الأحد، 9 أبريل 2023

ج7وج8. الروض الأنف للسهيلي

 

ج7. الروض الأنف

إسْلَامُ بَعْضِ بَنِي هَدَلٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ إنّ ثَعْلَبَةَ بْنَ سَعْيَةَ ، وَأُسَيْدَ بْنَ سَعْيَةَ ، وَأَسَدَ بْنَ عُبَيْدٍ ، وَهُمْ نَفَرٌ مِنْ بَنِي هَدَلٍ لَيْسُوا مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ وَلَا النّضِيرِ نَسَبُهُمْ فَوْقَ ذَلِكَ هُمْ بَنُو عَمّ الْقَوْمِ أَسْلَمُوا تِلْكَ اللّيْلَةَ الّتِي نَزَلَتْ فِيهَا بَنُو قُرَيْظَةَ عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
عَمْرُو بْنُ سُعْدَى
وَخَرَجَ فِي تِلْكَ اللّيْلَةِ عَمْرُو بْنُ سُعْدَى الْقُرَظِيّ ، فَمَرّ بِحَرَسِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَعَلَيْهِ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ تِلْكَ اللّيْلَةَ فَلَمّا رَآهُ قَالَ مَنْ هَذَا ؟ قَالَ أَنَا عَمْرُو بْنُ سُعْدَى - وَكَانَ عَمْرٌو قَدْ أَبَى أَنْ يَدْخُلَ مَعَ بَنِي قُرَيْظَةَ فِي غَدْرِهِمْ بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَالَ لَا أَغْدِرُ بِمُحَمّدِ أَبَدًا - فَقَالَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ حِينَ عَرَفَهُ اللّهُمّ لَا تَحْرِمْنِي إقَالَةَ عَثَرَاتِ الْكِرَامِ ثُمّ خَلّى سَبِيلَهُ . فَخَرَجَ عَلَى وَجْهِهِ حَتّى أَتَى بَابَ مَسْجِدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْمَدِينَةِ تِلْكَ اللّيْلَةَ ثُمّ ذَهَبَ فَلَمْ يُدْرَ أَيْنَ تَوَجّهَ مِنْ الْأَرْضِ إلَى يَوْمِهِ هَذَا ، فَذُكِرَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ شَأْنُهُ فَقَالَ ذَاكَ رَجُلٌ نَجّاهُ اللّهُ بِوَفَائِهِ وَبَعْضُ النّاسِ يَزْعُمُ أَنّهُ كَانَ أُوثِقَ بِرُمّةِ فِيمَنْ أُوثِقَ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ حِينَ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَصْبَحَتْ رُمّتُهُ مُلْقَاةً وَلَا يُدْرَى أَيْنَ ذَهَبَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيهِ تِلْكَ الْمَقَالَةَ وَاَللّهُ أَعْلَمُ أَيّ ذَلِكَ كَانَ .

تَحْكِيمُ سَعْدٍ فِي أَمْرِ بَنِي قُرَيْظَةَ وَرِضَاءُ الرّسُولِ بِهِ
[ ص 443 ] ( قَالَ ) فَلَمّا أَصْبَحُوا نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَتَوَاثَبَتْ الْأَوْسُ ، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ إنّهُمْ مَوَالِينَا دُونَ الْخَزْرَجِ ، وَقَدْ فَعَلْت فِي مَوَالِي إخْوَانِنَا بِالْأَمْسِ مَا قَدْ عَلِمْت - وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَبْلَ بَنِي قُرَيْظَةَ قَدْ حَاصَرَ بَنِي قَيْنُقَاعَ وَكَانُوا حُلَفَاءَ الْخَزْرَجِ ، فَنَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ فَسَأَلَهُ إيّاهُمْ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ ابْنِ سَلُولَ فَوَهَبَهُمْ لَهُ . فَلَمّا كَلّمَتْهُ الْأَوْسُ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَوْسِ أَنْ يَحْكُمَ فِيهِمْ رَجُلٌ مِنْكُمْ ؟ قَالُوا : بَلَى ، قَالَ رَسُولُ اللّهِ فَذَاكَ إلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ جَعَلَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فِي خَيْمَةٍ لِامْرَأَةِ مِنْ أَسْلَمَ ، يُقَالُ لَهَا : رُفَيْدَةُ فِي مَسْجِدِهِ كَانَتْ تُدَاوِي الْجَرْحَى ، وَتَحْتَسِبُ بِنَفْسِهَا عَلَى خِدْمَةِ مَنْ كَانَتْ بِهِ ضَيْعَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ قَالَ لِقَوْمِهِ حِينَ أَصَابَهُ السّهْمُ بِالْخَنْدَقِ اجْعَلُوهُ فِي خَيْمَةِ رُفَيْدَةَ حَتّى أَعُودَهُ مِنْ قَرِيبٍ . فَلَمّا حَكّمَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ أَتَاهُ قَوْمُهُ فَحَمَلُوهُ عَلَى حِمَارٍ قَدْ وَطّئُوا لَهُ بِوِسَادَةِ مِنْ أَدَمٍ وَكَانَ رَجُلًا جَسِيمًا جَمِيلًا ، ثُمّ أَقْبَلُوا مَعَهُ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُمْ يَقُولُونَ يَا أَبَا عَمْرٍو ، أَحْسِنْ فِي مَوَالِيك ، فَإِنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إنّمَا وَلّاك ذَلِكَ لِتُحْسِنَ فِيهِمْ فَلَمّا أَكْثَرُوا عَلَيْهِ قَالَ لَقَدْ آنَ لِسَعْدِ أَنْ لَا تَأْخُذَهُ فِي اللّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ . فَرَجَعَ بَعْضُ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ إلَى دَارِ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ ، فَنَعَى لَهُمْ رِجَالَ بَنِي قُرَيْظَةَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَيْهِمْ سَعْدٌ عَنْ كَلِمَتِهِ الّتِي سَمِعَ مِنْهُ . فَلَمّا انْتَهَى سَعْدٌ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَالْمُسْلِمِينَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قُومُوا إلَى سَيّدِكُمْ - فَأَمّا الْمُهَاجِرُونَ مِنْ قُرَيْشٍ ، فَيَقُولُونَ إنّمَا أَرَادَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْأَنْصَارَ ، وَأَمّا الْأَنْصَارُ ، فَيَقُولُونَ قَدْ عَمّ بِهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَقَامُوا إلَيْهِ فَقَالُوا : يَا أَبَا عَمْرٍو ، إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ وَلّاك أَمْرَ مَوَالِيك لِتَحْكُمَ فِيهِمْ فَقَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ : عَلَيْكُمْ بِذَلِكَ عَهْدَ اللّهِ وَمِيثَاقَهُ ، أَنّ الْحُكْمَ فِيهِمْ لَمَا حَكَمْت ؟ قَالُوا : نَعَمْ وَعَلَى مَنْ هَاهُنَا ، فِي النّاحِيَةِ الّتِي فِيهَا رَسُولُ اللّهِ وَهُوَ مُعْرِضٌ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إجْلَالًا لَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَعَمْ قَالَ سَعْدٌ فَإِنّي أَحْكُمُ فِيهِمْ أَنْ تُقْتَلَ الرّجَالُ وَتُقْسَمَ الْأَمْوَالُ وَتُسْبَى الذّرَارِيّ وَالنّسَاءُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقّاصٍ اللّيْثِيّ ، قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِسَعْدِ لَقَدْ حَكَمْت فِيهِمْ بِحُكْمِ اللّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ . [ ص 444 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : حَدّثَنِي بَعْضُ مَنْ أَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ صَاحَ وَهُمْ مُحَاصِرُو بَنِي قُرَيْظَةَ يَا كَتِيبَةَ الْإِيمَانِ ، وَتَقَدّمَ هُوَ وَالزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ ، وَقَالَ وَاَللّهِ لَأَذُوقَنّ مَا ذَاقَ حَمْزَةُ أَوْ لَأَفْتَحَنّ حِصْنَهُمْ فَقَالُوا : يَا مُحَمّدُ نَنْزِلُ عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ
Sمِنْ أَسْمَاءِ السّمَاءِ
فَصْلٌ
[ ص 443 ] وَذَكَرَ حُكْمَ سَعْدٍ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ وَقَوْلُ النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ لَهُ [ ص 444 ] لَقَدْ حَكَمْت فِيهِمْ بِحُكْمِ اللّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ هَكَذَا فِي السّيرَةِ أَرْقِعَةٍ وَفِي الصّحِيحِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ لِأَنّ الرّقِيعَ مِنْ أَسْمَاءِ السّمَاءِ لِأَنّهَا رُقِعَتْ بِالنّجُومِ وَمِنْ أَسْمَائِهَا : الْجَرْبَاءُ وَبِرْقِعُ وَفِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْبَكّائِيّ أَنّهُ عَلَيْهِ السّلَامُ قَالَ فِي حُكْمِ سَعْدٍ بِذَلِكَ طَرَقَنِي الْمَلَكُ سَحَرًا .
فَوْقِيّةُ اللّهِ سُبْحَانَهُ
وَفِيهِ مِنْ الْفِقْهِ تَعْلِيمُ حُسْنِ اللّفْظِ إذَا تَكَلّمَتْ بِالْفَوْقِ مُخْبِرًا عَنْ اللّهِ سُبْحَانَهُ أَلَا تَرَاهُ كَيْفَ قَالَ بِحُكْمِ اللّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ وَلَمْ يَقُلْ فَوْقُ عَلَى الظّرْفِ فَدَلّ عَلَى أَنّ الْحُكْمَ نَازِلٌ مِنْ فَوْقُ وَهُوَ حُكْمُ اللّهِ تَعَالَى ، وَهَذَا نَحْوٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : { يَخَافُونَ رَبّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ } [ النّحْلَ 50 ] ، أَيْ يَخَافُونَ عِقَابًا يَنْزِلُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَهُوَ عِقَابُ رَبّهِمْ . فَإِنْ قِيلَ أَوَلَيْسَ بِجَائِزِ أَنْ يُخْبَرَ عَنْهُ سُبْحَانَهُ أَنّهُ فَوْقَ سَبْعِ سَمَوَاتٍ ؟ قُلْنَا : لَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَلَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى إطْلَاقِ ذَلِكَ فَإِنْ جَازَ فَبِدَلِيلِ آخَرَ وَكَذَلِكَ قَوْلُ زَيْنَبَ زَوّجَنِي اللّهُ مِنْ نَبِيّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ وَإِنّمَا مَعْنَاهُ أَنّ تَزْوِيجَهُ إيّاهَا نَزَلَ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ وَلَا يَبْعُدُ فِي الشّرْعِ وَصْفُهُ سُبْحَانَهُ بِالْفَوْقِ عَلَى الْمَعْنَى الّذِي يَلِيقُ بِجَلَالِهِ لَا عَلَى الْمَعْنَى الّذِي يَسْبِقُ لِلْوَهْمِ مِنْ التّحْدِيدِ وَلَكِنْ لَا يُتَلَقّى إطْلَاقُ ذَلِكَ الْوَصْفِ مِمّا تَقَدّمَ مِنْ الْآيَةِ وَالْحَدِيثَيْنِ لِارْتِبَاطِ حَرْفِ الْجَرّ بِالْفِعْلِ حَتّى صَارَ وَصْفًا لَهُ لَا وَصْفًا لِلْبَارِي سُبْحَانَهُ وَقَدْ أَمْلَيْنَا فِي حَدِيثِ الْأُمّةِ الّتِي قَالَ لَهَا : أَيْنَ اللّهُ ؟ قَالَتْ فِي السّمَاءِ مَسْأَلَةٌ بَدِيعَةٌ شَافِيَةٌ رَافِعَةٌ لِكُلّ لَبْسٍ وَالْحَمْدُ لِلّهِ .

تَنْفِيذُ الْحُكْمِ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : [ ص 445 ] ثُمّ اسْتُنْزِلُوا ، فَحَبَسَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْمَدِينَةِ فِي دَارِ بِنْتِ الْحَارِثِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي النّجّارِ ثُمّ خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى سُوقِ الْمَدِينَةِ ، الّتِي هِيَ سُوقُهَا الْيَوْمَ فَخَنْدَقَ بِهَا خَنَادِقَ ثُمّ بَعَثَ إلَيْهِمْ فَضَرَبَ أَعْنَاقَهُمْ فِي تِلْكَ الْخَنَادِقِ يُخْرَجُ بِهِمْ إلَيْهِ أَرْسَالًا ، وَفِيهِمْ عَدُوّ اللّهِ حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ ، وَكَعْبُ بْنُ أَسَدٍ ، رَأْسُ الْقَوْمِ وَهُمْ سِتّ مِائَةٍ أَوْ سَبْعُ مِائَةٍ وَالْمُكْثِرُ لَهُمْ يَقُولُ كَانُوا بَيْن الثّمَانِ مِائَةٍ وَالتّسْعِ مِائَةٍ . وَقَدْ قَالُوا لِكَعْبِ بْنِ أَسَدٍ ، وَهُمْ يُذْهَبُ بِهِمْ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَرْسَالًا : يَا كَعْبُ مَا تَرَاهُ يَصْنَعُ بِنَا ؟ قَالَ أَفِي كُلّ مَوْطِنٍ لَا تَعْقِلُونَ ؟ أَلَا تَرَوْنَ الدّاعِيَ لَا يَنْزِعُ وَأَنّهُ مَنْ ذُهِبَ بِهِ مِنْكُمْ لَا يَرْجِعُ ؟ هُوَ وَاَللّهِ الْقَتْلُ فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ الدّأْبَ حَتّى فَرَغَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
مَقْتَلُ حُيَيّ بْنِ أَخْطَبَ
[ ص 446 ] وَأُتِيَ بِحُيَيّ بْنِ أَخْطَبَ عَدُوّ اللّهِ وَعَلَيْهِ حُلّةٌ لَهُ فُقّاحِيّةٌ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : فُقّاحِيّةٌ ضَرْبٌ مِنْ الْوَشْيِ - قَدْ شَقّهَا عَلَيْهِ مِنْ كُلّ نَاحِيَةٍ قَدْرَ أُنْمُلَةٍ لِئَلّا يَسْلُبَهَا ، مَجْمُوعَةً يَدَاهُ إلَى عُنُقِهِ بِحَبْلِ . فَلَمّا نَظَرَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ أَمَا وَاَللّهِ مَا لُمْت نَفْسِي فِي عَدَاوَتِك ، وَلَكِنّهُ مَنْ يَخْذُلْ اللّهُ يُخْذَلْ لَمّا أَقْبَلَ عَلَى النّاسِ فَقَالَ أَيّهَا النّاسُ إنّهُ لَا بَأْسَ بِأَمْرِ اللّهِ كِتَابٌ وَقَدَرٌ وَمَلْحَمَةٌ كَتَبَهَا اللّهُ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ ثُمّ جَلَسَ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ فَقَالَ جَبَلُ بْنُ جَوّالٍ الثّعْلَبِيّ :
لَعَمْرُك مَا لَامَ ابْنُ أَخْطَبَ نَفْسَهُ ... وَلَكِنّهُ مَنْ يَخْذُلْ اللّهُ يُخْذَلْ
لَجَاهَدَ حَتّى أَبْلَغَ النّفْسَ عُذْرَهَا ... وَقَلْقَلَ يَبْغِي الْعِزّ كُلّ مُقَلْقَلِ
الْمَرْأَةُ الْقَتِيلُ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزّبَيْرِ ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ ، عَنْ عَائِشَةَ أُمّ الْمُؤْمِنِينَ أَنّهَا قَالَتْ لَمْ يُقْتَلْ مِنْ نِسَائِهِمْ إلّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ . قَالَتْ وَاَللّهِ إنّهَا لَعِنْدِي تَحَدّثُ مَعِي ، وَتَضْحَكُ ظَهْرًا وَبَطْنًا ، وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقْتُلُ رِجَالَهَا فِي السّوقِ إذْ هَتَفَ هَاتِفٌ بِاسْمِهَا : أَيْنَ فُلَانَةُ ؟ قَالَتْ أَنَا وَاَللّهِ قَالَتْ قُلْت لَهَا : وَيْلَك ، مَا لَك ؟ قَالَتْ أُقْتَلُ قُلْت : وَلِمَ ؟ قَالَتْ لِحَدَثِ أَحْدَثْته ، قَالَتْ فَانْطُلِقَ بِهَا ، فَضُرِبَتْ عُنُقُهَا ، فَكَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ فَوَاَللّهِ مَا أَنْسَى عَجَبًا مِنْهَا ، طِيبَ نَفْسِهَا ، وَكَثْرَةَ ضَحِكِهَا ، وَقَدْ عَرَفَتْ أَنّهَا تُقْتَلُ [ ص 447 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَهِيَ الّتِي طَرَحَتْ الرّحَا عَلَى خَلّادِ بْنِ سُوَيْدٍ ، فَقَتَلَتْهُ .
شَأْنُ الزّبِيرِ بْن بَاطَا
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ كَانَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ الشّمّاسِ كَمَا ذَكَرَ لِي ابْنُ شِهَابٍ الزّهْرِيّ ، أَتَى الزّبِيرَ بْنَ بَاطَا الْقُرَظِيّ وَكَانَ يُكَنّى أَبَا عَبْدِ الرّحْمَنِ وَكَانَ الزّبِيرُ قَدْ مَنّ عَلَى ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمّاسٍ فِي الْجَاهِلِيّةِ . ذَكَرَ لِي بَعْضُ وَلَدِ الزّبِيرِ أَنّهُ كَانَ مَنّ عَلَيْهِ يَوْمَ بُعَاثٍ أَخَذَهُ فَجَزّ نَاصِيَتَهُ ثُمّ خَلّى سَبِيلَهُ - فَجَاءَهُ ثَابِتٌ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ فَقَالَ يَا أَبَا عَبْدِ الرّحْمَنِ هَلْ تَعْرِفُنِي ؟ قَالَ وَهَلْ يَجْهَلُ مِثْلِي مِثْلَك ، قَالَ إنّي قَدْ أَرَدْت أَنْ أَجْزِيَك بِيَدِك عِنْدِي ، قَالَ إنّ الْكَرِيمَ يَجْزِي الْكَرِيمَ ثُمّ أَتَى ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّهُ قَدْ كَانَتْ لِلزّبِيرِ عَلَيّ مِنّةٌ وَقَدْ أَحْبَبْت أَنْ أَجْزِيَهُ بِهَا ، فَهَبْ لِي دَمَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هُوَ لَك ، فَأَتَاهُ فَقَالَ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ وَهَبَ لِي دَمَك ، فَهُوَ لَك ، قَالَ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا أَهْلَ لَهُ وَلَا وَلَدَ فَمَا يَصْنَعُ بِالْحَيَاةِ ؟ قَالَ فَأَتَى ثَابِتٌ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي يَا رَسُولَ اللّهِ هَبْ لِي امْرَأَتَهُ وَوَلَدَهُ قَالَ هُمْ لَك . قَالَ فَأَتَاهُ فَقَالَ قَدْ وَهَبَ لِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَهْلَك وَوَلَدَك ، فَهُمْ لَك ، قَالَ أَهْلُ بَيْتٍ بِالْحِجَازِ لَا مَالَ لَهُمْ فَمَا بَقَاؤُهُمْ عَلَى ذَلِكَ ؟ فَأَتَى ثَابِتٌ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ مَالَهُ قَالَ هُوَ لَك . فَأَتَاهُ ثَابِتٌ فَقَالَ قَدْ أَعْطَانِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَالَك ، فَهُوَ لَك ، قَالَ أَيْ ثَابِتُ مَا فَعَلَ الّذِي كَأَنّ وَجْهَهُ مِرْآةٌ صِينِيّةٌ يَتَرَاءَى فِيهَا عَذَارَى الْحَيّ كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ ؟ قَالَ قُتِلَ قَالَ فَمَا فَعَلَ سَيّدُ الْحَاضِرِ وَالْبَادِي حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ ؟ قَالَ قُتِلَ قَالَ فَمَا فَعَلَ مُقَدّمَتُنَا إذَا شَدَدْنَا ، وَحَامِيَتُنَا إذَا فَرَرْنَا ، عَزّالُ بْنُ سَمَوْأَلٍ ؟ قَالَ قُتِلَ قَالَ فَمَا فَعَلَ الْمَجْلِسَانِ ؟ يَعْنِي بَنِي كَعْبِ بْنِ قُرَيْظَةَ وَبَنِيّ عَمْرِو بْنِ قُرَيْظَةَ ؟ قَالَ ذَهَبُوا قُتِلُوا . قَالَ فَإِنّي أَسْأَلُك يَا ثَابِتُ بِيَدِي عِنْدَك إلّا أَلْحَقْتنِي بِالْقَوْمِ فَوَاَللّهِ مَا فِي الْعَيْشِ بَعْدَ هَؤُلَاءِ مِنْ خَيْرٍ فَمَا أَنَا بِصَابِرِ لِلّهِ قَتْلَةُ دَلْوٍ نَاضِحٍ حَتّى أَلْقَى الْأَحِبّةَ . فَقَدّمَهُ ثَابِتٌ فَضَرَبَ عُنُقَهُ . فَلَمّا بَلَغَ أَبَا بَكْرٍ الصّدّيقَ قَوْلُهُ أَلْقَى الْأَحِبّةَ . قَالَ يَلْقَاهُمْ وَاَللّهِ فِي نَارِ جَهَنّمَ خَالِدًا مُخَلّدًا . [ ص 448 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَبَلَةَ دَلْوٍ نَاضِحٍ . وَقَالَ زُهَيْرُ بْنُ أَبِي سُلْمَى فِي " قَبَلَةٍ " :
وَقَابِلٍ يَتَغَنّى كُلّمَا قَدَرَتْ ... عَلَى الْعَرَاقِيّ يَدَاهُ قَائِمًا دَفَقَا
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُرْوَى : وَقَابِلٍ يُتَلَقّى ، يَعْنِي قَابِلَ الدّلْوِ يُتَنَاوَلُ .
عَطِيّةُ الْقُرَظِيّ وَرِفَاعَةُ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ أَمَرَ بِقَتْلِ كُلّ مَنْ أَنْبَتَ مِنْهُمْ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي شُعْبَةُ بْنُ الْحَجّاجِ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ ، عَنْ عَطِيّةَ الْقُرَظِيّ ، قَالَ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ أَمَرَ أَنْ يُقْتَلَ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ كُلّ مَنْ أَنْبَتَ مِنْهُمْ وَكُنْت غُلَامًا ، فَوَجَدَنِي لَمْ أُنْبِتْ فَخَلّوْا سَبِيلِي . [ ص 449 ] قَالَ وَحَدّثَنِي أَيّوبُ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ أَخُو بَنِي عَدِيّ بْنِ النّجّارِ أَنّ سَلْمَى بِنْتَ قَيْسٍ ، أُمّ الْمُنْذِرِ أُخْتَ سَلِيطِ ابْنِ أُخْتِ سَلِيطِ بْنِ قَيْسٍ - وَكَانَتْ إحْدَى خَالَاتِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ صَلّتْ مَعَهُ الْقِبْلَتَيْنِ وَبَايَعَتْهُ بَيْعَةَ النّسَاءِ - سَأَلَتْهُ رِفَاعَةُ بْنُ سَمَوْأَلٍ الْقُرَظِيّ ، وَكَانَ رَجُلًا قَدْ بَلَغَ فَلَاذَ بِهَا ، وَكَانَ يَعْرِفُهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ فَقَالَتْ يَا نَبِيّ اللّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي ، هَبْ لِي رِفَاعَةَ ، فَإِنّهُ قَدْ زَعَمَ أَنّهُ سَيُصَلّي وَيَأْكُلُ لَحْمَ الْجَمَلِ قَالَ فَوَهَبَهُ لَهَا فَاسْتَحْيَتْهُ
Sكَيّسَةُ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ حَبْسَ بَنِي قُرَيْظَةَ فِي دَارِ بِنْتِ الْحَدَثِ كَذَا وَقَعَ فِي هَذَا الْكِتَابِ [ ص 445 ] وَاسْمُهَا : كَيّسَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ كُرَيْزِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ ، وَكَانَتْ تَحْتَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذّابِ ، ثُمّ خَلَفَ عَلَيْهَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ ، وَكَيّسَةُ أُخْرَى مَذْكُورَةٌ فِي النّسَاءِ وَهِيَ بِنْتُ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ وَكَيّسَةُ بِنْتُ أَبِي بَكْرَة ، رَوَتْ عَنْ أَبِيهَا عَنْ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَنّهُ كَانَ يَنْهَى عَنْ الْحِجَامَةِ يَوْمَ الثّلَاثَاءِ أَشَدّ النّهْيِ وَيَقُولُ فِيهِ سَاعَةٌ لَا يَرْقَأُ فِيهَا الدّمُ وَأَمّا كَيْسَةُ بِسُكُونِ الْيَاءِ فَهِيَ بِنْتُ أَبِي كَثِيرٍ تَرْوِي عَنْ أُمّهَا عَنْ عَائِشَةَ فِي الْخَمْرِ لَا طَيّبَ اللّهُ مَنْ تَطَيّبَ بِهَا ، وَلَا شَفَى مَنْ اسْتَشْفَى بِهَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيّ فِي الْأَشْرِبَةِ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْكِتَابِ وَوَقَعَ اسْمُهَا فِي السّيرَةِ مِنْ غَيْرِ رِوَايَةِ ابْنِ هِشَامٍ : زَيْنَبُ بِنْتُ الْحَارِثِ النّجّارِيّةُ فَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَأَمّا كَيّسَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ فَهِيَ الّتِي أُنْزِلَ فِي دَارِهَا وَفْدُ بَنِي حَنِيفَةَ وَسَيَأْتِي ذِكْرُهَا .
رُفَيْدَةُ
وَذَكَرَ رُفَيْدَةَ وَهِيَ امْرَأَةٌ مِنْ أَسْلَمَ الّذِي كَانَ سَعْدٌ يُمَرّضُ فِي خَيْمَتِهَا لَمْ يَذْكُرْهَا أَبُو عُمَرَ وَزَادَهَا أَبُو عَلِيّ الْغَسّانِيّ فِي كِتَابِ أَبِي عُمَرَ حَدّثَنِي بِتِلْكَ الزّوَائِدِ أَبُو بَكْرِ بْنُ طَاهِرٍ عَنْهُ وَحَدّثَنِي عَنْهُ أَيْضًا عَنْ أَبِي عُمَرَ أَنّهُ قَالَ لِأَبِي عَلِيّ أَمَانَةُ اللّهِ فِي عُنُقِك ، مَتَى عَثَرْت عَلَى اسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ الصّحَابَةِ لَمْ أَذْكُرْهُ إلّا أَلْحَقْته فِي كِتَابِي الّذِي فِي الصّحَابَةِ .
غَزْوَةُ الْخَنْدَقِ
فَصْلٌ
[ ص 446 ] وَذَكَرَ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ ثَعْلَبَةَ بْنَ سَعْيَةَ ، وَأَسَدَ بْنَ سَعْيَةَ ، وَأُسَيْدَ بْنَ سَعْيَةَ وَهُمْ مِنْ بَنِي هَدَلٍ وَقَدْ تَكَلّمْنَا فِي الْجُزْءِ الثّانِي مِنْ هَذَا الْكِتَابِ عَلَى سَعْيَةَ وَسُعْنَةَ بِالنّونِ وَذَكَرْنَا الِاخْتِلَافَ فِي أَسِيدٍ وَأُسَيْدٍ وَذَكَرْنَا خَبَرًا عَجِيبًا لِزَيْدِ بْنِ سَعْيَةَ بِالْيَاءِ وَمَنْ قَالَ مِنْ النّسّابِينَ هَدْلٌ بِسُكُونِ الدّالِ فِي بَنِي هَدَلٍ فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إعَادَتِهِ .
قَتْلُ الْمُرْتَدّةِ
وَأَمّا حَدِيثُ الْمَرْأَةِ الْمَقْتُولَةِ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ فَفِيهَا دَلِيلٌ لِمَنْ قَالَ بِقَتْلِ الْمُرْتَدّةِ مِنْ النّسَاءِ أَخْذًا بِعُمُومِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ مَنْ بَدّلَ دِينَهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مَعَ الْعُمُومِ قُوّةٌ أُخْرَى ، وَهُوَ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالْعِلّةِ وَهُوَ التّبْدِيلُ وَالرّدّةُ وَلَا حُجّةَ مَعَ هَذَا لِمَنْ زَعَمَ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاق ِ بِأَنْ لَا تُقْتَلَ الْمَرْأَةُ لِنَهْيِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ عَنْ قَتْلِ النّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ وَلِلِاحْتِجَاجِ لِلْفَرِيقَيْنِ وَمَا نَزَلَ بِهِ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَوْطِنٌ غَيْرُ هَذَا .
الزّبِيرُ بْنُ بَاطَا
فَصْلٌ
[ ص 447 ] وَذَكَرَ حَدِيثَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ مَعَ الزّبِيرِ بْنِ بَاطَا ، وَهُوَ الزّبِيرُ بِفَتْحِ الزّايِ وَكَسْرِ الْبَاءِ جَدّ الزّبِيرِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ الْمَذْكُورِ فِي الْمُوَطّأِ فِي كِتَابِ النّكَاحِ وَاخْتُلِفَ فِي الزّبِيرِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ فَقِيلَ الزّبِيرُ بِفَتْحِ الزّايِ وَكَسْرِ الْبَاءِ كَاسْمِ جَدّهِ وَقِيلَ الزّبَيْرُ وَهُوَ قَوْلُ الْبُخَارِيّ فِي التّارِيخِ . [ ص 448 ] وَذَكَرَ فِيهِ قَوْلَ الزّبِيرِ فَمَا أَنَا بِصَابِرِ لِلّهِ فَتْلَةَ دَلْوٍ نَاضِحِ
وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ : إنّمَا هُوَ قَبَلَةُ دَلْوٍ بِالْقَافِ وَالْبَاءِ وَقَابِلُ الدّلْوِ هُوَ الّذِي يَأْخُذُهَا مِنْ الْمُسْتَقَى . وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ الْحَدِيثَ فِي الْأَقْوَالِ عَلَى غَيْرِ مَا قَالَاهُ جَمِيعًا ، فَقَالَ قَالَ الزّبِيرُ يَا ثَابِتُ أَلْحِقْنِي بِهِمْ فَلَسْت صَابِرًا عَنْهُمْ إفْرَاغَةُ دَلْوٍ .
الْإِنْبَاتُ أَصْلٌ فِي مَعْرِفَةِ الْبُلُوغِ
وَذَكَرَ حَدِيثَ عَطِيّةَ الْقُرَظِيّ ، وَهُوَ جَدّ مُحَمّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ ، وَذَكَرَ أَنّهُ لَمْ يَكُنْ أَنْبَتَ فَتُرِكَ فَفِي هَذَا أَنّ الْإِنْبَاتَ أَصْلٌ فِي مَعْرِفَةِ الْبُلُوغِ إذَا جُهِلَ الِاحْتِلَامُ وَلَمْ تُعْرَفْ سِنُوهُ .
حُلّةُ حُيَيّ
وَذَكَرَ حُيَيّ بْنَ أَخْطَبَ حِينَ قُدّمَ إلَى الْقَتْلِ وَعَلَيْهِ حُلّةٌ فُقّاحِيّةٌ . الْحُلّةُ : إزَارٌ وَرِدَاءٌ وَأَصْلُ تَسْمِيَتِهَا بِهَذَا إذَا كَانَ الثّوْبَانِ جَدِيدَيْنِ كَمَا حَلّ طَيّهُمَا ، فَقِيلَ لَهُ حُلّةٌ لِهَذَا ، ثُمّ اسْتَمَرّ عَلَيْهِ الِاسْمُ قَالَهُ الْخَطّابِيّ . وَقَوْلُهُ فُقّاحِيّةٌ نُسِبَتْ إلَى الْفُقّاحِ وَهُوَ الزّهْرُ إذَا انْشَقّتْ أَكِمّتُهُ وَانْضَرَجَتْ بَرَاعِيمُهُ وَتَفَتّقَتْ أَخْفِيَتُهُ فَيُقَالُ لَهُ حِينَئِذٍ فَقّحَ وَهُوَ فُقّاحٌ . وَالْقَنَابِعُ أَيْضًا فِي مَعْنَى الْبَرَاعِيمِ وَاحِدُهَا : قُنْبُعَةٌ وَأَمّا الْفُقّاعُ بِالْعَيْنِ فَهُوَ الْفِطْرُ وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا : آذَانُ الْكَمْأَةِ مِنْ كِتَابِ النّبَاتِ . [ ص 449 ] شُقَحِيّةٌ وَهُوَ سَنْحُ الْبُسْرِ إذَا تَلَوّنَ . قَالَهُ الْخَطّابِيّ . وَلَكِنّهُ مَنْ يَخْذُلْ اللّهَ يُخْذَلْ
بِنَصْبِ الْهَاءِ مِنْ اسْمِ اللّهِ وَيُصَحّحُ هَذِهِ الرّوَايَةَ أَنّ فِي الْخَبَرِ قَوْلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَلَمْ يُمَكّنْ اللّهُ مِنْك ؟ فَقَالَ بَلَى ، وَلَقَدْ قَلْقَلْت كُلّ مُقَلْقَلِ وَلَكِنْ مَنْ يَخْذُلْك يُخْذَلْ فَقَوْلُهُ يَخْذُلْك كَقَوْلِ الْآخَرِ فِي الْبَيْتِ وَلَكِنّهُ مَنْ يَخْذُلْ اللّهَ يُخْذَلْ
لِأَنّهُ إنّمَا نَظَمَ فِي الْبَيْتِ كَلَامَ حُيَيّ .
سَلْمَى بِنْتُ أَيّوبَ
وَذَكَرَ حَدِيثَهُ عَنْ أَيّوبَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ وَأَلْفَيْت فِي حَاشِيَةِ الشّيْخِ قَالَ وَقَعَ فِي تَارِيخِ الْبُخَارِيّ أَنّ أَيّوبَ نَفْسَهُ هُوَ الْمُخْبِرُ أَنّ سَلْمَى بِنْتَ قَيْسٍ هِيَ سَلْمَى بِنْتُ أَيّوبَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ وَهُوَ الصّحِيحُ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
سَلْمَى بِنْتُ قَيْسٍ
وَقَوْلُهُ عَنْ سَلْمَى بِنْتِ قَيْسٍ ، هِيَ سَلْمَى بِنْتُ قَيْسِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَدِيّ بْنِ عَامِرِ بْنِ غَنْمِ بْنِ عَدِيّ بْنِ النّجّارِ .

الرّسُولُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُقَسّمُ فَيْءَ بَنِي قُرَيْظَةَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَسّمَ أَمْوَالَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَنِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَأَعْلَمَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ سُهْمَانَ الْخَيْلِ وَسُهْمَانَ الرّجَالِ وَأَخْرَجَ مِنْهَا الْخُمُسَ فَكَانَ لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ الْفَرَسُ سَهْمَانِ وَلِفَارِسِهِ سَهْمٌ وَلِلرّاجِلِ مَنْ لَيْسَ لَهُ فَرَسٌ سَهْمٌ . وَكَانَتْ الْخَيْلُ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ سِتّةً وَثَلَاثِينَ فَرَسًا ، وَكَانَ أَوّلَ فَيْءٍ وَقَعَتْ فِيهِ السّهْمَانُ وَأُخْرِجَ مِنْهَا الْخُمُسُ فَعَلَى سُنّتِهَا وَمَا مَضَى مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيهَا وَقَعَتْ الْمَقَاسِمُ وَمَضَتْ السّنّةُ فِي الْمَغَازِي . [ ص 450 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَعْدَ بْنَ زَيْدٍ الْأَنْصَارِيّ أَخَا بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ بِسَبَايَا مِنْ سَبَايَا بَنِي قُرَيْظَةَ إلَى نَجْدٍ ، فَابْتَاعَ لَهُمْ بِهَا خَيْلًا وَسِلَاحًا .
شَأْنُ رَيْحَانَةَ
وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ اصْطَفَى لِنَفْسِهِ مِنْ نِسَائِهِمْ رَيْحَانَةَ بِنْتَ عَمْرِو بْنِ خُنَافَةَ إحْدَى نِسَاءِ بَنِي عَمْرِو بْنِ قُرَيْظَةَ فَكَانَتْ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى تُوُفّيَ عَنْهَا وَهِيَ فِي مُلْكِهِ وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَرَضَ عَلَيْهَا أَنْ يَتَزَوّجَهَا ، وَيَضْرِبَ عَلَيْهَا الْحِجَابَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ بَلْ تَتْرُكُنِي فِي مُلْكِك ، فَهُوَ أَخَفّ عَلَيّ وَعَلَيْك ، فَتَرَكَهَا . وَقَدْ كَانَتْ حِينَ سَبَاهَا قَدْ تَعَصّتْ بِالْإِسْلَامِ وَأَبَتْ إلّا الْيَهُودِيّةَ فَعَزَلَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَوَجَدَ فِي نَفْسِهِ لِذَلِكَ مِنْ أَمْرِهَا . فَبَيْنَا هُوَ مَعَ أَصْحَابِهِ إذْ سَمِعَ وَقْعَ نَعْلَيْنِ خَلْفَهُ فَقَالَ إنّ هَذَا لِثَعْلَبَةَ بْنِ سَعْيَةَ يُبَشّرُنِي بِإِسْلَامِ رَيْحَانَةَ فَجَاءَهُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ قَدْ أَسْلَمَتْ رَيْحَانَةُ فَسَرّهُ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهَا

مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ فِي الْخَنْدَقِ وَبَنِيّ قُرَيْظَةَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِي أَمْرِ الْخَنْدَقِ ، وَأَمَرَ بَنِي قُرَيْظَةَ مِنْ الْقُرْآنِ الْقِصّةُ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ ، يَذْكُرُ فِيهَا مَا نَزَلَ مِنْ الْبَلَاءِ وَنِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ وَكِفَايَتِهِ إيّاهُمْ فَرّجَ ذَلِكَ عَنْهُمْ بَعْدَ مَقَالَةِ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ النّفَاقِ [ ص 451 ] { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا } وَالْجُنُودُ قُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ وَبَنُو قُرَيْظَةَ ، وَكَانَتْ الْجُنُودُ الّتِي أَرْسَلَ اللّهُ عَلَيْهِمْ مَعَ الرّيحِ الْمَلَائِكَةَ . يَقُولُ اللّهُ تَعَالَى : { إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنّونَ بِاللّهِ الظّنُونَ } فَاَلّذِينَ جَاءُوهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ بَنُو قُرَيْظَةَ ، وَاَلّذِينَ جَاءُوهُمْ مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ قُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ . يَقُولُ اللّهُ ( تَبَارَكَ وَ ) تَعَالَى : { هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللّهُ وَرَسُولُهُ إِلّا غُرُورًا } لِقَوْلِ مُعَتّبِ بْنِ قُشَيْرٍ إذْ يَقُولُ مَا قَالَ { وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النّبِيّ يَقُولُونَ إِنّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلّا فِرَارًا } لِقَوْلِ أَوْسِ بْنِ قَيْظِيّ وَمَنْ كَانَ عَلَى رَأْيِهِ مِنْ قَوْمِهِ { وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا } أَيْ الْمَدِينَةِ .
تَفْسِيرُ ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْغَرِيبِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْأَقْطَارُ الْجَوَانِبُ وَوَاحِدُهَا : قُطْرٌ ، وَهِيَ الْأَقْتَارُ وَوَاحِدُهَا : قُتْرٌ . قَالَ الْفَرَزْدَقُ :
كَمْ مِنْ غِنَى فَتَحَ الْإِلَهُ لَهُمْ بِهِ ... وَالْخَيْلُ مُقْعِيَةٌ عَلَى الْأَقْطَارِ
وَيُرْوَى : " عَلَى الْأَقْتَارِ " . وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . [ ص 452 ] { ثُمّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ } أَيْ الرّجُوعَ إلَى الشّرْكِ { لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبّثُوا بِهَا إِلّا يَسِيرًا وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللّهِ مَسْئُولًا } فَهُمْ بَنُو حَارِثَةَ ، وَهُمْ الّذِينَ هَمّوا أَنْ يَفْشَلُوا يَوْمَ أُحُدٍ مَعَ بَنِي سَلِمَةَ حِينَ هَمّتَا بِالْفَشَلِ يَوْمَ أُحُدٍ ، ثُمّ عَاهَدُوا اللّهَ أَنْ لَا يَعُودُوا لِمِثْلِهَا أَبَدًا ، فَذَكَرَ لَهُمْ الّذِينَ أَعْطَوْا مِنْ أَنْفُسِهِمْ ثُمّ قَالَ تَعَالَى : { قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتّعُونَ إِلّا قَلِيلًا قُلْ مَنْ ذَا الّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ وَلِيّا وَلَا نَصِيرًا قَدْ يَعْلَمُ اللّهُ الْمُعَوّقِينَ مِنْكُمْ } أَيْ أَهْلَ النّفَاقِ { وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلّا قَلِيلًا } أَيْ إلّا دَفْعًا وَتَعْذِيرًا { أَشِحّةً عَلَيْكُمْ } أَيْ لِلضّغْنِ الّذِي فِي أَنْفُسِهِمْ { فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ } أَيْ إعْظَامًا لَهُ وَفَرَقًا مِنْهُ { فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ } أَيْ فِي الْقَوْلِ بِمَا لَا تُحِبّونَ لِأَنّهُمْ لَا يَرْجُونَ آخِرَةً وَلَا تَحَمّلُهُمْ حِسْبَةً فَهُمْ يَهَابُونَ الْمَوْتَ هَيْبَةَ مَنْ لَا يَرْجُونَ مَا بَعْدَهُ .
تَفْسِيرُ ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْغَرِيبِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : سَلَقُوكُمْ بَالَغُوا فِيكُمْ بِالْكَلَامِ فَأَحْرَقُوكُمْ وَآذَوْكُمْ . تَقُولُ الْعَرَبُ : خَطِيبٌ سَلّاقٌ وَخَطِيبٌ مِسْلَقٌ وَمِسْلَاقٌ . قَالَ أَعْشَى بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ
فِيهِمْ الْمَجْدُ وَالسّمَاحَةُ وَالنّ ... جْدَةُ فِيهِمْ وَالْخَاطِبُ السّلّاقُ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . { يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا } قُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ { وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدّوا لَوْ أَنّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلّا قَلِيلًا } ثُمّ أَقْبَلَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ } أَيْ لِئَلّا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ وَلَا عَنْ مَكَانٍ هُوَ بِهِ . ثُمّ ذَكَرَ الْمُؤْمِنِينَ وَصِدْقَهُمْ وَتَصْدِيقَهُمْ بِمَا وَعَدَهُمْ اللّهُ مِنْ الْبَلَاءِ يَخْتَبِرُهُمْ بِهِ فَقَالَ { وَلَمّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا } أَيْ صَبْرًا عَلَى الْبَلَاءِ وَتَسْلِيمًا لِلْقَضَاءِ وَتَصْدِيقًا لِلْحَقّ لَمّا [ ص 453 ] كَانَ اللّهُ تَعَالَى وَعَدَهُمْ وَرَسُولُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثُمّ قَالَ { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ } أَيْ فَرَغَ مِنْ عَمَلِهِ وَرَجَعَ إلَى رَبّهِ كَمَنْ اُسْتُشْهِدَ يَوْمَ بَدْرٍ وَيَوْمَ أُحُدٍ .
تَفْسِيرُ ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْغَرِيبِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَضَى نَحْبَهُ مَاتَ وَالنّحْبُ النّفْسُ فِيمَا أَخْبَرَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ وَجَمْعُهُ نُحُوبٌ قَالَ ذُو الرّمّةِ
عَشِيّةَ فَرّ الْحَارِثِيّونَ بَعْدَ مَا ... قَضَى نَحْبَهُ فِي مُلْتَقَى الْخَيْلِ هَوْبَرُ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَهَوْبَرُ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ أَرَادَ زَيْدَ بْنَ هَوْبَرٍ . وَالنّحْبُ ( أَيْضًا ) : النّذْرُ قَالَ جَرِيرُ بْنُ الْخَطَفَى :
بِطِخْفَةَ جَالَدْنَا الْمُلُوكَ وَخَيْلُنَا ... عَشِيّةَ بَسْطَامٍ جَرَيْنَ عَلَى نَحْبِ
يَقُولُ عَلَى نَذْرٍ كَانَتْ نَذَرَتْ أَنْ تَقْتُلَهُ فَقَتَلَتْهُ وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَبَسْطَامٌ بَسْطَامُ بْنُ قَيْسِ بْنِ مَسْعُودٍ الشّيْبَانِيّ ، وَهُوَ ابْنُ ذِي الْجَدّيْنِ حَدّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ أَنّهُ كَانَ فَارِسَ رَبِيعَةَ بْنِ نِزَارٍ . وَطِخْفَةُ : مَوْضِعٌ بِطَرِيقِ الْبَصْرَةِ . وَالنّحْبُ ( أَيْضًا ) : الْخِطَارُ وَهُوَ الرّهَانُ . قَالَ الْفَرَزْدَقُ :
وَإِذْ نَحَبَتْ كَلْبٌ عَلَى النّاسِ أَيّنَا ... عَلَى النّحْبِ أَعْطَى لِلْجَزِيلِ وَأَفْضَلُ
وَالنّحْبُ ( أَيْضًا ) : الْبُكَاءُ . وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ يَنْتَحِبُ . وَالنّحْبُ ( أَيْضًا ) : الْحَاجَةُ وَالْهِمّةُ تَقُولُ مَا لِي عِنْدَهُمْ نَحْبٌ . قَالَ مَالِكُ بْنُ نُوَيْرَةَ الْيَرْبُوعِيّ :
وَمَا لِي نَحْبٌ عِنْدَهُمْ غَيْرَ أَنّنِي ... تَلَمّسْت مَا تَبْغِي مِنْ الشّدُنِ الشّجْرِ
وَقَالَ نَهَارُ بْنُ تَوْسِعَةَ أَحَدُ بَنِي تَيْمِ اللّاتِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عُكَابَةَ بْنِ صَعْبِ بْنِ عَلِيّ بْنِ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : هَؤُلَاءِ مَوَالِي بَنِي حَنِيفَةَ
وَنَجّى يُوسُفَ الثّقَفِيّ رَكَضٌ ... دِرَاكٌ بَعْدَ مَا وَقَعَ اللّوَاءُ
وَلَوْ أَدْرَكْنَهُ لَقَضَيْنَ نَحْبًا ... بِهِ وَلِكُلّ مُخْطَأَةٍ وِقَاءُ
وَالنّحْبُ ( أَيْضًا ) : السّيْرُ الْخَفِيفُ الْمَرّ . [ ص 454 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ } أَيْ مَا وَعَدَ اللّهُ بِهِ مِنْ نَصْرِهِ وَالشّهَادَة عَلَى مَا مَضَى عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ . يَقُولُ اللّهُ تَعَالَى : { وَمَا بَدّلُوا تَبْدِيلًا } أَيْ مَا شَكّوا وَمَا تَرَدّدُوا فِي دِينِهِمْ وَمَا اسْتَبْدَلُوا بِهِ غَيْرَهُ . { لِيَجْزِيَ اللّهُ الصّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا وَرَدّ اللّهُ الّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ } أَيْ قُرَيْشًا وَغَطَفَانَ { لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللّهُ قَوِيّا عَزِيزًا وَأَنْزَلَ الّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } أَيْ بَنِي قُرَيْظَةَ { مِنْ صَيَاصِيهِمْ } وَالصّيَاصِي : الْحُصُونُ وَالْآطَامُ الّتِي كَانُوا فِيهَا . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَالَ سُحَيْمٌ عِنْدَ بَنِي الْحَسْحَاسِ وَبَنُو الْحَسْحَاسِ مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ :
وَأَصْبَحَتْ الثّيرَانُ صَرْعَى وَأَصْبَحَتْ ... نِسَاءُ تَمِيمٍ يَبْتَدِرْنَ الصّيَاصِيَا
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَالصّيَاصِي ( أَيْضًا ) : الْقُرُونُ . قَالَ النّابِغَةُ الْجَعْدِيّ :
وَسَادَةَ رَهْطِي حَتّى بَقِي ... ت فَرْدًا كَصِيصَةِ الْأَعْضَبِ
يَقُولُ أَصَابَ الْمَوْتُ سَادَةَ رَهْطِي . وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الْإِيَادِيّ :
فَذَعَرْنَا سُحْمَ الصّيَاصِي بِأَيْدِي ... هِنّ نَضْحٌ مِنْ الْكُحَيْلِ وَقَارُ
[ ص 455 ] قَصِيدَةٍ لَهُ . وَالصّيَاصِي أَيْضًا : الشّوْكُ الّذِي لِلنّسّاجِينَ فِيمَا أَخْبَرَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ . وَأَنْشَدَنِي لِدُرَيْدِ بْنِ الصّمّةِ الْجُشَمِيّ جُشَمَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ :
نَظَرْت إلَيْهِ وَالرّمَاحُ تَنُوشُهُ ... كَوَقْعِ الصّيَاصِي فِي النّسِيجِ الْمُمَدّدِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَالصّيَاصِي ( أَيْضًا ) : الّتِي تَكُونُ فِي أَرْجُلِ الدّيَكَةِ نَاتِئَةٍ كَأَنّهَا الْقُرُونُ الصّغَارُ وَالصّيَاصِي ( أَيْضًا ) : الْأُصُولُ . أَخْبَرَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ أَنّ الْعَرَبَ تَقُولُ جَذّ اللّهُ صِيصِيَتَهُ أَيْ أَصْلَهُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : { وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا } أَيْ قَتْلَ الرّجَالِ وَسَبْيَ الذّرَارِيّ وَالنّسَاءِ { وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا } يَعْنِي خَيْبَرَ { وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرًا }
Sتَفْسِيرُ آيَاتٍ قُرْآنِيّةٍ
[ ص 450 ] { وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ } وَالْقَلْبُ لَا يَنْتَقِلُ مِنْ مَوْضِعِهِ وَلَوْ انْتَقَلَ إلَى الْحَنْجَرَةِ لَمَاتَ صَاحِبُهُ وَاَللّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَقُولُ إلّا الْحَقّ فَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنّ التّكَلّمَ بِالْمَجَازِ عَلَى جِهَةِ الْمُبَالَغَةِ فَهُوَ حَقّ إذَا فَهِمَ الْمُخَاطَبُ عَنْك ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضّ فَأَقَامَهُ } [ الْكَهْفَ : 77 ] ، أَيْ مَثَلُهُ كَمَثَلِ مَنْ يُرِيدَ أَنْ يَفْعَلَ الْفِعْلَ وَبِهِمْ بِهِ فَهُوَ مِنْ مَجَازِ التّشْبِيهِ وَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ مِثْلُهُمْ فِيمَا بَلَغَهُمْ مِنْ الْخَوْفِ وَالْوَهَلِ وَضِيقِ الصّدْرِ كَمِثْلِ الْمُنْخَلِعِ قَلْبُهُ مِنْ مَوْضِعِهِ وَقِيلَ هُوَ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ . تَقْدِيرُهُ بَلَغَ وَجِيفُ الْقُلُوبِ الْحَنَاجِرَ وَأَمّا قَوْلُهُ { إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ } [ غَافِرَ 18 ] ، فَلَا مَعْنَى لِحَمْلِهِ عَلَى [ ص 451 ] الْقِيَامَةِ وَالْأَمْرُ فِيهِ أَشَدّ مِمّا تَقَدّمَ لَا سِيمَا وَقَدْ قَالَ فِي أُخْرَى : { لَا يَرْتَدّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ } [ إبْرَاهِيمَ 43 ] ، أَيْ قَدْ فَارَقَ الْقَلْبُ الْفُؤَادَ وَبَقِيَ فَارِغًا هَوَاءً وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنّ الْقَلْبَ غَيْرُ الْفُؤَادِ كَأَنّ الْفُؤَادَ هُوَ غِلَافُ الْقَلْبِ وَيُؤَيّدُهُ قَوْلُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي أَهْلِ الْيَمَنِ : أَلْيَنُ قُلُوبًا وَأَرَقّ أَفْئِدَةً مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى : { فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ } [ الزّمَرَ 22 ] . ولم يقل القاسية أفئدتهم ، والقسوة ضد اللين ، فتأمله . [ ص 452 ] { قَدْ يَعْلَمُ اللّهُ الْمُعَوّقِينَ مِنْكُمْ } [ الْأَحْزَابَ : 18 ] أَيْ الْمُخَذّلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ فَيُعَوّقُونَهُمْ بِالتّخْذِيلِ عَنْ الطّاعَةِ لِقَوْلِهِمْ هَلُمّ إلَيْنَا . تَقُولُ عَاقَنِي الْأَمْرُ عَنْ كَذَا ، وَعَوّقَنِي فُلَانٌ عَنْ كَذَا ، أَيْ صَرَفَنِي عَنْهُ . [ ص 453 ] [ ص 454 ] وَذَكَرَ الصّيَاصِيَ وَأَنّهَا الْحُصُونُ وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِ سُحَيْمٍ يَصِفُ سَيْلًا :
وَأَصْبَحَتْ الثّيرَانُ صَرْعَى ، وَأَصْبَحَتْ ... نِسَاءُ تَمِيمٍ يَبْتَدِرْنَ الصّيَاصِيَا
وَأَلْفَيْت فِي حَاشِيَةِ الشّيْخِ أَبِي بَحْرٍ رَحِمَهُ اللّهُ عَلَى هَذَا الْبَيْتِ الصّيَاصِي : قُرُونُ الثّيرَانِ الْمَذْكُورَةُ فِيهِ لَا مَا تَوَهّمَ ابْنُ هِشَامٍ أَنّهَا الْحُصُونُ وَالْآطَامُ يَقُولُ لَمّا أَهْلَكَ هَذَا السّيْلُ الثّيرَانَ وَغَرّقَهَا أَصْبَحَتْ نِسَاءُ تَمِيمٍ يَبْتَدِرْنَ أَخْذَ قُرُونِهَا ، لِيَنْسِجْنَ بِهَا الْبُجُدَ وَهِيَ الْأَكْسِيَةُ قَالَ هَذَا يَعْقُوبُ عَنْ الْأَصْمَعِيّ . وَيُصَحّحُ هَذَا أَنّهُ لَا حُصُونَ فِي بَادِيَةِ الْأَعْرَابِ قَالَ الْمُؤَلّفُ وَيُصَحّحُ هَذَا التّفْسِيرَ أَيْضًا رِوَايَةُ أَحْمَدَ بْنِ دَاوُدَ لَهُ فَإِنّهُ أَنْشَدَهُ فِي كِتَابِ النّبَاتِ لَهُ فَقَالَ فِيهِ يَلْتَقِطْنَ الصّيَاصِيَا وَلَمْ يَقُلْ يَبْتَدِرْنَ وَأَنْشَدَ
فَذَعَرْنَا سُحْمَ الصّيَاصِي بِأَيْدِي ... هِنّ نَضْحٌ مِنْ الْكُحَيْلِ وَقَارُ
[ ص 455 ] وَالْقَارُ الزّفْتُ شَبّهَ السّوَادَ الّذِي فِي أَيْدِيهِنّ بِنَضْحِ مِنْ ذَلِكَ الْكُحَيْلِ وَالْقَارِ يَصِفُ بَعْرَ وَحْشٍ وَأَنْشَدَ لِدُرَيْدِ بْنِ الصّمّةِ كَوَقْعِ الصّيَاصِي فِي النّسِيجِ الْمُمَدّدِ
وَحَمَلَهُ الْأَصْمَعِيّ عَلَى مَا تَقَدّمَ فِي الْبَيْتِ قَبْلَ هَذَا مِنْ أَنّهَا الْقُرُونُ الّتِي يُنْسَجُ بِهَا ، لَا أَنّهَا شَوْكٌ كَمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ .

إكْرَامُ سَعْدٍ فِي مَوْتِهِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا انْقَضَى شَأْنُ بَنِي قُرَيْظَةَ انْفَجَرَ بِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ جُرْحُهُ فَمَاتَ مِنْهُ شَهِيدًا . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي مُعَاذُ بْنُ رِفَاعَةَ الزّرَقِيّ ، قَالَ حَدّثَنِي مَنْ شِئْت مِنْ رِجَالِ قَوْمِي : أَنّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السّلَامُ أَتَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ قُبِضَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ مِنْ جَوْفِ اللّيْلِ مُعْتَجِرًا بِعِمَامَةِ مِنْ إسْتَبْرَقٍ فَقَالَ يَا مُحَمّدُ مَنْ هَذَا الْمَيّتُ الّذِي فُتّحَتْ لَهُ أَبْوَابُ السّمَاءِ وَاهْتَزّ لَهُ الْعَرْشُ ؟ قَالَ فَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَرِيعًا يَجُرّ ثَوْبَهُ إلَى سَعْدٍ فَوَجَدَهُ قَدْ مَاتَ . [ ص 456 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرّحْمَنِ قَالَتْ أَقْبَلَتْ عَائِشَةُ قَافِلَةً مِنْ مَكّةَ ، وَمَعَهَا أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ فَلَقِيَهُ مَوْتُ امْرَأَةٍ لَهُ فَحَزِنَ عَلَيْهَا بَعْضَ الْحُزْنِ فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ يَغْفِرُ اللّهُ لَك يَا أَبَا يَحْيَى ، أَتَحْزَنُ عَلَى امْرَأَةٍ وَقَدْ أُصِبْت بِابْنِ عَمّك ، وَقَدْ اهْتَزّ لَهُ الْعَرْشُ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي مَنْ لَا أَتّهِمُ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيّ ، قَالَ كَانَ سَعْدٌ رَجُلًا بَادِنًا ، فَلَمّا حَمَلَهُ النّاسُ وَجَدُوا لَهُ خِفّةً فَقَالَ رِجَالٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَاَللّهِ إنْ كَانَ لَبَادِنًا ، وَمَا حَمَلْنَا مِنْ جِنَازَةٍ أَخَفّ مِنْهُ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ إنّ لَهُ حَمَلَةً غَيْرَكُمْ ، وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ اسْتَبْشَرَتْ الْمَلَائِكَةُ بِرُوحِ سَعْدٍ وَاهْتَزّ لَهُ الْعَرْشُ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي مُعَاذُ بْنُ رِفَاعَةَ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ ، قَالَ لَمّا دُفِنَ سَعْدٌ وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَبّحَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَسَبّحَ النّاسُ مَعَهُ ثُمّ كَبّرَ فَكَبّرَ النّاسُ مَعَهُ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ مِمّ سَبّحْت ؟ قَالَ لَقَدْ تَضَايَقَ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ الصّالِحِ قَبْرُهُ ، حَتّى فَرّجَهُ اللّهُ عَنْهُ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَمَجَازُ هَذَا الْحَدِيثِ قَوْلُ عَائِشَةَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّ لِلْقَبْرِ لَضَمّةً لَوْ كَانَ أَحَدٌ مِنْهَا نَاجِيًا لَكَانَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَلِسَعْدِ يَقُولُ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ :
وَمَا اهْتَزّ عَرْشُ اللّهِ مِنْ مَوْتِ هَالِكٍ ... سَمِعْنَا بِهِ إلّا لِسَعْدِ أَبِي عَمْرٍو
[ ص 457 ] وَقَالَتْ أُمّ سَعْدٍ حِينَ اُحْتُمِلَ نَعْشُهُ وَهِيَ تَبْكِيهِ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ - وَهِيَ كُبَيْشَةُ بِنْتُ رَافِعِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَبْدِ بْنِ الْأَبْجَرِ وَهُوَ خُدْرَةُ بْنُ عَوْفِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ :
وَيْلُ أُمّ سَعْدٍ سَعْدًا ... صَرَامَةً وَحَدّا
وسُودَدًا وَمَجْدًا ... وَفَارِسًا مُعَدّا
سُدّ بِهِ مَسَدّا ... يَقُدّ هَامًا قَدّا
يَقُولُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كُلّ نَائِحَةٍ تَكْذِبُ إلّا نَائِحَةَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ
شُهَدَاءُ الْغَزْوَةِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَلَمْ يُسْتَشْهَدْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ إلّا سِتّةُ نَفَرٍ . وَمِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ ، وَأَنَسُ بْنُ أَوْسِ بْنِ عَتِيكِ بْنِ عَمْرٍو ، وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ سَهْلٍ . ثَلَاثَةُ نَفَرٍ . وَمِنْ بَنِي جُشَمَ بْنِ الْخَزْرَجِ ، ثُمّ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ الطّفَيْلُ بْنُ النّعْمَانَ وَثَعْلَبَةُ بْنُ غَنَمَةَ . رَجُلَانِ . وَمِنْ بَنِي النّجّارِ ثُمّ مِنْ بَنِي دِينَارٍ : كَعْبُ بْنُ زَيْدٍ أَصَابَهُ سَهْمُ غَرْبٍ فَقَتَلَهُ .
تَفْسِيرُ ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْغَرِيبِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : سَهْمُ غَرْبٍ وَسَهْمٌ غَرْبٌ بِإِضَافَةِ وَغَيْرِ إضَافَةٍ وَهُوَ الّذِي لَا يُعْرَفُ مِنْ أَيْنَ جَاءَ وَلَا مَنْ رَمَى بِهِ .
قَتْلَى الْمُشْرِكِينَ
وَقُتِلَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ . مِنْ بَنِي عَبْدِ الدّارِ بْنِ قُصَيّ : مُنَبّهُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ السّبّاقِ بْنِ عَبْدِ الدّارِ ، أَصَابَهُ سَهْمٌ فَمَاتَ مِنْهُ بِمَكّةَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : هُوَ عُثْمَانُ بْنُ أُمَيّةَ بْنِ مُنَبّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ السّبّاقِ . [ ص 458 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَمِنْ بَنِي مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ نَوْفَلُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، سَأَلُوا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يَبِيعَهُمْ جَسَدَهُ وَكَانَ اقْتَحَمَ الْخَنْدَقَ ، فَتَوَرّطَ فِيهِ فَقُتِلَ فَغَلَبَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَسَدِهِ . فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا حَاجَةَ لَنَا فِي جَسَدِهِ وَلَا بِثَمَنِهِ ، فَخَلّى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَعْطَوْا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِجَسَدِهِ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ فِيمَا بَلَغَنِي عَنْ الزّهْرِيّ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَمِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ ، ثُمّ مِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ حِسْلٍ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدّ ، قَتَلَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي الثّقَةُ أَنّهُ حُدّثَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ الزّهْرِيّ أَنّهُ قَالَ قَتَلَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَوْمَئِذٍ عَمْرَو بْنَ عَبْدِ وُدّ وَابْنَهُ حِسْلَ بْنَ عَمْرٍو . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدّ ، وَيُقَالُ عَمْرُو بْنُ عَبْدٍ .
شُهَدَاءُ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَاسْتُشْهِدَ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ثُمّ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ : خَلّادُ بْنُ سُوَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرٍو ، طُرِحَتْ عَلَيْهِ رَحَى ، فَشَدَخَتْهُ شَدْخًا شَدِيدًا ، فَزَعَمُوا أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ إنّ لَهُ لَأَجْرَ شَهِيدَيْنِ وَمَاتَ أَبُو سِنَانِ بْنُ مِحْصَنِ بْنِ حُرْثَانَ ، أَخُو بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ ، وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُحَاصِرٌ بَنِي قُرَيْظَةَ فَدُفِنَ فِي مَقْبَرَةِ بَنِي قُرَيْظَةَ الّتِي يَدْفِنُونَ فِيهَا الْيَوْمَ وَإِلَيْهِ دَفَنُوا أَمْوَاتَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ .
Sاهْتِزَازُ الْعَرْشِ
وَذَكَرَ اهْتِزَازَ الْعَرْشِ وَقَدْ تَكَلّمَ النّاسُ فِي مَعْنَاهُ وَظَنّوا أَنّهُ مُشْكِلٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ الِاهْتِزَازُ هَاهُنَا بِمَعْنَى الِاسْتِبْشَارِ بِقُدُومِ رُوحِهِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ يُرِيدُ حَمَلَةَ الْعَرْشِ وَمَنْ عِنْدَهُ [ ص 456 ] الْحَقِيقَةِ وَلَا بُعْدَ فِيهِ لِأَنّهُ مَخْلُوقٌ وَتَجُوزُ عَلَيْهِ الْحَرَكَةُ وَالْهَزّةُ وَلَا يُعْدَلُ عَنْ ظَاهِرِ اللّفْظِ مَا وُجِدَ إلَيْهِ سَبِيلٌ وَحَدِيثُ اهْتِزَازِ الْعَرْشِ لِمَوْتِ سَعْدٍ صَحِيحٌ . قَالَ أَبُو عُمَرَ هُوَ ثَابِتٌ مِنْ طُرُقٍ مُتَوَاتِرَةٍ وَمَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ فِي مَعْنَاهُ أَنّهُ سَرِيرُ سَعْدٍ اهْتَزّ لَمْ يَلْتَفِتْ إلَيْهِ الْعُلَمَاءُ وَقَالُوا : كَانَتْ بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَيّيْنِ مِنْ الْأَنْصَارِ ضَغَائِنُ . وَفِي لَفْظِ الْحَدِيثِ اهْتَزّ عَرْشُ الرّحْمَنِ رَوَاهُ أَبُو الزّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ يَرْفَعُهُ وَرَوَاهُ الْبُخَارِيّ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ وَأَبِي سُفْيَانَ كِلَاهُمَا عَنْ جَابِرٍ وَرَوَاهُ مِنْ الصّحَابَةِ جَمَاعَةٌ غَيْرُ جَابِرٍ مِنْهُمْ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ ، وأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَرُمَيْثَةُ بِنْتُ عَمْرٍو ، ذَكَرَ ذَلِكَ التّرْمِذِيّ . وَالْعَجَبُ لِمَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللّهُ مِنْ إنْكَارِهِ [ ص 457 ] وَكَرَاهِيَتِهِ لِلتّحَدّثِ بِهِ مَعَ صِحّةِ نَقْلِهِ وَكَثْرَةِ الرّوَاةِ لَهُ وَلَعَلّ هَذِهِ الرّوَايَةَ لَمْ تَصِحّ عَنْ مَالِكٍ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . [ ص 458 ]

الْبِشَارَةُ بِغَزْوِ قُرَيْشٍ
وَلَمّا انْصَرَفَ أَهْلُ الْخَنْدَقِ عَنْ الْخَنْدَقِ ، قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيمَا بَلَغَنِي : لَنْ تَغْزُوَكُمْ قُرَيْشٌ بَعْدَ عَامِكُمْ هَذَا ، وَلَكِنّكُمْ تَغْزُونَهُمْ . فَلَمْ تَغْزُهُمْ قُرَيْشٌ بَعْدَ ذَلِكَ وَكَانَ هُوَ الّذِي يَغْزُوهَا ، حَتّى فَتَحَ اللّهُ عَلَيْهِ مَكّةَ .

مَا قِيلَ مِنْ الشّعْرِ فِي أَمْرِ الْخَنْدَقِ وَبَنِيّ قُرَيْظَةَ
شِعْرُ ضِرَارٍ
[ ص 459 ] وَقَالَ ضِرَارُ بْنُ الْخَطّابِ بْنِ مِرْدَاسٍ ، أَخُو بَنِي مُحَارِبِ بْنِ فِهْرٍ ، فِي يَوْمِ الْخَنْدَقِ [ ص 460 ]
وَمُشْفِقَةٍ تَظُنّ بِنَا الظّنُونَا ... وَقَدْ قُدْنَا عَرَنْدَسَةً طَحُونَا
كَأَنّ زُهَاءَهَا أُحُدٌ إذَا مَا ... بَعُدَتْ أَرْكَانُهُ لِلنّاظِرِينَا
تَرَى الْأَبْدَانَ فِيهَا مُسْبَغَاتٍ ... عَلَى الْأَبْطَالِ وَالْيَلَبَ الْحَصِينَا
وَجُرْدًا كَالْقِدَاحِ مُسَوّمَاتٍ ... نَؤُمّ بِهَا الْغُوَاةَ الْخَاطِيِينَا
كَأَنّهُمْ إذَا صَالُوا وَصُلْنَا ... بِبَابِ الْخَنْدَقَيْنِ مُصَافِحُونَا
أَنَاسٌ لَا نَرَى فِيهِمْ رَشِيدًا ... وَقَدْ قَالُوا أَلَسْنَا رَاشِدِينَا
فَأَحْجَرْنَاهُمُ شَهْرًا كَرِيتًا ... وَكُنّا فَوْقَهُمْ كَالْقَاهِرِينَا
مُزَاوِحُهُمْ وَتَغْدُو كُلّ يَوْمٍ ... عَلَيْهِمْ فِي السّلَاحِ مُدَجّجِينَا
بِأَيْدِينَا صَوَارِمُ مُرْهَفَاتٍ ... نَقُدّ بِهَا الْمَفَارِقَ وَالشّؤُونَا
كَأَنّ وَمِيضَهُنّ مُعَرّيَاتٍ ... إذْ لَاحَتْ بِأَيْدِي مُصَلّتِينَا
وَمِيضُ عَقِيقَةٍ لَمَعَتْ بِلَيْلِ ... تَرَى فِيهَا الْعَقَائِقَ مُسْتَبِينَا
فَلَوْلَا خَنْدَقٌ كَانُوا لَدَيْهِ ... لَدَمّرْنَا عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَا
وَلَكِنْ حَالَ دُونَهُمْ وَكَانُوا ... بِهِ مِنْ خَوْفِنَا مُتَعَوّذِينَا
فَإِنْ نَرْحَلْ فَإِنّا قَدْ تَرَكْنَا ... لَدَى أَبْيَاتِكُمْ سَعْدًا رَهِينًا
إذَا جَنّ الظّلَامُ سَمِعْت نَوْحَى ... عَلَى سَعْدٍ يُرَجّعْنَ الْحَنِينَا
وَسَوْفَ نَزُورُكُمْ عَمّا قَرِيبٍ ... كَمَا زُرْنَاكُمْ مُتَوَازِرِينَا
بِجَمْعِ مِنْ كِنَانَةَ غَيْرِ عُزْلٍ ... كَأُسْدِ الْغَابِ قَدْ حَمَتْ الْعَرِينَا
كَعْبٌ يَرُدّ عَلَى ضِرَارٍ
فَأَجَابَهُ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ ، أَخُو بَنِي سَلِمَةَ ، فَقَالَ [ ص 461 ]
وَسَائِلَةٍ تُسَائِلُ مَا لَقِينَا ... وَلَوْ شَهِدَتْ رَأَتْنَا صَابِرِينَا
صَبَرْنَا لَا نَرَى لِلّهِ عَدْلًا ... عَلَى مَا نَابَنَا مُتَوَكّلِينَا
وَكَانَ لَنَا النّبِيّ وَزِيرَ صِدْقٍ ... بِهِ نَعْلُو الْبَرِيّةَ أَجْمَعِينَا
نُقَاتِلُ مَعْشَرًا ظَلَمُوا وَعَقّوا ... وَكَانُوا بِالْعَدَاوَةِ مُرْصِدِينَا
نُعَاجِلُهُمْ إذَا نَهَضُوا إلَيْنَا ... بِضَرْبِ يُعْجِلُ الْمُتَسَرّعِينَا
تَرَانَا فِي فَضَافِضَ سَابِغَاتٍ ... كَغُدْرَانِ الْمَلَا مُتَسَرْبِلِينَا
وَفِي أَيْمَانِنَا بِيضٌ خِفَافٌ ... بِهَا نَشْفِي مِرَاحَ الشّاغِبِينَا
بِبَابِ الْخَنْدَقَيْنِ كَأَنّ أُسْدًا ... شَوَابِكُهُنّ يَحْمِينَ الْعَرِينَا
فَوَارِسُنَا إذَا بَكَرُوا وَرَاحُوا ... عَلَى الْأَعْدَاءِ شُوسًا مُعْلَمِينَا
لِنَنْصُرَ أَحْمَدًا وَاَللّهَ حَتّى ... نَكُونَ عِبَادَ صِدْقٍ مُخْلِصِينَا
وَيَعْلَمُ أَهْلُ مَكّةَ حِينَ سَارُوا ... وَأَحْزَابٌ أَتَوْا مُتَحَزّبِينَا
بِأَنّ اللّهَ لَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ ... وَأَنّ اللّهَ مَوْلَى الْمُؤْمِنِينَا
فَإِمّا تَقْتُلُوا سَعْدًا سِفَاهًا ... فَإِنّ اللّهَ خَيْرُ الْقَادِرِينَا
سَيُدْخِلُهُ جِنَانًا طَيّبَاتٍ ... تَكُونُ مُقَامَةً لِلصّالِحِينَا
كَمَا قَدْ رَدّكُمْ فَلّا شَرِيدًا ... بِغَيْظِكُمْ خَزَايَا خَائِبِينَا
خَزَايَا لَمْ تَنَالُوا ثَمّ خَيْرًا ... وَكِدْتُمْ أَنْ تَكُونُوا دَامِرِينَا
بِرِيحِ عَاصِفٍ هَبّتْ عَلَيْكُمْ ... فَكُنْتُمْ تَحْتَهَا مُتَكَمّهِينَا .
Sفَصْلٌ فِي أَشْعَارِ يَوْمِ الْخَنْدَقِ
شِعْرُ ضِرَارٍ
[ ص 459 ] ذَكَرَ فِيهَا شِعْرَ ضِرَارِ بْنِ الْخَطّابِ : عَلَى الْأَبْطَالِ وَالْيَلَبَ الْحَصِينَا
الْيَلَبُ التّرَسَةُ وَقِيلَ الدّرَقُ وَقِيلَ بَيْضَاتٌ وَدُرُوعٌ كَانَتْ تُتّخَذُ مِنْ جُلُودِ الْإِبِلِ وَيَشْهَدُ لِهَذَا قَوْلُ حَبِيبٍ
هَذِهِ الْأَسِنّةُ وَالْمَاذِيّ قَدْ كَثُرَا ... فَلَا الصّيَاصِي لَهَا قَدْرٌ وَلَا الْيَلَبُ
أَيْ لَا حَاجَةَ بَعْدَ وُجُودِ الدّرُوعِ الْمَاذِيّةِ إلَى الْيَلَبِ وَبَعْدَ الْأَسِنّةِ إلَى الصّيَاصِي ، وَهِيَ الْقُرُونُ وَكَانَتْ أَسِنّتُهُمْ مِنْهَا فِي الْجَاهِلِيّةِ . قَالَ الشّاعِرُ
يُهَزْهِزُ صَعْدَةً جَرْدَاءَ فِيهَا ... نَقِيعُ السّمّ أَوْ قَرْنٌ مُحِيقُ
شِعْرُ كَعْبٍ
[ ص 460 ] وَذَكَرَ فِي شِعْرِ كَعْبٍ فَكُنْتُمْ تَحْتَهَا مُتَكَمّهِينَا
[ ص 461 ] أَعْمَى ، وَقَدْ قِيلَ فِيهِ إنّهُ الّذِي لَا يُبْصِرُ بِاللّيْلِ شَيْئًا ، ذَكَرَ هَذَا الْقَوْلَ الْبُخَارِيّ فِي التّفْسِيرِ .

شِعْرُ ابْنِ الزّبَعْرَى
وَقَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الزّبَعْرَى السّهْمِيّ فِي يَوْمِ الْخَنْدَقِ :
حَيّ الدّيَارِ مَحَا مَعَارِفَ رَسْمِهَا ... طُولُ الْبِلَى وَتَرَاوُحُ الْأَحْقَابِ
فَكَأَنّمَا كَتَبَ الْيَهُودُ رُسُومَهَا ... إلّا الْكَنِيفَ وَمَعْقِدَ الْأَطْنَابِ
قَفْرًا كَأَنّك لَمْ تَكُنْ تَلْهُو بِهَا ... فِي نِعْمَةٍ بِأَوَانِسٍ أَتْرَابِ
فَاتْرُكْ تَذَكّرَ مَا مَضَى مِنْ عِيشَةٍ ... وَمَحِلّةٍ خَلْقِ الْمَقَامِ يَبَابِ
وَاذْكُرْ بَلَاءَ مَعَاشِرَ وَاشْكُرْهُمْ ... سَارُوا بِأَجْمَعِهِمْ مِنْ الْأَنْصَابِ
أَنْصَابِ مَكّةَ عَامِدِينَ لِيَثْرِبِ ... فِي ذِي غَيَاطِلَ جَحْفَلٍ جَبْجَابِ
يَدَعُ الْخُزُونَ مَنَاهِجًا مَعْلُومَةً ... فِي كُلّ نَشْرٍ ظَاهِرٍ وَشِعَابِ
فِيهَا الْجِيَادُ شَوَازِبٌ مَجْنُوبَةٌ ... قُبّ الْبُطُونِ لَوَاحِقُ الْأَقْرَابِ
مِنْ كُلّ سَلْهَبَةٍ وَأَجْرَدَ سَلْهَبٍ ... كَالسّيّدِ بَادَرَ غَفْلَةَ الرّقّابِ
جَيْشٌ عُيَيْنَةُ قَاصِدٌ بِلِوَائِهِ ... فِيهِ وَصَخْرٌ قَائِدُ الْأَحْزَابِ
قَرْمَانُ كَالْبَدْرَيْنِ أَصْبَحَ فِيهِمَا ... غَيْثَ الْفَقِيرِ وَمَعْقِلَ الْهُرّابِ
حَتّى إذَا وَرَدُوا الْمَدِينَةَ وَارْتَدَوْا ... لِلْمَوْتِ كُلّ مُجَرّبٍ قَضّابِ
شَهْرًا وَعَشْرًا قَاهِرِينَ مُحَمّدًا ... وَصِحَابُهُ فِي الْحَرْبِ خَيْرُ صِحَابِ
نَادَوْا بِرِحْلَتِهِمْ صَبِيحَةَ قُلْتُمْ ... كِدْنَا نَكُونُ بِهَا مَعَ الْخُيّابِ
لَوْلَا الْخَنَادِقُ غَادَرُوا مِنْ جَمْعِهِمْ ... قَتْلَى لِطَيْرِ سُغّبٍ وَذِئَابِ
حَسّانُ يَرُدّ عَلَى ابْنِ الزّبَعْرَى
[ ص 462 ] حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيّ فَقَالَ
هَلْ رَسْمُ دَارِسَةِ الْمَقَامِ يَبَابِ ... مُتَكَلّمٍ لِمُحَاوِرِ بِجَوَابِ
قَفْرٌ عَفَا رِهَمُ السّحَابِ رُسُومَهُ ... وَهُبُوبُ كُلّ مُطِلّةٍ مِرْبَابِ
وَلَقَدْ رَأَيْت بِهَا الْحُلُولَ يَزِينُهُمْ ... بِيضُ الْوُجُوهِ ثَوَاقِبُ الْأَحْسَابِ
فَدَعْ الدّيَارَ وَذِكْرَ كُلّ خَرِيدَةٍ ... بَيْضَاءَ آنِسَةِ الْحَدِيثِ كَعَابِ
وَاشْكُ الْهُمُومَ إلَى الْإِلَهِ وَمَا تَرَى ... مِنْ مَعْشَرٍ ظَلَمُوا الرّسُولَ غِضَابِ
سَارُوا بِأَجْمَعِهِمْ إلَيْهِ وَأَلّبُوا ... أَهْلَ الْقُرَى وَبَوَادِيَ الْأَعْرَابِ
جَيْشٌ عُيَيْنَةُ وَابْنُ حَرْبٍ فِيهِمْ ... مُتَخَمّطُونَ بِحَلْبَةِ الْأَحْزَابِ
حَتّى إذَا وَرَدُوا الْمَدِينَةَ وَارْتَجَوْا ... قَتْلَى الرّسُولِ وَمَغْنَمَ الْأَسْلَابِ
وَغَدَوْا عَلَيْنَا قَادِرِينَ بِأَيْدِهِمْ ... رُدّوا بِغَيْظِهِمْ عَلَى الْأَعْقَابِ
بِهُبُوبِ مُعْصِفَةٍ تُفَرّقُ جَمْعَهُمْ ... وَجُنُودِ رَبّك سَيّدِ الْأَرْبَابِ
فَكَفَى الْإِلَهُ الْمُؤْمِنِينَ قِتَالَهُمْ ... وَأَثَابَهُمْ فِي الْأَجْرِ خَيْرَ ثَوَابِ
مِنْ بَعْدِ مَا قَنِطُوا فَفَرّقَ جَمْعَهُمْ ... تَنْزِيلُ نَصْرِ مَلِيكِنَا الْوَهّابِ
وَأَقَرّ عَيْنَ مُحَمّدٍ وَصِحَابِهِ ... وَأَذَلّ كُلّ مُكَذّبٍ مُرْتَابِ
عَاتِي الْفُؤَادِ مُوَقّعٍ ذِي رِيبَةٍ ... فِي الْكُفْرِ لَيْسَ بِطَاهِرِ الْأَثْوَابِ
عَلِقَ الشّقَاءُ بِقَلْبِهِ فَفُؤَادُهُ ... فِي الْكُفْرِ آخِرُ هَذِهِ الْأَحْقَابِ
[ ص 463 ] [ ص 464 ]
Sمِنْ شِعْرِ حَسّانَ حَوْلَ أَسْمَاءِ اللّهِ
[ ص 462 ] وَجُنُودِ رَبّك سَيّدِ الْأَرْبَابِ
[ ص 463 ] زَعَمَ أَنّ السّيّدَ مِنْ أَسْمَاءِ اللّهِ وَقَدْ كَرِهَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ أَنْ يَقُولَ فِي الدّعَاءِ يَا سَيّدِي ، وَأَجَازَهُ بَعْضُهُمْ وَاحْتَجّ بِحَدِيثِ لَيْسَ إسْنَادُهُ بِالْقَوِيّ أَنّ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ لَهُ رَجُلٌ يَا سَيّدُ فَقَالَ " السّيّدُ اللّهُ " وَأَمّا مَذْهَبُ الْقَاضِي فِي مِثْلِ هَذَا مِنْ الْأَسْمَاءِ الّتِي يُرَادُ بِهَا الْمَدْحُ وَالتّعْظِيمُ فَذِكْرُ اللّهِ بِهِ جَائِزٌ مَا لَمْ يَرِدْ نَهْيٌ عَنْهُ أَوْ تُجْمِعْ الْأُمّةُ عَلَى تَرْكِ الدّعَاءِ بِهِ كَمَا أَجْمَعُوا أَلّا يُسَمّى بِفَقِيهِ وَلَا عَاقِلٍ وَلَا سَخِيّ وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ مَدْحٌ . قَالَ الْمُؤَلّفُ وَاَلّذِي أَقُولُ فِي السّيّدِ أَنّهُ اسْمٌ يُعْتَبَرُ بِالْإِضَافَةِ لِأَنّهُ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ بَعْضُ مَا أُضِيفَ إلَيْهِ . تَقُولُ فُلَانٌ سَيّدُ قَيْسٍ ، إذَا كَانَ وَاحِدًا مِنْهُمْ وَلَا يُقَالُ فِي قَيْسٍ هُوَ سَيّدُ تَمِيمٍ لِأَنّهُ لَيْسَ وَاحِدًا مِنْهُمْ فَكَذَلِكَ لَا يُقَالُ فِي اللّهِ تَعَالَى : هُوَ سَيّدُ النّاسِ وَلَا سَيّدُ الْمَلَائِكَةِ وَإِنّمَا يُقَالُ رَبّهُمْ فَإِذَا قُلْت : سَيّدُ الْأَرْبَابِ وَسَيّدُ الْكُرَمَاءِ جَازَ لِأَنّ مَعْنَاهُ أَكْرَمُ الْكُرَمَاءِ وَأَعْظَمُ الْأَرْبَابِ ثُمّ يُشْتَقّ لَهُ مِنْ اسْمِ الرّبّ فَيُوصَفُ بِالرّبُوبِيّةِ وَلَا يُوصَفُ بِالسّؤْدُدِ لِأَنّهُ لَيْسَ لَهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَقَدْ جَاءَ فِي شِعْرِ حَسّانَ الّذِي يَرْثِي بِهِ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَا ذَا الْجَلَالِ وَذَا الْعُلَا وَالسّؤْدَدِ
يَصِفُ الرّبّ وَلَكِنْ لَا تَقُومُ الْحُجّةُ فِي إطْلَاقِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ إلّا أَنْ يَسْمَعَهَا الرّسُولُ عَلَيْهِ السّلَامُ فَلَا يُنْكِرَهَا ، كَمَا سَمِعَ شِعْرَ كَعْبٍ فَلَمْ يُنْكِرْهُ وَإِنّمَا وُصِفَ عَلَى الْوَجْهِ الّذِي قَدّمْنَاهُ وَعَلَى الْمَعْنَى الّذِي بَيّنّاهُ .

كَعْبٌ يَرُدّ عَلَى ابْنِ الزّبَعْرَى
وَأَجَابَهُ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ أَيْضًا ، فَقَالَ
أَبْقَى لَنَا حَدَثُ الْحُرُوبِ بَقِيّةً ... مِنْ خَيْرِ نِحْلَةِ رَبّنَا الْوَهّابِ
بَيْضَاءَ مُشْرِفَةَ الذّرَى وَمَعَاطِنًا ... حُمّ الْجُذُوعِ غَزِيرَةَ الْأَحْلَابِ
كَاللّوبِ يُبْذَلُ جَمّهَا وَحَفِيلُهَا ... لِلْجَارِ وَابْنِ الْعَمّ وَالْمُنْتَابِ
وَنَزَائِعًا مِثْلَ السّرَاجِ نَمَى بِهَا ... عَلَفُ الشّعِيرِ وَجِزّةُ لِلْقَضّابِ
عَرِيَ الشّوَى مِنْهَا وَأَرْدَفَ نَحْضَهَا ... جُرْدُ الْمُتُونِ وَسَائِرُ الْآرَابِ
قُودًا تَرَاحُ إلَى الصّيَاحِ إذْ غَدَتْ ... فِعْلَ الضّرَاءِ تَرَاحُ لِلْكُلّابِ
وَتَحُوطُ سَائِمَةَ الدّيَارِ وَتَارَةً ... تُرْدِي الْعِدَا وَتَثُوبُ بِالْأَسْلَابِ
حُوشُ الْوُحُوشِ مَطَارَةٌ عِنْدَ الْوَغَى ... عُبْسُ اللّقَاءِ مُبِينَةُ الْإِنْجَابِ
عُلِفَتْ عَلَى دَعَةٍ فَصَارَتْ بُدّنًا ... دُخْسَ الْبَضِيعِ خَفِيفَةَ الْأَقْصَابِ
يَغْدُونَ بِالزّغْفِ الْمُضَاعِفِ شَكّهُ ... وَبِمُتْرَصَاتِ فِي الثّقَافِ صِيَابِ
وَصَوَارِمٍ نَزَعَ الصّيَاقِلُ غَلْبَهَا ... وَبِكُلّ أَرْوَعَ مَاجِدِ الْأَنْسَابِ
يَصِلُ الْيَمِينَ بِمَارِنِ مُتَقَارِبٍ ... وُكِلَتْ وَقِيعَتُهُ إلَى خَبّابِ
وَأَغَرّ أَزْرَقَ فِي الْقَنَاةِ كَأَنّهُ ... فِي طُخْيَةِ الظّلْمَاءِ ضَوْءَ شِهَابِ
وَكَتِيبَةٍ يَنْفِي الْقِرَانُ قَتِيرَهَا ... وَتَرُدّ حَدّ قَوَاحِذِ النّشّابِ
جَأْوَى مُلَمْلَمَةٍ كَأَنّ رِمَاحَهَا ... فِي كُلّ مَجْمَعَةٍ ضَرِيمَةُ غَابِ
يَأْوِي إلَى ظِلّ اللّوَاءِ كَأَنّهُ ... فِي صَعْدَةِ الْخَطّيّ فَيْءُ عُقَابِ
أَعْيَتْ أَبَا كَرِبٍ وَأَعْيَتْ تُبّعًا ... وَأَبَتْ بَسَالَتُهَا عَلَى الْأَعْرَابِ
وَمَوَاعِظٌ مِنْ رَبّنَا نُهْدَى بِهَا ... بِلِسَانِ أَزْهَرَ طَيّبِ الْأَثْوَابِ
عُرِضَتْ عَلَيْنَا فَاشْتَهَيْنَا ذِكْرَهَا ... مِنْ بَعْدِمَا عُرِضَتْ عَلَى الْأَحْزَابِ
حِكَمًا يَرَاهَا الْمُجْرِمُونَ بِزَعْمِهِمْ ... حَرَجًا وَيَفْهَمُهَا ذَوُو الْأَلْبَابِ
جَاءَتْ سَخِينَةُ كَيْ تُغَالِبَ رَبّهَا ... فَلَيُغْلَبَنّ مُغَالِبُ الْغَلّابِ
[ ص 465 ] [ ص 466 ] [ ص 467 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : حَدّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ قَالَ حَدّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَبّادِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الزّبَيْرِ ، قَالَ لَمّا قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ :
جَاءَتْ سَخِينَةُ كَيْ تُغَالِبَ رَبّهَا ... فَلَيُغْلَبَنّ مُغَالِبُ الْغَلّابِ
قَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَقَدْ شَكَرَك اللّهُ يَا كَعْبُ عَلَى قَوْلِك هَذَا .
Sمِنْ شِعْرِ كَعْبٍ
[ ص 464 ] بَيْضَاءَ مُشْرِفَةَ الذّرَى وَمَعَاطِنًا
يَعْنِي : الْآطَامَ وَقَوْلُهُ مَعَاطِنًا يَعْنِي : مَنَابِتَ النّخْلِ عِنْدَ الْمَاءِ شَبّهَهَا بِمَعَاطِنِ الْإِبِلِ وَهِيَ مَبَارِكُهَا عِنْدَ الْمَاءِ . وَقَوْلُهُ حُمّ الْجُذُوعِ وَصَفَهَا بِالْحُمّةِ وَهِيَ السّوَادُ لِأَنّهَا تَضْرِبُ إلَى السّوَادِ مِنْ الْخُضْرَةِ وَالنّعْمَةِ وَشَبّهَ مَا يُجْتَنَى مِنْهَا بِالْحَلَبِ فَقَالَ غَزِيرَةَ الْأَحْلَابِ . وَقَوْلُهُ كَاللّوبِ اللّوبُ جَمْعُ لُوبَةٍ وَاللّابُ جَمْعُ لَابَةٍ وَهِيَ الْحَرّةُ ، يُقَالُ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا مِثْلُ فُلَانٍ وَلَا يُقَالُ ذَلِكَ فِي كُلّ بَلَدٍ فَقَدْ قَالَ شَبِيبُ بْنُ شَبِيبَةَ لِرَجُلِ نَسَبَهُ إلَى التّصْحِيفِ فِي حَدِيثِ السّقْطِ إنّهُ يَظِلّ مُحْبَنْطِئًا عَلَى بَابِ الْجَنّةِ فَقَالَ لَهُ شَبِيبٌ بِالظّاءِ مَنْقُوطَةً فَقَالَ الرّجُلُ أَخْطَأْت ، إنّمَا هُوَ بِالطّاءِ . قَالَ الرّاجِزُ
إِنّي إِذَا اسْتَنْشَدْت لا أَحْبَنْطِي وَلَا ... أُحِبّ كَثْرَةَ التّمَطّي
[ ص 465 ] فَقَالَ لَهُ شَبِيبٌ أَتُلَحّنُنِي وَمَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا أَفْصَحُ مِنّي ، فَقَالَ لَهُ الرّجُلُ وَهَذِهِ لَحْنَةٌ أُخْرَى ، أوَ لِلْبَصْرَةِ لَابَتَانِ ؟ إنّمَا اللّابَتَانِ لِلْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ . وَقَوْلُهُ يُبْذَلُ جَمّهَا وَحَفِيلُهَا ، أَيْ الْكَثِيرُ مِنْهَا ، وَالْمُنْتَابِ الزّائِرُ مُفْتَعِلٌ مِنْ نَابَ يَنُوبُ إذَا أَلَمّ . وَقَوْلُهُ وَنَزَائِعًا مِثْلَ السّرَاجِ يَعْنِي : الْخَيْلَ الْعَرَبِيّةَ الّتِي نَزَعَتْ مِنْ الْأَعْدَاءِ .
وَقَوْلُهُ مِثْلَ السّرَاجِ بِالْجِيمِ كَذَا وَقَعَ فِي الْأَصْلِ أَيْ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهَا كَالسّرَاجِ وَوَقَعَ فِي الْحَاشِيَةِ بِالْحَاءِ وَفَسّرَهُ فَقَالَ جَمْعُ سِرْحَانٍ وَهُوَ الذّئْبُ وَهَذَا الْجَمْعُ إنّمَا جَازَ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ الزّائِدَتَيْنِ مِنْ الِاسْمِ وَهِيَ الْأَلِفُ وَالنّونُ وَلَوْ جَمَعَهُ عَلَى لَفْظِهِ لَقَالَ سَرَاحِينَ . وَقَوْلُهُ وَجِزّةُ الْمِقْضَابِ الْمِقْضَابُ مَزْرَعَةٌ وَجِزّتُهَا مَا يُجَزّ مِنْهَا لِلْخَيْلِ .
وَقَوْلُهُ عَرِيَ الشّوَى مِنْهَا ، يَعْنِي : الْقَوَائِمَ . وَالنّحْضُ اللّحْمُ . وَالْآرَابُ الْمَفَاصِلُ وَاحِدُهُمَا إرْبٌ وَفِي الْحَدِيثِ أُمِرْت أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ آرَابٍ . وَقَوْلُهُ قُودًا ، أَيْ طِوَالُ الْأَعْنَاقِ وَالضّرَاءُ الْكِلَابُ الضّارِيَةُ وَفِي الْحَدِيثِ إنّ قَيْسًا ضِرَاءُ اللّهِ فِي الْأَرْضِ أَيّ أَشُدّهُ الضّارِيَةُ وَالْكُلّابُ جَمْعُ كَالِبٍ وَهُوَ صَاحِبُ الْكِلَابِ الّذِي يَصِيدُ بِهَا .
وَقَوْلُهُ عُبْسُ اللّقَاءِ جَمْعُ عَبُوسٍ . [ ص 466 ] دُخْسَ الْبَضِيعِ . الْبَضْعُ اللّحْمُ الْمُسْتَطِيلُ وَالدّخِيسُ مِنْ اللّحْمِ الْكَثِيرُ .
وَقَوْلُهُ خَفِيفَةَ الْأَقْصَابِ يَعْنِي : جَمْعَ قُصْبٍ وَهُوَ الْمِعَى وَمِنْهُ سُمّيَ الْجَزّارُ قَصّابًا ، وَقَوْلُهُ يَعْدُونَ بِالزّغْفِ أَيّ بِالدّرُوعِ . وَقَوْلُهُ شَكّهُ حِلَقُهُ وَنَسْجُهُ وَقَوْلُهُ وَبِمُتْرَصَاتِ فِي الثّقَافِ صِبَابِ
الْمُتْرَصَاتُ الْمُحْكَمَةُ يَعْنِي : الرّمَاحَ الْمُثَقّفَةَ .
وَقَوْلُهُ نَزَعَ الصّيَاقِلُ عَلْبَهَا ، أَيْ جُسْأَتَهَا وَخُشُونَةَ دَرْئِهَا ، يُقَالُ عَلِبَ اللّحْمُ إذَا لَمْ يَكُنْ رَخْصًا ، وَعَلِبَ النّبَاتُ إذَا جَسَأَ .
وَقَوْلُهُ بِمَارِنِ مُتَقَارِبٍ . الْمَازِنُ اللّيّنُ وَوَقِيعَتُهُ صَقْلُهُ وَخَبّابُ اسْمُ صَيْقَلٍ .
وَقَوْلُهُ وَأَغَرّ أَزْرَقَ يَعْنِي : الرّمْحَ وَطُخْيَةِ الظّلْمَاءِ أَيْ شِدّتِهَا ، وَطَخَاءُ الْقَلْبِ ظُلْمَتُهُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ فِي السّفَرْجَلِ إنّهُ يَذْهَبُ بِطَخَاءِ الْقَلْبِ . [ ص 467 ] جَاءَتْ سَخِينَةُ كَيْ تُغَالِبَ رَبّهَا
كَانَ هَذَا الِاسْمُ مِمّا سُمّيَتْ بِهِ قُرَيْشٌ قَدِيمًا ، ذَكَرُوا أَنّ قُصَيّا كَانَ إذَا ذُبِحَتْ ذَبِيحَةٌ أَوْ نُحِرَتْ نَحِيرَةٌ بِمَكّةَ أَتَى بِعَجُزِهَا ، فَصَنَعَ مِنْهُ خَزِيرَةً وَهُوَ لَحْمٌ يُطْبَخُ بِبُرّ فَيُطْعِمُهُ النّاسَ فَسُمّيَتْ قُرَيْشٌ بِهَا سَخِينَةَ . وَقِيلَ إنّ الْعَرَبَ كَانُوا إذَا أَسْنَتُوا أَكَلُوا الْعِلْهِزَ وَهُوَ الْوَبْرُ وَالدّمُ وَتَأْكُلُ قُرَيْشٌ الْخَزِيرَةَ وَالْفَتّةَ فَنَفِسَتْ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فَلَقّبُوهُمْ سَخِينَةَ وَلَمْ تَكُنْ قُرَيْشٌ تَكْرَهُ هَذَا اللّقَبَ وَلَوْ كَرِهَتْهُ مَا اسْتَجَازَ كَعْبٌ أَنْ يَذْكُرَهُ وَرَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مِنْهُمْ وَلَتَرَكَهُ أَدَبًا مَعَ النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ إذْ كَانَ قُرَشِيّا ، وَلَقَدْ اُسْتُنْشِدَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ مَا قَالَهُ الْهَوَازِنِيّ فِي قُرَيْشٍ :
يَا شَدّةً مَا شَدَدْنَا غَيْرَ كَاذِبَةٍ ... عَلَى سَخِينَةَ لَوْلَا اللّيْلُ وَالْحَرَمُ
فَقَالَ مَا زَادَ هَذَا عَلَى أَنْ اسْتَثْنَى ، وَلَمْ يَكْرَهْ سَمَاعَ التّلْقِيبِ بِسَخِينَةَ فَدَلّ هَذَا عَلَى أَنّ هَذَا اللّقَبَ لَمْ يَكُنْ مَكْرُوهًا عِنْدَهُمْ وَلَا كَانَ فِيهِ تَعْيِيرٌ لَهُمْ بِشَيْءِ يُكْرَهُ .

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ [ ص 468 ] وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ فِي يَوْمِ الْخَنْدَقِ :
مَنْ سَرّهُ ضَرْبٌ يُمَعْمِعُ بَعْضُهُ ... بَعْضًا كَمَعْمَعَةِ الْأَبَاءِ الْمُحْرَقِ
فَلْيَأْتِ مَأْسَدَةً تُسَنّ سُيُوفُهَا ... بَيْنَ الْمَذَادِ وَبَيْنَ جَزْعِ الْخَنْدَقِ
دَرِبُوا بِضَرْبِ الْمُعْلِمِينَ وَأَسْلَمُوا ... مُهُجَاتِ أَنْفُسِهِمْ لِرَبّ الْمَشْرِقِ
فِي عُصْبَةٍ نَصَرَ الْإِلَهُ نَبِيّهُ ... بِهِمْ وَكَانَ بِعَبْدِهِ ذَا مَرْفِقِ
فِي كُلّ سَابِغَةٍ تَخُطّ فُضُولُهَا ... كَالنّهْيِ هَبّتْ رِيحُهُ الْمُتَرَقْرِقِ
بَيْضَاءَ مُحْكَمَةٍ كَأَنّ قَتِيرَهَا ... حَدَقُ الْجَنَادِبِ ذَاتِ شَكّ مُوثَقِ
جَدْلَاءَ يَحْفِزُهَا نِجَادُ مُهَنّدٍ ... صَافِي الْحَدِيدَةِ صَارِمٍ ذِي رَوْنَقِ
تِلْكُمْ مَعَ التّقْوَى تَكُونُ لِبَاسَنَا ... يَوْمَ الْهِيَاجِ وَكُلّ سَاعَةِ مَصْدَقِ
نَصِلُ السّيُوفَ إذَا قَصُرْنَ بِخَطْوِنَا ... قُدُمًا وَنُلْحِقُهَا إذَا لَمْ تَلْحَقْ
فَتَرَى الْجَمَاجِمَ ضَاحِيًا هَامَاتُهَا ... بَلْهَ الْأَكُفّ كَأَنّهَا لَمْ تُخْلَقْ
نَلْقَى الْعَدُوّ بِفَخْمَةِ مَلْمُومَةٍ ... تَنْفِي الْجُمُوعَ كَقَصْدِ رَأْسِ الْمَشْرِقِ
وَنُعِدّ لِلْأَعْدَاءِ كُلّ مُقَلّصٍ ... وَرْدٍ وَمَحْجُولِ الْقَوَائِمِ أَبْلَقِ
تُرْدِي بِفُرْسَانِ كَأَنّ كُمَاتَهُمْ ... عِنْدَ الْهِيَاجِ أُسُودُ طَلّ مُلْثِقِ
صُدُقٌ يُعَاطُونَ الْكُمَاةَ حُتُوفَهُمْ ... تَحْتَ الْعَمَايَةِ بِالْوَشِيجِ الْمُزْهِقِ
أَمَرَ الْإِلَهُ بِرَبْطِهَا لِعَدُوّهِ ... فِي الْحَرْبِ إنّ اللّهَ خَيْرُ مُوَفّقِ
لِتَكُونَ غَيْظًا وَحُيّطًا ... لِلدّارِ إنْ دَلَفَتْ خُيُولُ النّزّقِ
وَيُعِينُنَا اللّهُ الْعَزِيزُ بِقُوّةِ ... مِنْهُ وَصِدْقِ الصّبْرِ سَاعَةَ نَلْتَقِي
وَنُطِيعُ أَمْرَ نَبِيّنَا وَنُجِيبُهُ ... وَإِذَا دَعَا لِكَرِيهَةِ لَمْ نُسْبَقْ
وَمَتَى يُنَادِ إلَى الشّدَائِدِ نَأْتِهَا ... وَمَتَى نَرَ الْحَوْمَاتِ فِيهَا نُعْنِقْ
مَنْ يَتّبِعْ قَوْلَ النّبِيّ فَإِنّهُ ... فِينَا مُطَاعُ الْأَمْرِ حَقّ مُصَدّقِ
فَبِذَاكَ يَنْصُرُنَا وَيَظْهَرُ عِزّنَا ... وَيُصِيبُنَا مِنْ نَيْلِ ذَلِكَ بِمِرْفَقِ
إنّ الّذِينَ يُكَذّبُونَ مُحَمّدًا ... كَفَرُوا وَضَلّوا عَنْ سَبِيلِ الْمُتّقِي
[ ص 469 ] [ ص 470 ] [ ص 471 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَنْشَدَنِي بَيْتَهُ تِلْكُمْ مَعَ التّقْوَى تَكُونُ لِبَاسَنَا
وَبَيْتُهُ مَنْ يَتّبِعْ قَوْلَ النّبِيّ
أَبُو زَيْدٍ . وَأَنْشَدَنِي :
تَنْفِي الْجُمُوعَ ... كَرَأْسِ قُدْسِ الْمَشْرِقِ .
Sشِعْرٌ آخَرُ لِكَعْبِ
وَفِي شِعْرِ كَعْبٍ أَيْضًا : مَنْ سَرّهُ ضَرْبٌ يُمَعْمِعُ بَعْضُهُ
[ ص 468 ] وَنَحْوِهَا ، وَالْكَلْحَبَةُ صَوْتُهَا فِيمَا دَقّ كَالسّرَاجِ وَنَحْوِهِ وَالْقَطْمَطَةُ صَوْتُ الْغَلَيَانِ وَكَذَلِكَ الْغَرْغَرَةُ وَالْجَعْجَعَةُ صَوْتُ الرّحَى ، وَالدّرْدَبَةُ صَوْتُ الطّبْلِ . وَقَوْلُهُ الْأَبَاءَ هُوَ الْقَصَبُ وَاحِدَتُهَا أَبَاءَةٌ وَالْهَمْزَةُ الْآخِرَةُ فِيهَا بَدَلٌ مِنْ يَاءٍ قَالَهُ ابْنُ جِنّيّ ، لِأَنّهُ عِنْدَهُ مِنْ الْأَبَايَةِ كَأَنّ الْقَصَبَ يَأْبَى عَلَى مَنْ أَرَادَهُ بِمَضْغِ أَوْ نَحْوِهِ وَيَشْهَدُ لِمَا قَالَهُ ابْنُ جِنّيّ قَوْلُ الشّاعِرِ [ بِشْرُ بْنُ أَبِي خَازِمٍ ] :
يَرَاهُ النّاسُ أَخْضَرَ مِنْ بَعِيدٍ ... وَتَمْنَعُهُ الْمَرَارَةُ وَالْإِبَاءُ
وَقَوْلُهُ فَلْيَأْتِ مَأْسَدَةً هِيَ الْأَرْضُ الْكَثِيرَةُ الْأُسْدِ وَكَذَلِكَ الْمَسْبَعَةُ الْأَرْضُ الْكَثِيرَةُ السّبَاعِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَأْسَدَةٌ جَمْعَ أَسَدٍ كَمَا قَالُوا : مَشْيَخَةً وَمَعْلَجَةً حَكَى سِيبَوَيْهِ مَشْيَخَةً وَمَشْيُوخَاءَ وَمَعْلَجَةً وَمَعْلُوجَاءَ وَأَلْفَيْت أَيْضًا فِي النّبَاتِ مَسْلُومَاءَ لِجَمَاعَةِ السّلَمِ وَمَشْيُوحَاءَ لِلشّيحِ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ الْكَثِيرُ . وَقَوْلُهُ تَسُنّ سُيُوفَهَا ، بِنَصْبِ الْفَاءِ وَهُوَ الْأَصَحّ عِنْدَ الْقَاضِي أَبِي الْوَلِيدِ وَوَقَعَ فِي الْأَصْلِ عِنْدَ أَبِي بَحْرٍ تُسَنّ سُيُوفُهَا بِالرّفْعِ وَمَعْنَى الرّوَايَةِ الْأُولَى : تَسُنّ أَيْ تَصْقُلُ وَمَعْنَى الرّوَايَةِ الثّانِيَةِ أَيْ تُسَنّ لِلْأَبْطَالِ وَلِمَنْ بَعْدَهَا مِنْ الرّجَالِ سَنّةَ الْجُرْأَةِ وَالْإِقْدَامِ . وَقَوْلُهُ فِي وَصْفِ الدّرْعِ جَدْلَاءَ يَحْفِزُهَا نِجَادُ مُهَنّدٍ
جَدْلَاءَ مِنْ الْجَدَلِ وَهُوَ قُوّةُ الْفَتْلِ وَمِنْهُ الْأَجْدَلُ لِلصّقْرِ وَفِي هَذَا الْبَيْتِ دَلِيلٌ عَلَى قُوّةِ امْتِنَاعِ الصّرْفِ فِي أَجْدَلَ وَأَنّهُ مِنْ بَابِ أَفْعَلَ الّذِي مُؤَنّثُهُ فَعْلَاءُ وَمَنْ صَرَفَهُ شَبّهَهُ [ ص 469 ] أَضْعَفُ الْوَجْهَيْنِ وَإِنْ كَانُوا قَدْ قَالُوا فِي جَمْعِهِ أَجَادِلُ مِثْلَ أَرَانِبَ فَقَدْ قَالُوا أَيْضًا : الْأَجَارِعُ وَالْأَبَاطِحُ فِي جَمْعِ أَجْرَعَ وَأَبْطَحَ وَلَكِنّهُمْ لَا يَصْرِفُونَهُمَا مِنْ حَيْثُ قَالُوا فِي الْمُؤَنّثِ بَطْحَاءَ وَجَرْعَاءَ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي أَبْرَقَ وَبَرْقَاءَ . وَقَوْلُهُ يَحْفِزُهَا نِجَادُ مُهَنّدٍ كَقَوْلِ [ أَبِي قَيْسِ ] بْنِ الْأَسْلَتِ فِي وَصْفِ الدّرْعِ
أَحْفِزُهَا عَنّي بِذِي رَوْنَقٍ ... أَبْيَضَ مِثْلِ الْمَلِحِ قَطّاعِ
وَذَلِكَ أَنّ الدّرْعَ إذَا طَالَتْ فُضُولُهَا حَفَزُوهَا ، أَيْ شَمّرُوهَا فَرَبَطُوهَا بِنِجَادِ السّيْفِ . وَقَوْلُهُ تِلْكُمْ مَعَ التّقْوَى تَكُون لِبَاسَنَا
مِنْ أَجْوَدِ الْكَلَامِ وَأَمْلَحِ الِالْتِفَاتَاتِ لِأَنّهُ قَوْلٌ انْتَزَعَهُ مِنْ قَوْلِ اللّهِ تَعَالَى : { وَلِبَاسُ التّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ } [ الْأَعْرَافَ 26 ] . وَقَالَ الشّاعِرُ
إنّي كَأَنّي أَرَى مَنْ لَا وَفَاءَ لَهُ ... وَلَا أَمَانَةَ وَسْطَ الْقَوْمِ عُرْيَانَا
وَمَوْضِعُ الْإِجَادَةِ وَالْإِحْسَانِ مِنْ قَوْلِ كَعْبٍ أَنّهُ جَعَلَ لِبَاسَ الدّرْعِ تَبَعًا لِلِبَاسِ التّقْوَى ، لِأَنّ حَرْفَ مَعَ تُعْطِي فِي الْكَلَامِ أَنّ مَا بَعْدَهُ هُوَ الْمَتْبُوعُ وَلَيْسَ بِتَابِعِ وَقَدْ احْتَجّ الصّدّيقُ عَلَى الْأَنْصَارِ يَوْمَ السّقِيفَةِ بِأَنْ قَالَ لَهُمْ أَنْتُمْ الّذِينَ آمَنُوا ، وَنَحْنُ الصّادِقُونَ وَإِنّمَا أَمَرَكُمْ اللّهُ أَنْ تَكُونُوا مَعَنَا فَقَالَ { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ وَكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ } [ التّوْبَةَ 119 ] . وَالصّادِقُونَ هُمْ الْمُهَاجِرُونَ . قَالَ اللّهُ تَعَالَى : { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ } إلَى قَوْلِهِ { أُولَئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ } [ الْحَشْرَ 8 ] .
حُكْمُ بَلْهَ وَمَا بَعْدَهَا
وَقَوْلُهُ بَلْهَ الْأَكُفّ بِخَفْضِ الْأَكُفّ هُوَ الْوَجْهُ وَقَدْ رُوِيَ بِالنّصْبِ لِأَنّهُ مَفْعُولٌ أَيْ دَعْ الْأَكُفّ فَهَذَا كَمَا تَقُولُ رُوَيْدَ زَيْدٍ وَرُوَيْدَ زَيْدَ بِلَا تَنْوِينٍ مَعَ النّصْبِ وَبَلْهَ كَلِمَةٌ بِمَعْنَى [ ص 470 ] عِنْدِي مِنْ لَفْظِ الْبَلَهِ وَالتّبَالُهِ وَهُوَ مِنْ الْغَفْلَةِ لِأَنّ مَنْ غَفَلَ عَنْ الشّيْءِ تَرَكَهُ وَلَمْ يُسْأَلْ عَنْهُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ بَلْهَ الْأَكُفّ أَيْ لَا تَسْأَلْ عَنْ الْأَكُفّ إذَا كَانَتْ الْجَمَاجِمُ ضَاحِيَةً مُقَطّعَةً وَفِي الْحَدِيثِ يَقُولُ اللّهُ تَعَالَى : أَعْدَدْت لِعِبَادِي الصّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ بَلْهَ مَا أَطْلَعْتهمْ عَلَيْهِ . وَقَوْلُهُ بِفَخْمَةِ مَلْمُومَةٍ أَيْ كَتِيبَةٍ مَجْمُوعَةٍ . وَقَوْلُهُ كَفَصْدِ رَأْسِ الْمَشْرِقِ الصّحِيحُ فِيهِ مَا رَوَاهُ ابْنُ هِشَامٍ عَنْ أَبِي زَيْدٍ كَرَأْسِ قُدْسِ الْمَشْرِقِ لِأَنّ قُدْسَ جَبَلٌ مَعْرُوفٌ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَشْرِقِ . وَقَوْلُهُ عِنْدَ الْهِيَاجِ أُسُودُ طَلّ مُلْثِقِ
الطّلّ مَعْرُوفٌ وَاللّثَقُ مَا يَكُونُ عَنْ الطّلّ مِنْ زَلَقٍ وَطِينٍ وَالْأُسْدُ أَجْوَعَ مَا تَكُونُ وَأَجْرَأَ فِي ذَلِكَ الْحِينِ .

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ فِي يَوْمِ الْخَنْدَقِ :
لَقَدْ عَلِمَ الْأَحْزَابُ حِينَ تَأَلّبُوا ... عَلَيْنَا وَرَامُوا دِينَنَا مَا نُوَادِعُ
أَضَامِيمَ مِنْ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ أَصْفَقَتْ ... وَخِنْدِفَ لَمْ يَدْرُوا بِمَا هُوَ وَاقِعُ
يَذُودُونَنَا عَنْ دِينِنَا وَنَذُودُهُمْ ... عَنْ الْكُفْرِ وَالرّحْمَنُ رَاءٍ وَسَامِعُ
إذَا غَايَظُونَا فِي مَقَامٍ أَعَانَنَا ... عَلَى غَيْظِهِمْ نَصْرٌ مِنْ اللّهِ وَاسِعُ
وَذَلِكَ حِفْظُ اللّهِ فِينَا وَفَضْلُهُ ... عَلَيْنَا وَمَنْ لَمْ يَحْفَظْ اللّهُ ضَائِعُ
هَدَانَا لِدِينِ الْحَقّ وَاخْتَارَهُ لَنَا ... وَلِلّهِ فَوْقَ الصّانِعِينَ صَنَائِعُ
[ ص 472 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ .
Sقَصِيدَةُ كَعْبٍ الْعَيْنِيّةُ
[ ص 471 ] الْعَيْنِيّةِ : أَضَامِيمَ مِنْ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ أَصْفَقَتْ
وَاحِدُ الْأَضَامِيمِ إضْمَامَةٌ وَهُوَ كُلّ شَيْءٍ مُجْتَمَعٍ يُقَالُ إضْمَامَةٌ مِنْ النّاسِ وَإِضْمَامَةٌ مِنْ كُتُبٍ .
قَيْسُ عَيْلَانَ وَقَيْسُ كُبّةَ
وَقَوْلُهُ مِنْ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَهْلِ النّسَبِ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ إنّ قَيْسًا هُوَ عَيْلَانُ لَا ابْنُهُ قَالَ وَعُرِفَ قَيْسُ بْنُ عَيْلَانَ بِفَرَسِ كَانَ لَهُ يُسَمّى : عَيْلَانًا ، كَمَا عُرِفَ قَيْسُ كُبّةَ مِنْ بَجِيلَةَ بِفَرَسِ اسْمُهُ كُبّةُ وَكَانَ هُوَ وَقَيْسُ عَيْلَانَ مُتَجَاوِرَيْنِ فَكَانَ إذَا ذُكِرَ أَحَدُهُمَا وَقِيلَ أَيّ الْقَيْسَيْنِ هُوَ قِيلَ قَيْسُ عَيْلَانَ أَوْ قَيْسُ كُبّةَ وَقِيلَ إنّ عَيْلَانَ اسْمُ كَلْبٍ ، كَانَ لَهُ وَقِيلَ عَيْلَانُ اسْمُ جَبَلٍ وُلِدَ عِنْدَهُ وَقِيلَ اسْمُ غُلَامٍ لِمُضَرَ كَانَ حَضَنَهُ [ ص 472 ] وَقِيلَ كَانَ جَوَادًا أَتْلَفَ مَالَهُ فَأَدْرَكَهُ عَيْلَةُ فَسُمّيَ عَيْلَانَ وَمِمّا يُحْتَجّ بِهِ لِلْقَوْلِ الْآخَرِ قَوْلُ رُؤْبَةَ وَقَيْسَ عَيْلَانَ وَمَنْ تَقَيّسَا
.

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ فِي يَوْمِ الْخَنْدَقِ :
أَلَا أَبْلِغْ قُرَيْشًا أَنّ سَلْعًا ... وَمَا بَيْنَ الْعُرَيْضِ إلَى الصّمَادِ
نَوَاضِحُ فِي الْحُرُوبِ مُدَرّبَاتٌ ... وَخُوصٌ ثُقّبَتْ مِنْ عَهْدِ عَادِ
رَوَاكِدَ يَزْخَرُ الْمُرّارُ فِيهَا ... فَلَيْسَتْ بِالْجِمَامِ وَلَا الثّمَادِ
كَأَنّ الْغَابَ وَالْبَرْدِيّ فِيهَا ... أَجَشّ إذَا تَبَقّعَ لِلْحَصَادِ
وَلَمْ نَجْعَلْ تِجَارَتَنَا اشْتِرَاءَ الْحَمِ ... يرِ لِأَرْضِ دَوْسٍ أَوْ مُرَادِ
بِلَادٌ لَمْ تَثُرْ إلّا لِكَيْمَا ... نُجَالِدَ إنْ بِشِطْمٍ لِلْجِلَادِ
أَثَر سِكّة الأَنْبَاط فِيهَا
فَلَم تَر مِثْلَها جَلْهَاتِ وَاد
قَصَرْنَا كُلّ ذِي حُضْرٍ وَطُولٍ ... عَلَى الْغَايَاتِ مُقْتَدِرٍ جَوَادِ
أَجِيبُونَا إلَى مَا نَجْتَدِيكُمْ ... مِنْ الْقَوْلِ الْمُبَيّنِ وَالسّدَادِ
وَإِلّا فَاصْبِرُوا لِجِلَادِ يَوْمٍ ... لَكُمْ مِنّا إلَى شَطْرِ الْمِدَادِ
نُصَبّحُكُمْ بِكُلّ أَخِي حُرُوبٍ ... وَكُلّ مُطَهّمٍ سَلِسِ الْقِيَادِ
وَكُلّ طِمِرّةٍ خَفِقٍ حَشَاهَا ... تَدِفّ دَفِيفَ صَفْرَاءِ الْجَرَادِ
وَكُلّ مُقَلّصٍ الْآرَابِ نَهْدٍ ... تَمِيمِ الْخَلْقِ مِنْ أُخْرٍ وَهَادِي
خُيُولٌ لَا تُضَاعُ إذَا أُضِيعَتْ ... خُيُولُ النّاسِ فِي السّنَةِ الْجَمَادِ
يُنَازِعْنَ الْأَعِنّةَ مُصْغِيَاتٍ ... إذَا نَادَى إلَى الْفَزَعِ الْمُنَادِي
إذَا قَالَتْ لَنَا النّذُرُ اسْتَعِدّوا ... تَوَكّلْنَا عَلَى رَبّ الْعِبَادِ
وَقُلْنَا لَنْ يُفَرّجَ مَا لَقِينَا ... سِوَى ضَرْبِ الْقَوَانِسِ وَالْجِهَادِ
فَلَمْ تَرَ عُصْبَةً فِيمَنْ لَقِينَا ... مِنْ الْأَقْوَامِ مِنْ قَارٍ وَبَادِي
أَشَدّ بَسَالَةً مِنّا إذَا مَا ... أَرَدْنَاهُ وَأَلْيَنَ فِي الْوِدَادِ
إذَا مَا نَحْنُ أَشْرَجْنَا عَلَيْهَا ... جِيَادَ الْجُدْلِ فِي الْأُرَبِ الشّدَادِ
قَذَفْنَا فِي السّوَابِغِ كُلّ صَقْرٍ ... كَرِيمٍ غَيْرِ مُعْتَلِثِ الزّنَادِ
أَشَمّ كَأَنّهُ أَسَدٌ عَبُوسٌ ... غَدَاةَ بَدَا بِبَطْنِ الْجِزْعِ غَادِي
يُغَشّى هَامَةُ الْبَطَلِ الْمُذَكّى ... صَبِيّ السّيْفِ مُسْتَرْخِي النّحَادِ
لِنُظْهِرَ دِينَك اللّهُمّ إنّا ... بِكَفّك فَاهْدِنَا سُبُلَ الرّشَادِ
[ ص 473 ] [ ص 474 ] [ ص 475 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ بَيْتُهُ قَصَرْنَا كُلّ ذِي حُضْرٍ وَطُولٍ
وَالْبَيْتُ الّذِي يَتْلُوهُ وَالْبَيْتُ الثّالِثُ مِنْهُ وَالْبَيْتُ الرّابِعُ مِنْهُ وَبَيْتُهُ أَشَمّ كَأَنّهُ أَسَدٌ عَبُوسٌ
وَالْبَيْتُ الّذِي يَتْلُوهُ عَنْ أَبِي زَيْدٍ الْأَنْصَارِيّ .
Sشِعْرُ كَعْبٍ فِي الْخَنْدَقِ
وَقَوْلُهُ فِي الدّالِيّةِ وَمَا بَيْنَ الْعُرَيْضِ إلَى الصّمَادِ
الْعُرَيْضِ : مَوْضِعٌ وَالصّمَادُ : جَمْعُ صَمْدٍ وَهُوَ مَا غَلُظَ مِنْ الْأَرْضِ . وَقَوْلُهُ نَوَاضِحُ فِي الْحُرُوبِ . يَعْنِي : حَدَائِقَ نَخْلٍ تُسْقَى بِالنّضْحِ وَأَرَادَ بِالْخُوصِ آبَارًا ، وَإِنّمَا جَعَلَ الْبِئْرَ خُوصًا لِأَنّ الْعَيْنَ الْخَوْصَاءَ هِيَ الْغَائِرَةُ وَجَمْعُهَا خُوصٌ . فَعُيُونُ الْمَاءِ فِي الْآبَارِ كَذَلِكَ غَائِرَةٌ . وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي وَصْفِ الْإِبِلِ
مُحَبّسَةً بُزْلًا كَأَنّ عُيُونَهَا ... عُيُونُ الرّكَايَا أَنْكَزَتْهَا الْمَوَاتِحُ
وَقَوْلُهُ يَزْخَرُ الْمُرّارُ فِيهَا . الْمُرّارُ اسْمُ نَهَرٍ . [ ص 473 ]
كَأَنّ الْغَابَ وَالْبَرْدِيّ فِيهَا ... أَجَشّ إذَا تَبَقّعَ لِلْحَصَادِ
يُرِيدُ صَوْتَ حَفِيفِ الرّيحِ كَصَوْتِ الْأَجَشّ وَهُوَ الْأَبَحّ ، وَقَدْ يُوصَفُ النّبَاتُ أَيْضًا بِالْغُنّةِ مِنْ أَجْلِ حَفِيفِ الرّيحِ فِيهِ فَيُقَالُ رَوْضَةٌ غَنّاءُ وَقَدْ قِيلَ إنّمَا ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ صَوْتِ الذّبَابِ الّذِي يَكُونُ فِيهِ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ . وَقَوْلُهُ تَبَقّعَ لِلْحَصَادِ أَيْ صَارَتْ فِيهِ بُقَعٌ بِيضٌ مِنْ الْيَبْسِ يُقَالُ لِلزّرْعِ إذَا صَارَ كَذَلِكَ ارْقَاطّ وَاسْحَامّ وَاسْحَارّ وَإِذَا أَخَذَ السّبَلُ الْحَبّ قِيلَ أَلْحَمَ وَأَسْفَى مِنْ السّفَى ، وَأَشَعّ مِنْ الشّعَاعِ بِفَتْحِ الشّينِ وَكَسْرِهَا ، وَهُوَ السّفَى ، وَيُقَالُ أَسْبَلَ الزّرْعُ مِنْ السّبَلِ كَمَا يُقَالُ بَعِيرٌ حَظِلٌ وَأَحْظَلَ الْمَكَانُ مِنْ الْحَنْظَلِ وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ ، وَبَنُو تَمِيمٍ يَقُولُونَ سَبَلٌ وَأَمّا هَمْدَان ُ فَيُسَمّونَ السّنْبُلَ سُبُولًا ، وَالْوَاحِدَةُ سَبُولَةٌ فَقِيَاسُ لُغَتِهِمْ أَنْ يُقَالَ أَسْبَلَ وَإِنّمَا فَخَرَتْ الْأَنْصَارُ فِي هَذَا الشّعْرِ وَاَلّذِي قَبْلَهُ بِنَخْلِهَا وَآطَامِهَا ، إشَارَةً إلَى عِزّهَا وَمَنَعَتِهَا ، وَأَنّهَا لَمْ تُغْلَبُ عَلَى بِلَادِهَا عَلَى قَدِيمِ الدّهْرِ كَمَا أُجْلِيَتْ أَكْثَرُ الْأَعَارِيبِ عَنْ مَحَالّهَا ، وَأَزْعَجَهَا الْخَوْفُ عَنْ مَوَاطِنِهَا ، وَهَذَا الْمَعْنَى أَرَادَ حَسّانُ فِي قَوْلِهِ
أَوْلَادُ جَفْنَةَ حَوْلَ قَبْرِ أَبِيهِمْ ... قَبْرِ ابْنِ مَارِيَةَ الْكَرِيمِ الْمُفْضِلِ
لِأَنّ إقَامَتَهُمْ حَوْلَ قُبُورِ آبَائِهِمْ وَأَجْدَادِهِمْ دَلِيلٌ عَلَى مَنَعَتِهِمْ وَأَلّا مُغَالِبَ لَهُمْ عَلَى مَا تَخَيّرُوهُ مِنْ بِقَاعِ الْأَرْضِ وَآثَرُوهُ عِنْدَ ارْتِيَادِهِمْ . وَقَوْلُهُ أَثَرْنَا سِكّةَ الْأَنْبَاطِ فِيهَا
السّكّةُ النّخْلُ الْمُصْطَفّ ، أَيْ حَرَثْنَاهَا وَغَرَسْنَاهَا ، كَمَا تَفْعَلُ الْأَنْبَاطُ فِي أَمْصَارِهَا لَا تَخَافُ عَلَيْهَا كَيْدَ كَائِدٍ وَإِيّاهَا أَرَادَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِقَوْلِهِ خَيْرُ الْمَالِ سِكّةٌ مَأْبُورَةُ . وَالسّكّةُ أَيْضًا : السّنّةُ وَهِيَ الْحَدِيدَةُ الّتِي يَشُقّ بِهَا الْفَدّانُ الْأَرْضَ وَيُقَالُ لَهَا أَيْضًا : الْمَانُ وَهُوَ تَفْسِيرُ الْأَصْمَعِيّ ، وَفَسّرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ عَلَى الْمَعْنَى الْآخَرِ وَأَنّهَا النّخْلُ وَيُقَالُ أَيْضًا : أُبِيثَتْ الْأَرْضُ فِي مَعْنَى أُثِيرَتْ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَيُرْوَى فِي الْحَمَاسَةِ هَلُمّ إلَيْهَا قَدْ أُبِيثَتْ زُرُوعُهَا
[ ص 474 ]
وَحَقّ بَنِي شِغَارَةَ أَنْ يَقُولُوا ... لِصَخْرِ الْغَيّ مَاذَا تَسْتَبِيثُ
وَغَلِطَ أَبُو عُبَيْدٍ [ الْقَاسِمُ بْنُ سَلّامٍ ] فَجَعَلَ تَسْتَبِيثُ مِنْ نَبِيثَةِ الْبِئْرِ وَهُوَ تُرَابُهَا ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقَالَ تَسْتَنْبِيثُ بِنُونِ قَبْلَ الْبَاءِ . وَقَوْلُهُ جَلْهَاتِ وَادٍ .
الْجَلْهَاتُ مِنْ الْوَادِي مَا كَشَفَتْ عَنْهُ السّيُولُ الشّعْرَاءُ فَأَبْرَزَتْهُ وَهُوَ مِنْ الْجَلَهِ وَهُوَ انْحِسَارُ الشّعْرِ عَنْ مُقَدّمِ الرّأْسِ .
وَقَوْلُهُ صَفْرَاءِ الْجَرَادِ وَهِيَ الْخَيْفَانَةُ مِنْهَا ، وَهِيَ الّتِي أَلْقَتْ سُرُأَهَا ، أَيْ بَيْضَهَا ، وَهِيَ أَخَفّ طَيَرَانًا ، وَالْكُتْفَانُ مِنْ الْجَرَادِ أَكْبَرُ مِنْ الْخَيْفَانِ وَأَوّلُ أَمْرِ الْجَرَادِ دُودٌ وَيُقَالُ لَهُ الْغَمَص يُلْقِيهِ بَحْرُ الْيَمَنِ ، وَلَهُ عَلَامَةٌ قَبْلَ خُرُوجِهِ وَهُوَ بَرْقٌ يَلْمَعُ مِنْ ذَلِكَ الْبَحْرِ سَبْعَ عَشْرَةَ مَرّةً فَيَعْلَمُونَ بِخُرُوجِ الْجَرَادِ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ . وَقَوْلُهُ غَيْرِ مُعْتَلِثِ الزّنَادِ . [ ص 475 ] عُودٍ هُوَ وَأَصْلُ الِاعْتِلَاثِ الِاخْتِلَاطُ يُقَالُ عَلَثْت الطّعَامَ إذَا خَلَطْت حِنْطَةً بِشَعِيرِ وَالْعُلَاثَةُ الزّنْدُ الّذِي لَا يُورِي نَارًا . [ ص 476 ] [ ص 477 ] [ ص 478 ] [ ص 479 ] [ ص 480 ]

مُسَافِعٌ يَبْكِي عَمْرًا فِي شِعْرِهِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ مُسَافِعُ بْنُ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحَ يَبْكِي عَمْرَو بْنَ عَبْدِ وُدّ ، وَيَذْكُرُ قَتْلَ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ إيّاهُ
عَمْرُو بْنُ عَبْدٍ كَانَ أَوّلَ فَارِسٍ ... جَزِعَ الْمَذَادِ وَكَانَ فَارِسَ يَلْيَلِ
سَمْحُ الْخَلَائِقِ مَاجِدٌ ذُو مِرّةٍ ... يَبْغِي الْقِتَالَ بِشِكّةٍ لَمْ يَنْكُلْ
وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ حِينَ وَلّوْا عَنْكُمْ ... أَنّ ابْنَ عَبْدٍ فِيهِمْ لَمْ يَعْجَلْ
حَتّى تَكَنّفَهُ الْكُمَاةُ وَكُلّهُمْ ... يَبْغِي مَقَاتِلَهُ وَلَيْسَ بِمُؤْتَلِي
وَلَقَدْ تَكَنّفَتْ الْأَسِنّةُ فَارِسًا ... بِجَنُوبِ سَلْعٍ غَيْرَ نَكْسٍ أَمْيَلِ
تَسَلُ النّزَالَ عَلِيّ فَارِسَ غَالِبٍ ... بِجَنُوبِ سَلْعٍ لَيْتَهُ لَمْ يَنْزِلْ
فَاذْهَبْ عَلِيّ فَمَا ظَفِرْت بِمِثْلِهِ ... فَخْرًا وَلَا لَاقَيْت مِثْلَ الْمُعْضِلِ
نَفْسِي الْفِدَاءُ لِفَارِسِ مِنْ غَالِبٍ ... لَاقَى حِمَامَ الْمَوْتِ لَمْ يَتَحَلْحَلْ
أَعْنِي الّذِي جَزِعَ الْمِدَادُ بِمُهْرِهِ ... طَلَبًا لِثَأْرِ مَعَاشِرٍ لَمْ يُخْذَلْ
مُسَافِعٌ يُؤَنّبُ الْفُرْسَانَ الّذِينَ كَانُوا مَعَ عَمْرٍو
وَقَالَ مُسَافِعٌ أَيْضًا يُؤَنّبُ فُرْسَانَ عَمْرٍو الّذِينَ كَانُوا مَعَهُ فَأَجْلَوْا عَنْهُ وَتَرَكُوهُ
عَمْرُو بْنُ عَبْدٍ وَالْجِيَادُ يَقُودُهَا ... خَيْلٌ تُقَادُ لَهُ وَخَيْلٌ تُنْعَلُ
أَجْلَتْ فَوَارِسُهُ وَغَادَرَ رَهْطُهُ ... رُكْنًا عَظِيمًا كَانَ فِيهَا أَوّلُ
عَجَبًا وَإِنْ أَعْجَبْ فَقَدْ أَبْصَرْته ... مَهْمَا تَسُومُ عَلِيّ عَمْرًا يَنْزِلُ
لَا تَبْعَدَنّ فَقَدْ أُصِبْت بِقَتْلِهِ ... وَلَقِيت قَبْلَ الْمَوْتِ أَمْرًا يَثْقُلُ
وَهُبَيْرَةُ الْمَسْلُوبُ وَلّى مُدْبِرًا ... عِنْدَ الْقِتَالِ مَخَافَةً أَنْ يُقْتَلُوا
وَضِرَارُ كَانَ الْبَأْسُ مِنْهُ مُحْضَرًا ... وَلّى كَمَا وَلّى اللّئِيمُ الْأَعْزَلُ
[ ص 476 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَبَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشّعْرِ يُنْكِرُهَا لَهُ . وَقَوْلُهُ " عَمْرًا يَنْزِلُ " عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ .
هُبَيْرَةُ يَبْكِي عَمْرًا وَيَعْتَذِرُ مِنْ فِرَارِهِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ هُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ يَعْتَذِرُ مِنْ فِرَارِهِ وَيَبْكِي عَمْرًا ، وَيَذْكُرُ قَتْلَ عَلِيّ إيّاهُ
لَعَمْرِي مَا وَلّيْت ظَهْرِي خَمْدًا ... وَأَصْحَابُهُ جُبْنًا وَلَا خِيفَةَ الْقَتْلِ
وَلَكِنّنِي قَلّبْت أَمْرِي فَلَمْ أَجِدْ ... لِسَيْفِي عَنَاءً إنْ شَرِبْت وَلَا نَبْلِي
وَقَفْت فَلَمّا لَمْ أَجِدْ لِي مُقَدّمًا ... صَدَدْت كَضِرْغَامِ هِزَبْرٍ أَبِي شِبْلِ
ثَنَى عِطْفَهُ عَنْ قَرْنِهِ حِينَ لَمْ يَجِدْ ... مَكَرّا وَقِدْمًا كَانَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِي
فَلَا تَبْعَدَنْ يَا عَمْرُو حَيّا وَهَالِكًا ... وَحُقّ لِحُسْنِ الْمَدْحِ مِثْلُك مِنْ مِثْلِي
وَلَا تَبْعَدَنْ يَا عَمْرُو حَيّا وَهَالِكًا ... فَقَدْ بِنْت مَحْمُودَ الثّنَا مَاجِدَ الْأَصْلِ
فَمَنْ لِطِرَادِ الْخَيْلِ تُقْدَعُ بِالْقَنَا ... وَلِلْفَخْرِ يَوْمًا عِنْدَ قَرْقَرَةِ الْبُزْلِ
هُنَالِكَ لَوْ كَانَ ابْنُ عَبْدٍ لَزَارَهَا ... وَفَرّجَهَا حَقّا فَتَى غَيْرُ مَا وَغْلِ
فَعَنْك عَلَى لَا أَرَى مِثْلَ مَوْقِفٍ ... وَقَفْت عَلَى نَجْدِ الْمُقَدّمِ كَالْفَحْلِ
فَمَا ظَفِرَتْ كَفّاك فَخْرًا بِمِثَالِهِ ... أَمِنْت بِهِ مَا عِشْت مِنْ زَلّةِ النّعْلِ
هُبَيْرَةُ يَبْكِي عَمْرًا فِي شِعْرِهِ
قَالَ هُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ يَبْكِي عَمْرَو بْنَ عَبْدِ وُدّ ، وَيَذْكُرُ قَتْلَ عَلِيّ إيّاهُ
لَقَدْ عَلِمَتْ عُلْيَا لُؤَيّ بْنِ غَالِبٍ ... لَفَارِسُهَا عَمْرٌو إذَا نَابَ نَائِبُ
لَفَارِسُهَا عَمْرٌو إذَا مَا يَسُومُهُ ... عَلِيّ وَإِنّ اللّيْثَ لَا بُدّ طَالِبُ
عَشِيّةَ يَدْعُوهُ عَلِيّ وَإِنّهُ ... لَفَارِسُهَا إذْ هَامَ عَنْهُ الْكَائِبُ
فَيَا لَهْفَ نَفْسِي إنّ عَمْرًا تَرَكْته ... بِيَثْرِبَ لَا زَالَتْ هُنَاكَ الْمَصَائِبُ
حَسّانُ يَفْتَخِرُ بِقَتْلِ عَمْرٍو
[ ص 477 ] وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ يَفْتَخِرُ بِقَتْلِ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ وُدّ :
بَقِيّتُكُمْ عَمْرٌو أَبَحْنَاهُ بِالْقَنَا ... بِيَثْرِبَ نَحْمِي وَالْحُمَاةُ قَلِيلُ
وَنَحْنُ قَتَلْنَاكُمْ بِكُلّ مُهَنّدٍ ... وَنَحْنُ وُلَاةُ الْحَرْبِ حِينَ نَصُولُ
وَنَحْنُ قَتَلْنَاكُمْ بِبَدْرِ فَأَصْبَحَتْ ... مَعَاشِرُكُمْ فِي الْهَالِكِينَ تَجُولُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَبَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشّعْرِ يُنْكِرُهَا لِحَسّانَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ أَيْضًا فِي شَأْنِ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ وُدّ :
أَمْسَى الْفَتَى عَمْرُو بْنُ عَبْدٍ يَبْتَغِي ... بِجُنُونِ يَثْرِبَ ثَأْرَهُ لَمْ يُنْظَرْ
فَلَقَدْ وَجَدْت سُيُوفَنَا مَشْهُورَةً ... وَلَقَدْ وَجَدْت جِيَادَنَا لَمْ تُقْصَرْ
وَلَقَدْ لَقِيت غَدَاةَ بَدْرٍ عُصْبَةً ... ضَرَبُوك ضَرْبًا غَيْرَ ضَرْبِ الْحُسّرِ
أَصْبَحْت لَا تُدْعَى لِيَوْمِ عَظِيمَةٍ ... يَا عَمْرُو أَوْ لِجَسِيمِ أَمْرٍ مُنْكَرِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَبَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشّعْرِ يُنْكِرُهَا لِحَسّانَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ أَيْضًا :
أَلَا أَبْلِغْ أَبَا هِدْمٍ رَسُولًا ... مُغَلْغَلَةً تَخُبّ بِهَا الْمَطِيّ
أَكُنْت وَلِيّكُمْ فِي كُلّ كُرْهٍ ... وَغَيْرِي فِي الرّخَاءِ هُوَ الْوَلِيّ
وَمِنْكُمْ شَاهِدٌ وَلَقَدْ رَآنِي ... رُفِعْت لَهُ كَمَا اُحْتُمِلَ الصّبِيّ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَتُرْوَى هَذِهِ الْأَبْيَاتُ لِرَبِيعَةَ بْنِ أُمَيّةَ الدّيلِيّ وَيُرْوَى فِيهَا آخِرُهَا :
كَبَبْت الْخَزْرَجِيّ عَلَى يَدَيْهِ ... وَكَانَ شِفَاءُ نَفْسِي الْخَزْرَجِيّ
وَتُرْوَى أَيْضًا لِأَبِي أُسَامَةَ الْجُشَمِيّ .

شِعْرُ حَسّانَ فِي يَوْمِ بَنِي قُرَيْظَةَ وَبُكَاءُ ابْنِ مُعَاذٍ
[ ص 478 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ فِي يَوْمِ بَنِي قُرَيْظَةَ يَبْكِي سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ وَيَذْكُرُ حِكْمَةً فِيهِمْ
لَقَدْ سَجَمَتْ مِنْ دَمْعِ عَيْنِي عَبْرَةٌ ... وَحُقّ لِعَيْنِي أَنْ تَفِيضَ عَلَى سَعْدِ
قَتِيلٍ ثَوَى فِي مَعْرَكٍ فُجِعَتْ بِهِ ... عُيُونٌ ذَوَارِي الدّمْعِ دَائِمَةُ الْوَجْدِ
عَلَى مِلّةِ الرّحْمَنِ وَارِثَ جَنّةٍ ... مَعَ الشّهَدَاءِ وَفْدُهَا أَكْرَمُ الْوَفْدِ
فَإِنْ تَكُ قَدْ وَدّعْتنَا وَتَرَكْتنَا ... وَأَمْسَيْت فِي غَبْرَاءَ مُظْلِمَةِ اللّحْدِ
فَأَنْتَ الّذِي يَا سَعْدُ أُبْت بِمَشْهَدِ ... كَرِيمٍ وَأَتْوَابِ الْمَكَارِمِ وَالْحَمْدِ
بِحُكْمِك فِي حَيّيْ قُرَيْظَةَ بِاَلّذِي ... قَضَى اللّهُ فِيهِمْ مَا قَضَيْت عَلَى عَمْدِ
فَوَافَقَ حُكْمَ اللّهِ حُكْمُك فِيهِمْ ... وَلَمْ تَعْفُ إذْ ذُكّرْت مَا كَانَ مِنْ عَهْدِ
فَإِنْ كَانَ رَيْبُ الدّهْرِ أَمْضَاكَ فِي الْأُلَى ... شَرَوْا هَذِهِ الدّنْيَا بِجَنّاتِهَا الْخُلْدِ
فَنِعْمَ مَصِيرُ الصّادِقِينَ إذَا دُعُوا ... إلَى اللّهِ يَوْمًا لِلْوَجَاهَةِ وَالْقَصْدِ
شِعْرُ حَسّانَ فِي بُكَاءِ ابْنِ مُعَاذٍ وَغَيْرِهِ
وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ أَيْضًا ، يَبْكِي سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ ، وَرِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الشّهَدَاءِ ، وَيَذْكُرُهُمْ بِمَا كَانَ فِيهِمْ مِنْ الْخَيْرِ
أَلَا يَا لَقَوْمِي هَلْ لِمَا حُمّ دَافِعٌ ... وَهَلْ مَا مَضَى مِنْ صَالِحِ الْعَيْشِ رَاجِعُ
تَذَكّرْت عَصْرًا قَدْ مَضَى فَتَهَافَتَتْ ... بَنَاتُ الْحَشَى وَانْهَلّ مِنّي الْمَدَامِعُ
صَبَابَةَ وَجْدٍ ذَكّرَتْنِي أَحِبّةً ... وَقَتْلَى مَضَى فِيهَا طُفَيْلُ وَرَافِعُ
وَسَعْدٌ فَأَضْحَوْا فِي الْجِنَانِ وَأَوْحَشَتْ ... مَنَازِلُهُمْ فَالْأَرْضُ مِنْهُمْ بَلَاقِعُ
وَفَوْا يَوْمَ بَدْرٍ لِلرّسُولِ وَفَوْقَهُمْ ... ظِلَالُ الْمَنَايَا وَالسّيُوفُ اللّوَامِعُ
دَعَا فَأَجَابُوهُ بِحَقّ وَكُلّهُمْ ... مُطِيعٌ لَهُ فِي كُلّ أَمْرٍ وَسَامِعُ
فَمَا نَكَلُوا حَتّى تَوَلّوْا جَمَاعَةً ... وَلَا يَقْطَعُ الْآجَالَ إلّا الْمَصَارِعُ
لِأَنّهُمْ يَرْجُونَ مِنْهُ شَفَاعَةً ... إذَا لَمْ يَكُنْ إلّا النّبِيّونَ شَافِعُ
فَذَلِكَ يَا خَيْرَ الْعِبَادِ بَلَاؤُنَا ... إجَابَتُنَا لِلّهِ وَالْمَوْتُ نَاقِعُ
لَنَا الْقَدَمُ الْأُولَى إلَيْك وَخَلْفَنَا ... لِأَوّلِنَا فِي مِلّة اللّهِ تَابِعُ
وَنَعْلَمُ أَنّ الْمُلْكَ لِلّهِ وَحْدَهُ ... وَأَنّ قَضَاءَ اللّهِ لَا بُدّ وَاقِعُ
شِعْرٌ آخَرُ لِحَسّانَ فِي يَوْمِ بَنِي قُرَيْظَةَ
[ ص 479 ] وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ أَيْضًا فِي يَوْمِ بَنِي قُرَيْظَةَ
لَقَدْ لَقِيَتْ قُرَيْظَةُ مَاسَآهَا ... وَمَا وَجَدَتْ لِذُلّ مِنْ نَصِيرِ
أَصَابَهُمْ بَلَاءٌ كَانَ فِيهِ ... سِوَى مَا قَدْ أَصَابَ بَنِي النّضِيرِ
غَدَاةَ أَتَاهُمْ يَهْوِي إلَيْهِمْ ... رَسُولُ اللّهِ كَالْقَمَرِ الْمُنِيرِ
لَهُ خَيْلٌ مُجَنّبَةٌ تَعَادَى ... بِفُرْسَانِ عَلَيْهَا كَالصّقُورِ
تَرَكْنَاهُمْ وَمَا ظَفِرُوا بِشَيْءِ ... دِمَاؤُهُمْ عَلَيْهِمْ كَالْغَدِيرِ
فَهُمْ صَرْعَى تَحُومُ الطّيْرُ فِيهِمْ ... كَذَاكَ يَدَانِ ذُو الْعَنْدِ الْفَجُورِ
فَأَنْذِرْ مِثْلَهَا نُصْحًا قُرَيْشًا ... مِنْ الرّحْمَنِ إنْ قَبِلَتْ نَذِيرِي
وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ
لَقَدْ لَقِيَتْ قُرَيْظَةُ مَاسَآهَا ... وَحَلّ بِحِصْنِهَا ذُلّ ذَلِيلُ
وَسَعْدٌ كَانَ أَنْذَرَهُمْ بِنُصْحِ ... بِأَنّ إلَهَكُمْ رَبّ جَلِيلُ
فَمَا بَرِحُوا بِنَقْضِ الْعَهْدِ حَتّى ... فَلَاهُمْ فِي بِلَادِهِمْ الرّسُولُ
أَحَاطَ بِحِصْنِهِمْ مِنّا صُفُوفٌ ... لَهُ مِنْ حَرّ وَقْعَتِهِمْ صَلِيلُ
وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ أَيْضًا فِي يَوْمِ بَنِي قُرَيْظَةَ
تَفَاقَدَ مَعْشَرٌ نَصَرُوا قُرَيْشًا ... وَلَيْسَ لَهُمْ بِبَلْدَتِهِمْ نَصِيرُ
هُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ فَضَيّعُوهُ ... وَهُمْ عُمْيٌ مِنْ التّوْرَاةِ بُورُ
كَفَرْتُمْ بِالْقُرْآنِ وَقَدْ أُتِيتُمْ ... بِتَصْدِيقِ الّذِي قَالَ النّذِيرُ
فَهَانَ عَلَى سَرَاةِ بَنِي لُؤَيّ ... حَرِيقٌ بِالْبُوَيْرَةِ مُسْتَطِيرُ
شِعْرُ أَبِي سُفْيَانَ فِي الرّدّ عَلَى حَسّانَ
[ ص 480 ] أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، فَقَالَ
أَدَامَ اللّهُ ذَلِكَ مِنْ صَنِيعٍ ... وَحَرّقَ فِي طَرَائِقِهَا السّعِيرُ
سَتَعْلَمُ أَيّنَا مِنْهَا بِنُزْهِ ... وَتَعْلَمُ أَيّ أَرَضِينَا تَضِيرُ
فَلَوْ كَانَ النّخِيلُ بِهَا رِكَابًا ... لَقَالُوا لَا مُقَامَ لَكُمْ فَسِيرُوا
شِعْرُ بْنِ جَوّالٍ فِي الرّدّ عَلَى حَسّانَ
وَأَجَابَهُ جَبَلُ بْنُ جَوّالٍ الثّعْلَبِيّ أَيْضًا ، وَبَكَى النّضِيرَ وَقُرَيْظَةَ فَقَالَ
أَلَا يَا سَعْدُ بَنِي مُعَاذٍ ... لِمَا لَقِيَتْ قُرَيْظَةُ وَالنّضِيرُ
لَعَمْرُك إنّ سَعْدَ بَنِي مُعَاذٍ ... غَدَاةَ تَحَمّلُوا لَهُوَ الصّبُورُ
فَأَمّا الْخَزْرَجِيّ أَبُو حُبَابٍ ... فَقَالَ لِقَيْنُقَاعِ لَا تَسِيرُوا
وَبُدّلَتْ الْمَوَالِي مِنْ حُضَيْرٍ ... أُسَيْدًا وَالدّوَائِرُ قَدْ تَدُورُ
وَأَقْفَرَتْ الْبُوَيْرَةُ مِنْ سَلَامٍ ... وَسَعْيَةَ وَابْنِ أَخْطَبَ فَهْيَ بُورُ
وَقَدْ كَانُوا بِبَلْدَتِهِمْ ثِقَالًا ... كَمَا ثَقُلَتْ بِمَيْطَانَ الصّخُورُ
فَإِنْ يَهْلِكْ أَبُو حَكَمٍ سَلَامٌ ... فَلَا رَثّ السّلَاحِ وَلَا دَثُورُ
وَكُلّ الْكَاهِنِينَ وَكَانَ فِيهِمْ ... مَعَ اللّينِ الْخَضَارِمَةُ الصّقُورُ
وَجَدْنَا الْمَجْدَ قَدْ ثَبَتُوا عَلَيْهِ ... بِمَجْدِ لَا تُغَيّبُهُ الْبُدُورُ
أَقِيمُوا يَا سَرَاةَ الْأَوْسِ فِيهَا ... كَأَنّكُمْ مِنْ الْمَخْزَاةِ عُورُ
تَرَكْتُمْ قِدْرَكُمْ لَا شَيْءَ فِيهَا ... وَقِدْرُ الْقَوْمِ حَامِيَةٌ تَفُورُ

مَقْتَلُ سَلّامِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ
الْخَزْرَجُ يَسْتَأْذِنُونَ فِي قَتْلِ ابْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ
[ ص 481 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَلَمّا انْقَضَى شَأْنُ الْخَنْدَقِ ، وَأَمْرُ بَنِي قُرَيْظَةَ ، وَكَانَ سَلّامُ بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ وَهُوَ أَبُو رَافِعٍ فِيمَنْ حَزّبَ الْأَحْزَابَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكَانَتْ الْأَوْسُ قَبْلَ أُحُدٍ قَدْ قَتَلَتْ كَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ ، فِي عَدَاوَتِهِ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَتَحْرِيضِهِ عَلَيْهِ اسْتَأْذَنَتْ الْخَزْرَجُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي قَتْلِ سَلّامِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ وَهُوَ بِخَيْبَرِ فَأَذِنَ لَهُمْ
التّنَافُسُ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ فِي عَمَلِ الْخَيْرِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ الزّهْرِيّ ، عَنْ عَبْدِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ وَكَانَ مِمّا صَنَعَ اللّهُ بِهِ لِرَسُولِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ هَذَيْنِ الْحَيّيْنِ مِنْ الْأَنْصَارِ وَالْأَوْسِ ، وَالْخَزْرَجِ ، كَانَا يَتَصَاوَلَانِ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَصَاوُلَ الْفَحْلَيْنِ لَا تَصْنَعُ الْأَوْسُ شَيْئًا عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ غَنَاءً إلّا قَالَتْ الْخَزْرَجُ : وَاَللّهِ لَا تَذْهَبُونَ بِهَذِهِ فَضْلًا عَلَيْنَا عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَفِي الْإِسْلَامِ قَالَ فَلَا يَنْتَهُونَ حَتّى يُوقِعُوا مِثْلَهَا ؛ وَإِذَا فَعَلَتْ الْخَزْرَجُ شَيْئًا قَالَتْ الْأَوْسُ مِثْلَ ذَلِكَ . وَلَمّا أَصَابَتْ الْأَوْسُ كَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ فِي عَدَاوَتِهِ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَتْ الْخَزْرَجُ : وَاَللّهِ لَا تَذْهَبُونَ بِهَا فَضْلًا عَلَيْنَا أَبَدًا ، قَالَ فَتَذَاكَرُوا : مَنْ رَجُلٌ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْعَدَاوَةِ كَابْنِ الْأَشْرَفِ ؟ فَذَكَرُوا ابْنَ أَبِي الْحُقَيْقِ ، وَهُوَ بِخَيْبَرِ فَاسْتَأْذَنُوا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي قَتْلِهِ فَأَذِنَ لَهُمْ
قِصّةُ الّذِينَ خَرَجُوا لِقَتْلِ ابْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ
فَخَرَجَ إلَيْهِ مِنْ الْخَزْرَجِ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ خَمْسَةُ نَفَرٍ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَتِيكٍ ، وَمَسْعُودُ بْنُ سِنَانٍ ، وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ أُنَيْسٍ ، وَأَبُو قَتَادَةَ الْحَارِثُ بْنُ رِبْعِيّ ، وَخُزَاعِيّ بْنُ أَسْوَدَ ، حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ أَسْلَمَ . فَخَرَجُوا وَأَمّرَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَبْدَ اللّهِ بْنَ عَتِيكٍ ، وَنَهَاهُمْ عَنْ أَنْ [ ص 482 ] خَيْبَرَ ، أَتَوْا دَارَ ابْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ لَيْلًا ، فَلَمْ يَدَعُوا بَيْتًا فِي الدّارِ إلّا أَغْلَقُوهُ عَلَى أَهْلِهِ . وَكَانَ فِي عِلّيّةٍ لَهُ إلَيْهَا عَجَلَةٌ قَالَ فَأَسْنَدُوا فِيهَا حَتّى قَامُوا عَلَى بَابِهِ فَاسْتَأْذَنُوا عَلَيْهِ فَخَرَجَتْ إلَيْهِمْ امْرَأَتُهُ فَقَالَتْ مَنْ أَنْتُمْ ؟ قَالُوا : نَاسٌ مِنْ الْعَرَبِ نَلْتَمِسُ الْمِيرَةَ . قَالَتْ ذَاكُمْ صَاحِبُكُمْ فَأُدْخِلُوا عَلَيْهِ قَالَ فَلَمّا دَخَلْنَا عَلَيْهِ أَغْلَقْنَا عَلَيْنَا وَعَلَيْهَا الْحُجْرَةَ تَخَوّفًا أَنْ تَكُونَ دُونَهُ مُحَاوَلَةٌ تَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ قَالَتْ فَصَاحَتْ امْرَأَتُهُ فَنَوّهَتْ بِنَا وَابْتَدَرْنَاهُ وَهُوَ عَلَى فِرَاشِهِ بِأَسْيَافِنَا ، فَوَاَللّهِ مَا يَدُلّنَا عَلَيْهِ فِي سَوَادِ اللّيْلِ إلّا بَيَاضُهُ كَأَنّهُ قُبْطِيّةٌ مُلْقَاةٌ . قَالَ وَلَمّا صَاحَتْ بِنَا امْرَأَتُهُ جَعَلَ الرّجُلُ مِنّا يَرْفَعُ عَلَيْهَا سَيْفَهُ ثُمّ يَذْكُرُ نَهْيَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَيَكُفّ يَدَهُ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَفَرَغْنَا مِنْهَا بِلَيْلِ . قَالَ فَلَمّا ضَرَبْنَاهُ بِأَسْيَافِنَا تَحَامَلَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُنَيْسٍ بِسَيْفِهِ فِي بَطْنِهِ حَتّى أَنْفَذَهُ وَهُوَ يَقُولُ قَطْنِي قَطْنِي : أَيْ حَسْبِي حَسْبِي . قَالَ وَخَرَجْنَا ، وَكَانَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَتِيكٍ رَجُلًا [ ص 483 ] قَالَ فَوَقَعَ مِنْ الدّرَجَةِ فَوَثِئَتْ يَدُهُ وَثْئًا شَدِيدًا - وَيُقَالُ رِجْلُهُ فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ - وَحَمَلْنَاهُ حَتّى نَأْتِيَ بِهِ مَنْهَرًا مِنْ عُيُونِهِمْ فَنَدْخُلُ فِيهِ . قَالَ فَأَوْقَدُوا النّيرَانَ وَاشْتَدّوا فِي كُلّ وَجْهٍ يَطْلُبُونَنَا ، قَالَ حَتّى إذَا يَئِسُوا رَجَعُوا إلَى صَاحِبِهِمْ فَاكْتَنَفُوهُ وَهُوَ يُقْضَى بَيْنَهُمْ . قَالَ فَقُلْنَا : كَيْفَ لَنَا بِأَنْ نَعْلَمَ بِأَنّ عَدُوّ اللّهِ قَدْ مَاتَ ؟ قَالَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنّا : أَنَا أَذْهَبُ فَأَنْظُرُ لَكُمْ فَانْطَلَقَ حَتّى دَخَلَ فِي النّاسِ . قَالَ فَوَجَدْت امْرَأَتَهُ وَرِجَالَ يَهُودَ حَوْلَهُ وَفِي يَدِهَا الْمِصْبَاحُ تَنْظُرُ فِي وَجْهِهِ وَتُحَدّثُهُمْ وَتَقُولُ أَمَا وَاَللّهِ لَقَدْ سَمِعْت صَوْتَ ابْنِ عَتِيكٍ ثُمّ أَكْذَبْت نَفْسِي وَقُلْت : أَنّى ابْنُ عَتِيكٍ بِهَذِهِ الْبِلَادِ ؟ ثُمّ أَقْبَلَتْ عَلَيْهِ تَنْظُرُ فِي وَجْهِهِ ثُمّ قَالَتْ فَاظَ وَإِلَهِ يَهُودَ فَمَا سَمِعْت مِنْ كَلِمَةٍ كَانَتْ أَلَذّ إلَى نَفْسِي مِنْهَا . قَالَ ثُمّ جَاءَنَا الْخَبَرُ فَاحْتَمَلْنَا صَاحِبَنَا فَقَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَخْبَرْنَاهُ بِقَتْلِ عَدُوّ اللّهِ وَاخْتَلَفْنَا عِنْدَهُ فِي قَتْلِهِ كُلّنَا يَدّعِيهِ . قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هَاتُوا أَسْيَافَكُمْ قَالَ فَجِئْنَاهُ بِهَا ، فَنَظَرَ إلَيْهَا ، فَقَالَ لِسَيْفِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُنَيْسٍ : هَذَا قَتَلَهُ أَرَى فِيهِ أَثَرَ الطّعَامِ .
شِعْرُ حَسّانَ فِي قَتْلِ ابْنِ الْأَشْرَفِ وَابْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ وَهُوَ يَذْكُرُ قَتْلَ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ وَقَتْلَ سَلّامِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ
لِلّهِ دَرّ عِصَابَةٍ لَاقَيْتهمْ ... يَا ابْنَ الْحُقَيْقِ وَأَنْتَ يَا ابْنَ الْأَشْرَفِ
يَسْرُونَ بِالْبِيضِ الْخِفَافِ إلَيْكُمْ ... مَرَحًا كَأُسْدِ فِي عَرِينٍ مُغْرِفِ
حَتّى أَتَوْكُمْ فِي مَحَلّ بِلَادِكُمْ ... فَسَقَوْكُمْ حَتْفًا بِبِيضِ ذُفّفِ
مُسْتَبْصِرِينَ لِنَصْرِ دِينِ نَبِيّهِمْ ... مُسْتَصْغِرِينَ لِكُلّ أَمْرٍ مُجْحِفِ
[ ص 484 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَوْلُهُ " ذُفّفِ " ، عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ .
Sمَقْتَلُ ابْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ
[ ص 481 ] ذَكَرَ فِيهِ النّفَرَ الْخَمْسَةَ الّذِينَ قَتَلُوهُ وَسَمّاهُمْ وَذَكَرَ فِيهِمْ ابْنَ عُقْبَةَ أَسْعَدَ بْنَ حَرَامٍ وَلَا يُعْرَفُ أَحَدٌ ذَكَرَهُ غَيْرُهُ . [ ص 482 ]
قَطْنِي وَقَدْ وَنُونُ الْوِقَايَةِ
وَذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ قَطْنِي قَطْنِي ، قَالَ مَعْنَاهُ حَسْبِي حَسْبِي .
قَالَ الْمُؤَلّفُ وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ أَصْلُهَا مِنْ الْقَطّ وَهُوَ الْقَطْعُ ثُمّ خُفّفَتْ وَأُجْرِيَتْ مَجْرَى الْحَرْفِ وَكَذَلِكَ قَدْ بِمَعْنَى قَطْ هِيَ أَيْضًا مِنْ الْقَدّ وَهُوَ الْقَطْعُ طُولًا ، وَالْقَطّ بِالطّاءِ هُوَ الْقَطْعُ عَرْضًا ، يُقَالُ إنّ عَلِيّا - رَحِمَهُ اللّهُ - كَانَ إذَا اسْتَعْلَى الْفَارِسَ قَدّهُ وَاذَا اسْتَعْرَضَهُ قَطّهُ وَلَمّا كَانَ الشّيْءُ الْكَافِي الّذِي لَا يُحْتَاجُ مَعَهُ إلَى غَيْرِهِ يَدْعُو إلَى قَطْعِ الطّلَبِ وَتَرْكِ الْمَزِيدِ جَعَلُوا قَدْ وَقَطْ تُشْعِرُ بِهَذَا الْمَعْنَى ، فَإِذَا ذَكَرْت نَفْسَك قُلْت : قَدِي وَقَطِي ، كَمَا تَقُولُ حَسْبِي ، وَإِنْ شِئْت أَلْحَقْت نُونًا ، فَقُلْت : قَدْنِي ، وَذَلِكَ مِنْ أَجْلِ سُكُونِ آخِرِهَا فَكَرِهُوا تَحْرِيكَهُ مِنْ أَجْلِ الْيَاءِ كَمَا كَرِهُوا تَحْرِيكَ آخِرِ الْفِعْلِ فَقَالُوا : ضَرَبَنِي ، وَكَذَلِكَ كَرِهُوا تَحْرِيكَ آخِرِ لَيْتَ فَقَالُوا : لَيْتَنِي ، وَقَدْ يَقُولُونَ لَيْتِي وَهُوَ قَلِيلٌ وَقَالُوا : لَعَلّنِي وَلَعَلّي ، وَقَالُوا : مِنْ لَدُنّي فَأَدْخَلُوهَا عَلَى الْيَاءِ الْمَخْفُوضَةِ بِالظّرْفِ كَمَا أَدْخَلُوهَا عَلَى الْيَاءِ الْمَخْفُوضَةِ بِمِنْ وَعَنْ فَعَلُوا هَذَا وِقَايَةً لِأَوَاخِرِ هَذَا الْكَلِمِ مِنْ الْخَفْضِ وَخَصّوا النّونَ بِهَذَا ؛ لِأَنّهَا إذَا كَانَتْ تَنْوِينًا فِي آخِرِ الِاسْمِ آذَنَتْ بِامْتِنَاعِ الْإِضَافَةِ وَكَذَلِكَ فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ الّتِي سَمّيْنَا تُشْعِرُ بِامْتِنَاعِهَا مِنْ الْخَفْضِ وَتُشْعِرُ فِي الْفِعْلِ وَالْحُرُوفِ بِامْتِنَاعِهَا مِنْ الْإِضَافَةِ أَيْضًا ، لِأَنّ الْحَرْفَ لَا يُضَافُ وَكَذَلِكَ الْفِعْلُ مَعَ أَنّ النّونَ مِنْ عَلَامَاتِ الْإِضْمَارِ فِي فَعَلْنَا ، وَفَعَلَنَا فِي ضَمِيرِ الْمَفْعُولِ فَأَمّا قَدْ وَقَطْ فَاسْمَانِ وَكَذَلِكَ لَدُنْ وَلَكِنْ كَرِهُوا تَحْرِيكَ أَوَاخِرِهَا لِشَبَهِهَا بِالْحُرُوفِ . فَإِنْ قِيلَ فَمَا مَوْضِعُ نِيّ مِنْ قَوْلِهِ قَطْنِي ؟ قُلْنَا : مَوْضِعُهَا خَفْضٌ بِالْإِضَافَةِ كَمَا هِيَ فِي لَدُنّي . فَإِنْ قُلْت : كَيْفَ تَكُونُ ضَمِيرَ الْمَفْعُولِ وَالْمَنْصُوبِ فِي ضَرَبَنِي وَلَيْتَنِي ، ثُمّ تَقُولُ إنّهَا فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ ؟ قُلْنَا : الضّمِيرُ فِي الْحَقِيقَةِ هِيَ الْيَاءُ وَحْدَهَا فِي الْخَفْضِ [ ص 483 ] قَالُوا : مِنّي وَعَنّي ، وَهُوَ ضَمِيرُ خَفْضٍ وَفِيهِ النّونُ وَقَالُوا : لَيْتِي وَلَعَلّي ، وَهُوَ ضَمِيرُ نَصْبٍ وَلَيْسَ فِيهِ نُونٌ فَإِنْ قِيلَ فَمَا مَوْضِعُ الِاسْمِ مِنْ الْإِعْرَابِ إذَا قُلْت : قَطِي وَقَدِي ؟ قُلْنَا : إعْرَابُهُمَا كَإِعْرَابِ حَسْبِي مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ وَإِنّمَا لَزِمَ حَذْفُ خَبَرِهِ لِمَا دَخَلَهُ مِنْ مَعْنَى الْأَمْرِ وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُ جَهَنّمَ أَعَاذَنَا اللّهُ مِنْهَا : قَطِي وَعِزّتِك قَطِي ، وَيُرْوَى : قَطْنِي ، وَذَلِكَ بَعْدَ قَوْلِهَا : هَلْ مِنْ مَزِيدٍ فَإِذَا وُضِعَتْ فِيهَا الْقَدَمُ وَزَوَى بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ قَالَتْ قَطْنِي . وَقَدْ جَمَعَ الشّاعِرُ بَيْنَ اللّغَتَيْنِ فَقَالَ قَدْنِي مِنْ نَصْرِ الْحُبَيْبَيْنِ قَدِي
[ ص 484 ] قَطّ الْمَبْنِيّةُ عَلَى الضّمّ فَهِيَ ظَرْفٌ لِمَا مَضَى ، وَهِيَ تُقَالُ بِالتّخْفِيفِ وَ التّثْقِيلِ وَهِيَ مِنْ الْقَطّ أَيْضًا الّذِي بِمَعْنَى الْقَطْعِ وَفِي مُقَابَلَتِهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ عَوْضُ مَا فَعَلْته قَطّ ، وَلَا أَفْعَلُهُ عَوْضُ مِثْلُ قَبْلُ وَبَعْدُ .

إسْلَامُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ
عَمْرٌو وَصَحْبُهُ عِنْدَ النّجَاشِيّ
[ ص 485 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ ، عَنْ رَاشِدٍ مَوْلَى حَبِيبِ بْنِ أَبِي أَوْسٍ الثّقَفِيّ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي أَوْسٍ الثّقَفِيّ قَالَ حَدّثَنِي عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ مِنْ فِيهِ قَالَ لَمّا انْصَرَفْنَا مَعَ الْأَحْزَابِ عَنْ الْخَنْدَقِ جَمَعْت رِجَالًا مِنْ قُرَيْشٍ ، كَانُوا يَرَوْنَ رَأْيِي ، وَيَسْمَعُونَ مِنّي ، فَقُلْت لَهُمْ تَعْلَمُونَ وَاَللّهِ أَنّي أَرَى أَمْرَ مُحَمّدٍ يَعْلُو الْأُمُورَ عُلُوّا مُنْكَرًا ، وَإِنّي قَدْ رَأَيْت أَمْرًا ، فَمَا تَرَوْنَ فِيهِ ؟ قَالُوا : وَمَاذَا رَأَيْت ؟ قَالَ رَأَيْت أَنْ نَلْحَقَ بِالنّجَاشِيّ فَنَكُونَ عِنْدَهُ فَإِنْ ظَهَرَ مُحَمّدٌ عَلَى قَوْمِنَا كُنّا عِنْدَ النّجَاشِيّ ، فَإِنّا أَنْ نَكُونَ تَحْتَ يَدَيْهِ أَحَبّ إلَيْنَا مِنْ أَنْ نَكُونَ تَحْتَ يَدَيْ مُحَمّدٍ وَإِنْ ظَهَرَ قَوْمُنَا فَنَحْنُ مَنْ قَدْ عَرَفُوا ، فَلَنْ يَأْتِيَنَا مِنْهُمْ إلّا خَيْرٌ قَالُوا : إنّ هَذَا الرّأْيُ . قُلْت : فَاجْمَعُوا لَنَا مَا نُهْدِيهِ لَهُ وَكَانَ أَحَبّ مَا يُهْدَى إلَيْهِ مِنْ أَرْضِنَا الْأَدَمُ . فَجَمَعْنَا لَهُ أَدَمًا كَثِيرًا ، ثُمّ خَرَجْنَا حَتّى قَدِمْنَا عَلَيْهِ . [ ص 486 ] عَمْرُو بْنُ أُمَيّةَ الضّمْرِيّ ، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ بَعَثَهُ إلَيْهِ فِي شَأْنِ جَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ . قَالَ فَدَخَلَ عَلَيْهِ ثُمّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ . قَالَ فَقُلْت لِأَصْحَابِي : هَذَا عَمْرُو بْنُ أُمَيّةَ الضّمْرِيّ ، لَوْ قَدْ دَخَلْت عَلَى النّجَاشِيّ وَسَأَلْته إيّاهُ فَأَعْطَانِيهِ فَضَرَبْت عُنُقَهُ فَإِذَا فَعَلْت ذَلِكَ رَأَتْ قُرَيْشٌ أَنّي قَدْ أَجْزَأْت عَنْهَا حِينَ قَتَلْت رَسُولَ مُحَمّدٍ . قَالَ فَدَخَلْت عَلَيْهِ فَسَجَدْت لَهُ كَمَا كُنْت أَصْنَعُ فَقَالَ مَرْحَبًا بِصَدِيقِي ، أَهْدَيْت إلَيّ مِنْ بِلَادِك شَيْئًا ؟ قَالَ قُلْت : نَعَمْ أَيّهَا الْمَلِكُ قَدْ أَهْدَيْت إلَيْك أَدَمًا كَثِيرًا ؛ قَالَ ثُمّ قَرّبْته إلَيْهِ فَأَعْجَبَهُ وَاشْتَهَاهُ ثُمّ قُلْت لَهُ أَيّهَا الْمَلِكُ إنّي قَدْ رَأَيْت رَجُلًا خَرَجَ مِنْ عِنْدِك ، وَهُوَ رَسُولُ رَجُلٍ عَدُوّ لَنَا ، فَأَعْطِنِيهِ لِأَقْتُلَهُ فَإِنّهُ قَدْ أَصَابَ مِنْ أَشْرَافِنَا وَخِيَارِنَا ، قَالَ فَغَضِبَ ثُمّ مَدّ يَدَهُ فَضَرَبَ بِهَا أَنْفَهُ ضَرْبَةً ظَنَنْت أَنّهُ قَدْ كَسَرَهُ فَلَوْ انْشَقّتْ لِي الْأَرْضُ لَدَخَلْت فِيهَا فَرَقًا مِنْهُ ثُمّ قُلْت لَهُ أَيّهَا الْمَلِكُ وَاَللّهِ لَوْ ظَنَنْت أَنّك تَكْرَهُ هَذَا مَا سَأَلْتُكَهُ قَالَ أَتَسْأَلُنِي أَنْ أُعْطِيَك رَسُولَ رَجُلٍ يَأْتِيهِ النّامُوسُ الْأَكْبَرُ الّذِي كَانَ يَأْتِي مُوسَى لِتَقْتُلَهُ قَالَ قُلْت : أَيّهَا الْمَلِكُ أَكَذَاك هُوَ ؟ قَالَ وَيْحَك يَا عَمْرُو أَطِعْنِي وَاتّبِعْهُ فَإِنّهُ وَاَللّهِ لَعَلَى الْحَقّ وَلَيَظْهَرَنّ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ كَمَا ظَهَرَ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ وَجُنُودِهِ . قَالَ قُلْت : أَفَتُبَايِعُنِي لَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ ؟ قَالَ نَعَمْ فَبَسَطَ يَدَهُ فَبَايَعْته : عَلَى الْإِسْلَامِ ثُمّ خَرَجْت إلَى أَصْحَابِي وَقَدْ حَالَ رَأْيِي عَمّا كَانَ عَلَيْهِ وَكَتَمْت أَصْحَابِي إسْلَامِي
اجْتِمَاعُ عَمْرٍو مَعَ خَالِدٍ فِي الطّرِيقِ
ثُمّ خَرَجْت عَامِدًا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِأُسْلِمَ فَلَقِيت خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ ، وَذَلِكَ قُبَيْلَ الْفَتْحِ وَهُوَ مُقْبِلٌ مِنْ مَكّةَ ، فَقُلْت : أَيْنَ يَا أَبَا سُلَيْمَانَ ؟ قَالَ وَاَللّهِ لَقَدْ اسْتَقَامَ الْمِيسَمُ وَإِنّ الرّجُلَ لَنَبِيّ ، أَذْهَبُ وَاَللّهِ فَأُسْلِمُ فَحَتّى مَتَى ؛ قَالَ قُلْت : وَاَللّهِ مَا جِئْت إلّا لِأُسْلِمَ . قَالَ فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَتَقَدّمَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَأَسْلَمَ وَبَايَعَ ثُمّ دَنَوْت ، فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ إنّي أُبَايِعُك عَلَى أَنْ يُغْفَرَ لِي مَا تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِي ، وَلَا أَذْكُرُ مَا تَأَخّرَ قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَا عَمْرُو ، بَايِعْ فَإِنّ الْإِسْلَامَ يَجُبّ مَا كَانَ قَبْلَهُ ، وَإِنّ الْهِجْرَةَ تَجُبّ مَا كَانَ قَبْلَهَا ؛ قَالَ فَبَايَعْته ، ثُمّ انْصَرَفْت . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ فَإِنّ الْإِسْلَامَ يَحُتّ مَا كَانَ قَبْلَهُ وَإِنّ الْهِجْرَةَ تَحُتّ مَا كَانَ قَبْلَهَا . [ ص 487 ]
إسْلَامُ ابْنِ طَلْحَةَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي مَنْ لَا أَتّهِمُ أَنّ عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ ، كَانَ مَعَهُمَا ، حِينَ أَسْلَمَا . [ ص 488 ]
شِعْرُ ابْنِ الزّبَعْرَى فِي إسْلَامِ ابْنِ طَلْحَةَ وَخَالِدٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَقَالَ ابْنُ الزّبَعْرَى السّهْمِيّ :
أَنْشُدُ عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ حِلْفَنَا ... وَمُلْقَى نِعَالِ الْقَوْمِ عِنْدَ الْمُقَبّلِ
وَمَا عَقَدَ الْآبَاءُ مِنْ كُلّ حِلْفِهِ ... وَمَا خَالِدٌ مِنْ مِثْلِهَا بِمُحَلّلِ
أَمِفْتَاحَ بَيْتٍ غَيْرِ بَيْتِك تَبْتَغِي ... وَمَا يُبْتَغَى مِنْ مَجْدِ بَيْتٍ مُؤَثّلِ
فَلَا تَأْمَنَنّ خَالِدًا بَعْدَ هَذِهِ ... وَعُثْمَانُ جَاءَ بِالدّهَيْمِ الْمُعَضّلِ
وَكَانَ فَتْحُ بَنِي قُرَيْظَةَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَصَدْرِ ذِي الْحِجّةِ وَوَلِيَ تِلْكَ الْحَجّةَ الْمُشْرِكُونَ .
Sإسْلَامُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِي وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ رَحْمَةُ اللّهِ عَلَيْهِمَا
[ ص 485 ] أَبِي بَكْرٍ الْخَطِيبِ بِإِسْنَادِ يَرْفَعُهُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ اللّيْلَةَ رَجُلٌ حَكِيمٌ فَقَدِمَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ مُهَاجِرًا ، ذَكَرَ فِيهِ اجْتِمَاعَهُ مَعَ خَالِدٍ فِي الطّرِيقِ [ ص 486 ] مَنْ رَوَاهُ الْمِيسَمُ بِالْيَاءِ فَهِيَ الْعَلَامَةُ أَيْ قَدْ تَبَيّنَ الْأَمْرُ وَاسْتَقَامَتْ الدّلَالَةُ وَمَنْ رَوَاهُ الْمَنْسَمُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَبِالنّونِ فَمَعْنَاهُ اسْتَقَامَ الطّرِيقُ وَوَجَبَتْ الْهِجْرَةُ وَالْمَنْسَمُ مُقَدّمُ خُفّ الْبَعِيرِ وَكُنّيَ بِهِ عَنْ الطّرِيقِ لِلتّوَجّهِ بِهِ فِيهِ . [ ص 487 ] وَذَكَرَ الزّبَيْرُ خَبَرَ عَمْرٍو هَذَا ، وَزَادَ فِيهِ أَنّ عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ صَحِبَهُمَا فِي تِلْكَ الطّرِيقِ فَلَمّا قَدِمُوا عَلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ عَمْرٌو : وَكُنْت أَسَنّ مِنْهُمَا ، فَأَرَدْت أَنْ أَكِيدَهُمَا ، فَقَدّمْتهمَا قَبْلِي لِلْبَيْعَةِ فَبَايَعَا ، وَاشْتَرَطَا أَنْ يُغْفَرَ مِنْ ذَنْبِهِمَا مَا تَقَدّمَ فَأَضْمَرْت فِي نَفْسِي أَنْ نُبَايِعَ عَلَى أَنْ يَغْفِرَ اللّهُ مِنْ ذَنْبِي مَا تَقَدّمَ وَمَا تَأَخّرَ فَلَمّا بَايَعْت ذَكَرْت مَا تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِي وَأُنْسِيت أَنْ أَقُولَ وَمَا تَأَخّرَ .
مَا قَالَهُ الضّمْرِيّ لِلنّجَاشِيّ
وَذَكَرَ فِيهِ قُدُومَ عَمْرِو بْنِ أُمَيّةَ الضّمْرِيّ عَلَى النّجَاشِيّ بِكِتَابِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكَانَ فِي الْكِتَابِ مَا تَكَلّمَ بِهِ عَمْرُو بْنُ أُمَيّةَ فَإِنّهُ لَمّا قَدِمَ عَلَيْهِ قَالَ لَهُ يَا أَصْحَمَةُ إنّ عَلَيّ الْقَوْلَ وَعَلَيْك الِاسْتِمَاعَ إنّك كَأَنّك فِي الرّقّةِ عَلَيْنَا مِنّا ، وَكَأَنّا بِالثّقَةِ بِك مِنْك لِأَنّا لَمْ نَظْنُنْ بِك خَيْرًا قَطّ إلّا نِلْنَاهُ وَلَمْ نَخَفْك عَلَى شَيْءٍ إلّا أَمِنّاهُ وَقَدْ أَخَذْنَا الْحُجّةَ عَلَيْك مِنْ فِيك أَلّا يُحِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَك شَاهِدٌ لَا يُرَدّ ، وَقَاضٍ لَا يَجُورُ وَفِي ذَلِكَ وَقْعُ الْحَزّ وَإِصَابَةُ الْمَفْصِلِ وَإِلّا فَأَنْتَ فِي هَذَا النّبِيّ الْأُمّيّ كَالْيَهُودِ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ، وَقَدْ فَرّقَ النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ رُسُلَهُ إلَى النّاسِ فَرَجَاك لِمَا لَمْ يَرْجُهُمْ لَهُ وَأَمِنَك عَلَى مَا خَافَهُمْ عَلَيْهِ لِخَيْرِ سَالِفٍ وَأَجْرٍ يُنْتَظَرُ فَقَالَ النّجَاشِيّ : أَشْهَدُ بِاَللّهِ أَنّهُ النّبِيّ الْأُمّيّ الّذِي يَنْتَظِرُهُ أَهْلُ الْكِتَابِ وَأَنّ بِشَارَةَ مُوسَى بِرَاكِبِ الْحِمَارِ كَبِشَارَةِ عِيسَى بِرَاكِبِ الْجَمَلِ وَإِنّ الْعِيَانَ لَهُ لَيْسَ بِأَشْفَى مِنْ الْخَبَرِ عَنْهُ وَلَكِنّ أَعْوَانِي مِنْ الْحَبَشِ قَلِيلٌ فَأَنْظِرْنِي حَتّى أُكَثّرَ الْأَعْوَانَ وَأُلَيّنَ الْقُلُوبَ وَسَنَذْكُرُ فِيمَا بَعْدُ - إنْ شَاءَ اللّهُ - مَا قَالَتْهُ أَرْسَالُ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إلَى الْمُلُوكِ وَمَا رَدّتْ عَلَيْهَا .
الرّسُلُ إلَى الْمُلُوكِ
فَإِنّ دِحْيَةَ كَانَ رَسُولَهُ إلَى قَيْصَرَ ، وَخَارِجَةَ بْنَ حُذَافَةَ كَانَ رَسُولَهُ إلَى كِسْرَى ، وَشُجَاعَ بْنَ وَهْبٍ إلَى جَبَلَةَ بْنِ الْأَيْهَمِ الْغَسّانِيّ وَسَلِيطَ بْنَ عَمْرٍو إلَى هَوْذَةَ بْنِ عَلِيّ الْحَنَفِيّ صَاحِبِ الْيَمَامَةِ ، وَالْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيّ إلَى الْمُنْذِرِ بْنِ سَاوِي [ مَلِكِ الْبَحْرَيْنِ ] وَالْمُهَاجِرَ بْنَ أَبِي أُمَيّةَ إلَى الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ ، وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِي إلَى الْجُلَنْدَى صَاحِبِ عُمَانَ ، [ ص 488 ] وَحَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ إلَى الْمُقَوْقَسِ صَاحِبِ مِصْرَ ، وَعَمْرَو بْنَ أُمَيّةَ إلَى النّجَاشِيّ كَمَا تَقَدّمَ وَلِكُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَلَامٌ قَالَهُ وَشِعْرٌ نَظَمَهُ سَنَذْكُرُهُ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللّهُ .
السّمْهَرِيّةُ
فَصْلٌ
وَمَا وَقَعَ فِي أَشْعَارِ السّيرَةِ مِنْ ذِكْرِ السّمْهَرِيّةِ مِنْ الرّمَاحِ فَمَنْسُوبَةٌ إلَى سَمْهَرٍ وَكَانَ صَنَعًا فِيمَا زَعَمُوا يَصْنَعُ الرّمَاحَ وَكَانَتْ امْرَأَتُهُ رُدَيْنَةُ تَبِيعُهَا ، فَقِيلَ لِلرّمَاحِ الرّدَيْنِيّةُ لِذَلِكَ وَأَمّا الْمَاسِخِيّ مِنْ الْقِسِيّ فَمَنْسُوبَةٌ إلَى مَاسِخَةَ وَاسْمُهُ نُبَيْشَةُ بْنُ الْحَارِثِ أَحَدُ بَنِي نَصْرِ بْنِ الْأَزْدِ ، وَقَالَ الْجَعْدِيّ :
بِعِيسِ تُعَطّفُ أَعْنَاقَهَا ... كَمَا عَطّفَ الْمَاسِخِيّ الْقِيَانَا
وَقَدْ تُنْسَبُ الْقِسِيّ أَيْضًا إلَى زَارَةَ وَهِيَ امْرَأَةُ مَاسِخَةَ . قَالَ صَخْرُ الْغَيّ
سَمْحَةٍ مِنْ قِسِيّ زَارَةَ حَمْ ـ ... رَاءَ هَتُوفٍ عِدَادُهَا غِرَدُ
مِنْ كِتَابِ النّبَاتِ لِلدّينَوَرِيّ وَالْيَزَنِيّةُ مَنْسُوبَةٌ إلَى عُبَيْدِ الطّعّانِ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ بِيَزَنَنَ بْنِ هَمَاذِي ، وَالْمَاذِيّةُ مَنْسُوبَةٌ إلَى مَاذِي بْنِ يَافِثَ بْنِ نُوحٍ قَالَهُ الطّبَرِيّ ، وَزَعَمَ أَنّهُ أَوّلُ مَنْ عَمِلَ السّيُوفَ جَمّ وَهُوَ رَابِعُ مُلُوكِ الْأَرْضِ .

