإسراء 33 ) وقال كُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ ( الأعراف 31 ) ويقال فلان مسرف إذا كان مكثرا في النفقة وغيرها ثم انهم لما فرغوا من ذلك سألوا ربهم أن يثبت أقدامهم وذلك بازالة الخوف عن قلوبهم وازالة الخواطر الفاسدة عن صدورهم ثم سألوا بعد ذلك أن ينصرهم على القوم الكافرين لان هذه النصرة لا بد فيها من أمور زائدة على ثبات أقدامهم وهو كالرعب الذي يلقيه في قلوبهم واحداث أحوال سماوية أو أرضية توجب انهزامهم مثل هبوب رياح تثير الغبار في وجوههم ومثل جريان سيل في موضع وقوفهم ثم قال القاضي وهذا تأديب من الله تعالى في كيفية الطلب بالادعية عند النوائب والمحن سواء كان في الجهاد أو غيره
فَأاتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الاٌّ خِرَة ِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
واعلم أنه تعالى لما شرح طريقة الربيين في الصبر وطريقتهم في الدعاء ذكر أيضا ما ضمن لهم في مقابلة ذلك في الدنيا والآخرة فقال فَاتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الاْخِرَة ِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله فَاتَاهُمُ اللَّهُ يقتضي أنه تعالى أعطاهم الامرين أما ثواب الدنيا فهو النصرة والغنيمة وقهر العدو والثناء الجميل وانشراح الصدر بنور الايمان وزوال ظلمات الشبهات وكفارة المعاصي والسيئات وأما ثواب الآخرة فلا شك أنه هو الجنة وما فيها من المنافع واللذات وأنواع السرور والتعظيم وذلك غير حاصل في الحال فيكون المراد أنه تعالى حكم لهم بحصولها في الآخرة فأقام حكم الله بذلك مقام نفس الحصول كما أن الكذب في وعد الله والظلم في عدله محال أو يحمل قوله فَأَتَاهُمُ على أنه سيؤتيهم على قياس قوله اتِى أَمْرِ اللَّهِ أي سيأتي أمر الله قال القاضي ولا يمتنع أن تكون هذه الآية مختصة بالشهداء وقد أخبر الله تعالى عن بعضهم أنهم أحياء عند ربهم يرزقون فيكون حال هؤلاء الربيين أيضا كذلك فانه تعالى في حال انزال هذه الآية كان قد آتاهم حسن ثواب الآخرة في جنان السماء
المسألة الثانية خص تعالى ثواب الآخرة بالحسن تنبيها على جلالة ثوابهم وذلك لأن ثواب الآخرة كله في غاية الحسن فما خصه الله بانه حسن من هذا الجنس فانظر كيف يكون حسنه ولم يصف ثواب الدنيا بذلك لقلتها وامتزاجها بالمضار وكونها منقطعة زائلة قال القفال رحمه الله يحتمل أن يكون الحسن هو الحسن كقوله وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا ( البقرة 83 ) أي حسنا والغرض منه المبالغة كأن تلك الاشياء

الحسنة لكونها عظيمة في الحسن صارت نفس الحسن كما يقال فلان جود وكرم إذا كان في غاية الجود والكرم والله أعلم
المسألة الثالثة قال فيما تقدم وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الاْخِرَة ِ نُؤْتِهِ مِنْهَا ( آل عمران 145 ) فذكر لفظة ( من ) الدالة على التبعيض فقال في الآية فَاتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الاْخِرَة ِ ولم يذكر كلمة ( من ) والفرق أن الذين يريدون ثواب الآخرة انما اشتغلوا بالعبودية لطلب الثواب فكانت مرتبتهم في العبودية نازلة وأما المذكورون في هذه الآية فانهم لم يذكروا في أنفسهم الا الذنب والقصور وهو المراد من قوله اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا ( آل عمران 147 ) ولم يروا التدبير والنصرة والاعانة الا من ربهم وهو المراد بقوله وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ( آل عمران 147 ) فكان مقام هؤلاء في العبودية في غاية الكمال فلا جرم أولئك فازوا ببعض الثواب وهؤلاء فازوا بالكل وأيضا أولئك أرادوا الثواب وهؤلاء ما أرادوا الثواب وإنما أرادوا خدمة مولاهم فلا جرم أولئك حرموا وهؤلاء أعطوا ليعلم أن كل من أقبل على خدمة الله أقبل على خدمته كل ما سوى الله
ثم قال وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وفيه دقيقة لطيفة وهي أن هؤلاء اعترفوا بكونهم مسيئين حيث قالوا ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا فلما اعترفوا بذلك سماهم الله محسنين كأن الله تعالى يقول لهم
إذا اعترفت باساءتك وعجزك فأنا أصفك بالاحسان وأجعلك حبيبا لنفسي حتى تعلم أنه لا سبيل للعبد الى الوصول الى حضرة الله الا باظهار الذلة والمسكنة والعجز وأيضا انهم لما أرادوا الاقدام على الجهاد طلبوا تثبيت أقدامهم في دينه ونصرتهم على العدو من الله تعالى فعند ذلك سماهم بالمحسنين وهذا يدل على أن العبد لا يمكنه الاتيان بالفعل الحسن الا إذا أعطاه الله ذلك الفعل الحسن وأعانه عليه ثم إنه تعالى قال هَلْ جَزَاء الإحْسَانِ إِلاَّ الإحْسَانُ ( الرحمن 60 ) وقال لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَة ٌ ( يونس 26 ) وكل ذلك يدل على أنه سبحانه هو الذي يعطي الفعل الحسن للعبد ثم أنه يثيبه عليه ليعلم العبد ان الكل من الله وباعانة الله
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ
واعلم أن هذه الآية من تمام الكلام الأول وذلك لأن الكفار لما أرجفوا أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قد قتل ودعا المنافقون بعض ضعفة المسلمين الى الكفر منع الله المسلمين بهذه الآية عن الالتفات الى كلام أولئك المنافقين فقال الْمُحْسِنِينَ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قيل إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ المراد أبو سفيان فانه كان كبير القوم في ذلك اليوم قال السدي المراد أبو سفيان لأنه كان شجرة الفتن وقال آخرون المراد عبدالله بن أبي وأتباعه من

المنافقين وهم الذين ألقوا الشبهات في قلوب الضعفة وقالوا لو كان محمد رسول الله ما وقعت له هذه الواقعة وإنما هو رجل كسائر الناس يوما له ويوما عليه فارجعوا الى دينكم الذي كنتم فيه وقال آخرون المراد اليهود لأنه كان بالمدينة قوم من اليهود وكانوا يلقون الشبهة في قلوب المسلمين ولا سيما عند وقوع هذه الواقعة والأقرب أنه يتناول كل الكفار لأن اللفظ عام وخصوص السبب لا يمنع من عموم اللفظ
المسألة الثانية قوله إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ لا يمكن حمله على طاعتهم في كل ما يقولونه بل لا بد من التخصيص فقيل ان تطيعوهم فيما أمروكم به يوم أحد من ترك الإسلام وقيل ان تطيعوهم في كل ما يأمرونكم من الضلال وقيل في المشورة وقيل في ترك المحاربة وهو قولهم ( لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا )
ثم قال يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ يعني يردوكم الى الكفر بعد الإيمان لأن قبول قولهم في الدعوة الى الكفر كفر
ثم قال فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ
واعلم أن اللفظ لما كان عاما وجب أن يدخل فيه خسران الدنيا والآخرة أما خسران الدنيا فلأن أشق الأشياء على العقلاء في الدنيا الانقياد للعدو والتذلل له وإظهار الحاجة اليه وأما خسران الآخرة فالحرمان عن الثواب المؤبد والوقوع في العقاب المخلد
ثم قال تعالى بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ والمعنى أنكم إنما تطيعون الكفار لينصروكم ويعينوكم على مطالبكم وهذا جهل لأنهم عاجزون متحيرون والعاقل يطلب النصرة من الله تعالى لأنه هو الذي ينصركم على العدو ويدفع عنكم كيده ثم بين أنه خير الناصرين ولو لم يكن المراد بقوله مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ النصرة لم يصح أن يتبعه بهذا القول وإنما كان تعالى خير الناصرين لوجوه الأول أنه تعالى هو القادر على نصرتك في كل ما تريد والعالم الذي لا يخفى عليه دعاؤك وتضرعك والكريم الذي لا يبخل في جوده ونصرة العبيد بعضهم لبعض بخلاف ذلك في كل هذه الوجوه والثاني أنه ينصرك في الدنيا والآخرة وغيره ليس كذلك والثالث أنه ينصرك قبل سؤالك ومعرفتك بالحاجة كما قال قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ ( الأنبياء 42 ) وغيره ليس كذلك
واعلم أن قوله وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ ظاهره يقتضي أن يكون من جنس سائر الناصرين وهو منزه عن ذلك لكنه ورد الكلام على حسب تعارفهم كقوله وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ( الروم 27 )
سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَآ أَشْرَكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ

اعلم أن هذه الآية من تمام ما تقدم ذكره فانه تعالى ذكر وجوها كثيرة في الترغيب في الجهاد وعدم المبالاة بالكفار ومن جملتها ما ذكر في هذه الآية أنه تعالى يلقي الخوف في قلوب الكفار ولا شك أن ذلك مما يوجب استيلاء المسلمين عليهم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في أن هذا الوعد هل هو مختص بيوم أحد أو هو عام في جميع الأوقات قال كثير من المفسرين إنه مختص بهذا اليوم وذلك لأن جميع الآيات المتقدمة إنما وردت في هذه الواقعة ثم القائلون بهذا القول ذكروا في كيفية إلقاء الرعب في قلوب المشركين في هذا اليوم وجهين الأول أن الكفار لما استولوا على المسلمين وهزموهم أوقع الله الرعب في قلوبهم فتركوهم وفروا منهم من غير سبب حتى روي أن أبا سفيان صعد الجبل وقال أين ابن أبي كبشة وأين ابن أبي قحافة وأين ابن الخطاب فأجابه عمر ودارت بينهما كلمات وما تجاسر أبو سفيان على النزول من الجبل والذهاب إليهم والثاني أن الكفار لما ذهبوا إلى مكة فلما كانوا في بعض الطريق قالوا ما صنعنا شيئاً قتلنا الأكثرين منهم ثم تركناهم ونحن قاهرون ارجعوا حتى نستأصلهم بالكلية فلما عزموا على ذلك ألقى الله الرعب في قلوبهم
والقول الثاني أن هذا الوعد غير مختص بيوم أحد بل هو عام قال القفال رحمه الله كأنه قيل انه وان وقعت لكم هذه الواقعة في يوم أحد إلا أن الله تعالى سيلقي الرعب منكم بعد ذلك في قلوب الكافرين حتى يقهر الكفار ويظهر دينكم على سائر الأديان وقد فعل الله ذلك حتى صار دين الإسلام قاهراً لجميع الأديان والملل ونظير هذه الآية قوله عليه السلام ( نصرت بالرعب مسيرة شهر )
المسألة الثانية قرأ ابن عامر والكسائي الرُّعْبَ بضم العين والباقون بتخفيفها في كل القرآن قال الواحدي هما لغتان يقال رعبته رعبا ورعبا وهو مرعوب ويجوز أن يكون الرعب مصدرا والرعب اسم منه
المسألة الثالثة الرعب الخوف الذي يحصل في القلب وأصل الرعب الملء يقال سيل راعب إذا ملأ الأودية والأنهار وإنما سمي الفزع رعبا لأنه يملأ القلب خوفا
المسألة الرابعة ظاهر قوله سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ يقتضي وقوع الرعب في جميع الكفار فذهب بعض العلماء إلى اجراء هذا العموم على ظاهره لأنه لا أحد يخالف دين الإسلام إلا وفي قلبه ضرب من الرعب من المسلمين إما في الحرب وإما عند المحاجة
وقوله تعالى سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ لا يقتضي وقوع جميع أنواع الرعب في قلوب الكفار إنما يقتضي وقوع هذه الحقيقة في قلوبهم من بعض الوجوه وذهب جمع من المفسرين إلى أنه مخصوص بأولئك الكفار
أما قوله بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللَّهِ فاعلم أن ( ما ) مصدرية والمعنى بسبب إشراكهم بالله
واعلم أن تقدير هذا بالوجه المعقول هو أن الدعاء إنما يصير في محل الاجابة عند الاضطرار كما قال أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ ( النحل 62 ) ومن اعتقد أن لله شريكا لم يحصل له الاضطرار لأنه يقول إن كان هذا المعبود لا ينصرني فذاك الآخر ينصرني وإن لم يحصل في قلبه الاضطرار لم تحصل الاجابة ولا النصرة

وإذا لم يحصل ذلك وجب أن يحصل الرعب والخوف في قلبه فثبت أن الاشراك بالله يوجب الرعب
أما قوله مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَاناً ففيه مسائل
المسألة الأولى السلطان ههنا هو الحجة والبرهان وفي اشتقاقه وجوه الأول قال الزجاج إنه من السليط وهو الذي يضاء به السراج وقيل للأمراء سلاطين لأنهم الذين بهم يتوصل الناس إلى تحصيل الحقوق الثاني أن السلطان في اللغة هو الحجة وإنما قيل للأمير سلطان لأن معناه أنه ذو الحجة الثالث قال الليث السلطان القدرة لأن أصل بنائه من التسليط وعلى هذا سلطان الملك قوته وقدرته ويسمى البرهان سلطاناً لقوته على دفع الباطل الرابع قابل ابن دريد سلطان كل شيء حدته وهو مأخوذ من اللسان السليط والسلاطة بمعنى الحدة
المسألة الثانية قوله مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَاناً يوهم أن فيه سلطانا إلا أن الله تعالى ما أنزله وما أظهره إلا أن الجواب عنه أنه لو كان لأنزل الله به سلطانا فلما لم ينزل به سلطاناً وجب عدمه وحاصل الكلام فيه ما يقوله المتكلمون أن هذا مما لا دليل علي فلم يجز إثباته ومنهم من يبالغ فيقول لا دليل عليه فيجب نفيه ومنهم من احتج بهذا الحرف على وحدانية الصانع فقال لا سبيل إلى اثبات الصانع إلا باحتياج المحدثات اليه ويكفي في دفع هذه الحاجة اثبات الصانع الواحد فما زاد عليه لا سبيل إلى اثباته فلم يجز اثباته
المسألة الثالثة هذه الآية دالة على فساد التقليد وذلك لأن الآية دالة على أن الشرك لا دليل عليه فوجب أن يكون القول به باطلا وهذا إنما يصح إذا كان القول باثبات ما لا دليل على ثبوته يكون باطلا فيلزم فساد القول بالتقليد
ثم قال تعالى وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ
واعلم أنه تعالى بين أن أحوال هؤلاء المشركين في الدنيا هو وقوع الخوف في قلوبهم وبين أحوالهم في الآخرة وهي أن مأواهم ومسكنهم النار
ثم قال وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ المثوى المكان الذي يكون مقر الانسان ومأواه من قولهم ثوى يثوي ثويا وجمع المثوى مثاوي
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِى الاٌّ مْرِ وَعَصَيْتُمْ مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الاٌّ خِرَة َ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ

وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
اعلم أن اتصال هذه الآية بما قبلها من وجوه الأول أنه لما رجع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه إلى المدينة وقد أصابهم ما أصابهم بأحد قال ناس من أصحابه من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصرا فأنزل الله تعالى هذه الآية الثاني قال بعضهم كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) رأى في المنام أنه يذبح كبشا فصدق الله رؤياه بقتل طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين يوم أحد وقتل بعده تسعة نفر على اللواء فذاك قوله وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ يريد تصديق رؤيا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) الثالث يجوز أن يكون هذا الوعد ما ذكره في قوله تعالى بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مّن فَوْرِهِمْ هَاذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ ( آل عمران 125 ) إلا أن هذا كان مشروطاً بشرط الصبر والتقوى والرابع يجوز أن يكون هذا الوعد هو قوله وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إلا أن هذا أيضاً مشروط بشرط والخامس يجوز أن يكون هذا الوعد هو قوله سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ ( آل عمران 151 ) والسادس قيل الوعد هو ان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال للرماة ( لا تبرحوا من هذا المكان فانا لا نزال غالبين ما دمتم في هذا المكان ) السابع قال أبو مسلم لما وعدهم الله في الآية المتقدمة إلقاء الرعب في قلوبهم أكد ذلك بأن ذكرهم ما أنجزهم من الوعد بالنصر في واقعة أحد فانه لما وعدهم بالنصرة بشرط أن يتقوا ويصبروا فحين أتوا بذلك الشرط لا جرم وفى الله تعالى بالمشروط وأعطاهم النصرة فلما تركوا الشرط لا جرم فاتهم المشروط
إذا عرفت وجه النظم ففي الآية مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي رحمه الله الصدق يتعدى إلى مفعولين تقول صدقته الوعد والوعيد
المسألة الثانية قد ذكرنا في قصة أحد أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) جعل أحدا خلف ظهره واستقبل المدينة وأقام الرماة عند الجبل وأمرهم أن يثبتوا هناك ولا يبرحوا سواء كانت النصرة للمسلمين أو عليهم فلما أقبل المشركون جعل الرماة يرشقون نبلهم والباقون يضربونهم بالسيوف حتى انهزموا والمسلمون على آثارهم يحسونهم قال الليث الحس القتل الذريع تحسونهم أي تقتلونهم قتلا كثيرا قال أبو عبيد والزجاج وابن قتيبة الحس الاستئصال بالقتل يقال جراد محسوس إذا قتله البرد وسنة حسوس إذا أتت على كل شيء ومعنى ( تحسونهم ) أي تستأصلونهم قتلا قال أصحاب الاشتقاق ( حسه ) إذا قتله لأنه أبطل حسه بالقتل كما يقال بطنه إذا أصاب بطنه ورأسه إذا أصاب رأسه وقوله بِإِذْنِهِ أي بعلمه ومعنى الكلام أنه تعالى لما وعدكم النصر بشرط التقوى والصبر على الطاعة فما دمتم وافين بهذا الشرط أنجز وعده ونصركم على أعدائكم فلما تركتم الشرط وعصيتم أمر ربكم لا جرم زالت تلك النصرة
أما قوله تعالى حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِى الاْمْرِ وَعَصَيْتُمْ مّن بَعْدَمَا أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ ففيه مسائل
المسألة الأولى لقائل أن يقول ظاهر قوله حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ بمنزلة الشرط ولا بد له من الجواب فأين جوابه
واعلم أن للعلماء ههنا طريقين الأول أن هذا ليس بشرط بل المعنى ولقد صدقكم الله وعده

حتى إذا فشلتم أي قد نصركم إلى أن كان منكم الفشل والتنازع لأنه تعالى كان إنما وعدهم بالنصرة بشرط التقوى والصبر على الطاعة فلما فشلوا وعصوا انتهى النصر وعلى هذا القول تكون كلمة ( حتى ) غاية بمعنى ( إلى ) فيكون معنى قوله حَتَّى إِذَا إلى أن أو إلى حين
الطريق الثاني أن يساعد على أن قوله حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ شرط وعلى هذا القول اختلفوا في الجواب على وجوه الأول وهو قول البصريين أن جوابه محذوف والتقدير حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منعكم الله نصره وإنما حسن حذف هذا الجواب لدلالة قوله وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ عليه ونظائره في القرآن كثيرة قال تعالى وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِن اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِى َ نَفَقاً فِى الاْرْضِ أَوْ ( الأنعام 35 ) والتقدير فافعل ثم أسقط هذا الجواب لدلالة هذا الكلام عليه وقال أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء الَّيْلِ ( الزمر 9 ) والتقدير أم من هو قانت كمن لا يكون كذلك
الوجه الثاني وهو مذهب الكوفيين واختيار الفراء أن جوابه هو قوله وَعَصَيْتُمْ والواو زائدة كما قال فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ ( الصافات 103 104 ) والمعنى ناديناه كذا ههنا الفشل والتنازع صار موجباً للعصيان فكان التقدير حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر عصيتم فالواو زائدة وبعض من نصر هذا القول زعم أن من مذهب العرب إدخال الواو في جواب ( حتى إذا ) بدليل قوله تعالى حَتَّى إِذَا جَاءوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا ( الزمر 71 ) والتقدير حتى إذا جاؤها فتحت لهم أبوابها
فان قيل إن فشلتم وتنازعتم معصية فلو جعلنا الفشل والتنازع علة للمعصية لزم كون الشيء علة لنفسه وذلك فاسد
قلنا المراد من العصيان ههنا خروجهم عن ذلك المكان ولا شك أن الفشل والتنازع هو الذي أوجب خروجهم عن ذلك المكان فلم يلزم تعليل الشيء بنفسه
واعلم أن البصريين إنما لم يقبلوا هذا الجواب لأن مذهبهم أنه لا يجوز جعل الواو زائدة
الوجه الثالث في الجواب أن يقال تقدير الآية حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعدما أراكم ما تحبون صرتم فريقين منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة
فالجواب هو قوله صرتم فريقين إلا أنه أسقط لأن قوله مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الاْخِرَة َ يفيد فائدته ويؤدي معناه لأن كلمة ( من ) للتبعيض فهي تفيد هذا الانقسام وهذا احتمال خطر ببالي
الوجه الرابع قال أبو مسلم جواب قوله حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ هو قوله صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ والتقدير حتى إذا فشلتم وكذا وكذا صرفكم عنهم ليبتليكم وكلمة ( ثم ) ههنا كالساقطة وهذا الوجه في غاية العبد والله أعلم
المسألة الثانية أنه تعالى ذكر أمورا ثلاثة أولها الفشل وهو الضعف وقيل الفشل هو الجبن وهذا باطل بدليل قوله تعالى وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ ( الأنفال 46 ) أي فتضعفوا لأنه لا يليق به أن يكون المعنى فتجنبوا ثانيها التنازع في الأمر وفيه بحثان
البحث الأول المراد من التنازع انه عليه الصلاة والسلام أمر الرماة بأن لا يبرحوا عن مكانهم ألبتة

وجعل أميرهم عبدالله بن جبير فلما ظهر المشركون أقبل الرماة عليهم بالرمي الكثير حتى انهزم المشركون ثم ان الرماة رأوا نساء المشركين صعدن الجبل وكشفن عن سوقهن بحيث بدت خلاخيلهن فقالوا الغنيمة الغنيمة فقال عبدالله عهد الرسول الينا أن لا نبرح عن هذا المكان فأبوا عليه وذهبوا الى طلب الغنيمة وبقي عبدالله مع طائفة قليلة دون العشرة الى أن قتلهم المشركون فهذا هو التنازع
البحث الثاني قوله فِى الاْمْرِ فيه وجهان الأول أن الأمر ههنا بمعنى الشأن والقصة أي تنازعتم فيما كنتم فيه من الشأن والثاني أنه الأمر الذي يضاده النهي والمعنى وتنازعتم فيما أمركم الرسول به من ملازمة ذلك المكان وثالثها وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون والمراد عصيتم بترك ملازمة ذلك المكان بقي في هذه الآية سؤالات الأول لم قدم ذكر الفشل على ذكر التنازع والمعصية
والجواب ان القوم لما رأوا هزيمة الكفار وطمعوا في الغنيمة فشلوا في أنفسهم عن الثبات طمعا في الغنيمة ثم تنازعوا بطريق القول في أنا هل نذهب لطلب الغنيمة أم لا ثم اشتغلوا بطلب الغنيمة
السؤال الثاني لما كانت المعصية بمفارقة تلك المواضع خاصة بالبعض فلم جاء هذا العتاب باللفظ العام
والجواب هذا اللفظ وان كان عاما الا أنه جاء المخصص بعده وهو قوله مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الاْخِرَة َ
السؤال الثالث ما الفائدة في قوله مّن بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ
والجواب عنه أن المقصود منه التنبيه على عظم المعصية لأنهم لما شاهدوا أن الله تعالى أكرمهم بانجاز الوعد كان من حقهم أن يمتنعوا عن المعصية فلما أقدموا عليها لا جرم سلبهم الله ذلك الاكرام وأذاقهم وبال أمرهم
ثم قال تعالى ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وقد اختلف قول أصحابنا وقول المعتزلة في تفسير هذه الآية وذلك لأن صرفهم عن الكفار معصية فكيف أضافه الى نفسه أما أصحابنا فهذا الاشكال غير وارد عليهم لأن مذهبهم أن الخير والشر بارادة الله وتخليقه فعلى هذا قالوا معنى هذا الصرف أن الله تعالى رد المسلمين عن الكفار وألقى الهزيمة عليهم وسلط الكفار عليهم وهذا قول جمهور المفسرين قالت المعتزلة هذا التأويل غير جائز ويدل عليه القرآن والعقل أما القرآن فهو قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ ( آل عمران 155 ) فأضاف ما كان منهم الى فعل الشيطان فكيف يضيفه بعد هذا الى نفسه وأما المعقول فهو أنه تعالى عاتبهم على ذلك الانصراف ولو كان ذلك بفعل الله لم يجز معاتبة القوم عليه كما لا يجوز معاتبتهم على طولهم وقصرهم وصحتهم ومرضهم ثم عند هذا ذكروا وجوها من التأويل الأول قال الجبائي ان الرماة كانوا فريقين بعضهم فارقوا المكان أولا لطلب الغنائم وبعضهم بقوا هناك ثم هؤلاء الذين بقوا أحاط بهم العدو فلو استمروا على المكث هناك لقتلهم العدو من غير فائدة أصلا فلهذا السبب جاز لهم أن يتنحوا عن ذلك الموضع الى موضع يتحرزون فيه عن العدو ألا ترى أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ذهب الى الجبل في جماعة من أصحابه وتحصنوا به

ولم يكونوا عصاة بذلك فلما كان ذلك الانصراف جائزا أضافه الى نفسه بمعنى أنه كان بامره وإذنه ثم قال لِيَبْتَلِيَكُمْ والمراد أنه تعالى لما صرفهم الى ذلك المكان وتحصنوا به أمرهم هناك بالجهاد والذب عن بقية المسلمين ولا شك أن الاقدام على الجهاد بعد الانهزام وبعد أن شاهدوا في تلك المعركة قتل أقربائهم وأحبائهم هو من أعظم أنواع الابتلاء
فان قيل فعلى هذا التأويل هؤلاء الذين صرفهم الله عن الكفار ما كانوا مذنبين فلم قال وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ
قلنا الآية مشتملة على ذكر من كان معذورا في الانصراف ومن لم يكن وهم الذين بدؤا بالهزيمة فمضوا وعصوا فقوله ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ راجع الى المعذورين لأن الآية لما اشتملت على قسمين وعلى حكمين رجع كل حكم الى القسم الذي يليق به ونظيره قوله تعالى ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ ( التوبة 40 ) والمراد الذي قال له لاَ تَحْزَنْ وهو أبو بكر لأنه كان خائفا قبل هذا القول فلما سمع هذا سكن ثم قال وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا ( التوبة 40 ) وعنى بذلك الرسول دون أبي بكر لأنه كان قد جرى ذكرهما جميعا فهذا جملة ما ذكره الجبائي في هذا المقام
والوجه الثاني ما ذكره أبو مسلم الاصفهاني وهو ان المراد من قوله ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ أنه تعالى أزال ما كان في قلوب الكفار من الرعب من المسلمين عقوبة منه على عصيانهم وفشلهم ثم قال لِيَبْتَلِيَكُمْ أي ليجعل ذلك الصرف محنة عليكم لتتوبوا الى الله وترجعوا اليه وتستغفروه فيما خالفتم فيه أمره وملتم فيه إلى الغنيمة ثم أعلمهم أنه تعالى قد عفا عنهم
والوجه الثالث قال الكعبي ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ بأن لم يأمركم بمعاودتهم من فورهم لِيَبْتَلِيَكُمْ بكثرة الانعام عليكم والتخفيف عنكم فهذا ما قيل في هذا الموضع والله أعلم
ثم قال وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ فظاهره يقتضي تقدم ذنب منهم قال القاضي إن كان ذلك الذنب من الصغائر صح أن يصف نفسه بأنه عفا عنهم من غير توبة وإن كان من باب الكبائر فلا بد من إضمار توبتهم لقيام الدلالة على أن صاحب الكبيرة إذا لم يتب لم يكن من أهل العفو والمغفرة
واعلم أن الذنب لا شك أنه كان كبيرة لأنهم خالفوا صريح نص الرسول وصارت تلك المخالفة سبباً لانهزام المسلمين وقتل جمع عظيم من أكابرهم ومعلوم أن كل ذلك من باب الكبائر وأيضا ظاهر قوله تعالى وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ ( الأنفال 16 ) يدل على كونه كبيرة وقول من قال إنه خاص في بدر ضعيف لأن اللفظ عام ولا تفاوت في المقصود فكان التخصيص ممتنعا ثم إن ظاهر هذه الآية يدل على أنه تعالى عفا عنهم من غير توبة لأن التوبة غير مذكورة فصار هذا دليلا على أنه تعالى قد يعفو عن أصحاب الكبائر وأما دليل المعتزلة في المنع عن ذلك فقد تقدم الجواب عنه في سورة البقرة
ثم قال وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وهو راجع إلى ما تقدم من ذكر نعمه سبحانه وتعالى بالنصر أولا ثم بالعفو عن المذنبين ثانياً وهذه الآية دالة على أن صاحب الكبيرة مؤمن لأنا بيّنا أن هذا الذنب كان

من الكبائر ثم انه تعالى سماهم المؤمنين فهذا يقتضي أن صاحب الكبيرة مؤمن بخلاف ما تقوله المعتزلة والله أعلم
إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِى أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَآ أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
فيه قولان
أحدهما أنه متعلق بما قبله وعلى هذا التقدير ففيه وجوه أحدها كأنه قال وعفا عنكم اذ تصعدون لأن عفوه عنهم لا بد وان يتعلق بأمر اقترفوه وذلك الأمر هو ما بينه بقوله إِذْ تُصْعِدُونَ والمراد به ما صدر عنهم من مفارقة ذلك المكان والأخذ في الوادي كالمنهزمين لا يلوون على أحد وثانيها التقدير ثم صرفكم عنهم إذ تصعدون وثالثها التقدير ليبتليكم اذ تصعدون
والقول الثاني أنه ابتداء كلام لا تعلق له بما قبله والتقدير اذكر اذ تصعدون وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) قرأ الحسن إِذْ تُصْعِدُونَ فِى الْجَبَلِ وقرأ أبي إِذْ تُصْعِدُونَ فِى الْوَادِى وقرأ أبو حيوة إِذْ تُصْعِدُونَ بفتح التاء وتشديد العين من تصعد في السلم
المسألة الثانية الاصعاد الذهاب في الأرض والابعاد فيه يقال صعد في الجبل وأصعد في الأرض ويقال أصعدنا من مكة إلى المدينة قال أبو معاذ النحوي كل شيء له أسفل وأعلى مثل الوادي والنهر والإزقة فانك تقول صعد فلان يصعد في الوادي إذا أخذ من أسفله الى أعلاه وأما ما ارتفع كالسلم فانه يقال صعدت
المسألة الثالثة ولا تلوون على أحد أي لا تلتفتون إلى أحد من شدة الهرب وأصله أن المعرج على الشيء يلوي إليه عنقه أو عنان دابته فاذا مضى ولم يعرج قيل لم يلوه ثم استعمل اللي في ترك التعريج على الشيء وترك الالتفات الى الشيء يقال فلان لا يلوي على شيء أي لا يعطف عليه ولا يبالي به
ثم قال تعالى وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ كان يقول ( الى عباد الله أنا رسول الله من كر فله الجنة ) فيحتمل أن يكون المراد أنه عليه الصلاة والسلام كان

يدعوهم إلى نفسه حتى يجتمعوا عنده ولا يتفرقوا ويحتمل أن يكون المراد أنه كان يدعوهم إلى المحاربة مع العدو
ثم قال فِى أُخْرَاكُمْ أي آخركم يقال جئت في آخر الناس وأخراهم كما يقال في أولهم وأولاهم ويقال جاء فلان في أخريات الناس أي آخرهم والمعنى أنه عليه الصلاة والسلام كان يدعوهم وهو واقف في آخرهم لأن القوم بسبب الهزيمة قد تقدموه
ثم قال فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمّ وفيه مسائل
المسألة الأولى لفظ الثواب لا يستعمل في الأغلب الا في الخير ويجوز أيضا استعماله في الشر لأنه مأخوذ من قولهم ثاب اليه عقله أي رجع اليه قال تعالى وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَة ً لّلنَّاسِ ( البقرة 125 ) والمرأة تسمى ثيباً لأن الواطىء عائد اليها وأصل الثواب كل ما يعود الى الفاعل من جزاء فعله سواء كان خيرا أو شرا الا أنه بحسب العرف اختص لفظ الثواب بالخير فان حملنا لفظ الثواب ههنا على أصل اللغة استقام الكلام وان حملناه على مقتضى العرف كان ذلك واردا على سبيل التهكم كما يقال تحيتك الضرب وعتابك السيف أي جعل الغم مكان ما يرجون من الثواب قال تعالى فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( التوبة 34 الإنشقاق 24 )
المسألة الثانية الباء في قوله غَمّاً بِغَمّ يحتمل أن تكون بمعنى المعارضة كما يقال هذا بهذا أي هذا عوض عن ذاك ويحتمل أن تكون بمعنى ( مع ) والتقدير أثابهم غما مع غم أما على التقدير الأول ففيه وجوه الأول وهو قول الزجاج أنكم لما أذقتم الرسول غما بسبب أن عصيتم أمره فالله تعالى أذاقكم هذا الغم وهو الغم الذي حصل لهم بسبب الانهزام وقتل الأحباب والمعنى جازاكم من ذلك الغم بهذا الغم الثاني قال الحسن يريد غم يوم أحد للمسلمين بغم يوم بدر للمشركين والمقصود منه أن لا يبقى في قلبكم التفات إلى الدنيا فلا تفرحوا باقبالها ولا تحزنوا بادبارها وهو المعنى بقوله لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ في واقعة أحد وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا ءاتَاكُمْ ( الحديد 23 ) في واقعة بدر طعن القاضي في هذا الوجه وقال إن غمهم يوم أحد انما كان من جهة استيلاء الكفار وذلك كفر ومعصية فكيف يضيفه الله إلى نفسه ويمكن أن يجاب عنه بأنه لا يبعد أن يعلم الله تعالى أن في تسليط الكفار على المسلمين نوع مصلحة وهو أن لا يفرحوا باقبال الدنيا ولا يحزنوا بادبارها فلا يبقى في قلوبهم اشتغال بغير الله الثالث يجوز أن يكون الضمير في قوله فَأَثَابَكُمْ يعود للرسول والمعنى أن الصحابة لما رأوا أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) شج وجهه وكسرت رباعيته وقتل عمه اغتموا لأجله والرسول عليه السلام لما رأى أنهم عصوا ربهم لطلب الغنيمة ثم بقوا محرومين من الغنيمة وقتل أقاربهم اغتم لأجلهم فكان المراد من قوله فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمّ هو هذا أما على التقدير الثاني وهو أن تكون الباء في قوله غَمّاً بِغَمّ بمعنى ( مع ) أي غما مع غم أو غما على غم فهذا جائز لأن حروف الجر يقام بعضها مقام بعض تقول ما زلت به حتى فعل وما زلت معه حتى فعل وتقول نزلت ببني فلان وعلى بني فلان
واعلم أن الغموم هناك كانت كثيرة فأحدها غمهم بما نالهم من العدو في الأنفس والأموال وثانيها غمهم بما لحق سائر المؤمنين من ذلك وثالثها غمهم بما وصل إلى الرسول من الشجة وكسر الرباعية ورابعها ما أرجف به من قتل الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وخامسها بما وقع منهم من المعصية وما يخافون من عقابها وسادسها غمهم بسبب التوبة التي صارت واجبة عليهم وذلك لأنهم إذا تابوا عن تلك المعصية لم تتم توبتهم إلا بترك الهزيمة والعود إلى المحاربة بعد الانهزام وذلك من أشق الأشياء لأن الانسان بعد صيرورته منهزما يصير ضعيف القلب جباناً فاذا أمر بالمعاودة فان فعل خاف القتل وإن لم يفعل خاف

الكفر أو عقاب الآخرة وهذا الغم لا شك أنه أعظم الغموم والأحزان وإذا عرفت هذه الجملة فكل واحد من المفسرين فسر هذه الآية بواحد من هذه الوجوه ونحن نعدها
الوجه الأول أن الغم الأول ما أصابهم عند الفشل والتنازع والغم الثاني ما حصل عند الهزيمة
الوجه الثاني ان الغم الأول ما حصل بسب فوت الغنائم والغم الثاني ما حصل بسبب أن أبا سفيان وخالد بن الوليد اطلعا على المسلمين فحملوا عليهم وقتلوا منهم جمعاً عظيما
الوجه الثالث أن الغم الأول ما كان عند توجه أبي سفيان وخالد بن الوليد عليهم بالقتل والغم الثاني هو أن المشركين لما رجعوا خاف الباقون من المسلمين من أنهم لو رجعوا لقتلوا الكل فصار هذا الغم بحيث أذهلهم عن الغم الأول
والوجه الرابع أن الغم الأول ما وصل اليهم بسبب أنفسهم وأموالهم والغم الثاني ما وصل اليهم بسبب الارجاف بقتل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وفي الآية قول ثالث اختاره القفال رحمه الله تعالى قال وعندنا أن الله تعالى ما أراد بقوله غَمّاً بِغَمّ اثنين وإنما أراد مواصلة الغموم وطولها أي ان الله عاقبكم بغموم كثيرة مثل قتل اخوانكم وأقاربكم ونزول المشركين من فوق الجبل عليكم بحيث لم تأمنوا أن يهلك أكثركم ومثل إقدامكم على المعصية فكأنه تعالى قال أثابكم هذه الغموم المتعاقبة ليصير ذلك زاجرا لكم عن الاقدام على المعصية والاشتغال بما يخالف أمر الله تعالى
المسألة الثالثة معنى أن الله أثابهم غم بغم أنه خلق الغم فيهم وأما المعتزلة فهذا لا يليق بأصولهم فذكروا في علة هذه الاضافة وجوها الأول قال الكعبي ان المنافقين لما أرجفوا أن محمداً عليه الصلاة والسلام قد قتل ولم يبين الله تعالى كذب ذلك القائل صار كأنه تعالى هو الذي فعل ذلك الغم وهذا كالرجل الذي يبلغه الخبر الذي يغمه ويكون معه من يعلم أن ذلك الخبر كذب فاذا لم يكشفه له سريعا وتركه يتفكر فيه ثم أعلمه فانه يقول له لقد غممتني وأطلت حزني وهو لم يفعل شيئاً من ذلك بل سكت وكف عن اعلامه فكذا ههنا الثاني أن الغم وان كان من فعل البعد فسببه فعل الله تعالى لأن الله طبع العباد طبعا يغتمون بالمصائب التي تنالهم وهم لا يحمدون على ذلك ولا يذمون الثالث أنه لا يبعد أن يخلق الله تعالى الغم في قلب بعض المكلفين لرعاية بعض المصالح
ثم قال تعالى لّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ وفيه وجهان الاول انها متصلة بقوله وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ ( آل عمران 152 ) كأنه قال ولقد عفا عنكم لكيلا تحزنوا لان في عفوه تعالى ما يزيل كل غم وحزن والثاني أن اللام متصلة بقوله فَأَثَابَكُمْ ثم على هذا القول ذكروا وجوها الأول قال الزجاج المعنى أثابكم غم الهزيمة من غمكم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بسبب مخالفته ليكون غمكم بأن خالفتموه فقط لا بأن فاتتكم الغنيمة وأصابتكم الهزيمة وذلك لان الغم الحاصل بسبب الاقدام على المعصية ينسي الغم الحاصل بسبب مصائب الدنيا الثاني قال الحسن جعلكم مغمومين يوم أحد في مقابلة ما جعلتموهم مغمومين يوم بدر لاجل أن يسهل أمر الدنيا في أعينكم فلا تحزنوا بفواتها ولا تفرحوا باقبالها وهذان الوجهان مفرعان على قولنا الباء في قوله غَمّاً بِغَمّ للمجازاة أما إذا قلنا انها بمعنى ( مع ) فالمعنى أنكم قلتم لو بقينا في هذا المكان وامتثلنا أمر

الرسول لوقعنا في غم فوات الغنيمة فاعلموا أنكم لما خالفتم أمر الرسول وطلبتم الغنيمة وقعتم في هذه الغموم العظيمة التي كل واحد منها أعظم من ذلك الغم أضعافا مضاعفة والعاقل إذا تعارض عنده الضرران وجب أن يخص أعظمهما بالدفع فصارت إثابة الغم على الغم مانعا لكم من أن تحزنوا بسبب فوات الغنيمة وزاجراً لكم عن ذلك ثم كما زجرهم عن تلك المعصية بهذا الزجر الحاصل في الدنيا زجرهم عنها بسبب الزواجر الموجودة في الغنيمة فقال وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ أي هو عالم بجميع أعمالكم وقصودكم ودواعيكم قادر على مجازاتها ان خيرا فخير وان شرا فشر وذلك من أعظم الزواجر للعبد عن الاقدام على المعصية والله أعلم
ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَة ً نُّعَاساً يَغْشَى طَآئِفَة ً مِّنْكُمْ وَطَآئِفَة ٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّة ِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الاٌّ مْرِ مِن شَى ْءٍ قُلْ إِنَّ الاٌّ مْرَ كُلَّهُ للَّهِ يُخْفُونَ فِى أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الاٌّ مْرِ شَى ْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِى بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِى َ اللَّهُ مَا فِى صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِى قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ
في كيفية النظم وجهان الأول أنه تعالى لما وعد نصر المؤمنين على الكافرين وهذا النصر لا بد وأن يكون مسبوقا بازالة الخوف عن المؤمنين بين في هذه الآية أنه تعالى أزال الخوف عنهم ليصير ذلك كالدلالة على أنه تعالى ينجز وعده في نصر المؤمنين الثاني أنه تعالى بين أنه نصر المؤمنين أولا فلما عصى بعضهم سلط الخوف عليهم ثم ذكر أنه أزال ذلك الخوف عن قلب من كان صادقا في إيمانه مستقرا على دينه بحيث غلب النعاس عليه
واعلم أن الذين كانوا مع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يوم أحد فريقان أحدهما الذين كانوا جازمين بأن محمداً عليه الصلاة والسلام نبي حق من عند الله وأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى وكانوا قد سمعوا من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن الله تعالى ينصر هذا الدين ويظهره على سائر الأديان فكانوا قاطعين بأن هذه الواقعة لا تؤدي إلى الاستئصال فلا جرم كانوا آمنين وبلغ ذلك الامن إلى حيث غشيهم النعاس فان النوم لا يجيء مع الخوف فمجيء النوم يدل على زوال الخوف بالكلية فقال ههنا في قصة أحد في هؤلاء ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مّن بَعْدِ الْغَمّ أَمَنَة ً نُّعَاساً وقال في قصة بدر إِذْ يُغَشّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَة ً مّنْهُ ( الأنفال 11 ) ففي قصة أحد قدم الأمنة على النعاس وفي قصة بدر قدم النعاس على الأمنة وأما الطائفة الثانية وهم المنافقون الذين كانوا

شاكين في نبوته عليه الصلاة والسلام وما حضروا إلا لطلب الغنيمة فهؤلاء اشتد جزعهم وعظم خوفهم ثم انه تعالى وصف حال كل واحدة من هاتين الطائفتين فقال في صفة المؤمنين ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مّن بَعْدِ الْغَمّ أَمَنَة ً نُّعَاساً وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي ( الأمنة ) مصدر كالامن ومثله من المصادر العظمة والغلبة وقال الجبائي يقال أمن فلان يأمن أمناً وأماناً
المسألة الثانية قال صاحب الكشاف قرىء ( أمنة ) بسكون الميم لأنها المرة من الأمن
المسألة الثالثة في قوله تعالى نُّعَاساً وجهان أحدهما أن يكون بدلا من أمنة والثاني إن يكون مفعولا وعلى هذا التقدير ففي قوله ءامِنَة ً وجوه أحدها أن تكون حالا منه مقدمة عليه كقولك رأيت راكباً رجلا وثانيها أن يكون مفعولا له بمعنى نعستم أمنة وثالثها أن يكون حالا من المخاطبين بمعنى ذوي أمنة
ثم قال تعالى يَغْشَى طَائِفَة ً مّنْكُمْ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قد ذكرنا أن هذه الطائفة هم المؤمنون الذين كانوا على البصيرة في إيمانهم قال أبو طلحة غشينا النعاس ونحن في مصافنا فكان السيف يسقط من يد أحدنا فيأخذه ثم يسقط فيأخذه وعن الزبير قال كنت مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حين اشتد الخوف فأرسل الله علينا النوم وإني لأسمع قول معتب بن قشير والنعاس يغشاني يقول لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا وقال عبد الرحمن بن عوف ألقى النوم علينا يوم أحد وعن ابن مسعود النعاس في القتال أمنة والنعاس في الصلاة من الشيطان وذلك لأنه في القتال لا يكون إلا من غاية الوثوق بالله والفراغ عن الدنيا ولا يكون في الصلاة إلا من غاية البعد عن الله
واعلم أن ذلك النعاس فيه فوائد أحدها أنه وقع على كافة المؤمنين لا على الحد المعتاد فكان ذلك معجزة ظاهرة للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولا شك أن المؤمنين متى شاهدوا تلك المعجزة الجديدة ازدادوا إيماناً مع إيمانهم ومتى صاروا كذلك ازداد جدهم في محاربة العدو ووثوقهم بأن الله منجز وعده وثانيها أن الأرق والسهر يوجبان الضعف والكلال والنوم يفيد عود القوة والنشاط واشتداد القوة والقدرة وثالثها أن الكفار لما اشتغلوا بقتل المسلمين ألقى الله النوم على عين من بقي منهم لئلا يشاهدوا قتل أعزتهم فيشتد الخوف والجبن في قلوبهم ورابعها أن الأعداء كانوا في غاية الحرص على قتلهم فبقاؤهم في النوم مع السلامة في مثل تلك المعركة من أدل الدلائل على أن حفظ الله وعصمته معهم وذلك مما يزيل الخوف عن قلوبهم ويورثهم مزيد الوثوق بوعد الله تعالى ومن الناس من قال ذكر النعاس في هذا الموضع كناية عن غاية الامن وهذا ضعيف لأن صرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز لا يجوز إلا عند قيام الدليل المعارض فكيف يجوز ترك حقيقة اللفظ مع اشتمالها على هذه الفوائد والحكم
المسألة الثانية قرأ حمزة والكسائي تغشى بالتاء رداً إلى الأمنة والباقون بالياء رداً إلى النعاس وهو اختيار أبي حاتم وخلف وأبي عبيد
واعلم أن الأمنة والنعاس كل واحد منهما يدل على الآخر فلا جرم يحسن رد الكناية إلى أيهما

شئت كقوله تعالى الرَّحِيمُ إِنَّ شَجَرَة َ الزَّقُّومِ طَعَامُ الاْثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِى فِى الْبُطُونِ ( الدخان 43 45 ) وتغلي إذا عرفت جوازهما فنقول مما يقوي القراءة بالتاء أن الأصل الأمنة والنعاس بدل ورد الكناية إلى الأصل أحسن وأيضاً الأمنة هي المقصود وإذا حصلت الأمنة حصل النعاس لأنها سببه فان الخائف لا يكاد ينعس وأما من قرأ بالياء فحجته أن النعاس هو الغاشي فان العرب يقولون غشينا النعاس وقلما يقولون غشيني من النعاس أمنة وأيضاً فان النعاس مذكور بالغشيان في قوله إِذْ يُغَشّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَة ً مّنْهُ ( الأنفال 11 ) وأيضاً النعاس يلي الفعل وهو أقرب في اللفظ إلى ذكر الغشيان من الأمنة فالتذكير أولى
ثم قال تعالى وَطَائِفَة ٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ وفيه مسألتان
المسألة الأولى هؤلاء هم المنافقون عبدالله بن أبي ومعتب بن قشير وأصحابهما كان همهم خلاص أنفسهم يقال همني الشيء أي كان من همي وقصدي قال أبو مسلم من عادة العرب أن يقولوا لمن خاف قد أهمته نفسه فهؤلاء المنافقون لشدة خوفهم من القتل طار النوم عنهم وقيل المؤمنون كان همهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وإخوانهم من المؤمنين والمنافقون كان همهم أنفسهم وتحقيق القول فيه أن الانسان إذا اشتد اشتغاله بالشيء واستغراقه فيه صار غافلا عما سواه فلما كان أحب الأشياء إلى الانسان نفسه فعند الخوف على النفس يصير ذاهلا عن كل ما سواها فهذا هو المراد من قوله أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ وذلك لأن أسباب الخوف وهي قصد الأعداء كانت حاصلة والدافع لذلك وهو الوثوق بوعد الله ووعد رسوله ما كان معتبراً عندهم لأنهم كانوا مكذبين بالرسول في قلوبهم فلا جرم عظم الخوف في قلوبهم
المسألة الثانية ( طائفة ) رفع بالابتداء وخبره ( يظنون ) وقيل خبره ( أهمتهم أنفسهم ) ثم انه تعالى وصف هذه الطائفة بأنواع من الصفات
الصفة الأولى من صفاتهم قوله تعالى يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّة ِ وفيه مسائل
المسألة الأولى في هذا الظن احتمالان أحدهما وهو الأظهر هو أن ذلك الظن أنهم كانوا يقولون في أنفسهم لو كان محمد محقا في دعواه لما سلط الكفار عليه وهذا ظن فاسد أما على قول أهل السنة والجماعة فلأنه سبحانه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا اعتراض لأحد عليه فان النبوة خلعة من الله سبحانه يشرف عبده بها وليس يجب في العقل أن المولى إذا شرف عبده بخلعة أن يشرفه بخلعة أخرى بل له الأمر والنهي كيف شاء بحكم الالهية وأما على قول من يعتبر المصالح في أفعال الله وأحكامه فلا يبعد أن يكون لله تعالى في التخلية بين الكافر والمسلم بحيث يقهر الكافر المسلم حكم خفية وألطاف مرعية فان الدنيا دار الامتحان والابتلاء ووجوه المصالح مستورة عن العقول فربما كانت المصلحة في التخلية بين الكافر والمؤمن حتى يقهر الكافر المؤمن وربما كانت المصلحة في تسليط الفقر والزمانة على المؤمنين قال القفال لو كان كون المؤمن محقاً يوجب زوال هذه المعاني لوجب أن يضطر الناس إلى معرفة المحق بالجبر وذلك ينافي التكليف واستحقاق الثواب والعقاب بل الانسان إنما يعرف كونه محقاً بما معه من الدلائل والبينات فأما القهر فقد يكون من المبطل للمحق ومن المحق للمبطل وهذه جملة كافية في بيان أنه لا يجوز الاستدلال بالدولة والشوكة ووفور القوة على أن صاحبها على الحق الثاني أن ذلك الظن هو أنهم كانوا ينكرون إله العالم بكل المعلومات القادر على كل المقدورات وينكرون النبوة

والبعث فلا جرم ما وثقوا بقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في أن الله يقويهم وينصرهم
المسألة الثانية غَيْرِ في حكم المصدر ومعناه يظنون بالله غير الظن الحق الذي يجب أن يظن به ( وظن الجاهلية ) بدل منه والفائدة في هذا الترتيب أن غير الحق أديان كثيرة وأقبحها مقالات أهل الجاهلية فذكر أولا أنهم يظنون بالله غير الظن الحق ثم بين أنهم اختاروا من أقسام الأديان التي غير حقة أركها وأكثرها بطلانا وهو ظن أهل الجاهلية كما يقال فلان دينه ليس بحق دينه دين الملاحدة
المسألة الثالثة في قوله الْحَقّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّة ِ قولان أحدهما أنه كقولك حاتم الجود وعمر العدل يريد الظن المختص بالملة الجاهلية والثاني المراد ظن أهل الجاهلية
الصفة الثانية من الصفات التي ذكرها الله تعالى لهؤلاء المنافقين قوله تعالى يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الاْمْرِ مِن شَى ْء قُلْ إِنَّ الاْمْرَ كُلَّهُ للَّهِ
واعلم أن قوله ) هَل لَّنَا مِنَ الاْمْرِ مِن شَى ْء حكاية للشبهة التي تمسك أهل النفاق بها وهو يحتمل وجوها الأول أن عبدالله بن أبي لما شاوره النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في هذه الواقعة أشار عليه بأن لا يخرج من المدينة ثم ان الصحابة ألحوا على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في أن يخرج اليهم فغضب عبدالله بن أبي من ذلك فقال عصاني وأطاع الولدان ثم لما كثر القتل في بني الخزرج ورجع عبدالله بن أبي قيل له قتل بنو الخزرج فقال هل لنا من الأمر من شيء يعني أن محمداً لم يقبل قولي حين أمرته بأن يسكن في المدينة ولا يخرج منها ونظيره ما حكاه الله عنهم أنهم قالوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا ( آل عمران 168 ) والمعنى هل لنا من أمر يطاع وهو استفهام على سبيل الانكار
الوجه الثاني في التأويل أن من عادة العرب أنه إذا كانت الدولة لعدوه قالوا عليه الأمر فقوله هَل لَّنَا مِنَ الاْمْرِ مِن شَى ْء أي هل لنا من الشيء الذي كان يعدنا به محمد وهو النصرة والقوة شيء وهذا استفهام على سبيل الانكار وكان غرضهم منه الاستدلال بذلك على أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) كان كاذباً في ادعاء النصرة والعصمة من الله تعالى لأمته وهذا استفهام على سبيل الانكار الثالث أن يكون التقدير أنطمع أن تكون لنا الغلبة على هؤلاء والغرض منه تصبير المسلمين في التشديد في الجهاد والحرب مع الكفار ثم ان الله سبحانه أجاب عن هذه الشبهة بقوله قُلْ إِنَّ الاْمْرَ كُلَّهُ للَّهِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ أبو عمرو ( كله ) برفع اللام والباقون بالنصب أما وجه الرفع فهو أن قوله ( كله ) مبتدأ وقوله ( لله ) خبره ثم صارت هذه الجملة خبراً لان وأما النصب فلان لفظة ( كل ) للتأكيد فكانت كلفظة أجمع ولو قيل ان الأمر أجمع لم يكن إلا النصب فكذا إذا قال ( كله )
المسألة الثانية الوجه في تقرير هذا الجواب ما بينا انا إذا قلنا بمذهب أهل السنة لم يكن على الله اعتراض في شيء من أفعاله في الاماتة والاحياء والفقر والاغناء والسراء والضراء وإن قلنا بمذهب القائلين برعاية المصالح فوجوه المصالح مخفية لا يعلمها إلا الله تعالى فربما كانت المصلحة في إيصال السرور واللذة وربما كانت في تسليط الأحزان والآلام فقد اندفعت شبهة المنافقين من هذا الوجه
المسألة الثالثة احتج أصحابنا بهذه الآية على أن جميع المحدثات بقضاء الله وقدره وذلك لأن

المنافقين قالوا ان محمدا لو قبل منا رأينا ونصحنا لما وقع في هذه المحنة فأجاب الله عنه بأن الأمر كله لله وهذا الجواب إنما ينتظم لو كانت أفعال العباد بقضاء الله وقدره ومشيئته إذ لو كانت خارجة عن مشيئته لم يكن هذا الجواب دافعا لشبهة المنافقين فثبت أن هذه الآية دالة على ما ذكرنا وأيضا فظاهر هذه الآية مطابق للبرهان العقلي وذلك لأن الموجود إما واجب لذاته أو ممكن لذاته والممكن لذاته لا يترجح وجوده على عدمه الا عند الانتهاء الى الواجب لذاته فثبت أن كل ما سوى الله تعالى مستند إلى إيجاده وتكوينه وهذه القاعدة لا اختصاص لها بمحدث دون محدث أو ممكن دون ممكن فتدخل فيه أفعال العباد وحركاتهم وسكناتهم وذلك هو المراد بقوله قُلْ إِنَّ الاْمْرَ كُلَّهُ للَّهِ وهذا كلام في غاية الظهور لمن وفقه الله للانصاف
ثم انه تعالى قال يُخْفُونَ فِى أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ
واعلم أنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا هل لنا من الأمر من شيء وهذا الكلام محتمل فلعل قائله كان من المؤمنين المحقين وكان غرضه منه إظهار الشفقة وانه متى يكون الفرج ومن أين تحصل النصرة ولعله كان من المنافقين وإنما قاله طعنا في نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وفي الإسلام فبين تعالى في هذه الآية أن غرض هؤلاء من هذا الكلام هذا القسم الثاني والفائدة في هذا التنبيه أن يكون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) متحرزا عن مكرهم وكيدهم
النوع الثالث من الأشياء التي حكى الله عن المنافقين قولهم لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا وفيه إشكال وهو أن لقائل أن يقول ما الفرق بين هذا الكلام وبين ما تقدم من قوله هَل لَّنَا مِنَ الاْمْرِ مِن شَى ْء ويمكن أن يجاب عنه من وجهين الأول أنه تعالى لما حكى عنهم قولهم هَل لَّنَا مِنَ الاْمْرِ مِن شَى ْء فأجاب عنه بقوله الاْمْرَ كُلَّهُ للَّهِ واحتج المنافقون على الطعن في هذا الجواب بقولهم لو كان لنا من الأمر شيء لما خرجنا من المدينة وما قتلنا ههنا فهذا يدل على أنه ليس الأمر كما قلتم من أن الأمر كله لله وهذا هو بعينه المناظرة الدائرة بين أهل السنة وأهل الاعتزال فان السني يقول الأمر كله في الطاعة والمعصية والايمان والكفر بيد الله فيقول المعتزلي ليس الأمر كذلك فان الانسان مختار مستقل بالفعل ان شاء آمن وإن شاء كفر فعلى هذا الوجه لا يكون هذا الكلام شبهة مستقلة بنفسها بل يكون الغرض منه الطعن فيما جعله الله تعالى جوابا عن الشبهة الأولى
والوجه الثاني أن يكون المراد من قوله هَل لَّنَا مِنَ الاْمْرِ مِن شَى ْء هو أنه هل لنا من النصرة التي وعدنا بها محمد شيء ويكون المراد من قوله لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الاْمْرِ شَى ْء مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا هو ما كان يقوله عبدالله بن أبي من أن محمدا لو أطاعني وما خرج من المدينة ما قتلنا ههنا
واعلم أنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة من ثلاثة أوجه
الوجه الأول من الجواب قوله قُل لَّوْ كُنتُمْ فِى بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ والمعنى أن الحذر لا يدفع القدر والتدبير لا يقاوم التقدير فالذين قدر الله عليهم القتل لا بد وأن يقتلوا على جميع التقديرات لأن الله تعالى لما أخبر أنه يقتل فلو لم يقتل لانقلب علمه جهلا وقد بينا أيضا أنه ممكن

فلا بد من انتهائه الى إيجاد الله تعالى فلو لم يجد لانقلبت قدرته عجزا وكل ذلك محال ومما يدل على تحقيق الوجوب كما قررنا قوله الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ وهذه الكلمة تفيد الوجوب فان هذه الكلمة في قوله كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ ( البقرة 178 ) تفيد وجوب الفعل وها هنا لا يمكن حملها على وجوب الفعل فوجب حملها على وجوب الوجود وهذا كلام في غاية الظهور لمن أيده الله بالتوفيق ثم نقول للمفسرين فيه قولان الأول لو جلستم في بيوتكم لخرج منكم من كتب الله عليهم القتل الى مضاجعهم ومصارعهم حتى يوجد ما علم الله أنه يوجد والثاني كأنه قيل للمنافقين لو جلستم في بيوتكم وتخلفتم عن الجهاد لخرج المؤمنون الذين كتب عليهم قتال الكفار الى مضاجعهم ولم يتخلفوا عن هذه الطاعة بسبب تخلفكم
الوجه الثاني في الجواب عن تلك الشبهة قوله وَلِيَبْتَلِى َ اللَّهُ مَا فِى صُدُورِكُمْ وذلك لأن القوم زعموا أن الخروج إلى تلك المقاتلة كان مفسدة ولو كان الأمر اليهم لما خرجوا اليها فقال تعالى بل هذه المقاتلة مشتملة على نوعين من المصلحة أن يتميز الموافق من المنافق وفي المثل المشهور لا تكرهوا الفتن فانها حصاد المنافقين ومعنى الابتلاء في حق الله تعالى قد مر تفسيره مرارا كثيرة لا تكرهوا الفتن فانها حصاد المنافقين ومعنى الابتلاء في حق الله تعالى قد مر تفسيره مرارا كثيرة
فان قيل لم ذكر الابتلاء وقد سبق ذكره في قوله ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ ( آل عمران 152 )
قلنا لما طال الكلام أعاد ذكره وقيل الابتلاء الأول هزيمة المؤمنين والثاني سائر الأحوال
والوجه الثالث في الجواب قوله وَلِيُمَحّصَ مَا فِى قُلُوبِكُمْ وفيه وجهان أحدهما أن هذه الواقعة تمحص قلوبكم عن الوساوس والشبهات والثاني أنها تصير كفارة لذنوبكم فتمحصكم عن تبعات المعاصي والسيآت وذكر في الابتلاء الصدور وفي التمحيص القلوب وفيه بحث ثم قال وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ
واعلم أن ذات الصدور هي الأشياء الموجودة في الصدور وهي الأسرار والضمائر وهي ذات الصدور لأنها حالة فيها مصاحبة لها وصاحب الشيء ذوه وصاحبته ذاته وإنما ذكر ذلك ليدل به على أن ابتلاءه لم يكن لأنه يخفي عليه ما في الصدور أو غير ذلك لأنه عالم بجميع المعلومات وإنما ابتلاهم اما لمحض الالهية أو للاستصلاح
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ
واعلم أن المراد أن القوم الذين تولوا يوم أحد عند التقاء الجمعين وفارقوا المكان وانهزموا قد عفا الله عنهم وفي الآية مسائل

المسألة الأولى اختلفت الأخبار فيمن ثبت ذلك اليوم وفيمن تولى فذكر محمد بن اسحاق أن ثلث الناس كانوا مجروحين وثلثهم انهزموا وثلثهم ثبتوا واختلفوا في المنهزمين فقيل ان بعضهم ورد المدينة وأخبر أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قتل وهو سعد بن عثمان ثم ورد بعده رجال دخلوا على نسائهم وجعل النساء يقلن عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تفرونا وكن يحثين التراب في وجوههم ويقلن هاك المغزل اغزل به ومنهم قال ان المسلمين لم يعدوا الجبل قال القفال والذي تدل عليه الأخبار في الجملة أن نفرا منهم تولوا وأبعدوا فمنهم من دخل المدينة ومنهم من ذهب الى سائر الجوانب وأما الاكثرون فانهم نزلوا عند الجبل واجتمعوا هناك ومن المنهزمين عمر الا أنه لم يكن في أوائل المنهزمين ولم يبعد بل ثبت على الجبل الى أن صعد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ومنهم أيضا عثمان انهزم مع رجلين من الانصار يقال لهما سعد وعقبة انهزموا حتى بلغوا موضعا بعيدا ثم رجعوا بعد ثلاثة أيام فقال لهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لقد ذهبتم فيها عريضة ) وقالت فاطمة لعلي ما فعل عثمان فنقصه فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( يا علي أعياني أزواج الأخوات أن يتحابوا ) وأما الذين ثبتوا مع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فكانوا أربعة عشر رجلا سبعة من المهاجرين وسبعة من الانصار فمن المهاجرين أبو بكر وعلي وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيدالله وأبو عبيدة بن الجراح والزبير بن العوام ومن الانصار الخباب بن المنذر وأبو دجانة وعاصم بن ثابت والحرث بن الصمة وسهل بن حنيف وأسيد بن حضير وسعد ابن معاذ وذكر أن ثمانية من هؤلاء كانوا بايعوه يومئذ على الموت ثلاثة من المهاجرين علي وطلحة والزبير وخمسة من الانصار أبو دجانة والحرث بن الصمة وخباب بن المنذر وعاصم بن ثابت وسهل ابن حنيف ثم لم يقتل منهم أحد وروى ابن عيينة أنه أصيب مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) نحو من ثلاثين كلهم يجيء ويجثو بين يديه ويقول وجهي لوجهك الفداء ونفسي لنفسك الفداء وعليك السلام غير مودع
المسألة الثانية قوله إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ هذا خطاب للمؤمنين خاصة يعني الذين انهزموا يوم أحد إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ أي حملهم على الزلة وأزل واستزل بمعنى واحد قال تعالى فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا وقال ابن قتيبة استزلهم طلب زلتهم كما يقال استعجلته أي طلبت عجلته واستعملته طلبت عمله
المسألة الثالثة قال الكعبي الآية تدل على أن المعاصي لا تنسب إلى الله فانه تعالى نسبها في هذه الآية إلى الشيطان وهو كقوله تعالى عن موسى هَاذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ( القصص 15 ) وكقول يوسف ( من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين اخوتي ) وكقول صاحب موسى ( وما أنسانيه إلا الشيطان ) ( الكهف 63 )
المسألة الرابعة أنه تعالى لم يبين أن الشيطان في أي شيء استزلهم وذلك لأن مع العفو لا حاجة إلى تعيين المعصية لكن العلماء جوزوا أن يكون المراد بذلك تحولهم عن ذلك الموضع بأن يكون رغبتهم في الغنيمة وأن يكون فشلهم في الجهاد وعدو لهم عن الاخلاص وأي ذلك كان فقد صح أن الله تعالى عفا عنهم وروي أن عثمان عوتب في هزيمته يوم أحد فقال إن ذلك وإن كان خطأ لكن الله عفا عنه وقرأ هذه الآية
أما قوله تعالى بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ ففيه وجهان أحدهما أن الباء للالصاق كقولك كتبت بالقلم

وقطعت بالسكين والمعنى أنه كان قد صدرت عنهم جنايات فبواسطة تلك الجنايات قدر الشيطان على استزلالهم وعلى هذا التقدير ففيه وجوه الأول قال الزجاج انهم لم يتولوا على جهة المعاندة ولا على جهة الفرار من الزحف رغبة منهم في الدنيا وإنما ذكرهم الشيطان ذنوبا كانت لهم فكرهوا لقاء الله إلا على حال يرضونها وإلا بعد الاخلاص في التوبة فهذا خاطر خطر ببالهم وكانوا مخطئين فيه الثاني انهم لما أذنبوا بسبب مفارقة ذلك المكان أزلهم الشيطان بشؤم هذه المعصية وأوقعهم في الهزيمة لأن الذنب يجر الى الذنب كما أن الطاعة تجر الى الطاعة ويكون لطفا فيها الثالث لما أذنبوا بسبب الفشل ومنازعة بعضهم مع بعض وقعوا في ذلك الذنب
والوجه الثاني أن يكون المعنى استزلهم الشيطان في بعض ما كسبوا لا في كل ما كسبوا والمراد منه بيان انهم ما كفروا وما تركوا دينهم بل هذه زلة وقعت لهم في بعض أعمالهم
ثم قال تعالى وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ
واعلم أن هذه الآية دلت على أن تلك الزلة ما كانت بسبب الكفر فان العفو عن الكفر لا يجوز لقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ( النساء 48 ) ثم قالت المعتزلة ذلك الذنب ان كان من الصغائر جاز العفو عنه من غير توبة وان كان من الكبائر لم يجز الا مع التوبة فههنا لا بد من تقدم التوبة منهم وان كان ذلك غير مذكور في الآية قال القاضي والأقرب أن ذلك الذنب كان من الصغائر ويدل عليه وجهان الأول أنه لا يكاد في الكبائر يقال انها زلة إنما يقال ذلك في الصغائر الثاني أن القوم ظنوا أن الهزيمة لما وقعت على المشركين لم يبق الى ثباتهم في ذلك المكان حاجة فلا جرم انتقلوا عنه وتحولوا لطلب الغنيمة ومثل هذا لا يبعد أن يكون من باب الصغائر لأن للاجتهاد في مثله مدخلا وأما على قول أصحابنا فالعفو عن الصغائر والكبائر جائز فلا حاجة الى هذه التكلفات
ثم قال تعالى أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ أي غفور لمن تاب وأناب حليم لا يعجل بالعقوبة وقد احتج أصحابنا بهذه الآية على أن ذلك الذنب كان من الكبائر لأنه لو كان من الصغائر لوجب على قول المعتزلة أن يعفو عنه ولو كان العفو عنه واجبا لما حسن التمدح به لأن من يظلم إنسانا فانه لا يحسن أن يتمدح بأنه عفا عنه وغفر له فلما ذكر هذا التمدح علمنا أن ذلك الذنب كان من الكبائر ولما عفا عنه علمنا أن العفو عن الكبائر واقع والله أعلم
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِى الأرض أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذالِكَ حَسْرَة ً فِى قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيى ِ وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَة ٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَحْمَة ٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ

اعلم أن المنافقين كانوا يعيرون المؤمنين في الجهاد مع الكفار بقولهم لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ثم انه لما ظهر عن بعض المؤمنين فتور وفشل في الجهاد حتى وقع يوم أحد ما وقع وعفا الله بفضله عنهم ذكر في هذه الآية ما يدل على النهي عن أن يقول أحد من المؤمنين مثل مقالتهم فقال يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا لمن يريد الخروج الى الجهاد لو لم تخرجوا لما متم وما قتلتم فان الله هو المحيي والمميت فمن قدر له البقاء لم يقتل في الجهاد ومن قدر له الموت لم يبق وان لم يجاهد وهو المراد من قوله وَاللَّهُ يُحْيى ِ وَيُمِيتُ وأيضا الذي قتل في الجهاد لو أنه ما خرج الى الجهاد لكان يموت لا محالة فاذا كان لا بد من الموت فلأن يقتل في الجهاد حتى يستوجب الثواب العظيم كان ذلك خيرا له من أن يموت من غير فائدة وهو المراد من قوله وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَة ٌ مّنَ اللَّهِ وَرَحْمَة ٌ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ فهذا هو المقصود من الكلام وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في المراد بقوله كَالَّذِينَ كَفَرُواْ فقال بعضهم هو على إطلاقه فيدخل فيه كل كافر يقول مثل هذا القول سواء كان منافقا أو لم يكن وقال آخرون انه مخصوص بالمنافقين لأن هذه الآيات من أولها إلى آخرها مختصة بشرح أحوالهم وقال آخرون هذا مختص بعبدالله بن أبي بن سلول ومعتب بن قشير وسائر أصحابه وعلى هذين القولين فالآية تدل على أن الايمان ليس عبارة عن الاقرار باللسان كما تقول الكرامية إذ لو كان كذلك لكان المنافق مؤمناً ولو كان مؤمناً لما سماه الله كافراً
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) قوله وَقَالُواْ لإِخْوانِهِمْ أي لأجل إخراجهم كقوله وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ ( الأحقاف 11 ) وأقول تقرير هذا الوجه أنهم لما قالوا لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا فهذا يدل على أن أولئك الاخوان كانوا ميتين ومقتولين عند هذا القول فوجب أن يكون المراد من قوله وَقَالُواْ لإِخْوانِهِمْ هو أنهم قالوا ذلك لأجل إخوانهم ولا يكون المراد هو أنهم ذكروا هذا القول مع اخوانهم
المسألة الثالثة قوله إِخْوانَهُمْ يحتمل أن يكون المراد منه الاخوة في النسب وان كانوا مسلمين كقوله تعالى وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا ( الأعراف 65 ) وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ( الأعراف 73 ) فان الاخوة في هذه الآيات أخوة النسب لا اخوة الدين فلعل أولئك المقتولين من المسلمين كانوا من أقارب المنافقين فالمنافقون ذكروا هذا الكلام ويحتمل أن يكون المراد من هذه الأخوة المشاكلة في الدين واتفق الى أن صار بعض المنافقين مقتولا في بعض الغزوات فالذين بقوا من المنافقين قالوا ذلك
المسألة الرابعة المنافقون كانوا يظنون أن الخارج منهم لسفر بعيد وهو المراد بقوله إِذَا ضَرَبُواْ فِى الاْرْضِ والخارج إلى الغزو وهو المراد بقوله أَوْ كَانُواْ غُزًّى إذا نالهم موت أو قتل فذلك إنما نالهم بسبب السفر والغزو وجعلوا ذلك سببا لتنفير الناس عن الجهاد وذلك لأن في الطباع محبة الحياة وكراهية الموت والقتل فاذا قيل للمرء ان تحرزت من السفر والجهاد فأنت سليم طيب العيش وان تقحمت

أحدهما وصلت الى الموت أو القتل فالغالب أنه ينفر طبعه عن ذلك ويرغب في ملازمة البيت وكان ذلك من مكايد المنافقين في تنفير المؤمنين عن الجهاد
فان قيل فلماذا ذكر بعض الضرب في الأرض الغزو وهو داخل فيه
قلنا لأن الضرب في الأرض يراد به الابعاد في السفر لا ما يقرب منه وفي الغزو لا فرق بين بعيده وقريبه اذ الخارج من المدينة إلى جبل أحد لا يوصف بأنه ضارب في الأرض مع قرب المسافة وان كان غازيا فهذا فائدة إفراد الغزو عن الضرب في الأرض
المسألة الخامسة في الآية إشكال وهو أن قوله وَقَالُواْ لإِخْوانِهِمْ يدل على الماضي وقوله إِذَا ضَرَبُواْ يدل على المستقبل فكيف الجمع بينهما بل لو قال وقالوا لاخوانهم إذ ضربوا في الأرض أي حين ضربوا لم يكن فيه إشكال
والجواب عنه من وجوه الأول أن قوله قَالُواْ تقديره يقولون فكأنه قيل لا تكونوا كالذين كفروا ويقولون لاخوانهم كذا وكذا وإنما عبر عن المستقبل بلفظ الماضي لفائدتين أحدهما أن الشيء الذي يكون لازم الحصول في المستقبل فقد يعبر عنه بأنه حدث أو هو حادث قال تعالى أَتَى أَمْرُ اللَّهِ وقال إِنَّكَ مَيّتٌ ( الزمر 30 ) فهنا لو وقع التعبير عنه بلفظ المستقل لم يكن فيه مبالغة أما لما وقع التعبير عنه بلفظ الماضي دل ذلك على أن جدهم واجتهادهم في تقرير الشبهة قد بلغ الغاية وصار بسبب ذلك الجد هذا المستقبل كالكائن الواقع
الفائدة الثانية انه تعالى لما عبر عن المستقبل بلفظ الماضي دل ذلك على أنه ليس المقصود الاخبار عن صدور هذا الكلام بل المقصود الاخبار عن جدهم واجتهادهم في تقرير هذه الشبهة فهذا هو الجواب المعتمد عندي والله أعلم
الوجه الثاني في الجواب أن الكلام خرج على سبيل حكاية الحال الماضية والمعنى أن اخوانهم إذا ضربوا في الأرض فالكافرون يقولون لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا فمن أخبر عنهم بعد ذلك لا بد وان يقول قالوا فهذا هو المراد بقولنا خرج هذا الكلام على سبيل حكاية الحال الماضية
الوجه الثالث قال قطرب كلمة ( اذ ) واذا يجوز اقامة كل واحدة منهما مقام الأخرى وأقول هذا الذي قاله قطرب كلام حسن وذلك لانا إذا جوزنا إثبات اللغة بشعر مجهول منقول عن قائل مجهول فلأن يجوز اثباتها بالقرآن العظيم كان ذلك أولى أقصى ما في الباب أن يقال ( اذ ) حقيقة في المستقبل ولكن لم لا يحوز استعماله في الماضي على سبيل المجاز لما بينه وبين كلمة ( اذ ) من المشابهة الشديدة وكثيرا أرى النحويين يتحيرون في تقرير الالفاظ الواردة في القرآن فاذا استشهدوا في تقريره ببيت مجهول فرحوا به وأنا شديد التعجب منهم فانهم إذا جعلوا ورود ذلك البيت المجهول على وفقه دليلا على صحته فلأن يجعلوا ورود القرآن به دليلا على صحته كان أولى
المسألة السادسة غُزًّى جمع غاز كالقول والركع والسجد جمع قائل وراكع وساجد ومثله من الناقص ( عفا ) ويجوز أيضا غزاة مثل قضاة ورماة في جمع القاضي والرامي ومعنى الغزو في كلام العرب

قصد العدو والمغزى المقصد
المسألة السابعة قال الواحدي في الآية محذوف يدل عليه الكلام والتقدير إذا ضربوا في الأرض فماتوا أو كانوا غزاة فقتلوا لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا فقوله مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ يدل على موتهم وقتلهم
ثم قال تعالى لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذالِكَ حَسْرَة ً فِى قُلُوبِهِمْ وفيه وجهان الأول أن التقدير أنهم قالوا ذلك الكلام ليجعل الله ذلك الكلام حسرة في قلوبهم مثل ما يقال ربيته ليؤذيني ونصرته ليقهرني ومثله قوله تعالى فَالْتَقَطَهُ ءالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً ( القصص 8 ) إذا عرفت هذا فنقول ذكروا في بيان أن ذلك القول كيف استعقب حصول الحسرة في قلوبهم وجوها الأول أن أقارب ذلك المقتول إذا سمعوا هذا الكلام ازدادت الحسرة في قلوبهم لان أحدهم يعتقد أنه لو بالغ في منعه عن ذلك السفر وعن ذلك الغزو لبقي فذلك الشخص انما مات أو قتل بسبب أن هذا الانسان قصر في منعه فيعتقد السامع لهذا الكلام انه هو الذي تسبب إلى موت ذلك الشخص العزيز عليه أو قتله ومتى اعتقد في نفسه ذلك فلا شك أنه تزداد حسرته وتلهفه أما المسلم المعتقد في أن الحياة والموت لا يكون إلا بتقدير الله وقضائه لم يحصل ألبتة في قلبه شيء من هذا النوع من الحسرة فثبت ان تلك الشبهة التي ذكرها المنافقون لا تفيدهم إلا زيادة الحسرة
الوجه الثاني ان المنافقين إذا ألقوا هذه الشبهة إلى اخوانهم تثبطوا عن الغزو والجهاد وتخلفوا عنه فاذا اشتغل المسلمون بالجهاد والغزو ووصلوا بسببه إلى الغنائم العظيمة والاستيلاء على الاعداء والفوز بالأماني بقي ذلك المتخلف عند ذلك في الخيبة والحسرة
الوجه الثالث ان هذه الحسرة إنما تحصل يوم القيامة في قلوب المنافقين إذا رأوا تخصيص الله المجاهدين بمزيد الكرامات واعلاء الدرجات وتخصيص هؤلاء المنافقين بمزيد الخزي واللعن والعقاب
الوجه الرابع ان المنافقين إذا أوردوا هذه الشبهة على ضعفة المسلمين ووجدوا منهم قبولا لها فرحوا بذلك من حيث أنه راج كيدهم ومكرهم على أولئك الضعفة فالله تعالى يقول إنه سيصير ذلك حسرة في قلوبهم إذا علموا أنهم كانوا على الباطل في تقرير هذه الشبهة
الوجه الخامس ان جدهم واجتهادهم في تكثير الشبهات وإلقاء الضلالات يعمي قلوبهم فيقعون عند ذلك في الحيرة والخيبة وضيق الصدر وهو المراد بالحسرة كقوله وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً ( الأنعام 125 )
الوجه السادس انهم متى ألقوا هذه الشبهة على أقوياء المسلمين لم يلتفتوا اليهم فيضيع سعيهم ويبطل كيدهم فتحصل الحسرة في قلوبهم
والقول الثاني في تفسير الآية أن اللام في قوله لِيَجْعَلَ اللَّهُ متعلقة بما دل عليه النهي والتقدير لا تكونوا مثلهم حتى يجعل الله انتفاء كونكم مثلهم حسرة في قلوبهم لأن مخالفتهم فيما يقولون ويعتقدون ومضادتهم مما يغيظهم

ثم قال تعالى وَاللَّهُ يُحْيى ِ وَيُمِيتُ وفيه وجهان الأول أن المقصود منه بيان الجواب عن هذه الشبهة وتقريره أن المحيي والمميت هو الله ولا تأثير لشيء آخر في الحياة والموت وان علم الله لا يتغير وان حكمه لا ينقلب وان قضاءه لا يتبدل فكيف ينفع الجلوس في البيت من الموت
فان قيل إن كان القول بأن قضاء الله لا يتبدل يمنة من كون الجد والاجتهاد مفيدا في الحذر عن القتل والموت فكذا القول بأن قضاء الله لا يتبدل وجب أن يمنع من كون العمل مفيدا في الاحتراز عن عقاب الآخرة وهذا يمنع من لزوم التكليف والمقصود من هذه الآيات تقرير الأمر بالجهاد والتكليف وإذا كان الجواب يفضي بالآخرة إلى سقوط التكليف كان هذا الكلام يقضي ثبوته الى نفيه فيكون باطلا
الجواب ان حسن التكليف عندنا غير معلل بعلة ورعاية مصلحة بل عندنا أنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد
والوجه الثاني في تأويل الآية أنه ليس الغرض من هذا الكلام الجواب عن تلك الشبهة بل المقصود أنه تعالى لما نهى المؤمنين عن أن يقولوا مثل قول المنافقين قال وَاللَّهُ يُحْيى ِ وَيُمِيتُ يريد يحيي قلوب أوليائه وأهل طاعته بالنور والفرقان ويميت قلوب أعدائه من المنافقين
ثم قال تعالى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وفيه مسألتان
المسألة الأولى المقصود منه الترغيب والترهيب فيما تقدم ذكره من طريقة المؤمنين وطريقة المنافقين
المسألة الثانية قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي يَعْمَلُونَ كناية عن الغائبين والتقدير لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذالِكَ حَسْرَة ً فِى قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيى ِ وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ والباقون بالتاء على الخطاب ليكون وفقا لما قبله في قوله لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ ولما بعده في قوله وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ
ثم قال تعالى وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَة ٌ مّنَ اللَّهِ وَرَحْمَة ٌ خَيْرٌ مّمَّا
واعلم أن هذا هو الجواب الثاني عن شبهة المنافقين وتقريره أن هذا الموت لا بد واقع ولا محيص للانسان من أن يقتل أو يموت فاذا وقع هذا الموت أو القتل في سبيل الله وفي طلب رضوانه فهو خير من أن يجعل ذلك في طلب الدنيا ولذاتها التي لا ينتفع الانسان بها بعد الموت ألبتة وهذا جواب في غاية الحسن والقوة وذلك لأن الانسان إذا توجه الى الجهاد أعرض قلبه عن الدنيا وأقبل على الآخرة فاذا مات فكانه تخلص عن العدو ووصل الى المحبوب وإذا جلس في بيته خائفا من الموت حريصا على جمع الدنيا فاذا مات فكأنه حجب عن المعشوق وألقي في دار الغربة ولا شك في كمال سعادة الأول وكمال شقاوة الثاني
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وحمزة والكسائي ( متم ) بكسر الميم والباقون بضم الميم والأولون أخذوه من مات يمات مت مثل هاب يهاب هبت وخاف يخاف خفت وروى المبرد هذه اللغة فان صح فقد صحت هذه القراءة وأما قراءة الجمهور فهو مأخوذ من مات يموت مت مثل قال يقول قلت

المسألة الثانية قال الواحدي رحمه الله اللام في قوله بَصِيرٌ وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ لام القسم بتقدير الله لئن قتلتم في سبيل الله واللام في قوله لَمَغْفِرَة ٌ مّنَ اللَّهِ وَرَحْمَة ٌ جواب القسم ودال على أن ما هو داخل عليه جزاء والاصوب عندي أن يقال هذه اللام للتأكيد فيكون المعنى ان وجب أن تموتوا وتقتلوا في سفركم وغزوكم فكذلك يجب أن تفوزوا بالمغفرة أيضا فلماذا تحترزون عنه كأنه قيل ان الموت والقتل غير لازم الحصول ثم بتقدير أن يكون لازما فانه يستعقب لزوم المغفرة فكيف يليق بالعاقل أن يحترز عنه
المسألة الثالثة قرأ حفص عن عاصم ( يجمعون ) بالياء على سبيل الغيبة والباقون بالتاء على وجه الخطاب أما وجه الغيبة فالمعنى أن مغفرة الله خير مما يجمعه هؤلاء المنافقون من الحطام الفاني وأما وجه الخطاب فالمعنى أنه تعالى كأنه يخاطب المؤمنين فيقول لهم مغفرة الله خير لكم من الأموال التي تجمعونها في الدنيا
المسألة الرابعة إنما قلنا ان رحمة الله ومغفرته خير من نعيم الدنيا لوجوه أحدها ان من يطلب المال فهو في تعب من ذلك الطلب في الحال ولعله لا ينتفع به غدا لأنه يموت قبل الغد وأما طلب الرحمة والمغفرة فانه لا بد وأن ينتفع به لأن الله لا يخلف وعده وقد قال فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ خَيْراً يَرَهُ ( الزلزلة 7 ) وثانيها هب أنه بقي إلى الغد لكن لعل ذلك المال لا يبقى إلى الغد فكم من انسان أصبح أميرا وأمسى أسيرا وخيرات الآخرة لا تزول لقوله وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ( الكهف 46 ) ولقوله مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ ( النحل 96 ) وثالثها بتقدير أن يبقى إلى الغد ويبقى المال إلى الغد لكن لعله يحدث حادث يمنعك عن الانتفاع به مثل مرض وألم وغيرهما ومنافع الآخرة ليست كذلك ورابعها بتقدير أنه في الغد يمكنك الانتفاع بذلك المال ولكن لذات الدنيا مشوبة بالآلام ومنافعها مخلوطة بالمضار وذلك مما لا يخفي وأما منافع الآخرة فليست كذلك وخامسها هب أن تلك المنافع تحصل في الغد خالصة عن الشوائب ولكنها لا تدوم ولا تستمر بل تنقطع وتفنى وكلما كانت اللذة أقوى وأكمل كان التأسف والتحسر عند فواتها أشد وأعظم ومنافع الآخرة مصونة عن الانقطاع والزوال وسادسها أن منافع الدنيا حسية ومنافع الآخرة عقلية والحسية خسيسة والعقلية شريفة أترى ان انتفاع الحمار بلذة بطنه وفرجه يساوي ابتهاج الملائكة المقربين عند اشراقها بالأنوار الالهية فهذه المعاقد الستة تنبهك على ما لانهاية لها من الوجوه الدالة على صحة قوله سبحانه وتعالى لَمَغْفِرَة ٌ مّنَ اللَّهِ وَرَحْمَة ٌ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ
فان قيل كيف تكون المغفرة موصوفة بأنها خير مما تجمعون ولا خير فيما تجمعون أصلا
قلنا ان الذي تجمعونه في الدنيا قد يكون من باب الحلال الذي يعد خيرا وأيضا هذا وارد على حسب قولهم ومعتقدهم أن تلك الأموال خيرات فقيل المغفرة خير من هذه الأشياء التي تظنونها خيرات
ثم قال وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ
واعلم أنه سبحانه وتعالى رغب المجاهدين في الآية الأولى بالحشر الى مغفرة الله وفي هذه الآية زاد في إعلاء الدرجات فرغبهم ههنا بالحشر الى الله يروى أن عيسى بن مريم صلوات الله عليه وسلامه مر بأقوام نحفت أبدانهم واصفرت وجوههم ورأى عليهم آثار العبادة فقال ماذا تطلبون فقالوا نخشى عذاب الله فقال هو أكرم من أن لا يخلصكم من عذابه ثم مر بأقوام آخرين فرأى عليهم تلك الآثار فسألهم فقالوا نطلب الجنة والرحمة فقال هو أكرم من أن يمنحكم رحمته ثم مر بقوم ثالث ورأى آثار العبودية عليهم أكثر

فسألهم فقالوا نعبده لأنه إلهنا ونحن عبيده لا لرغبة ولا لرهبة فقال أنتم العبيد المخلصون والمتعبدون المحقون فانظر في ترتيب هذه الآيات فانه قال في الآية الأولى لَمَغْفِرَة ٌ مّنَ اللَّهِ وهو إشارة الى من يعبده خوفا من عقابه ثم قال وَرَحْمَة ً وهو إشارة الى من يعبده لطلب ثوابه ثم قال في خاتمة الآية لإِلَى الله تُحْشَرُونَ وهو إشارة الى من يعبد الله لمجرد الربوبية والعبودية وهذا أعلى المقامات وأبعد النهايات في العبودية في علو الدرجة ألا ترى أنه لما شرف الملائكة قال وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ ( الأنبياء 19 ) وقال للمقربين من أهل الثواب عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ ( القمر 55 ) فبين أن هؤلاء الذين بذلوا أنفسهم وأبدانهم في طاعته ومجاهدة عدوه يكون حشرهم إليه واستئناسهم بكرمه وتمتعهم بشروق نور ربوبيته وهذا مقام فيه إطناب والمستبصر يرشده القدر الذي أوردناه
ولنرجع إلى التفسير كأنه قيل ان تركتم الجهاد واحترزتم عن القتل والموت بقيتم أياما قليلة في الدنيا مع تلك اللذات الخسيسة ثم تتركونها لا محالة فتكون لذاتها لغيركم وتبعاتها عليكم أما لو أعرضتم عن لذات الدنيا وطيباتها وبذلتم النفس والمال للمولى يكون حشركم إلى الله ووقوفكم على عتبة رحمة الله وتلذذكم بذكر الله فشتان ما بين هاتين الدرجتين والمنزلتين
واعلم أن في قوله لإِلَى الله تُحْشَرُونَ دقائق أحدها أنه لم يقل تحشرون إلى الله بل قال لالى الله تحشرون وهذا يفيد الحصر معناه إلى الله يحشر العالمون لا إلى غيره وهذا يدل على أنه لا حاكم في ذلك اليوم ولا ضار ولا نافع إلا هو قال تعالى لّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ( غافر 16 ) وقال تعالى وَالاْمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ( الأنفطار 19 ) وثانيها أنه ذكر من أسماء الله هذا الاسم وهذا الاسم أعظم الأسماء وهو دال على كمال الرحمة وكمال القهر فهو لدلالته على كمال الرحمة أعظم أنواع الوعد ولدلالته على كمال القهر أشد أنواع الوعيد وثالثها إدخال لام التأكيد في اسم الله حيث قال لإِلَى الله وهذا ينبهك على أن الالهية تقتضي هذا الحشر والنشر كما قال إِنَّ السَّاعَة َ ءاتِيَة ٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ( طه 15 ) ورابعها أن قوله تُحْشَرُونَ فعل ما لم يسم فاعله مع أن فاعل ذلك الحشر هو الله وإنما لم يقع التصريح به لأنه تعالى هو العظيم الكبير الذي شهدت العقول بأنه هو الله الذي يبدىء ويعيد ومنه الانشاء والاعادة فترك التصريح في مثل هذا الموضع أدل على العظمة ونظيره قوله تعالى وَقِيلَ ياأَرْضُ أَرْضُ ابْلَعِى مَاءكِ ( هود 44 ) وخامسها أنه أضاف حشرهم إلى غيرهم وذلك ينبه العقل على أن جميع الخلق مضطرون في قبضة القدرة ونفاذ المشيئة فهم سواء كانوا أحياء أم أمواتا لا يخرجون عن قهر الربوبية وكبرياء الالهية وسادسها أن قوله تُحْشَرُونَ خطاب مع الكل فهو يدل على أن جميع العالمين يحشرون ويوقفون في عرصة القيامة وبساط العدل فيجتمع المظلوم مع الظالم والمقتول مع القاتل والحق سبحانه وتعالى يحكم بين عبيده بالعدل المبرأ عن الجور كما قال وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَة ِ ( الأنبياء 47 ) فمن تأمل في قوله تعالى لإِلَى الله تُحْشَرُونَ وساعده التوفيق علم أن هذه الفوائد التي ذكرناها كالقطرة من بحار الأسرار المودعة في هذه الآية وتمسك القاضي بهذه الآية على أن المقتول ليس بميت قال لأن قوله وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ يقتضي عطف المقتول على الميت وعطف الشيء على نفسه ممتنع

فَبِمَا رَحْمَة ٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الاٌّ مْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ
واعلم أن القوم لما انهزموا عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يوم أحد ثم عادوا لم يخاطبهم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بالتغليط والتشديد وإنما خاطبهم بالكلام اللين ثم إنه سبحانه وتعالى لما أرشدهم في الآيات المتقدمة إلى ما ينفعهم في معاشهم ومعادهم وكان من جملة ذلك أن عفا عنهم زاد في الفضل والاحسان بأن مدح الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) على عفوه عنهم وتركه التغليظ عليهم فقال فَبِمَا رَحْمَة ٍ مّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ومن أنصف علم أن هذا ترتيب حسن في الكلام وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن لينه ( صلى الله عليه وسلم ) مع القوم عبارة عن حسن خلقه مع القوم قال تعالى وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( الشعراء 215 ) وقال خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِض عَنِ الْجَاهِلِينَ وقال وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ( القلم 4 ) وقال لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ لَرَءوفٌ رَّحِيمٌ ( التوبة 128 ) وقال عليه الصلاة والسلام ( لا حلم أحب إلى الله تعالى من حلم إمام ورفقه ولا جهل أبغض الى الله من جهل إمام وخرقه ) فلما كان عليه الصلاة والسلام إمام العالمين وجب أن يكون أكثرهم حلما وأحسنهم خلقاً وروى أن امرأة عثمان دخلت عليه ( صلى الله عليه وسلم ) وكان النبي وعلي يغسلان السلاح فقالت ما فعل ابن عفان أما والله لا تجدونه امام القوم فقال لها علي ألا إن عثمان فضح الزمان اليوم فقال عليه الصلاة والسلام ( مه ) وروي أنه قال حيئنذ أعياني أزواج الأخوات أن يتحابوا ولما دخل عليه عثمان مع صاحبيه ما زاد على أن قال ( لقد ذهبتم فيها عريضة ) وروي عن بعض الصحابة أنه قال لقد أحسن الله إلينا كل الاحسان كنا مشركين فلو جاءنا رسول الله بهذا الدين جملة وبالقرآن دفعة لثقلت هذه التكاليف علينا فما كنا ندخل في الإسلام ولكنه دعانا إلى كلمة واحدة فلما قبلناها وعرفنا حلاوة الايمان قبلنا ما وراءها كلمة بعد كلمة على سبيل الرفق إلى أن تم الدين وكملت الشريعة وروي أنه عليه الصلاة والسلام قال ( إنما أنا لكم مثل الوالد فاذا ذهب أحدكم إلى الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها ) واعلم أن سر الأمر في حسن الخلق أمران اعتبار حال القائل واعتبار حال الفاعل أما اعتبار حال القائل فلأن جواهر النفوس مختلفة بالماهية كما قال عليه الصلاة والسلام ( الأرواح جنود مجندة ) وقال ( الناس معادن كمعادن الذهب والفضة ) وكما أنها في جانب النقصان تنتهي إلى غاية البلادة والمهانة والنذالة واستيلاء الشهوة والغضب عليها واستيلاء حب المال واللذات فكذلك في جانب الكمال قد تنتهي إلى غاية القوة والجلالة أما في القوة النظرية فيكون كما وصفه الله تعالى بقوله نُّورٌ عَلَى نُورٍ ( النور 35 ) وقوله وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ( النساء 113 )

وأما في القوة العملية فكما وصفه الله بقوله وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ كأنها من جنس أرواح الملائكة فلا تنقاد للشهوة ولا تميل لدواعي الغضب ولا تتأثر من حب المال والجاه فان من تأثر عن شيء كان المتأثر أضعف من المؤثر فالنفس إذا مالت إلى هذه المحسوسات كانت روحانياتها أضعف من الجسمانيات وإذا لم تمل اليها ولم تلتفت إليها كانت روحانياتها مستعلية على الجسمانيات وهذه الخواص نظرية وكانت نفسه المقدسة في غاية الجلالة والكمال في هذه الخصال وأما اعتبار حال الفاعل فقوله عليه الصلاة والسلام ( من عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب ) فانه يعلم أن الحوادث الأرضية مستندة إلى الأسباب الالهية فيعلم أن الحذر لا يدفع القدر فلا جرم إذا فاته مطلوب لم يغضب وإذا حصل له محبوب لم يأنس به لأنه مطلع على الروحانيات التي هي أشرف من هذه الجسمانيات فلا ينازع أحداً من هذا العالم في طلب شيء من لذاتها وطيباتها ولا يغضب على أحد بسبب فوت شيء من مطالبها ومتى كان الانسان كذلك كان حسن الخلق طيب العشرة مع الخلق ولما كان صلوات الله وسلامه عليه أكمل البشر في هذه الصفات الموجبة لحسن الخلق لا جرم كان أكمل الخلق في حسن الخلق
المسألة الثانية احتج أصحابنا في مسألة القضاء والقدر بقوله فَبِمَا رَحْمَة ٍ مّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وجه الاستدلال أنه تعالى بين أن حسن خلقه مع الخلق إنما كان بسبب رحمة الله تعالى فنقول رحمة الله عند المعتزلة عامة في حق المكلفين فكل ما فعله مع محمد عليه الصلاة والسلام من الهداية والدعوة والبيان والارشاد فقد فعل مثل ذلك مع إبليس وفرعون وهامان وأبي جهل وأبي لهب فاذا كان على هذا القول كل ما فعله الله تعالى مع المكلفين في هذا الباب مشتركا فيه بين أصفى الأصفياء وبين أشقى الأشقياء لم يكن اختصاص بعضهم بحسن الخلق وكمال الطريقة مستفاداً من رحمة الله فكان على هذا القول تعليل حسن خلق الرسول عليه الصلاة والسلام برحمة الله باطلا ولما كان هذا باطلا علمنا أن جميع أفعال العباد بقضاء الله وبقدره والمعتزلة يحملون هذا على زيادة الألطاف وهذا في غاية البعد لأن كل ما كان ممكناً من الألطاف فقد فعله في حق المكلفين والذي يستحقه المكلف بناء على طاعته من مزيد الألطاف فذاك في الحقيقة إنما اكتسبه من نفسه لا من الله لأنه متى فعل الطاعة استحق ذلك المزيد من اللطف ووجب إيصاله اليه ومتى لم يفعل امتنع ايصاله فكان ذلك للعبد من نفسه لا من الله
المسألة الثالثة ذهب الأكثرون الى أن ( ما ) في قوله فَبِمَا رَحْمَة ٍ مّنَ اللَّهِ صلة زائدة ومثله في القرآن كثير كقوله عَمَّا قَلِيلٍ و جُندٌ مَّا هُنَالِكَ ( ص 11 ) فَبِمَا نَقْضِهِم ( النساء 155 المائدة 13 ) مِنْ خَطَايَاهُمْ ( العنكبوت 12 ) قالوا والعرب قد تزيد في الكلام للتأكيد على ما يستغنى عنه قال تعالى فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ ( يوسف 96 ) أراد فلما جاء فأكد بأن وقال المحققون دخول اللفظ المهمل الضائع في كلام أحكم الحاكمين غير جائر وههنا يجوز أن تكون ( ما ) استفهاما للتعجب تقديره فبأي رحمة من الله لنت لهم وذلك لأن جنايتهم لما كانت عظيمة ثم انه ما أظهر ألبتة تغليظا في القول ولا خشونة في الكلام علموا أن هذا لا يتأتى الا بتأييد رباني وتسديد إلهي فكان ذلك موضع التعجب من كمال ذلك التأييد والتسديد فقيل فبأي رحمة من الله لنت لهم وهذا هو الأصوب عندي
المسألة الرابعة اعلم أن هذه الآية دلت على أن رحمة الله هي المؤثرة في صيرورة محمد عليه

الصلاة والسلام رحيما بالأمة فاذا تأملت حقيقة هذه الآية عرفت دلالتها على أنه لا رحمة الا لله سبحانه والذي يقرر ذلك وجوه أحدها أنه لولا أن الله ألقى في قلب عبده داعية الخير والرحمة واللطف لم يفعل شيئاً من ذلك واذا ألقى في قلبه هذه الداعية فعل هذه الافعال لا محالة وعلى هذا التقدير فلا رحمة إلا لله ان كل رحيم سوى الله تعالى فانه يستفيد برحمته عوضا اما هربا من العقاب أو طلبا للثواب أو طلبا للذكر الجميل فاذا فرضنا صورة خالية عن هذه الأمور كان السبب هو الرقة الجنسية فان من رأى حيوانا في الألم رق قلبه وتألم بسبب مشاهدته إياه في الالم فيخلصه عن ذلك الالم دفعا لتلك الرقة عن قلبه فلو لم يوجد شيء من هذه الاعراض لم يرحم ألبتة أما الحق سبحانه وتعالى فهو الذي يرحم لا لغرض من الأغراض فلا رحمة إلا لله وثالثها ان كل من رحم غيره فانه إنما يرحمه بأن يعطيه مالا أو يبعد عنه سببا من أسباب المكروه والبلاء إلا أن المرحوم لا ينتفع بذلك المال إلا مع سلامة الاعضاء وهي ليست إلا من الله تعالى فلا رحمة في الحقيقة إلا لله وأما في الظاهر فكل من أعانه الله على الرحمة سمي رحيما قال عليه السلام ( الراحمون يرحمهم الرحمن ) وقال في صفة محمد عليه السلام بِالْمُؤْمِنِينَ لَرَءوفٌ رَّحِيمٌ ( التوبة 128 ) ثم قال تعالى وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ
واعلم أن كمال رحمة الله في حق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أنه عرفه مفاسد الفظاظة والغلظة وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي رحمه الله تعالى الفظ الغليظ الجانب السيء الخلق يقال فظظت تفظ فظاظة فأنت فظ وأصله فظظ كقوله حذر من حذرت وفرق من فرقت الا أن ما كان من المضاعف على هذا الوزن يدغم نحن رجل صب وأصله صبب وأما ( الفض ) بالضاد فهو تفريق الشيء وانفض القوم تفرقوا قال تعالى وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَة ً أَوْ لَهْواً انفَضُّواْ إِلَيْهَا ( الجمعة 11 ) ومنه فضضت الكتاب ومنه يقال لا يفضض الله فاك
فان قيل ما الفرق بين الفظ وبين غليظ القلب
قلنا الفظ الذي يكون سيء الخلق وغليظ القلب هو الذي لا يتأثر قلبه عن شيء فقد لا يكون الانسان سيء الخلق ولا يؤذي أحدا ولكنه لا يرق لهم ولا يرحمهم فظهر الفرق من هذا الوجه
المسألة الثانية ان المقصود من البعثة أن يبلغ الرسول تكاليف الله الى الخلق وهذا المقصود لا يتم إلا إذا مالت قلوبهم اليه وسكنت نفوسهم لديه وهذا المقصود لا يتم إلا إذا كان رحيما كريما يتجاوز عن ذنبهم ويعفو عن إساءتهم ويخصهم بوجوه البر والمكرمة والشفقة فلهذه الأسباب وجب أن يكون الرسول مبرأ عن سوء الخلق وكما يكون كذلك وجب أن يكون غير غليظ القلب بل يكون كثير الميل الى إعانة الضعفاء كثير القيام باعانة الفقراء كثير التجاوز عن سيآتهم كثير الصفح عن زلاتهم فلهذا المعنى قال وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ولو انفضوا من حولك فات المقصود من البعثة والرسالة وحمل القفال رحمه الله هذه الآية على واقعة أحد قال فَبِمَا رَحْمَة ٍ مّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ يوم أحد حين عادوا اليك بعد الانهزام وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ وشافهتهم بالملامة على ذلك الانهزام لانفضوا من حولك هيبة منك وحياء بسبب ما كان منهم من الانهزام فكان ذلك مما لا يطمع العدو فيك وفيهم

المسألة الثالثة اللين والرفق انما يجوز إذا لم يفض الى إهمال حق من حقوق الله فأما إذا أدى الى ذلك لم يجز قال تعالى الْعَظِيمُ ياأَيُّهَا النَّبِى ُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ( التوبة 73 ) وقال للمؤمنين في إقامة حد الزنا وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَة ٌ فِى دِينِ اللَّهِ ( النور 2 )
وههنا دقيقة أخرى وهي أنه تعالى منعه من الغلظة في هذه الآية وأمره بالغلظة في قوله وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ فههنا نهاه عن الغلظة على المؤمنين وهناك أمره بالغلظة مع الكافرين فهو كقوله أَذِلَّة ٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّة ٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ( المائدة 54 ) وقوله أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ ( الفتح 29 ) وتحقيق القول فيه ان طرفي الافراط والتفريط مذمومان والفضيلة في الوسط فورود الامر بالتغليظ تارة وأخرى بالنهي عنه إنما كان لأجل أن يتباعد عن الافراط والتفريط فيبقى على الوسط الذي هو الصراط المستقيم فلهذا السر مدح الله الوسط فقال وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا ( البقرة 143 )
ثم قال تعالى فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الاْمْرِ واعلم أنه تعالى أمره في هذه الآية بثلاثة أشياء أولها بالعفو عنهم وفيه مسائل
المسألة الأولى ان كمال حال العبد ليس إلا في أن يتخلق بأخلاق الله تعالى قال عليه السلام ( تخلقوا بأخلاق الله ) ثم إنه تعالى لما عفا عنهم في الآية المتقدمة أمر الرسول أيضا أن يعفو عنهم ليحصل للرسول عليه السلام فضيلة التخلق بأخلاق الله
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) ( فاعف عنهم ) فيما يتعلق بحقك ( واستغفر لهم ) فيما يتعلق بحق الله تعالى
المسألة الثالثة ظاهر الأمر للوجوب والفاء في قوله تعالى فَاعْفُ عَنْهُمْ يدل على التعقيب فهذا يدل على أنه تعالى أوجب عليه أن يعفو عنهم في الحال وهذا يدل على كمال الرحمة الالهية حيث عفا هو عنهم ثم أوجب على رسوله أن يعفو في الحال عنهم
واعلم أن قوله فَاعْفُ عَنْهُمْ إيجاب للعفو على الرسول عليه السلام ولما آل الأمر إلى الأمة لم يوجبه عليهم بل ندبهم اليه فقال تعالى وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ليعلم أن حسنات الأبرار سيآت المقربين وثانيها قوله تعالى وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في هذه الآية دلالة قوية على أنه تعالى يعفو عن أصحاب الكبائر وذلك لأن الانهزام في وقت المحاربة كبيرة لقوله تعالى وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلى قوله فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مّنَ اللَّهِ ( الأنفال 16 ) فثبت أن انهزام أهل أحد كان من الكبائر ثم انه تعالى نص في الآية المتقدمة على أنه عفا عنهم وأمر رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) في هذه الآية بالعفو عنهم ثم أمره بالاستغفار لهم وذلك من أدل الدلائل على ما ذكرنا
المسألة الثانية قوله تعالى وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ أمر له بالاستغفار لأصحاب الكبائر وإذا أمره بطلب المغفرة لا يجوز أن لا يجيبه اليه لأن ذلك لا يليق بالكريم فدلت هذه الآية على أنه تعالى يشفع محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) في الدنيا في حق أصحاب الكبائر فبأن يشفعه في حقهم في القيامة كان أولى

المسألة الثالثة أنه سبحانه وتعالى عفا عنهم أولا بقوله وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ ( آل عمران 155 ) ثم أمر محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) في هذه الآية بالاستغفار لهم ولأجلهم كأنه قيل له يا محمد استغفر لهم فاني قد غفرت لهم قبل أن تستغفر لهم واعف عنهم فاني قد عفوت عنهم قبل عفوك عنهم وهذا يدل على كمال رحمة الله لهذه الأمة وثالثها قوله تعالى وَشَاوِرْهُمْ فِى الاْمْرِ وفيه مسائل
المسألة الأولى يقال شاورهم مشاورة وشواراً ومشورة والقوم شورى وهي مصدر سمي القوم بها كقوله وَإِذْ هُمْ نَجْوَى ( الإسراء 47 ) قيل المشاورة مأخوذة من قولهم شرت العسل أشوره إذا أخذته من موضعه واستخرجته وقيل مأخوذة من قولهم شرت الدابة شورا إذا عرضتها والمكان الذي يعرض فيه الدواب يسمى مشواراً كأنه بالعرض يعلم خيره وشره فكذلك بالمشاورة يعلم خير الأمور وشرها
المسألة الثانية الفائدة في أنه تعالى أمر الرسول بمشاورتهم وجوه الأول أن مشاورة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إياهم توجب علو شأنهم ورفعة درجتهم وذلك يقتضي شدة محبتهم له وخلوصهم في طاعته ولو لم يفعل ذلك لكان ذلك اهانة بهم فيحصل سوء الخلق والفظاظة الثاني أنه عليه السلام وإن كان أكمل الناس عقلا إلا أن علوم الخلق متناهية فلا يبعد أن يخطر ببال إنسان من وجوه المصالح ما لا يخطر بباله لا سيما فيما يفعل من أمور الدنيا فانه عليه السلام قال ( أنتم أعرف بأمور دنياكم وأنا أعرف بأمور دينكم ) ولهذا السبب قال عليه السلام ( ما تشاور قوم قط الا هدوا لأرشد أمرهم ) الثالث قال الحسن وسفيان بن عيينة إنما أمر بذلك ليقتدي به غيره في المشاورة ويصير سنة في أمته الرابع أنه عليه السلام شاورهم في واقعة أحد فأشاروا عليه بالخروج وكان ميله إلى أن يخرج فلما خرج وقع ما وقع فلو ترك مشاورتهم بعد ذلك لكان ذلك يدل على أنه بقي في قلبه منهم بسبب مشاورتهم بقية أثر فأمره الله تعالى بعد تلك الواقعة بأن يشاورهم ليدل على أنه لم يبق في قلبه أثر من تلك الواقعة الخامس وشاورهم في الأمر لا لتستفيد منهم رأياً وعلما لكن لكي تعلم مقادير عقولهم وأفهامهم ومقادير حبهم لك وإخلاصهم في طاعتك فحينئذ يتميز عندك الفاضل من المفضول فبين لهم على قدر منازلهم السادس وشاورهم في الأمر لا لأنك محتاج اليهم ولكن لأجل أنك إذا شاورتهم في الأمر اجتهد كل واحد منهم في استخراج الوجه الأصلح في تلك الواقعة فتصير الأرواح متطابقة متوافقة على تحصيل أصلح الوجوه فيها وتطابق الأرواح الطاهرة على الشيء الواحد مما يعين على حصوله وهذا هو السر عند الاجتماع في الصلوات وهو السر في أن صلاة الجماعة أفضل من صلاة المنفرد السابع لما أمر الله محمدا عليه السلام بمشاورتهم ذل ذلك على أن لهم عند الله قدراً وقيمة فهذا يفيد أن لهم قدرا عند الله وقدرا عند الرسول وقدرا عند الخلق الثامن الملك العظيم لا يشاور في المهمات العظيمة إلا خواصه والمقربين عنده فهؤلاء لما أذنبوا عفا الله عنهم فربما خطر ببالهم أن الله تعالى وان عفا عنا بفضله إلا أنه ما بقيت لنا تلك الدرجة العظيمة فبين الله تعالى أن تلك الدرجة ما انتقصت بعد التوبة بل أنا أزيد فيها وذلك أن قبل هذه الواقعة ما أمرت رسولي بمشاورتكم وبعد هذه الواقعة أمرته بمشاورتكم لتعلموا أنكم الآن أعظم حالا مما كنتم قبل ذلك والسبب فيه انكم قبل هذه الواقعة كنتم تعولون على أعمالكم وطاعتكم والآن تعولون على فضلي وعفوي فيجب أن تصير درجتكم ومنزلتكم الآن أعظم مما كان قبل ذلك لتعلموا أن عفوي أعظم من عملكم وكرمي أكثر من طاعتكم والوجوه الثلاثة الأول مذكورة والبقية مما خطر ببالي عند هذا الموضع والله أعلم بمراده وأسرار كتابه

المسألة الثالثة اتفقوا على ان كل ما نزل فيه وحي من عند الله لم يجز للرسول أن يشاور فيه الأمة لأنه إذا جاء النص بطل الرأي والقياس فأما ما لا نص فيه فهل تجوز المشاورة فيه في جميع الأشياء أم لا قال الكلبي وكثير من العلماء هذا الأمر مخصوص بالمشاورة في الحروب وحجته ان الألف واللام في لفظ ( الأمر ) ليسا للاستغراق لما بين أن الذي نزل فيه الوحي لا تجوز المشاورة فيه فوجب حمل الألف واللام ههنا على المعهود السابق والمعهود السابق في هذه الآية إنما هو ما يتعلق بالحرب ولقاء العدو فكان قوله وَشَاوِرْهُمْ فِى الاْمْرِ مختصا بذلك ثم قال القائلون بهذا القول قد أشار الحباب بن المنذر يوم بدر على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالنزول على الماء فقبل منه فأشار عليه السعدان سعد بن معاذ وسعد بن عبادة يوم الخندق بترك مصالحة غطفان على بعض ثمار المدينة لينصرفوا فقبل منهما وخرق الصحيفة ومنهم من قال اللفظ عام خص عنه ما نزل فيه وحي فتبقى حجته في الباقي والتحقيق في القول أنه تعالى أمر أولي الأبصار بالاعتبار فقال فَاعْتَبِرُواْ ياأُوْلِى أُوْلِى الاْبْصَارِ ( الحشر 2 ) وكان عليه السلام سيد أولي الأبصار ومدح المستنبطين فقال لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ( النساء 83 ) وكان أكثر الناس عقلا وذكاء وهذا يدل على أنه كان مأمورا بالاجتهاذ إذا لم ينزل عليه الوحي والاجتهاد يتقوى بالمناظرة والمباحثة فلهذا كان مأمورا بالمشاورة وقد شاورهم يوم بدر في الاساري وكان من أمور الدين والدليل على أنه لا يجوز تخصيص النص بالقياس أن النص كان لعامة الملائكة في سجود آدم ثم ان ابليس خص نفسه بالقياس وهو قوله خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ( الأعراف 12 ) فصار ملعونا فلو كان تخصيص النص بالقياس جائزا لما استحق اللعن بهذا السبب
المسألة الرابعة ظاهر الأمر للوجوب فقوله وَشَاوِرْهُمْ يقتضي الوجوب وحمل الشافعي رحمه الله ذلك على الندب فقال هذا كقوله عليه الصلاة والسلام ( البكر تستأمر في نفسها ) ولو أكرهها الأب على النكاح جاز لكن الأولى ذلك تطييبا لنفسها فكذا ههنا
المسألة الخامسة روى الواحدي في الوسيط عن عمرو بن دينار عن ابن عباس أنه قال الذي أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بمشاورته في هذه الآية أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وعندي فيه اشكال لأن الذين أمر الله رسوله بمشاورتهم في هذه الآية هم الذين أمره بأن يعفو عنهم ويستغفر لهم وهم المنهزمون فهب أن عمر كان من المنهزمين فدخل تحت الآية إلا أن أبا بكر ما كان منهم فكيف يدخل تحت هذه الآية والله أعلم
ثم قال فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وفيه مسائل
المسألة الأولى المعنى أنه إذا حصل الرأي المتأكد بالمشورة فلا يجب أن يقع الاعتماد عليه بل يجب أن يكون الاعتماد على إعانة الله وتسديده وعصمته والمقصود أن لا يكون للعبد اعتماد على شيء إلا على الله في جميع الأمور
المسألة الثانية دلت الآية على أنه ليس التوكل أن يهمل الانسان نفسه كما يقوله بعض الجهال وإلا لكان الأمر بالمشاورة منافياً للأمر بالتوكل بل التوكل هو أن يراعي الانسان الأسباب الظاهرة ولكن لا يعول بقلبه عليها بل يعول على عصمة الحق

المسألة الثالثة حكي عن جابر بن زيد أنه قرأ فَإِذَا عَزَمْتَ بضم التاء كأن الله تعالى قال للرسول إذا عزمت أنا فتوكل وهذا ضعيف من وجهين الأول وصف الله بالعزم غير جائز ويمكن أن يقال هذا العزم بمعنى الايجاب والالزام والمعنى وشاورهم في الأمر فاذا عزمت لك على شيء وأرشدتك إليه فتوكل علي ولا تشاور بعد ذلك أحدا والثاني أن القراءة التي لم يقرأ بها أحد من الصحابة لا يجوز إلحاقها بالقرآن والله أعلم
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكّلِينَ والغرض منه ترغيب المكلفين في الرجوع الى الله تعالى والاعراض عن كل ما سوى الله
إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِى يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ
قال ابن عباس ان ينصركم الله كما نصركم يوم بدر فلا يغلبكم أحد وان يخذلكم كما خذلكم يوم أحد لم ينصركم أحد وفيه مسائل
المسألة الأولى قيل المقصود من الآية الترغيب في الطاعة والتحذير عن المعصية وذلك لأنه تعالى بين فيما تقدم أن من اتقى معاصي الله تعالى نصره الله وهو قوله بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مّن فَوْرِهِمْ هَاذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَة ِ ءالافٍ مّنَ الْمَلَئِكَة ِ ( آل عمران 125 ) ثم بين في هذه الآية أن من نصره الله فلا غالب له فيحصل من مجموع هاتين المقدمتين ان من اتقى الله فقد فاز بسعادة الدنيا والآخرة فانه يفوز بسعادة لا شقاوة معها وبعز لا ذل معه ويصير غالبا لا يغلبه أحد وأما من أتى بالمعصية فان الله يخذله ومن خذله الله فقد وقع في شقاوة لا سعادة معها وذل لا عز معه
المسألة الثانية احتج الأصحاب بهذه الآية على أن الايمان لا يحصل الا باعانة الله والكفر لا يحصل الا بخذلانه والوجه فيه ظاهر لأنها دالة على أن الأمر كله لله
المسألة الثالثة قرأ عبيد بن عمير وَإِن يَخْذُلْكُمْ من أخذله إذا جعله مخذولا
المسألة الرابعة قوله مِن بَعْدِهِ فيه وجهان الأول يعني من بعد خذلانه والثاني أنه مثل قولك ليس لك من يحسن اليك من بعد فلان
ثم قال وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ يعني لما ثبت أن الأمر كله بيد الله وأنه لا راد لقضائه ولا دافع لحكمه وجب أن لا يتوكل المؤمن الا عليه وقوله وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ يفيد الحصر أي على الله فليتوكل المؤمنون لا على غيره

وَمَا كَانَ لِنَبِى ٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
اعلم أنه تعالى لما بلغ في الحث على الجهاد أتبعه بذكر أحكام الجهاد ومن جملتها المنع من الغلول فذكر هذه الآية في هذا المعنى وفيها مسائل
المسألة الأولى الغلول هو الخيانة وأصله أخذ الشيء في الخفية يقال أغل الجازر والسالخ إذا أبقى في الجلد شيئا من اللحم على طريق الخيانة والغل الحقد الكامن في الصدر والغلالة الثوب الذي يلبس تحت الثياب والغلل الماء الذي يجري في أصول الشجرة لأنه مستتر بالأشجار وتغلل الشيء إذا تخلل وخفى وقال عليه الصلاة والسلام ( من بعثناه على عمل فغل شيئا جاء يوم القيامة يحمله على عنقه ) وقال ( هدايا الولاة غلول ) وقال ( ليس على المستعير غير المغل ضمان ) وقال ( لا إغلال ولا إسلال ) وأيضا يقال أغله إذا وجده غالا كقولك أبخلته وأفحمته أي وجدته كذلك
المسألة الثانية قرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو ( يغل ) بفتح الياء وضم الغين أي ما كان للنبي أن يخون وقرأ الباقون من السبعة ( يغل ) بضم الياء وفتح الغين أي ما كان للنبي أن يخان
واختلفوا في أسباب النزول فبعضها يوافق القراءة الأولى وبعضها يوافق القراءة الثانية
أما النوع الأول ففيه روايات الأولى أنه عليه الصلاة والسلام غنم في بعض الغزوات وجمع الغنائم وتأخرت القسمة لبعض الموانع فجاء قوم وقالوا ألا تقسم غنائمنا فقال عليه الصلاة والسلام ( لو كان لكم مثل أحد ذهبا ما حبست عنكم منه درهما أتحسبون أني أغلكم مغنمكم ) فأنزل الله هذه الآية الثاني أن هذه الآية نزلت في أداء الوحي كان عليه الصلاة والسلام يقرأ القرآن وفيه عيب دينهم وسب آلهتم فسألوه أن يترك ذلك فنزلت هذه الآية الثالث روى عكرمة وسعيد بن جبير أن الآية نزلت في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر فقال بعض الجهال لعل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أخذها فنزلت هذه الآية الرابع روي عن ابن عباس رضي الله عنهما من طريق آخر أن أشراف الناس طمعوا أن يخصهم النبي عليه الصلاة والسلام من الغنائم بشيء زائد فنزلت هذه الآية الخامس روي أنه عليه الصلاة والسلام بعث طلائع فغنموا غنائم فقسمها ولم يقسم للطلائع فنزلت هذه الآية السادس قال الكلبي ومقاتل نزلت هذه الآية حين ترك الرماة المركز يوم أحد طلبا للغنيمة وقالوا نخشى أن يقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من أخذ شيئا فهو له وأن لا يقسم الغنائم كما لم يقسمها يوم بدر فقال عليه الصلاة والسلام ( ظننتم أنا نغل فلا نقسم لكم ) فنزلت هذه الآية
واعلم أن على الرواية الأولى المراد من الآية النهي عن أن يكتم الرسول شيئا من الغنيمة عن أصحابه لنفسه وعلى الروايات الثلاثة يكون المقصود نهيه عن الغلول بأن يعطى للبعض دون البعض

وأما ما يوافق القراءة الثانية فروي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما وقعت غنائم هوازن في يده يوم حنين غل رجل بمخيط فنزلت هذه الآية واعلم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عظم أمر الغلول وجعله من الكبائر عن ثوبان عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( من فارق روحه جسده وهو بريء من ثلاث دخل الجنة الكبر والغلول والدين ) وعن عبدالله بن عمرو أن رجلا كان على ثقل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقال له كركرة فمات فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) هو في النار فذهبوا ينظرون فوجدوا عليه كساء وعباءة قد غلهما وقال عليه الصلاة والسلام ( أدوا الخيط والمخيط فانه عار ونار وشنار يوم القيامة ) وروي رويفع بن ثابت الانصاري عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يركب دابة من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها ردها ولا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يلبس ثوبا حتى إذا أخلقه رده ) وروي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) جعل سلمان علي الغنيمة فجاءه رجل وقال يا سلمان كان في ثوبي خرق فأخذت خيطا من هذا المتاع فخطته به فهل علي جناح فقال سلمان كل شيء بقدره فسل الرجل الخيط من ثوبه ثم ألقاه في المتاع وروي أن رجلا جاء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بشراك أو شراكين من المغنم فقال أصبت هذا يوم خيبر فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( شراك أو شراكان من نار ) ورمى رجل بسهم في خيبر فقال القوم لما مات هنيئا له الشهادة فقال عليه الصلاة والسلام ( كلا والذي نفس محمد بيده أن الشملة التي أخذها من الغنائم قبل قسمتها لتلتهب عليه نارا ) واعلم أنه يستثنى عن هذ النهي حالتان
الحالة الأولى أخذ الطعام وأخذ علف الدابة بقدر الحاجة قال عبدالله بن أبي أوفى أصبنا طعاما يوم حنين فكان الرجل يأتي فيأخذ منه قدر الكفاية ثم ينصرف وعن سلمان أنه أصاب يوم المدائن أرغفة وجبنا وسكينا فجعل يقطع من الجبن ويقول كلوا على اسم الله
الحالة الثانية إذا احتاج اليه روي عن البراء بن مالك أنه ضرب رجلا من المشركين يوم اليمامة فوقع على قفاه فأخذ سيفه وقتله به
المسألة الثالثة أما القراءة بفتح الياء وضم الغين بمعنى ما كان لنبي أن يخون فله تأويلان الأول أن يكون المراد أن النبوة والخيانة لا يجتمعان وذلك لأن الخيانة سبب للعار في الدنيا والنار في الآخرة فالنفس الراغبة فيها تكون في نهاية الدناءة والنبوة أعلى المناصب الانسانية فلا تليق إلا بالنفس التي تكون في غاية الجلالة والشرف والجمع بين الصفتين في النفس الواحدة ممتنع فثبت أن النبوة والخيانة لا تجتمعان فنظير هذه الآية قوله مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ ( مريم 35 ) يعني الالهية واتخاذ الولد لا يجتمعان وقيل اللام منقولة والتقدير وما كان النبي ليغل كقوله مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ أي ما كان الله ليتخذ ولدا
الوجه الثاني في تأويل هذه الآية على هذه القراءة أن يقال ان القوم قد التمسوا منه أن يخصهم بحصة زائدة من الغنائم ولا شك أنه لو فعل ذلك لكان ذلك غلولا فأنزل الله تعالى هذه الآية مبالغة في النهي له عن ذلك ونظيره قوله لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ( الزمر 65 ) وقوله وَلَوْ نَّقُولُ عَلَيْنَا بَعْضَ الاْقَاوِيلِ لاخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ( الحاقة 44 ) فقوله وَمَا كَانَ لِنَبِى ّ أَنْ يَغُلَّ أي ما كان يحل له ذلك واذا لم يحل له لم يفعله ونظيره قوله وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَاذَا ( النور 16 ) أي ما يحل لنا
وإذا عرفت تأويل الآية على هذه القراءة فنقول حجة هذه القراءة وجوه أحدها أن أكثر الروايات في سبب

نزول هذه الآية أنهم نسبوا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إلى الغلول فبين الله بهذه الآية أن هذه الخصلة لا تليق به وثانيها أن ما هو من هذا القبيل في التنزيل أسند الفعل فيه إلى الفاعل كقوله مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ و مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ ( يوسف 76 ) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله ( آل عمران 145 ) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ ( يوسف 38 ) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ ( آل عمران 179 ) وقل أن يقال ما كان زيد ليضرب وإذا كان كذلك وجب إلحاق هذه الآية بالاعم الأغلب ويؤكده ما حكى أبو عبيدة عن يونس أنه كان يختار هذه القراءة وقال ليس في الكلام ما كان لك أن تضرب بضم التاء وثالثها أن هذه القراءة اختيار ابن عباس فقيل له ان ابن مسعود يقرأ ( يغل ) فقال ابن عباس كان النبي يقصدون قتله فكيف لا ينسبونه إلى الخيانة وأما القراءة الثانية وهي ( يغل ) بضم الياء وفتح الغين ففي تأويلها وجهان الأول أن يكون المعنى ما كان للنبي أن يخان
واعلم أن الخيانة مع كل أحد محرمة وتخصيص النبي بهذه الحرمة فيه فوائد أحدها أن المجنى عليه كلما كان أشرف وأعظم درجة كانت الخيانة في حقه أفحش والرسول أفضل البشر فكانت الخيانة في حقه أفحش وثانيها أن الوحي كان يأتيه حالا فحالا فمن خانه فربما نزل الوحي فيه فيحصل له مع عذاب الآخرة فضيحة الدنيا وثالثها ان المسلمين كانوا في غاية الفقر في ذلك الوقت فكانت تلك الخيانة هناك أفحش
الوجه الثاني في التأويل أن يكون من الاغل أن يخون أي ينسب الى الخيانة قال المبرد تقول العرب أكفرت الرجل جعلته كافرا ونسبته الى الكفر قال العتبي لو كان هذا هو المراد لقيل يعلل كما قيل يفسق ويفجر ويكفر والأولى أن يقال إنه من أغللته أي وجدته غالا كما يقال أبخلته وأفحمته أي وجدته كذلك قال صاحب ( الكشاف ) وهذه القراءة بهذا التأويل يقرب معناها من معنى القراءة الأولى لأن هذا المعنى لهذه القراءة هو أنه لا يصح أن يوجد النبي غالا لأنه يوجد غالا إلا إذا كان غالا
المسألة الرابعة قد ذكرنا ان الغلول هو الخيانة إلا أنه في عرف الاستعمال صار مخصوصا بالخيانة في الغنيمة وقد جاء هذا أيضا في غير الغنيمة قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( ألا أنبئكم بأكبر الغلول الرجلان يكون بينهما الدار والأرض فان اقتطع أحدهما من صاحبه موضع حصاة طوقها من الأرضين السبع ) وعلى هذا التأويل يكون المعنى كونه صلوات الله وسلامه عليه مبرأ عن جميع الخيانات وكيف لا نقول ذلك والكفار كانوا يبذلون له الأموال العظيمة لترك ادعاء الرسالة فكيف يليق بمن كان كذلك وكان أمينا لله في الوحي النازل اليه من فوق سبع سموات أن يخون الناسا
ثم قال تعالى وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ وفيه وجهان الأول وهو قول أكثر المفسرين إجراء هذه الآية على ظاهرها قالوا وهي نظير قوله في مانع الزكاة يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَاذَا مَا كَنَزْتُمْ لانفُسِكُمْ فَذُوقُواْ ( التوبة 35 ) ويدل عليه قوله ( لا ألفين أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة لها ثغاء فينادي يا محمد يا محمد فأقول لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك ) وعن ابن عباس أنه قال يمثل له ذلك الشيء في قعر جهنم ثم يقال له انزل اليه فخذه فينزل اليه فاذا انتهى اليه حمله على ظهره فلا يقبل منه قال المحققون والفائدة فيه أنه إذا

جاء يوم القيامة وعلى رقبته ذلك الغلول ازدادت فضيحته
الوجه الثاني أن يقال ليس المقصود منه ظاهره بل المقصود تشديد الوعيد على سبيل التمثيل والتصوير ونظيره قوله تعالى إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّة ٍ مّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِى صَخْرَة ٍ أَوْ فِى السَّمَاوَاتِ أَوْ فِى الاْرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ ( لقمان 16 ) فانه ليس المقصود نفس هذا الظاهر بل المقصود إثبات أن الله تعالى لا يعزب عن علمه وعن حفظه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء فكذا ههنا المقصود تشديد الوعيد ثم القائلون بهذا القول ذكروا وجهين الأول قال أبو مسلم المراد أن الله تعالى يحفظ عليه هذا الغلول ويعزره عليه يوم القيامة ويجازيه لأنه لا يخفى عليه خافية الثاني قال أبو القاسم الكعبي المراد أنه يشتهر بذلك مثل اشتهار من يحمل ذلك الشيء واعلم أن هذا التأويل يحتمل إلا أن الأصل المعتبر في علم القرآن أنه يجب إجراء اللفظ على الحقيقة إلا إذا قام دليل يمنع منه وههنا لا مانع من هذا الظاهر فوجب اثباته
ثم قال تعالى ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وفيه سؤالان
السؤال الأول هلا قيل ثم يوفى ما كسب ليتصل بما قبله
والجواب الفائدة في ذكر هذا العموم أن صاحب الغلول إذا علم أن ههنا مجازيا يجازي كل أحد على عمله سواء كان خيراً أو شرا علم أنه غير متخلص من بينهم مع عظم ما اكتسب
السؤال الثاني المعتزلة يتمسكون بهذا في إثبات كون العبد فاعلا وفي إثبات وعيد الفساق
أما الأول فلأنه تعالى أثبت الجزاء على كسبه فلو كان كسبه خلقا لله لكان الله تعالى يجازيه على ما خلقه فيه
وأما الثاني فلأنه تعالى قال في القاتل المتعمد فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ ( النساء 93 ) وأثبت في هذه الآية أن كل عامل يصل اليه جزاؤه فيحصل من مجموع الآيتين القطع بوعيد الفساف
والجواب أما سؤال الفعل فجوابه المعارضة بالعلم وأما سؤال الوعيد فهذا العموم مخصوص في صورة التوبة فكذلك يجب أن يكون مخصوصا في صورة العفو للدلائل الدالة على العفو
ثم قال تعالى وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ قال القاضي هذا يدل على أن الظلم ممكن في أفعال الله وذلك بأن ينقص من الثواب أو يزيد في العقاب قال ولا يتأتى ذلك إلا على قولنا دون قول من يقول من المجبرة ان أي شيء فعله تعالى فهو عدل وحكمة لأنه المالك
الجواب نفي الظلم عنه لا يدل على صحته عليه كما أن قوله لاَ تَأْخُذُهُ سِنَة ٌ وَلاَ نَوْمٌ ( البقرة 255 ) لا يدل على صحتهما عليه
أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَن بَآءَ بِسَخْطٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ
اعلم أنه تعالى لما قال ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ ( البقرة 281 آل عمران 161 ) أتبعه بتفصيل هذه الجملة وبين ان جزاء

المطيعين ما هو وجزاء المسيئين ما هو فقال أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى للمفسرين فيه وجوه الأول أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ في ترك الغلول كَمَن بَاء بِسَخْطٍ مّنَ اللَّهِ في فعل الغلول وهو قول الكلبي والضحاك الثاني أفمن اتبع رضوان الله بالايمان به والعمل بطاعته كمن باء بسخط من الله بالكفر به والاشتغال بمعصيته الثالث أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ وهم المهاجرون كَمَن بَاء بِسَخْطٍ مّنَ اللَّهِ وهم المنافقون الرابع قال الزجاج لما حمل المشركون على المسلمين دعا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أصحابه الى أن يحملوا على المشركين ففعله بعضهم وتركه آخرون فقال أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ وهم الذين امتثلوا أمره كَمَن بَاء بِسَخْطٍ مّنَ اللَّهِ وهم الذين لم يقبلوا قوله وقال القاضي كل واحد من هذه الوجوه صحيح ولكن لا يجوز قصر اللفظ عليه أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ وكل من أخلد الى متابعة النفس والشهوة فهو داخل تحت قوله كَمَن بَاء بِسَخْطٍ مّنَ اللَّهِ أقصى ما في الباب أن الآية نازلة في واقعة معينة لكنك تعلم أن عموم اللفظ لا يبطل لأجل خصوص السبب
المسألة الثانية قوله أَفَمَنِ اتَّبَعَ الهمزة فيه للانكار والفاء للعطف على محذوف تقديره أمن اتقى فاتبع رضوان الله
المسألة الثالثة قوله بَاء بِسَخْطٍ أي احتمله ورجع به وقد ذكرناه في سورة البقرة
المسألة الرابعة قرأ عاصم في إحدى الروايتين عنه رِضْوانِ اللَّهِ بضم الراء والباقون بالكسر وهما مصدران فالضم كالكفران والكسر كالحسبان
المسألة الخامسة قوله وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ من صلة ما قبله والتقدير كمن باء بسخط من الله وكان مأواه جهنم فأما قوله وَبِئْسَ الْمَصِيرُ فمنقطع عما قبله وهو كلام مبتدأ كأنه لما ذكر جهنم أتبعه بذكر صفتها
المسألة السادسة نظير هذه الآية قوله تعالى مَا يَحْكُمُونَ وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاواتِ وَالاْرْضَ بِالْحَقّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ ( الجاثية 21 ) وقوله أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ ( السجدة 18 ) وقوله أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِى الاْرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ( ص 28 ) واحتج القوم بهذه الآية على أنه لا يجوز من الله تعالى أن يدخل المطيعين في النار وأن يدخل المذنبين الجنة وقالوا انه تعالى ذكر ذلك على سبيل الاستبعاد ولولا أنه ممتنع في العقول والا لما حسن هذا الاستبعاد وأكد القفال ذلك فقال لا يجوز في الحكمة أن يسوى المسيء بالمحسن فان فيه إغراء بالمعاصي وإباحة لها وإهمالا للطاعات
هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّهِ واللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى تقدير الكلام لهم درجات عند الله الا أنه حسن هذا الحذف لان اختلاف

أعمالهم قد صيرتهم بمنزلة الأشياء المختلفة في ذواتها فكان هذا المجاز أبلغ من الحقيقة والحكماء يقولون ان النفوس الانسانية مختلفة بالماهية والحقيقة فبعضها ذكية وبعضها بليدة وبعضها مشرقة نورانية وبعضها كدرة ظلمانية وبعضها خيرة وبعضها نذلة واختلاف هذه الصفات ليس لاختلاف الامزجة البدنية بل لاختلاف ماهيات النفوس ولذلك قال عليه الصلاة والسلام ( الناس معادن كمعادن الذهب والفضة ) وقال ( الارواح جنود مجندة ) واذا كان كذلك ثبت أن الناس في أنفسهم درجات لا أن لهم درجات
المسألة الثانية هم عائد الى لفظ ( من ) في قوله أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ ( آل عمران 162 ) ولفظ ( من ) يفيد الجمع في المعنى فلهذا صح أن يكون قوله هُمْ عائدا اليه ونظيره قوله أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ فان قوله يَسْتَوُونَ صيغة الجمع وهو عائد الى ( من )
المسألة الثالثة هم ضمير عائد الى شيء قد تقدم ذكره وقد تقدم ذكر من اتبع رضوان الله وذكر من باء بسخط من الله فهذا الضمير يحتمل أن يكون عائدا الى الاول أو الى الثاني أو اليهما معا والاحتمالات ليست الا هذه الثلاثة
الوجه الأول أن يكون عائدا الى مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ اللَّهِ وتقديره أفمن اتبع رضوان الله سواء لا بل هم درجات عند الله على حسب أعمالهم والذي يدل على ان هذا الضمير عائد إلى من اتبع الرضوان وأنه أولى وجوه الأول ان الغالب في العرف استعمال الدرجات في أهل الثواب والدركات في أهل العقاب الثاني أنه تعالى وصف من باء بسخط من الله وهو أن مأواهم جهنم وبئس المصير فوجب أن يكون قوله هُمْ دَرَجَاتٌ وصفا لمن اتبع رضوان الله الثالث أن عادة القرآن في الأكثر جارية بأن ما كان من الثواب والرحمة فان الله يضيفه إلى نفسه وما كان من العقاب لا يضيفه الى نفسه قال تعالى كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة َ وقال كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ ( البقرة 178 ) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ ( البقرة 183 ) فما أضاف هذه الدرجات الى نفسه حيث قال هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّهِ علمنا أن ذلك صفة أهل الثواب ورابعها أنه متأكد بقوله تعالى انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلاْخِرَة ُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً ( الإسراء 21 )
والوجه الثاني أن يكون قوله هُمْ دَرَجَاتٌ عائدا على مِنْ بَاء بِسَخْطٍ مّنَ اللَّهِ والحجة أن الضمير عائد الى الأقرب وهو قول الحسن قال والمراد أن أهل النار متفاوتون في مراتب العذاب وهو كقوله وَلِكُلّ دَرَجَاتٌ مّمَّا عَمِلُواْ ( الأحقاف 19 ) وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ان فيها أهون أهل النار عذابا يوم القيامة رجل يحذى له نعلان من نار يعلى من حرهما دماغه ينادي يا رب وهل أحد يعذب عذابي )
الوجه الثالث أن يكون قوله هُمْ عائدا الى الكل وذلك لأن درجات أهل الثواب متفاوتة ودرجات أهل العقاب أيضا متفاوتة على حسب تفاوت أعمال الخلق لأنه تعالى قال فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ شَرّاً يَرَهُ ( الزلزلة 7 8 ) فلما تفاوتت مراتب الخلق في أعمال المعاصي والطاعات وجب أن تتفاوت مراتبهم في درجات العقاب والثواب

المسألة الرابعة قوله عَندَ اللَّهِ أي في حكم الله وعلمه فهو كما يقال هذه المسألة عند الشافعي كذا وعند أبي حنيفة كذا وبهذا يظهر فساد استدلال المشبهة بقوله وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ( الأنبياء 19 ) وقوله عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ ( القمر 55 )
ثم قال تعالى وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ والمقصود أنه تعالى لما ذكر أنه يوفى لكل أحد بقدر عمله جزاء وهذا لا يتم إلا إذا كان عالما بجميع أفعال العباد على التفصيل الخالي عن الظن والريب والحسبان أتبعه ببيان كونه عالما بالكل تأكيدا لذلك المعنى وهو قوله وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ وذكر محمد بن إسحق صاحب المغازي في تأويل قوله وَمَا كَانَ لِنَبِى ّ أَنْ يَغُلَّ ( آل عمران 161 ) وجها آخر فقال ما كان لنبي أن يغل أي ما كان لنبي أن يكتم الناس ما بعثه الله به اليهم رغبة في الناس أو رهبة عنهم ثم قال أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ يعني رجح رضوان الله على رضوان الخلق وسخط الله على سخط الخلق كَمَن بَاء بِسَخْطٍ مّنَ اللَّهِ فرجح سخط الخلق على سخط الله ورضوان الخلق على رضوان الله ووجه النظم على هذا التقرير أنه تعالى لما قال فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الاْمْرِ ( آل عمران 159 ) بين أن ذلك إنما يكون معتبرا إذا كان على وفق الدين فأما إذا كان على خلاف الدين فانه غير جائز فكيف يمكن التسوية بين من اتبع رضوان الله وطاعته وبين من اتبع رضوان الخلق وهذا الذي ذكره محتمل لأنا بينا أن الغلول عبارة عن الخيانة على سبيل الخفية وأما أن اختصاص هذا اللفظ بالخيانة في الغنيمة فهو عرف حادث
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ
اعلم أن في وجه النظم وجوها الأول أنه تعالى لما بين خطأ من نسبه الى الغلول والخيانة أكد ذلك بهذه الآية وذلك لان هذا الرسول ولد في بلدهم ونشأ فيما بينهم ولم يظهر منه طول عمره الا الصدق والامانة والدعوة الى الله والاعراض عن الدنيا فكيف يليق بمن هذا حاله الخيانة
الوجه الثاني أنه لما بين خطأهم في نسبته الى الخيانة والغلول قال لا أقنع بذلك ولا أكتفي في حقه بأن أبين براءته عن الخيانة والغلول ولكني أقول ان وجوده فيكم من أعظم نعمتي عليكم فانه يزكيكم عن الطريق الباطلة ويعلمكم العلوم النافعة لكم في دنياكم وفي دينكم فأي عاقل يخطر بباله أن ينسب مثل هذا الانسان الى الخيانة
الوجه الثالث كأنه تعالى يقول انه منكم ومن أهل بلدكم ومن أقاربكم وأنتم أرباب الخمول والدناءة فاذا شرفه الله تعالى وخصه بمزايا الفضل والاحسان من جميع العالمين حصل لكم شرف عظيم

بسبب كونه فيكم فطعنكم فيه واجتهادكم في نسبة القبائح اليه على خلاف العقل
الوجه الرابع انه لما كان في الشرف والمنقبة بحيث يمن الله به على عباده وجب على كل عاقل أن يعينه بأقصى ما يقدر عليه فوجب عليكم أن تحاربوا أعداءه وأن تكونوا معه باليد واللسان والسيف والسنان والمقصود منه العود الى ترغيب المسلمين في مجاهدة الكفار وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي رحمه الله للمن في كلام العرب معان أحدها الذي يسقط من السماء وهو قوله وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى ( البقرة 57 ) وثانيها أن تمن بما أعطيت وهو قوله لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنّ وَالاْذَى ( البقرة 264 ) وثالثها القطع وهو قوله لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ ( فصلت 8 ) بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لاَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ ورابعها الانعام والاحسان الى من لا تطلب الجزاء منه ومنه قوله هَاذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ ( ص 39 ) وقوله وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ والمنان في صفة الله تعالى المعطي ابتداء من غير أن يطلب منه عوضا وقوله لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ أي أنعم عليهم وأحسن اليهم ببعثه هذا الرسول
المسألة الثانية أن بعثة الرسول إحسان الى كل العالمين وذلك لأن وجه الاحسان في بعثته كونه داعيا لهم الى ما يخلصهم من عقاب الله ويوصلهم الى ثواب الله وهذا عام في حق العالمين لأنه مبعوث الى كل العالمين كما قال تعالى وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّة ً لّلنَّاسِ ( سبأ 28 ) إلا أنه لما لم ينتفع بهذا الانعام الا أهل الإسلام فلهذا التأويل خص تعالى هذه المنة بالمؤمنين ونظيره قوله تعالى هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2 ) مع أنه هدى للكل كما قال هُدًى لّلنَّاسِ ( البقرة 185 ) وقوله إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا ( النازعات 45 )
المسألة الثالثة اعلم أن بعثة الرسول إحسان من الله إلى الخلق ثم انه لما كان الانتفاع بالرسول أكثر كان وجه الانعام في بعثة الرسل أكثر وبعثة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كانت مشتملة على الأمرين أحدهما المنافع الحاصلة من أصل البعثة والثاني المنافع الحاصلة بسب ما فيه من الخصال التي ما كانت موجودة في غيره
أما المنفعة بسبب أصل البعثة فهي التي ذكرها الله تعالى في قوله رُّسُلاً مُّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّة ٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ( النساء 165 ) قال أبو عبدالله الحليمي وجه الانتفاع ببعثة الرسل ليس إلا في طريق الدين وهو من وجوه الأول أن الخلق جبلوا على النقصان وقلة الفهم وعدم الدراية فهو صلوات الله عليه أورد عليهم وجوه الدلائل ونقحها وكلما خطر ببالهم شك أو شبهة أزالها وأجاب عنها والثاني ان الخلق وان كانوا يعلمون أنه لا بد لهم من خدمة مولاهم ولكنهم ما كانوا عارفين بكيفية تلك الخدمة فهو شرح تلك الكيفية لهم حتى يقدموا على الخدمة آمنين من الغلط ومن الاقدام على ما لا ينبغي والثالث أن الخلق جبلوا على الكسل والغفلة والتواني والملالة فهو يورد عليهم أنواع الترغيبات والترهيبات حتى انه كلما عرض لهم كسل أو فتور نشطهم للطاعة ورغبهم فيها الرابع أن أنوار عقول الخلق تجري مجرى أنوار البصر ومعلوم أن الانتفاع بنور البصر لا يكمل الا عند سطوع نور الشمس ونوره عقلي إلهي

يجري مجرى طلوع الشمس فيقوي العقول بنور عقله ويظهر لهم من لوائح الغيب ما كان مستترا عنهم قبل ظهوره فهذا إشارة حقيقية إلى فوائد أصل البعثة
وأما المنافع الحاصلة بسبب ما كان في محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من الصفات فأمور ذكرها الله تعالى في هذه الآية أولها قوله مّنْ أَنفُسِهِمْ
واعلم أن وجه الانتفاع بهذا من وجوه الأول أنه عليه السلام ولد في بلدهم ونشأ فيما بينهم وهم كانوا عارفين بأحواله مطلعين على جميع أفعاله وأقواله فما شاهدوا منه من أول عمره إلى آخره إلا الصدق والعفاف وعدم الالتفات إلى الدنيا والبعد عن الكذب والملازمة على الصدق ومن عرف من أحواله من أول العمر إلى آخره ملازمته الصدق والأمانة وبعده عن الخيانة والكذب ثم ادعى النبوة والرسالة التي يكون الكذب في مثل هذه الدعوى أقبح أنواع الكذب يغلب على ظن كل أحد أنه صادق في هذه الدعوى الثاني أنهم كانوا عالمين بأنه لم يتلمذ لأحد ولم يقرأ كتابا ولم يمارس درسا ولا تكرارا وأنه إلى تمام الأربعين لم ينطق ألبتة بحديث النبوة والرسالة ثم انه بعد الأربعين ادعى الرسالة وظهر على لسانه من العلوم ما لم يظهر على أحد من العالمين ثم انه يذكر قصص المتقدمين وأحوال الأنبياء الماضين على الوجه الذي كان موجودا في كتبهم فكل من له عقل سليم علم أن هذا لا يتأتى إلا بالوحي السماوي والالهام الالهي الثالث أنه بعد ادعاء النبوة عرضوا عليه الأموال الكثيرة والأزواج ليترك هذه الدعوى فلم يلتفت إلى شيء من ذلك بل قنع بالفقر وصبر على المشقة ولما علا أمره وعظم شأنه وأخذ البلاد وعظمت الغنائم لم يغير طريقه في البعد عن الدنيا والدعوة إلى الله والكاذب إنما يقدم على الكذب ليجد الدنيا فاذا وجدها تمتع بها وتوسع فيها فلما لم يفعل شيئاً من ذلك علم أنه كان صادقا الرابع أن الكتاب الذي جاء به ليس فيه إلا تقرير التوحيد والتنزيه والعدل والنبوة وإثبات المعاد وشرح العبادات وتقرير الطاعات ومعلوم أن كمال الانسان في أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به ولما كان كتابه ليس إلا في تقرير هذين الأمرين علم كل عاقل أنه صادق فيما يقوله الخامس أن قبل مجيئه كان دين العرب أرذل الأديان وهو عبادة الأوثان وأخلاقهم أرذل الأخلاق وهو الغارة والنهب والقتل وأكل الأطعمة الرديئة ثم لما بعث الله محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) نقلهم الله ببركة مقدمة من تلك الدرجة التي هي أخس الدرجات إلى أن صاروا أفضل الأمم في العلم والزهد والعبادة وعدم الالتفات إلى الدنيا وطياتها ولا شك أن فيه أعظم المنة
إذا عرفت هذه الوجوه فنقول ان محمدا عليه الصلاة والسلام ولد فيهم ونشأ فيما بينهم وكانوا مشاهدين لهذه الأحوال مطلعين على هذه الدلائل فكان إيمانهم مع مشاهدة هذه الأحوال أسهل مما إذا لم يكونوا مطلعين على هذه الأحوال فلهذه المعاني من الله عليهم بكونه مبعوثا منهم فقال إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ وفيه وجه آخر من المنة وذلك لأنه صار شرفا للعرب وفخر لهم كما قال وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ( الزخرف 44 ) وذلك لأن الافتخار بابراهيم عليه السلام كان مشتركا فيه بين اليهود والنصارى والعرب ثم ان اليهود والنصارى كانوا يفتخرون بموسى وعيسى والتوراة والانجيل فما كان للعرب ما يقابل ذلك فلما بعث الله محمدا عليه السلام وأنزل القرآن صار شرف العرب بذلك زائدا على شرف جميع الأمم فهذا هو وجه الفائدة في قوله مّنْ أَنفُسِهِمْ

ثم قال بعد ذلك يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ
واعلم أن كمال حال الانسان في أمرين في أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به وبعبارة أخرى للنفس الانسانية قوتان نظرية وعملية والله تعالى أنزل الكتاب على محمد عليه السلام ليكون سببا لتكميل الخلق في هاتين القوتين فقوله يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَاتِهِ إشارة الى كونه مبلغا لذلك الوحي من عند الله إلى الخلق وقوله وَيُزَكّيهِمْ اشارة إلى تكميل القوة النظرية بحصول المعارف الالهية وَالْكِتَابِ إشارة إلى معرفة التأويل وبعبارة أخرى الْكِتَابِ إشارة الى ظواهر الشرعية وَالْحِكْمَة ِ إشارة الى محاسن الشريعة وأسرارها وعللها ومنافعها ثم بين تعالى ما تتكمل به هذه النعمة وهو أنهم كانوا من قبل في ضلال مبين لأن النعمة إذا وردت بعد المحنة كان توقعها أعظم فاذا كان وجه النعمة العلم والاعلام ووردا عقيب الجهل والذهاب عن الدين كان أعظم ونظيره قوله وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى ( الضحى 7 )
أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَة ٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَاذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَى ءٍ قَدِيرٌ
اعلم أنه تعالى لما أخبر عن المنافقين أنهم طعنوا في الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بأن نسبوه إلى الغلول والخيانة حكى عنهم شبهة أخرى في هذه الآية وهي قولهم لو كان رسولا من عند الله لما انهزم عسكره من الكفار في يوم أحد وهو المراد من قولهم أنى هذا وأجاب الله عنه بقوله قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ أي هذا الانهزام إنما حصل بشؤم عصيانكم فهذا بيان وجه النظم
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى تقرير الآية أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَة ٌ المراد منها واقعة أحد وفي قوله قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قولان الأول وهو قول الأكثرين أن معناه قد أصبتم يوم بدر وذلك لأن المشركين قتلوا من المسلمين يوم أحد سبعين وقتل المسلمون منهم يوم بدر سبعين وأسروا سبعين والثاني أن المسلمين هزموا الكفار يوم بدر وهزموهم أيضاً في الأول يوم أحد ثم لما عصوا هزمهم المشركون فانهزام المشركين حصل مرتين وانهزام المسلمين حصل مرة واحدة وهذا اختيار الزجاج وطعن الواحدي في هذا الوجه فقال كما أن المسلمين نالوا من المشركين يوم بدر فكذلك المشركون نالوا من المسلمين يوم أحد ولكنهم ما هزموا المسلمين ألبتة أما يوم أحد فالمسلمون هزموا المشركين أولا ثم انقلب الأمر
المسألة الثانية الفائدة في قوله قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا هو التنبيه على أن أمور الدنيا لا تبقى على نهج واحد فلما هزمتموهم مرتين فأي استبعاد في أن يهزموكم مرة واحدة أما قوله قُلْتُمْ أَنَّى هَاذَا ففيه مسألتان
المسألة الأولى سبب تعجبهم أنهم قالوا نحن ننصر الإسلام الذي هو دين الحق ومعنا الرسول وهم ينصرون دين الشرك بالله والكفر فكيف صاروا منصورين عليناا

واعلم أنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة من وجهين الأول ما أدرجه عند حكاية السؤال وهو قوله قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا يعني أن أحوال الدنيا لا تبقى على نهج واحد فاذا أصبتم منهم مثل هذه الواقعة فكيف تستبعدون هذه الواقعة والثاني قوله قل هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى تقرير هذا الجواب من وجهين الأول أنكم إنما وقعتم في هذه المصيبة بشؤم معصيتكم وذلك لأنهم عصوا الرسول في أمور أولها أن الرسول عليه السلام قال المصلحة في أن لا نخرج من المدينة بل نبقى ههنا وهم أبوا إلا الخروج فلما خالفوه توجه إلى أحد وثانيها ما حكى الله عنهم من فشلهم وثالثها ما وقع بينهم من المنازعة ورابعها أنهم فارقوا المكان وفرقوا الجمع وخامسها اشتغالهم بطلب الغنيمة وإعراضهم عن طاعة الرسول عليه السلام في محاربة العدو فهذه الوجوه كلها ذنوب ومعاصي والله تعالى إنما وعدهم النصر بشرط ترك المعصية كما قال إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مّن فَوْرِهِمْ هَاذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ ( آل عمران 125 ) فلما فات الشرط لا جرم فات المشروط
الوجه الثاني في التأويل ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال جاء جبريل عليه السلام إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يوم بدر فقال يا محمد إن الله قد كره ما صنع قومك في أخذهم الفداء من الأسارى وقد أمرك أن تخيرهم بين أن يقدموا الأسارى فيضربوا أعناقهم وبين أن يأخذوا الفداء على أن تقتل منهم عدتهم فذكر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك لقومه فقالوا يا رسول الله عشائرنا وإخواننا نأخذ الفداء منهم فنتقوى به على قتال العدو ونرضى أن يستشهد منا بعددهم فقتل يوم أحد سبعون رجلا عدد أسارى أهل بدر فهو معنى قوله قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ أي بأخذ الفداء واختياركم القتل
المسألة الثانية استدلت المعتزلة على أن أفعال العبد غير مخلوقة لله تعالى بقوله قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ من وجوه أحدها أن بتقدير أن يكون ذلك حاصلا بخلق الله ولا تأثير لقدرة العبد فيه كان قوله مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ كذباً وثانيها أن القوم تعجبوا أن الله كيف يسلط الكافر على المؤمن فالله تعالى أزال التعجب بأن ذكر أنكم إنما وقعتم في هذا المكروه بسبب شؤم فعلكم فلو كان فعلهم خلقاً لله لم يصح هذا الجواب وثالثها أن القوم قالوا أَنَّى هَاذَا أي من أين هذا فهذا طلب لسبب الحدوث فلو لم يكن المحدث لها هو العبد لم يكن الجواب مطابقا للسؤال
والجواب أنه معارض بالآيات الدالة على كون أفعال العبد بايجاد الله تعالى
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَى ْء قَدِيرٌ ( فاطر 1 ) أي انه قادر على نصركم لو ثبتم وصبرتم كما أنه قادر على التخلية إذا خالفتم وعصيتم واحتج أصحابنا بهذا على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى قالوا إن فعل العبد شيء فيكون مخلوقا لله تعالى قادرا عليه وإذا كان الله قادرا على إيجاده فلو أوجده العبد امتنع كونه تعالى قادرا على إيجاده لأنه لما أوجده العبد امتنع من الله إيجاده لأن إيجاد الموجود محال فلما كان كون العبد موجواً له يفضي إلى هذا المحال وجب أن لا يكون العبد موجدا له والله أعلم

وَمَآ أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ
اعلم أن هذا متعلق بما تقدم من قوله أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَة ٌ ( آل عمران 165 ) فذكر في هذه الآية الأولى أنها أصابتهم بذنبهم ومن عند أنفسهم وذكر في هذه الآية أنها أصابتهم لوجه آخر وهو أن يتميز المؤمن عن المنافق وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قوله يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ( الفرقان 41 ) المراد يوم أحد والجمعان أحدهما جمع المسلمين أصحاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والثاني جمع المشركين الذين كانوا مع أبي سفيان
المسألة الثانية في قوله فَبِإِذْنِ اللَّهِ وجوه الأول أن اذن الله عبارة عن التخلية وترك المدافعة استعار الاذن لتخلية الكفار فانه لم يمنعهم منهم ليبتليهم لأن الاذن في الشيء لا يدفع المأذون عن مراده فلما كان ترك المدافعة من لوازم الاذن أطلق لفظ الاذن على ترك المدافعة على سبيل المجاز
الوجه الثاني فباذن الله أي بعلمه كقوله وَأَذَانٌ مّنَ اللَّهِ ( التوبرة 3 ) أي إعلام وكقوله مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ وَضَلَّ ( فصلت 47 ) وقوله فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ اللَّهِ ( البقرة 279 ) وكل ذلك بمعنى العلم طعن الواحدي فيه فقال الآية تسلية للمؤمنين مما أصابهم ولا تقع التسلية إلا إذا كان واقعا بعلمه لأن علمه عام في جميع المعلومات بدليل قوله تعالى وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ ( فاطر 11 )
الوجه الثالث أن المراد من الاذن الأمر بدليل قوله ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ ( آل عمران 152 ) والمعنى أنه تعالى لما أمر بالمحاربة ثم صارت تلك المحاربة مؤدية إلى ذلك الانهزام صح على سبيل المجاز أن يقال حصل ذلك بأمره
الوجه الرابع وهو المنقول عن ابن عباس أن المراد من الاذن قضاء الله بذلك وحكمه به وهذا أولى لأن الآية تسلية للمؤمنين مما أصابهم والتسلية إنما تحصل إذا قيل ان ذلك وقع بقضاء الله وقدره فحينئذ يرضون بما قضى الله
ثم قال وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ والمعنى ليميز المؤمنين عن المنافقين وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي يقال نافق الرجل فهو منافق إذا أظهر كلمة الايمان وأضمر خلافها والنفاق اسم إسلامي اختلف في اشتقاقه على وجوه الأول قال أبو عبيدة هو من نافقاء اليربوع وذلك لأن حجر اليربوع له بابان القاصعاء والنافقاء فاذا طلب من أيهما كان خرج من الآخر فقيل للمنافق أنه

منافق لأنه وضع لنفسه طريقين إظهار الإسلام وإضمار الكفر فمن أيهما طلبته خرج من الآخر الثاني قال ابن الانباري المنافق من النفق وهو السرب ومعناه أنه يتستر بالاسلام كما يتستر الرجل في السرب الثالث أنه مأخوذ من النافقاء لكن على غير هذا الوجه الذي ذكره أبو عبيدة وهو أن النافقاء جحر يحفره اليربوع في داخل الأرض ثم انه يرقق بما فوق الجحر حتى إذا رابه ريب دفع التراب برأسه وخرج فقيل للمنافق منافق لأنه يضمر الكفر في باطنه فاذا فتشته رمى عنه ذلك الكفر وتمسك بالاسلام
المسألة الثانية قوله وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ ظاهره يشعر بأنه لأجل أن يحصل له هذا العلم أذن في تلك المصيبة وهذا يشعر بتجدد علم الله وهذا محال في حق علم الله تعالى فالمراد ههنا من العلم المعلوم والتقدير ليتبين المؤمن من المنافق وليتميز أحدهما عن الآخر حصل الاذن في تلك المصيبة وقد تقدم تقرير هذا المعنى في الآيات المتقدمة والله أعلم
المسألة الثالثة في الآية حذف تقديره وليعلم إيمان المؤمنين ونفاق المنافقين
فان قيل لم قال وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ ولم يقل وليعلم المنافقين
قلنا الاسم يدل على تأكيد ذلك المعنى والفعل يدل على تجدده وقوله وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ يدل على كونهم مستقرين على إيمانهم متثبتين فيه وأما نَافَقُواْ فيدل على كونهم إنما شرعوا في الأعمال اللائقة بالنفاق في ذلك الوقت
ثم قال تعالى وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُواْ وفيه مسائل
المسألة الأولى في أن هذا القائل من هو وجهان الأول قال الأصم انه الرسول عليه الصلاة والسلام كان يدعوهم إلى القتال الثاني روي أن عبدالله بن أبي بن سلول لما خرج بعسكره إلى أحد قالوا لم نلقي أنفسنا في القتل فرجعوا وكانوا ثلثمائة من جملة الألف الذين خرج بهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال لهم عبدالله بن عمرو بن حرام أبو جابر بن عبدالله الأنصاري أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عند حضور العدو فهذا هو المراد من قوله تعالى وَقِيلَ لَهُمْ يعني قول عبدالله هذا
المسألة الثانية قوله قَاتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُواْ يعني إن كان في قلبكم حب الدين والاسلام فقاتلوا للدين والاسلام وإن لم تكونوا كذلك فقاتلوا دفعاً عن أنفسكم وأهليكم وأموالكم يعني كونوا إما من رجال الدين أو من رجال الدنيا قال السدي وابن جريج ادفعوا عنا العدو بتكثير سوادنا إن لم تقاتلوا معنا قالوا لأن الكثرة أحد أسباب الهيبة والعظمة والأول هو الوجه
المسألة الثالثة قوله تعالى قَاتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُواْ تصريح بأنهم قدموا طلب الدين على طلب الدنيا وذلك يدل على أن المسلم لا بد وأن يقدم الدين على الدنيا في كل المهمات
ثم قال تعالى قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإيمَانِ وهذا هو الجواب الذي ذكره المنافقون وفيه وجهان الأول أن يكون المراد أن الفريقين لا يقتتلان ألبتة فلهذا رجعنا الثاني أن يكون المعنى لو نعلم ما يصلح أن يسمى قتالا لاتبعناكم يعني أن الذي يقدمون عليه لا يقال له

قتال وإنما هو إلقاء النفس في التهلكة لأن رأي عبدالله كان في الاقامة بالمدينة وما كان يستصوب الخروج
واعلم أنه إن كان المراد من هذا الكلام هو الوجه الأول فهو فاسد وذلك لأن الظن في أحوال الدنيا قائم مقام العلم وأمارات حصول القتال كانت ظاهرة في ذلك اليوم ولو قيل لهذا المنافق الذي ذكر هذا الجواب فينبغي لك لو شاهدت من شهر سيفه في الحرب أن لا تقدم على مقاتلته لأنك لا تعلم منه قتالا وكذا القول في سائر التصرفات في أمور الدنيا بل الحق أن الجهاد واجب عند ظهور أمارات المحاربة ولا أمارات أقوى من قربهم من المدينة عند جبل أحد فدل ذكر هذا الجواب على غاية الخزي والنفاق وإنه كان غرضهم من ذكر هذا الجواب إما التلبيس واما الاستهزاء وأما إن كان مراد المنافق هو الوجه الثاني فهو أيضاً باطل لأن الله تعالى لما وعدهم بالنصرة والاعانة لم يكن الخروج إلى ذلك القتال إلقاء للنفس في التهلكة
ثم انه بين حالهم عندما ذكروا هذا الجواب فقال هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإيمَانِ وفيه مسائل
المسألة الأولى في التأويل وجهان الأول أنهم كانوا قبل هذه الواقعة يظهرون الايمان من أنفسهم وما ظهرت منهم أمارة تدل على كفرهم فلما رجعوا عن عسكر المؤمنين تباعدوا بذلك عن أن يظن بهم كونهم مؤمنين
واعلم أن رجوعهم عن معاونة المسلمين دل على أنهم ليسوا من المسلمين وأيضاً قولهم لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ يدل على أنهم ليسوا من المسلمين وذلك لأنا بينا أن هذا الكلام يدل إما على السخرية بالمسلمين وإما على عدم الوثوق بقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وكل واحد منهما كفر
الوجه الثاني في التأويل أن يكون المراد أنهم لاهل الكفر أقرب نصرة منهم لأهل الايمان لأن تقليلهم سواد المسلمين بالانعزال يجر إلى تقوية المشركين
المسألة الثانية قال أكثر العلماء ان هذا تنصيص من الله تعالى على أنهم كفار قال الحسن إذا قال الله تعالى أَقْرَبُ فهو اليقين بأنهم مشركون وهو مثل قوله مِاْئَة ِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فهذه الزيادة لا شك فيها وأيضا المكلف لا يمكن أن ينفك عن الايمان والكفر فلما دلت الآية على القرب لزم حصول الكفر وقال الواحدي في ( البسيط ) هذه الآية دليل على أن من أتى بكلمة التوحيد لم يكفر ولم يطلق القول بتكفيره لانه تعالى لم يطلق القول بكفرهم مع أنهم كانوا كافرين لاظهارهم القول بلا إله إلا الله محمد رسول الله
ثم قال تعالى يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ والمراد أن لسانهم مخالف لقلبهم فهم وإن كانوا يظهرون الايمان باللسان لكنهم يضمرون في قلوبهم الكفر
ثم قال وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ

فان قيل إن المعلوم إذا علمه عالمان لا يكون أحدهما أعلم به من الآخر فما معنى قوله وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ
قلنا المراد أن الله تعالى يعلم من تفاصيل تلك الاحوال ما لا يعلمه غيره
الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
اعلم أن الذين حكى الله عنهم أنهم قالوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ ( آل عمران 167 ) وصفهم الله تعالى بأنهم كما قعدوا واحتجوا لقعودهم فكذلك ثبطوا غيرهم واحتجوا لذلك فحكى الله تعالى عنهم أنهم قالوا لاخوانهم إن الخارجين لو أطاعونا ما قتلوا فخوفوا من مراده موافقة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في محاربة الكفار بالقتل لما عرفوا ما جرى يوم أحد من الكفار على المسلمين من القتل لأن المعلوم من الطباع محبة الحياة فكان وقوع هذه الشبهة في القلوب يجري مجرى ما يورده الشيطان من الوسواس وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في محل الَّذِينَ وجوه أحدها النصب على البدل من الَّذِينَ نَافَقُواْ وثانيها الرفع على البدل من الضمير في يَكْتُمُونَ وثالثها الرفع على خبر الابتداء بتقدير هم الذين ورابعها أن يكون نصبا على الذم
المسألة الثانية قال المفسرون المراد بِالَّذِينَ قَالُواْ عبدالله بن أبي وأصحابه وقال الأصم هذا لا يجوز لأن عبدالله بن أبي خرج مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في الجهاد يوم أحد وهذا القول فهو واقع فيمن قد تخلف لأنه قال الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا أي في القعود ما قتلوا فهو كلام متأخر عن الجهاد قاله لمن خرج الى الجهاد ولمن هو قوي النية في ذلك ليجعله شبهة فيما بعده صارفا لهم عن الجهاد
المسألة الثالثة قالوا لاخوانهم أي قالوا لأجل إخوانهم وقد سبق بيان المراد من هذه الاخوة الاخوة في النسب أو الاخوة بسبب المشاركة في الدار أو في عداوة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أو في عبادة الاوثان والله أعلم
المسألة الرابعة قال الواحدي الواو في قوله وَقَعَدُواْ للحال ومعنى هذا القعود القعود عن الجهاد يعني من قتل بأحد لو قعدوا كما قعدنا وفعلوا كما فعلنا لسلموا ولم يقتلوا ثم أجاب الله عن ذلك بقوله قل فادرؤا عن أنفسكم الموت ان كنتم صادقين
فان قيل ما وجه الاستدلال بذلك مع أن الفرق ظاهر فان التحرز عن القتل ممكن أما التحرز عن الموت فهو غير ممكن ألبتة
والجواب هذا الدليل الذي ذكره الله تعالى لا يتمشى إلا إذا اعترفنا بالقضاء والقدر وذلك لأنا إذا

قلنا لا يدخل الشيء في الوجود إلا بقضاء الله وقدره اعترفنا بأن الكافر لا يقتل المسلم إلا بقضاء الله وحينئذ لا يبقى بين القتل وبين الموت فرق فيصح الاستدلال أما إذا قلنا بأن فعل العبد ليس بتقدير الله وقضائه كان الفرق بين الموت والقتل ظاهراً من الوجه الذي ذكرتم فتفضي إلى فساد الدليل الذي ذكره الله تعالى ومعلوم أن المفضي إلى ذلك يكون باطلا فثبت أن هذه الآية دالة على أن الكل بقضاء الله وقوله ان كنتم صادقين يعني إن كنتم صادقين في كونكم مشتغلين بالحذر عن المكاره والوصول إلى المطالب
وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَآ ءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
اعلم أن القول لما ثبطوا الراغبين في الجهاد بأن قالوا الجهاد يفضي إلى القتل كما قالوا في حق من خرج إلى الجهاد يوم أحد والقتل شيء مكروه فوجب الحذر عن الجهاد ثم ان الله تعالى بين أن قولهم الجهاد يقضي إلى القتل باطل بأن القتل إنما يحصل بقضاء الله وقدره كما أن الموت يحصل بقضاء الله وقدره فمن قدر الله له القتل لا يمكنه الاحتراز عنه ومن لم يقدر له القتل لا خوف عليه من القتل ثم أجاب عن تلك الشبهة في هذه الآية بجواب آخر وهو أنا لا نسلم ان القتل في سبيل الله شيء مكروه وكيف يقال ذلك والمقتول في سبيل الله أحياه الله بعد القتل وخصه بدرجات القربة والكرامة وأعطاه أفضل أنواع الرزق وأوصله الى أجل مراتب الفرح والسرور فأي عاقل يقول ان مثل هذا القتل يكون مكروها فهذا وجه النظم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى هذه الآية واردة في شهداء بدر وأحد لأن في وقت نزول هذه الآية لم يكن أحد من الشهداء إلا من قتل في هذين اليومين المشهورين والمنافقون إنما ينفرون المجاهدين عن الجهاد لئلا يصيروا مقتولين مثل من قتل في هذين اليومين من المسلمين والله تعالى بين فضائل من قتل في هذين اليومين ليصير ذلك داعيا للمسلمين الى التشبه بمن جاهد في هذين اليومين وقتل وتحقيق الكلام أن من ترك الجهاد فربما وصل الى نعيم الدنيا وربما لم يصل وبتقدير أن يصل اليه فهو حقير وقليل ومن أقبل على الجهاد فاز بنعيم الآخرة قطعا وهو نعيم عظيم ومع كونه عظيما فهو دائم مقيم واذا كان الأمر كذلك ظهر أن الاقبال على الجهاد أفضل من تركه
المسألة الثانية اعلم أن ظاهر الآية يدل على كون هؤلاء المقتولين أحياء فاما أن يكون المراد منه حقيقة أو مجازا فان كان المراد منه هو الحقيقة فاما أن يكون المراد أنهم سيصيرون في الآخرة أحياء أو

المراد أنهم أحياء في الحال وبتقدير أن يكون هذا هو المراد فاما أن يكون المراد إثبات الحياة الروحانية أو إثبات الحياة الجسمانية فهذا ضبط الوجوه التي يمكن ذكرها في هذه الآية
الاحتمال الأول أن تفسير الآية بأنهم سيصيرون في الآخرة أحياء قد ذهب اليه جماعة من متكلمي المعتزلة منهم أبو القاسم الكعبي قال وذلك لأن المنافقين الذين حكى الله عنهم ما حكى كانوا يقولون أصحاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) يعرضون أنفسهم للقتل فيقتلون ويخسرون الحياة ولا يصلون الى خير وإنما كانوا يقولون ذلك لجحدهم البعث والميعاد فكذبهم الله تعالى وبين بهذه الآية أنهم يبعثون ويرزقون ويوصل اليهم أنواع الفرح والسرور والبشارة
واعلم أن هذا القول عندنا باطل ويدل عليه وجوه
الحجة الأولى ان قوله بَلْ أَحْيَاء ظاهره يدل على كونهم أحياء عند نزول الآية فحمله على أنهم سيصيرون أحياء بعد ذلك عدول عن الظاهر
الحجة الثانية انه لا شك أن جانب الرحمة والفضل والاحسان أرجح من جانب العذاب والعقوبة ثم إنه تعالى ذكر في أهل العذاب أنه أحياهم قبل القيامة لأجل التعذيب فانه تعالى قال أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً ( 25 نوح ) والفاء للتعقيب والتعذيب مشروط بالحياة وأيضا قال تعالى النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً ( غافر 46 ) واذا جعل الله أهل العذاب أحياء قبل قيام القيامة لأجل التعذيب فلأن يجعل أهل الثواب أحياء قبل القيامة لأجل الاحسان والاثابة كان ذلك أولى
الحجة الثالثة أنه لو أراد أنه سيجعلهم أحياء عند البعث في الجنة لما قال للرسول عليه الصلاة والسلام وَلاَ تَحْسَبَنَّ مع علمه بأن جميع المؤمنين كذلك أما إذا حملناه على ثواب القبر حسن قوله وَلاَ تَحْسَبَنَّ لأنه عليه الصلاة والسلام لعله ما كان يعلم أنه تعالى يشرف المطيعين والمخلصين بهذا التشريف وهو أنه يحييهم قبل قيام القيامة لأجل إيصال الثواب اليهم
فان قيل إنه عليه الصلاة والسلام وان كان عالما بأنهم سيصيرون أحياء عند ربهم عند البعث ولكنه غير عالم بأنهم من أهل الجنة فجاز أن يبشره الله بأنهم سيصيرون أحياء ويصلون إلى الثواب والسرور
قلنا قوله وَلاَ تَحْسَبَنَّ إنما يتناول الموت لأنه قال وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً فالذي يزيل هذا الحسبان هو كونهم أحياء في الحال لأنه لا حسبان هناك في صيرورتهم أحياء يوم القيامة وقوله يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ فهو خبر مبتدأ ولا تعلق له بذلك الحسبان فزال هذا السؤال
الحجة الرابعة قوله تعالى وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مّنْ خَلْفِهِمْ والقوم الذين لم يلحقوا بهم لا بد وأن يكونوا في الدنيا فاستبشارهم بمن يكون في الدنيا لا بد وأن يكون قبل قيام القيامة والاستبشار لا بد وأن يكون مع الحياة فدل هذا على كونهم أحياء قبل يوم القيامة وفي هذا الاستدلال بحث سيأتي ذكره
الحجة الخامسة ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال في صفة الشهداء ( ان أرواحهم في أجواف طير خضر وانها ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتسرح حيث شاءت وتأوي إلى قناديل

من ذهب تحت العرش فلما رأوا طيب مسكنهم ومطعمهم ومشربهم قالوا يا ليت قومنا يعلمون ما نحن فيه من النعيم وما صنع الله تعالى بنا كي يرغبوا في الجهاد فقال الله تعالى أنا مخبر عنكم ومبلغ اخوانكم ففرحوا بذلك واستبشروا فأنزل الله تعالى هذه الآية ) وسئل ابن مسعود رضي الله عنه عن هذه الآية فقال سألنا عنها فقيل لنا ان الشهداء على نهر بباب الجنة في قبة خضراء وفي رواية في روضة خضراء وعن جابر بن عبدالله قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ألا أبشرك أن أباك حيث أصيب باحد أحياه الله ثم قال ما تريد يا عبدالله بن عمرو أن فعل بك فقال يا رب أحب أن تردني الى الدنيا فأقتل فيها مرة أخرى ) والروايات في هذا الباب كأنها بلغت حد التوتر فكيف يمكن انكارها طعن الكعبي في هذه الروايات وقال إنها غير جائزة لان الارواح لا تتنعم وانما يتنعم الجسم إذا كان فيه روح لا الروح ومنزلة الروح من البدن منزلة القوة وأيضا الخبر المروي ظاهره يقتضي أن هذه الارواح في حواصل الطير وأيضا ظاهره يقتضي أنها ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتسرح وهذا يناقض كونها في حواصل الطير
والجواب أما الطعن الأول فهو مبني على أن الروح عرض قائم بالجسم وسنبين أن الأمر ليس كذلك وأما الطعن الثاني فهو مدفوع لان القصد من أمثال هذه الكلمات الكنايات عن حصول الراحات والمسرات وزوال المخافات والآفات فهذا جملة الكلام في هذا الاحتمال
وأما الوجه الثاني من الوجوه المحتملة في هذه الآية هو أن المراد أن الشهداء أحياء في الحال والقائلون بهذا القول منهم من أثبت هذه الحياة للروح ومنهم من أثبتها للبدن وقبل الخوض في هذا الباب يجب تقديم مقدمة وهي أن الانسان ليس عبارة عن مجموع هذه البنية ويدل عليه أمران أحدهما أن أجزاء هذه البنية في الذوبان والانحلال والتبدل والانسان المخصوص شيء باق من أول عمره إلى آخره والباقي مغاير للمتبدل والذي يؤكد ما قلناه أنه تارة يصير سمينا وأخرى هزيلا وأنه يكون في أول الامر صغير الجثة ثم انه يكبر وينمو ولا شك أن كل إنسان يجد من نفسه أنه شيء واحد من أول عمره الى آخره فصح ما قلناه الثاني أن الانسان قد يكون عالما بنفسه حال ما يكون غافلا عن جميع أعضائه وأجزائه والمعلوم مغاير لما ليس بمعلوم فثبت بهذين الوجهين أنه شيء مغاير لهذا البدن المحسوس ثم بعد ذلك يحتمل أن يكون جسما مخصوصا ساريا في هذه الجثة سريان النار في الفحم والدهن في السمسم وماء الورد في الورد ويحتمل أن يكون جوهراً قائما بنفسه ليس بجسم ولا حال في الجسم وعلى كلا المذهبين فانه لا يبعد أنه لما مات البدن انفصل ذلك الشيء حيا وان قلنا أنه أماته الله الا أنه تعالى يعيد الحياة اليه وعلى هذا التقدير تزول الشبهات بالكلية عن ثواب القبر كما في هذه الآية وعن عذاب القبر كما في قوله أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً ( نوح 25 ) فثبت بما ذكرناه أنه لا امتناع في ذلك فظاهر الآية دال عليه فوجب المصير اليه والذي يأكد ما ذكرناه القرآن والحديث والعقل أما القرآن فآيات إحداها أَحَدٌ يأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّة ُ ارْجِعِى إِلَى رَبّكِ رَاضِيَة ً مَّرْضِيَّة ً فَادْخُلِى فِى عِبَادِى وَادْخُلِى جَنَّتِى ( الفجر 27 30 ) ولا شك أن المراد من قوله ارْجِعِى إِلَى رَبّكِ الموت ثم قال فَادْخُلِى فِى عِبَادِى وفاء التعقيب تدل على أن حصول هذه الحالة يكون عقيب الموت وهذا يدل على ما ذكرناه وثانيها حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرّطُونَ ( الأنعام 61 ) وهذا عبارة عن موت البدن