غَزْوَةُ بَنِي لِحْيَانَ
"بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ"
[ ص 489 ] قَالَ حَدّثَنَا أَبُو مُحَمّدٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ قَالَ حَدّثَنَا زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْبَكّائِيّ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ إسْحَاقَ الْمُطّلِبِيّ قَالَ ثُمّ أَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْمَدِينَةِ ذَا الْحِجّةِ وَالْمُحَرّمَ وَصَفَرًا وَشَهْرَيْ رَبِيعٍ وَخَرَجَ فِي جُمَادَى الْأُولَى عَلَى رَأْسِ سِتّةِ أَشْهُرٍ مِنْ فَتْحِ قُرَيْظَةَ إلَى بَنِي لِحْيَانَ يَطْلُبُ بِأَصْحَابِ الرّجِيعِ خُبَيْبِ بْنِ عَدِيّ وَأَصْحَابِهِ وَأَظْهَرَ أَنّهُ يُرِيدُ الشّامَ ، لِيُصِيبَ مِنْ الْقَوْمِ غِرّةً . فَخَرَجَ مِنْ الْمَدِينَةِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمّ مَكْتُومٍ ، فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَسَلَكَ عَلَى غُرَابٍ ، جَبَلٍ بِنَاحِيَةِ الْمَدِينَةِ عَلَى طَرِيقِهِ إلَى الشّامِ ، ثُمّ عَلَى مَحِيصٍ ، ثُمّ عَلَى الْبَتْرَاءِ ، ثُمّ صَفّقَ ذَاتَ الْيَسَارِ فَخَرَجَ عَلَى بِينٍ ثُمّ عَلَى صُخَيْرَاتِ الْيَمَامِ ، ثُمّ اسْتَقَامَ بِهِ الطّرِيقُ عَلَى الْمَحَجّةِ مِنْ طَرِيقِ مَكّةَ ، فَأَغَذّ السّيْرَ سَرِيعًا ، حَتّى نَزَلَ عَلَى غُرَانٍ ، وَهِيَ مَنَازِلُ بَنِي لِحْيَانَ ، وَغُرَانٌ وَادٍ بَيْنَ آمَجَ وَعُسْفَانَ ، إلَى بَلَدٍ يُقَالُ لَهُ سَايَةُ ، فَوَجَدَهُمْ قَدْ حَذِرُوا وَتَمَنّعُوا فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ . فَلَمّا نَزَلَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ [ ص 490 ] غِرّتِهِمْ مَا أَرَادَ قَالَ لَوْ أَنّا هَبَطْنَا عُسْفَانَ لَرَأَى أَهْلُ مَكّةَ أَنّا قَدْ جِئْنَا مَكّةَ فَخَرَجَ فِي مِائَتَيْ رَاكِبٍ مِنْ أَصْحَابِهِ حَتّى نَزَلَ عُسْفَانَ ، ثُمّ بَعَثَ فَارِسَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ حَتّى بَلَغَا كُرَاعَ الْغَمِيمِ ، ثُمّ كَرّ وَرَاحَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَافِلًا . فَكَانَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ يَقُولُ سَمِعْت رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ حِينَ وَجّهَ رَاجِعًا : آيِبُونَ تَائِبُونَ إنْ شَاءَ اللّهُ لِرَبّنَا حَامِدُونَ أَعُوذُ بِاَللّهِ مِنْ وَعْثَاءِ السّفَرِ وَكَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ وَسُوءِ الْمَنْظَرِ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ وَالْحَدِيثُ فِي غَزْوَةِ بَنِي لِحْيَانَ ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ ، وَعَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ ، فَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ فِي غَزْوَةِ بَنِي لِحْيَانَ .
لَوْ أَنّ بَنِي لِحْيَانَ كَانُوا تَنَاظَرُوا ... لَقُوا عُصَبًا فِي دَارِهِمْ ذَاتَ مَصْدَقِ
لَقُوا سَرَعَانًا يَمْلَأ السّرْبَ رَوْعُهُ ... أَمَامَ طَحُونٍ كَالْمَجَرّةِ فَيْلَقِ
وَلَكِنّهُمْ كَانُوا وِبَارًا تَتَبّعَتْ ... شِعَابَ حِجَازٍ غَيْرَ ذِي مُتَنَفّقِ
[ ص 491 ]
Sغَزْوَةُ بَنِي لِحْيَانَ
[ ص 489 ] لَقُوا سَرَعَانًا يَمْلَأُ السّرْبَ رَوْعُهُ
[ ص 490 ] سُبّاقُهُمْ وَالسّرْبُ الْمَالُ الرّاعِي ، كَأَنّهُ جَمْعُ سَارِبٍ وَيُقَالُ هُوَ آمِنٌ فِي سَرْبِهِ إذَا لَمْ يُذْعَرْ وَلَا خَافَ عَلَى مَالِهِ مِنْ الْغَارَةِ وَمَنْ قَالَ فِي سِرْبِهِ بِكَسْرِ السّينِ فَهُوَ مَثَلٌ لِأَنّ السّرْبَ هُوَ الْقَطِيعُ مِنْ الْوَحْشِ وَالطّيْرِ فَمَعْنَى : آمِنٌ فِي سِرْبِهِ أَيْ لَمْ يُذْعَرْ هُوَ نَفْسُهُ وَلَا ذُعِرَ أَهْلُهُ وَلِهَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ اللّغَةِ مَعْنَى فِي سِرْبِهِ أَيْ فِي نَفْسِهِ لَمْ يُرِدْ أَنّ النّفْسَ يُقَالُ لَهَا : سِرْبٌ وَإِنّمَا أَرَادَ أَنّهُ لَمْ يُذْعَرْ هُوَ وَلَا مَنْ مَعَهُ لَا كَالْآخَرِ الّذِي تَقَدّمَ ذِكْرُهُ وَقِيلَ فِيهِ آمِنٌ فِي سَرْبِهِ بِفَتْحِ السّينِ فَكَانَ الْوَاحِدُ آمِنٌ فِي مَالِهِ وَالْآخَرُ آمِنٌ فِي نَفْسِهِ وَيُقَالُ فِي سَرْبِهِ أَيْ فِي طَرِيقِهِ أَيْضًا . وَقَوْلُهُ أَمَامَ طَحُونٍ كَالْمَجَرّةِ فَيْلَقِ
يَعْنِي : كَتِيبَةً جَعَلَهَا كَالْمَجَرّةِ لِلَمَعَانِ السّيُوفِ وَالْأَسِنّةِ فِيهَا كَالنّجُومِ حَوْلَ الْمَجَرّةِ لِأَنّ النّجُومَ - وَأَكْثَرَ مَا تَكُونُ - حَوْلَهَا ، وَقَدْ قِيلَ إنّ الْمَجَرّةَ نَفْسَهَا نُجُومٌ صِغَارٌ مُتَلَاصِقَةٌ فَبَيَاضُ الْمَجَرّةِ مِنْ بَيَاضِ تِلْكَ النّجُومِ وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثٍ مُنْقَطِعٍ أَنّ الْمَجَرّةَ الّتِي فِي السّمَاءِ هِيَ مِنْ لُعَابِ حَيّةٍ تَحْتَ الْعَرْشِ وَفِي حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنّ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حِينَ بَعَثَهُ إلَى [ ص 491 ] الْيَمَنِ قَالَ لَهُ إنّك سَتَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ يَسْأَلُونَك عَنْ الْمَجَرّةِ فَقُلْ لَهُمْ هِيَ مِنْ عَرَقِ الْأَفْعَى الّتِي تَحْتَ الْعَرْشِ لَكِنّ إسْنَادَ هَذَا الْحَدِيثِ ضَعِيفٌ عِنْدَ أَهْلِ النّقْلِ لَا يُعَرّجُ عَلَيْهِ ذَكَرَهُ الْعُقَيْلِيّ ، وَعَنْ عَلِيّ أَنّهَا شَرَجُ السّمَاءِ الّذِي تَنْشَقّ مِنْهُ وَأَمّا قَوْلُ الْمُنَجّمِينَ غَيْرِ الْإِسْلَامِيّينَ فِي مَعْنَى الْمَجَرّةِ فَذَكَرَ لَهُمْ الْقَاضِي فِي النّقْضِ الْكَبِيرِ نَحْوًا مِنْ عَشَرَةِ أَقْوَالٍ وَأَكْثَرَ مِنْهَا مَا يُجَوّزُهُ الْعَقْلُ وَمِنْهَا مَا هُوَ شِبْهُ الْهَذَيَانِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ كَالْمَجَرّةِ أَيْ أَثَرُ هَذِهِ الْكَتِيبَةِ الطّحُونِ كَأَثَرِ الْمَجَرّةِ تَقْشِرُ مَا مَرّتْ عَلَيْهِ وَتَكْنُسُهُ . وَالْفَيْلَقُ فَيْعَلٌ مِنْ الْفِلْقِ وَهِيَ الدّاهِيَةُ كَأَنّهَا تَفْلِقُ الْقُلُوبَ وَهِيَ الْفِلْقَةُ أَيْضًا . قَالَ ابْنُ أَحْمَرَ
قَدْ طَرّقَتْ بِبِكْرِهَا أُمّ طَبَقْ ... فَدَبّرُوهُ خَبَرًا ضَخْمَ الْعُنُقْ
فَقِيلَ وَمَا ذَاكَ ؟ قَالَ مَوْتُ الْإِمَامِ فَلِقَةٌ مِنْ الْفِلَقْ

غَزْوَةُ ذِي قَرَدٍ
[ ص 3 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ ، فَلَمْ يُقِمْ بِهَا إلّا لَيَالِيَ قَلَائِلَ حَتّى أَغَارَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ الْفَزَارِيّ ، فِي خَيْلٍ مِنْ غَطَفَانَ عَلَى لِقَاحٍ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْغَابَةِ وَفِيهَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي غِفَارٍ وَامْرَأَةٌ لَهُ فَقَتَلُوا الرّجُلَ وَاحْتَمَلُوا الْمَرْأَةَ فِي اللّقَاحِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ ، وَمَنْ لَا أَتّهِمُ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ ، كُلّ قَدْ حَدّثَ فِي غَزْوَةِ ذِي قَرَدٍ بَعْضَ الْحَدِيثِ أَنّهُ كَانَ أَوّلَ مَنْ نَذَرَ بِهِمْ سَلَمَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْأَكْوَعِ الْأَسْلَمِيّ غَدَا يُرِيدُ الْغَابَةَ مُتَوَشّحًا قَوْسَهُ وَنَبْلَهُ وَمَعَهُ غُلَامٌ لِطَلْحَةِ بْنِ عُبَيْدِ اللّهِ مَعَهُ فَرَسٌ لَهُ يَقُودُهُ حَتّى إذَا عَلَا ثَنِيّةَ الْوَدَاعِ نَظَرَ إلَى بَعْضِ خُيُولِهِمْ فَأَشْرَفَ فِي نَاحِيَةِ سَلْعٍ . ثُمّ صَرَخَ وَاصَبَاحَاه ، ثُمّ خَرَجَ يَشْتَدّ فِي آثَارِ الْقَوْمِ وَكَانَ مِثْلَ السّبُعِ حَتّى لَحِقَ بِالْقَوْمِ فَجَعَلَ يَرُدّهُمْ بِالنّبْلِ وَيَقُولُ إذَا رَمَى خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ الْأَكْوَعِ ، الْيَوْمَ يَوْمُ الرّضّعِ فَإِذَا وَجّهَتْ الْخَيْلُ نَحْوَهُ انْطَلَقَ هَارِبًا ، ثُمّ عَارَضَهُمْ فَإِذَا أَمْكَنَهُ الرّمْيُ رَمَى ، ثُمّ قَالَ خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ الْأَكْوَعِ ، الْيَوْمَ يَوْمُ الرّضّعِ قَالَ فَيَقُولُ قَائِلُهُمْ أُوَيْكِعُنَا هُوَ أَوّلُ النّهَارِ [ ص 4 ]
تَسَابُقُ الْفُرْسَانِ إلَى الرّسُولِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
قَالَ وَبَلَغَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صِيَاحُ ابْنِ الْأَكْوَعِ فَصَرَخَ بِالْمَدِينَةِ الْفَزَعَ الْفَزَعَ فَتَرَامَتْ الْخُيُولُ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . وَكَانَ أَوّلَ مَنْ انْتَهَى إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الْفُرْسَانِ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو ، وَهُوَ الّذِي يُقَالُ لَهُ الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ ثُمّ كَانَ أَوّلَ فَارِسٍ وَقَفَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعْدَ الْمِقْدَادِ مِنْ الْأَنْصَارِ ، عَبّادُ بْنُ بِشْرِ بْنِ وَقْشِ بْنِ زُغْبَةَ بْنِ زَعُورَاءَ ، أَحَدُ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ وَسَعْدُ بْنُ زَيْدٍ ، أَحَدُ بَنِي كَعْبِ بْنِ عَبْدِ الْأَشْهَلِ وَأُسَيْدُ بْنُ ظَهِيرٍ ، أَخُو بَنِي حَارِثَةَ بْنِ الْحَارِثِ يَشُكّ فِيهِ وَعُكَاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ أَخُو بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ ؛ وَمُحْرِزُ بْنُ نَضْلَةَ أَخُو بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ ، وَأَبُو قَتَادَةَ الْحَارِثُ بْنُ رِبْعِيّ ، أَخُو بَنِي سَلِمَةَ وَأَبُو عَيّاشٍ وَهُوَ عُبَيْدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ الصّامِتِ ، أَخُو بَنِي زُرَيْقٍ . فَلَمّا اجْتَمَعُوا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمّرَ عَلَيْهِمْ سَعْدَ بْنَ زَيْدٍ فِيمَا بَلَغَنِي ، ثُمّ قَالَ اُخْرُجْ فِي طَلَبِ الْقَوْمِ ، حَتّى أَلْحَقَك فِي النّاسِ
نَصِيحَةُ الرّسُولِ لِأَبِي عَيّاشٍ
وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيمَا بَلَغَنِي عَنْ رِجَالٍ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ لِأَبِي عَيّاشٍ يَا أَبَا عَيّاشٍ لَوْ أَعْطَيْت هَذَا الْفَرَسَ رَجُلًا ، هُوَ أَفْرَسُ مِنْك فَلَحِقَ بِالْقَوْمِ ؟ قَالَ أَبُو عَيّاشٍ فَقُلْت يَا رَسُولَ اللّهِ أَنَا أَفْرَسُ النّاسِ ثُمّ ضَرَبْت الْفَرَسَ ، فَوَاَللّهِ مَا جَرَى بِي خَمْسِينَ ذِرَاعًا حَتّى طَرَحَنِي ، فَعَجِبْت أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ لَوْ أَعْطَيْته أَفْرَسَ مِنْك ، وَأَنَا أَقُولُ أَنَا أَفْرَسُ النّاسِ فَزَعَمَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَعْطَى فَرَسَ أَبِي عَيّاشٍ مُعَاذَ بْنَ مَاعِصٍ أَوْ عَائِذَ بْنَ مَاعِصِ بْنِ قَيْسِ بْنِ خُلْدَةَ وَكَانَ ثَامِنًا ، وَبَعْضُ النّاس يَعُدّ سَلَمَةَ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْأَكْوَعِ أَحَدَ الثّمَانِيّةِ وَيَطْرَحُ أُسَيْدَ بْنَ ظُهَيْرٍ ، أَخَا بَنِي حَارِثَةَ وَاَللّهُ أَعْلَمُ أَيّ ذَلِك كَانَ . وَلَمْ يَكُنْ سَلَمَةُ يَوْمَئِذٍ فَارِسًا ، وَقَدْ كَانَ أَوّلَ مَنْ لَحِقَ بِالْقَوْمِ عَلَى رِجْلَيْهِ . فَخَرَجَ الْفُرْسَانُ فِي طَلَبِ الْقَوْمِ حَتّى تَلَاحَقُوا .
مَقْتَلُ مُحْرِزِ بْنِ نَضْلَةَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ : [ ص 5 ] أَنّ أَوّلَ فَارِسٍ لَحِقَ بِالْقَوْمِ مُحْرِزُ بْنُ نَضْلَةَ أَخُو بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ - وَكَانَ يُقَالُ لِمُحْرِزِ الْأَخْرَمُ وَيُقَالُ لَهُ قُمَيْرٌ - وَأَنّ الْفَزَعَ لَمّا كَانَ جَالَ فَرَسٌ لِمَحْمُودِ بْنِ مَسْلَمَةَ فِي الْحَائِطِ ، حِينَ سَمِعَ صَاهِلَةَ الْخَيْلِ وَكَانَ فَرَسًا صَنِيعًا جَامّا ، فَقَالَ نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءِ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ حِينَ رَأَيْنَ الْفَرَسَ يَجُولُ فِي الْحَائِطِ بِجِذْعِ نَخْلٍ هُوَ مَرْبُوطٌ فِيهِ يَا قُمَيْرُ هَلْ لَك فِي أَنْ تَرْكَبَ هَذَا الْفَرَسَ ؟ فَإِنّهُ كَمَا تَرَى ، ثُمّ تَلْحَقُ بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَبِالْمُسْلِمِينَ ؟ قَالَ نَعَمْ فَأَعْطَيْنَهُ إيّاهُ . فَخَرَجَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ بَذّ الْخَيْلَ بِجَمَامِهِ حَتّى أَدْرَكَ الْقَوْمَ فَوَقَفَ لَهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهمْ ثُمّ قَالَ قِفُوا يَا مَعْشَرَ بَنِي اللّكِيعَةِ حَتّى يَلْحَقَ بِكُمْ مَنْ وَرَاءَكُمْ مِنْ أَدْبَارِكُمْ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ . قَالَ وَحَمَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَقَتَلَهُ وَجَالَ الْفَرَسُ ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ حَتّى وَقَفَ عَلَى آرِيّهِ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ فَلَمْ يُقْتَلْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ غَيْرُهُ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مَعَ مُحْرِزٍ وَقّاصُ بْنُ مُجَزّرٍ الْمُدْلِجِيّ ، فِيمَا ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ .
أَسْمَاءُ أَفْرَاسِ الْمُسْلِمِينَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ اسْمُ فَرَسِ مَحْمُودٍ ذَا اللّمّةِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَكَانَ اسْمُ فَرَسِ سَعْدِ بْنِ زَيْدٍ : لَاحِقٌ وَاسْمُ فَرَسِ الْمِقْدَادِ بَعْزَجَةُ وَيُقَالُ سُبْحَةُ وَاسْمُ فَرَسِ عُكَاشَةَ بْنِ مِحْصَنٍ ذُو اللّمّةِ وَاسْمُ فَرَسِ أَبِي قَتَادَةَ : حَزْوَةُ وَفَرَسِ عَبّادِ بْنِ بِشْرٍ لَمّاعُ وَفَرَسُ أُسَيْدِ بْنِ ظُهَيْرٍ : مَسْنُونٌ وَفَرَسُ أَبِي عَيّاشٍ جُلْوَةُ . [ ص 6 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي بَعْضُ مَنْ لَا أَتّهِمُ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ : أَنّ مُجَزّرًا إنّمَا كَانَ عَلَى فَرَسٍ لَعُكَاشَةَ بْنِ مِحْصَنٍ يُقَالُ لَهُ الْجَنَاحُ فَقُتِلَ مُجَزّرٌ وَاسْتُلِبَتْ الْجَنَاحُ .
قَتْلَى الْمُشْرِكِينَ
وَلَمّا تَلَاحَقَتْ الْخَيْلُ قَتَلَ أَبُو قَتَادَةَ الْحَارِثَ بْنَ رِبْعِيّ ، أَخُو بَنِي سَلِمَةَ حَبِيبَ بْنَ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ وَغَشّاهُ بُرْدَهُ ثُمّ لَحِقَ بِالنّاسِ . وَأَقْبَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْمُسْلِمِينَ .
اسْتِعْمَالُ ابْنِ أُمّ مَكْتُومٍ عَلَى الْمَدِينَةِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمّ مَكْتُومٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَإِذَا حَبِيبٌ مُسَجّى بِبُرْدِ أَبِي قَتَادَةَ ، فَاسْتَرْجَعَ النّاسُ وَقَالُوا : قُتِلَ أَبُو قَتَادَةَ ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَيْسَ بِأَبِي قَتَادَةَ وَلَكِنّهُ قَتِيلٌ لِأَبِي قَتَادَةَ ، وَضَعَ عَلَيْهِ بُرْدَهُ لِتَعْرِفُوا أَنّهُ صَاحِبُهُ [ ص 7 ] وَأَدْرَكَ عُكّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ أَوْبَارًا وَابْنَهُ عَمْرَو بْنَ أَوْبَارٍ ، وَهُمَا عَلَى بَعِيرٍ وَاحِدٍ فَانْتَظَمَهُمَا بِالرّمْحِ فَقَتَلَهُمَا جَمِيعًا ، وَاسْتَنْقَذُوا بَعْضَ اللّقَاحِ وَسَارَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى نَزَلَ بِالْجَبَلِ مِنْ ذِي قَرَدٍ وَتَلَاحَقَ بِهِ النّاسُ فَنَزَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِهِ وَأَقَامَ عَلَيْهِ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَقَالَ لَهُ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ : يَا رَسُولَ اللّهِ لَوْ سَرّحْتنِي فِي مِائَةِ رَجُلٍ لَاسْتَنْقَذْت بَقِيّةَ السّرْحِ وَأَخَذْت بِأَعْنَاقِ الْقَوْمِ ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيمَا بَلَغَنِي : إنّهُمْ الْآنَ لَيَغْبَقُونَ فِي غَطَفَانَ
تَقْسِيمُ الْفَيْءِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ
فَقَسَمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي أَصْحَابِهِ فِي كُلّ مِائَةِ رَجُلٍ جَزُورًا ، وَأَقَامُوا عَلَيْهَا ، ثُمّ رَجَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَافِلًا حَتّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ .
Sغَزْوَةُ ذِي قَرَد
[ ص 3 ] وَيُقَالُ فِيهِ قُرُدٌ بِضَمّتَيْنِ هَكَذَا أَلْفَيْته مُقَيّدًا عَنْ أَبِي عَلِيّ وَالْقَرَدُ فِي اللّغَةِ الصّوفُ الرّدِيءُ يُقَالُ فِي مِثْلِ عَثَرْت عَلَى الْغَزْلِ بِأُخْرَةٍ فَلَمْ تَدَعْ بِنَجْدِ قَرَدَةً . [ ص 4 ] [ ص 5 ] وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ أَسْمَاءَ خَيْلِ جَمَاعَةٍ مِمّنْ حَضَرَهَا ، فَذَكَرَ بَعْزَجَةَ فَرَسَ الْمِقْدَادِ ، وَالْبَعْزَجَةُ شِدّةُ جَرْيٍ فِي مُغَالَبَةٍ كَأَنّهُ مَنْحُوتٌ مِنْ بَعَجَ إذَا شَقّ وَعَزّ أَيْ غَلَبَ . وَأَمّا سُبْحَةُ فَمِنْ سَبَحَ إذَا عَلَا عُلُوّا فِي اتّسَاعٍ وَمِنْهُ سُبْحَانَ اللّهِ وَسُبُحَاتُ اللّهِ عَظَمَتُهُ وَعُلُوّهُ لِأَنّ النّاظِرَ الْمُفَكّرَ فِي [ اللّهِ ] سُبْحَانَهُ يَسْبَحُ فِي بَحْرٍ لَا سَاحِلَ لَهُ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي مَعْنَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ حَقَائِقَ وَدَقَائِقَ أَسْرَارٍ فِي شَرْحِ سُبْحَانَ اللّهِ وَبِحَمْدِهِ . وَأَمّا حَزْوَةُ فَمِنْ حَزَوْت الطّيْرَ إذَا زَجَرْتهَا ، أَوْ مِنْ حَزَوْت الشّيْءَ إذَا أَظْهَرْته . قَالَ الشّاعِرُ
تَرَى الْأَمْعَزَ الْمَحْزُوّ فِيهِ كَأَنّهُ ... مِنْ الْحَرّ وَاسْتِقْبَالِهِ الشّمْسَ مَسْطَحُ
وَجُلْوَةُ مِنْ جَلَوْت السّيْفَ وَجَلَوْت الْعَرُوسَ كَأَنّهَا تَجْلُو الْفَمَ عَنْ قَلْبِ صَاحِبِهَا ، وَمَسْنُونٌ مِنْ سَنَنْت الْحَدِيدَةَ إذَا صَقَلْتهَا .
سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ
[ ص 6 ] وَذَكَرَ سَلَمَةَ بْنَ الْأَكْوَعِ ، وَاسْمُ الْأَكْوَعِ سِنَانٌ وَخَبَرُ سَلَمَةَ فِي ذَلِك الْيَوْمِ أَطْوَلُ مِمّا ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ ، وَأَعْجَبُ فَإِنّهُ اسْتَلَبَ وَحْدَهُ فِي ذَلِك الْيَوْمِ مِنْ الْعَدُوّ وَهُوَ رَاجِلٌ قَبْلَ أَنْ تَلْحَقَ بَهْ الْخَيْلُ ثَلَاثِينَ بُرْدَةً وَثَلَاثِينَ دَرَقَةً وَقَتَلَ مِنْهُمْ بِالنّبْلِ كَثِيرًا ، فَكُلّمَا هَرَبُوا أَدْرَكَهُمْ وَكُلّمَا رَامُوهُ أَفْلَتْ مِنْهُمْ وَشُهْرَةُ حَدِيثِهِ تُغْنِي عَنْ سَرْدِهِ فَإِنّهُ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورَةِ وَقِيلَ إنّ سَلَمَةَ هَذَا هُوَ الّذِي كَلّمَهُ الذّئْبُ وَقِيلَ إنّ الّذِي كَلّمَهُ الذّئْبُ هُوَ أُهْبَانُ بْنُ صَيْفِيّ وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ .
شَرْحُ الْيَوْمَ يَوْمُ الرّضّعِ
وَقَوْلُهُ الْيَوْمَ يَوْمُ الرّضّعِ يُرِيدُ يَوْمَ اللّئَامِ أَيْ يَوْمُ جُبْنِهِمْ وَفِي قَوْلِهِمْ لَئِيمٌ رَاضِعٌ أَقْوَالٌ ذَكَرَهَا ابْنُ الْأَنْبَارِيّ . قِيلَ الرّاضِعُ هُوَ الّذِي رَضَعَ اللّؤْمَ فِي ثَدْيَيْ أُمّهِ أَيْ غُذّيَ بِهِ وَقِيلَ هُوَ الّذِي يَرْضِعُ مَا بَيْنَ أَسْنَانِهِ يَسْتَكْثِرُ مِنْ الْجَشَعِ بِذَلِك . وَشَاهِدُ هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُ امْرَأَةٍ مِنْ الْعَرَبِ تَذُمّ رَجُلًا : إنّهُ لَأُكُلَةٌ ثُكُلَةٌ يَأْكُلُ مِنْ جَشَعِهِ خِلَلَهُ أَيْ مَا يَتَخَلّلُ بَيْنَ أَسْنَانِهِ . قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : وَلَمْ أَسْمَعْ فِي الْجَشَعِ وَالْحِرْصِ أَبْلَغَ مِنْ هَذَا ، وَمِنْ قَوْلِهِمْ هُوَ يُثِيرُ الْكِلَابَ مِنْ [ ص 7 ] وَقِيلَ فِي اللّئِيمِ الرّاضِعِ غَيْرَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِمّا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ النّاسِ وَمَذْكُورٌ فِي كُتُبِهِمْ . وَقَوْلُهُ الْيَوْمَ يَوْمُ الرّضّعِ بِالرّفْعِ فِيهِمَا ، وَبِنَصْبِ الْأَوّلِ وَرَفْعِ الثّانِي ، حَكَى سِيبَوَيْهِ : الْيَوْمَ يَوْمُك ، عَلَى أَنْ تَجْعَلَ الْيَوْمَ ظَرْفًا فِي مَوْضِعِ خَبَرٍ لِلثّانِي ، لِأَنّ ظُرُوفَ الزّمَانِ يُخْبَرُ بِهَا عَنْ زَمَانٍ مِثْلِهَا إذَا كَانَ الظّرْفُ يَتّسِعُ وَلَا يَضِيقُ عَلَى الثّانِي ، مِثْلُ أَنْ تَقُولَ السّاعَةَ يَوْمُك ، وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ [ الْمُدّثّرُ 90 ] أَنّ يَوْمَئِذٍ ظَرْفٌ لِيَوْمٌ عَسِيرٌ وَذَلِك أَنّ ظُرُوفَ الزّمَانِ أَحْدَاثٌ وَلَيْسَتْ بِجُثَثِ فَلَا يَمْتَنِعُ فِيهَا مِثْلُ هَذَا ، كَمَا لَا يَمْتَنِعُ فِي سَائِرِ الْأَحْدَاثِ .

امْرَأَةُ الْغِفَارِيّ وَمَا نَذَرَتْ مَعَ الرّسُولِ
[ ص 8 ] وَأَقْبَلَتْ امْرَأَةُ الْغِفَارِيّ عَلَى نَاقَةٍ مِنْ إبِلِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى قَدِمَتْ عَلَيْهِ فَأَخْبَرَتْهُ الْخَبَرَ ، فَلَمّا فَرَغَتْ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّي قَدْ نَذَرْت لِلّهِ أَنْ أَنْحَرَهَا إنْ نَجّانِي اللّهُ عَلَيْهَا ؛ قَالَ فَتَبَسّمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثُمّ قَالَ بِئْسَ مَا جَزَيْتهَا أَنْ حَمَلَك اللّهُ عَلَيْهَا وَنَجّاك بِهَا ثُمّ تَنْحَرِينَهَا إنّهُ لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللّهِ وَلَا فِيمَا لَا تَمْلِكِينَ إنّمَا هِيَ نَاقَةٌ مِنْ إبِلِي ، فَارْجِعِي إلَى أَهْلِك عَلَى بَرَكَةِ اللّهِ وَالْحَدِيثُ عَنْ امْرَأَةِ الْغِفَارِيّ وَمَا قَالَتْ وَمَا قَالَ لَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ أَبَى الزّبَيْرِ الْمَكّيّ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيّ .
Sوَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ لِلْغِفَارِيّةِ وَاسْمُهَا لَيْلَى ، وَيُقَالُ هِيَ امْرَأَةُ أَبِي ذَرّ حِينَ أَخْبَرَتْهُ أَنّهَا نَذَرَتْ إنْ اللّهُ نَجّاهَا ، عَلَيْهَا أَنْ تَنْحَرَهَا ، قَالَ فَتَبَسّمَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - ثُمّ قَالَ بِئْسَ مَا جَزَيْتهَا أَنْ حَمَلَك اللّهُ عَلَيْهَا وَنَحّاك بِهَا ، ثُمّ تَنْحَرِينَهَا إنّهُ لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللّهِ وَلَا فِي مَا لَا تَمْلِكِينَ فِيهِ حُجّةٌ لِلشّافِعِيّ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ إنّ مَا أَحْرَزَهُ الْعَدُوّ مِنْ مَالٍ إنّهُ لَهُمْ بِلَا ثَمَنٍ قَبْلَ الْقَسْمِ وَبَعْدَهُ لِأَنّهُ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ مِلْكِهِ حَوْزُ الْعَدُوّ لَهُ وَقَالَ مَالِكٌ هُوَ أَوْلَى بِهِ قَبْلَ الْقَسْمِ وَصَاحِبُهُ بَعْدَ الْقَسْمِ أَوْلَى بِهِ بِالثّمَنِ وَفِيهِ قَوْلَانِ آخَرَانِ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ .
حَوْلَ النّذْرِ وَالطّلَاقِ وَالْعِتْقِ
[ ص 8 ] إنّهُ لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللّهِ وَلَا فِيمَا لَا تَمْلِكِينَ وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ لَا نَذْرَ لِأَحَدِ فِيمَا لَا يَمْلِكُ وَلَا طَلَاقَ لِأَحَدِ فِيمَا لَا يَمْلِكُ وَلَا عِتْقَ لِأَحَدِ فِيمَا لَا يَمْلِكُ حَدِيثٌ مَرْوِيّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَمْرٍو ، وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَكِنّهُ لَمْ يُخَرّجْ فِي الصّحِيحَيْنِ لِعِلَلِ فِي أَسَانِيدِهِ وَقَدْ قَالَ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْ لَا طَلَاقَ قَبْلَ الْمِلْكِ جَمَاعَةٌ مِنْ الصّحَابَةِ وَفُقَهَاءِ التّابِعِينَ وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ وَسَوَاءٌ عِنْدَهُمْ عَيّنَ امْرَأَةً أَوْ لَمْ يُعَيّنْ وَإِلَيْهِ مَالَ الْبُخَارِيّ رَحِمَهُ اللّهُ وَرَوَاهُ ابْنُ كِنَانَةَ عَنْ مَالِكٍ وَابْنِ وَهْبٍ ، وَاحْتَجّ ابْنُ عَبّاسٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمّ طَلّقْتُمُوهُنّ } [ الْأَحْزَابُ : 49 ] قَالَ فَإِذًا لَا طَلَاقَ إلّا بَعْدَ نِكَاحٍ وَقَالَ شَرِيكٌ الْقَاضِي : النّكَاحُ عَقْدٌ وَالطّلَاقُ حَلّ ، فَلَا يَكُونُ الْحَلّ إلّا بَعْدَ الْعَقْدِ .

شِعْرُ حَسّانَ فِي ذِي قَرَدٍ
وَكَانَ مِمّا قِيلَ مِنْ الشّعْرِ فِي يَوْمِ ذِي قَرَدٍ قَوْلَ حَسّانَ بْنِ ثَابِتٍ [ ص 9 ] [ ص 10 ] [ ص 11 ]
لَوْلَا الّذِي لَاقَتْ وَمَسّ نُسُورَهَا ... بِجَنُوبِ سَايَةَ أَمْسِ فِي التّقْوَادِ
لَلَقِينَكُمْ يَحْمِلْنَ كُلّ مُدَجّجٍ ... حَامِي الْحَقِيقَةِ مَاجِدِ الْأَجْدَادِ
وَلَسَرّ أَوْلَادَ اللّقِيطَةِ أَنّنَا ... سِلْمٌ غَدَاةَ فَوَارِسِ الْمِقْدَادِ
كُنّا ثَمَانِيَةً وَكَانُوا جَحْفَلًا ... لَجِبًا فَشُكّوا بِالرّمَاحِ بَدَادِ
كُنّا مِنْ الْقَوْمِ الّذِينَ يَلُونَهُمْ ... وَيُقَدّمُونَ عِنَانَ كُلّ جَوَادِ
كَلّا وَرَبّ الرّاقِصَاتِ إلَى مِنًى ... يَقْطَعْنَ عَرْضَ مَخَارِمِ الْأَطْوَادِ
حَتّى نُبِيلُ الْخَيْلَ فِي عَرَصَاتِكُمْ ... وَنَئُوبُ بِالْمَلَكَاتِ وَالْأَوْلَادِ
رَهْوًا بِكُلّ مُقَلّصٍ وَطِمِرّةٍ ... فِي كُلّ مُعْتَرَكٍ عَطَفْنَ رَوَادِي
أَفْنَى دَوَابِرَهَا وَلَاحَ مُتُونَهَا ... يَوْمٌ تُقَادُ بِهِ وَيَوْمُ طِرَادِ
فَكَذَاك إنّ جِيَادَنَا مَلْبُونَةٌ ... وَالْحَرْبُ مُشْعَلَةٌ بِرِيحِ غَوَادِ
وَسُيُوفُنَا بِيضُ الْحَدَائِدِ تَجْتَلِي ... جُنَنَ الْحَدِيدِ وَهَامَةَ الْمُرْتَادِ
أَخَذَ الْإِلَهُ عَلَيْهِمْ لِحَرَامِهِ ... وَلِعِزّةِ الرّحْمَنِ بِالْأَسْدَادِ
كَانُوا بِدَارِ نَاعِمِينَ فَبَدّلُوا ... أَيّامَ ذِي قَرَدٍ وُجُوهَ عِبَادِ
غَضَبُ سَعْدٍ عَلَى حَسّانَ وَمُحَاوَلَةُ حَسّانَ اسْتِرْضَاءَهُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : فَلَمّا قَالَهَا حَسّانُ غَضِبَ عَلَيْهِ سَعْدُ بْنُ زَيْدٍ ، وَحَلَفَ أَنْ لَا يُكَلّمَهُ أَبَدًا ؛ قَالَ انْطَلَقَ إلَى خَيْلِي وَفَوَارِسِي فَجَعَلَهَا لِلْمِقْدَادِ فَاعْتَذَرَ إلَيْهِ حَسّانُ وَقَالَ وَاَللّهِ مَا ذَاكَ أَرَدْت ، وَلَكِنّ الرّوِيّ وَافَقَ اسْمَ الْمِقْدَادِ ، وَقَالَ أَبْيَاتًا يُرْضِي بِهَا سَعْدًا :
إذَا أَرَدْتُمْ الْأَشَدّ الْجَلْدَا ... أَوْ ذَا غِنَاءٍ فَعَلَيْكُمْ سَعْدَا
سَعْدُ بْنُ زَيْدٍ لَا يُهَدّ هَدّا
فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ سَعْدٌ وَلَمْ يُغْنِ شَيْئًا .
Sمِنْ شَرْحِ شِعْرِ حَسّانَ أَعْضَاءَ الْخَيْلِ
وَذَكَرَ شِعْرَ حَسّانَ لَوْلَا الّذِي لَاقَتْ وَمَسّ نُسُورَهَا
[ ص 9 ] الْفَرَسِ عِشْرُونَ عُضْوًا ، كُلّ عُضْوٍ مِنْهَا يُسَمّى بِاسْمِ طَائِرٍ فَمِنْهَا النّسْرُ وَالنّعَامَةُ وَالْهَامَةُ وَالسّمَامَةُ وَالسّعْدَانَةُ وَهِيَ الْحَمَامَةُ وَالْقَطَاةُ الذّبَاب وَالْعُصْفُورُ وَالْغُرَابُ وَالصّرَدُ وَالصّقْرُ وَالْخَرَبُ وَالنّاهِضُ وَهُوَ فَرْخُ الْعُقَابِ وَالْخُطّابِ ذَكَرَهَا وَبَقِيّتَهَا الْأَصْمَعِيّ ، وَرَوَى فِيهَا شِعْرًا لِأَبِي حَزْرَةَ جَرِيرٍ وَهُوَ
وَأَقَبّ كَالسّرْحَانِ تَمّ لَهُ ... مَا بَيْنَ هَامَتِهِ إلَى النّسْرِ
رَحِبَتْ نَعَامَتُهُ وَوُفّرَ فَرْخُهُ ... وَتَمَكّنَ الصّرْدَانُ فِي النّحْرِ
وَأَنَافَ بِالْعُصْفُورِ فِي سَعَفٍ ... هَامٍ أَشَمّ مُوَثّقُ الْجِذْرِ
وَازْدَانَ بِالدّيكَيْنِ صَلْصَلُهُ ... وَنَبَتْ دَجَاجَتُهُ عَنْ الصّدْرِ
وَالنّاهِضَانِ أُمِرّ جَلْزُهُمَا ... فَكَأَنّمَا عُثِمَا عَلَى كَسْرِ
مُسْحَنْفِرُ الْجَنْبَيْنِ مُلْتَئِمٌ ... مَا بَيْنَ شِيمَتِهِ إلَى الْغُرّ
وَصَفَتْ سُمَانَاهُ وَحَافِرُهُ ... وَأَدِيمُهُ وَمَنَابِتُ الشّعْرِ
وَسَمَا الْغُرَابُ لِمَوْقِعَيْهِ مَعًا ... فَأَبَيْنَ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ
وَاكْتَنّ دُونَ قَبِيحِهِ خُطّافُهُ ... وَنَأْتِ سَمَامَتُهُ عَلَى الصّقْرِ
وَتَقَدّمَتْ عَنْهُ الْقَطَاةُ لَهُ ... فَنَأْتِ بِمَوْقِعِهَا عَنْ الْحُرّ
وَسَمَا عَلَى نِقْوَيْهِ دُونَ حِدَاتِهِ ... خَرَبَانُ بَيْنَهُمَا مَدَى الشّبْرِ
يَدَعُ الرّضِيمَ إذَا جَرَى فِلَقًا ... بَتَوَائِمٍ كَمَوَاسِمٍ سُمْرِ
رُكّبْنَ فِي مَحْضِ الشّوَى سَبِطٍ ... كَفْتِ الْوُثُوبِ مُشَدّدِ الْأَسْرِ
بَدَادٌ وَفِجَارٌ
وَقَوْلُهُ فَشَكّوا بِالرّمَاحِ بَدَادِ . بَدَادُ مِنْ التّبَدّدِ وَهُوَ التّفَرّقُ وَهُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ غَيْرَ أَنّهُ مَبْنِيّ وَنَصْبُهُ كَانْتِصَابِ الْمَصْدَرِ إذَا قُلْت : مَشَيْت الْقَهْقَرَى ، وَقَعَدْت الْقُرْفُصَاءَ وَكَأَنّهُ [ ص 10 ] قَالَ طَعَنُوا الطّعْنَةُ الّتِي يُقَالُ لَهَا بَدَادِ وَبَدَادُ مِثْلُ فَجَارِ مِنْ قَوْلِهِ احْتَمَلْت فَجَارِ جَعَلُوهُ اسْمًا عَلَمًا لِلْمَصْدَرِ كَمَا قَالُوا : فَحَمَلْت بَرّةَ فَجُعِلَ بَرّةُ عَلَمًا لِلْبِرّ وَسِرّ هَذِهِ الْعَلَمِيّةِ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ أَنّهُمْ أَرَادُوا الْفِعْلَ الْأَتَمّ الّذِي يُسَمّى بِاسْمِ ذَلِكَ الْفِعْلِ حَقِيقَةً فَقَدْ يَقُولُ الْإِنْسَانُ بَرّ فُلَانٌ وَفَجَرَ أَيْ قَارَبَ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِك ، أَوْ فَعَلَ مِنْهُ بَعْضَهُ فَإِذَا قَالَ فَعَلْت بَرّةَ فَإِنّمَا يُرِيدُ الْبِرّ الّذِي يُسَمّى بِرّا عَلَى الْحَقِيقَةِ فَجَاءَ بِالِاسْمِ الْعَلَمِ الّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ مُسَمّاهُ حَقِيقَةً إذْ لَا يُتَصَوّرُ هَذَا الضّرْبُ مِنْ الْمَجَازِ فِي الْأَعْلَامِ وَكَذَلِكَ إذَا أَرَادَ الْفُجُورَ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَأَرَادَ رَفْعَ الْمَجَازِ سَمّاهُ فَجَازَ تَحْقِيقًا لِلْمَعْنَى ، أَيْ مِثْلَ هَذِهِ الْفَعْلَةِ يَنْبَغِي أَنْ تُسَمّى بِاسْمِ الْفُجُورِ حَقِيقَةً وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي النّدَاءِ يَا فَسَاقِ وَيَا فُسْقُ فَجَاءُوا بِالصّيغَةِ الْمَعْرُوفَةِ الْعَلَمِيّةِ الْمَعْرُوفَةِ مَعَ النّدَاءِ خَاصّةً أَيْ إنّ هَذَا الِاسْمَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ اسْمَهُ الّذِي يُدْعَى بِهِ إذْ الِاسْمُ الْعَلَمُ أَلْزَمُ لِمُسَمّاهُ مِنْ اسْمٍ مُشْتَقّ مِنْ فِعْلٍ فَعَلَهُ لِأَنّ الْفِعْلَ لَا يَثْبُتُ وَالِاسْمَ الْعَلَمَ يَثْبُتُ فَهَذَا هُوَ مَعْزَاهُمْ فِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ الّتِي هِيَ عَلَى صِيَغِ الْأَعْلَامِ فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ فَتَأَمّلْهَا ، وَقَدْ بَسَطْنَا هَذِهِ الْغُرُضَ بَسْطًا شَافِيًا فِي أَسْرَارِ مَا يَنْصَرِفُ وَمَا لَا يَنْصَرِفُ فَلْتُنْظَرْ هُنَالِكَ فَثَمّ تَرَى سِرّ بِنَائِهَا عَلَى الْكَسْرِ مَعَ مَا يَتّصِلُ بِمَعَانِيهَا إنْ شَاءَ اللّهُ وَأَلْفَيْت فِي حَاشِيَةِ الشّيْخِ رَحِمَهُ اللّهُ عَلَى قَوْلِهِ فَشُكّوا بِالرّمَاحِ فَشُلّوا بِاللّامِ الرّوَايَةُ الصّحِيحَةُ وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى ، وَوَقَعَ فِي الْأَصْلَيْنِ فَشُكّوا بِالْكَافِ كَمَا فِي هَذَا الْأَصْلِ . إلَى هَاهُنَا انْتَهَى كَلَامُ الشّيْخِ وَالشّلّ بِاللّامِ الطّرْدُ وَالشّكّ بِالْكَافِ الطّعْنُ كَمَا قَالَ
شَكّ الْفَرِيصَةَ بِالْمِدْرَى فَأَنْفَذَهَا ... شَكّ الْمُبَيْطَرِ إذْ يَشْفِي مِنْ الْعَضَدِ
عَوْدٌ إلَى شَرْحِ شِعْرِ حَسّانَ
وَقَوْلُهُ رَهْوًا أَيْ مَشْيًا بِسُكُونِ وَيُقَالُ لِمُسْتَنْقَعِ الْمَاءِ أَيْضًا رَهْوٌ وَالرّهْوُ أَسْمَاءُ الْكُرْكِيّ وَالرّهْوُ الْمِرْآةُ الْوَاسِعَةُ . وَقَوْلُهُ رَوَادِي ، أَيْ تَرْدِي بِفُرْسَانِهَا ، أَيْ تُسْرِعُ .

شِعْرٌ آخَرُ لِحَسّانَ فِي يَوْمِ ذِي قَرَدٍ
وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ فِي يَوْمِ ذِي قَرَدٍ [ ص 11 ] [ ص 12 ]
أَظَنّ عُيَيْنَةُ إذْ زَارَهَا ... بِأَنْ سَوْفَ يَهْدِمَ فِيهَا قُصُورَا
فَأُكْذِبْت مَا كُنْت صَدّقْته ... وَقُلْتُمْ سَنَغْنَمُ أَمْرًا كَبِيرَا
فَعِفْت الْمَدِينَةَ إذْ زُرْتهَا ... وَآنَسْت لِلْأَسَدِ فِيهَا زَئِيرًا
فَوَلّوْا صِرَاعًا كَشَدّ النّعَامِ ... وَلَمْ يَكْشِفُوا عَنْ مُلِطّ حَصِيرًا
أَمِيرٌ عَلَيْنَا رَسُولُ الْمَلِيكِ ... أَحْبِبْ بِذَاكَ إلَيْنَا أَمِيرَا
رَسُولٌ نُصَدّقُ مَا جَاءَهُ ... وَيَتْلُو كِتَابًا مُضِيئًا مُنِيرَا
Sقَصِيدَةٌ أُخْرَى لِحَسّانَ
وَقَوْلُ حَسّانَ فِي خَيْلِ عُيَيْنَةَ
فَوَلّوْا سِرَاعًا كَشَدّ النّعَا ... مِ وَلَمْ يَكْشِفُوا عَنْ مُلِطّ حَصِيرَا
[ ص 12 ] عِيدَانِ الْحَظِيرَةِ وَالْمُلِطّ مِنْ قَوْلِهِمْ لَطّتْ النّاقَةُ وَأَلَطّتْ بِذَنَبِهَا إذَا أَدْخَلَتْهُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا .

شِعْرُ كَعْبٍ فِي يَوْمِ ذِي قَرَدٍ
وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ فِي يَوْمِ ذِي قَرَدٍ لِلْفَوَارِسِ
أَتَحْسَبُ أَوْلَادُ اللّقِيطَةِ أَنّنَا ... عَلَى الْخَيْلِ لَسْنَا مِثْلَهُمْ فِي الْفَوَارِسِ
وَإِنّا أُنَاسٌ لَا نَرَى الْقَتْلَ سُبّةً ... وَلَا نَنْثَنِي عِنْدَ الرّمَاحِ الْمَدَاعِسِ
وَإِنّا لَنَقْرِي الضّيْفَ مِنْ قَمَعِ الذّرَا ... وَنَضْرِبُ رَأْسَ الْأَبْلَجِ الْمُتَشَاوِسِ
نَرُدّ كُمَاةَ الْمُعْلَمِينَ إذَا انْتَخَوْا ... بِضَرْبِ يُسَلّي نَخْوَةَ الْمُتَقَاعِسِ
بِكُلّ فَتًى حَامِي الْحَقِيقَةِ مَاجِدٍ ... كَرِيمٍ كَسِرْحَانِ الْغَضَاةِ مُخَالِسِ
يَذُودُونَ عَنْ أَحْسَابِهِمْ وَتِلَادِهِمْ ... بِبِيضِ تَقُدّ الْهَامَ تَحْتَ الْقَوَانِسِ
فَسَائِلْ بَنِي بَدْرٍ إذَا مَا لَقِيتهمْ ... بِمَا فَعَلَ الْإِخْوَانُ يَوْمَ التّمَارُسِ
إذَا مَا خَرَجْتُمْ فَاصْدُقُوا مِنْ لَقِيتُمْ ... وَلَا تَكْتُمُوا أَخْبَارَكُمْ فِي الْمَجَالِسِ
وَقُولُوا زَلَلْنَا عَنْ مَخَالِبِ خَادِرٍ ... بِهِ وَحَرٌ فِي الصّدْرِ مَا لَمْ يُمَارِسْ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَنْشَدَنِي بَيْتَهُ " وَإِنّا لَنُقْرِي الضّيْفَ " أَبُو زَيْدٍ .
شِعْرُ شَدّادٍ لِعُيَيْنَةَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ شَدّادُ بْنُ عَارِضٍ الْجُشَمِيّ ، فِي يَوْمِ ذِي قَرَدٍ لِعُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ وَكَانَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ يُكَنّى بِأَبِي مَالِكٍ [ ص 13 ]
فَهَلّا كَرَرْت أَبَا مَالِكٍ ... وَخَيْلُك مُدْبِرَةٌ تُقْتَلُ
ذَكَرْت الْإِيَابَ إلَى عَسْجَرٍ ... وَهَيْهَاتَ قَدْ بَعُدَ الْمُقْفَلُ
وَطَمّنْتَ نَفْسَك ذَا مَيْعَةٍ ... مِسَحَ الْفَضَاءِ إذَا يُرْسَلْ
إذَا قَبّضَتْهُ إلَيْك الشّمَا ... لُ جَاشَ كَمَا اضْطَرَمَ الْمِرْجَلُ
فَلَمّا عَرَفْتُمْ عِبَادَ الْإِلَ ... هِ لَمْ يَنْظُرْ الْآخِرَ الْأَوّلُ
عَرَفْتُمْ فَوَارِسَ قَدْ عَوّدُوا ... طِرَادَ الْكُمَاةِ إذَا أَسْهَلُوا
إذَا طَرَدُوا الْخَيْلَ تَشْقَى بِهِمْ ... فَضَاحًا وَإِنْ يُطْرَدُوا يَنْزِلُوا
فَيَعْتَصِمُوا فِي سَوَاءِ الْمَقَا ... مِ بِالْبِيضِ أَخْلَصَهَا الصّيْقَلُ

غَزْوَةُ بَنِي الْمُصْطَلِقِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَأَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْمَدِينَةِ بَعْضَ جُمَادَى الْآخِرَةِ وَرَجَبًا ثُمّ غَزَا بَنِي الْمُصْطَلِقِ مِنْ خُزَاعَةَ ، فِي شَعْبَانَ سَنَةَ سِتّ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ أَبَا ذَرّ الْغِفَارِيّ وَيُقَالُ نُمَيْلَةَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ اللّيْثِيّ .
سَبَبُ الْغَزْوَةِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ ، وَمُحَمّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حِبّانَ ، كُلّ قَدْ حَدّثَنِي بَعْضَ حَدِيثِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ قَالُوا : بَلَغَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ بَنِي الْمُصْطَلِقِ يَجْمَعُونَ لَهُ وَقَائِدُهُمْ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي ضِرَارٍ أَبُو جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ ، زَوْجِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَمّا سَمِعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِهِمْ خَرَجَ إلَيْهِمْ حَتّى لَقِيَهُمْ عَلَى مَاءٍ لَهُمْ يُقَالُ لَهُ الْمُرَيْسِيعُ ، مِنْ نَاحِيَةِ قُدَيْدٍ إلَى السّاحِلِ ، فَتَزَاحَفَ النّاسُ [ ص 14 ] فَهَزَمَ اللّهُ بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَقُتِلَ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ وَنَفَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَبْنَاءَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ فَأْفَاءَهُمْ عَلَيْهِ .
مَقْتَلُ ابْنِ صُبَابَةَ خَطَأً
وَقَدْ أُصِيبَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ بَنِي كَلْبِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لَيْثِ بْنِ بَكْرٍ يُقَالُ لَهُ هِشَامُ بْنُ صُبَابَةَ ، أَصَابَهُ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ مِنْ رَهْطِ عُبَادَةَ بْنِ الصّامِتِ ، وَهُوَ يَرَى أَنّهُ مِنْ الْعَدُوّ فَقَتَلَهُ خَطَأً .
Sغَزْوَةُ بَنِي الْمُصْطَلِقِ
[ ص 13 ] بَنُو جُذَيْمَةَ بْنِ كَعْبٍ مِنْ خُزَاعَةَ ، فَجُذَيْمَةُ هُوَ الْمُصْطَلِقُ وَهُوَ مُفْتَعِلٌ مِنْ الصّلْقِ وَهُوَ رَفْعُ الصّوْتِ . وَذَكَرَ الْمُرَيْسِيعَ ، وَهُوَ مَاءٌ لِخُزَاعَةَ وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ رَسَعَتْ عَيْنُ الرّجُلِ إذَا دَمَعَتْ مِنْ فَسَادٍ . [ ص 14 ] وَذَكَرَ سِنَانَ بْنَ وَبْرَةَ وَقَالَ غَيْرُهُ هُوَ سِنَانُ بْنُ تَمِيمٍ مِنْ جُهَيْنَةَ بْنِ سَوْدِ بْنِ أَسْلَمَ حَلِيفُ الْأَنْصَارِ .

فِتْنَةٌ
[ ص 15 ] فَبَيْنَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى ذَلِكَ الْمَاءِ وَرَدَتْ وَارِدَةُ النّاسِ وَمَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ أَجِيرٌ لَهُ مِنْ بَنِي غِفَارٍ ، يُقَالُ لَهُ جَهْجَاهُ بْنُ مَسْعُودٍ يَقُودُ فَرَسَهُ فَازْدَحَمَ جَهْجَاهٌ وَسِنَانُ بْنُ وَبَرٍ الْجُهَنِيّ حَلِيفُ بَنِي عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ عَلَى الْمَاءِ فَاقْتَتَلَا ، فَصَرَخَ الْجُهَنِيّ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ ، وَصَرَخَ جَهْجَاهٌ يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ فَغَضِبَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ ابْنُ سَلُولَ وَعِنْدَهُ رَهْطٌ مِنْ قَوْمِهِ فِيهِمْ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ غُلَامٌ حَدَثٌ فَقَالَ أَوَقَدْ فَعَلُوهَا ، قَدْ نَافَرُونَا وَكَاثَرُونَا فِي بِلَادِنَا ، وَاَللّهِ مَا أَعُدّنَا وَجَلَابِيبَ قُرَيْشٍ إلّا كَمَا قَالَ الْأَوّلُ سَمّنْ كَلْبَك يَأْكُلْك ، أَمَا وَاَللّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنّ الْأَعَزّ مِنْهَا الْأَذَلّ . ثُمّ أَقْبَلَ عَلَى مَنْ حَضَرَهُ مِنْ قَوْمِهِ فَقَالَ لَهُمْ هَذَا مَا فَعَلْتُمْ بِأَنْفُسِكُمْ أَحْلَلْتُمُوهُمْ بِلَادَكُمْ وَقَاسَمْتُمُوهُمْ أَمْوَالَكُمْ أَمَا وَاَللّهِ لَوْ أَمْسَكْتُمْ عَنْهُمْ مَا بِأَيْدِيكُمْ لَتَحَوّلُوا إلَى غَيْرِ دَارِكُمْ . فَسَمِعَ ذَلِكَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ فَمَشَى بِهِ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَذَلِكَ عِنْدَ فَرَاغِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ عَدُوّهِ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ ، وَعِنْدَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ ، فَقَالَ مُرْ بِهِ عَبّادَ بْنَ بِشْرٍ فَلْيَقْتُلْهُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَكَيْفَ يَا عُمَرُ إذَا تَحَدّثَ النّاسُ أَنّ مُحَمّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ لَا وَلَكِنْ أَذّنْ بِالرّحِيلِ وَذَلِكَ فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَرْتَحِلُ فِيهَا ، فَارْتَحَلَ النّاسُ
حَوْلَ فِتْنَةِ ابْنِ أُبَيّ وَنِفَاقِهِ
وَقَدْ مَشَى عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ ابْنُ سَلُولَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ بَلَغَهُ أَنّ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ قَدْ بَلَغَهُ مَا سَمِعَ مِنْهُ فَحَلَفَ بِاَللّهِ مَا قُلْت مَا قَالَ وَلَا تَكَلّمْت بِهِ - وَكَانَ فِي قَوْمِهِ شَرِيفًا عَظِيمًا - فَقَالَ مَنْ حَضَرَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الْأَنْصَارِ مِنْ أَصْحَابِهِ يَا رَسُولَ اللّهِ عَسَى أَنْ يَكُونَ الْغُلَامُ قَدْ أَوْهَمَ فِي حَدِيثِهِ وَلَمْ يَحْفَظْ مَا قَالَ الرّجُلُ حَدَبًا عَلَى ابْنِ أُبَيّ ابْنِ سَلُولَ وَدَفْعًا عَنْهُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : [ ص 16 ] فَلَمّا اسْتَقَلّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَسَارَ لَقِيَهُ أُسَيْدَ بْنُ حُضَيْرٍ فَحَيّاهُ بِتَحِيّةِ النّبُوّةِ وَسَلّمَ عَلَيْهِ ثُمّ قَالَ يَا نَبِيّ اللّهِ وَاَللّهِ لَقَدْ رُحْت فِي سَاعَةٍ مُنْكَرَةٍ مَا كُنْت تَرُوحُ فِي مِثْلِهَا ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَوَمَا بَلَغَك مَا قَالَ صَاحِبُكُمْ ؟ قَالَ وَأَيّ صَاحِبٍ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ . قَالَ وَمَا قَالَ ؟ قَالَ زَعَمَ أَنّهُ إنْ رَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنّ الْأَعَزّ مِنْهَا الْأَذَلّ قَالَ فَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللّهِ وَاَللّهِ تُخْرِجُهُ مِنْهَا إنْ شِئْت ، هُوَ وَاَللّهِ الذّلِيلُ وَأَنْت الْعَزِيزُ ثُمّ قَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ اُرْفُقْ بِهِ فَوَاَللّهِ لَقَدْ جَاءَنَا اللّهُ بِك ، وَإِنّ قَوْمَهُ لَيَنْظِمُونَ لَهُ الْحَرَزَ لِيُتَوّجُوهُ فَإِنّهُ لَيَرَى أَنّك قَدْ اسْتَلَبْته مُلْكًا . ثُمّ مَشَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالنّاسِ يَوْمَهُمْ ذَلِكَ حَتّى أَمْسَى ، وَلَيْلَتَهُمْ حَتّى أَصْبَحَ وَصَدْرَ يَوْمِهِمْ ذَلِكَ حَتّى آذَتْهُمْ الشّمْسُ ثُمّ نَزَلَ بِالنّاسِ فَلَمْ يَلْبَثُوا أَنْ وَجَدُوا مَسّ الْأَرْضِ فَوَقَعُوا نِيَامًا ، وَإِنّمَا فَعَلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِيَشْغَلَ النّاسَ عَنْ الْحَدِيثِ الّذِي كَانَ بِالْأَمْسِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُبَيّ . ثُمّ رَاحَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالنّاسِ وَسَلَكَ الْحِجَازَ حَتّى نَزَلَ عَلَى مَاءٍ بِالْحِجَازِ فُوَيْقَ النّقِيعِ ؛ يُقَالُ لَهُ بَقْعَاءُ . فَلَمّا رَاحَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هَبّتْ عَلَى النّاسِ رِيحٌ شَدِيدَةٌ آذَتْهُمْ وَتَخَوّفُوهَا ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا تَخَافُوهَا ، فَإِنّمَا هَبّتْ لِمَوْتِ عَظِيمٍ مِنْ عُظَمَاءِ الْكُفّارِ . فَلَمّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ وَجَدُوا رِفَاعَةَ بْنَ زَيْدِ بْنِ التّابُوتِ أَحَدَ بَنِي قَيْنُقَاعِ وَكَانَ عَظِيمًا مِنْ عُظَمَاءِ يَهُودَ وَكَهْفًا لِلْمُنَافِقِينَ مَاتَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ
مَا نَزَلَ فِي ابْنِ أُبَيّ مِنْ الْقُرْآنِ
وَنَزَلَتْ السّورَةُ الّتِي ذَكَرَ اللّهُ فِيهَا الْمُنَافِقِينَ فِي ابْنِ أُبَيّ وَمَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ أَمْرِهِ فَلَمّا نَزَلَتْ أَخَذَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِأُذُنِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ ثُمّ قَالَ هَذَا الّذِي أَوْفَى اللّهُ بِأُذُنِهِ وَبَلَغَ عَبْدَ اللّهِ بْنَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُبَيّ الّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِ أَبِيهِ .
مَوْقِفُ عَبْدِ اللّهِ مِنْ أَبِيهِ
[ ص 17 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ : أَنّ عَبْدَ اللّهِ أَتَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّهُ بَلَغَنِي أَنّك تُرِيدُ قَتْلَ عَبْدَ اللّهِ بْنَ أُبَيّ فِيمَا بَلَغَك عَنْهُ فَإِنْ كُنْت لَا بُدّ فَاعِلًا فَمُرْنِي بِهِ فَأَنَا أَحْمِلُ إلَيْك رَأْسَهُ فَوَاَللّهِ لَقَدْ عَلِمَتْ الْخَزْرَجُ مَا كَانَ لَهَا مِنْ رَجُلٍ أَبَرّ بِوَالِدِهِ مِنّي ، وَإِنّي أَخْشَى أَنْ تَأْمُرَ بِهِ غَيْرِي فَيَقْتُلُهُ فَلَا تَدْعُنِي نَفْسِي أَنْظُرُ إلَى قَاتِلِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُبَيّ يَمْشِي فِي النّاسِ فَأَقْتُلُهُ فَأَقْتُلُ ( رَجُلًا ) مُؤْمِنًا بِكَافِرِ فَأَدْخُلُ النّارَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَلْ نَتَرَفّقُ بِهِ وَنُحْسِنُ صُحْبَتَهُ مَا بَقِيَ مَعَنَا . وَجَعَلَ بَعْدَ ذَلِكَ إذَا أَحْدَثَ الْحَدَثَ كَانَ قَوْمُهُ هُمْ الّذِينَ يُعَاتِبُونَهُ وَيَأْخُذُونَهُ وَيُعَنّفُونَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِعُمَرِ بْنِ الْخَطّاب ، حِينَ بَلَغَهُ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِهِمْ كَيْفَ تَرَى يَا عُمَرُ أَمَا وَاَللّهِ لَوْ قَتَلْته يَوْمَ قُلْت لِي اُقْتُلْهُ لَأَرْعِدْت لَهُ آنِفَ لَوْ أَمَرْتهَا الْيَوْمَ بِقَتْلِهِ لَقَتَلْته ؛ قَالَ قَالَ عُمَرُ قَدْ وَاَللّهِ عَلِمْت لَأَمْرُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَعْظَمُ بَرَكَةً مِنْ أَمْرِي
Sتَحْرِيمُ دَعْوَى الْجَاهِلِيّةِ
وَذَكَرَ أَنّهُ نَادَى : يَا لَلْأَنْصَارِ وَنَادَى جَهْجَاهٌ الْغِفَارِيّ يَا لَلْمُهَاجِرِينَ وَلَمْ يَذْكُرْ مَا قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ سَمِعَهُمَا ، وَفِي الصّحِيحِ أَنّهُ عَلَيْهِ السّلَامُ حِينَ سَمِعَهُمَا مِنْهُمَا ، قَالَ دَعُوهَا فَإِنّهَا مُنْتِنَةٌ يَعْنِي : إنّهَا كَلِمَةٌ خَبِيثَةٌ لِأَنّهَا مِنْ دَعْوَى الْجَاهِلِيّةِ وَجَعَلَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ إخْوَةً وَحِزْبًا وَاحِدًا ، فَإِنّمَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الدّعْوَةُ يَا لَلْمُسْلِمِينَ فَمَنْ دَعَا فِي الْإِسْلَامِ بِدَعْوَى الْجَاهِلِيّةِ فَيَتَوَجّهُ لِلْفُقَهَاءِ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا : أَنْ يُجْلَدَ مَنْ اسْتَجَابَ لَهَا بِالسّلَاحِ خَمْسِينَ سَوْطًا اقْتِدَاءً بِأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ فِي جَلْدِهِ النّابِغَةَ الْجَعْدِيّ خَمْسِينَ سَوْطًا ، حِينَ سَمِعَ يَا لَعَامِرٍ فَأَقْبَلَ يَشْتَدّ بِعُصْبَةِ لَهُ . وَالْقَوْلُ الثّانِي : أَنّ فِيهَا الْجَلْدَ دُونَ الْعَشْرَةِ لِنَهْيِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ أَنْ [ ص 15 ] يُجْلَدَ أَحَدٌ فَوْقَ الْعَشْرَةِ إلّا فِي حَدّ وَالْقَوْلُ الثّالِثُ اجْتِهَادُ الْإِمَامِ فِي ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ مَا يَرَاهُ مِنْ سَدّ الذّرِيعَةِ وَإِغْلَاقِ بَابِ الشّرّ إمّا بِالْوَعِيدِ وَإِمّا بِالسّجْنِ وَإِمّا بِالْجَلْدِ . فَإِنْ قِيلَ إنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يُعَاقِبْ الرّجُلَيْنِ حِينَ دَعَوْا بِهَا قُلْنَا : قَدْ قَالَ دَعُوهَا فَإِنّهَا مُنْتِنَةٌ فَقَدْ أَكّدَ النّهْيَ فَمَنْ عَادَ إلَيْهَا بَعْدَ هَذَا النّهْيِ وَبَعْدَ وَصْفِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَهَا بِالْإِنْتَانِ وَجَبَ أَنْ يُؤَدّبَ حَتّى يَشُمّ نَتْنَهَا ، كَمَا فَعَلَ أَبُو مُوسَى رَحِمَهُ اللّهُ بِالْجَعْدِيّ فَلَا مَعْنَى لِنَتْنِهَا إلّا سُوءُ الْعَاقِبَةِ فِيهَا وَالْعُقُوبَةُ عَلَيْهَا .
جَهْجَاهٌ
[ ص 16 ] جَهْجَاهٌ فَهُوَ ابْنُ مَسْعُودِ بْنِ سَعْدِ بْنِ حَرَامٍ وَهُوَ الّذِي رَوَى عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ وَهُوَ كَانَ صَاحِبَ هَذِهِ الْقِصّةِ فِيمَا رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْبَزّارُ ، وَقَدْ قِيلَ أَيْضًا : إنّ الرّجُلَ الّذِي قَالَ فِيهِ عَلَيْهِ السّلَامُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ هُوَ ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ الْحَنَفِيّ ، ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ ، وَقِيلَ بَلْ هُوَ أَبُو بَصْرَةَ [ جَمِيلُ بْن بَصْرَةَ ] الْغِفَارِيّ ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ ، وَمَاتَ جَهْجَاهٌ هَذَا بَعْدَ قَتْلِ عُثْمَانَ رَحِمَهُ اللّهُ أَخَذَتْهُ الْأَكِلَةُ فِي رُكْبَتِهِ فَمَاتَ مِنْهَا ، وَكَانَ قَدْ كَسَرَ بِرُكْبَتِهِ عَصَا رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - الّتِي كَانَ يَخْطُبُ بِهَا ، وَذَلِكَ أَنّهُ انْتَزَعَهَا مِنْ عُثْمَانَ حِينَ أُخْرِجَ مِنْ الْمَسْجِدِ وَمُنِعَ مِنْ الصّلَاةِ فِيهِ فَكَانَ هُوَ أَحَدَ الْمُعِينِينَ عَلَيْهِ حَتّى كَسَرَ الْعَصَا عَلَى رُكْبَتِهِ فِيمَا ذَكَرُوا ، فَابْتُلِيَ بِمَا اُبْتُلِيَ بِهِ مِنْ الْأَكِلَةِ . نَعُوذُ بِاَللّهِ مِنْ عُقُوبَتِهِ وَنَسْتَجِيرُ بِهِ مِنْ الْأَهْوَاءِ الْمُضِلّةِ .
مَوْقِفُ عَبْدِ اللّهِ الصّحَابِيّ مِنْ أَبِيهِ الْمُنَافِقِ وَدِلَالَتُهُ
[ ص 17 ] وَذَكَرَ مَقَالَةَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُبَيّ ، وَأَنّ ابْنَهُ عَبْدَ اللّهِ بْنَ عَبْدِ اللّهِ اسْتَأْذَنَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي قَتْلِ أَبِيهِ مِنْ أَجْلِ تِلْكَ الْمَقَالَةِ وَفِي هَذَا الْعِلْمُ الْعَظِيمُ وَالْبُرْهَانُ النّيّرُ مِنْ أَعْلَامِ النّبُوّةِ فَإِنّ الْعَرَبَ كَانَتْ أَشَدّ خَلْقِ اللّهِ حَمِيّةً وَتَعَصّبًا ، فَبَلَغَ الْإِيمَانُ مِنْهُمْ وَنُورُ الْيَقِينِ مِنْ قُلُوبِهِمْ إلَى أَنْ يَرْغَبَ الرّجُلُ مِنْهُمْ فِي قَتْلِ أَبِيهِ وَوَلَدِهِ تَقَرّبًا إلَى اللّهِ وَتَزَلّفًا إلَى رَسُولِهِ مَعَ أَنّ الرّسُولَ - عَلَيْهِ السّلَامُ - أَبْعَدُ النّاسِ نَسَبًا مِنْهُمْ وَمَا تَأَخّرَ إسْلَامُ قَوْمِهِ وَبَنِيّ عَمّهِ وَسَبَقَ إلَى الْإِيمَانِ بِهِ الْأَبَاعِدُ إلّا لِحِكْمَةِ عَظِيمَةٍ إذْ لَوْ بَادَرَ أَهْلُهُ وَأَقْرَبُوهُ إلَى الْإِيمَانِ بِهِ لَقِيلَ قَوْمٌ أَرَادُوا الْفَخْرَ بِرَجُلِ مِنْهُمْ وَتَعَصّبُوا لَهُ فَلَمّا بَادَرَ إلَيْهِ الْأَبَاعِدُ وَقَاتَلُوا عَلَى حُبّهِ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ عُلِمَ أَنّ ذَلِكَ عَنْ بَصِيرَةٍ صَادِقَةٍ وَيَقِينٍ قَدْ تَغَلْغَلَ فِي قُلُوبِهِمْ وَرَهْبَةٍ مِنْ اللّهِ أَزَالَتْ صِفَةً قَدْ كَانَتْ سَدِكَتْ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ أَخْلَاقِ الْجَاهِلِيّةِ لَا يَسْتَطِيعُ إزَالَتُهَا إلّا الّذِي فَطَرَ الْفِطْرَةَ الْأُولَى ، وَهُوَ الْقَادِرُ عَلَى مَا يَشَاءُ وَأَمّا عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبْدِ اللّهِ فَكَانَ مِنْ كُتّابِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَكَانَ اسْمُهُ حُبَابٌ وَبِهِ كَانَ يُكَنّى أَبُوهُ فَسَمّاهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَبْدَ اللّهِ مَاتَ شَهِيدًا بِالْيَمَامَةِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَرَوَى الدّارَقُطْنِيّ مُسْنَدًا [ ص 18 ] أَنّ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مَرّ عَلَى جَمَاعَةٍ فِيهِمْ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ فَسَلّمَ عَلَيْهِمْ ثُمّ وَلّى ، فَقَالَ عَبْدُ اللّهِ لَقَدْ عَنَا ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ فَسَمِعَهَا ابْنُهُ عَبْدُ اللّهِ فَاسْتَأْذَنَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي أَنْ يَأْتِيَهُ بِرَأْسِ أَبِيهِ فَقَالَ لَا ، وَلَكِنْ بِرّ أَبَاك وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي هَذَا الْخَبَرِ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ بَلَغَتْهُ مَقَالَةُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُبَيّ : مَتَنَ النّاسَ يَوْمَهُمْ ذَلِكَ وَيُرْوَى مَشَى ، فَأَمّا مَتَنَ فَقَالَ صَاحِبُ الْعَيْنِ يُقَالُ سَارُوا سَيْرًا مُمَاتِنًا ، أَيْ بَعِيدًا .

قُدُومُ مَقْيَسٍ مُسْلِمًا وَشِعْرُهُ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : [ ص 18 ] وَقَدِمَ مَقْيَسُ بْنُ صُبَابَةَ مِنْ مَكّةَ مُسْلِمًا ، فِيمَا يَظْهَرُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ جِئْتُك مُسْلِمًا ، وَجِئْتُك أَطْلُبُ دِيَةَ أَخِي ، قُتِلَ خَطَأً . فَأَمَرَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِدِيَةِ أَخِيهِ هِشَامِ بْنِ صُبَابَةَ ؛ فَأَقَامَ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ غَيْرَ كَثِيرٍ ثُمّ عَدَا عَلَى قَاتِلِ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ ثُمّ خَرَجَ إلَى مَكّةَ مُرْتَدّا فَقَالَ فِي شِعْرٍ يَقُولُهُ
شَفَى النّفْسَ أَنْ قَدْ مَاتَ بِالْقَاعِ مُسْنَدًا ... تُضَرّجُ ثَوْبَيْهِ دِمَاءُ الْأَخَادِعِ
وَكَانَتْ هُمُومُ النّفْسِ مِنْ قَبْلِ قَتْلِهِ ... تُلِمّ فَتَحْمِينِي وِطَاءَ الْمَضَاجِعِ
حَلَلْت بِهِ وِتْرِي وَأَدْرَكْت ثُؤْرَتِي ... وَكُنْت إلَى الْأَوْثَانِ أَوّلَ رَاجِعِ
ثَأَرْت بِهِ فِهْرًا وَحَمّلْت عَقْلَهُ ... سَرَاةَ بَنِي النّجّارِ أَرْبَابِ فَارِعِ
وَقَالَ مَقْيَسُ بْنُ صُبَابَةَ أَيْضًا :
جَلّلْته ضَرْبَةً بَاءَتْ لَهَا وَشَلٌ ... مِنْ نَاقِعِ الْجَوْفِ يَعْلُوهُ وَيَنْصَرِمُ
فَقُلْت وَالْمَوْتُ تَغْشَاهُ أَسِرّتُهُ ... لَا تَأْمَنَنّ بَنِي بَكْرٍ إذْ ظَلَمُوا
شِعَارُ الْمُسْلِمِينَ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَكَانَ شِعَارُ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَنِي الْمُصْطَلِقِ : يَا مَنْصُورُ ، أَمِتْ أَمِتْ .
قَتْلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَأُصِيبَ مِنْ بَنِي الْمُصْطَلِقِ يَوْمَئِذٍ نَاسٌ ، وَقَتَلَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مِنْهُمْ رَجُلَيْنِ مَالِكًا وَابْنَهُ وَقَتَلَ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَجُلًا مِنْ فُرْسَانِهِمْ يُقَالُ لَهُ أَحْمَرُ أَوْ أُحَيْمِرُ .

أَمْرُ جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ
[ ص 19 ] وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ أَصَابَ مِنْهُمْ سَبْيًا كَثِيرًا ، فَشَاءَ قَسْمَهُ فِي الْمُسْلِمِينَ وَكَانَ فِيمَنْ أُصِيبَ يَوْمَئِذٍ مِنْ السّبَايَا جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي ضِرَارٍ ، زَوْجُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزّبَيْرِ ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ لَمّا قَسَمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَبَايَا بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَقَعَتْ جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ فِي السّهْمِ لِثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ الشّمّاسِ أَوْ لِابْنِ عَمّ لَهُ فَكَاتَبَتْهُ عَلَى نَفْسِهَا ، وَكَانَتْ امْرَأَةً حُلْوَةً مُلّاحَةً لَا يَرَاهَا أَحَدٌ إلّا أَخَذَتْ بِنَفْسِهِ فَأَتَتْ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَسْتَعِينُهُ فِي كِتَابَتِهَا [ ص 20 ] قَالَتْ عَائِشَةُ فَوَاَللّهِ مَا هُوَ إلّا أَنْ رَأَيْتهَا عَلَى بَابِ حُجْرَتِي فَكَرِهْتهَا ، وَعَرَفْت أَنّهُ سَيَرَى مِنْهَا صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا رَأَيْت ، فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ أَنَا جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي ضِرَارٍ ، سَيّدِ قَوْمِهِ وَقَدْ أَصَابَنِي مِنْ الْبَلَاءِ مَا لَمْ يَخَفْ عَلَيْك ، فَوَقَعْت فِي السّهْمِ لِثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ بْنِ الشّمّاسِ أَوْ لِابْنِ عَمّ لَهُ فَكَاتَبْته عَلَى نَفْسِي فَجِئْتُك أَسْتَعِينُك عَلَى كِتَابَتِي ، قَالَ فَهَلْ لَك فِيّ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ ؟ قَالَتْ وَمَا هُوَ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ أَقْضِي عَنْك كِتَابَتَك وَأَتَزَوّجُك ؛ قَالَتْ نَعَمْ يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ قَدْ فَعَلْت . قَالَتْ وَخَرَجَ الْخَبَرُ إلَى النّاسِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ تَزَوّجَ جُوَيْرِيَةَ ابْنَةَ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي ضِرَارٍ ، فَقَالَ النّاسُ أَصْهَارُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَرْسَلُوا مَا بِأَيْدِيهِمْ قَالَتْ فَلَقَدْ أُعْتِقَ بِتَزْوِيجِهِ إيّاهَا مِائَةُ أَهْلِ بَيْتٍ مِنْ بَنِي الْمُصْطَلِقِ فَمَا أَعْلَمُ امْرَأَةً كَانَتْ أَعْظَمَ عَلَى قَوْمِهَا بَرَكَةً مِنْهَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ [ ص 21 ] لَمّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَمَعَهُ جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ ، وَكَانَ بِذَاتِ الْجَيْشِ دَفَعَ جُوَيْرِيَةَ إلَى رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ وَدِيعَةً وَأَمَرَهُ بِالِاحْتِفَاظِ بِهَا ، وَقَدِمَ رَسُولُ اللّهِ الْمَدِينَةَ ، فَأَقْبَلَ أَبُوهَا الْحَارِثُ بْنُ أَبِي ضِرَارٍ بِفِدَاءِ ابْنَتِهِ فَلَمّا كَانَ بِالْعَقِيقِ نَظَرَ إلَى الْإِبِلِ الّتِي جَاءَ بِهَا لِلْفِدَاءِ فَرَغِبَ فِي بَعِيرَيْنِ مِنْهَا ، فَغَيّبَهُمَا فِي شِعْبٍ مِنْ شِعَابِ الْعَقِيقِ ، ثُمّ أَتَى إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَالَ يَا مُحَمّدُ أَصَبْتُمْ ابْنَتِي ، وَهَذَا فِدَاؤُهَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَيْنَ الْبَعِيرَانِ اللّذَانِ غَيّبْتهمَا بِالْعَقِيقِ ، فِي شِعْبِ كَذَا وَكَذَا ؟ فَقَالَ الْحَارِثُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ ، وَأَنّك مُحَمّدٌ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَوَاَللّهِ مَا اطّلَعَ عَلَى ذَلِكَ إلّا اللّهُ فَأَسْلَمَ الْحَارِثُ وَأَسْلَمَ مَعَهُ ابْنَانِ لَهُ وَنَاسٌ مِنْ قَوْمِهِ وَأَرْسَلَ إلَى الْبَعِيرَيْنِ فَجَاءَ بِهِمَا ، فَدَفَعَ الْإِبِلَ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَدُفِعَتْ إلَيْهِ ابْنَتُهُ جُوَيْرِيَةُ فَأَسْلَمَتْ وَحَسُنَ إسْلَامُهَا ، فَخَطَبَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى أَبِيهَا ، فَزَوّجَهُ إيّاهَا ، وَأَصْدَقَهَا أَرْبَعَمِائَةِ دِرْهَمٍ
Sحَوْلَ حَدِيثِ جُوَيْرِيَةَ " مُلّاحَةٌ وَمَلِيحٌ "
[ ص 19 ] وَذَكَرَ جُوَيْرِيَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ ، وَوُقُوعَهَا فِي السّهْمِ لِثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ ، أَوْ لِابْنِ عَمّ لَهُ ثُمّ جَاءَتْ تَسْتَعِينُ فِي كِتَابَتِهَا ، قَالَتْ عَائِشَةُ وَكَانَتْ امْرَأَةً حُلْوَةً مُلّاحَةً . الْمُلّاحُ أَبْلَغُ مِنْ الْمَلِيحِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ ، وَكَذَلِكَ الْوَضّاءُ أَبْلَغُ مِنْ الْوَضِيءِ وَالْكُبّارُ كَذَلِكَ أَبْلَغُ مِنْ الْكَبِيرِ غَيْرَ أَنّهُ لَا يُوصَفُ الْبَارِي سُبْحَانَهُ بِهَذَا اللّفْظِ فَيُقَالُ فِيهِ كُبّارٌ بِمَعْنَى كَبِيرٍ لِأَنّهُ عَلَى بِنْيَةِ الْجَمْعِ نَحْوَ ضُرّابٍ وَشُهّادٍ فَكَانَ لَفْظُ الْكَبِيرِ وَنَحْوُهُ أَبْعَدَ مِنْ الِاشْتِرَاكِ وَأَدَلّ عَلَى الْوَحْدَانِيّةِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَأَمّا مَعْنَى : الْمُلّاحَةِ فَذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنّهَا مِنْ الْمُلْحَةِ وَهِيَ الْبَيَاضُ ، تَقُولُ الْعَرَبُ : عِنَبٌ مُلّاحِيّ وَالصّحِيحُ فِي مَعْنَى الْمَلِيحِ ، أَنّهُ مُسْتَعَارٌ مِنْ قَوْلِهِمْ طَعَامٌ مَلِيحٌ إذَا كَانَ فِيهِ مِنْ الْمِلْحِ بِقَدْرِ مَا يُصْلِحُهُ وَلِذَلِكَ إذَا بَالَغُوا فِي الْمَدْحِ قَالُوا : مَلِيحٌ قَزِيحٌ فَمَلِيحٌ مِنْ مَلَحْت الْقِدْرَ وَقَزِيحٌ مِنْ قَزَحْتهَا إذَا طَيّبْت نَكْهَتَهَا بِالْأَفَاوِيَةِ وَهِيَ الْأَقْزَاحُ وَبِذَلِكَ عَلَى بُعْدِ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ الْبَيَاضِ قَوْلُهُمْ فِي الْأَسْوَدِ مَلِيحٌ وَفِي الْعَيْنَيْنِ إذَا اشْتَدّ سَوَادُهُمَا وَحُسْنُهُمَا كَمَا جَاءَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبّةً مِنّي } [ طَه : 29 ] . أَنّهَا مَلَاحَةٌ فِي الْعَيْنَيْنِ وَقَالَ الْأَصْمَعِيّ : الْحُسْنُ فِي الْعَيْنَيْنِ وَالْجَمَالُ فِي الْأَنْفِ وَالْمَلَاحَةُ فِي الْفَمِ . وَقَالَتْ امْرَأَةُ خَالِدِ بْنِ صَفْوَانَ لِبَعْلِهَا : إنّك لَجَمِيلٌ يَا أَبَا صَفْوَانَ فَقَالَ وَكَيْفَ وَلَيْسَ عِنْدِي رِدَاءُ الْجَمَالِ وَلَا بُرْنُسُهُ وَلَا عَمُودُهُ ؟ ثُمّ قَالَ عَمُودُهُ الطّولُ وَأَنَا رَبْعَةٌ وَبُرْنُسُهُ سَوَادُ الشّعْرِ وَأَنَا أَشْمَطُ وَرِدَاؤُهُ الْبَيَاضُ ، وَأَنَا آدَمُ وَلَكِنْ قُولِي : إنّك مَلِيحٌ ظَرِيفٌ . فَعَلّمَهَا أَنّ الْمَلَاحَةَ قَدْ تَكُونُ مِنْ صِفَةِ الْآدَمِ فَهِيَ إذًا لَيْسَتْ مِنْ مَعْنَى الْبَيَاضِ فِي شَيْءٍ وَإِنّمَا هِيَ ضِدّ الْمَسَاسَةِ .
غَيْرَةُ نِسَاءِ النّبِيّ وَالنّظَرُ إلَى الْمَرْأَةِ
[ ص 20 ] عَائِشَةَ فِي جُوَيْرِيَةَ فَوَاَللّهِ مَا هُوَ إلّا أَنْ رَأَيْتهَا عَلَى بَابِ حُجْرَتِي فَكَرِهْتهَا . فِيهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَزْوَاجُ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مِنْ الْغَيْرَةِ عَلَيْهِ وَالْعِلْمِ بِمَوْقِعِ الْجَمَالِ مِنْهُ كَمَا قَدْ رُوِيَ أَنّهُ - عَلَيْهِ السّلَامُ - أَنّهُ خَطَبَ امْرَأَةً فَأَرْسَلَ عَائِشَةَ لِتَنْظُرَ إلَيْهَا ، فَلَمّا رَجَعَتْ إلَيْهِ قَالَتْ مَا رَأَيْت طَائِلًا ، فَقَالَ بَلَى لَقَدْ رَأَيْت : خَالًا قَدْ خَدّهَا اقْشَعَرّتْ مِنْهُ كُلّ شَعْرَةٍ فِي جَسَدِك . وَأَمّا نَظَرُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ لِجُوَيْرِيَةَ حَتّى عَرَفَ مِنْ حُسْنِهَا مَا عَرَفَ فَإِنّمَا ذَلِكَ لِأَنّهَا كَانَتْ امْرَأَةً مَمْلُوكَةً وَلَوْ كَانَتْ حُرّةً مَا مَلَأَ عَيْنَهُ مِنْهَا ، لِأَنّهُ لَا يُكْرَهُ النّظَرُ إلَى الْإِمَاءِ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ نَظَرَ إلَيْهَا ، لِأَنّهُ نَوَى نِكَاحَهَا ، كَمَا نَظَرَ إلَى الْمَرْأَةِ الّتِي قَالَتْ لَهُ إنّي قَدْ وَهَبْت نَفْسِي لَك يَا رَسُولَ اللّهِ فَصَعّدَ فِيهَا النّظَرَ ثُمّ صَوّبَ ثُمّ أَنْكَحَهَا مِنْ غَيْرِهِ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ عَلَيْهِ السّلَامُ الرّخْصَةُ فِي النّظَرِ إلَى الْمَرْأَةِ عِنْدَ إرَادَةِ نِكَاحِهَا ، وَقَالَ لِلْمُغِيرَةِ حِينَ شَاوَرَهُ فِي نِكَاحِ امْرَأَةٍ لَوْ نَظَرْت إلَيْهَا ، فَإِنّ ذَلِكَ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا وَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ لِمُحَمّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ حِينَ أَرَادَ نِكَاحَ ثُبَيْتَةَ بِنْتَ الضّحّاكِ ، وَقَدْ أَجَازَهُ مَالِكٌ فِي إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ عَنْهُ ذَكَرَهَا ابْنُ أَبِي زَيْدٍ . وَفِي [ ص 21 ] مُسْنَدِ الْبَزّارِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرَةَ لَا حَرَجَ أَنْ يَنْظُرَ الرّجُلُ إلَى الْمَرْأَةِ إذَا أَرَادَ تَزَوّجَهَا ، وَهِيَ لَا تَشْعُرُ وَفِي تَرَاجِمِ الْبُخَارِيّ : النّظَرُ إلَى الْمَرْأَةِ قَبْلَ التّزْوِيجِ وَأَوْرَدَ فِي الْبَابِ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السّلَامُ لِعَائِشَة : أَرَيْتُك فِي الْمَنَامِ يَجِيءُ بِك الْمَلَكُ فِي سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ فَكُشِفَتْ عَنْ وَجْهِك ، فَقَالَ هَذِهِ امْرَأَتُك ، فَقُلْت : إنْ يَكُنْ مِنْ عِنْدِ اللّهِ يَمْضِهِ وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ حَسَنٌ . وَفِي قَوْلِهِ إنْ يَكُنْ مِنْ عِنْدِ اللّهِ سُؤَالٌ لِأَنّ رُؤْيَاهُ وَحْيٌ فَكَيْفَ يُشَكّ فِي أَنّهَا مِنْ عِنْدِ اللّهِ . وَالْجَوَابُ أَنّهُ لَمْ يَشُكّ فِي صِحّةِ الرّؤْيَا ، وَلَكِنّ الرّؤْيَا قَدْ تَكُونُ عَلَى ظَاهِرِهَا ، وَقَدْ تَكُونُ لِمَنْ هُوَ نَظِيرُ الْمَرْءِ أَوْ سَمِيّهُ فَمِنْ هَاهُنَا تَطَرّقَ الشّكّ مَا بَيْنَ أَنْ تَكُونَ عَلَى ظَاهِرِهَا ، أَوْ لَهَا تَأْوِيلٌ كَذَلِكَ وَسَمِعْت شَيْخَنَا يَقُولُ فِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ وَلِغَيْرِهِ فِيهِ قَوْلٌ لَا أَرْضَاهُ فَلَا يَخْلُو نَظَرُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ إلَيْهَا مِنْ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ الْحِجَابُ وَإِلّا فَقَدْ قَالَ اللّهُ تَعَالَى : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ } وَهُوَ إمَامُ الْمُتّقِينَ وَقُدْوَةُ الْوَرِعِينَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
جُوَيْرِيَةُ
[ ص 22 ] جُوَيْرِيَةُ فَهِيَ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي ضِرَارِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ عَائِدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ جَذِيمَةَ ، وَجَذِيمَةُ الْمُصْطَلِقِ مِنْ خُزَاعَةَ ، كَانَ اسْمُهَا بَرّةُ فَسَمّاهَا رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - جُوَيْرِيَةَ وَقَدْ رُوِيَ مِثْلُ هَذَا فِي حَدِيثِ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ وَكَذَلِكَ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ ، كَانَ اسْمُهَا بَرّةَ أَيْضًا ، وَزَيْنَبُ بِنْتُ أَبِي سَلَمَةَ رَبِيبَتُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ كَانَ اسْمُهَا بَرّةُ فَسَمّاهُنّ جُمَعٌ بِغَيْرِ ذَلِكَ الِاسْمِ تُوُفّيَتْ جُوَيْرِيَةُ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوّلِ سَنَةَ سِتّ أَوْ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ مِنْ الْهِجْرَةِ وَكَانَتْ قَبْلَ أَنْ تُسْبَى عِنْدَ مُسَافِعِ بْنِ صَفْوَانَ الْخُزَاعِيّ .

مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ فِي حَقّ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ : [ ص 22 ] أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعَثَ إلَيْهِمْ بَعْدَ إسْلَامِهِمْ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ ، فَلَمّا سَمِعُوا بِهِ رَكِبُوا إلَيْهِ فَلَمّا سَمِعَ بِهِمْ هَابَهُمْ فَرَجَعَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَخْبَرَهُ أَنّ الْقَوْمَ قَدْ هَمّوا بِقَتْلِهِ وَمَنَعُوهُ مَا قِبَلَهُمْ مِنْ صَدَقَتِهِمْ فَأَكْثَرَ الْمُسْلِمُونَ فِي ذِكْرِ غَزْوِهِمْ حَتّى هَمّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِأَنْ يَغْزُوَهُمْ فَبَيْنَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ قَدِمَ وَفْدُهُمْ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ سَمِعْنَا بِرَسُولِك حِينَ بَعَثْته إلَيْنَا ، فَخَرَجْنَا إلَيْهِ لِنُكْرِمَهُ وَنُؤَدّيَ إلَيْهِ مَا قِبَلَنَا مِنْ الصّدَقَةِ فَانْشَمَرَ رَاجِعًا ، فَبَلَغَنَا أَنّهُ زَعَمَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّا خَرَجْنَا إلَيْهِ لِنَقْتُلَهُ وَوَاللّهِ مَا جِئْنَا لِذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِيهِ وَفِيهِمْ { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ وَاعْلَمُوا أَنّ فِيكُمْ رَسُولَ اللّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتّمْ } إلَى آخِرِ الْآيَاتِ . [ الْحُجُرَاتُ 6 - 8 ] .

وَقَدْ أَقْبَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ سَفَرِهِ ذَلِكَ كَمَا حَدّثَنِي مَنْ لَا أَتّهِمُ عَنْ الزّهْرِيّ ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا ، حَتّى إذَا كَانَ قَرِيبًا مِنْ الْمَدِينَةِ ، وَكَانَ مَعَهُ عَائِشَةُ فِي سَفَرِهِ ذَلِكَ قَالَ فِيهَا أَهْلُ الْإِفْكِ مَا قَالُوا .
خَبَرُ الْإِفْكِ فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ سَنَةَ سِتّ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنَا الزّهْرِيّ ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقّاصٍ وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ ، وَعَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ كُلّ قَدْ حَدّثَنِي بَعْضَ هَذَا الْحَدِيثِ وَبَعْضُ الْقَوْمِ كَانَ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضٍ وَقَدْ جَمَعْت لَك الّذِي حَدّثَنِي الْقَوْمُ .
الْهَدْيُ فِي السّفَرِ مَعَ الزّوْجَاتِ
قَالَ مُحَمّدُ بْنُ إسْحَاقَ وَحَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبّادِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الزّبَيْرِ ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ وَعَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرّحْمَنِ ، عَنْ عَائِشَةَ عَنْ نَفْسِهَا ، حِينَ قَالَ فِيهَا أَهْلُ الْإِفْكِ مَا قَالُوا ، فَكُلّ قَدْ دَخَلَ فِي حَدِيثِهَا عَنْ هَؤُلَاءِ جَمِيعًا يُحَدّثُ بَعْضُهُمْ مَا لَمْ يُحَدّثْ صَاحِبُهُ وَكُلّ كَانَ عَنْهَا ثِقَةً فَكُلّهُمْ حَدّثَ عَنْهَا مَا سَمِعَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَأَيّتُهُنّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ فَلَمّا كَانَتْ غَزْوَةُ بَنِي الْمُصْطَلِقِ أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ فَخَرَجَ سَهْمِي عَلَيْهِنّ مَعَهُ فَخَرَجَ بِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ [ ص 23 ]
حَدِيثُ الْإِفْك
قَالَتْ وَكَانَ النّسَاءُ إذْ ذَاكَ إنّمَا يَأْكُلْنَ الْعُلَقَ لَمْ يُهَيّجْهُنّ اللّحْمُ فَيَثْقُلْنَ وَكُنْت إذَا رُحّلَ لِي بَعِيرِي جَلَسْت فِي هَوْدَجِي ، ثُمّ يَأْتِي الْقَوْمُ الّذِينَ يُرَحّلُونَ لِي وَيَحْمِلُونَنِي ، فَيَأْخُذُونَ بِأَسْفَلِ الْهَوْدَجِ فَيَرْفَعُونَهُ فَيَضَعُونَهُ عَلَى ظَهْرِ الْبَعِيرِ فَيَشُدّونَهُ بِحِبَالِهِ ثُمّ يَأْخُذُونَ بِرَأْسِ الْبَعِيرِ فَيَنْطَلِقُونَ بِهِ . قَالَتْ فَلَمّا فَرَغَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ سَفَرِهِ ذَلِكَ وَجّهَ قَافِلًا حَتّى إذَا كَانَ قَرِيبًا مِنْ الْمَدِينَةِ نَزَلَ مَنْزِلًا ، فَبَاتَ بِهِ بَعْضَ اللّيْلِ ثُمّ أَذّنَ فِي النّاسِ بِالرّحِيلِ فَارْتَحَلَ النّاسُ وَخَرَجْت لِبَعْضِ حَاجَتِي ، وَفِي عُنُقِي عِقْدٌ لِي ، فِيهِ جَزْعُ ظَفَارٍ ، فَلَمّا فَرَغْت انْسَلّ مِنْ عُنُقِي وَلَا أَدْرِي ، فَلَمّا رَجَعْت إلَى الرّحْلِ ذَهَبْت أَلْتَمِسُهُ فِي عُنُقِي ، فَلَمْ أَجِدْهُ وَقَدْ أَخَذَ النّاسُ فِي الرّحِيلِ فَرَجَعْت إلَى مَكَانِي الّذِي ذَهَبْت إلَيْهِ فَالْتَمَسْته حَتّى وَجَدْته ، وَجَاءَ الْقَوْمُ حلافى ، الّذِينَ كَانُوا يُرَحّلُونَ لِي الْبَعِيرَ وَقَدْ فَرَغُوا مِنْ رَاحِلَتِهِ فَأَخَذُوا الْهَوْدَجَ وَهُمْ يَظُنّونَ أَنّي فِيهِ كَمَا كُنْت أَصْنَعُ فَاحْتَمَلُوهُ فَشَدّوهُ عَلَى الْبَعِيرِ وَلَمْ يَشُكّوا أَنّي فِيهِ ثُمّ أَخَذُوا بِرَأْسِ الْبَعِيرِ فَانْطَلَقُوا بِهِ فَرَجَعْت إلَى الْعَسْكَرِ وَمَا فِيهِ مِنْ دَاعٍ وَلَا مُجِيبٌ قَدْ انْطَلَقَ النّاسُ . قَالَتْ فَتَلَفّفْت بِجِلْبَابِي ، ثُمّ اضْطَجَعْت فِي مَكَانِي ، وَعَرَفْت أَنْ لَوْ قَدْ اُفْتُقِدْت لَرُجِعَ إلَيّ . قَالَتْ فَوَاَللّهِ إنّي لَمُضْطَجِعَةٌ إذْ مَرّ بِي صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطّلِ السّلَمِيّ ، وَقَدْ كَانَ [ ص 24 ] فَأَقْبَلَ حَتّى وَقَفَ عَلَيّ وَقَدْ كَانَ يَرَانِي قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ عَلَيْنَا الْحِجَابُ فَلَمّا رَآنِي قَالَ إنّا لِلّهِ وَإِنّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ ، ظَعِينَةُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَنَا مُتَلَفّفَةٌ فِي ثِيَابِي ، قَالَ مَا خَلْفَك يَرْحَمُك اللّهُ ؟ قَالَتْ فَلَمّا كَلّمْته ، ثُمّ قَرّبَ الْبَعِيرَ فَقَالَ ارْكَبِي وَاسْتَأْخَرَ عَنّي . قَالَتْ فَرَكِبْت ، وَأَخَذَ بِرَأْسِ الْبَعِيرِ فَانْطَلَقَ سَرِيعًا ، يَطْلُبُ النّاسَ فَوَاَللّهِ مَا أَدْرَكْنَا النّاسَ وَمَا اُفْتُقِدْت حَتّى أَصْبَحْت ، وَنَزَلَ النّاسُ فَلَمّا اطْمَأَنّوا طَلَعَ الرّجُلُ يَقُودُ بِي ، فَقَالَ أَهْلُ الْإِفْكِ مَا قَالُوا ، فَارْتَعَجَ الْعَسْكَرُ وَوَاللّهِ مَا أَعْلَمُ بِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ . [ ص 25 ] الْمَدِينَةَ ، فَلَمْ أَلْبَثْ أَنْ اشْتَكَيْت شَكْوَى شَدِيدَةً وَلَا يَبْلُغُنِي مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ وَقَدْ انْتَهَى الْحَدِيثُ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَإِلَى أَبَوِيّ لَا يَذْكُرُونَ لِي مِنْهُ قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا ، إلّا أَنّي قَدْ أَنْكَرْت مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعْضَ لُطْفِهِ بِي ، كُنْت إذَا اشْتَكَيْت رَحِمَنِي وَلَطَفَ بِي ، فَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ بِي فِي شَكْوَايَ تِلْكَ فَأَنْكَرْت ذَلِكَ مِنْهُ كَانَ إذَا دَخَلَ عَلَيّ وَعِنْدِي أُمّي تَمَرّضَنِي - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَهِيَ أُمّ رُومَانَ ، وَاسْمُهَا زَيْنَبُ بِنْتُ عَبْدِ دُهْمَانَ ، أَحَدُ بَنِي فِرَاسِ بْنِ غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ كِنَانَةَ - قَالَ كَيْفَ تِيكُمْ ، لَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ [ ص 26 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : قَالَتْ حَتّى وَجَدْت فِي نَفْسِي ، فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ حِينَ رَأَيْت مَا رَأَيْت مِنْ جَفَائِهِ لِي : لَوْ أَذِنْت لِي ، فَانْتَقَلْت إلَى أُمّي ، فَمَرّضَتْنِي ؟ قَالَ لَا عَلَيْك . قَالَتْ فَانْتَقَلْت إلَى أُمّي ، وَلَا عِلْمَ لِي بِشَيْءِ مِمّا كَانَ حَتّى نَقِهْت مِنْ وَجَعِي بَعْدَ بِضْعٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً وَكُنّا قَوْمًا عَرَبًا ، لَا نَتّخِذُ فِي بُيُوتِنَا هَذِهِ الْكُنُفَ الّتِي تَتّخِذُهَا الْأَعَاجِمُ ، نَعَافُهَا وَنَكْرَهُهَا ، إنّمَا كُنّا نَذْهَبُ فِي فُسَحِ الْمَدِينَةِ ، وَإِنّمَا كَانَتْ النّسَاءُ يَخْرُجْنَ كُلّ لَيْلَةٍ فِي حَوَائِجِهِنّ فَخَرَجْت لَيْلَةً لِبَعْضِ حَاجَتِي وَمَعِي أُمّ مِسْطَحٍ بِنْتُ أَبِي رُهْمِ بْنِ الْمُطّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ ، وَكَانَتْ أُمّهَا بِنْتَ صَخْرِ بْنِ عَامِرِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمٍ خَالَةُ أَبِي بَكْرٍ الصّدّيقِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَتْ فَوَاَللّهِ إنّهَا لَتَمْشِي مَعِي إذْ عَثَرَتْ فِي مِرْطِهَا ، فَقَالَتْ تَعِسَ مِسْطَحٌ وَمِسْطَحٌ لَقَبٌ وَاسْمُهُ عَوْفٌ قَالَتْ قُلْت : بِئْسَ لَعَمْرُ اللّهِ مَا قُلْت لِرَجُلِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا ، قَالَتْ أَوَمَا بَلَغَك الْخَبَرُ يَا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ ؟ قَالَتْ قُلْت : وَمَا الْخَبَرُ ؟ فَأَخْبَرَتْنِي بِاَلّذِي كَانَ مِنْ قَوْلِ أَهْلِ الْإِفْكِ قَالَتْ قُلْت : أَوَقَدْ كَانَ هَذَا ؟ قَالَتْ نَعَمْ وَاَللّهِ فَقَدْ كَانَ . قَالَتْ فَوَاَللّهِ مَا قَدَرْت عَلَى أَنْ أَقْضِيَ حَاجَتِي ، وَرَجَعْت ، فَوَاَللّهِ مَا زِلْت أَبْكِي حَتّى ظَنَنْت أَنّ الْبُكَاءَ سَيُصَدّعُ كَبِدِي ؛ قَالَتْ وَقُلْت لِأُمّي : يَغْفِرُ اللّهُ لَك ، تَحَدّثَ النّاسُ بِمَا تَحَدّثُوا بِهِ وَلَا تَذْكُرِينَ لِي مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا قَالَتْ أَيْ بُنَيّةُ خَفّضِي عَلَيْك الشّأْنَ فَوَاَللّهِ لَقَلّمَا كَانَتْ امْرَأَةٌ حَسْنَاءُ عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبّهَا ، لَهَا ضَرَائِرُ إلّا كَثُرْنَ وَكَثُرَ النّاسُ عَلَيْهَا . [ ص 27 ] قَالَتْ وَقَدْ قَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي النّاسِ يَخْطُبُهُمْ وَلَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ فَحَمِدَ اللّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمّ قَالَ أَيّهَا النّاسُ مَا بَالُ رِجَالٍ يُؤْذُونَنِي فِي أَهْلِي ، وَيَقُولُونَ عَلَيْهِمْ غَيْرَ الْحَقّ وَاَللّهِ مَا عَلِمْت مِنْهُمْ إلّا خَيْرًا وَيَقُولُونَ ذَلِكَ لِرَجُلِ وَاَللّهِ مَا عَلِمْت مِنْهُ إلّا خَيْرًا ، وَمَا يَدْخُلُ بَيْتًا مِنْ بُيُوتِي إلّا وَهُوَ مَعِي . قَالَتْ وَكَانَ كَبُرَ ذَلِكَ عِنْدَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُبَيّ ابْنُ سَلُولَ فِي رِجَالٍ مِنْ الْخَزْرَجِ مَعَ الّذِي قَالَ مِسْطَحٌ وَحَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ ، وَذَلِكَ أَنّ أُخْتَهَا زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ كَانَتْ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَمْ تَكُنْ مِنْ نِسَائِهِ امْرَأَةٌ تُنَاصِينِي فِي الْمَنْزِلَةِ عِنْدَهُ غَيْرَهَا ، فَأَمّا زَيْنَبُ فَعَصَمَهَا اللّهُ تَعَالَى بِدِينِهَا فَلَمْ تَقُلْ إلّا خَيْرًا وَأَمّا حَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ ، فَأَشَاعَتْ مِنْ ذَلِكَ مَا أَشَاعَتْ تُضَادّنِي لِأُخْتِهَا ، فَشَقِيَتْ بِذَلِكَ . [ ص 28 ] قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تِلْكَ الْمَقَالَةَ قَالَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ يَا رَسُولَ اللّهِ إنْ يَكُونُوا مِنْ الْأَوْسِ نَكْفِكَهُمْ وَإِنْ يَكُونُوا مِنْ إخْوَانِنَا مِنْ الْخَزْرَجِ ، فَمُرْنَا بِأَمْرِك ، فَوَاَللّهِ إنّهُمْ لَأَهْلٌ أَنْ تُضْرَبَ أَعْنَاقُهُمْ قَالَتْ فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ يُرَى رَجُلًا صَالِحًا ، فَقَالَ كَذَبْت لَعَمْرُ اللّهِ لَا تَضْرِبُ أَعْنَاقَهُمْ أَمَا وَاَللّهِ مَا قُلْت هَذِهِ الْمَقَالَةَ إلّا أَنّك قَدْ عَرَفْت أَنّهُمْ مِنْ الْخَزْرَجِ ، وَلَوْ كَانُوا مِنْ قَوْمِك مَا قُلْت هَذَا ، فَقَالَ أُسَيْدٌ كَذَبْت لَعَمْرُ اللّهِ وَلَكِنّك مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنْ الْمُنَافِقِينَ قَالَتْ وَتَسَاوَرَ النّاسُ حَتّى كَادَ يَكُونُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَيّيْنِ مِنْ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ شَرّ . وَنَزَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَدَخَلَ عَلَيّ . [ ص 29 ] قَالَتْ ) : فَدَعَا عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِ وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ فَاسْتَشَارَهُمَا ، فَأَمّا أُسَامَةُ فَأَثْنَى عَلَيّ خَيْرًا وَقَالَهُ ثُمّ قَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ أَهْلُك وَلَا نَعْلَمُ مِنْهُمْ إلّا خَيْرًا ، وَهَذَا الْكَذِبُ وَالْبَاطِلُ وَأَمّا عَلِيّ فَإِنّهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ النّسَاءَ لَكَثِيرٌ وَإِنّك لَقَادِرٌ عَلَى أَنْ تَسْتَخْلِفَ وَسَلْ الْجَارِيَةَ فَإِنّهَا سَتَصْدُقُك . فَدَعَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَرِيرَةَ لِيَسْأَلَهَا ، قَالَتْ فَقَامَ إلَيْهَا عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، فَضَرَبَهَا ضَرْبًا - 30ْ - شَدِيدًا ، وَيَقُولُ اُصْدُقِي رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَتْ فَتَقُولُ وَاَللّهِ مَا أَعْلَمُ إلّا خَيْرًا ، وَمَا كُنْت أَعِيبُ عَلَى عَائِشَةَ شَيْئًا ، إلّا أَنّي كُنْت أَعْجِنُ عَجِينِي ، فَآمُرُهَا أَنْ تَحْفَظَهُ فَتَنَامُ عَنْهُ فَتَأْتِي الشّاةُ فَتَأْكُلُهُ
Sحَدِيثُ الْإِفْكِ
[ ص 23 ] عَائِشَةَ وَالنّسَاءُ يَوْمَئِذٍ لَمْ يُهَيّجْهُنّ اللّحْمُ فَيَثْقُلْنَ . التّهْيِيجُ انْتِفَاخٌ فِي الْجِسْمِ قَدْ يَكُونُ مِنْ سِمَنٍ وَقَدْ يَكُونُ مِنْ آفَةٍ قَالَ الْأَصْمَعِيّ أَوْ غَيْرُهُ هَجَمْت عَلَى حَيّ مِنْ الْعَرَبِ بِوَادٍ خَصِيبٍ وَإِذَا أَلْوَانُهُمْ مُصْفَرّةٌ وَوُجُوهُهُمْ مُهَيّجَةٌ فَقُلْت لَهُمْ مَا بَالُكُمْ ؟ وَادِيكُمْ أَخْصَبُ وَادٍ وَأَنْتُمْ لَا تُشْبِهُونَ الْمَخَاصِبَ فَقَالَ لِي شَيْخٌ مِنْهُمْ إنّ بَلَدَنَا لَيْسَتْ لَهُ رِيحٌ يُرِيدُ أَنّ الْجِبَالَ أَحَاطَتْ بِهِ فَلَا تُذْهِبُ الرّيَاحُ وَبَاءَهُ وَلَا رَمَدَهُ .
صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطّلِ
وَفِيهِ ذِكْرُ [ ص 24 ] صَفْوَانَ بْنِ الْمُعَطّلِ بْنِ رُبَيْضَةَ بْنِ خُزَاعِيّ بْنِ مُحَارِبِ بْنِ مُرّةَ بْنِ فَالِجِ بْن ذَكُوَانُ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ بُهْثَةَ بْنِ سُلَيْمٍ السّلَمِيّ ، ثُمّ الذّكُوَانِيّ يُكَنّى أَبَا عَمْرٍو ، وَكَانَ يَكُونُ عَلَى سَاقَةِ الْعَسْكَرُ يَلْتَقِطُ مَا يَسْقُطُ مِنْ مَتَاعِ الْمُسْلِمِينَ حَتّى يَأْتِيَهُمْ بِهِ وَلِذَلِكَ تَخَلّفَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الّذِي قَالَ فِيهِ أَهْلُ الْإِفْكِ مَا قَالُوا ، وَقَدْ رُوِيَ فِي تَخَلّفِهِ سَبَبٌ آخِرُ وَهُوَ أَنّهُ كَانَ ثَقِيلُ النّوْمِ لَا يَسْتَيْقِظُ حَتّى يَرْتَحِلَ النّاسُ . وَيَشْهَدُ لِصِحّةِ هَذَا حَدِيثُ أَبِي دَاوُدَ أَنّ امْرَأَةَ صَفْوَانَ اشْتَكَتْ بِهِ إلَى النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَذَكَرَتْ أَشْيَاءَ مِنْهَا أَنّهُ لَا يُصَلّي الصّبْحَ فَقَالَ صَفْوَانُ يَا رَسُولِ اللّهِ إنّي امْرِئِ ثَقِيلُ الرّأْسِ لَا أَسْتَيْقِظُ حَتّى تَطْلُعَ الشّمْسُ فَقَالَ لَهُ النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ فَإِذَا اسْتَيْقَظْت فَصَلّ وَقَدْ ضَعّفَ الْبَزّارُ حَدِيثَ أَبِي دَاوُدَ هَذَا فِي مُسْنَدِهِ . وَقُتِلَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطّلِ شَهِيدًا فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ وَانْدَقّتْ رِجْلُهُ يَوْمَ قُتِلَ فَطَاعَنَ بِهَا ، وَهِيَ مُنْكَسِرَةٌ حَتّى مَاتَ وَذَلِكَ بِالْجَزِيرَةِ بِمَوْضِعِ يُقَالُ لَهُ شِمْطَاطٌ .
تَفْسِيرُ أَسْقَطُوا
وَفِيهِ مِنْ غَيْرِ رِوَايَةِ ابْنِ إسْحَاقَ أَنّهُمْ دَعَوْا الْجَارِيَةَ فَسَأَلُوهَا حَتّى أَسْقَطُوا لَهَا بِهِ يُرِيدُ أَفْصَحُوا بِالْأَمْرِ وَنَقَرُوا عَنْهُ يُقَالُ سَاقَطْته الْحَدِيثَ مُسَاقَطَةً وَأَسْقَطُوا بِهِ فِي هَذَا الْمَعْنَى قَالَ أَبُو حَيّةَ [ النّمَيْرِيّ ] :
إذَا هُنّ سَاقَطْنَ الْحَدِيثَ كَأَنّهُ ... سِقَاطُ حَصَى الْمَرْجَانِ مِنْ سِلْكٍ نَاظِمٍ
كَذَا فَسّرَهُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ بَطّالٍ وَفِيمَا ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ مِنْ رِوَايَةِ الشّيْبَانِيّ عَنْهُ أَنّهُمْ أَدَارُوا الْجَارِيَةَ عَلَى الْحَدِيثِ وَلَمْ يَصْرُخُوا لَهَا حَتّى فَطِنَتْ بِمَا أَرَادُوا ، فَقَالَتْ مَا أَعْلَمُ عَلَيْهَا عَيْبًا ، الْحَدِيثُ . وَأَمّا ضَرْبُ عَلِيّ لِلْجَارِيَةِ وَهِيَ حُرّةٌ وَلَمْ تَسْتَوْجِبْ ضَرْبًا ، وَلَا اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِي ضَرْبِهَا ، فَأَرَى مَعْنَاهُ أَنّهُ أَغْلَظَ لَهَا بِالْقَوْلِ وَتَوَعّدَهَا بِالضّرْبِ وَاتّهَمَهَا أَنْ تَكُونَ خَانَتْ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَكَتَمَتْ مِنْ الْحَدِيثِ مَا لَا يَسَعُهَا كَتْمُهُ مَعَ إدْلَالِهِ وَأَنّهُ كَانَ مِنْ [ ص 25 ] أَهْلُ الْبَيْتِ ، وَفِي غَيْرِ حَدِيثِ ابْنِ إسْحَاقَ قَالَتْ الْجَارِيَةُ وَاَللّهِ مَا أَعْلَمُ عَلَيْهَا إلّا مَا يَعْلَمُ الصّائِغُ عَلَى الذّهَبِ الْأَحْمَرِ .
بَرِيرَةُ
وَأَمّا بَرِيرَةُ فَهِيَ مَوْلَاةُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا - الّتِي اشْتَرَتْهَا مِنْ بَنِي كَاهِلٍ فَأَعْتَقَتْهَا ، وَخُيّرَتْ فِي زَوْجِهَا ، وَكَانَ عَبْدًا لِبَنِي جَحْشٍ . هَذِهِ رِوَايَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، وَفِي رِوَايَةِ أَهْلِ الْعِرَاقِ أَنّهُ كَانَ حُرّا ، وَهِيَ رِوَايَةُ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَائِشَةَ وَالْأَوْلَى رِوَايَةُ عُرْوَةَ وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمّدٍ عَنْ عَائِشَةَ وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ بِتَخْيِيرِ الْأَمَةِ إذَا عَتَقَتْ وَإِنْ كَانَ بَعْلُهَا حُرّا ، وَقَوْلُ أَهْلِ الْحِجَازِ عَلَى حَسَبِ رِوَايَتِهِمْ فَلَا يَرَوْنَ تَخْيِيرَهَا ، إلّا إذَا كَانَ زَوْجُهَا عَبْدًا ، وَعَاشَتْ بَرِيرَةُ حَتّى رَوَى عَنْهَا الْحَدِيثَ بَعْضُ التّابِعِينَ . قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ : كُنْت أُجَالِسُ بَرِيرَةَ قَبْلَ أَنْ أَلِيَ هَذَا الْأَمْرَ فَتَقُولُ لِي : يَا أَبَا عَبْدِ الْمَلِكِ إنّ فِيك خِصَالًا خَلِيقَةً بِهَذَا الْأَمْرِ فَإِنْ وُلّيت هَذَا الْأَمْرَ فَاتّقِ اللّهَ فِي الدّمَاءِ فَإِنّي سَمِعْت رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - يَقُولُ إنّ الرّجُلَ لَيُحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنّةِ بَعْدَ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهَا بِمِحْجَمَةِ دَمٍ أَرَاقَهَا مِنْ مُسْلِمٍ فِي غَيْرِ حَقّ وَالْبَرِيرَةُ وَاحِدَةُ الْبَرِيرِ وَهُوَ ثَمَرُ الْأَرَاكِ .
أُمّ رُومَانَ
وَأَمّا أُمّ رُومَانَ ، وَهِيَ أُمّ عَائِشَةَ فَقَدْ مَرّ ذِكْرُهَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَهِيَ زَيْنَبُ بِنْتُ عَامِرِ بْنِ عُوَيْمِرِ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ دُهْمَانَ ، وَهِيَ مِنْ كِنَانَةَ وَاخْتُلِفَ فِي عَمُودِ نَسَبِهَا ، وُلِدَتْ لِأَبِي بَكْرٍ عَائِشَةُ وَعَبْدُ الرّحْمَنِ وَكَانَتْ قَبْلَ أَبِي بَكْرٍ عِنْدَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ سَخْبَرَةَ فَوَلَدَتْ لَهُ الطّفَيْلَ [ ص 26 ] وَتُوُفّيَتْ أُمّ رُومَانَ سَنَةَ سِتّ مِنْ الْهِجْرَةِ وَنَزَلَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِي قَبْرِهَا ، وَقَالَ اللّهُمّ إنّهُ لَمْ يَخَفْ عَلَيْك مَا لَقِيَتْ أُمّ رُومَانَ فِيك ، وَفِي رَسُولِك وَقَالَ مَنْ سَرّهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَى امْرَأَةٍ مِنْ الْحُورِ الْعِينِ ، فَلْيَنْظُرْ إلَى أُمّ رُومَانَ
وَهْمٌ لِلْبُخَارِيّ
وَرَوَى الْبُخَارِيّ حَدِيثًا عَنْ مَسْرُوقٍ ، وَقَالَ فِيهِ " سَأَلْت أُمّ رُومَانَ وَهِيَ أُمّ عَائِشَةَ عَمّا قِيلَ فِيهَا " وَمَسْرُوقٌ وُلِدَ بَعْدَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِلَا خِلَافٍ فَلَمْ يَرَ أُمّ رُومَانَ قَطّ ، فَقِيلَ إنّهُ وَهِمَ فِي الْحَدِيثِ وَقِيلَ بَلْ الْحَدِيثُ صَحِيحٌ وَهُوَ مُقَدّمٌ عَلَى مَا ذَكَرَهُ أَهْلُ السّيرَةِ مِنْ مَوْتِهَا فِي حَيَاةِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَدْ تَكَلّمَ شَيْخُنَا أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللّهُ - عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ وَاعْتَنَى بِهِ لِإِشْكَالِهِ فَأَوْرَدَهُ مِنْ طُرُقٍ فَفِي بَعْضِهَا : حَدّثَتْنِي أُمّ رُومَانَ ، وَفِي بَعْضِهَا عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ أُمّ رُومَانَ مُعَنْعَنًا ، قَالَ رَحِمَهُ اللّهُ وَالْعَنْعَنَةُ أَصَحّ فِيهِ وَإِذَا كَانَ الْحَدِيثُ مُعَنْعَنًا كَانَ مُحْتَمَلًا ، [ ص 27 ] لِلرّاوِي أَنْ يَقُولَ عَنْ فُلَانٍ وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْهُ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْحَدِيثِ . تُنَاصِبُنِي أَوْ تُنَاصِينِي : وَقَوْلُ عَائِشَةَ لَمْ تَكُنْ امْرَأَةٌ تُنَاصِبُنِي فِي الْمَنْزِلَةِ عِنْدَهُ غَيْرَهَا ، هَكَذَا فِي الْأَصْلِ تُنَاصِبُنِي ، وَالْمَعْرُوفُ فِي الْحَدِيثِ تُنَاصِينِي مِنْ الْمُنَاصَاةُ وَهِيَ الْمُسَاوَاةُ وَأَصْلُهُ مِنْ النّاصِيَةِ .

الْقُرْآنُ وَبَرَاءَةُ عَائِشَةَ
قَالَتْ ثُمّ دَخَلَ عَلَيّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَعِنْدِي أَبَوَايَ وَعِنْدِي امْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ ، وَأَنَا أَبْكِي ، وَهِيَ تَبْكِي مَعِي ، فَجَلَسَ فَحَمِدَ اللّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمّ قَالَ يَا عَائِشَةُ ، إنّهُ [ ص 31 ] كَانَ مَا قَدْ بَلَغَك مِنْ قَوْلِ النّاسِ فَاتّقِي اللّهَ وَإِنْ كُنْت قَدْ قَارَفْت سُوءًا ، مِمّا يَقُولُ النّاسُ فَتُوبِي إلَى اللّهِ فَإِنّ اللّهَ يَقْبَلُ التّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ قَالَتْ فَوَاَللّهِ مَا هُوَ إلّا أَنْ قَالَ لِي ذَلِكَ فَقَلَصَ دَمْعِي ، حَتّى مَا أُحِسّ مِنْهُ شَيْئًا ، وَانْتَظَرْت أَبَوَيّ أَنْ يُجِيبَا عَنّي رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَمْ يَتَكَلّمَا . قَالَتْ وَاَيْمُ اللّهِ لَأَنَا كُنْت أَحْقَرُ فِي نَفْسِي ، وَأَصْغَرُ شَأْنًا مِنْ أَنْ يُنَزّلَ اللّهُ فِيّ قُرْآنًا يُقْرَأُ بِهِ فِي الْمَسَاجِدِ وَيُصَلّى بِهِ وَلَكِنّي قَدْ كُنْت أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي نَوْمِهِ شَيْئًا يُكَذّبُ بِهِ اللّهُ عَنّي ، لِمَا يَعْلَمُ مِنْ بَرَاءَتِي ، أَوْ يُخْبَرَ خَبَرًا ، فَأَمّا قُرْآنٌ يَنْزِلُ فِيّ فَوَاَللّهِ لَنَفْسِي كَانَتْ أَحْقَرَ عِنْدِي مِنْ ذَلِكَ . قَالَتْ فَلَمّا لَمْ أَرَ أَبَوَيّ يَتَكَلّمَانِ قَالَتْ قُلْت لَهُمَا : أَلَا تُجِيبَانِ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ؟ قَالَتْ فَقَالَا : وَاَللّهِ مَا نَدْرِي بِمَاذَا نُجِيبُهُ قَالَتْ وَاَللّهِ مَا أَعْلَمُ أَهْلَ بَيْتٍ دَخَلَ عَلَيْهِمْ مَا دَخَلَ عَلَى آلِ أَبِي بَكْرٍ فِي تِلْكَ الْأَيّامِ قَالَتْ فَلَمّا أَنْ اسْتَعْجَمَا عَلَيّ اسْتَعْبَرْت فَبَكَيْت ، ثُمّ قُلْت : وَاَللّهِ لَا أَتُوبُ إلَى اللّهِ مِمّا ذَكَرْت أَبَدًا . وَاَللّهِ إنّي لَأَعْلَمُ لَئِنْ أَقْرَرْت بِمَا يَقُولُ النّاسُ وَاَللّهُ يَعْلَمُ أَنّي مِنْهُ بَرِيئَةٌ لَأَقُولَنّ مَا لَمْ يَكُنْ وَلَئِنْ أَنَا أَنْكَرْت مَا يَقُولُونَ لَا تُصَدّقُونَنِي . قَالَتْ ثُمّ الْتَمَسْت اسْمَ يَعْقُوبَ فَمَا أَذْكُرُهُ فَقُلْت : وَلَكِنْ سَأَقُولُ كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ : { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } [ يُوسُفُ 18 ] . قَالَتْ فَوَاَللّهِ مَا بَرِحَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَجْلِسَهُ حَتّى تَغَشّاهُ مِنْ اللّهِ مَا كَانَ يَتَغَشّاهُ فَسُجّيَ بِثَوْبِهِ وَوُضِعَتْ لَهُ وِسَادَةٌ مِنْ أُدْمٍ تَحْتَ رَأْسِهِ فَأَمّا أَنَا حِينَ رَأَيْت مِنْ ذَلِكَ مَا رَأَيْت ، فَوَاَللّهِ مَا فَزِعْت وَلَا بَالَيْت ، قَدْ عَرَفْت أَنّي بَرِيئَةٌ وَأَنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ غَيْرُ ظَالِمِي ، وَأَمّا أَبَوَايَ فَوَاَلّذِي نَفْسُ عَائِشَةَ بِيَدِهِ مَا سُرّيَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى ظَنَنْت لَتَخْرُجَنّ أَنْفُسُهُمَا ، فَرَقًا مِنْ أَنْ يَأْتِيَ مِنْ اللّهِ تَحْقِيقُ مَا قَالَ النّاسُ قَالَتْ ثُمّ سُرّيَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَجَلَسَ وَإِنّهُ لَيَتَحَدّرُ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ فِي يَوْمٍ شَاتٍ فَجَعَلَ يَمْسَحُ الْعَرَقَ عَنْ جَبِينِهِ وَيَقُولُ أَبْشِرِي يَا عَائِشَةُ ، فَقَدْ أَنْزَلَ اللّهُ بَرَاءَتَك ، قَالَتْ قُلْت : بِحَمْدِ اللّهِ ثُمّ خَرَجَ إلَى النّاسِ فَخَطَبَهُمْ وَتَلَا عَلَيْهِمْ مَا أَنْزَلَ اللّهُ عَلَيْهِ مِنْ الْقُرْآنِ فِي ذَلِكَ ثُمّ أَمَرَ بِمِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ وَحَسّانَ بْنِ ثَابِتٍ ، وَحَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ ، وَكَانُوا مِمّنْ أَفْصَحَ بِالْفَاحِشَةِ فَضُرِبُوا حَدّهُمْ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي أَبِي إسْحَاقُ بْنُ يَسَارٍ عَنْ بَعْضِ رِجَالِ بَنِي النّجّار ِ أَنّ أَبَا أَيّوبَ خَالِدَ بْنَ زَيْدٍ ، قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ أُمّ أَيّوبَ [ ص 32 ] يَا أَبَا أَيّوبَ أَلَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ النّاسُ فِي عَائِشَةَ ؟ قَالَ بَلَى ، وَذَلِكَ الْكَذِبُ أَكُنْت يَا أُمّ أَيّوبَ فَاعِلَةً ؟ قَالَتْ لَا وَاَللّهِ مَا كُنْت لِأَفْعَلَهُ قَالَ فَعَائِشَةُ وَاَللّهِ خَيْرٌ مِنْك قَالَتْ فَلَمّا نَزَلَ الْقُرْآنُ بِذِكْرِ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْفَاحِشَةِ مَا قَالَ مِنْ أَهْلِ الْإِفْكِ فَقَالَ تَعَالَى : { إِنّ الّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالّذِي تَوَلّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ النّورُ 11 وَمَا بَعْدَهَا ] ، وَذَلِكَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَصْحَابُهُ الّذِينَ قَالُوا مَا قَالُوا . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ وَذَلِكَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ وَأَصْحَابُهُ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَاَلّذِي تَوَلّى كِبْرَهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ ، وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ قَبْلَ هَذَا . ثُمّ قَالَ تَعَالَى : { لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا } أَيْ فَقَالُوا كَمَا قَالَ أَبُو أَيّوبَ وَصَاحِبَتُهُ ثُمّ قَالَ { إِذْ تَلَقّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللّهِ عَظِيمٌ } فَلَمّا نَزَلَ هَذَا فِي عَائِشَةَ ، وَفِيمَنْ قَالَ لَهَا مَا قَالَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ لِقَرَابَتِهِ وَحَاجَتِهِ وَاَللّهِ لَا أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا ، وَلَا أَنْفَعُهُ بِنَفْعِ أَبَدًا بَعْدَ الّذِي قَالَ لِعَائِشَة ، وَأَدْخَلَ عَلَيْنَا قَالَتْ فَأَنْزَلَ اللّهُ فِي ذَلِكَ { وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللّهُ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
تَفْسِيرُ ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْغَرِيبِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : يُقَالُ كِبْرُهُ وَكُبْرُهُ فِي الرّوَايَةِ وَأَمّا فِي الْقُرْآنِ فَكِبْرَهُ بِالْكَسْرِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : { وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ } وَلَا يَأْلُ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ . قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ بْنُ حَجَرٍ الْكِنْدِيّ :
أَلَا رُبّ خَصْمٍ فِيك أَلْوَى رَدَدْته ... نَصِيحٌ عَلَى تَغْذَالِهِ غَيْرِ مُؤْتَلِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ وَيُقَالُ { وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ } وَلَا يَحْلِفُ أُولُو الْفَضْلِ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيّ ، فِيمَا بَلَغَنَا عَنْهُ . [ ص 33 ] { لِلّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ } [ الْبَقَرَةُ 226 ] وَهُوَ مِنْ الْأَلْيَةِ وَالْأَلْيَةُ الْيَمِينُ . قَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ :
آلَيْتَ مَا فِي جَمِيعِ النّاسِ مُجْتَهِدًا ... مِنّي أَلِيّةَ بَرّ غَيْرِ إفْنَادِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ سَأَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللّهُ فِي مَوْضِعِهَا . فَمَعْنَى : أَنْ يُؤْتُوا فِي هَذَا الْمَذْهَبِ أَنْ لَا يُؤْتُوا ، وَفِي كِتَابِ اللّهِ عَزّ وَجَلّ { يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلّوا } [ النّسَاءُ : 176 ] يُرِيدُ أَنْ لَا تَضِلّوا ، { وَيُمْسِكُ السّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ } [ الْحَجّ : 65 ] يُرِيدُ أَنْ لَا تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ وَقَالَ ابْنُ مُفَرّغٍ الْحِمْيَرِيّ :
لَا ذَعَرْت السّوَامَ فِي وَضَحِ الصّبْ ... حِ مُغِيرًا وَلَا دُعِيَتْ يَزِيدَا
يَوْمَ أُعْطِي مَخَافَةَ الْمَوْتِ ضَيْمًا ... وَالْمَنَايَا يَرْصُدْنَنِي أَنْ أَحِيدَا
يُرِيدُ أَنْ لَا أَحِيدَ وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : قَالَتْ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ بَلَى وَاَللّهِ إنّي لَأُحِبّ أَنْ يَغْفِرَ اللّهُ لِي ، فَرَجَعَ إلَى مِسْطَحٍ نَفَقَتَهُ الّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ وَقَالَ وَاَللّهِ لَا أَنْزِعُهَا مِنْهُ أَبَدًا .

ابْنُ الْمُعَطّلِ يَهِمّ بِقَتْلِ حَسّانَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ إنّ صَفْوَانَ بْنَ الْمُعَطّلِ اعْتَرَضَ حَسّانَ بْنَ ثَابِتٍ بِالسّيْفِ حِينَ بَلَغَهُ مَا كَانَ يَقُولُ فِيهِ وَقَدْ كَانَ حَسّانُ قَالَ شِعْرًا مَعَ ذَلِكَ يُعَرّضُ بِابْنِ الْمُعَطّلِ فِيهِ وَبِمَنْ أَسْلَمَ مِنْ الْعَرَبِ مِنْ مُضَرَ ، فَقَالَ [ ص 34 ]
أَمْسَى الْجَلَابِيبُ قَدْ عَزّوا وَقَدْ كَثُرُوا ... وَابْنُ الْفُرَيْعَةِ أَمْسَى بَيْضَةَ الْبَلَدِ
قَدْ ثَكِلَتْ أُمّهُ مَنْ كُنْت صَاحِبَهُ ... أَوْ كَانَ مُنْتَشِبًا فِي بُرْثُنِ الْأَسَدِ
مَا لِقَتِيلِي الّذِي أَغْدُو فَآخُذُهُ ... مِنْ دِيّةٍ فِيهِ يُعْطَاهَا وَلَا قَوَدِ
مَا الْبَحْرُ حِينَ تَهُبّ الرّيحُ شَامِيَةً ... فَيَغْطَئِلُ وَيَرْمِي الْعُبْرَ بِالزّبَدِ
يَوْمًا بِأَغْلَبَ مِنّي حِينُ تُبْصِرُنِي ... مِلْغَيْظِ أَفْرِي كَفَرْيِ الْعَارِضِ الْبَرِدِ
أَمّا قُرَيْشٌ فَإِنّي لَنْ أُسَالِمَهُمْ ... حَتّى يُنِيبُوا مِنْ الْغَيّاتِ لِلرّشَدِ
وَيَتْرُكُوا اللّاتَ وَالْعُزّى بِمَعْزِلَةٍ ... وَيَسْجُدُوا كُلّهُمْ لِلْوَاحِدِ الصّمَدِ
وَيَشْهَدُوا أَنّ مَا قَالَ الرّسُولُ لَهُمْ ... حَقّ وَيُوفُوا بِعَهْدِ اللّهِ وَالْوُكْدِ
فَاعْتَرَضَهُ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطّلِ ، فَضَرَبَهُ بِالسّيْفِ ثُمّ قَالَ كَمَا حَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ :
تَلْقَ ذُبَابَ السّيْفِ عَنّي فَإِنّنِي ... غُلَامٌ إذَا هُوجِيَتْ لَسْت بِشَاعِرِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التّيْمِيّ : أَنّ ثَابِتَ بْنَ قَيْسِ بْنِ الشّمّاسِ وَثَبَ عَلَى صَفْوَانَ بْنِ الْمُعَطّلِ ، حِينَ ضَرَبَ حَسّانَ فَجَمَعَ يَدَيْهِ إلَى عُنُقِهِ بِحَبْلِ ثُمّ انْطَلَقَ بِهِ إلَى دَارِ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ ، فَلَقِيَهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ رَوَاحَةَ ، فَقَالَ مَا هَذَا ؟ قَالَ مَا أَعْجَبَك ضَرَبَ حَسّانَ بِالسّيْفِ وَاَللّهِ مَا أَرَاهُ إلّا قَدْ قَتَلَهُ قَالَ لَهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ رَوَاحَةَ : هَلْ عَلِمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِشَيْءِ مِمّا صَنَعْت ؟ قَالَ لَا وَاَللّهِ قَالَ لَقَدْ اجْتَرَأْت ، أَطْلِقْ الرّجُلَ فَأَطْلِقْهُ ثُمّ أَتَوْا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ فَدَعَا حَسّانَ وَصَفْوَانَ بْنَ الْمُعَطّلِ ، فَقَالَ ابْنُ الْمُعَطّلِ يَا رَسُولَ اللّه : آذَانِي وَهَجَانِي ، فَاحْتَمَلَنِي الْغَضَبُ فَضَرَبْته ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِحَسّانَ أَحْسِنْ يَا حَسّانُ أَتَشَوّهْت عَلَى قَوْمِي أَنْ هَدَاهُمْ اللّهُ لِلْإِسْلَامِ ثُمّ قَالَ أَحْسِنْ يَا حَسّانُ فِي الّذِي أَصَابَك قَالَ هِيَ لَك يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ أَبَعْدَ أَنْ هَدَاكُمْ اللّهُ لِلْإِسْلَامِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَعْطَاهُ عِوَضًا مِنْهَا بِيرَحَاءٍ ، وَهِيَ قَصْرُ بَنِي حُدَيْلَةَ الْيَوْمَ بِالْمَدِينَةِ وَكَانَتْ مَالًا لِأَبِي طَلْحَةَ بْنِ سَهْلٍ تَصَدّقَ بِهَا عَلَى آلِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَعْطَاهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَسّانَ فِي ضَرْبَتِهِ وَأَعْطَاهُ سِيرِينَ ، أَمَةٌ قِبْطِيّةٌ فَوَلَدَتْ لَهُ عَبْدَ الرّحْمَنِ بْنَ حَسّانَ ، قَالَتْ وَكَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ لَقَدْ سُئِلَ عَنْ ابْنِ الْمُعَطّلِ فَوُجِدَهُ رَجُلًا حَصُورًا ، مَا يَأْتِي النّسَاءَ ثُمّ قُتِلَ بَعْدَ ذَلِكَ شَهِيدًا .
Sشِعْرُ حَسّانَ فِي الْتعَرِيضِ بِابْنِ الْمُعَطّلِ
[ ص 28 ] وَذَكَرَ قَوْلَ حَسّانَ
أَمْسَى الْجَلَابِيبُ قَدْ عَزّوا وَقَدْ كَثُرُوا ... وَابْنُ الْفُرَيْعَةِ أَمْسَى بَيْضَةَ الْبَلَدِ
يَعْنِي بِالْجَلَابِيبِ الْغُرَبَاءَ وَبَيْضَةُ الْبَلَدِ يَعْنِي : مُنْفَرِدًا ، وَهِيَ كَلِمَةٌ يُتَكَلّمُ بِهَا فِي الْمَدْحِ تَارَةً وَفِي مَعْنَى الْقِلّ أُخْرَى ، يُقَالُ فُلَانٌ بَيْضَةُ الْبَلَدِ أَيْ أَنّهُ وَاحِدٌ فِي قَوْمِهِ عَظِيمٌ فِيهِمْ وَفُلَانٌ بَيْضَةُ الْبَلَدِ يُرِيدُ أَنّهُ ذَلِيلٌ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ . وَأَمّا قَوْلُهُ قَدْ ثَكِلَتْ أُمّهُ مَنْ كُنْت صَاحِبَهُ
فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ مَنْ مُبْتَدَأٌ وَقَدْ ثَكِلَتْ أُمّهُ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ الْمُقَدّمِ عَلَيْهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْ مَفْعُولًا بِثَكِلَتْ وَأُضْمِرَ قَبْلَ الذّكْرِ مَعَ اتّصَالِ الضّمِيرِ بِالْفَاعِلِ فَيَكُونُ مِثْلَ قَوْلِهِ جَزَى رَبّهُ عَنّي عَدِيّ بْنَ حَاتِمٍ
وَمِثْلُ قَوْلِهِ أَبْقَى الْيَوْمَ مَجْدُهُ مُطْعِمَا
وَقَدْ تَقَدّمَ الْقَوْلُ فِيهِ . وَقَوْلُهُ فَيَغْطَئِلُ يُرِيدُ الْبَحْرَ أَيْ يَهِيجُ وَيَعْتَلِمُ وَأَصْلُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ مِنْ الْغَيْطَلَةِ وَهِيَ الظّلْمَةُ وَأَصْلُهَا : يَغْطَالّ مِثْلَ يَسْوَادّ ، لَكِنّهُ هَمَزَ الْأَلِفَ لِئَلّا يَجْتَمِعَ سَاكِنَانِ وَإِنْ كَانَ اجْتِمَاعُهُمَا فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ حَسَنًا كَقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { وَلَا الضّالّينَ } وَلَكِنّهُمَا فِي الشّعْرِ لَا يَجْتَمِعَانِ إلّا فِي عُرُوضٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ الْمُتَقَارِبُ وَمَعَ هَذَا فَقَدْ قَرَأَ أَيّوبُ بْنُ أَبِي [ ص 29 ] تَمِيمَةَ [ كَيْسَانُ ] السّخْتِيَانِيّ { وَلَا الضّالّينَ } بِهَمْزَةِ مَفْتُوحَةٍ وَقَرَأَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ : { إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانّ } [ الرّحْمَنُ 56 ] وَأَنْشَدَ الْخَطّابِيّ :
سَقَى مُطْغِيَاتِ الْمَحْلِ سَكْبًا وَدِيمَةً ... عِظَامُ ابْنُ لَيْلَى حَيْثُ كَانَ رَمِيمُهَا
فَأَصْبَحَ مِنْهَا كُلّ وَادٍ وَتَلْعَةٍ ... حَدَائِقَ خُضْرًا مُزْهَئِرّا عَمِيمُهَا
أَنْشَدَ خَاطِمَهَا زَأَمّهَا أَنْ تَهْرُبَا
فَإِنْ قِيلَ الْهَمْزَةُ فِي هَذَا كُلّهِ مَفْتُوحَةٌ وَفِي قَوْلِهِ يَغْطَئِلّ مَكْسُورَةٌ وَكَذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصّحِيحِ أَسْوَدُ مُرْبَئِدّ فِي رِوَايَةٍ . قُلْنَا : إنّمَا كُسِرَتْ الْهَمْزَةُ فِي مُزْهَئِرّ وَمُرْبَئِدّ وَيَغْطَئِلّ ، بَعْدَ أَنْ فُتِحَتْ فِي الْمَاضِي ، فَقِيلَ اغْطَأَلّ وَازْهَأَرّ فَصَارَ عَلَى وَزْنِ اطْمَأَنّ فَجَاءَ اسْمُ الْفَاعِلِ وَالْمُسْتَقْبَلِ عَلَى ذَلِكَ الْقِيَاسِ مَكْسُورًا كَمَا يُكْسَرُ فِي مُطْمَئِنّ .
تَفْسِيرُ الْعَجَبِ
وَقَوْلُ ثَابِتٍ لِعَبْدِ اللّهِ بْنِ رَوَاحَةَ أَمَا أَعْجَبَك ضَرْبُ حَسّانَ بِالسّيْفِ مَعْنَاهُ أَمَا جَعَلَك تَعْجَبُ تَقُولُ عَجِبْت مِنْ الشّيْءِ وَأَعْجَبَنِي الشّيْءُ إذَا كَانَ ذَلِكَ الْعَجَبُ مِنْ مَكْرُوهٍ أَوْ مَحْبُوبٍ وَهُوَ عِنْدَ النّاسِ بِمَعْنَى سَرّنِي لَا غَيْرَ وَفِي الْحَدِيثِ وَكَلَام الْعَرَبِ شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مِنْهَا فِي الْكَامِل فَلَأَعْجَبَنِي أَنْ أَعْجَبَهُ بُكَاءُ أَبِيهِ وَفِي حَدِيثٍ ذَكَرَهُ عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ حَسّانَ ، وَكَذَلِكَ أَنْشَدَ أَلَا هُزِئَتْ بِنّا قُرَشِيّةٌ يَهْتَزّ مَنْكِبُهَا
تَقُول لِي : ابْنُ قَيْسٍ ذَا وَبَعْضُ الشّيْبِ يُعْجِبُهَا . وَقَالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ :
لَوْ كُنْت أَعْجَبُ مِنْ شَيْءٍ لَأَعْجَبَنِي ... سَعْيُ الْفَتَى ، وَهُوَ مَخْبُوءٌ لَهُ الْقِدْرُ لَهُ
- 30 - وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ أَتَشَوّهْت عَلَى قَوْمِي أَنْ هَدَاهُمْ اللّهُ مَعْنَاهُ أَقَبّحْت ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِمْ حِينَ سَمّيْتهمْ بِالْجَلَابِيبِ مِنْ أَجْلِ هِجْرَتِهِمْ إلَى اللّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ ؟
بِيرُحَاءٍ
وَقَوْلُهُ فَأَعْطَاهُ عِوَضًا مِنْهَا بِيرَحَاءٍ ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنّ هَذِهِ الْبِئْرَ سُمّيَتْ بِيرَحَاءٍ ، بِزَجْرِ الْإِبِلِ عَنْهَا ، وَذَلِكَ أَنّ الْإِبِلَ يُقَالُ لَهَا إذَا زُجِرَتْ عَنْ الْمَاءِ وَقَدْ رَوِيَتْ حا حا ، وَهَكَذَا كَانَ الْأَصِيلِيّ يُقَيّدُهُ بِرَفْعِ الرّاءِ إذَا كَانَ الِاسْمُ مَرْفُوعًا ، وَبِالْمَدّ وَغَيْرُ الْأَصِيلِيّ يَقُولُ بِيرَحَا بِالْفَتْحِ عَلَى كُلّ حَالٍ وَبِالْقَصْرِ يَجْعَلُهُ اسْمًا وَاحِدًا ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ فِيهِ بَيْرَحَا ، بِفَتْحِ الْبَاء مَعَ الْقَصْرِ وَفِي الصّحِيحِ أَنّ أَبَا طَلْحَةَ دَفَعَ بِيرَحَاءٍ إلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَجَعَلَهَا صَدَقَةً فَأَمَرَهُ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَنْ يَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ فَقَسَمَهَا بَيْنَ أُبَيّ وَحَسّانَ وَفَسّرَ الْبُخَارِيّ وَأَبُو دَاوُدَ الْقَرَابَةَ الّتِي بَيْنَ أَبِي طَلْحَةَ وَبَيْنَهُمَا قَالَا : فَأَمّا حَسّانُ فَهُوَ ابْنُ الْمُنْذِرِ بْنُ ثَابِتِ بْنِ حَرَامٍ وَأَبُو طَلْحَةَ هُوَ زَيْدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ حَرَامٍ فَهَذِهِ قَرَابَةٌ قَرِيبَةٌ وَأَمّا أُبَيّ ، فَيَجْتَمِعُ مَعَهُ فِي الْأَبِ السّادِسِ وَهُوَ عَمْرُو بْنُ مَالِكِ بْنِ النّجّارِ وَقَدْ كَانَ أُبَيّ غَنِيّا ، فَكَيْفَ تَرَكَ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ وَخَصّهُ ؟ وَالْوَجْهُ فِي ذَلِكَ أَنّ أُبَيّا كَانَ ابْنَ عَمّةِ أَبِي طَلْحَةَ وَهِيَ صُهَيْلَةُ بِنْتُ الْأَسْوَدِ بْنِ حَرَامٍ وَهُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ النّسَبِ فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ النّسَبِ خَصّهُ بِهَا ، لَا مِنْ أَجْلِ النّسَبِ الّذِي ذَكَرْنَاهُ فَإِنّهُ بَعِيدٌ وَإِنّمَا قَالَ لَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اجْعَلْهَا فِي الْأَقْرَبِينَ
حَوْلَ بَرَاءَةِ عَائِشَةَ
وَفِي الْمُسْنَدِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنّهُ لَمّا أَنْزَلَ اللّهُ بَرَاءَتَهَا قَامَ إلَيْهَا أَبُو بَكْرٍ فَقَبّلَ رَأْسَهَا ، فَقَالَتْ لَهُ هَلّا كُنْت عَذَرْتنِي ، فَقَالَ أَيّ سَمَاءٍ تُظِلّنِي ، وَأَيّ أَرْضٍ تُقِلّنِي ، إنْ قُلْت بِمَا لَا أَعْلَمُ وَكَانَ نُزُولُ بَرَاءَةِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا - بَعْدَ قُدُومِهِمْ الْمَدِينَةَ بِسَبْعِ وَثَلَاثِينَ لَيْلَةً فِي قَوْلِ بَعْضِ الْمُفَسّرِينَ .

قَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ يَعْتَذِرُ مِنْ الّذِي كَانَ قَالَ فِي شَأْنِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا [ ص 35 ] [ ص 36 ]
حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنّ بِرِيبَةِ ... وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِ
عَقِيلَةُ حَيّ مِنْ لُؤَيّ بْنِ غَالِبٍ ... كِرَامِ الْمَسَاعِي مَجْدُهُمْ غَيْرُ زَائِلِ
مُهَذّبَةٌ قَدْ طَيّبَ اللّهُ خِيمَهَا ... وَطَهّرَهَا مِنْ كُلّ سُوءٍ وَبَاطِلِ
فَإِنْ كُنْت قَدْ قُلْت الّذِي قَدْ زَعَمْتُمْ ... فَلَا رَفَعَتْ سَوْطِي إلَيّ أَنَامِلِي
وَكَيْفَ وَوُدّي مَا حَيِيت وَنُصْرَتِي ... لِآلِ رَسُولِ اللّهِ زَيْنُ الْمَحَافِلِ
لَهُ رَتَبٌ عَالٍ عَلَى النّاسِ كُلّهِمْ ... تَقَاصَرُ عَنْهُ سَوْرَةُ الْمُتَطَاوِلِ
فَإِنّ الّذِي قَدْ قِيلَ لَيْسَ بِلَائِطِ ... وَلَكِنّهُ قَوْلُ امْرِئِ بِي مَاحِلِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : بَيْتُهُ " عَقِيلَةُ حَيّ " وَاَلّذِي بَعْدَهُ وَبَيْتُهُ " لَهُ رَتَبٌ عَالٍ " عَنْ أَبِي زَيْدٍ الْأَنْصَارِيّ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ أَنّ امْرَأَةً مَدَحَتْ بِنْتَ حَسّانَ بْنِ ثَابِتٍ عِنْدَ عَائِشَةَ ، فَقَالَتْ
حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنّ بِرِيبَةِ ... وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِ
فَقَالَتْ عَائِشَةُ : لَكِنْ أَبُوهَا .
شِعْرٌ فِي هِجَاءِ حَسّانَ وَمِسْطَحٍ
[ ص 37 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ قَائِلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي ضَرْبِ حَسّانَ وَأَصْحَابِهِ فِي فِرْيَتِهِمْ عَلَى عَائِشَةَ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : فِي ضَرْبِ حَسّانَ وَصَاحِبَيْهِ [ ص 38 ]
لَقَدْ ذَاقَ حَسّانُ الّذِي كَانَ أَهْلَهُ ... وَحَمْنَةُ إذْ قَالُوا هَجِيرًا وَمِسْطَحُ
تَعَاطَوْا بِرَجْمِ الْغَيْبِ زَوْجَ نَبِيّهِمْ ... وَسَخْطَةَ ذِي الْعَرْشِ الْكَرِيمِ فَأُتْرِحُوا
وَآذَوْا رَسُولَ اللّهِ فِيهَا فَجُلّلُوا ... مَخَازِيَ تَبْقَى عَمّمُوهَا وَفُضّحُوا
وَصَبّتْ عَلَيْهِمْ مُحْصِدَاتٌ كَأَنّهَا ... شَآبِيبُ قَطْرٍ مِنْ ذُرَى الْمُزْنِ تُسْفَحُ
Sشِعْرُ حَسّانَ فِي مَدْحِ عَائِشَةَ
[ ص 34 ] عَائِشَةَ :
حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنّ بِرِيبَةِ ... وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِ
[ ص 35 ] بِتَوَالِي الْفَتَحَاتِ مُشَاكَلَةَ خِفّةِ اللّفْظِ لِخِفّةِ الْمَعْنَى ، أَيْ الْمُسَمّى بِهَذِهِ الصّفَاتِ خَفِيفٌ عَلَى النّفْسِ وَحَصَانٌ مِنْ الْحِصْنِ وَالتّحَصّنِ وَهُوَ الِامْتِنَاعُ عَلَى الرّجَالِ مِنْ نَظَرِهِمْ إلَيْهَا ، وَقَالَتْ جَارِيَةٌ مِنْ الْعَرَبِ لِأُمّهَا :
يَا أُمّتَا أَبْصَرَنِي رَاكِبٌ ... يَسِيرُ فِي مُسْحَنْفَرٍ لَاحِبِ
جَعَلْت أَحْثِي التّرَابَ فِي وَجْهِهِ ... حُصْنًا وَأَحْمِي حَوْزَةَ الْغَائِبِ
فَقَالَتْ لَهَا أُمّهَا :
الْحُصْنُ أَدْنَى لَوْ تَآبَيْتِهِ ... مِنْ حَثْيِك التّرَبَ عَلَى الرّاكِبِ
ذَكَرَ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ السّيرَافِيّ فِي شَرْحِ أَبْيَاتِ الْإِيضَاحِ وَالرّزَانُ وَالثّقَالُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَهِيَ الْقَلِيلَةُ الْحَرَكَةِ . وَقَوْلُهُ وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِ
أَيْ خَمِيصَةَ الْبَطْنِ مِنْ لُحُومِ النّاسِ أَيْ اغْتِيَابِهِمْ وَضَرَبَ الْغَرْثَ مَثَلًا ، وَهُوَ عَدَمُ الطّعْمِ وَخُلُوّ الْجَوْفِ وَفِي التّنْزِيلِ { أَيُحِبّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا } [ الْحُجُرَاتُ 12 ] ضَرَبَ الْمَثَلَ لِأَخْذِهِ فِي الْعِرْضِ بِأَكْلِ اللّحْمِ لِأَنّ اللّحْمَ سِتْرٌ عَلَى الْعَظْمِ وَالشّاتِمُ لِأَخِيهِ كَأَنّهُ يُقَشّرُ وَيَكْشِفُ مَا عَلَيْهِ مِنْ سِتْرٍ . وَقَالَ مَيْتًا ، لِأَنّ الْمَيّتَ لَا يُحِسّ ، وَكَذَلِكَ الْغَائِبُ لَا يَسْمَعُ مَا يَقُولُ فِيهِ الْمُغْتَابُ ثُمّ هُوَ فِي التّحْرِيمِ كَأَكْلِ لَحْمِ الْمَيّتِ . وَقَوْلُهُ مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِ يُرِيدُ الْعَفَائِفَ الْغَافِلَةُ قُلُوبُهُنّ عَنْ الشّرّ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ { إِنّ الّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ } [ النّورُ 23 ] جَعَلَهُنّ غَافِلَاتٍ لِأَنّ الّذِي [ ص 36 ] قَطّ وَلَا خَطَرَ عَلَى قُلُوبِهِنّ فَهُنّ فِي غَفْلَةٍ عَنْهُ وَهَذَا أَبْلَغُ مَا يَكُونُ مِنْ الْوَصْفِ بِالْعَفَافِ . وَقَوْلُهُ لَهُ رَتَبٌ عَالٍ عَلَى النّاسِ كُلّهِمْ
الرّتَبُ مَا ارْتَفَعَ مِنْ الْأَرْضِ وَعَلَا ، وَالرّتَبُ أَيْضًا : قُوّةٌ فِي الشّيْءِ وَغِلَظٌ فِيهِ وَالسّوْرَةُ رُتْبَةٌ رَفِيعَةٌ مِنْ الشّرَفِ مَأْخُوذَةُ اللّفْظِ مِنْ سُورِ الْبِنَاءِ . وَقَوْلُهُ فَإِنّ الّذِي قَدْ قِيلَ لَيْسَ بِلَائِطِ
أَيْ بِلَاصِقِ يُقَالُ مَا يَلِيطُ ذَلِكَ بِفُلَانِ أَيْ مَا يُلْصَقُ بِهِ وَمِنْهُ سُمّيَ الرّبَا : لِيَاطًا ، لِأَنّهُ أُلْصِقَ بِالْبَيْعِ وَلَيْسَ بِبَيْعِ . وَفِي الْكِتَابِ الّذِي كَتَبَ لِثَقِيفِ وَمَا كَانَ مِنْ دَيْنٍ لَيْسَ فِيهِ رَهْنٌ فَإِنّهُ لِيَاطٌ مُبَرّأٌ مِنْ اللّهِ . وَسَيَأْتِي حَدِيثُهُ مُفَسّرًا إنْ شَاءَ اللّهُ . وَقَوْلُهُ فِي الشّعْرِ فَلَا رَفَعَتْ سَوْطِي إلَيّ أَنَامِلِي
دُعَاءٌ عَلَى نَفْسِهِ وَفِيهِ تَصْدِيقٌ لِمَنْ قَالَ إنّ حَسّانَ لَمْ يُجْلَدْ فِي الْإِفْكِ وَلَا خَاضَ [ ص 37 ] ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ : لَقَدْ ذَاقَ حَسّانُ الّذِي كَانَ أَهْلَهُ
عَلَى خِلَافِ هَذَا اللّفْظِ
لَقَدْ ذَاقَ عَبْدُ اللّهِ مَا كَانَ أَهْلَهُ ... وَحَمْنَةُ إذْ قَالُوا : هَجِيرًا وَمِسْطَحُ

مَا نَزَلَ فِي حَقّ أَصْحَابِ الْإِفْكِ
وَذَكَرَ مَا أَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِي أَصْحَابِ الْإِفْكِ وَقَوْلَهُ تَعَالَى : { إِذْ تَلَقّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ } [ النّورُ 15ْ ] وَكَانَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا تَقْرَؤُهَا : إذْ تَلِقُونَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ مِنْ الْوَلَقِ وَهُوَ اسْتِمْرَارُ اللّسَانِ بِالْكَذِبِ . وَأَمّا إقَامَةُ الْحَدّ عَلَيْهِمْ فَفِيهِ التّسْوِيَةُ بَيْنَ أَفْضَلِ النّاسِ بَعْدَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَأَدْنَى النّاسِ دَرَجَةً فِي الْإِيمَانِ لَا يُزَادُ الْقَاذِفُ عَلَى الثّمَانِينَ وَإِنْ شَتَمَ خَيْرَ النّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَا يَنْقُصُ مِنْهَا ، فَإِنْ قَذَفَ قَاذِفٌ الْيَوْمَ إحْدَى أُمّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ سِوَى عَائِشَةَ ، فَيَتَوَجّهُ فِيهِ لِلْفُقَهَاءِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا : أَنْ يُجْلَدَ ثَمَانِينَ كَمَا يَقْتَضِيهِ عُمُومُ التّنْزِيلِ وَكَمَا فَعَلَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِاَلّذِينَ قَذَفُوا أَهْلَهُ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ بِبَرَاءَتِهَا ، وَأَمّا بَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ بِبَرَاءَتِهَا فَيُقْتَلُ قَاذِفُهَا قَتْلَ كُفْرٍ وَلَا يُصَلّى عَلَيْهِ وَلَا يُورَثُ لِأَنّهُ كَذّبَ اللّهَ تَعَالَى . وَالْقَوْلُ الثّانِي فِي قَاذِفِ أُمّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرَ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُنّ أَنْ يُقْتَلَ أَيْضًا ، وَبِهِ كَانَ يَأْخُذُ شَيْخُنَا - رَحِمَهُ اللّهُ تَعَالَى - وَيَحْتَجّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إِنّ الّذِينَ يُؤْذُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللّهُ فِي الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ } [ الْأَحْزَابُ : 57 ] الْآيَةُ وَإِذَا قَذَفَ أَزْوَاجَ النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ فَقَدْ سَبّهُ . فَمِنْ أَعْظَمِ الْإِذَايَةِ أَنْ يُقَالَ عَنْ الرّجُلِ قَرْنَانٌ وَإِذَا سُبّ نَبِيّ بِمِثْلِ هَذَا فَهُوَ كُفْرٌ صُرَاحٌ وَقَدْ قَالَ الْمُفَسّرُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : { فَخَانَتَاهُمَا } أَيْ خَانَتَا فِي الطّاعَةِ لَهُمَا ، وَالْإِيمَانِ وَمَا بَغَتْ امْرَأَةُ نَبِيّ قَطّ ، أَيْ مَا زَنَتْ .
إهْدَاءُ سِيرِينَ إلَى حَسّانَ
[ ص 38 ] وَذَكَرَ أَنّ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَعْطَى حَسّانَ جَارِيَتَهُ بِضَرْبِ صَفْوَانَ بْنِ الْمُعَطّلِ لَهُ وَهَذِهِ الْجَارِيَةُ اسْمُهَا سِيرِينُ بِنْتُ شَمْعُونَ أُخْتُ مَارِيَةَ سُرّيّةُ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَهِيَ أُمّ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ حَسّانَ الشّاعِرِ وَكَانَ عَبْدُ الرّحْمَنِ يَفْخَرُ بِأَنّهُ ابْنُ خَالَةِ إبْرَاهِيمَ ابْنِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَدْ رَوَتْ سِيرِينُ هَذِهِ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَدِيثًا قَالَتْ رَأَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَلَلًا فِي قَبْرِ إبْرَاهِيمَ ابْنِهِ فَأَصْلَحَهُ وَقَالَ إنّ اللّهَ يُحِبّ مِنْ الْعَبْدِ إذَا عَمِلَ عَمَلًا أَنْ يُصْلِحَهُ

أَمْرُ الْحُدَيْبِيَةِ فِي آخِرِ سَنَةِ سِتّ ، وَذَكَرَ بَيْعَةَ الرّضْوَانِ وَالصّلْحَ
بَيْنَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَبَيْنَ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو
[ ص 39 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ أَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْمَدِينَةِ شَهْرَ رَمَضَانَ وَشَوّالًا ، وَخَرَجَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ مُعْتَمِرًا ، لَا يُرِيدُ حَرْبًا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ نُمَيْلَةَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ اللّيْثِيّ . [ ص 40 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَاسْتَنْفَرَ الْعَرَبَ وَمَنْ حَوْلَهُ مِنْ أَهْلِ الْبَوَادِي مِنْ الْأَعْرَابِ لِيَخْرُجُوا مَعَهُ وَهُوَ يَخْشَى مِنْ قُرَيْشٍ الّذِي صَنَعُوا ، أَنْ يَعْرِضُوا لَهُ بِحَرْبِ أَوْ يَصُدّوهُ عَنْ الْبَيْتِ ، فَأَبْطَأَ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ الْأَعْرَابِ ، وَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ مَنْ لَحِقَ بِهِ مِنْ الْعَرَبِ ، وَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ وَأَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ لِيَأْمَنَ النّاسُ مِنْ حَرْبِهِ وَلِيَعْلَمَ النّاسُ أَنّهُ إنّمَا خَرَجَ زَائِرًا لِهَذَا الْبَيْتِ وَمُعَظّمًا لَهُ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ الزّهْرِيّ ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ عَنْ مِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ أَنّهُمَا حَدّثَاهُ قَالَا : خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ يُرِيدُ زِيَارَةَ الْبَيْتِ لَا يُرِيدُ قِتَالًا ، وَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ سَبْعِينَ بَدَنَةً وَكَانَ النّاسُ سَبْعَمِائَةِ رَجُلٍ فَكَانَتْ كُلّ بَدَنَةٍ عَنْ عَشْرَةِ نَفَر وَكَانَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ ، فِيمَا بَلَغَنِي ، يَقُولُ كُنّا أَصْحَابُ الْحُدَيْبِيَة أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً . [ ص 41 ] قَالَ الزّهْرِيّ : وَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى إذَا كَانَ بِعُسْفَانَ لَقِيَهُ بِشْرُ بْنُ سُفْيَانَ الْكَعْبِيّ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ بُسْرٌ - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ هَذِهِ قُرَيْشٌ ، قَدْ سَمِعَتْ بِمَسِيرِك ، فَخَرَجُوا مَعَهُمْ الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ قَدْ لَبِسُوا جُلُودَ النّمُورِ وَقَدْ نَزَلُوا بِذِي طُوًى ، يُعَاهِدُونَ اللّهَ لَا تَدْخُلُهَا عَلَيْهِمْ أَبَدًا ، وَهَذَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِي خَيْلِهِمْ قَدْ قَدّمُوهَا إلَى كُرَاعِ الْغَمِيمِ ، قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَا وَيْحَ قُرَيْشٍ لَقَدْ أَكَلَتْهُمْ الْحَرْبُ ، مَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ خَلّوْا بَيْنِي وَبَيْنَ سَائِرِ الْعَرَبِ ، فَإِنْ هُمْ أَصَابُونِي كَانَ الّذِي أَرَادُوا ، وَإِنْ أَظْهَرَنِي اللّهُ عَلَيْهِمْ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ وَافِرِينَ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا قَاتَلُوا وَبِهِمْ قُوّةٌ فَمَا تَظُنّ قُرَيْشٌ ، فَوَاَللّهِ لَا أَزَالُ أُجَاهِدُ عَلَى الّذِي بَعَثَنِي اللّهُ بِهِ حَتّى يُظْهِرَهُ اللّهُ أَوْ تَنْفَرِدَ هَذِهِ السّالِفَةُ
Sغَزْوَةُ الْحُدَيْبِيَةِ
[ ص 39 ] يُقَالُ فِيهَا : الْحُدَيْبِيَةُ بِالتّخْفِيفِ وَهُوَ الْأَعْرَفُ عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيّةِ . قَالَ الْخَطّابِيّ : أَهْلُ الْحَدِيثِ يَقُولُونَ الْحُدَيْبِيَةُ بِالتّشْدِيدِ وَالْجِعْرَانَةُ كَذَلِكَ وَأَهْلُ الْعَرَبِيّةِ يَقُولُونَهُمَا : بِالتّخْفِيفِ وَقَالَ الْبَكْرِيّ : أَهْلُ الْعِرَاقِ يُشَدّدُونَ الرّاءَ وَالْيَاءَ فِي الْجِعْرَانَةِ وَالْحُدَيْبِيَةِ وَأَهْلُ الْحِجَازِ يُخَفّفُونَ وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النّحّاسُ سَأَلْت كُلّ مَنْ لَقِيته مِمّنْ أَثِقُ بِعِلْمِهِ عَنْ الْحُدَيْبِيَةِ فَلَمْ يَخْتَلِفُوا عَلَى أَنّهَا بِالتّخْفِيفِ . الْعِرَاقِ يُشَدّدُونَ الرّاءَ وَالْيَاءَ فِي الْجِعْرَانَةِ وَالْحُدَيْبِيَةِ ، وَأَهْلُ الْحِجَازِ يُخَفّفُونَ وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النّحّاسُ سَأَلْت كُلّ مَنْ لَقِيته مِمّنْ أَثِقُ بِعِلْمِهِ عَنْ الْحُدَيْبِيَةِ ، فَلَمْ يَخْتَلِفُوا عَلَى أَنّهَا بِالتّخْفِيفِ .
الْمِيقَاتُ وَالْإِشْعَارُ
فَصْلٌ وَذَكَرَ خُرُوجَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مُعْتَمِرًا إلَى مَكّةَ ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي حَدِيثِهِ مِنْ أَيْنَ أَحْرَمَ وَفِي الصّحِيحِ مِنْ رِوَايَةِ الزّهْرِيّ أَنّهُ أَحْرَمَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ وَهُوَ خِلَافُ مَا يُرْوَى عَنْ [ ص 40 ] عَلِيّ رَحِمَهُ اللّهُ مِنْ قَوْلِهِ إنّ تَمَامَ الْعُمْرَةِ أَنْ تُحْرِمَ بِهَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِك وَهَذَا مِنْ قَوْلِ عَلِيّ مُتَأَوّلٌ فِيمَنْ كَانَ مَنْزِلُهُ مِنْ وَرَاءِ الْمِيقَاتِ فَهُوَ الّذِي يُحْرِمُ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ كَمَا يُحْرِمُ أَهْلُ مَكّةَ مِنْ مَكّةَ فِي الْحَجّ . وَفِيهِ أَنّهُ أَشْعَرَ الْهَدْيَ وَهُوَ خِلَافُ قَوْلِ النّخَعِيّ وَأَهْلِ الْكُوفَةِ فِي قَوْلِهِمْ إنّ الْإِشْعَارَ مَنْسُوخٌ بِنَهْيِهِ عَنْ الْمُثْلَةِ وَيُقَالُ لَهُمْ إنّ النّهْيَ عَنْ الْمُثْلَةِ كَانَ بِإِثْرِ غَزْوَةِ أُحُدٍ فَلَا يَكُونُ النّاسِخُ مُتَقَدّمًا عَلَى الْمَنْسُوخِ . الْكُوفَةِ فِي قَوْلِهِمْ إنّ الْإِشْعَارَ مَنْسُوخٌ بِنَهْيِهِ عَنْ الْمُثْلَةِ وَيُقَالُ لَهُمْ إنّ النّهْيَ عَنْ الْمُثْلَةِ كَانَ بِإِثْرِ غَزْوَةِ أُحُدٍ ، فَلَا يَكُونُ النّاسِخُ مُتَقَدّمًا عَلَى الْمَنْسُوخِ .
مِنْ شَرْحِ حَدِيثِ الْحُدَيْبِيَةِ
وَفِيهِ أَنّهُمْ مَرّوا بِطَرِيقِ أَجْرَدَ وَمَعْنَاهُ كَثِيرُ الْحِجَارَةِ وَالْجَرَدُ الْحَجَرُ . وَفِيهِ أَنّهُ بَعَثَ عَيْنًا لَهُ مِنْ خُزَاعَةَ إلَى مَكّةَ ، فَدَلّ عَلَى أَنّهُ يَجُوزُ لِلرّجُلِ أَنْ يُسَافِرَ وَحْدَهُ إذَا مَسّتْ الْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ أَوْ كَانَ فِي ذَلِكَ صَلَاحٌ لِلْمُسْلِمَيْنِ . وَفِي الْبُخَارِيّ وَالنّسَوِيّ أَنّ عَيْنَهُ الّذِي أَرْسَلَ جَاءَهُ بِغَدِيرِ الْأَشْطَاطِ وَالْأَشْطَاطُ جَمْعُ شَطّ وَهُوَ السّنَامُ قَالَ الرّاجِزُ شَطّا رَمَيْت فَوْقَهُ بِشَطّ
[ ص 41 ] الْوَادِي : أَيْضًا جَانِبُهُ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ فِيهِ الْأَشْظَاظُ بِالظّاءِ الْمُعْجَمَةِ وَاسْمُ عَيْنِهِ ذَلِكَ بُسْرُ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ الْخُزَاعِيّ وَهُوَ الّذِي بَعَثَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَعَ بُدَيْلِ ابْنِ أُمّ أَصْرَمَ وَهُوَ بُدَيْلُ بْنُ سَلَمَةَ إلَى خُزَاعَةَ يَسْتَنْفِرُهُمْ إلَى قِتَالِ أَهْلِ مَكّةَ عَامَ الْفَتْحِ . وَفِيهِ أَنّ قُرَيْشًا خَرَجَتْ وَمَعَهَا الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ . الْعُوذُ جَمْعُ عَائِذٍ وَهِيَ النّاقَةُ الّتِي مَعَهَا وَلَدُهَا ، يُرِيدُ أَنّهُمْ خَرَجُوا بِذَوَاتِ الْأَلْبَانِ مِنْ الْإِبِلِ لِيَتَزَوّدُوا أَلْبَانَهَا ، وَلَا يَرْجِعُوا ، حَتّى يُنَاجِزُوا مُحَمّدًا وَأَصْحَابَهُ فِي زَعْمِهِمْ وَإِنّمَا قِيلَ لِلنّاقَةِ عَائِذٌ وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ هُوَ الّذِي يَعُوذُ بِهَا ، لِأَنّهَا عَاطِفٌ عَلَيْهِ كَمَا قَالُوا : تِجَارَةٌ رَابِحَةٌ وَإِنْ كَانَتْ مَرْبُوحًا فِيهَا ، لِأَنّهَا فِي مَعْنَى نَامِيَةٍ وَزَاكِيَةٍ ، وَكَذَلِكَ عِيشَةٌ رَاضِيَةٌ لِأَنّهَا فِي مَعْنَى صَالِحَةٍ وَمِنْ نَحْوِ هَذَا قَوْلُهُ { وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا } [ الْفَتْحُ 25 ] وَإِنْ كَانَ عَاكِفًا ، لِأَنّهُ مَحْبُوسٌ فِي الْمَعْنَى ، فَتَحَوّلَ وَزْنُهُ فِي اللّفْظِ إلَى وَزْنِ مَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ كَمَا قَالُوا فِي الْمَرْأَةِ تُهْرَاقُ الدّمَاءَ وَقِيَاسُهُ تُهْرِيقُ الدّمَاءَ وَلَكِنّهُ فِي مَعْنَى : تُسْتَحَاضُ فَحُوّلَ إلَى وَزْنِ مَا لَمْ يُسَمّ فَاعِلُهُ الدّمَاءُ مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْمَفْعُولِ كَمَا كَانَتْ . وَقَوْلُهُ فِي بِئْرِ الْحُدَيْبِيَةِ : إنّمَا يُتَبَرّضُ مَاؤُهَا تَبَرّضًا مِنْ الْبَرَضِ وَهُوَ الْمَاءُ الّذِي يَقْطُرُ قَلِيلًا قَلِيلًا ، وَالْبَارِضُ مِنْ النّبَاتِ الّذِي كَأَنّهُ يَقْطُرُ مِنْ الرّيّ وَالنّعْمَةِ . قَالَ الشّاعِرُ
رَعَى بَارِضَ الْبُهْمَى جَمِيمًا وَبُسْرَةً ... وَصَمْعَاءَ حَتّى آنَفَتْهُ نِصَالُهَا
يُقَالُ لِكُلّ شَيْءٍ فِي أَوّلِهِ بُسْرَةٌ حَتّى لِلشّمْسِ عِنْدَ طُلُوعِهَا ، وَصَمْعَاءُ مُتّحِدَةٌ قَدْ شَوّكَتْ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ .

الرّسُولُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَسْلُكُ طَرِيقًا غَيْرَ طَرِيقِ قُرَيْشٍ
[ ص 42 ] قَالَ مَنْ رَجُلٌ يَخْرُجُ بِنَا عَلَى طَرِيقٍ غَيْرِ طَرِيقِهِمْ الّتِي هُمْ بِهَا ؟ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ : أَنّ رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ قَالَ أَنَا يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ فَسَلَكَ بِهِمْ طَرِيقًا وَعِرًا أَجْرَلَ بَيْنَ شِعَابٍ فَلَمّا خَرَجُوا مِنْهُ وَقَدْ شَقّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَأَفْضَوْا إلَى أَرْضٍ سَهْلَةٍ عِنْدَ مُنْقَطَعِ الْوَادِي ؛ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِلنّاسِ " قُولُوا : نَسْتَغْفِرُ اللّهَ وَنَتُوبُ إلَيْهِ " ؛ فَقَالُوا ذَلِكَ فَقَالَ " وَاَللّهِ إنّهَا لَلْحِطّةُ الّتِي عُرِضَتْ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ " . فَلَمْ يَقُولُوهَا قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : فَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ النّاسَ فَقَالَ اُسْلُكُوا ذَاتَ الْيَمِينِ بَيْنَ ظَهْرَيْ الْحَمْشِ ، فِي طَرِيقٍ تُخْرِجُهُ عَلَى ثَنِيّةِ الْمُرَارِ مَهْبِطِ الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ أَسْفَلِ مَكّةَ قَالَ فَسَلَكَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الطّرِيقَ فَلَمّا رَأَتْ خَيْلُ قُرَيْشٍ فَتْرَةَ الْجَيْشِ قَدْ خَالَفُوا عَنْ طَرِيقِهِمْ رَجَعُوا رَاكِضِينَ إلَى قُرَيْشٍ ، وَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى إذَا سَلَكَ فِي ثَنِيّةِ الْمُرَارِ بَرَكَتْ نَاقَتُهُ فَقَالَتْ النّاسُ خَلَأَتْ النّاقَةُ قَالَ " مَا خَلَأَتْ وَمَا هُوَ لَهَا بِخُلُقِ ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ عَنْ مَكّةَ . لَا تَدْعُونِي قُرَيْشٌ الْيَوْمَ إلَى خُطّةٍ يَسْأَلُونَنِي فِيهَا صِلَةَ الرّحِمِ إلّا أَعْطَيْتهمْ إيّاهَا [ ص 43 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْ رِجَالٍ مِنْ أَسْلَمَ : أَنّ الّذِي نَزَلَ فِي الْقَلِيبِ بِسَهْمِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَاجِيَةُ بْنُ جُنْدُبِ بْنِ عُمَيْرِ بْنِ يَعْمَرَ بْنِ دَارِمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ وَائِلَةَ بْنِ سَهْمِ بْنِ مَازِنِ بْنِ سَلَامَانَ بْنِ أَسْلَمَ بْنِ أَفَصَى بْنِ أَبِي حَارِثَةَ ، وَهُوَ سَائِقُ بُدْنِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَفْصَى بْنُ حَارِثَةَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ زَعَمَ لِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ كَانَ يَقُولُ أَنَا الّذِي نَزَلْت بِسَهْمِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَاَللّهُ أَعْلَمُ أَيّ ذَلِكَ كَانَ . وَقَدْ أَنْشَدَتْ أَسْلَمُ أَبْيَاتًا مِنْ شِعْرٍ قَالَهَا نَاجِيَةُ قَدْ ظَنَنّا أَنّهُ هُوَ الّذِي نَزَلَ بِالسّهْمِ فَزَعَمَتْ أَسْلَمُ أَنّ جَارِيَةً مِنْ الْأَنْصَارِ أَقْبَلَتْ بِدَلْوِهَا ، وَنَاجِيَةُ فِي الْقَلِيبِ يَمِيحُ عَلَى النّاسِ فَقَالَتْ
يَا أَيّهَا الْمَائِحُ دَلْوِي دُونَكَا ... إنّي رَأَيْت النّاسَ يَحْمَدُنّكَا
يُثْنُونَ خَيْرًا وَيُمَجّدُونَكَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُرْوَى : إنّي رَأَيْت النّاسَ يَمْدَحُونَكَا
- 44 - قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَقَالَ نَاجِيَةُ وَهُوَ فِي الْقَلِيبِ يَمِيحُ عَلَى النّاسِ
قَدْ عَلِمَتْ جَارِيَةٌ يَمَانِيَهْ ... أَنّي أَنَا الْمَائِحُ وَاسْمِي نَاجِيَهْ
وَطَعْنَةٍ ذَاتِ رَشَاشٍ وَاهِيَهْ ... طَعَنْتهَا عِنْدَ صُدُورِ الْعَادِيَهْ
S[ ص 42 ] وَذَكَرَ أَنْ رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ سَلَكَ بِهِمْ طَرِيقًا وَعِرًا أَجْرَلَ يُقَالُ إنّ ذَلِكَ الرّجُلُ هُوَ نَاجِيَةُ الْأَسْلَمِيّ وَهُوَ سَائِقُ بُدْنِهِ وَهُوَ نَاجِيَةُ بْنُ جُنْدُبٍ وَيُقَالُ فِيهِ ابْنُ عُمَيْرٍ وَكَانَ اسْمُهُ ذَكْوَانُ ، فَسَمّاهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَاجِيَةَ حِينَ نَجَا مِنْ كُفّارِ قُرَيْشٍ ، وَعَاشَ إلَى زَمَنِ مُعَاوِيَةَ وَأَمّا صَاحِبُ بُدْنِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَذْكُورُ فِي حَدِيثٍ آخَرَ فِي الْمُوَطّإِ وَغَيْرِهِ فَاسْمُهُ ذُؤَيْبُ بْنُ حَلْحَلَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ كُلَيْبِ بْنِ أَصْرَمَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ قُمَيْرِ بْنِ حُبْشِيّةَ بْنِ سَلُولَ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ رَبِيعَةَ ، وَهُوَ لُحَيّ بْنُ حَارِثَةَ جَدّ خُزَاعَةَ ، وَذُؤَيْبٌ هَذَا هُوَ وَالِدُ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ الْقَاضِي صَاحِبُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ ، وَعَاشَ ذُؤَيْبٌ إلَى خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ أَيْضًا . وَذَكَرَ فِي نَسَبِ أَسْلَمَ بْنِ أَفْصَى بْنِ أَبِي حَارِثَةَ وَهُوَ وَهْمٌ وَقَدْ أَصْلَحَهُ ابْنُ هِشَامٍ ، فَقَالَ هُوَ حَارِثَةُ يَعْنِي ابْنَ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرِ بْنِ مَاءِ السّمَاءِ بْنِ حَارِثَةَ الْغِطْرِيفُ بْنُ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ مَازِنِ بْنِ الْأَسَدِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ إسْحَاقَ لَمْ يَهِمْ فِيهِ وَلَكِنّهُ نَسَبَهُ إلَى أَبِي حَارِثَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ ، وَهُوَ عَمّ حَارِثَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ وَحَارِثَةُ هُوَ أَبُو الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ . وَذَكَرَ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السّلَامُ لَا تَدْعُونِي قُرَيْشٌ الْيَوْمَ إلَى خُطّةٍ الْحَدِيثُ وَفِي غَيْرِ [ ص 43 ] ابْنِ إسْحَاقَ عَنْ الزّهْرِيّ أَنّهُ قَالَ وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَدْعُونِي قُرَيْش وَلَمْ يَقُلْ فِي الْحَدِيثِ إنْ شَاءَ اللّهُ وَقَدْ تَكَلّمُوا فِي ذَلِكَ فَقِيلَ إنّمَا أَسْقَطَ الِاسْتِثْنَاءَ لِأَنّهُ أَمْرٌ وَاجِبٌ كَانَ قَدْ أَمَرَ بِهِ أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ فِي الْحَدِيثِ إنّمَا أَنَا عَبْدُ اللّهِ وَرَسُولُهُ لَنْ أُخَالِفَ أَمْرَهُ ، وَلَنْ يُضَيّعَنِي وَقِيلَ إنّ إسْقَاطَ الِاسْتِثْنَاءِ إنّمَا هُوَ مِنْ الرّاوِي إمّا نَسِيَهُ وَإِمّا لَمْ يَحْفَظْهُ . وَفِي الْحَدِيثِ أَوْ تَنْفَرِدُ هَذِهِ السّالِفَةُ . السّالِفَةُ صَفْحَةُ الْعُنُقِ وَانْفِرَادُهَا عِبَارَةٌ عَنْ الْقَتْلِ أَوْ الذّبْحِ وَفِي الرّجَزِ الّذِي أَنْشَدَهُ يَا أَيّهَا الْمَائِحُ دَلْوِي دُونَكَا
لَوْ قَالَ دُونَك دَلْوِي لَكَانَ الدّلْوُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْإِغْرَاءِ فَلَمّا قَدّمَهَا عَلَى دُونَك ، لَمْ يَجُزْ نَصْبُهَا بِدُونِك ، وَلَكِنّهُ بِفِعْلِ آخَرَ كَأَنّهُ قَالَ امْلَأْ دَلْوِي ، فَقَوْلُهُ دُونَكَا أَمْرٌ بَعْدَ أَمْرٍ .

فَقَالَ الزّهْرِيّ فِي حَدِيثِهِ فَلَمّا اطْمَأَنّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَتَاهُ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيّ ، فِي رِجَالٍ مِنْ خُزَاعَةَ ، فَكَلّمُوهُ وَسَأَلُوهُ مَا الّذِي جَاءَ بِهِ ؟ فَأَخْبَرَهُمْ أَنّهُ لَمْ يَأْتِ يُرِيدُ حَرْبًا ، وَإِنّمَا جَاءَ زَائِرًا لِلْبَيْتِ ، وَمُعَظّمًا لِحُرْمَتِهِ ثُمّ قَالَ لَهُمْ نَحْوًا مِمّا قَالَ لِبِشْرِ بْنِ سُفْيَانَ فَرَجَعُوا إلَى قُرَيْشٍ فَقَالُوا : يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، إنّكُمْ تَعْجَلُونَ عَلَى مُحَمّدٍ إنّ مُحَمّدًا لَمْ يَأْتِ لِقِتَالِ وَإِنّمَا جَاءَ زَائِرًا هَذَا الْبَيْتَ ، فَاتّهَمُوهُمْ وَجَبّهُوهُمْ وَقَالُوا : وَإِنْ كَانَ جَاءَ وَلَا يُرِيدُ قِتَالًا ، فَوَاَللّهِ لَا يَدْخُلُهَا عَلَيْنَا عَنْوَةً أَبَدًا ، وَلَا تَحَدّثُ بِذَلِكَ عَنّا الْعَرَبُ . قَالَ الزّهْرِيّ : وَكَانَتْ خُزَاعَةُ عَيْبَةَ نُصْحِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُسْلِمُهَا وَمُشْرِكُهَا ، لَا يُخْفُونَ عَنْهُ شَيْئًا كَانَ بِمَكّةَ . قَالَ ثُمّ بَعَثُوا إلَيْهِ مِكْرَزَ بْنَ حَفْصِ بْنِ الْأَخْيَفِ ، أَخَا بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ ، فَلَمّا رَآهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُقْبِلًا قَالَ هَذَا رَجُلٌ غَادِر فَلَمّا انْتَهَى إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكَلّمَهُ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَحْوًا مِمّا قَالَ لِبُدَيْلٍ وَأَصْحَابِهِ فَرَجَعَ إلَى قُرَيْشٍ فَأَخْبَرَهُمْ بِمَا قَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . ثُمّ بَعَثُوا إلَيْهِ الْحُلَيْسَ بْنَ عَلْقَمَةَ أَوْ ابْنَ زَبّانٍ وَكَانَ يَوْمَئِذٍ سَيّدَ الْأَحَابِيشِ ، وَهُوَ أَحَدُ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ ؛ فَلَمّا رَآهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ إنّ هَذَا مِنْ قَوْمٍ يَتَأَلّهُونَ ، فَابْعَثُوا الْهَدْيَ فِي وَجْهِهِ حَتّى يَرَاهُ فَلَمّا رَأَى الْهَدْيَ يَسِيلُ عَلَيْهِ مِنْ عُرْضِ الْوَادِي فِي قَلَائِدِهِ وَقَدْ أَكَلَ أَوْبَارَهُ مِنْ طُولِ الْحَبْسِ عَنْ مَحَلّهِ رَجَعَ إلَى قُرَيْشٍ ، وَلَمْ يَصِلْ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إعْظَامًا لِمَا رَأَى ، فَقَالَ لَهُمْ ذَلِكَ . قَالَ فَقَالُوا لَهُ اجْلِسْ فَإِنّمَا أَنْتَ أَعْرَابِيّ لَا عِلْمَ لَك . [ ص 45 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ : أَنّ الْحُلَيْسَ غَضِبَ عِنْدَ ذَلِكَ وَقَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ وَاَللّهِ مَا عَلَى هَذَا حَالَفْنَاكُمْ ، وَلَا عَلَى هَذَا عَاقَدْنَاكُمْ . أَيُصَدّ عَنْ بَيْتِ اللّهِ مَنْ جَاءَ مُعَظّمًا لَهُ وَاَلّذِي نَفْسُ الْحُلَيْسِ بِيَدِهِ لَتُخَلّنّ بَيْنَ مُحَمّدٍ وَبَيْنَ مَا جَاءَ لَهُ أَوْ لَأُنَفّرَنّ بِالْأَحَابِيشِ نُفْرَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ . قَالَ فَقَالُوا لَهُ مَهْ كُفّ عَنّا يَا حُلَيْسُ حَتّى نَأْخُذَ لِأَنْفُسِنَا مَا نَرْضَى بِهِ - 44ْ - وَفِيهِ قَوْلُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْحُلَيْسِ إنّ هَذَا مِنْ قَوْمٍ يَتَأَلّهُونَ أَيْ يُعَظّمُونَ أَمْرَ الْإِلَهِ وَمِنْهُ قَوْلُ رُؤْبَةَ سَبّحْنَ وَاسْتَرْجَعْنَ مَنْ تَأَلّهَ
أَيْ مِنْ تَنَسّكٍ وَتَعْظِيمٍ لِلّهِ سُبْحَانَهُ .

قَالَ الزّهْرِيّ فِي حَدِيثِهِ ثُمّ بَعَثُوا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عُرْوَةَ بْنَ مَسْعُودٍ الثّقَفِيّ ؛ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، إنّي قَدْ رَأَيْت مَا يَلْقَى مِنْكُمْ مَنْ بَعَثْتُمُوهُ إلَى مُحَمّدٍ إذْ جَاءَكُمْ مِنْ التّعْنِيفِ وَسُوءِ اللّفْظِ وَقَدْ عَرَفْتُمْ أَنّكُمْ وَالِدٌ وَإِنّي وَلَدٌ - وَكَانَ عُرْوَةُ لِسُبَيْعَةَ بِنْتِ عَبْدِ شَمْسٍ - وَقَدْ سَمِعْت بِاَلّذِي نَابَكُمْ فَجَمَعْت مَنْ أَطَاعَنِي مِنْ قَوْمِي ، ثُمّ جِئْتُكُمْ حَتّى آسَيْتُكُمْ بِنَفْسِي ، قَالُوا : صَدَقْت ، مَا أَنْتَ عِنْدَنَا بِمُتّهَمِ . فَخَرَجَ حَتّى أَتَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمّ قَالَ يَا مُحَمّدُ أَجَمَعْت أَوْشَابَ النّاسِ ثُمّ جِئْت بِهِمْ إلَى بَيْضَتِك لِتَفُضّهَا بِهِمْ إنّهَا قُرَيْشٌ قَدْ خَرَجَتْ مَعَهَا الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ . قَدْ لَبِسُوا جُلُودَ النّمُورِ يُعَاهِدُونَ اللّهَ لَا تَدْخُلُهَا عَلَيْهِمْ عَنْوَةً أَبَدًا وَاَيْمُ اللّهِ لَكَأَنّي بِهَؤُلَاءِ قَدْ انْكَشَفُوا عَنْك غَدًا . قَالَ وَأَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ خَلْفَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَاعِدٌ فَقَالَ اُمْصُصْ بَظْرَ اللّاتِ ، أَنَحْنُ نَتَكَشّفُ عَنْهُ ؟ قَالَ مَنْ هَذَا يَا مُحَمّدُ ؟ قَالَ هَذَا ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ ، قَالَ أَمَا وَاَللّهِ لَوْلَا يَدٌ [ ص 46 ] كَانَتْ لَك عِنْدِي لَكَافَأْتُك بِهَا ، وَلَكِنّ هَذِهِ بِهَا ، قَالَ ثُمّ جَعَلَ يَتَنَاوَلُ لِحْيَةَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ يُكَلّمُهُ قَالَ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ وَاقِفٌ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْحَدِيدِ . قَالَ فَجَعَلَ يَقْرَعُ يَدَهُ إذَا تَنَاوَلَ لِحْيَةَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَيَقُولُ اُكْفُفْ يَدَك عَنْ وَجْهِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَبْلَ أَنْ لَا تَصِلَ إلَيْك ، قَالَ فَيَقُولُ عُرْوَةُ وَيْحَك مَا أَفَظّك وَأَغْلَظَك قَالَ فَتَبَسّمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ لَهُ عُرْوَةُ مَنْ هَذَا يَا مُحَمّدُ ؟ قَالَ " هَذَا ابْنُ أَخِيك الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ " ، قَالَ أَيْ غُدَرُ وَهَلْ غَسَلْت سَوْءَتَك إلّا بِالْأَمْسِ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَرَادَ عُرْوَةُ بِقَوْلِهِ هَذَا أَنّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ قَبْلَ إسْلَامِهِ قَتَلَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي مَالِكٍ مِنْ ثَقِيفٍ ، فَتَهَايَجَ الْحَيّانِ مِنْ ثَقِيفٍ : بَنُو مَالِكٍ رَهْطُ الْمَقْتُولِينَ وَالْأَحْلَافُ رَهْطُ الْمُغِيرَةِ فَوَدَى عُرْوَةُ الْمَقْتُولِينَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ دِيَةً وَأَصْلَحَ ذَلِكَ الْأَمْرَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : قَالَ الزّهْرِيّ : فَكَلّمَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِنَحْوِ مِمّا كَلّمَ بِهِ أَصْحَابَهُ وَأَخْبَرَهُ أَنّهُ لَمْ يَأْتِ يُرِيدُ حَرْبًا . فَقَامَ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَدْ رَأَى مَا يَصْنَعُ بِهِ أَصْحَابُهُ لَا يَتَوَضّأُ إلّا ابْتَدَرُوا وَضُوءَهُ وَلَا يَبْصُقُ بُصَاقًا إلّا ابْتَدَرُوهُ وَلَا يَسْقُطُ مِنْ شَعْرِهِ شَيْءٌ إلّا أَخَذُوهُ . فَرَجَعَ إلَى قُرَيْشٍ ، فَقَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إنّي قَدْ جِئْت كِسْرَى فِي مُلْكِهِ ، وَقَيْصَرَ فِي مُلْكِهِ وَالنّجَاشِيّ فِي مُلْكِهِ وَإِنّي وَاَللّهِ مَا رَأَيْت مَلِكًا فِي قَوْمٍ قَطّ مِثْلَ مُحَمّدٍ فِي أَصْحَابِهِ وَلَقَدْ رَأَيْت قَوْمًا لَا يُسْلِمُونَهُ لِشَيْءِ أَبَدًا ، فَرُوا رَأْيَكُمْ [ ص 47 ] ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ دَعَا خِرَاشَ بْنَ أُمَيّةَ الْخُزَاعِيّ ، فَبَعَثَهُ إلَى قُرَيْشٍ بِمَكّةَ ، وَحَمَلَهُ عَلَى بَعِيرٍ لَهُ يُقَالُ لَهُ الثّعْلَبُ لِيُبْلِغَ أَشْرَافَهُمْ عَنْهُ مَا جَاءَ لَهُ فَعَقَرُوا بِهِ جَمَلَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَرَادُوا قَتْلَهُ فَمَنَعَتْهُ الْأَحَابِيشُ ، فَخَلّوْا سَبِيلَهُ حَتّى أَتَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ حَدّثَنِي بَعْضُ مَنْ لَا أَتّهِمُ عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبّاسٍ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ : أَنّ قُرَيْشًا كَانُوا بَعَثُوا أَرْبَعِينَ رَجُلًا مِنْهُمْ أَوْ خَمْسِينَ رَجُلًا ، وَأَمَرُوهُمْ أَنْ يُطِيفُوا بِعَسْكَرِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِيُصِيبُوا لَهُمْ مِنْ أَصْحَابِهِ أَحَدًا ، فَأُخِذُوا أَخْذًا ، فَأُتِيَ بِهِمْ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَعَفَا عَنْهُمْ وَخَلّى سَبِيلَهُمْ وَقَدْ كَانُوا رَمَوْا فِي عَسْكَرِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْحِجَارَةِ وَالنّبْلِ . ثُمّ دَعَا عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ لِيَبْعَثَهُ إلَى مَكّةَ ، فَيُبَلّغَ عَنْهُ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مَا جَاءَ لَهُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّي أَخَافُ قُرَيْشًا عَلَى نَفْسِي ، وَلَيْسَ بِمَكّةَ مِنْ بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ أَحَدٌ يَمْنَعُنِي ، وَقَدْ عَرَفَتْ قُرَيْشٌ عَدَاوَتِي إيّاهَا ، وَغِلْظَتِي عَلَيْهَا ، وَلَكِنّي أَدُلّك عَلَى رَجُلٍ أَعَزّ بِهَا مِنّي ، عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ . فَدَعَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ ، فَبَعَثَهُ إلَى أَبِي سُفْيَانَ وَأَشْرَافِ قُرَيْشٍ ، يُخْبِرُهُمْ أَنّهُ لَمْ يَأْتِ لِحَرْبِ وَأَنّهُ إنّمَا جَاءَ زَائِرًا لِهَذَا الْبَيْتِ ، وَمُعَظّمًا لِحُرْمَتِهِ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَخَرَجَ عُثْمَانُ إلَى مَكّةَ ، فَلَقِيَهُ أَبَانُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ حِينَ دَخَلَ مَكّةَ ، أَوْ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَهَا ، فَحَمَلَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمّ أَجَارَهُ حَتّى بَلّغَ رِسَالَةَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَانْطَلَقَ عُثْمَانُ حَتّى أَتَى أَبَا سُفْيَانَ وَعُظَمَاءَ قُرَيْشٍ ، فَبَلّغَهُمْ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَا أَرْسَلَهُ بِهِ فَقَالُوا لِعُثْمَانِ حِينَ فَرَغَ مِنْ رِسَالَةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَيْهِمْ إنْ شِئْت أَنْ تَطُوفَ بِالْبَيْتِ فَطُفْ فَقَالَ مَا كُنْت لِأَفْعَل حَتّى يَطُوفَ بِهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . وَاحْتَبَسَتْهُ قُرَيْشٌ عِنْدَهَا ، فَبَلَغَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَالْمُسْلِمِينَ أَنّ عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ قَدْ قُتِلَ .Sوَصْفُ الْجَمْعِ بِالْمُفْرَدِ
[ ص 45 ] وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنْتُمْ حَيّ قَدْ وَلَدَنِي ، لِأَنّهُ كَانَ لِسُبَيْعَةَ بِنْتِ عَبْدِ شَمْسٍ ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي الْجَمَاعَةِ هُمْ لِي صَدِيقٌ وَعَدُوّ . وَفِي التّنْزِيلِ { وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } [ النّسَاءُ 69 ] فَيُفْرَدُ لِأَنّهُ صِفَةٌ لِفَرِيقِ وَحِزْبٍ وَيَقْبُحُ أَنْ تَقُولَ قَوْمُك ضَاحِكٌ أَوْ بَاكٍ وَإِنّمَا يَحْسُنُ هَذَا إذَا وَصَفْت بِصَدِيقِ وَرَفِيقٍ وَعَدُوّ لِأَنّهَا صِفَةٌ تَصْلُحُ لِلْفَرِيقِ وَالْحِزْبِ لِأَنّ الْعَدَاوَةَ وَالصّدَاقَةَ صِفَتَانِ مُتَضَادّتَانِ فَإِذَا كَانَ عَلَى أَحَدِهِمَا الْفَرِيقُ الْوَاحِدُ كَانَ الْآخَرُ عَلَى ضِدّهَا ، وَكَانَتْ قُلُوبُ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ فِي تِلْكَ الصّفَةِ عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ فِي عُرْفِ الْعَادَةِ فَحَسُنَ الْإِفْرَادُ وَلَيْسَ يَلْزَمُ مِثْلُ هَذَا فِي الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَنَحْوِهِ حَتّى يُقَالَ هُمْ قَاعِدٌ أَوْ قَائِمٌ كَمَا يُقَالُ هُمْ صَدِيقٌ لِمَا قَدّمْنَاهُ مِنْ الِاتّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ . وَأَمّا قَوْلُهُ تَعَالَى : { يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا } [ غَافِرٌ 67 ] ، بِلَفْظِ الْإِفْرَادِ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ { وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ } [ النّورُ 59 ] فَالْأَحْسَنُ فِي حُكْمِ الْبَلَاغَةِ أَنْ يُعَبّرَ عَنْ الْأَطْفَالِ الرّضّعِ بِالطّفْلِ فِي الْوَاحِدِ وَالْجَمِيعِ لِأَنّهُمْ مَعَ حِدْثَانِ الْوِلَادَةِ كَالْجِنْسِ الّذِي يَقَعُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ بِلَفْظِ وَاحِدٍ أَلَا تَرَى أَنّ بَدْءَ الْخَلْقِ طِينٌ ثُمّ مَنِيّ ، وَالْمَنِيّ جِنْسٌ لَا يَتَمَيّزُ بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ فَلِذَلِكَ لَا [ ص 46 ] وَعَرَفَ النّاسُ صُوَرَهُمْ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ فَصَارُوا كَالرّجَالِ وَالْفِتْيَانِ قِيلَ فِيهِمْ حِينَئِذٍ أَطْفَالٌ كَمَا يُقَالُ رِجَالٌ وَفِتْيَانٌ وَلَا يُعْتَرَضُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ بِالْأَجِنّةِ أَنّهُمْ مُغَيّبُونَ فِي الْبُطُونِ فَلَمْ يَكُونُوا كَالْجِنْسِ الظّاهِرِ لِلْعُيُونِ كَالْمَاءِ وَالطّينِ وَالْعَلَقِ وَإِنّمَا جَمْعُ الْجَنِينِ عَلَى أَجِنّةٍ وَحَسُنَ ذَلِكَ فِيهِ لِأَنّهُ تَبَعٌ لِلْبَطْنِ الّذِي هُوَ فِيهِ وَيُقَوّي هَذَا الْغَرَضَ الّذِي صَمَدْنَا إلَيْهِ فِي الطّفْلِ قَوْلُ رَجُلٍ مِنْ بَنِي مَجَاعَةَ لِعُمَرِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَقَدْ سَأَلَهُ هَلْ بَقِيَ مِنْ كُهُولِ بَنِي مَجَاعَةَ أَحَدٌ ؟ قَالَ نَعَمْ وَشَكِيرٌ كَثِيرٌ فَانْظُرْ كَيْفَ قَالَ الْكُهُولُ وَجَمَعَ ، وَقَالَ فِي الصّغَارِ شَكِيرٌ كَمَا تَقُولُ حَشِيشٌ وَنَبَاتٌ فَتُفْرَدُ لِأَنّهُ جِنْسٌ وَاحِدٌ وَالطّفْلُ فِي مَعْنَى الشّكِيرِ مَا دَامُوا رُضّعًا ، حَتّى يَتَمَيّزُوا بِالْأَسْمَاءِ وَالصّوَرِ عِنْدَ النّاسِ فَهَذَا حُكْمُ الْبَلَاغَةِ وَمَسَاقُ الْفَصَاحَةِ فَافْهَمْهُ . [ ص 47 ] الْأَوْبَاشُ . وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ أَمّا الْمَالُ فَلَسْت مِنْهُ فِي شَيْء فِيهِ مِنْ الْفِقْهِ أَنّ أَمْوَالَ الْمُشْرِكِينَ حَرَامٌ إذَا أَمّنُوك وَأَمّنْتهمْ وَإِنّمَا يَحِلّ بِالْمُحَارَبَةِ وَالْمُغَالَبَةِ لَا عِنْدَ طُمَأْنِينَتِهِمْ إلَيْك وَأَمَنَتِهِمْ مِنْك ، فَإِنّ ذَلِكَ هُوَ الْغَدْرُ وَفِي هَذَا الْمَعْنَى آثَارٌ قَدْ مَضَى بَعْضُهَا ، وَسَيَأْتِي بَعْضُهَا فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ وَغَيْرِهَا . [ ص 48 ] كَانُوا يَتَدَلّكُونَ بِنُخَامَةِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا تَنَخّمَ . وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى طَهَارَةِ النّخَامَةِ خِلَافًا لِلنّخَعِيّ وَمَا يُرْوَى فِي ذَلِكَ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيّ . وَحَدِيثُ إذَا تَنَخّمَ أَحَدُكُمْ فِي الصّلَاة أَبْيَنُ فِي الْحُجّةِ لِأَنّ حَدِيثَ السّيرَةِ يَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ بِالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .

بَيْعَةُ الرّضْوَانِ
[ ص 48 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ : أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ حِينَ بَلَغَهُ أَنّ عُثْمَانَ قَدْ قُتِلَ لَا نَبْرَحُ حَتّى نُنَاجِزَ الْقَوْمَ فَدَعَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ النّاسَ إلَى الْبَيْعَةِ . فَكَانَتْ بَيْعَةُ الرّضْوَانِ تَحْتَ الشّجَرَةِ ، فَكَانَ النّاسُ يَقُولُونَ بَايَعَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى الْمَوْتِ وَكَانَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ يَقُولُ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يُبَايِعْنَا عَلَى الْمَوْتِ وَلَكِنْ بَايَعَنَا عَلَى أَنْ لَا نَفِرّ . فَبَايَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ النّاسَ وَلَمْ يَتَخَلّفْ عَنْهُ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَضَرَهَا ، إلّا الْجَدّ بْنُ قَيْسٍ ، أَخُو بَنِي سَلِمَةَ فَكَانَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ يَقُولُ وَاَللّهِ لَكَأَنّي أَنْظُرُ إلَيْهِ لَاصِقًا بِإِبْطِ نَاقَتِهِ . قَدْ ضَبَأَ إلَيْهَا ، يَسْتَتِرُ بِهَا مِنْ النّاسِ . ثُمّ أَتَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ الّذِي ذُكِرَ مِنْ أَمْرِ عُثْمَانَ بَاطِلٌ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : فَذَكَرَ وَكِيعٌ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ ، عَنْ الشّعْبِيّ : أَنّ أَوّلَ مَنْ بَايَعَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَيْعَةَ الرّضْوَانِ أَبُو سِنَانٍ الْأَسَدِيّ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ عَمّنْ حَدّثَهُ بِإِسْنَادِ لَهُ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ ابْنِ أَبِي عُمَرَ : أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَايَعَ لِعُثْمَانِ فَضَرَبَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى .

أَمْرُ الْهُدْنَةِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : قَالَ الزّهْرِيّ : ثُمّ بَعَثَتْ قُرَيْشٌ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو ، أَخَا بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ ، إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَالُوا لَهُ ائْتِ مُحَمّدًا فَصَالِحْهُ وَلَا يَكُنْ فِي صُلْحِهِ إلّا أَنْ [ ص 49 ] عَامَهُ هَذَا ، فَوَاَللّهِ لَا تُحَدّثُ الْعَرَبُ عَنّا أَنّهُ دَخَلَهَا عَلَيْنَا عَنْوَةً أَبَدًا . فَأَتَاهُ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو ؛ فَلَمّا رَآهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُقْبِلًا ، قَالَ قَدْ أَرَادَ الْقَوْمُ الصّلْحَ حِينَ بَعَثُوا هَذَا الرّجُلَ فَلَمّا انْتَهَى سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَكَلّمَ فَأَطَالَ الْكَلَامَ وَتَرَاجَعَا ثُمّ جَرَى بَيْنَهُمَا الصّلْحُ . فَلَمّا الْتَأَمَ الْأَمْرُ وَلَمْ يَبْقَ إلّا الْكِتَابُ وَثَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ ، فَأَتَى أَبَا بَكْر ٍ فَقَالَ يَا أَبَا بَكْرٍ ، أَلَيْسَ بِرَسُولِ اللّهِ ؟ قَالَ بَلَى . قَالَ أَوَلَسْنَا بِالْمُسْلِمِينَ ؟ قَالَ بَلَى ، قَالَ أَوَلَيْسُوا بِالْمُشْرِكِينَ ؟ قَالَ بَلَى ، قَالَ فَعَلَامَ نُعْطِيَ الدّنِيّةَ فِي دِينِنَا ؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ : يَا عُمَرُ الْزَمْ غَرْزَهُ فَإِنّي أَشْهَدُ أَنّهُ رَسُولُ اللّهِ قَالَ عُمَرُ وَأَنَا أَشْهَدُ أَنّهُ رَسُولُ اللّهِ ثُمّ أَتَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ أَلَسْت بِرَسُولِ اللّهِ ؟ قَالَ " بَلَى " ، قَالَ أَوَلَسْنَا بِالْمُسْلِمِينَ ؟ قَالَ " بَلَى " ، قَالَ أَوَلَيْسُوا بِالْمُشْرِكِينَ ؟ قَالَ " بَلَى " ، قَالَ فَعَلَامَ نُعْطِي الدّنِيّةَ فِي دِينِنَا ؟ قَالَ " أَنَا عَبْدُ اللّهِ وَرَسُولُهُ لَنْ أُخَالِفَ أَمْرَهُ ، وَلَنْ يُضَيّعَنِي " قَالَ فَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ مَا زِلْت أَتَصَدّقُ وَأَصُومُ وَأُصَلّي وَأُعْتِقُ مِنْ الّذِي صَنَعْت يَوْمَئِذٍ مَخَافَةَ كَلَامِي الّذِي تَكَلّمْت بِهِ حَتّى رَجَوْت أَنْ يَكُونَ خَيْرًا .
عَلِيّ يَكْتُبُ شُرُوطَ الصّلْحِ
[ ص 50 ] قَالَ ثُمّ دَعَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِ فَقَالَ اُكْتُبْ بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ قَالَ فَقَالَ سُهَيْلٌ لَا أَعْرِفُ هَذَا ، وَلَكِنْ اُكْتُبْ بِاسْمِك اللّهُمّ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " اُكْتُبْ بِاسْمِك اللّهُمّ " ، فَكَتَبَهَا ، ثُمّ قَالَ " اُكْتُبْ هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمّدٌ رَسُولُ اللّهِ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو " ، قَالَ فَقَالَ سُهَيْلٌ لَوْ شَهِدْت أَنّك رَسُولُ اللّهِ لَمْ أُقَاتِلْك ، وَلَكِنْ اُكْتُبْ اسْمَك وَاسْمَ أَبِيك ، قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " اُكْتُبْ هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو ، اصْطَلَحَا عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ عَنْ النّاسِ [ ص 51 ] قُرَيْشٍ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيّهِ رَدّهُ عَلَيْهِمْ وَمَنْ جَاءَ قُرَيْشًا مِمّنْ مَعَ مُحَمّدٍ لَمْ يَرُدّوهُ عَلَيْهِ وَأَنّ بَيْنَنَا عَيْبَةً مَكْفُوفَةً وَأَنّهُ لَا إسْلَالَ وَلَا إغْلَالَ وَأَنّهُ مَنْ أَحَبّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عِقْدِ مُحَمّدٍ وَعَهْدِهِ دَخَلَ فِيهِ وَمَنْ أَحَبّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عِقْدِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ دَخَلَ فِيهِ
خُزَاعَةُ فِي عَهْدِ مُحَمّدٍ وَبَنُو بَكْرٍ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ
[ ص 52 ] خُزَاعَةُ فَقَالُوا : نَحْنُ فِي عِقْدِ مُحَمّدٍ وَعَهْدِهِ وَتَوَاثَبَتْ بَنُو بَكْرٍ فَقَالُوا : نَحْنُ فِي عِقْدِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ وَأَنّك تَرْجِعُ عَنّا عَامَك هَذَا ، فَلَا تَدْخُلُ عَلَيْنَا مَكّةَ ، وَأَنّهُ إذَا كَانَ عَامٌ قَابِلٌ خَرَجْنَا عَنْك فَدَخَلْتهَا بِأَصْحَابِك ، فَأَقَمْت بِهَا ثَلَاثًا ، مَعَك سِلَاحُ الرّاكِبِ السّيُوفُ فِي الْقُرُبِ لَا تَدْخُلُهَا بِغَيْرِهَا .
Sحَوْلَ الْمُصَالَحَةِ
فَصْلٌ وَذَكَرَ مُصَالَحَةَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لِقُرَيْشِ وَشَرْطَهُمْ أَنْ لَا يَأْتِيَهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ مِمّنْ هُوَ عَلَى دِينِهِ إلّا رَدّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مُصَالَحَةُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى غَيْرِ مَالٍ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ وَذَلِكَ جَائِزٌ إذَا كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ وَقَدْ تَقَدّمَ مُصَالَحَتُهُمْ عَلَى مَالٍ يُعْطُونَهُ فِي غَزْوَةِ [ ص 49 ] ، وَاخْتُلِفَ هَلْ يَجُوزُ صُلْحُهُمْ إلَى أَكْثَرَ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ يَجُوزُ ذَلِكَ إذَا رَآهُ الْإِمَامُ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ لَا يَتَجَاوَزُ فِي صُلْحِهِمْ إلَى أَكْثَرَ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ وَحُجّتُهُمْ أَنّ حَظْرَ الصّلْحِ هُوَ الْأَصْلُ بِدَلِيلِ آيَةِ الْقِتَالِ وَقَدْ وَرَدَ التّحْدِيدُ بِالْعَشْرِ فِي حَدِيثِ ابْنِ إسْحَاقَ فَحَصَلَتْ الْإِبَاحَةُ فِي هَذَا الْمِقْدَارِ مُتَحَقّقَةً وَبَقِيَتْ الزّيَادَةُ عَلَى الْأَصْلِ وَهُوَ الْحَظْرُ وَفِيهِ الصّلْحُ عَلَى أَنْ يُرَدّ الْمُسْلِمُ إلَى دَارِ الْكُفْرِ وَهَذَا مَنْسُوخٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِحَدِيثِ سُرّيّةِ خَالِدٍ حِينَ وَجّهَهُ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إلَى خَثْعَمٍ ، وَفِيهِمْ نَاسٌ مُسْلِمُونَ فَاعْتَصَمُوا بِالسّجُودِ فَقَتَلَهُمْ خَالِدٌ فَوَدَاهُمْ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - نِصْفَ الدّيَةِ وَقَالَ أَنَا بَرِيءٌ مِنْ مُسْلِمٍ بَيْنَ مُشْرِكِين وَقَالَ فُقَهَاءُ الْحِجَازِ : هُوَ جَائِزٌ وَلَكِنْ لِلْخَلِيفَةِ الْأَكْبَرِ لَا لِمَنْ دُونَهُ وَفِيهِ نَسْخُ السّنّةِ بِالْقُرْآنِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فَإِنّ هَذَا الْعَهْدَ كَانَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَأْتِيَهُ مُسْلِمٌ إلّا رَدّهُ فَنَسَخَ اللّهُ تَعَالَى ذَلِكَ فِي النّسَاءِ خَاصّةً فَقَالَ عَزّ وَجَلّ { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنّ إِلَى الْكُفّارِ } [ الْمُمْتَحَنَةُ 10 ] هَذَا عَلَى رِوَايَةِ عُقَيْلِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ الزّهْرِيّ ، فَإِنّهُ قَالَ فِي الْحَدِيثِ أَنْ لَا يَأْتِيَهُ أَحَدٌ ، وَأَحَدٌ يَتَضَمّنُ الرّجَالَ وَالنّسَاءَ وَالْأَحْسَنُ أَنْ يُقَالَ فِي مِثْلِ هَذَا تَخْصِيصُ عُمُومٍ لَا نَسْخٌ عَلَى أَنّ بَعْضَ حُذّاقِ الْأُصُولِيّينَ قَدْ قَالَ فِي الْعُمُومِ إذَا عُمِلَ بِمُقْتَضَاهُ فِي عَصْرِ [ ص 50 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَاعْتُقِدَ فِيهِ الْعُمُومُ ثُمّ وَرَدَ التّخْصِيصُ فَهُوَ نَسْخٌ وَهُوَ قَوْلٌ حَسَنٌ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنْ لَا يَأْتِيَهُ رَجُلٌ . فَهَذَا اللّفْظُ لَا يَتَنَاوَلُ النّسَاءَ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ إنّمَا اسْتَجَازَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - رَدّ الْمُسْلِمِينَ إلَيْهِمْ فِي هَذَا الصّلْحِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ لَا تَدْعُونِي قُرَيْشٌ إلَى خُطّةٍ يُعَظّمُونَ فِيهَا الْحَرَمَ إلّا أَجَبْتهمْ إلَيْهَا وَفِي رَدّ الْمُسْلِمِ إلَى مَكّةَ عِمَارَةُ الْبَيْتِ وَزِيَادَةُ خَيْرٍ لَهُ فِي الصّلَاةِ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالطّوَافِ بِالْبَيْتِ ، فَكَانَ هَذَا مِنْ تَعْظِيمِ حُرُمَاتِ اللّهِ تَعَالَى ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ حُكْمًا مَخْصُوصًا بِمَكّةَ وَبِالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَيَكُونُ غَيْرَ جَائِزٍ لِمَنْ بَعْدَهُ كَمَا قَالَ الْعِرَاقِيّونَ .
حُكْمُ الْمُهَاجِرَاتِ
فَصْلٌ وَذَكَرَ قَوْلَ اللّهِ سُبْحَانَهُ { إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنّ } [ الْمُمْتَحَنَةُ 1 ] . هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مَخْصُوصٌ بِنِسَاءِ أَهْلِ الْعَهْدِ وَالصّلْحِ وَكَانَ الِامْتِحَانُ أَنْ يَسْتَحْلِفَ الْمَرْأَةَ الْمُهَاجِرَةَ أَنّهَا مَا خَرَجَتْ نَاشِزًا وَلَا هَاجَرَتْ إلّا لِلّهِ وَلِرَسُولِهِ فَإِذَا حَلَفَتْ لَمْ تُرَدّ وَرُدّ صَدَاقُهَا إلَى بَعْلِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْعَهْدِ لَمْ تُسْتَحْلَفْ وَلَمْ يُرَدّ صَدَاقُهَا . وَفِيهِ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَحَا اسْمَهُ وَهُوَ رَسُولُ اللّهِ وَكَتَبَ هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ لِأَنّهُ قَوْلُ حَقّ كُلّهُ وَظَنّ بَعْضُ النّاسِ أَنّهُ كَتَبَ بِيَدِهِ وَفِي الْبُخَارِيّ أَنّهُ كَتَبَ وَهُوَ لَا يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ فَتَوَهّمَ أَنّ اللّهَ تَعَالَى أَطْلَقَ يَدَهُ بِالْكِتَابَةِ فِي تِلْكَ السّاعَةِ خَاصّةً وَقَالَ هِيَ آيَةٌ فَيُقَالُ لَهُ كَانَتْ تَكُونُ آيَةً لَوْلَا أَنّهَا مُنَاقِضَةٌ لِآيَةِ أُخْرَى ، وَهُوَ كَوْنُهُ أُمّيّا لَا يَكْتُبُ وَبِكَوْنِهِ أُمّيّا فِي أُمّةٍ أُمّيّةٍ قَامَتْ الْحُجّةُ وَأُفْحِمَ الْجَاحِدُ وَانْحَسَمَتْ الشّبْهَةُ فَكَيْفَ يُطْلِقُ اللّهُ يَدَهُ لِتَكُونَ آيَةً ؟ وَإِنّمَا الْآيَةُ أَنْ لَا يَكْتُبَ وَالْمُعْجِزَاتُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَدْفَعَ بَعْضُهَا بَعْضًا ، وَإِنّمَا مَعْنَى : كَتَبَ أَيْ أَمَرَ أَنْ يُكْتَبَ . [ ص 51 ] وَكَانَ الْكَاتِبُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ ، وَقَدْ كَتَبَ لَهُ عِدّةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ مِنْهُمْ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الْأَرْقَمِ ، وَخَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ ، وَأَخُوهُ أَبَانُ ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ، وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُبَيّ ابْنُ سَلُولَ ، وَأُبَيّ بْنُ كَعْبٍ الْقَارِي ، وَقَدْ كَتَبَ لَهُ أَيْضًا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَكَتَبَ لَهُ كَثِيرًا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ بَعْدَ عَامِ الْفَتْحِ وَكَتَبَ لَهُ أَيْضًا الزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ ، وَمُعَيْقِيبُ بْنُ أَبِي فَاطِمَةَ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ ، وَشُرَحْبِيلُ بْنُ حَسَنَةَ وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ ، وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ ، وَجُهَيْمُ بْنُ الصّلْتِ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ رَوَاحَةَ ، وَمُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ ، وَحَنْظَلَةُ الْأُسَيْدِيّ وَهُوَ حَنْظَلَةُ بْنُ الرّبِيعِ وَفِيهِ يَقُولُ الشّاعِرُ بَعْدَ مَوْتِهِ
إنّ سَوَادَ الْعَيْنِ أَوْدَى بِهِ ... حُزْنٌ عَلَى حَنْظَلَةَ الْكَاتِبِ
وَالْعَلَاءُ بْنُ الْحَضْرَمِيّ ، ذَكَرَهُمْ عُمَرُ بْنُ شَبّةَ فِي كِتَابِ الْكُتّابِ لَهُ .
بِاسْمِك اللّهُمّ
وَأَمّا قَوْلُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو لَهُ وَلَكِنْ اُكْتُبْ بِاسْمِك اللّهُمّ فَإِنّهَا كَلِمَةٌ كَانَتْ قُرَيْشٌ تَقُولُهَا وَلِقَوْلِهِمْ لَهَا سَبَبٌ قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ التّعْرِيفِ وَالْإِعْلَامِ وَأَوّلُ مَنْ قَالَهَا أُمَيّةُ بْنُ أَبِي الصّلْتِ ، وَمِنْهُ تَعَلّمُوهَا وَتَعَلّمَهَا هُوَ مِنْ رَجُلٍ مِنْ الْجِنّ فِي خَبَرٍ طَوِيلٍ ذَكَرَهُ الْمَسْعُودِيّ وَهُوَ الْخَبَرُ الّذِي لَخّصْنَاهُ فِي الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ .
عَيْبَةٌ مَكْفُوفَةٌ
فَصْلٌ وَذَكَرَ فِي الْكِتَابِ وَأَنّ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ عَيْبَةً مَكْفُوفَةً أَيْ صُدُورٌ مُنْطَوِيَةٌ عَلَى مَا فِيهَا لَا تُبْدِي عَدَاوَةً وَضَرَبَ الْعَيْبَةَ مَثَلًا ، وَقَالَ الشّاعِرُ
وَكَادَتْ عِيَابُ الْوُدّ مِنّا وَمِنْهُمْ ... وَإِنْ قِيلَ أَبْنَاءُ الْعُمُومَةِ تَصْفَرُ
وَقَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْأَنْصَارُ كَرِشِي وَعَيْبَتِي فَضَرَبَ الْعَيْبَةَ مَثَلًا لِمَوْضِعِ السّرّ ، وَمَا يُعْتَدّ بِهِ مِنْ وُدّهِمْ . وَالْكَرِشُ وِعَاءٌ يُصْنَعُ مِنْ كَرِشِ الْبَعِيرِ يُجْعَلُ فِيهِ مَا يُطْبَخُ مِنْ اللّحْمِ يُقَالُ مَا [ ص 52 ] فَاكَرِشٍ أَيْ إنّ الْكَرِشَ قَدْ امْتَلَأَ فَلَمْ يَسَعْهَا فَمُهُ . وَيُضْرَبُ أَيْضًا هَذَا مَثَلًا ، كَمَا قَالَ الْحَجّاجُ مَا وَجَدْت إلَى دَمِ فُلَانٍ فَاكَرِشٍ . وَقَوْلُهُ وَلَا إغْلَالَ هِيَ الْخِيَانَةُ يُقَالُ فُلَانٌ مُغِلّ الْأُصْبُعِ أَيْ خَائِنُ الْيَدِ . قَالَ الشّاعِرُ
حَدّثْت نَفْسَك بِالْوَفَاءِ وَلَمْ تَكُنْ ... بِالْغَدْرِ خَائِنَةً مِثْلَ الْأُصْبُعِ
وَالْإِسْلَالُ السّرِقَةُ وَالْخُلْسَةُ وَنَحْوُهَا ، وَهِيَ السّلّةُ . قَالُوا فِي الْمَثَلِ الْخَلّةُ تَدْعُو إلَى السّنّةِ .

جَنْدَلُ بْنُ سُهَيْلٍ
فَبَيْنَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ هُوَ وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو ، إذْ جَاءَ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو يَرْسُفُ فِي الْحَدِيدِ قَدْ انْفَلَتَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَرَجُوا وَهُمْ لَا يَشُكّونَ فِي الْفَتْحِ لِرُؤْيَا رَآهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَمّا رَأَوْا مَا رَأَوْا مِنْ الصّلْحِ وَالرّجُوعِ وَمَا تَحَمّلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي نَفْسِهِ دَخَلَ عَلَى النّاسِ مِنْ ذَلِكَ أَمْرٌ عَظِيمٌ حَتّى كَادُوا يَهْلِكُونَ فَلَمّا رَأَى سُهَيْلٌ أَبَا جَنْدَلٍ قَامَ إلَيْهِ فَضَرَبَ وَجْهَهُ وَأَخَذَ بِتَلْبِيبِهِ ثُمّ قَالَ يَا مُحَمّدُ قَدْ لَجّتْ الْقَضِيّةُ بَيْنِي وَبَيْنَك قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَك هَذَا ؛ قَالَ [ ص 53 ] فَجَعَلَ يَنْتُرُهُ بِتَلْبِيبِهِ وَيَجُرّهُ لِيَرُدّهُ إلَى قُرَيْشٍ ، وَجَعَلَ أَبُو جَنْدَلٍ يَصْرُخُ بِأَعْلَى صَوْتِهِ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أَأُرَدّ إلَى الْمُشْرِكِينَ يَفْتِنُونِي فِي دِينِي ؟ فَزَادَ ذَلِكَ النّاسَ إلَى مَا بِهِمْ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَا أَبَا جَنْدَلٍ اصْبِرْ وَاحْتَسِبْ فَإِنّ اللّهَ جَاعِلٌ لَك وَلِمَنْ مَعَك مِنْ الْمُسْتَضْعَفِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا ، إنّا قَدْ عَقَدْنَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ صُلْحًا ، وَأَعْطَيْنَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَأَعْطَوْنَا عَهْدَ اللّهِ وَإِنّا لَا نَغْدِرُ بِهِمْ قَالَ فَوَثَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ مَعَ أَبِي جَنْدَلٍ يَمْشِي إلَى جَنْبِهِ وَيَقُولُ اصْبِرْ يَا أَبَا جَنْدَلٍ فَإِنّمَا هُمْ الْمُشْرِكُونَ وَإِنّمَا دَمُ أَحَدِهِمْ دَمُ كَلْبٍ . قَالَ وَبُدْنِي قَائِمَ السّيْفِ مِنْهُ . قَالَ يَقُولُ عُمَرُ رَجَوْت أَنْ يَأْخُذَ السّيْفَ فَيَضْرِبَ بِهِ أَبَاهُ قَالَ فَضَنّ الرّجُلُ بِأَبِيهِ وَنَفَذَتْ الْقَضِيّةُ .
Sأَبُو جَنْدَلٍ وَصَاحِبُهُ فِي الْخَمْرِ
فَصْلٌ وَذَكَرَ خُرُوجَ أَبِي جَنْدَلٍ يَرْسُفُ فِي الْحَدِيدِ . أَبُو جَنْدَلٍ هُوَ الْعَاصِ بْنُ سُهَيْلٍ وَأَمّا أَخُوهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ سُهَيْلٍ ، فَكَانَ قَدْ فَرّ يَوْمَ بَدْرٍ إلَى الْمُسْلِمِينَ فَلَحِقَ بِهِمْ وَشَهِدَ بَدْرًا ، وَالْمَشَاهِدَ كُلّهَا ، وَقُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ شَهِيدًا ، وَأَمّا أَبُو جَنْدَلٍ فَاسْتُشْهِدَ مَعَ أَبِيهِ بِالشّامِ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ وَهُوَ الّذِي شَرِبَ الْخَمْرَ مُتَأَوّلًا لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { لَيْسَ عَلَى الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ ثُمّ اتّقَوْا وَآمَنُوا ثُمّ اتّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللّهُ يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ } [ الْمَائِدَةُ 93 ] فَجَلَدَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ بِأَمْرِ عُمَرَ وَجَلَدَ صَاحِبَهُ وَهُوَ ضِرَارٌ ، ثُمّ إنّ أَبَا جَنْدَلٍ أَشْفَقَ مِنْ الذّنْبِ حَتّى قَالَ لَقَدْ هَلَكْت ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ رَضِيَ [ ص 53 ] { حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غَافِرِ الذّنْبِ وَقَابِلِ التّوْبِ } [ غَافِرٌ 1 وَمَا بَعْدَهَا ] الْآيَةُ . وَكَانَ شَرِبَهَا مَعَهُ ضِرَارُ بْنُ الْخَطّابِ ، وَأَبُو الْأَزْوَرِ فَلَمّا أَمَرَ عُمَرُ أَنْ يُجْلَدُوا ، قَالُوا : دَعْنَا نَلْقَى الْعَدُوّ فَإِنْ قُتِلْنَا فَذَاكَ وَإِلّا حَدَدْتُمُونَا ، فَقُتِلَ أَبُو الْأَزْوَرِ وَحُدّ الْآخَرَانِ .

الّذِينَ شَهِدُوا عَلَى الصّلْحِ
فَلَمّا فَرَغَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الْكِتَابِ أَشْهَدَ عَلَى الصّلْحِ رِجَالًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَرِجَالًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ ، وَعُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ ، وَعَبْدَ الرّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ ، وَعَبْدَ اللّهِ بْنَ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو ، وَسَعْدَ بْنَ أَبِي وَقّاصٍ ، وَمَحْمُودَ بْنَ مَسْلَمَةَ ، وَمِكْرَزَ بْنَ حَفْصٍ ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكٌ وَعَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَكَتَبَ وَكَانَ هُوَ كَاتِبَ الصّحِيفَةِ .

فَصْلٌ
وَذَكَرَ قَوْلَ عُمَرَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - فَعَلَامَ نُعْطَى الدّنِيّةَ فِي دِينِنَا ، هِيَ فَعِيلَةٌ مِنْ الدّنَاءَةِ وَأَصْلُهَا الْهَمْزُ وَفِي غَيْرِ رِوَايَةِ ابْنِ إسْحَاقَ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لِعُمَرِ إنّي عَبْدُ اللّهِ وَلَسْت أَعْصِيهِ وَهُوَ نَاصِرِي وَأَنّهُ أَتَى أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَجَاوَبَهُ أَبُو بَكْرٍ بِمِثْلِ مَا جَاوَبَهُ بِهِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَرْفًا بِحَرْفِ ثُمّ قَالَ لَهُ يَا عُمَرُ الْزَمْ غَرْزَهُ فَإِنّي أَشْهَدُ أَنّهُ رَسُولُ اللّهِ قَالَ عُمَرُ وَمَا شَكَكْت مُنْذُ أَسْلَمْت إلّا تِلْكَ السّاعَةَ وَفِي هَذَا أَنّ الْمُؤْمِنَ قَدْ يَشُكّ ، ثُمّ يُجَدّدُ النّظَرَ فِي دَلَائِلِ الْحَقّ فَيَذْهَبُ شَكّهُ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّهُ قَالَ هُوَ شَيْءٌ لَا يَسْلَمُ مِنْهُ أَحَدٌ ، ثُمّ ذَكَرَ ابْنُ عَبّاسٍ قَوْلَ إبْرَاهِيمَ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - { وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنّ قَلْبِي } [ الْبَقَرَةُ 260 ] وَلَوْلَا الْخُرُوجُ عَمّا صَمَدْنَا إلَيْهِ فِي هَذَا الْكِتَابِ لَذَكَرْنَا مَا لِلْعُلَمَاءِ فِي قَوْلِ [ ص 54 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ { وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنّ قَلْبِي } وَذَكَرْنَا النّكْتَةَ الْعُظْمَى فِي ذَلِكَ وَلَعَلّنَا أَنْ نَلْقَى لَهَا مَوْضِعًا ، فَنَذْكُرَهَا . وَالشّكّ الّذِي ذَكَرَهُ عُمَرُ وَابْنُ عَبّاسٍ مَا لَا يُصِرّ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ وَإِنّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الْوَسْوَسَةِ الّتِي قَالَ فِيهَا عَلَيْهِ السّلَامُ مُخْبِرًا عَنْ إبْلِيسَ الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي رَدّ كَيْدَهُ إلَى الْوَسْوَسَةِ

الْإِحْلَالُ
[ ص 54 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُضْطَرِبًا فِي الْحِلّ وَكَانَ يُصَلّي فِي الْحَرَمِ ، فَلَمّا فَرَغَ مِنْ الصّلْحِ قَدِمَ إلَى هَدْيِهِ فَنَحَرَهُ ثُمّ جَلَسَ فَحَلَقَ رَأْسَهُ وَكَانَ الّذِي حَلَقَهُ فِيمَا بَلَغَنِي ، فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ خِرَاشَ بْنَ أُمَيّةَ بْنِ الْفَضْلِ الْخُزَاعِيّ فَلَمّا رَأَى النّاسُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ نَحَرَ وَحَلَقَ تَوَاثَبُوا يَنْحَرُونَ وَيَحْلِقُونَ .
Sمَوْقِفُ أُمّ سَلَمَةَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ
وَفِي غَيْرِ رِوَايَةِ ابْنِ إسْحَاقَ مِنْ الصّحِيحِ أَنّهُ عَلَيْهِ السّلَامُ دَخَلَ عَلَى أُمّ سَلَمَةَ وَشَكَا إلَيْهَا مَا لَقِيَ مِنْ النّاسِ حِينَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَحْلِقُوا وَيَنْحَرُوا ، فَلَمْ يَفْعَلُوا لِمَا بِهِمْ مِنْ الْغَيْظِ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ اُخْرُجْ إلَيْهِمْ فَلَا تُكَلّمْهُمْ حَتّى تَحْلِقَ وَتَنْحَرَ فَإِنّهُمْ إذَا رَأَوْك قَدْ فَعَلْت ذَلِكَ لَمْ يُخَالِفُوك . فَفَعَلَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَفَعَلَ النّاسُ وَكَانَ الّذِي حَلَقَ رَأْسَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ خِرَاشَ بْنَ أُمَيّةَ [ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْفَضْلِ بْنِ مُنْقِذِ بْنِ عَفِيفِ بْنِ كُلَيْبِ بْنِ حُبْشِيّةَ ابْنُ سَلُولَ ] الْخُزَاعِيّ [ ثُمّ الْكَلْبِيّ ] وَهُوَ الّذِي كَانَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمَئِذٍ إلى مَكّةَ فَعَقَرُوا جَمَلَهُ وَأَرَادُوا قَتْلَهُ فَحِينَئِذٍ بَعَثَ إلَيْهِمْ عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فَفِي تَرْكِهِمْ لِلْبِدَارِ دَلِيلٌ عَلَى أَنّ الْأَمْرَ لَيْسَ عَلَى الْفَوْرِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ الْأُصُولِيّينَ وَفِيهِ أَنّهُمْ حَمَلُوا الْأَمْرَ عَلَى غَيْرِ الْوُجُوبِ لِقَرِينَةِ وَهِيَ أَنّهُمْ رَأَوْهُ لَمْ يَحْلِقْ وَلَمْ يَنْحَرْ وَلَمْ يُقَصّرْ فَلَمّا رَأَوْهُ قَدْ فَعَلَ اعْتَقَدُوا وُجُوبَ الْأَمْرِ وَامْتَثَلُوهُ . وَفِيهِ أَيْضًا إبَاحَةُ مُشَاوَرَةِ النّسَاءِ وَذَلِكَ أَنّ النّهْيَ عَنْ مُشَاوَرَتِهِنّ إنّمَا هُوَ عِنْدَهُمْ فِي أَمْرِ الْوِلَايَةِ خَاصّةً كَذَلِكَ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النّحّاسُ فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ .

الْمُحَلّقُونَ وَالْمُقَصّرُونَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ ، قَالَ [ ص 55 ] حَلَقَ رِجَالٌ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ ، وَقَصّرَ آخَرُونَ . فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَرْحَمُ اللّهُ الْمُحَلّقِينَ " ، قَالُوا : وَالْمُقَصّرِينَ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ يَرْحَمُ اللّهُ الْمُحَلّقِينَ " ، قَالُوا : وَالْمُقَصّرِينَ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ " يَرْحَمُ اللّهُ الْمُحَلّقِينَ " ، قَالُوا : وَالْمُقَصّرِينَ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ " وَالْمُقَصّرِينَ " ، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ فَلِمَ ظَاهَرْت التّرْحِيمَ لِلْمُحَلّقِينَ دُونَ الْمُقَصّرِينَ ؟ قَالَ " لَمْ يَشُكّوا . وَقَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ : حَدّثَنِي مُجَاهِدٌ ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ : أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَهْدَى عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي هَدْيَاه جَمَلًا لِأَبِي جَهْلٍ فِي رَأْسِهِ بُرّةٌ مِنْ فِضّةٍ يَغِيطُ بِذَلِكَ الْمُشْرِكِينَ
Sالْمُقَصّرُونَ
فَصْلٌ وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ اسْتِغْفَارَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لِلْمُحَلّقِينَ ثَلَاثًا وَلِلْمُقَصّرِينَ مَرّةً وَاحِدَةً . [ ص 55 ] عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ ، وَالْآخَرُ أَبُو قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيّ ، كَذَلِكَ جَاءَ فِي مُسْنَدِ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ . [ ص 56 ]

نُزُولُ سُورَةِ الْفَتْحِ
قَالَ الزّهْرِيّ فِي حَدِيثِهِ ثُمّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ وَجْهِهِ ذَلِكَ قَافِلًا ، حَتّى إذَا كَانَ بَيْنَ مَكّةَ وَالْمَدِينَةِ ، نَزَلَتْ سُورَةُ الْفَتْحِ { إِنّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ مَا تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخّرَ وَيُتِمّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا } .
ذِكْرُ الْبَيْعَةِ
ثُمّ كَانَتْ الْقِصّةُ فِيهِ وَفِي أَصْحَابِهِ حَتّى انْتَهَى إلَى ذِكْرِ الْبَيْعَةِ فَقَالَ جَلّ ثَنَاؤُهُ { إِنّ الّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنّمَا يُبَايِعُونَ اللّهَ يَدُ اللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } .
ذِكْرُ مَنْ تَخَلّفَ
ثُمّ ذَكَرَ مَنْ تَخَلّفَ عَنْهُ مِنْ الْأَعْرَابِ ، ثُمّ قَالَ حِينَ اسْتَفَزّهُمْ لِلْخُرُوجِ مَعَهُ فَأَبْطَئُوا عَلَيْهِ سَيَقُولُ لَك الْمُخَلّفُونَ مِنْ الْأَعْرَابِ { شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا } . ثُمّ الْقِصّةَ عَنْ خَبَرِهِمْ حَتّى انْتَهَى إلَى قَوْلِهِ { سَيَقُولُ الْمُخَلّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدّلُوا كَلَامَ اللّهِ قُلْ لَنْ تَتّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللّهُ مِنْ قَبْلُ } . . ثُمّ الْقِصّةَ عَنْ خَبَرِهِمْ وَمَا عَرَضَ عَلَيْهِمْ مِنْ جِهَادِ الْقَوْمِ أُولِي الْبَأْسِ الشّدِيدِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ ، قَالَ فَارِسٌ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي مَنْ لَا أَتّهِمُ عَنْ الزّهْرِيّ أَنّهُ قَالَ أُولُو الْبَأْسِ الشّدِيدِ حَنِيفَةُ مَعَ الْكَذّابِ . [ ص 56 ] قَالَ تَعَالَى : { لَقَدْ رَضِيَ اللّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا وعدكم الله مغانم كثيرة تَأْخُذُونَهَا فَعَجّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفّ أَيْدِيَ النّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللّهُ بِهَا وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرًا } .
ذَكَرَ كَفّ الرّسُولِ عَنْ الْقِتَالِ
ثُمّ ذَكَرَ مَحْبِسَهُ وَكَفّهُ إيّاهُ عَنْ الْقِتَالِ بَعْدَ الظّفَرِ مِنْهُ بِهِمْ يَعْنِي النّفَرَ الّذِينَ أَصَابَ مِنْهُمْ وَكَفّهُمْ عَنْهُ ثُمّ قَالَ تَعَالَى : { وَهُوَ الّذِي كَفّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا } ثُمّ قَالَ تَعَالَى : { هُمُ الّذِينَ كَفَرُوا وَصَدّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلّهُ } .
تَفْسِيرُ ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْغَرِيبِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْمَعْكُوفُ الْمَحْبُوسُ قَالَ أَعْشَى بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ
وَكَأَنّ السّمُوطَ عَكّفَهُ السّلْ ... كُ بِعِطْفَيْ جَيْدَاءَ أُمّ غَزَالِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : { وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ } وَالْمَعَرّةُ الْغُرْمُ أَيْ أَنْ تُصِيبُوا مِنْهُمْ ( مَعَرّةً ) بِغَيْرِ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوا دِيَتَهُ فَأَمّا إثْمٌ فَلَمْ يَخْشَهُ عَلَيْهِمْ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : بَلَغَنِي عَنْ مُجَاهِدٍ أَنّهُ قَالَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، وَسَلَمَةَ بْنِ هِشَامٍ ، وَعَيّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ ، وَأَبِي جَنْدَلِ بْنِ سُهَيْلٍ . وَأَشْبَاهِهِمْ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { إِذْ جَعَلَ الّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيّةَ حَمِيّةَ الْجَاهِلِيّةِ } يَعْنِي سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو حِينَ حَمِيَ أَنْ يَكْتُبَ بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ وَأَنّ مُحَمّدًا رَسُولُ اللّهِ ثُمّ قَالَ تَعَالَى : { فَأَنْزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التّقْوَى وَكَانُوا أَحَقّ بِهَا وَأَهْلَهَا } أَيْ التّوْحِيدَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَأَنّ مُحَمّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ . [ ص 57 ] قَالَ تَعَالَى : { لَقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرّؤْيَا بِالْحَقّ لَتَدْخُلُنّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللّهُ آمِنِينَ مُحَلّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا } أَيْ لِرُؤْيَا رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الّتِي رَأَى ، أَنّهُ سَيَدْخُلُ مَكّةَ آمِنًا لَا يَخَافُ يَقُولُ { مُحَلّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصّرِينَ } مَعَهُ { لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ } مِنْ ذَلِكَ { مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا } صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ . يَقُولُ الزّهْرِيّ : فَمَا فُتِحَ فِي الْإِسْلَامِ فَتْحٌ قَبْلَهُ كَانَ أَعْظَمَ مِنْهُ إنّمَا كَانَ الْقِتَالُ حَيْثُ الْتَقَى النّاسُ فَلَمّا كَانَتْ الْهُدْنَةُ وَوَضَعَتْ الْحَرْبُ وَأَمِنَ النّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، وَالْتَقَوْا ، فَتَفَاوَضُوا فِي الْحَدِيثِ وَالْمُنَازَعَةِ فَلَمْ يُكَلّمْ أَحَدٌ بِالْإِسْلَامِ يَعْقِلُ شَيْئًا إلّا دَخَلَ فِيهِ وَلَقَدْ دَخَلَ فِي تَيْنِك السّنَتَيْنِ مِثْلُ مَنْ كَانَ فِي الْإِسْلَامِ قَبْلَ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرُ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَالدّلِيلُ عَلَى قَوْلِ الزّهْرِيّ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَرَجَ إلَى الْحُدَيْبِيَةِ فِي أَلْفٍ وَأَرْبَعِ مِائَةٍ ، فِي قَوْلِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ ، ثُمّ خَرَجَ عَامَ فَتْحِ مَكّةَ بَعْدَ ذَلِكَ بِسَنَتَيْنِ فِي عَشْرَةِ آلَافٍ . [ ص 57 ]

مَا جَرَى عَلَيْهِ أَمْرُ قَوْمٍ مِنْ الْمُسْتَضْعَفِينَ بَعْدَ الصّلْحِ
مَجِيءُ أَبِي بَصِيرٍ إلَى الْمَدِينَةِ وَطَلَبُ قُرَيْشٍ لَهُ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ أَتَاهُ أَبُو بَصِيرٍ عُتْبَةُ بْنُ أَسِيدِ بْنِ جَارِيَةَ ، وَكَانَ مِمّنْ حُبِسَ بِمَكّةَ فَلَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَتَبَ فِيهِ أَزْهَرُ بْنُ عَبْدِ عَوْفِ بْنِ عَبْدِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ زُهْرَةَ وَالْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقِ بْنِ عَمْرِو بْنِ وَهْبٍ الثّقَفِيّ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَبَعَثَا رَجُلًا مِنْ بَنِي لُؤَيّ وَمَعَهُ مَوْلًى لَهُمْ فَقَدِمَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِكِتَابِ الْأَزْهَرِ وَالْأَخْنَسِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَا أَبَا بَصِيرٍ إنّا قَدْ أَعْطَيْنَا هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ مَا قَدْ عَلِمْت ، وَلَا يَصْلُحُ لَنَا فِي دِينِنَا الْغَدْرُ وَإِنّ اللّهَ جَاعِلٌ لَك وَلِمَنْ مَعَك مِنْ الْمُسْتَضْعَفِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا ، فَانْطَلِقْ إلَى قَوْمِك ، قَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ أَتَرُدّنِي إلَى الْمُشْرِكِينَ يَفْتِنُونَنِي فِي دِينِي ؟ قَالَ يَا أَبَا بَصِيرٍ انْطَلِقْ فَإِنّ اللّهَ تَعَالَى سَيَجْعَلُ لَك وَلِمَنْ مَعَك مِنْ الْمُسْتَضْعَفِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا
قَتْلُ أَبِي بَصِيرٍ لِلْعَامِرِيّ وَمَقَالَةُ الرّسُولِ فِي ذَلِكَ
فَانْطَلَقَ مَعَهُمَا ، حَتّى إذَا كَانَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ جَلَسَ إلَى جِدَارٍ وَجَلَسَ مَعَهُ صَاحِبَاهُ فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ : أَصَارِمٌ سَيْفُك هَذَا يَا أَخَا بَنِي عَامِرٍ ؟ فَقَالَ نَعَمْ قَالَ أَنْظُرُ إلَيْهِ ؟ قَالَ اُنْظُرْ إنْ شِئْت . قَالَ فَاسْتَلّهُ أَبُو بَصِيرٍ ، ثُمّ عَلَاهُ بِهِ حَتّى قَتَلَهُ وَخَرَجَ الْمَوْلَى سَرِيعًا حَتّى أَتَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ فَلَمّا رَآهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ طَالِعًا ، قَالَ إنّ هَذَا الرّجُلَ قَدْ رَأَى فَزَعًا ، فَلَمّا انْتَهَى إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ وَيْحَك مَا لَك ؟ " قَالَ قَتَلَ صَاحِبُكُمْ صَاحِبِي . فَوَاَللّهِ مَا بَرِحَ حَتّى طَلَعَ أَبُو بَصِيرٍ مُتَوَشّحًا بِالسّيْفِ حَتّى وَقَفَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ وَفّتْ ذِمّتُك ، وَأَدّى اللّهُ عَنْك ، أَسْلَمْتنِي بِيَدِ الْقَوْمِ وَقَدْ امْتَنَعْت بِدِينِي أَنْ أُفْتَنَ بِهِ أَوْ يُعْبَثَ بِي . قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " وَيْلُ أُمّهِ مَحَشّ حَرْبٍ لَوْ كَانَ مَعَهُ رِجَالٌ .
أَبُو بَصِيرٍ وَزُمَلَاؤُهُ فِي الْعِيصِ
ثُمّ خَرَجَ أَبُو بَصِيرٍ حَتّى نَزَلَ الْعِيصَ ، مِنْ نَاحِيَةِ ذِي الْمَرْوَةِ ، عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ بِطَرِيقِ قُرَيْشٍ الّتِي كَانُوا يَأْخُذُونَ عَلَيْهَا إلَى الشّامِ ، وَبَلَغَ الْمُسْلِمِينَ الّذِينَ كَانُوا احْتَبَسُوا بِمَكّةَ قَوْلُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِأَبِي بَصِيرٍ وَيْلُ أُمّهِ مَحَشّ حَرْبٍ لَوْ كَانَ مَعَهُ رِجَال فَخَرَجُوا إلَى أَبِي بَصِيرٍ بِالْعِيصِ فَاجْتَمَعَ إلَيْهِ مِنْهُمْ قَرِيبٌ مِنْ سَبْعِينَ رَجُلًا ، وَكَانُوا قَدْ ضَيّقُوا عَلَى قُرَيْشٍ ، لَا يَظْفَرُونَ بِأَحَدِ مِنْهُمْ إلّا قَتَلُوهُ وَلَا تَمُرّ بِهِمْ عِيرٌ إلّا اقْتَطَعُوهَا ، حَتّى كَتَبَتْ قُرَيْشٌ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَسْأَلُ بِأَرْحَامِهَا إلّا آوَاهُمْ فَلَا حَاجَةَ لَهُمْ بِهِمْ . فَآوَاهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَدِمُوا عَلَيْهِ الْمَدِينَةَ . [ ص 59 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : فَلَمّا بَلَغَ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو قَتْلُ أَبِي بَصِيرٍ صَاحِبهمْ الْعَامِرِيّ أَسْنَدَ [ ص 60 ] الْكَعْبَةِ ، ثُمّ قَالَ وَاَللّهِ لَا أُؤَخّرُ ظَهْرِي عَنْ الْكَعْبَةِ حَتّى يُودَى هَذَا الرّجُلُ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ وَاَللّهِ إنّ هَذَا لَهُوَ السفه وَاَللّهِ لَا يُودَى ثَلَاثًا ، فَقَالَ فِي ذَلِكَ مَوْهِبُ بْنُ رَبَاحٍ أَبُو أُنَيْسٍ حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ [ ص 61 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَبُو أُنَيْسٍ أَشْعَرِيّ . شِعْرُ مَوْهِبٍ فِي وَدْيِ أَبِي بَصِيرٍ
أَتَانِي عَنْ سُهَيْلٍ ذَرْءُ قَوْلٍ ... فَأَيْقَظَنِي وَمَا بِي مِنْ رُقَادِ
فَإِنْ تَكُنْ الْعِتَابَ تُرِيدُ مِنّي ... فَعَاتِبْنِي فَمَا بِك مِنْ بِعَادِي
أَتُوعِدُنِي وَعَبْدُ مَنَافَ حَوْلِي ... بِمَخْزُومِ أَلَهَفًا مَنْ تَعَادِي
فَإِنْ تَغْمِزْ قَنَاتِي لَا تَجِدْنِي ... ضَعِيفَ الْعُودِ فِي الْكُرَبِ الشّدَادِ
أُسَامِي الْأَكْرَمِينَ أَبًا بِقَوْمِي ... إذَا وَطِئَ الضّعِيفُ بِهِمْ أُرَادِي
هُمْ مَنَعُوا الظّوَاهِرَ غَيْرَ شَكّ ... إلَى حَيْثُ الْبَوَاطِنِ فَالْعَوَادِي
بِكُلّ طِمِرّةٍ وَبِكُلّ نَهْدٍ ... سِوَاهُمْ قَدْ طُوِينَ مِنْ الطّرَادِ
لَهُمْ بِالْخَيْفِ قَدْ عَلِمَتْ مَعَدّ ... رِوَاقُ الْمَجْدِ رُفّعُ بِالْعِمَادِ
ابْنُ الزّبَعْرَى يَرُدّ عَلَى مَوْهِبٍ فَأَجَابَهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الزّبَعْرَى ، فَقَالَ [ ص 62 ]
وَأَمْسَى مَوْهِبٌ كَحِمَارِ سُوءٍ ... أَجَازَ بِبَلْدَةِ فِيهَا يُنَادِي
فَإِنّ الْعَبْدَ مِثْلُك لَا يُنَاوِي ... سُهَيْلًا ضَلّ سَعْيُك مَنْ تُعَادِي
فَأَقْصِرْ يَا ابْنَ قَيْنِ السّوءِ عَنْهُ ... وَعُدْ عَنْ الْمَقَالَةِ فِي الْبِلَادِ
وَلَا تَذْكُرْ عِتَابَ أَبِي يَزِيدَ ... فَهَيْهَاتَ الْبُحُورُ مِنْ الثّمَادِ
Sأَبُو بَصِيرٍ
وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي بَصِيرٍ وَاخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ فَقِيلَ عُبَيْدُ بْنُ أَسِيدِ بْنِ جَارِيَةَ وَقِيلَ عتبة . وَذَكَرَ قَوْلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَهُ حِينَ قَتَلَ أَحَدَ الرّجُلَيْنِ وَيْلُ أُمّهِ مَحَشّ حَرْبٍ وَفِي الصّحِيحِ وَيْلُ أُمّهِ مُسَعّرُ حَرْب يُقَالُ حَشَشْت النّارَ وَأَرّثْتُهَا ، وَأَذْكَيْتهَا ، وَأَثْقَبْتُهَا وَسَعّرْتهَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَسُمّيَ الْأَسْعَرُ الْجُعْفِيّ أَسْعَرَ بِقَوْلِهِ
فَلَا يَدْعُنِي قَوْمِي لِسَعْدِ بْنِ مَالِكٍ ... لَئِنْ لَمْ أُسْعِرْ عَلَيْهِمْ وَأُثْقِبِ
[ ص 59 ] وَكَانَ اسْمُهُ مَرْثَدَ بْنَ حُمْرَانَ وَمَالِكٌ فِي هَذَا الْبَيْتِ هُوَ مَذْحِجُ ، وَأَمّا لُحُوقُ أَبِي بَصِيرٍ بِسَيْفِ الْبَحْرِ فَفِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ عَنْ الزّهْرِيّ ، أَنّهُ كَانَ يُصَلّي بِأَصْحَابِهِ هُنَالِكَ حَتّى لَحِقَ بِهِمْ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلٍ فَقَدّمُوهُ لِأَنّهُ قُرَشِيّ ، فَلَمْ يَزَلْ أَصْحَابُهُ يَكْثُرُونَ حَتّى بَلَغُوا ثَلَاثَمِائَةٍ وَكَانَ أَبُو بَصِيرٍ كَثِيرًا مَا يَقُولُ هُنَالِكَ اللّهُ الْعَلِيّ الْأَكْبَرُ مَنْ يَنْصُرُ اللّهَ فَسَوْفَ يُنْصَرْ فَلَمّا جَاءَهُمْ الْفَرَجُ مِنْ اللّهِ تَعَالَى ، وَكَلّمَتْ قُرَيْشٌ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يُؤْرِبَهُمْ إلَيْهِ لَمّا ضَيّقُوا عَلَيْهِمْ وَرَدَ كِتَابُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَبُو بَصِيرٍ فِي الْمَوْتِ يَجُودُ بِنَفْسِهِ فَأُعْطِي الْكِتَابَ فَجَعَلَ يَقْرَؤُهُ وَيُسَرّ بِهِ حَتّى قُبِضَ وَالْكِتَابُ عَلَى صَدْرِهِ فَبُنِيَ عَلَيْهِ هُنَاكَ مَسْجِدٌ يَرْحَمُهُ اللّهُ . [ ص 60 ]
عُمْرَةٌ
وَفِي الْحَدِيثِ مِنْ غَيْرِ السّيرَةِ أَنّ الْمُسْلِمِينَ حِينَ حَلَقُوا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَهُمْ بِالْحِلّ قَدْ مُنِعُوا أَنْ يَدْخُلُوا الْحَرَمَ جَاءَتْ الرّيحُ فَاحْتَمَلَتْ شُعُورَهُمْ حَتّى أَلْقَتْهَا فِي الْحَرَمِ ، فَاسْتَبْشَرُوا بِقَبُولِ اللّهِ عُمْرَتَهُمْ . ذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ . وَالْعُمْرَةُ مُشْتَقّةٌ مِنْ عِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَبُنِيَتْ عَلَى فُعْلَةٍ لِأَنّهَا فِي مَعْنَى قُرْبَةٍ وَوُصْلَةٍ إلَى اللّهِ تَعَالَى ، وَلَيْسَ قَوْلُ مَنْ قَالَ إنّهَا الزّيَارَةُ فِي اللّغَةِ بِبَيّنِ وَلَا فِي قَوْلِ الْأَعْشَى حُجّةٌ لَهُمْ لِأَنّهُ مُحْتَمَلُ التّأْوِيلِ وَهُوَ قَوْلُهُ
وَجَاشَتْ النّفْسُ لَمّا جَاءَ فَلّهُمْ ... وَرَاكِبٌ جَاءَ مِنْ تَثْلِيثَ مُعْتَمِرُ
قَتْلُ أَبِي بَصِيرٍ لِلْكَافِرِ
فَصْلٌ وَمِمّا يُسْأَلُ عَنْهُ فِي حَدِيثِ أَبِي بَصِيرٍ قَتْلُهُ الرّجُلَ الْكَافِرَ وَهُوَ فِي الْعَهْدِ أَكَانَ ذَلِكَ حَرَامًا أَمْ مُبَاحًا لَهُ وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ رَفْعُ الْحَرَجِ عَنْهُ لِأَنّ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لَمْ يُثَرّبْ ، بَلْ مَدَحَهُ وَقَالَ وَيْلُ أُمّهِ مِحَشّ حَرْبٍ . فَإِنْ قِيلَ وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ جَائِزًا لَهُ وَقَدْ حَقَنَ الصّلْحُ الدّمَاءَ ؟ قُلْنَا : إنّمَا ذَلِكَ فِي حَقّ أَبِي بَصِيرٍ عَلَى الْخُصُوصِ لِأَنّهُ دَافَعَ عَنْ نَفْسِهِ وَدِينِهِ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَإِنّمَا لَمْ يُطَالِبْهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِدِيَةِ . وَلِأَنّ أَوْلِيَاءَ الْمَقْتُولِ لَمْ يُطَالِبُوهُ إمّا لِأَنّهُمْ كَانُوا قَدْ أَسْلَمُوا ، وَإِمّا لِأَنّ اللّهَ شَغَلَهُمْ عَنْ ذَلِكَ حَتّى انْتَكَثَ الْعَهْدُ وَجَاءَ الْفَتْحُ . فَإِنْ قِيلَ فَإِنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يَدِي مَنْ قُتِلَ خَطَأً مِنْ أَهْلِ الصّلْحِ كَمَا وَدَى الْعَامِرِيّيْنِ وَغَيْرَهُمَا قُلْنَا : عَنْ هَذَا جَوَابَانِ أَحَدُهُمَا : أَنّ أَبَا بَصِيرٍ كَانَ قَدْ رَدّهُ إلَى الْمُشْرِكِينَ فَصَارَ فِي حُكْمِهِمْ وَلَمْ يَكُنْ فِي فِئَةِ الْمُسْلِمِينَ وَحِزْبِهِمْ فَيُحْكَمُ عَلَيْهِ بِمَا يُحْكَمُ عَلَيْهِمْ . وَالْجَوَابُ الثّانِي : أَنّهُ إنْ كَانَ قَتَلَ عَمْدًا ، وَلَمْ يَكُنْ قَتَلَ خَطَأً كَمَا كَانَ قَتَلَ الْعَامِرِيّيْنِ ، وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ : لَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ عَمْدًا وَلَا عَبْدًا [ وَلَا صُلْحًا وَلَا اعْتِرَافًا ] .

أَمْرُ الْمُهَاجِرَاتِ بَعْدَ الْهُدْنَةِ
الرّسُولُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَأْبَى رَدّ أُمّ كُلْثُومٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَهَاجَرَتْ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أُمّ كُلْثُومٍ بِنْت عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ فِي تِلْكَ الْمُدّةِ فَخَرَجَ أَخَوَاهَا عُمَارَةُ وَالْوَلِيدُ ابْنَا عُقْبَةَ حَتّى قَدِمَا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَسْأَلَانِهِ أَنْ يَرُدّهَا عَلَيْهِمَا بِالْعَهْدِ الّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ فِي الْحُدَيْبِيَةِ ، فَلَمْ يَفْعَلْ أَبَى اللّهُ ذَلِكَ .
حَوْلَ آيَةِ الْمُهَاجِرَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي الزّهْرِيّ ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ ، قَالَ دَخَلْت عَلَيْهِ وَهُوَ يَكْتُبُ كِتَابًا إلَى ابْنِ أَبِي هُنَيْدَةَ ، صَاحِبِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَكَتَبَ إلَيْهِ يَسْأَلُهُ عَنْ قَوْلِ اللّهِ تَعَالَى : { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنّ اللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنّ إِلَى الْكُفّارِ لَا هُنّ حِلّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلّونَ لَهُنّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنّ أُجُورَهُنّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } [ ص 63 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَاحِدَةُ الْعَصْمِ عِصْمَةٌ وَهِيَ الْحَبْلُ وَالسّبَبُ . قَالَ عَشِيّ بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ
إلَى الْمَرْءِ قَيْسٍ نُطِيلُ السّرَى ... وَنَأْخُذُ مِنْ كُلّ حَيّ عِصَمْ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . { وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } قَالَ فَكَتَبَ إلَيْهِ عُرْوَةُ بْنُ الزّبَيْرِ : إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
كَانَ صَالَحَ قُرَيْشًا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى أَنْ يَرُدّ عَلَيْهِمْ مَنْ جَاءَ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيّهِ فَلَمّا هَاجَرَ النّسَاءُ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَإِلَى الْإِسْلَامِ أَبَى اللّهُ أَنْ يُرْدَدْنَ إلَى الْمُشْرِكِينَ إذَا هُنّ اُمْتُحِنّ بِمِحْنَةِ الْإِسْلَامِ فَعُرِفُوا أَنّهُنّ إنّمَا جِئْنَ رَغْبَةً فِي الْإِسْلَامِ وَأَمَرَ بِرَدّ صَدَقَاتِهِنّ إلَيْهِمْ إنْ احْتَبَسْنَ عَنْهُمْ إنْ هُمْ رَدّوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ صَدَاقَ مِنْ حَبَسُوا عَنْهُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ { ذَلِكُمْ حُكْمُ اللّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } فَأَمْسَكَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ النّسَاءَ وَرَدّ الرّجَالَ وَسَأَلَ الّذِي أَمَرَهُ اللّهُ بِهِ أَنْ يَسْأَلَ مِنْ صَدَقَاتِ نِسَاءِ مَنْ حَبَسُوا مِنْهُنّ وَأَنْ يَرُدّوا عَلَيْهِمْ مِثْلَ الّذِي يَرُدّونَ عَلَيْهِمْ إنْ هُمْ فَعَلُوا ، وَلَوْلَا الّذِي حَكَمَ اللّهُ بِهِ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ لَرَدّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ النّسَاءَ كَمَا رَدّ الرّجَالَ وَلَوْلَا الْهُدْنَةُ وَالْعَهْدُ الّذِي كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ لَأَمْسَكَ النّسَاءَ وَلَمْ يَرْدُدْ لَهُنّ صَدَاقًا ، وَكَذَلِكَ كَانَ يَصْنَعُ بِمَنْ جَاءَهُ مِنْ الْمُسْلِمَاتِ قَبْلَ الْعَهْدِ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَسَأَلْت الزّهْرِيّ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَقَوْلِ اللّهِ عَزّ وَجَلّ فِيهَا : { وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ } فَقَالَ يَقُولُ إنْ فَاتَ أَحَدًا مِنْكُمْ أَهْلُهُ إلَى الْكُفّارِ وَلَمْ تَأْتِكُمْ امْرَأَةٌ تَأْخُذُونَ بِهَا مِثْلَ الّذِي يَأْخُذُونَ مَعَكُمْ فَعَرَضُوهُمْ فِي فَيْءٍ إنْ أَصَبْتُمُوهُ فَلَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ } . . . إلَى قَوْلِ اللّهِ عَزّ وَجَلّ { وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } كَانَ مِمّنْ طَلّقَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ ، طَلّقَ امْرَأَتَهُ [ ص 64 ] قُرَيْبَةَ بِنْتِ أَبِي أُمَيّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ فَتَزَوّجَهَا بَعْدَهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ وَهُمَا عَلَى شِرْكِهِمَا بِمَكّةَ وَأُمّ كُلْثُومٍ بِنْتَ جَرْوَلَ أُمّ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ الْخُزَاعِيّةَ فَتَزَوّجَهَا أَبُو جَهْمِ بْنُ حُذَيْفَةَ بْنِ غَانِمٍ ، رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ وَهُمَا عَلَى شِرْكِهِمَا .

بُشْرَى فَتْحِ مَكّةَ وَتَعْجِيلُ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : حَدّثَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ أَنّ بَعْضَ مَنْ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لَهُ لَمّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ : أَلَمْ تَقُلْ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّك تَدْخُلُ مَكّةَ آمِنًا ؟ قَالَ " بَلَى ، أَفَقُلْت لَكُمْ مِنْ عَامِي هَذَا ؟ " قَالُوا : لَا ، قَالَ فَهُوَ كَمَا قَالَ لِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ
Sمِنْ مَوَاقِفِ عُمَرَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ
فَصْلٌ
[ ص 61 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَلَمْ تَعِدْنَا أَنّا تَأْتِي الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ ؟ فَقَالَ " نَعَمْ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ . كَانَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَدْ أُرِيَ ذَلِكَ فِي مَنَامِهِ وَرُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ ثُمّ أَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى : { لَقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرّؤْيَا بِالْحَقّ } [ الْفَتْحُ 27 ] الْآيَةُ وَيُسْأَلُ عَنْ قَوْلِهِ { إِنْ شَاءَ اللّهُ آمِنِينَ } مَا فَائِدَةُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ وَهُوَ خَبَرٌ وَاجِبٌ ؟ وَفِي الْجَوَابِ أَقْوَالٌ أَحَدُهَا : أَنّهُ رَاجِعٌ إلَى قَوْلِهِ آمِنِينَ لَا إلَى نَفْسِ الدّخُولِ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنّ الْوَعْدَ بِالْأَمَانِ قَدْ انْدَرَجَ فِي الْوَعْدِ بِالدّخُولِ . الثّانِي : أَنّهُ وَعْدٌ عَلَى الْجُمْلَةِ وَالِاسْتِثْنَاءُ رَاجِعٌ إلَى التّفْصِيلِ إذْ لَا يَدْرِي كُلّ إنْسَانٍ مِنْهُمْ هَلْ يَعِيشُ إلَى ذَلِكَ أَمْ لَا ، فَرَجَعَ الشّكّ إلَى هَذَا الْمَعْنَى ، لَا إلَى الْأَمْرِ الْمَوْعُودِ بِهِ وَقَدْ قِيلَ إنّمَا هُوَ تَعْلِيمٌ لِلْعِبَادِ أَنْ يَقُولُوا هَذِهِ الْكَلِمَةَ ويستعملونها فِي كُلّ فِعْلٍ مُسْتَقْبَلٍ أَعْنِي : إنْ شَاءَ اللّهُ .
بَيْعَةُ الشّجَرَةِ وَأَوّلُ مَنْ بَايَعَ
فَصْلٌ
[ ص 62 ] وَذَكَرَ بَيْعَةَ الشّجَرَةِ ، وَسَبَبَهَا ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَوّلَ مَنْ بَايَعَ وَذَكَرَ الْوَاقِدِيّ أَنّ أَوّلَ مَنْ بَايَعَ بَيْعَةَ الرّضْوَانِ سِنَانُ بْنُ أَبِي سِنَانٍ الْأَسَدِيّ . وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ : أَوّلُ مَنْ بَايَعَ أَبُو سِنَانٍ وَاسْمُهُ وَهْبُ بْنُ مِحْصَنٍ أَخُو عُكّاشَةَ بْنِ مِحْصَنٍ الْأَسَدِيّ ، وَقَالَ الْوَاقِدِيّ : كَانَ أَبُو سِنَانٍ أَسَنّ مِنْ أَخِيهِ عُكّاشَةَ بِعَشْرِ سِنِينَ شَهِدَ بَدْرًا ، وَتُوُفّيَ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَيُرْوَى أَنّهُ حِينَ قَالَ لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اُبْسُطْ يَدَك أُبَايِعْك ، قَالَ عَلَامَ تُبَايِعُنِي ؟ قَالَ عَلَى مَا فِي نَفْسِك يَا رَسُولَ اللّهِ وَأَمّا سِنَانٌ ابْنُهُ فَهُوَ أَيْضًا بَدْرِيّ ، مَاتَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَأَمّا مُبَايَعَتُهُمْ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَحْتَ الشّجَرَةِ ، وَكَانُوا أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ فِي إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ عَنْ جَابِرٍ وَأَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ فِي الرّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْهُ فَبَايَعُوهُ فِي قَوْلِ جَابِرٍ عَلَى أَنْ لَا يَفِرّوا . قَالَ وَلَمْ يُبَايِعُوهُ عَلَى الْمَوْتِ . وَقَالَ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ : بَايَعَنَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى الْمَوْتِ قَالَ التّرْمِذِيّ : وَكِلَا الْحَدِيثِينَ صَحِيحٌ لِأَنّ بَعْضَهُمْ بَايَعَ عَلَى أَنْ لَا يَفِرّوا ، وَلَمْ يَذْكُرُوا الْمَوْتَ وَبَعْضَهُمْ قَالَ أُبَايِعُك عَلَى الْمَوْتِ .
مَا قَالَهُ أَبُو جَنْدَلٍ
فَصْلٌ
[ ص 63 ] قَالَهُ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلٍ أَيّامَ كَوْنِهِ مَعَ أَبِي بَصِيرٍ بِسَيْفِ الْبَحْرِ [ ص 64 ]
أَبْلِغْ قُرَيْشًا عَنْ أَبِي جَنْدَلٍ ... أَنّا بِذِي الْمَرْوَةِ فَالسّاحِلِ
فِي مَعْشَرٍ تَخْفُقُ أَيْمَانُهُمْ ... بِالْبِيضِ فِيهَا وَالْقَنَا الذّابِلِ
يَأْبَوْنَ أَنْ تَبْقَى لَهُمْ رُفْقَةٌ ... مِنْ بَعْدِ إسْلَامِهِمْ الْوَاصِلِ
أَوْ يَجْعَلُ اللّهُ لَهُمْ مَخْرَجًا ... وَالْحَقّ لَا يُغْلَبُ بِالْبَاطِلِ
فَيَسْلَمُ الْمَرْءُ بِإِسْلَامِهِ ... أَوْ يُقْتَلُ الْمَرْءُ وَلَمْ يَأْتَلِ

ذِكْرُ الْمَسِيرِ إلَى خَيْبَرَ فِي الْمُحَرّمِ سَنَةَ سَبْعٍ
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ
[ ص 65 ] قَالَ حَدّثَنَا أَبُو مُحَمّدٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ قَالَ حَدّثَنَا زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْبَكّائِيّ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ إسْحَاقَ الْمُطّلِبِيّ قَالَ ثُمّ أَقَامَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِالْمَدِينَةِ حِينَ رَجَعَ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ ، ذَا الْحِجّةِ وَبَعْضَ الْمُحَرّمِ وَوَلِيَ تِلْكَ الْحِجّةَ الْمُشْرِكُونَ ثُمّ خَرَجَ فِي بَقِيّةِ الْمُحَرّمِ إلَى خَيْبَرَ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ نُمَيْلَةَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ اللّيْثِيّ ، وَدَفَعَ الرّايَةَ إلَى عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَكَانَتْ بَيْضَاءَ .
Sغَزْوَةُ خَيْبَرَ
[ ص 65 ] ذَكَرَ الْبَكْرِيّ أَنّ أَرْضَ خَيْبَرَ سُمّيَتْ بِاسْمِ رَجُلٍ مِنْ الْعَمَالِيقِ . نَزَلَهَا وَهُوَ خَيْبَرُ بْنُ قَانِيَةَ بْنِ مَهْلَايِلَ وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْوَطِيحِ ، وَهُوَ مِنْ حُصُونِهَا أَنّهُ سُمّيَ بِالْوَطِيحِ بْنِ مَازِنٍ رَجُلٌ مِنْ ثَمُودَ وَلَفْظُهُ مَأْخُوذٌ مِنْ الْوَطْحِ وَهُوَ مَا تَعَلّقَ بِالْأَظَافِرِ وَمَخَالِبِ الطّيْرِ مِنْ الطّينِ .

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التّيْمِيّ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ بْنِ نَصْرِ بْنِ دَهْرٍ الْأَسْلَمِيّ أَنّ أَبَاهُ حَدّثَهُ أَنّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - يَقُولُ فِي مَسِيرِهِ إلَى [ ص 66 ] خَيْبَرَ لِعَامِرِ بْنِ الْأَكْوَعِ وَهُوَ عَمّ سَلَمَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْأَكْوَعِ ، وَكَانَ اسْمُ الْأَكْوَعِ سِنَانٌ انْزِلْ يَا ابْنَ الْأَكْوَعِ فَخُذْ لَنَا مِنْ هَنَاتِك، قَالَ فَنَزَلَ يَرْتَجِزُ بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ
وَاَللّهِ لَوْلَا اللّهُ مَا اهْتَدَيْنَا ... وَلَا تَصَدّقْنَا وَلَا صَلّيْنَا
إنّا إذَا قَوْمٌ بَغَوْا عَلَيْنَا ... وَإِنْ أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا
فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا ... وَثَبّتْ الْأَقْدَامَ إنْ لَاقَيْنَا
[ ص 67 ] فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَرْحَمُك اللّهُ ؛ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ : وَجَبَتْ وَاَللّهِ يَا رَسُولَ اللّهِ لَوْ أَمْتَعْتنَا بِهِ فَقُتِلَ يَوْمَ خَيْبَرَ شَهِيدًا ، وَكَانَ قَتْلُهُ فِيمَا بَلَغَنِي ، أَنّ سَيْفَهُ رَجَعَ عَلَيْهِ وَهُوَ يُقَاتِلُ فَكَلَمَهُ كَلْمًا شَدِيدًا ، فَمَاتَ مِنْهُ فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ قَدْ شَكّوا فِيهِ وَقَالُوا : إنّمَا قَتَلَهُ سِلَاحُهُ حَتّى سَأَلَ ابْنُ أَخِيهِ سَلَمَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْأَكْوَعِ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ ذَلِكَ وَأَخْبَرَهُ بِقَوْلِ النّاسِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّهُ لَشَهِيدٌ وَصَلّى عَلَيْهِ فَصَلّى عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ .
Sشَرْحُ هَنَةٍ وَالْحُدَاءِ
[ ص 66 ] وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السّلَامُ لِسَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ خُذْ لَنَا مِنْ هَنَاتِك . الْهَنَةُ كِنَايَةٌ عَنْ كُلّ شَيْءٍ لَا تَعْرِفُ اسْمَهُ أَوْ تَعْرِفُهُ فَتُكَنّي عَنْهُ وَأَصْلُ الْهَنَةِ هَنْهَةٌ وَهَنْوَةٌ . قَالَ الشّاعِرُ
[ أَرَى ابْنَ نَزَارٍ قَدْ جَفَانِي وَقَلّنِي ] ... عَلَى هَنَوَاتٍ شَأْنُهَا مُتَتَابِعُ
وَفِي الْبُخَارِيّ : أَنّ رَجُلًا قَالَ لِابْنِ الْأَكْوَعِ أَلَا تَنْزِلُ فَتُسْمِعَنَا مِنْ هُنَيْهَاتِكَ صَغّرَهُ بِالْهَاءِ وَلَوْ صَغّرَهُ عَلَى لُغَةِ مَنْ قَالَ هَنَوَاتٍ لَقَالَ هُنَيّاتِك ، وَإِنّمَا أَرَادَ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَنْ يَحْدُوَ بِهِمْ وَالْإِبِلُ تُسْتَحَثّ بِالْحِدَاءِ وَلَا يَكُونُ الْحِدَاءُ إلّا بِشِعْرِ أَوْ رَجَزٍ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَوّلَ مَنْ سَنّ حُدَاءَ الْإِبِلِ وَهُوَ مُضَرُ بْنُ نَزَارٍ ، وَالرّجَزُ شِعْرٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَرِيضًا ، وَقَدْ قِيلَ لَيْسَ بِشِعْرِ وَإِنّمَا هِيَ أَشْطَارُ أَبْيَاتٍ وَإِنّمَا الرّجَزُ الّذِي هُوَ شِعْرٌ سُدَاسِيّ الْأَجْزَاءِ نَحْوَ مَقْصُورَةِ ابْنِ دُرَيْدٍ أَوْ رُبَاعِيّ الْأَجْزَاءِ نَحْوَ قَوْلِ الشّاعِرِ
يَا مُرّ يَا خَيْرَ أَخ ... نَازَعْت دَرّ الْحَلْمَةِ
وَاحْتَجّ مَنْ قَالَ فِي مَشْطُورِ الرّجَزِ أَنّهُ لَيْسَ بِشِعْرِ أَنّهُ قَدْ جَرَى عَلَى لِسَانِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَكَانَ لَا يَجْرِي عَلَى لِسَانِهِ الشّعْرُ وَقَدْ رُوِيَ أَنّهُ أَنْشَدَ هَذَا الرّجَزَ الّذِي قَالَهُ ابْنُ الْأَكْوَعِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَقَالَ أَيْضًا إمّا مُتَمَثّلًا وَإِمّا مُنْشِئًا :
هَلْ أَنْتَ إلّا إصْبَعٌ دَمِيَتْ ... وَفِي سَبِيلِ اللّهِ مَا لَقِيت
وَفِي هَذَا الرّجَزِ مِنْ غَيْرِ رِوَايَةِ ابْنِ إسْحَاقَ مِمّا وَقَعَ فِي الْبُخَارِيّ وَغَيْرِهِ فَاغْفِرْ فِدَاءً لَك مَا أَبْقَيْنَا
[ ص 67 ] تَتَبّعْنَا مِنْ الْخَطَايَا ، مِنْ قَفَوْت الْأَثَرَ وَاقْتَفَيْته . وَفِي التّنْزِيلِ { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } [ الْإِسْرَاءُ 36 ] ، وَأَمّا قَوْلُهُ مَا أَبْقَيْنَا ، أَيْ مَا خَلّفْنَا مِمّا اكْتَسَبْنَا ، أَوْ يَكُونُ مَعْنَاهُ مَا أَبْقَيْنَا مِنْ الذّنُوبِ فَلَمْ نُحَقّقْ التّوْبَةَ مِنْهُ كَمَا يَنْبَغِي . وَقَوْلُهُ فِدَاءً لَك قَدْ قِيلَ إنّ الْخِطَابَ لِلنّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَيْ اغْفِرْ لَنَا تَقْصِيرَنَا فِي حَقّك وَطَاعَتِك ، إذْ لَا يُتَصَوّرُ أَنْ يُقَالَ لِلّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ وَذَلِكَ أَنّ مَعْنَى قَوْلِهِمْ فِدَاءً لَك أَيْ فِدَاءً لَك أَنْفُسُنَا وَأَهْلُونَا ، وَحُذِفَ الِاسْمُ الْمُبْتَدَأُ لِكَثْرَةِ دَوْرِهِ فِي الْكَلَامِ مَعَ الْعِلْمِ بِهِ وَإِنّمَا يَفْدِي الْإِنْسَانُ بِنَفْسِهِ مَنْ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْفَنَاءُ .
اسْتِعْمَالُ الْكَلِمَةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا
وَأَقْرَبُ مَا قِيلَ فِيهِ مِنْ الْأَقْوَالِ إلَى الصّوَابِ أَنّهَا كَلِمَةٌ يُتَرْجَمُ بِهَا عَنْ مَحَبّةٍ وَتَعْظِيمٍ فَجَازَ أَنْ يُخَاطَبَ بِهَا مَنْ لَا يَجُوزُ فِي حَقّهِ الْفِدَاءُ وَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْفَنَاءُ قَصْدًا لِإِظْهَارِ الْمَحَبّةِ وَالتّعْظِيمِ لَهُ وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الْكَلِمَةِ مَا ذَكَرْنَا ، فَرُبّ كَلِمَةٍ تُرِكَ أَصْلُهَا ، وَاسْتُعْمِلَتْ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَتْ لَهُ أَوّلَ كَمَا جَاءُوا بِلَفْظِ الْقَسَمِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْقَسَمِ إذَا أَرَادُوا تَعَجّبًا وَاسْتِعْظَامًا لِأَمْرِ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ فِي حَدِيثِ الْأَعْرَابِيّ مِنْ رِوَايَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ أَفْلَحَ وَأَبِيهِ إنْ صَدَقَ وَمُحَالٌ أَنْ يَقْصِدَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْقَسَمَ بِغَيْرِ اللّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، لَا سِيّمَا بِرَجُلِ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ وَإِنّمَا هُوَ تَعَجّبٌ مِنْ قَوْلِ الْأَعْرَابِيّ وَالْمُتَعَجّبُ مِنْهُ هُوَ مُسْتَعْظَمٌ وَلَفْظُ الْقَسَمِ فِي أَصْلِ وَضْعِهِ لِمَا يُعَظّمُ فَاتّسَعَ فِي اللّفْظِ حَتّى قِيلَ عَلَى الْوَجْهِ . وَقَالَ الشّاعِرُ
فَإِنْ تَكُ لَيْلَى اسْتَوْدَعَتْنِي أَمَانَةً ... فَلَا وَأَبِي أَعْدَائِهَا لَا أَخُونُهَا
[ ص 68 ] بِأَبِي أَعْدَائِهَا ، وَلَكِنّهُ ضَرْبٌ مِنْ التّعَجّبِ وَقَدْ ذَهَبَ أَكْثَرُ شُرّاحِ الْحَدِيثِ إلَى النّسْخِ فِي قَوْله : أَفْلَحَ وَأَبِيهِ قَالُوا : نَسَخَهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ وَهَذَا قَوْلٌ لَا يَصِحّ ، لِأَنّهُ لَمْ يَثْبُتْ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - كَانَ يَحْلِفُ قَبْلَ النّسْخِ بِغَيْرِ اللّهِ وَيُقْسِمُ بِقَوْمِ كُفّارٍ وَمَا أَبْعَدَ هَذَا مِنْ شِيمَتِهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - تَاللّهِ مَا فَعَلَ هَذَا قَطّ ، وَلَا كَانَ لَهُ بِخُلُقِ . وَقَالَ قَوْمٌ رِوَايَةُ إسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ مُصَحّفَةٌ وَإِنّمَا هُوَ أَفْلَحَ وَاَللّهِ إنْ صَدَقَ . وَهَذَا أَيْضًا مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَاعْتِرَاضٌ عَلَى الْأَثْبَاتِ الْعُدُولِ فِيمَا حَفِظُوا ، وَقَدْ خَرّجَ مُسْلِمٌ فِي كِتَابِ الزّكَاةِ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السّلَامُ لِرَجُلِ سَأَلَهُ أَيّ الصّدَقَةِ أَفْضَلُ ؟ فَقَالَ وَأَبِيك لَأُنْبِئك أَوْ قَالَ لَأُخْبِرَنّكَ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَخَرّجَ فِي كِتَابِ الْبِرّ وَالصّلَةِ قَوْلَهُ لِرَجُلِ سَأَلَهُ مَنْ أَحَقّ النّاسِ بِأَنْ أَبَرّهُ أَوْ قَالَ أَصْلُهُ ؟ فَقَالَ وَأَبِيك لَأُنْبِئكَ صِلْ أُمّك ، ثُمّ أَبَاك ثُمّ أَدْنَاك فَأَدْنَاك فَقَالَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ كَمَا تَرَى وَأَبِيك ، فَلَمْ يَأْتِ إسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ إذًا فِي رِوَايَتِهِ بِشَيْءِ إمْرٍ وَلَا بِقَوْلِ بِدْعٍ وَقَدْ حَمَلَ عَلَيْهِ فِي رِوَايَتِهِ رَجُلٌ مِنْ عُلَمَاءِ بِلَادِنَا وَعُظَمَاءِ مُحَدّثِيهَا ، وَغَفَلَ - عَفَا اللّهُ عَنْهُ - عَنْ الْحَدِيثَيْنِ اللّذَيْنِ تَقَدّمَ ذِكْرُهُمَا ، وَقَدْ خَرّجَهُمَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجّاجِ . وَفِي تَرَاجِمِ أَبِي دَاوُدَ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ فِي مُصَنّفِهِ مَا يَدُلّ عَلَى أَنّهُ كَانَ يَذْهَبُ إلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ بِالنّسْخِ وَأَنّ الْقَسَمَ بِالْآبَاءِ كَانَ جَائِزًا ، وَاَلّذِي ذَكَرْنَاهُ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْحَلِفِ بِالْآبَاءِ كَمَا قَدّمْنَا ، وَلَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ وَأَبِي ، وَإِنّمَا قَالَ وَأَبِيهِ أَوْ وَأَبِيك بِالْإِضَافَةِ إلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ أَوْ الْغَائِبِ وَبِهَذَا الشّرْطِ يَخْرُجُ عَنْ مَعْنَى الْحَلِفِ إلَى مَعْنَى التّعَجّبِ الّذِي ذَكَرْنَاهُ .

[ ص 68 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي مَنْ لَا أَتّهِمُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مَرْوَانَ الْأَسْلَمِيّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي مُعَتّبِ بْنِ عَمْرٍو : أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمّا أَشْرَفَ عَلَى خَيْبَرَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ وَأَنَا فِيهِمْ " قِفُوا " ، ثُمّ قَالَ اللّهُمّ رَبّ السّمَوَاتِ وَمَا أَظْلَلْنَ وَرَبّ الْأَرَضِينَ وَمَا أَقْلَلْنَ وَرَبّ الشّيَاطِينِ وَمَا أَضْلَلْنَ وَرَبّ الرّيَاحِ وَمَا أَذْرَيْنَ فَإِنّا نَسْأَلُك خَيْرَ هَذِهِ الْقَرْيَةِ وَخَيْرَ أَهْلِهَا وَخَيْرَ مَا فِيهَا ، وَنَعُوذُ بِك مِنْ شَرّهَا وَشَرّ أَهْلِهَا وَشَرّ مَا فِيهَا ، أَقَدِمُوا بِسْمِ اللّهِ . قَالَ وَكَانَ يَقُولُهَا عَلَيْهِ السّلَامُ لِكُلّ قَرْيَةٍ دَخَلَهَا . [ ص 69 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي مَنْ لَا أَتّهِمُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا غَزَا قَوْمًا لَمْ يُغِرْ عَلَيْهِمْ حَتّى يُصْبِحَ فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا أَمْسَكَ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ أَذَانًا أَغَارَ . فَنَزَلْنَا خَيْبَرَ لَيْلًا ، فَبَاتَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى إذَا أَصْبَحَ لَمْ يَسْمَعْ أَذَانًا ، فَرَكِبَ وَرَكِبْنَا مَعَهُ فَرَكِبْت خَلْفَ أَبِي طَلْحَةَ وَإِنّ قَدَمِي لَتَمَسّ قَدَمَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَاسْتَقْبَلَنَا عُمّالُ خَيْبَرَ غَادِينَ قَدْ خَرَجُوا بِمَسَاحِيهِمْ وَمَكَاتِلِهِمْ فَلَمّا رَأَوْا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَالْجَيْشَ قَالُوا : مُحَمّدٌ وَالْخَمِيسُ مَعَهُ فَأَدْبَرُوا هِرَابًا ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اللّهُ أَكْبَرُ خَرِبَتْ خَيْبَرُ ، إنّا إذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنَا هَارُونُ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ بِمِثْلِهِ . [ ص 70 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ خَرَجَ مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى خَيْبَرَ سَلَكَ عَلَى عِصْرٍ فَبُنِيَ لَهُ فِيهَا مَسْجِدٌ ثُمّ عَلَى الصّبْهَاءِ ثُمّ أَقْبَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِجَيْشِهِ حَتّى نَزَلَ بِوَادٍ يُقَالُ لَهُ الرّجِيعُ ، فَنَزَلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ غَطَفَانَ ، لِيَحُولَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَنْ يَمُدّوا أَهْلَ خَيْبَرَ ، وَكَانُوا لَهُمْ مُظَاهِرِينَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . فَبَلَغَنِي أَنّ غَطَفَانَ لَمّا سَمِعَتْ بِمَنْزِلِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ خَيْبَرَ جَمَعُوا لَهُ ثُمّ خَرَجُوا لِيُظَاهِرُوا يَهُودَ عَلَيْهِ حَتّى إذَا سَارُوا مَنْقَلَةً سَمِعُوا خَلْفَهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ حِسّا ظَنّوا أَنّ الْقَوْمَ قَدْ خَالَفُوا إلَيْهِمْ فَرَجَعُوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ فَأَقَامُوا فِي أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَخَلّوْا بَيْنَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَبَيْنَ خَيْبَرَ . وَتَدَنّى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْأَمْوَالَ يَأْخُذُهَا مَالًا مَالًا ، وَيَفْتَتِحُهَا حِصْنًا حِصْنًا ، فَكَانَ أَوّلُ حُصُونِهِمْ اُفْتُتِحَ حِصْنَ نَاعِمٍ ، وَعِنْدَهُ قُتِلَ مَحْمُودُ بْنُ مَسْلَمَةَ ، أُلْقِيَتْ عَلَيْهِ مِنْهُ رَحًا فَقَتَلَتْهُ ثُمّ الْقَمُوصِ ، حِصْنِ بَنِي أَبِي الْحُقَيْقِ وَأَصَابَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْهُمْ سَبَايَا ، مِنْهُنّ صَفِيّةُ بِنْتُ حُيَيّ بْنِ أَخْطَبَ ، وَكَانَتْ عِنْدَ كِنَانَةَ بْنِ الرّبِيعِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ وَبِنْتَيْ عَمّ لَهَا ، فَاصْطَفَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صَفِيّةَ لِنَفْسِهِ . وَكَانَ دِحْيَةُ بْنُ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيّ قَدْ سَأَلَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صَفِيّةَ فَلَمّا أَصْفَاهَا لِنَفْسِهِ أَعْطَاهُ ابْنَتَيْ عَمّهَا ، وَفَشَتْ السّبَايَا مِنْ خَيْبَرَ فِي الْمُسْلِمِينَ .Sالْإِسْنَادُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مَرْوَانَ
وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ حَدِيثَهُ عَلَيْهِ السّلَامُ حِينَ أَشْرَفَ عَلَى خَيْبَرَ ، وَقَالَ فِي إسْنَادِهِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ [ أَبِي ] مَرْوَانَ وَهَذَا هُوَ الصّحِيحُ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ لِأَنّ عَطَاءَ بْنَ أَبِي مَرْوَانَ الْأَسْلَمِيّ مَعْرُوفٌ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ يُكَنّى أَبَا مُصْعَبٍ قَالَهُ الْبُخَارِيّ فِي التّارِيخِ وَبَعْضُ مَنْ [ ص 69 ] السّيرَةَ يَقُولُ فِي هَذَا الْإِسْنَادِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ ، عَنْ مَرْوَانَ الْأَسْلَمِيّ وَالصّحِيحُ مَا قَدّمْنَاهُ .
الْمَكَاتِلُ
فَصْلٌ وَذَكَرَ حَدِيثَ أَنَسٍ حِينَ اسْتَقْبَلَتْهُمْ عُمّالُ خَيْبَرَ بِمَسَاحِيهِمْ وَمَكَاتِلِهِمْ الْمَكَاتِلُ جَمْعُ مِكْتَلٍ وَهِيَ الْقُفّةُ الْعَظِيمَةُ سُمّيَتْ بِذَلِكَ لِتَكَتّلِ الشّيْءِ فِيهَا ، وَهُوَ تَلَاصُقُ بَعْضِهِ بِبَعْضِ وَالْكُتْلَةُ وَمِنْ التّمْرِ وَنَحْوِهِ فَصِيحَةٌ وَإِنْ ابْتَذَلَتْهَا الْعَامّةُ .
خَرِبَتْ خَيْبَرُ
وَقَوْلُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ رَآهُمْ اللّهُ أَكْبَرُ خَرِبَتْ خَيْبَرُ . فِيهِ إبَاحَةُ التّفَاؤُلِ وَقُوّةٌ لِمَنْ اسْتَجَازَ الرّجَزَ وَقَدْ قَدّمْنَا فِي ذَلِكَ قَوْلًا مُقْنِعًا ، وَذَلِكَ أَنّهُ رَأَى الْمَسَاحِيّ وَالْمَكَاتِلَ وَهِيَ مِنْ آلَةِ الْهَدْمِ ، وَالْحَفْرِ مَعَ أَنّ لَفْظَ الْمِسْحَاةِ مِنْ سَحَوْت الْأَرْضَ إذَا قَشّرْتهَا ، فَدَلّ ذَلِكَ عَلَى خَرَابِ الْبَلْدَةِ الّتِي أَشْرَفَ عَلَيْهَا ، وَفِي غَيْرِ رِوَايَةِ ابْنِ هِشَامٍ قَالَ حِينَ ذَكَرَ الْمَسَاحِيّ كَانُوا يُؤْتُونَ الْمَاءَ إلَى زَرْعِهِمْ مَعْنَاهُ يَسُوقُونَ . وَالْأَتِيّ هِيَ الصّافِيَةُ .
الْخَمِيسُ
وَقَوْلُ الْيَهُودِ : مُحَمّدٌ وَالْخَمِيسُ سُمّيَ الْجَيْشُ الْعَظِيمُ خَمِيسًا ، لِأَنّ لَهُ سَاقَةً وَمُقَدّمَةً وَجَنَاحَيْنِ وَقَلْبًا ، لَا مِنْ أَجْلِ تَخْمِيسِ الْغَنِيمَةِ فَإِنّ الْخُمُسَ مِنْ سُنّةِ الْإِسْلَامِ وَقَدْ كَانَ الْجَيْشُ يُسَمّى خَمِيسًا فِي الْجَاهِلِيّةِ وَقَدْ ذَكَرْنَا الشّاهِدَ عَلَى ذَلِكَ فِيمَا تَقَدّمَ . [ ص 70 ]
تَدَنّي الْحُصُونِ
وَقَوْلُهُ يَتَدَنّى الْحُصُونَ أَيْ يَأْخُذُ الْأَدْنَى فَالْأَدْنَى .

مَا نَهَى عَنْهُ الرّسُولُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي خَيْبَرَ
وَأَكَلَ الْمُسْلِمُونَ لُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيّةِ مِنْ حُمُرِهَا ، فَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَنَهَى النّاسَ عَنْ أُمُورٍ سَمّاهَا لَهُمْ . [ ص 71 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ ضَمْرَةَ الْفَزَارِيّ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي سَلِيطٍ عَنْ أَبِيهِ . قَالَ أَتَانَا نَهْيُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ الْإِنْسِيّةِ وَالْقُدُورُ تَفُورُ بِهَا ، فَكَفَأْنَاهَا عَلَى وُجُوهِهَا . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ ، عَنْ مَكْحُولٍ : أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَهَاهُمْ يَوْمَئِذٍ عَنْ أَرْبَعٍ عَنْ إتْيَانِ الْحَبَالَى مِنْ السّبَايَا ، وَعَنْ أَكْلِ الْحِمَارِ الْأَهْلِيّ وَعَنْ أَكْلِ كُلّ ذِي نَابٍ مِنْ السّبَاعِ وَعَنْ بَيْعِ الْمَغَانِمِ حَتّى تُقَسّمَ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي سَلَامُ بْنُ كِرْكِرَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ الْأَنْصَارِيّ وَلَمْ يَشْهَدْ جَابِرٌ خَيْبَرَ : أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ نَهَى النّاسَ عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ أَذِنَ لَهُمْ فِي أَكْلِ لُحُومِ الْخَيْلِ . [ ص 72 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ ، عَنْ أَبِي مَرْزُوقٍ مَوْلَى تُجِيبَ ، عَنْ حَنَشٍ الصّنْعَانِيّ قَالَ غَزَوْنَا مَعَ رُوَيْفِعِ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيّ الْمَغْرِبَ فَافْتَتَحَ قَرْيَةً مِنْ قُرَى الْمَغْرِبِ يُقَالُ لَهَا : جَرْبَةُ فَقَامَ فِينَا خَطِيبًا ، فَقَالَ يَا أَيّهَا النّاسُ إنّي لَا أَقُولُ فِيكُمْ إلّا مَا سَمِعْت مِنْ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - يَقُولُهُ فِينَا يَوْمَ خَيْبَرَ ، قَامَ فِينَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ لَا يَحِلّ لِامْرِئِ يُؤْمِنُ بِاَللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْقِيَ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ يَعْنِي إتْيَانَ الْحَبَالَى مِنْ السّبَايَا ، وَلَا يَحِلّ لِامْرِئِ يُؤْمِنُ بِاَللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُصِيبَ امْرَأَةً مِنْ السّبْيِ حَتّى يَسْتَبْرِئَهَا ، وَلَا يَحِلّ لِامْرِئِ يُؤْمِنُ بِاَللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَبِيعَ مَغْنَمًا حَتّى يُقْسَمَ وَلَا يَحِلّ لِامْرِئِ يُؤْمِنُ بِاَللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَرْكَبَ دَابّةً مِنْ فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ حَتّى إذَا أَعْجَفَهَا رَدّهَا فِيهِ وَلَا يَحِلّ لِامْرِئِ يُؤْمِنُ بِاَللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَلْبَسَ ثَوْبًا مِنْ فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ حَتّى إذَا أَخْلَقَهُ رَدّهُ فِيهِ [ ص 73 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ قُسَيْطٍ أَنّهُ حَدّثَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصّامِتِ ، قَالَ نَهَانَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ أَنْ نَبِيعَ أَوْ نَبْتَاعَ تِبْرَ الذّهَبِ بِالذّهَبِ الْعَيْنِ وَتِبْرَ الْفِضّةِ بِالْوَرِقِ الْعَيْنِ وَقَالَ ابْتَاعُوا تِبْرَ الذّهَبِ بِالْوَرِقِ الْعَيْنِ ، وَتِبْرَ الْفِضّةِ بِالذّهَبِ الْعَيْنِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ جَعَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَتَدَنّى الْحُصُونَ وَالْأَمْوَالَ .
Sحُكْمُ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيّةِ وَالْخَيْلِ
وَذِكْرُ نَهْيِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيّةِ وَحَدِيثُ جَابِرٍ أَنّهُ نَهَى عَلَيْهِ السّلَامُ يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيّةِ وَأَرْخَصَ لَهُمْ فِي لُحُومِ الْخَيْلِ أَمّا الْحُمُرُ الْأَهْلِيّةُ فَمُجْتَمَعٌ عَلَى تَحْرِيمِهَا إلّا شَيْئًا يُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ وَعَائِشَةَ وَطَائِفَةٍ مِنْ التّابِعِينَ . [ ص 71 ] أَبَاحَهَا قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيّ مُحَرّمًا عَلَى طَاعِمٍ } [ الْأَنْعَامُ 145 ] الْآيَةُ وَهِيَ مَكّيّةٌ وَحَدِيثُ النّهْيِ عَنْ الْحُمُرِ كَانَ بِخَيْبَرِ فَهُوَ الْمُبَيّنُ لِلْآيَةِ وَالنّاسِخُ لِلْإِبَاحَةِ وَمِنْ حُجّتِهِمْ أَيْضًا قَوْلُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِرَجُلِ اسْتَفْتَاهُ فِي أَكْلِ الْحِمَارِ الْأَهْلِيّ يُقَالُ فِي اسْمِهِ غَالِبُ بْنُ أَبْحَرَ الْمُزَنِيّ : أَطْعِمْ أَهْلَك مِنْ سَمِينِ مَالِك وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ لَا يُعَارَضُ بِمِثْلِهِ حَدِيثُ النّهْيِ مَعَ أَنّهُ مُحْتَمِلٌ لِتَأْوِيلَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الرّجُلُ مِمّنْ أَصَابَتْهُ مَسْغَبَةٌ شَدِيدَةٌ فَأُرْخِصَ لَهُ فِيهِ أَوْ يَكُونَ ذَلِكَ مَنْسُوخًا بِالتّحْرِيمِ عَلَى أَنّ بَعْضَ رُوَاةِ الْحَدِيثِ زَادَ فِيهِ بَيَانًا ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ لِلرّجُلِ إنّمَا نُهِيت عَنْ حَوَالِي الْقَرْيَةِ أَوْ جَوّالِي الْقَرْيَةِ عَلَى اخْتِلَافٍ فِي الرّوَايَةِ وَأَمّا حَدِيثُ جَابِرٍ فِي إبَاحَةِ الْخَيْلِ فَصَحِيحٌ وَيُعَضّدُهُ حَدِيثُ أَسْمَاءَ أَنّهَا قَالَتْ ضَحّيْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِفَرَسِ وَقَالَ بِإِبَاحَةِ لُحُومِ الْخَيْلِ الشّافِعِيّ وَاللّيْثُ وَأَبُو يُوسُفَ وَذَهَبَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيّ إلَى كَرَاهَةِ ذَلِكَ وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ أَنّهُ عَلَيْهِ السّلَامُ نَهَى عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيّةِ وَالْبِغَالِ وَالْخَيْلِ وَقَدْ خَرّجَهُ أَبُو دَاوُدَ ، وَحَدِيثُ الْإِبَاحَةِ أَصَحّ غَيْرَ أَنّ مَالِكًا رَحِمَهُ اللّهُ نَزَعَ بِآيَةِ مِنْ كِتَابِ اللّهِ وَهِيَ أَنّ اللّهَ جَلّ ذِكْرُهُ ذَكَرَ الْأَنْعَامَ فَقَالَ { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } ثُمّ ذَكَرَ الْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ فَقَالَ { لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } هَذَا انْتِزَاعٌ حَسَنٌ . وَوَجْهُ الدّلِيلِ مِنْ الْآيَةِ أَنّهُ قَالَ { وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ } [ النّحْلُ 5 ] فَذَكَرَ الدّفْءَ وَالْمَنَافِعَ وَالْأَكْلَ ثُمّ أَفْرَدَ [ ص 72 ] بِلَامِ الْعِلّةِ وَالنّسَبِ فَقَالَ { لِتَرْكَبُوهَا } أَيْ لِهَذَا سَخّرْتهَا لَكُمْ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَعَدّى مَا سُخّرَتْ لَهُ وَأَمّا نَهْيُهُ يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْجَلّالَةِ وَعَنْ رُكُوبِهَا ، فَهِيَ الّتِي تَأْكُلُ الْجَلّةَ وَهُوَ الرّوْثُ وَالْبَعْرُ وَفِي السّنَنِ لِلدّارَقُطْنِيّ أَنّهُ عَلَيْهِ السّلَامُ نَهَى عَنْ أَكْلِ الْجَلّالَةِ حَتّى تُعْلَفَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَهَذَا نَحْوٌ مِمّا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السّلَامُ أَنّهُ كَانَ لَا يَأْكُلُ الدّجَاجَ الْمُخَلّاةَ حَتّى تُقْصَرَ ثَلَاثَةَ أَيّامٍ . ذَكَرَهُ الْهَرَوِيّ .
الْوَرِقُ
وَذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ نَهْيَهُ عَلَيْهِ الصّلَاةُ وَالسّلَامُ عَنْ بَيْعِ الْفِضّةِ بِالْفِضّةِ وَإِبَاحَةِ بَيْعِ الذّهَبِ بِالْوَرِقِ فَدَلّ عَلَى أَنّ الْوَرِقَ وَالْفِضّةَ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَقَدْ فَرّقَ بَيْنَهُمَا أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ فَقَالَ الرّقَةُ وَالْوَرِقُ مَا كَانَ سِكّةً مَضْرُوبَةً فَإِنْ كَانَ حُلِيّا أَوْ حُلِيّةً ، أَوْ نُقَرًا لَمْ يُسَمّ وَرِقًا ، يُرِيدُ بِهَذِهِ التّفْرِقَةِ أَنْ لَا زَكَاةَ فِي حُلِيّ الْفِضّةِ وَالذّهَبِ لِأَنّ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حِينَ ذَكَرَ الزّكَاةَ قَالَ فِي الرّقَةِ الْخُمْسُ وَحِينَ ذَكَرَ الرّبَا قَالَ الْفِضّةُ بِالْفِضّةِ . قَالَ الْمُؤَلّفُ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ الّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ ، وَفِي أَحَادِيثَ سِوَاهُ قَدْ تَتَبّعْتهَا مَا يَدُلّ عَلَى خِلَافِ مَا قَالَ مِنْهَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ فِي صِفَةِ الْحَوْضِ يَصُبّ فِيهِ مِيزَابَانِ مِنْ [ ص 73 ] وَفِي حَدِيثِ عَرْفَجَةَ حِينَ أُصِيبَ أَنْفُهُ يَوْمَ الْكُلَابِ قَالَ فَاِتّخَذْت أَنْفًا مِنْ وَرِقٍ الْحَدِيثُ فِي شَوَاهِدَ كَثِيرَةٍ تَدُلّ عَلَى أَنّ الْفِضّةَ تُسَمّى وَرِقًا عَلَى أَيّ حَالٍ كَانَتْ . وَقَوْلُهُ بِالذّهَبِ الْعَيْنِ وَالْوَرِقِ الْعَيْنِ يُرِيدُ النّقْدَ لِأَنّ الْغَائِبَ تُسَمّى ضِمَارًا ، كَمَا قَالَ وَعَيْنُهُ كَالْكَالِئِ الضّمَارِ وَسُمّيَ الْحَاضِرُ عَيْنًا لِمَوْضِعِ الْمُعَايَنَةِ فَالْعَيْنُ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ عِنْته أَعِينُهُ إذَا أَبْصَرْته بِعَيْنِك ، وَسُمّيَ الْمَفْعُولُ بِالْمَصْدَرِ وَنَحْوٌ مِنْهُ الصّيْدُ لِأَنّهُ مَصْدَرٌ [ ص 74 ] أَصِيدُ وَقَدْ جَاءَ فِي التّنْزِيلِ { لَا تَقْتُلُوا الصّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } الْمَائِدَةُ 95 ] فَسَمّاهُ بِالْمَصْدَرِ وَلَعَلّك أَنْ تَلْحَظَ مِنْ هَذَا الْمَطْلَعِ مَعْنَى الْعَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } [ طَه : 39 ] فَقَدْ أَمْلَيْنَا فِيهَا ، وَفِي مَسْأَلَةِ الْيَدِ مَسْأَلَتَيْنِ لَا يُعْدَلُ بِقِيمَتِهِمَا الدّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا .
مَتَى حُرّمَ نِكَاحُ الْمُتْعَةِ ؟
[ ص 75 ] أَكْلِ الْحُمُرِ تَنْبِيهٌ عَلَى إشْكَالٍ فِي رِوَايَةُ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ ، فَإِنّهُ قَالَ فِيهَا : نَهَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ يَوْمَ خَيْبَرَ ، وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيّةِ وَهَذَا شَيْءٌ لَا يَعْرِفُهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السّيَرِ وَرُوَاةِ الْأَثَرِ أَنّ الْمُتْعَةَ حُرّمَتْ يَوْمَ خَيْبَرَ ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مُحَمّدٍ فَقَالَ فِيهِ إنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - نَهَى عَنْ أَكْلِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيّةِ عَامَ خَيْبَرَ ، وَعَنْ الْمُتْعَةِ فَمَعْنَاهُ عَلَى هَذَا اللّفْظِ وَنَهَى عَنْ الْمُتْعَةِ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ فَهُوَ إذًا تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ وَقَعَ فِي لَفْظِ ابْنِ شِهَابٍ ، لَا فِي لَفْظِ مَالِكٍ لِأَنّ مَالِكًا قَدْ وَافَقَهُ عَلَى لَفْظِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ رُوَاةِ ابْنِ شِهَابٍ ، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ فَأَغْرَبُ مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ رِوَايَةُ مَنْ قَالَ إنّ ذَلِكَ كَانَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ ، ثُمّ رِوَايَةُ الْحَسَنِ أَنّ ذَلِكَ كَانَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ وَالْمَشْهُورُ فِي تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ رِوَايَةُ الرّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنّ ذَلِكَ كَانَ عَامَ الْفَتْحِ . وَقَدْ خَرّجَ مُسْلِمٌ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَيْضًا حَدِيثٌ آخَرُ خَرّجَهُ أَبُو دَاوُدَ أَنّ تَحْرِيمَ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ كَانَ فِي حَجّةِ الْوَدَاعِ ، وَمَنْ قَالَ مِنْ الرّوَاةِ كَانَ فِي غَزْوَةِ أَوْطَاسٍ ، فَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَنْ قَالَ عَامَ الْفَتْحِ فَتَأَمّلْهُ وَاَللّهُ الْمُسْتَعَانُ .

شَأْنُ بَنِي سَهْمٍ
فَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ أَنّهُ حَدّثَهُ بَعْضُ أَسْلَمَ : أَنّ بَنِي سَهْمٍ مِنْ أَسْلَمَ أَتَوْا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالُوا : وَاَللّهِ يَا رَسُولَ اللّهِ لَقَدْ جُهِدْنَا وَمَا بِأَيْدِينَا مِنْ شَيْءٍ فَلَمْ يَجِدُوا عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ شَيْئًا يُعْطِيهِمْ إيّاهُ فَقَالَ اللّهُمّ إنّك قَدْ عَرَفْت حَالَهُمْ وَأَنْ لَيْسَتْ بِهِمْ قُوّةٌ وَأَنْ لَيْسَ بِيَدِي شَيْءٌ أُعْطِيهِمْ إيّاهُ فَافْتَحْ عَلَيْهِمْ أَعْظَمَ حُصُونِهَا عَنْهُمْ غِنَاءً وَأَكْثَرَهَا طَعَامًا وَوَدَكًا فَغَدَا النّاسُ فَفَتَحَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ حِصْنَ الصّعْبِ بْنِ مُعَاذٍ ، وَمَا بِخَيْبَرِ حِصْنٌ كَانَ أَكْثَرَ طَعَامًا وَوَدَكًا مِنْهُ .

مَقْتَلُ مَرْحَبٍ الْيَهُودِيّ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَلَمّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ حُصُونِهِمْ مَا افْتَتَحَ وَجَازَ مِنْ الْأَمْوَالِ مَا جَازَ انْتَهَوْا إلَى حِصْنَيْهِمْ الْوَطِيحِ وَالسّلَالِمِ ، وَكَانَ آخِرَ حُصُونِ أَهْلِ خَيْبَرَ افْتِتَاحًا ، فَحَاصَرَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَكَانَ شِعَارُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ ، يَا مَنْصُورُ ، أَمِتْ أَمِتْ . [ ص 74 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ سَهْلِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ سَهْلٍ أَخُو بَنِي حَارِثَةَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ ، قَالَ خَرَجَ مَرْحَبٌ الْيَهُودِيّ مِنْ حِصْنِهِمْ قَدْ جَمَعَ سِلَاحَهُ يَرْتَجِزُ وَهُوَ يَقُولُ
قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنّي مَرْحَبُ ... شَاكِي السّلَاحِ بَطَلٌ مُجَرّبُ
أَطْعَنُ أَحْيَانًا وَحِينًا أَضْرِبُ ... إذَا اللّيُوثُ أَقْبَلَتْ تَخَرّبُ
إنّ حِمَايَ لِلْحِمَى لَا يُقْرَبُ
وَهُوَ يَقُولُ مَنْ يُبَارِزُ ؟ فَأَجَابَهُ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ ، فَقَالَ
قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنّي كَعْبُ ... مُفَرّجُ الْغُمّى جَرِيءٌ صُلْبُ
إذْ شَبّتْ الْحَرْبُ تَلَتْهَا الْحَرْبُ ... مَعِي حُسَامٌ كَالْعَقِيقِ عَضْبُ
نَطَؤُكُمْ حَتّى يَذِلّ الصّعْبُ ... نُعْطِي الْجَزَاءَ أَوْ يَفِيءَ النّهْبُ
بِكَفّ مَاضٍ لَيْسَ فِيهِ عَتْبُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَنْشَدَنِي أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيّ :
قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنّي كَعْبُ ... وَأَنّنِي مَتَى تَشِبّ الْحَرْبُ
مَاضٍ عَلَى الْهَوْلِ جَرِيءُ صُلْبُ ... مَعِي حُسَامٌ كَالْعَقِيقِ عَضْبُ
بِكَفّ مَاضٍ لَيْسَ فِيهِ عَتْبُ ... نَدُكّكُمْ حَتّى يَذِلّ الصّعْبُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَمَرْحَبٌ مِنْ حِمْيَرَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ سَهْلٍ ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ الْأَنْصَارِيّ قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ لِهَذَا ؟ قَالَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ أَنَا لَهُ يَا رَسُولَ اللّهِ أَنَا وَاَللّهِ الْمَوْتُورُ الثّائِرُ قُتِلَ أَخِي بِالْأَمْسِ فَقَالَ فَقُمْ إلَيْهِ " اللّهُمّ أَعِنْهُ عَلَيْهِ . قَالَ فَلَمّا دَنَا أَحَدُهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ دَخَلَتْ بَيْنَهُمَا شَجَرَةٌ عُمْرِيّةٌ مِنْ شَجَرِ الْعُشْرِ فَجَعَلَ أَحَدُهُمَا يَلُوذُ بِهَا مِنْ صَاحِبِهِ كُلّمَا لَاذَ بِهَا مِنْهُ اقْتَطَعَ صَاحِبُهُ بِسَيْفِهِ مَا دُونَهُ مِنْهَا ، حَتّى بَرَزَ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ وَصَارَتْ بَيْنَهُمَا كَالرّجُلِ الْقَائِمِ مَا فِيهَا فَنَنٌ ثُمّ حَمَلَ مَرْحَبٌ عَلَى مُحَمّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ فَضَرَبَهُ فَاتّقَاهُ بِالدّرَقَةِ فَوَقَعَ سَيْفُهُ فِيهَا ، فَعَضّتْ بِهِ فَأَمْسَكَتْهُ وَضَرَبَهُ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ حَتّى قَتَلَهُ [ ص 75 ]
مَقْتَلُ يَاسِرٍ أَخِي مَرْحَبٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ خَرَجَ بَعْدَ مَرْحَبٍ أَخُوهُ يَاسِرٌ وَهُوَ يَقُولُ مَنْ يُبَارِزُ ؟ فَزَعَمَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ أَنّ الزّبَيْرَ بْنَ الْعَوّامِ خَرَجَ إلَى يَاسِرٍ فَقَالَتْ أُمّهُ صَفِيّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ : يَقْتُلُ ابْنِي يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ بَلْ ابْنُك يَقْتُلُهُ إنْ شَاءَ اللّهُ فَخَرَجَ الزّبَيْرُ فَالْتَقَيَا ، فَقَتَلَهُ الزّبَيْرُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ : أَنّ الزّبَيْرَ كَانَ إذَا قِيلَ لَهُ وَاَللّهِ إنْ كَانَ سَيْفُك يَوْمَئِذٍ لَصَارِمًا عَضْبًا ، قَالَ وَاَللّهِ مَا كَانَ صَارِمًا ، وَلَكِنّي أَكْرَهْته .

شَأْنُ عَلِيّ يَوْمَ خَيْبَرَ
[ ص 76 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي بُرَيْدَةُ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ فَرْوَةَ الْأَسْلَمِيّ عَنْ أَبِيهِ سُفْيَانَ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْأَكْوَعِ ، قَالَ بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَبَا بَكْرٍ الصّدّيقَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ بِرَايَتِهِ وَكَانَتْ بَيْضَاءَ فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ ، إلَى بَعْضِ حُصُونِ خَيْبَرَ ، فَقَاتَلَ فَرَجَعَ وَلَمْ يَكُ فَتْحٌ وَقَدْ جُهِدَ ثُمّ بَعَثَ الْغَدَ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ ، فَقَاتَلَ ثُمّ رَجَعَ وَلَمْ يَكُ فَتْحٌ وَقَدْ جُهِدَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَأُعْطِيَنّ الرّايَةَ غَدًا رَجُلًا يُحِبّ اللّهَ وَرَسُولَهُ يَفْتَحُ اللّهُ عَلَى يَدَيْهِ لَيْسَ بِفَرّارِ . قَالَ يَقُولُ سَلَمَةُ فَدَعَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلِيّا رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِ وَهُوَ أَرْمَدُ فَتَفَلَ فِي عَيْنِهِ ثُمّ قَالَ خُذْ هَذِهِ الرّايَةَ فَامْضِ بِهَا حَتّى يَفْتَحَ اللّهُ عَلَيْك . قَالَ يَقُولُ سَلَمَةُ فَخَرَجَ وَاَللّهِ بِهَا يَأْنِحُ يُهَرْوِلُ هَرْوَلَةً وَإِنّا لَخَلْفَهُ نَتْبَعُ أَثَرَهُ حَتّى رَكّزَ رَايَتَهُ فِي رَضْمٍ مِنْ حِجَارَةٍ تَحْتَ الْحِصْنِ فَاطّلَعَ إلَيْهِ يَهُودِيّ مِنْ رَأْسِ الْحِصْنِ فَقَالَ مَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ أَنَا عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ . قَالَ يَقُولُ الْيَهُودِيّ . عَلَوْتُمْ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى ، أَوْ كَمَا قَالَ . قَالَ فَمَا رَجَعَ حَتّى فَتَحَ اللّهُ عَلَى يَدَيْهِ . [ ص 77 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ الْحَسَنِ عَنْ بَعْضِ أَهْلِهِ عَنْ أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ تَعَالَى عَنْهُ حِينَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِرَايَتِهِ فَلَمّا دَنَا مِنْ الْحِصْنِ خَرَجَ إلَيْهِ أَهْلُهُ فَقَاتَلَهُمْ فَضَرَبَهُ رَجُلٌ مِنْ يَهُودَ فَطَاحَ تُرْسُهُ مِنْ يَدِهِ فَتَنَاوَلَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ بَابًا كَانَ عِنْدَ الْحِصْنِ فَتَرّسَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ فَلَمْ يَزَلْ فِي يَدِهِ وَهُوَ يُقَاتِلُ حَتّى فَتَحَ اللّهُ عَلَيْهِ ثُمّ أَلْقَاهُ مِنْ يَدِهِ حِينَ فَرَغَ فَلَقَدْ رَأَيْتنِي فِي نَفَرٍ سَبْعَةٍ مَعِي ، أَنَا ثَامِنُهُمْ نَجْهَدُ عَلَى أَنْ نَقْلِبَ ذَلِكَ الْبَابَ فَمَا نَقْلِبُهُ .
أَمْرُ أَبِي الْيُسْرِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي بُرَيْدَةُ بْنُ سُفْيَانَ الْأَسْلَمِيّ ، عَنْ بَعْضِ رِجَالِ بَنِي سَلِمَةَ عَنْ أَبِي الْيُسْرِ كَعْبِ بْنِ عَمْرٍو ، قَالَ وَاَللّهِ إنّا لَمَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِخَيْبَرِ ذَات عَشِيّةً إذْ أَقْبَلَتْ غَنَمٌ لِرَجُلِ مِنْ يَهُودَ تُرِيدُ حِصْنَهُمْ وَنَحْنُ مُحَاصِرُوهُمْ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ رَجُلٌ يُطْعِمُنَا مِنْ هَذِهِ الْغَنَمِ ؟ قَالَ أَبُو الْيُسْرِ فَقُلْت : أَنَا يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ فَافْعَلْ قَالَ فَخَرَجْت أَشْتَدّ مِثْلَ الظّلِيمِ فَلَمّا نَظَرَ إلَيّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُوَلّيًا قَالَ اللّهُمّ أَمْتِعْنَا بِهِ قَالَ فَأَدْرَكْت الْغَنَمَ وَقَدْ دَخَلَتْ أُولَاهَا الْحِصْنَ فَأَخَذْت شَاتَيْنِ مِنْ أُخْرَاهَا ، فَاحْتَضَنْتهمَا تَحْتَ يَدِي ، ثُمّ أَقْبَلْت بِهِمَا أَشْتَدّ كَأَنّهُ لَيْسَ مَعِي شَيْءٌ حَتّى أَلْقَيْتهمَا عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَذَبَحُوهُمَا فَأَكَلُوهُمَا ، فَكَانَ أَبُو الْيُسْرِ مِنْ آخِرِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هَلَاكًا ، فَكَانَ إذَا حَدّثَ هَذَا الْحَدِيثَ بَكَى ، ثُمّ قَالَ " أُمْتِعُوا بِي ، لَعَمْرِي ، حَتّى كُنْت مِنْ آخِرِهِمْ هَلَكًا
S[ ص 76 ] لَأُعْطِيَنّ الرّايَةَ غَدًا رَجُلًا يُحِبّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَفْتَحُ عَلَى يَدَيْهِ وَفِي غَيْرِ رِوَايَةِ ابْنِ إسْحَاقَ : فَبَاتَ النّاسُ يَدُوكُونَ أَيّهُمْ يُعْطَاهَا وَمَعْنَاهُ مِنْ الدّوكَةِ وَالدّوْكَةِ وَهُوَ اخْتِلَاطُ الْأَصْوَاتِ .
عَلِيّ وَدُعَاءُ الرّسُولِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَذَكَرَ أَنّ عَلِيّا - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - انْطَلَقَ بِالرّايَةِ يَأْنِحُ وَفِي غَيْرِ رِوَايَةِ ابْنِ إسْحَاقَ يَؤُجّ ، فَمَنْ رَوَاهُ يَأْنِحُ فَهُوَ مِنْ الْأَنِيحِ وَهُوَ عُلُوّ النّفَسِ يُقَالُ فَرَسٌ أَنْوَحُ مِنْ هَذَا ، وَيُرْوَى عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - أَنّهُ رَأَى رَجُلًا يَأْنِجُ بِبَطْنِهِ فَقَالَ مَا هَذَا ؟ فَقَالَ بَرَكَةٌ مِنْ اللّهِ فَقَالَ بَلْ هُوَ عَذَابٌ عَذّبَك بِهِ . وَمَنْ رَوَاهُ يَؤُجّ ، فَمَعْنَاهُ يُسْرِعُ يُقَالُ أَجّتْ النّاقَةُ تَؤُجّ إذَا أَسْرَعَتْ فِي مَشْيِهَا ، وَزَادَ الشّيْبَانِيّ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ حِينَ ذَكَرَ أَنّ عَلِيّا كَانَ أَرْمَدَ وَأَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - تَفَلَ فِي عَيْنَيْهِ فَبَرَأَ قَالَ فَمَا وَجِعَتْ عَيْنُهُ حَتّى مَضَى سَبِيلُه قَالَ وَكَانَ عَلِيّ يَلْبَسُ الْقَبَاءَ الْمَحْشُوّ الثّخِينَ فِي شِدّةِ الْحَرّ فَلَا يُبَالِي بِالْحَرّ وَيَلْبَسُ الثّوْبَ الْخَفِيفَ فِي شِدّةِ الْبَرْدِ فَلَا يُبَالِي بِالْبَرْدِ وَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَأَخْبَرَ أَنّ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - دَعَا لَهُ يَوْمَ خَيْبَرَ حِينَ رَمِدَتْ عَيْنُهُ أَنْ يَشْفِيَهُ اللّهُ وَأَنْ يُجَنّبَهُ الْحَرّ وَالْبَرْدَ فَكَانَ ذَلِكَ .
صَاحِبُ الْمَغَانِمِ وَابْنُ مُغَفّلٍ
فَصْلٌ
[ ص 77 ] وَذَكَرَ حَدِيثَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مُغَفّلٍ حِينَ احْتَمَلَ جِرَابَ الشّحْمِ وَأَرَادَ صَاحِبُ الْمَغَانِمِ أَخْذَهُ مِنْهُ وَلَمْ يَذْكُرْ اسْمَ صَاحِبِ الْمَغَانِمِ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ أَنّهُ قَالَ كَانَ عَلَى الْمَغَانِمِ يَوْمَ خَيْبَرَ أَبُو الْيُسْرِ كَعْبُ بْنُ عَمْرِو بْنِ زَيْدٍ الْأَنْصَارِيّ هَكَذَا وَجَدْته فِي بَعْضِ كُتُبِ الْفِقْهِ مَرْوِيّا عَنْ ابْنِ وَهْبٍ ، وَلَمْ يَتّصِلْ لِي بِهِ إسْنَادٌ .

صَفِيّةُ أُمّ الْمُؤْمِنِينَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَلَمّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْقَمُوصَ ، حِصْنَ بَنِي أَبِي الْحُقَيْقِ أُتِيَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِصَفِيّةَ بِنْتِ حُيَيّ بْنِ أَخْطَبَ ، وَبِأُخْرَى مَعَهَا ، فَمَرّ بِهِمَا بِلَالٌ وَهُوَ الّذِي [ ص 78 ] صَفِيّةَ صَاحَتْ وَصَكّتْ وَجْهَهَا وَحَثَتْ التّرَابَ عَلَى رَأْسِهَا ؛ فَلَمّا رَآهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ أَعْزِبُوا عَنّي هَذِهِ الشّيْطَانَةَ وَأَمَرَ بِصَفِيّةَ فَحِيزَتْ خَلْفَهُ وَأَلْقَى عَلَيْهَا رِدَاءَهُ فَعَرَفَ الْمُسْلِمُونَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ اصْطَفَاهَا لِنَفْسِهِ . فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِبِلَالِ فِيمَا بَلَغَنِي حِينَ رَأَى بِتِلْكَ الْيَهُودِيّةِ مَا رَأَى : أَنُزِعَتْ مِنْك الرّحْمَةُ يَا بِلَالُ ، حِينَ تَمُرّ بِامْرَأَتَيْنِ عَلَى قَتْلَى رِجَالِهِمَا ؟ وَكَانَتْ صَفِيّةُ قَدْ رَأَتْ فِي الْمَنَامِ وَهِيَ عَرُوسٌ بِكِنَانَةَ بْنِ الرّبِيعِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ أَنّ قَمَرًا وَقَعَ فِي حِجْرِهَا ، فَعَرَضَتْ رُؤْيَاهَا عَلَى زَوْجِهَا ، فَقَالَ مَا هَذَا إلّا أَنّك تُمَنّينَ مَلِكَ الْحِجَازِ مُحَمّدًا ، فَلَطَمَ وَجْهَهَا لَطْمَةً خَضّرَ عَيْنَهَا مِنْهَا . فَأَتَى بِهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَبِهَا أَثَرٌ مِنْهُ فَسَأَلَهَا مَا هُوَ ؟ فَأَخْبَرَتْهُ هَذَا الْخَبَرَ .
Sالصّفِيّ وَالْمِرْبَاعُ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ صَفِيّةَ بِنْتَ حُيَيّ وَأُمّهَا بُرْدَةَ بِنْتَ سَمَوْأَلٍ أُخْتَ رِفَاعَةَ بْنِ سَمَوْأَلٍ [ ص 78 ] عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَتْ صَفِيّةُ مِنْ الصّفِيّ وَالصّفِيّ مَا يَصْطَفِيهِ أَمِيرُ الْجَيْشِ لِنَفْسِهِ قَالَ الشّاعِرُ [ عَبْدُ اللّهِ بْنُ غَنَمَةَ الضّبّيّ يُخَاطِبُ بِسْطَامَ بْنِ قَيْسٍ ] :
لَك الْمِرْبَاعُ مِنْهَا وَالصّفَايَا ... [ وَحُكْمُك وَالنّشِيطَةُ وَالْفُضُولُ ]
فَالْمِرْبَاعُ رُبْعُ الْغَنِيمَةِ . وَالصّفِيّ مَا يُصْطَفَى لِلرّئِيسِ وَكَانَ هَذَا فِي الْجَاهِلِيّةِ فَنُسِخَ الْمِرْبَاعُ بِالْخُمْسِ وَبَقِيَ أَمْرُ الصّفِيّ .
مَصْدَرُ أَمْوَالِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَزَوَاجُهُ مِنْ صَفِيّةَ
وَكَانَتْ أَمْوَالُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ مِنْ الصّفِيّ وَالْهَدِيّةِ تُهْدَى إلَيْهِ وَهُوَ فِي بَيْتِهِ لَا فِي الْغَزْوِ مِنْ بِلَادِ الْحَرْبِ وَمِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ وَرَوَى يُونُسُ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُجَمّعٍ الْأَنْصَارِيّ قَالَ حَدّثَنِي عُثْمَانُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ ، قَالَ حَدّثَنِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي النّضِيرِ كَانَ فِي حِجْرِ صَفِيّةَ بِنْتِ حُيَيّ مِنْ رَهْطِهَا يُقَالُ لَهُ رَبِيعٌ عَنْ صَفِيّةَ بِنْتِ حُيَيّ قَالَتْ مَا رَأَيْت أَحَدًا قَطّ أَحْسَنَ خُلُقًا مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَقَدْ رَأَيْته رَكِبَ بِي مِنْ خَيْبَرَ حِينَ أَفَاءَ اللّهُ عَلَيْهِ عَلَى نَاقَتِهِ لَيْلًا فَجَعَلْت أَنْعَسُ فَيَضْرِبُ رَأْسِي مُؤَخّرَةُ الرّحْلِ فَيَمَسّنِي بِيَدِهِ وَيَقُولُ " يَا هَذِهِ مَهْلًا يَا ابْنَةَ حُيَيّ " ، حَتّى إذَا جَاءَ الصّهْبَاءَ ، قَالَ " أَمَا إنّي أَعْتَذِرُ إلَيْك يَا صَفِيّةُ مِمّا صَنَعْت بِقَوْمِك ، إنّهُمْ قَالُوا لِي : كَذَا ، وَقَالُوا لِي : كَذَا " . وَحَدِيثُ [ ص 79 ] صَفِيّةَ يُعَارِضُهُ فِي الظّاهِرِ الْحَدِيثُ الْآخَرُ عَنْ أَنَسٍ أَنّهَا صَارَتْ لِدِحْيَةَ فَأَخَذَهَا مِنْهُ وَأَعْطَاهُ سَبْعَةَ أَرْأُسٍ وَيُرْوَى أَنّهُ أَعْطَاهُ بِنْتَيْ عَمّهَا عِوَضًا مِنْهَا ، وَيُرْوَى أَيْضًا أَنّهُ قَالَ لَهُ خُذْ رَأْسًا آخَرَ مَكَانهَا وَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ فَإِنّمَا أَخَذَهَا مِنْ دِحْيَةَ قَبْلَ الْقَسْمِ وَمَا عَوّضَهُ مِنْهَا لَيْسَ عَلَى جِهَةِ الْبَيْعِ وَلَكِنْ عَلَى جِهَةِ النّفْلِ وَالْهِبَةِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . غَيْرَ أَنّ بَعْضَ رُوَاةِ الْحَدِيثِ فِي الْمُسْنَدِ الصّحِيحِ يَقُولُونَ فِيهِ إنّهُ اشْتَرَى صَفِيّةَ مِنْ دِحْيَةَ وَبَعْضُهُمْ يَزِيدُ فِيهِ بَعْدَ الْقَسْمِ فَاَللّهُ أَعْلَمُ أَيّ ذَلِكَ كَانَ . وَكَانَ أَمْرُ الصّفِيّ أَنّهُ كَانَ عَلَيْهِ السّلَامُ إذَا غَزَا فِي الْجَيْشِ اخْتَارَ مِنْ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْقَسْمِ رَأْسًا وَضَرَبَ لَهُ بِسَهْمِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فَإِذَا قَعَدَ وَلَمْ يَخْرُجْ مَعَ الْجَيْش ضُرِبَ لَهُ بِسَهْمِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ صَفِيّ ، ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ ، وَأَمْرُ الصّفِيّ بَعْدَ الرّسُولِ عَلَيْهِ السّلَامُ لِإِمَامِ الْمُسْلِمِينَ فِي قَوْلِ أَبِي ثَوْرٍ وَخَالَفَهُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَقَالُوا : كَانَ خُصُوصًا لِلنّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ .
صَدَاقُ صَفِيّةَ
وَقَوْلُهُ أَعْتَقَهَا ، وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا ، هُوَ صَحِيحٌ فِي الْعَقْلِ وَقَالَ بِهِ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَمَنْ لَمْ يَقُلْ بِهِ مِنْ الْفُقَهَاءِ تَأَوّلَهُ خُصُوصًا بِالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَوْ مَنْسُوخًا ، وَمِمّنْ لَمْ يَقُلْ بِهِ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ ، وَجَمَاعَةٌ سِوَاهُ لَا يَرَوْنَ مُجَرّدَ الْعِتْقِ يُغْنِي عَنْ صَدَاقٍ .

بَقِيّةُ أَمْرِ خَيْبَرَ
[ ص 79 ] وَأُتِيَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِكِنَانَةَ بْنِ الرّبِيعِ وَكَانَ عِنْدَهُ كَنْزُ بَنِي النّضِيرِ فَسَأَلَهُ عَنْهُ فَجَحَدَ أَنْ يَكُونَ يَعْرِفُ مَكَانَهُ فَأَتَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَجُلٌ مِنْ يَهُودَ فَقَالَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّي رَأَيْت كِنَانَةَ يُطِيفُ بِهَذِهِ الْخَرِبَةِ كُلّ غَدَاةٍ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِكِنَانَةَ " أَرَأَيْت إنْ وَجَدْنَاهُ عِنْدَك ُ أَأَقْتُلُك ؟ " قَالَ نَعَمْ فَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْخَرِبَةِ فَحُفِرَتْ فَأَخْرَجَ مِنْهَا بَعْضَ كَنْزِهِمْ ثُمّ سَأَلَهُ عَمّا بَقِيَ فَأَبَى أَنْ يُؤْذِيَهُ فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الزّبَيْرَ بْنَ الْعَوّامِ ُ فَقَالَ عَذّبْهُ حَتّى تَسْتَأْصِلَ مَا عِنْدَهُ فَكَانَ الزّبَيْرُ يَقْدَحُ بِزَنْدِ فِي صَدْرِهِ حَتّى أَشْرَفَ عَلَى نَفْسِهِ ثُمّ دَفَعَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى مُحَمّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ فَضَرَبَ عُنُقَهُ بِأَخِيهِ مَحْمُودِ بْنِ مَسْلَمَةَ

صُلْحُ خَيْبَرَ
وَحَاصَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَهْلَ خَيْبَرَ فِي حِصْنَيْهِمْ الْوَطِيحِ وَالسّلَالِمِ ُ حَتّى إذَا أَيْقَنُوا بِالْهَلَكَةِ سَأَلُوهُ أَنْ يُسَيّرَهُمْ وَأَنْ يَحْقِنَ لَهُمْ دِمَاءَهُمْ فَفَعَلَ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ حَازَ [ ص 80 ] الشّقّ وَنَطَاةَ وَالْكَتِيبَةَ وَجَمِيعَ حُصُونِهِمْ إلّا مَا كَانَ مِنْ ذَيْنِك الْحِصْنَيْنِ . [ ص 81 ] فَدَك قَدْ صَنَعُوا مَا صَنَعُوا ُ بَعَثُوا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَسْأَلُونَهُ أَنْ يُسَيّرَهُمْ وَأَنْ يَحْقِنَ دِمَاءَهُمْ وَيُخَلّوا لَهُ الْأَمْوَالَ فَفَعَلَ . وَكَانَ فِيمَنْ مَشَى بَيْنَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَبَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ مُحَيّصَةُ بْنُ مَسْعُودٍ أَخُو بَنِي حَارِثَةَ فَلَمّا نَزَلَ أَهْلُ خَيْبَرَ عَلَى [ ص 82 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يُعَامِلَهُمْ فِي الْأَمْوَالِ عَلَى النّصْفِ وَقَالُوا : نَحْنُ أَعْلَمُ بِهَا مِنْكُمْ وَأَعْمَرُ لَهَا ؛ فَصَالَحَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى النّصْفِ عَلَى أَنّا إذَا شِئْنَا أَنْ نُخْرِجَكُمْ أَخَرَجْنَاكُمْ فَصَالَحَهُ أَهْلُ فَدَك عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ فَكَانَتْ خَيْبَرُ فَيْئًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَكَانَتْ فَدَكُ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِأَنّهُمْ لَمْ يَجْلِبُوا عَلَيْهَا بِخَيْلِ وَلَا رِكَابٍ .
Sحَنَشٌ الصّنْعَانِيّ
[ ص 80 ] وَذَكَرَ حَدِيثَ حَنَشٍ الصّنْعَانِيّ عَنْ رُوَيْفِعِ بْنِ ثَابِتٍ . هُوَ حَنَشُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ السّبَائِيّ جَاءَ إلَى الْأَنْدَلُسِ مَعَ مُوسَى بْنِ نَصِيرٍ وَهُوَ الّذِي ابْتَنَى جَامِعَ سَرَقُسْطَةَ وَأَسّسَ جَامِعَ قُرْطُبَةَ أَيْضًا ُ فِيمَا ذَكَرُوا ُ وَتَوَهّمَ الْبُخَارِيّ أَنّهُ حَنَشُ بْنُ عَلِيّ وَأَنّ الِاخْتِلَافَ فِي اسْمِ أَبِيهِ وَقَدْ فَرّقَ بَيْنَهُمَا عَلِيّ بْن الْمَدِينِيّ فَقَالَ حَنَشُ بْنُ عَلِيّ السّبَائِيّ مِنْ صَنْعَاءِ الشّامِ ُ وَمِنْهَا أَبُو الْأَشْعَثِ الصّنْعَانِيّ ُ وَحَنَشُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ السّبَائِيّ مِنْ صَنْعَاءِ الْيَمَنِ ُ وَكِلَاهُمَا يَرْوِي عَنْ عَلِيّ فَمِنْ هَهُنَا دَخَلَ الْوَهْمُ عَلَى الْبُخَارِيّ ُ هَكَذَا ذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ ُ وَيُرْوَى عَنْ عَلِيّ أَيْضًا حَنَشُ بْنُ رَبِيعَةَ ُ وَحَنَشُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ وَهُمَا غَيْرُ هَذَيْنِ .
وَطْءٌ مَنْهِيّ عَنْهُ
وَفِيهِ أَنّ لَا تُوطَأَ حَامِلٌ مِنْ السّبَايَا حَتّى تَضَعَ وَذَكَرَ بَاقِيَ الْحَدِيثِ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنّهُ نَظَرَ إلَى أَمَةٍ مُجِحّ أَيْ مُقْرِبٍ فَسَأَلَ عَنْ صَاحِبِهَا ُ فَقِيلَ إنّهُ يُلِمّ بِهَا ُ فَقَالَ لَقَدْ هَمَمْت أَنْ أَلْعَنَهُ لَعْنَةً تَدْخُلُ مَعَهُ فِي قَبْرِهِ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ . فَهَذَا وَجْهٌ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ لَا يَحِلّ لِامْرِئِ يُؤْمِنُ بِاَللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْقِيَ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ مَعْنَى إتْيَانِ الْحَبَالَى مِنْ السّبَايَا ُ فَإِنْ فَعَلَ فَالْوَلَدُ مُخْتَلَفٌ فِي إلْحَاقِهِ بِهِ فَقَالَ مَالِكٌ وَالشّافِعِيّ : لَا يَلْحَقُ بِهِ وَقَالَ اللّيْثُ يَلْحَقُ بِهِ لِقَوْلِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَيْفَ يَسْتَعْبِدُهُ وَقَدْ غَذّاهُ فِي سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ
عَلِيّ يَقْتُلُ مَرْحَبًا
فَصْلٌ وَمِمّا يَتّصِلُ بِقِصّةِ مَرْحَبٍ الْيَهُودِيّ مَعَ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - مِنْ غَيْرِ رِوَايَةِ الْكِتَابِ قَوْلُ عَلِيّ
أَنَا الّذِي سَمّتْنِي أُمّي حَيْدَرَهْ ... أَضْرِبُ بِالسّيْفِ رُءُوسَ الْكَفَرَهْ
أَكِيلُهُمْ بِالصّاعِ كَيْلَ السّنْدَرَهْ
أَيْ أَجْزِيهِمْ بِالْوَفَاءِ وَالسّنْدَرَةُ شَجَرَةٌ يُصْنَعُ مِنْهَا مَكَايِيلُ عِظَامٌ .
حَيْدَرَةُ
[ ص 81 ] رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ سَمّتْنِي أُمّي حَيْدَرَهْ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ ذَكَرَهَا قَاسِمُ بْنُ ثَابِتٍ أَحَدُهَا : أَنّ اسْمَهُ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدّمَةِ أَسَدٌ ُ وَالْأَسَدُ هُوَ الْحَيْدَرَةُ . الثّانِي : أَنّ أُمّهُ فَاطِمَةَ بِنْتَ أَسَدٍ حِينَ وَلَدَتْهُ كَانَ أَبُوهُ غَائِبًا ُ فَسَمّتْهُ بِاسْمِ أَبِيهَا أَسَدٍ ُ فَقَدِمَ أَبُوهُ فَسَمّاهُ عَلِيّا . الثّالِثُ أَنّهُ لُقّبَ فِي صِغَرِهِ بِحَيْدَرَةَ لِأَنّ الْحَيْدَرَةَ الْمُعْتَلِي لَحْمًا مَعَ عَظْمِ بَطْنٍ وَكَذَلِكَ كَانَ عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ اللّصُوصِ حِينَ فَرّ مِنْ سِجْنِهِ الّذِي كَانَ يُسَمّى نَافِعًا ُ وَقِيلَ فِيهِ يَافِعٌ أَيْضًا بِالْيَاءِ
وَلَوْ أَنّي مَكَثْت لَهُمْ قَلِيلًا ... لَجَرّونِي إلَى شَيْخٍ بِطِينِ
مِنْ حُصُونِ خَيْبَرَ
وَذَكَرَ شَقّا وَالنّطَاةَ وَشَقّ بِالْفَتْحِ أَعْرَفُ عِنْدَ أَهْلِ اللّغَةِ كَذَلِكَ قَيّدَهُ الْبَكْرِيّ . وَذَكَرَ وَادِيَ خَاصٍ مِنْ أَرْضِ خَيْبَرَ . وَقَالَ أَبُو الْوَلِيدِ إنّمَا هُوَ وَادِي خَلْصٍ بِاللّامِ وَالْأَوّلُ تَصْحِيفٌ . وَقَالَ الْبَكْرِيّ : هُوَ خَلْصٌ بِاللّامِ وَأَنْشَدَ الْبَكْرِيّ لِخَالِدِ بْنِ عَامِرٍ
وَإِنّ بِخَلْصٍ خَلْصِ آرَةَ بُدّنًا ... نَوَاعِمَ كَالْغِزْلَانِ مَرْضَى عُيُونُهَا

الشّاةُ الْمَسْمُومَةُ
[ ص 83 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَهْدَتْ لَهُ
زَيْنَبُ بِنْتُ الْحَارِثِ امْرَأَةُ سَلَامِ بْنِ مِشْكَمٍ شَاةً مَصْلِيّةً وَقَدْ سَأَلَتْ أَيّ عُضْوٍ مِنْ الشّاةِ أَحَبّ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ؟ فَقِيلَ لَهَا : الذّرَاعُ فَأَكْثَرَتْ فِيهَا مِنْ السّمّ ثُمّ سَمّتْ سَائِرَ الشّاةِ ثُمّ جَاءَتْ بِهَا ؛ فَلَمّا وَضَعَتْهَا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَنَاوَلَ الذّرَاعَ فَلَاكَ مِنْهَا مُضْغَةً فَلَمْ يُسِغْهَا ُ وَمَعَهُ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ ُ قَدْ أَخَذَ مِنْهَا كَمَا أَخَذَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَمّا بِشْرٌ فَأَسَاغَهَا ؛ وَأَمّا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَفَظَهَا ُ ثُمّ قَالَ إنّ هَذَا الْعَظْمَ لَيُخْبِرنِي أَنّهُ مَسْمُومٌ ثُمّ دَعَا بِهَا ُ فَاعْتَرَفَتْ فَقَالَ " مَا حَمَلَك عَلَى ذَلِكَ ؟ " قَالَتْ بَلَغْت مِنْ قَوْمِي مَا لَمْ يَخَفْ عَلَيْك . فَقُلْت : إنْ كَانَ مَلَكًا اسْتَرَحْت مِنْهُ وَإِنْ كَانَ نَبِيّا فَسَيُخْبَرُ قَالَ فَتَجَاوَزَ عَنْهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَاتَ بِشْرٌ مِنْ أَكْلَتِهِ الّتِي أَكَلَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي مَرْوَانُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلّى ُ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ قَالَ فِي مَرَضِهِ الّذِي تُوُفّيَ فِيهِ وَدَخَلَتْ أُمّ بِشْرٍ بِنْتُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ تَعُودُهُ يَا أُمّ بِشْرٍ إنّ هَذَا الْأَوَانَ وَجَدْت فِيهِ انْقِطَاعَ أَبْهَرِي مِنْ الْأَكْلَةِ الّتِي أَكَلْت مَعَ أَخِيك بِخَيْبَرِ . قَالَ فَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ لَيَرَوْنَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَاتَ شَهِيدًا ُ مَعَ مَا أَكْرَمَهُ اللّهُ بِهِ مِنْ النّبُوّةِ .
Sالشّاةُ الْمَسْمُومَةُ
فَصْلٌ
[ ص 83 ] وَذَكَرَ حَدِيثَ الشّاةِ الْمَسْمُومَةِ وَأَكْلَ بِشْرِ بْنِ الْبَرَاءِ مِنْهَا ُ وَفِيهِ أَنّ الذّرَاعَ كَانَتْ تُعْجِبُهُ لِأَنّهَا هَادِي الشّاةِ وَأَبْعَدُهَا مِنْ الْأَذَى ُ فَلِذَلِكَ جَاءَ مُفَسّرًا فِي هَذَا اللّفْظِ . فَأَمّا الْمَرْأَةُ الّتِي سَمّتْهُ فَقَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : صَفَحَ عَنْهَا ُ وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ أَنّهُ قَتَلَهَا ُ وَوَقَعَ فِي كِتَابِ شَرَفِ الْمُصْطَفَى ُ أَنّهُ قَتَلَهَا وَصَلَبَهَا ُ وَهِيَ زَيْنَبُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ سَلَامٍ وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ : وَهِيَ أُخْتُ مَرْحَبٍ الْيَهُودِيّ ُ وَرَوَى أَيْضًا مِثْلَ ذَلِكَ ابْنُ إسْحَاقَ . وَوَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ الرّوَايَتَيْنِ أَنّهُ عَلَيْهِ السّلَامُ صَفَحَ عَنْهَا ُ أَوّلَ لِأَنّهُ كَانَ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لَا يَنْتَقِمُ لِنَفْسِهِ فَلَمّا مَاتَ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ مِنْ تِلْكَ الْأَكْلَةِ قَتَلَهَا ُ وَذَلِكَ أَنّ بِشْرًا لَمْ يَزَلْ مُعْتَلّا مِنْ تِلْكَ الْأَكْلَةِ حَتّى مَاتَ مِنْهَا بَعْدَ حَوْلٍ وَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عِنْدَ مَوْتِهِ مَا زَالَتْ أَكْلَةُ خَيْبَرَ تُعَادّنِي ُ فَهَذَا أَوَانُ قَطَعَتْ أَبْهَرِي وَكَانَ يَنْفُثُ مِنْهَا مِثْلَ عَجْمِ الزّبِيبِ . وَتُعَادّنِي ُ أَيْ تَعْتَادُنِي الْمَرّةَ بَعْدَ [ ص 84 ] الْمَرّةِ ُ قَالَ الشّاعِرُ
أُلَاقِي مِنْ تَذَكّرِ آلِ لَيْلَى ... كَمَا يَلْقَى السّلَيْمُ مِنْ الْعِدَادِ
وَالْأَبْهَرُ عِرْقٌ مُسْتَبْطَنُ الْقَلْبِ . قَالَ ابْنُ مُقْبِلٍ
وَلِلْفُؤَادِ وَجِيبٌ تَحْتَ أَبْهَرِهِ ... لَدْمَ الْوَلِيدِ وَرَاءَ الْغَيْبِ بِالْحَجَرِ
وَقَدْ رَوَى مَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ فِي جَامِعِهِ عَنْ الزّهْرِيّ أَنّهُ قَالَ أَسْلَمَتْ فَتَرَكَهَا النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ مَعْمَرٌ هَكَذَا قَالَ الزّهْرِيّ : أَسْلَمَتْ وَالنّاسُ يَقُولُونَ قَتَلَهَا ُ وَأَنّهَا لَمْ تُسْلِمْ وَفِي جَامِعِ مَعْمَرِ بْنِ رَاشِدٍ أَيْضًا أَنّ أُمّ بِشْرِ بْنِ الْبَرَاءِ قَالَتْ لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْمَرَضِ الّذِي مَاتَ مِنْهُ مَا تَتّهِمُ يَا رَسُولَ اللّهِ فَإِنّي لَا أَتّهِمُ بِبِشْرِ إلّا الْأَكْلَةَ الّتِي أَكَلَهَا مَعَك بِخَيْبَرِ فَقَالَ وَأَنَا لَا أَتّهِمُ بِنَفْسِي إلّا ذَلِكَ فَهَذَا أَوَانُ قَطَعَتْ أَبْهَرِي . [ ص 85 ]

رُجُوعُ الرّسُولِ إلَى الْمَدِينَةِ
[ ص 84 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا فَرَغَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ خَيْبَرَ انْصَرَفَ إلَى وَادِي الْقُرَى فَحَاصَرَ أَهْلَهُ لَيَالِيَ ثُمّ انْصَرَفَ رَاجِعًا إلَى الْمَدِينَةِ .
مَقْتَلُ غُلَامٍ لِلرّسُولِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي ثَوْرُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ سَالِمٍ مَوْلَى عَبْدِ اللّهِ بْنِ مُطِيعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ فَلَمّا انْصَرَفْنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ خَيْبَرَ إلَى وَادِي الْقُرَى نَزَلْنَا بِهَا أَصِيلًا مَعَ مَغْرِبِ الشّمْسِ وَمَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ غُلَامٌ لَهُ أَهْدَاهُ لَهُ رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ الْجُذَامِيّ ثُمّ الضّبِينِيّ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : جُذَامٌ أَخُو لَخْمٍ . قَالَ فَوَاَللّهِ إنّهُ لَيَضَعُ رَحْلَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذْ أَتَاهُ سَهْمٌ غَرْبٌ فَأَصَابَهُ فَقَتَلَهُ فَقُلْنَا : هَنِيئًا لَهُ الْجَنّةُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَلّا ُ وَاَلّذِي نَفْسُ مُحَمّدٍ بِيَدِهِ إنّ شَمْلَتَهُ الْآنَ لَتَحْتَرِقُ عَلَيْهِ فِي النّارِ كَانَ غَلّهَا مِنْ فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ خَيْبَرَ قَالَ فَسَمِعَهَا رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَتَاهُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ أَصَبْت شِرَاكَيْنِ لِنَعْلَيْنِ لِي قَالَ فَقَالَ يُقَدّ لَك مِثْلُهُمَا مِنْ النّارِ .
أَمْرُ ابْنِ مُغَفّلٍ وَالْجِرَابِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي مَنْ لَا أَتّهِمُ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مُغَفّلٍ الْمُزَنِيّ ُ قَالَ أَصَبْت مِنْ فَيْءِ خَيْبَرَ جِرَابَ شَحْمٍ فَاحْتَمَلْته عَلَى عَاتِقِي إلَى رَحْلِي وَأَصْحَابِي . قَالَ فَلَقِيَنِي [ ص 85 ] فَأَخَذَ بِنَاحِيَتِهِ وَقَالَ هَلُمّ هَذَا نَقْسِمُهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ قَالَ قُلْت : لَا وَاَللّهِ لَا أُعْطِيكَهُ قَالَ فَجَعَلَ يُجَابِذُنِي الْجِرَابَ . قَالَ فَرَآنَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَنَحْنُ نَصْنَعُ ذَلِكَ . قَالَ فَتَبَسّمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ضَاحِكًا ُ ثُمّ قَالَ لِصَاحِبِ الْمَغَانِمِ لَا أَبَا لَك خَلّ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَالَ فَأَرْسَلَهُ فَانْطَلَقْت بِهِ إلَى رَحْلِي وَأَصْحَابِي فَأَكَلْنَاهُ .

أَبُو أَيّوبَ يَحْرُسُ الرّسُولَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَيْلَةَ بِنَائِهِ بِصَفِيّةَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَلَمّا أَعْرَسَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِصَفِيّةَ بِخَيْبَرِ أَوْ بِبَعْضِ الطّرِيقِ وَكَانَتْ الّتِي جَمّلَتْهَا لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَشَطَتْهَا وَأَصْلَحَتْ مِنْ أَمْرِهَا أُمّ سُلَيْمٍ بِنْتُ مِلْحَانَ أُمّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ . فَبَاتَ بِهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي قُبّةٍ لَهُ وَبَاتَ أَبُو أَيّوبَ خَالِدُ بْنُ زَيْدٍ أَخُو بَنِي النّجّارِ مُتَوَشّحًا سَيْفَهُ يَحْرُسُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَيُطِيفُ بِالْقُبّةِ حَتّى أَصْبَحَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَمّا رَأَى مَكَانَهُ قَالَ مَا لَك يَا أَبَا أَيّوبَ ؟ قَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ خِفْت عَلَيْك مِنْ هَذِهِ الْمَرْأَةِ وَكَانَتْ امْرَأَةً قَدْ قَتَلَتْ أَبَاهَا وَزَوْجَهَا وَقَوْمَهَا وَكَانَتْ حَدِيثَةَ عَهْدٍ بِكُفْرِ فَخِفْتهَا عَلَيْك فَزَعَمُوا أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ اللّهُمّ احْفَظْ أَبَا أَيّوبَ كَمَا بَاتَ يَحْفَظُنِي

بِلَالٌ يَغْلِبُهُ النّوْمُ وَهُوَ يَرْقُبُ الْفَجْر
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي الزّهْرِيّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ قَالَ لَمّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ خَيْبَرَ فَكَانَ بِبَعْضِ الطّرِيقِ قَالَ مِنْ آخِرِ اللّيْلِ مَنْ رَجُلٌ يَحْفَظُ عَلَيْنَا الْفَجْرَ لَعَلّنَا نَنَامُ ؟ قَالَ بِلَالٌ أَنَا يَا رَسُولَ اللّهِ أَحْفَظُهُ عَلَيْك . فَنَزَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَنَزَلَ النّاسُ فَنَامُوا وَقَامَ بِلَالٌ يُصَلّي فَصَلّى مَا شَاءَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ أَنْ يُصَلّيَ ثُمّ اسْتَنَدَ إلَى بَعِيرِهِ وَاسْتَقْبَلَ الْفَجْرَ يَرْمُقُهُ فَغَلَبَتْهُ عَيْنُهُ فَنَامَ فَلَمْ يُوقِظْهُمْ إلّا مَسّ الشّمْسِ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَوّلَ أَصْحَابِهِ هَبّ فَقَالَ مَاذَا صَنَعْت بِنَا يَا بِلَالُ ؟ " قَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ أَخَذَ بِنَفْسِي الّذِي أَخَذَ بِنَفْسِك قَالَ " صَدَقْت " ثُمّ اقْتَادَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعِيرَهُ غَيْرَ كَثِيرٍ ثُمّ أَنَاخَ فَتَوَضّأَ وَتَوَضّأَ النّاسُ ثُمّ أَمَرَ بِلَالًا فَأَقَامَ الصّلَاةَ فَصَلّى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالنّاسِ فَلَمّا سَلّمَ أَقْبَلَ عَلَى النّاسِ فَقَالَ إذَا نَسِيتُمْ الصّلَاةَ فَصَلّوهَا إذَا ذَكَرْتُمُوهَا " فَإِنّ اللّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ { وَأَقِمِ الصّلَاةَ لِذِكْرِي }

شِعْرُ ابْنِ لُقَيْمٍ فِي فَتْحِ خَيْبَرَ
[ ص 86 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيمَا بَلَغَنِي قَدْ أَعْطَى ابْنَ لُقَيْمٍ الْعَبْسِيّ حِينَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ مَا بِهَا مِنْ دَجَاجَةٍ أَوْ دَاجِنٍ وَكَانَ فَتْحُ خَيْبَرَ فِي صَفَرٍ فَقَالَ ابْنُ لُقَيْمٍ الْعَبْسِيّ فِي خَيْبَرَ :
رُمِيَتْ نَطَاةُ مِنْ الرّسُولِ بِفَيْلَقِ ... شَهْبَاءَ ذَاتِ مَنَاكِبٍ وَفِقَارِ
وَاسْتَيْقَنَتْ بِالذّلّ لَمّا شُيّعَتْ ... وَرِجَالُ أَسْلَمَ وَسْطَهَا وَغِفَارِ
صَبَحَتْ بَنِي عَمْرِو بْنِ زُرْعَةَ غَدْوَةً ... وَالشّقّ أَظْلَمَ أَهْلُهُ بِنَهَارِ
جَرّتْ بِأَبْطَحِهَا الذّيُولَ فَلَمْ تَدَعْ ... إلّا الدّجَاجَ تَصِيحُ فِي الْأَسْحَارِ
وَلِكُلّ حِصْنٍ شَاغِلٍ مِنْ خَيْلِهِمْ ... مِنْ عَبْدِ أَشْهَل أَوْ بَنِي النّجّارِ
وَمُهَاجِرِينَ قَدْ اعْلِمُوا سَمّاهُمْ ... فَوْقَ الْمَغَافِرِ لَمْ يَنُوا لِفِرَارِ
وَلَقَدْ عَلِمْت لَيَغْلِبَنّ مُحَمّدٌ ... وَلَيَثْوِيَنّ بِهَا إلَى أَصْفَارِ
فَرّتْ يَهُودٌ يَوْمَ ذَلِكَ فِي الْوَغَى ... تَحْتَ الْعَجَاجِ غَمَائِمَ الْأَبْصَارِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : فَرّتْ كَشَفَتْ كَمَا تُفَرّ الدّابّةُ بِالْكَشَفِ عَنْ أَسْنَانِهَا يُرِيدُ كَشَفَتْ عَنْ جُفُونِ الْعُيُونِ غَمَائِمَ الْأَبْصَارِ يُرِيدُ الْأَنْصَارَ .
Sالْحَالُ وَالْمَعْرِفَةُ لَفْظًا
فَصْلٌ وَذَكَرَ فِي أَشْعَارِ خَيْبَرَ قَوْلَ الْعَبْسِيّ . وَفِي آخِرِهِ
فَرّتْ يَهُودُ يَوْمَ ذَلِكَ فِي الْوَغَى ... تَحْتَ الْعَجَاجِ غَمَائِمَ الْأَبْصَارِ
وَهُوَ بَيْتٌ مُشْكِلٌ غَيْرَ أَنّ فِي بَعْضِ النّسَخِ وَهِيَ قَلِيلَةٌ عَنْ ابْنِ هِشَامٍ أَنّهُ قَالَ فَرّتْ فَتَحَتْ مِنْ قَوْلِك : فَرَرْت الدّابّةَ إذَا فَتَحْت فَاهَا . وَغَمَائِمُ الْأَبْصَارِ هِيَ مَفْعُولُ فَرّتْ وَهِيَ جُفُونُ أَعْيُنِهِمْ هَذَا قَوْلٌ وَقَدْ يَصِحّ أَنْ يَكُونَ فَرّتْ مِنْ الْفِرَارِ وَغَمَائِمُ الْأَبْصَارِ مِنْ صِفَةِ الْعَجَاجِ وَهُوَ الْغُبَارُ وَنَصْبُهُ عَلَى الْحَالِ مِنْ الْعَجَاجِ وَإِنْ كَانَ لَفْظُهُ لَفْظَ الْمَعْرِفَةِ عِنْدَ مَنْ لَيْسَ بِشَاذّ فِي النّحْوِ . وَلَا مَاهِرٍ فِي الْعَرَبِيّةِ وَأَمّا عِنْدَ أَهْلِ التّحْقِيقِ فَهُوَ نَكِرَةٌ لِأَنّهُ لَمْ يُرِدْ الْغَمَائِمَ حَقِيقَةً وَإِنّمَا أَرَادَ مِثْلَ الْغَمَائِمِ فَهُوَ مِثْلُ قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ بِمُنْجَرِدِ قَيْدِ الْأَوَابِدِ هَيْكَلِ
[ ص 82 ] نَكِرَةٌ لِأَنّهُ أَرَادَ مِثْلَ الْقَيْدِ وَلِذَلِكَ نَعَتَ بِهِ مُنْجَرِدًا أَوْ جَعَلَهُ فِي مَعْنَى مُقَيّدٍ وَكَذَلِكَ قَوْلُ عَبْدَةَ بْنِ الطّبِيبِ تَحِيّةُ مَنْ غَادَرْته غَرَضَ الرّدَى
فَنَصَبَ غَرَضًا عَلَى الْحَالِ وَأَصَحّ الْأَقْوَالِ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ { زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا } [ طَه : 131 ] أَنّهُ حَالٌ مِنْ الْمُضْمَرِ الْمَخْفُوضِ لِأَنّهُ أَرَادَ التّشْبِيهَ بِالزّهْرَةِ مِنْ النّبَاتِ وَمِنْ هَذَا النّحْوِ قَوْلُهُمْ جَاءَ الْقَوْمُ الْجَمّاءَ الْغَفِيرُ انْتَصَبَ عَلَى الْحَالِ وَفِيهِ الْأَلِفُ وَاللّامُ وَهُوَ مِنْ بَابِ مَا قَدّمْنَاهُ مِنْ التّشْبِيهِ وَذَلِكَ أَنّ الْجَمّاءَ هِيَ بَيْضَةُ الْحَدِيدِ تُعْرَفُ بِالْجَمّاءِ وَالصّلْعَاءِ فَإِذَا جُعِلَ مَعَهَا الْمِغْفَرُ فَهِيَ غَفِيرٌ فَإِذَا قُلْت : جَاءُوا الْجَمّاءَ الْغَفِيرُ فَإِنّمَا أَرَدْت الْعُمُومَ وَالْإِحَاطَةَ بِجَمِيعِهِمْ أَيْ جَاءُوا جَيْئَةً تَشْمَلُهُمْ وَتَسْتَوْعِبُهُمْ كَمَا تُحِيطُ الْبَيْضَةُ الْغَفِيرُ بِالرّأْسِ فَلَمّا قَصَدُوا مَعْنَى التّشْبِيهِ دَخَلَ الْكَلَامُ الْكَثِيرُ كَمَا تَقَدّمَ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ تَفَرّقُوا أَيْدِيَ سَبَا وَأَيَادِيَ سَبَا أَيْ مِثْلَ أَيْدِي سَبَا فَحَسُنَتْ فِيهِ الْحَالُ لِذَلِكَ وَاَلّذِي قُلْنَاهُ فِي مَعْنَى الْجَمّاءَ الْغَفِيرُ رَوَاهُ أَبُو حَاتِمٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ وَكَانَ عَلَامَةً بِكَلَامِ الْعَرَبِ وَلَمْ يَقَعْ سِيبَوَيْهِ عَلَى هَذَا الْغَرَضِ فِي مَعْنَى الْجَمّاءِ فَجَعَلَهَا كَلِمَةً شَاذّةً عَنْ الْقِيَاسِ وَاعْتَقَدَ فِيهَا التّعْرِيفَ وَقَرَنَهَا بِبَابِ وَحْدَهُ وَفِي بَابِ وَحْدَهُ أَسْرَارٌ قَدْ أَمْلَيْنَاهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ وَمَسْأَلَةُ وَحْدَهُ تَخْتَصّ بِبَابِ وَحْدَهُ وَهَذَا الّذِي ذَكَرْنَا مِنْ التّنْكِيرِ بِسَبَبِ التّشْبِيهِ إنّمَا يَكُونُ إذَا شَبّهْت الْأَوّلَ بِاسْمِ مُضَافٍ وَكَانَ التّشْبِيهُ بِصِفَةِ مُتَعَدّيَةٍ إلَى الْمُضَافِ إلَيْهِ كَقَوْلِهِ قَيْدِ الْأَوَابِدِ أَيْ مُقَيّدَ الْأَوَابِدِ وَلَوْ قُلْت : مَرَرْت بِامْرَأَةِ الْقَمَرُ عَلَى التّشْبِيهِ لَمْ يَجُزْ لِأَنّ الصّفَةَ الّتِي وَقَعَ بِهَا التّشْبِيهُ غَيْرُ مُتَعَدّيَةٍ إلَى الْقَمَرِ فَهَذَا شَرْطٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَمِمّا يَحْسُنُ فِيهِ التّنْكِيرُ وَهُوَ مُضَافٌ إلَى مَعْرِفَةٍ اتّفَاقُ اللّفْظَيْنِ كَقَوْلِهِ لَهُ صَوْتٌ صَوْتٌ الْحِمَارِ وَزَئِيرٌ زَئِيرُ الْأَسَدِ فَإِنْ قُلْت : فَمَا بَالُ الْجَمّاءَ الْغَفِيرُ جَازَ فِيهَا الْحَالُ وَلَيْسَتْ بِمُضَافَةِ ؟ قُلْنَا : لَمْ تَقُلْ الْعَرَبُ جَاءَ الْقَوْمَ الْبَيْضَةُ فَيَكُونُ مِثْلَ مَا قَدّمْنَاهُ مِنْ قَوْلِك : مَرَرْت بِهَذَا الْقَمَرِ وَإِنّمَا قَالُوا : الْجَمّاءَ الْغَفِيرُ بِالصّفَةِ الْجَامِعَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا هِيَ حَالٌ مِنْهُ وَتِلْكَ الصّفَةُ الْجَمَمُ وَهُوَ الِاسْتِوَاءُ وَالْغَفْرُ وَهِيَ التّغْطِيَةُ فَمَعْنَى الْكَلَامِ جَاءُوا جَيْئَةً مُسْتَوِيَةً لَهُمْ مُوعِبَةً لِجَمِيعِهِمْ فَقَوِيَ مَعْنَى التّشْبِيهِ بِهَذَا الْوَصْفِ فَدَخَلَ التّنْكِيرُ لِذَلِكَ وَحَسُنَ النّصْبُ عَلَى الْحَالِ وَهِيَ حَالٌ مِنْ الْمَجِيءِ .

حَدِيثُ الْمَرْأَةِ الْغِفَارِيّةِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَشَهِدَ خَيْبَرَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَرَضَخَ لَهُنّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الْفَيْءِ وَلَمْ يَضْرِبْ لَهُنّ بِسَهْمِ . [ ص 87 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ سُحَيْمٍ عَنْ أُمَيّةَ بْنِ أَبِي الصّلْتِ عَنْ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي غِفَارٍ قَدْ سَمّاهَا لِي قَالَتْ أَتَيْت رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي نِسْوَةٍ مِنْ بَنِي غِفَارٍ فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللّهِ قَدْ أَرَدْنَا أَنْ نَخْرُجَ مَعَك إلَى وَجْهِك هَذَا وَهُوَ يَسِيرُ إلَى خَيْبَرَ فَنُدَاوِيَ الْجَرْحَى وَنُعِينَ الْمُسْلِمِينَ بِمَا اسْتَطَعْنَا فَقَالَ عَلَى بَرَكَةِ اللّهِ . قَالَتْ فَخَرَجْنَا مَعَهُ وَكُنْت جَارِيَةً حَدَثَةً فَأَرْدَفَنِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى حَقِيبَةِ رَحْلِهِ . قَالَتْ فَوَاَللّهِ لَنَزَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الصّبْحِ وَأَنَاخَ وَنَزَلْت عَنْ حَقِيبَةِ رَحْلِهِ وَإِذَا بِهَا دَمٌ مِنّي وَكَانَتْ أَوّلَ حَيْضَةٍ حِضْتُهَا قَالَتْ فَتَقَبّضْت إلَى النّاقَةِ وَاسْتَحْيَيْت فَلَمّا رَأَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا بِي وَرَأَى الدّمَ قَالَ مَا لَك ؟ لَعَلّك نُفِسْت قَالَتْ قُلْت : نَعَمْ قَالَ فَأَصْلِحِي مِنْ نَفْسِك ثُمّ خُذِي إنَاءً مِنْ مَاءٍ فَاطْرَحِي فِيهِ مِلْحًا ثُمّ اغْسِلِي بِهِ مَا أَصَابَ الْحَقِيبَةَ مِنْ الدّمِ ثُمّ عُودِي لِمَرْكَبِك . قَالَتْ فَلَمّا فَتَحَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَيْبَرَ رَضَخَ لَنَا مِنْ الْفَيْءِ وَأَخَذَ هَذِهِ الْقِلَادَةَ الّتِي تَرَيْنَ فِي عُنُقِي فَأَعْطَانِيهَا وَعَلّقَهَا بِيَدِهِ فِي عُنُقِي فَوَاَللّهِ لَا تُفَارِقُنِي أَبَدًا . قَالَتْ فَكَانَتْ فِي عُنُقِهَا حَتّى مَاتَتْ ثُمّ أَوْصَتْ أَنْ تُدْفَنَ مَعَهَا . قَالَتْ وَكَانَتْ لَا تَطْهُرُ مِنْ حَيْضَةٍ إلّا جَعَلَتْ فِي طَهُورِهَا مِلْحًا وَأَوْصَتْ بِهِ أَنْ يُجْعَلَ فِي غُسْلِهَا حِينَ مَاتَتْ
Sحَوْلَ حَدِيثِ الْمَرْأَةِ الْغِفَارِيّةِ
[ ص 86 ] وَذَكَرَ حَدِيثَ الْغِفَارِيّةِ الّتِي شَهِدَتْ خَيْبَرَ ُ وَلَمْ يُسَمّهَا ُ وَقَدْ يُقَالُ اسْمُهَا لَيْلَى وَيُقَالُ هِيَ امْرَأَةُ أَبِي ذَرّ الْغِفَارِيّ وَقَوْلُهَا : رَضَخَ لِي رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَصْلُ الرّضْخِ أَنْ تَكْسِرَ مِنْ الشّيْءِ الرّطْبِ كِسْرَةً فَتُعْطِيَهَا وَأَمّا الرّضْحُ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ فَكَسْرُ الْيَابِسِ الصّلْبِ قَالَ الشّاعِرُ كَمَا تَطَايَرَ عَنْ مِرْضَاحِهِ الْعَجَمُ
مِنْ أَحْكَامِ الْمَاءِ
[ ص 87 ] أَجْعَلَ فِي طَهُورِي مِلْحًا . فِيهِ رَدّ عَلَى مَنْ زَعَمَ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنّ الْمِلْحَ فِي الْمَاءِ إذَا غَيّرَ طَعْمَهُ صَيّرَهُ مُضَافًا طَاهِرًا غَيْرَ مُطَهّرٍ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مَا يَدْفَعُ قَوْلَهُ وَمِنْ طَرِيقِ النّظَرِ أَنّ الْمُخَالِطَ لِلْمَاءِ إذَا غَلَبَ عَلَى أَحَدِ أَوْصَافِهِ الثّلَاثَةِ الطّعْمِ أَوْ اللّوْنِ أَوْ الرّائِحَةِ كَانَ حُكْمُ الْمَاءِ كَحُكْمِ الْمَخَالِطِ لَهُ فَإِنْ كَانَ طَاهِرًا غَيْرَ مُطَهّرٍ كَانَ الْمَاءُ بِهِ كَذَلِكَ وَإِذَا كَانَ لَا طَاهِرًا وَلَا مُطَهّرًا كَالْبَوْلِ كَانَ الْمَاءُ لِمُخَالَطَتِهِ كَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ الْمَخَالِطُ لَهُ طَاهِرًا مُطَهّرًا كَالتّرَابِ كَانَ الْمَاءُ طَاهِرًا مُطَهّرًا وَالْمِلْحُ إنْ كَانَ مَاءً جَامِدًا فَهُوَ فِي الْأَصْلِ طَاهِرٌ مُطَهّرٌ وَإِنْ كَانَ مَعْدِنِيّا تُرَابِيّا فَهُوَ كَالتّرَابِ فِي مُخَالَطَةِ الْمَاءِ فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ جَعَلَهُ نَاقِلًا لِلْمَاءِ عَنْ حُكْمِ الطّهَارَةِ وَالتّطْهِيرِ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ فِي السّيرَةِ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اغْتَسَلَ عَامَ الْفَتْحِ مِنْ جَفْنَةٍ فِيهَا مَاءٌ وَكَافُورٌ وَمَحْمَلُ هَذِهِ الرّوَايَةِ عِنْدِي إنْ صَحّتْ عَلَى أَنّهُ قَصَدَ بِهَا التّطَيّبَ وَأَنّهُ لَمْ يَكُنْ مُحْدِثًا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الرّوَايَةِ مُتَعَلّقٌ لِتَرْخِيصِهِ .

شُهَدَاءُ خَيْبَرَ
[ ص 88 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَهَذِهِ تَسْمِيَةُ مَنْ اُسْتُشْهِدَ بِخَيْبَرِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قُرَيْشٍ ثُمّ مِنْ بَنِي أُمَيّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ ، ثُمّ مِنْ حَلْفَائِهِمْ رَبِيعَةُ بْنُ أَكْثَمَ بْنِ سَخْبَرَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ لُكَيْزِ بْنِ عَامِرِ بْنِ غَنْمِ بْنِ دُودَانَ بْنِ أَسَدٍ ، وَثَقِيفُ بْنُ عَمْرٍو ، وَرِفَاعَةُ بْنُ مَسْرُوحٍ . وَمِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى : عَبْدُ اللّهِ بْنُ الْهُبَيْبِ ، وَيُقَالُ ابْنُ الْهَبِيبِ فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ ، بْنِ أُهَيْبِ بْنِ سُحَيْمِ بْنِ غَيْرَةَ مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ لَيْثٍ حَلِيفٌ لِبَنِي أَسَدٍ ، وَابْنُ أُخْتِهِمْ . وَمِنْ الْأَنْصَارِ ثُمّ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ ، مَاتَ مِنْ الشّاةِ الّتِي سُمّ فِيهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَفُضَيْلُ بْنُ النّعْمَانِ . رَجُلَانِ . وَمِنْ بَنِي زُرَيْقٍ مَسْعُودُ بْنُ سَعْدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ خَلَدَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ زُرَيْقٍ . وَمِنْ الْأَوْسِ ثُمّ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ مَحْمُودُ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ خَالِدِ بْنِ عَدِيّ بْنِ مَجْدَعَةَ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ الْحَارِثِ ، حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ بَنِي حَارِثَةَ . وَمِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ أَبُو ضَيّاحِ بْنُ ثَابِتِ بْنِ النّعْمَانِ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَالْحَارِثُ بْنُ حَاطِبٍ ؛ وَعُرْوَةُ بْنُ مُرّةَ بْنِ سُرَاقَةَ ، وَأَوْسُ بْنُ الْقَائِدِ وَأُنَيْفُ بْنُ حَبِيبٍ وَثَابِتُ بْنُ أَثْلَةَ ، وَطَلْحَةُ . وَمِنْ بَنِي غِفَارٍ : عُمَارَةُ بْنُ عُقْبَةَ ، رُمِيَ بِسَهْمِ . [ ص 89 ] أَسْلَمَ : عَامِرُ بْنُ الْأَكْوَعِ ، وَالْأَسْوَدُ الرّاعِي ، وَكَانَ اسْمُهُ أَسْلَمَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْأَسْوَدُ الرّاعِي مِنْ أَهْلِ خَيْبَرَ . وَمِمّنْ اُسْتُشْهِدَ بِخَيْبَرِ فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ شِهَابٍ الزّهْرِيّ ، مِنْ بَنِي زُهْرَةَ مَسْعُودُ بْنُ رَبِيعَةَ ، حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ الْقَارَةِ . وَمِنْ الْأَنْصَارِ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ أَوْسُ بْنُ قَتَادَةَ .
أَمْرُ الْأَسْوَدِ الرّاعِي فِي حَدِيثِ خَيْبَرَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ مِنْ حَدِيث الْأَسْوَدِ الرّاعِي ، فِيمَا بَلَغَنِي : أَنّهُ أَتَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ مُحَاصِرٌ لِبَعْضِ حُصُونِ خَيْبَرَ ، وَمَعَهُ غَنَمٌ لَهُ كَانَ فِيهَا أَجِيرًا لِرَجُلِ مِنْ يَهُودَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ اعْرِضْ عَلَيّ الْإِسْلَامَ فَعَرَضَهُ عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ - وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا يُحَقّرُ أَحَدًا أَنْ يَدْعُوَهُ إلَى الْإِسْلَامِ وَيَعْرِضَهُ عَلَيْهِ - فَلَمّا أَسْلَمَ قَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّي كُنْت أَجِيرًا لِصَاحِبِ هَذِهِ الْغَنَمِ وَهِيَ أَمَانَةٌ عِنْدِي ، فَكَيْفَ أَصْنَعُ بِهَا ؟ قَالَ اضْرِبْ فِي وُجُوهِهَا فَإِنّهَا سَتَرْجِعُ إلَى رَبّهَا - أَوْ كَمَا قَالَ - فَقَالَ الْأَسْوَدُ فَأَخَذَ حَفْنَةً مِنْ الْحَصَى فَرَمَى بِهَا فِي وُجُوهِهَا ، وَقَالَ ارْجِعِي إلَى صَاحِبِك ، فَوَاَللّهِ لَا أَصْحَبُك أَبَدًا ، فَخَرَجَتْ مُجْتَمِعَةً كَأَنّ سَائِقًا يَسُوقُهَا ، حَتّى دَخَلَتْ الْحِصْنَ ثُمّ تَقَدّمَ إلَى ذَلِكَ الْحِصْنِ لِيُقَاتِلَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فَأَصَابَهُ حَجَرٌ فَقَتَلَهُ وَمَا صَلّى لِلّهِ صَلَاةً قَطّ ، فَأُتِيَ بِهِ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَوُضِعَ خَلْفَهُ وَسُجّيَ بِشَمْلَةِ كَانَتْ عَلَيْهِ فَالْتَفَتَ إلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ ثُمّ أَعْرَضَ عَنْهُ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ لِمَ أَعْرَضْت عَنْهُ ؟ قَالَ إنّ مَعَهُ الْآنَ زَوْجَتَيْهِ مِنْ الْحُورِ الْعِينِ [ ص 90 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ أَنّهُ ذَكَرَ لَهُ أَنّ الشّهِيدَ إذَا مَا أُصِيبَ تَدَلّتْ ( لَهُ ) زَوْجَتَاهُ مِنْ الْحُورِ الْعِينِ عَلَيْهِ تَنْفُضَانِ التّرَابَ عَنْ وَجْهِهِ وَتَقُولَانِ تَرّبَ اللّهُ وَجْهَ مَنْ تَرّبَك ، وَقَتَلَ مَنْ قَتَلَك
Sمِنْ شُهَدَاءِ خَيْبَرَ
[ ص 88 ] وَذَكَرَ فِيمَنْ اُسْتُشْهِدَ بِخَيْبَرِ أَبَا الضّيّاحِ بْنَ ثَابِتٍ وَلَمْ يُسَمّهِ وَقَالَ الطّبَرِيّ : اسْمُهُ النّعْمَانُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ النّعْمَانِ ، وَقَالَ غَيْرُهُ اسْمُهُ عُمَيْرٌ . وَذَكَرَ فِيمَنْ اُسْتُشْهِدَ عَامِرَ بْنَ الْأَكْوَعِ ، وَهُوَ الّذِي رَجَعَ عَلَيْهِ سَيْفُهُ فَقَتَلَهُ فَشَكّ النّاسُ فِيهِ فَقَالُوا : قَتَلَهُ سِلَاحُهُ فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنّبِيّ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ إنّهُ جَاهِدٌ مُجَاهِدٌ ، وَقَلّ عَرَبِيّ ، مُشَابِهًا مِثْلَهُ وَفِي رِوَايَةٍ مَشَى بِهِ مِثْلُهُ وَيُرْوَى أَيْضًا : نَشَأَ بِهَا مِثْلَهُ كُلّ هَذَا يُرْوَى فِي الْجَامِعِ الصّحِيحِ وَهَذَا اضْطِرَابٌ مِنْ رُوَاةِ الْكِتَابِ فَمَنْ قَالَ مَشَى بِهَا مِثْلَهُ فَالْهَاءُ عَائِدَةٌ عَلَى الْمَدِينَةِ ، كَمَا تَقُولُ لَيْسَ بَيْنَ لَابَتَيْهَا مِثْلُ فُلَانٍ يُقَالُ هَذَا فِي الْمَدِينَةِ ، وَفِي الْكُوفَةِ ، وَلَا يُقَالُ فِي بَلَدٍ لَيْسَ حَوْلَهُ لَابَتَانِ أَيْ حَرّتَانِ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْهَاءُ عَائِدَةً عَلَى الْأَرْضِ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ { كُلّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } [ الرّحْمَنُ 26 ] .
الْحَالُ مِنْ النّكِرَةِ
[ ص 89 ] النّكِرَةِ لَا بَأْسَ بِهِ إذَا دَلّتْ عَلَى تَصْحِيحِ مَعْنًى كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ فَصَلّى خَلْفَهُ رِجَالٌ قِيَامًا . الْحَالُ هَاهُنَا مُصَحّحَةٌ لِفِقْهِ الْحَدِيثِ أَيْ صَلّوْا فِي هَذِهِ الْحَالِ وَمَنْ احْتَجّ فِي الْحَالِ مِنْ النّكِرَةِ بِقَوْلِهِمْ وَقَعَ أَمْرٌ فَجْأَةً فَلَمْ يَصْنَعْ شَيْئًا ، لِأَنّ فَجْأَةً لَيْسَ حَالًا مِنْ أَمْرٍ إنّمَا هُوَ حَالٌ مِنْ الْوُقُوعِ كَمَا تَقُولُ جَاءَنِي رَجُلٌ مَشْيًا ، فَلَيْسَ مَشْيًا حَالٌ مِنْ رَجُلٍ كَمَا تَوَهّمُوا ، وَإِنّمَا هِيَ حَالٌ مِنْ الْمَجِيءِ لِأَنّ الْحَالَ هِيَ صَاحِبُ الْحَالِ وَتَنْقَسِمُ أَقْسَامًا : حَالٌ مِنْ فَاعِلٍ كَقَوْلِك : جَاءَ زَيْدٌ مَاشِيًا ، وَحَالٌ مِنْ الْفِعْلِ كَقَوْلِك : جَاءَ زَيْدٌ مَشْيًا وَرَكْضًا ، وَحَالٌ مِنْ الْمَفْعُولِ كَقَوْلِك : جَاءَنِي الْقَوْمُ جَالِسًا ، فَهِيَ صِفَةُ الْمَفْعُولِ فِي وَقْتِ وُقُوعِ الْفِعْلِ عَلَيْهِ أَوْ صِفَةُ الْفَاعِلِ فِي وَقْتِ وُقُوعِ الْفِعْلِ مِنْهُ أَوْ صِفَةُ الْفِعْلِ فِي وَقْتِ وُقُوعِهِ وَنَعْنِي بِالْفِعْلِ الْمَصْدَرَ .

أَمْرُ الْحَجّاجِ بْنِ عِلَاطٍ السّلَمِيّ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَلَمّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ ، كَلّمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْحَجّاجَ بْنَ عِلَاطٍ السّلَمِيّ ، ثُمّ الْبَهْزِيّ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ لِي بِمَكّةَ مَالًا عِنْدَ صَاحِبَتِي أُمّ شَيْبَةَ بِنْتِ أَبِي طَلْحَةَ - وَكَانَتْ عِنْدَهُ لَهُ مِنْهَا مُعَرّضُ بْنُ الْحَجّاجِ وَمَالٌ مُتَفَرّقٌ فِي تُجّارِ أَهْلِ مَكّةَ ، فَأْذَنْ لِي يَا رَسُولَ اللّهِ فَأَذِنَ لَهُ قَالَ إنّهُ لَا بُدّ لِي يَا رَسُولَ اللّهِ مِنْ أَنْ أَقُولَ قَالَ قُلْ قَالَ الْحَجّاجُ فَخَرَجْت حَتّى إذَا قَدِمْت مَكّةَ وَجَدْت بِثَنِيّةِ الْبَيْضَاءِ رِجَالًا مِنْ قُرَيْشٍ يَتَسَمّعُونَ الْأَخْبَارَ وَيَسْأَلُونَ عَنْ أَمْرِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَدْ بَلَغَهُمْ أَنّهُ قَدْ سَارَ إلَى خَيْبَرَ ، وَقَدْ عَرَفُوا أَنّهَا قَرْيَةُ الْحِجَازِ ، رِيفًا وَمَنَعَةً وَرِجَالًا ، فَهُمْ يَتَحَسّسُونَ الْأَخْبَارَ وَيَسْأَلُونَ الرّكْبَانَ فَلَمّا رَأَوْنِي قَالُوا : الْحَجّاجُ بْنُ عِلَاطٍ - قَالَ وَلَمْ يَكُونُوا عَلِمُوا بِإِسْلَامِي ، عِنْدَهُ وَاَللّهِ الْخَبَرُ - أَخْبِرْنَا يَا أَبَا مُحَمّدٍ فَإِنّهُ قَدْ بَلَغَنَا أَنّ الْقَاطِعَ قَدْ سَارَ إلَى خَيْبَرَ ، وَهِيَ بَلَدُ يَهُودَ وَرِيفُ الْحِجَازِ ، قَالَ قُلْت : قَدْ بَلَغَنِي ذَلِكَ وَعِنْدِي مِنْ الْخَبَرِ مَا يَسُرّكُمْ قَالَ فَالْتَبَطُوا بِجَنْبَيْ نَاقَتِي يَقُولُونَ إيه يَا حَجّاجُ قَالَ قُلْت : هُزِمَ هَزِيمَةً لَمْ يَسْمَعُوا بِمِثْلِهَا قَطّ ، وَقُتِلَ أَصْحَابُهُ قَتْلًا لَمْ تَسْمَعُوا بِمِثْلِهِ قَطّ ، وَأُسِرَ مُحَمّدٌ أَسْرًا ، وَقَالُوا : لَا نَقْتُلُهُ حَتّى نَبْعَثَ بِهِ إلَى أَهْلِ مَكّةَ ، فَيَقْتُلُوهُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ بِمَنْ كَانَ أَصَابَ مِنْ رِجَالِهِمْ . قَالَ فَقَامُوا وَصَاحُوا بِمَكّةَ وَقَالُوا : قَدْ جَاءَكُمْ الْخَبَرُ ، وَهَذَا مُحَمّدٌ إنّمَا تَنْتَظِرُونَ أَنْ [ ص 91 ] قَالَ قُلْت : أَعِينُونِي عَلَى جَمْعِ مَالِي بِمَكّةَ وَعَلَى غُرَمَائِي ، فَإِنّي أُرِيدُ أَنْ أَقْدَمَ خَيْبَرَ ، فَأُصِيبَ مِنْ فَلّ مُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ قَبْلَ أَنْ يَسْبِقَنِي التّجّارُ إلَى مَا هُنَالِكَ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ مِنْ فَيْءِ مُحَمّدٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ قَالَ فَقَامُوا فَجَمَعُوا لِي مَالِي كَأَحَثّ جَمْعٍ سَمِعْت بِهِ . قَالَ وَجِئْت صَاحِبَتِي فَقُلْت ، مَالِي ، وَقَدْ كَانَ لِي عِنْدَهَا مَالٌ مَوْضُوعٌ لِعَلِيّ أَلْحَقُ بِخَيْبَرِ فَأُصِيبُ مِنْ فُرَصِ الْبَيْعِ قَبْلَ أَنْ يَسْبِقَنِي التّجّارُ قَالَ فَلَمّا سَمِعَ الْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ الْخَبَرَ ، وَجَاءَهُ عَنّي ، أَقْبَلَ حَتّى وَقَفَ إلَى جَنْبِي وَأَنَا فِي خَيْمَةٍ مِنْ خِيَامِ التّجّارِ فَقَالَ يَا حَجّاجُ مَا هَذَا الْخَبَرُ الّذِي جِئْت بِهِ ؟ قَالَ فَقُلْت : وَهَلْ عِنْدَك حِفْظٌ لِمَا وَضَعْت عِنْدَك ؟ قَالَ نَعَمْ . قَالَ قُلْت : فَاسْتَأْخِرْ عَنّي حَتّى أَلْقَاك عَلَى خَلَاءٍ فَإِنّي فِي جَمْعِ مَالِي كَمَا تَرَى ، فَانْصَرَفَ عَنّي حَتّى أَفْرَغَ . قَالَ حَتّى إذَا فَرَغْت مِنْ جَمْعِ كُلّ شَيْءٍ كَانَ لِي بِمَكّةَ وَأَجْمَعْت الْخُرُوجَ لَقِيت الْعَبّاسَ فَقُلْت : احْفَظْ عَلَيّ حَدِيثِي يَا أَبَا الْفَضْلِ ، فَإِنّي أَخْشَى الطّلَبَ ثَلَاثًا ، ثُمّ قُلْ مَا شِئْت ، قَالَ أَفْعَلُ . قُلْت : فَإِنّي وَاَللّهِ لَقَدْ تَرَكْت ابْنَ أَخِيك عَرُوسًا عَلَى بِنْتِ مَلِكِهِمْ يَعْنِي صَفِيّةَ بِنْتَ حُيَيّ وَلَقَدْ افْتَتَحَ خَيْبَرَ ، وَانْتَثَلَ مَا فِيهَا ، وَصَارَتْ لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ فَقَالَ مَا تَقُولُ يَا حَجّاجُ ؟ قَالَ قُلْت : إي وَاَللّهِ فَاكْتُمْ عَنّي ، وَلَقَدْ أَسْلَمْت وَمَا جِئْت إلّا لِآخُذَ مَالِي ، فَرَقًا مِنْ أَنْ أُغْلَبَ عَلَيْهِ فَإِذَا مَضَتْ ثَلَاثٌ فَأَظْهِرْ أَمْرَك ، فَهُوَ وَاَللّهِ عَلَى مَا تُحِبّ ، قَالَ حَتّى إذَا كَانَ الْيَوْمُ الثّالِثُ لَبِسَ الْعَبّاسُ حُلّةً لَهُ وَتَحَلّقَ وَأَخَذَ عَصَاهُ ثُمّ خَرَجَ حَتّى أَتَى الْكَعْبَةَ ، فَطَافَ بِهَا ، فَلَمّا رَأَوْهُ قَالُوا : يَا أَبَا الْفَضْلِ هَذَا وَاَللّهِ التّجَلّدُ لِحَرّ الْمُصِيبَةِ ، قَالَ كَلّا ، وَاَللّهِ الّذِي حَلَفْتُمْ بِهِ لَقَدْ افْتَتَحَ مُحَمّدٌ خَيْبَرَ وَتُرِكَ عَرُوسًا عَلَى بِنْتِ مَلِكِهِمْ وَأَحْرَزَ أَمْوَالَهُمْ وَمَا فِيهَا فَأَصْبَحَتْ لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ قَالُوا : مَنْ جَاءَك بِهَذَا الْخَبَرِ ؟ قَالَ الّذِي جَاءَكُمْ بِمَا جَاءَكُمْ بِهِ وَلَقَدْ دَخَلَ عَلَيْكُمْ مُسْلِمًا ، فَأَخَذَ مَالَهُ فَانْطَلَقَ لِيَلْحَقَ بِمُحَمّدِ وَأَصْحَابِهِ فَيَكُونَ مَعَهُ . قَالُوا : يَا لَعِبَادِ [ ص 92 ] لَكَانَ لَنَا وَلَهُ شَأْنٌ قَالَ وَلَمْ يَنْشَبُوا أَنْ جَاءَهُمْ الْخَبَرُ بِذَلِكَ .
Sحَدِيثُ الْحَجّاجِ بْنِ عِلَاطٍ
[ ص 90 ] وَذَكَرَ حَدِيثَ الْحَجّاجِ بْنِ عِلَاطٍ السّلَمِيّ : وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي حَدِيثِ إسْلَامِهِ خَبَرًا عَجِيبًا اتّفَقَ لَهُ مَعَ الْجِنّ ، وَهُوَ وَالِدُ نَصْرِ بْنِ حَجّاجٍ الّذِي حَلَقَ عُمَرُ رَأْسَهُ وَنَفَاهُ مِنْ الْمَدِينَةِ لَمّا سَمِعَ قَوْلَ الْمَرْأَةِ فِيهِ
أَلَا سَبِيلَ إلَى خَمْرٍ فَأَشْرَبَهَا ... أَمْ لَا سَبِيلَ إلَى نَصْرِ بْنِ حَجّاجِ
وَهَذِهِ الْمَرْأَةُ هِيَ الْفُرَيْعَةُ بِنْتُ هَمّامٍ وَيُقَالُ إنّهَا أُمّ الْحَجّاجِ بْنِ يُوسُفَ وَلِذَلِكَ قَالَ لَهُ عُرْوَةُ بْنُ الزّبَيْرِ : يَا ابْنَ الْمُتَمَنّيَةِ وَكَانَ مِنْ أَحْسَنِ النّاسِ لِمّةً وَوَجْهًا ، فَأَتَى الشّامَ ، فَنَزَلَ عَلَى أَبِي الْأَعْوَرِ السّلَمِيّ فَهَوِيَتْهُ امْرَأَتُهُ وَهَوَاهَا ، وَفَطِنَ أَبُو الْأَعْوَرِ لِذَلِكَ بِسَبَبِ يَطُولُ ذِكْرُهُ فَابْتَنَى لَهُ قُبّةً فِي أَقْصَى الْحَيّ فَكَانَ بِهَا ، فَاشْتَدّ ضَنَاهُ بِالْمَرْأَةِ حَتّى مَاتَ كَلَفًا بِهَا ، وَسُمّيَ الْمُضْنَى وَضُرِبَتْ بِهِ الْأَمْثَالُ . وَذَكَرَ الْأَصْبَهَانِيّ فِي كِتَابِ الْأَمْثَالِ لَهُ خَبَرَهُ بِطُولِهِ . [ ص 91 ] وَيُقَالُ لَهُ الْعُلْطَةُ أَيْضًا ، وَقَوْلُهُ لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا بُدّ لِي أَنْ أَقُولَ فَقَالَ لَهُ " قُلْ " ، يَعْنِي التّكَذّبَ فَأَبَاحَهُ لَهُ لِأَنّهُ مِنْ خُدَعِ الْحَرْبِ وَقَالَ الْمُبَرّدُ إنّمَا صَوَابُهُ أَتَقَوّلُ إذا أَرَدْت مَعْنَى التّكَذّبِ وَأَخَذَ هَذَا الْمَعْنَى حَبِيبٌ فَقَالَ
بِحَسْبِ امْرِئِ أَثْنَى عَلَيْك بِأَنّهُ ... يَقُولُ وَإِنْ أَرْبَى فَلَا يَتَقَوّلُ
أَيْ يَقُولُ الْحَقّ إذَا مَدَحَك ، وَإِنْ أَفْرَطَ فَلَيْسَ إفْرَاطُهُ بِتَقَوّلِ .
تَفْسِيرُ أَوْلَى لَك
[ ص 92 ] وَذَكَرَ غَيْرُ ابْنِ إسْحَاقَ فِي حَدِيثِ حَجّاجٍ أَنْ قُرَيْشًا قَالَتْ حِينَ أَفْلَتَهُمْ أَوْلَى لَهُ وَهِيَ كَلِمَةٌ مَعْنَاهَا : الْوَعِيدُ وَفِي التّنْزِيلِ { أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى } [ الْقِيَامَةُ 34 ] ، فَهِيَ عَلَى وَزْنِ أَفْعَلَ مِنْ وَلِيَ أَيْ قَدْ وَلِيَهُ الشّرّ ، وَقَالَ الْفَارِسِيّ : هِيَ اسْمُ عِلْمٍ وَلِذَلِكَ لَمْ يَنْصَرِفْ وَجَدْت هَذَا فِي بَعْضِ مَسَائِلِهِ وَلَا تَتّضِحُ لِي الْعَلَمِيّةُ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ وَإِنّمَا هُوَ عِنْدِي كَلَامٌ حُذِفَ مِنْهُ وَالتّقْدِيرُ الّذِي تَصِيرُ إلَيْهِ مِنْ الشّرّ أَوْ الْعُقُوبَةِ أَوْلَى لَك ، أَيْ أَلْزَمُ لَك ، أَيْ إنّهُ يَلِيك ، وَهُوَ أَوْلَى لَك ، مِمّا فَرَرْت مِنْهُ فَهُوَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ وَلَمْ يَنْصَرِفْ لِأَنّهُ وَصْفٌ عَلَى وَزْنِ أَفْعَلَ وَقَوْلُ الْفَارِسِيّ هُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ جَعَلَهُ مِنْ بَابِ تَبّا لَهُ غَيْرَ أَنّهُ جَعَلَهُ عَلَمًا لِمَا رَآهُ غَيْرَ مُنَوّنٍ .

شِعْرُ حَسّانَ عَنْ خَيْبَرَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ مِمّا قِيلَ مِنْ الشّعْرِ فِي يَوْمِ خَيْبَرَ قَوْلُ حَسّانَ بْنِ ثَابِتٍ :
بِئْسَمَا قَاتَلَتْ خَيَابِرُ عَمّا ... جَمَعُوا مِنْ مَزَارِعٍ وَنَخِيلِ
كَرِهُوا الْمَوْتَ فَاسْتُبِيحَ حِمَاهُمْ ... وَأَقَرّوا فِعْلَ اللّئِيمِ الذّلِيلِ
أَمِنْ الْمَوْتِ يَهْرُبُونَ فَإِنّ الْ ... مَوْتَ مَوْتُ الْهُزَالِ غَيْرُ جَمِيلِ
حَسّانُ يَعْتَذِرُ عَنْ أَيْمَنَ
وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ أَيْضًا ، وَهُوَ يَعْذُرُ أَيْمَنَ ابْنَ أُمّ أَيْمَنَ بْنِ عُبَيْدٍ ، وَكَانَ قَدْ تَخَلّفَ [ ص 93 ] خَيْبَرَ ، وَهُوَ مِنْ بَنِي عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ ، وَكَانَتْ أُمّهُ أُمّ أَيْمَنَ مَوْلَاةَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهِيَ أُمّ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ ، فَكَانَ أَخَا أُسَامَةَ لِأُمّهِ
عَلَى حِينِ أَنْ قَالَتْ لِأَيْمَن أُمّهُ ... جَبُنْت وَلَمْ تَشْهَدْ فَوَارِسَ خَيْبَرِ
وَأَيْمَنُ لَمْ يَجْبُنْ وَلَكِنّ مُهْرَهُ ... أَضَرّ بِهِ شُرْبُ الْمَدِيدِ الْمُخَمّرِ
وَلَوْلَا الّذِي قَدْ كَانَ مِنْ شَأْنِ مُهْرِهِ ... لَقَاتَلَ فِيهِمْ فَارِسًا غَيْرَ أَعْسَرِ
وَلَكِنّهُ قَدْ صَدّهُ فِعْلُ مُهْرِهِ ... وَمَا كَانَ مِنْهُ عِنْدَهُ غَيْرَ أَيْسَرِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَنْشَدَنِي أَبُو زَيْدٍ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَأَنْشَدَنِي :
وَلَكِنّهُ قَدْ صَدّهُ شَأْنُ مُهْرِهِ ... وَمَا كَانَ لَوْلَا ذَاكُمْ بِمُقَصّرِ
Sأُمّ أَيْمَنَ
فَصْلٌ وَذَكَرَ شِعْرَ حَسّانَ فِي ابْنِ أُمّ أَيْمَنَ وَاسْمُ أَبِيهِ عُبَيْدٌ ، وَاسْمُ أُمّهِ أُمّ أَيْمَنَ بَرَكَةٌ وَهِيَ أُمّ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ ، يُقَالُ لَهَا : أُمّ الظّبَاءِ قَالَ الْوَاقِدِيّ : اسْمُهَا بَرَكَةُ بِنْتُ ثَعْلَبَةَ [ بْنِ عَمْرِو بْنِ حِصْنِ بْنِ مَالِكِ بْنِ مَسْلَمَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ النّعْمَانِ ] وَكَانَتْ أُمّةُ لِعَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، وَكَانَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ أُمّ أَيْمَنَ أُمّي بَعْدَ أُمّي وَيُقَالُ كَانَتْ لِآمِنَةَ بِنْتِ وَهْبٍ أُمّ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَهِيَ الّتِي هَاجَرَتْ عَلَى قَدَمَيْهَا مِنْ مَكّةَ إلَى الْمَدِينَةِ ، وَلَيْسَ مَعَهَا أَحَدٌ ، وَذَلِكَ فِي حَرّ شَدِيدٍ فَعَطِشَتْ فَسَمِعَتْ حَفِيفًا فَوْقَ رَأْسِهَا ، فَالْتَفَتَتْ فَإِذَا دَلْوٌ قَدْ أُدْلِيَتْ لَهَا مِنْ السّمَاءِ فَشَرِبَتْ مِنْهَا ، فَلَمْ تَظْمَأْ أَبَدًا ، وَكَانَتْ تَتَعَهّدُ الصّوْمَ فِي حَمّارَةِ الْقَيْظِ لِتَعْطَشَ فَلَا [ ص 93 ] وَكَانَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - يَزُورُهَا ، وَكَانَ الْخَلِيفَتَانِ يَزُورَانِهَا بَعْدَهُ وَقَدْ رُوِيَ مِثْلُ قِصّتِهَا عَنْ أُمّ شَرِيكٍ الدّوْسِيّةِ أَنّهَا عَطِشَتْ فِي سَفَرٍ فَلَمْ تَجِدْ مَاءً إلّا عِنْدَ يَهُودِيّ وَأَبَى أَنْ يَسْقِيَهَا إلّا أَنْ تَدِينَ بِدِينِهِ فَأَبَتْ إلّا أَنْ تَمُوتَ عَطَشًا ، فَدُلِيَتْ لَهَا دَلْوٌ مِنْ السّمَاءِ فَشَرِبَتْ ثُمّ رُفِعَتْ الدّلْوُ وَهِيَ تَنْطُرُ . ذَكَرَ خَبَرَهَا ابْنُ إسْحَاقَ فِي السّيرَةِ مِنْ غَيْرِ رِوَايَةِ ابْنِ هِشَامٍ ، وَهُوَ أَطْوَلُ مِمّا ذَكَرْنَاهُ . وَقَوْلُ حَسّانَ
وَأَيْمَنُ لَمْ يَجْبُنْ وَلَكِنّ مُهْرَهُ ... أَضَرّ بِهِ شُرْبُ الْمَدِيدِ الْمُخَمّرِ
الْمَدِيدُ وَقَعَ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ مَعْرُوفٌ وَلَكِنْ أَلْفَيْت فِي حَاشِيَةِ الشّيْخِ عَنْ ابْنِ دُرَيْدٍ الْمَرِيدُ بِرَاءٍ وَالْمَرِيسُ أَيْضًا ، وَهُوَ تَمْرٌ يُنْقَعُ ثُمّ يُمْرَسُ وَأَنْشَدَ مُسْنَفَاتٍ تُسْقَى ضَيَاحَ الْمَرِيدِ

شِعْرُ نَاجِيَةَ فِي يَوْمِ خَيْبَرَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ نَاجِيَةُ بْنُ جُنْدُبٍ الْأَسْلَمِيّ
يَا لَعِبَادِ اللّهِ فِيمَ يُرْغَبُ ... مَا هُوَ إلّا مَأْكَلٌ وَمَشْرَبُ
وَجَنّةٌ فِيهِ نَعِيمٌ مُعْجِبُ
وَقَالَ نَاجِيَةُ بْنُ جُنْدُبٍ الْأَسْلَمِيّ أَيْضًا :
أَنَا لِمَنْ أَنْكَرَنِي ابْنُ جُنْدُبِ ... يَا رُبّ قَرْنٍ فِي مَكَرّي أَنْكَبِ
طَاحَ بِمَغْدَى أَنْسُرٍ وَثَعْلَبِ
[ ص 94 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ الرّوَاةِ لِلشّعْرِ قَوْلُهُ " فِي مَكَرّي " ، و " طَاحَ بِمَغْدَى " .

شِعْرُ كَعْبٍ فِي يَوْمِ خَيْبَرَ
وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ فِي يَوْمِ خَيْبَرَ ، فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ ، عَنْ أَبِي زَيْدٍ الْأَنْصَارِيّ
وَنَحْنُ وَرَدْنَا خَيْبَرًا وَفُرُوضَهُ ... بِكُلّ فَتًى عَارِي الْأَشَاجِعِ
مِذْوَدِ جَوَادٍ لِذِي الْغَايَاتِ لَا وَاهِنِ الْقُوَى ... جَرِيءٍ عَلَى الْأَعْدَاءِ فِي كُلّ مَشْهَدِ
عَظِيمِ رَمَادِ الْقِدْرِ فِي كُلّ شَتْوَةٍ ... ضُرُوبٍ بِنَصْلِ الْمَشْرَفِيّ الْمُهَنّدِ
يَرَى الْقَتْلَ مَدْحًا إنْ أَصَابَ شَهَادَةً ... مِنْ اللّهِ يَرْجُوهَا وَفَوْزًا بِأَحْمَدِ
يَذُودُ وَيَحْمِي عَنْ ذِمَارِ مُحَمّدٍ ... وَيَدْفَعُ عَنْهُ بِاللّسَانِ وَبِالْيَدِ
وَيَنْصُرُهُ مِنْ كُلّ أَمْرٍ يَرِيبُهُ ... يَجُودُ بِنَفْسِ دُونَ نَفْسِ مُحَمّدِ
يُصَدّقُ بِالْأَنْبِيَاءِ بِالْغَيْبِ مُخْلِصًا ... يُرِيدُ بِذَاكَ الْفَوْزَ وَالْعِزّ فِي غَدٍ

أَبُو أَيّوبَ فِي حِرَاسَةِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
[ ص 94 ] وَذَكَرَ قَوْلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِأَبِي أَيّوبَ حِينَ بَاتَ يَحْرُسُهُ حَرَسَك اللّهُ يَا أَبَا أَيّوبَ كَمَا بِتّ تَحْرُسُ نَبِيّهُ .
قَالَ الْمُؤَلّفُ فَحَرَسَ اللّهُ أَبَا أَيّوبَ بِهَذِهِ الدّعْوَةِ حَتّى إنّ الرّومَ لَتَحْرُسُ قَبْرَهُ وَيَسْتَسْقُونَ بِهِ وَيَسْتَصِحّونَ وَذَلِكَ أَنّهُ غَزَا مَعَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ سَنَةَ خَمْسِينَ فَلَمّا بَلَغُوا الْقُسْطَنْطِينَةَ مَاتَ أَبُو أَيّوبَ هُنَالِكَ وَأَوْصَى يَزِيدَ أَنْ يَدْفِنَهُ فِي أَقْرَبِ مَوْضِعٍ مِنْ مَدِينَةِ الرّومِ ، فَرَكِبَ الْمُسْلِمُونَ وَمَشَوْا بِهِ حَتّى إذَا لَمْ يَجِدُوا مَسَاغًا ، دَفَنُوهُ فَسَأَلَتْهُمْ الرّومُ عَنْ شَأْنِهِمْ فَأَخْبَرُوهُمْ أَنّهُ كَبِيرٌ مِنْ أَكَابِرِ الصّحَابَةِ فَقَالَتْ الرّومُ لِيَزِيدَ مَا أَحْمَقَك وَأَحْمَقَ مَنْ أَرْسَلَك أَأَمِنْت أَنْ نَنْبُشَهُ بَعْدَك ، فَنُحَرّقَ عِظَامَهُ فَأَقْسَمَ لَهُمْ يَزِيدُ لَئِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ لَنَهْدِمَنّ كُلّ كَنِيسَةٍ بِأَرْضِ الْعَرَبِ ، وَلَنَنْبِشَنّ قُبُورَهُمْ فَحِينَئِذٍ حَلَفُوا لَهُمْ بِدِينِهِمْ لَيُكْرِمُنّ قَبْرَهُ وَلَيَحْرُسُنّهُ مَا اسْتَطَاعُوا ، فَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ ، قَالَ بَلَغَنِي أَنّ الرّومَ يَسْتَسْقُونَ بِقَبْرِ أَبِي أَيّوبَ رَحِمَهُ اللّهُ فَيُسْقَوْنَ .