ثم قال ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقّ ( الأنعام 62 ) فقوله رُدُّواْ ضمير عنه وإنما هو بحياته وذاته المخصوصة فدل على أن ذلك باق بعد موت البدن وثالثها قوله فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّة ٍ نَعِيمٍ ( الواقعة 88 89 ) وفاء التعقيب تدل على أن هذا الروح والريحان والجنة حاصل عقيب الموت وأما الخبر فقوله عليه الصلاة والسلام ( من مات فقد قامت قيامته ) والفاء فاء التعقيب تدل على أن قيامة كل أحد حاصلة بعد موته وأما القيامة الكبرى فهي حاصلة في الوقت المعلوم عند الله وأيضا قوله عليه الصلاة والسلام ( القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار ) وأيضا روي أنه عليه الصلاة والسلام يوم بدر كان ينادي المقتولين ويقول ( هل وجدتم ما وعد ربكم حقا ) فقيل له يا رسول الله إنهم أموات فكيف تناديهم فقال عليه الصلاة والسلام ( إنهم أسمع منكم ) أو لفظاً هذا معناه وأيضاً قال عليه الصلاة والسلام ( أولياء الله لا يموتون ولكن ينقلون من دار إلى دار ) وكل ذلك يدل على أن النفوس باقية بعد موت الجسد
وأما المعقول فمن وجوه الأول وهو أن وقت النوم يضعف البدن وضعفه لا يقتضي ضعف النفس بل النفس تقوى وقت النوم فتشاهد الأحوال وتطلع على المغيبات فاذا كان ضعف البدن لا يوجب ضعف النفس فهذا يقوي الظن في أن موت البدن لا يستعقب موت النفس الثاني وهو أن كثرة الأفكار سبب لجفاف الدماغ وجفافه يؤدي الى الموت وهذه الأفكار سبب لاستكمال النفس بالمعارف الالهية وهو غاية كمال النفس فما هو سبب في كمال النفس فهو سبب لنقصان البدن وهذا يقوي الظن في أن النفس لا تموت بموت البدن الثالث أن أحوال النفس على ضد أحوال البدن وذلك لأن النفس انما تفرح وتبتهج بالمعارف الالهية والدليل عليه قوله تعالى أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ( الرعد 28 ) وقال عليه الصلاة والسلام ( أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني ) ولا شك أن ذلك الطعام والشراب ليس الا عبارة عن المعرفة والمحبة والاستنارة بأنوار عالم الغيب وأيضا فانا نرى أن الانسان إذا غلب عليه الاستبشار بخدمة سلطان أو بالفوز بمنصب أو بالوصول الى معشوقه قد ينسى الطعام والشراب بل يصير بحيث لو دعي الى الاكل والشرب لوجد من قلبه نفرة شديدة منه والعارفون المتوغلون في معرفة الله تعالى قد يجدون من أنفسهم أنهم إذا لاح لهم شيء من تلك الانوار وانكشف لهم شيء من تلك الاسرار لم يحسوا ألبتة بالجوع والعطش وبالجملة فالسعادة النفسانية كالمضادة للسعادة الجسمانية وكل ذلك يغلب على الظن أن النفس مستقلة بذاتها ولا تعلق لها بالبدن واذا كان كذلك وجب أن لا تموت النفس بموت البدن ولتكن هذه الاقناعيات كافية في هذا المقام
واعلم أنه متى تقررت هذه القاعدة زالت الاشكالات والشبهات عن كل ما ورد في القرآن من ثواب القبر وعذابه واذا عرفت هذه القاعدة فنقول قال بعض المفسرين أرواح الشهداء أحياء وهي تركع وتسجد كل ليلة تحت العرش الى يوم القيامة والدليل عليه ما روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( إذا نام العبد في سجوده باهى الله تعالى به ملائكته ويقول انظروا إلى عبدي روحه عندي وجسده في خدمتي
واعلم أن الآية دالة على ذلك وهي قوله أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ ولفظ ( عند ) فكما أنه مذكور ههنا فكذا في صفة الملائكة مذكور وهو قوله وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ ( الأنبياء 19 ) فاذا فهمت السعادة

الحاصلة للملائكة بكونهم عند الله فهمت السعادة الحاصلة للشهداء بكونهم عند الله وهذه كلمات تفتح على العقل أبواب معارف الآخرة
الوجه الثالث في تفسير هذه الآية عند من يثبت هذه الحياة للاجساد والقائلون بهذا القول اختلفوا فقال بعضهم انه تعالى يصعد أجساد هؤلاء الشهداء إلى السموات والى قناديل تحت العرش ويوصل أنواع السعادة والكرامات اليها ومنهم من قال يتركها في الأرض ويحييها ويوصل هذه السعادات اليها ومن الناس من طعن فيه وقال انا نرى أجساد هؤلاء الشهداء قد تأكلها السباع فاما أن يقال إن الله تعالى يحييها حال كونها في بطون هذه السباع ويوصل الثواب اليها أو يقال إن تلك الأجزاء بعد انفصالها من بطون السباع يركبها الله تعالى ويؤلفها ويرد الحياة اليها ويوصل الثواب اليها وكل ذلك مستبعد ولأنا قد نرى الميت المقتول باقيا أياما إلى أن تنفسخ أعضاؤه وينفصل القيح والصديد فان جوزنا كونها حية متنعمة عاقلة عارفة لزم القول بالسفسطة
الوجه الرابع في تفسير هذه الآية أن نقول ليس المراد من كونها أحياء حصول الحياة فيهم بل المراد بعض المجازات وبيانه من وجوه الأول قال الأصم البلخي إن الميت إذا كان عظيم المنزلة في الدين وكانت عاقبته يوم القيامة البهجة والسعادة والكرامة صح أن يقال إنه حي وليس بميت كما يقال في الجاهل الذي لا ينفع نفسه ولا ينتقع به أحد إنه ميت وليس بحي وكما يقال للبليد إنه حمار وللمؤذي إنه سبع وروي أن عبد الملك بن مروان لما رأى الزهري وعلم فقهه وتحقيقه قال له ما مات من خلف مثلك وبالجملة فلا شك أن الانسان إذا مات وخلف ثناء جميلا وذكرا حسنا فانه يقال على سبيل المجاز إنه ما مات بل هو حي الثاني قال بعضهم مجاز هذه الحياة أن أجسادهم باقية في قبورهم وانها لا تبلى تحت الأرض البتة واحتج هؤلاء بما روي أنه لما أراد معاوية أن يجري العين على قبور الشهداء أمر بأن ينادي من كان له قتيل فليخرجه من هذا الموضع قال جابر فخرجنا اليهم فأخرجناهم رطاب الأبدان فأصابت المسحاة أصبع رجل منهم فقطرت دما والثالث أن المراد بكونهم أحياء أنهم لا يغسلون كما تغسل الأموات فهذا مجموع ما قيل في هذه الآية والله أعلم بأسرار المخلوقات
المسألة الثالثة قال صاحب ( الكشاف ) وَلاَ تَحْسَبَنَّ الخطاب لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أو لكل أحد وقرىء بالياء وفيه وجوه أحدها ولا يحسبن رسول الله والثاني ولا يحسبن حاسب والثالث ولا يحسبن الذين قتلوا أنفسهم أمواتاً قال وقرىء تَحْسَبَنَّ بفتح السين وقرأ ابن عامر قَاتِلُواْ بالتشديد والباقون بالتخفيف
المسألة الرابعة قوله بَلْ أَحْيَاء قال الواحدي التقدير بل هم أحياء قال صاحب ( الكشاف ) قرىء أَحْيَاء بالنصب على معنى بل أحسبهم أحياء وأقول إن الزجاج قال ولو قرىء أَحْيَاء بالنصب لجاز على معنى بل أحسبهم أحياء وطعن أبو علي الفارسي فيه فقال لا يجوز ذلك لأنه أمر بالشك والأمر بالشك غير جائز على الله ولا يجوز تفسير الحسبان بالعلم لأن ذلك لم يذهب اليه أحد من علماء أهل اللغة وللزجاج أن يجيب فيقول الحسبان ظن لا شك فلم قلتم انه لا يجوز أن يأمر الله بالظن أليس أن تكليفه في جميع المجتهدات ليس إلا بالظن

وأقول هذه المناظرة من الزجاج وأبي علي الفارسي تدل على أنه ما قرىء أَحْيَاء بالنصب بل الزجاج كان يدعي أن لها وجها في اللغة والفارسي نازعه فيه وليس كل ما له وجه في الاعراب جازت القراءة به
أما قوله تعالى عِندَ رَبّهِمْ ففيه وجوه أحدها بحيث لا يملك لهم أحد نفعا ولا ضرا إلا الله تعالى والثاني هم أحياء عند ربهم أي هم أحياء في علمه وحكمه كما يقال هذا عند الشافعي كذا وعند أبي حنيفة بخلافه والثالث ان عِندَ معناه القرب والاكرام كقوله وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ( الأنبياء 19 ) وقوله الَّذِينَ عِندَ رَبّكَ ( الأعراف 206 )
أما قوله يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا ءاتَاهُمُ اللَّهُ فاعلم أن المتكلمين قالوا الثواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم فقوله يُرْزَقُونَ إشارة إلى المنفعة وقوله فَرِحِينَ إشارة إلى الفرح الحاصل بسبب ذلك التعظيم وأما الحكماء فانهم قالوا إذا أشرقت جواهر الأرواح القدسية بالأنوار الالهية كانت مبتهجة من وجهين أحدهما ان تكون ذواتها منيرة مشرقة متلألئة بتلك الجلايا القدسية والمعارف الالهية والثاني بكونها ناظرة إلى ينبوع النور ومصدر الرحمة والجلالة قالوا وابتهاجها بهذا القسم الثاني أتم من ابتهاجها بالأول فقوله يُرْزَقُونَ إشارة إلى الدرجة الأولى وقوله فَرِحِينَ إشارة إلى الدرجة الثانية ولهذا قال فَرِحِينَ بِمَا ءاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ يعني ان فرحهم ليس بالرزق بل بايتاء الرزق لأن المشغول بالرزق مشغول بنفسه والناظر إلى إيتاء الرزق مشغول بالرازق ومن طلب الحق لغيره فهو محجوب
ثم قال تعالى وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
واعلم أن قوله أَلاَّ خَوْفٌ في محل الخفض بدل من الَّذِينَ والتقدير ويستبشرون بأن لا خوف ولا حزن بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى الاستشار السرور الحاصل بالبشارة وأصل الاستفعال طلب الفعل فالمستبشر بمنزلة من طلب السرور فوجده بالبشارة
المسألة الثانية اعلم أن الذين سلموا كون الشهداء أحياء قبل قيام القيامة ذكروا لهذه الآية تأويلات أخر
أما الأول فهو أن يقال ان الشهداء يقول بعضهم لبعض تركنا إخواننا فلانا وفلانا في صف المقاتلة مع الكفار فيقتلون إن شاء الله فيصيبون من الرزق والكرامة ما أصبنا فهو قوله وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم
وأما الثاني فهو أن يقال ان الشهداء إذا دخلوا الجنة بعد قيام القيامة يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله والمراد بقوله لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مّنْ خَلْفِهِمْ هم إخوانهم من المؤمنين الذين ليس لهم مثل درجة الشهداء لأن الشهداء يدخلون الجنة قبلهم دليله قوله تعالى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجَاتٍ مّنْهُ وَمَغْفِرَة ً وَرَحْمَة ً ( النساء 95 96 ) فيفرحون بما يرون من مأوى المؤمنين والنعيم المعد لهم وبما يرجونه من الاجتماع بهم وتقر بذلك أعينهم هذا اختيار أبي مسلم الاصفهاني والزجاج
واعلم أن التأويل الأول أقوى من الثاني وذلك لأن حاصل الثاني يرجع الى استبشار بعض المؤمنين

ببعض بسبب اجتماعهم في الجنة وهذا أمر عام في حق كل المؤمنين فلا معنى لتخصيص الشهداء بذلك وأيضا فهم كما يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم فكذلك يستبشرون بمن تقدمهم في الدخول لأن منازل الأنبياء والصديقين فوق منازل الشهداء قال تعالى فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ النَّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ ( النساء 69 ) وعلى هذا التقدير لا يبقى فائدة في التخصيص أما إذا فسرنا الآية بالوجه الأول ففي تخصيص المجاهدين بهذه الخاصية أعظم الفوائد فكان ذلك أولى والله أعلم
المسألة الثالثة الخوف يكون بسبب توقع المكروه النازل في المستقبل والحزن يكون بسبب فوات المنافع التي كانت موجودة في الماضي فبين سبحانه أنه لا خوف عليهم فيما سيأتيهم من أحوال القيامة ولا حزن لهم فيما فاتهم من نعيم الدنيا
يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَة ٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى بين أنهم كما يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم على ما ذكر فهم يستبشرون لأنفسهم بما رزقوا من النعيم وانما أعاد لفظ يَسْتَبْشِرُونَ لأن الاستبشار الأول كان بأحوال الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم والاستبشار الثاني كان بأحوال أنفسهم خاصة
فان قيل أليس أنه ذكر فرحهم بأحوال أنفسهم والفرح عين الاستبشار
قلنا الجواب من وجهين الأول ان الاستبشار هو الفرح التام فلا يلزم التكرار والثاني لعل المراد حصول الفرح بما حصل في الحال وحصول الاستبشار بما عرفوا أن النعمة العظيمة تحصل لهم في الآخرة
المسألة الثانية قوله بِنِعْمَة ٍ مّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ النعمة هي الثواب والفضل هو التفضل الزائد
المسألة الثالثة الآية تدل على ان استبشارهم بسعادة اخوانهم أتم من استبشارهم بسعادة أنفسهم لأن الاستبشار الأول في الذكر هو بأحوال الاخوان وهذا تنبيه من الله تعالى على ان فرح الانسان بصلاح أحوال اخوانه ومتعلقيه يجب أن يكون أتم وأكمل من فرحه بصلاح أحوال نفسه
ثم قال وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ الكسائي وَأَنَّ اللَّهَ بكسر الألف على الاستئناف وقرأ الباقون بفتحها على معنى وبأن الله والتقدير يستبشرون بنعمة من الله وفضل وبأن الله لا يضيع أجر المؤمنين والقراءة الأولى أتم وأكمل لأن على هذه القراءة يكون الاستبشار بفضل الله وبرحمته فقط وعلى القراءة الثانية يكون الاستبشار بالفضل والرحمة وطلب الأجر ولا شك أن المقام الأول أكمل لأن كون العبد مشتغلا بطلب الله أتم من اشتغاله بطلب أجر عمله
المسألة الثانية المقصود من الآية بيان أن الذي تقدم من ايصال الثواب والسرور العظيم إلى الشهداء

ليس حكما مخصوصاً بهم بل كل مؤمن يستحق شيئا من الأجر والثواب فان الله سبحانه يوصل اليه ذلك الأجر والثواب ولا يضيعه ألبتة
المسألة الثالثة الآية عندنا دالة على العفو عن فساق أهل الصلاة لأنه بايمانه استحق الجنة فلو بقي بسبب فسقه في النار مؤبداً مخلداً لما وصل اليه أجر إيمانه فحينئذ يضيع أجر المؤمنين على إيمانهم وذلك خلاف الآية
الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَوْاْ أَجْرٌ عَظِيمٌ
اعلم أن الله تعالى مدح المؤمنين على غزوتين تعرف احداهما بغزوة حمراء الاسد والثانية بغزوة بدر الصغرى وكلاهما متصلة بغزوة أحد أما غزوة حمراء الاسد فهي المراد من هذه الآية على ما سنذكره ان شاء الله تعالى وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في محل الَّذِينَ وجوه الأول وهو قول الزجاج أنه رفع بالابتداء وخبره لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ الى آخر هذه الآية أن يكون محله هو الخفض على النعت للمؤمنين الثالث أن يكون نصبا على المدح
المسألة الثانية في سبب نزول هذه الآية قولان الأول وهو الأصح أن أبا سفيان وأصحابه لما انصرفوا من أحد وبلغوا الروحاء ندموا وقالوا إنا قتلنا أكثرهم ولم يبق منهم إلا القليل فلم تركناهم بل الواجب أن نرجع ونستأصلهم فهموا بالرجوع فبلغ ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأراد أن يرهب الكفار ويريهم من نفسه ومن أصحابه قوة فندب أصحابه الى الخروج في طلب أبي سفيان وقال لا أريد أن يخرج الآن معي إلا من كان معي في القتال فخرج الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) مع قوم من أصحابه قيل كانوا سبعين رجلا حتى بلغوا حمراء الأسد وهو من المدينة على ثلاثة أميال فألقى الله الرعب في قلوب المشركين فانهزموا وروي أنه كان فيهم من يحمل صاحبه على عنقه ساعة ثم كان المحمول يحمل الحامل ساعة أخرى وكان كل ذلك لاثخان الجراحات فيهم وكان فيهم من يتوكأ على صاحبه ساعة ويتوكأ عليه صاحبه ساعة والثاني قال أبو بكر الأصم نزلت هذه الآية في يوم أحد لما رجع الناس اليه ( صلى الله عليه وسلم ) بعد الهزيمة فشد بهم على المشركين حتى كشفهم وكانوا قد هموا بالمثلة فدفعهم عنها بعد أن مثلوا بحمزة فقذف الله في قلوبهم الرعب فانهزموا وصلى عليهم ( صلى الله عليه وسلم ) ودفنهم بدمائهم وذكروا أن صفية جاءت لتنظر الى أخيها حمزة فقال عليه الصلاة والسلام للزبير ردها لئلا تجزع من مثلة أخيها فقالت قد بلغني ما فعل به وذلك يسير في جنب طاعة الله تعالى فقال للزبير فدعها تنظر اليه فقالت خيرا واستغفرت له وجاءت امرأة قد قتل زوجها وأبوها وأخوها وابنها فلما رأت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهو حي قالت إن كل مصيبة بعدك هدر فهذا ما قيل في سبب نزول هذه

الآية وأكثر الروايات على الوجه الأول
المسألة الثالثة استجاب بمعنى أجاب ومنه قوله فَلْيَسْتَجِيبُواْ إِلَى ( البقرة 186 ) وقيل أجاب فعل الاجابة واستجاب طلب أن يفعل الاجابة لأن الأصل في الاستفعال طلب الفعل والمعنى أجابوا وأطاعوا الله في أوامره وأطاعوا الرسول من بعد ما أصابهم الجراحات القوية
أما قوله تعالى لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَوْاْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ففيه مسألتان
المسألة الأولى في قوله لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَوْاْ أَجْرٌ عَظِيمٌ وجوه الأول أَحْسَنُواْ دخل تحته الائتمار بجميع المأمورات وقوله وَاتَّقَوْاْ دخل تحته الانتهاء عن جميع المنهيات والمكلف عند هذين الأمرين يستحق الثواب العظيم الثاني أحسنوا في طاعة الرسول في ذلك الوقت واتقوا الله في التخلف عن الرسول وذلك يدل على أنه يلزمهم الاستجابة للرسول وإن بلغ الأمر بهم في الجراحات ما بلغ من بعد أن يتمكنوا معه من النهوض الثالث أحسنوا فيما أتوا به من طاعة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) واتقوا ارتكاب شيء من المنهيات بعد ذلك
المسألة الثانية قال صاحب الكشاف ( من ) في قوله لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ للتبيين لأن الذين استجابوا لله والرسول قد أحسنوا واتقوا كلهم لا بعضهم
الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُواْ بِنِعْمَة ٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُو ءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى هذه الآية نزلت في غزوة بدر الصغرى روى ابن عباس أن أبا سفيان لما عزم على أن ينصرف من المدينة إلى مكة نادى يا محمد موعدنا موسم بدر الصغرى فنقتتل بها إن شئت فقال عليه الصلاة والسلام لعمر قل بيننا وبينك ذلك إن شاء الله تعالى فلما حضر الأجل خرج أبو سفيان مع قومه حتى نزل بمر الظهران وألقى الله تعالى الرعب في قلبه فبدا له أن يرجع فلقي نعيم بن مسعود الأشجعي وقد قدم نعيم معتمرا فقال يا نعيم إني وعدت محمداً أن نلتقي بموسم بدر وإن هذا عام جدب ولا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر ونشرب فيه اللبن وقد بدا لي أن أرجع ولكن إن خرج محمد ولم أخرج زاد بذلك جراءة فاذهب إلى المدينة فثبطهم ولك عندي عشرة من الابل فخرج نعيم فوجد المسلمين يتجهزون فقال لهم ما هذا بالرأي أتوكم في دياركم وقتلوا أكثرهم فان ذهبتم اليهم لم يرجع منكم أحد فوقع هذا الكلام في قلوب قوم منهم فلما عرف الرسول عليه الصلاة والسلام ذلك قال ( والذي نفس محمد بيده لأخرجن

إليهم ولو وحدي ) ثم خرج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ومعه نحو من سبعين رجلا فيهم ابن مسعود وذهبوا إلى أن وصلوا إلى بدر الصغرى وهي ماء لبني كنانة وكانت موضع سوق لهم يجتمعون فيها كل عام ثمانية أيام ولم يلق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه أحدا من المشركين ووافقوا السوق وكانت معهم نفقات وتجارات فباعوا واشتروا أدماً وزبيباً وربحوا وأصابوا بالدرهم درهمين وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين ورجع أبو سفيان إلى مكة فسمى أهل مكة جيشه جيش السويق وقالوا إنما خرجتم لتشربوا السويق فهذا هو الكلام في سبب نزول هذه الآية
المسألة الثانية في محل الَّذِينَ وجوه أحدها أنه جر صفة للمؤمنين بتقدير والله لا يضيع أجر المؤمنين الذين قال لهم الناس الثاني أنه بدل من قوله لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الثالث أنه رفع بالابتداء وخبره فَزَادَهُمْ إِيمَاناً
المسألة الثالثة المراد بقوله الَّذِينَ من تقدم ذكرهم وهم الذين استجابوا لله والرسول وفي المراد بقوله قَالَ لَهُمُ النَّاسُ وجوه الأول أن هذا القائل هو نعيم بن مسعود كما ذكرناه في سبب نزول هذه الآية وإنما جاز إطلاق لفظ الناس على الانسان الواحد لأنه إذا قال الواحد قولا وله أتباع يقولون مثل قوله أو يرضون بقوله حسن حينئذ إضافة ذلك الفعل إلى الكل قال الله تعالى وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادرَأْتُمْ فِيهَا ( البقرة 72 ) وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَة ً ( البقرة 55 ) وهم لم يفعلوا ذلك وإنما فعله أسلافهم إلا أنه أضيف اليهم لمتابعتهم لهم على تصويبهم في تلك الأفعال فكذا ههنا يجوز أن يضاف القول إلى الجماعة الراضين بقول ذلك الواحد الثاني وهو قول ابن عباس ومحمد بن إسحاق أن ركبا من عبد القيس مروا بأبي سفيان فدسهم إلى المسلمين ليجبنوهم وضمن لهم عليه جعلا الثالث قال السدي هم المنافقون قالوا للمسلمين حين تجهزوا للمسير إلى بعد لميعاد أبي سفيان القوم قد أتوكم في دياركم فقتلوا الأكثرين منكم فان ذهبتهم إليهم لم يبق منكم أحد
المسألة الرابعة قوله تعالى إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ المراد بالناس هو أبو سفيان وأصحابه ورؤساء عسكره وقوله قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ أي جمعوا لكم الجموع فحذف المفعول لأن العرب تسمي الجيش جمعا ويجمعونه جموعا وقوله فَاخْشَوْهُمْ أي فكونوا خائفين منهم ثم انه تعالى أخبر أن المسلمين لما سمعوا هذا الكلام لم يلتفتوا اليه ولم يقيموا له وزنا فقال تعالى فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وفيه مسائل
المسألة الأولى الضمير في قوله فَزَادَهُمُ إلى ماذا يعود فيه قولان الأول عائد إلى الذين ذكروا هذه التخويفات والثاني أنه عائد إلى نفس قولهم والتقدير فزادهم ذلك القول إيمانا وإنما حسنت هذه الاضافة لأن هذه الزيادة في الايمان لما حصلت عند سماع هذا القول حسنت إضافتها إلى هذا القول وإلى هذا القائل ونظيره قوله تعالى فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِى إِلاَّ فِرَاراً ( نوح 6 ) وقوله تعالى فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً ( فاطر 42 )
المسألة الثانية المراد بالزيادة في الايمان أنهم لما سمعوا هذا الكلام المخوف لم يلتفتوا اليه بل حدث في قلوبهم عزم متأكد على محاربة الكفار وعلى طاعة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في كل ما يأمر به وينهي عنه ثقل

ذلك أو خف لأنه قد كان فيهم من به جراحات عظيمة وكانوا محتاجين إلى المداوة وحدث في قلوبهم وثوق بأن الله ينصرهم على أعدائهم ويؤيدهم في هذه المحاربة فهذا هو المراد من قوله تعالى فَزَادَهُمْ إِيمَاناً
المسألة الثالثة الذين يقولون ان الايمان عبارة لا عن التصديق بل عن الطاعات وإنه يقبل الزيادة والنقصان احتجوا بهذه الآية فانه تعالى نص على وقوع الزيادة والذين لا يقولون بهذا القول قالوا الزيادة إنما وقعت في مراتب الايمان وفي شعائره فصح القول بوقوع الزيادة في الايمان مجازا
المسألة الرابعة هذه الواقعة تدل دلالة ظاهرة على أن الكل بقضاء الله وقدره وذلك لأن المسلمين كانوا قد انهزموا من المشركين يوم أحد والعادة جارية بأنه إذا انهزم أحد الخصمين عن الآخر فانه يحصل في قلب الغالب قوة وشدة استيلاء وفي قلب المغلوب انكسار وضعف ثم انه سبحانه قلب القضية ههنا فأودع قلوب الغالبين وهم المشركون الخوف والرعب وأودع قلوب المغلوبين القوة والحمية والصلابة وذلك يدل على أن الدواعي والصوارف من الله تعالى وإنها متى حدثت في القلوب وقعت الأفعال على وفقها
ثم قال تعالى وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ والمراد أنهم كلما ازدادوا إيمانا في قلوبهم أظهروا ما يطابقه فقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل قال ابن الانباري حَسْبُنَا اللَّهُ أي كافينا الله ومثله قول امرىء القيس
وحسبك من غنى شبع وري
أي يكفيك الشبع والري وأما ( الوكيل ) ففيه أقوال أحدها أنه الكفيل قال الشاعر
ذكرت أبا أروى فبت كأنني برد الأمور الماضيات وكيل
اراد كأنني برد الأمور كفيل الثاني قال الفراء الوكيل الكافي والذي يدل على صحة هذا القول أن ( نعم ) سبيلها أن يكون الذي بعدها موافقاً للذي قبلها تقول رازقنا الله ونعم الرازق وخالقنا الله ونعم الخالق وهذا أحسن من قول من يقول خالقنا الله ونعم الرازق فكذا ههنا تقدير الآية يكفينا الله ونعم الكافي الثالث الوكيل فعيل بمعنى مفعول وهو الموكول اليه والكافي والكفيل يجوز أن يسمى وكيلا لأن الكافي يكون الأمر موكولا إليه وكذا الكفيل يكون الأمر موكولا إليه
ثم قال تعالى فَانْقَلَبُواْ بِنِعْمَة ٍ مّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وذلك أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) خرج والمعنى وخرجوا فانقلبوا فحذف الخروج لأن الانقلاب يدل عليه كقوله أَنِ اضْرِب بّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ ( الشعراء 63 ) أي فضرب فانفلق وقوله بِنِعْمَة ٍ مّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ قال مجاهد والسدي النعمة ههنا العافية والفضل التجارة وقيل النعمة منافع الدنيا والفضل ثواب الآخرة وقوله لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء لم يصبهم قتل ولا جراح في قول الجميع وَاتَّبَعُواْ رِضْوانَ اللَّهِ في طاعة رسوله وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ قد تفضل عليهم بالتوفيق فيما فعلوا وفي ذلك إلقاء الحسرة في قلوب المتخلفين عنهم وإظهار لخطأ رأيهم حيث حرموا أنفسهم مما فاز به هؤلاء وروي أنهم قالوا هل يكون هذا غزوا فأعطاهم الله ثواب الغزو ورضي عنهم

واعلم أن أهل المغازي اختلفوا فذهب الواقدي إلى تخصيص الآية الأولى بواقعة حمراء الأسد والآية الثانية ببدر الصغرى ومنهم من يجعل الآيتين في وقعة بدر الصغرى والأول أولى لأن قوله تعالى مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ كأنه يدل على قرب عهد بالقرح فالمدح فيه أكثر من المدح على الخروج على العدو من وقت إصابة القرح لمسه والقول الآخر أيضا محتمل والقرح على هذا القول يجب أن يفسر بالهزيمة فكأنه قيل إن الذين انهزموا ثم أحسنوا الأعمال بالتوبة واتقوا الله في سائر أمورهم ثم استجابوا لله وللرسسول عازمين على الثواب موطنين أنفسهم على لقاء العدو بحيث لما بلغهم كثرة جموعهم لم يفتروا ولم يفشلوا وتوكلوا على الله ورضوا به كافياً ومعيناً فلهم أجر عظيم لا يحجبهم عنه ما كان منهم من الهزيمة إذ كانوا قد تابوا عنها والله أعلم
إِنَّمَا ذالِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ
اعلم أن قوله الشَّيْطَانِ خبر ذالِكُمْ بمعنى انما ذلكم المثبط هو الشيطان كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ جملة مستأنفة بيان لتثبيطه أو الشَّيْطَانِ صفة لاسم الاشارة و يُخَوّفُ الخبر والمراد بالشيطان الركب وقيل نعيم بن مسعود وسمي شبطاناً لعتوه وتمرده في الكفر كقوله شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنّ ( الأنعام 112 ) وقيل هو الشيطان يخوف بالوسوسة
أما قوله تعالى يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ ففيه سؤال وهو أن الذين سماهم الله بالشيطان إنما خوفوا المؤمنين فما معنى قوله الشَّيْطَانُ يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ والمفسرون ذكروا فيه ثلاثة أوجه الأول تقدير الكلام ذلكم الشيطان يخوفكم بأوليائه فحذف المفعول الثاني وحذف الجار ومثال حذف المفعول الثاني قوله تعالى فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِى اليَمّ ( القصص 7 ) أي فاذا خفت عليه فرعون ومثال حذف الجار قوله تعالى لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا ( الكهف 2 ) معناه لينذركم ببأس وقوله لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاَقِ ( غافر 15 ) أي لينذركم بيوم التلاق وهذا قول الفراء والزجاج وأبي علي قالوا ويدل عليه قراءة أبي بن كعب يخوفكم بأوليائه
القول الثاني أن هذا على قول القائل خوفت زيدا عمرا وتقدير الآية يخوفكم أولياءه فحذف المفعول الأول كما تقول أعطيت الأموال أي أعطيت القوم الأموال قال ابن الانباري وهذا أولى من ادعاء جار لا دليل عليه وقوله عِوَجَا قَيِّماً لِّيُنْذِرَ بَأْسًا أي لينذركم بأساً وقوله لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاَقِ أي لينذركم يوم التلاق والتخويف يتعدى إلى مفعولين من غير حرف جر تقول خاف زيد القتال وخوفته القتال وهذا الوجه يدل عليه قراءة ابن مسعود كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ
القول الثالث أن معنى الآية يخوف أولياءه المنافقين ليقعدوا عن قتال المشركين والمعنى الشيطان يخوف أولياءه الذين يطيعونه ويؤثرون أمره فأما أولياء الله فانهم لا يخافونه إذا خوفهم ولا ينقادون لأمره ومراده منهم وهذا قول الحسن والسدي فالقول الأول فيه محذوفان والثاني فيه محذوف واحد والثالث لا حذف فيه وأما الأولياء فهم المشركون والكفار وقوله فَلاَ تَخَافُوهُمْ الكناية في القولين الأولين عائدة

إلى الأولياء وفي القول الثالث عائدة إلى النَّاسِ في قوله إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ ( آل عمران 173 ) فَلاَ تَخَافُوهُمْ فتقعدوا عن القتال وتجنبوا وَخَافُونِ فجاهدوا مع رسولي وسارعوا إلى ما يأمركم به إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ يعني أن الايمان يقتضي أن تؤثروا خوف الله على خوف الناس
وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِى الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِى الاٌّ خِرَة ِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
فيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع يَحْزُنكَ بضم الياء وكسر الزاي وكذلك في جميع ما في القرآن إلا قوله لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاْكْبَرُ ( الأنبياء 103 ) في سورة الأنبياء فانه فتح الياء وضم الزاي والباقون كلهم بفتح الياء وضم الزاي قال الازهري اللغة الجيدة حزنه يحزنه على ما قرأ به أكثر القراء وحجة نافع أنهما لغتان يقال حزن يحزن كنصر ينصر وأحزن يحزن كأكرم يكرم لغتان
المسألة الثانية اختلفوا في سبب نزول الآية على وجوه الأول أنها نزلت في كفار قريش والله تعالى جعل رسوله آمنا من شرهم والمعنى لا يحزنك من يسارع في الكفر بأن يقصد جمع العساكر لمحاربتك فانهم بهذا الصنيع إنما يضرون أنفسهم ولا يضرون الله ولا بد من حمل ذلك على أنهم لن يضروا النبي وأصحابه من المؤمنين شيئا واذا حمل على ذلك فلا بد من حمله على ضرر مخصوص لأن من المشهور أنهم بعد ذلك ألحقوا أنواعا من الضرر بالنبي عليه الصلاة والسلام والأولى أن يكون ذلك محمولا على أن مقصودهم من جمع العساكر إبطال هذا الدين وإزالة هذه الشريعة وهذا المقصود لا يحصل لهم بل يضمحل أمرهم وتزول شوكتهم ويعظم أمرك ويعلو شأنك الثاني أنها نزلت في المنافقين ومسارعتهم هي أنهم كانوا يخوفون المؤمنين بسبب وقعة أحد ويؤيسونهم من النصرة والظفر أو بسبب أنهم كانوا يقولون ان محمداً طالب ملك فتارة يكون الأمر له وتارة عليه ولو كان رسولا من عند الله ما غلب وهذا كان ينفر المسلمين عن الإسلام فكان الرسول يحزن بسببه قال بعضهم ان قوما من الكفار أسلموا ثم ارتدوا خوفا من قريش فوقع الغم في قلب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بذلك السبب فانه عليه السلام ظن أنهم بسبب تلك الردة يلحقون به مضرة فبين الله أن ردتهم لا تؤثر في لحوق ضرر بك قال القاضي ويمكن أن يقوي هذا الوجه بأمور الأول أن المستمر على الكفر لا يوصف بانه يسارع في الكفر وإنما يوصف بذلك من يكفر بعد الايمان الثاني أن إرادته تعالى أن لا يجعل لهم حظاً في الآخرة لا يليق إلا بمن قد آمن فاستوجب ذلك ثم أحبط الثالث أن الحزن إنما يكون على فوات أمر مقصود فلما قدر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الانتفاع بايمانهم ثم كفروا حزن ( صلى الله عليه وسلم ) عند ذلك لفوات التكثير بهم فآمنه الله من ذلك وعرفه أن وجود إيمانهم كعدمه في أن أحواله لا تتغير
القول الرابع أن المراد رؤساء اليهود كعب بن الأشرف وأصحابه الذين كتموا صفة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لمتاع

الدنيا قال القفال رحمه الله ولا يبعد حمل الآية على جميع أصناف الكفار بدليل قوله تعالى قَدِيرٌ يأَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِى الْكُفْرِ إلى قوله وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ ( المائدة 41 ) فدلت هذه الآية على أن حزنه كان حاصلا من كل هؤلاء الكفار
المسألة الثالثة في الآية سؤال وهو أن الحزن على كفر الكافر ومعصية العاصي طاعة فكيف نهى الله عن الطاعة
والجواب من وجهين الأول أنه كان يفرط ويسرف في الحزن على كفر قومه حتى كاد يؤدي ذلك إلى لحوق الضرر به فنهاه الله تعالى عن الاسراف فيه ألا ترى إلى قوله تعالى فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ ( فاطر 8 ) الثاني أن المعنى لا يحزنوك بخوف أن يضروك ويعينوا عليك ألا ترى إلى قوله إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئاً يعني أنهم لا يضرون بمسارعتهم في الكفر غير أنفسهم ولا يعود وبال ذلك على غيرهم ألبتة
ثم قال إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئاً والمعنى أنهم لن يضروا النبي وأصحابه شيئاً وقال عطاء يريد لن يضروا أولياء الله شيئاً
ثم قال تعالى يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِى الاْخِرَة ِ وفيه مسائل
المسألة الأولى أنه رد على المعتزلة وتنصيص على أن الخير والشر بارادة الله تعالى قال القاضي المراد أنه يريد الاخبار بذلك والحكم به
واعلم أن هذا الجواب ضعيف من وجهين الأول أنه عدول عن الظاهر والثاني بتقدير أن يكون الأمر كما قال لكن الاتيان بضد ما أخبر الله عنه وحكم به محال فيعود الاشكال
المسألة الثانية قالت المعتزلة الارادة لا تتعلق بالعدم وقال أصحابنا ذلك جائز والآية دالة على قول أصحابنا لأنه قال يُرِيدُ اللَّهُ أَن لا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِى الاْخِرَة ِ فبين أن إرادته متعلقة بهذا العدم قالت المعتزلة المعنى أنه تعالى ما أراد ذلك كما قال وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ( البقرة 185 ) قلنا هذا عدول عن الظاهر
المسألة الثالثة الآية تدل على أن النكرة في موضع النفي تعم إذ لو لم يحصل العموم لم يحصل تهديد الكفار بهذه الآية ثم قال وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ وهذا كلام مبتدأ والمعنى أنه كما لاحظ لهم البتة من منافع الآخرة فلهم الحظ العظيم من مضار الآخرة
إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئاً وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
اعلم أنا لو حملنا الآية الأولى على المنافقين واليهود وحملنا هذه الآية على المرتدين لا يبعد أيضا حمل الآية الأولى على المرتدين وحمل هذه الآية على اليهود ومعنى اشتراء الكفر بالايمان منهم أنهم كانوا يعرفون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ويؤمنون به قبل مبعثه ويستنصرون به على أعدائهم فلما بعث كفروا به وتركوا ما

كانوا عليه فكأنهم أعطوا الايمان وأخذوا الكفر بدلا عنه كما يفعل المشتري من إعطاء شيء وأخذ غيره بدلا عنه ولا يبعد أيضا حمل هذه الآية على المنافقين وذلك لأنهم متى كانوا مع المؤمنين أظهروا الايمان فاذا خلوا إلى شياطينهم كفروا وتركوا الايمان فكان ذلك كأنهم اشتروا الكفر بالايمان
واعلم أنه تعالى قال في الآية الأولى إِنَّ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِى الْكُفْرِ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئاً ( آل عمران 176 ) وقال في هذه الآية إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالإيمَانِ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئاً والفائدة في هذا التكرار أمور أحدها أن الذين اشتروا الكفر بالايمان لا شك أنهم كانوا كافرين أولا ثم آمنوا ثم كفروا بعد ذلك وهذا يدل على شدة الاضطراب وضعف الرأي وقلة الثبات ومثل هذا الانسان لا خوف منه ولا هيبة له ولا قدرة له البتة على الحاق الضرر بالغير وثانيها أن أمر الدين أهم الأمور وأعظمها ومثل هذا مما لا يقدم الانسان فيه على الفعل أو على الترك إلا بعد إمعان النظر وكثرة الفكر وهؤلاء يقدمون على الفعل أو على الترك في مثل هذا المهم العظيم بأهون الأسباب وأضعف الموجبات وذلك يدل على قلة عقلهم وشدة حماقتهم فامثال هؤلاء لا يلتفت العاقل اليهم وثالثها ان أكثرهم إنما ينازعونك في الدين لا بناء على الشبهات بل بناء على الحسد والمنازعة في منصب الدنيا ومن كان عقله هذا القدر وهو أنه يبيع بالقليل من الدنيا السعادة العظيمة في الآخرة كان في غاية الحماقة ومثله لا يقدر في إلحاق الضرر بالغير فهذا هو الفائدة في إعادة هذه الآية والله أعلم بمراده
وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لاًّنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ
اعلم أنه تعالى حكى عن الذين ذهبوا إلى المدينة لتثبيط أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنهم إنما ثبطوهم لأنهم خوفوهم بأن يقتلوا كما قتل المسلمون يوم أحد والله تعالى بين أن أقوال هؤلاء الشياطين لا يقبلها المؤمن ولا يلتفت اليها وإنما الواجب على المؤمن أن يعتمد على فضل الله ثم بين في هذه الآية أن بقاء هؤلاء المتخلفين ليس خيرا من قتل أولئك الذين قتلوا بأحد لأن هذا البقاء صار وسيلة الى الخزي في الدنيا والعقاب الدائم في القيامة وقتل أولئك الذين قتلوا يوم أحد صار وسيلة إلى الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في الآخرة فترغيب أولئك المثبطين في مثل هذه الحياة وتنفيرهم عن مثل ذلك القتل لا يقبله إلا جاهل فهذا بيان وجه النظم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير وأبو عمرو وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ ( آل عمران 18 ) لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ ( آل عمران 188 ) في الأربعة بالتاء وضم الباء في قوله تَحْسَبَنَّهُمْ وقرأ نافع وابن عامر بالياء إلا قوله فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ فانه بالتاء وقرأ حمزة كلها بالتاء واختلاف القراء في فتح السين وكسرها قدمناه في سورة البقرة أما الذين قرأوا بالياء المنقطة من تحت

فقوله يَحْسَبَنَّ فعل وقوله الَّذِينَ كَفَرُواْ فاعل يقتضي مفعولين أو مفعولا يسد مسد مفعولين نحو حسبت وقوله حسبت أن زيدا منطلق وحسبت أن يقوم عمرو فقوله في الآية أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لاِنفُسِهِمْ يسد مسد المفعولين ونظيره قوله تعالى أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ ( الفرقان 44 ) وأما قراءة حمزة بالتاء المنقطة من فوق فأحسن ما قيل فيه ما ذكره الزجاج وهو أن الَّذِينَ كَفَرُواْ نصب بأنه المفعول الاول و أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ بدل عنه و خَيْرٌ لاِنفُسِهِمْ هو المفعول الثاني والتقدير ولا تحسبن يا محمد إملاء الذين كفروا خيرا لهم ومثله مما جعل ( أن ) مع الفعل بدلا من المفعول قوله تعالى وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ ( الأنفال 7 ) فقوله أَنَّهَا لَكُمْ بدل من إحدى الطائفتين
المسألة الثانية ( ما ) في قوله إِنَّمَا يحتمل وجهين أحدهما أن يكون بمعنى الذي فيكون التقدير لا تحسبن الذين كفروا أن الذين نمليه خير لأنفسهم وحذف الهاء من ( نملي ) لأنه يجوز حذف الهاء من صلة الذي كقولك الذي رأيت زيد والآخر أن يقال ( ما ) مع ما بعدها في تقدير المصدر والتقدير لا تحسبن الذين كفروا أن إملائي لهم خير
المسألة الثالثة قال صاحب ( الكشاف ) ( ما ) مصدرية وإذا كان كذلك فكان حقها في قياس علم الخط أن تكتب مفصولة ولكنها وقعت في مصحف عثمان متصلة واتباع خط المصاحف لذلك المصحف واجب وأما في قوله أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ فههنا يجب أن تكون متصلة لانها كافة بخلاف الأولى
المسألة الرابعة معنى ( نملي ) نطيل ونؤخر والاملاء الامهال والتأخير قال الواحدي رحمه الله واشتقاقه من الملوة وهي المدة من الزمان يقال ملوت من الدهر ملوة وملوة وملاوة وملاوة بمعنى واحد قال الاصمعي يقال أملى عليه الزمان أي طال وأملى له أي طول له وأمهله قال أبو عبيدة ومنه الملا للأرض الواسعة الطويلة والملوان الليل والنهار
المسألة الخامسة احتج أصحابنا بهذه الآية في مسألة القضاء والقدر من وجوه الأول أن هذا الاملاء عبارة عن اطالة المدة وهي لا شك أنها من فعل الله تعالى والآية نص في بيان أن هذا الاملاء ليس بخير وهذا يدل على أنه سبحانه فاعل الخير والشر الثاني أنه تعالى نص على أن المقصود من هذا الاملاء هو أن يزدادوا الاثم والبغي والعدوان وذلك يدل على أن الكفر والمعاصي بارادة الله ثم إنه تعالى أكد ذلك بقوله وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ أي إنما نملي لهم ليزدادوا إثما وليكون لهم عذاب مهين الثالث أنه تعالى أخبر عنهم أنهم لا خير لهم في هذا الاملاء أنهم لا يحصلون إلا على ازدياد البغي والطغيان والاتيان بخلاف مخبر الله تعالى مع بقاء ذلك الخير جمع بين النقيضين وهو محال وإذا لم يكونوا قادرين مع ذلك الاملاء على الخير والطاعة مع أنهم مكلفون بذلك لزم في نفسه بطلان مذهب القوم قالت المعتزلة
أما الوجه الأول فليس المراد من هذه الآية أن هذا الاملاء ليس بخير إنما المراد أن هذا الاملاء ليس خيرا لهم من أن يموتوا كما مات الشهداء يوم أحد لأن كل هذه الآيات في شأن أحد وفي تثبيط المنافقين المؤمنين عن الجهاد على ما تقدم شرحه في الآيات المتقدمة فبين تعالى أن إبقاء الكافرين في الدنيا وإملاءه لهم ليس بخير لهم من أن يموتوا كموت الشهداء ولا يلزم من نفي كون هذا الاملاء أكثر خيرية من ذلك القتل أن لا يكون هذا الاملاء في نفسه خيرا

وأما الوجه الثاني فقد قالوا ليس المراد من الآية أن الغرض من الاملاء إقدامهم على الكفر والفسق بدليل قوله تعالى وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( الذاريات 56 ) وقوله وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ( النساء 64 ) بل الآية تحتمل وجوها من التأويل أحدها أن تحمل هذه اللام على لام العاقبة كقوله تعالى فَالْتَقَطَهُ ءالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً ( القصص 8 ) وقوله وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ ( الأعراف 179 ) وقوله وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا لّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ ( إبراهيم 30 ) وهم ما فعلوا ذلك لطلب الاضلال بل لطلب الاهتداء ويقال ما كانت موعظتي لك إلا لزيادة في تماديك في الفسق إذا كانت عاقبة الموعظة ذلك وثانيها أن يكون الكلام على التقديم والتأخير والتقدير ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم ليزدادوا إثما إنما نملي لهم خير لأنفسهم وثالثها أنه تعالى لما أمهلهم مع علمه بأنهم لا يزدادون عند هذا الامهال إلا تماديا في الغي والطغيان أشبه هذا حال من فعل الاملاء لهذا الغرض والمشابهة أحد أسباب حسن المجاز ورابعها وهو السؤال الذي ذكرته للقوم وهو أن اللام في قوله لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً غير محمول على الغرض باجماع الأمة أما على قول أهل السنة فلأنهم يحيلون تعليل أفعال الله بالأغراض وأما على قولنا فلأنا لا نقول بأن فعل الله معلل بغرض التعب والايلام بل عندنا أنه تعالى لم يفعل فعلا إلا لغرض الاحسان واذا كان كذلك فقد حصل الاجماع على أن هذه اللام غير محمولة على التعليل والغرض وعند هذا يسقط ما ذكرتم من الاستدلال ثم بعد هذا قول القائل ما المراد من هذه اللام غير ملتفت اليه لأن المستدل إنما بنى استدلاله على أن هذه اللام للتعليل فاذا بطل ذلك سقط استدلاله
وأما الوجه الثالث وهو الاخبار والعلم فهو معارض بأن هذا لو منع العبد من الفعل لمنع الله منه ويلزم أن يكون الله موجباً لا مختارا وهو بالاجماع باطل
والجواب عن الأول أن قوله وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ معناه نفي الخيرية في نفس الأمر وليس معناه أنه ليس خيرا من شيء آخر لأن بناء المبالغة لا يجوز ذكره إلا عند ذكر الراجح والمرجوح فلما لم يذكر الله ههنا إلا أحد الأمرين عرفنا أنه لنفي الخيرية لا لنفي كونه خيرا من شيء آخر
وأما السؤال الثاني وهو تمسكهم بقوله وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ وبقوله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ ( النساء 64 )
فجوابه أن الآية التي تمسكنا بها خاص والآية التي ذكرتموها عام والخاص مقدم على العام
وأما السؤال الثالث وهو حمل اللام على لام العاقبة فهو عدول عن الظاهر وأيضاً فان البرهان العقلي يبطله لأنه تعالى لما علم أنهم لا بد وأن يصيروا موصوفين بازدياد الغي والطغيان كان ذلك واجب الحصول لأن حصول معلوم الله واجب وعدم حصوله محال وإرادة المحال محال فيمتنع أن يريد منهم الايمان ويجب أن يريد منهم ازدياد الغي والطغيان وحينئذ ثبت أن المقصود هو التعليل وأنه لا يجوز المصير إلى لام العاقبة
وأما السؤال الرابع وهو التقديم والتأخير
فالجواب عنه من ثلاثة أوجه أحدها أن التقديم والتأخير ترك للظاهر وثانيها قال الواحدي

رحمه الله هذا إنما يحسن لو جازت قراءة أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لاِنفُسِهِمْ بكسر ( إنما ) وقراءة إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً بالفتح ولم توجد هذه القراءة ألبتة وثالثها أنا بينا بالبرهان القاطع العقلي أنه يجب أن يكون مراد الله من هذا الاملاء حصول الطغيان لا حصول الايمان فالقول بالتقديم والتأخير ترك للظاهر والتزام لما هو على خلاف البرهان القاطع
وأما السؤال الخامس وهو قوله هذه اللام لا يمكن حملها على التعليل
فجوابه أن عندنا يمتنع تعليل أفعال الله لغرض يصدر من العباد فأما أن يفعل تعالى فعلا ليحصل منه شيء آخر فهذا غير ممتنع وأيضاً قوله إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً تنصيص على أنه ليس المقصود من هذا الاملاء إيصال الخير لهم والاحسان اليهم والقوم لا يقولون بذلك فتصير الآية حجة عليهم من هذا الوجه
وأما السؤال السادس وهو المعارضة بفعل الله تعالى
فالجواب أن تأثير قدرة الله في إيجاد المحدثات متقدم على تعلق علمه بعدمه فلم يمكن أن يكون العلم مانعاً عن القدرة أما في حق العبد فتأثير قدرته في إيجاد الفعل متأخر عن تعلق علم الله بعدمه فصلح أن يكون هذا العلم مانعاً للعبد عن الفعل فهذا تمام المناظرة في هذه الآية
المسألة السادسة اتفق أصحابنا أنه ليس لله تعالى في حق الكافر شيء من النعم الدينية وهل له في حقه شيء من النعم الدنيوية اختلف فيه قول أصحابنا فالذين قالوا ليس له في حقه شيء من النعم الدنيوية تمسكوا بهذه الآية وقالوا هذه الآية دالة على أن أطالة العمر وإيصاله الى مراداته في الدنيا ليس شيء منها نعمة لانه تعالى نص على أن شيئاً من ذلك ليس بخير والعقل أيضا يقرره وذلك لان من أطعم إنسانا خبيصا مسموما فانه لا يعد ذلك الا طعام إنعاما فاذا كان المقصود من إعطاء نعم الدنيا عقاب الآخرة لم يكن شيء منها نعمة حقيقة وأما الآيات الواردة في تكثير النعم في حق الكفار فهي محمولة على ما يكون نعما في الظاهر وانه لا طريق إلى التوفيق بين هذه الآية وبين تلك الآيات الا أن نقول تلك النعم نعم في الظاهر ولكنها نقم وآفات في الحقيقة والله أعلم
مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِى مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ فَأامِنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ
اعلم أن هذه الآية من بقية الكلام في قصة أحد فأخبر تعالى ان الاحوال التي وقعت في تلك الحادثة من القتل والهزيمة ثم دعاء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) اياهم مع ما كان بهم من الجراحات الى الخروج لطلب العدو ثم دعائه اياهم مرة أخرى الى بدر الصغرى لموعد أبي سفيان فأخبر تعالى أن كل هذه الأحوال

صار دليلا على امتياز المؤمن من المنافق لان المنافقين خافوا ورجعوا وشمتوا بكثرة القتلى منكم ثم ثبطوا وزهدوا المؤمنين عن العود الى الجهاد فأخبر سبحانه وتعالى أنه لا يجوز في حكمته أن يذركم على ما أنتم عليه من اختلاط المنافقين بكم وإظهارهم أنهم منكم ومن أهل الايمان بل كان يجب في حكمته إلقاء هذه الحوادث والوقائع حتى يحصل هذا الامتياز فهذا وجه النظم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ بالتشديد وكذلك في الافعال والباقون يَمِيزَ بالتخفيف وفتح الياء الأولى وكسر الميم وسكون الياء الأخيرة قال الواحدي رحمه الله وهما لغتان يقال مزت الشيء بعضه من بعض فأنا أميزه ميزا او أميزه تمييزاً ومنه الحديث ( من ماز أذى عن طريق فهو له صدقة ) وحجة من قرأ بالتخفيف وفتح الباء أن الميز يفيد فائدة التمييز وهو أخف في اللفظ فكان أولى وحكى أبو زيد عن أبي عمرو أنه كان يقول التشديد للكثرة فاما واحد من واحد فيميز بالتخفيف والله تعالى قال حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيّبِ فذكر شيئين وهذا كما قال بعضهم في الفرق والتفريق وأيضا قال تعالى وَامْتَازُواْ الْيَوْمَ ( ي س 59 ) وهو مطاوع الميز وحجة من قرأ بالتشديد أن التشديد للتكثير والمبالغة وفي المؤمنين والمنافقين كثرة فلفظ التمييز ههنا أولى ولفظ الطيب والخبيث وان كان مفردا إلا أنه للجنس فالمراد بهما جميع المؤمنين والمنافقين لا اثنان منهما
المسألة الثانية قد ذكرنا أن معنى الآية ما كان الله ليذركم يا معشر المؤمنين على ما أنتم عليه من اختلاط المؤمن بالمنافق واشباهه حتى يميز الخبيث من الطيب أي المنافق من المؤمن واختلفوا بأي شيء ميز بينهم وذكروا وجوها أحدها بالقاء المحن والمصائب والقتل والهزيمة فمن كان مؤمنا ثبت على إيمانه وعلى تصديق الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ومن كان منافقا ظهر نفاقه وكفره وثانيها أن الله وعد بنصرة المؤمنين وإذلال الكافرين فلما قوي الإسلام عظمت دولته وذل الكفر وأهله وعند ذلك حصل هذا الامتياز وثالثها القرائن الدالة على ذلك مثل ان المسلمين كانوا يفرحون بنصرة الإسلام وقوته والمنافقين كانوا يغتمون بسبب ذلك
المسألة الثالثة ههنا سأل وهو أن هذا التمييز إن ظهر وانكشف فقد ظهر كفر المنافقين وظهور الكفر منهم ينفي كونهم منافقين وان لم يظهر لم يحصل موعود الله
وجوابه أنه ظهر بحيث يفيد الامتياز الظني لا الامتياز القطعي
ثم قال تعالى وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ معناه أنه سبحانه حكم بأن يظهر هذا التمييز ثم بين بهذه الآية أنه لا يجوز أن يحصل ذلك التمييز بأن يطلعكم الله على غيبه فيقول إن فلانا منافق وفلانا مؤمن وفلانا من أهل الجنة وفلانا من أهل النار فان سنة الله جارية بأنه لا يطلع عوام الناس على غيبه بل لا سبيل لكم الى معرفة ذلك الامتياز إلا بالامتحانات مثل ما ذكرنا من وقوع المحن والآفات حتى يتميز عندها الموافق من المنافق فأما معرفة ذلك على سبيل الاطلاع من الغيب فهو من خواص الأنبياء فلهذا قال وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِى مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء أي ولكن الله يصطفى من رسله من يشاء فخصهم باعلامهم أن هذا مؤمن وهذا منافق ويحتمل ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء فيمتحن خلقه بالشرائع على أيديهم حتى يتميز الفريقان بالامتحان ويحتمل أيضا أن يكون المعنى وما كان الله

ليجعلكم كلكم عالمين بالغيب من حيث يعلم الرسول حتى تصيروا مستغنين عن الرسول بل الله يخص من يشاء من عباده بالرسالة ثم يكلف الباقين طاعة هؤلاء الرسل
ثم قال مَّا كَانَ اللَّهُ والمقصود أن المنافقين طعنوا في نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بوقوع الحوادث المكروهة في قصة أحد فبين الله تعالى انه كان فيها مصالح منها تمييز الخبيث من الطيب فلما أجاب عن هذه الشبهة التي ذكرتموها قال مَّا كَانَ اللَّهُ يعني لما دلت الدلائل على نبوته وهذه الشبهة التي ذكرتموها في الطعن في نبوته فقد أجبنا عنها فلم يبق إلا أن تؤمنوا بالله ورسله وإنما قال وَرُسُلِهِ ولم يقل ورسوله لدقيقة وهي أن الطريق الذي به يتوصل الى الاقرار بنبوة أحد من الأنبياء عليهم السلام ليس إلا المعجز وهو حاصل في حق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فوجب الاقرار بنبوة كل واحد من الأنبياء فلهذه الدقيقة قال وَرُسُلِهِ والمقصود التنبيه على أن طريق إثبات نبوة جميع الأنبياء واحد فمن أقر بنبوة واحد منهم لزمه الاقرار بنبوة الكل ولما أمرهم بذلك قرن به الوعد بالثواب فقال وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ وهو ظاهر
وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ ءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ وَللَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ والأرض وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
اعلم أنه تعالى لما بالغ في التحريض على بذل النفس في الجهاد في الآيات المتقدمة شرع ههنا في التحريض على بذل المال في الجهاد وبين الوعيد الشديد لمن يبخل ببذل المال في سبيل الله وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة وَلاَ تَحْسَبَنَّ بالتاء والباقون بالياء أما قراءة حمزة بالتاء المنقطة من فوق فقال الزجاج معناه ولا تحسبن بخل الذين يبخلون خيرا لهم فحذف المضاف لدلالة يبخلون عليه وأما من قرأ بالياء المنقطة من تحت ففيه وجهان الأول أن يكون فاعل يَحْسَبَنَّ ضمير رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أو ضمير أحد والتقدير ولا يحسبن رسول الله أو لا يحسبن أحد بخل الذين يبخلون خيراً لهم الثاني أن يكون فاعل يَحْسَبَنَّ هم الذين يبخلون وعلى هذا التقدير يكون المفعول محذوفا وتقديره ولا يحسبن الذين يبخلون بخلهم هو خيراً لهم وانما جاز حذفه لدلالة يبخلون عليه كقوله من كذب كان شراً له أي الكذب ومثله
إذا نهى السفيه جرى إليه
أي السفه وأنشد الفراء
هم الملوك وأبناء الملوك هم والآخذون به والسادة الأول
فقوله به يريد بالملك ولكنه اكتفى عنه بذكر الملوك

المسألة الثانية هو في قوله هُوَ خَيْراً لَّهُمْ تسميه البصريون فصلا والكوفيون عماداً وذلك لأنه لما ذكر ( يبخلون ) فهو بمنزلة ما إذا ذكر البخل فكأنه قيل ولا يحسبن الذين يبخلون البخل خيرا لهم وتحقيق القول فيه أن للمبتدأ حقيقة وللخبر حقيقة وكون حقيقة المبتدأ موصوفا بحقيقة الخبر أمر زائد على حقيقة المبتدأ وحقيقة الخبر فاذا كانت هذه الموصوفية أمرا زائدا على الذاتين فلا بد من صيغة ثالثة دالة على هذه الموصوفية وهي كلمة ( هو )
المسألة الثالثة اعلم أن الآية دالة على ذم البخل بشيء من الخيرات والمنافع وذلك الخير يحتمل أن يكون مالا وأن يكون علما
فالقول الأول ان هذا الوعيد ورد على البخل بالمال والمعنى لا يتوهمن هؤلاء البخلاء أن بخلهم هو خير لهم بل هو شر لهم وذلك لأنه يبقى عقاب بخلهم عليهم وهو المراد من قوله سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ مع أنه لا تبقى تلك الأموال عليهم وهذا هو المراد بقوله وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ
والقول الثاني أن المراد من هذا البخل البخل بالعلم وذلك لأن اليهود كانوا يكتمون نعت محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وصفته فكان ذلك الكتمان بخلا يقال فلان يبخل بعلمه ولا شك أن العلم فضل من الله تعالى قال الله تعالى وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ( النساء 113 ) ثم أنه تعالى علم اليهود والنصارى ما في التوراة والأنجيل فاذا كتموا ما في هذين الكتابين من البشارة بمبعث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كان ذلك بخلا
واعلم أن القول الأول أولى ويدل عليه وجهان الأول أنه تعالى قال سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ ولو فسرنا الآية بالعلم احتجنا الى تحمل المجاز في تفسير هذه الآية ولو فسرناها بالمال لم نحتج الى المجاز فكان هذا أولى الثاني أنا لو حملنا هذه الآية على المال كان ذلك ترغيبا في بذل المال في الجهاد فحينئذ يحصل لهذه الآية مع ما قبلها نظم حسن ولو حملناها على أن اليهود كتموا ما عرفوه من التوراة انقطع النظم إلا على سبيل التكلف فكان الأول أولى
المسألة الرابعة أكثر العلماء على أن البخل عبارة عن منع الواجب وان منع التطوع لا يكون بخلا واحتجوا عليه بوجوه أحدها ان الآية دالة على الوعيد الشديد في البخل والوعيد لا يليق إلا الواجب وثانيها أنه تعالى ذم البخل وعابه ومنع التطوع لا يجوز أن يذم فاعله وأن يعاب به وثالثها وهو أنه تعالى لا ينفك عن ترك التفضل لأنه لا نهاية لمقدوراته في التفضل وكل ما يدخل في الوجود فهو متناه فيكون لا محالة تاركا التفضل فلو كان ترك التفضل بخلا لزم أن يكون الله تعالى موصوفا بالبخل لا محالة تعالى الله عز وجل عنه علوا كبيرا ورابعها قال عليه الصلاة والسلام ( وأي داء أدوأ من البخل ) ومعلوم أن تارك التطوع لا يليق به هذا الوصف وخامسها أنه كان لو تارك التفضل بخيلا لوجب فيمن يملك المال كله العظيم أن لا يتخلص من البخل إلا باخراج الكل وسادسها أنه تعالى قال وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ( البقرة 3 ) وكلمة ( من ) للتبعيض فكان المراد من هذه الآية الذين ينفقون بعض ما رزقهم الله ثم إنه تعالى قال في صفتهم أُوْلَائِكَ عَلَى هُدًى مّن رَّبّهِمْ وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( البقرة 5 )

فوصفهم بالهدى والفلاح ولو كان تارك التطوع بخيلا مذموما لما صح ذلك فثبت بهذه الآية أن البخل عبارة عن ترك الواجب إلا أن الانفاق الواجب أقسام كثيرة منها انفاقه على نفسه وعلى أقاربه الذين يلزمه مؤنتهم ومنها ما يتصل بأبواب الزكاة ومنها ما إذا احتاج المسلمون إلى دفع عدو يقصد قتلهم ومالهم فههنا يجب عليهم انفاق الأموال على من يدفعه عنهم لأن ذلك يجري مجرى دفع الضرر عن النفس ومنها إذا صار أحد من المسلمين مضطرا فانه يجب عليه أن يدفع اليه مقدار ما يستبقي به رمقه فكل هذه الاتفاقات من الواجبات وتركه من باب البخل والله أعلم
ثم قال تعالى سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ وفيه مسائل
المسألة الأولى في تفسير هذا الوعيد وجوه الأول أن يحمل هذا على ظاهره وهو أنه تعالى يطوقهم بطوق يكون سببا لعذابهم قيل انه تعالى يصير تلك الأموال في أعناقهم حياة تكون لهم كالاطواق تلتوي في أعناقهم ويجوز أيضا أن تلتوي تلك الحيات في سائر أبدانهم فأما ما يصير من ذلك في أعناقهم فعلى جهة أنهم كانوا التزموا أداء الزكاة ثم امتنعوا عنها وأما ما يلتوي منها في سائر أبدانهم فعلى وجهة أنهم كانوا يضمون تلك الأموال إلى أنفسهم فعوضوا منها بأن جعلت حيات التوت عليهم كأنهم قد التزموها وضموها إلى أنفسهم ويمكن أن يكون الطوق طوقا من نار يجعل في أعناقهم ونظيره قوله تعالى يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ( التوبة 35 ) وعن ابن عباس رضي الله عنهما تجعل تلك الزكاة الممنوعة في عنقهم كهيئة الطوق شجاعا ذا زبيبتين يلدغ بهما خديه ويقول أنا الزكاة التي بخلت في الدنيا بي
القول الثاني في تفسير قوله سَيُطَوَّقُونَ قال مجاهد سيكلفون أن يأتوا بما بخلوا به يوم القيامة ونظيره ما روي عن ابن عباس أنه كان يقرأ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَة ٌ ( البقرة 184 ) قال المفسرون يكلفونه ولا يطيقونه فكذا قوله سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ ( آل عمران 180 ) أي يؤمرون بأداء ما منعوا حين لا يمكنهم الاتيان به فيكون ذلك توبيخا على معنى هلا فعلتم ذلك حين كان ممكنا
والقول الثالث أن قوله سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ أي سيلزمون إثمه في الآخرة وهذا على طريق التمثيل لا على أن ثم أطواقا يقال منه فلان كالطوق في رقبة فلان والعرب يعبرون عن تأكيد الزام الشيء بتصييره في العنق ومنه يقال قلدتك هذا الأمر وجعلت هذا الأمر في عنقك قال تعالى وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَئِرَهُ فِى عُنُقِهِ ( الإسراء 13 )
القول الرابع إذا فسرنا هذا البخل بالبخل بالعلم كان معنى سَيُطَوَّقُونَ أن الله تعالى يجعل في رقابهم طوقا من نار قال عليه الصلاة والسلام ( من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجمه الله بلجام من النار يوم القيامة ) والمعنى أنهم عوقبوا في أفواههم وألسنتهم بهذا اللجام لأنهم لم ينطقوا بأفواههم وألسنتهم بما يدل على الحق
واعلم أن تفسير هذا البخل بكتمان دلائل نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) غير بعيد وذلك لأن اليهود والنصارى

موصوفون بالبخل في القرآن مذمومون به قال تعالى في صفتهم أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً ( النساء 53 ) وقال أيضا فيهم الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ ( النساء 37 ) وأيضا ذكر عقيب هذه الآية قوله لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء ( آل عمران 181 ) وذلك من أقوال اليهود ولا يبعد أيضاً أن تكون الآية عامة في البخل بالعلم وفي البخل بالمال ويكون الوعيد حاصلا عليهما معا
المسألة الثانية قالت المعتزلة هذه الآية دالة على القطع بوعيد الفساق وذلك لأن من يلزمه هذه الحقوق ولا تسقط عنه هو المصدق بالرسول وبالشريعة أما قوله بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ فلأنه يؤدي إلى حرمان الثواب وحصول النار وأما قوله سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ فهو صريح بالوعيد
واعلم أن الكلام في هذه المسألة تقدم في سورة البقرة
ثم قال تعالى وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وفيه وجهان الأول وله ما فيها مما يتوارثه أهلهما من مال وغيره فما لهم يبخلون عليه بملكه ولا ينفقونه في سبيله ونظيره قوله تعالى وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ( الحديد 7 ) والثاني وهو قول الأكثرين المراد أنه يفنى أهل السموات والأرض وتبقى الاملاك ولا مالك لها إلا الله فجرى هذا مجرى الوراثة إذ كان الخلق يدعون الاملاك فلما ماتوا عنها ولم يخلفوا أحدا كان هو الوارث لها والمقصود من الآية أنه يبطل ملك جمع المالكين إلا ملك الله سبحانه وتعالى فيصير كالميراث قال ابن الانباري يقال ورث فلان علم فلان إذا انفرد به بعد أن كان مشاركا فيه وقال تعالى وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودُ ( النمل 16 ) وكان المعنى انفراده بذلك الأمر بعد أن كان داود مشاركا له فيه وغالبا عليه
ثم قال تعالى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ قرأ ابن كثير وأبو عمرو بِمَا يَعْمَلُونَ بالياء على المغايبة كناية عن الذين يبخلون والمعنى والله بما يعملون خبير من منعهم الحقوق فيجازيهم عليه والباقون قرؤا بالتاء على الخطاب وذلك لأن ما قبل هذه الآية خطاب وهو قوله وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ( آل عمران 179 ) والله بما تعملون خبير فيجازيكم عليه والغيبة أقرب اليه من الخطاب قال صاحب الكشاف الياء على طريقة الالتفات وهي أبلغ في الوعيد
لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الاٌّ نبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ
اعلم أن في كيفية النظم وجهين الأول أنه تعالى لما أمر المكلفين في هذه الآيات ببذل النفس

وبذل المال في سبيل الله وبالغ في تقرير ذلك شرع بعد ذلك في حكاية شبهات القوم في الطعن في نبوته
فالشبهة الأولى أنه تعالى لما أمر بانفاق الأموال في سبيله قالت الكفار انه تعالى لو طلب الانفاق في تحصيل مطلوبه لكان فقيرا عاجزا لأن الذي يطلب المال من غيره يكون فقيرا ولما كان الفقر على الله تعالى محالا كان كونه طالبا للمال من عبيده محالا وذلك يدل على أن محمدا كاذب في إسناد هذا الطلب إلى الله تعالى
الوجه الثاني في طريق النظم أن أمة موسى عليه السلام كانوا إذا أرادوا التقرب بأموالهم إلى الله تعالى فكانت تجيء نار من السماء فتحرقها فالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما طلب منهم بذل الأموال في سبيل الله قالوا له لو كنت نبياً لما طلبت الأموال لهذا الغرض فانه تعالى ليس بفقير حتى يحتاج في اصلاح دينه إلى أموالنا بل لو كنت نبياً لكنت تطلب أموالنا لأجل أن تجيئها نار من السماء فتحرقها فلما لم تفعل ذلك عرفنا أنك لست بنبي فهذا هو وجه النظم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه يبعد من العاقل أن يقول ان الله فقير ونحن أغنياء بل الانسان إنما يذكر ذلك إما على سبيل الاستهزاء أو على سبيل الالزام وأكثر الروايات أن هذا القول إنما صدر عن اليهود روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كتب مع أبي بكر إلى يهود بني قينقاع يدعوهم إلى الإسلام وإلى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وأن يقرضوا الله قرضاً حسنا فقال فنحاص اليهودي إن الله فقير حتى سألنا القرض فلطمه أبو بكر في وجهه وقال لولا الذي بيننا وبينكم من العهد لضربت عنقك فشكاه إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وجحد ما قاله فنزلت هذه الآية تصديقاً لأبي بكر رضي الله عنه وقال آخرون لما أنزل الله تعالى مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَة ً ( البقرة 245 ) قالت اليهود نرى إله محمد يستقرض منا فنحن إذن أغنياء وهو فقير وهو ينهانا عن الربا ثم يعطينا الربا وأرادوا قوله فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَة ً
واعلم أنه ليس في الآية تعيين هذا القائل إلا أن العلماء نسبوا هذا القول إلى اليهود واحتجوا عليه بوجوه أحدها أن الله تعالى حكى عنهم أنهم قالوا إن يد الله مغلولة يعنون أنه بخيل بالعطاء وذلك الجهل مناسب للجهل المذكور في هذه الآية وثانيها ما روي في الخبر أنهم تكلموا بذلك على ما رويناه في قصة أبي بكر وثالثها أن القول بالتشبيه غالب على اليهود ومن قال بالتشبيه لا يمكنه إثبات كونه تعالى قادرا على كل المقدورات وإذا عجز عن إثبات هذا الأصل عجز عن بيان أنه غني وليس بفقير
والوجه الرابع أن موسى عليه الصلاة والسلام لما طلب منهم أن يوافقوه في مجاهدة الأعداء قالوا اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون فموسى عليه السلام لما طلب منهم الجهاد بالنفس قالوا لما كان الاله قادرا فأي حاجة به الى جهادنا وكذا ههنا أن محمدا عليه الصلاة والسلام لما طلب منهم الجهاد ببذل المال قالوا لما كان الاله غنيا فأي حاجة به الى أموالنا فكان إسنادهم هذه الشبهة الى اليهود لائقا من هذا الوجه وإن كان لا يمتنع أن يكون غيرهم من الجهال قد قال ذلك والأظهر أنهم قالوه على سبيل الطعن في نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) يعني لو صدق محمد في أن الاله يطلب المال من عبيده لكان

فقيرا ولما كان ذلك محالا ثبت أنه كاذب في هذا الاخبار أو ذكروه على سبيل الاستهزاء والسخرية فأما أن يقول العاقل مثل هذا الكلام عن اعتقاد فهو بعيد
المسألة الثانية هذه الآية تدل على أنه تعالى سميع للأقوال ونظيره قوله تعالى قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِى تُجَادِلُكَ ( المجادلة 1 )
المسألة الثالثة ظاهر الآية يدل على أن قائل هذا القول كانوا جماعة لأنه تعالى قال الَّذِينَ قَالُواْ وظاهر هذا القول يفيد الجميع وأما ما روي أن قائل هذا القول هو فنحاص اليهودي فهذا يدل على أن غيره لم يقل ذلك فلما شهد الكتاب أن القائلين كانوا جماعة وجب القطع بذلك
ثم قال تعالى سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة سيكتب بالياء وضمها على ما لم يسم فاعله اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الاْنْبِيَاء برفع اللام على معنى سيكتب قتلهم والباقون بالنون وفتح اللام إضافة اليه تعالى قال صاحب ( الكشاف ) وقرأ الحسن والأعرج سيكتب بالياء وتسمية الفاعل
المسألة الثانية هذا وعيد على ذلك القول وهو يحتمل وجوها أحدها أن يكون المراد من كتبه عليهم إثبات ذلك عليهم وأن لا يلغي ولا يطرح وذلك لأن الناس إذا أرادوا إثبات الشيء على وجه لا يزول ولا ينسى ولا يتغير كتبوه والله تعالى جعل الكتبة مجازا عن إثبات حكم ذلك عليهم الثاني سنكتب ما قالوا في الكتب التي تكتب فيها أعمالهم ليقرؤا ذلك في جرائد أعمالهم يوم القيامة والثالث عندي فيه احتمال آخر وهو أن المراد سنكتب عنهم هذا الجهل في القرآن حتى يعلم الخلق الى يوم القيامة شدة تعنت هؤلاء وجهلهم وجهدهم في الطعن في نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بكل ما قدروا عليه
ثم قال اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الاْنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقّ أي ونكتب قتلهم الأنبياء بغير حق وفيه مسألتان
المسألة الأولى الفائدة في ضم أنهم قتلوا الأنبياء إلى أنهم وصفوا الله تعالى بالفقر هي بيان أن جهل هؤلاء ليس مخصوصاً بهذا الوقت بل هم منذ كانوا مصرون على الجهالات والحماقات
المسألة الثانية في إضافة قتل الأنبياء إلى هؤلاء وجهان أحدهما سنكتب ما قال هؤلاء ونكتب ما فعله أسلافهم فنجازي الفريقين بما هو أهله كقوله تعالى وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا أي قتلها أسلافكم وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ ( البقرة 49 ) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ ( البقرة 50 ) والفاعل لهذه الأشياء هو أسلافهم والمعنى أنه سيحفظ على الفريقين معاً أقوالهم وأفعالهم
والوجه الثاني سنكتب على هؤلاء ما قالوا بأنفسهم ونكتب عليهم رضاهم بقتل آبائهم الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين وعن الشعبي أن رجلا ذكر عنه عثمان رضي الله عنه وحسن قتله فقال الشعبي صرت شريكا في دمه ثم قرأ الشعبي قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى بِالْبَيّنَاتِ وَبِالَّذِى قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ ( آل عمران 183 ) فنسب لهؤلاء قتلهم وكان بينهما قريب من سبعمائة سنة
ثم قال تعالى وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ وفيه مسائل

المسألة الأولى قرأ حمزة سيكتب على لفظ ما لم يسم فاعله اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الاْنْبِيَاء برفع اللام وَيِقُولُ ذُوقُواْ بالياء المنقطة من تحت والباقون سَنَكْتُبُ وَنَقُولُ بالنون
المسألة الثانية المراد أنه تعالى ينتقم من هذا القائل بأن يقول له ذق عذاب الحريق كما أذقت المسلمين الغصص والحريق هو المحرق كالأليم بمعنى المؤلم
المسألة الثالثة يحتمل أن يقال له هذا القول عند الموت أو عند الحشر أو عند قراءة الكتاب ويحتمل أن يكون هذا كناية عن حصول الوعيد وإن لم يكن هناك قول
المسألة الرابعة لقائل أن يقول إنهم أوردوا سؤالا وهو أن من يطلب المال من غيره كان فقيرا محتاجا فلو طلب الله المال من عبيده لكان فقيرا وذلك محال فوجب أن يقال إنه لم يطلب المال من عبيده وذلك يقدح في كون محمد عليه الصلاة والسلام صادقا في ادعاء النبوة فهو هو شبهة القوم فأين الجواب عنها وكيف يحسن ذكر الوعيد على ذكرها قبل ذكر الجواب عنها
فنقول إذا فرعنا على قول أصحابنا من أهل السنة والجماعة قلنا يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد فلا يبعد أن يأمر الله تعالى عبيده ببذل الأموال مع كونه تعالى أغنى الاغنياء
وإن فرعنا على قول المعتزلة في أنه تعالى يراعي المصالح لم يبعد أن يكون في هذا التكليف أنواع من المصالح العائدة إلى العباد منها أن إنفاق المال يوجب زوال حب المال عن القلب وذلك من أعظم المنافع فانه إذا مات فلو بقي في قلبه حب المال مع أنه ترك المال لكان ذلك سببا لتألم روحه بتلك المفارقة ومنها أن يتوسل بذلك الانفاق الى الثواب المخلد المؤبد ومنها أن بسبب الانفاق يصير القلب فارغا عن حب ما سوى الله وبقدر ما يزول عن القلب حب غير الله فانه يقوى في حب الله وذلك رأس السعادات وكل هذه الوجوه قد ذكرها الله في القرآن وبينها مراراً وأطوارا كما قال وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا ( الكهف 46 ) وقال وَالاْخِرَة ُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ( الأعلى 17 ) وقال وَرِضْوانٌ مّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ( التوبة 72 ) وقال فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ ( يونس 58 ) فلما تقدم ذكر هذه الوجوه على الاستقصاء كان إيراد هذه الشبهة بعد تقدم هذه البينات محض التعنت فلهذا اقتصر الله تعالى عند ذكرها على مجرد الوعيد
ثم قال تعالى ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى لما ذكر الوعيد الشديد ذكر سببه فقال ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ أي هذا العذاب المحرق جزاء فعلكم حيث وصفتم الله وأقدمتم على قتل الأنبياء فيكون هذا العقاب عدلا لا جورا
المسألة الثانية قال الجبائي الآية تدل على أن فعل العقاب بهم كان يكون ظلما بتقدير أن لا يقع منهم تلك الذنوب وفيه بطلان قول المجبرة ان الله يعذب الأطفال بغير جرم ويجوز أن يعذب البالغين بغير ذنب ويدل على كون العبد فاعلا وإلا لكان الظلم حاصلا
والجواب ان ما ذكرتم معارض بمسألة الداعي ومسألة العلم على ما شرحناه مراراً وأطوارا

المسألة الثالثة لقائل أن يقول وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ ( فصلت 46 ) يفيد نفي كونه ظلاما ونفي الصفة يوهم بقاء الأصل فهذا يقتضي ثبوت أصل الظلم
أجاب القاضي عنه بأن العذاب الذي توعد بأن يفعله بهم لو كان ظلما لكان عظيما فنفاه على حد عظمه لو كان ثابتا وهذا يؤكد ما ذكرنا أن إيصال العقاب اليهم يكون ظلما لو لم يكونوا مذنبين
المسألة الرابعة اعلم أن ذكر الأيدي على سبيل المجاز لأن الفاعل هو الانسان لا اليد إلا أن اليد لما كانت آلة الفعل حسن إسناد الفعل اليها على سبيل المجاز ثم في هذه الآية ذكر اليد بلفظ الجمع فقال بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وفي آية أخرى ذكر بلفظ التثنية فقال ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ ( الحج 10 ) والكل حسن متعارف في اللغة
الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِى قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
قوله تعالى الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَن لا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى بِالْبَيّنَاتِ وَبِالَّذِى قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
اعلم أن هذه هي الشبهة الثانية للكفار في الطعن في نبوته ( صلى الله عليه وسلم ) وتقريرها أنهم قالوا ان الله عهد الينا أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار وأنت يا محمد ما فعلت ذلك فوجب أن لا تكون من الأنبياء فهذا بيان وجه النظم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس نزلت هذه الآية في كعب بن الأشرف وكعب بن أسد ومالك بن الصيف ووهب بن يهوذا وزيد بن التابوب وفنحاص بن عازوراء وغيرهم أتوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا يا محمد تزعم أنك رسول الله وأنه تعالى أنزل عليك كتاباً وقد عهد الينا في التوراة أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار ويكون لها دوي خفيف تنزل من السماء فان جئتنا بهذا صدقناك فنزلت هذه الآية قال عطاء كانت بنو اسرائيل يذبحون لله فيأخذون الثروب وأطايب اللحم فيضعونها في وسط بيت والسقف مكشوف فيقوم النبي في البيت ويناجي ربه وبنو اسرائيل خارجون واقفون حول البيت فتنزل نار بيضاء لها دوي خفيف ولا دخان لها فتأكل كل ذلك القربان
واعلم أن للعلماء فيما ادعاه اليهود قولين الأول وهو قول السدى أن هذا الشرط جاء في التوراة ولكنه مع شرط وذلك أنه تعالى قال في التوراة من جاءكم يزعم أنه نبي فلا تصدقوه حتى يأتيكم بقربان تأكله النار إلا المسيح ومحمدا عليهما السلام فانهما إذا أتيا فآمنوا بهما فانهما يأتيان بغير قربان تأكله النار قال وكانت هذه العادة باقية الى مبعث المسيح عليه السلام فلما بعث الله المسيح ارتفعت وزالت
القول الثاني ان ادعاء هذا الشرط كذب على التوراة ويدل عليه وجوه أحدها أنه لو كان ذلك

حقاً لكانت معجزات كل الأنبياء هذا القربان ومعلوم أنه ما كان الأمر كذلك فان معجزات موسى عليه السلام عند فرعون كانت أشياء سوى هذا القربان وثانيها أن نزول هذه النار وأكلها للقربان معجزة فكانت هي وسائر المعجزات على السواء فلم يكن في تعيين هذه المعجزة وتخصيصها فائدة بل لما ظهرت المعجزة القاهرة على يد محمد عليه الصلاة والسلام وجب القطع بنبوته سواء ظهرت هذه المعجزة أو لم تظهر وثالثها أنه إما أن يقال إنه جاء في التوراة أن مدعي النبوة وإن جاء بجميع المعجزات فلا تقبلوا قوله إلا أن يجيء بهذه المعجزة المعينة أو يقال جاء في التوراة أن مدعي النبوة يطالب بالمعجزة سواء كانت المعجزة هي مجيء النار أو شيء آخر والأول باطل لأن على هذا التقدير لم يكن الاتيان بسائر المعجزات دالا على الصدق وإذا جاز الطعن في سائر المعجزات جاز الطعن أيضاً في هذه المعجزة المعينة
وأما الثاني فانه يقتضي توقيت الصدق على ظهور مطلق المعجزة لا على ظهور هذه المعجزة المعينة فكان اعتبار هذه المعجزة عبثا ولغوا فظهر بما ذكرنا سقوط هذه الشبهة بالكلية والله أعلم
المسألة الثانية في محل الَّذِينَ وجوه أحدها قال الزجاج الجر وهذا نعت العبيد والتقدير وما ربك بظلام للعبيد الذين قالوا كذا وكذا وثانيها أن التقدير لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير وقول الذين قالوا إن الله عهد إلينا وثالثها أن يكون رفعا بالابتداء والتقدير هم الذين قالوا ذلك
المسألة الثالثة قال الواحدي رحمه الله القربان البر الذي يتقرب به إلى الله وأصله المصدر من قولك قرب قربانا كالكفران والرجحان والخسران ثم سمى به نفس المتقرب به ومنه قوله عليه الصلاة والسلام لكعب بن عجرة ( يا كعب الصوم جنة والصلاة قربان ) أي بها يتقرب إلى الله ويستشفع في الحاجة لديه
واعلم أنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة فقال قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى بِالْبَيّنَاتِ وَبِالَّذِى قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى بين بهذه الدلائل أنهم يطلبون هذه المعجزة لا على سبيل الاسترشاد بل على سبيل التعنت وذلك لأن أسلاف هؤلاء اليهود طلبوا هذا المعجز من الأنبياء المتقدمين مثل زكريا وعيسى ويحيى عليهم السلام وهم أظهروا هذا المعجز ثم إن اليهود سعوا في قتل زكرياء ويحيى ويزعمون أنهم قتلوا عيسى عليه السلام أيضاً وذلك يدل على أن أولئك القوم إنما طلبوا هذا المعجز من أولئك الأنبياء على سبيل التعنت إذ لو لم يكن كذلك لما سعوا في قتلهم ثم إن المتأخرين راضون بأفعال أولئك المتقدمين ومصوبون لهم في كل ما فعلوه وهذا يقتضي كون هؤلاء في طلب هذا المعجز من محمد عليه الصلاة والسلام متعنتين واذا ثبت أن طلبهم لهذا المعجز وقع على سبيل التعنت لا على سبيل الاسترشاد لم يجب في حكمة الله إسعافهم بذلك لا سيما وقد تقدمت المعجزات الكثيرة لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهذا الجواب شاف عن هذه الشبهة

المسألة الثانية إنما قال قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى ولم يقل جاءتكم رسل لأن فعل المؤنث يذكر إذا تقدمه
المسألة الثالثة المراد بقوله وَبِالَّذِى قُلْتُمْ هو ما طلبوه منه وهو القربان الذي تأكله النار
واعلم أنه تعالى لم يقل قد جاءكم رسل من قبلي بالذي قلتم بل قال قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى بِالْبَيّنَاتِ وَبِالَّذِى قُلْتُمْ والفائدة أن القوم قالوا ان الله تعالى وقف التصديق بالنبوة على ظهور القربان الذي تأكله النار فلو أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لهم ان الأنبياء المتقدمين أتوا بهذا القربان لم يلزم من هذا القدر وجوب الاعتراف بنبوتهم لاحتمال أن الاتيان بهذا القربان شرط للنبوة لا موجب لها والشرط هو الذي يلزم عند عدمه عدم المشروط لكن لا يلزم عند وجوده وجود المشروط فثبت أنه لو اكتفى بهذا القدر لما كان الالزام واردا أما لما قال قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى بِالْبَيّنَاتِ وَبِالَّذِى قُلْتُمْ كان الالزام واردا لأنهم لما أتوا بالبينات فقد أتوا بالموجب للتصديق ولما أتوا بهذا القربان فقد اتوا بالشرط وعند الاتيان بهما كان الاقرار بالنبوة واجبا فثبت أنه لولا قوله جَاءكُمْ بِالْبَيّنَاتِ ( غافر 28 ) لم يكن الالزام واردا على القوم والله أعلم
فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَة ُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّة َ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَواة ُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ
في قوله فَإِن كَذَّبُوكَ وجوه أحدها فان كذبوك في قولك ان الأنبياء المتقدمين جاؤا إلى هؤلاء اليهود بالقربان الذي تأكله النار فكذبوهم وقتلوهم فقد كذب رسل من قبلك نوح وهود وصالح وابراهيم وشعيب وغيرهم والثاني ان المراد فان كذبوك في أصل النبوة والشريعة فقد كذب رسل من قبلك ولعل هذا الوجه أوجه لأنه تعالى لم يخصص ولأن تكذيبهم في أصل النبوة أعظم ولأنه يدخل تحته التكذيب في ذلك الحجاج والمقصود من هذا الكلام تسلية رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وبيان أن هذا التكذيب ليس أمرا مختصا به من بين سائر الأنبياء بل شأن جميع الكفار تكذيب جميع الأنبياء والطعن فيهم مع أن حالهم في ظهور المعجزات عليهم وفي نزول الكتب إليهم كحالك ومع هذا فانهم صبروا على ما نالهم من أولئك الأمم واحتملوا إيذاءهم في جنب تأدية الرسالة فكن متأسيا بهم سالكا مثل طريقتهم في هذا المعنى وإنما صار ذلك تسلية لأن المصيبة إذا عمت طابت وخفت فأما البينات فهي الحجج والمعجزات وأما الزبر فهي الكتب وهي جمع زبور والزبور الكتاب بمعنى المزبور أي المكتوب يقال زبرت الكتاب أي كتبته وكل كتاب زبور قال الزجاج الزبور كل كتاب ذي حكمة وعلى هذا

الأشبه أن يكون معنى الزبور من الزبر الذي هو الزجر يقال زبرت الرجل إذا زجرته عن الباطل وسمي الكتاب زبوراً لما فيه من الزبر عن خلاف الحق وبه سمي زبور داود لكثرة ما فيه من الزواجر والمواعظ وقرأ ابن عباس وَبِالزُّبُرِ أعاد الباء للتأكيد وأما ( المنير ) فهو من قولك أنرت الشيء أي أوضحته وفي الآية مسألتان
المسألة الأولى المراد من البينات المعجزات ثم عطف عليها الزبر والكتاب وهذا يقتضي أن يقال إن معجزاتهم كانت مغايرة لكتبهم وذلك يدل على أن أحدا من الأنبياء ما كانت كتبهم معجزة لهم فالتوراة والانجيل والزبور والصحف ما كان شيء منها معجزة وأما القرآن فهو وحده كتاب ومعجزة وهذا أحد خواص الرسول عليه الصلاة والسلام
المسألة الثانية عطف ( الكتاب المنير ) على ( الزبر ) مع أن الكتاب المنير لا بد وأن يكون من الزبر وإنما حسن هذا العطف لأن الكتاب المنير أشرف الكتب وأحسن الزبر فحسن العطف كما في قوله وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ ( الأحزاب 7 ) وقال مَن كَانَ عَدُوّا لّلَّهِ وَمَلئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ( البقرة 98 ) ووجه زيادة الشرف فيه إما كونه مشتملا على جميع الشريعة أو كونه باقياً على وجه الدهر ويحتمل أن يكون المراد بالزبر الصحف وبالكتاب المنير التوراة والانجيل والزبور
قوله تعالى كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَة ُ الْمَوْتِ
اعلم ان المقصود من هذه الآية تأكيد تسلية الرسول عليه الصلاة والسلام والمبالغة في إزالة الحزن من قلبه وذلك من وجهين أحدهما أن عاقبة الكل الموت وهذه الغموم والاحزان تذهب وتزول ولا يبقى شيء منها والحزن متى كان كذلك لم يلتفت العاقل اليه والثاني ان بعد هذه الدار دار يتميز فيها المحسن عن المسيء ويتوفر على عمل كل واحد ما يليق به من الجزاء وكل واحد من هذين الوجهين في غاية القوة في إزالة الحزن والغم عن قلوب العقلاء وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في قوله كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَة ُ الْمَوْتِ سؤال وهو أن الله تعالى يسمى بالنفس قال تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ وأيضا النفس والذات واحد فعلى هذا يدخل الجمادات تحت اسم النفس ويلزم على هذا عموم الموت في الجمادات وأيضا قال تعالى فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَمَن فِى الاْرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ ( الزمر 68 ) وذلك يقتضي أن لا يموت الداخلون في هذا الاستثناء وهذا العموم يقتضي موت الكل وأيضا يقتضي وقوع الموت لأهل الجنة ولأهل النار لأن كلهم نفوس
وجوابه أن المراد بالآية المكلفون الحاضرون في دار التكليف بدليل أنه تعالى قال بعد هذه الآية فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّة َ فَقَدْ فَازَ فان هذا المعنى لا يتأتى إلا فيهم وأيضا العام بعد التخصيص يبقى حجة
المسألة الثانية ذَائِقَة ُ فاعلة من الذوق واسم الفاعل إذا أضيف إلى اسم وأريد به الماضي لم يجز فيه إلا الجر كقولك زيد ضارب عمرو أمس فان أردت به الحال والاستقبال جاز الجر والنصب

تقول هو ضارب زيد غدا وضارب زيدا غدا قال تعالى هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرّهِ ( الزمر 38 ) قرىء بالوجهين لأنه للاستقبال وروي عن الحسن أنه قرأ ذَائِقَة ُ الْمَوْتِ بالتنوين ونصب ( الموت ) وهذا هو الأصل وقرأ الأعمش ذَائِقَة ُ الْمَوْتِ بطرح التنوين مع النصب كقوله
ولا ذاكر الله إلا قليلا
وتمام الكلام في هذه المسألة يأتي في سورة النساء عند قوله ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ ( النساء 97 النحل 28 ) ان شاء الله تعالى
المسألة الثالثة زعمت الفلاسفة ان الموت واجب الحصول عند هذه الحياة الجسمانية وذلك لأن هذه الحياة الجسمانية لا تحصل إلا بالرطوبة الغريزية والحرارة الغريزية ثم ان الحرارة الغريزية تؤثر في تحليل الرطوبة الغريزية ولا تزال تستمر هذه الحالة إلى أن تفنى الرطوبة الأصلية فتنطفىء الحرارة الغريزية ويحصل الموت فبهذا الطريق كان الموت ضروريا في هذه الحياة قالوا وقوله كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَة ُ الْمَوْتِ يدل على أن النفوس لا تموت بموت البدن لأنه جعل النفس ذائقة الموت والذائق لا بد وأن يكون باقيا حال حصول الذوق والمعنى أن كل نفس ذائقة موت البدن وهذا يدل على أن النفس غير البدن وعلى أن النفس لا تموت بموت البدن وأيضا لفظ النفس مختص بالأجسام وفيه تنبيه على أن ضرورة الموت مختصة بالحياة الجسمانية فأما الأرواح المجردة فلا وقد جاء في الروايات ما هو خلاف ذلك فانه روي عن ابن عباس أنه قال لما نزل قوله تعالى كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ( الرحمن 26 ) قالت الملائكة مات أهل الأرض ولما نزل قوله تعالى كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَة ُ الْمَوْتِ قالت الملائكة متنا
المسألة الرابعة قوله تعالى كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَة ُ الْمَوْتِ يدل على أن المقتول يسمى بالميت وإنما لا يسمى المذكى بالميت بسبب التخصيص بالعرف
ثم قال تعالى وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ بين تعالى أن تمام الأجر والثواب لا يصل الى المكلف إلا يوم القيامة لأن كل منفعة تصل الى المكلف في الدنيا فهي مكدرة بالغموم والهموم وبخوف الانقطاع والزوال والأجر التام والثواب الكامل إنما يصل الى المكلف يوم القيامة لأن هناك يحصل السرور بلا غم والأمن بلا خوف واللذة بلا ألم والسعادة بلا خوف الانقطاع وكذا القول في جانب العقاب فانه لا يحصل في الدنيا ألم خالص عن شوائب اللذة بل يمتزج به راحات وتخفيفات وإنما الألم التام الخالص الباقي هو الذي يكون يوم القيامة نعوذ بالله منه
ثم قال تعالى فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّة َ فَقَدْ فَازَ الزحزحة التنحية والابعاد وهو تكرير الزح والزح هو الجذب بعجلة وهذا تنبيه على أن الانسان حينما كان في الدنيا كأنه كان في النار وما ذاك إلا لكثرة آفاتها وشدة بلياتها ولهذا قال عليه الصلاة والسلام ( الدنيا سجن المؤمن )
واعلم أنه لا مقصود للانسان وراء هذين الأمرين الخلاص عن العذاب والوصول الى الثواب فبين تعالى أن من وصل الى هذين المطلوبين فقد فاز بالمقصد الأقصى والغاية التي لا مطلوب بعدها وروي عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها ) وقرأ قوله تعالى فَمَن

زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّة َ فَقَدْ وقال عليه الصلاة والسلام ( من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر وليؤت الى الناس ما يحب أن يؤتى اليه )
ثم قال فَازَ وَما الْحَيَواة ُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ الغرور مصدر من قولك غررت فلاناً غروراً شبه الله الدنيا بالمتاع الذي يدلس به على المستام ويغر عليه حتى يشتريه ثم يظهر له فساده ورداءته والشيطان هو المدلس الغرور وعن سعيد بن جبير أن هذا في حق من آثر الدنيا على الآخرة وأما من طلب الآخرة بها فانها نعم المتاع والله أعلم
واعلم أن فساد الدنيا من وجوه أولها أنه لو حصل للانسان جميع مراداته لكان غمه وهمه أزيد من سروره لأجل قصر وقته وقلة الوثوق به وعدم علمه بأنه هل ينتفع به أم لا وثانيها أن الانسان كلما كان وجدانه بمرادات الدنيا أكثر كان حرصه في طلبها أكثر ولكما كان الحرص أكثر كان تألم القلب بسبب ذلك الحرص أشد فان الانسان يتوهم أنه إذا فاز بمقصوده سكنت نفسه وليس كذلك بل يزداد طلبه وحرصه ورغبته وثالثها أن الانسان بقدر ما يجد من الدنيا يبقى محروما عن الآخرة التي هي أعظم السعادات والخيرات ومتى عرفت هذه الوجوه الثلاثة علمت أن الدنيا متاع الغرور وأنها كما وصفها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه حيث قال لين مسها قاتل سمها وقال بعضهم الدنيا ظاهرها مطية السرور وباطنها مطية الشرور
لَتُبْلَوُنَّ فِى أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذالِكَ مِنْ عَزْمِ الاٍّ مُورِ
اعلم أنه تعالى لما سلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَة ُ الْمَوْتِ ( آل عمران 185 ) زاد في تسليته بهذه الآية فبين أن الكفار بعد أن آذوا الرسول والمسلمين يوم أحد فسيؤذونهم أيضا في المستقبل بكل طريق يمكنهم من الايذاء بالنفس والايذاء بالمال والغرض من هذا الاعلام أن يوطنوا أنفسهم على الصبر وترك الجزع وذلك لأن الانسان إذا لم يعلم نزول البلاء عليه فاذا انزل البلاء عليه شق ذلك عليه أما إذا كان عالما بأنه سينزل فاذا نزل لم يعظم وقعه عليه
أما قوله لَتُبْلَوُنَّ فِى أَمْوالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي رحمه الله اللام لام القسم والنون دخلت مؤكدة وضمت الواو لسكونها وسكون النون ولم تكسر لالتقاء الساكنين لأنها واو جمع فحركت بما كان يجب لما قبلها من الضم ومثله اشْتَرَوُاْ الضَّلَالَة َ ( البقرة 16 )

المسألة الثانية لَتُبْلَوُنَّ لتختبرن ومعلوم أنه لا يجوز في وصف الله تعالى الاختبار لأنه طلب المعرفة ليعرف الجيد من الردىء ولكن معناه في وصف الله تعالى أنه يعامل العبد معاملة المختبر
المسألة الثالثة اختلفوا في معنى هذا الابتلاء فقال بعضهم المراد ما ينالهم من الشدة والفقر وما ينالهم من القتل والجرح والهزيمة من جهة الكفار ومن حيث ألزموا الصبر في الجهاد وقال الحسن المراد به التكاليف الشديدة المتعلقة بالبدن والمال وهي الصلاة والزكاة والجهاد قال القاضي والظاهر يحتمل كل واحد من الأمرين فلا يمتنع حمله عليهما
وأما قوله وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً فالمراد منه أنواع الايذاء الحاصلة من اليهود والنصارى والمشركين للمسلمين وذلك لأنهم كانوا يقولون عزير ابن الله والمسيح ابن الله وثالث ثلاثة وكانوا يطعنون في الرسول عليه الصلاة والسلام بكل ما يقدرون عليه ولقد هجاه كعب بن الأشرف وكانوا يحرضون الناس على مخالفة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وأما المشركون فهم كانوا يحرضون الناس على مخالفة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ويجمعون العساكر على محاربة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ويثبطون المسلمين عن نصرته فيجب أن يكون الكلام محمولا على الكل إذ ليس حمله على البعض أولى من حمله على الثاني
ثم قال عطفا على الأمرين وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذالِكَ مِنْ عَزْمِ الاْمُورِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال المفسرون بعث الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أبا بكر الى فنحاص اليهودي يستمده فقال فنحاص قد احتاج ربك الى أن نمده فهم أبو بكر رضي الله عنه أن يضربه بالسيف وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال له حين بعثه لا تغلبن على شيء حتى ترجع إلي فتذكر أبو بكر رضي الله عنه ذلك وكف عن الضرب ونزلت هذه الآية
المسألة الثانية للآية تأويلان الأول أن المراد منه أمر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بالمصابرة على الابتلاء في النفس والمال والمصابرة على تحمل الأذى وترك المعارضة والمقابلة وإنما أوجب الله تعالى ذلك لأنه أقرب الى دخول المخالف في الدين كما قال فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ( طه 44 ) وقال قُل لّلَّذِينَ ءامَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ ( الجاثية 14 ) والمراد بهذا الغفران الصبر وترك الانتقام وقال تعالى وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً ( الفرقان 72 ) وقال فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ( الأحقاف 35 ) وقال ادْفَعْ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَة ٌ كَأَنَّهُ وَلِى ٌّ حَمِيمٌ ( فصلت 34 ) قال الواحدي رحمه الله كان هذا قبل نزول آية السيف قال القفال رحمه الله الذي عندي أن هذا ليس بمنسوخ والظاهر أنها نزلت عقيب قصة أحد والمعنى أنهم أمروا بالصبر على ما يؤذون به الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) على طريق الأقوال الجارية فيما بينهم واستعمال مداراتهم في كثير من الأحوال والأمر بالقتال لا ينافي الأمر بالمصابرة على هذا الوجه واعلم أن قول الواحدي ضعيف والقول ما قاله القفال
الوجه الثاني في التأويل أن يكون المراد من الصبر والتقوى الصبر على مجاهدة الكفار

ومنابذتهم والانكار عليهم فأمروا بالصبر على مشاق الجهاد والجري على نهج أبي بكر الصديق رضي الله عنه في الانكار على اليهود والاتقاء عن المداهنة مع الكفار والسكوت عن إظهار الانكار
المسألة الثالثة الصبر عبارة عن احتمال المكروه والتقوى عبارة عن الاحتراز عما لا ينبغي فقدم ذكر الصبر ثم ذكر عقبه التقوى لأن الانسان إنما يقدم على الصبر لأجل أنه يريد الاتقاء عما لا ينبغي وفيه وجه آخر وهو أن المراد من الصبر هو أن مقابلة الاساءة بالاساءة تفضي إلى ازدياد الاساءة فأمر بالصبر تقليلا لمضار الدنيا وأمر بالتقوى تقليلا لمضار الآخرة فكانت الآية على هذا التأويل جامعة لآداب الدنيا والآخرة
المسألة الرابعة قوله مِنْ عَزْمِ الاْمُورِ أي من صواب التدبير الذي لا شك في ظهور الرشد فيه وهو مما ينبغي لكل عاقل أن يعزم عليه فتأخذ نفسه لا محالة به والعزم كأنه من جملة الحزم وأصله من قول الرجل عزمت عليك أن تفعل كذا أي ألزمته إياك لا محالة على وجه لا يجوز ذلك الترخص في تركه فما كان من الأمور حميد العاقبة معروفاً بالرشد والصواب فهو من عزم الأمور لأنه مما لا يجوز لعاقل أن يترخص في تركه ويحتمل وجها آخر وهو أن يكون معناه فان ذلك مما قد عزم عليكم فيه أي ألزمتم الأخذ به والله أعلم
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ
اعلم أن في كيفية النظم وجهين الأول أنه تعالى لما حكى عن اليهود شبها طاعنة في نبوة محمد عليه الصلاة والسلام وأجاب عنه أتبعه بهذه الآية وذلك لأنه تعالى أوجب عليهم في التوراة والانجيل على أمة موسى وعيسى عليهما السلام أن يشرحوا ما في هذين الكتابين من الدلائل الدالة على صحة دينه وصدق نبوته ورسالته والمراد منه التعجب من حالهم كأنه قيل كيف يليق بكم ايراد الطعن في نبوته ودينه مع ان كتبكم ناطقة ودالة على أنه يجب عليكم ذكر الدلائل الدالة على صدق نبوته ودينه الثاني أنه تعالى لما أوجب في الآية المتقدمة على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) احتمال الأذى من أهل الكتاب وكان من جملة ايذائهم للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أنهم كانوا يكتمون ما في التوراة والانجيل من الدلائل الدالة على نبوته فكانوا يحرفونها ويذكرون لها تأويلات فاسدة فبين أن هذا من تلك الجملة التي يجب فيها الصبر وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير وأبو بكر وعاصم وأبو عمرو ليبيننه ولا يكتمونه بالياء فيهما كناية عن أهل الكتاب وقرأ الباقون بالتاء فيهما على الخطاب الذي كان حاصلا في وقت أخذ الميثاق أي فقال لهم لتبيننه ونظير هذه الآية قوله هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِى إِسْرءيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ ( البقرة 83 ) بالتاء

والياء وأيضا قوله وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِى إِسْراءيلَ فِى الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِى الاْرْضِ ( الأسراء 4 )
المسألة الثانية الكلام في كيفية أخذ الميثاق قد تقدم في الآية المتقدمة وذلك لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أورودا الدلائل في جميع أبواب التكاليف وألزموهم قبولها فالله سبحانه وتعالى إنما أخذ الميثاق منهم على لسان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فذلك التوكيد والالزام هو المراد بأخذ الميثاق وعن سعيد بن جبير قلت لابن عباس ان أصحاب عبدالله يقرؤن وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيّيْنَ ( آل عمران 81 ) فقال أخذ الله ميثاق النبيين على قومهم واعلم أن الزام هذا الاظهار لا شك أنه مخصوص بعلماء القوم الذين يعرفون ما في الكتاب والله أعلم
المسألة الثالثة الضمير في قوله لَتُبَيّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ إلى ماذا يعود فيه قولان قال سعيد بن جبير والسدي هو عائد إلى محمد عليه السلام وعلى هذا التقدير يكون الضمير عائدا إلى معلوم غير مذكور وقال الحسن وقتادة يعود إلى الكتاب في قوله أُوتُواْ الْكِتَابَ أي أخذنا ميثاقهم بأن يبينوا للناس ما في التوراة والانجيل من الدلالة على صدق نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم )
المسألة الرابعة اللام لام التأكيد يدخل على اليمين تقديره استحلفهم ليبيننه
المسألة الخامسة إنما قال ولا تكتمونه ولم يقل ولا تكتمنه لأن الواو واو الحال دون واو العطف والمعنى لتبيننه للناس غير كاتمين
فان قيل البيان يضاد الكتمان فلما أمر بالبيان كان الأمر به نهيا عن الكتمان فما الفائدة في ذكر النهي عن الكتمان
قلنا المراد من البيان ذكر تلك الآيات الدالة على نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من التوراة والانجيل والمراد من النهي عن الكتمان أن لا يلقوا فيها التأويلات الفاسدة والشبهات المعطلة
المسألة السادسة اعلم أن ظاهر هذه الآية وإن كان مختصا باليهود والنصارى فانه لا يبعد أيضاً دخول المسلمين فيه لأنه أهل القرآن وهو أشرف الكتب حكي أن الحجاج أرسل إلى الحسن وقال ما الذي بلغني عنك فقال ما كل الذي بلغنك عني قلته ولا كل ما قلته بلغك قال أنت الذي قلت إن النفاق كان مقموعا فأصبح قد تعمم وتقلد سيفاً فقال نعم فقال وما الذي حملك على هذا ونحن نكرهه قال لأن الله أخذ ميثاق الذين أوتوا الكتاب ليبيننه للناس ولا يكتمونه وقال قتادة مثل علم لا يقال به كمثل كنز لا ينفق منه ومثل حكمة لا تخرج كمثل صنم قائم لا يأكل ولا يشرب وكان يقول طوبى لعالم ناطق ولمستمع واع هذا علم علما فبذله وهذا سمع خيرا فوعاه قال عليه الصلاة والسلام ( من كتم علماً عن أهله ألجم بلجام من نار ) وعن علي رضي الله عنه ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا
ثم قال تعالى فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ والمراد أنهم لم يراعوه ولم يلتفتوا إليه والنبذ وراء الظهر مثل الطرح وترك الاعتداد ونقيضه جعله نصب عينه وإلقاؤه بين عينيه وقوله وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً معناه أنهم أخفوا الحق ليتوسلوا به إلى وجدان شيء من الدنيا

فكل من لم يبين الحق للناس وكتم شيئاً منه لغرض فاسد من تسهيل على الظلمة وتطييب لقلوبهم أو لجر منفعة أو لتقية وخوف أو لبخل بالعلم دخل تحت هذا الوعيد
لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَة ٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ والأرض وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدِيرٌ
اعلم أن هذا من جملة ما دخل تحت قوله وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً ( آل عمران 186 ) فبين تعالى ان من جملة أنواع هذا الأذى أنهم يفرحون بما أتوا به من أنواع الخبث والتلبيس على ضعفة المسلمين ويحبون أن يحمدوا بأنهم أهل البر والتقوى والصدق والديانة ولا شك أن الانسان يتأذى بمشاهدة مثل هذه الأحوال فأمر النبي عليه الصلاة والسلام بالمصابرة عليها وبين ما لهم من الوعيد الشديد وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة وعاصم والكسائي بالتاء المنقطة من فوق وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر بالياء المنقطة من تحت وكذا في قوله فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ أما القراءة الأولى ففيها وجهان أحدهما أن يقرأ كلاهما بفتح الباء والثاني أن يقرأ كلاهما بضم الباء فمن قرأ بالتاء وفتح الباء فيهما جعل التقدير لا تحسبن يا محمد أو أيها السامع ومن ضم الباء فيهما جعل الخطاب للمؤمنين وجعل أحد المفعولين الذين يفرحون والثاني بمفازة وقوله فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَة ٍ تأكيد للأول وحسنت اعادته لطول الكلام كقولك لا تظن زيدا إذا جاءك وكلمك في كذا وكذا فلا تظنه صادقا وأما القراءة الثانية وهي بالياء المنقطة من تحت في قوله لا يَحْسَبَنَّ ففيها أيضا وجهان الأول بفتح الباء وبضمها فيهما جعل الفعل للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) والباقي كما علمت
والوجه الثاني بفتح الباء في الأول وضمها في الثاني وهو قراءة أبي عمرو ووجهه أنه جعل الفعل للذين يفرحون ولم يذكر واحدا من مفعوليه ثم أعاد قوله فَلاَ تَحْسَبَنَّ بضم الباء وقوله هُمْ رفع باسناد الفعل اليه والمفعول الأول محذوف والتقدير ولا تحسبن هؤلاء الذين يفرحون أنفسهم بمفازة من العذاب
المسألة الثانية اعلم أنه تعالى وصف هؤلاء القوم بأنهم يفرحون بفعلهم ويحبون أيضا أن يحمدوا بما لم يفعلوا والمفسرون ذكروا فيه وجوها الأول أن هؤلاء اليهود يحرفون نصوص التوراة ويفسرونها بتفسيرات باطلة ويروجونها على الاغمار من الناس ويفرحون بهذا الصنع ثم يحبون أن يحمدوا بأنهم أهل الدين والديانة والعفاف والصدق والبعد عن الكذب وهو قول ابن عباس وأنت إذا أنصفت عرفت أن أحوال أكثر الخلق كذلك فانهم يأتون بجميع وجوه الحيل في تحصيل الدنيا ويفرحون بوجدان

مطلوبهم ثم يحبون أن يحمدوا بأنهم أهل العفاف والصدق والدين والثاني روي أنه عليه الصلاة والسلام سأل اليهود عن شيء مما في التوراة فكتموا الحق وأخبروا بخلافه وأروه أنهم قد صدقوه وفرحوا بذلك التلبيس وطلبوا من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يثني عليهم بذلك فأطلع رسول الله على هذا السر والمعنى أن هؤلاء اليهود فرحوا بما فعلوا من التلبيس وتوقعوا منك أن تثني عليهم بالصدق والوفاء والثالث يفرحون بما فعلوا من كتمان النصوص الدالة على مبعث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا من اتباع دين إبراهيم حيث ادعوا أن إبراهيم عليه السلام كان على اليهودية وأنهم على دينه الرابع أنه نزل في المنافقين فانهم يفرحون بما أتوا من إظهار الايمان للمسلمين على سبيل النفاق من حيث أنهم كانوا يتوصلون بذلك إلى تحصيل مصالحهم في الدنيا ثم كانوا يتوقعون من النبي عليه الصلاة والسلام أن يحمدهم على الايمان الذي ما كان موجودا في قلوبهم الخامس قال أبو سعيد الخدري نزلت في رجال من المنافقين كانوا يتخلفون عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في الغزو ويفرحون بقعودهم عنه فاذا قدم اعتذروا إليه فيقبل عذرهم ثم طمعوا أن يثني عليهم كما كان يثني عن المسلمين المجاهدين السادس المراد منه كتمانهم ما في التوراة من أخذ الميثاق عليهم بالاعتراف بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وبالاقرار بنبوته ودينه ثم أنهم فرحوا بكتمانهم لذلك وإعراضهم عن نصوص الله تعالى ثم زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة
واعلم أن الأولى أن يحمل على الكل لأن جميع هذه الأمور مشتركة في قدر واحد وهو أن الانسان يأتي بالفعل الذي لا ينبغي ويفرح به ثم يتوقع من الناس أن يصفوه بسداد السيرة واستقامة الطريقة والزهد والاقبال على طاعة الله
المسألة الثالثة في قوله بِمَا أَتَوْاْ بحثان الأول قال الفراء قوله بِمَا أَتَوْاْ يريد فعلوه كقوله وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ ( النساء 16 ) وقوله لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً ( مريم 27 ) أي فعلت قال صاحب ( الكشاف ) أتى وجاء يستعملان بمعنى فعل قال تعالى إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً ( مريم 61 ) لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً ويدل عليه قراءة أبي يَفْرَحُونَ بِمَا فَعَلُواْ
البحث الثاني قرىء آتوا بمعنى أعطوا وعن علي رضي الله عنه بِمَا أُوتُواْ
المسألة الرابعة قوله بِمَفَازَة ٍ مّنَ الْعَذَابِ أي بمنجاة منه من قولهم فاز فلان إذا نجا وقال الفراء أي ببعد من العذاب لأن الفوز معناه التباعد من المكروه وذكر ذلك في قوله فَقَدْ فَازَ ثم حقق ذلك بقوله وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ولا شبهة أن الآية واردة في الكفار والمنافقين الذين أمر الله رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) بالصبر على أذاهم
ثم قال وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ أي لهم عذاب أليم ممن له ملك السموات والأرض فكيف يرجو النجاة من كان معذبه هذا القادر الغالب
إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ والأرض وَاخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لاّيَاتٍ لاٌّ وْلِى الاٌّ لْبَابِ

اعلم أن المقصود من هذا الكتاب الكريم جذب القلوب والأرواح عن الاشتغال بالخلق الى الاستغراق في معرفة الحق فلما طال الكلام في تقرير الاحكام والجواب عن شبهات المبطلين عاد الى إنارة القلوب بذكر ما يدل على التوحيد والالهية والكبرياء والجلال فذكر هذه الآية قال ابن عمر قلت لعائشة أخبريني بأعجب ما رأيت من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فبكت وأطالت ثم قالت كل أمره عجب أتاني في ليلتي فدخل في لحافي حتى ألصق جلده بجلدي ثم قال لي يا عائشة هل لك أن تأذني لي الليلة في عبادة ربي فقلت يا رسول الله إني لأحب قربك وأحب مرادك قد أذنت لك فقام الى قربة من ماء في البيت فتوضأ ولم يكثر من صب الماء ثم قام يصلي فقرأ من القرآن وجعل يبكي ثم رفع يديه فجعل يبكي حتى رأيت دموعه قد بلت الأرض فأتاه بلال يؤذنه بصلاة الغداة فرآه يبكي فقال له يا رسول الله أتبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال يا بلال أفلا أكون عبدا شكورا ثم قال ما لي لا أبكي وقد أنزل الله في هذه الليلة إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ثم قال ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها وروي ويل لمن لاكها بين فكيه ولم يتأمل فيها وعن علي رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان إذا قام من الليل يتسوك ثم ينظر الى السماء ويقول إن في خلق السموات والارض وحكى أن الرجل من بني إسرائيل كان إذا عبد الله ثلاثين سنة أظلته سحابة فعبدها فتى من فتيانهم فما اظلته السحابة فقالت له أمه لعل فرطة صدرت منك في مدتك قال ما أذكر قالت لعلك نظرة مرة الى السماء ولم تعتبر قال نعم قالت فما أتيت إلا من ذلك
واعلم أنه تعالى ذكر هذه الآية في سورة البقرة وذكرها هنا أيضا وختم هذه الآية في سورة البقرة بقوله لآيَاتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( البقرة 164 ) وختمها ههنا بقوله لاَيَاتٍ لاِوْلِى الاْلْبَابِ وذكر في سورة البقرة مع هذه الدلائل الثلاثة خمسة أنواع أخرى حتى كان المجموع ثمانية أنواع من الدلائل وههنا اكتفى بذكر هذه الأنواع الثلاثة وهي السموات والأرض والليل والنهار فهذه أسئلة ثلاثة
السؤال الأول ما الفائدة في إعادة الآية الواحدة باللفظ الواحد في سورتين
والسؤال الثاني لم اكتفي ههنا باعادة ثلاثة أنواع من الدلائل وحذف الخمسة الباقية
والسؤال الثالث لم قال هناك لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( البقرة 164 ) وقال ههنا لاِوْلِى الاْلْبَابِ
فأقول والله أعلم بأسرار كتابه إن سويداء البصيرة تجري مجرى سواد البصر فكما أن سواد البصر لا يقدر أن يستقصي في النظر إلى شيئين بل إذا حدق بصره نحو شيء تعذر عليه في تلك الحالة تحديق البصر نحو شيء آخر فكذلك ههنا إذا حدق الانسان حدقة عقله نحو ملاحظة معقول امتنع عليه في تلك الحالة تحديق حدقة العقل نحو معقول آخر فعلى هذا كلما كان اشتغال العقل بالالتفات إلى المعقولات المختلفة أكثر كان حرمانه عن الاستقصاء في تلك التعقلات والادراكات أكثر فعلى هذا السالك إلى الله لا بد له في أول الأمر من تكثير الدلائل فاذا استنار القلب بنور معرفة الله صار اشتغاله بتلك الدلائل كالحجاب له عن استغراق القلب في معرفة الله فالسالك في أول أمره كان طالباً لتكثير الدلائل فعند وقوع هذا النور في القلب يصير طالباً لتقليل الدلائل حتى إذا زالت الظلمة المتولدة من اشتغال القلب بغير الله كمل فيه تجلى أنوار معرفة الله واليه الاشارة بقوله فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ( طه 12 )

والنعلان هما المقدمتان اللتان بهما يتوصل العقل إلى المعرفة فلما وصل إلى المعرفة أمر بخلعهما وقيل له إنك تريد أن تضع قدميك في وادي قدس الوحدانية فاترك الاشتغال بالدلائل
إذا عرفت هذه القاعدة فذكر في سورة البقرة ثمانية أنواع من الدلائل ثم أعاد في هذه السورة ثلاثة أنواع منها تنبيها على أن العارف بعد صيرورته عارفا لا بد له من تقليل الالتفات الى الدلائل ليكمل له الاستغراق في معرفة المدلول فكان الغرض من إعادة ثلاثة أنواع من الدلائل وحذف البقية التنبيه على ما ذكرناه ثم انه تعالى استقصى في هذه الآية الدلائل السماوية وحذف الدلائل الخمسة الباقية التي هي الدلائل الارضية وذلك لأن الدلائل السماوية أقهر وأبهر والعجائب فيها أكثر وانتقال القلب منها الى عظمة الله وكبريائه أشد ثم ختم تلك الآية بقوله لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وختم هذه الآية بقوله لاِوْلِى الاْلْبَابِ لأن العقل له ظاهر وله لب ففي أول الأمر يكون عقلا وفي كمال الحال يكون لبا وهذا أيضا يقوي ما ذكرناه فهذا ما خطر بالبال والله أعلم بأسرار كلامه العظيم الكريم الحكيم
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ والأرض رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ
اعلم أنه تعالى لما ذكر دلائل الالهية والقدرة والحكمة وهو ما يتصل بتقرير الربوبية ذكر بعدها ما يتصل بالعبودية وأصناف العبودية ثلاثة أقسام التصديق بالقلب والاقرار باللسان والعمل بالجوارح فقوله تعالى يَذْكُرُونَ اللَّهَ إشارة إلى عبودية اللسان وقوله قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ إشارة الى عبودية الجوارح والاعضاء وقوله وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ إشارة الى عبودية القلب والفكر والروح والانسان ليس إلى هذا المجموع فاذا كان اللسان مستغرقا في الذكر والأركان في الشكر والجنان في الفكر كان هذا العبد مستغرفا بجميع أجزائه في العبودية فالآية الأولى دالة على كمال الربوبية وهذه الآية دالة على كمال العبودية فما أحسن هذا الترتيب في جذب الأرواح من الخلق الى الحق وفي نقل الأسرار من جانب عالم الغرور الى جناب الملك الغفور ونقول في الآية مسائل
المسألة الأولى للمفسرين في هذه الآية قولان الأول أن يكون المراد منه كون الانسان دائم الذكر لربه فان الأحوال ليست إلا هذه الثلاثة ثم لما وصفهم بكونهم ذاكرين فيها كان ذلك دليلا على كونهم مواظبين على الذكر غير فاترين عنه ألبتة

والقول الثاني أن المراد من الذكر الصلاة والمعنى أنهم يصلون في حال القيام فان عجزوا ففي حال القعود فان عجزوا ففي حال الاضطجاع والمعنى أنهم لا يتركون الصلاة في شيء من الأحوال والحمل على الأول أولى لأن الآيات الكثيرة ناطقة بفضيلة الذكر وقال عليه الصلاة والسلام ( من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله )
المسألة الثانية يحتمل أن يكون المراد بهذا الذكر هو الذكر باللسان وأن يكون المراد منه الذكر بالقلب والأكمل أن يكون المراد الجمع بين الأمرين
المسألة الثالثة قال الشافعي رضي الله عنه إذا صلى المريض مضطجعاً وجب أن يصلي على جنبه وقال أبو حنيفة رضي الله عنه بل يصلى مستلقياً حتى إذا وجد خفة قعد وحجة الشافعي رضي الله عنه ظاهر هذه الآية وهو أنه تعالى مدح من ذكره على حال الاضطجاع على الجنب فكان هذا الوضع أولى
واعلم أن فيه دقيقة طبية وهو أنه ثبت في المباحث الطبية أن كون الانسان مستلقياً على قفاه يمنع من استكمال الفكر والتدبر وأما كونه مضطجعاً على الجنب فانه غير مانع منه وهذا المقام يراد فيه التدبر والتفكر ولأن الاضطجاع على الجنب يمنع من النوم المغرق فكان هذا الوضع أولى لكونه أقرب إلى اليقظة وإلى الاشتغال بالذكر
المسألة الرابعة محل عَلَى جُنُوبُهُمْ نصب على الحال عطفاً على ما قبله كأنه قيل قياماً وقعوداً ومضطجعين
واعلم أنه تعالى لما وصفهم بالذكر وثبت أن الذكر لا يكمل إلا مع الفكر لا جرم قال بعده وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى رغب في ذكر الله ولما آل الأمر إلى الفكر لم يرغب في الفكر في الله بل رغب في الفكر في أحوال السموات والأرض وعلى وفق هذه الآية قال عليه الصلاة والسلام ( تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخالق ) والسبب في ذلك أن الاستدلال بالخلق على الخالق لا يمكن وقوعه على نعت المماثلة إنما يمكن وقوعه على نعت المخالفة فاذن نستدل بحدوث هذه المحسوسات على قدم خالقها وبكميتها وكيفيتها وشكلها على براءة خالقها عن الكمية والكيفية والشكل وقوله عليه الصلاة والسلام ( من عرف نفسه عرف ربه ) معناه من عرف نفسه بالحدوث عرف ربه بالقدم ومن عرف نفسه بالامكان عرف ربه بالوجوب ومن عرف نفسه بالحاجة عرف ربه بالاستغناء فكان التفكر في الخلق ممكنا من هذا الوجه أما التفكر في الخالق فهو غير ممكن ألبتة فاذن لا يتصور حقيقته إلا بالسلوب فنقول إنه ليس بجوهر ولا عرض ولا مركب ولا مؤلف ولا في الجهة ولا شك أن حقيقته المخصوصة مغايرة لهذه السلوب وتلك الحقيقة المخصوصة لا سبيل للعقل إلى معرفتها فيصير العقل كالواله المدهوش المتحير في هذا الموقف فلهذا السبب نهى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن التفكر في الله وأمر بالتفكر في المخلوقات فلهذه الدقيقة أمر الله في هذه الآيات بذكره ولما ذكر الفكر لم يأمر بالتفكر فيه بل أمر بالفكر في مخلوقاته

المسألة الثانية اعلم أن الشيء الذي لا يمكن معرفته بحقيقته المخصوصة إنما يمكن معرفته بآثاره وأفعاله فكلما كانت أفعاله أشرف وأعلى كان وقوف العقل على كمال ذلك الفاعل أكمل ولذلك ان العامي يعظم اعتقاده في القرآن ولكنه يكون اعتقادا تقليديا إجمالياً أما المفسر المحقق الذي لا يزال يطلع في كل آية على أسرار عجيبة ودقائق لطيفة فانه يكون اعتقاده في عظمة القرآن أكمل
إذا عرفت هذا فنقول دلائل التوحيد محصورة في قسمين دلائل الآفاق ودلائل الأنفس ولا شك أن دلائل الآفاق أجل وأعظم كما قال تعالى لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ( غافر 57 ) ولما كان الأمر كذلك لا جرم أمر في هذه الآية بالفكر في خلق السموات والأرض لأن دلالتها أعجب وشواهدها أعظم وكيف لا نقول ذلك ولو أن الانسان نظر إلى ورقة صغيرة من أوراق شجرة رأى في تلك الورقة عرقا واحداً ممتدا في وسطها ثم يتشعب من ذلك العرق عروق كثيرة إلى الجانبين ثم يتشعب منها عروق دقيقة ولا يزال يتشعب من كل عرق عروق أخر حتى تصير في الدقة بحيث لا يراها البصر وعند هذا يعلم أن للخالق في تدبير تلك الورقة على هذه الخلقة حكما بالغة وأسراراً عجيبة وأن الله تعالى أودع فيها قوى جاذبة لغذائها من قعر الأرض ثم أن ذلك الغذاء يجري في تلك العروق حتى يتوزع على كل جزء من أجزاء تلك الورقة جزء من أجزاء ذلك الغذاء بتقدير العزيز العليم ولو أراد الانسان أن يعرف كيفية خلقة تلك الورقة وكيفية التدبير في إيجادها وإيداع القوى الغاذية والنامية فيها لعجز عنه فاذا عرف أن عقله قاصر عن الوقوف على كيفية خلقة تلك الورقة الصغيرة فحينئذ يقيس تلك الورقة إلى السموات مع ما فيها من الشمس والقمر والنجوم وإلى الأرض مع ما فيها من البحار والجبال والمعادن والنبات والحيوان عرف ان تلك الورقة بالنسبة إلى هذه الأشياء كالعدم فاذا عرف قصور عقله عن معرفة ذلك الشيء الحقير عرف أنه لا سبيل له ألبتة إلى الاطلاع على عجائب حكمة الله في خلق السموات والأرض واذا عرف بهذا البرهان النير قصور عقله وفهمه عن الاحاطة بهذا المقام لم يبق معه إلا الاعتراف بأن الخالق أجل وأعظم من أن يحيط به وصف الواصفين ومعارف العارفين بل يسلم ان كل ما خلقه ففيه حكم بالغة وأسرار عظيمة وان كان لا سبيل له إلى معرفتها فعند هذا يقول سبحانكا والمراد منه اشتغاله بالتسبيح والتهليل والتحميد والتعظيم ثم عند ذلك يشتغل بالدعاء فيقول فقنا عذاب النار وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( بينما رجل مستلق على فراشه إذ رفع رأسه فنظر إلى النجوم وإلى السماء وقال أشهد أن لك ربا وخالقا اللهم اغفر لي فنظر الله اليه فغفر له ) وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا عبادة كالتفكر ) وقيل الفكرة تذهب الغفلة وتجذب للقلب الخشية كما ينبت الماء الزرع وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا تفضلوني على يونس بن متى فانه كان يرفع له كل يوم مثل عمل أهل الأرض ) قالوا وكان ذلك العمل هو التفكر في معرفة الله لأن أحدا لا يقدر أن يعمل بجوارحه مثل عمل أهل الأرض
المسألة الثالثة دلت الآية على أن أعلى مراتب الصديقين التفكر في دلائل الذات والصفات وأن التقليد أمر باطل لا عبرة به ولا التفات اليه
واعلم أنه تعالى حكى عن هؤلاء العباد الصالحين المواظبين على الذكر والفكر أنهم ذكروا خمسة أنواع من الدعاء

النوع الأول قوله رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ وفيه مسائل
المسألة الأولى في الآية إضمار وفيه وجهان قال الواحدي رحمه الله التقدير يقولون ربنا ما خلقت هذا باطلا وقال صاحب ( الكشاف ) انه في محال الحال بمعنى يتفكرون قائلين
المسألة الثانية هذا في قوله مَا خَلَقْتَ هَذا كناية عن المخلوق يعني ما خلقت هذا المخلوق العجيب باطلا وفي كلمة هَاذَا ضرب من التعظيم كقوله إِنَّ هَاذَا الْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِى َ أَقْوَمُ ( الإسراء 9 )
المسألة الثالثة في نصب قوله بَاطِلاً وجوه الأول أنه نعت لمصدر محذوف أي خلقا باطلا الثاني أنه بنزع الخافض تقديره بالباطل أو للباطل الثالث قال صاحب ( الكشاف ) يجوز أن يكون ( باطلا ) حالا من ( هذا )
المسألة الرابعة قالت المعتزلة إن كل ما يفعله الله تعالى فهو إنما يفعله لغرض الاحسان إلى البعيد البعيد ولأجل الحكمة والمراد منها رعاية مصالح العباد واحتجوا عليه بهذه الآية لأنه تعالى لو لم يخلق السموات والأرض لغرض لكان قد خلقها باطلا وذلك ضد هذه الآية قالوا وظهر بهذه الآية أن الذي تقوله المجبرة ان الله تعالى أراد بخلق السموات والأرض صدور الظلم والباطل من أكثر عباده وليكفروا بخالقها وذلك رد لهذه الآية قالوا وقوله سُبْحَانَكَ تنزيه له عن خلقه لهما باطلا وعن كل قبيح وذكر الواحدي كلاما يصلح أن يكون جوابا عن هذه الشبهة فقال الباطل عبارة عن الزائل الذاهب الذي لا يكون له قوة ولا صلابة ولا بقاء وخلق السموات والأرض خلق متقن محكم ألا ترى إلى قوله مَّا تَرَى فِى خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ( الملك 3 ) وقال وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً ( النبأ 12 ) فكان المراد من قوله رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً هذا المعنى لا ما ذكره المعتزلة
فان قيل هذا الوجه مدفوع بوجوه الأول لو كان المراد بالباطل الرخو المتلاشي لكان قوله سُبْحَانَكَ تنزيها له عن أن يخلق مثل هذا الخلق ومعلوم أن ذلك باطل الثاني أنه إنما يحسن وصل قوله فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ به إذا حملناه على المعنى الذي ذكرناه لأن التقدير ما خلقته باطلا بغير حكمة بل خلقته بحكمة عظيمة وهي أن تجعلها مساكن للمكلفين الذين اشتغلوا بطاعتك وتحرزوا عن معصيتك فقنا عذاب النار لأنه جزاء من عصي ولم يطع فثبت أنا إذا فسرنا قوله وَمَا خَلَقْتُ هَذا بَاطِلاً بما ذكرنا حسن هذا النظم أما إذا فسرناه بأنك خلقته محكما شديد التركيب لم يحسن هذا النظم الثالث أنه تعالى ذكر هذا في آية أخرى فقال وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذالِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وقال في آية أخرى وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقّ ( الدخان 38 39 ) وقال في آية أخرى أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً إِلَى ( المؤمنون 115 ) قوله فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ( المؤمنون 116 ) أي فتعالى الملك الحق عن أن يكون فعله عباث وإذا امتنع أن يكون عبثا فبأن يمتنع كونه باطلا أولى
والجواب اعلم ان بديهة العقل شاهدة بأن الموجود إما واجب لذاته وإما ممكن لذاته وشاهده أن كل ممكن لذاته فانه لا بد وأن ينتهي في رجحانه إلى الواجب لذاته وليس في هذه القضية تخصيص

بكون ذلك الممكن مغايرا لافعال العباد بل هذه القضية على عمومها قضية يشهد العقل بصحتها وإذا كان كذلك وجب أن يكون الخير والشر بقضاء الله واذا كان كذلك امتنع يكون المراد من هذه الآية تعليل أفعال الله تعالى بالمصالح إذا عرفت هذا فنقول لم لا يجوز أن يكون تأويل الآية ما حكيناه عن الواحدي قوله ولو كان كذلك لكان قوله سُبْحَانَكَ تنزيها له عن فعل ما لا شدة فيه ولا صلابة وذلك باطل قلنا لم لا يجوز أن يكون المراد ربنا ما خلقت هذا رخوا فاسد التركيب بل خلقته صلبا محكما وقوله سُبْحَانَكَ معناه انك وان خلقت السموات والأرض صلبة شديدة باقية فأنت منزه عن الاحتياج اليه والانتفاع به فيكون قوله سُبْحَانَكَ معناه هذا قوله ثانيا إنما حسن وصل قوله فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ به إذا فسرناه بقولنا قلنا لا نسلم بل وجه النظم انه لما قال سُبْحَانَكَ اعترف بكونه غنياً عن كل ما سواه فعندما وصفه بالغنى أقر لنفسه بالعجز والحاجة اليه في الدنيا والآخرة فقال فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ وهذا الوجه في حسن النظم ان لم يكن أحسن مما ذكرتم لم يكن أقل منه وأما سائر الآيات التي ذكرتموها فهي دالة على أن أفعاله منزهة عن أن تكون موصوفة بكونها عبثا ولعبا وباطلا ونحن نقول بموجبه وان أفعال الله كلها حكمة وصواب لأنه تعالى لا يتصرف إلا في ملكه وملكه فكان حكمه صوابا على الاطلاق فهذا ما في هذه المناظرة والله أعلم
المسألة الخامسة احتج حكماء الإسلام بهذه الآية على أنه سبحانه خلق هذه الافلاك والكواكب وأودع في كل واحد منها قوى مخصوصة وجعلها بحيث يحصل من حركاتها واتصال بعضها ببعض مصالح هذا العالم ومنافع سكان هذه البقعة الارضية قالوا لأنها لو لم تكن كذلك لكانت باطلة وذلك رد للآية قالوا وليس لقائل أن يقول الفائدة فيها الاستدلال بها على وجود الصانع المختار وذلك لأن كل واحد من كرات الهواء والماء يشارك الافلاك والكواكب في هذا المعنى فحينئذ لا يبقى لخصوص كونه فلكا وشمسا وقمرا فائدة فيكون باطلا وهو خلاف هذا النص
أجاب المتكلمون عنه بأن قالوا لم لا يكفي في هذا المعنى كونها أسباباً على مجرى العادة لا على سبيل الحقيقة
أما قوله تعالى سُبْحَانَكَ فقيه مسألتان
المسألة الأولى هذا إقرار بعجز العقول عن الاحاطة بآثار حكمة الله في خلق السموات والأرض يعني أن الخلق إذا تفكروا في هذه الأجسام العظيمة لم يعرفوا منها إلا هذا القدر وهو أن خالقها ما خلقها باطلا بل خلقها لحكم عجيبة وأسرار عظيمة وإن كانت العقول قاصرة عن معرفتها
المسألة الثانية المقصود منه تعليم الله عباده كيفية الدعاء وذلك أن من أراد الدعاء فلا بد وأن يقدم الثناء ثم يذكر بعده الدعاء كما في هذه الآية
أما قوله تعالى فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ فاعلم أنه تعالى لما حكى عن هؤلاء العباد المخلصين أن ألسنتهم مستغرقة بذكر الله تعالى وأبدانهم في طاعة الله وقلوبهم في التفكر في دلائل عظمة الله ذكر أنهم مع هذه الطاعات يطلبون من الله أن يقيهم عذاب النار ولولا أنه يحسن من الله تعذيبهم وإلا لكان هذا الدعاء عبثاً فان كان المعتزلة ظنوا أن أول الآية حجة لهم فليعلموا أن آخر هذه الآية حجة لنا في

أنه لا يقبح من الله شيء أصلا ومثل هذا التضرع ما حكاه الله تعالى عن إبراهيم في قوله وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِينِ ( الشعراء 82 )
النوع الثاني من دعواتهم قوله تعالى حكاية عنهم رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنهم لما سألوا ربهم أن يقيهم عذاب النار أتبعوا ذلك بما يدل على عظم ذلك العقاب وشدته وهو الخزي ليكون موقع السؤال أعظم لأن من سأل ربه أن يفعل شيئاً أو أن لا يفعله إذا شرح عظم ذلك المطلوب وقوته كانت داعيته في ذلك الدعاء أكمل وإخلاصه في طلبه أشد والدعاء لا يتصل بالاجابة إلا إذا كان مقروناً بالاخص فهذا تعليم من الله عباده في كيفية إيراد الدعاء
المسألة الثانية قال الواحدي الاخزاء في اللغة يرد على معان يقرب بعضها من بعض قال الزجاج أخزى الله العدو أي أبعده وقال غيره أخزاه الله أي أهانه وقال شمر بن حمدويه أخزاه الله أي فضحه الله وفي القرآن وَلاَ تُخْزُونِ فِى ضَيْفِى ( هود 78 ) وقال المفضل أخزاه الله أي أهلكه وقال ابن الانباري الخزي في اللغة الهلاك بتلف أو انقطاع حجة أو بوقوع في بلاء وكل هذه الوجوه متقاربة ثم قال صاحب ( الكشاف ) فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ أي قد أبلغت في إخزائه وهو نظير ما يقال من سبق فلاناً فقد سبق ومن تعلم من فلان فقد تعلم
المسألة الثالثة قالت المعتزلة هذه الآية دالة على أن صاحب الكبيرة من أهل الصلاة ليس بمؤمن وذلك لأن صاحب الكبيرة إذا دخل النار فقد أخزاه الله لدلالة هذه الآية والمؤمن لا يخزى لقوله تعالى يَوْمٌ لاَّ إِلَى اللَّهِ تَوْبَة ً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ فوجب من مجموع هاتين الآيتين أن لا يكون صاحب الكبيرة مؤمنا
والجواب أن قوله يَوْمٌ لاَّ إِلَى اللَّهِ تَوْبَة ً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ ( التحريم 8 ) لا يقتضي نفي الاخزاء مطلقا وإنما يقتضي أن لا يحصل الاخزاء حال ما يكون مع النبي وهذا النفي لا يناقضه إثبات الاخزاء في الجملة لاحتمال أن يحصل ذلك الاثبات في وقت آخر هذا هو الذي صح عندي في الجواب وذكر الواحدي في البسيط أجوبة ثلاثة سوى ما ذكرناه أحدها أنه نقل عن سعيد بن المسيب والثوري وقتادة أن قوله إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ مخصوص بمن يدخل النار للخلود وهذا الجواب عندي ضعيف لأن مذهب المعتزلة أن كل فاسق دخل النار فانما دخلها للخلود فهذا لا يكون سؤالا عنهم ثانيها قال المدخل في النار مخزي في حال دخوله وإن كانت عاقبته أن يخرج منها وهذا ضعيف أيضا لأن موضع الاستدلال أن قوله يَوْمٌ لاَّ إِلَى اللَّهِ تَوْبَة ً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ ( التحريم 8 ) يدل على نفي الخزي عن المؤمنين على الاطلاق وهذه الآية دلت على حصول الخزي لكل من دخل النار فحصل بحكم هاتين الآيتين بين كونه مؤمنا وبين كونه كافرا ممن يدخل النار منافاة وثالثها قال الاخزاء يحتمل وجهين أحدهما الاهانة والاهلاك والثاني التخجيل يقال خزي خزاية إذا استحيا وأخزاه غيره إذا عمل به عملا يخجله ويستحيى منه

واعلم أن حاصل هذا الجواب أن لفظ الاخزاء لفظ مشترك بين التخجيل وبين الاهلاك واللفظ المشترك لا يمكن حمله في طرفي النفي والاثبات على معنييه جميعا واذا كان كذلك جاز أن يكون المنفى بقوله يَوْمٌ لاَّ إِلَى اللَّهِ تَوْبَة ً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ غير المثبت في قوله إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وعلى هذا يسقط الاستدلال إلا أن هذا الجواب إنما يتمشى إذا كان لفظ الاخزاء مشتركا بين هذين المفهومين أما إذا كان لفظا متواطئا مفيدا لمعنى واحد وكان المعنيان اللذان ذكرهما الواحدي نوعين تحت جنس واحد سقط هذا الجواب لأن قوله لا إِلَى اللَّهِ تَوْبَة ً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ لنفي الجنس وقوله فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ لاثبات النوع وحينئذ يحصل بينهما منافاة
المسألة الرابعة احتجت المرجئة بهذه الآية في القطع على أن صاحب الكبيرة لا يخزي وكل من دخل النار فانه يخزي فيلزم القطع بأن صاحب الكبيرة لا يدخل النار إنما قلنا صاحب الكبيرة لا يخزى لأن صاحب الكبيرة مؤمن والمؤمن لا يخزى إنما قلنا إنه مؤمن لقوله تعالى وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الاخْرَى فَقَاتِلُواْ الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِىء إِلَى أَمْرِ ( الحجرات 9 ) سمي الباغي حال كونه باغياً مؤمناً والبغي من الكبائر بالاجماع وأيضا قال تعالى الْمُتَّقُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ( البقرة 178 ) سمي القاتل بالعمد العدوان مؤمناً فثبت أن صاحب الكبيرة مؤمن وإنما قلنا إن المؤمن لا يخزى لقوله يَوْمٌ لاَّ إِلَى اللَّهِ تَوْبَة ً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ ( التحريم 8 ) ولقوله وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَة ِ ( آل عمران 194 )
ثم قال تعالى فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ ( آل عمران 195 ) وهذه الاستجابة تدل على أنه تعالى لا يخزي المؤمنين فثبت بما ذكرنا أن صاحب الكبيرة لا يخزى بالنار وإنما قلنا إن كل من دخل النار فانه يخزى لقوله تعالى إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وحينئذ يتولد من هاتين المقدمتين القطع بأن صاحب الكبيرة لا يدخل النار
والجواب عنه ما تقدم أن قوله يَوْمٌ لاَّ إِلَى اللَّهِ تَوْبَة ً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ ( التحريم 8 ) لا يدل على نفي الاخزاء مطلقاً بل يدل على نفي الاخزاء حال كونهم مع النبي وذلك لا ينافي حصول الاخزاء في وقت آخر
المسألة الخامسة قوله إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ عام دخله الخصوص في مواضع منها أن قوله تعالى وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً ثُمَّ نُنَجّى الَّذِينَ اتَّقَواْ ( مريم 71 72 ) يدل على أن كل المؤمنين يدخلون النار وأهل الثواب يصانون عن الخزي وثانيها أن الملائكة الذين هم خزنة جهنم يكونون في النار وهم أيضا يصانون عن الخزي قال تعالى عَلَيْهَا مَلَئِكَة ٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ ( التحريم 6 )
المسألة السادسة احتج حكماء الإسلام بهذه الآية على أن العذاب الروحاني أشد وأقوى من العذاب الجسماني قالوا لأن الآية دالة على التهديد بعد عذاب النار بالخزي والخزي عبارة عن التخجيل وهو عذاب روحاني فلولا أن العذاب الروحاني أقوى من العذاب الجسماني وإلا لما حسن تهديد من عذب بالنار بعذاب الخزي والخجالة

المسألة السابعة احتجت المعتزلة بهذه الآية على أن الفساق الذين دخلوا النار لا يخرجون منها بل يبقون هناك مخلدين وقالوا الخزي هو الهلاك فقوله إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ معناه فقد أهلكته ولو كانوا يخرجون من النار الى الجنة لما صح أن كل من دخل النار فقد هلك والجواب أنا لا نفسر الخزي بالاهلاك بل نفسره بالاهانة والتخجيل وعند هذا يزول كلامكم
أما قوله تعالى وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ وفيه مسألتان
المسألة الأولى المعتزلة تمسكوا به في نفي الشفاعة للفساق وذلك لأن الشفاعة نوع نصرة ونفي الجنس يقتضي نفي النوع
والجواب من وجوه الأول أن القرآن دل على أن الظالم بالاطلاق هو الكافر قال تعالى وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( البقرة 254 ) ومما يؤكد هذا أنه تعالى حكى عن الكفار أنهم خصصوا أنفسهم بنفي الشفعاء والأنصار حيث قالوا فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ وثانيها إن الشفيع لا يمكنه أن يشفع إلا باذن الله قال تعالى مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ( البقرة 255 ) واذا كان كذلك لم يكن الشفيع قادرا على النصرة إلا بعد الاذن واذا حصل الاذن لم يكن في شفاعته فائدة في الحقيقة وعند ذلك يظهر أن العفو إنما حصل من الله تعالى وتلك الشفاعة ما كان لها تأثير في نفس الأمر وليس الحكم إلا لله فقوله وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ يفيد أنه لا حكم إلا الله كما قال أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وقال وَالاْمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ( الأنفطار 19 ) لا يقال فعلى هذا التقدير لا يبقى لتخصيص الظالمين بهذا الحكم فائدة لأنا نقول بل فيه فائدة لأنه وعد المؤمنين المتقين في الدنيا بالفوز بالثواب والنجاة من العقاب فلهم يوم القيامة هذه الحجة اما الفساق فليس لهم ذلك فصح تخصيصهم بنفي الأنصار على الاطلاق الثالث أن هذه الآية عامة وواردة بثبوت الشفاعة خاصة والخاص مقدم على العام والله أعلم
المسألة الثانية المعتزلة تمسكوا في أن الفاسق لا يخرج من النار قالوا لو خرج من النار لكان من أخرجه منها ناصرا له والآية دالة على أنه لا ناصر له ألبتة
والجواب المعارضة بالآيات الدالة على العفو كما ذكرناه في سورة البقرة
النوع الثالث من دعواتهم
رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِى لِلإِيمَانِ أَنْ ءَامِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَأامَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الاٌّ بْرَارِ
في الآية مسائل
المسألة الأولى في المنادى قولان أحدهما أنه محمد عليه الصلاة والسلام وهو قول الأكثرين

والدليل عليه قوله تعالى ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ ( النحل 125 ) وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ ( الأحزاب 46 ) أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ( يوسف 108 ) والثاني أنه هو القرآن قالوا إنه تعالى حكى عن مؤمني الانس ذلك كما حكى عن مؤمني الجن قوله قُلْ أُوحِى َ إِلَى َّ أَنَّهُ يَهْدِى إِلَى الرُّشْدِ فَئَامَنَّا بِهِ ( الجن 1 2 ) قالوا والدليل على أن تفسير الآية بهذا الوجه أولى لأنه ليس كل أحد لقي النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أما القرآن فكل أحد سمعه وفهمه قالوا وهذا وان كان مجازا إلا أنه مجاز متعارف لأن القرآن لما كان مشتملا على الرشد وكان كل من تأمله وصل به إلى الهدى إذا وفقه الله تعالى لذلك فصار كأنه يدعو الى نفسه وينادي بما فيه من أنواع الدلائل كما قيل في جهنم تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى ( المعارج 17 ) إذ كان مصيرهم اليها والفصحاء والشعراء يصفون الدهر بأنه ينادي ويعظ ومرادهم منها دلالة تصاريف الزمان قال الشاعر
يا واضع الميت في قبره خاطبك الدهر فلم تسمع
المسألة الثانية في قوله يُنَادِى لِلإِيمَانِ وجوه الأول ان اللام بمعنى ( إلى ) كقوله ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ( المجادلة 3 ) ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ ( المجادلة 8 ) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا ( الزلزلة 5 ) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى هَدَانَا لِهَاذَا ( الأعراف 43 ) ويقال دعاه لكذا والى كذا وندبه له واليه وناداه له وإليه وهداه للطريق واليه والسبب في إقامة كل واحدة من هاتين اللفظتين مقام الأخرى أن معنى انتهاء الغاية ومعنى الاختصاص حاصلان جميعا الثاني قال أبو عبيدة هذا على التقديم والتأخير أي سمعنا مناديا للايمان ينادي بأن آمنوا كما يقال جاءنا منادي الأمير ينادي بكذا وكذا والثالث أن هذه اللام لام الأجل والمعنى سمعنا مناديا كان نداؤه ليؤمن الناس أي كان المنادي ينادي لهذا الغرض ألا تراه قال رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا أي لتؤمن الناس وهو كقوله وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ( النساء 64 )
المسألة الثالثة قوله سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِى نظيره قولك سمعت رجلا يقول كذا وسمعت زيدا يتكلم فيوقع الفعل على الرجل ويحذف المسموع لأنك وصفته بما يسمع وجعلته حالا عنه فاغناك عن ذكره ولأن الوصف أو الحال لم يكن بد منه وانه يقال سمعت كلام فلان أو قوله
المسألة الرابعة ههنا سؤال وهو أن يقال ما الفائدة في الجمع بين المنادي وينادي
وجوابه ذكر النداء مطلقا ثم مقيدا بالايمان تفخيما لشأن المنادي لأنه لا منادي أعظم من مناد ينادي للايمان ونظيره قولك مررت بهاد يهدي للاسلام وذلك لأن المنادي إذا أطلق ذهب الوهم الى مناد للحرب أو لاطفاء النائرة أو لاغاثة المكروب أو الكفاية لبعض النوازل وكذلك الهادي وقد يطلق على من يهدي للطريق ويهدي لسداد الرأي فاذا قلت ينادي للايمان ويهدي للاسلام فقد رفعت من شأن المنادي والهادي وفخمته
المسألة الخامسة قوله وَإِذَا أُنزِلَتْ فيه حذف أو إضمار والتقدير آمنوا أو بأن آمنوا ثم حكى الله عنهم أنهم قالوا بعد ذلك فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفّرْ عَنَّا سَيّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الاْبْرَارِ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أعلم أنهم طلبوا من الله تعالى في هذا الدعاء ثلاثة أشياء أولها غفران

الذنوب وثانيها تكفير السيئات وثالثها أن تكون وفاتهم مع الأبرار أما الغفران فهو الستر والتغطية والتكفير أيضا هو التغطية يقال رجل مكفر بالسلاح أي مغطى به والكفر منه أيضا وقال لبيد
في ليلة كفر النجوم ظلامها
اذا عرفت هذا فالمغفرة والتكفير بحسب اللغة معناهما شيء واحد
أما المفسرون فذكروا فيه وجوها أحدها أن المراد بهما شيء واحد وإنما أعيد ذلك للتأكيد لأن الالحاح في الدعاء والمبالغة فيه مندوب وثانيها المراد بالأول ما تقدم من الذنوب وبالثاني المستأنف وثالثها أن يريد بالغفران ما يزول بالتوبة وبالكفران ما تكفره الطاعة العظيمة ورابعها أن يكون المراد بالاول ما أتى به الانسان مع العلم بكونه معصية وذنبا وبالثاني ما أتى به الانسان مع جهله بكونه معصية وذنبا
وأما قوله وَتَوَفَّنَا مَعَ الاْبْرَارِ ففيه بحثان الأول أن الأبرار جمع بر أو بار كرب وأرباب وصاحب وأصحاب الثاني ذكر القفال في تفسير هذه المعية وجهين الأول أن وفاتهم معهم هي أن يموتوا على مثل أعمالهم حتى يكونوا في درجاتهم يوم القيامة قد يقول الرجل أنا مع الشافعي في هذه المسألة ويريد به كونه مساويا له في ذلك الاعتقاد والثاني يقال فلان في العطاء مع أصحاب الألوف أي هو مشارك لهم في أنه يعطي ألفا والثالث أن يكون المراد منه كونهم في جملة أتباع الأبرار وأشياعهم ومنه قوله فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ النَّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ ( النساء 69 )
المسألة الثانية احتج أصحابنا على حصول العفو بدون التوبة بهذه الآية أعني قوله تعالى حكاية عنهم فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا ( آل عمران 16 ) والاستدلال به من وجهين الأول أنهم طلبوا غفران الذنوب ولم يكن للتوبة فيه ذكر فدل على أنهم طلبوا المغفرة مطلقا ثم ان الله تعالى أجابهم اليه لأنه قال في آخر الآية فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ ( آل عمران 195 ) وهذا صريح في أنه تعالى قد يعفو عن الذنب وان لم توجد التوبة والثاني وهو أنه تعالى حكى عنهم أنهم لما أخبروا عن أنفسهم بأنهم آمنوا فعند هذا قالوا فاغفر لنا ذنوبنا والفاء في قوله فَاغْفِرْ فاء الجزاء وهذا يدل على أن مجرد الايمان سبب لحسن طلب المغفرة من الله ثم ان الله تعالى أجابهم اليه بقوله فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ فدلت هذه الآية على ان مجرد الايمان سبب لحصول الغفران إما من الابتداء وهو بأن يعفو عنهم ولا يدخلهم النار أو بأن يدخلهم النار ويعذبهم مدة ثم يعفو عنهم ويخرجهم من النار فثبت دلالة هذه الآية من هذين الوجهين على حصول العفو
المسألة الثالثة احتج أصحابنا بهذه الآية على أن شفاعة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في حق أصحاب الكبائر مقبولة يوم القيامة وذلك لأن هذه الآية دلت على أن هؤلاء المؤمنين طلبوا من الله غفران الذنوب مطلقا من غير أن قيدوا ذلك بالتوبة فأجاب الله قولهم وأعطاهم مطلوبهم فاذا قبل شفاعة المؤمنين في العفو عن الذنب فلأن يقبل شفاعة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فيه كان أولى
النوع الرابع من دعائهم

رَبَّنَا وَءَاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَة ِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله رَبَّنَا وَءاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى فيه حذف المضاف ثم فيه وجوه أحدها وآتنا ما وعدتنا على ألسنة رسلك وثانيها وآتنا ما وعدتنا على تصديق رسلك والدليل عليه أن هذه الآية مذكورة عقيب ذكر المنادي للايمان وهو الرسول وعقيب قوله مِنَ وهو التصديق
المسألة الثانية ههنا سؤال وهو أن الخلف في وعد الله محال فكيف طلبوا بالدعاء ما علموا أنه لا محالة واقع
والجواب عنه من وجوه الأول أنه ليس المقصود من الدعاء طلب الفعل بل المقصود منه إظهار الخضوع والذلة والعبودية وقد أمرنا بالدعاء في أشياء نعلم قطعا أنها توجد لا محالة كقوله قُل رَّبّ احْكُم بِالْحَقّ ( الأنبياء 112 ) وقوله فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَاتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ ( غافر 7 )
والوجه الثاني في الجواب أن وعد الله لا يتناول آحاد الأمة بأعيانهم بل إنما يتناولهم بحسب أوصافهم فانه تعالى وعد المتقين بالثواب ووعد الفساق بالعقاب فقوله رَبَّنَا وَءاتِنَا مَا معناه وفقنا للاعمال التي بها نصير أهلا لوعدك واعصمنا من الأعمال التي نصير بها أهلا للعقاب والخزي وعلى هذا التقدير يكون المقصود من هذه الآية طلب التوفيق للطاعة والعصمة عن المعصية
الوجه الثالث ان الله تعالى وعد المؤمنين بأن ينصرهم في الدنيا ويقهر عدوهم فهم طلبوا تعجيل ذلك وعلى هذا التقدير يزول الاشكال
المسألة الثالثة الآية دلت على أنهم إنما طلبوا منافع الآخرة بحكم الوعد لا بحكم الاستحقاق لأنهم قالوا ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك وفي آخر الكلام قالوا إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ وهذا يدل على أن المقتضى لحصول منافع الآخرة هو الوعد لا الاستحقاق
المسألة الرابعة ههنا سؤال آخر وهو أنه متى حصل الثواب كان اندفاع العقاب لازما لا محالة فقوله أَتَانَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ طلب للثواب فبعد طلب الثواب كيف طلب ترك العقاب وهو قوله وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَة ِ بل لو طلب ترك العقاب أولا ثم طلب إيصال الثواب كان الكلام مستقيما
والجواب من وجهين الأول أن الثواب شرطه أن يكون منفعة مقرونة بالتعظيم والسرور فقوله أَتَانَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ المراد منه المنافع وقوله وَلاَ تُخْزِنَا المراد منه التعظيم الثاني أنا قد بينا أن المقصود من هذه الآية طلب التوفيق على الطاعة والعصمة عن المعصية وعلى هذا التقدير يحسن النظم كأنه قيل وفقنا للطاعات واذا وفقنا لها فاعصمنا عما يبطلها ويزيلها ويوقعنا في الخزي والهلاك والحاصل كأنه قيل وفقنا لطاعتك فانا لا نقدر على شيء من الطاعات إلا بتوفيقك واذا

وفقت لفعلها فوفقنا لاستبقائها فانا لا نقدر على استبقائها واستدامتها إلا بتوفيقك وهو إشارة الى أن العبد لا يمكنه عمل من الأعمال ولا فعل من الأفعال ولا لمحة ولا حركة إلا باعانة الله وتوفيقه
المسألة الخامسة قوله وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَة ِ شبيه بقوله وَبَدَا لَهُمْ مّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ ( الزمر 47 ) فانه ربما ظن الانسان أنه على الاعتقاد الحق والعمل الصالح ثم انه يوم القيامة يظهر له أن اعتقاده كان ضلالا وعمله كان ذنبا فهناك تحصل الخجالة العظيمة والحسرة الكاملة والأسف الشديد ثم قال حكماء الإسلام وذلك هو العذاب الروحاني قالوا وهذا العذاب أشد من العذاب الجسماني ومما يدل على هذا أنه سبحانه حكى عن هؤلاء العباد المؤمنين أنهم طلبوا في هذا الدعاء أشياء فأول مطالبهم الاحتراز عن العذاب الجسماني وهو قوله فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ( آل عمران 191 ) وآخرها الاحتراز عن العذاب الروحاني وهو قوله وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَة ِ وذلك يدل على أن العذاب الروحاني أشد من العذاب الجسماني
فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِى سَبِيلِى وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ ثَوَاباً مِّن عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ
اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم عرفوا الله بالدليل وهو قوله إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( البقرة 164 ) إلى قوله لاَيَاتٍ لاِوْلِى الاْلْبَابِ ( آل عمران 190 ) ثم حكى عنهم مواظبتهم على الذكر وهو قوله الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وعلى التفكر وهو قوله وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ثم حكى عنهم أنهم أثنوا على الله تعالى وهو قولهم رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ ( آل عمران 191 ) ثم حكى عنهم أنهم بعد الثناء اشتغلوا بالدعاء وهو من قولهم فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ( آل عمران 191 ) إلى قوله إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ( آل عمران 194 ) بين في هذه الآية أنه استجاب دعاءهم فقال فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في الآية تنبيه على أن استجابة الدعاء مشروطة بهذه الأمور فلما كان حصول هذه الشرائط عزيزا لا جرم كان الشخص الذي يكون مجاب الدعاء عزيزا
المسألة الثانية قال صاحب الكشاف يقال استجابه واستجاب له قال الشاعر وداع دعا يا من يجيب إلى الندا
فلم يستجبه عند ذاك مجيب
وقال تعالى مُّعْرِضُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ ( الأنفال 34 )

المسألة الثالثة أني لا أضيع قرىء بالفتح والتقدير بأني لا أضيع وبالكسر على إرادة القول وقرىء لاَ أُضِيعُ بالتشديد
المسألة الرابعة من في قوله مّن ذِكْرِ قيل للتبيين كقوله فَاجْتَنِبُواْ الرّجْسَ مِنَ الاْوْثَانِ ( الحج 30 ) وقيل إنها مؤكدة للنفي بمعنى عمل عامل منكم ذكر أو أنثى
المسألة الخامسة اعلم أنه ليس المراد أنه لا يضيع نفس العمل لأن العمل كلما وجد تلاشى وفنى بل المراد أنه لا يضيع ثواب العمل والاضاعة عبارة عن ترك الاثابة فقوله لاَ أُضِيعُ نفي للنفي فيكون اثباتا فيصير المعنى اني أوصل ثواب جميع أعمالهم اليكم إذا ثبت ما قلنا فالآية دالة على أن أحدا من المؤمنين لا يبقى في النار مخلدا والدليل عليه أنه بايمانه استحق ثوابا وبمعصيته استحق عقابا فلا بد من وصولهما اليه بحكم هذه الآية والجمع بينهما محال فاما أن يقدم الثواب ثم ينقله الى العقاب وهو باطل بالاجماع أو يقدم العقاب ثم ينقله الى الثواب وهو المطلوب
المسألة السادسة جمهور المفسرين فسروا الآية بأن معناها أنه تعالى قبل منهم أنه يجازيهم على أعمالهم وطاعاتهم ويوصل ثواب تلك الاعمال اليهم
فان قيل القوم أولا طلبوا غفران الذنوب وثانيا إعطاء الثواب فقوله أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ إجابة لهم في إعطاء الثواب فأين الإجابة في طلب غفران الذنوب
قلنا إنه لا يلزم من إسقاط العذاب حصول الثواب لكن يلزم من حصول الثواب سقوط العقاب فصار قوله أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ اجابة لدعائهم في المطلوبين وعندي في الآية وجه آخر وهو أن المراد من قوله أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ أني لا أضيع دعاءكم وعدم إضاعة الدعاء عبارة عن إجابة الدعاء فكان المراد منه أنه حصلت اجابة دعائكم في كل ما طلبتموه وسألتموه
وأما قوله تعالى مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى فالمعنى أنه لا تفاوت في الاجابة وفي الثواب بين الذكر والانثى إذا كانا جميعا في التمسك بالطاعة على السوية وهذا يدل على أن الفضل في باب الدين بالاعمال لا بسائر صفات العاملين لان كون بعضهم ذكرا أو أنثى أو من نسب خسيس أو شريف لا تأثير له في هذا الباب ومثله قوله تعالى لَّيْسَ بِأَمَانِيّكُمْ وَلا أَمَانِى ّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ ( النساء 123 ) وروي أن أم سلمة قالت يا رسول الله إني لأسمع الله يذكر الرجال في الهجرة ولا يذكر النساء فنزلت هذه الآية
أما قوله تعالى بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ ففيه وجوه أحسنا أن يقال مِنْ بمعنى الكاف أي بعضكم كبعض ومثل بعض في الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية قال القفال هذا من قولهم فلان مني أي على خلقي وسيرتي قال تعالى فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنّى ( البقرة 249 ) وقال عليه الصلاة والسلام ( من غشنا فليس منا ) وقال ( ليس منا من حمل علينا السلاح ) فقوله بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ أي بعضكم شبه بعض في استحقاق الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية فكيف يمكن إدخال التفاوت فيه

ثم قال تعالى فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِى سَبِيلِى وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لاكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وَلاَدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ والمراد من قوله الَّذِينَ هَاجَرُواْ الذين اختاروا المهاجرة من أوطانهم في خدمة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) والمراد من الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم الذين ألجأهم الكفار الى الخروج ولا شك أن رتبة الأولين أفضل لانهم اختاروا خدمة الرسول عليه السلام وملازمته على الاختيار فكانوا أفضل وقوله وَأُوذُواْ فِى سَبِيلِى أي من أجله وسببه وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لان المقاتلة تكون قبل القتال قرأ نافع وعاصم وأبو عمرو وَقَاتِلُواْ بالالف أولا وَقُتّلُواْ مخففة والمعنى أنهم قاتلوا معه حتى قتلوا وقرأ ابن كثير وابن عامر وَقَاتِلُواْ أولا وَقُتّلُواْ مشددة قيل التشديد للمبالغة وتكرر القتل فيهم كقوله مُّفَتَّحَة ً لَّهُمُ الاْبْوَابُ ( ص 50 ) وقيل قطعوا عن الحسن وقرأ حمزة والكسائي وَقُتّلُواْ بغير ألف أولا وَقَاتِلُواْ بالالف بعده وفيه وجوه الأول أن الواو لا توجب الترتيب كما في قوله وَاسْجُدِى وَارْكَعِى ( آل عمران 43 ) والثاني على قولهم قتلنا ورب الكعبة إذا ظهرت أمارات القتل أو إذا قتل قومه وعشائره والثالث باضمار ( قد ) أي قتلوا وقد قاتلوا
ثم ان الله تعالى وعد من فعل هذا بأمور ثلاثة أولها محو السيئات وغفران الذنوب وهو قوله لاكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وذلك هو الذي طلبوه بقولهم فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفّرْ عَنَّا سَيّئَاتِنَا ( آل عمران 193 ) وثانيها إعطاء الثواب العظيم وهو قوله وَلاَدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ وهو الذي طلبوه بقولهم وآتنا ما وعدتنا على رسلك وثالثها أن يكون ذلك الثواب ثوابا عظيما مقرونا بالتعظيم والاجلال وهو قوله مِنْ عِندِ اللَّهِ وهو الذي قالوه وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَة ِ لانه سبحانه هو العظيم الذي لا نهاية لعظمته واذا قال السلطان العظيم لعبده اني أخلع عليك خلعة من عندي دل ذلك على كون تلك الخلعة في نهاية الشرف وقوله ثَوَاباً مصدر مؤكد والتقدير لأثيبنهم ثوابا من عند الله أي لأثيبنهم إثابة أو تثويبا من عند الله لان قوله لأكفرن عنهم ولأدخلنهم في معنى لأثيبنهم ثم قال وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ وهو تأكيد ليكون ذلك الثواب في غاية الشرف لأنه تعالى لما كان قادرا على كل المقدورات عالما بكل المعلومات غنياً عن الحاجات كان لا محالة في غاية الكرم والجود والاحسان فكان عنده حسن الثواب روي عن جعفر الصادق أنه قال من حزبه أمر فقال خمس مرات ربنا أنجاه الله مما يخاف وأعطاه ما أراد وقرأ هذه الآية قال لأن الله حكى عنهم أنهم قالوا خمس مرات ربنا ثم أخبر أنه استجاب لهم
لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى الْبِلَادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ
واعلم أنه تعالى لما وعد المؤمنين بالثواب العظيم وكانوا في الدنيا في نهاية الفقر والشدة والكفار كانوا في النعم ذكر الله تعالى هذه الآية ما يسليهم ويصبرهم على تلك الشدة فقال لاَ يَغُرَّنَّكَ وفيه مسائل

المسألة الأولى قد ذكرنا أن الغرور مصدر قولك غررت الرجل بما يستحسنه في الظاهر ثم يجده عند التفتيش على خلاف ما يحبه فيقول غرني ظاهره أي قبلته على غفلة عن امتحانه وتقول العرب في الثواب إذا نشر ثم أعيد إلى طيه رددته على غرة
المسألة الثانية المخاطب في قوله لاَ يَغُرَّنَّكَ من هو فيه قولان الأول أنه الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ولكن المراد هو الأمة قال قتادة والله ما غروا نبي الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى قبضه الله والخطاب وإن كان له إلا أن المراد غيره ويمكن أن يقال السبب لعدم إغرار الرسول عليه السلام بذلك هو تواتر هذه الآيات عليه كما قال وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً ( الإسراء 74 ) فسقط قول قتادة ونظيره قوله وَلاَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ( هود 42 ) وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ ( الأنعام 14 ) وَلاَ تُطِعِ الْمُكَذّبِينَ ( القلم 8 ) والثاني وهو أن هذا خطاب لكل من سمعه من المكلفين كأنه قيل لا يغرنك أيها السامع
المسألة الثالثة تقلب الذين كفروا في البلاد فيه وجهان الأول نزلت في مشركي مكة كانوا يتجرون ويتنعمون فقال بعض المؤمنين إن أعداء الله فيما نرى من الخير وقد هلكنا من الجوع والجهد فنزلت الآية والثاني قال الفراء كانت اليهود تضرب في الأرض فتصيب الأموال فنزلت هذه الآية والمراد بتقلب الذين كفروا في البلاد تصرفهم في التجارات والمكاسب أي لا يغرنكم أمنهم على أنفسهم وتصرفهم في البلاد كيف شاؤا وأنتم معاشر المؤمنين خائفون محضورون فان ذلك لا يبقى إلا مدة قليلة ثم ينتقلون إلى أشد العذاب
ثم قال تعالى مَتَاعٌ قَلِيلٌ قيل أي تقلبهم متاع قليل وقال الفراء ذلك متاع قليل وقال الزجاج ذلك الكسب والربح متاع قليل وإنما وصفه الله تعالى بالقلة لأن نعيم الدنيا مشوب بالآفات والحسرات ثم أنه بالعاقبة ينقطع وينقضي وكيف لا يكون قليلا وقد كان معدوما من الأزل إلى الآن وسيصير معدوما من الأزل إلى الأبد فاذا قابلت زمان الوجود بما مضى وما يأتي وهو الأزل والأبد كان أقل من أن يجوز وصفه بأنه قليل
ثم قال تعالى ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ يعني أنه مع قلته يسبب الوقوع في نار جهنم أبد الآباد والنعمة القليلة إذا كانت سببا للمضرة العظيمة لم يعد ذلك نعمة وهو كقوله إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً ( آل عمران 178 ) وقوله وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ ( الأعراف 183 )
ثم قال وَبِئْسَ الْمِهَادُ أي الفراش والدليل على أنه بئس المهاد قوله تعالى لَهُمْ مّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ( الزمر 16 ) فهم بين أطباق النيران ومن فوقهم غواش يأكلون النار ويشربون النار
لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاٍ مِّنْ عِندِ

اللَّهِ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ
اعلم أنه تعالى لما ذكر الوعيد أتبعه بالوعد بالنزل والنزل ما يهيأ للضيف وقوله لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ يتناول جميع الطاعات لأنه يدخل في التقوى الاحتراز عن المنهيات وعن ترك المأمورات واحتج بعض أصحابنا بهذه الآية على الرؤية لأنه لما كانت الجنة بكليتها نزلا فلا بد من الرؤية لتكون خلعة ونظيره قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً ( الكهف 107 ) وقوله نُزُلاً نصب على الحال من جَنَّاتُ لتخصيصها بالوصف والعامل اللام ويجوز أن يكون بمعنى مصدر مؤكد لأن خلودهم فيها إنزالهم فيها أو نزولهم وقال الفراء هو نصب على التفسير كما تقول هو لك هبة وبيعا وصدقة ثم قال وَمَا عِندَ اللَّهِ من الكثير الدائم خَيْرٌ لّلابْرَارِ مما يتقلب فيه الفجار من القليل الزائل وقرأ مسلمة بن محارب والأعمش نُزُلاً بسكون الزاي وقرأ يزيد بن القعقاع لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ بالتشديد
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ للَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِأايَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلائِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر حال المؤمنين وكان قد ذكر حال الكفار من قبل بأن مصيرهم إلى النار بين في هذه الآية أن من آمن منهم كان داخلا في صفة الذين اتقوا فقال وَإِن مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ واختلفوا في نزولها فقال ابن عباس وجابر وقتادة نزلت في النجاشي حين مات وصلى عليه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال المنافقون إنه يصلي على نصراني لم يره قط وقال ابن جريج وابن زيد نزلت في عبدالله بن سلام وأصحابه وقيل نزلت في أربعين من أهل نجران واثنين وثلاثين من الحبشة وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى عليه السلام فأسلموا وقال مجاهد نزلت في مؤمني أهل الكتاب كلهم وهذا هو الأولى لأنه لما ذكر الكفار بأن مصيرهم إلى العقاب بين فيمن آمن منهم بأن مصيرهم إلى الثواب
واعلم أنه تعالى وصفهم بصفات أولها الايمان بالله وثانيها الايمان بما أنزل الله على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وثالثها الايمان بما أنزل على الأنبياء الذين كانوا قبل محمد عليه الصلاة والسلام ورابعها كونهم خاشعين لله وهو حال من فاعل يُؤْمِنُ لأن مَن يُؤْمِنُ في معنى الجمع وخامسها أنهم لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلا كما يفعله أهل الكتاب ممن كان يكتم أمر الرسول وصحة نبوته
ثم قال تعالى في صفتهم أُوْلئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ والفائدة في كونه

سريع الحساب كونه عالما بجميع المعلومات فيعلم ما لكل واحد من الثواب والعقاب
قوله تعالى الْحِسَابِ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
واعلم أنه تعالى لما ذكر في هذه السورة أنواعا كثيرة من علوم الأصول والفروع أما الأصول ففيما يتعلق بتقرير التوحيد والعدل والنبوة والمعاد وأما الفروع ففيما يتعلق بالتكاليف والأحكام نحو الحج والجهاد وغيرهما ختم هذه السورة بهذه الآية المشتملة على جميع الآداب وذلك لأن أحوال الانسان قسمان منها ما يتعلق به وحده ومنها ما يكون مشتركا بينه وبين غيره أما القسم الأول فلا بد فيه من الصبر وأما القسم الثاني فلا بد فيه من المصابرة
أما الصبر فيندرج تحته أنواع أولها أن يصبر على مشقة النظر والاستدلال في معرفة التوحيد والعدل والنبوة والمعاد وعلى مشقة استنباط الجواب عن شبهات المخالفين وثانيها أن يصبر على مشقة أداء الواجبات والمندوبات وثالثها أن يصبر على مشقة الاحتراز عن المنهيات ورابعها الصبر على شدائد الدنيا وآفاتها من المرض والفقر والقحط والخوف فقوله اصْبِرُواْ يدخل تحته هذه الأقسام وتحت كل واحد من هذه الأقسام الثلاثة أنواع لا نهاية لها وأما المصابرة فهي عبارة عن تحمل المكاره الواقعة بينه وبين الغير ويدخل فيه تحمل الاخلاق الردية من أهل البيت والجيران والأقارب ويدخل فيه ترك الانتقام ممن أساء اليك كما قال وَأَعْرِض عَنِ الْجَاهِلِينَ ( الأعراف 199 ) وقال وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً ( الفرقان 72 ) ويدخل فيه الايثار على الغير كما قال وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة ٌ ( الحشر 9 ) ويدخل فيه العفو عمن ظلمك كما قال وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ( البقرة 237 ) ويدخل فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فان المقدم عليه ربما وصل اليه بسببه ضرر ويدخل فيه الجهاد فانه تعريض النفس للهلاك ويدخل فيه المصابرة مع المبطلين وحل شكوكهم والجواب عن شبههم والاحتيال في إزالة تلك الاباطيل عن قلوبهم فثبت ان قوله اصْبِرُواْ تناول كل ما تعلق به وحده وَصَابِرُواْ تناول كل ما كان مشتركا بينه وبين غيره
واعلم أن الانسان وان تكلف الصبر والمصابرة إلا أن فيه أخلاقا ذميمة تحمل على أضدادها وهي الشهوة والغضب والحرص والانسان ما لم يكن مشتغلا طول عمره بمجاهدتها وقهرها لا يمكنه الاتيان بالصبر والمصابرة فلهذا قال وَرَابِطُواْ ولما كانت هذه المجاهدة فعلا من الأفعال ولا بد للانسان في كل فعل يفعله من داعية وغرض وجب أن يكون للانسان في هذه المجاهدة غرض وباعث وذلك هو تقوى الله لنيل الفلاح والنجاح فلهذا قال وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وتمام التحقيق فيه أن الأفعال مصدرها هو القوى فهو تعالى أمر بالصبر والمصابرة وذلك عبارة عن الاتيان بالافعال الحسنة والاحتراز عن الافعال الذميمة ولما كانت الافعال صادرة عن القوى أمر بعد ذلك بمجاهدة القوى التي هي مصادر الافعال الذميمة وذلك هو المراد بالمرابطة ثم ذكر ما به يحصل دفع هذه القوى الداعية إلى القبائح والمنكرات وذلك هو تقوى الله ثم ذكر ما لأجله وجب ترجيح تقوى الله على سائر القوى والاخلاق وهو الفلاح فظهر أن هذه الآية التي هي خاتمة لهذه السورة مشتملة على كنوز الحكم والاسرار الروحانية وانها على اختصارها كالمتمم لكل ما تقدم ذكره في هذه السورة من علوم الأصول والفروع فهذا ما عندي فيه