ذِكْرُ مَقَاسِمِ خَيْبَرَ وَأَمْوَالِهَا
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَتْ الْمَقَاسِمُ عَلَى أَمْوَالِ خَيْبَرَ عَلَى الشّقّ وَنَطَاةَ وَالْكَتِيبَةِ ، فَكَانَتْ الشّقّ وَنَطَاةُ فِي سُهْمَانِ الْمُسْلِمِينَ وَكَانَتْ الْكَتِيبَةُ خُمُسَ اللّهِ وَسَهْمَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَسَهْمَ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَطُعْمَ أَزْوَاجِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَطُعْمَ رِجَالٍ مَشَوْا بَيْنَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَبَيْنَ أَهْلِ فَدَك بِالصّلْحِ مِنْهُمْ مُحَيّصَةُ بْنُ مَسْعُودٍ ، أَعْطَاهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثَلَاثِينَ وَسْقًا مِنْ شَعِيرٍ وَثَلَاثِينَ وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ وَقُسّمَتْ خَيْبَرُ عَلَى أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ ، مَنْ شَهِدَ خَيْبَرَ ، وَمَنْ غَابَ عَنْهَا ، وَلَمْ يَغِبْ عَنْهَا إلّا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ فَقَسَمَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَسَهْمِ مَنْ حَضَرَهَا ، وَكَانَ وَادِيَاهَا ، وَادِي السّرِيرَةِ ، وَوَادِي خَاصٍ ، وَهُمَا اللّذَانِ قُسِمَتْ عَلَيْهِمَا خَيْبَرُ ، وَكَانَتْ نَطَاةُ وَالشّقّ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا ، نَطَاةُ مِنْ ذَلِكَ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ وَالشّقّ ثَلَاثَةَ عَشَرَ سَهْمًا ، وَقُسّمَتْ الشّقّ وَنَطَاةُ عَلَى أَلْفِ سَهْمٍ وَثَمَانِمِائَةِ سَهْمٍ .
مَنْ قُسّمَتْ عَلَيْهِمْ خَيْبَرُ
وَكَانَتْ عِدّةُ الّذِينَ قُسّمَتْ عَلَيْهِمْ خَيْبَرُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَلْفَ سَهْمٍ وَثَمَانَمِائَةِ سَهْمٍ بِرِجَالِهِمْ وَخَيْلِهِمْ الرّجَالُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً وَالْخَيْلُ مِائَتَا فَارِسٍ ، فَكَانَ لِكُلّ فَرَسٍ سَهْمَانِ وَلِفَارِسِهِ سَهْمٌ وَكَانَ لِكُلّ رَاجِلٍ سَهْمٌ فَكَانَ لِكُلّ سَهْمٍ رَأْسٌ جُمِعَ إلَيْهِ مِائَةُ رَجُلٍ فَكَانَتْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا جُمَعٌ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَفِي يَوْمِ خَيْبَرَ عَرّبَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْعَرَبِيّ مِنْ الْخَيْلِ وَهَجّنَ الْهَجِينَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَكَانَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَأْسًا ، وَالزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ ، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللّهِ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ ، وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ ، وَعَاصِمُ بْنُ عَدِيّ ، أَخُو بَنِي الْعَجْلَانِ وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَسَهْمُ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ ، وَسَهْمُ نَاعِمٍ وَسَهْمُ بَنِي بَيَاضَةَ ، وَسَهْمُ بَنِي عُبَيْدٍ ، وَسَهْمُ بَنِي حِزَامٍ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ وَعُبَيْدٌ السّهّامُ . [ ص 96 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَإِنّمَا قِيلَ لَهُ عُبَيْدٌ السّهّامُ لِمَا اشْتَرَى مِنْ السّهَامِ يَوْمَ خَيْبَرَ ، وَهُوَ عُبَيْدُ بْنُ أَوْسٍ ، أَحَدُ بَنِي حَارِثَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَسَهْمُ سَاعِدَةَ وَسَهْمُ غِفَارٍ وَأَسْلَمَ ، وَسَهْمُ النّجّارِ وَسَهْمُ حَارِثَةَ ، وَسَهْمُ أَوْسٍ . فَكَانَ أَوّلُ سَهْمٍ خَرَجَ مِنْ خَيْبَرَ بِنَطَاةَ سَهْمَ الزّبَيْرِ بْنِ الْعَوّامِ ، وَهُوَ الْخَوْعُ وَتَابَعَهُ السّرَيْرُ ، ثُمّ كَانَ الثّانِي سَهْمَ بَيَاضَةَ ، ثُمّ كَانَ الثّالِثُ سَهْمَ أُسَيْدٍ ثُمّ كَانَ الرّابِعُ سَهْمَ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ ، ثُمّ كَانَ الْخَامِسُ سَهْمَ نَاعِمٍ لِبَنِي عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ وَمُزَيْنَةَ وَشُرَكَائِهِمْ وَفِيهِ قُتِلَ مَحْمُودُ بْنُ مَسْلَمَةَ ، فَهَذِهِ نَطَاةُ . ثُمّ هَبَطُوا إلَى الشّقّ ، فَكَانَ أَوّلُ سَهْمٍ خَرَجَ مِنْهُ سَهْمَ عَاصِمِ بْنِ عَدِيّ ، أَخِي بَنِي الْعَجْلَانِ وَمَعَهُ كَانَ سَهْمُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثُمّ سَهْمُ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ، ثُمّ سَهْمُ سَاعِدَةَ ، ثُمّ سَهْمُ النّجّارِ ، ثُمّ سَهْمُ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللّهُ عَلَيْهِ ثُمّ سَهْمُ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللّهِ ، ثُمّ سَهْمُ غِفَارٍ وَأَسْلَمَ ، ثُمّ سَهْمُ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ ، ثُمّ سَهْمَا سَلَمَةَ بْنِ عُبَيْدٍ وَبَنِيّ حَرَامٍ ثُمّ سَهْمُ حَارِثَةَ ثُمّ سَهْمُ عُبَيْدٍ السّهّامِ ، ثُمّ سَهْمُ أَوْسٍ وَهُوَ سَهْمُ اللّفِيفِ جُمِعَتْ إلَيْهِ جُهَيْنَةُ وَمَنْ حَضَرَ خَيْبَرَ مِنْ سَائِرِ الْعَرَبِ ، وَكَانَ حَذْوَهُ سَهْمُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الّذِي كَانَ أَصَابَهُ فِي سَهْمِ عَاصِمِ بْنِ عَدِيّ . [ ص 97 ] ثُمّ قَسَمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْكَتِيبَةَ ، وَهِيَ وَادِي خَاصٍ ، بَيْنَ قَرَابَتِهِ وَبَيْنَ نِسَائِهِ وَبَيْنَ رِجَالِ الْمُسْلِمِينَ وَنِسَاءٍ أَعْطَاهُمْ مَعَهَا ، فَقَسَمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِفَاطِمَة ابْنَتِهِ مِائَتَيْ وَسْقٍ وَلِعَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مِائَةَ وَسْقٍ وَلِأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ مِائَتَيْ وَسْقٍ وَخَمْسِينَ وَسْقًا مِنْ نَوَى ، وَلِعَائِشَةَ أُمّ الْمُؤْمِنِينَ مِائَتَيْ وَسْقٍ وَلِأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ مِائَةَ وَسْقٍ وَلِعَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مِائَةَ وَسْقٍ وَأَرْبَعِينَ وَسْقًا ، وَلِبَنِي جَعْفَرٍ خَمْسِينَ وَسْقًا ، وَلِرَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ مِائَةَ وَسْقٍ وَلِلصّلْتِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَابْنَيْهِ مِائَةَ وَسْقٍ لِلصّلْتِ مِنْهَا أَرْبَعُونَ وَسْقًا ، وَلِأَبِي نَبِقَةَ خَمْسِينَ وَسْقًا وَلِرُكَانَةَ بْنِ عَبْدِ يَزِيدَ خَمْسِينَ وَسْقًا ، وَلِقَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ ثَلَاثِينَ وَسْقًا ، وَلِأَبِي الْقَاسِمِ بْنِ مَخْرَمَةَ أَرْبَعِينَ وَسْقًا ، وَلِبَنَاتِ عُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ وَابْنِهِ الْحُصَيْنِ بْنِ الْحَارِثِ مِائَةَ وَسْقٍ وَلِبَنِي عُبَيْدِ بْنِ عَبْدِ يَزِيدَ سِتّينَ وَسْقًا ، وَلِابْنِ أَوْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ ثَلَاثِينَ وَسْقًا ، وَلِمِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ وَابْنِ إلْيَاسَ خَمْسِينَ وَسْقًا ، وَلِأُمّ رُمَيْثَةَ أَرْبَعِينَ وَسْقًا ، وَلِنُعَيْمِ بْنِ هِنْدٍ ثَلَاثِينَ وَسْقًا ، وَلِبُحَيْنَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ ثَلَاثِينَ وَسْقًا ، وَلِعُجَيْرِ بْنِ عَبْدِ يَزِيدَ ثَلَاثِينَ وَسْقًا ، وَلِأُمّ الْحَكَمِ ثَلَاثِينَ وَسْقًا ، وَلِجُمَانَةِ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ ثَلَاثِينَ وَسْقًا ، وَلِابْنِ الْأَرْقَمِ خَمْسِينَ وَسْقًا ، وَلِعَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَرْبَعِينَ وَسْقًا ، وَلِحَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ ثَلَاثِينَ وَسْقًا ، وَلِأُمّ الزّبَيْرِ أَرْبَعِينَ وَسْقًا ، وَلِضُبَاعَةَ بِنْتِ الزّبَيْرِ أَرْبَعِينَ وَسْقًا ، وَلِابْنِ أَبِي خُنَيْسٍ ثَلَاثِينَ وَسْقًا ، وَلِأُمّ طَالِبٍ أَرْبَعِينَ وَسْقًا ، وَلِأَبِي بَصْرَةَ عِشْرِينَ وَسْقًا ، وَلِنُمَيْلَةَ الْكَلْبِيّ خَمْسِينَ وَسْقًا ، وَلِعَبْدِ اللّهِ بْنِ وَهْبٍ وَابْنَتَيْهِ تِسْعِينَ وَسْقًا ، لَابْنَيْهِ مِنْهَا أَرْبَعِينَ وَسْقًا ، وَلِأُمّ حَبِيبٍ بِنْتِ جَحْشٍ ثَلَاثِينَ وَسْقًا ، وَلِمَلْكُو بْنِ عَبْدَةَ ثَلَاثِينَ وَسْقًا ، وَلِنِسَائِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَبْعَمِائَةِ وَسْقٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَمْحٌ وَشَعِيرٌ وَتَمْرٌ وَنَوًى وَغَيْرُ ذَلِكَ قَسَمَهُ عَلَى قَدْرِ حَاجَتِهِمْ وَكَانَتْ الْحَاجَةُ فِي بَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ أَكْثَرَ وَلِهَذَا أَعْطَاهُمْ أَكْثَرَ . [ ص 98 ]
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ ذِكْرُ مَا أَعْطَى مُحَمّدٌ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نِسَاءَهُ مِنْ قَمْحِ خَيْبَرَ
قَسَمَ لَهُنّ مِائَةَ وَسْقٍ وَثَمَانِينَ وَسْقًا ، وَلِفَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَمْسَةً وَثَمَانِينَ وَسْقًا ، وَلِأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَرْبَعِينَ وَسْقًا ، وَلِلْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ خَمْسَةَ عَشَرَ وَسْقًا ، وَلِأُمّ رُمَيْثَةَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ . شَهِدَ عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ وَعَبّاسٌ وَكَتَبَ .
وَصَاةَ الرّسُولِ عِنْدَ مَوْتِهِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ الزّهْرِيّ ، عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ ، قَالَ لَمْ يُوصِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عِنْدَ مَوْتِهِ إلّا بِثَلَاثِ أَوْصَى لِلرّهَاوِيّينَ بِجَادّ مِائَةِ وَسْقٍ مِنْ خَيْبَرَ ، وَلِلدّارِيّينَ بِجَادّ مِائَةِ وَسْقٍ مِنْ خَيْبَرَ ، وَلِلسّبَائِيّين ، وللأشعريين بِجَادّ مِائَةِ وَسْقٍ مِنْ خَيْبَرَ ، وَأَوْصَى بِتَنْفِيذِ بَعْثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ ، وَأَلّا يُتْرَكَ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ . [ ص 99 ]
أَمْرُ فَدَك فِي خَبَرِ خَيْبَرَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا فَرَغَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ خَيْبَرَ قَذَفَ اللّهُ الرّعْبَ فِي قُلُوبِ أَهْلِ فَدَك حِينَ بَلَغَهُمْ مَا أَوْقَعَ اللّهُ تَعَالَى بِأَهْلِ خَيْبَرَ ، فَبَعَثُوا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُصَالِحُونَهُ عَلَى النّصْفِ مِنْ فَدَك ، فَقَدِمَتْ عَلَيْهِ رُسُلُهُمْ بِخَيْبَرِ أَوْ بِالطّائِفِ ، أَوْ بَعْدَمَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ ، فَقَبِلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ فَكَانَتْ فَدَكُ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَالِصَةً لِأَنّهُ لَمْ يُوجِفْ عَلَيْهَا بِخَيْلِ وَلَا رِكَابٍ .
تَسْمِيَةُ النّفَرِ الدّارِيّينَ الّذِينَ أَوْصَى لَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ خَيْبَرَ
وَهُمْ بَنُو الدّارِ بْنِ هَانِئِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ نُمَارَةَ بْنِ لَخْمٍ ، الّذِينَ سَارُوا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الشّامِ : تَمِيمُ بْنُ أَوْسٍ وَنُعَيْمُ بْنُ أَوْسٍ أَخُوهُ وَيَزِيدُ بْنُ قَيْسٍ ، وَعَرَفَةُ بْنُ مَالِكٍ ، سَمّاهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَبْدَ الرّحْمَنِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ عَزّةُ بْنُ مَالِكٍ ، وَأَخُوهُ مُرّانُ بْنُ مَالِكٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : مَرْوَانُ بْنُ مَالِكٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَفَاكِهُ بْنُ نُعْمَانَ ، وَجَبَلَةُ بْنُ مَالِكٍ وَأَبُو هِنْدِ بْنُ بَرّ ، وَأَخُوهُ الطّيّبُ بْنُ بَرّ فَسَمّاهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَبْدَ اللّهِ .
Sقَسْمُ أَمْوَالِ خَيْبَرَ وَأَرَاضِيهَا
[ ص 95 ] أَرْضُهَا ، فَقَسَمَهَا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَيْنَ مَنْ حَضَرَهَا مِنْ أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ وَأَخْرَجَ الْخُمُسَ لِلّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السّبِيلِ وَقَدْ تَقَدّمَ الْكَلَامُ فِي مَعْنَى : { فَلِلّهِ وَلِلرّسُولِ } وَمَا مَعْنَى لِسَهْمِ اللّهِ وَسَهْمِ الرّسُولِ وَلَوْلَا الْخُرُوجُ عَمّا صَمَدْنَا إلَيْهِ لَذَكَرْنَا سِرّا [ ص 96 ] { فَلِلّهِ وَلِلرّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى } بِاللّامِ وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ فِي الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقَالَ { وَلِلرّسُولِ } وَقَالَ فِي أَوّلِ السّورَةِ { قُلِ الْأَنْفَالُ لِلّهِ وَالرّسُولِ } وَقَالَ فِي آيَةِ الْفَيْءِ مَا أَفَاءَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ فَلِلّهِ وَلِلرّسُولِ وَلَمْ يَقُلْ رَسُولِهِ وَكُلّ هَذَا لِحِكْمَةِ وَحَاشَا لِلّهِ أَنْ يَكُونَ حَرْفٌ مِنْ التّنْزِيلِ خَالِيًا مِنْ حِكْمَةٍ . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ : قَسَمَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَرْضَ خَيْبَرَ أَثْلَاثًا أَثْلَاثًا ، السّلَالِمُ وَالْوَطِيحُ وَالْكَتِيبَةُ ، فَإِنّهُ تَرَكَهَا لِنَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ وَمَا يَعْرُوهُمْ وَفِي هَذَا مَا يُقَوّي أَنّ الْإِمَامَ مُخَيّرٌ فِي أَرْضِ الْعَنْوَةِ إنْ شَاءَ قَسَمَهَا أَخْذًا بِقَوْلِ اللّهِ سُبْحَانَهُ { وَاعْلَمُوا أَنّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ } الْآيَةُ فَيُجْرِيهَا مَجْرَى الْغَنِيمَةِ وَإِنْ شَاءَ وَقَفَهَا كَمَا فَعَلَ عُمَرُ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - أَخْذًا بِقَوْلِ اللّهِ تَعَالَى : { مَا أَفَاءَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } إلَى قَوْلِهِ { وَالّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ } فَاسْتَوْعَبَتْ آيَةُ الْفَيْءِ جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ فَسَمّى آيَةَ الْقُرَى فَيْئًا وَسَمّى الْأُخْرَى غَنِيمَةً فَدَلّ عَلَى افْتِرَاقِهِمَا فِي الْحُكْمِ كَمَا افْتَرَقَا فِي التّسْمِيَةِ وَكَمَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَقْوَالٍ مِنْهُمْ مَنْ يَرَى قَسْمَ الْأَرْضِ كَمَا فَعَلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِخَيْبَرِ وَهُوَ قَوْلُ الشّافِعِيّ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَاهَا وَقْفًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِبَيْتِ مَالِهِمْ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِتَخْيِيرِ الْإِمَامِ فِي ذَلِكَ فَكَذَلِكَ افْتَرَقَ رَأْيُ [ ص 97 ] فَكَانَ رَأْيُ الزّبَيْرِ الْقَسْمَ فَكَلّمَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ حِينَ افْتَتَحَ مِصْرَ فِي قَسْمِهَا فَكَتَبَ عَمْرٌو بِذَلِكَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ ، فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ أَنْ دَعْهَا ، وَلَا تَقْسِمْهَا ، حَتّى يُجَاهِدَ مِنْهَا حَبَلُ الْحَبَلَةِ وَقَدْ شَرَحْنَا هَذِهِ الْكَلِمَةَ فِي الْمَبْعَثِ قَبْلَ هَذَا بِأَجْزَاءِ وَكَذَلِكَ اسْتَأْمَرَ عُمَرُ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - الصّحَابَةَ فِي قَسْمِ أَرْضِ السّوَادِ حِينَ اُفْتُتِحَتْ فَكَانَ رَأْيُ عَلِيّ مَعَ رَأْيِ عُمَرَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا - أَنْ يَقِفَهَا ، وَلَا يَقْسِمَهَا ، وَأَرْضُ السّوَادِ أَوّلُهَا مِنْ تُخُومِ الْمَوْصِلِ مَدَامِعُ الْمَاءِ إلَى عَبّادَانَ مِنْ السّاحِلِ عَنْ يَسَارِ دِجْلَةَ ، وَفِي الْعَرْضِ مِنْ جِبَالِ حُلْوَانَ إلَى الْقَادِسِيّةِ مُتّصِلًا بِالْعُذَيْبِ مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ ، كَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ ، وَكَانَتْ الْعَرَبُ تَقُولُ دَلَعَ الْبَرّ لِسَانَهُ فِي السّوَادِ لِأَنّ الْأَرْضَ الْقَادِسِيّةَ كَلِسَانِ فِي الْبَرِيّةِ دَاخِلٌ فِي سَوَادِ الْعِرَاقِ ، حَكَاهَا الطّبَرِيّ . [ ص 98 ] سَارَ عُمَرُ إلَى الشّامِ ، وَكَانَ بِالْجَابِيَةِ شَاوَرَ فِيمَا افْتَتَحَ مِنْ الشّامِ : أَيَقْسِمُهَا ؟ فَقَالَ لَهُ مُعَاذٌ إنْ قَسَمْتهَا لَمْ يَكُنْ لِمَنْ يَأْتِي بَعْدُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ شَيْءٌ أَوْ نَحْوَ هَذَا ، فَأَخَذَ بِقَوْلِ مُعَاذٍ فَأَلَحّ عَلَيْهِ بِلَالٌ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَطَلَبُوا الْقَسْمَ فَلَمّا أَكْثَرُوا ، قَالَ اللّهُمّ اكْفِنِي بِلَالًا وَذَوِيهِ فَلَمْ يَأْتِ الْحَوْلُ ، وَمِنْهُمْ عَلَى الْأَرْضِ عَيْنٌ تَطْرِفُ وَكَانَتْ أَرْضُ الشّامِ كُلّهَا عَنْوَةٌ إلّا مَدَائِنَهَا ، فَإِنّ أَهْلَهَا صَالَحُوا عَلَيْهَا ، وَكَذَلِكَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ فَتَحَهَا عُمَرُ صُلْحًا بَعْدَ أَنْ وَجّهَ إلَيْهَا خَالِدَ بْنَ ثَابِتٍ الْفَهْمِيّ فَطَلَبُوا مِنْهُ الصّلْحَ فَكَتَبَ بِذَلِكَ إلَى عُمَرَ وَهُوَ بِالْجَابِيَةِ ، فَقَدِمَهَا ، وَقَبِلَ صُلْحَ أَهْلِهَا . وَأَرْضُ السّوَادِ كُلّهَا عَنْوَةٌ إلّا الْحِيرَةَ فَإِنّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ صَالَحَ أَهْلَهَا ، وَكَذَلِكَ أَرْضُ بَلَقْيَا أَيْضًا صُلْحٌ وَأُخْرَى يُقَالُ لَهَا : اللّيسُ . وَأَرْضُ خُرَاسَانَ عَنْوَةٌ إلّا تِرْمِذَ فَإِنّهَا قَلْعَةٌ مَنِيعَةٌ وَقِلَاعٌ سِوَاهَا ، وَأَمّا أَرْضُ مِصْرَ ، فَكَانَ اللّيْثُ بْنُ سَعْدٍ قَدْ اقْتَنَى بِهَا مَالًا وَعَابَ ذَلِكَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ يَحْيَى بْنُ أَيّوبَ وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ ، لِأَنّ أَرْضَ الْعَنْوَةِ لَا تُشْتَرَى ، وَكَانَ اللّيْثُ يَرْوِي عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ ، أَنّهَا فُتِحَتْ صُلْحًا ، وَكِلَا الْخَبَرَيْنِ حَقّ لِأَنّهَا فُتِحَتْ صُلْحًا أَوّلَ ثُمّ انْتَكَثَتْ بَعْدُ فَأُخِذَتْ عَنْوَةً فَمِنْ هَاهُنَا نَشَأَ الْخِلَافُ فِي أَمْرِهَا ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ ، وَقَدْ احْتَجّ مَنْ قَالَ بِالْقَسْمِ فِي أَرْضِ الْعَنْوَةِ بِأَنّ عُمَرَ لَمْ يَقِفْ أَرْضَ السّوَادِ [ ص 99 ] أَرْضَاهُمْ وَرَوَوْا أَنّ أُمّ كُرْزٍ الْبَجَلِيّةَ سَأَلَتْ سَهْمَ أَبِيهَا فِي أَرْضِ السّوَادِ وَأَبَتْ أَنْ تَتْرُكَهُ فَيْئًا ، حَتّى أَعْطَاهَا عُمَرُ رَاحِلَةً وَقَطِيفَةً حَمْرَاءَ وَثَمَانِينَ دِينَارًا ، وَكَذَلِكَ رَوَوْا عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ الْبَجَلِيّ فِي سَهْمِهِ بِأَرْضِ الْعِرَاقِ نَحْوًا مِنْ هَذَا ، وَقَالَ مَنْ يَحْتَجّ لِلْفَرِيقِ الْآخَرِ إنّمَا تَرَضّى عُمَرُ جَرِيرًا ، لِأَنّهُ كَانَ نَفَلَهُ تِلْكَ الْأَرْضَ فَكَانَتْ مِلْكًا لَهُ حَتّى مَاتَ وَكَذَلِكَ أُمّ كُرْزٍ كَانَ سَهْمُ أَبِيهَا نَفْلًا أَيْضًا ، جَاءَتْ بِذَلِكَ كُلّهِ الْآثَارُ الثّابِتَةُ وَاَللّهُ الْمُسْتَعَانُ .
أَبُو نَبِقَةَ
وَذَكَرَ فِيمَنْ قَسَمَ لَهُ يَوْمَ خَيْبَرَ أَبَا نَبِقَةَ قَسَمَ لَهُ خَمْسِينَ وَسْقًا ، وَاسْمُهُ عَلْقَمَةُ بْنُ الْمُطّلِبِ وَيُقَالُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَلْقَمَةَ ، وَقَالَ أَبُو عُمَرَ هُوَ مَجْهُولٌ وَقَالَ ابْنُ الْفَرَضِيّ أَبُو نَبِقَةَ بْنُ الْمُطّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ ، وَاسْمُ أَبِي نَبِقَةَ عَبْدُ اللّهِ وَمِنْ وَلَدِهِ مُحَمّدُ بْنُ الْعَلَاءِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي نَبِقَةَ وَمِنْ وَلَدِهِ أَبُو الْحُسَيْنِ الْمُطّلِبِيّ إمَامُ مَسْجِدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ، وَهُوَ يَحْيَى بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْعَلَاءِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ أَبِي نَبِقَةَ بْنِ الْمُطّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ . [ ص 100 ]
أُمّ الْحَكَمِ
وَذَكَرَ فِيهِمْ أُمّ الْحَكَمِ وَهِيَ بِنْتُ الزّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ أُخْتُ ضُبَاعَةَ هَكَذَا قَالَ أُمّ الْحَكَمِ وَالْمَعْرُوفُ فِيهَا أَنّهَا أُمّ حَكِيمٍ وَكَانَتْ تَحْتَ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ ، وَأَمّا أُمّ حَكَمٍ فَهِيَ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ وَهِيَ مِنْ مُسْلِمَةِ الْفَتْحِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَقُلْت : إنّ ابْنَ إسْحَاقَ إيّاهَا أَرَادَ لَكِنّهَا لَمْ تَشْهَدْ خَيْبَرَ ، وَلَا كَانَتْ أَسْلَمَتْ بَعْدُ .
أُمّ رِمْثَةَ وَغَيْرُهَا
وَذَكَرَ فِيمَنْ قَسَمَ لَهُ أُمّ رِمْثَةَ وَلَا تُعْرَفُ إلّا بِهَذَا الْخَبَرِ ، وَشُهُودِهَا فَتْحَ خَيْبَرَ . وَذَكَرَ بُحَيْنَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ . وَبُحَيْنَةُ تَصْغِيرُ بَحْنَةٍ وَهِيَ نَخْلَةٌ مَعْرُوفَةٌ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَلَفْظُهَا مِنْ الْبَحُونَةِ وَهِيَ جُلّةُ التّمْرِ وَهِيَ أُمّ عَبْدِ اللّهِ ابْنِ بُحَيْنَةَ الْفَقِيهِ وَهُوَ ابْنُ مَالِكِ بْنِ الْقِشْبِ الْأَزْدِيّ . [ ص 101 ]
الْقَسْمُ لِلنّسَاءِ مِنْ الْمَغْنَمِ
وَفِي قَسْمِهِ لِهَؤُلَاءِ النّسَاءِ حُجّةٌ لِلْأَوْزَاعِيّ لِقَوْلِهِ إنّ النّسَاءَ يُقْسَمُ لَهُنّ مَعَ الرّجَالِ فِي الْمَغَازِي ، وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ لَا يَرَوْنَ لِلنّسَاءِ مَعَ الرّجَالِ قَسْمًا ، وَلَكِنْ يُرْضَخُ لَهُنّ مِنْ الْمَغْنَمِ أَخْذًا بِحَدِيثِ أُمّ عَطِيّةَ قَالَتْ كُنّا نَغْزُو مَعَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَنُدَاوِي الْجَرْحَى ، وَنُمَرّضُ الْمَرْضَى وَيُرْضَخُ لَنَا مِنْ الْمَغْنَمِ .

[ ص 100 ] فَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَمَا حَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ ، يَبْعَثُ إلَى أَهْلِ خَيْبَرَ عَبْدَ اللّهِ بْنَ رَوَاحَةَ خَارِصًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَيَهُودَ فَيَخْرُصُ عَلَيْهِمْ فَإِذَا قَالُوا : تَعَدّيْت عَلَيْنَا ؛ قَالَ إنْ شِئْتُمْ فَلَكُمْ وَإِنْ شِئْتُمْ فَلَنَا ، فَتَقُولُ يَهُودُ بِهَذَا قَامَتْ السّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَإِنّمَا خَرَصَ عَلَيْهِمْ عَبْدُ اللّهِ بْنُ رَوَاحَةَ عَامًا وَاحِدًا ، ثُمّ أُصِيبَ بِمُؤْتَةِ يَرْحَمُهُ اللّهُ فَكَانَ جَبّارُ بْنُ صَخْرِ بْنِ أُمَيّةَ ابْنِ خَنْسَاءَ أَخُو بَنِي سَلِمَةَ ، هُوَ الّذِي يَخْرُصُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ رَوَاحَةَ . فَأَقَامَتْ يَهُودُ عَلَى ذَلِكَ لَا يَرَى بِهِمْ الْمُسْلِمُونَ بَأْسًا فِي مُعَامَلَتِهِمْ حَتّى عَدَوْا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى عَبْدِ اللّهِ بْنِ سَهْلٍ ، أَخِي بَنِي حَارِثَةَ ، فَقَتَلُوهُ فَاتّهَمَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَالْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي الزّهْرِيّ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ وَحَدّثَنِي أَيْضًا بَشِيرُ بْنُ يَسَارٍ ، مَوْلَى بَنِي حَارِثَةَ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ قَالَ أُصِيبَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ سَهْلٍ بِخَيْبَرِ وَكَانَ خَرَجَ إلَيْهَا فِي أَصْحَابٍ لَهُ يَمْتَارُ مِنْهَا تَمْرًا ، فَوُجِدَ فِي عَيْنٍ قَدْ كُسِرَتْ عُنُقُهُ ثُمّ طُرِحَ فِيهَا ؛ قَالَ فَأَخَذُوهُ فَغَيّبُوهُ ثُمّ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَذَكَرُوا لَهُ شَأْنَهُ فَتَقَدّمَ إلَيْهِ أَخُوهُ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ ، وَمَعَهُ ابْنَا عَمّهِ حُوَيّصَةُ وَمُحَيّصَةُ ابْنَا مَسْعُودٍ ، وَكَانَ عَبْدُ الرّحْمَنِ مِنْ أَحْدَثِهِمْ سِنّا ، وَكَانَ صَاحِبَ الدّمِ وَكَانَ ذَا قَدَمٍ مِنْ الْقَوْمِ ، فَلَمّا تَكَلّمَ قَبْلَ ابْنَيْ عَمّهِ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْكُبْرُ الْكُبْرُ . [ ص 101 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ كَبّرْ كَبّرْ - فِيمَا ذَكَرَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ - فَسَكَتَ فَتَكَلّمَ حُوَيّصَةُ وَمُحَيّصَةُ ، ثُمّ تَكَلّمَ هُوَ بَعْدُ فَذَكَرُوا لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَتْلَ صَاحِبِهِمْ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ "أَتُسَمّونَ قَاتِلَكُمْ ثُمّ تَحْلِفُونَ عَلَيْهِ خَمْسِينَ يَمِينًا فَنُسَلّمَهُ إلَيْكُمْ ؟ " قَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ مَا كُنّا لِنَحْلِفَ عَلَى مَا لَا نَعْلَمُ قَالَ " أَفَيَحْلِفُونَ بِاَللّهِ خَمْسِينَ يَمِينًا مَا قَتَلُوهُ وَلَا يَعْلَمُونَ لَهُ قَاتِلًا ثُمّ يَبْرَءُونَ مِنْ دَمِهِ ؟ " قَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ مَا كُنّا لِنَقْبَلَ أَيْمَانَ يَهُودَ مَا فِيهِمْ مِنْ الْكُفْرِ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَحْلِفُوا عَلَى إثْمٍ قَالَ فَوَدَاهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ عِنْدِهِ مِائَةَ نَاقَةٍ قَالَ سَهْلٌ فَوَاَللّهِ مَا أَنْسَى بَكْرَةً مِنْهَا حَمْرَاءَ ضَرَبَتْنِي وَأَنَا أَحُوزُهَا . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التّيْمِيّ ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ بُجَيْدِ بْنِ قَيْظِيّ أَخِي بَنِي حَارِثَةَ قَالَ مُحَمّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ وَأَيْمُ اللّهِ مَا كَانَ سَهْلٌ بِأَكْثَرَ عِلْمًا مِنْهُ وَلَكِنّهُ كَانَ أَسَنّ مِنْهُ وَإِنّهُ قَالَ لَهُ وَاَللّهِ مَا هَكَذَا كَانَ الشّأْنُ وَلَكِنّ سَهْلًا أَوْهَمَ مَا قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ احْلِفُوا عَلَى مَا لَا عِلْمَ لَكُمْ بِهِ وَلَكِنّهُ كَتَبَ إلَى يَهُودِ خَيْبَرَ حِينَ كَلّمَتْهُ الْأَنْصَارُ : إنّهُ قَدْ وُجِدَ قَتِيلٌ بَيْنَ أَبْيَاتِكُمْ فَدُوهُ فَكَتَبُوا إلَيْهِ يَحْلِفُونَ بِاَللّهِ مَا قَتَلُوهُ وَلَا يَعْلَمُونَ لَهُ قَاتِلًا . فَوَدَاهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ عِنْدِهِ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ مِثْلَ حَدِيثِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ بُجَيْدٍ إلّا أَنّهُ قَالَ فِي حَدِيثِهِ دُوهُ أَوْ ائْذَنُوا بِحَرْبِ . فَكَتَبُوا يَحْلِفُونَ بِاَللّهِ مَا قَتَلُوهُ وَلَا يَعْلَمُونَ لَهُ قَاتِلًا ، فَوَدَاهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ عِنْدِهِ [ ص 102 ]
عُمَر يُجْلِي يَهُودَ خَيْبَرَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَسَأَلْت ابْنَ شِهَابٍ الزّهْرِيّ : كَيْفَ كَانَ إعْطَاءُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَهُودَ خَيْبَرَ نَخْلَهُمْ حِينَ أَعْطَاهُمْ النّخْلَ عَلَى خَرْجِهَا ، أَبَتّ ذَلِك لَهُمْ حَتّى قُبِضَ أَمْ أَعْطَاهُمْ إيّاهَا لِلضّرُورَةِ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ ؟ . فَأَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ : أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ عِنْوَةً بَعْدَ الْقِتَالِ وَكَانَتْ خَيْبَرُ مِمّا أَفَاءَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَمّسَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَسَمَهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَنَزَلَ مَنْ نَزَلَ مِنْ أَهْلِهَا عَلَى الْجَلَاءِ بَعْدَ الْقِتَالِ فَدَعَاهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ إنْ شِئْتُمْ دَفَعْت إلَيْكُمْ هَذِهِ الْأَمْوَالَ عَلَى أَنْ تَعْمَلُوهَا ، وَتَكُونُ ثِمَارُهَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ وَأُقِرّكُمْ مَا أَقَرّكُمْ اللّهُ فَقَبِلُوا ، فَكَانُوا عَلَى ذَلِكَ يَعْمَلُونَهَا . وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَبْعَثُ عَبْدَ اللّهِ بْنَ رَوَاحَةَ ، فَيَقْسِمُ ثَمَرَهَا ، وَيَعْدِلُ عَلَيْهِمْ فِي الْخَرْصِ فَلَمّا تَوَفّى اللّهُ نَبِيّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَقَرّهَا أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ تَعَالَى عَنْهُ بَعْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى الْمُعَامَلَةِ الّتِي عَامَلَهُمْ عَلَيْهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى تُوُفّيَ ثُمّ أَقَرّهَا عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ صَدْرًا مِنْ إمَارَتِهِ ثُمّ بَلَغَ عُمَرَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ فِي وَجَعِهِ الّذِي قَبَضَهُ اللّهُ فِيهِ لَا يَجْتَمِعَن بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ فَفَحَصَ عُمَرُ ذَلِكَ حَتّى بَلَغَهُ الثّبْتُ فَأَرْسَلَ إلَى يَهُودَ فَقَالَ " إنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ قَدْ أَذِنَ فِي جَلَائِكُمْ " ، قَدْ بَلَغَنِي أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ " لَا يَجْتَمِعَن بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ عَهْدٌ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الْيَهُودِ فَلْيَأْتِنِي بِهِ أُنْفِذْهُ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ عَهْدٌ [ ص 103 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الْيَهُودِ ، فَلْيَتَجَهّزْ لِلْجَلَاءِ فَأَجْلَى عُمَرُ مَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ عَهْدٌ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْهُمْ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي نَافِعٌ مَوْلَى عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ خَرَجْت أَنَا وَالزّبَيْرُ وَالْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ إلَى أَمْوَالِنَا بِخَيْبَرِ نَتَعَاهَدُهَا ، فَلَمّا قَدِمْنَا تَفَرّقْنَا فِي أَمْوَالِنَا ، قَالَ فَعُدِيَ عَلَيّ تَحْتَ اللّيْلِ وَأَنَا نَائِمٌ عَلَى فِرَاشِي ، فَفُدِعَتْ يَدَايَ مِنْ مِرْفَقِي ، فَلَمّا أَصْبَحْت أَسْتَصْرِخُ عَلَيّ صَاحِبَايَ فَأَتَيَانِي فَسَأَلَانِي : مَنْ صَنَعَ هَذَا بِك ؟ فَقُلْت : لَا أَدْرِي ؛ قَالَ فَأَصْلَحَا مِنْ يَدَيّ ثُمّ قَدِمَا بِي عَلَى عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فَقَالَ هَذَا عَمَلُ يَهُودَ ثُمّ قَامَ فِي النّاسِ خَطِيبًا فَقَالَ أَيّهَا النّاسُ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ عَامَلَ يَهُودَ خَيْبَرَ عَلَى أَنّا نُخْرِجُهُمْ إذَا شِئْنَا ، وَقَدْ عَدَوْا عَلَى عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ ، فَفَدِعُوا يَدَيْهِ كَمَا قَدْ بَلَغَكُمْ مَعَ عَدْوِهِمْ عَلَى الْأَنْصَارِيّ قَبْلَهُ لَا نَشُكّ أَنّهُمْ أَصْحَابُهُ لَيْسَ لَنَا هُنَاكَ عَدُوّ غَيْرُهُمْ فَمَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ بِخَيْبَرِ فَلْيَلْحَقْ بِهِ فَإِنّي مُخْرِجٌ يَهُودَ فَأَخْرَجَهُمْ
قِسْمَةُ عُمَرَ لِوَادِي الْقُرَى بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مَكْنَفٍ ، أَخِي بَنِي حَارِثَةَ ، قَالَ لَمّا أَخْرَجَ عُمَرُ يَهُودَ مِنْ خَيْبَرَ رَكِبَ فِي الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ، وَخَرَجَ مَعَهُ جُبَارُ بْنُ صَخْرِ بْنِ أُمَيّةَ ابْنِ خَنْسَاءَ ، أَخُو بَنِي سَلِمَةَ ، وَكَانَ خَارَصَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ وَحَاسَبَهُمْ - وَيَزِيدُ بْنُ ثَابِتٍ وَهُمَا قَسَمَا خَيْبَرَ بَيْنَ أَهْلِهَا ، عَلَى أَصْلِ جَمَاعَةِ السّهْمَانِ الّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا . وَكَانَ مَا قَسَمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ مِنْ وَادِي الْقُرَى ، لِعُثْمَانِ بْنِ عَفّانَ خَطَرٌ وَلِعَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ خَطَرٌ وَلِعُمَرِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ خَطَرٌ وَلِعَامِرِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ خَطَرٌ وَلِعَمْرِو بْنِ سُرَاقَةَ خَطَرٌ وَلِأَشْيَمَ خَطَرٌ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ وَلِأَسْلَمَ وَلِبَنِي جَعْفَرٍ خَطَرٌ وَلِمُعَيْقِيبٍ خَطَرٌ وَلِعَبْدِ اللّهِ بْنِ الْأَرْقَم ِ خَطَرٌ وَلِعَبْدِ اللّهِ وَعُبَيْدِ اللّهِ خَطَرَانِ وَلِابْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ جَحْشٍ خَطَرٌ وَلِابْنِ [ ص 104 ] الْبُكَيْرِ خَطَرٌ وَلِمُعْتَمِرِ خَطَرٌ وَلِزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ خَطَرٌ وَلِأُبَيّ بْنِ كَعْبٍ خَطَرٌ وَلِمُعَاذِ ابْنِ عَفْرَاءَ خَطَرٌ وَلِأَبِي طَلْحَةَ وَحَسَنٍ خَطَرٌ وَلِجَبّارِ بْنِ صَخْرٍ خَطَرٌ وَلِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ رِئَاب ٍ خَطَرٌ وَلِمَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَمْرٍو خَطَرٌ وَلِابْنِ حُضَيْرٍ خَطَرٌ وَلِابْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ خَطَرٌ وَلِسَلَامَةِ بْنِ سَلَامَةَ خَطَرٌ وَلِعَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ ثَابِتٍ وَأَبِي شَرِيكٍ خَطَرٌ وَلِأَبِي عَبْسِ بْنِ جَبْرٍ خَطَرٌ وَلِمُحَمّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ خَطَرٌ وَلِعُبَادَةَ بْنِ طَارِقٍ خَطَرٌ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ لِقَتَادَةَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَلِجَبْرِ بْنِ عَتِيكٍ نِصْفُ خَطَرٍ وَلِابْنَيْ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسٍ نِصْفُ خَطَرٍ وَلِابْنِ حَزَمَةَ وَالضّحّاكِ خَطَرٌ فَهَذَا مَا بَلَغَنَا مِنْ أَمْرِ خَيْبَرَ وَوَادِي الْقُرَى وَمَقَاسِمِهَا . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْخَطَرُ النّصِيبُ . يُقَالُ أَخْطَرَ لِي فُلَانٌ خَطَرًا .

ذِكْرُ قُدُومِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مِنْ الْحَبَشَةِ وَحَدِيثُ الْمُهَاجِرِينَ إلَى الْحَبَشَةِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَذَكَرَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ الْأَجْلَحِ عَنْ الشّعْبِيّ : أَنّ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمَ فَتْحِ خَيْبَرَ ، فَقَبّلَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَالْتَزَمَهُ وَقَالَ مَا أَدْرِي بِأَيّهِمَا أَنَا أُسَرّ : بِفَتْحِ خَيْبَرَ ، أَمْ بِقُدُومِ جَعْفَرٍ ؟ [ ص 105 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ مَنْ أَقَامَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى النّجَاشِيّ عَمْرَو بْنَ أُمَيّةَ الضّمْرِيّ ، فَحَمَلَهُمْ فِي سَفِينَتَيْنِ فَقَدِمَ بِهِمْ عَلَيْهِ وَهُوَ بِخَيْبَرِ بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ . مِنْ بَنِي هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ : جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، مَعَهُ امْرَأَتُهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ الْخَثْعَمِيّةُ وَابْنُهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ جَعْفَرٍ ، وَكَانَتْ وَلَدَتْهُ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ . قُتِلَ جَعْفَرٌ بِمُؤْتَةِ مِنْ أَرْضِ الشّامِ أَمِيرًا لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَجُلٌ . وَمِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ : خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ ، مَعَهُ امْرَأَتُهُ أُمَيْنَةُ بِنْتُ خَلَفِ بْنِ أَسْعَدَ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ هُمَيْنَةُ بِنْتُ خَلَفٍ - وَابْنَاهُ سَعِيدُ بْنُ خَالِدٍ وَأُمّهُ بِنْتُ خَالِدٍ وَلَدَتْهُمَا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ . قُتِلَ خَالِدٌ بِمَرْجِ الصّفّرِ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ الصّدّيقِ بِأَرْضِ الشّامِ ؟ وَأَخُوهُ عَمْرُو بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ مَعَهُ امْرَأَتُهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ مُحَرّثٍ الْكِنَانِيّ ، هَلَكَتْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ . قُتِلَ عَمْرٌو بِأَجْنَادِينَ مِنْ أَرْضِ الشّامِ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ . وَلِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ يَقُولُ أَبُوهُ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ بْنِ أُمَيّةَ أَبُو أُحَيْحَةُ
أَلَا لَيْتَ شِعْرِي عَنْك يَا عَمْرُو سَائِلًا ... إذَا شَبّ وَاشْتَدّتْ يَدَاهُ وَسُلّحَا
أَتَتْرُكُ أَمْرَ الْقَوْمِ فِيهِ بَلَابِلُ ... تَكَشّفَ غَيْظًا كَانَ فِي الصّدْرِ مُوجَحَا
وَلِعَمْرِو وَخَالِدٍ يَقُولُ أَخُوهُمَا أَبَانُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ ، حِينَ أَسْلَمَا وَكَانَ أَبُوهُمْ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ هَلَكَ بِالظّرَيْبَةِ مِنْ نَاحِيَةِ الطّائِفِ ، هَلَكَ فِي مَالٍ لَهُ بِهَا :
أَلَا لَيْتَ مَيْتًا بِالظّرَيْبَةِ شَاهِدُ ... لِمَا يَفْتَرِي فِي الدّينِ عَمْرٌو وَخَالِدُ
أَطَاعَا بِنَا أَمْرَ النّسَاءِ فَأَصْبَحَا ... يُعِينَانِ مِنْ أَعْدَائِنَا مَنْ نُكَايِدُ
[ ص 106 ] خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ ، فَقَالَ
أَخِي مَا أَخِي لَا شَاتِمٌ أَنَا عِرْضَهُ ... وَلَا هُوَ مِنْ سُوءِ الْمَقَالَةِ مُقْصِرُ
يَقُولُ إذَا اشْتَدّتْ عَلَيْهِ أُمُورُهُ ... أَلَا لَيْتَ مَيْتًا بِالظّرَيْبَةِ يُنْشَرُ
فَدَعْ عَنْك مَيْتًا قَدْ مَشَى لِسَبِيلِهِ ... وَأَقْبِلْ عَلَى الْأَدْنَى الّذِي هُوَ أَفْقَرُ
وَمُعَيْقِيبُ بْنُ أَبِي فَاطِمَةَ خَازِنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ عَلَى بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ وَكَانَ إلَى آلِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ ؟ وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ عَبْدُ اللّهِ بْنُ قَيْسٍ ، حَلِيفُ آلِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ ، أَرْبَعَةُ نَفَرٍ . وَمِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ قُصَيّ : الْأَسْوَدُ بْنُ نَوْفَلِ بْنِ خُوَيْلِدٍ . رَجُلٌ . وَمِنْ بَنِي عَبْدِ الدّارِ بْنِ قُصَيّ : جَهْمُ بْنُ قَيْسِ بْنِ عَبْدِ شُرَحْبِيلَ مَعَهُ ابْنَاهُ عَمْرُو بْنُ جَهْمٍ وَخُزَيْمَةُ بْنُ جَهْمٍ وَكَانَتْ مَعَهُ امْرَأَتُهُ أُمّ حَرْمَلَةَ بِنْتِ عَبْدِ الْأَسْوَدِ هَلَكَتْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ ، وَابْنَاهُ لَهَا . رَجُلٌ . وَمِنْ بَنِي زُهْرَةَ بْنِ كِلَابٍ : عَامِرُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ وَعُتْبَةُ بْنُ مَسْعُودٍ حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ هُذَيْلٍ . رَجُلَانِ . وَمِنْ بَنِي تَيْمِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبٍ : الْحَارِثُ بْنُ خَالِدِ بْنِ صَخْرٍ وَقَدْ كَانَتْ مَعَهُ امْرَأَتُهُ رَيْطَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ جُبَيْلَةَ هَلَكَتْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ . رَجُلٌ . وَمِنْ بَنِي جُمَحَ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبٍ : عُثْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ أُهْبَانَ . رَجُلٌ . وَمِنْ بَنِي سَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبٍ ، مَحْمِيّةُ بْنُ الْجَزْءِ حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ بَنِي زُبَيْدٍ ، كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جَعَلَهُ عَلَى خُمُسِ الْمُسْلِمِينَ . رَجُلٌ . وَمِنْ بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ : مَعْمَرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ نَضْلَةَ . رَجُلٌ . وَمِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ غَالِبٍ : أَبُو حَاطِبِ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ ؟ وَمَالِكُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ ، مَعَهُ امْرَأَتُهُ عَمْرَةُ بِنْتُ السّعْدِيّ بْنِ وَقْدَانَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ . رَجُلَانِ . [ ص 107 ] وَمِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ فِهْرَانَ بْنِ مَالِكٍ : الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ قَيْسِ بْنِ لَقِيطٍ . رَجُلٌ . وَقَدْ كَانَ حَمَلَ مَعَهُمْ فِي السّفِينَتَيْنِ نِسَاءً مِنْ نِسَاءِ مَنْ هَلَكَ هُنَالِكَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ . فَهَؤُلَاءِ الّذِينَ حَمَلَ النّجَاشِيّ مَعَ عَمْرِو بْنِ أُمَيّةَ الْضّمْرِي ّ فِي السّفِينَتَيْنِ فَجَمِيعُ مَنْ قَدِمَ فِي السّفِينَتَيْنِ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سِتّةَ عَشَرَ رَجُلًا .
Sالْمُصَافَحَةُ وَالْمُعَانَقَةُ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ قُدُومَ أَصْحَابِ السّفِينَةِ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ ، وَفِيهِمْ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، وَأَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْتَزَمَهُ وَقَبّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَقَدْ احْتَجّ بِهَذَا الْحَدِيثِ الثّوْرِيّ عَلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ فِي جَوَازِ الْمُعَانَقَةِ وَذَهَبَ مَالِكٌ إلَى أَنّهُ خُصُوصٌ بِالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ سُفْيَانُ مِنْ حَمْلِ الْحَدِيثِ عَلَى عُمُومِهِ أَظْهَرُ وَقَدْ الْتَزَمَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ ، حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِ مِنْ مَكّةَ . [ ص 102 ] وَأَمّا الْمُصَافَحَةُ بِالْيَدِ عِنْدَ السّلَامِ فَفِيهَا أَحَادِيثُ مَعَهَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ تَمَامُ تَحِيّتِكُمْ الْمُصَافَحَةُ وَمَعَهَا حَدِيثٌ آخَرُ أَنّ أَهْلَ الْيَمَنِ حِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ صَافَحُوا النّاسَ بِالسّلَامِ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّ أَهْلَ الْيَمَنِ قَدْ سَنّوا لَكُمْ الْمُصَافَحَةَ ثُمّ نَدَبَ إلَيْهَا بِلَفْظِ لَا أَذْكُرُهُ الْآنَ غَيْرَ أَنّ مَعْنَاهُ تَنْزِلُ عَلَيْهَا مِائَةُ رَحْمَةٍ تِسْعُونَ مَعَهَا لِلْبَادِئِ وَعَنْ مَالِكٍ فِيهَا رِوَايَتَانِ الْإِبَاحَةُ وَالْكَرَاهَةُ وَلَا أَدْرِي مَا وَجْهُ الْكَرَاهِيَةِ فِي ذَلِكَ .
وَلَدُ جَعْفَرٍ وَالنّجَاشِيّ
وَكَانَ جَعْفَرٌ قَدْ وُلِدَ لَهُ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ مُحَمّدٌ وَعَوْنٌ وَعَبْدُ اللّهِ وَكَانَ النّجَاشِيّ قَدْ وُلِدَ لَهُ مَوْلُودٌ يَوْمَ وُلِدَ عَبْدُ اللّهِ فَأَرْسَلَ إلَى جَعْفَرٍ يَسْأَلُهُ كَيْفَ أَسْمَيْت ابْنَك ؟ فَقَالَ أَسْمَيْته عَبْدَ اللّهِ فَسَمّى النّجَاشِيّ ابْنَهُ عَبْدَ اللّهِ وَأَرْضَعَتْهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ امْرَأَةُ جَعْفَرٍ مَعَ ابْنِهَا عَبْدِ اللّهِ فَكَانَا يَتَوَاصَلَانِ بِتِلْكَ الْأُخُوّةِ . [ ص 103 ]
ضَبْطُ أَجْنَادِينَ
وَذَكَرَ عَمْرَو بْنَ سَعِيدٍ ، وَأَنّهُ اُسْتُشْهِدَ بِأَجْنَادِينَ هَكَذَا تَقَيّدَ فِي الْأَصْلِ بِكَسْرِ الدّالِ وَفَتْحِ أَوّلِهِ وَكَذَا سَمِعْت الشّيْخَ الْحَافِظَ أَبَا بَكْرٍ يَنْطِقُ بِهِ وَقَيّدْنَاهُ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ طَاهِرٍ عَنْ أَبِي عَلِيّ الْغَسّانِيّ إجْنَادِينَ بِكَسْرِ أَوّلِهِ وَفَتْحِ الدّالِ . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْبَكْرِيّ فِي كِتَابِ مُعْجَمِ مَا اسْتَعْجَمَ أَجْنَادِينَ بِفَتْحِ أَوّلِهِ وَفَتْحِ الدّالِ وَقَالَ كَأَنّهُ تَثْنِيَةُ أَجْنَادٍ . [ ص 104 ]
الْقَادِسِيّةُ وَيَوْمُ الْهَرِيرِ
وَذَكَرَ عَمْرَو بْنَ عُثْمَانَ التّيْمِيّ ، وَأَنّهُ قُتِلَ بِالْقَادِسِيّةِ مَعَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقّاصٍ وَالْقَادِسِيّةُ آخِرُ أَرْضِ الْعَرَبِ ، وَأَوّلُ أَرْضِ السّوَادِ وَفِي أَيّامِهَا قُتِلَ رُسْتُمُ مَلِكُ الْفُرْسِ فِي يَوْمٍ مِنْ أَيّامهَا يُسَمّى يَوْمَ الْهَرِيرِ وَكَانَ قَدْ أَقْبَلَ بِالْفِيَلَةِ وَجُمُوعٍ لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهَا ، وَالْمُسْلِمُونَ فِي عَدَدٍ دُونِ الْعَشْرِ مِنْ عَدَدِ الْمَجُوسِ فَكَانَ الظّفَرُ لِلْمُسْلِمِينَ وَكَانَ الْأَمِيرُ عَلَيْهِمْ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقّاصٍ ، وَخَبَرُهَا طَوِيلٌ يَشْتَمِلُ عَلَى أَعَاجِيبَ مِنْ فَتْحِ اللّهِ تَعَالَى عَلَى هَذِهِ الْأُمّةِ اسْتَقْصَاهَا سَيْفُ بْنُ عُمَرَ فِي كِتَابِ الْفُتُوحِ ثُمّ الطّبَرِيّ بَعْدَهُ وَسُمّيَتْ الْقَادِسِيّةُ بِرَجُلِ مِنْ الْهَرَةِ وَكَانَ كِسْرَى قَدْ أَسْكَنَهُ بِهَا اسْمُهُ قَادِسٌ وَقِيلَ وَسُمّيَتْ بِقَوْمِ نَزَلُوهَا مِنْ قَادِسٍ وَقَادِسٌ بِخُرَاسَانَ ، وَأَمّا الْقَادِسُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ فَمِنْ أَسْمَاءِ السّفِينَةِ .
عَنْ بَعْضِ الْقَادِمِينَ مِنْ الْحَبَشَةِ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ فِيمَنْ قَدِمَ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ هِشَامَ بْنَ أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ ، وَاسْمُ أَبِي حُذَيْفَةَ مِهْشَمٌ وَذَكَرَ الْوَاقِدِيّ هِشَامًا . هَذَا فِيمَنْ قَدِمَ [ ص 105 ] الْحَبَشَةِ غَيْرَ أَنّهُ قَالَ فِيهِ هَاشِمٌ وَلَمْ يَذْكُرْهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ ، وَلَا أَبُو مَعْشَرٍ فِي الْقَادِمِينَ مِنْ الْحَبَشَةِ .

وَكَانَ مِمّنْ هَاجَرَ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ ، وَلَمْ يَقْدَمْ إلّا بَعْدَ بَدْرٍ وَلَمْ يَحْمِلْ النّجَاشِيّ فِي السّفِينَتَيْنِ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَنْ قَدِمَ بَعْدَ ذَلِكَ وَمَنْ هَلَكَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ ، مِنْ مُهَاجِرَةِ الْحَبَشَةِ مِنْ بَنِي أُمَيّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ : عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ جَحْشِ بْنِ رِئَابٍ الْأَسَدِيّ ، أَسَدُ خُزَيْمَةَ ، حَلِيفُ بَنِي أُمَيّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ ، مَعَهُ امْرَأَتُهُ أُمّ حَبِيبَةَ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ ، وَابْنَتُهُ حَبِيبَةُ بِنْتُ عُبَيْدِ اللّهِ وَبِهَا كَانَتْ تُكَنّى أُمّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ وَكَانَ اسْمُهَا رَمْلَةَ . خَرَجَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ مُهَاجِرًا ، فَلَمّا قَدِمَ أَرْضَ الْحَبَشَةِ تَنَصّرَ بِهَا وَفَارَقَ الْإِسْلَامَ وَمَاتَ هُنَالِكَ نَصْرَانِيّا ، فَخَلّفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى امْرَأَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ أُمّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزّبَيْرِ ، عَنْ عُرْوَةَ قَالَ خَرَجَ عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ جَحْشٍ مَعَ الْمُسْلِمِينَ مُسْلِمًا ، فَلَمّا قَدِمَ أَرْضَ الْحَبَشَةِ تَنَصّرَ قَالَ فَكَانَ إذَا مَرّ بِالْمُسْلِمِينَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ فَتّحْنَا وَصَأْصَأْتُمْ أَيْ قَدْ أَبْصَرْنَا وَأَنْتُمْ تَلْتَمِسُونَ الْبَصَرَ وَلَمْ تُبْصِرُوا بَعْدُ . وَذَلِكَ أَنّ وَلَدَ الْكَلْبِ إذَا أَرَادَ أَنْ يَفْتَحَ عَيْنَيْهِ لِلنّظَرِ صَأْصَأَ قَبْلَ ذَلِكَ فَضَرَبَ ذَلِكَ لَهُ وَلَهُمْ مَثَلًا : أَيْ أَنّا قَدْ فَتّحْنَا أَعْيُنَنَا فَأَبْصَرْنَا ، وَلَمْ تَفْتَحُوا أَعْيُنَكُمْ فَتُبْصِرُوا ، وَأَنْتُمْ تَلْتَمِسُونَ ذَلِكَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَيْسُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ رَجُلٌ مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ ، وَهُوَ أَبُو أُمَيّةَ بِنْتُ قَيْسٍ الّتِي كَانَتْ مَعَ أُمّ حَبِيبَةَ ؟ وَامْرَأَتُهُ بَرَكَةُ بِنْتُ يَسَارٍ مَوْلَاةُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ ، كَانَتَا ظِئْرَيْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ جَحْشٍ ، وَأُمّ حَبِيبَةَ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ فَخَرَجَا بِهِمَا مَعَهُمَا حِينَ هَاجَرَا إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ . رَجُلَانِ . [ ص 108 ] وَمِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ قُصَيّ : يَزِيدُ بْنُ زَمَعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطّلِبِ بْنِ أَسَدٍ ، قُتِلَ يَوْمَ حُنَيْنٍ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ شَهِيدًا ، وَعَمْرُو بْنُ أُمَيّةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَسَدٍ ، هَلَكَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ . رَجُلَانِ . وَمِنْ بَنِي عَبْدِ الدّارِ بْنِ قُصَيّ : أَبُو الرّومِ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدّارِ وَفِرَاسُ بْنُ النّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ بْنِ عَلْقَمَةَ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدّارِ . رَجُلَانِ . وَمِنْ بَنِي زُهْرَةَ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ : الْمُطّلِبُ بْنُ أَزْهَرَ بْنِ عَبْدِ عَوْفِ بْنِ عَبْدِ ( بْنِ ) الْحَارِثِ بْنِ زُهْرَةَ ، مَعَهُ امْرَأَتُهُ رَمْلَةُ بِنْتُ أَبِي عَوْفِ بْنِ ضُبَيْرَةَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمٍ ، هَلَكَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ ، وَلَدَتْ لَهُ هُنَالِكَ عَبْدَ اللّهِ بْنَ الْمُطّلِبِ فَكَانَ يُقَالُ إنْ كَانَ لَأَوّلُ رَجُلٍ وَرِثَ أَبَاهُ فِي الْإِسْلَامِ رَجُلٌ . وَمِنْ بَنِي تَيْمِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ : عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمٍ ، قُتِلَ بِالْقَادِسِيّةِ مَعَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقّاصٍ . رَجُلٌ . وَمِنْ بَنِي مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبٍ : هَبّارُ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ قُتِلَ بِأَجْنَادِينَ مِنْ أَرْضِ الشّامِ ، فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ ؟ وَأَخُوهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ سُفْيَانَ ، قُتِلَ عَامَ الْيَرْمُوكِ بِالشّامِ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ يُشَكّ فِيهِ أَقُتِلَ ثَمّ أَمْ لَا ؟ وَهِشَامُ بْنُ أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، ثَلَاثَةُ نَفَرٍ . [ ص 109 ] وَمِنْ بَنِي جُمَحَ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبٍ : حَاطِبُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ مَعْمَرِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحَ ، وَابْنَاهُ مُحَمّدٌ وَالْحَارِثُ مَعَهُ امْرَأَتُهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْمُجَلّلِ هَلَكَ حَاطِبٌ هُنَالِكَ مُسْلِمًا ، فَقَدِمَتْ امْرَأَتُهُ وَابْنَاهُ وَهِيَ أُمّهُمَا ، فِي إحْدَى السّفِينَتَيْنِ وَأَخُوهُ خَطّابُ بْنُ الْحَارِثِ ، مَعَهُ امْرَأَتُهُ فُكَيْهَةُ بِنْتُ يَسَارٍ هَلَكَ هُنَالِكَ مُسْلِمًا ، فَقَدِمَتْ امْرَأَتُهُ فُكَيْهَةُ فِي إحْدَى السّفِينَتَيْنِ ؟ وَسُفْيَانُ بْنُ مَعْمَرِ بْنِ حَبِيبٍ وَابْنَاهُ جُنَادَةُ وَجَابِرٌ وَأُمّهُمَا مَعَهُ حَسِنَةَ وَأَخُوهُمَا لِأُمّهِمَا شُرَحْبِيلُ ابْنُ حَسِنَةَ وَهَلَكَ سُفْيَانُ وَهَلَكَ ابْنَاهُ جُنَادَةُ وَجَابِرٌ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ . سِتّةُ نَفَرٍ . وَمِنْ بَنِي سَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبِ : عَبْدُ اللّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيّ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمٍ الشّاعِرُ هَلَكَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ ، وَقَيْسُ بْنُ حُذَافَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيّ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمٍ ، وَأَبُو قَيْسِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيّ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمٍ ، قُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ الصّدّيقِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ حُذَافَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيّ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمٍ وَهُوَ رَسُولُ ( رَسُولِ ) اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى كِسْرَى ، وَالْحَارِثُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيّ ، وَمَعْمَرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيّ ، وَبِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيّ ، وَأَخٌ لَهُ مِنْ أُمّهِ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ ، يُقَالُ لَهُ سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو ، قُتِلَ بِأَجْنَادِينَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَسَعِيدُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسٍ ، قُتِلَ عَامَ الْيَرْمُوكِ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَالسّائِبُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسٍ ، جُرِحَ بِالطّائِفِ [ ص 110 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقُتِلَ يَوْمَ فِحْلٍ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَيُقَالُ قُتِلَ يَوْمَ خَيْبَرَ ، يُشَكّ فِيهِ وَعُمَيْرُ بْنُ رِئَابِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ مِهْشَمِ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمٍ ، قُتِلَ بِعَيْنِ التّمْرِ مَعَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ ، مُنْصَرَفَةٌ مِنْ الْيَمَامَةِ ، فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ . أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا . وَمِنْ بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ : عُرْوَةُ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ حُرْثَانَ بْنِ عَوْفِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُوَيْجِ بْنِ عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ ، هَلَكَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ ، وَعَدِيّ بْنُ نَضْلَةَ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ حُرْثَانَ هَلَكَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ . رَجُلَانِ . وَقَدْ كَانَ مَعَ عَدِيّ ابْنُهُ النّعْمَانُ بْنُ عَدِيّ فَقَدِمَ النّعْمَانُ مَعَ مَنْ قَدِمَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ ، فَبَقِيَ حَتّى كَانَتْ خِلَافَةَ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ ، فَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى مَيْسَانَ ، مِنْ أَرْضِ الْبَصْرَةِ ، فَقَالَ أَبْيَاتًا مِنْ شِعْرٍ وَهِيَ
أَلَا هَلْ أَتَى الْحَسْنَاءَ أَنّ حَلِيلَهَا ... بِمَيْسَانَ يُسْقَى فِي زُجَاجٍ وَحَنْتَمِ
إذَا شِئْت غَنّتْنِي دَهَاقِينُ قَرْيَةٍ ... وَرَقّاصَةٌ تَجْذُو عَلَى كُلّ مَنْسِمِ
فَإِنْ كُنْت نَدْمَانِي فَبِالْأَكْبَرِ اسْقِنِي ... وَلَا تَسْقِنِي بِالْأَصْغَرِ الْمُتَثَلّمِ
لَعَلّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَسُوءُهُ ... تَنَادُمُنَا فِي الجَوْسَقِ الْمُتَهَدّمِ
[ ص 111 ] قَالَ نَعَمْ وَاَللّهِ إنّ ذَلِكَ لَيَسُوءُنِي ، فَمَنْ لَقِيَهُ فَلْيُخْبِرْهُ أَنّي قَدْ عَزَلْته ، وَعَزَلَهُ . فَلَمّا قَدِمَ عَلَيْهِ اعْتَذَرَ إلَيْهِ وَقَالَ وَاَللّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا صَنَعْت شَيْئًا مِمّا بَلَغَك أَنّي قُلْته قَطّ ، وَلَكِنّي كُنْت امْرِئِ شَاعِرًا ، وَجَدْت فَضْلًا مِنْ قَوْلٍ فَقُلْت فِيمَا تَقُولُ الشّعَرَاءُ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ وَأَيْمُ اللّهِ لَا تَعْمَلْ لِي عَلَى عَمَلٍ مَا بَقِيت ، وَقَدْ قُلْت مَا قُلْت وَمِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ : سَلِيطُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ وُدّ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حَنْبَلِ بْنِ عَامِرٍ ، وَهُوَ كَانَ رَسُولَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى هَوْذَةَ بْنِ عَلِيّ الْحَنَفِيّ بِالْيَمَامَةِ . رَجُلٌ . وَمِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكٍ : عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ غَنْمِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي شَدّادٍ ، وَسَعْدُ بْنُ عَبْدِ قَيْسِ بْنِ لَقِيطِ بْنِ عَامِرِ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ ظَرِبِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ ، وَعِيَاضُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي شَدّادٍ . ثَلَاثَةُ نَفَرٍ . فَجَمِيعُ مَنْ تَخَلّفَ عَنْ بَدْرٍ وَلَمْ يَقْدَمْ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَكّةَ ، وَمَنْ قَدِمَ بَعْدَ ذَلِكَ وَمَنْ لَمْ يَحْمِلْ النّجَاشِيّ فِي السّفِينَتَيْنِ أَرْبَعَةٌ وَثَلَاثُونَ رَجُلًا . وَهَذِهِ تَسْمِيَةُ جُمْلَةِ مَنْ هَلَكَ مِنْهُمْ وَمِنْ أَبْنَائِهِمْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ : مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ : عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ جَحْشِ بْنِ رِئَابٍ ، حَلِيفُ بَنِي أُمَيّةَ ، مَاتَ بِهَا نَصْرَانِيّا . وَمِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ قُصَيّ : عَمْرُو بْنُ أُمَيّةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَسَدٍ . وَمِنْ بَنِي جُمَ حَ : حَاطِبُ بْنُ الْحَارِثِ وَأَخُوهُ حَطّابُ بْنُ الْحَارِثِ . وَمِنْ بَنِي سَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبٍ : عَبْدُ اللّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسٍ . وَمِنْ بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ : عُرْوَةُ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ حُرْثَانَ بْنِ عَوْفٍ وَعَدِيّ بْنُ نَضْلَةَ . سَبْعَةُ نَفَرٍ . وَمِنْ أَبْنَائِهِمْ مِنْ بَنِي تَيْمِ بْنِ مُرّةَ : مُوسَى بْنُ الْحَارِثِ بْنِ خَالِدِ بْنِ صَخْرِ بْنِ عَامِرٍ . رَجُلٌ .
Sوَذَكَرَ فِيمَنْ قَدِمَ مِنْ الْحَبَشَةِ عَبْدَ اللّهِ بْنَ حُذَافَةَ وَأَنّهُ الّذِي أَرْسَلَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى كِسْرَى . وَذَكَرَ أَيْضًا سَلِيطَ بْنَ عَمْرٍو ، وَأَنّهُ كَانَ رَسُولَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى هَوْذَةَ بْنِ عَلِيّ الْحَنَفِيّ صَاحِبِ الْيَمَامَةِ . [ ص 106 ] فَأَمّا كِسْرَى فَهُوَ أبرويز بْنُ هُرْمُزَ بْنِ أَنُوشِرْوَانَ وَمَعْنَى أبرويز الْمُظَفّرُ فِيمَا ذَكَرَ الْمَسْعُودِيّ ، وَهُوَ الّذِي كَانَ غَلَبَ الرّومَ ؛ فَأَنْزَلَ اللّهُ فِي قِصّتِهِمْ { الم غُلِبَتِ الرّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ } وَأَدْنَى الْأَرْض هِيَ بُصْرَى وَفِلَسْطِينُ ، وَأَذْرِعَاتُ مِنْ أَرْضِ الشّامِ ، قَالَهُ الطّبَرِيّ . [ ص 107 ]
مِنْ رُسُلِ النّبِيّ إلَى الْمُلُوكِ وَالرّؤَسَاءِ
وَذَكَرَ أَبُو رِفَاعَةَ وَثِيمَةُ بْنُ مُوسَى بْنِ الْفُرَاتِ ، قَالَ قَدِمَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ حُذَافَةَ عَلَى كِسْرَى قَالَ يَا مَعْشَرَ الْفُرْسِ إنّكُمْ عِشْتُمْ بِأَحْلَامِكُمْ لِعِدّةِ أَيّامِكُمْ بِغَيْرِ نَبِيّ وَلَا كِتَابٍ وَلَا تَمَلّكٍ مِنْ الْأَرْضِ إلّا مَا فِي يَدَيْك ، وَمَا لَا تَمْلِكُ مِنْهَا أَكْثَرُ وَقَدْ مَلَكَ قَبْلَك مُلُوكٌ أَهْلُ دُنْيَا وَأَهْلُ [ ص 108 ] فَأَخَذَ أَهْلُ الْآخِرَةِ بِحَظّهِمْ مِنْ الدّنْيَا ، وَضَيّعَ أَهْلُ الدّنْيَا حَظّهُمْ مِنْ الْآخِرَةِ فَاخْتَلَفُوا فِي سَعْيِ الدّنْيَا ، وَاسْتَوَوْا فِي عَدْلِ الْآخِرَةِ وَقَدْ صَغّرَ هَذَا الْأَمْرَ عِنْدَك أَنّا أَتَيْنَاك بِهِ وَقَدْ وَاَللّهِ جَاءَك مِنْ حَيْثُ خِفْت ، وَمَا تَصْغِيرُك إيّاهُ بِاَلّذِي يَدْفَعُهُ عَنْك ، وَلَا تَكْذِيبُك بِهِ بِاَلّذِي يُخْرِجُك مِنْهُ وَفِي وَقْعَةِ ذِي قَارٍ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلٌ فَأَخَذَ الْكِتَابَ فَمَزّقَهُ ثُمّ قَالَ لِي مُلْكٌ هَنِيءٌ لَا أَخْشَى أَنْ أُغْلَبَ عَلَيْهِ وَلَا أُشَارَكَ فِيهِ وَقَدْ مَلَكَ فِرْعَوْنُ بَنِي إسْرَائِيلَ ، وَلَسْتُمْ بِخَيْرِ مِنْهُمْ فَمَا يَمْنَعُنِي أَنْ أَمْلِكَكُمْ وَأَنَا خَيْرٌ مِنْهُ فَأَمّا هَذَا الْمُلْكُ فَقَدْ عَلِمْنَا أَنّهُ يَصِيرُ إلَى الْكِلَابِ وَأَنْتُمْ أُولَئِكَ تَشْبَعُ بُطُونُكُمْ وَتَأْبَى عُيُونُكُمْ فَأَمّا وَقْعَةُ ذِي قَارٍ فَهِيَ بِوَقْعَةِ الشّامِ . فَانْصَرَفَ عَنْهُ عَبْدُ اللّهِ . وَإِنّمَا خَصّ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَبْدَ اللّهِ بْنَ حُذَافَةَ بِإِرْسَالِهِ إلَى كِسْرَى ، لِأَنّهُ كَانَ يَتَرَدّدُ عَلَيْهِمْ كَثِيرًا وَيَخْتَلِفُ إلَى بِلَادِهِمْ وَكَذَلِك سَلِيطُ بْنُ عَمْرٍو كَانَ يَخْتَلِفُ إلَى الْيَمَامَةِ ، قَالَ وَثِيمَةُ لَمّا قَدِمَ سَلِيطُ بْنُ عَمْرٍو الْعَامِرِيّ عَلَى هَوْذَةَ وَكَانَ كِسْرَى قَدْ تَوَجّهَ قَالَ يَا هَوْذَةُ إنّك سَوّدَتْك أَعْظُمٌ حَائِلَةٌ وَأَرْوَاحٌ فِي النّارِ وَإِنّمَا السّيّدُ مَنْ مُنّعَ بِالْإِيمَانِ ثُمّ زُوّدَ التّقْوَى ، وَإِنّ قَوْمًا سَعِدُوا بِرَأْيِك فَلَا تَشْقَ بِهِ وَإِنّي آمِرُك بِخَيْرِ مَأْمُورٍ بِهِ وَأَنْهَاك عَنْ شَرّ [ ص 109 ] وَأَنْهَاك عَنْ عِبَادَةِ الشّيْطَانِ فَإِنّ فِي عِبَادَةِ اللّهِ الْجَنّةَ وَفِي عِبَادَةِ الشّيْطَانِ النّارَ فَإِنْ قَبِلْت نِلْت مَا رَجَوْت ، وَأَمِنْت مَا خِفْت ، وَإِنْ أَبَيْت فَبَيْنَنَا وَبَيْنَك كَشْفُ الْغِطَاءِ وَهَوْلُ الْمَطْلَعِ فَقَالَ هَوْذَةُ يَا سَلِيطُ سَوّدَنِي مَنْ لَوْ سَوّدَك شَرُفْت بِهِ وَقَدْ كَانَ لِي رَأْيٌ أَخْتَبِرُ بِهِ الْأُمُورَ فَفَقَدْته فَمَوْضِعُهُ مِنْ قَلْبِي هَوَاءٌ فَاجْعَلْ لِي فُسْحَةً يَرْجِعُ إلَيّ رَأْيِي ، فَأُجِيبُك بِهِ إنْ شَاءَ اللّهُ . قَالَ وَمِنْ شِعْرِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ حُذَافَةَ فِي رِسَالَتِهِ إلَى كِسْرَى وَقُدُومِهِ عَلَيْهِ
أَبَى اللّهُ إلّا أَنّ كِسْرَى فَرِيسَةٌ ... لِأَوّلِ دَاعٍ بِالْعِرَاقِ مُحَمّدَا
تَقَاذَفَ فِي فُحْشِ الْجَوَابِ مُصَغّرًا ... لِأَمْرِ الْعَرِيبِ الْخَائِضِينَ لَهُ الرّدَى
فَقُلْت لَهُ أَرْوِدْ فَإِنّك دَاخِلٌ ... مِنْ الْيَوْمِ فِي الْبَلْوَى وَمُنْتَهَبٌ غَدَا
فَأَقْبِلْ وَأَدْبِرْ حَيْثُ شِئْت ، فَإِنّنَا ... لَنَا الْمُلْكُ فَابْسُطْ لِلْمُسَالَمَةِ الْيَدَا
وَإِلّا فَأَمْسِكْ قَارِعًا سِنّ نَادِمٍ ... أَقَرّ يُذِلّ الْخَرْجَ أَوْ مُتْ مُوَحّدَا
سَفِهْت بِتَمْزِيقِ الْكِتَابِ وَهَذِهِ ... بِتَمْزِيقِ مُلْكِ الْفُرْسِ يَكْفِي مُبَدّدَا
[ ص 110 ] وَقَالَ هَوْذَةُ بْنُ عَلِيّ فِي شَأْنِ سَلِيطٍ
أَتَانِي سَلِيطُ وَالْحَوَادِثُ جَمّةٌ ... فَقُلْت لَهُمْ مَاذَا يَقُولُ سَلِيطُ ؟
فَقَالَ الّتِي فِيهَا عَلَيّ غَضَاضَةٌ ... وَفِيهَا رَجَاءٌ مُطْمِعٌ وَقُنُوطُ
فَقُلْت لَهُ غَابَ الّذِي كُنْت أَجْتَلِي ... بِهِ الْأَمْرَ عَنّي فَالصّعُودُ هُبُوطُ
وَقَدْ كَانَ لِي وَاَللّهُ بَالِغُ أَمْرِهِ ... أَبَا النّضْرِ جَأْشٌ فِي الْأُمُورِ رَبِيطُ
فَأَذْهَبَهُ خَوْفُ النّبِيّ مُحَمّدٍ ... فَهَوْذَةُ فَهّ فِي الرّجَالِ سَقِيطُ
فَأَجْمَعُ أَمْرِي مِنْ يَمِينٍ وَشَمْأَلٍ ... كَأَنّي رُدُودٌ لِلنّبَالِ لَقِيطُ
فَأَذْهَبَ ذَاكَ الرّأْيَ إذْ قَالَ قَائِلٌ ... أَتَاك رَسُولٌ لِلنّبِيّ خَبِيطُ
رَسُولُ رَسُولِ اللّهِ رَاكِبُ نَاضِحٍ ... عَلَيْهِ مِنْ أَوْبَارِ الْحِجَازِ غَبِيطُ
سَكَرْت وَدَبّتْ فِي الْمَفَارِقِ وَسْنَةٌ ... لَهَا نَفَسٌ عَالِي الْفُؤَادِ غَطِيطُ
أُحَاذِرُ مِنْهُ سَوْرَةٌ هَاشِمِيّةٌ ... فَوَارِسُهَا وَسْطَ الرّجَالِ عَبِيطُ
فَلَا تُعَجّلْنِي يَا سَلِيطُ فَإِنّنَا ... نُبَادِرُ أَمْرًا وَالْقَضَاءُ مُحِيطُ
[ ص 111 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الْمُلُوكِ وَمَا قَالُوا وَمَا قِيلَ لَهُمْ فِيمَا بَعْدُ إنْ شَاءَ اللّهُ

مُهَاجِرَاتُ الْحَبَشَةِ
[ ص 112 ] هَاجَرَ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ مِنْ النّسَاءِ مَنْ قَدِمَ مِنْهُنّ وَمَنْ هَلَكَ هُنَالِكَ سِتّ عَشْرَةَ امْرَأَةً سِوَى بَنَاتِهِنّ اللّاتِي وَلَدْنَ هُنَالِكَ مَنْ قَدِمَ مِنْهُنّ وَمَنْ هَلَكَ هُنَالِكَ وَمَنْ خَرَجَ بِهِ مَعَهُنّ حِينَ خَرَجْنَ . مِنْ قُرَيْشٍ ، مِنْ بَنِي هَاشِمٍ : رُقَيّةُ بِنْتُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمِنْ بَنِي أُمَيّةَ : أُمّ حَبِيبَةَ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ وَمَعَهَا ابْنَتُهَا حَبِيبَةُ خَرَجَتْ بِهَا مِنْ مَكّةَ ، وَرَجَعَتْ بِهَا مَعَهَا . وَمِنْ بَنِي مَخْزُومٍ : أُمّ سَلَمَةَ بِنْتُ أَبِي أُمَيّةَ ، قَدِمَتْ مَعَهَا بِزَيْنَبِ ابْنَتِهَا مِنْ أَبِي سَلَمَةَ وَلَدَتْهَا هُنَالِكَ .
وَمِنْ بَنِي تَيْمِ بْنِ مُرّةَ : رَيْطَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ جُبَيْلَةَ هَلَكَتْ بِالطّرِيقِ وَبِنْتَانِ لَهَا كَانَتْ وَلَدَتْهُمَا هُنَالِكَ عَائِشَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ وَزَيْنَبُ بِنْتُ الْحَارِثِ هَلَكْنَ جَمِيعًا ، وَأَخُوهُنّ مُوسَى بْنُ الْحَارِثِ مِنْ مَاءٍ شَرِبُوهُ فِي الطّرِيقِ وَقَدِمَتْ بِنْتٌ لَهَا وَلَدَتْهَا هُنَالِكَ فَلَمْ يَبْقَ مِنْ وَلَدِهَا غَيْرُهَا ، يُقَالُ لَهَا : فَاطِمَةُ . وَمِنْ بَنِي سَهْمِ بْنِ عَمْرٍو : رَمْلَةُ بِنْتُ أَبِي عَوْفِ بْنِ ضُبَيْرَةَ .
وَمِنْ بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ : لَيْلَى بِنْتُ أَبِي حَثْمَةَ بْنِ غَانِمٍ .
وَمِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ : سَوْدَةُ بِنْتُ زَمَعَةَ بْنِ قَيْسٍ ، وَسَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو وَابْنَةُ الْمُجَلّلِ وَعَمْرَةُ بِنْتُ السّعْدِيّ بْنِ وَقْدَانَ ، وَأُمّ كُلْثُومٍ بِنْتُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو . [ ص 113 ] وَمِنْ غَرَائِبِ الْعَرَبِ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسِ بْنِ النّعْمَانِ الْخَثْعَمِيّةُ وَفَاطِمَةُ بِنْتُ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ مُحَرّثٍ الْكِنَانِيّةُ وَفُكَيْهَةُ بِنْتُ يَسَارٍ ، وَبَرَكَةُ بِنْتُ يَسَارٍ وَحَسِنَةُ أُمّ شُرَحْبِيلَ ابْنِ حَسِنَةَ . وَهَذِهِ تَسْمِيَةُ مَنْ وُلِدَ مِنْ أَبْنَائِهِمْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ . وَمِنْ بَنِي هَاشِمٍ : عَبْدُ اللّهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ .
وَمِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ : مُحَمّدُ بْنُ أَبِي حُذَيْفَةَ وَسَعِيدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ ، وَأُخْتُهُ أَمَةُ بِنْتُ خَالِدٍ .
وَمِنْ بَنِي مَخْزُومٍ : زَيْنَبُ بِنْتُ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ الْأَسَدِ
وَمِنْ بَنِي زُهْرَةَ : عَبْدُ اللّهِ بْنُ الْمُطّلِبِ بْنِ أَزْهَرَ .
وَمِنْ بَنِي تَيْمٍ : مُوسَى بْنُ الْحَارِثِ بْنِ خَالِدٍ ، وَأَخَوَاتُهُ عَائِشَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ وَفَاطِمَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ وَزَيْنَبُ بِنْتُ الْحَارِثِ . الرّجَالُ مِنْهُمْ خَمْسَةٌ عَبْدُ اللّهِ بْنُ جَعْفَرٍ ، وَمُحَمّدُ بْنُ أَبِي حُذَيْفَةَ وَسَعِيدُ بْنُ خَالِدٍ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ الْمُطّلِبِ ، وَمُوسَى بْنُ الْحَارِثِ . وَمِنْ النّسَاءِ خَمْسٌ أَمَةُ بِنْتُ خَالِدٍ وَزَيْنَبُ بِنْتُ أَبِي سَلَمَةَ ، وَعَائِشَةُ وَزَيْنَبُ وَفَاطِمَةُ بَنَاتُ الْحَارِثِ بْنِ خَالِدِ بْنِ صَخْرٍ .

حَدِيثُ النّوْمِ عَنْ الصّلَاةِ
[ ص 112 ] وَذَكَرَ حَدِيثَ نَوْمِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَنْ الصّلَاةِ مَقْفَلَهُ مِنْ خَيْبَرَ ، وَهَذِهِ الرّوَايَةُ أَصَحّ مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ كَانَ ذَلِكَ فِي غَزَاةِ حُنَيْنٍ ، وَمَنْ قَالَ فِي رِوَايَتِهِ لِلْحَدِيثِ كَانَ ذَلِكَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ ، فَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُخَالِفِ لِلرّوَايَةِ الْأُولَى ، وَأَمّا رِوَايَةُ ابْنِ إسْحَاقَ لِلْحَدِيثِ عَنْ الزّهْرِيّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ مُرْسَلًا ، فَهَكَذَا رَوَاهُ مَالِكٌ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ الزّهْرِيّ ، وَرَوَاهُ عَنْهُ صَالِحُ بْنُ أَبِي الْأَخْضَرِ ، وَقَالَ فِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَهُ التّرْمِذِيّ ، وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ : قَدْ رَوَاهُ [ ص 113 ] الزّهْرِيّ مُسْنَدًا يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ وَمَعْمَرٌ مِنْ طَرِيقِ أَبَانِ الْعَطّارِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْهُ وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْأَوْزَاعِيّ مُسْنَدًا أَيْضًا ، وَذَكَرَ فِيهِ هُوَ وَأَبَانُ الْعَطّارُ أَنّهُ أَذّنَ وَأَقَامَ فِي تِلْكَ الصّلَاةِ حِينَ خَرَجَ مِنْ الْوَادِي ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْأَذَانَ مِنْ رُوَاةِ الْحَدِيثِ إلّا قَلِيلٌ .

عُمْرَةُ الْقَضَاءِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ سَبْعٍ
[ ص 114 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا رَجَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الْمَدِينَةِ مِنْ عُمَيْرٍ أَقَامَ بِهَا شَهْرَيْ رَبِيعٍ وَجُمَادَيَيْنِ وَرَجَبًا وَشَعْبَانَ وَرَمَضَانَ وَشَوّالًا ، يَبْعَثُ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ فِي غَزْوِهِ وَسَرَايَاهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثُمّ خَرَجَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ فِي الشّهْرِ الّذِي صَدّهُ فِيهِ الْمُشْرِكُونَ مُعْتَمِرًا عُمْرَةَ الْقَضَاءِ مَكَانُ عُمْرَتِهِ الّتِي صَدّوهُ عَنْهَا . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ عُوَيْفَ بْنَ الْأَضْبَطِ الدّيلِيّ . وَيُقَالُ لَهَا عُمْرَةُ الْقِصَاصِ لِأَنّهُمْ صَدّوا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ فِي الشّهْرِ الْحَرَامِ مِنْ سَنَةِ سِتّ فَاقْتَصّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْهُمْ فَدَخَلَ مَكّةَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ فِي الشّهْرِ الْحَرَامِ الّذِي صَدّوهُ فِيهِ مِنْ سَنَةِ سَبْعٍ . وَبَلَغَنَا عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّهُ قَالَ فَأَنْزَلَ اللّهُ فِي ذَلِكَ { وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ } [ الْبَقَرَةِ 194 ] . [ ص 115 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَخَرَجَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ مِمّنْ كَانَ صُدّ مَعَهُ فِي عُمْرَتِهِ تِلْكَ وَهِيَ سَنَةُ سَبْعٍ فَلَمّا سَمِعَ بِهِ أَهْلُ مَكّةَ خَرَجُوا عَنْهُ وَتَحَدّثَتْ قُرَيْشٌ بَيْنَهَا أَنّ مُحَمّدًا وَأَصْحَابَهُ فِي عُسْرَةٍ وَجَهْدٍ وَشِدّةٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي مَنْ لَا أَتّهِمُ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ ، قَالَ صَفّوا لَهُ عِنْدَ دَارِ النّدْوَةِ لِيَنْظُرُوا إلَيْهِ وَإِلَى أَصْحَابِهِ فَلَمّا دَخَلَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَسْجِدَ اضْطَبَعَ بِرِدَائِهِ وَأَخْرَجَ عَضُدَهُ الْيُمْنَى ، ثُمّ قَالَ رَحِمَ اللّهُ امْرِئِ أَرَاهُمْ الْيَوْمَ مِنْ نَفْسِهِ قُوّةً ثُمّ اسْتَلَمَ الرّكْنَ ، وَخَرَجَ يُهَرْوِلُ وَيُهَرْوِلُ أَصْحَابُهُ مَعَهُ حَتّى إذَا وَارَاهُ الْبَيْتُ مِنْهُمْ وَاسْتَلَمَ الرّكْنَ الْيَمَانِيّ ، مَشَى حَتّى يَسْتَلِمَ الرّكْنَ الْأَسْوَدَ ، ثُمّ هَرْوَلَ كَذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ وَمَشَى سَائِرَهَا . فَكَانَ ابْنُ عَبّاسٍ يَقُولُ كَانَ النّاسُ يَظُنّونَ أَنّهَا لَيْسَتْ عَلَيْهِمْ . وَذَلِكَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّمَا صَنَعَهَا لِهَذَا الْحَيّ مِنْ قُرَيْشٍ لِلّذِي بَلَغَهُ عَنْهُمْ حَتّى إذَا حَجّ حَجّةَ الْوَدَاعِ فَلَزِمَهَا ، فَمَضَتْ السّنّةُ بِهَا .
Sعُمْرَةُ الْقَضِيّةِ
[ ص 114 ] وَيُقَالُ لَهَا : عُمْرَةُ الْقِصَاصِ وَهَذَا الِاسْمُ أَوْلَى بِهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { الشّهْرُ الْحَرَامُ بِالشّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ } [ الْبَقَرَةِ 194 ] وَهَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا نَزَلَتْ فَهَذَا الِاسْمُ أَوْلَى بِهَا ، وَسُمّيَتْ عُمْرَةُ الْقَضَاءِ لِأَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَاضَى قُرَيْشًا عَلَيْهَا ، لَا [ ص 115 ] قَضَى الْعُمْرَةَ الّتِي صُدّ عَنْ الْبَيْتِ فِيهَا ، فَإِنّهَا لَمْ تَكُ فَسَدَتْ بِصَدّهِمْ عَنْ الْبَيْتِ بَلْ كَانَتْ عُمْرَةً تَامّةً مُتَقَبّلَةً حَتّى إنّهُمْ حِينَ حَلَقُوا رُءُوسَهُمْ بِالْحِلّ احْتَمَلَتْهَا الرّيحُ فَأَلْقَتْهَا فِي الْحَرَمِ ، فَهِيَ مَعْدُودَةٌ فِي عُمَرِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهِيَ أَرْبَعٌ عُمْرَةُ الْحُدَيْبِيَةِ ، وَعُمْرَةُ الْقَضَاءِ وَعُمْرَةُ الْجِعْرَانَةِ ، وَالْعُمْرَةُ الّتِي قَرَنَهَا مَعَ حَجّهِ فِي حَجّةِ الْوَدَاعِ فَهُوَ أَصَحّ الْقَوْلَيْنِ أَنّهُ كَانَ قَارِنًا فِي تِلْكَ الْحَجّةِ وَكَانَتْ إحْدَى عُمَرِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ فِي شَوّالٍ كَذَلِكَ رَوَى عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ وَأَكْثَرُ الرّوَايَاتِ أَنّهُنّ كُنّ كُلّهُنّ فِي ذِي الْقَعْدَةِ إلّا الّتِي قَرَنَ مَعَ حَجّهِ كَذَلِكَ رَوَى الزّهْرِيّ ، وَانْفَرَدَ مَعْمَرٌ عَنْ الزّهْرِيّ بِأَنّهُ عَلَيْهِ السّلَامُ كَانَ قَارِنًا ، وَأَنّ عُمَرَهُ كُنّ أَرْبَعًا بِعُمْرَةِ الْقِرَانِ . وَأَمّا حَجّاتُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ فَقَدْ رَوَى التّرْمِذِيّ أَنّهُ حَجّ ثَلَاثَ حَجّاتٍ ثِنْتَيْنِ بِمَكّةَ وَوَاحِدَةً بِالْمَدِينَةِ وَهِيَ حَجّةُ الْوَدَاعِ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُضَافَ إلَيْهِ فِي الْحَقِيقَةِ إلّا حَجّةُ الْوَدَاعِ وَإِنْ كَانَ حَجّ مَعَ النّاسِ إذْ كَانَ بِمَكّةَ كَمَا رَوَى التّرْمِذِيّ ، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْحَجّ عَلَى سُنّةِ الْحَجّ وَكَمَالِهِ لِأَنّهُ كَانَ مَغْلُوبًا عَلَى أَمْرِهِ وَكَانَ الْحَجّ مَنْقُولًا عَنْ وَقْتِهِ كَمَا تَقَدّمَ فِي أَوّلِ الْكِتَابِ فَقَدْ ذَكَرَ أَنّهُمْ كَانُوا يَنْقُلُونَهُ عَلَى حَسَبِ الشّهُورِ الشّمْسِيّةِ وَيُؤَخّرُونَهُ فِي كُلّ سَنَةٍ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا ، وَهَذَا هُوَ الّذِي مَنَعَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَنْ يَحُجّ مِنْ الْمَدِينَةِ ، حَتّى كَانَتْ مَكّةُ دَارَ إسْلَامٍ وَقَدْ كَانَ أَرَادَ أَنْ يَحُجّ مَقْفَلَهُ مِنْ تَبُوكَ ، وَذَلِكَ بِإِثْرِ فَتْحِ مَكّةَ بِيَسِيرِ ثُمّ ذَكَرَ أَنّ بَقَايَا الْمُشْرِكِينَ يَحُجّونَ وَيَطُوفُونَ عُرَاةً فَأَخّرَ الْحَجّ حَتّى نَبَذَ إلَى كُلّ ذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ وَذَلِكَ فِي [ ص 116 ] حَجّ فِي السّنَةِ الْعَاشِرَةِ بَعْدَ امّحَاءِ رُسُومِ الشّرْكِ وَانْحِسَامِ سِيَرِ الْجَاهِلِيّةِ وَلِذَلِكَ قَالَ فِي حَجّةِ الْوَدَاعِ إنّ الزّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللّهُ السّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ .
حُكْمُ الْعُمْرَةِ
وَالْعُمْرَةُ وَاجِبَةٌ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَر َ وَابْنِ عَبّاسٍ ، وَقَالَ الشّعْبِيّ : لَيْسَتْ بِوَاجِبَةِ وَذُكِرَ عَنْهُ أَنّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا : { وَأَتِمّوا الْحَجّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ } [ الْبَقَرَةِ 196 ] بِالرّفْعِ لَا يَعْطِفُهَا عَلَى الْحَجّ . وَقَالَ عَطَاءٌ هِيَ وَاجِبَةٌ إلّا عَلَى أَهْلِ مَكّةَ ، وَيَكْرَهُ مَالِكٌ أَنْ يَعْتَمِرَ الرّجُلُ فِي الْعَامِ مِرَارًا ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْإِبَاحَةِ فِي ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيّ وَابْنِ عَبّاسٍ وَعَائِشَةَ وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمّدٍ قَالُوا : يَعْتَمِرُ الرّجُلُ فِي الْعَامِ مَا شَاءَ .

[ ص 116 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ : أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ دَخَلَ مَكّةَ فِي تِلْكَ الْعُمْرَةِ دَخَلَهَا وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ رَوَاحَةَ آخِذٌ بِخِطَامِ نَاقَتِهِ يَقُولُ
خَلّوا بَنِي الْكُفّارِ عَنْ سَبِيلِهِ ... خَلّوا فَكُلّ الْخَيْرِ فِي رَسُولِهِ
يَا رَبّ إنّي مُؤْمِنٌ بِقَيْلِهِ ... أَعْرِفُ حَقّ اللّهِ فِي قَبُولِه
نَحْنُ قَتَلْنَاكُمْ عَلَى تَأْوِيلِهِ ... كَمَا قَتَلْنَاكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ
ضَرْبًا يُزِيلُ الْهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ ... وَيُذْهِلُ الْخَلِيلَ عَنْ خَلِيلِهِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : نَحْنُ قَتَلْنَاكُمْ عَلَى تَأْوِيلِهِ
[ ص 117 ] لِعَمّارِ بْنِ يَاسِرٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْيَوْمِ وَالدّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنّ ابْنَ رَوَاحَةَ إنّمَا أَرَادَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكُونَ لَمْ يُقِرّوا بِالتّنْزِيلِ وَإِنّمَا يُقْتَلُ عَلَى التّأْوِيلِ مَنْ أَقَرّ بِالتّنْزِيلِ .
Sتَفْسِيرُ شِعْرِ عَمّارٍ
وَذَكَرَ قَوْلَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ رَوَاحَةَ وَهُوَ آخِذٌ بِخِطَامِ نَاقَةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
خَلّوا بَنِي الْكُفّارِ عَنْ سَبِيلِهِ ... نَحْنُ قَتَلْنَاكُمْ عَلَى تَأْوِيلِهِ
كَمَا قَتَلْنَاكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ
[ ص 117 ] فَالْيَوْمَ أَشْرَبُ غَيْرَ مُسْتَحْقِبِ
وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ جَائِزًا فِي الْكَلَامِ إذَا اتّصَلَ بِضَمِيرِ الْجَمْعِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَمْرٍو أَنّهُ كَانَ يَقْرَأُ يَأْمُرْكُمْ وَيَنْصُرْكُمْ وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ الْأَخِيرَانِ هُمَا لِعَمّارِ بْنِ يَاسِرٍ كَمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ ، قَالَهُمَا يَوْمَ صِفّينَ وَهُوَ الْيَوْمُ الّذِي قُتِلَ فِيهِ عَمّارٌ قَتَلَهُ أَبُو الْغَادِيَةِ الْفَزَارِيّ وَابْنُ جَزْءٍ اشْتَرَكَا فِيهِ .

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي أَبَانُ بْنُ صَالِحٍ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَمُجَاهِدٍ أَبِي الْحَجّاجِ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ : أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَزَوّجَ مَيْمُونَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ فِي سَفَرِهِ ذَلِكَ وَهُوَ حَرَامٌ وَكَانَ الّذِي زَوّجَهُ إيّاهَا الْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَكَانَتْ جَعَلَتْ أَمْرَهَا إلَى أُخْتِهَا أُمّ الْفَضْلِ وَكَانَتْ أُمّ الْفَضْلِ تَحْتَ الْعَبّاسِ فَجَعَلَتْ أُمّ الْفَضْلِ أَمْرَهَا إلَى الْعَبّاسِ فَزَوّجَهَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَكّةَ وَأَصْدَقَهَا عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَرْبَعَ مِائَةِ دِرْهَمٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَأَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَكّةَ ثَلَاثًا ، فَأَتَاهُ حُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ أَبِي قَيْسِ بْنِ عَبْدِ وُدّ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلٍ ، فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ ، فِي الْيَوْمِ الثّالِثِ وَكَانَتْ قُرَيْشٌ قَدْ وَكّلَتْهُ بِإِخْرَاجِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ مَكّةَ ؛ فَقَالُوا لَهُ إنّهُ قَدْ انْقَضَى أَجَلُك ، فَاخْرُجْ عَنّا ؛ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَا عَلَيْك لَوْ تَرَكْتُمُونِي فَأَعْرَسْت بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ وَصَنَعْنَا لَكُمْ طَعَامًا فَحَضَرْتُمُوهُ ؟ [ ص 118 ] قَالُوا : لَا حَاجَةَ لَنَا فِي طَعَامِك ، فَاخْرُجْ عَنّا . فَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَخَلّفَ أَبَا رَافِعٍ مَوْلَاهُ عَلَى مَيْمُونَةَ أَتَاهُ بِهَا بِسَرِفِ فَبَنَى بِهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هُنَالِكَ ثُمّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الْمَدِينَةِ فِي ذِي الْحِجّةِ . [ ص 119 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ عَلَيْهِ فِيمَا حَدّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ { لَقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرّؤْيَا بِالْحَقّ لَتَدْخُلُنّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللّهُ آمِنِينَ مُحَلّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا } يَعْنِي خَيْبَرَ .Sحُكْمُ الزّوَاجِ لِلْمُحْرِمِ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ تَزَوّجَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لِمَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ الْهِلَالِيّةِ ، وَأُمّهَا هِنْدُ بِنْتُ عَوْفٍ الْكِنَانِيّةُ إلَى آخِرِ قِصّتِهَا ، وَفِيهِ أَنّ حُوَيْطِبَ بْنَ عَبْدِ الْعُزّى ، قَالَ لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْيَوْمِ الثّالِثِ اُخْرُجْ عَنّا ، وَقَدْ كَانَ أَرَادَ أَنْ يَبْتَنِيَ بِمَيْمُونَةَ فِي مَكّةَ ، وَيَصْنَعَ لَهُمْ طَعَامًا ، فَقَالَ لَهُ [ ص 118 ] حُوَيْطِبٌ لَا حَاجَةَ لَنَا بِطَعَامِك فَاخْرُجْ عَنّا ، فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ " يَا عَاضّا بِبَظْرِ أُمّهِ أَرْضُك وَأَرْضُ أُمّك ؟ هِيَ دُونَهُ ؟ فَأَسْكَتَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَخَرَجَ وَفَاءً لَهُمْ بِشَرْطِهِمْ وَابْتَنَى بِهَا بِسَرِفِ وَبِسَرِفِ ، كَانَتْ وَفَاتُهَا رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا حِينَ مَاتَتْ وَذَلِكَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتّينَ وَقِيلَ سَنَةَ سِتّ وَسِتّينَ وَصَلّى عَلَيْهَا ابْنُ عَبّاسٍ ، وَيَزِيدُ بْنُ الْأَصَمّ ، وَكِلَاهُمَا ابْنُ أُخْتٍ لَهَا ، وَيُقَالُ فِيهَا نَزَلَتْ { وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنّبِيّ } [ الْأَحْزَابِ : 50 ] فِي أَحَدِ الْأَقْوَالِ وَذَلِكَ أَنّ الْخَاطِبَ جَاءَهَا ، وَهِيَ عَلَى بَعِيرِهَا ، فَقَالَتْ الْبَعِيرُ وَمَا عَلَيْهِ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَاخْتَلَفَ النّاسُ فِي تَزْوِيجِهِ إيّاهَا أَكَانَ مُحْرِمًا أَمْ حَلَالًا ، فَرَوَى ابْنُ عَبّاسٍ أَنّهُ تَزَوّجَهَا مُحْرِمًا ، وَاحْتَجّ بِهِ أَهْلُ الْعِرَاقِ فِي تَجْوِيزِ نِكَاحِ الْمُحْرِمِ وَخَالَفَهُمْ أَهْلُ الْحِجَازِ ، وَاحْتَجّوا بِنَهْيِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ عَنْ أَنْ يُنْكِحَ الْمُحْرِمُ أَوْ يَنْكِحَ وَزَادَ بَعْضُهُمْ فِيهِ أَوْ يَخْطُبَ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ وَعَارَضُوا حَدِيثَ ابْنِ عَبّاسٍ بِحَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمّ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَزَوّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ حَلَال وَخَرّجَ الدّارَقُطْنِيّ وَالتّرْمِذِيّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي رَافِعٍ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَزَوّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ حَلَالِ . وَرَوَى الدّارَقُطْنِيّ مِنْ طَرِيقٍ ضَعِيفٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّهُ تَزَوّجَهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ كَرِوَايَةِ ابْنِ عَبّاسٍ .
وَفِي مُسْنَدِ الْبَزّارِ مِنْ حَدِيثِ مَسْرُوقٍ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا ، قَالَتْ تَزَوّجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَاحْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَإِنْ لَمْ تُذْكَرْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَيْمُونَةُ فَنِكَاحُهَا أَرَادَتْ وَهُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَخَرّجَ الْبُخَارِيّ حَدِيثَ ابْنِ عَبّاسٍ ، وَلَمْ يَعْقِلْهُ هُوَ وَلَا غَيْرُهُ وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ أَنّهُ قَالَ غَلِطَ ابْنُ عَبّاسٍ أَوْ قَالَ وَهِمَ مَا تَزَوّجَهَا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلّا وَهُوَ حَلَالٌ وَلَمّا أَجْمَعُوا عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - تَزَوّجَهَا مُحْرِمًا ، وَلَمْ يَنْقُلْ عَنْهُ أَحَدٌ مِنْ الْمُحَدّثِينَ غَيْرَ ذَلِكَ اسْتَغْرَبْت اسْتِغْرَابًا شَدِيدًا مَا رَوَاهُ الدّارَقُطْنِيّ فِي السّنَنِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْأَسْوَدِ يَتِيمِ عُرْوَةَ وَمِنْ طَرِيقِ مَطَرٍ الْوَرّاقِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَزَوّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ حَلَالٌ فَهَذِهِ الرّوَايَةُ عَنْهُ مُوَافِقَةٌ لِرِوَايَةِ غَيْرِهِ فَقِفْ عَلَيْهَا ، فَإِنّهَا غَرِيبَةٌ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ ، وَقَدْ كَانَ مِنْ شُيُوخِنَا رَحِمَهُمْ اللّهُ مَنْ يَتَأَوّلُ قَوْلَ ابْنِ عَبّاسٍ : تَزَوّجَهَا مُحْرِمًا أَيْ [ ص 119 ] الْبَلَدِ الْحَرَامِ ، وَذَلِكَ أَنّ ابْنَ عَبّاسٍ رَجُلٌ عَرَبِيّ فَصِيحٌ فَتَكَلّمَ بِكَلَامِ الْعَرَبِ ، وَلَمْ يُرِدْ الْإِحْرَامَ بِالْحَجّ وَقَدْ قَالَ الشّاعِرُ
قَتَلُوا ابْنَ عَفّانَ الْخَلِيفَةَ مُحْرِمًا ... وَدَعَا فَلَمْ أَرَ مِثْلَهُ مَخْذُولَا
وَذَلِكَ أَنّ قَتْلَهُ كَانَ فِي أَيّامِ التّشْرِيقِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ أَأَرَادَ ذَلِكَ ابْنُ عَبّاسٍ ، أَوْ لَا .

ذِكْرُ غَزْوَةِ مُؤْتَةَ
[ ص 120 ] الْأُولَى سَنَةَ ثَمَانٍ وَمَقْتَلُ جَعْفَرٍ وَزَيْدٍ وَعَبْدِ اللّهِ بْنِ رَوَاحَةَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَأَقَامَ بِهَا بَقِيّةَ ذِي الْحِجّةِ وَوُلِيَ تِلْكَ الْحَجّةَ الْمُشْرِكُونَ وَالْمُحَرّمَ وَصَفَرًا وَشَهْرَيْ رَبِيعٍ وَبَعَثَ فِي جُمَادَى الْأُولَى بَعْثَهُ إلَى الشّامِ الّذِينَ أُصِيبُوا بِمُؤْتَةِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزّبَيْرِ ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ ، قَالَ [ ص 121 ] بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعْثَهُ إلَى مُؤْتَةَ فِي جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ ثَمَانٍ وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ وَقَالَ إنْ أُصِيبَ زَيْدٌ فَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَى النّاسِ فَإِنْ أُصِيبَ جَعْفَرٌ فَعَبْدُ اللّهِ بْنُ رَوَاحَةَ عَلَى النّاسِ . فَتَجَهّزَ النّاسُ ثُمّ تَهَيّئُوا لِلْخُرُوجِ وَهُمْ ثَلَاثَةُ آلَافٍ فَلَمّا حَضَرَ خُرُوجُهُمْ وَدّعَ النّاسُ أُمَرَاءَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَسَلّمُوا عَلَيْهِمْ . فَلَمّا وَدّعَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ رَوَاحَةَ مَنْ وَدّعَ مِنْ أُمَرَاءِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَكَى ، فَقَالُوا : مَا يُبْكِيك يَا ابْنَ رَوَاحَةَ ؟ فَقَالَ أَمَا وَاَللّهِ مَا بِي حُبّ الدّنْيَا وَلَا صَبَابَةٌ بِكُمْ وَلَكِنّي سَمِعْت رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقْرَأُ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللّهِ عَزّ وَجَلّ يَذْكُرُ فِيهَا النّارَ { وَإِنْ مِنْكُمْ إِلّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبّكَ حَتْمًا مَقْضِيّا } [ مَرْيَمَ : 71 ] ، فَلَسْت أَدْرِي كَيْفَ لِي بِالصّدَرِ بَعْدَ الْوُرُودِ فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ صَحِبَكُمْ اللّهُ وَدَفَعَ عَنْكُمْ وَرَدّكُمْ إلَيْنَا صَالِحِينَ فَقَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ رَوَاحَةَ :
لَكِنّنِي أَسْأَلُ الرّحْمَنَ مَغْفِرَةً ... وَضَرْبَةً ذَاتَ فَرْغٍ تَقْذِفُ الزّبَدَا
أَوْ طَعْنَةً بِيَدَيْ حَرّانَ مُجْهِزَةً ... بِحِرْبَةِ تُنْفِذُ الْأَحْشَاءَ وَالْكَبِدَا
حَتّى يُقَالَ إذَا مَرّوا عَلَى جَدَثِي ... أَرْشَدَهُ اللّهُ مِنْ غَازٍ وَقَدْ رَشَدَا
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ إنّ الْقَوْمَ تَهَيّئُوا لِلْخُرُوجِ فَأَتَى عَبْدُ اللّهِ بْنُ رَوَاحَةَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَوَدّعَهُ ثُمّ قَالَ
فَثَبّتَ اللّهُ مَا أَتَاك مِنْ حَسَنٍ ... تَثْبِيتَ مُوسَى وَنَصْرًا كَاَلّذِي نُصِرُوا
إنّي تَفَرّسْت فِيك الْخَيْرَ نَافِلَةً ... اللّهُ يَعْلَمُ أَنّي ثَابِتُ الْبَصَرِ
أَنْتَ الرّسُولُ فَمَنْ يُحْرَمْ نَوَافِلُهُ ... وَالْوَجْهُ مِنْهُ فَقَدْ أَزْرَى بِهِ الْقَدَرُ
[ ص 122 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشّعْرِ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ
أَنْتَ الرّسُولُ فَمَنْ يُحْرَمْ نَوَافِلَهُ ... وَالْوَجْهَ مِنْهُ فَقَدْ أَزْرَى بِهِ الْقَدَرُ
فَثَبّتَ اللّهُ مَا أَتَاك مِنْ حَسَنٍ ... فِي الْمُرْسَلِينَ وَنَصْرًا كَاَلّذِي نُصِرُوا
إنّي تَفَرّسْت فِيك الْخَيْرَ نَافِلَةً ... فَرَاسَةً خَالَفَتْ فِيك الّذِي نَظَرُوا
يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ .
Sغَزْوَةُ مُؤْتَةَ
[ ص 120 ] أَرْضِ الْبَلْقَاءِ مِنْ الشّامِ ، وَأَمّا الْمُوتَةُ بِلَا هَمْزٍ فَضَرْبٌ مِنْ الْجُنُونِ وَفِي الْحَدِيثِ أَنّ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - كَانَ يَقُولُ فِي صَلَاتِهِ أَعُوذُ بِاَللّهِ مِنْ الشّيْطَانِ الرّجِيمِ مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ وَفَسّرَهُ رَاوِي الْحَدِيثِ فَقَالَ " نَثْفُهُ الشّعْرُ وَنَفْخُهُ الْكِبْرُ وَهَمْزُهُ الْمُوتَةُ " .
تَفْسِيرُ { وَإِنْ مِنْكُمْ إِلّا وَارِدُهَا }
[ ص 121 ] ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ قَوْلَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ رَوَاحَةَ حِينَ ذَكَرَ قَوْلَ اللّهِ تَعَالَى : { وَإِنْ مِنْكُمْ إِلّا وَارِدُهَا } [ مَرْيَمَ : 71 ] فَلَسْت أَدْرِي كَيْفَ لِي بِالصّدَرِ بَعْدَ الْوُرُودِ وَقَدْ تَكَلّمَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا بِأَقْوَالِ مِنْهَا أَنّ الْخِطَابَ مُتَوَجّهٌ إلَى الْكُفّارِ عَلَى الْخُصُوصِ وَاحْتَجّ قَائِلُو هَذِهِ الْمَقَالَةِ بِقِرَاءَةِ ابْنِ عَبّاسٍ : وَإِنْ مِنْهُمْ إلّا وَارِدُهَا ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ الْوُرُودُ هَهُنَا هُوَ الْإِشْرَافُ عَلَيْهَا وَمُعَايَنَتُهَا ، وَحَكَوْا عَنْ الْعَرَبِ : وَرَدْت الْمَاءَ فَلَمْ أَشْرَبْ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ الْوُرُودُ هَهُنَا هُوَ الْمُرُورُ عَلَى الصّرَاطِ لِأَنّهُ عَلَى مَتْنِ جَهَنّمَ أَعَاذَنَا اللّهُ مِنْهَا ، وَرُوِيَ أَنّ اللّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَجْمَعُ الْأَوّلِينَ وَالْآخِرِينَ فِيهَا ، ثُمّ يُنَادِي مُنَادٍ خُذِي أَصْحَابَك وَدَعِي أَصْحَابِي وَقَالَتْ طَائِفَةٌ الْوُرُودُ أَنْ يَأْخُذَ الْعَبْدُ بِحَظّ مِنْهَا ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ فِي الدّنْيَا بِالْحُمّيّاتِ فَإِنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ الْحُمّى كِيرٌ مِنْ جَهَنّمَ وَهُوَ حَظّ كُلّ مُؤْمِنٍ مِنْ النّارِ

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ خَرَجَ الْقَوْمُ وَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى إذَا وَدّعَهُمْ وَانْصَرَفَ عَنْهُمْ قَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ رَوَاحَةَ :
خَلَفَ السّلَامُ عَلَى امْرِئِ وَدّعْته
فِي النّخْلِ خَيْرَ مُشَيّعٍ وَخَلِيلِ
ثُمّ مَضَوْا حَتّى نَزَلُوا مَعَانَ ، مِنْ أَرْضِ الشّامِ ، فَبَلَغَ النّاسُ أَنّ هِرَقْلَ قَدْ نَزَلَ مَآبَ ، مِنْ أَرْضِ الْبَلْقَاءِ ، فِي مِائَةِ أَلْفٍ مِنْ الرّومِ ، وَانْضَمّ إلَيْهِمْ مِنْ لَخْمٍ وَجُذَامٍ وَالْقَيْنِ وَبَهْرَاءِ وَبَلِيّ مِائَةُ أَلْفٍ مِنْهُمْ عَلَيْهِمْ رَجُلٌ مِنْ بَلِيّ ثُمّ أَحَدُ إرَاشَةَ يُقَالُ لَهُ مَالِكُ بْنُ زَافِلَةَ . فَلَمّا بَلَغَ ذَلِكَ الْمُسْلِمِينَ أَقَامُوا عَلَى مَعَانَ لَيْلَتَيْنِ يُفَكّرُونَ فِي أَمْرِهِمْ وَقَالُوا : نَكْتُبُ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَنُخْبِرُهُ بِعَدَدِ عَدُوّنَا ، فَإِمّا أَنْ يَمُدّنَا بِالرّجَالِ وَإِمّا أَنْ يَأْمُرَنَا بِأَمْرِهِ فَنَمْضِي لَهُ . قَالَ فَشَجّعَ النّاسَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ رَوَاحَةَ ، وَقَالَ يَا قَوْمِ وَاَللّهِ إنّ الّتِي تَكْرَهُونَ لَلّتِي خَرَجْتُمْ تَطْلُبُونَ الشّهَادَةَ وَمَا نُقَاتِلُ النّاسَ بِعَدَدِ وَلَا قُوّةٍ لَا كَثْرَةٍ مَا نُقَاتِلُهُمْ إلّا بِهَذَا الدّينِ الّذِي أَكْرَمَنَا اللّهُ بِهِ فَانْطَلِقُوا فَإِنّمَا هِيَ إحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ إمّا ظُهُورٌ وَإِمّا شَهَادَةٌ . قَالَ فَقَالَ النّاسُ قَدْ وَاَللّهِ صَدَقَ ابْنُ رَوَاحَةَ فَمَضَى النّاسُ فَقَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فِي مَحْبِسِهِمْ ذَلِكَ [ ص 123 ]
جَلَبْنَا الْخَيْلَ مِنْ أَجَإٍ وَفَرْعٍ ... تُغَرّ مِنْ الْحَشِيشِ لَهَا الْعُكُومُ
حَذَوْنَاهَا مِنْ الصّوّانِ سِبْتًا ... أَزَلّ كَأَنّ صَفْحَتَهُ أَدِيمُ
أَقَامَتْ لَيْلَتَيْنِ عَلَى مَعَانٍ ... فَأَعْقَبَ بَعْدَ فَتْرَتِهَا جُمُومُ
فَرُحْنَا وَالْجِيَادُ مُسَوّمَاتٌ ... تَنَفّسُ فِي مَنَاخِرِهَا السّمُومُ
فَلَا وَأَبِي مَآبَ لَنَأْتِيَنّهَا ... وَإِنْ كَانَتْ بِهَا عَرَبٌ وَرُومُ
فَعَبّأْنَا أَعِنّتَهَا فَجَاءَتْ ... عَوَابِسَ وَالْغُبَارُ لَهَا بَرِيمُ
بِذِي لَجَبٍ كَأَنّ الْبَيْضَ فِيهِ ... إذَا بَرَرَتْ قَوَانِسُهَا النّجُومُ
فَرَاضِيَةُ الْمَعِيشَةِ طَلّقَتْهَا ... أَسَنّتْهَا فَتَنْكِحُ أَوْ تَئِيمُ
[ ص 124 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : " وَيُرْوَى : جَلَبْنَا الْخَيْلَ مِنْ آجَامٍ قُرْحٍ " ، وَقَوْلُهُ " فَعَبّأْنَا أَعِنّتَهَا " عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ .
Sشَرْحُ شِعْرِ ابْنِ رَوَاحَةَ
[ ص 122 ] وَذَكَرَ شِعْرَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ رَوَاحَةَ وَفِيهِ تُقَرّ مِنْ الْحَشِيشِ لَهَا الْعُكُومُ
تُقَرّ : أَيْ يُجْمَعُ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ وَالْعُكُومُ جَمْعُ عِكْمٍ . [ ص 123 ] مِنْ الْغُبَارِ لَهَا بَرِيمٌ
الْبَرِيمُ خَيْطٌ تَحْتَزِمُ بِهِ الْمَرْأَةُ وَالْبَرِيمُ أَيْضًا : لَفِيفُ النّاسِ وَأَخْلَاطُهُمْ وَيُقَالُ هُمْ بَرِيمَانِ أَيْ لَوْنَانِ مُخْتَلِطَانِ . وَفِيهِ أَقَامَتْ لَيْلَتَيْنِ عَلَى مَعَانٍ
قَالَ الشّيْخُ أَبُو بَحْرٍ مُعَانُ بِضَمّ الْمِيمِ وَجَدْته فِي الْأَصْلَيْنِ وَأَصْلَحَهُ عَلَيْنَا الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللّهُ - حِينَ السّمَاعِ مَعَانَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَهُوَ اسْمُ مَوْضِعٍ وَذَكَرَهُ الْبَكْرِيّ بِضَمّ الْمِيمِ وَقَالَ هُوَ اسْمُ جَبَلٍ وَالْمَعَانُ أَيْضًا : حَيْثُ تُحْبَسُ الْخَيْلُ وَالرّكَابُ وَيَجْتَمِعُ النّاسُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَمْعَنْت النّظَرَ أَوْ مِنْ الْمَاءِ الْمَعِينِ فَيَكُونُ وَزْنُهُ فَعَالًا ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْعَوْنِ فَيَكُونُ وَزْنُهُ مَفْعَلًا ، وَقَدْ جَنّسَ الْمَعَرّي بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ فَقَالَ
مَعَانٌ مِنْ أَحِبّتِنَا مَعَانُ ... تُجِيبُ الصّاهِلَاتِ بِهَا الْقِيَانِ
وَقَوْلُهُ فَرَاضِيَةُ الْمَعِيشَةِ طَلّقَتْهَا
أَيْ الْمَعِيشَةُ الْمَرْضِيّةُ وَبَنَاهَا عَلَى فَاعِلَةٍ لِأَنّ أَهْلَهَا رَاضُونَ لِأَنّهَا فِي مَعْنَى صَالِحَةٍ وَقَدْ تَقَدّمَ طَرَفٌ مِنْ الْقَوْلِ فِي هَذَا الْمَعْنَى .

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ مَضَى النّاسُ فَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ أَنّهُ حُدّثَ عَنْ [ ص 125 ] زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ كُنْت يَتِيمًا لِعَبْدِ اللّهِ بْنِ رَوَاحَةَ فِي حِجْرِهِ ، فَخَرَجَ بِي فِي سَفَرِهِ ذَلِكَ مُرْدِفِي عَلَى حَقِيبَةِ رَحْلِهِ فَوَاَللّهِ إنّهُ لَيَسِيرُ لَيْلَةً إذَا سَمِعْته وَهُوَ يَنْشُدُ أَبْيَاتَهُ هَذِهِ
إذَا أَدّيْتنِي وَحَمَلْتِ رَحْلِي ... مَسِيرَةَ أَرْبَعٍ بَعْدَ الْحِسَاءِ
فَشَأْنُك أَنْعُمٌ وَخَلَاك ذَمّ ... وَلَا أَرْجِعْ إلَى أَهْلِي وَرَائِي
وَجَاءَ الْمُسْلِمُونَ وَغَادَرُونِي ... بِأَرْضِ الشّامِ مُشْتَهِيَ الثّوَاءِ
وَرَدّك كُلّ ذِي نَسَبٍ قَرِيبٍ ... إلَى الرّحْمَنِ مُنْقَطِعَ الْإِخَاءِ
هُنَالِكَ لَا أُبَالِي طَلْعَ بَعْلٍ ... وَلَا نَخْلٍ أَسَافِلُهَا رِوَاءُ
فَلَمّا سَمِعْتهنّ مَعَهُ بَكَيْت . قَالَ فَخَفَقَنِي بِالدّرّةِ وَقَالَ مَا عَلَيْك يَا لُكَعُ أَنْ يَرْزُقَنِي اللّهُ شَهَادَةً وَتَرْجِعُ بَيْنَ شُعْبَتَيْ الرّحْلِ قَالَ ثُمّ قَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فِي بَعْضِ سَفَرِهِ ذَلِكَ وَهُوَ يَرْتَجِزُ
يَا زَيْدُ زَيْدَ الْيَعْمَلَاتِ الذّبّلِ ... تَطَاوَلَ اللّيْلُ هُدِيت فَانْزِلْ
S[ ص 124 ] وَخَلَاك ذَمّ ، أَيْ فَارَقَك الذّمّ ، فَلَسْت بِأَهْلِ لَهُ وَقَدْ أَحْسَنَ فِي قَوْلِهِ فَشَأْنُك أَنْعُمٌ وَخَلَاك ذَمّ
بَعْدَ قَوْلِهِ إذَا بَلَغَتْنِي ، وَأَحْسَنَ أَيْضًا مَنْ اتّبَعَهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى ، كَقَوْلِ أَبِي نُوَاسٍ وَإِذَا الْمَطِيّ بِنَا بَلَغْنَ مُحَمّدًا فَظُهُورُهُنّ عَلَى الرّجَالِ حَرَامُ وَكَقَوْلِ الْآخَرِ
نَجَوْتِ مِنْ حَلّ وَمِنْ رِحْلَةٍ ... يَا نَاقُ إنْ قَرّبْتنِي مِنْ قُثَمْ
وَقَدْ أَسَاءَ الشّمّاخُ حَيْثُ يَقُولُ
إذَا بَلّغْتنِي وَحَمَلْتِ رَحْلِي ... عَرَابَةَ فَاشْرَقِي بِدَمّ الْوَتِينِ
وَيَذْكُرُ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ هَانِئٍ أَنّهُ كَانَ يَشْنَؤُهُ إذْ ذَكَرَ هَذَا الْبَيْتَ وَذَكَرَ مُهَلْهِلُ بْنُ يَمُوتَ بْنِ الْمُزْرِعِ عَنْ أَبِي تَمّامٍ أَنّهُ قَالَ كَانَ الْحَسَنُ يَشْنَأُ الشّمّاخَ وَأَنَا أَلْعَنُهُ مِنْ أَجْلِ قَوْلِهِ هَذَا . وَقَوْلُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِلْغِفَارِيّةِ بِئْسَ مَا جَزَيْتِيهَا يَشُدّ الْغَرَضَ الْمُتَقَدّمَ وَيَشْهَدُ لِصِحّتِهِ . وَقَوْلُهُ مُسْتَنْهِي الثّوَاءِ مُسْتَفْعِلٌ مِنْ النّهَايَةِ وَالِانْتِهَاءِ أَيْ حَيْثُ انْتَهَى مَثْوَاهُ وَمَنْ رَوَاهُ مُشْتَهِيَ الثّوَاءِ أَيْ لَا أُرِيدُ رُجُوعًا . [ ص 125 ] حَذَوْنَاهَا مِنْ الصّوّانِ سِبْتًا
أَيْ حَذَوْنَاهَا نِعَالًا مِنْ حَدِيدٍ جَعَلَهُ سِبْتًا لَهَا ، مَجَازًا . وَصَوّانٌ مِنْ الصّوْنِ أَيْ يَصُونَ حَوَافِرَهَا ، أَوْ أَخْفَافَهَا ، إنْ أَرَادَ الْإِبِلَ فَهُوَ فَعّالٌ مِنْ الصّوْنِ فَقَدْ كَانُوا يَحْذُونَهَا السّرِيحَ وَهُوَ جِلْدٌ يَصُونَ أَخْفَافَهَا ، وَأَظْهَرُ مِنْ هَذَا أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِالصّوّانِ يَبِيسَ الْأَرْضِ أَيْ لَا سِبْتَ لَهُ إلّا ذَلِكَ وَوَزْنُهُ فَعَلَانٌ مِنْ قَوْلِهِمْ نَخْلَةٌ خَاوِيَةٌ أَيْ يَابِسَةٌ وَأَنْشَدَ أَبُو عَلِيّ
قَدْ أُوبِيَتْ كُلّ مَاءٍ فَهْيَ صَاوِيَةٌ ... مَهْمَا تُصِبْ أُفُقًا مِنْ بَارِقٍ تَشِمُ
وَيَشْهَدُ لِمَعْنَى الصّوّانِ هُنَا قَوْلُ النّابِغَةِ الذّبْيَانِيّ
يَرَى وَقْعُ الصّوّانِ حَدّ نُسُورِهَا ... فَهُنّ لِطَافٌ كَالصّعَادِ الذّوَابِلِ
وَعَيْنُ الْفِعْلِ فِي صَوّانٍ وَلَامُهُ وَاوٌ وَأَدْخَلَ صَاحِبُ الْعَيْنِ فِي بَابِ الصّادِ وَالْوَاوِ وَالْيَاءِ هَذَا اللّفْظَ فَقَالَ صَوِيَ يَصْوِي : إذَا يَبِسَ وَنَخْلَةٌ صَاوِيَةٌ وَلَوْ كَانَ مِمّا لَامُهُ يَاءً لَقِيلَ فِي صَوّانٍ صَيّانٍ كَمَا قِيلَ طَيّانُ وَرَيّانُ وَلَكِنْ لَمّا انْقَلَبَتْ الْوَاوُ يَاءً مِنْ أَجْلِ الْكَثْرَةِ تَوَهّمَ الْحَرْفَ مِنْ ذَوَاتِ الْيَاءِ . [ ص 126 ] هَلْ أَنْتَ إلّا نُطْفَةٌ فِي شَنّةِ
النّطْفَةُ الْقَلِيلُ فِي الْمَاءِ وَالشّنّةُ السّقَاءُ الْبَالِي ، فَيُوشِكُ أَنْ تُهْرَاقَ النّطْفَةُ وَيَنْخَرِقَ السّقَاءُ ضَرَبَ ذَلِكَ مَثَلًا لِنَفْسِهِ فِي جَسَدِهِ .

لِقَاءُ الرّومِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَمَضَى الْعَبّاسُ حَتّى إذَا كَانُوا بِتُخُومِ الْبَلْقَاءِ لَقِيَتْهُمْ جُمُوعُ هِرَقْلَ ، مِنْ الرّومِ وَالْعَرَبِ ، بِقَرْيَةِ مِنْ قُرَى الْبَلْقَاءِ يُقَالُ لَهَا : مَشَارِفُ ، ثُمّ دَنَا الْعَدُوّ ، وَانْحَازَ الْمُسْلِمُونَ إلَى قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا مُؤْتَةُ ، فَالْتَقَى النّاسُ عِنْدَهَا ، فَتَعَبّأَ لَهُمْ الْمُسْلِمُونَ فَجَعَلُوا عَلَى مَيْمَنَتِهِمْ رَجُلًا مِنْ بَنِي عُذْرَةَ يُقَالُ لَهُ قُطْبَةُ بْنُ قَتَادَةَ ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِمْ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ عُبَادَةُ بْنُ مَالِكٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ عُبَادَةُ بْنُ مَالِكٍ .

مَقْتَلُ ابْنِ حَارِثَةَ
[ ص 126 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ الْتَقَى النّاسُ وَاقْتَتَلُوا ، فَقَاتَلَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ بِرَايَةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى شَاطَ فِي رِمَاحِ الْقَوْمِ .
إمَارَةُ جَعْفَرٍ وَمَقْتَلُهُ
ثُمّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَقَاتَلَ بِهَا . حَتّى إذَا أَلْحَمَهُ الْقِتَالُ اقْتَحَمَ عَنْ فَرَسٍ لَهُ شَقْرَاءَ ، فَعَقَرَهَا ، ثُمّ قَاتَلَ الْقَوْمَ حَتّى قُتِلَ . فَكَانَ جَعْفَرٌ أَوّلَ رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَقَرَ فِي الْإِسْلَامِ . وَحَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبّادِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الزّبَيْرِ ، عَنْ أَبِيهِ عَبّادٍ قَالَ حَدّثَنِي أَبِي الّذِي أَرْضَعَنِي ، وَكَانَ أَحَدَ بَنِي مُرّةَ بْنِ عَوْفٍ ، وَكَانَ فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ غَزْوَةِ مُؤْتَةَ قَالَ وَاَللّهِ لَكَأَنّي أَنْظُرُ إلَى جَعْفَرٍ حِينَ اقْتَحَمَ عَنْ فَرَسٍ لَهُ شَقْرَاءَ ، ثُمّ عَقَرَهَا ثُمّ قَاتَلَ حَتّى قُتِلَ وَهُوَ يَقُولُ
يَا حَبّذَا الْجَنّةُ وَاقْتِرَابُهَا ... طَيّبَةٌ وَبَارِدٌ شَرَابُهَا
وَالرّومُ رُومٌ قَدْ دَنَا عَذَابُهَا ... كَافِرَةٌ بَعِيدَةٌ أَنْسَابُهَا
عَلَيّ إنْ لَاقَيْتهَا ضِرَابُهَا [ ص 127 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَخَذَ اللّوَاءَ بِيَمِينِهِ فَقُطِعَتْ فَأَخَذَهُ بِشِمَالِهِ فَقُطِعَتْ فَاحْتَضَنَهُ بِعَضُدَيْهِ حَتّى قُتِلَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً فَأَثَابَهُ اللّهُ بِذَلِكَ جَنَاحَيْنِ فِي الْجَنّةِ يَطِيرُ بِهِمَا حَيْثُ شَاءَ . وَيُقَالُ إنّ رَجُلًا مِنْ الرّومِ ضَرَبَهُ يَوْمَئِذٍ ضَرْبَةً فَقَطَعَهُ نِصْفَيْنِ .
اسْتِشْهَادُ جَعْفَرٍ وَابْنِ رَوَاحَةَ
[ ص 128 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبّادِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الزّبَيْرِ ، عَنْ أَبِيهِ عَبّادٍ قَالَ حَدّثَنِي أَبِي الّذِي أَرْضَعَنِي ، وَكَانَ أَحَدَ بَنِي مُرّةَ بْنِ عَوْفٍ ، قَالَ فَلَمّا قُتِلَ جَعْفَرٌ أَخَذَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ رَوَاحَةَ الرّايَةَ ثُمّ تَقَدّمَ بِهَا ، وَهُوَ عَلَى فَرَسِهِ فَجَعَلَ يَسْتَنْزِلُ نَفْسَهُ وَيَتَرَدّدُ بَعْضَ التّرَدّدِ ثُمّ قَالَ
أَقْسَمْت يَا نَفْسُ لَتَنْزِلَنّهْ ... لَتَنْزِلَن أَوْ لَتُكْرَهَنّهْ
إنْ أَجْلَبَ النّاسُ وَشَدّوا الرّنّهْ ... مَا لِي أَرَاك تَكْرَهِينَ الْجَنّهْ
قَدْ طَالَ مَا قَدْ كُنْت مُطْمَئِنّهْ ... هَلْ أَنْتِ إلّا نُطْفَةٌ فِي شَنّهْ
[ ص 129 ] وَقَالَ أَيْضًا :
يَا نَفْسُ إلّا تُقْتَلِي تَمُوتِي ... هَذَا حِمَامُ الْمَوْتِ قَدْ صَلِيَتْ
وَمَا تَمَنّيْت فَقَدْ أُعْطِيَتْ ... إنْ تَفْعَلِي فِعْلَهُمَا هُدِيَتْ
يُرِيدُ صَاحِبَيْهِ زَيْدًا وَجَعْفَرًا ثُمّ نَزَلَ . فَلَمّا نَزَلَ أَتَاهُ ابْنُ عَمّ لَهُ بِعِرْقِ مِنْ لَحْمٍ فَقَالَ شُدّ بِهَذَا صُلْبَك ، فَإِنّك قَدْ لَقِيت فِي أَيّامِك هَذِهِ مَا لَقِيت ، فَأَخَذَهُ مِنْ يَدِهِ ثُمّ انْتَهَسَ مِنْهُ نَهْسَةً ثُمّ سَمِعَ الْحَطْمَةَ فِي نَاحِيَةِ النّاسِ فَقَالَ وَأَنْتَ فِي الدّنْيَا ثُمّ أَلْقَاهُ مِنْ يَدِهِ ثُمّ أَخَذَ سَيْفَهُ فَتَقَدّمَ فَقَاتَلَ حَتّى قُتِلَ .
عَمَلُ خَالِدٍ
ثُمّ أَخَذَ الرّايَةَ ثَابِتُ بْنُ أَقْرَمَ أَخُو بَنِي الْعَجْلَانِ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ اصْطَلِحُوا عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ قَالُوا : أَنْتَ قَالَ مَا أَنَا بِفَاعِلِ . فَاصْطَلَحَ النّاسُ عَلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ ، فَلَمّا أَخَذَ الرّايَةَ دَافَعَ الْقَوْمَ وَحَاشَى بِهِمْ ثُمّ انْحَازَ وَانْحِيزَ عَنْهُ حَتّى انْصَرَفَ بِالنّاسِ .
تَنَبّؤُ الرّسُولِ بِمَا حَدَثَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَلَمّا أُصِيبَ الْقَوْمُ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيمَا بَلَغَنِي : أَخَذَ الرّايَةَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ فَقَاتَلَ بِهَا حَتّى قُتِلَ شَهِيدًا ثُمّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَقَاتَلَ بِهَا حَتّى قُتِلَ شَهِيدًا قَالَ ثُمّ صَمَتَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى تَغَيّرَتْ وُجُوهُ الْأَنْصَارِ ، وَظَنّوا أَنّهُ قَدْ كَانَ فِي عَبْدِ اللّهِ بْنِ رَوَاحَةَ بَعْضُ مَا يَكْرَهُونَ ثُمّ قَالَ ثُمّ أَخَذَهَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَقَاتَلَ بِهَا حَتّى قُتِلَ شَهِيدًا ، ثُمّ قَالَ لَقَدْ رُفِعُوا إلَيّ فِي الْجَنّةِ ، فِيمَا يَرَى النّائِمُ عَلَى سُرَرٍ مِنْ ذَهَبٍ فَرَأَيْت فِي سَرِيرِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ رَوَاحَةَ ازْوِرَارًا عَنْ سَرِيرَيْ صَاحِبَيْهِ فَقُلْت : عَمّ هَذَا ؟ فَقِيلَ لِي : مَضَيَا وَتَرَدّدَ عَبْدُ اللّهِ بَعْضَ التّرَدّدِ ثُمّ مَضَى
حُزْنُ الرّسُولِ عَلَى جَعْفَرٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ ، عَنْ أُمّ عِيسَى الْخُزَاعِيّةِ عَنْ أُمّ جَعْفَرِ بِنْتِ مُحَمّدِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَنْ جَدّتِهَا [ ص 130 ] أَسْمَاءِ بِنْتِ عُمَيْسٍ ، قَالَتْ لَمّا أُصِيبَ جَعْفَرٌ وَأَصْحَابُهُ دَخَلَ عَلَيّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَدْ دَبَغْت أَرْبَعِينَ مَنًا - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُرْوَى : أَرْبَعِينَ مَنِيئَةً - وَعَجَنْت عَجِينِي ، وَغَسَلْت بَنِيّ وَدَهَنْتهمْ وَنَظّفْتهمْ . قَالَتْ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ائْتِينِي بِبَنِيّ جَعْفَرٍ قَالَتْ فَأَتَيْته بِهِمْ فَتَشَمّمَهُمْ وَذَرِفَتْ عَيْنَاهُ فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي ، مَا يُبْكِيك ؟ أَبَلَغَك عَنْ جَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ شَيْءٌ ؟ قَالَ ( نَعَمْ أُصِيبُوا هَذَا الْيَوْمَ . قَالَتْ فَقُمْت أَصِيحُ وَاجْتَمَعَتْ إلَيّ النّسَاءُ وَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى أَهْلِهِ فَقَالَ لَا تُغْفِلُوا آلَ جَعْفَرٍ مِنْ أَنْ تَصْنَعُوا لَهُمْ طَعَامًا فَإِنّهُمْ قَدْ شُغِلُوا بِأَمْرِ صَاحِبِهِمْ وَحَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمّدٍ ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَتْ لَمّا أَتَى نَعْيُ جَعْفَرٍ عَرَفْنَا فِي وَجْهِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْحُزْنَ . قَالَتْ فَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ النّسَاءَ عَنّيْنَنَا وَفَتَنّنَا ، قَالَ فَارْجِعْ إلَيْهِنّ فَأَسْكِتْهُنّ . قَالَتْ فَذَهَبَ ثُمّ رَجَعَ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ - قَالَ تَقُولُ وَرُبّمَا ضَرّ التّكَلّفُ أَهْلَهُ - قَالَتْ قَالَ فَاذْهَبْ فَأَسْكِتْهُنّ فَإِنّ أَبَيْنَ فَاحْثُ فِي أَفْوَاهِهِنّ التّرَابَ قَالَتْ وَقُلْت فِي نَفْسِي : أَبْعَدَك اللّهُ فَوَاَللّهِ مَا تَرَكْت نَفْسَك وَمَا أَنْتَ بِمُطِيعِ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَتْ وَعَرَفْت أَنّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَحْثِيَ فِي أَفْوَاهِهِنّ التّرَابَ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ كَانَ قُطْبَةُ بْنُ قَتَادَةَ الْعُذْرِيّ ، الّذِي كَانَ عَلَى مَيْمَنَةِ الْمُسْلِمِينَ قَدْ حَمَلَ عَلَى مَالِكِ بْنِ رَافِلَةَ فَقَتَلَهُ فَقَالَ قُطْبَةُ بْنُ قَتَادَةَ :
طَعَنَتْ ابْنَ زَافِلَةَ بْنَ الْإِرَ ... اشِ بِرُمْحِ مَضَى فِيهِ ثُمّ انْحَطَمْ
ضَرَبْت عَلَى جِيدِهِ ضَرْبَةً ... فَمَالَ كَمَا مَالَ غُصْنُ السّلَمْ
وَسُقْنَا نِسَاءَ بَنِي عَمّهِ ... غَدَاةَ رَقُوقَيْنَ سَوْقَ النّعَمْ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَوْلُهُ " ابْنَ الْإِرَاشِ " عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ . وَالْبَيْتُ الثّالِثُ عَنْ خَلّادِ بْنِ قُرّةَ ؟ وَيُقَالُ مَالِكِ بْنِ رَافِلَةَ .
كَاهِنَةُ حَدَسٍ
[ ص 131 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ كَانَتْ كَاهِنَةٌ مِنْ حَدَسٍ حِينَ سَمِعَتْ بِجَيْشِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُقْبِلًا ، قَدْ قَالَتْ لِقَوْمِهَا مِنْ حَدَسٍ - وَقَوْمُهَا بَطْنٌ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو غَنْمٍ - أُنْذِرُكُمْ قَوْمًا خُزْرًا - يَنْظُرُونَ شَزْرًا ، وَيَقُولُونَ الْخَيْلَ تَتْرَى ، وَيُهْرِيقُونَ دَمًا عَكْرًا . فَأَخَذُوا بِقَوْلِهَا ، وَاعْتَزَلُوا مِنْ بَيْنِ لَخْمٍ ، فَلَمْ تَزَلْ بَعْدُ أَثْرِي حَدَسٍ . وَكَانَ الّذِينَ صَلَوْا الْحَرْبَ يَوْمَئِذٍ بَنُو ثَعْلَبَةَ بَطْنٌ مِنْ حَدَسٍ فَلَمْ يَزَالُوا قَلِيلًا بَعْدُ . فَلَمّا انْصَرَفَ خَالِدٌ بِالنّاسِ أَقْبَلَ بِهِمْ قَافِلًا .
Sعَقْرُ جَعْفَرٍ فَرَسَهُ وَمَقْتَلُهُ
وَأَمّا عَقْرُ جَعْفَرٍ فَرَسَهُ وَلَمْ يَعِبْ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ، فَدَلّ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ إذَا خِيفَ أَنْ يَأْخُذَهَا الْعَدُوّ ، فَيُقَاتِلَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يَدْخُلْ هَذَا فِي بَابِ النّهْيِ عَنْ تَعْذِيبِ الْبَهَائِمِ وَفِعْلِهَا عَبَثًا غَيْرَ أَنّ أَبَا دَاوُدَ خَرّجَ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ حَدّثَنَا النّفَيْلِيّ قَالَ حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ إسْحَاقَ عَنْ ابْنِ عَبّادٍ يَعْنِي : يَحْيَى بْنَ عَبّادٍ عَنْ أَبِيهِ عَبّادِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الزّبَيْرِ ، قَالَ حَدّثَنِي أَبِي الّذِي أَرْضَعَنِي ، وَهُوَ أَحَدُ بَنِي مُرّةَ بْنِ عَوْفٍ ، وَكَانَ فِي تِلْكَ الْغَزَاةِ غَزَاةِ مُؤْتَةَ ، قَالَ وَاَللّهِ لَكَأَنّي أَنْظُرُ إلَى جَعْفَرٍ حِينَ اقْتَحَمَ عَنْ فَرَسٍ لَهُ شَقْرَاءَ فَعَقَرَهَا ، ثُمّ قَاتَلَ الْقَوْمَ حَتّى قُتِلَ . [ ص 127 ] قَالَ أَبُو دَاوُدَ : وَلَيْسَ هَذَا الْحَدِيثُ بِالْقَوِيّ وَقَدْ جَاءَ فِيهِ نَفْيٌ كَثِيرٌ عَنْ أَصْحَابِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . وَذَكَرَ قَوْلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي جَعْفَرٍ فَأَثَابَهُ اللّهُ بِذَلِكَ جَنَاحَيْنِ فِي الْجَنّةِ يَطِيرُ بِهِمَا حَيْثُ شَاءَ وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَيْهِ وَقَالَ دَخَلْت الْجَنّةَ الْبَارِحَةَ فَرَأَيْت جَعْفَرًا يَطِيرُ مَعَ الْمَلَائِكَةِ وَجَنَاحَاهُ مُضَرّجَانِ بِالدّمِ وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ ، قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُثِلَ لِي جَعْفَرٌ وَزَيْدٌ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فِي خَيْمَةٍ مِنْ دَرّ عَلَى أَسِرّةٍ فَرَأَيْت زَيْدًا وَعَبْدَ اللّهِ وَفِي أَعْنَاقِهِمَا صُدُودٌ وَرَأَيْت جَعْفَرًا مُسْتَقِيمًا . فَقِيلَ لِي : إنّهُمَا حِينَ غَشِيَهُمَا الْمَوْتُ أَعْرَضَا بِوُجُوهِهِمَا ، وَمَضَى جَعْفَرٌ فَلَمْ يَعْرِضْ وَسَمِعَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَاطِمَةَ حِينَ جَاءَ نَعْيُ جَعْفَرٍ تَقُولُ وَاعَمّاهُ فَقَالَ عَلَى مِثْلِ جَعْفَرٍ فَلْتَبْكِ الْبَوَاكِي وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقُولُ مَا احْتَذَى النّعَالَ وَلَا رَكِبَ الْمَطَايَا بَعْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَفْضَلُ مِنْ جَعْفَرٍ وَقَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ جَعْفَرٍ : كُنْت إذَا سَأَلْت عَلِيّا حَاجَةً فَمَنَعَنِي أُقْسِمُ عَلَيْهِ بِحَقّ جَعْفَرٍ فَيُعْطِينِي
مَعْنَى الْجَنَاحَيْنِ
وَمِمّا يَنْبَغِي الْوُقُوفُ عَلَيْهِ فِي مَعْنَى الْجَنَاحَيْنِ أَنّهُمَا لَيْسَا كَمَا يَسْبِقُ إلَى الْوَهْمِ عَلَى مِثْلِ جَنَاحَيْ الطّائِرِ وَرِيشِهِ لِأَنّ الصّورَةَ الْآدَمِيّةَ أَشْرَفُ الصّوَرِ وَأَكْمَلُهَا ، وَفِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ إنّ اللّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ تَشْرِيفٌ لَهُ عَظِيمٌ وَحَاشَا لِلّهِ مِنْ التّشْبِيهِ وَالتّمْثِيلِ وَلَكِنّهَا عِبَارَة عَنْ صِفَةٍ مَلَكِيّةٍ وَقُوّةٍ رُوحَانِيّةٍ أُعْطِيَهَا جَعْفَرٌ كَمَا أُعْطِيَتْهَا الْمَلَائِكَةُ وَقَدْ قَالَ اللّهُ تَعَالَى [ ص 128 ] لِمُوسَى : { وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ } [ طَه : 33 ] فَعَبّرَ عَنْ الْعَضُدِ بِالْجَنَاحِ تَوَسّعًا ، وَلَيْسَ ثَمّ طَيَرَانٌ فَكَيْفَ بِمَنْ أُعْطِيَ الْقُوّةَ عَلَى الطّيَرَانِ مَعَ الْمَلَائِكَةِ أَخْلِقْ بِهِ إذًا : أَنْ يُوصَفَ بِالْجَنَاحِ مَعَ كَمَالِ الصّورَةِ الْآدَمِيّةِ وَتَمَامِ الْجَوَارِحِ الْبَشَرِيّةِ وَقَدْ قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي أَجْنِحَةِ الْمَلَائِكَةِ لَيْسَتْ كَمَا يُتَوَهّمُ مِنْ أَجْنِحَةِ الطّيْرِ وَلَكِنّهَا صِفَاتٌ مَلَكِيّةٌ لَا تُفْهَمُ إلّا بِالْمُعَايَنَةِ وَاحْتَجّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ } [ فَاطِرِ 1 ] فَكَيْفَ تَكُونُ كَأَجْنِحَةِ الطّيْرِ عَلَى هَذَا ، وَلَمْ يُرَ طَائِرٌ لَهُ ثَلَاثَةُ أَجْنِحَةٍ وَلَا أَرْبَعَةٌ فَكَيْفَ بِسِتّمِائَةِ جَنَاحٍ كَمَا جَاءَ فِي صِفَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السّلَامُ ، فَدَلّ عَلَى أَنّهَا صِفَاتٌ لَا تَنْضَبِطُ كَيْفِيّتُهَا لِلْفِكْرِ وَلَا وَرَدَ أَيْضًا فِي بَيَانِهَا ، خَبَرٌ فَيَجِبُ عَلَيْنَا الْإِيمَانُ بِهَا ، وَلَا يُفِيدُنَا عِلْمًا إعْمَالُ الْفِكْرِ فِي كَيْفِيّتِهَا ، وَكُلّ امْرِئِ قَرِيبٌ مِنْ مُعَايَنَةِ ذَلِكَ . فَإِمّا أَنْ يَكُونَ مِنْ الّذِينَ { تَتَنَزّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنّةِ الّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ } وَإِمّا أَنْ يَكُونَ مِنْ الّذِينَ تَقُولُ لَهُمْ الْمَلَائِكَةُ وَهُمْ بَاسِطُو أَيْدِيَهُمْ { أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ } .
فَضْلُ ابْنِ رَوَاحَةَ
وَأَمّا عَبْدُ اللّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ مَا ذَكَرَ مِنْ فَضَائِلِهِ . وَذَكَرَ قَوْلَهُ لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فَثَبّتَ اللّهُ مَا آتَاك مِنْ حَسَنٍ ... تَثْبِيتَ مُوسَى وَنَصْرًا كَاَلّذِي نُصِرُوا
وَرَوَى غَيْرُهُ [ ص 129 ] أَنّهُ عَلَيْهِ السّلَامُ قَالَ لَهُ قُلْ شِعْرًا تَقْتَضِبُهُ اقْتِضَابًا ، وَأَنَا أَنْظُرُ إلَيْك ، فَقَالَ مِنْ غَيْرِ رَوِيّةٍ إنّي تَفَرّسْت فِيك الْخَيْرَ
الْأَبْيَاتِ حَتّى انْتَهَى إلَى قَوْلِهِ فَثَبّتَ اللّهُ مَا آتَاك مِنْ حَسَنٍ
فَقَالَ لَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَنْتَ فَثَبّتَك اللّهُ يَا ابْنَ رَوَاحَةَ فَضْلُ زَيْدٍ [ ص 130 ] أَحَدٌ مِنْ الصّحَابَة بِاسْمِهِ سِوَاهُ وَقَدْ بَيّنّا النّكْتَةَ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ التّعْرِيفِ وَالْأَعْلَامِ فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ .

كَيْفَ تَلَقّى الْجَيْشَ ؟
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزّبَيْرِ ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ ، قَالَ لَمّا دَنَوْا مِنْ حَوْلِ الْمَدِينَةِ تَلَقّاهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَالْمُسْلِمُونَ قَالَ وَلَقِيَهُمْ الصّبْيَانُ يَشْتَدّونَ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُقْبِلٌ مَعَ الْقَوْمِ عَلَى دَابّةٍ فَقَالَ خُذُوا الصّبْيَانَ فَاحْمِلُوهُمْ ، وَأَعْطُونِي ابْنَ جَعْفَرٍ . فَأُتِيَ بِعَبْدِ اللّهِ فَأَخَذَهُ فَحَمَلَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ . قَالَ وَجَعَلَ النّاسُ يَحْثُونَ عَلَى الْجَيْشِ التّرَابَ وَيَقُولُونَ يَا فُرّارُ فَرَرْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ؟ قَالَ فَيَقُولُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَيْسُوا بِالْفُرّارِ وَلَكِنّهُمْ الْكُرّارُ إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ ، عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الزّبَيْرِ ، عَنْ بَعْضِ آلِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ : وَهُمْ أَخْوَالُهُ عَنْ أُمّ سَلَمَةَ زَوْجِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ [ ص 132 ] قَالَتْ أُمّ سَلَمَةَ لِامْرَأَةِ سَلَمَةَ بْنِ هِشَامِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ الْمُغِيرَةِ مَا لِي لَا أَرَى سَلَمَةَ يَحْضُرُ الصّلَاةَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَعَ الْمُسْلِمِينَ ؟ قَالَ وَاَللّهِ مَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْرُجَ كُلّمَا خَرَجَ صَاحَ بِهِ النّاسُ يَا فُرّارُ فَرَرْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ حَتّى قَعَدَ فِي بَيْتِهِ فَمَا يَخْرُجُ
شِعْرُ قَيْسٍ فِي الِاعْتِذَارِ عَنْ تَقَهْقُرِ خَالِدٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ قَالَ فِيمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ النّاسِ وَأَمْرِ خَالِدٍ وَمُخَاشَاتِهِ بِالنّاسِ وَانْصِرَافِهِ بِهِمْ قَيْسُ بْنُ الْمُسَحّرِ الْيَعْمُرِيّ ، يَعْتَذِرُ مِمّا صَنَعَ يَوْمَئِذٍ وَصَنَعَ النّاسُ
فَوَاَللّهِ لَا تَنْفَكّ نَفْسِي تَلُومُنِي ... عَلَى مَوْقِفِي وَالْخَيْلُ قَابِعَةٌ قُبْلُ
وَقَفْت بِهَا لَا مُسْتَجِيرًا فَنَافِذًا ... وَلَا مَانِعًا مَنْ كَانَ حُمّ لَهُ الْقَتْلُ
عَلَى أَنّنِي آسَيْت نَفْسِي بِخَالِدِ ... أَلَا خَالِدٌ فِي الْقَوْمِ لَيْسَ لَهُ مِثْلُ
وَجَاشَتْ إلَيّ النّفْسُ مِنْ نَحْوِ جَعْفَرٍ ... بِمُؤْتَةِ إذْ لَا يَنْفَعُ النّابِلَ النّبْلُ
وَضَمّ إلَيْنَا حَجْزَتَيْهِمْ كِلَيْهِمَا ... مُهَاجِرَةٌ لَا مُشْرِكُونَ وَلَا عُزْلُ
فَبَيّنَ قَيْسٌ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ النّاسُ مِنْ ذَلِكَ فِي شِعْرِهِ أَنّ الْقَوْمَ حَاجَزُوا وَكَرِهُوا الْمَوْتَ وَحَقّقَ انْحِيَازَ خَالِدٍ بِمَنْ مَعَهُ . [ ص 133 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : فَأَمّا الزّهْرِيّ فَقَالَ فِيمَا بَلَغَنَا عَنْهُ أَمّرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ ، فَفَتَحَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ عَلَيْهِمْ حَتّى قَفَلَ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
Sرُجُوعُ أَهْلِ مُؤْتَةَ
[ ص 131 ] وَذَكَرَ رُجُوعَ أَهْلِ مُؤْتَة َ وَمَا لَقَوْا مِنْ النّاسِ إذْ قَالُوا لَهُمْ يَا فُرّارُ فَرَرْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَرِوَايَةُ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ أَنّهُمْ قَالُوا لِلنّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - نَحْنُ الْفَرّارُونَ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ فَقَالَ " بَلْ أَنْتُمْ الْكَرّارُونَ وَقَالَ لَهُمْ أَنَا فِئَتُكُمْ يُرِيدُ أَنّ مَنْ فَرّ مُتَحَيّزًا إلَى فِئَةِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ وَإِنّمَا جَاءَ الْوَعِيدُ فِيمَنْ فَرّ عَنْ الْإِمَامِ وَلَمْ يَتَحَيّزْ إلَيْهِ أَيْ لَمْ يَلْجَأْ إلَى حَوْزَتِهِ فَيَكُونُ مَعَهُ فَالْمُتَحَيّزُ مُتَفَيْعِلٌ مِنْ الْحَوْزِ وَلَوْ كَانَ وَزْنُهُ مُتَفَعّلًا ، كَمَا يَظُنّ بَعْضُ النّاسِ لَقِيلَ فِيهِ مُتَحَوّزٌ . وَرُوِيَ أَنّ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ حِينَ بَلَغَهُ قَتْلُ أَبِي عُبَيْدِ بْنِ مَسْعُودٍ وَأَصْحَابِهِ فِي بَعْضِ أَيّامِ الْقَادِسِيّةِ ، قَالَ هَلّا تَحَيّزُوا إلَيْنَا ، فَإِنّا فَيْئَةٌ لِكُلّ مُسْلِمٍ . [ ص 132 ] وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ مُخَاشَاةَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ بِالنّاسِ يَوْمَ مُؤْتَة َ . وَالْمُخَاشَاةُ الْمُحَاجَزَةُ وَهِيَ مُفَاعَلَةٌ مِنْ الْخَشْيَةِ لِأَنّهُ خَشِيَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِقِلّةِ عَدَدِهِمْ فَقَدْ قِيلَ كَانَ الْعَدُوّ مِائَتَيْ أَلْفٍ مِنْ الرّومِ ، وَخَمْسِينَ أَلْفًا مِنْ الْعَرَبِ ، وَمَعَهُمْ مِنْ الْخُيُولِ وَالسّلَاحِ مَا لَيْسَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَفِي قَوْلِ ابْنِ إسْحَاقَ : وَكَانَ الْعَدُوّ مِائَةَ أَلْفٍ وَخَمْسِينَ أَلْفًا ، وَقَدْ قِيلَ إنّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَبْلُغْ عَدَدُهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ ثَلَاثَةَ آلَافٍ وَمَنْ رَوَاهُ حَاشَى بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ فَهُوَ مِنْ الْحَشَى ، وَهِيَ النّاحِيَةُ وَفِي رِوَايَةِ قَاسِمِ بْنِ أَصْبُغَ عَنْ ابْنِ قُتَيْبَةَ فِي الْمَعَارِفِ أَنّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ حَاشَى بِهِمْ فَقَالَ مَعْنَاهُ انْحَازَ بِهِمْ وَشِعْرُ قُطْبَةَ بْنِ قَتَادَةَ يَدُلّ عَلَى أَنّهُ قَدْ كَانَ ثَمّ ظَفَرٌ وَمَغْنَمٌ لِقَوْلِهِ
وَسُقْنَا نِسَاءَ بَنِي عَمّهِ ... غَدَاةَ رَقُوقَيْنَ سَوْقَ النّعَمْ
وَفِي هَذَا الشّعْرِ أَنّهُ قَتَلَ رَئِيسًا مِنْهُمْ وَهُوَ مَالِكُ بْنُ رَافِلَةَ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ كَمَا ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ ، فَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ : فَأَخَذَ خَالِدٌ الرّايَةَ حَتّى فَتَحَ اللّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَأَخْبَرَ أَنّهُ قَدْ كَانَ ثَمّ فَتْحٌ وَفِي الرّايَةِ الْأُخْرَى حِينَ قِيلَ لَهُمْ يَا فُرّارُ دَلِيلٌ عَلَى أَنّهُ قَدْ كَانَ ثَمّ مُحَاجَزَةٌ وَتَرْكٌ لِلْقِتَالِ حَتّى قَالُوا : نَحْنُ الْفَرّارُونَ فَقَالَ لَهُمْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا تَقَدّمَ فَاَللّهُ أَعْلَمُ .
طَعَامُ التّعْزِيَةِ وَغَيْرِهَا
[ ص 133 ] وَذَكَرَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَمَرَ أَنْ يُصْنَعَ لِآلِ جَعْفَرٍ طَعَامٌ فَإِنّهُمْ قَدْ شُغِلُوا بِأَمْرِ صَاحِبِهِمْ وَهَذَا أَصْلٌ فِي طَعَامِ التّعْزِيَةِ وَتُسَمّيهِ الْعَرَبُ الْوَضِيمَةَ كَمَا تُسَمّي طَعَامَ الْعُرْسِ الْوَلِيمَةَ وَطَعَامَ الْقَادِمِ مِنْ السّفَرِ النّقِيعَةَ وَطَعَامَ الْبِنَاءِ الْوَكِيرَةَ وَكَانَ الطّعَامُ الّذِي صُنِعَ لِآلِ جَعْفَرٍ فِيمَا ذَكَرَ الزّبَيْرُ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ فَعَمَدَتْ سَلْمَى مَوْلَاةُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى شَعِيرٍ فَطَحَنَتْهُ ثُمّ آدَمَتْهُ بِزَيْتِ وَجَعَلَتْ عَلَيْهِ فُلْفُلًا ، قَالَ عَبْدُ اللّهِ فَأَكَلْت مِنْهُ وَحَبَسَنِي النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَعَ إخْوَتِي فِي بَيْتِهِ ثَلَاثَةَ أَيّامٍ .

شِعْرُ حَسّانٍ فِي بُكَاءِ قَتْلَى مُؤْتَةَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ مِمّا بَكَى بِهِ أَصْحَابَ مُؤْتَةَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَوْلُ حَسّانِ بْنِ ثَابِتٍ : [ ص 134 ] [ ص 135 ]
تَأَوّبَنِي لَيْلٌ بِيَثْرِبَ أَعْسَرُ ... وَهُمْ إذَا مَا نَوّمَ النّاسُ مُسْهِرُ
لِذِكْرَى حَبِيبٍ هَيّجْت لِي عِبْرَةً ... سُفُوحًا وَأَسْبَابُ الْبُكَاءِ التّذَكّرُ
بَلَى إنّ فِقْدَانَ الْحَبِيبِ بَلِيّةٌ ... وَكَمْ مِنْ كَرِيمٍ يُبْتَلَى ثُمّ يَصْبِرُ
رَأَيْت خِيَارَ الْمُؤْمِنِينَ تَوَارَدُوا ... شَعُوبَ وَخَلْفًا بَعْدَهُمْ يَتَأَخّرُ
فَلَا يُبْعِدَن اللّهُ قَتْلَى تَتَابَعُوا ... بِمُؤْتَةِ مِنْهُمْ ذُو الْجَنَاحَيْنِ جَعْفَرُ
وَزَيْدٌ وَعَبْدُ اللّهِ حِينَ تَتَابَعُوا ... جَمِيعًا وَأَسْبَابُ الْمَنِيّةِ تَخْطِرُ
غَدَاةَ مَضَوْا بِالْمُؤْمِنِينَ يَقُودُهُمْ ... إلَى الْمَوْتِ مَيْمُونُ النّقِيبَةِ أَزْهَرُ
أَغَرّ كَضَوْءِ الْبَدْرِ مِنْ آلِ هَاشِمٍ ... أَبِيّ إذَا سِيمَ الظّلَامَةِ مِجْسَرُ
فَطَاعَنَ حَتّى مَالَ غَيْرَ مُوَسّدٍ ... لِمُعْتَرِكِ فِيهِ قَنَا مُتَكَسّرُ
فَصَارَ مَعَ الْمُسْتَشْهِدِينَ ثَوَابَهُ ... جِنَانٌ وَمُلْتَفّ الْحَدَائِقِ أَخْضَرُ
وَكُنّا نَرَى فِي جَعْفَرٍ مِنْ مُحَمّدٍ ... وَفَاءً وَأَمْرًا حَازِمًا حِينَ يَأْمُرُ
فَمَا زَالَ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ آلِ هَاشِمٍ ... دَعَائِمُ عِزّ لَا يَزُلْنَ وَمَفْخَرُ
هُمْ جَبَلُ الْإِسْلَامِ وَالنّاسُ حَوْلَهُمْ ... رِضَامٌ إلَى طَوْدٍ يَرُوقُ وَيَقْهَرُ
بَهَالِيلُ مِنْهُمْ جَعْفَرٌ وَابْنُ أُمّهِ ... عَلِيّ وَمِنْهُمْ أَحْمَدُ الْمُتَخَيّرُ
وَحَمْزَةُ وَالْعَبّاسُ مِنْهُمْ وَمِنْهُمْ ... عَقِيلٌ وَمَاءُ الْعُودِ مِنْ حَيْثُ يُعْصَرُ
بِهِمْ تُفْرَجُ اللّأْوَاءُ فِي كُلّ مَأْزِقٍ ... عِمَاسٍ إذَا مَا ضَاقَ بِالنّاسِ مَصْدَرُ
هُمْ أَوْلِيَاءُ اللّهِ أَنْزَلَ حُكْمَهُ ... عَلَيْهِمْ وَفِيهِمْ ذَا الْكِتَابُ الْمُطَهّرُ
Sمِنْ شِعْرِ حَسّانٍ فِي رِثَاءِ جَعْفَرٍ
وَذَكَرَ قَوْلَ حَسّانٍ يَرْثِي جَعْفَرًا : تَأَوّبَنِي لَيْلٌ بِيَثْرِبَ أَعْسَرُ
أَعْسَرُ بِمَعْنَى : عَسِرٍ وَفِي التّنْزِيلِ يَوْمُ عَسِرٌ [ الْقَمَرِ 8 ] ، وَفِيهِ أَيْضًا : عَسِيرٌ وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ فَمَنْ قَالَ عَسِرَ [ يَعْسَرُ ] قَالَ عَسِيرٌ بِالْيَاءِ وَمَنْ قَالَ عَسِرَ يَعْسَرُ قَالَ فِي الِاسْمِ عَسِرٌ وَأَعْسَرُ مِثْلَ حَمِقٌ وَأَحْمَقُ . [ ص 134 ]
بَهَالِيلُ مِنْهُمْ جَعْفَرٌ وَابْنُ أُمّهِ ... عَلِيّ وَمِنْهُمْ أَحْمَدُ الْمُتَخَيّرُ
الْبَهَالِيلُ جَمْعُ بُهْلُولٍ وَهُوَ الْوَضِيءُ الْوَجْهِ مَعَ طُولٍ . وَقَوْلُهُ مَعَهُمْ أَحْمَدُ الْمُتَخَيّرُ فَدَعَا بِهِ بَعْضُ النّاسِ لَمّا أَضَافَ أَحْمَدَ الْمُتَخَيّرَ إلَيْهِمْ وَلَيْسَ بِعَيْبِ لِأَنّهَا لَيْسَتْ بِإِضَافَةِ تَعْرِيفٍ وَإِنّمَا هُوَ تَشْرِيفٌ لَهُمْ حَيْثُ كَانَ مِنْهُمْ وَإِنّمَا ظَهَرَ الْعَيْبُ فِي قَوْلِ أَبِي نُوَاسٍ
كَيْفَ لَا يُدْنِيك مِنْ أَمَلٍ ... مَنْ رَسُولُ اللّهِ مِنْ نَفَرِهِ
لِأَنّهُ ذَكَرَ وَاحِدًا ، وَأَضَافَ إلَيْهِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مَا عِيبَ عَلَى الْأَعْشَى :
شَتّانَ مَا يَوْمِي عَلَى كُورِهَا ... وَيَوْمُ حَيّانَ أَخِي جَابِرِ
وَكَانَ حَيّانُ أَسَنّ مِنْ جَابِرٍ وَأَشْرَفَ فَغَضِبَ عَلَى الْأَعْشَى حَيْثُ عَرّفَهُ بِجَابِرِ وَاعْتَذَرَ إلَيْهِ مِنْ أَجْلِ الرّوِيّ فَلَمْ يَقْبَلْ عُذْرَهُ وَوَجَدْت فِي رِسَالَةِ الْمُهَلْهَلِ بْنِ يَمُوتَ بْنِ الْمُزْرِعِ قَالَ قَالَ عَلِيّ بْنُ الْأَصْفَرِ وَكَانَ مِنْ رُوَاةِ أَبِي نُوَاسٍ قَالَ لَمّا عَمِلَ أَبُو نُوَاسٍ أَيّهَا الْمُنْتَابُ عَلَى عُفُرِهِ
أَنْشَدَنِيهَا فَلَمّا بَلَغَ قَوْلَهُ
كَيْفَ لَا يُدْنِيك مِنْ أَمَلٍ ... مَنْ رَسُولُ اللّهِ مِنْ نَفَرِهِ
وَقَعَ لِي أَنّهُ كَلَامٌ مُسْتَهْجَنٌ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ إذْ كَانَ حَقّ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَنْ يُضَافَ [ ص 135 ] أَحَدٍ ، فَقُلْت لَهُ أَعَرَفْت عَيْبَ هَذَا الْبَيْتِ ؟ قَالَ مَا يَعِيبُهُ إلّا جَاهِلٌ بِكَلَامِ الْعَرَبِ ، وَإِنّمَا أَرَدْت أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مِنْ الْقَبِيلِ الّذِي هَذَا الْمَمْدُوحُ مِنْهُ أَمَا سَمِعْت قَوْلَ حَسّانِ بْنِ ثَابِتِ شَاعِرِ دِينِ الْإِسْلَامِ
وَمَا زَالَ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ آلِ هَاشِمٍ ... دَعَائِمُ عِزّ لَا نُرَامُ وَمَفْخَرُ
بَهَالِيلُ مِنْهُمْ جَعْفَرٌ وَابْنُ أُمّهِ ... عَلِيّ وَمَعَهُمْ أَحْمَدُ الْمُتَخَيّرُ
وَقَوْلُهُ
بِهِمْ تُفْرَجُ اللّأْوَاءُ فِي كُلّ مَأْزِقٍ ... عِمَاسٍ . . ... الْمَأْزِقُ الْمَضِيقُ مِنْ مَضَائِقِ الْحَرْبِ وَالْخُصُومَةِ وَهُوَ مِنْ أَزَقْت الشّيْءَ إذَا ضَيّقْته ، وَفِي قِصّةِ ذِي الرّمّةِ قَالَ سَمِعْت غُلَامًا يَقُولُ لِغِلْمَةِ قَدْ أَزَقْتُمْ هَذِهِ الْأُوقَةَ حَتّى جَعَلْتُمُوهَا كَالْمِيمِ ثُمّ أَدْخَلَ مَنْجَمَهُ يَعْنِي : عَقِبَةً فِيهَا ، فَنَجْنَجَهُ حَتّى أَفْهَقَهَا ، أَيْ حَرّكَهُ حَتّى وَسّعَهَا . وَالْعِمَاسُ الْمُظْلِمُ وَالْأَعْمَسُ الضّعِيفُ الْبَصَرُ وَحُفْرَةٌ مُعَمّسَةٌ أَيْ مُغَطّاةٌ قَالَ الشّاعِرُ
فَإِنّك قَدْ غَطّيْت أَرْجَاءَ هُوّةٍ ... مُعَمّسَةٍ لَا يُسْتَبَانُ تُرَابُهَا
بِثَوْبِك فِي الظّلْمَاءِ ثُمّ دَعَوْتنِي ... فَجِئْت إلَيْهَا سَادِرًا لَا أَهَابُهَا
أَنْشَدَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيّ فِي خَبَرٍ لِزُرَارَةَ بْنِ عُدُسٍ .

شِعْرُ كَعْبٍ فِي بُكَاءِ قَتْلَى مُؤْتَةَ
وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ : [ ص 136 ] [ ص 137 ]
قَامَ الْعُيُونُ وَدَمْعُ عَيْنِك يَهْمُلُ ... سَحّا كَمَا وَكَفَ الطّبَابُ الْمُخْضِلُ
فِي لَيْلَةٍ وَرَدَتْ عَلَيّ هُمُومُهَا ... طَوْرًا أَخِنّ وَتَارَةً أَتَمَلْمَلُ
وَاعْتَادَنِي حُزْنٌ فَبِتّ كَأَنّنِي ... بِبَنَاتِ نَعْشٍ وَالسّمَاكِ مُوَكّلُ
وَكَأَنّمَا بَيْنَ الْجَوَانِحِ وَالْحَشَى ... مِمّا تَأَوّبَنِي شِهَابٌ مُدْخَلُ
وَجْدًا عَلَى النّفَرِ الّذِينَ تَتَابَعُوا ... يَوْمًا بِمُؤْتَة ِ أُسْنِدُوا لَمْ يُنْقَلُوا
صَلّى الْإِلَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ فِتْيَةٍ ... وَسَقَى عِظَامَهُمْ الْغَمَامُ الْمُسَبّلُ
صَبَرُوا بِمُؤْتَة ِ لِلْإِلَهِ نُفُوسَهُمْ ... حَذَرَ الرّدَى وَمَخَافَةَ أَنْ يَنْكُلُوا
فَمَضَوْا أَمَامَ الْمُسْلِمِينَ كَأَنّهُمْ ... فُنُقٌ عَلَيْهِنّ الْحَدِيدُ الْمُرْفَلُ
إذْ يَهْتَدُونَ بِجَعْفَرِ وَلِوَائِهِ ... قُدّامَ أَوّلِهِمْ فَنِعْمَ الْأَوّلُ
حَتّى تَفَرّجَتْ الصّفُوفُ وَجَعْفَرٌ ... حَيْثُ الْتَقَى وَعْثُ الصّفُوفِ مُجَدّلُ
فَتَغَيّرَ الْقَمَرُ الْمُنِيرُ لِفَقْدِهِ ... وَالشّمْسُ قَدْ كَسَفَتْ وَكَادَتْ تَأْفِلُ
قَرْمٌ عَلَا بُنْيَانُهُ مِنْ هَاشِمٍ ... فَرْعًا أَشَمّ وَسُؤْدُدًا مَا يُنْقَلُ
قَوْمٌ بِهِمْ عَصَمَ الْإِلَهُ عِبَادَهُ ... وَعَلَيْهِمْ نَزَلَ الْكِتَابُ الْمُنْزَلُ
فَضَلُوا الْمَعَاشِرَ عِزّةً وَتَكَرّمًا ... وَتَغَمّدَتْ أَحْلَامُهُمْ مَنْ يَجْهَلُ
لَا يُطْلِقُونَ إلَى السّفَاهِ حُبَاهُمْ ... وَيُرَى خَطِيبُهُمْ بِحَقّ يَفْصِلُ
بِيضُ الْوُجُوهِ تُرَى بُطُونُ أَكُفّهُمْ ... تَنْدَى إذَا اعْتَذَرَ الزّمَانُ الْمُمْحِلُ
وَبِهَدْيِهِمْ رَضِيَ الْإِلَهُ لِخَلْقِهِ ... وَبِجَدّهِمْ نُصِرَ النّبِيّ الْمُرْسَلُ
Sحَوْلُ شِعْرِ كَعْبٍ
وَذَكَرَ شِعْرَ كَعْبٍ وَفِيهِ سَحّا كَمَا وَكَفَ الطّبَابُ الْمُخْضِلُ
[ ص 136 ] جَمْعُ طِبَابَةٍ وَهِيَ سَيْرٌ بَيْنَ خَرَزَتَيْنِ فِي الْمَزَادَةِ فَإِذَا كَانَ غَيْرَ مُحْكَمٍ وَكَفَ مِنْهُ الْمَاءُ وَالطّبَابُ أَيْضًا : جَمْعُ طَبّةٍ وَهِيَ شِقّةٌ مُسْتَطِيلَةٌ . وَقَوْلُهُ طَوْرًا أَخِنّ . الْخَنِينُ بِالْخَاءِ الْمَنْقُوطَةِ حَنِينٌ بِبُكَاءِ فَإِذَا كَانَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ فَلَيْسَ مَعَهُ بُكَاءٌ وَلَا دَمْعٌ .
الِاسْتِقَاءُ لِلْقُبُورِ عِنْدَ الْعَرَبِ
وَقَوْلُهُ وَسَقَى عِظَامَهُمْ الْغَمَامُ الْمُسْبِلُ
يَرُدّ قَوْلَ مَنْ قَالَ إنّمَا اسْتَسْقَتْ الْعَرَبُ لِقُبُورِ أَحِبّتِهَا لِتَخْصَبَ أَرْضُهَا فَلَا يَحْتَاجُونَ إلَى الِانْتِقَالِ عَنْهَا لِمَطْلَبِ النّجْعَةِ فِي الْبِلَادِ . وَقَالَ قَاسِمُ بْنُ ثَابِتٍ فِي الدّلَائِلِ فَهَذَا كَعْبٌ يَسْتَسْقِي لِعِظَامِ الشّهَدَاءِ بِمُؤْتَة ِ وَلَيْسَ مَعَهُمْ وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْآخَرِ
سَقَى مُطْغِيَاتِ الْمَحْلِ جُودًا وَدِيمَةً ... عِظَامَ ابْنِ لَيْلَى حَيْثُ كَانَ رَمِيمُهَا
فَقَوْلُهُ حَيْثُ كَانَ رَمِيمُهَا يَدُلّ عَلَى أَنّهُ لَيْسَ مُقِيمًا مَعَهُ وَإِنّمَا اسْتِسْقَاؤُهُمْ لِأَهْلِ الْقُبُورِ اسْتِرْحَامٌ لَهُمْ لِأَنّ السّقْيَ رَحْمَةٌ وَضِدّهَا عَذَابٌ . وَقَوْلُهُ كَأَنّهُمْ فُنُقٌ جَمْعُ : فَنِيقٍ وَهُوَ الْفَحْلُ كَمَا قَالَ الْآخَرُ وَهُوَ طُخَيْمٌ
مَعِي كُلّ فَضْفَاضِ الرّدَاءِ كَأَنّهُ ... إذَا مَا سَرَتْ فِيهِ الْمُدَامُ فَنِيقُ
[ ص 137 ]
فَتَغَيّرَ الْقَمَرُ الْمُنِيرُ لِفَقْدِهِ ... وَالشّمْسُ قَدْ كَسَفَتْ وَكَادَتْ تَأْفِلُ
قَوْلُهُ حَقّ ، لِأَنّهُ إنْ كَانَ عَنَا بِالْقَمَرِ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَجَعَلَهُ قَمَرًا ، ثُمّ جَعَلَهُ شَمْسًا ، فَقَدْ كَانَ تَغَيّرَ بِالْحُزْنِ لِفَقْدِ جَعْفَرٍ وَإِنْ كَانَ أَرَادَ الْقَمَرَ نَفْسَهُ فَمَعْنَى الْكَلَامِ وَمَغْزَاهُ حَقّ أَيْضًا ، لِأَنّ الْمَفْهُومَ مِنْهُ تَعْظِيمُ الْحُزْنِ وَالْمُصَابِ وَإِذَا فُهِمَ مَغْزَى الشّاعِرِ فِي كَلَامِهِ وَالْمُبَالِغُ فِي الشّيْءِ فَلَيْسَ بِكَذِبِ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ أَمّا أَبُو جَهْمٍ فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ أَرَادَ بِهِ الْمُبَالَغَةَ فِي شِدّةِ أَدَبِهِ لِأَهْلِهِ فَكَلَامُهُ كُلّهُ حَقّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي مِثْلِ قَوْلِ الشّاعِرِ [ طُفَيْلٍ الْغَنَوِيّ ] :
إذَا مَا غَضِبْنَا غَضْبَةً مُضَرِيّةً ... هَتَكْنَا حِجَابَ الشّمْسِ أَوْ قَطَرَتْ دَمًا
قَالَ إنّمَا أَرَادَ فَعَلْنَا فِعْلَةً شَنِيعَةً عَظِيمَةً فَضَرَبَ الْمَثَلَ بِهَتْكِ حِجَابِ الشّمْسِ وَفُهِمَ مَقْصِدُهُ فَلَمْ يَكُنْ كَذِبًا ، وَإِنّمَا الْكَذِبُ أَنْ يَقُولَ فَعَلْنَا ، وَهُمْ لَمْ يَفْعَلُوا ، وَقَتَلْنَا وَهُمْ لَمْ يَقْتُلُوا .

شِعْرُ حَسّانٍ فِي بُكَاءِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
[ ص 138 ] وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ يَبْكِي جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ
وَلَقَدْ بَكَيْت وَعَزّ مَهْلَكُ جَعْفَرٍ ... حِبّ النّبِيّ عَلَى الْبَرّيّةِ كُلّهَا
وَلَقَدْ جَزِعْت وَقُلْت حِينَ نُعِيت لِي ... مَنْ لِلْجِلَادِ لَدَى الْعُقَابِ وَظِلّهَا
بِالْبِيضِ حِينَ تُسَلّ مِنْ أَغْمَادِهَا ... ضَرْبًا وَإِنْهَالِ الرّمَاحِ وَعَلّهَا
بَعْدَ ابْنِ فَاطِمَةَ الْمُبَارَكِ جَعْفَرٍ ... خَيْرِ الْبَرّيّةِ كُلّهَا وَأَجَلّهَا
رُزْءًا وَأَكْرَمَهَا جَمِيعًا مُحْتَدّا ... وَأَعَزّهَا مُتَظَلّمًا وَأَذَلّهَا
لِلْحَقّ حِينَ يَنُوبُ غَيْرَ تَنَحّلٍ ... كَذِبًا وَأَنْدَاهَا يَدًا وَأَقَلّهَا
فُحْشًا وَأَكْثَرِهَا إذَا مَا يُحْتَدَى ... فَضْلًا وَأَبْذَلِهَا نَدَى وَأَبَلّهَا
بِالْعُرْفِ غَيْرَ مُحَمّدٍ لَا مِثْلُهُ ... حَيّ مِنْ أَحْيَاءِ الْبَرّيّةِ كُلّهَا
Sمِنْ شِعْرِ حَسّانٍ فِي رِثَاءِ جَعْفَرٍ
[ ص 138 ] وَذَكَرَ أَبْيَاتِ حَسّانٍ وَفِي بَعْضِهَا تَضْمِينٌ نَحْوَ قَوْلِهِ وَأَذَلّهَا ، ثُمّ قَالَ فِي أَوّلِ بَيْتٍ آخَرَ لِلْحَقّ وَكَذَلِكَ قَالَ فِي بَيْتٍ آخَرَ وَأَقَلّهَا ، وَقَالَ فِي الّذِي بَعْدَهُ فُحْشًا ، وَهَذَا يُسَمّى التّضْمِينُ . وَذَكَرَ قُدَامَةُ فِي كِتَابِ نَقْدِ الشّعْرِ أَنّهُ عَيْبٌ عِنْدَ الشّعَرَاءِ وَلَعَمْرِي إنّ فِيهِ مَقَالًا ، لِأَنّ آخِرَ الْبَيْتِ يُوقَفُ عَلَيْهِ فَيُوهِمُ الذّمّ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ وَأَذَلّهَا ، وَكَذَلِكَ وَأَقَلّهَا ، وَقَدْ غَلَبَ الزّبْرِقَانُ عَلَى الْمُخَبّلِ السّعْدِيّ وَاسْمُهُ كَعْبٌ بِكَلِمَةِ قَالَهَا الْمُخَبّلُ أَشْعَرَ مِنْهُ وَلَكِنّهُ لَمّا قَالَ يَهْجُوهُ
وَأَبُوك بَدْرٌ كَانَ يَنْتَهِزُ الْخُصْيَ ... وَأَبِي الْجَوَادُ رَبِيعَةُ بْنِ قِتَالِ
وَصَلَ الْكَلَامَ بِقَوْلِهِ وَأَبِي ، وَأَدْرَكَهُ بُهْرٌ أَوْ سُعْلَةٌ فَقَالَ لَهُ الزّبْرِقَانُ فَلَا بَأْسَ إذًا ، فَضُحِكَ مِنْ الْمُخَبّلِ وَغَلَبَ عَلَيْهِ الزّبْرِقَانُ وَإِذَا كَانَ هَذَا مَعِيبًا فِي وَسَطِ الْبَيْتِ فَأَحْرَى أَنْ يُعَابَ فِي آخِرِهِ إذَا كَانَ يُوهِمُ الذّمّ وَلَا يَنْدَفِعُ ذَلِكَ الْوَهْمُ إلّا بِالْبَيْتِ الثّانِي ، فَلَيْسَ هَذَا مِنْ التّحْصِينِ عَلَى الْمَعَانِي وَالتّوَقّي لِلِاعْتِرَاضِ .

شِعْرُ حَسّانٍ فِي بُكَاءِ ابْنِ حَارِثَةَ وَابْنِ رَوَاحَةَ
[ ص 139 ] وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ فِي يَوْمِ مُؤْتَةَ يَبْكِي زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ وَعَبْدَ اللّهِ بْنَ رَوَاحَةَ :
عَيْنِ جُودِي بِدَمْعِك الْمَنْزُورِ ... وَاذْكُرِي فِي الرّخَاءِ أَهْلَ الْقُبُورِ
وَاذْكُرِي مُؤْتَةَ وَمَا كَانَ فِيهَا ... يَوْمَ رَاحُوا فِي وَقْعَةِ التّغْوِيرِ
حِينَ رَاحُوا وَغَارُوا ثُمّ زَيْدٌ ... نِعْمَ مَأْوَى الضّرِيكِ وَالْمَأْسُورِ
حِبّ خَيْرِ الْأَنَامِ طُرّا جَمِيعًا ... سَيّدَ النّاسِ حُبّهُ فِي الصّدُورِ
ذَاكُمْ أَحْمَدُ الّذِي لَا سِوَاهُ ... ذَاكَ حُزْنِي لَهُ مَعًا وَسُرُورِي
إنّ زَيْدًا قَدْ كَانَ مِنّا بِأَمْرِ ... لَيْسَ أَمْرَ الْمُكَذّبِ الْمَغْرُورِ
ثُمّ جُودِي لِلْخَزْرَجِيّ بِدَمْعِ ... سَيّدًا كَانَ تَمّ غَيْرَ نَزُورِ
قَدْ أَتَانَا مِنْ قَتْلِهِمْ مَا كَفَانَا ... فَبِحُزْنِ نَبِيتُ غَيْرَ سُرُورِ
[ ص 140 ] وَقَالَ شَاعِرٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِمّنْ رَجَعَ مِنْ غَزْوَةِ مُؤْتَةَ :
كَفَى حُزْنًا أَنّي رَجَعْت وَجَعْفَرٌ ... وَزَيْدٌ وَعَبْدُ اللّهِ فِي رَمْسِ أَقْبُرِ
قَضَوْا نَحْبَهُمْ لَمّا مَضَوْا لِسَبِيلِهِمْ ... وَخُلِفْت لِلْبَلْوَى مَعَ الْمُتَغَبّرِ
ثَلَاثَةُ رَهْطٍ قُدّمُوا فَتَقَدّمُوا ... إلَى ِرْدٍ مَكْرُوهٍ مِنْ الْمَوْتِ أَحْمَرِ
S[ ص 139 ] عَيْنِ جُودِي بِدَمْعِك الْمَنْزُورِ
النّزْرُ الْقَلِيلُ وَلَا يَحْسُنُ هَهُنَا ذِكْرُ الْقَلِيلِ وَلَكِنّهُ مَنْ نَزَرْت الرّجُلَ إذَا أَلَحَجْت عَلَيْهِ وَنَزَرْت الشّيْءَ إذَا اسْتَنْفَدْته ، وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ - رَحِمَهُ اللّهُ - نَزَرْت رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - الْأَصَحّ فِيهِ التّخْفِيفُ قَالَ الشّاعِرُ
فَخُذْ عَفْوَ مَنْ تَهْوَاهُ لَا تَنْزُرَنهُ ... فَعِنْدَ بُلُوغِ الْكَدَرِ نَقّ الْمَشَارِبَ
وَقَوْلُهُ يَوْمَ رَاحُوا فِي وَقْعَةِ التّغْوِيرِ
هُوَ مَصْدَرُ غَوّرْت إذَا تَوَسّطَ الْقَائِلَةَ مِنْ النّهَارِ وَيُقَالُ أَيْضًا : أَغْوَرُ فَهُوَ مُغْوِرٌ وَفِي حَدِيثِ الْإِفْكِ مُغْوِرِينَ فِي نَحْرِ الظّهِيرَةِ وَإِنّمَا صَحّتْ الْوَاوُ فِي مُغْوِرٍ وَفِي أَغْوَرَ مِنْ هَذَا ، لِأَنّ الْفِعْلَ بُنِيَ فِيهِ عَلَى الزّوَائِدِ كَمَا يُبْنَى اسْتَحْوَذَ وَأُغِيلَتْ الْمَرْأَةُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ أَغَارَ عَلَى الْعَدُوّ وَلَا أَغَارَ الْحَبْلَ .

شُهَدَاءُ مُؤْتَةَ
وَهَذِهِ تَسْمِيَةُ مَنْ اُسْتُشْهِدَ يَوْمَ مُؤْتَةَ : مِنْ قُرَيْشٍ ، ثُمّ مِنْ بَنِي هَاشِم ٍ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ . وَمِنْ بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ : مَسْعُودُ بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ نَضْلَةَ وَمِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ حِسْلٍ : وَهْبُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ . وَمِنْ الْأَنْصَارِ ثُمّ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ : عَبْدُ اللّهِ بْنُ رَوَاحَةَ ، وَعَبّادُ بْنُ قَيْسٍ . وَمِنْ بَنِي غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النّجّارِ : الْحَارِثُ بْنُ النّعْمَانِ بْنِ أَسَافِ بْنِ نَضْلَةَ بْنِ عَبْدِ بْنِ عَوْفِ بْنِ غَنْمٍ . وَمِنْ بَنِي مَازِنِ بْنِ النّجّار ِ سُرَاقَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَطِيّةَ ابْنِ خَنْسَاءَ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَمِمّنْ اُسْتُشْهِدَ يَوْمَ مُؤْتَةَ ، فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ شِهَابٍ . مِنْ بَنِي مَازِنِ بْنِ النّجّارِ : أَبُو كُلَيْبٍ وَجَابِرٌ ابْنَا عَمْرِو بْنِ زَيْدِ بْنِ عَوْفِ بْنِ مَبْذُولٍ وَهُمَا لِأَبٍ وَأُمّ . وَمِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ أَفْصَى : عَمْرٌو وَعَامِرٌ ابْنَا سَعْدِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبّادِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَامِرِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ أَفْصَى . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ أَبُو كِلَابٍ وَجَابِرٌ ابْنَا عَمْرٍو .
S[ ص 140 ] وَذَكَرَ فِيمَنْ اُسْتُشْهِدَ بِمُؤْتَة ِ أَبَا كُلَيْبِ بْنَ أَبِي صَعْصَعَةَ . وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ : فِيهِ أَبُو كِلَابٍ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَهُمْ وَقَالَ أَبُو عُمَرَ لَا يُعْرَفُ فِي الصّحَابَةِ أَحَدٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو كُلَيْبٍ .

ذِكْرُ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ الْمَسِيرَ إلَى مَكّةَ وَذِكْرُ فَتْحِ مَكّةَ
فِي شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ
قَالَ [ ص 141 ] ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ أَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعْدَ بَعْثِهِ إلَى مُؤْتَة َ جُمَادَى الْآخِرَةِ وَرَجَبًا . ثُمّ إنّ بَنِي بَكْرِ بْنَ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ عَدَتْ عَلَى خُزَاعَةَ ، وَهُمْ عَلَى مَاءٍ لَهُمْ بِأَسْفَلِ مَكّةَ يُقَالُ لَهُ الْوَتِيرُ ، وَكَانَ الّذِي هَاجَ مَا بَيْنَ بَنِي بَكْرٍ وَخُزَاعَةَ أَنّ رَجُلًا مِنْ بَنِي الْحَضْرَمِيّ وَاسْمُهُ مَالِكُ بْنُ عَبّادٍ - وَحِلْفُ الْحَضْرَمِيّ يَوْمَئِذٍ إلَى الْأَسْوَدِ بْنِ رَزْنٍ - خَرَجَ تَاجِرًا ، فَلَمّا تَوَسّطَ أَرْضَ خُزَاعَةَ ، عَدَوْا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ وَأَخَذُوا مَالَهُ فَعَدَتْ بَنُو بَكْرٍ عَلَى رَجُلٍ مِنْ خُزَاعَةَ فَقَتَلُوهُ فَعَدَتْ خُزَاعَةُ قُبَيْلَ الْإِسْلَامِ عَلَى بَنِي الْأَسْوَدِ بْنِ رَزْنِ الدّيلِيّ - وَهُمْ مَنْخِرُ بَنِي كِنَانَةَ وَأَشْرَافُهُمْ - سَلْمَى وَكُلْثُومٌ وَذُؤَيْبٌ - فَقَتَلُوهُمْ بِعَرَفَةَ عِنْدَ أَنْصَابِ الْحَرَمِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي الدّيلِ ، قَالَ كَانَ بَنُو الْأَسْوَدِ بْنِ رَزْنٍ يُؤَدّونَ فِي الْجَاهِلِيّةِ دِيَتَيْنِ دِيَتَيْنِ وَنُودِيَ دِيَةً دِيَةً لِفَضْلِهِمْ فِينَا . [ ص 142 ] ابْنُ إسْحَاقَ : فَبَيْنَا بَنُو بَكْرٍ وَخُزَاعَةَ عَلَى ذَلِكَ حَجَزَ بَيْنَهُمْ الْإِسْلَامُ وَتَشَاغَلَ النّاسُ بِهِ . فَلَمّا كَانَ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ بَيْنَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ ، كَانَ فِيمَا شَرَطُوا لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَشَرَطَ لَهُمْ كَمَا حَدّثَنِي الزّهْرِيّ ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ ، عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ عُلَمَائِنَا : أَنّهُ مَنْ أَحَبّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَعَهْدِهِ فَلْيَدْخُلْ فِيهِ وَمَنْ أَحَبّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ فَلْيَدْخُلْ فِيهِ فَدَخَلَتْ بَنُو بَكْرٍ فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ وَدَخَلَتْ خُزَاعَةُ فِي عَقْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَعَهْدِهِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا كَانَتْ الْهُدْنَةُ اغْتَنَمَهَا بَنُو الدّيلِ مِنْ بَنِي بَكْرٍ مِنْ خُزَاعَةَ ، وَأَرَادُوا أَنْ يُصِيبُوا مِنْهُ ثَأْرًا بِأُولَئِكَ النّفَرِ الّذِينَ أَصَابُوا مِنْهُمْ بِبَنِي الْأَسْوَدِ بْنِ رِزْنٍ فَخَرَجَ نَوْفَلُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الدّيلِيّ فِي بَنِي الدّيلِ ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ قَائِدُهُمْ وَلَيْسَ كُلّ بَنِي بَكْرٍ تَابَعَهُ حَتّى بَيْتِ خُزَاعَةَ وَهُمْ عَلَى الْوَتِيرِ ، مَاءٍ لَهُمْ فَأَصَابُوا مِنْهُمْ رَجُلًا ، وَتَحَاوَزُوا وَاقْتَتَلُوا ، وَرَفَدَتْ بَنِي بَكْرٍ قُرَيْشٌ بِالسّلَامِ وَقَاتَلَ مَعَهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ مَنْ قَاتَلَ بِاللّيْلِ مُسْتَخْفِيًا ، حَتّى حَازُوا خُزَاعَةَ إلَى الْحَرَمِ ، فَلَمّا انْتَهَوْا إلَيْهِ قَالَتْ بَنُو بَكْرٍ يَا نَوْفَلُ إنّا قَدْ دَخَلْنَا الْحَرَمَ ، إلَهَك إلَهَك ، فَقَالَ كَلِمَةٌ عَظِيمَةٌ لَا إلَهَ لَهُ الْيَوْمَ يَا بَنِي بَكْرٍ أَصِيبُوا ثَأْرَكُمْ فَلَعَمْرِي إنّكُمْ لَتَسْرِقُونَ فِي الْحَرَمِ ، أَفَلَا تُصِيبُونَ ثَأْرَكُمْ فِيهِ وَقَدْ أَصَابُوا مِنْهُمْ لَيْلَةَ بَيّتُوهُمْ بِالْوَتِيرِ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ مُنَبّهٌ وَكَانَ مُنَبّهٌ رَجُلًا مَفْئُودًا خَرَجَ هُوَ وَرَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ يُقَالُ لَهُ تَمِيمُ بْنِ أَسَدٍ ، وَقَالَ لَهُ مُنَبّهٌ يَا تَمِيمُ اُنْجُ بِنَفْسِك ، فَأَمّا أَنَا فَوَاَللّهِ إنّي لَمَيّتٌ قَتَلُونِي أَوْ تَرَكُونِي لَقَدْ أَنّبْت فُؤَادِي ، وَانْطَلَقَ تَمِيمٌ فَأَفْلَتَ وَأَدْرَكُوا مُنَبّهًا فَقَتَلُوهُ فَلَمّا دَخَلَتْ خُزَاعَةُ مَكّةَ ، لَجَئُوا إلَى دَارِ بُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ وَدَارِ مَوْلًى لَهُمْ يُقَالُ لَهُ رَافِعٌ فَقَالَ تَمِيمُ بْنُ أَسَدٍ يَعْتَذِرُ مِنْ فِرَارِهِ عَنْ مُنَبّهٍ .
شِعْرُ تَمِيمٍ فِي الِاعْتِذَارِ مِنْ فِرَارِهِ عَنْ مُنَبّهٍ
[ ص 143 ]
لَمّا رَأَيْت بَنِي نُفَاثَةَ أَقْبَلُوا ... يَغْشَوْنَ كُلّ وَتِيرَةٍ وَحِجَابِ
صَخْرًا وَرَزْنًا لَا عَرِيبَ سِوَاهُمْ ... يُزْجُونَ كُلّ مُقَلّصٍ خِنّابِ
وَذَكَرْت ذَحْلًا عِنْدَنَا مُتَقَادِمًا ... فِيمَا مَضَى مِنْ سَالِفِ الْأَحْقَابِ
وَنَشَيْتُ رِيحَ الْمَوْتِ مِنْ تِلْقَائِهِمْ ... وَرَهِبْت وَقْعَ مُهَنّدٍ قَضّابِ
وَعَرَفْت أَنّ مَنْ يَثْقُفُوهُ يَتْرُكُوا ... لَحْمًا لِمُجْرِيَةِ وَشِلْوَ غُرَابِ
قَوّمْت رِجْلًا لَا أَخَافُ عِثَارَهَا ... وَطَرَحْت بِالْمَتْنِ الْعَرَاءِ ثِيَابِي
وَنَجَوْت لَا يَنْجُو نَجَائِي أَحْقَبُ ... عِلْجٌ أَقَبّ مُشَمّرُ الْأَقْرَابِ
تَلْحَى وَلَوْ شَهِدَتْ لَكَانَ نَكِيرُهَا ... بَوْلًا يَبُلّ مَشَافِرَ الْقَبْقَابِ
الْقَوْمُ أَعْلَمُ مَا تَرَكْت مُنَبّهًا ... عَنْ طِيبِ نَفْسٍ فَاسْأَلِي أَصْحَابِي
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَتُرْوَى لِحَبِيبِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ ( الْأَعْلَمِ ) الْهُذَلِيّ وَبَيْتُهُ " وَذَكَرْت ذَحْلًا عِنْدَنَا مُتَقَادِمًا " عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ وَقَوْلُهُ " خِنّابِ " و " عِلْجٌ أَقَبّ مُشَمّرُ الْأَقْرَابِ " عَنْهُ أَيْضًا .
Sبَدْءُ فَتْحِ مَكّةَ
ذَكَرَ [ ص 141 ] وَذَكَرَ الشّيْخُ الْحَافِظُ أَبُو بَحْرٍ أَنّ أَبَا الْوَلِيدِ أَصْلَحَهُ رِزْنًا بِكَسْرِ الرّاءِ قَالَ وَالرّزْنُ نُقْرَةٌ فِي حَجَرٍ يُمْسِكُ الْمَاءَ وَفِي كِتَابِ الْعَيْنِ الرّزْنُ أَكَمَةٌ تُمْسِكُ الْمَاءَ وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ وَذَكَرَ أَنّ بَنِي رِزْنٍ مِنْ بَنِي بَكْرٍ وَقَدْ قِيلَ فِيهِ الدّئِلُ وَقَدْ أَشْبَعْنَا الْقَوْلَ فِيهِ فِي أَوّلِ الْكِتَابِ وَمَا قَالَهُ اللّغَوِيّونَ وَالنّسّابُونَ وَذَكَرْنَا هُنَالِكَ كُلّ دِيلٍ فِي الْعَرَبِ ، وَكُلّ دُوَلٍ وَالْحَمْدُ لِلّهِ . [ ص 142 ]
حَوْلَ شِعْرِ تَمِيمٍ
وَذَكَرَ شِعْرَ تَمِيمِ بْنِ أَسَدٍ ، وَفِيهِ يُزْجُونَ كُلّ مُقَلّصٍ خِنّابِ [ ص 143 ] وَقَعَ ذَلِكَ فِي الْجَمْهَرَةِ وَيُقَالُ الْخِنّابُ الْوَاسِعُ الْمَنْخِرَيْنِ وَالْخِنّابَةُ جَانِبُ الْأَنْفِ وَفِي الْعَيْنِ الْخِنّابُ الرّجُلُ الضّخْمُ وَهُوَ الْأَحْمَقُ أَيْضًا ، وَالْمُقَلّصُ مِنْ الْخَيْلِ الْمُنْضَمّ الْبَطْنِ وَالْقَوَائِمِ وَإِنْ قُلْت : الْمُقَلّصُ بِكَسْرِ اللّامِ فَهُوَ مِنْ قَلَصَتْ الْإِبِلُ إذَا شَمّرَتْ قَالَهُ صَاحِبُ الْعَيْنِ . وَفِيهِ ظِلّ عُقَابِ وَهِيَ الرّايَةُ وَكَانَ اسْمُ رَايَةِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - الْعُقَابَ وَالدّلِيلُ عَلَى أَنّهُ يُقَالُ لِكُلّ رَايَةٍ عُقَابٌ قَوْلُ قَطَرِيّ بْنِ الْفُجَاءَةِ وَيُكَنّى أَبَا نَعَامَةَ رَئِيسَ الْخَوَارِجِ :
يَا رُبّ ظِلّ عُقَابٍ قَدْ وَفَيْت بِهَا ... مُهْرِي مِنْ الشّمْسِ وَالْأَبْطَالُ تَجْتَلِدُ
وَفِيهِ يَبُلّ مَشَافِرَ الْقَبْقَابِ الْقَبْقَابُ أَرَادَ بِهِ الْفَرْجَ وَالْقَبْقَبُ وَالْقَبْقَابُ الْبَطْنُ أَيْضًا .