ولنذكر ما قاله المفسرون قال الحسن اصبروا على دينكم ولا تتركوه بسبب الفقر والجوع وصابروا على عدوكم ولا تفشلوا بسبب وقوع الهزيمة يوم أحد وقال الفراء اصبروا مع نبيكم وصابروا عدوكم فلا ينبغي أن يكون أصبر منكم وقال الأصم لما كثرت تكاليف الله في هذه السورة أمرهم بالصبر عليها ولما كثر ترغيب الله تعالى في الجهاد في هذه السورة أمرهم بمصابرة الأعداء
وأما قوله وَرَابِطُواْ ففيه قولان الأول أنه عبارة عن أن يربط هؤلاء خيلهم في الثغور ويربط أولئك خيلهم أيضاً بحيث يكون كل واحد من الخصمين مستعداً لقتال الآخر قال تعالى وَمِن رّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ( الأنفال 60 ) وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( من رابط يوما وليلة في سبيل الله كان مثل صيام شهر وقيامه لا يفطر ولا ينتقل عن صلاته إلا لحاجة ) االثاني أن معنى المرابطة انتظار الصلاة بعد الصلاة ويدل عليه وجهان الأول ما روي عن أبي سلمة عبد الرحمن أنه قال لم يكن في زمن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) غزو يرابط فيه وإنما نزلت هذه الآية في انتظار الصلاة بعد الصلاة الثاني ما روي من حديث أبي هريرة حين ذكر انتظار الصلاة بعد الصلاة ثم قال ( فذلكم الرباط ) ثلاث مرات
واعلم أنه يمكن حمل اللفظ على الكل وأصل الرباط من الربط وهو الشد يقال لكل من صبر على أمر ربط قلبه عليه وقال آخرون الرباط هو اللزوم والثبات وهذا المعنى أيضاً راجع إلى ما ذكرناه من الصبر وربط النفس ثم هذا الثبات والدوام يجوز أن يكون على الجهاد ويجوز أن يكون على الصلاة والله أعلم
قال الامام رضي الله تعالى عنه تم تفسير هذه السورة بفضل الله وإحسانه يوم الخميس أول ربيع الآخر سنة خمس وتسعين وخمسمائة

سورة النساء
مائة وسبعون وست آيات مدنية
يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَة ٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالاٌّ رْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً
اعلم أن هذه السورة مشتملة على أنواع كثيرة من التكاليف وذلك لأنه تعالى أمر الناس في أول هذه السورة بالتعطف على الأولاد والنساء والأيتام والرأفة بهم وإيصال حقوقهم اليهم وحفظ أموالهم عليهم وبهذا المعنى ختمت السورة وهو قوله يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِى الْكَلَالَة ِ ( النساء 176 ) وذكر في أثناء هذه السورة أنواعا أخر من التكاليف وهي الأمر بالطهارة والصلاة وقتال المشركين ولما كانت هذه التكاليف شاقة على النفوس لثقلها على الطباع لا جرم افتتح السورة بالعلة التي لأجلها يجب حمل هذه التكاليف الشاقة وهي تقوى الرب الذي خلقنا والاله الذي أوجدنا فلهذا قال تُفْلِحُونَ يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى روى الواحدي عن ابن عباس في قوله يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ أن هذا الخطاب لأهل مكة وأما الأصوليون من المفسرين فقد اتفقوا على أن الخطاب عام لجميع المكلفين وهذا هو الأصح لوجوه أحدها أن لفظ الناس جمع دخله الألف واللام فيفيد الاستغراق وثانيها أنه تعالى علل الأمر بالاتقاء بكونه تعالى خالقاً لهم من نفس واحدة وهذه العلة عامة في حق جميع المكلفين بأنهم من آدم عليه السلام خلقوا بأسرهم وإذا كانت العلة عامة كان الحكم عاما وثالثها أن التكليف بالتقوى غير مختص بأهل مكة بل هو عام في حق جميع العالمين وإذا كان لفظ الناس عاما في الكل وكان الأمر بالتقوى عاما في الكل وكانت علة هذا التكليف وهي كونهم خلقوا من النفس الواحدة عامة في حق

الكل كان القول بالتخصيص في غاية البعد وحجة ابن عباس أن قوله وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَالاْرْحَامَ مختص بالعرب لأن المناشدة بالله وبالرحم عادة مختصة بهم فيقولون أسألك بالله وبالرحم وأنشدك الله والرحم وإذا كان كذلك كان قوله وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَالاْرْحَامَ مختصا بالعرب فكان أول الآية وهو قوله يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ مختصا بهم لأن قوله في أول الآية اتَّقُواْ رَبَّكُمُ وقوله بعد ذلك وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَالاْرْحَامَ وردا متوجهين إلى مخاطب واحد ويمكن أن يجاب عنه بأنه ثبت في أصول الفقه أن خصوص آخر الآية لا يمنع من عموم أولها فكان قوله يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ عاما في الكل وقوله وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَالاْرْحَامَ خاصاً بالعرب
المسألة الثانية أنه تعالى جعل هذا المطلع مطلعا لسورتين في القرآن إحداهما هذه السورة وهي السورة الرابعة من النصف الاول من القرآن والثانية سورة الحج وهي أيضا السورة الرابعة من النصف الثاني من القرآن ثم إنه تعالى علل الأمر بالتقوى في هذه السورة بما يدل على معرفة المبدأ وهو أنه تعالى خلق الخلق من نفس واحدة وهذا يدل على كمال قدرة الخالق وكمال علمه وكمال حكمته وجلاله وعلل الأمر بالتقوى في سورة الحج بما يدل على كمال معرفة المعاد وهو قوله إِنَّ زَلْزَلَة َ السَّاعَة ِ شَى ْء عَظِيمٌ ( الحج 1 ) فجعل صدر هاتين السورتين دلالة على معرفة المبدأ ومعرفة المعاد ثم قدم السورة الدالة على المبدأ على السورة الدالة على المعاد وتحت هذا البحث أسرار كثيرة
المسألة الثالثة اعلم أنه تعالى أمرنا بالتقوى وذكر عقبيه أنه تعالى خلقنا من نفس واحدة وهذا مشعر بأن الأمر بالتقوى معلل بأنه تعالى خلقنا من نفس واحدة ولا بد من بيان المناسبة بين هذا الحكم وبين ذلك الوصف فنقول قولنا إنه تعالى خلقنا من نفس واحدة مشتمل على قيدين أحدهما أنه تعالى خلقنا والثاني كيفية ذلك التخليق وهو أنه تعالي إنما خلقنا من نفس واحدة ولكل واحد من هذين القيدين أثر في وجوب التقوى
أما القيد الأول وهو أنه تعالى خلقنا فلا شك أن هذا المعنى علة لأن يجب علينا الانقياد لتكاليف الله تعالى والخضوع لأوامره ونواهيه وبيان ذلك من وجوه الأول أنه لما كان خالقا لنا وموجداً لذواتنا وصفاتنا فنحن عبيده وهو مولى لنا والربوبية توجب نفاذ أوامره على عبيده والعبودية توجب الانقياد للرب والموجد والخالق الثاني أن الايجاد غاية الانعام ونهاية الاحسان فانك كنت معدوما فأوجدك وميتا فأحياك وعاجزا فأقدرك وجاهلا فعلمك كما قال إبراهيم عليه السلام ( الذي خلقني فهو يهدين والذين هو يطعمني ويسقين ) فلما كانت النعم بأسرها من الله سبحانه وجب على العبد أن يقابل تلك النعم باظهار الخضوع والانقياد وترك التمرد والعناد وهذا هو المراد بقوله كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْواتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ( البقرة 28 ) الثالث وهو أنه لما ثبت كونه موجدا وخالقاً وإلها وربا لنا وجب علينا أن نشتغل بعبوديته وأن نتقي كل ما نهى عنه وزجر عنه ووجب أن لا يكون شيء من هذه الأفعال موجباً ثواباً ألبتة لأن هذه الطاعات لما وجبت في مقابلة النعم السالفة امتنع أن تصير موجبة للثواب لأن أداء الحق إلى المستحق لا يوجب شيئاً آخر هذا إذا سلمنا

أن العبد أتى بتلك الطاعات من عند نفسه ابتداء فكيف وهذا محال لأن فعل الطاعات لا يحصل إلا إذا خلق الله القدرة على الطاعة وخلق الداعية على الطاعة ومتى حصلت القدرة والداعي كان مجموعهما موجبا لصدور الطاعة عن العبد وإذا كان كذلك كانت تلك الطاعة إنعاما من الله على عبده والمولى إذا خص عبده بانعام لم يصر ذلك الانعام موجبا عليه إنعاماً آخر فهذا هو الاشارة إلى بيان أن كونه خالقاً لنا يوجب علينا عبوديته والاحتراز عن مناهيه
وأما القيد الثاني وهو أن خصوص كونه خالقاً لنا من نفس واحدة يوجب علينا الطاعة والاحتراز عن المعصية فبيانه من وجوه الأول أن خلق جميع الأشخاص الانسانية من الانسان الواحد أدل على كمال القدرة من حيث أنه لو كان الأمر بالطبيعة والخاصية لكان المتولد من الانسان الواحد لم يكن إلا أشياء متشاكلة في الصفة متشابهة في الخلقة والطبيعة فلما رأينا في أشخاص الناس الأبيض والأسود والأحمر والأسمر والحسن والقبيح والطويل والقصير دل ذلك على أن مدبرها وخالقها فاعل مختار لا طبيعة مؤثرة ولا علة موجبة ولما دلت هذه الدقيقة على أن مدبر العالم فاعل مختار قادر على كل الممكنات عالم بكل المعلومات فحينئذ يجب الانقياد لتكاليفه وأوامره ونواهيه فكان ارتباط قوله اتَّقُواْ رَبَّكُمُ بقوله خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَة ٍ في غاية الحسن والانتظام
والوجه الثاني وهو أنه تعالى لما ذكر الأمر بالتقوى ذكر غقبيه الأمر بالاحسان إلى اليتامى والنساء والضعفاء وكون الخلق بأسرهم مخلوقين من نفس واحدة له أثر في هذا المعنى وذلك لأن الأقارب لا بد وأن يكون بينهم نوع مواصلة ومخالطة توجب مزيد المحبة ولذلك ان الانسان يفرح بمدح أقاربه وأسلافه ويحزن بذمهم والطعن فيهم وقال عليه الصلاة والسلام ( فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها ) وإذا كان الأمر كذلك فالفائدة في ذكر هذا المعنى أن يصير ذلك سبباً لزيادة شفقة الخلق بعضهم على البعض
الوجه الثالث أن الناس إذا عرفوا كون الكل من شخص واحد تركوا المفاخرة والتكبر وأظهروا التواضع وحسن الخلق
الوجه الرابع أن هذا يدل على المعاد لأنه تعالى لما كان قادرا على أن يخرج من صلب شخص واحد أشخاصا مختلفين وأن يخلق من قطرة من النطفة شخصا عجيب التركيب لطيف الصورة فكيف يستبعد إحياء الأموات وبعثهم ونشورهم فتكون الآية دالة على المعاد من هذا الوجه لِيَجْزِى َ الَّذِينَ أَسَاءواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِى الَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِالْحُسْنَى ( النجم 31 )
الوجه الخامس قال الأصم الفائدة فيه أن العقل لا دليل فيه على أن الخلق يجب أن يكونوا مخلوقين من نفس واحدة بل ذلك إنما يعرف بالدلائل السمعية وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أمياً ما قرأ كتابا ولا تلمذ لأستاذ فلما أخبر عن هذا المعنى كان إخبارا عن الغيب فكان معجزا فالحاصل أن قوله خَلَقَكُمْ دليل على معرفة التوحيد وقوله مّن نَّفْسٍ واحِدَة ٍ دليل على معرفة النبوة
فان قيل كيف يصح أن يكون الخلق أجمع من نفس واحدة مع كثرتهم وصغر تلك النفس

قلنا قد بين الله المراد بذلك لأن زوج آدم إذا خلقت من بعضه ثم حصل خلق أولاده من نطفتهما ثم كذلك أبدا جازت إضافة الخلق أجمع الى آدم
المسألة الرابعة أجمع المسلمون على أن المراد بالنفس الواحدة ههنا هو آدم عليه السلام إلا أنه أنث الوصف على لفظ النفس ونظيره قوله تعالى أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّة ً بِغَيْرِ نَفْسٍ ( الكهف 74 ) وقال الشاعر أبوك خليفة ولدته أخرى
فأنت خليفة ذاك الكمال
قالوا فهذا التأنيث على لفظ الخليفة
قوله تعالى وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا فيه مسائل
المسألة الأولى المراد من هذا الزوج هو حواء وفي كون حواء مخلوقة من آدم قولان الأول وهو الذي عليه الأكثرون أنه لما خلق الله آدم ألقى عليه النوم ثم خلق حواء من ضلع من أضلاعه اليسرى فلما استيقط رآها ومال اليها وألفها لأنها كانت مخلوقة من جزء من أجزائه واحتجوا عليه بقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( ان المرأة خلقت من ضلع أعوج فان ذهبت تقيمها كسرتها وإن تركتها وفيها عوج استمتعت بها )
والقول الثاني وهو اختيار أبي مسلم الأصفهاني أن المراد من قوله وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا أي من جنسها وهو كقوله تعالى وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا ( النحل 72 ) وكقوله إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ ( آل عمران 164 ) وقوله لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ ( التوبة 128 ) قال القاضي والقول الأول أقوى لكي يصح قوله خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَة ٍ إذ لو كانت حواء مخلوقة ابتداء لكان الناس مخلوقين من نفسين لا من نفس واحدة ويمكن أن يجاب عنه بأن كلمة ( من ) لابتداء الغاية فلما كان ابتداء التخليق والايجاد وقع بآدم عليه السلام صح أن يقال خلقكم من نفس واحدة وأيضا فلما ثبت أنه تعالى قادر على خلق آدم من التراب كان قادرا أيضا على خلق حواء من التراب وإذا كان الأمر كذلك فأي فائدة في خلقها من ضلع من أضلاع آدم
المسألة الثانية قال ابن عباس إنما سمي آدم بهذا الاسم لأنه تعالى خلقه من أديم الأرض كلها أحمرها وأسودها وطيبها وخبيثها فلذلك كان في ولده الأحمر والأسود والطيب والخبيث والمرأة إنما سميت بحواء لأنها خلقت من ضلع من أضلاع آدم فكانت مخلوقة من شيء حي فلا جرم سميت بحواء
المسألة الثالثة احتج جمع من الطبائعيين بهذه الآية فقالوا قوله تعالى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَة ٍ يدل على أن الخلق كلهم مخلوقون من النفس الواحدة وقوله وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا يدل على أن زوجها مخلوقة منها ثم قال في صفة آدم خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ( آل عمران 59 ) فدل على أن آدم

مخلوق من التراب ثم قال في حق الخلائق مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ ( طه 55 ) وهذه الآيات كلها دالة على ان الحادث لا يحدث إلا عن مادة سابقة يصير الشيء مخلوقا منها وأن خلق الشيء عن العدم المحض والنفي الصرف محال
أجاب المتكلمون فقالوا خلق الشيء من الشيء محال في العقول لأن هذا المخلوق ان كان عين ذلك الشيء الذي كان موجودا قبل ذلك لم يكن هذا مخلوقا ألبتة واذا لم يكن مخلوقا امتنع كونه مخلوقا من شيء آخر وان قلنا ان هذا المخلوق مغاير للذي كان موجوداً قبل ذلك فحينئذ هذا المخلوق وهذا المحدث إنما حدث وحصل عن العدم المحض فثبت أن كون الشيء مخلوقا من غيره محال في العقول وأما كلمة مِنْ في هذه الآية فهو مفيد ابتداء الغاية على معنى أن ابتداء حدوث هذه الأشياء من تلك الأشياء لا على وجه الحاجة والافتقار بل على وجه الوقوع فقط
المسألة الرابعة قال صاحب ( الكشاف ) قرىء وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا بلفظ اسم الفاعل وهو خبر مبتدأ محذوف تقديره هو خالق
قوله تعالى وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء
وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي بث منهما يريد فرق ونشر قال ابن المظفر البث تفريقك الأشياء يقال بث الخيل في الغارة وبث الصياد كلابه وخلق الله الخلق فبثهم في الأرض وبثثت البسط إذا نشرتها قال الله تعالى وَزَرَ أَبِى مَبْثُوثَة ٌ قال الفراء والزجاج وبعض العرب يقول أبث الله الخلق
المسألة الثانية لم يقل وبث منهما الرجال والنساء لأن ذلك يوجب كونهما مبثوثين عن نفسهما وذلك محال فلهذا عدل عن هذا اللفظ إلى قوله وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء
فان قيل لم لم يقل وبث منهما رجالا كثيراً ونساء كثيراً ولم خصص وصف الكثرة بالرجال دون النساء
قلنا السبب فيه والله أعلم أن شهرة الرجال أتم فكانت كثرتهم أظهر فلا جرم خصوا بوصف الكثرة وهذا كالتنبيه على أن اللائق بحال الرجال الاشتهار والخروج والبروز واللائق بحال النساء الاختفاء والخمول
المسألة الثالثة الذين يقولون إن جميع الأشخاص البشرية كانوا كالذر وكانوا مجتمعين في صلب آدم عليه السلام حملوا قوله وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء على ظاهره والذين أنكروا ذلك قالوا المراد بث منهما أولادهما ومن أولادهما جمعا آخرين فكان الكل مضافا اليهما على سبيل المجاز

قوله تعالى وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَالاْرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً
فيه مسائل
المسألة الأولى قرأ عاصم وحمزة والكسائي تَسَاءلُونَ بالتخفيف والباقون بالتشديد فمن شدد أراد تتساءلون فأدغم التاء في السين لاجتماعهما في أنهما من حروف اللسان وأصول الثنايا واجتماعهما في الهمس ومن خفف حذف تاء تتفاعلون لاجتماع حروف متقاربة فأعلها بالحذف كما أعلها الأولون بالادغام وذلك لأن الحروف المتقاربة إذا اجتمعت خففت تارة بالحذف وأخرى بالادغام
المسألة الثانية قرأ حمزة وحده وَالاْرْحَامَ بجر الميم قال القفال رحمه الله وقد رويت هذه القراءة عن غير القراء السبعة عن مجاهد وغيره وأما الباقون من القراء فكلهم قرؤا بنصب الميم وقال صاحب ( الكشاف ) قرىء وَالاْرْحَامَ بالحركات الثلاث أما قراءة حمزة فقد ذهب الأكثرون من النحويين إلى أنها فاسدة قالوا لأن هذا يقتضي عطف المظهر على المضمر المجرور وذلك غير جائز واحتجوا على عدم جوازه بوجوه أولها قال أبو علي الفارسي المضمر المجرور بمنزلة الحرف فوجب أن لا يجوز عطف المظهر عليه إنما قلنا المضمر المجرور بمنزلة الحرف لوجوه الأول أنه لا ينفصل ألبتة كما أن التنوين لا ينفصل وذلك ان الهاء والكاف في قوله به وبك لا ترى واحدا منفصلا عن الجار ألبتة فصار كالتنوين الثاني أنهم يحذفون الياء من المنادى المضاف في الاختيار كحذفهم التنوين من المفرد وذلك كقولهم يا غلام فكان المضمر المجرور مشابها للتنوين من هذا الوجه فثبت أن المضمر المجرور بمنزلة حرف التنوين فوجب أن لا يجوز عطف المظهر عليه لأن من شرط العطف حصول المشابهة بين المعطوف والمعطوف عليه فاذا لم تحصل المشابهة ههنا وجب أن لا يجوز العطف وثانيها قال علي بن عيسى انهم لم يستحسنوا عطف المظهر على المضمر المرفوع فلا يجوز أن يقال اذهب وزيد وذهبت وزيد بل يقولون يا غلام فكان المضمر المجرور مشابها للتنوين من هذا الوجه فثبت أن المضمر المجرور بمنزلة حرف التنوين فوجب أن لا يجوز عطف المظهر عليه لأن من شرط العطف حصول المشابهة بين المعطوف والمعطوف عليه فاذا لم تحصل المشابهة ههنا وجب أن لا يجوز العطف وثانيها قال علي بن عيسى انهم لم يستحسنوا عطف المظهر على المضمر المرفوع فلا يجوز أن يقال اذهب وزيد وذهبت وزيد بل يقولون اذهب أنت وزيد وذهبت أنا وزيد قال تعالى فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا مع ان المضمر المرفوع قد ينفصل فاذا لم يجز عطف المظهر على المضمر المجرور مع انه أقوى من المضمر المجرور بسبب أنه قد ينفصل فلأن لا يجوز عطف المظهر على المضمر المجرور مع أنه ألبتة لا ينفصل كان أولى وثالثها قال أبو عثمان المازني المعطوف والمعطوف عليه متشاركان وإنما يجوز عطف الأول على الثاني لو جاز عطف الثاني على الأول وههنا هذا المعنى غير حاصل وذلك لأنك لا تقول مررت بزيدوك فكذلك لا تقول مررت بك وزيد
واعلم أن هذه الوجوه ليست وجوها قوية في دفع الروايات الواردة في اللغات وذلك لأن حمزة أحد القراء السبعة والظاهر أنه لم يأت بهذه القراءة من عند نفسه بل رواها عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك يوجب القطع بصحة هذه اللغة والقياس يتضاءل عند السماع لا سيما بمثل هذه الأقيسة التي هي أوهن من بيت العنكبوت وأيضا فلهذه القراءة وجهان أحدهما أنها على تقدير تكرير الجار كأنه قيل تساءلون به وبالارحام وثانيها أنه ورد ذلك في الشعر وأنشد سيبويه في ذلك فاليوم قد بت تهجونا وتشتمنا
فاذهب فما بك والأيام من عجب

وأنشد أيضا نعلق في مثل السواري سيوفنا
وما بينها والكعب غوط نفانف
والعجب من هؤلاء النحاة أنهم يستحسنون إثبات هذه اللغة بهذين البيتين المجهولين ولا يستحسنون إثباتها بقراءة حمزة ومجاهد مع أنهما كانا من أكابر علماء السلف في علم القرآن واحتج الزجاج على فساد هذه القراءة من جهة المعنى بقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا تحلفوا بآبائكم ) فاذا عطفت الأرحام على المكنى عن اسم الله اقتضى ذلك جواز الحلف بالارحام ويمكن الجواب عنه بأن هذا حكاية عن فعل كانوا يفعلونه في الجاهلية لأنهم كانوا يقولون أسألك بالله والرحم وحكاية هذا الفعل عنهم في الماضي لا تنافي ورود النهي عنه في المستقبل وأيضاً فالحديث نهي عن الحلف بالآباء فقط وههنا ليس كذلك بل هو حلف بالله أولا ثم يقرن به بعده ذكر الرحم فهذا لا ينافي مدلول ذلك الحديث فهذا جملة الكلام في قراءة قوله وَالاْرْحَامَ بالجر أما قراءته بالنصب ففيه وجهان الأول وهو اختيار أبي علي الفارسي وعلي بن عيسى أنه عطف على موضع الجار والمجرور كقوله
فلسنا بالجبال ولا الحديدا
والثاني وهو قول أكثر المفسرين أن التقدير واتقوا الأرحام أن تقطعوها وهو قول مجاهد وقتادة والسدي والضحاك وابن زيد والفراء والزجاج وعلى هذا الوجه فنصب الأرحام بالعطف على قوله اللَّهِ أي اتقوا الله واتقوا الأرحام أي اتقوا حق الأرحام فصلوها ولا تقطعوها قال الواحدي رحمه الله ويجوز أيضاً أن يكون منصوبا بالاغراء أي والأرحام فاحفظوها وصلوها كقولك الأسد الأسد وهذا التفسير يدل على تحريم قطيعة الرحم ويدل على وجوب صلتها وأما القراءة بالرفع فقال صاحب ( الكشاف ) الرفع على أنه مبتدأ خبره محذوف كأنه قيل والأرحام كذلك على معنى والأرحام مما يتقى أو والأرحام مما يتساءل به
المسألة الثالثة أنه تعالى قال أولا اتَّقُواْ رَبَّكُمُ ثم قال بعده وَاتَّقُواْ اللَّهَ وفي هذا التكرير وجوه الأول تأكيد الأمر والحث عليه كقولك للرجل اعجل اعجل فيكون أبلغ من قولك اعجل الثاني أنه أمر بالتقوى في الأول لمكان الانعام بالخلق وغيره وفي الثاني أمر بالتقوى لمكان وقوع التساؤل به فيما يلتمس البعض من البعض الثالث قال أولا اتَّقُواْ رَبَّكُمُ وقال ثانيا وَاتَّقُواْ اللَّهَ والرب لفظ يدل على التربية والاحسان والاله لفظ يدل على القهر والهيبة فأمرهم بالتقوى بناء على الترغيب ثم أعاد الأمر به بناء على الترهيب كما قال يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً ( السجدة 16 ) وقال وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً ( الأنبياء 90 ) كأنه قيل انه رباك وأحسن اليك فاتق مخالفته لأنه شديد العقاب عظيم السطوة
المسألة الرابعة اعلم أن التساؤل بالله وبالأرحام قيل هو مثل أن يقال بالله أسألك وبالله أشفع اليك وبالله أحلف عليك الى غير ذلك مما يؤكد المرء به مراده بمسألة الغير ويستعطف ذلك الغير في التماس حقه منه أو نواله ومعونته ونصرته وأما قراءة حمزة فهي ظاهرة من حيث المعنى والتقدير واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام لأن العادة جرت في العرب بأن أحدهم قد يستعطف غيره بالرحم فيقول أسألك بالله والرحم وربما أفرد ذلك فقال أسألك بالرحم وكان يكتب المشركون الى رسول

الله ( صلى الله عليه وسلم ) نناشدك الله والرحم أن لا تبعث الينا فلانا وفلانا وأما القراءة بالنصب فالمعنى يرجع الى ذلك والتقدير واتقوا الله واتقوا الأرحام قال القاضي وهذا أحد ما يدل على أنه قد يراد باللفظ الواحد المعاني المختلفة لأن معنى تقوى الله مخالف لمعنى تقوى الأرحام فتقوى الله إنما يكون بالتزام طاعته واجتناب معاصيه واتقاء الأرحام بأن توصل ولا تقطع فيما يتصل بالبر والافضال والاحسان ويمكن أن يجاب عنه بأنه تعالى لعله تكلم بهذه اللفظة مرتين وعلى هذا التقدير يزول الاشكال
المسألة الخامسة قال بعضهم اسم الرحم مشتق من الرحمة التي هي النعمة واحتج بما روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( يقول الله تعالى أنا الرحمن وهي الرحم اشتققت اسمها من اسمي ) ووجه التشبيه ان لمكان هذه الحالة تقع الرحمة من بعض الناس لبعض وقال آخرون بل اسم الرحم مشتق من الرحم الذي عنده يقع الانعام وانه الأصل وقال بعضهم بل كل واحد منهما أصل بنفسه والنزاع في مثل هذا قريب
المسألة السادسة دلت الآية على جواز المسألة بالله تعالى روى مجاهد عن عمر قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من سألكم بالله فأعطوه ) وعن البراء بن عازب قال أمرنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بسبع منها ابرار القسم
المسألة السابعة دل قوله تعالى وَالاْرْحَامَ على تعظيم حق الرحم وتأكيد النهي عن قطعها قال تعالى فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ ( محمد 22 ) وقال لاَ يَرْقُبُونَ فِى مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّة ً قيل في الأول إنه القرابة وقال وَقَضَى رَبُّكَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً ( الإسراء 23 ) وقال وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ ( النساء 36 ) وعن عبد الرحمن بن عوف أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( يقول الله تعالى أنا الرحمن وهي الرحم اشتققت اسمها من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته ) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما من شيء أطيع الله فيه أعجل ثوابا من صلة الرحم وما من عمل عصى الله به أعجل عقوبة من البغي واليمين الفاجرة ) وعن أنس قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ان الصدقة وصلة الرحم يزيد الله بهما في العمر ويدفع بهما ميتة السوء ويدفع الله بهما المحذور والمكروه ) وقال عليه الصلاة والسلام ( أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح ) قيل الكاشح العدو فثبت بدلالة الكتاب والسنة وجوب صلة الرحم واستحقاق الثواب بها ثم إن أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه بنوا على هذا الأصل مسألتين إحداهما أن الرجل إذا ملك ذا رحم محرم عتق عليه مثل الأخ والاخت والعم والخال قال لانه لو بقي الملك لحل الاستخدام بالاجماع لكن الاستخدام إيحاش يورث قطيعة الرحم وذلك حرام بناء على هذا الاصل فوجب أن لا يبقى الملك وثانيهما أن الهبة لذي الرحم المحرم لا يجوز الرجوع فيها لان ذلك الرجوع ايحاش يورث قطيعة الرحم فوجب أن لا يجوز والكلام في هاتين المسألتين مذكور في الخلافيات
ثم أنه تعالى ختم هذه الآية بما يكون كالوعد والوعيد والترغيب والترهيب فقال إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً والرقيب هو المراقب الذي يحفظ عليك جميع أفعالك ومن هذا صفته فانه يجب أن يخاف ويرجى فبين تعالى أنه يعلم السر وأخفى وانه إذا كان كذلك يجب أن يكون المرء حذرا خائفا فيما يأتي ويترك

وَءَاتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً
اعلم أنه لما افتتح السورة بذكر ما يدل على أنه يجب على العبد أن يكون منقادا لتكاليف الله سبحانه محترزا عن مساخطه شرع بعد ذلك في شرح أقسام التكاليف
فالنوع الأول ما يتعلق بأموال اليتامى وهو هذه الآية وأيضا أنه تعالى وصى في الآية السابقة بالأرحام فكذلك في هذه الآية وصى بالأيتام لأنهم قد صاروا بحيث لا كافل لهم ولا مشفق شديد الاشفاق عليهم ففارق حالهم حال من له رحم ماسة عاطفة عليه لمكان الولادة أو لمكان الرحم فقال وَءاتُواْ الْيَتَامَى أَمْوالَهُمْ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) اليتامى الذين مات آباؤهم فانفردوا عنهم واليتم الانفراد ومنه الرملة اليتيمة والدرة اليتيمة وقيل اليتم في الأناسي من قبل الآباء وفي البهائم من قبل الأمهات قال وحق هذا الاسم أن يقع على الصغار والكبار لبقاء الانفراد عن الآباء إلا أن في العرف اختص هذا الاسم بمن لم يبلغ مبلغ الرجال فاذا صار بحيث يستغني بنفسه في تحصيل مصالحه عن كافل يكفله وقيم يقوم بأمره زال عنه هذا الاسم وكانت قريش تقول لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يتيم أبي طالب إما على القياس وإما على حكاية الحال التي كان عليها حين كان صغيرا ناشئا في حجر عمه توضيعا له وأما قوله عليه الصلاة والسلام ( لا يتم بعد حلم ) فهو تعليم الشريعة لا تعليم اللغة يعني إذا احتلم فانه لا تجرى عليه أحكام الصغار وروى أبو بكر الرازي في أحكام القرآن أن جده كتب الى ابن عباس يسأله عن اليتيم متى ينقطع يتمه فكتب اليه إذا أونس منه الرشد انقطع يتمه وفي بعض الروايات أن الرجل ليقبض على لحيته ولم ينقطع عنه يتمه بعد فأخبر ابن عباس أن اسم اليتيم قد يلزمه بعد البلوغ إذا لم يؤنس منه الرشد ثم قال أبو بكر واسم اليتيم قد يقع على المرأة المفردة عن زوجها قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( تستأمر اليتيمة ) وهي لا تستأمر إلا وهي بالغة قال الشاعر ان القبور تنكح الأيامى
النسوة الأرامل اليتامى
فالحاصل من كل ما ذكرنا أن اسم اليتيم بحسب أصل اللغة يتناول الصغير والكبير إلا أنه بحسب العرف مختص بالصغير
المسألة الثانية ههنا سؤال وهو أن يقال كيف جمع اليتيم على يتامى واليتيم فعيل والفعيل يجمع على فعلى كمريض ومرضى وقتيل وقتلى وجريح وجرحى قال صاحب ( الكشاف ) فيه وجهان أحدهما أن يقال جمع اليتيم يتمى ثم يجمع فعلى على فعالى كأسير وأسرى وأسارى والثاني أن يقال جمع يتيم يتائم لأن اليتيم جار مجرى الأسماء نحو صاحب وفارس ثم يقلب اليتائم يتامى قال

القفال رحمه الله ويجوز يتيم ويتامى كنديم وندامى ويجوز أيضا يتيم وأيتام كشريف وأشراف
المسألة الثالثة ههنا سؤال ثان وهو أنا ذكرنا أن اسم اليتيم مختص بالصغير فما دام يتيما لا يجوز دفع ماله اليه وإذا صار كبيراً بحيث يجوز دفع ماليه إليه لم يبق يتيما فكيف قال وَءاتُواْ الْيَتَامَى أَمْوالَهُمْ والجواب عنه على طريقين الأول أن نقول المراد من اليتامى الذين بلغوا او كبروا ثم فيه وجهان أحدهما أنه تعالى سماهم يتامى على مقتضى أصل اللغة والثاني أنه تعالى سماهم باليتامى لقرب عهدهم باليتم وان كان قد زال في هذا الوقت كقوله تعالى فَأُلْقِى َ السَّحَرَة ُ سَاجِدِينَ ( الأعراف 120 ) أي الذين كانوا سحرة قبل السجود وأيضاً سمى الله تعالى مقاربة انقضاء العدة بلوغ الاجل في قوله فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ ( الطلاق 2 ) والمعنى مقاربة البلوغ ويدل على أن المراد من اليتامى في هذه الآية البالغون قوله تعالى فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ ( النساء 6 ) والاشهاد لا يصح قبل البلوغ وانما يصح بعد البلوغ
الطريق الثاني أن نقول المراد باليتامى الصغار وعلى هذا الطريق ففي الآية وجهان أحدهما ان قوله وَأْتُواْ أمر والامر انما يتناول المستقبل فكان المعنى أن هؤلاء الذين هم يتامى في الحال آتوهم بعد زوال صفة اليتم عنهم أموالهم وعلى هذا الوجه زالت المناقضة والثاني المراد وآتوا اليتامى حال كونهم يتامى ما يحتاجون اليه لنفقتهم وكسوتهم والفائدة فيه انه كان يجوز أن يظن أنه لا يجوز إنفاق ماله عليه حال كونه صغيرا فأباح الله تعالى ذلك وفيه إشكال وهو انه لو كان المراد ذلك لقال وآتوهم من أموالهم فلما أوجب إيتاءهم كل أموالهم سقط ذلك
المسألة الرابعة نقل أبو بكر الرازي في أحكام القرآن عن الحسن أنه قال لما نزلت هذه الآية في أموال اليتامى كرهوا أن يخالطوهم وعزلوا أموال اليتامى عن أموالهم فشكوا ذلك الى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأنزل الله تعالى فِى الدُّنْيَا وَالاْخِرَة ِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ ( البقرة 220 ) قال أبو بكر الرازي وأظن أنه غلط من الراوي لان المراد بهذه الآية إيتاؤهم أموالهم بعد البلوغ وإنما غلط الراوي بآية أخرى وهو ما روى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لما أنزل الله وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ ( البقرة 152 ) و إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتَامَى ظُلْماً ( النساء 10 ) ذهب من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه فاشتد ذلك على اليتامى فذكروا ذلك لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأنزل الله تعالى شرابه فِى الدُّنْيَا وَالاْخِرَة ِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ فخلطوا عند ذلك طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم قال المفسرون الصحيح أنها نزلت في رجل من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم فلما بلغ طلب المال فمنعه عمه فتراجعا إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فنزلت هذه الآية فلما سمعها العم قال أطعنا الله وأطعنا الرسول نعوذ بالله من الحوب الكبير ودفع ماله اليه فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( ومن يوق شح نفسه ويطع ربه هكذا فانه يحل داره ) أي جنته فلما قبض الصبي ماله أنفقه في سبيل الله فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( ثبت الأجر وبقي الوزر ) فقالوا يا رسول الله لقد عرفنا أنه ثبت الأجر فكيف بقي الوزر وهو ينفق في سبيل الله فقال ثبت أجر الغلام وبقي الوزر على والده

المسألة الخامسة احتج أبو بكر الرازي بهذه الآية على أن السفيه لا يحجر عليه بعد الخمس والعشرين قال لأن قوله وَءاتُواْ الْيَتَامَى أَمْوالَهُمْ مطلق يتناول السفيه أونس منه الرشد أو لم يؤنس ترك العمل به قبل الخمس والعشرين سنة لاتفاق العلماء على أن إيناس الرشد قبل بلوغ هذا السن شرط في وجوب دفع المال اليه وهذا الاجماع لم يوجد بعد هذا السن فوجب إجراء الأمر بعد هذا السن على حكم ظاهر هذه الآية
أجاب أصحابنا عنه بأن هذه الآية عامة لأنه تعالى ذكر اليتامى فيها جملة ثم إنهم ميزوا بعد ذلك بقوله وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى ( النساء 6 ) وبقوله وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوالَكُمُ ( النساء 5 ) حرم بهاتين الآيتين إيتاءهم أموالهم إذا كانوا سفهاء ولا شك أن الخاص مقدم على العام
ثم قال تعالى وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيّبِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) ولا تتبدلوا أي ولا تستبدلوا والتفعل بمعنى الاستفعال غير عزيز ومنه التعجل بمعنى الاستعجال والتأخر بمعنى الاستئخار وقال الواحدي رحمه الله يقال تبدل الشيء بالشيء إذا أخذه مكانه
المسألة الثانية في تفسير هذا التبدل وجوه
الوجه الأول قال الفراء والزجاج لا تستبدلوا الحرام وهو مال اليتامى بالحلال وهو مالكم الذي أبيح لكم من المكاسب ورزق الله المبثوث في الأرض فتأكلوه مكانه الثاني لا تستبدلوا الأمر الخبيث وهو اختزال أموال اليتامى بالأمر الطيب وهو حفظها والتورع منها وهو قول الأكثرين انه كان ولي اليتيم يأخذ الجيد من ماله ويجعل مكانه الدون يجعل الزائف بدل الجيد والمهزول بدل السمين وطعن صاحب ( الكشاف ) في هذا الوجه فقال ليس هذا بتبدل إنما هو تبديل إلا أن يكارم صديقا له فيأخذ منه عجفاء مكان سمينة من مال الصبي الرابع هو أن هذا التبدل معناه أن يأكلوا مال اليتيم سلفا مع التزام بدله بعد ذلك وفي هذا يكون متبدلا الخبيث بالطيب
ثم قال تعالى وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَهُمْ إِلَى أَمْوالِكُمْ وفيه وجهان الأول معناه ولا تضموا أموالهم إلى أموالكم في الانفاق حتى تفرقوا بين أموالكم وأموالهم في حل الانتفاع بها والثاني أن يكون ( إلى ) بمعنى ( مع ) قال تعالى مَنْ أَنصَارِى إِلَى اللَّهِ ( آل عمران 52 ) أي مع الله والأول أصح
واعلم أنه تعالى وان ذكر الأكل فالمراد به التصرف لأن أكل مال اليتيم كما يحرم فكذا سائر التصرفات المهلكة لتلك الأموال محرمة والدليل عليه أن في المال ما لا يصح ان يؤكل فثبت ان المراد منه التصرف وإنما ذكر الأكل لأنه معظم ما يقع لأجله التصرف
فان قيل انه تعالى لما حرم عليهم أكل أموال اليتامى ظلما في الآية الأولى المتقدمة دخل فيها أكلها وحدها وأكلها مع غيرها فما الفائدة في إعادة النهي عن أكلها مع أموالهم
قلنا لأنهم إذا كانوا مستغنين عن أموال اليتامى بما رزقهم الله من حلال وهم مع ذلك يطمعون في أموال اليتامى كان القبح أبلغ والذم أحق

واعلم أنه تعالى عرف الخلق بعد ذلك ان أكل مال اليتيم من جميع الجهات المحرمة إثم عظيم فقال إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً قال الواحدي رحمه الله الكناية تعود إلى الأكل وذلك لأن قوله وَلاَ تَأْكُلُواْ دل على الأكل والحوب الاثم الكبير قال عليه الصلاة والسلام ( ان طلاق أم أيوب لحوب ) وكذلك الحوب والحاب ثلاث لغات في الاسم والمصدر قال الفراء الحوب لأهل الحجاز والحاب لتميم ومعناه الاثم قال عليه الصلاة والسلام ( رب تقبل توبتي واغسل حوبتي ) قال صاحب ( الكشاف ) الحوب والحاب كالقول والقال قال القفال وكأن أصل الكلمة من التحوب وهو التوجع فالحوب هو ارتكاب ما يتوجع المرتكب منه وقال البصريون الحوب بفتح الحاء مصدر والحوب بالضم الاسم والحوبة المرة الواحدة ثم يدخل بعضها في البعض كالكلام فانه اسم ثم يقال قد كلمته كلاما فيصير مصدرا قال صاحب ( الكشاف ) قرأ الحسن حوبا وقرىء حابا
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِى الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَة ً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذالِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ
اعلم أن هذا من النوع الثاني من الأحكام التي ذكرها في هذه السورة وهو حكم الأنكحة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي رحمه الله الاقساط العدل يقال أقسط الرجل إذا عدل قال الله تعالى بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ( الحجرات 9 ) والقسط العدل والنصفة قال تعالى كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ ( النساء 135 ) قال الزجاج وأصل قسط وأقسط جميعا من القسط وهو النصيب فاذا قالوا قسط بمعنى جار أرادوا أنه ظلم صاحبه في قسطه الذي يصيبه ألا ترى أنهم قالوا قاسطته إذا غلبته على قسطه فبنى قسط على بناء ظلم وجار وغلب وإذا قالوا أقسط فالمراد أنه صار ذا قسط عدل فبنى على بناء أنصف إذا أتى بالنصف والعدل في قوله وفعله وقسمه
المسألة الثانية اعلم أن قوله وَإِنْ خِفْتُمْ أَن لا تُقْسِطُواْ شرط وقوله فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَاء جزاء ولا بد من بيان أنه كيف يتعلق هذا الجزاء بهذا الشرط وللمفسرين فيه وجوه الأول روي عن عروة أنه قال قلت لعائشة ما معنى قول الله وَإِنْ خِفْتُمْ أَن لا تُقْسِطُواْ فِى الْيَتَامَى فقالت يا ابن أختي هي اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في مالها وجمالها إلا أنه يريد أن ينكحها بأدنى من صداقها ثم إذا تزوج بها عاملها معاملة رديئة لعلمه بأنه ليس لها من يذب عنها ويدفع شر ذلك الزوج عنها فقال تعالى ( وإن خفتم أن تظلموا اليتامى عند نكاحهن فانكحوا من غيرهن ما طاب لكم من النساء قالت عائشة رضي الله عنها ثم إن الناس استفتوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعد هذه الآية فيهن فأنزل الله تعالى وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى النّسَاء قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِى الْكِتَابِ فِى يَتَامَى النّسَاء قالت وقوله تعالى وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِى الْكِتَابِ فِى يَتَامَى النّسَاء ( النساء 127 ) المراد منه هذه الآية وهي قوله وَإِنْ خِفْتُمْ أَن لا تُقْسِطُواْ

الوجه الثاني في تأويل الآية انه لما نزلت الآية المتقدمة في اليتامى وما في أكل أموالهم من الحوب الكبير خاف الأولياء أن يلحقهم الحوب بترك الاقساط في حقوق اليتامى فتحرجوا من ولايتهم وكان الرجل منهم ربما كان تحته العشر من الأزواج وأكثر فلا يقوم بحقوقهن ولا يعدل بينهن فقيل لهم إن خفتم ترك العدل في حقوق اليتامى فتحرجتم منها فكونوا خائفين من ترك العدل من النساء فقالوا عدد المنكوحات لأن من تحرج من ذنب أو تاب عنه وهو مرتكب لمثله فكأنه غير متحرج
الوجه الثالث في التأويل أنهم كانوا يتحرجون من ولاية اليتامى فقيل إن خفتم في حق اليتامى فكونوا خائفين من الزنا فانكحوا ما حل لكم من النساء ولا تحوموا حول المحرمات
الوجه الرابع في التأويل ما روي عن عكرمة أنه قال كان الرجل عنده النسوة ويكون عنده الأيتام فاذا أنفق مال نفسه على النسوة ولم يبق له مال وصار محتاجا أخذ في إنفاق أموال اليتامى عليهن فقال تعالى وَإِنْ خِفْتُمْ أَن لا تُقْسِطُواْ فِى أَمْوالَ الْيَتَامَى عند كثرة الزوجات فقد حظرت عليكم أن لا تنكحوا أكثر من أربع كي يزول هذا الخوف فان خفتم في الأربع أيضاً فواحدة فذكر الطرف الزائد وهو الأربع والناقص وهو الواحدة ونبه بذلك على ما بينهما فكأنه تعالى قال فان خفتم من الأربع فثلاث فان خفتم فاثنتان فان خفتم فواحدة وهذا القول أقرب فكأنه تعالى خوف من الاكثار من النكاح بما عساه يقع من الولي من التعدي في مال اليتيم للحاجة الى الانفاق الكثير عند التزوج بالعدد الكثير
أما قوله تعالى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَاء مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَن لا تَعْدِلُواْ فَواحِدَة ً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذالِكَ أَدْنَى أَن لا تَعُولُواْ
ففيه مسائل
المسألة الأولى قال أصحاب الظاهر النكاح واجب وتمسكوا بهذه الآية وذلك لأن قوله فَانكِحُواْ أمر وظاهر الأمر للوجوب وتمسك الشافعي في بيان انه ليس بواجب بقوله تعالى وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ( النساء 25 ) الى قوله ذَلِكَ لِمَنْ خَشِى َ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ فحكم تعالى بأن ترك النكاح في هذه الصورة خير من فعله وذلك يدل على أنه ليس بمندوب فضلا عن أن يقال إنه واجب
المسألة الثانية إنما قال مَا طَابَ ولم يقل من طاب لوجوه أحدها أنه أراد به الجنس تقول ما عندك فيقول رجل أو امرأة والمعنى ما ذلك الشيء الذي عندك وما تلك الحقيقة التي عندك وثانيها أن ( ما ) مع ما بعده في تقدير المصدر وتقديره فانكحوا الطيب من النساء وثالثها ان ( ما ) و ( من ) ربما يتعاقبان قال تعالى وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا ( الشمس 5 ) وقال وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ( الكافرون 2 )

وحكى أبو عمرو بن العلاء سبحان ما سبح له الرعد وقال فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِى عَلَى بَطْنِهِ ( النور 45 ) ورابعها إنما ذكر ( ما ) تنزيلا للاناث منزلة غير العقلاء ومنه قوله إِلاَّ عَلَى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ( المعارج 30 )
المسألة الثالثة قال الواحدي وصاحب ( الكشاف ) قوله مَا طَابَ لَكُمْ أي ما حل لكم من النساء لأن منهن من يحرم نكاحها وهي الأنواع المذكورة في قوله حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ ( النساء 23 ) وهذا عندي فيه نظر وذلك لأنا بينا أن قوله فَانكِحُواْ أمر إباحة فلو كان المراد بقوله مَا طَابَ لَكُمْ أي ما حل لكم لنزلت الآية منزلة ما يقال أبحنا لكم نكاح من يكون نكاحها مباحا لكم وذلك يخرج الآية عن الفائدة وأيضاً فبتقدير أن تحمل الآية على ما ذكروه تصير الآية مجملة لأن أسباب الحل والاباحة لما لم تكن مذكورة في هذه الآية صارت الآية مجملة لا محالة أما إذا حملنا الطيب على استطابة النفس وميل القلب كانت الآية عاما دخله التخصيص وقد ثبت في أصول الفقه أنه متى وقع التعارض بين الاجمال والتخصيص كان رفع الاجمال أولى لأن العام المخصوص حجة في غير محل التخصيص والمجمل لا يكون حجة أصلا
المسألة الرابعة مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ معناه اثنين اثنين وثلاثا ثلاثا وأربعا أربعا وهو غير منصرف وفيه وجهان الأول أنه اجتمع فيها أمران العدل والوصف أما العدل فلأن العدل عبارة عن أنك تذكر كلمة وتريد بها كلمة أخرى كما تقول عمر وزفر وتريد به عامراً وزافرا فكذا ههنا تريد بقولك مثنى ثنتين ثنتين فكان معدولا وأما أنه وصف فدليله قوله تعالى أُوْلِى أَجْنِحَة ٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ( فاطر 1 ) ولا شك أنه وصف
الوجه الثاني في بيان أن هذه الأسماء غير منصرفة أن فيها عدلين لأنها معدولة عن أصولها كما بيناه وأيضا انها معدولة عن تكررها فانك لا تريد بقولك مثنى ثنتين فقط بل ثنتين ثنتين فاذا قلت جاءني اثنان أو ثلاثة كان غرضك الاخبار عن مجيء هذا العدد فقط أما إذا قلت جاءني القوم مثنى أفاد أن ترتيب مجيئهم وقع اثنين اثنين فثبت أنه حصل في هذه الألفاظ نوعان من العدد فوجب أن يمنع من الصرف وذلك لأنه إذا اجتمع في الاسم سببان أوجب ذلك منع الصرف لأنه يصير لأجل ذلك نائبا من جهتين فيصير مشابها للفعل فيمتنع صرفه وكذا إذا حصل فيه العدل من جهتين فوجب أن يمنع صرفه والله أعلم
المسألة الخامسة قال أهل التحقيق فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَاء لا يتناول العبيد وذلك لأن الخطاب إنما يتناول إنسانا متى طابت له امرأة قدر على نكاحها والعبد ليس كذلك بدليل أنه لا يتمكن من النكاح إلا باذن مولاه ويدل عليه القرآن والخبر أما القرآن فقوله تعالى ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَى ْء ( النحل 75 ) فقوله لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَى ْء ينفي كونه مستقلا بالنكاح وأما الخبر فقوله عليه الصلاة والسلام ( أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر ) فثبت بما ذكرناه أن هذه الآية لا يندرج فيها العبد
إذا عرفت هذه المقدمة فنقول ذهب أكثر الفقهاء إلى أن نكاح الأربع مشروع للأحرار دون

العبيد وقال مالك يحل للعبد أن يتزوج بالأربع وتمسك بظاهر هذه الآية
والجواب الذي يعتمد عليه أن الشافعي احتج على أن هذه الآية مختصة بالأحرار بوجهين آخرين سوى ما ذكرناه الأول أنه تعالى قال بعد هذه الآية فَإِنْ خِفْتُمْ أَن لا تَعْدِلُواْ فَواحِدَة ً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وهذا لا يكون إلا للأحرار والثاني أنه تعالى قال فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَى ْء مّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً ( النساء 4 ) والعبد لا يأكل ما طابت عنه نفس امرأته من المهر بل يكون لسيده قال مالك إذا ورد عمومان مستقلان فدخول التقييد في الأخير لا يوجب دخوله في السابق
أجاب الشافعي رضي الله عنه بأن هذه الخطابات في هذه الآيات وردت متوالية على نسق واحد فلما عرف في بعضها اختصاصها بالأحرار عرف أن الكل كذلك ومن الفقهاء من علم أن ظاهر هذه الآية متناول للعبيد إلا أنهم خصصوا هذا العموم بالقياس قالوا أجمعنا على أن للرق تأثيراً في نقصان حقوق النكاح كالطلاق والعدة ولما كان العدد من حقوق النكاح وجب أن يحصل للعبد نصف ما للحر والجواب الأول أولى وأقوى والله أعلم
المسألة السادسة ذهب قوم سدى إلى أنه يجوز التزوج بأي عدد أريد واحتجوا بالقرآن والخبر أما القرآن فقد تمسكوا بهذه الآية من ثلاثة أوجه الأول أن قوله فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَاء إطلاق في جميع الأعداد بدليل أنه لا عدد إلا ويصح استثناؤه منه وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لكان داخلا والثاني أن قوله مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ لا يصلح تخصيصا لذلك العموم لأن تخصيص بعض الاعداد بالذكر لا ينفي ثبوت الحكم في الباقي بل نقول ان ذكر هذه الأعداد يدل على رفع الحرج والحجر مطلقا فان الانسان إذا قال لولده افعل ما شئت اذهب إلى السوق وإلى المدينة وإلى البستان كان تنصيصا في تفويض زمام الخيرة اليه مطلقاً ورفع الحجر والحرج عنه مطلقاً ولا يكون ذلك تخصيصاً للاذن بتلك الأشياء المذكورة بل كان إذنا في المذكور وغيره فكذا ههنا وأيضاً فذكر جميع الأعداد متعذر فاذا ذكر بعض الأعداد بعد قوله فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَاء كان ذلك تنبيها على حصول الاذن في جميع الأعداد والثالث أن الواو للجمع المطلق فقوله مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يفيد حل هذا المجموع وهو يفيد تسعة بل الحق أنه يفيد ثمانية عشر لان قوله مثنى ليس عبارة عن اثنين فقط بل عن اثنين اثنين وكذا القول في البقية وأما الخبر فمن وجهين الأول أنه ثبت بالتواتر أنه ( صلى الله عليه وسلم ) مات عن تسع ثم ان الله تعالى أمرنا باتباعه فقال فَاتَّبَعُوهُ وأقل مراتب الأمر الاباحة الثاني أن سنة الرجل طريقته وكان التزوج بالأكثر من الأربع طريقة الرسول عليه الصلاة والسلام فكان ذلك سنة له ثم انه عليه السلام قال ( فمن رغب عن سنتي فليس مني ) فظاهر هذا الحديث يقتضي توجه اللوم على من ترك التزوج بأكثر من الأربعة فلا أقل من أن يثبت أصل الجواز
واعلم أن معتمد الفقهاء في إثبات الحصر على أمرين الأول الخبر وهو ما روي ان غيلان أسلم وتحته عشر نسوة فقال الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أمسك أربعا وفارق باقيهن وروي ان نوفل بن معاوية أسلم وتحته خمس نسوة فقال عليه السلام ( أمسك أربعا وفارق واحدة )
واعلم أن هذا الطريق ضعيف لوجهين الأول أن القرآن لما دل على عدم الحصر بهذا الخبر كان

ذلك نسخا للقرآن بخبر الواحد وإنه غير جائز والثاني وهو أن الخبر واقعة حال فلعله عليه الصلاة والسلام إنما أمره بامساك أربع ومفارقة البواقي لأن الجمع بين الأربعة وبين البواقي غير جائز إما بسبب النسب أو بسبب الرضاع وبالجملة فلهذا الاحتمال قائم في هذا الخبر فلا يمكن نسخ القرآن بمثله
الطريق الثاني وهو إجماع فقهاء الامصار على أنه لا يجوز الزيادة على الأربع وهذا هو المعتمد وفيه سؤالان الأول أن الاجماع لا ينسخ ولا ينسخ فكيف يقال الاجماع نسخ هذه الآية الثاني أن في الأمة أقواما شذاذا لا يقولون بحرمة الزيادة على الأربع والاجماع مع مخالفة الواحد والاثنين لا ينعقد
والجواب عن الأول الاجماع يكشف عن حصول الناسخ في زمن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وعن الثاني أن مخالف هذا الاجماع من أهل البدعة فلا عبرة بمخالفته
فان قيل فاذا كان الأمر على ما قلتم فكان الأولى على هذا التقدير أن يقال مثنى أو ثلاث أو رباع فلم جاء بواو العطف دون ( أو )
قلنا لو جاء بكلمة ( أو ) لكان ذلك يقتضي أنه لا يجوز ذلك الا على أحد هذه الأقسام وأنه لا يجوز لهم أن يجمعوا بين هذه الأقسام بمعنى أن بعضهم يأتي بالتثنية والبعض الآخر بالتثليث والفريق الثالث بالتربيع فلما ذكره بحرف الواو أفاد ذلك أنه يجوز لكل طائفة أن يختاروا قسما من هذه الأقسام ونظيره أن يقول الرجل للجماعة اقتسموا هذا المال وهو ألف درهمين درهمين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة والمراد أنه يجوز لبعضهم أن يأخذ درهمين درهمين ولبعض آخرين أن يأخذوا ثلاثة ثلاثة ولطائفة ثالثة أن يأخذوا أربعة أربعة فكذا ههنا الفائدة في ترك ( أو ) وذكر الواو ما ذكرناه والله أعلم
المسألة السابعة قوله مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ محله النصب على الحال مما طاب تقديره فانكحوا الطيبات لكم معدودات هذا العدد ثنتين ثنتين وثلاثا ثلاثا وأربعا أربعا
قوله تعالى فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَواحِدَة ً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ
وفيه مسائل
المسألة الأولى المعنى فان خفتم أن لا تعدلوا بين هذه الأعداد كما خفتم ترك العدل فيما فوقها فاكتفوا بزوجة واحدة أو بالمملوكة سوى في السهولة واليسر بين الحرة الواحدة وبين الاماء من غير حصر ولعمري إنهن أقل تبعة وأخف مؤنة من المهائر لا عليك أكثرت منهم أم أقللت عدلت بينهن في القسم أم لم تعدل عزلت عنهن أم لم تعزل
المسألة الثانية قرىء فَواحِدَة ً بنصب التاء والمعنى فالتزموا أو فاختاروا واحدة وذروا الجمع رأسا فان الأمر كله يدور مع العدل فأينما وجدتم العدل فعليكم به وقرىء فَواحِدَة ً بالرفع والتقدير فكفت واحدة أو فحسبكم واحدة أو ما ملكت أيمانكم
المسألة الثالثة للشافعي رحمة الله أن يحتج بهذه الآية في بيان الاشتغال بنوافل العبادات

أفضل من النكاح وذلك لأن الله تعالى خير في هذه الآية بين التزوج بالواحدة وبين التسري والتخيير بين الشيئين مشعر بالمساواة بينهما في الحكمة المطلوبة كما إذا قال الطبيب كل التفاح أو الرمان فان ذلك يشعر بكون كل واحد منهما قائما مقام الآخر في تمام الغرض وكما أن الآية دلت على هذه التسوية فكذلك العقل يدل عليها لأن المقصود هو السكن والازدواج وتحصين الدين ومصالح البيت وكل ذلك حاصل بالطريقين وأيضاً إن فرضنا الكلام فيما إذا كانت المرأة مملوكة ثم أعتقها وتزوج بها فههنا يظهر جدا حصول الاستواء بين التزوج وبين التسري واذا ثبت بهذه الآية ان التزوج والتسري متساويان فنقول أجمعنا على أن الاشتغال بالنوافل أفضل من التسري فوجب أن يكون أفضل من النكاح لان الزائد على أحد المتساويين يكون زائد على المساوي الثاني لا محالة
ثم قال تعالى ذَلِكَ أَدْنَى أَن لا تَعُولُواْ وفيه مسألتان
المسألة الأولى المراد من الادنى ههنا الاقرب والتقدير ذلك أقرب من أن لا تعولوا وحسن حذف ( من ) لدلالة الكلام عليه
المسألة الثانية في تفسير أَن لا تَعُولُواْ وجوه الأول معناه لا تجوروا ولا تميلوا وهذا هو المختار عند أكثر المفسرين وروي ذلك مرفوعا روت عائشة رضي الله عنها عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في قوله ذالِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ قال ( لا تجوروا ) وفي رواية أخرى ( أن لا تميلوا ) قال الواحدي رحمه الله كلا اللفظين مروي وأصل العول الميل يقال عال الميزان عولا إذا مال وعال الحاكم في حكمه إذا جار لانه إذا جار فقد مال وأنشدوا لأبي طالب
بميزان قسط لا يغل شعيرة ووزان صدق وزنه غير عائل
وروي أن أعرابيا حكم عليه حاكم فقال له أتعول علي ويقال عالت الفريضة إذا زادت سهامها وقد أعلتها أنا إذا ازدت في سهامها ومعلوم أنها إذا زادت سهامها فقد مالت عن الاعتدال فدلت هذه الاشتقاقات على أن أصل هذا اللفظ الميل ثم اختص بحسب العرف بالميل الى الجور والظلم فهذا هو الكلام في تقرير هذا الوجه الذي ذهب اليه الأكثرون
الوجه الثاني قال بعضهم المراد أن لا تفتقروا يقال رجل عائل أي فقير وذلك لأنه إذا قل عياله قلت نفقاته واذا قلت نفقاته لم يفتقر
الوجه الثالث نقل عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال ( ذلك أدنى أن لا تعولوا معناه ذلك أدنى أن لا تكثر عيالكم قال أبو بكر الرازي في أحكام القرآن وقد خطأه الناس في ذلك من ثلاثة أوجه أحدها أنه لا خلاف بين السلف وكل من روى تفسير هذه الآية أن معناه أن لا تميلوا ولا تجوروا وثانيها أنه خطأ في اللغة لأنه لو قيل ذلك أدنى أن لا تعيلوا لكان ذلك مستقيما فأما تفسير معناه ذلك أدنى أن لا تكثر عيالكم قال أبو بكر الرازي في أحكام القرآن وقد خطأه الناس في ذلك من ثلاثة أوجه أحدها أنه لا خلاف بين السلف وكل من روى تفسير هذه الآية أن معناه أن لا تميلوا ولا تجوروا وثانيها أنه خطأ في اللغة لأنه لو قيل ذلك أدنى أن لا تعيلوا لكان ذلك مستقيما فأما تفسير تَعُولُواْ بتعيلوا فانه خطأ في اللغة وثالثها أنه تعالى ذكر الزوجة الواحدة أو ملك اليمين والاماء في العيال بمنزلة النساء ولا خلاف أن له أن يجمع من العدد من شاء بملك اليمين فعلمنا أنه ليس المراد كثرة العيال وزاد صاحب النظم في الطعن وجها رابعا وهو أنه تعالى قال في أول الآية فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَواحِدَة ً ولم يقل أن تفتقروا

فوجب أن يكون الجواب معطوفا على هذا الشرط ولا يكون جوابه إلا بضد العدل وذلك هو الجور لا كثرة العيال وأنا أقول
أما السؤال الأول فهو في غاية الركاكة وذلك أنه لم ينقل عن الشافعي رحمة الله عليه أنه طعن في قول المفسرين أن معنى الآية أن لا تجوروا ولا تميلوا ولكنه ذكر فيه وجها آخر وقد ثبت في أصول الفقه أن المتقدمين إذا ذكروا وجها في تفسير الآية فذلك لا يمنع المتأخرين من استخراج وجه آخر في تفسيرها ولولا جواز ذلك وإلا لصارت الدقائق التي استنبطها المتأخرون في تفسير كلام الله مردودة باطلة ومعلوم أن ذلك لا يقوله إلا مقلد خلف وأيضا فمن الذي أخبر الرازي أن هذا الوجه الذي ذكره الشافعي لم يذكره واحد من الصحابة والتابعين وكيف لا نقول ذلك ومن المشهور أن طاوسا كان يقرأ ذلك أدنى أن لا تعيلوا واذا ثبت أن المتقدمين كانوا قد جعلوا هذا الوجه قراءة فبأن يجعلوه تفسيرا كان أولى فثبت بهذه الوجوه شدة جهل الرازي في هذا الطعن
وأما السؤال الثاني فنقول انك نقلت هذه اللفظة في اللغة عن المبرد لكنك بجهلك وحرصك على الطعن في رؤساء المجتهدين والاعلام وشدة بلادتك ما عرفت ان هذا الطعن الذي ذكره المبرد فاسد وبيان فساده من وجوه الأول أنه يقال عالت المسألة إذا زادت سهامها وكثرة وهذا المعنى قريب من الميل لانه إذا مال فقد كثرت جهات الرغبة وموجبات الارادة واذا كان كذلك كان معنى الآية ذلك أدنى أن لا تكثروا واذا لم تكثروا لم يقع الانسان في الجور والظلم لان مطية الجور والظلم هي الكثرة والمخالطة وبهذا الطريق يرجع هذا التفسير الى قريب من التفسير الأول الذي اختاره الجمهور
الوجه الثاني ان الانسان إذا قال فلان طويل النجاد كثير الرماد فاذا قيل له ما معناه حسن أن يقال معناه أنه طويل القامة كثير الضيافة وليس المراد منه أن تفسير طويل النجاد هو أنه طويل القامة بل المراد أن المقصود من ذلك الكلام هو هذا المعنى وهذا الكلام تسميه علماء البيان التعبير عن الشيء بالكناية والتعريض وحاصله يرجع الى حرف واحد وهو الاشارة الى الشيء بذكر لوازمه فههنا كثرة العيال مستلزمة للميل والجور والشافعي رضي الله عنه جعل كثرة العيال كناية عن الميل والجور لما أن كثرة العيال لا تنفك عن الميل والجور فجعل هذا تفسيراً له لا على سبيل الكناية والاستلزام وهذه طريقة مشهورة في كتاب الله والشافعي لما كان محيطاً بوجوه أساليب المطابقة بل على سبيل الكلام العربي استحسن ذكر هذا الكلام فأما أبو بكر الرازي لما كان بليد الطبع بعيدا عن أساليب كلام العرب لا جرم لم يعرف الوجه الحسن فيه
الوجه الثالث ما ذكره صاحب ( الكشاف ) وهو أن هذا التفسير مأخوذ من قولك عال الرجل عياله يعولهم كقولهم مانهم يمونهم إذا أنفق عليهم لان من كثر عياله لزمه أن يعولهم وفي ذلك ما تصعب عليه المحافظة على حدود الورع وكسب الحلال والرزق الطيب فثبت بهذه الوجوه أن الذي ذكره إمام المسلمين الشافعي رضي الله عنه في غاية الحسن وأن الطعن لا يصدر الا عن كثرة الغباوة وقلة المعرفة
وأما السؤال الثالث وهو قوله إن كثرة العيال لا تختلف بأن تكون المرأة زوجة أو مملوكة فجوابه من وجهين الأول ما ذكره القفال رضي الله عنه وهو أن الجواري إذا كثرن فله أن يكلفهن الكسب وإذا

اكتسبن أنفقن على أنفسهن وعلى مولاهن أيضا وحينئذ تقل العيال أما إذا كانت المرأة حرة لم يكن الامر كذلك فظهر الفرق الثاني ان المرأة إذا كانت مملوكة فاذا عجز المولى عن الانفاق عليها باعها وتخلص منها أما إذا كانت حرة فلا بد له من الانفاق عليها والعرف يدل على أن الزوج ما دام يمسك الزوجة فانها لا تطالبه بالمهر فاذا حاول طلاقها طالبته بالمهر فيقع الزوج في المحنة
وأما السؤال الرابع وهو الذي ذكره الجرجاني صاحب النظم فالجواب عنه من وجهين الأول ما ذكره القاضي وهو أن الوجه الذي ذكره الشافعي أرجح لانه لو حمل على الجور لكان تكراراً لانه فهم ذلك من قوله وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ أما إذا حملناه على ما ذكره الشافعي لم يلزم التكرار فكان أولى الثاني أن نقول هب أن الامر كما ذكرتم لكنا بينا أن التفسير الذي ذكره الشافعي راجع عند التحقيق الى ذكر التفسير الأول لكن على سبيل الكناية والتعريض واذا كان الامر كذلك فقد زال هذا السؤال فهذا تمام البحث في هذا الموضع وبالله التوفيق
وَءَاتُواْ النِّسَآءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَة ً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَى ْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً
في الآية مسائل
المسألة الأولى قوله وَءاتُواْ النّسَاء خطاب لمن فيه قولان أحدهما ان هذا خطاب لأولياء النساء وذلك لأن العرب كانت في الجاهلية لا تعطي النساء من مهورهن شيئا ولذلك كانوا يقولون لمن ولدت له بنت هنيئا لك النافجة ومعناه أنك تأخذ مهرها إبلاً فتضمها الى إبلك فتنفج مالك أي تعظمه وقال ابن الاعرابي النافجة يأخذه الرجل من الحلوان إذا زوج ابنته فنهى الله تعالى عن ذلك وأمر بدفع الحق الى أهله وهذا قول الكلبي وأبي صالح واختيار الفراء وابن قتيبة
القول الثاني ان الخطاب للأزواج أمروا بايتاء النساء مهورهن وهذا قول علقمة والنخعي وقتادة واختيار الزجاج قال لأنه لا ذكر للأولياء ههنا وما قبل هذا خطاب للناكحين وهم الأزواج
المسألة الثانية قال القفال رحمه الله يحتمل أن يكون المراد من الايتاء المناولة ويحتمل أن يكون المراد الالتزام قال تعالى حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَة َ عَن يَدٍ ( التوبة 29 ) والمعنى حتى يضمنوها ويلتزموها فعلى هذا الوجه الأول كأن المراد أنهم أمروا بدفع المهور التي قد سموها لهن وعلى التقدير الثاني كان المراد أن الفروج لا تستباح إلا بعوض يلزم سواء سمي ذلك أو لم يسم إلا ما خص به الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في الموهوبة ثم قال رحمه الله ويجوز أن يكون الكلام جامعا للوجهين معا والله أعلم
المسألة الثالثة قال صاحب ( الكشاف ) صَدُقَاتِهِنَّ مهورهن وفي حديث شريح قضى ابن عباس لها بالصدقة وقرأ صَدُقَاتِهِنَّ بفتح الصاد وسكون الدال على تخفيف صدقاتهن و صَدُقَاتِهِنَّ بضم الصاد وسكون الدال جمع صدقة وقرىء صَدُقَاتِهِنَّ بضم الصاد والدل على التوحيد وهو مثقل صدقة كقوله في ظلمة ظلمة قال الواحدي موضوع صدق على هذا الترتيب للكمال والصحة فسمي المهر صداقا وصدقة لأن عقد النكاح به يتم ويكمل

المسألة الرابعة في تفسير النحلة وجوه الأول قال ابن عباس وقتادة وابن جريج وابن زيد فريضة وإنما فسروا النحلة بالفريضة لأن النحلة في اللغة معناها الديانة والملة والشرعة والمذهب يقال فلان ينتحل كذا إذا كان يتدين به ونحلته كذا أي دينه ومذهبه فقوله أَتَوْا النّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَة ً أي آتوهن مهورهن فانها نحلة أي شريعة ودين ومذهب وما هو دين ومذهب فهو فريضة الثاني قال الكلبي نحلة أي عطية وهبة يقال نحلت فلانا شيئاً أنحله نحلة ونحلا قال القفال وأصله إضافة الشيء إلى غير من هوله يقال هذا شعر منحول أي مضاف إلى غير قائله وانتحلت كذا إذا ادعيته وأضفته إلى نفسك وعلى هذا القول فالمهر عطية ممن فيه احتمالان أحدهما أنه عطية من الزوج وذلك لأن الزوج لا يملك بدله شيئاً لأن البضع في ملك المرأة بعد النكاح كهو قبله فالزوج أعطاها المهر ولم يأخذ منها عوضا يملكه فكان في معنى النحلة التي ليس بازائها بدل وإنما الذي يستحقه الزوج منها بعقد النكاح هو الاستباحة لا الملك وقال آخرون إن الله تعالى جعل منافع النكاح من قضاء الشهوة والتوالد مشتركا بين الزوجين ثم أمر الزوج بأن يؤتي الزوجة المهر فكان ذلك عطية من الله ابتداء
والقول الثالث في تفسير النحلة قال أبو عبيدة معنى قوله نِحْلَة ً أي عن طيب نفس وذلك لأن النحلة في اللغة العطية من غير أخذ عوض كما ينحل الرجل لولده شيئاً من ماله وما أعطى من غير طلب عوض لا يكون إلا عن طيب النفس فأمر الله باعطاء مهور النساء من غير مطالبة منهن ولا مخاصمة لأن ما يؤخذ بالمحاكمة لا يقال له نحلة
المسألة الخامسة إن حملنا النحلة على الديانة ففي انتصابها وجهان أحدهما أن يكون مفعولا له والمعنى آتوهن مهورهن ديانة والثاني أن يكون حالا من الصدقات أي دينا من الله شرعه وفرضه وأما إن حملنا النحلة على العطية ففي انتصابها أيضاً وجهان أحدهما أنه نصب على المصدر وذلك لأن النحلة والايتاء بمعنى الاعطاء فكأنه قيل وانحلوا النساء صدقاتهن نحلة أي أعطوهن مهورهن عن طيبة أنفسكم والثاني أنها نصب على الحال ثم فيه وجهان أحدهما على الحال من المخاطبين أي آتوهن صدقاتهن ناحلين طيبي النفوس بالاعطاء والثاني على الحال من الصدقات أي منحولة معطاة عن طيبة الأنفس
المسألة السادسة قال أبو حنيفة رضي الله عنه الخلوة الصحيحة تقرر المهر وقال الشافعي رضي الله عنه لا تقرره احتج أبو حنيفة على صحة قوله بهذه الآية وذلك لأن هذا النص يقتضي إيجاب إيتاء المهر بالكلية مطلقا ترك العمل به فيما إذا لم يحصل المسيس ولا الخلوة فعند حصولهما وجب البقاء على مقتضى الآية
أجاب أصحابنا بأن هذه عامة وقوله تعالى وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَة ً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ( البقرة 237 ) يدل على أنه لا يجب فيها إلا نصف المهر وهذه الآية خاصة ولا شك أن الخاص مقدم على العام
قوله تعالى فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَى ْء مّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً

اعلم أنه تعالى لما أمرهم بايتائهن صدقاتهن عقبه بذكر جواز قبول إبرائها وهبتها له لئلا يظن أن عليه إيتاءها مهرها وإن طابت نفسها بتركه وفي الآية مسائل
المسألة الأولى نفسا نصب على التمييز والمعنى طابت أنفسهن لكم عن شيء من الصداق بنقل الفعل من الأنفس إليهن فخرجت النفس مفسرة كما قالوا أنت حسن وجها والفعل في الأصل للوجه فلما حول إلى صاحب الوجه خرج الوجه مفسراً لموقع الفعل ومثله قررت به عيناً وضقت به ذرعا
المسألة الثانية إنما وحد النفس لأن المراد به بيان موقع الفعل وذلك يحصل بالواحد ومثله عشرون درهما قال الفراء لو جمعت كان صوابا كقوله الاْخْسَرِينَ أَعْمَالاً ( الكهف 103 )
المسألة الثالثة من في قوله مِنْهُ ليس للتبعيض بل للتبيين والمعنى عن شيء من هذا الجنس الذي هو مهر كقوله فَاجْتَنِبُواْ الرّجْسَ مِنَ الاْوْثَانِ ( الحج 30 ) وذلك أن المرأة لو طابت نفسها عن جميع المهر حل للزوج أن يأخذه بالكلية
المسألة الرابعة منه أي من الصدقات أو من ذلك وهو كقوله تعالى قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ مّن ذالِكُمْ ( آل عمران 15 ) بعد ذكر الشهوات وروي أنه لما قال رؤبة
فيها خطوط من سواد وبلق كأنه في الجلد توليع البهق
فقيل له الضمير في قوله ( كأنه ) ان عاد إلى الخطوط كان يجب أن تقول كأنها وان عاد إلى السواد والبلق كان يجب أن تقول كأنهما فقال أردت كأن ذاك وفيه وجه آخر وهو أن الصدقات في معنى الصداق لأنك لو قلت وآتوا النساء صداقهن لكان المقصود حاصلا وفيه وجه ثالث وهو أن الفائدة في تذكير الضمير أن يعود ذلك إلى بعض الصداق والغرض منه ترغيبها في أن لا تهب إلا بعض الصداق
المسألة الخامسة معنى الآية فان وهبن لكم شيئا من الصداق عن طيبة النفس من غير أن يكون السبب فيه شكاسة أخلاقكم معهن أو سوء معاشرتكم معهن فكلوه وأنفقوه وفي الآية دليل على ضيق المسلك في هذا الباب ووجوب الاحتياط حيث بنى الشرط على طيب النفس فقال فَإِن طِبْنَ ولم يقل فان وهبن أو سمحن إعلاما بأن المراعى هو تجافي نفسها عن الموهوب طيبة
المسألة السادسة الهنيء والمريء صفتان من هنؤ الطعام ومرؤ إذا كان سائغا لا تنغيص فيه وقيل الهنىء ما يستلذه الآكل والمريء ما يحمد عاقبته وقيل ما ينساغ في مجراه وقيل لمدخل الطعام من الحلقوم إلى فم المعدة المريء لمروء الطعام فيه وهو انسياغه وحكى الواحدي عن بعضهم أن أصل الهنيء من الهناء وهو معالجة الجرب بالقطران فالهنيء شفاء من الجرب قال المفسرون المعنى انهن إذا وهبن مهورهن من أزواجهن عن طيبة النفس لم يكن على الأزواج في ذلك تبعة لا في الدنيا ولا في الآخرة وبالجملة فهو عبارة عن التحليل والمبالغة في الاباحة وإزالة التبعة
المسألة السابعة قوله هَنِيئاً مَّرِيئاً وصف للمصدر أي أكلا هنيئا مريئا أو حال من الضمير أي كلوهو وهو هنيء مريء وقد يوقف على قوله فَكُلُوهُ ثم يبتدأ بقوله هَنِيئاً مَّرِيئاً على الدعاء وعلى أنهما صفتان أقيمتا مقام المصدرين كأنه قيل هنأ مرأ

المسألة الثامنة دلت هذه الآية على أمور منها ان المهر لها ولا حق للولي فيه ومنها جواز هبتها المهر للزوج وجواز أن يأخذه الزوج لأن قوله فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً يدل على المعنيين ومنها جواز هبتها المهر قبل القبض لأن الله تعالى لم يفرق بين الحالتين
وههنا بحث وهو أن قوله فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً يتناول ما إذ كان المهر عينا أما إذا كان دينا فالآية غير متناولة له فانه لا يقال لما في الذمة كله هنيئاً مريئاً
قلنا المراد بقوله فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً ليس نفس الأكل بل المراد منه حل التصرفات وإنما خص الأكل بالذكر لأن معظم المقصود من المال إنما هو الأكل ونظيره قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتَامَى ظُلْماً ( النساء 10 ) وقال لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ
المسألة التاسعة قال بعض العلماء ان وهبت ثم طلبت بعد الهبة علم أنها لم تطب عنه نفساً وعن الشعبي أن امرأة جاءت مع زوجها شريحا في عطية أعطتها إياه وهي تطلب الرجوع فقال شريح رد عليها فقال الرجل أليس قد قال الله تعالى فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَى ْء فقال لو طابت نفسها عنه لما رجعت فيه وروي عنه أيضا أقيلها فيما وهبت ولا أقيله لأنهن يخدعن وحكي أن رجلا من آل أبي معيط أعطته امرأته ألف دينار صداقا كان لها عليه فلبث شهرا ثم طلقها فخاصمته إلى عبد الملك بن مروان فقال الرجل أعطتني طيبة به نفسها فقال عبد الملك فان الآية التي بعدها فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً اردد عليها وعن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه كتب إلى قضاته ان النساء يعطين رغبة ورهبة فايما امرأة أعطته ثم أرادت أن ترجع فذلك لها والله أعلم
وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِى جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً
واعلم أن هذا هو النوع الثالث من الأحكام المذكورة في هذه السورة
واعلم أن تعلق هذه الآية بما قبلها هو كأنه تعالى يقول إني وإن كنت أمرتكم بايتاء اليتامى أموالهم وبدفع صدقات النساء اليهن فانما قلت ذلك إذا كانوا عاقلين بالغين متمكنين من حفظ أموالهم فأما إذا كانوا غير بالغين أو غير عقلاء أو ان كانوا بالغين عقلاء إلا أنهم كانوا سفهاء مسرفين فلا تدفعوا اليهم أموالهم وأمسكوها لأجلهم إلى أن يزول عنهم السفه والمقصود من كل ذلك الاحتياط في حفظ أموال الضعفاء والعاجزين
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في الآية قولان الأول أنها خطاب الأولياء فكأنه تعالى قال أيها الأولياء لا تؤتوا

الذين يكونون تحت ولايتكم وكانوا سفهاء أموالهم والدليل على أنه خطاب الأولياء قوله وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وأيضا فعلى هذا القول يحسن تعلق الآية بما قبلها كما قررناه
فان قيل فعلى هذا الوجه كان يجب أن يقال ولا تؤتوا السفهاء أموالهم فلم قال أموالكم
قلنا في الجواب وجهان الأول أنه تعالى أضاف المال اليهم لا لأنهم ملكوه لكن من حيث ملكوا التصرف فيه ويكفي في حسن الاضافة أدنى سبب الثاني إنما حسنت هذه الاضافة إجراء للوحدة بالنوع مجرى الوحدة بالشخص ونظيره قوله تعالى لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ ( التوبة 128 ) وقوله وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ( النساء 36 ) وقوله فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ وقوله ثُمَّ أَنتُمْ هَاؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ ( البقرة 85 ) ومعلوم أن الرجل منهم ما كان يقتل نفسه ولكن كان بعضهم يقتل بعضا وكان الكل من نوع واحد فكذا ههنا المال شيء ينتفع به نوع الانسان ويحتاج اليه فلأجل هذه الوحدة النوعية حسنت إضافة أموال السفهاء الى أوليائهم
والقول الثاني أن هذه الآية خطاب الآباء فنهاهم الله تعالى إذا كان أولادهم سفهاء لا يستقلون بحفظ المال وإصلاحه أن يدفعوا أموالهم أو بعضها اليهم لما كان في ذلك من الافساد فعلى هذا الوجه يكون إضافة الأموال اليهم حقيقة وعلى هذا القول يكون الغرض من الآية الحث على حفظ المال والسعي في أن لا يضيع ولا يهلك وذلك يدل على أنه ليس له أن يأكل جميع أمواله ويهلكها واذا قرب أجله فانه يجب عليه أن يوصي بماله الى أمين يحفظ ذلك المال على ورثته وقد ذكرنا أن القول الأول أرجح لوجهين ومما يدل على هذا الترجيح أن ظاهر النهي للتحريم وأجمعت الأمة على أنه لا يحرم عليه أن يهب من أولاده الصغار ومن النسوان ما شاء من ماله وأجمعوا على أنه يحرم على الولي أن يدفع الى السفهاء أموالهم واذا كان كذلك وجب حمل الآية على القول الأول لا على هذا القول الثاني والله أعلم الثاني أنه قال في آخر الآية وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً ولا شك أن هذه الوصية بالأيتام أشبه لان المرء مشفق بطبعه على ولده فلا يقول له إلا المعروف وإنما يحتاج الى هذه الوصية مع الأيتام الأجانب ولا يمتنع أيضا حمل الآية على كلا الوجهين قال القاضي هذا بعيد لأنه يقتضي حمل قوله أَمْوالَكُمْ على الحقيقة والمجاز جميعا ويمكن أن يجاب عنه بأن قوله أَمْوالَكُمْ يفيد كون تلك الأموال مختصة بهم اختصاصا يمكنه التصرف فيها ثم إن هذا الاختصاص حاصل في المال الذي يكون مملوكا له وفي المال الذي يكون مملوكا للصبي إلا أنه يجب تصرفه فهذا التفاوت واقع في مفهوم خارج من المفهوم المستفاد من قوله أَمْوالَكُمْ واذا كان كذلك لم يبعد حمل اللفظ عليهما من حيث أن اللفظ أفاد معنى واحدا مشتركا بينهما
المسألة الثانية ذكروا في المراد بالسفهاء أوجها الأول قال مجاهد وجويبر عن الضحاك السفهاء ههنا النساء سواء كن أزواجا أو أمهات أو بنات وهذا مذهب ابن عمر ويدل على هذا ما روى أبو أمامة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( ألا انما خلقت النار للسفهاء يقولها ثلاثا ألا وإن السفهاء النساء الا امرأة أطاعت قيمها )
فان قيل لو كان المراد بالسفهاء النساء لقال السفائه أو السفيهات في جمع السفيهة نحو غرائب وغريبات في جمع الغريبة

أجاب الزجاج بأن السفهاء في جمع السفيهة جائز كما أن الفقراء في جمع الفقيرة جائز
والقول الثاني قال الزهري وابن زيد عني بالسفهاء ههنا السفهاء من الأولاد يقول لا تعط مالك الذي هو قيامك ولدك السفيه فيفسده
القول الثالث المراد بالسفهاء هم النساء والصبيان في قول ابن عباس والحسن وقتادة وسعيد ابن جبير قالوا إذا علم الرجل أن امرأته سفيهة مفسدة وان ولده سفيه مفسد فلا ينبغي له أن يسلط واحدا منهما على ماله فيفسده
والقول الرابع أن المراد بالسفهاء كل من لم يكن له عقل يفي بحفظ المال ويدخل فيه النساء والصبيان والايتام كل من كان موصوفا بهذه الصفة وهذا القول أولى لان التخصيص بغير دليل لا يجوز وقد ذكرنا في سورة البقرة أن السفه خفة العقل ولذلك سمي الفاسق سفيها لانه لا وزن له عند أهل الدين والعلم ويسمى الناقص العقل سفيها لخفة عقله
المسألة الثالثة أنه ليس السفه في هؤلاء صفة ذم ولا يفيد معنى العصيان لله تعالى وإنما سموا سفهاء لخفة عقولهم ونقصان تمييزهم عن القيام بحفظ الاموال
المسألة الرابعة اعلم أنه تعالى أمر المكلفين في مواضع من كتابه بحفظ الأموال قال تعالى وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوانَ الشَّيَاطِينِ ( الإسراء 26 27 ) وقال تعالى وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَة ً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُوراً ( الإسراء 29 ) وقال تعالى وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ ( الفرقان 67 ) وقد رغب الله في حفظ المال في آية المداينة حيث أمر بالكتابة والاشهاد والرهن والعقل أيضاً يؤيد ذلك لأن الانسان ما لم يكن فارغ البال لا يمكنه القيام بتحصيل مصالح الدنيا والآخرة ولا يكون فارغ البال إلا بواسطة المال لأن به يتمكن من جلب المنافع ودفع المضار فمن أراد الدنيا بهذا الغرض كانت الدنيا في حقه من أعظم الأسباب المعينة له على اكتساب سعادة الآخرة أما من أرادها لنفسها ولعينها كانت من أعظم المعوقات عن كسب سعادة الآخرة
المسألة الخامسة قوله تعالى الَّتِى جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً معناه أنه لا يحصل قيامكم ولا معاشكم إلا بهذا المال فلما كان المال سببا للقيام والاستقلال سماه بالقيام إطلاقا لاسم المسبب على السبب على سبيل المبالغة يعني كان هذا المال نفس قيامكم وابتغاء معاشكم وقرأ نافع وابن عامر الَّتِى جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قَيِّماً وقد يقال هذا قيم وقيم كما قال ( دينا قيما ملة إبراهيم ) وقرأ عبدالله بن عمر ( قواما ) بالواو وقوام الشيء ما يقام به كقولك ملاك الأمر لما يملك به
المسألة السادسة قال الشافعي رحمه الله البالغ إذا كان مبذراً للمال مفسداً له يحجر عليه وقال أبو حنيفة رضي الله عنه لا يحجر عليه حجة الشافعي أنه سفيه فوجب أن يحجر عليه إنما قلنا إنه سفيه لأن السفيه في اللغة هو من خف وزنه ولا شك أن من كان مبذرا للمال مفسداً له من غير فائدة فانه لا يكون له في القلب وقع عند العقلاء فكان خفيف الوزن عندهم فوجب أن يسمى بالسفيه وإذا ثبت هذا لزم اندراجه تحت قوله تعالى وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوالَكُمُ

ثم قال تعالى وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً
واعلم أنه تعالى لما نهى عن إيتاء المال السفيه أمر بعد ذلك بثلاثة أشياء أولها قوله وَارْزُقُوهُمْ ومعناه وأنفقوا عليهم ومعنى الرزق من العباد هو الاجراء الموظف لوقت معلوم يقال فلان رزق عياله أي أجرى عليهم وإنما قال فِيهَا ولم يقل منها لئلا يكون ذلك أمراً بأن يجعلوا بعض أموالهم رزقا لهم بل أمرهم أن يجعلوا أموالهم مكانا لرزقهم بأن يتجروا فيها ويثمروها فيجعلوا أرزاقهم من الأرباح لا من أصول الأموال وثانيها قوله وَاكْسُوهُمْ والمراد ظاهر وثالثها قوله وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً
واعلم انه تعالى إنما أمر بذلك لأن القول الجميل يؤثر في القلب فيزيل السفه أما خلاف القول المعروف فانه يزيد السفيه سفهاً ونقصانا
والمفسرون ذكروا في تفسير القول المعروف وجوها أحدها قال ابن جريج ومجاهد انه العدة الجميلة من البر والصلة وقال ابن عباس هو مثل أن يقول إذا ربحت في سفرتي هذه فعلت بك ما انت أهله وان غنمت في غزاتي أعطيتك وثانيها قال ابن زيد انه الدعاء مثل أن يقول عافانا الله وإياك بارك الله فيك وبالجملة كل ما سكنت اليه النفوس وأحبته من قول وعمل فهو معروف وكل ما أنكرته وكرهته ونفرت منه فهو منكر وثالثها قال الزجاج المعنى علموهم مع إطعامكم وكسوتكم إياهم أمر دينهم مما يتعلق بالعلم والعمل ورابعها قال القفال رحمه الله القول المعروف هو أنه ان كان المولى عليه صبيا فالولي يعرفه ان المال ماله وهو خازن له وأنه إذا زال صباه فانه يرد المال اليه ونظير هذه الآية قوله فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ ( الضحى 9 ) معناه لا تعاشره بالتسلط عليه كما تعاشر العبيد وكذا قوله وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَة ٍ مّن رَّبّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا ( الإسراء 28 ( وان كان المولى عليه سفيها وعظه ونصحه وحثه على الصلاة ورغبه في ترك التبذير والاسراف وعرفه أن عاقبة التبذير الفقر والاحتياج الى الخلق الى ما يشبه هذا النوع من الكلام وهذا الوجه أحسن من سائر الوجوه التى حكيناها
وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ ءَانَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً
واعلم أنه تعالى لما أمر من قبل بدفع مال اليتيم اليه بقوله وَءاتُواْ الْيَتَامَى أَمْوالَهُمْ ( النساء 2 ) بين بهذه الآية متى يؤتيهم أموالهم فذكر هذه الآية وشرط في دفع أموالهم اليهم شرطين أحدهما بلوغ النكاح والثاني إيناس الرشد ولا بد من ثبوتهما حتى يجوز دفع مالهم اليهم وفي الآية مسائل

المسألة الأولى قال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه تصرفات الصبي العاقل المميز باذن الولي صحيحة وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه غير صحيحة احتج أبو حنيفة على قوله بهذه الآية وذلك لان قوله وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ يقتضي ان هذا الابتلاء انما يحصل قبل البلوغ والمراد من هذا الابتلاء اختبار حاله في أنه هل له تصرف صالح للبيع والشراء وهذا الاختبار انما يحصل إذا أذن له في البيع والشراء وإن لم يكن هذا المعنى نفس الاختبار فهو داخل في الاختبار بدليل أنه يصح الاستثناء يقال وابتلوا اليتامى إلا في البيع والشراء وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل فثبت أن قوله وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى أمر للأولياء بأن يأذنوا لهم في البيع والشراء قبل البلوغ وذلك يقتضي صحة تصرفاتهم
أجاب الشافعي رضي الله عنه بأن قال ليس المراد بقوله وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى الاذن لهم في التصرف حال الصغر بدليل قوله تعالى بعد ذلك وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ فَإِنْ فانما أمر بدفع المال اليهم بعد البلوغ وإيناس الرشد وإذا ثبت بموجب هذه الآية أنه لا يجوز دفع المال اليه حال الصغر وجب أن لا يجوز تصرفه حال الصغر لأنه لا قائل بالفرق فثبت بما ذكرنا دلالة هذه الآية على قول الشافعي وأما الذي احتجوا به فجوابه أن المراد من الابتلاء اختبار عقله واستبراء حاله في أنه هل له فهم وعقل وقدرة في معرفة المصالح والمفاسد وذلك إذا باع الولي واشترى بحضور الصبي ثم يستكشف من الصبي أحوال ذلك البيع والشراء وما فيهما من المصالح والمفاسد ولا شك أن بهذا القدر يحصل الاختبار والابتلاء وأيضا هب أنا سلمنا أنه يدفع اليه شيئا ليبيع أو يشتري فلم قلت إن هذا القدر يدل على صحة ذلك البيع والشراء بل إذا باع واشترى وحصل به اختبار عقله فالولي بعد ذلك يتمم البيع وذلك الشراء وهذا محتمل والله أعلم
المسألة الثانية المراد من بلوغ النكاح هو الاحتلام المذكور في قوله وَإِذَا بَلَغَ الاْطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ ( النور 59 ) وهو في قول عامة الفقهاء عبارة عن البلوغ مبلغ الرجال الذي عنده يجري على صاحبه القلم ويلزمه الحدود والأحكام وإنما سمي الاحتلام بلوغ النكاح لأنه إنزال الماء الدافق الذي يكون في الجماع
واعلم أن للبلوغ علامات خمسة منها ثلاثة مشتركة بين الذكور والاناث وهو الاحتلام والسن المخصوص ونبات الشعر الخشن على العانة واثنان منها مختصان بالنساء وهما الحيض والحبل
المسألة الثالثة أما إيناس الرشد فلا بد فيه من تفسير الايناس ومن تفسير الرشد أما الايناس فقوله ءانَسْتُمْ أي عرفتم وقيل رأيتم وأصل الايناس في اللغة الابصار ومنه قوله مِن جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ ( القصص 29 ) وأما الرشد فمعلوم أنه ليس المراد الرشد الذي لا تعلق له بصلاح ماله بل لا بد وأن يكون هذا مراداً وهو أن يعلم أنه مصلح لما له حتى لا يقع منه إسراف ولا يكون بحيث يقدر الغير على خديعته ثم اختلفوا في أنه هل يضم إليه الصلاح في الدين فعند الشافعي رضي الله عنه لا بد منه وعند أبي حنيفة رضي الله عنه هو غير معتبر والأول أولى ويدل عليه وجوه أحدها أن أهل اللغة قالوا الرشد هو إصابة الخير والمفسد في دينه لا يكون مصيباً للخير وثانيها أن الرشد نقيض الغي قال تعالى قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ ( البقرة 256 ) والغي هو الضلال والفساد وقال تعالى وَعَصَى ءادَمَ رَبَّهُ فَغَوَى ( طه 121 ) فجعل العاصي غويا وهذا يدل على أن الرشد لا يتحقق إلا مع الصلاح في الدين وثالثها أنه تعالى قال وَمَا أَمْرُ

فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ( هود 97 ) نفي الرشد عنه لأنه ما كان يراعي مصالح الدين والله أعلم
إذا عرفت هذا فنقول فائدة هذا الاختلاف أن الشافعي رحمه الله يرى الحجر على الفاسق وأبو حنيفة رضي الله عنه لا يراه
المسألة الرابعة اتفقوا على أنه إذا بلغ غير رشيد فانه لا يدفع اليه ماله ثم عند أبي حنيفة لا يدفع اليه ماله حتى يبلغ خمساً وعشرين سنة فاذا بلغ ذلك دفع اليه ماله على كل حال وإنما اعتبر هذا السن لأن مدة بلوغ الذكر عنده بالسن ثماني عشرة سنة فاذا زاد عليه سبع سنين وهي مدة معتبر في تغير أحوال الانسان لقوله عليه الصلاة والسلام ( مروهم بالصلاة لسبع ) فعند ذلك تمت المدة التي يمكن فيها حصول تغير الأحوال فعندها يدفع اليه ماله أونس منه الرشد أو لم يؤنس وقال الشافعي رضي الله عنه لا يدفع إليه أبدا إلا بايناس الرشد وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله
احتج أبو بكر الرازي لأبي حنيفة بهذه الآية فقال لا شك أن اسم الرشد واقع على العقل في الجملة والله تعالى شرط رشداً منكرا ولم يشترط سائر ضروب الرشد فاقتضى ظاهر الآية أنه لما حصل العقل فقد حصل ما هو الشرط المذكور في هذه الآية فيلزم جواز دفع المال اليه ترك العمل به فيما دون خمس وعشرين سنة فوجب العمل بمقتضى الآية فيما زاد على خمس وعشرين سنة ويمكن أن يجاب عنه بأنه تعالى قال وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى ولا شك أن المراد ابتلاؤهم فيما يتعلق بمصالح حفظ المال ثم قال وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُواْ ويجب أن يكون المراد فان آنستم منهم رشدا في حفظ المال وضبط مصالحه فانه ان لم يكن المراد ذلك تفكك النظم ولم يبق للبعض تعلق بالبعض وإذا ثبت هذا علمنا أن الشرط المعتبر في الآية هو حصول الرشد في رعاية مصالح المال وعند هذا سقط استدلال أبي بكر الرازي بل تنقلب هذه الآية دليلا عليه لأنه جعل رعاية مصالح المال شرطا في جواز دفع المال اليه فاذا كان هذا الشرط مفقوداً بعد خمس وعشرين سنة وجب أن لا يجوز دفع المال اليه والقياس الجلي أيضا يقوي الاستدلال بهذا النص لأن الصبي إنما منع منه المال لفقدان العقل الهادي إلى كيفية حفظ المال وكيفية الانتفاع به فاذا كان هذا المعنى حاصلا في الشباب والشيخ كان في حكم الصبي فثبت أنه لا وجه لقول من يقول انه إذا بلغ خمسا وعشرين سنة دفع اليه ماله وان لم يؤنس منه الرشد
المسألة الخامسة إذا بلغ رشيدا ثم تغير وصار سفيها حجر عليه عند الشافعي ولا يحجر عليه عند أبي حنيفة وقد مرت هذه المسألة عند قوله تعالى وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوالَكُمُ الَّتِى جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً ( النسار 5 ) والقياس الجلي أيضا يدل عليه لأن هذه الآية دالة على أنه إذا بلغ غير رشيد لم يدفع اليه ماله وإنما لم يدفع اليه ماله لئلا يصير المال ضائعا فيكون باقيا مرصداً ليوم حاجته وهذا المعنى قائم في السفه الطارىء فوجب اعتباره والله أعلم
المسألة السادسة قال صاحب ( الكشاف ) الفائدة في تنكير الرشد التنبيه على ان المعتبر هو الرشد في التصرف والتجارة أو على أن المعتبر هو حصول طرف من الرشد وظهور أثر من آثاره حتى لا ينتظر به تمام الرشد
المسألة السابعة قال صاحب ( الكشاف ) قرأ ابن مسعود فان أحستم بمعنى أحسستم قال

أحسن به فهن اليه شوس
وقرىء رشدا بفتحتين ورشداً بضمتين
ثم قال تعالى فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ والمراد أن عند حصول الشرطين أعني البلوغ وإيناس الرشد يجب دفع المال اليهم وإنما لم يذكر تعالى مع هذين الشرطين كمال العقل لأن إيناس الرشد لا يحصل إلا مع العقل لأنه أمر زائد على العقل
ثم قال تعالى وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ أي مسرفين ومبادرين كبرهم أو لاسرافكم ومبادرتكم كبرهم تفرطون في إنفاقها وتقولون ننفق كما نشتهي قبل أن يكبر اليتامى فينزعوها من أيدينا ثم قسم الأمر بين أن يكون الوصي غنيا وبين أن يكون فقيرا فقال وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ قال الواحدي رحمه الله استعف عن الشيء وعف إذا امتنع منه وتركه وقال صاحب ( الكشاف ) استعف أبلغ من عف كأنه طالب زيادة العفة وقال وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ واختلف العلماء في أن الوصي هل له أن ينتفع بمال اليتيم وفي هذه المسألة أقوال أحدهما أن له أن يأخذ بقدر ما يحتاج اليه من مال اليتيم وبقدر أجر عمله واحتج القائلون بهذا القول بوجوه الأول أن قوله تعالى وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً مشعر بأن له أن يأكل بقدر الحاجة وثانيها أنه قال وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فقوله وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ ليس المراد منه نهي الوصي الغني عن الانتفاع بمال نفسه بل المراد منه نهيه عن الانتفاع بمال اليتيم وإذا كان كذلك لزم أن يكون قوله وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ إذنا للوصي في أن ينتفع بمال اليتيم بمقدار الحاجة وثالثها قوله إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتَامَى ظُلْماً ( النساء 10 ) وهذا دليل على أن مال اليتيم قد يؤكل ظلما وغير ظلم ولو لم يكن ذلك لم يكن لقوله إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتَامَى ظُلْماً فائدة وهذا يدل على أن للوصي المحتاج أن يأكل من ماله بالمعروف ورابعها ما روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن رجلا قال له ان تحت حجري يتيما أآكل من ماله قال بالمعروف غير متأثل مالا ولا واق مالك بماله قال أفأضربه قال مما كنت ضاربا منه ولدك وخامسها ما روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب الى عمار وابن مسعود وعثمان بن حنيف سلام عليكم أما بعد فاني رزقتكم كل يوم شاة شطرها لعمار وربعها لعبدالله ابن مسعود وربعها لعثمان ألا وإني قد أنزلت نفسي وإياكم من مال الله بمنزلة ولي مال اليتيم من كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف وعن ابن عباس أن ولي يتيم قال له أفأشرب من لبن إبله قال إن كنت تبغي ضالتها وتلوط حوضها وتهنأ جرباها وتسقيها يوم وردها فاشرب غير مضر بنسل ولا ناهك في الحلب وعنه أيضا يضرب بيده مع أيديهم فليأكل بالمعروف ولا يلبس عمامة فما فوقها وسادسها أن الوصي لما تكفل باصلاح مهمات الصبي وجب أن يتمكن من أن يأكل من ماله بقدر عمله قياسا على الساعي في أخذ الصدقات وجمعها فانه يضرب له في تلك الصدقات بسهم فكذا ههنا فهذا تقرير هذا القول
والقول الثاني أن له أن يأخذ بقدر ما يحتاج اليه من مال اليتيم قرضا ثم إذا أيسر قضاه وإن مات ولم يقدر على القضاء فلا شيء عليه وهذا قول سعيد بن جبير ومجاهد وأبي العالية وأكثر الروايات عن ابن عباس وبعض أهل العلم خص هذا الاقراض بأصول الأموال من الذهب والفضة وغيرها فأما التناول من

ألبان المواشي واستخدام العبيد وركوب الدواب فمباح له إذا كان غير مضر بالمال وهذا قول أبي العالية وغيره واحتجوا بأن الله تعالى قال فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فحكم في الأموال بدفعها اليهم
والقول الثالث قال أبو بكر الرازي الذي نعرفه من مذهب أصحابنا أنه لا يأخذ على سبيل القرض ولا على سبيل الابتداء سواء كان غنيا أو فقيرا واحتج عليه بآيات منها قوله تعالى وَءاتُواْ الْيَتَامَى أَمْوالَهُمْ إلى قوله إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً ( النساء 2 ) ومنها قوله إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً ( النساء 10 ) ومنها قَوْلُهُ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ ( النساء 127 ) ومنها قوله وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ ( البقرة 188 ) قال فهذه الآية محكمة حاصرة لمال اليتيم على وصية في حال الغنى والفقر وقوله وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ متشابه محتمل فوجب رده لكونه متشابها إلى تلك المحكمات وعندي أن هذه الآيات لا تدل على ما ذهب الرازي اليه أما قوله وَءاتُواْ الْيَتَامَى أَمْوالَهُمْ فهو عام وهذه الآية التي نحن فيها خاصة والخاص مقدم على العام وقوله إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتَامَى ظُلْماً فهو إنما يتناول هذه الواقعة لو ثبت أن أكل الوصي من مال الصبي بالمعروف ظلم وهل النزاع الا فيه وهو الجواب بعينه عن قوله وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ أما قوله وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ فهو إنما يتناول محل النزاع لو ثبت أن هذا الأكل ليس بقسط والنزاع ليس إلا فيه فثبت أن كلامه في هذا الموضع ساقط ركيك والله أعلم
ثم قال تعالى فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ
واعلم أن الأمة مجمعة على أن الوصي إذا دفع المال إلى اليتيم بعد صيرورته بالغا فان الأولى والأحوط أن يشهد عليه لوجوه أحدها أن اليتيم إذا كان عليه بينة بقبض المال كان أبعد من أن يدعي ما ليس له وثانيها أن اليتيم إذا أقدم على الدعوى الكاذبة أقام الوصي الشهادة على أنه دفع ماله اليه ثالثها أن تظهر أمانة الوصي وبراءة ساحته ونظيره أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( من وجد لقطة فليشهد ذوي عدل ولا يكتم ولا يغيب ) فأمره بالاشهاد لتظهر أمانته وتزول التهمة عنه فثبت بما ذكرنا من الاجماع والمعقول أن الاحوط هو الاشهاد واختلفوا في أن الوصي إذا ادعى بعد بلوغ اليتيم انه قد دفع المال اليه هل هو مصدق وكذلك لو قال أنفقت عليه في صغره هل هو مصدق قال مالك والشافعي لا يصدق وقال أبو حنيفة وأصحابه يصدق واحتج الشافعي بهذه الآية فان قوله فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ أمر وظاهر الأمر الوجوب وأيضا قال الشافعي القيم غير مؤتمن من جهة اليتيم وإنما هو مؤتمن من جهة الشرع وطعن أبو بكر الرازي في هذا الكلام مع السفاهة الشديدة وقال لو كان ما ذكره علة لنفي التصديق لوجب أن لا يصدق القاضي إذا قال لليتيم قد دفعت اليك لأنه لم يأتمنه وكذلك يلزمه أن يقول في الأب إذا قال بعد بلوغ الصبي قد دفعت مالك اليك أن لا يصدق لأنه لم يأتمنه ويلزمه أيضا أن يوجب الضمان عليهم إذا تصادقوا بعد البلوغ انه قد هلك لأنه أمسك ماله من غير ائتمان له عليه فيقال له ان قولك هذا لبعيد عن معاني الفقه أما النقض بالقاضي فبعيد لأن القاضي حاكم فيجب إزالة التهمة عنه ليصير قضاؤه نافذا ولولا ذلك لتمكن كل من قضى القاضي عليه بأن ينسبه إلى الكذب والميل والمداهنة وحينئذ يحتاج القاضي إلى قاض آخر ويلزم التسلسل ومعلوم أن هذا المعنى غير موجود في وصي اليتيم وأما الأب فالفرق ظاهر لوجين أحدهما

ان شفقته أتم من شفقة الاجنبي ولا يلزم من قلة التهمة في حق الأب قلتها في حق الأجنبي وأما إذا تصادقوا بعد البلوغ أنه قد هلك فنقول ان كان قد اعترف بأنه هلك لسبب تقصيره فههنا يلزمه الضمان أما إذا اعترف بأنه هلك لا بتقصيره فههنا يجب أن يقبل قوله والا لصار ذلك مانعاً للناس من قبول الوصاية فيقع الخلل في هذا المهم العظيم فأما الاشهاد عند الرد اليه بعد البلوغ فانه لا يفضي إلى هذه المفسدة فظهر الفرق ومما يؤكد هذا الفرق أنه تعالى ذكر قبل هذه الآية ما يدل على أن اليتيم حصل في حقه ما يوجب التهمة وهو قوله وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ وهذا يدل على جريان العادة بكثرة إقدام الولي على ظلم الايتام والصبيان وإذن دلت هذه الآية على تأكد موجبات التهمة في حق ولي اليتيم
ثم قال بعده فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ أشعر ذلك بأن الغرض منه رعاية جانب الصبي لأنه إذا كان لا يتمكن من ادعاء دفع المال اليه إلا عند حضور الشاهد صار ذلك مانعاً له من الظلم والبخس والنقصان وإذا كان الأمر كذلك علمنا أن قوله فَأَشْهِدُواْ كما أنه يجب لظاهر الايجاب فكذلك يجب أن القرائن والمصالح تقتضي الايجاب ثم قال هذا الرازي ويدل على أنه مصدق فيه بغير إشهاد اتفاق الجميع على أنه مأمور بحفظه وإمساكه على وجه الأمانة حتى يوصله إلى اليتيم في وقت استحقاقه فهو بمنزلة الودائع والمضاربات فوجب أن يكون مصدقا على الرد كما يصدق على رد الوديعة فيقال له أما الفرق بين هذه الصورة وصورة الوديعة فقد ذكره الشافعي رضي الله تعالى عنه واعتراضك على ذلك الفرق قد سبق إبطاله وأيضاً فعادتك ترك الالتفات إلى كتاب الله لقياس ركيك تتخيله ومثل هذا الفقه مسلم لك ولا يجب المشاركة فيه معك وبالله التوفيق
ثم قال تعالى وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً قال ابن الانباري والأزهري يحتمل أن يكون الحسيب بمعنى المحاسب وأن يكون بمعنى الكافي فمن الأول قولهم للرجل للتهديد حسبه الله ومعناه يحاسبه الله على ما يفعل من الظلم ونظير قولنا الحسيب بمعنى المحاسب قولنا الشريب بمعنى المشارب ومن الثاني قولهم حسيبك الله أي كافيك الله
واعلم أن هذا وعيد لولي اليتيم وإعلام له أنه تعالى يعلم باطنه كما يعلم ظاهره لئلا ينوي أو يعمل في ماله ما لا يحل ويقوم بالأمانة التامة في ذلك إلى أن يصل اليه ماله وهذا المقصود حاصل سواء فسرنا الحسيب بالمحاسب أو بالكافي
واعلم أن الباء في قوله وَكَفَى بِاللَّهِ وَكَفَى بِرَبّكَ ( الإسراء 65 ) في جميع القرآن زائدة هكذا نقله الواحدي عن الزجاج و حَسِيباً نصب على الحال أي كفى الله حال كونه محاسبا وحال كونه كافيا
لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالاٌّ قْرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالاٌّ قْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً

اعلم أن هذا هو النوع الرابع من الأحكام المذكورة في هذه السورة وهو ما يتعلق بالمواريث والفرائض وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في سبب نزول هذه الآية قال ابن عباس ان أوس بن ثابت الانصاري توفي عن ثلاث بنات وامرأة فجاء رجلان من بني عمه وهما وصيان له يقال لهما سويد وعرفجة وأخذا ماله فجاءت امرأة أوس إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وذكرت القصة وذكرت أن الوصيين ما دفعا إلي شيئا وما دفعا إلى بناته شيئا من المال فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( ارجعي إلى بيتك حتى أنظر ما يحدث الله في أمرك ) فنزلت على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) هذه الآية ودلت على أن للرجال نصيبا وللنساء نصيبا ولكنه تعالى لم يبين المقدار في هذه الآية فأرسل الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إلى الوصيين وقال ( لا تقربا من مال أوس شيئا ) ثم نزل بعد يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَادِكُمْ ( مريم 11 ) ونزل فرض الزوج وفرض المرأة فأمر الرسول عليه الصلاة والسلام الوصيين أن يدفعا إلى المرأة الثمن ويمسكا نصيب البنات وبعد ذلك أرسل عليه الصلاة والسلام اليهما أن ادفعا نصيب بناتها اليها فدفعاه اليها فهذا هو الكلام في سبب النزول
المسألة الثانية كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء والأطفال ويقولون لا يرث إلا من طاعن بالرماح وذاد عن الحوزة وحاز الغنيمة فبين تعالى أن الارث غير مختص بالرجال بل هو أمر مشترك فيه بين الرجال والنساء فذكر في هذه الآية هذا القدر ثم ذكر التفصيل بعد ذلك ولا يمتنع إذا كان للقوم عادة في توريث الكبار دون الصغار ودون النساء أن ينقلهم سبحانه وتعالى عن تلك العادة قليلا قليلاً على التدريج لأن الانتقال عن العادة شاق ثقيل على الطبع فاذا كان دفعة عظم وقعه على القلب وإذا كان على التدريج سهل فلهذا المعنى ذكر الله تعالى هذا المجمل أولا ثم أردفه بالتفصيل
المسألة الثالثة احتج أبو بكر الرازي بهذه الآية على توريث ذوي الارحام قال لأن العمات والخالات والاخوال وأولاد البنات من الأقربين فوجب دخولهم تحت قوله لّلرّجَالِ نَصيِبٌ مّمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالاْقْرَبُونَ وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالاْقْرَبُونَ أقصى ما في الباب أن قدر ذلك النصيب غير مذكور في هذه الآية إلا أنا نثبت كونهم مستحقين لأصل النصيب بهذه الآية وأما المقدار فنستفيده من سائر الدلائل
وأجاب أصحابنا عنه من وجهين أحدهما انه تعالى قال في آخر الآية نَصِيباً مَّفْرُوضاً أي نصيبا مقدرا وبالاجماع ليس لذوي الأرحام نصيب مقدر فثبت أنهم ليسوا داخلين في هذه الآية وثانيهما أن هذه الآية مختصة بالأقربين فلم قلتم إن ذوي الأرحام من الأقربين وتحقيقه أنه إما أن يكون المراد من الأقربين من كان أقرب من شيء آخر أو المراد منه من كان أقرب من جميع الأشياء والأول باطل لأنه يقتضي دخول أكثر الخلق فيه لأن كل إنسان له نسب مع غيره إما بوجه قريب أو بوجه بعيد وهو الانتساب إلى آدم عليه السلام ولا بد وأن يكون هو أقرب إليه من ولده فيلزم دخول كل الخلق في هذا النص وهو باطل ولما بطل هذا الاحتمال وجب حمل النص على الاحتمال الثاني وهو أن يكون المراد من الأقربين من كان أقرب الناس إليه وما ذاك إلا الوالدان والأولاد فثبت أن هذا النص لا يدخل فيه ذو الأرحام لا يقال لو حملنا الأقربين على الوالدين لزم التكرار لأنا نقول الأقرب جنس يندرج تحته نوعان الوالد والولد فثبت أنه تعالى ذكر الوالد ثم ذكر الأقربين فيكون المعنى أنه ذكر النوع ثم ذكر الجنس فلم يلزم التكرار

المسألة الرابعة قوله نَصِيباً في نصبه وجوه أحدها أنه نصب على الاختصاص بمعنى أعني نصيبا مفروضا مقطوعا واجبا والثاني يجوز أن ينتصب انتصاب المصدر لأن النصيب اسم في معنى المصدر كأنه قيل قسما واجبا كقوله فَرِيضَة ً مّنَ اللَّهِ ( التوبة 60 النساء 11 ) أي قسمة مفروضة
المسألة الخامسة أصل الفرض الحز ولذلك سمي الحز الذي في سية القوس فرضاً والحز الذي في القداح يسمى أيضا فرضاً وهو علامة لها تميز بينها وبين غيرها والفرضة العلامة في مقسم الماء يعرف بها كل ذي حق حقه من الشرب فهذا هو أصل الفرض في اللغة ثم ان أصحاب أبي حنيفة خصصوا لفظ الفرض بما عرف وجوبه بدليل قاطع واسم الوجوب بما عرف وجوبه بدليل مظنون قالوا لأن الفرض عبارة عن الحز والقطع وأما الوجوب فانه عبارة عن السقوط يقال وجبت الشمس إذا سقطت ووجب الحائط إذا سقط وسمعت وجبة يعني سقطة قال الله تعالى فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا ( الحج 36 ) يعني سقطت فثبت أن الفرض عبارة عن الحز والقطع وأن الوجوب عبارة عن السقوط ولا شك أن تأثير الحز والقطع أقوى وأكمل من تأثير السقوط فلهذا السبب خصص أصحاب أبي حنيفة لفظة الفرض بما عرف وجوبه بدليل قاطع ولفظ الوجوب بما عرف وجوبه بدليل مظنون
إذا عرفت هذا فنقول هذا الذي قرروه يقضي عليهم بأن الآية ما تناولت ذوي الأرحام لأن توريث ذوي الأرحام ليس من باب ما عرف بدليل قاطع باجماع الأمة فلم يكن توريثهم فرضاً والآية إنما تناولت التوريث المفروض فلزم القطع بأن هذه الآية ما تناولت ذوي الأرحام والله أعلم
وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَة َ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن قوله وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَة َ ليس فيه بيان أي قسمة هي فلهذا المعنى حصل للمفسرين فيه أقوال الأول أنه تعالى لما ذكر في الآية الأولى أن النساء أسوة الرجال في أن لهن حظاً من الميراث وعلم تعالى أن في الأقارب من يرث ومن لا يرث وأن الذين لا يرثون إذا حضروا وقت القسمة فان تركوا محرومين بالكلية ثقل ذلك عليهم فلا جرم أمر الله تعالى أن يدفع اليهم شيء عند القسمة حتى يحصل الأدب الجميل وحسن العشرة ثم القائلون بهذا القول اختلفوا فمنهم من قال إن ذلك واجب ومنهم من قال إنه مندوب أما القائلون بالوجوب فقد اختلفوا في أمور أحدها أن منهم من قال الوارث إن كان كبيراً وجب عليه أن يرضخ لمن حضر القسمة شيئا من المال بقدر ما تطيب نفسه به وإن كان صغيراً وجب على الولي إعطاؤهم من ذلك المال ومنهم من قال إن كان الوارث كبيراً وجب عليه الاعطاء من ذلك المال وإن كان صغيراً وجب على الولي أن يعتذر إليهم ويقول إني لا أملك هذا المال

إنما هو لهؤلاء الضعفاء الذين لا يعقلون ما عليهم من الحق وان يكبروا فسيعرفون حقكم فهذا هو القول المعروف وثانيها قال الحسن والنخعي هذا الرضخ مختص بقسمة الأعيان فاذا آل الأمر إلى قسمة الأرضين والرقيق وما أشبه ذلك قال لهم قولا معروفا مثل أن يقول لهم ارجعوا بارك الله فيكم وثالثها قالوا مقدار ما يجب فيه الرضخ شيء قليل ولا تقدير فيه بالاجماع ورابعها أن على تقدير وجوب هذا الحكم تكون هذه الآية منسوخة قال ابن عباس في رواية عطاء وهذه الآية منسوخة بآية المواريث وهذا قول سعيد بن المسيب والضحاك وقال في رواية عكرمة الآية محكمة غير منسوخة وهو مذهب أبي موسى الأشعري وإبراهيم النخعي والشعبي والزهري ومجاهد والحسن وسعيد بن جبير فهؤلاء كانوا يعطون من حضر شيئا من التركة روي أن عبدالله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق قسم ميراث أبيه وعائشة حية فلم يترك في الدار أحدا إلا أعطاه وتلا هذه الآية فهذا كله تفصيل قول من قال بأن هذا الحكم ثبت على سبيل الوجوب ومنهم من قال انه ثبت على سبيل الندب والاستحباب لا على سبيل الفرض والايجاب وهذا الندب أيضا إنما يحصل إذا كانت الورثة كباراً أما إذا كانوا صغارا فليس إلا القول المعروف وهذا المذهب هو الذي عليه فقهاء الأمصار واحتجوا بأنه لو كان لهؤلاء حق معين لبين الله تعالى قدر ذلك الحق كما في سائر الحقوق وحيث لم يبين علمنا أنه غير واجب ولأن ذلك لو كان واجبا لتوفرت الدواعي على نقله لشدة حرص الفقراء والمساكين على تقديره ولو كان ذلك لنقل على سبيل التواتر ولما لم يكن الأمر كذلك علمنا أنه غير واجب
القول الثاني في تفسير الآية أن المراد بالقسمة الوصية فاذا حضرها من لا يرث من الأقرباء واليتامى والمساكين أمر الله تعالى أن يجعل لهم نصيبا من تلك الوصية ويقول لهم مع ذلك قولا معروفا في الوقت فيكون ذلك سببا لوصول السرور اليهم في الحال والاستقبال والقول الأول أولى لأنه تقدم ذكر الميراث ولم يتقدم ذكر الوصية ويمكن أن يقال هذا القول أولى لأن الآية التي تقدمت في الوصية
القول الثالث في تفسير الآية أن قوله وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَة َ أُوْلُواْ الْقُرْبَى فالمراد من أُوْلِى الْقُرْبَى الذين يرثون والمراد من الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ الذين لا يرثون
ثم قال فَارْزُقُوهُمْ مّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً فقوله فَارْزُقُوهُمْ راجع الى القربى الذين يرثون وقوله وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً راجع الى اليتامى والمساكين الذين لا يرثون وهذا القول محكى عن سعيد بن جبير
المسألة الثانية قال صاحب الكشاف الضمير في قوله فَارْزُقُوهُمْ مّنْهُ عائد إلى ما ترك الوالدان والأقربون وقال الواحدي الضمير عائد الى الميراث فتكون الكناية على هذا الوجه عائدة إلى معنى القسمة لا الى لفظها كقوله ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ ( يوسف 76 ) والصواع مذكر لا يكنى عنه بالتأنيث لكن أريد به المشربة فعادت الكناية الى المعنى لا الى اللفظ وعلى هذا التقدير فالمراد بالقسمة المقسوم لأنه إنما يكون الرزق من المقسوم لا من نفس القسمة
المسألة الثالثة إنما قدم اليتامى على المساكين لأن ضعف اليتامى أكثر وحاجتهم أشد فكان وضع الصدقات فيهم أفضل وأعظم في الأجر

المسألة الرابعة الأشبه هو أن المراد بالقول المعروف أن لا يتبع العطية المن والأذى بالقول أو يكون المراد الوعد بالزيادة والاعتذار لمن لم يعطه شيئا
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّة ً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ اللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى الجملة الشرطية وهو قوله لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّة ً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ هي صلة لقوله الَّذِينَ والمعنى وليخش الذين من صفتهم أنهم لو تركوا ذرية ضعافاً خافوا عليهم وأما الذي يخشى عليه فغير منصوص عليه وسنذكر وجوه المفسرين فيه
المسألة الثانية لا شك أن قوله وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّة ً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ يوجب الاحتياط للذرية الضعاف وللمفسرين فيه وجوه الأول أن هذا خطاب مع الذين يجلسون عند المريض فيقولون ان ذريتك لا يغنون عنك من الله شيئا فأوص بمالك لفلان وفلان ولا يزالون يأمرونه بالوصية الى الأجانب الى أن لا يبقى من ماله للورثة شيء أصلا فقيل لهم كما أنكم تكرهون بقاء أولادكم في الضعف والجوع من غير مال فاخشوا الله ولا تحملوا المريض على أن يحرم أولاده الضعفاء من ماله وحاصل الكلام أنك لا ترضى مثل هذا الفعل لنفسك فلا ترضه لأخيك المسلم عن أنس قال قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا يؤمن العبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه )
والقول الثاني قال حبيب بن أبي ثابت سألت مقسما عن هذه الآية فقال هو الرجل الذي يحضره الموت ويريد الوصية للأجانب فيقول له من كان عنده اتق الله وأمسك على ولدك مالك مع أن ذلك الانسان يحب أن يوصي له ففي القول الأول الآية محمولة على نهي الحاضرين عن الترغيب في الوصية وفي القول الثاني محمولة على نهي الحاضرين عن النهي عن الوصية والأولى أولى لأن قوله لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّة ً ضِعَافاً أشبه بالوجه الأول وأقرب اليه
والقول الثالث يحتمل أن تكون الآية خطابا لمن قرب أجله ويكون المقصود نهيه عن تكثير الوصية لئلا تبقى ورثته ضائعين جائعين بعد موته ثم إن كانت هذه الآية إنما نزلت قبل تقدير الوصية بالثلث كان المراد منها أن لا يجعل التركة مستغرقة بالوصية وإن كانت نزلت بعد تقدير الوصية بالثلث كان المراد منها أن لا يجعل التركة مستغرقة بالوصية وإن كانت نزلت بعد تقدير الوصية بالثلث كان المراد منها أن يوصي أيضا بالثلث بل ينقص إذا خاف على ذريته والمروي عن كثير من الصحابة أنهم وصوا بالقليل لأجل ذلك وكانوا يقولون الخمس أفضل من الربع والربع أفضل من الثلث وخبر سعد يدل عليه وهو قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( الثلث والثلث كثير لأن تدع ورثتك أغنياء خير لك من أن تدعهم عالة يتكففون الناس )

والقول الرابع أن هذا أمر لأولياء اليتيم فكأنه تعالى قال وليخش من يخاف على ولده بعد موته أن يضيع مال اليتيم الضعيف الذي هو ذرية غيره إذا كان في حجره والمقصود من الآية على هذا الوجه أن يبعثه سبحانه وتعالى على حفظ ماله وأن يترك نفسه في حفظه والاحتياط في ذلك بمنزلة ما يحبه من غيره في ذريته لو خلفهم وخلف لهم مالا قال القاضي وهذا أليق بما تقدم وتأخر من الآيات الواردة في باب الأيتام فجعل تعالى آخر ما دعاهم إلى حفظ مال اليتيم أن ينبههم على حال أنفسهم وذريتهم إذا تصوروها ولا شك أنه من أقوى الدواعي والبواعث في هذا المقصود
المسألة الثالثة قال صاحب ( الكشاف ) قرىء ضعفاء وضعافى وضعافى نحو سكارى وسكارى قال الواحدي قرأ حمزة ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ بالامالة فيهما ثم قال ووجه إمالة ضعاف أن ما كان على وزن فعال وكان أوله حرفا مستعلياً مكسوراً نحو ضعاف وغلاب وخباب يحسن فيه الإمالة وذلك لأنه تصعد بالحرف المستعلي ثم انحدر بالكسرة فيستحب أن لا يتصعد بالتفخيم بعد الكسر حتى يوجد الصوت على طريقة واحدة وأما الإمالة في خَافُواْ فهي حسنة لأنها تطلب الكسرة التي في خفت ثم قال فَلْيَتَّقُواّ اللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً وهو كالتقرير لما تقدم فكأنه قال فليتقوا الله في الأمر الذي تقدم ذكره والاحتياط فيه وليقولوا قولا سديدا إذا أرادوا بعث غيرهم على فعل وعمل والقول السديد هو العدل والصواب من القول قال صاحب ( الكشاف ) القول السديد من الأوصياء أن لا يؤذوا اليتامى ويكلموهم كما يكلمون أولادهم بالترحيب وإذا خاطبوهم قالوا يا بني يا ولدي والقول السديد من الجالسين إلى المريض أن يقولوا إذا أردت الوصية لا تسرف في وصيتك ولا تحجف بأولادك مثل قول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لسعد والقول السديد من الورثة حال قسمة الميراث للحاضرين الذين لا يرثون أن يلطفوا القول لهم ويخصوهم بالاكرام
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً
اعلم أنه تعالى أكد الوعيد في أكل مال اليتيم ظلما وقد كثر الوعيد في هذه الآيات مرة بعد أخرى على من يفعل ذلك كقوله وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَهُمْ إِلَى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً ( النساء 2 ) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّة ً ضِعَافاً ( النساء 9 ) ثم ذكر بعدها هذه الآية مفردة في وعيد من يأكل أموالهم وذلك كله رحمة من الله تعالى باليتامى لأنهم لكمال ضعفهم وعجزهم استحقوا من الله مزيد العناية والكرامة وما أشد دلالة هذا الوعيد على سعة رحمته وكثرة عفوه وفضله لأن اليتامى لما بلغوا في الضعف إلى الغاية القصوى بلغت عناية الله بهم إلى الغاية القصوى وفي الآية مسائل
المسألة الأولى دلت هذه الآية على أن مال اليتيم قد يؤكل غير ظلم والا لم يكن لهذا التخصيص فائدة وذلك ما ذكرناه فيما تقدم أن للولي المحتاج أن يأكل من ماله بالمعروف
المسألة الثانية قوله إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً فيه قولان الأول أن يجري ذلك على ظاهره قال السدي إذا أكل الرجل مال اليتيم ظلما يبعث يوم القيامة ولهب النار يخرج من فيه ومسامعه وأذنيه

وعينيه يعرف كل من رآه أنه أكل مال اليتيم وعن أبي سعيد الخدري أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( ليلة أسرى بي رأيت قوما لهم مشافر كمشافر الابل وقد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم ثم يجعل في أفواههم صخرا من النار يخرج من أسافلهم فقلت يا جبريل من هؤلاء فقال هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما )
والقول الثاني ان ذلك توسع والمراد ان أكل مال اليتيم جار مجرى أكل النار من حيث انه يفضي اليه ويستلزمه وقد يطلق اسم أحد المتلازمين على الآخر كقوله تعالى وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا ( الشورى 40 ) قال القاضي وهذا أولى من الأول لأن قوله إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً الاشارة فيه إلى كل واحد فكان حمله على التوسع الذي ذكرناه أولى
المسألة الثالثة لقائل أن يقول الأكل لا يكون إلا في البطن فما فائدة قوله إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً
وجوابه أنه كقوله يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ ( آل عمران 167 ) والقول لا يكون إلا بالفهم وقال وَلَاكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ ( الحج 46 ) والقلب لا يكون إلا في الصدر وقال وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ ( الأنعام 38 ) والطيران لا يكون إلا بالجناح والغرض من كل ذلك التأكيد والمبالغة
المسألة الرابعة انه تعالى وإن ذكر الأكل إلا أن المراد منه كل أنواع الاتلافات فان ضرر اليتيم لا يختلف بأن يكون إتلاف ماله بالأكل أو بطريق آخر وإنما ذكر الأكل وأراد به كل التصرفات المتلفة لوجوه أحدها أن عامة مال اليتيم في ذلك الوقت هو الأنعام التي يأكل لحومها ويشرب ألبانها فخرج الكلام على عادتهم وثانيها أنه جرت العادة فيمن أنفق ماله في وجوه مراداته خيرا كانت أو شرا أنه يقال إنه أكل ماله وثالثها أن الأكل هو المعظم فيما يبتغي من التصرفات
المسألة الخامسة قالت المعتزلة الآية دالة على وعيد كل من فعل هذا الفعل سواء كان مسلما أو لم يكن لأن قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتَامَى ظُلْماً عام يدخل فيه الكل فهذا يدل على القطع بالوعيد وقوله وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً يوجب القطع على أنهم إذا ماتوا على غير توبة يصلون هذا السعير لا محالة والجواب عنه قد ذكرناه مستقصى في سورة البقرة ثم نقول لم لا يجوز أن يكون هذا الوعيد مخصوصا بالكفار لقوله تعالى وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( البقرة 254 ) ثم قالت المعتزلة ولا يجوز أن يدخل تحت هذا الوعيد أكل اليسير من ماله لأن الوعيد مشروط بأن لا يكون معه توبة ولا طاعة أعظم من تلك المعصية وإذا كان كذلك فالذي يقطع على أنه من أهل الوعيد من تكون معصيته كبيرة ولا يكون معها توبة فلا جرم وجب أن يطلب قدر ما يكون كثيرا من أكل ماله فقال أبو علي الجبائي قدره خمسة دراهم لأنه هو القدر الذي وقع الوعيد عليه في آية الكنز في منع الزكاة هذا جملة ما ذكره القاضي فيقال له فأنت قد خالفت ظاهر هذا العموم من وجهين أحدهما أنك زدت فيه شرط عدم التوبة والثاني أنك زدت فيه عدم كونه صغيرا وإذا جاز ذلك فلم لا يجوز لنا أن نزيد فيه شرط عدم العفو أقصى ما في الباب أن يقال ما وجدنا دليلا يدل على حصول العفو لكنا نجيب عنه من وجهين أحدهما أنا لا نسلم عدم دلائل العفو بل هي كثيرة على ما قررناه في سورة البقرة والثاني هب أنكم ما وجدتموها لكن عدم الوجدان لا

يفيد القطع بعدم الوجود بل يبقى الاحتمال وحينئذ يخرج التمسك بهذه الآية من إفادة القطع والجزم والله أعلم
المسألة السادسة أنه تعالى ذكر وعيد مانعي الزكاة بالكي فقال يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ( التوبة 35 ) وذكر وعيد آكل مال اليتيم بامتلاء البطن من النار ولا شك أن هذا الوعيد أشد والسبب فيه أن في باب الزكاة الفقير غير مالك لجزء من النصاب بل يجب على المالك أن يملكه جزأ من ماله أما ههنا اليتيم مالك لذلك المال فكان منعه من اليتيم أقبح فكان الوعيد أشد ولأن الفقير قد يكون كبيرا فيقدر على الاكتساب أما اليتيم فانه لصغره وضعفه عاجز فكان الوعيد في إتلاف ماله أشد
ثم قال تعالى وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وَسَيَصْلَوْنَ بضم الياء أي يدخلون النار على ما لم يسم فاعله والباقون بفتح الياء قال أبو زيد يقال صلى الرجل النار يصلاها صلى وصلاء وهو صالي النار وقوم صالون وصلاء قال تعالى إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ ( الصافات 163 ) وقال أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً ( مريم 70 ) وقال جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا ( إبراهيم 29 ص 56 المجادلة 8 ) قال الفراء الصلي اسم الوقود وهو الصلاء إذا كسرت مدت وإذا فتحت قصرت ومن ضم الياء فهو من قولهم أصلاه الله حر النار اصلاء قال فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً ( النساء 30 ) وقال تعالى سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ( المدثر 26 ) قال صاحب ( الكشاف ) قرىء سيصلون بضم الياء وتخفيف اللام وتشديدها
المسألة الثانية السعير هو النار المستعرة يقال سعرت النار أسعرها سعراً فهي مسعورة وسعير والسعير معدول عن مسعورة كما عدل كف خضيب عن مخضوبة وإنما قال وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً لأن المراد نار من النيران مبهمة لا يعرف غاية شدتها إلا الله تعالى
المسألة الثالثة روي أنه لما نزلت هذه الآية ثقل ذلك على الناس فاحترزوا عن مخالطة اليتامى بالكلية فصعب الأمر على اليتامى فنزل قوله تعالى وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ ( البقرة 220 ) ومن الجهال من قال صارت هذه الآية منسوخة بتلك وهو بعيد لأن هذه الآية في المنع من الظلم وهذا لا يصير منسوخا بل المقصود أن مخالطة أموال اليتامى إن كان على سبيل الظلم فهو من أعظم أبواب الاثم كما في هذه الآية وإن كان على سبيل التربية والاحسان فهو من أعظم أبواب البر كما في قوله وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ والله أعلم
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الاٍّ نْثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَة ً فَلَهَا النِّصْفُ وَلاًّبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلاٌّ مِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَة ٌ فَلاٌّ مِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّة ٍ يُوصِى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ ءَابَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَة ً مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً

في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن أهل الجاهلية كانوا يتوارثون بشيئين أحدهما النسب والآخر العهد أما النسب فهم ما كانوا يورثون الصغار ولا الاناث وإنما كانوا يورثون من الأقارب الرجال الذين يقاتلون على الخيل ويأخذون الغنيمة وأما العهد فمن وجهين الأول الحلف كان الرجل في الجاهلية يقول لغيره دمي دمك وهدمي هدمك وترثني وأرثك وتطلب بي وأطلب بك فاذا تعاهدوا على هذا الوجه فأيهما مات قبل صاحبه كان للحي ما اشترط من مال الميت والثاني التبني فان الرجل منهم كان يتبنى ابن غيره فينسب إليه دون أبيه من النسب ويرثه وهذا التبني نوع من أنواع المعاهدة ولما بعث الله محمدا ( صلى الله عليه وسلم ) تركهم في أول الأمر على ما كانوا عليه في الجاهلية ومن العلماء من قال بل قررهم الله على ذلك فقال وَلِكُلّ جَعَلْنَا مَوَالِى َ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالاْقْرَبُونَ ( النساء 33 ) والمراد التوارث بالنسب ثم قال وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَئَاتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ( النساء 33 ) والمراد به التوارث بالعهد والأولون قالوا المراد بقوله وَالَّذِينَ عَلِيماً وَلِكُلٍ جَعَلْنَا مَوَالِى َ ليس المراد منه النصيب من المال بل المراد فآتوهم نصيبهم من النصرة والنصيحة وحسن العشرة فهذا شرح أسباب التوارث في الجاهلية
وأما أسباب التوارث في الإسلام فقد ذكرنا أن في أول الأمر قرر الحلف والتبني وزاد فيه أمرين آخرين أحدهما الهجرة فكان المهاجر يرث من المهاجر وان كان أجنبيا عنه إذا كان كل واحد منهما مختصا بالآخر بمزيد المخالطة والمخالصة ولا يرثه غير المهاجر وإن كان من أقاربه والثاني المؤاخاة كان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يؤاخي بين كل اثنين منهم وكان ذلك سببا للتوارث ثم إنه تعالى نسخ كل هذه الأسباب بقوله وَأُوْلُواْ الارْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ( الأحزاب 6 ) والذي تقرر عليه دين الإسلام أن أسباب التوريث ثلاثة النسب والنكاح والولاء
المسألة الثانية روى عطاء قال استشهد سعد بن الربيع وترك ابنتين وامرأة وأخا فأخذ الأخ المال كله فأتت المرأة وقالت يا رسول الله هاتان ابنتا سعد وإن سعداً قتل وان عمهما أخذ مالهما فقال عليه الصلاة والسلام ( ارجعي فلعل الله سيقضي فيه ) ثم إنها عادت بعد مدة وبكت فنزلت هذه الآية فدعا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عمهما وقال ( أعط ابنتي سعد الثلثين وأمهما الثمن وما بقي فهو لك فهذا أول ميراث قسم في الاسلام
المسألة الثالثة في تعلق هذه الآية بما قبلها وجهان الأول أنه تعالى لما بين الحكم في مال الأيتام وما على الأولياء فيه بين كيف يملك هذا اليتيم المال بالارث ولم يكن ذلك إلا ببيان جملة أحكام الميراث الثاني أنه تعالى أثبت حكم الميراث بالاجمال في قوله لّلرّجَالِ نَصيِبٌ مّمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالاْقْرَبُونَ ( النساء 7 ) فذكر عقيب ذلك المجمل هذا المفصل فقال يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَادِكُمْ
المسألة الرابعة قال القفال قوله يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَادِكُمْ أي يقول الله لكم قولا يوصلكم الى إيفاء حقوق أولادكم بعد موتكم وأصل الايصاء هو الايصال يقال وصى يصي إذا وصل وأوصى يوصي إذا أوصل فاذا قيل أوصاني فمعناه أوصلني الى علم ما أحتاج إلى علمه وكذلك وصى وهو على المبالغة قال الزجاج معنى قوله ههنا يُوصِيكُمُ أي يفرض عليكم لأن الوصية من الله إيجاب والدليل عليه قوله

وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ ولا شك في كون ذلك واجبا علينا
فان قيل انه لا يقال في اللغة أوصيك لكذا فكيف قال ههنا يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ
قلنا لما كانت الوصية قولا لا جرم ذكر بعد قوله يُوصِيكُمُ اللَّهُ خبرا مستأنفا وقال لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ ونظيره قوله تعالى وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَة ً وَأَجْراً عَظِيماً ( الفتح 29 ) أي قال الله لهم مغفرة لأن الوعد قول
المسألة الخامسة اعلم أنه تعالى بدأ بذكر ميراث الأولاد وإنما فعل ذلك لأن تعلق الانسان بولده أشد التعلقات ولذلك قال عليه الصلاة والسلام ( فاطمة بضعة مني ) فلهذا السبب قدم الله ذكر ميراثهم
واعلم أن للأولاد حال انفراد وحال اجتماع مع الوالدين أما حال الانفراد فثلاثة وذلك لأن الميت إما أن يخلف الذكور والاناث معا وإما أن يخلف الاناث فقط أو الذكور فقط
القسم الأول ما إذا خلف الذكران والاناث معا وقد بين الله الحكم فيه بقوله لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ
واعلم أن هذا يفيد أحكاما أحدهما إذا خلف الميت ذكراً واحدا وأنثى واحدة فللذكر سهمان وللأنثى سهم وثانيها إذا كان الوارث جماعة من الذكور وجماعة من الاناث كان لكل ذكر سهمان ولك أنثى سهم وثالثها إذا حصل مع الأولاد جمع آخرون من الوارثين كالأبوين والزوجين فهم يأخذون سهامهم وكان الباقي بعد تلك السهام بين الأولاد للذكر مثل حظ الأنثيين فثبت أن قوله لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ يفيد هذه الأحكام الكثيرة
القسم الثاني ما إذا مات وخلف الاناث فقط بين تعالى أنهم إن كن فوق اثنتين فلهن الثلثان وإن كانت واحدة فلها النصف إلا أنه تعالى لم يبين حكم البنتين بالقول الصريح واختلفوا فيه فعن ابن عباس أنه قال الثلثان فرض الثلاث من البنات فصاعدا وأما فرض البنتين فهو النصف واحتج عليه بأنه تعالى قال فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وكلمة ( إن ) في اللغة للاشتراط وذلك يدل على أن أخذ الثلثين مشروط بكونهن ثلاثا فصاعداً وذلك ينفي حصول الثلثين للبنتين
والجواب من وجوه الأول أن هذا الكلام لازم على ابن عباس لأنه تعالى قال وَإِن كَانَتْ واحِدَة ً فَلَهَا النّصْفُ فجعل حصول النصف مشروطاً بكونها واحدة وذلك ينفي حصول النصف نصيباً للبنتين فثبت أن هذا الكلام إن صح فهو يبطل قوله الثاني أنا لا نسلم أن كلمة ( ان ) تدل على انتفاء الحكم عند انتفاء الوصف ويدل عليه أنه لو كان الأمر كذلك لزم التناقض بين هاتين الآيتين لأن الاجماع دل على أن نصيب الثنتين إما النصف وإما الثلثان وبتقدير أن يكون كلمة ( إن ) للاشتراط وجب القول بفسادهما فثبت أن القول بكلمة الاشتراط يفضي إلى الباطل فكان باطلا ولأنه تعالى قال وَإِن لَّمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَة ٌ ( البقرة 283 ) وقال لا جناح عليكم أن تقصروا من الصلاة إن خفتم ولا يمكن أن يفيد معنى الاشتراط في هذه الآيات

الوجه الثالث في الجواب هو أن في الآية تقديما وتأخيرا والتقدير فان كن نساء اثنتين فما فوقهما فلهن الثلثان فهذا هو الجواب عن حجة ابن عباس وأما سائر الأمة فقد أجمعوا على أن فرض البنتين الثلثان قالوا وإنما عرفنا ذلك بوجوه الأول قال أبو مسلم الاصفهاني عرفناه من قوله تعالى لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ وذلك لأن من مات وخلف ابنا وبنتا فههنا يجب أن يكون نصيب الابن الثلثين لقوله تعالى لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ فاذا كان نصيب الذكر مثل نصيب الأنثيين ونصيب الذكر ههنا هو الثلثان وجب لا محالة أن يكون نصيب الابنتين الثلثين الثاني قال أبو بكر الرازي إذا مات وخلف ابنا وبنتا فههنا نصيب البنت الثلث بدليل قوله تعالى لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ فاذا كان نصيب البنت مع الولد الذكر هو الثلث فبأن يكون نصيبهما مع ولد آخر أنثى هو الثلث كان أولى لأن الذكر أقوى من الأنثى الثالث أن قوله تعالى لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ يفيد أن حظ الأنثيين أزيد من حظ الأنثى الواحدة وإلا لزم أن يكون حظ الذكر مثل حظ الأنثى الواحدة وذلك على خلاف النص واذا ثبت أن حظ الأنثيين أزيد من حظ الواحدة فنقول وجب أن يكون ذلك هو الثلثان لأنه لا قائل بالفرق والرابع أنا ذكرنا في سبب نزول هذه الآية أنه عليه الصلاة والسلام أعطى بنتي سعد بن الربيع الثلثين وذلك يدل على ما قلناه الخامس أنه تعالى ذكر في هذه الآية حكم الواحدة من البنات وحكم الثلاث فما فوقهن ولم يذكر حكم الثنتين وقال في شرح ميراث الأخوات إِن امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ فههنا ذكر ميراث الأخت الواحدة والأختين ولم يذكر ميراث الأخوات الكثيرة فصار كل واحدة من هاتين الآيتين مجملا من وجه ومبينا من وجه فنقول لما كان نصيب الأختين الثلثين كانت البنتان أولى بذلك لأنهما أقرب الى الميت من الأختين ولما كان نصيب البنات الكثيرة لا يزداد على الثلثين وجب أن لا يزداد نصيب الأخوات الكثيرة على ذلك لأن البنت لما كانت أشد اتصالا بالميت امتنع جعل الأضعف زائدا على الأقوى فهذا مجموع الوجوه المذكورة في هذا الباب فالوجوه الثلاثة الاول مستنبطة من الآية والرابع مأخوذ من السنة والخامس من القياس الجلي
أما القسم الثالث وهو إذا مات وخلف الأولاد الذكور فقط فنقول أما الابن الواحد فانه إذا انفرد أخذ كل المال وبيانه من وجوه الاول من دلالة قوله تعالى لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ ( النساء 176 ) فان هذا يدل على أن نصيب الذكر مثل نصيب الأنثيين
ثم قال تعالى في البنات وَإِن كَانَتْ واحِدَة ً فَلَهَا النّصْفُ فلزم من مجموع هاتين الآيتين ان نصيب الابن المفرد جميع المال الثاني أنا نستفيد ذلك من السنة وهي قوله عليه الصلاة والسلام ( ما أبقت السهام فلا ولى عصبة ذكر ) ولا نزاع ان الابن عصبة ذكر ولما كان الابن آخذاً لكل ما بقي بعد السهام وجب فيما إذا لم يكن سهام أن يأخذ الكل الثالث ان أقرب العصبات إلى الميت هو الابن وليس له بالاجماع قدر معين من الميراث فاذا لم يكن معه صاحب فرض لم يكن له ان يأخذ قدرا أولى منه بأن يأخذ الزائد فوجب أن يأخذ الكل
فان قيل حظ الانثيين هو الثلثان فقوله لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ يقتضي أن يكون حظ الذكر مطلقا هو الثلث وذلك ينفي أن يأخذ كل المال

قلنا المراد منه حال الاجتماع لا حال الانفراد ويدل عليه وجهان أحدهما ان قوله يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَادِكُمْ يقتضي حصول الأولاد وقوله لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ يقتضي حصول الذكر والانثى هناك والثاني أنه تعالى ذكر عقيبه حال الانفراد هذا كله إذا مات وخلف ابنا واحدا فقط أما إذا مات وخلف أبناء كانوا متشاركين في جهة الاستحقاق ولا رجحان فوجب قسمة المال بينهم بالسوية والله أعلم بقي في الآية سؤالان
السؤال الأول لا شك أن المرأة أعجز من الرجل لوجوه أما أولا فلعجزها عن الخروج والبروز فان زوجها وأقاربها يمنعونها من ذلك وأما ثانيا فلنقصان عقلها وكثرة اختداعها واغترارها وأما ثالثا فلأنها متى خالطت الرجال صارت متهمة وإذا ثبت أن عجزها أكمل وجب أن يكون نصيبها من الميراث أكثر فان لم يكن أكثر فلا أقل من المساواة فما الحكمة في أنه تعالى جعل نصيبها نصف نصيب الرجل
والجواب عنه من وجوه الأول أن خرج المرأة أقل لأن زوجها ينفق عليها وخرج الرجل أكثر لأنه هو المنفق على زوجته ومن كان خرجه أكثر فهو إلى المال أحوج الثاني أن الرجل أكمل حالا من المرأة في الخلقة وفي العقل وفي المناصب الدينية مثل صلاحية القضاء والامامة وأيضا شهادة المرأة نصف شهادة الرجل ومن كان كذلك وجب أن يكون الانعام عليه أزيد الثالث ان المرأة قليلة العقل كثيرة الشهوة فاذا انضاف اليها المال الكثير عظم الفساد قال الشاعر
إن الفراغ والشباب والجده مفسدة للمرء أي مفسده
وقال تعالى إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّءاهُ اسْتَغْنَى ( العلق 6 7 ) وحال الرجل بخلاف ذلك والرابع أن الرجل لكمال عقله يصرف المال إلى ما يفيده الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في الآخرة نحو بناء الرباطات وإعانة الملهوفين والنفقة على الأيتام والأرامل وإنما يقدر الرجل على ذلك لأنه يخالط الناس كثيرا والمرأة تقل مخالطتها مع الناس فلا تقدر على ذلك الخامس روي أن جعفر الصادق سئل عن هذه المسألة فقال إن حواء أخذت حفنة من الحنطة وأكلتها وأخذت حفنة أخرى وخبأتها ثم أخذت حفنة أخرى ودفعتها إلى آدم فلما جعلت نصيب نفسها ضعف نصيب الرجل قلب الله الأمر عليها فجعل نصيب المرأة نصف نصيب الرجل
السؤال الثاني لم لم يقل للأنثيين مثل حظ الذكر أو للأنثى مثلا نصف حظ الذكر
والجواب من وجوه الأول لما كان الذكر أفضل من الأنثى قدم ذكره على ذكر الأنثى كما جعل نصيبه ضعف نصيب الأنثى الثاني أن قوله لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ يدل على فضل الذكر بالمطابقة وعلى نقص الأنثى بالالتزام ولو قال كما ذكرتم لدل ذلك على نقص الأنثى بالمطابقة وفضل الذكر بالالتزام فرجح الطريق الأول تنبيها على أن السعي في تشهير الفضائل يجب أن يكون راجحا على السعي في تشهير الرذائل ولهذا قال إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لاِنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ( الإسراء 7 ) فذكر الاحسان مرتين والاساءة مرة واحدة الثالث أنهم كانوا يورثون الذكور دون الاناث وهو السبب لورود هذه الآية فقيل كفى للذكر أن جعل نصيبه ضعف نصيب الأنثى فلا ينبغى له أن يطمع في جعل الأنثى محرومة عن الميراث بالكلية والله أعلم

المسألة السادسة لا شك أن اسم الولد واقع على ولد الصلب على سبيل الحقيقة ولا شك أنه مستعمل في ولد الابن قال تعالى تَتَّقُونَ وَإِذْ أَخَذَ ( الأعراف 26 ) وقال للذين كانوا في زمان الرسول عليه الصلاة والسلام مَعِى َ بَنِى إِسْراءيلَ ( البقرة 40 ) الا أن البحث في أن لفظ الولد يقع على ولد الابن مجازاً أو حقيقة
فان قلنا إنه مجاز فنقول ثبت في أصول الفقه أن اللفظ الواحد لا يجوز أن يستعمل دفعة واحدة في حقيقته وفي مجازه معا فحينئذ يمتنع أن يريد الله بقوله يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَادِكُمْ ولد الصلب وولد الابن معا
واعلم أن الطريق في دفع هذا الاشكال أن يقال انا لا نستفيد حكم ولد الابن من هذه الآية بل من السنة ومن القياس وأما ان أردنا أن نستفيده من هذه الآية فنقول الولد وولد الابن ما صارا مرادين من هذه الآية معا وذلك لأن أولاد الابن لا يستحقون الميراث إلا في إحدى حالتين إما عند عدم ولد الصلب رأسا وإما عند ما لا يأخذ ولد الصلب كل الميراث فحينئذ يقتسمون الباقي وأما أن يستحق ولد الابن مع ولد الصلب على وجه الشركة بينهم كما يستحقه أولاد الصلب بعضهم مع بعض فليس الأمر كذلك وعلى هذا لا يلزم من دلالة هذه الآية على الولد وعلى ولد الابن أن يكون قد أريد باللفظ الواحد حقيقته ومجازه معا لأنه حين أريد به ولد الصلب ما أريد به ولد الابن وحين أريد به ولد الابن ما أريد به ولد الصلب فالحاصل ان هذه الآية تارة تكون خطابا مع ولد الصلب وأخرى مع ولد الابن وفي كل واحدة من هاتين الحالتين يكون المراد به شيئا واحداً أما إذا قلنا ان وقوع اسم الولد على ولد الصلب وعلى ولد الابن يكون حقيقة فان جعلنا اللفظ مشتركا بينهما عاد الاشكال لأنه ثبت أنه لا يجوز استعمال اللفظ المشترك لافادة معنييه معا بل الواجب أن يجعله متواطئا فيهما كالحيوان بالنسبة إلى الانسان والفرس والذي يدل على صحة ذلك قوله تعالى وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ ( النساء 23 ) وأجمعوا أنه يدخل فيه ابن الصلب وأولاد الابن فعلمنا أن لفظ الابن متواطىء بالنسبة إلى ولد الصلب وولد الابن وعلى هذا التقدير يزول الاشكال
واعلم أن هذا البحث الذي ذكرناه في أن الابن هل يتناول أولاد الابن قائم في أن لفظ الأب والأم هل يتناول الاجداد والجدات ولا شك أن ذلك واقع بدليل قوله تعالى نَعْبُدُ إِلَاهَكَ وَإِلَاهَ آبَائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ( البقرة 133 ) والأظهر أنه ليس على سبيل الحقيقة فان الصحابة اتفقوا على أنه ليس للجد حكم مذكور في القرآن ولو كان اسم الأب يتناول الجد على سبيل الحقيقة لما صح ذلك والله أعلم
المسألة السابعة اعلم أن عموم قوله تعالى يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ زعموا أنه مخصوص في صور أربعة أحدها أن الحر والعبد لا يتوارثان وثانيها أن القاتل على سبيل العمد لا يرث وثالثها أنه لا يتوارث أهل ملتين وهذا خبر تلقته الأمة بالقبول وبلغ حد المستفيض ويتفرع عليه فرعان
الفرع الأول اتفقوا على أن الكافر لا يرث من المسلم أما المسلم فهل يرث من الكافر ذهب الأكثرون إلى أنه أيضاً لا يرث وقال بعضهم إنه يرث قال الشعبي قضى معاوية بذلك وكتب به إلى زياد فأرسل ذلك زياد إلى شريح القاضي وأمره به وكان شريح قبل ذلك يقضي بعدم التوريث فلما أمره زياد

بذلك كان يقضي به ويقول هكذا قضى أمير المؤمنين
حجة الأولين عموم قوله عليه السلام ( لا يتوارث أهل ملتين ) وحجة القول الثاني ما روي أن معاذا كان باليمن فذكروا له أن يهوديا مات وترك أخا مسلما فقال سمعت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( الإسلام يزيد ولا ينقص ) ثم أكدوا ذلك بأن قالوا إن ظاهر قوله يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ يقتضي توريث الكافر من المسلم والمسلم من الكافر إلا أنا خصصناه بقوله عليه الصلاة والسلام ( لا يتوارث أهل ملتين ) لأن هذا الخبر أخص من تلك الآية والخاص مقدم على العام فكذا ههنا قوله ( الإسلام يزيد ولا ينقص ) أخص من قوله ( لا يتوارث أهل ملتين ) فوجب تقديمه عليه بل هذا التخصيص أولى لأن ظاهر هذا الخبر متأكد بعموم الآية والخبر الأول ليس كذلك وأقصى ما قيل في جوابه أن قوله ( الإسلام يزيد ولا ينقص ) ليس نصا في واقعة الميراث فوجب حمله على سائر الاحوال
الفرع الثاني المسلم إذا ارتد ثم مات أو قتل فالمال الذي اكتسبه في زمان الردة أجمعوا على أنه لا يورث بل يكون لبيت المال أما المال الذي اكتسبه حال كونه مسلما ففيه قولان قال الشافعي لا يورث بل يكون لبيت المال وقال أبو حنيفة يرثه ورثته من المسلمين حجة الشافعي أنا أجمعنا على ترجيح قوله عليه السلام ( لا يتوارث أهل ملتين ) على عموم قوله لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ والمرتد وورثته من المسلمين أهل ملتين فوجب أن لا يحصل التوارث
فان قيل لا يجوز أن يقال إن المرتد زال ملكه في آخر الإسلام وانتقل إلى الوارث وعلى هذا التقدير فالمسلم انما ورث عن المسلم لا عن الكافر
قلنا لو ورث المسلم من المرتد لكان إما أن يرثه حال حياة المرتد أو بعد مماته والأول باطل ولا يحل له أن يتصرف في تلك الأموال لقوله تعالى إِلاَّ عَلَى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ( المؤمنون 6 ) وهو بالاجماع باطل والثاني باطل لأن المرتد عند مماته كافر فيفضي إلى حصول التوارث بين أهل ملتين وهو خلاف الخبر ولا يبقى ههنا إلا أن يقال إنه يرثه بعد موته مستنداً إلى آخر جزء من أجزاء إسلامه إلا أن القول بالاستناد باطل لأنه لما لم يكن الملك حاصلا حال حياة المرتد فلو حصل بعد موته على وجه صار حاصلا في زمن حياته لزم إيقاع التصرف في الزمان الماضي وذلك باطل في بداهة العقول وإن فسر الاستناد بالتبيين عاد الكلام إلى أن الوارث ورثه من المرتد حال حياة المرتد وقد أبطلناه والله أعلم
الموضع الرابع من تخصيصات هذه الآية ما هو مذهب أكثر المجتهدين أن الأنبياء عليهم السلام لا يورثون والشيعة خالفوا فيه روي أن فاطمة عليها السلام لما طلبت الميراث ومنعوها منه احتجوا بقوله عليه الصلاة والسلام ( نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة ) فعند هذا احتجت فاطمة عليها السلام بعموم قوله لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ وكأنها أشارت إلى أن عموم القرآن لا يجوز تخصيصه بخبر الواحد ثم ان الشيعة قالوا بتقدير أن يجوز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد إلا أنه غير جائز ههنا وبيانه من ثلاثة أوجه أحدها أنه على خلاف قوله تعالى حكاية عن زكريا عليه السلام يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْ ءالِ يَعْقُوبَ ( مريم 6 ) وقوله تعالى وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودُ ( النمل 16 ) قالوا ولا يمكن حمل ذلك على وراثة العلم والدين لأن ذلك لا يكون وراثة في الحقيقة بل

يكون كسباً جديداً مبتدأ إنما التوريث لا يتحقق إلا في المال على سبيل الحقيقة وثانيها أن المحتاج إلى معرفة هذه المسألة ما كان إلا فاطمة وعلي والعباس وهؤلاء كانوا من أكابر الزهاد والعلماء وأهل الدين وأما أبو بكر فانه ما كان محتاجا الى معرفة هذه المسألة البتة لأنه ما كان ممن يخطر بباله أنه يرث من الرسول عليه الصلاة والسلام فكيف يليق بالرسول عليه الصلاة والسلام أن يبلغ هذه المسألة إلى من لا حاجة به إليها ولا يبلغها إلى من له إلى معرفتها أشد الحاجة وثالثها يحتمل أن قوله ( ما تركناه صدقة ) صلة لقوله ( لا نورث ) والتقدير أن الشيء الذي تركناه صدقة فذلك الشيء لا يورث
فان قيل فعلى هذا التقدير لا يبقى للرسول خاصية في ذلك
قلنا بل تبقى الخاصية لاحتمال أن الأنبياء إذا عزموا على التصدق بشيء فبمجرد العزم يخرج ذلك عن ملكهم ولا يرثه وارث عنهم وهذا المعنى مفقود في حق غيرهم
والجواب أن فاطمة عليها السلام رضيت بقول أبي بكر بعد هذه المناظرة وانعقد الاجماع على صحة ما ذهب اليه أبو بكر فسقط هذا السؤال والله أعلم
المسألة الثامنة من المسائل المتعلقة بهذه الآية أن قوله لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ معناه للذكر منهم فحذف الراجع اليه لأنه مفهوم كقولك السمن منوان بدرهم والله أعلم
أما قوله تعالى فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ المعنى إن كانت البنات أو المولودات نساء خلصا ليس معهن ابن وقوله فَوْقَ اثْنَتَيْنِ يجوز أن يكون خبرا ثانيا لكان وأن يكون صفة لقوله نِسَاء أي نساء زائدات على اثنتين وههنا سؤالات
السؤال الأول قوله لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ كلام مذكور لبيان حظ الذكر من الأولاد لا لبيان حظ الأنثيين فكيف يحسن إرادته بقوله فَإِن كُنَّ نِسَاء وهو لبيان حظ الاناث
والجواب من وجهين الأول أنا بينا أن قوله لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ دل على أن حظ الأنثيين هو الثلثان فلما ذكر ما دل على حكم الأنثيين قال بعده فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ على معنى فان كن جماعة بالغات ما بلغن من العدد فلهن ما للثنتين وهو الثلثان ليعلم أن حكم الجماعة حكم الثنتين بغير تفاوت فثبت أن هذا العطف متناسب الثاني أنه قد تقدم ذكر الأنثيين فكفى هذا القول في حسن هذا العطف
السؤال الثاني هل يصح أن يكون الضميران في ( كن ) و ( كانت ) مبهمين ويكون ( نساء ) و ( واحدة ) تفسيراً لهما على ان ( كان ) تامة
الجواب ذكر صاحب ( الكشاف ) أنه ليس ببعيد
السؤال الثالث النساء جمع وأقل الجمع ثلاثة فالنساء يجب أن يكن فوق اثنتين فما الفائدة في التقييد بقوله فوق اثنتين
الجواب من يقول أقل الجمع اثنان فهذه الآية حجته ومن يقول هو ثلاثة قال هذا للتأكيد كما في قوله إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً ( النساء 10 ) وقوله لاَ تَتَّخِذُواْ إِلاهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلاهٌ وَاحِدٌ

أما قوله تعالى وَإِن كَانَتْ واحِدَة ً فَلَهَا النّصْفُ فنقول قرأ نافع ( واحدة ) بالرفع والباقون بالنصب أما الرفع فعلى كان التامة والاختيار النصب لأن التي قبلها لها خبر منصوب وهو قوله فَإِن كُنَّ نِسَاء ( النحل 51 ) والتقدير فان كان المتروكات أو الوارثات نساء فكذا ههنا التقدير وإن كانت المتروكة واحدة وقرأ زيد بن علي النصف بضم النون
قوله تعالى وَلاِبَوَيْهِ لِكُلّ واحِدٍ مّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ
اعلم أنه تعالى لما ذكر كيفية ميراث الأولاد ذكر بعده ميراث الأبوين وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ الحسن ونعيم بن أبي ميسر السُّدُسُ بالتخفيف وكذلك الربع و الثُّمُنُ
المسألة الثانية اعلم أن للأبوين ثلاثة أحوال
الحالة الأولى أن يحصل معهما ولد وهو المراد من هذه الآية واعلم أنه لا نزاع أن اسم لولد يقع على الذكر والانثى فهذه الحالة يمكن وقوعها على ثلاثة أوجه أحدها أن يحصل مع الأبوين ولد ذكر واحد أو أكثر من واحد فههنا الابوان لكل واحد منهما السدس وثانيها أن يحصل مع الأبوين بنتان أو أكثر وههنا الحكم ما ذكرناه أيضا وثالثها أن يحصل مع الأبوين بنت واحدة فههنا للبنت النصف وللام السدس وللأب السدس بحكم هذه الآية والسدس الباقي أيضا للأب بحكم التعصيب وههنا سؤالات
السؤال الأول لا شك أن حق الوالدين على الانسان أعظم من حق ولده عليه وقد بلغ حق الوالدين إلى أن قرن الله طاعته بطاعتهما فقال وَقَضَى رَبُّكَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً وإذا كان كذلك فما السبب في أنه تعالى جعل نصيب الأولاد أكثر ونصيب الوالدين أقل
والجواب عن هذا في نهاية الحسن والحكمة وذلك لأن الوالدين ما بقي من عمرهما إلا القليل فكان احتياجهما إلى المال قليلا أما الأولاد فهم في زمن الصبا فكان احتياجهم إلى المال كثيرا فظهر الفرق
السؤال الثاني الضمير في قوله وَلاِبَوَيْهِ إلى ماذا يعود
الجواب أنه ضمير عن غير مذكور والمراد ولأبوي الميت
السؤال الثالث ما المراد بالأبوين
والجواب هما الأب والأم والأصل في الأم أن يقال لها أبة فأبوان تثنية أب وأبة
السؤال الرابع كيف تركيب هذه الآية
الجواب قوله لِكُلّ واحِدٍ مّنْهُمَا بدل من قوله لأبويه بتكرير العامل وفائدة هذا البدل أنه لو قيل ولأبويه السدس لكان ظاهره اشتراكهما فيه
فان قيل فهلا قيل لكل واحد من أبويه السدس

قلنا لأن في الابدال والتفصيل بعد الاجمال تأكيداً وتشديدا والسدس مبتدأ وخبره لأبويه والبدل متوسط بينهما للبيان
قوله تعالى وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلاِمّهِ الثُّلُثُ
وفي الآية مسألتان
المسألة الأولى اعلم أن هذا هو الحالة الثانية من أحوال الأبوين وهو أن لا يحصل معهما أحد من الأولاد ولا يكون هناك وارث سواهما وهو المراد من قوله وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فههنا للأم الثلث وذلك فرض لها والباقي للأب وذلك لأن قوله وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ ظاهره مشعر بأنه لا وارث له سواهما واذا كان كذلك كان مجموع المال لهما فاذا كان نصيب الأم هو الثلث وجب أن يكون الباقي وهو الثلثان للأب فههنا يكون المال بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين كما في حق الأولاد ويتفرع على ما ذكرنا فرعان الأول أن الآية السابقة دلت على أن فرض الاب هو السدس وفي هذه الصورة يأخذ الثلثين إلا أنه ههنا يأخذ السدس بالفريضة والنصف بالتعصيب الثاني لما ثبت أنه يأخذ النصف بالتعصيب في هذه الصورة وجب أن يكون الأب إذا انفرد أن يأخذ كل المال لأن خاصية العصبة هو أن يأخذ الكل عند الانفراد هذا كله إذا لم يكن للميت وارث سوى الأبوين أما إذا ورثه أبواه مع أحد الزوجين فذهب أكثر الصحابة الى أن الزوج يأخذ نصيبه ثم يدفع ثلث ما بقي الى الأم ويدفع الباقي الى الأب وقال ابن عباس يدفع الى الزوج نصيبه والى الأم الثلث ويدفع الباقي الى الأب وقال لا أجد في كتاب الله ثلث ما بقي وعن ابن سيرين أنه وافق ابن عباس في الزوجة والأبوين وخالفه في الزوج والأبوين لأنه يفضي الى أن يكون للأنثى مثل حظ الذكرين وأما في الزوجة فانه لا يفضي الى ذلك وحجة الجمهور وجوه الأول أن قاعدة الميراث أنه متى اجتمع الرجل والمرأة من جنس واحد كان للذكر مثل حظ الأنثيين ألا ترى أن الابن مع البنت كذلك قال تعالى يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ ( النساء 176 ) وأيضا الأخ مع الأخت كذلك قال تعالى وَإِن كَانُواْ إِخْوَة ً رّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظّ الاْنثَيَيْنِ وأيضا الأم مع الأب كذلك لأنا بينا أنه إذا كان لا وارث غيرهما فللأم الثلث وللأب الثلثان إذا ثبت هذا فنقول إذا أخذ الزوج نصيبه وجب أن يبقى الباقي بين الأبوين أثلاثا للذكر مثل حظ الأنثيين الثاني أن الأبوين يشبهان شريكين بينهما مال فاذا صار شيء منه مستحقا بقي الباقي بينهما على قدر الاستحقاق الأول الثالث أن الزوج إنما أخذ سهمه بحكم عقد النكاح لا بحكم القرابة فأشبه الوصية في قسمة الباقي الرابع أن المرأة إذا خلفت زوجا وأبوين فللزوج النصف فلو دفعنا الثلث الى الأم والسدس الى الأب لزم أن يكون للأنثى مثل حظ الذكرين وهذا خلاف قوله لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ
واعلم أن الوجوه الثلاثة الأول يرجع حاصلها الى تخصيص عموم القرآن بالقياس
وأما الوجه الرابع فهو تخصيص لأحد العمومين بالعموم الثاني

المسألة الثانية قرأ حمزة والكسائي فَلاِمّهِ بكسر الهمزة والميم وشرطوا في جواز هذه الكسرة أن يكون ما قبلها حرفا مكسرواً أو ياء
أما الأول فكقوله فِى بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ ( الزمر 6 )
وأما الثاني فكقوله فِى أُمّهَا رَسُولاً ( القصص 59 ) وإذا لم يوجد هذا الشرط فليس إلا الضم كقوله وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ءايَة ً وأما الباقون فانهم قرؤا بضم الهمزة أما وجه من قرأ بالكسر قال الزجاج انهم استثقلوا الضمة بعد الكسرة في قوله فَلاِمّهِ وذلك لأن اللام لشدة اتصالها بالأم صار المجموع كأنه كلمة واحدة وليس في كلام العرب فعل بكسر الفاء وضم العين فلا جرم جعلت الضمة كسرة وأما وجه من قرأ الهمزة بالضم فهو أتى بها على الأصل ولا يلزم منه استعمال فعل لأن اللازم في حكم المنفصل والله أعلم
قوله تعالى فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَة ٌ فَلاِمِهِ السُّدُسُ
اعلم أن هذا هو الحالة الثالثة من أحوال الأبوين وهي أن يوجد معهما الاخوة والأخوات وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اتفقوا على أن الأخت الواحدة لا تحجب الأم من الثلث إلى السدس واتفقوا على أن الثلاثة يحجبون واختلفوا في الأختين فالأكثرون من الصحابة على القول باثبات الحجب كما في الثلاثة وقال ابن عباس لا يحجبان كما في حق الواحدة حجة ابن عباس أن الآية دالة على أن هذا الحجب مشروط بوجود الاخوة ولفظ الاخوة جمع وأقل الجمع ثلاثة على ما ثبت في أصول الفقه فاذا لم توجد الثلاثة لم يحصل شرط الحجب فوجب أن لا يحصل الحجب روي أن ابن عباس قال لعثمان بم صار الاخوان يردان الأم من الثلث إلى السدس وإنما قال الله تعالى فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَة ٌ والأخوان في لسان قومك ليسا باخوة فقال عثمان لا أستطيع أن أرد قضاء قضى به من قبلي ومضى في الأمصار
واعلم أن في هذه الحكاية دلالة على أن أقل الجمع ثلاثة لأن ابن عباس ذكر ذلك مع عثمان وعثمان ما أنكره وهما كانا من صميم العرب ومن علماء اللسان فكان اتفاقهما حجة في ذلك
واعلم أن للعلماء في أقل الجمع قولين الأول أن أقل الجمع اثنان وهو قول القاضي أبي بكر الباقلاني رحمة الله عليه واحتجوا فيه بوجوه أحدها قوله تعالى فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ( التحريم 4 ) ولا يكون للانسان الواحد أكثر من قلب واحد وثانيها قوله تعالى فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ والتقييد بقوله فوق اثنتين إنما يحسن لو كان لفظ النساء صالحاً للثنتين وثالثها قوله ( الاثنان فما فوقهما جماعة ) والقائلون بهذا المذهب زعموا أن ظاهر الكتاب يوجب الحجب بالأخوين الا أن الذي نصرناه في أصول الفقه أن أقل الجمع ثلاثة وعلى هذا التقدير فظاهر الكتاب لا يوجب الحجب بالأخوين وإنما الموجب لذلك هو القياس وتقريره أن نقول الأختان يوجبان الحجب وإذا كان كذلك فالأخوان وجب أن يحجبا أيضا إنما

قلنا إن الأختين يحجبان وذلك لأنا رأينا أن الله تعالى نزل الاثنين من النساء منزلة الثلاثة في باب الميراث ألا ترى أن نصيب البنتين ونصيب الثلاثة هو الثلثان وأيضا نصيب الأختين من الأم ونصيب الثلاثة هو الثلث فهذا الاستقراء يوجب أن يحصل الحجب بالأختين كما أنه حصل بالأخوات الثلاثة فثبت أن الأختين يحجبان واذا ثبت ذلك في الأختين لزم ثبوته في الأخوين لأنه لا قائل بالفرق فهذا أحسن ما يمكن أن يقال في هذا الموضع وفيه إشكال لأن إجراء القياس في التقديرات صعب لأنه غير معقول المعنى فيكون ذلك مجرد تشبيه من غير جامع ويمكن أن يقال لا يتمسك به على طريقة القياس بل على طريقة الاستقراء لأن الكثرة أمارة العموم إلا أن هذا الطريق في غاية الضعف والله أعلم واعلم أنه تأكد هذا باجماع التابعين على سقوط مذهب ابن عباس والأصح في أصول الفقه أن الاجماع الحاصل عقيب الخلاف حجة والله أعلم
المسألة الثانية الاخوة إذا حجبوا الأم من الثلث الى السدس فهم لا يرثون شيئا البتة بل يأخذ الأب كل الباقي وهو خمسة أسداس سدس بالفرض والباقي بالتعصيب وقال ابن عباس الاخوة يأخذون السدس الذي حجبوا الأم عنه وما بقي فللأب وحجته أن الاستقراء دل على أن من لا يرث لا يحجب فهؤلاء الاخوة لما حجبوا وجب أن يرثوا وحجة الجمهور أن عند عدم الاخوة كان المال ملكا للأبوين وعند وجود الاخوة لم يذكرهم الله تعالى إلا بأنهم يحجبون الأم من الثلث إلى السدس ولا يلزم من كونه حاجبا كونه وارثا فوجب أن يبقى المال بعد حصول هذا الحجب على ملك الأبوين كما كان قبل ذلك والله أعلم
قوله تعالى مِن بَعْدِ وَصِيَّة ٍ يُوصِى بِهَا
اعلم أن مسائل الوصايا تذكر في خاتمة هذه الآية وههنا مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى لما ذكر أنصباء الأولاد والوالدين قال السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّة ٍ يُوصِى بِهَا أَوْ دَيْنٍ أي هذه الأنصباء إنما تدفع إلى هؤلاء إذا فضل عن الوصية والدين وذلك لأن أول ما يخرج من التركة الدين حتى لو استغرق الدين كل مال الميت لم يكن للورثة فيه حق فأما إذا لم يكن دين أو كان إلا أنه قضى وفضل بعده شيء فان أوصى الميت بوصية أخرجت الوصية من ثلث ما فضل ثم قسم الباقي ميراثاً على فرائض الله
المسألة الثانية روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال إنكم لتقرؤن الوصية قبل الدين وإن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قضى بالدين قبل الوصية
واعلم أن مراده رضي الله تعالى عنه التقديم في الذكر واللفظ وليس مراده أن الآية تقتضي تقديم الوصية على الدين في الحكم لأن كلمة ( أو ) لا تفيد الترتيب ألبتة
واعلم أن الحكمة في تقديم الوصية على الدين في اللفظ من وجهين الأول أن الوصية مال يؤخذ

بغير عوض فكان اخراجها شاقا على الورثة فكان أداؤها مظنة للتفريط بخلاف الدين فان نفوس الورثة مطمئنة إلى أدائه فلهذا السبب قدم الله ذكر الوصية على ذكر الدين في اللفظ بعثا على أدائها وترغيبا في اخراجها ثم أكد في ذلك الترغيب بادخال كلمة ( أو ) على الوصية والدين تنبيها على أنهما في وجوب الاخراج على السوية الثاني أن سهام المواريث كما أنها تؤخر عن الدين فكذا تؤخر عن الوصية ألا ترى أنه إذا أوصى بثلث ماله كان سهام الورثة معتبرة بعد تسليم الثلث إلى الموصى له فجمع الله بين ذكر الدين وذكر الوصية ليعلمنا أن سهام الميراث معتبرة بعد الوصية كما هي معتبرة بعد الدين بل فرق بين الدين وبين الوصية من جهة أخرى وهي أنه لو هلك من المال شيء دخل النقصان في أنصباء أصحاب الوصايا وفي أنصباء أصحاب الارث وليس كذلك الدين فانه لو هلك من المال شيء استوفى الدين كله من الباقي وإن استغرقه بطل حق الموصى له وحق الورثة جميعا فالوصية تشبه الارب من وجه والدين من وجه آخر أما مشابهتها بالارث فما ذكرنا أنه متى هلك من المال شيء دخل النقصان في أنصباء أصحاب الوصية والارث وأما مشابهتها بالدين فلأن سهام أهل المواريث معتبرة بعد الوصية كما أنها معتبرة بعد الدين والله أعلم
المسألة الثالثة لقائل أن يقول ما معنى ( أو ) ههنا وهلا قيل من بعد وصية يوصى بها ودين والجواب من وجهين الأول أن ( أو ) معناها الاباحة كما لو قال قائل جالس الحسن أو ابن سيرين والمعنى أن كل واحد منهما أهل أن يجالس فان جالست الحسن فأنت مصيب أو ابن سيرين فأنت مصيب وإن جمعتهما فأنت مصيب أما لو قال جالس الرجلين فجالست واحدا منهما وتركت الآخر كنت غير موافق للأمر فكذا ههنا لو قال من بعد وصية ودين وجب في كل مال أن يحصل فيه الأمران ومعلوم أنه ليس كذلك أما إذا ذكره بلفظ ( أو ) كان المعنى أن أحدهما إن كان فالميراث بعده وكذلك إن كان كلاهما الثاني أن كلمة ( أو ) إذا دخلت على النفي صارت في معنى الواو كقوله وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءاثِماً أَوْ كَفُوراً ( الإنسان 24 ) وقوله حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ( الأنعام 146 ) فكانت ( أو ) ههنا بمعنى الواو فكذا قوله تعالى مِن بَعْدِ وَصِيَّة ٍ يُوصِى بِهَا أَوْ دَيْنٍ لما كان في معنى الاستثناء صار كأنه قال إلا أن يكون هناك وصية أو دين فيكون المراد بعدهما جميعا
المسألة الرابعة قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر عن عاصم يُوصِى بفتح الصاد على ما لم يسم فاعله وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي بكسر الصاد إضافة إلى الموصى وهو الاختيار بدليل قوله تعالى مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ
قوله تعالى وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَة ً مّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً وَلَكُمْ
اعلم أن هذا كلام معترض بين ذكر الوارثين وأنصبائهم وبين قوله فَرِيضَة ً مّنَ اللَّهِ ومن حق الاعتراض أن يكون ما اعترض مؤكدا ما اعترض بينه ومناسبه فنقول إنه تعالى لما ذكر أنصباء الأولاد