شِعْرُ الْأَخْزَرِ فِي الْحَرْبِ بَيْنَ كِنَانَةَ وَخُزَاعَةَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ الْأَخْزَرُ بْنُ لُعْطٍ الدّيلِيّ فِيمَا كَانَ بَيْنَ كِنَانَةَ وَخُزَاعَةَ فِي تِلْكَ الْحَرْبِ [ ص 144 ]
أَلَا هَلْ أَتَى قُصْوَى الْأَحَابِيشِ أَنّنَا ... رَدَدْنَا بَنِي كَعْبٍ بِأَفْوَقَ نَاصِلِ
حَبَسْنَاهُمْ فِي دَارَةِ الْعَبْدِ رَافِعٍ ... وَعِنْدَ بُدَيْلٍ مَحْبِسًا غَيْرَ طَائِلِ
بِدَارِ الذّلِيلِ الْآخِذِ الضّيْمِ بَعْدَمَا ... شَفَيْنَا النّفُوسَ مِنْهُمْ بِالْمَنَاصِلِ
حَبَسْنَاهُمْ حَتّى إذَا طَالَ يَوْمُهُمْ ... نَفَخْنَا لَهُمْ مِنْ كُلّ شِعْبٍ بِوَابِلِ
نُذَبّحْهُمُ ذَبْحَ التّيُوسِ كَأَنّنَا ... أُسُودٌ تَبَارَى فِيهُمُ بِالْقَوَاصِلِ
هُمْ ظَلَمُونَا وَاعْتَدَوْا فِي مَسِيرِهِمْ ... وَكَانُوا لَدَى الْأَنْصَابِ أَوّلَ قَاتِلِ
كَأَنّهُمْ بِالْجِزْعِ إذْ يَطْرُدُونَهُمْ ... قَفَا ثَوْرَ حَفّانُ النّعَامِ الْجَوَافِلِ
بُدَيْلٌ يَرُدّ عَلَى الْأَخْزَرِ
فَأَجَابَهُ [ ص 145 ] بُدَيْلُ بْنُ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْأَجَبّ وَكَانَ يُقَالُ لَهُ بَدِيلُ ابْنِ أُمّ أَصْرَمَ ، فَقَالَ
تَفَاقَدَ قَوْمٌ يَفْخَرُونَ وَلَمْ نَدَعْ ... لَهُمْ سَيّدًا يَنْدُوهُمُ غَيْرَ نَافِلِ
أَمِنْ خِيفَةِ الْقَوْمِ الْأُلَى تَزْدَرِيهِمْ ... تُجِيزُ الْوَتِيرَ خَائِفًا غَيْرَ آيِلِ
وَفِي كُلّ يَوْمٍ نَحْنُ نَحْبُو حِبَاءَنَا ... لِعَقْلِ وَلَا يُحْبَى لَنَا فِي الْمَعَاقِلِ
وَنَحْنُ صَبَحْنَا بِالتّلَاعَةِ دَارَكُمْ ... بِأَسْيَافِنَا يَسْبِقْنَ لَوْمَ الْعَوَاذِلِ
وَنَحْنُ مَنَعْنَا بَيْنَ بَيْضٍ وَعِتْوَدٍ ... إلَى خَيْفِ رَضْوَى مِنْ مَجَرّ الْقَنَابِلِ
وَيَوْمَ الْغَمِيمِ قَدْ تَكَفّتَ سَاعِيًا ... عُبَيْسٌ فَجَعْنَاهُ بِجَلْدِ حُلَاحِلِ
أَإِنْ أَجْمَرْت فِي بَيْتِهَا أُمّ بَعْضِكُمْ ... بِجُعْمُوسِهَا تَنْزُونَ أَنْ لَمْ نُقَاتِلْ
كَذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللّهِ مَا إنْ قَتَلْتُمْ ... وَلَكِنْ تَرَكْنَا أَمْرَكُمْ فِي بَلَابِلِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ [ ص 146 ] خَيْفِ رَضْوَى " عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ .
شِعْرُ حَسّانٍ فِي الْحَرْبِ بَيْنَ كِنَانَةَ وَخُزَاعَةَ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ فِي ذَلِكَ
لَحَا اللّهُ قَوْمًا لَمْ نَدَعْ مِنْ سَرَاتِهِمْ ... لَهُمْ أَحَدًا يَنْدُوهُمُ غَيْرَ نَاقِبِ
أَخُصْيَيْ حِمَارٍ مَاتَ بِالْأَمْسِ نَوْفَلًا ... مَتَى كُنْت مِفْلَاحًا عَدُوّ الْحَقَائِبِ
Sحَوْلَ شِعْرِ الْأَخْزَرِ
وَذَكَرَ قَوْلَ الْأَخْزَرِ وَفِيهِ قَفَا ثَوْرَ حَفّانُ النّعَامِ الْجَوَافِلِ قَفَا ثَوْرَ [ ص 144 ] وَقَفَا ظَرْفٌ لِلْفِعْلِ الّذِي قَبْلَهُ وَقَالَ قَفَا ثَوْرَ وَلَمْ يُنَوّنْ لِأَنّهُ اسْمُ عَلَمٍ مَعَ ضَرُورَةِ الشّعْرِ وَقَدْ تَكَلّمْنَا عَلَى هَذَا فِيمَا قَبْلُ وَلَوْ قَالَ قَفَا ثَوْرَ بِنَصْبِ الرّاءِ وَجَعَلَهُ غَيْرَ مُنْصَرِفٍ لَمْ يَبْعُدْ لِأَنّ مَا لَا تَنْوِينَ فِيهِ وَهُوَ غَيْرُ مُعْرَبٍ بِأَلِفِ وَلَامٍ وَلَا إضَافَةٍ فَلَا يَدْخُلُهُ الْخَفْضُ لِئَلّا يُشْبِهَ مَا يُضِيفُهُ الْمُتَكَلّمُ إلَى نَفْسِهِ وَقَفَا ثَوْرَ بِهَذَا اللّفْظِ تَقَيّدَ فِي الْأَصْلِ وَظَاهِرُ كَلَامِ الْبَرْقِيّ فِي شَرْحِ هَذَا الْبَيْتِ أَنّهُ بِفَاثُورَ لِأَنّهُ قَالَ الْفَاثُورُ سَبِيكَةُ الْفِضّةِ وَكَأَنّهُ شَبّهَ الْمَكَانَ بِالْفِضّةِ لِنِقَائِهِ وَاسْتِوَائِهِ فَإِنْ كَانَتْ الرّوَايَةُ كَمَا قَالَ فَهُوَ اسْمُ مَوْضِعٍ وَالْفَاثُورُ خِوَانٌ مِنْ فِضّةٍ وَيُقَالُ . إبْرِيقٌ مِنْ فِضّةٍ قِيلَ ذَلِكَ فِي قَوْلِ جَمِيلٍ وَصَدْرٍ كَفَاثُورِ اللّجَيْنِ وَجِيدُ وَفِي قَوْلِ لَبِيَدٍ
حَقَائِبُهُمْ رَاحٌ عَتِيقٌ وَدَرْمَكٌ ... وَمِسْكٌ وَفَاثُورِيّةٌ وَسُلَاسِلُ
وَكَمَا قَالَ الْبَرْقِيّ : أَلْفَيْته فِي نُسَخٍ صَحِيحَةٍ سِوَى نُسْخَةِ الشّيْخِ وَإِنْ صَحّ مَا فِي نُسْخَةِ الشّيْخِ فَهُوَ كَلَامٌ حُذِفَ مِنْهُ وَمَعْنَاهُ قَفَا فَاثُورَ ، وَحَسُنَ حَذْفُ الْفَاءِ الثّانِيَةِ كَمَا حَسُنَ حَذْفُ اللّامِ الثّانِيَةِ فِي قَوْلِهِمْ عُلَمَاءُ بَنِي فُلَانٍ لَا سِيّمَا مَعَ ضَرُورَةِ الشّعْرِ وَتَرْكِ الصّرْفِ لِأَنّهُ جَعَلَهُ اسْمَ بُقْعَةٍ وَمِنْ الشّاهِدِ عَلَى أَنّ فَاثُورَ اسْمُ بُقْعَةٍ قَوْلُ لَبِيَدٍ
وَيَوْمَ طَعَنْتُمْ فَاسْمَعَدّتْ وُفُودُكُمْ ... بِأَجْمَادِ فَاثُورٍ كَرِيمِ مُصَابِرِ
أَيْ أَنَا كَرِيمٌ مُصَابِرٌ وَلِذَلِكَ قَالَ الْبَكْرِيّ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ اخْتِلَافًا ، وَقَالَ هُوَ اسْمُ جَبَلٍ يَعْنِي فَاثُورَ ، وَقَالَ ابْنُ مُقْبِلٍ
حَيّ مَحَاضِرُهُمْ شَتّى وَجَمْعُهُمْ ... دَوْمُ الْإِيَادِ وَفَاثُورٌ إذَا انْتَجَعُوا
وَقَالَ لَبِيدٌ [ ص 145 ]
وَلَدَى النّعْمَانِ مِنّي مَوْطِنٌ ... بَيْنَ فَاثُورِ آفَاقٍ فَالدّخَلْ
وَحَقّانُ النّعَامِ صِغَارُهَا ، وَهُوَ مَرْفُوعٌ لِأَنّهُ خَبَرُ كَأَنّ . حَوْلُ شِعْرِ بُدَيْلٍ وَذَكَرَ شِعْرَ بُدَيْلِ ابْنِ أُمّ أَصْرَمَ ، وَفِيهِ غَيْرُ آيِلٍ هُوَ فَاعِلٌ مِنْ آلَ إذَا رَجَعَ وَلَكِنّهُ قَلَبَ الْهَمْزَةَ الّتِي هِيَ بَدَلٌ مِنْ الْوَاوِ يَاءً لِئَلّا تَجْتَمِعَ هَمْزَتَانِ وَكَانَتْ الْيَاءُ أَوْلَى بِهَا لِانْكِسَارِهَا . وَفِيهِ ذِكْرُ عُيَيْسٍ وَوَقَعَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْكِتَابِ عُبَيْسٌ بِالْبَاءِ الْمَنْقُوطَةِ بِوَاحِدَةِ مِنْ أَسْفَلَ . وَفِيهِ
أَإِنْ أَجْمَرْت فِي بَيْتِهَا أُمّ بَعْضِكُمْ ... بِجُعْمُوسِهَا ....... ... [ ص 146 ]

شِعْرُ عَمْرٍو الْخُزَاعِيّ لِلرّسُولِ يَسْتَنْصِرُهُ وَرَدّهُ عَلَيْهِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا تَظَاهَرَتْ بَنُو بَكْرٍ وَقُرَيْشٌ عَلَى خُزَاعَةَ ، وَأَصَابُوا مِنْهُمْ مَا أَصَابُوا ، وَنَقَضُوا مَا كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ بِمَا اسْتَحَلّوا مِنْ خُزَاعَةَ ، وَكَانَ فِي عَقْدِهِ وَعَهْدِهِ خَرَجَ عَمْرُو بْنُ سَالِمٍ الْخُزَاعِيّ ، ثُمّ أَحَدُ بَنِي كَعْبٍ حَتّى قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ ، وَكَانَ ذَلِكَ مِمّا هَاجَ فَتْحَ مَكّةَ ، فَوَقَفَ عَلَيْهِ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ بَيْنَ ظَهْرَانِيّ النّاسِ فَقَالَ [ ص 147 ]
يَا رَبّ إنّي نَاشِدٌ مُحَمّدًا ... حِلْفَ أَبِينَا وَأَبِيهِ الْأَتْلَدَا
قَدْ كُنْتُمْ وُلْدًا وَكُنّا وَالِدًا ... ثُمّتَ أَسْلَمْنَا فَلَمْ نَنْزِعْ يَدَا
فَانْصُرْ هَدَاك اللّهُ نَصْرًا أَعْتَدَا ... وَادْعُ عِبَادَ اللّهِ يَأْتُوا مَدَدَا
فِيهِمْ رَسُولُ اللّهِ قَدْ تَجَرّدَا ... إنْ سِيمَ خَسْفًا وَجْهُهُ تَرَبّدَا
فِي فَيْلَقٍ كَالْبَحْرِ يَجْرِي مُزْبِدًا ... إنّ قُرَيْشًا أَخْلَفُوك الْمَوْعِدَا
وَنَقَضُوا مِيثَاقَك الْمُوَكّدَا ... وَجَعَلُوا لِي فِي كَدَاءٍ رُصّدَا
وَزَعَمُوا أَنْ لَسْت أَدْعُو أَحَدًا ... وَهُمْ أَذَلّ وَأَقَلّ عَدَدَا
هُمْ بَيّتُونَا بِالْوَتِيرِ هُجّدًا ... وَقَتَلُونَا رُكّعًا وَسُجّدَا
يَقُولُ قُتِلْنَا وَقَدْ أَسْلَمْنَا . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُرْوَى أَيْضًا : فَانْصُرْ هَدَاك اللّهُ نَصْرًا أَيّدَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُرْوَى أَيْضًا : نَحْنُ وَلَدْنَاك فَكُنْت وَلَدًا قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " نُصِرْت يَا عَمْرُو بْنُ سَالِمٍ " ثُمّ عُرِضَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنَانٌ مِنْ السّمَاءِ فَقَالَ إنّ هَذِهِ السّحَابَةَ لَتَسْتَهِلّ بِنَصْرِ بَنِي كَعْبٍ [ ص 148 ]
ابْنُ وَرْقَاءَ يَشْكُو إلَى الرّسُولِ بِالْمَدِينَةِ
ثُمّ خَرَجَ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ فِي نَفَرٍ مِنْ خُزَاعَةَ حَتّى قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ ، فَأَخْبَرُوهُ بِمَا أُصِيبَ مِنْهُمْ وَبِمُظَاهَرَةِ قُرَيْشٍ بَنِي بَكْرٍ عَلَيْهِمْ ثُمّ انْصَرَفُوا رَاجِعِينَ إلَى مَكّةَ ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِلنّاسِ " كَأَنّكُمْ بِأَبِي سُفْيَانَ قَدْ جَاءَكُمْ لِيَشُدّ الْعَقْدَ وَيَزِيدَ فِي الْمُدّةِ " . وَمَضَى بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ وَأَصْحَابُهُ حَتّى لَقَوْا أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ بِعُسْفَانَ قَدْ بَعَثَتْهُ قُرَيْشٌ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِيَشُدّ الْعَقْدَ وَيَزِيدَ فِي الْمُدّةِ وَقَدْ رَهِبُوا الّذِي صَنَعُوا . فَلَمّا لَقِيَ أَبُو سُفْيَانَ بُدَيْلَ بْنَ وَرْقَاءَ قَالَ مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْت يَا بُدَيْلُ ؟ وَظَنّ أَنّهُ قَدْ أَتَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ تَسَيّرْت فِي خُزَاعَةَ فِي هَذَا السّاحِلِ ، وَفِي بَطْنِ هَذَا الْوَادِي ، قَالَ أَوَ مَا جِئْت مُحَمّدًا ؟ قَالَ لَا ؛ فَلَمّا رَاحَ بُدَيْلٌ إلَى مَكّةَ ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ لَئِنْ جَاءَ بُدَيْلٌ الْمَدِينَةَ لَقَدْ عَلَفَ بِهَا النّوَى فَأَتَى مَبْرَكَ رَاحِلَتِهِ فَأَخَذَ مِنْ بَعْرِهَا فَفَتّهُ فَرَأَى فِيهِ النّوَى ، فَقَالَ أَحْلِفُ بِاَللّهِ لَقَدْ جَاءَ بُدَيْلٌ مُحَمّدًا .
Sحَوْلَ شِعْرِ عَمْرِو بْنِ سَالِمٍ
وَذَكَرَ أَبْيَاتِ عَمْرِو بْنِ سَالِمٍ وَفِيهَا : قَدْ كُنْتُمْ وُلْدًا وَكُنّا وَالِدًا يُرِيدُ أَنّ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ أُمّهُمْ مِنْ خُزَاعَةَ ، وَكَذَلِكَ قُصَيّ أُمّهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ سَعْدٍ الْخُزَاعِيّةُ وَالْوُلْدُ بِمَعْنَى الْوَلَدِ . وَقَوْلُهُ ثُمّتَ أَسْلَمْنَا ، هُوَ مِنْ السّلْمِ لِأَنّهُمْ لَمْ يَكُونُوا آمَنُوا بَعْدُ غَيْرَ أَنّهُ قَالَ رُكّعًا وَسُجّدَا ، فَدَلّ عَلَى أَنّهُ كَانَ فِيهِمْ مَنْ صَلّى لِلّهِ فَقُتِلَ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . [ ص 147 ] وَذَكَرَ فِيهِ الْوَتِيرَ ، وَهُوَ اسْمُ مَاءٍ مَعْرُوفٍ فِي بِلَادِ خُزَاعَةَ ، وَالْوَتِيرُ فِي اللّغَةِ الْوَرْدُ الْأَبْيَضُ وَقَدْ يَكُونُ مِنْهُ بَرّيّ ، فَمُحْتَمَلٌ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَاءُ سُمّيَ بِهِ وَأَمّا الْوَرْدُ الْأَحْمَرُ فَهُوَ الْحَوْجَمُ وَيُقَالُ لِلْوَرْدِ كُلّهِ جَلّ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَكَأَنّ لَفْظَ الْحَوْجَمِ مِنْ الْحَجْمَةِ وَهِيَ حُمْرَةٌ فِي الْعَيْنَيْنِ يُقَالُ مِنْهُ رَجُلٌ أَحْجَمُ .

أَبُو سُفْيَانَ يُحَاوِلُ الْمُصَالَحَةَ
ثُمّ خَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ حَتّى قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ ، فَدَخَلَ عَلَى ابْنَتِهِ أُمّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ ، فَلَمّا ذَهَبَ لِيَجْلِسَ عَلَى فِرَاشِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ طَوَتْهُ عَنْهُ فَقَالَ يَا بُنَيّةُ مَا أَدْرِي أَرَغِبْت بِي عَنْ هَذَا الْفِرَاشِ أَمْ رَغِبْت بِهِ عَنّي ؟ قَالَ بَلْ هُوَ فِرَاشُ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَأَنْتَ رَجُلٌ مُشْرِكٌ نَجِسٌ وَلَمْ أُحِبّ أَنْ تَجْلِسَ عَلَى فِرَاشِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ وَاَللّهِ لَقَدْ أَصَابَك يَا بُنَيّةُ بَعْدِي شَرّ . ثُمّ خَرَجَ حَتّى أَتَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَكَلّمَهُ لَمْ يَرُدّ عَلَيْهِ شَيْئًا ، ثُمّ ذَهَبَ إلَى أَبِي بَكْرٍ ، فَكَلّمَهُ أَنْ يُكَلّمَ لَهُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ مَا أَنَا بِفَاعِلِ ثُمّ أَتَى عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ فَكَلّمَهُ فَقَالَ أَأَنَا أَشْفَعُ لَكُمْ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ؟ فَوَاَللّهِ لَوْ لَمْ أَجِدْ إلّا الذّرّ لَجَاهَدْتُكُمْ بِهِ . ثُمّ خَرَجَ فَدَخَلَ عَلَى عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِ وَعِنْدَهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَرَضِيَ عَنْهَا ، وَعِنْدَهَا حَسَنُ بْنُ عَلِيّ غُلَامٌ يَدِبّ بَيْنَ يَدَيْهَا ، فَقَالَ يَا عَلِيّ ، إنّك أَمَسّ الْقَوْمِ بِي رَحِمًا ، وَإِنّي قَدْ جِئْت فِي حَاجَةٍ فَلَا أَرْجِعَن كَمَا جِئْت خَائِبًا ، فَاشْفَعْ لِي إلَى رَسُولِ اللّهِ فَقَالَ وَيْحَك يَا أَبَا سُفْيَانَ وَاَللّهِ لَقَدْ عَزَمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى أَمْرٍ مَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نُكَلّمَهُ فِيهِ . فَالْتَفَتَ إلَى فَاطِمَةَ فَقَالَ يَا ابْنَةَ مُحَمّدٍ ، هَلْ لَك أَنْ تَأْمُرِي بُنَيّك هَذَا فَيُجِيرَ بَيْنَ النّاسِ فَيَكُونَ سَيّدَ الْعَرَبِ إلَى آخِرِ الدّهْرِ ؟ قَالَتْ وَاَللّهِ مَا بَلَغَ بُنَيّ ذَاكَ أَنْ يُجِيرَ بَيْنَ النّاسِ وَمَا يُجِيرُ أَحَدٌ عَلَى رَسُولِ [ ص 149 ] اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ يَا أَبَا الْحَسَنِ إنّي أَرَى الْأُمُورَ قَدْ اشْتَدّتْ عَلَيّ فَانْصَحْنِي ؛ قَالَ وَاَللّهِ مَا أَعْلَمُ لَك شَيْئًا يُغْنِي عَنْك شَيْئًا ، وَلَكِنّك سَيّدُ بَنِي كِنَانَةَ فَقُمْ فَأَجِرْ بَيْنَ النّاسِ ثُمّ الْحَقْ بِأَرْضِك ؛ قَالَ أَوَ تَرَى ذَلِكَ مُغْنِيًا عَنّي شَيْئًا ؟ قَالَ لَا وَاَللّهِ مَا أَظُنّهُ وَلَكِنّي لَا أَجِدُ لَك غَيْرَ ذَلِكَ . فَقَامَ أَبُو سُفْيَانَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ أَيّهَا النّاسُ إنّي قَدْ أَجَرْت بَيْنَ النّاسِ . ثُمّ رَكِبَ بَعِيرَهُ فَانْطَلَقَ فَلَمّا قَدِمَ عَلَى قُرَيْشٍ ، قَالُوا : مَا وَرَاءَك ؟ قَالَ جِئْت مُحَمّدًا فَكَلّمْته ، فَوَاَللّهِ مَا رَدّ عَلَيّ شَيْئًا ، ثُمّ جِئْت ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ فَلَمْ أَجِدْ فِيهِ خَيْرًا ، ثُمّ جِئْت ابْنَ الْخَطّابِ فَوَجَدْته أَعْدَى الْعَدُوّ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَعْدَى الْعَدُوّ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ جِئْت عَلِيّا فَوَجَدْته أَلْيَنَ الْقَوْمِ وَقَدْ أَشَارَ عَلَيّ بِشَيْءِ صَنَعْته ، فَوَاَللّهِ مَا أَدْرِي هَلْ يُغْنِي ذَلِكَ شَيْئًا أَمْ لَا ؟ قَالُوا : وَبِمَ أَمَرَك ؟ قَالَ أَمَرَنِي أَنْ أُجِيرَ بَيْنَ النّاسِ فَفَعَلْت ، قَالُوا : فَهَلْ أَجَازَ ذَلِكَ مُحَمّدٌ ؟ قَالَ لَا ، قَالُوا : وَيْلَك وَاَللّهِ إنْ زَادَ الرّجُلُ عَلَى أَنْ لَعِبَ بِك ، فَمَا يُغْنِي عَنْك مَا قُلْت . قَالَ لَا وَاَللّهِ مَا وَجَدْت غَيْرَ ذَلِكَ
Sمَا قَالَ عُمَرُ لِأَبِي سُفْيَانَ وَمَعْنَاهُ
وَذَكَرَ قَوْلَ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فَوَاَللّهِ لَوْ لَمْ أَجِدْ إلّا الذّرّ لَجَاهَدْتُكُمْ بِهِ وَهُوَ كَلَامٌ مَفْهُومُ الْمَعْنَى ، وَقَدْ تَقَدّمَ أَنّ مِثْلَ هَذَا لَيْسَ بِكَذِبِ وَإِنْ كَانَ الذّرّ لَا يُقَاتَلُ بِهِ وَكَذَلِكَ قَوْلُ عُمَرَ فِي حَدِيثِ الْمُوَطّأِ " وَاَللّهِ لَيَمُرّن بِهِ وَلَوْ عَلَى بَطْنِك " ، يَعْنِي الْجَدْوَلَ وَهُوَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ لَا يُعَدّ كَذِبًا ، لِأَنّهُ جَرَى فِي كَلَامِهِمْ كَالْمَثَلِ . [ ص 148 ] فَاطِمَةَ لِأَبِي سُفْيَانَ وَذَكَرَ قَوْلَ فَاطِمَةَ وَاَللّهِ مَا بَلَغَ بُنَيّ أَنْ يُجِيرَ بَيْنَ النّاسِ وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ هَذَا مُحْتَجّا [ ص 149 ] أَجَازَ أَمَانَ الصّبِيّ وَجِوَارَهُ وَمَنْ أَجَازَ جِوَارَ الصّبِيّ إنّمَا أَجَازَهُ إذَا عَقَلَ الصّبِيّ ، وَكَانَ كَالْمُرَاهِقِ . وَقَوْلُهَا : وَلَا يُجِيرُ أَحَدٌ عَلَى رَسُولِ اللّهِ وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السّلَامُ " يُجِيرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَدْنَاهُم " ، فَمَعْنَى هَذَا - وَاَللّهُ أَعْلَمُ - كَالْعَبْدِ وَنَحْوِهِ يَجُوزُ جِوَارُهُ فِيمَا قَلّ مِثْلَ أَنْ يُجِيرَ وَاحِدًا مِنْ الْعَدُوّ أَوْ نَفَرًا يَسِيرًا ، وَأَمّا أَنْ يُجِيرَ عَلَى الْإِمَامِ قَوْمًا يُرِيدُ الْإِمَامُ غَزْوَهُمْ وَحَرْبَهُمْ فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَلَا عَلَى الْإِمَامِ وَهَذَا هُوَ الّذِي أَرَادَتْ فَاطِمَةُ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا - وَاَللّهُ أَعْلَمُ وَأَمّا جِوَارُ الْمَرْأَةِ وَتَأْمِينُهَا فَجَائِزٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْفُقَهَاءِ إلّا سَحْنُونٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ فَإِنّهُمَا قَالَا : هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى إجَازَةِ الْإِمَامِ وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السّلَامُ لِأُمّ هَانِئٍ " قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْت يَا أُمّ هَانِئٍ " ، وَرُوِيَ مَعْنَى قَوْلِهِمَا عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ . وَأَمّا جِوَارُ الْعَبْدِ فَجَائِزٌ إلّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَوْلُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُجِيرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَدْنَاهُمْ يَدْخُلُ فِيهِ الْعَبْدُ وَالْمَرْأَةُ .

الرّسُولُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُعِدّ لِفَتْحِ مَكّةَ
وَأَمَر َ [ ص 150 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْجِهَازِ وَأَمَرَ أَهْلَهُ أَنْ يُجَهّزُوهُ فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى ابْنَتِهِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا ، وَهِيَ تُحَرّكُ بَعْضَ جِهَازِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ أَيْ بُنَيّةُ أَأَمَرَكُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ تُجَهّزُوهُ ؟ قَالَتْ نَعَمْ فَتَجَهّزَ قَالَ فَأَيْنَ تَرَيْنَهُ يُرِيدُ ؟ قَالَتْ ( لَا ) وَاَللّهِ مَا أَدْرِي . ثُمّ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَعْلَمَ النّاسَ أَنّهُ سَائِرٌ إلَى مَكّةَ ، وَأَمَرَهُمْ بِالْجِدّ وَالتّهَيّؤِ وَقَالَ اللّهُمّ خُذْ الْعُيُونَ وَالْأَخْبَارَ عَنْ قُرَيْشٍ حَتّى نَبْغَتَهَا فِي بِلَادِهَا فَتَجَهّزَ النّاسُ .
حَسّانُ يُحَرّضُ النّاسَ
فَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ يُحَرّضُ النّاسَ وَيَذْكُرُ مُصَابَ رِجَالِ خُزَاعَةَ :
عَنَانِي وَلَمْ أَشْهَدْ بِبَطْحَاءِ مَكّةَ ... رِجَالُ بَنِي كَعْبٍ تُحَزّ رِقَابُهَا
بِأَيْدِي رِجَالٍ لَمْ يَسُلّوا سُيُوفَهُمْ ... وَقَتْلَى كَثِيرٌ لَمْ تُجَنّ ثِيَابُهَا
أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ تَنَالَن نُصْرَتِي ... سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَخْزُهَا وَعُقَابُهَا
وَصَفْوَانُ عَوْدٌ حَنّ مِنْ شُفْرِ اسْتِهِ ... فَهَذَا أَوَانُ الْحَرْبِ شُدّ عُصَابُهَا
فَلَا تَأْمَنَنّا يَا ابْنَ أُمّ مُجَالِدٍ ... إذَا اُحْتُلِبَتْ صِرْفًا وَأَعْصَلَ نَابُهَا
وَلَا تَجْزَعُوا مِنّا فَإِنّ سُيُوفَنَا ... لَهَا وَقْعَةٌ بِالْمَوْتِ يُفْتَحُ بَابُهَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَوْلُ حَسّانٍ بِأَيْدِي رِجَالٍ لَمْ يَسُلّوا سُيُوفَهُمْ يَعْنِي قُرَيْشًا ، " وَابْنَ أُمّ مُجَالِدٍ " يَعْنِي عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ .

كِتَابُ حَاطِبٍ إلَى قُرَيْشٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزّبَيْرِ ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ وَغَيْرِهِ [ ص 151 ] قَالُوا : لَمّا أَجْمَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَسِيرَ إلَى مَكّةَ كَتَبَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ كِتَابًا إلَى قُرَيْشٍ يُخْبِرُهُمْ بِاَلّذِي أَجْمَعَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الْأَمْرِ فِي السّيْرِ إلَيْهِمْ ثُمّ أَعْطَاهُ امْرَأَةً زَعَمَ مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ أَنّهَا مِنْ مُزَيْنَةَ ، وَزَعَمَ لِي غَيْرُهُ أَنّهَا سَارّةُ مَوْلَاةٌ لِبَعْضِ بَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، وَجَعَلَ لَهَا جُعْلًا عَلَى أَنْ تُبَلّغَهُ قُرَيْشًا ، فَجَعَلَتْهُ فِي رَأْسِهَا ثُمّ فَتَلَتْ عَلَيْهِ قُرُونَهَا ، ثُمّ خَرَجَتْ بِهِ وَأَتَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْخَبَرُ مِنْ السّمَاءِ بِمَا صَنَعَ حَاطِبٌ فَبَعَثَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَالزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا ، فَقَالَ أَدْرَكَا امْرَأَةً قَدْ كَتَبَ مَعَهَا حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ بِكِتَابِ إلَى قُرَيْشٍ ، يُحَذّرُهُمْ مَا قَدْ أَجْمَعْنَا لَهُ فِي أَمْرِهِمْ فَخَرَجَا حَتّى أَدْرَكَاهَا بِالْخُلَيْقَةِ خُلَيْقَةِ بَنِي أَبِي أَحْمَدَ فَاسْتَنْزَلَاهَا ، فَالْتَمَسَاهُ فِي رَحْلِهَا ، فَلَمْ يَجِدَا شَيْئًا ، فَقَالَ لَهَا عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ : إنّي أَحْلِفُ بِاَللّهِ مَا كُذِبَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَا كُذِبْنَا ، وَلَتُخْرِجَن لَنَا هَذَا الْكِتَابَ أَوْ لَنَكْشِفَنّكِ فَلَمّا رَأَتْ الْجِدّ مِنْهُ قَالَتْ أَعْرِضْ فَأَعْرَضَ فَحَلّتْ قُرُونَ رَأْسِهَا ، فَاسْتَخْرَجَتْ الْكِتَابَ مِنْهَا ، فَدَعَتْهُ إلَيْهِ فَأَتَى بِهِ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَدَعَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَاطِبًا ، فَقَالَ " يَا حَاطِبُ مَا حَمَلَك عَلَى هَذَا " ؟ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ أَمَا وَاَللّهِ إنّي لَمُؤْمِنٌ بِاَللّهِ وَرَسُولِهِ مَا غَيّرْت وَلَا بَدّلْت ، وَلَكِنّي كُنْت امْرِئِ لَيْسَ لِي فِي الْقَوْمِ مِنْ أَصْلٍ وَلَا عَشِيرَةٍ ، وَكَانَ لِي بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ وَلَدٌ وَأَهْلٌ فَصَانَعْتهمْ [ ص 152 ] فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ ، يَا رَسُولَ اللّهِ دَعْنِي فَلْأَضْرِبْ عُنُقَهُ فَإِنّ الرّجُلَ قَدْ نَافَقَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " وَمَا يُدْرِيك يَا عُمَرُ لَعَلّ اللّهَ قَدْ اطّلَعَ إلَى أَصْحَابِ بَدْرٍ يَوْمَ بَدْرٍ " فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ، فَقَدْ غَفَرْت لَكُمْ . فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِي حَاطِبٍ { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لَا تَتّخِذُوا عَدُوّي وَعَدُوّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدّةِ } إلَى قَوْلِهِ { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتّى تُؤْمِنُوا بِاللّهِ وَحْدَهُ } إلَى آخِرِ الْقِصّةِ . الْمُمْتَحِنَةِ .
Sحَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ وَمَا كَانَ فِي كِتَابِهِ
فَصْلٌ [ ص 150 ] وَذَكَرَ كِتَابَ حَاطِبٍ إلَى قُرَيْشٍ ، وَهُوَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ مَوْلَى عَبْدِ اللّهِ بْنِ حُمَيْدِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى ، وَالْبَلْتَعَةُ فِي اللّغَةِ التّظَرّفُ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ ، وَاسْمُ أَبِي [ ص 151 ] بَلْتَعَةَ عَمْرٌو ، وَهُوَ لَخْمِيّ ، فِيمَا ذَكَرُوا ، وَمِنْ ذُرّيّتِهِ زِيَادُ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ [ بْنِ زِيَادٍ ] الْأَنْدَلُسِيّ الّذِي رَوَى الْمُوَطّأَ عَنْ مَالِكٍ ، وَهُوَ زِيَادُ شَبْطُونَ وَكَانَ قَاضِي طُلَيْطِلَةَ وَكَانَ شَبْطُونُ زَوْجًا لِأُمّهِ فَصُرِفَ بِهِ رَحِمَهُ اللّهُ وَقَدْ قِيلَ إنّهُ كَانَ فِي الْكِتَابِ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ تَوَجّهَ إلَيْكُمْ بِجَيْشِ كَاللّيْلِ يَسِيرُ كَالسّيْلِ وَأُقْسِمُ بِاَللّهِ لَوْ سَارَ إلَيْكُمْ وَحْدَهُ لَنَصَرَهُ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَإِنّهُ مُنْجِزٌ لَهُ مَا وَعَدَهُ وَفِي تَفْسِيرِ [ يَحْيَى ] بْنِ سَلّامٍ أَنّهُ كَانَ فِي الْكِتَابِ الّذِي كَتَبَهُ حَاطِبٌ أَنّ النّبِيّ مُحَمّدًا قَدْ نَفَرَ إمّا إلَيْكُمْ وَإِمّا إلَى غَيْرِكُمْ فَعَلَيْكُمْ الْحَذَرَ .
تَصْحِيفُ هُشَيْمٍ لِخَاخٍ
وَذَكَرَ أَنّ عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَالزّبَيْرَ وَالْمِقْدَادَ أَدْرَكُوهَا بِرَوْضَةِ خَاخٍ بِخَاءَيْنِ مَنْقُوطَتَيْنِ وَكَانَ هُشَيْمٌ يَرْوِيهِ حَاجٍ بِالْحَاءِ وَالْجِيمِ وَهُوَ مِمّا حُفِظَ مِنْ تَصْحِيفِ هُشَيْمٍ ، وَكَذَلِكَ كَانَ يَرْوِي : سَدّادًا مِنْ عَوْنِ [ بْنِ أَبِي شَدّادٍ ] بِفَتْحِ السّينِ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ أَبِي بُرْدَةَ يَقُولُ فِيهِ بَرْزَةُ بِالزّايِ وَفَتْحِ الْبَاءِ فِي تَصْحِيفِ كَثِيرٍ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ ثَبْتٌ مُتّفَقٌ عَلَى عَدَالَتِهِ عَلَى أَنّ الْبُخَارِيّ ، قَدْ ذَكَرَ عَنْ أَبِي عَوَانَةَ أَيْضًا أَنّهُ قَالَ فِيهِ حَاجٍ كَمَا قِيلَ عَنْ هُشَيْمٍ ، فَاَللّهُ أَعْلَمُ وَفِي هَذَا الْخَبَرِ مِنْ رِوَايَةِ الشّيْبَانِيّ أَنّ عَائِشَةَ قَالَتْ دَخَلَ عَلَيّ أَبُو بَكْرٍ وَأَنَا أُغَرْبِلُ حِنْطَةً لَنَا ، فَسَأَلَنِي وَذَكَرَ بَاقِيَ الْحَدِيثِ وَفِيهِ مِنْ الْفِقْهِ أَكْلُهُمْ لِلْبُرّ وَإِنْ كَانَ أَغْلَبُ أَحْوَالِهِمْ أَكْلَ الشّعِيرِ وَلَا يُقَالُ حِنْطَةٌ إلّا لِلْبُرّ . [ ص 152 ]
تَفْسِيرُ { تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدّةِ }
فَصْلٌ وَذَكَرَ قَوْلَ اللّهِ عَزّ وَجَلّ فِي حَاطِبٍ { تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدّةِ } أَيْ تَبْذُلُونَهَا لَهُمْ وَدُخُولُ الْبَاءِ وَخُرُوجُهَا عِنْدَ الْفَرّاءِ سَوَاءٌ وَالْبَاءُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ لَا تُزَادُ فِي الْوَاجِبِ وَمَعْنَى الْكَلَامِ عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنْ الْبَصْرِيّينَ تُلْقُونَ إلَيْهِمْ النّصِيحَةَ بِالْمَوَدّةِ قَالَ النّحّاسُ مَعْنَاهُ تُخْبِرُونَهُمْ بِمَا يُخْبِرُ بِهِ الرّجُلُ أَهْلَ مَوَدّتِهِ وَهَذَا التّقْدِيرُ إنْ نَفَعَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَمْ يَنْفَعْ فِي مِثْلِ قَوْلِ الْعَرَبِ : أَلْقَى إلَيْهِ بِوِسَادَةِ أَوْ بِثَوْبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَيُقَالُ إذًا إنْ أَلْقَيْت تَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَنْ تُرِيدَ وَضْعَ الشّيْءِ فِي الْأَرْضِ فَتَقُولَ أَلْقَيْت السّوْطَ مِنْ يَدِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَالثّانِي : أَنْ تُرِيدَ مَعْنَى الرّمْيِ بِالشّيْءِ فَتَقُولَ أَلْقَيْت إلَى زَيْدٍ بِكَذَا : أَرْمَيْته بِهِ وَفِي الْآيَةِ إنّمَا هُوَ إلْقَاءٌ بِكِتَابِ وَإِرْسَالٌ بِهِ فَعَبّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالْمَوَدّةِ لِأَنّهُ مِنْ أَفْعَالِ أَهْلِ الْمَوَدّةِ فَمِنْ ثَمّ حَسُنَتْ الْبَاءُ لِأَنّهُ إرْسَالٌ بِشَيْءِ فَتَأَمّلْهُ .
قَتْلُ الْجَاسُوسِ
وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى قَتْلِ الْجَاسُوسِ فَإِنّ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ دَعْنِي فَلْأَضْرِبْ عُنُقَهُ فَقَالَ لَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " وَمَا يُدْرِيك يَا عُمَرُ لَعَلّ اللّهَ اطّلَعَ إلَى أَصْحَابِ بَدْرٍ " ، الْحَدِيثَ فَعَلّقَ حُكْمَ الْمَنْعِ مِنْ قَتْلِهِ بِشُهُودِ بَدْرٍ فَدَلّ عَلَى أَنّ مَنْ فَعَلَ مِثْلَ فِعْلِهِ وَلَيْسَ بِبَدْرِيّ أَنّهُ يُقْتَلُ . زَادَ الْبُخَارِيّ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ قَالَ فَاغْرَوْرَقَتْ عَيْنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - وَقَالَ اللّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ يَعْنِي حِينَ سَمِعَهُ يَقُولُ فِي أَهْلِ بَدْرٍ مَا قَالَ وَفِي مُسْنَدِ الْحَارِثِ أَنّ حَاطِبًا قَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ كُنْت عَزِيزًا فِي قُرَيْشٍ ، وَكَانَتْ أُمّي بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ فَأَرَدْت أَنْ يَحْفَظُونِي فِيهَا أَوْ نَحْوَ هَذَا ، ثُمّ فَسّرَ الْعَزِيزَ وَقَالَ هُوَ الْغَرِيبُ .

خُرُوجُ الرّسُولِ فِي رَمَضَانَ
قَالَ [ ص 153 ] ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ الزّهْرِيّ ، عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبّاسٍ ، قَالَ ثُمّ مَضَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِسَفَرِهِ وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ أَبَا رُهْمٍ كُلْثُومَ بْنَ حُصَيْنِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ خَلَفٍ الْغِفَارِيّ وَخَرَجَ لِعَشْرِ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ فَصَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَصَامَ النّاسُ مَعَهُ حَتّى إذَا كَانَ بِالْكُدَيْدِ بَيْنَ عُسْفَانَ وَأَمَجٍ أَفْطَرَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ مَضَى حَتّى نَزَلَ مَرّ الظّهْرَانِ فِي عَشْرَةِ آلَافٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَسَبّعَتْ سُلَيْمٌ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ أَلّفَتْ سُلَيْمٌ وَأَلّفَتْ مُزَيْنَةُ . وَفِي كُلّ الْقَبَائِلِ عَدَدٌ وَإِسْلَامٌ وَأَوْعَبَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ ، فَلَمْ يَتَخَلّفْ عَنْهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ ، فَلَمّا نَزَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَرّ الظّهْرَانِ ، وَقَدْ عُمّيَتْ الْأَخْبَارُ عَنْ قُرَيْشٍ ، فَلَمْ يَأْتِهِمْ خَبَرٌ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَا يَدْرُونَ مَا هُوَ فَاعِلٌ وَخَرَجَ فِي تِلْكَ اللّيَالِي أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْب ٍ وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ ، وَبُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ يَتَحَسّسُونَ الْأَخْبَارَ وَيَنْظُرُونَ هَلْ يَجِدُونَ خَبَرًا أَوْ يَسْمَعُونَ بِهِ وَقَدْ كَانَ الْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ لَقِيَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِبَعْضِ الطّرِيقِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : لَقِيَهُ بِالْجُحْفَةِ مُهَاجِرًا بِعِيَالِهِ وَقَدْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ مُقِيمًا بِمَكّةَ عَلَى سِقَايَتِهِ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْهُ رَاضٍ فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ شِهَابٍ الزّهْرِيّ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ كَانَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ قَدْ لَقِيَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَيْضًا بِنِيقِ الْعُقَابِ ، فِيمَا بَيْنَ مَكّةَ وَالْمَدِينَةِ ، فَالْتَمَسَا الدّخُولَ عَلَيْهِ فَكَلّمَتْهُ أُمّ سَلَمَةَ فِيهِمَا ، فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ ابْنُ عَمّك وَابْنُ عَمّتِك [ ص 154 ] قَالَ لَا حَاجَةَ لِي بِهِمَا ، أَمّا ابْنُ عَمّي فَهَتَكَ عِرْضِي ، وَأَمّا ابْنُ عَمّتِي وَصِهْرِي فَهُوَ الّذِي قَالَ لِي بِمَكّةَ مَا قَالَ . قَالَ فَلَمّا خَرَجَ الْخَبَرُ إلَيْهِمَا بِذَلِكَ وَمَعَ أَبِي سُفْيَانَ بُنَيّ لَهُ . فَقَالَ وَاَللّهِ لَيَأْذَنَن لِي أَوْ لَآخُذَن بِيَدِيّ بُنَيّ هَذَا ، ثُمّ لَنَذْهَبَنّ فِي الْأَرْضِ حَتّى نَمُوتَ عَطَشًا وَجَوْعًا ، فَلَمّا بَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَقّ لَهُمَا ، ثُمّ أَذِنَ لَهُمَا ، فَدَخَلَا عَلَيْهِ فَأَسْلَمَا وَأَنْشَدَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ قَوْلَهُ فِي إسْلَامِهِ وَاعْتَذَرَ إلَيْهِ مِمّا كَانَ مَضَى مِنْهُ فَقَالَ
لَعَمْرُك إنّي يَوْمَ أَحْمِلُ رَايَةً ... لِتَغْلِبَ خَيْلُ اللّاتِي خَيْلَ مُحَمّدِ
لَكَالْمُدْلِجِ الْحَيْرَانِ أَظْلَمَ لَيْلُهُ ... فَهَذَا أَوَانِي حِينَ أُهْدِي وَأَهْتَدِي
هَدَانِي هَادٍ غَيْرُ نَفْسِي وَنَالَنِي ... مَعَ اللّهِ مَنْ طَرّدْتُ كُلّ مُطَرّدِ
أَصُدّ وَأَنْأَى جَاهِدًا عَنْ مُحَمّدٍ ... وَأُدْعَى وَإِنْ لَمْ أَنْتَسِبْ مِنْ مُحَمّدِ
هُمْ مَا هُمْ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِهَوَاهُمْ ... وَإِنْ كَانَ ذَا رَأْيٍ يُلَمْ وَيُفَنّدْ
أُرِيدُ لِأَرْضِيهِمْ وَلَسْت بِلَائِطِ ... مَعَ الْقَوْمِ مَا لَمْ أُهْدَ فِي كُلّ مَقْعَدِ
فَقُلْ لِثَقِيفِ لَا أُرِيدُ قِتَالَهَا ... وَقُلْ لِثَقِيفِ تِلْكَ غَيْرِي أَوْعِدِي
فَمَا كُنْت فِي الْجَيْشِ الّذِي نَالَ عَامِرًا ... وَمَا كَانَ عَنْ جَرّا لِسَانِي وَلَا يَدِي
قَبَائِلُ جَاءَتْ مِنْ بِلَادٍ بَعِيدَةٍ ... نَزَائِعَ جَاءَتْ مِنْ سِهَامٍ وَسُرْدَدِ
[ ص 155 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُرْوَى " وَدَلّنِي عَلَى الْحَقّ مَنْ طَرّدْتُ كُلّ مُطَرّدِ " . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَزَعَمُوا أَنّهُ حِينَ أَنْشَدَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَوْلَهُ " وَنَالَنِي مَعَ اللّهِ مَنْ طَرّدْتُ كُلّ مُطَرّدِ " ضَرَبَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي صَدْرِهِ وَقَالَ " أَنْتَ طَرّدْتَنِي كُلّ مُطَرّدِ " .
Sعَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي أُمَيّةَ
وَذَكَرَ [ ص 153 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِأُمّ سَلَمَةَ حِينَ اسْتَأْذَنَتْهُ فِي أَخِيهَا عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُمَيّةَ وَأَمّا ابْنُ عَمّتِي وَصِهْرِي فَهُوَ الّذِي قَالَ لِي بِمَكّةَ مَا قَالَ يَعْنِي حِينَ قَالَ لَهُ وَاَللّهِ لَا آمَنْت بِك حَتّى تَتّخِذَ سُلّمًا إلَى السّمَاءِ فَتَعْرُجَ فِيهِ وَأَنَا أَنْظُرُ ثُمّ تَأْتِيَ بِصَكّ وَأَرْبَعَةٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ يَشْهَدُونَ لَك أَنّ اللّهَ قَدْ أَرْسَلَك وَقَدْ تَقَدّمَتْ هَذِهِ الْقِصّةُ . وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ هُوَ أَخُو أُمّ سَلَمَةَ لِأَبِيهَا ، وَأُمّهُ عَاتِكَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، وَأُمّ سَلَمَةَ أُمّهَا عَاتِكَةُ بِنْتُ جِذْلِ الطّعَانِ وَهُوَ عَامِرُ بْنُ قَيْسٍ الْفِرَاسِيّ ، وَاسْمُ أَبِي أُمَيّةَ حُذَيْفَةُ وَكَانَتْ عِنْدَهُ أَرْبَعُ عَوَاتِكَ قَدْ ذَكَرْنَا مِنْهُنّ هَهُنَا ثِنْتَيْنِ . [ ص 154 ]
عَنْ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ وَابْنِهِ وَقَصِيدَتِهِ
وَقَوْلُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ أَوْ لَآخُذَن بِيَدِ بُنَيّ هَذَا ، ثُمّ لَنَذْهَبَنّ فِي الْأَرْضِ . لَمْ يَذْكُرْ ابْنُ إسْحَاقَ اسْمَ ابْنِهِ ذَلِكَ وَلَعَلّهُ أَنْ يَكُونَ جَعْفَرًا ، فَقَدْ كَانَ إذْ ذَاكَ غُلَامًا مُدْرِكًا ، وَشَهِدَ مَعَ أَبِيهِ حُنَيْنًا ، وَمَاتَ فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ وَلَا عَقِبَ لَهُ . وَذَكَرَ الزّبَيْرَ لِأَبِي سُفْيَانَ وَلِذَا يُكَنّى أَبَا الْهِيَاجِ فِي حَدِيثٍ ذَكَرَهُ لَا أَدْرِي : أَهُوَ جَعْفَرٌ أَمْ غَيْرُهُ وَمَاتَ أَبُو سُفْيَانَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَقَالَ عِنْدَ مَوْتِهِ لَا تَبْكُنّ عَلَيّ فَإِنّي لَمْ أَنْتَطِفْ بِخَطِيئَةِ مُنْذُ أَسْلَمْت ، وَمَاتَ مِنْ ثُؤْلُولٍ حَلَقَهُ الْحَلّاقُ فِي حَجّ فَقَطَعَهُ مَعَ الشّعْرِ فَنَزَفَ مِنْهُ وَقِيلَ فِي اسْمِ أَبِي سُفْيَانَ الْمُغِيرَةُ وَقِيلَ بَلْ الْمُغِيرَةُ أَخُوهُ قَالَ الْقُتَبِيّ : إخْوَتُهُ الْمُغِيرَةُ وَنَوْفَلٌ وَعَبْدُ شَمْسٍ وَرَبِيعَةُ بَنُو الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ . [ ص 155 ] فُعْلَلٍ وَقَوْلُهُ نَزَائِعَ جَاءَتْ مِنْ سِهَامٍ وَسُرْدَدِ عَلَى وَزْنِ فَعَالٍ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَسُرْدَدِ بِضَمّ أَوّلِهِ وَإِسْكَانِ ثَانِيهِ هَكَذَا ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ وَيَعْقُوبُ وَبِفَتْحِ الدّالِ ذَكَرَهُ غَيْرُهُمَا ، وَهُمَا مَوْضِعَانِ مِنْ أَرْضِ عَكّ وَذَلِكَ أَنّ سِيبَوَيْهِ مِنْ أَصْلِهِ أَنّهُ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ فُعْلَلٌ بِالْفَتْحِ وَحَكَاهُ الْكُوفِيّونَ فِي جُنْدُبٍ وَسُرْدَدٍ وَغَيْرِهِمَا ، وَلَا يَنْبَغِي أَيْضًا عَلَى أَصْلِ سِيبَوَيْهِ أَنْ يَمْتَنِعَ الْفَتْحُ فِي سُرْدَدٍ لِأَنّ إحْدَى الدّالَيْنِ زَائِدَةٌ مِنْ أَجْلِ الضّعِيفِ وَإِنّمَا الّذِي يَمْتَنِعُ فِي الْأَبْنِيَةِ مِثْلُ جُعْفُرٍ بِضَمّ أَوّلِهِ وَفَتْحِ ثَانِيهِ فَمِثْلُ سُرْدَدٍ وَالسّودَدِ وَالْحُولَلِ جَمْعُ حَائِلٍ ، وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ طُحْلُبٍ وَيُرْفَعُ وَجُؤْذَرٍ فَهُوَ دَخِيلٌ فِي الْكَلَامِ وَلَا يُجْعَلُ أَصْلًا ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَيْضًا جُنْدَبٌ بِفَتْحِ الدّالِ لِأَنّ النّونَ زَائِدَةٌ .
عَوْدٌ إلَى أَبِي سُفْيَانَ
وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ رَضِيعَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَرْضَعَتْهُمَا حَلِيمَةُ وَكَانَ آلَفَ النّاسِ لَهُ قَبْلَ النّبُوّةِ لَا يُفَارِقُهُ فَلَمّا نُبّئَ كَانَ أَبْعَدَ النّاسِ عَنْهُ وَأَهْجَاهُمْ لَهُ إلَى أَنْ أَسْلَمَ ، فَكَانَ أَصَحّ النّاسِ إيمَانًا ، وَأَلْزَمَهُمْ لَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلِأَبِي سُفْيَانَ هَذَا قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " أَنْتَ يَا أَبَا سُفْيَانَ كَمَا قِيلَ كُلّ الصّيْدِ فِي جَوْفِ الْفَرَا " ، وَقِيلَ بَلْ قَالَهَا لِأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ وَالْأَوّلُ أَصَحّ .

قِصّةُ إسْلَامِ أَبِي سُفْيَانَ عَلَى يَدِ الْعَبّاسِ
فَلَمّا نَزَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَرّ الطّهْرَانِ قَالَ الْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، فَقُلْت : وَاصَبَاحَ قُرَيْشٍ ، وَاَللّهِ لَئِنْ دَخَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَكّةَ عَنْوَةً قَبْلَ أَنْ يَأْتُوهُ فَيَسْتَأْمِنُوهُ إنّهُ لَهَلَاكُ قُرَيْشٍ إلَى آخِرِ الدّهْرِ . قَالَ فَجَلَسْت عَلَى بَغْلَةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْبَيْضَاءِ فَخَرَجْت عَلَيْهَا . قَالَ حَتّى جِئْت الْأَرَاكَ ، فَقُلْت : لَعَلّي أَجِدُ بَعْضَ الْحَطّابَةِ أَوْ صَاحِبَ لَبَنٍ أَوْ ذَا [ ص 156 ] مَكّةَ ، فَيُخْبِرُهُمْ بِمَكَانِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِيَخْرُجُوا إلَيْهِ فَيَسْتَأْمِنُوهُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَهَا عَلَيْهِمْ عَنْوَةً . قَالَ فَوَاَللّهِ إنّي لَأَسِيرُ عَلَيْهَا ، وَأَلْتَمِسُ مَا خَرَجْت لَهُ إذْ سَمِعْت كَلَامَ أَبِي سُفْيَانَ وَبُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ وَهُمَا يَتَرَاجَعَانِ وَأَبُو سُفْيَانَ يَقُولُ مَا رَأَيْت كَاللّيْلَةِ نِيرَانًا قَطّ وَلَا عَسْكَرًا قَالَ يَقُولُ بُدَيْلٌ هَذِهِ وَاَللّهِ خُزَاعَةُ حَمَشَتْهَا الْحَرْبُ . قَالَ يَقُولُ أَبُو سُفْيَانَ خُزَاعَةُ أَذَلّ وَأَقَلّ مِنْ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ نِيرَانَهَا وَعَسْكَرَهَا ، قَالَ فَعَرَفْت صَوْتَهُ فَقُلْت : يَا أَبَا حَنْظَلَةَ فَعَرَفَ صَوْتِي ، فَقَالَ أَبُو الْفَضْلِ ؟ قَالَ قُلْت : نَعَمْ قَالَ مَا لَك ؟ فِدَاك أَبِي وَأُمّي قَالَ قُلْت : وَيْحَك يَا أَبَا سُفْيَانَ هَذَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي النّاسِ وَاصَبَاحَ قُرَيْشٍ وَاَللّهِ . قَالَ فَمَا الْحِيلَةُ ؟ فِدَاك أَبِي وَأُمّي ؟ قَالَ قُلْت وَاَللّهِ لَئِنْ ظَفِرَ بِك لَيَضْرِبَن عُنُقَك ، فَارْكَبْ فِي عَجُزِ هَذِهِ الْبَغْلَةِ حَتّى آتِي بِك رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَاسْتَأْمَنَهُ لَك ؛ قَالَ فَرَكِبَ خَلْفِي وَرَجَعَ صَاحِبَاهُ قَالَ فَجِئْت بِهِ كُلّمَا مَرَرْت بِنَارِ مِنْ نِيرَانِ الْمُسْلِمِينَ قَالُوا : مَنْ هَذَا ؟ فَإِذَا رَأَوْا بَغْلَةَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَنَا عَلَيْهَا ، قَالُوا : عَمّ رَسُولِ اللّهِ عَلَى بَغْلَتِهِ حَتّى مَرَرْت بِنَارِ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فَقَالَ مَنْ هَذَا ؟ وَقَامَ إلَيّ فَلَمّا رَأَى أَبَا سُفْيَانَ عَلَى عَجُزِ الدّابّةِ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ عَدُوّ اللّهِ الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي أَمْكَنَ مِنْك بِغَيْرِ عَقْدٍ وَلَا عَهْدٍ ثُمّ خَرَجَ يَشْتَدّ نَحْوَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَرَكَضْت الْبَغْلَةَ فَسَبَقْته بِمَا تَسْبِقُ الدّابّةُ الْبَطِيئَةُ الرّجُلَ الْبَطِيءَ قَالَ فَاقْتَحَمْت عَنْ الْبَغْلَةِ فَدَخَلْت عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَدَخَلَ عَلَيْهِ عُمَرُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ هَذَا أَبُو سُفْيَانَ قَدْ أَمْكَنَ اللّهُ مِنْهُ بِغَيْرِ عَقْدٍ وَلَا عَهْدٍ [ ص 157 ] قَالَ قُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ إنّي قَدْ أَجَرْته ، ثُمّ جَلَسْت إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَخَذْت بِرَأْسِهِ فَقُلْت : وَاَللّهِ لَا يُنَاجِيهِ اللّيْلَةَ دُونِي رَجُلٌ فَلَمّا أَكْثَرَ عُمَرُ فِي شَأْنِهِ قَالَ قُلْت : مَهْلًا يَا عُمَرُ فَوَاَللّهِ أَنْ لَوْ كَانَ مِنْ بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ مَا قُلْت هَذَا ، وَلَكِنّك قَدْ عَرَفْت أَنّهُ مِنْ رِجَالِ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ فَقَالَ مَهْلًا يَا عَبّاسُ فَوَاَللّهِ لَإِسْلَامُك يَوْمَ أَسْلَمْت كَانَ أَحَبّ إلَيّ مِنْ إسْلَامِ الْخَطّابِ لَوْ أَسْلَمَ ، وَمَا بِي إلّا أَنّي قَدْ عَرَفْت أَنّ إسْلَامَك كَانَ أَحَبّ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ إسْلَامِ الْخَطّابِ لَوْ أَسْلَمَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " اذْهَبْ بِهِ يَا عَبّاسُ إلَى رَحْلِك ، فَإِذَا أَصْبَحْت فَأْتِنِي بِهِ " ، قَالَ فَذَهَبْت بِهِ إلَى رَحْلِي ، فَبَاتَ عِنْدِي ، فَلَمّا أَصْبَحَ غَدَوْت بِهِ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَمّا رَآهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ " وَيْحَك يَا أَبَا سُفْيَانَ أَلَمْ يَأْنِ لَك أَنْ تَعْلَمَ أَنّهُ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ ؟ " قَالَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي مَا أَحْلَمَك وَأَكْرَمَك وَأَوْصَلَك ، وَاَللّهِ لَقَدْ ظَنَنْت أَنْ لَوْ كَانَ مَعَ اللّهِ إلَهٌ غَيْرُهُ لَقَدْ أَغْنَى عَنّي شَيْئًا بَعْدُ قَالَ " وَيْحَك يَا أَبَا سُفْيَانَ أَلَمْ يَأْنِ لَك أَنْ تَعْلَمَ أَنّي رَسُولُ اللّهِ ؟ " قَالَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي ، مَا أَحْلَمَك وَأَكْرَمَك وَأَوْصَلَك أَمّا هَذِهِ وَاَللّهِ فَإِنّ فِي النّفْسِ مِنْهَا حَتّى الْآنَ شَيْئًا . فَقَالَ لَهُ الْعَبّاسُ وَيْحَك أَسْلِمْ وَاشْهَدْ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَأَنّ مُحَمّدًا رَسُولُ اللّهِ قَبْلَ أَنْ تُضْرَبَ عُنُقُك . قَالَ فَشَهِدَ شَهَادَةَ الْحَقّ فَأَسْلَمَ قَالَ الْعَبّاسُ قُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ يُحِبّ هَذَا الْفَخْرَ فَاجْعَلْ لَهُ شَيْئًا ، قَالَ " نَعَمْ مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ فَلَمّا ذَهَبَ لِيَنْصَرِفَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " يَا عَبّاسُ احْبِسْهُ بِمَضِيقِ الْوَادِي عِنْدَ خَطْمِ الْجَبَلِ حَتّى تَمُرّ بِهِ جُنُودُ اللّهِ فَيَرَاهَا " . قَالَ فَخَرَجْت حَتّى حَبَسْته بِمَضِيقِ الْوَادِي ، حَيْثُ أَمَرَنِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ أَحْبِسَهُ . عَرْضُ الْجَيْشِ قَالَ وَمَرّتْ الْقَبَائِلُ عَلَى رَايَاتِهَا ، كُلّمَا مَرّتْ قَبِيلَةٌ قَالَ يَا عَبّاسُ مَنْ هَذِهِ ؟ فَأَقُولُ سُلَيْمٌ فَيَقُولُ مَا لِي وَلِسُلَيْمِ ثُمّ تَمُرّ الْقَبِيلَةُ فَيَقُولُ يَا عَبّاسُ مَنْ هَؤُلَاءِ ؟ فَأَقُولُ مُزَيْنَةُ ، فَيَقُولُ مَا لِي وَلِمُزَيْنَةَ حَتّى نَفِدَتْ الْقَبَائِلُ مَا تَمُرّ بِهِ قَبِيلَةٌ إلّا يَسْأَلُنِي عَنْهَا ، فَإِذَا أَخْبَرْته بِهِمْ قَالَ مَا لِي وَلِبَنِي فُلَانٍ حَتّى مَرّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي كَتِيبَتِهِ الْخَضْرَاءِ [ ص 158 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَإِنّمَا قِيلَ لَهَا الْخَضْرَاءُ لِكَثْرَةِ الْحَدِيدِ وَظُهُورِهِ فِيهَا . قَالَ الْحَارِثُ بْنُ حَمْزَةَ الْيَشْكُرِيّ :
ثَمّ حُجْرًا أَعْنِي ابْنَ أُمّ قَطَامٍ ... وَلَهُ فَارِسِيّةٌ خَضْرَاءُ
يَعْنِي الْكَتِيبَةَ ، وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيّ :
لَمّا رَأَى بَدْرًا تَسِيلُ جِلَاهُهُ ... بِكَتِيبَةِ خَضْرَاءَ مِنْ بَلْخَزْرَجِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ قَدْ كَتَبْنَاهَا فِي أَشْعَارِ يَوْمِ بَدْرٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فِيهَا الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ ، رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ لَا يُرَى مِنْهُمْ إلّا الْحَدَقُ مِنْ الْحَدِيدِ فَقَالَ سُبْحَانَ اللّهِ يَا عَبّاسُ مَنْ هَؤُلَاءِ ؟ قَالَ قُلْت : هَذَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ؛ قَالَ مَا لِأَحَدِ بِهَؤُلَاءِ قِبَلٌ وَلَا طَاقَةٌ وَاَللّهِ يَا أَبَا الْفَضْلِ لَقَدْ أَصْبَحَ مُلْكُ ابْنِ أَخِيك الْغَدَاةَ عَظِيمًا ، قَالَ قُلْت : يَا أَبَا سُفْيَانَ إنّهَا النّبُوّةُ . قَالَ فَنَعَمْ إذَنْ
S[ ص 156 ] بُدَيْلٍ حَمَشَتْهُمْ الْحَرْبُ يُقَالُ حَمَشْت الرّجُلَ إذَا أَغْضَبْته ، وَحَمَشْت النّارَ أَيْضًا إذَا أَوْقَدْتهَا ، وَيُقَالُ . حَمَسْت بِالسّينِ . عَنْ إسْلَامِ سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ وَذَكَرَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي إسْلَامِ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ أَنّ الْعَبّاسَ لَمّا احْتَمَلَهُ مَعَهُ إلَى قُبّتِهِ فَأَصْبَحَ عِنْدَهُ رَأَى النّاسَ وَقَدْ ثَارُوا إلَى ظُهُورِهِمْ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ يَا أَبَا الْفَضْلِ مَا لِلنّاسِ أَأُمِرُوا فِيّ بِشَيْءِ ؟ قَالَ لَا ، وَلَكِنّهُمْ قَامُوا إلَى الصّلَاةِ فَأَمَرَهُ الْعَبّاسُ فَتَوَضّأَ ثُمّ انْطَلَقَ بِهِ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَمّا دَخَلَ عَلَيْهِ السّلَامُ فِي الصّلَاةِ كَبّرَ فَكَبّرَ النّاسُ بِتَكْبِيرِهِ ثُمّ رَكَعَ فَرَكَعُوا ، ثُمّ رَفَعَ فَرَفَعُوا ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ مَا رَأَيْت كَالْيَوْمِ طَاعَةَ قَوْمٍ جَمَعَهُمْ مِنْ هَهُنَا وَهَهُنَا ، وَلَا فَارِسَ الْأَكَارِمِ وَلَا الرّومِ ذَاتِ الْقُرُونِ بِأَطْوَعَ مِنْهُمْ لَهُ وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ أَنّ أَبَا سُفْيَانَ قَالَ لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ عَرَضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ كَيْفَ أَصْنَعُ بِالْعُزّى ؟ فَسَمِعَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ مِنْ وَرَاءِ الْقُبّةِ فَقَالَ لَهُ نَخْرَا عَلَيْهَا ، فَقَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ وَيْحَك يَا عُمَرُ إنّك رَجُلٌ فَاحِشٌ دَعْنِي مَعَ ابْنِ عَمّي ، فَإِيّاهُ أُكَلّمُ [ ص 157 ] وَذَكَرَ قَوْلَ أَبِي سُفْيَانَ لَقَدْ أَصْبَحَ مُلْكُ ابْنِ أَخِيك الْغَدَاةَ عَظِيمًا ، وَقَوْلَ الْعَبّاسِ لَهُ إنّهَا النّبُوّةُ قَالَ شَيْخُنَا أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللّهُ إنّمَا أَنْكَرَ الْعَبّاسُ عَلَيْهِ أَنْ ذَكَرَ الْمُلْكَ مُجَرّدًا مِنْ النّبُوّةِ مَعَ أَنّهُ كَانَ فِي أَوّلِ دُخُولِهِ فِي الْإِسْلَامِ وَإِلّا فَجَائِزٌ أَنْ يُسَمّى مِثْلُ هَذَا مُلْكًا ، وَإِنْ كَانَ لِنَبِيّ فَقَدْ قَالَ اللّهُ تَعَالَى فِي دَاوُدَ { وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ } [ ص : 20 ] وَقَالَ سُلَيْمَان . [ ص 158 ] { وَهَبْ لِي مُلْكًا } [ ص : 35 ] غَيْرَ أَنّ الْكَرَاهِيَةَ أَظْهَرُ فِي تَسْمِيَةِ حَالِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُلْكًا لِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خُيّرَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ نَبِيّا عَبْدًا ، أَوْ نَبِيّا مَلِكًا ، فَالْتَفَتَ إلَى جِبْرِيلَ ، فَأَشَارَ إلَيْهِ أَنْ تَوْضَعْ فَقَالَ بَلْ نَبِيّا عَبْدًا أَشْبَعُ يَوْمًا ، وَأَجُوعُ يَوْمًا وَإِنْكَارُ الْعَبّاسِ عَلَى أَبِي سُفْيَانَ يُقَوّي هَذَا الْمَعْنَى ، وَأَمْرُ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ بَعْدَهُ يَكْرَهُ أَيْضًا أَنْ يُسَمّى مَلِكًا ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ فِي حَدِيثٍ آخَرَ " يَكُونُ بَعْدَهُ خُلَفَاءُ ثُمّ يَكُونُ أُمَرَاءُ ثُمّ يَكُونُ مُلُوكٌ ثُمّ جَبَابِرَةٌ " ، وَيُرْوَى : ثُمّ يَعُودُ الْأَمْرُ بَزَيْزِيّا ، وَهُوَ تَصْحِيفٌ قَالَ الْخَطّابِيّ : إنّمَا هُوَ بِزّيزَيّ ، أَيْ قَتْلٌ وَسَلْبٌ .

أَبُو سُفْيَانَ يُحَذّرُ أَهْلَ مَكّةَ
قَالَ قُلْت : النّجَاءَ إلَى قَوْمِك ، حَتّى إذَا جَاءَهُمْ صَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، هَذَا مُحَمّدٌ قَدْ جَاءَكُمْ فِيمَا لَا قِبَلَ لَكُمْ بِهِ فَمَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ فَقَامَتْ إلَيْهِ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ ، فَأَخَذَتْ بِشَارِبِهِ فَقَالَتْ اُقْتُلُوا الْحَمِيتَ الدّسِمَ الْأَحْمَسَ قُبّحَ [ ص 159 ] قَالَ وَيْلَكُمْ لَا تَغُرّنكُمْ هَذِهِ مِنْ أَنْفُسِكُمْ فَإِنّهُ قَدْ جَاءَكُمْ مَا لَا قِبَلَ لَكُمْ بِهِ فَمَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ قَالُوا : قَاتَلَك اللّهُ وَمَا تُغْنِي عَنّا دَارُك ، قَالَ وَمَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ فَتَفَرّقَ النّاسُ إلَى دُورِهِمْ وَإِلَى الْمَسْجِدِ
Sقَوْلُ هِنْدٍ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ
وَقَوْلُ هِنْدٍ : اُقْتُلُوا الْحَمِيتَ الدّسِمَ الْأَحْمَسَ . الْحَمِيتُ الزّقّ ، نَسَبَتْهُ إلَى الضّخْمِ وَالسّمَنِ وَالْأَحْمَسُ أَيْضًا الّذِي لَا خَيْرَ عِنْدَهُ مِنْ قَوْلِهِمْ عَامٌ أَحْمَسُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَطَرٌ وَزَادَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي حَدِيثِهِ أَنّهَا قَالَتْ يَا آلَ غَالِبٍ اُقْتُلُوا الْأَحْمَقَ فَقَالَ لَهَا أَبُو سُفْيَانَ [ ص 159 ] لَتُسْلِمَن أَوْ لَأَضْرِبَن عُنُقَك وَفِي إسْلَامِ أَبِي سُفْيَانَ قَبْلَ هِنْدٍ وَإِسْلَامُهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدّتِهَا ، ثُمّ اسْتَقَرّا عَلَى نِكَاحِهِمَا وَكَذَلِكَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ مَعَ امْرَأَتِهِ حُجّةٌ لِلشّافِعِيّ فَإِنّهُ لَمْ يُفَرّقْ بَيْنَ أَنْ تُسْلِمَ قَبْلَهُ أَوْ يُسْلِمَ قَبْلَهَا ، مَا دَامَتْ فِي الْعِدّةِ . وَفَرّقَ مَالِكٌ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ عَلَى مَا فِي الْمُوَطّأِ وَغَيْرِهِ .

وُصُولُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى ذِي طُوًى
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمّا انْتَهَى إلَى ذِي طُوًى وَقَفَ عَلَى رَاحِلَتِهِ مُعْتَجِرًا بِشِقّةِ بُرْدٍ حِبَرَةٍ حَمْرَاءَ ، وَإِنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَيَضَعُ رَأْسَهُ تَوَاضُعًا لِلّهِ حِينَ رَأَى مَا أَكْرَمَهُ اللّهُ بِهِ مِنْ الْفَتْحِ حَتّى إنّ عُثْنُونَهُ لَيَكَادُ يَمَسّ وَاسِطَةَ الرّحْلِ .

إسْلَامُ وَالِدِ أَبِي بَكْرٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبّادِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الزّبَيْرِ ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّتِهِ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ ، قَالَتْ لَمّا وَقَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِذِي طُوًى قَالَ أَبُو قُحَافَةَ لِابْنَةِ مِنْ أَصْغَرِ وَلَدِهِ أَيْ بُنَيّةُ اظْهَرِي بِي عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ قَالَتْ وَقَدْ كُفّ بَصَرُهُ قَالَتْ فَأَشْرَفَتْ بِهِ عَلَيْهِ فَقَالَ أَيْ بُنَيّةُ مَاذَا تَرَيْنَ ؟ قَالَتْ أَرَى سَوَادًا مُجْتَمِعًا ، قَالَ تِلْكَ الْخَيْلُ قَالَتْ وَأَرَى رَجُلًا يَسْعَى بَيْنَ يَدَيْ ذَلِكَ مُقْبِلًا وَمُدْبِرًا ، قَالَ أَيْ بُنَيّةُ ذَلِكَ [ ص 160 ] قَالَتْ قَدْ وَاَللّهِ انْتَشَرَ السّوَادُ قَالَتْ فَقَالَ قَدْ وَاَللّهِ إذَنْ دُفِعَتْ الْخَيْلُ فَأَسْرِعِي بِي إلَى بَيْتِي ، فَانْحَطّتْ بِهِ وَتَلَقّاهُ الْخَيْلُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى بَيْتِهِ قَالَتْ وَفِي عُنُقِ الْجَارِيَةِ طَوْقٌ مِنْ وَرِقٍ فَتَلَقّاهَا رَجُلٌ فَيَقْتَطِعُهُ مِنْ عُنُقِهَا ، قَالَتْ فَلَمّا دَخَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَكّةَ ، وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ أَتَى أَبُو بَكْرٍ بِأَبِيهِ يَقُودُهُ فَلَمّا رَآهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ هَلّا تَرَكْت الشّيْخَ فِي بَيْتِهِ حَتّى أَكُونَ أَنَا آتِيهِ فِيهِ ؟ " قَالَ أَبُو بَكْرٍ يَا رَسُولَ اللّهِ هُوَ أَحَقّ أَنْ يَمْشِيَ إلَيْك مِنْ أَنْ تَمْشِيَ إلَيْهِ أَنْتَ قَالَ فَأَجْلَسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمّ مَسَحَ صَدْرَهُ ثُمّ قَالَ لَهُ " أَسْلِمْ " فَأَسْلَمَ قَالَتْ فَدَخَلَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ وَكَأَنّ رَأْسَهُ ثَغَامَةٌ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " غَيّرُوا هَذَا مِنْ شَعْرِهِ ثُمّ قَامَ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ بِيَدِ أُخْتِهِ وَقَالَ أُنْشِدُ اللّهَ وَالْإِسْلَامَ طَوْقَ أُخْتِي ، فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ ، قَالَتْ فَقَالَ أَيْ أُخَيّة ، احْتَسِبِي طَوْقَك ، إنّ الْأَمَانَةَ فِي النّاسِ الْيَوْمَ لَقَلِيلٌ
Sإسْلَامُ أَبِي قُحَافَةَ
وَذَكَرَ إسْلَامُ أَبِي قُحَافَةَ وَاسْمُهُ عُثْمَانُ بْنُ عَامِرٍ وَاسْمُ أُمّهِ قَيْلَةُ بِنْتُ أَذَاةَ . وَقَوْلُهُ لِبِنْتِ لَهُ وَهِيَ أَصْغَرُ وَلَدِهِ يُرِيدُ وَاَللّهُ أَعْلَمُ أَصْغَرُ أَوْلَادِهِ الّذِينَ لِصُلْبِهِ وَأَوْلَادِهِمْ لِأَنّ أَبَا قُحَافَةَ لَمْ يَعِشْ لَهُ وَلَدٌ ذَكَرٌ إلّا أَبُو بَكْرٍ وَلَا تُعْرَفُ لَهُ بِنْتٌ إلّا أُمّ فَرْوَةَ الّتِي أَنْكَحَهَا أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ مِنْ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ ، وَكَانَتْ قَبْلَهُ تَحْتَ تَمِيمٍ الدّارِيّ فَهِيَ هَذِهِ الّتِي ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَقَدْ قِيلَ كَانَتْ لَهُ بِنْتٌ أُخْرَى تُسَمّى قُرَيْبَةَ تَزَوّجَهَا قَيْسُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ ، فَالْمَذْكُورَةُ فِي حَدِيثِ أَبِي قُحَافَةَ هِيَ إحْدَى هَاتَيْنِ عَلَى هَذَا ، وَاَللّهُ أَعْلَمُ . [ ص 160 ] وَكَانَ رَأْسُهُ ثَغَامَةً وَالثّغَامُ مِنْ نَبَاتِ الْجِبَالِ وَهُوَ مِنْ الْجَنَبَةِ وَأَشَدّ مَا يَكُونُ بَيَاضًا إذَا أَمْحَلَ وَالْحَلِيّ مِثْلُهُ يُشَبّهُ بِهِ الشّيْبُ قَالَ الرّاجِزُ وَلِمّتِي كَأَنّهَا حَلِيّةٌ
حُكْمُ الْخِضَابِ
وَقَوْلُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي شَيْبِ أَبِي قُحَافَةَ " غَيّرُوا هَذَا " مِنْ شَعْرِهِ هُوَ عَلَى النّدْبِ لَا عَلَى الْوُجُوبِ لِمَا دَلّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ عَنْهُ عَلَيْهِ السّلَامُ أَنّهُ لَمْ يُغَيّرْ شَيْبَهُ وَقَدْ رَوَى مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّهُ خَضَبَ . وَقَالَ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ إنّمَا كَانَتْ شَيْبَاتٍ يَسِيرَةً يُغَيّرُهَا بِالطّيبِ . وَقَالَ أَنَسٌ لَمْ يَبْلُغْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَدّ الْخِضَابِ وَفِي الْبُخَارِيّ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مَوْهَبٍ قَالَ أَرَتْنِي أُمّ سَلَمَةَ شَعْرًا مِنْ شَعْرِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ ابْنِ مَوْهَبٍ قَالَ بَعَثَنِي أَهْلِي بِقَدَحِ إلَى أُمّ سَلَمَةَ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ اطّلَعْت فِي الْجُلْجُلِ فَرَأَيْت شَعَرَاتٍ حُمْرًا ، وَهَذَا كَلَامٌ مُشْكِلٌ وَشَرْحُهُ فِي مُشْكِلِ وَكِيعِ بْنِ الْجَرّاحِ قَالَ كَانَ جُلْجُلًا مِنْ فِضّةٍ صُنِعَ صِيوَانًا لِشَعَرَاتِ كَانَتْ عِنْدَهُمْ مِنْ شَعْرِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . فَإِنْ قِيلَ فَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنّهُ كَانَ مَخْضُوبَ الشّيْبِ وَقَدْ صَحّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَغَيْرِهِ أَنّهُ عَلَيْهِ السّلَامُ لَمْ يَكُنْ بَلَغَ أَنْ يَخْضِبَ إنّمَا كَانَتْ شَعَرَاتٍ تُعَدّ . [ ص 161 ] كَانَ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنْ شَعْرِهِ تِلْكَ الشّعَرَاتِ لِيَكُونَ أَبْقَى لَهَا ، كَذَلِكَ قَالَ الدّارَقُطْنِيّ فِي أَسْمَاءِ رِجَالِ الْمُوَطّأِ لَهُ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَخْضِبُ بِالْحِنّاءِ وَالْكَتَمِ وَكَانَ عُمَرُ يَخْضِبُ بِالصّفْرَةِ وَكَذَلِكَ عُثْمَانُ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ ، وَكَانَ فِيهِمْ مَنْ يَخْضِبُ بِالْخِطْرِ وَهُوَ الْوَسْمَةُ وَأَمّا الصّفْرَةُ فَكَانَتْ مِنْ الْوَرْسِ أَوْ الْكُرْكُمِ وَهُوَ الزّعْفَرَانُ وَالْوَرْسُ يَنْبُتُ بِالْيَمَنِ يُقَالُ لِجَيّدِهِ بَادِرَةُ الْوَرْسِ وَمِنْ أَنْوَاعِهِ الْعَسْفُ وَالْحَبَشِيّ وَهُوَ آخِرُهُ وَيُقَالُ مِنْ الْحِنّاءِ حَنّا شَيْبَهُ وَرَقّنَهُ وَجَمْعُ الْحِنّاءِ حِنّانٌ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ قَالَ الشّاعِرُ
وَلَقَدْ أَرُوحُ بِلِمّةِ فَيْنَانَةٍ ... سَوْدَاءَ قَدْ رُوِيَتْ مِنْ الْحِنّانِ
مِنْ كِتَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَبَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ يَزِيدُ عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ إسْحَاقَ فِي شَيْبِ أَبِي قُحَافَةَ وَجَنّبُوهُ السّوَادَ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى كَرَاهَةِ الْخِضَابِ بِالسّوَادِ مِنْ أَجْلِ هَذَا الْحَدِيثِ وَمِنْ أَجْلِ حَدِيثٍ آخَرَ جَاءَ فِي الْوَعِيدِ وَالنّهْيِ لِمَنْ خَضَبَ بِالسّوَادِ وَقِيلَ أَوّلُ مَنْ خَضَبَ بِالسّوَادِ فِرْعَوْنُ ، وَقِيلَ أَوّلُ مَنْ خَضَبَ بِهِ مِنْ الْعَرَبِ عَبْدُ الْمُطّلِبِ ، وَتَرَخّصَ قَوْمٌ فِي الْخِضَابِ بِالسّوَادِ مَعَهُمْ مُحَمّدُ بْنُ عَلِيّ ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنّهُ قَالَ اخْضِبُوا بِالسّوَادِ فَإِنّهُ أَنْكَى لِلْعَدُوّ وَأَحَبّ لِلنّسَاءِ وَقَالَ ابْنُ بَطّالٍ فِي الشّرْحِ إذَا كَانَ الرّجُلُ كَهْلًا لَمْ يَبْلُغْ الْهَرَمَ جَازَ لَهُ الْخِضَابُ بِالسّوَادِ لِأَنّ فِي ذَلِكَ مَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ مِنْ الْإِرْهَابِ عَلَى الْعَدُوّ وَالتّحَبّبِ إلَى النّسَاءِ وَأَمّا إذَا قَوّسَ وَاحْدَوْدَبَ فَحِينَئِذٍ يُكْرَهُ لَهُ السّوَادُ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي أَبِي قُحَافَةَ غَيّرُوا شَيْبَهُ وَجَنّبُوهُ السّوَادَ .

جُيُوشُ الْمُسْلِمِينَ تَدْخُلُ مَكّةَ
[ ص 161 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ فَرّقَ جَيْشَهُ مِنْ ذِي طُوًى ، أَمَرَ الزّبَيْرَ بْنَ الْعَوّامِ أَنْ يَدْخُلَ فِي بَعْضِ النّاسِ مِنْ كُدًى ، وَكَانَ الزّبَيْرُ عَلَى الْمُجَنّبَةِ الْيُسْرَى ، وَأَمَرَ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ أَنْ يَدْخُلَ فِي بَعْضِ النّاسِ مِنْ كَدَاءٍ . [ ص 162 ]
الْمُهَاجِرُونَ وَسَعْدٌ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَزَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ سَعْدًا حِينَ وَجّهَ دَاخِلًا ، قَالَ الْيَوْمُ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ الْيَوْمُ تُسْتَحَلّ الْحُرْمَةُ فَسَمِعَهَا رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : هُوَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ اسْمَعْ مَا قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ ، مَا نَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي قُرَيْشٍ صَوْلَةٌ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِعَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَدْرِكْهُ فَخُذْ الرّايَةَ مِنْهُ فَكُنْ أَنْتَ الّذِي تَدْخُلُ بِهَا
Sكَدَاءُ وَكُدًى
فَصْلٌ
وَذَكَرَ كَدَاءَ بِفَتْحِ الْكَافِ وَالْمَدّ وَهُوَ بِأَعْلَى مَكّةَ ، وَكُدًى وَهُوَ مِنْ نَاحِيَةِ عَرَفَةَ وَبِمَكّةَ مَوْضِعٌ ثَالِثٌ يُقَالُ كُدَا بِضَمّ الْكَافِ وَالْقَصْرِ وَأَنْشَدُوا فِي كَدَاءٍ وَكُدًى :
أَقْفَرَتْ بَعْدَ عَبْدِ شَمْسٍ كَدَاءُ ... فَكُدَيّ فَالرّكْنُ وَالْبَطْحَاءُ
وَالْبَيْتُ لِابْنِ قَيْسٍ الرّقَيّاتِ يَذْكُرُ بَنِي عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ وُدّ الْعَامِرِيّينَ رَهْطَ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو . [ ص 162 ]
مَوْقِفُ إبْرَاهِيمَ بِكَدَاءَ
وَبِكَدَاءَ وَقَفَ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السّلَامُ حِينَ دَعَا لِذُرّيّتِهِ بِالْحَرَمِ كَذَلِكَ رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ ، فَقَالَ { فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ } فَاسْتُجِيبَتْ دَعْوَتُهُ وَقِيلَ لَهُ أَذّنْ فِي النّاسِ بِالْحَجّ يَأْتُوك رِجَالًا ، أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ يَأْتُوك ، وَلَمْ يَقُلْ يَأْتُونِي ، لِأَنّهَا اسْتِجَابَةٌ لِدَعْوَتِهِ فَمِنْ ثَمّ - وَاَللّهُ أَعْلَمُ - اسْتَحَبّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا أَتَى لِمَكّةَ أَنْ يَدْخُلَهَا مِنْ كَدَاءَ ، لِأَنّهُ الْمَوْضِعُ الّذِي دَعَا فِيهِ إبْرَاهِيمُ بِأَنْ يَجْعَلَ أَفْئِدَةً مِنْ النّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ .
مَوْقِفُ الرّسُولِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ سَعْدٍ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ نَزْعَ الرّايَةِ مِنْ سَعْدٍ حِينَ قَالَ الْيَوْمُ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ . وَزَادَ غَيْرُ ابْنِ إسْحَاقَ فِي الْخَبَرِ أَنّ ضِرَارَ بْنَ الْخَطّابِ قَالَ يَوْمَئِذٍ شِعْرًا حِينَ سَمِعَ قَوْلَ سَعْدٍ اسْتَعْطَفَ فِيهِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى قُرَيْشٍ ، وَهُوَ مِنْ أَجْوَدِ شِعْرٍ لَهُ
يَا نَبِيّ الْهُدَى إلَيْك لَجَا ح ... يّ قُرَيْشٍ وَلَاتَ حِينَ لَجَاءِ
حِينَ ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ سَعَةُ الْأَرْ ... ضِ وَعَادَاهُمْ إلَهُ السّمَاءِ
وَالْتَقَتْ حَلْقَتَا الْبِطَانِ عَلَى الْقَ ... وْمِ وَنُودُوا بِالصّيْلَمِ الصّلْعَاءِ
إنّ سَعْدًا يُرِيدُ قَاصِمَةَ الظّهْ ... رِ بِأَهْلِ الْحَجُونِ وَالْبَطْحَاءِ
خَزْرَجِيّ لَوْ يَسْتَطِيعُ مِنْ الْغَيْ ... ظِ رَمَانَا بِالنّسْرِ وَالْعَوّاءِ
فَلَئِنْ أَقْحَمَ اللّوَاءَ وَنَادَى ... يَا حُمَاةَ اللّوَاءِ أَهْلَ اللّوَاءِ
لَتَكُونَن بِالْبِطَاحِ قُرَيْشٌ ... بُقْعَةُ الْقَاعِ فِي أَكُفّ الْإِمَاءِ
فَحِينَئِذٍ انْتَزَعَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الرّايَةَ مِنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فِيمَا ذَكَرُوا ، وَاَللّهُ أَعْلَمُ وَمَدّ فِي هَذَا الشّعْرِ الْعَوّاءَ وَأَنْكَرَ الْفَارِسِيّ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ مَدّهَا ، وَقَالَ لَوْ مُدّتْ لَقِيلَ فِيهَا : الْعَيّاءُ كَمَا [ ص 163 ] قِيلَ فِي : الْعَلْيَاءِ لِأَنّهَا لَيْسَتْ بِصِفَةِ كَالْعَشْوَاءِ قَالَ وَإِنّمَا هِيَ مَقْصُورَةٌ كَالشّرْوَى وَالنّجْوَى ، وَغَفَلَ عَنْ وَجْهٍ ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيّ الْقَالِي ، فَإِنّهُ قَالَ عَنْ مَدّ الْعَوّاءِ فَهِيَ عِنْدَهُ فَعّالٌ مِنْ عَوَيْت الشّيْءَ إذَا لَوَيْت ظَرَفَهُ وَهَذَا حَسَنٌ جِدّا لَا سِيّمَا ، وَقَدْ صَحّ مَدّهَا فِي الشّعْرِ الّذِي تَقَدّمَ وَغَيْرِهِ وَالْأَصَحّ فِي مَعْنَاهَا : أَنّ الْعَوّاءَ مِنْ الْعَوّةِ وَالْعَوّةُ هِيَ الدّبُرُ فَكَأَنّهُمْ سَمّوْهَا بِذَلِكَ لِأَنّهَا دُبُرُ الْأَسَدِ مِنْ الْبُرُوجِ .

كَيْفَ دَخَلَ الْجَيْشُ مَكّةَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : [ ص 163 ] عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ فِي حَدِيثِهِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَرَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ ، فَدَخَلَ مِنْ اللّيطِ ، أَسْفَلَ مَكّةَ ، فِي بَعْضِ النّاسِ وَكَانَ خَالِدٌ عَلَى الْمُجَنّبَةِ الْيُمْنَى ، وَفِيهَا أَسْلَمُ وَسُلَيْمٌ وَغِفَارٌ وَمُزَيْنَةُ وَجُهَيْنَةُ وَقَبَائِلُ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ . وَأَقْبَلَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرّاحِ بِالصّفّ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَنْصِبُ لِمَكّةَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَدَخَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ أَذَاخِرَ ، حَتّى نَزَلَ بِأَعْلَى مَكّةَ وَضُرِبَتْ لَهُ هُنَالِكَ قُبّتُهُ .
الّذِينَ تَعَرّضُوا لِلْمُسْلِمِينَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ : أَنّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيّةَ وَعِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ وَسُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو كَانُوا قَدْ جَمَعُوا نَاسًا بِالْخَنْدَمَةِ لِيُقَاتِلُوا ، وَقَدْ كَانَ حِمَاسُ بْنُ قَيْسِ بْنِ خَالِدٍ ، أَخُو بَنِي بَكْرٍ يُعِدّ سِلَاحًا قَبْلَ دُخُولِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَيُصْلِحُ مِنْهُ فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ لِمَاذَا تُعِدّ مَا أَرَى ؟ قَالَ لِمُحَمّدِ وَأَصْحَابِهِ قَالَتْ وَاَللّهِ مَا أَرَاهُ يَقُومُ لِمُحَمّدِ وَأَصْحَابِهِ شَيْءٌ قَالَ وَاَللّهِ إنّي لَأَرْجُو أَنْ أُخْدِمَك بَعْضَهُمْ ثُمّ قَالَ
إنْ يُقْبِلُوا الْيَوْمَ فَمَا لِي عِلّةٌ ... هَذَا سِلَاحٌ كَامِلٌ وَأَلَهْ
وَذُو غِرَارَيْنِ سَرِيعُ السّلّهْ
ثُمّ شَهِدَ الْخَنْدَمَةَ مَعَ صَفْوَانَ وَسُهَيْلِ وَعِكْرِمَةَ ، فَلَمّا لَقِيَهُمْ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَصْحَابِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ ، نَاوَشُوهُمْ شَيْئًا مِنْ قِتَالٍ فَقَتَلَ كُرْزُ بْنُ جَابِرٍ ، أَحَدَ بَنِي مُحَارِبِ بْنِ فِهْرٍ ، وَخُنَيْسَ بْنَ خَالِدِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ أَصْرَمَ ، حَلِيفُ بَنِي مُنْقَذٍ ، وَكَانَا فِي خَيْلِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ [ ص 164 ] خُنَيْسُ بْنُ خَالِدٍ قَبْلَ كُرْزِ بْنِ جَابِرٍ ، فَجَعَلَهُ كُرْزُ بْنُ جَابِرٍ بَيْنَ رِجْلَيْهِ ثُمّ قَاتَلَ عَنْهُ حَتّى قُتِلَ وَهُوَ يَرْتَجِزُ وَيَقُولُ
قَدْ عَلِمَتْ صَفْرَاءُ مِنْ بَنِي فِهِرْ ... نَقِيّةَ الْوَجْهِ نَقِيّةَ الصّدِرْ
لَأَضْرِبَن الْيَوْمَ عَنْ أَبِي صَخِرْ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَكَانَ خُنَيْسٌ يُكَنّى أَبَا صَخْرٍ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : خُنَيْسُ بْنُ خَالِدٍ مِنْ خُزَاعَةَ . [ ص 165 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ بَكْرٍ قَالَا : وَأُصِيبَ مِنْ جُهَيْنَةَ سَلَمَةُ بْنُ الْمَيْلَاءِ مِنْ خَيْلِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ ، وَأُصِيبَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ نَاسٌ قَرِيبٌ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا ، أَوْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا ، ثُمّ انْهَزَمُوا ، فَخَرَجَ حِمَاسٌ مُنْهَزِمًا حَتّى دَخَلَ بَيْتَهُ ثُمّ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَغْلِقِي عَلَيّ بَابِي ، قَالَتْ فَأَيْنَ مَا كُنْت تَقُولُ ؟ فَقَالَ [ ص 166 ]
إنّكِ لَوْ شَهِدْت يَوْمَ الْخَنْدَمَهْ ... إذْ فَرّ صَفْوَانُ وَفَرّ عِكْرِمَهْ
وَأَبُو يَزِيدَ قَائِمٌ كَالْمُوتِمَهْ ... واستقبلتهم بِالسّيُوفِ الْمُسْلِمَهْ
يَقْطَعْنَ كُلّ سَاعِدٍ وَجُمْجُمَهْ ... ضَرْبًا فَلَا يُسْمَعُ إلّا غَمْغَمَهْ
لَهُمْ نَهِيتٌ خَلْفَنَا وَهَمْهَمَهْ ... لَمْ تَنْطِقِي فِي اللّوْمِ أَدْنَى كَلِمَهْ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشّعْرِ قَوْلَهُ " كَالْمُوتِمَهْ " وَتُرْوَى لِلرّعَاشِ الْهُذَلِيّ .
شِعَارُ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ الْفَتْحِ
وَكَانَ شِعَارُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكّةَ وَحُنَيْنٍ وَالطّائِفِ ، شِعَارُ الْمُهَاجِرِينَ يَا بَنِي عَبْدِ الرّحْمَنِ وَشِعَارُ الْخَزْرَجِ : يَا بَنِي عَبْدِ اللّهِ وَشِعَارُ الْأَوْسِ : يَا بَنِي عُبَيْدِ اللّهِ .
Sخُنَيْسُ بْنُ خَالِدٍ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ خُنَيْسَ بْنَ خَالِدٍ وَقَوْلُ ابْنِ هِشَامٍ : خُنَيْسٌ مِنْ خُزَاعَةَ ، لَمْ يَخْتَلِفُوا عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ أَنّهُ خُنَيْسٌ بِالْخَاءِ الْمَنْقُوطَةِ وَالنّونِ وَأَكْثَرُ مَنْ أَلّفَ فِي الْمُؤْتَلِفِ وَالْمُخْتَلِفِ يَقُولُ الصّوَابُ فِيهِ حُبَيْشٌ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْبَاءِ وَالشّيْنِ الْمَنْقُوطَةِ وَكَذَلِكَ فِي حَاشِيَةِ الشّيْخِ عَنْ [ ص 164 ] أَبِي الْوَلِيدِ أَنّ الصّوَابَ فِيهِ حُبَيْشٌ وَأَبُوهُ خَالِدٌ هُوَ الْأَشْعَرُ بْنُ حُنَيْفٍ وَقَدْ رَفَعْنَا نَسَبَهُ عِنْدَ ذِكْرِ أُمّ مَعْبَدٍ لِأَنّهَا بِنْتُهُ وَهُوَ بِالشّيْنِ الْمَنْقُوطَةِ وَأَمّا الْأَسْعَرُ بِالسّينِ الْمُهْمَلَةِ فَهُوَ الْأَسْعَرُ الْجُعْفِيّ ، وَاسْمُهُ " مَرْثَدُ بْنُ عِمْرَانَ وَسُمّيَ الْأَسْعَرُ لِقَوْلِهِ
فَلَا يَدْعُنِي قَوْمِي لِسَعْدِ بْنِ مَالِكٍ ... لَئِنْ أَنَا لَمْ أَسْعَرْ عَلَيْهِمْ وَأُثْقِبِ
يَعْنِي بِمَالِكِ مَذْحِجٍ . وَذَكَرَ الرّجَزَ الّذِي لِكُرْزِ قَدْ عَلِمَتْ صَفْرَاءُ مِنْ بَنِي فِهِرْ
أَشَارَ بِقَوْلِهِ صَفْرَاءَ إلَى صُفْرَةِ الْخَلُوقِ وَقِيلَ بَلْ أَرَادَ مَعْنَى : قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ
كَبِكْرِ مُقَانَاةِ الْبَيَاضُ بِصُفْرَةِ ... غَذَاهَا نَمِيرُ الْمَاءِ غَيْرَ مُحَلّلِ
وَكَقَوْلِ الْأَعْشَى :
نُرْضِيك مِنْ دَلّ وَمِنْ ... حُسْنٍ مُخَالِطُهُ غَرَارَة
حَمْرَاءُ غَدْوَتهَا ، وَصَفْرَ ... اءُ الْعَشِيّةِ كَالْعَرَارَةِ
وَقَوْلُهُ مِنْ بَنِي فِهِرْ بِكَسْرِ الْهَاءِ وَكَذَلِكَ الصّدِرْ فِي الْبَيْتِ الثّانِي ، وَأَبُو صَخْرٍ هَذَا عَلَى مَذْهَبِ الْعَرَبِ فِي الْوَقْفِ عَلَى مَا أَوْسَطُهُ سَاكِنٌ فَإِنّ مِنْهُمْ مَنْ يَنْقُلُ حَرَكَةَ لَامِ الْفِعْلِ إلَى عَيْنِ الْفِعْلِ فِي الْوَقْفِ وَذَلِكَ إذَا كَانَ الِاسْمُ مَرْفُوعًا أَوْ مَخْفُوضًا ، وَلَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي النّصْبِ وَعِلَلُهُ مُسْتَقْصَاةٌ فِي النّحْوِ .
حَوْلَ لِمَاذَا وَمُوتِمَةِ
وَذَكَرَ خَبَرَ حِمَاسٍ وَقَوْلَ امْرَأَتِهِ لَهُ لِمَاذَا تُعِدّ السّلَاحَ بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ وَلَا يَجُوزُ حَذْفُهَا مِنْ أَجْلِ تَرْكِيبِ ذَا مَعَهَا ، وَالْمَعْرُوفُ فِي مَا إذَا كَانَتْ اسْتِفْهَامًا مَجْرُورَةً أَنْ تُحْذَفَ مِنْهَا الْأَلِفُ فَيُقَالُ لِمَ وَبِمَ قَالَ ابْنُ السّرّاجِ الدّلِيلُ عَلَى أَنّ ذَا جُعِلَتْ مَعَ مَا اسْمًا وَاحِدًا أَنّهُمْ اتّفَقُوا عَلَى إثْبَاتِ الْأَلِفِ مَعَ حَرْفِ الْجَرّ فَيَقُولُونَ لِمَاذَا فَعَلْت ، وَبِمَاذَا جِئْت ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ سِيبَوَيْهِ . [ ص 165 ]
حَوْلَ رَجَزَيْ حِمَاسٍ
وَقَوْلُهُ وَذُو غِرَارَيْنِ سَرِيعُ السّلّهْ
بِكَسْرِ السّينِ هُوَ الرّوَايَةُ يُرِيدُ الْحَالَةَ مِنْ سَلّ السّيْفِ وَمَنْ أَرَادَ الْمَصْدَرَ فَتَحَ . وَقَوْلُهُ وَأَبُو يَزِيدَ قَائِمٌ كَالْمُوتِمَهْ
يُرِيدُ الْمَرْأَةَ لَهَا أَيْتَامٌ وَالْأَعْرَفُ فِي مِثْلِ هَذَا مُوتِمٌ ثُمّ مُطْفِلٌ وَجَمْعُهَا مَيَاتِمُ وَقَالَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الرّوَايَةِ الْمُوتِمَةُ الْأُسْطُوَانَةُ وَهُوَ تَفْسِيرٌ غَرِيبٌ وَهُوَ أَصَحّ مِنْ التّفْسِيرِ الْأَوّلِ لِأَنّهُ تَفْسِيرُ رَاوِي الْحَدِيثِ فَعَلَى قَوْلِ ابْنِ إسْحَاقَ هَذَا يَكُونُ لَفْظُ الْمُوتِمَةِ مِنْ قَوْلِهِمْ وَتَمّ وَأَتَمّ إذَا ثَبَتَ لِأَنّ الْأُسْطُوَانَةَ تَثْبُتُ مَا عَلَيْهَا ، وَيُقَالُ فِيهَا عَلَى هَذَا مُوتِمَةٌ بِالْهَمْزِ وَتُجْمَعُ مَآتِمُ وَمُوتِمَةٌ بِلَا هَمْزٍ وَتُجْمَعُ مَوَاتِمُ . وَقَوْلُهُ وَأَبُو يَزِيدَ بِقَلْبِ الْهَمْزَةِ مِنْ أَبُو أَلِفًا سَاكِنَةً فِيهِ حُجّةٌ لِوَرْشِ [ وَاسْمُهُ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ حَيْثُ أَبْدَلَ الْهَمْزَةَ أَلِفًا سَاكِنَةً وَهِيَ مُتَحَرّكَةٌ وَإِنّمَا قِيَاسُهَا عِنْدَ النّحْوِيّينَ أَنْ تَكُونَ بَيْنَ بَيْنَ . وَمِثْلُ قَوْلِهِ وَأَبُو يَزِيدَ قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ : فَارْعَيْ فَزَارَةَ لَا هَنَاكِ الْمَرْتَعُ
وَإِنّمَا هُوَ هَنَأَكِ بِالْهَمْزِ وَتَسْهِيلِهَا بَيْنَ بَيْنَ فَقَلْبُهَا أَلِفًا عَلَى غَيْرِ الْقِيَاسِ الْمَعْرُوفِ فِي النّحْوِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ فِي الْمِنْسَاةِ وَهِيَ الْعَصَا ، وَأَصْلُهَا الْهَمْزُ لِأَنّهَا مِفْعَلَةٌ مِنْ نَسَأْت ، وَلَكِنّهَا فِي التّنْزِيلِ كَمَا تَرَى ، وَأَبُو يَزِيدَ الّذِي عَنَى فِي هَذَا الْبَيْتِ هُوَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو خَطِيبُ قُرَيْشٍ . [ ص 166 ] قَالَ ابْنُ الْأَسْلَتِ
كَأَنّهُمْ أُسْدٌ لَدَى أَشْبُلٍ ... يَنْهِتْنَ فِي غِيلٍ وَأَجْزَاعِ
وَالْغَمْغَمَةُ أَصْوَاتٌ غَيْرُ مَفْهُومَةٍ مِنْ اخْتِلَاطِهَا .

طَرَفٌ مِنْ أَحْكَامِ أَرْضِ مَكّةَ
وَنَذْكُرُ هَاهُنَا طَرَفًا مِنْ أَحْكَامِ أَرْضِ مَكّةَ ، فَقَدْ اُخْتُلِفَ هَلْ افْتَتَحَهَا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْوَةً أَوْ صُلْحًا ، لِيَبْتَنِيَ عَلَى ذَلِكَ الْحُكْمُ هَلْ أَرْضُهَا مِلْكٌ لِأَهْلِهَا أَمْ لَا ؟ وَذَلِكَ أَنّ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ كَانَ يَأْمُرُ بِنَزْعِ أَبْوَابِ دُورِ مَكّةَ إذَا قَدِمَ الْحَاجّ ، وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إلَى عَامِلِهِ بِمَكّةَ أَنْ يُنْهِيَ أَهْلَهَا عَنْ كِرَاءِ دُورِهَا إذَا جَاءَ الْحَاجّ فَإِنّ ذَلِكَ لَا يَحِلّ لَهُمْ . وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللّهُ - إنْ كَانَ النّاسُ لَيَضْرِبُونَ فَسَاطِيطَهُمْ بِدُورِ مَكّةَ لَا يَنْهَاهُمْ أَحَدٌ ، وَرُوِيَ أَنّ دُورَ مَكّةَ كَانَتْ تُدْعَى السّوَائِبُ ، وَهَذَا كُلّهُ مُنْتَزَعٌ مِنْ أَصْلَيْنِ أَحَدُهُمَا : قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي } [ الْحَجّ 25 ] وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ قَالَ ابْنُ عَبّاسٍ : الْحَرَمُ كُلّهُ مَسْجِدٌ وَالْأَصْلُ الثّانِي : أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ دَخَلَهَا عَنْوَةً غَيْرَ أَنّهُ مَنّ عَلَى [ ص 167 ] يُقَاسُ عَلَيْهَا غَيْرُهَا مِنْ الْبِلَادِ كَمَا ظَنّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فَإِنّهَا مُخَالِفَةٌ لِغَيْرِهَا مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا : مَا خَصّ اللّهُ بِهِ نَبِيّهُ فَإِنّهُ قَالَ { قُلِ الْأَنْفَالُ لِلّهِ وَالرّسُولِ } [ الْأَنْفَالِ 1 ] وَالثّانِي فِيمَا خَصّ اللّهُ تَعَالَى بِهِ مَكّةَ فَإِنّهُ جَاءَ لَا تَحِلّ غَنَائِمُهَا ، وَلَا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا ، وَهِيَ حَرَمُ اللّهِ تَعَالَى وَأَمْنُهُ فَكَيْفَ تَكُونُ أَرْضُهَا أَرْضَ خَرَاجٍ فَلَيْسَ لِأَحَدِ افْتَتَحَ بَلَدًا أَنْ يَسْلُكَ بِهِ سَبِيلَ مَكّةَ ، فَأَرْضُهَا إذًا وَدُورُهَا لِأَهْلِهَا ، وَلَكِنْ أَوْجَبَ اللّهُ عَلَيْهِمْ التّوْسِعَةَ عَلَى الْحَجِيجِ إذَا قَدِمُوهَا ، وَلَا يَأْخُذُوا مِنْهُمْ كِرَاءً فِي مَسَاكِنِهَا ، فَهَذَا حُكْمُهَا فَلَا عَلَيْك بَعْدَ هَذَا ، فُتِحَتْ عَنْوَةً أَوْ صُلْحًا ، وَإِنْ كَانَتْ ظَوَاهِرُ الْأَحَادِيثِ أَنّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً .
الْهُذَلِيّ الْقَتِيلُ
وَذَكَرَ الْهُذَلِيّ الّذِي قُتِلَ وَهُوَ وَاقِفٌ فَقَالَ أَقَدْ فَعَلْتُمُوهَا يَا مَعْشَرَ خُزَاعَةَ ، وَرَوَى الدّارَقُطْنِيّ فِي السّنَنِ أَنّ النّبِيّ قَالَ لَوْ كُنْت قَاتِلَ مُسْلِمٍ بِكَافِرِ لَقَتَلْت خِرَاشًا بِالْهُذَلِيّ يَعْنِي بِالْهُذَلِيّ قَاتِلَ ابْنِ أَثْوَعَ وَخِرَاشٌ هُوَ قَاتِلُهُ وَهُوَ مِنْ خُزَاعَةَ .

مَنْ أَمَرَ الرّسُولُ بِقَتْلِهِمْ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ عَهِدَ إلَى أُمَرَائِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حِينَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوا مَكّةَ ، أَنْ لَا يُقَاتِلُوا إلّا مَنْ قَاتَلَهُمْ إلّا أَنّهُ قَدْ عَهِدَ فِي نَفَرٍ سَمّاهُمْ أَمَرَ بِقَتْلِهِمْ وَإِنْ وُجِدُوا تَحْتَ أَسْتَارِ الْكَعْبَةِ ، مِنْهُمْ عَبْدُ اللّهِ بْنُ سَعْدٍ أَخُو بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ . [ ص 167 ] أَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِقَتْلِهِ لِأَنّهُ قَدْ كَانَ أَسْلَمَ ، وَكَانَ يَكْتُبُ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْوَحْيَ فَارْتَدّ مُشْرِكًا رَاجِعًا إلَى قُرَيْشٍ ، فَفَرّ إلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ ، وَكَانَ أَخَاهُ لِلرّضَاعَةِ فَغَيّبَهُ حَتّى أَتَى بِهِ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعْدَ أَنْ اطْمَأَنّ وَأَهْلُ مَكّةَ ، فَاسْتَأْمَنَ لَهُ فَزَعَمُوا أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صَمَتَ طَوِيلًا ، ثُمّ قَالَ " نَعَمْ " ، فَلَمّا انْصَرَفَ عَنْهُ عُثْمَانُ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِمَنْ حَوْلَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ لَقَدْ صَمَتّ لِيَقُومَ إلَيْهِ بَعْضُكُمْ فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ : فَهَلّا أَوْمَأْت إلَيّ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ " إنّ النّبِيّ لَا يَقْتُلُ بِالْإِشَارَةِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : ثُمّ أَسْلَمَ بَعْدُ فَوَلّاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ بَعْضَ أَعْمَالِهِ ثُمّ وَلّاهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ بَعْدَ عُمَرَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ خَطَلٍ ، رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَيْمِ بْنِ غَالِبٍ : إنّمَا أَمَرَ بِقَتْلِهِ أَنّهُ كَانَ مُسْلِمًا ، فَبَعَثَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُصَدّقًا ، وَبَعَثَ مَعَهُ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ ، وَكَانَ مَعَهُ مَوْلًى لَهُ يَخْدُمُهُ وَكَانَ مُسْلِمًا ، فَنَزَلَ مَنْزِلًا ، وَأَمَرَ الْمَوْلَى أَنْ يَذْبَحَ لَهُ تَيْسًا ، فَيَصْنَعَ لَهُ طَعَامًا ، فَنَامَ فَاسْتَيْقَظَ وَلَمْ يَصْنَعْ لَهُ شَيْئًا ، فَعَدَا عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ ثُمّ ارْتَدّ مُشْرِكًا . وَكَانَ لَهُ قَيْنَتَانِ فَرْتَنَى وَصَاحِبَتُهَا وَكَانَتَا تُغَنّيَانِ بِهِجَاءِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِقَتْلِهِمَا مَعَهُ . [ ص 168 ] وَالْحُوَيْرِثُ بْنُ نُقَيْذِ بْنِ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ بْنِ قُصَيّ ، وَكَانَ مِمّنْ يُؤْذِيهِ بِمَكّةَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَكَانَ الْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ حَمَلَ فَاطِمَةَ وَأُمّ كُلْثُومٍ ، ابْنَتَيْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ مَكّةَ يُرِيدُ بِهِمَا الْمَدِينَةَ ، فَنَخَسَ بِهِمَا الْحُوَيْرِثَ بْنَ نُقَيْذٍ فَرَمَى بِهِمَا إلَى الْأَرْضِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَمِقْيَسُ بْنُ حُبَابَةَ [ أَوْ ضَبَابَةَ أَوْ صُبَابَةَ ] وَإِنّمَا أَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِقَتْلِهِ لِقَتْلِ الْأَنْصَارِيّ الّذِي كَانَ قَتَلَ أَخَاهُ خَطَأً وَرُجُوعُهُ إلَى قُرَيْشٍ مُشْرِكًا وَسَارّةُ مَوْلَاةٌ لِبَعْضِ بَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ . وَكَانَتْ سَارّةُ مِمّنْ يُؤْذِيهِ بِمَكّةَ فَأَمّا عِكْرِمَةُ فَهَرَبَ إلَى الْيَمَنِ ، وَأَسْلَمَتْ امْرَأَتُهُ أُمّ حَكِيمِ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ . فَاسْتَأْمَنَتْ لَهُ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَمّنَهُ فَخَرَجَتْ فِي طَلَبِهِ إلَى الْيَمَنِ ، حَتّى أَتَتْ بِهِ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَسْلَمَ . وَأَمّا عَبْدُ اللّهِ بْنُ خَطَلٍ ، فَقَتَلَهُ سَعِيدُ بْنُ حُرَيْثٍ الْمَخْزُومِيّ وَأَبُو بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيّ ، اشْتَرَكَا فِي دَمْعٍ وَأَمّا مِقْيَسُ بْنُ حُبَابَةَ فَقَتَلَهُ نُمَيْلَةُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ فَقَالَتْ أُخْتُ مِقْيَسٍ فِي قَتْلِهِ
لَعَمْرِي لَقَدْ أَخْزَى نُمَيْلَةَ رَهْطُهُ ... وَفَجّعَ أَضْيَافَ الشّتَاءِ بِمِقْيَسِ
فَلِلّهِ عَيْنًا مَنْ رَأَى مِثْلَ مِقْيَسٍ ... إذَا النّفَسَاءُ أَصْبَحَتْ لَمْ تُخَرّسْ
[ ص 169 ] قَيْنَتَا ابْنِ خَطَلٍ فَقُتِلَتْ إحْدَاهُمَا ، وَهَرَبَتْ الْأُخْرَى ، حَتّى اُسْتُؤْمِنَ لَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعْدُ فَأَمّنَهَا . وَأَمّا سَارّةُ فَاسْتُؤْمِنَ لَهَا فَأَمّنَهَا ، ثُمّ بَقِيَتْ حَتّى أَوْطَأَهَا رَجُلٌ مِنْ النّاسِ فَرَسًا فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ بِالْأَبْطَحِ فَقَتَلَهَا . وَأَمّا الْحُوَيْرِثُ بْنُ نُقَيْذٍ فَقَتَلَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ .
Sهَلْ تُعِيذُ الْكَعْبَةُ عَاصِيًا
فَصْلٌ
[ ص 168 ] وَذَكَرَ قِصّةَ ابْنِ خَطَلٍ ، وَاسْمُهُ عَبْدُ اللّهِ وَقَدْ قِيلَ فِي اسْمِهِ هِلَالٌ وَقَدْ قِيلَ هِلَالٌ كَانَ أَخَاهُ وَكَانَ يُقَالُ لَهُمَا : الْخَطَلَانِ وَهُمَا مِنْ بَنِي تَيْمِ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ ، وَأَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَرَ بِقَتْلِهِ فَقُتِلَ وَهُوَ مُتَعَلّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ ، فَفِي هَذَا أَنّ الْكَعْبَةَ لَا تُعِيذُ عَاصِيًا ، وَلَا تَمْنَعُ مِنْ إقَامَةِ حَدّ وَاجِبٍ وَأَنّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا } إنّمَا مَعْنَاهُ الْخَبَرُ عَنْ تَعْظِيمِ حُرْمَةِ الْحَرَمِ فِي الْجَاهِلِيّةِ نِعْمَةً مِنْهُ عَلَى أَهْلِ مَكّةَ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنّاس } إلَى آخِرِ الْآيَةِ [ الْمَائِدَةِ 97 ] فَكَانَ فِي ذَلِكَ قِوَامٌ لِلنّاسِ وَمَصْلَحَةٌ لِذُرّيّةِ إسْمَاعِيلَ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَهُمْ قُطّانُ الْحَرَمِ ، وَإِجَابَةً لِدَعْوَةِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السّلَامُ حَيْثُ يَقُولُ اجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النّاسَ تَهْوِي إلَيْهِمْ وَعِنْدَمَا قَتَلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ابْنَ خَطَلٍ قَالَ لَا يُقْتَلُ قُرَشِيّ صَبْرًا بَعْدَ هَذَا كَذَلِكَ قَالَ يُونُسُ فِي رِوَايَتِهِ .

أُمّ هَانِئٍ تُؤَمّنُ رَجُلَيْنِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ ، عَنْ أَبِي مُرّةَ مَوْلَى عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، أَنّ أُمّ هَانِئِ بِنْتَ أَبِي طَالِبٍ قَالَتْ لَمّا نَزَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى مَكّةَ ، فَرّ إلَيّ رَجُلَانِ مِنْ أَحْمَائِي ، مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ ، وَكَانَتْ عِنْدَ هُبَيْرَةَ بْنِ أَبِي وَهْبٍ الْمَخْزُومِيّ ، قَالَتْ فَدَخَلَ عَلَيّ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَخِي ، فَقَالَ وَاَللّهِ لَأَقْتُلَنهُمَا ، فَأَغْلَقْت عَلَيْهِمَا بَابَ بَيْتِي ، ثُمّ جِئْت رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ بِأَعْلَى مَكّةَ ، فَوَجَدْته يَغْتَسِلُ مِنْ جَفْنَةٍ إنّ فِيهَا لَأَثَرَ الْعَجِينِ وَفَاطِمَةُ ابْنَتُهُ تَسْتُرُهُ بِثَوْبِهِ فَلَمّا اغْتَسَلَ أَخَذَ ثَوْبَهُ فَتَوَشّحَ بِهِ ثُمّ صَلّى ثَمَانِي رَكَعَاتٍ مِنْ الضّحَى ثُمّ انْصَرَفَ إلَيّ فَقَالَ مَرْحَبًا وَأَهْلًا يَا أُمّ هَانِئٍ مَا جَاءَ بِك ؟ " فَأَخْبَرْته خَبَرَ الرّجُلَيْنِ وَخَبَرَ عَلِيّ فَقَالَ " قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْت ، وَأَمّنّا مَنْ أَمّنْت ، فَلَا يَقْتُلْهُمَا [ ص 170 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : هُمَا الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ ، وَزُهَيْرُ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ .
Sصَلَاةُ الْفَتْحِ
فَصْلٌ
[ ص 169 ] وَذَكَرَ صَلَاةَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي بَيْتِ أُمّ هَانِئٍ وَهِيَ صَلَاةُ الْفَتْحِ تُعْرَفُ بِذَلِكَ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَكَانَ الْأُمَرَاءُ يَصِفُونَهَا إذَا افْتَتَحُوا بَلَدًا . قَالَ الطّبَرِيّ : صَلّى سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ ، حِينَ افْتَتَحَ الْمَدَائِنَ ، وَدَخَلَ إيوَانَ كِسْرَى ، قَالَ فَصَلّى فِيهِ صَلَاةَ الْفَتْحِ قَالَ وَهِيَ ثَمَانِي رَكَعَاتٍ لَا يُفْصَلُ بَيْنَهَا ، وَلَا تُصَلّى بِإِمَامِ فَبَيّنَ الطّبَرِيّ سُنّةَ هَذِهِ الصّلَاةِ وَصِفَتَهَا ، وَمِنْ سُنّتِهَا أَيْضًا أَنْ لَا يُجْهَرَ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ وَالْأَصْلُ مَا تَقَدّمَ مِنْ صَلَاةِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي حَدِيثِ أُمّ هَانِئٍ وَذَلِكَ ضُحًى .
أُمّ هَانِئٍ
وَأُمّ هَانِئٍ اسْمُهَا : هِنْدٌ تُكَنّى بِابْنِهَا هَانِئِ بْنِ هُبَيْرَةَ وَلَهَا ابْنٌ مِنْ هُبَيْرَةَ اسْمُهُ يُوسُفُ وَثَالِثٌ وَهُوَ الْأَكْبَرُ اسْمُهُ جَعْدَةُ وَقِيلَ إيّاهُ عَنَتْ فِي حَدِيثِ مَالِكٍ زَعَمَ ابْنُ أُمّي عَلَى أَنّهُ قَاتِلٌ رَجُلًا أَجَرْته فُلَانُ بْنُ هُبَيْرَةَ وَقَدْ قِيلَ فِي اسْمِ أُمّ هَانِئٍ فَاخِتَةُ .

عَبْدُ اللّهِ بْنُ سَعْدٍ
فَصْلٌ
[ ص 170 ] وَذَكَرَ عَبْدَ اللّهِ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ أَحَدَ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ يُكَنّى أَبَا يَحْيَى ، وَكَانَ كَاتَبَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - ثُمّ ارْتَدّ وَلَحِقَ بِمَكّةَ ثُمّ أَسْلَمَ وَحَسُنَ إسْلَامُهُ وَعُرِفَ فَضْلُهُ وَجِهَادُهُ وَكَانَ عَلَى مَيْمَنَةِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ حِينَ افْتَتَحَ مِصْرَ ، وَهُوَ الّذِي افْتَتَحَ إفْرِيقِيّةَ سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَغَزَا الْأَسَاوِدَ مِنْ النّوْبَةِ ثُمّ هَادَنَهُمْ الْهُدْنَةَ الْبَاقِيَةَ إلَى الْيَوْمِ فَلَمّا خَالَفَ مُحَمّدَ بْنَ أَبِي حُذَيْفَةَ عَلَى عُثْمَانَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - اعْتَزَلَ الْفِتْنَةَ وَدَعَا اللّهَ عَزّ وَجَلّ أَنْ يَقْبِضَهُ وَيَجْعَلَ وَفَاتَهُ بِأَثَرِ صَلَاةِ الصّبْحِ فَصَلّى بِالنّاسِ الصّبْحَ وَكَانَ يُسَلّمُ تَسْلِيمَتَيْنِ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ فَلَمّا سَلّمَ التّسْلِيمَةَ الْأُولَى عَنْ يَمِينِهِ وَذَهَبَ لِيُسَلّمَ الْأُخْرَى ، قُبِضَتْ نَفْسُهُ وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِعُسْفَانَ وَهُوَ الّذِي يَقُولُ فِي حِصَارِ عُثْمَانَ
أَرَى الْأَمْرَ لَا يَزْدَادُ إلّا تَفَاقُمًا ... وَأَنْصَارُنَا بِالْمَكّتَيْنِ قَلِيلُ
وَأَسْلَمْنَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ وَالْهَوَى ... إلَى أَهْلِ مِصْرَ وَالذّلِيلُ ذَلِيلُ
نُمَيْلَةُ
وَأَمّا نُمَيْلَةُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ فَهُوَ لَيْثِيّ أَحَدُ بَنِي كَعْبِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لَيْثٍ صَحِبَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَشَهِدَ كَثِيرًا مِنْ مَشَاهِدِهِ وَغَزَوَاتِهِ .
عَنْ ابْنِ نُقَيْذٍ وَالْقَيْنَتَيْنِ
وَأَمّا الْحُوَيْرِثُ بْنُ نُقَيْذٍ الّذِي أَمَرَ بِقَتْلِهِ مَعَ ابْنِ خَطَلٍ ، فَهُوَ الّذِي نَخَسَ بِزَيْنَبِ بِنْتِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ أَدْرَكَهَا ، هُوَ وَهَبّارُ بْنُ الْأَسْوَدِ ، فَسَقَطَتْ عَنْ دَابّتِهَا ، وَأَلْقَتْ جَنِينَهَا . وَأَمّا الْقَيْنَتَانِ اللّتَانِ أَمَرَ بِقَتْلِهِمَا ، وَهُمَا سَارّةُ وَفَرْتَنَى فَأَسْلَمَتْ فَرْتَنَى ، وَآمَنَتْ سَارّةُ وَعَائِشَةُ إلَى زَمَنِ عُمَرَ رَحِمَهُ اللّهُ ثُمّ وَطِئَهَا فَرَسٌ فَقَتَلَهَا .

طَوَافُ الرّسُولِ بِالْكَعْبَةِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزّبَيْرِ ، عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي ثَوْرٍ عَنْ صَفِيّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمّا نَزَلَ مَكّةَ ، وَاطْمَأَنّ النّاسُ خَرَجَ حَتّى جَاءَ الْبَيْتَ فَطَافَ بِهِ سَبْعًا عَلَى رَاحِلَتِهِ يَسْتَلِمُ الرّكْنَ بِمِحْجَنِ فِي يَدِهِ فَلَمّا قَضَى طَوَافَهُ دَعَا عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ ، فَأَخَذَ مِنْهُ مِفْتَاحَ الْكَعْبَةِ ، فَفُتِحَتْ لَهُ فَدَخَلَهَا ، فَوَجَدَ فِيهَا حَمَامَةً مِنْ عِيدَانٍ فَكَسَرَهَا بِيَدِهِ ثُمّ طَرَحَهَا ، ثُمّ وَقَفَ عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ وَقَدْ اسْتَكَفّ لَهُ النّاسُ فِي الْمَسْجِدِ . [ ص 171 ]
خُطْبَتُهُ عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَامَ عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ ، فَقَالَ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ صَدَقَ وَعْدَهُ ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ أَلَا كُلّ مَأْثُرَةٍ أَوْ دَمٍ أَوْ مَالٍ يُدَعّى فَهُوَ تَحْتَ قَدَمَيّ هَاتَيْنِ إلّا سِدَانَةَ الْبَيْتِ وَسِقَايَةَ الْحَاجّ أَلَا وَقَتِيلَ الْخَطَأِ شِبْهِ الْعَمْدِ بِالسّوْطِ وَالْعَصَا ، فَفِيهِ الدّيَةُ مُغَلّظَةً مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ أَرْبَعُونَ مِنْهَا فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا . يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، إنّ اللّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ نَخْوَةَ الْجَاهِلِيّةِ وَتَعَظّمَهَا بِالْآبَاءِ النّاسُ مِنْ آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ ثُمّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ { يَا أَيّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ } [ الْحُجُرَاتِ 13 ] . الْآيَةَ كُلّهَا . ثُمّ قَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ مَا تَرَوْنَ أَنّي فَاعِلٌ فِيكُمْ ؟ قَالُوا : خَيْرًا ، أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ قَالَ اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ الطّلَقَاءُ
Sعَنْ الدّيَاتِ فِي خُطْبَةِ الرّسُولِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فَصْلٌ
[ ص 171 ] وَذَكَرَ خُطْبَةَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَفِيهَا ذِكْرُ الدّيَاتِ وَذِكْرُ قَتِيلِ الْخَطَأِ وَذِكْرُ شِبْهِ الْعَمْدِ وَتَغْلِيظِ الدّيَةِ فِيهِ وَهِيَ أَنْ يُقْتَلَ الْقَتِيلُ بِسَوْطِ أَوْ عَصًا ، فَيَمُوتَ وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْعِرَاقِ : أَنْ لَا قَوَدَ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ وَالْمَشْهُورُ عَنْ الشّافِعِيّ أَنّ فِيهِ الدّيَةَ مُغَلّظَةً أَثْلَاثًا ، وَلَيْسَ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْحِجَازِ إلّا قَوَدٌ فِي عَمْدٍ فِي خَطَإِ تُؤْخَذُ أَخْمَاسًا عَلَى مَا فَسّرَ الْفُقَهَاءُ وَهُوَ قَوْلُ اللّيْثِ وَكَذَلِكَ قَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ إنّ الْقَوَدَ لَا يَكُونُ إلّا بِالسّيْفِ وَاحْتَجّوا بِأَثَرِ يُرْوَى عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا أَنْ لَا قَوَدَ إلّا بِحَدِيدَةِ وَعَنْ عَلِيّ مَرْفُوعًا أَيْضًا : لَا قَوَدَ إلّا بِالسّيْفِ وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا قَوَدَ إلّا بِحَدِيدَةِ وَهُوَ يَدُورُ عَلَى أَبِي مُعَاذٍ سُلَيْمَانَ بْنِ أَرْقَمَ ، وَهُوَ ضَعِيفٌ بِإِجْمَاعِ وَكَذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ يَدُورُ عَلَى الْمُعَلّى بْنِ هِلَالٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ وَكَذَلِكَ حَدِيثُ عَلِيّ لَا تَقُومُ بِإِسْنَادِهِ حُجّةٌ وَحُجّةُ الْآخَرِينَ فِي أَنّ الْقَاتِلَ يُقْتَلُ بِمَا قَتَلَ بِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } [ الْبَقَرَةِ 194 ] ، وَحَدِيثُ الْيَهُودِيّ الّذِي رَضَخَ رَأْسَ الْجَارِيَةِ عَلَى أَوْضَاحٍ لَهَا ، فَأَمَرَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يُرْضَخَ رَأْسُهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ .==

ج8. الروض الأنف

إقْرَارُ الرّسُولِ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ عَلَى السّدَانَةِ
ثُمّ جَلَسَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَامَ إلَيْهِ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَمِفْتَاحُ الْكَعْبَةِ فِي يَدِهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ اجْمَعْ لَنَا الْحِجَابَةَ مَعَ السّقَايَةِ صَلّى اللّهُ عَلَيْك ؛ فَقَالَ رَسُولُ [ ص 172 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " أَيْنَ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ ؟ " فَدُعِيَ لَهُ فَقَالَ هَاكَ مِفْتَاحَك يَا عُثْمَانُ ، الْيَوْمُ يَوْمُ بِرّ وَوَفَاءٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَذَكَرَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لِعَلِيّ إنّمَا أُعْطِيكُمْ مَا تُرْزَءُونَ لَا مَا تَرْزَءُونَ .
طَمْسُ الصّوَرِ الّتِي بِالْبَيْتِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ دَخَلَ الْبَيْتَ يَوْمَ الْفَتْحِ فَرَأَى فِيهِ صُوَرَ الْمَلَائِكَةِ وَغَيْرَهُمْ فَرَأَى إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السّلَامُ مُصَوّرًا فِي يَدِهِ الْأَزْلَامُ يَسْتَقْسِمُ بِهَا ، فَقَالَ قَاتَلَهُمْ اللّهُ جَعَلُوا شَيْخَنَا يَسْتَقْسِمُ بِالْأَزْلَامِ مَا شَأْنُ إبْرَاهِيمَ وَالْأَزْلَامِ { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّا وَلَا نَصْرَانِيّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [ آلِ عِمْرَانَ : 67 ] ثُمّ أَمَرَ بِتِلْكَ الصّوَرِ كُلّهَا فَطُمِسَتْ .
دُخُولُ الْكَعْبَةِ وَالصّلَاةُ فِيهَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ دَخَلَ الْكَعْبَةَ وَمَعَهُ بِلَالٌ ثُمّ خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَتَخَلّفَ بِلَالٌ فَدَخَلَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ عَلَى بِلَالٍ فَسَأَلَهُ أَيْنَ صَلّى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ؟ وَلَمْ يَسْأَلْهُ كَمْ صَلّى ، فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا دَخَلَ الْبَيْتَ مَشَى قِبَلَ وَجْهِهِ وَجَعَلَ الْبَابَ قِبَلَ ظَهْرِهِ حَتّى يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِدَارِ قَدْرُ ثَلَاثِ أَذْرُعٍ ، ثُمّ يُصَلّي يَتَوَخّى بِذَلِكَ الْمَوْضِعَ الّذِي قَالَ لَهُ بِلَالٌ .
Sالصّلَاةُ فِي الْكَعْبَةِ
[ ص 172 ] الْكَعْبَةَ وَصَلَاتُهُ فِيهَا ، فَحَدِيثُ بِلَالٍ أَنّهُ صَلّى فِيهَا ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّهُ لَمْ يُصَلّ فِيهَا ، وَأَخَذَ النّاسُ بِحَدِيثِ بِلَالٍ لِأَنّهُ أَثْبَتَ الصّلَاةَ وَابْنُ عَبّاسٍ نَفَى ، وَإِنّمَا يُؤْخَذُ بِشَهَادَةِ الْمُثْبِتِ لَا بِشَهَادَةِ النّافِي ، وَمَنْ تَأَوّلَ قَوْلَ بِلَالٍ أَنّهُ صَلّى ، أَيْ دَعَا ، فَلَيْسَ بِشَيْءِ لِأَنّ فِي حَدِيثِ عُمَرَ أَنّهُ صَلّى فِيهَا رَكْعَتَيْنِ وَلَكِنّ رِوَايَةَ ابْنِ عَبّاسٍ وَرِوَايَةَ بِلَالٍ صَحِيحَتَانِ لِأَنّهُ عَلَيْهِ السّلَامُ دَخَلَهَا يَوْمَ النّحْرِ فَلَمْ يُصَلّ وَدَخَلَهَا مِنْ الْغَدِ فَصَلّى ، وَذَلِكَ فِي حَجّةِ الْوَدَاعِ ، وَهُوَ حَدِيثٌ مَرْوِيّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ بِإِسْنَادِ حَسَنٍ خَرّجَهُ الدّارَقُطْنِيّ ، وَهُوَ مِنْ فَوَائِدِهِ .

إسْلَامُ عَتّابٍ وَالْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ
[ ص 173 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ دَخَلَ الْكَعْبَةَ عَامَ الْفَتْحِ وَمَعَهُ بِلَالٌ فَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذّنَ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْب ٍ وَعَتّابُ بْنُ أَسِيدٍ وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ جُلُوسٌ بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ ، فَقَالَ عَتّابُ بْنُ أَسِيدٍ : لَقَدْ أَكْرَمَ اللّهُ أَسِيدًا أَلَا يَكُونُ سَمِعَ هَذَا ، فَيَسْمَعُ مِنْهُ مَا يَغِيظُهُ . فَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ : أَمَا وَاَللّهِ لَوْ أَعْلَمُ أَنّهُ مُحِقّ لَاتّبَعْته ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ لَا أَقُولُ شَيْئًا : لَوْ تَكَلّمْت لَأَخْبَرَتْ عَنّي هَذِهِ الْحَصَى ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ قَدْ عَلِمْت الّذِي قُلْتُمْ ثُمّ ذَكَرَ ذَلِكَ لَهُمْ فَقَالَ الْحَارِثُ وَعَتّابٌ نَشْهَدُ أَنّك رَسُولُ اللّهِ وَاَللّهِ مَا اطّلَعَ عَلَى هَذَا أَحَدٌ كَانَ مَعَنَا ، فَنَقُولُ أَخْبَرَك .
Sعَنْ إسْلَامِ أَبِي سُفْيَانَ وَصَاحِبَيْهِ
فَصْلٌ
[ ص 173 ] وَذَكَرَ كَسْرَ الْأَصْنَامِ وَطَمْسَ التّمَاثِيلِ وَمَقَالَةَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ حِينَ اجْتَمَعَ هُوَ وَأَبُو سُفْيَانَ وَعَتّابُ بْنُ أَسِيدٍ ، فَتَكَلّمُوا فَأَخْبَرَهُمْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَمَا أَخْبَرَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ بِاَلّذِي قَالُوهُ فَصَحّ بِذَلِكَ يَقِينُهُمْ وَحَسُنَ إسْلَامُهُمْ وَفِي التّرْمِذِيّ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ لَعَنَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْحَارِثَ وَأَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ وَصَفْوَانَ بْنَ أُمَيّةَ فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } الْآيَةَ [ آلِ عِمْرَانَ : 128 ] قَالَ فَتَابُوا بَعْدُ وَحَسُنَ إسْلَامُهُمْ وَرُوِينَا بِإِسْنَادِ مُتّصِلٍ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ ، قَالَ خَرَجَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَلَى أَبِي سُفْيَانَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ فَلَمّا نَظَرَ إلَيْهِ أَبُو سُفْيَانَ قَالَ فِي نَفْسِهِ لَيْتَ شِعْرِي بِأَيّ شَيْءٍ غَلَبْتنِي ، فَأَقْبَلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى ضَرَبَ بِيَدِهِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ وَقَالَ بِاَللّهِ غَلَبْتُك يَا أَبَا سُفْيَانَ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ أَشْهَدُ أَنّك رَسُولُ اللّهِ مِنْ مُسْنَدِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي أُسَامَةَ ، وَرَوَى الزّبَيْرُ [ ص 174 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُمَازِحُ أَبَا سُفْيَانَ فِي بَيْتِ أُمّ حَبِيبَةَ وَأَبُو سُفْيَانَ يَقُولُ لَهُ تَرَكْتُك ، فَتَرَكَتْك الْعَرَبُ ، وَلَمْ تَنْتَطِحْ بَعْدَهَا جَمّاءُ وَلَا قَرْنَاءُ وَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَضْحَكُ وَيَقُولُ أَنْتَ تَقُولُ هَذَا يَا أَبَا حَنْظَلَة وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ جَلّ وَعَزّ { عَسَى اللّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدّةً } [ الْمُمْتَحِنَةِ 7 ] قَالَ هِيَ مُعَاهَدَةُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِأَبِي سُفْيَانَ . وَقَالَ أَهْلُ التّفْسِيرِ رَأَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْمَنَامِ أَسِيدَ بْنَ أَبِي الْعِيصِ وَالِيًا عَلَى مَكّةَ مُسْلِمًا ، فَمَاتَ عَلَى الْكُفْرِ فَكَانَتْ الرّؤْيَا لِوَلَدِهِ عَتّابٍ حِينَ أَسْلَمَ ، فَوَلّاهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَكّةَ ، وَهُوَ ابْنُ إحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً وَرَزَقَهُ كُلّ يَوْمٍ دِرْهَمًا ، فَقَالَ أَيّهَا النّاسُ أَجَاعَ اللّهُ كَبِدَ مَنْ جَاعَ عَلَى دِرْهَمٍ الْحَدِيثَ وَقَالَ عِنْدَ مَوْتِهِ وَاَللّهِ مَا اكْتَسَبْت فِي وِلَايَتِي كُلّهَا إلّا قَمِيصًا مُعَقّدًا كَسَوْته غُلَامِي كَيْسَانَ وَكَانَ قَدْ قَالَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ وَسَمِعَ بِلَالًا يُؤَذّنُ عَلَى الْكَعْبَةِ ، لَقَدْ أَكْرَمَ اللّهُ أَسِيدًا ، يَعْنِي : أَبَاهُ أَنْ لَا يَكُونَ سَمِعَ هَذَا فَيَسْمَعُ مَعَهُ مَا يَغِيظُهُ وَكَانَتْ تَحْتَ عَتّابٍ جُوَيْرِيّةُ بِنْتُ أَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ وَهِيَ الّتِي خَطَبَهَا عَلِيّ عَلَى فَاطِمَةَ فَشَقّ ذَلِكَ عَلَى فَاطِمَةَ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا آذَنُ ثُمّ لَا آذَنُ إنّ فَاطِمَةَ بَضْعَةٌ مِنّي الْحَدِيثَ فَقَالَ عَتّابٌ أَنَا أُرِيحُكُمْ مِنْهَا فَتَزَوّجَهَا ، فَوَلَدَتْ لَهُ عَبْدَ الرّحْمَنِ الْمَقْتُولَ يَوْمَ الْجَمَلِ يُرْوَى أَنّ عَتّابًا طَارَتْ بِكَفّهِ يَوْمَ قُتِلَ وَفِي الْكَفّ خَاتَمُهُ فَطَرَحَتْهَا بِالْيَمَامَةِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَعُرِفَتْ بِالْخَاتَمِ . [ ص 175 ]
الْحَنْفَاءُ بِنْتُ أَبِي جَهْلٍ
وَكَانَتْ لِأَبِي جَهْلٍ بِنْتٌ أُخْرَى ، يُقَالُ لَهَا : الْحَنْفَاءُ كَانَتْ تَحْتَ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو ، يُقَالُ إنّهَا وَلَدَتْ لَهُ ابْنَهُ أَنَسًا الّذِي كَانَ يَضْعُفُ وَفِيهِ جَرَى الْمَثَلُ أَسَاءَ سَمْعًا فَأَسَاءَ إجَابَةً وَيُقَالُ إنّهُ نَظَرَ يَوْمًا إلَى رَجُلٍ عَلَى نَاقَةٍ يَتْبَعُهَا خَرُوفٌ فَقَالَ يَا أَبَتْ أَذَاكَ الْخَرُوفُ مِنْ تِلْكَ النّاقَةِ ؟ فَقَالَ أَبُوهُ صَدَقَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ ، وَكَانَتْ حِينَ خَطَبَهَا قَالَتْ إنْ جَاءَتْ مِنْهُ حَلِيلَتُهُ بِوَلَدِ أَحْمَقَتْ وَإِنْ أَنْجَبَتْ فَعَنْ خَطَأٍ مَا أَنْجَبَتْ وَقَدْ قِيلَ فِي بِنْتِ أَبِي جَهْلٍ الْحَنْفَاءِ إنّ اسْمَهَا صَفِيّةُ فَاَللّهُ أَعْلَمُ . [ ص 176 ]
إسْلَامُ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ
وَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ ، وَقَدْ قِيلَ لَهُ أَلَا تَرَى مَا يَصْنَعُ مُحَمّدٌ مِنْ كَسْرِ الْآلِهَةِ وَنِدَاءِ هَذَا الْعَبْدِ الْأَسْوَدِ عَلَى الْكَعْبَةِ فَقَالَ إنْ كَانَ اللّهُ يَكْرَهُ هَذَا ، فَسَيُغَيّرُهُ ثُمّ حَسُنَ إسْلَامُهُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ بَعْدُ وَهَاجَرَ إلَى الشّامِ ، فَلَمْ يَزَلْ جَاهِدًا مُجَاهِدًا ، حَتّى اُسْتُشْهِدَ هُنَالِكَ رَحِمَهُ اللّهُ .
إسْلَامُ بِنْتِ أَبِي جَهْلٍ
وَأَمّا بِنْتُ أَبِي جَهْلٍ فَقَالَتْ حِينَ سَمِعَتْ الْأَذَانَ عَلَى الْكَعْبَةِ ، فَلَمّا قَالَ الْمُؤَذّنُ أَشْهَدُ أَنّ مُحَمّدًا رَسُولُ اللّهِ قَالَتْ عَمْرِي لَقَدْ أَكْرَمَك اللّهُ وَرَفَعَ ذِكْرَك ، فَلَمّا سَمِعَتْ حَيّ عَلَى الصّلَاةِ قَالَتْ أَمّا الصّلَاةُ فَسَنُؤَدّيهَا ، وَلَكِنْ وَاَللّهِ مَا تُحِبّ قُلُوبُنَا مَنْ قَتَلَ الْأَحِبّةَ ثُمّ قَالَتْ إنّ هَذَا الْأَمْرَ لَحَقّ ، وَقَدْ كَانَ الْمَلَكُ جَاءَ بِهِ أَبِي ، وَلَكِنْ كَرِهَ مُخَالَفَةَ قَوْمِهِ وَدِينَ آبَائِهِ . وَأَمّا أَبُو مَحْذُورَةَ الْجُمَحِيّ ، وَاسْمُهُ سَلَمَةُ بْنُ مِعْيَرٍ وَقِيلَ سَمُرَةُ فَإِنّهُ لَمّا سَمِعَ الْأَذَانَ وَهُوَ مَعَ فِتْيَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ خَارِجَ مَكّةَ أَقْبَلُوا يَسْتَهْزَؤُونَ وَيَحْكُونَ صَوْتَ الْمُؤَذّنِ غَيْظًا ، فَكَانَ أَبُو مَحْذُورَةَ مِنْ أَحْسَنِهِمْ صَوْتًا ، فَرَفَعَ صَوْتَهُ مُسْتَهْزِئًا بِالْأَذَانِ فَسَمِعَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَمَرَ [ ص 177 ] فَمَثَلَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ يَظُنّ أَنّهُ مَقْتُولٌ فَمَسَحَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَاصِيَتَهُ وَصَدْرَهُ بِيَدِهِ قَالَ فَامْتَلَأَ قَلْبِي وَاَللّهِ إيمَانًا وَيَقِينًا وَعَلِمْت أَنّهُ رَسُولُ اللّهِ فَأَلْقَى عَلَيْهِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - الْأَذَانَ وَعَلّمَهُ إيّاهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذّنَ لِأَهْلِ مَكّةَ ، وَهُوَ ابْنُ سِتّ عَشْرَةَ سَنَةً فَكَانَ مُؤَذّنَهُمْ حَتّى مَاتَ ثُمّ عَقِبَهُ بَعْدَهُ يَتَوَارَثُونَ الْأَذَانَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ وَفِي أَبِي مَحْذُورَةَ يَقُولُ الشّاعِرُ
أَمَا وَرَبّ الْكَعْبَةِ الْمَسْتُورَهْ ... وَمَا تَلَا مُحَمّدٌ مِنْ سُورَهْ
وَالنّغَمَاتِ مِنْ أَبِي مَحْذُورَهْ ... لَأَفْعَلَن فِعْلَةً مَذْكُورَهْ
هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ
وَأَمّا هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ امْرَأَةُ أَبِي سُفْيَانَ ، فَإِنّ مِنْ حَدِيثِهَا يَوْمَ الْفَتْحِ أَنّهَا بَايَعَتْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ عَلَى الصّفَا ، وَعُمَرُ دُونَهُ بِأَعْلَى الْعَقَبَةِ ، فَجَاءَتْ فِي نِسْوَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ يُبَايِعْنَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَعُمَرُ يُكَلّمُهُنّ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَمّا أَخَذَ عَلَيْهِنّ أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاَللّهِ شَيْئًا قَالَتْ هِنْدُ : قَدْ عَلِمْت أَنّهُ لَوْ كَانَ مَعَ اللّهِ غَيْرُهُ لَأَغْنَى عَنّا ، فَلَمّا قَالَ وَلَا يَسْرِقْنَ قَالَتْ وَهَلْ تَسْرِقُ الْحُرّةُ ، لَكِنْ يَا رَسُولَ اللّهِ أَبُو سُفْيَانَ رَجُلٌ مَسِيكٌ رُبّمَا أَخَذْت مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ مَا يُصْلِحُ وَلَدَهُ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خُذِي مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ " ، ثُمّ قَالَ إنّك لَأَنْتِ هِنْدُ ؟ " قَالَتْ نَعَمْ يَا رَسُولَ اللّهِ اُعْفُ عَنّي ، عَفَا اللّهُ عَنْك ، وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ حَاضِرًا ، فَقَالَ " أَنْتِ فِي حِلّ مِمّا أَخَذْت فَلَمّا قَالَ " وَلَا يَزْنِينَ " ، قَالَتْ وَهَلْ تَزْنِي الْحُرّةُ
يَا رَسُولَ اللّهِ فَلَمّا قَالَ " وَلَا يَعْصِينَك فِي مَعْرُوفٍ " ، قَالَتْ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي مَا أَكْرَمَك ، وَأَحْسَنَ مَا دَعَوْت إلَيْهِ فَلَمّا سَمِعَتْ " وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنّ " ، قَالَتْ وَاَللّهِ قَدْ رَبّيْنَاهُمْ صِغَارًا ، حَتّى قَتَلْتهمْ أَنْتَ وَأَصْحَابُك بِبَدْرِ كِبَارًا ، قَالَ فَضَحِكَ عُمَرُ مِنْ قَوْلِهَا حَتّى مَالَ .

خِرَاشٌ وَابْنُ الْأَثْوَعِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَنْدَرَ الْأَسْلَمِيّ ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ قَوْمِهِ . قَالَ . كَانَ مَعَنَا رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أَحْمَرُ بَأْسًا ، وَكَانَ رَجُلًا شُجَاعًا ، وَكَانَ إذَا نَامَ غَطّ غَطِيطًا مُنْكَرًا لَا يَخْفَى مَكَانَهُ فَكَانَ إذَا بَاتَ فِي حَيّهِ بَاتَ مُعْتَنِزًا ، فَإِذَا بُيّتَ الْحَيّ صَرَخُوا يَا أَحْمَرُ فَيَثُورُ مِثْلَ الْأَسَدِ لَا يَقُومُ لِسَبِيلِهِ شَيْءٌ . فَأَقْبَلَ غَزِيّ مِنْ هُذَيْلٍ يُرِيدُونَ حَاضِرَهُ حَتّى إذَا دَنَوْا مِنْ الْحَاضِرِ قَالَ ابْنُ الْأَثْوَعِ الْهُذَلِيّ : لَا تَعْجَلُوا عَلَيّ حَتّى أَنْظُرَ ، فَإِنْ كَانَ فِي الْحَاضِرِ أَحْمَرُ فَلَا سَبِيلَ إلَيْهِمْ فَإِنّ لَهُ غَطِيطًا لَا يَخْفَى ، قَالَ فَاسْتَمَعَ فَلَمّا سَمِعَ غَطِيطَهُ مَشَى إلَيْهِ [ ص 174 ] وَضَعَ السّيْفَ فِي صَدْرِهِ ثُمّ تَحَامَلَ عَلَيْهِ حَتّى قَتَلَهُ ثُمّ أَغَارُوا عَلَى الْحَاضِرِ فَصَرَخُوا يَا أَحْمَرُ وَلَا أَحْمَرَ لَهُمْ فَلَمّا كَانَ عَامُ الْفَتْحِ وَكَانَ الْغَدُ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ أَتَى ابْنُ الْأَثْوَعِ الْهُذَلِيّ حَتّى دَخَلَ مَكّةَ يَنْظُرُ وَيَسْأَلُ عَنْ أَمْرِ النّاسِ وَهُوَ عَلَى شِرْكِهِ فَرَأَتْهُ خُزَاعَةُ ، فَعَرَفُوهُ فَأَحَاطُوا بِهِ وَهُوَ إلَى جَنْبِ جِدَارٍ مِنْ جُدُرِ مَكّةَ ، يَقُولُونَ أَأَنْتَ قَاتِلُ أَحْمَرَ ؟ قَالَ نَعَمْ أَنَا قَاتِلُ أَحْمَرَ فَمَه ؟ قَالَ إذْ أَقْبَلَ خِرَاشُ بْنُ أُمَيّةَ مُشْتَمِلًا عَلَى السّيْفِ فَقَالَ هَكَذَا عَنْ الرّجُلِ وَوَاللّهِ مَا نَظُنّ إلّا أَنّهُ يُرِيدُ أَنْ يُفْرِجَ النّاسُ عَنْهُ . فَلَمّا انْفَرَجْنَا عَنْهُ حَمَلَ عَلَيْهِ فَطَعَنَهُ بِالسّيْفِ فِي بَطْنِهِ . فَوَاَللّهِ لَكَأَنّي أَنْظُرُ إلَيْهِ وَحِشْوَتُهُ تَسِيلُ مِنْ بَطْنِهِ وَإِنّ عَيْنَيْهِ لَتُرَنّقَانِ فِي رَأْسِهِ وَهُوَ يَقُولُ أَقَدْ فَعَلْتُمُوهَا يَا مَعْشَرَ خُزَاعَةَ ؟ حَتّى انْجَعَفَ فَوَقَعَ . فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَا مَعْشَرَ خُزَاعَةَ ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ عَنْ الْقَتْلِ فَقَدْ كَثُرَ الْقَتْلُ إنْ نَفَعَ لَقَدْ قَتَلْتُمْ قَتِيلًا لَأَدِيَنه قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ حَرْمَلَةَ الْأَسْلَمِيّ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ ، قَالَ لَمّا بَلَغَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا صَنَعَ خِرَاشُ بْنُ أُمَيّةَ ، قَالَ إنّ خِرَاشًا لَقَتّالٌ يَعِيبُهُ بِذَلِكَ . [ ص 175 ]
بَيْنَ أَبِي شُرَيْحٍ وَابْنِ سَعْدٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيّ ، عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيّ قَالَ لَمّا قَدِمَ عَمْرُو بْنُ الزّبَيْرِ مَكّةَ لِقِتَالِ أَخِيهِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الزّبَيْرِ ، جِئْته ، فَقُلْت لَهُ يَا هَذَا ، إنّا كُنّا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ افْتَتَحَ مَكّةَ ، فَلَمّا كَانَ الْغَدُ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ عَدَتْ خُزَاعَةُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ هُذَيْلٍ فَقَتَلُوهُ وَهُوَ مُشْرِكٌ فَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِينَا خَطِيبًا ، فَقَالَ يَا أَيّهَا النّاسُ إنّ اللّهَ حَرّمَ مَكّةَ يَوْمَ خَلَقَ السّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فَهِيَ حَرَامٌ مِنْ حَرَامٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا يَحِلّ لِامْرِئِ يُؤْمِنُ بِاَللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ فِيهَا دَمًا وَلَا يَعْضِدَ فِيهَا شَجَرًا ، لَمْ تُحْلَلْ لِأَحَدِ كَانَ قَبْلِي ، وَلَا تَحِلّ لِأَحَدِ يَكُونُ بَعْدِي ، وَلَمْ تُحْلَلْ لِي إلّا هَذِهِ السّاعَةَ غَضَبًا عَلَى أَهْلِهَا أَلَا : ثُمّ قَدْ رَجَعَتْ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ فَلْيُبَلّغْ الشّاهِدُ مِنْكُمْ الْغَائِبَ فَمَنْ قَالَ لَكُمْ أَنّ رَسُولَ اللّهِ قَاتَلَ فِيهَا ، فَقُولُوا : إنّ اللّهَ قَدْ أَحَلّهَا لِرَسُولِهِ وَلَمْ يُحْلِلْهَا لَكُمْ يَا مَعْشَرَ خُزَاعَةَ ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ عَنْ الْقَتْلِ فَلَقَدْ كَثُرَ الْقَتْلُ إنْ نَفَعَ لَقَدْ قَتَلْتُمْ قَتِيلًا لَأَدِيَنه ، فَمَنْ قُتِلَ بَعْدَ مُقَامِي هَذَا فَأَهْلُهُ بِخَيْرِ النّظَرَيْنِ إنْ شَاءُوا فَدَمُ قَاتِلِهِ وَإِنْ شَاءُوا فَعَقْلُهُ ثُمّ وَدَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ذَلِكَ الرّجُلَ الّذِي قَتَلَتْهُ خُزَاعَةُ ، فَقَالَ عَمْرٌو لِأَبِي شُرَيْحٍ انْصَرِفْ أَيّهَا الشّيْخُ فَنَحْنُ أَعْلَمُ بِحُرْمَتِهَا مِنْك ، إنّهَا لَا تَمْنَعُ سَافِكَ دَمٍ وَلَا خَالِعَ طَاعَةٍ وَلَا مَانِعَ جِزْيَةٍ فَقَالَ أَبُو شُرَيْحٍ إنّي كُنْت شَاهِدًا وَكُنْت غَائِبًا ، وَلَقَدْ أَمَرَنَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يُبَلّغَ شَاهِدُنَا غَائِبَنَا ، وَقَدْ أَبْلَغْتُك ، فَأَنْتَ وَشَأْنُك .
أَوّلُ مَنْ وُدِيَ يَوْمَ الْفَتْحِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَبَلَغَنِي أَنّ أَوّلَ قَتِيلٍ وَدَاهُ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ جُنَيْدِبُ بْنُ الْأَكْوَعِ قَتَلَتْهُ بَنُو كَعْبٍ ، فَوَدَاهُ بِمِائَةِ نَاقَةٍ .
Sعَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ لَا عَمْرُو بْنُ الزّبَيْرِ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيّ وَاسْمُهُ خُوَيْلِدُ بْنُ عَمْرٍو ، وَقِيلَ عَمْرُو بْنُ خُوَيْلِدٍ ، وَقِيلَ كَعْبُ بْنُ عَمْرٍو ، وَقِيلَ هَانِئُ بْنُ عَمْرٍو ، قَالَ لَمّا قَدِمَ عَمْرُو بْنُ الزّبَيْرِ [ ص 178 ] لِقِتَالِ أَخِيهِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الزّبَيْرِ بِمَكّةَ هَذَا وَهْمٌ مِنْ ابْنِ هِشَامٍ ، وَصَوَابُهُ عَمْرُو بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ أُمَيّةَ ، وَهُوَ الْأَشْدَقُ وَيُكَنّى أَبَا أُمَيّةَ وَهُوَ الّذِي كَانَ يُسَمّى لَطِيمَ الشّيْطَانِ وَكَانَ جَبّارًا شَدِيدَ الْبَأْسِ حَتّى خَافَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ عَلَى مَكّةَ ، فَقَتَلَهُ بِحِيلَةِ فِي خَبَرٍ طَوِيلٍ وَرَأَى رَجُلٌ عِنْدَ مَوْتِهِ فِي الْمَنَامِ قَائِلًا يَقُولُ
أَلَا يَا لَقَوْمِي لِلسّفَاهَةِ وَالْوَهْنِ ... وَلِلْعَاجِزِ الْمَوْهُونِ وَالرّأْيِ فِي الْأَفْنِ
وَلِابْنِ سَعِيدٍ بَيْنَمَا هُوَ قَائِمٌ ... عَلَى قَدَمَيْهِ خَرّ لِلْوَجْهِ وَالْبَطْنِ
رَأَى الْحِصْنَ مَنْجَاةً مِنْ الْمَوْتِ فَالْتَجَا ... إلَيْهِ فَزَارَتْهُ الْمَنِيّةُ فِي الْحِصْنِ
فَقَصّ رُؤْيَاهُ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَكْتُمَهَا ، حَتّى كَانَ مِنْ قَتْلِهِ مَا كَانَ وَهُوَ الّذِي خَطَبَ بِالْمَدِينَةِ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَرَعَفَ حَتّى سَالَ الدّمُ إلَى أَسْفَلِهِ فَعُرِفَ بِذَلِكَ مَعْنَى حَدِيثِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ الّذِي يُرْوَى عَنْهُ كَأَنّي بِجَبّارِ مِنْ بَنِي أُمَيّةَ يَرْعُفُ عَلَى مِنْبَرِي هَذَا حَتّى يَسِيلَ الدّمُ إلَى أَسْفَلِهِ أَوْ كَمَا قَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَعُرِفَ الْحَدِيثُ فِيهِ فَالصّوَابُ إذًا عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ لَا عَمْرُو بْنُ الزّبَيْرِ ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ ، وَهَكَذَا وَقَعَ فِي الصّحِيحَيْنِ . ذَكَرَ هَذَا التّنْبِيهَ عَلَى ابْنِ هِشَامٍ أَبُو عُمَرَ - رَحِمَهُ اللّهُ - فِي كِتَابِ الْأَجْوِبَةِ عَنْ الْمَسَائِلِ الْمُسْتَغْرَبَةِ وَهِيَ مَسَائِلُ مِنْ كِتَابِ الْجَامِعِ لِلْبُخَارِيّ تَكَلّمَ عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ وَإِنّمَا دَخَلَ الْوَهْمُ عَلَى ابْنِ هِشَامٍ أَوْ عَلَى الْبَكّائِيّ فِي رِوَايَتِهِ مِنْ أَجْلِ أَنّ عَمْرَو بْنَ الزّبَيْرِ ، كَانَ مُعَادِيًا لِأَخِيهِ عَبْدِ اللّهِ وَمُعِينًا لِبَنِي أُمَيّةَ عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الْفِتْنَةِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .

الْأَنْصَارُ يَتَخَوّفُونَ مِنْ بَقَاءِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي مَكّةَ
[ ص 176 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَبَلَغَنِي عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ افْتَتَحَ مَكّةَ وَدَخَلَهَا ، قَامَ عَلَى الصّفَا يَدْعُو اللّهَ وَقَدْ أَحْدَقَتْ بِهِ الْأَنْصَارُ ، فَقَالُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ أَتَرَوْنَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذْ فَتَحَ اللّهُ عَلَيْهِ أَرْضَهُ وَبَلَدَهُ يُقِيمُ بِهَا ؟ فَلَمّا فَرَغَ مِنْ دُعَائِهِ قَالَ مَاذَا قُلْتُمْ ؟ " قَالُوا : لَا شَيْءَ يَا رَسُولَ اللّهِ فَلَمْ يَزَلْ بِهِمْ حَتّى أَخْبَرُوهُ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَعَاذَ اللّهِ الْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ ، وَالْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ

كَسْرُ الْأَصْنَامِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الرّوَايَةِ فِي إسْنَادٍ لَهُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ الزّهْرِيّ ، عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ ، قَالَ دَخَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَكّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ عَلَى رَاحِلَتِهِ فَطَافَ عَلَيْهَا وَحَوْلَ الْبَيْتِ أَصْنَامٌ مَشْدُودَةٌ بِالرّصَاصِ فَجَعَلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُشِيرُ بِقَضِيبِ فِي يَدِهِ إلَى الْأَصْنَامِ وَيَقُولُ { جَاءَ الْحَقّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا } [ الْإِسْرَاءِ 81 ] فَمَا أَشَارَ إلَى صَنَمٍ مِنْهَا فِي وَجْهِهِ إلّا وَقَعَ لِقَفَاهُ وَلَا أَشَارَ إلَى قَفَاهُ إلّا وَقَعَ لِوَجْهِهِ حَتّى مَا بَقِيَ مِنْهَا صَنَمٌ إلّا وَقَعَ فَقَالَ تَمِيمُ بْنُ أَسَدٍ الْخُزَاعِيّ فِي ذَلِكَ
وَفِي الْأَصْنَامِ مُعْتَبَرٌ وَعِلْمٌ ... لِمَنْ يَرْجُو الثّوَابَ أَوْ الْعِقَابَا

قِصّةُ إسْلَامِ فَضَالَةَ
[ ص 177 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي أَنّ فَضَالَةَ بْنَ عُمَيْرِ بْنِ الْمُلَوّحِ اللّيْثِيّ أَرَادَ قَتْلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عَامَ الْفَتْحِ فَلَمّا دَنَا مِنْهُ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " أَفَضَالَةَ ؟ " قَالَ نَعَمْ فَضَالَةَ يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ " مَا كَانَتْ تُحَدّثُ بِهِ نَفْسَك ؟ " قَالَ لَا شَيْءَ كُنْت أَذْكُرُ اللّهَ قَالَ فَضَحِكَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثُمّ قَالَ " اسْتَغْفِرْ اللّهَ " ، ثُمّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ فَسَكَنَ قَلْبُهُ فَكَانَ فَضَالَةُ يَقُولُ وَاَللّهِ مَا رَفَعَ يَدَهُ عَنْ صَدْرِي حَتّى مَا مِنْ خَلْقِ اللّهِ شَيْءٌ أَحَبّ إلَيّ مِنْهُ [ ص 178 ] قَالَ فَضَالَةُ فَرَجَعْت إلَى أَهْلِي ، فَمَرَرْت بِامْرَأَةِ كُنْت أَتَحَدّثُ إلَيْهَا ، فَقَالَتْ هَلُمّ إلَى الْحَدِيثِ فَقُلْت : لَا . وَانْبَعَثَ فَضَالَةُ يَقُولُ
قَالَتْ هَلُمّ إلَى الْحَدِيثِ فَقُلْت لَا ... يَأْبَى عَلَيْك اللّهُ وَالْإِسْلَامُ
لَوْ مَا رَأَيْت مُحَمّدًا وَقَبِيلَهُ ... بِالْفَتْحِ يَوْمَ تُكْسَرُ الْأَصْنَامُ
لَرَأَيْت دِينَ أَضْحَى بَيّنًا ... وَالشّرْكُ يَغْشَى وَجْهَهُ الْإِظْلَامُ

أَمَانُ الرّسُولِ لِصَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ
[ ص 179 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ ، قَالَ خَرَجَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ يُرِيدُ جُدّةَ لِيَرْكَبَ مَعَهَا إلَى الْيَمَنِ ، فَقَالَ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ يَا نَبِيّ اللّهِ إنّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيّةَ سَيّدُ قَوْمِهِ وَقَدْ خَرَجَ هَارِبًا مِنْك لِيَقْذِفَ نَفْسَهُ فِي الْبَحْرِ فَأَمّنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْك ؛ قَالَ " هُوَ آمِنٌ " ؟ قَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ فَأَعْطِنِي آيَةً يَعْرِفُ بِهَا أَمَانَك ؛ فَأَعْطَاهُ [ ص 180 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عِمَامَتَهُ الّتِي دَخَلَ فِيهَا مَكّةَ ، فَخَرَجَ بِهَا عُمَيْرٌ حَتّى أَدْرَكَهُ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَرْكَبَ فِي الْبَحْرِ فَقَالَ يَا صَفْوَانُ فِدَاك أَبِي وَأُمّي ، اللّهَ اللّهَ فِي نَفْسِك أَنْ تُهْلِكَهَا ، فَهَذَا أَمَانٌ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ جِئْتُك بِهِ قَالَ وَيْحَك اُغْرُبْ عَنّي فَلَا تُكَلّمْنِي ؛ قَالَ أَيْ صَفْوَانُ فِدَاك أَبِي وَأُمّي ، أَفْضَلُ النّاسِ وَأَبَرّ النّاسِ وَأَحْلَمُ النّاسِ وَخَيْرُ النّاسِ ابْنُ عَمّك ، عِزّهُ عِزّك ، وَشَرَفُهُ شَرَفُك ، وَمُلْكُهُ مُلْكُك ؛ قَالَ إنّي أَخَافُهُ عَلَى نَفْسِي ، قَالَ هُوَ أَحْلَمُ مِنْ ذَاكَ وَأَكْرَمُ فَرَجَعَ مَعَهُ حَتّى وَقَفَ بِهِ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ صَفْوَانُ إنّ هَذَا يَزْعُمُ أَنّك قَدْ أَمّنْتنِي ، قَالَ " صَدَقَ " ، قَالَ فَاجْعَلْنِي فِيهِ بِالْخِيَارِ شَهْرَيْنِ قَالَ أَنْتَ بِالْخِيَارِ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ صَفْوَانَ قَالَ لِعُمَيْرِ وَيْحَك اُغْرُبْ عَنّي ، فَلَا تُكَلّمْنِي ، فَإِنّك كَذّابٌ لِمَا كَانَ صَنَعَ بِهِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي آخِرِ حَدِيثِ يَوْمِ بَدْرٍ . [ ص 181 ]
إسْلَامُ عِكْرِمَةَ وَصَفْوَانَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي الزّهْرِيّ : أَنّ أُمّ حَكِيمٍ بِنْتَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ وَفَاخِتَةَ بِنْتَ الْوَلِيدِ - وَكَانَتْ فَاخِتَةُ عِنْدَ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ ، وَأُمّ حَكِيمٍ عِنْدَ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ أَسْلَمَتَا ؛ فَأَمّا أُمّ حَكِيمٍ فَاسْتَأْمَنَتْ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِعِكْرِمَةَ فَأَمّنَهُ فَلَحِقَتْ بِهِ بِالْيَمَنِ فَجَاءَتْ بِهِ فَلَمّا أَسْلَمَ عِكْرِمَةُ وَصَفْوَانُ أَقَرّهُمَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عِنْدَهُمَا عَلَى النّكَاحِ الْأَوّلِ .
Sأُمّ حَكِيمٍ بِنْتُ الْحَارِثِ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ أُمّ حَكِيمٍ بِنْتَ الْحَارِثِ وَكَانَتْ تَحْتَ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ ، وَأَنّهَا اتّبَعَتْهُ [ ص 179 ] فَرّ مِنْ الْإِسْلَامِ فَاسْتَأْمَنَتْ لَهُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَاسْتُشْهِدَ عِكْرِمَةُ بِالشّامِ فَخَطَبَهَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ . وَخَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ ، فَخُطِبَتْ إلَى خَالِدٍ فَتَزَوّجَهَا ، فَلَمّا أَرَادَ الْبِنَاءَ بِهَا ، وَجُمُوعُ الرّومِ قَدْ احْتَشَدَتْ قَالَتْ لَهُ لَوْ أَمْهَلْت حَتّى يَفُضّ اللّهُ جَمْعَهُمْ قَالَ إنّ نَفْسِي تُحَدّثُنِي أَنّي أُصَابُ فِي جُمُوعِهِمْ فَقَالَتْ دُونَك ، فَابْتَنَى بِهَا ، فَلَمّا أَصْبَحَ الْتَقَتْ الْجُمُوعُ وَأَخَذَتْ السّيُوفُ مِنْ كُلّ فَرِيقٍ مَأْخَذَهَا فَقُتِلَ خَالِدٌ وَقَاتَلَتْ يَوْمَئِذٍ أُمّ حَكِيمٍ وَإِنّ عَلَيْهَا لِلرّدْعِ الْخَلُوقَ وَقَتَلَتْ سَبْعَةً مِنْ الرّومِ بِعَمُودِ الْفُسْطَاطِ بِقَنْطَرَةِ تُسَمّى إلَى الْيَوْمِ بِقَنْطَرَةِ أُمّ حَكِيمٍ وَذَلِكَ فِي غَزْوَةِ أَجْنَادِينَ .

دَمُ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ
وَذَكَرَ فِي خُطْبَةِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَلَا كُلّ مَأْثُرَةٍ أَوْ دَمٍ أَوْ مَالٍ يُدَعّى ، فَهُوَ تَحْتَ قَدَمَيّ هَاتَيْنِ وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ وَأَوّلُ دَمٍ أَضَعُهُ دَمُ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ . كَانَ لِرَبِيعَةَ ابْنٌ قُتِلَ فِي الْجَاهِلِيّةِ اسْمُهُ آدَمُ وَقِيلَ تَمّامٌ وَهُوَ رَبِيعَةُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، مَاتَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ .
حَوْلَ التّخْيِيرِ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَبَيْنَ الدّيَةِ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ فِي حَدِيثِ ابْنِ شُرَيْحٍ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السّلَامُ فَمَنْ قُتِلَ بَعْدَ مُقَامِي هَذَا ، فَأَهْلُهُ بِخَيْرِ النّظَرَيْنِ . إنْ شَاءُوا فَدَمُ قَاتِلِهِ وَإِنْ شَاءُوا فَعَقْلُه وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ فِيهِ أَلْفَاظُ الرّوَاةِ وَظَاهِرُهُ عَلَى هَذِهِ الرّوَايَةِ أَنّ وَلِيّ الدّمِ هُوَ الْمُخَيّرُ إنْ شَاءَ أَخَذَ الدّيَةَ وَهُوَ الْعَقْلُ وَإِنْ شَاءَ قَتَلَ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي فَصْلٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ أَنْ يَخْتَارَ وَلِيّ الْمَقْتُولِ أَخْذَ الدّيَةِ وَيَأْبَى الْقَاتِلُ إلّا أَنْ يُقْتَصّ مِنْهُ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَلَا اخْتِيَارَ لِلْقَاتِلِ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ يُقْتَلُ الْقَاتِلُ وَلَا يُجْبَرُ عَلَى إعْطَاءِ الْمَالِ وَتَأَوّلُوا الْحَدِيثَ وَهِيَ [ ص 180 ] ابْنِ الْقَاسِمِ ، وَقَالَ بِهَا طَائِفَةٌ مِنْ السّلَفِ وَقَالَ آخَرُونَ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُ الشّافِعِيّ ، وَأَشْهَبَ وَمَنْشَأُ الِاخْتِلَافِ مِنْ الِاحْتِمَالِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ } [ الْبَقَرَةِ 178 ] فَاحْتَمَلَتْ الْآيَةُ عِنْدَ قَوْمٍ أَنْ تَكُونَ مِنْ وَاقِعَةً عَلَى وَلِيّ الْمَقْتُولِ وَمِنْ أَخِيهِ أَيْ مِنْ وَلِيّهِ الْمَقْتُولِ أَيْ مِنْ دِيَتِهِ وَعُفِيَ لَهُ أَيْ يُسّرَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ الْمَالِ وَاحْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ مِنْ وَاقِعَةً عَلَى الْقَاتِلِ وَعُفِيَ مِنْ الْعَفْوِ عَنْ الدّمِ وَلَا خِلَافَ أَنّ الْمُتّبِعَ بِالْمَعْرُوفِ هُوَ وَلِيّ الدّمِ وَأَنّ الْمَأْمُورَ بِأَدَاءِ بِإِحْسَانِ هُوَ الْقَاتِلُ وَإِذَا تَدَبّرْت الْآيَةَ عَرَفْت مَنْشَأَ الْخِلَافِ مَعَهَا ، وَلَاحَ مِنْ سِيَاقَةِ الْكَلَامِ أَيّ الْقَوْلَيْنِ أَوْلَى بِالصّوَابِ . وَأَمّا مَا ذَكَرْت مِنْ اخْتِلَافِ أَلْفَاظِ النّقَلَةِ فِي الْحَدِيثِ فَيَحْصُرُهَا سَبْعَةُ أَلْفَاظٍ أَحَدُهَا : إمّا أَنْ يَقْتُلَ وَإِمّا أَنْ يُفَادِيَ . وَالثّانِي : إمّا أَنْ يُعْقَلَ أَوْ يُقَادَ . الثّالِثُ إمّا أَنْ يَفْدِيَ وَإِمّا أَنْ يُقْتَلَ . الرّابِعُ إمّا أَنْ تُعْطَى الدّيَةُ أَوْ يُقَادَ أَهْلُ الْقَتِيلِ . الْخَامِسُ إمّا أَنْ يَعْفُوَ أَوْ يَقْتُلَ . السّادِسُ يُقْتَلُ أَوْ يُفَادَى . السّابِعُ مَنْ قَتَلَ مُتَعَمّدًا دُفِعَ إلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ فَإِنْ شَاءُوا قَتَلُوا وَإِنْ شَاءُوا أَخَذُوا الدّيَةَ . خَرّجَهُ التّرْمِذِيّ . وَرِوَايَةُ ابْنِ إسْحَاقَ فِي السّيرَةِ ثَامِنَةٌ وَفِي بَعْضِ هَذِهِ الرّوَايَاتِ قُوّةٌ لِرِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ ، وَفِي بَعْضِهَا قُوّةٌ لِرِوَايَةِ أَشْهَبَ فَتَأَمّلْهَا . [ ص 181 ]
النّهْيُ عَنْ اشْتِمَالِ الصّمّاءِ وَالِاحْتِبَاءِ
وَخُطْبَتُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ أَطْوَلُ مِمّا ذَكَرَهُ ابْنُ هِشَامٍ ، وَفِيهَا مِنْ رِوَايَةِ الشّيْبَانِيّ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ : نَهْيُهُ عَنْ صِيَامِ يَوْمَيْنِ وَصَلَاةِ سَاعَتَيْنِ يَعْنِي طُلُوعَ الشّمْسِ وَغُرُوبَهَا ، وَأَنْ لَا يَتَوَارَثَ أَهْلُ مِلّتَيْنِ وَعَنْ لُبْسَتَيْنِ وَطُعْمَتَيْنِ وَفُسّرَتَا فِي الْحَدِيثِ فَقَالَ اللّبْسَتَانِ اشْتِمَالُ الصّمّاءِ وَأَنْ يَحْتَبِيَ الرّجُلُ وَلَيْسَ بَيْنَ عَوْرَتِهِ وَالسّمَاءِ حِجَابٌ وَالطّعْمَتَانِ الْأَكْلُ بِالشّمَالِ وَأَنْ يَأْكُلَ مُنْبَطِحًا عَلَى بَطْنِهِ .

إسْلَامُ ابْنِ الزّبَعْرَى وَشِعْرُهُ فِي ذَلِكَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ حَسّانِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ رَمَى حَسّانُ ابْنَ الزّبَعْرَى وَهُوَ بِنَجْرَانَ بِبَيْتِ وَاحِدٍ مَا زَادَهُ عَلَيْهِ
لَا تَعْدَمْنَ رَجُلًا أَحَلّك بُغْضُهُ ... نَجْرَانَ فِي عَيْشٍ أَحَذّ لَئِيمِ
فَلَمّا بَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ الزّبَعْرَى خَرَجَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَسْلَمَ فَقَالَ حِينَ أَسْلَمَ [ ص 182 ]
يَا رَسُولَ الْمَلِيكِ إنّ لِسَانِي ... رَاتِقٌ مَا فَتَقْت إذْ أَنَا بُورُ
إذْ أُبَارِي الشّيْطَانَ فِي سُنَنِ الْغَيّ ... وَمَنْ مَالَ مَيْلُهُ مَثْبُورُ
آمَنَ اللّحْمُ وَالْعِظَامُ لِرَبّي ... ثُمّ قَلْبِي الشّهِيدُ أَنْتَ النّذِيرُ
إنّنِي عَنْك زَاجِرٌ ثَمّ حَيّا ... مِنْ لُؤَيّ وَكُلّهُمْ مَغْرُورُ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الزّبَعْرَى أَيْضًا حِينَ أَسْلَمَ [ ص 183 ]
مَنَعَ الرّقَادَ بَلَابِلٌ وَهُمُومُ ... وَاللّيْلُ مُعْتَلِجُ الرّوَاقِ بَهِيمُ
مِمّا أَتَانِي أَنّ أَحْمَدَ لَامَنِي ... فِيهِ فَبِتّ كَأَنّنِي مَحْمُومُ
يَا خَيْرَ مَنْ حَمَلَتْ عَلَى أَوْصَالِهَا ... عَيْرَانَةٌ سُرُحُ الْيَدَيْنِ غَشُومُ
إنّي لَمُعْتَذِرٌ إلَيْك مِنْ الّذِي ... أَسْدَيْت إذْ أَنَا فِي الضّلَالِ أَهِيمُ
أَيّامَ تَأْمُرُنِي بِأَغْوَى خُطّةٍ ... سَهْمٌ وَتَأْمُرُنِي بِهَا مَخْزُومُ
وَأَمُدّ أَسْبَابَ الرّدَى وَيَقُودُنِي ... أَمْرُ الْغُوَاةِ وَأَمْرُهُمْ مَشْئُومُ
فَالْيَوْمَ آمَنَ بِالنّبِيّ مُحَمّدٍ ... قَلْبِي وَمُخْطِئُ هَذِهِ مَحْرُومُ
مَضَتْ الْعَدَاوَةُ وَانْقَضَتْ أَسْبَابُهَا ... وَدَعَتْ أَوَاصِرُ بَيْنَنَا وَحُلُومُ
فَاغْفِرْ فِدًى لَك وَالِدِيّ كِلَاهُمَا ... زَلَلِي ، فَإِنّك رَاحِمٌ مَرْحُومُ
وَعَلَيْك مِنْ عِلْمِ الْمَلِيكِ عَلَامَةُ ... نُورٍ أَغَرّ وَخَاتَمٌ مَخْتُومُ
أَعْطَاك بَعْدَ مَحَبّةٍ بُرْهَانَهُ ... شَرَفًا وَبُرْهَانُ الْإِلَهِ عَظِيمُ
وَلَقَدْ شَهِدْت بِأَنّ دِينَك صَادِقٌ ... حَقّ وَأَنّك فِي الْعِبَادِ جَسِيمُ
وَاَللّهُ يَشْهَدُ أَنّ أَحْمَدَ مُصْطَفًى ... مُسْتَقْبَلٌ فِي الصّالِحِينَ كَرِيمُ
قَرْمٌ عَلَا بُنْيَانَهُ مِنْ هَاشِمٍ ... فَرْعٌ تَمَكّنَ فِي الذّرَا وَأُرُومُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَبَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشّعْرِ يُنْكِرُهَا لَهُ .
Sشِعْرُ ابْنِ الزّبَعْرَى
فَصْلٌ
وَذَكَرَ شِعْرَ ابْنِ الزّبَعْرَى : الزّبَعْرَى : الْبَعِيرُ الْأَزَبّ مَعَ قِصَرٍ وَفِيهِ رَاتِقٌ مَا فَتَقْت إذْ أَنَا بُورُ
[ ص 182 ] فَتَقْت يَعْنِي : فِي الدّينِ فَكُلّ إثْمٍ فَتْقٌ وَتَمْزِيقٌ وَكُلّ تَوْبَةٍ رَتْقٌ وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قِيلَ لِلتّوْبَةِ نَصُوحٌ مِنْ نَصَحْت إذَا خِطْته ، وَالنّصَاحُ الْخَيْطُ وَيَشْهَدُ لِصِحّةِ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ
نُرَقّعُ دُنْيَانَا بِتَمْزِيقِ دِينِنَا ... فَلَا دِينُنَا يَبْقَى ، وَلَا مَا نُرَقّعُ
وَقَوْلُهُ إذْ أَنَا بُورُ أَيْ هَالِكٌ يُقَالُ رَجُلٌ بُورٌ وَبَائِرٌ وَقَوْمٌ بُورٌ وَهُوَ جَمْعُ بَائِرٍ كَانَ الْأَصْلُ فِيهِ فُعُلٌ بِتَحْرِيكِ الْوَاوِ وَأَمّا رَجُلٌ بُورٌ فَوَزْنُهُ فُعْلٌ بِالسّكُونِ لِأَنّهُ وَصْفٌ بِالْمَصْدَرِ وَمِنْهُ قِيلَ أَرْضٌ بُورٌ مِنْ الْبَوَارِ وَهُوَ هَلَاكُ الْمَرْعَى وَيُبْسُهُ . وَقَوْلُ ابْنِ الزّبَعْرَى : وَاللّيْلُ مُعْتَلِجُ الرّوَاقِ بَهِيمُ
الِاعْتِلَاجُ شِدّةٌ وَقُوّةٌ وَقَدْ تَقَدّمَ شَرْحُهَا . وَالْبَهِيمُ الّذِي لَيْسَ فِيهِ لَوْنٌ يُخَالِطُ لَوْنَهُ . وَقَوْلُهُ سُرُحُ الْيَدَيْنِ غَشُومُ . الْغَشُومُ الّتِي لَا تُرَدّ عَنْ وَجْهِهَا ، وَيُرْوَى سَعُومُ وَهِيَ الْقَوِيّةُ عَلَى السّيْرِ . [ ص 183 ]

بَقَاءُ هُبَيْرَةَ عَلَى كُفْرِهِ وَشِعْرُهُ فِي إسْلَامِ زَوْجِهِ أُمّ هَانِئٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَأَمّا هُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ الْمَخْزُومِيّ فَأَقَامَ بِهَا حَتّى مَاتَ كَافِرًا ، وَكَانَتْ عِنْدَهُ أُمّ هَانِئٍ بِنْتُ أَبِي طَالِبٍ ، وَاسْمُهَا هِنْدٌ ، وَقَدْ قَالَ حِينَ بَلَغَهُ إسْلَامُ أُمّ هَانِئٍ
أَشَاقَتْك هِنْدٌ أَمْ أَتَاك سُؤَالُهَا ... كَذَاك النّوَى أَسْبَابُهَا وَانْفِتَالُهَا
وَقَدْ أَرَقّتْ فِي رَأْسِ حِصْنٍ مُمَنّعٍ ... بِنَجْرَانَ يَسْرِي بَعْدَ لَيْلٍ خَيَالُهَا
وَعَاذِلَةٍ هَبّتْ بِلَيْلِ تَلُومُنِي ... وَتَعْذِلُنِي بِاللّيْلِ ضَلّ ضَلَالُهَا
وَتَزْعُمُ أَنّي إنْ أَطَعْت عَشِيرَتِي ... سَأَرْدَى . وَهَلْ يُرْدِينِ إلّا زِيَالُهَا
فَإِنّي لَمِنْ قَرْمٍ إذَا جَدّ جَدّهُمْ ... عَلَى أَيّ حَالٍ أَصْبَحَ الْيَوْمَ حَالُهَا
وَإِنّي لَحَامٍ مِنْ وَرَاءِ عَشِيرَتِي ... إذَا كَانَ مِنْ تَحْتِ الْعَوَالِي مَجَالُهَا
وَصَارَتْ بِأَيْدِيهَا السّيُوفُ كَأَنّهَا ... مَخَارِيقُ وِلْدَانٍ وَمِنْهَا ظِلَالُهَا
وَإِنّي لَأَقْلَى الْحَاسِدِينَ وَفِعْلَهُمْ ... عَلَى اللّهِ رِزْقِي نَفْسُهَا وَعِيَالُهَا
وَإِنّ كَلَامَ الْمَرْءِ فِي غَيْرِ كُنْهِهِ ... لَكَالنّبْلِ تَهْوِي لَيْسَ فِيهَا نِصَالُهَا
فَإِنْ كُنْت قَدْ تَابَعْت دِينَ مُحَمّدٍ ... وَعَطَفَتْ الْأَرْحَامَ مِنْك حِبَالُهَا
فَكُونِي عَلَى أَعْلَى سَحِيقٍ بِهَضْبَةِ ... مُلَمْلَمَةٍ غَبْرَاءَ يَبْسٍ بِلَالُهَا
[ ص 184 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَيُرْوَى : وَقَطَعَتْ الْأَرْحَامَ مِنْك حِبَالُهَا

عُدّةُ مَنْ شَهِدَ فَتْحَ مَكّةَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ جَمِيعُ مَنْ شَهِدَ فَتْحَ مَكّةَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَشْرَةَ آلَافٍ . وَمِنْ بَنِي سُلَيْمٍ سَبْعُ مِائَةٍ وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ أَلْفٌ وَمِنْ بَنِي غِفَارٍ أَرْبَعُ مِائَةٍ وَمِنْ أَسْلَمَ أَرْبَعُ مِائَةٍ وَمِنْ مُزَيْنَةَ أَلْفٌ وَثَلَاثَةُ نَفَرٍ وَسَائِرُهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارِ وَحُلَفَائِهِمْ وَطَوَائِفُ الْعَرَبِ مِنْ تَمِيمٍ وَقَيْسٍ وَأَسَدٍ .