وأنصباء الأبوين وكانت تلك الأنصباء مختلفة والعقول لا تهتدي إلى كمية تلك التقديرات والانسان ربما خطر بباله أن القسمة لو وقعت على غير هذا الوجه كانت أنفع له وأصلح لا سيما وقد كانت قسمة العرب للمواريث على هذا الوجه وانهم كانوا يورثون الرجال الأقوياء وما كانوا يورثون الصبيان والنسوان والضعفاء فالله تعالى أزال هذه الشبهة بأن قال إنكم تعلمون أن عقولكم لا تحيط بمصالحكم فربما اعتقدتم في شيء أنه صالح لكم وهو عين المضرة وربما اعتقدتم فيه أنه عين المضرة ويكون عين المصلحة وأما الاله الحكيم الرحيم فهو العالم بمغيبات الأمور وعواقبها فكأنه قيل أيها الناس اتركوا تقدير المواريث بالمقادير التي تستحسنها عقولكم وكونوا مطيعين لأمر الله في هذه التقديرات التي قدرها لكم فقوله وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَة ً اشارة إلى ترك ما يميل اليه الطبع من قسمة المواريث على الورثة وقوله فَرِيضَة ً مّنَ اللَّهِ اشارة إلى وجوب الانقياد لهذه القسمة التي قدرها الشرع وقضى بها وذكروا في المراد من قوله أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً وجوها الأول المراد أقرب لكم نفعا في الآخرة قال ابن عباس إن الله ليشفع بعضهم في بعض فأطوعكم لله عز وجل من الأبناء والآباء أرفعكم درجة في الجنة وإن كان الوالد أرفع درجة في الجنة من ولده رفع الله اليه ولده بمسألته ليقر بذلك عينه وإن كان الولد أرفع درجة من والديه رفع الله إليه والديه فقال لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً لأن أحدهما لا يعرف أن انتفاعه في الجنة بهذا أكثر أم بذلك الثاني المراد كيفية انتفاع بعضهم ببعض في الدنيا من جهة ما أوجب من الانفاق عليه والتربية له والذب عنه والثالث المراد جواز أن يموت هذا قبل ذلك فيرثه وبالضد
قوله تعالى فَرِيضَة ً مّنَ اللَّهِ هو منصوب نصب المصدر المؤكد أي فرض ذلك فرضا إن الله كان عليما حكيما والمعنى أن قسمة الله لهذه المواريث أولى من القسمة التي تميل اليها طباعكم لأنه تعالى عالم بجميع المعلومات فيكون عالما بما في قسمة المواريث من المصالح والمفاسد وأنه حكيم لا يأمر إلا بما هو الأصلح الأحسن ومتى كان الأمر كذلك كانت قسمته لهذه المواريث أولى من القسمة التي تريدونها وهذا نظير قوله للملائكة إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ( البقرة 30 )
فان قيل لم قال كَانَ عَلِيماً حَكِيماً مع أنه الآن كذلك
قلنا قال الخليل الخبر عن الله بهذه الألفاظ كالخبر بالحال والاستقبال لأنه تعالى منزه عن الدخول تحت الزمان وقال سيبويه القوم لما شاهدوا علماً وحكمة وفضلا وإحساناً تعجبوا فقيل لهم إن الله كان كذلك ولم يزل موصوفا بهذه الصفات
وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَّمْ يَكُنْ لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّة ٍ يُوصِينَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّة ٍ تُوصُونَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَة ً أَو امْرَأَة ٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوا أَكْثَرَ مِن ذالِكَ فَهُمْ شُرَكَآءُ فِى الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّة ٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّة ً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ

اعلم أنه تعالى أورد أقسام الورثة في هذه الآيات على أحسن الترتيبات وذلك لأن الوارث إما أن يكون متصلا بالميت بغير واسطة أو بواسطة فان اتصل به بغير واسطة فسبب الاتصال اما أن يكون هو النسب أو الزوجية فحصل ههنا أقسام ثلاثة أشرفها وأعلاها الاتصال الحاصل ابتداء من جهة النسب وذلك هو قرابة الولاد ويدخل فيها الأولاد والوالدان فالله تعالى قدم حكم هذا القسم وثانيها الاتصال الحاصل ابتداء من جهة الزوجية وهذا القسم متأخر في الشرف عن القسم الأول لأن الأول ذاتي وهذا الثاني عرضي والذاتي أشرف من العرضي وهذا القسم هو المراد من هذه الآية التي نحن الآن في تفسيرها وثالثها الاتصال الحاصل بواسطة الغير وهو المسمى بالكلالة وهذا القسم متأخر عن القسمين الأولين لوجوه أحدها أن الأولاد والوالدين والأزواج والزوجات لا يعرض لهم السقوط بالكلية وأما الكلالة فقد يعرض لهم السقوط بالكلية وثانيها أن القسمين الأولين ينسب كل واحد منهما إلى الميت بغير واسطة والكلالة تنسب إلى الميت بواسطة والثابت ابتداء أشرف من الثابت بواسطة وثالثها أن مخالطة الانسان بالوالدين والأولاد والزوج والزوجة أكثر وأتم من مخالطته بالكلالة وكثرة المخالطة مظنة الالفة والشفقة وذلك يوجب شدة الاهتمام بأحوالهم فلهذه الأسباب الثلاثة وأشباهها أخر الله تعالى ذكر مواريث الكلالة عن ذكر القسمين الأولين فما أحسن هذا الترتيب وما أشد انطباقه على قوانين المعقولات وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى لما جعل في الموجب النسبي حظ الرجل مثل حظ الانثيين كذلك جعل في الموجب السببي حظ الرجل مثل حظ الانثيين واعلم أن الواحد والجماعة سواء في الربع والثمن والولد من ذلك الزوج ومن غيره سواء في الرد من النصف إلى الربع أو من الربع إلى الثمن واعلم أنه لا فرق في الولد بين الذكر والانثى ولا فرق بين الابن وبين ابن الابن ولا بين البنت وبين بنت الابن والله أعلم
المسألة الثانية قال الشافعي رحمه الله يجوز للزوج غسل زوجته وقال أبو حنيفة رضي الله عنه لا يجوز حجة الشافعي أنها بعد الموت زوجته فيحل له غسلها بيان أنها زوجته قوله تعالى وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْواجُكُمْ سماها زوجة حال ما أثبت للزوج نصف مالها عند موتها إذا ثبت للزوج نصف مالها عند موتها فوجب أن تكون زوجة له بعد موتها إذا ثبت هذا وجب أن يحل له غسلها لأنه قبل الزوجية ما كان يحل له غسلها وعند حصول الزوجية حل له غسلها والدوران دليل العلية ظاهرا وحجة أبي حنيفة أنها ليست زوجته ولا يحل له غسلها بيان عدم الزوجية أنها لو كانت زوجته لحل له بعد الموت وطؤها لقوله إِلاَّ عَلَى أَزْواجِهِمْ ( المؤمنون 6 ) وإذا ثبت هذا وجب أن لا يثبت حل الغسل لأنه لو ثبت لثبت اما مع حل النظر وهو باطل لقوله عليه السلام ( غض بصرك إلا عن زوجتك ) أو بدون حل النظر وهو باطل بالاجماع
والجواب لما تعارضت الآيتان في ثبوت الزوجية وعدمها وجب الترجيح فنقول لو لم تكن زوجة لكان قوله نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْواجُكُمْ مجازا ولو كانت زوجة مع أنه لا يحل وطؤها لزم التخصيص وقد ذكرنا في أصول الفقه أن التخصيص أولى فكان الترجيح من جانبنا وكيف وقد علمنا أن في صور كثيرة حصلت

الزوجية ولم يحصل حل الوطء مثل زمان الحيض والنفاس ومثل نهار رمضان وعند اشتغالها باداء الصلاة المفروضة والحج المفروض وعند كونها في العدة عن الوطء بالشبهة وأيضا فقد بينا في الخلافيات أن حل الوطء ثبت على خلاف الدليل لما فيه من المصالح الكثيرة فبعد الموت لم يبق شيء من تلك المصالح فعاد إلى أصل الحرمة أما حل الغسل فان ثبوته بعد الموت منشأ للمصالح الكثيرة فوجب القول ببقائه والله أعلم
المسألة الثالثة في الآية ما يدل على فضل الرجال على النساء لأنه تعالى حيث ذكر الرجال في هذه الآية ذكرهم على سبيل المخاطبة وحيث ذكر النساء ذكرهن على سبيل المغايبة وأيضا خاطب الله الرجال في هذه الآية سبع مرات وذكر النساء فيها على سبيل الغيبة أقل من ذلك وهذا يدل على تفضيل الرجال على النساء وما أحسن ما راعى هذه الدقيقة لأنه تعالى فضل الرجال على النساء في النصيب ونبه بهذه الدقيقة على مزيد فضلهم عليهن
قوله تعالى وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَة ً ءانٍ امْرَأَة ٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلّ واحِدٍ مّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُواْ أَكْثَرَ مِن ذالِكَ فَهُمْ شُرَكَاء فِى الثُّلُثِ مِن
اعلم أن هذه الآية في شرح توريث القسم الثالث من أقسام الورثة وهم الكلالة وهم الذين ينسبون إلى الميت بواسطة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى كثر أقوال الصحابة في تفسير الكلالة واختيار أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنها عبارة عمن سوى الوالدين والولد وهذا هو المختار والقول الصحيح وأما عمر رضي الله عنه فانه كان يقول الكلالة من سوى الولد وروي أنه لما طعن قال كنت أرى أن الكلالة من لا ولد له وأنا أستحيى أن أخالف أبا بكر الكلالة من عدا الوالد والولد وعن عمر فيه رواية أخرى وهي التوقف وكان يقول ثلاثة لأن يكون بينها الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لنا أحب الي من الدنيا وما فيها الكلالة والخلافة والربا والذي يدل على صحة قول الصديق رضي الله عنه وجوه الأول التمسك باشتقاق لفظ الكلالة وفيه وجوه الأول يقال كلت الرحم بين فلان وفلان إذا تباعدت القرابة وحمل فلان على فلان ثم كل عنه إذا تباعد فسميت القرابة البعيدة كلالة من هذا الوجه الثاني يقال كل الرجل يكل كلا وكلالة إذا أعيا وذهبت قوته ثم جعلوا هذا اللفظ استعارة من القرابة الحاصلة لا من جهة الولادة وذلك لانا بينا أن هذه القرابة حاصلة بواسطة الغير فيكون فيها ضعف وبهذا يظهر أنه يبعد ادخال الوالدين في الكلالة لأن انتسابهما إلى الميت بغير واسطة الثالث الكلالة في أصل اللغة عبارة عن الاحاطة ومنه الاكليل لاحاطته بالرأس ومنه الكل لاحاطته بما يدخل فيه ويقال تكلل السحاب إذا صار محيطا بالجوانب إذا عرفت هذا فنقول من عدا الوالد والولد إنما

سموا بالكلالة لأنهم كالدائرة المحيطة بالانسان وكالاكليل المحيط برأسه أما قرية الولادة فليست كذلك فان فيها يتفرع البعض عن البعض ويتولد البعض من البعض كالشيء الواحد الذي يتزايد على نسق واحد ولهذا قال الشاعر نسب تتابع كابراً عن كابر
كالرمح أنبوبا على أنبوب
فأما القرابة المغايرة لقرابة الولادة وهي كالاخوة والأخوات والأعمام والعمات فانما يحصل لنسبهم اتصال وإحاطة بالمنسوب اليه فثبت بهذه الوجوه الاشتقاقية أن الكلالة عبارة عمن عدا الوالدين والولد
الحجة الثانية أنه تعالى ما ذكر لفظ الكلالة في كتابه إلا مرتين في هذه السورة أحدهما في هذه الآية والثاني في آخر السورة وهو قوله قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِى الْكَلَالَة ِ إِن امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ ( النساء 176 ) واحتج عمر بن الخطاب بهذه الآية على أن الكلالة من لا ولد له فقط قال لأن المذكور ههنا في تفسير الكلالة هو أنه ليس له ولد إلا أنا نقول هذه الآية تدل على أن الكلالة من لا ولد له ولا والد وذلك لأن الله تعالى حكم بتوريث الاخوة والأخوات حال كون الميت كلالة ولا شك أن الاخوة والأخوات لا يرثون حال وجود الأبوين فوجب أن لا يكون الميت كلالة حال وجود الأبوين
الحجة الثانية انه تعالى ذكر حكم الولد والوالدين في الآيات المتقدمة ثم أتبعها بذكر الكلالة وهذا الترتيب يقتضي أن تكون الكلالة من عدا الوالدين والولد
الحجة الرابعة قول الفرزدق ورثتم قناة الملك لا عن كلالة
عن ابني مناف عبد شمس وهاشم
دل هذا البيت على أنهم ما ورثوا الملك عن الكلالة ودل على أنهم ورثوها عن آبائهم وهذا يوجب أن لا يكون الأب داخلا في الكلالة والله أعلم
المسألة الثانية الكلالة قد تجعل وصفا للوارث وللمورث فاذا جعلناها وصفا للوارث فالمراد من سوى الأولاد والوالدين واذا جعلناها وصفا للمورث فالمراد الذي يرثه من سوى الوالدين والأولاد أما بيان أن هذا اللفظ مستعمل في الوارث فالدليل عليه ما روى جابر قال مرضت مرضاً أشفيت منه على الموت فأتاني النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقلت يا رسول الله إني رجل لا يرثني إلا كلالة وأراد به أنه ليس له والد ولا ولد وأما أنه مستعمل في المورث فالبيت الذي رويناه عن الفرزدق فان معناه أنكم ما ورثتم الملك عن الأعمام بل عن الآباء فسمى العم كلالة وهو ههنا مورث لا وارث إذا عرفت هذا فنقول المراد من الكلالة في هذه الآية الميت الذي لا يختلف الوالدين والولد لأن هذا الوصف إنما كان معتبراً في الميت الذي هو المورث لا في الوارث الذي لا يختلف حاله بسب أن له ولدا أو والدا أم لا
المسألة الثالثة يقال رجل كلالة وامرأة كلالة وقوم كلالة لا يثنى ولا يجمع لأنه مصدر كالدلالة والوكالة
إذا عرفت هذا فنقول إذا جعلناها صفة للوارث أو المورث كان بمعنى ذي كلالة كما يقول فلان من قرابتي يريد من ذوي قرابتي قال صاحب ( الكشاف ) ويجوز أن يكون صفة كالهجاجة والفقاقة للأحمق

المسألة الرابعة قوله يُورَثُ فيه احتمالان الأول أن يكون ذلك مأخوذاً من ورثه الرجل يرثه وعلى هذا التقدير يكون الرجل هو الموروث منه وفي انتصاب كلالة وجوه أحدها النصب على الحال والتقدير يورث حال كونه كلالة والكلالة مصدر وقع موقع الحال تقديره يورث متكلل النسب وثانيها أن يكون قوله يُورَثُ صفة لرجل و كَلَالَة ً خبر كان والتقدير وإن كان رجل يورث منه كلالة وثالثها أن يكون مفعولا له أي يورث لأجل كونه كلالة
الاحتمال الثاني في قوله يُورَثُ أن يكون ذلك مأخوذا من أورث يورث وعلى هذا التقدير يكون الرجل هو الوارب وانتصاب كلالة على هذا التقدير أيضا يكون على الوجوه المذكورة
المسألة الخامسة قرأ الحسن وأبو رجاء العطاردي يورث ويورث بالتخفيف والتشديد على الفاعل
أما قوله تعالى وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلّ واحِدٍ مّنْهُمَا السُّدُسُ ففيه مسألتان
المسألة الأولى ههنا سؤال وهو أنه تعالى قال وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَة ً أَو امْرَأَة ٌ ثم قال وَلَهُ أَخٌ فكنى عن الرجل وما كنى عن المرأة فما السبب فيه
والجواب قال الفراء هذا جائز فانه إذا جاء حرفان في معنى واحد ( بأو ) جاز إسناد التفسير إلى أيهما أريد ويجوز إسناده إليهما أيضا تقول من كان له أخ أو أخت فليصله يذهب إلى الأخ أو فليصلها يذهب إلى الأخت وإن قلت فليصلهما جاز أيضا
المسألة الثانية أجمع المفسرون ههنا على أن المراد من الأخ والأخت الأخ والأخت من الأم وكان سعد بن أبي قاص يقرأ وله أخ أو أخت من أم وإنما حكموا بذلك لأنه تعالى قال في آخر السورة قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِى الْكَلَالَة ِ ( النساء 176 ) فأثبت للأختين الثلثين وللاخوة كل المال وههنا أثبت للاخوة والأخوات الثلث فوجب أن يكون المراد من الاخوة والأخوات ههنا غير الاخوة والأخوات في تلك الآية فالمراد ههنا الاخوة والأخوات من الأم فقط وهناك الاخوة والأخوات من الأب والأم أو من الأب
ثم قال تعالى مِن بَعْدِ وَصِيَّة ٍ يُوصِى بِهَا ( النساء 11 ) وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن ظاهر هذه الآية يقتضي جواز الوصية بكل المال وبأي بعض أريد ومما يوافق هذه الآية من الأحاديث ما روى نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما حق امرىء مسلم له مال يوصى به ثم تمضي عليه ليلتان إلا ووصيته مكتوبة عنده ) فهذا الحديث أيضا يدل على الاطلاق في الوصية كيف أريد إلا أنا نقول هذه العمومات مخصوصة من وجهين الأول في قدر الوصية فانه لا يجوز الوصية بكل المال بدلالة القرآن والسنة أما القرآن فالآيات الدالة على الميراث مجملا ومفصلا أما المجمل فقوله تعالى حَسِيباً لّلرّجَالِ نَصيِبٌ مّمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالاْقْرَبُونَ ( النساء 7 ) ومعلوم أن الوصية بكل المال تقتضي نسخ هذا النص وأما المفصل فهي آيات المواريث كقوله لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ ( النساء 11 ) ويدل عليه أيضا قوله تعالى وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّة ً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ ( النساء 9 ) وأما السنة فهي الحديث المشهور في هذا الباب وهو

قوله عليه الصلاة والسلام ( الثلث والثلث كثير إنك ان تترك ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس )
واعلم أن هذا الحديث يدل على أحكام أحدها أن الوصية غير جائزة في أكثر من الثلث وثانيها أن الأولى النقصان عن الثلث لقوله ( والثلث كثير ) وثالثها أنه إذا ترك القليل من المال وورثته فقراء فالأفضل له أن لا يوصي بشيء لقوله عليه الصلاة والسلام ( ان تترك ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس ) ورابعها فيه دلالة على جواز الوصية بجميع المال إذا لم يكن له وارث لأن المنع منه لأجل الورثة فعند عدمهم وجب الجواز
الوجه الثاني تخصيص عموم هذه الآية في الموصى له وذلك لأنه لا يجوز الوصية لوارث قال عليه الصلاة والسلام ( ألا لا وصية لوارث )
المسألة الثانية قال الشافعي رحمة الله عليه إذا أخر الزكاة والحج حتى مات يجب إخراجهما من التركة وقال أبو حنيفة رضي الله عنه لا يجب حجة الشافعي أن الزكاة الواجبة والحج الواحب دين فيجب اخراجه بهذه الآية وإنما قلنا إنه دين لأن اللغة تدل عليه والشرع أيضاً يدل عليه أما اللغة فهو أن الدين عبارة عن الأمر الموجب للانقياد قيل في الدعوات المشهورة يا من دانت له الرقاب أي انقادت وأما الشرع فلأنه روي أن الخثعمية لما سألت الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) عن الحج الذي كان على أبيها فقال عليه الصلاة والسلام ( أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان يجزىء فقالت نعم فقال عليه الصلاة والسلام فدين الله أحق أن يقضي ) إذا ثبت أنه دين وجب تقديمه على الميراث لقوله تعالى مِن بَعْدِ وَصِيَّة ٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ قال أبو بكر الرازي المذكور في الآية الدين المطلق والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) سمى الحج دينا لله والاسم المطلق لا يتناول المقيد
قلنا هذا في غاية الركاكة لأنه لما ثبت أن هذا دين وثبت بحكم الآية أن الدين مقدم على الميراث لزم المقصود لا محالة وحديث الاطلاق والتقييد كلام مهمل لا يقدح في هذا المطلوب والله أعلم
المسألة الثالثة اعلم أن قوله تعالى غَيْرَ مُضَارّ نصب على الحال أي يوصى بها وهو غير مضار لورثته
واعلم أن الضرار في الوصية يقع على وجوه أحدها أن يوصي بأكثر من الثلث وثانيها أن يقر بكل ماله أو ببعضه لأجنبي وثالثها أن يقر على نفسه بدين لا حقيقة له دفعا للميراث عن الورثة ورابعها أن يقر بأن الدين الذي كان له على غيره قد استوفاه ووصل اليه وخامسها أن يبيع شيئاً بثمن بخمس أو يشتري شيئاً بثمن غال كل ذلك لغرض أن لا يصل المال إلى الورثة وسادسها أن يوصي بالثلث لا لوجه الله لكن لغرض تنقيص حقوق الورثة فهذا هو وجه الاضرار في الوصية
واعلم أن العلماء قالوا الأولى أن يوصى بأقل من الثلث قال علي لأن أوصي بالخمس أحب إلى من الربع ولأن أوصي بالربع أحب إلي من أن أوصي بالثلث وقال النخعي قبض رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولم يوص وقبض أبو بكر فوصى فان أوصى الانسان فحسن وإن لم يوص فحسن أيضا

واعلم أن لأولى بالانسان أن ينظر في قدر ما يخلف ومن يخلف ثم يجعل وصيته بحسب ذلك فان كان ماله قليلا وفي الورثة كثرة لم يوص وإن كان في المال كثرة أوصى بحسب المال وبحسب حاجتهم بعده في القلة والكثرة والله أعلم
المسألة الرابعة روى عكرمة عن ابن عباس أنه قال الاضرار في الوصية من الكبائر واعلم أنه يدل على ذلك القرآن والسنة والمعقول أما القرآن فقوله تعالى تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ( النساء 13 ) قال ابن عباس في الوصية وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ( النساء 14 ) قال في الوصية وأما السنة فروى عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( الاضرار في الوصية من الكبائر ) وعن شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ان الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة سبعين سنة وجار في وصيته ختم له بشر عمله فيدخل النار وان الرجل ليعمل بعمل أهل النار سبعين سنة فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة ) وقال عليه الصلاة والسلام ( من قطع ميراثا فرضه الله قطع الله ميراثه من الجنة ) ومعلوم ان الزيادة في الوصية قطع من الميراث وأما المعقول فهو أن مخالفة أمر الله عند القرب من الموت يدل على جراءة شديدة على الله تعالى وتمرد عظيم عن الانقياد لتكاليفه وذلك من أكبر الكبائر
ثم قال تعالى وَصِيَّة ً مّنَ اللَّهِ وفيه سؤالان
السؤال الأول كيف انتصاب قوله وَصِيَّة ٍ
والجواب فيه من وجوه الأول أنه مصدر مؤكد أي يوصيكم الله بذلك وصية كقوله فَرِيضَة ً مّنَ اللَّهِ ( النساء 11 ) الثاني أن تكون منصوبة بقوله غَيْرَ مُضَارّ ( النساء 12 ) أي لا تضار وصية الله في أن الوصية يجب أن لا تزاد على الثلث الثالث أن يكون التقدير وصية من الله بالأولاد وأن لا يدعهم عالة يتكففون وجوه الناس بسبب الاسراف في الوصية وينصر هذا الوجه قراءة الحسن غير مضار وصية بالاضافة
السؤال الثاني لم جعل خاتمة الآية الأولى فَرِيضَة ً مّنَ اللَّهِ وخاتمة هذه الآية وَصِيَّة ً مّنَ اللَّهِ
الجواب ان لفظ الفرض أقوى وآكد من لفظ الوصية فختم شرح ميراث الأولاد بذكر الفريضة وختم شرح ميراث الكلالة بالوصية ليدل بذلك على أن الكل وان كان واجب الرعاية إلا أن القسم الأول وهو رعاية حال الأولاد أولى ثم قال وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ أي عليم بمن جار أو عدل في وصيته حَلِيمٌ على الجائر لا يعاجله بالعقوبة وهذا وعيد والله أعلم
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَرُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ

في الآية مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى بعد بيان سهام المواريث ذكر الوعد والوعيد ترغيبا في الطاعة وترهيبا عن المعصية فقال تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وفيه بحثان
البحث الأول ان قوله تِلْكَ إشارة إلى ماذا فيه قولان الأول أنه إشارة إلى أحوال المواريث
القول الثاني أنه إشارة الى كل ما ذكره من أول السورة الى ههنا من بيان أموال الأيتام وأحكام الأنكحة وأحوال المواريث وهو قول الأصم حجة القول الأول أن الضمير يعود الى أقرب المذكورات وحجة القول الثاني أن عوده الى الأقرب إذا لم يمنع من عوده الى الأبعد مانع يوجب عوده الى الكل
البحث الثاني أن المراد بحدود الله المقدرات التي ذكرها وبينها وحد الشيء طرفه الذي يمتاز به عن غيره ومنه حدود الدار والقول الدال على حقيقة الشيء يسمى حداً له لأن ذلك القول يمنع غيره من الدخول فيه وغيره هو كل ما سواه
المسألة الثانية قال بعضهم قوله وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وقوله وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مختص بمن أطاع أو عصى في هذه التكاليف المذكورة في هذه السورة وقال المحققون بل هو عام يدخل فيه هذا وغيره وذلك لأن اللفظ عام فوجب أن يتناول الكل أقصى ما في الباب ان هذا العام إنما ذكر عقيب تكاليف خاصة إلا أن هذا القدر لا يقتضي تخصيص العموم ألا ترى أن الوالد قد يقبل على ولده ويوبخه في أمر مخصوص ثم يقول احذر مخالفتي ومعصيتي ويكون مقصوده منعه من معصيته في جميع الأمور فكذا ههنا والله أعلم
المسألة الثالثة قرأ نافع وابن عامر إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا بالنون في الحرفين والباقون بالياء
أما الأول فعلى طريقة الالتفات كما في قوله بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ ثم قال سَنُلْقِى بالنون
وأما الثاني فوجهه ظاهر
المسألة الرابعة ههنا سؤال وهو أن قوله يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ إنما يليق بالواحد ثم قوله بعد ذلك خَالِدِينَ فِيهَا إنما يليق بالجمع فكيف التوفيق بينهما
الجواب أن كلمة ( من ) في قوله وَمَن يُطِعِ اللَّهَ مفرد في اللفظ جمع في المعنى فلهذا صح الوجهان
المسألة الخامسة انتصب ( خالدين ) ( وخالدا ) على الحال من الهاء في ( ندخله ) والتقدير ندخله خالدا في النار
المسألة السادسة قالت المعتزلة هذه الآية تدل على أن فساق أهل الصلاة يبقون مخلدين في النار وذلك لأن قوله وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ إما أن يكون مخصوصا بمن تعدى في الحدود التي

سبق ذكرها وهي حدود المواريث أو يدخل فيها ذلك وغيره وعلى التقديرين يلزم دخول من تعدى في المواريث في هذا الوعيد وذلك عام فيمن تعدى وهو من أهل الصلاة أو ليس من أهل الصلاة فدلت هذه الآية على القطع بالوعيد وعلى ان الوعيد مخلد ولا يقال هذا الوعيد مختص بمن تعدى حدود الله وذلك لا يتحقق إلا في حق الكافر فانه هو الذي تعدى جميع حدود الله فانا نقول هذا مدفوع من وجهين الأول انا لو حملنا هذه الآية على تعدي جميع حدود الله خرجت الآية عن الفائدة لأن الله تعالى نهى عن اليهودية والنصرانية والمجوسية فتعدى جميع حدوده هو أن يترك جميع هذه النواهي وتركها إنما يكون بأن يأتي اليهودية والمجوسية والنصرانية معا وذلك محال فثبت أن تعدى جميع حدود الله محال فلو كان المراد من الآية ذلك لخرجت الآية عن كونها مفيدة فعلمنا ان المراد منه أي حد كان من حدود الله الثاني هو أن هذه الآية مذكورة عقيب آيات قسمة المواريث فيكون المراد من قوله وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ تعدى حدود الله في الأمور المذكورة في هذه الآيات وعلى هذا التقدير يسقط هذا السؤال هذا منتهى تقرير المعتزلة وقد ذكرنا هذه المسألة على سبيل الاستقصاء في سورة البقرة ولا بأس بأن نعيد طرفا منها في هذا الموضع فنقول أجمعنا على أن هذا الوعيد مختص بعدم التوبة لأن الدليل دل على انه إذا حصلت التوبة لم يبق هذا الوعيد فكذا يجوز أن يكون مشروطا بعدم العفو فان بتقدير قيام الدلالة على حصول العف امتنع بقاء هذا الوعيد عند حصول العفو ونحن قد ذكرنا الدلائل الكثيرة على حصول العفو ثم نقول هذا العموم مخصوص بالكافر ويدل عليه وجهان الأول انا إذا قلنا لكم ما الدليل على أن كلمة ( من ) في معرض الشرط تفيد العموم قلتم الدليل عليه أنه يصح الاستثناء منه والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل فيه فنقول ان صح هذا الدليل فهو يدل على أن قوله وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مختص بالكافر لأن جميع المعاصي يصح استثناؤها من هذا اللفظ فيقال ومن يعص الله ورسوله إلا في الكفر والا في الفسق وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل فهذا يقتضي أن قوله وَمَن يَعْصِ اللَّهَ في جميع أنواع المعاصي والقبائح وذلك لا يتحقق إلا في حق الكافر وقوله الاتيان بجميع المعاصي محال لأن الاتيان باليهودية والنصرانية معا محال فنقول ظاهر اللفظ يقتضي العموم إلا إذا قام مخصص عقلي أو شرعي وعلى هذا التقدير يسقط سؤالهم ويقوى ما ذكرناه
الوجه الثاني في بيان أن هذه الآية مختصة بالكافر أن قوله وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يفيد كونه فاعلا للمعصية والذنب وقوله وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ لو كان المراد منه عين ذلك للزم التكرار وهو خلاف الأصل فوجب حمله على الكفر وقوله بأنا نحمل هذه الآية على تعدي الحدود المذكورة في المواريث
قلنا هب أنه كذلك إلا أنه يسقط ما ذكرناه من السؤال بهذا الكلام لأن التعدي في حدود المواريث تارة يكون بأن يعتقد أن تلك التكاليف والأحكام حق وواجبة القبول إلا أنه يتركها وتارة يكون بأن يعتقد أنها واقعة لا على وجه الحكمة والصواب فيكون هذا هو الغاية في تعدي الحدود وأما الأول فلا يكاد يطلق في حقه أنه تعدى حدود الله وإلا لزم وقوع التكرار كما ذكرناه فعلمنا أن هذا الوعيد مختص بالكافر الذي لا يرضى بما ذكره الله في هذه الآية من قسمة المواريث فهذا ما يختص بهذه الآية من المباحث وأما بقية الأسئلة فقد تقدم ذكرها في سورة البقرة والله أعلم

وَاللَاتِى يَأْتِينَ الْفَاحِشَة َ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعة ً مِّنْكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِى الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً
اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآيات المتقدمة الأمر بالاحسان الى النساء ومعاشرتهن بالجميل وما يتصل بهذا الباب ضم الى ذلك التغليظ عليهن فيما يأتينه من الفاحشة فان ذلك في الحقيقة إحسان إليهن ونظر لهن في أمر آخرتهن وأيضا ففيه فائدة أخرى وهو أن لا يجعل أمر الله الرجال بالاحسان إليهن سببا لترك إقامة الحدود عليهن فيصير ذلك سببا لوقوعهن في أنواع المفاسد والمهالك وأيضا فيه فائدة ثالثة وهي بيان أن الله تعالى كما يستوفي لخلقه فكذلك يستوفي عليهم وأنه ليس في أحكامه محاباة ولا بينه وبين أحد قرابة وأن مدار هذا الشرع الانصاف والاحتراز في كل باب عن طرفي الافراط والتفريط فقال وَاللَاتِى يَأْتِينَ الْفَاحِشَة َ مِن نّسَائِكُمْ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اللاتي جمع التي وللعرب في جمع ( التي ) لغات اللاتي واللات واللواتي واللوات قال أبو بكر الانباري العرب تقول في الجمع من غير الحيوان التي ومن الحيوان اللاتي كقوله أَمْوالَكُمُ الَّتِى جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وقال في هذه اللاتي واللائي والفرق هو أن الجمع من غير الحيوان سبيله سبيل الشيء الواحد وأما جمع الحيوان فليس كذلك بل كل واحدة منها غير متميزة عن غيرها بخواص وصفات فهذا هو الفرق ومن العرب من يسوي بين البابين فيقول ما فعلت الهندات التي من أمرها كذا وما فعلت الأثواب التي من قصتهن كذا والأول هو المختار
المسألة الثانية قوله يَأْتِينَ الْفَاحِشَة َ أي يفعلنها يقال أتيت أمرا قبيحا أي فعلته قال تعالى لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً ( مريم 27 ) وقال لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً ( مريم 89 ) وفي التعبير عن الاقدام على الفواحش بهذه العبارة لطيفة وهي أن الله تعالى لما نهى المكلف عن فعل هذه المعاصي فهو تعالى لا يعين المكلف على فعلها بل المكلف كأنه ذهب اليها من عند نفسه واختارها بمجرد طبعه فلهذه الفائدة يقال إنه جاء إلى تلك الفاحشة وذهب اليها إلا أن هذه الدقيقة لا تتم إلا على قول المعتزلة وفي قراءة ابن مسعود يأتين بالفاحشة وأما الفاحشة فهي الفعلة القبيحة وهي مصدر عند أهل اللغة كالعاقبة يقال فحش الرجل يفحش فحشا وفاحشة وأفحش إذا جاء بالقبيح من القول أو الفعل وأجمعوا على أن الفاحشة ههنا الزنا وإنما أطلق على الزنا اسم الفاحشة لزيادتها في القبح على كثير من القبائح
فان قيل الكفر أقبح منه وقتل النفس أقبح منه ولا يسمى ذلك فاحشة
قلنا السبب في ذلك أن القوى المدبرة لبدن الانسان ثلاثة القوة الناطقة والقوة الغضبية والقوة

الشهوانية ففساد القوة الناطقة هو الكفر والبدعة وما يشبههما وفساد القوة الغضبية هو القتل والغضب وما يشبههما وفساد القوة الشهوانية هو الزنا واللواط والسحق وما أشبهها وأخس هذه القوى الثلاثة القوة الشهوانية فلا جرم كان فسادها أخس أنواع الفساد فلهذا السبب خص هذا العمل بالفاحشة والله أعلم بمراده
المسألة الثالثة في المراد بقوله وَاللَاتِى يَأْتِينَ الْفَاحِشَة َ مِن نّسَائِكُمْ قولان الأول المراد منه الزنا وذلك لأن المرأة إذا نسبت إلى الزنا فلا سبيل لأحد عليها إلا بأن يشهد أربعة رجال مسلمون على أنها ارتكبت الزنا فاذا شهدوا عليها أمسكت في بيت محبوسة إلى أن تموت أو يجعل الله لهن سبيلا وهذا قول جمهور المفسرين
والقول الثاني وهو اختيار أبي مسلم الأصفهاني أن المراد بقوله وَاللَاتِى يَأْتِينَ الْفَاحِشَة َ السحاقات وحدهن الحبس إلى الموت وبقوله وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ ( النساء 16 ) أهل اللواط وحدهما الأذى بالقول والفعل والمراد بالآية المذكورة في سورة النور الزنا بين الرجل والمرأة وحده في البكر الجلد وفي المحصن الرجم واحتج ابو مسلم عليه بوجوه الأول أن قوله وَاللَاتِى يَأْتِينَ الْفَاحِشَة َ مِن نّسَائِكُمْ مخصوص بالنسوان وقوله وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ مخصوص بالرجال لأن قوله وَاللَّذَانَ تثنية الذكور
فان قيل لم لا يجوز أن يكون المراد بقوله وَاللَّذَانَ الذكر والأنثى إلا أنه غلب لفظ المذكر
قلنا لو كان كذلك لما أفرد ذكر النساء من قبل فلما أفرد ذكرهن ثم ذكر بعد قوله وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ سقط هذا الاحتمال الثاني هو أن على هذا التقدير لا يحتاج إلى التزام النسخ في شيء من الآيات بل يكون حكم كل واحدة منها باقيا مقرراً وعلى التقدير الذي ذكرتم يحتاج إلى التزام النسخ فكان هذا القول أولى والثالث أن على الوجه الذي ذكرتم يكون قوله وَاللَاتِى يَأْتِينَ الْفَاحِشَة َ في الزنا وقوله وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ يكون أيضا في الزنا فيفضي إلى تكرار الشيء الواحد في الموضع الواحد مرتين وإنه قبيح وعلى الوجه الذي قلناه لا يفضي إلى ذلك فكان أولى الرابع أن القائلين بأن هذه الآية نزلت في الزنا فسروا قوله أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً بالرجم والجلد والتغريب وهذا لا يصح لأن هذه الأشياء تكون عليهن لا لهن قال تعالى لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ( البقرة 286 ) وأما نحن فانا نفسر ذلك بأن يسهل الله لها قضاء الشهوة بطريق النكاح ثم قال أبو مسلم ومما يدل على صحة ما ذكرناه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان وإذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان ) واحتجوا على إبطال كلام أبي مسلم بوجوه الأول أن هذا قول لم يقله أحد من المفسرين المتقدمين فكان باطلا والثاني أنه روي في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قال ( قد جعل الله لهن سبيلا الثيب ترجم والبكر تجلد ) وهذا يدل على أن هذه الآية نازلة في حق الزناة الثالث أن الصحابة اختلفوا في أحكام اللواط ولم يتمسك أحد منهم بهذه الآية فعدم تمسكهم بها مع شدة احتياجهم إلى نص يدل على هذا الحكم من أقوى الدلائل على أن هذه الآية ليست في اللواطة
والجواب عن الأول أن هذا اجماع ممنوع فلقد قال بهذا القول مجاهد وهو من أكابر المفسرين ولأنا بينا في أصول الفقه أن استنباط تأويل جديد في الآية لم يذكره المتقدمون جائز

والجواب عن الثاني أن هذا يقتضي نسخ القرآن بخبر الواحد وإنه غير جائز
والجواب عن الثالث أن مطلوب الصحابة أنه هل يقام الحد على اللوطي وليس في هذه الآية دلالة على ذلك بالنفي ولا بالاثبات فلهذا لم يرجعوا إليها
المسألة الرابعة زعم جمهور المفسرين أن هذه الآية منسوخة وقال أبو مسلم إنها غير منسوخة أما المفسرون فقد بنوا هذا على أصلهم وهو أن هذه الآية في بيان حكم الزنا ومعلوم أن هذا الحكم لم يبق وكانت الآية منسوخة ثم القائلون بهذا القول اختلفوا أيضا على قولين فالأول أن هذه الآية صارت منسوخة بالحديث وهو ما روى عبادة بن الصامت أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر والثيب بالثيب البكر تجلد وتنفى والثيب تجلد وترجم ) ثم ان هذا الحديث صار منسوخا بقوله تعالى الزَّانِيَة ُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَة َ جَلْدَة ٍ ( النور 2 ) وعلى هذا الطريق يثبت أن القرآن قد ينسخ بالسنة وأن السنة قد تنسخ بالقرآن خلاف قول الشافعي لا ينسخ واحد منهما بالآخر
والقول الثاني أن هذه الآية صارت منسوخة بآية الجلد
واعلم أن أبا بكر الرازي لشدة حرصه على الطعن في الشافعي قال القول الأول أولى لأن آية الجلد لو كانت متقدمة على قوله ( خذوا عني ) فائدة فوجب أن يكون قوله ( خذوا عني ) متقدما على آية الجلد وعلى هذا التقدير تكون آية الحبس منسوخة بالحديث ويكون الحديث منسوخا بآية الجلد فحينئذ ثبت أن القرآن والسنة قد ينسخ كل واحد منهما بالآخر
واعلم أن كلام الرازي ضعيف من وجهين الأول ما ذكره أبو سليمان الخطابي في معالم السنن فقال لم يحصل النسخ في هذه الآية ولا في هذا الحديث ألبتة وذلك لأن قوله تعالى فَأَمْسِكُوهُنَّ فِى الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً يدل على أن امساكهن في البيوت ممدود إلى غاية أن يجعل الله لهن سبيلا وذلك السبيل كان مجملا فلما قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( خذوا عني الثيب ترجم والبكر تجلد وتنفى ) صار هذا الحديث بياناً لتلك الآية لا ناسخا لها وصار أيضا مخصصا لعموم قوله تعالى الزَّانِيَة ُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَة َ جَلْدَة ٍ ( النور 2 ) ومن المعلوم أن جعل هذا الحديث بيانا لاحدى الآيتين ومخصصا للآية الأخرى أولى من الحكم بوقوع النسخ مراراً وكيف وآية الحبس مجملة قطعا فانه ليس في الآية ما يدل على أن ذلك السبيل كيف هو فلا بد لها من المبين وآية الجلد مخصوصة ولا بد لها من المخصص فنحن جعلنا هذا الحديث مبينا لآية الحبس مخصصا لآية الجلد وأما على قول أصحاب أبي حنيفة فقد وقع النسخ من ثلاثة أوجه الأول آية الحبس صارت منسوخة بدلائل الرجم فظهر أن الذي قلناه هو الحق الذي لا شك فيه
الوجه الثاني في دفع كلام الرازي انك تثبت أنه لا يجوز أن تكون آية الجلد متقدمة على قوله ( خذوا عني ) فلم قلت انه يجب أن تكون هذه الآية متأخرة عنه ولم لا يجوز أن يقال إنه لما نزلت هذه الآية ذكر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك وتقديره أن قوله الزَّانِيَة ُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَة َ جَلْدَة ٍ مخصوص بالاجماع في حق الثيب المسلم وتأخير بيان المخصص عن العام المخصوص غير جائز عندك وعند أكثر المعتزلة لما أنه يوهم التلبيس واذا كان كذلك فثبت أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إنما قال ذلك مقارنا لنزول قوله الزَّانِيَة ُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَة َ جَلْدَة ٍ وعلى هذا التقدير سقط قولك ان الحديث كان متقدما على آية الجلد هذا كله تفريع على قول من يقول هذه الآية أعني آية الحبس نازلة في حق الزناة

فثبت أن على هذا القول لم يثبت الدليل كونها منسوخة وأما على قول أبي مسلم الأصفهاني فظاهر أنها غير منسوخة والله أعلم
المسألة الخامسة القائلون بأن هذه الآية نازلة في الزنا يتوجه عليهم سؤالات
السؤال الأول ما المراد من قوله مّن نِّسَائِكُمُ
الجواب فيه وجوه أحدها المراد من زوجاتكم كقوله وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نّسَائِهِمْ ( المجادلة 3 ) وقوله مّن نِّسَائِكُمُ اللَّاتِى دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ( النساء 23 ) وثانيها من نسائكم أي من الحرائر كقوله وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مّن رّجَالِكُمْ ( البقرة 282 ) والغرض بيان أنه لا حد على الاماء وثالثها من نسائكم أي من المؤمنات ورابعها من نسائكم أي من الثيبات دون الأبكار
السؤال الثاني ما معنى قوله فَأَمْسِكُوهُنَّ فِى الْبُيُوتِ
الجواب فخلدوهن محبوسات في بيوتكم والحكمة فيه ان المرأة إنما تقع في الزنا عند الخروج والبروز فاذا حبست في البيت لم تقدر على الزنا وإذا استمرت على هذه الحالة تعودت العفاف والفرار عن الزنا
السؤال الثالث ما معنى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ والموت والتوفي بمعنى واحد فصار في التقدير أو يميتهن الموت
الجواب يجوز أن يراد حتى يتوفاهن ملائكة الموت كقوله الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَة ُ ( النحل 38 قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ ( السجدة 11 ) أو حتى يأخذهن الموت ويستوفي أرواحهن
السؤال الرابع انكم تفسرون قوله أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً بالحديث وهو قوله عليه الصلاة والسلام ( قد جعل الله لهن سبيلا البكر تجلد والثيب ترجم ) وهذا بعيد لأن هذا السبيل عليها لا لها فان الرجم لا شك أنه أغلظ من الحبس
والجواب أن النبي عليه الصلاة والسلام فسر السبيل بذلك فقال ( خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا الثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ) ولما فسر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) السبيل بذلك وجب القطع بصحته وأيضا له وجه في اللغة فان المخلص من الشيء هو سبيل له سواء كان أخف أو أثقل
( 16 )
وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَأاذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً
في الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير وَاللَّذَانَ مشددة النون والباقون بالتخفيف وأما أبو عمرو فانه

وافق ابن كثير في قوله الرَّهْبِ فَذَانِكَ أما وجه التشديد قال ابن مقسم إنما شدد ابن كثير هذه النونات لأمرين أحدهما الفرق بين تثنية الأسماء المتمكنة وغير المتمكنة والآخر أن ( الذي وهذا ) مبنيان على حرف واحد وهو الذال فأرادوا تقوية كل واحد منهما بأن زادوا على نونها نونا أخرى من جنسها وقال غيره سبب التشديد فيها ان النون فيها ليست نون التثنية فأراد أن يفرق بينها وبين نون التثنية وقيل زادوا النون تأكيدا كما زادوا اللام وأما تخصيص أبي عمرو التعويض في المبهمة دون الموصولة فيشبه أن يكون ذلك لما رأى من أن الحذف للمبهمة ألزم فكان استحقاقها العوض أشد
المسألة الثانية الذين قالوا ان الآية الأولى في الزناة قالوا هذه الآية أيضا في الزناة فعند هذا اختلفوا في أنه ما السبب في هذا التكرير وما الفائدة فيه وذكروا فيه وجوها الأول أن المراد من قوله وَاللَاتِى يَأْتِينَ الْفَاحِشَة َ مِن نّسَائِكُمْ ( النساء 15 ) المراد منه الزواني والمراد من قوله وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ الزناة ثم انه تعالى خص الحبس في البيت بالمرأة وخص الايذاء بالرجل والسبب فيه أن المرأة إنما تقع في الزنا عند الخروج والبروز فاذا حبست في البيت انقطعت مادة هذه المعصية وأما الرجل فانه لا يمكن حبسه في البيت لأنه يحتاج إلى الخروج في إصلاح معاشه وترتيب مهماته واكتساب قوت عياله فلا جرم جعلت عقوبة المرأة الزانية الحبس في البيت وجعلت عقوبة الرجل الزاني أن يؤذى فاذا تاب ترك إيذاؤه ويحتمل أيضاً أن يقال إن الايذاء كان مشتركا بين الرجل والمرأة والحبس كان من خواص المرأة فاذا تابا أزيل الايذاء عنهما وبقي الحبس على المرأة وهذا أحسن الوجوه المذكورة الثاني قال السدي المراد بهذه الآية البكر من الرجل والنساء وبالآية الأولى الثيب وحينئذ يظهر التفاوت بين الآيتين قالوا ويدل على هذا التفسير وجوه الأول أنه تعالى قال وَاللَاتِى يَأْتِينَ الْفَاحِشَة َ مِن نّسَائِكُمْ فأضافهن إلى الأزواج والثاني أنه سماهن نساء وهذا الاسم أليق بالثيب والثالث أن الأذى أخف من الحبس في البيت والأخف للبكر دون الثيب والرابع قال الحسن هذه الآية نزلت قبل الآية المتقدمة والتقدير واللذان يأتيان الفاحشة من النساء والرجال فآذوهما فان تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما ثم نزل قوله فَأَمْسِكُوهُنَّ فِى الْبُيُوتِ ( النساء 15 ) يعني إن لم يتوبا وأصرا على هذا الفعل القبيح فأمسكوهن في البيوت إلى أن يتبين لكم أحوالهن وهذا القول عندي في غاية البعد لأنه يوجب فساد الترتيب في هذه الآيات الخامس ما نقلناه عن أبي مسلم أن الآية الأولى في السحاقات وهذه في أهل اللواط وقد تقدم تقريره والسادس أن يكون المراد هو أنه تعالى بين في الآية الأولى أن الشهداء على الزنا لا بد وأن يكونوا أربعة فبين في هذه الآية أنهم لو كانوا شاهدين فآذوهما وخوفوهما بالرفع إلى الامام والحد فان تابا قبل الرفع إلى الامام فاتركوهما
المسألة الثالثة اتفقوا على أنه لا بد في تحقيق هذا الايذاء من الايذاء باللسان وهو التوبيخ والتعيير مثل أن يقال بئس ما فعلتما وقد تعرضتما لعقاب الله وسخطه وأخرجتما أنفسكما عن اسم العدالة وأبطلتما عن أنفسكما أهلية الشهادة واختلفوا في أنه هل يدخل فيه الضرب فعن ابن عباس أنه يضرب بالنعال والأول أولى لأن مدلول النص إنما هو الايذاء وذلك حاصل بمجرد الايذاء باللسان ولا يكون في النص دلالة على الضرب فلا يجوز المصير اليه
ثم قال تعالى فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا يعني فاتركوا ايذاءهما

ثم قال إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً معنى التواب أنه يعود على عبده بفضله ومغفرته إذا تاب اليه من ذنبه وأما قوله كَانَ تَوبَا فقد تقدم الوجه فيه

بداية الجزء العاشر من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32

إِنَّمَا التَّوْبَة ُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَة ٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَائِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً
اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية الأولى أن المرتكبين للفاحشة إذا تابا وأصلحا زال الاذى عنهما وأخبر على الاطلاق أيضا أنه تواب رحيم ذكر وقت التوبة وشرطها ورغبهم في تعجيلها لئلا يأتيهم الموت وهم مصرون فلا تنفعهم التوبة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أما حقيقة التوبة فقد ذكرناها في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ البقرة 54 ) واحتج القاضي على أنه يجب على الله عقلا قبول التوبة بهذه الآية من وجهين الأول ان كلمة ( على ) للوجوب فقوله إِنَّمَا التَّوْبَة ُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يدل على أنه يجب على الله عقلا قبولها الثاني لو حملنا قوله إِنَّمَا التَّوْبَة ُ عَلَى عَلَى اللَّهِ على مجرد القبول لم يبق بينه وبين قوله فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فرق لأن هذا أيضا إخبار عن الوقوع أما إذا حملنا ذلك على وجوب القبول وهذا على الوقوع يظهر الفرق بين الآيتين ولا يلزم التكرار
واعلم أن القول بالوجوب على الله باطل ويدل عليه وجوه الأول أن لازمة الوجوب استحقاق الذم عند الترك فهذه اللازمة اما أن تكون ممتنعة الثبوت في حق الله تعالى أو غير ممتنعة في حقه والأول باطل لأن ترك ذلك الواجب لما كان مستلزما لهذا الذم وهذا الذم محال الثبوت في حق الله تعالى وجب أن يكون ذلك الترك ممتنع الثبوت في حق الله وإذا كان الترك ممتنع الثبوت عقلا كان الفعل واجب الثبوت فحينئذ يكون الله تعالى موجبا بالذات لا فاعلا بالاختيار وذلك باطل وأما ان كان استحقاق الذم غير ممتنع الحصول في حق الله تعالى فكل ما كان ممكنا لا يلزم من فرض وقوعه محال فيلزم جواز أن يكون الاله مع كونه إلها يكون موصوفا باستحقاق الذم وذلك محال لا يقوله عاقل ولما بطل هذان القسمان ثبت أن القول بالوجوب على الله تعالى باطل
الحجة الثانية أن قادرية العبد بالنسبة إلى فعل التوبة وتركها إما أن يكون

على السوية أولا يكون على السوية فان كان على السوية لم يترجح فعل التوبة على تركها إلا لمرجح ثم ذلك المرجح إن حدث لا عن محدث لزم نفي الصانع وإن حدث عن العبد عاد التقسيم وإن حدث عن الله فحينئذ العبد إنما أقدم على التوبة بمعونة الله وتقويته فتكون تلك التوبة إنعاما من الله تعالى على عبده وإنعام المولى على عبده لا يوجب عليه أن ينعم عليه مرة أخرى فثبت أن صدور التوبة عن العبد لا يوجب على الله القبول وأما إن كانت قادرية العبد لا تصلح للترك والفعل فحينئذ يكون الجبر ألزم وإذا كان كذلك كان القول بالوجوب أظهر بطلانا وفسادا
الحجة الثالثة التوبة عبارة عن الندم على ما مضى والعزم على الترك في المستقبل والندم والعزم من باب الكراهات والارادات والكراهة والارادة لا يحصلان باختيار العبد وإلا افتقر في تحصيلهما إلى إرادة أخرى ولزم التسلسل وإذا كان كذلك كان حصول هذا الندم وهذا العزم بمحض تخليق الله تعالى وفعل الله لا يوجب على الله فعلا آخر فثبت أن القول بالوجوب باطل
الحجة الرابعة أن التوبة فعل يحصل باختيار العبد على قولهم فلو صار ذلك علة للوجوب على الله لصار فعل العبد مؤثراً في ذات الله وفي صفاته وذلك لا يقوله عاقل
فأما الجواب عما احتجوا به فهو أنه تعالى وعد قبول التوبة من المؤمنين فاذا وعد الله بشيء وكان الخلف في وعده محالا كان ذلك شبيها بالواجب فبهذا التأويل صح اطلاق كلمة ( على ) وبهذا الطريق ظهر الفرق بين قوله إِنَّمَا التَّوْبَة ُ عَلَى اللَّهِ وبين قوله فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
إن قيل فلما أخبر عن قبول التوبة وكل ما أخبر الله عن وقوعه كان واجب الوقوع فيلزمكم أن لا يكون فاعلا مختارا
قلنا الاخبار عن الوقوع تبع للوقوع والوقوع تبع للايقاع والتبع لا يغير الأصل فكان فاعلا مختارا في ذلك الايقاع أما أنتم تقولون بأن وقوع التوبة من حيث أنها هي تؤثر في وجوب القبول على الله تعالى وذلك لا يقوله عاقل فظهر الفرق
المسألة الثانية أنه تعالى شرط قبول هذه التوبة بشرطين أحدهما قوله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوء بِجَهَالَة ٍ وفيه سؤالان أحدهما أن من عمل ذنبا ولم يعلم أنه ذنب لم يستحق عقابا لأن الخطأ مرفوع عن هذه الأمة فعلى هذا الذين يعملون السوء بجهالة فلا حاجة بهم الى التوبة والسؤال الثاني أن كلمة ( إنما ) للحصر فظاهر هذه الآية يقتضي أن من أقدم على السوء مع العلم بكونه سوأ أن لا تكون توبته مقبولة وذلك بالاجماع باطل
والجواب عن السؤال الأول أن اليهودي اختار اليهودية وهو لا يعلم كونها ذنبا مع أنه يستحق العقاب عليها
والجواب عن السؤال الثاني أن من أتى بالمعصية مع الجهل بكونها معصية يكون حاله أخف ممن أتى بها مع العلم بكونها معصية واذا كان كذلك لا جرم خص القسم الأول بوجوب قبول التوبة وجوبا على سبيل الوعد والكرم وأما القسم الثاني فلما كان ذنبهم أغلظ لا جرم لم يذكر فيهم هذا التأكيد في قبول

التوبة فتكون هذه الآية دالة من هذا الوجه على أن قبول التوبة غير واجب على الله تعالى
واذا عرفت الجواب عن هذين السؤالين فلنذكر الوجوه التي ذكرها المفسرون في تفسير الجهالة
الأول قال المفسرون كل من عصى الله سمي جاهلا وسمي فعله جهالة قال تعالى إخبارا عن يوسف عليه السلام أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مّنَ الْجَاهِلِينَ ( يوسف 33 ( وقال حكاية عن يوسف عليه السلام أنه قال لأخوته هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ ( يوسف 89 ) وقال تعالى قَالَ يانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ( هود 46 ) وقال تعالى إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَة ً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ( البقرة 67 ) وقد يقول السيد لعبده حال ما يذمه على فعل ياجاهل لم فعلت كذا وكذا والسبب في إطلاق اسم الجاهل على العاصي لربه أنه لو استعمل ما معه من العلم بالثواب والعقاب لما أقدم على المعصية فلما لم يستعمل ذلك العلم صار كأنه لا علم له فعلى هذا الطريق سمي العاصي لربه جاهلا وعلى هذا الوجه يدخل فيه المعصية سواء أتى بها الانسان مع العلم بكونهامعصية أو مع الجهل بذلك
والوجه الثاني في تفسير الجهالة أن يأتي الانسان بالمعصية مع العلم بكونها معصية إلا أن يكون جاهلا بقدر عقابه وقد علمنا أن الانسان إذا أقدم على ما لا ينبغي مع العلم بأنه مما لا ينبغي إلا أنه لا يعلم مقدار ما يحصل في عاقبته من الآفات فانه يصح أن يقال على سبيل المجاز انه جاهل بفعله
والوجه الثالث أن يكون المراد منه أن يأتي الانسان بالمعصية مع أنه لا يعلم كونه معصية لكن بشرط أن يكون متمكنا من العلم بكونه معصية فانه على هذا التقدير يستحق العقاب ولهذا المعنى أجمعنا على أن اليهودي يستحق على يهوديته العقاب وإن كان لا يعلم كون اليهودية معصية إلا أنه لما كان متمكنا من تحصيل العلم بكون اليهودية ذنبا ومعصية كفى ذلك في ثبوت استحقاق العقاب ويخرج عما ذكرنا النائم والساهي فانه أتى بالقبيح ولكنه ما كان متمكنا من العلم بكونه قبيحا وهذا القول راجح على غيره من حيث أن لفظ الجهالة في الوجهين الأولين محمول على المجاز وفي هذا الوجه على الحقيقة إلا أن على هذا الوجه لا يدخل تحت الآية إلا من عمل القبيح وهو لا يعلم قبحه أما المتعمد فانه لا يكون داخلا تحت الآية وإنما يعرف حاله بطريق القياس وهو أنه لما كانت التوبة على هذا الجاهل واجبة فلأن تكون واجبة على العامد كان ذلك أولى فهذا هو الكلام في الشرط الأول من شرائط التوبة وأما الشرط الثاني فهو قوله ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ وقد أجمعوا على أن المراد من هذا القرب حضور زمان الموت ومعاينة أهواله وإنما سمى تعالى هذه المدة قريبة لوجوه أحدها أن الأجل آت وكل ما هو آت قريب وثانيها للتنبيه على أن مدة عمر الانسان وإن طالت فهي قليلة قريبة فانها محفوفة بطرفي الأزل والأبد فاذا قسمت مدة عمرك إلى ما على طرفيها صار كالعدم وثالثها أن الانسان يتوقع في كل لحظة نزول الموت به وما هذا حاله فانه يوصف بالقرب
فان قيل ما معنى ( من ) في قوله مِن قَرِيبٍ
الجاب أنه لابتداء الغاية أي يجعل مبتدأ توبته زمانا قريبا من المعصية لئلا يقع في زمرة المصرين فأما من تاب بعد المعصية بزمان بعيد وقبل الموت بزمان بعيد فانه يكون خارجا عن المخصوصين بكرامة حتم

قبول التوبة على الله بقوله إِنَّمَا التَّوْبَة ُ عَلَى اللَّهِ وبقوله فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ومن لم تقع توبته على هذا الوجه فانه يكفيه أن يكون من جملة الموعودين بكلمة ( عسى ) في قوله عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ( التوبة 102 ) ولا شك أن بين الدرجتين من التفاوت ما لا يخفى وقيل معناه التبعيض أي يتوبون بعض زمان قريب كأنه تعالى سمى ما بين وجود المعصية وبين حضور الموت زمانا قريبا ففي أي جزء من أجزاء هذا الزمان أتى بالتوبة فهو تائب من قريب وإلا فهو تائب من بعيد
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذين الشرطين قال فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
فان قيل فما فائدة قوله فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بعد قوله إِنَّمَا التَّوْبَة ُ عَلَى اللَّهِ
قلنا فيه وجهان الأول أن قوله إِنَّمَا التَّوْبَة ُ عَلَى اللَّهِ إعلام بأنه يجب على الله قبولها وجوب الكرم والفضل والاحسان لا وجوب الاستحقاق وقوله فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ إخبار بأنه سيفعل ذلك والثاني أن قوله إِنَّمَا التَّوْبَة ُ عَلَى اللَّهِ يعني إنما الهداية الى التوبة والارشاد اليها والاعانة عليها على الله تعالى في حق من أتى بالذنب على سبيل الجهالة ثم تاب عنها عن قريب وترك الاصرار عليها وأتى بالاستغفار عنها ثم قال فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ يعني أن العبد الذي هذا شأنه إذا أتى بالتوبة قبلها الله منه فالمراد بالأول التوفيق على التوبة وبالثاني قبول التوبة
ثم قال وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً أي وكان الله عليما بأنه إنما أتى بتلك المعصية لاستيلاء الشهوة والغضب والجهالة عليه حكيما بأن العبد لما كان من صفته ذلك ثم إنه تاب عنها من قريب فانه يجب في الكرم قبول توبته
وَلَيْسَتِ التَّوْبَة ُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّى تُبْتُ الاٌّ نَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَائِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً
اعلم أنه تعالى لما ذكر شرائط التوبة المقبولة أردفها بشرح التوبة التي لا تكون مقبولة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى الآية دالة على أن من حضره الموت وشاهد أهواله فان توبته غير مقبولة وهذه المسألة مشتملة على بحثين
البحث الأول الذي يدل على أن توبة من وصفنا حاله غير مقبولة وجوه الأول هذه الآية وهي صريحة في المطلوب الثاني قوله تعالى فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا ( غافر 85 ) الثالث قال في صفة فرعون حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ ءامَنتُ أَنَّهُ لا إِلِاهَ إِلاَّ الَّذِى ءامَنَتْ بِهِ بَنواْ إِسْراءيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ

ءالئَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ( يونس 90 91 ) فلم يقبل الله توبته عند مشاهدة العذاب ولو أنه أتى بذلك الايمان قبل تلك الساعة بلحظة لكان مقبولا الرابع قوله تعالى حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبّ ارْجِعُونِ لَعَلّى أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَة ٌ هُوَ قَائِلُهَا ( المؤمنون 99 100 ) الخامس قوله تعالى وَأَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِى َ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبّ لَوْلا أَخَّرْتَنِى إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مّنَ الصَّالِحِينَ وَلَن ( المنافقون 10 11 ) فأخبر تعالى في هذه الآيات أن التوبة لا تقبل عند حضور الموت السادس روى أبو أيوب عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر أي ما لم تتردد الروح في حلقه وعن عطاء ولو قبل موته بفواق الناقة وعن الحسن أن ابليس قال حين أهبط إلى الأرض وعزتك لا أفارق ابن آدم ما دامت روحه في جسده فقال وعزتي لا أغلق عليه باب التوبة ما لم يغرغر
واعلم أن قوله حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ ( النساء 18 ) أي علامات نزول الموت وقربه وهو كقوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ( البقرة 180 )
البحث الثاني قال المحققون قرب الموت لا يمنع من قبول التوبة بل المانع من قبول التوبة مشاهدة الأحوال التي عندها يحصل العلم بالله تعالى على سبيل الاضطرار وإنما قلنا إن نفس القرب من الموت لا يمنع من قبول التوبة لوجوه الأول أن جماعة أماتهم الله تعالى ثم أحياهم مثل قوم من بنى إسرائيل ومثل أولاد أيوب عليه السلام ثم إنه تعالى كلفهم بعد ذلك الاحياء فدل هذا على أن مشاهدة الموت لا تخل بالتكليف الثاني أن الشدائد التي يلقاها من يقرب موته تكون مثل الشدائد الحاصلة عند القولنج ومثل الشدائد التي تلقاها المرأة عند الطلق أو أزيد منها فاذا لم تكن هذه الشدائد مانعة من بقاء التكليف فكذا القول في تلك الشدائد الثالث أن عند القرب من الموت إذا عظمت الآلام صار اضطرار العبد أشد وهو تعالى يقول أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ ( النمل 62 ) فتزايد الآلام في ذلك الوقت بأن يكون سببا لقبول التوبة أولى من أين يكون سبباً لعدم قبول التوبة فثبت بهذه الوجوه أن نفس القرب من الموت ونفس تزايد الآلام والمشاق لا يجوز أن يكون مانعاً من قبول التوبة ونقول المانع من قبول التوبة أن الانسان عند القرب من الموت إذا شاهد أحوالا وأهوالا صارت معرفته بالله ضرورية عند مشاهدته تلك الأهوال ومتى صارت معرفته بالله ضرورية سقط التكليف عنه ألا ترى أن أهل الآخرة لما صارت معارفهم ضرورية سقط التكليف عنهم وإن لم يكن هناك موت ولا عقاب لأن توبتهم عند الحشر والحساب وقبل دخول النار لا تكون مقبولة
واعلم أن ههنا بحثا عميقاً أصوليا وذلك لأن أهل القيامة لا يشاهدون إلا أنهم صاروا أحياء بعد أن كانوا أمواتا ويشاهدون أيضا النار العظيمة وأصناف الأهوال وكل ذلك لا يوجب أن يصير العلم بالله ضروريا لأن العلم بأن حصول الحياة بعد أن كانت معدومة يحتاج إلى الفاعل علم نظري عند أكثر شيوخ المعتزلة وبتقدير أن يقال هذا العلم ضروري لكن العلم بأن الاحياء لا يصح من غير الله لا شك أنه نظري وأما العلم بأن فاعل تلك النيران العظيمة ليس إلا الله فهذا أيضا استدلالي فكيف يمكن ادعاء أن أهل الآخرة لأجل مشاهدة أهوالها يعرفون الله بالضرورة ثم هب أن الأمر كذلك فلم قلتم بأن العلم بالله إذا كان

ضروريا منع من صحة التكليف وذلك أن العبد مع علمه الضروري بوجود الاله المثيب المعاقب قد يقدم على المعصية لعلمه بأنه كريم وأنه لا ينفعه طاعة العبد ولا يضره ذنبه وإذا كان الأمر كذلك فلم قالوا بأن هذا يوجب زوال التلكيف وأيضا فهذا الذي يقوله هؤلاء المعتزلة من أن العلم بالله في دار التكليف يجب أن يكون نظريا فاذا صار ضروريا سقط التكليف كلام ضعيف لأن من حصل في قلبه العلم بالله إن كان تجويز نقيضه قائما في قلبه فهذا يكون ظنا لا علما وإن لم يكن تجويز نقيضه قائما امتنع أن يكون علم آخر أقوى منه وآكد منه وعلى هذا التقدير لا يبقى ألبتة فرق بين العلم الضروري وبين العلم النظري فثبت أن هذه الأشياء التي تذكرها المعتزلة كلمات ضعيفة واهية وأنه تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فهو بفضله وعد بقبول التوبة في بعض الأوقات وبعدله أخبر عن عدم قبول التوبة في وقت آخر وله أن يقلب الأمر فيجعل المقبول مردوداً والمردود مقبولا لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ ( الأنبياء 23 )
المسألة الثانية أنه تعالى ذكر قسمين فقال في القسم الأول إِنَّمَا التَّوْبَة ُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوء بِجَهَالَة ٍ ( النساء 17 ) وهذا مشعر بأن قبول توبتهم واجب وقال في القسم الثاني وَلَيْسَتِ التَّوْبَة ُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيّئَاتِ فهذاجزم بأنه تعالى لا يقبل توبة هؤلاء فبقي بحكم التقسيم العقلي فيما بين هذين القسمين قسم ثالث وهم الذين لم يجزم الله تعالى بقبول توبتهم ولم يجزم برد توبتهم فلما كان القسم الأول هم الذين يعملون السوء بجهالة والقسم الثاني هم الذين لا يتوبون إلا عند مشاهدة البأس وجب أن يكون القسم المتوسط بين هذين القسمين هم الذين يعملون السوء على سبيل العمد ثم يتوبون فهؤلاء ما أخبر الله عنهم أنه يقبل توبتهم وما أخبر عنهم أنه يرد توبتهم بل تركهم في المشيئة كما أنه تعالى ترك مغفرتهم في المشيئة حيث قال وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء
المسألة الثالثة أنه تعالى لما بين أن من تاب عند حضور علامات الموت ومقدماته لا تقبل توبته قال وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وفيه وجهان الأول معناه الذين قرب موتهم والمعنى أنه كما أن التوبة عن المعاصي لا تقبل عند القرب من الموت كذلك الايمان لا يقبل عند القرب من الموت الثاني المراد أن الكفار إذا ماتوا على الكفر فلو تابوا في الآخرة لا تقبل توبتهم
المسألة الرابعة تعلقت الوعيدية بهذه الآية على صحة مذهبهم من وجهين الأول قالوا إنه تعالى قال وَلَيْسَتِ التَّوْبَة ُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنّى تُبْتُ الاْنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ فعطف الذين يعملون السيئات على الذين يموتون وهم كفار والمعطوف مغاير للمعطوف عليه فثبت أن الطائفة الأولى ليسوا من الكفار ثم إنه تعالى قال في حق الكل أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً فهذا يقتضي شمول هذا الوعيد للكفار والفساق الثاني أنه تعالى أخبر أنه لا توبة لهم عند المعاينة فلو كان يغفر لهم مع ترك التوبة لم يكن لهذا الاعلام معنى
والجواب أنا قد جمعنا جملة العمومات الوعيدية في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى بَلَى مَن كَسَبَ سَيّئَة ً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( البقرة 81 ) وأجبنا عن تمسكهم بها وذكرنا وجوها كثيرة من الأجوبة ولا حاجة إلى إعادتها في كل واحد من هذه العمومات ثم نقول الضمير يجب أن يعود الى أقرب المذكورات وأقرب المذكورات من قوله أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً هو قوله وَلاَ

الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ فلم لا يجوز أن يكون قوله أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً عائدا إلى الكفار فقط وتحقيق الكلام فيه أنه تعالى أخبر عن الذين لا يتوبون إلا عند الموت أن توبتهم غير مقبولة ثم ذكر الكافرين بعد ذلك فبين أن ايمانهم عند الموت غير مقبول ولا شك أن الكافر أقبح فعلا وأخس درجة عند الله من الفاسق فلا بد وأن يخصه بمزيد إذلال وإهانة فجاز أن يكون قوله أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً مختصاً بالكافرين بيانا لكونهم مختصين بسبب كفرهم بمزيد العقوبة والاذلال
أما الوجه الثاني مما عولوا عليه فهو أنه أخبر أنه لا توبة عند المعاينة واذا كان لا توبة حصل هناك تجويز العقاب وتجويز المغفرة وهذا لا يخلو عن نوع تخويف وهو كقوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ( النساء 48 ) على أن هذا تمسك بدليل الخطاب والمعتزلة لا يقولون به والله أعلم
المسألة الخامسة أنه تعالى عطف على الذين يتوبون عند مشاهدة الموت الكفار والمعطوف مغاير للمعطوف عليه فهذا يقتضي أن الفاسق من أهل الصلاة ليس بكافر ويبطل به قول الخوارج إن الفاسق كافر ولا يمكن أن يقال المراد منه المنافق لأن الصحيح أن المنافق كافر قال تعالى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ( المنافقون 1 ) والله أعلم
المسألة السادسة أعتدنا أي أعددنا وهيأنا ونظيره قوله تعالى في صفة نار جهنم أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ( البقرة 24 آل عمران 131 ) احتج أصحابنا بهذه الآية على أن النار مخلوقة لأن العذاب الأليم ليس إلا نار جهنم وبرده وقوله أَعْتَدْنَا إخبار عن الماضي فهذا يدل على كون النار مخلوقة من هذا الوجه والله أعلم
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَآءَ كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَة ٍ مُّبَيِّنَة ٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً
اعلم أنه تعالى بعد وصف التوبة عاد الى أحكام النساء واعلم أن أهل الجاهلية كانوا يؤذون النساء بأنواع كثيرة من الايذاء ويظلمونهن بضروب من الظلم فالله تعالى نهاهم عنها في هذه الآيات
فالنوع الأول قوله تعالى لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النّسَاء كَرْهاً وفيه مسألتان
المسألة الأولى في الآية قولان الأول كان الرجل في الجاهلية إذا مات وكانت له زوجة جاء ابنه من غيرها أو بعض أقاربه فألقى ثوبه على المرأة وقال ورثت امرأته كما ورثت ماله فصار أحق بها من سائر الناس ومن نفسها فان شاء تزوجها بغير صداق إلا لصداق الأول الذي أصدقها الميت وإن شاء زوجها من إنسان آخر وأخذ صداقها ولم يعطها منه شيئا فأنزل الله تعالى هذه الآية وبين أن ذلك حرام وأن الرجل

لا يرث امرأة الميت منه فعلى هذا القول المراد بقوله أَن تَرِثُواْ النّسَاء عين النساء وأنهن لا يورثن من الميت
والقول الثاني ان الوراثة تعود الى المال وذلك أن وارث الميت كان له أن يمنعها من الأزواج حتى تموت فيرثها مالها فقال تعالى لا يحل لكم أن ترثوا أموالهن وهن كارهات
المسألة الثانية قرأ حمزة والكسائي كَرْهاً بضم الكاف وفي التوبة أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ( التوبة 53 ) وفي الأحقاف حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً ( الأحقاف 15 ) كل ذلك بالضم وقرأ عاصم وابن عامر في الأحقاف بالضم والباقي بالفتح وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بالفتح في جميع ذلك قال الكسائي هما لغتان بمعنى واحد وقال الفراء الكره بالفتح الا الاكراه وبالضم المشقة فما أكره عليه فهو كره بالفتح وما كان من قبل نفسه فهو كره بالضم
النوع الثاني من الأشياء التي نهى الله عنها مما يتعلق بالنساء قوله تعالى وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ وفيه مسائل
المسألة الأولى في محل وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ قولان الأول انه نصب بالعطف على حرف ( أن ) تقديره ولا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا أن تعضلوهن في قراءة عبدالله والثاني أنه جزم بالنهي عطفا على ما تقدم تقديره ولا ترثوا ولا تعضلوا
المسألة الثانية العضل المنع ومنه الداء العضال وقد تقدم الاستقصاء فيه في قوله فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ ( البقرة 232 )
المسألة الثالثة المخاطب في قوله وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ من هو فيه أقوال الأول أن الرجل منهم قد كان يكره زوجته ويريد مفارقتها فكان يسيء العشرة معها ويضيق عليها حتى تفتدي منه نفسها بمهرها وهذا القول اختيار أكثر المفسرين فكأنه تعالى قال لا يحل لكم التزوج بهن بالاكراه وكذلك لا يحل لكم بعد التزوج بهن العضل والحبس لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن الثاني أنه خطاب للوارث بأن يترك منعها من التزوج بمن شاءت وأرادت كما كان يفعله أهل الجاهلية وقوله لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ معناه أنهم كانوا يحبسون امرأة الميت وغرضهم أن تبذل المرأة ما أخذت من ميراث الميت الثالث أنه خطاب للأولياء ونهى لهم عن عضل المرأة الرابع أنه خطاب للأزواج فانهم في الجاهلية كانوا يطلقون المرأة وكانوا يعضلونهن عن التزوج ويضيقون الأمر عليهن لغرض أن يأخذوا منهن شيئا الخامس أنه عام في الكل
أما قوله تعالى إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَة ٍ مُّبَيّنَة ٍ ففيه مسائل
المسألة الأولى في الفاحشة المبينة قولان الأول أنها النشوز وشكاسة الخلق وإيذاء الزوج وأهله والمعنى إلا أن يكون سوء العشرة من جهتهن فقد عذرتم في طلب الخلع ويدل عليه قراءة أبي بن كعب إلا أن يفحش عليكم
والقول الثاني أنها الزنا وهو قول الحسن وأبي قلابة والسدي
المسألة الثانية قوله إِلاَّ أَن يَأْتِينَ استثناء من ماذا فيه وجوه الأول انه استثناء من أخذ الأموال

يعني لا يحل له أن يحبسها ضراراً حتى تفتدي منه إلا إذا زنت والقائلون بهذا منهم من قال بقي هذا الحكم وما نسخ ومنهم من قال انه منسوخ بآية الجلد الثاني أنه استثناء من الحبس والامساك الذي تقدم ذكره في قوله فَأَمْسِكُوهُنَّ فِى الْبُيُوتِ ( النساء 15 ) وهو قول أبي مسلم وزعم أنه غير منسوخ الثالث يمكن أن يكون ذلك استثناء من قوله وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لأن العضل هو الحبس فدخل فيه الحبس في البيت فالأولياء والأزواج نهوا عن حبسهن في البيوت إلا أن يأتين بفاحشة مبينة فعند ذلك يحل للأولياء والأزواج حبسهن في البيوت
المسألة الثالثة قرأ نافع وأبو عمرو مُّبَيّنَة ٍ بكسر الياء و مُّبَيّنَاتٍ وَاللَّهُ ( النور 34 ) بفتح الياء حيث كان قال لأن في قوله مُبَيّنَاتٍ قصد إظهارها وفي قوله بِفَاحِشَة ٍ مُّبَيّنَة ٍ لم يقصد اظهارها وقرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم بالفتح فيهما والباقون بكسر الياء فيهما أما من قرأ بالفتح فله وجهان الأول أن الفاحشة والآيات لا فعل لهما في الحقيقة إنما الله تعالى هو الذي بينهما والثاني ان الفاحشة تتبين فان يشهد عليها أربعة صارت مبينة وأما الآيات فان الله تعالى بينها وأما من قرأ بالكسر فوجهه أن الآيات إذا تبينت وظهرت صارت أسبابا للبيان وإذا صارت أسبابا للبيان جاز إسناد البيان اليها كما أن الاصنام لما كانت أسبابا للضلال حسن اسناد الاضلال اليها كقوله تعالى رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ النَّاسِ ( إبراهيم 36 )
النوع الثالث من التكاليف المتعلقة بأحوال النساء قوله تعالى وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وكان القوم يسيئون معاشرة النساء فقيل لهم وعاشروهن بالمعروف قال الزجاج هو النصفة في المبيت والنفقة والاجمال في القول
ثم قال تعالى فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ أي كرهتم عشرتهن بالمعروف وصحبتهن وآثرتم فراقهن فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً والضمير في قوله فِيهِ إلى ماذا يعود فيه وجهان الأول المعنى انكم إن كرهتم صحبتهن فأمسكوهن بالمعروف فعسى أن يكون في صحبتهن الخير الكثير ومن قال بهذا القول فتارة فسر الخير الكثير بولد يحصل فتنقلب الكراهة محبة والنفرة رغبة وتارة بأنه لما كره صحبتها ثم إنه يحمل ذلك المكروه طلبا لثواب الله وأنفق عليها وأحسن اليها على خلاف الطبع استحق الثواب الجزيل في العقبى والثناء الجميل في الدنيا الثاني أن يكون المعنى إن كرهتموهن ورغبتم في مفارقتهن فربما جعل الله في تلك المفارقة لهن خيرا كثيرا وذلك بأن تتخلص تلك المرأة من هذا الزوج وتجد زوجا خيراً منه ونظيره قوله وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مّن سَعَتِهِ ( النساء 130 ) وهذا قول أبي بكر الأصم قال القاضي وهذا بعيد لأنه تعالى حث بما ذكر على سبيل الاستمرار على الصحبة فكيف يريد بذلك المفارقة
النوع الرابع من التكاليف المتعلقة بالنساء

وَإِنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَءَاتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً
فيه مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى في الآية الأولى لما أذن في مضارة الزوجات إذا أتين بفاحشة بين في هذه الآية تحريم المضارة في غير حال الفاحشة فقال وَإِنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ روي أن الرجل منهم إذا مال إلى التزوج بامرأة أخرى رمى زوجة نفسه بالفاحشة حتى يلجئها إلى الافتداء منه بما أعطاها ليصرفه إلى تزوج المرأة التي يريدها قال تعالى وَإِنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ الآية والقنطار المال العظيم وقد مر تفسيره في قوله تعالى وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَة ِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّة ِ ( آل عمران 14 )
المسألة السادسة قالوا الآية تدل على جواز المغالاة في المهر روي أن عمر رضي الله عنه قال على المنبر ألا لا تغالوا في مهور نسائكم فقامت امرأة فقالت يا ابن الخطاب الله يعطينا وأنت تمنع وتلت هذه الآية فقال عمر كل الناس أفقه من عمر ورجع عن كراهة المغالاة وعندي أن الآية لا دلالة فيها على جواز المغالاة لأن قوله وَإِنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ لا يدل على جواز إيتاء القنطار كما أن قوله لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَة ٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ( الأنبياء 22 ) لا يدل على حصول الآلهة والحاصل أنه لا يلزم من جعل الشيء شرطا لشيء آخر كون ذلك الشرط في نفسه جائز الوقوع وقال عليه الصلاة والسلام ( من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين ) ولم يلزم منه جواز القتل وقد يقول الرجل لو كان الاله جسما لكان محدثا وهذا حق ولا يلزم منه ان قولنا الاله جسم حق
المسألة الثالثة هذه الآية يدخل فيها ما إذا آتاها مهرها وما إذا لم يؤتها وذلك لأنه أوقع العقد على ذلك الصداق في حكم الله فلا فرق فيه بين ما إذا آتاها الصداق حساً وبين ما إذا لم يؤتها
المسألة الرابعة احتج أبو بكر الرازي بهذه الآية على أن الخلوة الصحيحة تقرر المهر قال وذلك لأن الله تعالى منع الزوج من أن يأخذ منها شيئا من المهر وهذا المنع مطلق ترك العمل به قبل الخلوة فوجب أن يبقى معمولا به بعد الخلوة قال ولا يجوز أن يقال انه مخصوص بقوله تعالى وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَة ً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ( البقرة 237 ) وذلك لأن الصحابة اختلفوا في تفسير المسيس فقال علي وعمر المراد من المسيس الخلوة وقال عبدالله هو الجماع واذا صار مختلفا فيه امتنع جعله مخصصا لعموم هذه الآية
والجواب ان هذه الآية المذكورة ههنا مختصة بما بعد الجماع بدليل قوله تعالى وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وإفضاء بعضهم إلى البعض هو الجماع على قول أكثر المفسرين وسنقيم الدلائل على صحة ذلك
المسألة الخامسة اعلم أن سوء العشرة اما أن يكون من قبل الزوج وإما أن يكون من قبل الزوجة فان كان من قبل الزوج كره له أنه يأخذ شيئا من مهرها لأن قوله تعالى وَإِنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ

وَءاتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً صريح في أن النشوز إذا كان من قبله فانه يكون منهيا عن أن يأخذ من مهرها شيئا ثم ان وقعت المخالعة ملك الزوج بدل الخلع كما ان البيع وقت النداء منهي عنه ثم انه يفيد الملك واذا كان النشوز من قبل المرأة فههنا يحل أخذ بدل الخلع لقوله تعالى وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَة ٍ مُّبَيّنَة ٍ ( النساء 19 )
ثم قال تعالى أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً وفيه مسائل
المسألة الأولى البهتان في اللغة الكذب الذي يواجه الانسان به صاحبه على جهة المكابرة وأصله من بهت الرجل إذا تحير فالبهتان كذب يحير الانسان لعظمته ثم جعل كل باطل يتحير من بطلانه بُهْتَاناً ومنه الحديث ( إذا واجهت أخاك بما ليس فيه فقد بهته )
المسألة الثانية في أنه لم انتصب قوله بُهْتَاناً وجوه الأول قال الزجاج البهتان ههنا مصدر وضع موضع الحال والمعنى أتأخذونه مباهتين وآثمين الثاني قال صاحب ( الكشاف ) يحتمل أنه انتصب لأنه مفعول له وإن لم يكن غرضاً في الحقيقة كقولك قعد عن القتال جبنا الثالث انتصب بنزع الخافض أي ببهتان الرابع فيه اضمار تقديره تصيبون به بهتانا وإثما
المسألة الثالثة في تسمية هذا الأخذ ( بهتانا ) وجوه الأول أنه تعالى فرض لها ذلك المهر فمن استرده كان كأنه يقول ليس ذلك بفرض فيكون بهتانا الثاني أنه عند العقد تكفل بتسليم ذلك المهر اليها وأن لا يأخذه منها فاذا أخذه صار ذلك القول الأول بهتانا الثالث أنا ذكرنا أنه كان من دأبهم أنهم إذا أرادوا تطليق الزوجة رموها بفاحشة حتى تخاف وتشتري نفسها منه بذلك المهر فلما كان هذا الأمر واقعا على هذا الوجه في الأغلب الأكثر جعل كأن أحدهما هو الآخر الرابع أنه تعالى ذكر في الآية السابقة وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَة ٍ مُّبَيّنَة ٍ والظاهر من حال المسلم أنه لا يخالف أمر الله فاذا أخذ منها شيئاً أشعر ذلك بأنها قد أتت بفاحشة مبينة فاذا لم يكن الأمر كذلك في الحقيقة صح وصف ذلك الأخذ بأنه بهتان من حيث أنه يدل على إتيانها بالفاحشة مع أن الأمر ليس كذلك وفيه تقرير آخر وهو أن أخذ المال طعن في ذاتها وأخذ لمالها فهو بهتان من وجه وظلم من وجه آخر فكان ذلك معصية عظيمة من أمهات الكبائر الخامس أن عقاب البهتان والاثم المبين كان معلوماً عندهم فقوله أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً معناه أتأخذون عقاب البهتان فهو كقوله إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً ( النساء 10 )
المسألة الرابعة قوله أَتَأْخُذُونَهُ استفهام على معنى الانكار والاعظام والمعنى أن الظاهر أنكم لا تفعلون مثل هذا الفعل مع ظهور قبحه في الشرع والعقل
واعلم أنه تعالى ذكر في علة هذا المنع أمورا أحدهما أن هذا الأخذ يتضمن نسبتها إلى الفاحشة المبينة فكان ذلك بهتانا والبهتان من أمهات الكبائر وثانيها أنه إثم مبين لأن هذا المال حقها فمن ضيق الأمر عليها ليتوسل بذلك التشديد والتضييق وهو ظلم إلى أخذ المال وهو ظلم آخر فلا شك أن التوسل

بظلم إلى ظلم آخر يكون إثما مبينا وثالثها قوله تعالى وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وفيه مسألتان
المسألة الأولى أصل أفضى من الفضاء الذي هو السعة يقال فضا يفضو وفضاء إذا اتسع قال الليث أفضى فلان إلى فلان أي وصل اليه وأصله أنه صار في فرجته وفضائه وللمفسرين في الافضاء في هذه الآية قولان أحدهما أن الافضاء ههنا كناية عن الجماع وهو قول ابن عباس ومجاهد والسدي واختيار الزجاج وابن قتيبة ومذهب الشافعي لأن عنده الزوج إذا طلق قبل المسيس فله أن يرجع في نصف المهر وإن خلا بها
والقول الثاني في الافضاء أن يخلو بها وإن لم يجامعها قال الكلبي الافضاء أن يكون معها في لحاف واحد جامعها أو لم يجامعها وهذا القول اختيار الفراء ومذهب أبي حنيفة رضي الله عنه لأن الخلوة الصحيحة تقرر المهر
واعلم أن القول الأول أولى ويدل عليه وجوه الأول أن الليث قال أفضى فلان إلى فلانة أي صار في فرجتها وفضائها ومعلوم أن هذا المعنى إنما يحصل في الحقيقة عند الجماع أما في غير وقت الجماع فهذا غير حاصل الثاني أنه تعالى ذكر هذا في معرض التعجب فقال وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ والتعجب إنما يتم إذا كان هذا الافضاء سببا قويا في حصول الألفة والمحبة وهو الجماع لا مجرد الخلوة فوجب حمل الافضاء عليه الثالث وهو أن الافضاء اليها لا بد وأن يكون مفسرا بفعل منه ينتهي اليه لأن كلمة ( إلى ) لانتهاء الغاية ومجرد الخلوة ليس كذلك لأن عند الخلوة المحضة لم يصل فعل من أفعال واحد منهما إلى الآخر فامتنع تفسير قوله أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ بمجرد الخلوة
فان قيل فاذا اضطجعا في لحاف واحد وتلامسا فقد حصل الافضاء من بعضهم إلى بعض فوجب أن يكون ذلك كافيا وأنتم لا تقولون به
قلنا القائل قائلان قائل يقول المهر لا يتقرر إلا بالجماع وآخر انه يتقرر بمجرد الخلوة وليس في الأمة أحد يقول إنه يتقرر بالملامسة والمضاجعة فكان هذا القول باطلا بالاجماع فلم يبق في تفسير إفضاء بعضهم إلى بعض إلا أحد أمرين إما الجماع وإما الخلوة والقول بالخلوة باطل لما بيناه فبقي أن المراد بالافضاء هو الجماع الرابع أن المهر قبل الخلوة ما كان متقرراً والشرع قد علق تقرره على إفضاء البعض إلى البعض وقد اشتبه الأمر في أن المراد بهذا الافضاء هو الخلوة أو الجماع وإذا وقع الشك وجب بقاء ما كان على ما كان وهو عدم التقرير فبهذه الوجوه ظهر ترجيح مذهب الشافعي والله أعلم
المسألة الثانية قوله وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ كلمة تعجب أي لأي وجه ولأي معنى تفعلون هذا فانها بذلت نفسها لك وجعلت ذاتها لذتك وتمتعك وحصلت الألفة التامة والمودة الكاملة بينكما فكيف يليق بالعاقل أن يسترد منها شيئاً بذله لها بطبية نفسه إن هذا لا يليق ألبتة بمن له طبع سليم وذوق مستقيم
الوجه الرابع من الوجوه التي جعلها الله مانعا من استرداد المهر قوله وَأَخَذْنَ مِنكُم مّيثَاقاً غَلِيظاً في

تفسير هذا الميثاق الغليظ وجوه الأول قال السدي وعكرمة والفراء هو قولهم زوجتك هذه المرأة على ما أخذه الله للنساء على الرجال من إمساك بمعروف أو تسريح باحسان ومعلوم أنه إذا ألجأها إلى أن بذلت المهر فما سرحها بالاحسان بل سرحها بالاساءة الثاني قال ابن عباس ومجاهد الميثاق الغليظ كلمة النكاح المعقودة على الصداق وتلك الكلمة كلمة تستحل بها فروج النساء قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( اتقوا الله في النساء فانكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله الثالث قوله وَأَخَذْنَ مِنكُم مّيثَاقاً غَلِيظاً أي أخذن منكم بسبب إفضاء بعضكم إلى بعض ميثاقا غليظا وصفه بالغلظة لقوته وعظمته وقالوا صحبة عشرين يوما قرابة فكيف بما يجري بين الزوجين من الاتحاد والامتزاج
النوع الخامس من الأمور التي كلف الله تعالى بها في هذه الآية من الأمور المتعلقة بالنساء
وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَاؤُكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَة ً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلاً
فيه مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس وجمهور المفسرين كان أهل الجاهلية يتزوجون بأزواج آبائهم فنهاهم الله بهذه الآية عن ذلك الفعل
المسألة الثانية قال أبو حنيفة رضي الله عنه يحرم على الرجل أن يتزوج بمزنية أبيه وقال الشافعي رحمة الله عليه لا يحرم احتج أبو حنيفة بهذه الآية فقال إنه تعالى نهى الرجل أن ينكح منكوحة أبيه والنكاح عبارة عن الوطء فكان هذا نهيا عن نكاح موطوءة أبيه إنما قلنا إن النكاح عبارة عن الوطء لوجوه الأول قوله تعالى فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ( البقرة 230 ) أضاف هذا النكاح إلى الزوج والنكاح المضاف إلى الزوج هو الوطء لا العقد لأن الانسان لا يمكنه أن يتزوج بزوجة نفسه لأن تحصيل الحاصل محال ولأنه لو كان المراد بالنكاح في هذه الآية هوالعقد لوجب أن يحصل التحليل بمجرد العقد وحيث لم يحصل علمنا أن المراد من النكاح في هذه الآية ليس هو العقد فتعين أن يكون هو الوطء لأنه لا قائل بالفرق الثاني قوله تعالى وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ ( النساء 6 ) والمراد من النكاح ههنا الوطء لا العقد لأن أهلية العقد كانت حاصلة أبدا الثالث قوله تعالى الزَّانِى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَة ً ( النور 3 ) فلو كان المراد ههنا العقد لزم الكذب الرابع قوله عليه الصلاة والسلام ( ناكح اليد ملعون ) ومعلوم أن المراد ليس هو العقد بل هو الوطء فثبت بهذه الوجوه أن النكاح عبارة عن الوطء فلزم أن يكون قوله تعالى وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ أي ولا تنكحوا ما وطئهن آباؤكم وهذا يدخل فيه المنكوحة والمزنية لا يقال كما أن لفظ النكاح ورد بمعنى الوطء فقد ورد أيضاً بمعنى العقد قال تعالى وَأَنْكِحُواْ الايَامَى مِنْكُمْ ( النور 32 ) فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَاء ( النسار 3 ) إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ( الأحزاب 49 ) وقوله عليه الصلاة والسلام ( ولدت من نكاح ولم أولد من سفاح ) فلم كان حمل

اللفظ على الوطء أولى من حمله على العقد
أجابوا عنه من ثلاثة أوجه الأول ما ذهب اليه الكرخي وهو أن لفظ النكاح حقيقة في الوطء مجاز في العقد بدليل أن لفظ النكاح في أصل اللغة عبارة عن الضم ومعنى الضم حاصل في الوطء لا في العقد فكان لفظ النكاح حقيقة في الوطء ثم إن العقد سمي بهذا الاسم لأن العقد لما كان سبباً له أطلق اسم المسبب على السبب كما أن العقيقة اسم للشعر الذي يكون على رأس الصبي حال ما يولد ثم تسمى الشاة التي تذبح عند حلق ذلك الشعر عقيقة فكذا ههنا
واعلم أنه كان مذهب الكرخي أنه لا يجوز استعمال اللفظ الواحد بالاعتبار الواحد في حقيقته ومجازه معا فلا جرم كان يقول المستفاد من هذه الآية حكم الوطء أما حكم العقد فانه غير مستفاد من هذه الآية بل من طريق آخر ودليل آخر
الوجه الثاني أن من الناس من ذهب إلى أن اللفظ المشترك يجوز استعماله في مفهوميه معا فهذا القائل قال دلت الآيات المذكورة على أن لفظ النكاح حقيقة في الوطء وفي العقد معا فكان قوله وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ نهيا عن الوطء وعن العقد معا حملا للفظ على كلا مفهوميه
الوجه الثالث في الاستدلال وهو قول من يقول اللفظ المشترك لا يجوز استعماله في مفهوميه معا قالوا ثبت بالدلائل المذكورة أن لفظ النكاح قد استعمل في القرآن في الوطء تارة وفي العقد أخرى والقول بالاشتراك والمجاز خلاف الأصل ولا بد من جعله حقيقة في القدر المشترك بينهما وهو معنى الضم حتى يندفع الاشتراك والمجاز وإذا كان كذلك كان قوله وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ نهيا عن القدر المشترك بين هذين القسمين والنهي عن القدر المشترك بين القسمين يكون نهيا عن كل واحد من القسمين لا محالة فان النهي عن التزويج يكون نهيا عن العقد وعن الوطء معا فهذا أقصى ما يمكن أن يقال في تقرير هذا الاستدلال
والجواب عنه من وجوه الأول لا نسلم أن اسم النكاح يقع على الوطء والوجوه التي احتجوا بها على ذلك فهي معارضة بوجوه أحدها قوله عليه الصلاة والسلام ( النكاح سنتي ) ولا شك أن الوطء من حيث كونه وطأ ليس سنة له وإلا لزم أن يكون الوطء بالسفاح سنة له فلما ثبت أن النكاح سنة وثبت أن الوطء ليس سنة ثبت أن النكاح ليس عبارة عن الوطء كذلك التمسك بقوله تناكحوا تكثروا ولو كان الوطء مسمى بالنكاح لكان هذا إذنا في مطلق الوطء وكذلك التمسك بقوله تعالى لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَنْكِحُواْ الايَامَى مِنْكُمْ ( النور 32 ) وقوله فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَاء ( النساء 3 )
لا يقال لما وقع التعارض بين هذه الدلائل فالترجيح معنا وذلك لأنا لو قلنا الوطء مسمى بالنكاح على سبيل الحقيقة لزم دخول المجاز في دلائلنا ومتى وقع التعارض بين المجاز والتخصيص كان التزام التخصيص أولى
لأنا نقول أنتم تساعدون على أن لفظ النكاح مستعمل في العقد فلو قلنا إن النكاح حقيقة في الوطء لزم دخول التخصيص في الآيات التي ذكرناها ولزم القول بالمجاز في الآيات التي ذكر النكاح فيها بمعنى العقد أما قولنا ان النكاح فيها بمعنى الوطء فلا يلزمنا التخصيص فقولكم يوجب المجاز

والتخصيص معا وقولنا يوجب المجاز فقط فكان قولنا أولى
الوجه الثاني من الوجوه الدالة على أن النكاح ليس حقيقة في الوطء قوله عليه الصلاة والسلام ( ولدت من نكاح ولم أولد من سفاح ) أثبت نفسه مولودا من النكاح وغير مولود من السفاح وهذا يقتضي أن لا يكون السفاح نكاحا والسفاح وطء فهذا يقتضي أن لا يكون الوطء نكاحا
الوجه الثالث أنه من حلف في أولاد الزنا أنهم ليسوا أولاد النكاح لم يحنث ولو كان الوطء نكاحا لوجب أن يحنث وهذا دليل ظاهر على أن الوطء ليس مسمى بالنكاح على سبيل الحقيقة الثاني سلمنا أن الوطء مسمى بالنكاح لكن العقد أيضاً مسمى به فلم كان حمل الآية على ما ذكرتم أولى من حملها على ما ذكرنا
أما الوجه الأول وهو الذي ذكره الكرخي فهو في غاية الركاكة وبيانه من وجهين الأول أو الوطء مسبب العقد فكما يحسن إطلاق اسم المسبب على السبب مجازا فكذلك يحسن اطلاق اسم السبب على المسبب مجازا فكما يحتمل أن يقال النكاح اسم للوطء ثم أطلق هذا الاسم على العقد لكونه سببا للوطء فكذلك يحتمل أن يقال النكاح اسم للعقد ثم أطلق هذا الاسم على الوطء لكون الوطء مسبباً له فلم كان أحدهما أولى من الآخر بل الاحتمال الذي ذكرناه أولى لأن استلزام السبب للمسبب أتم من استلزام المسبب للسبب المعين فانه لا يمتنع أن يكون لحصول الحقيقة الواحدة أسباب كثيرة كالملك فانه يحصل بالبيع والهبة والوصية والارث ولا شك أن الملازمة شرط لجواز المجاز فثبت أن القول بأن اسم النكاح حقيقة في العقد مجاز في الوطء أولى من عكسه
الوجه الثاني أن النكاح لو كان حقيقة في الوطء مجازا في العقد وقد ثبت في أصول الفقه أنه لا يجوز استعمال اللفظ الواحد في حقيقته ومجازه معا فحينئذ يلزم أن لا تكون الآية دالة على حكم العقد وهذا وإن كان قد التزمه الكرخي لكنه مدفوع بالدليل القاطع وذلك لأن المفسرين أجمعوا على أن سبب نزول هذه الآية هو أنهم كانوا يتزوجون بأزواج آبائهم وأجمع المسلمون على أن سبب نزول الآية لا بد وأن يكون داخلا تحت الآية بل اختلفوا في أن غيره هل يدخل تحت الآية أم لا وأما كون سبب النزول داخلا فيها فذاك مجمع عليه بين الأمة فاذا ثبت باجماع المفسرين أن سبب نزول هذه الآية هو العقد لا الوطء وثبت باجماع المسلمين أن سبب النزول لا بد وأن يكون مراداً ثبت بالاجماع أن النهي عن العقد مراد من هذه الآية فكان قول الكرخي واقعا على مضادة هذا الدليل القاطع فكان فاسداً مردودا قطعا
أما الوجه الثاني مما ذكروه وهو أنا نحمل لفظ النكاح على مفهوميه فنقول هذا أيضا باطل وقد بينا وجه بطلانه في أصول الفقه
وأما الوجه الثالث فهو أحسن الوجوه المذكورة في هذا الباب وهو أيضاً ضعيف لأن الضم الحاصل في الوطء عبارة عن تجاور الأجسام وتلاصقها والضم الحاصل في العقد ليس كذلك لأن الايجاب والقبول أصوات غير باقية فمعنى الضم والتلاقي والتجاور فيها محال وإذا كان كذلك ثبت أنه ليس بين الوطء وبين العقد مفهوم مشترك حتى يقال إن لفظ النكاح حقيقة فيه فاذا بطل ذلك لم يبق إلا أن يقال لفظ النكاح مشترك بين الوطء وبين العقد ويقال إنه حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر وحينئذ يرجع الكلام إلى

الوجهين الأولين فهذا هو الكلام الملخص في هذا
الوجه الثاني في الجواب عن هذا الاستدلال أن نقول سلمنا أن النكاح بمعنى الوطء ولكن لم قلتم إن قوله مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ المراد منه المنكوحة والدليل عليه إجماعهم على أن لفظه ( ما ) حقيقة في غير العقلاء فلو كان المراد منه ههنا المنكوحة لزم هذا المجاز وإنه خلاف الأصل بل أهل العربية اتفقوا على أن ( ما ) مع بعدها في تقدير المصدر فتقدير الآية ولا تنكحوا نكاح آبائكم وعلى هذا يكون المراد منه النهي عن أن تنكحوا نكاحا مثل نكاح آبائكم فان أنكحتهم كانت بغير ولي ولا شهود وكانت موقتة وكانت على سبيل القهر والالجاء فالله تعالى نهاهم بهذه الآية عن مثل هذه الأنكحة وهذا الوجه منقول عن محمد بن جرير الطبري في تفسير هذه الآية
الوجه الثالث في الجواب عن هذا الاستدلال سلمنا أن المراد من قوله مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ المنكوحة والتقدير ولا تنكحوا من نكح آباؤكم ولكن قوله من نكح آباؤكم ليس صريحا في العموم بدليل أنه يصح إدخال لفظي الكل والبعض عليه فيقال ولا تنكحوا كل ما نكح آباؤكم ولا تنكحوا بعض من نكح آباؤكم ولو كان هذا صريحا في العموم لكان إدخال لفظ الكل عليه تكريراً وإدخال لفظ البعض عليه نقصا ومعلوم أنه ليس كذلك فثبت أن قوله وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ لا يفيد العموم وإذا لم يفد العموم لم يتناول محل النزاع
لا يقال لو لم يفد العموم لم يكن صرفه إلى بعض الأقسام أولى من صرفه الى الباقي فحينئذ يصير مجملا غير مفيد والأصل أن لا يكون كذلك
لأنا نقول لا نسلم أن بتقدير أن لا يفيد العموم لم يكن صرفه إلى البعض أولى من صرفه إلى غيره وذلك لأن المفسرين أجمعوا على أن سبب نزوله إنما هو التزوج بزوجات الآباء فكان صرفه إلى هذا القسم أولى وبهذا التقدير لا يلزم كون الآية مجملة ولا يلزم كونها متناولة لمحل النزاع
الوجه الرابع سلمنا أن هذا النهي يتناول محل النزاع لكن لم قلتم إنه يفيد التحريم أليس أن كثيرا من أقسام النهي لا يفيد التحريم بل يفيد التنزيه فلم قلتم إنه ليس الأمر كذلك أقصى ما في الباب أن يقال هذا على خلاف الأصل ولكن يجب المصير إليه إذا دل الدليل وسنذكر دلائل صحة هذا النكاح إن شاء الله تعالى
الوجه الخامس أن ما ذكرتم هب أنه يدل على فساد هذا النكاح إلا أن ههنا ما يدل على صحة هذا النكاح وهو من وجوه
الحجة الأولى هذا النكاح منعقد فوجب أن يكون صحيحا بيان أنه منعقد أنه عند أبي حنيفة رضي الله عنه منهي عنه بهذه الآية ومن مذهبه أن النهي عن الشيء يدل على كونه في نفسه منعقدا وهذا هو أصل مذهبه في مسألة البيع الفاسد وصوم يوم النحر فيلزم من مجموع هاتين المقدمتين أن يكون هذا النكاح منعقدا على أصل أبي حنيفة وإذا ثبت القول بالانعقاد في هذه الصورة وجب القول بالصحة لأنه لا قائل بالفرق فهذا وجه حسن من طريق الالزام عليهم في صحة هذا النكاح

الحجة الثانية عموم قوله تعالى وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ( البقرة 221 ) نهى عن نكاح المشركات ومد النهي إلى غاية وهي إيمانهن والحكم الممدود إلى غاية ينتهي عند حصول تلك الغاية فوجب أن ينتهي المنع من نكاحهن عند إيمانهن وإذا انتهى المنع حصل الجواز فهذا يقتضي جواز نكاحهن على الاطلاق ولا شك أنه يدخل في هذا العموم مزنية الأب وغيرها أقصى ما في الباب أن هذا العموم دخله التخصيص في مواضع يبقى حجة في غير محل التخصيص وكذلك نستدل بجميع العمومات الواردة في باب النكاح كقوله تعالى وَأَنْكِحُواْ الايَامَى ( النور 32 ) وقوله فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَاء ( النساء 3 ) وأيضا نتمسك بقوله تعالى وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ ( النساء 24 ) وليس لأحد أن يقول إن قوله مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ ضمير عائد إلى المذكور السابق ومن جملة المذكور السابق قوله وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ وذلك لأن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات وأقرب المذكورات اليه هو من قوله حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ( النساء 23 ) فكان قوله وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ عائدا اليه ولا يدخل فيه قوله وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ وأيضاً نتمسك بعمومات الأحاديث كقوله عليه الصلاة والسلام ( إذا جاءكم من ترضون دينه فزوجوه ) وقوله ( زوجوا بناتكم الاكفاء ) فكل هذه العمومات يتناول محل النزاع واعلم أنا بينا في أصول الفقه أن الترجيح بكثرة الأدلة جائز وإذا كان كذلك فنقول بتقدير أن يثبت لهم أن النكاح حقيقة في الوطء مجاز في العقد فلو حملنا الآية على العقد لم يلزمنا إلا مجاز واحد وبتقدير أن نحمل تلك الآية على حرمة النكاح يلزمنا هذه التخصيصات الكثيرة فكان الترجيح من جانبنا بسبب كثرة الدلائل
الحجة الثالثة الحديث المشهور في المسألة وهو قوله عليه الصلاة والسلام ( الحرام لا يحرم الحلال ) أقصى ما في الباب أن يقال إن قطرة من الخمر إذا وقعت في كوز من الماء فههنا الحرام حرم الحلال وإذا اختلطت المنكوحة بالاجنبيات واشتبهت بهن فههنا الحرام حرم الحلال إلا أنا نقول دخول التخصيص فيه في بعض الصور ولا يمنع من الاستدلال به
الحجة الرابعة من جهة القياس أن نقول المقتضى لجواز النكاح قائم والفارق بين محل الاجماع وبين محل النزاع ظاهر فوجب القول بالجواز أما المقتضى فهو أن يقيس نكاح هذه المرأة على نكاح سائر النسوان عند حصول الشرائط المتفق عليها بجامع ما في النكاح من المصالح وأما الفارق فهو أن هذه المحرمية إنما حكم الشرع بثبوتها سعيا في إبقاء الوصلة الحاصلة بسبب النكاح ومعلوم أن هذا لا يليق بالزنا
بيان المقام الأول من تزوج بامرأة فلو لم يدخل على المرأة أب الرجل وابنه ولم تدخل على الرجل أم المرأة وبنتها لبقيت المرأة كالمحبوسة في البيت ولتعطل على الزوج والزوجة أكثر المصالح ولو أذنا في هذا الدخول ولم نحكم بالمحرمية فربما امتد عين البعض إلى البعض وحصل الميل والرغبة وعند حصول التزوج بأمها أو ابنتها تحصل النفرة الشديدة بينهن لأن صدور الايذاء عن الأقارب أقوى وقعا وأشد إيلاما وتأثيرا وعند حصول النفرة الشديدة يحصل التطليق والفراق أما إذا حصلت المحرمية انقطعت الأطماع وانحبست الشهورة فلا يحصل ذلك الضرر فبقي النكاح بين الزوجين سليما عن هذه المفسدة

فثبت أن المقصود من حكم الشرع بهذه المحرمية السعي في تقرير الاتصال الحاصل بين الزوجين وإذا كان المقصود من شرع المحرمية ابقاء ذلك الاتصال فمعلوم أن الاتصال الحاصل عند النكاح مطلوب البقاء فيتناسب حكم الشرع باثبات هذه المحرمية وأما الاتصال الحاصل عند الزنا فهو غير مطلوب البقاء فلم يتناسب حكم الشرع باثبات هذه المحرمية وهذا وجه مقبول مناسب في الفرق بين البابين وهذا هو من قول الامام الشافعي رضي الله عنه عند مناظرته في هذه المسألة محمد بن الحسن حيث قال وطء حمدت به ووطء رجمت به فكيف يشتبهان ولنكتف بهذا القدر من الكلام في هذه المسألة
واعلم أن السبب في ذكر هذا الاستقصاء ههنا أن أبا بكر الرازي طول في هذه المسألة في تصنيفه وما كان ذلك التطويل إلا تطويلا في الكلمات المختلطة والوجوه الفاسدة الركيكة ثم إنه لما آل الأمر إلى المكالمة مع الامام الشافعي أساء في الأدب وتعدى طوره وخاض في السفاهة وتعامى عن تقرير دلائله وتغافل عن إيراد حججه ثم انه بعد أن كتب الأوراق الكثيرة في الترهات التي لا نفع لمذهبه منها ولا مضرة على خصومه بسببها أظهر القدح الشديد والتصلف العظيم في كثرة علوم أصحابه وقلة علوم من يخالفهم ولو كان من أهل التحصيل لبكى على نفسه من تلك الكلمات التي حاولت نصرة قوله بها ولتعلم الدلائل ممن كان أهلا لمعرفتها ومن نظر في كتابنا ونظر في كتابه وأنصف علم أنا أخذنا منه خرزة ثم جعلناها لؤلؤة من شدة التخليص والتقرير ثم أجبنا عنه بأجوبة مستقيمة على قوانين الأصول منطبقة على قواعد الفقه ونسأل الله حسن الخاتمة ودوام التوفيق والنصرة
المسألة الثالثة ذكر المفسرون في قوله إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ وجوها الأول وهو أحسنها ما ذكره السيد صاحب حل المقل فقال هذا استثناء على طريق المعنى لأن قوله وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ مّنَ النّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ قبل نزول آية التحريم فانه معفو عنه الثاني قال صاحب ( الكشاف ) هذا كما استثنى ( غير أن سيوفهم ) من قوله وَلاَ لَكُمْ فِيهِمْ يعني إن أمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف فانكحوه فانه لا يحل لكم غيره وذلك غير ممكن والغرض المبالغة في تحريمه وسد الطريق إلى إباحته كما يقال حتى يبيض القار وحتى يلج الجمل في سم الخياط الثالث أن هذا استثناء منقطع لأنه لا يجوز استثناء الماضي من المستقبل والمعنى لكن ما قد سلف فان الله تجاوز عنه والرابع ( إلا ) ههنا بمعنى بعد كقوله تعالى لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَة َ الاْولَى ( الدخان 56 ) أي بعد الموتة الأولى الخامس قال بعضهم معناه إلا ما قد سلف فانكم مقرون عليه قالوا إنه عليه الصلاة والسلام أقرهم عليهن مدة ثم أمر بمفارقتهن وإنما فعل ذلك ليكون إخراجهم عن هذه العادة الرديئة على سبيل التدريج وقيل إن هذا خطأ لأنه عليه الصلاة والسلام ما أقر أحدا على نكاح امرأة أبيه وإن كان في الجاهلية روى البراء أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعث أبا بردة الى رجل عرس بامرأة أبيه ليقتله ويأخذ ماله
المسألة الرابعة الضمير في قوله تعالى أَنَّهُ إلى ماذا يعود فيه وجهان الأول أنه راجع إلى هذا النكاح قبل النهي أعلم الله تعالى أن هذا الذي حرمه عليهم كان لم يزل منكرا في قلوبهم ممقوتا عندهم وكانت العرب تقول لولد الرجل من امرأة أبيه مقتى وذلك لأن زوجة الأب تشبه الأم وكان نكاح الأمهات من أقبح الأشياء عند العرب فلما كان هذا النكاح يشبه ذلك لا جرم كان مستقبحا عندهم فبين الله تعالى

أن هذا النكاح أبدا كان ممقوتا وقبيحا الثاني أن هذا الضمير راجع إلى هذا النكاح بعد النهي فبين الله تعالى أنه كان فاحشة في الإسلام ومقتا عند الله وإنما قال كَانَ لبيان أنه كان في حكم الله وفي علمه موصوفا بهذا الوصف
المسألة الخامسة أنه تعالى وصفه بأمور ثلاثة أولها أنه فاحشة وإنما وصف هذا النكاح بأنه فاحشة لما بينا أن زوجة الأب تشبه الأم فكانت مباشرتها من أفحش الفواحش وثانيها المقت وهو عبارة عن بغض مقرون باستحقار حصل ذلك بسبب أمر قبيح ارتكبه صاحبه وهو من الله في حق العبد يدل على غاية الخزي والخسار وثالثها قوله وَسَاء سَبِيلاً قال الليث ( ساء ) فعل لازم وفاعله مضمر و ( سبيلا ) منصوب تفسيرا لذلك الفاعل كما قال وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً ( النساء 69 ) واعلم أن مراتب القبح ثلاثة القبح في العقول وفي الشرائع وفي العادات فقوله إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَة ً إشارة إلى القبح العقلي وقوله وَمَقْتاً إشارة إلى القبح الشرعي وقوله وَسَاء سَبِيلاً إشارة إلى القبح في العرف والعادة ومتى اجتمعت فيه هذه الوجوه فقد بلغ الغاية في القبح والله أعلم
النوع السادس من التكاليف المتعلقة بالنساء المذكورة في هذه الآيات
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الاٌّ خِ وَبَنَاتُ الاٍّ خْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ الْلاَّتِى أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَة ِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِى فِى حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ اللَّاتِى دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَآئِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاٍّ خْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً
قوله تعالى حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الاْخِ وَبَنَاتُ الاْخْتِ
اعلم أنه تعالى نص على تحريم أربعة عشر صنفا من النسوان سبعة منهن من جهة النسب وهن الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت وسبعة أخرى لا من جهة النسب الأمهات من الرضاعة والأخوات من الرضاعة وأمهات النساء وبنات النساء بشرط أن يكون قد دخل بالنساء وأزواج الابناء والآباء إلا أن أزواج الأبناء مذكورة ههنا وأزواج الآباء مذكورة في الآية المتقدمة والجمع بين الأختين وفي الآية مسائل
المسألة الأولى ذهب الكرخي إلى أن هذه الآية مجملة قال لأنه أضيف التحريم فيها إلى الأمهات والبنات والتحريم لا يمكن إضافته إلى الاعيان وإنما يمكن إضافته إلى الافعال وذلك الفعل غير مذكور في الآية فليست إضافة هذا التحريم إلى بعض الافعال التي لا يمكن إيقاعها في ذوات الأمهات والبنات أولى من بعض فصارت الآية مجملة من هذا الوجه
والجواب عنه من وجهين الأول أن تقديم قوله تعالى وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ ( النساء 22 ) يدل على أن المراد من قوله حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ تحريم نكاحهن الثاني أن من المعلوم بالضرورة من دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أن المراد منه تحريم نكاحهن والأصل فيه أن الحرمة والاباحة إذا أضيفتا إلى الاعيان فالمراد

تحريم الفعل المطلوب منها في العرف فاذا قيل حرمت عليكم الميتة والدم فهم كل أحد أن المراد تحريم أكلهما وإذا قيل حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم فهم كل أحد أن المراد تحريم نكاحهن ولما قال عليه الصلاة والسلام ( لا يحل دم امرىء مسلم إلا لاحدى معان ثلاث ) فهم كل أحد أن المراد لا يحل إراقة دمه وإذا كانت هذه الأمور معلومة بالضرورة كان إلقاء الشبهات فيها جاريا مجرى القدح في البديهيات وشبه السوفسطائية فكانت في غاية الركاكة والله أعلم
بلى عندي فيه بحث من وجوه أخرى أحدها أن قوله حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ مذكور على ما لم يسم فاعله فليس فيه تصريح بأن فاعل هذا التحريم هو الله تعالى وما لم يثبت ذلك لم تفد الآية شيئا آخر ولا سبيل اليه إلا بالاجماع فهذه الآية وحدها لا تفيد شيئا بل لا بد معها من الاجماع على هذه المقدمة وثانيها أن قوله حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ ليس نصا في ثبوت التحريم على سبيل التأييد فان القدر المذكور في الآية يمكن تقسيمه الى المؤبد والى المؤقت كأنه تعالى تارة قال حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم الى الوقت الفلاني فقط وأخرى حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم مؤبدا مخلدا واذا كان القدر المذكور في الآية صالحا لأن يجعل موردا للتقسيم بهذين القسمين لم يكن نصا في التأييد فاذن هذا التأييد لا يستفاد من ظاهر الآية بل من دلالة منفصلة وثالثها أن قوله حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ خطاب مشافهة فيخصص بأولئك الحاضرين فاثبات هذا التحريم في حق الكل إنما يستفاد من دليل منفصل ورابعها أن قوله حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ إخبار عن ثبوت هذا التحريم في الماضي وظاهر اللفظ غير متناول للحاضر والمستقبل فلا يعرف ذلك إلا بدليل منفصل وخامسها أن ظاهر قوله حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ يقتضي أنه قد حرم على كل أحد جميع أمهاتهم وجميع بناتهم ومعلوم أنه ليس كذلك بل المقصود أنه تعالى قابل الجمع بالجمع فيقتضي مقابلة الفرد بالفرد فهذا يقتضي أن الله تعالى قد حرم على كل أحد أمه خاصة وبنته خاصة وهذا فيه نوع عدول عن الظاهر وسادسها أن قوله حُرُمَاتِ يشعر ظاهره بسبق الحل إذ لو كان أبدا موصوفا بالحرمة لكان قوله حُرُمَاتِ تحريماً لما هو في نفسه حرام فيكون ذلك إيجاد الموجود وهو محال فثبت أن المراد من قوله حُرُمَاتِ ليس تجديد التحريم حتى يلزم الاشكال المذكور بل المراد الاخبار عن حصول التحريم فثبت بهذه الوجوه أن ظاهر الآية وحده غير كاف في إثبات المطلوب والله أعلم
المسألة الثانية اعلم أن حرمة الأمهات والبنات كانت ثابتة من زمن آدم عليه السلام إلى هذا الزمان ولم يثبت حل نكاحهن في شيء من الأديان الالهية بل ان زرداشت رسول المجوس قال بحله إلا أن أكثر المسلمين اتفقوا على انه كان كذابا أما نكاح الاخوات فقد نقل أن ذلك كان مباحا في زمن آدم عليه السلام وإنما حكم الله باباحة ذلك على سبيل الضرورة ورأيت بعض المشايخ أنكر ذلك وقال انه تعالى كان يبعث الحواري من الجنة ليزوج بهن أبناء آدم عليه السلام وهذا بعيد لأنه إذا كان زوجات أبنائه وأزواج بناته من أهل الجنة فحينئذ لا يكون هذا النسل من أولاد آدم فقط وذلك بالاجماع باطل وذكر العلماء أن السبب لهذا التحريم أن الوطء إذلال وإهانة فان الانسان يستحي من ذكره ولا يقدم عليه إلا في الموضع الخالي وأكثر أنواع الشتم لا يكون إلا بذكره وإذا كان الأمر كذلك وجب صون الأمهات عنه لأن إنعام الأم

على الولد أعظم وجوه الانعام فوجب صونها عن هذا الاذلال والبنت بمنزلة جزء من الانسان وبعض منه قال عليه الصلاة والسلام ( فاطمة بضعة مني ) فيجب صونها عن هذا الاذلال لأن المباشرة معها تجري مجرى الاذلال وكذا القول في البقية والله أعلم ولنشرع الآن في التفاصيل فنقول
النوع الأول من المحرمات الأمهات وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي رحمه الله الأمهات جمع الأم والأم في الأصل أمهة فأسقط الهاء في التوحيد قال الشاعر
أمهتى خندف والياس أبي
وقد تجمع الأم على أمات بغير هاء وأكثر ما يستعمل في الحيوان غير الآدمي قال الراعي
كانت نجائب منذر ومحرق أماتهن وطرقهن فحيلا المسألة الثانية كل امرأة رجع نسبك اليها بالولادة من جهة أبيك أو من جهة أمك بدرجة أو بدرجات بإناث رجعت إليها أو بذكور فهي أمك ثم ههنا بحث وهو أن لفظ الأم لا شك أنه حقيقة في الأم الأصلية فأما في الجدات فاما ان يكون حقيقة أو مجازا فان كان لفظ الأم حقيقة في الأم الأصلية وفي الجدات فاما أن يكون لفظا متواطئا أو مشتركا فان كان لفظا متواطئا أعني أن يكون لفظ الأم موضوعا بازاء قدر مشترك بين الأم الأصلية وبين سائر الجدات فعلى هذا التقدير يكون قوله تعالى حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ نصا في تحريم الأم الأصلية وفي تحريم جميع الجدات وأما إن كان لفظ الام مشتركا في الأم الأصلية وفي الجدات فهذا يتفرع على أن اللفظ المشترك بين أمرين هل يجوز استعماله فيهما معا أم لا فمن جوزه حمل اللفظ ههنا على الكل وحينئذ يكون تحريم الجدات منصوصا عليه ومن قال لا يجوز فالقائلون بذلك لهم طريقان في هذا الموضع أحدهما أن لفظ الأم لا شك أنه أريد به ههنا الأم الأصلية فتحريم نكاحها مستفاد من هذا الوجه وأما تحريم نكاح الجدات فغير مستفاد من هذا النص بل من الاجماع والثاني أنه تعالى تكلم بهذه الآية مرتين يريد في كل مرة مفهوما آخر أما إذا قلنا لفظ الأم حقيقة في الأم الأصلية مجاز في الجدات فقد ثبت أنه لا يجوز استعمال اللفظ الواحد دفعة واحدة في حقيقته ومجازه معا وحينئذ يرجع الطريقان اللذان ذكرناهما فيما إذا كان لفظ الأم حقيقة في الأم الأصلية وفي الجدات
المسألة الثالثة قال الشافعي رحمه الله إذا تزوج الرجل بأمه ودخل بها يلزمه الحد وقال أبو حنيفة رحمه الله لا يلزمه حجة الشافعي أن وجود هذا النكاح وعدمه بمثابة واحدة فكان هذا الوطء زنا محضا فيلزمه الحد لقوله تعالى الزَّانِيَة ُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَة َ جَلْدَة ٍ ( النور 2 ) إنما قلنا إن وجود هذا النكاح وعدمه بمثابة واحدة لأنه تعالى قال حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وقد علم بالضرورة من دين محمد عليه الصلاة والسلام أن مراد الله تعالى من هذه الآية تحريم نكاحها وإذا ثبت هذا فنقول الموجود ليس إلا صيغة الايجاب والقبول فلو حصل هذا الانعقاد فاما أن يقال إنه حصل في الحقيقة أو في حكم الشرع والأول باطل لأن صيغة الايجاب والقبول كلام وهو عرض لا يبقى والقبول لا يوجد إلا بعد الايجاب وحصول الانعقاد بين الموجود والمعدوم محال والثاني باطل لأن الشرع بين في هذه الآية بطلان هذا

العقد قطعا ومع كون هذا العقد باطلا قطعا في حكم الشرع كيف يمكن القول بأنه منعقد شرعا فثبت أن وجود هذا العقد وعدمه بمثابة واحدة وإذا ثبت ذلك فباقي التفريع والتقرير ما تقدم
النوع الثاني من المحرمات البنات وفيه مسألتان
المسألة الأولى كل أنثى يرجع نسبها اليك بالولادة بدرجة أو بدرجات باناث أو بذكرو فهي بنتك وأما بنت الابن وبنت البنت فهل تسمى بنتا حقيقة أو مجازا فالبحث فيه عين ما ذكرناه في الأمهات
المسألة الثانية قال الشافعي رحمه الله البنت المخلوقة من ماء الزنا لا تحرم على الزاني وقال أبو حنيفة تحرم حجة الشافعي أنها ليست بنتاً له فوجب أن لا تحرم إنما قلنا إنها ليست بنتا لوجوه الأول أن أبا حنيفة إما أن يثبت كونها بنتا له بناء على الحقيقة وهي كونها مخلوقة من مائه أو بناء على حكم الشرع بثبوت هذا النسب والأول باطل على مذهبه طردا وعكسا أما الطرد فهو أنه إذا اشترى جارية بكرا وافتضها وحبسها في داره فأتت بولد فهذا الولد معلوم أنه مخلوق من مائه مع أن أبا حنيفة قال لا يثبت نسبها إلا عن الاستلحاق ولو كان السبب هو كون الولد متخلقا من مائه لما توقف في ثبوت هذا النسب بغير الاستلحاق وأما العكس فهو أن المشرقي إذا تزوج بالمغربية وحصل هناك ولد فأبو حنيفة أثبت النسب هنا مع القطع بأنه غير مخلوق من مائه فثبت أن القول بجعل التخليق من مائه سببا للنسب باطل طردا وعكسا على قول أبي حنيفة وأما إذا قلنا النسب إنما يثبت بحكم الشرع فههنا أجمع المسلمون على أنه لا نسب لولد الزنا من الزاني ولو انتسب إلى الزاني لوجب على القاضي منعه من ذلك الانتساب فثبت أن انتسابها اليها غير ممكن لا بناء على الحقيقة ولا بناء على حكم الشرع
الوجه الثاني التمسك بقوله عليه الصلاة والسلام ( الولد للفراش وللعاهر الحجر ) فقوله الولد للفراش يقتضي حصر النسب في الفراش
الوجه الثالث لو كانت بنتاً له لأخذت الميراث لقوله تعالى لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ ( النساء 11 ) ولثبتت له ولاية الاجبار لقوله عليه السلام ( زوجوا بناتكم الاكفاء ) ولوجب عليه نفقتها وحضانتها ولحلت الخلوة بها فلما لم يثبت شيء من ذلك علمنا انتفاء البنتية وإذا ثبت أنها ليست بنتاً له وجب أن يحل التزوج بها لأن حرمة التزوج بها إما للبنتية أو لأجل أن الزنا يوجب حرمة المصاهرة وهذا الحصر ثابت بالاجماع والبنتية باطلة كما ذكرنا وحرمة المصاهرة بسبب الزنا أيضا باطلة كما تقدم شرح هذه المسألة فثبت أنها غير محرمة على الزاني والله أعلم
النوع الثالث من المحرمات الأخوات ويدخل فيه الأخوات من الأب والأم معا والأخوات من الأب فقط والأخوات منالأم فقط
النوع الرابع والخامس العمات والخالات قال الواحدي رحمه الله كل ذكر رجع نسبك اليه فأخته عمتك وقد تكون العمة من جهة الأم وهي أخت أبي أمك وكل أنثى رجع نسبك اليها بالولادة فأختها خالتك وقد تكون الخالة من جهة الأب وهي أخت أم أبيك
النوع السادس والسابع بنات الأخ وبنات الأخت والقول في بنات الأخ وبنات الأخت كالقول في

بنات الصلب فهذه الأقسام السبعة محرمة في نص الكتاب بالانساب والارحام قال المفسرون كل امرأة حرم الله نكاحها للنسب والرحم فتحريمها مؤبد لا يحل بوجه من الوجوه وأما اللواتي يحل نكاحهن ثم يصرن محرمات بسبب طارىء فهن اللاتي ذكرن في باقي الآية
النوع الثامن والتاسع
قوله تعالى وَأُمَّهَاتُكُمُ الْلاَّتِى أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُم مّنَ الرَّضَاعَة ِ
وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي رحمه الله المرضعات سماهن أمهات لأجل الحرمة كما أنه تعالى سمى أزواج النبي عليه السلام أمهات المؤمنين في قوله وَأَزْواجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ( الأحزاب 6 ) لأجل الحرمة
المسألة الثانية أنه تعالى نص في هذه الآية على حرمة الأمهات والأخوات من جهة الرضاعة إلا أن الحرمة غير مقصورة عليهن لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ) وإنما عرفنا أن الأمر كذلك بدلالة هذه الآيات وذلك لأنه تعالى لما سمى المرضعة أماً والمرضعة أختا فقد نبه بذلك على أنه تعالى أجرى الرضاع مجرى النسب وذلك لانه تعالى حرم بسبب النسب سبعا اثنتان منها هما المنتسبتان بطريق الولادة وهما الأمهات والبنات وخمس منها بطريق الأخوة وهو الأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت ثم انه تعالى لما شرع بعد ذلك في أحوال الرضاع ذكر من هذين القسمين صورة واحدة تنبيها بها على الباقي فذكر من قسم قرابة الولادة الأمهات ومن قسم قرابة الاخوة الأخوات ونبه بذكر هذين المثالين من هذين القسمين على أن الحال في باب الرضاع كالحال في النسب ثم انه عليه السلام أكد هذا البيان بصريح قوله ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ) فصار صريح الحديث مطابقاً لمفهوم الآية وهذا بيان لطيف
المسألة الثالثة أم الأنسان من الرضاع هي التي أرضعته وكذلك كل امرأة انتسبت الى تلك المرضعة بالأمومة إما من جهة النسب أو من جهة الرضاع والحال في الأب كما في الأم واذا عرفت الأم والأب فقد عرفت البنت أيضا بذلك الطريق وأما الأخوات فثلاثة الأولى أختك لأبيك وأمك وهي الصغيرة الأجنبية التي أرضعتها أمك بلبن أبيك سواء أرضعتها معك أو مع ولد قبلك أو بعدك والثانية أختك لأبيك دون أمك وهي التي أرضعتها زوجة أبيك بلبن أبيك والثالثة أختك لأمك دون أبيك وهي التي أرضعتها أمك بلبن رجل آخر واذا عرفت ذلك سهل عليك معرفة العمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت
المسألة الرابعة قال الشافعي رحمة الله عليه الرضاع يحرم بشرط أن يكون خمس رضعات وقال أبو حنيفة رضي الله عنه الرضعة الواحدة كافية وقد مرت هذه المسألة في سورة البقرة واحتج أبو بكر الرازي بهذه الآية فقال انه تعالى علق هذا الاسم يعني الأمومة والاخوة بفعل الرضاع فحيث حصل هذا الفعل وجب أن يترتب عليه الحكم ثم سأل نفسه فقال ان قوله تعالى وَأُمَّهَاتُكُمُ الْلاَّتِى أَرْضَعْنَكُمْ

بمنزلة قول القائل وأمهاتكم اللاتي أعطينكم وأمهاتكم اللاتي كسونكم وهذا يقتضي تقدم حصول صفة الأمومة والأختية على فعل الرضاع بل لو أنه تعالى قال اللاتي أرضعنكم هن أمهاتكم لكان مقصودكم حاصلا
وأجاب عنه بأن قال الرضاع هو الذي يكسوها سمة الأمومة فلما كان الاسم مستحقا بوجود الرضاع كان الحكم معلقا به بخلاف قوله وأمهاتكم اللاتي كسونكم لأن اسم الأمومة غير مستفاد من الكسوة قال ويدل على أن ذلك مفهوم من هذه الآية ما روي أنه جاء رجل الى ابن عمر رضي الله عنهما فقال قال ابن الزبير لا بأس بالرضعة ولا بالرضعتين فقال ابن عمر قضاء الله خير من قضاء ابن الزبير قال الله تعالى وَأَخَواتُكُم مّنَ الرَّضَاعَة ِ قال فعقل ابن عمر من ظاهر اللفظ التحريم بالرضاع القليل
واعلم أن هذا الجواب ركيك جداً أما قوله ان اسم الأمومة إنما جاء من فعل الرضاع فنقول وهل النزاع الا فيه فان عندي أن اسم الأمومة إنما جاء من الرضاع خمس مرات وعندك إنما جاء من أصل الرضاع وأنت إنما تمسكت بهذه الآية لاثبات هذا الأصل فاذا أثبت التمسك بهذه الآية على هذا الأصل كنت قد أثبت الدليل بالمدلول وإنه دور وساقط وأما التمسك بأن ابن عمر فهم من الآية حصول التحريم بمجرد فعل الرضاع فهو معارض بما أن ابن الزبير ما فهمه منه وكان كل واحد منهما من فقهاء الصحابة ومن العلماء بلسان العرب فكيف جعل فهم أحدهما حجة ولم يجعل فهم الآخر حجة على قول خصمه ولولا التعصب الشديد المعمي للقلب لما خفي ضعف هذه الكلمات ثم ان أبا بكر الرازي أخد يتمسك في إثبات مذهبه بالأحاديث والأقيسة ومن تكلم في أحكام القرآن وجب أن لا يذكر إلا ما يتسنبطه من الآية فأما ما سوى ذلك فانما يليق بكتب الفقه
النوع العاشر من المحرمات
قوله تعالى وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وفيه مسألتان
المسألة الأولى يدخل في هذه الآية الأمهات الأصلية وجميع جداتها من قبل الأب والأم كما بينا مثله في النسب
المسألة الثانية مذهب الأكثرين من الصحابة والتابعين أن من تزوج بامرأة حرمت عليه أمها سواء دخل بها أو لم يدخل وزعم جمع من الصحابة أن أم المرأة إنما تحرم بالدخول بالبنت كما أن الربيبة إنما تحرم بالدخول بأمها وهو قول علي وزيد وابن عمر وابن الزبير وجابر وأظهر الروايات عن ابن عباس وحجتهم أنه تعالى ذكر حكمين وهو قوله وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِى فِى حُجُورِكُمْ ثم ذكر شرطا وهو قوله مّن نِّسَائِكُمُ اللَّاتِى دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فوجب أن يكون ذلك الشرط معتبرا في الجملتين معا وحجة القول الأول أن قوله تعالى وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ جملة مستقلة بنفسها ولم يدل الدليل على عود ذلك الشرط اليه فوجب القول ببقائه على عمومه وإنما قلنا إن هذا الشرط غير عائد لوجوه الأول وهو أن

الشرط لا بد من تعليقه بشيء سبق ذكره فاذا علقناه باحدى الجملتين لم يكن بنا حاجة إلى تعليقه بالجملة الثانية فكان تعليقه بالجملة الثانية تركا للظاهر من غير دليل وانه لا يجوز الثاني وهو أن عموم هذه الجملة معلوم وعود الشرط اليه محتمل لأنه يجوز أن يكون الشرط مختصاً بالجملة الأخيرة فقط ويجوز أن يكون عائدا إلى الجملتين معا والقول بعود هذا الشرط إلى الجملتين ترك لظاهر العموم بمخصص مشكوك وانه لا يجوز الثالث وهو أن هذا الشرط لو عاد إلى الجملة الأولى فاما أن يكون مقصورا عليها وإما أن يكون متعلقا بها وبالجملة الثانية أيضاً والأول باطل لأن على هذا التقدير يلزم القول بتحريم الربائب مطلقا وذلك باطل بالاجماع والثاني باطل أيضا لأن على هذا التقدير يصير نظم الآية هكذا وأمهات نسائكم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فيكون المراد بكلمة ( من ) ههنا التمييز ثم يقول وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فيكون المراد بكلمة ( من ) ههنا ابتداء الغاية كما يقول بنات الرسول من خديجة فيلزم استعمال اللفظ الواحد المشترك في كلا مفهوميه وانه غير جائز ويمكن أن يجاب عنه فيقال إن كلمة ( من ) للاتصال كقوله تعالى وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ( التوبة 71 ) وقال عليه الصلاة والسلام ( ما أنا من دد ولا الدد مني ) ومعنى مطلق الاتصال حاصل في النساء والربائب معا
الوجه الرابع في الدلالة على ما قلناه ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال إذا نكح الرجل المرأة فلا يحل له أن يتزوج أمها دخل بالبنت أو لم يدخل واذا تزوج الأم فلم يدخل بها ثم طلقها فان شاء تزوج البنت وطعن محمد بن جرير الطبري في صحة هذا الحديث وكان عبدالله بن مسعود يفتي بنكاح أم المرأة إذا طلق بنتها قبل المسيس وهو يومئذ بالكوفة فاتفق أن ذهب الى المدينة فصادفهم مجمعين على خلاف فتواه فلما رجع الى الكوفة لم يدخل داره حتى ذهب الى ذلك الرجل وقرع عليه الباب وأمره بالنزول عن تلك المرأة وروى قتادة عن سعيد بن المسيب أن زيد بن ثابت قال الرجل إذا طلق امرأته قبل الدخول وأراد أن يتزوج أمها فان طلقها قبل الدخول تزوج أمها وإن ماتت لم يتزوج أمها واعلم أنه إنما فرق بين الموت والطلاق في التحريم لأن الطلاق قبل الدخول لا يتعلق به شيء من أحكام الدخول ألا ترى أنه لا يجب عليها عدة وأما الموت فلما كان في حكم الدخول في باب وجوب العدة لا جرم جعله الله سببا لهذا التحريم
النوع الحادي عشر من المحرمات
قوله تعالى وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِى فِى حُجُورِكُمْ مّن نِّسَائِكُمُ اللَّاتِى دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ
وفيه مسائل
المسألة الأولى الربائب جمع ربيبة وهي بنت امرأة الرجل من غيره ومعناها مربوبة لأن الرجل

هو يربها يقال ربيت فلانا أربه وربيته أربيه بمعنى واحد والحجور جمع حجر وفيه لغتان قال ابن السكيت حجر الانسان وحجره بالفتح والكسر والمراد بقوله فِى حُجُورِكُمْ أي في تربيتكم يقال فلان في حجر فلان إذا كان في تربيته والسبب في هذه الاستعارة أن كل من ربى طفلا أجلسه في حجره فصار الحجر عبارة عن التربية كما يقال فلان في حضانة فلان وأصله من الحضن الذي هو الابط وقال أبو عبيدة في حجوركم أي في بيوتكم
المسألة الثانية روى مالك بن أوس بن الحدثان عن علي رضي الله عنه أنه قال الربيبة إذا لم تكن في حجر الزوج وكانت في بلد آخر ثم فارق الأم بعد الدخول فانه يجوز له أن يتزوج الربيبة ونقل أنه رضوان الله عليه احتج على ذلك بأنه تعالى قال وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِى فِى حُجُورِكُمْ شرط في كونها ربيبة له كونها في حجره فاذا لم تكن في تربيته ولا في حجره فقد فات الشرط فوجب أن لا تثبت الحرمة وهذا استدلال حسن وأما سائر العلماء فانهم قالوا إذا دخل بالمرأة حرمت عليه ابنتها سواء كانت في تربيته أو لم تكن والدليل عليه قوله تعالى فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ علق رفع الجناح بمجرد عدم الدخول وهذا يقتضي أن المقتضى لحصول الجناح هو مجرد الدخول وأما الجواب عن حجة القول الأول فهو أن الأعم الأغلب أن بنت زوجة الانسان تكون في تربيته فهذا الكلام على الأعم لا أن هذا القيد شرط في حصول هذا التحريم
المسألة الثالثة تمسك أبو بكر الرازي في إثبات أن الزنا يوجب حرمة المصاهرة بقوله تعالى وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِى فِى حُجُورِكُمْ مّن نِّسَائِكُمُ اللَّاتِى دَخَلْتُمْ بِهِنَّ قال لأن الدخول بها اسم لمطلق الوطء سواء كان الوطء نكاحا أو سفاحا فدل هذا على أن الزنا بالأم يوجب تحريم البنت وهذا الاستدلال في نهاية الضعف وذلك لأن هذه الآية مختصة بالمنكوحة لدليلين الأول أن هذه الآية إنما تناولت امرأة كانت من نسائه قبل دخوله بها والمزني بها ليست كذلك فيمتنع دخولها في الآية بيان الأول من وجهين الأول أن قوله مّن نِّسَائِكُمُ اللَّاتِى دَخَلْتُمْ بِهِنَّ يقتضي أن كونها من نسائه يكون متقدما على دخوله بها والثاني أنه تعالى قسم نساءهم إلى من تكون مدخولا بها وإلى من لا تكون كذلك بدليل قوله فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ وإذا كان نساؤهم منقسمة إلى هذين القسمين علمنا أن كون المرأة من نسائه أمر مغاير للدخول بها وأما بيان أن المزنية ليست كذلك فذلك لأن في النكاح صارت المرأة بحكم العقد من نسائه سواء دخل بها أو لم يدخل بها أما في الزنا فانه لم يحصل قبل الدخول بها حالة أخرى تقتضي صيرورتها من نسائه فثبت بهذا أن المزنية غير داخلة في هذه الآية الثاني لو أوصى لنساء فلان لا تدخل هذه الزانية فيهن وكذلك لو حلف على نساء بني فلان لا يحصل الحنث والبر بهذه الزانية فثبت ضعف هذا الاستدلال والله أعلم
النوع الثاني عشر من المحرمات
قوله تعالى وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وفيه مسائل

المسألة الأولى قال الشافعي رحمه الله لا يجوز للأب أن يتزوج بجارية ابنه وقال أبو حنيفة رضي الله عنه إنه يجوز احتج الشافعي فقال جارية الابن حليلة وحليلة الابن محرمة على الأب أما المقدمة الأولى فبيانها بالبحث عن الحليلة فنقول الحليلة فعيلة فتكون بمعنى الفاعل أو بمعنى المفعول ففيه وجهان أحدهما أن يكون مأخوذا من الحل الذي هو الاباحة فالحليلة تكون بمعنى المحلة أي المحللة ولا شك أن الجارية كذلك فوجب كونها حليلة له الثاني أن يكون ذلك مأخوذا من الحلول فالحليلة عبارة عن شيء يكون محل الحلول ولا شك أن الجارية موضع حلول السيد فكانت حليلة له أما إذا قلنا الحليلة بمعنى الفاعل ففيه وجهان أيضاً الأول أنها لشدة اتصال كل واحد منهما بالآخر كأنهما يحلان في ثوب واحد وفي لحاف واحد وفي منزل واحد ولا شك أن الجارية كذلك الثاني ان كل واحد منهما كأنه حال في قلب صاحبه وفي روحه لشدة ما بينهما من المحبة والالفة فثبت بمجموع ما ذكرناه أن جارية الابن حليلة وأما المقدمة الثانية وهي أن حليلة الابن محرمة على الأب لقوله تعالى وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ لا يقال إن أهل اللغة يقولون حليلة الرجل زوجته لأنا نقول إنا قد بينا بهذه الوجوه الأربعة من الاشتقاقات الظاهرة أن لفظ الحليلة يتناول الجارية فالنقل الذي ذكرتموه لا يلتفت اليه فكيف وهو شهادة على النفي فانا لا ننكر أن لفظ الحليلة يتناول الزوجة ولكنا نفسره بمعنى يتناول الزوجة والجارية فقول من يقول إنه ليس كذلك شهادة على النفي ولا يلتفت إليه
المسألة الثانية قوله الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ احترازاً عن المتبني وكان المتبني في صدر الإسلام بمنزلة الابن ولا يحرم على الانسان حليلة من ادعاه ابنا إذا لم يكن من صلبه نكح الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) زينب بنت جحش الأسدية وهي بنت أميمة بنت عبد المطلب وكانت زينب ابنة عمة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعد أن كانت زوجة زيد بن حارثة فقال المشركون إنه تزوج امرأة ابنه فأنزل الله تعالى وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ( الأحزاب 4 ) وقال لِكَى ْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِى أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ ( الأحزاب 37 )
المسألة الثالثة ظاهر قوله وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ لا يتناول حلائل الأبناء من الرضاعة فلما قال في آخر الآية وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ لزم من ظاهر الآيتين حل التزوج بأزواج الأبناء من الرضاع إلا أنه عليه السلام قال ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ) فاقتضى هذا تحريم التزوج بحليلة الابن من الرضاع لأن قوله وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ يتناول الرضاع وغير الرضاع فكان قوله ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ) أخص منه فخصصوا عموم القرآن بخبر الواحد والله أعلم
المسألة الرابعة اتفقوا على أن حرمة التزوج بحليلة الابن تحصل بنفس العقد كما أن حرمة التزوج بحليلة الأب تحصل بنفس العقد وذلك لأن عموم الآية يتناول حليلة الابن سواء كانت مدخولا بها أو لم تكن أما ما روي ان ابن عباس سئل عن قوله وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ أنه تعالى لم يبين أن هذا الحكم مخصوص بما إذا دخل الابن بها أو غير مخصوص بذلك فقال ابن عباس أبهموا ما أبهمه الله فليس مراده من هذا الابهام كونها مجملة مشتبهة بل المراد من هذا الابهام التأييد ألا ترى أنه قال في السبعة المحرمة من جهة النسب انها من المبهمات أي من اللواتي تثبت حرمتهن على سبيل التأبيد

فكذا ههنا والله أعلم
المسألة الخامسة اتفقوا على أن هذه الآية تقتضي تحريم حليلة ولد الولد على الجد وهذا يدل على أن ولد الولد يطلق عليه أنه من صلب الجد وفيه دلالة على أن ولد الولد منسوب إلى الجد بالولادة
النوع الثالث عشر من المحرمات
قوله تعالى وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاْخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً في الآية مسائل
المسألة الأولى قوله وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاْخْتَيْنِ في محل الرفع لأن التقدير حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم والجمع بين الأختين
المسألة الثانية الجمع بين الأختين يقع على ثلاثة أوجه إما أن ينكحهما معا أو يملكهما معاً أو ينكح إحداهما ويمكل الاخرى أما الجمع بين الأختين في النكاح فذلك يقع على وجهين أحدهما أن يعقد عليهما جميعا فالحكم ههنا إما الجمع أو التعيين أو التخيير أو الابطال أما الجمع فباطل بحكم هذه الآية هكذا قالوا إلا أنه مشكل على أصل أبي حنيفة رضي الله عنه لأن الحرمة لا تقتضي الابطال على قول أبي حنيفة ألا ترى أن الجمع بين الطلقات حرام على قوله ثم انه يقع وكذا النهي عن بيع الدرهم بالدرهمين لم يمنع من انعقاد هذا العقد وكذا القول في جميع المبايعات الفاسدة فثبت أن الاستدلال بالنهي على الفساد لا يستقيم على قوله
فان قالوا وهذا يلزمكم أيضا لأن الطلاق في زمان الحيض وفي طهر جامعها فيه منهي عنه ثم انه يقع
قلنا بين الصورتين فرق دقيق لطيف ذكرناه في الخلافيات فمن أراده فليطلب ذلك الكتاب فثبت أن الجمع باطل وأما أن التعيين أيضا باطل فلأن الترجيح من غير مرجح باطل وأما أن التخيير أيضا باطل فلأن القول بالتخيير يقتضي حصول العقد وبقاءه إلى أوان التعيين وقد بينا بطلانه فلم يبق إلا القول بفساد العقدين جميعا
الصورة الثانية من صور الجمع وهي أن يتزوج إحداهما ثم يتزوج الأخرى بعدها فههنا يحكم ببطلان نكاح الثانية لأن الدفع أسهل من الرفع وأما الجمع بين الأختين بملك اليمين أو بأن ينكح إحداهما ويشتري الأخرى فقد اختلفت الصحابة فيه فقال علي وعمر وابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عمر لا يجوز الجمع بينهما والباقون جوزوا ذلك أما الأولون فقد احتجوا على قولهم بأن ظاهر الآية يقتضي تحريم الجمع بين الأختين مطلقا فوجب أن يحرم الجمع بينهما على جميع الوجوه وعن عثمان أنه قال أحلتهما آية وحرمتهما آية والتحليل أولى فالآية الموجبة للتحليل هي قوله وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ ( النساء 24 ) وقوله إِلاَّ عَلَى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ( المؤمنون 6 )
والجواب عنه من وجهين الأول أن هذه الآيات دالة على تحريم الجمع أيضا لأن المسلمين

أجمعوا على أنه لا يجوز الجمع بين الأختين في حل الوطء فنقول لو جاز الجمع بينهما في الملك لجاز الجمع بينهما في الوطء لقوله تعالى وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ( المعارج 29 30 المؤمنون 5 6 ) لكنه لا يجوز الجمع بينهما في الملك فثبت أن هذه الآية بأن تكون دالة على تحريم الجمع بينهما في الملك أولى من أن تكون دالة على الجواز
الوجه الثاني إن سلمنا دلالتها على جواز الجمع لكن نقول الترجيح لجانب الحرمة ويدل عليه وجوه الأول قوله عليه الصلاة والسلام ( ما اجتمع الحرام والحلال إلا وغلب الحرام الحلال ) الثاني أنه لا شك أن الاحتياط في جانب الترك فيجب لقوله عليه الصلاة والسلام ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ) الثالث أن مبنى الابضاع في الأصل على الحرمة بدليل أنه إذا استوت الامارات في حصول العقد مع شرائطه وفي عدمه وجب القول بالحرمة ولأن النكاح مشتمل على المنافع العظيمة فلو كان خاليا عن جهة الاذلال والضرر لوجب أن يكون مشروعا في حق الأمهات لأن إيصال النفع اليهن مندوب لقوله تعالى وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً ( البقرة 83 ) ولما كان ذلك محرما علمنا اشتماله على وجه الاذلال والمضارة وإذا كان كذلك كان الأصل فيه هو الحرمة والحل إنما ثبت بالعارض وإذا ثبت هذا ظهر أن الرجحان لجانب الحرمة فهذا هو تقرير مذهب علي رضي الله عنه في هذا الباب أما إذا أخذنا بالمذهب المشهور بين الفقهاء وهو أنه يجوز الجمع بين أمتين أختين في ملك اليمين فاذا وطىء إحداهما حرمت الثانية ولا تزول هذه الحرمة ما لم يزل ملكه عن الأولى ببيع أو هبة أو عتق أو كتابة أو تزويج
المسألة الثالثة قال الشافعي رضي الله عنه نكاح الأخت في عدة الأخت البائن جائز وقال أبو حنيفة رحمة الله عليه لا يجوز حجة الشافعي أنه لم يوجد الجمع فوجب أن لا يحصل المنع إنما قلنا إنه لم يوجد الجمع لأن نكاح المطلقة زائل بدليل أنه لا يجوز له وطؤها ولو وطئها يلزمه الحد وإنما قلنا انه لما لم يوجد الجمع وجب أن لا يحصل المنع لقوله تعالى بعد تقرير المحرمات وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ ( النساء 24 ) ولا شبهة في انتفاء جميع تلك الموانع إلا كونه جمعا بين أختين فاذا ثبت بالدليل أن الجمع منتف وجب القول بالجواز
فان قيل النكاح باق من عبض الوجوه بدليل وجوب العدة ولزوم النفقة عليها
قلنا النكاح له حقيقة واحدة والحقيقة الواحدة يمتنع كونها موجودة معدومة معا بل لو انقسمت هذه الحقيقة الى نصفين حتى يكون أحدهما موجودا والآخر معدوما صح ذلك أما إذا كانت الحقيقة الواحدة غير قابلة للتنصيف كان هذا القول فاسدا وأما وجوب العدة ولزوم النفقة فاعلم أنه ان حصل النكاح حصلت القدرة على حبسها وهذا لا ينتج أنه حصلت القدرة على حبسها للنكاح لأن استثناء عين التالي لا ينتج فبالجملة فاثبات حق الحبس بعد زوال النكاح بطريق آخر معقول في الجملة فاما القول ببقاء النكاح حال القول بعدمه فذلك مما لا يقبله العقل وتخريج أحكام الشرع على وفق العقول أولى من حملها على ما يعرف بطلانها في بداهة العقول والله أعلم
المسألة الرابعة قال الشافعي رحمة الله عليه إذا أسلم الكافر وتحته أختان اختار أيتهما شاء وفارق الأخرى وقال أبو حنيفة رضي الله عنه ان كان قد تزوج بهما دفعة واحدة فرق بينه وبينهما وان كان قد

تزوج باحداهما أولا وبالأخرى ثانيا اختار الأولى وفارق الثانية واحتج أبو بكر الرازي لأبي حنيفة بقوله وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاْخْتَيْنِ قال هذا خطاب عام فيتناول المؤمن والكافر وإذا ثبت أنه تناول الكافر وجب أن يكون النكاح فاسدا لأن النهي يدل على الفساد فيقال له انك بنيت هذا الاستدلال على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع وعلى أن النهي يدل على الفساد وأبو حنيفة لا يقول بواحد من هذين الأصلين فان قال فهما صحيحان على قولكم فكان هذا الاستدلال لازما عليكم فنقول قولنا الكفار مخاطبون بفروع الشرائع لا نعني به في أحكام الدنيا فانه ما دام كافرا لا يمكن تكليفه بفروع الإسلام وإذا أسلم سقط عنه كل ما مضى بالاجماع بل المراد منه أحكام الآخرة وهو أن الكافر يعاقب بترك فروع الإسلام كما يعاقب على ترك الإسلام إذا عرفت هذا فنقول أجمعنا على أنه لو تزوج الكافر بغير ولي ولا شهود أو تزوج بها على سبيل القهر فبعد الإسلام يقر ذلك النكاح في حقه فثبت أن الخطاب بفروع الشرائع لا يظهر أثره في الأحكام الدنيوية في حق الكافر وحجة الشافعي أن فيروز الديلمي أسلم على ثمان نسوة فقال عليه الصلاة والسلام ( اختر أربعا وفارق سائرهن ) خيره بينهن وذلك ينافي ما ذكرتم من الترتيب والله أعلم
المسألة الخامسة قوله تعالى إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ فيه الاشكال المشهور وهو أن تقدير الآية حرمت عليكم أمهاتكم وكذا وكذا الا ما قد سلف وهذا يقتضي استنثاء الماضي من المستقبل وإنه لا يجوز وجوابه بالوجوه المذكورة في قوله وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ مّنَ النّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ مَا سَلَفَ والمعنى أن ما مضى بدليل قوله إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً
النوع الرابع عشر من المحرمات
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَآءِ إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُمْ مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَأاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَة ً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَة ِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً
قوله تعالى وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ
فيه مسائل
المسألة الأولى الاحصان في اللغة المنع وكذلك الحصانة يقال مدينة حصينة ودرع حصينة أي مانعة صاحبها من الجراحة قال تعالى وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَة َ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مّن بَأْسِكُمْ ( الأنبياء 80 ) معناه لتمنعكم وتحرزكم والحصن الموضع الحصين لمنعه من يريده بالسوء والحصان بالكسر الفرس الفحل لمنعه صاحبه من الهلاك والحصان بالفتح المرأة العفيفة لمنعها فرجها من الفساد قال تعالى وَمَرْيَمَ ابْنَة َ عِمْرَانَ الَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا ( التحريم 12 )
واعلم أن لفظ الاحصان جاء في القرآن على وجوه أحدها الحرية كما في قوله تعالى وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ( النور 4 ) يعني الحرائر ألا ترى أنه لو قذف غير حر لم يجلد ثمانين وكذلك قوله فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ النساء 25 يعني الحرائر وكذلك قوله مُحْصَنَات غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ ( النساء 25 ) وقوله مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وقوله وَالَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا ( الأنبياء 91 )

أي أعفته وثالثها الإسلام من ذلك قوله فَإِذَا أُحْصِنَّ قيل في تفسيره إذا أسلمن ورابعها كون المرأة ذات زوج يقال امرأة محصنة إذا كانت ذات زوج وقوله وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ يعني ذوات الأزواج والدليل على أن المراد ذلك أنه تعالى عطف المحصنات على المحرمات فلا بد وأن يكون الاحصان سببا للحرمة ومعلوم أن الحرية والعفاف والاسلام لا تأثير له في ذلك فوجب أن يكون المراد منه المزوجة لأن كون المرأة ذات زوج له تأثير في كونها محرمة على الغير
واعلم أن الوجوه الأربعة مشتركة في المعنى الأصلي اللغوي وهو المنع وذلك لأنا ذكرنا أن الاحصان عبارة عن المنع فالحرية سبب لتحصين الانسان من نفاذ حكم الغير فيه والعفة أيضا مانعة للانسان عن الشروع فيما لا ينبغي وكذلك الإسلام مانع من كثير مما تدعو إليه النفس والشهوة والزوج أيضا مانع للزوجة من كثير من الأمور والزوجة مانعة للزوج من الوقوع في الزنا ولذلك قال عليه الصلاة والسلام ( من تزوج فقد حصن ثلثي دينه ) فثبت أن المرجع بكل هذه الوجوه إلى ذلك المعنى اللغوي والله أعلم
المسألة الثانية قال الواحدي اختلف القراء في الْمُحْصَنَاتِ فقرؤا بكسر الصاد وفتحها في جميع القرآن إلا التي في هذه الآية فانهم أجمعوا على الفتح فيها فمن قرأ بالكسر جعل الفعل لهن يعني أسلمن واخترن العفاف وتزوجن وأحسن أنفسهن بسبب هذه الأمور ومن قرأ بالفتح جعل الفعل لغيرهن يعني أحصنهن أزواجهن والله أعلم
المسألة الثالثة قال الشافعي رحمة الله عليه الثيب الذمي إذا زنى يرجم وقال أبو حنيفة رضي الله عنه لا يرجم حجة الشافعي أنه حصل الزنا مع الاحصان وذلك علة لاباحة الدم فوجب أن يثبت إباحة الدم وإذا ثبت ذلك وجب أن يكون ذلك بطريق الرجم أما قولنا حصل الزنا مع الاحصان فهذا يعتمد اثبات قيدين أحدهما حصول الزنا ولا شك فيه الثاني حصول الاحصان وهو حاصل لأن قوله تعالى وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النّسَاء يدل على أن المراد من المحصنة المزوجة وهذه المرأة مزوجة فهي محصنة فثبت أنه حصل الزنا مع الاحصان وإنما قلنا ان الزنا مع الاحصان علة لاباحة الدم لقوله عليه الصلاة والسلام ( لا يحل دم امرىء مسلم الا لاحدى معان ثلاثة ) ومنها قوله ( وزنا بعد إحصان ) جعل الزنا بعد الاحصان علة لاباحة الدم في حق المسلم والمسلم محل لهذا الحكم أما العلة فهي مجرد الزنا بعد الاحصان بدليل أن لام التعليل إنما دخل عليه أقصى ما في الباب أنه حكم في حق المسلم أن الزنا بعد الاحصان علة لاباحة الدم إلا أن كونه مسلما محل الحكم وخصوص محل الحكم لا يمنع من التعدية إلى غير ذلك المحل والا لبطل القياس بالكلية وأما العلة فهي ما دخل عليه لام التعليل وهي ماهية الزنا بعد الاحصان وهذه الماهية لما حصلت في حق الثيب الذمي وجب أن يحصل في حقه اباحة الدم فثبت أنه مباح الدم ثم ههنا طريقان ان شئنا اكتفينا بهذا القدر فانا ندعي كونه مباح الدم والخصم لا يقول به

فصار محجوجا أو نقول لما ثبت أنه مباح الدم وجب أن يكون ذلك بطريق الرجم لأنه لا قائل بالفرق
فان قيل ما ذكرتم إن دل على أن الذمي محصن فههنا ما يدل على أنه غير محصن وهو قوله عليه الصلاة والسلام ( من أشرك بالله فليس بمحصن )
قلنا ثبت بالدليل الذي ذكرناه ان الذمي محصن وثبت بهذا الخبر الذي ذكرتم أنه ليس بمحصن فنقول إنه محصن بمعنى أنه ذات زوج وغير محصن بمعنى أنه لا يحد قاذفة وقوله من أشرك بالله فليس بمحصن يجب حمله على أنه لا يحد قاذفه لا على أنه لا يحد على الزنا لأنه وصفه بوصف الشرك وذلك جناية والمذكور عقيب الجناية لا بد وأن يكون أمرا يصلح أن يكون عقوبة وقولنا انه لا يحد قاذفه يصلح أن يكون عقوبة أما قولنا لا يحد على الزنا لا يصلح أن يكون عقوبة له فكان المراد من قوله من أشرك بالله فليس بمحصن ما ذكرناه والله أعلم
المسألة الرابعة في قوله وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النّسَاء قولان أحدهما المراد منها ذوات الأزواج وعلى هذا التقدير ففي قوله إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ وجهان الأول أن المرأة إذا كانت ذات زوج حرمت على غير زوجها إلا إذا صارت ملكا لانسان فانها تحل للمالك الثاني أن المراد بملك اليمين ههنا ملك النكاح والمعنى أن ذوات الأزواج حرام عليكم إلا إذا ملكتموهن بنكاح جديد بعد وقوع البنيوية بينهن وبين أزواجهن والمقصود من هذا الكلام الزجر عن الزنا والمنع من وطئهن إلا بنكاح جديد أو بملك يمين إن كانت المرأة مملوكة وعبر عن ذلك بملك اليمين لأن ملك اليمين حاصل في النكاح وفي الملك
القول الثاني أن المراد ههنا بالمحصنات الحرائر والدليل عليه قوله تعالى بعد هذه الآية وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ( النساء 25 ) ذكر ههنا المحصنات ثم قال بعده وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ كان المراد بالمحصنات ههنا ما هو المراد هناك ثم المراد من المحصنات هناك الحرائر فكذا ههنا وعلى هذا التقدير ففي قوله إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ وجهان الأول المراد منه إلا العدد الذي جعله الله ملكا لكم وهو الأربع فصار التقدير حرمت عليكم الحرائر إلا العدد الذي جعله الله ملكا لكم وهو الأربع الثاني الحرائر محرمات عليكم إلا ما أثبت الله لكم ملكا عليهن وذلك عند حضور الولي والشهود وسائر الشرائط المعتبرة في الشريعة فهذا الأول في تفسير قوله إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ هو المختار ويدل عليه قوله تعالى وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ( المعارج 29 30 المؤمنون 5 6 ) جعل ملك اليمين عبارة عن ثبوت الملك فيها فوجب أن يكون ههنا مفسرا بذلك لأن تفسير كلام الله تعالى بكلام الله أقرب الطرق الى الصدق والصواب والله أعلم
المسألة الخامسة اتفقوا على أنه إذا سبى أحد الزوجين قبل الأخر وأخرج إلى دار الإسلام وقعت الفرقة أما إذا سبيا معا فقال الشافعي رضي الله عنه ههنا تزول الزوجية ويحل للمالك أن يستبرئها بوضع الحمل إن كانت حاملا من زوجها أو بالحيض وقال أبو حنيفة رحمة الله عليه لا تزول حجة الشافعي رضي الله عنه أن قوله وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النّسَاء يقتضي تحريم ذات الأزواج ثم قوله إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ يقتضي أن عند طريان الملك ترفع الحرمة ويحصل الحل قال أبو بكر الرازي لو حصلت الفرقة

بمجرد طريان الملك لوجب أن تقع الفرقة بشراء الأمة واتهابها وإرثها ومعلوم أنه ليس كذلك فيقال له كأنك ما سمعت أن العام بعد التخصيص حجة في الباقي وأيضا فالحاصل عند السبي إحداث الملك فيها وعند البيع نقل الملك من شخص إلى شخص فكان الأول أقوى فظهر الفرق
المسألة السادسة مذهب علي وعمر وعبد الرحمن بن عوف أن الأمة المنكوحة إذا بيعت لا يقع عليها الطلاق وعليه إجماع الفقهاء اليوم وقال أبي بن كعب وابن مسعود وابن عباس وجابر وأنس إنها إذا بيعت طلقت حجة الجمهور أن عائشة لما اشترت بريرة وأعتقتها خيرها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وكانت مزوجة ولو وقع الطلاق بالبيع لما كان لذلك التخيير فائدة ومنهم من روى في قصة بريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال ( بيع الأمة طلاقها ) وحجة أبي كعب وابن مسعود عموم الاستثناء في قوله إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ وحاصل الجواب عنه يرجع إلى تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد والله أعلم ثم إنه تعالى ختم ذكر المحرمات بقوله كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وفيه وجهان الأول أنه مصدر مؤكد من غير لفظ الفعل فان قوله حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ يدل على معنى الكتبة فالتقدير كتب عليكم تحريم ما تقدم ذكره من المحرمات كتابا من الله ومجيء المصدر من غير لفظ الفعل كثير نظيره وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَة ً وَهِى َ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ ( النمل 88 ) الثاني قال الزجاج ويجوز أن يكون منصوبا على جهة الأمر ويكون ( عليكم ) مفسرا له فيكون المعنى الزموا كتاب الله
ثم قال وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وَأُحِلَّ لَكُمْ على ما لم يسم فاعله عطفا على قوله حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ والباقون بفتح الألف والحاء عطفا على كِتَابِ اللَّهِ يعني كتب الله عليكم تحريم هذه الأشياء وأحل لكم ما وراءها
المسألة الثانية اعلم أن ظاهر قوله تعالى وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ يقتضي حل كل من سوى الأصناف المذكورة إلا أنه دل الدليل على تحريم أصناف أخر سوى هؤلاء المذكورين ونحن نذكرها
الصنف الأول لا يجمع بين المرأة وبين عمتها وخالتها قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ( وهذا خبر مشهور مستفيض وربما قيل إنه بلغ مبلغ التواتر وزعم الخوارج أن هذا خبر واحد وتخصيص عموم القرآن بخبر الواحد لا يجوز واحتجوا عليه بوجوه الأول أن عموم الكتاب مقطوع المتن ظاهر الدلالة وخبر الواحد مظنون المتن ظاهر الدلالة فكان خبر الواحد أضعف من عموم القرآن فترجيحه عليه بمقتضى تقديم الأضعف على الأقوى وإنه لا يجوز الثاني من جملة الأحاديث المشهورة خبر معاذ وإنه يمنع من تقديم خبر الواحد على عموم القرآن من وجهين لأنه قال بم تحكم قال بكتاب الله قال فان لم تجد قال بسنة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقدم التمسك بكتاب الله على التمسك بالسنة وهذا يمنع من تقديم السنة على الكتاب وأيضا فانه قال فان لم تجد قال بسنة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) علق جواز التمسك بالسنة على عدم الكتاب بكلمة ( إن ) وهي للاشتراط والمعلق على الشرط عدم عند عدم الشرط الثالث أن من الأحاديث المشهورة قوله عليه الصلاة والسلام ( إذا روي لكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله فان وافقه فاقبلوه وإلا فردوه ) فهذا الخبر يقتضي أن لا يقبل خبر الواحد إلا عند موافقة الكتاب فاذا كان خبر العمة

والخالة مخالفا لظاهر الكتاب وجب رده الرابع أن قوله تعالى وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ مع قوله عليه السلام لا تنكح المرأة على عمتها لا يخلو الحال فيهما من ثلاثة أوجه إما أن يقال الآية نزلت بعد الخبر فحينئذ تكون الآية ناسخة للخبر لأنه ثبت أن العام إذا ورد بعد الخاص كان العام ناسخا للخاص وإما أن يقال الخبر ورد بعد الكتاب فهذا يقتضي نسخ القرآن بخر الواحد وإنه لا يجوز وإما أن يقال وردا معا وهذا أيضا باطل لأن على هذا التقدير تكون الآية وحدها مشتبهة ويكون موضع الحجة مجموع الآية مع الخبر ولا يجوز للرسول المعصوم أن يسعى في تشهير الشبهة ولا يسعى في تشهير الحجة فكان يجب على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أن لا يسمع أحدا هذه الآية إلا مع هذا الخبر وأن يوجب إيجابا ظاهرا على جميع الأمة أن لا يبلغوا هذه الآية أحد إلا مع هذا الخبر ولو كان كذلك لزم أن يكون اشتهار هذا الخبر مساويا لاشتهار هذه الآية ولما لم يكن كذلك علمنا فساد هذا القسم
الوجه الخامس أن بتقدير أن تثبت صحة هذا الخبر قطعا إلا أن التمسك بالآية راجح على التمسك بالخبر وبيانه من وجهين الأول أن قوله وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ نص صريح في التحليل كما أن قوله حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ نص صريح في التحريم وأما قوله ( لا تنكح المرأة على عمتها ) فليس نصا صريحا لأن ظاهره إخبار وحمل الاخبار على النهي مجاز ثم بهذا التقدير فدلالة لفظ النهي على التحريم أضعف من دلالة لفظ الاحلال على معنى الاباحة الثاني أن قوله وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ صريح في تحليل كل ما سوى المذكورات وقوله لا تَنْكِحَ ليس صريحا في العموم بل احتماله للمعهود السابق أظهر
الوجه السادس أنه تعالى استقصى في هذه الآية شرح أصناف المحرمات فعد منها خمسة عشر صنفا ثم بعد هذا التفصيل التام والاستقصاء الشديد قال كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ فلو لم يثبت الحل في كل من سوى هذه الأصناف المذكورة لصار هذا الاستقصاء عبثا لغوا وذلك لا يليق بكلام أحكم الحاكمين فهذا تقرير وجوه السؤال في هذا الباب
والجواب على وجوه الأول ما ذكره الحسن وأبو بكر الأصم وهو أن قوله وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ لا يقتضى إثبات الحل على سبيل التأييد وهذا الوجه عندي هو الأصح في هذا الباب والدليل عليه أن قوله وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ إخبار عن إحلال كل ما سوى المذكورات وليس فيه بيان أن إحلال كل ما سوى المذكورات وقع على التأييد أم لا والدليل على أنه لا يفيد التأييد أنه يصح تقسيم هذا المفهوم إلى المؤبد وإلى غير المؤبد فيقال تارة وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أبداً وأخرى وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ إلى الوقت الفلاني ولو كان قوله وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ صريحا في التأييد لما كان هذا التقسيم ممكنا ولأن قوله وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ لا يفيد إلا إحلال من سوى المذكورات وصريح العقل يشهد بأن الاحلال أعم من الاحلال المؤبد ومن الاحلال المؤقت إذا ثبت هذا فنقول قوله وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ لا يفيد إلا حل من عدا المذكورات في ذلك الوقت فأما ثبوت حلهم في سائر الأوقات فاللفظ ساكت عنه بالنفي والاثبات وقد كان حل من سوى المذكورات ثابتا في ذلك الوقت وطريان حرمة بعضهم بعد ذلك لا يكون تخصيصا لذلك النص ولا نسخا له فهذا وجه حسن معقول مقرر وبهذا الطريق

نقول أيضا إن قوله حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ( النساء 23 ) ليس نصا في تأبيد هذا التحريم وإن ذلك التأبيد إنما عرفناه بالتواتر من دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لا من هذا اللفظ فهذا هو الجواب المعتمد في هذا الموضع
الوجه الثاني انا لا نسلم أن حرمة الجمع بين المرأة وبين عمتها وخالتها غير مذكورة في الآية وبيانه من وجهين الأول أنه تعالى حرم الجمع بين الأختين وكونهما أختين يناسب هذه الحرمة لأن الأختية قرابة قريبة والقرابة القريبة تناسب مزيد الوصلة والشفقة والكرامة وكون إحداهما ضرة الأخرى يوجب الوحشة العظيمة والنفرة الشديدة وبين الحالتين منافرة عظيمة فثبت أن كونها أختاً لها يناسب حرمة الجمع بينهما في النكاح وقد ثبت في أصول الفقه ان ذكر الحكم مع الوصف المناسب له يدل بحسب اللفظ على كون ذلك الحكم معللا بذلك الوصف فثبت أن قوله وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاْخْتَيْنِ ( النساء 23 ) يدل على كون القرابة القريبة مانعة من الجمع في النكاح وهذا المعنى حاصل بين المرأة وعمتها أو خالتها فكان الحكم المذكور في الأختين مذكورا في العمة والخالة من طريق الدلالة بل ههنا أولى وذلك لأن العمة والخالة يشبهان الأم لبنت الأخ ولبنت الأخت وهما يشبهان الولد للعمة والخالة واقتضاء مثل هذه القرابة لترك المضارة أقوى من اقتضاء قرابة الأختية لمنع المضارة فكان قوله وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاْخْتَيْنِ مانعا من العمة والخالة بطريق الأولى الثاني أنه نص على حرمة التزوج بأمهات النساء فقال وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ ( النساء 23 ) ولفظ الأم قد ينطلق على العمة والخالة أما على العمة فلأنه تعالى قال مخبرا عن أولاد يعقوب عليه السلام نَعْبُدُ إِلَاهَكَ وَإِلَاهَ آبَائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ ( البقرة 133 ) فأطلق لفظ الأب على اسمعيل مع أنه كان عما وإذا كان العم أباً لزم أن تكون العمة أماً وأما إطلاق لفظ الأم على الخالة فيدل عليه قوله تعالى وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ ( يوسف 100 ) والمراد أبوه وخالته فان أمه كانت متوفاة في ذلك الوقت فثبت بما ذكرنا أن لفظ الأم قد ينطلق على العمة والخالة فكان قوله وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ متناولا للعمة والخالة من بعض الوجوه
وإذا عرفت هذا فنقول قوله وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ المراد ما وراء هؤلاء المذكورات سواء كن مذكورات بالقول الصريح أو بدلالة جلية أو بدلالة خفية وإذا كان كذلك لم تكن العمة والخالة خارجة عن المذكورات
الوجه الثالث في الجواب عن شبهة الخوارج أن نقول قوله تعالى وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ عام وقوله ( لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ) خاص والخاص مقدم على العام ثم ههنا طريقان تارة نقول هذا الخبر بلغ في الشهرة مبلغ التواتر وتخصيص عموم القرآن بخبر المتواتر جائز وعندي هذا الوجه كالمكابرة لأن هذا الخبر وإن كان في غاية الشهرة في زماننا هذا لكنه لما انتهى في الأصل إلى رواية الآحاد لم يخرج عن أن يكون من باب الآحاد وتارة نقول تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد جائز وتقريره مذكور في الأصول فهذا جملة الكلام في هذا الباب والمعتمد في الجواب عندنا الوجه الأول
الصنف الثالث من التخصيصات الداخلة في هذا العموم أن المطلقة ثلاثا لا تحل إلا أن هذا التخصيص ثبت بقوله تعالى فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ( البقرة 230 )
الصنف الرابع تحريم نكاح المعتدة ودليله قوله تعالى وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَة َ قُرُوء

( البقرة 228 )
الصنف الخامس من كان في نكاحه حرة لم يجز له أن يتزوج بالأمة وهذا بالاتفاق وعند الشافعي القادر على طول الحرة لا يجوز له نكاح الأمة ودليل هذا التخصيص قوله وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم ( النساء 25 ) وسيأتي بيان دلالة هذه الآية على هذا المطلوب
الصنف السادس يحرم عليه التزوج بالخامسة ودليله قوله تعالى مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ
الصنف السابع الملاعنة ودليله قوله عليه الصلاة والسلام ( المتلاعنان لا يجتمعان أبداً )
قوله تعالى أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوالِكُمْ مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ
فيه مسائل
المسألة الأولى قوله أَن تَبْتَغُواْ في محله قولان الأول أنه رفع على البدل من ( ما ) والتقدير وأحل لكم ما وراء ذلكم وأحل لكم أن تبتغوا على قراءة من قرأ ( وأحل ) بضم الألف ومن قرأ بالفتح كان محل ( أن تبتغوا ) نصبا الثاني أن يكون محله على القراءتين النصب بنزع الخافض كأنه قيل لأن تبتغوا والمعنى وأحل لكم ما وراء ذلكم لارادة أن تبتغوا بأموالكم وقوله مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ أي في حال كونكم محصنين غير مسافحين وقوله مُّحْصِنِينَ أي متعففين عن الزنا وقوله غَيْرَ مُسَافِحِينَ أي غير زانين وهو تكرير للتأكيد قال الليث السفاح والمسافحة الفجور وأصله في اللغة من السفح وهو الصب يقال دموع سوافح ومسفوحة قال تعالى أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا ( الانعام 145 ) وفلان سفاح للدماء أي سفاك وسمي الزاني سفاحا لأنه لا غرض للزاني إلا سفح النطفة
فان قيل أين مفعول تبتغوا
قلنا التقدير وأحل لكم ما وراء ذلكم لارادة أن تبتغوهن أي تبتغوا ما وراء ذلكم فحذف ذكره لدلالة ما قبله عليه والله أعلم
المسألة الثانية قال أبو حنيفة رضي الله عنه لا مهر أقل من عشرة دراهم وقال الشافعي رضي الله عنه يجوز بالقليل والكثير ولا تقدير فيه احتج أبو حنيفة بهذه الآية وذلك لأنه تعالى قيد التحليل بقيد وهو الابتغاء بأموالهم والدرهم والدرهمان لا يسمى أموالا فوجب أن لا يصح جعلها مهرا
فان قيل ومن عنده عشرة دراهم لا يقال عنده أموال مع أنكم تجوزون كونها مهرا
قلنا ظاهر هذه الآية يقتضي أن لا تكون العشرة كافية إلا أنا تركنا العمل بظاهر الآية في هذه الصورة لدلالة الاجماع على جوازه فتمسك في الأقل من العشرة بظاهر الآية
واعلم أن هذا الاستدلال ضعيف لأن الآية دالة على أن الابتغاء بالأموال جائز وليس فيها دلالة على

أن الابتغاء بغير الأموال لا يجوز إلا على سبيل المفهوم وأنتم لا تقولون به ثم نقول الذي يدل على أنه لا تقدير في المهر وجوه
الحجة الأولى التمسك بهذه الآية وذلك لأن قوله بِأَمْوالِكُمْ مقابلة الجمع بالجمع فيقتضي توزع الفرد على الفرد فهذا يقتضي أن يتمكن كل واحد من ابتغاء النكاح بما يسمى مالا والقليل والكثير في هذه الحقيقة وفي هذا الاسم سواء فيلزم من هذه الآية جواز ابتغاء النكاح بأي شيء يسمى مالا من غير تقدير
الحجة الثانية التمسك بقوله تعالى وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَة ً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ( البقرة 237 ) دلت الآية على سقوط النصف عن المذكور وهذا يقتضي أنه لو وقع العقد في أول الأمر بدرهم أن لا يجب عليه إلا نصف درهم وأنتم لا تقولون به
الحجة الثالثة الأحاديث منها ما روي أن امرأة جيء بها الى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقد تزوج بها رجل على نعلين فقال عليه الصلاة والسلام ( رضيت من نفسك بنعلين ) فقالت نعم فأجازه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والظاهر أن قيمة النعلين تكون أقل من عشرة دراهم فان مثل هذا الرجل والمرأة اللذين لا يكون تزوجهما إلا على النعلين يكونان في غاية الفقر ونعل هذا الانسان يكون قليل القيمة جدا ومنها ما روي عن جابر عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( من أعطى امرأة في نكاح كف دقيق أو سويق أو طعام فقد استحل ) ومنها ما روي في قصة الواهبة أنه عليه الصلاة والسلام قال لمن أراد التزوج بها ( التمس ولو خاتما من حديد ) وذلك لا يساوي عشرة دراهم
المسألة الثالثة قال أبو حنيفة رضي الله عنه لو تزوج بها على تعليم سورة من القرآن لم يكن ذلك مهراً ولها مهر مثلها ثم قال إذا تزوج امرأة على خدمته سنة فان كان حراً لها مهر مثلها وإن كان عبدا فلها خدمة سنة وقال الشافعي رحمة الله عليه يجوز جعل ذلك مهرا احتج أبو حنيفة على قوله بوجوه الأول هذه الآية وذلك أنه تعالى شرط في حصول الحل أن يكون الابتغاء بالمال والمال اسم للأعيان لا للمنافع الثاني قال تعالى فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَى ْء مّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً ( النساء 4 ) وذلك صفة الأعيان
أجاب الشافعي عن الأول بأن الآية تدل على أن الابتغاء بالمال جائز وليس فيه بيان أن الابتغاء بغير المال جائز أم لا وعن الثاني أن لفظ الايتاء كما يتناول الأعيان يتناول المنافع الملتزمة وعن الثالث أنه خرج الخطاب على الأعم الأغلب ثم احتج الشافعي رضي الله عنه على جواز جعل المنفعة صداقا لوجوه
الحجة الأولى قوله تعالى في قصة شعيب إِنّى أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَى َّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِى ثَمَانِى َ حِجَجٍ ( القصص 27 ) جعل الصداق تلك المنافع والأصل في شرع من تقدمنا البقاء الى أن يطرأ الناسخ
الحجة الثانية ان التي وهبت نفسها لما لم يجد الرجل الذي أراد أن يتزوج بها شيئا قال عليه الصلاة والسلام ( هل معك شيء من القرآن قال نعم سورة كذا قال زوجتكها بما معك من القرآن ) والله أعلم

المسألة الرابعة قال أبو بكر الرازي دلت الآية على أن عتق الأمة لا يكون صداقا لها لأن الآية تقتضي كون البضع مالا وما روي أنه عليه السلام أعتق صفية وجعل عتقها صداقها فذاك من خواص الرسول عليه السلام
المسألة الخامسة قوله مُّحْصِنِينَ فيه وجهان أحدهما أن يكون المراد أنهم يصيرون محصنين بسبب عقد النكاح والثاني أن يكون الاحصان شرطا في الاحلال المذكور في قوله وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ والأول أولى لأن على هذا التقدير تبقى الآية عامة معلومة المعنى وعلى هذا التقدير الثاني تكون الآية مجملة لأن الاحصان المذكور فيه غير مبين والمعلق على المجمل يكون مجملا وحمل الآية على وجه يكون معلوما أولى من حملها على وجه يكون مجملا
قوله تعالى فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَئَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَة ً
فيه مسائل
المسألة الأولى الاستمتاع في اللغة الانتفاع وكل ما انتفع به فهو متاع يقال استمتع الرجل بولده ويقال فيمن مات في زمان شبابه لم يتمتع بشبابه قال تعالى رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ ( الأنعام 128 ) وقال أَذْهَبْتُمْ طَيّبَاتِكُمْ فِى حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا ( الأحقاف 20 ) يعني تعجلتم الانتفاع بها وقال فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ ( التوبة 69 ) يعني بحظكم ونصيبكم من الدنيا وفي قوله فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ وجهان الأول فما استمتعتم به من المنكوحات من جماع أو عقد عليهن فآتوهن أجورهن عليه ثم أسقط الراجع إلى ( ما ) لعدم الالتباس كقوله إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الاْمُورِ ( الشورى 43 ) فأسقط منه والثاني أن يكون ( ما ) في قوله مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ بمعنى النساء و ( من ) في قوله مِنْهُنَّ للتبعيض والضمير في قوله بِهِ راجع إلى لفظ مَا لأنه واحد في اللفظ وفي قوله وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ إلى معنى ( ما ) لأنه جمع في المعنى وقوله أُجُورَهُنَّ أي مهورهن قال تعالى وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً ( النساء 25 ) إلى قوله فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَءاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ( النساء 25 ) وهي المهور وكذا قوله وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ ههنا وقال تعالى في آية أخرى لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ( الممتحنة 10 ) وإنما سمي المهر أجراً لأنه بدل المنافع وليس ببدل من الأعيان كما سمي بدل منافع الدار والدابة أجرا والله أعلم
المسألة الثانية قال الشافعي الخلوة الصحيحة لا تقرر المهر وقال أبو حنيفة تقرره واحتج الشافعي على قوله بهذه الآية لأن قوله فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَئَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مشعر بأن وجوب إيتائهن مهورهن كان لأجل الاستمتاع بهن ولو كانت الخلوة الصحيحة مقررة للمهر كان الظاهر أن الخلوة الصحيحة تتقدم الاستمتاع بهن فكان المهر يتقرر قبل الاستمتاع وتقرره قبل الاستمتاع يمنع من تعلق ذلك التقرر بالاستمتاع والآية دالة على أن تقرر المهر يتعلق بالاستمتاع فثبت أن الخلوة الصحيحة لا تقرر المهر=

ج10. مفاتيح الغيب ـ ترقيم الشاملة موافق للمطبوع
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي الشافعي

المسألة الثالثة في هذه الآية قولان أحدهما وهو قول أكثر علماء الأمة أن قوله أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوالِكُمْ المراد منه ابتغاء النساء بالأموال على طريق النكاح وقوله فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَئَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فان استمتع بالدخول بها آتاها المهر بالتمام وإن استمتع بعقد النكاح آتاها نصف المهر
والقول الثاني أن المراد بهذه الآية حكم المتعة وهي عبارة عن أن يستأجر الرجل المرأة بمال معلوم إلى أجل معين فيجامعها واتفقوا على أنها كانت مباحة في ابتداء الإسلام روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما قدم مكة في عمرته تزين نساء مكة فشكا أصحاب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) طول العزوبة فقال استمتعوا من هذه النساء واختلفوا في أنها هل نسخت أم لا فذهب السواد الأعظم من الأمة إلى أنها صارت منسوخة وقال السواد منهم إنها بقيت مباحة كما كانت وهذا القول مروي عن ابن عباس وعمران بن الحصين أما ابن عباس فعنه ثلاث روايات احداها القول بالاباحة المطلقة قال عمارة سألت ابن عباس عن المتعة أسفاح هي أم نكاح قال لا سفاح ولا نكاح قلت فما هي قال هي متعة كما قال تعالى قلت هل لها عدة قال نعم عدتها حيضة قلت هل يتوارثان قالا لا
والرواية الثانية عنه أن الناس لما ذكروا الأشعار في فتيا ابن عباس في المتعة قال ابن عباس قاتلهم الله إني ما أفتيت باباحتها على الاطلاق لكني قلت إنها تحل للمضطر كما تحل الميتة والدم ولحم الخنزير له
والرواية الثالثة أنه أقر بأنها صارت منسوخة روى عطاء الخرساني عن ابن عباس في قوله فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ قال صارت هذه الآية منسوخة بقوله تعالى الْحَكِيمُ يأيُّهَا النَّبِى ُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاء فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ( الطلاق 1 ) وروي أيضا أنه قال عند موته اللهم إني أتوب اليك من قولي في المتعة والصرف وأما عمران بن الحصين فانه قال نزلت آية المتعة في كتاب الله تعالى ولم ينزل بعدها آية تنسخها وأمرنا بها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وتمتعنا بها ومات ولم ينهنا عنه ثم قال رجل برأيه ما شاء وأما أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه فالشيعة يروون عنه إباحة المتعة وروى محمد بن جرير الطبري في تفسيره عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال لولا أن عمر نهى الناس عن المتعة ما زنى إلا شقي وروى محمد بن على المشهور بمحمد بن الحنفية أن عليا رضي الله عنه مر بابن عباس وهو يفتي بجواز المتعة فقال أمير المؤمنين انه ( صلى الله عليه وسلم ) نهى عنها وعن لحوم الحمر الأهلية فهذا ما يتعلق بالروايات واحتج الجمهور على حرمة المتعة بوجوه الأول أن الوطء لا يحل إلا في الزوجة أو المملوكة لقوله تعالى وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ( المعارج 29 30 المؤمنون 5 6 ) وهذه المرأة لا شك أنها ليست مملوكة وليست أيضا زوجة ويدل عليه وجوه أحدها لو كانت زوجة لحصل التوارث بينهما لقوله تعالى وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْواجُكُمْ ( النساء 12 ) وبالاتفاق لا توارث بينهما وثانيها ولثبت النسب لقوله عليه الصلاة والسلام ( الولد للفراش ) وبالاتفاق لا يثبت وثالثها ولوجبت العدة عليها لقوله تعالى وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَة َ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ( البقرة 234 ) واعلم أن هذه الحجة كلام حسن مقرر
الحجة الثانية ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال في خطبته متعتان كانتا على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنا أنهي عنهما وأعاقب عليهما ذكر هذا الكلام في مجمع الصحابة وما أنكر عليه أحد فالحال ههنا لا يخلو

إما أن يقال انهم كانوا عالمين بحرمة المتعة فسكتوا أو كانوا عالمين بأنها مباحة ولكنهم سكتوا على سبيل المداهنة أو ما عرفوا إباحتها ولا حرمتها فسكتوا لكونهم متوقفين في ذلك والأول هو المطلوب والثاني يوجب تكفير عمر وتكفير الصحابة لأن من علم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حكم باباحة المتعة ثم قال إنها محرمة محظورة من غير نسخ لها فهو كافر بالله ومن صدقه عليه مع علمه بكونه مخطئا كافرا كان كافرا أيضا وهذا يقتضي تكفير الأمة وهو على ضد قوله كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة ٍ ( آل عمران 110 )
والقسم الثالث وهو أنهم ما كانوا عالمين بكون المتعة مباحة أو محظورة فلهذا سكتوا فهذا أيضا باطل لأن المتعة بتقدير كونها مباحة تكون كالنكاح واحتياج الناس إلى معرفة الحال في كل واحد منهما عام في حق الكل ومثل هذا يمنع أن يبقى مخفيا بل يجب أن يشتهر العلم به فكما أن الكل كانوا عارفين بأن النكاح مباح وأن إباحته غير منسوخة وجب أن يكون الحال في المتعة كذلك ولما بطل هذان القسمان ثبت أن الصحابة إنما سكتوا عن الانكار على عمر رضي الله عنه لأنهم كانوا عالمين بأن المتعة صارت منسوخة في الاسلام
فان قيل ما ذكرتم يبطل بما أنه روي أن عمر قال لا أوتي برجل نكح امرأة إلى أجل إلا رجمته ولا شك أن الرجم غير جائز مع أن الصحابة ما أنكروا عليه حين ذكل ذلك فدل هذا على أنهم كانوا يسكتون عن الانكار على الباطل
قلنا لعله كان يذكر ذلك على سبيل التهديد والزجر والسياسة ومثل هذه السياسات جائزة للامام عند المصلحة ألا ترى أنه عليه الصلاة والسلام قال ( من منع منا الزكاة فانا آخذوها منه وشطر ماله ) ثم أن أخذ شطر المال من مانع الزكاة غير جائز لكنه قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك للمبالغة في الزجر فكذا ههنا والله أعلم
الحجة الثالثة على أن المتعة محرمة ما روى مالك عن الزهري عن عبدالله والحسن ابني محمد ابن علي عن أبيهما عن علي أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) نهى عن متعة النساء وعن أكل لحوم الحمر الانسية وروى الربيع بن سبرة الجهني عن أبيه قال غدوت على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فاذا هو قائم بين الركن والمقام مسند ظهره إلى الكعبة يقول ( يا أيها الناس إني أمرتكم بالاستمتاع من هذه النساء ألا وإن الله قد حرمها عليكم إلى يوم القيامة فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيلها ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً ) وروي عنه ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( متعة النساء حرام ) وهذه الأخبار الثلاثة ذكرها الواحدي في البسيط وظاهر أن النكاح لا يسمى استمتاعا لأنا بينا أن الاستمتاع هو التلذذ ومجرد النكاح ليس كذلك أما القائلون باباحة المتعة فقد احتجوا بوجوه
الحجة الأولى التمسك بهذه الآية أعني قوله تعالى وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ وفي الاستدلال بهذه الآية طريقان
الطريق الأول أن قول نكاح المتعة داخل في هذه الآية وذلك لأن قوله أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوالِكُمْ يتناول من ابتغى بماله الاستمتاع بالمرأة على سبيل التأييد ومن ابتغى بماله على سبيل التأقيت وإذا كان كل واحد من القسمين داخلا فيه كان قوله وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوالِكُمْ يقتضي حل

القسمين وذلك يقتضي حل المتعة
الطريق الثاني أن نقول هذه الآية مقصورة على بيان نكاح المتعة وبيانه من وجوه الأول ما روي أن أبي بن كعب كان يقرأ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ وهذا أيضا هو قراءة ابن عباس والأمة ما أنكروا عليهما في هذه القراءة فكان ذلك إجماعا من الأمة على صحة هذه القراءة وتقريره ما ذكرتموه في أن عمر رضي الله عنه لما منع من المتعة والصحابة ما أنكروا عليه كان ذلك إجماعا على صحة ما ذكرنا وكذا ههنا واذا ثبت بالاجماع صحة هذه القراءة ثبت المطلوب الثاني أن المذكور في الآية إنما هو مجرد الابتغاء بالمال ثم انه تعالى أمر بايتائهن أجورهن بعد الاستمتاع بهن وذلك يدل على أن مجرد الابتغاء بالمال يجوز الوطء ومجرد الابتغاء بالمال لا يكون إلا في نكاح المتعة فأما في النكاح المطلق فهناك الحل إنما يحصل بالعقد ومع الولي والشهود ومجرد الابتغاء بالمال لا يفيد الحل فدل هذا على أن هذه الآية مخصوصة بالمتعة الثالث أن في هذه الآية أوجب إيتاء الأجور بمجرد الاستمتاع والاستمتاع عبارة عن التلذذ والانتفاع فأما في النكاح فايتاء الأجور لا يجب على الاستمتاع ألبتة بل على النكاح ألا ترى أن بمجرد النكاح يلزم نصف المهر فظاهر أن النكاح لا يسمى استمتاعا لأنا بينا أن الاستمتاع هو التلذذ ومجرد النكاح ليس كذلك الرابع أنا لو حملنا هذه الآية على حكم النكاح لزم تكرار بيان حكم النكاح في السورة الواحدة لأنه تعالى قال في أول هذه السورة فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَاء مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ( النساء 3 ) ثم قال وَءاتُواْ النّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَة ً ( النساء 4 ) أما لو حملنا هذه الآية على بيان نكاح المتعة كان هذا حكما جديدا فكان حمل الآية عليه أولى والله أعلم
الحجة الثانية على جواز نكاح المتعة أن الأمة مجمعة على أن نكاح المتعة كان جائزا في الإسلام ولا خلاف بين أحد من الأمة فيه إنما الخلاف في طريان الناسخ فنقول لو كان الناسخ موجودا لكان ذلك الناسخ إما أن يكون معلوما بالتواتر أو بالآحاد فان كان معلوما بالتواتر كان علي بن أبي طالب وعبدالله بن عباس وعمران بن الحصين منكرين لما عرف ثبوته بالتواتر من دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك يوجب تكفيرهم وهو باطل قطعا وإن كان ثابتا بالآحاد فهذا أيضا باطل لأنه لما كان ثبوت إباحة المتعة معلوما بالاجماع والتواتر كان ثبوته معلوما قطعا فلو نسخناه بخبر الواحد لزم جعل المظنون رافعاً للمقطوع وإنه باطل قالوا ومما يدل أيضا على بطلان القول بهذا النسخ أن أكثر الروايات أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) نهى عن المتعة وعن لحوم الحمر الاهلية يوم خيبر وأكثر الروايات أنه عليه الصلاة والسلام أباح المتعة في حجة الوداع وفي يوم الفتح وهذان اليومان متأخران عن يوم خيبر وذلك يدل على فساد ما روي أنه عليه السلام نسخ المتعة يوم خيبر لأن الناسخ يمتنع تقدمه على المنسوخ وقول من يقول انه حصل التحليل مراراً والنسخ مراراً ضعيف لم يقل به أحد من المعتبرين إلا الذين أرادوا إزالة التناقض عن هذه الروايات
الحجة الثالثة ما روي أن عمر رضي الله عنه قال على المنبر متعتان كانتا مشروعتين في عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأنا أنهي عنهما متعة الحج ومتعة النكاح وهذا منه تنصيص على أن متعة النكاح كانت موجودة في عهد الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وقوله وأنا أنهي عنهما يدل على أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ما نسخه وإنما عمر هو الذي نسخه وإذا ثبت هذا فنقول هذا الكلام يدل على أن حل المتعة كان ثابتا في عهد الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وأنه عليه السلام ما نسخه وأنه ليس ناسخ الا نسخ عمر وإذا ثبت هذا وجب أن لا يصير منسوخا لأن ما كان ثابتا في

زمن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وما نسخه الرسول يمتنع أن يصير منسوخا بنسخ عمر وهذا هو الحجة التي احتج بها عمران بن الحصين حيث قال ان الله أنزل في المتعة آية وما نسخها بآية أخرى وأمرنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالمتعة وما نهانا عنها ثم قال رجل برأيه ما شاء يريد أن عمر نهى عنها فهذا جملة وجوه القائلين بجواز المتعة
والجواب عن الوجه الأول أن نقول هذه الآية مشتملة على أن المراد منها نكاح المتعة وبيانه من ثلاثة أوجه الأول أنه تعالى ذكر المحرمات بالنكاح أولا في قوله حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ثم قال في آخر الآية وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ فكان المراد بهذا التحليل ما هو المراد هناك بهذا التحريم لكن المراد هناك بالتحريم هو النكاح فالمراد بالتحليل ههنا أيضا يجب أن يكون هو النكاح الثاني أنه قال مُّحْصِنِينَ والاحصان لا يكون إلا في نكاح صحيح والثالث قوله غَيْرَ مُسَافِحِينَ سمى الزنا سفاحا لأنه لا مقصود فيه إلا سفح الماء ولا يطلب فيه الولد وسائر مصالح النكاح والمتعة لا يراد منها إلا سفح الماء فكان سفاحا هذا ما قاله أبو بكر الرازي أما الذي ذكره في الوجه الأول فكأنه تعالى ذكر أصناف من يحرم على الانسان وطؤهن ثم قال وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أي وأحل لكم وطء ما وراء هذه الأصناف فأي فساد في هذا الكلام وأما قوله ثانياً الاحصان لا يكون إلا في نكاح صحيح فلم يذكر عليه دليلا وأما قوله ثالثاً الزنا إنما سمي سفاحا لأنه لا يراد منه إلا سفح الماء والمتعة ليست كذلك فان المقصود منها سفح الماء بطريق مشروع مأذون فيه من قبل الله فان قلتم المتعة محرمة فنقول هذا أول البحث فلم قلتم إن الأمر كذلك فظهر أن الكلام رخو والذي يجب أن يعتمد عليه في هذا الباب أن نقول إنا لا ننكر أن المتعة كانت مباحة إنما الذي نقوله إنها صارت منسوخة وعلى هذا التقدير فلو كانت هذه الآية دالة على أنها مشروعة لم يكن ذلك قادحا في غرضنا وهذا هو الجواب أيضا عن تمسكهم بقراءة أبي وابن عباس فان تلك القراءة بتقدير ثبوتها لا تدل ألا على أن المتعة كانت مشروعة ونحن لا ننازع فيه إنما الذي نقوله إن النسخ طرأ عليه وما ذكرتم من الدلائل لا يدفع قولنا وقولهم الناسخ إما أن يكون متواتراً أو آحادا
قلنا لعل بعضهم سمعه ثم نسيه ثم إن عمر رضي الله عنه لما ذكر ذلك في الجمع العظيم تذكروه وعرفوا صدقه فيه فسلموا الأمر له
قوله إن عمر أضاف النهي عن المتعة إلى نفسه
قلنا قد بينا أنه لو كان مراده أن المتعة كانت مباحة في شرع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وأنا أنهي عنه لزم تكفيره وتكفير كل من لم يحاربه وينازعه ويفضي ذلك إلى تكفير أمير المؤمنين حيث لم يحاربه ولم يرد ذلك القول عليه وكل ذلك باطل فلم يبق إلا أن يقال كان مراده أن المتعة كانت مباحة في زمن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وأنا أنهي عنها لما ثبت عندي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) نسخها وعلى هذا التقدير يصير هذا الكلام حجة لنا في مطلوبنا والله أعلم
ثم قال تعالى وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النّسَاء والمعنى أن إيتاءهن أجورهن ومهورهن فريضة لازمة وواجبة وذكر صاحب ( الكشاف ) في قوله فَرِيضَة ً ثلاثة أوجه أحدها أنه حال من الأجور بمعنى مفروضة وثانيها أنها وضعت موضع إيتاء لأن الايتاء مفروض وثالثها أنه مصدر مؤكد أي فرض ذلك فريضة

ثم قال تعالى وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَة ِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً
وفيه مسائل
المسألة الأولى الذين حملوا الآية المتقدمة على بيان حكم النكاح قالوا المراد أنه إذا كان المهر مقدرا بمقدار معين فلا حرج في أن تحط عنه شيئا من المهر أو تبرئه عنه بالكلية فعلى هذا المراد من التراضي الحط من المهر أو الابراء عنه وهو كقوله تعالى فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَى ْء مّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً ( النساء 4 ) وقوله إَّلا أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَاْ الَّذِى بِيَدِهِ عُقْدَة ُ النّكَاحِ ( البقرة 237 ) وقال الزجاج معناه لا إثم عليكم في أن تهب المرأة للزوج مهرها أو يهب الزوج للمرأة تمام المهر إذا طلقها قبل الدخول وأما الذين حملوا الآية المتقدمة على بيان المتعة قالوا المراد من هذه الآية أنه إذا انقضى أجل المتعة لم يبق للرجل على المرأة سبيل ألبتة فان قال لها زيديني في الأيام وأزيدك في الأجرة كانت المرأة بالخيار ان شاءت فعلت وان شاءت لم تفعل فهذا هو المراد من قوله وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَة ِ أي من بعد المقدار المذكور أولا من الأجر والأجل
المسألة الثانية قال أبو حنيفة رضي الله عنه إلحاق الزيادة في الصداق جائز وهي ثابتة ان دخل بها أو مات عنها أما إذا طلقها قبل الدخول بطلت الزيادة وكان لها نصف المسمى في العقد وقال الشافعي رحمة الله عليه الزيادة بمنزلة الهبة فان أقبضها ملكته بالقبض وان لم يقبضها بطلت احتج أبو بكر الرازي لأبي حنيفة بهذه الآية فقوله لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَة ِ يتناول ما وقع التراضي به في طرفي الزيادة والنقصان فكان هذا بعمومه يدل على جواز إلحاق الزيادة بالصداق قال بل هذه الآية بالزيادة أخص منها بالنقصان لأنه تعالى علقه بتراضيهما والبراءة والحط لا يحتاج إلى رضا الزوج والزيادة لا تصح إلا بقبوله فاذا علق ذلك بتراضيهما جميعا دل على أن المراد هو الزيادة
والجواب لم لا يجوز أن تكون الزيادة عبارة عما ذكره الزجاج وهو أنه إذا طلقها قبل الدخول فان شاءت المرأة أبرأته عن النصف وان شاء الزوج سلم اليها كل المهر وبهذا التقدير يكون قد زادها عما وجب عليه تسليمه اليها وأيضا عندنا أنه لا جناح في تلك الزيادة إلا أنها تكون هبة والدليل القاطع على بطلان هذه الزيادة أن هذه الزيادة لو التحقت بالأصل لكان إما مع بقاء العقد الأول أو بعد زوال العقد والأول باطل لأن العقد لما انعقد على القدر الأول فلو انعقد مرة أخرى على القدر الثاني لكان ذلك تكوينا لذلك العقد بعد ثبوته وذلك يقتضى تحصيل الحاصل وهو محال والثاني باطل لانعقاد الاجماع على أن عند إلحاق الزيادة لا يرتفع العقد الأول فثبت فساد ما قالوه والله أعلم ثم إنه تعالى لما ذكر في هذه الآية أنواعا كثيرة من التكاليف والتحريم والاحلال بين أنه عليم بجميع المعلومات لا يخفى عليه منها خافية أصلا وحكيم لا يشرع الأحكام إلا على وفق الحكمة وذلك يوجب التسليم لأوامره والانقياد لأحكامه والله أعلم
النوع السابع من التكاليف المذكورة في هذه السورة

وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَءَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَات غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَة ٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِى َ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
اعلم أنه تعالى لما بين من يحل ومن لا يحل بين فيمن يحل أنه متى يحل وعلى أي وجه يحل فقال وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ الكسائي الْمُحْصَنَاتِ بكسر الصاد وكذلك مُحْصَنَات غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وكذلك فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ كلها بكسر الصاد والباقون بالفتح فالفتح معناه ذوات الأزواج والكسر معناه العفائف والحرائر والله أعلم
المسألة الثانية الطول الفضل ومنه التطول وهو التفضل وقال تعالى ذِى الطَّوْلِ ( غافر 3 ) ويقال تطاول لهذا الشيء أي تناوله كما يقال يدفلان مبسوطة وأصل هذه الكلمة من الطول الذي هو خلاف القصر لأنه إذا كان طويلا ففيه كمال وزيادة كما أنه إذا كان قصيرا ففيه قصور ونقصان وسمي الغنى أيضاً طولا لأنه ينال به من المرادات مالا ينال عند الفقر كما أن بالطول ينال ما لا ينال بالقصر
إذا عرفت هذا فنقول الطول القدرة وانتصابه على أنه مفعول ( يستطع ) و أَن يَنكِحَ في موضع النصب على أنه مفعول القدرة
فان قيل الاستطاعة هي القدرة والطول أيضا هو القدرة فيصير تقدير الآية ومن لم يقدر منكم على القدرة على نكاح المحصنات فما فائدة هذا التكرير في ذكر القدرة
قلنا الأمر كما ذكرت والأولى أن يقال المعنى فمن لم يستطع منكم استطاعة بالنكاح المحصنات وعلى هذا الوجه يزول الاشكال فهذا ما يتعلق باللغة
أما ما قاله المفسرون فوجوه الأول ومن لم يستطع زيادة في المال وسعة يبلغ بها نكاح الحرة فلينكح أمة الثاني أن يفسر النكاح بالوطء والمعنى ومن لم يستطع منكم طولا وطء الحرائر فلينكح أمة وعلى هذا التقدير فكل من ليس تحته حرة فانه يجوز له التزوج بالأمة وهذا التفسير لائق بمذهب أبي حنيفة فان مذهبه أنه إذا كان تحته حرة لم يجز له التزوج بالأمة وهذا التفسير لائق بمذهب أبي حنيفة فان مذهبه أنه إذا كان تحته حرة لم يجز له نكاح الأمة سواء قدر على التزوج

بالحرة أو لم يقدر والثالث الاكتفاء بالحرة فله أن يتزوج بالأمة سواء كان تحته حرة أو لم يكن كل هذه الوجوه إنما حصلت لأن لفظ الاستطاعة محتمل لكل هذه الوجوه
المسألة الثالثة المراد بالمحصنات في قوله وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ هو الحرائر ويدل عليه أنه تعالى أثبت عند تعذر نكاح المحصنات نكاح الاماء فلا بد وأن يكون المراد من المحصنات من يكون كالضد للاماء والوجه في تسمية الحرائر بالمحصنات على قراءة من قرأ بفتح الصاد أنهن أحصن بحريتهن عن الأحوال التي تقدم عليها الأماء فان الظاهر أن الأمة تكون خراجة ولاجة ممتهنة مبتذلة والحرة مصونة محصنة من هذه النقصانات واما على قراءة من قرأ بكسر الصاد فالمعنى أنهن أحصن أنفسهن بحريتهن
المسألة الرابعة مذهب الشافعي رضي الله عنه أن الله تعالى شرط في نكاح الاماء شرائط ثلاثة اثنان منها في الناكح والثالث في المنكوحة أما اللذان في الناكح فأحدهما أن يكون غير واجد لما يتزوج به الحرة المؤمنة من الصداق وهو معنى قوله وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فعدم استطاعة الطول عبارة عن عدم ما ينكح به الحرة
فان قيل الرجل إذا كان يستطيع التزوج بالأمة يقدر على التزوج بالحرة الفقيرة فمن أين هذا التفاوت
قلنا كانت العادة في الاماء تخفيف مهورهن ونفقتهن لاشتغالهن بخدمة السادات وعلى هذا التقدير يظهر هذا التفاوت
وأما الشرط الثاني فهو المذكور في آخر الآية وهو قوله ذَلِكَ لِمَنْ خَشِى َ الْعَنَتَ مِنْكُمْ ( النساء 25 ) أي بلغ الشدة في العزوبة
وأما الشرط الثالث المعتبر في المنكوحة فأن تكون الأمة مؤمنة لا كافرة فان الأمة إذا كانت كافرة كانت ناقصة من وجهين الرق والكفر ولا شك أن الولد تابع للأم في الحرية والرق وحينئذ يعلق الولد رقيقا على ملك الكافر فيحصل فيه نقصان الرق ونقصان كونه ملكا للكافر فهذه الشرائط الثلاثة معتبرة عند الشافعي في جواز نكاح الأمة
وأما أبو حنيفة رضي الله عنه فيقول إذا كان تحته حرة لم يجز له نكاح الأمة أما إذا لم يكن تحته حرة جاز له ذلك سواء قدر على نكاح الحرة أو لم يقدر واحتج الشافعي على قوله بهذه الآية وتقريره من وجهين الأول أنه تعالى ذكر عدم القدرة

على طول الحرة ثم ذكر عقيبه التزوج بالأمة وذلك الوصف يناسب هذا الحكم لأن الانسان قد يحتاج الى الجماع فاذا لم يقدر على جماع الحرة بسبب كثرة مؤنتها ومهرها وجب أن يؤذن له في نكاح الأمة إذا ثبت هذا فنقول الحكم إذا كان مذكورا عقيب وصف يناسبه فذلك الاقتران في الذكر يدل على كون ذلك الحكم معللا بذلك الوصف إذا ثبت هذا فنقول لو كان نكاح الأمة جائزا بدون القدرة على طول الحرة ومع القدرة عليه لم يكن لعدم هذه القدرة أثر في هذا الحكم ألبتة لكنا بينا دلالة الآية على أن له أثرا في هذا الحكم فثبت أنه لا يجوز التزوج بالأمة مع القدرة على طول الحرة الثاني أن نتمسك بالآية على سبيل المفهوم وهو أن تخصيص الشيء بالذكر يدل على نفي الحكم عما عداه والدليل عليه أن القائل إذا قال الميت اليهودي لا يبصر شيئا فان كل أحد يضحك من هذا الكلام ويقول إذا كان غير اليهودي أيضا لا يبصر فما فائدة التقييد بكونه يهوديا فلما رأينا أن أهل العرف يستقبحون هذا الكلام ويعللون ذلك الاستقباح بهذه العلة علمنا اتفاق أرباب اللسان على أن التقييد بالصفة يقتضي نفي الحكم في غير محل القيد قال أبو بكر الرازي تخصيص هذه الحالة بذكر الاباحة فيها لا يدل على حظر ما عداه كقوله تعالى وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَة َ إِمْلَاقٍ ( الإسراء 31 ) ولا دلالة فيه على إباحة القتل عند زوال هذه الحالة وقوله لاَ تَأْكُلُواْ الرّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَة ً ( آل عمران 130 ) لا دلالة فيه على إباحة الأكل عند زوال هذه الحالة وقوله لاَ تَأْكُلُواْ الرّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَة ً لا دلالة فيه على إباحة الأكل عند زوال هذه الحالة فيقال له ظاهر اللفظ يقتضي ذلك إلا أنه ترك العمل به بدليل منفصل كما أن عندك ظاهر الأمر للوجوب وقد يترك العمل به في صور كثيرة لدليل منفصل والسؤال الجيد على التمسك بالآية ما ذكرناه حيث قلنا لم لا يجوز أن يكون المراد من النكاح الوطء والتقدير ومن لم يستطع منكم وطء الحرة وذلك عند من لا يكون تحته حرة فانه يجوز له نكاح الأمة وعلى هذا التقدير تنقلب الآية حجة لأبي حنيفة
وجوابه أن أكثر المفسرين فسروا الطول بالغنى وعدم الغنى تأثيره في عدم القدرة على العقد لا في عدم القدرة على الوطء واحتج أبو بكر الرازي على صحة قوله بالعمومات كقوله تعالى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَاء ( النساء 3 ) وقوله وَأَنْكِحُواْ الايَامَى مِنْكُمْ وقوله وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ وقوله وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ( المائدة 5 ) وهو متناول للاماء الكتابيات والمراد من هذا الاحصان العفة
والجواب ان آيتنا خاصة والخاص مقدم على العام ولأنه دخلها التخصيص فيا إذا كان تحته حرة وإنما خصت صونا للولد عن الارقاق وهو قائم في محل النزاع
المسألة الخامسة ظاهر قوله وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ يقتضي كون الايمان معتبرا في الحرة فعلى هذا لو قدر على حرة كتابية ولم يقدر على طول حرة مسلمة فانه يجوز له أن يتزوج الأمة وأكثر العلماء أن ذكر الايمان في الحرائر ندب واستحباب لأنه لا فرق بين الحرة الكتابية وبين المؤمنة في كثرة المؤنة وقلتها
المسألة السادسة من الناس من قال انه لا يجوز التزوج بالكتابيات ألبتة واحتجوا بهذه الآيات فقالوا انه تعالى بين أن عند العجز عن نكاح الحرة المسلمة يتعين له نكاح الأمة المسلمة ولو كان التزوج بالحرة الكتابية جائزا لكان عند العجز عن الحرة المسلمة لم تكن الأمة المسلمة متعينة وذلك ينفي دلالة الآية ثم أكدوا هذه الدلالة بقوله تعالى وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ( البقرة 221 ) وقد بينا بالدلائل الكثيرة في تفسير هذه الآية أن الكتابية مشركة
المسألة السابعة الآية دالة على التحذير من نكاح الاماء وأنه لا يجوز الاقدام عليه إلا عند الضرورة والسبب فيه وجوه الأول أن الولد يتبع الأم في الرق والحرية فاذا كانت الأم رقيقة علق الولد رقيقا وذلك يوجب النقص في حق ذلك الانسان وفي حق ولده والثاني أن الأمة قد تكون تعودت الخروج والبروز والمخالطة بالرجال وصارت في غاية الوقاحة وربما تعودت الفجور وكل ذلك ضرر على الأزواج

الثالث أن حق المولى عليها أعظم من حق الزوج فمثل هذه الزوجة لا تخلص للزوج كخلوص الحرة فربما احتاج الزوج اليها جدا ولا يجد اليها سبيلا لأن السيد يمنعها ويحبسها الرابع أن المولى قد يبيعها من إنسان آخر فعلى قول من يقول بيع الأمة طلاقها تصير مطلقة شاء الزوج أم أبى وعلى قول من لا يرى ذلك فقد يسافر المولى الثاني بها وبولدها وذلك من أعظم المضار الخامس أن مهرها ملك لمولاها فهي لا تقدر على هبة مهرها من زوجها ولا على إبرائه عنه بخلاف الحرة فلهذه الوجه ما أذن الله في نكاح الأمة إلا على سبيل الرخصة والله أعلم
قوله تعالى فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ فيه مسائل
المسألة الأولى قوله فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم أي فليتزوج مما ملكت أيمانكم قال ابن عباس يريد جارية أختك فان الانسان لا يجوز له أن يتزوج بجارية نفسه
المسألة الثانية الفتيات المملوكة جمع فتاة والعبد فتى وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا يقولن أحدكم عبدي ولكن ليقل فتاي وفتاتي ) ويقال للجارية الحديثة فتاة وللغلام فتى والأمة تسمى فتاة عجوزاً كانت او شابة لأنها كالشابة في أنها لا توقر توقير الكبير
المسألة الثالثة قوله مّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ يدل على تقييد نكاح الأمة بما إذا كانت مؤمنة فلا يجوز التزوج بالأمة الكتابية سواء كان الزوج حراً أو عبدا وهذا قول مجاهد وسعيد والحسن وقول مالك والشافعي وقال أبو حنيفة يجوز التزوج بالأمة الكتابية
حجة الشافعي رضي الله عنه أن قوله مّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ تقييد لجواز نكاح الأمة بكونها مؤمنة وذلك ينفي جواز نكاح غير المؤمنة من الوجهين اللذين ذكرناهما في مسألة طول الحرة وأيضا قال تعالى وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ( البقرة 221 )
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه من وجوه النص والقياس أما النص فالعمومات التي ذكرنا تمسكه بها في طول الحرة وآكدها قوله وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ ( المائدة 5 ) وأما القياس فهو أنا أجمعنا على أن الكتابة الحرة مباحة والكتابية المملوكة أيضا مباحة فكذلك إذا تزوج بالكتابية المملوكة وجب أنه يجوز
والجواب عن العمومات أن دلائلنا خاصة فتكون مقدمة على العمومات وعن القياس أن الشافعي قال إذا تزوج بالحرة الكتابية فهناك نقص واحد أما إذا تزوج بالأمة الكتابية فهناك نوعان من النقص الرق والكفر فظهر الفرق
ثم قال تعالى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ قال الزجاج معناه اعملوا على الظاهر في الايمان فانكم مكلفون بظواهر الأمور والله يتولى السرائر والحقائق
ثم قال تعالى بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ وفيه وجهان الأول كلكم أولاد آدم فلا تداخلنكم أنفة من تزوج الاماء عند الضرورة والثاني ان المعنى كلكم مشتركون في الايمان والايمان أعظم الفضائل فاذا حصل الاشتراك في أعظم الفضائل كان التفاوت فيما وراءه غير ملتفت اليه ونظيره قوله تعالى وَالْمُؤْمِنُونَ

وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ( التوبة 71 ) وقوله إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ( الحجرات 13 ) قال الزجاج فهذا الثاني أولى لتقدم ذكر المؤمنات أو لأن الشرف بشرف الإسلام أولى منه بسائر الصفات وهو يقوي قول الشافعي رضي الله عنه ان الايمان شرط لجواز نكاح الأمة
واعلم أن الحكمة في ذكر هذه الكلمة أن العرب كانوا يفتخرون بالأنساب فأعلم في ذكر هذه الكلمة أن الله لا ينظر و يلتفت اليه روي عن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( ثلاث من أمر الجاهلية الطعن في الأنساب والفخر بالأحساب والاستسقاء بالانواء ولا يدعها الناس في الإسلام ) وكان أهل الجاهلية يضعون من ابن الهجين فذكر تعالى هذه الكلمة زجرا لهم عن أخلاق أهل الجاهلية
ثم أنه تعالى شرح كيفية هذا النكاح فقال فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وفيه مسألتان
المسألة الأولى اتفقوا على أن نكاح الأمة بدون إذن سيدها باطل ويدل عليه القرآن والقياس أما القرآن فهو هذه الآية فان قوله تعالى فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ يقتضي كون الاذن شرطا في جواز النكاح وان لم يكن النكاح واجبا وهو كقوله عليه الصلاة والسلام ( من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم ) فالسلم ليس بواجب ولكنه إذا إختار أن يسلم فعليه استيفاء هذه الشرائط كذلك النكاح وان لم يكن واجبا لكنه إذا أراد أن يتزوج أمة وجب أن لا يتزوجها إلا باذن سيدها وأما القياس فهو أن الأمة ملك للسيد وبعد التزوج يبطل عليه أكثر منافعها فوجب أن لا يجوز ذلك إلا باذنه واعلم أن لفظ القرآن مقتصر على الأمة وأما العبد فقد ثبت ذلك في حقه بالحديث عن جابر قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا تزوج العبد بغير اذن السيد فهو عاهر )
المسألة الثانية قال الشافعي رضي الله عنه المرأة البالغة العاقلة لا يصح نكاحها إلا باذن الولي وقال أبو حنيفة رضي الله عنه يصح احتج الشافعي بهذه الآية وتقريره أن الضمير في قوله فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ عائد إلى الاماء والأمة ذات موصوفة بصفة الرق وصفة الرق صفة زائلة والاشارة إلى الذات الموصوفة بصفة زائلة ذات موصوفة بصفة الرق وصفة الرق صفة زائلة والاشارة إلى الذات الموصوفة بصفة زائلة لا يتناول الاشارة إلى تلك الصفة ألا ترى أنه لو حلف لا يتكلم مع هذا الشاب فصار شيخا ثم تكلم معه يحنث في يمينه فثبت أن الاشارة إلى الذات الموصوفة بصفة عرضية زائلة باقية بعد زوال تلك الصفة العرضية وإذا ثبت هذا فنقول قوله فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ اشارة إلى الاماء فهذه الاشارة وجب أن تكون باقية حال زوال الرق عنهن وحصول صفة الحرية لهن وإذا كان كذلك فالحرة البالغة العاقلة في هذه الصورة يتوقف جواز نكاحها على إذن وليها وإذا ثبت ذلك في هذه الصورة وجب ثبوت هذا الحكم في سائر الصور ضرورة أنه لا قائل بالفرق احتج أبو بكر الرازي بهذه الآية على فساد قول الشافعي في هذه المسألة فقال مذهبه أنه لا عبارة للمرأة في عقد النكاح فعلى هذا لا يجوز للمرأة أن تزوج أمتها بل مذهبه أن توكل غيرها بتزويج أمتها قال وهذه الآية تبطل ذلك لأن ظاهر هذه الآية يدل على الاكتفاء بحصول اذن أهلها فمن قال لا يكفي ذلك كان تاركا لظاهر الآية
والجواب من وجوه الأول أن المراد بالاذن الرضا وعندنا أن رضا المولى لا بد منه فأما أنه كاف فليس في الآية دليل عليه وثانيها أن أهلهن عبارة عمن يقدر على نكاحهن وذلك إما المولى أن كان رجلا أو ولي مولاها إن كان مولاها امرأة وثالثها هب أن الاهل عبارة عن المولى لكنه عام يتناول الذكور

والاناث والدلائل الدالة على أن المرأة لا تنكح نفسها خاصة قال عليه الصلاة والسلام ( العاهر هي التي تنكح نفسها ) فثبت بهذا الحديث أنه عبارة لها في نكاح نفسها فوجب أن لا يكون لها عبارة في نكاح مملوكتها ضرورة أنه لا قائل بالفرق والله أعلم
ثم قال تعالى وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ وفيه مسألتان
المسألة الأولى في تفسير الآية قولان الأول ان المراد من الأجور المهور وعلى هذا التقدير فالآية تدل على وجوب مهرها إذا نكحها سمي لها المهر أو لم يسم لأنه تعالى لم يفرق بين من سمى وبين من لم يسم في إيجاب المهر ويدل على أنه قد أراد مهر لمثل قوله تعالى بِالْمَعْرُوفِ ( البقرة 33 ) وهذا إنما يطلق فيما كان مبنيا على الاجتهاد وغالب الظن في المعتاد والمتعارف كقوله تعالى وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ الثاني قال القاضي ان المراد من أجورهن النفقة عليهن قال هذا القائل وهذا أولى من الأول لأن المهر مقدر ولا معنى لاشتراط المعروف فيه فكأنه تعالى بين أن كونها أمة لا يقدح في وجوب نفقتها وكفايتها كما في حق الحرة إذا حصلت التخلية من المولى بينه وبينها على العادة ثم قال القاضي اللفظ وان كان يحتمل ما ذكرناه فأكثر المفسرين يحملونه على المهر وحملوا قوله بِالْمَعْرُوفِ على ايصال المهر اليها على العادة الجميلة عند المطالبة من غير مطل وتأخير
المسألة الثانية نقل أبو بكر الرازي في أحكام القرآن عن بعض أصحاب مالك أن الأمة هي المستحقة لقبض مهرها وان المولى إذا آجرها للخدمة كان المولى هو المستحق للأجر دونها وهؤلاء احتجوا في المهر بهذه الآية وهو قوله وَمَن لَّمْ وأما الجمهور فانهم احتجوا على ان مهرها لمولاها بالنص والقياس أما النص فقوله تعالى ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَى ْء ( النحل 75 ) وهذا ينفي كون المملوك مالكا لشيء أصلا وأما القياس فهو أن المهر وجب عوضا عن منافع البضع وتلك المنافع مملوكة للسيد وهو الذي أباحها للزوج بقيد النكاح فوجب أن يكون هو المستحق لبدلها
والجواب عن تمسكهم بالآية من وجوه الأول انا إذا حملنا الأجور في الآية على النفقة زال السؤال بالكلية الثاني أنه تعالى إنما أضاف إيتاء المهور اليهن لأنه ثمن بضعهن وليس في قوله وَءاتُوهُنَّ ما يوجب كون المهر ملكا لهن ولكنه عليه الصلاة والسلام قال ( العبد وما في يده لمولاه ) فيصير ذلك المهر ملكا للمولى بهذه الطريق والله أعلم
ثم قال تعالى مُحْصَنَات غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قال ابن عباس محصنات أي عفائف وهو حال من قوله فَانكِحُوهُنَّ باذن أهلهن فظاهر هذا يوجب حرمة نكاح الزواني من الاماء واختلف الناس في أن نكاح الزواني هل يجوز أم لا وسنذكره في قوله الزَّانِى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَة ً ( النور 3 ) والأكثرون على أنه يجوز فتكون هذه الآية محمولة على الندب والاستحباب وقوله غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ أي غير زوان وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ جمع خدن كالاتراب جمع ترب والخدن الذي يخادنك وهو الذي يكون معك في كل أمر ظاهر وباطن قال أكثر المفسرين المسافحة هي التي تؤاجر نفسها مع أي رجل أرادها والتي تتخذ الخدن فهي التي تتخذ خدنا معينا وكان أهل الجاهلية يفصلون بين القسمين وما كانوا يحكمون على ذات الخدن بكونها زانية

فلما كان هذا الفرق معتبرا عندهم لا جرم أن الله سبحانه أفرد كل واحد من هذين القسمين بالذكر ونص على حرمتهما معاً ونظيره أيضاً قوله تعالى قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ( الأعراف 33 )
المسألة الثانية قال القاضي هذه الآية أحد ما يستدل به من لا يجعل الايمان في نكاح الفتيات شرطا لأنه لو كان ذلك شرطا لكان كونهن محصنات عفيفات أيضاً شرطا وهذا ليس بشرط
وجوابه أن هذا معطوف لا على ذكر الفتيات المؤمنات بل على قوله فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَءاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ولا شك أن كل ذلك واجب فعلمنا أنه لا يلزم من عدم الوجوب في هذا عدم الوجوب فيما قبله والله أعلم
ثم قال تعالى فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَة ٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم أُحْصِنَّ بالفتح في الألف والباقون بضم الألف فمن فتح فمعناه أسلمن هكذا قاله عمر وابن مسعود والشعبي والنخعي والسدي ومن ضم الألف فمعناه أنهن أحصن بالازواج هكذا قاله ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد ومنهم من طعن في الوجه الأول فقال انه تعالى وصف الاماء بالايمان في قوله فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ومن البعيد أن يقال فتياتكم المؤمنات ثم يقال فاذا آمن فان حالهن كذا وكذا ويمكن أن يجاب عنه بأنه تعالى ذكر حكمين الأول حال نكاح الاماء فاعتبر الايمان فيه بقوله مّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ والثاني حكم ما يجب عليهن عند إقدامهن على الفاحشة فذكر حال إيمانهن أيضا في هذا الحكم وهو قوله فَإِذَا أُحْصِنَّ
المسألة الثانية في الآية إشكال قوي وهو أن المحصنات في قوله فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ إما أن يكون المراد منه الحرائر المتزوجات أو المراد منه الحرائر الأبكار والسبب في إطلاق اسم المحصنات عليهن حريتهن والأول مشكل لأن الواجب على الحرائر المتزوجات في الزنا الرجم فهذا يقتضي أن يجب في زنا الاماء نصف الرجم ومعلوم أن ذلك باطل والثاني وهو أن يكون المراد الحرائر الأبكار فحينئذ يكون هذا الحكم معلقا بمجرد صدور الزنا عنهن وظاهر الآية يقتضي كونه معلقا بمجموع الأمرين الاحصان والزنا لأن قوله فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَة ٍ شرط بعد شرط فيقتضي كون الحكم مشروطا بهما نصا فهذا إشكال قوي في الآية
والجواب أنا نختار القسم الثاني وقوله فَإِذَا أُحْصِنَّ ليس المراد منه جعل هذا الاحصان شرطا لأن يجب في زناها خمسون جلدة بل المعنى أن حد الزنا يغلظ عند التزوج فهذه إذا زنت وقد تزوجت فحدها خمسون جلدة لا يزيد عليه فبأن يكون قبل التزوج هذا القدر أيضاً أولى وهذا مما يجري مجرى المفهوم بالنص لأن عند حصول ما يغلظ الحد لما وجب تخفيف الحد لمكان الرق فبأن يجب هذا القدر عند مالا يوجد ذلك المغلظ كان أولى والله أعلم

المسألة الثالثة الخوارج اتفقوا على انكار الرجم واحتجوا بهذه الآية وهو أنه تعالى أوجب على الأمة نصف ما على الحرة المحصنة فلو وجب على الحرة المحصنة الرجم لزم أن يكون الواجب على الأمة نصف الرجم وذلك باطل فثبت أن الواجب على الحرة المتزوجة ليس إلا الجلد والجواب عنه ما ذكرناه في المسألة المتقدمة وتمام الكلام فيه مذكور في سورة النور في تفسير قوله الزَّانِيَة ُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَة َ جَلْدَة ٍ ( النور 2 )
المسألة الرابعة اعلم أن الفقهاء صيروا هذه الآية أصلا في نقصان حكم العبد عن حكم الحر في غير الحد وإن كان في الأمور مالا يجب ذلك فيه والله أعلم
ثم قال تعالى ذَلِكَ لِمَنْ خَشِى َ الْعَنَتَ مِنْكُمْ ( النساء 25 ) ولم يختلفوا في أن ذلك راجع إلى نكاح الاماء فكأنه قال فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات لمن خشي العنت منكم والعنت هو الضرر الشديد الشاق قال تعالى فيما رخص فيه مخالطة اليتامى وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ ( البقرة 220 ) أي لشدد الأمر عليكم فألزمكم تمييز طعامكم من طعامهم فلحقكم بذلك ضرر شديد وقال وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْواهِهِمْ ( آل عمران 118 ) أي أحبوا أن تقعوا في الضرر الشديد وللمفسرين فيه قولان أحدهما أن الشبق الشديد والغلمة العظيمة ربما تحمل على الزنا فيقع في الحد في الدنيا وفي العذاب العظيم في الآخرة فهذا هو العنت والثاني أن الشبق الشديد والغلمة العظيمة قد تؤدي بالانسان إلى الأمراض الشديدة أما في حق النساء فقد تؤدي الى اختناق الرحم وأما في حق الرجال فقد تؤدي إلى أوجاع الوركين والظهر وأكثر العلماء على الوجه الأول لأنه هو اللائق ببيان القرآن
ثم قال تعالى وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وفيه مسألتان
المسألة الأولى المراد أن نكاح الاماء بعد رعاية شرائطه الثلاثة أعني عدم القدرة على التزوج بالحرة ووجود العنت وكون الأمة مؤمنة الأولى تركه لما بينا من المفاسد الحاصلة في هذا النكاح
المسألة الثانية مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه أن الاشتغال بالنكاح أفضل من الاشتغال بالنوافل فان كان مذهبهم أن الاشتغال بالنكاح مطلقاً أفضل من الاشتغال بالنوافل سواء كان النكاح نكاح الحرة أو نكاح الأمة فهذه الآية نص صريح في بطلان قولهم وآن قالوا إنا لا نرجح نكاح الأمة على النافلة فحينئذ يسقط هذا الاستدلال إلا أن هذا التفصيل ما رأيته في شيء من كتبهم والله أعلم
ثم انه تعالى ختم الآية بقوله وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وهذا كالمؤكد لما ذكره من أن الأولى ترك هذا النكاح يعني انه وان حصل ما يقتضي المنع من هذا الكلام إلا أنه تعالى أباحه لكم لاحتياجكم اليه فكان ذلك من باب المغفرة والرحمة والله أعلم
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ

فيه مسائل
المسألة الأولى اللام في قوله لِيُبَيّنَ لَكُمْ فيه وجهان الأول قالوا إنه قد تقام اللام مقام ( أن ) في أردت وأمرت فيقال أردت أن تذهب وأردت لتذهب وأمرتك أن تقوم وأمرتك لتقوم قال تعالى يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ ( الصف 8 ) يعني يريدون أن يطفؤا وقال وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبّ الْعَالَمِينَ ( الأنعام 71 )
والوجه الثاني أن نقول إن في الآية إضمارا والتقدير يريد الله إنزال هذه الآيات ليبين لكم دينكم وشرعكم وكذا القول في سائر الآيات التي ذكروها فقوله يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ يعني يريدون كيدهم وعنادهم ليطفؤا وأمرنا بما أمرنا لنسلم
المسألة الثانية قال بعض المفسرين قوله يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ معناهما شي واحد والتكرير لأجل التأكيد وهذا ضعيف والحق أن المراد من قوله لِيُبَيّنَ لَكُمْ هو أنه تعالى بين لنا هذه التكاليف وميز فيها الحلال من الحرام والحسن من القبيح
ثم قال وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وفيه قولان أحدهما أن هذا دليل على أن كل ما بين تحريمه لنا وتحليله لنا من النساء في الآيات المتقدمة فقد كان الحكم أيضا كذلك في جميع الشرائع والملل والثاني أنه ليس المراد ذلك بل المراد أنه تعالى يهديكم سنن الذين من قبلكم في بيان مالكم فيه من المصلحة كما بينه لهم فان الشرائع والتكاليف وإن كانت مختلفة في نفسها إلا أنها متفقة في باب المصالح وفيه قول ثالث وهو أن المعنى أنه يهديكم سنن الذين من قبلكم من أهل الحق لتجتنبوا الباطل وتتبعوا الحق
ثم قال تعالى وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ قال القاضي معناه أنه تعالى كما أراد منا نفس الطاعة فلا جرم بينها وأزال الشبهة عنها كذلك وقع التقصير والتفريط منا فيريد أن يتوب علينا لأن المكلف قد يطيع فيستحق الثواب وقد يعصي فيحتاج إلى التلافي بالتوبة
واعلم أن في الآية إشكالا وهو أن الحق إما أن يكون ما يقول أهل السنة من أن فعل العبد مخلوق لله تعالى وإما أن يكون الحق ما تقوله المعتزلة من أن فعل العبد ليس مخلوقا لله تعالى والآية مشكلة على كلا القولين أما على القول الأول فلأن على هذا القول كل ما يريده الله تعالى فانه يحصل فاذا أراد أن يتوب علينا وجب أن يحصل التوبة لكلنا ومعلوم أنه ليس كذلك وأما على القول الثاني فهو تعالى يريد منا أن نتوب باختيارنا وفعلنا وقوله وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ ظاهره مشعر بأنه تعالى هو الذي يخلق التوبة فينا ويحصل لنا هذه التوبة فهذه الآية مشكلة على كلا القولين
والجواب أن نقول إن قوله وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ صريح في أنه تعالى هو الذي يفعل التوبة فينا والعقل أيضا مؤكد له لأن التوبة عبارة عن الندم في الماضي والعزم على عدم العود في المستقبل والندم والعزم من باب الارادات والارادة لا يمكن إرادتها وإلا لزم التسلسل فاذن الارادة يمتنع أن تكون فعل الانسان فعلمنا أن هذا الندم وهذا العزم لا يحصلان إلا بتخليق الله تعالى فصار هذا البرهان العقلي دالا على صحة

ما أشعر به ظاهر القرآن وهو أنه تعالى هو الذي يتوب علينا فأما قوله لو تاب علينا لحصلت هذه التوبة فنقول قوله وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ خطاب مع الأمة وقد تاب عليهم في نكاح الأمهات والبنات وسائر المنهيات المذكورة في هذه الآيات وحصلت هذه التوبة لهم فزال الاشكال والله أعلم
ثم قال تعالى وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أي عليم بأحوالكم حكيم في كل ما يفعله بكم ويحكم عليكم
وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً
فيه مسألتان
المسألة الأولى قيل المجوس كانوا يحلون الأخوات وبنات الاخوة والأخوات فلما حرمهن الله تعالى قالوا إنكم تحلون بنت الخالة والعمة والخالة والعمة عليكم حرام فانكحوا أيضا بنات الأخ والأخت فنزلت هذه الآية
المسألة الثانية قالت المعتزلة قوله وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ يدل على أنه تعالى يريد التوبة من الكل والطاعة من الكل قال أصحابنا هذا محالا لأنه تعالى علم من الفاسق أنه لا يتوب وعلمه بأنه لا يتوب مع توبته ضدان وذلك العلم ممتنع الزوال ومع وجوب أحد الضدين كانت إرادة الضد الآخر إرادة لما علم كونه محالا وذلك محال وأيضاً إذا كان هو تعالى يريد التوبة من الكل ويريد الشيطان أن تميلوا ميلا عظيما ثم يحصل مراد الشيطان لا مراد الرحمن فحينئذ نفاذ الشيطان في ملك الرحمن أتم من نفاذ الرحمن في ملك نفسه وذلك محال فثبت أن قوله وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ خطاب مع قوم معينين حصلت هذه التوبة لهم
يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً
وفيه مسائل
المسألة الأولى في التخفيف قولان الأول المراد منه إباحة نكاح الأمة عند الضرورة وهو قول مجاهد ومقاتل والباقون قالوا هذا عام في كل أحكام الشرع وفي جميع ما يسره لنا وسهله علينا إحسانا منه الينا ولم يثقل التكليف علينا كما ثقل على بني إسرائيل ونظيره قوله تعالى وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالاْغْلَالَ الَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ ( الأعراف 157 ) وقوله يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ( البقرة 185 ) وقوله وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ ( الحج 78 ) وقوله عليه الصلاة والسلام ( جئتكم بالحنيفية السهلة السمحة )
المسألة الثانية قال القاضي هذا يدل على أن فعل العبد غير مخلوق لله تعالى إذ لو كان كذلك فالكافرين يخلق فيه الكفر ثم يقول له لا تكفر فهذا أعظم وجوه التثقيل ولا يخلق فيه الايمان ولا قدرة

للعبد على خلق الايمان ثم يقول له آمن وهذا أعظم وجوه التثقيل قال ويدل أيضا على أن تكليف ما لا يطاق غير واقع لأنه أعظم وجوه التثقيل
والجواب أنه معارض بالعلم والداعي وأكثر ما ذكرناه
ثم قال وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً والمعنى أنه تعالى لضعف الانسان خفف تكليفه ولم يثقل والأقرب أنه يحمل الضعف في هذا الموضع لا على ضعف الخلقة بل يحمل على كثرة الدواعي إلى اتباع الشهوة واللذة فيصير ذلك كالوجه في أن يضعف عن احتمال خلافه وإنما قلنا ان هذا الوجه أولى لأن الضعف في الخلقة والقوة لو قوى الله داعيته إلى الطاعة كان في حكم القوي والقوي في الخلقة والآلة إذا كان ضعيف الدواعي إلى الطاعة صار في حكم الضعيف فالتأثير في هذا الباب لضعف الداعية وقوتها لا لضعف البدن وقوته هذا كله كلام القاضي وهو كلام حسن ولكنه يهدم أصله وذلك لما سلم أن المؤثر في وجود الفعل وعدمه قوة الداعية وضعفها فلو تأمل لعلم أن قوة الداعية وضعفها لا بد له من سبب فان كان ذلك لداعية أخرى من العبد لزم التسلسل وإن كان الكل من الله فذاك هو الحق الذي لا محيد عنه وبطل القول بالاعتزال بالكلية والله أعلم
المسألة الثالثة روي عن ابن عباس أنه قال ثمان آيات في سورة النساء هي خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيّنَ لَكُمْ ( النساء 26 ) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ ( النساء 27 ) يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفّفَ عَنْكُمْ إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ ( النساء 31 ) إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ ( النساء 116 ) إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ ( النساء 40 ) وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ( النساء 110 ) مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ ( آل عمران 147 )
ويقول محمد الرازي مصنف هذا الكتاب ختم الله له بالحسنى اللهم اجعلنا بفضلك ورحمتك أهلا لها يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين
النوع الثامن من التكاليف المذكورة في هذه السورة
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَة ً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً
اعلم أن في كيفية النظم وجيهن الأول أنه تعالى لما شرح كيفية التصرف في النفوس بسبب النكاح ذكر بعده كيفية التصرف في الأموال والثاني قال القاضي لما ذكر ابتغاء النكاح بالأموال وأمر بإيفاء المهور والنفقات بين من بعد كيف التصرف في الأموال فقال ضَعِيفاً يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ

وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى خص الأكل ههنا بالذكر وإن كانت سائر التصرفات الواقعة على الوجه الباطل محرمة لما أن المقصود الأعظم من الأموال الأكل ونظيره قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتَامَى ظُلْماً ( النساء 10 )
المسألة الثانية ذكروا في تفسير الباطل وجهين الأول أنه اسم لكل ما لا يحل في الشرع كالربا والغصب والسرقة والخيانة وشهادة الزور وأخذ المال باليمين الكاذبة وجحد الحق وعندي أن حمل الآية على هذا الوجه يقتضي كونها مجملة لأنه يصير تقدير الآية لا تأكلوا أموالكم التي جعلتموها بينكم بطريق غير مشروع فان الطرق المشروعة لما لم تكن مذكورة ههنا على التفصيل صارت الآية مجملة لا محالة والثاني ما روي عن ابن عباس والحسن رضي الله عنهم أن الباطل هو كل ما يؤخذ من الانسان بغير عوض وبهذا التقدير لا تكون الآية مجملة لكن قال بعضهم إنها منسوخة قالوا لما نزلت هذه الآية تحرج الناس من أن يأكلوا عند أحد شيئا وشق ذلك على الخلق فنسخه الله تعالى بقوله في سورة النور لَّيْسَ عَلَى الاْعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الاْعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ ( النور 61 ) الآية وأيضا ظاهر الآية إذا فسرنا الباطل بما ذكرناه تحرم الصدقات والهبات ويمكن أن يقال هذا ليس بنسخ وإنما هو تخصيص ولهذا روى الشعبي عن علقمة عن ابن مسعود أنه قال هذه الآية محكمة ما نسخت ولا تنسخ إلى يوم القيامة
المسألة الثالثة قوله تعالى لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ يدخل تحته أكل مال الغير بالباطل وأكل مال نفسه بالباطل لأن قوله أَمْوالَكُمْ يدخل فيه القسمان معا كقوله وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ يدل على النهي عن قتل غيره وعن قتل نفسه بالباطل أما أكل مال نفسه بالباطل فهو إنفاقه في معاصي الله وأما أكل مال غيره بالباطل فقد عددناه
ثم قال إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَة ً عَن تَرَاضٍ مّنْكُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ عاصم وحمزة والكسائي تِجَارَة ً بالنصب والباقون بالرفع أما من نصب فعلى ( كان ) الناقصة والتقدير إلا أن تكون التجارة تجارة وأما من رفع فعلى ( كان ) التامة والتقدير إلا أن توجد وتحصل تجارة وقال الواحدي والاختيار الرفع لأن من نصب أضمر التجارة فقال تقديره إلا أن تكون التجارة تجارة والاضمار قبل الذكر ليس بقوى وإن كان جائزا
المسألة الثانية قوله إِلا فيه وجهان الأول أنه استثناء منقطع لأن التجارة عن تراض ليس من جنس أكل المال بالباطل فكان ( إلا ) ههنا بمعنى ( بل ) والمعنى لكل يحل أكله بالتجارة عن تراض الثاني ان من الناس من قال الاستثناء متصل وأضمر شيئاً فقال التقدير لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وإن تراضيتم كالربا وغيره إلا أن تكون تجارة عن تراض
واعلم أنه كما يحل المستفاد من التجارة فقد يحل أيضاً المال المستفاد من الهبة والوصية والارث وأخذ الصدقات والمهر وأروش الجنايات فان أسباب الملك كثيرة سوى التجارة

فان قلنا إن الاستثناء منقطع فلا إشكال فانه تعالى ذكر ههنا سبباً واحد من أسباب الملك ولم يذكر سائرها لا بالنفي ولا باثبات
وإن قلنا الاستثناء متصل كان ذلك حكما بأن غير التجارة لا يفيد الحل وعند هذا لا بد إما من النسخ أو التخصيص
المسألة الثالثة قال الشافعي رحمة الله عليه النهي في المعاملات يدل على البطلان وقال أبو حنيفة رضي الله عنه لا يدل عليه واحتج الشافعي على صحة قوله بوجوه الأول أن جميع الأموال مملوكة لله تعالى فاذا أذن لبعض عبيده في بعض التصرفات كان ذلك جاريا مجرى ما إذا وكل الانسان وكيلا في بعض التصرفات ثم إن الوكيل إذا تصرف على خلاف قول الموكل فذاك غير منعقد بالاجماع فاذا كان التصرف الواقع على خلاف قول المالك المجازي لا ينعقد فبأن يكون التصرف الواقع على خلاف قول المالك الحقيقي غير منعقد كان أولى وثانيها أن هذه التصرفات الفاسدة إما أن تكون مستلزمة لدخول المحرم المنهي عنه في الوجود وإما أن لا تكون فان كان الأول وجب القول ببطلانها قياسا على التصرفات الفاسدة والجامع السعي في أن لا يدخل منشأ النهي في الوجود وإن كان الثاني وجب القول بصحتها قياسا على التصرفات الصحيحة والجامع كونها تصرفات خالية عن المفسد فثبت أنه لا بد من وقوع التصرف على هذين الوجهين فأما القول بتصرف لا يكون صحيحا ولا باطلا فهو محال وثالثها أن قوله لا تبيعوا الدرهم بدرهمين كقوله لا تبيعوا الحر بالعبد فكما أن هذا النهي باللفظ لكنه نسخ للشريعة فكذا الأول وإذا كان ذلك نسخا للشريعة بطل كونه مفيداً للحكم والله أعلم
المسألة الرابعة قال أبو حنيفة رحمة الله عليه خيار المجلس غير ثابت في عقود المعاوضات المحضة وقال الشافعي رحمة الله عليه ثابت احتج أبو حنيفة بالنصوص أولها هذه الآية فان قوله إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَة ً عَن تَرَاضٍ مّنْكُمْ ظاهره يقتضي الحل عند حصول التراضي سواء حصل التفرق أو لم يحصل وثانيها قوله أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ فألزم كل عاقد الوفاء بما عقد عن نفسه وثالثها قوله عليه الصلاة والسلام ( لا يحل مال امرىء مسلم إلا بطيبة من نفسه ) وقد حصلت الطيبة ههنا بعقد البيع فوجب أن يحصل الحل ورابعها قوله عليه الصلاة والسلام ( من ابتاع طعاما لا يبعه حتى يقبضه ) جوز بيعه بعد القبض وخامسها ما روي أنه عليه السلام نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصيعان وأباح بيعه إذا جرى فيه الصيعان ولم يشترط فيه الافتراق وسادسها قوله عليه الصلاة والسلام ( لا يجزى ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه ) واتفقوا على أنه كما اشترى حصل العتق وذلك يدل على أنه يحصل الملك بمجرد العقد
واعلم أن الشافعي يسلم عموم هذه النصوص لكنه يقول أنتم أثبتم خيار الرؤية في شراء ما لم يره المشتري بحديث اتفق المحدثون على ضعفه فنحن أيضاً نثبت خيار المجلس بحديث اتفق علماء الحديث على قبوله وهو قوله عليه الصلاة والسلام ( المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا ) وتأويلات أصحاب أبي حنيفة لهذا الخبر وأجوبتها مذكورة في الخلافيات والله أعلم
قوله تعالى وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً اتفقوا على أن هذا نهي عن أن يقتل بعضهم

بعضا وإنما قال أَنفُسَكُمْ لقوله عليه السلام ( المؤمنون كنفس واحدة ) ولأن العرب يقولون قتلنا ورب الكعبة إذا قتل بعضهم لأن قتل بعضهم يجري مجرى قتلهم واختلفوا في أن هذا الخطاب هل هو نهي لهم عن قتلهم أنفسهم فانكره بعضهم وقال إن المؤمن مع إيمانه لا يجوز أن ينهى عن قتل نفسه لأنه ملجأ إلى أن لا يقتل نفسه وذلك لأن الصارف عنه في الدنيا قائم وهو الألم الشديد والذم العظيم والصارف عنه أيضا في الآخرة قائم وهو استحقاق العذاب العظيم وإذا كان الصارف خالصا امتنع منه أن يفعل ذلك وإذا كان كذلك لم يكن للنهي عنه فائدة وإنما يمكن أن يذكر هذا النهي فيمن يعتقد في قتل نفسه ما يعتقده أهل الهند وذلك لا يتأتى من المؤمن ويمكن أن يجاب عنه بأن المؤمن مع كونه مؤمناً بالله واليوم الآخر قد يلحقه من الغم والأذية ما يكون القتل عليه أسهل من ذلك ولذلك نرى كثيرا من المسلمين قد يقتلون أنفسهم بمثل السبب الذي ذكرناه وإذا كان كذلك كان في النهي عنه فائدة وأيضا ففيه احتمال آخر كأنه قيل لا تفعلوا ما تستحقون به القتل من القتل والردة والزنا بعد الاحصان ثم بين تعالى أنه رحيم بعباده ولأجل رحمته نهاهم عن كل ما يستوجبون به مشقة أو محنة وقيل إنه تعالى أمر بني إسرائيل بقتلهم أنفسهم ليكون توبة لهم وتمحيصا لخطاياهم وكان بكم يا أمة محمد رحيما حيث لم يكلفكم تلك التكاليف الصعبة
ثم قال وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً
واعلم أن فيه مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في أن قوله وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ إلى ماذا يعود على وجوه الأول قال عطاء إنه خاص في قتل النفس المحرمة لأن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات الثاني قال الزجاج إنه عائد إلى قتل النفس وأكل المال بالباطل لأنهما مذكوران في آية واحدة والثالث قال ابن عباس إنه عائد إلى كل ما نهى الله عنه من أول السورة إلى هذا الموضع
المسألة الثانية إنما قال وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ عُدْواناً لأن في جملة ما تقدم قتل البعض للبعض وقد يكون ذلك حقا كالقود وفي جملة ما تقدم أخذ المال وقد يكون ذلك حقا كما في الدية وغيرها فلهذا السبب شرطه تعالى في ذلك الوعيد
المسألة الثالثة قالت المعتزلة هذه الآية دالة على القطع بوعيد أهل الصلاة قالوا وقوله فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وان كان لا يدل على التخليد إلا أن كل من قطع بوعيد الفساق قال بتخليدهم فيلزم من ثبوت أحدهما ثبوت الآخر لأنه لا قائل بالفرق والجواب عنه بالاستقصاء قد تقدم في مواضع إلا أن الذي نقوله ههنا ان هذا مختص بالكفار لأنه قال وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ عُدْواناً وَظُلْماً ولا بد من الفرق بين العدوان وبين الظلم دفعا للتكرير فيحمل الظلم على ما إذا كان قصده التعدي على تكاليف الله ولا شك أن من كان كذلك كان كافراً لا يقال أليس أنه وصفهم بالايمان فقال ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ فكيف يمكن أن يقال المراد بهم الكفار لأنا نقول مذهبكم أن من دخل تحت هذا الوعيد لا يكون مؤمنا ألبتة فلا بد على هذا المذهب أن تقولوا أنهم كانوا مؤمنين ثم لما أتوا بهذه الأفعال ما بقوا على وصف الايمان فاذا كان لا بد لكم من القول بهذا الكلام فلم لا يصح هذا الكلام منا أيضا في تقرير ما قلناه والله أعلم

ثم أنه تعالى ختم الآية فقال وَكَانَ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً
واعلم أن جميع الممكنات بالنسبة إلى قدرة الله على السوية وحينئذ يمتنع أن يقال ان بعض الأفعال أيسر عليه من بعض بل هذا الخطاب نزل على القول المتعارف فيما بيننا كقوله تعالى وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ أو يكون معناه المبالغة في التهديد وهو أن أحداً لا يقدر على الهرب منه ولا على الامتناع عليه
إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً
اعلم أنه تعالى لما قدم ذكر الوعيد أتبعه بتفصيل ما يتعلق به فذكر هذه الآية وفيه مسائل
المسألة الأولى من الناس من قال جميع الذنوب والمعاصي كبائر روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال كل شيء عصى الله فيه فهو كبيرة فمن عمل شيئا منها فليستغفر الله فان الله تعالى لا يخلد في النار من هذه الأمة إلا راجعا عن الإسلام أو جاحدا فريضة أو مكذبا بقدر واعلم أن هذا القول ضعيف لوجوه
الحجة الأولى هذه الآية فان الذنوب لو كانت بأسرها كبائر لم يصح الفصل بين ما يكفر باجتناب الكبائر وبين الكبائر
الحجة الثانية قوله تعالى وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ ( القمر 53 ) وقوله لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَة ً وَلاَ كَبِيرَة ً إِلاَّ أَحْصَاهَا ( الكهف 49 )
الحجة الثالثة ان الرسول عليه الصلاة والسلام نص على ذنوب بأعيانها أنها كبائر كقوله الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ وذلك يدل على أن منها ما ليس من الكبائر
الحجة الرابعة قوله تعالى وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ( الحجرات 7 ) وهذا صريح في أن المنهيات أقسام ثلاثة أولها الكفر وثانيها الفسوق وثالثها العصيان فلا بد من فرق بين الفسوق وبين العصيان ليصح العطف وما ذاك إلا لما ذكرنا من الفرق بين الصغائر وبين الكبائر فالكبائر هي الفسوق والصغائر هي العصيان واحتج ابن عباس بوجهين أحدهما كثرة نعم من عصى والثاني إجلال من عصى فان اعتبرنا الأول فنعم الله غير متناهية كما قال وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا ( النحل 18 ) وان اعتبرنا الثاني فهو أجل الموجودات وأعظمها وعلى التقديرين وجب أن يكون عصيانه في غاية الكبر فثبت أن كل ذنب فهو كبيرة
والجواب من وجهين الأول كما أنه تعالى أجل الموجودات وأشرفها فكذلك هو أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين وأغنى الأغنياء عن طاعات المطيعين وعن ذنوب المذنبين وكل ذلك يوجب خفة الذنب الثاني هب أن الذنوب كلها كبيرة من حيث أنها ذنوب ولكن بعضها أكبر من بعض وذلك يوجب التفاوت

إذا ثبت أن الذنوب على قسمين بعضها صغائر وبعضها كبائر فالقائلون بذلك فريقان منهم من قال الكبيرة تتميز عن الصغيرة في نفسها وذاتها ومنهم من قال هذا الامتياز إنما يحصل لا في ذواتها بل بحسب حال فاعليها ونحن نشرح كل واحد من هذين القولين
أما القول الأول فالذاهبون اليه والقائلون به اختلفوا اختلافا شديداً ونحن نشير إلى بعضها فالأول قال ابن عباس كل ما جاء في القرآن مقرونا بذكر الوعيد فهو كبيرة نحو قتل النفس المحرمة وقذف المحصنة والزنا والربا وأكل مال اليتيم والفرار من الزحف الثاني قال ابن مسعود افتتحوا سورة النساء فكل شيء نهى الله عنه حتى ثلاث وثلاثين آية فهو كبيرة ثم قال مصداق ذلك إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ ( النساء 31 ) الثالث قال قوم كل عمد فهو كبيرة واعلم أن هذه الأقوال ضعيفة
أما الأول فلأن كل ذنب لا بد وأن يكون متعلق الذم في العاجل والعقاب في الآجل فالقول بأن كل ما جاء في القرآن مقرونا بالوعيد فهو كبيرة يقتضي أن يكون كل ذنب كبيرة وقد أبطلناه
وأما الثاني فهو أيضا ضعيف لأن الله تعالى ذكر كثيراً من الكبائر في سائر السور ولا معنى لتخصيصها بهذه السورة
وأما الثالث فضعيف أيضا لأنه ان أراد بالعمد أنه ليس بساه عن فعله فما هذا حاله هو الذي نهى الله عنه فيجب على هذا أن يكون كل ذنب كبيرة وقد أبطلناه وان أراد بالعمد أن يفعل المعصية مع العلم بأنها معصية فمعلوم أن اليهود والنصارى يكفرون بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهم لا يعلمون أنه معصية وهو مع ذلك كفر كبير فبطلت هذه الوجوه الثلاثة وذكر الشيخ الغزالي رحمه الله في منتخبات كتاب إحياء علوم الدين فصلا طويلا في الفرق بين الكبائر والصغائر فقال فهذا كله قول من قال الكبائر تمتاز عن الصغائر بحسب ذواتها وأنفسها
وأما القول الثاني وهو قول من يقول الكبائر تمتاز عن الصغائر بحسب اعتبار أحوال فاعليها فهؤلاء الذين يقولون إن لكل طاعة قدرا من الثواب ولكل معصية قدرا من العقاب فاذا أتى الانسان بطاعة واستحق بها ثوابا ثم أتى بمعصية واستحق بها عقابا فههنا الحال بين ثواب الطاعة وعقاب المعصية بحسب القسمة العقلية يقع على ثلاثة أوجه أحدها أن يتعادلا ويتساويا وهذا وإن كان محتملا بحسب التقسيم العقلي إلا أنه دل الدليل السمعي على أنه لا يوجد لأنه تعالى قال فَرِيقٌ فِى الْجَنَّة ِ وَفَرِيقٌ فِى السَّعِيرِ ( الشورى 7 ) ولو وجد مثل هذا المكلف وجب أن لا يكون في الجنة ولا في السعير
والقسم الثاني أن يكون ثواب طاعته أزيد من عقاب معصيته وحينئذ ينحبط ذلك العقاب بما يساويه من الثواب ويفضل من الثواب شيء ومثل هذه المعصية هي الصغيرة وهذا الانحباط هو المسمى بالتكفير
والقسم الثالث أن يكون عقاب معصيته أزيد من ثواب طاعته وحينئذ ينحبط ذلك الثواب بما يساويه من العقاب ويفضل من العقاب شيء ومثل هذه المعصية هي الكبيرة وهذا الانحباط هو المسمى بالاحباط وبهذا الكلام ظهر الفرق بين الكبيرة وبين الصغيرة وهذا قول جمهور المعتزلة

واعلم أن هذا الكلام مبني على ول كلها باطلة عندنا أولها أن هذا مبنى على أن الطاعة توجب ثوابا والمعصية توجب عقابا وذلك باطل لأنا بينا في كثير من مواضع هذا الكتاب أن صدور الفعل عن العبد لا يمكن إلا إذا خلق الله فيه داعية توجب ذلك الفعل ومتى كان كذلك امتنع كون الطاعة موجبة للثواب وكون المعصية موجبة للعقاب وثانيها أن بتقدير أن يكون الأمر كذلك إلا أنا نعلم ببديهة العقل أن من اشتغل بتوحيد الله وتقديسه وخدمته وطاعته سبعين سنة فان ثواب مجموع هذه الطاعات الكثيرة في هذه المدة الطويلة أكثر بكثير من عقاب شرب قطرة واحدة من الخمر مع أن الأمة مجمعة على أن شرب هذه القطرة من الكبائر فان أصروا وقالوا بل عقاب شرب هذه القطرة أزيد من ثواب التوحيد وجميع الطاعات سبعين سنة فقط أبطلوا على أنفسهم أصلهم فانهم يبنون هذه المسائل على قاعدة الحسن والقبح العقليين ومن الأمور المتقررة في العقول أن من جعل عقاب هذا القدر من الجناية أزيد من ثواب تلك الطاعات العظيمة فهو ظالم فان دفعوا حكم العقل في هذا الموضع فقد أبطلوا على أنفسهم القول بتحسين العقل وتقبيحه وحينئذ يبطل عليهم كل هذه القواعد وثالثها أن نعم الله تعالى كثيرة وسابقة على طاعات العبيد وتلك النعم السابقة موجبة لهذه الطاعات فكان أداء الطاعات أدار لما وجب بسبب النعم السابقة ومثل هذا لا يوجب في المستقبل شيئاً آخر وإذا كان كذلك وجب أن لا يكون شيء من الطاعات موجبا للثواب أصلا وإذا كان كذلك فكل معصية يؤتى بها فان عقابها يكون أزيد من ثواب فاعلها فوجب أن يكون جميع المعاصي كبائر وذلك أيضاً باطل ورابعها أن هذا الكلام مبني على القول بالاحباط وقد ذكرنا الوجوه الكثيرة في إبطال القول بالاحباط في سورة البقرة فثبت أن هذا الذي ذهبت المعتزلة اليه في الفرق بين الصغيرة والكبيرة قول باطل وبالله التوفيق
المسألة الثانية اختلف الناس في أن الله تعالى هل ميز جملة الكبائر عن جملة الصغائر أم لا فالأكثرون قالوا إنه تعالى لم يميز جملة الكبائر عن جملة الصغائر لأنه تعالى لما بين في هذه الآية أن الاجتناب عن الكبائر يوجب تكفير الصغائر فاذا عرف العبد أن الكبائر ليست إلا هذه الأصناف المخصوصة عرف أنه متى احترز عنها صارت صغائره مكفرة فكان ذلك إغراءا له بالاقدام على تلك الصغائر والاغراء بالقبيح لا يليق بالجملة أما إذا لم يميز الله تعالى كل الكبائر عن كل الصغائر ولم يعرف في شيء من الذنوب أنه صغيرة ولا ذنب يقدم عليه إلا ويجوز كونه كبيرة فيكون ذلك زاجراً له عن الاقدام عليه قالوا ونظير هذا في الشريعة إخفاء الصلاة الوسطى في الصلوات وليلة القدر في ليالي رمضان وساعة الاجابة في ساعات الجمعة ووقت الموت في جميع الأوقات والحاصل أن هذه القاعدة تقتضي أن لا يبين الله تعالى في شيء من الذنوب أنه صغيرة وأن لا يبين أن الكبائر ليست إلا كذا وكذا فانه لو بين ذلك لكان ما عداها صغيرة فحينئذ تصير الصغيرة معلومة ولكن يجوز أن يبين في بعض الذنوب أنه كبيرة روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( ما تعدون الكبائر ) فقالوا الله ورسوله أعلم فقال ( الاشراك بالله وقتل النفس المحرمة وعقوق الوالدين والفرار من الزحف والسحر وأكل مال اليتيم وقول الزور وأكل الربا وقذف المحصنات الغافلات ) وعن عبدالله بن عمر أنه ذكرها وزاد فيها استحلال آمين البيت الحرام وشرب الخمر وعن ابن مسعود أنه زاد فيها القنوط من رحمة الله واليأس من رحمة الله والأمن من مكر الله وذكر عن ابن عباس أنها سبعة ثم قال هي إلى السبعين أقرب وفي رواية أخرى إلى السبعمائة أقرب والله أعلم

المسألة الثالثة احتج أبو القاسم الكعبي بهذه الآية على القطع بوعيد أصحاب الكبائر فقال قد كشف الله بهذه الآية الشبهة في الوعيد لأنه تعالى بعد أن قدم ذكر الكبائر بين أن من اجتنبها يكفر عن سيآته وهذا يدل على أنهم إذا لم يجتنبوها فلا تكفر ولو جاز أن يغفر تعالى لهم الكبائر والصغائر من غير توبة لم يصح هذا الكلام
وأجاب أصحابنا من وجوه الأول انكم إما أن تستدلوا بهذه الآية من حيث إنه تعالى لما ذكر أن عند اجتناب الكبائر يكفر السيآت وجب أن عند عدم اجتناب الكبائر لا يكفرها لأن تخصيص الشيء بالذكر يدل على نفي الحكم عما عداه وهذا باطل لأن عند المعتزلة هذا الأصل باطل وعندنا انه دلالة ظنية ضعيفة وإما أن تستدلوا به من حيث أن المعلق بكلمة ( إن ) على الشيء عدم عند عدم ذلك الشيء وهذا أيضا ضعيف ويدل عليه آيات إحداها قوله وَاشْكُرُواْ اللَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ( البقرة 172 ) فالشكر واجب سواء عبد الله أو لم يعبد وثانيها قوله تعالى فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدّ الَّذِى اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ ( البقرة 283 ) وأداء الأمانة واجب سواء ائتمنه أو لم يفعل ذلك وثالثها فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ ( البقرة 282 ) والاستشهاد بالرجل والمرأتين جائز سواء حصل الرجلان أو لم يحصلا ورابعها وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَة ٌ والرهن مشروع سواء وجد الكاتب أو لم يجده وخامسها وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً ( النور 33 ) والاكراه على البغاء محرم سواء أردن التحصن أو لم يردن وسادسها وَإِنْ خِفْتُمْ أَن لا تُقْسِطُواْ فِى الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَاء ( النساء 3 ) والنكاح جائز سواء حصل ذلك الخوف أو لم يحصل وسابعها فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلواة ِ إِنْ خِفْتُمْ والقصر جائز سواء حصل الخوف أو لم يحصل وثامنها فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ والثلثان كما أنه حق الثلاثة فهو أيضاً حق الثنتين وتاسعها قوله وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مّنْ أَهْلِهِ ( النساء 35 ) وذلك جائز سواء حصل الخوف أو لم يحصل وعاشرها قوله إِن يُرِيدَا إِصْلَاحاً يُوَفّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ( النساء 35 ) وقد يحصل التوفيق بدون إرادتيهما والحادي عشر قوله وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مّن سَعَتِهِ ( النساء 130 ) وقد يحصل الغنى بدون ذلك التفرق وهذا الجنس من الآيات فيه كثرة فثبت أن المعلق بكلمة ( إن ) على الشيء لا يلزم أن يكون عدما عند عدم ذلك الشيء والعجب أن مذهب القاضي عبد الجبار في أصول الفقه هو أن المعلق بكملة ( إن ) على الشيء لا يكون عدما عند عدم ذلك الشيء ثم إنه في التفسير استحسن استدلال الكعبي بهذه الآية وذلك يدل على أن حب الانسان لمذهبه قد يلقيه فيما لا ينبغي
الوجه الثاني من الجواب قال أبو مسلم الاصفهاني إن هذه الآية إنما جاءت عقيب الآية التي نهى الله فيها عن نكاح المحرمات وعن عضل النساء وأخذ أموال اليتامى وغير ذلك فقال تعالى إن تجتنبوا هذه الكبائر التي نهيناكم عنها كفرنا عنكم ما كان منكم في ارتكابها سالفا وإذا كان هذا الوجه محتملا لم يتعين حمله على ما ذكره المعتزلة وطعن القاضي في هذا الوجه من وجهين الأول أن قوله إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ عام فقصره على المذكور المتقدم لا يجوز الثاني أن قوله إن باجتنابهم في المستقبل هذه المحرمات يكفر الله ما حصل منها في الماضي كلام بعيد لأنه لا يخلو حالهم من أمرين اثنين إما أن يكونوا

قد تابوا من كل ما تقدم فالتوبة قد أزالت عقاب ذلك لاجتناب هذه الكبائر أو لا يكونوا قد تابوا من كل ما تقدم فمن أين أن اجتناب هذه الكبائر يوجب تكفير تلك السيآت هذا لفظ القاضي في تفسيره
والجواب عن الأول أنا لا ندعي القطع بأن قوله إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ محمول على ما تقدم ذكره لكنا نقول إنه محتمل ومع هذا الاحتمال لا يتعين حمل الآية على ما ذكروه وعن الثاني أن قولك من أين أن اجتناب هذا الكبائر يوجب تكفير تلك السيئات سؤال لا استدلال على فساد هذا القسم وبهذا القدر لا يبطل هذا الاحتمال وإذا حضر هذا الاحتمال بطل ما ذكرتم من الاستدلال والله أعلم
الوجه الثالث من الجواب عن هذا الاستدلال هو أنا إذا أعطيناهم جميع مراداتهم لم يكن في الآية زيادة على أن نقول إن من لم يجتنب الكبائر لم تكفر سيآته وحينئذ تصير هذه الآية عامة في الوعيد وعمومات الوعيد ليست قليلة فما ذكرناه جوابا عن سائر العمومات كان جوابا عن تمسكهم بهذه الآية فلا أعرف لهذه الآية مزيد خاصية في هذا الباب وإذا كان كذلك لم يبق لقول الكعبي إن الله قد كشف الشبهة بهذه الآية عن هذه المسألة وجه
الوجه الرابع أن هذه الكبائر قد يكون فيها ما يكون كبيرا بالنسبة إلى شيء ويكون صغيراً بالنسبة إلى شيء آخر وكذا القول في الصغائر إلا أن الذي يحكم بكونه كبيرا على الاطلاق هو الكفر وإذا ثبت هذا فلم لا يجوز أن يكون المراد بقوله إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ الكفر وذلك لأن الكفر أنواع كثيرة منها الكفر بالله وبأنبيائه وباليوم الآخر وشرائعه فكان المراد أن من اجتنب عن الكفر كان ما وراءه مغفورا وهذا الاحتمال منطبق موافق لصريح قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ( النساء 48 ) وإذا كان هذا محتملا بل ظاهراً سقط استدلالهم بالكلية وبالله التوفيق
المسألة الرابعة قالت المعتزلة إن عند اجتناب الكبائر يجب غفران الصغائر وعندنا أنه لا يجب عليه شيء بل كل ما يفعله فهو فضل وإحسان وقد تقدم ذكر دلائل هذه المسألة
ثم قال تعالى وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً وفيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ المفضل عن عاصم يَكْفُرْ وَيُدْخِلْكُمْ بالياء في الحرفين على ضمير الغائب والباقون بالنون على استئناف الوعد وقرأ نافع مُّدْخَلاً بفتح الميم وفي الحج مثله والباقون بالضم ولم يختلفوا في مُدْخَلَ صِدْقٍ بالضم فبالفتح المراد موضع الدخول وبالضم المراد المصدر وهو الادخال أي ويدخلكم إدخالا كريما وصف الادخال بالكرم بمعنى أن ذلك الادخال يكون مقرونا بالكرم على خلاف من قال الله فيهم الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ ( الفرقان 34 )
المسألة الثانية أن مجرد الاجتناب عن الكبائر لا يوجب دخول الجنة بل لا بد معه من الطاعات فالتقدير ان أتيتم بجميع الواجبات واجتنبتم عن جميع الكبائر كفرنا عنكم بقية السيئات وأدخلناكم الجنة فهذا أحد ما يوجب الدخول في الجنة ومن المعلوم أن عدم السبب الواحد لا يوجب عدم المسبب بل ههنا سبب آخر هو السبب الأصلي القوي وهو فضل الله وكرمه ورحمته كما قال قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ ( يونس 58 ) والله أعلم

وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَى ْءٍ عَلِيماً
اعلم أن في النظم وجهين الأول قال القفال رحمه الله انه تعالى لما نهاهم في الآية المتقدمة عن أكل الأموال بالباطل وعن قتل النفس أمرهم في هذه الآية بما سهل عليهم ترك هذه المنهيات وهو أن يرضى كل أحد بما قسم الله له فانه إذا لم يرض بذلك وقع في الحسد واذا وقع في الحسد وقع لا محالة في أخذ الأموال بالباطل وفي قتل النفوس فإما إذا رضي بما قدر الله أمكنه الاحتراز عن الظلم في النفوس وفي الأموال
الوجه الثاني في كيفية النظم هو أن أخذ المال بالباطل وقتل النفس من أعمال الجوارح فأمر أولا بتركهما ليصير الظاهر طاهراً عن الأفعال القبيحة وهو الشريعة ثم أمر بعده بترك التعرض لنفوس الناس وأموالهم بالقلب على سبيل الحسد ليصير الباطن طاهرا عن الاخلاق الذميمة وذلك هو الطريقة ثم في الآية مسائل
المسألة الأولى التمني عندنا عبارة عن ارادة ما يعلم أو يظن أنه لا يكون ولهذا قلنا انه تعالى لو أراد من الكافر أن يؤمن مع علمه بأنه لا يؤمن لكان متمنيا وقالت المعتزلة النهي عن قول القائل ليته وجد كذا أو ليته لم يوجد كذا وهذا بعيد لأن مجرد اللفظ إذا لم يكن له معنى لا يكون تمنيا بل لا بد وأن يبحث عن معنى هذا اللفظ ولا معنى له إلا ما ذكرناه من إرادة ما يعلم أو يظن أنه لا يكون
المسألة الثانية اعلم أن مراتب السعادات إما نفسانية أو بدنية أو خارجية
أما السعادات النفسانية فنوعان أحدهما ما يتعلق بالقوة النظرية وهو الذكاء التام والحدس الكامل والمعارف الزائدة على معارف الغير بالكمية والكيفية وثانيهما ما يتعلق بالقوة العملية وهي العفة التي هي وسط بين الخمود والفجور والشجاعة التي هي وسط بين التهور والجبن واستعمال الحكمة العملية الذي هو توسط بين البله والجربزة ومجموع هذه الأحوال هو العدالة
وأما السعادات البدنية فالصحة والجمال والعمر الطويل في ذلك مع اللذة والبهجة
وأما السعادات الخارجية فهي كثرة الأولاد الصلحاء وكثرة العشائر وكثرة الأصدقاء والأعوان والرياسة التامة ونفاذ القول وكونه محبوبا للخلق حسن الذكر فيهم مطاع الأمر فيهم فهذا هو الاشارة الى مجامع السعادات وبعضها فطرية لا سبيل للكسب فيه وبعضها كسبية وهذا الذي يكون كسبيا متى تأمل العاقل فيه يجده أيضا محض عطاء الله فانه لا ترجيح للدواعي وإزالة العوائق وتحصيل الموجبات وإلا

فيكون سبب السعي والجد مشتركا فيه ويكون الفوز بالسعادة والوصول الى المطلوب غير مشترك فيه فهذا هو أقسام السعادات التي يفضل الله بعضهم على بعض فيها
المسألة الثانية أن الانسان إذا شاهد أنواع الفضائل حاصلة لانسان ووجد نفسه خاليا عن جملتها أو عن أكثرها فحينئذ يتألم قلبه ويتشوش خاطره ثم يعرض ههنا حالتان إحداهما أن يتمنى زوال تلك السعادات عن ذلك الإنسان والأخرى أن لا يتمنى ذلك بل يتمنى حصول مثلها له أما الأول فهو الحسد المذموم لأن المقصود الأول لمدبر العالم وخالقه الاحسان الى عبيده والجود اليهم وإفاضة أنواع الكرم عليهم فمن تمنى زوال ذلك فكأنه اعترض على الله تعالى فيما هو المقصود بالقصد الأول من خلق العالم وإيجاد المكلفين وأيضا ربما اعتقد في نفسه أنه أحق بتلك النعم من ذلك الانسان فيكون هذا اعتراضا على الله وقدحا في حكمته وكل ذلك مما يلقيه في الكفر وظلمات البدعة ويزيل عن قلبه نور الايمان وكما أن الحسد سبب للفساد في الدين فكذلك هو السبب للفساد في الدنيا فانه يقطع المودة والمحبة والموالاة ويقلب كل ذلك الى أضدادها فلهذا السبب نهى الله عباده عنه فقال وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ
واعلم أن سبب المنع من هذا الحسد يختلف باختلاف أصول الأديان أما على مذهب أهل السنة والجماعة فهو أنه تعالى فعال لما يريد لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ ( الأنبياء 23 ) فلا اعتراض عليه في فعله ولا مجال لأحد في منازعته وكل شيء صنعه ولا علة لصنعه واذا كان كذلك فقد صارت أبواب القيل والقال مسدودة وطرق الاعتراضات مردودة وأما على مذهب المعتزلة فهذا الطريق أيضا مسدود لأنه سبحانه علام الغيوب فهو أعرف من خلقه بوجوه المصالح ودقائق الحكم ولهذا المعنى قال وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِى الاْرْضِ ( الشورى 27 ) وعلى التقديرين فلا بد لكل عاقل من الرضا بقضاء الله سبحانه ولهذا المعنى حكى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) عن رب العزة أنه قال ( من استسلم لقضائي وصبر على بلائي وشكر لنعمائي كتبته صديقا وبعثته يوم القيامة مع الصديقين ومن لم يرض بقضائي ولم يصبر على بلائي ولم يشكر لنعمائي فليطلب ربا سواي ) فهذا هو الكلام فيما إذا تمنى زوال تلك النعمة عن ذلك الانسان ومما يؤكد ذلك ما روى ابن سيرين عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا يخطب الرجل على خطبة أخيه ولا يسوم على سوم أخيه ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتقوم مقامها فان الله هو رازقها ) والمقصود من كل ذلك المبالغة في المنع من الحسد أما إذا لم يتمن ذلك بل تمنى حصول مثلها له فمن الناس من جوز ذلك إلا أن المحققين قالوا هذا أيضا لا يجوز لأن تلك النعمة ربما كانت مفسدة في حقه في الدين ومضرة عليه في الدنيا فلهذا السبب قال المحققون إنه لا يجوز للانسان أن يقول اللهم أعطني دارا مثل دار فلان وزوجة مثل زوجة فلان بل ينبغي أن يقول اللهم أعطني ما يكون صلاحا في ديني ودنياي ومعادي ومعاشي وإذا تأمل الانسان كثيرا لم يجد دعاء أحسن مما ذكر الله في القرآن تعليما لعباده وهو قوله فِى الدُّنْيَا حَسَنَة ً وَفِي الاْخِرَة ِ حَسَنَة ً وَقِنَا ( البقرة 201 ) وروى قتادة عن الحسن أنه قال لا يتمن أحد المال فلعل هلاكه في ذلك المال كما في حق ثعلبة وهذا هو المراد بقوله في هذه الآية وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ
المسألة الرابعة ذكروا في سبب النزول وجوها الأول قال مجاهد قالت أم سلمة يا رسول الله يغزو

الرجال ولا نغزو ولهم من الميراث ضعف ما لنا فليتنا كنا رجالا فنزلت الآية الثاني قال السدي لما نزلت آية المواريث قال الرجال نرجو أن نفضل على النساء في الآخرة كما فضلنا في الميراث وقال النساء نرجو أن يكون الوزر علينا علينا نصف ما على الرجال كما في الميراث فنزلت الآية الثالث لما جعل الله الميراث للذكر مثل حظ الأنثيين قالت النساء نحن أحوج لأنا ضعفاء وهم أقدر على طلب المعاش فنزلت الآية الرابع أتت واحدة من النساء الى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقالت رب الرجال والنساء واحد وأنت الرسول الينا واليهم وأبونا آدم وأمنا حواء فما السبب في أن الله يذكر الرجال ولا يذكرنا فنزلت الآية فقالت وقد سبقنا الرجال بالجهاد فما لنا فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن للحامل منكن أجر الصائم القائم فاذا ضربها الطلق لم يدر أحد ما لها من الأجر فاذا أرضعت كان لها بكل مصة أجر إحياء نفس )
ثم قال تعالى لّلرّجَالِ نَصِيبٌ مّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمَّا اكْتَسَبْنَ
واعلم أنه يمكن أن يكون المراد من هذه الآية ما يتعلق بأحوال الدنيا وأن يكون ما يتعلق بأحوال الآخرة وأن يكون ما يتعلق بهما
أما الاحتمال الأول ففيه وجوه الأول أن يكون المراد لكل فريق نصيب مما اكتسب من نعيم الدنيا فينبغي أن يرضى بما قسم الله له الثاني كل نصيب مقدر من الميراث على ما حكم الله به فوجب أن يرضى به وأن يترك الاعتراض والاكتساب على هذا القول بمعنى الاصابة والاحراز الثالث كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء والصبيان فأبطل الله ذلك بهذه الآية وبين أن لكل واحد منهم نصيبا ذكرا كان أو أنثى صغيرا كان أو كبيرا
وأما الاحتمال الثاني وهو أن يكون المراد بهذه الآية ما يتعلق بأحوال الآخرة ففيه وجوه الأول المراد لكل أحد قدر من الثواب يستحقه بكرم الله ولطفه فلا تتمنوا خلاف ذلك الثاني لكل أحد جزاء مما اكتسب من الطاعات فلا ينبغي أن يضيعه بسبب الحسد المذموم وتقديره لا تضيع مالك وتتمن ما لغيرك الثالث للرجال نصيب مما اكتسبوا سبب قيامهم بالنفقة على النساء وللنساء نصيب مما اكتسبن يريد حفظ فروجهن وطاعة أزواجهن وقيامها بمصالح البيت من الطبخ والخبز وحفظ الثياب ومصالح المعاش فالنصيب على هذا التقدير هو الثواب
وأما الاحتمال الثالث فهو أن يكون المراد من الآية كل هذه الوجوه لأن هذا اللفظ محتمل ولا منافاة
ثم قال تعالى وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير والكسائي وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ بغير همز بشرط أن يكون أمراً من السؤال وبشرط أن يكون قبله واو أو فاء والباقون بالهمز في كل القرآن
أما الأول فنقل حركة الهمزة الى السين واستغنى عن ألف الوصل فحذفها
وأما الثاني فعلى الأصل واتفقوا في قوله وَلْيَسْئَلُواْ أنه بالهمزة لأنه أمر لغائب
المسألة الثانية قال أبو علي الفارسي قوله مِن فَضْلِهِ في موضع المفعول الثاني في قول أبي

الحسن ويكون المفعول الثاني محذوفا في قياس قول سيبويه والصفة قائمة مقامه كأنه قيل واسألوا الله نعمته من فضله
المسألة الثالثة قوله وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ تنبيه على أن الانسان لا يجوز له أن يعين شيئاً في الطلب والدعاء ولكن يطلب من فضل الله ما يكون سبباً لصلاحه في دينه ودنياه على سبيل الاطلاق
ثم قال إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلّ شَى ْء عَلِيماً والمعنى أنه تعالى هو العالم بما يكون صالحا للسائلين فليقتصر السائل على المجمل وليحترز في دعائه عن التعيين فربما كان ذلك محض المفسدة والضرر والله أعلم
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الاٌّ خِ وَبَنَاتُ الاٍّ خْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ الْلاَّتِى أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَة ِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِى فِى حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ اللَّاتِى دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَآئِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاٍّ خْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه يمكن تفسير الآية بحيث يكون الوالدان والأقربون وراثاً ويمكن أيضا بحيث يكونان موروثا عنهما
أما الأول فهو أن قوله وَلِكُلٍ جَعَلْنَا مَوَالِى َ مِمَّا تَرَكَ أي ولكل واحد جعلنا ورثة في تركته ثم كأنه قيل ومن هؤلاء الورثة فقيل هم الوالدان والأقربون وعلى هذا الوجه لا بد من الوقف عند قوله مّمَّا تَرَكَ
وأما الثاني ففيه وجهان الأول أن يكون الكلام على التقديم والتأخير والتقدير ولكل شيء مما ترك الوالدان والأقربون جعلنا موالى أي ورثة و جَعَلْنَا في هذين الوجهين لا يتعدى إلى مفعولين لأن معنى جَعَلْنَا خلقنا الثاني أن يكون التقدير ولكل قوم جعلناهم موالى نصيب مما ترك الوالدان والأقربون فقوله مَوَالِى َ على هذا القول يكون صفة والموصوف يكون محذوفا والراجع إلى قوله وَلِكُلّ محذوفا والخبر وهو قوله نَّصِيبٍ محذوف أيضا وعلى هذا التقدير يكون جَعَلْنَا معتديا إلى مفعولين والوجهان الأولان أولى لكثرة الاضمار في هذا الوجه
المسألة الثانية لفظ مشترك بين معان أحدها المعتق لأنه ولى نعمته في عتقه ولذلك يسمى مولى النعمة وثانيها العبد المعتق لاتصال ولاية مولاه في إنعامه عليه وهذا كما يسمى الطالب غريما لأن له اللزوم والمطالبة بحقه ويسمى المطلوب غريما لكون الدين لازما له وثالثها الحليف لأن المحالف يلي أمره بعقد اليمين ورابعها ابن العم لأنه يليه بالنصرة للقرابة التي بينهما وخامسها المولى الولي لأنه يليه بالنصرة قال تعالى ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ

مَوْلَى لَهُمْ ( محمد 11 ) وسادسها العصبة وهو المراد به في هذه الآية لأنه لا يليق بهذه الآية إلا هذا المعنى ويؤكده ما روى أبو صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أنا أولى بالمؤمنين من مات وترك مالا فماله للموالي العصبة ومن ترك كلا فأنا وليه ) وقال عليه الصلاة والسلام ( اقسموا هذا المال فما أبقت السهام فلأولي عصبة ذكر )
ثم قال تعالى وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَئَاتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ عاصم وحمزة والكسائي عقدت بغير ألف وبالتخفيف والباقون بالألف والتخفيف وعقدت أضافت العقد إلى واحد والاختيار عاقدت لدلالة المفاعلة على عقد الحلف من الفريقين
المسألة الثانية الأيمان جمع يمين واليمين يحتمل أن يكون معناه اليد وأن يكون معناه القسم فان كان المراد اليد ففيه مجاز من ثلاثة أوجه أحدها أن المعاقدة مسندة في ظاهر اللفظ إلى الأيدي وهي في الحقيقة مسندة إلى الحالفين والسبب في هذا المجاز أنهم كانوا يضربون صفقة البيع بأيمانهم ويأخذ بعضهم بيد بعض على الوفاء والتمسك بالعهد
والوجه الثاني في المجاز وهو أن التقدير والذين عاقدت بحلفهم أيمانكم فحذف المضاف وأقام المضاف اليه مقامه وحسن هذا الحذف لدلالة الكلام عليه الثالث أن التقدير والذين عاقدتهم إلا أنه حذف الذكر العائد من الصلة إلى الموصول هذا كله إذا فسرنا اليمين باليد أما عاقدتهم إلا أنه حذف الذكر العائد من الصلة إلى الموصول هذا كله إذا فسرنا اليمين باليد أما إذا فسرناها بالقسم والحلف كانت المعاقدة في ظاهر اللفظ مضافة إلى القسم وإنما حسن ذلك لأن سبب المعاقدة لما كان هو اليمين حسنت هذه الاضافة والقول في بقية المجازات كما تقدم
المسألة الثالثة من الناس من قال هذه الآية منسوخة ومنهم من قال إنها غير منسوخة أما القائلون بالنسخ فهم الذين فسروا الآية بأحد هذه الوجوه التي نذكرها فالأول هو أن المراد بالذين عاقدت أيمانكم الحلفاء في الجاهلية وذلك أن الرجل كان يعاقد غيره ويقول دمي دمك وسلمي سلمك وحربي حربك وترثني وأرثك وتعقل عني وأعقل عنك فيكون لهذا الحليف السدس من الميراث فنسخ ذلك بقوله تعالى وَأُوْلُواْ الارْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ( الأنفال 75 ) وبقوله يُوصِيكُمُ اللَّهُ الثاني أن الواحد منهم كان يتخذ إنسانا أجنبيا ابنا له وهم المسمون بالأدعياء وكانوا يتوارثون بذلك السبب ثم نسخ الثالث أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يثبت المؤاخاة بين كل رجلين من أصحابه وكانت تلك المؤاخاة سببا للتوارث واعلم أن على كل هذه الوجوه الثلاثة كانت المعاقدة سببا للتوارث بقوله وَلِكُلٍ جَعَلْنَا ثم ان الله تعالى نسخ ذلك بالآيات التي تلوناها
القول الثاني قول من قال الآية غير منسوخة والقائلون بذلك ذكروا في تأويل الآية وجوها الأول تقدير الآية ولكل شيء مما ترك الوالدان والأقربون والذين عاقدت أيمانكم موالي ورثة فآتوهم نصيبهم أي فآتوا الموالي والورثة نصيبهم فقوله وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ معطوف على قوله الْوالِدانِ وَالاْقْرَبُونَ والمعنى ان ما ترك الذين عاقدت أيمانكم فله وارث هو أولى به وسمى الله تعالى الوارث مولى والمعنى لا تدفعوا المال إلى الحليف بل إلى المولى والوارث وعلى هذا التقدير فلا نسخ في الآية وهذا تأويل

أبي علي الجبائي الثاني المراد بالذين عاقدت أيمانكم الزوج والزوجة والنكاح يسمى عقدا قال تعالى وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَة َ النّكَاحِ ( البقرة 235 ) فذكر تعالى الوالدين والأقربين وذكر معهم الزوج والزوجة ونظيره آية المواريث في أنه لما بين ميراث الولد والوالدين ذكر معهم ميراث الزوج والزوجة وعلى هذا فلا نسخ في الآية أيضا وهو قول أبي مسلم الاصفهاني الثالث أن يكون المراد بقوله وَالَّذِينَ فِى أَيْمَانِكُمْ الميراث الحاصل بسبب الولاء وعلى هذا التقدير فلا نسخ أيضا الرابع أن يكون المراد من الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ الحلفاء والمراد بقوله وَلِكُلٍ جَعَلْنَا النصرة والنصيحة والمصافاة في العشرة والمخالصة في المخالطة فلا يكون المراد التوارث وعلى هذا التقدير فلا نسخ أيضا الخامس نقل أن الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه وفي ابنه عبد الرحمن وذلك أنه رضي الله عنه حلف أن لا ينفق عليه ولا يورثه شيئا من ماله فلما أسلم عبد الرحمن أمره الله أن يؤتيه نصيبه وعلى هذا التقدير فلا نسخ أيضا السادس قال الاصم إنه نصيب على سبيل التحفة والهدية بالشيء القليل كما أمر تعالى لمن حضر القسمة أن يجعل له نصيب على ما تقدم ذكره وكل هذه الوجوه حسنة محتملة والله أعلم بمراده
المسألة الرابعة القائلون بأن قوله وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ مبتدأ وخبره قوله وَلِكُلٍ جَعَلْنَا قالوا إنما جاء خبره مع الفاء لتضمن ( الذي ) معنى الشرط فلا جرم وقع خبره مع الفاء وهو قوله وَلِكُلٍ جَعَلْنَا ويجوز أن يكون منصوبا على قولك زيدا فاضربه
المسألة الخامسة قال جمهور الفقهاء لا يرث المولى الأسفل من الأعلى وحكى الطحاوي عن الحسن بن زياد أنه قال يرث لما روى ابن عباس أن رجلا أعتق عبدا له فمات المعتق ولم يترك إلا المعتق فجعل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ميراثه للغلام المعتق ولأنه داخل في قوله تعالى وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَئَاتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ
والجواب عن التمسك بالحديث أنه لعل ذلك المال لما صار لبيت المال دفعه النبي عليه الصلاة والسلام إلى ذلك الغلام لحاجته وفقره لأنه كان مالا لا وارث له فسبيله أن يصرف إلى الفقراء
المسألة السادسة قال الشافعي ومالك رضي الله عنهما من اسلم على يد رجل ووالاه وعاقده ثم مات ولا وارث له غيره انه لا يرثه بل ميراثه للمسلمين وقال أبو حنيفة رضي الله عنه يرثه حجة الشافعي أنا بينا أن معنى هذه الآية ولكل شيء مما تركه الوالدان والأقربون والذين عاقدت أيمانكم فقد جعلنا له موالى وهم العصبة ثم هؤلاء العصبة إما الخاصة وهم الورثة وإما العامة وهم جماعة المسلمين فوجب صرف هذا المال إلى العصبة العامة ما لم توجد العصبة الخاصة واحتج أبو بكر الرازي لقوله بأن الآية توجب الميراث للذي والاه وعاقده ثم إنه تعالى نسخه بقوله وَأُوْلُواْ الارْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ( الأنفال 75 ) فهذا النسخ إنما يحصل إذا وجد أولو الأرحام فاذا لم يوجدوا لزم بقاء الحكم كما كان
والجواب أنا بينا أنه لا دلالة في الآية على أن الحليف يرث بل بينا أن الآية دالة على أنه لا يرث وبينا أن القول بهذا النسخ باطل
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلّ شَى ْء شَهِيداً وهو كلمة وعد للمطيعين وكلمة وعيد للعصاة

والشهيد الشاهد والمشاهد والمراد منه إما علمه تعالى بجميع الجزئيات والكليات وإما شهادته على الخلق يوم القيامة بكل ما عملوه وعلى التقدير الأول الشهيد هو العالم وعلى التقدير الثاني هو المخبر
الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَآ أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَفِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِى الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً
اعلم أنه تعالى قال وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ ( النساء 32 ) وقد ذكرنا أن سبب نزول هذه الآية أن النساء تكلمن في تفضيل الله الرجال عليهن في الميراث فذكر تعالى في هذه الآية أنه إنما فضل الرجال على النساء في الميراث لأن الرجال قوامون على النساء فانهما وإن اشتركا في استمتاع كل واحد منهما بالآخر أمر الله الرجال أن يدفعوا اليهن المهر ويدروا عليهن النفقة فصارت الزيادة من أحد الجانبين مقابلة بالزيادة من الجانب الآخر فكأنه لا فضل ألبتة فهذا هو بيان كيفية النظم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى القوام اسم لمن يكون مبالغا في القيام بالأمر يقال هذا قيم المرأة وقوامها للذي يقوم بأمرها ويهتم بحفظها قال ابن عباس نزلت هذه الآية في بنت محمد بن سلمة وزوجها سعد بن الربيع أحد نقباء الأنصار فانه لطمها لطمة فنشزت عن فراشه وذهبت إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وذكرت هذه الشكاية وأنه لطمها وان أثر اللطمة باق في وجهها فقال عليه الصلاة والسلام ( اقتصي منه ثم قال لها اصبري حتى أنظر ) فنزلت هذه الآية الرّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النّسَاء أي مسلطون على أدبهن والأخذ فوق أيديهن فكأنه تعالى جعله أميرا عليها ونافذ الحكم في حقها فلما نزلت هذه الآية قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( أردنا أمراً وأراد الله أمرا والذي أراد الله خير ) ورفع القصاص ثم انه تعالى لما أثبت للرجال سلطنة على النساء ونفاذ أمر عليهن بين أن ذلك معلل بأمرين أحدهما قوله تعالى بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ( النساء 34 )
واعلم أن فضل الرجل على النساء حاصل من وجوه كثيرة بعضها صفات حقيقة وبعضها أحكام شرعية أما الصفات الحقيقية فاعلم أن الفضائل الحقيقية يرجع حاصلها الى أمرين إلى العلم وإلى القدرة ولا شك أن عقول الرجال وعلومهم أكثر ولا شك أن قدرتهم على الأعمال الشاقة أكمل فلهذين السببين حصلت الفضيلة للرجال على النساء في العقل والحزم والقوة والكتابة في الغالب والفروسية والرمي وان منهم الأنبياء والعلماء وفيهم الامامة الكبرى والصغرى والجهاد والأذان والخطبة والاعتكاف والشهادة في الحدود والقصاص بالاتفاق وفي الأنكحة عند الشافعي رضي الله عنه وزيادة النصيب

في الميراث والتعصيب في الميراث وفي تحمل الدية في القتل والخطأ وفي القسامة والولاية في النكاح والطلاق والرجعة وعدد الأزواج وإليهم الانتساب فكل ذلك يدل على فضل الرجال على النساء
والسبب الثاني لحصول هذه الفضيلة قوله تعالى وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوالِهِمْ يعني الرجل أفضل من المرأة لأنه يعطيها المهر وينفق عليها ثم انه تعالى قسم النساء قسمين فوصف الصالحات منهن بأنهن قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله وفيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) قرأ ابن مسعود فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَفِظَاتٌ لّلْغَيْبِ
المسألة الثانية قوله قَانِتَاتٌ حَفِظَاتٌ لّلْغَيْبِ فيه وجهان الأول قانتات أي مطيعات لله حَفِظَاتٌ لّلْغَيْبِ أي قائمات بحقوق الزوج وقدم قضاء حق الله ثم أتبع ذلك بقضاء حق الزوج الثاني أن حال المرأة إما أن يعتبر عند حضور الزوج أو عند غيبته أما حالها عند حضور الزوج فقد وصفها الله بأنها قانتة وأصل القنوت دوام الطاعة فالمعنى أنهن قيمات بحقوق أزواجهن وظاهر هذا إخبار إلا أن المراد منه الأمر بالطاعة
واعلم أن المرأة لا تكون صالحة إلا إذا كانت مطيعة لزوجها لأن الله تعالى قال فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ والألف واللام في الجمع يفيد الاستغراق فهذا يقتضي أن كل امرأة تكون صالحة فهي لا بد وأن تكون قانتة مطيعة قال الواحدي رحمه الله لفظ القنوت يفيد الطاعة وهو عام في طاعة الله وطاعة الأزواج وأما حال المرأة عند غيبة الزوج فقد وصفها الله تعالى بقوله حَفِظَاتٌ لّلْغَيْبِ واعلم أن الغيب خلاف الشهادة والمعنى كونهن حافظات بمواجب الغيب وذلك من وجوه أحدها أنها تحفظ نفسها عن الزنا لئلا يلحق الزوج العار بسبب زناها ولئلا يلتحق به الولد المتكون من نطفة غيره وثانيها حفظ ماله عن الضياع وثالثها حفظ منزله عما لا ينبغي وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( خير النساء إن نظرت اليها سرتك وإن أمرتها أطاعتك وإن غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها ) وتلا هذه الآية
المسألة الثالثة ( ما ) في قوله بِمَا حَفِظَ اللَّهُ فيه وجهان الأول بمعنى الذي والعائد اليه محذوف والتقدير بما حفظه الله لهن والمعنى أن عليهن ان يحفظن حقوق الزوج في مقابلة ما حفظ الله حقوقهن على أزواجهن حيث أمرهم بالعدل عليهن وإمساكهن بالمعروف وإعطائهن أجورهن فقوله بِمَا حَفِظَ اللَّهُ يجري مجرى ما يقال هذا بذاك أي هذا في مقابلة ذاك
والوجه الثاني أن تكون ( ما ) مصدرية والتقدير بحفظ الله وعلى هذا التقدير ففيه وجهان الأول أنهن حافظات للغيب بما حفظ الله إياهن أي لا يتيسر لهن حفظ إلا بتوفيق الله فيكون هذا من باب إضافة المصدر إلى الفاعل والثاني أن المعنى هو أن المرأة إنما تكون حافظة للغيب بسبب حفظهن الله أي بسبب حفظهن حدود الله وأوامره فان المرأة لولا أنها تحاول رعاية تكاليف الله وتجتهد في حفظ أوامره لما أطاعت زوجها وهذا الوجه يكون من باب إضافة المصدر إلى المفعول
واعلم أنه تعالى لما ذكر الصالحات ذكر بعده غير الصالحات فقال وَاللَّاتِى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ
واعلم أن الخوف عبارة عن حال يحصل في القلب عند ظن حدوث أمر مكروه في المستقبل قال

الشافعي رضي الله عنه وَاللَّاتِى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ النشوز قد يكون قولا وقد يكون فعلا فالقول مثل أن كانت تلبيه إذا دعاها وتخضع له بالقول إذا خاطبها ثم تغيرت والفعل مثل أن كانت تقوم اليه إذا دخل عليها أو كانت تسارع إلى أمره وتبادر إلى فراشه باستبشار إذا التمسها ثم إنها تغيرت عن كل ذلك فهذه أمارات دالة على نشوزها وعصيانها فحينئذ ظن نشوزها ومقدمات هذه الأحوال توجب خوف النشوز وأما النشوز فهو معصية الزوج والترفع عليه بالخلاف وأصله من قولهم نشز الشيء إذا ارتفع ومنه يقال للأرض المرتفعة ونشز ونشر
ثم قال تعالى فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِى الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الشافعي رضي الله عنه أما الوعظ فانه يقول لها اتقي الله فان لي عليك حقا وارجعي عما أنت عليه واعلمي أن طاعتي فرض عليك ونحو هذا ولا يضربها في هذه الحالة لجواز أن يكون لها في ذلك كفاية فان أصرت على ذلك النشوز فعند ذلك يهجرها في المضجع وفي ضمنه امتناعه من كلامها وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه ولا يزيد في هجره الكلام ثلاثا وأيضا فاذا هجرها في المضجع فان كانت تحب الزوج شق ذلك عليها فتترك النشوز وان كانت تبغضه وافقها ذلك الهجران فكان ذلك دليلا على كمال نشوزها وفيهم من حمل ذلك على الهجران في المباشرة لأن إضافة ذلك إلى المضاجع يفيد ذلك ثم عند هذه الهجرة ان بقيت على النشوز ضربها قال الشافعي رضي الله عنه والضرب مباح وتركه أفضل روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال كنا معاشر قريش تملك رجالنا نساءهم فقدمنا المدينة فوجدنا نساءهم تملك رجالهم فاختلطت نساؤنا بنسائهم فذئرن على أزواجهن فأذن في ضربهن فطاف بحجر نساء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) جمع من النسوان كلهن يشكون أزواجهن فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( لقد أطاف الليلة بآل محمد سبعون امرأة كلهن يشكون أزواجهن ولا تجدون أولئك خياركم ) ومعناه أن الذين ضربوا أزواجهم ليسوا خيرا ممن لم يضربوا قال الشافعي رضي الله عنه فدل هذا الحديث على أن الأولى ترك الضرب فأما إذا ضربها وجب في ذلك الضرب أن يكون بحيث لا يكون مفضيا إلى الهلاك ألبتة بأن يكون مفرقا على بدنها ولا يوالي بها في موضع واحد ويتقي الوجه لأنه مجمع المحاسن وأن يكون دون الأربعين ومن أصحابنا من قال لا يبلغ به عشرين لأنه حد كامل في حق العبد ومنهم من قال ينبغي أن يكون الضرب بمنديل ملفوف أو بيده ولا يضربها بالسياط ولا بالعصا وبالجملة فالتخفيف مراعى في هذا الباب على أبلغ الوجوه
وأقول الذي يدل عليه أنه تعالى ابتدأ بالوعظ ثم ترقى منه إلى الهجران في المضاجع ثم ترقى منه إلى الضرب وذلك تنبيه يجري مجرى التصريح في أنه مهما حصل الغرض بالطريق الاخف وجب الاكتفاء به ولم يجز الاقدام على الطريق الأشق والله أعلم
المسألة الثانية اختلف أصحابنا قال بعضهم حكم هذه الآية مشروع على الترتيب فان ظاهر اللفظ وان دل على الجمع إلا أن فحوى الآية يدل على الترتيب قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه يعظها بلسانه فان انتهت فلا سبيل له عليها فان أبت هجر مضجعها فان أبت ضربها فان لم تتعظ بالضرب بعث الحكمين وقال آخرون هذا الترتيب مراعى عند خوف النشوز أما عند تحقق النشوز فلا

بأس بالجمع بين الكل وقال بعض أصحابنا تحرير المذهب أن له عند خوف النشوز أن يعظها وهل له أن يهجرها فيه احتمال وله عند إبداء النشوز أن يعظها أو يهجرها أو يضربها
ثم قال تعالى فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ أي إذا رجعن عن النشوز إلى الطاعة عند هذا التأديب فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً أي لا تطلبوا عليهن الضرب والهجران طريقاً على سبيل التعنت والايذاء إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً وعلوه لا بعلو الجهة وكبره لا بكبر الجثة بل هو علي كبير لكمال قدرته ونفاذ مشيئته في كل الممكنات وذكر هاتين الصفتين في هذا الموضع في غاية الحسن وبيانه من وجوه الأول أن المقصود منه تهديد الأزواج على ظلم النسوان والمعنى أنهن ضعفن عن دفع ظلمكم وعجزن عن الانتصاف منكم فالله سبحانه علي قاهر كبير قادر ينتصف لهن منكم ويستوفي حقهن منكم فلا ينبغي أن تغتروا بكونكم أعلى يداً منهن وأكبر درجة منهن الثاني لا تبغوا عليهن إذا أطعنكم لعلو أيديكم فان الله أعلى منكم وأكبر من كل شيء وهو متعال عن أن يكلف إلا بالحق الثالث أنه تعالى مع علوه وكبريائه لا يكلفكم إلا ما تطيقون فكذلك لا تكلفوهن محبتكم فانهن لا يقدرن على ذلك الرابع أنه مع علوه وكبرئايه لا يؤاخذ العاصي إذا تاب بل يغفر له فاذا تابت المرأة عن نشوزها فأنتم أولى بأن تقبلوا توبتها وتتركوا معاقبتها الخامس أنه تعالى مع علوه وكبرئايه اكتفى من العبد بالظواهر ولم يهتك السرائر فأنتم أولى أن تكتفوا بظاهر حال المرأة وأن لا تقعوا في التفتيش عما في قلبها وضميرها من الحب والبغض
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصْلَاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَآ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً
اعلم أنه تعالى لما ذكر عند نشوز المرأة أن الزوج يعظها ثم يهجرها ثم يضربها بين أنه لم يبق بعد الضرب إلا المحاكمة إلى من ينصف المظلوم من الظالم فقال وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا إلى آخر الآية وههنا مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس خِفْتُمْ أي علمتم قال وهذا بخلاف قوله وَاللَّاتِى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فان ذلك محمول على الظن والفرق بين الموضعين أن في الابتداء يظهر له أمارات النشوز فعند ذلك يحصل الخوف وأما بعد الوعظ والهجر والضرب لما أصرت على النشوز فقد حصل العلم بكونها ناشزة فوجب حمل الخوف ههنا على العلم طعن الزجاج فيه فقال خِفْتُمْ ههنا بمعنى أيقنتم خطأ فانا لو علمنا الشقاق على الحقيقة لم نحتج إلى الحكمين
وأجاب سائر المفسرين بأن وجود الشقاق وإن كان معلوما الا أنا لا نعلم أن ذلك الشقاق صدر عن هذا أو عن ذاك فالحاجة إلى الحكمين لمعرفة هذا المعنى ويمكن أن يقال وجود الشقاق في الحال معلوم ومثل هذا لا يحصل منه خوف إنما الخوف في أنه هل يبقى ذلك الشقاق أم لا فالفائدة في بعث

الحكمين ليست إزالة الشقاق الثابت في الحال فان ذلك محال بل الفائدة إزالة ذلك الشقاق في المستقبل
المسألة الثانية للشقاق تأويلان أحدهما أن كل واحد منهما يفعل ما يشق على صاحبه الثاني أن كل واحد منهما صار في شق بالعداوة والمباينة
المسألة الثالثة قوله شِقَاقَ بَيْنِهِمَا معناه شقاقا بينهما إلا أنه أضيف المصدر إلى الظرف وإضافة المصادر إلى الظروف جائزة لحصولها فيها يقال يعجبني صوم يوم عرفة وقال تعالى بَلْ مَكْرُ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ ( سبأ 33 )
المسألة الرابعة المخاطب بقوله فَابْعَثُواْ حَكَماً مّنْ أَهْلِهِ من هو فيه خلاف قال بعضهم إنه هو الامام أو من يلي من قبله وذلك لأن تنفيذ الأحكام الشرعية اليه وقال آخرون المراد كل واحد من صالحي الأمة وذلك لأن قوله خِفْتُمْ خطاب للجميع وليس حمله على البعض أولى من حمله على البقية فوجب حمله على الكل فعلى هذا يجب أن يكون قوله فَإِنْ خِفْتُمْ خطابا لجميع المؤمنين ثم قال فَابْعَثُواْ فوجب أن يكون هذا أمراً لآحاد الآمة بهذا المعنى فثبت أنه سواء وجد الامام أو لم يوجد فللصالحين أن يبعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها للاصلاح وأيضا فهذا يجري مجرى دفع الضرر ولكل أحد أن يقوم به
المسألة الخامسة إذا وقع الشقاق بينهما فذاك الشقاق إما أن يكون منهما أو منه أو منها أو يشكل فان كان منها فهو النشوز وقد ذكرنا حكمه وان كان منه فان كان قد فعل فعلا حلالا مثل التزوج بامرأة أخرى أو تسري بجارية عرفت المرأة أن ذلك مباح ونهيت عن الشقاق فان قبلت وإلا كان نشوزا وإن كان بظلم من جهته أمره الحاكم بالواجب وإن كان منهما أو كان الأمر متشابها فالقول أيضاً ما قلناه
المسألة السادسة قال الشافعي رضي الله عنه المستحب أن يبعث الحاكم عدلين ويجعلهما حكمين والأولى أن يكون واحد من أهله وواحد من أهلها لأن أقاربهما أعرف بحالهما من الأجانب وأشد طلباً للصلاح فان كانا أجنبيين جاز وفائدة الحكمين أن يخلو كل واحد منهما بصاحبه ويستكشف حقيقة الحال ليعرف أن رغبته في الاقامة على النكاح أو في المفارقة ثم يجتمع الحكمان فيفعلان ما هو الصواب من إيقاع طلاق أو خلع
المسألة السابعة هل يجوز للحكمين تنفيذ أمر يلزم الزوجين بدون إذنهما مثل أن يطلق حكم الرجل أو يفتدى حكم المرأة بشيء من مالها للشافعي فيه قولان أحدهما يجوز وبه قال مالك واسحق والثاني لا يجوز وهو قول أبي حنيفة وعلى هذا هو وكالة كسائر الوكالات وذكر الشافعي رضي الله عنه حديث علي رضي الله عنه وهو ما روى ابن سيرين عن عبيدة أنه قال جاء رجل وامرأة إلى علي رضي الله عنه ومع كل واحد منهما جمع من الناس فأمرهم علي بأن يبعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ثم قال للحكمين تعرفان ما عليكما عليكما ان رأيتما أن تجمعا فاجمعا وإن رأيتما أن تفرقا ففرقا فقالت المرأة رضيت بكتاب الله تعالى فيما علي ولي فيه فقال الرجل أما الفرقة فلا فقال علي كذبت والله حتى تقر بمثل الذي أقرت به قال الشافعي رضي الله عنه وفي هذا الحديث لكل واحد من القولين دليل

أما دليل القول الأول فهو أنه بعث من غير رضا الزوجين وقال عليكما إن رأيتما أن تجمعا فاجمعا وأقل ما في قوله عليكما أن يجوز لهما ذلك
وأما دليل القول الثاني أن الزوج لما لم يرض توقف على ومعنى قوله كذبت أي لست بمنصف في دعواك حيث لم تفعل ما فعلت هي ومن الناس من احتج للقول الأول بأنه تعالى سماهما حكمين والحكم هو الحاكم وإذا جعله حاكما فقد مكنه من الحكم ومنهم من احتج للقول الثاني بأنه تعالى لما ذكر الحكمين لم يضف اليهما إلا الاصلاح وهذا يقتضي أن يكون ما وراء الاصلاح غير مفوض اليهما
المسألة الثامنة قوله وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا أي شقاقا بين الزوجين ثم إنه وإن لم يجر ذكرهما إلا أنه جرى ذكر ما يدل عليهما وهو الرجال والنساء
ثم قال تعالى إِن يُرِيدَا إِصْلَاحاً يُوَفّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا وفيه مسألتان
المسألة الأولى في قوله إِن يُرِيدَا وجوه الأول ان يرد الحكمان خيرا وإصلاحا يوفق الله بين الحكمين حتى يتفقا على ما هو خير الثاني ان يرد الحكمان إصلاحا يوفق الله بين الزوجين الثالث إن يرد الزوجان إصلاحا يوفق الله بين الزوجين الرابع إن يرد الزوجان إصلاحا يوفق الله بين الحكمين حتى يعملا بالصلاح ولا شك أن اللفظ محتمل لكل هذه الوجوه
المسألة الثانية أصل التوفيق الموافقة وهي المساواة في أمر من الأمور فالتوفيق اللطف الذي يتفق عنده فعل الطاعة والآية دالة على أنه لا يتم شيء من الأغراض والمقاصد إلا بتوفيق الله تعالى والمعنى أنه إن كانت نية الحكمين إصلاح ذات البين يوفق الله بين الزوجين
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً والمراد منه الوعيد للزوجين وللحكمين في سلوك ما يخالف طريق الحق
النوع التاسع من التكاليف المذكورة في هذه السورة
وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِى الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً
واعلم أنه تعالى لما أرشد كل واحد من الزوجين إلى المعاملة الحسنة مع الآخر وإلى إزالة الخصومة والخشونة أرشد في هذه الآية إلى سائر الأخلاق الحسنة وذكر منها عشرة أنواع
النوع الأول قوله واعبدوا الله قال ابن عباس المعنى وحدوه واعلم أن العبادة عبارة عن كل

فعل وترك يؤتى به لمجرد أمر الله تعالى بذلك وهذا يدخل فيه جميع أعمال القلوب وجميع أعمال الجوارح فلا معنى لتخصيص ذلك بالتوحيد وتحقيق الكلام في العبادة قد تقدم في سورة البقرة في قوله تعالى قال ابن عباس المعنى وحدوه واعلم أن العبادة عبارة عن كل فعل وترك يؤتى به لمجرد أمر الله تعالى بذلك وهذا يدخل فيه جميع أعمال القلوب وجميع أعمال الجوارح فلا معنى لتخصيص ذلك بالتوحيد وتحقيق الكلام في العبادة قد تقدم في سورة البقرة في قوله تعالى قَدِيرٌ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ
النوع الثاني قوله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وذلك لأنه تعالى لما أمر بالعبادة بقوله وَاعْبُدُواْ اللَّهَ أمر بالاخلاص في العبادة بقوله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً لأن من عبد مع الله غيره كان مشركا ولا يكون مخلصا ولهذا قال تعالى وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ ( البينة 5 )
النوع الثالث قوله وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً واتفقوا على أن ههنا محذوفا والتقدير وأحسنوا بالوالدين إحسانا كقوله فَضَرْبَ الرّقَابِ ( محمد 4 ) أي فاضربوها ويقال أحسنت بفلان وإلى فلان قال كثير
أسيئى بنا أو أحسنى لا ملومة لدنيا ولا مقلية إن تقلت
واعلم أنه تعالى قرن إلزام بر الوالدين بعبادته وتوحيده في مواضع أحدها في هذه الآية وثانيها قوله وَقَضَى رَبُّكَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً ( الإسراء 23 ) وثالثها قوله أَنِ اشْكُرْ لِى وَلِوالِدَيْكَ إِلَى َّ الْمَصِيرُ ( لقمان 14 ) وكفى بهذا دلالة على تعظيم حقهما ووجوب برهما والاحسان اليهما ومما يدل على وجوب البر اليهما قوله تعالى فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا ( الإسراء 23 ) وقال وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ أَجْرًا حَسَنًا وقال في الوالدين الكافرين وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِى الدُّنْيَا مَعْرُوفاً ( لقمان 15 ) وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال أَكْبَرَ وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رجلا جاء إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من اليمن استأذنه في الجهاد فقال عليه السلام ( هل لك أحد باليمن فقال أبواي فقال أبواك أذنا لك فقال لا فقال فارجع وأستاذنهما فان أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما )
واعلم أن الاحسان إلى الوالدين هو أن يقوم بخدمتهما وألا يرفع صوته عليهما ولا يخشن في الكلام معهما ويسعى في تحصيل مطالبهما والانفاق عليهما بقدر القدرة من البر وأن لا يشهر عليهما سلاحا ولا يقتلهما قال أبو بكر الرازي إلا أن يضطر إلى ذلك بأن يخاف أن يقتله أن ترك قتله فحينئذ يجوز له قتله لأنه إذا لم يفعل ذلك كان قد قتل نفسه بتمكين غيره منه وذلك منهي عنه روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) نهى حنظلة بن أبي عامر الراهب عن قتل أبيه وكان مشركا
النوع الرابع قوله تعالى اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِى الْقُرْبَى وهو أمر بصلة الرحم كما ذكر في أول السورة بقوله وَالاْرْحَامَ
واعلم أن الوالدين من الأقارب أيضا إلا أن قرابة الولاد لما كانت مخصوصة بكونها أقرب القرابات وكانت مخصوصة بخواص لا تحصل في غيرها لا جرم ميزها الله تعالى في الذكر عن سائر الأنواع فذكر في هذه الآية قرابة الولاد ثم أتبعها بقرابة الرحم
النوع الخامس قوله وَالْيَتَامَى واعلم أن اليتيم مخصوص بنوعين من العجز أحدهما الصغر والثاني عدم المنفق ولا شك أن من هذا حاله كان في غاية العجز واستحقاق الرحمة قال ابن عباس

يرفق بهم ويربيهم ويمسح رأسهم وإن كان وصيا لهم فليبالغ في حفظ أموالهم
النوع السادس قوله وَالْمَسَاكِينُ واعلم أنه وان كان عديم المال إلا أنه لكبره يمكنه أن يعرض حال نفسه على الغير فيجلب به نفعا أو يدفع به ضررا وأما اليتيم فلا قدرة له عليه فلهذا المعنى قدم الله اليتيم في الذكر على المسكين والاحسان إلى المسكين اما بالاجمال اليه أو بالرد الجميل كما قال تعالى وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ ( الضحى 9 )
النوع السابع قوله وَالْجَارِ ذِى الْقُرْبَى قيل هو الذي قرب جواره والجار الجنب هو الذي بعد جواره قال عليه الصلاة والسلام ( لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه ألا وان الجوار أربعون داراً ) وكان الزهري يقول أربعون يمنة وأربعون يسرة وأربعون أماما وأربعون خلفا وعن أبي هريرة قيل يا رسول الله ان فلانة تصوم النهار وتصلي الليل وفي لسنانها شيء يؤذي جيرانها أي هي سليطة فقال عليه الصلاة والسلام ( لا خير فيها هي في النار ) وروي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( والذي نفس محمد بيده لا يؤدي حق الجار إلا من رحم الله وقليل ما هم أتدرون ما حق الجار ان افتقر أغنيته وان استقرض أقرضته وان أصابه خير هنأته وان أصابه شر عزيته وان مرض عدته وان مات شيعت جنازته ) وقال آخرون عني بالجار ذي القربى القريب النسيب وبالجار الجنب الجار الأجنبي وقرىء ( والجار ذا القربى ) نصبا على الاختصاص كما قرىء ( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ) ( البقرة 238 ) تنبيها على عظم حقه لأنه اجتمع فيه موجبان الجوار والقرابة
النوع الثامن قوله وَالْجَارِ الْجُنُبِ وقد ذكرنا تفسيره قال الواحدي الجنب نعت على وزن فعل وأصله من الجنابة ضد القرابة وهو البعيد يقال رجل جنب إذا كان غريبا متباعداً عن أهله ورجل أجنبي وهو البعيد منك في القرابة وقال تعالى وَاجْنُبْنِى وَبَنِى َّ ( إبراهيم 35 ) أي بعدني والجانبان الناحيتان لبعد كل واحد منهما عن الآخر ومنه الجنابة من الجماع لتباعده عن الطهارة وعن حضور المساجد للصلاة ما لم يغتسل ومنه أيضا الجنبان لبعد كل واحد منهما عن الآخر وروى المفضل عن عاصم وَالْجَارِ الْجُنُبِ بفتح الجيم وسكون النون وهو يحتمل معنيين أحدهما أنه يريد بالجنب الناحية ويكون التقدير والجار ذي الجنب فحذف المضاف لأن المعنى مفهوم والآخر أن يكون وصفا على سبيل المبالغة كما يقال فلان كرم وجود
النوع التاسع قوله وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ وهو الذي صحبك بأن حصل بجنبك إما رفيقا في سفر وإما جارا ملاصقا وإما شريكا في تعلم أو حرفة وإما قاعدا إلى جنبك في مجلس أو مسجد أو غير ذلك من أدنى صحبة التأمت بينك وبينه فعليك أن ترعى ذلك الحق ولا تنساه وتجعله ذريعة إلى الاحسان قيل الصاحب الجنب المرأة فانها تكون معك وتضجع إلى جنبك
النوع العاشر قوله وَابْنِ السَّبِيلِ وهو المسافر الذي انقطع عن بلده وقيل الضيف
النوع الحادي عشر قوله وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ
واعلم أن الاحسان إلى المماليك طاعة عظيمة روى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال

( من ابتاع شيئا من الخدم فلم توافق شيمته شيمته فليبع وليشتر حتى توافق شيمته شيمته فان للناس شيما ولا تعذبوا عباد الله ) وروي أنه عليه الصلاة والسلام كان آخر كلامه ( الصلاة وما ملكت أيمانكم ) وروي أنه كان رجل بالمدينة يضرب عبده فيقول العبد أعوذ بالله ويستمعه الرسول عليه السلام والسيد كان يزيده ضربا فطلع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فقال أعوذ برسول الله فتركه فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الله كان أحق أن يجار عائذه ) قال يا رسول الله فانه حر لوجه الله فقال النبي عليه الصلاة والسلام ( والذي نفس محمد بيده لو لم تقلها لدافع وجهك سفع النار )
واعلم أن الاحسان اليهم من وجوه أحدها أن لا يكلفهم ما لا طاقة لهم به وثانيها أن لا يؤذيهم بالكلام الخشن بل يعاشرهم معاشرة حسنة وثالثها أن يعطيهم من الطعام والكسوة ما يحتاجون اليه وكانوا في الجاهلية يسيئون إلى المملوك فيكلفون الاماء البغاء وهو الكسب بفروجهن وبضوعهن وقال بعضهم كل حيوان فهو مملوك والاحسان إلى الكل بما يليق به طاعة عظيمة
واعلم أن ذكر اليمين تأكيد وهو كما يقال مشت رجلك وأخذت يدك قال عليه الصلاة والسلام ( على اليد ما أخذت ) وقال تعالى مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعاماً ( يس 71 ) ولما ذكر تعالى هذه الأصناف قال إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً والمختال ذو الخيلاء والكبر قال ابن عباس يريد بالمختال العظيم في نفسه الذي لا يقوم بحقوق أحد قال الزجاج وإنما ذكر الاختيال ههنا وذكرنا اشتقاق هذه اللفظة عند قوله وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَة ِ ( آل عمران 14 ) ومعنى الفخر التطاول والفخور الذي يعدد مناقبه كبرا وتطاولا قال ابن عباس هو الذي يفخر على عباد الله بما أعطاه الله من أنواع نعمه وإنما خص الله تعالى هذين الوصفين بالذم في هذا الموضع لأن المختال هو المتكبر وكل من كان متكبرا فانه قلما يقوم برعاية الحقوق ثم أضاف اليه ذم الفخور لئلا يقدم على رعاية هذه الحقوق لأجل الرياء والسمعة بل لمحض أمر الله تعالى
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَآ ءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً
وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي بِالْبُخْلِ بفتح الباء والخاء وفي الحديد مثله وهي لغة الانصار والباقون بِالْبُخْلِ بضم الباء والخاء وهي اللغة العالية
المسألة الثانية الذين يبخلون بدل من قوله مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً والمعنى ان الله لا يحب من كان مختالا فخورا ولا يحب الذين يبخلون أو نصب على الذم ويجوز أن يكون رفعا على الذم ويجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف كأنه قيل الذين يبخلون ويفعلون ويصنعون أحقاء بكل ملامة

المسألة الثالثة قال الواحدي البخل فيه أربع اللغات البخل مثل القفل والبخل مثل الكرم والبخل مثل الفقر والبخل بضمتين ذكره المبرد وهو في كلام العرب عبارة عن منع الاحسان وفي الشريعة منع الواجب
المسألة الرابعة قال ابن عباس انهم اليهود بخلوا أن يعترفوا بما عرفوا من نعت محمد عليه الصلاة والسلام وصفته في التوراة وأمروا قومهم أيضا بالكتمان وَيَكْتُمُونَ مَا ءاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ يعني من العلم بما في كتابهم من صفة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وَأَعْتَدْنَا في الآخرة لليهود عَذَاباً مُّهِيناً واحتج من نصر هذا القول بأن ذكر الكافر في آخر الآية يدل على أن المراد بأولها الكافر وقال آخرون المراد منه البخل بالمال لأنه تعالى ذكره عقيب الآية التي أوجب فيها رعاية حقوق الناس بالمال فانه قال وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِى الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ ( النساء 36 ) ومعلوم أن الاحسان إلى هؤلاء إنما يكون بالمال ثم ذم المعرضين عن هذا الاحسان فقال إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً ( النساء 36 ) ثم عطف عليه الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ فوجب أن يكون هذا البخل بخلا متعلقا بما قبله وما ذاك إلا البخل بالمال
والقول الثالث أنه عام في البخل بالعلم والدين وفي البخل بالمال لأن اللفظ عام والكل مذموم فوجب كون اللفظ متناولا للكل
المسألة الخامسة أنه تعالى ذكر في هذه الآية من الأحوال المذمومة ثلاثا أولها كون الانسان بخيلا وهو المراد بقوله الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وثانيها كونهم آمرين لغيرهم بالبخل وهذا هو النهاية في حب البخل وهو المراد بقوله وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وثالثها قوله وَيَكْتُمُونَ مَا ءاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فيوهمون الفقر مع الغنى والاعسار مع اليسار والعجز مع الامكان ثم إن هذا الكتمان قد يقع على وجه يوجب الكفر مثل أن يظهر الشكاية عن الله تعالى ولا يرضى بالقضاء والقدر وهذا ينتهي إلى حد الكفر فلذلك قال وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً ومن قال الآية مخصوصة باليهود فكلامه في هذا الموضع ظاهر لأن من كتم الدين والنبوة فهو كافر ويمكن أيضاً أن يكون المراد من هذا الكافر من يكون كافرا بالنعمة لا من يكون كافرا بالدين والشرع
وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَآءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَآءَ قِرِيناً
وفيه مسائل
المسألة الأولى إن شئت عطفت الَّذِينَ في هذه الآية على الَّذِينَ في الآية التي قبلها وإن شئت جعلته في موضع خفض عطفا على قوله لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً

المسألة الثانية قال الواحدي نزلت في المنافقين وهو الوجه لذكر الرئاء وهو ضرب من النفاق
وقيل نزلت في مشركي مكة المنفقين على عداوة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) والأولى أن يقال إنه تعالى لما أمر بالاحسان إلى أرباب الحاجات بين أن من لا يفعل ذلك قسمان فالأول هو البخيل الذي لا يقدم على إنفاق المال البتة وهم المذمومون في قوله الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ ( النساء 37 ) والثاني الذين ينفقون أموالهم لكن لا لغرض الطاعة بل لغرض الرياء والسمعة فهذه الفرقة أيضا مذمومة ومتى بطل القول بهذين القسمين لم يبق إلا القسم الأول وهو إنفاق الأموال لغرض الاحسان
ثم قال تعالى وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاء قِرِيناً والمعنى أن الشيطان قرين لأصحاب هذه الأفعال كقوله وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ( الزخرف 36 ) وبين تعالى أنه بئس القرين إذ كان يضله عن دار النعيم ويورده نار السعير وهو كقوله وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ( الحج 3 4 )
ثم انه تعالى عيرهم وبين سوء اختيارهم في ترك الايمان
وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِم عَلِيماً
وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله وَمَاذَا عَلَيْهِمْ استفهام بمعنى الانكار ويجوز أن يكون ( ماذا ) اسما واحدا فيكون المعنى وأي الشيء عليهم ويجوز أن يكون ( ذا ) في معنى الذي ويكون ( ما ) وحدها اسما ويكون المعنى وما الذي عليهم لو آمنوا
المسألة الثانية احتج القائلون بأن الايمان يصح على سبيل التقليد بهذه الآية فقالوا إن قوله تعالى وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ ءامَنُواْ مشعر بأن الاتيان بالايمان في غاية السهولة ولو كان الاستدلال معتبرا لكان في غاية الصعوبة فانا نرى المستدلين تفرغ أعمارهم ولا يتم استدلالهم فدل هذا على أن التقليد كاف
أجاب المتكلمون بأن الصعوبة في التفاصيل فأما الدلائل على سبيل الجملة فهي سهلة واعلم أن في هذا البحث غورا
المسألة الثالثة احتج جمهور المعتزلة بهذه الآية وضربوا له أمثلة قال الجبائي ولو كانوا غير قادرين لم يجز أن يقول الله ذلك كما لا يقال لمن هو في النار معذب ماذا عليهم لو خرجوا منها وصاروا إلى الجنة وكما لا يقال للجائع الذي لا يقدر على الطعام ماذا عليه لو أكل وقال الكعبي لا يجوز أن يحدث فيه الكفر ثم يقول ماذا عليه لو آمن كما لا يقال لمن أمرضه ماذا عليه لو كان صحيحا ولا يقال للمرأة ماذا عليها لو كانت رجلا وللقبيح ماذا عليه لو كان جميلا وكما لا يحسن هذا القول من العاقل كذا لا يحسن من الله تعالى فبطل بهذا ما يقال إنه وإن قبح من غيره لكنه يحسن منه لأن الملك ملكه وقال القاضي عبد الجبار إنه لا يجوز أن يأمر العاقل وكيله بالتصرف في الضيعة ويحبسه من حيث لا يتمكن من

مفارقة الحبس ثم يقول له ماذا عليك لو تصرفت في الضيعة وإذا كان من يذكر مثل هذا الكلام سفيها دل على أن ذلك غير جائز على الله تعالى فهذا جملة ما ذكروه من الأمثلة
واعلم أن التمسك بطريقة المدح والذم والثواب والعقاب قد كثر للمعتزلة ومعارضتهم بمسألتي العلم والداعي قد كثرت فلا حاجة إلى الاعادة
ثم قال تعالى وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً والمعنى أن القصد إلى الرئاء إنما يكون باطنا غير ظاهر فبين تعالى أنه عليم ببواطن الأمور كما هو عليم بظواهرها فان الانسان متى اعتقد ذلك صار ذلك كالرادع له عن القبائح من أفعال القلوب مثل داعية النفاق والرياء والسمعة
إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ وَإِن تَكُ حَسَنَة ً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً
اعلم أن تعلق هذه الآية هو بقوله تعالى وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ ءامَنُواْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ ( النساء 39 ) فكأنه قال فان الله لا يظلم من هذه حاله مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها فرغب بذلك في الايمان والطاعة
واعلم أن هذه الآية مشتملة على الوعد بأمور ثلاثة الأول قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ وفيه مسائل
المسألة الأولى الذرة النملة الحمراء الصغيرة في قول أهل اللغة وروي عن ابن عباس أنه أدخل يده في التراب ثم رفعها ثم نفخ فيها ثم قال كل واحد من هذه الأشياء ذرة و مِثْقَالَ مفعال من الثقل يقال هذا على مثقال هذا أي وزن هذا ومعنى مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ أي ما يكون وزنه وزن الذرة
واعلم أن المراد من الآية أنه تعالى لا يظلم قليلا ولا كثيراً ولكن الكلام خرج على أصغر ما يتعارفه الناس يدل عليه قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا ( يونس 44 )
المسألة الثانية قالت المعتزلة دلت هذه الآية على أنه تعالى ليس خالقا لأعمال العباد لأن من جملة تلك الأعمال ظلم بعضهم بعضا فلو كان موجد ذلك الظلم هو الله تعالى لكان الظالم هو الله وأيضاً لو خلق الظلم في الظالم ولا قدرة لذلك الظالم على تحصيل ذلك الظلم عند عدمه ولا على دفعه بعد وجوده ثم إنه تعالى يقول لمن هذا شأنه وصفته لم ظلمت ثم يعاقبه عليه كان هذا محض الظلم والآية دالة على كونه تعالى منزها عن الظلم
والجواب المعارضة بالعلم والداعي على ما سبق مراراً لا حد لها وقد ذكرنا أن استدلالات هؤلاء المعتزلة وإن كثرت وعظمت إلا أنها ترجع إلى حرف واحد وهو التمسك بالمدح والذم والثواب والعقاب والسؤال على هذا الحرف معين وهو المعارضة بالعلم والداعي فكلما أعادوا ذلك الاستدلال أعدنا عليهم هذا السؤال

المسألة الثالثة قالت المعتزلة الآية تدل على أنه قادر على الظلم لأنه تمدح بتركه ومن تمدح بترك فعل قبيح لم يصح منه ذلك التمدح إلا إذا كان هو قادرا عليه ألا ترى أن الزمن لا يصح منه أن يتمدح بأنه لا يذهب في الليالي إلى السرقة
والجواب أنه تعالى تمدح بأنه لا تأخذه سنة ولا نوم ولم يلزم أن يصح ذلك عليه وتمدح بأنه لا تدركه الأبصار ولم يدل ذلك عند المعتزلة على أنه يصح أن تدركه الأبصار
المسألة الرابعة قالت المعتزلة الآية دالة على أن العبد يستحق الثواب على طاعته وأنه تعالى لو لم يثبه لكان ظالما لأنه تعالى بين في هذه الآية أنه لو لم يثبهم على أعمالهم لكان قد ظلمهم وهذا لا يصح إلا إذا كانوا مستحقين للثواب على أعمالهم
والجواب أنه تعالى وعدهم بالثواب على تلك الأفعال فلو لم يثبهم عليها لكان ذلك في صورة ظلم فلهذا أطلق عليه اسم الظلم والذي يدل على أن الظلم محال من الله أن الظلم مستلزم للجهل والحاجة عندكم وهما محالان على الله ومستلزم المحال محال والمحال غير مقدور وأيضاً الظلم عبارة عن التصرف في ملك الغير والحق سبحانه لا يتصرف إلا في ملك نفسه فيمتنع كونه ظالما وأيضاً الظالم لا يكون إلها والشيء لا يصح إلا إذا كانت لوازمه صحيحة فلو صح منه الظلم لكان زوال إلهيته صحيحاً ولو كان كذلك لكانت إلهيته جائزة الزوال وحينئذ يحتاج في حصول صفة الالهية له إلى مخصص وفاعل وذلك على الله محال
المسألة الخامسة قالت المعتزلة إن عقاب قطرة من الخمر يزيل ثواب الايمان والطاعة مدة مائة سنة وقال أصحابنا هذا باطل لأنا نعلم بالضرورة أن ثواب كل تلك الطاعات العظيمة تلك السنن المتطاولة أزيد من عقاب شرب هذه القطرة فاسقاط ذلك الثواب العظيم بعقاب هذا القدر من المعصية ظلم وإنه منفي بهذه الآية
المسألة السادسة قال الجبائي إن عقاب الكبيرة يحبط ثواب جملة الطاعات ولا ينحبط من ذلك العقاب شيء وقال ابنه أبو هاشم بل ينحبط واعلم أن هذا المشروع صار حجة قوية لأصحابنا في بطلان القول بالاحباط فانا نقول لو انحبط ذلك الثواب لكان إما أن يحبط مثله من العقاب أولا يحبط والقسمان باطلان فالقول بالاحباط باطل إنما قلنا إنه لا يجوز انحباط كل واحد منهما بالآخر لأنه إذا كان سبب عدم كل واحد منهما وجود الآخر فلو حصل العدمان معا لحصل الوجدان معا ضرورة أن العلة لا بد وأن تكون حاصلة مع المعلول وذلك محال وإنما قلنا إنه لا يجوز انحباط الطاعة بالمعصية مع أن المعصية لا تنحبط بالطاعة لأن تلك الطاعات لم ينتفع العبد بها ألبتة لا في جلب ثواب ولا في دفع عقاب وذلك ظلم وهو ينافي قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ ولما بطل القسمان ثبت القول بفساد الاحباط على ما تقوله المعتزلة
المسألة السابعة احتج أصحابنا بهذه الآية على أن المؤمنين يخرجون من النار إلى الجنة فقالوا لا شك أن ثواب الايمان والمداومة على التوحيد والاقرار بأنه هو الموصول بصفات الجلال والاكرام والمواظبة على وضع الجبين على تراب العبودية مائة سنة أعظم ثوابا من عقاب شرب الجرعة من الخمر

فاذا حضر هذا الشارب يوم القيامة وأسقط عنه قدر عقاب هذا المعصية من ذلك الثواب العظيم فضل له من الثواب قدر عظيم فاذا أدخل النار بسبب ذلك القدر من العقاب فلو بقي هناك لكان ذلك ظلما وهو باطل فوجب القطع بأنه يخرج إلى الجنة
النوع الثاني من الأمور التي اشتملت عليها هذه الآية
قوله تعالى وَإِن تَكُ حَسَنَة ً يُضَاعِفْهَا وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وابن كثير حَسَنَة ٌ بالرفع على تقديره ( كان ) التامة والمعنى وإن حدثت حسنة أو وقعت حسنة والباقون بالنصب على تقدير ( كان ) الناقصة والتقدير وإن تك زنة الذرة حسنة وقرأ ابن كثير وابن عامر يُضَاعِفْهَا بالتشديد من غير ألف من التضعيف والباقون يُضَاعِفْهَا بالألف والتخفيف من المضاعفة
المسألة الثانية تك أصله من ( كان يكون ) وأصله ( تكون ) سقطت الضمة للجزم وسقطت الواو لسكونها وسكون النون فصار ( تكن ) ثم حذفوا النون أيضا لأنها ساكنة وهي تشبه حروف اللين وحروف اللين إذا وقعت طرفا سقطت للجزم كقولك لم أدر أي لا أدري وجاء القرآن بالحذف والاثبات أما الحذف فههنا وأما الاثبات فكقوله إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً ( النساء 135 )
المسألة الثالثة ان الله تعالى بين بقوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ أنه لا يبخسهم حقهم أصلا وبين بهذه الآية أن الله تعالى يزيدهم على استحقاقهم
واعلم أن المراد من هذه المضاعفة ليس هو المضاعفة في المدة لأن مدة الثواب غير متناهية وتضعيف غير المتناهي محال بل المراد أنه تعالى يضعفه بحسب المقدار مثلا يستحق على طاعته عشرة أجزاء من الثواب فيجعله عشرين جزءاً أو ثلاثين جزءاً أو أزيد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال يؤتى بالعبد يوم القيامة وينادي مناد على رؤوس الأولين والآخرين هذا فلان ابن فلان من كان له عليه حق فليأت إلى حقه ثم يقال له أعط هؤلاء حقوقهم فيقول يا رب من أين وقد ذهبت الدنيا فيقول الله لملائكته انظروا في أعماله الصالحة فأعطوهم منها فان بقي مثقال ذرة من حسنة ضعفها الله تعالى لعبده وأدخله الجنة بفضله ورحمته مصداق ذلك في كتاب الله تعالى وَإِن تَكُ حَسَنَة ً يُضَاعِفْهَا وقال الحسن قوله وَإِن تَكُ حَسَنَة ً يُضَاعِفْهَا هذا أحب إلى العلماء مما لو قال في الحسنة الواحدة مائة ألف حسنة لأن ذلك الكلام يكون مقداره إنها خير من ألف شهر وقال أبو عثمان النهدي بلغني عن أبي هريرة أنه قال إن الله ليعطي عبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة فقدر الله أن ذهبت إلى مكة حاجاً أو معتمرا فألفيته فقلت بلغني عنك أنك تقول إن الله يعطي عبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة قال أبو هريرة لم أقل ذلك ولكن قلت إن الحسنة تضاعف بألفي ألف ضعف ثم تلا هذه الآية وقال إذا قال الله أَجْراً عَظِيماً فمن يقدر قدره
النوع الثالث من الأمور التي اشتملت هذه الآية عليها قوله تعالى وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً وفيه مسألتان

المسألة الأولى لدن بمعنى ( عند ) إلا أن ( لدن ) أكثر تمكينا يقول الرجل عندي مال إذا كان ماله ببلد آخر ولا يقال لدي مال ولا لدني إلا ما كان حاضرا
المسألة الثانية اعلم أنه لا بد من الفرق بين هذا وبين قوله وَإِن تَكُ حَسَنَة ً يُضَاعِفْهَا والذي يخظر ببالي والعلم عند الله أن ذلك التضعيف يكون من جنس ذلك الثواب وأما هذا الأجر العظيم فلا يكون من جنس ذلك الثواب والظاهر أن ذلك التضعيف يكون من جنس اللذات الموعد بها في الجنة وأما هذا الأجر العظيم الذي يؤتيه من لدنه فهو اللذة الحاصلة عند الرؤية وعند الاستغراق في المحبة والمعرفة وإنما خص هذا النوع بقوله مِن لَّدُنْهُ لأن هذا النوع من الغبطة والسعادة والبهجة والكمال لا ينال بالأعمال الجسدانية بل إنما ينال بما يودع الله في جوهر النفس القدسية من الاشراق والصفاء والنور وبالجملة فذلك التضعيف إشارة إلى السعادة الجسمانية وهذا الأجر العظيم إشارة إلى السعادة الروحانية
فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّة ٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَاؤُلا ءِ شَهِيداً يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأرض وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً
وجه النظم هو أنه تعالى بين أن في الآخرة لا يجري على أحد ظلم وأنه تعالى يجازي المحسن على إحسانه ويزيده على قدر حقه فبين تعالى في هذه الآية أن ذلك يجري بشهادة الرسل الذين جعلهم الله الحجة على الخلق لتكون الحجة على المسىء أبلغ والتبكيت له أعظم وحسرته أشد ويكون سرور من قبل ذلك من الرسول وأظهر الطاعة أعظم ويكون هذا وعيداً للكفار الذين قال الله فيهم إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ ووعداً للمطيعين الذين قال الله فيهم وَإِن تَكُ حَسَنَة ً يُضَاعِفْهَا ( النساء 40 ) وفيه مسائل
المسألة الأولى روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال لابن مسعود ( إقرأ القرآن علي ) قال فقلت يا رسول الله أنت الذي علمتنيه فقال ( أحب أن أسمعه من غيري ) قال ابن مسعود فافتتحت سورة النساء فلما انتهيت إلى هذه الآية بكى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قال ابن مسعود فأمسكت عن القراءة وذكر السدي أن أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) يشهدون للرسل بالبلاغ والرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يشهد لأمته بالتصديق فلهذا قال جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ( البقرة 143 ) وحكي عن عيسى عليه السلام أنه قال وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ ( المائدة 117 )
المسألة الثانية من عادة العرب أنهم يقولون في الشيء الذي يتوقعونه كيف بك إذا كان كذا وكذا وإذا فعل فلان كذا وإذا جاء وقت كذا فمعنى هذا الكلام كيف ترون يوم القيامة إذا استشهد الله على كل امة برسولها واستشهدك على هؤلاء يعني قومه المخاطبين بالقرآن الذين شاهدهم وعرف أحوالهم ثم إن أهل كل عصر يشهدون على غيرهم ممن شاهدوا أحوالهم وعلى هذا الوجه قال عيسى عليه السلام ( وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم )

ثم انه تعالى وصف ذلك اليوم فقال يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الاْرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ يقتضي كون عصيان الرسول مغايرا للكفر لأن عطف الشيء على نفسه غير جائز فوجب حمل عصيان الرسول على المعاصي المغايرة للكفر إذا ثبت هذا فنقول الآية دالة على أن الكفار مخاطبون بفروع الإسلام وأنهم كما يعاقبون يوم القيامة على الكفر فيعاقبون أيضا على تلك المعاصي لأنه لو لم يكن لتلك المعصية أثر في هذا المعنى لما كان في ذكر معصيتهم في هذا الموضع أثر
المسألة الثانية قرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو تُسَوَّى مضمومة التاء خفيفة السين على ما لم يسم فاعله وقرأ نافع وابن عامر تُسَوَّى مفتوحة التاء مشددة السين بمعنى تتسوى فأدغم التاء في السين لقربها منها ولا يكره اجتماع التشديدين في هذه القراءة لأن لها نظائر في التنزيل كقوله اطَّيَّرْنَا بِكَ ( النمل 47 ) وَازَّيَّنَتْ ( يونس 24 ) ويذكرون ( الأنعام 26 ) وفي هذه القراءة اتساع وهو إسناد الفعل إلى الأرض وقرأ حمزة والكسائي لَوْ تُسَوَّى مفتوحة التاء والسين خفيفة حذفا التاء التى أدغمها نافع لأنها كما اعتلت بالادغام اعتلت بالحذف
المسألة الثالثة ذكروا في تفسير قوله لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الاْرْضُ وجوها الأول لو يدفنون فتسوى بهم الأرض كما تسوى بالموتى والثاني يودون أنهم لم يبعثوا وأنهم كانوا والأرض سواء الثالث تصير البهائم ترابا فيودون حالها كقوله الْكَافِرُ يَالَيْتَنِى كُنتُ تُراباً ( النبأ 40 )
المسألة الرابعة قوله وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً فيه لأهل التأويل طريقان الأول أن هذا متصل بما قبله والثاني أنه كلام مبتدأ فاذا جعلناه متصلا احتمل وجهين أحدهما ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما يودون لو تنطبق عليهم الأرض ولم يكونوا كتموا أمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ولا كفروا به ولا نافقوا وعلى هذا القول الكتمان عائد إلى ما كتموا من أمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) الثاني أن المشركين لما رأوا يوم القيامة أن الله تعالى يغفر لأهل الإسلام ولا يغفر شركا قالوا تعالوا فلنجحد فيقولون والله ربنا ما كنا مشركين وجاء أن يغفر الله لهم فحينئذ يختم على أفواههم وتتكلم أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يعملون فهنالك يودون أنهم كانوا ترابا ولم يكتموا الله حديثا
الطريق الثاني في التأويل أن هذا الكلام مستأنف فان ما عملوه ظاهر عند الله فكيف يقدرون على كتمانه
المسألة الخامسة فان قيل كيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ( الأنعام 23 )
والجواب من وجوه الأول أن مواطن القيامة كثيرة فموطن لا يتكلمون فيه وهو قوله فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً ( طه 108 ) وموطن يتكلمون فيه كقوله مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوء ( النحل 28 ) وقولهم وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ فيكذبون في مواطن وفي مواطن يعترفون على أنفسهم بالكفر ويسألون الرجعة وهو قولهم فَقَالُواْ يالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذّبَ بِئَايَاتِ رَبّنَا ( الأنعام 27 ) وآخر تلك المواطن أن يختم على أفواههم وتتكلم أيديهم وأرجلهم وجلودهم فنعوذ بالله من خزي ذلك اليوم الثاني أن هذا الكتمان غير واقع بل هو داخل

في التمني على ما بينا الثالث أنهم لم يقصدوا الكتمان وإنما أخبروا على حسب ما توهموا وتقديره والله ما كنا مشركين عند أنفسنا بل مصيبين في ظنوننا حتى تحققنا الآن وسيجيء الكلام في هذه المسألة في سورة الأنعام إن شاء الله تعالى
النوع العاشر من التكاليف المذكورة في هذه السورة
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلَواة َ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُواْ وَإِنْ كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً
في الآية مسائل
المسألة الأولى ذكروا في سبب النزول وجهين الأول أن جماعة من أفاضل الصحابة صنع لهم عبد الرحمن بن عوف طعاما وشرابا حين كانت الخمر مباحة فأكلوا وشربوا فلما ثلموا جاء وقت صلاة المغرب فقدموا أحدهم ليصلي بهم فقرأ أعبد ما تعبدون وأنتم عابدون ما أعبد فنزلت هذه الآية فكانوا لا يشربون في أوقات الصلوات فاذا صلوا العشاء شربوها فلا يصبحون إلا وقد ذهب عنهم السكر وعلموا ما يقولون ثم نزل تحريمها على الاطلاق في سورة المائدة وعن عمر رضي الله عنه أنه لما بلغه ذلك قال اللهم إن الخمر تضر بالعقول والأموال فأنزل فيها أمرك فصبحهم الوحي بآية المائدة الثاني قال ابن عباس نزلت في جماعة من أكابر الصحابة قبل تحريم الخمر كانوا يشربونها ثم يأتون المسجد للصلاة مع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فنهاهم الله عنه
المسألة الثانية في لفظ الصلاة قولان أحدهما المراد منه المسجد وهو قول ابن عباس وابن مسعود والحسن وإليه ذهب الشافعي
واعلم أن إطلاق لفظ الصلاة على المسجد محتمل ويدل عليه وجهان الأول أنه يكون من باب حذف المضاف أي لا تقربوا موضع الصلاة وحذف المضاف مجاز شائع والثاني قوله لَّهُدّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ ( الحج 40 ) والمراد بالصلوات مواضع الصلوات فثبت أن إطلاق لفظ الصلاة والمراد به المسجد جائز
والقول الثاني وعليه الأكثرون أن المراد بالصلاة في هذه الآية نفس الصلاة أي لا تصلوا إذا كنتم سكارى
واعلم أن فائدة الخلاف تظهر في حكم شرعي وهو أن على التقدير الأول يكون المعنى لا تقربوا المسجد وأنتم سكارى ولا جنبا إلا عابري سبيل وعلى هذا الوجه يكون الاستثناء دالا على أنه يجوز للجنب العبور في المسجد وهو قول الشافعي وأما على القول الثاني فيكون المعنى لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ولا تقربوها

حال كونكم جنباً إلا عابري سبيل والمراد بعابر السبيل المسافر فيكون هذا الاستثناء دليلا على أنه يجوز للجنب الاقدام على الصلاة عند العجز عن الماء قال أصحاب الشافعي هذا القول الأول أرجح ويدل عليه وجوه الأول أنه قال لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلَواة َ والقرب والبعد لا يصحان على نفس الصلاة على سبيل الحقيقة إنما يصحان على المسجد الثاني أنا لو حملناه على ما قلنا لكان الاستثناء صحيحا أما لو حملناه على ما قلتم لم يكن صحيحا لأن من لم يكن عابر سبيل وقد عجز عن استعمال الماء بسبب المرض الشديد فانه يجوز له الصلاة بالتيمم وإذا كان كذلك كان حمل الآية على ذلك أولى الثالث انا إذا حملنا عابر السبيل على الجنب المسافر فهذا إن كان واجدا للماء لم يجز له القرب من الصلاة ألبتة فحينئذ يحتاج إلى إضمار هذا الاستثناء في الآية وإن لم يكن واجدا للماء لم يجز له الصلاة إلا مع التيمم فيفتقر إلى إضمار هذا الاستثناء في الآية وإن لم يكن واجدا للماء لم يجز له الصلاة إلا مع التيمم فيفتقر إلى إضمار هذا الشرط في الآية وأما على ما قلناه فانا لا نفتقر إلى إضمار شيء في الآية فكان قولنا أولى الرابع أن الله تعالى ذكر حكم السفر وعدم الماء وجواز التييم بعد هذا فلا يجوز حمل هذا على حكم مذكور في آية بعد هذه الآية والذي يؤكده أن القراء كلهم استحبوا الوقف عند قوله حَتَّى تَغْتَسِلُواْ ثم يستأنف قوله وَإِنْ كُنتُم مَّرْضَى لأنه حكم آخر وأما إذا حملنا الآية على ما ذكرنا لم نحتج فيه إلى هذه الالحاقات فكان ما قلناه أولى ولمن نصر القول الثاني أن يقول إن قوله تعالى حَتَّى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ يدل على أن المراد من قوله لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلَواة َ نفس الصلاة لأن المسجد ليس فيه قول مشروع يمنع السكر منه أما الصلاة ففيها أقوال مخصوصة يمنع السكر منها فكان حمل لآية على هذا أولى وللقائل الأول ان يجيب بأن الظاهر أن الانسان إنما يذهب إلى المسجد لأجل الصلاة فما يخل بالصلاة كان كالمانع من الذهاب إلى المسجد فلهذا ذكر هذا المعنى
المسألة الثالثة قال الواحدي رحمه الله السكارى جمع سكران وكل نعت على فعلان فانه يجمع على فعالى وفعالى مثل كسالى وكسالى وأصل السكر في اللغة سد الطريق ومن ذلك سكر البثق وهو سده وسكرت عينه سكرا إذا تحيرت ومنه قوله تعالى إِنَّمَا سُكّرَتْ أَبْصَارُنَا ( الحجر 15 ) أي غشيت فليس ينفذ نورها ولا تدرك الأشياء على حقيقتها ومن ذلك سكر الماء وهو رده على سننه في الجري والسكر من الشراب وهو أن ينقطع عما عليه من النفاذ حال الصحو فلا ينفذ رأيه على حد نفاذه في حال صحوه إذا عرفت هذا فنقول في لفظ السكارى في هذه الآية قولان الأول المراد منه السكر من الخمر وهو نقيض الصحو وهو قول الجمهور من الصحابة والتابعين
والقول الثاني وهو قول الضحاك وهو أنه ليس المراد منه سكر الخمر إنما المراد منه سكر النوم قال ولفظ السكر يستعمل في النوم فكان هذا اللفظ محتملا له والدليل دل عليه فوجب المصير إليه أما بيان أن اللفظ محتمل له فمن وجهين الأول ما ذكرنا أن لفظ السكر في أصل اللغة عبارة عن سد الطريق ولا شك أن عند النوم تمتلىء مجاري الروح من الأبخرة الغليظة فتنسد تلك المجاري بها ولا ينفذ الروح الباصر والسامع إلى ظاهر البدن الثاني قول الفرزدق
من السير والادلاج يحسب انما سقاه الكرى في كل منزلة خمرا
واذا ثبت أن اللفظ محتمل له فنقول الدليل دل عليه وبيانه من وجوه الأول أن قوله تعالى

لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلَواة َ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ ظاهره أنه تعالى نهاهم عن القرب من الصلاة حال صيرورتهم بحيث لا يعلمون ما يقولون وتوجيه التكليف على مثل هذا الانسان ممتنع بالعقل والنقل أما العقل فلأن تكليف مثل هذا الانسان يقتضي تكليف ما لا يطاق وأما النقل فهو قوله عليه الصلاة والسلام ( رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يبلغ وعن المجنون حتى يفيق وعن النائم حتى يستيقظ ) ولا شك أن هذا السكران يكون مثل المجنون فوجب ارتفاع التكليف عنه
والحجة الثانية قوله عليه الصلاة والسلام ( إذا نعس أحدكم وهو في الصلاة فليرقد حتى يذهب عنه النوم فانه إذا صلى وهو ينعس لعله يذهب ليستغفر فيسب نفسه ) هذا تقرير قول الضحاك
واعلم أن الصحيح هو القول الأول ويدل عليه وجهان الأول أن لفظ السكر حقيقة في السكر من شرب الخمر والأصل في الكلام الحقيقة فأما حمله على السكر من الشعق أو من الغضب أو من الخوف أو من النوم فكل ذلك مجاز وإنما يستعمل مقيدا قال تعالى وَجَاءتْ سَكْرَة ُ الْمَوْتِ ( ق 19 ) وقال وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى ( الحج 2 ) الثاني أن جميع المفسرين اتفقوا على أن هذه الآية إنما نزلت في شرب الخمر وقد ثبت في أصول الفقه ان الآية إذا نزلت في واقعة معينة ولأجل سبب معين امتنع ان لا يكون ذلك السبب مراداً بتلك الآية فأما قول الضحاك كيف يتناوله النهي حال كونه سكران فنقول وهذا أيضا لازم عليكم لأنه يقال كيف يتناوله النهي وهو نائم لا يفهم شيئا ثم الجواب عنه ان المراد من الآية النهي عن الشرب المؤدي إلى السكر المخل بالفهم حال وجوب الصلاة عليهم فخرج اللفظ عن النهي عن الصلاة في حال السكر مع أن المراد منه النهي عن الشرب الموجب للسكر في وقت الصلاة وأما الحديث الذي تمسك به فذاك لا يدل على أن السكر المذكور في الآية هو النوم
المسألة الرابعة قال بعضهم هذه الآية منسوخة بآية المائدة وأقول الذي يمكن ادعاء النسخ فيه أنه يقال نهى عن قربان الصلاة حال السكر ممدودا إلى غاية أن يصير بحيث يعلم ما يقول والحكم المدود إلى غاية يقتضي انتهاء ذلك الحكم عند تلك الغاية فهذا يقتضي جواز قربن الصلاة مع السكر إذا صار بحيث يعلم ما يقول ومعلوم أن الله تعالى لما حرم الخمر بآية المائدة فقد رفع هذا الجواز فثبت أن آية المائدة ناسخة لبعض مدلالوت هذه الآية هذا ما خطر ببالي في تقرير هذا النسخ
والجواب عنه أنا بينا أن حاصل هذا النهي راجع إلى النهي عن الشرب الموجب للسكر عند القرب من الصلاة وتخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما عداه الا على سبيل الظن الضعيف ومثل هذا لا يكون نسخا
المسألة الخامسة قال صاحب ( الكشاف ) قرىء سُكَارَى بفتح السين و سُكَارَى على أن يكون جمعا نحو هلكى وجوعى
ثم قال تعالى وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ قوله وَلاَ جُنُباً عطف على قوله وَأَنتُمْ سُكَارَى والواو ههنا للحال والتقدير لا تقربوا الصلاة حال ما تكونون سكارى وحال ما تكونون جنبا والجنب يستوى فيه الواحد والجمع المذكر والمؤنث لأنه اسم جرى مجرى المصدر الذي هو الاجناب وقد ذكرنا أن أصل الجنابة البعد وقيل للذي يجب عليه الغسل جنب لأنه يجتنب الصلاة والمسجد وقراءة القرآن حتى

يتطهر ثم قال إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ وقد ذكرنا أن فيه قولين أحدهما أن هذا العبور المراد منه العبور في المسجد الثاني أن المراد بقوله إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ المسافرون وبينا كيفية ترجيح أحدهما على الآخر
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَة َ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ
اعلم أنه تعالى ذكر ههنا أصنافا أربعة المرضى والمسافرين والذين جاؤا من الغائط والذين لامسوا النساء
فالقسمان الأولان يلجئان إلى التيمم وهما المرض والسفر
والقسمان الأخيران يوجبان التطهر بالماء عند وجود الماء وبالتيمم عند عدم الماء ونحن نذكر حكم كل واحد من هذه الأقسام
أما السبب الأول وهو المرض فاعلم أنه على ثلاثة أقسام أحدها أن يكون بحيث لو استعمل الماء لمات كما في الجدري الشديد والقروح العظيمة وثانيها أن لا يموت باستعمال الماء ولكنه يجد الآلام العظيمة وثالثها أن لا يخاف الموت والآلام الشديدة لكنه يخاف بقاء شين أو عيب على البدن فالفقهاء جوزوا التيمم في القسمين الأولين وما جوزوه في القسم الثالث وزعم الحسن البصري أنه لا يجوز التيمم في الكل إلا عند عدم الماء بدليل أنه شرط جواز التيمم للمريض بعدم وجدان الماء بدليل أنه قال في آخر الآية فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء وإذا كان هذا الشرط معتبرا في جواز التيمم فعند فقدان هذا الشرط وجب أن لا يجوز التيمم وهو أيضا قول ابن عباس وكان يقول لو شاء الله لابتلاه بأشد من ذلك ودليل الفقهاء أنه تعالى جوز التيمم للمريض إذا لم يجد الماء وليس فيه دلالة على منعه من التيمم عند وجوده ثم قد دلت السنة على جوازه ويؤيده ما روي عن بعض الصحابة أنه أصابته جنابة كان به جراحة عظيمة فسأل بعضهم فأمره بالاغتسال فلما اغتسل مات فسمع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال قتلوه قتلهم الله فدل ذلك على جواز ما ذكرناه
السبب الثاني السفر والآية تدل على أن المسافر إذا لم يجد الماء تيمم طال سفره أو قصر لهذه الآية
السبب الثالث قوله أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُمْ مّن الْغَائِطِ والغائط المكان المطمئن من الأرض وجمعه الغيطان وكان الرجل إذا أراد قضاء الحاجة طلب غائطاً من الأرض يحجبه عن أعين الناس ثم سمي الحدث بهذا الاسم تسمية للشيء باسم مكانه
السبب الرابع قوله أَوْ لَامَسْتُمُ النّسَاء وفيه مسائل

المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي لَامَسْتُمُ بغير ألف من اللمس والباقون لَامَسْتُمُ بالألف من الملامسة
المسألة الثانية اختلف المفسرون في اللمس المذكور ههنا على قولين أحدهما أن المراد به الجماع وهو قول ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة وقول أبي حنيفة رضي الله عنه لأن اللمس باليد لا ينقض الطهارة والثاني أن المراد باللمس ههنا التقاء البشرتين سواء كان بجماع أو غيره وهو قول ابن مسعود وابن عمر والشعبي والنخعي وقول الشافعي رضي الله عنه
واعلم أن هذا القول أرجح من الأول وذلك لأن إحدى القراءتين هي قوله تعالى أَوْ لَامَسْتُمُ النّسَاء واللمس حقيقته المس باليد فأما تخصيصه بالجماع فذاك مجاز والأصل حمل الكلام على حقيقته وأما القراءة الثانية وهي قوله أَوْ لَامَسْتُمُ فهو مفاعلة من اللمس وذلك ليس حقيقة في الجماع أيضاً بل يجب حمله على حقيقته أيضاً لئلا يقع التناقض بين المفهوم من القراءتين المتواترتين واحتج من قال المراد باللمس الجماع بأن لفظ اللمس والمس وردا في القرآن بمعنى الجماع قال تعالى وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ ( البقرة 37 ) وقال في آية الظهار فَتَحْرِيرُ رَقَبَة ٍ مّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ( المجادلة 3 ) وعن ابن عباس أنه قال إن الله حيي كريم يعف ويكني فعبر عن المباشرة بالملامسة وأيضا الحدث نوعان الأصغر وهو المراد بقوله أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُمْ مّن الْغَائِطِ فلو حملنا قوله أَوْ لَامَسْتُمُ النّسَاء على الحدث الأصغر لما بقي للحدث الأكبر ذكر في الآية فوجب حمله على الحدث الأكبر
واعلم أن كل ما ذكروه عدول عن ظاهر اللفظ بغير دليل فوجب أن لا يجوز وأيضاً فحكم الجنابة تقدم في قوله وَلاَ جُنُباً فلو حملنا هذه الآية على الجنابة لزم التكرار
المسألة الثالثة قال أهل الظاهر إنما ينتقض وضوء اللامس لظاهر قوله أَوْ لَامَسْتُمُ النّسَاء أما الملموس فلا وقال الشافعي رضي الله عنه بل ينتقض وضوءهما معا
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه الأسباب الأربعة قال فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الشافعي رضي الله عنه إذا دخل وقت الصلاة فطلب الماء ولم يجده وتيمم وصلى ثم دخل وقت الصلاة الثانية وجب عليه الطلب مرة أخرى وقال أبو حنيفة رضي الله عنه لا يجب حجة الشافعي قوله فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء وعدم الوجدان مشعر بسبق الطلب فلا بد في كل مرة من سبق الطلب
فان قيل قولنا وجد لا يشعر بسبق الطلب بدليل قوله تعالى وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى ( الضحى 7 8 ) وقوله وَمَا وَجَدْنَا لاِكْثَرِهِم مّنْ عَهْدٍ ( الأعراف 102 ) وقوله وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً فان الطلب على الله محال
قلنا الطلب وإن كان في حقه تعالى محالا إلا أنه لما أخرج محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) من بين قومه بما لم يكن لائقا لقومه صار ذلك كأنه طلبه ولما أمر المكلفين بالطاعات ثم إنهم قصروا فيها صار كأنه طلب شيئاً ثم لم يجده فخرجت هذه اللفظة في هذه الآيات على سبيل التأويل من الوجه الذي ذكرناه

المسألة الثانية أجمعوا على أنه لو وجد الماء لكنه يحتاج إليه لعطشه أو عطش حيوان محترم جاز له التيمم أما إذا وجد من الماء مالا يكفيه للوضوء فهل يجب عليه أن يجمع بين استعمال ذلك القدر من الماء وبين التيمم قد أوجبه الشافعي رضي الله عنه متمسكا بظاهر لفظ الآية
ثم قال تعالى فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيّباً وفي مسائل
المسألة الأولى التيمم في اللغة عبارة عن القصد يقال أممته وتيممته وتأممته أي قصدته وأما على الصعيد فهو فعيل بمعنى الصاعد قال الزجاج الصعيد وجه الأرض ترابا كان أو غيره
المسألة الثانية قال أبو حنيفة رضي الله عنه لو فرضنا صخراً لا تراب عليه فضرب المتيمم يده عليه ومسح كان ذلك كافياً وقال الشافعي رضي الله عنه بل لا بد من تراب يلتصق بيده احتج أبو حنيفة بظاهر هذه الآية فقال التيمم هو القصد والصعيد هو ما تصاعد من الأرض فقوله فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيّباً أي أقصدوا أرضا فوجب أن يكون هذا القدر كافيا وأما الشافعي فانه احتج بوجهين الأول أن هذه الآية ههنا مطلقة ولكنها في سورة المائدة مقيدة وهي قوله سبحانه فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مّنْهُ وكلمة ( من ) للتبعيض وهذا لا يتأتى في الصخر الذي لا تراب عليه فان قيل إن كلمة ( من ) لابتداء الغاية قال صاحب ( الكشاف ) لا يفهم أحد من العرب من قول القائل مسحت برأسه من الدهن ومن الماء ومن التراب إلا معنى التبعيض ثم قال والاذعان للحق أحق من المراء الثاني ما ذكره الواحدي رحمه الله وهو أنه تعالى أوجب في هذه الآية كون الصعيد طيبا والأرض الطيبة هي التي تنبت بدليل قوله وَالْبَلَدُ الطَّيّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبّهِ ( الأعراف 58 ) فوجب في التي لا تنبت أن لا تكون طيبة فكان قوله فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيّباً أمرا بالتيمم بالتراب فقط وظاهر الأمر للوجوب أن قوله صَعِيداً طَيّباً أمر بايقاع التيمم بالصعيد الطيب والصعيد الطيب هو الأرض التي لا سبخة فيها ولا شك أن التيمم بهذا التراب جائز بالاجماع فوجب حمل الصعيد الطيب عليه رعاية لقاعدة الاحتياط لا سيما وقد خصص النبي عليه الصلاة والسلام التراب بهذه الصفة فقال ( جعلت لي الأرض مسجدا وترابها طهورا ) وقال ( التراب طهور المسلم إذا لم يجد الماء )
المسألة الثالثة قوله تعالى فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ محمول عند كثير من المفسرين على الوجه واليدين إلى الكوعين وعند أكثر الفقهاء يجب مسح اليدين إلى المرفقين وحجتهم أن اسم اليد يتناول جملة هذا العضو إلى الابطين إلا أنا أخرجنا المرفقين منه بدلالة الاجماع فبقي اللفظ متناولا للباقي ثم ختم تعالى الآية بقوله إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً وهو كناية عن الترخيص والتيسير لأن من كان من عادته أنه يعفور عن المذنبين فبأن يرخص للعاجزين كان أولى
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً

اعلم أنه تعالى لما ذكر من أول هذه السورة إلى هذا الموضع أنواعا كثيرة من التكاليف والأحكام الشرعية قطع ههنا ببيان الأحكام الشرعية وذكر أحوال أعداء الدين وأقاصيص المتقدمين لأن البقاء في النوع الواحد من العلم مما يكل الطبع ويكدر الخاطر فأما الانتقال من نوع من العلوم إلى نوع آخر فانه ينشط الخاطر ويقوى القريحة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قوله أَلَمْ تَرَ معناه ألم ينته علمك إلى هؤلاء وقد ذكرنا ما فيه عند قوله أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِى حَاجَّ إِبْراهِيمَ ( البقرة 258 ) وحاصل الكلام أن العلم اليقيني يشبه الرؤية فيجوز جعل الرؤية استعارة عن مثل هذا العلم
المسألة الثانية الذين أوتوا نصيبا من الكتاب هم اليهود ويدل عليه وجوه الأول أن قوله بعد هذه الآية مّنَ الَّذِينَ هَادُواْ ( النساء 46 المائدة 41 ) متعلق بهذه الآية الثاني روى ابن عباس ان هذه الآية نزلت في حبرين من أحبار اليهود كانا يأتيان رأس المنافقان عبدالله بن أبي ورهطه فيثبطونهم عن الإسلام الثالث ان عداوة اليهود كانت أكثر من عداوة النصارى بنص القرآن فكانت إحالة هذا المعنى على اليهود أولى
المسألة الثالثة لم يقل تعالى انهم أوتوا علم الكتاب بل قال أُوتُواْ نَصِيباً مّنَ الْكِتَابِ لأنهم عرفوا من التوراة نبوة موسى عليه السلام ولم يعرفوا منها نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فأما الذين أسلموا كعبدالله بن سلام وعرفوا الأمرين فوصفهم الله بأن معهم علم الكتاب فقال قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ( الرعد 43 ) والله أعلم
المسألة الرابعة اعلم أنه تعالى وصفهم بأمرين الضلال والاضلال أما الضلال فهو قوله يَشْتَرُونَ الضَّلالَة َ وفيه وجوه الأول قال الزجاج يؤثرون تكذيب الرسول عليه الصلاة والسلام ليأخذوا الرشا على ذلك ويحصل لهم الرياسة وإنما ذكر ذلك بلفظ الاشتراء لأن من اشترى شيئا آثره الثاني ان في الآية إضمارا وتأويله يشترون الضلالة بالهدى كقوله أُوْلَائِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلَالَة َ بِالْهُدَى ( البقرة 16 ) أي يستبدلون الضلالة بالهدى ولا إضمار على قول الزجاج الثالث المراد بهذه الآية عوام اليهود فانهم كانوا يعطون أحبارهم بعض أموالهم ويطلبون منهم أن ينصروا اليهودية ويتعصبوا لها فكانوا جارين مجرى من يشتري بماله الشبهة والضلالة ولا إضمار على هذا التأويل أيضا ولكن الأولى أن تكون الآية نازلة في علمائهم ثم لما وصفهم تعالى بالضلال وصفهم بعد ذلك بالاضلال فقال وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ يعني أنهم يتوصلون إلى إضلال المؤمنين والتلبيس عليهم لكي يخرجوا عن الاسلام
واعلم انك لا ترى حالة أسوأ ولا أقبح ممن جمع بين هذين الأمرين أعني الضلال والاضلال
ثم قال تعالى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ أي هو سبحانه أعلم بكنه ما في قلوبهم وصدورهم من العداوة والبغضاء
ثم قال تعالى وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً والمعنى أنه تعالى لما بين شدة عداوتهم للمسلمين بين أن الله تعالى ولى المسلمين وناصرهم ومن كان الله وليا له وناصرا له لم تضره عداوة الخلق وفي الآية سؤالات
السؤالا الأول ولاية الله لعبده عبارة عن نصرته له فذكر النصير بعد ذكر الولي تكرارا

والجواب ان الولي المتصرف في الشيء والمتصرف في الشيء لا يجب أن يكون ناصرا له فزال التكرار
السؤال الثاني لم لم يقل وكفى بالله وليا ونصيرا وما الفائدة في تكرير قوله وَكَفَى بِاللَّهِ
والجواب ان التكرار في مثل هذا المقام يكون أشد تأثيرا في القلب وأكثر مبالغة
السؤال الثالث ما فائدة الباء في قوله وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً
والجواب ذكروا وجوها الأول لو قيل كفى الله كان يتصل الفعل بالفاعل ثم ههنا زيدت الباء إيذانا أن الكفاية من الله ليست كالكفاية من غيره في الرتبة وعظم المنزلة الثاني قال ابن السراج تقدير الكلام كفى اكتفاؤك بالله وليا ولما ذكرت ( كفى ) دل على الاكتفاء لأنه من لفظه كما تقول من كذب كان شرا له أي كان الكذب شراً له فأضمرته لدلالة الفعل عليه الثالث يخطر ببالي أن الباء في الأصل للالصاق وذلك إنما يحسن في المؤثر الذي لا واسطة بينه وبين التأثير ولو قيل كفى الله دل ذلك على كونه تعالى فاعلا لهذه الكفاية ولكن لا يدل ذلك على أنه تعالى يفعل بواسطة أو بغير واسطة فاذا ذكرت حرف الباء دل على أنه يفعل بغير واسطة بل هو تعالى يتكفل بتحصيل هذا المطلوب ابتداء من غير واسطة أحد كما قال وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ( ق 16 )
مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِى الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً
اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم يشترون الضلالة شرح كيفية تلك الضلالة وهي أمور أحدها أنهم كانوا يحرفون الكلم عن مواضعه وفيه مسائل
المسألة الأولى في متعلق قوله مِنَ الَّذِينَ وجوه الأول أن يكون بيانا للذين أوتوا نصيبا من الكتاب والتقدير ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب من الذين هادوا والثاني أن يتعلق بقوله نَصِيراً والتقدير وكفى بالله نصيرا من الذين هادوا وهو كقوله وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا ( الأنبياء 77 ) الثالث أن يكون خبر مبتدأ محذوف و يُحَرّفُونَ صفته تقديره من الذين هادوا قوم يحرفون الكلم فحذف الموصوف وأقيم الوصف مكانه الرابع أنه تعالى لما قال أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَة َ ( النساء 44 ) بقي ذلك مجملا من وجين فكأنه قيل ومن ذلك الذين أوتوا نصيبا من الكتاب فأجيب وقيل من الذين هادوا ثم قيل وكيف يشترون الضلالة فأجيب وقيل

يحرفون الكلم
المسألة الثانية لقائل أن يقول الجمع مؤنث فكان ينبغي أن يقال يحرفون الكلم عن مواضعها
والجواب قال الواحدي هذا جمع حروفه أقل من حروف واحده وكل جمع يكون كذلك فانه يجوز تذكيره ويمكن أن يقال كون الجمع مؤنثا ليس أمراً حقيقياً بل هو أمر لفظي فكان التذكير والتأنيث فيه جائزا وقرىء يحرفون الكلم
المسألة الثالثة في كيفية التحريف وجوه أحدها أنهم كانوا يبدلون اللفظ بلفظ آخر مثل تحريفهم اسم ( ربعة ) عن موضعه في التوراة بوضعهم ( آدم طويل ) مكانه ونحو تحريفهم ( الرجم ) بوضعهم ( الحد ) بدله ونظيره قوله تعالى فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَاذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ ( البقرة 79 )
فان قيل كيف يمكن هذا في الكتاب الذي بلغت آحاد حروفه وكلماته مبلغ التواتر المشهور في الشرق والغرب
قلنا لعله يقال القوم كانوا قليلين والعلماء بالكتاب كانوا في غاية القلة فقدروا على هذا التحريف والثاني أن المراد بالتحريف إلقاء الشبه الباطلة والتأويلات الفاسدة وصرف اللفظ عن معناه الحق إلى معنى باطل بوجوه الحيل اللفظية كما يفعله أهل البدعة في زماننا هذا بالآيات المخالفة لمذاهبهم وهذا هو الأصح الثالث أنهم كانوا يدخلون على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ويسألونه عن أمر فيخبرهم ليأخذوا به فاذا خرجوا من عنده حرفوا كلامه
المسألة الرابعة ذكر الله تعالى ههنا عَن مَّواضِعِهِ وفي المائدة مِن بَعْدِ مَواضِعِهِ والفرق أنا إذا فسرنا التحريف بالتأويلات الباطلة فههنا قوله يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّواضِعِهِ معناه أنهم يذكرون التأويلات الفاسدة لتلك النصوص فههنا قوله يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّواضِعِهِ معناه أنهم يذكرون التأويلات الفاسدة لتلك النصوص وليس فيه بيان أنهم يخرجون تلك اللفظة من الكتاب وأما الآية المذكورة في سورة المائدة فهي دالة على أنهم جمعوا بين الأمرين فكانوا يذكرون التأويلات الفاسدة وكانوا يخرجون اللفظ أيضا من الكتاب فقوله يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ إشارة إلى التأويل الباطل وقوله مِن بَعْدِ مَواضِعِهِ إشارة إلى إخراجه عن الكتاب
النوع الثاني من ضلالاتهم ما ذكره الله تعالى بقوله وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وفيه وجهان الأول أن النبي عليه السلام كان إذا أمرهم بشيء قالوا في الظاهر سمعنا وقالوا في أنفسهم وعصينا والثاني أنهم كانوا يظهرون قولهم سمعنا وعصينا إظهاراً للمخالفة واستحقاراً للأمر
النوع الثالث من ضلالتهم قوله وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ
واعلم ان هذه الكلمة ذو وجهين يحتمل المدح والتعظيم ويحتمل الاهانة والشتم أما أنه يحتمل المدح فهو أن يكون المراد اسمع غير مسمع مكروها وأما أنه محتمل للشتم والذم فذاك من وجوه الأول أنهم كانوا يقولون للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) اسمع ويقولون في أنفسهم لا سمعت فقوله غَيْرَ مُسْمَعٍ معناه غير سامع فان السامع مسمع والمسمع سامع الثاني غير مسمع أي غير مقبول منك ولا تجاب إلى ما تدعو اليه ومعناه غير مسمع جوابا يوافقك فكأنك ما أسمعت شيئا الثالث اسمع غير مسمع كلاما ترضاه ومتى كان كذلك فان الانسان لا يسمعه لنبو سمعه عنه فثبت بما ذكرنا أن هذه الكلمة محتملة للذم والمدح فكانوا يذكرونها لغرض الشتم

النوع الرابع من ضلالاتهم قولهم وَراعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِى الدّينِ أما تفسير راعِنَا فقد ذكرناه في سورة البقرة وفيه وجوه الأول أن هذه كلمة كانت تجري بينهم على جهة الهزء والسخرية فلذلك نهى المسلمون أن يتلفظوا بها في حضرة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) الثاني قوله راعِنَا معناه ارعنا سمعك أي اصرف سمعك إلى كلامنا وأنصت لحديثنا وتفهم وهذا مما لا يخاطب به الأنبياء عليهم السلام بل إنما يخاطبون بالاجلال والتعظيم الثالث كانوا يقولون راعنا ويوهمونه في ظاهر الأمر أنهم يريدون أرعنا سمعك وكانوا يريدون سبه بالرعونة في لغتهم الرابع أنهم كانوا يلوون ألسنتهم حتى يصير قولهم راعِنَا راعينا وكانوا يريدون أنك كنت ترعى أغناما لنا وقوله لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ قال الواحدي أصل ( لياً ( لويا لانه من لويت ولكن الواو أدغمت في الياء لسبقها بالسكون ومثله الطي وفي تفسيره وجوه الأول قال الفراء كانوا يقولون راعنا ويريدون به الشتم فذاك هو اللي وكذلك قولهم ( غير مسمع ) وأرادوا به لا سمعت فهذا هو اللي الثاني انهم كانوا يصلون بألسنتهم ما يضمرونه من الشتم إلى ما يظهرونه من التوقير على سبيل النفاق الثالث لعلهم كانوا يفتلون أشداقهم وألسنتهم عند ذكر هذا الكلام على سبيل السخرية كما جرت عادة من يهزأ بانسان بمثل هذا الأفعال ثم بين تعالى أنهم إنما يقدمون على هذه الأشياء لطعنهم في الدين لأنهم كانوا يقولون لأصحابهم إنما نشتمه ولا يعرف ولو كان نبيا لعرف ذلك فأظهر الله تعالى ذلك فعرفه خبث ضمائرهم فانقلب ما فعلوه طعناه في نبوته دلالة قاطعة على نبوته لأن الاخبار عن الغيب معجز
فان قيل كيف جاؤا بالقول المحتمل للوجهين بعدما حرفوا وقالوا سمعنا وعصينا
والجواب من وجهين الأول أنا حكينا عن بعض المفسرين أنه قال إنهم ما كانوا يظهرون قولهم وَعَصَيْنَا بل كانوا يقولونه فى أنفسهم والثاني هب أنهم أظهروا ذلك إلا أن جميع الكفرة كانوا يواجهونه بالكفر والعصيان ولا يواجهونه بالسب والشتم
ثم قال تعالى وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ والمعنى أنهم لو قالوا بدل قولهم سمعنا وعصينا سمعنا وأطعنا لعلمهم بصدقك ولاظهارك الدلائل والبينات مرات بعد مرات وبدل قولهم وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ قولهم واسمع وبدل قولهم راعِنَا قولهم انظُرْنَا أي اسمع منا ما نقول وانظرنا حتى نتفهم عنك لكان خيرا لهم عند الله وأقوم أي أعدل وأصوب ومنه يقال رمح قويم أي مستقيم وقومت الشيء من عوج فتقوم
ثم قال وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ والمراد أنه تعالى إنما لعنهم بسبب كفرهم
ثم قال فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً وفيه قولان أحدهما أن القليل صفة للقوم والمعنى فلا يؤمن منهم إلا أقوام قليلون ثم منهم من قال كان ذلك القليل عبدالله بن سلام وأصحابه وقيل هم الذين علم الله منهم أنهم يؤمنون بعد ذلك
والقول الثاني أن القليل صفة للايمان والتقدير فلا يؤمنون إلا إيمانا قليلا فانهم كانوا يؤمنون بالله والتوراة وموسى ولكنهم كانوا يكفرون بسائر الأنبياء ورجح أبو علي الفارسي هذا القول على الأول قال لأن ( قليلا ) لفظ مفرد ولو أريد به ناس لجمع نحو قوله إِنَّ هَؤُلاء لَشِرْذِمَة ٌ قَلِيلُونَ ( الشعراء 54 ) ويمكن أن

يجاب عنه بأنه قد جاء فعيل مفردا والمراد به الجمع قال تعالى وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً ( النساء 69 ) وقال وَلاَ يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً يُبَصَّرُونَهُمْ ( المعارج 10 11 ) فدل عود الذكر مجموعا إلى القبيلين على أنه اريد بهما الكثرة
يَاأَيُّهَآ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ءَامِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَآ أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى بعد أن حكى عن اليهود أنواع مكرهم وإيذائهم أمرهم بالايمان وقرن بهذا الأمر الوعيد الشديد على الترك ولقائل أن يقول كان يجب أن يأمرهم بالنظر والتفكر في الدلائل الدالة على صحة نبوته حتى يكون إيمانهم استدلاليا فلما أمرهم بذلك الايمان ابتداء فكأنه تعالى أمرهم بالايمان على سبيل التقليد
والجواب عنه أن هذا الخطاب مختص بالذين أوتوا الكتاب وهذا صفة من كان عالما بجميع التوراة ألا ترى أنه قال في الآية الأولى أَمْ تُرِيدُونَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الْكِتَابِ ( النساء 44 ) ولم يقل ألم تر إلى الذين أوتوا الكتاب لأنهم ما كانوا عالمين بكل ما في التوراة فلما قال في هذه الآية يقل ألم تر إلى الذين أوتوا الكتاب لأنهم ما كانوا عالمين بكل ما في التوراة فلما قال في هذه الآية قَلِيلاً يَأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ علمنا أن هذا التكليف مختص بمن كان عالما بكل التوراة ومن كان كذلك فانه يكون عالما بالدلائل الدالة على نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لأن التوراة كانت مشتملة على تلك الدلائل ولهذا قال تعالى مُصَدّقاً لّمَا مَعَكُمْ أي مصدقا للآيات الموجودة في التوراة الدالة على نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) واذا كان العلم حاصلا كان ذلك الكفر محض العناد فلا جرم حسن منه تعالى أن يأمرهم بالايمان بمحمد عليه الصلاة والسلام جزما وأن يقرن الوعيد الشديد بذلك
المسألة الثانية الطمس المحو تقول العرب في وصف المفازة إنها طامسة الأعلام وطمس الطريق وطمس إذا درس وقد طمس الله على بصره إذا أزاله وأبطله وطمست الريح الأثر إذا محته وطمست الكتاب محوته وذكروا في الطمس المذكور في هذه الآية قولين أحدهما حمل اللفظ على حقيقته وهو طمس الوجوه والثاني حمل اللفظ على مجازه
أما القول الأول فهو أن المراد من طمس الوجوه محو تخطيط صورها فان الوجه إنما يتميز عن سائر الأعضاء بما فيه الحواس فاذا أزيلت ومحيت كان ذلك طمسا ومعنى قوله فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا رد الوجوه إلى ناحية القفا وهذا المعنى إنما جعله الله عقوبة لما فيه من التشويه في الخلقة والمثلة والفضيحة لأن عند ذلك يعظم الغم والحسرة فان هذا الوعيد مختص بيوم القيامة على ما سنقيم الدلالة عليه ومما يقرره قوله تعالى وَأَمَّا مَنْ أُوتِى َ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ ( الانشقاق 10 ) فانه إذا ردت الوجوه إلى القفا أوتوا الكتاب

من وراء ظهورهم لأن في تلك الجهة العيون والأفواه التي بها يدرك الكتاب ويقرأ باللسان
فاما القول الثاني فهو أن المراد من طمس الوجوه مجازه ثم ذكروا فيه وجوها الأول قال الحسن المراد نطمسها عن الهدى فنردها على أدبارها أي على ضلالتها والمقصود بيان إلقائها في أنواع الخذلان وظلمات الضلالات ونظيره قوله تعالى مُّعْرِضُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْء وَقَلْبِهِ ( الأنفال 24 ) تحقيق القول فيه أن الانسان في مبدأ خلقته ألف هذا العالم المحسوس ثم عند الفكر والعبودية كأنه يسافر من عالم المحسوسات إلى عالم المعقولات فقد امه عالم المعقولات ووراءه عالم المحسوسات فالمخذول هو الذي يرد من قدامه إلى خلفه كما قال تعالى في صفتهم ناكسورؤسهم ( السجدة 12 ) الثاني يحتمل أن يكون المراد بالطمس القلب والتغيير وبالوجوه رؤساؤهم ووجهاؤهم والمعنى من قبل أن نغير أحوال وجهائهم فنسلب منهم الاقبال والوجاهة ونكسوهم الصغار والادبار والمذلة الثالث قال عبد الرحمن ابن زيد هذا الوعيد قد لحق اليهود ومضى وتأول ذلك في إجلاء قريظة والنضير إلى الشام فرد الله وجوههم على أدبارهم حين عادوا إلى أذرعات وإريحاء من أرض الشام كما جاؤا منها بدءاً وطمس الوجوه على هذا التأويل يحتمل معنيين أحدهما تقبيح صورتهم يقال طمس الله صورته كقوله قبح الله وجهه والثاني إزالة آثارهم عن بلاد العرب ومحو أحوالهم عنها
فان قيل إنه تعالى هددهم بطمس الوجوه على القول الثاني فلا إشكال ألبتة وان فسرناه على القول الأول وهو حمله على ظاهره فالجواب عنه من وجوه الأول أنه تعالى ما جعل الوعيد هو الطمس بعينه بل جعل الوعيد إما الطمس أو اللعن فانه قال أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وقد فعل أحدهما وهو اللعن وهو قوله أَوْ نَلْعَنَهُمْ وظاهره ليس هو المسخ الثاني قوله تعالى ءامَنُواْ تكليف متوجه عليهم في جميع مدة حياتهم فلزم أن يكون قوله مّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً واقعا في الآخرة فصار التقدير آمنوا من قبل أن يجىء وقت نطمس فيه وجوهكم وهو ما بعد الموت الثالث أنا قد بينا أن قوله قَلِيلاً يَأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ خطاب مع جميع علمائهم فكان التهديد بهذا الطمس مشروطا بأن لا يأتي أحد منهم بالايمان وهذا الشرط لم يوجد لأنه آمن عبدالله بن سلام وجمع كثير من أصحابه ففات المشروط بفوات الشرط ويقال لما نزلت هذه الآية أتى عبدالله بن سلام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قبل أن يأتي أهله فأسلم وقال يا رسول الله كنت أرى أن لا أصل اليك حتى يتحول وجهي في قفاي الرابع أنه تعالى لم يقل من قبل أن نطمس وجوهكم بل قال مّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً وعندنا أنه لا بد من طمس في اليهود أو مسخ قبل قيام الساعة ومما يدل على أن المراد ليس طمس وجوههم بأعيابهم بل طمس وجوه غيرهم من أبناء جنسهم قوله أَوْ نَلْعَنَهُمْ فذكرهم على سبيل المغايبة ولو كان المراد أولئك المخاطبين لذكرهم على سبيل الخطاب وحمل الآية على طريقة الالتفات وإن كان جائزا إلا أن الأظهر ما ذكرناه
ثم قال تعالى أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ قال مقاتل وغيره نمسخهم قردة كما فعلنا ذلك بأوائلهم وقال أكثر المحققين الأظهر حمل الآية على اللعن المتعارف ألا ترى الى قوله تعالى قُلْ هَلْ أُنَبّئُكُمْ بِشَرّ مّن ذالِكَ مَثُوبَة ً عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَة َ وَالْخَنَازِيرَ

ففصل تعالى ههنا بين اللعن وبين مسخهم قردة وخنازير وههنا سؤالات
السؤال الأول الى من يرجع الضمير في قوله أَوْ نَلْعَنَهُمْ
الجواب الى الوجوه إن أريد الوجهاء أو لأصحاب الوجوه لأن المعنى من قبل أن نطمس وجوه قوم أو يرجع الى الذين أوتوا على طريقة الالتفات
السؤال الثاني قد كان اللعن والطمس حاصلين قبل الوعيد على الفعل فلا بد وأن يتحدا
والجواب أن لعنه تعالى لهم من بعد هذا الوعيد يكون أزيد تأثيرا في الخزي فيصح ذلك فيه
السؤال الثالث قوله تعالى قَلِيلاً يَأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ خطاب مشافهة وقوله أَوْ نَلْعَنَهُمْ خطاب مغايبة فكيف يليق أحدهما بالآخر
الجواب منهم من حمل ذلك على طريقة الالتفات كما في قوله تعالى حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم ( يونس 22 ) ومنهم من قال هذا تنبيه على أن التهديد حاصل في غيرهم ممن يكذبون من أبناء جنسهم وعندي فيه احتمال آخر وهو أن اللعن هو الطرد والابعاد وذكر البعيد لا يكون إلا بالمغايبة فلما لعنهم ذكرهم بعبارة الغيبة
ثم قال تعالى وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً وفيه مسألتان
المسألة الأولى قال ابن عباس يريد لا راد لحكمه ولا ناقض لأمره على معنى أنه لا يتعذر عليه شيء يريد أن يفعله كما تقول في الشيء الذي لا شك في حصوله هذا الأمر مفعول وإن لم يفعل بعد وإنما قال وَكَانَ إخباراً عن جريان عادة الله في الأنبياء المتقدمين أنه مهما أخبرهم بانزال العذاب عليهم فعل ذلك لا محالة فكأنه قيل لهم أنتم تعلمون أنه كان تهديد الله في الأمم السالفة واقعا لا محالة فاحترزوا الآن وكونوا على حذر من هذا الوعيد والله أعلم
المسألة الثانية احتج الجبائي بهذه الآية على أن كلام الله محدث فقال قوله وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً يقتضي أن أمره مفعول والمخلوق والمصنوع والمفعول واحد فدل هذا على أن أمر الله مخلوق مصنوع وهذا في غاية السقوط لأن الأمر في اللغة جاء بمعنى الشأن والطريقة والفعل قال تعالى وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ( هود 97 ) والمراد ههنا ذاك
إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً
اعلم أن الله تعالى لما هدد اليهود على الكفر وبين أن ذلك التهديد لا بد من وقوعه لا محالة بين أن مثل هذا التهديد من خواص الكفر فأما سائر الذنوب التي هي مغايرة للكفر فليست حالها كذلك بل هو

سبحانه قد يعفو عنها فلا جرم قال إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وفي الآية مسائل
المسألة الأولى هذه الآية دالة على أن اليهودي يسمى مشركا في عرف الشرع ويدل عليه وجهان الأول أن الآية دالة على أن ما سوى الشرك مغفور فلو كانت اليهودية مغايرة للشرك لوجب أن تكون مغفورة بحكم هذه الآية وبالاجماع هي غير مغفورة فدل على أنها داخلة تحت اسم الشرك الثاني أن اتصال هذه الآية بما قبلها إنما كان لأنها تتضمن تهديد اليهود فلولا أن اليهودية داخلة تحت اسم الشرك وإلا لم يكن الأمر كذلك
فان قيل قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ إلى قوله وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ ( الحج 17 ) عطف المشرك على اليهودي وذلك يقتضي المغايرة
قلنا المغايرة حاصلة بسبب المفهوم اللغوي والاتحاد حاصل بسبب المفهوم الشرعي ولا بد من المصير إلى ما ذكرناه دفعا للتناقض إذا ثبتت هذه المقدمة فنقول قال الشافعي رضي الله عنه المسلم لا يقتل بالذمي وقال أبو حنيفة يقتل حجة الشافعي أن الذمي مشرك لما ذكرناه والمشرك مباح الدم لقوله تعالى اقتلوا المشركين فكان الذمي مباح الدم على الوجه الذي ذكرناه ومباح الدم هو الذي لا يجب القصاص على قاتله ولا يتوجه النهي عن قتله ترك العمل بهذا الدليل في حق النهي فوجب أن يبقى معمولا به في سقوط القصاص عن قاتله
المسألة الثانية هذه الآية من أقوى الدلائل لنا على العفو عن أصحاب الكبائر
واعلم أن الاستدلال بها من وجوه
الوجه الأول أن قوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ معناه لا يغفر الشرك على سبيل التفضل لأنه بالاجماع لا يغفر على سبيل الوجوب وذلك عندما يتوب المشرك عن شركه فاذا كان قوله إن الله لا يغفر الشرك هو أنه لا يغفره على سبيل التفضل وجب أن يكون قوله وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ هو أن يغفره على سبيل التفضل حتى يكون النفي والاثبات متواردين على معنى واحد ألا ترى أنه لو قال فلان لا يعطي أحدا تفضلا ويعطي زائدا فانه يفهم منه أنه يعطيه تفضلا حتى لو صرح وقال لا يعطي أحدا شيئاً على سبيل التفضل ويعطي أزيد على سبيل الوجوب فكل عاقل يحكم بركاكة هذا الكلام فثبت أن قوله وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء على سبيل التفضل إذا ثبت هذا فنقول وجب أن يكون المراد منه أصحاب الكبائر قبل التوبة لأن عند المعتزلة غفران الصغيرة وغفران الكبيرة بعد التوبة واجب عقلا فلا يمكن حمل الآية عليه فاذا تقرر ذلك لم يبق إلا حمل الآية على غفران الكبيرة قبل التوبة وهو المطلوب الثاني أنه تعالى قسم المنهيات على قسمين الشرك وما سوى الشرك ثم إن ما سوى الشرك يدخل فيه الكبيرة قبل التوبة والكبيرة بعد التوبة والصغيرة ثم حكم على الشرك بأنه غير مغفور قطعا وعلى ما سواه بأنه مغفور قطعا لتكن في حق من يشاء فصار تقدير الآية أنه تعالى يغفر كل ما سوى الشرك لكن في حق من شاء ولما دلت الآية على أن كل ما سوى الشرك مغفور وجب أن تكون الكبيرة قبل التوبة أيضاً مغفورة الثالث أنه تعالى قال لِمَن يَشَاء فعلق هذا الغفران بالمشيئة وغفران الكبيرة بعد التوبة وغفران الصغيرة مقطوع به

وغير معلق على المشيئة فوجب أن يكون الغفران المذكور في هذه الآية هو غفران الكبيرة قبل التوبة وهو المطلوب واعترضوا على هذا الوجه الأخير بأن تعليق الأمر بالمشيئة لا ينافي وجوبه ألا ترى أنه تعالى قال بعد هذه الآية بَلِ اللَّهُ يُزَكّى مَن يَشَاء ( النساء 49 ) ثم إنا نعلم أنه تعالى لا يزكي إلا من كان أهلا للتزكية وإلا كان كذباً والكذب على الله محال فكذا ههنا
واعلم أنه ليس للمعتزلة على هذه الوجوه كلام يلتفت إليه إلا المعارضة بعمومات الوعيد ونحن نعارضها بعمومات الوعد والكلام فيه على الاستقصاء مذكور في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى بَلَى مَن كَسَبَ سَيّئَة ً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( البقرة 81 ) فلا فائدة في الاعادة وروى الواحدي في البسيط باسناده عن ابن عمر قال كنا على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا مات الرجل منا على كبيرة شهدنا أنه من أهل النار حتى نزلت هذه الآية فأمسكنا عن الشهادات وقال ابن عباس إني لأرجو كما لا ينفع مع الشرك عمل كذلك لا يضر مع التوحيد ذنب ذكر ذلك عند عمر بن الخطاب فسكت عمر وروي مرفوعا أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( اتسموا بالايمان وأقربوا به فكما لا يخرج إحسان المشرك المشرك من إشراكه كذلك لا تخرج ذنوب المؤمن المؤمن من إيمانه )
المسألة الثانية روي عن ابن عباس انه قال لما قتل وحشي حمزة يوم أحد وكانوا قد وعدوه بالاعتاق ان هو فعل ذلك ثم أنهم ما وفوا له بذلك فعند ذلك ندم هو وأصحابه فكتبوا إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بذنبهم وانه لا يمنعهم عن الدخول في الإسلام إلا قوله تعالى وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَاهَا ءاخَرَ ( الفرقان 68 ) فقالوا قد ارتكبنا كل ما في الآية فنزل قوله إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً ( الفرقان 70 ) فقالوا هذا شرط شديد نخاف أن لا نقوم به فنزل قوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء فقالوا نخاف أن لا نكون من أهل مشيئته فنزل قُلْ ياأَهْلَ عِبَادِى الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ( الزمر 53 ) فدخلوا عند ذلك في الإسلام وطعن القاضي في هذه الرواية وقال ان من يريد الايمان لا يجوز منه المراجعة على هذا الحد ولأن قوله إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ( الزمر 53 ) لو كان على اطلاقه لكان ذلك اغراء لهم بالثبات على ما هم عليه
والجواب عنه لا يبعد أن يقال انهم استعظموا قتل حمزة وايذاء الرسول إلى ذلك الحد فوقعت الشبهة في قلوبهم أن ذلك هل يغفر لهم أم لا فلهذا المعنى حصلت المراجعة وقوله هذا إعراء بالقبيح فهو انه إنما يتم على مذهبه أما على قولنا انه تعالى فعال لما يريد فالسؤال ساقط والله أعلم
ثم قال وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً أي اختلق ذنبا غير مغفور يقال افترى فلان الكذب إذا اعتمله واختلقه وأصله من الفرى بمعنى القطع
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّى مَن يَشَآءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُّبِيناً

اعمل أنه تعالى لما هدد اليهود بقوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ فعند هذا قالوا لسنا من المشركين بل نحن خواص الله تعالى كما حكى تعالى عنهم انه قالوا نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ( المائدة 18 ) وحكى عنهم أنهم قالوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَة ً وحكى أيضا أنهم قالوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّة َ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى ( البقرة 111 ) وبعضهم كانوا يقولون أن آباءنا كانوا أنبياء فيشفعون لنا وعن ابن عباس رضي الله عنه ان قوما من اليهود أتوا بأطفالهم إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقالوا يا محمد هل على هؤلاء ذنب فقال لا فقالوا والله ما نحن إلا كهؤلاء ما عملناه بالليل كفر عنا بالنهار وما عملناه بالنهار كفر عنا بالليل وبالجملة فالقوم كانوا قد بالغوا في تزكية أنفسهم فذكر تعالى في هذه الآية أنه لا عبرة بتزكية الانسان نفسه وإنما العبرة بتزكية الله له وفي الآية مسائل
المسألة الأولى التزكية في هذا الموضع عبارة عن مدح الانسان نفسه ومنه تزكية المعدل للشاهد قال تعالى فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ( النجم 32 ) وذلك لأن التزكية متعلقة بالتقوى والتقوى صفة في الباطن ولا يعلم حقيقتها إلا الله فلا جرم لا تصلح التزكية إلا من الله فلهذا قال تعالى بَلِ اللَّهُ يُزَكّى مَن يَشَاء
فان قيل أليس أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( والله إني لأمين في السماء أمين في الأرض )
قلنا إنما قال ذلك حين قال المنافقون له اعدل في القسمة ولأن الله تعالى لما زكاه أولا بدلالة المعجزة جاز له ذلك بخلاف غيره
المسألة الثانية قوله بَلِ اللَّهُ يُزَكّى مَن يَشَاء يدل على أن الايمان يحصل بخلق الله تعالى لأن أجل أنواع الزكاة والطهارة وأشرفها هو الايمان فلما ذكر تعالى انه هو الذي يزكي من يشاء دل على أن ايمان المؤمنين لم يحصل إلا بخلق الله تعالى
المسألة الثالثة قوله وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً هو كقوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ ( النساء 40 ) والمعنى ان الذين يزكون أنفسهم يعاقبون على تلك التزكية حق جزائهم من غير ظلم أو يكون المعنى أن الذين زكاهم الله فانه يثيبهم على طاعاتهم ولا ينقص من ثوابهم شيئا والفتيل ما فتلت بين أصبعيك من الوسخ فعيل بمعنى مفعول وعن ابن السكيت الفتيل ما كان في شق النواة والنقير النقطة التي في ظهر النواة والقطمير القشرة الرقيقة على النواة وهذه الأشياء كلها تضرب أمثالا للشيء التافه الحقير أي لا يظلمون لا قليلا ولا كثيرا
ثم قال تعالى انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى هذا تعجيب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) من فريتهم على الله وهي تزكيتهم أنفسهم وافتراؤهم على الله وهو قولهم نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ وقولهم لَن يَدْخُلَ الْجَنَّة َ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى وقولهم ما عملناه بالنهار يكفر عنا بالليل
المسألة الثانية مذهبنا أن الخبر عن الشيء إذا كان على خلاف المخبر عنه كان كذبا سواء علم قائله كونه كذلك أو لم يعلم وقال الجاحظ شرط كونه كذبا أن يعلم كونه بخلاف ذلك وهذه الآية دليل لنا

لأنهم كانوا يعتقدون في أنفسهم الزكاء والطهارة ثم لما أخبروا بالزكاة والطهارة كذبهم الله فيه وهذا يدل على ما قلناه
ثم قال تعالى وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُّبِيناً وإنما يقال كفى به في التعظيم على جهة المدح أو على جهة الذم أما في المدح فكقوله وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً ( النساء 45 ) وأما في الذم فكما في هذا الموضع وقوله إِثْماً مُّبِيناً منصوب على التمييز
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَاؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ سَبِيلاً أُوْلَائِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً
اعلم أنه تعالى حكى عن اليهود نوعا آخر من المكر وهو أنهم كانوا يفضلون عبدة الأصنام على المؤمنين ولا شك أنهم كانوا عالمين بأن ذلك باطل فكان إقدامهم على هذا القول لمحض العناد والتعصب وفي الآية مسائل
المسألة الأولى روي أن حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف اليهوديين خرجا الى مكة مع جماعة من اليهود يحالفون قريشا على محاربة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا أنتم أهل كتاب وأنتم أقرب الى محمد منكم الينا فلا نأمن مكركم فاسجدوا لآلهتنا حتى تطمئن قلوبنا ففعلوا ذلك فهذا إيمانهم بالجبت والطاغوت لأنهم سجدوا للأصنام فقال أبو سفيان أنحن أهدى سبيلا أم محمد فقال كعب ماذا يقول محمد يأمر بعبادة الله وحده وينهي عن عبادة الأصنام وترك دين آبائه وأوقع الفرقة قال وما دينكم قالوا نحن ولاة البيت نسقي الحاج ونقري الضيف ونفك العاني وذكروا أفعالهم فقال أنتم أهدى سبيلا فهذا هو المراد من قولهم لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ سَبِيلاً ( النساء 51 )
المسألة الثانية اختلف الناس في الجبت والطاغوت وذكروا فيه وجوه الأول قال أهل اللغة كل معبود دون الله فهو جبت وطاغوت ثم زعم الأكثرون أن الجبت ليس له تصرف في اللغة وحكى القفال عن بعضهم أن الجبت أصله جبس فأبدلت السين تاء والجبس هو الخبيث الردىء وأما الطاغوت فهو مأخوذ من الطغيان وهو الاسراف في المعصية فكل من دعا إلى المعاصي الكبار لزمه هذا الاسم ثم توسعوا في هذا الاسم حتى أوقعوه على الجماد كما قال تعالى وَاجْنُبْنِى وَبَنِى َّ أَن نَّعْبُدَ الاْصْنَامَ رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ النَّاسِ ( إبراهيم 35 36 ) فأضاف الاضلال إلى الأصنام مع أنها جمادات الثاني قال صاحب ( الكشاف ) الجبت الأصنام وكل ما عبد من دون الله والطاغوت الشيطان الثالث الجبت الأصنام والطاغوت تراجمة الأصنام يترجمون للناس عنها الأكاذيب فيضلونهم بها وهو منقول عن ابن عباس الرابع روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال الجبت الكاهن والطاغوت الساحر الخامس قال الكلبي الجبت في هذه

الآية حيي بن أخطب والطاغوت كعب بن الأشرف وكانت اليهود يرجعون اليهما فسيما بهذين الاسمين لسعيهما في إغواء الناس وإضلالهم السادس الجبت والطاغوت صنمان لقريش وهما الصنمان اللذان سجد اليهود لهما طلبا لمرضاة قريش وبالجملة فالأقاويل كثيرة وهما كلمتان وضعتا علمين على من كان غاية في الشر والفساد
ثم قال تعالى أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً فبين أن عليهم اللعن من الله وهو الخذلان والابعاد وهو ضد ما للمؤمنين من القربة والزلفى وأخبر بعده بأن من يلعنه الله فلا ناصر له كما قال مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُواْ أُخِذُواْ وَقُتّلُواْ تَقْتِيلاً ( الأحزاب 61 ) فهذا اللعن حاضر وما في الآخرة أعظم وهو يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله وفيه وعد للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بالنصرة وللمؤمنين بالتقوية بالضد على الضد كما قال في الآيات المتقدمة وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً ( النساء 45 )
واعلم أن القوم إنما استحقوا هذا اللعن الشديد لأن الذي ذكروه من تفضيل عبدة الأوثان على الذين آمنوا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) يجري مجرى المكابرة فمن يعبد غير الله كيف يكون أفضل حالا ممن لا يرضى بمعبود غير الله ومن كان دينه الاقبال بالكلية على خدمة الخالق والاعراض عن الدنيا والاقبال على الآخرة كيف يكون أقل حالا ممن كان بالضد في كل هذه الأحوال والله أعلم
أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً
اعلم أنه تعالى وصف اليهود في الآية المتقدمة بالجهل الشديد وهو اعتقادهم أن عبادة الأوثان أفضل من عبادة الله تعالى ووصفهم في هذه الآية بالبخل والحسد فالبخل هو أن لا يدفع لأحد شيئاً مما آتاه الله من النعمة والحسد هو أن يتمنى أن لا يعطي الله غيره شيئاً من النعم فالبخل والحسد يشتركان في أن صاحبه يريد منع النعمة من الغير فأما البخيل فيمنع نعمة نفسه عن الغير وأما الحاسد فيريد أن يمنع نعمة الله من عبادة وإنما قدم تلك الآية على هذه الآية لأن النفس الانسانية لها قوتان القوة العالمة والقوة العاملة فكمال القوة العالمة العلم ونقصانها الجهل وكمال القوة العاملة الأخلاق الحميدة ونقصانها الأخلاق الذميمة وأشد الأخلاق الذميمة نقصانا البخل والحسد لأنهما منشآن لعود المضار إلى عباد الله
إذا عرفت هذا فنقول إنما قدم وصفهم بالجهل على وصفهم بالبخل والحسد لوجهين الأول أن القوة النظرية مقدمة على القوة العملية في الشرف والرتبة وأصل لها فكان شرح حالها يجب أن يكون مقدما على شرح حال القوة العملية الثاني أن السبب لحصول البخل والحسد هو الجهل والسبب مقدم على المسبب لا جرم قدم تعالى ذكر الجهل على ذكر البخل والحسد وإنما قلنا إن الجهل سبب البخل والحسد أما البخل فلأن بذل المال سبب لطهارة النفس ولحصول السعادة في الآخرة وحبس المال سبب لحصول مال الدنيا في يده فالبخل يدعوك إلى الدنيا ويمنعك عن الآخرة والجود يدعوك إلى الآخرة ويمنعك عن الدنيا ولا شك أن ترجيح الدنيا على الآخرة لا يكون إلا من محض الجهل وأما الحسد فلأن الالهية عبارة عن إيصال النعم والاحسان إلى العبيد فمن كره ذلك فكأنه أراد عزل الاله عن الالهية وذلك

محض الجهل فثبت أن السبب الأصلي للبخل والحسد هو الجهل فلما ذكر تعالى الجهل أردفه بذكر البخل والحسد ليكون المسبب مذكورا عقيب السبب فهذا هو الاشارة إلى نظم هذه الآية وههنا مسائل
المسألة الأولى ( أم ) ههنا فيه وجوه الأول قال بعضهم الميم صلة وتقديره ألهم لأن حرف ( أم ) إذا لم يسبقه استفهام كان الميم فيه صلة الثاني أن ( أم ) ههنا متصلة وقد سبق ههنا استفهام على سبيل المعنى وذلك لأنه تعالى لما حكى عن هؤلاء الملعونين قولهم للمشركين انهم أهدى سبيلا من المؤمنين عطف عليه بقوله أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ فكأنه تعالى قال أمن ذلك يتعجب أم من قولهم لهم نصيب من الملك مع أنه لو كان لهم ملك لبخلوا بأقل القليل الثالث أن ( أم ) ههنا منقطعة وغير متصلة بما قبلها ألبتة كأنه لما تم الكلام الأول قال بل لهم نصيب من الملك وهذا الاستفهام استفهام بمعنى الانكار يعني ليس لهم شيء من الملك ألبتة وهذا الوجه أصح الوجوه
المسألة الثانية ذكروا في هذا الملك وجوها الأول اليهود كانوا يقولون نحن أولى بالملك والنبوة فكيف نتبع العرب فأبطل الله عليهم قولهم في هذه الآية الثاني أن اليهود كانوا يزعمون أن الملك يعود اليهم في آخر الزمان وذلك أنه يخرج من اليهود من يجدد ملكهم ودولتهم ويدعو إلى دينهم فكذبهم الله في هذه الآية الثالث المراد بالملك ههنا التمليك يعني أنهم إنما يقدرون على دفع نبوتك لو كان التمليك اليهم ولو كان التمليك اليهم لبخلوا بالنقير والقطمير فكيف يقدرون على النفي والاثبات قال أبو بكر الأصم كانوا أصحاب بساتين وأموال وكانوا في عزة ومنعة ثم كانوا يبخلون على الفقراء بأقل القليل فنزلت هذه الآية
المسألة الثالثة أنه تعالى جعل بخلهم كالمانع من حصول الملك لهم وهذا يدل على أن الملك والبخل لا يجتمعان وتحقيق الكلام فيه من حيث العقل أن الانقياد للغير أمر مكروه لذاته والانسان لا يتحمل المكروه إلا إذا وجد في مقابلته أمراً مطلوبا مرغوبا فيه وجهات الحاجات محيطة بالناس فاذا صدر من إنسان احسان إلى غيره صارت رغبة المحسن اليه في ذلك المال سببا لصيرورته منقادا مطيعا له فلهذا قيل بالبر يستعبد الحر فاذا لم يوجد هذا بقيت النفرة الطبيعية عن الانقياد للغير خالصا عن المعارض فلا يحصل الانقياد ألبتة فثبت أن الملك والبخل لا يجتمعان ثم ان الملك على ثلاثة أقسام ملك على الظواهر فقط وهذا هو ملك الملوك وملك على البواطن فقط وهذا هو ملك العلماء وملك على الظواهر والبواطن معاً وهذا هو ملك الأنبياء صلوات الله عليهم فاذا كان الجود من لوازم الملك وجب في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أن يكونوا في غاية الجود والكرم والرحمة والشفقة ليصير كل واحد من هذه الاخلاق سببا لانقياد الخلق لهم وامتثالهم لأوامرهم وكمال هذه الصفات حاصل لمحمد عليه الصلاة والسلام
المسألة الرابعة قال سيبويه ( إذن ) في عوامل الأفعال بمنزلة أظن في عوامل الأسماء وتقريره أن الظن إذا وقع في أول الكلام نصب لا غير كقولك أظن زيدا قائما وإن وقع في الوسط جاز إلغاؤه وإعماله كقوله زيد أظن قائم وإن شئت قلت زيداً أظن قائماً وإن تأخر فالأحسن إلغاؤه تقول زيد منطلق ظننت والسبب فيما ذكرناه أن ( ظن ) وما أشبهه من الأفعال نحو علم وحسب ضعيفة في العمل لأنها لا تؤثر

في معمولاتها فاذا تقدم دل التقديم في الذكر على شدة العناية فقوي على التأثير وإذا تأخر دل على عدم العناية فلغا وإن توسط فحينئذ لا يكون في محل العناية من كل الوجوه ولا في محل الاهمال من كل الوجوه بل كانت كالمتوسطة في هاتين الحالتين فلا جرم كان الاعمال والالغاء جائزا
واعلم أن الاعمال في حال التوسط أحسن والالغاء حال التأخر أحسن
إذا عرفت هذا فنقول كلمة ( إذن ) على هذا الترتيب أيضاً فان تقدمت نصبت الفعل تقول إذن أكرمك وإن توسطت أو تأخرت جاز الالغاء تقول أنا إذن أكرمك وأنا أكرمك إذن فتلغيه في هاتين الحالتين
إذا عرفت هذه المقدمة فقوله تعالى فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً كلمة ( إذن ) فيها متقدمة وما عملت فذكروا في العذر وجوها الأول أن في الكلام تقديما وتأخيرا والتقدير لا يؤتون الناس نقيرا إذن الثاني أنها لما وقعت بين الفاء والفعل جاز أن تقدر متوسطة فتلغى كما تلغى إذا توسطت أو تأخرت وهكذا سبيلها مع الواو كقوله تعالى وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ والثالث قرأ ابن مسعود فَإِذاً لاَّ يُؤْتُواْ على إعمال ( إذن ) عملها الذي هو النصب
المسألة الخامسة قال أهل اللغة النقير نقرة في ظهر النواة ومنها تنبت النخلة وأصله أنه فعيل من النقر ويقال للخشب الذي ينقر فيه نقير لأنه ينقر والنقر ضرب الحجر وغيره بالمنقار والمنقار حديدة كالفأس تقطع بها الحجارة والغرض انهم يبخلون بأقل القليل
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَآ ءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ ءَاتَيْنَآ ءَالَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ وَءَاتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً فَمِنْهُمْ مَّنْ ءَامَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً
فيه مسائل
المسألة الأولى أم منقطعة والتقدير بل يحسدون الناس
المسألة الثانية في المراد بلفظ ( الناس ) قولان الأول وهو قول ابن عباس والأكثرين انه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وإنما جاز أن يقع عليه لفظ الجمع وهو واحد لأنه اجتمع عنده من خصال الخير ما لا يحصل إلا متفرقا في الجمع العظيم ومن هذا يقال فلان أمة وحده أي يقوم مقام أمة قال تعالى إِنَّ إِبْراهِيمَ كَانَ أُمَّة ً قَانِتًا ( النحل 120 )

والقول الثاني المراد ههنا هو الرسول ومن معه من المؤمنين وقال من ذهب إلى هذا القول ان لفظ الناس جمع فحمله على الجمع أولى من حمله على المفرد
واعلم أنه إنما حسن ذكر الناس لارادة طائفة معينة من الناس لأن المقصود من الخلق إنما هو القيام بالعبودية كما قال تعالى وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( الذاريات 56 ) فلما كان القائمون بهذا المقصود ليس إلا محمدا ( صلى الله عليه وسلم ) ومن كان على دينه كان وهو وأصحابه كأنهم كل الناس فلهذا حسن إطلاق لفظ الناس وإرادتهم على التعيين
المسألة الثالثة اختلفوا في تفسير الفضل الذي لأجله صاروا محسودين على قولين
فالقول الأول انه هو النبوة والكرامة الحاصلة بسببها في الدين والدنيا
والقول الثاني انهم حسدوه على انه كان له من الزوجات تسع
واعلم أن الحسد لا يحصل إلا عند الفضيلة فكلما كانت فضيلة الانسان أتم وأكمل كان حسد الحاسدين عليه أعظم ومعلوم أن النبوة أعظم المناصب في الدين ثم انه تعالى أعطاها لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وضم اليها انه جعله كل يوم أقوى دولة وأعظم شوكة وأكثر أنصاراً وأعواناً وكل ذلك مما يوجب الحسد العظيم فاما كثرة النساء فهو كالأمر الحقير بالنسبة إلى ما ذكرناه فلا يمكن تفسير هذا الفضل به بل ان جعل الفضل اسما لجميع ما أنعم الله تعالى به عليه دخل هذا أيضا تحته فأما على سبيل القصر عليه فبعيد
واعلم أنه تعالى لما بين أن كثرة نعم الله عليه صارت سببا لحسد هؤلاء اليهود بين ما يدفع ذلك فقال فَقَدْ ءاتَيْنَا ءالَ إِبْراهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ وَءاتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً ( النساء 54 ) والمعنى أنه حصل في أولاد ابراهيم جماعة كثيرون جمعوا بين النبوة والملك وأنتم لا تتعجبون من ذلك ولا تحسدونه فلم تتعجبون من حال محمد ولم تحسدونه
واعلم أن الْكِتَابِ إشارة إلى ظواهر الشريعة وَالْحِكْمَة ِ إشارة إلى أسرار الحقيقة وذلك هو كمال العلم وأما الملك العظيم فهو كمال القدرة وقد ثبت أن الكمالات الحقيقية ليست إلا العلم والقدرة فهذا الكلام تنبيه على أنه سبحانه آتاهم أقصى ما يليق بالانسان من الكمالات ولما لم يكن ذلك مستبعدا فيهم لا يكون مستبعدا في حق محمد ( صلى الله عليه وسلم )
وقيل إنهم لما استكثروا نساءه قيل لهم كيف استكثرتهم له التسع وقد كان لداود مائة ولسليمان ثلثمائة بالمهر وسبعمائة سرية
ثم قال تعالى مِنْهُمْ مّنْ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى واختلفوا في معنى ( به ) فقال بعضهم بمحمد عليه الصلاة والسلام والمراد أن هؤلاء القوم الذين أوتوا نصيبا من الكتاب آمن بعضهم وبقي بعضهم على الكفر والانكار وقال آخرون المراد من تقدم من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والمعنى أن أولئك الأنبياء مع ما خصصتهم به من النبوة والملك جرت عادت أممهم فيهم أن بعضهم آمن به وبعضهم بقوا على الكفر فأنت يا محمد لا تتعجب مما عليه هؤلاء القوم فان أحوال جميع الأمم مع جميع الأنبياء هكذا كانت وذلك تسلية من الله ليكون أشد صبرا على ما ينال من قبلهم

ثم قال وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً أي كفى بجهنم في عذاب هؤلاء الكفار المتقدمين والمتأخرين سعيرا والسعير الوقود يقال أوقدت النار وأسعرتها بمعنى واحد
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأايَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً
اعلم أنه تعالى بعدما ذكر الوعيد بالطائفة الخاصة من أهل الكتاب بين ما يعم الكافرين من الوعيد فقال إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِئَايَاتِنَا وفي الآية مسائل
المسألة الأولى يدخل في الآيات كل ما يدل على ذات الله وأفعاله وصفاته وأسمائه والملائكة والكتب والرسل وكفرهم بالآيات ليس يكون بالجحد لكن بوجوه منها أن ينكروا كونها آيات ومنها أن يغفلوا عنها فلا ينظروا فيها ومنها أن يلقوا الشكوك والشبهات فيها ومنها أن ينكروها مع العلم بها على سبيل العناد والحسد وأما حد الكفر وحقيقته فقد ذكرناه في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاء عَلَيْهِمْ ( البقرة 6 )
المسألة الثانية قال سيبويه ( سوف ) كلمة تذكر للتهديد والوعيد يقال سوف أفعل وينوب عنها حرف السين كقوله سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وقد ترد كلمة ( سوف ) في الوعد أيضا قال تعالى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى وقال سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبّى قيل أخره إلى وقت السحر تحقيقا للدعاء وبالجملة فكلمة ( السين ) و ( سوف ) مخصوصتان بالاستقبال
المسألة الثالثة قوله نُصْلِيهِمْ أي ندخلهم النار لكن قوله نُصْلِيهِمْ فيه زيادة على ذلك فانه بمنزلة شويته بالنار يقال شاة مصلية أي مشوية
ثم قال تعالى كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ وفيه سؤالان
السؤال الأول لما كان تعالى قادرا على ابقائهم أحياء في النار أبد الآباد فلم لم يبق أبدانهم في النار مصونة عن النضج والاحتراق مع أنه يوصل اليها الآلام الشديدة حتى لا يحتاج إلى تبديل جلودهم بجلود أخرى
والجواب أنه تعالى لا يسأل عما يفعل بل نقول انه تعالى قادر على أن يوصل إلى أبدانهم آلاما عظيمة من غير إدخال النار مع انه تعالى أدخلهم النار
السؤال الثاني الجلود العاصية إذا احترقت فلو خلق الله مكانها جلوداً أخرى وعذبها كان هذا تعذيبا لمن لم يعص وهو غير جائز
والجواب عنه من وجوه الأول أن يجعل النضج غير النضيج فالذات واحدة والمتبدل هو

الصفة فاذا كانت الذات واحدة كان العذاب لم يصل إلا إلى العاصي وعلى هذا التقدير المراد بالغيرية التغاير في الصفة الثاني المعذب هو الانسان وذلك الجلد ما كان جزأ من ماهية الانسان بل كان كالشيء الملتصق به الزائد على ذاته فاذا جدد الله الجلد وصار ذلك الجلد الجدد سببا لوصول العذاب اليه لم يكن ذلك تعذيبا الا للعاصي الثالث أن المراد بالجلود السرابيل قال تعالى سَرَابِيلُهُم مّن قَطِرَانٍ ( إبراهيم 50 ) فتجديد الجلود إنما هو تجديد السرابيلات طعن القاضي فيه فقال انه ترك للظاهر وأيضا السرابيل من القطران لا توصف بالنضج وإنما توصف بالاحتراق الرابع يمكن أن يقال هذا استعارة عن الدوام وعدم الانقطاع كما يقال لمن يراد وصفه بالدوام كلما انتهى فقد ابتدأ وكلما وصل الى آخره فقد ابتدأ من أوله فكذا قوله كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا ( النساء 56 ) يعني كلما ظنوا أنهم نضجوا واحترقوا وانتهوا إلى الهلاك أعطيناهم قوة جديدة من الحياة بحيث ظنوا أنهم الآن حدثوا ووجدوا فيكون المقصود بيان دوام العذاب وعدم انقطاعه الخامس قال السدي إنه تعالى يبدل الجلود من لحم الكافر فيخرج من لحمه جلدا آخر وهذا بعيد لأن لحمه متناه فلا بد وأن ينفد وعند نفاد لحمه لا بد من طريق آخر في تبديل الجلد ولم يكن ذلك الطريق مذكورا أولا والله أعلم
ثم قال تعالى لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ وفيه سؤالان
السؤال الأول قوله لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ أي ليدوم لهم ذوقه ولا ينقطع كقولك للمعزوز أعزك الله أي أدامك على العز وزادك فيه وأيضا المراد ليذوقوا بهذه الحالة الجديدة العذاب وإلا فهم ذائقون مستمرون عليه
السؤال الثاني أنه إنما يقال فلان ذاق العذاب إذا أدرك شيئا قليلا منه والله تعالى قد وصف أنهم كانوا في أشد العذاب فكيف يحسن أن يذكر بعد ذلك أنهم ذاقوا العذاب
والجواب المقصود من ذكر الذوق الاخبار بأن إحساسهم بذلك العذاب في كل حال يكون كاحساس الذائق المذوق من حيث أنه لا يدخل فيه نقصان ولا زوال بسبب ذلك الاحتراق
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً والمراد من العزيز القادر الغالب ومن الحكيم الذي لا يفعل إلا الصواب وذكرهما في هذا الموضع في غاية الحسن لأنه يقع في القلب تعجب من أنه كيف يمكن بقاء الانسان في النار الشديدة أبد الآبادا فقيل هذا ليس بعجيب من الله لأنه القادر الغالب على جميع الممكنات يقدر على إزالة طبيعة النار ويقع في القلب أنه كريم رحيم فكيف يليق برحمته تعذيب هذا الشخص الضعيف إلى هذا الحد العظيم فقيل كما أنه رحيم فهو أيضا حكيم والحكمة تقتضي ذلك فان نظام العالم لا يبقى إلا بتهديد العصاة والتهديد الصادر منه لا بد وأن يكون مقرونا بالتحقيق صونا لكلامه عن الكذب فثبت أن ذكر هاتين الكلمتين ههنا في غاية الحسن

وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَة ٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً
اعلم أنه قد جرت عادة الله تعالى في هذا الكتاب الكريم بأن الوعد والوعيد يتلازمان في الذكر على سبيل الأغلب وفي الآية مسألتان
المسألة الأولى هذه الآية دالة على أن الايمان غير العمل لأنه تعالى عطف العمل على الايمان والمعطوف مغاير للمعطوف عليه قال القاضي متى ذكر لفظ الايمان وحده دخل فيه العمل ومتى ذكر معه العمل كان الايمان هو التصديق وهذا بعيد لأن الأصل عدم الاشتراك وعدم التغير ولولا أن الأمر كذلك لخرج القرآن عن كونه مفيدا فلعل هذه الألفاظ التي نسمعها في القرآن يكون لكل واحد منها معنى سوى ما نعلمه ويكون مراد الله تعالى منه ذلك المعنى لا هذا الذي تبادرت أفهامنا اليه هذا على القول بأن احتمال الاشتراك والافراد على السوية وأما على القول بأن احتمال البقاء على الأصل واحتمال التغيير متساويان فلا لأن على هذا التقدير يحتمل أن يقال هذه الألفاظ كانت في زمان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) موضوعة لمعنى آخر غير ما نفهمه الآن ثم تغيرت إلى هذا الذي نفهمه الآن فثبت أن على هذين التقديرين يخرج القرآن عن كونه حجة وإذا ثبت أن الاشتراك والتغيير خلاف الأصل اندفع كلام القاضي
المسألة الثانية اعلم أنه تعالى ذكر في شرح ثواب المطيعين أمورا أحدها أنه تعالى يدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار وقال الزجاج المراد تجري من تحتها مياه الأنهار واعلم أنه إن جعل النهر اسما لمكان الماء كان الأمر مثل ما قاله الزجاج أما إن جعلناه في المتعارف اسما لذلك الماء فلا حاجة إلى هذا الاقمار وثانيها أنه تعالى وصفها بالخلود والتأبيد وفيه رد على جهم بن صفوان حيث يقول إن نعيم الجنة وعذاب النار ينقطعان وأيضا أنه تعالى ذكر مع الخلود التأبيد ولو كان الخلود عبارة عن التأبيد لزم التكرار وهو غير جائز فدل هذا أن الخلود ليس عبارة عن التأبيد بل هو عبارة عن طول المكث من غير بيان أنه منقطع أو غير منقطع وإذا ثبت هذا الأصل فعند هذا يبطل استدلال المعتزلة بقوله تعالى وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا ( النساء 93 ) على أن صاحب الكبيرة يبقى في النار على سبيل التأبيد لأنا بينا بدلالة هذه الآية أن الخلود لطول المكث لا للتأبيد وثالثها قوله تعالى لَّهُمْ فِيهَا أَزْواجٌ مُّطَهَّرَة ٌ والمراد طهارتهن من الحيض والنفاس وجميع أقذار الدنيا ونظيره قوله تعالى في سورة البقرة لَّهُمْ فِيهَا أَزْواجٌ مُّطَهَّرَة ٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ واللطائف اللائقة بهذا الموضع قد ذكرناها في تلك الآية ورابعها قوله وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً قال الواحدي الظليل ليس ينبىء عن الفعل حتى يقال إنه بمعنى فاعل أو مفعول بل هو مبالغة في نعت الظل مثل قولهم ليل أليل
واعلم أن بلاد العرب كانت في غاية الحرارة فكان الظل عندهم أعظم أسباب الراحة ولهذا المعنى جعلوه كناية عن الراحة قال عليه الصلاة السلام ( السلطان ظل الله في الأرض ) فاذا كان الظل عبارة عن الراحة كان الظليل كناية عن المبالغة العظيمة في الراحة هذا ما يميل اليه خاطري وبهذا الطريق يندفع سؤال من يقول إذا لم يكن في الجنة شمس تؤذي بحرها فما فائدة وصفها بالظل الظليل وأيضاً نرى في الدنيا أن المواضع التي يدوم الظل فيها ولا يصل نور الشمس اليها يكون هواؤها عفنا فاسدا مؤذيا فما معنى وصف هواء الجنة بذلك لأن على هذا الوجه الذي لخصناه تندفع هذه الشبهات

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الاحَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً
اعلم انه سبحانه لما شرح بعض أحوال الكفار وشرح وعيده عاد إلى ذكر التكاليف مرة أخرى وأيضا لما حكى عن أهل الكتاب أنهم كتموا الحق حيث قالوا للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا أمر المؤمنين في هذه الآية بأداء الأمانات في جميع الأمور سواء كانت تلك الأمور من باب المذاهب والديانات أو من باب الدنيا والمعاملات وأيضا لما ذكر في الآية السابقة الثواب العظيم للذين آمنوا وعملوا الصالحات وكان من أجل الأعمال الصالحة الأمانة لا جرم أمر بها في هذه الآية وفي الآية مسائل
المسألة الأولى روي أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لما دخل مكة يوم الفتح أغلق عثمان بن طلحة بن عبد الدار وكان سادن الكعبة باب الكعبة وصعد السطح وأبى أن يدفع المفتاح اليه وقال لو علمت أنه رسول الله لم أمنعه فلوى علي بين أبي طالب رضي الله عنه يده وأخذه منه وفتح ودخل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وصلى ركعتين فلما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح ويجمع له السقاية والسدانة فنزلت هذه الآية فأمر علياً أن يرده إلى عثمان ويعتذر اليه فقال عثمان لعلي أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فهبط جبريل عليه السلام وأخبر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أن السدانة في أولاد عثمان أبدا فهذا قول سعيد بن المسيب ومحمد بن اسحق وقال أبو روق قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لعثمان أعطني المفتاح فقال هاك بامانة الله فلما أراد أن يتناوله ضم يده فقال الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك مرة ثانية ان كنت تؤمن بالله واليوم الآخر فأعطني المفتاح فقال هاك بامانة الله فلما أراد أن يتناوله ضم يده فقال الرسول عليه الصلاة والسلام ذلك مرة ثالثة فقال عثمان في الثالثة هاك بامانة الله ودفع إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يطوف ومعه المفتاح وأراد أن يدفعه إلى العباس ثم قال يا عثمان خذ المفتاح على أن للعباس نصيبا معك فأنزل الله هذه الآية فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لعثمان ( هاك خالدة تالدة لا ينزعها منك إلا ظالم ) ثم ان عثمان هاجر ودفع المفتاح إلى أخيه شيبة فهو في ولده اليوم
المسألة الثانية اعلم أن نزول هذه الآية عند هذه القصة لا يوجب كونها مخصوصة بهذه القضية بل يدخل فيه جميع أنواع الأمانات واعلم أن معاملة الانسان اما أن تكون مع ربه أو مع سائر العباد أو مع نفسه ولا بد من رعاية الامانة في جميع هذه الأقسام الثلاثة
أما رعاية الامانة مع الرب فهي في فعل المأمورات وترك المنهيات وهذا بحر لا ساحل له قال ابن مسعود الامانة في كل شيء لازمة في الوضوء والجنابة والصلاة والزكاة والصوم وقال ابن عمر رضي الله عنهما إنه تعالى خلق فرج الانسان وقال هذا أمانة خبأتها عندك فاحفظها إلا بحقها واعلم أن هذا باب واسع فأمانة اللسان أن لا يستعمله في الكذب والغيبة والنميمة والكفر والبدعة والفحش وغيرها وأمانة العين أن لا يستعملها في النظر إلى الحرام وأمانة السمع أن لا يستعمله في سماع الملاهي والمناهي وسماع الفحش والأكاذيب وغيرها وكذا القول في جميع الأعضاء
وأما القسم الثاني وهو رعاية الأمانة مع سائر الخلق فيدخل فيها رد الودائع ويدخل فيه ترك التطفيف

في الكيل والوزن ويدخل فيه أن لا يفشي على الناس عيوبهم ويدخل فيه عدل الأمراء مع رعيتهم وعدل العلماء مع العوام بأن لا يحملوهم على التعصبات الباطلة بل يرشدونهم إلى اعتقادات وأعمال تنفعهم في دنياهم وأخراهم ويدخل فيه نهي اليهود عن كتمان أمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ونهيهم عن قولهم للكفار ان ما أنتم عليه أفضل من دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ويدخل فيه أمر الرسول عليه الصلاة والسلام برد المفتاح إلى عثمان بن طلحة ويدخل فيه أمانة الزوجة للزوج في حفظ فرجها وفي أن لا تلحق بالزوج ولدا يولد من غيره وفي اخبارها عن انقضاء عدتها
وأما القسم الثالث وهو أمانة الانسان مع نفسه فهو أن لا يختار لنفسه إلا ما هو الأنفع والاصلح له في الدين والدنيا وأن لا يقدم بسبب الشهوة والغضب على ما يضره في الآخرة ولهذا قال عليه الصلاة والسلام ( كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ) فقوله إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الاحمَانَاتِ يدخل فيه الكل وقد عظم الله أمر الامانة في مواضع كثيرة من كتابه فقال إِنَّا عَرَضْنَا الاْمَانَة َ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ ( الأحزاب 72 ) وقال وَالَّذِينَ هُمْ لاِمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ ( المؤمنون 8 ) وقال وَلاَ تَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ ( الأنفال 27 ) وقال عليه الصلاة والسلام ( لا أيمان لمن لا أمانة له وقال ميمون بن مهران ثلاثة يؤدين إلى البر والفاجر الامانة والعهد وصلة الرحم وقال القاضي لفظ الامانة وان كان متناولا للكل إلا أنه تعالى قال في هذه الآية وقال ميمون بن مهران ثلاثة يؤدين إلى البر والفاجر الامانة والعهد وصلة الرحم وقال القاضي لفظ الامانة وان كان متناولا للكل إلا أنه تعالى قال في هذه الآية إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الاحمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا فوجب أن يكون المراد بهذه الامانة ما يجري مجرى المال لأنها هي التي يمكن أداؤها إلى الغير
المسألة الثالثة الامانة مصدر سمي به المفعول ولذلك جمع فانه جعل اسما خالصا قال صاحب ( الكشاف ) قرىء الاْمَانَة َ على التوحيد
المسألة الرابعة قال أبو بكر الرازي من الامانات الودائع ويجب ردها عند الطلب والأكثرون على أنها غير مضمونة وعن بعض السلف أنها مضمونة روى الشعبي عن أنس قال استحملني رجل بضاعة فضاعت من بين ثيابي فضمنني عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعن أنس قال كان لانسان عندي وديعة ستة آلاف درهم فذهبت فقال عمر ذهب لك معها شيء قلت لا فألزمني الضمان وحجة القول المشهور ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا ضمان على راع ولا على مؤتمن ) وأما فعل عمر فهو محمول على أن المودع اعترف بفعل يوجب الضمان
المسألة الخامسة قال الشافعي رضي الله تعالى عنه العارية مضمونة بعد الهلاك وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه غير مضمونة حجة الشافعي قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الاحمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وظاهر الأمر للوجوب وبعد هلاكها تعذر ردها بصورتها ورد ضمانها ردها بمعناها فكانت الآية دالة على وجوب التضمين ونظير هذه الآية قوله عليه الصلاة والسلام ( على اليد ما أخذت حتى تؤديه ) أقصى ما في الباب أن الآية مخصوصة في الوديعة لكن العام بعد التخصيص حجة وأيضاً فلأنا أجمعنا على أن المستام مضمون وأن المودع غير مضمون والعارية وقعت في البين فنقول المشابهة بين العارية وبين المستام

أكثر لأن كل واحد منهما أخذه الأجنبي لغرض نفسه بخلاف المودع فانه أخذ الوديعة لغرض المالك فكانت المشابهة بين المستعار وبين المستام أتم فظهر الفرق بين المستعار وبين المودع حجة أبي حنيفة قوله عليه الصلاة والسلام ( لا ضمان على مؤتمن )
قلنا إنه مخصوص في المستام فكذا في العارية ولأن دليلنا ظاهر القرآن وهو أقوى
قوله تعالى وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً
وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن الامانة عبارة عما إذا وجب لغيرك عليك حق فأديت ذلك الحق اليه فهذا هو الأمانة والحكم بالحق عبارة عما إذا وجب لانسان على غيره حق فأمرت من وجب عليه ذلك الحق بأن يدفعه إلى من له ذلك الحق ولما كان الترتيب الصحيح أن يبدأ الانسان بنفسه في جلب المنافع ودفع المضار ثم يشتغل بغيره لا جرم أنه تعالى ذكر الأمر بالامانة أولا ثم بعده ذكر الأمر بالحكم بالحق فما أحسن هذا الترتيب لأن أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط
المسألة الثانية أجمعوا على أن من كان حاكما وجب عليه أن يحكم بالعدل قال تعالى وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ والتقدير إن الله يأمركم إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل وقال إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإْحْسَانِ ( النحل 90 ) وقال وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وقال مَئَابٍ يادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَة ً فِى الاْرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقّ ( ص 26 ) وعن أنس عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( لا تزال هذه الأمة بخير ما إذا قالت صدقت وإذا حكمت عدلت وإذا استرحمت رحمت ) وعن الحسن قال ان الله أخذ على الحكام ثلاثا أن لا يتبعوا الهوى وأن يخشوه ولا يخشوا الناس ولا يشتروا بآياته ثمنا قليلا ثم قرأ مَئَابٍ يادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَة ً فِى الاْرْضِ إلى قوله وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى ( ص 26 ) وقرأ إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاة َ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ ( المائدة 44 ) إلى قوله وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً ( البقرة 41 ) ومما يدل على وجوب العدل الآيات الواردة في مذمة الظلم قال تعالى احْشُرُواْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْواجَهُمْ ( الصافات 22 ) وقال عليه الصلاة والسلام ( ينادي منادي يوم القيامة أين الظلمة وأين أعوان الظلمة فيجمعون كلهم حتى من برى لهم قلما أو لاق لهم دواة فيجمعون ويلقون في النار ) وقال أيضا وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ( إبراهيم 42 ) وقال فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَة ً بِمَا ظَلَمُواْ ( النمل 52 )
فان قيل الغرض من الظلم منفعة الدنيا
فأجاب الله عن السؤال بقوله لَمْ تُسْكَن مّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ ( القصص 58 )

المسألة الثالثة قال الشافعي رضي الله عنه ينبغي للقاضي أن يسوي بين الخصمين في خمسة أشياء في الدخول عليه والجلوس بين يديه والاقبال عليهما والاستماع منهما والحكم عليهما قال والمأخوذ عليه التسوية بينهما في الأفعال دون القلب فان كان يميل قلبه إلى أحدهما ويحب أن يغلب بحجته على الآخر فلا شيء عليه لأنه لا يمكنه التحرز عنه قال ولا ينبغي أن يلقن واحدا منهما حجته ولا شاهدا شهادته لأن ذلك يضر بأحد الخصمين ولا يلقن المدعي الدعوى والاستحلاف ولا يلقن المدعي عليه الانكار والاقرار ولا يلقن الشهود أن يشهدوا أو لا يشهدوا ولا ينبغي أن يضيف أحد الخصمين دون الآخر لأن ذلك يكسر قلب الآخر ولا يجيب هو إلى ضيافة أحدهما ولا إلى ضيافتهما ما داما متخاصمين وروي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان لا يضيف الخصم الا وخصمه معه وتمام الكلام فيه مذكور في كتب الفقه وحاصل الأمر فيه أن يكون مقصود الحاكم بحكمه إيصال الحق إلى مستحقه وأن لا يمتزج ذلك بغرض آخر وذلك هو المراد بقوله وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ
المسألة الرابعة قوله وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ كالتصريح بأنه ليس لجميع الناس أن يشرعوا في الحكم بل ذلك لبعضهم ثم بقيت الآية مجملة في أنه بأي طريق يصير حاكما ولما دلت سائر الدلائل على أنه لا بد للامة من الامام الأعظم وأنه هو الذي ينصب القضاة والولاة في البلاد صارت تلك الدلائل كالبيان لما في هذه الآية من الاجمال
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ يَعِظُكُمْ بِهِ أي نعم شيء يعظكم به أو نعم الذي يعظكم به والمخصوص بالمدح محذوف أي نعم شيء يعظكم به ذاك وهو المأمور به من أداء الأمانات والحكم بالعدل
ثم قال إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً أي اعملوا بأمر الله ووعظه فانه أعلم بالمسموعات والمبصرات يجازيكم على ما يصدر منكم وفيه دقيقة أخرى وهي أنه تعالى لما أمر في هذه الآيات بالحكم على سبيل العدل وبأداء الأمانة قال إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً أي إذا حكمت بالعدل فهو سميع لكل المسموعات يسمع ذلك الحكم وإن أديت الأمانة فهو بصير لكل المبصرات يبصر ذلك ولا شك أن هذا أعظم أسباب الوعد للمطيع وأعظم أسباب الوعيد للعاصي وإليه الاشارة بقوله عليه الصلاة والسلام ( اعبد الله كأنك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك ) وفيه دقيقة أخرى وهي أن كلما كان احتياج العبد أشد كانت عناية الله أكمل والقضاة والولاة قد فوض الله إلى أحكامهم مصالح العباد فكان الاهتمام بحكمهم وقضائهم أشد فهو سبحانه منزه عن الغفلة والسهو والتفاوت في ابصار المبصرات وسماع المسموعات ولكن لو فرضنا أن هذا التفاوت كان ممكنا لكان أولى المواضع بالاحتراز عن الغفلة والنسيان هو وقت حكم الولاة والقضاة فلما كان هذا الموضع مخصوصا بمزيد العناية لا جرم قال في خاتمة هذه الآية إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً فما أحسن هذه المقاطع الموافقة لهذه المطالع

يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الاٌّ مْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَى ْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ ذالِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً
اعلم أنه تعالى لما أمر الرعاة والولاة بالعدل في الرعية أمر الرعية بطاعة الولاة فقال بَصِيراً يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ ولهذا قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه حق على الامام أن يحكم بما أنزل الله ويؤدي الأمانة فاذا فعل ذلك فحق على الرعية أن يسمعوا ويطيعوا وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قالت المعتزلة الطاعة موافقة الارادة وقال أصحابنا الطاعة موافقة الأمر لا موافقة الارادة لنا أنه لا نزاع في أن موافقة الأمر طاعة إنما النزاع أن المأمور به هل يجب أن يكون مراداً أم لا فاذا دللنا على أن المأمور به قد لا يكون مراداً ثبت حيئنذ أن الطاعة ليست عبارة عن موافقة الارادة وإنما قلنا إن الله قد يأمر بما لا يريد لأن علم الله وخبره قد تعلقا بأن الايمان لا يوجد من أبي لهب ألبتة وهذا العلم وهذا الخبر يمتنع زوالهما وانقلابهما جهلا ووجود الايمان مضاد ومناف لهذا العلم ولهذا الخبر والجمع بين الضدين محال فكان صدور الايمان من أبي لهب محالا والله تعالى عالم بكل هذه الأحوال فيكون عالما بكونه محالا والعالم بكون الشيء محالا لا يكون مريداً له فثبت أنه تعالى غير مريد للايمان من أبي لهب وقد أمره بالايمان فثبت أن الأمر قد يوجد بدون الارادة وإذا ثبت هذا وجب القطع بأن طاعة الله عبارة عن موافقة أمره لا عن موافقة إرادته وأما المعتزلة فقد احتجوا على أن الطاعة اسم لموافقة الارادة بقول الشاعر
رب من أنضجت غيظا صدره قد تمنى لي موتاً لم يطع
رتب الطاعة على التمني وهو من جنس الارادة
والجواب أن العاقل عالم بأن الدليل القاطع الذي ذكرناه لا يليق معارضته بمثل هذه الحجة الركيكة
المسألة الثانية اعلم أن هذه الآية آية شريفة مشتملة على أكثر علم أصول الفقه وذلك لأن الفقهاء زعموا أن أصول الشريعة أربع الكتاب والسنة والاجماع والقياس وهذه الآية مشتملة على تقرير هذه الأصول الأربعة بهذا الترتيب أما الكتاب والسنة فقد وقعت الاشارة إليهما بقوله أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ
فان قيل أليس أن طاعة الرسول هي طاعة الله فما معنى هذا العطف
قلنا قال القاضي الفائدة في ذلك بيان الدلالتين فالكتاب يدل على أمر الله ثم نعلم منه أمر الرسول لا محالة والسنة تدل على أمر الرسول ثم نعلم منه أمر الله لا محالة فثبت بما ذكرنا أن قوله أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ يدل على وجوب متابعة الكتاب والسنة

المسألة الثالثة اعلم أن قوله وَأُوْلِى الاْمْرِ مِنْكُمْ يدل عندنا على أن إجماع الأمة حجة والدليل على ذلك أن الله تعالى أمر بطاعة أولى الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية ومن أمر الله بطاعته على سبيل الجزم والقطع لا بد وأن يكون معصوما عن الخطأ إذ لو لم يكن معصوما عن الخطأ كان بتقدير إقدامه على الخطأ يكون قد أمر الله بمتابعته فيكون ذلك أمرا بفعل ذلك الخطأ والخطأ لكونه خطأ منهي عنه فهذا يفضي إلى اجتماع الأمر والنهي في الفعل الواحد بالاعتبار الواحد وانه محال فثبت أن الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم وثبت أن كل من أمر الله بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكون معصوما عن الخطأ فثبت قطعاً أن أولي الأمر المذكور في هذه الآية لا بد وأن يكون معصوما ثم نقول ذلك المعصوم إما مجموع الأمة أو بعض الأمة لا جائز أن يكون بعض الأمة لأنا بينا أن الله تعالى أوجب طاعة أولي الأمر في هذه الآية قطعاً وإيجاب طاعتهم قطعاً مشروط بكوننا عارفين بهم قادرين على الوصول اليهم والاستفادة منهم ونحن نعلم بالضرورة أنا في زماننا هذا عاجزون عن معرفة الامام المعصوم عاجزون عن الوصول اليهم عاجزون عن استفادة الدين والعلم منهم واذا كان الأمر كذلك علمنا أن المعصوم الذي أمر الله المؤمنين بطاعته ليس بعضا من أبعاض الأمة ولا طائفة من طوائفهم ولما بطل هذا وجب أن يكون ذلك المعصوم الذي هو المراد بقوله وَأُوْلِى الاْمْرِ أهل الحل والعقد من الأمة وذلك يوجب القطع بأن إجماع الأمة حجة
فان قيل المفسرون ذكروا في أُوْلِى الاْمْرِ وجوها أخرى سوى ما ذكرتم أحدها أن المراد من أولى الأمر الخلفاء الراشدون والثاني المراد أمراء السرايا قال سعيد بن جبير نزلت هذه الآية في عبدالله بن حذافة السهمي إذ بعثه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أميراً على سرية وعن ابن عباس أنها نزلت في خالد بن الوليد بعثه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أميرا على سرية وفيها عمار بن ياسر فجرى بينهما اختلاف في شيء فنزلت هذه الآية وأمر بطاعة أولي الأمر وثالثها المراد العلماء الذين يفتون في الأحكام الشرعية ويعلمون الناس دينهم وهذا رواية الثعلبي عن ابن عباس وقول الحسن ومجاهد والضحاك ورابعها نقل عن الروافض أن المراد به الأئمة المعصومون ولما كانت أقوال الأمة في تفسير هذه الآية محصورة في هذه الوجوه وكان القول الذي نصرتموه خارجا عنها كان ذلك باجماع الأمة باطلا
السؤال الثاني أن نقول حمل أولى الأمر على الأمراء والسلاطين أولي مما ذكرتم ويدل عليه وجوه الأول أن الامراء والسلاطين أوامرهم نافذة على الخلق فهم في الحقيقة أولو الأمر أما أهل الاجماع فليس لهم أمر نافذ على الخلق فكان حمل اللفظ على الأمراء والسلاطين أولى والثاني أن أول الآية وآخرها يناسب ما ذكرناه أما أول الآية فهو أنه تعالى أمر الحكام بأداء الأمانات وبرعاية العدل وأما آخر الآية فهو أنه تعالى أمر بالرد إلى الكتاب والسنة فيما أشكل وهذا إنما يليق بالأمراء لا بأهل الاجماع الثالث أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالغ في الترغيب في طاعة الأمراء فقال ( من أطاعني فقد أطاع الله ومن أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصاني فقد عصى الله ومن عصى أميري فقد عصاني ) فهذا ما يمكن ذكره من السؤال على الاستدلال الذي ذكرناه
والجواب أنه لا نزاع أن جماعة من الصحابة والتابعين حملوا قوله وَأُوْلِى الاْمْرِ مِنْكُمْ على

العلماء فاذا قلنا المراد منه جميع العلماء من أهل العقد والحل لم يكن هذا قولا خارجا عن أقوال الأمة بل كان هذا اختياراً لأحد أقوالهم وتصحيحا له بالحجة القاطعة فاندفع السؤال الأول وأما سؤالهم الثاني فهو مدفوع لأن الوجوه التي ذكروها وجوه ضعيفة والذي ذكرناه برهان قاطع فكان قولنا أولى على أنا نعارض تلك الوجوه بوجوه أخرى أقوى منها فأحدها أن الأمة مجمعة على أن الأمراء والسلاطين إنما يجب طاعتهم فيما علم بالدليل أنه حق وصواب وذلك الدليل ليس إلا الكتاب والسنة فحينئذ لا يكون هذا قسما منفصلا عن طاعة الكتاب والسنة وعن طاعة الله وطاعة رسوله بل يكون داخلا فيه كما أن وجوب طاعة الزوجة للزوج والولد للوالدين والتلميذ للأستاذ داخل في طاعة الله وطاعة الرسول أما إذا حملناه على الاجماع لم يكن هذا القسم داخلا تحتها لأنه ربما دل الاجماع على حكم بحيث لا يكون في الكتاب والسنة دلالة عليه فحينئذ أمكن جعل هذا القسم منفصلا عن القسمين الأولين فهذو أولى وثانيها أن حمل الآية على طاعة الأمراء يقتضي إدخال الشرط في الآية لأن طاعة الأمراء إنما تجب إذا كانوا مع الحق فاذا حملناه على الاجماع لا يدخل الشرط في الآية فكان هذا أولى وثالثها أن قوله من بعد فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَى ْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ مشعر باجماع مقدم يخالف حكمه حكم هذا التنازع ورابعها أن طاعة الله وطاعة رسوله واجبة قطعا وعندنا أن طاعة أهل الاجماع واجبة قطعا وأما طاعة الأمراء والسلاطين فغير واجبة قطعا بل الأكثر أنها تكون محرمة لأنهم لا يأمرون إلا بالظلم وفي الأقل تكون واجبة بحسب الظن الضعيف فكان حمل الآية على الاجماع أولى لأنه أدخل الرسول وأولي الأمر في لفظ واحد وهو قوله أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الاْمْرِ فكان حمل أولي الأمر الذي هو مقرون بالرسول على المعصوم أولى من حمله على الفاجر الفاسق وخامسها أن أعمال الأمراء والسلاطين موقوفة على فتاوي العلماء والعلماء في الحقيقة أمراء الأمراء فكان حمل لفظ أولي الأمر عليهم أولى وأما حمل الآية على الأئمة المعصومين على ما تقوله الروافض ففي غاية البعد لوجوه أحدها ما ذكرناه أن طاعتهم مشروطة بمعرفتهم وقدرة الوصول اليهم فلو أوجب علينا طاعتهم قبل معرفتهم كان هذا تكليف ما لا يطاق ولو أوجب علينا طاعتهم إذا صرنا عارفين بهم وبمذاهبهم صار هذا الايجاب مشروطا وظاهر قوله أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الاْمْرِ مِنْكُمْ يقتضي الاطلاق وأيضا ففي الآية ما يدفع هذا الاحتمال وذلك لأنه تعالى أمر بطاعة الرسول وطاعة أولي الأمر في لفظة واحدة وهو قوله وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الاْمْرِ مِنْكُمْ واللفظة الواحدة لا يجوز أن تكون مطلقة ومشروطة معا فلما كانت هذه اللفظة مطلقة في حق الرسول وجب أن تكون مطلقة في حق أولي الأمر الثاني أنه تعالى أمر بطاعة أولي الأمر وأولو الأمر جمع وعندهم لا يكون في الزمان إلا إمام واحد وحمل الجمع على الفرد خلاف الظاهر وثالثها أنه قال فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَى ْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ولو كان المراد بأولي الأمر الامام المعصوم لوجب أن يقال فان تنازعتم في شيء فردوه إلى الامام فثبت أن الحق تفسير الآية بما ذكرناه
المسألة الرابعة اعلم أن قوله فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَى ْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ يدل عندنا على أن القياس حجة والذي يدل على ذلك أن قوله فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَى ْء إما أن يكون المراد فان اختلفتم في شيء حكمه منصوص عليه في الكتاب أو السنة أو الاجماع أو المراد فان اختلفتم في شيء حكمه غير منصوص عليه في شيء من هذه الثلاثة والأول باطل لأن على ذلك التقدير وجب عليه طاعته فكان ذلك

داخلا تحت قوله أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الاْمْرِ مِنْكُمْ وحينئذ يصير قوله فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَى ْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إعادة لعين ما مضى وإنه غير جائز وإذا بطل هذا القسم تعين الثاني وهو أن المراد فان تنازعتم في شيء حكمه غير مذكور في الكتاب والسنة والاجماع واذا كان كذلك لم يكن المراد من قوله فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ طلب حكمه من نصوص الكتاب والسنة فوجب أن يكون المراد رد حكمه إلى الأحكام المنصوصة في الوقائع المشابهة له وذلك هو القياس فثبت أن الآية دالة على الأمر بالقياس
فان قيل لم لا يجوز أن يكون المراد بقوله فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ أي فوضوا علمه إلى الله واسكتوا عنه ولا تتعرضوا له وأيضاً فلم لا يجوز ان يكون المراد فردوا غير المنصوص إلى المنصوص في أنه لا يحكم فيه إلا بالنص وأيضا لم يجوز أن يكون المراد فردوا هذه الأحكام إلى البراءة الأصلية
قلنا أما الأول فمدفوع وذلك لأن هذه الآية دلت على أنه تعالى جعل الوقائع قسمين منها ما يكون حكمها منصوصا عليه ومنها ما لا يكون كذلك ثم أمر في القسم الأول بالطاعة والانقياد وأمر في القسم الثاني بالرد إلى الله وإلى الرسول ولا يجوز أن يكون المراد بهذا الرد السكوت لأن الواقعة ربما كانت لا تحتمل ذلك بل لا بد من قطع الشغب والخصومة فيها بنفي أو إثبات واذا كان كذلك امتنع حمل الرد إلى الله على السكوت عن تلك الواقعة وبهذا الجواب يظهر فساد السؤال الثالث
وأما السؤال الثاني فجوابه أن البراءة الأصلية معلومة بحكم العقل فلا يكون رد الواقعة اليها ردا إلى الله بوجه من الوجوه أما إذا رددنا حكم الواقعة إلى الأحكام المنصوص عليها كان هذا ردا للواقعة على أحكام الله تعالى فكان حمل اللفظ على هذا الوجه أولى
المسألة الخامسة هذه الآية دالة على أن الكتاب والسنة مقدمان على القياس مطلقا فلا يجوز ترك العمل بهما بسبب القياس ولا يجوز تخصيصهما بسبب القياس ألبتة سواء كان القياس جليا أو خفيا سواء كان ذلك النص مخصوصا قبل ذلك أم لا ويدل عليه أنا بينا أن قوله تعالى أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ أمر بطاعة الكتاب والسنة وهذا الأمر مطلق فثبت أن متابعة الكتاب والسنة سواء حصل قياس يعارضهما أو يخصصهما أو لم يوجد واجبة ومما يؤكد ذلك وجوه أخرى أحدها أن كلمة ( ان ) على قول كثير من الناس للاشتراط وعلى هذا المذهب كان قوله فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَى ْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ صريح في أنه لا يجوز العدول إلى القياس إلا عند فقدان الأصول الثاني انه تعالى أخر ذكر القياس عن ذكر الأصول الثلاثة وهذا مشعر بأن العمل به مؤخر عن الأصول الثلاثة الثالث أنه ( صلى الله عليه وسلم ) اعتبر هذا الترتيب في قصة معاذ حيث أخر الاجتهاد عن الكتاب وعلق جوازه على عدم وجدان الكتاب والسنة بقوله ( فان لم تجد ) الرابع انه تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم حيث قال وَإِذَا قُلْنَا لِلْمَلَائِكَة ِ اسْجُدُواْ لآِدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ ( البقرة 34 ) ثم إن إبليس لم يدفع هذا النص بالكلية بل خصص نفسه عن ذلك العموم بقياس هو قوله خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ( الأعراف 12 ) ثم أجمع العقلاء على أنه جعل القياس مقدما على النص وصار بذلك السبب ملعونا وهذا يدل على أن تخصيص النص بالقياس تقديم للقياس على النص وانه غير جائز الخامس أن القرآن مقطوع في متنه لأنه ثبت بالتواتر والقياس ليس كذلك بل هو مظنون من جميع الجهات والمقطوع

راجح على المظنون السادس قوله تعالى وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( المائدة 45 ) وإذا وجدنا عموم الكتاب حاصلا في الواقعة ثم انا لا نحكم به بل حكمنا بالقياس لزم الدخول تحت هذا العموم السابع قوله تعالى عَظِيماً ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَى ِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ( الجمرات 1 ) فاذا كان عموم القرآن حاضر ثم قدمنا القياس المخصص لزم التقديم بين يدي الله ورسوله الثامن قوله تعالى سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللَّهُ ( الأنعام 148 ) إلى قوله إِن يَتَّبِعُونَ إِلَى الظَّنّ ( النجم 23 28 ) جعل اتباع الظن من صفات الكفار ومن الموجبات القوية في مذمتهم فهذا يقتضي أن لا يجوز العمل بالقياس ألبتة ترك هذا النص لما بينا أنه يدل على جواز العمل بالقياس لكنه إنما دل على ذلك عند فقدان النصوص فوجب عند وجدانها أن يبقى على الأصل التاسع انه روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( إذا روي عني حديث فاعرضوه على كتاب الله فان وافقه فاقبلوه وإلا ذروه ) ولا شك ان الحديث أقوى من القياس فاذا كان الحديث الذي لا يوافقه الكتاب مردوداً فالقياس أولى به العاشر ان القرآن كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد والقياس يفرق عقل الانسان الضعيف وكل من له عقل سليم علم أن الأول أقوى بالمتابعة وأحرى
المسألة السادسة هذه الآية دالة على أن ما سوى هذه الأصول الأربعة أعني الكتاب والسنة والاجماع والقياس مردود باطل وذلك لأنه تعالى جعل الوقائع قسمين أحدهما ما تكون أحكامها منصوصة عليها وأمر فيها بالطاعة وهو قوله بَصِيراً يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الاْمْرِ مِنْكُمْ والثاني ما لا تكون أحكامها منصوصة عليها وأمر فيها بالاجتهاد وهو قوله فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَى ْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ فاذا كان لا مزيد على هذين القسمين وقد أمر الله تعالى في كل واحد منهما بتكليف خاص معين دل ذلك على أنه ليس للمكلف أن يتمسك بشيء سوى هذه الأصول الأربعة وإذا ثبت هذا فنقول القول بالاستحسان الذي يقول به أبو حنيفة رضي الله عنه والقول بالاستصلاح الذي يقول به مالك رحمه الله إن كان المراد به أحد هذه الأمور الأربعة فهو تغيير عبارة ولا فائدة فيه وإن كان مغايراً لهذه الأربعة كان القول به باطلا قطعاً لدلالة هذه الآية على بطلانه كما ذكرنا
المسألة السابعة زعم كثير من الفقهاء أن قوله تعالى أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ يدل على أن ظاهر الأمر للوجوب واعترض المتكلمون عليه فقالوا قوله أَطِيعُواْ اللَّهَ فهذا لا يدل على الايجاب إلا إذا ثبت أن الأمر للوجوب وهذا يقتضي افتقار الدليل إلى المدلول وهو باطل وللفقهاء أن يجيبوا عنه من وجهين الأول أن الأوامر الواردة في الوقائع المخصوصة دالة على الندبية فقوله أَطِيعُواْ لو كان معناه أن الاتيان بالمأمورات مندوب فحينئذ لا يبقى لهذه الآية فائدة لأن مجرد الندبية كان معلوما من تلك الأوامر فوجب حملها على إفادة الوجوب حتى يقال ان الأوامر دلت على أن فعل تلك المأمورات أولى من تركها وهذه الآية دلت على المنع من تركها فحينئذ يبقى لهذه الآية فائدة والثاني أنه تعالى ختم الآية بقوله إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وهو وعيد فكما أن احتمال اختصاصه بقوله فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ قائم فكذلك احتمال عوده إلى الجملتين أعني قوله أَطِيعُواْ اللَّهَ وقوله فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ قائم ولا شك أن الاحتياط فيه وإذا حكمنا بعود ذلك الوعيد إلى الكل صار قوله أَطِيعُواْ اللَّهَ موجبا للوجوب فثبت أن هذه الآية دالة

على أن ظاهر الامر للوجوب ولا شك أنه أصل معتبر في الشرع
المسألة الثامنة اعلم أن المنقول عن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) اما القول واما الفعل أما القول فيجب إطاعته لقوله تعالى أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وأما الفعل فيجب على الأمة الاقتداء به إلا ما خصه الدليل وذلك لأنا بينا ان قوله أَطِيعُواْ يدل على أن أوامر الله للوجوب ثم انه تعالى قال في آية أخرى في صفة محمد عليه الصلاة والسلام فَاتَّبَعُوهُ وهذا أمر فوجب أن يكون للوجوب فثبت أن متابعته واجبة والمتابعة عبارة عن الاتيان بمثل فعل الغير لأجل أن ذلك الغير فعله فثبت ان قوله أَطِيعُواْ اللَّهَ يوجب الاقتداء بالرسول في كل أفعاله وقوله وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ يوجب الاقتداء به في جميع أقواله ولا شك أنهما أصلان معتبران في الشريعة
المسألة التاسعة اعلم أن ظاهر الأمر وان كان في أصل الوضع لا يفيد التكرار ولا الفور إلا أنه في عرف الشرع يدل عليه ويدل عليه وجوه الأول ان قوله أَطِيعُواْ اللَّهَ يصح منه استثناء أي وقت كان وحكم الاستثناء اخراج ما لولاه لدخل فوجب أن يكون قوله أَطِيعُواْ اللَّهَ متناولا لكل الأوقات وذلك يقتضي التكرار والتكرار يقتضي الفور الثاني انه لو لم يفد ذلك لصارت الآية مجملة لأن الوقت المخصوص والكيفية المخصوصة غير مذكورة أما لو حملناه على العموم كانت الآية مبينة وحمل كلام الله على الوجه الذي يكون مبينا أولى من حمله على الوجه الذي به يصير مجملا مجهولا أقصى ما في الباب أنه يدخله التخصيص والتخصيص خير من الاجمال الثالث ان قوله أَطِيعُواْ اللَّهَ أضاف لفظ الطاعة إلى لفظ الله فهذا يقتضي أن وجوب الطاعة علينا له إنما كان لكوننا عبيدا له ولكونه إلها فثبت من هذا الوجه ان المنشأ لوجوب الطاعة هو العبودية والربوبية وذلك يقتضي دوام وجوب الطاعة على جميع المكلفين إلى قيام القيامة وهذا أصل معتبر في الشرع
المسألة العاشرة انه قال أَطِيعُواْ اللَّهَ فأفرده في الذكر ثم قال وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الاْمْرِ مِنْكُمْ وهذا تعليم من الله سبحانه لهذا الأدب وهو أن لا يجمعوا في الذكر بين اسمه سبحانه وبين اسم غيره وأما إذا آل الأمر إلى المخلوقين فيجوز ذلك بدليل انه قال وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الاْمْرِ مِنْكُمْ وهذا تعليم لهذا الأدب ولذلك روي أن واحدا ذكر عند الرسول عليه الصلاة والسلام وقال من أطاع الله والرسول فقد رشد ومن عصاهما فقد غوى فقال عليه الصلاة والسلام ( بئس الخطيب أنت هلا قلت من عصى الله وعصى رسوله ) أو لفظ هذا معناه وتحقيق القول فيه أن الجمع بين الذكرين في اللفظ يوهم نوع مناسبة ومجانسة وهو سبحانه متعال عن ذلك
المسألة الحادية عشرة قد دللنا على أن قوله وَأُوْلِى الاْمْرِ مِنْكُمْ يدل على أن الاجماع حجة فنقول كما أنه دل على هذا الأصل فكذلك دل على مسائل كثيرة من فروع القول بالاجماع ونحن نذكر بعضها
الفرع الأول مذهبنا أن الاجماع لا ينعقد إلا بقول العلماء الذين يمكنهم استنباط أحكام الله من نصوص الكتاب والسنة وهؤلاء هم المسمون بأهل الحل والعقد في كتب أصول الفقه نقول الآية دالة عليه لأنه تعالى أوجب طاعة أولي الأمر والذين لهم الأمر والنهي في الشرع ليس إلا هذا الصنف من العلماء

لأن المتكلم الذي لا معرفة له بكيفية استنباط الأحكام من النصوص لا اعتبار بأمره ونهيه وكذلك المفسر والمحدث الذي لا قدرة له على استنباط الأحكام من القرآن والحديث فدل على ما ذكرناه فلما دلت الآية على أن اجماع أولي الأمر حجة علمنا دلالة الآية على أن ينعقد الاجماع بمجرد قول هذه الطائفة من العلماء وأما دلالة الآية على أن العامي غير داخل فيه فظاهر لأنه من الظاهر أنهم ليسوا من أولي الأمر
الفرع الثاني اختلفوا في أن الاجماع الحاصل عقيب الخلاف هل هو حجة والأصح أنه حجة والدليل عليه هذه الآية وذلك لأنا بينا أن قوله وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الاْمْرِ مِنْكُمْ يقتضي وجوب طاعة جملة أهل الحل والعقد من الأمة وهذا يدخل فيه ما حصل بعد الخلاف وما لم يكن كذلك فوجب أن يكون الكل حجة
الفرع الثالث اختلفوا في أن انقراض أهل العصر هل هو شرط والأصح أنه ليس بشرط والدليل عليه هذه الآية وذلك لأنها تدل على وجوب طاعة المجمعين وذلك يدخل فيه ما إذا انقرض العصر وما إذا لم ينقرض
الفرع الرابع دلت الآية على أن العبرة باجماع المؤمنين لأنه تعالى قال في أول الآية ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثم قال وَأُوْلِى الاْمْرِ مِنْكُمْ فدل هذا على أن العبرة باجماع المؤمنين فأما سائر الفرق الذين يشك في إيمانهم فلا عبرة بهم
المسألة الثانية عشرة ذكرنا أن قوله فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَى ْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ يدل على صحة العمل بالقياس فنقول كما أن هذه الآية دلت على هذا الأصل فكذلك دلت على مسائل كثيرة من فروع القول بالقياس ونحن نذكر بعضها
الفرع الأول قد ذكرنا أن قوله فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ معناه فردوه إلى واقعة بين الله حكمها ولا بد وأن يكون المراد فردوها إلى واقعة تشبهها إذ لو كان المراد بردها ردها إلى واقعة تخالفها في الصورة والصفة فحينئذ لم يكن ردها إلى بعض الصور أولى من ردها إلى الباقي وحينئذ يتعذر الرد فعلمنا أنه لا بد وأن يكون المراد فردوها إلى واقعة تشبهها في الصورة والصفة ثم إن هذا المعنى الذي قلناه يؤكد بالخبر والأثر أما الخبر فانهم لما سألوه ( صلى الله عليه وسلم ) عن قبلة الصائم فقال عليه الصلاة والسلام ( أرأيت لو تمضمضت ) يعني المضمضة مقدمة الأكل كما أن القبلة مقدمة الجماع فكما أن تلك المضمضة لم تنقض الصوم فكذا القبلة ولما سألته الخثعمية عن الحج فقال عليه الصلاة والسلام أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته هل يجزى فقالت نعم قال عليه الصلاة والسلام فدين الله أحق بالقضاء ) وأما الأثر فما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال اعرف الأشباه والنظائر وقس الأمور برأيك فدل مجموع ما ذكرناه من دلالة هذه الآية ودلالة الخبر ودلالة الأثر على أن قوله فَرُدُّوهُ أمر برد الشيء إلى شبيهة واذا ثبت هذا فقد جعل الله المشابهة في الصورة والصفة دليلا على أن الحكم في غير محل النص مشابه للحكم في محل النص وهذا هو الذي يسميه الشافعي رحمه الله قياس الأشباه ويسميه أكثر الفقهاء قياس الطرد ودلت هذه الآية على صحته لأنه لما ثبت بالدليل أن المراد من قوله فَرُدُّوهُ هو أنه ردوه إلى شبيهه علمنا أن الأصل المعول عليه في باب القياس محض المشابهة وهذا بحث فيه طول ومرادنا بيان كيفية استنباط المسائل من الآيات فأما

الاستقصاء فيها فمذكور في سائر الكتب
الفرع الثاني دلت الآية على أن شرط الاستدلال بالقياس في المسألة أن لا يكون فيها نص من الكتاب والسنة لأن قوله فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَى ْء فَرُدُّوهُ مشعر بهذا الاشتراط
الفرع الثالث دلت الآية على أنه إذا لم يوجد في الواقعة نص من الكتاب والسنة والاجماع جاز استعمال القياس فيه كيف كان وبطل به قول من قال لا يجوز استعمال القياس في الكفارات والحدود وغيرهما لأن قوله فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَى ْء عام في كل واقعة لا نص فيها
الفرع الرابع دلت الآية على أن من أثبت الحكم في صورة بالقياس فلا بد وأن يقيسه على صورة ثبت الحكم فيها بالنص ولا يجوز أن يقيسه على صورة ثبت الحكم فيها بالقياس لأن قوله فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ظاهره مشعر بأنه يجب رده إلى الحكم الذي ثبت بنص الله ونص رسوله
الفرع الخامس دلت الآية على أن القياس على الأصل الذي ثبت حكمه بالقرآن والقياس على الأصل الذي ثبت حكمه بالسنة إذا تعارضا كان القياس على القرآن مقدما على القياس على الخبر لأنه تعالى قدم الكتاب على السنة في قوله وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وفي قوله فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ وكذلك في خبر معاذ
الفرع السادس دلت الآية على أنه إذا تعارض قياسان أحدهما تأيد بايماء في كتاب الله والآخر تأيد بايماء خبر من أخبار رسول الله فان الأول مقدم على الثاني يعني كما ذكرناه في الفرع الخامس فهذه المسائل الأصولية استنبطناها من هذه الآية في أقل من ساعتين ولعل الانسان إذا استعمل الفكر على الاستقصاء أمكنه استنباط أكثر مسائل أصول الفقه من هذه الآية
المسألة الثالثة عشرة قوله وَأُوْلِى الاْمْرِ معناه ذوو الأمر وأولو جمع وواحده ذو على غير القياس كالنساء والابل والخيل كلها أسماء للجمع ولا واحد له في اللفظ
المسألة الرابعة عشرة قوله فَإِن تَنَازَعْتُمْ قال الزجاج اختلفتم وقال كل فريق القول قولي واشتقاق المنازعة من النزع الذي هو الجذب والمنازعة عبارة عن مجاذبة كل واحد من الخصمين لحجة مصححة لقوله أو محاولة جذب قوله ونزعه إياه عما يفسده
ثم قال تعالى إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وفيه مسألتان
المسألة الأولى هذا الوعيد يحتمل أن يكون عائدا إلى قوله أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وإلى قوله فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ والله أعلم
المسألة الثانية ظاهر قوله إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ يقتضي أن من لم يطع الله والرسول لا يكون مؤمنا وهذا يقتضي أن يخرج المذنب عن الايمان لكنه محمول على التهديد
ثم قال تعالى ذالِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً أي ذلك الذي أمرتكم به في هذه الآية خير لكم وأحسن عاقبة لكم لأن التأويل عبارة عما اليه مآل الشيء ومرجعه وعاقبته

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالاً بَعِيداً وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً
اعلم أنه تعالى لما أوجب في الآية الاولى على جميع المكلفين أن يطيعوا الله ويطيعوا الرسول ذكر في هذه الآية أن المنافقين والذين في قلوبهم مرض لا يطيعون الرسول ولا يرضون بحكمه وانما يريدون حكم غيره وفي الآية مسائل
المسألة الأولى الزعم والزعم لغتان ولا يستعملان في الاكثر الا في القول الذي لا يتحقق قال الليث أهل العربية يقولون زعم فلان إذا شكوا فيه فلم يعرفوا أكذب أو صدق فكذلك تفسير قوله هَاذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ أي بقولهم الكذب قال الاصمعي الزعوم من الغنم التي لا يعرفون أبها شحم أم لا وقال ابن الاعربي الزعم يستعمل في الحق وأنشد لأمية بن الصلت
واني أدين لكم أنه سينجزكم ربكم ما زعم
اذا عرفت هذا فنقول الذي في هذه الآية المراد به الكذب لأن الآية نزلت في المنافقين
المسألة الثانية ذكروا في أسباب النزول وجوها الأول قال كثير من المفسرين نازع رجل من المنافقين رجلا من اليهود فقال اليهودي بيني وبينك أبو القاسم وقال المنافق بيني وبينك كعب بن الاشرف والسبب في ذلك أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) كان يقضي بالحق ولا يلتفت الى الرشوة وكعب بن الاشرف كان يديد الرغبة في الرشوة واليهودي كان محقا والمنافق كان مبطلا فلهذا المعنى كان اليهودي يريد التحاكم الى الرسول والمنافق كان يريد كعب بن الاشرف ثم أصر اليهودي على قوله فذهبا اليه ( صلى الله عليه وسلم ) فحكم الرسول عليه الصلاة والسلام لليهودي على المنافق فقال المنافق لا أرضى انطلق بنا الى أبي بكر فحكم أبو بكر رضي الله عنه لليهودي فلم يرض المنافق وقال المنافق بيني وبينك عمر فصارا الى عمر فأخبره اليهودي أن الرسول عليه الصلاة والسلام وأبا بكر حكما على المنافق فلم يرض بحكمهما فقال للمنافق أهكذا فقال نعم قال اصبرا إن لي حاجة أدخل فأقضيها وأخرج اليكما فدخل فأخذ سيفه ثم خرج اليهما فضرب به المنافق حتى برد وهرب اليهودي فجاء أهل المنافق فشكوا عمر إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فسأل عمر عن قصته فقال عمر إنه رد حكمك يا رسول الله فجاء جبريل عليه السلام في الحال وقال انه الفاروق فرق بين الحق والباطل فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لعمر ( أنت الفاروق ) وعلى هذا القول الطاغوت هو كعب بن الأشرف

الرواية الثانية في سبب نزول هذه الآية أنه أسلم ناس من اليهود ونافق بعضهم وكانت قريظة والنضير في الجاهلية إذا قتل قرظي نضريا قتل به وأخذ منه دية مائة وسق من تمر وإذا قتل نضري قرظيا لم يقتل به لكن أعطي ديته ستين وسقا من التمر وكان بنو النضير أشرف وهم حلفاء الأوس وقريظة حلفاء الخزرج فلما هاجر الرسول عليه الصلاة والسلام إلى المدينة قتل نضري قرظيا فاختصما فيه فقالت بنو النضير لا قصاص علينا إنما علينا ستون وسقا من تمر على ما اصطلحنا عليه من قبل وقالت الخزرج هذا حكم الجاهلية ونحن وأنتم اليوم إخوة وديننا واحد ولا فضل بيننا فأبي بنو النضير ذلك فقال المنافقون انطلقوا إلى أبي بردة الكاهن الأسلمي وقال المسلمون بل الى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأبى المنافقون وانطلقوا إلى الكاهن ليحكم بينهم فأنزل الله تعالى هذه الآية ودعا الرسول عليه الصلاة والسلام الكاهن إلى الإسلام فأسلم هذا قول السدي وعلى هذا القول الطاغوت هو الكاهن
الرواية الثالثة قال الحسن ان رجلا من المسلمين كان له على رجل من المنافقين حق فدعاه المنافق إلى وثن كان أهل الجاهلية يتحاكمون اليه ورجل قائم يترجم الأباطيل عن الوثن فالمراد بالطاغوت هو ذلك الرجل
الرواية الرابعة كانوا يتحاكمون إلى الأوثان وكان طريقهم أنهم يضربون القداح بحضرة الوثن فما خرج على القداح عملوا به وعلى هذا القول فالطاغوت هو الوثن
واعلم أن المفسرين اتفقوا على أن هذه الآية نزلت في بعض المنافقين ثم قال أبو مسلم ظاهر الآية يدل على أنه كان منافقا من أهل الكتاب مثل أنه كان يهوديا فأظهر الإسلام على سبيل النفاق لأن قوله تعالى يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءامَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ إنما يليق بمثل هذا المنافق
المسألة الثالثة مقصود الكلام ان بعض الناس أراد أن يتحاكم إلى بعض أهل الطغيان ولم يرد التحاكم إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) قال القاضي ويجب أن يكون التحاكم إلى هذا الطاغوت كالكفر وعدم الرضا بحكم محمد عليه الصلاة والسلام كفر ويدل عليه وجوه الأول انه تعالى قال يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ فجعل التحاكم إلى الطاغوت يكون ايمانا به ولا شك أن الايمان بالطاغوت كفر بالله كما أن الكفر بالطغوت إيمان بالله الثاني قوله تعالى فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ إلى قوله وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً ( النساء 65 ) وهذا نص في تكفير من لم يرض بحكم الرسول عليه الصلاة والسلام الثالث قوله تعالى فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَة ٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( النور 63 ) وهذا يدل على أن مخالفته معصية عظيمة وفي هذه الآيات دلائل على أن من رد شيئا من أوامر الله أو أوامر الرسول عليه الصلاة والسلام فهو خارج عن الإسلام سواء رده من جهة الشك أو من جهة التمرد وذلك يوجب صحة ما ذهبت الصحابة اليه من الحكم بارتداد مانعي الزكاة وقتلهم وسبي ذراريهم
المسألة الرابعة قالت المعتزلة ان قوله تعالى وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالاً بَعِيداً يدل على أن كفر الكافر ليس بخلق الله ولا بارادته وبيانه من وجوه الأول أنه لو خلق الله الكفر في الكافر وأراده منه فأي تأثير للشيطان فيه وإذا لم يكن له فيه تأثير فلم ذمه عليه الثاني انه تعالى ذم الشيطان بسبب انه يريد

هذه الضلالة فلو كان تعالى مريداً لها لكان هو بالذم أولى من حيث ان كل من عاب شيئا ثم فعله كان بالذم أولى قال تعالى كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ ( الصف 3 ) الثالث ان قوله تعالى في أول الآية صريح في إظهار التعجب من أنهم كيف تحاكموا إلى الطاغوت مع أنهم قد أمروا أن يكفروا به ولو كان ذلك التحاكم بخلق الله لما بقي التعجب فانه يقال إنما فعلوا لاجل أنك خلقت ذلك الفعل فيهم وأردته منهم بل التعجب من هذا التعجب أولى فان من فعل ذلك فيهم ثم أخذ يتعجب منهم انهم كيف فعلوا ذلك كان التعجب من هذا التعجب أولى
واعلم أن حاصل هذا الاستدلال يرجع إلى التمسك بطريقة المدح أو الذم وقد عرفت منا انا لا نقدح في هذه الطريقة إلا بالمعارضة بالعلم والداعي والله أعلم
ثم قال تعالى وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً وفيه مسألتان
المسألة الأولى بين في الآية الأولى رغبة المنافقين في التحاكم إلى الطاغوت وبين بهذه الآية نفرتهم عن التحاكم إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قال المفسرون إنما صد المنافقون عن حكم الرسول عليه الصلاة والسلام لأنهم كانوا ظالمين وعلموا أنه لا يأخذ الرشا وانه لا يحكم إلا بمر الحكم وقيل كان ذلك الصد لعداوتهم في الدين
المسألة الثانية يصدون عنك صدودا أي يعرضون عنك وذكر المصدر للتأكيد والمبالغة كأنه قيل صدودا أي صدود
فَكَيْفَ إِذَآ أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَة ٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَآ إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً أُولَائِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِى أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن في اتصال هذه الآية بما قبلها وجهين الأول أن قوله فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَة ٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ كلام وقع في البين وما قبل هذه الآية متصل بما بعدها هكذا واذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا ثم جاؤك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا يعني أنهم في أول الأمر يصدون عنك أشد الصدود ثم بعد ذلك يجيئونك ويحلفون بالله كذبا على أنهم ما أرادوا بذلك الصد إلا الاحسان والتوفيق وعلى هذا التقدير يكون النظم متصلا وتلك الآية وقعت في البين كالكلام الأجنبي وهذا يسمى اعتراضا وهو كقول الشاعر

إن الثمانين وبلغتها قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
فقوله وبلغتها كلام أجنبي وقع في البين إلا أن هذا الكلام الأجنبي شرطه أن يكون له من بعض الوجوه تعلق بذلك المقصود كما في هذا البيت فان قوله بلغتها دعاء للمخاطب وتلطف في القول معه والآية أيضا كذلك لأن أول الآية وآخرها في شرح قبائح المنافقين وفضائحهم وأنواع كيدهم ومكرهم فان الآية أخبرت بأنه تعالى حكى عنهم في أول الآية أنهم يتحاكمون إلى الطاغوت مع أنهم أمروا بالكفر به ويصدون عن الرسول مع أنهم أمروا بطاعته فذكر بعد هذا ما يدل على شدة الأحوال عليهم بسبب هذه الأعمال السيئة في الدنيا والآخرة فقال فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَة ٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي فكيف حال تكل الشدة وحال تلك المصيبة فهذا تقرير هذا القول وهو قول الحسن البصري واختيار الواحدي من المتأخرين
الوجه الثاني أنه كلام متصل بما قبله وتقريره انه تعالى لما حكى عنهم في الآية المتقدمة أنهم يتحاكمون إلى الطاغوت ويفرون من الرسول عليه الصلاة والسلام أشد الفرار دل ذلك على شدة نفرتهم من الحضور عند الرسول والقرب منه فلما ذكر ذلك قال فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَة ٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ يعني إذا كانت نفرتهم من الحضور عند الرسول في أوقات السلامة هكذا فكيف يكون حالهم في شدة الغم والحسرة إذا أتوا بجناية خافوا بسببها منك ثم جاؤك شاؤا أم أبوا ويحلفون بالله على سبيل الكذب انا ما أردنا بتلك الجناية إلا الخير والمصلحة والغرض من هذا الكلام بيان ان ما في قلبهم من النفرة عن الرسول لا غاية له سواء غابوا أم حضروا وسواء بعدوا أم قربوا ثم انه تعالى أكد هذا المعنى بقوله أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِى قُلُوبِهِمْ والمعنى أن من أراد المبالغة في شيء قال هذا شيء لا يعلمه إلا الله يعني انه لكثرته وقوته لا يقدر أحد على معرفته إلا الله تعالى ثم لما عرف الرسول عليه الصلاة والسلام شدة بغضهم ونهاية عداوتهم ونفرتهم أعلمه انه كيف يعاملهم فقال فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِى أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً وهذا الكلام على ما قررناه منتظم حسن الاتساق لا حاجة فيه إلى شيء من الحذف والإضمار ومن طالع كتب التفسير علم ان المتقدمين والمتأخرين كيف اضطربوا فيه والله أعلم
المسألة الثانية ذكروا في تفسير قوله أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَة ٌ وجوها الأول أن المراد منه قتل عمر صاحبهم الذي أقر أنه لا يرضى بحكم الرسول عليه السلام فهم جاؤا إلى النبي عليه الصلاة والسلام فطالبوا عمر بدمه وحلفوا انهم ما أرادوا بالذهاب إلى غير الرسول إلا المصلحة وهذا اختيار الزجاج الثاني قال أبو علي الجبائي المراد من هذه المصيبة ما أمر الله تعالى الرسول عليه الصلاة والسلام من أنه لا يستصحبهم في الغزوات وانه يخصهم بمزيد الاذلال والطرد عن حضرته وهو قوله تعالى لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِى الْمَدِينَة ِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُواْ أُخِذُواْ وَقُتّلُواْ تَقْتِيلاً ( الأحزاب 60 61 ) وقوله قُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِى َ أَبَدًا ( التوبة 83 ) وبالجملة فأمثال هذه الآيات توجب لهم الذل العظيم فكانت معدودة في مصائبهم وانما يصيبهم ذلك لأجل نفاقهم وعني بقوله ثُمَّ أي وقت المصيبة يحلفون ويعتذرون أنا ما أردنا بما كان منا من مداراة الكفار الا الصلاح وكانوا في ذلك كاذبين لانهم أضمروا خلاف ما أظهروه ولم يريدوا بذلك

الاحسان الذي هو الصلاح الثالث قال أبو مسلم الاصفهاني انه تعالى لما أخبر عن المنافقين أنهم رغبوا في حكم الطاغوت وكرهوا حكم الرسول بشر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أنه ستصيبهم مصائب تلجئهم إليه والى أن يظهروا له الايمان به والى أن يحلفوا بأن مرادهم الاحسان والتوفيق قال ومن عادة العرب عند التبشير والانذار أن يقولوا كيف أنت إذا كان كذا وكذا ومثاله قوله تعالى عَظِيماً فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّة ٍ بِشَهِيدٍ ( النساء 41 ) وقوله فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ ( آل عمران 25 ) ثم أمره تعالى إذا كان منهم ذلك أن يعرض عنهم ويعظهم
المسألة الثالثة في تفسير الاحسان والتوفيق وجوه الأول معناه ما أردنا بالتحاكم إلى غير الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) الا الاحسان الى خصومنا واستدامة الاتفاق والائتلاف فيما بيننا وانما كان التحاكم إلى غير الرسول إحسانا إلى الخصوم لأنهم لو كانوا عند الرسول لما قدروا على رفع صوت عند تقرير كلامهم ولما قدروا على التمرد من حكمه فاذن كان التحاكم إلى غير الرسول إحسانا الى الخصوم الثاني أن يكون المعنى ما أردنا بالتحاكم إلى عمر إلا أنه يحسن الى صاحبنا بالحكم العدل والتوفيق بينه وبين خصمه وما خطر ببالنا أنه يحكم بما حكم به الرسول الثالث أن يكون المعنى ما أردنا بالتحاكم الى غيرك يا رسول الله الا أنك لا تحكم الا بالحق المر وغيرك يدور على التوسط ويأمر كل واحد من الخصمين بالاحسان الى الآخر وتقريب مراده من مراد صاحبه حتى يحصل بينهما الموافقة
ثم قال تعالى أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِى قُلُوبِهِمْ والمعنى أنه لا يعلم ما في قلوبهم من النفاق والغيظ والعداوة الا الله
ثم قال تعالى فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِى أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً واعلم أنه تعالى أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يعاملهم بثلاثة أشياء الأول قوله فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وهذا يفيد أمرين أحدهما أن لا يقبل منهم ذلك العذر ولا يغتر به فان من لا يقبل عذر غيره ويستمر على سخطه قد يوصف بأنه معرض عنه غير ملتفت إليه والثاني أن هذا يجري مجرى أن يقول له اكتف بالاعراض عنهم ولا تهتك سترهم ولا تظهر لهم أنك عالم بكنه ما في بواطنهم فان من هتك ستر عدوه وأظهر له كونه عالما بما في قلبه فربما يجرئه ذلك على أن لا يبالي باظهار العداوة فيزداد الشر ولكن إذا تركه على حاله بقي في خوف ووجل فيقل الشر
النوع الثاني قوله تعالى وَعِظْهُمْ والمراد أنه يزجرهم عن النفاق والمكر والكيد والحسد والكذب ويخوفهم بعقاب الآخرة كما قال تعالى ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَة ِ وَالْمَوْعِظَة ِ الْحَسَنَة ِ ( النحل 125 )
النوع الثالث قوله تعالى وَقُل لَّهُمْ فِى أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً وفيه مسألتان
المسألة الأولى في قوله فِى أَنفُسِهِمْ وجوه الأول أن في الآية تقديما وتأخيرا والتقدير وقل لهم قولا بليغا في أنفسهم مؤثرا في قلوبهم يغتمون به اغتماما ويستشعرون منه الخوف استشعاراً الثاني أن يكون التقدير وقل لهم في معنى أنفسهم الخبيثة وقلوبهم المطوية على النفاق قولا بليغا وإن الله يعلم ما في قلوبكم فلا يغني عنكم إخفاؤه فطهروا قلوبكم من النفاق وإلا أنزل الله بكم ما أنزل بالمجاهرين بالشرك أو شراً من ذلك وأغلظ الثالث قل لهم في أنفسهم خاليا بهم ليس معهم غيرهم على سبيل السر لأن

النصحية على الملأ تقريع وفي السر محض المنفعة
المسألة الثانية في الآية قولان أحدهما أن المراد بالوعظ التخويف بعقاب الآخرة والمراد بالقول البليغ التخويف بعقاب الدنيا وهو أن يقول لهم إن ما في قلوبكم من النفاق والكيد معلوم عند الله ولا فرق بينكم وبين سائر الكفار وإنما رفع الله السيف عنكم لأنكم أظهرتم الايمان فان واظبتم على هذه الأفعال القبيحة ظهر للكل بقاؤكم على الكفر وحينئذ يلزمكم السيف الثاني أن القول البليغ صفة للوعظ فأمر تعالى بالوعظ ثم أمر أن يكون ذلك الوعظ بالقول البليغ وهو أن يكون كلاما بليغا طويلا حسن الألفاظ حسن المعاني مشتملا على الترغيب والترهيب والاحذار والانذار والثواب والعقاب فان الكلام إذا كان هكذا عظم وقعه في القلب وإذا كان مختصرا ركيك اللفظ قليل المعنى لم يؤثر ألبتة في القلب
وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَآءُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً
قوله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ( النساء 64 ) واعلم أنه تعالى لما أمر بطاعة الرسول في قوله وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الاْمْرِ مِنْكُمْ ثم حكى ان بعضهم تحاكم الى الطاغوت ولم يتحاكم الى الرسول وبين قبح طريقه وفساد منهجه رغب في هذه الآية مرة أخرى في طاعة الرسول فقال وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال الزجاج كلمة ( من ) ههنا صلة زائدة والتقدير وما أرسلنا رسولا ويمكن أن يكون التقدير وما أرسلنا من هذا الجنس أحدا الا كذا وكذا وعلى هذا التقدير تكون المبالغة أتم
المسألة الثانية قال أبو علي الجبائي معنى الآية وما أرسلت من رسول إلا وأنا مريد أن يطاع ويصدق ولم أرسله ليعصى قال وهذا يدل على بطلان مذهب المجبرة لانهم يقولون انه تعالى أرسل رسلا لتعصى والعاصي من المعلوم أنه يبقى على الكفر وقد نص الله على كذبهم في هذه الآية فلو لم يكن في القرآن ما يدل على بطلان قولهم إلا هذه الآية لكفى وكان يجب على قولهم أن يكون قد أرسل الرسل ليطاعوا وليعصوا جميعا فدل ذلك على أن معصيتهم للرسل غير مرادة لله وأنه تعالى ما أراد ألا أن يطاع
واعلم أن هذا الاستدلال في غاية الضعف وبيانه من وجوه الأول ان قوله إلاَّ لِيُطَاعَ يكفي في تحقيق مفهومه أن يطيعه مطيع واحد في وقت واحد وليس من شرط تحقق مفهومه أن يطيعه جميع الناس في جميع الاوقات وعلى هذا التقدير فنحن نقول بموجبه وهو أن كل من أرسله الله تعالى فقد أطاعه بعض الناس في بعض الاوقات اللهم الا أن يقال تخصيص الشيء بالذكر يدل على نفي الحكم عما عداه الا أن الجبائي لا يقول بذلك فسقط هذا الاشكال على جميع التقديرات الثاني لم لا يجوز أن يكون المراد به ان كل كافر فانه لا بد وأن يقربه عند موته كما قال تعالى وَإِن مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ( النساء 159 ) أو يحمل ذلك على ايمان الكل به يوم القيامة ومن المعلوم أن الوصف في جانب الثبوت

يكفي في حصول مسماه ثبوته في بعض الصور وفي بعض الأحوال الثالث أن العلم بعدم الطاعة مع وجود الطاعة متضادان والضدان لا يجتمعان وذلك العلم ممتنع العدم فكانت الطاعة ممتنعة الوجود والله عالم بجميع المعلومات فكان عالما بكون الطاعة ممتنعة الوجود والعالم بكون الشيء ممتنع الوجود لا يكون مريداً له فثبت بهذا البرهان القاطع أن يستحيل أن يريد الله من الكافر كونه مطيعاً فوجب تأويل هذه اللفظة وهو أن يكون المراد من الكلام ليس الارادة بل الأمر والتقدير وما أرسلنا من رسول إلا ليؤمر الناس بطاعته وعلى هذا التقدير سقط الاشكال
المسألة الثالثة قال أصحابنا الآية دالة على أنه لا يوجد شيء من الخير والشر والكفر والايمان والطاعة والعصيان إلا بارادة الله تعالى والدليل عليه قوله تعالى إلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ولا يمكن أن يكون المراد من هذا الاذن الأمر والتكليف لأنه لا معنى لكونه رسولا الا أن الله أمر بطاعته فلو كان المراد من الاذن هو هذا لصار تقدير الآية وما أذنا في طاعة من أرسلناه الا باذننا وهو تكرار قبيح فوجب حمل الاذن على التوفيق والاعانة وعلى هذا الوجه فيصير تقدير الآية وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بتوفيقنا وإعانتنا وهذا تصريح بأنه سبحانه ما أراد من الكل طاعة الرسول بل لا يريد ذلك الا من الذي وفقه الله لذلك وأعانه عليه وهم المؤمنون وأما المحرومون من التوفيق والاعانة فالله تعالى ما أراد ذلك منهم فثبت أن هذه الآية من أقوى الدلائل على مذهبنا
المسألة الرابعة الآية دالة على أنه لا رسول إلا ومعه شريعة ليكون مطاعا في تلك الشريعة ومتبوعا فيها اذ لو كان لا يدعو إلا إلى شرع من كان قبله لم يكن هو في الحقيقة مطاعا بل كان المطاع هو الرسول المتقدم الذي هو الواضع لتلك الشريعة والله تعالى حكم على كل رسول بأنه مطاع
المسألة الخامسة الآية دالة على أن الأنبياء عليهم السلام معصومون عن المعاصي والذنوب لأنها دلت على وجوب طاعتهم مطلقا فلو أتوا بمعصية لوجب علينا الاقتداء بهم في تلك المعصية فتصير تلك المعصية واجبة علينا وكونها معصية يوجب كونها محرمة علينا فيلزم توارد الايجاب والتحريم على الشيء الواحد وإنه محال
فان قيل ألستم في الاعتراض على كلام الجبائي ذكرتم أن قوله إلاَّ لِيُطَاعَ لا يفيد العموم فكيف تمسكتم به في هذه المسألة مع أن هذا الاستدلال لا يتم إلا مع القول بأنها تفيد العموم
قلنا ظاهر اللفظ يوهم العموم وإنما تركنا العموم في تلك المسألة للدليل العقلي القاطع الذي ذكرناه على أنه يستحيل منه تعالى أن يريد الايمان من الكافر فلأجل ذلك المعارض القاطع صرفنا الظاهر عن العموم وليس في هذه المسألة برهان قاطع عقلي يوجب القدح في عصمة الأنبياء فظهر الفرق
قوله تعالى وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَاءوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً
وفيه مسائل

المسألة الأولى في سبب النزول وجهان الأول المراد به من تقدم ذكره من المنافقين يعني لو أنهم عندما ظلموا أنفسهم بالتحاكم إلى الطاغوت والفرار من التحاكم إلى الرسول جاؤا الرسول وأظهروا الندم على ما فعلوه وتابوا عنه واستغفروا منه واستغفر لهم الرسول بأن يسأل الله أن يغفرها لهم عند توبتهم لوجدوا الله توابا رحيما الثاني قال أبو بكر الأصم إن قوما من المنافقين اصطلحوا على كيد في حق الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ثم دخلوا عليه لأجل ذلك الغرض فأتاه جبريل عليه السلام فأخبره به فقال ( صلى الله عليه وسلم ) إن قوما دخلوا يريدون أمراً لا ينالونه فليقوموا وليستغفروا الله حتى أستغفر لهم فلم يقوموا فقال ألا تقومون فلم يفعلوا فقال ( صلى الله عليه وسلم ) قم يا فلان قم يا فلان حتى عد أثنى عشر رجلا منهم فقاموا وقالوا كنا عزمنا على ما قلت ونحن نتوب إلى الله من ظلمنا أنفسنا فاستغفر لنا فقال الآن اخرجوا أنا كنت في بدء الأمر أقرب إلى الاستغفار وكان الله أقرب الى الاجابة اخرجوا عني
المسألة الثانية لقائل أن يقول أليس لو استغفروا الله وتابوا على وجه صحيح لكانت توبتهم مقبولة فما الفائدة في ضم استغفار الرسول إلى استغفارهم
قلنا الجواب عنه من وجوه الأول أن ذلك التحاكم إلى الطاغوت كان مخالفة لحكم الله وكان أيضاً إساءة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وإدخالا للغم في قلبه ومن كان ذنبه كذلك وجب عليه الاعتذار عن ذلك الذنب لغيره فلهذا المعنى وجب عليهم أن يطلبوا من الرسول أن يستغفر لهم الثاني أن القوم لما لم يرضوا بحكم الرسول ظهر منهم ذلك التمر فاذا تابوا وجب عليهم أن يفعلوا ما يزيل عنهم ذلك التمرد وما ذاك إلا بأن يذهبوا إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ويطلبوا منه الاستغفار الثالث لعلهم إذا أتوا بالتوبة أتوا بها على وجه الخلل فاذا انضم اليها استغفار الرسول صارت مستحقة للقبول والله أعلم
المسألة الثالثة إنما قال وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ ولم يقل واستغفرت لهم إجلالا للرسول عليه الصلاة والسلام وأنهم إذا جاؤه فقد جاؤا من خصه الله برسالته وأكرمه بوحيه وجعله سفيرا بينه وبين خلقه ومن كان كذلك فان الله لا يرد شفاعته فكانت الفائدة في العدول عن لفظ الخطاب إلى لفظ المغايبة ما ذكرناه
المسألة الرابعة الآية دالة على الجزم بأن الله تعالى يقبل توبة التائب لأنه تعالى لما ذكر عنهم الاستغفار قال بعده لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً وهذا الجواب إنما ينطلق على ذلك الكلام إذا كان المراد من قوله تَوَّاباً رَّحِيماً هو أن يقبل توبتهم ويرحم تضرعهم ولا يرد استغفارهم
فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً
فيه مسائل

المسألة الأولى في سبب نزول هذه الآية قولان أحدهما وهو قول عطاء ومجاهد والشعبي ان هذه الآية نازلة في قصة اليهودي والمنافق فهذه الآية متصلة بما قبلها وهذا القول هو المختار عندي والثاني انها مستأنفة نازلة في قصة أخرى وهو ما روي عن عروة بن الزبير أن رجلا من الانصار خاصم الزبير في ماء يسقى به النخل فقال ( صلى الله عليه وسلم ) للزبير ( اسق أرضك ثم أرسل الماء إلى أرض جارك ) فقال الانصاري لأجل أنه ابن عمتك فتلون وجه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثم قال للزبير ( اسق ثم احبس الماء حتى يبلغ الجدر )
واعلم أن الحكم في هذا أن من كانت أرضه أقرب إلى فم الوادي فهو أولى بأول الماء وحقه تمام السقي فالرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أذن للزبير في السقي على وجه المسامحة فلما أساء خصمه الأدب ولم يعرف حق ما أمر به الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) من المسامحة لاجله أمره النبي عليه الصلاة والسلام باستيفاء حقه على سبيل التمام وحمل خصمه على مر الحق
المسألة الثانية ( لا ) في قوله ( فلا وربك ) فيه قولان الأول معناه فوربك كقوله فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ و ( لا ) مزيدة لتأكيد معنى القسم كما زيدت في لّئَلاَّ يَعْلَمَ لتأكيد وجوب العلم و لاَ يُؤْمِنُونَ جواب القسم والثاني انها مفيدة وعلى هذا التقدير ذكر الواحدي فيه وجهين الأول انه يفيد نفي أمر سبق والتقدير ليس الأمر كما يزعمون انهم آمنوا وهم يخالفون حكمك ثم استأنف القسم بقوله فَوَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكّمُوكَ والثاني أنها لتوكيد النفي الذي جاء فيما بعد لأنه إذا ذكر في أول الكلام وفي آخره كان أوكد وأحسن
المسألة الثالثة يقال شجر يشجر شجورا وشجرا إذا اختلف واختلط وشاجره إذا نازعه وذلك لتداخل كلام بعضهم في بعض عند المنازعة ومنه يقال لخشبات الهودج شجار لتداخل بعضها في بعض قال أبو مسلم الأصفهاني وهو مأخوذ عندي من التفاف الشجر فان الشجر يتداخل بعض أغصانه في بعض وأما الحرج فهو الضيق قال الواحدي يقال للشجر الملتف الذي لا يكاد يوصل اليه حرج وجمعه حراج وأما التسليم فهو تفعيل يقال سلم فلان أي عوفي ولم ينشب به نائبة وسلم هذا الشيء لفلان أي خلص له من غير منازع فاذا ثقلته بالتشديد فقلت سلم له فمعناه أنه سلمه له وخلصه له هذا هو الأصل في اللغة وجميع استعمالات التسليم راجع إلى الأصل فقولهم سلم عليه أي دعا له بأن يسلم وسلم اليه الوديعة أي دفعها اليه بلا منازعة وسلم اليه أي رضي بحكمه وسلم إلى فلان في كذا أي ترك منازعته فيه وسلم إلى الله أمره أي فوض اليه حكم نفسه على معنى أنه لم ير لنفسه في أمره أثرا ولا شركة وعلم أن المؤثر الصانع هو الله تعالى وحده لا شريك له
المسألة الرابعة اعلم أن قوله تعالى فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ قسم من الله تعالى على أنهم لا يصيرون موصوفين بصفة الايمان إلا عند حصول شرائط أولها قوله تعالى حَتَّى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ وهذا يدل على أن من لم يرض بحكم الرسول لا يكون مؤمنا
واعلم أن من يتمسك بهذه الآية في بيان أنه لا سبيل الى معرفة الله تعالى إلا بارشاد النبي المعصوم قال

لأن قوله لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ تصريح بأنه لا يحصل لهم الايمان إلا بأن يستعينوا بحكم النبي عليه الصلاة والسلام في كل ما اختلفوا فيه ونرى أهل العلم مختلفين في صفات الله سبحانه وتعالى فمن معطل ومن مشبه ومن قدري ومن جبري فلزم بحكم هذه الآية أنه لا يحصل الايمان إلا بحكمه وارشاده وهدايته وحققوا ذلك بأن عقول أكثر الخلق ناقصة وغير وافية بادراك هذه الحقائق وعقل النبي المعصوم كامل مشرق فاذا اتصل اشراق نوره بعقول الأمة قويت عقولهم وانقلبت من النقص إلى الكمال ومن الضعف إلى القوة فقدروا عند ذلك على معرفة هذه الأسرار الالهية والذي يؤكذ ذلك أن الذين كانوا في زمان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) كانوا جازمين متيقنين كاملي الايمان والمعرفة والذين بعدوا عنه اضطربوا او اختلفوا وهذه المذاهب ما تولدت إلا بعد زمان الصحابة والتابعين فثبت ان الأمر كما ذكرنا والتمسك بهذه الآية رأيته في كتب محمد بن عبد الكريم الشهرستاني فيقال له فهذا الاستقلال الذي ذكرته إنما استخرجته من عقلك فاذا كان عقول الأكثرين ناقصة فلعلك ذكرت هذه الاستدلال لنقصان عقلك وإذا كان هذا الاحتمال قائما وجب أن يشك في صحة مذهبك وصحة هذا الدليل الذي تمسكت به ولأن معرفة النبوة موقوفة على معرفة الاله فلو توقفت معرفة الاله على معرفة النبوة لزم الدور وهو محال
الشرط الثاني قوله ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ قال الزجاج لا تضيق صدورهم من أفضيتك
واعلم أن الراضي بحكم الرسول عليه الصلاة والسلام قد يكون راضيا به في الظاهر دون القلب فبين في هذه الآية انه لا بد من حصول الرضا به في القلب واعلم أن ميل القلب ونفرته شيء خارج عن وسع البشر فليس المراد من الآية ذلك بل المراد منه أن يحصل الجزم واليقين في القلب بأن الذي يحكم به الرسول هو الحق والصدق
الشرط الثالث قوله تعالى وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً واعلم أن من عرف بقلبه كون ذلك الحكم حقا وصدقا قد يتمرد عن قبوله على سبيل العناد أو يتوقف في ذلك القبول فبين تعالى أنه كما لا بد في الايمان من حصول ذلك اليقين في القلب فلا بد أيضا من التسليم معه في الظاهر فقوله ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ المراد به الانقياد في الباطن وقوله وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً المراد منه الانقياد في الظاهر والله أعلم
المسألة الخامسة دلت الآية على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون عن الخطأ في الفتوى وفي الأحكام لأنه تعالى أوجب الانقياد لحكمهم وبالغ في ذلك الايجاب وبين انه لا بد من حصول ذلك الانقياد في الظاهر وفي القلب وذلك ينفي صدور الخطأ عنهم فهذا يدل على أن قوله عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ( التوبة 43 ) وأن فتواه في أسارى بدر وأن قوله لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ( التحريم 1 ) وأن قوله عَبَسَ وَتَوَلَّى ( عبس 1 ) كل ذلك محمول على الوجوه التي لخصناها في هذا الكتاب
المسألة السادسة من الفقهاء من تمسك بقوله تعالى ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ على أن ظاهر الأمر للوجوب وهو ضعيف لأن القضاء هو الالزام ولا نزاع في أنه للوجوب
المسألة السابعة ظاهر الآية يدل على أنه لا يجوز تخصيص النص بالقياس لأنه يدل على أنه يجب

متابعة قوله وحكمه على الاطلاق وانه لا يجوز العدول عنه إلى غيره ومثل هذه المبالغة المذكورة في هذه الآية قلما يوجد في شيء من التكاليف وذلك يوجب تقديم عموم القرآن والخبر على حكم القياس وقوله ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ مشعر بذلك لأنه متى خطر بباله قياس يفضي الى نقيض مدلول النص فهناك يحصل الحرج في النفس فبين تعالى أنه لا يكمل إيمانه إلا بعد أن لا يلتفت الى ذلك الحرج ويسلم النص تسليما كليا وهذا الكلام قوي حسن لمن أنصف
المسألة الثامنة قالت المعتزلة لو كانت الطاعات والمعاصي بقضاء الله تعالى لزم التناقض وذلك لأن الرسول إذا قضى على إنسان بأنه ليس له أن يفعل الفعل الفلاني وجب على جميع المكلفين الرضا بذلك لأنه قضاء الرسول والرضا بقضاء الرسول واجب لدلالة هذه الآية ثم لو أن ذلك الرجل فعل ذلك الفعل على خلاف فتوى الرسول فلو كانت المعاصي بقضاء الله لكان ذلك الفعل بقضاء الله والرضا بقضاء الله واجب فيلزم أن يجب على المكلفين الرضا بذلك الفعل لأنه قضاء الله فوجب أن يلزمهم الرضا بالفعل والترك معا وذلك محال
والجواب أن المراد من قضاء الرسول الفتوى المشروعة والمراد من قضاء الله التكوين والايجاد وهما مفهومان متغايران فالجمع بينهما لا يفضي إلى التناقض
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُمْ مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لاّتَيْنَاهُمْ مِّن لَّدُنَّآ أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً
اعلم أن هذه الآية متصلة بما تقدم من أمر المنافقين وترغيبهم في الاخلاص وترك النفاق والمعنى أنا لو شددنا التكليف على الناس نحو أن نأمرهم بالقتل والخروج عن الأوطان لصعب ذلك عليهم ولما فعله إلا الأقلون وحينئذ يظهر كفرهم وعنادهم فلما لم نفعل ذلك رحمة منا على عبادنا بل اكتفينا بتكليفهم في الأمور السهلة فليقبلوها بالاخلاص وليتركوا التمرد والعناد حتى ينالوا خير الدارين وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر والكسائي أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُمْ بضم النون في ( أن ) وضم واو ( أو ) والسبب فيه نقل ضمة اقْتُلُواْ وضمة أَخْرِجُواْ اليهما وقرأ عاصم وحمزة بالكسر فيهما لالتقاء الساكنين وقرأ أبو عمرو بكسر النون وضم الواو وقال الزجاج ولست أعرف لفصل أبي عمرو بين هذين الحرفين خاصية إلا أن يكون رواية وقال غيره أما كسر النون فلأن الكسر هو الأصل لالتقاء الساكنين وأما ضم الواو فلأن الضمة في الواو أحسن لأنها تشبه واو الضمير واتفق الجمهور

على الضم في واو الضمير نحو اشْتَرَوُاْ الضَّلَالَة َ ( البقرة 16 ) وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ ( البقرة 237 )
المسألة الثانية الكناية في قوله مَّا فَعَلُوهُ عائدة إلى القتل والخروج معا وذلك لأن الفعل جنس واحد وان اختلفت ضروبه واختلف القراء في قوله إِلاَّ قَلِيلٌ فقرأ ابن عامر قَلِيلاً بالنصب وكذا هو في مصاحب أهل الشام ومصحف أنس بن مالك والباقون بالرفع أما من نصب فقاس النفي على الاثبات فإن قولك ما جاءني أحد كلام تام كما أن قولك جاءني القوم كلام تام فلما كان المستثنى منصوباً في الإثبات فكذا مع النفي والجامع كون المستثنى فضلة جاءت بعد تمام الكلام وأما من رفع فالسبب أنه جعله بدلا من الواو في فَعَلُوهُ وكذلك كل مستثنى من منفي كقولك ما أتاني أحد إلا زيد برفع زيد على البدل من أحد فيحمل إعراب ما بعد ( إلا ) على ما قبلها وكذلك في النصب والجر كقولك ما رأيت أحداً الا زيداً وما مررت بأحد إلا زيد قال أبو علي الفارسي الرفع أقيس فان معنى ما أتى أحد إلا زيد وما أتاني الا زيد واحد فكما اتفقوا في قولهم ما أتاني الا زيد على الرفع وجب أن يكون قولهم ما أتاني أحد الا زيد بمنزلته
المسألة الثالثة الضمير في قوله وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فيه قولان الأول وهو قول ابن عباس ومجاهد انه عائد إلى المنافقين وذلك لأنه تعالى كتب على بني إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم وكتب على المهاجرين أن يخرجوا من ديارهم فقال تعالى ولو أنا كتبنا القتل والخروج عن الوطن على هؤلاء المنافقين ما فعله الا قليل رياء وسمعة وحينئذ يصعب الأمر عليهم وينكشف كفرهم فاذا لم نفعل ذلك بل كلفناهم بالأشياء السهلة فليتركوا النفاق وليقبلوا الايمان على سبيل الاخلاص وهذا القول اختيار أبي بكر الأصم وأبي بكر القفال الثاني أن المراد لو كتب الله على الناس ما ذكر لم يفعله إلا قليل منهم وعلى هذا التقدير دخل تحت هذا الكلام المؤمن والمنافق وأما الضمير في قوله وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ فهو مختص بالمنافقين ولا يبعد أن يكون أول الآية عاما وآخرها خاصا وعلى هذا التقدير يجب أن يكون المراد بالقليل المؤمنين روي أن ثابت بن قيس بن شماس ناظر يهوديا فقال اليهودي ان موسى أمرنا بقتل أنفسنا فقبلنا ذلك وإن محمدا يأمركم بالقتال فتكرهونه فقال يا أنت لو أن محمدا أمرني بقتل نفسي لفعلت ذلك فنزلت هذه الآية وروي أن ابن مسعود قال مثل ذلك فنزلت هذه الآية وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( والذي نفسي بيده إن من أمتي رجالا الايمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي ) وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال والله لو أمرنا ربنا بقتل أنفسنا لفعلنا والحمد لله الذي لم يأمرنا بذلك
المسألة الرابعة قال أبو علي الجبائي لما دلت هذه الآية على أنه تعالى لم يكلفهم ما يغلظ ويثقل عليهم فبأن لا يكلفهم ما لا يطيقون كان أولى فيقال له هذا لازم عليك لأن ظاهر الآية يدل على أنه تعالى إنما لم يكلفهم بهذه الأشياء الشاقة لأنه لو كلفهم بها لما فعلوها ولو لم يفعلوها لوقعوا في العذاب ثم انه تعالى علم من أبي جهل وأبي لهب أنهم لا يؤمنون وأنهم لا يستفيدون من التكليف إلا العقاب الدائم ومع ذلك فانه تعالى كلفهم فكل ما تجعله جوابا عن هذا فهو جوابنا عما ذكرت
ثم قال تعالى وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لاَتَيْنَاهُمْ مّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِراطاً مُّسْتَقِيماً

اعلم أن المراد من قوله وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ أنهم لو فعلوا ما كلفوا به وأمروا به وإنما سمي هذا التكليف والأمر وعظا لأن تكاليف الله تعالى مقرونة بالوعد والوعيد والترغيب والترهيب والثواب والعقاب وما كان كذلك فانه يسمى وعظا ثم إنه تعالى بين أنهم لو التزموا هذه التكاليف لحصلت لهم أنواع من المنافع
فالنوع الأول قوله لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ فيحتمل أن يكون المعنى أنه يحصل لهم خير الدنيا والآخرة ويحتمل أن يكون المعنى المبالغة والترجيح وهو أن ذلك أنفع لهم وأفضل من غيره لأن قولنا ( خير ) يستعمل على الوجهين جميعا
النوع الثاني قوله وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وفيه وجوه الأول أن المراد أن هذا أقرب الى ثباتهم عليه واستمرارهم لأن الطاعة تدعو إلى أمثالها والواقع منها في وقت يدعو إلى المواظبة عليه الثاني أن يكون أثبت وأبقى لأنه حق والحق ثابت باق والباطل زائل الثالث أن الانسان يطلب أولا تحصيل الخير فاذا حصله فانه يطلب أن يصير ذلك الحاصل باقيا ثابتا فقوله لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ إشارة إلى الحالة الأولى وقوله وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً إشارة إلى الحالة الثانية
النوع الثالث قوله تعالى وَإِذاً لاَتَيْنَاهُمْ مّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيماً
واعلم أنه تعالى لما بين أن هذا الاخلاص في الايمان خير مما يريدونه من النفاق وأكثر ثباتا وبقاء بين أنه كما أنه في نفسه خير فهو أيضا مستعقب الخيرات العظيمة وهو الأجر العظيم والثواب العظيم قال صاحب ( الكشاف ) و ( إذاً ) جواب لسؤال مقدر كأنه قيل ماذا يكون من هذا الخير والتثبيت فقيل هو أن نؤتيهم من لدنا أجراً عظيما كقوله وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً ( النساء 4 )
وأقول إنه تعالى جمع في هذه الآية قرائن كثيرة كل واحدة منها تدل على عظم هذا الأجر أحدها أنه ذكر نفسه بصيغة العظمة وهي قوله ءاتَيْنَاهُ وقوله مّن لَّدُنَّا والمعطي الحكيم إذا ذكر نفسه باللفظ الدال على عظمة عند الوعد بالعطية دل ذلك على عظمة تلك العطية وثانيها قوله مّن لَّدُنَّا وهذا التخصيص يدل على المبالغة كما في قوله وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا ( الكهف 65 ) وثالثها أن الله تعالى وصف هذا الأجر بالعظيم والشيء الذي وصفه أعظم العظماء بالعظمة لا بد وأن يكون في نهاية الجلالة وكيف لا يكون عظيما وقد قال عليه الصلاة والسلام ( فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر )
النوع الرابع قوله وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِراطاً مُّسْتَقِيماً وفيه قولان أحدهما أن الصراط المستقيم هو الدين الحق ونظيره قوله تعالى وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِراطِ اللَّهِ ( الشورى 52 53 ) والثاني انه الصراط الذي هو الطريق من عرصة القيامة وذلك لأنه تعالى ذكره بعد ذكر الثواب والأجر والدين الحق مقدم على الثواب والأجر والصراط الذي هو الطريق من عرصة القيامة إلى الجنة إنما يحتاج اليه بعد استحقاق الأجر فكان حمل لفظ الصراط في هذا الموضع على هذا المعنى أولى

وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَائِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَآءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَائِكَ رَفِيقاً ذالِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً
اعلم أنه تعالى لما أمر بطاعة الله وطاعة الرسول بقوله بَصِيراً يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ ثم زيف طريقة الذين تحاكموا إلى الطاغوت وصدوا عن الرسول ثم أعاد الأمر بطاعة الرسول مرة أخرى فقال وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ( النساء 64 ) ثم رغب في تلك الطاعة بقوله لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لاَتَيْنَاهُمْ مّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِراطاً مُّسْتَقِيماً ( النساء 66 67 68 ) أكد الأمر بطاعة الله وطاعة الرسول في هذه الآية مرة أخرى فقال وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ النَّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ إلى آخر الآية وههنا مسائل
المسألة الأولى ذكروا في سبب النزول وجوها الأول روى جمع من المفسرين أن ثوبان مولى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان شديد الحب لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قليل الصبر عنه فأتاه يوما وقد تغير وجهه ونحل جسمه وعرف الحزن في وجهه فسأله رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن حاله فقال يا رسول الله ما بي وجع غير أني إذا لم أرك اشتقت اليك واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك فذكرت الآخرة فخفت أن لا أراك هناك لأنى إن أدخلت الجنة فأنت تكون في درجات النبيين وأنا في درجة العبيد فلا أراك وإن أنا لم أدخل الجنة فحينئذ لا أراك أبدا فنزلت هذه الآية الثاني قال السدي ان ناسا من الانصار قالوا يا رسول الله إنك تسكن الجنة في أعلاها ونحن نشتاق اليك فكيف نصنع فنزلت الآية الثالث قال مقاتل نزلت في رجل من الانصار قال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) يا رسول الله إذا خرجنا من عندك إلى أهالينا اشتقنا اليك فما ينفعنا شيء حتى نرجع اليك ثم ذكرت درجتك في الجنة فكيف لنا برؤيتك ان دخلنا الجنة فأنزل الله هذه الآية فلما توفي النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أتى الانصار ولده وهو في حديقة له فأخبره بموت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال اللهم أعمني حتى لا أرى شيئا بعده إلى أن ألقاه فعمى مكانه فكان يحب النبي حبا شديدا فجعله الله معه في الجنة الرابع قال الحسن ان المؤمنين قالوا للنبي عليه السلام مالنا منك إلا الدنيا فاذا كانت الآخرة رفعت فى الأولى فحزن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وحزنوا فنزلت هذه الآية قال المحققون لا ننكر صحة هذه الروايات إلا أن سبب نزول الآية يجب أن يكون شيئا أعظم من ذلك وهو البعث على الطاعة والترغيب فيها فانك تعلم أن خصوص السبب لا يقدح في عموم اللفظ فهذه الآية عامة في حق جميع المكلفين وهو أن كل من أطاع الله وأطاع الرسول فقد فاز بالدرجات العالية والمراتب الشريفة عند الله تعالى
المسألة الثانية ظاهر قوله وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ يوجب الاكتفاء بالطاعة الواحدة لأن اللفظ الدال على الصفة يكفي في العمل به في جانب الثبوت حصول ذلك المسمى مرة واحدة

قال القاضي لا بد من حمل هذا على غير ظاهره وأن تحمل الطاعة على فعل المأمورات وترك جميع المنهيات إذ لو حملناه على الطاعة الواحدة لدخل فيه الفساق والكفار لأنهم قد يأتون بالطاعة الواحدة وعندي فيه وجه آخر وهو أنه ثبت في أصول الفقه أن الحكم المذكور عقيب الصفة مشعر بكون ذلك الحكم معللا بذلك الوصف إذا ثبت هذا فنقول قوله وَمَن يُطِعِ اللَّهَ أي ومن يطع الله في كونه إلها وطاعة الله في كونه إلها هو معرفته والاقرار بجلاله وعزته وكبريائه وصمديته فصارت هذه الآية تنبيها على أمرين عظيمين من أحوال المعاد فالأول هو أن منشأ جميع السعادات يوم القيامة إشراق الروح بأنوار معرفة الله وكل من كانت هذه الأنوار في قلبه أكثر وصفاؤها أقوى وبعدها عن التكدر بمحبة عالم الاجسام أتم كان إلى السعادة أقرب وإلى الفوز بالنجاة أوصل والثاني انه تعالى ذكر في الآية المتقدمة وعد أهل الطاعة بالأجر العظيم والثواب الجزيل والهداية إلى الصراط المستقيم ثم ذكر في هذه الآية وعدهم بكونهم مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وهذا الذي وقع به في الختم لا بد أن يكون أشرف وأعلى مما قبله ومعلوم أنه ليس المراد من كون هؤلاء معهم هو أنهم يكونون في عين تلك الدرجات لأن هذا ممتنع فلا بد وأن يكون معناه أن الأرواح الناقصة إذا استكملت علائقها مع الأرواح الكاملة في الدنيا لسبب الحب الشديد فاذا فارقت هذا العالم ووصلت إلى عالم الآخرة بقيت تلك العلائق الروحانية هناك ثم تصير تلك الأرواح الصافية كالمرايا المجلوة المتقابلة فكأن هذه المرايا ينعكس الشعاع من بعضها على بعض وبسبب هذه الانعكاسات تصير أنوارها في غاية القوة فكذا القول في تلك الأرواح فانها لما كانت مجلوة بصقالة المجاهدة عن غبار حب ما سوى الله وذلك هو المراد من طاعة الله وطاعة الرسول ثم ارتفعت الحجب الجسدانية أشرقت عليها أنوار جلال الله ثم انعكست تلك الأنوار من بعضها إلى بعض وصارت الأرواح الناقصة كاملة بسبب تلك العلائق الروحانية فهذا الاحتمال خطر بالبال والله أعلم بأسرار كلامه
المسألة الثالثة ليس المراد بكون من أطاع الله وأطاع الرسول مع النبيين والصديقين كون الكل في درجة واحدة لأن هذا يقتضي التسوية في الدرجة بين الفاضل والمفضول وإنه لا يجوز بل المراد كونهم في الجنة بحيث يتمكن كل واحد منهم من رؤية الآخر وإن بعد المكان لأن الحجاب إذا زال شاهد بعضهم بعضا وإذا أرادوا الزيارة والتلاقي قدروا عليه فهذا هو المراد من هذه المعية
المسألة الرابعة اعلم أنه تعالى ذكر النبيين ثم ذكر أوصافا ثلاثة الصديقين والشهداء والصالحين واتفقوا على أن النبيين مغايرون للصديقين والشهداء والصالحين فأما هذه الصفات الثلاثة فقد اختلفوا فيها قال بعضهم هذه الصفات كلها لموصوف واحد وهي صفات متداخلة فانه لا يمتنع في الشخص الواحد أن يكون صديقاً وشهيداً وصالحا وقال الآخرون بل المراد بكل وصف صنف من الناس وهذا الوجه أقرب لأن المعطوف يجب أن يكون مغايرا للمعطوف عليه وكما أن النبيين غير من ذكر بعدهم فكذلك الصديقون يجب أن يكونوا غير من ذكر بعدهم وكذا القول في سائر الصفات ولنبحث عن هذه الصفات الثلاث
الصفة الأولى الصديق وهو اسم لمن عادته الصدق ومن غلب على عادته فعل إذا وصف بذلك الفعل قيل فيه فعيل كما يقال سكير وشريب وخمير والصدق صفة كريمة فاضلة من صفات المؤمنين

وكفى الصدق فضيلة أن الايمان ليس إلا التصديق وكفى الكذب مذمة أن الكفر ليس إلا التكذيب
إذا عرفت هذا فنقول للمفسرين في الصديق وجوه الأول أن كل من صدق بكل الدين لا يتخالجه فيه شك فهو صديق والدليل عليه قوله تعالى وَالَّذِينَ ءامَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصّدّيقُونَ ( الحديد 19 ) الثاني قال قوم الصديقون أفاضل أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام الثالث أن الصديق اسم لمن سبق إلى تصديق الرسول عليه الصلاة والسلام فصار في ذلك قدوة لسائر الناس وإذا كان الأمر كذلك كان أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أولى الخلق بهذا الوصف أما بيان انه سبق إلى تصديق الرسول عليه الصلاة والسلام فلأنه قد اشتهرت الرواية عن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه قال ( ما عرضت الإسلام على أحد إلا وله كبوة غير أبي بكر فانه لم يتلعثم ) دل هذا الحديث على أنه ( صلى الله عليه وسلم ) لما عرض الإسلام على أبي بكر قبله أبو بكر ولم يتوقف فلو قدرنا أن اسلامه تأخر عن إسلام غيره لزم أن يقال ان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قصر حيث أخر عرض الإسلام عليه وهذا لا يكون قدحا في أبي بكر بل يكون قدحا في الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك كفر ولما بطل نسبة هذا التقصير إلى الرسول علمنا أنه ( صلى الله عليه وسلم ) ما قصر في عرض الإسلام عليه ولما بطل نسبة هذا التقصير إلى الرسول علمنا أنه ( صلى الله عليه وسلم ) ما قصر في عرض الإسلام عليه والحديث دل على أن أبا بكر لم يتوقف ألبتة فحصل من مجموع الأمرين ان أبا بكر رضي الله تعالى عنه أسبق الناس إسلاما أما بيان أنه كان قدوة لسائر الناس في ذلك فلأن بتقدير أن يقال إن إسلام علي كان سابقا على إسلام أبي بكر إلا أنه لا يشك عاقل أن عليا ما صار قدوة في ذلك الوقت لأن عليا كان في ذلك الوقت صبياً صغيراً وكان أيضا في تربية الرسول عليه الصلاة والسلام وكان شديد القرب منه بالقرابة وأبو بكر ما كان شديد القرب منه بالقرابة وإيمان من هذا شأنه يكون سببا لرغبة سائر الناس في الإسلام وذلك لأنهم اتفقوا على انه رضي الله تعالى عنه لما آمن جاء بعذ ذلك بمدة قليلة بعثمان بن عفان رضي الله عنه وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعثمان بن مظعون رضي الله تعالى عنهم أجمعين حتى أسلموا فكان إسلامه سببا لاقتداء هؤلاء الأكابر به فثبت بمجموع ما ذكرنا أنه رضوان الله عليه كان أسبق الناس إسلاما وثبت أن إسلامه صار سببا لاقتداء أفاضل الصحابة في ذلك الإسلام فثبت أن أحق الامة بهذه الصفة أبو بكر رضي الله عنه إذا عرفت هذا فنقول هذا الذي ذكرناه يقتضي انه كان أفضل الخلق بعد الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وبيانه من وجهين الأول أن إسلامه لما كان أسبق من غيره وجب أن يكون ثوابه أكثر لقوله عليه الصلاة والسلام ( من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ) الثاني أنه بعد أن أسلم جاهد في الله وصار جهاده مفضيا إلى حصول الإسلام لأكابر الصحابة مثل عثمان وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعثمان بن مظعون وعلي رضي الله تعالى عنهم وجاهد علي يوم أحد ويوم الأحزاب في قتل الكفار ولكن جهاد أبي بكر رضي الله عنه أفضى إلى حصول الإسلام لمثل الذين هم أعيان الصحابة وجهاد على أفضى إلى قتل الكفار ولا شك أن الأول أفضل وأيضاً فأبو بكر جاهد في أول الإسلام حين كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في غاية الضعف وعلي إنما جاهد يوم أحد ويوم الأحزاب وكان الإسلام قويا في هذه الأيام ومعلوم أن الجهاد وقت الضعف أفضل من الجهاد وقت القوة ولهذا المعنى قال تعالى لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَة ً مّنَ الَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ ( الحديد 10 ) فبين أن نصرة الإسلام وقت ما كان ضعيفا أعظم ثواباً من نصرته وقت ما كان قويا فثبت من مجموع ما ذكرنا أن أولى الناس بهذا الوصف هو الصديق فلهذا أجمع المسلمون على تسليم هذا اللقب له إلا من لا يلتفت إليه فانه ينكره ودل تفسير الصديق بما ذكرناه على أنه

لا مرتبة بعد النبوة في الفضل والعلم إلا هذا الوصف وهو كون الانسان صديقا وكما دل الدليل عليه فقد دل لفظ القرآن عليه فانه أينما ذكر الصديق والنبي لم يجعل بينهما واسطة فقال في وصف إسماعيل إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وفي صفة إدريس إِنَّهُ كَانَ صِدّيقاً نَّبِيّاً ( مريم 56 ) وقال في هذه الآية مّنَ النَّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ يعني انك إن ترقيت من الصديقية وصلت إلى النبوة وإن نزلت من النبوة وصلت إلى الصديقية ولا متوسط بينهما وقال في آية أخرى وَالَّذِى جَاء بِالصّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ ( الزمر 33 ) فلم يجعل بينهما واسطة وكما دلت هذه الدلائل على نفي الواسطة فقد وفق الله هذه الأمة الموصوفة بأنها خير أمة حتى جعلوا الامام بعد الرسول عليه الصلاة والسلام أبا بكر على سبيل الاجماع ولما توفي رضوان الله عليه دفنوه إلى جنب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وما ذاك إلا أن الله تعالى رفع الواسطة بين النبيين والصديقين في هذه الآية فلا جرم ارتفعت الواسطة بينهما في الوجوه التي عددناها
الصفة الثانية الشهادة والكلام في الشهداء قد مر في مواضع من هذا الكتاب ولا بأس بأن نعيد البعض فنقول لا يجوز أن تكون الشهادة مفسرة بكون الانسان مقتول الكافر والذي يدل عليه وجوه الأول أن هذه الآية دالة على أن مرتبة الشهادة مرتبة عظيمة في الدين وكون الانسان مقتول الكافر ليس فيه زيارة شرف لأن هذا القتل قد يحصل في الفساق ومن لا منزلة له عند الله الثاني أن المؤمنين قد يقولون اللهم ارزقنا الشهادة فلو كانت الشهادة عبارة عن قتل الكافر إياه لكانوا قد طلبوا من الله ذلك القتل وانه غير جائز لأن طلب صدور ذلك القتل من الكافر كفر فكيف يجوز أن يطلب من الله ما هو كفر الثالث روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال المبطون شهيد والغريق شهيد فعلمنا أن الشهادة ليست عبارة عن القتل بل نقول الشهيد فعيل بمعنى الفاعل وهو الذي يشهد بصحة دين الله تعالى تارة بالحجة والبيان وأخرى بالسيف والسنان فالشهداء هم القائمون بالقسط وهم الذين ذكرهم الله في قوله شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَائِكَة ُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِمَاً بِالْقِسْطِ ويقال للمقتول في سبيل الله شهيد من حيث أنه بذل نفسه في نصرة دين الله وشهادته له بأنه هو الحق وما سواه هو الباطل واذا كان من شهداء الله بهذا المعنى كان من شهداء الله في الآخرة كما قال وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ ( البقرة 143 )
الصفة الثالثة الصالحون والصالح هو الذي يكون صالحا في اعتقاده وفي عمله فان الجهل فساد في الاعتقاد والمعصية فساد في العمل واذا عرفت تفسير الصديق والشهيد والصالح ظهر لك ما بين هذه الصفات من التفاوت وذلك لأن كل من كان اعتقاده صوابا وكان عمله طاعة وغير معصية فهو صالح ثم ان الصالح قد يكون بحيث يشهد لدين الله بأنه هو الحق وأن ما سواه هو الباطل وهذه الشهادة تارة تكون بالحجة والدليل وأخرى بالسيف وقد لا يكون الصالح موصوفا بكونه قائما بهذه الشهادة فثبت أن كل من كان شهيدا كان صالحا وليس كل من كان صالحا شهيدا فالشهيد أشرف أنواع الصالح ثم ان الشهيد قد يكون صديقا وقد لا يكون ومعنى الصديق الذي كان أسبق إيمانا من غيره وكان إيمانه قدوة لغيره فثبت أن كل من كان صديقا كان شهيدا وليس كل من كان شهيدا كان صديقا فثبت أن أفضل الخلق هم الأنبياء عليهم السلام وبعدهم الصديقون وبعدهم من ليس له درجة إلا محض درجة الشهادة وبعدهم من ليس له إلا محض درجة الصلاح فالحاصل أن أكابر الملائكة يأخذون الدين الحق عن الله والأنبياء يأخذون

عن الملائكة كما قال يُنَزّلُ الْمَلَائِكَة َ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَآء مِنْ عِبَادِهِ ( النحل 2 ) والصديقون يأخذونه عن الأنبياء والشهداء يأخذونه عن الصديقين لأنا بينا أن الصديق هو الذي يأخذ في المرة الأولى عن الأنبياء وصار قدوة لمن بعده والصالحون يأخذونه عن الشهداء فهذا هو تقرير هذه المراتب وإذا عرفت هذا ظهر لك أنه لا أحد يدخل الجنة إلا وهو داخل في بعض هذه النعوت والصفات
ثم قال تعالى وَحَسُنَ أُولَئِكَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) فيه معنى التعجيب كأنه قيل ما أحسن أولئك رفيقاً
المسألة الثانية الرفق في اللغة لين الجانب ولطافة الفعل وصاحبه رفيق هذا معناه في اللغة ثم الصاحب يسمي رفيقا لارتفاق بعضهم ببعض
المسألة الثالثة قال الواحدي إنما وحد الرفيق وهو صفة لجمع لأن الرفيق والرسول والبريد تذهب به العرب إلى الواحد والى الجمع قال تعالى فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبّ الْعَالَمِينَ ( الشعراء 16 ) ولا يجوز أن يقال حسن أولئك رجلا وبالجملة فهذا إنما يجوز في الاسم الذي يكون صفة أما إذا كان اسما مصرحا مثل رجل وامرأة لم يجز وجوز الزجاج ذلك في الاسم أيضا وزعم أنه مذهب سيبويه وقيل معنى قوله وَحَسُنَ أُولَئِكَ أي حسن كل واحد منهم رفيقا كما قال ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ( غافر 67 )
المسألة الرابعة رَفِيقاً نصب على التمييز وقيل على الحال أي حسن واحد منهم رفيقا
المسألة الخامسة اعلم أنه تعالى بين فيمن أطاع الله ورسوله أنه يكون مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ثم لم يكترث بذلك بل ذكر أنه يكون رفيقا له وقد ذكرنا أن الرفيق هو الذي يرتفق به في الحضر والسفر فبين أن هؤلاء المطيعين يرتفقون بهم وإنما يرتفقون بهم إذا نالوا منهم رفقا وخيرا ولقد ذكرنا مراراً كيفية هذا الارتفاق وأما على حسب الظاهر فلأن الانسان قد يكون مع غيره ولا يكون رفيقاً له فأما إذا كان عظيم الشفقة عظيم الاعتناء بشأنه كان رفيقا له فبين تعالى أن الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين يكونون له كالرفقاء من شدة محبتهم له وسرورهم برؤيته
ثم قال تعالى ذالِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وفيه مسائل
المسألة الأولى لا شك أن قوله تعالى ذالِكَ إشارة إلى كل ما تقدم ذكره من وصف الثواب فلما حكم على كل ذلك بأنه فضل من الله دل هذا على أن الثواب غير واجب على الله ومما يدل عليه من جهة المعقول وجوه الأول القدرة على الطاعة إن كانت لا تصلح إلا للطاعة فخالق تلك القدرة هو الذي أعطى الطاعة فلا يكون فعله موجبا عليه شيئا وإن كانت صالحة للمعصية أيضا لم يترجح جانب الطاعة على جانب المعصية إلا بخلق الداعي إلى الداعي ويصير مجموع القدرة والداعي موجبا للفعل فخالق هذا المجموع هو الذي أعطى الطاعة فلا يكون فعله موجبا عليه شيئا الثاني نعم الله على العبد لا تحصى وهي موجبة للطاعة والشكر واذا كانت الطاعات تقع في مقابلة النعم السالفة امتنع كونها موجبة للثواب في المستقبل الثالث أن الوجوب يستلزم استحقاق الذنب عند الترك وهذا الاستحقاق ينافي الالهية فيمتنع حصوله في حق الاله تعالى فثبت أن ظاهر الآية كما دل على أن الثواب كله فضل من الله تعالى فالبراهين العقلية القاطعة دالة

على ذلك أيضا وقالت المعتزلة الثواب وإن كان واجبا لكن لا يمتنع إطلاق اسم الفضل عليه وذلك أن العبد إنما استحق ذلك الثواب لأن الله تعالى كلفه والتكليف تفضل ولأنه تعالى هو الذي أعطى العقل والقدرة وأزاح الأعذار والموانع حتى تمكن المكلف من فعل الطاعة فصار ذلك بمنزلة من وهب لغيره ثوبا كي ينتفع به فاذا باعه وانتفع بثمنه جاز أن يوصف ذلك الثمن بأنه فضل من الواهب فكذا ههنا
المسألة الثانية قوله ذالِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ فيه احتمالان أحدهما أن يكون التقدير ذلك هو الفضل من الله ويكون المعنى أن ذلك الثواب لكمال درجته كأنه هو الفضل من الله وأن ما سواه فليس بشيء والثاني أن يكون التقدير ذلك الفضل هو من الله أي ذلك الفضل المذكور والثواب المذكور هو من الله لا من غيره ولا شك أن الاحتمال الأول أبلغ
ثم قال تعالى وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً وله موقع عظيم في توكيد ما تقدم من الترغيب في طاعة الله لأنه تعالى نبه بذلك على أنه يعلم كيفية الطاعة وكيفة الجزاء والتفضل وذلك مما يرغب المكلف في كمال الطاعة والاحتراز عن التقصير فيه
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُواْ جَمِيعاً
واعلم أنه تعالى عاد بعد الترغيب في طاعة الله وطاعة رسوله إلى ذكر الجهاد الذي تقدم لانه أشق الطاعات ولأنه أعظم الامور التي بها يحصل تقوية الدين فقال عَلِيماً يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى الحذر والحذر بمعنى واحد كالاثر والاثر والمثل والمثل يقال أخذ حذره إذا تيقظ واحترز من المخوف كأنه جعل الحذر آلته التي يقي بها نفسه ويعصم بها روحه والمعنى احذروا واحترزوا من العدو ولا تمكنوه من أنفسكم هذا ما ذكره صاحب ( الكشاف ) وقال الواحدي رحمه الله فيه قولان أحدهما المراد بالحذر ههنا السلاح والمعنى خذوا سلاحكم والسلاح يسمى حذرا أي خذوا سلاحكم وتحذروا والثاني أن يكون خُذُواْ حِذْرَكُمْ بمعنى احذروا عدوكم لأن هذا الأمر بالحذر يتضمن الامر بأخذ السلاح لأن أخذ السلاح هو الحذر من العدو فالتأويل أيضا يعود إلى الأول فعلى القول الاول الأمر مصرح بأخذ السلاح وعلى القول الثاني أخذ السلاح مدلول عليه بفحوى الكلام
المسألة الثانية لقائل أن يقول ذلك الذي أمر الله تعالى بالحذر عنه ان كان مقتضى الوجود لم ينفع الحذر وان كان مقتضى العدم لا حاجة إلى الحذر فعلى التقديرين الامر بالحذر عبث وعنه عليه الصلاة والسلام قال ( المقدور كائن والهم فضل ) وقيل أيضا الحذر لا يغني من القدر فنقول ان صح هذا الكلام بطل القول بالشرائع فانه يقال إن كان الانسان من أهل السعادة في قضاء الله وقدره فلا حاجة إلى الايمان وان كان من أهل الشقاوة لم ينفعه الايمان والطاعة فهذا يفضي إلى سقوط التكليف بالكلية والتحقيق في الجواب أنه لما كان الكل بقدر كان الامر بالحذر أيضا داخلا في القدر فكان قول القائل أي فائدة في الحذر كلاما متناقضا لأنه لما كان هذا الحذر مقدرا فأي فائدة في هذا السؤال الطاعن في الحذر

المسألة الثالثة قوله فَانفِرُواْ يقال نفر القوم ينفرون نفرا ونفيرا إذا نهضوا لقتال عدو وخرجوا للحرب واستنفر الامام الناس لجهاد العدو فنفروا ينفرون إذا حثهم على النفير ودعاهم اليه ومثله قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( وإذا استنفرتم فانفروا ) والنفير اسم للقوم الذين ينفرون ومنه يقال فلان لا في العير ولا في النفير وقال أصحاب العربية أصل هذا الحرف من النفور والنفار وهو الفزع يقال نفر اليه إذا فزع اليه ونفر منه إذا فزع منه وكرهه ومعنى الآية فانفروا إلى قتال عدوكم
المسألة الرابعة قال جميع أهل اللغة الثبات جماعات متفرقة واحدها ثبة وأصلها من ثبيت الشيء أي جمعته ويقال أيضاً ثبيت على الرجل إذا أثنيت عليه وتأويله جمع محاسنه فقوله فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُواْ جَمِيعاً معناه انفروا إلى العدو إما ثبات أي جماعات متفرقة سرية بعد سرية وإما جميعا أي مجتمعين كوكبة واحدة وهذا المعنى أراد الشاعر في قوله
طاروا اليه زرافات ووحدانا
ومثله قوله تعالى فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا ( البقرة 239 ) أي على أي الحالتين كنتم فصلوا
وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَة ٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى َّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّة ٌ يالَيتَنِى كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً
وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن قوله وَإِن مّنكُمْ يجب أن يكون راجعا إلى المؤمنين الذين ذكرهم الله بقوله عَلِيماً يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ واختلفوا على قولين الأول المراد منه المنافقون كانوا يثبطون الناس عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
فان قيل قوله وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطّئَنَّ تقديره يا أيها الذين آمنوا إن منكم لمن ليبطئن فاذا كان هذا المبطىء منافقا فكيف جعل المنافق قسما من المؤمن في قوله وَإِن مّنكُمْ
والجواب من وجوه الأول أنه تعالى جعل المنافق من المؤمنين من حيث الجنس والنسب والاختلاط الثاني أنه تعالى جعلهم من المؤمنين بحسب الظاهر لأنهم كانوا في الظاهر متشبهين بأهل الايمان الثالث كأنه قيل يا أيها الذين آمنوا في زعمكم ودعواكم كقوله وَقَالُواْ يأَيُّهَا الَّذِى نُزّلَ عَلَيْهِ الذّكْرُ ( الحجر 6 )
القول الثاني أن هؤلاء المبطئين كانوا ضعفة المؤمنين وهو اختيار جماعة من المفسرين قالوا والتبطئة بمعنى الابطاء أيضاً وفائدة هذا التشديد تكرر الفعل منه وحكى أهل اللغة أن العرب تقول ما

أبطأ بك يا فلان عنا وإدخالهم الباء يدل على أنه في نفسه غير متعد فعلى هذا معنى الآية أن فيهم من يبطىء عن هذا الغرض ويتثاقل عن هذا الجهاد فاذا ظفر المسلمون تمنوا أن يكونوا معهم ليأخذوا الغنيمة وان أصابتهم مصيبة سرهم أن كانوا متخلفين قال وهؤلاء هم الذين أرادهم الله بقوله الْكَافِرِينَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الاْرْضِ قال والذي يدل على أن المراد بقوله لَّيُبَطّئَنَّ الابطاء منهم لا تثبيط غيرهم ما حكاه تعالى من قولهم مَوَدَّة ٌ يالَيتَنِى كُنتُ مَعَهُمْ عند الغنيمة ولو كان المراد منه تثبيط الغير لم يكن لهذا الكلام معنى وطعن القاضي في هذا القول وقال انه تعالى حكى عن هؤلاء المبطئين أنهم يقولون عند مصيبة المؤمنين قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى َّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً فيعد قعوده عن القتال نعمة من الله تعالى ومثل هذا الكلام انما يليق بالمنافقين لا بالمؤمنين وأيضا لا يليق بالمؤمنين أن يقال لهم كَأَن لَّمْ يَكُنِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ يعني الرسول مَّوَدَّة َ فثبت أنه لا يمكن حمله على المؤمنين وإنما يمكن حمله على المنافقين ثم قال فان حمل على أنه من الابطاء والتثاقل صح في المنافقين لأنهم كانوا يتأخرون عن الجهاد ويتثاقلون ولا يسرعون إليه وإن حمل على تثبيط الغير صح أيضا فيهم فقد كان يثبطون كثيراً من المؤمنين بما يوردون عليهم من أنواع التلبيس فكلا الوصفين موجود في المنافقين وأكثر المفسرين حمله على تثبيط الغير فكأنهم فصلوا بين أبطأ وبطأ فجعلوا الأول لازما والثاني متعدياً كما يقال في أحب وحب فان الأول لازم والثاني متعد
المسألة الثانية قال الزجاج ( من ) في قوله لَمَن لَّيُبَطّئَنَّ موصولة بالحال للقسم كأن هذا لو كان كلاما لك لقلت إن منكم لمن حلف بالله ليبطئن
ثم قال تعالى فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَة ٌ يعني من القتل والانهزام وجهد من العيش يعني لم أكن معهم شهيداً حاضراً حتى يصيبني ما أصابهم من البلاء والشدة وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ الله من ظفر وغنيمة ليقولن كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّة ٌ يالَيتَنِى لَيْتَنِى كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير وحفص عن عاصم كَأَن لَّمْ تَكُنْ بالتاء المنقطة من فوق يعني المودة والباقون بالياء لتقدم الفعل قال الواحدي وكلا القراءتين قد جاء به التنزيل قال قَدْ جَاءتْكُمْ مَّوْعِظَة ٌ مّن رَّبّكُمْ ( يونس 57 ) وقال في آية أخرى فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَة ٌ مّنْ رَّبّهِ ( البقرة 275 ) فالتأنيث هو الأصل والتذكير يحسن إذا كان التأنيث غير حقيقي سيما إذا وقع فاصل بين الفعل والفاعل
المسألة الثانية قرأ الحسن لَّيَقُولَنَّ بضم اللام أعاد الضمير إلى معنى ( من ) لأن قوله لَمَن لَّيُبَطّئَنَّ في معنى الجماعة إلا أن هذه القراءة ضعيفة لأن ( من ) وإن كان جماعة في المعنى لكنه مفرد في اللفظ وجانب الافراد قد ترجح في قوله قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى َّ ( النساء 72 ) وفي قوله مَوَدَّة ٌ يالَيتَنِى كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً
المسألة الثالثة لقائل أن يقول لو كان التنزيل هكذا ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما كان النظم مستقيما حسنا فكيف وقع قوله كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّة ٌ في البين
وجوابه أنه اعتراض وقع في البين وهو في غاية الحسن بيانه أنه تعالى حكى عن هذا المنافق أنه إذا

وقعت للمسلمين نكبة أظهر السرور الشديد بسبب أنه كان متخلفا عنهم ولو فازوا بغنيمة ودولة أظهر الغم الشديد بسبب فوات تلك الغنيمة ومثل هذه المعاملة لا يقدم عليها الانسان إلا في حق الأجنبي العدو لأن من أحب إنسانا فرح عند فرحه وحزن عند حزنه فاما إذا قلبت هذه القضية فذاك إظهار للعداوة
إذا عرفت هذه المقدمة فنقول إنه تعالى حكى عن هذا المنافق سروره وقت نكبة المسلمين ثم أراد أين يحكي حزنه عند دولة المسلمين بسبب أنه فاته الغنيمة فقبل أن يذكر هذا الكلام بتمامه ألقى في البين قوله كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّة ٌ والمراد التعجب كأنه تعالى يقول انظروا إلى ما يقول هذا المنافق كأنه ليس بينكم أنها المؤمنون وبينه مودة ولا مخالطة أصلا فهذا هو المراد من الكلام وهو وإن كان كلاما واقعا في البين على سبيل الاعتراض إلا أنه في غاية الحسن
فَلْيُقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَواة َ الدُّنْيَا بِالاٌّ خِرَة ِ وَمَن يُقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً
اعلم أنه تعالى لما ذم المبطئين في الجهاد عاد إلى الترغيب فيه فقال فَلْيُقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وللمفسرين في قوله يَشْرُونَ الْحَيَواة َ الدُّنْيَا وجهان الأول أن يَشْرُونَ معناه يبيعون قال ابن مفرغ
وشريت بردا ليتني من بعد برد كنت هامه
قال وبرد هو غلامه وشربته بمعنى بعته وتمنى الموت بعد بيعه فكان معنى الآية فليقاتل في سبيل الله الذين يبيعون الحياة الدنيا بالآخرة وهو كقوله إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ إلى قوله فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ
والقول الثاني معنى قوله يَشْرُونَ أي يشرتون قالوا والمخاطبون بهذا الخطاب هم المنافقون الذين تخلفوا عن أحد وتقرير الكلام فليقاتل الذين يختارون الحياة الدنيا على الآخرة وعلى هذا التقدير فلا بد من حذف تقديره آمنوا ثم قاتلوا لاستحالة حصول الأمر بشرائع الإسلام قبل حصول الإسلام وعندي في الآية احتمالات أخرى أحدها أن الانسان لما أراد أن يبذل هذه الحياة الدنيا في سبيل الله بخلت نفسه بها فاشتراها من نفسه بسعادة الآخرة ليقدر على بذلها في سبيل الله بطيبة النفس وثانيها أنه تعالى أمر بالقتال مقرونا ببيان فساد ما لأجله يترك الانسان القتال فان من ترك القتال فانما يتركه رغبة في الحياة الدنيا وذلك يوجب فوات سعادة الآخرة فكأنه قيل له اشتغل بالقتال واترك ترجيح الفاني على الباقي وثالثها كأنه قيل الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة إنما رجحوا الحياة الدنيا على الآخرة إذا كانت مقرونة بالسعادة والغبطة والكرامة واذا كان كذلك فليقاتلوا فانهم بالمقاتلة يفوزون بالغبطة والكرامة في الدنيا لأنهم بالمقاتلة يستولون على الأعداء ويفوزون بالأموال فهذه وجوه خطرت بالبال والله أعلم بمراده

ثم قال تعالى وَمَن يُقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً والمعنى من يقاتل في سبيل الله فسواء صار مقتولا للكفار أو صار غالبا للكفار فسوف نؤتيه أجرا عظيما وهو المنفعة الخالصة الدائمة المقرونة بالتعظيم ومعلوم أنه لا واسطة بين هاتين الحالتين فاذا كان الأجر حاصلا على كلا التقديرين لم يكن عمل أشرف من الجهاد وهذا يدل على أن المجاهد لا بد وأن يوطن نفسه على أنه لا بد من أحد أمرين إما أن يقتله العدو وإما أن يغلب العدو ويقهره فانه إذا عزم على ذلك لم يفر عن الخصم ولم يحجم عن المحاربة فأما إذا دخل لا على هذا العزم فما أسرع ما يقع في الفرار فهذا معنى ما ذكره الله تعالى من التقسيم في قوله فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ
وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَآءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هَاذِهِ الْقَرْيَة ِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ نَصِيراً
اعمل أن المراد منه إنكاره تعالى لتركهم القتال فصار ذلك توكيدا لما تقدم من الأمر بالجهاد وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ يدل على أن الجهاد واجب ومعناه أنه لا عذر لكم في ترك المقاتلة وقد بلغ حال المستضعفين من الرجال والنساء والولدان من المسلمين إلى ما بلغ في الضعف فهذا حث شديد على القتال وبيان العلة التي لها صار القتال واجبا وهو ما في القتال من تخليص هؤلاء المؤمنين من أيدي الكفرة لأن هذا الجمع إلى الجهاد يجري مجرى فكاك الأسير
المسألة الثانية قالت المعتزلة قوله وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ انكار عليهم في ترك القتال وبيان أنه لا عذر لهم ألبتة في تركه ولو كان فعل العبد بخلق الله لبطل هذا الكلام لأن من أعظم العذر أن الله ما خلقه وما أراده وما قضى به وجوابه مذكور
المسألة الثالثة اتفقوا على أن قوله وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجَالِ وَالنّسَاء وَالْوِلْدانِ متصل بما قبله وفيه وجهان أحدهما أن يكون عطفا على السبيل والمعنى مالكم لا تقاتلون في سبيل الله وفي المستضعفين والثاني أن يكون معطوفا على اسم الله عز وجل أي في سبيل الله وفي سبيل المستضعفين
المسألة الرابعة المراد بالمستضعفين من الرجال والنساء والولدان قوم من المسلمين بقوا بمكة وعجزوا عن الهجرة إلى المدينة وكانوا يلقون من كفار مكة أذى شديدا قال ابن عباس كنت أنا وأمي من المستضعفين من النساء والولدان
المسألة الخامسة الولدان جمع الولد ونظيره مما جاء على فعل وفعلان نحو حزب وحزبان

وورك ووركان كذلك ولد وولدان قال صاحب ( الكشاف ) ويجوز أن يراد بالرجال والنساء الاحرار والحرائر وبالولدان العبيد والاماء لأن العبد والأمة يقال لهما الوليد والوليدة وجمعهما الولدان والولائد إلا أنه جعل ههنا الولدان جمعا للذكور والاناث تغليبا للذكور على الاناث كما يقال آباء وإخوة والله أعلم
المسألة السادسة إنما ذكر الله الولدان مبالغة في شرح ظلمهم حيث بلغ أذاهم الولدان غير المكلفين إرغاما لآبائهم وأمهاتهم ومبغضة لهم بمكانهم ولأن المستضعفين كانوا يشركون صبيانهم في دعائهم استنزالا لرحمة الله بدعاء صغارهم الذين لم يذنبوا كما وردت السنة باخراجهم في الاستسقاء ثم حكى تعالى عن هؤلاء المستضعفين أنهم كانوا يقولون رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَاذِهِ الْقَرْيَة ِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ نَصِيراً وفيه مسائل
المسألة الأولى أجمعوا على أن المراد امن هذه القرية الظالم أهلها مكة وكون أهلها موصوفين بالظلم يحتمل أن يكون لأنهم كانوا مشركين قال تعالى إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( لقمان 13 ) وأن يكون لأجل أنهم كانوا يؤذون المسلمين ويوصلون إليهم أنواع المكاره
المسألة الثانية لقائل أن يقول القرية مؤنثة وقوله الظَّالِمِ أَهْلُهَا صفة للقرية ولذلك خفض فكان ينبغي أن يقال الظالمة أهلها وجوابه أن النحويين يسمون مثل هذه الصفة الصفة المشبهة باسم الفاعل والأصل في هذا الباب أنك إذا أدخلت الألف واللام في الأخير أجريته على الأول في تذكيره وتأنيثه نحو قولك مررت بامرأة حسنة الزوج كريمة الأب ومررت برجل جميل الجارية واذا لم تدخل الألف واللام في الأخير حملته على الثاني في تذكيره وتأنيثه كقولك مررت بامرأة كريم أبوها ومن هذا قوله تعالى أَخْرِجْنَا مِنْ هَاذِهِ الْقَرْيَة ِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا ولو أدخلت الألف واللام على الأهل لقلت من هذه القرية الظالمة الأهل وإنما جاز أن يكون الظالم نعتا للقرية لأنه صفة للأهل والأهل منتسبون إلى القرية وهذا القدر كاف في صحة الوصف كقولك مررت برجل قائم أبوه فالقيام للأب وقد جعلته وصفا للرجل وإنما كان هذا القدر كافيا في صحة الوصف لأن المقصود من الوصف التخصيص والتمييز وهذا المقصود حاصل من مثل هذا الوصف والله أعلم
المسألة الثانية في قوله وَاجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ نَصِيراً قولان فالأول قال ابن عباس يريدون اجعل علينا رجلا من المؤمنين يوالينا ويقوم بمصالحنا ويحفظ علينا ديننا وشرعنا فأجاب الله تعالى دعاءهم لأن النبي عليه الصلاة والسلام لما فتح مكة جعل عتاب بن أسيد أميراً لهم فكان الولي هو الرسول عليه الصلاة والسلام وكان النصير عتاب بن أسيد وكان عتاب ينصف الضعيف من القوي والذليل من العزيز الثاني المراد واجعل لنا من لدنك ولاية ونصرة والحاصل كن أنت لنا وليا وناصرا
الَّذِينَ ءَامَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ

أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً
واعلم أنه تعالى لما بين وجوب الجهاد بين أنه لا عبرة بصورة الجهاد بل العبرة بالقصد والداعي فالمؤمنون يقاتلون لغرض نصرة دين الله وإعلاء كلمته والكافرون يقاتلون في سبيل الطاغوت وهذه الآية كالدلالة على أن كل من كان غرضه في فعله رضا غير الله فهو في سبيل الطاغوت لأنه تعالى لما ذكر هذه القسمة وهي أن القتال إما أن يكون في سبيل الله أو في سبيل الطاغوت وجب أن يكون ما سوى الله طاغوتا ثم إنه تعالى أمر المقاتلين في سبيل الله بأن يقاتلوا أولياء الشيطان وبين أن كيد الشيطان كان ضعيفا لأن الله ينصر أولياءه والشيطان ينصر أولياءه ولا شك أن نصرة الشيطان لأوليائه أضعف من نصرة الله لأوليائه ألا ترى أن أهل الخير والدين يبقى ذكرهم الجميل على وجه الدهر وان كانوا حال حياتهم في غاية الفقر والذلة وأما الملوك والجبابرة فاذا ماتوا انقرض أثرهم ولا يبقى في الدنيا رسمهم ولا ظلمهم والكيد السعي في فساد الحال على جهة الاحتيال عليه يقال كاده يكيده إذا سعى في إيقاع الضرر على جهة الحيلة عليه وفائدة إدخال ( كان ) في قوله كَانَ ضَعِيفاً للتأكيد لضعف كيده يعني أنه منذ كان كان موصوفا بالضعف والذلة
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلَواة َ وَءَاتُواْ الزَّكَواة َ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَة ِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَة ً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالاٌّ خِرَة ُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً
وفيه مسائل
المسألة الأولى هذه الآية صفة للمؤمنين أو المنافقين فيه قولان الأول أن الآية نزلت في المؤمنين قال الكلبي نزلت في عبد الرحمن بن عوف والمقداد وقدامة بن مظعون وسعد بن أبي وقاص كانوا مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قبل أن يهاجروا إلى المدينة ويلقون من المشركين أذى شديدا فيشكون ذلك إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ويقولون ائذن لنا في قتالهم ويقول لهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كفوا أيديكم فاني لم أومر بقتالهم واشتغلوا باقامة دينكم من الصلاة والزكاة فلما هاجر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى المدينة وأمروا بقتالهم في وقعة بدر كرهه بعضهم فأنزل الله هذه الآية واحتج الذاهبون إلى هذا القول بان الذين يحتاج الرسول أن يقول لهم كفوا عن القتال هم الراغبون في القتال والراغبون في القتال هم المؤمنون فدل هذا على أن الآية نازلة في حق المؤمنين ويمكن الجواب عنه بأن المنافقين كانوا يظهرون من أنفسهم انا مؤمنون وانا نريد قتال الكفار ومحاربتهم فلما أمر الله بقتالهم الكفار أحجم المنافقون عنه وظهر منهم خلاف ما كانوا يقولونه
القول الثاني أن الآية نازلة في حق المنافقين واحتج الذاهبون إلى هذا القول بأن الآية مشتملة على

أمور تدل على أنها مختصة بالمنافقين فالأول أنه تعالى قال في وصفهم يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَة ِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَة ً ( النساء 77 ) ومعلوم أن هذا الوصف لا يليق إلا بالمنافق لأن المؤمن لا يجوز أن يكون خوفه من الناس أزيد من خوفه من الله تعالى والثاني أنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا ربنا لم كتبت علينا القتال والاعتراض على الله ليس إلا من صفة الكفار والمنافقين الثالث أنه تعالى قال للرسول قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالاْخِرَة ُ خَيْرٌ لّمَنِ اتَّقَى وهذا الكلام يذكر مع من كانت رغبته في الدنيا أكثر من رغبته في الآخرة وذلك من صفات المنافقين
وأجاب القائلون بالقول الأول عن هذه الوجوه بحرف واحد وهو أن حب الحياة والنفرة عن القتل من لوازم الطباع فالخشية المذكورة في هذه الآية محمولة على هذا المعنى وقولهم لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ محمول على التمني لتخفيف التكليف لا على وجه الانكار لايجاب الله تعالى وقوله تعالى قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ مذكور لا لأن القوم كانوا منكرين لذلك بل لأجل إسماع الله لهم هذا الكلام مما يهون على القلب أمر هذه الحياة فحينئذ يزول من قلبهم نفرة القتال وحب الحياة ويقدمون على الجهاد بقلب قوي فهذا ما في تقرير هذين القوين والله أعلم والأولى حمل الآية على المنافقين لأنه تعالى ذكر بعد هذه الآية قوله وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَة ٌ يَقُولُواْ هَاذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَة ٌ يَقُولُواْ هَاذِهِ مِنْ عِندِكَ ( النساء 78 ) ولا شك أن من هذا كلام المنافقين فاذا كانت هذه الآية معطوفة على الآية التي نحن في تفسيرها ثم المعطوف في المنافقين وجب أن يكون المعطوف عليهم فيهم أيضا
المسألة الثانية دلت الآية على أن إيجاب الصلاة والزكاة كان مقدما على إيجاب الجهاد وهذا هو الترتيب المطابق لما في العقول لأن الصلاة عبارة عن التعظيم لأمر الله والزكاة عبارة عن الشفقة على خلق الله ولا شك أنهما مقدمان على الجهاد
المسألة الثالثة قوله كَخَشْيَة ِ اللَّهِ مصدر مضاف إلى المفعول
المسألة الرابعة ظاهر قوله أَوْ أَشَدَّ خَشْيَة ً يوهم الشك وذلك على علام الغيوب محال وفيه وجوه من التأويل الأول المراد منه الابهام على المخاطب بمعنى أنهم على إحدى الصفتين من المساواة والشدة وذلك لأن كل خوفين فأحدهما بالنسبة إلى الآخر إما أن يكون أنقص أو مساويا أو أزيد فبين تعالى بهذه الآية أن خوفهم من الناس ليس أنقص من خوفهم من الله بل بقي إما أن يكون مساويا أو أزيد فهذا لا يوجب كونه تعالى شاكا فيه بل يوجب إبقاء الابهام في هذين القسمين على المخاطب الثاني أن يكون ( أو ) بمعنى الواو والتقدير يخشونهم كخشية الله وأشد خشية وليس بين هذين القسمين منافاة لأن من هو أشد خشية فمعه من الخشية مثل خشيته من الله وزيادة الثالث أن هذا نظير قوله وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِاْئَة ِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ( الصافات 147 ) يعني أن من يبصرهم يقول هذا الكلام فكذا ههنا والله أعلم
ثم قال تعالى وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ
واعلم أن هؤلاء القائلين إن كانوا مؤمنين فهم إنما قالوا ذلك لا اعتراضا على الله لكن جزعا من الموت وحبا للحياة وإن كانوا منافقين فمعلوم أنهم كانوا منكرين لكون الرب تعالى كاتبا للقتال عليهم

فقالوا ذلك على معنى أنه تعالى كتب القتال عليهم في زعم الرسول عليه الصلاة والسلام وفي دعواه ثم قالوا لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ وهذا كالعلة لكراهتهم لايجاب القتال عليهم أي هلا تركتنا حتى نموت بآجالنا ثم إنه تعالى أجاب عن شبهتهم فقال قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالاْخِرَة ُ خَيْرٌ لّمَنِ اتَّقَى وإنما قلنا إن الآخرة خير لوجود الأول ان نعم الدنيا قليلة ونعم الآخرة كثيرة والثاني ان نعم الدنيا منقطعة ونعم الآخرة مؤبدة والثالث أن نعم الدنيا مشوبة بالهموم والغموم والمكاره ونعم الآخرة صافية عن الكدرات والرابع أن نعم الدنيا مشكوكة فان أعظم الناس تنعما لا يعرف أنه كيف يكون عاقبته في اليوم الثاني ونعم الآخرة يقينية وكل هذه الوجوه تجب رجحان الآخرة على الدنيا إلا أن هذه الخيرية إنما تحصل للمؤمنين المتقين فلهذا المعنى ذكر تعالى هذا الشرط وهو قوله لِمَنِ اتَّقَى وهذا هو المراد من قوله عليه الصلاة والسلام ( الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر )
ثم قال تعالى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي يَظْلِمُونَ بالياء على أنه راجع إلى المذكورين في قوله الم تَرَى إِلَى الَّذِينَ قِيلَ والباقون بالتاء على سبيل الخطاب ويؤيد التاء قوله قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ فان قوله قُلْ يفيد الخطاب
المسألة الثانية قالت المعتزلة الآية تدل على أنهم يستحقون على طاعتهم الثواب وإلا لما تحقق نفي الظلم وتدل على أنه تعالى يصح منه الظلم وإن كنا نقطع بأنه لا يفعل وإلا لما صح التمدح به
المسألة الثالثة قوله وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً أي لا ينقصون من ثواب أعمالهم مثل فتيل النواة وهو ما تفتله بيدك ثم تلقيه احتقاراً وقد مضى الكلام فيه
أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِى بُرُوجٍ مُّشَيَّدَة ٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَة ٌ يَقُولُواْ هَاذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَة ٌ يَقُولُواْ هَاذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ فَمَا لِهَاؤُلا ءِ الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً
والمقصود من هذا الكلام تبكيت من حكى عنهم أنهم عند فرض القتال يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال فقال تعالى أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ فبين تعالى أنه لا خلاص لهم من الموت والجهاد موت مستعقب لسعادة الآخرة فاذا كان لا بد من الموت فبأن يقع على وجه يكون مستعقباً للسعادة الأبدية كان أولى من أن لا يكون كذلك ونظير هذه الآية قوله قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُمْ مّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ( الأحزاب 16 ) والبروج في كلام العرب هي القصور والحصون وأصلها في اللغة من الظهور يقال تبرجت المرأة إذا أظهرت محاسنها والمشيدة المرتفعة وقرىء مُّشَيَّدَة ٍ قال صاحب ( الكشاف ) من شاد إذا رفعه أو طلاه بالشيد وهو الجص وقرأ نعيم بن ميسرة بكسر الياء وصفاً لها بفعل فاعلها مجازا كما قالوا قصيدة شاعرة وإنما الشاعر قائلها

قوله تعالى وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَة ٌ يَقُولُواْ هَاذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَة ٌ يَقُولُواْ هَاذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ
اعلم أنه تعالى لما حكى عن المنافقين كونهم متثاقلين عن الجهاد خائقين من الموت غير راغبين في سعادة الآخرة حكى عنهم في هذه الآية خصلة أخرى قبيحة أقبح من الأولى وفي النظم وجه آخر وهو أن هؤلاء الخائفين من الموت المتثاقلين في الجهاد من عادتهم أنهم إذا جاهدوا وقاتلوا فان أصابوا واحدة وغنيمة راحة قالوا هذه من عند الله وإن أصابهم مكروه قالوا هذا من شؤم مصاحبة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهذا يدل على غاية حمقهم وجهلهم وشدة عنادهم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى ذكروا في الحسنة والسيئة وجوها الأول قال المفسرون كانت المدينة مملوءة من النعم وقت مقدم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فلما ظهر عناد اليهود ونفاق المنافقين أمسك الله عنهم بعض الامساك كما جرت عادته في جميع الأمم قال تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَة ٍ مّن نَّبِى ٍّ إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء فعند هذا قال اليهود والمنافقون ما رأينا أعظم شؤما من هذا الرجل نقصت ثمارنا وغلت أسعارنا منذ قدم فقوله تعالى وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَة ٌ يعني الخصب ورخص السعر وتتابع الأمطار قالوا هذا من عند الله وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَة ٌ جدب وغلاء سعر قالوا هذا من شؤم محمد وهذا كقوله تعالى فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَة ُ قَالُواْ لَنَا هَاذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَة ٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ ( الأعراف 131 ) وعن قوم صالح قَالُواْ اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ
القول الثاني المراد من الحسنة النصر على الاعداء والغنيمة ومن السيئة القتل والهزيمة قال القاضي والقول الأول هو المعتبر لأن اضافة الخصب والغلاء إلى الله وكثرة النعم وقلتها إلى الله جائزة أما إضافة النصر والهزيمة إلى الله فغير جائزة لأن السيئة إذا كانت بمعنى الهزيمة والقتل لم يجز إضافتها إلى الله وأقول القول كما قال على مذهبه أما على مذهبنا فالكل داخل في قضاء الله وقدره
المسألة الثانية اعلم أن السيئة تقع على البلية والمعصية والحسنة على النعمة والطاعة قال تعالى وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( الأعراف 168 ) وقال إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيّئَاتِ ( هود 114 )
إذا عرفت هذا فنقول قوله وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَة ٌ يفيد العموم في كل الحسنات وكذلك قوله وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَة ٌ يفيد العموم في كل السيئات ثم قال بعد ذلك قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ اللَّهِ فهذا تصريح بأن جميع الحسنات والسيئات من الله ولما ثبت بما ذكرنا أن الطاعات والمعاصي داخلتان تحت اسم الحسنة والسيئة كانت الآية دالة على أن جميع الطاعات والمعاصي من الله وهو المطلوب
فان قيل المراد ههنا بالحسنة والسيئة ليس هو الطاعة والمعصية ويدل عليه وجوه الأول اتفاق الكل على أن هذه الآية نازلة في معنى الخصب والجدب فكانت مختصة بهما الثاني أن الحسنة التي يراد بها الخير والطاعة لا يقال فيها أصابتني إنما يقال أصبتها وليس في كلام العرب أصابت فلانا حسنة بمعنى عمل خيرا أو أصابته سيئة بمعنى عمل معصية فعلى هذا لو كان المراد ما ذكرتم لقال ان أصبتم حسنة الثالث لفظ الحسنة واقع بالاشتراك على الطاعة وعلى المنفعة وههنا أجمع المفسرون على أن المنفعة

مرادة فيمتنع كون الطاعة مرادة ضرورة أنه لا يجوز استعمال اللفظ المشترك في مفهوميه معا
فالجواب عن الأول أنكم تسلمون أن خصوص السبب لا يقدح في عموم اللفظ
والجواب عن الثاني أنه يصح أن يقال أصابني توفيق من الله وعون من الله وأصابه خذلان من الله ويكون مراده من ذلك التوفيق والعون تلك الطاعة ومن الخذلان تلك المعصية
والجواب عن الثالث أن كل ما كان منتفعا به فهو حسنة فان كان منتفعا به في الآخرة فهو الطاعة وإن كان منتفعا به في الدنيا فهو السعادة الحاضرة فاسم الحسنة بالنسبة إلى هذين القسمين متواطىء الاشتراك فزال السؤال فثبت أن ظاهر الآية يدل على ما ذكرناه ومما يدل على أن المراد ليس إلا ذاك ما ثبت في بدائه العقول أن كل موجود فهو إما واجب لذاته وإما ممكن لذاته والواجب لذاته واحد وهو الله سبحانه وتعالى والممكن لذاته كل ما سواه فالممكن لذاته إن استغنى عن المؤثر فسد الاستدلال بجواز العالم وحدوثه على وجود الصانع وحينئذ يلزم نفي الصانع وإن كان الممكن لذاته محتاجا إلى المؤثر فاذا كان كل ما سوى الله ممكنا كان كل ما سوى الله مستنداً إلى الله وهذا الحكم لا يختلف بأن يكون ذلك الممكن ملكا أو جمادا أو فعلا للحيوان أو صفة للنبات فان الحكم لاستناد الممكن لذاته إلى الواجب لذاته لما بينا من كونه ممكنا كان الكل فيه على السوية وهذا برهان أوضح وأبين من قرص الشمس على أن الحق ما ذكره تعالى وهو قوله قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ اللَّهِ
ثم قال تعالى فَمَالِ هَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً وفيه مسائل
المسألة الأولى انه لما كان البرهان الدال على أن كل ما سوى الله مستنداً إلى الله على الوجه الذي لخصانه في غاية الظهور والجلاء قال تعالى فَمَالِ هَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً وهذا يجري مجرى التعجب من عدم وقوفهم على صحة هذا الكلام مع ظهوره قالت المعتزلة بل هذه الآية دالة على صحة قولنا لأنه لو كان حصول الفهم والمعرفة بتخليق الله تعالى لم يبق هذا التعجب معنى ألبتة لأن السبب في عدم حصول هذه المعرفة هو أنه تعالى ما خلقها وما أوجدها وذلك يبطل هذا التعجب فحصول هذا التعجب يدل على أنه إنما تحصل بايجاد العبد لا بايجاد الله تعالى
واعلم أن هذا الكلام ليس إلا التمسك بطريقة المدح والذم وقد ذكرنا أنها معارضة بالعلم
المسألة الثانية قالت المعتزلة أجمع المفسرون على أن المراد من قوله لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً أنهم لا يفقهون هذه الآية المذكورة في هذا الموضع وهذا يقتضي وصف القرآن بأنه حديث والحديث فعيل بمعنى مفعول فيلزم منه أن يكون القرآن محدثا
والجواب مرادكم بالقرآن ليس إلا هذه العبارات ونحن لا ننازع في كونها محدثة
المسألة الثالثة الفقه الفهم يقال أوتى فلانا فقها ومنه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) لابن عباس ( فقهه في التأويل ) أي فهمه

مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَة ٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَة ٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً
قال أبو علي الجبائي قد ثبت أن لفظ السيئة تارة يقع على البلية والمحنة وتارة يقع على الذنب والمعصية ثم إنه تعالى أضاف السيئة إلى نفسه في الآية الأولى بقوله قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ اللَّهِ ( النساء 78 ) وأضافها في هذه الآية إلى العبد بقوله وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيّئَة ٍ فَمِن نَّفْسِكَ ( النساء 79 ) فلا بد من التوفيق بين هاتين الآيتين وإزالة التناقض عنهما ولما كانت السيئة بمعنى البلاء والشدة مضافة إلى الله وجب أن تكون السيئة بمعنى المعصية مضافة إلى العبد حتى يزول التناقض بين هاتين الآيتين المتجاورتين قال وقد حمل المخالفون أنفسهم على تغيير الآية وقرؤا فَمَنْ فغيروا القرآن وسلكوا مثل طريقة الرافضة من ادعاء التغيير في القرآن
فان قيل فلماذا فصل تعالى بين الحسنة والسيئة في هذه الآية فأضاف الحسنة التي هي الطاعة إلى نفسه دون السيئة وكلاهما فعل العبد عندكم
قلنا لأن الحسنة وإن كانت من فعل العبد فانما وصل اليها بتسهيله تعالى وألطافه فصحت الاضافة إليه وأما السيئة التي هي من فعل العبد فهي غير مضافة إلى الله تعالى لا بأنه تعالى فعلها ولا بأنه أرادها ولا بأنه أمر بها ولا بأنه رغب فيها فلا جرم انقطعت إضافة هذه السيئة من جميع الوجوه إلى الله تعالى هذا منتهى كلام الرجل في هذا الموضع
ونحن نقول هذه الآية دالة على أن الايمان حصل بتخليق الله تعالى والقوم لا يقولون به فصاروا محجوجين بالآية
إنما قلنا إن الآية دالة على ذلك لأن الايمان حسنة وكل حسنة فمن الله
إنما قلنا إن الايمان حسنة لأن الحسنة هي الغبطة الخالية عن جميع جهات القبح ولا شك أن الايمان كذلك فوجب أن يكون حسنة لأنهم اتفقوا على أن قوله رَّحِيمٍ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ ( فصلت 33 ) المراد به كلمة الشهادة وقيل في قوله إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإْحْسَانِ ( النحل 90 ) قيل هو لا إله إلا الله فثبت أن الايمان حسنة وإنما قلنا إن كل حسنة من الله لقوله تعالى مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَة ٍ فَمِنَ اللَّهِ ( النساء 79 ) وقوله مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَة ٍ يفيد العموم في جميع الحسنات ثم حكم على كلها بأنها من الله فيلزم من هاتين المقدمتين أعني أن الايمان حسنة وكل حسنة من الله القطع بأن الايمان من الله
فان قيل لم لا يجوز أن يكون المراد من كون الايمان من الله هو أن الله أقدره عليه وهداه إلى معرفة حسنة وإلى معرفة قبح ضده الذي هو الكفر
قلنا جميع الشرائع مشتركة بالنسبة إلى الايمان والكفر عندكم ثم إن العبد باختيار نفسه أوجد الايمان ولا مدخل لقدرة الله وإعانته في نفس الايمان فكان الايمان منقطعا عن الله في كل الوجوه فكان هذا مناقضا لقوله مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَة ٍ فَمِنَ اللَّهِ فثبت بدلالة هذه الآية أن الايمان من الله والخصوم لا

يقولون به فصاروا محجوجين في هذه المسألة ثم إذا أردنا أن نبين أن الكفر أيضا من الله
قلنا فيه وجوه الأول أن كل من قال الايمان من الله قال الكفر من الله فالقول بأن أحدهما من الله دون الآخر مخالف لاجماع الأمة الثاني أن العبد لو قدر على تحصيل الكفر فالقدرة الصالحة لايجاد الكفر إما أن تكون صالحة لايجاد الايمان أو لا تكون فان كانت صالحة لايجاد الايمان فحينئذ يعود القول في أن إيمان العبد منه وإن لم تكن صالحة لايجاد الايمان فحينئذ يكون القادر على الشيء غير قادر على ضده وذلك عندهم محال ولأن على هذا التقدير تكون القدرة موجبة للمقدور وذلك يمنع من كونه قادرا عليه فثبت أنه لما لم يكن الايمان منه وجب أن لا يكون الكفر منه الثالث أنه لما لم يكن العبد موجدا للايمان فبأن لا يكون موجدا للكفر أولى وذلك لأن المستقل بايجاد الشيء هو الذي يمكنه تحصيل مراده ولا نرى في الدنيا عاقلا إلا ويريد أن يكون الحاصل في قلبه هو الايمان والمعرفة والحق وإن أحدا من العقلاء لا يريد أن يكون الحاصل في قلبه هو الجهل والضلال والاعتقاد الخطأ فاذا كان العبد موجداً لأفعال نفسه وهو لا يقصد إلا تحصيل العلم الحق المطابق وجب أن لا يحصل في قلبه إلا الحق فاذا كان الايمان الذي هو مقصوده ومطلوبه ومراده لم يقطع بايجاده فبأن يكون الجهل الذي ما أراده وما قصد تحصيله وكان في غاية النفرة عنه والفرار منه غير واقع بايجاده وتكوينه كان ذلك أولى والحاصل أن الشبهة في أن الايمان واقع بقدرة العبد أشد من الشبهة في وقوع الكفر بقدرته فلما بين تعالى في الايمان أنه من الله ترك ذكر الكفر للوجه الذي ذكرناه فهذا جملة الكلام في بيان دلالة هذه الآية على مذهب إمامنا
أما ما احتج الجبائي به على مذهبه من قوله وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيّئَة ٍ فَمِن نَّفْسِكَ
فالجواب عنه من وجهين الأول أنه تعالى قال حكاية عن ابراهيم عليه السلام وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ( الشعراء 80 ) أضاف المرض إلى نفسه والشفاء إلى الله فلم يقدح ذلك في كونه تعالى خالقا للمرض والشفاء بل إنما فصل بينهما رعاية الأدب فكذا ههنا فانه يقال يا مدبر السموات والأرض ولا يقال يا مدبر القمل والصبيان والخنافس فكذا ههنا الثاني أكثر المفسرين قالوا في تفسير قول ابراهيم هَاذَا رَبّى أنه ذكر هذا استفهاما على سبيل الانكار كأنه قال أهذا ربي فكذا ههنا كأنه قيل الايمان الذي وقع على وفق قصده قد بينا أنه ليس واقعا منه بل من الله فهذا الكفر ما قصده وما أراده وما رضي به ألبتة أفيدخل في العقل أن يقال إنه وقع به فانا بينا أن الحسنة في هذه الآية يدخل فيها الايمان والسيئة يدخل فيها الكفر أما قراءة من قرأ فَمَنْ فنقول إن صح أنه قرأ بهذه الآية واحد من الصحابة والتابعين فلا طعن فيه وإن لم يصح ذلك فالمراد أن من حمل الآية على أنها وردت على سبيل الاستفهام على وجه الانكار ذكر في تفسير الاستفهام على سبيل الانكار هذا الكلام لأنه لما أضاف السيئة اليهم في معرض الاستفهام على سبيل الانكار كان المراد أنها غير مضافة اليهم فذكر هذا القائل قوله فَمَنْ ( النساء 79 ) لا على اعتقاد أنه من القرآن بل لأجل أنه يجري مجرى التفسير لقولنا إنه استفهام على سبيل الانكار ومما يدل دلالة ظاهرة على أن المراد من هذه الآيات إسناد جميع الأمور إلى الله تعالى قوله تعالى بعد هذه الآية نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً يعني ليس لك إلا الرسالة والتبليغ وقد فعلت ذلك وما قصرت وَكَفَى بِاللَّهِ

شَهِيداً ( النساء 166 ) على جدك وعدم تقصيرك في أداء الرسالة وتبليغ الوحي فأما حصول الهداية فليس إليك بل إلى الله ونظيره قوله تعالى لَيْسَ لَكَ مِنَ الاْمْرِ شَى ْء وقوله إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء ( القصص 56 ) فهذا جملة ما خطر بالبال في هذه الآية والله أعلم بأسرار كلامه
ثم إنه تعالى أكد هذا الذي قلناه
مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً
والمعنى أن من أطاع الرسول لكونه رسولا مبلغا إلى الخلق أحكام الله فهو في الحقيقة ما أطاع إلا الله وذلك في الحقيقة لا يكون إلا بتوفيق الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا فان من أعماه الله عن الرشد وأضله عن الطريق فان أحداً من الخلق لا يقدر على إرشاده
واعلم أن من أنار الله قلبه بنور الهداية قطع بأن الأمر كما ذكرنا فانك ترى الدليل الواحد تعرضه على شخصين في مجلس واحد ثم إن أحدهما يزداد إيماناً على إيمان عند سماعه والآخر يزداد كفراً على كفر عند سماعه ولو أن المحب لذلك الكلام أراد أن يخرج عن قلبه حب ذلك الكلام واعتقاد صحته لم يقدر عليه ولو أن المبغض له أراد أن يخرج عن قلبه بغض ذلك الكلام واعتقاد فساده لم يقدر ثم بعد أيام ربما انقلب المحب مبغضا والمبغض محباً فمن تأمل للبرهان القاطع الذي ذكرناه في أنه لا بد من إسناد جميع الممكنات إلى واجب الوجود ثم اعتبر من نفسه الاستقراء الذي ذكرناه ثم لم يقطع بأن الكل بقضاء الله وقدره فليجعل واقعته من أدل الدلائل على أنه لا تحصل الهداية إلا بخلق الله من جهة أن مع العلم بمثل هذا الدليل ومع العلم بمثل هذا الاستقراء لما لم يحصل في قلبه هذا الاعتقاد عرف أنه ليس ذلك إلا بأن الله صده عنه ومنعه منه بقي في الآية مسائل
المسألة الأولى قوله مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ من أقوى الدلائل على أنه معصوم في جميع الأوامر والنواهي وفي كل ما يبلغه عن الله لأنه لو أخطأ في شيء منها لم تكن طاعته طاعة الله وأيضا وجب أن يكون معصوما في جميع أفعاله لأنه تعالى أمر بمتابعته في قوله فَاتَّبَعُوهُ ( الأنعام 153 155 ) والمتابعة عبارة عن الاتيان بمثل فعل الغير لأجل أنه فعل ذلك الغير فكان الآتي بمثل ذلك الفعل مطيعاً لله في قوله فَاتَّبَعُوهُ فثبت أن الانقياد له في جميع أقواله وفي جميع أفعاله إلا ما خصه الدليل طاعة لله وانقياد لحكم الله
المسألة الثانية قال الشافعي رضي الله عنه في كتاب الرسالة في باب فرض الطاعة للرسول ان قوله تعالى مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ يدل على أن كل تكليف كلف الله به عباده في باب الوضوء والصلاة والزكاة والصوم والحج وسائر الأبواب في القرآن ولم يكن ذلك التكليف مبينا في القرآن فحينئذ لا سبيل لنا إلى القيام بتلك التكاليف إلا ببيان الرسول وإذا كان الأمر كذلك لزم القول بأن طاعة الرسول عين طاعة الله هذا معنى كلام الشافعي

المسألة الثالثة قوله مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ يدل على أنه لا طاعة إلا لله ألبتة وذلك لأن طاعة الرسول لكونه رسولا فيما هو فيه رسول لا تكون إلا طاعة لله فكانت الآية دالة على أنه لا طاعة لأحد إلا لله قال مقاتل في هذه الآية ان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يقول ( من أحبني فقد أحب الله ومن أطاعني فقد أطاع الله ) فقال المنافقون لقد قارب هذا الرجل الشرك وهو أن ينهي أن نعبد غير الله ويريد أن نتخذه ربا كما اتخذت النصارى عيسى فأنزل الله هذه الآية
واعلم أنا بينا كيفية دلالة الآية على أنه لا طاعة ألبتة للرسول وإنما الطاعة لله أما قوله وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً ففيه قولان أحدهما أن المراد من التولي هو التولي بالقلب يعني يا محمد حكمك على الظواهر أما البواطن فلا تتعرض لها والثاني أن المراد به التولي بالظاهر ثم ههنا ففي قوله فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً قولان الأول معناه فلا ينبغي أن تغتم بسبب ذلك التولي وأن تحزن فما أرسلناك لتحفظ الناس عن المعاصي والسبب في ذلك أنه عليه الصلاة والسلام كان يشتد حزنه بسبب كفرهم وإعراضهم فالله تعالى ذكر هذا الكلام تسلية له عليه الصلاة والسلام عن ذلك الحزن الثاني أن المعنى فما أرسلناك لتشتغل بزجرهم عن ذلك لتولى وهو كقوله لا إِكْرَاهَ فِى الدّينِ ( البقرة 256 ) ثم نسخ هذا بعده بآية الجهاد
وَيَقُولُونَ طَاعَة ٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَة ٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِى تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً
أي ويقولون إذا أمرتهم بشيء طَاعَة ٌ بالرفع أي أمرنا وشأننا طاعة ويجوز النصب بمعنى أطعناك طاعة وهذا كما إذا قال الرجل المطيع المنقاد سمعا وطاعة وسمع وطاعة قال سيبويه سمعنا بعض العرب الموثوق بهم يقال لهم كيف أصبحت فيقول حمدالله وثناء عليه كأنه قال أمرى وشأني حمدا لله
واعلم أن النصب يدل على مجرد الفعل وأما الرفع فانه يدل على ثبات الطاعة واستقرارها فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ أي خرجوا من عندك بَيَّتَ طَائِفَة ٌ مّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِى تَقُولُ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الزجاج كل أمر تفكروا فيه كثيراً وتأملوا في مصالحه ومفاسده كثيراً قيل هذا أمر مبيت قال تعالى إِذْ يُبَيّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ ( النساء 108 ) وفي اشتقاقه وجهان الأول اشتقاقه من البيتوتة لأن أصلح الأوقات للفكر أن يجلس الانسان في بيته بالليل فهناك تكون الخواطر أخلى والشواغل أقل فلما كان الغالب أن الانسان وقت الليل يكون في البيت والغالب له أنه إنما يستقصي في الأفكار في الليل لا جرم سمي الفكر المستقصى مبيتا الثاني اشتقاقه من بيت الشعر قال الأخفش العرب إذا أرادوا قرض الشعر بالغوا في التفكر فيه فسموا المتفكر فيه المستقصى مبيتا تشبيها له ببيت الشعر من حيث أنه يسوى ويدبر

المسألة الثانية أنه تعالى خص طائفة من جملة المنافقين بالتبييت وفي هذا التخصيص وجهان أحدهما أنه تعالى ذكر من علم أنه يبقى على كفره ونفاقه فأما من علم أنه يرجع عن ذلك فانه لم يذكرهم والثاني أن هذه الطائفة كانوا قد أسهروا ليلهم في التبييت وغيرهم سمعوا وسكتوا ولم يبيتوا فلا جرم لم يذكروا
المسألة الثالثة قرأ أبو عمرو وحمزة بَيَّتَ طَائِفَة ٌ بادغام التاء في الطاء والباقون بالاظهار أما من أدغم فله فيه وجهان الأول قال الفراء جزموا لكثرة الحركات فلما سكنت التاء أدغمت في الطاء والثاني أن الطاء والدال والتاء من حيز واحد فالتقارب الذي بينها يجريها مجرى الأمثال في الادغام ومما يحسن هذا الادغام أن الطاء تزيد على التاء بالاطباق فحسن إدغام الأنقص صوتاً في الأزيد صوتاً أما من لم يدغم فعلته أنهما حرفان من مخرجين في كلمتين متفاصلتين فوجب إبقاء كل واحد منهما بحاله
المسألة الرابعة قال بَيَّتَ بالتذكير ولم يقل بيتت بالتأنيث لأن تأنيث الطائفة غير حقيقي ولأنها في معنى الفريق والفوج قال صاحب ( الكشاف ) بَيَّتَ طَائِفَة ٌ أي زورت وزينت خلاف ما قلت وما أمرت به أو خلاف ما قالت وما ضمنت من الطاعة لأنهم أبطنوا الرد لا القبول والعصيان لا الطاعة
ثم قال تعالى وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيّتُونَ ذكر الزجاج فيه وجهين أحدهما أن معناه ينزل اليك في كتابه والثاني يكتب ذلك في صحائف أعمالهم ليجازوا به
ثم قال تعالى فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ والمعنى لا تهتك سترهم ولا تفضحهم ولا تذكرهم بأسمائهم وإنما أمر الله بستر أمر المنافقين إلى أن يستقيم أمر الإسلام ثم قال وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ في شأنهم فان الله يكفيك شرهم وينتقم منهم وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً لمن توكل عليه قال المفسرون كان الأمر بالاعراض عن المنافقين في ابتداء الإسلام ثم نسخ ذلك بقوله جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ ( التوبة 73 التحريم 9 ) وهذا الكلام فيه نظر لأن الأمر بالصفح مطلق فلا يفيد إلا المرة الواحدة فورود الأمر بعد ذلك بالجهاد لا يكون ناسخا له
أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً
اعلم أنه تعالى لما حكى عن المنافقين أنواع مكرهم وكيدهم وكان كل ذلك لأجل أنهم ما كانوا يعتقدون كونه محقا في ادعاء الرسالة صادقا فيه بل كانوا يعتقدون أنه مفتر متخرص فلا جرم أمرهم الله تعالى بأن ينظروا ويتفكروا في الدلائل الدالة على صحة نبوته فقال أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً فاحتج تعالى بالقرآن على صحة نبوته وفي الآية مسائل
المسألة الأولى التدبير والتدبر عبارة عن النظر في عواقب الأمور وأدبارها ومنه قوله إلام تدبروا أعجاز أمور قد ولت صدورها ويقال في فصيح الكلام لو استقبلت من أمري ما استدبرت أي لو عرفت في صدر أمري ما عرفت من عاقبته
المسألة الثانية اعلم أن ظاهر الآية يدل على أنه تعالى احتج بالقرآن على صحة نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) إذ لو

تحمل الآية على ذلك لم يبق لها تعلق بما قبلها ألبتة والعلماء قالوا دلالة القرآن على صدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من ثلاثة أوجه أولها فصاحته وثانيها اشتماله على الاخبار عن الغيوب والثالث سلامته عن الاختلاف وهذا هو المذكور في هذه الآية ثم القائلون بهذا القول ذكروا في تفسير سلامته عن الاختلاف ثلاثة أوجه الأول قال أبو بكر الأصم معناه أن هؤلاء المنافقين كانوا يتواطئون في السر على أنواع كثيرة من المكر والكيد والله تعالى كان يطلع الرسول عليه الصلاة والسلام على تلك الأحوال حالا فحالا ويخبره عنها على سبيل التفصيل وما كانوا يجدون في كل ذلك إلا الصدق فقيل لهم إن ذلك لو لم يحصل باخبار الله تعالى وإلا لما اطرد الصدق فيه ولظهر في قول محمد أنواع الاختلاف والتفاوت فلما لم يظهر ذلك علمنا أن ذلك ليس إلا باعلام الله تعالى والثاني وهو الذي ذهب اليه أكثر المتكلمين أن المراد منه أن القرآن كتاب كبير وهو مشتمل على أنواع كثيرة من العلوم فلو كان ذلك من عند غير الله لوقع فيه أنواع من الكلمات المتناقضة لأن الكتاب الكبير الطويل لا ينفك عن ذلك ولما لم يوجد فيه ذلك علمنا أنه ليس من عند غير الله
فان قيل أليس أن قوله وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة ٌ إِلَى رَبّهَا نَاظِرَة ٌ ( القيامة 23 ) كالمناقض لقوله تعالى لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَارُ ( الأنعام 103 ) وآيات الجبر كالمناقضة لآيات القدر وقوله فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ( الحجر 92 ) كالمناقض لقوله فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْئَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ ( الرحمن 39 )
قلنا قد شرحنا في هذا التفسير أنه لا منافاة ولا مناقضة بين شيء منها ألبتة
الوجه الثالث في تفسير قولنا القرآن سليم عن الاختلاف ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني وهو أن المراد منه الاختلاف في رتبة الفصاحة حتى لا يكون في جملته ما يعد في الكلام الركيك بل بقيت الفصاحة فيه من أوله إلى آخره على نهج واحد ومن المعلوم أن الانسان وإن كان في غاية البلاغة ونهاية الفصاحة فاذا كتب كتابا طويلا مشتملا على المعاني الكبيرة فلا بد وأن يظهر التفاوت في كلامه بحيث يكون بعضه قويا متينا وبعضه سخيفا نازلا ولما لم يكن القرآن كذلك علمنا أنه لمعجز من عند الله تعالى وضرب القاضي لهذا مثلا فقال ان الواحد منا لا يمكنه أن يكتب الطوامير الطويلة بحيث لا يقع في شيء من تلك الحروف خلل ونقصان حتى لو رأينا الطوامير الطويلة مصونة عن مثل هذا الخلل والنقصان لكان ذلك معدودا في الاعجاز فكذا ههنا
المسألة الثالثة دلت الآية على أن القرآن معلوم المعنى خلاف ما يقوله من يذهب إلى أنه لا يعلم معناه إلا النبي والامام المعصوم لأنه لو كان كذلك لما تهيأ للمنافقين معرفة ذلك بالتدبر ولما جاز أن يأمرهم الله تعالى به وأن يجعل القرآن حجة في صحة نبوته ولا أن يجعل عجزهم عن مثله حجة عليهم كما لا يجوز أن يحتج على كفار الزنج بمثل ذلك
المسألة الرابعة دلت الآية على وجوب النظر والاستدلال وعلى القول بفساد التقليد لأنه تعالى أمر المنافقين بالاستدلال بهذا الدليل على صحة نبوته واذا كان لا بد في صحة نبوته من الاستدلال فبأن يحتاج في معرفة ذات الله وصفاته إلى الاستدلال كان أولى
المسألة الخامسة قال أبو علي الجبائي دلت الآية على أن أفعال العباد غير مخلوقة لله تعالى لأن قوله

تعالى وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً يقتضي أن فعل العبد لا ينفك عن الاختلاف والاختلاف والتفاوت شيء واحد فاذا كان فعل العبد لا ينفك عن الاختلاف والتفاوت وفعل الله لا يوجد فيه التفاوت لقوله تعالى مَّا تَرَى فِى خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ ( الملك 3 ) فهذا يقتضي أن فعل العبد لا يكون فعلا لله
والجواب أن قوله مَّا تَرَى فِى خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ معناه نفي التفاوت في أنه يقع على وفق مشيئته بخلاف غيره فان فعل غيره لا يقع على وفق مشيئته على الاطلاق
وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الاٌّ مْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِى الاٌّ مْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً
اعلم أنه تعالى حكى عن المنافقين في هذه الآية نوعا آخر من الأعمال الفاسدة وهو أنه إذا جاءهم الخبر بأمر من الأمور سواء كان ذلك الأمر من باب الأمن أو من باب الخوف أذاعوه وأفشوه وكان ذلك سبب الضرر من وجوه الأول أن مثل هذه الارجافات لا تنفك عن الكذب الكثير والثاني أنه إن كان ذلك الخبر في جانب الأمن زادوا فيه زيادات كثيرة فاذا لم توجد تلك الزيادات أورث ذلك شبهة للضعفاء في صدق الرسول عليه السلام لأن المنافقين كانوا يروون تلك الارجافات عن الرسول وإن كان ذلك في جانب الخوف تشوش الأمر بسببه على ضعفاء المسلمين ووقعوا عنده في الحيرة والاضطراب فكانت تلك الارجافات سببا للفتنة من هذا الوجه
الوجه الثالث وهو أن الارجاف سبب لتوفير الدواعي على البحث الشديد والاستقصاء التام وذلك سبب لظهور الأسرار وذلك مما لا يوافق مصلحة المدينة الرابع أن العداوة الشديدة كانت قائمة بين المسلمين وبين الكفار وكان كل واحد من الفريقين في إعداد آلات الحرب وفي انتهاز الفرصة فيه فكل ما كان آمناً لأحد الفريقين كان خوفا للفريق الثاني فان وقع خبر الأمن للمسلمين وحصول العسكر وآلات الحرب لهم أرجف المنافقون بذلك فوصل الخبر في أسرع مدة إلى الكفار فأخذوا في التحصن من المسلمين وفي الاحتراز عن استيلائهم عليهم وإن وقع خبر الخوف للمسلمين بالغوا في ذلك وزادوا فيه وألقوا الرعب في قلوب الضعفة والمساكين فظهر من هذا أن ذلك الارجاف كان منشأ للفتن والآفات من كل الوجوه ولما كان الأمر كذلك ذم الله تلك الاذاعة وذلك التشهير ومنعهم منه
واعلم أن قوله أذاعه به لغتان
ثم قال تعالى وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِى الاْمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ

وفيه مسائل
المسألة الأولى في أُوْلِى الاْمْرِ قولان أحدهما إلى ذوي العلم والرأي منهم والثاني إلى أمراء السرايا وهؤلاء رجحوا هذا القول على الأول قالوا لأن أولي الأمر الذين لهم أمر على الناس وأهل العلم ليسوا كذلك إنما الأمراء هم الموصوفون بأن لهم أمراً على الناس
وأجيب عنه بأن العلماء إذا كانوا عالمين بأوامر الله ونواهيه وكان يجب على غيرهم قبول قولهم لم يبعد أن يسموا أولي الأمر من هذا الوجه والذي يدل عليه قوله تعالى لّيَتَفَقَّهُواْ فِى الدّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ( التوبة 122 ) فأوجب الحذر بانذراهم وألزم المنذرين قبول قولهم فجاز لهذا المعنى إطلاق اسم أولي الأمر عليهم
المسألة الثانية الاستنباط في اللغة الاستخراج يقال استنبط الفقيه إذا استخرج الفقه الباطن باجتهاده وفهمه وأصله من النبط وهو الماء الذي يخرج من البئر أول ما تحفر والنبط إنما سموا نبطا لاستنباطهم الماء من الأرض
المسألة الثالثة في قوله الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ قولان الأول أنهم هم أولئك المنافقون المذيعون والتقدير ولو أن هؤلاء المنافقين المذيعين ردوا أمر الأمن والخوف إلى الرسول وإلى أولي الأمر وطلبوا معرفة الحال فيه من جهتهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم وهم هؤلاء المنافقون المذيعون منهم أي من جانب الرسول ومن جانب أولي الأمر
القول الثاني أنهم طائفة من أولي الأمر والتقدير ولو أن المنافقين ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر لكان علمه حاصلا عند من يستنبط هذه الوقائع من أولي الأمر وذلك لأن أولي الأمر فريقان بعضهم من يكون مستنبطا وبعضهم من لا يكون كذلك فقوله مِنْهُمْ يعني لعلمه الذين يستنبطون المخفيات من طوائف أولي الأمر
فان قيل إذا كان الذين أمرهم الله برد هذه الأخبار إلى الرسول وإلى أولي الأمر هم المنافقون فكيف جعل أولي الأمر منهم في قوله وَإِلَى أُوْلِى الاْمْرِ مِنْهُمْ
قلنا إنما جعل أولي الأمر منهم على حسب الظاهر لأن المنافقين يظهرون من أنفسهم أنهم يؤمنون ونظيره قوله تعالى وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطّئَنَّ وقوله مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مّنْهُمْ والله أعلم
المسألة الرابعة دلت هذه الآية على أن القياس حجة في الشرع وذلك لأن قوله الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ صفة لأولي الأمر وقد أوجب الله تعالى على الذين يجيئهم أمر من الأمن أو الخوف أن يرجعوا في معرفته إليهم ولا يخلوا إما أن يرجعوا اليهم في معرفة هذه الوقائع مع حصول النص فيها أولا مع حصول النص فيها والأول باطل لأن على هذا التقدير لا يبقى الاستنباط لأن من روى النص في واقعة لا يقال إنه استنبط الحكم فثبت أن الله أمر المكلف برد الواقعة إلى من يستنبط الحكم فيها ولولا أن الاستنباط حجة لما أمر المكلف بذلك فثبت أن الاستنباط حجة والقياس إما استنباط أو داخل فيه فوجب أن يكون حجة إذا ثبت هذا فنقول الآية دالة على أمور أحدها أن في أحكام الحوادث ما لا يعرف بالنص بل بالاستنباط وثانيها أن الاستنباط حجة وثالثها أن العامي يجب عليه تقليد العلماء في أحكام الحوادث ورابعها أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان مكلفا باستنباط الأحكام لأنه تعالى أمر بالرد إلى الرسول وإلى أولي الأمر

ثم قال تعالى لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ولم يخصص أولي الأمر بذلك دون الرسول وذلك يوجب أن الرسول وأولي الأمر كلهم مكلفون بالاستنباط
فان قيل لا نسلم أن المراد بقوله الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ هم أولوا الأمر بل المراد منهم المنافقون المذيعون على ما رويتم هذا القول في تفسير الآية سلمنا أن المراد بالذين يستنبطونه منهم أولو الأمر لكن هذه الآية إنما نزلت في شأن الوقائع المتعلقة بالحروب والجهاد فهب أن الرجوع إلى الاستنباط جائز فيها فلم قلتم إنه يلزم جوازه في الوقائع الشرعية فان قيس أحد البابين على الآخر كان ذلك إثباتا للقياس الشرعي بالقياس الشرعي وإنه لا يجوز سلمنا أن الاستنباط في الأحكام الشرعية داخل تحت الآية فلم قلتم إنه يلزم أيكون القياس حجة بيانه أنه يمكن أن يكون المراد من الاستنباط استخراج الأحكام من النصوص الخفية أو من تركيبات النصوص أو المراد من استخراج الأحكام من البراءة الاصلية أو مما ثبت بحكم العقل كما يقول الاكثرون ان الاصل في المنافع الاباحة وفي المضار الحرمة سلمنا أن القياس من الشرعي داخل في الآية لكن بشرط أن يكون ذلك القياس مفيداً للعلم بدليل قوله تعالى لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ فاخبر تعالى في هذه الآية أنه يحصل العلم من هذا الاستنباط ولا نزاع في مثل هذا القياس انما النزاع في أن القياس الذي يفيد الظن هل هو حجة في الشرع أم لا والجواب
أما في السؤال الأول فمدفوع لانه لو كان المراد بالذين يستنبطونه المنافقين لكان الأولى أن يقال ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلموه لأن عطف المظهر على المضمر وهو قوله وَلَوْ رَدُّوهُ قبيح مستكره
وأما السؤال الثاني فمدفوع لوجهين الأول أن قوله وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ الاْمْنِ أَوِ الْخَوْفِ النساء 83 ) عام في كل ما يتعلق بالحروب وفيما يتعلق بسائر الوقائع الشرعية لأن الامن والخوف حاصل في كل ما يتعلق بباب التكليف فثبت انه ليس في الآية ما يوجب تخصيصها بامر الحروب الثاني هب أن الامر كما ذكرتم لكن تعرف أحكام الحروب بالقياس الشرعي ولما ثبت جوازه وجب أن يجوز التمسك بالقياس الشرعي في سائر الوقائع لأنه لا قائل بالفرق ألا ترى أن من قال القياس حجة في باب البيع لا في باب النكاح لم يلتفت اليه فكذا ههنا
وأما السؤال الثالث وهو حمل الاستنباط على النصوص الخفية أو على تركيبات النصوص فجوابه أن كل ذلك لا يخرج عن كونه منصوصا والتمسك بالنص لا يسمى استنباطا قوله لم لا يجوز حمله على التمسك بالبراءة الاصلية قلنا ليس هذا استنباطا بل هو إبقاء لما كان على ما كان ومثل هذا لا يسمى استنباطا ألبتة
وأما السؤال الرابع وهو قوله ان هذا الاستنباط إنما يجوز عند حصول العلم والقياس الشرعي لا يفيد العلم
قلنا الجواب عنه من وجهين الأول ان القياس الشرعي عندنا يفيد العلم وذلك لان بعد ثبوت أن القياس حجة نقطع بانه مهما غلب على الظن أن حكم الله في الاصل معلل بكذا ثم غلب على الظن أن ذلك المعنى قائم في الفرع فههنا يحصل ظن أن حكم الله في الفرع مساو لحكمه في الاصل وعند هذا

الظن نقطع بأنه مكلف بأن يعمل على وفق هذا الظن فالحاصل أن الظن واقع في طريق الحكم وأما الحكم فمقطوع به وهو يجري مجرى ما إذا قال الله مهما غلب على ظنك كذا فاعلم ان في الواقعة الفلانية حكمي كذا فاذا حصل الظن قطعنا بثبوت ذلك الحكم والثاني وهو ان العلم قد يطلق ويراد به الظن قال عليه الصلاة والسلام ( إذا علمت مثل الشمس فاشهد ) شرط العلم في جواز الشهادة وأجمعنا على أن عند الظن تجوز الشهادة فثبت أن الظن قد يسمى بالعلم والله أعلم
ثم قال تعالى وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً وفيه مسائل
المسألة الأولى ان ظاهر هذا الاستنثاء يوهم أن ذلك القليل وقع لا بفضل الله ولا برحمته ومعلوم ان ذلك محال فعند هذا اختلف المفسرون وذكروا وجوها قال بعضهم هذا الاستثناء راجع إلى قوله أَذَاعُواْ وقال قوم راجع إلى قوله لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ وقال آخرون إنه راجع إلى قوله وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ
واعلم أن الوجوه لا يمكن أن تزيد على هذه الثلاثة لأن الآية متضمنة للاخبار عن هذه الأحكام الثلاثة ويصح صرف الاستثناء إلى كل واحد منها فثبت أن كل واحد من هذه الأقوال محتمل
أما القول الأول فالتقدير وإذا جاءهم أمر من الامن أو الخوف أذاعوا به إلا قليلا فأخرج تعالى بعض المنافقين عن هذه الاذاعة كما أخرجهم في قوله بَيَّتَ طَائِفَة ٌ مّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِى تَقُولُ النّسَاء
والقول الثاني الاستنثاء عائد إلى قوله لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ يعني لعلمه الذين يستنبطونه منهم إلا القليل قال الفراء والمبرد القول الأول أولى لأن ما يعلم بالاستنباط فالأقل يعلمه والأكثر يجهله وصرف الاستثناء إلى ما ذكره يقتضي ضد ذلك قال الزجاج هذا غلط لأنه ليس المراد من هذا الاستثناء شيئا يستخرجه بنظر دقيق وفكر غامض إنما هو استنباط خبر وإذا كان كذلك فالأكثرون يعرفونه إنما البالغ في البلادة والجهالة هو الذي لا يعرفه ويمكن أن يقال كلام الزجاج إنما يصح لو حملنا الاستنباط على مجرد تعرف الاخبار والاراجيف أما إذا حملناه على الاستنباط في جميع الأحكام كما صححنا ذلك بالدليل كان الحق كما ذكره الفراء والمبرد
القول الثالث انه متعلق بقوله وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ومعلوم أن صرف الاستثناء إلى ما يليه ويتصل به أولى من صرفه إلى الشيء البعيد عنه
واعلم أن هذا القول لا يتمشى الا إذا فسرنا الفضل والرحمة بشيء خاص وفيه وجهان الأول وهو قول جماعة من المفسرين أن المراد بفضل الله وبرحمته في هذه الآية إنزال القرآن وبعثة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والتقدير ولولا بعثة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وإنزال القرآن لاتبعتم الشيطان وكفرتم بالله الا قليلا منكم فان ذلك القليل بتقدير عدم بعثة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وعدم إنزال القرآن ما كان يتبع الشيطان وما كان يكفر بالله وهم مثل قس بن ساعدة وورقة بن نوفل وزيد بن عمرو بن نفيل وهم الذين كانوا مؤمنين بالله قبل بعثة محمد ( صلى الله عليه وسلم )
الوجه الثاني ما ذكره أبو مسلم وهو أن المراد بفضل الله وبرحمته في هذه الآية هو نصرته تعالى ومعونته اللذان عناهما المنافقون بقولهم فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً ( النساء 73 ) فبين تعالى أنه لولا حصول النصر

والظفر على سبيل التتابع لاتبعتم الشيطان وتركتم الدين الا اقليل منكم وهم أهل البصائر الناقدة والنيات القوية والعزائم المتمكنة من أفاضل المؤمنين الذين يعلمون أنه ليس من شرط كونه حقا حصول الدولة في الدنيا فلأجل تواتر الفتح والظفر يدل على كونه حقا ولأجل تواتر الانهزام والانكسار يدل على كونه باطلا بل الامر في كونه حقا وباطلا على الدليل وهذا أصح الوجوه وأقربها إلى التحقيق
المسألة الثانية دلت الآية على أن الذين اتبعوا الشيطان فقد منعهم الله فضله ورحمته والا ما كان يتبع وهذا يدل على فساد قول المعتزلة في أنه يجب على الله رعاية الاصلح في الدين أجاب الكعبي عنه بأن فضل الله ورحمته عامان في حق الكل لكن المؤمنين انتفعوا به والكافرين لم ينتفعوا به فصح على سبيل المجاز أنه لم يحصل للكافر من الله فضل ورحمة في الدين
والجواب أن حمل اللفظ على المجاز خلاف الاصل
فَقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً
اعلم انه تعالى لما أمر بالجهاد ورغب فيه أشد الترغيب في الآيات المتقدمة وذكر في المنافقين قلة رغبتهم في الجهاد بل ذكر عنهم شدة سعيهم في تثبيط المسلمين عن الجهاد عاد في هذه الآية إلى الامر بالجهاد فقال فَقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وفي الآية مسائل

المسألة الأولى الفاء في قوله فَقَاتِلْ بماذا تتعلق فيه وجوه الأول أنها جواب لقوله وَمَن يُقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ ( النساء 74 ) من طريق المعنى لأنه يدل على معنى ان أردت الفوز فقاتل الثاني أن يكون متصلا بقوله وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ( النساء 75 ) فَقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ( النساء 84 ) والثالث أن يكون متصلا بمعنى ما ذكر من قصص المنافقين والمعنى أن من أخلاق هؤلاء المنافقين كذا وكذا فلا تعتد بهم ولا تلتفت إلى أفعالهم بل قاتل
المسألة الثانية دلت الآية على أن الله تعالى أمره بالجهاد ولو وحده قبل دعاء الناس في بدر الصغرى إلى الخروج وكان أبو سفيان واعد الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) اللقاء فيها فكره بعض الناس أن يخرجوا فنزلت هذه الآية فخرج وما معه الا سبعون رجلا ولم يلتفت إلى أحد ولو لم يتبعوه لخرج وحده
المسألة الثالثة دلت الآية على أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان أشجع الخلق وأعرفهم بكيفية القتال لأنه تعالى ما كان يأمره بذلك إلا وهو ( صلى الله عليه وسلم ) موصوف بهذه الصفات ولقد اقتدى به أبو بكر رضي الله عنه حيث حاول الخروج وحده إلى قتال مانعي الزكاة ومن علم ان الأمر كله بيد الله وأنه لا يحصل أمر من الأمور إلا بقضاء الله سهل ذلك عليه
ثم قال تعالى لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) قرىء لاَ تُكَلَّفُ بالجزم على النهي و لاَ نُكَلّفُ بالنون وكسر اللام أي لا نكلف نحن إلا نفسك وحدها
المسألة الثانية قال الواحدي رحمه الله انتصاب قوله نَّفْسَكَ على مفعول ما لم يسم فاعله
المسألة الثالثة دلت الآية على أنه لو لم يساعده على القتال غيره لم يجز له التخلف عن الجهاد البتة والمعنى لا تؤاخذ إلا بفعلك دون فعل غيرك فاذا أديت فعلك لا تكلف بفرض غيرك
واعلم أن الجهاد في حق غير الرسول عليه السلام من فروض الكفايات فما لم يغلب على الظن أنه يفيد لم يجب بخلاف الرسول عليه الصلاة والسلام فانه على ثقة من النصر والظفر بدليل قوله تعالى وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ( المائدة 67 ) وبدليل قوله ههنا عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ و ( عسى ) من الله جزم فلزمه الجهاد وان كان وحده
ثم قال تعالى وَحَرّضِ الْمُؤْمِنِينَ والمعنى ان الواجب على الرسول عليه الصلاة والسلام إنما هو الجهاد وتحريض الناس في الجهاد فان أتى بهذين الأمرين فقد خرج عن عهدة التكليف وليس عليه من كون غيره تاركا للجهاد شيء
ثم قال عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وفيه مسائل
المسألة الأولى عسى حرف من حروف المقاربة وفيه ترج وطمع وذلك على الله تعالى محال
والجواب عنه ان ( عسى ) معناها الاطماع وليس في الاطماع أنه شك أو يقين وقال بعضهم إطماع الكريم إيجاب
المسألة الثانية الكف المنع والبأس أصله المكروه يقال ما عليك من هذا الأمر بأس أي مكروه ويقال بئس الشيء هذا إذا وصف بالرداءة وقوله بِعَذَابٍ بَئِيسٍ ( الأعراف 165 ) أي مكروه ويقال بئس الشيء هذا إذا وصف بالرداءة وقوله بِعَذَابٍ بَئِيسٍ أي مكروه والعذاب قد يسمى بأسا لكونه مكروها قال تعالى فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ ( غافر 9 ) فَلَمَّا أَحَسُّواْ بَأْسَنَا فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا ( الأنبياء 12 ) قال المفسرون عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا وقد كف بأسهم فقد بدا لأبي سفيان وقال هذا عام مجدب وما كان معهم زاد إلا السويق فترك الذهاب إلى محاربة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
ثم قال تعالى وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً يقال نكلت فلانا إذا عاقبته عقوبة تنكل غيره عن ارتكاب مثله من قولهم نكل الرجل عن الشيء إذا جبن عنه وامتنع منه قال تعالى فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا ( البقرة 66 ) وقال في السرقة بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مّنَ اللَّهِ ( المائدة 38 ) ويقال نكل فلان عن اليمين إذا خافه ولم يقدم عليه
إذا عرفت هذا فنقول الآية دالة على أن عذاب الله وتنكيله أشد من عذاب غيره ومن تنكيله وأقبل الوجوه في بيان هذا التفاوت أن عذاب غير الله لا يكون دائما وعذاب الله دائم في الآخرة وعذاب غير الله قد يخلص الله منه وعذاب الله لا يقدر أحد على التخلص منه وأيضاً عذاب غير الله لا يكون إلا من وجه واحد وعذاب الله قد يصل إلى جميع الأجزاء والابعاض والروح والبدن

مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَة ً حَسَنَة ً يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَة ً سَيِّئَة ً يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مَّنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ مُّقِيتاً
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوها الأول أن الله تعالى أمر الرسول عليه السلام بأن يحرض الأمة على الجهاد والجهاد من الأعمال الحسنة والطاعات الشريفة فكان تحريض النبي عليه الصلاة والسلام للأمة على الجهاد تحريضا منه لهم على الفعل الحسن والطاعة الحسنة فبين تعالى في هذه الآية أن من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها والغرض منه بيان أنه عليه الصلاة والسلام لما حرضهم على الجهاد فقد استحق بذلك التحريض أجرا عظيما الثاني أنه تعالى لما أمره بتحريضهم على الجهاد ذكر أنهم لو لم يقبلوا أمره لم يرجع إليه من عصيانهم وتمردهم عيب ثم بين في هذه الآية أنهم لما أطاعوا وقبلوا التكليف رجع إليهم من طاعتهم خير كثير فكأنه تعالى قال للرسول عليه الصلاة والسلام حرضهم على الجهاد فان لم يقبلوا قولك لم يكن من عصيانهم عتاب لك وإن أطاعوك حصل لك من طاعتهم أعظم الثواب فكان هذا ترغيبا من الله لرسوله في أن يجتهد في تحريض الأمة على الجهاد والسبب في أنه عليه الصلاة والسلام كان يرجع اليه عند طاعتهم أجر عظيم وما كان يرجع اليه من معصيتهم شيء من الوزر هو أنه عليه السلام بذل الجهد في ترغيبهم في الطاعة وما رغبهم ألبتة في المعصية فلا جرم يرجع اليه من طاعتهم أجر ولا يرجع اليه من معصيتهم وزر الثالث يجوز أن يقال إنه عليه الصلاة والسلام لما كان يرغبهم في القتال ويبالغ في تحريضهم عليه فكان بعض المنافقين يشفع إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في أن يأذن لبعضهم في التخلف عن الغزو فنهى الله عن مثل هذه الشفاعة وبين أن الشفاعة إنما تحسن إذا كانت وسيلة إلى إقامة طاعة الله فأما إذا كانت وسيلة الى معصيته كانت محرمة منكرة الرابع يجوز أن يكون بعض المؤمنين راغبا في الجهاد إلا أنه لم يجد أهبة الجهاد فصار غيره من المؤمنين شفيعا له إلى مؤمن آخر ليعينه على الجهاد فكانت هذه الشفاعة سعيا في إقامة الطاعة فرغب الله تعالى في مثل هذه الشفاعة وعلى جميع الوجوه فالآية حسنة الاتصال بما قبلها
المسألة الثانية الشفاعة مأخوذة من الشفع وهو أن يصير الانسان نفسه شفعا لصاحب الحاجة حتى يجتمع معه على المسألة فيها
إذا عرفت هذا فنقول في الشفاعة المذكورة في الآية وجوه الأول أن المراد منها تحريض النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إياهم على الجهاد وذلك لأنه إذا كان عليه الصلاة والسلام يأمرهم بالغزو فقد جعل نفسه شفعا لهم في تحصيل الأغراض المتعلقة بالجهاد وأيضا فالتحريض على الشيء عبارة عن الأمر به لا على سبيل التهديد بل على سبيل الرفق والتلطف وذلك يجري مجرى الشفاعة الثاني أن المراد منه ما ذكرنا من أن بعض المنافقين

كان يشفع لمنافق آخر في أن يأذن له الرسوله عليه الصلاة والسلام في التخلف عن الجهاد أو المراد به أن بعض المؤمنين كان يشفع لمؤمن آخر عند مؤمن ثالث في أن يحصل له ما يحتاج إليه من آلات الجهاد الثالث نقل الواحدي عن ابن عباس رضي الله عنهما ما معناه أن الشفاعة الحسنة ههنا هي أن يشفع إيمانه بالله بقتال الكفار والشفاعة السيئة أن يشفع كفره بالمحبة للكفار وترك إيذائهم الرابع قال مقاتل الشفاعة إلى الله إنما تكون بالدعاء واحتج بما روى أبو الدرداء أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب استجيب له وقال الملك له ولك مثل ذلك ) فهذا هو النصيب وأما الشفاعة السيئة فهي ما روي أن اليهود كانوا إذا دخلوا على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قالوا السام عليكم والسام هو الموت فسمعت عائشة رضي الله عنها فقالت عليكم السام واللعنة أتقولون هذا للرسولا فقال ( صلى الله عليه وسلم ) قد علمت ما قالوا فقلت وعليكم فنزلت هذه الآية الخامس قال الحسن ومجاهدي والكلبي وابن زيد المراد هو الشفاعة التي بين الناس بعضهم لبعض فما يجوز في الدين أن يشفع فيه فهو شفاعة حسنة وما لا يجوز أن يشفع فيه فهو شفاعة سيئة ثم قال الحسن من يشفع شفاعة حسنة كان له فيها أجر وإن لم يشفع لأن الله تعالى يقول مَّن يَشْفَعْ ولم يقل ومن يشفع ويتأيد هذا بقوله عليه الصلاة والسلام ( اشفعوا تؤجروا )
وأقول هذه الشفاعة لا بد وأن يكون لها تعلق بالجهاد وإلا صارت الآية منقطعة عما قبلها وذلك التعلق حاصل بالوجهين الأولين فأما الوجوه الثلاثة الأخيرة فان كان المراد قصر الآية عليها فذلك باطل وإلا صارت هذه الآية أجنبية عما قبلها وإن كان المراد دخول هذه الثلاثة مع الوجهين الأولين في اللفظ فهذا جائز لأن خصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ
المسألة الثالثة قال أهل اللغة الكفل هو الحظ ومنه قوله تعالى يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ ( الحديد 28 ) أي حظين وهو مأخوذ من قولهم كفلت البعير واكتفلته إذا أدرت على سنامه كساء وركبت عليه وإنما قيل كفلت البعير واكتفلته لأنه لم يستعمل كل الظهر وإنما استعمل نصيبا من الظهر قال ابن المظفر لا يقال هذا كفل فلان حتى تكون قد هيأت لغيره مثله وكذا القول في النصيب فان أفردت فلا تقل له كفل ولا نصيب
فان قيل لم قال في الشفاعة الحسنة يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مّنْهَا وقال في الشفاعة السيئة يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مَّنْهَا وهل لاختلاف هذين اللفظين فائدة
قلنا الكفل اسم للنصيب الذي عليه يكون اعتماد الناس وإنما يقال كفل البعير لأنك حميت ظهر البعير بذلك الكساء عن الآفة وحمي الراكب بدنه بذلك الكساء عن ارتماس ظهر البعير فيتأذى به ويقال للضامن كفيل وقال عليه الصلاة والسلام ( أنا وكافل اليتيم كهاتين ) فثبت أن الكفل هو النصيب الذي عليه يعتمد الانسان في تحصيل المصالح لنفسه ودفع المفاسد عن نفسه إذا ثبت هذا فنقول وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَة ً سَيّئَة ً يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مَّنْهَا أي يحصل له منها نصيب يكون ذلك النصيب ذخيرة له في معاشه ومعاده والمقصود حصول ضد ذلك فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( آل عمران 21 ) والغرض منه التنبيه على أن الشفاعة المؤدية إلى سقوط الحق وقوة الباطل تكون عظيمة العقاب عند الله تعالى
ثم قال تعالى وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلّ شَى ْء مُّقِيتاً وفيه مسألتان

المسألة الأولى في المقيت قولان الأول المقيت القادر على الشيء وأنشدوا للزبير بن عبد المطلب
وذي ضغن كففت النفس عنه وكنت على إساءته مقيتا
وقال آخر
ليت شعري وأشعرن إذا ما قربوها منشورة ودعيت
إلي الفضل أم علي إذا حو سبت اني على الحساب مقيت
وأنشد النضر بن شميل
تجلد ولا تجزع وكن ذا حفيظة فاني على ما ساءهم لمقيت
الثاني المقيت مشتق من القوت يقال قت الرجل إذا حفظت عليه نفسه بما يقوته واسم ذلك الشيء هو القوت وهو الذي لا فضل له على قدر الحفظ فالمقيت هو الحفيظ الذي يعطي الشيء على قدر الحاجة ثم قال القفال رحمه الله وأي المعنيين كان فالتأويل صحيح وهو أنه تعالى قادر على إيصال النصيب والكفل من الجزاء إلى الشافع مثل ما يوصله إلى المشفوع فيه إن خيرا فخير وإن شرا فشر ولا ينتقص بسبب ما يصل إلى الشافع شيء من جزاء المشفوع وعلى الوجه الثاني أنه تعالى حافظ الأشياء شاهد عليها لا يخفى عليه شيء من أحوالنا فهو عالم بأن الشافع يشفع في حق أو في باطل حفيظ عليه فيجازى كلا بما علم منه
المسألة الثانية انما قال وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلّ شَى ْء مُّقِيتاً تنبيها على أن كونه تعالى قادرا على المقدورات صفة كانت ثابتة له من الازل وليست صفة محدثة فقوله كَانَ مطلقا من غير أن قيد ذلك بأنه كان من وقت كذا أو حال كذا يدل على أنه كان حاصلا من الازل إلى الأبد
وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّة ٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ حَسِيباً
في النظم وجهان الأول أنه لما أمر المؤمنين بالجهاد أمرهم ايضا بأن الاعداء لو رضوا بالمسألة فكونوا أنتم أيضا راضين بها فقوله وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيَّة ٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا كقوله تعالى وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا ( الأنفال 61 ) الثاني ان الرجل في الجهاد كان يلقاه الرجل في دار الحرب أو ما يقاربها فيسلم عليه فقد لا يلتفت الى سلامه عليه ويقتله وربما ظهر أنه كان مسلما فمنع الله المؤمنين عنه وأمرهم ان كل من يسلم عليهم ويكرمهم بنوع من الاكرام يقابلونه بمثل ذلك الاكرام أو أزيد فانه ان كان كافرا لا يضر المسلم ان قابل إكرام ذلك الكافر بنوع من الاكرام أما ان كان مسلما وقتله ففيه أعظم المضار والمفاسد وفي الآية مسائل
المسألة الأولى التحية تفعلة من حييت وكان في الاصل تحيية مثل التوصية والتسمية والعرب تؤثر التفعلة على التفعيل في ذوات الاربعة نحو قوله وَتَصْلِيَة ُ جَحِيمٍ ( الواقعة 94 ) فثبت أن التحية أصلها

التحيية ثم أدغموا الياء في الياء
المسألة الثانية اعلم أن عادة العرب قبل الإسلام أنه إذا لقي بعضهم بعضا قالوا حياك الله واشتقاقه من الحياة كأنه يدعو له بالحياة فكانت التحية عندهم عبارة عن قول بعضهم لبعض حياك الله فلما جاء الإسلام أبدل ذلك بالسلام فجعلوا التحية اسما للسلام قال تعالى تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ ( الأحزاب 44 ) ومنه قول المصلى التحيات لله أي السلام من الآفات لله والأشعار ناطقة بذلك قال عنترة
حييت من طلل تقادم عهده
إنا محيوك يا سلمى فحيينا
وقال آخر
واعلم أن قول القائل لغيره السلام عليك أتم وأكمل من قوله حياك الله وبيانه من وجوه الأول أن الحي إذا كان سليما كان حيا لا محالة وليس إذا كان حياً كان سليما فقد تكون حياته مقرونة بالآفات والبليات فثبت أن قوله السلام عليك أتم وأكمل من قوله حياك الله الثاني أن السلام اسم من أسماء الله تعالى فالابتداء بذكر الله أو بصفة من صفاته الدالة على أنه يريد ابقاء السلامة على عباده أكمل من قوله حياك الله الثالث أن قول الانسان لغيره السلام عليك فيه بشارة بالسلامة وقوله حياك الله لا يفيد ذلك فكان هذا أكمل ومما يدل على فضيلة السلام القرآن والأحاديث والمعقول أما القرآن فمن وجوه الأول اعلم أن الله تعالى سلم على المؤمن في اثني عشر موضعا أولها أنه تعالى كأنه سلم عليك في الأزل ألا ترى أنه قال في وصف ذاته الملك القدوس السلام وثانيها أنه سلم على نوح وجعل لك من ذلك السلام نصيبا فقال قِيلَ يانُوحُ نُوحٌ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مّمَّن مَّعَكَ والمراد منه أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وثالثها سلم عليك على لسان جبريل فقال تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَة ُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبّهِم مّن كُلّ أَمْرٍ سَلَامٌ هِى َ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ( القدر 5 ) قال المفسرون إنه عليه الصلاة والسلام خاف على أمته أن يصيروا مثل أمة موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام فقال الله لا تهتم لذلك فاني وإن أخرجتك من الدنيا إلا أني جعلت جبريل خليفة لك ينزل إلى أمتك كل ليلة قدر ويبلغهم السلام مني ورابعها سلم عليك على لسان موسى عليه السلام حيث قال وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ( طه 47 ) فاذا كنت متبع الهدى وصل سلام موسى إليك وخامسها سلم عليك على لسان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فقال الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ( النمل 59 ) وكل من هدى الله إلى الايمان فقد اصطفاه كما قال ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ( فاطر 32 ) وسادسها أمر محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بالسلام على سبيل المشافهة فقال وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِئَايَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ( الأنعام 54 ) وسابعها أمر أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بالتسليم عليك قال وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيَّة ٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا وثامنها سلم عليك على لسان ملك الموت فقال الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَة ُ طَيّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ قيل إن ملك الموت يقول في أذن المسلم السلام يقرئك السلام ويقول أجبني فاني مشتاق إليك واشتاقت الجنات والحور العين إليك فاذا سمع المؤمن البشارة يقول لملك الموت للبشير مني هدية ولا هدية أعز من روحي فاقبض روحي هدية لك وتاسعها السلام من الأرواح الطاهرة المطهرة قال تعالى وَأَمَّا إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ( الواقعة 91 ) وعاشرها سلم الله عليك على لسان رضوان خاون

الجنة فقال تعالى وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ إِلَى الّجَنَّة ِ زُمَراً إلى قوله وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ ( الزمر 73 ) والحادي عشر إذا دخلوا الجنة فالملائكة يزورونهم ويسلمون عليهم قال تعالى وَالمَلَائِكَة ُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ( الرعد 23 24 ) والثاني عشر السلام من الله من غير واسطة وهو قوله تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ ( الأحزاب 44 ) وقوله سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ ( ي س 58 ) وعند ذلك يتلاشى سلام الكل لأن المخلوق لا يبقى على تجلي نور الخالق
الوجه الثاني من الدلائل القرآنية الدالة على فضيلة السلام أن أشد الأوقات حاجة إلى السلامة والكرامة ثلاثة أوقات وقت الابتداء ووقت الموت ووقت البعث والله تعالى لما أكرم يحيى عليه السلام فانما أكرمه بأن وعده السلام في هذه الأوقات الثلاثة فقال وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا وعيسى عليه السلام ذكر أيضا ذلك فقال وعيسى عليه السلام ذكر أيضا ذلك فقال وَالسَّلَامُ عَلَى َّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً ( مريم 33 )
الوجه الثالث أنه تعالى لما ذكر تعظيم محمد عليه الصلاة والسلام قال إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِى ّ ياأَيُّهَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً يروى في التفسير أن اليهود كانوا إذا دخلوا قالوا السام عليك فحزن الرسول عليه الصلاة والسلام لهذا المعنى فبعث الله جبريل عليه السلام وقال إن كان اليهود يقولون السام عليك فأنا أقول من سرادقات الجلال السلام عليك وأنزل قوله إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِى ّ إلى قوله وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً
وأما ما يدل من الأخبار على فضيلة السلام فما روي أن عبدالله بن سلام قال لما سمعت بقدوم الرسول عليه الصلاة والسلام دخلت في غمار الناس فأول ما سمعت منه ( يا أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا الأرحام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام )
وأما ما يدل على فضل السلام من جهة المعقول فوجوه الأول قالوا تحية النصارى وضع اليد على الفم وتحية اليهود بعضهم لبعض الاشارة بالأصابع وتحية المجوس الانحناء وتحية العرب بعضهم لبعض أن يقولوا حياك الله وللملوك أن يقولوا أنعم صباحا وتحية المسلمين بعضهم لبعض أن يقولوا السلام عليك ورحمة الله وبركاته ولا شك أن هذه التحية أشرف التحيات وأكرمها الثاني أن السلام مشعر بالسلامة من الآفات والبليات ولا شك أن السعي في تحصيل الصون عن الضرر أولى من السعي في تحصيل النفع الثالث أن الوعد بالنفع يقدر الانسان على الوفاء به وقد لا يقدر أما الوعد بترك الضرر فانه يكون قادرا عليه لا محالة والسلام يدل عليه فثبت أن السلام أفضل أنواع التحية
المسألة الثالثة من الناس من قال من دخل داراً وجب عليه أن يسلم على الحاضرين واحتج عليه بوجوه الأول قوله تعالى كَرِيمٌ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلّمُواْ عَلَى أَهْلِهَا ( النور 27 ) وقال عليه الصلاة والسلام ( أفشوا السلام ) والأمر للوجوب الثاني أن من دخل على إنسان كان كالطالب له ثم المدخول عليه لا يعلم أنه يطلبه لخير أو لشر فاذا قال السلام عليك فقد بشره بالسلامة وآمنه من الخوف وإزالة الضرر عن المسلم واجبة قال عليه الصلاة والسلام ( المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه ) فوجب أن يكون السلام واجبا الثالث أن السلام من شعائر أهل الإسلام وإظهار شعائر

الاسلام واجب وأما المشهور فهو أن السلام سنة وهو قول ابن عباس والنخعي
وأما الجواب على السلام فقد أجمعوا على وجوبه ويدل عليه وجوه الأول قوله تعالى وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيَّة ٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا الثاني أن ترك الجواب إهانة والاهانة ضرر والضرر حرام
المسألة الرابعة منتهى الأمر في السلام أن يقال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته بدليل أن هذا القدر هو الوارد في التشهد
واعلم أنه تعالى قال فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا فقال العلماء الأحسن هو أن المسلم إذا قال السلام عليك زيد في جوابه الرحمة وإن ذكر السلام والرحمة في الابتداء زيد في جوابه البركة وإن ذكر الثلاثة في الابتداء أعادها في الجواب روي أن رجلا قال للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) السلام عليك يا رسول الله فقال عليه الصلاة والسلام وعليك السلام ورحمة الله وبركاته وآخر قال السلام عليك ورحمة الله فقال وعليك السلام ورحمة الله وبركاته وجاء ثالث فقال السلام عليك ورحمة الله وبركاته فقال عليه الصلاة والسلام وعليك السلام ورحمة الله وبركاته فقال الرجل نقصتني فأين قول الله فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا فقال ( صلى الله عليه وسلم ) إنك ما تركت لي فضلا فرددت عليك ما ذكرت
المسألة الخامسة المبتدىء يقول السلام عليك والمجيب يقول وعليكم السلام هذا هو الترتيب الحسن والذي خطر ببالي فيه أنه إذا قال السلام عليكم كان الابتداء واقعا بذكر الله فاذا قال المجيب وعليكم السلام كان الاختتام واقعا بذكر الله وهذا يطابق قوله هُوَ الاْوَّلُ وَالاْخِرُ ( الحديد 3 ) وأيضا لما وقع الابتداء والاختتام بذكر الله فانه يرجى أن يكون ما وقع بينهما يصير مقبولا ببركته كما في قوله أَقِمِ الصَّلَواة َ وَأَقِمِ الصَّلَواة َ طَرَفَى ِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ ( هود 114 ) فلو خالف المبتدىء فقال وعليكم السلام فقد خالف السنة فالأولى للمجيب أن يقول وعليكم السلام لأن الأول لما ترك الافتتاح بذكر الله فهذا لا ينبغي أن يترك الاختتام بذكر الله
المسألة السادسة ان شاء قال سلام عليكم وان شاء قال السلام عليكم قال تعالى في حق نوح قِيلَ يانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مّنَّا ( هود 48 ) وقال عن الخليل قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي ( مريم 47 ) وقال في قصة لوط قَالُواْ سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ ( هود 69 ) وقال عن يحيى وَسَلَامٌ عَلَيْهِ وقال عن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ ( النمل 59 ) وقال عن الملائكة وَالمَلَائِكَة ُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ( الرعد 23 24 ) وقال عن رب العزة سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ ( ي س 58 ) وقال فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ وأما بالألف واللام فقوله عن موسى عليه السلام فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولاَ رَبّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إِسْراءيلَ وَلاَ تُعَذّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِئَايَة ٍ مّن رَّبّكَ ( طه 47 ) وقال عن عيسى عليه السلام وَالسَّلَامُ عَلَى َّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ ( مريم 33 ) فثبت أن الكل جائز وأما في التحليل من الصلاة فلا بد من الألف واللام بالاتفاق واختلفوا في سائر المواضع أن التنكير أفضل أم التعريف فقيل التنكير أفضل ويدل عليه وجوه الأول أن لفظ السلام على سبيل التنكير كثير في القرآن فكان أفضل الثاني ان كل ما ورد من الله والملائكة والمؤمنين فقد ورد بلفظ التنكير على ما عددناه في الآيات وأما بالألف واللام فانما ورد في تسليم الانسان على نفسه قال موسى ( صلى الله عليه وسلم ) وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ( طه 47 ) وقال عيسى عليه

الصلاة والسلام وَالسَّلَامُ عَلَى َّ ( مريم 33 ) والثالث وهو المعنى المعقول ان لفظ السلام بالألف واللام يدل على أصل الماهية والتنكير يدل على أصل الماهية مع وصف الكمال فكان هذا أولى
المسألة السابعة قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( السنة أن يسلم الراكب على الماشي وراكب الفرس على راكب الحمار والصغير على الكبير والأقل على الأكثر والقائم على القاعد )
وأقول أما الأول فلوجهين أحدهما ان الراكب أكثر هيبة فسلامه يفيد زوال الخوف والثاني أن التكبر به أليق فأمر بالابتداء بالتسليم كسرا لذلك التكبر وأما أن القائم يسلم على القاعد فلأنه هو الذي وصل اليه فلا بد وأن يفتتح هذا الواصل الموصول بالخير
المسألة الثامنة السنة في السلام الجهر لأنه أقوى في إدخال السرور في القلب
المسألة التاسعة السنة في السلام الافشاء والتعميم لأن في التخصيص ايحاشا
المسألة العاشرة المصافحة عند السلام عادة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قال عليه الصلاة والسلام ( إذا تصافح المسلمان تحاتت ذنوبهما كما يتحات ورق الشجر )
المسألة الحادية عشرة قال أبو يوسف من قال لآخر اقرىء فلانا عني السلام وجب عليه أن يفعل
المسألة الثانية عشرة إذا استقبلك رجل واحد فقل سلام عليكم واقصد الرجل والملكين فانك إذا سلمت عليهما ردا السلام عليك ومن سلم الملك عليه فقد سلم من عذاب الله
المسألة الثالثة عشرة إذا دخلت بيتا خاليا فسلم وفيه وجوه الأول انك تسلم من الله على نفسك والثاني انك تسلم على من فيه من مؤمني الجن والثالث أنك تطلب السلامة ببركة السلام ممن في البيت من الشياطين والمؤذيات
المسألة الرابعة عشرة السنة أن يكون المبتديى بالسلام على الطهارة وكذا المجيب روي أن واحداً سلم على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وهو كان في قضاء الحاجة فقام وتيمم ثم رد السلام
المسألة الخامسة عشرة السنة إذا التقى إنسانان أن يبتدرا بالسلام إظهاراً للتواضع
المسألة السادسة عشرة لنذكر المواضع التي لا يسلم فيها وهي ثمانية الأول روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال لا يبدأ اليهودي بالسلام وعن أبي حنيفة أنه قال لا يبدأ بالسلام في كتاب ولا في غيره وعن أبي يوسف لا تسلم عليهم ولا تصافحهم وإذا دخلت فقل السلام على من اتبع الهدى ورخص بعض العلماء في ابتداء السلام عليهم إذا دعت إلى ذلك حاجة وأما إذا سلموا علينا فقال أكثر العلماء ينبغي أن يقال وعليك والأصل فيه أنهم كانوا يقولون عند الدخول على الرسول السام عليك فكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول وعليكم فجرت السنة بذلك ثم ههنا تفريع وهو أنا إذا قلنا لهم وعليكم السلام فهل يجوز ذكر الرحمة فيه قال الحسن يجوز أن يقال للكافر وعليكم السلام لكن لا يقال ورحمة الله لأنها استغفار وعن الشعبي انه قال لنصراني وعليكم السلام ورحمة الله فقيل له فيه فقال أليس في رحمة الله يعيش الثاني إذا دخل يوم الجمعة والامام يخطب فلا ينبغي أن يسلم لاشتغال الناس بالاجتماع فان سلم فرد بعضهم فلا بأس ولو اقتصروا على الاشارة كان أحسن الثالث إذا دخل الحمام فرأى الناس متزرين يسلم عليهم وإن لم يكونوا

متزرين لم يسلم عليهم الرابع الأولى ترك السلام على القارىء لأنه إذا اشتغل بالجواب يقطع عليه التلاوة وكذلك القول فيمن كان مشتغلا برواية الحديث ومذاكرة العلم الخامس لا يسلم على المشتغل بالأذان والاقامة للعلة التي ذكرناها السادس قال أبو يوسف لا يسلم على لاعب النرد ولا على المغني ومطير الحمام وفي معناه كل من كان مشتغلا بنوع معصية السابع لا يسلم على من كان مشتغلا بقضاء الحاجة مر على الرسول عليه الصلاة والسلام رجل وهو يقضي حاجته فسلم عليه فقام الرسول عليه الصلاة والسلام إلى الجدار فتيمم ثم رد الجواب وقال ( لولا أني خشيت أن تقول سلمت عليه فلم يرد الجواب لما أجبتك إذا رأيتني على مثل هذه الحالة فلا تسلم علي فانك إن سلمت علي لم أرد عليك ) الثامن إذا دخل الرجل بيته سلم على امرأته فان حضرت أجنبية هناك لم يسلم عليهما
المسألة السابعة عشرة في أحكام الجواب وهي ثمانية الأول رد الجواب واجب لقوله تعالى وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيَّة ٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ولأن ترك الجواب إهانة وضرر وحرام وعن عباس ما من رجل يمر على قوم مسلمين فيسلم عليهم ولا يردون عليه إلا نزع عنهم روح القدس وردت عليه الملائكة الثاني رد الجواب فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين والأولى للكل أن يذكروا الجواب إظهارا للاكرام ومبالغة فيه الثالث أنه واجب على الفور فان أخر حتى انقضى الوقت فان أجاب بعد فوت الوقت كان ذلك ابتداء سلام ولا يكون جوابا الرابع إذا ورد عليه سلام في كتاب فجوابه بالكتبة أيضا واجب لقوله تعالى وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيَّة ٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا الخامس إذا قال السلام عليكم فالواجب أن يقول وعليكم السلام السادس روي عن أبي حنيفة رضي الله عنه أنه قال لا يجهر بالرد يعني الجهر الكثير السابع إن سلمت المرأة الأجنبية عليه وكان يخاف في رد الجواب عليها تهمة أو فتنة لم يجب الرد بل الأولى أن لا يفعل الثامن حيث قلنا انه لا يسلم فلو سلم لم يجب عليها الرد لأنه أتى بفعل منهى عنه فكان وجوده كعدمه
المسألة الثامنة عشرة اعلم أن لفظ التحية على ما بيناه صار كناية عن الاكرام فجميع أنواع الاكرام يدخل تحت لفظ التحية
إذا عرفت هذا فنقول قال أبو حنيفة رضي الله عنه من وهب لغير ذي رحم محرم فله الرجوع فيها ما لم يثب منها فاذا أثيب منها فلا رجوع فيها وقال الشافعي رضي الله عنه له الرجوع في حق الولد وليس له الرجوع في حق الأجنبي احتج أبو بكر الرازي بهذه الآية على صحة قول أبي حنيفة فان قوله وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيَّة ٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا يدخل فيه التسليم ويدخل فيه الهبة ومقتضاه وجوب الرد إذا لم يصر مقابلا بالأحسن فاذا لم يثبت الوجوب فلا أقل من الجواز وقال الشافعي هذا الأمر محمول على الندب بدليل أنه لو أثيب بما هو أقل منه سقطت مكنة الرد بالاجماع مع أن ظاهر الآية يقتضي أن يأتي بالأحسن ثم احتج الشافعي على قوله بما روى ابن عباس وابن عمر عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( لا يحل لرجل أن يعطي عطية أو يهب هبة فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده ) وهذا نص في أن هبة الأجنبي يحرم الرجوع

فيها وهبة الولد يجوز الرجوع فيها
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلّ شَى ْء حَسِيباً وفيه مسائل
المسألة الأولى في الحسيب قولان الأول أنه بمعنى المحاسب على العمل كالأكيل والشريب والجليس بمعنى المؤاكل والمشارب والمجالس الثاني أنه بمعنى الكافي في قولهم حسبي كذا أي كافي ومنه قوله تعالى حَسْبِى َ اللَّهُ ( التوبة 129 الزمر 38 )
المسألة الثانية المقصود منه الوعيد فانا بينا أن الواحد منهم قد كان يسلم على الرجل المسلم ثم إن ذلك المسلم ما كان يتفحص عن حاله بل ربما قتله طمعا في سلبه فالله تعالى زجر عن ذلك فقال وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيَّة ٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا وإياكم أن تتعرضوا له بالقتل
ثم قال إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلّ شَى ْء حَسِيباً أي هو محاسبكم على أعمالكم وكافي في إيصال جزاء أعمالكم اليكم فكونوا على حذر من مخالفة هذا التكليف وهذا يدل على شدة العناية بحفظ الدماء والمنع من إهدارها
اللَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً
في الآية مسائل
المسألة الأولى في كيفية النظم وجهان الأول أنا بينا أن المقصود من قوله وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيَّة ٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا أن لا يصير الرجل المسلم مقتولا ثم إنه تعالى أكد ذلك بالوعيد في قوله إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلّ شَى ْء حَسِيباً ثم بالغ في تأكيد ذلك الوعيد بهذه الآية فبين في هذه الآية أن التوحيد والعدل متلازمان فقوله لاَ إله إِلاَّ هُوَ إشارة إلى التوحيد وقوله لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ إشارة إلى العدل وهو كقوله شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَائِكَة ُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِمَاً بِالْقِسْطِ ( آل عمران 18 ) وكقوله في طه إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ لا إله إِلا أَنَاْ فَاعْبُدْنِى وَأَقِمِ الصَّلَواة َ لِذِكْرِى ( طه 14 ) وهو إشارة إلى التوحيد ثم قال إِنَّ السَّاعَة َ ءاتِيَة ٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ( طه 15 ) وهو إشارة إلى العدل فكذا في هذه الآية بين أنه يجب في حكمه وحكمته أن يجمع الأولين والآخرين في عرصة القيامة فينتصف للمظلومين من الظالمين ولا شك أنه تهديد شديد الثاني كأنه تعالى يقول من سلم عليكم وحياكم فاقبلوا سلامه وأكرموه وعاملوه بناء على الظاهر فان البواطن إنما يعرفها الله الذي لا إله إلا هو إنما تنكشف بواطن الخلق للخق في يوم القيامة
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) قوله لاَ إله إِلاَّ هُوَ إما خبر للمبتدا وإما اعتراض والخبر لَيَجْمَعَنَّكُمْ واللام لام القسم والتقدير والله ليجمعنكم
المسألة الثالثة لقائل أن يقول لم لم يقل ليجمعنكم في يوم القيامة
والجواب من وجهين الأول المراد ليجمعنكم في الموت أو القبور إلى يوم القيامة الثاني التقدير

ليضمنكم إلى ذلك اليوم ويجمع بينكم وبينه بأن يجمعكم فيه
المسألة الرابعة قال الزجاج يجوز أن يقال سميت القيامة قيامة لأن الناس يقومون من قبورهم ويجوز أيضاً أن يقال سميت بهذا الاسم لأن الناس يقومون للحساب قال تعالى يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ ( المطففين 6 ) قال صاحب ( الكشاف ) القيام القيامة كالطلاب والطلابة
المسألة الخامسة اعلم أن ظاهر الآية يدل على أنه تعالى أثبت أن القيامة ستوجد لا محالة وجعل الدليل على ذلك مجرد إخبار الله تعالى عنه وهذا حق وذلك لأن المسائل الأصولية على قسمين منها ما العلم بصحة النبوة يكون محتاجا إلى العلم بصحته ومنها ما لا يكون كذلك والأول مثل علمنا بافتقار العالم إلى صانع عالم بكل المعلومات قادر على كل الممكنات فانا ما لم نعلم ذلك لا يمكننا العلم بصدق الأنبياء فكل مسألة هذا شأنها فانه يمتنع اثباتها بالقرآن واخبار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والا وقع الدور
وأما القسم الثاني وهو جملة المسائل التي لا يتوقف العلم بصحة النبوة على العلم بصحتها فكل ذلك مما يمكن اثباته بكلام الله واخباره ومعلوم أن قيام القيامة كذلك فلا جرم أمكن إثباته بالقرآن وبكلام الله فثبت أن الاستدلال على قيام القيامة باخبار الله عنه استدلال صحيح
المسألة السادسة قوله وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً استفهام على سبيل الانكار والمقصود منه بيان أنه يجب كونه تعالى صادقا وأن الكذب والخلف في قوله محال وأما المعتزلة فقد بنوا ذلك على أصلهم وهو أنه تعالى عالم بكون الكذب قبيحاً وعالم بكونه غنياً عنه وكل من كان كذلك استحال أن يكذب إنما قلنا انه عالم بقبح الكذب وعالم بكونه غنياً عنه لأن الكذب قبيح لكونه كذبا والله تعالى غير محتاج إلى شيء أصلا وثبت أنه عالم بجميع المعلومات فوجب القطع بكونه عالما بهذين الأمرين وأما أن كل من كان كذلك استحال أن يكذب فهو ظاهر لأن الكذب جهة صرف لا جهة دعاء فاذا خلا عن معارض الحاجة بقي ضارا محضا فيمتنع صدور الكذب عنه وأما أصحابنا فدليلهم أنه لو كان كاذبا لكان كذبه قديما ولو كان كذبه قديما لامتنع زوال كذبه لامتناع العدم على القديم ولو امتنع زوال كذبه قديما لامتنع كونه صادقا لأن وجود أحد الضدين يمنع وجود الضد الآخر فلو كان كاذبا لامتنع أن يصدق لكنه غير ممتنع لانا نعلم بالضرورة أن كل من علم شيئا فانه لا يمتنع عليه أن يحكم عليه بحكم مطابق للمحكوم عليه والعلم بهذه الصحة ضروري فاذا كان إمكان الصدق قائما كان امتناع الكذب حاصلا لا محالة فثبت أنه لا بد من القطع بكونه تعالى صادقا
المسألة السابعة استدلت المعتزلة بهذه الآية على أن كلام الله تعالى محدث قالوا لأنه تعالى وصفه بكونه حديثا في هذه الآية وفي قوله تعالى اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ ( الزمر 23 ) والحديث هو الحادث أو المحدث وجوابنا عنه انكما إنما تحكمون بحدوث الكلام الذي هو الحرف والصوت ونحن لا ننازع في حدوثه إنما الذي ندعي قدمه شيء آخر غير هذه الحروف والأصوات والآية لا تدل على حدوث ذلك الشيء ألبتة بالاتفاق منا ومنكم فأما منا فظاهر وأما منكم فانكم تنكرون وجود كلام سوى هذه الحروف والأصوات فكيف يمكنكم أن تقولوا بدلالة هذه الآية على حدوثه والله أعلم

فَمَا لَكُمْ فِى الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً
اعلم أن هذا نوع آخر من أحوال المنافقين ذكره الله تعالى وههنا مسائل
المسألة الأولى ذكروا في سبب نزول هذه الآية وجوها الأول أنها نزلت في قوم قدموا على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وآله مسلمين فأقاموا بالمدينة ما شاء الله ثم قالوا يا رسول الله نريد أن نخرج إلى الصحراء فائذن لنا فيه فأذن لهم فلما خرجوا لم يزالوا يرحلون مرحلة مرحلة حتى لحقوا بالمشركين فتكلم المؤمنون فيهم فقال بعضهم لو كانوا مسلمين مثلنا لبقوا معنا وصبروا كما صبرنا وقال قوم هم مسلمون وليس لنا أن ننسبهم إلى الكفر إلى أن يظهر أمرهم فبين الله تعالى نفاقهم في هذه الآية الثاني نزلت الآية في قوم أظهروا الإسلام بمكة وكانوا يعينون المشركين على المسلمين فاختلف المسلمون فيهم وتشاجروا فنزلت الآية وهو قول ابن عباس وقتادة الثالث نزلت الآية في الذين تخلفوا يوم أحد عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم فاختلف أصحاب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فيهم فمنهم فرقة يقولون كفروا وآخرون قالوا لم يكفروا فنزلت هذه الآية وهو قول زيد بن ثابت ومنهم من طعن في هذا الوجه وقال في نسق الآية ما يقدح فيه وإنهم من أهل مكة وهو قوله تعالى فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّى يُهَاجِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ( النساء 89 ) الرابع نزلت الآية في قوم ضلوا وأخذوا أموال المسلمين وانطلقوا بها إلى اليمامة فاختلف المسلمون فيهم فنزلت الآية وهو قول عكرمة الخامس هم العرنيون الذين أغاروا وقتلوا يسارا مولى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) السادس قال ابن زيد نزلت في أهل الافك
المسألة الثانية في معنى الآية وجهان الأول أن ( فئتين ) نصب على الحال كقولك مالك قائما أي مالك في حال القيام وهذا قول سيبويه الثاني أنه نصب على خبر كان والتقدير مالكم صرتم في المنافقين فئتين وهو استفهام على سبيل الانكار اي لم تختلفون في كفرهم مع أن دلائل كفرهم ونفاقهم ظاهرة جلية فليس لكم أن تختلفوا فيه بل يجب أن تقطعوا بكفرهم
المسألة الثالثة قال الحسن إنما سماهم منافقين وان أظهروا الكفر لأنهم وصفوا بالصفة التي كانوا عليها من قبل والمراد بقوله فِئَتَيْنِ ما بينا ان فرقة منهم كانت تميل اليهم وتذب عنهم وتواليهم وفرقة منهم تباينهم وتعاديهم فنهوا عن ذلك وأمروا بأن يكونوا على نهج واحد في التباين والتبري والتكفير والله أعلم
ثم قال تعالى مخبرا عن كفرهم وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُواْ وفيه مسائل
المسألة الأولى الركس رد الشيء من آخره إلى أوله فالركس والنكس والمركوس والمنكوس واحد ومنه يقال للروث الركس لأنه رد إلى حالة خسيسة وهي حالة النجاسة ويسمى رجيعا لهذا المعنى

أيضا وفيه لغتان ركسهم وأركسهم فارتكسوا أي ارتدوا وقال أمية
فأركسوا في حميم النار إنهم كانوا عصاة وقالوا الافك والزورا
المسألة الثانية معنى الآية أنه ردهم إلى أحكام الكفار من الذل والصغار والسبي والقتل بما كسبوا أي بما أظهروا من الارتداد بعدما كانوا على النفاق وذلك أن المنافق ما دام يكون متمسكا في الظاهر بالشهادتين لم يكن لنا سبيل إلى قتله فاذا أظهر الكفر فحينئذ يجري الله تعالى عليه أحكام الكفار
المسألة الثالثة قرأ ابي كعب وعبدالله بن مسعود وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ وقد ذكرنا أن أركس وركس لغتان
ثم قال تعالى أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً قالت المعتزلة المراد من قوله أَضَلَّ اللَّهُ ليس أنه هو خلق الضلال فيه للوجوه المشهورة ولأنه تعالى قال قبل هذه الآية وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُواْ فبين تعالى انه إنما ردهم وطردهم بسبب كسبهم وفعلهم وذلك ينفي القول بان إضلالهم حصل بخلق الله وعند هذا حملوا قوله مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ على وجوه الأول المراد منه ان الله تعالى حكم بضلالهم وكفرهم كما يقال فلان يكفر فلانا ويضله بمعنى أنه حكم به وأخبر عنه الثاني أن المعنى أتريدون أن تهدوا إلى الجنة من أضله الله عن طريق الجنة وذلك لأنه تعالى يضل الكفار يوم القيامة عن الاهتداء إلى طريق الجنة الثالث أن يكون هذا الاضلال مفسرا بمنع الالطاف
واعلم أنا قد ذكرنا في مواضع كثيرة من هذا الكتاب ضعف هذه الوجوه ثم نقول هب أنها صحيحة ولكنه تعالى لما أخبر عن كفرهم وضلالهم وانهم لا يدخلون الجنة فقد توجه الاشكال لأن انقلاب علم الله تعالى جهلا محال والمفضي الى المحال محال ومما يدل على أن المراد من الآية أن الله تعالى أضلهم عن الدين قوله وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً فالمؤمنون في الدنيا انما كانوا يريدون من المنافقين الايمان ويحتالون في إدخالهم فيه
ثم قال تعالى وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً فوجب أن يكون معناه أنه تعالى لما أضلهم عن الايمان امتنع أن يجد المخلوق سبيلا الى ادخاله في الايمان وهذا ظاهر
وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءً فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ حَتَّى يُهَاجِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً
وفيه مسألتان
المسألة الأولى انه تعالى لما قال قبل هذه الآية أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ ( النساء 88 ) وكان ذلك استفهاما على سبيل الانكار قرر ذلك الاستبعاد بأن قال انهم بلغوا في الكفر الى أنهم يتمنون أن تصيروا أيها المسلمون كفارا فلما بلغوا في تعصبهم في الكفر الى هذا الحد فكيف تطمعون في ايمانهم

المسألة الثانية قوله فَتَكُونُونَ سَوَاء رفع بالنسق على تَكْفُرُونِ والمعنى ودوا لو تكونون والفاء عاطفة ولا يجوز أن يجعل ذلك جواب التمني ولو أراد ذلك على تأويل إذا كفروا استووا لكان نصبا ومثله قوله وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ( القلم 9 ) ولو قيل فيدهنوا على الجواب لكان ذلك جائزا في الاعراب ومثله وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ ( النساء 102 ) ومعنى قوله فَتَكُونُونَ سَوَاء أي في الكفر والمراد فتكونون أنتم وهم سواء الا أنه اكتفى بذكر المخاطبين عن ذكر غيرهم لوضوح المعنى بسبب تقدم ذكرهم واعلم أنه تعالى لما شرح للمؤمنين كفرهم وشدة غلوهم في ذلك الكفر فبعد ذلك شرح للمؤمنين كيفية المخالطة معهم فقال فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّى يُهَاجِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وفيه مسائل
المسألة الأولى دلت الآية على أنه لا يجوز موالاة المشركين والمنافقين والمشتهرين بالزندقة والالحاد وهذا متأكد بعموم قوله تعالى الْحَكِيمُ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء والسبب فيه أن أعز الاشياء وأعظمها عند جميع الخلق هو الدين لأن ذلك هو الامر الذي به يتقرب الى الله تعالى ويتوسل به الى طلب السعادة في الآخرة وإذا كان كذلك كانت العداوة الحاصلة بسببه أعظم أنواع العداوة وإذا كان كذلك امتنع طلب المحبة والولاية في الموضع الذي يكون أعظم موجبات العداوة حاصلا فيه والله أعلم
المسألة الثانية قوله فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّى يُهَاجِرُواْ قال أبو بكر الرازي التقدير حتى يسلموا ويهاجروا لأن الهجرة في سبيل الله لا تكون إلا بعد الإسلام فقد دلت الآية على إيجاب الهجرة بعد الإسلام وانهم وإن أسلموا لم يكن بيننا وبينهم موالاة إلا بعد الهجرة ونظيره قوله مَالَكُمْ مّن وَلايَتِهِم مّن شَى ْء حَتَّى يُهَاجِرُواْ
واعلم أن هذا التكليف إنما كان لازما حال ما كانت الهجرة مفروضة قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( أنا بريء من كل مسلم أقام بين أظهر المشركين وأنا بريء من كل مسلم مع مشرك ) فكانت الهجرة واجبة إلى أن فتحت مكة ثم نسخ فرض الهجرة عن طاوس عن ابن عباس قال قال رسول ( صلى الله عليه وسلم ) يوم فتح مكة ( لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية ) وروي عن الحسن أن حكم الآية ثابت في كل من أقام في دار الحرب فرأى فرض الهجرة إلى دار الإسلام قائما
المسألة الثالثة اعلم أن الهجرة تارة تحصل بالانتقال من دار الكفر إلى دار الايمان وأخرى تحصل بالانتقال عن أعمال الكفار إلى أعمال المسلمين قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( المهاجر من هجر ما نهى الله عنه ) وقال المحققون الهجرة في سبيل الله عبارة عن الهجرة عن ترك مأموراته وفعل منهياته ولما كان كل هذه الأمور معتبرا لا جرم ذكر الله تعالى لفظا عاما يتناول الكل فقال حَتَّى يُهَاجِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فانه تعالى لم يقل حتى يهاجروا عن الكفر بل قال حَتَّى يُهَاجِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وذلك يدخل فيه مهاجرة دار الكفر ومهاجرة شعار الكفر ثم لم يقتصر تعالى على ذكر الهجرة بل قيده بكونه في سبيل الله فانه ربما كانت الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام ومن شعار الكفر إلى شعار الإسلام لغرض من أغراض الدنيا إنما المعتبر وقوع تلك الهجرة لأجل أمر الله تعالى

ثم قال تعالى فَإِنْ تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً والمعنى فان أعرضوا عن الهجرة ولزموا مواضعهم خارجا عن المدينة فخذوهم إذا قدرتم عليهم واقتلوهم أينما وجدتموهم في الحل والحرم ولا تتخذوا منهم في هذه الحالة ولياً يتولى شيئا من مهماتكم ولا نصيرا ينصركم على أعدائكم
واعلم أنه تعالى لما أمر بقتل هؤلاء الكفار استثنى منه موضعين
إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُونَكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً
وفيه مسائل

المسألة الأولى في قوله يَصِلُونَ قولان الأول ينتهون اليهم ويتصلون بهم والمعنى أن كل من دخل في عهد من كان داخلا في عهدكم فهم أيضا داخلون في عهدكم قال القفال رحمه الله وقد يدخل في الآية أن يقصد قوم حضرة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فيتعذر عليهم ذلك المطلوب فيلجأوا إلى قوم بينهم وبين المسلمين عهد إلى أن يجدوا السبيل اليه
القول الثاني أن قوله يَصِلُونَ معناه ينتسبون وهذا ضعيف لأن أهل مكة أكثرهم كانوا متصلين بالرسول من جهة النسب مع أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان قد أباح دم الكفار منهم
المسألة الثانية اختلفوا في أن القوم الذين كان بينهم وبين المسلمين عهد من هم قال بعضهم هم الأسلميون فانه كان بينهم وبين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عهد فانه عليه الصلاة والسلام وادع وقت خروجه إلى مكة هلال بن عويمر الأسلمي على أن لا يعصيه ولا يعين عليه وعلى أن كل من وصل إلى هلال ولجأ إليه فله من الجوار مثل ما لهلال وقال ابن عباس هم بنو بكر بن زيد مناة وقال مقاتل هم خزاعة وخزيمة بن عبد مناة
واعلم أن ذلك يتضمن بشارة عظيمة لأهل الايمان لأنه تعالى لما رفع السيف عمن التجأ إلى من التجأ إلى المسلمين فبأن يرفع العذاب في الآخرة عمن التجأ إلى محبة الله ومحبة رسوله كان أولى والله أعلم
الموضع الثاني في الاستثناء قوله تعالى أَوْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُونَكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى أَوْ يحتمل أن يكون عطفا على صلة يَتَذَكَّرُونَ الَّذِينَ والتقدير إلا الذين يصلون بالمعاهدين أو الذين حصرت صدورهم فلا يقاتلونكم ويحتمل أن يكون عطفا على صفة ( قوم ) والتقدير إلا الذين يصلون الى قوم بينكم وبينهم عهد أو يصلون إلى قوم حصرت صدورهم فلا يقاتلونكم والاول أولى لوجهين أحدهما قوله تعالى فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ( النساء 89 ) وهذا يدل على ان السبب الموجب لترك التعرض لهم هو تركهم للقتال وهذا انما يتمشى على الاحتمال الاول وأما على الاحتمال الثاني فالسبب الموجب لترك التعرض لهم هو الاتصال بمن ترك القتال الثاني أن جعل ترك القتال موجبا لترك التعرض أولى من جعل الاتصال بمن ترك القتال سببا قريبا لترك التعرض لان على التقدير الاول يكون ترك القتال سببا قريبا لترك التعرض وعلى السبب الثاني يصير سببا بعيدا
المسألة الثانية قوله حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ معناه ضاقت صدورهم عن المقاتلة فلا يريدون قتالكم لانكم مسلمون ولا يريدون قتالهم لانهم أقاربهم واختلفوا في موضع قوله حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ وذكروا وجوها الأول أنه في موضع الحال باضمار ( قد ) وذلك لان ( قد ) تقرب الماضي من الحال ألا تراهم يقولون قد قامت الصلاة ويقال أتاني فلان ذهب عقله أي أتاني فلان قد ذهب عقله وتقدير الآية أو جاؤكم حال ما قد حصرت صدورهم الثاني أنه خبر بعد خبر كأنه قال أو جاؤكم ثم أخبر بعده فقال حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ وعلى هذا التقدير يكون قوله حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ بدلا من جاؤكم الثالث أن يكون التقدير جاؤكم قوما حصرت صدورهم أو جاؤكم رجالا حصرت صدورهم فعلى هذا التقدير قوله جَاءوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ نصب لأنه صفة لموصوف منصوب على الحال الا انه حذف الموصوف المنتصب على الحال وأقيمت صفته مقامه وقوله ءانٍ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ معناه ضاقت قلوبهم عن قتالكم وعن قتال قومهم فهم لا عليكم ولا لكم
المسألة الثالثة اختلفوا في أن الذين استثناهم الله تعالى أهم من الكفار أو من المؤمنين فقال الجمهور هم من الكفار والمعنى أنه تعالى أوجب قتل الكافر الا إذا كان معاهدا أو تاركا للقتال فانه لا يجوز قتلهم وعلى هذا التقدير فالقول بالنسخ لازم لأن الكافر وان ترك القتال فانه يجوز قتله وقال أبو مسلم الاصفهاني انه تعالى لما أوجب الهجرة على كل من أسلم استثنى من له عذر فقال إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ وهم قوم من المؤمنين قصدوا الرسول للهجرة والنصرة الا أنهم كان في طريقهم من الكفار ما لم يجدوا طريقا اليه خوفا من أولئك الكفار فصاروا الى قوم بين المسلمين وبينهم عهد وأقاموا عندهم الى أن يمكنهم الخلاص واستثنى بعد ذلك من صار إلى الرسول ولا يقاتل الرسول ولا أصحابه لأنه يخاف الله تعالى فيه ولا يقاتل الكفار أيضا لأنهم أقاربه أو لانه أبقى أولاده وأزواجه بينهم فيخاف لو قاتلهم أن يقتلوا أولاده وأصحابه فهذان الفريقان من المسلمين لا يحل قتالهم وان كان لم يوجد منهم الهجرة ولا مقاتلة الكفار
المسألة الرابعة قوله تعالى وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ التسليط في اللغة مأخوذ من السلاطة وهي الحدة والمقصود منه أن الله تعالى من على المسلمين بكف بأس المعاهدين والمعنى أن ضيق صدورهم عن قتالكم إنما هو لأن الله قذف الرعب في قلوبهم ولو أنه تعالى قوى قلوبهم على قتال المسلمين لتسلطوا عليهم قال أصحابنا وهذا يدل على أنه لا يقبح من الله تعالى تسليط الكافر على المؤمن وتقويته عليه

وأما المعتزلة فقد أجابوا عنه من وجهين الأول قال الجبائي قد بينا أن القوم الذين استثناهم الله تعالى قوم مؤمنون لا كافرون وعلى هذا فمعنى الآية ولو شاء الله لسلطهم عليكم بتقوية قلوبهم ليدفعوا عن أنفسهم أن أقدمتم على مقاتلتهم على سبيل الظلم والثاني قال الكلبي انه تعالى أخبر أنه لو شاء لفعل وهذا لا يفيد إلا أنه تعالى قادر على الظلم وهذا مذهبنا إلا أنا نقول إنه تعالى لا يفعل الظلم وليس في الآية دلالة على أنه شاء ذلك وأراده
المسألة الخامسة اللام في قوله فَلَقَاتَلُوكُمْ جواب ( للو ) على التكرير أو البدل على تأويل ولو شاء الله لسلطهم عليكم ولو شاء الله لقاتلوكم قال صاحب ( الكشاف ) وقرىء فَلَقَاتَلُوكُمْ بالتخفيف والتشديد
ثم قال فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ أي فان لم يتعرضوا لكم وألقوا اليكم السلم أي الانقياد والاستسلام وقرىء بسكون اللام مع فتح السين فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً فما أذن لكم في أخذهم وقتلهم واختلف المفسرون فقال بعضهم الآية منسوخة بآية السيف وهي قوله اقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ ( التوبة 5 ) وقال قوم انها غير منسوخة أما الذين حملوا الاستثناء على المسلمين فذلك ظاهر على قولهم وأما الذين حملوا الاستثناء على الكافرين فقال الأصم إذا حملنا الآية على المعاهد فكيف يمكن أن يقال انها منسوخة
سَتَجِدُونَ ءَاخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنِة ِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَائِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً
قال المفسرون هم قوم من أسد وغطفان كانوا إذا أتوا المدينة أسلموا وعاهدوا وغرضهم أن يأمنوا المسلمين فاذا رجعوا إلى قومهم كفروا ونكثوا عهودهم كُلَّمَا رُدُّواْ إِلَى الْفِتْنِة ِ كلما دعاهم قومهم إلى قتال المسلمين أُرْكِسُواْ فِيِهَا أي ردوا مغلوبين منكوسين فيها وهذا استعارة لشدة إصرارهم على الكفر وعداوة المسلمين لأن من وقع في شيء منكوسا يتعذر خروجه منه
ثم قال تعالى فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّواْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ
والمعنى فان لم يعتزلوا قتالكم ولم يطلبوا الصلح منكم ولم يكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم قال الأكثرون وهذا يدل على أنهم إذا اعتزلوا قتالنا وطلبوا الصلح منا وكفوا أيديهم عن إيذائنا لم يجز لنا قتالهم ولا قتلهم ونظيره قوله تعالى رَّحِيمٌ لاَّ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ ( الممتحنة 8 ) وقوله وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ( البقرة 190 ) فخص

الأمر بالقتال لمن يقاتلنا دون من لم يقاتلنا واعلم أن هذا الكلام مبني على أن المعلق بكلمة ( إن ) على الشرط عدم عند عدم الشرط وقد شرحنا الحال فيه في قوله تعالى إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ ( النساء 31 )
ثم قال وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً
وفي السلطان المبين وجهان الأول أنه ظهر على جواز قتل هؤلاء حجة واضحة ظاهرة وهي ظهور عداوتهم وانكشاف حالهم في الكفر والغدر وإضرارهم بأهل الإسلام الثاني أن السلطان المبين هو إذن الله تعالى للمسلمين في قتل هؤلاء الكفار
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَة ٍ مُّؤْمِنَة ٍ وَدِيَة ٌ مُّسَلَّمَة ٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَة ٍ مُّؤْمِنَة ٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَة ٌ مُّسَلَّمَة ٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَة ٍ مُّؤْمِنَة ً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَة ً مِّنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً
اعلم أنه تعالى لما رغب في مقاتلة الكفار وحرض عليها ذكر بعد ذلك بعض ما يتعلق بهذه المحاربة فمنها أنه تعالى لما أذن في قتل الكفار فلا شك أنه قد يتفق أن يرى الرجل رجلا يظنه كافرا حربيا فيقتله ثم يتبين انه كان مسلما فذكر الله تعالى حكم هذه الواقعة في هذه الآية وههنا مسائل
المسألة الأولى ذكروا في سبب النزول وجوها الأول روى عروة بن الزبير أن حذيفة بن اليمان كان مع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يوم أحد فأخطأ المسلمون وظنوا أن أباه اليمان واحد من الكفار فأخذوه وضربوه بأسيافهم وحذيفة يقول انه أبي فلم يفهموا قوله إلا بعد أن قتلوه فقال حذيفة يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين فلما سمع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك ازداد وقع حذيفة عنده فنزلت هذه الآية
الرواية الثانية أن الآية نزلت في أبي الدرداء وذلك لأنه كان في سرية فعدل إلى شعب لحاجة له فوجد رجلا في غنم له فحمل عليه بالسيف فقال الرجل لا إله إلا الله فقتله وساق غنمه ثم وجد في نفسه شيئا فذكر الواقعة للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فقال عليه الصلاة والسلام ( هلا شققت عن قلبه ) وندم أبو الدرداء فنزلت الآية

الرواية الثالثة روي أن عياش بن أبي ربيعة وكان أخا لأبي جهل من أمه أسلم وهاجر خوفا من قومه إلى المدينة وذلك قبل هجرة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فأقسمت أمه لا تأكل ولا تشرب ولا تجلس تحت سقف حتى يرجع فخرج أبو جهل ومعه الحرث بن زيد بن أبي أنيسة فأتياه وطولا في الأحاديث فقال أبو جهل أليس أن محمداً يأمرك ببر الأم فانصرف وأحسن إلى أمك وأنت على دينك فرجع فلما دنوا من مكة قيدوا يديه ورجليه وجلده أبو جهل مائة جلدة وجلده الحرث مائة أخرى فقال للحرث هذا أخي فمن أنت يا حرث لله علي إن وجدتك خالي أن أقتلك وروي أن الحرث قال لعياش حين رجع ان كان دينك الأول هدى فقد تركته وان كان ضلالا فقد دخلت الآن فيه فشق ذلك على عياش وحلف أن يقتله فلما دخل على أمه حلفت أمه لا يزول عنه القيد حتى يرجع إلى دينه الأول ففعل ثم هاجر بعد ذلك وأسلم الحرث أيضا وهاجر فلقيه عياش خالياً ولم يشعر باسلامه فقتله فلما أخبر بأنه كان مسلما ندم على فعله وأتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال قتلته ولم أشعر باسلامه فنزلت هذه الآية
المسألة الثانية قوله تعالى الْجَحِيمِ وَمَا كَانَ فيه وجهان الأول أي وما كان فيما أتاه من ربه وعهد إليه الثاني ما كان له في شيء من الأزمنة ذلك والغرض منه بيان أن حرمة القتل كانت ثابتة من أول زمان التكليف
المسألة الثالثة قوله إِلا فيه قولان الأول أنه استثناء متصل والذاهبون إلى هذا القول ذكروا وجوها الأول ان هذا الاستثناء ورد على طريق المعنى لأن قوله وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ معناه أنه يؤاخذ الانسان على القتل إلا إذا كان القتل قتل خطأ فانه لا يؤاخذ به الثاني أن الاستثناء صحيح أيضا على ظاهر اللفظ والمعنى أنه ليس لمؤمن أن يقتل مؤمنا ألبتة إلا عند الخطأ وهو ما إذا رأى عليه شعار الكفار أو وجده في عسكرهم فظنه مشركا فههنا يجوز قتله ولا شك أن هذا خطأ فانه ظن أنه كافر مع أنه ما كان كافرا الثالث أن في الكلام تقديما وتأخيرا والتقدير وما كان مؤمن ليقتل مؤمناً إلا خطأ ومثله قوله تعالى يَمْتُرُونَ مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ ( مريم 35 ) تأويله ما كان الله ليتخذ من ولد لأنه تعالى لا يحرم عليه شيء إنما ينفي عنه ما لا يليق به وأيضا قال تعالى مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا ( النمل 60 ) معناه ما كنتم لتنبتوا لأنه تعالى لم يحرم عليهم أن ينبتوا الشجر إنما نفى عنهم أن يمكنهم إنباتها فانه تعالى هو القادر على إنبات الشجر الرابع أن وجه الاشكال في حمل هذا الاستثناء على الاستثناء المتصل وهو أن يقال الاستثناء من النفي إثبات وهذا يقتضي الاطلاق في قتل المؤمن في بعض الأحوال وذلك محال إلا أن هذا الاشكال إنما يلزم إذا سلمنا أن الاستثناء من النفي إثبات وذلك مختلف فيه بين الأصوليين والصحيح أنه لا يقتضيه لأن الاستثناء يقتضي صرف الحكم عن المستثنى لا صرف المحكوم به عنه واذا كان تأثير الاستثناء في صرف الحكم فقط بقي المستثنى غير محكوم عليه لا بالنفي ولا بالاثبات وحينئذ يندفع الاشكال ومما يدل على أن الاستثناء من النفي ليس باثبات قوله عليه الصلاة والسلام ( لا صلاة الا بطهور ولا نكاح الا بولي ) ويقال لا ملك الا بالرجال ولا رجال الا بالمال والاستثناء في جملة هذه الصور لا يفيد أن يكون الحكم المستثنى من النفي إثباتا والله أعلم الخامس قال أبو هاشم وهو أحد رؤساء المعتزلة تقدير الآية وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا فيبقى مؤمنا الا أن يقتله

خطأ فيبقى حينئذ مؤمنا قال والمراد أن قتل المؤمن للمؤمن يخرجه عن كونه مؤمنا الا أن يكون خطأ فانه لا يخرجه عن كونه مؤمنا واعلم أن هذا الكلام بناء على أن الفاسق ليس بمؤمن وهو أصل باطل والله أعلم
القول الثاني أن هذا الاستثناء منقطع بمعنى لكن ونظيره في القرآن كثير قال تعالى لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَة ً ( النساء 29 ) وقال الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ ( النجم 53 ) وقال لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً إِلاَّ قِيلاً سَلَاماً سَلَاماً والله أعلم
المسألة الرابعة في انتصاب قوله خطأ وجوه الأول أنه مفعوله له والتقدير ما ينبغي أن يقتله لعلة من العلل إلا لكونه خطأ الثاني أنه حال والتقدير لا يقتله ألبتة إلا حال كونه خطأ الثالث أنه صفة للمصدر والتقدير إلا قتلا خطأ
قوله تعالى وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَة ٍ مُّؤْمِنَة ٍ وَدِيَة ٌ مُّسَلَّمَة ٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال الشافعي رحمه الله القتل على ثلاثة أقسام عمد وخطأ وشبه عمد
أما العمد فهو أن يقصد قتله بالسبب الذي يعلم إفضاءه إلى الموت سواء كان ذلك جارحا أو لم يكن وهذا قول الشافعي
وأما الخطأ فضربان أحدهما أن يقصد رمي المشرك أو الطائر فأصاب مسلما والثاني أن يظنه مشركا بأن كان عليه شعار الكفار والأول خطأ في الفعل والثاني خطأ في القصد
أما شبه العمد فهو أن يضربه بعصا خفيفة لا تقتل غالبا فيموت منه قال الشافعي رحمه الله هذا خطأ في القتل وإن كان عمدا في الضرب
المسألة الثانية قال أبو حنيفة القتل بالمثقل ليس بعمد محض بل هو خطأ وشبه عمد فيكون داخلا تحت هذه الآية فتجب فيه الدية والكفارة ولا يجب فيه القصاص وقال الشافعي رحمه الله إنه عمد محض يجب فيه القصاص أما بيان أنه قتل فيدل عليه القرآن والخبر أما القرآن فهو أنه تعالى حكى عن موسى عليه السلام أنه وكز القبطي فقضى عليه ثم إن ذلك الوكز يسمى بالقتل بدليل أنه حكى أن القبطي قال في اليوم الثاني أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِى كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالاْمْسِ ( القصص 19 ) وكان الصادر عن موسى عليه السلام بالأمس ليس إلا الوكز فثبت أن القبطي سماه قتلا وأيضاً ان موسى صلوات الله عليه سماه قتلا حيث قال رَبّى إِنّى قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ ( القصص 33 ) وأجمع المفسرون على أن المراد منه قتل ذلك القبطي بذلك الوكز وأيضا ان الله تعالى سماه قتلا حيث قال وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً ( طه 40 ) فثبت أن الوكز قتل بقول القبطي وبقول موسى وبقول الله تعالى وأما الخبر فقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ألا إن قتيل الخطأ العمد قتيل السوط والعصا فيه مائة من الابل ) فسماه قتلا فثبت بهذين الدليلين أنه حصل القتل وأما أنه عمد فالشاك فيه داخل في السفسطة فان من ضرب رأس إنسان بحجر الرحا أو صلبه أو غرقه أو خنقه ثم قال ما قصدت به قتله كان ذلك إما كاذبا أو مجنونا وأما أنه عدوان فلا ينازع فيه مسلم فثبت أنه قتل عمد عدوان فوجب أن يجب القصاص بالنص والمعقول

أما النص فهو جميع الآيات الدالة على وجوب القصاص كقوله كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ( البقرة 178 ) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ( المائدة 45 ) وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَاناً ( الإسراء 33 ) وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا ( الشورى 40 ) فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ( البقرة 194 )
وأما المعقول فهو أن المقصود من شرع القصاص صيانة النفوس والأرواح عن الاهدار قال تعالى وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَواة ٌ ( البقرة 179 ) وإذا كان المقصود من شرع القصاص صيانة النفوس والأرواح عن الاهدار والاهدار من المثقل كهو في المحدد كانت الحاجة إلى شرع الزاجر في إحدى الصورتين كالحاجة إليه في الصورة الأخرى ولا تفاوت بين الصورتين في نفس الاهدار إنما التفاوت حاصل في آلة الاهدار والعلم الضروري حاصل بأن ذلك غير معتبر والكلام في الفقهيات إذا وصل إلى هذا الحد فقد بلغ الغاية القصوى في التحقيق لمن ترك التقليد واحتجوا بقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ألا إن قتيل الخطأ العمد قتيل السوط والعصا فيه مائة من الابل ) وهو عام سواء كان السوط والعصا صغيرا أو كبيرا
والجواب أن قوله ( قتيل الخطأ ) يدل على أنه لا بد وأن يكون معنى الخطأ حاصلا فيه وقد بينا أن من خنق إنساناً أو ضرب رأسه بحجر الرحا ثم قال ما كنت أقصد قتله فان كل عاقل ببديهة عقله يعلم أنه كاذب في هذا المقال فوجب حمل هذا الضرب على الضرب بالعصا الصغيرة حتى يبقى معنى الخطأ فيه والله أعلم
المسألة الثالثة قال أبو حنيفة القتل العمد لا يوجب الكفارة وقال الشافعي يوجب احتج أبو حنيفة بهذه الآية فقال قوله وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً شرط لوجوب الكفارة وعند انتفاء الشرط لا يحصل المشروط فيقال له إنه تعالى قال حَكِيماً وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم ( النساء 25 ) فقوله وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ ما كان شرطا لجواز نكاح الأمة على قولكم فكذلك ههنا ثم نقول الذي يدل على وجوب الكفارة في القتل العمد الخبر والقياس
أما الخبر فهو ما روى واثلة بن الأسقع قال أتينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في صاحب لنا أوجب النار بالقتل فقال اعتقوا عنه يعتق الله بكل عضو منه عضوا منه من النار
وأما القياس فهو أن الغرض من إعتاق العبد هو أن يعتقه الله من النار والحاجة الى هذا المعنى في القتل العمد أتم فكانت الحاجة فيه الى ايجاب الكفارة أتم والله أعلم
وذكر الشافعي رضي الله عنه حجة أخرى من قياس الشبه فقال لما وجبت الكفارة في قتل الصيد في الاحرام سوينا بين العامد وبين الخاطىء إلا في الاثم فكذا في قتل المؤمن ولهذا الكلام تأكيد آخر وهو أن يقال نص الله تعالى هناك في العامد وأوجبنا على الخاطىء فههنا نص على الخاطىء فبأن نوجبه على العامد مع أن احتياج العامد الى الاعتاق المخلص له عن النار أشد كان ذلك أولى
المسألة الرابعة قال ابن عباس والحسن والشعبي والنخعي لا تجزى الرقبة إلا إذا صام وصلى وقال الشافعي ومالك والأوزاعي وأبو حنيفة رضي الله تعالى عنهم يجزى الصبي إذا كان أحد أبويه مسلما حجة ابن عباس هذه الآية فانه تعالى أوجب تحرير الرقبة المؤمنة والمؤمن من يكون موصوفا بالايمان

والايمان إما التصديق وإما العمل وإما المجموع وعلى التقديرات فالكل فائت عن الصبي فلم يكن مؤمنا فوجب أن لا يجزى حجة الفقهاء أن قوله وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً يدخل فيه الصغير فكذا قوله خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَة ٍ مُّؤْمِنَة ٍ فوجب أن يدخل فيه الصغير
المسألة الخامسة قال الشافعي رحمه الله الدية في العمد المحض وفي شبه العمد مغلظة مثلثة ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة في بطونها أولادها
وأما في الخطأ المحض فمخففة عشرون بنات مخاض وعشرون بنات لبون وعشرون بنو لبون وعشرون حقة وعشرون جذعة وأما أبو حنيفة فهو أيضاً هكذا يقول في الكل إلا في شيء واحد فانه أوجب بني مخاض بدلا عن بنات لبون حجة الشافعي رحمه الله أنه تعالى أوجب الدية في القرآن ولم يبين كيفية الدية فرجعنا في معرفة الكيفية إلى السنة والقياس فلم نجد في السنة ما يدل عليه
وأما القياس فانه لا مجال للمناسبات والتعليلات المعقولة في تعيين الأسباب وتعيين الأعداد فلم يبق ههنا مطمع إلا في قياس الشبه ونرى أن الدية وجبت بسبب أقوى من السبب الموجب للزكاة ثم إنا رأينا أن الشرع لم يجعل لبني مخاض دخلا في باب الزكاة فوجب أن لا يكون لها دخل في باب الدية أيضاً وحجة أبي حنيفة أن البراءة كانت ثابتة والأصل في الثابت البقاء فكانت البراءة الأصلية باقية ولا يعدل عن هذا الدليل إلا لدليل أقوى منه فنقول الأول هو المتفق عليه فاعترفنا بوجوبه وأما الزائد عليه فوجب أن يبقى على النفي الأصلي
والجواب أن الذمة مشغولة بوجوب الدية والأصل في الثابت البقاء وقد رأينا حصول الاتفاق على السقوط بأداء أكثر ما قيل فيه فوجب أن لا يحصل ذلك السقوط عند أداء أقل ما فيه والله أعلم
المسألة السادسة قال الشافعي رحمه الله إذا لم توجد الابل فالواجب إما ألف دينار أو اثنا عشر ألف درهم وقال أبو حنيفة بل الواجب عشرة آلاف درهم حجة الشافعي ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال كانت قيمة الدية في عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثمانمائة دينار وثمانية آلاف درهم فلما استخلف عمر رضي الله عنه قام خطيبا وقال إن الابل قد غلت أثمانها ثم إن عمر فرضها على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق أثنى عشر ألفا وجه الاستدلال أن عمر ذكر ذلك في مجمع الصحابة وما أنكر عليه أحد فكان إجماعا حجة أبي حنيفة أن الأخذ بالأقل أولى وقد سبق جوابه
المسألة السابعة قال أبو بكر الأصم وجمهور الخوارج الدية واجبة على القاتل قالوا ويدل عليه وجوه الأول أن قوله فَتَحْرِيرُ رَقَبَة ٍ مُّؤْمِنَة ٍ لا شك أنه إيجاب لهذا التحرير والايجاب لا بد فيه من شخص يجب عليه ذلك الفعل والمذكور قبل هذه الآية هو القاتل وهو قوله وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً فهذا الترتيب يوجب القطع بأن هذا التحرير إنما أوجبه الله تعالى عليه لا على غيره والثاني أن هذه الجناية صدرت منه والمعقول هو أن الضمان لا يجب إلا على المتلف أقصى ما في الباب أن هذا الفعل صدر عنه على سبيل الخطأ ولكن الفعل الخطأ قائم في قيم المتلفات وأروش الجنايات مع أن تلك الضمانات لا تجب الى على المتلف فكذا ههنا الثالث أنه تعالى أوجب في هذه الآية شيئين تحرير الرقبة المؤمنة وتسليم الدية الكاملة ثم انعقد الاجماع على أن التحرير واجب على الجاني فكذا الدية يجب أن تكون

واجبة على القاتل ضرورة أن اللفظ واحد في الموضعين الرابع أن العاقلة لم يصدر عنهم جناية ولا ما يشبه الجناية فوجب أن لا يلزمهم شيء للقرآن والخبر أما القرآن فقوله تعالى لا تَزِرُ وازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى ( الأنعام 164 ) وقال تعالى وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا ( الأنعام 29 ) وقال لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ( البقرة 286 ) وأما الخبر فما روي أن أبا رمثة دخل على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ومعه ابنه فقال عليه الصلاة والسلام من هذا فقال ابني قال انه لا يجني عليك ولا تجني عليه ومعلوم أنه ليس المقصود منه الاخبار عن نفس الجناية إنما المقصود بيان أن أثر جنايتك لا يتعدى إلى ولدك وبالعكس وكل ذلك يدل على أن إيجاب الدية على الجاني أولى من إيجابها عل الغير الخامس أن النصوص تدل على أن مال الانسان معصوم وأنه لا سبيل لأحد أن يأخذه منه قال تعالى لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَة ً ( النساء 29 ) وقال عليه الصلاة والسلام ( كل امرىء أحق بكسبه ) وقال ( حرمة مال المسلم كحرمة دمه ) وقال ( لا يحل مال المسلم إلا بطيبة من نفسه ) تركنا العمل بهذه العمومات في الأشياء التي عرفنا بنص القرآن كونها موجبة لجواز الأخذ كما قلنا في الزكوات وكما قلنا في أخذ الضمانات وأما في إيجاب الدية على العاقلة فالمعتمد فيه على خبر الواحد وتخصيص عموم القرآن بخبر الواحد لا يجوز لأن القرآن معلوم وخبر الواحد مظنون وتقديم المظنون على المعلوم غير جائز ولأن هذا خبر واحد ورد فيما تعم به البلوى فيرد ولأنه خبر واحد ورد على مخالفة جميع أصول الشرائع فوجب رده وأما الفقهاء فقد تمسكوا فيه بالخبر والأثر والآية أما الخبر فما روى المغيرة أن امرأة ضربت بطن امرأة أخرى فألقت جنينا ميتا فقضى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على عاقلة الضاربة بالغرة فقام حمل بن مالك فقال كيف ندى من لا شرب ولا أكل ولا صاح ولا استهل ومثل ذلك بطل فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) هذا من سجع الجاهلية وأما الأثر فهو أن عمر رضي الله عنه قضى على علي بأن يعقل عن مولى صفية بنت عبد المطلب حين جنى مولاها وعلي كان ابن أخي صفية وقضى للزبير بميراثها فهذا يدل على أن الدية إنما تجب على العاقلة والله أعلم
المسألة الثامنة مذهب أكثر الفقهاء أن دية المرأة نصف دية الرجل وقال الأصم وابن عطية ديتها مثل دية الرجل حجة الفقهاء أن عليا وعمر وابن مسعود قضوا بذلك ولأن المرأة في الميراث والشهادة على النصف من الرجل فكذلك في الدية وحجة الأصم قوله تعالى وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَة ٍ مُّؤْمِنَة ٍ وَدِيَة ٌ مُّسَلَّمَة ٌ إِلَى أَهْلِهِ وأجمعوا على أن هذه الآية دخل فيها حكم الرجل والمرأة فوجب أن يكون الحكم فيها ثابتا بالسوية والله أعلم
المسألة التاسعة انفقوا على أن دية الخطأ مخففة في ثلاث سنين الثلث في السنة والثلثان في السنتين والكل في ثلاث سنين استفاض ذلك عن عمر ولم يخالفه فيه أحد من السلف فكان إجماعا
المسألة العاشرة لا فرق في هذه الدية بين أين يقضي منها الدين وتنفذ منها الوصية ويقسم الباقي بين الورثة على فرائض الله تعالى روي أن امرأة جاءت تطلب نصيبها من دية الزوج فقال عمر لا أعلم لك شيئا إنما الدية للعصبة الذين يعقلون عنه فشهد بعض من الصحابة أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أمره أن يورث الزوجة من دية زوجها فقضى عمر بذلك وإذ قد ذكرنا هذه المسائل فلنرجع إلى تفسير الآية فنقول قوله فَتَحْرِيرُ رَقَبَة ٍ مُّؤْمِنَة ٍ معناه فعليه تحرير رقبة والتحرير عبارة عن جعله حرا والحر هو الخالص ولما كان الانسان في أصل

الخلقة خلق ليكون مالكا للأشياء كما قال تعالى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً ( البقرة 29 ) فكونه مملوكا يكون صفة تكدر مقتضى الانسانية وتشوشها فلا جرم سميت إزالة الملك تحريراً أي تخليصا لذلك الانسان عما يكدر إنسانيته والرقبة عبارة عن النسمة كما قد يجعل الرأس أيضا عبارة عن نسمة في قولهم فلان يملك كذا رأسا من الرقيق والمراد برقبة مؤمنة كل رقبة كانت على حكم الإسلام عند الفقهاء وعند ابن عباس لا تجزي إلا رقبة قد صلت وصامت وقد ذكرنا هذه المسألة وقوله وَدِيَة ٌ مُّسَلَّمَة ٌ إِلَى أَهْلِهِ قال الواحدي الدية من الودي كالشية من الوشي والأصل ودية فحذفت الواو يقال ودى فلانا فلانا أي أدى ديته إلى وليه ثم ان الشرع خصص هذا اللفظ بما يؤدى في بدل النفس دون ما يؤدى في بدل المتلفات ودون ما يؤدى في بدل الاطراف والاعضاء
ثم قال تعالى إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ أصله يتصدقوا فأدغمت التاء في الصاد ومعنى التصدق الاعطاء قال الله تعالى وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِى الْمُتَصَدّقِينَ ( يوسف 88 ) والمعنى إلا أن يتصدقوا بالدية فيعفوا ويتركوا الدية قال صاحب ( الكشاف ) وتقدير الآية ويجب عليه الدية وتسليمها إلى حين يتصدقون عليه وعلى هذا فقوله أَن يَصَّدَّقُواْ في محل النصب على الظرف ويجوز أن يكون حالا من أهله بمعنى إلا متصدقين
ثم قال تعالى فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَة ٍ مُّؤْمِنَة ٍ
فاعلم أنه تعالى ذكر في الآية الأولى أن من قتل على سبيل الخطأ مؤمنا فعليه تحرير الرقبة وتسليم الدية وذكر في هذه الآية أن من قتل على سبيل الخطأ مؤمنا من قوم عدو لنا فعليه تحرير الرقبة وسكت عن ذكر الدية ثم ذكر بعد أن المقتول إن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق وجبت الدية والسكوت عن إيجاب الدية في هذه الآية مع ذكرها فيما قبل هذه الآية وفيما بعدها يدل على أن الدية غير واجبة في هذه الصورة
إذا ثبت هذا فنقول كلمة ( من ) في قوله مِن قَوْمٍ عَدُوّ لَّكُمْ إما أن يكون المراد منها كون هذا المقتول من سكان دار الحرب أو المراد كونه ذا نسب منهم والثاني باطل لانعقاد الاجماع على أن المسلم الساكن في دار الإسلام وجميع أقاربه يكونون كفارا فاذا قتل على سبيل الخطأ وجبت الدية في قتله ولما بطل هذا القسم تعين الأول فيكون المراد وإن كان المقتول خطأ من سكان دار الحرب وهو مؤمن فالواجب بسبب قتله الواقع على سبيل الخطأ هو تحرير الرقبة فأما وجوب الدية فلا قال الشافعي رحمه الله وكما دلت هذه الآية على هذا المعنى فالقياس يقويه أما أنه لا تجب الدية فلأنا لو أوجبنا الدية في قتل المسلم الساكن في دار الحرب لاحتاج من يريد غزو دار الحرب إلى أن يبحث عن كل أحد أنه هل هو من المسلمين أم لا وذلك مما يصعب ويشف فيفضي ذلك إلى احتراز الناس عن الغزو فالأولى سقوط الدية عن قاتله لأنه هو الذي أهدر دم نفسه بسبب اختياره السكنى في دار الحرب وأما الكفارة فانها حق الله تعالى لأنه لما صار ذلك الانسان مقتولا فقد هلك إنسان كان مواظبا على عبادة الله تعالى والرقيق لا يمكنه المواظبة على عبادة الله فاذا أعتقه فقد أقامه مقام ذلك المقتول في المواظبة على العبادات فظهر أن القياس يقتضي سقوط الدية ويقتضي بقاء الكفارة والله أعلم

ثم قال تعالى وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مّيثَاقٌ فَدِيَة ٌ مُّسَلَّمَة ٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَة ٍ مُّؤْمِنَة ً وفيه مسائل
المسألة الأولى وان كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فيه قولان الأول ان المراد منه المسلم وذلك لأنه تعالى ذكر أولا حال المسلم القاتل خطأ ثم ذكر حال المسلم المقتول خطأ إذا كان فيما بين أهل الحرب ثم ذكر حال المسلم المقتول خطأ إذا كان فيما بين أهل العهد وأهل الذمة ولا شك ان هذا ترتيب حسن فكان حمل اللفظ عليه جائزا والذي يؤكد صحة هذا القول أن قوله وَإِن كَانَ لا بد من إسناده إلى شيء جرى ذكره فيما تقدم والذي جرى ذكره فيما تقدم هو المؤمن المقتول خطأ فوجب حمل اللفظ عليه
القول الثاني أن المراد منه الذمي والتقدير وان كان المقتول من قوم بينكم وبينهم ميثاق ومعنى كون المقتول منهم أنه على دينهم ومذهبهم والقائلون بهذا القول طعنوا في القول الأول من وجوه الأول أن المسلم المقتول خطأ سواء كان من أهل الحرب أو كان من أهل الذمة فهو داخل تحت قوله وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَة ٍ مُّؤْمِنَة ٍ وَدِيَة ٌ مُّسَلَّمَة ٌ إِلَى أَهْلِهِ فلو كان المراد من هذه الآية هو المؤمن لكان هذا عطفا للشيء على نفسه وانه لا يجوز بخلاف ما إذا كان المؤمن المقتول خطأ من سكان دار الحرب فانه تعالى إنما أعاده لبيان أنه لا تجب الدية في قتله وأما في هذه الآية فقد أوجب الدية والكفارة فلو كان المراد منه هو المؤمن لكان هذا إعادة وتكرارا من غير فائدة وإنه لا يجوز الثاني أنه لو كان المراد منه ما ذكرتم لما كانت الدية مسلمة إلى أهله لأن أهله كفار لا يرثونه الثالث ان قوله وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مّيثَاقٌ يقتضي أن يكونوا من ذلك القوم في الوصف الذي وقع التنصيص عليه وهو حصول الميثاق بينهما فان كونه منهم مجمل لا يدري أنه منهم في أي الأمور وإذا حملناه على كونه منهم في ذلك الوصف زال الاجمال فكان ذلك أولى وإذا دلت الآية على أنه منهم في كونه معاهدا وجب أن يكون ذميا أو معاهدا مثلهم ويمكن أن يجاب عن هذه الوجوه
أما الأول فجوابه أنه تعالى ذكر حكم المؤمن المقتول على سبيل الخطأ ثم ذكر أحد قسميه وهو المؤمن المقتول خطأ الذي يكون من سكان دار الحرب فبين أن الدية لا تجب في قتله وذكر القسم الثاني وهو المؤمن المقتول خطأ الذي يكون من سكان مواضع أهل الذمة وبين وجوب الدية والكفارة في قتله والغرض منه اظهار الفرق بين هذا القسم وبين ما قبله
وأما الثاني فجوابه أن أهله هم المسلمون الذين تصرف ديته إليهم
وأما الثالث فجوابه أن كلمة ( من ) صارت مفسرة في الآية السابقة بكلمة ( في ) يعني في قوم عدو لكم فكذا ههنا يجب أن يكون المعنى ذلك لا غير
واعلم أن فائدة هذا البحث تظهر في مسألة شرعية وهي أن مذهب أبي حنيفة أن دية الذمى مثل دية المسلم وقال الشافعي رحمه الله تعالى دية اليهودي والنصراني ثلث دية المجوسي ودية المجوسي ثلثا عشر دية المسلم واحتج أبو حنيفة على قوله بهذه الآية وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مّيثَاقٌ المراد به الذمي ثم قال فَدِيَة ٌ مُّسَلَّمَة ٌ إِلَى أَهْلِهِ فأوجب تعالى فيهم تمام الدية ونحن نقول إنا بينا أن الآية نازلة

في حق المؤمنين لا في حق أهل الذمة فسقط الاستدلال وأيضا بتقدير أن يثبت لهم أنها نازلة في أهل الذمة لم تدل على مقصودهم لأنه تعالى أوجب في هذه الآية دية مسلمة فهذا يقتضي إيجاب شيء من الأشياء التي تسمى دية فلم قلتم إن الدية التي أوجبها في حق الذمي هي الدية التي أوجبها في حق المسلم ولم لا يجوز أن تكون دية المسلم مقداراً معينا ودية الذمي مقداراً آخر فان الدية لا معنى لها إلا المال الذي يؤدى في مقابلة النفس فان ادعيتم أن مقدار الدية في حق المسلم وفي حق الذمي واحد فهو ممنوع والنزاع ما وقع إلا فيه فسقط هذا الاحتجاج والله أعلم
المسألة الثانية لقائل أن يقول لم قدم تحرير الرقبة على الدية في الآية الأولى وههنا عكس هذا الترتيب إذ لو أفاده لتوجه الطعن في إحدى الآيتين فصار هذا كقوله ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّة ٌ ( البقرة ) 58 ) وفي آية أخرى وَقُولُواْ حِطَّة ٌ ( البقرة 58 ) وَادْخُلُواْ الْبَابَ ( البقرة 154 الأعراف 161 ) والله أعلم
المسألة الثالثة في هؤلاء الذين بيننا وبينهم ميثاق قولان الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما هم أهل الذمة من أهل الكتاب الثاني قال الحسن هم المعاهدون من الكفار
ثم قال تعالى فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَة ً مّنَ اللَّهِ أي فعليه ذلك بدلا عن الرقبة إذا كان فقيرا وقال مسروق إنه بدل عن مجموع الكفارة والدية والتتابع واجب حتى لو أفطر يوما وجب الاستئناف إلا أن يكون الفطر بحيض أو نفاس وقوله تَوْبَة ً مّنَ اللَّهِ انتصب بمعنى صيام ما تقدم كأنه قيل اعملوا بما أوجب الله عليكم لأجل التوبة من الله أي ليقبل الله توبتكم وهو كما يقال فعلت كذا حذر الشر
فان قيل قتل الخطأ لا يكون معصية فما معنى قوله تَوْبَة ً مّنَ اللَّهِ
قلنا فيه وجوه الأول أن فيه نوعين من التقصير فان الظاهر أنه لو بالغ في الاحتياط لم يصدر عنه ذلك الفعل ألا ترى أن من قتل مسلما على ظن أنه كافر حربي فلو أنه بالغ في الاحتياط والاستكشاف فالظاهر أنه لا يقع فيه ومن رمى إلى صيد فأخطأ وأصاب أنسانا فلو احتاط فلا يرمي إلا في موضع يقطع بأنه ليس هناك إنسان فانه لا يقع في تلك الواقعة فقوله تَوْبَة ً مّنَ اللَّهِ تنبيه على أنه كان مقصرا في ترك الاحتياط
الوجه الثاني في الجواب أن قوله تَوْبَة ً مّنَ اللَّهِ راجع إلى أنه تعالى أذن له في إقامة الصوم مقام الاعتاق عند العجز عنه وذلك لأن الله تعالى إذا تاب على المذنب فقد خفف عنه فلما كان التخفيف من لوازم التوبة أطلق لفظ التوبة لارادة التخفيف إطلاقا لاسم الملزوم على اللازم
الوجه الثالث في الجواب أن المؤمن إذا اتفق له مثل هذا الخطأ فانه يندم ويتمنى أن لا يكون ذلك مما وقع فسمى الله تعالى ذلك الندم وذلك التمني توبة
ثم قال تعالى وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً والمعنى أنه تعالى عليم بأنه لم يقصد ولم يتعمد حكيم في أنه ما يؤاخذه بذلك الفعل الخطأ فان الحكمة تقتضي أن لا يؤاخذ الانسان إلا بما يختار ويتعمد
واعلم أن أهل السنة لما اعتقدوا أن أفعال الله تعالى غير معللة برعاية المصالح قالوا معنى كونه تعالى

حكيما كونه عالما بعواقب الأمور وقالت المعتزلة هذه الآية تبطل هذا القول لأنه تعالى عطف الحكيم على العليم فلو كان الحكيم هو العليم لكان هذا عطفا للشيء على نفسه وهو محال
والجواب أن في كل موضع من القرآن ورد فيه لفظ الحكيم معطوفا على العليم كان المراد من الحكيم كونه محكما في أفعاله فالأحكام والاعلام عائدان إلى كيفية الفعل والله أعلم
وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً
اعلم أنه تعالى لما ذكر حكم القتل الخطأ ذكر بعده بيان حكم القتل العمد وله أحكام مثل وجوب القصاص والدية وقد ذكر تعالى ذلك في سورة البقرة وهو قوله الْمُتَّقُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ( البقرة 178 ) فلا جرم ههنا اقتصر على بيان ما فيه من الاثم والوعيد وفي الآية مسائل
المسألة الأولى استدلت الوعيدية بهذه الآية على أمرين أحدهما على القطع بوعيد الفساق والثاني على خلودهم في النار ووجه الاستدلال أن كلمة ( من ) في معرض الشرط تفيد الاستغراق وقد استقصينا في تقرير كلامهم في سورة البقرة في تفسير قوله بَلَى مَن كَسَبَ سَيّئَة ً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( البقرة 81 ) وبالغنا في الجواب عنها وزعم الواحدي أن الأصحاب سلكوا في الجواب عن هذه الآية طرقا كثيرة قال وأنا لا أرتضي شيئا منها لأن التي ذكروها اما تخصيص واما معارضة وإما إضمار واللفظ لا يدل على شيء من ذلك قال والذي أعتمده وجهان الأول إجماع المفسرين على أن الآية نزلت في كافر قتل مؤمنا ثم ذكر تلك القصة والثاني أن قوله فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ معناه الاستقبال أي انه سيجزى بجهنم وهذا وعيد قال وخلف الوعيد كرم وعندنا أنه يجوز ان يخلف الله وعيد المؤمنين فهذا حاصل كلامه الذي زعم انه خير مما قاله غيره
وأقول أما الوجه الأول فضعيف وذلك لأنه ثبت في أصول الفقه ان العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فاذا ثبت ان اللفظ الدال على الاستغراق حاصل فنزوله في حق الكفار لا يقدح في ذلك العموم فيسقط هذا الكلام بالكلية ثم نقول كما أن عموم اللفظ يقتضي كونه عاما في كل قاتل موصوف بالصفة المذكورة فكذا ههنا وجه آخر يمنع من تخصيص هذه الآية بالكافر وبيانه من وجوه الأول انه تعالى أمر المؤمنين بالمجاهدة مع الكفار ثم علمهم ما يحتاجون اليه عند اشتغالهم بالجهاد فابتدأ بقوله وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ ( النساء 92 ) فذكر في هذه الآية ثلاث كفارات كفارة قتل المسلم في دار الإسلام وكفارة قتل المسلم عند سكونه مع أهل الحرب وكفارة قتل المسلم عند سكونه مع أهل الذمة وأهل العهد ثم ذكر عقيبه حكم قتل العمد مقرونا بالوعيد فلما كان بيان حكم قتل الخطأ بيانا لحكم اختص بالمسلمين كان بيان حكم القتل العمد الذي هو كالضد لقتل الخطأ وجب أن يكون أيضا مختصا بالمؤمنين فان لم

يختص بهم فلا أقل من دخولهم فيه الثاني أنه تعالى قال بعد هذه الآية يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِناً ( النساء 94 ) وأجمع المفسرون على أن هذه الآيات إنما نزلت في حق جماعة من المسلمين لقوا قوما فأسلموا فقتلوهم وزعموا أنهم إنما أسلموا من الخوف وعلى هذا التقدير فهذه الآية وردت في نهي المؤمنين عن قتل الذين يظهرون الايمان وهذا أيضا يقتضي أن يكون قوله وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً نازلا في نهي المؤمنين عن قتل المؤمنين حتى يحصل التناسب فثبت بما ذكرنا أن ما قبل هذه الآية وما بعدها يمنع من كونها مخصوصة بالكفار الثالث أنه ثبت في أصول الفقه أن ترتيب الحكم على الوصف المناسب له يدل على كون ذلك الوصف علة لذلك الحكم وبهذا الطريق عرفنا أن قوله وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَة ُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا ( المائدة 38 ) وقوله الزَّانِيَة ُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا ( النور 2 ) الموجب للقطع هو السرقة والموجب للجلد هو الزنا فكذا ههنا وجب أن يكون الموجب لهذا الوعيد هو هذا القتل العمد لأن هذا الوصف مناسب لذلك الحكم فلزم كون ذلك الحكم معللا به واذا كان الأمر كذلك لزم أن يقال أينما ثبت هذا المعنى فانه يحصل هذا الحكم وبهذا الوجه لا يبقى لقوله الآية مخصوصة بالكافر وجه
الوجه الرابع أن المنشأ لاستحقاق هذا الوعيد إما أن يكون هو الكفر أو هذا القتل المخصوص فان كان منشأ هذا الوعيد هو الكفر كان الكفر حاصلا قبل هذا القتل فحينئذ لا يكون لهذا القتل أثر ألبتة في هذا الوعيد وعلى هذا التقدير تكون هذه الآية جارية مجرى ما يقال ان من يتعمد قتل نفس فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه لأن القتل العمد لما لم يكن له تأثير في هذا الوعيد جرى مجرى النفس ومجرى سائر الأمور التي لا أثر لها في هذا الوعيد ومعلوم ان ذلك باطل وان كان منشأ هذا الوعيد هو كونه قتلا عمدا فحينئذ يلزم أن يقال أينما حصل القتل يحصل هذا الوعيد وحينئذ يسقط هذا السؤال فثبت بما ذكرنا أن هذا الوجه الذي ارتضاه الواحدي ليس بشيء
وأما الوجه الثاني من الوجهين اللذين اختارهما فهو في غاية الفساد لأن الوعيد قسم من أقسام الخبر فاذا جوز على الله الخلف فيه فقد جوز الكذب على الله وهذا خطأ عظيم بل يقرب من أن يكون كفراً فان العقلاء أجمعوا على انه تعالى منزه عن الكذب ولأنه إذا جوز الكذب على الله في الوعيد لأجل ما قال إن الخلف في الوعيد كرم فلم لا يجوز الخلف في القصص والأخبار لغرض المصلحة ومعلوم أن فتح هذا الباب يفضي إلى الطعن في القرآن وكل الشريعة فثبت أن كل واحد من هذين الوجهين ليس بشيء وحكى القفال في تفسيره وجها آخر هو الجواب وقال الآية تدل على أن جزاء القتل العمد هو ما ذكر لكن ليس فيها أنه تعالى يوصل هذا الجزاء إليه أم لا وقد يقول الرجل لعبده جزاؤك أن أفعل بك كذا وكذا إلا أني لا أفعله وهذا الجواب أيضاً ضعيف لأنه ثبت بهذه الآية أن جزاء القتل العمد هو ما ذكر وثبت بسائر الآيات أنه تعالى يوصل الجزاء الى المستحقين قال تعالى مَن يَعْمَلُ سُوءا يُجْزَ بِهِ ( النساء 123 ) وقال الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ( غافر 17 ) وقال فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ شَرّاً يَرَهُ ( الزلزلة 7 8 ) بل إنه تعالى ذكر في هذه الآية ما يدل على أنه يوصل اليهم هذا الجزاء وهو قوله وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً

فان بيان أن هذا جزاؤه حصل بقوله فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا فلو كان قوله وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً إخبارا عن الاستحقاق كان تكرارا فلو حملناه على الاخبار عن أنه تعالى سيفعل لم يلزم التكرار فكان ذلك أولى
واعلم أنا نقول هذه الآية مخصوصة في موضعين أحدهما أن يكون القتل العمد غير عدوان كما في القصاص فانه لا يحصل فيه هذا الوعيد ألبتة والثاني القتل العمد العدوان إذا تاب عنه فانه لا يحصل فيه الوعيد وإذا ثبت دخول التخصيص فيه في هاتين الصورتين فنحن نخصص هذا العموم فيما إذا حصل العفو بدليل قوله تعالى وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ( النساء 48 ) وأيضاً فهذه الآية إحدى عمومات الوعيد وعمومات الوعد أكثر من عمومات الوعيد وما ذكره في ترجيح عمومات الوعيد قد أجبنا عنه وبينا أن عمومات الوعد راجحة وكل ذلك قد ذكرناه في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى بَلَى مَن كَسَبَ سَيّئَة ً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( البقرة 81 )
المسألة الثانية نقل عن ابن عباس أنه قال توبة من أقدم على القتل العمد العدوان غير مقبولة وقال جمهور العلماء إنها مقبولة ويدل عليه وجوه
الحجة الأولى أن الكفر أعظم من هذا القتل فاذا قبلت التوبة عن الكفر فالتوبة من هذا القتل أولى بالقبول
الحجة الثانية قوله تعالى في آخر الفرقان وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَاهَا ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيامَة ِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً ( الفرقان 68 69 70 ) وإذا كانت توبة الآتي بالقتل العمد مع سائر الكبائر المذكورة في هذه الآية مقبولة فبأن تكون توبة الآتي بالقتل العمد وحده مقبولة كان أولى
الحجة الثالثة قوله وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وعد بالعفو عن كل ما سوى الكفر فبأن يعفو عنه بعد التوبة أولى والله أعلم
تم الجزء العاشر ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الحادي عشر وأوله قول تعالى
عَظِيماً يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ( النساء 94 ) من سورة النساء أعان الله على إكماله

بداية الجزء الحادى عشر من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32

يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَة ٌ كَذالِكَ كُنتُمْ مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً
قوله تعالى عَظِيماً يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ
أعلم أن المقصود من هذه الآية المبالغة في تحريم قتل المؤمنين وأمر المجاهدين بالتثبيت فيه لئلا يسفكوا دماً حراماً بتأويل ضعيف وهذه المبالغة تدل على أن الآية المتقدمة خطاب مع المؤمنين وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي هنا وكذلك في الحجرات فَثَبّتُواْ من ثبت ثباتاً والباقون بالنون من اليان والمعنيان متقاربان فمن رجح التثبيت قال إنه خلاف الإقدام والمراد في الآية التأني وترك العجلة ومن رجح التبيين قال المقصود من التثبيت التبيين فكان التبيين أبلغ وأكمل
المسألة الثانية الضرب معناه السير فيها بالفسر للتجارة أو الجهاد وأصله من الضرب باليد وهو كناية عن الإسراع في السير فإن من ضرب إنساناً كانت حركة يده عند ذلك الضرب سريعة فجعل الضرب كناية عن الإسراع في السير قال الزجاج ومعنى ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أي غزوتم وسرتم إلى الجهاد
ثم قال تعالى وَلاَ تَقُولُواْ إِلَى الْمُسْلِمِينَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ وَأَلْقَوْاْ إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ ( النحل 87 ) أي استسلموا للأمر ومن قرأ السَّلَامُ بالألف فله معنيان أحدها أن يكون المراد السلام الذي يكون هو تحية المسلمين أي لا تقولوا لمن حياتكم بهذه التحية إنه إنما قالها تعوذاً فتقدموا عليه بالسيف لتأخذوا ماله ولكن كفوا واقبلوا منه ما أظهره والثاني أن يكون المعنى لا تقولوا لمن اعتزلكم ولم يقتلكم لست مؤمناً وأصل هذا من السلامة لأن المعتزل طالب للسلامة قال صاحب الكشاف قرىء مُؤْمِناً بفتح الميم من آمنه أي لا نؤمنك
المسألة الثالثة في سبب نزول هذه الآية روايات
الرواية الأولى أن مرداس بن نهيك رجل من أهل فدك أسلم ولم يسلم من قومه غيره فذهبت سرية

الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إلى قومه وأميرهم غالب بن فضالة فهرب القوم وبقي مرداس لثقته بإسلامه فلما رأى الخيل ألجأ غنمه إلى عاقول من الجبل فلما تلاحقوا وكبروا كبر ونزل وقال لا إله إلا الله محمد رسول الله السلام عليكم فقتله أسامة بن زيد وساق غنمه فأخبوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فوجد وجداً شديداً وقال قتلمتموه إرادة ما معه ثم قرأ الآية على أسامة يا رسول الله استغفر لي فقال فكيف وقد تلا لا إله إلا الله قال أسامة فما زال يعيدها حتى وددت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ ثم استغفر لي وقال أعتنق رقبة
الرواية الثانية أن القاتل ملحم بن جثامة لقيه عامر بن الأضبط فحياه بتحية الإسلام وكانت بين ملحم وبينه إحنة في الجاهلية فرماه بسهم فقتله فغضب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال ( لا غفر الله لك ) فما مضت به سبعة أيام حتى مات فدفنوه فلفظته الأرض ثلاث مرات فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الأرض لتقبل من هو شر منه ولكن الله أراد أن يريكم عظم الذنب عنده ) ثم أمر أن تلقى عليه الحجارة
الرواية الثالثة أن المقداد بن الأسود قد وقعت له مثل واقعة أسامة قال فقلت يا رسول الله أرأيت إن لقيت رجلاً من الكفار فقاتلني فضرب إحدى يدي بالسيف ثم لاذ بشجرة فقال أسلمت لله تعالى أفأقتله يا رسول الله بعد ذلك فقال رسول الله لا تقتله فقلت يا رسول الله إنه قطع يدي فقال عليه الصلاة والسلام ( لا تقتله فإن قتلته فإنه بمنزلتك بعد ما تقتله وأنت بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال ) وعن أبي عبيدة قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا إشرع أحدكم الرمح إلى الرجل فإن كان سنانه عند نقرة نحره فقال لا إله إلا الله فليرفع عنه الرمح ) قال القفال رحمه الله ولا منافاة بين هذه الروايات فلعلها نزلت عند وقوعها بأسرها فكان كل فريق يظن أنها نزلت في واقعته والله أعلم
المسألة الرابعة اختلفوا في أن توبة الزنديق هل تقبل أم لا فالفقهاء قبلوها واحتجوا عليه بوجوه الأول هذه الآية فإنه تعالى لم يفرق في هذه الآية بين الزنديق وبين غيره بل أوجب ذلك في الكل
الحجة الثانية قوله تعالى قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ ( الأنفال 38 ) وهو عام في جميع أصناف الكفرة
الحجة الثالثة أن الزنديق لا شك أنه مأمور بالتوبة والتوبة مقبولة على الإطلاق لقوله تعالى وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَة َ عَنْ عِبَادِهِ ( الشورى 25 ) وهذا عام في جميع الذنوب وفي جميع أصناف الخق
المسألة الخامسة إسلام الصبي صحيح عند أبي حنيفة وقال الشافعي لا يصح قال أبو حنيفة دلّت هذه الآية على صحة إسلام الصبي لأن قوله وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِناً عام في حق الصبي وفي حق البالغ قال الشافعي لو صح الإسلام منه لوجب لأنه لو لم يجب لكان ذلك إذناً في الكفر وهو غير جائز لكنه غير واجب عليه لقوله عليه الصلاة والسلام ( رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يبلغ ) الحديث والله أعلم
المسألة السادسة قال أكثر الفقهاء لو قال اليهودي أو النصراني أنا مؤمن أو قال أنا مسلم لا يحكم بهذا القدر بإسلامه لأن مذهبه أن الذي هو عليه هو الإسلام وهو الإيمان ولو قال لا إله إلا الله محمد رسول الله فعند قوم لا يحكم بإسلامه لأنه فيهم من يقول إنه رسول الله إلى العرب لا إلى الكل ومنهم من

يقول إن محمداً الذي هو الرسول الحق بعد ما جاء وسيجيء بعد ذلك بل لا بدّ وأن يعترف بأن الدين الذي كان عليه باطل وأن الدين الموجود فيما بين المسلمين هو الحق والله أعلم
ثم قال تعالى تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَة ٌ قال أبو عبيدة جميع متاع الدنيا عرض بفتح الراء يقال إن الدنيا عرض حاضر يأخذ منها البر والفاجر والعرض بسكون الراء ما سوى الدراهم والدنانير وإنما سمي متاع الدنيا عرضاً لأنه عارض زائل غير باق ومنه يسمي المتكلمون ما خالف الجوهر من الحوادث عرضاً لقلة لبثه فقوله فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَة ٌ يعني ثواباً كثيراً فنبّه تعالى بتسميته عرضاً على كونه سريع الفناء قريب الانقضاء وبقوله فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَة ٌ على أن ثواب الله موصوف بالدوام والبقاء كما قال وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ( مريم 76 )
ثم قال تعالى وَكَذالِكَ كُنتُمْ مّن قَبْلُ وهذا يقتضي تشبيه هؤلاء المخاطبين بأولئك الذين ألقوا السم وليس فيه بيان أن هذا التشبيه فيم وقع فلهذا ذكر المفسرون فيه وجوهاً الأول أن المراد أنكم أول ما دخلتم في الإسلام كما سمعت من أفواهكم كلمة الشهادة حقنت دماءكم وأموالكم من غير توقيف ذلك على حصول العلم بأن قلبكم موافق لما في لسانكم فعليكم بأن تفعلوا بالداخلين في الإسلام كما فعل بكم وأن تعتبروا ظاهر القول وأن لا تقولوا إن إقدامهم على التكلم بهذه الكلمة لأجل الخوف من السيف هذا هو الذي اختاره أكثر المفسرين وفي إشكال لأن لهم أن يقولوا ما كان إيماننا مثل إيمان هؤلاء لأنا آمنا عن الطواعية والاختيار وهؤلاء أظهروا الإيمان تحت ظلال السيوف فكيف يمكن تشبيه أحدهما بالآخر
الوجه الثاني قال سعيد بن جبير المراد أنكم كنتم تخفون إيمانكم عن قومكم كما أخفى هذا الداعي إيمانه عن قومه ثم منَّ الله عليكم بإعزازكم حتى أظهرتم دينكم فأنتم عاملوهم بمثل هذه المعاملة وهذا أيضاً فيه إشكال لأن إخفاء الإيمان ما كان عاماً فيهم الثالث قال مقاتل المراد كذلك كنتم من قبل الهجرة حين كمنتم فيما بين الكفار تأمنون من أصحاب رسول الله بكلمة ( لا إله إلا الله ) فاقبلوا منهم مثل ذلك وهذا يتوجه عليه الإشكال الأول والأقرب عندي أن يقال إن من ينتقل من دين إلى دين ففي أول الأمر يحدث ميل قليل بسبب ضعيف ثم لا يزال ذلك الميل يتأكد ويتقوى إلى أن يكمل ويستحكم ويحصل الانتقال فكأنه قيل لهم كنتم في أول الأمر إنما حدث فيكم ميل ضعيف بأسباب ضعيفة إلى الإسلام ثم من الله عليكم بالإسلام بتقوية ذلك الميل وتأكيد النفرة عن الكفر فكذلك هؤلاء كما حدث فيهم ميل ضعيف إلى الإسلام بسبب هذا الخوف فاقبلوا منهم هذا الإيمان فإن الله تعالى يؤكد حلاوة الإيمان في قلوبهم يقوي تلك الرغبة في صدورهم فهذا ما عندي فيه

ثم قال تعالى فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ وفيه احتمالان الأول أن يكون هذا متعلقاً بقوله كَذالِكَ كُنتُمْ مّن قَبْلُ يعني إيمانكم كان مثل إيمانهم في أنه إنما عرف منه مجرد القول اللساني دون ما في القلب أو في أنه كان في ابتداء الأمر حاصلاً بسبب ضعيف ثم منَّ الله عليكم حيث قوي نور الإيمان في قلوبكم وأعانكم على العمل به والمحبة له والثاني أن يكون هذا منقطعاً عن هذا الموضع ويكون متعلقاً بما قبله وذلك لأن القوم لما قتلوا من تكلم بلا إله إلا الله ثم أنه تعالى نهاهم عن هذا الفعل وبين لهم أنه من العظائم قال بعد ذلك فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ أي من عليكم بأن قبل توبتكم عن ذلك الفعل المنكر
ثم أعاد الأمر بالتبيّين فقال فَتَبَيَّنُواْ وإعادة الأمر بالتبيين تدل على المبالغة في التحذير عن ذلك الفعل
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً والمراد منه الوعيد والزجر عن الإظهار بخلاف الإضمار
96 ) لاَّ يَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِى الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَة ً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَة ً وَرَحْمَة ً وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً
أعلم أن في كيفية النظم وجوهاً الأول ما ذكرناه أنه تعالى لما رغب في الجهاد أتبع ذلك بيان أحكام الجهاد فالنوع الأول من أحكام الجهاد تحذير المسلمين عن قتل المسلمين وبيان الحال في قتلهم على سبيل الخطأ كيف وعلى سبيل العمد كيف وعلى سبيل تأويل الخطأ كيف فلما ذكر ذلك الحكم أتبعه بحكم آخر وهو بيان فضل المجاهد على غيره وهو هذه الآية
الوجه الثاني لما عاتبهم الله تعالى على ما صدر منهم من قتل من تكلم بكلمة الشهادة فلعله يقع في قلبهم أن الأولى الاحتراز عن الجهاد لئلا يقع بسببه في مثل هذا المحذور فلا جرم ذكر الله تعالى في عقيبه هذه الآية وبيّن فيها فضل المجاهد على غيره إزالة لهذه الشبهة
الوجه الثالث أنه تعالى لما عاتبهم على ما صدر منهم من قتل تكلم بالشهادة ذكر عقيبه فضيلة الجهاد كأنه قيل من أتى بالجهاد فقد فاز بهذه الدرجة العظيمة عند الله تعالى فليحترز صاحبها من تلك الهفوة لئلا يخل منصبه العظيم في الدين بسبب هذه الهفوة والله أعلم وفي الآية مسائل

المسألة الأولى قرىء غَيْرُ أُوْلِى الضَّرَرِ بالحركات الثلاث في غَيْرِ فالرفع صفة لقوله الْقَاعِدُونَ والمعنى لا يستوي القاعدون المغايرون لأولي الضرر والمجاهدون ونظيره قوله أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِى الإِرْبَة ِ ( النور 31 ) وذكرنا جواز أن يكون غَيْرِ صفة المعرفة في قوله غَيْرِ الْمَغْضُوبِ ( الفاتحة 7 ) قال الزجاج ويجو أن يكون غَيْرِ رفعاً على جهة الاستثناء والمعنى لا يستوي القاعدون والمجهدون إلا أولي الضرر فإنهم يساوون المجاهدين أي الذين أقعدهم عن الجهاد الضرر والكلام في رفع المستثنى بعد النفي قد تقدم في قوله مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مّنْهُمْ ( النساء 66 ) و ( أما القراءة بالنصل ففيها وجهان الأول أن يكون استثناء القاعدين والمعنى لا يستوي القاعدون إلا أولي الضرر وهو اختيار الأخفش الثاني أن يكون نصباً على الحال والمعنى لا يستوي القاعدون في حال صحتهم والمجاهدون كما تقول جاءني زيد غير مريض أي جاءني زيد صحيحاً وهذا قول الزجاج والفرّاء وكقوله أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَة ُ الاْنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلّى الصَّيْدِ ( المائدة 1 ) وأما القراءة بالجر فعلى تقدير أن يجعل غَيْرِ صفة للمؤمنين فهذا بيان الوجوه في هذه القراءات
ثم ههنا بحث آخر وهو أن الأخفش قال القراءة بالنصب على سبيل الاستثناء أولى لأن المقصود منه استثناء قوم لم يقدروا على الخروج روي في التفسير أنه لما ذكر الله تعالى فضيلة المجاهدين على القاعدين جاء قوم من أولي الضرر فقالوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) حالتنا كما ترى ونحن نشتهي الجهاد فهل لنا من طريق فنزل غَيْرُ أُوْلِى الضَّرَرِ فاستثناهم الله تعالى من جملة القاعدين وقال آخرون القراءة بالرفع أولى لأن الأصل في كلمة غَيْرِ أن تكون صفة ثم أنها وإن كانت صفة فالمقصود والمطلوب من الإستثناء حاصل منها لأنها في كلتا الحالتين أخرجت أولي الضرر من تلك المفضولية وإذا كان هذا المقصود حاصلاً على كل التقديرين وكان الأصل في كلمة غَيْرِ أن تكون صفة كانت القراءة بالرفع أولى
المسألة الثانية الضرر النقصان سواء كان بالعمى أو العرج أو المرض أو كان بسبب عدم الأهبة
المسألة الثالثة حاصل الآية لا يستوي القاعدون المؤمنون الأصحاء والمجاهدون في سبيل الله واختلفوا في أن قوله غَيْرُ أُوْلِى الضَّرَرِ هل يدل على أن المؤمنين القاعدين الأضراء يساوون المجاهدين أم لا قال بعضهم أنه لا يدل لأنا إن حملنا لفظ غَيْرِ على الصفة وقلنا التخصيص بالصفة لا يدل على نفي الحكم عما عداه لم يلزم ذلك وإن حملناه على الاستثناء وقلنا الاستثناء من النفي ليس بإثبات لم يلزم أيضاً ذلك أما إذا حملناه على الاستثناء وقلنا الاستثناء من النفي إثبات لزم القول بالمساواة وأعلم أن هذه المساواة في حق الاضراء عند من يقول بها مشروطة بشرط آخر ذكر الله تعالى في سورة التوبة وهو قوله لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى إلى قوله إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ( التوبة 91 )
وأعلم أن القول بهذه المساواة غير مستبعد ويدل عليه النقل والعقل أما النقل فقوله عليه الصلاة والسلام عند انصرافه من بعض غزواته ( لقد خلفتم بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم أولئك أقوام حبسهم العذر ) وقال عليه الصلاة والسلام ( إذا مرض العبد قال الله عز وجلّ اكتبوا لعبدي ما كن يعمله في الصحة إلى أن يبرأ ) وذكر بعض المفسرين في تفسير قوله تعالى ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ

( التين 5 6 ) أن من صار هرما كتب الله تعالى له أجر ما كان يعمله قبل هرمه غير منقوص من ذلك شيئاً وذكروا في تفسير قوله عليه الصلاة والسلام ( نية المؤمن خير من عمله ) أن ما ينويه المؤمن من دوامه على الإيمان والأعمال الصالحة لو بقي أبداً خير له من عمله الذي أدركه في مدة حياته وأما المعقول فهو أن المقصود من جميع الطاعات والعبادات استنارة القلب بنور معرفة الله تعالى فإن حصل الاستواء فيه للمجاهد والقاعد فقد حصل الاستواء في الثواب وإن كان القاعد أكثر حظاً من هذا الاستغراق كان هو أكثر ثواباً
المسألة الرابعة لقائل أن يقول إنه تعالى قال إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ ( التوبة 111 ) فقدم ذكر النفس على المال وفي الآية التي نحن فيها وهي قوله اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ قدم ذكر المال على النفس فما السبب فيه
وجوابه أن النفس أشرف من المال فالمشتري قدم ذكر النفس تنبيهاً على أن الرغبة فيها أشد والبائع أخر ذكرها تنبيهاً على أن المضايقة فيها أشد فلا يرضى ببذلها إلا في آخر المراتب
وأعلم أنه تعالى لما بيّن أن المجاهدين والقاعدين لا يستويان ثم أن عدم الاستواء يحتمل الزيادة ويحتمل النقصان لا جرم كشف تعالى عنه فقال فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَة ً وفي انتصاب قوله دَرَجَة ً وجوه الأول أنه يحذف الجار والتقتدير بدرجة فلما حذف الجار وصل الفعل فعمل الثاني قوله دَرَجَة ً أي فضيلة والتقدير وفضل الله المجاهدين فضيلة كما يقال زيد أكرم عمراً إكراماً والفائدة في التنكير والتفخيم الثالث قوله دَرَجَة ً نصب على التمييز
ثم قال وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى أي وكلا من القاعدين والمجاهدين فقد وعده الله الحسنى وقال الفقهاء وفيه دليل على أن فرض الجهاد على الكفاية وليس على كل واحد بعينه لأنه تعالى وعد القاعدين الحسنى كما وعد المجاهدين ولو كان الجهاد واجباً على التعيين لما كان القاعد أهلاً لوعد الله تعالى إياه الحسنى
ثم قال تعالى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجَاتٍ مّنْهُ وَمَغْفِرَة ً وَرَحْمَة ً وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً وفيه مسائل
المسألة الأولى في انتصاب قوله أَجْراً وجهان الأول انتصب بقوله وَفَضَّلَ لأنه في معنى قولهم آجرهم أجراً ثم قوله دَرَجَاتٍ مّنْهُ وَمَغْفِرَة ً وَرَحْمَة ً بدل من قوله أَجْراً الثاني انتصب على التمييز و دَرَجَاتٌ عطف بيان وَمَغْفِرَة ً وَرَحْمَة ً معطوفان على دَرَجَاتٌ
المسألة الثانية لقائل أن يقول إنه تعالى ذكر أولاً دَرَجَة ً وههنا دَرَجَاتٌ وجوابه من وجوه الأول المراد بالدرجة ليس هو الدرجة الواحدة بالعدد بل بالجنس والواحد بالجنس يدخل تحته الكثير بالنوع وذلك هو الأجر العظيم والدرجات الرفيعة في الجنة المغفرة والرحمة الثاني أن المجاهد أفضل من القاعد الذي يكون من الأضراء بدرجة ومن القاعد الذي يكون من الأصحاء بدرجات وهذا الجواب إنما يتمشى إذا قلنا بأن قوله غَيْرُ أُوْلِى الضَّرَرِ لا يوجب حصول المساواة بين المجاهدين وبين القاعدين الأضراء

الثالث فضل الله المجاهدين في الدنيا بدرجة واحدة وهي الغنيمة وفي الآخرة بدرجات كثيرة في الجنة بالفضل والرحمة والمغفرة الرابع قال في أول الآية وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً ولا يمكن أن يكون المراد من هذا المجاهد هو المجاهد بالمال والنفس فقط وإلا حصل التكرار فوجب أن يكون المراد منه من كان مجاهداً على الإطلاق في كل الأمور أعني في عمل الظاهر وهو الجهاد بالنفس والمال والقلب وهو أشرف أنواع المجاهدة كما قال عليه السلام ( رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر ) وحاصل هذا الجهاد صرف القلب من الالتفات إلى غير الله إلى الاستغراق في طاعة الله ولما كان هذا المقام أعلى مما قبله لا جرم جعل فضيلة الأول درجة وفضيلة هذا الثاني درجات
المسألة الثالثة قالت الشيعة دلّت هذه الآية على أن علي بن أبي طالب عليه السلام أفضل من أبي بكر وذلك لأن عليا كان أكثر جهاداً فالقدر الذي فيه حصل التفاوت كان أبو بكر من القاعدين فيه وعلي من القائمين وإذا كان كذلك وجب أن يكون عليّ أفضل منه لقوله تعالى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً فيقال لهم إن مباشرة علي عليه السلام لقتل الكفار كانت أكثر من مباشرة الرسول لذلك فليزمكم بحكم هذه الآية أن يكون عليّ أفضل من محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهذا لا يقوله عاقل فإن قلتم إن مجاهدة الرسول مع الكفار كانت أعظم من مجاهدة علي معهم لأن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) كان يجاهد الكفار بتقرير الدلائل والبينات وإزالة الشبهات والضلالات وهذا الجهاد أكمل من ذلك الجهاد فنقول فاقبلوا منا مثله في حق أبي بكر وذلك أن أبا بكر رضي الله عنه لما أسلم في أول الأمر سعى في إسلام سائر الناس حتى أسلم على يده عثمان بن عفان وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعثمان بن مظعون وكان يبالغ في ترغيب الناس في الإيمان وفي الذب عن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بنفسه وبماله وعلي في ذلك الوقت كان صبياً ما كان أحد يسلم بقوله وما كان قادراً على الذب عن محمد عليه الصلاة والسلام فكان جهاد أبي بكر أفضل من جهاد علي فإنما ظهر في المدينة في الغزوات وكان الإسلام في ذلك الوقت قوياً والثاني أن جهاد أبي بكر كان بالدعوة إلى الدين وأكثر أفاضل العشرة إنما أسلموا على يده وهذا النوع من الجهاد هو حرفة النبي عليه الصلاة والسلام وأما جهاد علي فإنما كان بالقتل ولا شك أن الأول أفضل
المسألة الرابعة قالت المعتزلة دلّت الآية على أن نعيم الجنة لا ينال إلا بالعمل لأن التفاوت في العمل لما أوجب التفاوت في الثواب والفضيلة دل ذلك على أن علة الثواب هو العمل وأيضاً لو لم يكن العمل موجباً للثواب لكان الثواب هبة لا أجراً لكنه تعالى سماه أجراً فبطل القول بذلك فيقال لهم لم لا يجوز أن يقال العمل علة الثواب لكن لا لذاته بل بجعل الشارع ذلك العمل موجباً له
المسألة الخامسة قالت الشافعية دلت الآية على أن الاشتغال بالنوافل أفضل من الاشتغال بالنكاح لأنا بينا أن الجهاد فرض على الكفاية بدليل قوله وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى ولو كان الجهاد من فروض الأعيان لما كان القاعد عن الجهاد موعوداً من عند الله بالحسنى
إذا ثبت هذا فنقول إذا قامت طائفة بالجهاد سقط الفرض عن الباقين فلو أقدموا عليه كان ذلك من النوافل لا محالة ثم إن قوله وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً يتناول جميع المجاهدين

سواء كان جهاده واجباً أو مندوباً والمشتغل بالنكاح قاعد عن الجهاد فثبت أن الاشتغال بالجهاد المندوب أفضل من الاشتغال بالنكاح والله أعلم
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَة ُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى الأرض قَالْوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَة ً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَائِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَآءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَة ً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُوْلَائِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً
اعلم أنه تعالى لما ذكر ثواب من أقدم على الجهاد أتبعه بعقاب من قعد عنه ورضي بالسكون في دار الكفر وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال الفرّاء إن شئت جعلت تَوَفَّاهُمُ ماضياً ولم تضم تاء مع التاء مثل قوله إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا ( البقرة 70 ) وعلى هذا التقدير تكون هذه الآية إخباراً عن حال أقوام معينين انقرضوا ومضوا وإن شئت جعلته مستقبلاً والتقدير إن الذين تتوفاهم الملائكة وعلى هذا التقدير تكون الآية عامة في حق كل من كان بهذه الصفة
المسألة الثانية في هذا التوفي قولان الأول وهو قول الجمهور معناه تقبض أرواحهم عند الموت
فإن قيل فعلى هذا القول كيف الجمع بينه وبين قوله تعالى اللَّهُ يَتَوَفَّى الاْنفُسَ حِينَ مِوْتِهَا ( الزمر 42 ) الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَواة َ ( الملك 2 ) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْواتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ( البقرة 28 ) وبين قوله قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِى وُكّلَ بِكُمْ ( السجدة 11 )
قلنا خالق الموت هو الله تعالى والرئيس المفوض إليه هذا العمل هو ملك الموت وسائر الملائكة أعوانه
القول الثاني نُنَزّلُ الْمَلَائِكَة َ يعني يحشرونهم إلى النار وهو قول الحسن
المسألة الثالثة في خبر ( إن ) وجوه الأول أنه هو قوله قالوا لهم فيم كنتم فحذف ( لهم ) لدلالة الكلام عليه الثاني أن الخبر هو قوله فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ فيكون ( قالوا لهم ) في موضع ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ لأنه نكرة الثالث أن الخبر محذوف وهو هلكوا ثم فسّر الهلاك بقوله قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ أما قوله تعالى ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ ففيه مسألتان
المسألة الأولى قوله ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ في محل النصب على الحال والمعنى تتوفاهم الملائكة في

حال ظلمهم أنفسهم وهو وإن أضيف إلى المعرفة إلا أنه نكرة في الحقيقة لأن المعنى على الانفصال كأنه قيل ظالمين أنفسهم ءلا أنهم حذفوا النون طلباً للخفة واسم الفاعل سواء أُريد به الحال أو الاستقبال فقد يكون مفصولاً في المعنى وإن كان موصولاً في اللفظ وهو كقوله تعالى هَاذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا ( الأحقاف 24 ) هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَة ِ ( المائدة 95 ) ثَانِى َ عِطْفِهِ ( الحج 9 ) فالإضافة في هذه المواضع كلها لفظية لا معنوية
المسألة الثانية الظلم قد يراد به الكفر قال تعالى إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( لقمان 13 ) وقد يراد به المعصية فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ ( فاطر 32 ) وفي المراد بالظلم في هذه قولان الأول أن المراد الذين أسلموا في دار الكفر وبقوا هناك ولم يهاجروا إلى دار الإسلام الثاني أنها نزلت في قوم من المنافقين كانوا يظهرون الإيمان للمؤمنين خوفاً فإذا رجعوا إلى قومهم أظهروا لهم الكفر ولم يهاجروا إلى المدينة فبيّن الله تعالى بهذه الآية أنهم ظالمون لأنفسهم بنفاقهم وكفرهم وتركهم الهجرة
وأما قوله تعالى قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ ففيه وجوه أحدها فيم كنتم من أمر دينكم وثانيها فيم كنتم في حرب محمد أو في حرب أعدائه وثالثها لم تركتم الجهاد ولم رضيتم بالسكون في ديار الكفار
ثم قال تعالى قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى الاْرْضِ جواباً عن قولهم فِيمَ كُنتُمْ وكان حق الجواب أن يقولوا كنا في كذا أو لم نكن في شيء
وجوابه أن معنى فِيمَ كُنتُمْ التوبيخ بأنهم لم يكونوا في شيء من الدين حيث قدروا على المهاجرة ولم يهاجروا فقالوا كما مستضعفين اعتذاراً عما وبخوا به واعتلالاً بأنهم ما كانوا قادرين على المهاجرة ثم إن الملائكة لم يقبلوا منهم هذا العذر بل ردوه عليهم فقالوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَة ً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا أرادوا أنكم كنتم قادرين على الخروج من مكة إلى بعض البلاد التي لا تمنعون فيها من إظهار دينكم فبقيتم بين الكفار لا للعجز عن مفارقتهم بل مع القدرة على هذه المفارقة فلا جرم ذكر الله تعالى وعيدهم فقال فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً
ثم استثنى تعالى فقال إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجَالِ وَالنّسَاء وَالْوِلْدانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَة ً ونظيره قول الشاعر
ولقد أمر على اللئيم يسبني
ويجوز أن يكون لاَ يَسْتَطِيعُونَ في موضع الحال والمعنى لا يقدرون على حيلة ولا نفقة أو كان بهم مرض أو كانوا تحت قهر قاهر يمنعهم من تلك المهاجرة
ثم قال وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً أي لا يعرفون الطريق ولا يجدون من يدلهم على الطريق روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعث بهذه الآية إلى مسلمي مكة فقال جندب بن ضمرة لبنيه احملوني فإني لسيت من المستضعفين ولا أني لا أهتدي الطريق والله لا أبيت الليلة بمكة فحملوه على سرير متوجهاً إلى المدينة وكان شيخاً كبيراً فمات في الطريق
فإن قيل كيف أدخل الولدان في جملة المستثنين من أهل الوعيد فإن الاستثناء إنما يحسن لو كانوا

مستحقين للوعيد على بعض الوجوه
قلنا سقوط الوعيد إذا كان بسبب العحز والعجز تارة يحصل بسبب عدم الأهبة وتارة بسبب الصبا فلا جرم حسن هذا إذا أُريد بالولدان الأطفال ولا يجوز أن يراد المراهقون منهم الذين كملت عقولهم لتوجه التكليف عليهم فيما بينهم وبين الله تعالى وإن أُريد العبيد والإماء البالغون فلا سؤال
ثم قال تعالى فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وفيه سؤال وهو أن القوم لما كانوا عاجزين عن الهجرة والعاجز عن الشيء غير مكلف به وإذا لم يكن مكلفاً به لم يكن عليه في تركه عقوبة فلم قال عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ والعفو لا يتصور إلا مع الذنب وأيضاً عَسَى كلمة الإطماع وهذا يقتضي عدم القطع بحصول العفو في حقهم
والجواب عن الأول أن المستضعف قد يكون قادراً على ذلك الشيء مع ضرب من المشقة وتمييز الضعف الذي يحصل عنده الرخصة عن الحد الذي لا يحصل عنده الرخصة شاق ومشتبه فربما ظن الإنسان بنفسه أنه عاجز عن المهاجرة ولا يكون كذلك ولا سيما في الهجرة عن الوطن فإنها شاقة على النفس وبسبب شدة النفرة قد يظن الإنسان كونه عاجزاً مع أنه لا يكون كذلك ولا سيما في الهجرة عن الوطن فإنها شاقة على النفس وبسبب شدة النفرة قد يظن الإنسان كونه عاجزاً مع أنه لا يكون كذلك فلهذا المعنى كانت الحاجة إلى العفو شديدة في هذا المقام
وأما السؤال الثاني وهو قوله ما الفائدة في ذكر لفظة عِيسَى ههنا فنقول الفائدة فيها الدلالة على أن ترك الهجرة أمر مضيق لا توسعة فيه حتى أن المضطر البين الاضطرار من حقه أن يقول عسى الله أن يعفو عني فكيف الحال في غيره هذاهو الذي ذكره صاحب ( الكشاف ) في الجواب عن هذا السؤال إلا أن الأولى أن يكون الجواب ما قدمناه وهو أن الإنسان لشدة نفرته عن مفارقة الوطن ربما ظن نفسه عاجزاً عنها مع أنه لا يكون كذلك في الحقيقة فلهذا المعنى ذكر العفو بكلمة عَسَى لا بالكلمة الدالة على القطع
ثم قال تعالى وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً ذكر الزجاج في كَانَ ثلاثة أوجه الأول كان قبل أن خلق الخلق موصوفاً بهذه الصفة الثاني أنه قال كَانَ مع أن جميع العباد بهذه الصفة والمقود بيان أن هذه عادة الله تعالى أجراها في حق خلقه الثالث لو قال إنه تعالى عفو غفور كان هذا إخباراً عن كونه كذلك فقط ولما قال إنه كان كذلك كان هذا إخباراً وقع مخبره على وفقه فكان ذلك أدل على كونه صدقاً وحقاً ومبرأ عن الخلف والكذب واحتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى قد يعفو عن الذنب قبل التوبة فإنه لو لم يحصل ههنا شيء من الذنب لامتنع حصول العفو والمغفرة فيه فلما أخبر بالعفو والمغفرة دلّ على حصول الذنب ثم إنه تعالى وعد بالعفو مطلقاً غير مقيد بحال التوبة فيدل على ما ذكرناه
وَمَن يُهَاجِرْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِى الأرض مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَة ً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى َ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً

واعلم أن ذلك المانع أمران الأول أن يكون له في وطنه نوع راحة ورفاهية فيقول لو فارقت الوطن وقعت في الشدة والمشقة وضيق العيش فأجاب الله عنه بقوله وَمَن يُهَاجِرْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِى الاْرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَة ً يقال راغمت الرجل إذا فعلت ما يكرهه ذلك الرجل واشتقاقه من الرغام وهو التراب فإنهم يقولون رغم أنفه يريدون به أنه وصل إليه شيء يكرهه وذلك لأن الأنف عضو في غاية العزة والتراب في غاية الذلة فجعلوا قولهم رغم أنفه كناية عن الذل
إذا عرفت هذا فنقول المشهور أن هذه المراغمة إنما حصلت بسبب أنهم فارقوا وخرجوا عن ديارهم
وعندي فيه وجه آخر وهو أن يكون المعنى ومن يهاجر في سبيل الله إلى بلد آخر يجد في أرض ذلك البلد من الخير والنعمة ما يكون سبباً لرغم أنف أعدائه الذين كانوا معه في بلدته الأصلية وذلك لأن من فارق وذهب إلى بلدة أجنبية فإذ استقام أمره في تلك البلدة الأجنبية ووصل ذلك الخبر إلى أهل بلدته خجلوا من سوء معاملتهم معه ورغمت أنوفهم بسبب ذلك وحمل اللفظ على هذا أقرب من حمله على ما قالوه والله أعلم والحاصل كأنه قيل يا أيها الإنسان إنك كنت إنما تكره الهجرة عن وطنك خوفاً من أن تقع في المشقة والمحنة في السفر فلا تخف فإن الله تعالى يعطيك من النعم الجليلة والمراتب العظيمة في مهاجرتك ما يصير سبباً لرغم أنوف أعدائك ويكون سبباً لسعة عيشك وإنما قدم في الآية ذكر رغم الأعداء على ذكر سعة العيش لأن ابتهاج الإنسان الذي يهاجر عن أهله وبلده بسبب شدة ظلمهم عليه بدولته من حيث إنها تصير سبباً لرغم أنوف الأعداء أشد من ابتهاجه بتلك الدولة من حيث أنها صارت سبباً لسعة العيش عليه
وأما المانع الثاني من الإقدام على المهاجرة فهو أن الإنسان يقول إن خرجت عن بلدي في طلب هذا الغرض فربما وصلت إليه وربما لم أصل إليه فالأولى أن لا أضيع الرفاهية الحاضرة بسبب طلب شيء ربما أصل إليه وربما لا أصل إليه فأجاب الله تعالى عنه بقوله وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى َ اللَّهِ والمعنى ظاهر وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال بعضهم المراد من قصد طاعة الله ثم عجز عن إتمامها كتب الله له ثواب تمام تلك الطاعة كالمريض يعجز عما كان يفعله في حال صحته من الطاعة فيكتب له ثواب ذلك العمل هكذا روي عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال آخرون ثبت له أجر قصده وأجر القدر الذي أتى به من ذلك العمل وأما أجر تمام العمل فذلك محال واعلم أن القول الأول أولى لأنه تعالى إنما ذكر هذه الآية ههنا في معرض الترغيب في الجهاد وهو أن من خرج إلى السفر لأجل الرغبة في الهجرة فقد وجد ثواب الهجرة ومعلوم أن الترغيب إنما يحصل بهذا المعنى فأما القول بأن معنى الآية هو أن يصل إليه ثواب ذلك القدر من العمل فلا يصلح مرغباً لأنه قد عرف أن كل من أتى بعمل فإنه يجد الثواب المرتب على ذلك القدر من العمل ويدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام ( وإنما لك امريء ما نوى ) وأيضاً ما روي في قصلاة جندب بن ضمرة أنه لما قرب موته أخذ يصفق بيمينه على شماله ويقول اللّهم هذه لك وهذه لرسولك أبايعك على ما بايعك عليه رسولك ثم مات فبلغ خبره أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا لو توفي بالمدينة لكان خيراً له فنزلت هذه الآية
المسألة الثانية قالت المعتزلة هذه الآية تدل على أن العمل يوجب الثواب على الله لأنه تعالى قال

فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى َ اللَّهِ وذلك يدل على قولنا من ثلاثة أوجه أحدها أنه ذكر لفظ الوقوع وحقيقة الوجوب هي الوقوع والسقوط قال تعالى فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا ( الحج 26 ) أي وقعت وسقطت وثانيها أنه ذكر بلفظ الأجر والأجر عبارة عن المنفعة المستحقة فأما الذي لا يكون مستحقاً فذاك لا يسمى أجراً بل هبة وثالثها قوله عَلَى اللَّهِ وكلمة عَلَى للوجوب قال تعالى وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ( آل عمران 97 ) والجواب أننا لا ننازع في الوجوب لكن بحكم الوعد والعلم والتفضل والكرم لا بحكم الاستحقاق الذي لو لم يفعل لخرج عن الإل هية وقد ذكرنا دلائله فيما تقدم
المسألة الثالثة استدل قوم بهذه الآية على أن الغازي إذا مات في الطريق وجب سهمه من الغنيمة كما وجب أجره وهذا ضعيف لأن لفظ الآية مخصوص بالأجر وأيضاً فاستحقاق السهم من الغنيمة متعلق بحيازتها إذ لا تكون غنيمة إلا بعد حيازتها قال تعالى وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَى ْء ( الأنفال 41 ) والله أعلم
ثم قال تعالى وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً أي يغفر ما كان منه من القعود إلى أن يخرج ويرحمه بإكمال أجر المجاهدة
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى الأرض فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلواة ِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً
اعلم أن أحد الأمور التي يحتاج المجاهد إليها معرفة كيفية أداء الصلاة في زمان الخوف والاشتغال بمحاربة العدو فلهذا المعنى ذكره الله تعالى في هذه الآية وههنا مسائل
المسألة الأولى قال يالواحدي يقال قصر فلان صلاته وأقصرها وقصرها كل ذلك جائز وقرأ ابن عباس تقصروا من أقصر وقرأالزهري من قصر وهذا دليل على اللغات الثلاث
المسألة الثانية اعلم أن لفظ القصر مشعر بالتخفيف لأنه ليس صريحاً في أن المراد هو القصر في كمية الركعات وعددها أو في كيفية أدائها فلا جرم حصل في الآية قولان الأول أن المراد منه صلاة المسافر وهو أن كل صلاة تكون في الحضر أربع ركعات فإنها تصير في السفر ركعتين فعلى هذا القصر إنما يدخل في صلاة الظهر والعصر والعشاء أما المغرب والصبح فلا يدخل فيهما القصر الثاني أنه ليس المراد بهذه الآية صلاة السفر بل صلاة الخوف وهو قول ابن عباس وجابر بن عبدالله وجماعة قال ابن عباس فرض الله صلاة الحضر أربعاً وصلاة السفر ركعتين وصلاة الخوف ركعة على لسان نبيّكم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فهذان القولان متفرعان على ما إذا قلنا المراد من القصر تقليل الركعات
القول الثاني أن المراد من القصر إدخال التخفيف في كيفية أداء الركعات وهو أن يكتفي في الصلاة

بالإيماء والإشارة بدل الركوع والسجود وأن يجوز المشي في الصلاة وأن تجوز الصلاة عند تلطخ الثوب بالدم وذلك هو الصلاة التي يؤتى بها حال شدة التحام القتال وهذا القول يروى عن ابن عباس وطاوس واحتج هؤلاء على صحة هذا القول بأن خوف الفتنة من العدو لا يزول فيما يؤتى بركعتين على إتمام أوصافهما وإنما ذلك فيما يشتد فيه الخوف في حال التحام القتال وهذا ضعيف لأنه يمكن أن يقال إن صلاة المسافر إذا كانت قليلة الركعات فيمكنه أن يأتي بها على وجه لا يعلم خصمه بكونه مصلياً أما إذا كثرت الركعات طالت المدة ولا يمكنه أن يأتي بها على حين غفلة من العدو
واعلم أن وجه الاحتمال ما ذكرنا وهو أن القصر مشعر بالتخفيف والتخفيف كما يحصل بحذف بعض الركعات فكذلك يحصل بأن يجعل الإيماء والإشارة فائماً مقام الركوع والسجود
واعلم أن حمل لفظ القصر على إسقاط بعض الركعات أولى ويدل عليه وجوه الأول ما روي عن يعلى بن أمية أنه قال قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه كيف نقصر وقد أمنا وقد قال الله تعالى لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلواة ِ إِنْ خِفْتُمْ فقال عجبت مما عجبت منه فسألت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال ( صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته ) وهذا يدل على القصر المذكور في الآية هو القصر في عدد الركعات وأن ذلك كان مفهوماً عندهم من معنى الآية الثاني أن القصر عبارة عن أن يؤتي ببعض الشيء ويقتصر عليه فأما أن يؤتى بشيء آخر فذلك لا يسمى قصراً ولا اقتصاراً ومعلوم أن إقامة الإيماء مقام الركوع والسجود وتجويز المشي في الصلاة وتجويز الصلاة مع الثوب الملطخ بالدم ليس شيء من ذلك قصراً بل كلها إثبات لأحكام جديدة وإقامة لشيء مقام شيء رخر فكان تفسير القصر بما ذكرنا أولى
الثالث أن مِنْ في قوله مِنَ الصَّلواة ِ للتبعيض وذلك يوجب جواز الاقتصار على بعض الصلاة فثبت بهذه الوجوه أن تفسير القصر بإسقاط بعض الركعات أولى من تفسيره بما ذكروه من الإيماء والإشارة
الرابع أن لفظ القصر كان مخصوصاً في عرفهم بنقص عدد الركعات ولهذا المعنى لما صلّى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الظهر ركعتين قال ذو اليدين أقصرت الصلاة أم نسيت الخامس أن القصر بمعنى تغير الصلاة مذكور في الآية التي بعد هذه الآية فوجب أن يكون المراد من هذه الآية بيان القصر بمعنى الركعات لئلا يلزم التكرار والله أعلم
المسألة الثالثة قال الشافعي رحمه الله القصر رخصة فإن شاء المكلف أتم وإن شاء اكتفى على القصر وقال أبو حنيفة القصر واجب فإن صلّى المسافر أربعاً ولم يقعد في الثنتين فسدت صلاته وإن قعد بينهما مقدار التشهد تمت صلاته واحتج الشافعي رحمه الله على قوله بوجوه الأول أن ظاهر قوله تعالى فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلواة ِ مشعر بعدم الوجوب فإنه لا يقال فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ في أداء الصلاة الواجبة بل هذا اللفظ إنما يذكر في رفع التكليف بذلك الشيء فأما إيجابه على التعيين فهذا اللفظ غير مستعمل فيه أما أبو بكر الرازي فأجاب عنه بأن المراد من القصر في هذه الآية لا تقليل الركعات بل تخفيف الأعمال
وأعلم أنا بيّنا بالدليل أنه لا يجوز حمل الآية على ما ذكره فسقط هذا العذر وذكر صاحب ( الكشاف ) وجهاً آخر فيه فقال إنهم لما ألفوا الاتمام فربما كان يخطر ببالهم أن عليهم نقصاناً في القصر فنفى

عنهم الجناح لتطيب أنفسهم بالقصر فيقال له هذا الاحتمال إنما يخطر ببالهم إذا قال الشارع لهم رخصت لكم في هذا القصر أما إذا قال أوجبت عليكم هذا القصر وحرمت عليكم الاتمام وجلعته مفسداً لصلاتكم فهذا الاحتمال مما لا يخطر ببال عاقل أصلاً فلا يكون هذا الكلام لائقاً به
الحجة الثانية ما روي أن عائشة رضي الله عنها قالت اعتمرت مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من المدينة إلى مكة فلما قدمت مكة قلت يا رسول الله بأبي أنت وأمي قصرت وأتممت وصمت وأفطرت فقال أحسنت يا عائشة وما عاب علي وكان عثمان يتم ويقصر وما ظهر إنكار من الصحابة عليه
الحجة الثالثة أن جميع رخص السفر شرعت على سبيل التجويز لا على سبيل التعيين جزماً فكذا ههنا واحتجوا بالأحاديث منها ما روى عمر أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال فيه ( سدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته ) فظاهر الأمر للوجوب وعن أبي عباس قال كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إذا خرج مسافراً صلّى ركعتين
والجواب أن هذه الأحاديث تدل على كون القصر مشروعاً جائزاً إلا أن الكلام في أنه هل يجوز غيره ولما دل لفظ القرآن على جواز غيره كان القول به أولى والله أعلم
المسألة الرابعة قال بعضهم صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر ولما قدم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) المدينة أقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر
وأعلم أن لفظ الآية يبطل هذا وذلك لأنا بينا أن المراد من القصر المذكور في الآية تخفيف الركعات ولو كان الأمر ما ذكروه لما كان هذا قصراً في صلاة السفر بل كان ذلك زيادة في صلاة الحضر والله أعلم
المسألة الخامسة زعم داود وأهل الظاهر أن قليل السفر وكثيره سواء في جواز الرخصة وزعم جمهور الفقهاء أن السفر ما لم يقدر بمقدار مخصوص لم يحصل فيه الرخصة احتج أهل الظاهر بالآية فقالوا إن قوله تعالى وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى الاْرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلواة ِ جملة مركبة من شرط وجزاء الشرط هو الضرب في الأرض والجزاء هو جواز القصر وإذا حصل الشرط وجب أن يترتب عليه الجزاء سواء كان الشرط الذي هو السفر طويلاً أو قصيراً أقصى ما في الباب أن يقال فهذا يقتضي حصول الرخصة عند انتقال الإنسان من محلة إلى محلة ومن دار إلى دار إلا أنا نقول
الجواب عنه من وجهين الأول أن الانتقال من محلة إلى محلة إن لم يسم بأنه ضرب في الأرض فقد زال الاشكال وإن سمي بذلك فنقول أجمع المسلمون على أنه غير معتبر فهذا تخصيص تطرق إلى هذا النص بدلالة الإجماع والعام بعد التخصيص حجة فوجب أن يبقى النص معتبراً في السفر سواء كان قليلاً أو كثيراً والثاني أن قوله وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى الاْرْضِ يدل على أنه تعالى جعل الضرب في الأرض شرطاً لحصول هذه الرخصة فلو كان الضرب في الأرض اسماً لمطلق الانتقال لكان ذلك حاصلاً دائماً لأن الإنسان لا ينفك طول عمره من الانتقال من الدار إلى المسجد ومن المسجد إلى السوق وإذا كان حاصلاً دائماً امتنع جعله شرطاً لثبوت هذا الحكم فلما جعل الله الضرب في الأرض شرطاً لثبوت هذا الحكم علمنا أنه مغاير لمطلق الانتقال وذلك هو الذي يسمى سفراً ومعلوم أن اسم السفر واقع على القريب وعلى البعيد

فعلمنا دلالة الآية على حصول الرخصة في مطلق السفر أما الفقهاء فقالوا أجمع السلف على أن أقل السفر مقدر قالوا والذي يدل عليه أنه حصل في المسألة روايات
فالرواية الأولي ما روي عن عمر أنه قال يقصر في يوم تام وبه قال الزهري والأوزاعي الثانية قال ابن عباس إذا زاد على يوم وليلة قصر والثالثة قال أنس بن مالك المعتبر خمس فراسخ الرابعة قال الحسن مسيرة ليلتين الخامسة قال الشعبي والنخعي وسعيد بن جبير من الكوفة إلى المداين وهي مسيرة ثلاثة أيام وهو قول أبي حنيفة وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه إذا سافر إلى موضع يكون مسيرة يومين وأكثر اليوم الثالث جاز القصر وهكذا رواه ابن سماعة عن أبي يوسف ومحمد السادسة قال مالك والشافعي أربعة برد كل بريد أربعة فراسخ كل فرسخ ثلاثة أميال بأميال هاشم جد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو الذي قدر أميال البادية كل ميل إثنا عشر ألف قدم وهي أربعة آلاف خطوة فإن كل ثلاثة أقدام خطوة قال الفقهاء فاختلاف الناس في هذه الأقوال يدل على انعقاد الإجماع على أن الحكم غير مربوط بمطلق السفر قال أهل الظاهر اضطراب الفقهاء في هذه الأقاويل يدل على أنهم لم يجدوا في المسألة دليلاً قوياً في تقدير المدة إذ لو حصل في المسألة دليل ظاهر الدلالة لما حصل هذا الاضطراب وأما سكوت سائر الصحابة عن حكم هذه المسألة فلعله إنما كان لأنهم اعتقدوا أن هذه الآية دالة على ارتباط الحكم بمطلق السفر فكان هذا الحكم ثابتاً في مطلق السفر بحكم هذه الآية وإذا كان الحكم مذكوراً في نص القرآن لم يكن بهم حاجة إلى الاجتهاد والاستنباط فلهذا سكتوا عن هذه المسألة
وأعلم أن أصحاب أبي حنيفة عولوا في تقدير المدة بثلاثة أيام على قوله عليه الصلاة والسلام يمسح المسافر ثلاثة أيام وهذا يقتضي أنه إذا لم يحصل المسح ثلاثة أيام أن لا يكون مسافراً وإذا لم يكن مسافراً لم يحصل الرخص المشروعة في السفر وأما أصحاب الشافعي رضي الله عنه فإنهم عولوا على ما روى مجاهد وعطاء بن أبي رباح عن ابن عباس أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال يا أهل مكة لا تقصروا في أدنى من أربعة برد من مكة إلى عسفان قال أهل الظاهر الكلام عليه من وجوه الأول أنه بناء على تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد وهو عندنا غير جائز لوجهين الأول إن القرآن وخبر الواحد مشتركان في دلالة لفظ كل واحد منهما على الحكم والقرآن مقطوع المتن والخبر مظنون المتن فكان القرآن أقوى دلالة من الخبر فترجيح الضعيف على القوي لا يجوز والثاني أنه روي في الخبر أنه عليه الصلاة والسلام قال ( إذا روي حديث عني فاعرضوه على كتاب الله تعالى فإن وافقه فاقبلوه وإن خالفه فردوه ) دلّ هذا الخبر على أن كل خبر ورد على مخالفة كتاب الله تعالى فهو مردود فهذا الخبر لما ورد على مخالفة عموم الكتب وجب أن يكون مردوداً
الوجه الثاني في دفع هذه الأخبار وهو أنها أخبار آحاد وردت في واقعة تعم الحاجة إلى معرفة حكمها فوجب كونها مردودة إنما قلنا إن الحاجة إليها عامة لأن أكثر الصحابة كانوا في أكثر الأوقات في السفر وفي الغزو فلما كانت رخص السفر مخصوصة بسفر مقدر كانت الحاجة إلى مقدار السفر المفيد للرخص حاجة عامة في حق المكلفين ولو كان الأمر كذلك لعرفوها ولنقلوها نقلاً متواتراً لا سيما وهو على خلاف ظاهر القرآن فلما لم يكن الأمر كذلك علمنا أن هذه أخبار ضعيفة مردودة وإذا كان الأمر كذلك

فكيف يجوز ترك ظاهر القرآن بسببها الثالث أن دلائل الشافعية ودلائل الحنفية صارت متقابلة متدافعة وإذا تعارضت تساقطت فوجب الرجوع إلى ظاهر القرآن هذا تمام الكلام في هذا الموضع والذي عندي في هذا الباب أن يقال إن كلمة ( إذا ) وكلمة ( إن ) لا يفيدان إلا كون الشرط مستعقباً لذلك الجزاء في جميع الأوقات فهذا غير لازم بدليل أنه إذا قال لامرأته إن دخلت الدار أو إذا دخلت الدار فأنت طالق فدخلت مرة وقع الطلاق وإذا دخلت الدار ثانياً لا يقع وهذا يدل على أن كلمة ( إذا ) وكلمة ( إن ) لا يفيدان العموم البتة وإذا ثبت هذا سقط استدلال أهل الظاهر بالآية فإن الآية لا تفيد إلا أن الضرب في الأرض يستعقب مرة واحدة هذه الرخص وعندنا الأمر كذلك فيما إذا كان السفر طويلاً فأما السفر القصير فإنما يدخل تحت الآية لو قلنا أن كلمة ( إذا ) للعموم ولما ثبت أنه ليس الأمر كذلك فقط سقط هذا الاستدلال وإذا ثبت هذا ظهر أن الدلائل التي تمسك بها المجتهدون بمقدار معين ليست واقعة على خلاف ظاهر القرآن فكانت مقبولة صحيحة والله أعلم
المسألة السادسة زعم داود وأهل الظاهر أن جواز القصر مخصوص بحال الخوف واحتجوا بأنه تعالى أثبت هذا الحكم مشروطاً بالحوف وهو قوله فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلواة ِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ

والمشروط بالشيء عدم عند عدم ذلك الشرط فوجب أن لا يحصل جواز القصر عند الأمن قالوا ولا يجوز رفع هذا الشرط بخبر من أخبار الآحاد لأنه يقتضي نسخ القرآن بخبر الواحد وإنه لا يجوز ولقد صعب هذا الكلام على قوله ذكروا فيه وجوهاً متكلفة في الآية ليتخلصوا عن هذا الكلام وعندي أنه ليس في هدا غموض وذلك لأتا بينا في تفسير قوله تعالى إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ ( النساء 31 ) أن كلمة ( إن ) وكلمة ( إذا ) يفيدان أن عند حصول الشرط يحصل المشروط ولا يفيدان أن عند عدم الشرط يلزم عدم المشروط واستدللنا على صحة هذا الكلام بآيات كثيرة وإذا ثبت هذا فنقول قوله تعالى إِنْ خِفْتُمْ يقتضي أن عند حصول الخوف تحصل الرخصة ويقتضي أن عند عدم الخوف لا تحصل الرخصة وإذا كان كذلك كانت الآية ساكتة عن حال الأمن بالنفي وبالإثبات وإثبات الرخصة حال الأمن بخبر الواحد يكون إثباتاً لحكم سكت عنه القرآن بخبر الواحد وذلك غير ممتنع إنما الممتنع إثبات الحكم بخبر الواحد على خلاف ما دلّ عليه القرآن ونحن لا نقول به
فإن قيل فعلى هذا لما كان هذا الحكم ثابتاً حال الأمن وحال الخوف فما الفائدة في تقييده بحال الخوف
قلنا إن الآية نزلت في غالب أسفار النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأكثرها لم يخل عن خوف العدو فذكر الله هذا الشرط من حيث أنه هو الأغلب في الوقوع ومن الناس من أجاب عنه بأن القصر المذكور في الآية المراد منه الاكتفاء بالإيماء والإشارة بدلاً عن الركوع والسجود وذلك هو الصلاة حال شدة الخوف ولا شك أن هذه الصلاة مخصوصة بحال الخوف فإن وقت الأمن لا يجوز الإتيان بهذه الصلاة ولا تكون محرمة ولا صحيحة والله أعلم ثم يقال لأهل الظاهر إن ظاهر هذه الآية يقتضي أن لا يجوز القصر إلا عند حصول الخوف الحاصل من فتنة الكفار وأما لو حصل الخوف بسبب آخر وجب أن لا يجوز القصر فإن التزموا ذلك سلموا من الطعن إلا أنه بعيد وإن لم يلتزموه توجه النقص عليهم لأنه تعالى قال إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وذلك يقتضي أن الشرط هو هذا الخوف المخصوص ولهم أن يقولوا إما أن يقال حصل إجماع الصحابة والأمة على أن مطلق الخوف كاف أو لم يحصل الإجماع فإن حصل الإجماع فنقول خالفنا ظاهر القرآن بدلالة الإجماع وهو دليل قاطع فلم تجز مخالفته بدليل ظني وإن لم يحصل الإجماع فقد زال السؤال لأنا نلتزم أنه لا يجوز القصر إلا مع هذا الخوف المخصوص والله أعلم
أما قوله إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ففي تفسير هذه الفتنة قولان الأول خفتم أن يفتنوكم عن إتمام الركوع والسجود في جميعها الثاني إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا بعداوتهم والحاصل أن كل محنة وبلية وشدة فهي فتنة
ثم قال تعالى إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً والمعنى أن العداوة الحاصلة بينكم وبين الكافرين قديمة والآن قد أظهرتم خلافهم في الدين وازدادت عداوتهم وبسبب شدة العداوة أقدموا على محاربتكم وقصد إتلافكم إن قدروا فإن طالت صلاتكم فربما وجدوا الفرصة في قتلكم فعلى هذا رخصت لكم في قصر الصلاة وإنما قال عَدُوّا ولم يقل أعداء لأن العدو يستوي فيه الواحد والجمع قال تعالى فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ ( الشعراء 77 )
وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَواة َ فَلْتَقُمْ طَآئِفَة ٌ مِّنْهُمْ مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَة ٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَة ً وَاحِدَة ً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَواة َ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلَواة َ إِنَّ الصَّلَواة َ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً
أعلم أنه تعالى لما بيّن في الآية المتقدمة حال قصر الصلاة بحسب الكمية في العدد بيّن في هذه الآية حالها في الكيفية وفيه مسائل

المسألة الأولى قال أبو يوسف والحسن بن زياد صلاة الخوف كانت خاصة للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ولا تجوز لغيره وقال المزني كانت ثابتة ثم نسخت واحتج أبو يوسف على قوله بوجهين الأول أن قوله تعالى وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَواة َ ظاهره يقتضي أن إقامة هذه الصلاة مشروطة بكون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيهم لأن كلمة ( إذا ) تفيد الاشتراط الثاني أن تغيير هيئة الصلاة أمر على خلاف الدليل إلا أنا جوزنا ذلك في حق الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لتحصل للناس فضيلة الصلاة خلفه وأما في حق غير الرسول عليه الصلاة والسلام فهذا المعنى غير حاصل لأن فضيلة الصلاة خلف الثاني كهي خلف الأول فلا يحتاج هناك إلى تغيير هيئة الصلاة وأما سائر الفقهاء فقالوا لما ثبت هدا الحكم في حق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بحكم هذه الآية وجب أن يثبت في حق غيره لقوله تعالى وَاتَّبِعُوهُ ( الأعراف 158 ) ألا ترى أن قوله تعالى خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَة ً تُطَهّرُهُمْ ( التوبة 103 ) لم يوجب كون الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) مخصوصاً به دون غيره من الأمة بعده وأما التمسك بإدراك فضيلة الصلاة خلف النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فليس يجوز أن يكون علة لإباحة تغيير الصلاة لأنه لا يجوز أن يكون طلب الفضيلة يوجب ترك الفرض فاندفع هذا الكلام والله أعلم
المسألة الثانية شرح صلاة الخوف هو أن الإمام يجعل القوم طائفتين ويصلي بهم ركعة واحدة ثم إذا فرغوا من الركعة فكيف يصنعون فيه أقوال الأول أن تلك الطائفة يسلمون من الركعة الواحدة ويذهبون إلى وجه العدو وتأتي الطائفة الأخرى ويصلي بهم الإمام ركعة أخرى ويسلم وهذا مذهب من يرى أن صلاة الخوف للإمام ركعتان وللقوم ركعة وهذا مروي عن ابن عباس وجابر بن عبد الله ومجاهد الثاني أن الإمام يصلي بتلك الطائفة ركعتين ويسلم ثم تذهب تلك الطائفة إلى وجه العدو وتأتي الطائفة الأخرى فيصلي الإمام بهم مرة أخرى ركعتين وهذا قول الحسن البصري الثالث أن يصلي الإمام مع الطائفة الأولى ركعة تامة ثم يبقى الإمام قائماً في الركعة الثانية إلى أن تصلي هذه الطائفة ركعة أخرى ويتشهدون ويسلمون ويذهبون إلى وجه العدو ثم تأتي الطائفة الثانية ويصلون مع الإمام قائماً في الركعة الثانية ركعة ثم يجلس الإمام في التشهد إلى أن تصلي الطائفة الثانية الركعة الثانية ثم يسلم الإمام بهم وهذا قول سهل بن أبي حثمة ومذهب الشافعي الرابع أن الطائفة الأولى يصلي الإمام بهم ركعة ويعودون إلى وجه العدو وتأتي الطائفة الثانية فيصلي بهم بقية الصلاة وينصرفون إلى وجه العدو ثم تعود الطائفة الأولى فيقضون بقية صلاتهم بقراءة وينصرفون إلى وجه العدو ثم تعود الطائفة الثانية فيقضون بقية صلاتهم بقراءة والفرق أن الطائفة الأولى أدركت أول الصلاة وهم في حكم من خلف الإمام وأما لاثانية فلم تدرك أول الصلاة والمسبوق فيما يقضي كالمنفرد في صلاته وهذا قول عبد الله بن مسعود ومذهب أبي حنيفة وأعلم أنه وردت الروايات المختلفة بهذه الصلاة فلعله ( صلى الله عليه وسلم ) صلى بهم هذه الصلاة في أوقات مختلفة بحسب المصلحة وإنما وقع الاختلاف بين الفقهاء في أن الأفضل والأشد موافقة لظاهر الآية أي هذه الأقسام أما الواحدي رحمه الله فقال الآية مخالفة للروايات التي أخذ بها أبو حنيفة وبين ذلك من وجهين الأول أنه تعالى قال وَلْتَأْتِ طَائِفَة ٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ وهذا يدل على أن الطائفة الأولى قد صلّت عند إتيان الثانية وعند أبي حنيفة ليس الأمر كذلك لأن الطائفة الثانية عنده تأتي والأولى بعد في الصلاة وما

فرغوا منها الثاني أن قوله فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ ظاهره يدل على أن جميع صلاة الطائفة الثانية مع الإمام لأن مطلق قولك صليت مع الإمام يدل على أنك أدركت جميع الصلاة معه وعلى قول أبي حنيفة ليس الأمر كذلك وأما أصحاب أبي حنيفة فقالوا الآية مطابقة لقولنا لأنه تعالى قال فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَائِكُمْ وهذا يدل عى أن الطائفة الأولى لم يفرغوا من الصلاة ولكنهم يصلون ركعة ثم يكونون من وراء الطائفة الثانية للحراسة وأجاب الواحدي عنه فقال هذا إنما يلزم إذا جعلنا السجود والكون من ورائكم لطائفة واحدة وليس الأمر كذلك بل هو لطائفتين السجود للأولى والكون من ورائكم الذي بمعنى الحراسة للطائفة الثانية والله أعلم
ولنرجع إلى تفسير الآية فنقول قوله تعالى وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ أي وإذا كنت أيها النبي مع المؤمنين في غزواتهم وخوفهم وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَواة َ فَلْتَقُمْ والمعنى فاجعلهم طائفتين فلتقم منهم طائفة معك فصل بهم وليأخذوا أسلحتهم والضمير إما للمصلين وإما لغيرهم فإن كان للمصلين فقالوا يأخذون من السلام ما لا يشغلهم عن الصلاة كالسيف والخنجر وذلك لأن ذلك أقرب إلى الاحتياط وأمنع للعدو من الإقدام عليهم وإن كان لغير المصلين فلا كلام فيه ويحتمل أن يكون ذلك أمراً للفريقين بحمل السلام لأن ذلك أقرب إلى الاحتياط
ثم قال فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ
يعني غير المصلين مِن وَرَائِكُمْ يحرسونكم وقد ذكرنا أن أداء الركعة الأولى مع الإمام في صلاة الخوف كهو في صلاة الأمن إنما التفاوت يقع في أداء الركعة الثانية فيه وقد ذكرنا مذاهب الناس فيها
ثم قال وَلْتَأْتِ طَائِفَة ٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وقد بينا أن هذه الآية دالة على صحة قول الشافعي
ثم قال وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ والمعنى أنه تعالى جعل الحذر وهو التحذر والتيقظ آلة يستعملها الغازي فلذلك جمع بينه وبين الأسلحة في الأخذ وجعلا مأخوذين قال الواحدي رحمه الله وفيه رخصة للخائف في الصلاة بأن يجعل بعض فكره في غير الصلاة
فإن قيل لم ذكر في الآية الأولى أَسْلِحَتَهُمْ فقط وذكر في هذه الآية حذرهم وأسلحتهم
قلنا لأن في أول الصلاة قلما يتنبه العدو لكون المسلمين في الصلاة بل يظنون كونهم قائمين لأجل المحاربة أما في الركعة الثانية فقد ظهر للكفار كونهم في الصلاة فههنا ينتهزون الفرصة في الهجوم عليهم فلا جرم خص الله تعالى هذا الموضع بزيادة تحذير فقال وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ
ثم قال تعالى وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتَهُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَة ً واحِدَة ً أي بالقتال عن ابي عباس وجابر أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) صلّى بأصحابه الظهر ورأى المشركون ذلك فقالوا بعد ذلك بئسما صنعنا حيث لم نقدم عليهم وعزموا على ذلك عند الصلاة الأخرى فأطلع الله نبيّه ( صلى الله عليه وسلم ) على أسرارهم بهذه الآية
ثم قال تعالى وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ

والمعنى أنه إن تعذر حمل السلاح إما لأنه يصيبه بلل المطر فيسود وتفسد حدته أو لأن من الأسلحة ما يكون مبطناً فيثقل على لابسه إذا ابتل بالماء أو لأجل أن الرجل كان مريضاً فيشق عليه حمل السلام فههنا له أن يضع حمل السلاح
ثم قال وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ والمعنى أنه لما رخص لهم في وضع السلاح حال المطر وحال المرض أمرهم مرة أخرى بالنيقظ والتحفظ والمبالغة في الحذر لئلا يجترىء العدو عليهم احتيالاً في الميل عليهم واستغناماً منهم لوضع المسلمين أسلحتهم وفيه مسائل
المسألة الأولى أن قوله في أول الآية وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ أمر وظاهر الأمر للوجوب فيقتضي أن يكون أمذ السلاح واجباً ثم تأكد هذا بدليل آخر وهو أنه قال ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو وراء هاتين الحالتين يكون الإثم والجناح حاصلاً بسبب وضع السلاح ومنهم من قال إنه سنة مؤكدة والأصح ما بيناه ثم الشرط أن لا يحمل سلاحاً نجساً إن أمكنه ولا يحمل الرمح إلا في طرف الصف وبالجملة بحيث لا يتأذى به أحد
المسألة الثانية قال أبو على الجرجاني صاحب النظم قوله تعالى وخذوا حذركم يدل على أنه كان يجوز للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يأتي بصلاة الخوف على جهة يكون بها حاذراً غير غافل عن كيد العدو والذي نزل به القرآن في هذا الموضع هو وجه الحذر لأن العدو يومئذ بذات الرقاع كان مستقبل القبلة فالمسلمون كانوا مستدبرين القبلة ومتى استقبلوا القبلة صاروا مستدبرين لعدوهم فلا جرم أمروا بأن يصيروا طائفتين طائفة في وجه العدو وطظائفة مع النبي عليه الصلاة والسلام مستقبل القبلة وأما حين كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعسفان وببطن نخل فإنه لم يفرق أصحابه طائفتين وذلك لأن العدو كان مستدبر القبلة والمسلمون كانوا مستقبلين لها فكانوا يرون العدو حال كونهم في الصلاة فلم يحتاجوا إلى الاحتراس إلا عند السجود فلا جرم لما سجد الصف الأول بقي الصف الثاني يحرسونهم فلما فرغوا من السجود وقاموا تأخروا وتقدم الصف الثاني وسجدوا وكان الصف الأول حال قيامهم يحرسون الصف الثاني فثبت بما ذكرنا أن قوله تعالى خُذُواْ حِذْرَكُمْ يدل على جواز هذه الوجوه والذي يدل على أن المراد من هذه الآية ما ذكرناه أنا لو لم نحملها على هذا الوجه لصار تكراراً محضاً من غير فائدة ولوقع فعل الرسول بعسفان وببطن نخل على خلاف نص القرآن وإنه غير جائز والله أعلم
المسألة الثالثة قالت المعتزلة إن الله تعالى أمر بالحذر وذلك يدل على كون العبد قادراً على الفعل وعلى الترك وعلى جميع وجوه الحذر وذلك يدل على أن أفعال العباد ليست مخلوقة لله تعالى وجوابه ما تقدم من المعارضة بالعلم والداعي والله أعلم
المسألة الرابعة دلت الآية على وجوب الحذر عن العدو فيدل على وجوب الحذر عن جميع المضار المظنونة وبهذا الطريق كان الإقدام على العلاج بالدواء والعلاج باليد والاحتراز عن الوباء وعن الجلوس تحت الجدار المائل واجباً والله أعلم
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً وفيه سؤال أنه كيف طابق الأمر بالحذر قوله

إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً وجوابه أنه تعالى لما أمر بالحذر عن العدو أوهم ذلك قوة العدو وشدتهم فأزال الله تعالى هذا الوهم بأن أخبر أنه يهينهم ويخذلهم ولا ينصرهم البتة حتى يقوي قلوب المسلمين ويعلموا أن الأمر بالحذر ليس لما لهم من القوة والهيبة وإنما هو لأجل أن يحصل الخوف في قلب المؤمنين فحيهئذ يكونون متضرعين إلى الله تعالى في أن يمدهم بالنصر والتوفيق ونظيره قوله تعالى إِذَا لَقِيتُمْ فِئَة ً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( الأنفال 45 )
ثم قال تعالى فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَواة َ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ وفيه قولان الأول فإذا قضيتم صلاة الخوف فواظبوا على ذكر الله في جميع الأحوال فإن ما أنتم عليه من الخوف والحذر مع العدو جدير بالمواظبة على ذكر الله والتضرع إليه الثاني أن المراد بالذكر الصلاة يعني صلوا قياماً حال اشتغالكم بالمسابقة والمقارعة وقعوداً حال اشتغالكم بالرمي وعلى جنوبكم حال ما تكثر الجراحات فيكم فتسقطون على الأرض فإذا اطمأننتم حين تضع الحرب أوزارها فأقيموا الصلاة فاقضوا ما صليتم في حال المسابقة هذا ظاهر على مذهب الشافعي في إيجاب الصلاة على المحارب في حال المسابقة إذا حضر وقتها وإذا اطمأنوا فعليهم القضاء إلا أن على هذا القول إشكالاً وهو أن يصير تقدير الآية فإذا قضيتم الصلاة فصلوا وذلك بعيد لأن حمل لفظ الذكر على الصلاة مجاز فلا يصار إليه إلا لضرورة
ثم قال تعالى فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَواة َ فَاذْكُرُواْ واعلم أن هذه الآية مسبوقة بحكمين أولهما بيان القصر وهو صلاة السفر والثاني صلاة الخوف ثم إن قوله فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ يحتمل نقيض الأمرين فيحتمل أن يكون المراد من الاطمئنان أن لا يبقى الإنسان مسافراً بل يصير مقيماً وعلى هذا التقدير يكون المراد فإذا صرتم مقيمين فأقيموا الصلاة تامة من غير قصر البتة ويحتمل أن يكون المراد من الاطمئنان أن لا يبقى الإنسان مضطرب القلب بل يصير ساكن القلب ساكن النفس بسبب أنه زال الخوف وعلى هذا التقدير يكون المراد فإذا زال الخوف عنكم فأقيموا الصلاة على الحالة التي كنتم تعرفونها ولا تغيروا شيئاً من أحوالها وهيآتها ثم لما بالغ الله سبحانه وتعالى في شرح أقسام الصلاة فذكر صلاة السفر ثم ذكر بعد ذلك صلاة الخوف ختم هذه الآية بقوله فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَواة َ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً أي فرضاً موقتاً والمراد بالكتاب ههنا المكتوب كأنه قيل مكتوبة موقوتة ثم حذف الهاء من الموقوت كما جعل المصدر موضع المفعو والمصدر مذكر ومعنى الموقوت أنها كتبت عليهم في أوقات موقتة يقال وقته ووقته مخففاً وقريء وَإِذَا الرُّسُلُ ( المرسلات 11 ) بالتخفيف
واعلم أنه تعالى بيّن في هذه الآية أن وجوب الصلاة مقدّر بأوقات مخصوصة إلا أنه تعالى أجمل ذكر الأوقات ههنا وبينها في سائر الآيات وهي خمسة أحدها قوله تعالى بَصِيرٌ حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَواتِ والصَّلَواة ِ الْوُسْطَى ( البقرة 238 ) فقوله الصَّلَواتِ يدل على وجوب صلوات ثلاثة وقوله حَافِظُواْ عَلَى يمنع أن يكون أحد تلك الثلاثة وإلا لزم التكرار فلا بدّ وأن تكون زائدة على الثلاثة ولا يجوز أن يكون الواجب أربعة وإلا لم يحصل فيها وسطى فلا بدّ من جعلها خمسة لتحصل الوسطى وكما دلت هذه الآية على وجوب خمس صلوات دلت على عدم وجوب الوتر وإلا لصارت الصلوات الواجبة ستة فحينئذ لا تحصل الوسطى فهذه الآية دلّت على أن الواجب خمس صلوات إلا أنها غير دالة على بيان أوقاتها وثانيها قوله

تعالى أَقِمِ الصَّلَواة َ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ وَقُرْءانَ الْفَجْرِ ( الإسراء 78 ) فالواجب من الدلوك إلى الغسق هو الظهر والعصر والواجب من الغسق إلى الفجر هو المغرب والعشاء والواجب في الفجر هو صلاة الصبح وهذه الآية توهم أن للظهر والعصر وقتاً واحداً وللمغرب والعشاء وقتاً واحداً وثالثها قوله سبحانه فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ( الروم 17 ) والمراد منه الصلاتان الواقعتان في طرفي النهار وهما المغرب والصبح ثم قال وَلَهُ الْحَمْدُ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ ( الروم 18 ) فقوله وَعَشِيّاً المراد منه الصلاة الواقعة في محض الليل وهي صلاة العشاء وقوله وَحِينَ تُظْهِرُونَ المراد الصلاة الواقعة في محض النهار وهي صلاة الظهر كما قدم في قوله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ( الروم 17 ) صلاة الليل على صلاة النهار في الذكر فكذلك قدم في قوله وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ صلاة الليل على ثلاة النهار في الذكر فصارت الصلوات الأربعة مذكورة في هذه الآية وأما صلاة العصر فقد أفردها الله تعالى بالذكر في قوله وَالْعَصْرِ تشريفاً لها بالإفراد بالذكر ورابعها قوله تعالى وَأَقِمِ الصَّلَواة َ طَرَفَى ِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ ( هود 114 ) فقوله طَرَفَى ِ النَّهَارِ يفيد وجوب صلاة الصبح وجوب صلاة العصر لأنهما كالواقعتين على الطرفين وإن كانت صلاة الصبح واقعة قبل حدوث الطرف الأول وصلاة العصر واقعة قبل حدوث الطرف الثاني وقوله وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ يفيد وجوب المغرب والعشاء وكان بعضهم يستدل بهذه الآية على وجوب الوتر قال لأن الزلف جمع وأقله ثلاثة فلا بدّ وأن يجب ثلاث صلوات في الليل عملاً بقوله وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ وخامسها قوله تعالى وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ ءانَاء الَّيْلِ فَسَبّحْ فقوله قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا ( طه 130 ) إشارة إلى الصبح والعصر وهو كقوله وَأَقِمِ الصَّلَواة َ طَرَفَى ِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ ( هود 114 ) وقوله وَمِنْ ءانَاء الَّيْلِ إشارة إلى المغرب والعشاء وهو كقوله وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ وكما احتجوا بقوله وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ فكذلك احتجوا عليه بقوله وَمِنْ ءانَاء الَّيْلِ لأن قوله آناء الليل جمع وأقله ثلاثة فهذا مجموع الآيات الدالة على الأوقات الخمسة للصلوات الخمس
واعلم أن تقدير الصلوات بهذه الأوقات الخمسة في نهاية الحسن والجمال نظراً إلى المعقول وبيانه أن لكل شيء من أحوال هذا العالم مراتب خمسة أولها مرتبة الحدوث والدخول في الوجود وهو كما يولد الإنسان ويبقى في النشو والنماء إلى مدة معلومة وهذه المدة تسمى سن النشو والنماء
والمرتبة الثانية مدة الوقوف وهو أن يبقى ذلك الشيء على صفة كماله من غير زيادة ولا نقصان وهذه المدة تسمى سن الشباب
والمرتبة الثالثة مدة الكهولة وهو أن يظهر في الإنسان نقصانات ظاهرة جلية إلى أن يموت ويهلك وتسمى هذه المدة سن الشيخوخة
المرتبة الخامسة أن تبقى آثاره بعد موته مدة ثم بالآخرة تنمحي تلك الآثار وتبطل وتزول ولا يبقى منه في الدنيا خبر ولا أثر فهذه المراتب الخمسة حاصلة لجميع حوادث هذا العالم سواء كان إنساناً أو غيره من الحيوانات أو النباتات والشمس حصل لها بحسب طلوعها وغروبها هذه الأحوال الخمس وذلك لأنها

حين تطلع من مشرقها يشبه حالها حال المولود عندما يولد ثم لا يزال يزداد ارتفاعها ويقوى نورها ويشتد حرها إلى أن تبلغ إلى وسط السماء فتقف هناك ساعة ثم تنحدر ويظهر فيها نقاصانات خفية إلى وقت العصر ثم من وقت العصر يظهر فيها نقصانات ظاهرة فيضعف ضوؤها ويضعف حرها ويزداد انحطاطها وقوتها إلى الغروب ثم إذا غربت يبقى بعض آثارها في أفق المغرب وهو الشفق ثم تنمحي تلك الآثار وتصير الشمس كأنها ما كانت موجودة في العالم فلما حصلت هذه الأحوال الخمسة لها وهي أمور عجيبة لا يقدر عليها إلا الله تعالى لا جرم أوجب الله تعالى عند كل واحد من هذهالأحوال الخمسة لها صلاة فأوجب عند قرب الشمس من الطلوع صلاة الفجر شكراً للنعمة العظيمة الحاصلة بسبب زوال تلك الظلمة وحصول النور وبسبب زوال النوم الذي هو كالموت وحصول اليقظة التي هي كالحياة ولما وصلت الشمس إلى غاية الارتفاع ثم ظهر فيها أثر الانحطاط أوجب صلاة الظهر تعظيماً للخالق القادر على قلب أحوال الأجرام العلوية والسفلية من الضد إلى الضد فجعل الشمس بعد غاية ارتفاعها واستعلائها منحطة عن ذلك العلو وآخذة في سن الكهولة وهو النقصان الخفي ثم لما انقضت مدة الحكهولة ودخلت في أول زمان الشيخوخة أوجب تعالى صلاة العصر ونعم ما قال الشافعي رحمه الله أن أول العصر هو أن يصير ظل كل شيء مثليه وذلك لأن من هذا الوقت تظهر النقصانات الظاهرة ألا ترى أن من أول وقت الظهر إلى وقت العصر على قول الشافعي رحمه الله ما ازداد الظل إلا مثل الشيء ثم إن في زمان الطيف يصير ظله مثليه وذلك يدل على أن من الوقت الذي يصير ظل الشيء مثلاً له تأخذ الشمس في النقصانات الظاهرة ثم إذا غربت الشمس أشبهت هذه الحالة ما إذا مات الإنسان فلا جرم أوجب الله تعالى عند هذه الحالة صلاة المغرب ثم لما غرب الشفق فكأنه انمحت آثار الشمس ولم يبق منها في الدنيا خبر ولا أثر فلا جرم أوجب الله تعالى صلاة العشاء فثبت أن إيجاب الصلوات الخمس في هذه الأوقات الخمسة مطابق للقوانين العقلية والأصول الحكمية والله أعلم بأسرار أفعاله
وَلاَ تَهِنُواْ فِى ابْتِغَآءِ الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً
اعلم أنه تعالى لما ذكر بعض الأحكام التي يحتاج المجاهد إلى معرفتها عاد مرة أخرى إلى الحث على الجهاد فقال وَلاَ تَهِنُواْ أي ولا تضعفوا ولا تتوانوا فِى ابْتِغَاء الْقَوْمِ أي في طلب الكفار بالقتال ثم أورد الحجة عليهم في ذلك فقال فلما لم يصر خوف الألم مانعاً لهم عن قتالكم فكيف صار مانعاً لكم عن قتالهم ثم زاد في تقرير الحجة وبين أن المؤمنين أولى بالمصابرة على القتال من المشركين لأن المؤمنين مقرون بالثواب والعقاب والحشر والنشر والمشركين لا يقرون بذلك فإذا كانوا مع إنكارهم الحشر والنشر يجدون

في القتال فأنتم أيها المؤمنون المقرون بأن لكم في هذا الجهاد ثواباً عظيماً وعليكم في تركه عقاباً عظيماً أولى بأن تكونوا مجدين في هذا الجهاد وهو المراد من قوله تعالى وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ ويحتمل أيضاً أن يكون المراد من هذا الرجاء ما وعدهم الله تعالى في قوله لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ ( التوبة 33 ) ( الفتح 28 ) ( الصف 9 ) وفي قوله حَكِيمٌ يَاأَيُّهَا النَّبِى ُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( الأنفال 64 ) وفيه وجه ثالث وهو أنكم تعبدون الإل ه العالم القادر السميع البصير فيصح منكم أن ترجوا ثوابه وأما المشركون فإنهم يعبدون الأصنام وهي جمادات فلا يصح منهم أن يرجوا من تلك الأصنام ثواباً أو يخافوا منها عقاباً وقرأ الأعرج إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ بفتح الهمزة بمعنى ولا تهنوا لأن تكونوا تألمون وقوله فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ تعليل
ثم قال وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً أي لا يكلفكم شيئاً ولا يأمركم ولا ينهاكم إلا بما هو عالم بأنه سبب لصلاحكم في دينكم ودنياكم
إِنَّآ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً وَاسْتَغْفِرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً
في كيفية النظم وجوه الأول أنه تعالى لما شرح أحوال المنافقين على سبيل الاستقصاء ثم اتصل بذلك أمر المحاربة واتصل بذكر المحاربة ما يتعلق بها من الأحكام الشرعية مثل قتل المسلم خطأ على ظن أنه كافر ومثل بيان صلاة السفر وصلاة الخوف رجع الكلام بعد ذلك إلى أحوال المنافقين وذكر أنهم كانوا يحاولون أن يحملوا الرسول عليه الصلاة والسلام على أن يحكم بالباطل ويذر الحكم الحق فأطلع الله رسوله عليه وأمره بأن لا يلتفت إليهم ولا يقبل قولهم في هذا الباب
والوجه الثاني في بيان النظم أنه تعالى لما بيّن الأحكام الكثيرة في هذه السورة بيّن أن كل ما عرف بإنزال الله تعالى وأنه ليس للرسول أن يحيد عن شيء منها طلباً لرضا قومه
الوجه الثالث أنه تعالى لما أمر بالمجاهدة مع الكفار بيّن أن الأمر وإن كان كذلك لكنه لا تجوز الخيانة معهم ولا إلحاق ما لم يفعلوا بهم وأن كفر الكافر لا يبيح المسامحة بالنظر له بل الواجب في الدين أن يحكم له وعليه بما أنزل على رسوله وأن لا يلحق الكافر حيف لأجل أن يرضى المنافق بذلك وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اتفق المفسرون على أن أكثر هذه الآيات نزلت في طعمة بن أبيرق ثم في كيفية الواقعة روايات أحدها أن طعمة سرق درعاً فلما طلبت الدرع منه رمى واحداً من اليهود بتلك السرقة ولما اشتدت الخصومة بين قومه وبين قوم اليهودي جاء قومه إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وطلبوا منه أن يعينهم على هذا المقصود وأن يلحق هذه الخيانة باليهودي فهم الرسول عليه الصلاة والسلام بذلك فنزلت الآية وثانيها أن واحداً وضع عنده درعاً على سبيل الوديعة ولم يكن هناك شاهد فلما طلبها منه جحدها وثالثها أن المودع لما

طلب الوديعة زعم أن اليهودي سرق الدرع واعلم أن العلماء قالوا هذايدل على أن طعمة وقومه كانوا منافقين وإلا لما طلبوا من الرسول نصرة الباطل وإلحاق السرقة باليهودي على سبيل التخرص والبهتان ومما يؤكد ذلك قوله تعالى وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَى ْء ( النساء 113 ) ثم روي أن طعمة هرب إلى مكة وارتد وثقب حائطاً هناك لأجل السرقة فسقط الحائط عليه ومات
المسألة الثانية قال أبو علي الفارسي قوله أَرَاكَ اللَّهُ إما أن يكون منقولاً بالهمزة من رأيت التي يراد بها رؤية البصر أو من رأيت التي تتعدى إلى المفعولين أو من رأيت التي يراد بها الاعتقاد والأول باطل لأن الحكم في الحادثة لا يرى بالبصر والثاني أيضاً باطل لأنه يلزم أن يتعدى إلى ثلاثة لا إلى المفعولين بسبب التعدية ومعلوم أن هذا اللفظ لم يتعد إلا إلى مفعولين أحدهما الكاف التي هي للخطاب والآخر المفعول المقدر وتقديره بما أراكه الله ولما بطل السمان بقي الثالث وهو أن يكون المراد منه رأيت بمعنى الاعتقاد
المسألة الثالثة اعلم أنه ثبت بما قدمنا أن قوله بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ معناه بما أعلمك الله وسمي ذلك العلم بالرؤية لأن العلم اليقيني المبرأ عن جهات الريب يكون جارياً مجرى الرؤية في القوة والظهور وكان عمر يقول لا يقولن أحد قضيت بما أراني الله تعالى لم يجعل ذلك إلا لنبيّه وأما الواحد منا فرأيه يكون ظناً ولا يكون علماً
إذا عرفت هذا فنقول قال المحققون هذه الآية تدل على أنه عليه الصلاة والسلام ما كان يحكم إلا بالوحي والنص
وإذا عرفت هذا فنقول تفرع عليه مسألتان إحداهما أنه لما ثبت أنه عليه الصلاة والسلام ما كان يحكم إلا بالنص فوجب أن يكون حال الأمة كذلك لقوله تعالى واتبعوه ( الأعراف 158 ) وإذا كان كذلك وجب أن يكون العمل بالقياس حراماً
والجواب عنه أنه لما قامت الدلالة على أن القياس حجة كان العمل بالقياس عملاً بالنص في الحقيقة فإنه يصير التقدير كأنه تعالى قال مهما غلب على ظنك أن حكم الصورة المسكوت عنها مثل حكم الصورة المنصوص عليها بسبب أمر جامع بين الصورتين فاعلم أن تكليفي في حقك أن تعمل بموجب ذلك الظن وإذا كان الأمر كذلك كان العمل بهذا القياس عملاً بعين النص
أما قوله ولا تكن للخائنين خصيماً ففيه مسائل
المسألة الأولى معنى الآية ولا تكن لأجل الخائنين مخاصماً لمن كان بريئاً عن الذنب يعني لا تخاصم اليهود لأجل المنافقين
المسألة الثانية قال الواحيد رحمه الله خصمك الذي يخاصمك وجمعه الخصماء وأصله من الخصم وهو ناحية الشيء وطرفه والخصم طرف الزاوية وطرف الأشفار وقيل للخصمين خصمان لأن كل

واحد منهما في ناحية من الحجة والدعوى وخصوم السحابة جوانبها
المسألة الثالثة قال الطاعنون في عصمة الأنبياء عليهم السلام دلّت هذه الآية على صدور الذنب من الرسول عليه السلاة والسلام فإنه لولا أن الرسول عليه الصلاة والسلام أراد أن يخاصم لأجل الخائن ويذب عنه وإلا لما ورد النهي عنه
والجواب أن النهي عن الشيء ة يقتضي كون المنهي فاعلاً للمنهى عنه بل ثبت في الرواية أن قوم طعملاة لما التمسوا من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يذب عن طعمة وأن يلحق السرقة باليهودي توقف وانتظر الوحي فنزلت هذه الآية وكان الغرض من هذا النهي تنبيه النبي عليه الصلاة والسلام على أن طعمة كذاب وأن اليهودي برىء عن ذلك الجرم
فإن قيل الدليل على أن ذلك الجرم قد وقع من النبي عليه الصلاة والسلام قوله بعد هذه الآية وَاسْتَغْفِرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً فلما أمره الله بالاستغفار دلّ على سبق الذنب
والجواب من وجوه الأول لعله مال طبعه إلى نصرة طعمة بسبب أنه كان في الظاهر من المسلمين فأمر بالستغفار لهذا القدر وحسنات الأبرار سيئات المقربين والثاني لعلّ القوم لما شهدوا على سرقة اليهودي وعلى براءة طعمة من تلك السرقة ولم يظهر للرسول عليه الصلاة والسلام ما يوجب القدح في شهادتهم هم بأن يقضي بالسرقة على اليهودي ثم لما أطلعه الله تعالى على كذب أولئك الشهود عرف أن ذلك القضاء لو وقع لكان خطأ فكان استغفاره بسبب أنه هم بذلك الحكم الذي لو وقع لكان خطأ في نفسه وإن كان معذوراً عند الله فيه الثالث قوله وَاسْتَغْفِرِ اللَّهِ يحتمل أن يكون المراد واستغفر الله لأولئك الذين يذبون عن طعمة ويريدون أن يظهروا براءته عن السرقة ثم قال تعالى
وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً
والمراد بالذين يختانون أنفسهم طعمة ومن عاونه من قومه ممن علم كونه سارقاً والاختيان كالخيانة يقال خانه واختانه وذكرنا ذلك عند قوله تعالى عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ ( البقرة 187 ) وءنما قال تعالى لطعمة ولمن ذب عنهم إنهم يختانون أنفسهم لأن من أقدم على المعصية قفد حرم نفسه الثواب وأوصلها إلى العقاب فكان ذلك منه خيانة مع نفسه ولهذا المعنى يقال لمن ظلم غيره إنه ظلم نفسه
وأعلم أن في الآية تهديداً شديداً وذلك لأن النبي عليه الصلاة والسلام لما مال طبعه قليلاً إلى جانب طعمة وكان في علم الله أن طعمة كان فاسقاً فالله تعلى عاتب رسوله على ذلك القدر من إعانة المذنب فكيف حال من يعلم من الظالم كونه ظالماً ثم يعينه على ذلك الظلم بل يحمله عليه ويرغبه فيه أشد الترغيب
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً قال المفسرون إن طعمة خان في الدرع وأثم في نسبة اليهودي إلى تلك السرقة فلا جرم قال الله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أثَيَّمَا

فإن قيل لم قال خَوَّاناً أثَيَّمَا مع أن الصادر عنه خيانة واحدة وإثم واحد
قلنا علم الله تعالى أنه كان في طبع ذلك الرجل الخيانة الكثيرة والإثم الكثير فذكر اللفظ الدال على المبالغة بسبب ما كان في طبعه من الميل إلى ذلك ويدل عليه ما رويناه أنه بعد هذه الواقعة هرب إلى مكة وارتد ونقب حائط إنسان لأجل السرقة فسقط الحائط عليه ومات ومن كان خاتمته كذلك لم يشك في خيانته وأيضاً طلب من النبي عليه الصلاة والسلام أن يدفع السرقة عنه ويلحقها باليهودي وهذا يبطل رسالة الرسول ومن حاول إبطال رسالة الرسول وأراد إظهار كذبه فقد كفر فلهذا المعنى وصفه الله بالمبالغة في الخيانة والإثم
وقيل إذا عثرت من رجل على سيئة فاعلم أن لها أخوات عن عمر رضي الله عنه أنه أمر بقطع يد سارق فجاءت أمة تبكي وتقول هذه أول سرقة سرقها فاعف عنه فقال كذبت إن الله لا يؤاخذ عبده في أول الأمر وأعلم أنه تعالى لما خص هذا الوعيد بمن كان عظيم الخيانة والإثم دل ذلك على أن من كان قليل الخيانة والإثم فهو خارج عنه ثم قال تعالى
يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً
الاستخفاء في اللغة معناه الاستتار يقال استخفيت من فلان أي تواريت منه واستترت قال تعالى وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ ( الرعد 10 ) أي مستتر فقوله يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ أي يستترون من الناس ولا يستترون من الله قال ابن عباس يستحيون من الناس ولا يستحيون من الله قال الواحدي هذا معنى وليس بتفسير وذلك لأن الاستحياء من الناس يوجب الاستتار من الناس والاستخفاء منهم فأما أن يقال الاستحياء هو نفس الاستخفاء فليس الأمر كذلك وقوله وَهُوَ مَعَهُمْ يريد بالعلم والقدرة والرؤية وكفى هذا زاجراً للإنسان عن المعاصي وقوله إِذْ يُبَيّتُونَ مَا لاَ بِالسُّوء مِنَ الْقَوْلِ أي يضمرون ويقدرون في أذهانهم وذكرنا معنى التبييت في قوله دبيت طائفة منهم ( النساء 81 ) والذي لا يرضاه الله من القول هو أن طعمة قال أرمي اليهودي بأنه هو الذي سرق الدرع وأحلف أني لم أسرقها فيقبل الرسول يميني لأني على دينه ولا يقبل يمين اليهودي
فإن قيل كيف سمي التبييت قولاً وهو معنى في النفس
قلنا مذهبنا أن الكلام الحقيقي هو المعنى القائم بالنفس وعلى هذا المذهب فلا إشكال ومن أنكر كلام النفس فله أن يجيب بأن طعمة وأصحابه لعلّهم اجتمعوا في الليل ورتبوا كيفية الحيلة والمكر فسمى الله تعالى كلامهم ذلك بالقول المبيت الذي لا يرضاه فأما قوله وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً فالمراد الوعيد من حيث إنهم وإن كانوا يخفون كيفية المكر والخداع عن الناس إلا أنها كانت ظاهرة في علم الله لأنه تعالى محيط بجميع المعلومات لا يخفى عليه سبحانه منها شيء

ثم قال تعالى
هَاأَنْتُمْ هَاؤُلا ءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً
ثم قال تعالى مُحِيطاً هَأَنْتُمْ هَؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ ها للتنبيه في وَإِذْ أَنتُمْ و هَؤُلاء وهما مبتدأ وخبر جَادَلْتُمْ جملة مبينة لوقوع أُوْلاء اسماً موصولاً بمعنى الذي و جَادَلْتُمْ صلة وأما الجدال فهو في اللغة عبارة عن شدة المخاصمة وجدل الحبل شدة فتلة ورجل مجدول كأنه فتل والأجدل الصقر لأنه من أشد الطيور قوة هذا قول الزجاج وقال غيره سميت المخاصمة جدالاً لأن كل واحد من المخصمين يريد ميل صاحبه عما هو عليه وصرفه عن رأيه
إذا عرفت هذا فنقول هذا خطاب مع قوم من المؤمنين كانوا يذبون عن طعمة وعن قومه بسبب أنهم كانوا في الظاهر من المسلمين والمعنى هبوا أنكم خاصمتم عن طعمة وقومه في الدنيا فمن الذين يخاصمون عنهم في الآخرة إذا أخذهم الله بعذابه وقرأ عبد الله بن مسعود ها أنتم هؤلاء جادلتم عنه يعني عن طعمة وقوله فَمَن يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ استفهام بمعنى التوبيخ والتقريع
ثم قال تعالى أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً فقوله أَمْ مَّن يَكُونُ عطف على الاستفهام السابق والوكيل هو الذي وكل إليه الأمر في الحفظ والحماية والمعنى من الذي يكون محافظاً ومحامياً لهم من عذاب الله
وأعلم أنه تعالى لما ذكر الوعيد في هذا الباب أتبعه بالدعوة إلى التوبة وذكر فيه ثلاثة أنواع من الترغيب فالأول
وَمَن يَعْمَلْ سُو ءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً
والمراد بالسوء القبيح الذي يسوء به غيره كما فعل طعمة من سرقة الدرع ومن رمي اليهودي بالسرقة والمراد بظلم النفس ما يختص به الإنسان كالحلف الكاذب وإنما خص ما يتعدى إلى الغير باسم السوء لأن ذلك يكون في الأكثر إيصالاً للضرر إلى الغير والضرر سوء حاضر فأما الذنب الذي يخص الإنسان فذلك في الأكثر لا يكون ضرراً حاضراً لأن الإنسان لا يوصل الضرر إلى نفسه
وأعلم أن هذه الآية دالة على حكمين الأول أن التوبة مقبولة عن جميع الذنوب سواء كانت كفراً أو قتلاً عمداً أو غصباً للأموال لأن قوله وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ عم الكل الثاني أن ظاهر الآية يقتضي أن مجرد الاستغفار كاف وقال بعضهم أنه مقيد بالتوبة لأنه لا ينفع الاستغفار مع الإصرار وقوله يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً معناه غفوراً رحيماً له وحذف هذا القيد لدلالة الكلام عليه فإنه لا معنى للترغيب

في الاستغفار إلا إذا كان المراد ذلك
والنوع الثاني من الكلمات المرغبة في التوبة قوله تعالى
وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً
والكسب عبارة عما يفيد جر منفعة أو دفع مضرة ولذلك لم يجز وصف الباري تعالى بذلك والمقصود منه ترغيب العاصي في الاستغفار كأنه تعالى يقول الذنب الذي أتيت به ما عادت مضرته إلي فإنني منزّه عن النفع والضرر ولا تيأس من قبول التوبة والاستغفار وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً بما في قلبه عند إقدامه على التوبة حَكِيماً تقتضي حكمته ورحمته أن يتجاوز عن التائب
النوع الثالث قوله تعالى
وَمَن يَكْسِبْ خَطِي ئَة ً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً
وذكروا في الخطيئة والإثم وجوهاً الأول أن الخطيئة هي الصغيرة والإثم هو الكبيرة وثانيها الخطيئة هي الذنب القاصر على فاعلها والإثم هو الذنب المتعدي إلى الغير كالظلم والقتل وثالثها الخطيئة ما لا ينبغي فعله سواء كان بالعمد أو بالخطأ والإثم ما يحصل بسبب العمد والدليل عليه ما قبل هذه الآية وهو قوله وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ ( النساء 111 ) فبيّن أن الإثم ما يكون سبباً لاستحقاق العقوبة
وأما قوله ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فالضمير في بِهِ إلى ماذا يعود فيه وجوه الأول ثم يرم بأحد هذين المذكورين الثاني أن يكون عائداً إلى الإثم وحده لأنه هو الأقرب كما عاد إلى التجارة في قوله وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَة ً أَوْ لَهْواً انفَضُّواْ إِلَيْهَا الثالث أن يكون عائداً إلى الكسب والتقدير يرم بكسبه بريئاً فدل يكسب على الكسب الرابع أن يكون الضمير راجعاً إلى معنى الخطيئة فكأنه قال ومن يكسب ذنباً ثم يرم به بريئاً
وأما قوله فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً فالبهتان أن ترمي أخاك بأمر منكر وهو برىء منه
وأعلم أن صاحب البهتان مذموم في الدنيا أشد الذم ومعاقب في الآخرة أشد العقاب فقوله فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً إشارة إلى ما يلحقه من الذم العظيم في الدنيا وقوله وَإِثْماً مُّبِيناً إشارة إلى ما يلحقه من العقاب العظيم في الآخرة
وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَّآئِفَة ٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَى ْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً

ثم قال تعالى وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَّائِفَة ٌ مّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ والمعنى ولولا أن الله خصك بالفضل وهو النبوّة وبالرحمة وهي العصمة لهمت طائفة منهم أن يضلوك وذلك لأن قوم طعمة كانوا قد عرفوا أن سارق ثم سألوا النبي عليه السلام أن يدفع ويجادل عنه ويبرئه عن السرقة وينسب تلك السرقة إلى اليهودي ومعنى يضلوك أي يلقوك في الحكم الباطل الخطأ
ثم قال تعالى وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنفُسَهُمْ بسبب تعاونهم على الإثم والعدوان وشهادتهم بالزور والبهتان فهم لما أقدموا على هذه الأعمال فهم الذين يعملون عمل الضالين
وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَى ْء فيه وجهان الأول قال القفال رحمه الله وما يضرونك في المستقبل فوعده الله تعالى في هذه الآية بادامة العصمة له مما يريدون من إيقاعه في الباطل الثاني أن المعنى أنهم وإن سعوا في إلقائك في الباطل فأنت ما وقعت في الباطل لأنك بنيت الأمر على ظاهر الحال وأنت ما أمرت إلا ببناء الأحكام على الظواهر
ثم قال تعالى وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ
وأعلم أنا إن فسرنا قوله وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَى ْء بأن المراد أنه تعالى وعده بالعصمة في المستقبل كان قوله وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مؤكداً لذلك الوعد يعني لما أنزل عليك الكتاب والحكمة وأمرك بتبليغ الشريعة إلى الخلق فكيف يليق بحكمته أن لا يعصمك عن الوقوع في الشبهات والضلالات وإن فسرنا تلك الآية بأن النبي عليه الصلاة والسلام كان معذوراً في بناء الحكم على الظاهر كان المعنى وأنزل عليك الكتاب والحكمة وأوجب فيها بناء أحكام الشرع على الظاهر فكيف يضرك بناء الأمر على الظاهر
ثم قال تعالى وَالْحِكْمَة َ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً
قال القفال رحمه الله هذه الآية تحتمل وجهين أحدهما أن يكون المراد ما يتعلق بالدين كما قال مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ ( الشورى 52 ) وعلى هذا الوجه تقدير الآية أنزل الله عليك الكتاب والحكمة وأطلعك على أسرارهما وأوقفك على حقائقهما مع أنك ما كنت قبل ذلك عالماً بشيء منهما فكذلك يفعل بك في مستأنف أيامك لا يقدر أحد من المنافقين على إضلالك وإزلالك
الوجه الثاني أن يكون المراد وعلمك ما لم تكن تعلم من أخبار الأولين فكذلك يعلمك من حيل المنافقين ووجوه كيدهم ما تقدر به على الاحتراز عن وجوه كيدهم ومكرهم ثم قال وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً وهذا من أعظم الدلائل على أن العلم أشرف الفضائل والمناقب وذلك لأن الله تعالى ما أعطى الخلق من العلم إلا القليل كما قال وَمَا أُوتِيتُم مّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ( الإسرار 85 ) ونصيب الشخص الواحد من علوم جميع الخلق يكون قليلاً ثم أنه سمى ذلك القليل عظيماً حيث قال وَمَا أُوتِيتُم مّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً وسمى جميع الدنيا قليلاً حيث قال قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ ( النساء 77 ) وذلك يدل على غاية شرف العلم

لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَة ٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ ابْتَغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً
وأعلم أن هذه إشارة إلى ما كانوا يتناجون فيه حين يبيتون ما لا يرضي من القول وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي رحمه الله النجوى في اللغة سر بين إثنين يقال ناجيت الرجل مناجاة ونجاء ويقال نجوت الرجل أنجو نجوى بمعنى ناجيته والنجوى قد تكون مصدراً بمنزلة المناجاة قال تعالى مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَة ٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ ( المجادلة 7 ) وقد تكون بمعنى القوم الذين يتناجون قال تعالى وَإِذْ هُمْ نَجْوَى ( الإسراء 47 )
المسألة الثانية قوله إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَة ٍ ذكر النحويون في محل مِنْ وجوهاً وتلك الوجود مبنية على معنى النجوى في هذه الآية فإن جعلنا معنى النجوى ههنا السر فيجوز أن يكون في موضع النصب لأنه استثناء الشيء عن خلاف جنسه فيكون نصباً كقوله إِلاَّ أَذًى ( آل عمران 111 ) ويجوز أن يكون رفعاً في لغة من يرفع المستثنى من غير الجنس كقوله
إلا اليعافير وإلا العيس
وأبو عبيدة جعل هذا من باب حذف المضاف فقال التقدير إلا في نجوى من أمر بصدقة ثم حذف المضاف وعلى هذا التقدي يكون مِنْ في محل النجوى لأنه أقيم مقامه ويجوز فيه وجهان إحدهما الخفض بدل من نجواهم كما تقول ما مررت بأحد إلا زيد والثاني النصب على الاستثناء فكما تقول ما جاءني أحد إلا زيداً وهذا استثناء الجنس من الاجنس وأما ان جعلنا النجوى اسماً للقوم المتناجين كان منصوباً على الاستثناء لأنه استثناء الجنس من الجنس ويجوز أن يكون مِنْ في محل الخفض من وجهين أحدهما أن تجلعه تبعاً لكثير على معنى لا خير في كثير من نجواهم إلا فيمن أمر بصدقة كقولك لا خير في القوم إلا نفر منهم والثاني أن تجعله تبعاً للنجوى كما تقول لا خير في جماعة من القوم إلا زيد إن شئت أتبعت زيداً الجماعة وإن شئت أتبعه القوم والله أعلم
المسألة الثالثة هذه الآية وإن نزلت في مناجاة بعض قوم ذلك السارق مع بعض إلا أنها في المعنى عامة والمراد لا خير فما ينتاجى فيه الناس ويخوضون فيه من الحديث إلا ما كان من أعمال الخير ثم إنه تعالى ذكر من أعمال الخير ثلاثة أنواع الأمر بالصدقة والأمر بالمعروف والاصلاح بين الناس وإنما ذكر الله هذه الأقسام الثلاثة وذلك لأن عمل الخير إما أن يكون بإيصال المنفعة أو بدفع المضرة أما إيصال الخير فاما أن يكون من الخيرات الجسمانية وهو إعطاء المال وإليه الإشارة بقوله إِلاَّ مَنْ أَمَرَ وإما أن يكون من الخيرات الروحانية وهو عبارة عن تكميل القوة النظرية بالعلوم أو تكميل القوة العملية بالأفعال الحسنة ومجموعها عبارة عن الأمر بالمعروف وإليه الإشارة بقوله بِصَدَقَة ٍ أَوْ مَعْرُوفٍ وأما إزالة الضرر فإليها

الإشارة بقوله أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَة ً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَّائِفَة ٌ مّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَى ْء وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مّن نَّجْوَاهُمْ فهو هذا بعينه أما مسعت الله يقول وَالْعَصْرِ إِنَّ الإنسَانَ لَفِى خُسْرٍ ( العصر ( 1 2 ) فهو هذا بعينه
ثم قال تعالى وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتَ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً والمعنى أن هذه الأقسام الثلاثة من الطاعات وإن كانت في غاية الشرف والجلالة إلا أن الإنسان إنما ينتفع بها إذا أتى لها لوجه الله ولطلب مرضاته فأما إذا أتى بها للرياء والسمعة انقلبت القضية فصارت من أعظم المفاسد وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن المطلوب من الأعمال الظاهرة رعاية أحوال القلب في إخلاص النيّة وتصفية الداعية عن الالتفات إلى غرض سوى طلب رضوان الله تعالى ونظيره قوله تعالى وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ ( البينه 5 ) وقوله وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى ( النجم 39 ) وقوله عليه الصلاة والسلام ( إنما الأعمال بالنيات ) وههنا سؤالان
السؤال الأول لم انتصب ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ
والجواب لأنه مفعول له والمعنى لأنه لابتغاء مرضاة الله
السؤال الثاني كيف قال إِلاَّ مَنْ أَمَرَ ثم قال وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ
والجواب أنه ذكر الأمر بالخير ليدل به على فاعله لأن الأمر بالخير لما دخل في زمرة الخيرين فبأن يدخل فاعل الخير فيهم كان ذلك أولى ويجوز أن يراد ومن يأمر بذلك فعبر عن الأمر بالفعل لأن الأمر أيضاً فعل من الأفعال
وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً
أعلم أن تعلق هذه الآية بما قبلها هو ما روي أن طعمة بن أبيرق لما رأى أن الله تعالى هتك ستره وبرأ اليهودي عن تهمة السرقة ارتد وذهب إلى مكة ونقب جدار إنسان لأجل السرقة فتهدم الجدار عليه ومات فنزلت هذه الآية أما الشقاق والمشاققة فقد ذكرنا في سورة البقرة أنه عبارة عن كون كل واحد منهما في شق آخر من الأمر أو عن كون كل واحد منهما فاعلاً فعلاً يقتضي لحوق مشقة بصاحبه وقوله مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى أي من بعد ما ظهر له بالدليل صحة دين الإسلام قال الزجاج لأن طعمة هذا كان قد تبين له بما أوحى الله تعالى من أمره وأظهر من سرقته ما دلّه ذلك على صحة نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فعادى الرسول وأظهر الشقاق وارتد عن دين الإسلام فكان ذلك إظهار الشقاق بعد ما تبين له الهدى قوله وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ

يعني غير دين الموحدين وذلك لأن طعمة ترك دين الإسلام واتبع دين عبادة الأوثان
ثم قال نُوَلّهِ مَا تَوَلَّى أي نتركه وما اختار لنفسه ونكله إلى ما توكل عليه قال بعضهم هذا منسوخ بآية السيف لا سيما في حق المرتد
ثم قال وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ يعني نلزمه جنهم وأصله الصلاء وهو لزوم النار وقت الاستدفاء وَسَاءتْ مَصِيراً انتصب مَصِيراً على التمييز كقولك فلان طاب نفساً وتصبب عرقاً وفي الآية مسائل
المسألة الأولى روي أن الشافعي رضي الله عنه سئل عن آية في كتاب الله تعالى تدل على أن الإجماع حجة فقرأ القرآن ثلثمائة مرة حتى وجد هذه الآية وتقرير الاستدلال أن اتباع غير سبيل المؤمنين حرام فوجب أن يكون اتباع سبيل المؤمنين واجباً بيان المقدمة الأولى أنه تعالى الحق الوعيد بمن يشاقق الرسول ويتبع غير سبيل المؤمنين ومشاقة الرسول وحدها موجبة لهذا الوعيد فلو لم يكن اتباع غير سبيل المؤمنين موجباً له لكان ذلك ضماً لما لا أثر له في الوعيد إلى ما هو مستقل باقتضاء ذلك الوعيد وإنه غير جائز فثبت أن اتباع غير سبيل المؤمنين حرام وإذا ثبت هذا لزم أن يكون اتباع سبيلهم واجباً وذلك لأن عدم اتباع سبيل المؤمنين يصدق عليه أنه اتباع لغير سبيل المؤمنين فإذا كان اتباع غير سبيل المؤمنين حراماً لزم أن يكون عدم اتباع سبيل المؤمنين حراماً وإذا كان عدم اتباعهم حراماً كان اتباعهم واجباً لأنه لا خروج عن طرفي النقيض
فإن قيل لا نسلم أن عدم اتباع سبيل المؤمنين يصدق عليه أنه اتباع لغير سبيل المؤمنين فإنه لا يمتنع أن لا يتبع لا سبيل المؤمنين ولا غير سبيل المؤمنين
وأجيب عن هذا السؤال بأن المتابعة عبارة عن الإتيان بمثل ما فعل الغير فإذا كان من شأن غير المؤمنين أن لا يتبعوا سبيل المؤمنين فكل من لم يتبع سبيل المؤمنين فقد أتى بمثل فعل غير المؤمنين فوجب كونه متبعاً لهم ولقائل أن يقول الاتباع ليس عبارة عن الإتيان بمثل فعل الغير وإلا لزم أن يقال الأنبياء والملائكة متبعون لآحاد الخلق من حيث أنهم يوحدون الله كما أن كل واحد من آحاد الأمة يوحد الله ومعلوم أن ذلك لا يقال بل الاتباع عبارة عن الإتيان بمثل فعل الغير لأجل أنه فعل ذلك الغير وإذا كان كذلك فمن ترك متابعة سبيل المؤمنين فهذا سؤال قوي على هذا الدليل وفيه أبحاث أُخر دقيقة ذكرناها في كتاب المحصول في علم الأصول والله أعلم
المسألة الثانية دلّت هذه الآية على وجوب عصمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) عن جميع الذنوب والدليل عليه أنه لو صدر عنه ذنب لجاز منعه وكل من منع غيره عن فعل يفعله كان مشاققاً له لأن كل واحد منهما يكون في شق غير الشق الذي يكون الآخر فيه فثبت أنه لو صدر الذنب عن الرسول لوجبت مشاقته لكن مشاقته محرمة بهذه الآية فوجب أن لا يصدر الذنب عنه
المسألة الثالثة دلّت هذه الآية على أنه يجب الاقتداء بالرسول عليه الصلاة والسلام في أفعاله إذ لو كان فعل الأمة غير فعل الرسول لزم كون كل واحد منهما في شق آخر من العمل فتحصل المشاقة لكن المشاقة محرمة فيلزم وجوب الاقتداء في أفعاله

المسألة الرابعة قال بعض المتقدمين كل مجتهد مصيب في الأصول لا بمعنى أن اعتقاد كل واحد منهم مطابق للمعتقد بل بمعنى سقوط الإثم عن المخطىء واحتجوا على قولهم بهذه الآية قالوا لأنه تعالى شرط حصول الوعيد بتبين الهدى والمعلق على الشرط عدم عند عدم الشرط وهذا يقتضي أنه إذا لم يحصل تبين الهدى أن لا يكون الوعيد حاصلاً
وجوابه وهو دلالة ظنية عند من يقول به والدليل الدال على أن وعيد الكفار قطعي أنه تعالى قال بعد هذه الآية إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ ( النساء 116 ) والقاطع لا يعارضه المظنون
المسألة الخامسة الآية دالة على أنه لا يمكن تصحيح الدين إلا بالدليل والنظر والاستدلال وذلك لأنه تعالى شرط حصول الوعيد بتبين الهدى ولو لم يكن تبين الهدى معتبراً في صحة الدين وإلا لم يكن لهذا الشرط معنى
المسألة السادسة الآية دالة على أن الهدى اسم للدليل لا للعلم إذ لو كان الهدى اسماً للعلم لكان تبين الهدى إضافة الشيء إلى نفسه وأنه فاسد
إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذالِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً بَعِيداً إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً لَّعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لاّتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً وَلأضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلاّمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ ءَاذَانَ الاٌّ نْعَامِ وَلاّمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً أُوْلَائِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً
اعلم أن هذه الآية مكررة في هذه السورة وفي تكرارها فائدتان الأولى أن عمومات الوعيد وعمومات

الوعد متعارضة في القرآن وأنه تعلى ما أعاد آية من آيات الوعيد بلفظ واحد مرتين وقد أعاد ههذه الآية دالة على العفو والمغفرة بلفظ واحد في سورة واحدة وقد اتفقوا على أنه لا فائدة في التكرير إلا التأكيد فهذا يدل على أنه تعالى خص جانب الوعد والرحمة بمزيد التأكيد وذلك يقتضي ترجيح الوعد على الوعيد
والفائدة الثانية أن الآيات المتقدمة إنما نزلت في سارق الدرع وقوله وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ ( النساء 115 ) إلى آخر الآيات إنما نزلت في ارتداده فهذه الآية إنما يحسن اتصالها بما قبلها لو كان المراد أن ذلك السارق لو لم يرتد لم يصر محروماً عن رحمتي ولكنه لما ارتد وأشرك بالله صار محروماً قطع عن رحمة الله ثم إنه أكد ذلك بأن شرح أن أمر الشرك عظيم عند الله فقال وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً بَعِيداً يعني ومن لم يشرك بالله لم يكن ضلاله بعيداً فلا جرم لا يصير محروماً عن رحمتي وهذه الناسبابت دالة قطعاً على دلالة هذه الآية على أن ما سوى الشرك مغفور قطعاً سواء حصلت التوبة أو لم تحصل ثم إنه تعالى بيّن كون الشرك ضلالاً بعيداً فقال إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً لَّعَنَهُ اللَّهُ ءانٍ ههنا معناه النفي ونظيره قوله تعالى وَإِن مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ( النساء 159 ) و يَدَّعُونَ بمعنى يعبدون لأن من عبد شيئاً فءنه يدعوه عند احتياجه إليه وقوله إِلاَّ إِنَاثاً فيه أقوال الأول أن المراد هو الألأثان وكانوا يسمونها باسم الإناث كقولهم الّلات والعزى ومناة الثالثة الأخرى واللات تأنيث الله والعزى تأنيث العزيز قال الحسن لم يكن حي من أحياء العرب إلا ولهم صنم يعبدونه ويسمونه أنثى بني فلان ويدل على صحة هذا التأويل قراءة عائشة رضي الله عنها إلا أوثاناً وقراءة ابن عباس إلا أثنا جمع وثن مثل أسد وأسد ثم أبدلت من الواو المضمومة همزة نحو قوله وَإِذَا الرُّسُلُ أُقّتَتْ ( المرسلات 11 ) قال الزجاج وجائز أن يكون أثن أصلها أثن فأتبعت الضمة الضمة
القول الثاني قوله إِلاَّ إِنَاثاً أي إلا أمواتاً وفي تسمية الأموت إناثاً وجهان الأول أن الأخبار عن الموات يكون على صيغة الأخبار عن الأنثى تقول هذه الأحجار تعجبني كما تقول هذه المرأة تعجبني الثاني أن الأنثى أخس من الذكر والميت أخس من الحي فلهذه المناسبة أطلقوا اسم الأنثى على الجمادات الموات
القول الثالث أن بعضهم كان يعبد الملائكة وكانوا يقولون الملائكة بنات الله قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَة ِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَة َ تَسْمِيَة َ الاْنثَى ( النجم 27 ) والمقصود من الآية هل إنسان أجهل ممن أشرك خالق السموات والأرض وما بينهما جماداً يسميه بالأنثى
ثم قال وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً قال المفسرون كان في كل واحد من تلك الأوثان شيطان يتراءى للسدنة يكلمهم وقال الزجاج المراد بالشيطان ههنا إبليس بدليل أنه تعالى قال بعد هذه الآية وَقَالَ لاَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً ولا شك أن قائل هذاالقول هو إبليس ولا يبعد أن الذي تراءى للسدنة هو إبليس وأما المريد فهو المبالغ في العصيان الكامل في البعد من الطاعة ويقال له مارد ومريد قال الزجاج يقال حائط ممرد أي مملس ويقال شجرة مرداء إذا تناثر ورقها والذي لم تنبت له لحية يقال له أمرد لكون موضع اللحية أملس فمن كان شديد البعد عن الطاعة يقال له مريد ومارد لأنه مملس عن طاعة الله لم يلتصق به من هذه الطاعة شيء

ثم قال تعالى لَّعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لاَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً وفيه مسألتان
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) لَّعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لاَتَّخِذَنَّ صفتان بمعنى شيطاناً مريداً جامعاً بين لعنة الله وهذا القول الشنيع واعلم أن الشيطان ههنا قد ادعى أشياء أولها قوله لاَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً الفرض في اللغة القطع والفرضة الثلمة التي تكون في طرف النهر والفرض الحز الذي في الوتر والفرض في القوس الحز الذي يشد فيه الوتر والفريضة ما فرض الله على عباده وجعله حتماً عليهم قطعاً لعذرهم وكذا قوله وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَة ً ( البقرة 237 ) أي جعلتم لهن قطعة من المال
إذا عرفت هذا فنقول معنى الآية أن الشيطان لعنه الله قال عند ذلك لأتخذن من عبادك حظاً مقدراً معيناً وهم الذين يتبعون خطواته ويقبلون وساوسه وفي التفسير عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال ( من كل ألف واحد لله وسائره للناس ولإبليس )
فإن قيل النقل والعقل يدلان على أن حزب الشيطان أكثر عدداً من حزب الله
أما النقل فقوله تعالى في صفة البشر فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مّنَ الْمُؤْمِنِينَ ( سبأ 20 ) وقال حاكياً عن الشيطان لاحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً ( الإسراء 62 ) وحكي عنه أيضاً أنه قال لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ( ص 82 83 ) ولا شك أن المخلصين قليلون
وأما العقل فهو أن الفساق والكفار أكثر عدداً من المؤمنين المخلصين ولا شك أن الفساق والكفار كلهم حزب إبليس
إذا ثبت هذا فنقول لم قال لاَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مع أن لفظ النصيب لا يتناول القسم الأكثر وإنما يتناول الأقل
والجواب أن هذا التفاوت إنما يحصل في نوع الشر أما إذا ضممت زمرة الملائكة مع غاية كثرتهم إلى المؤمنين كانت الغلبة للمؤمنين المخلصين وأيضاً فالمؤمنون وإن كانوا قليلين في العدد إلا أن منصبهم عظيم عند الله والكفار والفساق وإن كانوا كثيرين في العدد فهم كالعدم فلهذا السبب وقع اسم النصيب على قوم إبليس وثانيها وَلاَضِلَّنَّهُمْ يعني عن الحق قالت المعتزلة هذه الآية دالة على أصلين عظيمين من أصولنا
فالأصل الأول المضل هو الشيطان وليس المضل هو الله تعالى قالوا وإنما قلنا أن الآية تدل على أن المضل هو الشيطان لأن الشيطان ادعى ذلك والله تعالى ما كذبه فيه ونظيره قوله لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ وقوله لاحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً وقوله لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ( الأعراف 16 ) وأيضاً أنه تعالى ذكر وصفه بكونه مضلاً للناس في معرض الذم له وذلك يمنع من كون الإل ه موصوفاً بذلك
والأصل الثاني وهو أن أهل السنة يقولون الاضلال عبارة عن خلق الكفر والضلال وقلنا ليس الإضلال عبارة عن خلق الكفر والضلال بدليل أن إبليس وصف نفسه بأنه مضل مع أنه بالإجماع لا يقدر على خلق الضلال
والجواب أن هذاكلام إبليس فلا يكون حجة وأيضاً أن كلام إبليس في هذه المسألة مضطرب

جداً فتارة يميل إلى القدر المحض وهو قوله لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ وأخرى إلى الجبر المحض وهو قوله رَبّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى ( القصص 39 ) وتارة يظهر التردد فيه حيث قال رَبَّنَا هَؤُلاء الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا ( القصص 63 ) يعني أن قول هؤلاء الكفار نحن أغوينا فمن الذي أغوانا عن الدين ولا بدّ من انتهاء الكل بالآخرة إلى الله وثالثها قوله وَلامَنّيَنَّهُمْ واعلم أنه لما ادعى أنه يضل الخلق قال وَلامَنّيَنَّهُمْ وهذا يشعر بأنه لا حيلة له في الاضلال أقوى من إلقاء الأماني في قلوب الخلق وطلب الأماني يورث شيئين الحرص والأمل والحرص والأمل يستلزمان أكثر الأخلاق الذميمة وهما كالأمرين اللازمين لجوهر الإنسان قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( يهرم ابن آدم ويشب معه إثنان الحرص والأمل ) والحرص يستلزم ركوب أهوال الدنيا وأهوال الدين فإنه إذا اشتد حرصه على الشيء فقد لا يقدر على تحصيله إلا بمعصية الله وإيذاء الخلق وإذا طال أمله نسي الآخرة وصار غريقاً في الدنيا فلا يكاد يقدم على التوبة ولا يكاد يؤثر فيه الوعظ فيصير قلبه كالحجارة أو أشد قسوة ورابعها قوله وَلاَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتّكُنَّ ءاذَانَ الاْنْعَامِ البتك القطع وسيف باتك أي قاطع والتبتيك التقطيع قال الواحدي رحمه الله التبتيك ه هنا هو قطع آذان البحيرة بإجماع المفسرين وذلك أنهم كانوا يشقون آذان الناقة إذا ولدت خمسة أبطن وجاء الخامس ذكراً وحرموا على أنفسهم الانتفاع بها وقال آخرون المراد أنهم يقطعون آذان الأنهام نسكاً في عبادة الأثان فهم يظنون أن ذلك عبادة مع أنه في نفسه كفر وفسق خامسها قوله وَلاَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وللمفسرين ههنا قولان الأول أن المراد من تغيير خلق الله تغيير دين الله وهو قول سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب والحسن والضحاك ومجاهد والسدي والنخعي وقتادة وفي تقرير هذا القول وجهان الأول أن الله تعالى فطر الخلق على الإسلام يوم أخرجهم من ظهر آدم كالذر وأشهدهم على أنفسهم أنه ربهم وآمنوا به فمن كفر فقد غير فطرة الله التي فطر الناس عليها وهذا معنى قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( كل مولود يولد على الفطرة ) ولكن أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه
والوجه الثاني في تقرير هذا القول أن المراد من تغيير دين الله هو تبديل الحلال حراماً أو الحرام
القول الثاني حمل هذا التغيير على تغيير أحوال كلها تتعلق بالظاهر وذكروا فيه وجوهاً الأول قال الحسن المراد ما روى عبدالله بن مسعود عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لعن الله الواصلات والواشمات ) قال وذلك لأن المرأة تتوصل بهذه الأفعال إلى الزنا الثاني روي عن أنس وشهر بن حوشب وعكرمة وأبي صالح أن معنى تغيير خلق الله ههنا هو الاخصاء وقطع الآذان وفقء العيون ولهذا كان أنس يكره إخصاء الغنم وكانت العرب إذا بلغت إبل أحدهم ألفاً عوروا عين فحلها الثالث قال ابن زيد هو التخنث وأقول يجب إدخال السحاقات في هذه الآية على هذا القول لأن التخنث عبارة عن ذكر يشبه الأنثى والسحق عبارة عن ذكر يشبه الأنثى والسحق عبارة عن أنثى تشبه الذكر الرابع حكى الزجاج عن بعضهم أن الله تعالى خلق الأنعام ليركبوها ويأكلوها فحرموها على أنفسهم كالبحائر والسوائب والوصائل وخلق الشمس والقمر والنجوم مسخرة للناس ينتفعون بها فعبدها المشركون فغيروا خلق الله هذا جملة كلام المفسرين في هذا الباب ويخطر ببالي ههنا وجه آخر في تخريج الآية على سبيل المعنى وذلك لأن دخول الضرر والمرض في الشيء يكون على ثلاثة أوجه التشوش والنقصان والبطلان فادعى الشيطان لعنه الله إلقاء أكثر الخلق في مرض الدين وضرر الدين هو

قوله وَلامَنّيَنَّهُمْ وذلك لأن صاحب الأماني يشغل عقله وفكره في استخراج المعاني الدقيقة والحيل والوسائل اللطيفة في تحصيل المطالب الشهوانية والغضبية فهذا مرض روحاني من جنس التشوش وأما النقصان فالإشارة إليه بقوله وَلاَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتّكُنَّ ءاذَانَ الاْنْعَامِ وذلك لأن بتك الآذان نوع نقصان وهذا لأن الإنسان إذا صار مستغرق العقل في طلب الدنيا صار فاتر الرأي ضعيف الحزم في طلب الآخرة وأما البطلان فالإشارة إليه بقوله وَلاَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وذلك لأن التغيير يوجب بطلان الصفة الحاصلة في المدة الأولى ومن المعلوم أن من بقي مواظباً على طلب اللذات العاجلة معرضاً عن السعادات الروحانية فلا يزال يزيد في قلبه الرغبة في الدنيا والنفرة عن الآخرة ولا تزال تتزايد هذه الأحوال إلى أن يتغير القلب بالكلية فلا يخطر بباله ذكر الآخرة البتة ولا يزول عن خاطره حب الدنيا البتة فتكون حركته وسكونه وقوله وفعله لأجل الدنيا وذلك يوجب تغيير الخلقة لأن الأرواح البشرية إنما دخلت في هذا العالم الجسماني على سبيل السفر وهي متوجهة إلى عالم القيامة فإذا نسيت معادها وألفت هذه المحسوسات التي لا بدّ من انقضائها وفنائها كان هذا بالحقيقة تغييراً للخلقة وهو كما قال تعالى وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ نَسُواْ اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ( الحشر 19 ) وقال فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الاْبْصَارُ وَلَاكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ ( الحج 46 )
واعلم أنه تعالى لما حكى عن الشيطان دعاويه في الاغواء والضلال حذر الناس عن متابعته فقال وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً واعلم أن أحداً لا يختار أن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله ولكن المعنى أنه إذا فعل ما أمره الشيطان به وترك ما أمره الرحمن به صار كأنه اتخذ الشيطان ولياً لنفسه وترك ولاية الله تعالى وإنما قال خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً لأن طاعة الله تفيد المنافع العظيمة الدائمة الخالصة عن شوائب الضرر وطاعة الشيطان تفيد المنافع الثلاثة المنقطعة المشوبة بالغموم والأحزان والآلام الغالبة والجمع بينهما محال عقلاً فمن رغب في ولايته فقد فاته أشرف المطالب وأجلها بسبب أخس المطالب وأدونها ولا شك أن هذا هو الخسار المطلق
ثم قال تعالى يَعِدُهُمْ وَيُمَنّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً واعلم أنا بينا في الآية المتقدمة أن عمدة أمر الشيطان إنما هو بإلقاء الأماني في القلب وأما تبتيك الآذان وتغيير الخلقة فذاك من نتائج إلقاء الأماني في القلب ومن آثاره فلا جرم نبّه الله تعالى على ما هو العمدة في دفع تلك الأماني وهو أن تلك الأماني لا تفيد إلا الغرور والغرور هو أن يظن الأنسان بالشيء أنه نافع ولذيذ ثم يتبين اشتماله على أعظم الآلام والمضار وجميع أحوال الدنيا كذلك والعاقل يجب عليه أن لا يلتفت إلى شيء منها ومثال هذا أن الشيطان يلقي في قلب الإنسان أنه سيطول عمره وينال من الدنيا أمله ومقصوده ويستولي على أعدائه ويقع في قلبه أن الدنيا دول فربما تيسرت له كما تيسرت لغيره إلا أن كل ذلك غرور فإنه ربما لم يطل عمره وإن طال فربما لم يجد مطلوبه وإن طال عمره ووجد مطلوبه على أحسن الوجوه فإنه لا بدّ وأن يكون عند الموت في أعظم أنواع الغم والحسرة فإن المطلوب كلما كان ألذ وأشهى وكان الألف معه أدوم وأبقى كانت مفارقته أشد إيلاماً وأعظم تأثيراً في حصول الغم والحسرة فظهر أن هذه الآية منبهة على ما هو العمدة والقاعدة في هذا الباب

وفي الآية وجه آخر وهو أن الشيطان يعدهم بأنه لا قيامة ولا جزاء فاجتهدوا في استيفاء اللذات الدنيوية
ثم قال تعالى أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ واعلم أنا ذكرنا أن الغرور عبارة عن الحالة التي تحصل للإنسان عند وجدان ما يستحسن ظاهره إلا أنه يعظم تأذيه عند انكشاف الحال فيه والاستغراق في طيبات الدنيا والانهماك في معاصي الله سبحانه وإن كان في الحال لذيذاً إلا أن عاقبته عذاب جهنم وسخط الله والبعد عن رحمته فكان هذا المعنى مما يقوي ما تقدم ذكره من أنه ليس إلا الغرور
ثم قال تعالى وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً المحيص المعدل والمفر قال الواحدي رحمه الله هذه الآية تحتمل وجهين أحدهما أنه لا بدّ لهم من ورودها الثاني التخليد الذي هو نصيب الكفار وهذا غير بعيد لأن الضمير في قوله وَلاَ يَجِدُونَ عائد إلى الذين تقدم ذكرهم وهم الذين قال الشيطان لأتخذن من عبادك نصيباً مفروضاً والأظهر أن الذي يكون نصيباً للشيطان هم الكفار
ولما ذكر الله الوعيد أردفه بالوعد فقال وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ
وأعلم أنه تعالى في أكثر آيات الوعد ذكر خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ولو كان الخلود يفيد التأبيد والدوام للزم التكرار وهو خلاف الأصل فعلمنا أن الخلود عبارة عن طول المكث لا عن الدوام وأما في آيات الوعيد فإنه يذكر الخلود ولم يذكر التأبيد إلا في حق الكفار وذلك يدل على أن عقاب الفساق منقطع
ثم قال وَعْدَ اللَّهِ حَقّا قال صاحب ( الكشاف ) هما مصدران الأول مؤكد لنفسه كأنه قال وعد وعداً وحقاً مصدر مؤكد لغيره أي حق ذلك حقاً
ثم قال وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً وهو توكيد ثالث بليغ وفائدة هذه التوكيدات معارضة ما ذكره الشيطان لأتباعه من المواعيد الكاذبة والأماني الباطلة والتنبيه على أن وعد الله أولى بالقبول وأحق بالتصديق من قول الشيطان الذي ليس أحد أكذب منه وقرأ حمزة والكسائي أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً باشمام الصاد الزاي وكذلك كل صاد ساكنة بعدها دال في القرآن نحو قَصْدُ السَّبِيلِ ( النحل 9 ) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ ( الحجر 94 ) والقيل مصدر قال قولاً وقيلاً وقال ابن السكيت القيل والقال اسمان لا مصدران ثم قال تعالى
لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِى ِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُو ءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً
قوله تعالى لَّيْسَ بِأَمَانِيّكُمْ وَلا أَمَانِى ّ أَهْلِ الْكِتَابِ وفيه مسائل
المسألة الأولى الأمنية أفعولة من المنية وتمام الكلام في هذا اللفظ مذكور في قوله تعالى إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِى ( الحج 52 )
المسألة الثانية بَعِيدٍ لَّيْسَ فعل فلا بدّ من اسم يكون هو مسنداً إليه وفيه وجوه الأول ليس الثواب الذي تقدم ذكره والوعد به في قوله سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى ( النساء 122 ) الآية بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب أي

ليس يستحق بالأماني إنما يستحق بالإيمان والعمل الصالح الثاني ليس وضع الدين على أمانيكم الثالث ليس الثواب والعقاب بأمانيكم والوجه الأول أولى لأن إسناد لَّيْسَ إلى ما هو مذكور فيما قبل أولى من إسناده إلى ما هو غير مذكور
المسألة الثالثة الخطاب في قوله لَّيْسَ بِأَمَانِيّكُمْ خطاب مع من فيه قولان الأول أنه خطاب مع عبدة الأوثان وأمانيهم أن لا يكون هناك جشر ولا نشر ولا ثواب ولا عقاب وإن اعترفوا به لكنهم يصفون أصنامهم بأنها شفعاؤهم عند الله وأما أماني أهل الكتاب فهو قولهم لَن يَدْخُلَ الْجَنَّة َ إِلاَّ مَن هُوَ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى ( البقرة 111 ) وقولهم نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ( المائدة 18 ) فلا يعذبنا وقولهم لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَة ً ( البقرة 80 )
القول الثاني أنه خطاب مع المسلمين وأمانيهم أن يغفر لهم وإن ارتكبوا الكبائر وليس الأمر كذلك فإنه تعالى يخص بالعفو والرحمة من يشاء كما قال وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ( النساء 116 ) وروي أنه تفاخر المسلمون وأهل الكتاب فقال أهل الكتاب نبيّنا قبل نبيّكم وكتابنا قبل كتابكم ونحن أولى بالله منكم وقال المسلمون نبيّنا خاتم النبيّين وكتابنا ناسخ الكتب فأنزل الله تعالى هذه الآية
ثم قال تعالى مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قالت المعتزلة هذه الآية دالة على أنه تعالى لا يعفو عن شيء من السيئات وليس لقائل أن يقول هذا يشكل بالصغائر فإنها مغفورة قالوا الجواب عنه من وجهين الأول أن العام بعد التخصيص حجة والثاني أن صاحب الصغيرة قد انحبط من ثواب طاعته بمقدار عقاب تلك المعصية فههنا قد وصل جزاء تلك المعصية إليه
أجاب أصحابنا عنه بأن الكلام على عموماته قد تقدم في تفسير قوله تعالى بَلَى مَن كَسَبَ سَيّئَة ً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَة ً فَأُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( البقرة 81 ) والذي نزيده في هذه الآية وجوه الأول لم لا يجوز أن يكون المراد من هذا الجزاء ما يصل إلى الإنسان في الدنيا من الغموم والهموم والأحزان والآلام والأسقام والذي يدل على صحة ما ذكرنا القرآن والخبر أما القرآن فهو قوله تعالى وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَة ُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا ( المائدة 38 ) سمي ذلك القطع بالجزاء وأما الخبر فما روي أنه لما نزلت هذه الآية قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه كيف الصلاح بعد هذه الآية فقال غفر الله لك يا أبا بكر ألست تمرض أليس يصيبك الأذى فهو ما تجزون وعن عائشة رضي الله عنها أن رجلاً قرأ هذه الآية فقال أنجزى بكل ما نعمل لقد هلكنا فبلغ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كلامه فقال يجزى المؤمن في الدنيا بمصيبته في جسده وما يؤذيه وعن أبي هريرة رضي الله عنه لما نزلت هذه الآية بكينا وحزنا وقلنا يا رسول الله ما أبقت هذه الآية لنا شيئاً فقال عليه الصلاة والسلام ( أبشروا فإنه لا يصيب أحد منكم مصيبة في الدنيا إلا جعلها الله له كفارة حتى الشوكة التي تقع في قدمه )
الوجه الثاني في الجواب هب أن ذلك الجزاء إنما يصل إليهم يوم لقيامة لكن لم لا يجوز أن يحصل الجزاء بنقص ثواب إيمانه وسائر طاعاته ويدل عليه القرآن والخبر والمعقول
أما القرآن فقوله تعالى إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيّئَاتِ ( هود 114 )

وأما الخبر فما روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال لما نزلت هذه الآية شقت على المؤمنين مشقة شديدة وقالوا يا رسول الله وأينا لم يعمل سوءاً فكيف الجزاء فقال عليه الصلاة والسلام ( إنه تعالى وعد على الطاعة عشر حسنات وعلى المعصية الواحدة عقوبة واحدة فمن جوزي بالسيئة نقصت واحدة من عشرة وبقيت له تسع حسنات فويلٌ لمن غلبت آحاده أعشاره )
وأما المعقول فهو أن ثواب الإيمان وجميع الطاعات أعظم لا محالة من عقاب الكبيرة الواحدة والعدل يقتضي أن يحط من الأكثر مثل الأقل فيبقى حينئذٍ من الأكثر شيء زائد فيدخل الجنة بسبب تلك الزيادة
الوجه الثالث في الجواب أن هذه الآية إنما نزلت في الكفار والذي يدل على ما ذكرناه أنه تعالى قال بعد هذه الآية وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ اثْنَى ْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّة َ ( النساء 124 ) فالمؤمن الذي أطاع الله سبعين سنة ثم شرب قطرة من الخمر فهو مؤمن قد عمل الصالحات فوجب القطع بأنه يدخل الجنة بحكم هذه الآية وقولهم خرج عن كونه مؤمناً فهو باطل للدلائل الدالة على أن صاحب الكبيرة مؤمن مثل قوله وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ إلى قوله فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الاخْرَى ( الحجرات 9 ) سمي الباغي حال كونه باغياً مؤمناً وقال الْمُتَّقُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ( البقرة 187 ) سمي صاحب القتل العمد العدوان مؤمناً وقال تَعْمَلُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى اللَّهِ ( التحريم 8 ) سماه مؤمناً حال ما أمره بالتوبة فثبت أن صاحب الكبيرة مؤمن وإذا كان مؤمناً كان قوله تعالى وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ حجة في أن المؤمن الذي يكون صاحب الكبيرة من أهل الجنة فوجب أن يكون قوله مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ مخصوصاً بأهل الكفر
الوجه الرابع في الجواب هب أن النص يعم المؤمن والكافر ولكن قوله وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ( النساء 48 ) أخص منه والخاص مقدم على العام ولأن إلحاق التأويل بعمومات الوعيد أولى من إلحاقه بعمومات الوعد لأن الوفاء بالوعد كرم وإهمال الوعيد وحمله على التأويل بالتعريض جود وإحسان
المسألة الثانية دلّت الآية على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع لأن قوله مَن يَعْمَلْ سُوءا يتناول جميع المحرمات فدخل فيه ما صدر عن الكفار مما هو محرم في دين الإسلام ثم قوله يُجْزَ بِهِ يدل على وصول جزاء كل ذلك إليهم
فإن قيل لم لا يجوز أن يكون ذلك الجزاء عبارة عما يصل إليهم من الهموم والغموم في الدنيا
قلنا إنه لا بدّ وأن يصل جزاء أعمالهم الحسنة إليهم في الدنيا إذ لا سبيل إلى إيصال ذلك الجزاء إليهم في الآخرة وإذا كان كذلك فهذا يقتضي أن يكون نتعمهم في الدنيا أكثر ولذاتهم ههنا أكمل ولذلك قال عليه الصلاة والسلام ( الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر ) وإذا كان كذلك امتنع أن يقال إن جزاء أفعالهم المحظورة تصل إليهم في الدنيا فوجب القول بوصول ذلك الجزاء إليهم في الآخرة
المسألة الثالثة قالت المعتزلة دلت الآية على أن العبد فاعل ودلت أيضاً على أنه بعمل السوء يستحق الجزاء وإذا دلت الآية على مجموع هذين الأمرين فقد دلت على أن الله غير خالق لأفعال العباد وذلك من وجهين أحدهما أنه لما كان عملاً للعبد امتنع كونه عملاً لله تعالى لاستحالة حصول مقدور واحد

بقادرين والثاني أنه لو حصل بخلق الله تعالى لما استحق العبد عليه جزاء ألبتة وذلك باطل لأن الآية دالة على أن العبد يستحق الجزاء على عمله وأعلم أن الكلام على هذا النوع من الاستدلال مكرر في هذا الكتاب
ثم قال تعالى وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً
قالت المعتزلة دلت الآية على نفي الشفاعة والجواب من وجهين الأول أنا قلنا أنا هذه الآية في حق الكفار والثاني أن شفاعة الأنبياء والملائكة في حق العصاة إنما تكون بإذن الله تعالى وإذا كان كذلك فلا ولي لأحد ولا نصير لأحد إلا الله سبحانه وتعالى ثم قال تعالى
وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَائِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّة َ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً
قال مسروق لما نزل قوله مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ ( النساء 123 ) قال أهل الكتاب للمسلمين نحن وأنتم سواء فنزلت هذه الآية إلى قوله وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم يَدْخُلُونَ الْجَنَّة َ بضم الياء وفتح الخاء على ما لم يسم فاعله وكذلك في سورة مريم وفي حم المؤمن والباقون بفتح الياء وضم الخاء في هذه السورة جميعاً على أن الدخول مضاف إليهم وكلاهما حسن والأول أحسن لأنه أفخم ويدل على مثيب أدخلهم الجنة ويوافق وَلاَ يُظْلَمُونَ وأما القراءة الثانية فهي مطابقة لقوله تعالى ادْخُلُواْ الْجَنَّة َ أَنتُمْ وَأَزْواجُكُمْ ( الزخرف 70 ) ولقوله ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ( الحجر 46 ) ( ق 34 ) والله أعلم
المسألة الثانية قالوا الفرق بين مِنْ الأولى والثانية أن الأولى للتبعيض والمراد من يعمل بعض الصالحات لأن أحداً لا يقدر على أن يعمل جميع الصالحات بل المراد أنه إذا عمل بعضها حال كونه مؤمناً استحق الثواب
وأعلم أن هذه الآية من أدل الدلائل على أن صاحب الكبيرة لا يبقى مخلداً في النار بل ينقل إلى الجنة وذلك لأنا بينا أن صاحب الكبيرة مؤمن وإذا ثبت هذا فنقول إن صاحب الكبيرة إذا كان قد صلّى وصام وحج وزكى وجب بحكم هذه الآية أن يدخل الجنة ولزم بحكم الآيات الدالة على وعيد الفساق أن يدخل النار فأما أن يدخل الجنة ثم ينقل إلى لانار فذلك باطل بالإجماع أو يدخل النار ثم ينقل إلى الجنة فذلك هو الحق الذي لا محيد عنه والله أعلم

المسألة الثالثة النقير نقرة في ظهر النواة منها تنبت النخلة والمعنى أنهم لا ينقصون قدر منبت النواة
فإن قيل كيف خص الله الصالحين بأنهم لا يظلمون مع أن غيرهم كذلك كما قال وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ ( فصلت 46 ) وقال وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لّلْعَالَمِينَ ( آل عمران 108 )
والجواب من وجهين الأول أن يكون الراجع في قوله وَلاَ يُظْلَمُونَ عائداً إلى عمال السوء وعمال الصالحات جميعاً والثاني أن كل ما لا ينقص عن الثواب كان بأن لا يزيد في العقاب أولى هذا هو الحكم فيما بين الخلق فذكر الله تعالى هذا الحكم على وفق تعارف الخلق
وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّة َ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأرض وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَى ْءٍ مُّحِيطاً
أعلم أنه تعالى لما شرط حصول النجاة والفوز بالجنة بكون الإنسان مؤمناً شرح الإيمان وبين فضله من وجهين أحدهما أنه الدين المشتمل على إظهار كمال العبودية والخضوع والانقياد لله تعالى والثاني وهو أنه الذين الذي كان عليه إبراهيم عليه الصلاة والسلام وكل واحد من هذين الوجهين سبب مستقل بالترغيب في دين الإسلام
أما الوجه الأول فأعلم أن دين الإسلام مبين على أمرين الاعتقاد والعمل أما الاعتقاد فإليه الإشارة بقوله أَسْلَمَ وَجْهَهُ وذلك لأن الإسلام هو الانقياد والخضوع والوجه أحسن أعضاء الإنسان فالإنسان إذا عرف بقلبه ربن وأقر بربوبيته وبعبودية نفسه فقد أسلم وجهه لله وأما العمل فإليه الإشارة بقوله وَهُوَ مُحْسِنٌ ويدخل فيه فعل الحسنات وترك السيئات فتأمل في هذه اللفظة المختصرة واحتوائها على جميع المقاصد والأغراض وأيضاً فقوله أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ يفيد الحصر معناه أنه أسلم نفسه لله وما أسلم لغير الله وهذا تنبيه على أن كمال الإيمان لا يحصل إلا عند تفويض جميع الأمور إلى الخالق وأظهار التبري من الحول والقوة وأيضاً ففيه تنبيه على فساد طريقة من استعان بغير الله فإن المشركين كانوا يستعينون بالأصنام ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله والدهرية والطبيعيون يستعينون بالأفلاك والكواكب والطبائع وغيرها واليهود كانوا يقولون في دفع عقاب الآخرة عنهم أنهم من أولاد الأنبياء والنصارى كانوا يقولون ثالث ثلاثة فجميع الفرق قد استعانوا بغير الله وأما المعتزلة فهم في الحقيقة ما أسلمت وجوههم لله لأنهم يرون الطاعة الموجبة لثوابهم من أنفسهم وأما أهل السنة الذين فوضوا التدبير والتكوين والإبداع والخلق إلى الحق سبحانه وتعالى واعتقدوا أنه لا موجد ولا مؤثر إلا لله فهم الذين أسلموا وجوههم لله وعولوا بالكلية على فضل الله وانقطع نظرهم عن كل شيء ما سوى الله

وأما الوجه الثاني في بيان فضيلة الإسلام وهو أن محمداً عليه الصلاة والسلام إنما دعا الخلق إلى دين إبراهيم عليه السلام فلقد اشتهر عند كل الخلق أن إبراهيم عليه السلام ما كان يدعو إلا إلى الله تعالى كما قال إِنَّنِى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ ( الأنعام 19 ) وما كان يدعو إلى عبادة فلك ولا طاعة كوكب ولا سجدة صنم ولا استعانة بطبيعة بل كان دينه الدعوة إلى الله والاعراض عن كل ما سوء الله ودعوة محمد عليه الصلاة والسلام قد كان قريباً من شرع إبراهيم عليه السلام في الختان وفي الأعمال المتعلقة بالكعبة مثل الصلاة إليها والطواف بها والسعي والرمي والوقوف والحلق والكلمات العشر المذكورة في قوله وَإِذَا ابْتَلَى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ ( البقرة 124 ) ولما ثبت أن شرع محمد عليه الصلاة والسلام كان قريباً من شرع إبراهيم ثم إن شرع إبراهيم مقبول عند الكل وذلك لأن العرب لا يفتخرون بشيء كافتخارهم بالانتساب إلى إبراهيم وأما اليهود والنصارى فلا شك في كونهم مفتخرين به وإذا ثبت هذا لزم أن يكون شرع محمد مقبولاً عند الكل
وأما قوله حَنِيفاً ففيه بحثان الأول يجوز أن يكون حالاً للمتبوع وأن يكون حالاً للتابع كما إذا قلت رأيت راكباً فإنه يجوز أن يكون الراكب حالاً للمرئي والرائي
البحث الثاني الحنيف المائل ومعناه أنه مائل عن الأديان كلها لأن ما سواه باطل والحق أنه مائل عن كل ظاهر وباطن وتحقيق الكلام فيه أن الباطل وإن كان بعيداً من الباطل الذي يضاده فقد يكون قريباً من الباطل الذي يجانسه وأما الحق فإنه واحد فيكون مائلاً عن كل ما عداه كالمركز الذي يكون في غاية البعد عن جميع أجزاء الدائرة
فإن قيل ظاهر هذه الآية يقتضي أن شرع محمد عليه الصلاة والسلام نفس شرع إبراهيم وعلى هذا التقدير لم يكن محمد عليه الصلاة والسلام صاحب شريعة مستقلة وأنتم لا تقولون بذلك
قلنا يجوز أن تكون ملة إبراهيم داخلة في ملة محمد عليه الصلاة والسلام مع اشتمال هذه الملة على زوائد حسنة وفوائد جليلة
ثم قال تعالى وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً وفيه مسائل
المسألة الأولى في تعلق هذه الآية بما قبلها وفيه وجهان الأول أن إبراهيم عليه السلام لما بلغ في علو الدرجة في الدين أن اتخذه الله خليلاً كان جديراً بأن يتبع خلقه وطريقته والثاني أنه لما ذكر ملة إبراهيم ووصفه بكونه حنيفاً ثم قال عقيبه وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً أشعر هذا بأنه سبحانه إنما اتخذه خليلاً لأنه كان عالماً بذلك الشرع آتياً بتلك التكاليف ومما يؤكد هذا قوله وَإِذَا ابْتَلَى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ( البقرة 124 ) وهذا يدل على أنه سبحانه إنما جعله إماماً للخلق لأنه أتم تلك الكلمات
وإذ ثبت هذا فنقول لما دلت الآية على أن إبراهيم عليه السلام إنما كان بهذا المنصب العالي وهو كونه خليلاً لله تعالى بسبب أنه كان عاملاً بتلك الشريعة كان هذا تنبيهاً على أن من عمل بهذا الشرع لا بدّ وأن يفوز بأعظم المناصب في الدين وذلك يفيد الترغيب العظيم في هذا الدين

فإن قيل م موقع قوله وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً
قلنا هذه الجملة اعتراضية لا محل لها من الاعراب ونظيره ما جاء في الشعر من قوله
والحوادث جمة
والجملة الاعتراضية من شأنها تأكيد ذلك الكلام والأمر ههنا كذلك على ما بيناه
المسألة الثانية ذكروا في اشتقاق الخليل وجوهاً الأول أن خليل الإنسان هو الذي يدخل في خلال أموره وأسراره والذي دخل حبه في خلال أجزاء قلبه ولا شك أن ذلك هو الغاية في المحبة
قيل لما طلع الله إبراهيم عليه السلام على الملكوت الأعلى والأسفل ودعا القوم مرة بعد أخرى إلى توحيد الله ومنعهم عن عبادة النجم والقمر والشمس ومنعهم عن عبادة الأوثان ثم سلم نفسه للنيران وولده للقربان وماله للضيفان جعله الله إماماً للخلق ورسولاً إليهم وبشره بأن الملك والنبوة في ذريته فلهذه الاختصاصات سماه خليلاً لأن محبة الله لعبده عبارة عن إرادته لإيصال الخيرات والمنافع إليه
الوجه الثاني في اشتقاق اسم الخليل أنه الذي يوافقك في خلالك أقول روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( تخلفوا بأخلاق الله ) فيشبه أن إبراهيم عليه السلام لما بلغ في هذا الباب مبلغاً لم يبلغه أحد ممن تقدم لا جرم خصه الله بهذا التشريف
الوجه الثالث قال صاحب ( الكشاف ) إن الخليل هو الذي يسايرك في طريقك من الخل وهو الطريق في الرمل وهذا الوجه قريب من الوجه الثاني أو يحمل ذلك على شدة طاعته لله وعدم تمرده في ظاهره وباطنه عن حكم الله كما أخبر الله عنه بقوله إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ ( البقرة 131 )
الوجه الرابع الخليل هو الذي يسد خللك كما تسد خلله وهذا القول ضعيف لأن إبراهيم عليه السلام لما كان خليلاً مع الله امتنع أن يقال إنه يسد الخلل ومن هاهنا علمنا أنه لا يمكن تفسير الخليل بذلك أما المفسرون فقد ذكروا في سبب نزول هذا اللقب وجوها الأول أنه لما صار الرمل الذي أتى به غلمانه دقيقاً قالت امرأته هذا من عند خليلك المصري فقال إبراهيم بل هو من خليلي الله والثاني قال شهر بن حوشب هبط ملك في صورة رجل وذكر اسم الله بصوت رخيم شجي فقال إبراهيم عليه السلام اذكره مرة أخرى فقال لا أذكره مجاناً فقال لك مالي كله فذكره الملك بصوت أشجى من الأول فقال اذكره مرة ثالثة ولك أولادي فقال الملك أبشر فإني ملك لا أحتاج إلى مالك وولدك وإنما كان المقصود امتحانك فلما بذل المال والأولاد على سماع ذكر الله لا جرم اتخذه الله خليلاً الثالث روى طاوس عن ابن عباس أن جبريل والملائكة لما دخلوا على إبراهيم في صورة غلمان حسان الوجوه وظن الخليل أنهم أضيافه وذبح لهم عجلاً سميناً وقربه إليهم وقال كلوا على شرط أن تسموا الله في أوله وتحمدوه في آخره فقال جبريل أنت خليل الله فنزل هذا الوصف وأقول فيه عندي وجه آخر وهو أن جوهر الروح إذا كان مضيئاً مشرقاً علوياً قليل التعلق باللذات الجسمانية والأحوال الجسدانية ثم انضاف إلى مثل هذا الجوهر المقدس الشريف أعمال تزيده صقالة عن الكدورات الجسمانية وأفكار تزيده استنارة بالمعارف القدسية

والجلايا الإلهية صار مثل هذا الإنسان متوغلاً في عالم القدس والطهارة متبرئاً عن علائق الجسم والحس ثم لا يزال هذا الإنسان يتزايد في هذه الأحوال الشريفة إلى أن يصير بحيث لا يرى إلاّ الله ولا يسمع إلاّ الله ولا يتحرك إلاّ بالله ولا يسكن إلاّ بالله ولا يمشي إلا بالله فكان نور جلال الله قد سرى في جميع قواه الجسمانية وتخلل فيها وغاص في جواهرها وتوغل في ماهياتها فمثل هذا الإنسان هو الموصوف حقاً بأنه خليل لما أنه تخللت محبة الله في جميع قواه وإليه الإشارة بقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في دعائه ( اللّهم اجعل في قلبي نوراً وفي سمعي نوراً وفي بصري نوراً وفي عصبي نوراً )
المسألة الثالثة قال بعض النصارى لما جاز إطلاق اسم الخليل على إنسان معين على سبيل الاعزاز والتشريف فلم لا يجوز إطلاق اسم الابن في حق عيسى عليه السلام على سبيل الاعزاز والتشريف
وجوابه أن الفرق أن كونه خليللاً عبارة عن المحبة المفرطة وذلك لا يقتضي الجنسية أما الابن فإنه مشعر بالجنسية وجلّ الإل ه عن مجانسة الممكنات ومشابهة المحدثات
ثم قال تعالى وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلّ شَى ْء مُّحِيطاً وفيه مسائل
المسألة الأولى في تعلق هذه الآية بما قبلها وفيه وجوه الأول أن يكون المعنى أنه لم يتخذ الله إبراهيم خليلاً لاحتياجه إليه في أمر من الأمور كما تكون خلة الآدميين وكيف يعقل ذلك وله ملك السماوات والأرض وما كان كذلك فكيف يعقل أن يكون محتاجاً إلى البشر الضعيف وإنما اتخذه خليلاً بمحض الفضل والإحسان والكرم ولأنه لما كان مخلصاً في العبودية لا جرم خصه الله بهذا التشريف والحاصل أن كونه خليلاً يوهم الجنسية فهو سبحانه أزال وهم المجانسة والمشاكلة بهذا الكلام والثاني أنه تعالى ذكر من أول السورة إلى هذا الموضع أنواعاً كثيرة من الأمر والنهي والوعد والوعيد فبيّن هاهنا أنه إل ه المحدثات وموجد الكائنات والممكنات ومن كان كذلك كان ملكاً مطاعاً فوجب على كل عاقل أن يخضع لتكاليفه وأن ينقاد لأمره ونهيه الثالث أنه تعالى لما ذكر الوعد والوعيد ولا يمكن الوفاء بهما إلاّ عند حصول أمرين أحدهما القدرة التامة المتعلقة بجميع الكائنات والممكنات والثاني العلم التام المتعلق بجميع الجزئيات والكليات حتى لا يشتبه عليه المطيع والعاصي والمحسن والمسيء فدل على كمال قدرته بقوله وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وعلى كمال علمه بقوله وَكَانَ اللَّهُ بِكُلّ شَى ْء مُّحِيطاً الرابع أنه سبحانه لما وصف إبراهيم بأنه خليله بين أنه مع هذه الخلة عبد له وذلك لأنه له ما في السماوات وما في الأرض ويجري هذا مجرى قوله إِن كُلُّ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ إِلاَّ اتِى الرَّحْمَنِ عَبْداً ( مريم 93 ) ومجرى قوله لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ الْمَلَئِكَة ُ الْمُقَرَّبُونَ ( النساء 172 ) يعني أن الملائكة مع كمالهم في صفة القدرة والقوة في صفة العلم والحكمة لما لم يستنكفوا عن عبودية الله فكيف يمكن أن يستنكف المسيح مع ضعف بشريته عن عبودية الله كذا هاهنا يعني إذا كان كل من في السماوات والأرض ملكه في تسخيره ونفاذ إلاهيته فكيف يعقل أن يقال إن اتخاذ الله إبراهيم عليه السلام خليلاً يخرجه عن عبودية الله وهذه الوجوه كلها حسنة متناسبة
المسألة الثانية إنما قال مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ولم يقل ( من ) لأنه ذهب مذهب الجنس والذي يعقل إذا ذكر وأريد به الجنيس ذكر بما

المسألة الثالثة قوله وَكَانَ اللَّهُ بِكُلّ شَى ْء فيه وجهان أحدهما المردا منه الإحاطة في العلم والثاني المراد منه الإحاطة بالقدرة كما في قوله لعالى مُّسْتَقِيماً وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا ( الفتح 21 ) قال القائلون بهذا القول وليس لقائل أن يقول لما دل قوله وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ على كمال القدرة فلو حملنا قوله وَكَانَ اللَّهُ بِكُلّ شَى ْء مُّحِيطاً على كمال القدرة لزم التكرار وذلك لأنا نقول إن قوله للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ لا يفيد ظاهره إلاّ كونه تعالى قادراً مالكاً لكل ما في السماوات وما في الأرض ولا يفيد كونه قادراً على ما يكون خارجاً عنهما ومغايراً لهما فلما قال وَكَانَ اللَّهُ بِكُلّ شَى ْء مُّحِيطاً دل على كونه قادراً على ما لا نهاية له من المقدورات خارجاً عن هذه السماوات والأرض على أن سلسلة القضاء والقدر في جميع الكائنات والممكنات إنما تنقطع بإيجاده وتكوينه وإبداعه فهذا تقرير هذا القول إلاّ أن القول الأول أحسن لما بينا أن الإل هية والوفاء بالوعد إنما يحصل ويكمل بمجموع القدرة والعلم فلا بدّ من ذكرهما معاً وإنما قدم ذكر القدرة على ذكر العلم لما ثبت في علم الأصول أن العلم بالله هو العلم بكونه قادراً ثم بعد العلم بكونه قادراً يعلم كونه عالماً لما أن الفعل بحدوثه يدل على القدرة وبما فيه من الأحكام والإتقان يدل على العلم ولا شك أن الأول مقدم على الثاني
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى النِّسَآءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِى الْكِتَابِ فِى يَتَامَى النِّسَآءِ الَّلَاتِى لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً
اعلم أن عادة الله في ترتيب هذا الكتاب الكريم وقع على أحسن الوجوه وهو أنه يذكر شيئاً من الأحكام ثم يذكر عقيبه آيات كثيرة في الوعد والترغيب والترهيب ويخلط بها آيات دالة على كبرياء الله وجلال قدرته وعظمة إل هيته ثم يعود مرة أخرى إلى بيان الأحكام وهذا أحسن أنواع الترتيب وأقربها إلى التأثير في القلوب لأن التكليف بالأعمال الشاقة لا يقع في موقع القبول إلاّ إذا كان مقروناً بالوعد والوعيد والوعد والوعيد لا يؤثر في القلب إلاّ عند القطع بغاية كمال من صدر عنه الوعد والوعيد فظهر أن هذا الترتيب أحسن الترتيبات اللائقة بالدعوة إلى الدين الحق
إذا عرفت هذا فنقول إنه سبحانه ذكر في أول هذه السورة أنواعاً كثيرة من الشرائع والتكاليف ثم أتبعها بشرح أحوال الكافرين والمنافقين واستقصى في ذلك ثم ختم تلك الآيات الدالة على عظمة جلال الله وكمال كبريائه ثم عاد بعد ذلك إلى بيان الأحكام فقال وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى النّسَاء قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وفي الآية مسائل

المسألة الأولى قال الواحدي رحمه الله الاستفتاء طلب الفتوى يقال استفتيت الرجل في المسألة فإفتاني إفتاء وفتياً وفتوى وهما إسمان موضوعان موضع الافتاء ويقال أفتيت فلاناً في رؤيا رآها إذا عبرها قال تعالى يُوسُفُ أَيُّهَا الصّدِيقُ أَفْتِنَا فِى سَبْعِ بِقُرْءانٍ سِمَانٍ ( يوسف 46 ) ومعنى الافتاء إظهار المشكل وأصله من الفتى وهو الشاب الذي قوي وكمل فالمعنى كأنه يقوى ببيانه ما أشكل ويصير قوياً فتياً
المسألة الثانية ذكروا في سبب نزول هذه الآية قولين الأول أن العرب كانت لا تورث النساء والصبيان شيئاً من الميراث كما ذكرنا في أول هذه السورة فهذه الآية نزلت في توريثهم والثاني أن الآية نزلت في توفية الصداق لهن وكان اليتيمة تكون عند الرجل فإذا كانت جميلة ولها مال تزوج بها وأكل مالها وإذا كانت دميمة منعها من الأزواج حتى تموت فيرثها فأنزل الله هذه الآية
المسألة الثالثة اعمل أن الاستفتاء لا يقع عن ذوات النساء وإنما يقع عن حالة من أحوالهن وصفة من صفاتهم وتلك الحالة غير مذكورة في الآية فكانت مجملة غير دالة على الأمر الذي وقع عنه الاستفتاء
أما قوله تعالى وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ففيه الأول أنه رفع بالابتداء والتقدير قل الله يفتيكم في النساء والمتلو في الكتاب يفتيكم فيهن أيضاً وذلك المتلو في الكتاب هو قوله وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِى الْيَتَامَى ( النساء 3 )
وحاصل الكلام أنهم كانوا قد سألوا عن أحوال كثيرة من أحوال النساء فما كان منها غير مبين الحكم ذكر أن الله يفتيهم فيها وما كان منها مبين الحكم في الآيات المتقدمة ذكر أن تلك الآيات المتلوة تفتيهم فيها وجعل دلالة الكتاب على هذا الحكم إفتاء من الكتاب ألا ترى أنه يقال في المجاز المشهور إن كتاب الله بيّن لنا هذا الحكم وكما جاز هذا جاز أيضاً أن يقال إن كتاب الله أفتى بكذا
القول الثاني أن قوله وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ مبتدأ و فِى الْكِتَابِ خبره وهي جملة معترضة والمراد بالكتاب اللوح المحفوظ والغرض منه تعظيم حال هذه الآية التي تتلى عليهم وأن العدل والإنصاف في حقوق اليتامى من عظائم الأمور عند الله تعالى التي يجب مراعاتها والمحافظة عليها والمخل بها ظالم متهاون بما عظمه الله ونظيره في تعظيم القرآن قوله وَإِنَّهُ فِى أُمّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِى ٌّ حَكِيمٌ ( الزخرف 4 )
القول الثالث أنه مجرور على القسم كأنه قيل قل الله يفتيكم فيهن وأقسم بما يتلى عليكم في الكتاب والقسم أيضاً بمعنى التعظيم
والقول الرابع أنه عطف على المجرور في قوله فِيهِنَّ والمعنى قل الله يفتيكم فيهن وفيما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء قال الزجاج وهذا الوجه بعيد جداً نظراللً إلى اللفظ والمعنى أما اللفظ فلأنه يقتضي عطف المظهر على المضمر وذلك غير جائز كما شرحناه في قوله تَسَاءلُونَ بِهِ وَالاْرْحَامَ ( النساء 1 ) وأما المعنى فلأن هذا القول يقتضي أنه تعالى في تلك المسائل أفتى ويفتي أيضاً فيما يتلى من الكتاب ومعلوم أنه ليس المراذ ذلك وإنما المراد أنه تعالى يفتي فيما سألوا من المسائل بقي هاهنا سؤالان
السؤال الأول بم تعلق قوله فِى يَتَامَى النّسَاء

قلنا هو في الوجه الأول صلة يُتْلَى أي يتلى عليكم في معناهن وأما في سائر الوجوه فبدل من فِيهِنَّ
السؤال الثاني الإضافة في يَتَامَى النّسَاء ما هي
الجواب قال الكوفيون معناه في النساء اليتامى فأضيفت الصفة إلى الاسم كما تقول يوم الجمعة وحق اليقين وقال البصريون إضافة الصفة إلى الاسم غير جائز فلا يقال مررت بطالعة الشمس وذلك لأن الصفة والموصوف شيء واحد وإضافة الشيء إلى نفسه محال وهذا التعليل ضعيف لأن الموصوف قد يبقى بدون الوصف وذلك يدل على أن الموصوف غير الصفة ثم أن البصريين فرعوا على هذا القول وقالوا النساء في الآية غير اليتامى والمراد بالنساء أمهات اليتامى أضيفت إليهن أولادهن اليتامى ويدل عليه أن الآية نزلت في قصة أم كحة وكانت لها يتامى
ثم قال الَّلَاتِى لاَ تُؤْتُونَهُنَّ قال ابن عباس يريد ما فرض لهن من الميراث وهذا على قول من يقول نزلت الآية في ميراث اليتامى والصغار وعلى قول الباقين المراد بقوله مَا كُتِبَ لَهُنَّ الصداق
ثم قال تعالى وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ قال أبو عبيدة هذا يحتمل الرغبة والنفرة فإن حملته على الرغبة كان المعنى وترغبون في أن تنكحوهن وإن حملته على النفرة كان المعنى وترغبون عن أن تنكحوهن لدمامتهن واحتج أصحاب أبي حنيفة رحمه ا ا بهذه الآية على أنه يجوز لغير الأب والجد تزويج الصغيرة ولا حجة لهم فيها لاحتمال أن يكون المراد وترغبون أن تنكحوهن إذا بلغن والدليل على صحة قولنا أن قدامة بن مظعون زوج بنت أخيه عثمان بن مظعون من عبد الله بن عمر فخطبها المغيرة بن شعبة ورغب أمها في المال فجاؤا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال قدامة أنا عمها ووصي أبيها فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إنها صغيرة وإنها لا تزوج إلاّ بإذنها وفرق بينها وبين ابن عمر ولأنه ليس في الآية أكثر من ذكر رغبة الأولياء في نكاح اليتيمة وذلك لا يدل على الجواز
ثم قال تعالى وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وهو مجرور معطوف على يتامى النساء كانوا في الجاهلية لا يورثون الأطفال ولا النساء وإنما يورثون الرجال الذين بلغوا إلى القيام بالأمور العظيمة دون الأطفال والنساء
ثم قال تعالى وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وهو مجرور معطوف على المستضعفين وتقدير الآية وما يتلى عليكم في الكتاب يفتيكم في يتامى النساء وفي المستشعفين وفي أن تقوموا لليتامى بالقسط وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً يجازيكم عليه ولا يضيع عند الله منه شيء
وَإِنِ امْرَأَة ٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً

اعلم أن هذا من جملة ما أخبر الله تعالى أنه يفتيهم به في النساء مما لم يتقدم ذكره في هذه السورة وفيه مسائل
المسألة الأولى قال بعضهم هذه الآية شبيهة بقوله وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ ( التوبة 6 ) وقوله وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا ( الحجزات 9 ) وهاهنا ارتفع امْرَأَتُ بفعل يفسره خَافَتْ وكذا القول في جميع الآيات التي تلوناها والله أعلم
المسألة الثانية قال بعضهم خافت أي علمت وقال آخرون ظنت وكل ذلك ترك للظاهر من غير حاجة بل المراد نفس الخوف إلاّ أن الخوف لا يحصل إلاّ عند ظهور الأمارات الدالة على وقوع الخوف وتلك الأمارات هاهنا أن يقول الرجل لامرأته إنك دميمة أو شيخة وإني أريد أن أتزوج شابة جميلة والبعل هو الزوج والأصل في البعل هو السيد ثم سمي الزوج به لكونه الكسيد للزوجة ويجمع البعل على بعولة وقد سبق هذا في سورة البقرة في قوله تعالى وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ ( البقرة 228 ) والنشوز يكون من الزوجين وهو كراهة كل واحد منهما صاحبه واشتقاقه من النشز وهو ما ارتفع من الأرض ونشوز الرجل في حق المرأة أن يعرض عنها ويعبس وجهه في وجهها ويترك مجامعتها ويسيء عشرتها
المسألة الثالثة ذكر المفسرون في سبب نزول الآية وجوهاً الأول روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن الآية نزلت في ابن أبي السائب كانت له زوجة وله منها أولاد وكانت شيخة فهم بطلاقها فقالت لا تطلقني ودعني أشتغل بمصالح أولادي وأقسم في كل شهر ليالي قليلة فقال الزوج إن كان الأمر فهو أصلح لي والثاني أنها نزلت في قصة سودة بنت زمعة أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يطلقها فالتمست أن يمسكها ويجعل نوبتها لعائشة فأجاز النبي عليه الصلاة والسلام ذلك ولم يطلقها والثالث روي عن عائشة أنها قالت نزلت في المرأة تكون عند الرجل ويريد الرجل أن يستبدل بها غيرها فتقول أمسكني وتزوج بغيري وأنت في حل من النفقة والقسم
المسألة الرابعة قوله نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً المراد بالنشوز إظهار الخشونة في القول أو الفعل أو فيهما والمراد من الإعراض السكوت عن الخير والشر والمداعاة والإيذاء وذلك لأن هذا الإعراض يدل دلالة قوية على النفرة والكراهة
ثم قال تعالى فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ عاصم وحمزة والكسائي يُصْلِحَا بضم الياء وكسر اللام وحذف الألف من الإصلاح والباقون يصالحا بفتح الياء والصاد والألف بين الصاد واللام وتشديد الصاد من التصالح ويصالحا في الأصل هو يتصالحا فسكنت التاء وأدغمت في الصاد ونظيره قوله إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا ( الأعراف 38 ) أصله تداركوا سكنت التاء وأبدلت بالدال لقرب المخرج وأدغمت في الدال ثم اجتلبت الهمزة للابتداء بها فصار اداركوا

إذا عرفت هذا فنقول من قرأ يُصْلِحَا فوجهه أن الاصلاح عند التنازع والتشاجر مستعمل قال تعالى فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ ( البقرة 182 ) وقال أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ( النساء 114 ) ومن قرأ يصالحا وهو الاختيار عند الأكثرين قال أن يصالحا معناه يتوافقا وهو أليق بهذا الموضع وفي حرف عبد الله فلا جناح عليهما أن صالحا وانتصب صلحاً في هذه القراءة على المصدر وكان الأصل أن يقال تصالحا ولكنه ورد كما في قوله سِرَاجاً وَاللَّهُ أَنبَتَكُمْ مّنَ الاْرْضِ نَبَاتاً ( نوح 17 ) وقوله وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً ( المزمل 8 ) وقول الشاعر
وبعد عطائك المائة الرتاعا
المسألة الثانية الصلح إنما يحصل في شيء يكون حقاً له وحق المراأة على الزوج إما المهر أو النفقة أو القسم فهذه الثلاثة هي التي تقدر المرأة على طلبها من الزوج شاء أم أبى أما الوطء فليس كذلك لأن الزوج لا يجبر على الوطء
إذا عرفت هذا فنقول هذا الصلح عبارة عما إذا بذلت المرأة كل الصداق أو بعضه للزوج أو أسقطت عنه مؤنة النفقة أو أسقطت عنه القسم وكان غرضها من ذلك أن لا يطلقها زوجها فإذا وقعت المصالحة على ذلك كان جائزاً
ثم قال تعالى وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وفيه مسائل
المسألة الأولى الصلح مفرد دخل فيه حرف التعريف والمفرد الذي دخل فيه حرف التعريف هل يفيد العموم أم لا والذي نصرناه في أصول الفقه أنه لا يفيده وذكرنا الدلائل الكثيرة فيه
وأما إذا قلنا إنه يفيد العموم فهاهنا بحث وهو أنه إذا حصل هناك معهود سابق فحمله على العموم أولى أم على المعهود السابق الأصح أن حمله على المعهود السابق أولى وذلك لأنا إنما حملناه على الاستغراق ضرورة أنا لو لم نقل ذلك لصار مجملاً ويخرج عن الإفادة فإذا حصل هناك معهود سابق اندفع هذا المحذور فوجب حمله عليه
إذا عرفت هذه المقدمة فنقول من الناس من حمل قوله وَالصُّلْحُ خَيْرٌ على الاستغراق ومنهم من حمله على المعهود السابق يعني الصلح بين الزوجين خير من الفرقة والأولون تمسكوا به في مسألة أن الصلح على الإنكار جائز كما هو قول أبي حنيفة وأما نحن فقد بينا أن حمل هذا اللفظ على المعهود السابق أولى فاندفع استدلالهم والله أعلم
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) هذه الجملة اعتراض وكذلك قوله وَأُحْضِرَتِ الأنفُسُ الشُّحَّ إلاّ أنه اعتراض مؤكد للمطلوب فحصل المقصود
المسألة الثالثة أنه تعالى ذكر أولاً قوله فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا فقوله لاَّ جُنَاحَ يوهم أنه رخصة والغاية فيه ارتفاع الإثم فبيّن تعالى أن هذا الصلح كما أنه لا جناح فيه ولا إثم فكذلك فيه خير عظيم ومنفعة كثيرة فإنهما إذا تصالحا على شيء فذاك خير من أن يتفرقا أو يقيما على النشوز والإعراض أما قوله تعالى وَأُحْضِرَتِ الأنفُسُ الشُّحَّ
فأعلم أن الشح هو البخل والمراد أن الشح جعل

كالأمر المجاور للنفوس اللازم لها يعني أن النفوس مطبوعة على الشح ثم يحتمل أن يكن المراد منه أن المرأة تشح ببذل نصيبها وحقها ويحتمل أن يكون المراد أن الزوج يشح بأن يقضي عمره معها مع دمامة وجهها وكبر سنها وعدم حصول اللذة بمجانستها
ثم قال تعالى وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً وفيه وجوه الأول أنه خطاب مع الأزواج يعني إن تحسنوا بالإقامة على نسائكم وإن كرهمتوهن وتيقنتم النشوز والإعراض وما يؤدي إلى الأذى والخصومة فإن الله كان بما تعملون من الإحسان والتقوى خبيراً وهو يشيبكم عليه الثاني أنه خطاب للزوج والمرأة يعني وأن يحسن كل واحد منكما إلى صاحبه ويحترز عن الظلم الثالث أنه خطاب لغيرهما يعني أن تحسنوا في المصالحة بينهما وتتقوا الميل إلى واحد منهما وحكى صاحب الكشاف أن عمران بن حطان الخارجي كان من أدم بني آدم وامرأته من أجملهم فنظرت إليه يوماً ثم قالت الحمد لله فقال مالك فقالت حمدت الله على أني وإياك من أهل الجنة لأنك رزقت مثلي فشكرت ورزقت مثلك فصبرت وقد وعد الله بالجنة عباده الشاكرين والصابرين
وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَآءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَة ِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً
ثم قال تعالى وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ وفيه قولان الأول لن تقدروا على التسوية بينهن في ميل الطباع وإذا لم تقدروا عليه لم تكونوا ملكفين به قالت المعتزلة فهذا يدل على أن تكليف ما لا يطاق غير واقع ولا جائز الوقوع وقد ذكرنا أن الاشكال لازم عليهم في العلم وفي الدواعي الثاني لا تستطيعون التسوية بينهن في الأقوال والأفعال لأن التفاوت في الحب يوجب التفاوت في نتائج الحب لأن الفعل بدون الداعي ومع قيام الصارف محال
ثم قال فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ والمعنى أنكم لستم منهيين عن حصول التفاوت في الميل القلبي لأن ذلك خارج عن وسعكم ولكنكم منهيون عن إظهار ذلك التفاوت في القول والفعل روى الشافعي رحمة الله عليه عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه كان يقسم ويقول ( هذا قسمي فيما أملك وأنت أعلم بما لا أملك )
ثم قال تعالى فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَة ِ يعين تبقى لا أيما ولا ذات بعل كما أن الشيء المعلق لا يكون على الأرض ولا على السماء وفي قراءة أبي فتذروها كالمسجونة وفي الحديث ( من كانت له امرأتان يميل مع إحداهما جاء يوم القيامة وأحد شفيه مائل ) وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعث إلى أزواج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بمال فقالت عائشة إلى كل أزواج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعث عمر بمثل هذا فقالوا لا بعث إلى القرشيات بمثل هذا وإلى غيرهن بغيره فقالت للرسول ارفع رأسك وقل لعمر إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان يعدل بيننا قي القسمة بماله ونفسه فرجع الرسول فأخبره فأتم لهن جميعاً

ثم قال تعالى وَإِن تُصْلِحُواْ بالعدل في القسم وَتَتَّقُواْ الجور فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً ما حصل في القلب من الميل إلى بعضهن دون البعض
وقيل المعنى وإن تصلحوا ما مضى من ميلكم وتتداركوه بالتوبة وتتقوا في المستقبل عن مثله غفر الله لكم ذلك وهذا الوجه أولى لأن التفاوت في الميل القلبي لما كان خارجاً عن الوسع لم يكن فيه حاجة إلى المغفرة
وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً
ثم قال تعالى وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مّن سَعَتِهِ
وأعلم أنه تعالى ذكر جواز الصلح إن أرادا ذلك فإن رغبا في المفارقة فالله سبحانه بيّن جوازه بهذه الآية أيضاً ووعد لهما أن يغني كل واحد منهما عن صاحبه بعد الطلاق أو يكون المعنى أنه يغني كل واحد منهما بزوج خير من زوجه الأول ويعيش أهنأ من عيشه الأول
ثم قال وَكَانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً والمعنى أنه تعالى لما وعد كل واحد منهما بأنه يغنيه من سعته وصف نفسه بكونه واسعاً وءنما جاز وصف الله تعالى بذلك لأنه تعالى واسع الرزق واسع الفضل واسع الرحمة واسع القدرة واسع العلم فلو ذكر تعالى أنه واسع في كذا لاختص ذلك بذلك المذكور ولكنه لما ذكر الواسع وما أضافه إلى شيء معين دلّ على أنه واسع في جميع الكمالات وتحقيقه في العقل أن الموجود إما واجب لذاته وإما ممكن لذاته والواجب لذاته واحد وهو الله سبحانه وتعالى وما سواه ممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد الله الواجب لذاته وإذا كان كذلك كان كل ما سواه من الموجودات فإنما يوجد بإيجاده وتكوينه فلزم من هذا كونه واسع العلم والقدرة والحكمة والرحمة والفضل والجود والكرم وقوله حَكِيماً قال ابن عباس يريد فيما حكم ووعظ وقال الكلبي يريد فيما حكم على الزوج من إمساكها بمعروف أو تسريح بإحسان
وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأرض وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللَّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأرض وَكَانَ اللَّهُ غَنِيّاً حَمِيداً وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأرض وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِاخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذالِكَ قَدِيراً مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالاٌّ خِرَة ِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً

التالي ان شاء الله هو ج11.وج12.

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب الإبانة عن أصول الديانة علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري أبو الحسن

  كتاب الإبانة عن أصول الديانة علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري أبو الحسن بسم الله الرحمن الرحيم وهو حسبي ونعم الوكيل وصلى الله على...