شِعْرُ حَسّانٍ فِي فَتْحِ مَكّةَ
وَكَانَ مِمّا قِيلَ مِنْ الشّعْرِ فِي يَوْمِ الْفَتْحِ قَوْلُ حَسّانِ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيّ [ ص 185 ] [ ص 186 ] [ ص 187 ] [ ص 188 ]
عَفَتْ ذَاتُ الْأَصَابِعِ فَالْجِوَاءُ ... إلَى عَذْرَاءَ مَنْزِلُهَا خِلَاءُ
دِيَارٌ مِنْ بَنِي الْحَسْحَاسِ قَفْرٌ ... تُعْفِيهَا الرّوَامِسُ وَالسّمَاءُ
وَكَانَتْ لَا يَزَالُ بِهَا أَنِيسٌ ... خِلَالَ مُرُوجِهَا نَعَمٌ وَشَاءُ
فَدَعْ هَذَا وَلَكِنْ مِنْ لِطَيْفِ ... يُؤَرّقُنِي إذَا ذَهَبَ الْعِشَاءُ
لِشَعْثَاءَ الّتِي قَدْ تَيّمَتْهُ ... فَلَيْسَ لِقَلْبِهِ مِنْهَا شِفَاءُ
كَأَنّ خَبِيئَةً مِنْ بَيْتِ رَأْسٍ ... يَكُونُ مِزَاجَهَا عَسَلٌ وَمَاءُ
إذَا مَا الْأَشْرِبَاتُ ذُكِرْنَ يَوْمًا ... فَهُنّ لِطَيّبِ الرّاحِ الْفِدَاءُ
فَوَلِيّهَا الْمَلَامَةَ إنْ أَلَمْنَا ... إذَا مَا كَانَ مَغْثٌ أَوْ لَحَاءُ
وَنَشْرَبُهَا فَتَتْرُكُنَا مُلُوكًا ... وَأُسْدًا مَا يُنَهْنِهُنَا اللّقَاءُ
عَدِمْنَا خَيْلَنَا إنْ لَمْ تَرْوِهَا ... تُثِيرُ النّقْعَ مَوْعِدُهَا كَدَاءُ
يُنَازِعْنَ الْأَعِنّةَ مُصْغِيَاتٍ ... عَلَى أَكْتَافِهَا الْأَسَلُ الظّمَاءُ
تَظَلّ جِيَادُنَا مُتَمَطّرَاتٍ ... يَلْطُمُهُنّ بِالْخُمُرِ النّسَاءُ
فَإِمّا تُعْرِضُوا عَنّا اعْتَمَرْنَا ... وَكَانَ الْفَتْحُ وَانْكَشَفَ الْغِطَاءُ
وَإِلّا فَاصْبِرُوا لِجِلَادِ يَوْمٍ ... يُعِينُ اللّهُ فِيهِ مَنْ يَشَاءُ
وَجِبْرِيلُ رَسُولُ اللّهِ فِينَا ... وَرُوحُ الْقُدْسِ لَيْسَ لَهُ كِفَاءُ
وَقَالَ اللّهُ قَدْ أَرْسَلْت عَبْدًا ... يَقُولُ الْحَقّ إنْ نَفَعَ الْبَلَاءُ
شَهِدْت بِهِ فَقُومُوا صَدّقُوهُ ... فَقُلْتُمْ لَا نَقُومُ وَلَا نَشَاءُ
وَقَالَ اللّهُ قَدْ سَيّرْت جُنْدًا ... هُمْ الْأَنْصَارُ عُرْضَتُهَا اللّقَاءُ
لَنَا فِي كُلّ يَوْمٍ مِنْ مَعَدّ ... سِبَابٌ أَوْ قِتَالٌ أَوْ هِجَاءُ
فَنُحْكِمُ بِالْقَوَافِي مَنْ هَجَانَا ... وَنَضْرِبُ حِينَ تَخْتَلِطُ الدّمَاءُ
أَلَا أَبْلِغْ أَبَا سُفْيَانَ عَنّي ... مُغَلْغَلَةً فَقَدْ بَرِحَ الْخَفَاءُ
[ ص 189 ] ... وَعَبْدُ الدّارِ سَادَتُهَا الْإِمَاءُ
هَجَوْت مُحَمّدًا وَأَجَبْت عَنْهُ ... وَعِنْدَ اللّهِ فِي ذَاكَ الْجَزَاءُ
أَتَهْجُوهُ وَلَسْت لَهُ بِكُفْءِ ... فَشَرّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ
هَجَوْت مُبَارَكًا بَرّا حَنِيفًا ... أَمِينَ اللّهِ شِيمَتُهُ الْوَفَاءُ
أَمَنْ يَهْجُو رَسُولَ اللّهِ مِنْكُمْ ... وَيَمْدَحُهُ وَيَنْصُرُهُ سَوَاءُ ؟
فَإِنّ أَبِي وَوَالِدَهُ وَعِرْضِي ... لِعَرْضِ مُحَمّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ
لِسَانِي صَارِمٌ لَا عَيْبَ فِيهِ ... وَبَحْرِي لَا تُكَدّرُهُ الدّلَاءُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَالَهَا حَسّانُ يَوْمَ الْفَتْحِ وَيُرْوَى : لِسَانِي صَارِمٌ لَا عَتْبَ فِيهِ " وَبَلَغَنِي عَنْ الزّهْرِيّ أَنّهُ قَالَ لَمّا رَأَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ النّسَاءَ يَلْطِمْنَ الْخَيْلَ بِالْخُمُرِ تَبَسّمَ إلَى أَبِي بَكْرٍ الصّدّيقِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ
Sحَوْلَ شِعْرِ حَسّانٍ
[ ص 184 ] وَذَكَرَ شِعْرَ حَسّانٍ يَوْمَ الْفَتْحِ وَأَوّلُهُ عَفَتْ ذَاتُ الْأَصَابِعِ فَالْجِوَاءُ
ذَاتُ الْأَصَابِعِ : مَوْضِعٌ بِالشّامِ وَالْجِوَاءُ كَذَلِكَ وَبِالْجِوَاءِ كَانَ مَنْزِلُ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي شِمْرٍ ، وَكَانَ حَسّانُ كَثِيرًا مَا يَرِدُ عَلَى مُلُوكِ غَسّانَ بِالشّامِ يَمْدَحُهُمْ فَلِذَلِكَ يَذْكُرُ هَذِهِ الْمَنَازِلَ . وَقَوْلُهُ إلَى عَذْرَاءَ ، هِيَ قَرْيَةٌ عِنْدَ دِمَشْقَ ، فِيهَا قُتِلَ حُجْرُ بْنُ عَدِيّ وَأَصْحَابُهُ . وَقَوْلُهُ نَعَمٌ وَشَاءُ . النّعَمُ الْإِبِلُ فَإِذَا قِيلَ أَنْعَامٌ دَخَلَ فِيهَا الْغَنَمُ وَالْبَقَرُ وَالْإِبِلُ . وَالشّاءُ وَالشّوِيّ : اسْمٌ لِلْجَمِيعِ كَالضّأْنِ وَالضّئِينِ وَالْإِبِلِ وَالْإِبِيلِ وَالْمَعْزِ وَالْمَعِيزِ وَأَمّا الشّاةُ فَلَيْسَتْ مِنْ لَفْظِ الشّاءِ لِأَنّ لَامَ الْفِعْلِ مِنْهَا هَاءٌ . وَبَنُو الْحَسْحَاسِ : حَيّ مِنْ بَنِي أَسَدٍ . [ ص 185 ] وَنَحْوِهِ وَلَا مِنْ قَوْلِهِ
إذَا سَقَطَ السّمَاءُ بِأَرْضِ قَوْمٍ ... رَعَيْنَاهُ وَإِنْ كَانُوا غِضَابَا
لِأَنّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ مَطَرَ السّمَاءِ فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَلَكِنْ إنّمَا عَرَفْنَاهُ مِنْ قَوْلِهِمْ فِي جَمْعِهِ سُمَيّ وَهُمْ يَقُولُونَ فِي جَمْعِ السّمَاءِ سَمَوَاتٌ وَأَسْمِيَةٌ فَعَلِمْنَا أَنّهُ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ شَيْئَيْنِ . وَقَوْلُهُ وَلَكِنْ مَنْ لِطَيْفِ . الطّيْفُ مَصْدَرُ طَافَ الْخَيَالُ يَطِيفُ طَيْفًا ، وَلَكِنْ لَا يُقَالُ لِلْخَيَالِ هُوَ طَائِفٌ عَلَى وَزْنِ اسْمِ الْفَاعِلِ مِنْ طَافَ لِأَنّهُ لَا حَقِيقَةَ لِلْخَيَالِ فَيَرْجِعُ الْأَمْرُ إلَى أَنّهُ هُوَ الطّيْفُ وَهُوَ تَوَهّمٌ وَتَخَيّلٌ فَإِنْ كَانَ شَيْءٌ لَهُ حَقِيقَةٌ قُلْت فِيهِ طَائِفٌ وَفِي مَصْدَرِهِ طَيْفٌ كَمَا فِي التّنْزِيلِ { طَائِفٌ مِنَ الشّيْطَانِ } [ الْأَعْرَافِ 201 ] وَقَدْ قُرِئَ أَيْضًا " طَيْفٌ مِنْ الشّيْطَان " ، لِأَنّ غُرُورَ الشّيْطَانِ وَأَمَانِيّهُ تُشَبّهُ بِالْخَيَالِ وَمَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ . وَأَمّا قَوْلُهُ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبّك [ الْقَلَمِ 19 ] فَلَيْسَ فِيهِ إلّا اسْمُ الْفَاعِلِ دُونَ الْمَصْدَرِ لِأَنّ الّذِي طَافَ عَلَيْهَا لَهُ حَقِيقَةٌ وَهُوَ فَاعِلٌ مَعْرُوفٌ بِالْفِعْلِ يُقَالُ إنّهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ ، فَتَحَصّلَ مِنْ هَذَا ثَلَاثُ مَرَاتِبَ الْخَيَالُ وَلَا حَقِيقَةَ لَهُ فَلَا يُعَبّرُ عَنْهُ إلّا بِالطّيْفِ وَحَدِيثُ الشّيْطَانِ وَوَسْوَسَتُهُ يُقَالُ فِيهِ طَائِفٌ وَطَيْفٌ وَكُلّ طَائِفٍ سِوَى هَذَيْنِ فَهُوَ اسْمُ فَاعِلٍ لَا يُعَبّرُ عَنْهُ بِطَيْفِ وَلَا بِطَوَافِ فَقِفْ عَلَى هَذِهِ النّكْتَةِ فِيهِ . وَقَوْلُهُ يُؤَرّقُنِي إذَا ذَهَبَ الْعِشَاءُ
أَيْ يُسَهّرُنِي ، فَيُقَالُ كَيْفَ يُسَهّرُهُ الطّيْفُ وَالطّيْفُ حُلْمٌ فِي الْمَنَامِ ؟ . فَالْجَوَابُ أَنّ الّذِي يُؤَرّقُهُ لَوْعَةٌ يَجِدُهَا عِنْدَ زَوَالِهِ كَمَا قَالَ [ حَبِيبُ بْنُ أَوْسٍ أَبُو تَمّامٍ ] الطّائِيّ :
ظَبْيٌ تَقَنّصْتُهُ لَمّا نَصَبْت لَهُ ... مِنْ آخِرِ اللّيْلِ أَشْرَاكًا مِنْ الْحُلْمِ
ثُمّ انْثَنَى ، وَبِنَا مِنْ ذِكْرِهِ سَقَمٌ ... بَاقٍ وَإِنْ كَانَ مَعْسُولًا مِنْ السّقَمِ
وَقَدْ أَحْسَنَ فِي قَوْلِهِ مِنْ آخِرِ اللّيْلِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنّهُ سَهِرَ لَيْلَهُ كُلّهُ إلّا سَاعَةً جَاءَ الْخَيَالُ مِنْ آخِرِهِ فَكَأَنّهُ مُسْتَرَقٌ مِنْ قَوْلِ حَسّانٍ وَخَيَالٌ إذَا تَقُومُ النّجُومُ
[ ص 186 ] الْبُحْتُرِيّ
أَلَمّتْ بِنَا بَعْدَ الْهُدُوّ فَسَامَحَتْ ... بِوَصْلِ مَتَى تَطْلُبْهُ فِي الْجِدّ تَمْنَعْ
وَوَلّتْ كَأَنّ الْبَيْنَ يَخْلُجُ شَخْصَهَا ... أَوَانَ تَوَلّتْ مِنْ حِشَائِي وَأَضْلُعِي
وَقَوْلُهُ لِشَعْثَاءَ الّتِي قَدْ تَيّمَتْهُ
شَعْثَاءُ الّتِي يُشَبّبُ بِهَا حَسّانُ هِيَ بِنْتُ سَلّامِ بْنِ مِشْكَمٍ الْيَهُودِيّ وَرُوِيَ أَنّهُ قَالَ يَا مَعْشَرَ يَهُودَ قَدْ عَلِمْتُمْ أَنّ مُحَمّدًا نَبِيّ ، وَلَوْلَا أَنْ تُعَيّرَ بِهَا شَعْثَاءُ ابْنَتِي لَتَبِعْته ، وَقَدْ كَانَتْ تَحْتَ حَسّانٍ أَيْضًا امْرَأَةٌ اسْمُهَا شَعْثَاءُ بِنْتُ كَاهِنٍ الْأَسْلَمِيّةُ وَلَدَتْ لَهُ أُمّ فِرَاسٍ . وَقَوْلُهُ كَأَنّ خَبِيئَةً مِنْ بَيْتِ رَأْسٍ
إلَى آخِرِهِ خَبَرُ كَأَنّ فِي هَذَا الْبَيْتِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ كَأَنّ فِي فِيهَا خَبِيئَةً وَمِثْلُ هَذَا الْمَحْذُوفِ فِي النّكِرَاتِ حَسَنٌ كَقَوْلِهِ إنّ مَحَلّا وَإِنّ مُرْتَحِلًا
أَيْ إنّ لَنَا مَحَلّا ، وَكَقَوْلِ الْآخَرِ وَلَكِنّ زِنْجِيّا طَوِيلًا مَشَافِرُهْ
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيّ فِي صِفَةِ الدّجّالِ أَعْوَرَ كَأَنّ عِنَبَةً طَافِيَةً أَيْ كَأَنّ فِي عَيْنِهِ وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنّ بَعْدَ هَذَا الْبَيْتِ بَيْتًا فِيهِ الْخَبَرُ وَهُوَ
عَلَى أَنْيَابِهَا أَوْ طَعْمُ غَضّ ... مِنْ التّفّاحِ هَصَرَهُ اجْتِنَاءُ
وَهَذَا الْبَيْتُ مَوْضُوعٌ لَا يُشْبِهُ شِعْرَ حَسّانٍ وَلَا لَفْظَهُ . [ ص 187 ] نُوَلّيهَا الْمَلَامَةَ إنْ أَلَمْنَا
أَيْ إنْ أَتَيْنَا بِمَا نُلَامُ عَلَيْهِ صَرَفْنَا اللّوْمَ إلَى الْخَمْرِ وَاعْتَذَرْنَا بِالسّكْرِ . وَالْمَغْتُ الضّرْبُ بِالْيَدِ وَاللّحَاءُ الْمُلَاحَاةُ بِاللّسَانِ وَيُرْوَى أَنّ حَسّانًا مَرّ بِفِتْيَةِ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ فِي الْإِسْلَامِ فَنَهَاهُمْ فَقَالُوا : وَاَللّهِ لَقَدْ أَرَدْنَا تَرْكَهَا فَيُزَيّنُهَا لَنَا قَوْلُك : وَنَشْرَبُهَا فَتَتْرُكُنَا مُلُوكًا
فَقَالَ وَاَللّهِ لَقَدْ قُلْتهَا فِي الْجَاهِلِيّةِ وَمَا شَرِبْتهَا مُنْذُ أَسْلَمْت ، وَكَذَلِكَ قِيلَ إنّ بَعْضَ هَذِهِ الْقَصِيدَةِ قَالَهَا فِي الْجَاهِلِيّةِ وَقَالَ آخِرَهَا فِي الْإِسْلَامِ . مَعْنَى التّفْضِيلِ فِي شَرّكُمَا : وَفِيهَا يَقُولُ لِأَبِي سُفْيَانَ فَشَرّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ
وَفِي ظَاهِرُ اللّفْظِ بَشَاعَةٌ لِأَنّ الْمَعْرُوفَ أَنْ لَا يُقَالَ هُوَ شَرّهُمَا إلّا وَفِي كِلَيْهِمَا شَرّ ، وَكَذَلِكَ شَرّ مِنْك ، وَلَكِنّ سِيبَوَيْهِ قَالَ فِي كِتَابِهِ تَقُولُ مَرَرْت بِرَجُلِ شَرّ مِنْك ، إذَا نَقَصَ عَنْ أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ وَهَذَا يَدْفَعُ الشّنَاعَةَ عَنْ الْكَلَامِ الْأَوّلِ وَنَحْوٌ مِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ شَرّ صُفُوفِ الرّجَالِ آخِرُهَا يُرِيدُ نُقْصَانَ حَظّهِمْ عَنْ حَظّ الْأَوّلِ كَمَا قَالَ سِيبَوَيْهِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ التّفْضِيلَ فِي الشّرّ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
يَلْطِمُ أَوْ يُطَلّمُ
[ ص 188 ] يَلْطِمُهُنّ بِالْخُمُرِ النّسَاءُ
قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ فِي الْجَمْهَرَةِ كَانَ الْخَلِيلُ رَحِمَهُ اللّهُ يَرْوِي بَيْتَ حَسّانٍ يُطَلّمُهُنّ بِالْخُمُرِ وَيُنْكِرُ يُلَطّمُهُنّ وَيَجْعَلُهُ بِمَعْنَى : يَنْفُضُ النّسَاءُ بِخُمُرِهِنّ مَا عَلَيْهِنّ مِنْ غُبَارٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ وَأَتْبَعَ بِذَلِكَ ابْنُ دُرَيْدٍ قَوْلُهُ الطّلْمُ ضَرْبُك خُبْزَةَ الْمَلّةِ بِيَدِك لِتَنْفُضَ مَا عَلَيْهَا مِنْ الرّمَادِ وَالطّلْمَةُ الْخُبْزَةُ وَمَعَهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرَرْنَا بِقَوْمِ يُعَالِجُونَ طَلْمَةً لَهُمْ فَنَفَرْنَاهُمْ عَنْهَا ، فَاقْتَسَمْنَاهَا ، فَأَصَابَتْنِي مَعَهَا كِسْرَةٌ وَكُنْت أَسْمَعُ فِي بَلَدِي أَنّهُ مَنْ أَكَلَ الْخُبْزَ سَمِنَ فَجَعَلْت أَنْظُرُ فِي عِطْفِي : هَلْ ظَهَرَ فِيّ السّمَنُ بَعْدُ . وَمِمّا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رُئِيَ يَمْسَحُ وَجْهَ فَرَسِهِ بِرِدَائِهِ فَقَالَ عُوتِبْت اللّيْلَةَ فِي الْخَيْلِ وَفِيهَا : وَنُحْكِمُ بِالْقَوَافِي مَنْ هَجَانَا
[ ص 189 ] حَكَمَةِ الدّابّةِ وَهُوَ لِجَامُهَا ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى أَيْضًا : نُفْحِمُهُمْ وَنُخْرِسُهُمْ فَتَكُونُ قَوَافِينَا لَهُمْ كَالْحَكَمَاتِ لِلدّوَابّ قَالَ زُهَيْرٌ قَدْ أُحْكِمَتْ حَكَمَاتِ الْقَدّ وَالْأَبْقَا
وَفِي هَذِهِ الْقَصِيدَةِ مَوْعِدُهَا كَدَاءُ ، وَفِي رِوَايَةِ الشّيْبَانِيّ يَسِيلُ بِهَا كُدَيّ أَوْ كَدَاءُ . وَقَدْ ذَكَرْنَا كُدَيّا وَكَدَاءَ ، وَذَكَرْنَا مَعَهُمَا كُدًى ، وَزَادَ الشّيْبَانِيّ فِي رِوَايَتِهِ أَبْيَاتًا فِي هَذِهِ الْقَصِيدَةِ وَهِيَ
وَهَاجَتْ دُونَ قَتْلِ بَنِي لُؤَيّ ... جَذِيمَةُ إنّ قَتْلَهُمْ شِفَاءُ
وَحِلْفُ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي ضِرَارٍ ... وَحِلْفُ قُرَيْظَةَ فِينَا سَوَاءُ
أُولَئِكَ مَعْشَرٌ أَلّبُوا عَلَيْنَا ... فَفِي أَظْفَارِنَا مِنْهُمْ دِمَاءُ
سَتُبْصِرُ كَيْفَ نَفْعَلُ بِابْنِ حَرْبٍ ... بِمَوْلَاك الّذِينَ هُمْ الرّدَاءُ

شِعْرُ أَنَسِ بْنِ زُنَيْمٍ فِي الِاعْتِذَارِ إلَى الرّسُولِ
مِمّا قَالَ ابْنُ سَالِمٍ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ أَنَسُ بْنُ زُنَيْمٍ الدّيلِيّ يَعْتَذِرُ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِمّنْ كَانَ قَالَ فِيهِمْ عَمْرُو بْنُ سَالِمٍ الْخُزَاعِيّ :
أَأَنْتَ الّذِي تُهْدِي مَعَدّ بِأَمْرِهِ ... بَلْ اللّهُ يَهْدِيهِمْ وَقَالَ لَك اشْهَدْ
وَمَا حَمَلَتْ مِنْ نَاقَةٍ فَوْقَ رَحْلِهَا ... أَبَرّ وَأَوْفَى ذِمّةً مِنْ مُحَمّدِ
أَحَثّ عَلَى خَيْرٍ وَأَسْبَغَ نَائِلًا ... إذَا رَاحَ كَالسّيْفِ الصّقِيلِ الْمُهَنّدِ
وَأَكْسَى لِبُرْدِ الْخَالِ قَبْلَ ابْتِذَالِهِ ... وَأَعْطَى لِرَأْسِ السّابِقِ الْمُتَجَرّدِ
تَعَلّمْ رَسُولَ اللّهِ أَنّك مُدْرِكِي ... وَأَنّ وَعِيدًا مِنْك كَالْأَخْذِ بِالْيَدِ
تَعَلّمْ رَسُولَ اللّهِ أَنّك قَادِرٌ ... عَلَى كُلّ صِرْمٍ مُتْهِمِينَ وَمُنْجِدِ
تَعَلّمْ بِأَنّ الرّكْبَ رَكْبُ عُوَيْمِرٍ ... هُمْ الْكَاذِبُونَ الْمُخْلِفُو كُلّ مَوْعِدِ
ونَبّوْا رَسُولَ اللّهِ أَنّي هَجَوْته ... فَلَا حَمَلَتْ سَوْطِي إلَيّ إذَنْ يَدِي
سِوَى أَنّنِي قَدْ قُلْت وَيْلَ أُمّ فِتْيَةٍ ... أُصِيبُوا بِنَحْسِ لَا يُطْلَقُ وَأَسْعُدِ
أَصَابَهُمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ لِدِمَائِهِمْ ... كِفَاءُ فَعَزّتْ عِبْرَتِي وَتَبَلّدِي
فَإِنّك قَدْ أَخْفَرْت إنْ كُنْت سَاعِيًا ... بِعَبْدِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ وَابْنَةِ مَهْوَدِ
ذُؤَيْبٌ وَكُلْثُومٌ وَسَلْمَى تَتَابَعُوا ... جَمِيعًا فَإِلّا تَدْمَعْ الْعَيْنُ أَكْمَدْ
وَسَلْمَى وَسَلْمَى لَيْسَ حَيّ كَمِثْلِهِ ... وَإِخْوَتِهِ وَهَلْ مُلُوكٌ كَأَعْبُدِ ؟
فَإِنّي لَا دِينًا فَتَقْت وَلَا دَمًا ... هَرَقْت تَبِين عَالِمَ الْحَقّ وَاقْصِدْ
شِعْرُ بُدَيْلٍ فِي الرّدّ عَلَى ابْنِ زُنَيْمٍ
[ ص 191 ] بُدَيْلُ بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ ابْنُ أُمّ أَصْرَمَ ، فَقَالَ
بَكَى أَنَسٌ رَزْنًا فَأَعْوَلَهُ اُلْبُكَا ... فَأَلّا عَدِيّا إذْ تُطَلّ وَتُبْعَدُ
بَكَيْت أَبَا عَبْسٍ لِقُرْبِ دِمَائِهَا ... فَتُعْذِرَ إذْ لَا يُوقِدُ الْحَرْبَ مُوقَدُ
أَصَابَهُمْ يَوْمَ الْخَنَادِمِ فِتْيَةٌ ... كِرَامٌ فَسَلْ مِنْهُمْ نُفَيْلُ وَمَعْبَدُ
هُنَالِكَ إنْ تَسْفَحْ دُمُوعُك لَا تُلَمْ ... عَلَيْهِمْ وَإِنْ لَمْ تَدْمَعْ الْعَيْنُ فَاكْمَدُوا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ .
Sحَوْلَ شِعْرِ أَنَسِ بْنِ سُلَيْمٍ
فَصْلٌ
[ ص 190 ] وَذَكَرَ شِعْرَ أَنَسِ بْنِ سُلَيْمٍ الدّيلِيّ وَفِيهِ وَأَكْسَى لِبُرْدِ الْخَالِ قَبْلَ ابْتِذَالِهِ
الْخَالُ مِنْ بُرُودِ الْيَمَنِ وَهُوَ مِنْ رَفِيعِ الثّيَابِ وَأَحْسَبُهُ سُمّيَ بِالْخَالِ الّذِي بِمَعْنَى الْخُيَلَاءِ كَمَا قَالَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ : الْبَرّ أَبْغِي لَا الْخَالَ وَفِيهِ
تَعَلّمْ رَسُولَ اللّهِ أَنّك مُدْرِكِي ... وَأَنّ وَعِيدًا مِنْك كَالْأَخْذِ بِالْيَدِ
وَهَذَا الْبَيْتُ سَقَطَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ الْوَرْدِ كَذَا أَلْفَيْته فِي حَاشِيَةِ كِتَابِ الشّيْخِ رَحِمَهُ اللّهُ وَمَعْنَاهُ مِنْ أَحْسَنِ الْمَعَانِي يُنْظَرُ إلَى قَوْلِ النّابِغَةِ
فَإِنّك كَاللّيْلِ الّذِي هُوَ مُدْرِكِي ... وَإِنْ خِلْت أَنّ الْمُنْتَأَى عَنْك وَاسِعُ
خَطَاطِيفُ حُجْنٍ فِي حِبَالٍ مَتِينَةٍ ... تُمَدّ بِهَا أَيْدٍ إلَيْك نَوَازِعُ
[ ص 191 ] النّابِعَةِ وَالْقَسِيمُ الثّانِي كَالْبَيْتِ الثّانِي ، لَكِنّهُ أَطْبَعُ مِنْهُ وَأَوْجَزُ . وَقَوْلُ النّابِغَةِ كَاللّيْلِ فِيهِ مِنْ حُسْنِ التّشْبِيهِ مَا لَيْسَ فِي قَوْلِ الدّيلِيّ إلّا أَنّهُ يَسْمُجُ مِثْلُ هَذَا التّشْبِيهِ فِي النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِأَنّهُ نُورٌ وَهُدًى ، فَلَا يُشَبّهُ بِاللّيْلِ وَإِنّمَا حَسُنَ فِي قَوْلِ النّابِغَةِ أَنْ يَقُولَ كَاللّيْلِ وَلَمْ يَقُلْ كَالصّبْحِ لِأَنّ اللّيْلَ تُرْهَبُ غَوَائِلُهُ وَيُحْذَرُ مِنْ إدْرَاكِهِ مَا لَا يَحْذَرُ مِنْ النّهَارِ وَقَدْ أَخَذَ بَعْضُ الأندلسيين هَذَا الْمَعْنَى ، فَقَالَ فِي هَرَبِهِ مِنْ ابْنِ عَبّادٍ
كَأَنّ بِلَادَ اللّهِ وَهِيَ عَرِيضَةٌ ... تَشُدّ بِأَقْصَاهَا عَلَيّ الْأَنَامِلَا
فَأَيْنَ مَفَرّ الْمَرْءِ عَنْك بِنَفْسِهِ ... إذَا كَانَ يَطْوِي فِي يَدَيْك الْمَرَاحِلَا
وَهَذَا كُلّهُ مَعْنًى مُنْتَزَعٌ مِنْ الْقُدَمَاءِ . رَوَى الطّبَرِيّ أَنّ " منوشهر بْنَ إيرج بْنِ أفريدون بْنِ أَثَفَيَانِ " وَهُوَ الّذِي بُعِثَ مُوسَى عَلَيْهِ السّلَامُ فِي زَمَانِهِ أَعْنِي زَمَانَ منوشهر قَالَ حِينَ عَقَدَ التّاجَ عَلَى رَأْسِهِ فِي خُطْبَةٍ لَهُ طَوِيلَةٍ " أَيّهَا النّاسُ إنّ الْخَلْقَ لِلْخَالِقِ وَإِنّ الشّكْرَ لِلْمُنْعِمِ وَإِنّ التّسْلِيمَ لِلْقَادِرِ وَإِنّهُ لَا أَضْعَفَ مِنْ مَخْلُوقٍ طَالِبًا أَوْ مَطْلُوبًا ، وَلَا أَقْوَى مِنْ طَالِبٍ طِلْبَتُهُ فِي يَدِهِ وَلَا أَعْجَزَ مِنْ مَطْلُوبٍ هُوَ فِي يَدِ طَالِبِهِ " .

شِعْرُ بُجَيْرٍ فِي يَوْمِ الْفَتْحِ
[ ص 192 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ بُجَيْرُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى فِي يَوْمِ الْفَتْحِ [ ص 193 ]
نَفَى أَهْلَ الْحَبَلّقِ كُلّ فَجّ ... مُزَيْنَةُ غُدْوَةً وَبَنُو خِفَافِ
ضَرَبْنَاهُمْ بِمَكّةَ يَوْمَ فَتْحِ النّ ... صَبَحْنَاهُمْ بِسَبْعِ مِنْ سُلَيْمٍ ... وَأَلْفٍ مِنْ بَنِي عُثْمَانَ وَافِ
نَطَا أَكْتَافَهُمْ ضَرْبًا وَطَعْنًا ... وَرَشْقًا بِالْمَرِيشَةِ اللّطَافِ
نَرَى بَيْنَ الصّفُوفِ لَهَا حَفِيفًا ... كَمَا انْصَاعَ الْفُوَاقُ مِنْ الرّصَافِ
فَرُحْنَا وَالْجِيَادُ تَجُولُ فِيهِمْ ... بِأَرْمَاحِ مُقَوّمَةِ الثّقَافِ
فَأُبْنَا غَانِمِينَ بِمَا اشْتَهَيْنَا ... وَآبُوا نَادِمِينَ عَلَى الْخِلَافِ
وَأَعْطَيْنَا رَسُولَ اللّهِ مِنّا ... مَوَاثِقَنَا عَلَى حُسْنِ التّصَافِي
وَقَدْ سَمِعُوا مَقَالَتَنَا فَهَمّوا ... غَدَاةَ الرّوْعِ مِنّا بِانْصِرَافِ
Sحَوْلَ شِعْرِ بُجَيْرِ بْنِ زُهَيْرٍ
192 وَأَنْشَدَ لِبُجَيْرِ بْنِ زُهَيْرٍ
نَفَى أَهْلَ الْحَبَلّقِ كُلّ فَجّ ... مُزَيْنَةُ غُدْوَةً وَبَنُو خِفَافِ
ا لْحَبَلّقُ أَرْضٌ يَسْكُنُهَا قَبَائِلُ مِنْ مُزَيْنَةَ ، وَقَيْسٍ : وَالْحَبَلّقُ الْغَنَمُ الصّغَارُ وَلَعَلّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ أَهْلَ الْحَبَلّقِ أَصْحَابَ الْغَنَمِ وَبَنُو عُثْمَانَ هُمْ مُزَيْنَةُ وَهُمْ بَنُو عُثْمَانَ بْنِ لَاطِمِ بْنِ أَدّ بْنِ طَابِخَةَ وَمُزَيْنَةُ أُمّهُمْ بِنْتُ كَلْبِ بْنِ وَبَرَةَ بْنِ تَغْلِبَ بْنِ حُلْوَانَ بْنِ الْحَافِ بْنِ قُضَاعَةَ ، وَأُخْتُهَا : الْحَوْأَبُ الّتِي عُرِفَ بِهَا مَاءُ الْحَوْأَبِ الْمَذْكُورُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ وَأَصْلُ الْحَوْأَبِ فِي اللّغَةِ الْقَدَحُ الضّخْمُ الْوَاسِعُ وَبَنُو خِفَافٍ بَطْنٌ مِنْ سُلَيْمٍ وَقَوْلُهُ
ضَرَبْنَاهُمْ بِمَكّةَ يَوْمَ فَتْحِ النّ ... فِي الْبَيْتِ مُدَاخَلَةٌ وَهُوَ انْتِهَاءُ الْقَسِيمِ الْأَوّلِ فِي بَعْضِ كَلِمَةٍ مِنْ الْقَسِيمِ الثّانِي ، وَهُوَ عَيْبٌ عِنْدَهُمْ إلّا فِي الْخَفِيفِ وَالْهَزَجِ وَمَعْنَى الْخَيْرِ أَيْ ذُو الْخَيْرِ وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ الْخَيّرَ فَخَفّفَ كَمَا يُقَالُ هَيْنٌ وَهَيّنٌ . وَفِي التّنْزِيلِ { خَيْرَاتٌ حِسَانٌ } [ الرّحْمَنِ 70 ] . وَقَوْلُهُ كَمَا انْصَاعَ الْفُوَاقُ مِنْ الرّصَافِ
أَيْ ذَهَبَ وَالرّصَافُ عَصَبَةٌ تُلْوَى عَلَى فَوْقِ السّهْمِ وَأَرَادَ بِالْفُوَاقِ الْفَوْقَ وَهُوَ غَرِيبٌ . [ ص 193 ] وَذَكَرَ صَاحِبُ الْعَيْنِ فِي الْفُوَاقِ صَوْتَ الصّدْرِ وَهُوَ بِالْهَمْزِ فِي قَوْلِ ابْنِ الْأَعْرَابِيّ ، لِأَنّهُ مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ .

شِعْرُ ابْنِ مِرْدَاسٍ فِي فَتْحِ مَكّةَ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَقَالَ ابْنُ مِرْدَاسٍ السّلَمِيّ فِي فَتْحِ مَكّةَ :
مِنّا بِمَكّةَ يَوْمَ فَتْحِ مُحَمّدٍ ... أَلْفٌ تَسْهِيلُ بِهِ الْبِطَاحُ مُسَوّمُ
نَصَرُوا الرّسُولَ وأشاهدا أَيّامِهِ ... وَشِعَارُهُمْ يَوْمَ اللّقَاءِ مُقَدّمُ
فِي مَنْزِلٍ ثَبَتَتْ بِهِ أَقْدَامُهُمْ ... ضَنْكٍ كَأَنّ الْهَامَ فِيهِ الْحَنْتَمُ
اللّهُ مُسَكّنُهُ لَهُ وَأَذَلّهُ ... حُكْمُ السّيُوفِ لَنَا وَجْدٌ مُزْحِم
عُودُ الرّيَاسَةِ شَامِخٌ عُرَنِيّتُهُ ... مُتَطَلّعٌ ثَغْرَ الْمَكَارِمِ خَضْرَمُ
إسْلَامُ عَبّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَكَانَ إسْلَامُ عَبّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ فِيمَا حَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشّعْرِ وَحَدِيثُهُ أَنّهُ كَانَ لِأَبِيهِ مِرْدَاسٍ وَثَنٌ يَعْبُدُهُ وَهُوَ حَجَرٌ كَانَ يُقَالُ لَهُ ضِمَارٌ ، فَلَمّا [ ص 194 ] حَضَرَ مِرْدَاسٌ قَالَ لِعَبّاسِ أَيْ بُنَيّ اُعْبُدْ ضَمَارِ فَإِنّهُ يَنْفَعُك وَيَضُرّك ، فَبَيْنَا عَبّاسٌ يَوْمًا عِنْدَ ضَمَارِ ، إذْ سَمِعَ مِنْ جَوْفِ ضَمَارِ مُنَادِيًا يَقُولُ
قُلْ لِلْقَبَائِلِ مِنْ سُلَيْمٍ كُلّهَا ... أَوْدَى ضِمَارٌ وَعَاشَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ
إنّ الّذِي وَرِثَ النّبُوّةَ وَالْهُدَى ... بَعْدَ ابْنِ مَرْيَمَ مِنْ قُرَيْشٍ مُهْتَدِي
أَوْدَى ضِمَارٌ وَكَانَ يُعْبَدُ مُدّةً ... قَبْلَ الْكِتَابِ إلَى النّبِيّ مُحَمّدِ
فَحَرَقَ عَبّاسٌ ضَمَارِ ، وَلَحِقَ بِالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَسْلَمَ .
Sعَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ وَاَلّذِينَ حَرّمُوا الْخَمْرَ
وَذَكَرَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ وَيُكَنّى أَبَا الْفَضْلِ وَقِيلَ أَبَا الْهَيْثَمِ وَمِنْ ذُرّيّتِهِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ فَقِيهُ الْأَنْدَلُسِ وَنَسَبُهُ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسِ بْنِ أَبِي عَامِرِ بْنِ جَارِيَةَ بْنِ عَبْدِ بْنِ عَبّاسِ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ بُهْثَةَ بْنِ سُلَيْمٍ السّلَمِيّ كَانَ أَبُوهُ حَاجِبًا لِحَرْبِ بْنِ أُمَيّةَ وَقَتَلَتْهُمَا الْجِنّ فِي خَبَرٍ مَشْهُورٍ وَعَبّاسٌ مِمّنْ حَرّمَ عَلَى نَفْسِهِ الْخَمْرَ فِي الْجَاهِلِيّةِ وَحَرّمَهَا أَيْضًا عَلَى نَفْسِهِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ وَعُثْمَانُ وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ ، وَقَيْسُ بْنُ [ ص 194 ] ، وَقَبْلَ هَؤُلَاءِ حَرّمَهَا عَلَى نَفْسِهِ عَبْدُ الْمُطّلِبِ بْنُ هَاشِمٍ وَوَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ جُدْعَانَ وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ ، وَمِنْ قُدَمَاءِ الْجَاهِلِيّةِ عَامِرُ بْنُ الظّرِبِ الْعُدْوَانِيّ . وَذَكَرَ فِي سَبَبِ إسْلَامِ عَبّاسٍ مَا سَمِعَ مِنْ جَوْفِ الصّنَمِ الّذِي كَانَ يَعْبُدُهُ وَهُوَ ضَمَارِ بِكَسْرِ الرّاءِ وَهُوَ مِثْلُ حَذَامِ وَرَقَاشِ وَلَا يَكُونُ مِثْلُ هَذَا الْبِنَاءِ إلّا فِي أَسْمَاءِ الْمُؤَنّثِ وَكَانُوا يَجْعَلُونَ آلِهَتَهُمْ إنَاثًا كَاَللّاتِي وَالْعُزّى وَمَنَاةَ لِاعْتِقَادِهِمْ الْخَبِيثَ فِي الْمَلَائِكَةِ أَنّهَا بَنَاتٌ . وَفِي ضَمَارِ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ ، وَبَنِيّ تَمِيمٍ الْبِنَاءُ عَلَى الْكَسْرِ لَا غَيْرُ مِنْ أَجْلِ أَنّ آخِرَهُ رَاءٌ وَمَا لَمْ يَكُنْ فِي آخِرِهِ رَاءٌ كَحَذَامِ وَرَقَاشِ فَهُوَ مَبْنِيّ فِي لُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ وَمُعْرَبٌ غَيْرُ مُجْرًى فِي لُغَةِ غَيْرِهِمْ كَذَلِكَ قَالَ سِيبَوَيْهِ . وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي الدّنْيَا فِي سَبَبِ إسْلَامِ عَبّاسٍ حَدِيثًا أَسْنَدَهُ عَنْ رِجَالِهِ عَنْ الزّهْرِيّ عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَنَسٍ السّلْمَانِيّ عَنْ عَبّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ أَنّهُ كَانَ فِي لِقَاحٍ لَهُ نِصْفَ النّهَارِ فَاطّلَعَتْ عَلَيْهِ نَعَامَةٌ بَيْضَاءُ عَلَيْهَا رَاكِبٌ عَلَيْهِ ثِيَابٌ بَيَاضٌ فَقَالَ لِي : يَا عَبّاسُ أَلَمْ تَرَ أَنّ السّمَاءَ كَفّتْ أَحْرَاسَهَا ، وَأَنّ الْحَرْبَ جَرَعَتْ أَنْفَاسَهَا ، وَأَنّ الْخَيْلَ وَضَعَتْ أَحْلَاسَهَا ، وَأَنّ الّذِي نَزَلَ عَلَيْهِ الْبِرّ وَالتّقَى يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لَيْلَةَ الثّلَاثَاءِ صَاحِبَ النّاقَةِ الْقَصْوَاءِ . قَالَ فَخَرَجْت مَرْعُوبًا قَدْ رَاعِنِي مَا رَأَيْت ، وَسَعَيْت ، حَتّى جِئْت وَثَنًا لِي ، يُقَالُ لَهُ الضّمَارِ كُنّا نَعْبُدُهُ وَنُكَلّمُ مِنْ جَوْفِهِ فَكَنَسْت مَا حَوْلَهُ ثُمّ تَمَسّحْت بِهِ فَإِذَا صَائِحٌ يَصِيحُ مِنْ جَوْفِهِ
قُلْ لِلْقَبَائِلِ مِنْ قُرَيْشٍ كُلّهَا ... هَلَكَ الضّمَارُ وَفَازَ أَهْلُ الْمَسْجِد
هَلَكَ الضّمَارُ وَكَانَ يُعْبَدُ مُدّةً ... قَبْلَ الصّلَاةِ عَلَى النّبِيّ مُحَمّدِ
إنّ الّذِي وَرِثَ النّبُوّةَ وَالْهُدَى ... بَعْدَ ابْنِ مَرْيَمَ مِنْ قُرَيْشٍ مُهْتَدِي
قَالَ فَخَرَجْت مَذْعُورًا حَتّى جِئْت قَوْمِي ، فَقَصَصْت عَلَيْهِمْ الْقِصّةَ وَأَخْبَرْتهمْ الْخَبَرَ فَخَرَجْت فِي ثَلَاثِمِائَةٍ مِنْ قَوْمِي مِنْ بَنِي جَارِيَةَ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْمَدِينَةِ فَدَخَلْنَا الْمَسْجِدَ فَلَمّا [ ص 195 ] رَآنِي النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَبَسّمَ وَقَالَ " إلَيّ يَا عَبّاسُ كَيْفَ إسْلَامُك ؟ " فَقَصَصْت عَلَيْهِ الْقِصّةَ فَقَالَ صَدَقْت ، فَأَسْلَمْت أَنَا وَقَوْمِي .

شِعْرُ جَعْدَةَ فِي يَوْمِ الْفَتْحِ
[ ص 195 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَقَالَ جَعْدَةُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْخُزَاعِيّ يَوْمَ فَتْحِ مَكّةَ :
أَكَعْبُ بْنُ عَمْرٍو دَعْوَةٌ غَيْرُ بَاطِلٍ ... لِحَيْنِ لَهُ يَوْمَ الْحَدِيدِ مُتَاحِ
أُتِيحَتْ لَهُ مِنْ أَرْضِهِ وَسَمَائِهِ ... لِتَقْتُلَهُ لَيْلًا بِغَيْرِ سِلَاحِ
وَنَحْنُ الْأُلَى سَدّتْ غَزَالَ خُيُولُنَا ... وَلَفْتًا سَدَدْنَاهُ وَفَجّ طِلَاحِ
خَطَرْنَا وَرَاءَ الْمُسْلِمِينَ بِجَحْفَلِ ... ذَوِي عَضُدٍ مِنْ خَيْلِنَا وَرِمَاحِ
وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ .
شِعْرُ بُجَيْدٍ فِي يَوْمِ الْفَتْحَ
وَقَالَ بُجَيْدُ بْنُ عِمْرَانَ الْخُزَاعِيّ :
وَقَدْ أَنْشَأَ اللّهُ السّحَابَ بِنَصْرِنَا ... رُكَامَ صِحَابِ الْهَيْدَبِ الْمُتَرَاكِبِ
وَهِجْرَتُنَا فِي أَرْضِنَا عِنْدَنَا بِهَا ... كِتَابٌ أَتَى مِنْ خَيْرِ مُمْلٍ وَكَاتِبِ
وَمِنْ أَجْلِنَا حَلّتْ بِمَكّةَ حُرْمَةٌ ... لِنُدْرِكَ ثَأْرًا بِالسّيُوفِ الْقَوَاضِبِ
Sشِعْرُ جَعْدَةَ
فَصْلٌ وَذَكَرَ فِي شِعْرِ جَعْدَةَ الْخُزَاعِيّ غَزَالَ ، وَهُوَ اسْمُ طَرِيقٍ غَيْرُ مَصْرُوفٍ وَقَالَ كُثَيّرُ فِي قَصِيدَتِهِ الْمَشْهُورَةِ يَذْكُرُ غَزَالَ :
أُنَادِيك مَا حَجّ الْحَجِيجُ وَكَبّرَتْ ... بِفَيْفَا غَزَالٍ رُفْقَةٌ وَأَهَلّتْ
وَكَذَلِكَ لَفْتٌ اسْمُ مَوْضِعٍ وَفِي لَفْتٍ يَقُولُ مَعْقِلُ بْنُ خُوَيْلِدٍ
لَعَمْرُك مَا خَشِيت وَقَدْ بَلَغْنَا ... جِبَالَ الْجَوْزِ مِنْ بَلَدٍ تَهَامِ
نَزِيعًا مُحْلِبًا مِنْ أَهْلِ لَفْتٍ ... لِحَيّ بَيْنَ أُثْلَةَ وَالنّجَامِ
وَقَدْ تَقَدّمَ هَذَا الْبَيْتُ الْأَخِيرُ فِي بَابِ الْهِجْرَةِ .

مَسِيرُ خَالِدِ بْنِ الْوَلَيدِ بَعْدَ الْفَتْحِ إلَى بَنِي جَذِيمَةَ
مِنْ كِنَانَةَ وَمَسِيرُ عَلِيّ لِتَلَافِي خَطَأَ خَالِدٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيمَا حَوْلَ مَكّةَ السّرَايَا تَدْعُو إلَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِقِتَالِ وَكَانَ مِمّنْ بَعَثَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَسِيرَ بِأَسْفَلَ تِهَامَةَ دَاعِيًا ، وَلَمْ يَبْعَثْهُ مُقَاتِلًا ، فَوَطِئَ بَنِي جَذِيمَةَ فَأَصَابَ مِنْهُمْ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَقَالَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ السّلَمِيّ فِي ذَلِكَ
فَإِنْ تَكُ قَدْ أَمّرْت فِي الْقَوْمِ خَالِدًا ... وَقَدّمْته فَإِنّهُ قَدْ تَقَدّمَا
بِجُنْدِ هَدَاهُ اللّهُ أَنْتَ أَمِيرُهُ ... نُصِيبُ بِهِ فِي الْحَقّ مَنْ كَانَ أَظْلَمَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ فِي حَدِيثِ يَوْمِ حُنَيْنٍ ، سَأَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللّهُ فِي مَوْضِعِهَا . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي حَكِيمُ بْنُ حَكِيمِ بْنِ عَبّادِ بْنِ حُنَيْفٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمّدِ بْنِ عَلِيّ ، قَالَ بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ حِينَ افْتَتَحَ مَكّةَ دَاعِيًا ، وَلَمْ يَبْعَثْهُ مُقَاتِلًا ، وَمَعَهُ قَبَائِلُ مِنْ الْعَرَبِ : سُلَيْمُ بْنُ مَنْصُورٍ وَمُدْلِجُ بْنُ مُرّةَ فَوَطِئُوا بَنِي جَذِيمَةَ بْنَ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ فَلَمّا رَآهُ الْقَوْمُ أَخَذُوا السّلَاحَ فَقَالَ خَالِدٌ ضَعُوا السّلَاحَ فَإِنّ النّاسَ قَدْ أَسْلَمُوا . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ بَنِي جَذِيمَةَ قَالَ لَمّا أَمَرَنَا خَالِدٌ أَنْ نَضَعَ السّلَاحَ قَالَ رَجُلٌ مِنّا يُقَالُ لَهُ جَحْدَمٌ وَيْلَكُمْ يَا بَنِي جَذِيمَةَ إنّهُ خَالِدٌ وَاَللّهِ مَا بَعْدَ وَضْعِ السّلَاحِ إلّا الْإِسَارُ وَمَا بَعْدَ الْإِسَارِ إلّا ضَرْبُ الْأَعْنَاقِ وَاَللّهِ لَا أَضَعُ سِلَاحِي أَبَدًا . قَالَ فَأَخَذَهُ رِجَالٌ مِنْ قَوْمِهِ فَقَالُوا : يَا جَحْدَمُ أَتُرِيدُ أَنْ تَسْفِكَ دِمَاءَنَا ؟ إنّ النّاسَ قَدْ أَسْلَمُوا وَوَضَعُوا السّلَاحَ وَوُضِعَتْ الْحَرْبُ وَأَمِنَ النّاسُ فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتّى نَزَعُوا سِلَاحَهُ وَوَضَعَ الْقَوْمُ السّلَاحَ لِقَوْلِ خَالِدٍ .
بَرَاءَةُ الرّسُولِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ عَمَلِ خَالِدٍ
[ ص 197 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي حَكِيمُ بْنُ حَكِيمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمّدِ بْنِ عَلِيّ ، قَالَ فَلَمّا وَضَعُوا السّلَاحَ أَمَرَ بِهِمْ خَالِدٌ عِنْدَ ذَلِكَ فَكُتّفُوا ، ثُمّ عَرَضَهُمْ عَلَى السّيْفِ فَقَتَلَ مَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ فَلَمّا انْتَهَى الْخَبَرُ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَفَعَ يَدَيْهِ إلَى السّمَاءِ ثُمّ قَالَ اللّهُمّ إنّي أَبْرَأُ إلَيْك مِمّا صَنَعَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ [ ص 198 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : حَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّهُ حُدّثَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ جَعْفَرٍ الْمَحْمُودِيّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَأَيْت كَأَنّي لَقَمْت لُقْمَةً مِنْ حَيْسٍ فَالْتَذَذْت طَعْمَهَا ، فَاعْتَرَضَ فِي حَلْقِي مِنْهَا شَيْءٌ حِينَ ابْتَلَعْتهَا ، فَأَدْخَلَ عَلِيّ يَدَهُ فَنَزَعَهُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ يَا رَسُولَ اللّهِ هَذِهِ سَرِيّةٌ مِنْ سَرَايَاك تَبْعَثُهَا ، فَيَأْتِيك مِنْهَا بَعْضُ مَا تُحِبّ ، وَيَكُونُ فِي بَعْضِهَا اعْتِرَاضٌ فَتَبْعَثُ عَلِيّا فَيُسَهّلُهُ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي أَنّهُ انْفَلَتَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ فَأَتَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هَلْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ؟ فَقَالَ نَعَمْ قَدْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ رَجُلٌ أَبْيَضُ رَبْعَةٌ فَنَهَمَهُ خَالِدٌ فَسَكَتَ عَنْهُ وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ رَجُلٌ آخَرُ طَوِيلٌ مُضْطَرِبٌ فَرَاجَعَهُ فَاشْتَدّتْ مُرَاجَعَتُهُمَا ؛ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ : أَمّا الْأَوّلُ يَا رَسُولَ اللّهِ فَابْنِي عَبْدُ اللّهِ وَأَمّا الْآخَرُ فَسَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي حَكِيمُ بْنُ حَكِيمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمّدِ بْنِ عَلِيّ قَالَ ثُمّ دَعَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِ فَقَالَ يَا عَلِيّ ، اُخْرُجْ إلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ فَانْظُرْ فِي أَمْرِهِمْ وَاجْعَلْ أَمْرَ الْجَاهِلِيّةِ تَحْتَ قَدَمَيْك . فَخَرَجَ عَلِيّ حَتّى جَاءَهُمْ وَمَعَهُ مَالٌ قَدْ بَعَثَ بِهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَوَدَى لَهُمْ الدّمَاءَ وَمَا أُصِيبَ لَهُمْ مِنْ الْأَمْوَالِ حَتّى إنّهُ لَيُدْنِي لَهُمْ مِيلَغَةَ الْكَلْبِ حَتّى إذَا لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ دَمٍ وَلَا مَالٍ إلّا وَدَاهُ بَقِيَتْ مَعَهُ بَقِيّةٌ مِنْ الْمَالِ فَقَالَ لَهُمْ عَلِيّ رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِ حِينَ فَرَغَ مَعَهُمْ هَلْ بَقِيَ لَكُمْ بَقِيّةٌ مِنْ دَمٍ أَوْ مَالٍ لَمْ يُودَ لَكُمْ ؟ قَالُوا : لَا . قَالَ فَإِنّي أُعْطِيكُمْ هَذِهِ الْبَقِيّةَ مِنْ هَذَا الْمَالِ احْتِيَاطًا لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِمّا يَعْلَمُ وَلَا تَعْلَمُونَ فَفَعَلَ . ثُمّ رَجَعَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ فَقَالَ أَصَبْت وَأَحْسَنْت . قَالَ ثُمّ قَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ قَائِمًا شَاهِرًا يَدَيْهِ حَتّى إنّهُ لَيُرَى مِمّا تَحْتَ مَنْكِبَيْهِ يَقُولُ اللّهُمّ إنّي أَبْرَأُ إلَيْك مِمّا صَنَعَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ ثَلَاثَ مَرّاتٍ
Sسَرِيّةُ خَالِدٍ إلَى بَنِي جَذِيمَةَ
[ ص 196 ] وَذَكَرَ سَرِيّةَ خَالِدٍ إلَى بَنِي جَذِيمَةَ وَتُعْرَفُ بِغَزْوَةِ الْغَميْطِ وَهُوَ اسْمُ مَاءٍ لِبَنِي جَذِيمَةَ .

الِاعْتِذَارُ عَنْ خَالِدٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَنْ يَعْذُرُ خَالِدًا إنّهُ قَالَ مَا قَاتَلْت حَتّى أَمَرَنِي بِذَلِكَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ حُذَافَةَ السّهْمِيّ ، وَقَالَ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ أَمَرَك أَنْ تُقَاتِلَهُمْ لِامْتِنَاعِهِمْ مِنْ الْإِسْلَامِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَالَ أَبُو عَمْرٍو الْمَدَنِيّ : لَمّا أَتَاهُمْ خَالِدٌ قَالُوا : صَبَأْنَا صَبَأْنَا .
بَيْنَ خَالِدٍ وَبَيْنَ ابْنِ عَوْفٍ
[ ص 199 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ كَانَ جَحْدَمُ قَالَ لَهُمْ حِينَ وَضَعُوا السّلَاحَ وَرَأَى مَا يَصْنَعُ خَالِدٌ بِبَنِي جَذِيمَةَ يَا بَنِي جَذِيمَةَ ضَاعَ الضّرْبُ ، قَدْ كُنْت حَذّرْتُكُمْ مَا وَقَعْتُمْ فِيهِ . قَدْ كَانَ بَيْنَ خَالِدٍ وَبَيْنَ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ، فِيمَا بَلَغَنِي ، الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ : عَمِلْت بِأَمْرِ الْجَاهِلِيّةِ فِي الْإِسْلَامِ . فَقَالَ إنّمَا ثَأَرْت بِأَبِيك . فَقَالَ عَبْدُ الرّحْمَنِ كَذَبْت ، قَدْ قَتَلْت قَاتِلَ أَبِي ، وَلَكِنّك ثَأَرْت بِعَقّك الْفَاكِهَ بْنَ الْمُغِيرَةِ ، حَتّى كَانَ بَيْنَهُمَا شَرّ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ مَهْلًا يَا خَالِدُ دَعْ عَنْك أَصْحَابِي ، فَوَاَللّهِ لَوْ كَانَ لَك أُحُدٌ ذَهَبًا ثُمّ أَنْفَقْته فِي سَبِيلِ اللّهِ مَا أَدْرَكْت غُدْوَةَ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِي وَلَا رَوْحَتَهُ
بَيْنَ قُرَيْشٍ وَبَنِيّ جَذِيمَةَ
وَكَانَ الْفَاكِهُ بْنُ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ ، وَعَوْفُ بْنُ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الْحَارِثِ بْنِ زُهْرَةَ وَعَفّانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ قَدْ خَرَجُوا تُجّارًا إلَى الْيَمَنِ ، وَمَعَ عَفّانَ ابْنُهُ عُثْمَانُ وَمَعَ عَوْفٍ ابْنُهُ عَبْدُ الرّحْمَنِ فَلَمّا أَقْبَلُوا حَمَلُوا مَالَ رَجُلٍ مِنْ بَنِي جَذِيمَةَ بْنِ عَامِرٍ كَانَ هَلَكَ بِالْيَمَنِ إلَى وَرَثَتِهِ فَادّعَاهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ خَالِدُ بْنُ هِشَامٍ وَلَقِيَهُمْ بِأَرْضِ بَنِي جَذِيمَةَ قَبْلَ أَنْ يَصِلُوا إلَى أَهْلِ الْمَيّتِ فَأَبَوْا عَلَيْهِ فَقَاتَلَهُمْ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى الْمَالِ لِيَأْخُذُوهُ وَقَاتَلُوهُ فَقُتِلَ عَوْفُ بْنُ عَبْدِ عَوْفٍ وَالْفَاكِهُ بْنُ الْمُغِيرَةِ ، وَنَجَا عَفّانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ وَابْنُهُ عُثْمَانُ وَأَصَابُوا مَالَ الْفَاكِهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، وَمَالَ عَوْفِ بْنِ عَبْدِ عَوْفٍ فَانْطَلَقُوا بِهِ وَقَتَلَ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ خَالِدَ بْنَ هِشَامٍ قَاتِلَ أَبِيهِ فَهَمّتْ قُرَيْشٌ بِغَزْوِ بَنِي جَذِيمَةَ فَقَالَتْ بَنُو جَذِيمَةَ : مَا كَانَ مُصَابُ أَصْحَابِكُمْ عَلَى مَلَإِ مِنّا ، إنّمَا عَدَا عَلَيْهِمْ قَوْمٌ بِجَهَالَةِ فَأَصَابُوهُمْ وَلَمْ نَعْلَمْ فَنَحْنُ نَعْقِلُ لَكُمْ مَا كَانَ لَكُمْ قِبَلَنَا مِنْ دَمٍ أَوْ مَالٍ فَقَبِلَتْ قُرَيْشٌ ذَلِكَ وَوَضَعُوا الْحَرْبَ .

شِعْرُ سَلْمَى فِيمَا بَيْنَ جَذِيمَةَ وَقُرَيْشٍ
وَقَالَ قَائِلٌ مِنْ بَنِي جَذِيمَةَ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ امْرَأَةٌ يُقَالُ لَهَا سَلْمَى :
وَلَوْلَا مَقَالُ الْقَوْمِ لِلْقَوْمِ أَسْلِمُوا ... لَلَاقَتْ سُلَيْمٌ يَوْمَ ذَلِكَ نَاطِحَا
لَمَاصَعَهُمْ بُسْرٌ وَأَصْحَابُ جَحْدَمٍ ... وَمُرّةُ حَتّى يَتْرُكُوا الْبَرْكَ ضَابِحَا
فَكَائِنٌ تَرَى يَوْمَ الْعَمِيصَاءِ مِنْ فَتًى ... أُصِيبَ وَلَمْ يُجْرَحْ وَقَدْ كَانَ جَارِحَا
أَلَظّتْ بِخُطّابِ الْأَيَامَى وَطَلّقَتْ ... غَدَاتَئِذٍ مِنْهُنّ مَنْ كَانَ نَاكِحَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَوْلُهُ " بُسْرٌ " " وَأَلَظّتْ بِخُطّابِ " عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ .
شِعْرُ ابْنِ مِرْدَاسٍ فِي الرّدّ عَلَى سَلْمَى
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَأَجَابَهُ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ وَيُقَالُ بَلْ الْجَحّافُ بْنُ حَكِيمٍ السّلَمِيّ :
دَعِي عَنْك تَقْوَالَ الضّلَالِ كَفَى بِنَا ... لِكَبْشِ الْوَغَى فِي الْيَوْمِ وَالْأَمْسِ نَاطِحَا
فَخَالِدُ أَوْلَى بِالتّعَذّرِ مِنْكُمْ ... غَدَاةَ عَلَا نَهْجًا مِنْ الْأَمْرِ وَاضِحَا
مُعَانًا بِأَمْرِ اللّهِ يُزْجِي إلَيْكُمْ ... سَوَانِحٌ لَا تَكْبُو لَهُ وَبَوَارِحَا
نَعَوْا مَالِكًا بِالسّهْلِ لَمّا هَبَطْنَهُ ... عَوَابِسَ فِي كَابِي الْغُبَارِ كَوَالِحَا
فَإِنْ نَكُ أَثْكَلْنَاك سَلْمَى فَمَالِكٌ ... تَرَكْتُمْ عَلَيْهِ نَائِحَاتٍ وَنَائِحَا
الْجَحّافُ يَرُدّ عَلَى سَلْمَى
قَالَ الْجَحّافُ بْنُ حَكِيمٍ السّلَمِيّ :
شَهِدْنَ مَعَ النّبِيّ مُسَوّمَاتٍ ... حُنَيْنًا وَهِيَ دَامِيَةُ الْكَلَامِ
وَغَزْوَةَ خَالِدٍ شَهِدَتْ وَجَرّتْ ... سَنَابِكَهُنّ بِالْبَلَدِ الْحَرَامِ
نَعْرِضُ لِلطّعَانِ إذَا الْتَقَيْنَا ... وُجُوهًا لَا تُعَرّضُ لِلّطَامِ
وَلَسْت بِخَالِعِ عَنّي ثِيَابِي ... إذَا هَزّ الْكُمَاةُ وَلَا أُرَامِي
وَلَكِنّي يَجُولُ الْمُهْرُ تَحْتِي ... إلَى الْعَلَوَاتِ بِالْعَضْبِ الْحُسَامِ
حَدِيثُ ابْنِ أَبِي حَدْرَدٍ يَوْمَ الْفَتْحِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ وَحَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْأَخْنَسِ عَنْ الزّهْرِيّ ، عَنْ ابْنِ أَبِي حَدْرَدٍ الْأَسْلَمِيّ قَالَ كُنْت يَوْمَئِذٍ فِي خَيْلِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ ، فَقَالَ لِي فَتًى مِنْ بَنِي جَذِيمَةَ وَهُوَ فِي سِنّي ، وَقَدْ جُمِعَتْ يَدَاهُ إلَى عُنُقِهِ بِرُمّةِ وَنِسْوَةٌ مُجْتَمِعَاتٌ غَيْرَ بَعِيدٍ مِنْهُ يَا فَتَى ، فَقُلْت : مَا تَشَاءُ ؟ قَالَ هَلْ أَنْتَ آخِذٌ بِهَذِهِ الرّمّةِ فَقَائِدِي إلَى هَؤُلَاءِ [ ص 201 ] بَدَا لَكُمْ ؟ قَالَ قُلْت : وَاَللّهِ لَيَسِيرٌ مَا طَلَبْت . فَأَخَذْت بِرُمّتِهِ فَقُدْته بِهَا ، حَتّى وَقَفَ عَلَيْهِنّ فَقَالَ اسْلَمِي حُبَيْشُ عَلَى نَفَدٍ مِنْ الْعَيْشِ
أَرَيْتُك إذْ طَالَبْتُكُمْ فَوَجَدْتُكُمْ ... بِحَلْيَةَ أَوْ أَلْفَيْتُكُمْ بِالْخَوَانِقِ
أَلَمْ يَكُ أَهْلًا أَنْ يُنَوّلَ عَاشِقٌ ... تَكَلّفَ إدْلَاجَ السّرَى وَالْوَدَائِقِ
فَلَا ذَنْبَ لِي قَدْ قُلْت إذْ أَهْلُنَا مَعًا ... أَثِيبِي بِوُدّ قَبْلَ إحْدَى الصّفَائِقِ
أَثِيبِي بِوُدّ قَبْلَ أَنْ تُشْحَطَ النّوَى ... وَيَنْأَى الْأَمِيرُ بِالْحَبِيبِ الْمُفَارِقِ
فَإِنّيَ لَا ضَيّعْت سِرّ أَمَانَةٍ ... وَلَا رَاقَ عَيْنِي عَنْك بُعْدَك رَائِقِ
سِوَى أَنّ مَا نَالَ الْعَشِيرَةَ شَاغِلٌ ... عَنْ الْوُدّ إلّا أَنْ يَكُونَ التّوَامُقِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشّعْرِ يُنْكِرُ الْبَيْتَيْنِ الْآخَرَيْنِ مِنْهَا لَهُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْأَخْنَسِ عَنْ الزّهْرِيّ عَنْ ابْنِ أَبِي حَدْرَدٍ الْأَسْلَمِيّ قَالَتْ
وَأَنْت فَحُيّيت سَبْعًا وَعَشْرًا ... وِتْرًا وَثَمَانِيًا تَتْرَى
قَالَ ثُمّ انْصَرَفْت بَهْ فَضَرَبْت عُنُقَهُ . [ ص 202 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي أَبُو فِرَاسِ بْنُ أَبِي سُنْبُلَةَ الْأَسْلَمِيّ عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْهُمْ عَمّنْ كَانَ حَضَرَهَا مِنْهُمْ قَالُوا : فَقَامَتْ إلَيْهِ حِينَ ضُرِبَتْ عُنُقُهُ فَأَكَبّتْ عَلَيْهِ فَمَا زَالَتْ تُقَبّلُهُ حَتّى مَاتَتْ عِنْدَهُ .
S[ ص 197 ] وَذَكَرَ شِعْرَ امْرَأَةٍ اسْمُهَا : سَلْمَى ، وَفِيهِ وَمُرّةُ حَتّى يَتْرُكُوا الْبَرْكَ ضَابِحَا
الْبَرْكُ : جَمَاعَةُ الْإِبِلِ وَمَاصَعَ جَالَدَ وَقَاتَلَ وَضَابِحَا مِنْ الضّبْحِ وَهُوَ نَفْسُ الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ إذَا عُيّيَتْ وَفِي التّنْزِيلِ وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا وَفِي الْخَبَرِ : مَنْ سَمِعَ ضَبْحَةً بِلَيْلِ فَلَا يَخْرُجُ مَخَافَةَ أَنْ يُصِيبَهُ شَرّ . قَالَ الرّاجِزُ نَحْنُ نَطَحْنَاهُمْ غَدَاةَ الْجَمْعَيْنِ
بِالضّابِحَاتِ فِي غُبَارِ النّقْعَيْنِ
نَطْحًا شَدِيدًا لَا كَنَطْحِ الطّورَيْنِ
وَالضّبْحُ وَالضّبْيُ مَصْدَرُ ضَبَحَتْ وَضُبِيَتْ أَيْ شُوِيَتْ وَقُلِيَتْ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ . قَالَ وَالْمَضَابِي وَالْمَضَابِحُ هُوَ الْمَقَالِي . وَذَكَرَ تَبَرّؤَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مِمّا فَعَلَ خَالِدٌ وَهَذَا نَحْوٌ مِمّا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ حِينَ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ الصّدّيقِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا : إنّ فِي سَيْفِ خَالِدٍ رَهَقًا . إنّ فِي سَيْفِ خَالِدٍ رَهَقًا فَاقْتُلْهُ وَذَلِكَ حِينَ قَتَلَ مَالِكَ بْنَ نُوَيْرَةَ ، وَجَعَلَ رَأْسَهُ تَحْتَ قِدْرٍ حَتّى طُبِخَ بِهِ وَكَانَ مَالِكٌ ارْتَدّ ثُمّ رَاجَعَ الْإِسْلَامَ وَلَمْ يُظْهِرْ ذَلِكَ لِخَالِدِ وَشَهِدَ عِنْدَهُ رَجُلَانِ مِنْ الصّحَابَةِ بِرُجُوعِهِ إلَى الْإِسْلَامِ فَلَمْ يَقْبَلْهُمَا ، وَتَزَوّجَ امْرَأَتَهُ فَلِذَلِكَ قَالَ عُمَرُ لِأَبِي بَكْرٍ اُقْتُلْهُ فَقَالَ لَا أَفْعَلُ لِأَنّهُ مُتَأَوّلٌ فَقَالَ اعْزِلْهُ فَقَالَ لَا أَغْمِدُ سَيْفًا سَلّهُ اللّهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَلَا أَعْزِلُ وَالِيًا وَلّاهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَذَكَرَ قَوْلَ الرّجُلِ لِلْمَرْأَةِ اسْلِمِي حُبَيْشُ عَلَى نَفَدِ الْعَيْشِ النّفَدُ مَصْدَرُ نَفِدَ إذَا فَنِيَ وَهُوَ النّفَادُ وَحُبَيْشٌ مُرَحّمٌ مِنْ حُبَيْشَةَ . [ ص 198 ] [ ص 199 ] [ ص 200 ] شِعْرُ أَبِي حَدْرَدٍ وَحَلْيَةُ وَالْخَوَانِقُ : مَوْضِعَانِ وَالْوَدَائِقُ جَمْعُ وَدِيقَةٍ وَهُوَ شِدّةُ الْحَرّ فِي الظّهِيرَةِ [ ص 201 ] وَنَحْوِهِ وَقَالَ الرّاجِزُ
وَقَامَ مِيزَانُ النّهَارِ فَاعْتَدَلْ ... وَسَالَ لِلشّمْسِ لُعَابٌ فَنَزَلْ
وَقَالَ الْأَحْوَلُ يُقَالُ وَدَقَ إذَا دَنَا مِنْ الْأَرْضِ وَيُقَالُ هُوَ وَادِقُ السّرّةِ إذَا كَانَتْ مَائِلَةً إلَى جِهَةِ الْأَرْضِ وَأَنْشَدَ وَادِقًا سُرّاتُهَا
فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْوَدِيقَةُ مِنْ وَدَقَتْ الشّمْسُ إذَا دَنَتْ مِنْ الْأُفُقِ فَاشْتَدّ حَرّهَا ، وَاَللّهُ أَعْلَمُ . [ ص 202 ] فَنَهَمَهُ خَالِدٌ أَيّ زَجَرَهُ وَنَجَهَهُ وَرَوَى النّسَائِيّ فِي قِصّةِ الْمَرْأَةِ الّتِي مَاتَتْ [ ص 203 ] قَالَ حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ عَلِيّ بْنِ حَرْبٍ عَنْ عَلِيّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ وَافِدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ يَزِيدَ النّحْوِيّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعَثَ سَرِيّةً قَالَ فَغَنِمُوا وَفِيهِمْ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُمْ إنّي لَسْت مِنْهُمْ عَشِقْت امْرَأَةً فَلَحِقْتهَا ، فَدَعَوْنِي أَنْظُرُ إلَيْهَا نَظْرَةً ثُمّ اصْنَعُوا بِي مَا بَدَا لَكُمْ قَالَ فَإِذَا امْرَأَةٌ طَوِيلَةٌ أَدْمَاءُ فَقَالَ لَهَا : اسْلِمِي حُبَيْشُ قَبْلَ نَفَدِ الْعَيْشِ وَذَكَرَ الْبَيْتَيْنِ الْأَوّلِينَ مِنْ الْقِطْعَةِ الْقَافِيّةِ أَوّلَ هَذَا الْخَبَرِ نَاقِصِي الْوَزْنِ وَبَعْدَهُمَا قَالَتْ نَعَمْ فَدَيْتُك ، فَقَدّمُوهُ فَضَرَبُوا عُنُقَهُ فَجَاءَتْ الْمَرْأَةُ فَوَقَفَتْ عَلَيْهِ فَشَهِقَتْ شَهْقَةً أَوْ [ ص 204 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ ، فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَا كَانَ فِيكُمْ رَجُلٌ رَحِيمٌ . خَرّجَهُ النّسَوِيّ فِي بَابِ قَتْلِ الْأُسَارَى مِنْ مُصَنّفِهِ .

شِعْرُ جَذِيمِيّ فِي الْفَتْحِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي جَذِيمَةَ
جَزَى اللّهُ عَنّا مُدْلِجًا حَيْثُ أَصْبَحَتْ ... جَزَاءَةَ بُوسَى حَيْثُ سَارَتْ وَحَلّتْ
أَقَامُوا عَلَى أَقْضَاضِنَا يَقْسِمُونَهَا ... وَقَدْ نَهِلَتْ فِينَا الرّمَاحُ وَعَلّتْ
فَوَاَللّهِ لَوْلَا دِينُ آلِ مُحَمّدٍ ... لَقَدْ هَرَبَتْ مِنْهُمْ خُيُولٌ فَشُلّتْ
وَمَا ضَرّهُمْ أَنْ لَا يُعِينُوا كَتِيبَةً ... كَرِجْلِ جَرَادٍ أُرْسِلَتْ فَاشْمَعَلّتِ
فَإِمّا يَنْبُوَا أَوْ يَثُوبُوا لِأَمْرِهِمْ ... فَلَا نَحْنُ نَجْزِيهِمْ بِمَا قَدْ أَضَلّتْ
وَهْبٌ يَرُدّ عَلَى الْجَذِيمِيّ
فَأَجَابَهُ وَهْبٌ رَجُلٌ مِنْ بَنِي لَيْثٍ فَقَالَ
دَعَوْنَا إلَى الْإِسْلَامِ وَالْحَقّ عَامِرًا ... فَمَا ذَنْبُنَا فِي عَامِرٍ إذْ تَوَلّتْ
وَمَا ذَنْبُنَا فِي عَامِرٍ لَا أَبَا لَهُمْ ... لِأَنْ سَفِهَتْ أَحْلَامُهُمْ ثُمّ ضَلّتْ
وَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي جَذِيمَةَ
لِيَهْنِئْ بَنِي كَعْبٍ مُقَدّمِ خَالِدٍ ... وَأَصْحَابِهِ إذْ صَبّحَتْنَا الْكَتَائِبُ
فَلَا تِرَةٌ يَسْعَى بِهَا ابْنُ خُوَيْلِدٍ ... وَقَدْ كُنْت مَكْفِيّا لَوْ انّكَ غَائِبُ
فَلَا قَوْمُنَا يَنْهَوْنَ عَنّا غُوَاتَهُمْ ... وَلَا الدّاءَ مِنْ يَوْمِ الْغُمَيْصَاءِ ذَاهِبُ
شِعْرُ غُلَامٍ جَذِيمِيّ هَارِبٍ أَمَامَ خَالِدٍ
وَقَالَ غُلَامٌ مِنْ بَنِي جَذِيمَةَ وَهُوَ يَسُوقُ بِأُمّهِ وَأُخْتَيْنِ لَهُ وَهُوَ هَارِبٌ بِهِنّ مِنْ جَيْشِ خَالِدٍ
رَخّينَ أَذْيَالَ الْمُرُوطِ وَأَرْبِعَنْ ... مَشْيَ حَيِيّاتٍ كَأَنْ لَمْ يُفْزَعَنْ
إنْ تُمْنَعْ الْيَوْمَ نِسَاءٌ تُمْنَعُنْ
ارْتِجَازُ بَنِي مُسَاحِقٍ حِينَ سَمِعُوا بِخَالِدٍ
[ ص 203 ] وَقَالَ غِلْمَةٌ مِنْ بَنِي جَذِيمَةَ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو مُسَاحِقٍ يَرْتَجِزُونَ حِينَ سَمِعُوا بِخَالِدٍ فَقَالَ أَحَدُهُمْ
قَدْ عَلِمَتْ صَفْرَاءُ بَيْضَاءُ الْإِطِلْ ... يَحُوزُهَا ذُو ثَلّةٍ وَذُو إبِلْ
لَأُغْنِيَنّ الْيَوْمَ مَا أَغْنَى رَجُلْ
وَقَالَ الْآخَرُ
قَدْ عَلِمَتْ صَفْرَاءُ تُلْهِي الْعِرْسَا ... لَا تَمْلَأْ الْحَيْزُومَ مِنْهَا نَهْسَا
لَأَضْرِبَنّ الْيَوْمَ ضَرْبًا وَعْسَا ... ضَرْبَ الْمُحِلّينَ مَخَاضًا قُعْسَا
وَقَالَ الْآخَرُ
أَقْسَمْت مَا إنْ خَادِرٌ ذُو لِبْدَةٍ ... شَثْنُ الْبَنَانِ فِي غَدَاةٍ بَرْدَةٍ
جَهْمُ الْمُحَيّا ذُو سِبَالٍ وَرْدَةٍ ... يُرْزِمُ بَيْنَ أَيْكَةٍ وَجَحْدَةٍ
ضَارٍ بِتَأْكَالِ الرّجَالِ وَحْدَةٍ ... بِأَصْدَقِ الْغَدَاةِ مِنّي نَجْدَةٍ

مَسِيرُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ لِهَدْمِ الْعُزّى
ثُمّ بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إلَى الْعُزّى ، وَكَانَتْ بِنَخْلَةَ وَكَانَتْ بَيْتًا يُعَظّمُهُ هَذَا الْحَيّ مِنْ قُرَيْشٍ وَكِنَانَةَ وَمُضَرَ كُلّهَا ، وَكَانَتْ سَدَنَتُهَا وَحُجّابُهَا بَنِي شَيْبَانَ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ حُلَفَاءِ بَنِي هَاشِمٍ فَلَمّا سَمِعَ صَاحِبُهَا السّلَمِيّ بِمَسِيرِ خَالِدٍ إلَيْهَا ، عَلّقَ عَلَيْهَا سَيْفَهُ وَأَسْنَدَ فِي الْجَبَلِ الّذِي هِيَ فِيهِ وَهُوَ يَقُولُ
أَيَا عُزّ شُدّي شَدّةً لَا شَوَى لَهَا ... عَلَى خَالِدٍ أَلْقِي الْقِنَاعَ وَشَمّرِي
يَا عُزّ إنْ لَمْ تَقْتُلِي الْمَرْءَ خَالِدًا ... فَبُوئِي بِإِثْمٍ عَاجِلٍ أَوْ تُنْصَرِي
فَلَمّا انْتَهَى إلَيْهَا خَالِدٌ هَدَمَهَا ، ثُمّ رَجَعَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . [ ص 204 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ الزّهْرِيّ ، عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ ، قَالَ أَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَكّةَ بَعْدَ فَتْحِهَا خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً يَقْصُرُ الصّلَاةَ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ فَتْحُ مَكّةَ لِعَشْرِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ .

غَزْوَةُ حُنَيْنٍ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ بَعْدَ الْفَتْحِ
[ ص 205 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَلَمّا سَمِعَتْ هَوَازِنُ بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْهِ مِنْ مَكّةَ ، جَمَعَهَا مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ النّضْرِيّ فَاجْتَمَعَ إلَيْهِ مَعَ هَوَازِنَ ثَقِيفٌ كُلّهَا ، وَاجْتَمَعَتْ نَصْرٌ وَجُشَمٌ كُلّهَا ، وَسَعْدُ بْنُ بَكْرٍ ، وَنَاسٌ مِنْ بَنِي هِلَالٍ وَهُمْ قَلِيلٌ وَلَمْ يَشْهَدْهَا مِنْ قَيْسِ عَيْلَانَ إلّا هَؤُلَاءِ وَغَابَ عَنْهَا فَلَمْ يَحْضُرْهَا مِنْ هَوَازِنَ كَعْبٌ وَلَا كِلَابٌ وَلَمْ يَشْهَدْهَا مِنْهُمْ أَحَدٌ لَهُ اسْمٌ وَفِي بَنِي جُشَمٍ دُرَيْدُ بْنُ الصّمّةِ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ إلّا التّيَمّنُ بِرَأْيِهِ وَمَعْرِفَتِهِ بِالْحَرْبِ وَكَانَ شَيْخًا مُجَرّبًا ، وَفِي ثَقِيفٍ سَيّدَانِ لَهُمْ . فِي الْأَحْلَافِ قَارِبُ بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ مُعَتّبٍ وَفِي بَنِي مَالِكٍ ذُو الْخِمَارِ سُبَيْعُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ مَالِكٍ وَأَخُوهُ أَحْمَرُ بْنُ الْحَارِثِ وَجِمَاعُ أَمْرِ النّاسِ إلَى مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ النّصْرِيّ . فَلَمّا أَجْمَعَ السّيْرَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَطّ مَعَ النّاسِ أَمْوَالَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ فَلَمّا نَزَلَ بِأَوْطَاسٍ [ ص 206 ] دُرَيْدُ بْنُ الصّمّةِ فِي شِجَارٍ لَهُ يُقَادُ بِهِ فَلَمّا نَزَلَ قَالَ " بِأَيّ وَادٍ [ ص 207 ] قَالُوا : بِأَوْطَاسٍ قَالَ " نِعْمَ مَجَالُ الْخَيْلِ لَا حَزْنٌ ضَرِسْ وَلَا سَهْلٌ دَهِسْ مَا لِي أَسْمَعُ رُغَاءَ الْبَعِيرِ وَنُهَاقَ الْحَمِيرِ وَبُكَاءَ الصّغِيرِ وَيُعَارَ الشّاءِ ؟ " قَالُوا : سَاقَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ مَعَ النّاسِ أَمْوَالَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ . قَالَ " أَيْنَ مَالِكٌ ؟ " قِيلَ هَذَا مَالِكٌ وَدُعِيَ لَهُ فَقَالَ " يَا مَالِكُ إنّك قَدْ أَصْبَحْت رَئِيسَ قَوْمِك ، وَإِنّ هَذَا يَوْمٌ كَائِنٌ لَهُ مَا بَعْدَهُ مِنْ الْأَيّامِ . مَا لِي أَسْمَعُ رُغَاءَ الْبَعِيرِ وَنُهَاقَ الْحَمِيرِ وَبُكَاءَ الصّغِيرِ وَيُعَارَ الشّاءِ ؟ " قَالَ سُقْت مَعَ النّاسِ أَمْوَالَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ قَالَ " وَلِمَ ذَاكَ ؟ " قَالَ أَرَدْت أَنْ أَجْعَلَ خَلْفَ كُلّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أَهْلُهُ وَمَالُهُ لِيُقَاتِلَ عَنْهُمْ قَالَ " فَأَنْقَضَ بِهِ " . ثُمّ قَالَ رَاعِي ضَأْنٍ وَاَللّهِ وَهَلْ يَرُدّ الْمُنْهَزِمَ شَيْءٌ ؟ إنّهَا إنْ كَانَتْ لَك لَمْ يَنْفَعْك إلّا رَجُلٌ بِسَيْفِهِ وَرُمْحِهِ وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْك فُضِحْت فِي أَهْلِك وَمَالِك ، ثُمّ قَالَ مَا فَعَلَتْ كَعْبٌ وَكِلَابٌ ؟ قَالُوا : لَمْ يَشْهَدْهَا مِنْهُمْ أَحَدٌ ، قَالَ " غَابَ الْحَدّ وَالْجَدّ ، وَلَوْ كَانَ يَوْمَ عَلَاءٍ وَرِفْعَةٍ لَمْ تَغِبْ عَنْهُ كَعْبٌ وَلَا كِلَابٌ وَلَوَدِدْت أَنّكُمْ فَعَلْتُمْ مَا فَعَلَتْ كَعْبٌ وَكِلَابٌ فَمَنْ شَهِدَهَا مِنْكُمْ ؟ " قَالُوا : عَمْرُو بْنُ عَامِرٍ ، وَعَوْفُ بْنُ عَامِرٍ ، قَالَ " ذَانَك الْجَذَعَانِ مِنْ عَامِرٍ لَا يَنْفَعَانِ وَلَا يَضُرّانِ يَا مَالِكُ إنّك لَمْ تَصْنَعْ بِتَقْدِيمِ الْبَيْضَةِ بَيْضَةِ هَوَازِنَ إلَى نُحُورِ الْخَيْلِ شَيْئًا ، ارْفَعْهُمْ إلَى مُتَمَنّعِ بِلَادِهِمْ وَعُلْيَا قَوْمِهِمْ ثُمّ أَلْقِ الصّبّاءَ عَلَى مُتُونِ الْخَيْلِ فَإِنْ كَانَتْ لَهُ لَحِقَ بِك مَنْ وَرَاءَك ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْك أَلْفَاك ذَلِكَ قَدْ أَحْرَزْت أَهْلَك وَمَالَك " ، قَالَ وَاَللّهِ لَا أَفْعَلُ ذَلِكَ إنّك قَدْ كَبِرْت وَكَبِرَ عَقْلُك . وَاَللّهِ لَتُطِيعُنّنِي يَا مَعْشَرَ هَوَازِنَ أَوْ لَأَتّكِئَنّ عَلَى هَذَا السّيْفِ حَتّى يَخْرُجَ مِنْ ظَهْرِي . وَكَرِهَ أَنْ يَكُونَ لِدُرَيْدِ بْنِ الصّمّةِ فِيهَا ذِكْرٌ أَوْ رَأْيٌ فَقَالُوا : أَطَعْنَاك ؛ فَقَالَ دُرَيْدُ بْنُ الصّمّةِ : هَذَا يَوْمٌ لَمْ أَشْهَدْهُ وَلَمْ يَفُتْنِي :
يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعْ ... أَخُبّ فِيهَا وَأَضَعْ
أَقُودُ وَطْفَاءَ الزّمَعْ ... كَأَنّهَا شَاةٌ صَدَعْ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَنْشَدَنِي غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشّعْرِ قَوْلَهُ " يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعْ
" [ ص 208 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ قَالَ مَالِكٌ لِلنّاسِ إذَا رَأَيْتُمُوهُمْ فَاكْسِرُوا جُفُونَ سُيُوفِكُمْ ثُمّ شُدّوا شَدّةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ . قَالَ وَحَدّثَنِي أُمَيّةُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ أَنّهُ حَدّثَ أَنّ مَالِكَ بْنَ عَوْفٍ بَعَثَ عُيُونًا مِنْ رِجَالِهِ ، فَأَتَوْهُ وَقَدْ تَفَرّقَتْ أَوْصَالُهُمْ فَقَالَ وَيْلَكُمْ مَا شَأْنُكُمْ ؟ فَقَالُوا : رَأَيْنَا رِجَالًا بِيضًا عَلَى خَيْلٍ بُلْقٍ فَوَاَللّهِ مَا تَمَاسَكْنَا أَنْ أَصَابَنَا مَا تَرَى ، فَوَاَللّهِ مَا رَدّهُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِهِ أَنْ مَضَى عَلَى مَا يُرِيدُ .
Sذِكْرُ غَزْوَةِ حُنَيْنٍ
[ ص 205 ] وَحُنَيْنٌ الّذِي عُرِفَ بَهْ الْمَوْضِعُ هُوَ حُنَيْنُ بْنُ قَانِيَةَ بْنِ مَهْلَايِلَ كَذَا قَالَ الْبَكْرِيّ ، وَقَدْ قَدّمْنَا أَنّهُ قَالَ فِي خَيْبَرَ مِثْلَ هَذَا أَنّهُ ابْنُ قَانِيَةَ فَاَللّهُ أَعْلَمُ .
مِنْ الْبَلَاغَةِ النّبَوِيّةِ
وَيُقَالُ لَهَا أَيْضًا : غَزْوَةُ أَوْطَاسٍ سُمّيَتْ بِالْمَوْضِعِ الّذِي كَانَتْ فِيهِ الْوَقْعَةُ وَهُوَ مِنْ وَطَسْت الشّيْءَ وَطْسًا إذَا كَدّرْته ، وَأَثّرْت فِيهِ . وَالْوَطِيسُ نَقْرَةٌ فِي حُجَرٍ تُوقَدُ حَوْلَهُ النّارُ فَيُطْبَخُ بِهِ [ ص 206 ] غَزْوَةِ أَوْطَاسٍ قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْآنَ حَمِيَ الْوَطِيسُ وَذَلِكَ حِينَ اسْتَعَرْت الْحَرْبُ وَهِيَ مِنْ الْكَلِمِ الّتِي لَمْ يُسْبَقْ إلَيْهَا صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَمِنْهَا هَذِهِ . وَمِنْهَا : مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ قَالَهَا فِي فَضْلِ مَنْ مَاتَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ عَنْهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَتِيكٍ ، قَالَ ابْنُ عَتِيكٍ وَمَا سَمِعْت هَذِهِ الْكَلِمَةَ يَعْنِي : حَتْفَ أَنْفِهِ مِنْ أَحَدِ الْعَرَبِ قَبْلَهُ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَمِنْهَا : لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ مَرّتَيْنِ قَالَهَا لِأَبِي عَزّةَ الْجُمَحِيّ يَوْمَ أُحُدٍ ، وَقَدْ مَضَى حَدِيثُهُ . وَمِنْهَا : لَا يَنْتَطِحُ فِيهَا عَنْزَانِ وَسَيَأْتِي سَبَبُهُمَا . وَمِنْهَا : قَوْلُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ يَا خَيْلَ اللّهِ ارْكَبِي قَالَهَا يَوْمَ حُنَيْنٍ أَيْضًا فِي حَدِيثٍ خَرّجَهُ مُسْلِمٌ وَقَالَ الْجَاحِظُ فِي كِتَابِ الْبَيَانِ عَنْ يُونُسَ بْنِ حَبِيبٍ لَمْ يَبْلُغْنَا مِنْ رَوَائِعِ الْكَلَامِ مَا بَلَغَنَا عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَغَلِطَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَنُسِبَ إلَى التّصْحِيفِ وَإِنّمَا قَالَ الْقَائِلُ مَا بَلَغَنَا عَنْ الْبَتّيّ يُرِيدُ عُثْمَانَ الْبَتّيّ فَصَحّفَهُ الْجَاحِظُ ، وَالنّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَجَلّ مِنْ أَنْ يُخْلَطَ مَعَ غَيْرِهِ مِنْ الْفُصَحَاءِ حَتّى يُقَالَ مَا بَلَغَنَا عَنْهُ مِنْ الْفَصَاحَةِ أَكْثَرُ مِنْ الّذِي بَلَغَنَا عَنْ غَيْرِهِ كَلَامُهُ أَجَلّ مِنْ ذَلِك ، وَأَعْلَى ، صَلَوَاتُ اللّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ .
ابْنُ الصّمّةِ وَالْخَنْسَاءُ
فَصْلٌ وَذَكَرَ دُرَيْدَ بْنَ الصّمّةِ الْجُشَمِيّ أَحَدَ بَنِي جُشَمِ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ ، وَفِيهِ تَقُولُ الْخَنْسَاءُ حِينَ خَطَبَهَا : مَا كُنْت تَارِكَةً بَنِي عَمّي ، كَأَنّهُمْ صُدُورُ الرّمَاحِ ومرتتة شَيْخًا مِنْ بَنِي جُشَمٍ وَهُوَ دُرَيْدُ بْنُ الصّمّةِ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَلْقَمَةَ بْنِ خُزَاعَةَ بْنِ غَزِيّةَ بْنِ جُشَمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ ، يُكَنّى أَبَا قُرّةَ وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ مِنْ غَيْرِ رِوَايَةِ زِيَادٍ يُقَالُ كَانَ يَوْمَئِذٍ ابْنَ سِتّينَ وَمِائَةٍ وَرَوَى أَبُو صَالِحٍ كَاتِبُ اللّيْثِ عَنْ اللّيْثِ قَالَ كَانَ دُرَيْدٌ يَوْمَئِذٍ ابْنَ عِشْرِينَ وَمِائَةٍ . وَقَوْلُهُ فِي شِجَارٍ لَهُ الشّجَارُ مِثْلُ الْهَوْدَجِ وَفِي الْعَيْنِ الشّجَارُ خَشَبُ الْهَوْدَجِ . [ ص 207 ] فَأَنْقَصَ بِهِ أَيْ صَوّتَ بِلِسَانِهِ فِي فَمِهِ مِنْ النّقِيضِ وَهُوَ الصّوْتُ وَقِيلَ الْإِنْقَاضُ بِالْإِصْبَعِ الْوُسْطَى وَالْإِبْهَامِ كَأَنّهُ يَدْفَعُ بِهِمَا شَيْئًا وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْبَرْقِيّ . وَقَوْلُهُ رَاعِي ضَأْنٍ يُجَهّلُهُ بِذَلِكَ كَمَا قَالَ الشّاعِرُ
أَصْبَحْت هُزُءَ الرّاعِي الضّأْنِ أُعْجِبُهُ ... مَاذَا يَرِيبُك مِنّي رَاعِيَ الضّانِ
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - لِرَجُلٍ قُمْ فَمَا نَفَعَك صِدَاغٌ وَلَا رَاعِي ضَأْنٍ . وَالدّرَيْدُ فِي اللّغَةِ تَصْغِيرُ أَدْرَدَ وَهُوَ تَصْغِيرُ التّرْخِيمِ وَالصّمّةُ الشّجَاعُ وَجَمْعُهُ صِمَمٌ . [ ص 208 ] حَدْرَدٍ وَذَكَرَ مَالِكَ بْنَ عَوْفٍ النّصْرِيّ رَئِيسَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ حُنَيْنٍ ، وَهُوَ مَالِكُ بْنُ عَوْفِ بْنِ سَعْدِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ يَرْبُوعَ بْنِ وَاثِلَةَ بْنِ دُهْمَانَ بْنِ نَصْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ النّصْرِي .

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَلَمّا سَمِعَ بِهِمْ نَبِيّ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعَثَ إلَيْهِمْ عَبْدَ اللّهِ بْنَ أَبِي حَدْرَدٍ الْأَسْلَمِيّ وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْخُلَ فِي النّاسِ فَيُقِيمَ فِيهِمْ حَتّى يَعْلَمَ عِلْمَهُمْ ثُمّ يَأْتِيهِ بِخَبَرِهِمْ . فَانْطَلَقَ ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ فَدَخَلَ فِيهِمْ فَأَقَامَ فِيهِمْ حَتّى سَمِعَ وَعَلِمَ مَا قَدْ أَجْمَعُوا لَهُ مِنْ حَرْبِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَسَمِعَ مِنْ مَالِكٍ وَأَمْرَ هَوَازِنَ مَا هُمْ عَلَيْهِ ثُمّ أَقْبَلَ حَتّى أَتَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ فَدَعَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ ، فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ فَقَالَ عُمَرُ كَذَبَ ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ فَقَالَ ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ " إنّ أَكْذَبْتنِي فَرُبّمَا كَذَبْت بِالْحَقّ يَا عُمَرُ فَقَدْ كَذّبْت مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنّي ، فَقَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللّهِ أَلَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ كُنْت ضَالّا فَهَدَاك اللّهُ يَا عُمَرُ .
اسْتِعَارَةُ أَدْرُعِ صَفْوَانَ
فَلَمّا أَجْمَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ السّيْرَ إلَى هَوَازِنَ لِيَلْقَاهُمْ ذُكِرَ لَهُ أَنّ عِنْدَ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ أَدْرَاعًا لَهُ وَسِلَاحًا ، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكٌ فَقَالَ يَا أَبَا أُمَيّةَ أَعِرْنَا سِلَاحَك هَذَا نَلْقَ فِيهِ عَدُوّنَا غَدًا " ، فَقَالَ صَفْوَانُ أَغَصْبًا يَا مُحَمّدُ ؟ قَالَ " بَلْ عَارِيّةً وَمَضْمُونَةً حَتّى نُودِيهَا إلَيْك فَقَالَ لَيْسَ بِهَذَا بَأْسٌ فَأَعْطَاهُ مِائَةَ دُرْعٍ بِمَا يَكْفِيهَا مِنْ السّلَاحِ فَزَعَمُوا [ ص 209 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَأَلَهُ أَنْ يَكْفِيَهُمْ حَمْلَهَا ، فَفَعَلَ . قَالَ ثُمّ خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَعَهُ أَلْفَانِ مِنْ أَهْلِ مَكّةَ مَعَ عَشْرَةِ آلَافٍ مِنْ أَصْحَابِهِ الّذِينَ خَرَجُوا مَعَهُ فَفَتَحَ اللّهُ بِهِمْ مَكّةَ ، فَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا ، وَاسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَتّابَ بْنَ أَسِيدِ بْنِ أَبِي الْعِيصِ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ " عَلَى مَكّةَ أَمِيرًا عَلَى مَنْ تَخَلّفَ عَنْهُ مِنْ النّاسِ " ، ثُمّ مَضَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى وَجْهِهِ يُرِيدُ لِقَاءَ هَوَازِنَ .
Sوَذَكَرَ بَعْثَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَبْدَ اللّهِ بْنَ أَبِي حَدْرَدٍ عَيْنًا إلَى هَوَازِنَ ، وَهُوَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ سَعْدٍ وَسَلَامَةُ هُوَ أَبُو حَدْرَدٍ وَهُوَ مِنْ بَنِي هَوَازِنَ بْنِ أَسْلَمَ بْن أَفْصَى بْنِ حَارِثَةَ وَهُمْ إخْوَةُ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ ، أَعْنِي بَنِي أَسْلَمَ بْنِ أَفْصَى ، مَاتَ عَبْدُ اللّهِ سَنَةَ إحْدَى وَسَبْعِينَ وَهُوَ الْعَامُ الّذِي قُتِلَ فِيهِ مُصْعَبُ بْنُ الزّبَيْرِ . شَهِدَ ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ مَعَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - الْحُدَيْبِيَةَ ، وَمَا بَعْدَهَا ، وَفَاتَهُ مَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ .

قَصِيدَةُ ابْنِ مِرْدَاسٍ
فَقَالَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ السّلَمِيّ
أَصَابَتْ الْعَامَ رِعْلًا غُولُ قَوْمِهِمْ ... وَسَطَ الْبُيُوتِ وَلَوْنُ الْغُولِ أَلْوَانُ
يَا لَهْفَ أُمّ كِلَابٍ إذْ تُبَيّتُهُمْ ... خَيْلُ ابْنِ هَوْذَةَ لَا تُنْهَى وَإِنْسَانُ
لَا تَلْفِظُوهَا وَشُدّوا عِقْدَ ذِمّتِكُمْ ... إنّ ابْنَ عَمّكُمْ سَعْدٌ وَدَهْمَانُ
[ ص 210 ] كَانَتْ مُجَلّلَةً ... مَا دَامَ فِي النّعَمِ الْمَأْخُوذِ أَلْبَانُ
شَنْعَاءُ جَلّلَ مِنْ سَوْآتِهَا حَضَنٌ ... وَسَالَ ذُو شَوْغَرٍ مِنْهَا وَسُلْوَانُ
لَيْسَتْ بِأَطْيَبَ مِمّا يَشْتَوِي حَذَفٌ ... إذْ قَالَ كُلّ شِوَاءِ الْعِيرِ جُوفَانُ
[ ص 211 ] ... دَاءُ الْيَمَانِي فَإِنْ لَمْ يَغْدِرُوا خَانُوا
فِيهِمْ أَخٌ لَوْ وَفَوْا أَوْ بَرّ عَهْدَهُمْ ... وَلَوْ نَهَكْنَاهُمْ بِالطّعْنِ قَدْ لَانُوا
أَبْلِغْ هَوَازِنَ أَعْلَاهَا وَأَسْفَلَهَا ... مِنّي رِسَالَةَ نُصْحٍ فِيهِ تِبْيَانُ
أَنّي أَظُنّ رَسُولَ اللّهِ صَابِحَكُمْ ... جَيْشًا لَهُ فِي فَضَاءِ الْأَرْضِ أَرْكَانُ
فِيهِمْ أَخُوكُمْ سُلَيْمٌ غَيْرَ تَارِكِكُمْ ... وَالْمُسْلِمُونَ عِبَادُ اللّهِ غَسّانُ
وَفِي عِضَادَتِهِ الْيُمْنَى بَنُو أَسَدٍ ... وَالْأَجْرَبَانِ بَنُو عَبْسٍ وَذُبْيَانُ
تَكَادُ تَرْجُفُ مِنْهُ الْأَرْضُ رَهْبَتَهُ ... وَفِي مُقَدّمِهِ أَوْسٌ وَعُثْمَانُ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : أَوْسٌ وَعُثْمَانُ قَبِيلَا مُزَيْنَةَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : مِنْ قَوْلِهِ " أَبْلِغْ هَوَازِنَ أَعْلَاهَا وَأَسْفَلَهَا " إلَى آخِرِهَا ، فِي هَذَا الْيَوْمِ وَمَا قَبْلَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْيَوْمِ وَهُمَا مَفْصُولَتَانِ وَلَكِنّ ابْنَ إسْحَاقَ جَعَلَهُمَا وَاحِدَةً .
Sحَوْلَ قَصِيدَةِ عَبّاسٍ النّونِيّةِ
[ ص 209 ] وَذَكَرَ شِعْرَ عَبّاسٍ وَفِيهِ أَصَابَتْ الْعَامَ رِعْلًا . وَهِيَ قَبِيلَةٌ مِنْ سُلَيْمٍ وَفِي الْحَدِيثِ " قَنَتَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ شَهْرَيْنِ يَدْعُو عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَعَصِيّةَ " ، وَهُمْ الّذِينَ غَدَرُوا بِأَصْحَابِ بِئْرِ مَعُونَةَ . وَقَوْلُهُ خَيْلُ ابْنِ هَوْذَةَ لَا تُنْهَى وَإِنْسَانُ
إنْسَانُ قَبِيلَةٌ مِنْ قَيْسٍ ، ثُمّ مِنْ بَنِي نَصْرٍ قَالَهُ الْبَرْقِيّ ، وَقِيلَ هُمْ مِنْ بَنِي جُشَمِ بْنِ بَكْرٍ وَمِنْ بَنِي إنْسَانَ شَيْطَانُ بْنُ مُدْلِجٍ صَاحِبُ حَمِيدَةَ وَهِيَ فَرَسٌ لَهُ تَضْرِبُ بِهَا الْعَرَبُ الْمَثَلَ فِي الشّؤْمِ فَيُقَالُ أَشْأَمُ مِنْ حَمِيدَةَ وَسَبَبُ ذَلِكَ خَبَرٌ يَطُولُ ذَكَرَهُ الْأَصْبَهَانِيّ فِي الْأَمْثَالِ .
سَعْدٌ وَدَهْمَانُ
وَسَعْدٌ وَدَهْمَانُ ابْنَا نَصْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ كَذَا وَجَدْته فِي بَعْضِ الْمُعَلّقَاتِ وَالْمَعْرُوفُ فِي قَيْسٍ : دُهْمَانَ بْنُ أَشْجَعَ بْنِ رَيْثِ بْنِ غَطَفَانَ وَالِدُ نَصْرِ بْنِ دُهْمَانَ الّذِي عَاشَ [ ص 210 ] فَكَانَ أُعْجُوبَةً فِي الْعَالَمِ وَقَالَ الشّاعِرُ
لِنَصْرِ بْنِ دُهْمَانَ الْهُنَيْدَةُ عَاشَهَا ... وَتِسْعِينَ حَوْلًا ثُمّ قُوّمَ فَانْصَاتَا
وَعَادَ سَوَادُ الرّأْسِ بَعْدَ ابْيِضَاضِهِ ... وَلَكِنّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ قَدْ مَاتَا
وَمِمّنْ ذَكَرَ هَذَا الْخَبَرَ أَبُو الْحَسَنِ الدّارَقُطْنِيّ رَحِمَهُ اللّهُ . وَحُنَيْنٌ : اسْمُ جَبَلٍ وَمِنْهُ الْمَثَلُ أَنْجَدَ مَنْ رَأَى حُنَيْنًا . وَقَوْلُهُ مِمّا يَشْتَوِي حَذَفٌ . الْحَذَفُ غَنَمٌ سُودٌ صِغَارٌ تَكُونُ بِالْيَمَنِ وَفِي الْحَدِيثِ سَوّوا صُفُوفَكُمْ لَا تَخَلّلَكُمْ الشّيَاطِينُ كَأَنّهَا بَنَاتُ حَذَفٍ يَعْنِي فِي الصّفّ فِي الصّلَاةِ هَكَذَا قَالَ الْبَرْقِيّ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْبَيْتِ وَاَلّذِي أَرَادَ الشّاعِرُ إنّمَا هُوَ رَجُلٌ فَلَعَلّهُ كَانَ يُسَمّى بِحَذَفٍ وَالْحَذَفُ هِيَ الْغَنَمُ السّودُ الّتِي ذَكَرْنَا . وَقَوْلُهُ كُلّ شِوَاءِ الْعِيرِ جُوفَانُ . يُقَالُ إنّهُ شُوِيَ لَهُ غُرْمُولُ حِمَارٍ فَأَكَلَهُ فِي الشّوَاءِ فَوَجَدَهُ أَجْوَفَ وَقِيلَ لَهُ إنّهُ الْقُنْبُ أَيْ وِعَاءُ الْقَضِيبِ فَقَالَ كُلّ شِوَاءِ الْعِيرِ جُوفَانُ فَضُرِبَ هَذَا الْكَلَامُ مَثَلًا ، وَقِيلَ كَانَ فَزَارِيّ وَتَغْلِبِيّ وَكَلْبِيّ اجْتَمَعُوا فِي سِرّ وَقَدْ اشْتَوَوْا حِمَارَ وَحْشٍ فَغَابَ الْفَزَارِيّ فِي بَعْضِ حَاجَاتِهِ فَأَكَلَ صَاحِبُهُ الْعِيرَ وَاخْتَبَآ لَهُ غُرْمُولَهُ فَلَمّا جَاءَ قَالَا لَهُ هَذَا خَبْؤُنَا لَك ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ وَلَا يُسِيغُهُ فَضَحِكَا مِنْهُ فَاخْتَرَطَ سَيْفَهُ وَقَالَ لَأَقْتُلَنّكُمَا إنْ لَمْ تَأْكُلَاهُ فَأَبَى أَحَدُهُمَا فَضَرَبَهُ بِالسّيْفِ فَأَبَانَ رَأْسَهُ وَكَانَ اسْمُهُ مِرْقَمَهْ فَقَالَ صَاحِبُهُ طَاحَ مِرْقَمَهْ فَقَالَ الْفَزَارِيّ ، وَأَنْتَ إنْ لَمْ تَلْقُمْهُ أَرَادَ تَلْقُمَهَا ، فَطَرَحَ حَرَكَةَ الْهَاءِ عَلَى الْمِيمِ وَحَذَفَ الْأَلِفَ كَمَا قَدْ قِيلَ فِي الْحِيرَةِ أَيّ رِجَالٍ بِهِ أَيْ بِهَا ، وَقَدْ عُيّرَتْ فَزَارَةُ بِهَذَا الْخَبَرِ حَتّى قَالَ سَالِمُ بْنُ دَارَةَ
لَا تَأْمَنَن فَزَارِيّا خَلَوْت بِهِ ... عَلَى قُلُوصِك ، وَاكْتُبْهَا بِأَسْيَارِ
لَا تَأْمَنَنهُ وَلَا تَأْمَنْ بَوَائِقَهُ ... بَعْدَ الّذِي امْتَلّ أَيْرَ الْعَيْرِ فِي النّارِ
أَطْعَمْتُمْ الضّيْفَ غُرْمُولًا مُخَاتَلَةً ... فَلَا سَقَاكُمْ إلَهِي الْخَالِقُ الْبَارِي
[ ص 211 ] لِلْأَصْبَهَانِيّ . فَهَذَا الْفَزَارِيّ هُوَ حَذَفٌ الْمَذْكُورُ فِي الْبَيْتِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَقَوْلُهُ وَالْأَجْرَبَانِ بَنُو عَبْسٍ وَذُبْيَانُ
سَمّاهُمَا بِالْأَجْرَبَيْنِ تَشْبِيهًا بِالْأَجْرَبِ الّذِي لَا يُقْرَبُ وَقَالَ مَجْذُومٌ مِنْ الْعَرَبِ :
بِأَيّ فَعَالٍ رَبّ أُوتِيت مَا أَرَى ... أَظَلّ كَأَنّي كُلّمَا قُمْت أَجْرَبُ
أَيْ يُفَرّ مِنّي ، وَفِي الْخَبَرِ أَنّ عُمَرَ لَمّا نُهِيَ النّاسُ عَنْ مُجَالَسَةِ ضَبِيغِ بْنِ عَسَلٍ كَانَ كُلّمَا حَلّ مَوْضِعًا تَفَرّقَ النّاسُ عَنْهُ كَأَنّهُ بَعِيرٌ أَجْرَبُ وَمَنْ رَوَاهُ الْأَجْرَبَانُ بِضَمّ النّونِ فَهُوَ جَائِزٌ فِي كُلّ اثْنَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ كَالْجَلَمَيْنِ يُقَالُ فِيهِمَا : الْجَلَمَانُ بِضَمّ النّونِ وَكَذَلِكَ الْقَمَرَانِ وَرُوِيَ أَنّ فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا - نَادَتْ ابْنَيْهَا فِي لَيْلَةِ ظُلْمَةٍ يَا حَسَنَانُ يَا حُسَيْنَانُ بِضَمّ النّونِ قَالَهُ الْهَرَوِيّ فِي الْغَرِيبَيْنِ .

ذَاتُ أَنْوَاطٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ الزّهْرِيّ ، عَنْ سِنَانِ بْنِ أَبِي سِنَانٍ الدّؤَلِيّ عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللّيْثِيّ أَنّ الْحَارِثَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ " خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى حُنَيْنٍ وَنَحْنُ حَدِيثُو عَهْدٍ بِالْجَاهِلِيّةِ قَالَ فَسِرْنَا مَعَهُ إلَى حُنَيْنٍ ، قَالَ وَكَانَتْ كُفّارُ قُرَيْشٍ وَمَنْ سِوَاهُمْ مِنْ الْعَرَبِ لَهُمْ شَجَرَةٌ عَظِيمَةٌ خَضْرَاءُ يُقَالُ لَهَا : ذَاتُ أَنْوَاطٍ ، يَأْتُونَهَا كُلّ سَنَةٍ فَيُعَلّقُونَ أَسْلِحَتَهُمْ عَلَيْهَا ، وَيَذْبَحُونَ عِنْدَهَا ، وَيَعْكُفُونَ عَلَيْهَا يَوْمًا . قَالَ فَرَأَيْنَا وَنَحْنُ نَسِيرُ مَعَ [ ص 212 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سِدْرَةً خَضْرَاءَ عَظِيمَةً قَالَ فَتَنَادَيْنَا مِنْ جَنَبَاتِ الطّرِيقِ يَا رَسُولَ اللّهِ اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ . قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اللّهُ أَكْبَرُ قُلْتُمْ وَاَلّذِي نَفْسُ مُحَمّدٍ بِيَدِهِ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى لِمُوسَى : اجْعَلْ لَنَا إلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إنّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إنّهَا السّنَنُ لَتَرْكَبُنّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ .

ثَبَاتُ الرّسُولِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ جَابِرٍ ، عَنْ أَبِيهِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ ، قَالَ لَمّا اسْتَقْبَلْنَا وَادِيَ حُنَيْنٍ انْحَدَرْنَا فِي وَادٍ مِنْ أَوْدِيَةِ تِهَامَةَ أَجْوَفَ حَطُوطٍ إنّمَا نَنْحَدِرُ فِيهِ انْحِدَارًا ، قَالَ وَفِي عَمَايَةِ الصّبْحِ وَكَانَ الْقَوْمُ قَدْ سَبَقُونَا إلَى الْوَادِي ، فَكَمَنُوا لَنَا فِي شِعَابِهِ وَأَحْنَائِهِ وَمَضَايِقِهِ وَقَدْ أَجْمَعُوا وَتَهَيّئُوا وَأَعَدّوا ، فَوَاَللّهِ مَا رَاعَنَا وَنَحْنُ مُنْحَطّونَ إلّا الْكَتَائِبُ قَدْ شَدّوا عَلَيْنَا شَدّةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَانْشَمَرَ النّاسُ رَاجِعِينَ لَا يَلْوِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ وَانْحَازَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ذَاتَ الْيَمِينِ ثُمّ قَالَ أَيْنَ أَيّهَا النّاسُ ؟ هَلُمّوا إلَيّ أَنَا رَسُولُ اللّهِ أَنَا مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ . قَالَ فَلَا شَيْءَ حَمَلَتْ الْإِبِلُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ فَانْطَلَقَ النّاسُ إلّا أَنّهُ قَدْ بَقِيَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَفَرٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ .
الّذِينَ ثَبَتُوا
وَفِيمَنْ ثَبَتَ مَعَهُ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَمِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَالْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ وَابْنُهُ وَالْفَضْلُ بْنُ الْعَبّاسِ وَرَبِيعَةُ بْنُ الْحَارِثِ ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَأَيْمَنُ بْنُ عُبَيْدٍ ، قُتِلَ يَوْمَئِذٍ . [ ص 213 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : اسْمُ ابْنِ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ جَعْفَرٌ وَاسْمُ أَبِي سُفْيَانَ الْمُغِيرَةُ وَبَعْضُ النّاسِ يَعُدّ فِيهِمْ قُثَمَ بْنَ الْعَبّاسِ ، وَلَا يَعُدّ ابْنَ أَبِي سُفْيَانَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ جَابِرٍ ، عَنْ أَبِيهِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ ، قَالَ وَرَجُلٌ مِنْ هَوَازِنَ عَلَى جَمَلٍ لَهُ أَحْمَرُ بِيَدِهِ رَايَةٌ سَوْدَاءُ فِي رَأْسِ رُمْحٍ لَهُ طَوِيلٍ أَمَامَ هَوَازِنَ ، وَهَوَازِنُ خَلْفَهُ إذَا أَدْرَكَ طَعَنَ بِرُمْحِهِ وَإِذَا فَاتَهُ النّاسُ رَفَعَ رُمْحَهُ لِمَنْ وَرَاءَهُ فَأَتْبَعُوهُ .
الشّمَاتَةَ بِالْمُسْلِمِينَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا انْهَزَمَ النّاسُ وَرَأَى مَنْ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ جُفَاةِ أَهْلِ مَكّةَ الْهَزِيمَةَ تَكَلّمَ رِجَالٌ مِنْهُمْ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ الضّغْنِ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ لَا تَنْتَهِي هَزِيمَتُهُمْ دُونَ الْبَحْرِ ، وَإِنّ الْأَزْلَامَ لَمَعَهُ فِي كِنَانَتِهِ وَصَرَخَ جَبَلَةُ بْنُ الْحَنْبَلِ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : كَلَدَةُ بْنُ الْحَنْبَلِ - وَهُوَ مَعَ أَخِيهِ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ مُشْرِكٌ فِي الْمُدّةِ الّتِي جَعَلَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَلَا بَطَلَ السّحْرُ الْيَوْمَ فَقَالَ لَهُ صَفْوَانُ اُسْكُتْ فَضّ اللّهُ فَاك ، فَوَاَللّهِ لَأَنْ يَرُبّنِي رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَحَبّ إلَيّ مِنْ أَنْ يَرُبّنِي رَجُلٌ مِنْ هَوَازِنَ .
شِعْرُ حَسّانَ فِي هِجَاءِ كَلَدَةَ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ يَهْجُو كَلَدَةَ
رَأَيْت سَوَادًا مِنْ بِعِيدٍ فَرَاعِنِي ... أَبُو حَنْبَلٍ يَنْزُو عَلَى أُمّ حَنْبَلِ
كَأَنّ الّذِي يَنْزُو بِهِ فَوْقَ بَطْنِهَا ... ذِرَاعُ قَلُوصٍ مِنْ نِتَاجِ ابْنِ عِزْهِلِ
أَنْشَدَنَا أَبُو زَيْدٍ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ وَذَكَرَ لَنَا أَنّهُ هَجَا بِهِمَا صَفْوَانَ بْنَ أُمَيّةَ ، وَكَانَ أَخَا كَلَدَةَ لِأُمّهِ .
Sأَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبْ
[ ص 212 ] وَذَكَرَ قَوْلَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَيْنَ أَيّهَا النّاسُ ؟ أَنَا مُحَمّدٌ أَنَا رَسُولُ اللّهِ وَفِي غَيْرِ هَذِهِ الرّوَايَةِ أَنَا النّبِيّ لَا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطّلِب [ ص 213 ] أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبْ قَالَ إنّمَا خَصّ عَبْدَ الْمُطّلِبِ بِالذّكْرِ فِي هَذَا الْمَقَامِ وَقَدْ انْهَزَمَ النّاسُ تَشْبِيهًا لِنُبُوّتِهِ وَإِزَالَةً لِلشّكّ لِمَا اشْتَهَرَ وَعُرِفَ مِنْ رُؤْيَا عَبْدِ الْمُطّلِبِ الْمُبَشّرَةِ بِالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَدْ تَقَدّمَ ذِكْرُهَا ، وَلِمَا أَنْبَأَتْ بِهِ الْأَحْبَارُ وَالرّهْبَانُ فَكَأَنّهُ يَقُولُ أَنَا ذَاكَ فَلَا بُدّ مِمّا وُعِدْت بِهِ لِئَلّا يَنْهَزِمُوا عَنْهُ وَيَظُنّوا أَنّهُ مَقْتُولٌ وَمَغْلُوبٌ فَاَللّهُ أَعْلَمُ أَأَرَادَ ذَلِكَ رَسُولُهُ أَمْ لَا .

شَيْبَةَ يُحَاوِلُ قَتْلَ الرّسُولِ
[ ص 214 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ شَيْبَةُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ ، أَخُو بَنِي عَبْدِ الدّارِ . قُلْت : الْيَوْمَ أُدْرِكُ ثَأْرِي مِنْ مُحَمّدٍ وَكَانَ أَبُوهُ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ ، الْيَوْمَ أَقْتُلُ مُحَمّدًا . قَالَ فَأَرَدْت بِرَسُولِ اللّهِ لِأَقْتُلَهُ فَأَقْبَلَ شَيْءٌ حَتّى تَغَشّى فُؤَادِي ، فَلَمْ أُطِقْ ذَاكَ وَعَلِمْت أَنّهُ مَمْنُوعٌ مِنّي . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ مَكّةَ ، أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ حِينَ فَصَلَ مِنْ مَكّةَ إلَى حُنَيْنٍ ، وَرَأَى كَثْرَةَ مَنْ مَعَهُ مِنْ جُنُودِ اللّهِ لَنْ نُغْلَبَ الْيَوْمَ مِنْ قِلّةٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَزَعَمَ بَعْضُ النّاسِ أَنّ رَجُلًا مِنْ بَنِي بَكْرٍ قَالَهَا .
Sشَيْبَةُ وَمُحَاوَلَةُ قَتْلِ الرّسُولِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
[ ص 214 ] وَذَكَرَ قِصّةَ شَيْبَةَ بْنِ عُثْمَانَ حِينَ أَرَادَ قَتْلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ فَجَاءَ شَيْءٌ حَتّى تَغَشّى فُؤَادِي ، وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا الْخَبَرَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ فِي تَارِيخِهِ قَالَ شَيْبَةُ الْيَوْمَ آخُذُ بِثَأْرِي ، فَجِئْت النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ خَلْفِهِ فَلَمّا هَمَمْت بِهِ حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ خَنْدَقٌ مِنْ نَارٍ وَسُوَرٌ مِنْ حَدِيدٍ قَالَ فَالْتَفَتَ إلَيّ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَتَبَسّمَ وَعَرَفَ الّذِي أَرَدْت ، فَمَسَحَ صَدْرِي ، وَذَهَبَ عَنّي الشّكّ ، أَوْ كَمَا قَالَ ذَهَبَ عَنّي بَعْضُ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ .

الِانْتِصَارُ بَعْدَ الْهَزِيمَةِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي الزّهْرِيّ ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ الْعَبّاسِ عَنْ أَبِيهِ الْعَبّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، قَالَ إنّي لَمَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ آخُذُ بِحَكَمَةِ بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ قَدْ شَجَرْتهَا بِهَا ، قَالَ وَكُنْت امْرَأً جَسِيمًا شَدِيدَ الصّوْتِ قَالَ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ حِينَ رَأَى مَا رَأَى مِنْ النّاسِ " أَيْنَ أَيّهَا النّاسُ ؟ " فَلَمْ أَرَ النّاسَ يَلْوُونَ عَلَى شَيْءٍ فَقَالَ يَا عَبّاسُ اُصْرُخْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ : يَا مَعْشَرَ أَصْحَابِ السّمُرَةِ قَالَ فَأَجَابُوا : لَبّيْكَ لَبّيْكَ قَالَ فَيَذْهَبُ الرّجُلُ لِيُثْنِيَ بَعِيرَهُ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ فَيَأْخُذُ دُرْعَهُ فَيَقْذِفُهَا فِي عُنُقِهِ وَيَأْخُذُ سَيْفَهُ وَتُرْسَهُ وَيَقْتَحِمُ عَنْ بَعِيرِهِ وَيُخَلّي سَبِيلَهُ فَيَؤُمّ الصّوْتَ حَتّى يَنْتَهِيَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . حَتّى إذَا اجْتَمَعَ إلَيْهِ مِنْهُمْ مِائَةٌ اسْتَقْبَلُوا النّاسَ فَاقْتَتَلُوا ، وَكَانَتْ الدّعْوَى أَوّلَ مَا كَانَتْ يَا لِلْأَنْصَارِ . ثُمّ خَلَصَتْ أَخِيرًا : يَا لِلْخَزْرَجِ . وَكَانُوا صَبْرًا عِنْدَ الْحَرْبِ فَأَشْرَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي رَكَائِبِهِ . فَنَظَرَ إلَى مُجْتَلَدِ الْقَوْمِ وَهُمْ يَجْتَلِدُونَ فَقَالَ الْآنَ حَمِيَ الْوَطِيسُ . [ ص 215 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْن جَابِرٍ عَنْ أَبِيهِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ ، قَالَ بَيْنَا ذَلِكَ الرّجُلُ مِنْ هَوَازِنَ صَاحِبُ الرّايَةِ عَلَى جَمَلِهِ يَصْنَعُ مَا يَصْنَعُ إذْ هَوَى لَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِ وَرَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ يُرِيدَانِهِ قَالَ فَيَأْتِيهِ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مِنْ خَلْفِهِ فَضَرَبَ عُرْقُوبَيْ الْجَمَلِ فَوَقَعَ عَلَى عَجُزِهِ وَوَثَبَ الْأَنْصَارِيّ عَلَى الرّجُلِ فَضَرَبَهُ ضَرْبَةً أَطَنّ قَدَمَهُ بِنِصْفِ سَاقِهِ فَانْجَعَفَ عَنْ رَحْلِهِ قَالَ وَاجْتَلَدَ النّاسُ فَوَاَللّهِ مَا رَجَعَتْ رَاجِعَةُ النّاسِ مِنْ هَزِيمَتِهِمْ حَتّى وَجَدُوا الْأُسَارَى مُكَتّفِينَ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . قَالَ وَالْتَفَتَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى أَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، وَكَانَ مِمّنْ صَبَرَ يَوْمَئِذٍ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكَانَ حَسَنَ الْإِسْلَامِ حِينَ أَسْلَمَ ، وَهُوَ آخِذٌ بِثَفَرِ بَغْلَتِهِ فَقَالَ " مَنْ هَذَا ؟ " قَالَ أَنَا ابْنُ أُمّك يَا رَسُولَ اللّهِ .
رَأْيُ أُمّ سُلَيْمٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ : أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْتَفَتَ فَرَأَى أُمّ سُلَيْمٍ بِنْتَ مِلْحَانَ ، وَكَانَتْ مَعَ زَوْجِهَا أَبِي طَلْحَةَ وَهِيَ حَازِمَةٌ وَسَطَهَا بِبُرْدٍ لَهَا ، وَإِنّهَا لَحَامِلٌ بِعَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ وَمَعَهَا جَمَلُ أَبِي طَلْحَةَ وَقَدْ خَشِيَتْ أَنْ يَعُزّهَا الْجَمَلُ فَأَدْنَتْ رَأْسَهُ مِنْهَا ، فَأَدْخَلَتْ يَدَهَا فِي خِزَامَتِهِ مَعَ الْخِطَامِ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " أُمّ سُلَيْمٍ ؟ " قُلْت : نَعَمْ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي يَا رَسُولَ اللّهِ اُقْتُلْ هَؤُلَاءِ الّذِينَ يَنْهَزِمُونَ عَنْك كَمَا تَقْتُلُ الّذِينَ يُقَاتِلُونَك ، فَإِنّهُمْ لِذَلِكَ أَهْلٌ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَوَيَكْفِي اللّهُ يَا أُمّ سُلَيْمٍ ؟ " قَالَ وَمَعَهَا خِنْجَرٌ فَقَالَ لَهَا أَبُو طَلْحَةَ مَا هَذَا الْخِنْجَرُ مَعَك يَا أُمّ سُلَيْمٍ ؟ قَالَتْ خِنْجَرٌ أَخَذْته ، إنْ دَنَا مِنّي أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ بَعَجْته بِهِ . قَالَ يَقُولُ أَبُو طَلْحَةَ أَلَا تَسْمَعُ يَا رَسُولَ اللّهِ مَا تَقُولُ أُمّ سُلَيْمٍ الرّمَيْصَاءُ .
Sأُمّ سُلَيْمٍ وَالْفِرَارُ يَوْمَ حُنَيْنٍ
[ ص 215 ] وَذَكَرَ أُمّ سُلَيْمٍ وَهِيَ مُلَيْكَةُ بِنْتُ مِلْحَانَ وَقَالَ فِي اسْمِهَا رُمَيْلَةَ وَيُقَالُ سُهَيْلَةُ وَتُعْرَفُ بِالْغُمَيْصَاءِ وَالرّمَيْصَاءِ لِرَمَصٍ كَانَ فِي عَيْنَيْهَا ، وَأَبُو طَلْحَةَ بَعْلُهَا هُوَ زَيْدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ حَرَامٍ وَهُوَ الْقَائِلُ
أَنَا أَبُو طَلْحَةَ وَاسْمِي : زَيْدٌ ... وَكُلّ يَوْمٍ فِي سِلَاحِي صَيْدٌ
وَقَوْلُ أُمّ سُلَيْمٍ : يَا رَسُولَ اللّهِ اُقْتُلْ هَؤُلَاءِ الّذِينَ يَنْهَزِمُونَ عَنْك . [ ص 216 ] قِيلَ كَيْفَ فَرّ أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْهُ حَتّى لَمْ يَبْقَ مَعَهُ مِنْهُمْ إلّا ثَمَانِيَةٌ وَالْفِرَارُ مِنْ الزّحْفِ مِنْ الْكَبَائِرِ وَقَدْ أَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِيهِ مِنْ الْوَعِيدِ مَا أَنْزَلَ . قُلْنَا : لَمْ يُجْمِعْ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنّهُ مِنْ الْكَبَائِرِ إلّا فِي يَوْمِ بَدْرٍ وَكَذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ وَنَافِعٌ مَوْلَى عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَدُلّ عَلَى هَذَا ، فَإِنّهُ قَالَ { وَمَنْ يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ } [ الْأَنْفَالُ 16 ] فَيَوْمَئِذٍ إشَارَةٌ إلَى يَوْمِ بَدْرٍ ثُمّ نَزَلَ التّحْقِيقُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فِي الْفَارّينَ يَوْمَ أُحُدٍ وَهُوَ قَوْلُهُ { وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ } [ آلُ عِمْرَانَ : 155 ] وَكَذَلِكَ أَنْزَلَ فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ : { وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ } إلَى قَوْلِهِ { غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ التّوْبَةُ 25 ] وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ سَلَامٍ وَكَانَ الْفِرَارُ مِنْ الزّحْفِ يَوْمَ بَدْرٍ مِنْ الْكَبَائِرِ وَكَذَلِك يَكُونُ مِنْ الْكَبَائِرِ فِي مَلْحَمَةِ الرّومِ الْكُبْرَى ، وَعِنْدَ الدّجّالِ وَأَيْضًا فَإِنّ الْمُنْهَزِمِينَ عَنْهُ عَلَيْهِ السّلَامُ رَجَعُوا لِحِينِهِمْ وَقَاتَلُوا مَعَهُ حَتّى فَتَحَ اللّهُ عَلَيْهِمْ .

شِعْرُ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ فِي الْهَزِيمَةِ
[ ص 216 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ وَجّهَ إلَى حُنَيْنٍ ، قَدْ ضَمّ بَنِي سُلَيْمٍ الضّحّاكِ بْنِ سُفْيَانَ الْكِلَابِيّ ، فَكَانُوا إلَيْهِ وَمَعَهُ وَلَمّا انْهَزَمَ النّاسُ قَالَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ يَرْتَجِزُ بِفَرَسِهِ
أَقْدِمْ مُحَاجُ إنّهُ يَوْمٌ نُكُرْ ... مِثْلِي عَلَى مِثْلِك يَحْمِي وَيَكِرّ
إذَا أُضِيعَ الصّفّ يَوْمًا وَالدّبُرْ ... ثُمّ احْزَأَلّتْ زُمَرٌ بَعْدَ زُمَرْ
كَتَائِبٌ يُكِلّ فِيهِنّ الْبَصَرْ ... قَدْ أَطْعُنُ الطّعْنَةَ تَقْذِي بِالسّبُرْ
حِينَ يُذَمّ الْمُسْتَكِينُ الْمُنْجَحِرْ ... وَأَطْعَنُ النّجْلَاءَ تَعْوِي وَتَهِرْ
[ ص 217 ] مُنْهَمِرْ ... تَفْهَقُ تَارَاتٍ وَحِينًا تَنْفَجِرْ
وَثَعْلَبُ الْعَامِلُ فِيهَا مُنْكَسِرْ ... يَا زَيْدُ يَا ابْنَ هَمْهَمٍ أَيْنَ تَفِرّ
قَدْ نَفِدَ الضّرْسُ وَقَدْ طَالَ الْعُمُرْ ... قَدْ عَلِمَ الْبِيضُ الطّوِيلَاتُ الْخُمُرْ
أَنّي قَدْ امْثَالُهَا غَيْرُ غَمِرْ ... إذْ تُخْرَجُ الْحَاصِنُ مِنْ تَحْتِ السّتُرْ
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ أَيْضًا :
أَقْدِمْ مُحَاجُ إنّهَا الْأَسَاوِرَهْ ... وَلَا تَغُرّنّكَ رِجْلٌ نَادِرَهْ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ لِغَيْرِ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْيَوْمِ .
Sحَوْلَ رَجَزٍ مَالِكٍ
وَقَوْلُ مَالِكٍ فِي رَجَزِهِ قَدْ أَطْعُنُ الطّعْنَةَ تَقْذِي بِالسّبُرْ
السّبُرُ جَمْعُ سَابِرٍ وَهُوَ الْفَتِيلُ الّذِي يُسْبَرُ بِهِ الْجُرْحُ أَيْ يُجْبَرُ . [ ص 217 ] أَقْدِمْ مُحَاجُ إنّهَا الْأَسَاوِرَهْ
وَقَوْلُ ابْنِ هِشَامٍ : هُمَا لِغَيْرِ مَالِكٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْيَوْمِ يَعْنِي يَوْمَ الْقَادِسِيّةِ ، وَكَانَتْ الدّوْلَةُ فِيهِ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى الْفُرْسِ ، وَالْأَسَاوِرَةُ مُلُوكُ الْفُرْسِ ، وَقُتِلَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ رُسْتُمُ مَلِكُهُمْ دُونَ الْمَلِكِ الْأَكْبَرِ وَكَانَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا قَبْلُ بِمَ سُمّيَتْ الْقَادِسِيّةُ . وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي قَتَادَةَ فِي سَلَبِ الْقَتِيلِ قَالَ فَاشْتَرَيْت بِثَمَنِهِ مَخْرَفًا فَإِنّهُ لَأَوّلُ مَالٍ اعْتَقَدْته ، يُقَالُ اعْتَقَدْت مَالِي ، أَيْ اتّخَذْت مِنْهُ عُقْدَةً كَمَا تَقُولُ نُبْذَةٌ أَوْ قِطْعَةٌ وَالْأَصْلُ فِيهِ مِنْ الْعَقْدِ وَأَنّ مَنْ مَلَكَ شَيْئًا عَقَدَ عَلَيْهِ وَأَنْشَدَ أَبُو عَلِيّ [ الْقَالِي ] :
وَلَمّا رَأَيْت الدّهْرَ أَنْحَتْ صُرُوفُهُ ... عَلَيّ وَأَوْدَتْ بِالذّخَائِرِ وَالْعُقَدْ
حَذَفْت فُضُولَ الْعَيْشِ حَتّى رَدَدْتهَا ... إلَى الْقُوتِ خَوْفًا أَنْ أُجَاءَ إلَى أَحَدْ
وَيُرْوَى : تَأَثّلْته ، وَهِيَ رِوَايَةُ الْمُوَطّأِ وَيُقَالُ مَخْرَفٌ بِفَتْحِ الرّاءِ وَكَسْرِهَا ، وَأَمّا كَسْرُ الْمِيمِ فَإِنّمَا هُوَ لِلْمِخْرَفِ وَهِيَ الْآلَةُ الّتِي تُخْتَرَفُ بِهَا التّمْرَةُ أَيْ تُجْتَنَى بِفَتْحِ الْمِيمِ مَعْنَاهُ الْبُسْتَانُ مِنْ النّخْلِ هَكَذَا فَسّرُوهُ وَفَسّرَهُ الْحَرْبِيّ ، وَأَجَادَ فِي تَفْسِيرِهِ فَقَالَ الْمَخْرَفُ نَخْلَةٌ وَاحِدَةٌ أَوْ نَخَلَاتٌ يَسِيرَةٌ إلَى عَشْرٍ فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ فَهُوَ بُسْتَانٌ أَوْ حَدِيقَةٌ وَيُقَوّي مَا قَالَهُ [ ص 218 ] الْحَرْبِيّ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ قَالَ الْمَخْرَفُ مِثْلُ الْخَرُوفَةِ وَالْخَرُوفَةُ هِيَ النّخْلَةُ يَخْتَرِفُهَا الرّجُلُ لِنَفْسِهِ وَلِعِيَالِهِ وَأَنْشَدَ مِثْلُ الْمَخَارِفِ مِنْ خَيْلَانَ أَوْ هَجَرَا
قَالَ وَيُقَالُ الْخَرُوفَةُ خَرِيفَةٌ أَيْضًا .

مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ
[ ص 218 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ ، أَنّهُ حَدّثَ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيّ قَالَ وَحَدّثَنِي مَنْ لَا أَتّهِمُ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى بَنِي غِفَارٍ أَبِي مُحَمّدٍ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ ، قَالَا : قَالَ أَبُو قَتَادَةَ : رَأَيْت يَوْمَ حُنَيْنٍ رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ مُسْلِمًا وَمُشْرِكًا ، قَالَ وَإِذَا رَجُلٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ يُرِيدُ أَنْ يُعِينَ صَاحِبَهُ الْمُشْرِكَ عَلَى الْمُسْلِمِ . قَالَ فَأَتَيْته فَضَرَبْت يَدَهُ فَقَطَعْتهَا ، وَاعْتَنَقَنِي بِيَدِهِ الْأُخْرَى ، فَوَاَللّهِ مَا أَرْسَلَنِي حَتّى وَجَدْت رِيحَ الدّمِ . وَيُرْوَى : رِيحَ الْمَوْتِ فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَكَادَ يَقْتُلُنِي ، فَلَوْلَا أَنّ الدّمَ نَزَفَهُ لَقَتَلَنِي ، فَسَقَطَ فَضَرَبْته فَقَتَلْته ، وَأَجْهَضَنِي عَنْهُ الْقِتَالُ وَمَرّ بِهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مَكّةَ فَسَلَبَهُ فَلَمّا وَضَعَتْ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا وَفَرَغْنَا مِنْ الْقَوْمِ ، قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ ، فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ وَاَللّهِ لَقَدْ قَتَلْت قَتِيلًا ذَا سَلَبٍ فَأَجْهَضَنِي عَنْهُ الْقِتَالُ فَمَا أَدْرِي مَنْ اسْتَلَبَهُ ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مَكّةَ : صَدَقَ يَا رَسُولَ اللّهِ وَسَلَبُ ذَلِكَ الْقَتِيلِ عِنْدِي ، فَأَرْضِهِ عَنّي مِنْ سَلَبِهِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ لَا وَاَللّهِ لَا يُرْضِيهِ مِنْهُ تَعْمِدُ إلَى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ اللّهِ يُقَاتِلُ عَنْ دِينِ اللّهِ تُقَاسِمُهُ سَلَبَهُ اُرْدُدْ عَلَيْهِ سَلَبَ قَتِيلِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صَدَقَ فَارْدُدْ عَلَيْهِ سَلَبَهُ . فَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ : فَأَخَذْته مِنْهُ فَبِعْته ، فَاشْتَرَيْت مِنْهُ مَخْرَفًا ، فَإِنّهُ لَأَوّلُ مَالٍ اعْتَقَدْته . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي مَنْ لَا أَتّهِمُ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ إسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ لَقَدْ اسْتَلَبَ أَبُو طَلْحَةَ يَوْمَ حُنَيْنٍ وَحْدَهُ عِشْرِينَ رَجُلًا .
Sالسّلَبُ لِلْقَاتِلِ
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ الْفِقْهِ أَنّ السّلَبَ لِلْقَاتِلِ حُكْمًا شَرْعًا جَعَلَ ذَلِكَ الْإِمَامُ لَهُ أَوْ يَجْعَلُهُ وَهُوَ قَوْلُ الشّافِعِيّ ، وَقَالَ مَالِكٌ إنّمَا ذَلِكَ إلَى الْإِمَامِ لَهُ أَنْ يَقُولَ بَعْدَ مَعْمَعَةِ الْحَرْبِ مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ ، وَيَكْرَهُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللّهُ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ قَبْلَ الْقِتَالِ لِئَلّا يُخَالِطَ النّيّةَ غَرَضٌ آخَرُ غَيْرُ احْتِسَابِ نَفْسِهِ لِلّهِ تَعَالَى ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا .

نُزُولُ الْمَلَائِكَةِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ [ ص 219 ] أَبِي إسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ ، أَنّهُ حَدّثَ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ ، قَالَ لَقَدْ رَأَيْت قَبْلَ هَزِيمَةِ الْقَوْمِ وَالنّاسُ يَقْتَتِلُونَ مِثْلَ الْبِجَادِ الْأَسْوَدِ أَقْبَلَ مِنْ السّمَاءِ حَتّى سَقَطَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ فَنَظَرْت ، فَإِذَا نَمْلٌ أَسْوَدُ مَبْثُوثٌ قَدْ مَلَأَ الْوَادِيَ لَمْ أَشُكّ أَنّهَا الْمَلَائِكَةُ ثُمّ لَمْ يَكُنْ إلّا هَزِيمَةُ الْقَوْمِ .
هَزِيمَةُ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ حُنَيْنٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَلَمّا هَزَمَ اللّهُ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ حُنَيْنٍ ، وَأَمْكَنَ رَسُولَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْهُمْ قَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ
قَدْ غَلَبَتْ خَيْلُ اللّهِ خَيْلَ اللّاتِ ... وَاَللّهُ أَحَقّ بِالثّبَاتِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالرّوَايَةِ لِلشّعْرِ
غَلَبَتْ خَيْلُ اللّهِ خَيْلَ اللّاتِ ... وَخَيْلُهُ أَحَقّ بِالثّبَاتِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا انْهَزَمَتْ هَوَازِنُ اسْتَحَرّ الْقَتْلُ مِنْ ثَقِيفٍ فِي بَنِي مَالِكٍ فَقُتِلَ مَعَهُمْ سَبْعُونَ رَجُلًا تَحْتَ رَايَتِهِمْ فِيهِمْ عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ حَبِيبٍ وَكَانَتْ رَايَتُهُمْ مَعَ ذِي الْخِمَارِ فَلَمّا قُتِلَ أَخَذَهَا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ فَقَاتَلَ بِهَا حَتّى قُتِلَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَأَخْبَرَنِي عَامِرُ بْنُ وَهْبِ بْنِ الْأَسْوَدِ قَالَ لَمّا بَلَغَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَتْلُهُ قَالَ أَبْعَدَهُ اللّهُ فَإِنّهُ كَانَ يُبْغِضُ قُرَيْشًا . [ ص 220 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْأَخْنَسِ . أَنّهُ قُتِلَ مَعَ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ غُلَامٌ لَهُ نَصْرَانِيّ أَغْرَلُ قَالَ فَبَيْنَا رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ يَسْلُبُ قَتْلَى ثَقِيفٍ ، إذْ كَشَفَ الْعَبْدَ يَسْلُبُهُ فَوَجَدَهُ أَغْرَل . قَالَ فَصَاحَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ يَعْلَمُ اللّهُ أَنّ ثَقِيفًا غُرْلٌ . قَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ : فَأَخَذْت بِيَدِهِ وَخَشِيت أَنْ تَذْهَبَ عَنّا فِي الْعَرَبِ ، فَقُلْت : لَا تَقُلْ ذَاكَ فِدَاك أَبِي وَأُمّي ، إنّمَا هُوَ غُلَامٌ لَنَا نَصْرَانِيّ . قَالَ ثُمّ جَعَلْت أَكْشِفُ لَهُ عَنْ الْقَتْلَى ، وَأَقُولُ لَهُ أَلَا تَرَاهُمْ مُخْتَنِينَ كَمَا تَرَى قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَتْ رَايَةُ الْأَحْلَافِ مَعَ قَارِبِ بْنِ الْأَسْوَدِ ، فَلَمّا انْهَزَمَ النّاسُ أَسْنَدَ رَايَتَهُ إلَى شَجَرَةٍ وَهَرَبَ هُوَ وَبَنُو عَمّهِ وَقَوْمُهُ مِنْ الْأَحْلَافِ ، فَلَمْ يُقْتَلْ مِنْ الْأَحْلَافِ غَيْرَ رَجُلَيْنِ رَجُلٌ مِنْ غِيَرَةَ يُقَالُ لَهُ وَهْبٌ وَآخَرُ مِنْ بَنِي كُبّةَ يُقَالُ لَهُ الْجُلَاحُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ بَلَغَهُ قَتْلُ الْجُلَاحِ قُتِلَ الْيَوْمَ سَيّدُ شَبَابِ ثَقِيفٍ إلّا مَا كَانَ مِنْ ابْنِ هُنَيْدَةَ يَعْنِي بِابْنِ هُنَيْدَةَ الْحَارِثَ بْنَ أُوَيْسٍ .
Sنُزُولُ الْمَلَائِكَةِ وَقَوْلُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ
[ ص 219 ] رَآهُ يَنْزِلُ مِنْ السّمَاءِ . قَالَ لَمْ أَشُكّ أَنّهَا الْمَلَائِكَةُ وَقَدْ قَدّمَ ابْنُ إسْحَاقَ قَوْلَ الْآخَرِ رَأَيْت رِجَالًا بِيضًا عَلَى خَيْلٍ بُلْقٍ وَكَانَتْ الْمَلَائِكَةُ فَأَرَاهُمْ اللّهُ لِذَلِكَ الْهَوْاَزنِيّ عَلَى صُوَرِ الْخَيْلِ وَالرّجَالِ تَرْهِيبًا لِلْعَدُوّ وَرَآهُمْ جُبَيْرٌ عَلَى صُورَةِ النّمْلِ الْمَبْثُوثِ إشْعَارًا بِكَثْرَةِ عَدَدِهَا ، إذْ النّمْلُ لَا يُسْتَطَاعُ عَدّهَا مَعَ أَنّ النّمْلَةَ يُضْرَبُ بِهَا الْمَثَلُ فِي الْقُوّةِ فَيُقَالُ أَقْوَى مِنْ النّمْلَةِ لِأَنّهَا تَحْمِلُ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْ جِرْمِهَا بِأَضْعَافٍ وَقَدْ قَالَ رَجُلٌ لِبَعْضِ الْمُلُوكِ جَعَلَ اللّهُ قُوّتَك قُوّةَ النّمْلَةِ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَيْسَ فِي الْحَيَوَانِ مَا يَحْمِلُ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ إلّا النّمْلَةُ وَهَذَا الْمَثَلُ قَدْ ذَكَرَهُ الْأَصْبَهَانِيّ فِي كِتَابِ الْأَعْمَالِ مَقْرُونًا بِهَذَا الْخَبَرِ ، وَقَدْ أُهْلِكَ بِالنّمْلِ أُمّةٌ مِنْ الْأُمَمِ وَهُمْ جُرْهُمٌ .

رَائِيّةُ ابْنِ مِرْدَاسٍ
فَقَالَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ السّلَمِيّ يَذْكُرُ قَارِبَ بْنَ الْأَسْوَدِ وَفِرَارَهُ مِنْ بَنِي أَبِيهِ وَذَا الْخِمَارِ وَحَبْسَهُ قَوْمَهُ لِلْمَوْتِ [ ص 221 ]
أَلَا مِنْ مُبْلِغٍ غَيْلَانَ عَنّي ... وَسَوْفَ - إخَالُ - يَأْتِيهِ الْخَبِيرُ
وَعُرْوَةُ إنّمَا أُهْدِي جَوَابًا ... وَقَوْلًا غَيْرَ قَوْلِكُمَا يَسِيرُ
بِأَنّ مُحَمّدًا عَبْدٌ رَسُولٌ ... لِرَبّ لَا يَضِلّ وَلَا يَجُورُ
وَجَدْنَاهُ نَبِيّا مِثْلَ مُوسَى ... فَكُلّ فَتًى يُخَايِرُهُ مُخِيرُ
وَبِئْسَ الْأَمْرُ أَمْرُ بَنِي قَسِيّ ... بِوَجّ إذْ تُقُسّمَتْ الْأُمُورُ
أَضَاعُوا أَمْرَهُمْ وَلِكُلّ قَوْمٍ ... أَمِيرٌ وَالدّوَائِرُ قَدْ تَدُورُ
فَجِئْنَا أُسْدَ غَابَاتٍ إلَيْهِمْ ... جُنُودُ اللّهِ ضَاحِيَةً تَسِيرُ
يَؤُمّ الْجَمْعَ جَمْعَ بَنِي قَسِيّ ... عَلَى حَنَقٍ نَكَادُ لَهُ نَطِيرُ
وَأُقْسِمُ لَوْ هُمْ مَكَثُوا لَسِرْنَا ... إلَيْهِمْ بِالْجُنُودِ وَلَمْ يَغُورُوا
فَكُنّا أُسْدَ لَيّةَ ثَمّ حَتّى ... أَبَحْنَاهَا وَأَسْلَمَتْ النّصُورُ
وَيَوْمٌ كَانَ قَبْلُ لَدَى حُنَيْنٍ ... فَأَقْلَعَ وَالدّمَاءُ بِهِ تَمُورُ
مِنْ الْأَيّامِ لَمْ تَسْمَعْ كَيَوْمٍ ... وَلَمْ يَسْمَعْ بِهِ قَوْمٌ ذُكُورُ
قَتَلْنَا فِي الْغُبَارِ بَنِي حُطَيْطٍ ... عَلَى رَايَاتِهَا وَالْخَيْلُ زُورُ
وَلَمْ يَكُ ذُو الْخِمَارِ رَئِيسَ قَوْمٍ ... لَهُمْ عَقْلٌ يُعَاقِبُ أَوْ مُكِيرُ
أَقَامَ بِهِمْ عَلَى سُنَنِ الْمَنَايَا ... وَقَدْ بَانَتْ لِمُبْصِرِهَا الْأُمُورُ
فَأَفْلَتْ مَنْ نَجَا مِنْهُمْ حَرِيضًا ... وَقُتّلَ مِنْهُمْ بَشَرٌ كَثِيرُ
وَلَا يُغْنِي الْأُمُورَ أَخُو الْتَوَانِي ... وَلَا الْغَلِقُ الصّرَيّرَةِ الْحَصُورُ
أَحَانَهُمُ وَحَانَ وَمَلّكُوهُ ... أُمُورَهُمْ وَأَفْلَتَتْ الصّقُورُ
بَنُو عَوْفٍ تَمِيحُ بِهِمْ جِيَادٌ ... أُهِينَ لَهَا الْفَصَافِصُ وَالشّعِيرُ
فَلَوْلَا قَارِبٌ وَبَنُو أَبِيهِ ... تَقَسّمَتْ الْمَزَارِعُ وَالْقُصُورُ
وَلَكِنّ الرّيَاسَةَ عَمّمُوهَا ... عَلَى يَمَنٍ أَشَارَ بِهِ الْمُشِيرُ
أَطَاعُوا قَارِبًا وَلَهُمْ جُدُودٌ ... وَأَحْلَامٌ إلَى عِزّ تَصِيرُ
فَإِنْ يُهْدَوْا إلَى الْإِسْلَامِ يُلْفَوْا ... أُنُوفَ النّاسِ مَا سَمَرُ السّمِيرُ
وَإِنْ لَمْ يُسْلِمُوا فَهُمْ أَذَانٌ ... بِحَرْبِ اللّهِ لَيْسَ لَهُمْ نَصِيرُ
كَمَا حَكّتْ بَنِي سَعْدٍ وَحَرْبٌ ... بِرَهْطِ بَنِي غَزِيّةَ عَنْقَفِيرُ
كَأَنّ بَنِي مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ ... إلَى الْإِسْلَامِ ضَائِنَةٌ نَخُورُ
فَقُلْنَا أَسْلِمُوا إنّا أَخُوكُمْ ... وَقَدْ بَرَأَتْ مِنْ الْإِحَنِ الصّدُورُ
كَأَنّ الْقَوْمَ إذْ جَاءُوا إلَيْنَا ... مِنْ الْبَغْضَاءِ بَعْدَ السّلْمِ عُورُ
[ ص 222 ] [ ص 223 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : غَيْلَانُ غَيْلَانُ بْنُ سَلَمَةَ الثّقَفِيّ ، وَعُرْوَةُ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثّقَفِيّ .
Sحَوْلَ قَصِيدَةِ ابْنِ مِرْدَاسٍ
فَصْلٌ
[ ص 220 ] وَذَكَرَ قَوْلَ عَبّاسٍ وَسَوْفَ إخَالُ يَأْتِيك الْخَبِيرُ
الْفِعْلُ الْمُسْتَقْبَلُ هُوَ يَأْتِيك ، وَإِنْ كَانَ حَرْفُ سَوْفَ دَاخِلًا عَلَى إخَالُ فِي اللّفْظِ فَإِنّ مَا يَدُلّ عَلَيْهِ مِنْ الِاسْتِقْبَالِ إنّمَا هُوَ الْفِعْلُ الثّانِي كَمَا قَالَ وَمَا أَدْرِي وَسَوْفَ إخَالُ أَدْرِي
[ ص 221 ] يَخَالَ الْآنَ أَنْ سَيَكُونُ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ
فَإِنْ يُهْدَوْا إلَى الْإِسْلَامِ يُلْفَوْا ... أُنُوفَ النّاسِ مَا سَمَرُ السّمِيرُ
[ ص 222 ] نَكِرَةٌ لَمْ يَتَعَرّفْ بِالْإِضَافَةِ لِأَنّهُ لَمْ يَرِدْ الْأُنُوفُ بِأَعْيَانِهَا ، وَلَكِنّ أَشْرَافًا ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ بِمُنْجَرَدٍ قَيْدِ الْأَوَابِدِ
لِأَنّهُ جَعَلَهُ كَالْقَيْدِ وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ فِي : نَصْبِ غَمَائِمَ الْأَبْصَارِ عَلَى الْحَالِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ مَا مَنَعَهُ سِيبَوَيْهِ حِينَ قَالَ مُعْتَرِضًا عَلَى الْخَلِيلِ لَوْ قُلْت مَرَرْت بِقَصِيرٍ الطّوِيلَ تُرِيدُ مِثْلَ الطّوِيلِ لَمْ يَجُزْ وَاَلّذِي أَرَادَهُ الْخَلِيلُ هُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ اسْتِعَارَةِ الْكَلِمَةِ عَلَى جِهَةِ التّشْبِيهِ نَحْوَ قَيْدِ الْأَوَابِدِ وَأُنُوفِ النّاسِ تُرِيدُ أَشْرَافَهُمْ فَمِثْلُ هَذَا يَكُونُ وَصْفًا لِلنّكِرَةِ وَحَالًا مِنْ الْمَعْرِفَةِ وَقَدْ أَلْحَقَ بِهَذَا الْبَابِ لَهُ صَوْتٌ صَوْتُ الْحِمَارِ عَلَى الصّفّةِ وَضَعّفَهُ سِيبَوَيْهِ فِي الْحَالِ وَهُوَ فِي الصّفّةِ أَقْبَحُ وَإِنّمَا أَلْحَقَهُ الْخَلِيلُ بِمَا تَنَكّرَ وَهُوَ مُضَافٌ إلَى مُعْرِفَةٍ مِنْ أَجْلِ تُكَرّرْ اللّفْظِ فِيهِ فَحَسُنَ لِذَلِك . وَقَوْلُهُ وَأُسْلِمَتْ النّصُورُ . ذَكَرَ الْبَرْقِيّ أَنّ النّصُورَ هَاهُنَا جَمْعُ : نَاصِرٍ وَلَيْسَ هُوَ عِنْدِي كَذَلِك . فَإِنّ فَاعِلًا قَلّ مَا يُجْمَعُ عَلَى فَعُولٍ وَإِنْ جُمِعَ فَلَيْسَ هُوَ بِالْقِيَاسِ الْمُطّرِدِ وَإِنّمَا هُمْ بَنُو نَصِيرٍ مِنْ هَوَازِنَ رَهْطُ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ النّصْرِيّ يُقَال لَهُمْ النّصُورُ كَمَا يُقَال لِبَنِي الْمُهَلّبِ الْمَهَالِبَةُ وَلِبَنِي الْمُنْذِرِ الْمَنَاذِرَةِ ، وَكَمَا يُقَال الْأَشْعَرُونَ وَهُمْ بَنُو أَشْعَرَ بْنِ أُدَدٍ وَالتّوَتْيَاتُ لِبَنِي تُوَبْتِ بْنِ أَسَدٍ .
جَمْعُ أَخ وَابْنٍ
وَقَوْلُهُ إنّا أَخُوكُمْ جَمَعَ أَخًا جَمْعًا مُسْلَمًا بِالْوَاوِ وَالنّونِ ثُمّ حُذِفَتْ النّونُ لِلْإِضَافَةِ كَمَا أَنْشَدُوا :
وَلَمّا تَبَيّنّ أَصْوَاتَنَا بَكَيْنَ ... وَفَدّيْنَنَا بِالْأَبِينَا
[ ص 223 ] يَكُونَ وَضْعُ الْوَاحِدِ مَوْضِعَ الْجَمِيعِ كَمَا تَقَدّمَ فِي قَوْلِهِ أَنْتُمْ الْوَلَدُ وَنَحْنُ الْوُلْدُ [ ص 224 ] [ ص 225 ]
مِنْ وَصْفِ الزّبَيْرِ
وَقَوْلُهُ فِي صِفَةِ الزّبَيْرِ طَوِيلُ الْبَادّ أَيْ الْفَخْرِ وَالْبَدَدُ تَبَاعُدُ مَا بَيْنَ الْفَخِذَيْنِ .

مَصْرَعُ دُرَيْدٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَلَمّا انْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ أَتَوْا الطّائِفَ وَمَعَهُمْ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ وَعَسْكَرَ بَعْضُهُمْ بِأَوْطَاسٍ وَتَوَجّهَ بَعْضُهُمْ نَحْوَ نَخْلَةَ ، وَلَمْ يَكُنْ فِيمَنْ تَوَجّهَ نَحْوَ نَخْلَةَ إلّا بَنُو غِيَرَةَ مِنْ ثَقِيفٍ ، وَتَبِعَتْ خَيْلُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ سَلَكَ فِي نَخْلَةَ مِنْ النّاسِ وَلَمْ تَتْبَعْ مَنْ سَلَكَ الثّنَايَا . فَأُدْرِكَ رَبِيعَةُ بْنُ رَفِيعِ بْنِ أُهْبَانَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ يَرْبُوعِ بْنِ سَمّانِ بْنِ عَوْفِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ وَكَانَ يُقَالُ لَهُ ابْنُ الدّغُنّةِ وَهِيَ أُمّهُ فَغَلَبَتْ عَلَى اسْمِهِ وَيُقَالُ ابْنُ لَذْعَةَ فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ - دُرَيْدُ بْنُ الصّمّةِ ، فَأُخِذَ بِخِطَامِ جَمَلِهِ وَهُوَ يُظَنّ أَنّهُ امْرَأَةٌ وَذَلِكَ أَنّهُ فِي شِجَارٍ لَهُ فَإِذَا بِرَجُلٍ فَأَنَاخَ بِهِ فَإِذَا شَيْخٌ كَبِيرٌ وَإِذَا هُوَ دُرَيْدُ بْنُ الصّمّةِ وَلَا يَعْرِفُهُ الْغُلَامُ فَقَالَ لَهُ دُرَيْدٌ مَا تُرِيدُ بِي ؟ قَالَ أَقْتُلُك . قَالَ وَمَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ أَنَا رَبِيعَةُ بْنُ رَفِيعٍ السّلَمِيّ ثُمّ ضَرَبَهُ بِسَيْفِهِ فَلَمْ يُغْنِ شَيْئًا ، فَقَالَ بِئْسَ مَا سَلّحَتْك أُمّك خُذْ سَيْفِي هَذَا مِنْ مُؤَخّرِ الرّحْلِ وَكَانَ الرّحْلُ فِي الشّجَارِ ثُمّ اضْرِبْ بِهِ وَارْفَعْ عَنْ الْعِظَامِ وَاخْفِضْ عَنْ الدّمَاغِ فَإِنْ كُنْت كَذَلِكَ أَضْرَبَ الرّجَالِ ثُمّ إذَا أَتَيْت أُمّك فَأَخْبِرْهَا أَنّك قَتَلْت دُرَيْدَ بْنَ الصّمّةِ ، فَرُبّ وَاَللّهِ يَوْمٌ قَدْ مُنِعْت فِيهِ نِسَاءَك . فَزَعَمَ بَنُو سُلَيْمٍ أَنّ رَبِيعَةَ لَمّا ضَرَبَهُ فَوَقَعَ تَكَشّفَ فَإِذَا عِجَانُهُ وَبُطُونُ فَخِذَيْهِ مِثْلُ الْقِرْطَاسِ مِنْ رُكُوبِ الْخَيْلِ أَعْرَاءً فَلَمّا رَجَعَ رَبِيعَةُ إلَى أُمّهِ أَخْبَرَهَا بِقَتْلِهِ إيّاهُ فَقَالَتْ أَمَا وَاَللّهِ لَقَدْ أَعْتَقَ أُمّهَاتٍ لَك ثَلَاثًا . فَقَالَتْ عَمْرَةُ بِنْتُ دُرَيْدٍ فِي قَتْلِ رَبِيعَةَ دُرَيْدًا [ ص 224 ]
لَعَمْرُك مَا خَشِيت عَلَى دُرَيْدٍ ... بِبَطْنِ سُمَيْرَةٍ جَيْشَ الْعَنَاقِ
جَزَى عَنْهُ الْإِلَهُ بَنِي سُلَيْمٍ ... وَعَقّتْهُمْ بِمَا فَعَلُوا عَقَاقُ
وَأَسْقَانَا إذَا قُدْنَا إلَيْهِمْ ... دِمَاءَ خِيَارِهِمْ عِنْدَ التّلَاقِي
فَرُبّ عَظِيمَةٍ دَافَعَتْ عَنْهُمْ ... وَقَدْ بَلَغَتْ نُفُوسَهُمْ التّرَاقِي
وَرُبّ كَرِيمَةٍ أَعْتَقْت مِنْهُمْ ... وَأُخْرَى قَدْ فَكَكْت مِنْ الْوَثَاقِ
وَرُبّ مُنَوّهٍ بِك مِنْ سُلَيْمٍ ... أَجَبْت وَقَدْ دَعَاك بِلَا رَمَاقِ
فَكَانَ جَزَاؤُنَا مِنْهُمْ عُقُوقًا ... وَهَمّا مَاعَ مِنْهُ مُخّ سَاقِي
عَفَتْ آثَارُ خَيْلِك بَعْدَ أَيْنٍ ... بِذِي بَقَرٍ إلَى فَيْفِ النّهَاقِ
وَقَالَتْ عَمْرَةُ بِنْتُ دُرَيْدٍ أَيْضًا :
قَالُوا قَتَلْنَا دُرَيْدًا قُلْت قَدْ صَدَقُوا ... فَظَلّ دَمْعِي عَلَى السّرْبَالِ يَنْحَدِرُ
لَوْلَا الّذِي قَهَرَ الْأَقْوَامَ كُلّهِمْ ... رَأَتْ سُلَيْمٌ وَكَعْبٌ كَيْفَ تَأْتَمِرُ
إذَنْ لَصَبّحَهُمْ غِبّا وَظَاهِرَةً ... حَيْثُ اسْتَقَرّتْ نَوَاهُمْ جَحْفَلٌ ذَفِرِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ اسْمُ الّذِي قَتَلَ دُرَيْدًا : عَبْدُ اللّهِ بْنُ قُنَيْعِ بْنِ أُهْبَانَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ .

مَصْرَعُ أَبِي عَامِرٍ الْأَشْعَرِيّ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَبَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي آثَارِ مَنْ تَوَجّهَ قِبَلَ أَوْطَاسٍ أَبَا عَامِرٍ الْأَشْعَرِيّ ، فَأَدْرَكَ مِنْ النّاسِ بَعْضَ مَنْ انْهَزَمَ فَنَاوَشُوهُ الْقِتَالَ فَرُمِيَ أَبُو عَامِرٍ بِسَهْمٍ فَقُتِلَ فَأَخَذَ الرّايَةَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ ، وَهُوَ ابْنُ عَمّهِ فَقَاتَلَهُمْ فَفَتَحَ اللّهُ عَلَى يَدَيْهِ وَهَزَمَهُمْ . فَيَزْعُمُونَ أَنّ سَلَمَةَ بْنَ دُرَيْدٍ هُوَ الّذِي رَمَى أَبَا عَامِرٍ الْأَشْعَرِيّ بِسَهْمٍ فَأَصَابَ رُكْبَتَهُ فَقَتَلَهُ فَقَالَ
إنْ تَسْأَلُوا عَنّي فَإِنّي سَلَمَهْ ... ابْنُ سَمَادِيرَ لِمَنْ تَوَسّمَهْ
أَضْرِبُ بِالسّيْفِ رُءُوسَ الْمُسْلِمَهْ
وَسَمَادِيرُ أُمّهُ .
حَالُ بَنِي رِئَابٍ فِي الْمَعْرَكَةِ
وَاسْتَحَرّ الْقَتْلُ مِنْ بَنِي نَصْرٍ فِي بَنِي رِئَابٍ فَزَعَمُوا أَنّ عَبْدَ اللّهِ بْنَ قَيْسٍ - وَهُوَ الّذِي يُقَالُ لَهُ ابْنُ الْعَوْرَاءِ وَهُوَ أَحَدُ بَنِي وَهْبِ بْنِ رِئَابٍ - قَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ هَلَكَتْ بَنُو رِئَابٍ فَزَعَمُوا أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ اللّهُمّ اُجْبُرْ مُصِيبَتَهُمْ
مَوْقِفُ قَوْمِ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ
وَخَرَجَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ عِنْدَ الْهَزِيمَةِ فَوَقَفَ فِي فَوَارِسَ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى ثَنِيّةٍ مِنْ الطّرِيقِ وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ قِفُوا حَتّى تَمْضِيَ ضُعَفَاؤُكُمْ وَتَلْحَقَ أُخْرَاكُمْ فَوَقَفَ هُنَاكَ حَتّى [ ص 225 ] كَانَ لَحِقَ بِهِمْ مِنْ مُنْهَزِمَةِ النّاسِ ؟ فَقَالَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ فِي ذَلِكَ
وَلَوْلَا كَرّتَانِ عَلَى مُحَاجٍ ... لَضَاقَ عَلَى الْعَضَارِيطِ الطّرِيقُ
وَلَوْلَا كَرّ دُهْمَانَ بْنِ نَصْرٍ ... لَدَى النّخَلَاتِ مُنْدَفِعَ الشّدِيقِ
لَآبَتْ جَعْفَرٌ وَبَنُو هِلَالٍ ... خَزَايَا مُحْقِبِينَ عَلَى شُقُوقِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : هَذِهِ الْأَبْيَاتُ لِمَالِكِ بْنِ عَوْفٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْيَوْمِ . وَمِمّا يَدُلّك عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ دُرَيْدِ بْنِ الصّمّةِ فِي صَدْرِ هَذَا الْحَدِيثِ مَا فَعَلَتْ كَعْبٌ وَكِلَابٌ ؟ فَقَالُوا لَهُ لَمْ يَشْهَدْهَا مِنْهُمْ أَحَدٌ . وَجَعْفَرُ بْنُ كِلَابٍ . وَقَالَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ فِي هَذِهِ الْأَبْيَاتِ " لَآبَتْ جَعْفَرٌ وَبَنُو هِلَالٍ " . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَبَلَغَنِي أَنّ خَيْلًا طَلَعَتْ وَمَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ عَلَى الثّنِيّةِ ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ مَاذَا تَرَوْنَ ؟ فَقَالُوا : نَرَى قَوْمًا وَاضِعِي رِمَاحَهُمْ بَيْنَ آذَانِ خَيْلِهِمْ طَوِيلَةً بَوَادّهُمْ فَقَالَ هَؤُلَاءِ بَنُو سُلَيْمٍ ، وَلَا بَأْسَ عَلَيْكُمْ مِنْهُمْ فَلَمّا أَقْبَلُوا سَلَكُوا بَطْنَ الْوَادِي . ثُمّ طَلَعَتْ خَيْلٌ أُخْرَى تَتْبَعُهَا ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ مَاذَا تَرَوْنَ ؟ قَالُوا : نَرَى قَوْمًا عَارِضِي رِمَاحَهُمْ أَغْفَالًا عَلَى خَيْلِهِمْ فَقَالَ هَؤُلَاءِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ ، وَلَا بَأْسَ عَلَيْكُمْ مِنْهُمْ فَلَمّا انْتَهَوْا إلَى أَصْلِ الثّنِيّةِ سَلَكُوا طَرِيقَ بَنِي سُلَيْمٍ . ثُمّ طَلَعَ فَارِسٌ ؛ قَفّال لِأَصْحَابِهِ مَاذَا تَرَوْنَ ؟ قَالُوا : نَرَى فَارِسًا طَوِيلَ الْبَادّ وَاضِعًا رُمْحَهُ عَلَى عَاتِقِهِ عَاصِبًا رَأْسَهُ بِمُلَاءَةٍ حَمْرَاءَ ، فَقَالَ هَذَا الزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ وَأَحْلِفُ بِاللّاتِ لَيُخَالِطَنّكُمْ فَاثْبُتُوا لَهُ . فَلَمّا انْتَهَى الزّبَيْرُ إلَى أَصْلِ الثّنِيّةِ أَبْصَرَ الْقَوْمَ فَصَمَدَ لَهُمْ فَلَمْ يَزَلْ يُطَاعِنُهُمْ حَتّى أَزَاحَهُمْ عَنْهَا .
شِعْرُ سَلَمَةَ فِي فِرَارِهِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ سَلَمَةُ بْنُ دُرَيْدٍ وَهُوَ يَسُوقُ بِامْرَأَتِهِ حَتّى أَعْجَزَهُمْ
نَسّيْتنِي مَا كُنْت غَيْرَ مُصَابَةٍ ... وَلَقَدْ عَرَفْت غَدَاةَ نَعْفَ الْأَظْرُبِ
أَنّي مَنَعْتُك وَالرّكُوبُ مُحَبّبٌ ... وَمَشَيْت خَلْفَك مِثْلَ مَشْيِ الْأَنْكَبِ
إذْ فَرّ كُلّ مُهَذّبٍ ذِي لِمّةٍ ... عَنْ أُمّهِ وَخَلِيلِهِ لَمْ يَعْقُبْ
عَوْدٌ إلَى حَدِيثِ مَصْرَعِ أَبِي عَامِرٍ
[ ص 226 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشّعْرِ وَحَدِيثِهِ أَنّ أَبَا عَامِرٍ الْأَشْعَرِيّ لَقِيَ يَوْمَ أَوْطَاسٍ عَشْرَةَ إخْوَةً مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَحَمَلَ عَلَيْهِ أَحَدُهُمْ فَحَمَلَ عَلَيْهِ أَبُو عَامِرٍ وَهُوَ يَدْعُوهُ إلَى الْإِسْلَامِ وَيَقُولُ اللّهُمّ اشْهَدْ عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ أَبُو عَامِرٍ ثُمّ حَمَلَ عَلَيْهِ آخَرُ فَحَمَلَ عَلَيْهِ أَبُو عَامِرٍ وَهُوَ يَدْعُوهُ إلَى الْإِسْلَامِ وَيَقُولُ اللّهُمّ اشْهَدْ عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ أَبُو عَامِرٍ . ثُمّ جَعَلُوا يَحْمِلُونَ عَلَيْهِ رَجُلًا رَجُلًا ، وَيَحْمِلُ أَبُو عَامِرٍ وَهُوَ يَقُولُ ذَلِكَ حَتّى قَتَلَ تِسْعَةً وَبَقِيَ الْعَاشِرُ فَحَمَلَ عَلَى أَبِي عَامِرٍ وَحَمَلَ عَلَيْهِ أَبُو عَامِرٍ وَهُوَ يَدْعُوهُ إلَى الْإِسْلَامِ وَيَقُولُ اللّهُمّ اشْهَدْ عَلَيْهِ فَقَالَ الرّجُلُ اللّهُمّ لَا تَشْهَدْ عَلَيّ فَكَفّ عَنْهُ أَبُو عَامِرٍ فَأَفْلَتْ ثُمّ أَسْلَمَ بَعْدُ فَحَسُنَ إسْلَامُهُ . فَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا رَآهُ قَالَ هَذَا شَرِيدُ أَبِي عَامِرٍ وَرَمَى أَبَا عَامِرٍ أَخَوَانِ الْعَلَاءُ وَأَوْفَى ابْنَا الْحَارِثِ مِنْ بَنِي جُشَمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ ، فَأَصَابَ أَحَدُهُمَا قَلْبَهُ وَالْآخَرُ رُكْبَتَهُ فَقَتَلَاهُ وَوَلِيَ النّاسَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ فَحَمَلَ عَلَيْهِمَا فَقَتَلَهُمَا ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي جُشَمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ يَرْثِيهِمَا :
إنّ الرّزِيّةَ قَتْلُ الْعَلَاءِ ... وَأَوْفَى جَمِيعًا وَلَمْ يُسْنَدَا
هُمَا الْقَاتِلَانِ أَبَا عَامِرٍ ... وَقَدْ كَانَ ذَا هِبَةٍ أَرْبَدَا
هُمَا تَرَكَاهُ لَدَى مَعْرَكٍ ... كَأَنّ عَلَى عِطْفِهِ مُجْسَدَا
فَلَمْ تَرَ فِي النّاسِ مِثْلَيْهِمَا ... أَقَلّ عِثَارًا وَأَرْمَى يَدَا
Sحُكْمُ رَفْعِ الْيَدِ فِي الدّعَاءِ
وَذَكَرَ فِيمَنْ اُسْتُشْهِدَ أَبَا عَامِرٍ وَاسْمُهُ عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمِ بْنِ حَصّارٍ وَهُوَ عَمّ أَبِي مُوسَى عَبْدِ اللّهِ بْنِ قَيْسٍ الْأَشْعَرِيّ ، وَهُوَ الّذِي اسْتَغْفَرَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حِينَ قُتِلَ رَافِعًا يَدَيْهِ جِدّا ، يَقُولُ اللّهُمّ اغْفِرْ لِعُبَيْدٍ أَبِي عَامِرٍ ثَلَاثًا ، وَفِيهِ مِنْ الْفِقْهِ رَفْعُ الْيَدَيْنِ فِي الدّعَاءِ وَقَدْ كَرِهَهُ قَوْمٌ رَوَى عَبْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ أَنّهُ رَأَى قَوْمًا يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ فِي الدّعَاءِ فَقَالَ أَوَقَدْ رَفَعُوهَا ؟ قَطَعَهَا اللّهُ وَاَللّهِ لَوْ كَانُوا بِأَعْلَى شَاهِقٍ مَا ازْدَادُوا مِنْ اللّهِ بِذَلِكَ قُرْبًا ، وَذُكِرَ لِمَالِكٍ أَنّ عَامِرَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الزّبَيْرِ كَانَ يَدْعُو بِإِثْرِ كُلّ صَلَاةٍ وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ فَقَالَ ذَلِكَ حَسَنٌ وَلَا أَرَى أَنْ يَرْفَعَهُمَا جِدّا . وَحُجّةُ مَنْ رَأَى الرّفْعَ أَحَادِيثُ مِنْهَا مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا ، وَمِنْهَا حَدِيثٌ تَقَدّمَ فِي سَرِيّةِ الْغُمَيْصَاءِ حِينَ رَفَعَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - يَدَيْهِ وَقَالَ اللّهُمّ إنّي أَبْرَأُ إلَيْك مِمّا صَنَعَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ ثَلَاثَ مَرّاتٍ وَلِكُلّ شَيْءٍ وَجْهٌ فَمَنْ كَرِهَ فَإِنّمَا كَرِهَ الْإِفْرَاطَ فِي الرّفْعِ كَمَا كُرِهَ رَفْعُ الصّوْتِ بِالدّعَاءِ جِدّا . قَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَرْبِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمّ وَلَا غَائِبًا وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ مَالِكٍ الّذِي قَدّمْنَاهُ فِي رَفْعِ الْيَدَيْنِ .

النّهْيُ عَنْ قَتْلِ الضّعَفَاءِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا : أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَرّ يَوْمَئِذٍ بِامْرَأَةٍ وَقَدْ قَتَلَهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ ، وَالنّاسُ مُتَقَصّفُونَ عَلَيْهَا ، فَقَالَ " مَا هَذَا ؟ " فَقَالُوا : امْرَأَةٌ قَتَلَهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِبَعْضِ مَنْ مَعَهُ أَدْرِكْ خَالِدًا ، فَقُلْ لَهُ : إنّ رَسُولَ اللّهِ يَنْهَاك أَنْ تَقْتُلَ وَلِيدًا أَوْ امْرَأَةً أَوْ عَسِيفًا
Sمِنْ أَحْكَامِ الْقِتَالِ
[ ص 226 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَنْهَاك أَنْ تَقْتُلَ وَلِيدًا ، أَوْ امْرَأَةً أَوْ عَسِيفًا الْعَسِيفُ الْأَجِيرُ وَهَذَا مُنْتَزَعٌ مِنْ كِتَابِ اللّهِ تَعَالَى ، لِأَنّهُ يَقُولُ { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ } [ الْبَقَرَةُ 190 ] فَاقْتَضَى دَلِيلُ الْخِطَابِ أَلَا تُقْتَلَ الْمَرْأَةُ إلّا أَنْ [ ص 227 ] أَخْطَأَ مَنْ قَاسَ مَسْأَلَةَ الْمُرْتَدّةِ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَإِنّ الْمُرْتَدّةَ لَا تُسْتَرَقّ وَلَا تُسْبَى ، كَمَا تُسْبَى نِسَاءُ الْحَرْبِ وَذَرَارِيّهُمْ فَتَكُونُ مَالًا لِلْمُسْلِمِينَ فَنَهَى عَنْ قَتْلِهِنّ لِذَلِكَ .

شَأْنُ الشّيْمَاءِ وَبِجَادٍ
[ ص 227 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي بَعْضُ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ : أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ يَوْمَئِذٍ إنْ قَدَرْتُمْ عَلَى بِجَادٍ ، رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ ، فَلَا يُفْلِتَنّكُمْ وَكَانَ قَدْ أَحْدَثَ حَدَثًا ، فَلَمّا ظَفِرَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ سَاقُوهُ وَأَهْلَهُ وَسَاقُوا مَعَهُ الشّيْمَاءَ بِنْتَ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى أُخْتَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الرّضَاعَةِ فَعَنُفُوا عَلَيْهَا فِي السّيَاقِ فَقَالَتْ لِلْمُسْلِمِينَ تَعْلَمُوا وَاَللّهِ أَنّي لَأُخْتُ صَاحِبِكُمْ مِنْ الرّضَاعَةِ فَلَمْ يُصَدّقُوهَا حَتّى أَتَوْا بِهَا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي يَزِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ السّعْدِيّ ، قَالَ فَلَمّا اُنْتُهِيَ بِهَا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّي أُخْتُك مِنْ الرّضَاعَةِ قَالَ " وَمَا عَلَامَةُ ذَلِكَ ؟ " قَالَتْ عَضّةٌ عَضَضْتَنِيهَا فِي ظَهْرِي وَأَنَا مُتَوَرّكَتُك ؛ قَالَ فَعَرَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْعَلَامَةَ فَبَسَطَ لَهَا [ ص 228 ] وَقَالَ إنْ أَحْبَبْت فَعِنْدِي مَحَبّةُ مَكْرَمَةٍ وَإِنْ أَحْبَبْت أَنْ أُمَتّعَك وَتَرْجِعِي إلَى قَوْمِك فَعَلْت " ؟ فَقَالَتْ بَلْ تُمَتّعُنِي وَتَرُدّنِي إلَى قَوْمِي ، فَمَتّعَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَرَدّهَا إلَى قَوْمِهَا فَزَعَمَتْ بَنُو سَعْدٍ أَنّهُ أَعْطَاهَا غُلَامًا لَهُ يُقَالُ لَهُ مَكْحُولٌ ، وَجَارِيَةٌ فَزَوّجَتْ أَحَدُهُمَا الْأُخْرَى ، فَلَمْ يَزَلْ فِيهِمْ مِنْ نَسْلِهِمَا بَقِيّةٌ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ : { لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ } إلَى قَوْلِهِ { وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ }

شُهَدَاءُ يَوْمِ حُنَيْنٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَهَذِهِ تَسْمِيَةُ مَنْ اُسْتُشْهِدَ يَوْمَ حُنَيْنٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قُرَيْشٍ ثُمّ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ : أَيْمَنُ بْنُ عُبَيْدٍ . وَمِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى : يَزِيدُ بْنُ زَمَعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطّلِبِ بْنِ أَسَدٍ ، جَمَحَ بِهِ فَرَسٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ الْجُنَاحُ فَقُتِلَ . وَمِنْ الْأَنْصَارِ : سُرَاقَةُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَدِيّ مِنْ بَنِي الْعَجْلَانِ . وَمِنْ الْأَشْعَرِيّينَ : أَبُو عَامِرٍ الْأَشْعَرِيّ .

الْحَفْنَةُ وَشَاهَتْ الْوُجُوهُ
فَصْلٌ
[ ص 228 ] غَزْوَةِ حُنَيْنٍ مِنْ غَيْرِ رِوَايَةِ ابْنِ إسْحَاقَ الْحَفْنَةُ الّتِي أَخَذَهَا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الْبَطْحَاءِ ، وَهُوَ عَلَى بَغْلَتِهِ فَرَمَى بِهَا أَوْجُهَ الْكُفّارِ وَقَالَ شَاهَتْ الْوُجُوهُ فَانْهَزَمُوا . وَالْمُسْتَقْبَلُ مِنْ شَاهَتْ تَشَاهُ لِأَنّ وَزْنَهُ فَعَلَ وَفِيهِ أَنّ الْبَغْلَةَ حَضَجَتْ بِهِ إلَى الْأَرْضِ حِينَ أَخَذَ الْحَفْنَةَ ثُمّ قَامَتْ بِهِ وَفَرّوا حَضَجَتْ أَيْ ضَرَبَتْ بِنَفْسِهَا إلَى الْأَرْضِ وَأَلْصَقَتْ بَطْنَهَا بِالتّرَابِ وَمِنْهُ الْحِضَاجُ وَهُوَ زِقّ مَمْلُوءٌ قَدْ أُسْنِدَ إلَى شَيْءٍ وَأَمِيلُ إلَيْهِ وَالْبَغْلَةُ الّتِي كَانَ عَلَيْهَا يَوْمَئِذٍ هِيَ الّتِي تُسَمّى الْبَيْضَاءَ وَهِيَ الّتِي أَهْدَاهَا إلَيْهِ فَرْوَةُ بْنُ نُفَاثَةَ وَقَدْ تَقَدّمَ ذِكْرُ الْأُخْرَى ، وَاسْمُهَا : دُلْدُلُ وَذِكْرُ مَنْ أَهْدَاهَا إلَيْهِ .
نِدَاءُ أَصْحَابِ الشّجَرَةِ
وَذَكَرَ نِدَاءَ الْعَبّاسِ يَا مَعْشَرَ أَصْحَابِ السّمُرَةِ وَكَانَ الْعَبّاسُ صِيّتَا جَهِيرًا . [ ص 229 ] بَيْعَةِ الرّضْوَانِ الّذِينَ بَايَعُوا تَحْتَ الشّجَرَةِ ، وَكَانَتْ الشّجَرَةُ سَمُرَةً .

سَبَايَا حُنَيْنٍ يُجْمَعُونَ
[ ص 229 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَبَايَا حُنَيْنٍ وَأَمْوَالُهَا وَكَانَ عَلَى الْمَغَانِمِ مَسْعُودُ بْنُ عَمْرٍو الْغِفَارِيّ ، وَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَسَلّمَ بِالسّبَايَا وَالْأَمْوَالِ إلَى الْجِعِرّانَةِ ، فَحُبِسَتْ بِهَا .

شِعْرُ بُجَيْرٍ يَوْمَ حُنَيْنٍ
وَقَالَ بُجَيْرُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ :
لَوْلَا الْإِلَهُ وَعَبْدُهُ وَلّيْتُمْ ... حِينَ اسْتَخَفّ الرّعْبُ كُلّ جَبَانٍ
بِالْجِزْعِ يَوْمَ حَبَا لَنَا أَقْرَانُنَا ... وَسَوَابِحٌ يَكْبُونَ لِلْأَذْقَانِ
مِنْ بَيْنِ سَاعٍ ثَوْبُهُ فِي كَفّهِ ... وَمُقَطّرٍ بِسَنَابِكِ وَلِبَانِ
وَاَللّهُ أَهْلَكَهُمْ وَفَرّقَ جَمْعَهُمْ ... وَأَذَلّهُمْ بِعِبَادَةِ الشّيْطَانِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيَرْوِي فِيهَا بَعْضُ الرّوَاةِ
إذْ قَامَ عَمّ نَبِيّكُمْ وَوَلِيّهُ ... يَدْعُونَ يَا لَكَتِيبَةِ الْإِيمَانِ
أَيْنَ الّذِينَ هُمْ أَجَابُوا رَبّهُمْ ... يَوْمَ الْعَرِيضِ وَبَيْعَةِ الرّضْوَانِ

شِعْرٌ لِعَبّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ :
إنّي وَالسّوَابِحُ يَوْمَ جَمْعٍ ... وَمَا يَتْلُو الرّسُولُ مِنْ الْكِتَابِ
لَقَدْ أَحْبَبْت مَا لَقِيَتْ ثَقِيفٌ ... بِجَنْبِ الشّعْبِ أَمْسِ مِنْ الْعَذَابِ
هُمْ رَأْسُ الْعَدُوّ مِنْ أَهْل نَجْدٍ ... فَقَتْلُهُمْ أَلَذّ مِنْ الشّرَابِ
هَزَمْنَا الْجَمْعَ جَمْعَ بَنِي قَسِيّ ... وَحَكّتْ بَرْكَهَا بِبَنِي رِئَابِ
وَصِرْمًا مِنْ هِلَالٍ غَادَرَتْهُمْ ... بِأَوْطَاسٍ تُعَفّرُ بِالتّرَابِ
وَلَوْ لَاقَيْنَ جَمْعَ بَنِي كِلَابٍ ... لَقَامَ نِسَاؤُهُمْ وَالنّقْعُ كَابِي
رَكَضْنَا الْخَيْلَ فِيهِمْ بَيْنَ بُسّ ... إلَى الْأَوْرَالِ تَنْحِطُ بِالنّهَابِ
[ ص 230 ] ... كَتِيبَتُهُ تَعَرّضُ لِلضّرَابِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَوْلُهُ " تُعَفّرُ بِالتّرَابِ " : عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ .
ابْنُ عَفِيفٍ يَرُدّ عَلَى ابْنِ مِرْدَاسٍ
فَأَجَابَهُ عَطِيّةُ بْنُ عَفِيفٍ النّصْرِيّ ، فِيمَا حَدّثَنَا ابْنُ هِشَامٍ ، فَقَالَ
أَفَاخِرَةٌ رِفَاعَةُ فِي حُنَيْنٍ ... وَعَبّاسُ ابْنُ رَاضِعَةِ اللّجَابِ
فَإِنّك وَالْفِجَارَ كَذَاتِ مِرْطٍ ... لِرَبّتِهَا وَتَرْفُلُ فِي الْإِهَابِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : قَالَ عَطِيّةُ بْنُ عَفِيفٍ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ لَمّا أَكْثَرَ عَبّاسٌ عَلَى هَوَازِنَ فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ وَرِفَاعَةُ مِنْ جُهَيْنَةَ .

شِعْرٌ آخَرُ لِعَبّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ أَيْضًا [ ص 231 ]
يَا خَاتَمَ النّبَاءِ إنّك مُرْسَلٌ ... بِالْحَقّ كُلّ هُدَى السّبِيلِ هُدَاكَا
إنّ الْإِلَهَ بَنَى عَلَيْك مَحَبّةً ... فِي خَلْقِهِ وَمُحَمّدًا سَمّاكَا
ثُمّ الّذِينَ وَفَوْا بِمَا عَاهَدْتهمْ ... جُنْدٌ بَعَثْت عَلَيْهِمْ الضّحّاكَا
رَجُلًا بِهِ ذَرَبُ السّلَاحِ كَأَنّهُ ... لَمّا تَكَنّفَهُ الْعَدُوّ يَرَاكَا
يَغْشَى ذَوِي النّسَبِ الْقَرِيبِ وَإِنّمَا ... يَبْغِي رِضَا الرّحْمَنِ ثُمّ رِضَاكَا
أُنْبِيكَ أَنّي قَدْ رَأَيْت مَكَرّهُ ... تَحْتَ الْعَجَاجَةِ يَدْمَغُ الْإِشْرَاكَا
طَوْرًا يُعَانِقُ بِالْيَدَيْنِ وَتَارَةً ... يَفْرِي الْجَمَاجِمَ صَارِمًا بَتّاكًا
يَغْشَى بِهِ هَامَ الْكُمَاةِ وَلَوْ تَرَى ... مِنْهُ الّذِي عَايَنْت كَانَ شَفَاكَا
وَبَنُو سُلَيْمٍ مُعْنِقُونَ أَمَامَهُ ... ضَرْبًا وَطَعْنًا فِي الْعَدُوّ دِرَاكًا
يَمْشُونَ تَحْتَ لِوَائِهِ وَكَأَنّهُمْ ... أُسْدُ الْعَرِينِ أَرَدْنَ ثَمّ عِرَاكَا
مَا يَرْتَجُونَ مِنْ الْقَرِيبِ قَرَابَةً ... إلّا لِطَاعَةِ رَبّهِمْ وَهَوَاكَا
هَذِي مَشَاهِدُنَا الّتِي كَانَتْ لَنَا ... مَعْرُوفَةً وَوَلِيّنَا مَوْلَاكَا
Sالضّحّاكُ بْنُ سُفْيَانَ
فَصْلٌ وَذَكَرَ [ ص 230 ] الضّحّاكَ بْنَ سُفْيَانَ الْكِلَابِيّ ، وَهُوَ الضّحّاكُ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ عَوْفِ بْنِ كَعْبِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ كِلَابٍ الْكِلَائِيّ يُكَنّى أَبَا سَعِيدٍ وَكَانَ يَقُومُ عَلَى رَأْسِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مُتَوَشّحًا بِالسّيْفِ وَكَانَ يُعَدّ وَحْدَهُ بِمِائَةِ فَارِسٍ ، وَكَانَتْ بَنُو سُلَيْمٍ يَوْمَ حُنَيْنٍ تِسْعَمِائَةٍ فَأَمّرَهُ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَخْبَرَهُ أَنّهُ قَدْ تَمّمَهُمْ بِهِ أَلْفًا ، وَإِيّاهُ أَرَادَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ بِقَوْلِهِ جُنْدٌ بَعَثْت عَلَيْهِمْ الضّحّاكَا [ ص 231 ] الضّحّاكُ بْنُ سُفْيَانَ هَذَا بِالْكِلَابِيّ إنّمَا هُوَ الضّحّاكُ بْنُ سُفْيَانَ السّلَمِيّ . وَذَكَرَ مِنْ غَيْرِ رِوَايَةِ الْبَكّائِيّ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ نَسَبَهُ مَرْفُوعًا إلَى بُهْثَةَ بْنِ سُلَيْمٍ وَلَمْ يَذْكُرْ أَبُو عُمَرَ فِي الصّحَابَةِ إلّا الْأَوّلُ وَهُوَ الْكِلَابِيّ فَاَللّهُ أَعْلَمُ .

وَقَالَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ أَيْضًا [ ص 232 ]
إمّا تَرَى يَا أُمّ فَرْوَةَ خَيْلُنَا ... مِنْهَا مُعَطّلَةً نُقَادُ وَظُلّعُ
أَوْهَى مُقَارَعَةُ الْأَعَادِي دَمّهَا ... فِيهَا نَوَافِذُ مِنْ جِرَاحٍ تَنْبُعُ
فَلَرُبّ قَائِلَةٍ كَفَاهَا وَقْعُنَا ... أَزْمَ الْحُرُوبِ فَسِرْبُهَا لَا يُفْزَعُ
لَا وَفْدَ كَالْوَفْدِ الْأُلَى عَقَدُوا لَنَا ... سَبَبًا بِحَبْلِ مُحَمّدٍ لَا يُقْطَعُ
وَفْدُ أَبُو قُطْنٍ حُزَابَةُ مِنْهُمْ ... وَأَبُو الْغُيُوثِ وَوَاسِعٌ وَالْمِقْنَعُ
وَالْقَائِدُ الْمِئَةَ الّتِي وَفّى بِهَا ... تِسْعَ الْمِئِينَ فَتَمّ أَلْفٌ أَقْرَعُ
جَمَعَتْ بَنُو عَوْفٍ وَرَهْطُ مُخَاشِنٍ ... سِتّا وَأَحْلَبُ مِنْ خِفَافٍ أَرْبَعُ
فَهُنَاكَ إذْ نُصِرَ النّبِيّ بِأَلْفِنَا ... عَقَدَ النّبِيّ لَنَا لِوَاءً يَلْمَعُ
فُزْنَا بِرَايَتِهِ وَأَوْرَثَ عِقْدُهُ ... مَجْدُ الْحَيَاةِ وَسُؤْدُدًا لَا يُنْزَعُ
وَغَدَاةَ نَحْنُ مَعَ النّبِيّ جُنَاحُهُ ... بِبِطَاحِ مَكّةَ وَالْقَنَا يَتَهَزّعُ
كَانَتْ إجَابَتُنَا لِدَاعِي رَبّنَا ... بِالْحَقّ مِنّا حَاسِرٌ وَمُقَنّعُ
فِي كُلّ سَابِغَةٍ تَخَيّرَ سَرْدَهَا ... دَاوُدُ إذْ نَسَجَ الْحَدِيدَ وَتُبّعُ
وَلَنَا عَلَى بِئْرَيْ حُنَيْنٍ مَوْكِبٌ ... دَمَغَ النّفَاقَ وَهَضْبَةٌ مَا تُقْلَعُ
نُصِرَ النّبِيّ بِنَا وَكُنّا مَعْشَرًا ... فِي كُلّ نَائِبَةٍ نَضُرّ وَنَنْفَعُ
ذُدْنَا غَدَاتَئِذٍ هَوَازِنَ بِالْقَنَا ... وَالْخَيْلُ يَغْمُرُهَا عَجَاجٌ يَسْطَعُ
إذْ خَافَ حَدّهُمْ النّبِيّ وَأَسْنَدُوا ... جَمْعًا تَكَادُ الشّمْسُ مِنْهُ تَخْشَعُ
تُدْعَى بَنُو جُشَمٍ وَتُدْعَى وَسْطَهُ ... أَفْنَاءَ نَصْرٍ وَالْأَسِنّةُ شُرّعُ
حَتّى إذَا قَالَ الرّسُولُ مُحَمّدٌ ... أَبَنِي سُلَيْمٍ قَدْ وَفَيْتُمْ فَارْفَعُوا
رُحْنَا وَلَوْلَا نَحْنُ أَجْحَفَ بَأْسُهُمْ ... بِالْمُؤْمِنِينَ وَأَحْرَزُوا مَا جَمّعُوا

وَقَالَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ أَيْضًا فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ
[ ص 232 ] [ ص 233 ] [ ص 234 ]
عَفَا مِجْدَلٌ مِنْ أَهْلِهِ فَمُتَالِعُ ... فَمِطْلَا أَرِيكٍ قَدْ خَلَا فَالْمَصَانِعُ
دِيَارٌ لَنَا يَا جُمْلُ إذْ جُلّ عَيْشِنَا ... رَخِيّ وَصَرْفُ الدّارِ لِلْحَيّ جَامِعُ
حُبَيّبَهٌ أَلَوَتْ بِهَا غُرْبَةُ النّوَى ... لِبَيْنٍ فَهَلْ مَاضٍ مِنْ الْعَيْشِ رَاجِعُ
فَإِنّ تَبْتَغِي الْكُفّارُ غَيْرَ مَلُومَةٍ ... فَإِنّي وَزِيرٌ لِلنّبِيّ وَتَابِعُ
دَعَانَا إلَيْهِمْ خَيْرُ وَفْدٍ عَلِمَتْهُمْ ... خُزَيْمَةُ وَالْمَرّارُ مِنْهُمْ وَوَاسِعُ
فَجِئْنَا بِأَلْفٍ مِنْ سُلَيْمٍ عَلَيْهِمْ ... لَبُوسٌ لَهُمْ مِنْ نَسْجِ دَاوُدَ رَائِعُ
نُبَايِعُهُ بِالْأَخْشَبَيْنِ وَإِنّمَا ... يَدُ اللّهِ الْأَخْشَبَيْنِ نُبَايِعُ
فَجُسْنَا مَعَ الْمَهْدِيّ مَكّةَ عَنْوَةً ... بِأَسْيَافِنَا وَالنّقْعُ كَابٍ وَسَاطِعُ
عَدَنِيّةٌ وَالْخَيْلُ يَغْشَى مُتُونَهَا ... حَمِيمٌ وَآنٍ مِنْ دَمِ الْجَوْفِ نَاقِعُ
وَيَوْمُ حُنَيْنٍ حِينَ سَارَتْ هَوَازِنُ ... إلَيْنَا وَضَاقَتْ بِالنّفُوسِ الْأَضَالِعُ
صَبَرْنَا مَعَ الضّحّاكِ لَا يَسْتَفِزّنَا ... قِرَاعُ الْأَعَادِي مِنْهُمْ وَالْوَقَائِعُ
أَمَامَ رَسُولِ اللّهِ يَخْفُقُ فَوْقَنَا ... لِوَاءٌ كَخُذْرُوفِ السّحَابَةِ لَامِعُ
عَشِيّةَ ضَحّاكُ بْنُ سُفْيَانَ مُعْتَصٍ ... بِسَيْفِ رَسُولِ اللّهِ وَالْمَوْتُ كَانِعُ
نَذُودُ أَخَانَا عَنْ أَخِينَا وَلَوْ نَرَى ... مَصَالًا لَكُنّا الْأَقْرَبِينَ نُتَابِعُ
وَلَكِنّ دِينَ اللّهِ دِينُ مُحَمّدٍ ... رَضِينَا بِهِ فِيهِ الْهُدَى وَالشّرَائِعُ
أَقَامَ بِهِ بَعْدَ الضّلَالَةِ أَمْرَنَا ... وَلَيْسَ لِأَمْرِ حَمّهُ اللّهُ دَافِعُ
Sقَصِيدَةُ ابْنِ مِرْدَاسٍ الْعَيْنِيّةُ
وَذَكَرَ شِعْرَ عَبّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ الّذِي أَوّلُهُ عَفَا مِجْدَلٌ مِنْ أَهْلِهِ فَمُتَالِعُ الْمِجْدَلُ الْقَصْرُ وَهُوَ فِي هَذَا الْبَيْتِ اسْمُ عَلَمٍ لِكَانَ . وَفِيهِ فَمِطْلَا أَرِيكٍ . الْمِطْلُ يُمَدّ وَيُقْصَرُ وَهِيَ أَرْضٌ تَعْقِلُ الرّجُلَ عَنْ الْمَشْيِ فَقِيلَ إنّهَا مِفْعَالٌ مِنْ الطّلْيِ وَهُوَ الْجَرْيُ يُطْلَى ، أَيْ تُعْقَلُ رِجْلُهُ وَقِيلَ إنّ الْمِطْلَاءَ فِعْلَاءُ مِنْ مَطَلْت إذَا مَدَدْت ، وَجَمْعُهُ مِطَالٌ فِي الْأَمَالِي :
أَمَا تَسْأَلَانِ اللّهَ أَنّ يَسْقِيَ الْحِمَى ... أَلَا فَسَقَى اللّهُ الْحِمَى فَالْمَطَالِيَا
[ ص 233 ]
تَذُودُ أَخَانَا عَنْ أَخِينَا ، وَلَوْ نَرَى ... مَصَالًا لَكُنّا الْأَقْرَبِينَ نُتَابِعُ
يُرِيدُ أَنّهُ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ وَسُلَيْمٌ مِنْ قَيْسٍ ، كَمَا أَنّ هَوَازِنَ مِنْ قَيْسٍ ، كِلَاهُمَا ابْنُ مَنْصُورِ بْنِ عِكْرِمَةَ بْنِ خَصَفَةَ بْنِ قَيْسٍ ، فَمَعْنَى الْبَيْتِ نُقَاتِلُ إخْوَتَنَا ، وَنَذُودُهُمْ عَنْ إخْوَتِنَا مِنْ سُلَيْمٍ وَلَوْ نَرَى فِي حُكْمِ الدّينِ مَصَالًا مُفْعِلًا مِنْ الصّوْلَةِ لَكُنّا مَعَ الْأَقْرَبِينَ هَوَازِنُ :
وَلَكِنّ دِينَ اللّهِ دِينُ مُحَمّدٍ ... رَضِينَا بِهِ فِيهِ الْهُدَى وَالشّرَائِعُ
وَفِيهِ قَوْلُهُ
دَعَانَا إلَيْهِ خَيْرُ وَفْدٍ عَلِمَتْهُمْ ... خُزَيْمَةُ وَالْمَدّارُ مِنْهُمْ وَوَاسِعُ
هَؤُلَاءِ وَفْدُ بَنِي سُلَيْمٍ وَفَدُوا عَلَى النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَأَسْلَمُوا ، ثُمّ دَعَوْا قَوْمَهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ فَذَكَرَ فِيهِمْ الْمَدّارَ السّلَمِيّ وَوَاسِعًا السّلَمِيّ وَخُزَيْمَةَ ، وَهُوَ خُزَيْمَةُ بْنُ جُزَيّ أَخُو حِبّانَ بْنِ جُزَيّ وَكَانَ الدّارَقُطْنِيّ يَقُولُ فِيهِ جِزَيّ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَالزّايِ . وَفِيهَا : يَدَ اللّهِ بَيْنَ الْأَخْشَبَيْنِ نُبَايِعُ [ ص 234 ] { إِنّ الّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنّمَا يُبَايِعُونَ اللّهَ يَدُ اللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } [ الْفَتْحُ 10 ] أَقَامَ يَدَ رَسُول اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَقَامَ يَدِهِ كَمَا قَالَ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِي الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ : " هُوَ يَمِينُ اللّهِ فِي الْأَرْضِ " ، أَقَامَهُ فِي الْمُصَافَحَةِ وَالتّقْبِيلِ مَقَامَ يَمِينِ الْمَلِكِ الّذِي يُصَافِحُ بِهَا ، لِأَنّ الْحَاجّ وَافِدٌ عَلَى الْمَلِكِ الْأَعْلَى وَزَائِرٌ بَيْتَهُ فَجَعَلَ تَقْبِيلَهُ الْحَجَرَ مُصَافَحَةً لَهُ وَكَمَا جُعِلَتْ يَمِينُ السّائِلِ الْآخِذِ لِلصّدَقَةِ الْمُتَقَبّلَةِ يَمِينَ الرّحْمَنِ سُبْحَانَهُ تَرْغِيبًا فِي الصّدَقَةِ وَتَبْشِيرًا بِقَبُولِهَا ، وَتَعْظِيمًا لِحُرْمَةِ مَنْ أُعْطِيَتْ لَهُ فَإِنّمَا أَعْطَاهَا الْمُتَصَدّقُ لِلّهِ سُبْحَانَهُ وَإِيّاهُ سُبْحَانَهُ أَفْرَضَ فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَيَأْخُذُ الصّدَقَاتِ } [ التّوْبَةُ 104 ] وَقَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " إنّمَا يَضَعُهَا فِي كَفّ الرّحْمَنِ يُرَبّيهَا لَه " الْحَدِيثُ . شِعْرُ عَبّاسٍ الْكَافِي : وَقَوْلُ عَبّاسٍ فِي الشّعْرِ الْكَافِي :
إنّ الْإِلَهَ بَنَى عَلَيْك مَحَبّةً ... فِي خَلْقِهِ وَمُحَمّدًا سَمّاكَا
مَعْنًى دَقِيقٌ وَغَرَضٌ نَبِيلٌ وَتَفَطّنٌ لِحِكْمَةٍ نَبَوِيّةٍ قَدْ بَيّنّاهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ وَغَيْرِهِ فِي تَسْمِيَةِ اللّهِ تَعَالَى لِنَبِيّهِ مُحَمّدًا وَأَحْمَدَ وَأَنّهُ اسْمٌ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْ قَوْمِهِ قَبْلَهُ وَأَنّ أُمّهُ أُمِرَتْ فِي الْمَنَامِ أَنْ تُسَمّيَهُ مُحَمّدًا ، فَوَافَقَ مَعْنَى الِاسْمِ صِفَةَ الْمُسَمّى بِهِ مُوَافَقَةً تَامّةً قَدْ بَيّنّا شَرْحَهَا هُنَالِكَ وَلِذَلِك قَالَ بَنَى عَلَيْك مَحَبّةً لِأَنّ الْبِنَاءَ تَرْكِيبٌ عَلَى أُسّ فَأَسّسَ لَهُ سُبْحَانَهُ مُقَدّمَاتٍ لِنُبُوّتِهِ مِنْهَا : تَسْمِيَتُهُ بِمُحَمّدٍ قَبْلَ أَنْ يُولَدَ ثُمّ لَمْ يَزَلْ يُدْرِجُهُ فِي مَحَامِدِ الْأَخْلَاقِ وَمَا تُحِبّهُ الْقُلُوبُ مِنْ الشّيَمِ حَتّى بَلَغَ إلَى أَعْلَى الْمَحَامِدِ مَرْتَبَةً وَتَكَامَلَتْ لَهُ الْمَحَبّةُ مِنْ الْخَالِقِ وَالْخَلِيقَةِ ، وَظَهَرَ مَعْنَى اسْمِهِ فِيهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَهُوَ اللّبِنَةُ الّتِي اسْتَتَمّ بِهَا الْبِنَاءُ كَمَا أَخْبَرَ عَلَيْهِ السّلَامُ وَهَذَا كُلّهُ مَعْنَى بَيْتِ عَبّاسٍ حَيْثُ قَالَ إنّ الْإِلَهَ بَنَى عَلَيْك ، الْبَيْتُ . [ ص 235 ] الدّامّاءُ وَالدّأْمَاءُ وَقَوْلُهُ فِي الْعَيْنِيّةِ الْأُخْرَى يَصِفُ الْخَيْلَ أَوْهَى مُقَارَعَةُ الْأَعَادِي دَمّهَا يُرِيدُ شَحْمَهَا ، يُقَالُ أَدْمِمْ قِدْرَك بِوَدَكٍ وَدَمَمْت الشّيْءَ طَلَيْته ، وَمِنْهُ الدّامّاءُ أَحَدُ جُحْرَةِ الْيَرْبُوعِ لِأَنّهُ يَدُمّ بَابَهُ بِقِشْرٍ رَقِيقٍ مِنْ الْأَرْضِ فَلَا يَرَاهُ الصّائِدُ فَإِذَا طَلَبَ مِنْ الْقَاصِعَاءِ أَوْ الرّاهِطَاءِ أَوْ النّافِقَاءِ أَوْ الْعَانُقَاءِ وَهِيَ الْأَبْوَابُ الْأُخَرُ نَطَحَ بِرَأْسِهِ بَابَ الدّامّاءِ فَخَرَقَهُ وَأَمّا الدّأْمَاءُ بِالتّخْفِيفِ فَهُوَ الْبَحْرُ وَهُوَ فَعْلَاءُ لِأَنّهُ يُهْمَزُ فَيُقَالُ دَأْمَاءُ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ .

[ ص 235 ] وَقَالَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ أَيْضًا فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ [ ص 236 ] [ ص 237 ]
تَقَطّعَ بَاقِي وَصْلِ أُمّ مُؤَمّلٍ ... بِعَاقِبَةٍ وَاسْتَبْدَلَتْ نِيّةً خُلْفَا
وَقَدْ حَلَفَتْ بِاَللّهِ لَا تَقْطَعُ الْقُوَى ... فَمَا صَدَقَتْ فِيهِ وَلَا بَرّتْ الْحَلْفَا
خُفَافِيّةٌ بَطْنُ الْعَقِيقِ مَصِيفُهَا ... وَتَحْتَلّ فِي الْبَادِينَ وَجْرَةَ فَالْعُرْفَا
فَإِنْ تَتْبَعْ الْكُفّارَ أُمّ مُؤَمّلٍ ... فَقَدْ زَوّدَتْ قَلْبِي عَلَى نَأْيِهَا شَغَفَا
وَسَوْفَ يُنْبِيهَا الْخَبِيرُ بِأَنّنَا ... أَبَيْنَا وَلَمْ نَطْلُبْ سِوَى رَبّنَا حِلْفَا
وَأَنّا مَعَ الْهَادِي النّبِيّ مُحَمّدٍ ... وَفِينَا وَلَمْ يَسْتَوْفِهَا مَعْشَرٌ أَلْفَا
بِفِتْيَانِ صِدْقٍ مِنْ سُلَيْمٍ أَعِزّةٍ ... أَطَاعُوا فَمَا يَعْصُونَ مِنْ أَمْرِهِ حَرْفَا
خِفَافٌ وَذَكْوَانُ وَعَوْفٌ تَخَالُهُمْ ... مَصَاعِبُ زَافَتْ فِي طَرُوقَتِهَا كُلْفَا
كَأَنّ النّسِيجَ الشّهْبَ وَالْبِيضَ مُلْبَسٌ ... أَسُودًا تَلَاقَتْ فِي مَرَاصِدِهَا غُضْفَا
بِنَا عَزّ دِينُ اللّهِ غَيْرَ تَنَحّلٍ ... وَزُدْنَا عَلَى الْحَيّ الّذِي مَعَهُ ضِعْفَا
بِمَكّةَ إذْ جِئْنَا كَأَنّ لِوَاءَنَا ... عُقَابٌ أَرَادَتْ بَعْدَ تَحْلِيقِهَا خَطْفَا
عَلَى شُخّصِ الْأَبْصَارِ تَحْسَبُ بَيْنَهَا ... إذَا هِيَ جَالَتْ فِي مَرَاوِدِهَا عَزْفَا
غَدَاةَ وَطِئْنَا الْمُشْرِكِينَ وَلَمْ نَجِدْ ... لِأَمْرِ رَسُولِ اللّهِ عَدْلًا وَلَا صَرْفَا
بِمُعْتَرَكٍ لَا يَسْمَعُ الْقَوْمُ وَسْطَهُ ... لَنَا زَجْمَةً إلّا التّذَامُرَ وَالنّقْفَا
بِبِيضٍ نُطِيرُ الْهَامَ عَنْ مُسْتَقَرّهَا ... وَنَقْطِفُ أَعْنَاقَ الْكُمَاةِ بِهَا قَطْفَا
فَكَائِن تَرَكْنَا مِنْ قَتِيلٍ مُلَحّبٍ ... وَأَرْمَلَةٍ تَدْعُو عَلَى بَعْلِهَا لَهْفَا
رِضَا اللّهِ نَنْوِي لَا رِضَا النّاسِ نَبْتَغِي ... وَلِلّهِ مَا يَبْدُو جَمِيعًا وَمَا يَخْفَى
Sشِعْرُ عَبّاسٍ الْفَاوِيّ وَذَكَرَ شِعْرَ عَبّاسٍ الْفَاوِيّ وَفِيهِ بِعَاقِبَةٍ وَاسْتَبْدَلَتْ نِيّةً خُلْفَا النّيّةُ مِنْ النّوَى وَهُوَ الْبُعْدُ . وَخُلْفَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ أَيْ فَعَلْت ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ الْخُلْفِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا مُؤَكّدًا لِلِاسْتِبْدَالِ لِأَنّ اسْتِبْدَالَهَا بِهِ خُلْفٌ مِنْهَا لِمَا وَعَدَتْهُ بِهِ وَيُقَوّي هَذَا الْبَيْتَ الْبَيْتُ الّذِي بَعْدَهُ وَقَدْ حَلَفَتْ بِاَللّهِ لَا تَقْطَعُ الْقُوَى يَعْنِي : قُوَى الْحَبْلِ وَالْحَبْلُ هُنَا : هُوَ الْعَهْدُ ثُمّ قَالَ فَمَا صَدَقَتْ فِيهِ وَلَا بَرّتْ الْحَلْفَا وَهَذَا هُوَ الْخُلْفُ الْمُتَقَدّمُ ذِكْرُهُ . [ ص 236 ] وَفِينَا وَلَمْ يَسْتَوْفِهَا مَعْشَرٌ أَلْفَا أَيْ وَفِينَا أَلْفًا وَلَمْ يَسْتَوْفِهَا غَيْرُنَا ، أَيْ لَمْ يَسْتَوْفِ هَذِهِ الْعُدّةَ غَيْرُنَا مِنْ الْقَبَائِلِ . وَقَوْلُهُ إذَا هِيَ جَالَتْ فِي مَرَاوِدِهَا عَزْفَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ مِرْوَدٍ وَهُوَ الْوَتَدُ كَمَا قَالَ الْآخَرُ يَصِفُ طَعْنَةً
وَمُسْتَنّةٌ كَاسْتِنَانِ الْخَرُو ... فِ قَدْ قَطَعَ الْحَبْلَ بِالْمِرْوَدِ
وَالْخَرُوفُ هَاهُنَا فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ الْمُهْرُ وَقَالَ آخَرُونَ وَالْفَرَسُ يُسَمّى خَرُوفًا ، وَمَعْنَاهُ عِنْدِي فِي هَذَا الْبَيْتِ أَنّهَا صِفَةٌ مِنْ خَرَفْت الثّمَرَةَ إذَا جَنَيْتهَا فَالْفَرَسُ خَرُوفٌ لِلشّجَرِ وَالنّبَاتِ لَا نَقُولُ إنّ الْفَرَسَ يُسَمّى خَرُوفًا فِي عُرْفِ اللّغَةِ وَلَكِنْ خَرُوفٌ فِي مَعْنَى أَكُولٍ لِأَنّهُ يَخْرُفُ أَيْ يَأْكُلُ فَهُوَ صِفَةٌ لِكُلّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ الْفِعْلَ مِنْ الدّوَابّ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَرَاوِدِهَا جَمْعُ مُرَادٍ وَهُوَ حَيْثُ تَرُودُ الْخَيْلِ تَذْهَبُ وَتَجِيءُ فَمُرَادُ وَمَرَاوِدُ مِثْلُ مَقَامٍ وَمَقَاوِمَ وَمَنَارٍ وَمَنَاوِرَ . [ ص 237 ] لَنَا زَجْمَةً إلّا التّذَامُرَ وَالنّقْفَا يُقَالُ مَا زَجَمَ زَجْمَةً أَيْ مَا نَبَسَ بِكَلِمَةٍ وَقَوْسٌ زَجُومٌ أَيْ ضَعِيفَةُ الْإِرْنَانِ . وَقَوْلُهُ إلّا التّذَامُرَ أَيْ يَذْمُرُ بَعْضُنَا بَعْضًا ، وَيُحَرّضُهُ عَلَى الْقَتْلِ وَالنّقْفُ كَسْرُ الرّءُوسِ وَنَاقِفُ الْحَنْظَلَةِ كَاسِرُهَا وَمُسْتَخْرِجُ مَا فِيهَا .
النّسَبُ إلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ وَتَصْغِيرُهَا
قَالَ الْمُؤَلّفُ وَإِنّمَا قُلْنَا فِي هَذِهِ الْقَصِيدَةِ وَفِي الّتِي بَعْدَهَا الْغَاوِيَةُ وَالرّاوِيَةُ لِأَنّ النّسَبَ إلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ الّتِي أَوَاخِرُهَا أَلِفٌ هَكَذَا ، هُوَ بِالْوَاوِ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُ وَفِي التّصْغِيرِ تُقْلَبُ أَلِفُهَا يَاءً تَقُولُ فِي تَصْغِيرِ بَاءٍ بُيَيّةٌ وَخَاءٍ خُيَيّةٌ وَمَا كَانَ آخِرُهُ حَرْفًا سَالِمًا مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ قُلِبَتْ أَلِفُهُ وَاوًا فِي التّصْغِيرِ فَتَقُولُ فِي الذّالِ ذُوَيْلَةُ وَفِي الضّادِ ضُوَيْدَةُ وَكَذَلِكَ قَالَ صَاحِبُ الْعَيْنِ وَقِيَاسُ الْوَاوِ فِي النّحْوِ أَنْ تُصَغّرَ أُوَيّةٌ بِهَمْزَةٍ [ فِي ] أَوّلِهَا .

وَقَالَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاس ٍ أَيْضًا [ ص 238 ] [ ص 239 ]
مَا بَالُ عَيْنِك فِيهَا عَائِرٌ سَهَرٌ ... مِثْلُ الْحَمَاطَةِ أَغْضَى فَوْقَهَا الشّفُرُ
عَيْنٌ تَأَوّبَهَا مِنْ شَجْوِهَا أَرَقٌ ... فَالْمَاءُ يَغْمُرُهَا طَوْرًا وَيَنْحَدِرُ
كَأَنّهُ نَظْمُ دُرّ عِنْدَ نَاظِمَةٍ ... تَقَطّعَ السّلْكُ مِنْهُ فَهُوَ مُنْتَثِرُ
يَا بُعْدَ مَنْزِلِ مَنْ تَرْجُو مَوَدّتَهُ ... وَمَنْ أَتَى دُونَهُ الصّمّانُ فَالْحُفَرُ
دَعْ مَا تَقَدّمَ مِنْ عَهْدِ الشّبَابِ فَقَدْ ... وَلّى الشّبَابُ وَزَارَ الشّيْبُ وَالزّعَرُ
وَاذْكُرْ بَلَاءَ سُلَيْمٍ فِي مَوَاطِنِهَا ... وَفِي سُلَيْمٍ لِأَهْلِ الْفَخْرِ مُفْتَخَرُ
قَوْمٌ هُمْ نَصَرُوا الرّحْمَنَ وَاتّبَعُوا ... دِينَ الرّسُولِ وَأَمْرُ النّاسِ مُشْتَجَرُ
لَا يَغْرِسُونَ فَسِيلَ النّخْلِ وَسْطَهُمْ ... وَلَا تُخَاوِرُ فِي مَشْتَاهُمْ الْبَقَرُ
إلّا سَوَابِحَ كَالْعِقْبَانِ مَقْرَبَةً ... فِي دَارَةٍ حَوْلَهَا الْأَخْطَارُ وَالْعُكَرُ
تُدْعَى خِفَافٌ وَعَوْفٌ فِي جَوَانِبِهَا ... وَحَيّ ذَكْوَانَ لَا مَيْلُ وَلَا ضُجُرُ
الضّارِبُونَ جُنُودَ الشّرْكِ ضَاحِيَةً ... بِبَطْنِ مَكّةَ وَالْأَرْوَاحُ تَبْتَدِرُ
حَتّى دَفَعْنَا وَقَتْلَاهُمْ كَأَنّهُمْ ... نَخْلٌ بِطَاهِرَةِ الْبَطْحَاءِ مُنْقَعِرُ
وَنَحْنُ يَوْمَ حُنَيْنٍ كَانَ مَشْهَدُنَا ... لِلدّينِ عِزّا وَعِنْدَ اللّهِ مُدّخَرُ
إذْ نَرْكَبُ الْمَوْتَ مُخْضَرّا بَطَائِنُهُ ... وَالْخَيْلُ يَنْجَابُ عَنْهَا سَاطِعٌ كَدِرُ
تَحْتَ اللّوَاءِ مَعَ الضّحّاكِ يَقْدُمُنَا ... كَمَا مَشَى اللّيْثُ فِي غَابَاتِهِ الْخَدِرُ
فِي مَأْزِقٍ مِنْ مَجَرّ الْحَرْبِ كَلْكَلُهَا ... تَكَادُ تَأْفُلُ مِنْهُ الشّمْسُ وَالْقَمَرُ
وَقَدْ صَبَرْنَا بِأَوْطَاسٍ أَسِنّتَنَا ... لِلّهِ نَنْصُرُ مَنْ شِئْنَا وَنَنْتَصِرُ
حَتّى تَأَوّبَ أَقْوَامٌ مَنَازِلَهُمْ ... لَوْلَا الْمَلِيكُ وَلَوْلَا نَحْنُ مَا صَدَرُوا
فَمَا تَرَى مَعْشَرٌ قَلّوا وَلَا كَثُرُوا ... إلّا قَدْ اصْبَحَ مِنّا فِيهِمْ أَثَرُ
Sالْقَصِيدَةُ الرّاوِيَةُ
وَقَوْلُ عَبّاسٍ فِي الْقَصِيدَةِ الرّاوِيَةُ مِثْلُ الْحَمَاطَةِ أَغْضَى فَوْقَهَا الشّفُرُ الْحَمَاطَةُ مِنْ وَرَقِ الشّجَرِ مَا فِيهِ خُشُونَةٌ وَحُرُوشَةٌ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ الْحُمَاطُ وَرَقُ التّينِ الْجَبَلِيّ . وَقَالَ أَيْضًا فِي بَاب الْقَطَانِيّ الْحَمَاطُ تِبْنُ الذّرَةِ إذَا ذُرّيَتْ وَلَهُ أُكَالٌ فِي [ ص 238 ]
حَتّى شَئَاهَا كَلِيلٌ مُوهِمًا عَمَلُ ... بَاتَتْ طِرَابًا وَبَاتَ اللّيْلُ لَمْ يَنَمْ
شَئَاهَا : شَاقّهَا ، يُقَالُ شَاهَ وَشَاءَهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ أَيْ شَاقّهُ وَأَنْشَدَ وَلَقَدْ عَهِدْت تَشَاءُ بِالْأَظْعَانِ فَتَأَمّلْهُ فَإِنّهُ بَدِيعٌ مِنْ الْمَعَانِي . وَقَوْلُهُ الصّمّانُ وَالْحَفَرُ : هُمَا مَوْضِعَانِ وَإِلَيْهِ يُنْسَبُ أَبُو دَاوُدَ الْحَفَرِيّ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ . وَالْعَكَرُ جَمْعُ عَكَرَةٍ وَهِيَ الْقِطْعَةُ الضّخْمَةُ مِنْ الْمَالِ . وَعَكَرَةُ اللّسَانِ أَيْضًا : أَصْلُهُ وَمَا غَلُظَ مِنْهُ وَعَكَدَتُهُ أَيْضًا بِالدّالِ .

وَقَالَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ أَيْضًا [ ص 240 ] [ ص 241 ]
يَا أَيّهَا الرّجُلُ الّذِي تَهْوِي بِهِ ... وَجْنَاةُ مُجْمَرَةُ الْمَنَاسِمِ عِرْمِسُ
إمّا أَتَيْت عَلَى النّبِيّ فَقُلْ لَهُ ... حَقّا عَلَيْك إذَا اطْمَأَنّ الْمَجْلِسُ
يَا خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطِيّ وَمَنْ مَشَى ... فَوْقَ التّرَابِ إذَا تُعَدّ الْأَنْفُسُ
إنّا وَفَيْنَا بِاَلّذِي عَاهَدْتنَا ... وَالْخَيْلُ تُقْدَعُ بِالْكُمَاةِ وَتُضْرَسُ
إذْ سَالَ مِنْ أَفْنَاءِ بُهْثَةَ كُلّهَا ... جَمْعٌ تَظِلّ بِهِ الْمَخَارِمُ تَرْجِسُ
حَتّى صَبَحْنَا أَهْلَ مَكّةَ فَيْلَقًا ... شَهْبَاءَ يَقْدُمُهَا الْهُمَامُ الْأَشْوَسُ
مِنْ كُلّ أَغْلَبَ مِنْ سُلَيْمٍ فَوْقَهُ ... بَيْضَاءَ مُحْكِمَةَ الدّخَالِ وَقَوْنَسُ
يَرْوِي الْقَنَاةَ إذَا تَجَاسَرَ فِي الْوَغَى ... وَتَخَالُهُ أَسَدًا إذَا مَا يَعْبِسُ
يَغْشَى الْكَتِيبَةَ مُعْلِمًا وَبِكَفّهِ ... عَضْبٌ يَقُدّ بِهِ وَلَدْنٌ مِدْعَسُ
وَعَلَى حُنَيْنٍ قَدْ وَفَى مِنْ جَمْعِنَا ... أَلْفٌ أُمِدّ بِهِ الرّسُولُ عَرَنْدَسُ
كَانُوا أَمَامَ الْمُؤْمِنِينَ دَرِيئَةً ... وَالشّمْسُ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهِمْ أَشْمَسُ
نَمْضِي وَيَحْرُسُنَا الْإِلَهُ بِحِفْظِهِ ... وَاَللّهُ لَيْسَ بِضَائِعٍ مَنْ يَحْرُسُ
وَلَقَدْ حُبِسْنَا بِالْمَنَاقِبِ مَحْبِسًا ... رَضِيَ الْإِلَهُ بِهِ فَنِعْمَ الْمَحْبِسُ
وَغَدَاةَ أَوْطَاسٍ شَدَدْنَا شَدّةً ... كَفَتْ الْعَدُوّ وَقِيلَ مِنْهَا يَا احْبِسُوا
تَدْعُو هَوَازِنَ بِالْإِخَاوَةِ بَيْنَنَا ... ثَدْيٌ تَمُدّ بِهِ هَوَازِنُ أَيْبَسُ
حَتّى تَرَكْنَا جَمْعَهُمْ وَكَأَنّهُ ... عِيرٌ تُعَاقِبُهُ السّبَاعُ مُفَرّسُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَنْشَدَنِي خَلَفٌ الْأَحْمَرُ قَوْلَهُ " وَقِيلَ مِنْهَا يَا احْبِسُوا " .
S[ ص 239 ] قَصِيدَةُ عَبّاسٍ السّينِيّةُ وَقَوْلُهُ فِي السّينِيّةِ وَجْنَاءُ مُجْمَرَةُ الْمَنَاسِمِ عِرْمِسُ وَجْنَاءُ غَلِيظَةُ الْوَجَنَاتِ بَارِزَتُهَا ، وَذَلِكَ يَدُلّ عَلَى غُثُورِ عَيْنَيْهَا ، وَهُمْ يَصِفُونَ الْإِبِلَ بِغُئُورِ الْعَيْنَيْنِ عِنْدَ طُولِ السّفَارِ وَيُقَالُ هِيَ الْوَجْنَةُ فِي الْآدَمِيّينَ رَجُلٌ مُوجَنٌ وَامْرَأَةٌ مُوجَنَةٌ وَلَا يُقَالُ وَجْنَاءُ . قَالَهُ يَعْقُوبُ . وَمُجْمَرَةُ الْمَنَاسِمِ أَيْ نَكَبَتْ مَنَاسِمَهَا الْجِمَارُ وَهِيَ الْحِجَارَةُ وَالْعِرْمِسُ الصّخْرَةُ الصّلْبَةُ وَتُشَبّهُ بِهَا النّاقَةُ الْجَلْدَةُ وَقَدْ يُرِيدُ بِمُجْمَرَةٍ أَيْضًا أَنّ مَنَاسِمَهَا مُجْتَمِعَةٌ مُنْضَمّةٌ فَذَلِكَ أَقْوَى لَهَا ، وَقَدْ حُكِيَ أَجْمَرَتْ الْمَرْأَةُ شَعْرَهَا إذَا ظَفّرَتْهُ وَأَجْمَرَ الْأَمِيرُ الْجَيْشَ أَيْ حَبَسَهُ عَنْ الْقُفُولِ قَالَ الشّاعِرُ
مُعَاوِيَ إمّا أَنْ يُجَهّزَ أَهْلُنَا ... إلَيْنَا ، وَإِمّا أَنّ نَئُوبَ مُعَاوِيَا
أَأَجْمَرْتنَا إجْمَارَ كِسْرَى جُنُودَهُ ... وَمَنّيْتنَا حَتّى نَسِينَا الْأَمَانِيَا
[ ص 240 ] كَانُوا أَمَامَ الْمُؤْمِنِينَ دَرِيئَةً الدّرِيئَةُ الْحَلْقَةُ الّتِي يُتَعَلّمُ عَلَيْهَا الرّمْيُ أَيْ كَانُوا كَالدّرِيئَةِ لِلرّمَاحِ وَقَوْلُهُ وَالشّمْسُ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهِمْ أَشْمَسُ يُرِيدُ لَمَعَانَ الشّمْسِ فِي كُلّ بَيْضَةٍ مِنْ بَيْضَاتِ الْحَدِيدِ وَالسّيُوفِ كَأَنّهَا شَمْسٌ وَهُوَ مَعْنًى صَحِيحٌ وَتَشْبِيهٌ مَلِيحٌ . وَفِيهَا قَوْلُهُ وَالْخَيْلُ تَقْرَعُ بِالْكُمَاةِ وَتُضْرَسُ أَيْ تَضْرِبُ أَضْرَاسَهَا بِاللّجُمِ . تَقُولُ ضَرَسَتْهُ أَيْ ضَرَبَتْ أَضْرَاسَهُ كَمَا تَقُولُ رَأَسْته ، أَيْ أَصَبْت رَأْسَهُ . [ ص 241 ]

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ أَيْضًا :
نَصَرْنَا رَسُولَ اللّهِ مِنْ غَضَبٍ لَهُ ... بِأَلْفِ كَمِيّ لَا تُعَدّ حَوَاسِرُهْ
حَمَلْنَا لَهُ فِي عَامِلِ الرّمْحِ رَايَةً ... يَذُودُ بِهَا فِي حَوْمَةِ الْمَوْتِ نَاصِرُهْ
وَنَحْنُ خَضَبْنَاهَا دَمًا فَهْوَ لَوْنُهَا ... غَدَاةَ حُنَيْنٍ يَوْمَ صَفْوَانَ شَاجِرُهْ
وَكُنّا عَلَى الْإِسْلَامِ مَيْمَنَةً لَهُ ... وَكَانَ لَنَا عَقْدُ اللّوَاءِ وَشَاهِرُهْ
وَكُنّا لَهُ دُونَ الْجُنُودِ بِطَانَةً ... يُشَاوِرُنَا فِي أَمْرِهِ وَنُشَاوِرُهْ
دَعَانَا فَسَمّانَا الشّعَارَ مُقَدّمًا ... وَكُنّا لَهُ عَوْنًا عَلَى مَنْ يُنَاكِرُهْ
جَزَى اللّهُ خَيْرًا مِنْ نَبِيّ مُحَمّدًا ... وَأَيّدَهُ بِالنّصْرِ وَاَللّهُ نَاصِرُهْ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَنْشَدَنِي مِنْ قَوْلِهِ " وَكُنّا عَلَى الْإِسْلَامِ " إلَى آخِرِهَا ، بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشّعْرِ وَلَمْ يَعْرِفْ الْبَيْتَ الّذِي أَوّلُهُ حَمَلْنَا لَهُ فِي عَامِلِ الرّمْحِ رَايَةً وَأَنْشَدَنِي بَعْدَ قَوْلِهِ
وَكَانَ لَنَا عَقْدُ اللّوَاءِ وَشَاهِرُهْ ... وَنَحْنُ خَضَبْنَاهُ دَمًا فَهْوَ لَوْنُهُ

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ أَيْضًا [ ص 242 ]
مَنْ مُبْلِغُ الْأَقْوَامِ أَنّ مُحَمّدًا ... رَسُولُ الْإِلَهِ رَاشِدٌ حَيْثُ يَمّمَا
دَعَا رَبّهُ وَاسْتَنْصَرَ اللّهَ وَحْدَهُ ... فَأَصْبَحَ قَدْ وَفّى إلَيْهِ وَأَنْعَمَا
سَرَيْنَا وَوَاعَدْنَا قُدَيْدًا مُحَمّدًا ... يَؤُمّ بِنَا أَمْرًا مِنْ اللّهِ مُحْكَمَا
تَمَارَوْا بِنَا فِي الْفَجْرِ حَتّى تَبَيّنُوا ... مَعَ الْفَجْرِ فِتْيَانًا وِغَابًا مُقَوّمَا
عَلَى الْخَيْلِ مَشْدُودًا عَلَيْنَا دُرُوعُنَا ... وَرَجْلًا كَدُفّاعِ الْأَتِيّ عَرَمْرَمَا
فَإِنّ سَرَاةَ الْحَيّ إنْ كُنْت سَائِلًا ... سُلَيْمٌ وَفِيهِمْ مِنْهُمْ مَنْ تَسَلّمَا
وَجُنْدٌ مِنْ الْأَنْصَارِ لَا يَخْذُلُونَهُ ... أَطَاعُوا فَمَا يَعْصُونَهُ مَا تَكَلّمَا
فَإِنْ تَكُ قَدْ أَمّرْت فِي الْقَوْمِ خَالِدًا ... وَقَدّمْته فَإِنّهُ قَدْ تَقَدّمَا
بِجُنْدٍ هَدَاهُ اللّهُ أَنْتَ أَمِيرُهُ ... تُصِيبُ بِهِ فِي الْحَقّ مَنْ كَانَ أَظْلَمَا
حَلَفْت يَمِينًا بَرّةً لِمُحَمّدٍ ... فَأَكْمَلْتهَا أَلْفًا مِنْ الْخَيْلِ مُلْجَمَا
وَقَالَ نَبِيّ الْمُؤْمِنِينَ تَقَدّمُوا ... وَحُبّ إلَيْنَا أَنْ نَكُونَ الْمُقَدّمَا
وَبِتْنَا بِنَهْيِ الْمُسْتَدِيرِ وَلَمْ يَكُنْ ... بِنَا الْخَوْفُ إلّا رَغْبَةً وَتَحَزّمَا
أَطَعْنَاك حَتّى أَسْلَمَ النّاسُ كُلّهُمْ ... وَحَتّى صَبَحْنَا الْجَمْعَ أَهْلَ يَلَمْلَمَا
يَضِلّ الْحِصَانُ الْأَبْلَقُ الْوَرْدُ وَسْطُهُ ... وَلَا يَطْمَئِنّ الشّيْخُ حَتّى يُسَوّمَا
سَمَوْنَا لَهُمْ وِرْدَ الْقَطَا زَفّهُ ضُحًى ... وَكُلّ تَرَاهُ عَنْ أَخِيهِ قَدْ احْجَمَا
لَدُنْ غُدْوَةٍ حَتّى تَرَكْنَا عَشِيّةً ... حُنَيْنًا وَقَدْ سَالَتْ دَوَافِعُهُ دَمَا
إذَا شِئْت مِنْ كُلّ رَأَيْت طِمِرّةً ... وَفَارِسُهَا يَهْوِي وَرُمْحًا مُحَطّمَا
وَقَدْ أَحْرَزَتْ مِنّا هَوَازِنُ سِرْبَهَا ... وَحُبّ إلَيْهَا أَنْ نَخِيبَ وَنُحْرَمَا
Sقَصِيدَةُ عَبّاسٍ الْمِيمِيّةِ
وَقَوْلُهُ [ ص 242 ] تَسَلّمَا . يُرِيدُ وَفِي سُلَيْمٍ مِنْ اعْتَزَى إلَيْهِمْ مِنْ حُلَفَائِهِمْ فَتَسَلّمَ بِذَلِكَ كَمَا تَقُولُ تَقَيّسَ الرّجُلُ إذَا اعْتَزَى إلَى قَيْسٍ . أَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ : وَقَيْسُ عَيْلَانَ وَمَنْ تَقَيّسَا

شِعْرُ ضَمْضَمٍ فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ
قَالَ [ ص 243 ] ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ ضَمْضَمُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ جُشَمِ بْنِ عَبْدِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَوْفِ بْنِ يَقَظَةَ بْنِ عَصِيّةَ السّلَمِيّ فِي يَوْمِ حُنَيْن ٍ ، وَكَانَتْ ثَقِيفٌ أَصَابَتْ كِنَانَةَ بْنَ الْحَكَمِ بْنِ خَالِدِ بْنِ الشّرِيدِ ، فَقَتَلَ بِهِ مِحْجَنًا وَابْنَ عَمّ لَهُ وَهُمَا مِنْ ثَقِيفٍ :
نَحْنُ جَلَبْنَا الْخَيْلَ مِنْ غَيْرِ مَجْلَبٍ ... إلَى جُرَشٍ مِنْ أَهْلِ زَيّانَ وَالْغَمْ
نُقَتّلُ أَشْبَالَ الْأُسُودِ وَنَبْتَغِي ... طَوَاغِيَ كَانَتْ قَبْلَنَا لَمْ تُهْدَمْ
فَإِنْ تَفْخَرُوا بِابْنِ الشّرِيدِ فَإِنّنِي ... تَرَكْت بِوَجّ مَأْتَمًا بَعْدَ مَأْتَمِ
أَبَأْتهمَا بِابْنِ الشّرِيدِ وَغَرّهُ ... جِوَارَكُمْ وَكَانَ غَيْرَ مُذَمّمِ
تُصِيبُ رِجَالًا مِنْ ثَقِيفٍ رِمَاحُنَا ... وَأَسْيَافُنَا يَكْلُمْنَهُمْ كُلّ مَكْلَمِ
وَقَالَ ضَمْضَمُ بْنُ الْحَارِث ِ أَيْضًا [ ص 244 ]
أَبْلِغْ لَدَيْك ذَوِي الْحَلَائِلِ آيَةً ... لَا تَأْمَنَنّ الدّهْرَ ذَاتَ خِمَارِ
بَعْدَ الّتِي قَالَتْ لِجَارَةِ بَيْتِهَا ... قَدْ كُنْت لَوْ لَبِثَ الْغَزِيّ بِدَارِ
لَمّا رَأَتْ رَجُلًا تَسَفّعَ لَوْنَهُ ... وَغْرُ الْمَصِيفَةِ وَالْعِظَامُ عَوَارِي
مُشُطَ الْعِظَامِ تَرَاهُ آخِرَ لَيْلِهِ ... مُتَسَرْبِلًا فِي دُرْعِهِ لِغَوَارِ
إذْ لَا أُزَالُ عَلَى رِحَالَةِ نَهْدَةٍ ... جَرْدَاءَ تَلْحَقُ بِالنّجَادِ إزَارِي
يَوْمًا عَلَى أَثَرِ النّهَابِ وَتَارَةً ... كُتِبَتْ مُجَاهِدَةً مَعَ الْأَنْصَارِ
وَزُهَاءَ كُلّ خَمِيلَةٍ أَزْهَقْتهَا ... مَهْلًا تَمَهّلُهُ وَكُلّ خَبَارِ
كَيْمَا أُغَيّرُ مَا بِهَا مِنْ حَاجَةٍ ... وَتَوَدّ أَنّي لَا أَءُوبَ فَجَارِ
Sحَوْلَ قَصِيدَةِ ضَمْضَمِ بْنِ الْحَارِثِ
وَأَنْشَدَ [ ص 243 ] حُنَيْنًا مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَكَانَ يَنْبَغِي لِأَبِي عُمَرَ رَحِمَهُ اللّهُ أَنْ يَذْكُرَهُ فِي الصّحَابَةِ لِأَنّهُ مِنْ شَرْطِهِ فَلَمْ يَفْعَلْ وَقَدْ أَنْشَدَ لَهُ ابْنُ إسْحَاقَ مَا يَدُلّ عَلَى أَنّهُ مِنْهُمْ لِقَوْلِهِ
يَوْمًا عَلَى أَثَرِ النّهَابِ وَتَارَةً ... كُتِبَتْ مُجَاهَدَةً مَعَ الْأَنْصَارِ
يَعْنِي : فَرَسَهُ وَكَذَلِكَ لَمْ يَذْكُرْ أَبُو عُمَرَ ضَمْضَمَ بْنَ قَتَادَةَ الْعِجْلِيّ وَلَهُ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ فِي قُدُومِهِ عَلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَذَلِكَ أَنّهُ قَالَ لَهُ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّي قَدْ تَزَوّجْت امْرَأَةً فَوَلَدَتْ لِي غُلَامًا أَسْوَدَ فَقَالَ لَهُ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - " هَلْ لَك مِنْ إبِلٍ " ، فَقَالَ نَعَمْ وَالْحَدِيثُ مَشْهُورٌ [ ص 244 ] الصّحِيحَيْنِ ، وَسُمّيَ فِي بَعْضِ الْمُسْنَدَاتِ وَذَكَرَهُ عَبْدُ الْغَنِيّ فِي الْمُبْهَمَاتِ وَذَكَرَ عَبْدُ الْغَنِيّ فِي الْحَدِيثِ زِيَادَةً حَسَنَةً قَالَ كَانَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ بَنِي عِجْلٍ فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ عَجَائِزُ مِنْ عِجْلٍ فَسُئِلْنَ عَنْ الْمَرْأَةِ الّتِي وَلَدَتْ الْغُلَامَ الْأَسْوَدَ فَقُلْنَ كَانَ فِي آبَائِهَا رَجُلٌ أَسْوَدُ

رِثَاءُ أَبِي خِرَاشٍ لَابْن عَجْوَةَ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : حَدّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ قَالَ أُسِرَ زُهَيْرُ بْنُ الْعَجْوَةِ الْهُذَلِيّ يَوْمَ حُنَيْنٍ ، فَكُتِفَ فَرَآهُ جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرٍ الْجُمَحِيّ ، فَقَالَ لَهُ أَأَنْتَ الْمَاشِي لَنَا بِالْمَغَايِظِ ؟ فَضَرَبَ عُنُقَهُ فَقَالَ أَبُو خِرَاشٍ الْهُذَلِيّ يَرْثِيهِ وَكَانَ ابْنَ عَمّهِ [ ص 245 ]
عَجّفَ أَضْيَافِي جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرٍ ... بِذِي فَجْرٍ تَأْوِي إلَيْهِ الْأَرَامِلُ
طَوِيلُ نِجَادِ السّيْفِ لَيْسَ بِجَيْدَرٍ ... إذَا اهْتَزّ وَاسْتَرْخَتْ عَلَيْهِ الْحَمَائِلُ
تَكَادُ يَدَاهُ تُسْلِمَانِ إزَارَهُ ... مِنْ الْجُودِ لَمّا أَذْلَقَتْهُ الشّمَائِلُ
إلَى بَيْتِهِ يَأْوِي الضّرِيكُ إذَا شَتَا ... وَمُسْتَنْبِحٌ بَالِي الدّرِيسَيْنِ عَائِلُ
تَرَوّحَ مَقْرُورًا وَهَبّتْ عَشِيّةً ... لَهَا حَدَبٌ تَحْتَثّهُ فَيُوَائِلُ
فَمَا بَالُ أَهْلِ الدّارِ لَمْ يَتَصَدّعُوا ... وَقَدْ بَانَ مِنْهَا اللّوْذَعِيّ الْحُلَاحِلُ
فَأُقْمِمَ لَوْ لَاقَيْته غَيْرَ مُوثَقٍ ... لِآبَك بِالنّعْفِ الضّبَاعِ الْجَيَائِلُ
وَإِنّك لَوْ وَاجَهْته إذْ لَقِيته ... فَنَازَلْته أَوْ كُنْت مِمّنْ يُنَازِلُ
لَظَلّ جَمِيلٌ أَفْحَشَ الْقَوْمِ صُرَعَةً ... وَلَكِنّ قَرْنَ الظّهْرِ لِلْمَرْءِ شَاغِلُ
فَلَيْسَ كَعَهْدِ الدّارِ يَا أُمّ ثَابِتٍ ... وَلَكِنْ أَحَاطَتْ بِالرّقَابِ السّلَاسِلُ
وَعَادَ الْفَتَى كَالشّيْخِ لَيْسَ بِفَاعِلٍ ... سِوَى الْحَقّ شَيْئًا وَاسْتَرَاحَ الْعَوَاذِلُ
وَأَصْبَحَ إخْوَانُ الصّفَاءِ كَأَنّمَا ... أَهَالَ عَلَيْهِمْ جَانِبَ التّرْبِ هَائِلُ
فَلَا تَحْسَبِي أَنّي نَسَبْت لَيَالِيًا ... بِمَكّةَ إذْ لَمْ نَعْدُ عَمّا نُحَاوِلُ
إذْ النّاسُ نَاسٌ وَالْبِلَادُ بِغِرّةٍ ... وَإِذْ نَحْنُ لَا تُثْنَى عَلَيْنَا الْمَدَاخِلُ
Sشِعْرُ أَبِي خِرَاشٍ
وَذَكَرَ شِعْرَ أَبِي خِرَاشٍ وَاسْمُهُ خُوَيْلِدُ بْنُ مُرّةَ شَاعِرٌ إسْلَامِيّ مَاتَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ رَحِمَهُ اللّهُ مِنْ نَهْشِ حَيّةٍ نَهَشَتْهُ كَانَ سَبَبُهَا أَضْيَافٌ نَزَلُوا بِهِ وَخَبَرُهُ بِذَلِكَ عَجِيبٌ وَلَهُ فِيهِ شِعْرٌ . وَالْخِرَاشُ وَسْمٌ لِإِبِلٍ يَكُونُ مِنْ الصّدْغِ إلَى الذّقْنِ فَقَوْلُهُ
تَكَادُ يَدَاهُ تُسْلَمَانِ إزَارَهُ ... مِنْ الْجُودِ لَمّا أَذْلَفَتْهُ الشّمَائِلُ
يُرِيدُ أَنّهُ مِنْ سَخَائِهِ يُرِيدُ أَنْ يَتَجَرّدَ مِنْ إزَارِهِ لِسَائِلِهِ فَيُسَلّمَهُ إلَيْهِ وَأَلْفَيْت بِخَطّ أَبِي الْوَلِيدِ الْوَقْشِيّ الْجُودُ هَاهُنَا ، وَعَلَى هَذِهِ الرّوَايَةِ وَبِهَذِهِ الرّتْبَةِ السّخَاءُ وَكَذَلِكَ فَسّرَهُ الْأَصْمَعِيّ وَالطّوسِيّ وَأَمّا عَلَى مَا وَقَعَ فِي شِعْرِ الْهُذَلِيّ وَفُسّرَ فِي الْغَرِيبِ الْمُصَنّفِ فَهُوَ الْجُوعُ وَمَوْضِعُهُ فِي الشّعْرِ الْمَذْكُورِ يَتْلُو قَوْلَهُ تَرَوّحَ مَقْرُورًا . وَفِي الْغَرِيبِ رِدَاءَهُ بَدَلَ إزَارِهِ . [ ص 245 ] وَلَكِنّ قَرْنَ الظّهْرِ لِلْمَرْءِ شَاغِلُ قَرْنٌ بِالْقَافِ جَمْعُهُ أَقْرَانٍ وَيُرْوَى : وَلَكِنّ أَقْرَانَ الظّهُورِ مَقَاتِلُ مَقَاتِلُ جَمْعُ مَقْتَلٍ بِكَسْرِ الْمِيمِ مِثْلُ مِحْرَبٍ مِنْ الْحَرْبِ أَيْ مَنْ كَانَ قِرْنَ طُهْرٍ فَإِنّهُ قَاتِلٌ وَغَالِبٌ . وَقَوْلُهُ يَصِفُ الرّيحَ لَهَا حَدَبٌ تَحْتَثّهُ فَيُوَائِلُ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَقَعَ فِي الْأَصْلِ وَقَدْ يُسَمّى انْحِدَارُ الْمَاءِ وَنَحْوُهُ حَدَبًا ، فَيَكُونُ هَذَا مِنْهُ وَإِلّا فَالْخَدَبُ بِالْخَاءِ الْمَنْقُوطَةِ أَشْبَهُ بِمَعْنَى الْبَيْتِ لِأَنّهُمْ يَقُولُونَ رِيحٌ خَدْبَاءُ كَانَ بِهَا خَدْبًا ، وَهُوَ الْهَوَجُ .

ابْنُ عَوْفٍ يَعْتَذِرُ عَنْ فِرَارِهِ
[ ص 246 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ وَهُوَ يَعْتَذِرُ يَوْمَئِذٍ مِنْ فِرَارِهِ
مَنَعَ الرّفَادَ فَمَا أُغَمّضُ سَاعَةً ... نَعَمٌ بِأَجْزَاعِ الطّرِيقِ مُخَضْرَمُ
سَائِلْ هَوَازِنَ هَلْ أَضَرّ عَدُوّهَا ... وَأُعِينَ غَارِمُهَا إذَا مَا يَغْرَمُ
وَكَتِيبَةٌ لَبّسْتهَا بِكَتِيبَةٍ ... فِئَتَيْنِ مِنْهَا حَاسِرٌ وَمُلْأَمُ
وَمُقَدّمٌ تَعْيَا النّفُوسُ لِضِيقِهِ ... قَدّمْته وَشُهُودُ قَوْمِي أَعْلَمُ
فَوَرَدْته وَتَرَكْت إخْوَانًا لَهُ ... يَرِدُونَ غَمْرَتَهُ وَغَمَرَتُهُ الدّمُ
فَإِذَا انْجَلَتْ غَمَرَاتُهُ أَوْرَثْنَنِي ... مَجْدَ الْحَيَاةِ وَمَجْدَ غُنْمِ يُقْسَمُ
كَلّفْتُمُونِي ذَنْبَ آلِ مُحَمّدٍ ... وَاَللّهُ أَعْلَمُ مَنْ أَعَقّ وَأَظْلَمُ
وَخَذَلْتُمُونِي إذْ أُقَاتِلُ وَاحِدًا ... وَخَذَلْتُمُونِي إذْ تُقَاتِلُ خَثْعَمُ
وَإِذَا بَنَيْت الْمَجْدَ يَهْدِمُ بَعْضُكُمْ ... لَا يَسْتَوِي بَانٍ وَآخَرُ يَهْدِمُ
وَأَقَبّ مِخْمَاصِ الشّتَاءِ مُسَارِعٌ ... فِي الْمَجْدِ يَنْمِي لِلْعُلَى مُتَكَرّمٌ
أَكْرَهْت فِيهِ أَلّةً يَزْنِيّةً ... سَحْمَاءَ يَقْدَمُهَا سِنَانٌ سَلْجَمُ
وَتَرَكْت حَنّتَهُ تَرُدّ وَلِيّهُ ... وَتَقُولُ لَيْسَ عَلَى فُلَانَةَ مَقْدَمُ
وَنَصَبْت نَفْسِي لِلرّمَاحِ مُدَجّجًا ... مِثْلَ الدّرِيئَةِ تُسْتَحَلّ وَتُشْرَمُ
Sمِنْ شِعْرِ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ
[ ص 246 ] وَذَكَرَ فِي آخِرِ بَيْتٍ مِنْ شِعْرِ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ : مِثْلَ الدّرِيئَةِ تُسْتَحَلّ وَتُشْرَمُ الدّرِيئَةُ
الْحَلْقَةُ الّتِي يُتَعَلّمُ عَلَيْهَا الطّعْنُ وَهُوَ مَهْمُوزٌ وَتُسْتَحَلّ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَقَعَ فِي الْأَصْلِ وَفِي غَيْرِهِ تُسْتَخَلّ بِالْخَاءِ مُعْجَمَةً وَهُوَ أَظْهَرُ فِي الْمَعْنَى مِنْ الْخِلَالِ وَقَدْ يَكُونُ لِتَسْتَحِلّ وَحَيّه مِنْ الْحَلّ إذْ بَعْدَهُ تُشْرَمُ وَكِلَاهُمَا قَرِيبٌ فِي الْمَعْنَى . [ ص 247 ] [ ص 248 ]

هَوَازِنِيّ يَذْكُرُ إسْلَامَ قَوْمِهِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ قَائِلٌ فِي هَوَازِنَ أَيْضًا ، يَذْكُرُ مَسِيرَهُمْ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَعَ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ بَعْدَ إسْلَامِهِ [ ص 247 ]
أَذْكُرْ مَسِيرَهُمْ لِلنّاسِ إذْ جَمَعُوا ... وَمَالِكٌ فَوْقَهُ الرّايَاتِ تَخْتَفِقُ
وَمَالِكُ مَالِكٌ مَا فَوْقَهُ أَحَدٌ ... يَوْمَ حُنَيْنٍ عَلَيْهِ التّاجُ يَأْتَلِقُ
حَتّى لَقُوا الْبَاسَ حِينَ الْبَاسُ يَقْدُمهُمْ ... عَلَيْهِمْ الْبِيضُ وَالْأَبْدَانُ وَالدّرَقُ
فَضَارَبُوا النّاسَ حَتّى لَمْ يَرَوْا أَحَدًا ... حَوْلَ النّبِيّ وَحَتّى جَنّهُ الْغَسَقُ
ثُمّتَ نُزّلَ جِبْرِيلُ بِنَصْرِهِمْ ... مِنْ السّمَاءِ فَمَهْزُومٌ وَمُعْتَنِقُ
مِنّا وَلَوْ غَيْرَ جِبْرِيلِ يُقَاتِلُنَا ... لَمَنّعَتْنَا إذَنْ أَسْيَافُنَا الْعُتُقُ
وَفَاتَنَا عُمَرُ الْفَارُوقُ إذْ هُزِمُوا ... بِطَعْنَةٍ بَلّ مِنْهَا سَرْجَهُ الْعَلَقُ
جُشَمِيّةٌ تَرْثِي أَخَوَيْهَا
وَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي جُشَمٍ تَرْثِي أَخَوَيْنِ لَهَا أُصِيبَا يَوْمَ حُنَيْنٍ :
أَعَيْنِيّ جُودَا عَلَى مَالِكٍ ... مَعًا وَالْعَلَاءِ وَلَا تَجْمُدَا
هُمَا الْقَاتِلَانِ أَبَا عَامِرٍ ... وَقَدْ كَانَ ذَا هِبَةٍ أَرْبَدَا
هُمَا تَرَكَاهُ لَدَى مُجْسَدٍ ... يَنُوءُ نَزِيفًا وَمَا وُسّدَا
أَبُو ثَوَابٍ يَهْجُو قُرَيْشًا
وَقَالَ أَبُو ثَوَابٍ زَيْدُ بْنُ صُحَارٍ ، أَحَدُ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ :
أَلَا هَلْ أَتَاك أَنْ غَلَبَتْ قُرَيْشٌ ... هَوَازِنَ وَالْخُطُوبُ لَهَا شُرُوطُ
وَكُنّا يَا قُرَيْشُ إذَا غَضِبْنَا ... يَجِيءُ مِنْ الْغِضَابِ دَمٌ عَبِيطُ
وَكُنّا يَا قُرَيْشُ إذَا غَضِبْنَا ... كَأَنّ أُنُوفَنَا فِيهَا سَعُوطُ
فَأَصْبَحْنَا تُسَوّقُنَا قُرَيْشٌ ... سِيَاقَ الْعِيرِ يَحْدُوهَا النّبِيطُ
فَلَا أَنَا إنْ سُئِلْت الْخَسْفَ آبٍ ... وَلَا أَنَا أَنْ أَلِينَ لَهُمْ نَشِيطُ
سَيُنْقَلُ لَحْمُهَا فِي كُلّ فَجّ ... وَتُكْتَبُ فِي مَسَامِعِهَا الْقُطُوطُ
وَيُرْوَى " الْخُطُوطُ " ، وَهَذَا الْبَيْتُ فِي رِوَايَةِ أَبِي سَعْدٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ أَبُو ثَوَابٍ زِيَادُ بْنُ ثَوَابٍ . وَأَنْشَدَنِي خَلَفٌ الْأَحْمَرُ قَوْلَهُ يَجِيءُ مِنْ الْغِضَابِ دَمٌ عَبِيطُ
[ ص 248 ] ابْنِ إسْحَاقَ .
ابْنُ وَهْبٍ يَرُدّ عَلَى ابْنِ أَبِي ثَوَابٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَأَجَابَهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ وَهْبٍ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ ، ثُمّ مِنْ بَنِي أَسَدٍ ، فَقَالَ
بِشَرْطِ اللّهِ نَضْرِبُ مَنْ لَقِينَا ... كَأَفْضَلَ مَا رَأَيْت مِنْ الشّرُوطِ
وَكُنّا يَا هَوَازِنُ حِينَ نَلْقَى ... نَبُلّ الْهَامَ مِنْ عَلَقٍ عَبِيطِ
بِجَمْعِكُمْ وَجَمْعِ بَنِي قَسِيّ ... نَحُكّ الْبَرْكَ كَالْوَرِقِ الْخَبِيطِ
أَصَبْنَا مِنْ سُرَاتِكُمُ وَمِلْنَا ... بِقَتْلٍ فِي الْمَبَايِنِ وَالْخَلِيطِ
بِهِ الْمُلْتَاثُ مُفْتَرِشٌ يَدَيْهِ ... يَمُجّ الْمَوْتَ كَالْبِكْرِ النّحِيطِ
فَإِنْ تَكُ قَيْسُ عَيْلَانَ غِضَابًا ... فَلَا يَنْفَكّ يُرْغِمُهُمْ سَعُوطِي
شِعْرُ خَدِيجٍ فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ
وَقَالَ خَدِيجُ بْنُ الْعَوْجَاءِ النّصْرِيّ :
لَمّا دَنَوْنَا مِنْ حُنَيْنٍ وَمَائِهِ ... رَأَيْنَا سَوَادًا مُنْكَرَ اللّوْنِ أَخْصَفَا
بِمَلْمُومَةٍ شَهْبَاءَ لَوْ قَدَفُوا بِهَا ... شَمَارِيخَ مِنْ عُزْوَى إذَنْ عَادَ صَفْصَفَا
وَلَوْ إنّ قَوْمِي طَاوَعَتْنِي سَرَاتُهُمْ ... إذَنْ مَا لَقِينَا الْعَارِضَ الْمُتَكَشّفَا
إذَنْ مَا لَقِينَا جُنْدَ آلِ مُحَمّدٍ ... ثَمَانِينَ أَلْفًا وَاسْتَمَدّوا بِخَنْدَقَا

ذِكْرُ غَزْوَةِ الطّائِفِ بَعْدَ حُنَيْنٍ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ
[ ص 249 ] ثَقِيفٍ الطّائِفَ أَغْلَقُوا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ مَدِينَتِهَا ، وَصَنَعُوا الصّنَائِعَ لِلْقِتَالِ .
Sغَزْوَةُ الطّائِفِ
[ ص 249 ] ذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ النّسَبِ أَنّ الدّمُونَ بْنَ الصّدَفِ ، وَاسْمُ الصّدَفِ : مَلَكُ بْنُ مَالِكِ بْنِ مُرَتّعِ بْنِ كِنْدَةَ مِنْ حَضْرَمَوْتَ أَصَابَ دَمًا مِنْ قَوْمِهِ فَلَحِقَ بِثَقِيفٍ فَأَقَامَ فِيهِمْ وَقَالَ لَهُمْ أَلَا أَبْنِي لَكُمْ حَائِطًا يُطِيفُ بِبَلَدِكُمْ فَبَنَاهُ فَسُمّيَ بِهِ الطّائِفُ ، ذَكَرَهُ الْبَكْرِيّ هَكَذَا قَالَ وَإِنّمَا هُوَ الدّمُونُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ دَهْقَلٍ وَهُوَ مِنْ الصّدَفِ ، وَلَهُ ابْنَانِ أَدْرَكَا النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَبَايَعَاهُ اسْمُ أَحَدِهِمَا : الْهُمَيْلُ وَالْآخَرُ قَبِيصَةُ ، وَلَمْ يَذْكُرْهُمَا أَبُو عُمَرَ فِي الصّحَابَةِ وَذَكَرَهُمَا غَيْرُهُ . وَذَكَرَ أَنّ أَصْلَ أَعْنَابِهَا أَنّ قَيْسَ بْنَ مُنَبّهٍ وَهُوَ ثَقِيفٌ أَصَابَ دَمًا فِي قَوْمِهِ أَيْضًا ، وَهُمْ إيَادٌ فَفَرّ إلَى الْحِجَازِ ، فَمَرّ بِامْرَأَةٍ يَهُودِيّةٍ فَآوَتْهُ وَأَقَامَ عِنْدَهَا زَمَانًا ، ثُمّ انْتَقَلَ عَنْهَا ، فَأَعْطَتْهُ قُضُبًا مِنْ الْحُبْلَةِ وَأَمَرَتْهُ أَنْ يَغْرِسَهَا فِي أَرْضٍ وَصَفَتْهَا لَهُ فَأَتَى بِلَادَ عَدْوَانَ ، وَهُمْ سُكّانُ الطّائِفِ فِي ذَلِكَ الزّمَانِ فَمَرّ بِسُخَيْلَةَ جَارِيَةِ عَامِرِ بْنِ الظّرِبِ الْعَدْوَانِيّ وَهِيَ تَرْعَى غَنَمًا ، فَأَرَادَ سِبَاءَهَا ، وَأَخَذَ الْغَنَمَ فَقَالَتْ لَهُ أَلَا أَدُلّك عَلَى خَيْرٍ مِمّا هَمَمْت بِهِ اقْصِدْ إلَى سَيّدِي وَجَاوِرْهُ فَهُوَ أَكْرَمُ النّاسِ فَأَتَاهُ فَزَوّجَهُ مِنْ بِنْتِهِ زَيْنَبَ بِنْتِ عَامِرٍ فَلَمّا جَلَتْ عَدْوَانُ عَنْ الطّائِفِ بِالْحُرُوبِ الّتِي وَقَعَتْ بَيْنَهَا أَقَامَ قَسِيّ ، وَهُوَ ثَقِيفٌ ، فَمِنْهُ تَنَاسَلَ أَهْلُ الطّائِفِ ، وَسُمّيَ قَسِيّا بِقَسْوَةِ قَلْبِهِ حِينَ قَتَلَ أَخَاهُ أَوْ ابْنَ عَمّهِ وَقِيلَ سمي ثقيفا لِقَوْلِهِمْ فِيهِ مَا أَثْقَفَهُ حِينَ ثَقِفَ عَامِرًا حَتّى أَمّنَهُ وَزَوّجَهُ بِنْتَه . [ ص 250 ] وَذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسّرِينَ وَجْهًا آخَرَ فِي تَسْمِيَتِهَا بِالطّائِفِ فَقَالَ فِي الْجَنّةِ الّتِي ذَكَرَهَا اللّهُ سُبْحَانَهُ فِي سُورَةِ " ن " حَيْثُ يَقُولُ { فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ } [ الْقَلَمُ 19 ] . قَالَ كَانَ الطّائِفُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السّلَامُ اقْتَلَعَهَا مِنْ مَوْضِعِهَا ، فَأَصْبَحَتْ كَالصّرِيمِ وَهُوَ اللّيْلُ أَصْبَحَ مَوْضِعُهَا كَذَلِكَ ثُمّ سَارَ بِهَا إلَى مَكّةَ ، فَطَافَ بِهَا حَوْلَ الْبَيْتِ ثُمّ أَنْزَلَهَا حَيْثُ الطّائِفُ الْيَوْمَ فَسُمّيَتْ بِاسْمِ الطّائِفِ الّذِي طَافَ عَلَيْهَا ، وَطَافَ بِهَا ، وَكَانَتْ تِلْكَ الْجَنّةُ بِضَرْوَانَ عَلَى فَرَاسِخَ مِنْ صَنْعَاءَ ، وَمِنْ ثَمّ كَانَ الْمَاءُ وَالشّجَرُ بِالطّائِفِ دُونَ مَا حَوْلَهَا مِنْ الْأَرَضِينَ وَكَانَتْ قِصّةُ أَصْحَابِ الْجَنّةِ بَعْدَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ صَلّى اللّهُ عَلَى نَبِيّنَا وَعَلَيْهِ وَسَلّمَ بِيَسِيرٍ ذَكَرَ هَذَا الْخَبَرَ النّقّاشُ وَغَيْرُهُ . فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا كَانَ ثَقِيفٌ هُوَ قَسِيّ بْنُ مُنَبّهٍ كَمَا قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ وَغَيْرُهُ فَكَيْفَ قَالَ سِيبَوَيْهِ حَاكِيًا عَنْ الْعَرَبِ : ثَقِيفُ بْنُ قَسِيّ فَجَعَلَهُ ابْنًا لِقَسِيّ ؟ قِيلَ إنّمَا أَرَادَ سِيبَوَيْهِ أَنّ الْحَيّ سُمّيَ ثَقِيفًا ، وَهُمْ بَنُو قَسِيّ كَمَا قَالُوا : بَاهِلَةُ بْنُ أَعْصَرَ وَإِنّمَا هِيَ أُمّهُمْ وَلَكِنْ سُمّيَ الْحَيّ بِهَا ، ثُمّ قِيلَ فِيهِ ابْنُ أَعْصَرَ كَذَلِكَ قَالُوا : ثَقِيفُ بْنُ قَسِيّ عَلَى هَذَا ، وَيُقَوّي هَذَا أَنّ سِيبَوَيْهِ إنّمَا قَالَ حَاكِيًا : هَؤُلَاءِ ثَقِيفُ بْنُ قَسِيّ .

[ ص 250 ] حُنَيْنًا وَلَا حِصَارَ الطّائِفِ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ وَلَا غَيْلَانُ بْنُ سَلَمَةَ كَانَا بِجُرَشٍ يَتَعَلّمَانِ صَنْعَةَ الدّبّابَاتِ وَالْمَجَانِيقِ وَالضّبُورِ .Sآلَاتُ الْحَرْبِ الْمُسْتَعْمَلَةُ فِي الطّائِفِ
فَصْلٌ " وَذَكَرَ تَعَلّمَ أَهْلِ الطّائِفِ صَنْعَةَ الدّبّابَاتِ وَالْمَجَانِيقِ وَالضّبُورِ . الدّبّابَةُ آلَةٌ مِنْ آلَاتِ الْحَرْبِ يَدْخُلُ فِيهَا الرّجَالُ فَيَدُبّونَ بِهَا إلَى الْأَسْوَارِ لِيَنْقُبُوهَا ، وَالضّبُورُ مِثْلُ رُءُوسِ الْأَسْفَاطِ يُتّقَى بِهَا فِي الْحَرْبِ عِنْدَ الِانْصِرَافِ وَفِي الْعَيْنِ الضّبْرُ جُلُودٌ يُغْشَى بِهَا خَشَبٌ يُتّقَى بِهَا فِي الْحَرْبِ . وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ الزّهْرِيّ أَنّ اللّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حِينَ مَسَخَ بَنِي إسْرَائِيلَ قِرَدَةً مَسَخَ رُمّانَهُمْ الْمَظّ وَبُرّهُمْ الذّرَةَ وَعِنَبَهُمْ الْأَرَاكَ ، وَجَوْزَهُمْ الضّبْرَ وَهُوَ مِنْ شَجَرِ الْبَرِيّةِ وَلَهُ ثَمَرٌ كَالْجَوْزِ لَا نَفْعَ فِيهِ فَهَذَا مَعْنًى آخَرُ غَيْرَ الْأَوّلِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الضّبْرِ إنّهُ كَالْجَوْزِ يُنَوّرُ وَلَا يُطْعَمُ . قَالَ وَيُقَالُ أَظَلّ الظّلَالِ ظِلّ الضّبْرَةِ وَظِلّ التّنْعِيمَةِ وَظِلّ الْحَجَرِ ، قَالَ وَوَرَقُهَا كَدَارٍ كَثِيفَةٍ فَكَانَ ظِلّهَا لِذَلِكَ أَلْمَى كَثِيفًا ، وَأَمّا الْمَظّ الّذِي تَقَدّمَ ذِكْرُهُ فِي الْحَدِيثِ فَهُوَ وَرُمّانُ الْبَرّ يُنَوّرُ وَلَا يُثْمِرُ وَلَهُ جُلّنَارُ كَمَا لِلرّمّانِ يُمْتَصّ مِنْهُ الْمَذَخُ وَهُوَ عَسَلٌ كَثِيرٌ يُشْبِعُ مَنْ امْتَصّهُ حَتّى يَمْلَأَ بَطْنَهُ ذَكَرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ النّبَاتِ " . [ ص 251 ] الْعَرَبُ . قَالَ كُرَاعٌ كُلّ كَلِمَةٍ فِيهَا جِيمٌ وَقَافٌ أَوْ جِيمٌ وَكَافٌ فَهِيَ أَعْجَمِيّةٌ وَذَلِكَ كَالْجُوَالِقِ وَالْجَوْلَقِ وَجِلّقٍ وَالْكَيْلَجَةِ وَهِيَ مِكْيَالٌ صَغِيرٌ وَالْكَفْجَلَارُ وَهِيَ الْمِغْرَفَةُ وَالْقَبْجُ وَهُوَ الْحَجَلُ وَمَا كَانَ نَحْوَ ذَلِكَ وَالْمِيمُ فِي مَنْجَنِيقٍ أَصْلِيّةٌ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ وَالنّونُ زَائِدَةٌ وَلِذَلِكَ سَقَطَتْ فِي الْجَمْعِ .

[ ص 251 ] سَارَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الطّائِفِ حِينَ فَرَغَ مِنْ حُنَيْنٍ ؛ فَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ ، حِينَ أَجْمَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ السّيْرَ إلَى الطّائِفِ : [ ص 252 ]
شِعْرُ كَعْبٍ
قَضَيْنَا مِنْ تِهَامَةَ كُلّ رَيْبٍ ... وَخَيْبَرَ ثُمّ أَجْمَمْنَا السّيُوفَا
فَلَسْت لِحَاضِنٍ إنْ لَمْ تَرَوْهَا ... بِسَاحَةِ دَارِكُمْ مِنّا أُلُوفَا
وَنَنْتَزِعُ الْعُرُوشَ بِبَطْنِ وَجّ ... وَتُصْبِحُ دُورُكُمْ مِنْكُمْ خُلُوفَا
وَيَأْتِيكُمْ لَنَا سُرْعَانُ خَيْلٍ ... يُغَادِرُ خَلْفَهُ جَمْعًا كَثِيفَا
إذَا نَزَلُوا بِسَاحَتِكُمْ سَمِعْتُمْ ... لَهَا مِمّا أَنَاخَ بِهَا رَجِيفَا
بِأَيْدِيهِمْ قَوَاضِبُ مُرْهِفَاتٍ ... يَزُرْنَ الْمُصْطَلِينَ بِهَا الْحُتُوفَا
كَأَمْثَالِ الْعَقَائِقِ أَخْلَصَتْهَا ... قُيُونُ الْهِنْدِ لَمْ تَضْرِبْ كَتِيفَا
تَخَالُ جَدِيّةِ الْأَبْطَالِ فِيهَا ... غَدَاةَ الزّحْفِ جَادِيّا مَدُوفَا
أَجَدّهُمْ أَلَيْسَ لَهُمْ نَصِيحٌ ... مِنْ الْأَقْوَامِ كَانَ بِنَا عَرِيفَا
يُخَبّرُهُمْ بِأَنّا قَدْ جَمَعْنَا ... عِتَاقَ الْخَيْلِ وَالنّجُبَ الطّرُوفَا
وَأَنّا قَدْ أَتَيْنَاهُمْ بِزَحْفٍ ... يُحِيطُ بِسُورِ حِصْنِهِمْ صُفُوفَا
رَئِيسُهُمْ النّبِيّ وَكَانَ صُلْبًا ... نَقِيّ الْقَلْبِ مُصْطَبِرًا عَزُوفَا
رَشِيدُ الْأَمْرِ ذُو حُكْمٍ وَعِلْمٍ ... وَحِلْمٍ لَمْ يَكُنْ نَزِقًا خَفِيفَا
نُطِيعُ نَبِيّنَا وَنُطِيعُ رَبّا ... هُوَ الرّحْمَنُ كَانَ بِنَا رَءُوفَا
فَإِنْ تُلْقُوا إلَيْنَا السّلَمَ نَقْبَلْ ... وَنَجْعَلُكُمْ لَنَا عَضُدًا وَرِيفَا
وَإِنْ تَابُوا نُجَاهِدْكُمْ وَنَصْبِرْ ... وَلَا يَكُ أَمْرُنَا رَعَشًا ضَعِيفَا
نُجَالِدُ مَا بَقِينَا أَوْ تُنِيبُوا ... إلَى الْإِسْلَامِ إذْعَانًا مُضِيفَا
نُجَاهِدُ لَا نُبَالِي مَنْ لَقِينَا ... أَأَهّكْنَا التّلَادَ أَمْ الطّرِيفَا
وَكَمْ مِنْ مَعْشَرٍ أَلَبُوا عَلَيْنَا ... صَمِيمَ الْجِذْمِ مِنْهُمْ وَالْحَلِيفَا
أَتَوْنَا لَا يَرَوْنَ لَهُمْ كِفَاءً ... فَجَدّعْنَا الْمَسَامِعَ وَالْأَنُوفَا
بِكُلّ مُهَنّدٍ لَيْنٍ صَقِيلٍ ... يَسُوقُهُمْ بِهَا سَوْقًا عَنِيفَا
لِأَمْرِ اللّهِ وَالْإِسْلَامِ حَتّى ... يَقُومَ الدّينُ مُعْتَدِلًا حَنِيفَا
وَتُنْسَى اللّاتُ وَالْعُزّى وَوَدّ ... وَنَسْلُبُهَا الْقَلَائِدَ وَالشّنُوفَا
فَأَمْسَوْا قَدْ أَقَرّوا وَاطْمَأَنّوا ... وَمَنْ لَا يَمْتَنِعْ يَقْبَلْ خُسُوفَا
كِنَانَةُ يَرُدّ عَلَى كَعْبٍ
[ ص 253 ] عَبْدِ يَالَيْلَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ ، فَقَالَ [ ص 254 ]
مَنْ كَانَ يَبْغِينَا يُرِيدُ قِتَالَنَا ... فَإِنّا بِدَارِ مُعَلّمٍ لَا نَرِيمُهَا
وَجَدْنَا بِهَا الْآبَاءَ مِنْ قَبْلِ مَا تَرَى ... وَكَانَتْ لَنَا أَطْوَاؤُهَا وَكُرُومُهَا
وَقَدْ جَرّبَتْنَا قَبْلَ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ ... فَأَخْبَرَهَا ذُو رَأْيِهَا وَحَلِيمُهَا
وَقَدْ عَلِمَتْ إنْ قَالَتْ الْحَقّ أَنّنَا ... إذَا مَا أَبَتْ صُعْرُ الْخُدُودِ نُقِيمُهَا
نُقَوّمُهَا حَتّى يَلِينَ شَرِيسُهَا ... وَيُعْرَفُ لِلْحَقّ الْمُبِينِ ظَلُومُهَا
عَلَيْنَا دِلَاصٌ مِنْ تُرَاثٍ مُحَرّقٍ ... كَلَوْنِ السّمَاءِ زَيّنَتْهَا نُجُومُهَا
نُرَفّهُهَا عَنّا بِبِيضٍ صَوَارِمٍ ... إذَا جُرّدَتْ فِي غَمْرَةٍ لَا نَشِيمُهَا
قَصِيدَةُ شَدّادٍ فِي الْمَسِيرِ إلَى الطّائِفِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ شَدّادُ بْنُ عَارِضٍ الْجُشَمِيّ فِي مَسِيرِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الطّائِفِ :
لَا تَنْصُرُوا اللّاتَ إنّ اللّهَ مُهْلِكُهَا ... وَكَيْفَ يُنْصَرُ مَنْ هُوَ لَيْسَ يَنْتَصِرُ
إنّ الّتِي حُرّقَتْ بِالسّدّ فَاشْتَغَلَتْ ... وَلَمْ يُقَاتِلْ لَدَى أَحْجَارِهَا هَدَرُ
إنّ الرّسُولَ مَتَى يَنْزِلْ بِلَادَكُمْ ... يَظْعَنْ وَلَيْسَ بِهَا مِنْ أَهْلِهَا بَشَرُ
Sحَوْلَ شِعْرِ كَعْبٍ
وَذَكَرَ شِعْرَ كَعْبٍ وَفِيهِ وَكَمْ مِنْ مَعْشَرٍ أَلَبُوا عَلَيْنَا
أَيْ جَمَعُوا ، وَصَمِيمُ الْجِذْم مَفْعُولٌ بِأَلَبُوا ، وَفِيهِ يَصِفُ السّيُوفَ
كَأَمْثَالِ الْعَقَائِقِ أَخْلَصَتْهَا ... قُيُونُ الْهِنْدِ لَمْ تَضْرِبْ كَتِيفَا
الْعَقَائِقُ جَمْعُ عَقِيقَةٍ وَهُوَ الْبَرْقُ تَنْعَقُ عَنْهُ السّحَابُ . وَقَوْلُهُ لَمْ تَضْرِبْ كَتِيفًا ، جَمْعُ كَتِيفَةٍ وَهِيَ صَحِيفَةٌ مِنْ حَدِيدٍ صَغِيرَةٌ وَأَصْلُ الْكَتِيفِ الضّيّقُ مِنْ كُلّ شَيْءٍ . - شِعْرُ كِنَانَةَ 252 [ ص 253 ] وَذَكَرَ شِعْرَ كِنَانَةَ بْنِ عَبْدِ يَالَيْلَ الثّقَفِيّ ، وَفِيهِ وَكَانَتْ لَنَا أَطْوَاؤُهَا وَكُرُومُهَا
الْأَطْوَاءُ جَمْعُ طَوِيّ وَهِيَ الْبِئْرُ جُمِعَتْ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ تَوَهّمُوا سُقُوطَ يَاءَ فَعِيلٍ مِنْهَا إذْ كَانَتْ زَائِدَةً . وَفِيهَا : وَقَدْ جَرّبَتْنَا قَبْلَ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ
إنّمَا قَالَ هَذَا جَوَابًا لِلْأَنْصَارِ لِأَنّهُمْ بَنُو حَارِثَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ ، وَعَمْرٍو وَهُوَ مُزَيْقِيَاءُ وَعَامِرٌ هُوَ مَاءُ السّمَاءِ وَلَمْ يَرِدْ أَنّ الْأَنْصَار جَرّبَتْهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ وَإِنّمَا أَرَادَ إخْوَتَهُمْ وَهُمْ خُزَاعَةُ لِأَنّهُمْ بَنُو رَبِيعَةَ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَقَدْ كَانُوا حَارَبُوهُمْ عِنْدَ نُزُولِهِمْ مَكّةَ ، وَقَالَ الْبَكْرِيّ فِي مَعْنَى هَذَا الْبَيْتِ إنّمَا أَرَادَ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ ، وَكَانُوا مُجَاوِرِينَ لِثَقِيفٍ وَأُمّهُمْ عَمْرَةُ بِنْتُ عَامِرِ بْنِ الظّرِبِ الْعَدْوَانِيّ وَأُخْتُهَا زَيْنَبُ كَانَتْ تَحْتَ ثَقِيفٍ ، وَأَكْثَرُ قَبَائِلِ ثَقِيفٍ مِنْهَا ، وَكَانَتْ ثَقِيفٌ قَدْ أَنْزَلَتْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ فِي أَرْضِهِمْ لِيَعْمَلُوا فِيهَا ، وَيَكُونَ لَهُمْ النّصْفُ فِي الزّرْعِ وَالثّمَرِ ثُمّ إنّ ثَقِيفًا مَنَعَتْهُمْ ذَلِكَ وَتَحَصّنُوا مِنْهُمْ بِالْحَائِطِ الّذِي بَنَوْهُ حَوْلَ حَاضِرِهِمْ فَحَارَبَتْهُمْ بَنُو عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ ، فَلَمْ يَظْفَرُوا مِنْهُمْ بِشَيْءٍ وَجَلَوْا عَنْ تِلْكَ الْبِلَادِ وَلِذَلِكَ يَقُولُ كِنَانَةُ وَقَدْ جَرّبَتْنَا قَبْلَ عَمْرِو بْنِ عَامِرِ
[ ص 254 ] ذَكَرَهُ الْبَكْرِيّ فِي خَبَرٍ طَوِيلٍ لَخّصْته .

الطّرِيقُ إلَى الطّائِفِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَسَلَكَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى نَخْلَةَ الْيَمَانِيّةِ ، ثُمّ عَلَى قَرْنٍ ، ثُمّ عَلَى الْمُلَيْحِ ، ثُمّ عَلَى بُحْرَةِ الرّغَاءِ مِنْ لَهِيّةَ فَابْتَنَى بِهَا مَسْجِدًا فَصَلّى فِيهِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ : أَنّهُ أَقَادَ يَوْمَئِذٍ بِبُحْرَةِ الرّغَاءِ حِينَ نَزَلَهَا ، بِدَمٍ وَهُوَ أَوّلُ دَمٍ أُقِيدَ بِهِ فِي الْإِسْلَامِ رَجُلٌ مِنْ بَنِي لَيْثٍ قَتَلَ رَجُلًا مِنْ هُذَيْلٍ ، فَقَتَلَهُ بِهِ وَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ بِلِيّةَ بِحِصْنِ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ فَهُدِمَ ثُمّ سَلَكَ فِي طَرِيقٍ يُقَالُ لَهَا : الضّيّقَةُ ، فَلَمّا تَوَجّهَ فِيهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَأَلَ عَنْ اسْمِهَا ، فَقَالَ " مَا اسْم هَذِهِ الطّرِيقِ ؟ " فَقِيلَ لَهُ الضّيّقَةُ ، فَقَالَ " بَلْ هِيَ الْيُسْرَى " ، ثُمّ خَرَجَ مِنْهَا عَلَى نَخْبٍ حَتّى نَزَلَ تَحْتَ سِدْرَةٍ يُقَالُ لَهَا : الصّادِرَةُ ، قَرِيبًا مِنْ مَالِ رَجُلٍ مِنْ ثَقِيفٍ ، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إمّا أَنْ تُخْرِجَ وَإِمّا أَنْ نُخَرّبَ عَلَيْك حَائِطَك فَأَبَى أَنْ يُخْرِجَ فَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِإِخْرَابِهِ . ثُمّ مَضَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى نَزَلَ قَرِيبًا مِنْ الطّائِفِ ، فَضَرَبَ بِهِ عَسْكَرَهُ فَقُتِلَ بِهِ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ بِالنّبْلِ وَذَلِكَ أَنّ الْعَسْكَرَ اقْتَرَبَ مِنْ حَائِطِ الطّائِفِ ، فَكَانَتْ النّبْلُ تَنَالُهُمْ وَلَمْ يَقْدِرْ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنْ يَدْخُلُوا حَائِطَهُمْ أَغْلَقُوهُ دُونَهُمْ فَلَمّا أُصِيبَ أُولَئِكَ النّفَرُ مِنْ أَصْحَابِهِ بِالنّبْلِ وَضَعَ عَسْكَرَهُ عِنْدَ مَسْجِدِهِ الّذِي بِالطّائِفِ الْيَوْمَ فَحَاصَرَهُمْ بِضْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً . [ ص 255 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ سَبْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَمَعَهُ امْرَأَتَانِ مِنْ نِسَائِهِ إحْدَاهُمَا أُمّ سَلَمَةَ بِنْتُ أَبِي أُمَيّةَ ضَرَبَ لَهُمَا قُبّتَيْنِ ثُمّ صَلّى بَيْنَ الْقُبّتَيْنِ . ثُمّ أَقَامَ فَلَمّا أَسْلَمَتْ ثَقِيفٌ بَنَى عَلَى مُصَلّى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَمْرُو بْنُ أُمَيّةَ بْنِ وَهْبِ بْنِ مُعَتّبِ بْنِ مَالِكٍ مَسْجِدًا ، وَكَانَتْ فِي ذَلِكَ الْمَسْجِدِ سَارِيَةٌ فِيمَا يَزْعُمُونَ لَا تَطْلُعُ الشّمْسُ عَلَيْهَا يَوْمًا مِنْ الدّهْرِ إلّا سُمِعَ لَهَا نَقِيضٌ فَحَاصَرَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَاتَلَهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا ، وَتَرَامَوْا النّبْلَ .

أَوّلُ مَنْ رَمَى بِالْمَنْجَنِيقِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَرَمَاهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْمَنْجَنِيقِ . حَدّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَوّلُ مَنْ رَمَى فِي الْإِسْلَامِ بِالْمَنْجَنِيقِ رَمَى أَهْلَ الطّائِفِ .
يَوْمَ الشّدْخَةِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَتّى إذَا كَانَ يَوْمَ الشّدْخَةِ عِنْدَ جِدَارِ الطّائِفِ ، دَخَلَ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَحْتَ دَبّابَةٍ ثُمّ زَحَفُوا بِهَا إلَى جِدَارِ الطّائِفِ لِيُحَرّقُوهُ فَأَرْسَلَتْ عَلَيْهِمْ ثَقِيفٌ سِكَكَ الْحَدِيدِ مُحْمَاةً بِالنّارِ فَخَرَجُوا مِنْ تَحْتِهَا ، فَرَمَتْهُمْ ثَقِيفٌ بِالنّبْلِ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ رِجَالًا ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِقَطْعِ أَعْنَابِ ثَقِيفٍ ، فَوَقَعَ النّاسُ فِيهَا يَقْطَعُونَ .
Sأَوّلُ مَنْ رَمَى بِالْمَنْجَنِيقِ فِي الْجَاهِلِيّةِ وَالْإِسْلَامِ
[ ص 255 ] وَذَكَرَ حِصَارَ الطّائِفِ ، وَأَنّ أَوّلَ مَنْ رَمَى بِالْمَنْجَنِيقِ فِي الْإِسْلَامِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . قَالَ الْمُؤَلّفُ وَأَمّا فِي الْجَاهِلِيّةِ فَيُذْكَرُ أَنّ جَذِيمَةَ بْنَ مَالِكِ بْنِ فَهْمِ بْنِ غَنْمِ بْنِ دَوْسٍ ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ بِالْأَبْرَشِ أَوّلُ مَنْ رَمَى بِالْمَنْجَنِيقِ وَكَانَ مِنْ مُلُوكِ الطّوَائِفِ وَكَانَ يُرْعَفُ بِالْوَضّاحِ وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا : مُنَادِمُ الْفَرْقَدَيْنِ لِأَنّهُ رَبَأَ بِنَفْسِهِ عَنْ مُنَادَمَةِ النّاسِ فَكَانَ إذَا شَرِبَ نَادَمَ الْفَرْقَدَيْنِ عَجَبًا بِنَفْسِهِ ثُمّ نَادَمَ بَعْدَ ذَلِكَ مَالِكًا وَعُقَيْلًا اللّذَيْنِ يَقُولُ فِيهِمَا مُتَمّمُ [ بْنُ نُوَيْرَةَ يَرْثِي أَخَاهُ مَالِكًا ] :
وَكُنّا كَنَدْمَانَيْ جَذِيمَةَ حِقْبَةً ... مِنْ الدّهْرِ حَتّى قِيلَ لَنْ يَتَصَدّعَا
وَيُذْكَرُ أَيْضًا أَنّهُ أَوّلُ مَنْ أَوْقَدَ الشّمْعَ .

بَيْنَ أَبِي سُفْيَانَ وَثَقِيفٍ
[ ص 256 ] أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ إلَى الطّائِفِ ، فَنَادَيَا ثَقِيفًا : أَنْ أَمّنُونَا حَتّى نُكَلّمَكُمْ فَأَمّنُوهُمَا ، فَدَعَوَا نِسَاءً مِنْ نِسَاءٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَبَنِيّ كِنَانَةَ لَيَخْرُجُنّ إلَيْهِمَا ، وَهُمَا يَخَافَانِ عَلَيْهِنّ السّبَاءَ فَأَبَيْنَ مِنْهُنّ آمِنَةُ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ كَانَتْ عِنْدَ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ لَهُ مِنْهَا دَاوُدُ بْنُ عُرْوَةَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ إنّ أُمّ دَاوُدَ مَيْمُونَةُ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ ، وَكَانَتْ عِنْدَ أَبِي مُرّةَ بْنِ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ فَوَلَدَتْ لَهُ دَاوُدَ بْنَ أَبِي مُرّةَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَالْفِرَاسِيّةُ بِنْتُ سُوَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ ثَعْلَبَةَ ، لَهَا عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنِ قَارِبٍ ، وَالْفَقِيمِيّةُ أُمَيْمَةُ بِنْتُ النّاسِئِ أُمَيّة بْن قُلْع ؛ فَلَمّا أَبَيْنَ عَلَيْهِمَا ، قَالَ لَهُمَا ابْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ مَسْعُودٍ يَا أَبَا سُفْيَانَ وَيَا مُغِيرَةُ أَلَا أَدُلّكُمَا عَلَى خَيْرٍ مِمّا جِئْتُمَا لَهُ إنّ مَالَ بَنِي الْأَسْوَدِ بْنِ مَسْعُودٍ حَيْثُ قَدْ عَلِمْتُمَا ، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطّائِفِ ، نَازِلًا بِوَادٍ يُقَالُ لَهُ الْعَقِيقُ ، إنّهُ لَيْسَ بِالطّائِفِ مَالٌ أَبْعَدُ رِشَاءً وَلَا أَشَدّ مُؤْنَةً وَلَا أَبْعَدُ عِمَارَةً مِنْ مَالِ بَنِي الْأَسْوَدِ وَإِنّ مُحَمّدًا إنْ قَطَعَهُ لَمْ يُعْمَرْ أَبَدًا ، فَكَلّمَاهُ فَلْيَأْخُذْ لِنَفْسِهِ أَوْ لِيَدْعُهُ لِلّهِ وَلِلرّحِمِ فَإِنّ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ مِنْ الْقَرَابَةِ مَا لَا يُجْهَلُ فَزَعَمُوا أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَرَكَهُ لَهُمْ

تَفْسِيرُ أَبِي بَكْرٍ لِرُؤْيَا الرّسُولِ
[ ص 257 ] رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ الصّدّيقِ وَهُوَ مُحَاصِرٌ ثَقِيفًا : يَا أَبَا بَكْرٍ ، إنّي رَأَيْت أَنّي أُهْدِيَتْ لِي قُعْبَةٌ مَمْلُوءَةٌ زَيْدًا ، فَنَقَرَهَا دِيكٌ فَهَرَاقَ مَا فِيهَا . فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : مَا أَظُنّ أَنْ تُدْرِكَ مِنْهُمْ يَوْمَك هَذَا مَا تُرِيدُ . فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَنَا لَا أَرَى ذَلِكَ
سَبَبُ ارْتِحَالِ الْمُسْلِمِينَ
ثُمّ إنّ خُوَيْلَةَ بِنْتَ حَكِيمِ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ الْأَوْقَصِ السّلَمِيّةَ وَهِيَ امْرَأَةُ عُثْمَانَ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ أَعْطِنِي إنْ فَتَحَ اللّهُ عَلَيْك الطّائِفَ حُلِيّ بَادِيَةَ ابْنَةَ غَيْلَانَ بْنِ سَلَمَةَ أَوْ حُلِيّ الْفَارِعَةِ بِنْتِ عُقَيْلٍ وَكَانَتَا مِنْ أَحْلَى نِسَاءِ ثَقِيفٍ . [ ص 258 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لَهَا : وَإِنْ كَانَ لَمْ يُؤْذَنْ لِي فِي ثَقِيفٍ يَا خُوَيْلَةُ ؟ " فَخَرَجَتْ خُوَيْلَةُ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِعُمَرِ بْنِ الْخَطّابِ فَدَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ مَا حَدِيثٌ حَدّثَتْنِيهِ خُوَيْلَةُ زَعَمَتْ أَنّك قُلْته ؟ قَالَ " قَدْ قُلْته " ؛ قَالَ أَوَمَا أُذِنَ لَك فِيهِمْ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ " لَا " . قَالَ أَفَلَا أُؤَذّنُ بِالرّحِيلِ ؟ قَالَ " بَلَى " . قَالَ فَأَذّنَ عُمَرُ بِالرّحِيلِ
Sغَيْلَانُ بْنُ سَلَمَةَ
[ ص 256 ] وَذَكَرَ حُلِيّ بَادِيَةَ بِنْتِ غَيْلَانَ وَهُوَ غَيْلَانُ بْنُ سَلَمَةَ الثّقَفِيّ ، وَهُوَ الّذِي أَسْلَمَ ، وَعِنْدَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ فَأَمَرَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يُمْسِكَ أَرْبَعًا ، وَيُفَارِقَ سَائِرَهُنّ فَقَالَ فُقَهَاءُ الْحِجَازِ : يَخْتَارُ أَرْبَعًا ، وَقَالَ فُقَهَاءُ الْعِرَاقِ : بَلْ يُمْسِكُ الّتِي تَزَوّجَ أَوّلًا ، ثُمّ الّتِي تَلِيهَا إلَى الرّابِعَةِ وَاحْتَجّ فُقَهَاءُ الْحِجَازِ بِأَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَسْتَفْصِلْهُ أَيّتَهنّ تَزَوّجَ أَوّلَ وَتَرْكُهُ لِلِاسْتِفْصَالِ دَلِيلٌ عَلَى أَنّهُ مُخَيّرٌ حَتّى جَعَلَ الْأُصُولِيّونَ مِنْهُمْ هَذَا أَصْلًا مِنْ أُصُولِ الْعُمُومِ فَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي فِي كِتَابِ الْبُرْهَانِ تَرْكُ الِاسْتِفْصَالِ فِي حِكَايَاتِ الْأَحْوَالِ مَعَ الِاحْتِمَالِ يَتَنَزّلُ مَنْزِلَةَ الْعُمُومِ فِي الْمَقَالِ كَحَدِيثِ غَيْلَانَ . وَغَيْلَانُ هَذَا هُوَ الّذِي قُدّمَ عَلَى كِسْرَى ، فَسَأَلَهُ أَيّ وَلَدِهِ أَحَبّ إلَيْهِ ؟ فَقَالَ غَيْلَانُ الْغَائِبُ حَتّى يَقْدَمَ وَالْمَرِيضُ حَتّى يُفِيقَ وَالصّغِيرُ حَتّى يَكْبُرَ فَقَالَ لَهُ كِسْرَى : مَا غِذَاؤُك فِي بَلَدِك ؟ قَالَ الْخُبْزُ . قَالَ هَذَا عَقْلُ الْخُبْزِ تَفْضِيلًا لِعَقْلِهِ عَلَى عُقُولِ أَهْلِ الْوَرّ [ ص 257 ] وَنَسَبَ الْمُبَرّدُ هَذِهِ الْحِكَايَةَ مَعَ كِسْرَى إلَى هَوْذَةَ بْنِ عَلِيّ الْحَنَفِيّ ، وَالصّحِيحُ عِنْدَ الْإِخْبَارِيّينَ مَا قَدّمْنَاهُ وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو الْفَرَجِ .
بَادِيَةُ بِنْتُ غَيْلَانَ
وَأَمّا بَادِيَةُ ابْنَتُهُ فَقَدْ قِيلَ فِيهَا : بَادِنَةُ بِالنّونِ وَالصّحِيحُ بِالْيَاءِ وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ وَهِيَ الّتِي قَالَ فِيهَا هِيتٌ الْمُخَنّثُ لِعَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي أُمَيّةَ إنْ فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ الطّائِفَ ، فَإِنّي أَدُلّك عَلَى بَادِيَةَ بِنْتِ غَيْلَانَ فَإِنّهَا تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ فَسَمِعَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ " قَاتَلَك اللّهُ لَقَدْ أَمْعَنْت النّظَرَ وَقَالَ لَا يَدْخُلَنّ هَؤُلَاءِ عَلَيْكُنّ " ثُمّ نَفَاهُ إلَى رَوْضَةِ خَاخٍ فَقِيلَ إنّهُ يَمُوتُ بِهَا جُوعًا فَأَذِنَ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ الْمَدِينَةَ كُلّ جُمُعَةٍ يَسْأَلُ النّاسَ وَيُرْوَى فِي الْحَدِيثِ زِيَادَةٌ لَمْ تَقَعْ فِي الصّحِيحِ بَعْدَ قَوْلِهِ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ مَعَ ثَغْرٍ كَالْأُقْحُوَانِ إنْ قَامَتْ تَثَنّتْ وَإِنْ قَعَدَتْ تَبَنّتْ وَإِنْ تَكَلّمَتْ تَغَنّتْ يَعْنِي مِنْ الْغُنّةِ وَالْأَصْلُ تَغَنّنَتْ فَقُلِبَتْ إحْدَى النّونَيْنِ يَاءً وَهِيَ هَيْفَاءُ شَمُوعٌ نَجْلَاءُ كَمَا قَالَ قَيْسُ بْنُ الْخَطِيمِ
بَيْضَاءُ فَرْعَاءٌ يُسْتَضَاءُ بِهَا ... كَأَنّهَا خُوطُ بَانَةٍ قَصِفُ
تَنْتَرِقُ الطّرْفَ وَهِيَ لَاهِيَةٌ ... كَأَنّمَا شَفّ وَجْهَهَا نُزَفُ
تَنَامُ عَنْ كِبْرِ شَأْنِهَا فَإِذَا قَا ... مَتْ رُوَيْدًا تَكَادُ تَنْغَرِفُ
[ ص 258 ] دُرَيْدٍ أَعْنِي قَوْلَهُ تُغْتَرَقُ فَقَالَ هُوَ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ حَتّى هُجّيَ بِذَلِكَ فَقِيلَ
أَلَسْت قِدْمًا جَعَلْت تَعْتَرِقُ الْ ... طَرْفَ بِجَهْلِ مَكَانٍ تَغْتَرِقُ
وَقُلْت : كَانَ الْخِبَاءُ مِنْ أَدَمٍ ... وَهُوَ حِبَاءٌ يُهْدَى وَيُصْطَدَقُ
وَكَانَ صَحّفَ أَيْضًا قَوْلَ مُهَلْهَلٍ فَقَالَ فِيهِ الْخِبَاءُ وَبَادِيَةُ هَذِهِ كَانَتْ تَحْتَ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ، فَوَلَدَتْ لَهُ جُوَيْرِيَةَ وَهِيَ امْرَأَةُ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ .
الْمُخَنّثُونَ الّذِينَ كَانُوا بِالْمَدِينَةِ
وَكَانَ الْمُخَنّثُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَرْبَعَةً هِيتٌ هَذَا ، وَهَرِمٌ وَمَاتِعٌ وَإِنْهٌ وَلَمْ يَكُونُوا يَزْنُونَ بِالْفَاحِشَةِ الْكُبْرَى ، وَإِنّمَا كَانَ تَأْنِيثُهُمْ لِينًا فِي الْقَوْلِ وَخِضَابًا فِي الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ كَخِضَابِ النّسَاءِ وَلَعِبًا كَلَعِبِهِنّ وَرُبّمَا لَعِبَ بَعْضُهُمْ بِالْكُرّجِ وَفِي مَرَاسِيلِ أَبِي دَاوُدَ أَنّ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ رَأَى لَاعِبًا يَلْعَبُ بِالْكُرّجِ فَقَالَ " لَوْلَا أَنّي رَأَيْت هَذَا يَلْعَبُ بِهِ عَلَى عَهْدِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لَنَفَيْته مِنْ الْمَدِينَةِ " .

عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ
فَلَمّا اسْتَقَلّ النّاسُ نَادَى سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ أُسَيْدِ بْنِ أَبِي عَمْرِو بْنِ عَلّاجٍ أَلَا إنّ الْحَيّ مُقِيمٌ . قَالَ يَقُولُ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ : أَجَلْ وَاَللّهِ مُجِدّةً كِرَامًا ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَاتَلَك اللّهُ يَا عُيَيْنَةُ ، أَتَمْدَحُ الْمُشْرِكِينَ بِالِامْتِنَاعِ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَدْ جِئْت تَنْصُرُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ إنّي وَاَللّهِ مَا جِئْت لِأُقَاتِلَ ثَقِيفًا مَعَكُمْ وَلَكِنّي أَرَدْت أَنْ يَفْتَحَ [ ص 259 ] الطّائِفَ ، فَأُصِيبَ مِنْ ثَقِيفٍ جَارِيَةً أَتّطِئُهَا ، لَعَلّهَا تَلِدُ لِي رَجُلًا ، فَإِنّ ثَقِيفًا قَوْمٌ مَنَاكِيرُ . وَنَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي إقَامَتِهِ مِمّنْ كَانَ مُحَاصَرًا بِالطّائِفِ عَبِيدٌ ، فَأَسْلَمُوا ، فَأَعْتَقَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
Sعُيَيْنَةُ
وَذَكَرَ عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ ، وَاسْمُهُ حُذَيْفَةُ وَإِنّمَا قِيلَ لَهُ عُيَيْنَةُ لِشَتْرٍ كَانَ بِعَيْنِهِ .

الْعَبِيدُ الّذِينَ نَزَلُوا مِنْ حِصْنِ الطّائِفِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي مَنْ لَا أَتّهِمُ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مُكَدّمٍ عَنْ رِجَالٍ مِنْ ثَقِيفٍ ، قَالُوا : لَمّا أَسْلَمَ أَهْلُ الطّائِفِ تَكَلّمَ نَفَرٌ مِنْهُمْ فِي أُولَئِكَ الْعَبِيدِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا ، أُولَئِكَ عُتَقَاءُ اللّهِ وَكَانَ مِمّنْ تَكَلّمَ فِيهِمْ الْحَارِثُ بْنُ كَلَدَةَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَقَدْ سَمّى ابْنُ إسْحَاقَ مَنْ نَزَلَ مِنْ أُولَئِكَ الْعَبِيدِ .
Sالْعَبِيدُ الّذِينَ نَزَلُوا مِنْ حِصْنِ الطّائِفِ
[ ص 259 ] وَذَكَرَ الْعَبِيدَ الّذِينَ نَزَلُوا مِنْ الطّائِفِ ، وَلَمْ يُسَمّهِمْ وَمِنْهُمْ أَبُو بَكْرَةَ نُفَيْعُ بْنُ مَسْرُوحٍ تَدَلّى مِنْ سُوَرِ الطّائِفِ عَلَى بَكْرَةٍ فَكُنّيَ أَبَا بَكْرَةَ وَهُوَ مِنْ أَفَاضِلِ الصّحَابَةِ وَمَاتَ بِالْبَصْرَةِ وَمِنْهُمْ الْأَزْرَقُ وَكَانَ عَبْدًا لِلْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ الْمُتَطَبّبُ وَهُوَ زَوْجُ سُمَيّةَ مَوْلَاةِ الْحَارِثِ أُمّ زِيَادِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ وَأُمّ سَلَمَةَ بْنِ الْأَزْرَقِ وَبَنُو سَلَمَةَ بْنُ الْأَزْرَقِ وَلَهُمْ صِيتٌ وَذِكْرٌ بِالْمَدِينَةِ وَقَدْ انْتَسَبُوا إلَى غَسّانَ ، وَغَلِطَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي الْمَعَارِفِ فَجَعَلَ سُمَيّةَ هَذِهِ الْمَذْكُورَةَ أُمّ عَمّارِ بْنِ يَاسِرٍ ، وَجَعَلَ سَلَمَةَ بْنَ الْأَزْرَقِ أَخَا عَمّارِ بْنِ يَاسِرٍ لِأُمّهِ وَقَدْ ذَكَرَ أَنّ الْأَزْرَقَ خَرَجَ مِنْ الطّائِفِ ، فَأَسْلَمَ وَسُمَيّةُ قَدْ كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ بِزَمَانٍ قَتَلَهَا أَبُو جَهْلٍ وَهِيَ إذْ ذَاكَ تَحْتَ يَاسِرٍ أَبِي عَمّارٍ كَمَا تَقَدّمَ فِي بَابِ الْمَبْعَثِ فَتَبَيّنَ غَلَطُ ابْنِ قُتَيْبَةَ وَوَهْمُهُ وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو عُمَرَ النّمِرِيّ كَمَا قُلْت . وَمِنْ أُولَئِكَ الْعَبِيدِ الْمُنْبَعِثُ وَكَانَ اسْمُهُ الْمُضْطَجِعُ فَبَدّلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اسْمَهُ وَكَانَ عَبْدًا لِعُثْمَانِ بْنِ عَامِرِ بْنِ مُعَتّبٍ . وَمِنْهُمْ يُحَنّسُ النّبّالُ وَكَانَ عَبْدًا لِبَعْضِ آلِ يَسَارٍ . [ ص 260 ] الْفُرَاتِ بْنِ زَيْدِ بْنِ وَرْدَان ، وَكَانَ لِعَبْدِ اللّهِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ خَرَشَةَ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ جَابِرٍ وَكَانَ أَيْضًا لِخَرَشَةَ وَجَعَلَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَلَاءَ هَؤُلَاءِ الْعَبِيدِ لِسَادَتِهِمْ حِينَ أَسْلَمُوا . كُلّ هَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ ابْنِ هِشَامٍ . وَذَكَرَ أَبُو عُمَرَ فِيهِمْ نَافِعَ بْنَ مَسْرُوحٍ ، وَهُوَ أَخُو نُفَيْعِ أَبِي بَكْرَةَ وَيُقَالُ فِيهِ وَفِي أَخِيهِ ابْنِ الْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ . وَذَكَرَ ابْنُ سَلَامٍ فِيهِمْ نَافِعًا مَوْلَى غَيْلَانَ بْنِ سَلَمَةَ الثّقَفِيّ ، وَذَكَرَ أَنّ وَلَاءَهُ رَجَعَ إلَى غَيْلَانَ حِينَ أَسْلَمَ وَأَحْسَبُهُ وَهْمًا مِنْ ابْنِ سَلَامٍ أَوْ مِمّنْ رَوَاهُ عَنْهُ وَإِنّمَا الْمَعْرُوفُ نَافِعُ بْنُ غَيْلَانَ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .

شِعْرُ الضّحّاكِ وَمَوْضُوعُهُ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : [ ص 260 ] وَقَدْ كَانَتْ ثَقِيفٌ أَصَابَتْ أَهْلًا لِمَرْوَانَ بْنِ قَيْسٍ الدّوْسِيّ وَكَانَ قَدْ أَسْلَمَ ، وَظَاهَرَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى ثَقِيفٍ ، فَزَعَمَتْ ثَقِيفٌ ، وَهُوَ الّذِي تَزْعُمُ بِهِ ثَقِيفٌ أَنّهَا مِنْ قَيْسٍ : أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لِمَرْوَانَ بْنِ قَيْسٍ : خُذْ يَا مَرْوَانُ بِأَهْلِك أَوّلَ رَجُلٍ مِنْ قَيْسٍ تَلْقَاهُ فَلَقِيَ أُبَيّ بْنَ مَالِكٍ الْقُشَيْرِيّ ، فَأَخَذَهُ حَتّى يُؤَدّوا إلَيْهِ أَهْلَهُ فَقَامَ فِي ذَلِكَ الضّحّاكُ بْنُ سُفْيَانَ الْكِلَابِيّ ، فَكَلّمَ ثَقِيفًا حَتّى أَرْسَلُوا أَهْلَ مَرْوَانَ وَأَطْلَقَ لَهُمْ أُبَيّ بْنَ مَالِكٍ فَقَالَ الضّحّاكُ بْنُ سُفْيَانَ فِي شَيْءٍ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُبَيّ بْنِ مَالِكٍ
أَتَنْسَى بَلَائِي يَا أُبَيّ بْنَ مَالِكٍ ... غَدَاةَ الرّسُولُ مُعْرِضٌ عَنْك أَشْوَسُ
يَقُودُك مَرْوَانُ بْنُ قَيْسٍ بِحَبْلِهِ ... ذَلِيلًا كَمَا قِيدَ الذّلُولُ الْمُخَيّسُ
فَعَادَتْ عَلَيْك مِنْ ثَقِيفٍ عِصَابَةٌ ... مَتَى يَأْتِهِمْ مُسْتَقْبِسُ الشّرّ يُقْبَسُوا
فَكَانُوا هُمْ الْمَوْلَى فَعَادَتْ حُلُومُهُمْ ... عَلَيْك وَقَدْ كَادَتْ بِك النّفْسُ تَيْأَسُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : " يُقْبَسُوا " عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ .

الشّهَدَاءُ فِي يَوْمِ الطّائِفِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : هَذِهِ تَسْمِيَةُ مَنْ اُسْتُشْهِدَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمَ الطّائِفِ : مِنْ قُرَيْشٍ ، ثُمّ مِنْ بَنِي أُمَيّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ : سَعِيدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ أُمَيّةَ ، وَعُرْفُطَةُ بْنُ جَنّابٍ حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ الْأَسَدِ بْنِ الْغَوْثِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ ابْنُ حُبَابٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَمِنْ بَنِي تَيْمِ بْنِ مُرّةَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الصّدّيقُ ، رُمِيَ بِسَهْمٍ فَمَاتَ مِنْهُ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . [ ص 261 ] بَنِي مَخْزُومٍ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، مِنْ رَمْيَةٍ رُمِيَهَا يَوْمَئِذٍ . وَمِنْ بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ : عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ ، حَلِيفٌ لَهُمْ . وَمِنْ بَنِي سَهْمِ بْنِ عَمْرٍو : السّائِبُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيّ ، وَأَخُوهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الْحَارِثِ . وَمِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ لَيْثٍ جُلَيْحَةُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ . وَاسْتُشْهِدَ مِنْ الْأَنْصَارِ : مِنْ بَنِي سَلِمَةَ ثَابِتُ بْنُ الْجَذَعِ . وَمِنْ بَنِي مَازِنِ بْنِ النّجّارِ الْحَارِثُ بْنُ سَهْلِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ . وَمِنْ بَنِي سَاعِدَةَ الْمُنْذِرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ . وَمِنْ الْأَوْسِ : رُقَيْمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ لَوْذَان بْنِ مُعَاوِيَةَ . فَجَمِيعُ مَنْ اُسْتُشْهِدَ بِالطّائِفِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا ، سَبْعَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ ، وَأَرْبَعَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ ، وَرَجُلٌ مِنْ بَنِي لَيْثٍ .

قَصِيدَةُ بُجَيْرٍ فِي حُنَيْنٍ وَالطّائِفِ
فَلَمّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ الطّائِفِ بَعْدَ الْقِتَالِ وَالْحِصَارِ قَالَ بُجَيْرُ بْنُ زُهَيْرِ بْن أَبِي سُلْمَى يَذْكُرُ حُنَيْنًا وَالطّائِفَ [ ص 262 ]
كَانَتْ عُلَالَةُ يَوْمَ بَطْنِ حُنَيْنٍ ... وَغَدَاةَ أَوْطَاسٍ وَيَوْمَ الْأَبْرَقِ
جَمَعَتْ بِإِغْوَاءٍ هَوَازِنُ جَمْعَهَا ... فَتَبَدّوْا كَالطّائِرِ الْمُتَمَزّقِ
لَمْ يَمْنَعُوا مِنّا مَقَامًا وَاحِدًا ... إلّا جِدَارَهُمْ وَبَطْنَ الْخَنْدَقِ
وَلَقَدْ تَعَرّضْنَا لِكَيْمَا يَخْرُجُوا ... فَتَحَصّنُوا مِنّا بِبَابٍ مُغْلَقِ
تَرْتَدّ حَسْرَانَا إلَى رَجْرَاجَةٍ ... شَهْبَاءَ تَلْمَعُ بِالْمَنَايَا فَيْلَقِ
مَلْمُومَةٌ خَضْرَاءَ لَوْ قَذَفُوا بِهَا ... حَضَنًا لَظَلّ كَأَنّهُ لَمْ يُخْلَقْ
مَشْيَ الضّرَاءِ عَلَى الْهَرَاسِ كَأَنّنَا ... قُدُرٌ تَفَرّقُ فِي الْقِيَادِ وَتَلْتَقِي
فِي كُلّ سَابِغَةٍ إذَا مَا اسْتَحْصَنَتْ ... كَالنّهْيِ هَبّتْ رِيحُهُ الْمُتَرَقْرِقِ
جُدُلٌ تَمَسّ فُضُولَهُنّ نِعَالُنَا ... مِنْ نَسْجِ دَاوُدَ وَآلِ مُحَرّقِ
Sمِنْ نَسَبِ بُجَيْرِ بْنِ زُهَيْرٍ
[ ص 261 ] وَذَكَرَ شِعْرَ بُجَيْرِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى ، وَاسْمُ أَبِي سُلْمَى : رَبِيعَةُ ، وَهُوَ مِنْ بَنِي لَاطِمِ بْنِ عُثْمَانَ وَهِيَ مُزَيْنَةُ ، عُرِفُوا بِأُمّهِمْ وَقَدْ قَدّمْنَا أَنّهَا بِنْتُ كَلْبِ بْنِ وَبَرَةَ وَأَنّ أُخْتَهَا الْحَوْأَبُ وَبِهَا سُمّيَ مَاءُ الْحَوْأَبِ وَعُثْمَانُ هُوَ ابْنُ أَدّ بْنِ طَابِخَةَ .
حَوْلَ شِعْرِ بُجَيْرٍ
وَقَوْلُهُ كَانَتْ عُلَالَةُ يَوْمَ بَطْنِ حُنَيْنٍ
هَذَا مِنْ الْإِقْوَاءِ الّذِي تَقَدّمَ ذِكْرُهُ وَهُوَ أَنْ يُنْقِصَ حَرْفًا مِنْ آخِرِ الْقَسِيمِ الْأَوّلِ مِنْ الْكَامِلِ وَهُوَ الّذِي كَانَ الْأَصْمَعِيّ يُسَمّيهِ الْمُقْعَدُ . [ ص 262 ] كَانَتْ عُلَالَةَ . الْعُلَالَةُ جَرْيٌ بَعْدَ جَرْيٍ أَوْ قِتَالٌ بَعْدَ قِتَالٍ يُرِيدُ أَنّ هَوَازِنَ جَمَعَتْ جَمْعَهَا عُلَالَةً فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَحُذِفَ التّنْوِينُ مِنْ عُلَالَةَ ضَرُورَةً وَأُضْمِرَ فِي كَانَتْ اسْمُهَا ، وَهُوَ الْقِصّةُ وَإِنْ كَانَتْ الرّوَايَةُ بِخَفْضِ يَوْمٍ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ الْتِزَامِ الضّرُورَةِ الْقَبِيحَةِ بِالنّصْبِ وَلَكِنّ أَلْفِيّتَهُ فِي النّسْخَةِ الْمُقَيّدَةِ وَإِذَا كَانَ الْيَوْمُ مَخْفُوضًا بِالْإِضَافَةِ جَازَ فِي عُلَالَةَ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى خَبَرِ كَانَ فَيَكُونُ اسْمُهَا عَائِدًا عَلَى شَيْءٍ تَقَدّمَ ذِكْرُهُ وَيَجُوزُ الرّفْعُ فِي عُلَالَةَ مَعَ إضَافَتِهَا إلَى يَوْمٍ عَلَى أَنْ تَكُونَ كَانَ تَامّةً مُكْتَفِيَةً بِاسْمٍ وَاحِدٍ وَيَجُوزُ أَنْ تَجْعَلَهَا اسْمًا عَلَمًا لِلْمَصْدَرِ مِثْلَ بَرّةَ وَفَجَارِ وَيُنْصَبُ يَوْمٌ عَلَى الظّرْفِ كَمَا تَقَيّدَ فِي النّسْخَةِ . وَقَوْلُهُ تَرْتَدّ حَسْرَانَا ، جَمْعُ : حَسِيرٍ وَهُوَ الْكَلِيلُ . وَالرّجْرَاجَةُ الْكَتِيبَةُ الضّخْمَةُ مِنْ الرّجْرَجَةِ وَهِيَ شِدّةُ الْحَرَكَةِ وَالِاضْطِرَابِ . وَفَيْلَقٌ مِنْ الْفِلْقِ وَهِيَ الدّاهِيَةُ . وَالْهَرَاسُ شَوْكٌ مَعْرُوفٌ وَالضّرَاءُ الْكِلَابُ وَهِيَ إذَا مَشَتْ فِي الْهَرَاسِ ابْتَغَتْ لِأَيْدِيهَا مَوْضِعًا ، ثُمّ تَضَعُ أَرْجُلَهَا فِي مَوْضِعِ أَيْدِيهَا ، شَبّهَ الْخَيْلَ بِهَا . وَالْفُدُرُ الْوُعُولُ الْمُسِنّةُ . وَالنّهِيءُ الْغَدِيرُ ، سُمّيَ بِذَلِكَ لِأَنّهُ مَاءٌ نَهَاهُ مَا ارْتَفَعَ مِنْ الْأَرْضِ عَنْ السّيَلَانِ فَوَقَفَ . وَقَوْلُهُ جُدُلٌ جَمْعُ جَدْلَاءَ وَهِيَ الشّدِيدَةُ الْفَتْلِ وَمَنْ رَوَاهُ جَدْلٌ فَمَعْنَاهُ ذَاتُ جَدْلٍ . وَقَوْلُهُ وَآل مُحَرّقِ يَعْنِي عُمَرَ بْنِ هِنْدَ مَلِكَ الْحِيرَةِ ، وَقَدْ تَقَدّمَ فِي أَوّلِ الْكِتَابِ سَبَبُ تَسْمِيَتِهِ بِمُحَرّقٍ وَفِي زَمَانِهِ وُلِدَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيمَا ذَكَرُوا - وَاَللّهُ أَعْلَمُ .

أَمْرُ أَمْوَالِ هَوَازِنَ وَسَبَايَاهَا وَعَطَايَا الْمُؤَلّفَةِ قُلُوبُهُمْ
مِنْهَا وَإِنْعَامُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيهَا
[ ص 263 ] خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ انْصَرَفَ عَنْ الطّائِفِ عَلَى دَحْنَا حَتّى نَزَلَ الْجِعْرَانَةَ فِيمَنْ مَعَهُ مِنْ النّاسِ وَمَعَهُ مِنْ هَوَازِنَ سَبْيٌ كَثِيرٌ وَقَدْ قَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يَوْمَ ظَعَنَ عَنْ ثَقِيفٍ : يَا رَسُولَ اللّهِ اُدْعُ عَلَيْهِمْ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اللّهُمّ اهْدِ ثَقِيفًا وَأْتِ بِهِمْ . ثُمّ أَتَاهُ وَفْدُ هَوَازِنَ بِالْجِعْرَانَةِ وَكَانَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ سَبْيِ هَوَازِنَ سِتّةُ آلَافٍ مِنْ الذّرَارِيّ وَالنّسَاءِ وَمِنْ الْإِبِلِ وَالشّاءِ مَا لَا يُدْرَى مَا عِدّتُهُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَمْرٍو : [ ص 264 ] أَنّ وَفْدَ هَوَازِنَ أَتَوْا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَدْ أَسْلَمُوا ، فَقَالُوا : يَا رَسُولُ إنّا أَصْلٌ وَعَشِيرَةٌ ، وَقَدْ أَصَابَنَا مِنْ الْبَلَاءِ مَا لَمْ يَخْفَ عَلَيْك ، فَامْنُنْ عَلَيْنَا ، مَنّ اللّهُ عَلَيْك . قَالَ وَقَامَ رَجُلٌ مِنْ هَوَازِنَ ، ثُمّ أَحَدُ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ ، يُقَالُ لَهُ زُهَيْرٌ يُكَنّى أَبَا صُرَدٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّمَا فِي الْحَظَائِرِ عَمّاتُك وَخَالَاتُك وَحَوَاضِنُك اللّاتِي كُنّ يَكْفُلْنَك ، وَلَوْ أَنّا مَلَحْنَا لِلْحَارِثِ بْنِ أَبِي شَمِرٍ ، أَوْ النّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ ، ثُمّ نَزَلَ مِنّا بِمِثْلِ الّذِي نَزَلْت بِهِ رَجَوْنَا عَطْفَهُ وَعَائِدَتَهُ عَلَيْنَا ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْمَكْفُولِينَ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُرْوَى : وَلَوْ أَنّا مَالَحْنَا الْحَارِثَ بْنَ أَبِي شَمِرٍ ، أَوْ النّعْمَانَ بْنَ الْمُنْذِرِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَمْرٍو ، قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بْنَاؤُكُمْ وَنِسَاؤُكُمْ أَحَبّ إلَيْكُمْ أَمْ أَمْوَالُكُمْ ؟ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ خَيّرْتنَا بَيْنَ أَمْوَالِنَا وَأَحْسَابِنَا ، بَلْ تَرُدّ إلَيْنَا نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا ، فَهُوَ أَحَبّ إلَيْنَا ، فَقَالَ لَهُمْ أَمّا مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ وَإِذَا مَا أَنَا صَلّيْت الظّهْرَ بِالنّاسِ فَقُومُوا فَقُولُوا : إنّا نَسْتَشْفِعُ بِرَسُولِ اللّهِ إلَى الْمُسْلِمِينَ وَبِالْمُسْلِمِينَ إلَى رَسُولِ اللّهِ فِي أَبْنَائِنَا وَنِسَائِنَا ، فَسَأُعْطِيكُمْ عِنْدَ ذَلِكَ وَأَسْأَلُ لَكُمْ فَلَمّا صَلّى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالنّاسِ الظّهْرَ قَامُوا فَتَكَلّمُوا بِاَلّذِي أَمَرَهُمْ بِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَمّا مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ . فَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ : وَمَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . وَقَالَتْ الْأَنْصَارُ : وَمَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . فَقَالَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ أَمّا أَنَا وَبَنُو تَمِيمٍ فَلَا . وَقَالَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ أَمّا أَنَا وَبَنُو فَزَارَةَ فَلَا . وَقَالَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ أَمّا أَنَا وَبَنُو سُلَيْمٍ فَلَا فَقَالَتْ بَنُو سُلَيْمٍ : بَلَى ، مَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . قَالَ يَقُولُ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ لِبَنِي سُلَيْمٍ وَهّنْتُمُونِي . [ ص 265 ] فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمّا مَنْ تَمَسّكَ مِنْكُمْ بِحَقّهِ مِنْ هَذَا السّبْيِ فَلَهُ بِكُلّ إنْسَانٍ سِتّ فَرَائِضَ مِنْ أَوّلِ سَبْيٍ أُصِيبُهُ فَرُدّوا إلَى النّاسِ أَبْنَاءَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ .
Sدَحْنَا وَمَسْحُ ظَهْرِ آدَمَ
[ ص 263 ] وَذَكَرَ انْصِرَافَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ الطّائِفِ عَلَى دَحْنَا . وَدَحْنَا هَذِهِ هِيَ الّتِي خُلِقَ مِنْ تُرْبِهَا آدَمُ صَلّى اللّهُ عَلَى نَبِيّنَا وَعَلَيْهِ وَفِي الْحَدِيثِ إنّ اللّهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ دَحْنَا ، وَمَسَحَ ظَهْرَهُ بِنُعْمَانِ الْأَرَاكِ رَوَاهُ ابْنُ عَبّاسٍ ، وَكَانَ مَسْحُ ظَهْرِ آدَمَ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ الْجَنّةِ بِاتّفَاقٍ مِنْ الرّوَايَاتِ وَاخْتَلَفَتْ الرّوَايَةُ فِي مَسْحِ ظَهْرِهِ فَرُوِيَ مَا تَقَدّمَ وَهُوَ أَصَحّ ، وَرُوِيَ أَنّ ذَلِكَ كَانَ فِي سَمَاءِ الدّنْيَا قَبْلَ هُبُوطِهِ إلَى الْأَرْضِ وَهُوَ قَوْلُ السّدّيّ ، وَكِلْتَا الرّوَايَتَيْنِ ذَكَرَهُمَا الطّبَرِيّ . وَقَوْلُهُ حَتّى نَزَلَ الْجِعْرَانَةَ ، بِسُكُونِ الْعَيْنِ فِيهَا هُوَ أَصَحّ الرّوَايَتَيْنِ وَقَدْ ذَكَرَ الْخَطّابِيّ أَنّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ يُشَدّدُونَ الرّاءَ وَقَدْ ذُكِرَ أَنّ الْمَرْأَةَ الّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوّةٍ كَانَتْ تُلَقّبُ بِالْجِعْرَانَةِ وَاسْمُهَا : رَيْطَةُ بِنْتُ سَعْدٍ وَأَنّ الْمَوْضِعَ يُسَمّى بِهَا ، وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
حَوْلَ قَوْلِ زُهَيْرٍ أَبِي صُرَدٍ
فَصْلٌ وَذَكَرَ زُهَيْرًا أَبَا صُرَدٍ وَقَوْلُهُ لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَوْ أَنّا مَلَحْنَا لِلْحَارِثِ بْنِ أَبِي شَمِرٍ ، [ ص 264 ] أَرْضَعْنَا ، وَالْمِلْحُ الرّضَاعُ قَالَ الشّاعِرُ
فَلَا يُبْعِدُ اللّهُ رَبّ الْعِبَا ... دِ وَالْمِلْحُ مَا وَلَدَتْ خَالِدَهْ
هُمْ الْمُطْعِمُو الضّيْفَ شَحْمَ السّنَا ... مِ وَالْكَاسِرُ وَ اللّيْلَةِ الْبَارِدَهْ
وَهُمْ يَكْسِرُونَ صُدُورَ الْقَنَاِ ... بِالْخَيْلِ تُطْرَدُ أَوْ طَارِدَهْ
فَإِنْ يَكُنْ الْمَوْتُ أَفْنَاهُمْ ... فَلِلْمَوْتِ مَا تَلِدُ الْوَالِدَهْ
وَأَمّا زُهَيْرٌ الّذِي ذَكَرَهُ فَهُوَ ابْنُ صُرَدٍ يُكَنّى أَبَا صُرَدٍ وَقِيلَ أَبَا جَرْوَلَ ، وَكَانَ مِنْ رُؤَسَاءِ بَنِي جُشَمٍ وَلَمْ يَذْكُرْ ابْنُ إسْحَاقَ شِعْرَهُ فِي النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ذَلِكَ الْيَوْمَ فِي رِوَايَةِ الْبَكّائِيّ وَذَكَرَهُ فِي رِوَايَةِ إبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ عَنْهُ وَهُوَ [ ص 265 ]
أَمْنِنْ عَلَيْنَا رَسُولَ اللّهِ فِي كَرَمٍ ... فَإِنّك الْمَرْءُ نَرْجُوهُ وَنَنْتَظِرُ
اُمْنُنْ عَلَى بَيْضَةٍ قَدْ عَاقَهَا قَدَرٌ ... مُمَزّقٌ شَمْلَهَا فِي دَهْرِهَا غِيَرُ
يَا خَيْرَ طِفْلٍ وَمَوْلُودٍ وَمُنْتَخَبٍ ... فِي الْعَالَمِينَ إذَا مَا حُصّلَ الْبَشَرُ
إنْ لَمْ تُدَارِكْهُمْ نَعْمَاءُ تَنْشُرُهَا ... يَا أَرْجَحَ النّاسِ حِلْمًا حِينَ يُخْتَبَرُ
اُمْنُنْ عَلَى نِسْوَةٍ قَدْ كُنْت تَرْضَعُهَا ... إذْ فُوك تَمْلَأُهُ مِنْ مَحْضِهَا الدّرَرُ
إذْ كُنْت طِفْلًا صَغِيرًا كُنْت تَرْضَعُهَا ... وَإِذْ يُزَيّنْكَ مَا تَأْتِي وَمَا تَدَرُ
لَا تَجْعَلَنّا كَمَنْ شَالَتْ نَعَامَتُهُ ... وَاسْتَبْقِ مِنّا مِنْهُ مَعْشَرٌ زُهْرُ
يَا خَيْرَ مَنْ مَرَحَتْ كُمْتُ الْجِيَادِ بِهِ ... عِنْدَ الْهِيَاجِ إذَا مَا اسْتَوْقَدَ الشّرَرُ
إنّا لَنَشْكُرُ آلَاءً وَإِنْ كُفِرَتْ ... وَعِنْدَنَا بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ مُدّخَرُ
إنّا نُؤَمّلُ عَفْوًا مِنْك تَلْبَسُهُ ... هَذِي الْبَرِيّةِ إذْ تَعْفُو وَتَنْتَصِرُ
فَاغْفِرْ عَفَا اللّهُ عَمّا أَنْتَ رَاهِبُهُ ... يَوْمَ الْقِيَامَةِ إذْ يُهْدَى لَك الظّفَرُ
مِنْ أَحْكَامِ السّبَايَا
فَصْلٌ وَذَكَرَ رَدّ السّبَايَا إلَى هَوَازِنَ ، وَأَنّهُ مَنْ لَمْ تَطِبْ نَفْسُهُ بِالرّدّ عَوّضَهُ مِمّا كَانَ بِيَدِهِ وَاسْتَطَابَ نُفُوسَ الْبَاقِينَ وَذَلِكَ أَنّ الْمَقَاسِمَ كَانَتْ قَدْ وَقَعَتْ فِيهِمْ وَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَمُنّ عَلَى الْأَسْرَى بَعْدَ الْقَسْمِ وَيَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ قَبْلَ الْمَقَاسِمِ كَمَا فَعَلَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِأَهْلِ خَيْبَرَ حِينَ مَنّ عَلَيْهِمْ وَتَرَكَهُمْ عُمّالًا لِلْمُسْلِمِينَ فِي أَرْضِهِمْ الّتِي افْتَتَحُوهَا عَنْوَةً كَذَلِكَ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ ، قَالَ وَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَمُنّ عَلَيْهِمْ فَيَرُدّهُمْ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَلَكِنْ عَلَى أَنْ يُؤَدّوا الْجِزْيَةَ وَيَكُونُوا تَحْتَ حُكْمِ الْمُسْلِمِينَ قَالَ وَالْإِمَامُ مُخَيّرٌ فِي الْأَسْرَى بَيْنَ الْقَتْلِ وَالْفِدَاءِ وَالْمَنّ وَالِاسْتِرْقَاقِ وَالْفِدَاءِ بِالنّفُوسِ لَا بِالْمَالِ كَذَلِكَ قَالَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ هَذَا فِي الرّجَالِ وَأَمّا الذّرَارِيّ وَالنّسَاءُ فَلَيْسَ إلّا الِاسْتِرْقَاقُ أَوْ الْمُفَادَاةُ بِالنّفُوسِ دُونَ الْمَالِ كَمَا تَقَدّمَ .

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي أَبُو وَجْزَةَ يَزِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ السّعْدِيّ : أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَعْطَى عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ جَارِيَةً يُقَالُ لَهَا : رَيْطَةُ بِنْتُ هِلَالِ بْنِ حَيّانَ بْنِ عُمَيْرَةَ بْنِ هِلَالِ بْنِ نَاصِرَةَ بْنِ قُصَيّةَ بْنِ نَصْرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ ، وَأَعْطَى عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ جَارِيَةً يُقَالُ لَهَا : زَيْنَبُ بِنْتُ حَيّانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَيّانَ ، وَأَعْطَى عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ جَارِيَةً فَوَهَبَهَا لِعَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ ابْنِهِ . [ ص 266 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي نَافِعٌ مَوْلَى عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ ، قَالَ بَعَثْت بِهَا إلَى أَخْوَالِي مِنْ بَنِي جُمَحٍ لِيُصْلِحُوا لِي مِنْهَا ، وَيُهَيّئُوهَا ، حَتّى أَطُوفَ بِالْبَيْتِ ثُمّ آتِيهِمْ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُصِيبَهَا إذَا رَجَعْت إلَيْهَا . قَالَ فَخَرَجْت مِنْ الْمَسْجِدِ حِينَ فَرَغْت ، فَإِذَا النّاسُ يَشْتَدّونَ فَقُلْت : مَا شَأْنُكُمْ ؟ قَالُوا : رَدّ عَلَيْنَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا ؛ فَقُلْت : تِلْكُمْ صَاحِبَتُكُمْ فِي بَنِي جُمَحٍ فَاذْهَبُوا فَخُذُوهَا ، فَذَهَبُوا إلَيْهَا ، فَأَخَذُوهَا .S[ ص 266 ] وَذَكَرَ الْجَارِيَةَ الّتِي أُعْطِيَهَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ ، وَأَنّهُ بَعَثَ بِهَا إلَى أَخْوَالِهِ مِنْ بَنِي جُمَحٍ لِيُصْلِحُوا لَهُ مِنْهَا كَيْ يُصِيبَهَا ، وَهَذَا لِأَنّهَا كَانَتْ قَدْ أَسْلَمَتْ لِأَنّهُ لَا يَجُوزُ وَطْءُ وَثَنِيّةٍ وَلَا مَجُوسِيّةٍ بِمِلْكِ يَمِينٍ وَلَا بِنِكَاحٍ حَتّى تُسْلِمَ وَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ فَلَا بُدّ أَيْضًا مِنْ اسْتِبْرَائِهَا ، وَأَمّا الْكِتَابِيّاتُ فَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ وَطْئِهِنّ بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ التّابِعِينَ مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ إبَاحَةُ وَطْءِ الْمَجُوسِيّةِ وَالْوَثَنِيّةِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَقَوْلُ اللّهِ تَعَالَى : { وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتّى يُؤْمِنّ } [ الْبَقَرَةُ 221 ] تَحْرِيمٌ عَامّ إلّا مَا خَصّصَتْهُ آيَةُ الْمَائِدَةِ مِنْ الْكِتَابِيّاتِ وَالنّكَاحُ يَقَعُ عَلَى الْوَطْءِ بِالْعَقْدِ وَالْمِلْكِ .
حَوْلَ سَبْيِ حُنَيْنٍ
وَكَانَ سَبْيُ حُنَيْنٍ سِتّةَ آلَافِ رَأْسٍ وَكَانَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَدْ وَلّى أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَمْرَهُمْ وَجَعَلَهُ أَمِينًا عَلَيْهِمْ قَالَهُ الزّبَيْرُ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ ذَكَرَهُ الزّبَيْرُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ أَنّ أَبَا جَهْمِ بْنَ حُذَيْفَةَ الْعَدَوِيّ كَانَ عَلَى الْأَنْفَالِ يَوْمَ حُنَيْنٍ ، فَجَاءَهُ خَالِدُ بْنُ الْبَرْصَاءِ فَأَخَذَ مِنْ الْأَنْفَالِ زِمَامَ شَعْرٍ فَمَانَعَهُ أَبُو جَهْمٍ فَلَمّا تَمَانَعَا ضَرَبَهُ أَبُو جَهْمٍ بِالْقَوْسِ فَشَجّهُ مُنَقّلَةٌ فَاسْتَعْدَى عَلَيْهِ خَالِدٌ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَقَالَ لَهُ خُذْ خَمْسِينَ شَاةً وَدَعْهُ فَقَالَ أَقِدْنِي مِنْهُ فَقَالَ خُذْ مِائَةً وَدَعْهُ فَقَالَ أَقِدْنِي مِنْهُ فَقَالَ خُذْ خَمْسِينَ وَمِائَةً وَدَعْهُ وَلَيْسَ لَك إلّا ذَلِكَ وَلَا أُقِصّكَ مِنْ وَالٍ عَلَيْك فَقُوّمَتْ الْخَمْسُونَ وَالْمِائَةُ بِخَمْسَ عَشْرَةَ فَرِيضَةً مِنْ الْإِبِلِ فَمِنْ هُنَالِكَ جُعِلَتْ دِيَةُ الْمُنَقّلَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ فَرِيضَةً .
إعْطَاءُ الْمُؤَلّفَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ الْغَنَائِمِ
فَصْلٌ وَأَمّا إعْطَاءُ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - الْمُؤَلّفَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ غَنَائِمِ حُنَيْنٍ حَتّى تَكَلّمَتْ الْأَنْصَارُ فِي ذَلِكَ وَكَثُرَتْ مِنْهُمْ الْقَالَةُ وَقَالَتْ يُعْطِي صَنَادِيدَ الْعَرَبِ وَلَا يُعْطِينَا ، وَأَسْيَافُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ فَلِلْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا أَنّهُ أَعْطَاهُمْ مِنْ خُمْسِ الْخُمْسِ وَهَذَا الْقَوْلُ مَرْدُودٌ لِأَنّ خُمْسَ الْخُمْسِ مِلْكٌ لَهُ وَلَا كَلَامَ لِأَحَدٍ فِيهِ . [ ص 267 ] الثّانِي : أَنّهُ أَعْطَاهُمْ مِنْ رَأْسِ الْغَنِيمَةِ وَأَنّ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { قُلِ الْأَنْفَالُ لِلّهِ وَالرّسُولِ } [ الْأَنْفَالُ 1 ] وَهَذَا الْقَوْلُ أَيْضًا يَرُدّهُ مَا تَقَدّمَ مِنْ نُسَخِ هَذِهِ الْآيَةِ وَقَدْ تَقَدّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ غَيْرَ أَنّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ لِهَذَا الْقَوْلِ بِأَنّ الْأَنْصَارَ لَمّا انْهَزَمُوا يَوْمَ حُنَيْنٍ فَأَيّدَ اللّهُ رَسُولَهُ وَأَمَدّهُ بِمَلَائِكَتِهِ فَلَمْ يَرْجِعُوا حَتّى كَانَ الْفَتْحُ رَدّ اللّهُ تَعَالَى أَمْرَ الْمَغَانِمِ إلَى رَسُولِهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ فَلَمْ يُعْطِهِمْ مِنْهَا شَيْئًا وَقَالَ لَهُمْ أَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ النّاسُ بِالشّاةِ وَالْبَعِيرِ وَتَرْجِعُوا بِرَسُولِ اللّهِ إلَى رِحَالِكُمْ فَطَيّبَ نُفُوسَهُمْ بِذَلِكَ بَعْدَمَا فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ . وَالْقَوْلُ الثّالِثُ وَهُوَ الّذِي اخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ أَنّ إعْطَاءَهُمْ كَانَ مِنْ الْخُمْسِ حَيْثُ يَرَى أَنّ فِيهِ مَصْلَحَةً لِلْمُسْلِمِينَ . فَصْلٌ وَمِمّا لَمْ يَذْكُرْ ابْنُ إسْحَاقَ يَوْمَ حُنَيْنٍ أَنّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ أُثْقِلَ بِالْجِرَاحَةِ يَوْمَئِذٍ فَأَتَاهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ مَنْ يَدُلّنِي عَلَى رَحْلِ خَالِدٍ حَتّى دُلّ عَلَيْهِ فَوَجَدَهُ قَدْ أُسْنِدَ إلَى مُؤَخّرَةِ رَحْلِهِ فَنَفَثَ عَلَى جُرْحِهِ فَبَرِئَ ذَكَرَهُ الْكَشّيّ .

[ ص 267 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَأَمّا عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ فَأَخَذَ عَجُوزًا مِنْ عَجَائِزِ هَوَازِنَ ، وَقَالَ حِينَ أَخَذَهَا : أَرَى عَجُوزًا إنّي لَأَحْسَبُ لَهَا فِي الْحَيّ نَسَبًا ، وَعَسَى أَنْ يَعْظُمَ فِدَاؤُهَا فَلَمّا رَدّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ السّبَايَا بِسِتّ فَرَائِضَ أَبَى أَنْ يَرُدّهَا ، فَقَالَ لَهُ زُهَيْرٌ أَبُو صُرَدٍ خُذْهَا عَنْك ، فَوَاَللّهِ مَا فُوهَا بِبَارِدٍ وَلَا ثَدْيُهَا بِنَاهِدٍ وَلَا بَطْنُهَا بِوَالِدٍ وَلَا زَوْجُهَا بِوَاجِدٍ وَلَا دَرّهَا بِمَاكِدٍ . فَرَدّهَا بِسِتّ فَرَائِضَ حِينَ قَالَ لَهُ زُهَيْرٌ مَا قَالَ فَزَعَمُوا أَنّ عُيَيْنَةَ لَقِيَ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ فَشَكَا إلَيْهِ ذَلِكَ فَقَالَ إنّك وَاَللّهِ مَا أَخَذْتهَا بَيْضَاءَ غَرِيرَةً وَلَا نَصَفًا وَثِيرَةً .Sوَصْفُ عَجُوزِ ابْنِ حِصْنٍ
فَصْلٌ وَذَكَرَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ وَقَوْلُ زُهَيْرِ بْنِ صُرَدٍ لَهُ فِي الْعَجُوزِ الّتِي أَخَذَهَا : مَا فُوهَا بِبَارِدٍ وَلَا ثَدْيُهَا بِنَاهِدٍ وَلَا دَرّهَا بِمَاكِدٍ وَيُقَالُ أَيْضًا : بِنَاكِدٍ يُرِيدُ لَيْسَتْ بِغَزِيرَةِ الدّرّ وَالنّوقُ النّكْدُ الْغَزِيرَاتُ اللّبَنِ وَأَحْسَبُهُ مِنْ الْأَضْدَادِ لِأَنّهُ قَدْ يُقَالُ أَيْضًا نَكِدَ لَبَنُهَا إذَا نَقَصَ قَالَهُ صَاحِبُ الْعَيْنِ وَالصّحِيحُ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ أَنّ النّكِدَ هِيَ الْقَلِيلَاتُ اللّبَنِ مِنْ قَوْلِهِ عَزّ وَجَلّ { لَا يَخْرُجُ إِلّا نَكِدًا } [ الْأَعْرَافُ 58 ] وَأَنّ الْمُكْدَ بِالْمِيمِ هِيَ الْغَزِيرَاتُ اللّبَنِ قَالَ ابْنُ سِرَاجٍ لِأَنّهُ مِنْ مَكَدَ فِي الْمَكَانِ إذَا أَقَامَ فِيهِ وَقَدْ يُقَالُ أَيْضًا : نَكِدَ فِي مَعْنَى مَكَدَ أَيْ ثَبَتَ . [ ص 268 ]
الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ
وَذَكَرَ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ وَكَانَ مِنْ الْمُؤَلّفَةِ قُلُوبُهُمْ ثُمّ حَسُنَ إسْلَامُهُ بَعْدُ وَهُوَ الّذِي قَالَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ نَزَلَتْ { وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجّ الْبَيْتِ } [ آلُ عِمْرَانَ : 97 ] أَفِي كُلّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ لَوْ قُلْتهَا لَوَجَبَتْ وَهُوَ الّذِي قَالَ لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ أَقْطَعَ أَبْيَضَ بْنَ حَمّالٍ الْمَاءَ الّذِي بِمَأْرِبٍ أَتَدْرِي مَا أَقْطَعْته يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ إنّمَا أَقْطَعْته الْمَاءَ الْعِدّ فَاسْتَرْجَعَهُ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ غَيْرَ أَنّهُ لَمْ يُسَمّ قَائِلَ هَذَا الْكَلَامَ فِيهِ إلّا الدّارَقُطْنِيّ فِي رِوَايَتِهِ وَزَادَ فِيهِ أَيْضًا : قَالَ أَبْيَضُ عَلَى أَنْ يَكُونَ صَدَقَةً مِنّي يَا رَسُولَ اللّهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ نَعَمْ وَأَمّا نَسَبُ الْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ فَهُوَ ابْنُ حَابِسِ بْنِ عِقَالٍ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ سُفْيَانَ بْنِ مُجَاشِعِ [ بْنِ دَارِمٍ ] التّمِيمِيّ الْمُجَاشِعِيّ الدّارِمِيّ وَأَمّا عُيَيْنَةُ فَاسْمُهُ حُذَيْفَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ الْفَزَارِيّ ، وَقَدْ تَقَدّمَ ذِكْرُهُ .

[ ص 268 ] وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِوَفْدِ هَوَازِنَ ، وَسَأَلَهُمْ عَنْ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ مَا فَعَلَ ؟ فَقَالُوا : هُوَ بِالطّائِفِ مَعَ ثَقِيفٍ ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَخْبِرُوا مَالِكًا أَنّهُ إنْ أَتَانِي مُسْلِمًا رَدَدْت عَلَيْهِ أَهْلَهُ وَمَالَهُ وَأَعْطَيْته مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ فَأُتِيَ مَالِكٌ بِذَلِكَ فَخَرَجَ إلَيْهِ مِنْ الطّائِفِ . وَقَدْ كَانَ مَالِكٌ خَافَ ثَقِيفًا عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَعْلَمُوا أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لَهُ مَا قَالَ فَيَحْبِسُوهُ فَأَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ فَهُيّئَتْ لَهُ وَأَمَرَ بِفَرَسٍ لَهُ فَأُتِيَ بِهِ إلَى الطّائِفِ ، فَخَرَجَ لَيْلًا ، فَجَلَسَ عَلَى فَرَسِهِ فَرَكَضَهُ حَتّى أَتَى رَاحِلَتَهُ حَيْثُ أَمَرَ بِهَا أَنْ تُحْبَسَ فَرَكِبَهَا ، فَلَحِقَ بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَدْرَكَهُ بِالْجِعْرَانَةِ أَوْ بِمَكّةَ فَرَدّ عَلَيْهِ أَهْلَهُ وَمَالَهُ وَأَعْطَاهُ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ وَأَسْلَمَ فَحَسُنَ إسْلَامُهُ فَقَالَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ حِينَ أَسْلَمَ :
مَا إنْ رَأَيْت وَلَا سَمِعْت بِمِثْلِهِ ... فِي النّاسِ كُلّهُمُ بِمِثْلِ مُحَمّدِ
أَوْفَى وَأَعْطَى لِلْجَزِيلِ إذَا اُجْتُدِيَ ... وَمَتَى تَشَأْ يُخْبِرْك عَمّا فِي غَدٍ
إذَا الْكَتِيبَةُ عَرّدَتْ أَنْيَابَهَا ... بِالسّمْهَرِيّ وَضَرْبِ كُلّ مُهَنّدِ
فَكَأَنّهُ لَيْثٌ عَلَى أَشْبَالِهِ ... وَسْطَ الْهَبَاءَةِ خَادِرٌ فِي مَرْصَدِ
فَاسْتَعْمَلَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ مِنْ قَوْمِهِ وَتِلْكَ الْقَبَائِلُ ثُمَالَةُ وَسَلِمَةُ [ ص 269 ] فَكَانَ يُقَاتِلُ بِهِمْ ثَقِيفًا ، لَا يَخْرُجُ لَهُمْ سَرْحٌ إلّا أَغَار عَلَيْهِ حَتّى ضَيّقَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ أَبُو مِحْجَنِ بْنُ حَبِيبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ الثّقَفِيّ :
هَابَتْ الْأَعْدَاءُ جَانِبَنَا ... ثُمّ تَغْزُونَا بَنُو سَلَمَهْ
وَأَتَانَا مَالِكٌ بِهِمْ ... نَاقِضًا لِلْعَهْدِ وَالْحُرْمَهْ
وَأَتَوْنَا فِي مَنَازِلِنَا ... وَلَقَدْ كُنّا أُولِي نِقْمَهْ
Sمَالِكُ بْنُ عَوْفٍ
فَصْلٌ وَذَكَرَ تَوْلِيَةَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَالِكَ بْنَ عَوْفٍ عَلَى ثُمَالَةَ وَبَنِيّ سَلِمَةَ وَفَهْمٍ . وَثُمَالَةُ هُمْ [ ص 269 ] أَسْلَمَ بْنُ أَحْجَنَ أُمّهُمْ ثُمَالَةُ وَقَوْلُ أَبِي مِحْجَنٍ فِيهِ
هَابَتْ الْأَعْدَاءُ جَانِبَنَا ... ثُمّ تَغْزُونَا بَنُو سَلَمَهْ
هَكَذَا تَقَيّدَ فِي النّسْخَةِ بِكَسْرِ اللّامِ وَالْمَعْرُوفُ فِي قَبَائِلِ قَيْسٍ : سَلَمَةُ بِالْفَتْحِ إلّا أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْأَزْدِ ، فَإِنّ ثُمَالَةَ الْمَذْكُورِينَ مَعَهُمْ حَيّ مِنْ الْأَزْدِ وَفَهْمٌ مِنْ دَوْسٍ ، وَهُمْ مِنْ الْأَزْدِ أَيْضًا ، وَأُمّهُمْ جَدِيلَةُ وَهِيَ مِنْ غَطَفَانَ بْنِ قَيْسِ بْنِ غَيْلَانَ عَلَى أَنّهُ لَا يُعْرَفُ فِي الْأَزْدِ سَلِمَةُ إلّا فِي الْأَنْصَارِ ، وَهُمْ مِنْ الْأَزْدِ وَسَلِمَةُ أَيْضًا فِي جُعْفَى هُمْ وَسَلِمَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ ذُهْلِ بْنِ مُرّانَ بْنُ جُعْفِيّ وَسَلِمَةُ فِي جُهَيْنَةَ أَيْضًا سَلِمَةُ بْنُ نَصْرِ بْنِ غَطَفَانَ بْنِ قَيْسِ بْنِ جُهَيْنَةَ وَجُعْفِيّ مِنْ مَذْحِجَ وَجُهَيْنَةُ مِنْ قُضَاعَةَ .

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَلَمّا فَرَغَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ رَدّ سَبَايَا حُنَيْنٍ إلَى أَهْلِهَا ، رَكِبَ وَاتّبَعَهُ النّاسُ يَقُولُونَ يَا رَسُولَ اللّهِ أَقْسِمْ عَلَيْنَا فَيْئَنَا مِنْ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ حَتّى أَلْجَئُوهُ إلَى شَجَرَةٍ فَاخْتَطَفَتْ عَنْهُ رِدَاءَهُ فَقَالَ أَدّوا عَلَيّ رِدَائِي أَيّهَا النّاسُ فَوَاَللّهِ أَنْ لَوْ كَانَ لَكُمْ بِعَدَدِ شَجَرِ تِهَامَةَ نَعَمًا لَقَسَمْته عَلَيْكُمْ ثُمّ مَا أَلْفَيْتُمُونِي بَخِيلًا وَلَا جَبَانًا وَلَا كَذّابًا ، ثُمّ قَامَ إلَى جَنْبِ بَعِيرٍ . فَأَخَذَ وَبَرَةً مِنْ سَنَامِهِ فَجَعَلَهَا بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ ثُمّ رَفَعَهَا ، ثُمّ قَالَ أَيّهَا النّاسُ وَاَللّهِ مَا لِي مِنْ فَيْئِكُمْ وَلَا هَذِهِ الْوَبَرَةِ إلّا الْخُمُسُ وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ . فَأَدّوا الْخِيَاطَ وَالْمُخْيَطَ فَإِنّ الْغُلُولَ يَكُونُ عَلَى أَهْلِهِ عَارًا وَنَارًا وَشَنَارًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ . قَالَ فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ بِكُبّةٍ مِنْ خُيُوطِ شَعْرٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ أَخَذْت هَذِهِ الْكُبّةَ أَعْمَلُ بِهَا بَرْذعَةَ بَعِيرٍ لِي دَبِرٍ فَقَالَ أَمّا نَصِيبِي مِنْهَا فَلَك قَالَ أَمَا إذْ بَلَغَتْ هَذَا فَلَا حَاجَةَ لِي بِهَا ، ثُمّ طَرَحَهَا مِنْ يَدِهِ [ ص 270 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَذَكَرَ زَيْدَ بْنَ أَسْلَمَ ، عَنْ أَبِيهِ أَنّ عَقِيلَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ دَخَلَ يَوْمَ حُنَيْنٍ عَلَى امْرَأَتِهِ فَاطِمَةَ بِنْتِ شَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ ، وَسَيْفُهُ مُتَلَطّخٌ دَمًا ، فَقَالَتْ إنّي قَدْ عَرَفْت أَنّك قَدْ قَتَلْت ، فَمَاذَا أَصَبْت مِنْ غَنَائِمِ الْمُشْرِكِينَ ؟ فَقَالَ دُونَك هَذِهِ الْإِبْرَةُ تَخِيطِينَ بِهَا ثِيَابَك ، فَدَفَعَهَا إلَيْهَا ، فَسَمِعَ مُنَادِي رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ مَنْ أَخَذَ شَيْئًا فَلْيَرُدّهُ حَتّى الْخِيَاطَ وَالْمُخْيَطَ . فَرَجَعَ عَقِيلٌ فَقَالَ مَا أَرَى إبْرَتَك إلّا قَدْ ذَهَبْت ، فَأَخَذَهَا ، فَأَلْقَاهَا فِي الْغَنَائِمِ .

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَأَعْطَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمُؤَلّفَةَ قُلُوبُهُمْ وَكَانُوا أَشْرَافًا مِنْ أَشْرَافِ النّاسِ يَتَأَلّفُهُمْ وَيَتَأَلّفُ بِهِمْ قَوْمَهُمْ فَأَعْطَى أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ مِائَةَ بَعِيرٍ وَأَعْطَى ابْنَهُ مُعَاوِيَةَ مِائَةَ بَعِيرٍ وَأَعْطَى حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ مِائَةَ بَعِيرٍ وَأَعْطَى الْحَارِثَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ ، أَخَا بَنِي عَبْدِ الدّارِ مِائَةَ بَعِيرٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : نَصِيرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمُهُ الْحَارِثَ أَيْضًا . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَأَعْطَى الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ مِائَةَ بَعِيرٍ وَأَعْطَى سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو مِائَةَ بَعِيرٍ وَأَعْطَى حُوَيْطِبَ بْنَ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ أَبِي قَيْسٍ مِائَةَ بَعِيرٍ وَأَعْطَى الْعَلَاءَ بْنَ جَارِيَةَ الثّقَفِيّ حَلِيفَ بَنِي زُهْرَةَ مِائَةَ بَعِيرٍ وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ مِائَةَ بَعِيرٍ وَأَعْطَى الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ التّمِيمِيّ مِائَةَ بَعِيرٍ . وَأَعْطَى مَالِكَ بْنَ عَوْفٍ النّضْرِيّ مِائَةَ بَعِيرٍ وَأَعْطَى صَفْوَانَ بْنَ أُمَيّةَ مِائَةَ بَعِيرٍ فَهَؤُلَاءِ أَصْحَابُ الْمِئِينَ . وَأَعْطَى دُونَ الْمِائَةِ رِجَالًا مِنْ قُرَيْشٍ ، مِنْهُمْ مَخْرَمَةُ بْنُ نَوْفَلٍ الزّهْرِيّ ، وَعُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ الْجُمَحِيّ ، وَهِشَامُ بْنُ عَمْرٍو أَخُو بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ ، لَا أَحْفَظُ مَا أَعْطَاهُمْ وَقَدْ عَرَفْت أَنّهَا دُونَ الْمِائَةِ وَأَعْطَى سَعِيدَ بْنَ يَرْبُوعِ بْنِ عَنْكَثَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ مَخْزُومٍ خَمْسِينَ مِنْ الْإِبِلِ وَأَعْطَى السّهْمِيّ خَمْسِينَ مِنْ الْإِبِلِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَاسْمُهُ عَدِيّ بْنُ قَيْسٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : [ ص 271 ] أَبَاعِرَ فَسَخِطَهَا ، فَعَاتَبَ فِيهَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ يُعَاتِبُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
كَانَتْ نِهَابًا تَلَافَيْتهَا ... بِكَرّي عَلَى الْمُهْرِ فِي الْأَجْرَعِ
وَإِيقَاظِي الْقَوْمِ أَنْ يَرْقُدُوا ... إذَا هَجَعَ النّاسُ لَمْ أَهْجَعْ
فَأَصْبَحَ نَهْبِي وَنَهْبُ الْعَبِي ... دِ بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ
وَقَدْ كُنْت فِي الْحَرْبِ ذَا تُدْرَإٍ ... فَلَمْ أُعْطَ شَيْئًا وَلَمْ أُمْنَعْ
إلّا أَفَائِلَ أُعْطِيتهَا ... عَدِيدَ قَوَائِمِهَا الْأَرْبَعِ
وَمَا كَانَ حِصْنٌ وَلَا حَابِسٌ ... يَفْوَقَانِ شَيْخِي فِي الْمَجْمَعِ
وَمَا كُنْت دُونَ امْرِئٍ مِنْهُمَا ... وَمَنْ تَضَعُ الْيَوْمَ لَا يُرْفَعْ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَنْشَدَنِي يُونُسُ النّحْوِيّ :
فَمَا كَانَ حِصْنٌ وَلَا حَابِسٌ ... يَفْوَقَانِ مِرْدَاسَ فِي الْمَجْمَعِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اذْهَبُوا بِهِ فَاقْطَعُوا عَنّي لِسَانَهُ فَأَعْطَوْهُ حَتّى رَضِيَ فَكَانَ ذَلِكَ قَطْعَ لِسَانِهِ الّذِي أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ عَبّاسَ بْنَ مِرْدَاسٍ أَتَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْتَ الْقَائِلُ فَأَصْبَحَ نَهْبِي وَنَهْبُ الْعَبِيدِ بَيْنَ الْأَقْرَعِ وَعُيَيْنَةِ ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ : بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هُمَا وَاحِدٌ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَشْهَدُ أَنّك كَمَا قَالَ اللّهُ { وَمَا عَلّمْنَاهُ الشّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ } [ يس : 69 ] . [ ص 272 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي إسْنَادٍ لَهُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ الزّهْرِيّ ، عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ [ ص 273 ] ابْنِ عَبّاسٍ ، قَالَ بَايَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ فَأَعْطَاهُمْ يَوْمَ الْجِعْرَانَةِ مِنْ غَنَائِمِ حُنَيْن ٍ . مِنْ بَنِي أُمَيّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ : أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبِ بْنِ أُمَيّةَ ، وَطُلَيْقُ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ أُمَيّةَ ، وَخَالِدُ بْنُ أُسَيْدِ بْنِ أَبِي الْعِيصِ بْنِ أُمَيّةَ . وَمِنْ بَنِي عَبْدِ الدّارِ بْنِ قُصَيّ : شَيْبَةُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الدّارِ ، وَأَبُو السّنَابِلِ بْنُ بَعْكَكِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَمِيلَةَ بْنِ السّبّاقِ بْنِ عَبْدِ الدّارِ ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدّارِ . وَمِنْ بَنِي مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ زُهَيْرُ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، وَخَالِدُ بْنُ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَهِشَامُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، وَسُفْيَانُ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ ، وَالسّائِبُ بْنُ أَبِي السّائِبِ بْنِ عَائِذِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ . وَمِنْ بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ : مُطِيعُ بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ نَضْلَةَ وَأَبُو جَهْمِ بْنُ حُذَيْفَةَ بْنِ غَانِمٍ . وَمِنْ بَنِي جُمَحِ بْنِ عَمْرٍو . صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ بْنِ خَلَفٍ ، وَأُحَيْحَةُ بْنُ أُمَيّةَ بْنِ خَلَفٍ ، وَعُمَيْرُ بْنُ وَهْبِ بْنِ خَلَفٍ . وَمِنْ بَنِي سَهْمٍ عَدِيّ بْنُ قَيْسِ بْنِ حُذَافَةَ . وَمِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ : حُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ أَبِي قَيْسِ بْنِ عَبْدِ وُدّ وَهِشَامُ بْنُ عَمْرِو بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ حَبِيبٍ . وَمِنْ أَفْنَاءِ الْقَبَائِلِ مِنْ بَنِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ نَوْفَلُ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ عُرْوَةَ بْنِ صَخْرِ بْنِ رَزْنِ بْنِ يَعْمَرَ بْنِ نُفَاثَةَ بْنِ عَدِيّ بْنِ الدّيلِ . وَمِنْ بَنِي قَيْسٍ ، ثُمّ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ ثُمّ مِنْ بَنِي كِلَابِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ عَلْقَمَةُ بْنُ عُلَاثَةَ بْنِ عَوْفِ بْنِ الْأَحْوَصِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ كِلَابٍ ، وَلَبِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ كِلَابٍ . وَمِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ : خَالِدُ بْنُ هَوْذَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ وَحَرْمَلَةُ بْنُ هَوْذَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَمْرٍو . وَمِنْ بَنِي نَصْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ مَالِكُ بْنُ عَوْفِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ يَرْبُوعٍ . وَمِنْ بَنِي سُلَيْمِ بْنِ مَنْصُورٍ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ ، أَخُو بَنِي الْحَارِثِ بْنِ بُهْثَةُ بْنُ سُلَيْمٍ . وَمِنْ بَنِي غَطَفَانَ ، ثُمّ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ . وَمِنْ بَنِي تَمِيمٍ ثُمّ مِنْ بَنِي حَنْظَلَةَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسِ بْنِ عِقَالٍ مِنْ بَنِي مُجَاشِعِ بْنِ دَارِمٍ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التّيْمِيّ : أَنّ قَائِلًا قَالَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ أَصْحَابِهِ يَا رَسُولَ اللّهِ أَعْطَيْت عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ وَالْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ مِائَةً مِائَةً وَتَرَكْت جُعَيْلَ بْنَ سُرَاقَةَ الضّمْرِيّ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَا وَاَلّذِي نَفْسُ مُحَمّدٍ بِيَدِهِ لَجُعَيْلُ بْنُ سُرَاقَةَ خَيْرٌ مِنْ طِلَاعِ الْأَرْضِ كُلّهِمْ مِثْلَ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ وَالْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ وَلَكِنّي تَأَلّفْتهمَا لِيَسْلَمَا ، وَوَكَلْت جُعَيْلَ بْنَ سُرَاقَةَ إلَى إسْلَامِهِ
Sوَأَمّا مِحْجَنٌ فَاسْمُهُ مَالِكُ بْنُ حَبِيبٍ ، وَقِيلَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ حَبِيبٍ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عُقْدَةَ بْنِ غِيَرَةَ بْنِ عَوْفِ بْنِ قَيْسٍ الثّقَفِيّ وَقَدْ تَقَدّمَ نَسَبُ أُحْجَنَ عِنْدَ ذِكْرِنَا لَهَبَ بْنَ أُحْجَنَ قَبْلَ بَابِ الْمَبْعَثِ . وَذَكَرَ أَبَا السّنَابِلِ بْنَ بَعْكَكٍ وَاسْمُهُ حَبّةُ أَحَدُ بَنِي عَبْدِ الدّارِ وَكَانَ شَاعِرًا وَحَدِيثُهُ مَعَ سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيّةِ حِينَ آمَتْ مِنْ زَوْجِهَا مَذْكُورٌ فِي الصّحَاحِ . [ ص 270 ] [ ص 271 ]
قَوْلُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِمِرْدَاسٍ
فَصْلٌ وَذَكَرَ قَوْلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِعَبّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ أَنْتَ الْقَائِلُ فَأَصْبَحَ نَهْبِي وَنَهْبُ الْعَبِيدِ بَيْنَ الْأَقْرَعِ وَعُيَيْنَةِ ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ : بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هُمَا وَاحِدٌ يَعْنِي فِي الْمَعْنَى ، وَأَمّا فِي الْفَصَاحَةِ فَاَلّذِي أُجْرِيَ عَلَى لِسَانِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هُوَ الْأَفْصَحُ فِي تَنْزِيلِ الْكَلَامِ وَتَرْتِيبِهِ وَذَلِكَ أَنّ الْقَبْلِيّةَ تَكُونُ بِالْفَضْلِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى : { مِنَ النّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ } [ النّسَاءُ 69 ] وَتَكُونُ بِالرّتْبَةِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى حِينَ ذَكَرَ الْيَهُودَ وَالنّصَارَى ، فَقَدِمَ الْيَهُودُ لِمُجَاوَرَتِهِمْ الْمَدِينَةَ ، فَهُمْ فِي الرّتْبَةِ قَبْلَ النّصَارَى ، وَقَبْلِيّةٌ بِالزّمَانِ نَحْوَ ذِكْرِ التّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ بَعْدَهُ وَنُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَقَبْلِيّةٌ بِالسّبَبِ وَهُوَ أَنْ يَذْكُرَ مَا هُوَ عِلّةُ الشّيْءِ وَسَبَبُ وُجُودِهِ ثُمّ يَذْكُرُ الْمُسَبّبَ بَعْدَهُ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ مِثْلُ أَنْ يَذْكُرَ مَعْصِيَةً وَعِقَابًا أَوْ طَاعَةً وَثَوَابًا فَالْأَجْوَدُ فِي حُكْمِ الْفَصَاحَةِ تَقْدِيمُ السّبَبِ . [ ص 272 ]
الْقَبْلِيّةُ بَيْنَ الْأَقْرَعِ وَعُيَيْنَةَ
وَالْأَقْرَعُ وَعُيَيْنَةُ مِنْ بَابِ قَبْلِيّةِ الْمَرْتَبَةِ وَقَبْلِيّةِ الْفَضْلِ أَمّا قَبْلِيّةُ الرّتْبَةِ فَإِنّهُ مِنْ خِنْدِفٍ ، ثُمّ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ فَهُوَ أَقْرَبُ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ عُيَيْنَةَ فَتَرَتّبَ فِي الذّكْرِ قَبْلَهُ وَأَمّا قَبْلِيّةُ الْفَضْلِ فَإِنّ الْأَقْرَعَ حَسُنَ إسْلَامُهُ وَعُيَيْنَةَ لَمْ يَزَلْ مَعْدُودًا فِي أَهْلِ الْجَفَاءِ حَتّى ارْتَدّ وَآمَنَ بِطُلَيْحَةَ وَأُخِذَ أَسِيرًا فَجَعَلَ الصّبْيَانُ يَقُولُونَ لَهُ - وَهُوَ يُسَاقُ إلَى أَبِي بَكْرٍ - وَيْحَك يَا عَدُوّ [ ص 273 ] إيمَانِك ، فَيَقُولُ وَاَللّهِ مَا كُنْت آمَنْت ، ثُمّ أَسْلَمَ فِي الظّاهِرِ وَلَمْ يَزَلْ جَافِيًا أَحْمَقَ حَتّى مَاتَ وَبِحَسْبِك تَسْمِيَةُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَهُ الْأَحْمَقُ الْمُطَاعُ وَمِمّا يُذْكَرُ مِنْ جَفَائِهِ أَنّ عَمْرَو بْنَ مَعْدِي كَرِبَ نَزَلَ بِهِ ضَيْفًا ، فَقَالَ لَهُ عُيَيْنَةُ هَلْ لَك فِي الْخَمْرِ نَتَنَادَمُ عَلَيْهَا ؟ فَقَالَ عَمْرٌو : أَلَيْسَتْ مُحَرّمَةً فِي الْقُرْآنِ ؟ فَقَالَ عُيَيْنَةُ إنّمَا قَالَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ فَقُلْنَا نَحْنُ لَا ، فَشَرِبَا .

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ عَمّارِ بْنِ يَاسِرٍ ، عَنْ مِقْسَمٍ أَبِي الْقَاسِمِ مَوْلَى عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ ، قَالَ خَرَجْت أَنَا وَتَلِيدُ بْنُ كِلَابٍ اللّيْثِيّ حَتّى أَتَيْنَا عَبْدَ اللّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ مُعَلّقًا نَعْلَهُ بِيَدِهِ فَقُلْنَا لَهُ هَلْ حَضَرْت رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ كَلّمَهُ التّمِيمِيّ يَوْمَ حُنَيْنٍ ؟ قَالَ [ ص 274 ] جَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ يُقَالُ لَهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ فَوَقَفَ عَلَيْهِ وَهُوَ يُعْطِي النّاسَ فَقَالَ يَا مُحَمّدُ قَدْ رَأَيْت مَا صَنَعْت فِي هَذَا الْيَوْمِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " أَجَلْ فَكَيْفَ رَأَيْت ؟ " فَقَالَ لَمْ أَرَك عَدَلْت ؛ قَالَ فَغَضِبَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثُمّ قَالَ " وَيْحَك إذَا لَمْ يَكُنْ الْعَدْلُ عِنْدِي ، فَعِنْدَ مَنْ يَكُونُ ؟ " فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ : يَا رَسُولَ اللّهِ أَلَا أَقْتُلُهُ ؟ فَقَالَ " لَا ، دَعْهُ فَإِنّهُ سَيَكُونُ لَهُ شِيعَةٌ يَتَعَمّقُونَ فِي الدّينِ حَتّى يَخْرُجُوا مِنْهُ كَمَا يَخْرُجُ السّهْمُ مِنْ الرّمِيّةِ يَنْظُرُ فِي النّصْلِ فَلَا يُوجَدُ شَيْءٌ ثُمّ فِي الْقِدْحِ فَلَا يُوجَدُ شَيْءٌ ثُمّ فِي الْفُوقِ فَلَا يُوجَدُ شَيْءٌ سَبَقَ الْفَرْثَ وَالدّم قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَلِيّ بْنِ الْحُسَيْنِ أَوْ جَعْفَرٌ بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي عُبَيْدَةَ وَسَمّاهُ ذَا الْخُوَيْصِرَةِ .Sحَدِيثُ ذِي الْخُوَيْصِرَةِ
[ ص 274 ] وَذَكَرَ حَدِيثَ ذِي الْخُوَيْصِرَةِ التّمِيمِيّ ، وَمَا قَالَ فِيهِ النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ وَفِي شِيعَتِهِ وَقَالَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِهِ قَوْمٌ تَحْقِرُونَ صَلَاتَكُمْ إلَى صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَكُمْ إلَى صِيَامِهِمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدّينِ كَمَا يَمْرُقُ السّهْمُ مِنْ الرّمِيّةِ الْحَدِيثُ فَكَانَ كَمَا قَالَ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَظَهَرَ صِدْقُ الْحَدِيثِ فِي الْخَوَارِجِ ، وَكَانَ أَوّلُهُمْ مِنْ ضِئْضِئِي ذَلِكَ الرّجُلِ أَيْ مِنْ أَصْلِهِ وَكَانُوا مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ الّتِي قَالَ فِيهَا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْهَا يَطْلُعُ قَرْنُ الشّيْطَانِ فَكَانَ بَدْؤُهُمْ مِنْ ذِي الْخُوَيْصِرَةِ وَكَانَ آيَتُهُمْ ذُو الثّدَيّةِ الّذِي قَتَلَهُ عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَكَانَتْ إحْدَى يَدَيْهِ كَثَدْيِ الْمَرْأَةِ وَاسْمُ ذِي الثّدَيّةِ نَافِعٌ ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ ، وَغَيْرُهُ يَقُولُ اسْمُهُ حُرْقُوصُ [ بْنُ زُهَيْرٍ ] وَقَوْلُ أَبِي دَاوُدَ أَصَحّ ، وَاَللّهُ أَعْلَمُ .

شِعْرُ حَسّانَ فِي حِرْمَانِ الْأَنْصَارِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ ، عَنْ أَبِيهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَلَمّا أَعْطَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا أَعْطَى قُرَيْشًا وَقَبَائِلَ الْعَرَبِ ، وَلَمْ يُعْطِ الْأَنْصَارَ شَيْئًا ، قَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ يُعَاتِبُهُ فِي ذَلِكَ [ ص 275 ]
زَادَتْ هُمُومٌ فَمَاءُ الْعَيْنِ مُنْحَدِرٌ ... سَحَا إذَا حَفَلَتْهُ عَبْرَةٌ دِرَرُ
وَجْدًا بِشَمّاءَ إذْ شَمّاءُ بَهْكَنَةٌ ... هَيْفَاءُ لَا ذَنَنٌ فِيهَا وَلَا خَوَرُ
دَعْ عَنْك شَمّاءَ إذْ كَانَتْ مَوَدّتُهَا ... نَزَرًا وَشَرّ وَصَالِ الْوَاصِلِ النّزَرُ
وَأْتِ الرّسُولَ فَقُلْ يَا خَيْرَ مُؤْتَمَنٍ ... لِلْمُؤْمِنِينَ إذَا مَا عُدّدَ الْبَشَرُ
عَلَامَ تُدْعَى سُلَيْمٌ وَهِيَ نَازِحَةٌ ... قُدّامَ قَوْمٍ هُمْ آوَوْا وَهُمْ نَصَرُوا
سَمّاهُمْ اللّهُ أَنْصَارًا بِنَصْرِهِمْ ... دِينَ الْهُدَى وَعَوَانُ الْحَرْبِ تَسْتَعِرُ
وَسَارَعُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ وَاعْتَرَفُوا ... لِلنّائِبَاتِ وَمَا خَامُوا وَمَا ضَجِرُوا
وَالنّاسُ أَلْبٌ عَلَيْنَا فِيك لَيْسَ لَنَا ... إلّا السّيُوفُ وَأَطْرَافُ الْقَنَا وَزَرُ
نُجَالِدُ النّاسَ لَا نُبْقِي عَلَى أَحَدٍ ... وَلَا نُضَيّعُ مَا تُوحِي بِهِ السّوَرُ
وَلَا تَهِرّ جُنَاةُ الْحَرْبِ نَادِيَنَا ... وَنَحْنُ حِينَ تَلَظّى نَارُهَا سُعُرُ
كَمَا رَدَدْنَا بِبَدْرٍ دُونَ مَا طَلَبُوا ... أَهْلَ النّفَاقِ وَفِينَا يَنْزِلُ الظّفَرُ
وَنَحْنُ جُنْدُك يَوْمَ النّعْفِ مِنْ أُحُدٍ ... إذْ حَزَبَتْ بَطَرًا أَحْزَابَهَا مُضَرُ
فَمَا وَنَيْنَا وَمَا خِمْنَا وَمَا خَبُرُوا ... مِنّا عِثَارًا وَكُلّ النّاسِ قَدْ عَثَرُوا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : حَدّثَنِي زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ قَالَ حَدّثَنَا ابْنُ إسْحَاقَ : قَالَ وَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيَدٍ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ قَالَ لَمّا أَعْطَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا أَعْطَى مِنْ تِلْكَ الْعَطَايَا ، فِي قُرَيْشٍ وَفِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْأَنْصَارِ مِنْهَا شَيْءٌ وَجَدَ هَذَا الْحَيّ مِنْ الْأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتّى كَثُرَتْ مِنْهُمْ الْقَالَةُ حَتّى قَالَ قَائِلُهُمْ لَقَدْ لَقِيَ وَاَللّهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَوْمَهُ فَدَخَلَ عَلَيْهِ سَعْدُ بْنُ عِبَادَةَ ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ هَذَا الْحَيّ مِنْ الْأَنْصَارِ قَدْ وَجَدُوا عَلَيْك فِي أَنْفُسِهِمْ لِمَا صَنَعْت فِي هَذَا الْفَيْءِ الّذِي أَصَبْت ، قَسَمْت فِي قَوْمِك ، وَأَعْطَيْت عَطَايَا عِظَامًا فِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ ، وَلَمْ يَكُ فِي هَذَا الْحَيّ مِنْ الْأَنْصَارِ مِنْهَا شَيْءٌ . قَالَ [ ص 276 ] فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ ؟ " قَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ مَا أَنَا إلّا مِنْ قَوْمِي ، قَالَ " فَاجْمَعْ لِي قَوْمَك فِي هَذِهِ الْحَظِيرَةِ " قَالَ فَخَرَجَ سَعْدٌ فَجَمَعَ الْأَنْصَارَ فِي تِلْكَ الْحَظِيرَةِ قَالَ فَجَاءَ رِجَالٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ فَتَرَكَهُمْ فَدَخَلُوا ، وَجَاءَ آخَرُونَ فَرَدّهُمْ فَلَمّا اجْتَمَعُوا لَهُ أَتَاهُ سَعْدٌ فَقَالَ قَدْ اجْتَمَعَ لَك هَذَا الْحَيّ مِنْ الْأَنْصَارِ ، فَأَتَاهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَحَمِدَ اللّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمّ قَالَ " يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ : مَا قَالَة بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ وَجْدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا عَلَيّ فِي أَنْفُسِكُمْ ؟ أَلَمْ آتِكُمْ ضُلّالًا فَهُدَاكُمْ اللّه ، وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمْ اللّهُ وَأَعْدَاءَ فَأَلّفَ اللّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ " قَالُوا : بَلَى ، اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنّ وَأَفْضَلُ ثُمّ قَالَ " أَلَا تُجِيبُونَنِي يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ ؟ " قَالُوا : بِمَاذَا نُجِيبُك يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ لِلّهِ وَلِرَسُولِهِ الْمَنّ وَالْفَضْلُ قَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " أَمَا وَاَللّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَلَصَدَقْتُمْ وَلَصُدّقْتُمْ أَتَيْتنَا مُكَذّبًا فَصَدّقْنَاك ، وَمَخْذُولًا فَنَصَرْنَاك ، وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاك ، وَعَائِلًا فَآسَيْنَاك . أَوَجَدْتُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِكُمْ فِي لُعَاعَةٍ مِنْ الدّنْيَا تَأَلّفْت بِهَا قَوْمًا لِيُسْلِمُوا ، وَوَكَلْتُكُمْ إلَى إسْلَامِكُمْ أَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ ، أَنْ يَذْهَبَ النّاسُ بِالشّاةِ وَالْبَعِيرِ وَتَرْجِعُوا بِرَسُولِ اللّهِ إلَى رِحَالِكُمْ ؟ فَوَاَلّذِي نَفْسُ مُحَمّدٍ بِيَدِهِ لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْت امْرَأً مِنْ الْأَنْصَارِ ، وَلَوْ سَلَكَ النّاسُ شِعْبًا وَسَلَكَتْ الْأَنْصَارُ شِعْبًا ، لَسَلَكْت شِعْبَ الْأَنْصَارِ . اللّهُمّ ارْحَمْ الْأَنْصَارَ ، وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ ، وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ " قَالَ فَبَكَى الْقَوْمُ حَتّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ وَقَالُوا : رَضِينَا بِرَسُولِ اللّهِ قَسْمًا وَحَظّا . ثُمّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَتَفَرّقُوا
Sشِعْرُ حَسّانَ فِي عِتَابِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَذَكَرَ شِعْرَ حَسّانَ وَفِيهِ [ ص 275 ] هَيْفَاءُ لَا ذَنَنٌ فِيهَا وَلَا خَوَرُ
الذّنَنُ الْغَدْرُ وَالتّفْلُ وَالذّنِينُ الْمُخَاطُ وَالذّنَنُ أَيْضًا أَلّا يَنْقَطِعَ حَيْضُ الْمَرْأَةِ يُقَالُ امْرَأَةٌ دَنّاءُ وَلَوْ رُوِيَ بِالدّالِ الْمُهْمَلَةِ لَكَانَ جَيّدًا أَيْضًا ، فَإِنّ الدّنَنَ بِالدّالِ هُوَ قِصَرُ الْعُنُقِ وَتَطَامُنُهَا ، وَهُوَ عَيْبٌ . وَالْبَهْكَنَةُ الضّخْمَةُ . [ ص 276 ]
حَوْلَ عِتَابِ النّبِيّ لِلْأَنْصَارِ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ قَوْلَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لِلْأَنْصَارِ مَا قَالَة بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ وَجْدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا فِي أَنْفُسِكُمْ هَكَذَا الرّوَايَةُ جِدَةٌ وَالْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ اللّغَةِ مَوْجِدَةٌ إذَا أَرَدْت الْغَضَبَ وَإِنّمَا الْجِدَةُ فِي الْمَالِ . وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ فِي لُعَاعَةٍ مِنْ الدّنْيَا تَأَلّفْت بِهَا قَوْمًا ، لِيُسْلِمُوا . اللّعَاعَةُ بَقْلَةٌ نَاعِمَةٌ وَهَذَا نَحْوٌ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ الْمَالُ حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ وَاللّعَةُ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى ، وَهِيَ الْمَرْأَةُ الْمَلِيحَةُ الْعَفِيفَةُ وَاللّعْلَعُ السّرَابُ وَلُعَاعُهُ بَصِيصُهُ .

جُعَيْلَ بْنُ سُرَاقَةَ
وَذَكَرَ جُعَيْلَ بْنَ سُرَاقَةَ وَقَوْلَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِيهِ وَوَكَلْت جُعَيْلَ بْنَ سُرَاقَةَ إلَى إسْلَامِهِ . نَسَبَ ابْنُ إسْحَاقَ جُعَيْلًا إلَى ضَمْرَةَ وَهُوَ مَعْدُودٌ فِي غِفَارٍ ، لِأَنّ غِفَارًا ، هُمْ بَنُو مُلَيْلِ بْنِ ضَمْرَةَ مِنْ بَنِي لَيْثِ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ . وَأَمّا حَدِيثُ التّمِيمِيّ الّذِي قَالَ لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ [ ص 277 ] أَرَك عَدَلْت ، فَغَضِبَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثُمّ قَالَ إذَا لَمْ يَكُنْ الْعَدْلُ عِنْدِي ، فَعِنْدَ مَنْ يَكُونُ ؟ وَقَالَ أَيْضًا : إنّي أَرَى قِسْمَةَ مَا أُرِيدُ بِهَا وَجْهَ اللّهِ فَقَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَيَأْمَنُنِي اللّهُ فِي السّمَاءِ وَلَا تَأْمَنُونِي أَوْ كَمَا قَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَالرّجُلُ هُوَ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ كَذَلِكَ جَاءَ ذِكْرُهُ فِي الْحَدِيثِ . وَيُذْكَرُ عَنْ الْوَاقِدِيّ أَنّهُ قَالَ هُوَ حُرْقُوصُ بْنُ زُهَيْرٍ السّعْدِيّ مِنْ سَعْدِ تَمِيمٍ وَقَدْ كَانَ لِحُرْقُوصٍ هَذَا مَشَاهِدُ مَحْمُودَةٌ فِي حَرْبِ الْعِرَاقِ مَعَ الْفُرْسِ أَيّامَ عُمَرَ ثُمّ كَانَ خَارِجِيّا ، وَفِيهِ يَقُولُ نُحَيْبَةُ الْخَارِجِيّ حَتّى أُلَاقِيَ فِي الْفِرْدَوْسِ حُرْقُوصًا
وَلِذَلِكَ قَالَ فِيهِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّهُ سَيَكُونُ مِنْ ضِئْضِئِهِ قَوْمٌ تَحْقِرُونَ صَلَاتَكُمْ إلَى صَلَاتِهِمْ وَذَكَرَ صِفَةَ الْخَوَارِجِ ، وَلَيْسَ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ هَذَا ذَا النّدَيّةِ الّذِي قَتَلَهُ عَلِيّ بِالنّهَرِ وَأَنّ ذَلِكَ اسْمُهُ نَافِعٌ ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ ، وَكَلَامُ الْوَاقِدِيّ حَكَاهُ ابْنُ الطّلّاعِ فِي الْأَحْكَامِ لَهُ .

عُمْرَةُ الرّسُولِ مِنْ الْجِعْرَانَةِ
وَاسْتِخْلَافُهُ عَتّابَ بْنَ أَسِيدٍ عَلَى مَكّةَ ، وَحَجّ عَتّابٌ بِالْمُسْلِمِينَ سَنَةَ ثَمَانٍ
اعْتِمَارُ الرّسُولِ وَاسْتِخْلَافُهُ ابْنَ أَسِيدٍ عَلَى مَكّةَ
[ ص 277 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الْجِعْرَانَةِ مُعْتَمِرًا ، وَأَمَرَ بِبَقَايَا الْفَيْءِ فَحُبِسَ بِمَجَنّةَ بِنَاحِيَةِ مَرّ الظّهْرَانِ ، فَلَمّا فَرَغَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ عُمْرَتِهِ انْصَرَفَ رَاجِعًا إلَى الْمَدِينَةِ وَاسْتَخْلَفَ عَتّابَ بْنَ أَسِيدٍ عَلَى مَكّةَ ، وَخَلّفَ مَعَهُ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ ، يُفَقّهُ النّاسَ فِي الدّينِ وَيُعَلّمُهُمْ الْقُرْآنَ وَاتّبِعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِبَقَايَا الْفَيْءِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَبَلَغَنِي عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنّهُ قَالَ لَمّا اسْتَعْمَلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَتّابَ بْنَ أَسِيدٍ عَلَى مَكّةَ رَزَقَهُ كُلّ يَوْمٍ دِرْهَمًا ، فَقَامَ فَخَطَبَ النّاسَ فَقَالَ أَيّهَا النّاسُ أَجَاعَ اللّهُ كَبِدَ مَنْ جَاعَ عَلَى دِرْهَمٍ ، فَقَدْ رَزَقَنِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ دِرْهَمًا كُلّ يَوْمٍ فَلَيْسَتْ بِي حَاجَةٌ إلَى أَحَد
وَقْتُ الْعُمْرَةِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَتْ عُمْرَةُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ فَقَدِمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ فِي بَقِيّةِ ذِي الْقِعْدَةِ أَوْ فِي ذِي الْحِجّةِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَقَدِمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ لِسِتّ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ فَمَا زَعَمَ أَبُو عَمْرٍو الْمَدَنِيّ . [ ص 278 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَجّ النّاسُ تِلْكَ السّنَةَ عَلَى مَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَحُجّ عَلَيْهِ وَحَجّ بِالْمُسْلِمِينَ تِلْكَ السّنَةَ عَتّابُ بْنُ أَسِيدٍ ، وَهِيَ سَنَةُ ثَمَانٍ وَأَقَامَ أَهْلُ الطّائِفِ عَلَى شِرْكِهِمْ وَامْتِنَاعِهِمْ فِي طَائِفِهِمْ مَا بَيْنَ ذِي الْقِعْدَةِ إذْ انْصَرَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ .

أَمْرُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ بَعْدَ الِانْصِرَافِ عَنْ الطّائِفِ
وَلَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ مُنْصَرَفِهِ عَنْ الطّائِفِ كَتَبَ بُجَيْرُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى إلَى أَخِيهِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ يُخْبِرُهُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَتَلَ رِجَالًا بِمَكّةَ مِمّنْ كَانَ يَهْجُوهُ وَيُؤْذِيهِ وَأَنّ مَنْ بَقِيَ مِنْ شُعَرَاءِ قُرَيْشٍ ، ابْنُ الزّبَعْرَى وَهُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ ، قَدْ هَرَبُوا فِي كُلّ وَجْهٍ فَإِنْ كَانَتْ لَك فِي نَفْسِك حَاجَةٌ فَطِرْ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَإِنّهُ لَا يَقْتُلُ أَحَدًا جَاءَهُ تَائِبًا ، وَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَفْعَلْ فَانْجُ إلَى نَجَائِك مِنْ الْأَرْضِ وَكَانَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ قَدْ قَالَ
أَلَا أَبْلِغَا عَنّي بُجَيْرًا رِسَالَةً ... فَهَلْ لَك فِيمَا قُلْت وَيْحَك هَلْ لَكَا ؟
فَبَيّنْ لَنَا إنْ كُنْت لَسْت بِفَاعِلٍ ... عَلَى أَيّ شَيْءٍ غَيْرَ ذَلِكَ دَلّكَا
عَلَى خُلُقٍ لَمْ أُلْفِ يَوْمًا أَبَالَهُ ... عَلَيْهِ وَمَا تُلْفِي عَلَيْهِ أَبَا لَكَا
فَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَفْعَلْ فَلَسْت بِآسِفٍ ... وَلَا قَائِلٍ إمّا عَثَرْت لَعًا لَكَا
سَقَاك بِهَا الْمَأْمُونُ كَأْسًا رَوِيّةً ... فَأَنْهَلَكَ الْمَأْمُونُ مِنْهَا وَعَلّكَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُرْوَى " الْمَأْمُورُ " . وَقَوْلُهُ " فَبَيّنْ لَنَا " عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ . [ ص 279 ]
مَنْ مُبْلِغٌ عَنّي بُجَيْرًا رِسَالَةً ... فَهَلْ لَك فِيمَا قُلْت بِالْخَيْفِ هَلْ لَكَا
شَرِبْت مَعَ الْمَأْمُونِ كَأْسًا رَوِيّةً ... فَأَنْهَلَكَ الْمَأْمُونُ مِنْهَا وَعَلّكَا
وَخَالَفْت أَسْبَابَ الْهُدَى وَاتّبَعْته ... عَلَى أَيّ شَيْءٍ وَيْبَ غَيْرِك دَلّكَا
عَلَى خُلُقٍ لَمْ تُلْفِ أُمّا وَلَا أَبًا ... عَلَيْهِ وَلَمْ تُدْرِكْ عَلَيْهِ أَخًا لَكَا
فَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَفْعَلْ فَلَسْت بِآسِفٍ ... وَلَا قَائِلٍ إمّا عَثَرْت لَعًا لَكَا
قَالَ وَبَعَثَ بِهَا إلَى بُجَيْرٍ فَلَمّا أَتَتْ بُجَيْرًا كَرِهَ أَنْ يَكْتُمَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَنْشَدَهُ إيّاهَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمّا سَمِعَ سَقَاك بِهَا الْمَأْمُونُ صَدَقَ وَإِنّهُ لَكَذُوب أَنَا الْمَأْمُونُ : وَلَمّا سَمِعَ " عَلَى خُلُقٍ لَمْ تُلْفِ أُمّا وَلَا أَبًا عَلَيْهِ " قَالَ أَجَلْ لَمْ يُلْفِ عَلَيْهِ أَبَاهُ وَلَا أُمّهُ ثُمّ قَالَ بُجَيْرٌ لِكَعْبٍ
مَنْ مُبْلِغٌ كَعْبًا فَهَلْ لَك فِي الّتِي ... تَلُومُ عَلَيْهَا بَاطِلًا وَهِيَ أَحْزَمُ
إلَى اللّهِ ( لَا الْعُزّى وَلَا اللّاتِ ) وَحْدَهُ ... فَتَنْجُو إذَا كَانَ النّجَاءُ وَتَسْلَمُ
لَدَى يَوْمِ لَا يَنْجُو وَلَيْسَ بِمُفْلِتٍ ... مِنْ النّاسِ إلّا طَاهِرُ الْقَلْبِ مُسْلِمُ
فَدِينُ زُهَيْرٍ وَهُوَ لَا شَيْءَ دِينُهُ ... وَدِينُ أَبِي سُلْمَى عَلَيّ مُحَرّمُ
[ ص 280 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَإِنّمَا يَقُولُ كَعْبٌ " الْمَأْمُونُ " ، وَيُقَالُ " الْمَأْمُورُ " فِي قَوْلِ ابْنِ هِشَامٍ : لِقَوْلِ قُرَيْشٍ الّذِي كَانَتْ تَقُولُهُ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
Sشِعْرُ بُجَيْرٍ وَكَعْبٍ ابْنَيْ زُهَيْرٍ
فَصْلٌ
[ ص 278 ] وَذَكَرَ قِصّةَ بُجَيْرِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى ، وَاسْمُ أَبِي سُلْمَى : رَبِيعَةُ بْنُ رِيَاحٍ أَحَدُ بَنِي مُزَيْنَةَ . وَفِي شِعْرِ كَعْبٍ إلَى أَخِيهِ بُجَيْرٍ سَقَاك بِهِ الْمَأْمُونُ كَأْسًا رَوِيّةً
وَيُرْوَى : الْمَحْمُودُ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ ابْنِ إسْحَاقَ ، أَرَادَ بِالْمَحْمُودِ مُحَمّدًا - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَكَذَلِكَ الْمَأْمُونُ وَالْأَمِينُ كَانَتْ قُرَيْشٌ تُسَمّي بِهِمَا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَبْلَ النّبُوّةِ . [ ص 279 ] بُجَيْرٍ
عَلَى خُلُقٍ لَمْ تُلْفِ أُمّا وَلَا أَبًا ... عَلَيْهِ وَلَمْ تُدْرِكْ عَلَيْهِ أَخَا لَكَا
إنّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنّ أُمّهُمَا وَاحِدَةٌ وَهِيَ كَبْشَةُ بِنْتُ عَمّارٍ السّحَيْمِيّةُ فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ الْأَعْرَابِيّ عَنْ ابْنِ الْكَلْبِيّ . وَقَوْلُهُ إمّا عَثَرْت لَعًا لَكَا ، كَلِمَةٌ تُقَالُ لِلْعَاثِرِ دُعَاءً لَهُ بِالْإِقَالَةِ قَالَ الْأَعْشَى :
فَالتّعْسُ أَدْنَى لَهَا ... مِنْ أَنْ يُقَالَ لَعَا لَهَا
وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدٍ : فَلَا لَعَا لِبَنِي فَعْلَانَ إذْ عَثَرُوا
وَقَوْلُ بُجَيْرٍ وَدِينُ زُهَيْرٍ وَهُوَ لَا شَيْءَ دِينُهُ
[ ص 280 ] فَقَالَ وَهُوَ لَا شَيْءَ غَيْرُهُ وَفَسّرَهُ عَلَى التّقْدِيمِ وَالتّأْخِيرِ أَرَادَ وَدِينُ زُهَيْرٍ غَيْرُهُ وَهُوَ لَا شَيْءَ . وَرِوَايَةُ ابْنِ إسْحَاقَ أَبْعَدُ مِنْ الْإِشْكَالِ وَأَصَحّ ، وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَكَعْبٌ هَذَا مِنْ فُحُولِ الشّعَرَاءِ هُوَ وَأَبُوهُ زُهَيْرٌ وَكَذَلِكَ ابْنُهُ عُقْبَةُ بْنُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ يُعْرَفُ عُقْبَةُ بِالْمُضَرّبِ وَابْنُ عُقْبَةَ الْعَوّامُ شَاعِرٌ أَيْضًا ، وَهُوَ الّذِي يَقُولُ
أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ تَغَيّرَ بَعْدَنَا ... مَلَاحَةُ عَيْنَيْ أُمّ عَمْرٍو وَجِيدُهَا
وَهَلْ بَلِيَتْ أَثْوَابُهَا بَعْدَ جِدّةٍ ... أَلَا حَبّذَ أَخْلَاقُهَا وَجَدِيدُهَا
وَمِمّا يُسْتَحْسَنُ وَيُسْتَجَادُ مِنْ قَوْلِ كَعْبٍ
لَوْ كُنْت أَعْجَبُ مِنْ شَيْءٍ لَأَعْجَبَنِي ... سَعْيُ الْفَتَى وَهُوَ مَخْبُوءٌ لَهُ الْقَدَرُ
يَسْعَى الْفَتَى لِأُمُورٍ لَيْسَ يُدْرِكُهَا ... فَالنّفْسُ وَاحِدَةٌ وَالْهَمّ مُنْتَشِرُ
وَالْمَرْءُ مَا عَاشَ مَمْدُودٌ لَهُ أَمَلٌ ... لَا تَنْتَهِي الْعَيْنُ حَتّى يَنْتَهِي الْأَثَرُ
وَقَوْلُهُ
إنْ كُنْت لَا تَرْهَبُ ذَمّي ... لِمَا تَعْرِفُ مِنْ صَفْحِي عَنْ الْجَاهِلْ
فَاخْشَ سُكُوتِي إذْ أَنَا مُنْصِتٌ ... فِيك لِمَسْمُوعِ خَنَا الْقَائِلْ
فَالسّامِعُ الذّمّ شَرِيكٌ لَهُ ... وَمُطْعِمُ الْمَأْكُولِ كَالْآكِلْ
مَقَالَةُ السّوءِ إلَى أَهْلِهَا ... أَسْرَعُ مِنْ مُنْحَدِرٍ سَائِلْ
وَمَنْ دَعَا النّاسَ إلَى ذَمّهِ ... ذَمّوهُ بِالْحَقّ وَبِالْبَاطِلْ

قُدُومُ كَعْبٍ عَلَى الرّسُولِ وَقَصِيدَتُهُ اللّامِيّةُ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا بَلَغَ كَعْبًا الْكِتَابُ ضَاقَتْ بِهِ الْأَرْضُ وَأَشْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ وَأَرْجَفَ بِهِ مَنْ كَانَ فِي حَاضِرِهِ مِنْ عَدُوّهِ فَقَالُوا : هُوَ مَقْتُولٌ فَلَمّا لَمْ يَجِدْ مِنْ شَيْءٍ بُدّا ، قَالَ قَصِيدَتَهُ الّتِي يَمْدَحُ فِيهَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَذَكَرَ فِيهَا خَوْفَهُ وَإِرْجَافَ الْوُشَاةِ بِهِ [ ص 281 ] خَرَجَ حَتّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ ، فَنَزَلَ عَلَى رَجُلٍ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مَعْرِفَةٌ مِنْ جُهَيْنَةَ ، كَمَا ذُكِرَ لِي ، فَغَدَا بِهِ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ صَلّى الصّبْحَ فَصَلّى مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثُمّ أَشَارَ لَهُ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ هَذَا رَسُولُ اللّهِ فَقُمْ إلَيْهِ فَاسْتَأْمِنْهُ . فَذُكِرَ لِي أَنّهُ قَامَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى جَلَسَ إلَيْهِ فَوَضَعَ يَدَهُ فِي يَدِهِ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا يَعْرِفُهُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ كَعْبَ بْنَ زُهَيْرٍ قَدْ جَاءَ لِيَسْتَأْمِنَ مِنْك تَائِبًا مُسْلِمًا ، فَهَلْ أَنْتَ قَابِلٌ مِنْهُ إنْ أَنَا جِئْتُك بِهِ ؟ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " نَعَمْ " ، قَالَ أَنَا يَا رَسُولَ اللّهِ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ : أَنّهُ وَثَبَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ دَعْنِي وَعَدُوّ اللّهِ أَضْرِبُ عُنُقَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ دَعْهُ عَنْك ، فَإِنّهُ قَدْ جَاءَ تَائِبًا ، نَازِعًا ( عَمّا كَانَ عَلَيْهِ ) فَقَالَ فَغَضِبَ كَعْبٌ عَلَى هَذَا الْحَيّ مِنْ الْأَنْصَارِ ، لِمَا صَنَعَ بِهِ صَاحِبُهُمْ وَذَلِكَ أَنّهُ لَمْ يَتَكَلّمْ فِيهِ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ إلّا بِخَيْرٍ

فَقَالَ فِي قَصِيدَتِهِ الّتِي قَالَ حِينَ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
بَانَتْ سُعَادُ فَقَلْبِي الْيَوْمَ مَتْبُولُ ... مُتَيّمٌ إثْرَهَا لَمْ يُفْدَ مَكْبُولُ
وَمَا سُعَادُ غَدَاةَ الْبَيْنِ إذْ رَحَلُوا ... إلّا أَغَنّ غَضِيضُ الطّرْفِ مَكْحُولُ
هَيْفَاءُ مُقْبِلَةٌ عَجْزَاءُ مُدْبِرَةٌ ... لَا يُشْتَكَى قِصَرٌ مِنْهَا وَلَا طُولُ
تَجْلُو عَوَارِضَ ذِي ظَلْمٍ إذَا ابْتَسَمَتْ ... كَأَنّهُ مَنْهَلٌ بِالرّوْحِ مَعْلُولُ
شُجّتْ بِذِي شَيَمٍ مِنْ مَاءِ مَحْنِيَةٍ ... صَافٍ بِأَبْطَحَ أَضْحَى وَهُوَ مَشْمُولُ
[ ص 282 ]
تَنْفِي الرّيَاحُ الْقَذَى عَنْهُ وَأَفْرَطَهُ ... مِنْ صَوْبِ غَادِيَةٍ بِيضٌ يَعَالِيلُ
فَيَا لَهَا حُلّةٌ لَوْ أَنّهَا صَدَقَتْ ... بِوَعْدِهَا أَوْ لَوْ إنّ النّصْحَ مَقْبُولُ
لَكِنّهَا خُلّةٌ قَدْ سِيطَ مِنْ دَمِهَا ... فَجَعٌ وَوَلَعٌ وَإِخْلَافٌ وَتَبْدِيلُ
فَمَا تَدُومُ عَلَى حَالٍ تَكُونُ بِهَا ... كَمَا تَلَوّنَ فِي أَثْوَابِهَا الْغُولُ
وَمَا تَمَسّكَ بِالْعَهْدِ الّذِي زَعَمَتْ ... إلّا كَمَا يُمْسِكُ الْمَاءَ الْغَرَابِيلُ
فَلَا يَغُرّنّكَ مَا مَنّتْ وَمَا وَعَدَتْ ... إنّ الْأَمَانِيّ وَالْأَحْلَامَ تَضْلِيلُ
[ ص 283 ]
كَانَتْ مَوَاعِيدُ عُرْقُوبٍ لَهَا مَثَلًا ... وَمَا مَوَاعِيدُهَا إلّا الْأَبَاطِيلُ
أَرْجُو وَآمُلُ أَنْ تَدْنُو مَوَدّتُهَا ... وَمَا إخَالُ لَدَيْنَا مِنْك تَنْوِيلُ
أَمْسَتْ سُعَادُ بِأَرْضٍ لَا يُبَلّغُهَا ... إلّا الْعِتَاقُ النّجِيبَاتُ الْمَرَاسِيلُ
وَلَنْ يُبَلّغَهَا إلّا عُذَافِرَةٌ ... لَهَا عَلَى الْأَيْنِ إرْقَالٌ وَتَبْغِيلُ
مِنْ كُلّ نَضّاخَةِ الذّفْرَى إذَا عَرِقَتْ ... عُرْضَتُهَا طَامِسُ الْأَعْلَامِ مَجْهُولُ
تَرْمِي الْغُيُوبَ بِعَيْنَيْ مُفْرِدٍ لَهَقٍ ... إذَا تَوَقّدَتْ الْحِزّانُ وَالْمِيلُ
ضَخْمٌ مُقَلّدُهَا فَعْمٌ مُقَيّدُهَا ... فِي خَلْقِهَا عَنْ بَنَاتِ الْفَحْلِ تَفْضِيلُ
غَلْبَاءُ وَجْنَاءُ عُلْكُومٌ مُذّكّرَةٌ ... فِي دَفّهَا سَعَةٌ قُدّامُهَا مِيلُ
وَجِلْدُهَا مِنْ أُطُومٍ مَا يُؤَيّسُهُ ... طِلْحٌ بِضَاحِيَةِ الْمَتْنَيْنِ مَهْزُولُ
[ ص 284 ]
حَرْفٌ أَخُوهَا أَبُوهَا مِنْ مُهَجّنَةٍ ... وَعَمّهَا خَالُهَا قَوْدَاءُ شِمْلِيلُ
يَمْشِي الْقُرَادُ عَلَيْهَا ثُمّ يُزْلِقُهُ ... مِنْهَا لَبَانٌ وَأَقْرَابٌ زَهَالِيلُ
عَيْرَانَةٌ قُذِفَتْ بِالنّحْضِ عَنْ عُرُضٍ ... مِرْفَقُهَا عَنْ بَنَاتِ الزّوْرِ مَفْتُولُ
كَأَنّمَا فَاتَ عَيْنَيْهَا وَمَذْبَحُهَا ... مِنْ خَطْمِهَا وَمِنْ اللّحْيَيْنِ بِرْطِيلُ
تَمُرّ مِثْلَ عَسِيبِ النّخْلِ ذَا خُصَلٍ ... فِي غَارِزٍ لَمْ تَخَوّنُهُ الْأَحَالِيلُ
قَنْوَاءُ فِي حُرّتَيْهَا لِلْبَصِيرِ بِهَا ... عِتْقٌ مُبِينٌ وَفِي الْخَدّيْنِ تَسْهِيلُ
تَخْدِي عَلَى يَسَرَاتٍ وَهِيَ لَاحِقَةٌ ... ذَوَابِلٌ مَسّهُنّ الْأَرْضَ تَحْلِيلُ
سُمْرُ الْعُجَايَاتِ يَتْرُكْنَ الْحَصَى زِيَمًا ... لَمْ يَقِهِنّ رُءُوسُ الْأُكْمِ تَنْعِيلُ
[ ص 285 ]
كَأَنّ أَوْبَ ذِرَاعَيْهَا وَقَدْ عَرِقَتْ ... وَقَدْ تَلَفّعَ بِالْقُورِ الْعَسَاقِيلُ
يَوْمًا يَظَلّ بِهِ الْحِرْبَاءُ مُصْطَخِدًا ... كَأَنّ ضَاحِيَهُ بِالشّمْسِ مَمْلُولُ
وَقَالَ لِلْقَوْمِ حَادِيهِمْ وَقَدْ جُعِلَتْ ... وُرْقُ الْجَنَادِبِ يَرْكُضْنَ الْحَصَا قِيلُوا
شَدّ النّهَارُ ذِرَاعًا عَيْطَلٍ نَصَفٌ ... قَامَتْ فَجَاوَبَهَا نُكْدٌ مَثَاكِيلُ
نَوّاحَةٌ رَخْوَةُ الضّبَعَيْنِ لَيْسَ لَهَا ... لَمّا نَعَى بِكْرَهَا النّاعُونَ مَعْقُولُ
تَفْرِي اللّبَانَ بِكَفّيْهَا وَمِدْرَعِهَا ... مُشَقّقٌ عَنْ تَرَاقِيهَا رَعَابِيلُ
تَسْعَى الْغُوَاةُ جَنَابَيْهَا وَقَوْلُهُمْ ... إنّك يَا ابْنَ أَبِي سُلْمَى لَمَقْتُولُ
[ ص 286 ]
وَقَالَ كُلّ صَدِيقٍ كُنْت آمُلُهُ ... لَا أُلْهِيَنّكَ إنّي عَنْك مَشْغُولُ
فَقُلْت خَلّوا سَبِيلِي لَا أَبَا لَكُمْ ... فَكُلّ مَا قَدّرَ الرّحْمَنُ مَفْعُولُ
كُلّ ابْنِ أُنْثَى وَإِنْ طَالَتْ سَلَامَتُهُ ... يَوْمًا عَلَى آلَةٍ حَدْبَاءَ مَحْمُولُ
نُبّئْت أَنّ رَسُولَ اللّهِ أَوْعَدَنِي ... وَالْعَفْوُ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ مَأْمُولُ
مَهْلًا هَدَاك الّذِي أَعْطَاك نَافِلَةَ الْ ... قُرْآنِ فِيهَا مَوَاعِيظٌ وَتَفْصِيلُ
لَا تَأْخُذَنّي بِأَقْوَالِ الْوُشَاةِ وَلَمْ ... أُذْنِبْ وَلَوْ كَثُرَتْ فِيّ الْأَقَاوِيلُ
لَقَدْ أَقُومُ مَقَامًا لَوْ يَقُومُ بِهِ ... أَرَى وَأَسْمَعُ مَا لَوْ يَسْمَعُ الْفِيلُ
لَظَلّ يَرْعَدُ إلّا أَنْ يَكُونَ لَهُ ... مِنْ الرّسُولِ بِإِذْنِ اللّهِ تَنْوِيلُ
حَتّى وَضَعْت يَمِينِي مَا أُنَازِعُهُ ... فِي كَفّ ذِي نَقَمَاتٍ قِيلُهُ الْقِيلُ
[ ص 287 ]
فَلَهُوَ أَخَوْفُ عِنْدِي إذْ أُكَلّمُهُ ... وَقِيلَ إنّك مَنْسُوبٌ وَمَسْئُولُ
مِنْ ضَيْغَمٍ بِضَرّاءِ الْأَرْضِ مُخْدَرُهُ ... فِي بَطْنِ عَثّرَ غِيلٌ دُونَهُ غِيلُ
يَغْدُو فَيَلْحَمُ ضِرْغَامَيْنِ عَيْشُهُمَا ... لَحْمٌ مِنْ النّاسِ مَعْفُورٌ خَرَادِيلُ
إذَا يُسَاوِرُ قِرْنًا لَا يَحِلّ لَهُ ... أَنْ يَتْرُكَ الْقِرْنَ إلّا وَهُوَ مَفْلُولُ
مِنْهُ تَظَلّ سِبَاعُ الْجَوّ نَافِرَةً ... وَلَا تَمْشِي بِوَادِيهِ الْأَرَاجِيلُ
وَلَا يَزَالُ بِوَادِيهِ أَخُو ثِقَةٍ ... مُضَرّجُ الْبِزّ وَالدّرْسَانِ مَأْكُولُ
إنّ الرّسُولَ لَنُورٌ يُسْتَضَاءُ بِهِ ... مُهَنّدٌ مِنْ سُيُوفِ اللّهِ مَسْلُولُ
فِي عُصْبَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَالَ قَائِلُهُمْ ... بِبَطْنِ مَكّةَ لَمّا أَسْلَمُوا زُولُوا
زَالُوا فَمَا زَالَ أَنْكَاسٌ وَلَا كُشَفٌ ... عِنْدَ اللّقَاءِ وَلَا مِيلٌ مَعَازِيلُ
شُمّ الْعَرَانِينِ أَبْطَالٌ لَبُوسُهُمْ ... مِنْ نَسْجِ دَاوُدَ فِي الْهَيْجَا سَرَابِيلُ
بِيضٌ سَوَابِغُ قَدْ شُكّتْ لَهَا حَلَقٌ ... كَأَنّهَا حَلَقُ الْقَفْعَاءِ مَجْدُولُ
[ ص 288 ]
لَيْسُوا مَفَارِيحَ إنْ نَالَتْ رِمَاحُهُمْ ... قَوْمًا وَلَيْسُوا مَجَازِيعًا إذَا نِيلُوا
يَمْشُونَ مَشْيَ الْجِمَالِ الزّهْرِ يَعْصِمُهُمْ ... ضَرْبٌ إذَا عَرّدَ السّودُ التّنَابِيلُ
لَا يَقَعُ الطّعْنُ إلّا فِي نُحُورِهِمْ ... وَمَا لَهُمْ عَنْ حِيَاضِ الْمَوْتِ تَهْلِيلُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَالَ كَعْبٌ هَذِهِ الْقَصِيدَةَ بَعْدَ قُدُومِهِ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ وَبَيْتُهُ " حَرْفٌ أَخُوهَا أَبُوهَا " وَبَيْتُهُ " يَمْشِي الْقُرَادَ " وَبَيْتُهُ " عَيْرَانَةٌ قُذِفَتْ " ، وَبَيْتُهُ " تَمُرّ مِثْلَ عَسِيبِ النّخْلِ " ، وَبَيْتُهُ " تَفْرِي اللّبَانَ " وَبَيْتُهُ " إذَا يُسَاوِرُ قَرْنًا " وَبَيْتُهُ " وَلَا يَزَالُ بِوَادِي " : عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ .
Sقَصِيدَةُ بَانَتْ سُعَادُ
وَذَكَرَ قَصِيدَتَهُ [ ص 281 ] بَانَتْ سُعَادُ فَقَلْبِي الْيَوْمَ مَتْبُولُ
وَفِيهَا قَوْلُهُ شُجّتْ بِذِي شَبَمٍ . يَعْنِي : الْخَمْرَ وَشُجّتْ كُسِرَتْ مِنْ أَعْلَاهَا لِأَنّ الشّجّةَ لَا تَكُونُ إلّا فِي الرّأْسِ وَالشّيَمُ [ ص 282 ] مَلَأَهُ . وَالْبِيضُ الْيَعَالِيلُ السّحَابُ وَقِيلَ جِبَالٌ يَنْحَدِرُ الْمَاءُ مِنْ أَعْلَاهَا ، وَالْيَعَالِيلُ أَيْضًا : الْغُدْرَانُ وَاحِدُهَا يَعْلُولٌ لِأَنّهُ يُعِلّ الْأَرْضَ بِمَائِهِ . وَقَوْلُهُ يَا وَيْحَهَا خُلّةٌ قَدْ سِيطَ مِنْ دَمِهَا
أَيْ خُلِطَ بِلَحْمِهَا وَدَمِهَا هَذِهِ الْأَخْلَاقُ الّتِي وَصَفَهَا بِهَا مِنْ الْوَلَعِ وَهُوَ الْخَلْفُ وَالْكَذِبُ وَالْمَطْلُ يُقَالُ سَاطَ الدّمَ وَالشّرَابَ إذَا ضَرَبَ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ . وَقَالَ الشّاعِرُ يَصِفُ عَبْدَ اللّهِ بْنَ عَبّاسٍ :
صَمُوتٌ إذَا مَا زَيّنَ الصّمْتُ أَهْلَهُ ... وَفَتّاقُ أَبْكَارِ الْكَلَامِ الْمُخَتّمِ
وَعَى مَا حَوَى الْقُرْآنُ مِنْ كُلّ حِكْمَةٍ ... وَسِيطَتْ لَهُ الْآدَابُ بِاللّحْمِ وَالدّمِ
وَالْغُولُ الّتِي تَتَرَاءَى بِاللّيْلِ . وَالسّعْلَاةُ مَا تَرَاءَى بِالنّهَارِ مِنْ الْجِنّ ، وَقَدْ أَبْطَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حُكْمَ الْغُولِ حَيْثُ قَالَ لَا عَدْوَى وَلَا غُولَ وَلَيْسَ يُعَارِضُ هَذَا مَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ إذَا تَغَوّلَتْ الْغِيلَانُ فَارْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ بِالْأَذَانِ وَكَذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي أَيّوبَ مَعَ الْغُولِ حِينَ أَخَذَهَا ، لِأَنّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السّلَامُ " لَا غُولَ إنّمَا أَبْطَلَ بِهِ مَا كَانَتْ الْجَاهِلِيّةُ تَتَقَوّلُهُ مِنْ أَخْبَارِهَا وَخُرَافَاتِهَا مَعَهَا " . [ ص 283 ] كَانَتْ مَوَاعِيدُ عُرْقُوبٍ لَهَا مَثَلًا
هُوَ عُرْقُوبُ بْنُ صَخْرٍ مِنْ الْعَمَالِيقِ الّذِينَ سَكَنُوا يَثْرِبَ ، وَقِيلَ بَلْ هُوَ مِنْ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ ، وَقِصّتُهُ فِي إخْلَافِ الْوَعْدِ مَشْهُورَةٌ حِينَ وَعَدَ أَخَاهُ بِجَنَا نَخْلَةٍ لَهُ وَعْدًا مِنْ بَعْدِ وَعْدٍ ثُمّ جَذّهَا لَيْلًا ، وَلَمْ يُعْطِهِ شَيْئًا . وَالتّبْغِيلُ ضَرْبٌ مِنْ السّيْرِ سَرِيعٌ وَالْحِزّانُ جَمْعُ حَزْنٍ وَهُوَ مَا غَلُظَ مِنْ الْأَرْضِ . وَالْمِيلُ مَا اتّسَعَ مِنْهَا . وَقَوْلُهُ تَرْمِي النّجَادَ وَأَنْشَدَهُ أَبُو عَلِيّ تَرْمِي الْغُيُوبَ وَهُوَ جَمْعُ غَيْبٍ وَهُوَ مَا غَار مِنْ الْأَرْضِ كَمَا قَالَ ابْنُ مِقْبَلٍ لَزْمُ الْغُلَامِ وَرَاءَ الْغَيْبِ بِالْحَجَرِ
وَقَوْلُهُ
حَرْفٌ أَبُوهَا أَخُوهَا مِنْ مُهَجّنَةٍ ... وَعَمّهَا خَالُهَا قَوْدَاءُ شِمْلِيلُ
[ ص 284 ] الطّوِيلَةُ الْعُنُقِ . وَالشّمْلِيلُ السّرِيعَةُ . وَالْحَرْفُ النّاقَةُ الضّامِرُ . وَقَوْلُهُ مِنْ مُهَجّنَةٍ أَيْ مِنْ إبِلٍ مُهَجّنَةٍ مُسْتَكْرَمَةٍ هِجَانٍ . وَقَوْلُهُ أَبُوهَا أَخُوهَا أَيْ أَنّهُمَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ مِنْ الْكَرَمِ وَقِيلَ إنّهَا مِنْ فَحْلٍ حَمَلَ عَلَى أُمّهِ فَجَاءَتْ بِهَذِهِ النّاقَةِ فَهُوَ أَبُوهَا وَأَخُوهَا ، وَكَانَتْ لِلنّاقَةِ الّتِي هِيَ أُمّ هَذِهِ بِنْتٌ أُخْرَى مِنْ الْفَحْلِ الْأَكْبَرِ فَعَمّهَا خَالُهَا عَلَى هَذَا ، وَهُوَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَكْرَمِ النّتَاجِ وَالْقَوْلُ الْأَوّلُ ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيّ الْقَالِيّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ فَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَقَوْلُهُ أَقْرَابٌ زَهَالِيلُ أَيْ خَوَاصِرُ مُلْسٌ وَاحِدُهَا : زُهْلُولٌ وَالْبِرْطِيلُ حَجَرٌ طَوِيلٌ وَيُقَالُ لِلْمِعْوَلِ أَيْضًا : بِرْطِيلٌ . وَقَوْلُهُ ذَوَابِلٌ وَقْعُهُنّ الْأَرْضَ تَحْلِيلُ
تَحْلِيلُ أَيْ قَلِيلٌ . يُقَالُ مَا أَقَامَ عِنْدَنَا إلّا كَتَحْلِيلِ الْأَلِيّةِ وَكَتَحِلّةِ الْمَقْسِمِ وَعَلَيْهِ حَمَلَ ابْنُ قُتَيْبَةَ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السّلَامُ لَنْ تَمَسّهُ النّارُ إلّا تَحِلّةَ الْقَسَمِ وَغَلّطَ أَبَا عُبَيْدٍ حَيْثُ فَسّرَهُ عَلَى الْقَسَمِ حَقِيقَةً . قَالَ الْقُتَبِيّ لَيْسَ فِي الْآيَةِ قَسَمٌ لِأَنّهُ قَالَ { وَإِنْ مِنْكُمْ إِلّا وَارِدُهَا } [ مَرْيَمُ : 71 ] وَلَمْ يُقْسِمْ . قَالَ الْخَطّابِيّ : هَذِهِ غَفْلَةٌ مِنْ ابْنِ قُتَيْبَةَ فَإِنّ فِي أَوّلِ الْآيَةِ { فَوَرَبّكَ لَنَحْشُرَنّهُمْ وَالشّيَاطِينَ } وَقَوْلُهُ { وَإِنْ مِنْكُمْ إِلّا وَارِدُهَا } دَاخِلٌ تَحْتَ الْقَسَمِ الْمُتَقَدّمِ . [ ص 285 ] جَمْعُ قَارَةٍ وَهِيَ الْحِجَارَةُ السّودُ . وَالْعَسَاقِيلُ هُنَا السّرَابُ وَهَذَا مِنْ الْمَقْلُوبِ أَرَادَ وَقَدْ تَلَفّعَتْ الْقُودُ بِالْعَسَاقِيلِ . وَفِيهَا قَوْلُهُ تَمْشِي الْغُوَاةُ بِجَنْبَيْهَا ، أَيْ بِجَنْبَيْ نَاقَتِهِ .
عَنْ الْقَوْلِ وَالْقِيلِ إعْرَابًا وَمَعْنًى
وَقَوْلُهُ إنّك يَا ابْنَ أَبِي سُلْمَى لَمَقْتُولُ
وَيُرْوَى : وَقَيْلُهُمْ وَهُوَ أَحْسَنُ فِي الْمَعْنَى ، وَأَوْلَى بِالصّوَابِ لِأَنّ الْقِيلَ هُوَ الْكَلَامُ الْمَقُولُ فَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَقَوْلُهُ إنّك يَا ابْنَ أَبِي سُلْمَى لَمَقْتُولُ خَبَرٌ تَقُولُ إذَا سُئِلْت مَا قِيلُك ؟ قِيلِي : إنّ اللّهَ وَاحِدٌ فَقَوْلُك : إنّ اللّهَ وَاحِدٌ هُوَ الْقِيلُ وَالْقَوْلُ مَصْدَرٌ كَالطّحْنِ وَالذّبْحِ وَالْقِيلُ اسْمٌ لِلْمَقُولِ كَالطّحْنِ وَالذّبْحِ بِكَسْرِ أَوّلِهِ وَإِنّمَا حَسُنَتْ هَذِهِ الرّوَايَةُ لِأَنّ الْقَوْلَ مَصْدَرٌ فَيَصِيرُ إنّك يَا ابْنَ أَبِي سُلْمَى فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ فِيهِ فَيَبْقَى الْمُبْتَدَأُ بِلَا خَبَرٍ إلّا أَنْ تَجْعَلَ الْمَقُولَ هُوَ الْقَوْلَ عَلَى الْمَجَازِ كَمَا يُسَمّى الْمَخْلُوقُ خَلْقًا ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ عَزّ وَجَلّ { وَقِيلِهِ يَا رَبّ } [ الزّخْرُفُ 88 ] فِي مَوْضِعِ الْبَدَلِ مِنْ الْقِيلِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ { إِلّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا } [ الْوَاقِعَةُ 26 ] مُنْتَصِبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ فَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْبَدَلِ مِنْ قِيلًا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلًا } [ النّسَاءُ 122 ] أَيْ حَدِيثًا مَقُولًا ، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَسْأَلَةٌ مِنْ النّحْوِ ذَكَرَهَا سِيبَوَيْهِ ، وَابْنُ السّرَاجِ فِي كِتَابِهِ وَأَخَذَ الْفَارِسِيّ مِنْهُمَا ، أَوْ مِنْ ابْنِ السّرَاجِ فَكَثِيرًا مَا يَنْقُلُ مِنْ كِتَابِهِ بِلَفْظِهِ غَيْرَ أَنّهُ أَفْسَدَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَلَمْ [ ص 286 ] أَرَادَ بِهَا ، وَذَلِكَ أَنّهُمَا قَالَا : إذَا قُلْت أَوّلَ مَا أَقُولُ إنّي أَحْمَدُ اللّهَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ فَهُوَ عَلَى الْحِكَايَةِ فَظَنّ الْفَارِسِيّ أَنّهُ يُرِيدُ عَلَى الْحِكَايَةِ بِالْقَوْلِ فَجَعَلَ إنّي أَحْمَدُ اللّهَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ بِأَقُولُ فَلَمّا بَقِيَ لَهُ الْمُبْتَدَأُ بِلَا خَبَرٍ تَكَلّفَ لَهُ تَقْدِيرًا لَا يُعْقَلُ فَقَالَ تَقْدِيرُهُ أَوّلُ مَا أَقُولُ إنّي أَحْمَدُ اللّهَ مَوْجُودٌ أَوْ ثَابِتٌ فَصَارَ مَعْنَى كَلَامِهِ إلَى أَنّ أَوّلَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ الّتِي هِيَ إنّي أَحْمَدُ اللّهَ مَوْجُودٌ أَيْ أَوّلُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ مَوْجُودٌ فَآخِرُهَا إذًا مَعْدُومٌ وَهَذَا خُلْفٌ مِنْ الْقَوْلِ كَمَا تَرَى ، وَقَدْ وَافَقَهُ ابْنُ جِنّي عَلَيْهِ رَأَيْته فِي بَعْضِ مَسَائِلِهِ قَالَ قُلْت لِأَبِي عَلِيّ لِمَ لَا يَكُونُ إنّي أَحْمَدُ اللّهَ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ ، كَمَا تَقُولُ أَوّلُ سُورَةٍ أَقْرَؤُهَا : { إِنّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } [ الْكَوْثَرُ : 1 ] أَوْ نَحْوَ هَذَا وَلَا يَحْتَاجُ إلَى حَذْفِ خَبَرٍ قَالَ فَسَكَتَ وَلَمْ يَجِدْ جَوَابًا ، وَإِنّمَا مَعْنَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَوّلُ مَا أَقُولُ أَيْ أَوّلُ الْقِيلِ الّذِي أَقُولُهُ إنّي أَحْمَدُ اللّهَ عَلَى حِكَايَةِ الْكَلَامِ الْمَقُولِ وَهَذَا الّذِي أَرَادَ سِيبَوَيْهِ ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ السّرَاجِ فَإِنْ فَتَحْت الْهَمْزَةَ مِنْ أَنّ صَارَ مَعْنَى الْكَلَامِ أَوّلُ الْقَوْلِ لَا أَوّلُ الْقِيلِ وَكَانَتْ مَا وَاقِعَةً عَلَى الْمَصْدَرِ وَصَارَ مَعْنَاهُ أَوّلُ قَوْلِي الْحَمْدُ إذْ الْحَمْدُ قَوْلٌ وَلَمْ يُبَيّنْ مَعَ فَتْحِ الْهَمْزَةِ كَيْفَ حَمِدَ اللّهَ هَلْ قَالَ الْحَمْدُ لِلّهِ بِهَذَا اللّفْظِ أَوْ غَيْرِهِ وَعَلَى كَسْرِ الْهَمْزَةِ قَدْ بَيّنَ كَيْفَ حَمِدَ حِينَ افْتَتَحَ كَلَامَهُ بِأَنّهُ قَالَ إنّي أَحْمَدُ اللّهَ بِهَذَا اللّفْظِ أَوْ غَيْرِهِ وَعَلَى كَسْرِ الْهَمْزَةِ قَدْ بَيّنَ كَيْفَ حَمِدَ حِينَ افْتَتَحَ كَلَامَهُ بِأَنّهُ قَالَ إنّي أَحْمَدُ اللّهَ بِهَذَا اللّفْظِ لَا بِلَفْظٍ آخَرَ فَقِفْ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَتَدَبّرْهَا إعْرَابًا وَمَعْنًى ، فَقُلْ مَنْ أَحْكَمَهَا وَحَسْبُك أَنّ الْفَارِسِيّ لَمْ يَفْهَمْ عَمّنْ قَبْلَهُ وَجَاءَ بِالتّخْلِيطِ الْمُتَقَدّمِ وَاَللّهُ الْمُسْتَعَانُ . [ ص 287 ]
عَوْدٌ إلَى بَانَتْ سُعَادُ
وَالْخَرَادِيلُ الْقِطَعُ مِنْ اللّحْمِ وَفِي الْحَدِيثِ فِي صِفَةِ الصّرَاطِ فَمِنْهُمْ الْمُوبَقُ بِعَمَلِهِ وَمِنْهُمْ الْمُخَرْدَلُ أَيْ تُخَرْدِلُ لَحْمَهُ الْكَلَالِيبُ الّتِي حَوْلَ الصّرَاطِ سَمِعْت شَيْخَنَا الْحَافِظَ أَبَا بَكْرٍ رَحِمَهُ اللّهُ يَقُولُ تِلْكَ الْكَلَالِيبُ هِيَ الشّهَوَاتُ لِأَنّهَا تَجْذِبُ الْعَبْدَ فِي الدّنْيَا عَنْ الِاسْتِقَامَةِ عَلَى سَوَاءِ الصّرَاطِ فَتُمَثّلُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ عَلَى نَحْوِ ذَلِكَ . وَقَوْلُهُ بِضَرَاءِ الْأَرْضِ . الضّرَاءُ مَا وَارَاك مِنْ شَجَرٍ وَالْخَمْرُ مَا وَارَاك مِنْ شَجَرٍ وَغَيْرِهِ . وَقَوْلُهُ بِوَادِيهِ الْأَرَاجِيلُ أَيْ الرّجّالَةُ قِيلَ إنّهُ جَمْعٌ الْجَمْعُ كَأَنّهُ جَمْعُ الرّجْلِ وَهُمْ الرّجّالَةُ عَلَى أَرْجُلٍ ثُمّ جَمَعَ أَرَجُلًا عَلَى أَرَاجِلَ وَزَادَ الْيَاءَ ضَرُورَةً . وَالدّرْسُ الثّوْبُ الْخَلِقُ . وَالْفَقْعَاءُ شَجَرَةٌ لَهَا ثَمَرٌ كَأَنّهُ حَلَقٌ . وَيُرْوَى أَنّ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حِينَ أَنْشَدَهُ كَعْبٌ
إنّ الرّسُولَ لَنُورٌ يُسْتَضَاءُ بِهِ ... مُهَنّدٌ مِنْ سُيُوفِ اللّهِ مَسْلُولُ
نَظَرَ إلَى أَصْحَابِهِ كَالْمُعْجَبِ لَهُمْ مِنْ حُسْنِ الْقَوْلِ وَجَوْدَةِ الشّعْرِ . [ ص 288 ] لَيْسَ لَهُمْ عَنْ حِيَاضِ الْمَوْتِ تَهْلِيلُ
التّهْلِيلُ أَيْ يَنْكُصُ الرّجُلُ عَنْ الْأَمْرِ جُبْنًا . وَقَوْلُهُ فِي الْأَنْصَارِ : ضَرَبُوا عَلِيّا يَوْمَ بَدْرٍ ضَرْبَةً
بَنُو عَلِيّ هُمْ بَنُو كِنَانَةَ ، يُقَالُ لَهُمْ بَنُو عَلِيّ لِمَا تَقَدّمَ ذِكْرُهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَأَرَادَ ضَرَبُوا قُرَيْشًا لِأَنّهُمْ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ .

اسْتِرْضَاءُ كَعْبِ الْأَنْصَارِ بِمَدْحِهِ إيّاهُمْ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ : فَلَمّا قَالَ كَعْبٌ " إذَا عَرّدَ السّودُ التّنَابِيلُ " ، وَإِنّمَا يُرِيدُنَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ ، لَمّا كَانَ صَاحِبُنَا صَنَعَ بِهِ مَا صَنَعَ وَخَصّ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمِدْحَتِهِ غَضِبَتْ عَلَيْهِ الْأَنْصَارُ ؛ فَقَالَ بَعْدَ أَنْ أَسْلَمَ يَمْدَحُ الْأَنْصَارَ ، وَيَذْكُرُ بَلَاءَهُمْ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَوْضِعَهُمْ مِنْ الْيُمْنِ [ ص 289 ]
مَنْ سَرّهُ كَرَمُ الْحَيَاةِ فَلَا يَزَلْ ... فِي مِقْنَبٍ مِنْ صَالِحِي الْأَنْصَارِ
وَرِقُوا الْمَكَارِمَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ ... إنّ الْخِيَارَ هُمْ بَنُو الْأَخْيَارِ
الْمُكْرِهِينَ السّمْهَرِيّ بِأَذْرُعٍ ... كَسَوَالِفِ الْهِنْدِيّ غَيْرِ قِصَارِ
وَالنّاظِرِينَ بِأَعْيُنٍ مُحْمَرّةٍ ... كَالْجَمْرِ غَيْرِ كَلَيْلَةِ الْأَبْصَارِ
وَالْبَائِعِينَ نُفُوسَهُمْ لِنَبِيّهِمْ ... لِلْمَوْتِ يَوْمَ تَعَانُقٍ وَكِرَارِ
وَالْقَائِدِينَ النّاسَ عَلَى أَدْيَانِهِمْ ... بِالْمَشْرِفِيّ وَبِالْقَنَا الْخَطّارِ
يَتَطَهّرُونَ يَرَوْنَهُ نُسُكًا لَهُمْ ... بِدِمَاءِ مِنْ عَلِقُوا مِنْ الْكُفّارِ
دَرِبُوا كَمَا دَرِبَتْ بِبَطْنِ خَفِيّةٍ ... غُلْبُ الرّقَابِ مِنْ الْأُسُودِ ضَوَارِي
وَإِذَا حَلَلْت لِيَمْنَعُوك إلَيْهِمْ ... أَصْبَحْت عِنْدَ مَعَاقِلِ الْأَعْفَارِ
ضَرَبُوا عَلِيّا يَوْمَ بَدْرٍ ضَرْبَةً ... دَانَتْ لِوَقْعَتِهَا جَمِيعُ نِزَارِ
لَوْ يَعْلَمُ الْأَقْوَامُ عِلْمِي كُلّهُ ... فِيهِمْ لَصَدّقَنِي الّذِينَ أُمَارِي
قَوْمٌ إذَا خَوَتْ النّجُومُ فَإِنّهُمْ ... لِلطّارِقِينَ النّازِلِينَ مَقَارِي
فِي الْغُرّ مِنْ غَسّانَ مِنْ جُرْثُومَةٍ ... أَغْيَتْ مَحَافِرُهَا عَلَى الْمِنْقَارِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لَهُ حِينَ أَنْشَدَهُ " بَانَتْ سُعَادُ فَقَلْبِي الْيَوْمَ مَتْبُولُ " : لَوْلَا ذَكَرْت الْأَنْصَارَ بِخَيْرٍ ، فَإِنّهُمْ لِذَلِكَ أَهْلٌ فَقَالَ كَعْبٌ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ وَهِيَ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . [ ص 290 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَذُكِرَ لِي عَنْ عَلِيّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ أَنّهُ قَالَ أَنْشَدَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْمَسْجِدِ بَانَتْ سُعَادُ فَقَلْبِي الْيَوْمَ مَتْبُولُ
Sوَقَوْلُهُ إذَا عَرّدَ السّودُ التّنَابِيلُ جَمْعُ تِنْبَالٍ وَهُوَ الْقَصِيرُ وَقَوْلُهُ عَرّدَ أَيْ هَرَبَ . قَالَ الشّاعِرُ
يُعَرّدُ عَنْهُ صَحْبُهُ وَصَدِيقُهُ ... وَيَنْبُشُ عَنْهُ كَلْبُهُ وَهُوَ ضَارِبُهْ
عِلّةُ السّوَادِ فِي أَهْلِ الْيَمَنِ وَشَرْحُ بَيْتٍ لِحَسّانَ
[ ص 289 ] وَجَعَلَهُمْ سُودًا لِمَا خَالَطَ أَهْلَ الْيَمَنِ مِنْ السّودَانِ عِنْدَ غَلَبَةِ الْحَبَشَةِ عَلَى بِلَادِهِمْ وَلِذَلِك قَالَ حَسّانُ فِي آلِ جَفْنَةَ
أَوْلَادُ جَفْنَةَ حَوْلَ قَبْرِ أَبِيهِمْ ... بِيضُ الْوُجُوهِ مِنْ الطّرَازِ الْأَوّلِ
يَعْنِي بِقَوْلِهِ مِنْ الطّرَازِ الْأَوّلِ أَنّ آلَ جَفْنَةَ كَانُوا مِنْ الْيَمَنِ ، ثُمّ اسْتَوْطَنُوا الشّامَ بَعْدَ سَيْلِ الْعَرِمِ ، فَلَمْ يُخَالِطْهُمْ السّودَانُ كَمَا خَالَطُوا مَنْ كَانَ مِنْ الْيَمَنِ ، مِنْ الطّرَازِ الْأَوّلِ الّذِي كَانُوا عَلَيْهِ فِي أَلْوَانِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ . وَقَوْلُهُ حَوْلَ قَبْرِ أَبِيهِمْ أَيْ إنّهُمْ لِعِزّهِمْ لَمْ يَجْلُوا عَنْ مَنَازِلِهِمْ قَطّ ، وَلَا فَارَقُوا قَبْرَ أَبِيهِمْ .
مَدْحٌ آخَرَ لِكَعْبٍ
وَمِمّا أَجَادَ فِيهِ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ قَوْلُهُ يَمْدَحُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ [ ص 290 ]
تَخْدِي بِهِ النّاقَةُ الْأَدْمَاءُ مُعْتَجِرًا ... بِالْبُرْدِ كَالْبَدْرِ جَلّى لَيْلَةَ الظّلَمِ
فَفِي عَطَافَيْهِ أَوْ أَثْنَاءِ بُرْدَتِهِ ... مَا يَعْلَمُ اللّهُ مِنْ دِينٍ وَمِنْ كَرَمِ

غَزْوَةُ تَبُوكَ فِي رَجَبٍ سَنَةَ تِسْعٍ
[ ص 291 ] قَالَ حَدّثَنَا أَبُو مُحَمّدٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ قَالَ زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْبَكّائِيّ ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ إسْحَاقَ الْمُطّلِبِيّ قَالَ ثُمّ أَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْمَدِينَةِ مَا بَيْنَ ذِي الْحِجّةِ إلَى رَجَبٍ ثُمّ أَمَرَ النّاسَ بِالتّهَيّؤِ لِغَزْوِ الرّومِ وَقَدْ ذَكَرَ لَنَا الزّهْرِيّ وَيَزْدُ بْنُ رُومَانَ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَعَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ عُلَمَائِنَا ، كُلّ حَدّثَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ مَا بَلَغَهُ عَنْهَا ، وَبَعْضُ الْقَوْمِ يُحَدّثُ مَا لَا يُحَدّثُ بَعْضٌ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ [ ص 292 ] الرّومِ ، وَذَلِكَ فِي زَمَانٍ مِنْ عُسْرَةِ النّاسِ وَشِدّةٍ مِنْ الْحَرّ وَجَدْبٍ مِنْ الْبِلَادِ وَحِينَ طَابَتْ الثّمَارُ وَالنّاسُ يُحِبّونَ الْمُقَامَ فِي ثِمَارِهِمْ وَظِلَالِهِمْ وَيَكْرَهُونَ الشّخُوصَ عَلَى الْحَالِ مِنْ الزّمَانِ الّذِي هُمْ عَلَيْهِ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَلّمَا يَخْرُجُ فِي غَزْوَةٍ إلّا كَنّى عَنْهَا ، وَأَخْبَرَ أَنّهُ يُرِيدُ غَيْرَ الْوَجْهِ الّذِي يَصْمُدُ لَهُ إلّا مَا كَانَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ ، فَإِنّهُ بَيّنَهَا لِلنّاسِ لِبُعْدِ الشّقّةِ وَشِدّةِ الزّمَانِ وَكَثْرَةِ الْعَدُوّ الّذِي يَصْمُدُ لَهُ لِيَتَأَهّبَ النّاسُ لِذَلِكَ أُهْبَتَهُ فَأَمَرَ النّاسَ بِالْجِهَازِ وَأَخْبَرَهُمْ أَنّهُ يُرِيدُ الرّومَ .
Sغَزْوَةُ تَبُوكَ
[ ص 291 ] تَبُوكَ ، وَهِيَ الْعَيْنُ الّتِي أَمَرَ رَسُولُ اللّه - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - النّاسَ أَلَا يَمَسّوا مِنْ مَائِهَا شَيْئًا ، فَسَبَقَ إلَيْهَا رَجُلَانِ وَهِيَ تَبِضُ بِشَيْءٍ مِنْ مَاءٍ فَجَعَلَا يُدْخِلَانِ فِيهَا سَهْمَيْنِ لِيَكْثُرَ مَاؤُهَا ، فَسَبّهُمَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَالَ لَهُمَا : مَا زُلْتُمَا تَبُوكَانِهَا مُنْذُ الْيَوْم فِيمَا ذَكَرَ الْقُتَبِيّ قَالَ وَبِذَلِكَ سُمّيَتْ الْعَيْنُ تَبُوكَ ، وَالْبَوْكُ كَالنّقْشِ وَالْحَفْرِ فِي الشّيْءِ وَيُقَالُ مِنْهُ بَاكَ الْحِمَارُ الْأَتَانَ يَبُوكُهَا إذَا نَزَا عَلَيْهَا . وَوَقَعَ فِي السّيرَةِ فَقَالَ " مَنْ سَبَقَنَا إلَى هَذَا ؟ " فَقِيلَ لَهُ يَا رَسُولَ اللّهِ فُلَانٌ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ وَقَالَ الْوَاقِدِيّ : فِيمَا ذُكِرَ لِي ، سَبَقَهُ إلَيْهَا أَرْبَعَةٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ مُعَتّبُ بْنُ قُشَيْرٍ ، وَالْحَارِثُ بْنُ يَزِيدَ الطّائِيّ ، وَوَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ ، وَزَيْدُ بْنُ لُصَيْتٍ .

شَأْنُ الْجَدّ بْنِ قَيْسٍ
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ فِي جِهَازِهِ ذَلِكَ لِلْجَدّ بْنِ قَيْسٍ أَحَدِ بَنِي سَلِمَةَ : يَا جَدّ ، هَلْ لَك الْعَامَ فِي جِلَادِ بَنِي الْأَصْفَرِ ؟ " فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ أَوَتَأْذَنُ لِي وَلَا تَفْتِنّي ؟ فَوَاَللّهِ لَقَدْ عَرَفَ قَوْمِي أَنّهُ مَا مِنْ رَجُلٍ بِأَشَدّ عُجْبًا بِالنّسَاءِ مِنّي ، وَإِنّي أَخْشَى إنْ رَأَيْت نِسَاءَ بَنِي الْأَصْفَرِ أَنْ لَا أَصْبِرَ فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَالَ " قَدْ أَذِنْت لَك فَفِي الْجَدّ بْنِ قَيْسٍ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ { وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنّ جَهَنّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ } [ التّوْبَةُ 49 ] . أَيْ إنْ كَانَ إنّمَا خَشِيَ الْفِتْنَةَ مِنْ نِسَاءِ بَنِي الْأَصْفَرِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِهِ فَمَا سَقَطَ فِيهِ مِنْ الْفِتْنَةِ أَكْبَرُ بِتَخَلّفِهِ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَالرّغْبَةِ بِنَفْسِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَيَقُولُ وَإِنّ جَهَنّمَ لَمِنْ وَرَائِهِ .
الْمُنَافِقُونَ الْمُثَبّطُونَ
وَقَالَ قَوْمٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرّ زَهَادَةً فِي الْجِهَادِ وَشَكّا فِي الْحَقّ وَإِرْجَافًا بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَنْزَلَ اللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِيهِمْ { وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرّ قُلْ نَارُ جَهَنّمَ أَشَدّ حَرّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [ التّوْبَةُ 81 ، 82 ] .
شِعْرُ الضّحّاكِ فِي تَحْرِيقِ بَيْتِ سُوَيْلِمٍ
[ ص 293 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي الثّقَةُ عَمّنْ حَدّثَهُ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ عَنْ إسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ حَارِثَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ قَالَ بَلَغَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ نَاسًا مِنْ الْمُنَافِقِينَ يَجْتَمِعُونَ فِي بَيْتِ سُوَيْلِمٍ الْيَهُودِيّ ، وَكَانَ بَيْتُهُ عِنْدَ جَاسُومٍ ، يُثَبّطُونَ النّاسَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ ، فَبَعَثَ إلَيْهِمْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللّهِ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَأَمَرَهُ أَنْ يُحَرّقَ عَلَيْهِمْ بَيْتَ سُوَيْلِمٍ فَفَعَلَ طَلْحَةُ . فَاقْتَحَمَ الضّحّاكُ بْنُ خَلِيفَةَ مِنْ ظَهْرِ الْبَيْتِ فَانْكَسَرَتْ رِجْلُهُ وَاقْتَحَمَ أَصْحَابُهُ فَأَفْلَتُوا . فَقَالَ الضّحّاكُ فِي ذَلِكَ .
كَادَتْ وَبَيْتِ اللّهِ نَارُ مُحَمّدٍ ... يَشِيطُ بِهَا الضّحّاكُ وَابْنُ أُبَيْرِقِ
وَظَلْت وَقَدْ طَبّقْت كَبْسَ سُوَيْلِمٍ ... أَنُوءُ عَلَى رِجْلِي كَسِيرًا وَمِرْفَقِي
سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا أَعُودُ لِمِثْلِهَا ... أَخَافُ وَمَنْ تَشْمَلُ بِهِ النّارُ يُحْرَقْ
S[ ص 292 ] وَذَكَرَ الْجَدّ بْنَ قَيْسٍ ، وَقَوْلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَهُ يَا جَدّ هَلْ لَك الْعَامَ فِي جِلَادِ بَنِي الْأَصْفَر يُقَالُ إنّ الرّومَ قِيلَ لَهُمْ بَنُو الْأَصْفَرِ ، لِأَنّ عِيصُو بْنُ إسْحَاقَ كَانَ بِهِ صُفْرَةٌ وَهُوَ جَدّهُمْ وَقِيلَ إنّ الرّومَ بْنَ عِيصُو هُوَ الْأَصْفَرُ وَهُوَ أَبُوهُمْ وَأُمّهُ نَسْمَةُ بِنْتُ إسْمَاعِيلَ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي أَوّلِ الْكِتَابِ مَنْ وَلَدَتْ مِنْ الْأُمَمِ وَلَيْسَ كُلّ الرّومِ مِنْ وَلَدِ بَنِي الْأَصْفَرِ فَإِنّ الرّومَ الْأُوَلَ هُمْ فِيمَا زَعَمُوا مِنْ وَلَدِ يُونَانِ بْنِ يَافِثَ بْنِ نُوحٍ وَاَللّهُ أَعْلَمُ بِحَقَائِقِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَصِحّتِهَا . [ ص 293 ] وَذَكَرَ يُونُسَ بِإِثْرِ حَدِيثِ الْجَدّ بْنِ قَيْسٍ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ بَهْرَامَ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ أَنّ الْيَهُودَ أَتَوْا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمًا ، فَقَالُوا : يَا أَبَا الْقَاسِمِ إنْ كُنْت صَادِقًا أَنّك نَبِيّ فَالْحَقْ بِالشّامِ فَإِنّ الشّامَ أَرْضُ الْمَحْشَرِ وَأَرْضُ الْأَنْبِيَاءِ فَصَدّقَ [ ص 294 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مَا قَالُوا فَغَزَا غَزْوَةَ تَبُوكَ لَا يُرِيدُ إلّا الشّامَ ، فَلَمّا بَلَغَ أَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ بَنِي إسْرَائِيلَ بَعْدَمَا خُتِمَتْ السّورَةُ { وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ } - إلَى قَوْلِهِ - تَحْوِيلًا [ الْإِسْرَاءُ 76 ، 77 ] . [ ص 295 ] فَأَمَرَهُ بِالرّجُوعِ إلَى الْمَدِينَةِ ، وَقَالَ فِيهَا مَحْيَاك ، وَفِيهَا مَمَاتُك ، وَمِنْهَا تُبْعَثُ ثُمّ قَالَ { أَقِمِ الصّلَاةَ لِدُلُوكِ الشّمْسِ } إلَى قَوْلِهِ مَحْمُودًا [ الْإِسْرَاءُ 78 ، 79 ] فَرَجَعَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ [ ص 296 ] فَأَمَرَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ سَلْ رَبّك ، فَإِنّ لِكُلّ نَبِيّ مَسْأَلَةً وَكَانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ لَهُ نَاصِحًا ، وَكَانَ مُحَمّدٌ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَهُ مُطِيعًا ، فَقَالَ مَا تَأْمُرُنِي أَنْ أَسْأَلَ ؟ قَالَ [ ص 297 ] { وَقُلْ رَبّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا } وَهَؤُلَاءِ نَزَلْنَ عَلَيْهِ فِي رَجْعَتِهِ مِنْ تَبُوكَ .

حَضّ أَهْلِ الْغِنَى عَلَى النّفَقَةِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جَدّ فِي سَفَرِهِ وَأَمَرَ النّاسَ بِالْجِهَازِ وَالِانْكِمَاشِ وَحَضّ أَهْلَ الْغِنَى عَلَى النّفَقَةِ وَالْحُمْلَانِ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَحَمَلَ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ الْغِنَى وَاحْتَسَبُوا ، وَأَنْفَقَ عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ فِي ذَلِكَ نَفَقَةً عَظِيمَةً لَمْ يُنْفِقْ أَحَدٌ مِثْلَهَا . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : حَدّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ أَنّ عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ أَنْفَقَ فِي جَيْشِ الْعُسْرَةِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ أَلْفَ دِينَارٍ ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اللّهُمّ ارْضَ عَنْ عُثْمَانَ ، فَإِنّي عَنْهُ رَاضٍ .
قِصّةُ الْبَكّائِينَ وَالْمُعْذَرِينَ والمتخلفين
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ إنّ رِجَالًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَتَوْا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُمْ الْبَكّاءُونَ ، وَهُمْ سَبْعَةُ نَفَرٍ مِنْ الْأَنْصَارِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ سَالِمُ بْنُ عُمَيْرٍ ، وَعُلْبَةُ بْنُ زَيْدٍ ، أَخُو بَنِي حَارِثَةَ وَأَبُو لَيْلَى عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ كَعْبٍ أَخُو بَنِي مَازِنِ بْنِ النّجّارِ [ ص 294 ] أَخُو بَنِي سَلِمَةَ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ الْمُغَفّلِ الْمُزَنِيّ - وَبَعْضُ النّاسِ يَقُولُ بَلْ هُوَ عَبْدُ اللّهِ الْفَزَارِيّ . فَاسْتَحْمَلُوا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكَانُوا أَهْلَ حَاجَةٍ فَقَالَ " لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ " ، فَتَوَلّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدّمْعِ حَزَنًا أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَبَلَغَنِي أَنّ ابْنَ يَامِينَ بْنَ عُمَيْرِ بْنِ كَعْبٍ النّضْرِيّ لَقِيَ أَبَا لَيْلَى عَبْدَ الرّحْمَنِ بْنَ كَعْبٍ وَعَبْدَ اللّهِ بْنَ مُغَفّلٍ وَهُمَا يَبْكِيَانِ فَقَالَ مَا يُبْكِيكُمَا ؟ قَالَا : جِئْنَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِيَحْمِلَنَا ، فَلَمْ نَجِدْ عِنْدَهُ مَا يَحْمِلُنَا عَلَيْهِ وَلَيْسَ عِنْدَنَا مَا نَتَقَوّى بِهِ عَلَى الْخُرُوجِ مَعَهُ فَأَعْطَاهُمَا نَاضِحًا لَهُ فَارْتَحَلَاهُ وَزَوّدَهُمَا شَيْئًا مِنْ تَمْرٍ فَخَرَجَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَجَاءَهُ الْمُعَذّرُونَ مِنْ الْأَعْرَابِ ، فَاعْتَذَرُوا إلَيْهِ فَلَمْ يَعْذِرْهُمْ اللّهُ تَعَالَى . وَقَدْ ذُكِرَ لِي أَنّهُمْ نَفَرٌ مِنْ بَنِي غِفَارٍ . ثُمّ اسْتَتَبّ بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَفَرَهُ وَأَجْمَعَ السّيْرَ وَقَدْ كَانَ نَفَرٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَبْطَأَتْ بِهِمْ النّيّةُ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى تَخَلّفُوا عَنْهُ عَنْ غَيْرِ شَكّ وَلَا ارْتِيَابٍ مِنْهُمْ كَعْبُ بْنُ مَالِكِ بْنِ أَبِي كَعْبٍ ، أَخُو بَنِي سَلِمَةَ وَمُرَارَةُ بْنُ الرّبِيعِ أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ ، وَهِلَالُ بْنُ أُمَيّةَ ، أَخُو بَنِي وَاقِفٍ وَأَبُو خَيْثَمَةَ أَخُو بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ . وَكَانُوا نَفَرَ صِدْقٍ لَا يُتّهَمُونَ فِي إسْلَامِهِمْ . فَلَمّا خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ضَرَبَ عَسْكَرَهُ عَلَى ثَنِيّةِ الْوَدَاعِ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ مُحَمّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ الْأَنْصَارِيّ . وَذَكَرَ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ مُحَمّدٍ الدّرَاوَرْدِيّ عَنْ أَبِيهِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ ، مَخْرَجَهُ إلَى تَبُوكَ : سِبَاعَ بْنَ عُرْفُطَةَ .

الْمُنَافِقُونَ الْمُتَخَلّفُونَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَضَرَبَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ مَعَهُ عَلَى حِدَةِ عَسْكَرِهِ أَسْفَلَ مِنْهُ نَحْوَ ذُبَابٍ ، وَكَانَ فِيمَا يَزْعُمُونَ لَيْسَ بِأَقَلّ الْعَسْكَرَيْنِ . فَلَمّا سَارَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَخَلّفَ عَنْهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ ، فِيمَنْ تَخَلّفَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَأَهْلِ الرّيْبِ . [ ص 295 ]
إرْجَافُ الْمُنَافِقِينَ بِعَلِيّ
وَخَلّفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهِ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ ، رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِ عَلَى أَهْلِهِ وَأَمَرَهُ بِالْإِقَامَةِ فِيهِمْ فَأَرْجَفَ بِهِ الْمُنَافِقُونَ وَقَالُوا : مَا خَلّفَهُ إلّا اسْتِثْقَالًا لَهُ وَتَخَلّفًا مِنْهُ . فَلَمّا قَالَ ذَلِكَ الْمُنَافِقُونَ أَخَذَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِ سِلَاحَهُ ثُمّ خَرَجَ حَتّى أَتَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ نَازِلٌ بِالْجُرْفِ فَقَالَ يَا نَبِيّ اللّهِ زَعَمَ الْمُنَافِقُونَ أَنّك إنّمَا خَلّفْتنِي لِأَنّك اسْتَثْقَلْتنِي وَتَخَفّفْت مِنّي . فَقَالَ " كَذَبُوا ، وَلَكِنّنِي خَلّفْتُك لِمَا تَرَكْت وَرَائِي ، فَارْجِعْ فَاخْلُفْنِي فِي أَهْلِي وَأَهْلِك ، أَفَلَا تَرْضَى يَا عَلِيّ أَنْ تَكُونَ مِنّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى ؟ إلّا أَنّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي " ، فَرَجَعَ عَلِيّ إلَى الْمَدِينَةِ ، وَمَضَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى سَفَرِهِ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ طَلْحَةَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ رُكَانَةَ ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقّاصٍ ، عَنْ أَبِيهِ سَعْدٍ أَنّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ لِعَلِيّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ رَجَعَ عَلِيّ إلَى الْمَدِينَةِ ، وَمَضَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى سَفَرِهِ .

قِصّةُ أَبِي خَيْثَمَةَ
ثُمّ إنّ أَبَا خَيْثَمَةَ رَجَعَ بَعْدَ أَنْ سَارَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَيّامًا إلَى أَهْلِهِ فِي يَوْمٍ حَارّ فَوَجَدَ امْرَأَتَيْنِ لَهُ فِي عَرِيشَيْنِ لَهُمَا فِي حَائِطِهِ قَدْ رَشّتْ كُلّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَرِيشَهَا ، وَبَرّدَتْ لَهُ فِيهِ مَاءً وَهَيّأَتْ لَهُ فِيهِ طَعَامًا . فَلَمّا دَخَلَ قَامَ عَلَى بَابِ الْعَرِيشِ فَنَظَرَ إلَى امْرَأَتَيْهِ وَمَا صَنَعَتَا لَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الضّحّ وَالرّيحِ وَالْحَرّ وَأَبُو خَيْثَمَةَ فِي ظِلّ بَارِدٍ وَطَعَامٍ مُهَيّأٍ وَامْرَأَةٍ حَسْنَاءَ فِي مَالِهِ مُقِيمٌ مَا هَذَا بِالنّصَفِ ثُمّ قَالَ وَاَللّهِ لَا أَدْخُلُ عَرِيشَ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا حَتّى أَلْحَقَ بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَهَيّئَا لِي زَادًا ، فَفَعَلَتَا . ثُمّ قَدّمَ نَاضِحَهُ فَارْتَحَلَهُ ثُمّ خَرَجَ فِي طَلَبِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى أَدْرَكَهُ حِينَ نَزَلَ تَبُوكَ . وَقَدْ كَانَ أَدْرَكَ أَبَا خَيْثَمَةَ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ الْجُمَحِيّ فِي الطّرِيقِ يَطْلُبُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَتَرَافَقَا ، حَتّى إذَا دَنَوْا مِنْ تَبُوكَ ، قَالَ أَبُو خَيْثَمَةَ لِعُمَيْرِ بْنِ وَهْبٍ إنّ لِي ذَنْبًا ، فَلَا عَلَيْك أَنْ تَخَلّفَ عَنّي حَتّى آتِيَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَفَعَلَ حَتّى إذَا دَنَا مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ نَازِلٌ بِتَبُوكَ قَالَ النّاسُ هَذَا رَاكِبٌ عَلَى الطّرِيقِ مُقْبِلٌ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " كُنْ أَبَا خَيْثَمَةَ " ؛ [ ص 296 ] فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ هُوَ وَاَللّهِ أَبُو خَيْثَمَةَ . فَلَمّا أَنَاخَ أَقْبَلَ فَسَلّمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " أَوْلَى لَك يَا أَبَا خَيْثَمَةَ " . ثُمّ أَخْبَرَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْخَبَرَ ؛ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَيْرًا ، وَدَعَا لَهُ بِخَيْرٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَقَالَ أَبُو خَيْثَمَةَ فِي ذَلِكَ شِعْرًا ، وَاسْمُهُ مَالِكُ بْنُ قَيْسٍ :
لَمّا رَأَيْت النّاسَ فِي الدّينِ نَافَقُوا ... أَتَيْت الّتِي كَانَتْ أَعَفّ وَأَكْرَمَا
وَبَايَعْت بِالْيُمْنَى يَدِي لِمُحَمّدٍ ... فَلَمْ أَكْتَسِبْ إثْمًا وَلَمْ أَغْشَ مَحْرَمَا
تَرَكْت خَضِيبًا فِي الْعَرِيشِ وَصِرْمَةً ... صَفَايَا كِرَامًا بُسْرُهَا قَدْ تَحَمّمَا
وَكُنْت إذَا شَكّ الْمُنَافِقُ أَسْمَحْت ... إلَى الدّينِ نَفْسِي شَطْرَهُ حَيْثُ يَمّمَا

مُرُورُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْحِجْرِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ مَرّ بِالْحِجْرِ نَزَلَهَا ، وَاسْتَقَى النّاسُ مِنْ بِئْرِهَا ، فَلَمّا رَاحُوا قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " لَا تَشْرَبُوا مِنْ مَائِهَا شَيْئًا ، وَلَا تَتَوَضّئُوا مِنْهُ لِلصّلَاةِ وَمَا كَانَ مِنْ عَجِينٍ عَجَنْتُمُوهُ فَاعْلِفُوهُ الْإِبِلَ وَلَا تَأْكُلُوا مِنْهُ شَيْئًا ، وَلَا يَخْرُجَنّ أَحَدٌ مِنْكُمْ اللّيْلَةَ إلّا وَمَعَهُ صَاحِبٌ لَهُ " ، فَفَعَلَ النّاسُ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلّا أَنّ رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي سَاعِدَةَ خَرَجَ أَحَدُهُمَا لِحَاجَتِهِ وَخَرَجَ الْآخَرُ فِي طَلَبِ بَعِيرٍ لَهُ فَأَمّا الّذِي ذَهَبَ لِحَاجَتِهِ فَإِنّهُ خُنِقَ عَلَى مَذْهَبِهِ وَأَمّا الّذِي ذَهَبَ فِي طَلَبِ بَعِيرِهِ فَاحْتَمَلَتْهُ الرّيحُ حَتّى طَرَحَتْهُ بِجَبَلَيْ طَيّئٍ . فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ " أَلَمْ أَنْهَكُمْ أَنْ يَخْرُجَ مِنْكُمْ أَحَدٌ إلّا وَمَعَهُ صَاحِبُهُ " . ثُمّ دَعَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِلّذِي أُصِيبَ عَلَى مَذْهَبِهِ فَشُفِيَ وَأَمّا الْآخَرُ الّذِي وَقَعَ بِجَبَلَيْ طَيّئٍ فَإِنّ طَيّئًا أَهْدَتْهُ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَالْحَدِيثُ عَنْ الرّجُلَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْن أَبِي بَكْرٍ ، عَنْ عَبّاسِ بْنِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السّاعِدِيّ ، وَقَدْ حَدّثَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ أَنْ قَدْ سَمّى لَهُ الْعَبّاسُ الرّجُلَيْنِ وَلَكِنّهُ اسْتَوْدَعَهُ إيّاهُمَا ، فَأَبَى عَبْدُ اللّهِ أَنْ يُسَمّيَهُمَا لِي . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : بَلَغَنِي عَنْ الزّهْرِيّ أَنّهُ قَالَ لَمّا مَرّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْحِجْرِ سَجّى ثَوْبَهُ عَلَى وَجْهِهِ وَاسْتَحَثّ رَاحِلَتَهُ ثُمّ قَالَ " لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ الّذِينَ ظَلَمُوا إلّا وَأَنْتُمْ بَاكُونَ خَوْفًا أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ " . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا أَصْبَحَ النّاسُ وَلَا مَاءَ مَعَهُمْ شَكَوْا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَدَعَا [ ص 297 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَرْسَلَ اللّهُ سُبْحَانَهُ سَحَابَةً فَأَمْطَرَتْ حَتّى ارْتَوَى النّاسُ وَاحْتَمَلُوا حَاجَتَهُمْ مِنْ الْمَاءِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيَدٍ ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ ، قَالَ قُلْت لِمَحْمُودٍ هَلْ كَانَ النّاسُ يَعْرِفُونَ النّفَاقَ فِيهِمْ ؟ قَالَ نَعَمْ وَاَللّهِ إنْ كَانَ الرّجُلُ لَيَعْرِفُهُ مِنْ أَخِيهِ وَمِنْ أَبِيهِ وَمِنْ عَمّهِ وَفِي عَشِيرَتِهِ ثُمّ يُلَبّسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَى ذَلِكَ . ثُمّ قَالَ مَحْمُودٌ لَقَدْ أَخْبَرَنِي رِجَالٌ مِنْ قَوْمِي عَنْ رَجُلٍ مِنْ الْمُنَافِقِينَ مَعْرُوفٍ نِفَاقُهُ كَانَ يَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَيْثُ سَارَ فَلَمّا كَانَ مِنْ أَمْرِ النّاسِ بِالْحِجْرِ مَا كَانَ وَدَعَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ دَعَا ، فَأَرْسَلَ اللّهُ السّحَابَةَ فَأَمْطَرَتْ حَتّى ارْتَوَى النّاسُ قَالُوا : أَقْبَلْنَا عَلَيْهِ نَقُولُ وَيْحَك ، هَلْ بَعْدَ هَذَا شَيْءٌ قَالَ سَحَابَةٌ مَارّةٌ
مَقَالَةُ ابْنِ اللّصَيْتِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَارَ حَتّى إذَا كَانَ بِبَعْضِ الطّرِيقِ ضَلّتْ نَاقَتُهُ فَخَرَجَ أَصْحَابُهُ فِي طَلَبِهَا ، وَعِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يُقَالُ لَهُ عُمَارَةُ بْنُ حَزْمٍ ، وَكَانَ عَقِبِيّا بَدْرِيّا ، وَهُوَ عَمّ بَنِي عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ ، وَكَانَ فِي رَحْلِهِ زَيْدُ بْنُ اللّصَيْتِ الْقَيْنُقَاعِيّ وَكَانَ مُنَافِقًا . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ ابْنُ لُصَيْبٍ بِالْبَاءِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيَدٍ ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ قَالُوا : فَقَالَ زَيْدُ بْنُ اللّصَيْتِ وَهُوَ فِي رَحْلِ عُمَارَةَ وَعُمَارَةُ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَلَيْسَ مُحَمّدٌ يَزْعُمُ أَنّهُ نَبِيّ ، وَيُخْبِرُكُمْ عَنْ خَبَرِ السّمَاءِ وَهُوَ لَا يَدْرِي أَيْنَ نَاقَتُهُ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَعُمَارَةُ عِنْدَهُ إنّ رَجُلًا قَالَ هَذَا مُحَمّدٌ يُخْبِرُكُمْ أَنّهُ نَبِيّ ، وَيَزْعُمُ أَنّهُ يُخْبِرُكُمْ بِأَمْرِ السّمَاءِ وَهُوَ لَا يَدْرِي أَيْنَ نَاقَتُهُ وَإِنّي وَاَللّهِ مَا أَعْلَمُ إلّا مَا عَلّمَنِي اللّهُ وَقَدْ دَلّنِي اللّهُ عَلَيْهَا ، وَهِيَ فِي هَذَا الْوَادِي ، فِي شِعْبِ كَذَا وَكَذَا ، قَدْ حَبَسَتْهَا شَجَرَةٌ بِزِمَامِهَا ، فَانْطَلِقُوا حَتّى تَأْتُونِي بِهَا ، فَذَهَبُوا ، فَجَاءُوا بِهَا . فَرَجَعَ عُمَارَةُ بْنُ حَزْمٍ إلَى رَحْلِهِ فَقَالَ وَاَللّهِ لَعَجَبٌ مِنْ شَيْءٍ حَدّثْنَاهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ آنِفًا ، عَنْ مَقَالَةِ قَائِلٍ أَخْبَرَهُ اللّهُ [ ص 298 ] قَالَ زَيْدُ بْنُ لُصَيْتٍ فَقَالَ رَجُلٌ مِمّنْ كَانَ فِي رَحْلِ عُمَارَةَ وَلَمْ يَحْضُرْ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ زَيْدٌ وَاَللّهِ قَالَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَ . فَأَقْبَلَ عُمَارَةُ عَلَى زَيْدٍ يُجَافِي عُنُقَهُ وَيَقُولُ إلَيّ عِبَادَ اللّهِ إنّ فِي رَحْلِي لَدَاهِيَةٌ وَمَا أَشْعُرُ اُخْرُجْ أَيْ عَدُوّ اللّهِ مِنْ رَحْلِي ، فَلَا تَصْحَبْنِي . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَزَعَمَ بَعْضُ النّاسِ أَنّ زَيْدًا تَابَ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَالَ بَعْضُ النّاسِ لَمْ يَزَلْ مُتّهَمًا بِشَرّ حَتّى هَلَكَ .

إبْطَاءُ أَبِي ذَرّ
ثُمّ مَضَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَائِرًا ، فَجَعَلَ يَتَخَلّفُ عَنْهُ الرّجُلُ فَيَقُولُونَ يَا رَسُولَ اللّهِ تَخَلّفَ فُلَانٌ فَيَقُولُ دَعُوهُ فَإِنْ يَكُ فِيهِ خَيْرٌ فَسَيُلْحِقُهُ اللّهُ تَعَالَى بِكُمْ وَإِنْ يَكُ غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ أَرَاحَكُمْ اللّهُ مِنْهُ حَتّى قِيلَ يَا رَسُولَ اللّهِ قَدْ تَخَلّفَ أَبُو ذَرّ وَأَبْطَأَ بِهِ بَعِيرُهُ فَقَالَ دَعُوهُ فَإِنْ يَكُ فِيهِ خَيْرٌ فَسَيُلْحِقُهُ اللّهُ بِكُمْ ، وَإِنْ يَكُ غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ أَرَاحَكُمْ اللّهُ مِنْهُ وَتَلَوّمَ أَبُو ذَرّ عَلَى بَعِيرِهِ فَلَمّا أَبْطَأَ عَلَيْهِ أَخَذَ مَتَاعَهُ فَحَمَلَهُ عَلَى ظَهْرِهِ ثُمّ خَرَجَ يَتْبَعُ أَثَرَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَاشِيًا . وَنَزَلَ رَسُولُ اللّهِ فِي بَعْضِ مَنَازِلِهِ فَنَظَرَ نَاظِرٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ هَذَا الرّجُلَ يَمْشِي عَلَى الطّرِيقِ وَحْدَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كُنْ أَبَا ذَرّ . فَلَمّا تَأَمّلَهُ الْقَوْمُ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ هُوَ وَاَللّهِ أَبُو ذَرّ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَحِمَ اللّهُ أَبَا ذَرّ يَمْشِي وَحْدَهُ وَيَمُوتُ وَحْدَهُ وَيُبْعَثُ وَحْدَهُ . [ ص 299 ] وَقَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي بُرَيْدَةُ بْنُ سُفْيَانَ الْأَسْلَمِيّ ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، قَالَ لَمّا نَفَى عُثْمَانُ أَبَا ذَرّ إلَى الرّبَذَةِ ، وَأَصَابَهُ بِهَا قَدَرُهُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَحَدٌ إلّا امْرَأَتُهُ وَغُلَامُهُ فَأَوْصَاهُمَا أَنْ اغْسِلَانِي وَكَفّنَانِي ، ثُمّ ضَعَانِي عَلَى قَارِعَةِ الطّرِيقِ فَأَوّلُ رَكْبٍ يَمُرّ بِكُمْ فَقُولُوا : هَذَا أَبُو ذَرّ صَاحِبُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَعِينُونَا عَلَى دَفْنِهِ . فَلَمّا مَاتَ فَعَلَا ذَلِكَ بِهِ . ثُمّ وَضَعَاهُ عَلَى قَارِعَةِ الطّرِيقِ وَأَقْبَلَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فِي رَهْطٍ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ عُمّارٍ فَلَمْ يَرُعْهُمْ إلّا بِالْجِنَازَةِ عَلَى ظَهْرِ الطّرِيقِ قَدْ كَادَتْ الْإِبِلُ تَطَؤُهَا ، وَقَامَ إلَيْهِمْ الْغُلَامُ . فَقَالَ هَذَا أَبُو ذَرّ صَاحِبُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَعِينُونَا عَلَى دَفْنِهِ . قَالَ فَاسْتَهَلّ عَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْعُودٍ يَبْكِي وَيَقُولُ صَدَقَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَمْشِي وَحْدَك ، وَتَمُوتُ وَحْدَك ، وَتُبْعَثُ وَحْدَك . ثُمّ نَزَلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فَوَارَوْهُ ثُمّ حَدّثَهُمْ عَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْعُودٍ حَدِيثَهُ وَمَا قَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي مَسِيرِهِ إلَى تَبُوكَ .
Sإبْطَاءُ أَبِي ذَرّ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ [ ص 298 ] أَبَا ذَرّ الْغِفَارِيّ ، وَإِبْطَاءَهُ . وَاسْمُهُ جُنْدُبُ بْنُ جُنَادَةَ هَذَا أَصَحّ مَا قِيلَ فِيهِ وَقَدْ قِيلَ فِيهِ بَرِيرُ بْنُ عِشْرِقَةَ وَجُنْدُبُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ وَابْنُ السّكَنِ أَيْضًا . وَقَوْلُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كُنْ أَبَا ذَرّ ، وَفِي أَبِي خَيْثَمَةَ كُنْ أَبَا خَيْثَمَةَ ، لَفْظُهُ لَفْظُ الْأَمْرِ وَمَعْنَاهُ الدّعَاءُ كَمَا تَقُولُ أَسْلِمْ سَلّمَك اللّهُ . إعْرَابُ كَلِمَةِ وَحْدَهُ وَقَوْلُهُ فِي أَبِي ذَرّ رَحِمَ اللّهُ أَبَا ذَرّ يَمْشِي وَحْدَهُ وَيَمُوتُ وَحْدَهُ أَيْ يَمُوتُ [ ص 299 ] [ ص 300 ] سِيبَوَيْهِ ، وَأَمّا الّذِي فِي الْحَدِيثِ فَلَا يَتَقَدّرُ هَذَا التّقْدِيرَ لِأَنّهُ مِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَمُوتَ خُصُوصًا ، وَإِنّمَا مَعْنَاهُ مُنْفَرِدًا بِذَاتِهِ أَيْ عَلَى حِدَتِهِ كَمَا قَالَ يُونُسُ فَقَوْلُ يُونُسَ صَالِحٌ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ وَتَقْدِيرُ سِيبَوَيْهِ لَهُ بِالْخُصُوصِ يَصْلُحُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ فِي أَكْثَرِ الْمَوَاطِنِ وَإِنّمَا لَمْ يَتَعَرّفْ وَحْدَهُ بِالْإِضَافَةِ لِأَنّ مَعْنَاهُ كَمَعْنَى لَا غَيْرَ وَلِأَنّهَا كَلِمَةٌ تُنْبِئُ عَنْ نَفْيٍ وَعَدَمٍ وَالْعَدَمُ لَيْسَ بِشَيْءٍ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مُتَعَرّفًا مُتَعَيّنًا بِالْإِضَافَةِ وَإِنّمَا لَمْ يُشْتَقّ مِنْهُ فِعْلٌ وَإِنْ كَانَ مَصْدَرًا فِي الظّاهِرِ لِمَا قَدّمْنَاهُ مِنْ أَنّهُ لَفْظٌ يُنْبِئُ عَنْ عَدَمٍ وَنَفْيٍ وَالْفِعْلُ يَدُلّ عَلَى حَدَثٍ وَزَمَانٍ فَكَيْفَ يُشْتَقّ مِنْ شَيْءٍ لِشَيْءٍ بِحَدَثٍ إنّمَا هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ انْتِفَاءِ الْحَدَثِ عَنْ كُلّ أَحَدٍ إلّا عَنْ زَيْدٍ مَثَلًا إذَا قُلْت : جَاءَنِي زَيْدٌ وَحْدَهُ أَيْ لَمْ يَجِئْ غَيْرُهُ وَإِنّمَا يُقَالُ انْعَدَمَ وَانْتَفَى بَعْدَ الْوُجُودِ لَا قَبْلَهُ لِأَنّهُ أَمْرٌ مُتَجَدّدٌ كَالْحَدَثِ وَقَدْ أَطْنَبْنَا فِي هَذَا الْغَرَضِ وَزِدْنَاهُ بَيَانًا فِي مَسْأَلَةِ سُبْحَانَ اللّهِ وَبِحَمْدِهِ وَشَرْحِهَا .
أَجَأٌ وَسَلْمَى
فَصْلٌ وَذَكَرَ الرّجُلَ الّذِي طَرَحَتْهُ الرّيحُ بِجَبَلَيْ طَيّئٍ ، وَهُمَا أَجَأٌ وَسَلْمَى وَعَرّفَ أَجَأً بِأَجَأِ بْنِ عَبْدِ الْحَيّ كَانَ صُلِبَ فِي ذَلِكَ الْجَبَلِ وَسَلْمَى صُلِبَتْ فِي الْجَبَلِ الْآخَرِ فَعُرِفَ بِهَا ، وَهِيَ سَلْمَى بِنْتُ حَامٍ فِيمَا ذُكِرَ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .

تَخْذِيلُ الْمُنَافِقِينَ الْمُسْلِمِينَ وَمَا نَزَلَ فِيهِمْ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ كَانَ رَهْطٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ مِنْهُمْ وَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ ، أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَمَعَهُمْ رَجُلٌ مِنْ أَشْجَعَ حِلْفٌ لِبَنِي سَلِمَةَ يُقَالُ لَهُ مُخَشّنُ بْنُ حُمَيّرٍ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَال : مَخْشِيّ - يُشِيرُونَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ مُنْطَلِقٌ إلَى تَبُوكَ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَتَحْسَبُونَ جِلَادَ بَنِي الْأَصْفَرِ كَقِتَالِ الْعَرَبِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَاَللّهِ لَكَأَنّا بِكُمْ غَدًا مُقَرّنِينَ فِي الْحِبَالِ إرْجَافًا وَتَرْهِيبًا لِلْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ مُخَشّنُ بْنُ حُمَيّرٍ : وَاَللّهِ لَوَدِدْت أَنّي أُقَاضِيَ عَلَى أَنْ يُضْرَبَ كُلّ رَجُلٍ مِنّا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَأَنْ نَنْفَلِتَ أَنْ يَنْزِلَ فِينَا قُرْآنٌ لِمَقَالَتِكُمْ هَذِهِ . وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِيمَا بَلَغَنِي - لِعَمّارِ بْنِ يَاسِرٍ " أَدْرِكْ الْقَوْمَ فَإِنّهُمْ قَدْ احْتَرَقُوا ، فَسَلْهُمْ عَمّا قَالُوا ، فَإِنْ أَنْكَرُوا فَقُلْ بَلَى ، قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا " . فَانْطَلَقَ إلَيْهِمْ عَمّارٌ فَقَالَ ذَلِكَ لَهُمْ فَأَتَوْا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَعْتَذِرُونَ إلَيْهِ فَقَالَ وَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ ، وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَاقِفٌ عَلَى نَاقَتِهِ فَجَعَلَ يَقُولُ وَهُوَ آخِذٌ بِحَقَبِهَا : يَا رَسُولَ اللّهِ إنّمَا كُنّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنّ إِنّمَا كُنّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ } [ التّوْبَةُ 65 ] . وَقَالَ مُخَشّنُ بْنُ حُمَيّرٍ : يَا رَسُولَ اللّهِ قَعَدَ بِي اسْمِي وَاسْمُ أَبِي ، وَكَأَنّ الّذِي عُفِيَ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُخَشّنُ بْنُ حُمَيّرٍ ، فَتَسَمّى عَبْدَ الرّحْمَنِ وَسَأَلَ اللّهَ تَعَالَى أَنْ يَقْتُلَهُ شَهِيدًا لَا يُعْلَمُ بِمَكَانِهِ فَقُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ ، فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ أَثَرٌ

الصّلْحُ مَعَ صَاحِبِ أَيْلَةَ
وَلَمّا [ ص 300 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى تَبُوكَ ، أَتَاهُ يُحَنّةُ بْنُ رُؤْبَةَ ، صَاحِبُ أَيْلَةَ ، فَصَالَحَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَعْطَاهُ الْجِزْيَةَ وَأَتَاهُ أَهْلُ جَرْبَاءَ وَأَذْرُحَ ، فَأَعْطَوْهُ الْجِزْيَةَ فَكَتَبَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَهُمْ كِتَابًا ، فَهُوَ عِنْدَهُمْ .
كِتَابُ الرّسُولِ لِصَاحِبِ أَيْلَةَ
فَكَتَبَ لِيُحَنّةَ بْنِ رُؤْبَةَ بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ هَذِهِ أَمَنَةٌ مِنْ اللّهِ وَمُحَمّدٍ النّبِيّ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِيُحَنّةَ بْنِ رُؤْبَةَ وَأَهْلِ أَيْلَةَ ، سُفُنُهُمْ وَسَيّارَتُهُمْ فِي الْبَرّ وَالْبَحْرِ لَهُمْ ذِمّةُ اللّهِ وَذِمّةُ مُحَمّدٍ النّبِيّ وَمَنْ كَانَ مَعَهُمْ مِنْ أَهْلِ الشّامِ ، وَأَهْلِ الْيَمَنِ ، وَأَهْلِ الْبَحْرِ فَمَنْ أَحْدَثَ مِنْهُمْ حَدَثًا ، فَإِنّهُ لَا يَحُولُ مَالُهُ دُونَ نَفْسِهِ وَإِنّهُ طَيّبٌ لِمَنْ أَخَذَهُ مِنْ النّاسِ وَإِنّهُ لَا يَحِلّ أَنْ يُمْنَعُوا مَاءً يَرِدُونَهُ وَلَا طَرِيقًا يُرِيدُونَهُ مِنْ بَرّ أَوْ بَحْرٍ .

أُكَيْدِرٌ
ثُمّ [ ص 301 ] إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ دَعَا خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ ، فَبَعَثَهُ إلَى أُكَيْدِرِ دُومَةَ ، وَهُوَ أُكَيْدِرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ رَجُلٌ مِنْ كِنْدَةَ كَانَ مَلِكًا عَلَيْهَا ، وَكَانَ نَصْرَانِيّا ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِخَالِدٍ إنّك سَتَجِدُهُ يَصِيدُ الْبَقَرَ . فَخَرَجَ خَالِدٌ حَتّى إذَا كَانَ مِنْ حِصْنِهِ بِمَنْظَرِ الْعَيْنِ وَفِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ صَائِفَةٍ وَهُوَ عَلَى سَطْحٍ لَهُ وَمَعَ امْرَأَتِهِ فَبَاتَتْ الْبَقَرُ تَحُكّ بِقُرُونِهَا بَابَ الْقَصْرِ فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ هَلْ رَأَيْت مِثْلَ هَذَا قَطّ ؟ قَالَ لَا وَاَللّهِ قَالَتْ فَمَنْ يَتْرُكُ هَذِهِ ؟ قَالَ لَا أَحَدَ . فَنَزَلَ فَأَمَرَ بِفَرَسِهِ فَأُسْرِجَ لَهُ وَرَكِبَ مَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ فِيهِمْ أَخٌ يُقَالُ لَهُ حُسّانُ . فَرَكِبَ وَخَرَجُوا مَعَهُ بِمَطَارِدِهِمْ . فَلَمّا خَرَجُوا تَلَقّتْهُمْ خَيْلُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَخَذَتْهُ وَقَتَلُوا أَخَاهُ وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ قَبَاءٌ مِنْ دِيبَاجٍ مُخَوّصٍ بِالذّهَبِ فَاسْتَلَبَهُ خَالِدٌ فَبَعَثَ بِهِ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَبْلَ قُدُومِهِ بِهِ عَلَيْهِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ رَأَيْت قَبَاءَ أُكَيْدِرٍ حِين قَدِمَ بِهِ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يَلْمِسُونَهُ بِأَيْدِيهِمْ وَيَتَعَجّبُونَ مِنْهُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَتَعْجَبُونَ مِنْ هَذَا ؟ فَوَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي الْجَنّةِ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا . [ ص 302 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ إنّ خَالِدًا قَدّمَ أُكَيْدِرًا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَحَقَنَ لَهُ دَمَهُ وَصَالَحَهُ عَلَى الْجِزْيَةِ ثُمّ خَلّى سَبِيلَهُ فَرَجَعَ إلَى قَرْيَتِهِ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ طَيّئٍ يُقَالُ لَهُ بُجَيْرُ بْنُ بُجَرَةَ يَذْكُرُ قَوْلَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِخَالِدٍ إنّك سَتَجِدُهُ يَصِيدُ الْبَقَرَ ، وَمَا صَنَعَتْ الْبَقَرُ تِلْكَ اللّيْلَةَ حَتّى اسْتَخْرَجَتْهُ لِتَصْدِيقِ قَوْلِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّم
تَبَارَكَ سَائِقُ الْبَقَرَاتِ إنّي ... رَأَيْت اللّهَ يَهْدِي كُلّ هَادِ
فَمَنْ يَكُ حَائِدًا عَنْ ذِي تَبُوكِ ... فَإِنّا قَدْ أُمِرْنَا بِالْجِهَادِ
فَأَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِتَبُوكَ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً لَمْ يُجَاوِزْهَا ثُمّ انْصَرَفَ قَافِلًا إلَى الْمَدِينَةِ .
حَدِيثُ وَادِي الْمُشَقّقِ وَمَائِهِ
وَكَانَ فِي الطّرِيقِ مَاءٌ يَخْرُجُ مِنْ وَشَلٍ ، مَا يَرْوِي الرّاكِبَ وَالرّاكِبَيْنِ وَالثّلَاثَةَ بِوَادٍ يُقَالُ لَهُ وَادِي الْمُشَقّقِ ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ سَبَقَنَا إلَى ذَلِكَ الْوَادِي فَلَا يَسْتَقِيَنّ مِنْهُ شَيْئًا حَتّى نَأْتِيَهُ . قَالَ فَسَبَقَهُ إلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ فَاسْتَقَوْا مَا فِيهِ فَلَمّا أَتَاهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَفَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرَ فِيهِ شَيْئًا . فَقَالَ مَنْ سَبَقَنَا إلَى هَذَا الْمَاءِ ؟ فَقِيلَ لَهُ يَا رَسُولَ اللّهِ فُلَانٌ وَفُلَانٌ فَقَالَ أَوَلَمْ أَنْهَهُمْ أَنْ يَسْتَقُوا مِنْهُ شَيْئًا حَتّى آتِيَهُ " ثُمّ لَعَنَهُمْ [ ص 303 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَدَعَا عَلَيْهِمْ . ثُمّ نَزَلَ فَوَضَعَ يَدَهُ تَحْتَ الْوَشَلِ فَجَعَلَ يَصُبّ فِي يَدِهِ مَا شَاءَ اللّهُ أَنْ يَصُبّ ثُمّ نَضَحَهُ بِهِ وَمَسَحَهُ بِيَدِهِ وَدَعَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَا شَاءَ اللّهُ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ فَانْخَرَقَ مِنْ الْمَاءِ - كَمَا يَقُولُ مَنْ سَمِعَهُ - مَا إنّ لَهُ حِسّا كَحِسّ الصّوَاعِقِ فَشَرِبَ النّاسُ وَاسْتَقَوْا حَاجَتَهُمْ مِنْهُ . فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَئِنْ بَقِيتُمْ أَوْ مَنْ بَقِيَ مِنْكُمْ لَتَسْمَعُنّ بِهَذَا الْوَادِي ، وَهُوَ أَخْصَبُ مَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَمَا خَلْفَهُ .
Sأُكَيْدِرٌ وَالْكِتَابُ الّذِي أُرْسِلَ إلَيْهِ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ كِتَابَهُ لِأُكَيْدِرِ دُومَةَ [ ص 301 ] وَدُومَةُ بِضَمّ الدّالِ هِيَ هَذِهِ وَعُرِفَتْ بِدُومِيّ بْنِ إسْمَاعِيلَ فِيمَا ذَكَرُوا ، وَهِيَ دُومَةُ الْجَنْدَلِ ، وَدُومَةُ بِالضّمّ أُخْرَى ، وَهِيَ عِنْدَ الْحِيرَةِ ، وَيُقَالُ لِمَا حَوْلَهَا : النّجَفُ ، وَأَمّا دَوْمَةُ بِالْفَتْحِ فَأُخْرَى مَذْكُورَةٌ فِي أَخْبَارِ الرّدّةِ . وَذَكَرَ أَنّهُ كَتَبَ لِأُكَيْدِرِ دُومَةَ كِتَابًا فِيهِ عَهْدٌ وَأَمَانٌ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : أَنَا قَرَأْته ، أَتَانِي بِهِ شَيْخٌ هُنَالِكَ فِي قَضِيمٍ وَالْقَضِيمُ الصّحِيفَةُ وَإِذَا فِيهِ بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ مِنْ مُحَمّدٍ رَسُولِ اللّهِ لِأُكَيْدِرٍ حِينَ أَجَابَ إلَى الْإِسْلَامِ وَخَلَعَ الْأَنْدَادَ وَالْأَصْنَامَ مَعَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ سَيْفِ اللّهِ فِي دُومَةِ الْجَنْدَلِ وَأَكْنَافِهَا ، إنّ لَنَا الضّاحِيَةَ مِنْ الضّحْلِ وَالْبَوْرَ وَالْمَعَامِيَ وَأَغْفَالَ الْأَرْضِ وَالْحَلْقَةَ وَالسّلَاحَ وَالْحَافِرَ وَالْحِصْنَ وَلَكُمْ الضّامِنَةُ مِنْ النّخْلِ وَالْمَعِينِ مِنْ الْمَعْمُورِ لَا تُعْدَلُ سَارِحَتُكُمْ وَلَا تُعَدّ فَارِدَتُكُمْ وَلَا يُحْظَرُ عَلَيْكُمْ النّبَاتُ تُقِيمُونَ الصّلَاةَ لِوَقْتِهَا ، وَتُؤْتُونَ الزّكَاةَ بِحَقّهَا ، عَلَيْكُمْ بِذَلِكَ عَهْدُ اللّهِ وَالْمِيثَاقُ وَلَكُمْ بِذَلِكَ الصّدْقُ وَالْوَفَاءُ . شَهِدَ اللّهُ وَمَنْ حَضَرَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الضّاحِيَةُ أَطْرَافُ الْأَرْضِ وَالْمَعَامِي : مَجْهُولُهَا ، وَأَغْفَالُ الْأَرْضِ مَا لَا أَثَرَ لَهُمْ فِيهِ مِنْ عِمَارَةٍ أَوْ نَحْوِهَا ، وَالضّامِنَةُ مِنْ النّخْلِ مَا دَاخَلَ بَلَدَهُمْ وَلَا يُحْظَرُ عَلَيْكُمْ النّبَاتُ أَيْ لَا تُمْنَعُونَ مِنْ الرّعْيِ حَيْثُ شِئْتُمْ وَلَا تُعْدَلُ سَارِحَتُكُمْ أَيْ لَا تُحْشَرُ إلَى [ ص 302 ] أَهْلِ الطّائِفِ حِينَ جَاءُوا تَائِبِينَ لِأَنّ هَؤُلَاءِ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ وَأَخَذَ مَلِكَهُمْ أَسِيرًا ، وَلَكِنّهُ أَبْقَى لَهُمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ مَا تَضَمّنَهُ الْكِتَابُ لِأَنّهُ لَمْ يُقَاتِلْهُمْ حَتّى يَأْخُذَهُمْ عَنْوَةً كَمَا أَخَذَ خَيْبَر َ ، فَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَكَانَتْ أَمْوَالُهُمْ كُلّهَا لِلْمُسْلِمِينَ وَكَانَ لَهُ الْخِيَارُ فِي رِقَابِهِمْ كَمَا تَقَدّمَ وَلَوْ جَاءُوا إلَيْهِ تَائِبِينَ أَيْضًا قَبْلَ الْخُرُوجِ إلَيْهِمْ كَمَا فَعَلَتْ ثَقِيفٌ مَا أَخَذَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ شَيْئًا .
الْكِتَابُ إلَى هِرَقْلَ
وَلَمْ يَذْكُرْ ابْنُ إسْحَاقَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ هِرَقْلَ ، فَإِنّ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - كَتَبَ إلَيْهِ مِنْ تَبُوكَ مَعَ دِحْيَةَ بْنِ خَلِيفَةَ وَنَصّهُ مَذْكُورٌ فِي الصّحَاحِ مَشْهُورٌ فَأَمَرَ هِرَقْلُ مُنَادِيًا يُنَادِي : أَلَا إنّ هِرَقْلَ قَدْ آمَن َ بِمُحَمّد ٍ وَاتّبَعَهُ فَدَخَلَتْ الْأَجْنَادُ فِي سِلَاحِهَا ، وَأَطَافَتْ بِقَصْرِهِ تُرِيدُ قَتْلَهُ فَأَرْسَلَ إلَيْهِمْ إنّي أَرَدْت أَنْ أَخْتَبِرَ صَلَابَتَكُمْ فِي دِينِكُمْ فَقَدْ رَضِيت عَنْكُمْ فَرَضُوا عَنْهُ ثُمّ كَتَبَ كِتَابًا ، وَأَرْسَلَهُ مَعَ دِحْيَةَ يَقُولُ فِيهِ لِلنّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إنّي مُسْلِمٌ وَلَكِنّي مَغْلُوبٌ عَلَى أَمْرِي ، وَأَرْسَلَ إلَيْهِ بِهَدِيّةٍ فَلَمّا قَرَأَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كِتَابَهُ قَالَ " كَذَبَ عَدُوّ اللّهِ لَيْسَ بِمُسْلِمٍ ، بَلْ هُوَ على نَصْرَانِيّتِهِ " .

قِيَامُ الرّسُولِ عَلَى دَفْنِ ذِي الْبِجَادَيْنِ
قَالَ وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التّيْمِيّ ، أَنّ عَبْدَ اللّهِ بْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يُحَدّثُ قَالَ قُمْت مِنْ جَوْفِ اللّيْلِ وَأَنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ ، قَالَ فَرَأَيْت شُعْلَةً مِنْ نَارٍ فِي نَاحِيَةِ الْعَسْكَرِ قَالَ فَاتّبَعْتهَا أَنْظُرُ إلَيْهَا ، فَإِذَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَإِذَا عَبْدُ اللّهِ ذُو الْبِجَادَيْنِ الْمُزَنِيّ قَدْ مَاتَ وَإِذَا هُمْ قَدْ حَفَرُوا لَهُ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي حُفْرَتِهِ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يُدَلّيَانِهِ إلَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ أَدْنِيَا إلَيّ أَخَاكُمَا ، فَدَلّيَاهُ إلَيْهِ فَلَمّا هَيّأَهُ لِشِقّهِ قَالَ اللّهُمّ إنّي أَمْسَيْت رَاضِيًا عَنْهُ فَارْضَ عَنْهُ . قَالَ يَقُولُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : يَا لَيْتَنِي كُنْت صَاحِبَ الْحُفْرَةِ . [ ص 304 ]
لِمَ سُمّيَ ذُو الْبِجَادَيْنِ ؟
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَإِنّمَا سُمّيَ ذُو الْبِجَادَيْنِ لِأَنّهُ كَانَ يُنَازَعُ إلَى الْإِسْلَامِ فَيَمْنَعُهُ قَوْمُهُ مِنْ ذَلِكَ وَيُضَيّقُونَ عَلَيْهِ حَتّى تَرَكُوهُ فِي بِجَادٍ لَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَالْبِجَادُ الْكِسَاءُ الْغَلِيظُ الْجَافِي ، فَهَرَبَ مِنْهُمْ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَمّا كَانَ قَرِيبًا مِنْهُ شَقّ بِجَادَهُ بِاثْنَيْنِ فَاتّزَرَ بِوَاحِدٍ وَاشْتَمَلَ بِالْآخَرِ ثُمّ أَتَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقِيلَ لَهُ ذُو الْبِجَادَيْنِ لِذَلِكَ وَالْبِجَادُ أَيْضًا : الْمَسْحُ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ :
كَأَنّ أَبَانَا فِي عَرَانِينِ ... وَدْقِهِ كَبِيرُ أُنَاسٍ فِي بِجَادٍ مُزَمّلِ

مَوْقِفُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ بَعْضِ الْهَدَايَا
وَقَبِلَ [ ص 303 ] هَدِيّتَهُ وَقَسّمَهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَكَانَ لَا يَقْبَلُ هَدِيّةَ مُشْرِكٍ مُحَارِبٍ وَإِنّمَا قَبِلَ هَذِهِ لِأَنّهَا فَيْءٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَلِذَلِكَ قَسّمَهَا عَلَيْهِمْ وَلَوْ أَتَتْهُ فِي بَيْتِهِ كَانَتْ لَهُ خَالِصَةً كَمَا كَانَتْ هَدِيّةُ الْمُقَوْقِسِ خَالِصَةً لَهُ وَقَبِلَهَا مِنْ الْمُقَوْقِسِ ، لِأَنّهُ لَمْ يَكُنْ مُحَارِبًا لِلْإِسْلَامِ بَلْ كَانَ قَدْ أَظْهَرَ الْمَيْلَ إلَى الدّخُولِ فِي الدّينِ وَقَدْ رَدّ هَدِيّةَ أَبِي بَرَاءٍ مُلَاعِبِ الْأَسِنّةِ وَكَانَ أَهْدَى إلَيْهِ فَرَسًا ، وَأَرْسَلَ إلَيْهِ إنّي قَدْ أَصَابَنِي وَجَعٌ أَحْسَبُهُ قَالَ يُقَالُ لَهُ الدّبَيْلَةُ فَابْعَثْ إلَيّ بِشَيْءٍ أَتَدَاوَى بِهِ فَأَرْسَلَ إلَيْهِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِعُكّةِ عَسَلٍ وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْتَشْفِيَ بِهِ وَرَدّ عَلَيْهِ هَدِيّتَهُ وَقَالَ " إنّي نُهِيت عَنْ زَبْدِ الْمُشْرِكِينَ " ، وَبَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ يَنْسُبُ هَذَا الْخَبَرَ لِعَامِرِ بْنِ الطّفَيْلِ عَدُوّ اللّهِ وَإِنّمَا هُوَ عَمّهُ عَامِرُ بْنُ مَالِكٍ . وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ عَنْ زَبْدِ الْمُشْرِكِينَ وَلَمْ يَقُلْ عَنْ هَدِيّتِهِمْ يَدُلّ عَلَى أَنّهُ إنّمَا كَرِهَ مُلَايَنَتَهُمْ وَمُدَاهَنَتَهُمْ إذَا كَانُوا حَرْبًا ، لِأَنّ الزّبْدَ مُشْتَقّ مِنْ الزّبْدِ كَمَا أَنّ الْمُدَاهَنَةَ مُشْتَقّةٌ مِنْ الدّهْنِ فَعَادَ الْمَعْنَى إلَى مَعْنَى اللّينِ وَالْمُلَايَنَةِ وَوُجُودِ الْجِدّ فِي حَرْبِهِمْ وَالْمُخَاشَنَةِ . وَقَدْ رَدّ هَدِيّةَ عِيَاضِ بْنِ حَمّادٍ [ ص 304 ] الْمُجَاشِعِيّ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ وَفِيهَا قَالَ إنّي نُهِيت عَنْ زَبْدِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْدَى إلَى أَبِي سُفْيَانَ عَجْوَةً وَاسْتَهْدَاهُ أَدَمًا فَأَهْدَاهُ أَبُو سُفْيَانَ وَهُوَ عَلَى شِرْكِهِ الْأَدَمَ وَذَلِك فِي زَمَنِ الْهُدْنَةِ الّتِي كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ وَقَدْ رُوِيَ أَنّ هِرَقْلَ وَضَعَ كِتَابَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - الّذِي كَتَبَ إلَيْهِ فِي قَصَبَةٍ مِنْ ذَهَبٍ تَعْظِيمًا لَهُ وَأَنّهُمْ لَمْ يَزَالُوا يَتَوَارَثُونَهُ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ فِي أَرْفَعِ صِوَانٍ وَأَعَزّ مَكَانٍ حَتّى كَانَ عِنْدَ " إذفونش " الّذِي تَغَلّبَ عَلَى طُلَيْطِلَةَ وَمَا أَخَذَ أَخَذَهَا مِنْ بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ ثُمّ كَانَ عِنْدَ ابْنِ بِنْتِهِ الْمَعْرُوفِ " بِالسّلِيطِينَ " حَدّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنّهُ حَدّثَهُ مَنْ سَأَلَهُ رُؤْيَتَهُ مِنْ قُوّادِ أَجْنَادِ الْمُسْلِمِينَ كَانَ يُعْرَفُ بِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ فَأَخْرَجَهُ إلَيّ فَاسْتَعْبَرْته وَأَرَدْت تَقْبِيلَهُ وَأَخْذَهُ بِيَدِي ، فَمَنَعَنِي مِنْ ذَلِكَ صِيَانَةً لَهُ وَضَنّا بِهِ عَلَيّ . وَيُقَالُ هِرَقْلُ وَهِرْقِلُ .
حَوْلَ قِصّةِ الْبَكّائِينَ
فَصْلٌ وَذَكَرَ الْبَكّائِينَ وَذَكَرَ فِيهِمْ عُلْبَةَ بْنَ زَيْدٍ ، وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ أَنّ عُلْبَةَ خَرَجَ مِنْ اللّيْلِ فَصَلّى مَا شَاءَ اللّهُ ثُمّ بَكَى ، وَقَالَ " اللّهُمّ إنّك قَدْ أَمَرْت بِالْجِهَادِ وَرَغّبْت فِيهِ ثُمّ لَمْ تَجْعَلْ عِنْدِي ، مَا أَتَقَوّى بِهِ مَعَ رَسُولِك ، وَلَمْ تَجْعَلْ فِي يَدِ رَسُولِك مَا يَحْمِلُنِي عَلَيْهِ وَإِنّي أَتَصَدّقُ عَلَى كُلّ مُسْلِمٍ بِكُلّ مَظْلِمَةٍ أَصَابَنِي بِهَا فِي مَالٍ أَوْ جَسَدٍ أَوْ عِرْضٍ " ثُمّ أَصْبَحَ مَعَ النّاسِ وَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " أَيْنَ الْمُتَصَدّقُ فِي هَذِهِ اللّيْلَةِ ؟ " لَمْ يَقُمْ أَحَدٌ ، ثُمّ قَالَ " أَيْنَ الْمُتَصَدّقُ فِي هَذِهِ اللّيْلَةِ فَلْيَقُمْ وَلَا يَتَزَاهَدُ مَا صَنَعَ هَذِهِ اللّيْلَةَ ؟ " فَقَامَ إلَيْهِ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " أَبْشِرْ فَوَاَلّذِي نَفْسُ مُحَمّدٍ بِيَدِهِ لَقَدْ كُتِبَ فِي الزّكَاةِ الْمُتَقَبّلَةِ " . وَأَمّا سَالِمُ بْنُ عُمَيْرٍ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ الْمُغَفّلِ فَرَآهُمَا يَامِينُ بْنُ كَعْبٍ يَبْكِيَانِ فَزَوّدَهُمَا ، وَحَمَلَهُمَا ، فَلَحِقَا بِالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .

أَبُو رُهْمٍ فِي تَبُوكَ
[ ص 305 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَذَكَرَ ابْنُ شِهَابٍ الزّهْرِيّ ، عَنْ ابْنِ أُكَيْمَةَ اللّيْثِيّ عَنْ ابْنِ أَخِي أَبِي رُهْمٍ الْغِفَارِيّ أَنّهُ سَمِعَ أَبَا رُهْمٍ كُلْثُومَ بْنَ الْحُصَيْنِ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الّذِينَ بَايَعُوا تَحْتَ الشّجَرَةِ ، يَقُولُ غَزَوْت مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ غَزْوَةَ تَبُوكَ ، فَسِرْت ذَاتَ لَيْلَةٍ مَعَهُ وَنَحْنُ بِالْأَخْضَرِ قَرِيبًا مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَلْقَى اللّهُ عَلَيْنَا النّعَاسَ فَطَفِقْت أَسْتَيْقِظُ وَقَدْ دَنَتْ رَاحِلَتِي مِنْ رَاحِلَةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَيُفْزِعُنِي دُنُوّهَا مِنْهُ مَخَافَةَ أَنْ أُصِيبَ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ فَطَفِقْت أَحُوزُ رَاحِلَتِي عَنْهُ حَتّى غَلَبَتْنِي عَيْنِي فِي بَعْضِ الطّرِيقِ وَنَحْنُ فِي بَعْضِ اللّيْلِ فَزَاحَمَتْ رَاحِلَتِي رَاحِلَةَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَرِجْلُهُ فِي الْغَرْزِ فَمَا اسْتَيْقَظْت إلّا بِقَوْلِهِ " حَسّ " ، فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ اسْتَغْفِرْ لِي . فَقَالَ " سِرْ " ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَسْأَلُنِي عَمّنْ تَخَلّفَ عَنْ بَنِي غِفَارٍ ، فَأُخْبِرُهُ بِهِ فَقَالَ وَهُوَ يَسْأَلُنِي : " مَا فَعَلَ النّفَرُ الْحُمْرُ الطّوَالُ الثّطَاطُ " . فَحَدّثْته بِتَخَلّفِهِمْ . قَالَ " فَمَا فَعَلَ النّفَرُ السّودُ الْجِعَادُ الْقِصَارُ ؟ " قَالَ قُلْت : وَاَللّهِ مَا أَعْرِفُ هَؤُلَاءِ مِنّا . قَالَ " بَلَى الّذِينَ لَهُمْ نَعَمٌ بِشَبَكَةِ شَدَخٍ فَتَذَكّرْتهمْ فِي بَنِي غِفَارٍ ، وَلَمْ أَذْكُرْهُمْ حَتّى ذَكَرْت أَنّهُمْ رَهْطٌ مِنْ أَسْلَم كَانُوا حُلَفَاءَ فِينَا " ، فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ أُولَئِكَ رَهْطٌ مِنْ أَسْلَمَ ، حُلَفَاءُ فِينَا ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " مَا مَنَعَ أَحَدَ أُولَئِكَ حِينَ تَخَلّفَ أَنْ يَحْمِلَ عَلَى بَعِيرٍ مِنْ إبِلِهِ امْرَأً نَشِيطًا فِي سَبِيلِ اللّهِ ؟ إنّ أَعَزّ أَهْلِي عَلَيّ أَنْ يَتَخَلّفَ عَنّي الْمُهَاجِرُونَ مِنْ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارُ وَغِفَارٌ وَأَسْلَمُ
Sمَعْنَى كَلِمَةِ حَسّ
[ ص 305 ] أَبِي رُهْمٍ أَصَابَتْ رِجْلِي رِجْلَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَرِجْلُهُ فِي الْغَرْزِ فَمَا اسْتَيْقَظْت إلّا بِقَوْلِهِ " حَسّ " . الْغَرْزُ لِلرّحْلِ كَالرّكَابِ لِلسّرْجِ " ، وَحَسّ كَلِمَةٌ تَقُولُهَا الْعَرَبُ عِنْدَ وُجُودِ الْأَلَمِ وَفِي الْحَدِيثِ أَنّ طَلْحَةَ لَمّا أُصِيبَتْ يَدُهُ يَوْمَ أُحُدٍ ، قَالَ حَسّ فَقَالَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لَوْ أَنّهُ قَالَ بِسْمِ اللّهِ يَعْنِي مَكَانَ حَسّ لَدَخَلَ الْجَنّةَ وَالنّاسُ يَنْظُرُونَ أَوْ كَلَامًا هَذَا مَعْنَاهُ وَلَيْسَتْ حَسّ بِاسْمٍ وَلَا بِفِعْلٍ إنّهَا لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنْ الْإِعْرَابِ وَلَيْسَتْ بِمَنْزِلَةِ صَهْ وَمَهْ وَرُوَيْدٍ لِأَنّ تِلْكَ أَسْمَاءٌ سُمّيَ الْفِعْلُ بِهَا وَإِنّمَا حَسّ صَوْتٌ كَالْأَنِينِ الّذِي يُخْرِجُهُ الْمُتَأَلّمُ نَحْوَ آهْ وَنَحْوِ قَوْلِ الْغُرَابِ غَلَقِ وَقَدْ ذَكَرْنَا قَبْلُ فِي أُفّ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ مِنْ بَابِ الْأَصْوَاتِ مَبْنِيّةً كَأَنّهُ يُحْكَى بِهَا صَوْتُ النّفْخِ وَالثّانِي أَنْ تَكُونَ مُعْرَبَةً مِثْلُ تَبّا يُرَادُ بِهِ الْوَسَخُ . وَقَوْلُهُ السّودُ الثّطَاطُ جَمْعُ : ثَطّ وَهُوَ الّذِي لَا لِحْيَةَ لَهُ . قَالَ الشّاعِرُ كَهَامَةِ الشّيْخِ الْيَمَانِيّ الثّطّ
[ ص 306 ] وَأَحْسَبُهُ تَصْحِيفًا . وَقَوْلُهُ شَبَكَةَ شَدَخٍ مَوْضِعٌ مِنْ بِلَادِ غِفَارٍ .

أَمْرُ مَسْجِدِ الضّرَارِ عِنْدَ الْقُفُولِ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ
[ ص 306 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ أَقْبَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى نَزَلَ بِذِي أَوَانٍ ، بَلَدٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ سَاعَةٌ مِنْ نَهَارٍ وَكَانَ أَصْحَابُ مَسْجِدِ الضّرَارِ قَدْ كَانُوا أَتَوْهُ وَهُوَ يَتَجَهّزُ إلَى تَبُوكَ ، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ إنّا قَدْ بَنَيْنَا مَسْجِدًا لِذِي الْعِلّةِ وَالْحَاجَةِ وَاللّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ وَاللّيْلَةِ الشّاتِيَةِ وَإِنّا نُحِبّ أَنْ تَأْتِيَنَا ، فَتُصَلّيَ لَنَا فِيهِ فَقَالَ " إنّي عَلَى جَنَاحِ سَفَرٍ وَحَالِ شُغْلٍ أَوْ كَمَا قَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَوْ قَدْ قَدِمْنَا إنْ شَاءَ اللّهُ لَأَتَيْنَاكُمْ فَصَلّيْنَا لَكُمْ فِيه فَلَمّا نَزَلَ بِذِي أَوَانٍ ، أَتَاهُ خَبَرُ الْمَسْجِدِ فَدَعَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَالِكَ بْنَ الدّخْشُمِ أَخَا بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ ، وَمَعْنَ بْنَ عَدِيّ أَوْ أَخَاهُ عَاصِمَ بْنَ عَدِيّ ، أَخَا بَنِي الْعَجْلَانِ فَقَالَ انْطَلِقَا إلَى هَذَا الْمَسْجِدِ الظّالِمِ أَهْلُهُ فَاهْدِمَاهُ وَحَرّقَاهُ فَخَرَجَا سَرِيعَيْنِ حَتّى أَتَيَا بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ ، وَهُمْ رَهْطُ مَالِكِ بْنِ الدّخْشُمِ ، فَقَالَ مَالِكٌ لِمَعْنٍ أَنْظِرْنِي حَتّى أَخْرُجَ إلَيْك بِنَارٍ مِنْ أَهْلِي . فَدَخَلَ إلَى أَهْلِهِ فَأَخَذَ سَعَفًا مِنْ النّخْلِ فَأَشْعَلَ فِيهِ نَارًا ، ثُمّ خَرَجَا يَشْتَدّانِ حَتّى دَخَلَاهُ وَفِيهِ أَهْلُهُ فَحَرّقَاهُ وَهَدَمَاهُ وَتَفَرّقُوا مَعَهُ عَنْهُ وَنَزَلَ فِيهِمْ مِنْ الْقُرْآنِ مَا نَزَلَ { وَالّذِينَ اتّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ } إلَى آخِرِ الْقِصّةِ . [ ص 307 ] بَنِي عُبَيْدِ بْنِ زَيْدٍ ، أَحَدُ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْف ٍ وَمِنْ دَارِهِ أُخْرِجَ مَسْجِدُ الشّقَاقِ ، وَثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِبٍ مِنْ بَنِي أُمَيّةَ بْنِ زَيْدٍ ، وَمُعَتّبُ بْنُ قُشَيْرٍ ، مِنْ بَنِي ضُبَيْعَةَ بْنِ زَيْدٍ ، وَأَبُو حَبِيبَةَ بْنُ الْأَزْعَرِ مِنْ بَنِي ضُبَيْعَةَ بْنِ زَيْدٍ ، وَعَبّادُ بْنُ حُنَيْفٍ أَخُو سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ ، مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْف ٍ وَجَارِيَةُ بْنُ عَامِرٍ وَابْنَاهُ مُجَمّعُ بْنُ جَارِيَةَ ، وَزَيْدُ بْنُ جَارِيَةَ وَنَبْتَلُ بْنُ الْحَارِثِ مِنْ ضُبَيْعَةَ ، وَبَحْزَجٌ مِنْ بَنِي ضُبَيْعَة َ وَبِجَادُ بْنُ عُثْمَانَ مِنْ بَنِي ضُبَيْعَةَ ، وَوَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ ، وَهُوَ مِنْ بَنِي أُمَيّةَ بْنِ زَيْدٍ رَهْطِ أَبِي لُبَابَةَ بْنِ الْمُنْذِرِ . وَكَانَتْ مَسَاجِدُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيمَا بَيْنَ الْمَدِينَةِ إلَى تَبُوكَ مَعْلُومَةً مُسَمّاةً مَسْجِدٌ بِتَبُوكَ ، وَمَسْجِدٌ بِثَنِيّةِ مِدْرَانَ ، وَمَسْجِدٌ بِذَاتِ الزّرَابِ وَمَسْجِدٌ بِالْأَخْضَرِ وَمَسْجِدٌ بِذَاتِ الْخِطْمِيّ وَمَسْجِدٌ بِأَلَاءَ وَمَسْجِدٌ بِطَرَفِ الْبَتْرَاءِ ، مِنْ ذَنَبِ كَوَاكِبَ وَمَسْجِدٌ بِالشّقّ ، شِقّ تَارَا ، وَمَسْجِدٌ بِذِي الْجِيفَةِ ، وَمَسْجِدٌ بِصَدْرِ حَوْضَى ، وَمَسْجِدٌ بِالْحِجْرِ وَمَسْجِدٌ بِالصّعِيدِ ، وَمَسْجِدٌ بِالْوَادِي ، الْيَوْمَ وَادِي الْقُرَى . وَمَسْجِدٌ بِالرّقْعَةِ مِنْ الشّقّةِ شِقّةِ بَنِي عُذْرَةَ ، وَمَسْجِدٌ بِذِي الْمَرْوَةِ ، وَمَسْجِدٌ بِالْفَيْفَاءِ ، وَمَسْجِدٌ بِذِي خُشُبٍ .
Sأَصْحَابُ مَسْجِدِ الضّرَارِ
فَصْلٌ وَذَكَرَ الْمُنَافِقِينَ الّذِينَ اتّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا . وَذَكَرَ فِيهِمْ جَارِيَةَ بْنَ عَامِرٍ وَكَانَ يُعْرَفُ بِحِمَارِ الدّارِ وَهُوَ جَارِيَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ مُجَمّعِ بْنِ الْعَطّافِ . وَذَكَرَ فِيهِمْ ابْنَهُ مُجَمّعًا ، وَكَانَ إذْ ذَاكَ غُلَامًا حَدَثًا قَدْ جَمَعَ الْقُرْآنَ فَقَدّمُوهُ إمَامًا لَهُمْ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِشَيْءٍ مِنْ شَأْنِهِمْ وَقَدْ ذُكِرَ أَنّ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ فِي أَيّامِهِ أَرَادَ عَزْلَهُ عَنْ الْإِمَامَةِ وَقَالَ أَلَيْسَ بِإِمَامِ مَسْجِدِ الضّرَارِ ، فَأَقْسَمَ لَهُ مُجَمّعٌ أَنّهُ مَا عَلِمَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَا ظَنّ إلّا الْخَيْرَ فَصَدّقَهُ عُمَرُ وَأَقَرّهُ وَكَانَتْ مَسَاجِدُ الْمَدِينَةِ تِسْعَةً سِوَى مَسْجِدِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - كُلّهُمْ يُصَلّونَ بِأَذَانِ بِلَالٍ كَذَلِكَ قَالَ بُكَيْرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْأَشَجّ فِيمَا رَوَى عَنْهُ أَبُو دَاوُدَ فِي مَرَاسِيلِهِ ، والدّارَقُطْنِيّ فِي سُنَنِهِ ، فَمِنْهَا مَسْجِدُ رَاتِجٍ ، وَمَسْجِدُ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ وَمَسْجِدُ بَنِي عَمْرِو بْنِ مَبْذُولٍ ، وَمَسْجِدُ جُهَيْنَةَ وَأَسْلَمَ ، وَأَحْسَبُهُ قَالَ وَمَسْجِدُ بَنِي سَلِمَةَ ، [ ص 307 ] وَسَائِرُهَا مَذْكُورٌ فِي السّنَنِ وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي الْمَسَاجِدِ الّتِي فِي الطّرِيقِ مَسْجِدًا بِذِي الْخِيفَةِ كَذَا وَقَعَ فِي كِتَابِ أَبِي بَحْرٍ بِالْخَاءِ مُعْجَمَةً وَوَقَعَ الْجِيفَةِ بِالْجِيمِ فِي كِتَابٍ قُرِئَ عَلَى ابْنِ أَبِي سِرَاجٍ وَابْنِ الْإِقْلِيلِيّ وَأَحْمَدَ بْنِ خَالِدٍ .

أَمْرُ الثّلَاثَةِ الّذِينَ خُلّفُوا وَأَمْرُ الْمُعَذّرِينَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ
وَقَدِمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ ، وَقَدْ كَانَ تَخَلّفَ عَنْهُ رَهْطٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَتَخَلّفَ أُولَئِكَ الرّهْطُ الثّلَاثَةُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ شَكّ وَلَا نِفَاقٍ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ ، وَمُرَارَةُ بْنُ [ ص 308 ] وَهِلَالُ بْنُ أُمَيّةَ ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِأَصْحَابِهِ لَا تُكَلّمُنّ أَحَدًا مِنْ هَؤُلَاءِ الثّلَاثَة وَأَتَاهُ مَنْ تَخَلّفَ عَنْهُ مِنْ الْمُنَافِقِينَ فَجَعَلُوا يَحْلِفُونَ لَهُ وَيَعْتَذِرُونَ فَصَفَحَ عَنْهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَمْ يَعْذِرْهُمْ اللّهُ وَلَا رَسُولُهُ . وَاعْتَزَلَ الْمُسْلِمُونَ كَلَامَ أُولَئِكَ النّفَرِ الثّلَاثَةِ .
Sعَنْ الثّلَاثَةِ الّذِينَ خُلّفُوا
فَصْلٌ وَذَكَرَ الثّلَاثَةَ الّذِينَ خُلّفُوا ، وَنَهْيَ النّاسِ عَنْ كَلَامِهِمْ وَإِنّمَا اشْتَدّ غَضَبُهُ عَلَى مَنْ تَخَلّفَ عَنْهُ وَنَزَلَ فِيهِمْ مِنْ الْوَعِيدِ مَا نَزَلَ حَتّى تَابَ اللّهُ عَلَى الثّلَاثَةِ مِنْهُمْ وَإِنْ كَانَ الْجِهَادُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ لَا مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ لَكِنّهُ فِي حَقّ الْأَنْصَارِ كَانَ فَرْضَ عَيْنٍ وَعَلَيْهِ بَايَعُوا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَلَا تَرَاهُمْ يَقُولُونَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ ، وَهُمْ يَرْتَجِزُونَ نَحْنُ الّذِينَ بَايَعُوا مُحَمّدًا عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدَا
[ ص 308 ] كَانَ تَخَلّفُهُمْ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي هَذِهِ الْغَزَاةِ كَبِيرَةً لِأَنّهَا كَالنّكْثِ لِبَيْعَتِهِمْ كَذَلِكَ قَالَ ابْنُ بَطّالٍ رَحِمَهُ اللّهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَا أَعْرِفُ لَهَا وَجْهًا غَيْرَ الّذِي قَالَ وَأَمّا [ ص 309 ] كَعْبُ بْنُ مَالِكِ بْنِ أَبِي كَعْبٍ ، وَاسْمُ أَبِي كَعْبٍ عَمْرُو بْنُ الْقَيْنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَوَادِ بْنِ غَنْمِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَلِمَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَلِيّ بْنِ أَسَدِ بْنِ سَارِدَةَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جُشَمَ بْنِ الْخَزْرَجِ الْأَنْصَارِيّ السّلَمِيّ ، يُكَنّى : أَبَا عَبْدِ اللّهِ وَقِيلَ أَبَا عَبْدِ الرّحْمَنِ [ وَقِيلَ أَبَا بَشِيرٍ ] أُمّهُ لَيْلَى بِنْتُ زَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ أَيْضًا ، وَهِلَالُ بْنُ أُمَيّةَ ، وَهُوَ مِنْ بَنِي وَاقِفٍ وَمُرَارَةُ بْنُ رَبِيعَةَ ، وَيُقَالُ ابْنُ الرّبِيعِ الْعُمَرِيّ الْأَنْصَارِيّ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْف ٍ .

حَدِيثُ كَعْبٍ عَنْ التّخَلّفِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَذَكَرَ الزّهْرِيّ مُحَمّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ : أَنّ أَبَاهُ عَبْدَ اللّهِ وَكَانَ قَائِدَ أَبِيهِ حِينَ أُصِيبَ بَصَرُهُ قَالَ سَمِعْت أَبِي كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ يُحَدّثُ حَدِيثَهُ حِينَ تَخَلّفَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ ، وَحَدِيثَ صَاحِبَيْهِ قَالَ مَا تَخَلّفْت عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا قَطّ ، غَيْرَ أَنّي كُنْت قَدْ تَخَلّفْت عَنْهُ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ وَكَانَتْ غَزْوَةً لَمْ يُعَاتِبْ اللّهُ وَلَا رَسُولُهُ أَحَدًا تَخَلّفَ عَنْهَا ، وَذَلِكَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّمَا خَرَجَ يُرِيدُ عِيرَ قُرَيْشٍ ، حَتّى جَمَعَ اللّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدُوّهِ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ وَلَقَدْ شَهِدْت مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْعَقَبَةَ ، وَحِينَ تَوَاثَقْنَا عَلَى الْإِسْلَامِ وَمَا أُحِبّ أَنّ لِي بِهَا مَشْهَدَ بَدْرٍ وَإِنْ كَانَتْ غَزْوَةُ بَدْرٍ هِيَ أَذْكَرَ فِي النّاسِ مِنْهَا . قَالَ كَانَ مِنْ خَبَرِي حِينَ تَخَلّفْت عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ أَنّي لَمْ أَكُنْ قَطّ أَقْوَى وَلَا أَيْسَرَ مِنّي حِينَ تَخَلّفْت عَنْهُ فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ وَ وَاَللّهِ مَا اجْتَمَعَتْ لِي رَاحِلَتَانِ قَطّ حَتّى اجْتَمَعَتَا فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَلّمَا يُرِيدُ غَزْوَةً يَغْزُوهَا إلّا وَرّى بِغَيْرِهَا ، حَتّى كَانَتْ تِلْكَ الْغَزْوَةُ فَغَزَاهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي حَرّ شَدِيدٍ وَاسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا ، وَاسْتَقْبَلَ غَزْوَ عَدُوّ كَثِيرٍ فَجَلّى لِلنّاسِ أَمْرَهُمْ لِيَتَأَهّبُوا لِذَلِكَ أُهْبَتَهُ وَأَخْبَرَهُمْ خَبَرَهُ بِوَجْهِهِ الّذِي يُرِيدُ وَالْمُسْلِمُونَ مِنْ تَبَعِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَثِيرٌ لَا يَجْمَعُهُمْ كِتَابٌ حَافِظٌ يَعْنِي بِذَلِكَ الدّيوَانَ يَقُولُ لَا يَجْمَعُهُمْ دِيوَانٌ مَكْتُوبٌ . قَالَ كَعْبٌ فَقَلّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَتَغَيّبَ إلّا ظَنّ أَنّهُ سَيَخْفَى لَهُ ذَلِكَ مَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ وَحْيٌ مِنْ اللّهِ وَغَزَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تِلْكَ الْغَزْوَةَ حِينَ طَابَتْ الثّمَارُ وَأُحِبّتْ الظّلَالُ فَالنّاسُ إلَيْهَا صُعْرٌ فَتَجَهّزَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَتَجَهّزَ الْمُسْلِمُونَ مَعَهُ وَجَعَلْت أَغْدُو لِأَتَجَهّزَ مَعَهُمْ فَأَرْجِعُ وَلَمْ أَقْضِ حَاجَةً فَأَقُولُ فِي نَفْسِي ، أَنَا قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ إذَا أَرَدْت ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ يَتَمَادَى بِي حَتّى شَمّرَ النّاسُ بِالْجِدّ فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ غَادِيًا ، وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ وَلَمْ أَقْضِ مِنْ جِهَازِي شَيْئًا ، فَقُلْت : أَتَجَهّزُ بَعْدَهُ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ ثُمّ أَلْحَقُ بِهِمْ فَغَدَوْت [ ص 309 ] فَصَلُوا لِأَتَجَهّزَ فَرَجَعْت وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا ، ثُمّ غَدَوْت فَرَجَعْت وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ يَتَمَادَى بِي حَتّى أَسْرَعُوا ، وَتَفَرّطَ الْغَزْوُ فَهَمَمْت أَنْ أَرْتَحِلَ فَأُدْرِكَهُمْ وَلَيْتَنِي فَعَلْت ، فَلَمْ أَفْعَلْ وَجَعَلْت إذَا خَرَجْت فِي النّاسِ بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ، فَطُفْت فِيهِمْ يُحْزِنُنِي أَنّي لَا أَرَى إلّا رَجُلًا مَغْمُوصًا عَلَيْهِ فِي النّفَاقِ أَوْ رَجُلًا مِمّنْ عَذَرَ اللّهُ مِنْ الضّعَفَاءِ وَلَمْ يَذْكُرْنِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى بَلَغَ تَبُوكَ ، فَقَالَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْقَوْمِ بِتَبُوكَ مَا فَعَلَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ يَا رَسُولَ اللّهِ حَبَسَهُ بُرْدَاهُ وَالنّظَرُ فِي عِطْفَيْهِ فَقَالَ لَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ : بِئْسَ مَا قُلْت وَاَللّهِ يَا رَسُولَ اللّهِ مَا عَلِمْنَا مِنْهُ إلّا خَيْرًا ؛ فَسَكَتَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . فَلَمّا بَلَغَنِي أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ تَوَجّهَ قَافِلًا مِنْ تَبُوكَ ، حَضَرَنِي بَثّي ، فَجَعَلْت أَتَذَكّرُ الْكَذِبَ وَأَقُولُ بِمَاذَا أَخْرُجُ مِنْ سَخْطَةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ غَدًا وَأَسْتَعِينُ عَلَى ذَلِكَ كُلّ ذِي رَأْيٍ مِنْ أَهْلِي ؛ فَلَمّا قِيلَ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ أَظَلّ قَادِمًا زَاحَ عَنّي الْبَاطِلُ وَعَرَفْت أَنّي لَا أَنْجُو مِنْهُ إلّا بِالصّدْقِ فَأَجْمَعْت أَنْ أَصْدُقَهُ وَصَبّحَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ ، وَكَانَ إذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ ، فَرَكَعَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمّ جَلَسَ لِلنّاسِ فَلَمّا فَعَلَ ذَلِكَ جَاءَهُ الْمُخَلّفُونَ فَجَعَلُوا يَحْلِفُونَ لَهُ وَيَعْتَذِرُونَ وَكَانُوا بِضْعَةً وَثَمَانِينَ رَجُلًا ، فَيَقْبَلُ مِنْهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَانِيَتَهُمْ وَأَيْمَانَهُمْ وَيَسْتَغْفِرُ لَهُمْ وَيَكِلُ سَرَائِرَهُمْ إلَى اللّهِ تَعَالَى ، حَتّى جِئْت فَسَلّمْت عَلَيْهِ فَتَبَسّمَ تَبَسّمَ الْمُغْضَبِ ثُمّ قَالَ لِي : " تَعَالَهُ " ، فَجِئْت أَمْشِي ، حَتّى جَلَسْت بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ لِي : مَا خَلّفَك ؟ أَلَمْ تَكُنْ ابْتَعْت ظَهْرَك ؟ " قَالَ قُلْت : إنّي يَا رَسُولَ اللّهِ وَاَللّهِ لَوْ جَلَسْت عِنْدَ غَيْرِك مِنْ أَهْلِ الدّنْيَا ، لَرَأَيْت أَنّي سَأَخْرُجُ مِنْ سُخْطِهِ بِعُذْرٍ وَلَقَدْ أُعْطِيت جَدَلًا ، لَكِنْ وَاَللّهِ لَقَدْ عَلِمْت لَئِنْ حَدّثْتُك الْيَوْمَ حَدِيثًا كَذِبًا لَتَرْضَيَنّ عَنّي ، وَلَيُوشِكَنّ اللّهُ أَنْ يُسْخِطَك عَلَيّ وَلَئِنْ حَدّثْتُك حَدِيثًا صِدْقًا تَجِدُ عَلَيّ فِيهِ إنّي لَأَرْجُو عُقْبَايَ مِنْ اللّهِ فِيهِ وَلَا وَاَللّهِ مَا كَانَ لِي عُذْرٌ وَاَللّهِ مَا كُنْت قَطّ أَقْوَى وَلَا أَيْسَرَ مِنّي حِينَ تَخَلّفْت عَنْك . فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " أَمّا هَذَا فَقَدْ صُدِقْت فِيهِ ، فَقُمْ حَتّى يَقْضِيَ اللّهُ فِيك فَقُمْت ، وَثَارَ مَعِي رِجَالٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ ، فَاتّبَعُونِي فَقَالُوا لِي : وَاَللّهِ مَا عَلِمْنَاك كُنْت أَذْنَبْت ذَنْبًا قَبْلَ هَذَا ، وَلَقَدْ عَجَزْت أَنْ لَا تَكُونَ اعْتَذَرْت إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَا [ ص 310 ] كَانَ كَافِيَك ذَنْبَك اسْتِغْفَارُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَك ، فَوَاَللّهِ مَا زَالُوا بِي حَتّى أَرَدْت أَنْ أَرْجِعَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأُكَذّبَ نَفْسِي ، ثُمّ قُلْت لَهُمْ هَلْ لَقِيَ هَذَا أَحَدٌ غَيْرِي ؟ قَالُوا : نَعَمْ رَجُلَانِ قَالَا مِثْلَ مَقَالَتِك ، وَقِيلَ لَهُمَا مِثْلَ مَا قِيلَ لَك ؛ قُلْت : مَنْ هُمَا ؟ قَالُوا : مُرَارَةُ بْنُ الرّبِيعِ الْعَمْرِيّ ، مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ ، وَهِلَالُ بْنُ ( أَبِي ) أُمَيّةَ الْوَاقِفِيّ ؛ فَذَكَرُوا لِي رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ فِيهِمَا أُسْوَةٌ فَصُمْت حِينَ ذَكَرُوهُمَا لِي ، وَنَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ كَلَامِنَا أَيّهَا الثّلَاثَةُ مِنْ بَيْنِ مَنْ تَخَلّفَ عَنْهُ فَاجْتَنَبَنَا النّاسُ وَتَغَيّرُوا لَنَا ، حَتّى تَنَكّرَتْ لِي نَفْسِي وَالْأَرْضُ فَمَا هِيَ بِالْأَرْضِ الّتِي كُنْت أَعْرِفُ فَلَبِثْنَا عَلَى ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً فَأَمّا صَاحِبَايَ فَاسْتَكَانَا ، وَقَعَدَا فِي بُيُوتِهِمَا ، وَأَمّا أَنَا فَكُنْت أَشَبّ الْقَوْمِ وَأَجْلَدَهُمْ فَكُنْت أَخْرُجُ وَأَشْهَدُ الصّلَوَاتِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَأَطُوفُ بِالْأَسْوَاقِ وَلَا يُكَلّمُنِي أَحَدٌ ، وَآتِي رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأُسَلّمُ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي مَجْلِسِهِ بَعْدَ الصّلَاةِ فَأَقُولُ فِي نَفْسِي ، هَلْ حَرّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدّ السّلَامِ عَلَيّ أَمْ لَا ؟ ثُمّ أُصَلّي قَرِيبًا مِنْهُ فَأُسَارِقُهُ النّظَرَ فَإِذَا أَقْبَلْت عَلَى صَلَاتِي نَظَرَ إلَيّ وَإِذَا الْتَفَتّ نَحْوَهُ أَعْرَضَ عَنّي ، حَتّى إذَا طَالَ ذَلِكَ عَلَيّ مِنْ جَفْوَةِ الْمُسْلِمِينَ مَشَيْت حَتّى كَوّرْت جِدَارَ حَائِطِ أَبِي قَتَادَةَ . وَهُوَ ابْنُ عَمّي ، وَأَحَبّ النّاسِ إلَيّ فَسَلّمْت عَلَيْهِ فَوَاَللّهِ مَا رَدّ عَلَيّ السّلَامَ فَقُلْت : يَا أَبَا قَتَادَةَ ، أَنْشُدُك بِاَللّهِ هَلْ تَعْلَمُ أَنّي أُحِبّ اللّهَ وَرَسُولَهُ ؟ فَسَكَتَ . فَعُدْت فَنَاشَدْته ، فَسَكَتَ عَنّي ، فَعُدْت فَنَاشَدْته فَسَكَتَ عَنّي ، فَعُدْت فَنَاشَدْته ، فَقَالَ اللّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَفَاضَتْ عَيْنَايَ وَوَثَبْت فَتَسَوّرْت الْحَائِطَ ، ثُمّ غَدَوْت إلَى السّوقِ فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي بِالسّوقِ إذَا نَبَطِيّ يَسْأَلُ عَنّي مِنْ نَبَطِ الشّامِ ، مِمّا قَدِمَ بِالطّعَامِ يَبِيعُهُ بِالْمَدِينَةِ يَقُولُ مَنْ يَدُلّ عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ ؟ قَالَ فَجَعَلَ النّاسُ يُشِيرُونَ لَهُ إلَيّ حَتّى جَاءَنِي ، فَدَفَعَ إلَيّ كِتَابًا مِنْ مَلِكِ غَسّانَ ، وَكَتَبَ كِتَابًا فِي سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ فَإِذَا فِيهِ أَمّا بَعْدُ فَإِنّهُ قَدْ بَلَغَنَا أَنّ صَاحِبَك قَدْ جَفَاك ، وَلَمْ يَجْعَلْك اللّهُ بِدَارِ هَوَانٍ وَلَا مَضْيَعَةٍ فَالْحَقْ بِنَا نُوَاسِك . قَالَ قُلْت حِينَ قَرَأْتهَا : وَهَذَا مِنْ الْبَلَاءِ أَيْضًا ، قَدْ بَلَغَ بِي مَا وَقَعْت فِيهِ أَنْ طَمِعَ فِيّ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الشّرْكِ . قَالَ فَعَمَدْت بِهَا إلَى تَنّورٍ فَسَجَرْته بِهَا . فَأَقَمْنَا عَلَى ذَلِكَ حَتّى إذَا مَضَتْ أَرْبَعُونَ لَيْلَةً مِنْ الْخَمْسِينَ إذَا رَسُولُ رَسُولِ اللّهِ يَأْتِينِي ، فَقَالَ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَأْمُرُك أَنْ تَعْتَزِلَ امْرَأَتَك ، قَالَ قُلْت : أُطَلّقُهَا أَمْ مَاذَا ؟ قَالَ لَا ، بَلْ اعْتَزِلْهَا وَلَا تَقْرَبْهَا ، وَأَرْسَلَ إلَى صَاحِبَيّ بِمِثْلِ ذَلِكَ فَقُلْت لِامْرَأَتِي : الْحَقِي بِأَهْلِك ، [ ص 311 ] قَالَ وَجَاءَتْ امْرَأَةُ هِلَالِ بْنِ أُمَيّةَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ هِلَالَ بْنَ أُمَيّةَ شَيْخٌ كَبِيرٌ ضَائِعٌ لَا خَادِمَ لَهُ أَفَتَكْرَهُ أَنْ أَخْدُمَهُ ؟ قَالَ " لَا ، وَلَكِنْ لَا يَقْرَبَنّكِ " ؛ قَالَتْ وَاَللّهِ يَا رَسُولَ اللّهِ مَا بِهِ مِنْ حَرَكَةٍ إلَيّ وَاَللّهِ مَا زَالَ يَبْكِي مُنْذُ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ إلَى يَوْمِهِ هَذَا ، وَلَقَدْ تَخَوّفْت عَلَى بَصَرِهِ . قَالَ فَقَالَ لِي بَعْضُ أَهْلِي : لَوْ اسْتَأْذَنْت رَسُولَ اللّهِ لِامْرَأَتِك ، فَقَدْ أَذِنَ لِامْرَأَةِ هِلَالِ بْنِ أُمَيّةَ أَنْ تَخْدُمَهُ قَالَ فَقُلْت : وَاَللّهِ لَا أَسْتَأْذِنُهُ فِيهَا ، مَا أَدْرِي مَا يَقُولُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِي فِي ذَلِكَ إذَا اسْتَأْذَنْته فِيهَا ، وَأَنَا رَجُلٌ شَابّ ، قَالَ فَلَبِثْنَا بَعْدَ ذَلِكَ عَشْرَ لَيَالٍ فَكَمَلَ لَنَا خَمْسُونَ لَيْلَةً مِنْ حِينِ نَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ كَلَامِنَا ، ثُمّ صَلّيْت الصّبْحَ صُبْحَ خَمْسِينَ لَيْلَةً عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِنَا ، عَلَى الْحَالِ الّذِي ذَكَرَ اللّهُ مِنّا ، قَدْ ضَاقَتْ عَلَيْنَا الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيّ نَفْسِي ، وَقَدْ كُنْت ابْتَنَيْت خَيْمَةً فِي ظَهْرِ مَبْلَغٍ فَكُنْت أَكُونُ فِيهَا إذْ سَمِعْت صَوْتَ صَارِخٍ أَوْفَى عَلَيّ فَهُوَ سَلْعٌ يَقُولُ بِأَعْلَى صَوْتِهِ يَا كَعْبُ بْنَ مَالِكٍ ، أَبْشِرْ قَالَ فَخَرَرْت سَاجِدًا ، وَعَرَفْت أَنْ قَدْ جَاءَ الْفَرَجُ . قَالَ وَآذَنَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ النّاسَ بِتَوْبَةِ اللّهِ عَلَيْنَا حِينَ صَلّى الْفَجْرَ فَذَهَبَ النّاسُ يُبَشّرُونَنَا ، وَذَهَبَ نَحْوَ صَاحِبَيّ مُبَشّرُونَ وَرَكَضَ رَجُلٌ إلَيّ فَرَسًا . وَسَعَى سَاعٍ مِنْ أَسْلَمَ ، حَتّى أَوْفَى عَلَى الْجَبَلِ فَكَانَ الصّوْتُ أَسْرَعَ مِنْ الْفَرَسِ ، فَلَمّا جَاءَنِي الّذِي سَمِعْت صَوْتَهُ يُبَشّرُنِي ، نَزَعْت ثَوْبِي ، فَكَسَوْتهمَا إيّاهُ بِشَارَةً وَاَللّهِ مَا أَمْلِكُ يَوْمَئِذٍ غَيْرَهُمَا ، وَاسْتَعَرْت ثَوْبَيْنِ فَلَبِسْتهمَا ، ثُمّ انْطَلَقْت أَتَيَمّمُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَتَلَقّانِي النّاسُ يُبَشّرُونَنِي بِالتّوْبَةِ يَقُولُونَ لِيَهْنِكَ تَوْبَةُ اللّهِ عَلَيْك ، حَتّى دَخَلْت الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جَالِسٌ حَوْلَهُ النّاسُ فَقَامَ إلَيّ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللّهِ ، فَحَيّانِي وَهَنّانِي ، وَ وَاَللّهِ مَا قَامَ إلَيّ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ غَيْرُهُ . قَالَ فَكَانَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ لَا يَنْسَاهَا لِطَلْحَةِ . [ ص 312 ] قَالَ كَعْبٌ فَلَمّا سَلّمْت عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لِي ، وَوَجْهُهُ يُبْرِقُ مِنْ السّرُورِ أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرّ عَلَيْك مُنْذُ وَلَدَتْك أُمّك " ، قَالَ قُلْت : أَمِنْ عِنْدِك يَا رَسُولَ اللّهِ أَمْ مِنْ عِنْدِ اللّهِ ؟ قَالَ " بَلْ مِنْ عِنْدِ اللّهِ . قَالَ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا اسْتَبْشَرَ كَانَ وَجْهُهُ قِطْعَةَ قَمَرٍ . قَالَ وَكُنّا نَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْهُ . قَالَ فَلَمّا جَلَسْت بَيْنَ يَدَيْهِ قُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ مِنْ تَوْبَتِي إلَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي ، صَدَقَةً إلَى اللّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمْسِكْ عَلَيْك بَعْضَ مَالِك ، فَهُوَ خَيْرٌ لَك " . قَالَ قُلْت : إنّي مُمْسِكٌ سَهْمِي الّذِي بِخَيْبَرِ وَقُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ اللّهَ قَدْ نَجّانِي بِالصّدْقِ وَإِنّ مِنْ تَوْبَتِي إلَى اللّهِ أَنْ لَا أُحَدّثَ إلّا صِدْقًا مَا حَيِيت وَاَللّهِ مَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ النّاسِ أَبْلَاهُ اللّهُ فِي صِدْقِ الْحَدِيثِ مُنْذُ ذَكَرْت لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ذَلِكَ أَفْضَلَ مِمّا أَبْلَانِي اللّهُ وَاَللّهِ مَا تَعَمّدْت مِنْ كِذْبَةٍ مُنْذُ ذَكَرْت ذَلِكَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى يَوْمِي هَذَا ، وَإِنّي لَأَرْجُو أَنْ يَحْفَظَنِي اللّهُ فِيمَا بَقِيَ . وَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى : { لَقَدْ تَابَ اللّهُ عَلَى النّبِيّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الّذِينَ اتّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ وَعَلَى الثّلَاثَةِ الّذِينَ خُلّفُوا } إلَى قَوْلِهِ { وَكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ } [ التّوْبَةَ 117 - 119 ] . قَالَ كَعْبٌ فَوَاَللّهِ مَا أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيّ نِعْمَةً قَطّ بَعْدَ أَنْ هَدَانِي لِلْإِسْلَامِ كَانَتْ أَعْظَمَ فِي نَفْسِي مِنْ صِدْقِي رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمَئِذٍ أَنْ لَا أَكُونَ كَذَبْته ، فَأَهْلِكَ كَمَا هَلَكَ الّذِينَ كَذَبُوا ، فَإِنّ اللّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ فِي الّذِينَ كَذَبُوهُ حِينَ أُنْزِلَ الْوَحْيُ شَرّ مَا قَالَ لِأَحَدٍ قَالَ { سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنّ اللّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } [ التّوْبَةَ 95 ، 96 ] . [ ص 313 ] { وَعَلَى الثّلَاثَةِ الّذِينَ خُلّفُوا } وَلَيْسَ الّذِي ذَكَرَ اللّهُ مِنْ تَخْلِيفِنَا لِتَخَلّفِنَا عَنْ الْغَزْوَةِ وَلَكِنْ لِتَخْلِيفِهِ إيّانَا ، وَإِرْجَائِهِ أَمْرَنَا عَمّنْ حَلَفَ لَهُ وَاعْتَذَرَ إلَيْهِ فَقَبِلَ مِنْهُ .
Sزَاحَ عَنّي الْبَاطِلُ
[ ص 310 ] وَذَكَرَ قَوْلَ كَعْبٍ زَاحَ عَنّي الْبَاطِلُ يُقَال : زَاحَ وَانْزَاحَ إذَا ذَهَبَ وَالْمَصْدَرُ زُيُوحًا وَزَيَحَانًا ، إحْدَاهُمَا عَنْ الْأَصْمَعِيّ ، وَالْأُخْرَى عَنْ الْكِسَائِيّ . [ ص 311 ] طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللّهِ يُهَنّئُنِي ، فَكَانَ كَعْبٌ يَرَاهَا لَهُ فِيهِ جَوَازُ السّرُورِ بِالْقِيَامِ إلَى الرّجُلِ كَمَا سُرّ كَعْبٌ بِقِيَامِ طَلْحَةَ إلَيْهِ وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السّلَامُ فِي خَبَرِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ : قُومُوا إلَى سَيّدِكُمْ وَقَامَ هُوَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى قَوْمٍ مِنْهُمْ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِ وَإِلَى عَدِيّ بْنِ حَاتِمٍ ، وَإِلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِ مِنْ مَكّةَ وَغَيْرِهِمْ وَلَيْسَ هَذَا بِمُعَارِضٍ لِحَدِيثِ مُعَاوِيَةَ عَنْهُ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَنّهُ قَالَ مَنْ سَرّهُ أَنْ يَمْثُلَ لَهُ الرّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النّارِ [ ص 312 ] يُقَامَ لَهُ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ السّلَفِ يُقَامُ إلَى الْوَالِدِ بِرّا بِهِ وَإِلَى الْوَلَدِ سُرُورًا بِهِ وَصَدَقَ هَذَا الْقَائِلُ فَإِنّ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا كَانَتْ تَقُومُ إلَى أَبِيهَا صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِرّا بِهِ وَكَانَ هُوَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُومُ إلَيْهَا سُرُورًا بِهَا رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا ، وَكَذَلِك كُلّ قِيَامٍ أَثْمَرَهُ الْحُبّ فِي اللّهِ وَالسّرُورُ بِأَخِيك بِنِعْمَةِ اللّهِ وَالْبِرّ بِمَنْ يُحِبّ بِرّهُ فِي اللّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، فَإِنّهُ خَارِجٌ عَنْ حَدِيثِ النّهْيِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .

أَمْرُ وَفْدِ ثَقِيفٍ وَإِسْلَامُهَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ تِسْعٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدِمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ مِنْ تَبُوكَ فِي رَمَضَانَ وَقَدِمَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الشّهْرِ وَفْدُ ثَقِيفٍ . وَكَانَ مِنْ حَدِيثِهِمْ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمّا انْصَرَفَ عَنْهُمْ اتّبَعَ أَثَرَهُ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثّقَفِيّ ، حَتّى أَدْرَكَهُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى الْمَدِينَةِ ، فَأَسْلَمَ وَسَأَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى قَوْمِهِ بِالْإِسْلَامِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَمَا يَتَحَدّثُ قَوْمُهُ إنّهُمْ قَاتِلُوك وَعَرَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ فِيهِمْ نَخْوَةَ الِامْتِنَاعِ الّذِي كَانَ مِنْهُمْ فَقَالَ عُرْوَةُ يَا رَسُولَ اللّهِ أَنَا أَحَبّ إلَيْهِمْ مِنْ أَبْكَارِهِمْ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ مِنْ أَبْصَارِهِمْ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ فِيهِمْ كَذَلِكَ مُحَبّبًا مُطَاعًا ، فَخَرَجَ يَدْعُو قَوْمَهُ إلَى الْإِسْلَامِ رَجَاءَ أَنْ لَا يُخَالِفُوهُ لِمَنْزِلَتِهِ فِيهِمْ فَلَمّا أَشْرَفَ لَهُمْ عَلَى عِلّيّةٍ لَهُ وَقَدْ دَعَاهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ وَأَظْهَرَ لَهُمْ دِينَهُ رَمَوْهُ بِالنّبْلِ مِنْ كُلّ وَجْهٍ فَأَصَابَهُ سَهْمٌ فَقَتَلَهُ . فَتَزْعُمُ بَنُو مَالِكٍ أَنّهُ قَتَلَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ أَوْسُ بْنُ عَوْفٍ ، أَخُو بَنِي سَالِمِ بْنِ مَالِكٍ وَتَزْعُمُ الْأَحْلَافُ أَنّهُ قَتَلَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ مِنْ بَنِي عَتّابِ بْنِ مَالِك ٍ يُقَالُ لَهُ وَهْبُ بْنُ جَابِرٍ فَقِيلَ [ ص 314 ] تَرَى فِي دَمِك ؟ قَالَ كَرَامَةً أَكْرَمَنِي اللّهُ بِهَا ، وَشَهَادَةً سَاقَهَا اللّهُ إلَيّ فَلَيْسَ فِيّ إلّا مَا فِي الشّهَدَاءِ الّذِينَ قُتِلُوا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ عَنْكُمْ فَادْفِنُونِي مَعَهُمْ فَدَفَنُوهُ مَعَهُمْ فَزَعَمُوا أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ فِيهِ إنّ مَثَلَهُ فِي قَوْمِهِ لَكَمَثَلِ صَاحِبِ يَاسِينَ فِي قَوْمِهِ ثُمّ أَقَامَتْ ثَقِيفٌ بَعْدَ قَتْلِ عُرْوَةَ أَشْهُرًا ، ثُمّ إنّهُمْ ائْتَمَرُوا بَيْنَهُمْ وَرَأَوْا أَنّهُ لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِحَرْبِ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنْ الْعَرَبِ وَقَدْ بَايَعُوا وَأَسْلَمُوا . حَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْأَخْنَسِ أَنّ عَمْرَو بْنَ أُمَيّةَ أَخَا بَنِي عِلَاجٍ كَانَ مُهَاجِرًا لِعَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَمْرٍو ، الّذِي بَيْنَهُمَا سَيّئٌ وَكَانَ عَمْرُو بْنُ أُمَيّةَ مِنْ أَدْهَى الْعَرَبِ ، فَمَشَى إلَى عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَمْرٍو ، حَتّى دَخَلَ دَارَهُ ثُمّ أَرْسَلَ إلَيْهِ أَنّ عَمْرَو بْنَ أُمَيّةَ يَقُولُ لَك : اُخْرُجْ إلَيّ قَالَ فَقَالَ عَبْدُ يَالِيلَ لِلرّسُولِ وَيْلَك أَعَمْرٌو أَرْسَلَك إلَيّ ؟ قَالَ نَعَمْ وَهَا هُوَ ذَا وَاقِفًا فِي دَارِك ، فَقَالَ إنّ هَذَا الشّيْءَ مَا كُنْت أَظُنّهُ لَعَمْرٌو كَانَ أَمْنَعَ فِي نَفْسِهِ مِنْ ذَلِكَ فَخَرَجَ إلَيْهِ فَلَمّا رَآهُ رَحّبَ بِهِ فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو : إنّهُ [ ص 315 ] نَزَلَ بِنَا أَمْرٌ لَيْسَتْ مَعَهُ هِجْرَةٌ إنّهُ قَدْ كَانَ مِنْ أَمْرِ هَذَا الرّجُلِ مَا قَدْ رَأَيْت ، قَدْ أَسْلَمَتْ الْعَرَبُ كُلّهَا ، وَلَيْسَتْ لَكُمْ بِحَرْبِهِمْ طَاقَةٌ فَانْظُرُوا فِي أَمْرِكُمْ فَعِنْدَ ذَلِكَ ائْتَمَرَتْ ثَقِيفٌ بَيْعَهَا ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَفَلَا تَرَوْنَ أَنّهُ لَا يَأْمَنُ لَكُمْ سِرْبٌ وَلَا يَخْرُجُ مِنْكُمْ أَحَدٌ إلّا اُقْتُطِعَ فَاتّمَرُوا بَيْنَهُمْ وَأَجْمَعُوا أَنْ يُرْسِلُوا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَجُلًا ، كَمَا أَرْسَلُوا عُرْوَةَ فَكَلّمُوا عَبْدَ يَالِيلَ بْنَ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ ، وَكَانَ سِنّ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ وَعَرَضُوا ذَلِكَ عَلَيْهِ فَأَبَى أَنْ يَفْعَلَ وَخَشِيَ أَنْ يُصْنَعَ بِهِ إذَا رَجَعَ كَمَا صُنِعَ بِعُرْوَةِ . فَقَالَ لَسْت فَاعِلًا حَتّى تُرْسِلُوا مَعِي رِجَالًا ، فَأَجْمَعُوا أَنْ يَبْعَثُوا مَعَهُ رَجُلَيْنِ مِنْ الْأَحْلَافِ ، وَثَلَاثَةً مِنْ بَنِي مَالِكٍ فَيَكُونُوا سِتّةً فَبَعَثُوا مَعَ عَبْدِ يَالِيلَ الْحَكَمَ بْنَ عَمْرِو بْنِ وَهْبِ بْنِ مُعَتّبٍ وَشُرَحْبِيلَ بْنَ غَيْلَانَ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ مُعَتّبٍ ، وَمِنْ بَنِي مَالِكٍ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ بْنِ بِشْرِ بْنِ عَبْدِ دُهْمَانَ ، أَخَا بَنِي يَسَارٍ وَأَوْسَ بْنَ عَوْفٍ ، أَخَا بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْف ٍ وَنُمَيْرَ بْنَ خَرَشَةَ بْنِ رَبِيعَةَ ، أَخَا بَنِي الْحَارِثِ . فَخَرَجَ بِهِمْ عَبْدُ يَالِيلَ وَهُوَ نَابُ الْقَوْمِ وَصَاحِبُ أَمْرِهِمْ وَلَمْ يَخْرُجْ بِهِمْ إلّا خَشْيَةً مِنْ مِثْلِ مَا صُنِعَ بِعُرْوَةِ بْنِ مَسْعُودٍ لِكَيْ يَشْغَلَ كُلّ رَجُلٍ مِنْهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَى الطّائِفِ رَهْطَهُ . فَلَمّا دَنَوْا مِنْ الْمَدِينَةِ ، وَنَزَلُوا قَنَاةً أَلِفُوا بِهَا الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ ، يَرْعَى فِي نَوْبَتِهِ رِكَابَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكَانَتْ رِعْيَتُهَا نُوَبًا عَلَى أَصْحَابِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَمّا رَآهُمْ تَرَكَ الرّكَابَ عِنْدَ الثّقَفِيّينَ وَضَبَرَ يَشْتَدّ ، لِيُبَشّرَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِقُدُومِهِمْ عَلَيْهِ فَلَقِيَهُ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَخْبَرَهُ عَنْ رَكْبِ ثَقِيفٍ أَنْ قَدْ قَدِمُوا يُرِيدُونَ الْبَيْعَةَ وَالْإِسْلَامَ بِأَنْ يَشْرُطَ لَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ شُرُوطًا ، وَيَكْتَتِبُوا مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كِتَابًا فِي قَوْمِهِمْ وَبِلَادِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِلْمُغِيرَةِ أَقْسَمْت عَلَيْك بِاَللّهِ لَا تَسْبِقْنِي إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى أَكُونَ أَنَا أُحَدّثُهُ فَفَعَلَ الْمُغِيرَةُ . فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَخْبَرَهُ بِقُدُومِهِمْ عَلَيْهِ ثُمّ خَرَجَ الْمُغِيرَةُ إلَى أَصْحَابِهِ فَرَوّحَ الظّهْرَ مَعَهُمْ وَعَلّمَهُمْ كَيْفَ يُحَيّونَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَمْ يَفْعَلُوا إلّا بِتَحِيّةِ الْجَاهِلِيّةِ وَلَمّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ضَرَبَ عَلَيْهِمْ قُبّةً فِي نَاحِيَةِ مَسْجِدِهِ كَمَا يَزْعُمُونَ فَكَانَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ ، هُوَ الّذِي يَمْشِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى اكْتَتَبُوا كِتَابَهُمْ . وَكَانَ [ ص 316 ] وَكَانُوا لَا يَطْعَمُونَ طَعَامًا يَأْتِيهِمْ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى يَأْكُلَ مَعَهُ خَالِدٌ حَتّى أَسْلَمُوا وَفَرَغُوا مِنْ كِتَابِهِمْ وَقَدْ كَانَ فِيمَا سَأَلُوا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يَدَعَ لَهُمْ الطّاغِيَةَ ، وَهِيَ اللّاتُ لَا يَهْدِمُهَا ثَلَاثَ سِنِينَ فَأَبَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَمَا بَرِحُوا يَسْأَلُونَهُ سَنَةً سَنَةً وَيَأْبَى عَلَيْهِمْ حَتّى سَأَلُوا شَهْرًا وَاحِدًا بَعْدَ مَقْدَمِهِمْ فَأَبَى عَلَيْهِمْ أَنْ يَدَعَهَا شَيْئًا مُسَمّى ، وَإِنّمَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ فِيمَا يُظْهِرُونَ أَنْ يَتَسَلّمُوا بِتَرْكِهَا مِنْ سُفَهَائِهِمْ وَنِسَائِهِمْ وَذَرَارِيّهِمْ وَيَكْرَهُونَ أَنْ يُرَوّعُوا قَوْمَهُمْ بِهَدْمِهَا حَتّى يَدْخُلَهُمْ الْإِسْلَامُ فَأَبَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلّا أَنْ يَبْعَثَ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ وَالْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ فَيَهْدِمَاهَا ، وَقَدْ كَانُوا سَأَلُوهُ مَعَ تَرْكِ الطّاغِيَةِ أَنْ يُعْفِيَهُمْ مِنْ الصّلَاةِ وَأَنْ لَا يَكْسِرُوا أَوْثَانَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمّا كَسْرُ أَوْثَانِكُمْ بِأَيْدِيكُمْ فَسَنُعْفِيكُمْ مِنْهُ وَأَمّا الصّلَاةُ فَإِنّهُ لَا خَيْرَ فِي دِينٍ لَا صَلَاةَ فِيهِ فَقَالُوا : يَا مُحَمّدُ فَسَنُؤْتِيكهَا ، وَإِنْ كَانَتْ دَنَاءَةً . فَلَمّا أَسْلَمُوا وَكَتَبَ لَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كِتَابَهُمْ أَمّرَ عَلَيْهِمْ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ ، وَكَانَ مِنْ أَحْدَثِهِمْ سِنّا ، وَذَلِكَ أَنّهُ كَانَ أَحْرَصَهُمْ عَلَى التّفَقّهِ فِي الْإِسْلَامِ وَتَعَلّمِ الْقُرْآنِ . فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّي قَدْ رَأَيْت هَذَا الْغُلَامَ مِنْهُمْ مِنْ أَحْرَصِهِمْ عَلَى التّفَقّهِ فِي الْإِسْلَامِ وَتَعَلّمِ الْقُرْآنِ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عِيسَى بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَطِيّةَ بْنِ سُفْيَانَ بْنِ رَبِيعَةَ الثّقَفِيّ ، عَنْ بَعْضِ وَفْدِهِمْ . قَالَ كَانَ بِلَالٌ يَأْتِينَا حِينَ أَسْلَمْنَا وَصُمْنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا بَقِيَ مِنْ رَمَضَانَ بِفِطْرِنَا وَسَحُورِنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَيَأْتِينَا بِالسّحُورِ وَإِنّا لَنَقُولُ إنّا لِنَرَى الْفَجْرَ قَدْ طَلَعَ فَيَقُولُ قَدْ تَرَكْت رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَتَسَحّرُ لِتَأْخِيرِ السّحُورِ وَيَأْتِينَا بِفِطْرِنَا ، وَإِنّا لَنَقُولُ مَا نَرَى الشّمْسَ كُلّهَا ذَهَبَتْ بَعْدُ . فَيَقُولُ مَا جِئْتُكُمْ حَتّى أَكَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثُمّ يَضَعُ يَدَهُ فِي الْجَفْنَةِ فَيَلْتَقِمُ مِنْهَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : بِفَطُورِنَا وَسَحُورِنَا . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ ، عَنْ مُطَرّفِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الشّخّيرِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ ، قَالَ كَانَ مِنْ آخِرِ مَا عَهِدَ إلَيّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ بَعَثَنِي [ ص 317 ] ثَقِيفٍ أَنْ قَالَ يَا عُثْمَانُ تَجَاوَزْ فِي الصّلَاةِ ، وَاقْدُرْ النّاسَ بِأَضْعَفِهِمْ فَإِنّ فِيهِمْ الْكَبِيرَ وَالصّغِيرَ وَالضّعِيفَ وَذَا الْحَاجَةِ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا فَرَغُوا مِنْ أَمْرِهِمْ وَتَوَجّهُوا إلَى بِلَادِهِمْ رَاجِعِينَ بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ وَالْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ ، فِي هَدْمِ الطّاغِيَةِ ، فَخَرَجَا مَعَ الْقَوْمِ حَتّى إذَا قَدِمُوا الطّائِفَ أَرَادَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ أَنْ يُقَدّمَ أَبَا سُفْيَانَ فَأَبَى ذَلِكَ أَبُو سُفْيَانَ عَلَيْهِ وَقَالَ اُدْخُلْ أَنْتَ عَلَى قَوْمِك ؛ وَأَقَامَ أَبُو سُفْيَانَ بِمَالِهِ بِذِي الْهَدْمِ ؛ فَلَمّا دَخَلَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ عَلَاهَا يَضْرِبُهَا بِالْمِعْوَلِ وَقَامَ قَوْمُهُ دُونَهُ بَنُو مُعَتّبٍ ، خَشْيَةَ أَنْ يُرْمَى أَوْ يُصَابَ كَمَا أُصِيبَ عُرْوَةُ وَخَرَجَ نِسَاءُ ثَقِيفٍ حُسّرًا يَبْكِينَ عَلَيْهَا وَيَقُلْنَ
لَتَبْكِيَنّ دُفّاعْ أَسْلَمَهَا ... الرّضّاعْ لَمْ يُحْسِنُوا الْمِصَاعْ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : " لَتَبْكِيَنّ " عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَيَقُول أَبُو سُفْيَانَ وَالْمُغِيرَةُ يَضْرِبُهَا بِالْفَأْسِ وَاهًا لَك آهًا لَك فَلَمّا هَدَمَهَا الْمُغِيرَةُ وَأَخَذَ مَالَهَا وَحُلِيّهَا أَرْسَلَ إلَى أَبِي سُفْيَانَ وَحُلِيّهَا مَجْمُوعٌ وَمَالُهَا مِنْ الذّهَبِ وَالْجَزْعِ . وَقَدْ كَانَ أَبُو مُلَيْحِ بْنُ عُرْوَةَ وَقَارِبُ بْنُ الْأَسْوَدِ قَدِمَا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَبْلَ وَفْدِ ثَقِيفٍ ، حِينَ قُتِلَ عُرْوَةُ يُرِيدَانِ فِرَاقَ ثَقِيفٍ ، وَأَنْ لَا يُجَامِعَاهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَبَدًا ، فَأَسْلَمَا ؛ فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَوَلّيَا مَنْ شِئْتُمَا ؛ فَقَالَا : نَتَوَلّى اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَخَالَكُمَا أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ " ، فَقَالَا : وَخَالَنَا أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ [ ص 318 ] أَسْلَمَ أَهْلُ الطّائِفِ وَوَجّهَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَبَا سُفْيَان َ وَالْمُغِيرَةَ إلَى هَدْمِ الطّاغِيَةِ ، سَأَلَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَبُو مُلَيْحِ بْنُ عُرْوَةَ أَنْ يَقْضِيَ عَنْ أَبِيهِ عُرْوَةَ دَيْنًا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِ الطّاغِيَةِ ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " نَعَمْ " ، فَقَالَ لَهُ قَارِبُ بْنُ الْأَسْوَدِ ، وَعَنْ الْأَسْوَدِ يَا رَسُولَ اللّهِ فَاقْضِهِ وَعُرْوَةُ وَالْأَسْوَدُ أَخَوَانِ لِأَبٍ وَأُمّ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّ الْأَسْوَدَ مَاتَ مُشْرِكًا " . فَقَالَ قَارِبٌ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَا رَسُولَ اللّهِ وَلَكِنْ تَصِلُ مُسْلِمًا ذَا قَرَابَةٍ يَعْنِي نَفْسَهُ إنّمَا الدّيْنُ عَلَيّ وَإِنّمَا أَنَا الّذِي أُطْلَبُ بِهِ فَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَبَا سُفْيَانَ أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَ عُرْوَةَ وَالْأَسْوَدِ مِنْ مَالِ الطّاغِيَة فَلَمّا جَمَعَ الْمُغِيرَةُ مَالَهَا قَالَ لِأَبِي سُفْيَانَ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ أَمَرَك أَنْ تَقْضِيَ عَنْ عُرْوَةَ وَالْأَسْوَدِ دَيْنَهُمَا ، فَقَضَى عَنْهُمَا .
Sإسْلَامُ ثَقِيفٍ
[ ص 313 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ حِينَ قُتِلَ مَثَلُهُ كَمَثَلِ صَاحِبِ يَاسِينَ فِي قَوْمِهِ يَحْتَمِلُ قَوْلُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَمَثَلِ صَاحِبِ يَاسِينَ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْمَذْكُورَ فِي سُورَةِ يَاسِينَ الّذِي قَالَ لِقَوْمِهِ اتّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ فَقَتَلَهُ قَوْمُهُ وَاسْمُهُ حَبِيبُ بْنُ مُرّي ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ صَاحِبَ إلْيَاسَ وَهُوَ الْيَسَعُ فَإِنّ إلْيَاسَ يُقَالُ فِي اسْمِهِ يَاسِينُ أَيْضًا ، وَقَالَ الطّبَرِيّ : هُوَ إلْيَاسُ بْنُ يَاسِينَ وَفِيهِ قَالَ اللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ } [ الصّافّاتِ 130 ] فَاَللّهُ أَعْلَمُ وَقَدْ بَيّنّا فِي التّعْرِيفِ وَالْإِعْلَامِ مَعْنَى إلْيَاسَ وَإِلْيَاسِينَ وَآلِ يَاسِينَ بَيَانًا شَافِيًا ، وَأَوْضَحْنَا خَطَأَ قَوْلِ مَنْ قَالَ إنّ إلْيَاسِينَ جَمْعٌ كَالْأَشْعَرِينَ وَضَعْفَ قَوْلِ مَنْ قَالَ إنّ يَاسِينَ هُوَ مُحَمّدٌ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ .
زَوْجُ عُرْوَةَ
[ ص 314 ] وَكَانَتْ تَحْتَ عُرْوَةَ مَيْمُونَةُ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ ، فَوَلَدَتْ لَهُ أَبَا مُرّةَ بْنَ عُرْوَةَ وَبِنْتُ أَبِي مُرّةَ هِيَ لَيْلَى امْرَأَةُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيّ عَلَيْهِمَا السّلَامُ وَلَدَتْ لِلْحُسَيْنِ عَلِيّا الْأَكْبَرَ قُتِلَ مَعَهُ بِالطّفّ وَأَمّا عَلِيّ الْأَصْغَرُ فَلَمْ يُقْتَلْ مَعَهُ وَأُمّهُ أُمّ وَلَدٍ وَاسْمُهَا سُلَافَةُ وَهِيَ بِنْتُ كِسْرَى بْنِ يَزْدَجِرْدَ وَأُخْتُهَا الْغَزَالُ هِيَ أُمّ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ الْحَارِبِ بْنِ هِشَامٍ .
حَوْلَ هَدْمِ اللّاتِ
فَصْلٌ وَذَكَرَ إسْلَامَ ثَقِيفٍ وَعَدَمَ طَاغِيَتِهِمْ وَهِيَ اللّاتُ ، وَأَنّ الْمُغِيرَةَ وَأَبَا سُفْيَانَ هُمَا اللّذَانِ هَدَمَاهَا وَذَكَرَ بَعْضَ مَنْ أَلّفَ فِي السّيَرِ أَنّ الْمُغِيرَةَ قَالَ لِأَبِي سُفْيَانَ حِينَ هَدَمَهَا : أَلَا أُضْحِكُك مِنْ ثَقِيفٍ ؟ فَقَالَ بَلَى ، فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ وَضَرَبَ بِهِ اللّاتَ ضَرْبَةً ثُمّ صَاحَ وَخَرّ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَجّتْ الطّائِفُ بِالصّيَاحِ سُرُورًا بِأَنّ اللّاتَ قَدْ صَرَعَتْ الْمُغِيرَةَ وَأَقْبَلُوا يَقُولُونَ كَيْفَ رَأَيْتهَا يَا مُغِيرَةُ دُونَكَهَا إنْ اسْتَطَعْت ، أَلَمْ تَعْلَمْ أَنّهَا تُهْلِكُ مَنْ عَادَاهَا ، وَيْحَكُمْ أَلَا تَرَوْنَ مَا تَصْنَعُ ؟ فَقَامَ الْمُغِيرَةُ يَضْحَكُ مِنْهُمْ وَيَقُولُ لَهُمْ يَا خُبَثَاءُ وَاَللّهِ مَا قَصَدْت إلّا الْهُزُأَ بِكُمْ ثُمّ أَقْبَلَ عَلَى هَدْمِهَا ، حَتّى اسْتَأْصَلَهَا ، وَأَقْبَلَتْ عَجَائِزُ ثَقِيفٍ تَبْكِي حَوْلَهَا ، وَتَقُولُ أَسْلَمَهَا الرّضّاعُ إذْ كَرِهُوا الْمِصَاعَ أَيْ أَسْلَمَهَا اللّئَامُ حِينَ كَرِهُوا الْقِتَالَ .
فِقْهُ حَدِيثِ كِتَابِ النّبِيّ لِثَقِيفٍ
[ ص 315 ] وَذَكَرَ كِتَابَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِثَقِيفٍ وَذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ ، وَذَكَرَ فِيهِ شَهَادَةَ عَلِيّ وَابْنَيْهِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ قَالَ وَفِيهِ مِنْ الْفِقْهِ شَهَادَةُ الصّبْيَانِ وَكِتَابَةُ أَسْمَائِهِمْ قَبْلَ الْبُلُوغِ وَإِنّمَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ إذَا أَدّوْهَا بَعْدَ الْبُلُوغِ وَفِيهِ مِنْ الْفِقْهِ أَيْضًا شَهَادَةُ الِابْنِ مَعَ شَهَادَةِ أَبِيهِ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ .

وَكَانَ كِتَابُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الّذِي كَتَبَ لَهُمْ بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ مِنْ مُحَمّدٍ النّبِيّ رَسُولِ اللّهِ إلَى الْمُؤْمِنِينَ : إنّ عِضَاهَ وَجّ وَصَيْدَهُ لَا يُعْضَدُ مَنْ وُجِدَ يَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَإِنّهُ يُجْلَدُ وَتُنْزَعُ ثِيَابُهُ فَإِنْ تَعَدّى ذَلِكَ فَإِنّهُ يُؤْخَذُ فَيُبْلَغُ بِهِ إلَى النّبِيّ مُحَمّدٍ وَإِنّ هَذَا أَمْرُ النّبِيّ مُحَمّدٍ رَسُولِ اللّهِ وَكَتَبَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ : بِأَمْرِ الرّسُولِ مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ فَلَا يَتَعَدّهُ أَحَدٌ ، فَيَظْلِمَ نَفْسَهُ فِيمَا أَمَرَ بِهِ مُحَمّدٌ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .S[ ص 316 ] وَذَكَرَ فِي الْكِتَابِ وَجّا ، وَأَنّهُ حَرَامٌ عِضَاهُهُ وَشَجَرُهُ يَعْنِي حَرَامًا عَلَى غَيْرِ أَهْلِهِ كَتَحْرِيمِ الْمَدِينَةِ وَمَكّةَ . وَوَجّ هِيَ أَرْضُ الطّائِفِ ، وَهِيَ الّتِي جَاءَ فِيهَا الْحَدِيثُ إنّ آخِرَ وَطْأَةٍ وَطِئَهَا الرّبّ بِوَج وَمَعْنَاهَا عِنْدَ بَعْضِهِمْ آخِرُ غَزْوَةٍ وَوَقْعَةٍ كَانَتْ بِأَرْضِ الْعَرَبِ بِوَجّ لِأَنّهَا آخِرُ غَزَوَاتِهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إلَى الْعَرَبِ ، وَقَدْ قِيلَ فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ غَيْرُ هَذَا ، مِمّا ذَكَرَهُ الْقُتَبِيّ ، وَنَحْنُ نَضْرِبُ عَنْ ذِكْرِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْهَامِ التّشْبِيهِ وَاَللّهُ الْمُسْتَعَانُ .
وَجّ
[ ص 317 ] قِيلَ فِي وَجّ هِيَ الطّائِفُ نَفْسُهَا ، وَقِيلَ هُوَ اسْمٌ لِوَادٍ بِهَا ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْقَوْلِ قَوْلُ أُمَيّةَ بْنِ الْأَسْكَرِ
إذْ يَبْكِي الْحَمَامُ بِبَطْنِ وَجّ ... عَلَى بَيْضَاتِهِ بَكَيَا كِلَابَا
وَقَالَ آخَرُ
أَتُهْدِي لِي الْوَعِيدَ بِبَطْنِ وَجّ ... كَأَنّي لَا أَرَاك وَلَا تَرَانِي
وَقَدْ أَلْفَيْت فِي نُسْخَةِ الشّيْخِ وَجًا بِتَخْفِيفِ الْجِيمِ وَالصّوَابُ تَشْدِيدُهَا كَمَا تَقَدّمَ وَقَالَ أُمَيّةُ بْنُ أَبِي الصّلْتِ :
إنّ وَجّا وَمَا يَلِي بَطْنَ وَجّ ... دَارُ قَوْمِي بِرَبْوَةٍ وَزُتُوقِ
[ ص 318 ] الْعَمَالِقَةِ ، وَيُقَالُ وَجّ ، وَأَجّ بِالْهَمْزَةِ قَالَهُ يَعْقُوبُ فِي كِتَابِ الْإِبْدَالِ وَكِتَابُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِأَهْلِ الطّائِفِ أَطْوَلُ مِمّا ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ بِكَثِيرٍ وَقَدْ أَوْرَدَهُ أَبُو عُبَيْدٍ بِكَمَالِهِ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ .

حَجّ أَبِي بَكْرٍ بِالنّاسِ سَنَةَ تِسْعٍ
وَاخْتِصَاصُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِ بِتَأْدِيَةِ أَوّلِ " بَرَاءَةٌ " عَنْهُ وَذِكْرُ " بَرَاءَةٌ " وَالْقِصَصُ فِي تَفْسِيرِهَا قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ أَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَقِيّةَ شَهْرِ رَمَضَانَ وَشَوّالًا وَذَا الْقَعْدَةِ ثُمّ بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ أَمِيرًا عَلَى الْحَجّ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ لِيُقِيمَ لِلْمُسْلِمِينَ حَجّهُمْ وَالنّاسُ مِنْ أَهْلِ الشّرْكِ عَلَى مَنَازِلِهِمْ مِنْ حَجّهِمْ فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ . [ ص 319 ] نَقْضِ مَا بَيْنَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ الْعَهْدِ الّذِي كَانُوا عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ أَنْ لَا يُصَدّ عَنْ الْبَيْتِ أَحَدٌ جَاءَهُ وَلَا يُخَافَ أَحَدٌ فِي الشّهْرِ الْحَرَامِ . وَكَانَ ذَلِكَ عَهْدًا عَامّا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النّاسِ مِنْ أَهْلِ الشّرْكِ وَكَانَتْ بَيْنَ ذَلِكَ عُهُودٌ بَيْنَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَبَيْنَ قَبَائِلَ مِنْ الْعَرَبِ خَصَائِصَ إلَى آجَالٍ مُسَمّاةٍ فَنَزَلَتْ فِيهِ وَفِيمَنْ تَخَلّفَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ عَنْهُ فِي تَبُوكَ ، وَفِي قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنْهُمْ فَكَشَفَ اللّهُ تَعَالَى فِيهَا سَرَائِرَ أَقْوَامٍ كَانُوا يَسْتَخِفّونَ بِغَيْرِ مَا يُظْهِرُونَ مِنْهُمْ مَنْ سُمّيَ لَنَا ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُسَمّ لَنَا ، فَقَالَ عَزّ وَجَلّ { بَرَاءَةٌ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } أَيْ لِأَهْلِ الْعَهْدِ الْعَامّ مِنْ أَهْلِ الشّرْكِ { فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَأَنّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ وَأَذَانٌ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النّاسِ يَوْمَ الْحَجّ الْأَكْبَرِ أَنّ اللّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ } أَيْ بَعْدَ هَذِهِ الْحَجّةِ { فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَبَشّرِ الّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ إِلّا الّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } أَيْ الْعَهْدَ الْخَاصّ إلَى الْأَجَلِ الْمُسَمّى { وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدّتِهِمْ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُتّقِينَ فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ } يَعْنِي الْأَرْبَعَةَ الّتِي ضَرَبَ لَهُمْ أَجَلًا { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصّلَاةَ وَآتَوُا الزّكَاةَ فَخَلّوا سَبِيلَهُمْ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } أَيْ مِنْ هَؤُلَاءِ الّذِينَ أَمَرْتُك بِقَتْلِهِمْ { اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللّهِ ثُمّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ } [ ص 320 ] { كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ } الّذِينَ كَانُوا هُمْ وَأَنْتُمْ عَلَى الْعَهْدِ الْعَامّ أَنْ لَا يُخِيفُوكُمْ وَلَا يُخِيفُوهُمْ فِي الْحُرْمَةِ وَلَا فِي الشّهْرِ الْحَرَامِ { عَهْدٌ عِنْدَ اللّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلّا الّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } وَهِيَ قَبَائِلُ مِنْ بَنِي بَكْرٍ الّذِينَ كَانُوا دَخَلُوا فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ ، إلَى الْمُدّةِ الّتِي كَانَتْ بَيْنَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ ، فَلَمْ يَكُنْ نَقَضَهَا إلّا هَذَا الْحَيّ مِنْ قُرَيْشٍ ؛ وَهِيَ الدّيلُ مِنْ بَنِي بَكْرِ بْنِ وَائِل ٍ ، الّذِينَ كَانُوا دَخَلُوا فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ . فَأَمَرَ بِإِتْمَامِ الْعَهْدِ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ نَقَضَ مِنْ بَنِي بَكْرٍ إلَى مُدّتِهِ { فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُتّقِينَ } ثُمّ قَالَ تَعَالَى : { كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ } أَيْ الْمُشْرِكُونَ الّذِينَ لَا عَهْدَ لَهُمْ إلَى مُدّةٍ مِنْ أَهْلِ الشّرْكِ الْعَامّ { لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلّا وَلَا ذِمّةً }
تَفْسِيرُ ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْمُفْرَدَاتِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْإِلّ : الْحِلْفُ . قَالَ أَوْسُ بْنُ حَجَرٍ أَحَدُ بَنِي أُسَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ تَمِيمٍ
لَوْلَا بَنُو مَالِكٍ وَالْإِلّ مَرْقَبَةٌ ... وَمَالِكٌ فِيهِمْ الْآلَاءُ وَالشّرَفُ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ وَجَمْعُهُ آلَالٌ قَالَ الشّاعِرُ
فَلَا إلّ مِنْ الْآلَالِ بَيْنِي ... وَبَيْنَكُمْ فَلَا تَأْلُنّ جُهْدَا
وَالذّمّةُ الْعَهْدُ . قَالَ الْأَجْدَعُ بْنُ مَالِكٍ الْهَمْدَانِيّ ، وَهُوَ أَبُو مَسْرُوقِ بْنُ الْأَجْدَعِ الْفَقِيهُ
وَكَانَ عَلَيْنَا ذِمّةٌ أَنْ تُجَاوِزُوا ... مِنْ الْأَرْضِ مَعْرُوفًا إلَيْنَا وَمُنْكَرَا
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي ثَلَاثَةِ أَبْيَاتٍ لَهُ وَجَمْعُهَا : ذِمَمٌ . { يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلّا وَلَا ذِمّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ } أَيْ قَدْ اعْتَدَوْا عَلَيْكُمْ { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصّلَاةَ وَآتَوُا الزّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدّينِ وَنُفَصّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }
اخْتِصَاصُ الرّسُولِ عَلِيّا بِتَأْدِيَةِ " بَرَاءَةٌ " عَنْهُ
[ ص 321 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي حَكِيمُ بْنُ حَكِيمِ بْنِ عَبّادِ بْنِ حُنَيْفٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمّدِ بْنِ عَلِيّ رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِ أَنّهُ قَالَ لَمّا نَزَلَتْ بَرَاءَةٌ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَدْ كَانَ بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ الصّدّيقَ لِيُقِيمَ لِلنّاسِ الْحَجّ قِيلَ لَهُ يَا رَسُولَ اللّهِ لَوْ بَعَثْت بِهَا إلَى أَبِي بَكْر ٍ فَقَالَ " لَا يُؤَدّي عَنّي إلّا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي ثُمّ دَعَا عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ اُخْرُجْ بِهَذِهِ الْقِصّةِ مِنْ صَدْرِ بَرَاءَةٌ ، وَأَذّنْ فِي النّاسِ يَوْمَ النّحْرِ إذَا اجْتَمَعُوا بِمِنًى : أَنّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنّةَ كَافِرٌ وَلَا يَحُجّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانُ وَمَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَهْدٌ فَهُوَ لَهُ إلَى مُدّتِهِ فَخَرَجَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِ عَلَى نَاقَةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْعَضْبَاءِ حَتّى أَدْرَكَ أَبَا بَكْرٍ بِالطّرِيقِ فَلَمّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ بِالطّرِيقِ قَالَ أَأَمِيرٌ أَمْ مَأْمُورٌ ؟ فَقَالَ بَلْ مَأْمُورٌ ثُمّ مَضَيَا . فَأَقَامَ أَبُو بَكْرٍ لِلنّاسِ الْحَجّ وَالْعَرَبُ إذْ ذَاكَ فِي تِلْكَ السّنَةِ عَلَى مَنَازِلِهِمْ مِنْ الْحَجّ الّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيّةِ حَتّى إذَا كَانَ يَوْمُ النّحْرِ قَامَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فَأَذّنَ فِي النّاسِ بِاَلّذِي أَمَرَهُ بِهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ أَيّهَا النّاسُ إنّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنّةَ كَافِرٌ وَلَا يَحُجّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانُ وَمَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَهْدٌ فَهُوَ لَهُ إلَى مُدّتِهِ وَأَجّلَ النّاسَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ أَذّنَ فِيهِمْ لِيَرْجِعَ كُلّ قَوْمٍ إلَى مَأْمَنِهِمْ أَوْ بِلَادِهِمْ ثُمّ لَا عَهْدَ لِمُشْرِكٍ وَلَا ذِمّةَ إلّا أَحَدٌ كَانَ لَهُ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَهْدٌ إلَى مُدّةٍ فَهُوَ لَهُ إلَى مُدّتِهِ . فَلَمْ يَحُجّ بَعْدَ ذَلِكَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَمْ يَطُفْ بِالْبَيْتِ عُرْيَانُ . ثُمّ قَدِمَا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَكَانَ هَذَا مِنْ بَرَاءَةٍ فِيمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشّرْكِ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ الْعَامِ وَأَهْلِ الْمُدّةِ إلَى الْأَجَلِ الْمُسَمّى .
Sإنْزَالُ سُورَةِ " بَرَاءَةٌ
كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ قَدِمَ مِنْ تَبُوكَ ، فَذَكَرَ مُخَالَطَةَ الْمُشْرِكِينَ لِلنّاسِ فِي حَجّهِمْ وَتَلْبِيَتِهِمْ بِالشّرْكِ وَطَوَافِهِمْ عُرَاةً بِالْبَيْتِ ، وَكَانُوا يَقْصِدُونَ بِذَلِكَ أَنْ يَطُوفُوا كَمَا وُلِدُوا بِغَيْرِ [ ص 319 ] فَأَمْسَكَ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَنْ الْحَجّ فِي ذَلِكَ الْعَامِ وَبَعَثَ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - بِسُورَةِ بَرَاءَةٌ لِيَنْبِذَ إلَى كُلّ ذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ إلّا بَعْضَ بَنِي بَكْرٍ الّذِينَ كَانَ لَهُمْ عَهْدٌ إلَى أَجَلٍ خَاصّ ، ثُمّ أَرْدَفَ بِعَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فَرَجَعَ أَبُو بَكْرٍ لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ هَلْ أُنْزِلَ فِيّ قُرْآنٌ ؟ قَالَ " لَا " ، وَلَكِنْ أَرَدْت أَنْ يُبَلّغَ عَنّي مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : فَأَمَرَنِي عَلِيّ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - أَنْ أَطُوفَ فِي الْمَنَازِلِ مِنْ مِنًى بِبَرَاءَةٌ فَكُنْت أَصِيحُ حَتّى صَحِلَ حَلْقِي ، فَقِيلَ لَهُ بِمَ كُنْت تُنَادِي ؟ فَقَالَ بِأَرْبَعٍ أَلّا يَدْخُلَ الْجَنّةَ إلّا مُؤْمِنٌ وَأَلّا يَحُجّ بَعْدَ هَذَا الْعَامِ مُشْرِكٌ ، وَأَلّا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانُ وَمَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ فَلَهُ أَجَلٌ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ ثُمّ لَا عَهْدَ لَهُ وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ إذَا سَمِعُوا النّدَاءَ بِبَرَاءَةٌ يَقُولُونَ لِعَلِيّ سَتَرَوْنَ بَعْدَ الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ بِأَنّهُ لَا عَهْدَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ ابْنِ عَمّك إلّا الطّعْنُ وَالضّرْبُ ثُمّ إنّ النّاسَ فِي ذَلِكَ الْمُدّةِ رَغِبُوا فِي الْإِسْلَامِ حَتّى دَخَلُوا فِيهِ طَوْعًا وَكَرْهًا ، وَحَجّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ وَحَجّ الْمُسْلِمُونَ وَقَدْ عَادَ الدّينُ كُلّهُ وَاحِدًا لِلّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ . [ ص 320 ] وَبِعَالٍ فَإِنّ الّذِي أُمِرَ أَنْ يُنَادِيَ بِذَلِكَ فِي أَيّامِ التّشْرِيقِ هُوَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ وَأَوْسُ بْنُ [ ص 321 ] وَيُقَالُ فِيهِ أَيْضًا : عَبْدُ اللّهِ بْنُ مِرْبَعٍ كَانَ مِمّنْ أُمِرَ أَنْ يُنَادِيَ بِذَلِكَ وَرُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ بِشْرِ بْنِ سُحَيْمٍ الْغِفَارِيّ وَقَدْ رُوِيَ أَنّ حُذَيْفَةَ كَانَ الْمُنَادِيَ بِذَلِكَ وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقّاصٍ أَيْضًا ، وَبِلَالٍ ذَكَرَ بَعْضَ ذَلِكَ الْبَزّارُ فِي مُسْنَدِهِ ، وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ } أَنّهُ أَرَادَ ذَا الْحِجّةِ وَالْمُحَرّمَ مِنْ ذَلِكَ الْعَامِ وَأَنّهُ [ ص 322 ] جَعَلَ ذَلِكَ أَجَلًا لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَمَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ جَعَلَ لَهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ أَوّلُهَا يَوْمُ النّحْرِ مِنْ ذَلِكَ الْعَامِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { يَوْمَ الْحَجّ الْأَكْبَرِ } قِيلَ أَرَادَ حِينَ الْحَجّ أَيْ أَيّامَ الْمَوْسِمِ كُلّهَا ، لِأَنّ نِدَاءَ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بِبَرَاءَةٌ كَانَ فِي تِلْكَ الْأَيّامِ .

مَا نَزَلَ فِي الْأَمْرِ بِجِهَادِ الْمُشْرِكِينَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ أَمَرَ اللّهُ رَسُولَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِجِهَادِ أَهْلِ الشّرْكِ مِمّنْ نَقَضَ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ الْخَاصّ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ الْعَامّ بَعْدَ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ الّتِي ضَرَبَ لَهُمْ أَجَلًا إلّا أَنْ يَعْدُوَ فِيهَا عَادٍ مِنْهُمْ فَيُقْتَلَ بِعَدَائِهِ فَقَالَ [ ص 322 ] { أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمّوا بِإِخْرَاجِ الرّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوّلَ مَرّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قَاتِلُوهُمْ يُعَذّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللّهُ } أَيْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ { عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمّا يَعْلَمِ اللّهُ الّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتّخِذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } .
تَفْسِيرُ ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْغَرِيبِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَلِيجَةٌ دَخِيلٌ وَجَمْعُهَا : وَلَائِجُ وَهُوَ مِنْ وَلَجَ يَلِجُ أَيْ دَخَلَ يَدْخُلُ وَفِي كِتَابِ اللّهِ عَزّ وَجَلّ { حَتّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمّ الْخِيَاطِ } أَيْ يَدْخُلَ يَقُولُ لَمْ يَتّخِذُوا دَخِيلًا مِنْ دُونِهِ يُسِرّونَ إلَيْهِ غَيْرَ مَا يُظْهِرُونَ نَحْوَ مَا يَصْنَعُ الْمُنَافِقُونَ يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ لِلّذِينَ آمَنُوا { وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنّا مَعَكُمْ } قَالَ الشّاعِرُ وَاعْلَمْ بِأَنّك قَدْ جَعَلْت وَلِيجَة سَاقُوا إلَيْك الْحَتْفَ غَيْرَ مَشُوبِ
مَا نَزَلَ فِي الرّدّ عَلَى قُرَيْشٍ بِادّعَائِهِمْ عِمَارَةَ الْبَيْتِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ ذَكَرَ قَوْلَ قُرَيْشٍ : إنّا أَهْلُ الْحَرَمِ ، وَسُقَاةُ الْحَاجّ وَعُمّارُ هَذَا الْبَيْتِ فَلَا أَحَدَ أَفْضَلُ مِنّا ، فَقَالَ { إِنّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } أَيْ إنّ عِمَارَتَكُمْ لَيْسَتْ عَلَى ذَلِكَ وَإِنّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ أَيْ مَنْ عَمَرَهَا بِحَقّهَا { مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصّلَاةَ وَآتَى الزّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلّا اللّهَ } أَيْ فَأُولَئِكَ عُمّارُهَا { فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ } وَعَسَى مِنْ اللّهِ حَقّ . ثُمّ قَالَ تَعَالَى : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللّهِ }
مَا نَزَلَ فِي الْأَمْرِ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ
[ ص 323 ] حُنَيْنٍ ، وَمَا كَانَ فِيهِ وَتَوَلّيهِمْ عَنْ عَدُوّهِمْ وَمَا أَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى مِنْ نُصْرَةٍ بَعْدَ تَخَاذُلِهِمْ ثُمّ قَالَ تَعَالَى : { إِنّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً } وَذَلِكَ أَنّ النّاسَ قَالُوا : لَتَنْقَطِعَنّ عَنّا الْأَسْوَاقُ فَلَتَهُكّنّ التّجَارَةُ وَلَيَذْهَبَنّ مَا كُنّا نُصِيبُ فِيهَا مِنْ الْمَرَافِقِ فَقَالَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ } أَيْ مِنْ وَجْهٍ غَيْرِ ذَلِكَ { إِنْ شَاءَ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ قَاتِلُوا الّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرّمُونَ مَا حَرّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقّ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } أَيْ فَفِي هَذَا عِوَضٌ مِمّا تَخَوّفْتُمْ مِنْ قَطْعِ الْأَسْوَاقِ فَعَوّضَهُمْ اللّهُ بِمَا قَطَعَ عَنْهُمْ بِأَمْرِ الشّرْكِ مَا أَعْطَاهُمْ مِنْ أَعْنَاقِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ الْجِزْيَةِ .
مَا نَزَلَ فِي أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ
[ ص 324 ] ذَكَرَ أَهْلَ الْكِتَابَيْنِ بِمَا فِيهِ مِنْ الشّرّ وَالْفِرْيَةِ عَلَيْهِ حَتّى انْتَهَى إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : { إِنّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ وَالّذِينَ يَكْنِزُونَ الذّهَبَ وَالْفِضّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }
مَا نَزَلَ فِي النّسِيءِ
ثُمّ ذَكَرَ النّسِيءَ وَمَا كَانَتْ الْعَرَبُ أَحْدَثَتْ فِيهِ . وَالنّسِيءُ مَا كَانَ يُحِلّ مَا حَرّمَ اللّهُ تَعَالَى مِنْ الشّهُورِ وَيُحَرّمُ مِمّا أَحَلّ اللّهُ مِنْهَا ، فَقَالَ { إِنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِنْدَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدّينُ الْقَيّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنّ أَنْفُسَكُمْ } أَيْ لَا تَجْعَلُوا حَرَامَهَا حَلَالًا ، وَلَا حَلَالَهَا حَرَامًا : أَيْ كَمَا فَعَلَ أَهْلُ الشّرْكِ { إِنّمَا النّسِيءُ } الّذِي كَانُوا يَصْنَعُونَ { زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلّ بِهِ الّذِينَ كَفَرُوا يُحِلّونَهُ عَامًا وَيُحَرّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدّةَ مَا حَرّمَ اللّهُ فَيُحِلّوا مَا حَرّمَ اللّهُ زُيّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ }
مَا نَزَلَ فِي تَبُوكَ
ثُمّ ذَكَرَ تَبُوكَ وَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ تَثَاقُلِ الْمُسْلِمِينَ عَنْهَا ، وَمَا أَعْظَمُوا مِنْ غَزْوَةِ الرّومِ ، حِينَ دَعَاهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى جِهَادِهِمْ وَنِفَاقَ مَنْ نَافَقَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ حِين دُعُوا إلَى مَا دُعُوا إلَيْهِ مِنْ الْجِهَادِ ثُمّ مَا نَعَى عَلَيْهِمْ مِنْ إحْدَاثِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ فَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ اثّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ } ثُمّ الْقِصّةُ إلَى [ ص 325 ] { يُعَذّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ } إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : { إِلّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ }
Sمَا نَزَلَ فِي سُورَةِ " بَرَاءَةٌ "
فَصْلٌ وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ مَا أَنْزَلَ اللّهُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ ، وَأَهْلُ التّفْسِيرِ يَقُولُونَ إنّ آخِرَهَا نَزَلَ قَبْلَ أَوّلِهَا ، فَإِنّ أَوّلَ مَا نَزَلَ مِنْهَا : { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا } ثُمّ نَزَلَ أَوّلُهَا فِي نَبْذِ كُلّ عَهْدٍ إلَى صَاحِبِهِ كَمَا تَقَدّمَ . [ ص 323 ] { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا } فِيهِ أَقْوَالٌ قِيلَ مَعْنَاهُ شُبّانًا وَشُيُوخًا ، وَقِيلَ أَغْنِيَاءَ وَفُقَرَاءَ وَقِيلَ أَصْحَابَ شُغْلٍ وَغَيْرَ ذِي شُغْلٍ وَقِيلَ رُكْبَانًا وَرَجّالَةً .
عَنْ الْأَجْدَعِ بْنِ مَالِكٍ
وَأَنْشَدَ شَاهِدًا عَلَى أَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ لِلْأَجْدَعِ بْنِ مَالِكٍ وَالِدِ مَسْرُوقِ بْنِ الْأَجْدَعِ وَقَدْ غَيّرَ عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ اسْمَ الْأَجْدَعِ وَقَالَ الْأَجْدَعُ اسْمُ شَيْطَانٍ فَسَمّاهُ عَبْدَ الرّحْمَنِ وَيُكَنّى مَسْرُوقٌ أَبَا عَائِشَةَ . وَقَوْلُهُ فِي الْبَيْتِ يَصْطَادُك الْوَحَدَ أَيْ يَصْطَادُ بِك ، وَأَرَادَ بِالْوَحَدِ الثّوْرَ الْوَحْشِيّ . وَقَوْلُهُ بِشَرِيجٍ بَيْنَ الشّدّ وَالْإِيضَاعِ يُقَالُ هُمَا شَرِيجَانِ أَيْ مُخْتَلِفَانِ وَقَبْلَ هَذَا الْبَيْتِ بِأَبْيَاتٍ فِي شِعْرِ الْأَجْدَعِ
أَسَأَلْتنِي بِرَكَائِبِي وَرِحَالِهَا ... وَنَسِيت قَتْلَى فَوَارِسِ الْأَرْبَاعِ
وَذَكَرَهُ أَبُو عَلِيّ [ الْقَالِي ] فِي الْأَمَالِي ، فَقَالَ وَسَأَلْتنِي بِالْوَاوِ وَقَدْ خَطّئُوهُ وَقَالُوا : إنّمَا هُوَ أَسَأَلْتنِي . وَفَوَارِسُ الْأَرْبَاعِ قَدْ سَمّاهُمْ أَبُو عَلِيّ فِي الْأَمَالِي ، وَذَكَرَ لَهُمْ خَبَرًا .
إعْطَاءُ الْجِزْيَةِ عَنْ يَدٍ
وَذَكَرَ قَوْلَهُ تَعَالَى : { حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } وَقِيلَ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ أيضا : [ ص 324 ] الثّانِي : أَنْ يُؤَدّيَهَا قَائِمًا ، وَاَلّذِي يَأْخُذُهَا قَاعِدًا . الثّالِثُ أَنّ مَعْنَاهُ عَنْ قَهْرٍ وَإِذْلَالٍ . الرّابِعُ أَنّ مَعْنَاهُ عَنْ يَدٍ مِنْكُمْ أَيْ إنْعَامٍ عَلَيْهِمْ بِحَقْنِ دِمَائِهِمْ وَأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ بَدَلًا مِنْ الْقَتْلِ كُلّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ الْمُفَسّرِينَ وَلَفْظُ الْآيَةِ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ هَذِهِ الْمَعَانِي ، وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى : فِي هَذِهِ الْآيَةِ { قَاتِلُوا الّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ } وَإِنْ كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يُصَدّقُونَ بِالْآخِرَةِ فَمَعْنَاهُ فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ سَلّامٍ أَنّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَا يَقُولُونَ بِإِعَادَةِ الْأَجْسَادِ وَيَقُولُونَ إنّ الْأَرْوَاحَ هِيَ الّتِي تُبْعَثُ دُونَ الْأَجْسَادِ .

مَا نَزَلَ فِي أَهْلِ النّفَاقِ
ثُمّ قَالَ تَعَالَى لِنَبِيّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَذْكُرُ أَهْلَ النّفَاقِ { لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشّقّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنّهُمْ لَكَاذِبُونَ } أَيْ إنّهُمْ يَسْتَطِيعُونَ { عَفَا اللّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتّى يَتَبَيّنَ لَكَ الّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ } إلَى قَوْلِهِ { لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمّاعُونَ لَهُمْ }
تَفْسِيرُ ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْغَرِيبِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ سَارُوا بَيْنَ أَضْعَافِكُمْ فَالْإِيضَاعُ ضَرْبٌ مِنْ السّيْرِ أَسْرَعُ مِنْ الْمَشْيِ قَالَ الْأَجْدَعُ بْنُ مَالِكٍ الْهَمْدَانِيّ :
يَصْطَادُك الْوَحَدَ الْمُدِلّ بِشَأْوِهِ ... بِشَرِيجَ بَيْنَ الشّدّ وَالْإِيضَاعِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ .
عَوْدٌ إلَى مَا نَزَلَ فِي أَهْلِ النّفَاقِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ الّذِينَ اسْتَأْذَنُوهُ مِنْ ذَوِي الشّرَفِ فِيمَا بَلَغَنِي ، مِنْهُمْ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ ابْنِ سَلُولَ وَالْجَدّ بْنُ قَيْسٍ ؛ وَكَانُوا أَشْرَافًا فِي قَوْمِهِمْ فَثَبّطَهُمْ اللّهُ لِعِلْمِهِ بِهِمْ أَنْ يَخْرُجُوا مَعَهُ فَيُفْسِدُوا عَلَيْهِ جُنْدَهُ وَكَانَ فِي جُنْدِهِ قَوْمٌ أَهْلُ مَحَبّةٍ لَهُمْ وَطَاعَةٍ فِيمَا يَدْعُونَهُمْ إلَيْهِ لِشَرَفِهِمْ فِيهِمْ . فَقَالَ تَعَالَى : { وَفِيكُمْ سَمّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ } أَيْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَسْتَأْذِنُوك ، { وَقَلّبُوا لَكَ الْأُمُورَ } أَيْ لِيُخَذّلُوا عَنْك أَصْحَابَك وَيَرُدّوا عَلَيْك أَمْرَك { حَتّى جَاءَ الْحَقّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا } وَكَانَ الّذِي قَالَ ذَلِكَ . فِيمَا سُمّيَ لَنَا ، الْجَدّ بْنُ قَيْسٍ ، أَخُو بَنِي سَلِمَةَ ، حِين دَعَاهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى [ ص 326 ] الرّومِ . ثُمّ كَانَتْ الْقِصّةُ إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : { لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدّخَلًا لَوَلّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ } أَيْ إنّمَا نِيّتُهُمْ وَرِضَاهُمْ وَسُخْطُهُمْ لِدُنْيَاهُمْ .
مَا نَزَلَ فِي ذِكْرِ أَصْحَابِ الصّدَقَاتِ
ثُمّ بَيّنَ الصّدَقَاتِ لِمَنْ هِيَ وَسَمّى أَهْلَهَا ، فَقَالَ { إِنّمَا الصّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَاِبْنِ السّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }
مَا نَزَلَ فِيمَنْ آذَوْا الرّسُولَ
ثُمّ ذَكَرَ غِشّهُمْ وَأَذَاهُمْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ { وَمِنْهُمُ الّذِينَ يُؤْذُونَ النّبِيّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وَكَانَ الّذِي يَقُولُ تِلْكَ الْمَقَالَةَ فِيمَا بَلَغَنِي ، نَبْتَلُ بْنُ الْحَارِثِ أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَفِيهِ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَذَلِكَ أَنّهُ كَانَ يَقُولُ إنّمَا مُحَمّدٌ أُذُنٌ مَنْ حَدّثَهُ شَيْئًا صَدّقَهُ . يَقُولُ اللّهُ تَعَالَى : { قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ } أَيْ يَسْمَعُ الْخَيْرَ وَيُصَدّقُ بِهِ . ثُمّ قَالَ تَعَالَى : { يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ } ثُمّ قَالَ { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنّ إِنّمَا كُنّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ } إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : { إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذّبْ طَائِفَةً } وَكَانَ الّذِي قَالَ وَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ ، أَخُو بَنِي أُمَيّةَ بْنِ زَيْدٍ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْف ٍ وَكَانَ الّذِي عُفِيَ عَنْهُ فِيمَا بَلَغَنِي : مُخَشّنُ بْنُ حُمَيّرٍ الْأَشْجَعِيّ ، حَلِيفُ بَنِي سَلِمَةَ ، وَذَلِكَ أَنّهُ أَنْكَرَ مِنْهُمْ بَعْضَ مَا سَمِعَ . ثُمّ الْقِصّةُ مِنْ صِفَتِهِمْ حَتّى انْتَهَى إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : { يَا أَيّهَا النّبِيّ جَاهِدِ الْكُفّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ } إلَى قَوْلِهِ { مِنْ وَلِيّ وَلَا نَصِيرٍ } وَكَانَ الّذِي قَالَ تِلْكَ الْمَقَالَةَ الْجُلَاسُ بْنُ سُوَيْدِ بْنِ صَامِتٍ فَرَفَعَهَا عَلَيْهِ رَجُلٌ كَانَ فِي حُجْرَةٍ يُقَالُ لَهُ عُمَيْرُ بْنُ سَعْدٍ [ ص 327 ] فَأَنْكَرَهَا وَحَلَفَ بِاَللّهِ مَا قَالَهَا ، فَلَمّا نَزَلَ فِيهِمْ الْقُرْآنُ تَابَ وَنَزَعَ وَحَسُنَتْ حَالُهُ وَتَوْبَتُهُ فِيمَا بَلَغَنِي . ثُمّ قَالَ تَعَالَى : { وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصّدّقَنّ وَلَنَكُونَنّ مِنَ الصّالِحِينَ } وَكَانَ الّذِي عَاهَدَ اللّهَ مِنْهُمْ ثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِبٍ ، وَمُعَتّبُ بْنُ قُشَيْرٍ ، وَهُمَا مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ . ثُمّ قَالَ { الّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطّوّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصّدَقَاتِ وَالّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وَكَانَ الْمُطّوّعُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصّدَقَاتِ عَبْدَ الرّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ ، وَعَاصِمَ بْنَ عَدِيّ أَخَا بَنِي الْعَجْلَانِ وَذَلِكَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَغِبَ فِي الصّدَقَةِ وَحَضّ عَلَيْهَا ، فَقَامَ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ ، فَتَصَدّقَ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ وَقَامَ عَاصِمُ بْنُ عَدِيّ ، فَتَصَدّقَ بِمِائَةِ وَسْقٍ مِنْ تَمْرٍ فَلَمَزُوهُمَا وَقَالُوا : مَا هَذَا إلّا رِيَاءٌ وَكَانَ الّذِي تَصَدّقَ بِجُهْدِهِ أَبُو عُقَيْلٍ أَخُو بَنِي أُنَيْفٍ أَتَى بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ فَأَفْرَغَهَا فِي الصّدَقَةِ فَتَضَاحَكُوا بِهِ وَقَالُوا : إنّ اللّهَ لَغَنِيّ عَنْ صَاعِ أَبِي عُقَيْلٍ ثُمّ ذَكَرَ قَوْلَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ حِينَ أَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْجِهَادِ وَأَمَرَ بِالسّيْرِ إلَى تَبُوكَ ، عَلَى شِدّةِ الْحَرّ وَجَدْبِ الْبِلَادِ فَقَالَ تَعَالَى : { وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرّ قُلْ نَارُ جَهَنّمَ أَشَدّ حَرّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا } إلَى قَوْلِهِ { وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ }

مَا نَزَلَ بِسَبَبِ صَلَاةِ النّبِيّ عَلَى ابْنِ أُبَيّ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي الزّهْرِيّ عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُقْبَةَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ ، قَالَ سَمِعْت عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ يَقُولُ لَمّا تُوُفّيَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ ، دُعِيَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِلصّلَاةِ عَلَيْهِ فَقَامَ إلَيْهِ فَلَمّا وَقَفَ عَلَيْهِ يُرِيدُ الصّلَاةَ تَحَوّلْت حَتّى قُمْت فِي صَدْرِهِ فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ أَتُصَلّي عَلَى عَدُوّ اللّهِ عَبْدِ بْنِ أُبَيّ ابْنِ سَلُولَ ؟ الْقَائِلِ كَذَا يَوْمَ كَذَا ، وَالْقَائِلِ كَذَا يَوْمَ كَذَا ؟ أُعَدّدُ أَيّامَهُ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَتَبَسّمُ حَتّى إذَا أَكْثَرْت قَالَ يَا عُمَرُ أَخّرْ عَنّي ، إنّي قَدْ خُيّرْت فَاخْتَرْت ، قَدْ قِيلَ لِي : اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ فَلَوْ أَعْلَمُ أَنّي إنْ زِدْت عَلَى السّبْعِينَ غُفِرَ لَهُ لَزِدْت . قَالَ ثُمّ صَلّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَشَى مَعَهُ حَتّى قَامَ عَلَى قَبْرِهِ حَتّى فُرِغَ [ ص 328 ] قَالَ فَعَجِبْت لِي وَلِجُرْأَتِي عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . فَوَاَللّهِ مَا كَانَ إلّا يَسِيرًا حَتّى نَزَلَتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ { وَلَا تُصَلّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنّهُمْ كَفَرُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ } فَمَا صَلّى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعْدَهُ عَلَى مُنَافِقٍ حَتّى قَبَضَهُ اللّهُ تَعَالَى .

مَا نَزَلَ فِي الْمُسْتَأْذِنِينَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ قَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطّوْلِ مِنْهُمْ } وَكَانَ ابْنُ أُبَيّ مِنْ أُولَئِكَ فَنَعَى اللّهُ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَذَكَرَهُ مِنْهُ ثُمّ قَالَ تَعَالَى : { لَكِنِ الرّسُولُ وَالّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أَعَدّ اللّهُ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَجَاءَ الْمُعَذّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الّذِينَ كَذَبُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ } إلَى آخِرِ الْقِصّةِ . وَكَانَ الْمُعَذّرُونَ ، فِيمَا بَلَغَنِي نَفَرًا مِنْ بَنِي غِفَارٍ ، مِنْهُمْ خُفَافُ بْنُ إيمَاءِ بْنِ رَحَضَةَ ، ثُمّ كَانَتْ الْقِصّةُ لِأَهْلِ الْعُذْرِ حَتّى انْتَهَى إلَى قَوْلِهِ { وَلَا عَلَى الّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدّمْعِ حَزَنًا أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ } وَهُمْ الْبَكّاءُونَ . ثُمّ قَالَ تَعَالَى : { إِنّمَا السّبِيلُ عَلَى الّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } وَالْخَوَالِفُ النّسَاءُ . ثُمّ ذَكَرَ حَلِفَهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ وَاعْتِذَارَهُمْ فَقَالَ { فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ } إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : { فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنّ اللّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ }
Sمِنْ الْمُعَذّرِينَ
[ ص 325 ] وَذَكَرَ فِي الْمُعَذّرِينَ خُفَافَ بْنَ إيمَاءَ بْنِ رَحْضَةَ ، وَيُقَالُ فِيهِ رُحْضَةُ بِالضّمّ ابْنُ خَرِبَةَ وَكَانَ لَهُ وَلِأَبِيهِ إيمَاءَ وَلِجَدّهِ رَحْضَةَ صُحْبَةٌ . مَاتَ خُفَافٌ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - وَكَانَ إمَامًا لِبَنِي غِفَارٍ . [ ص 326 ] وَذَكَرَ ابْنَ عُقَيْلٍ صَاحِبَ الصّاعِ الّذِي لَمَزَهُ الْمُنَافِقُونَ وَاسْمُهُ جَثْجَاثٌ وَقَدْ قِيلَ فِي صَاحِبِ الصّاعِ أَنّهُ رِفَاعَةُ بْنُ سَهْلٍ . [ ص 327 ] [ ص 328 ]

مَا نَزَلَ فِيمَنْ نَافَقَ مِنْ الْأَعْرَابِ
ثُمّ ذَكَرَ الْأَعْرَابَ وَمَنْ نَافَقَ مِنْهُمْ وَتَرَبّصَهُمْ بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَبِالْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ { وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتّخِذُ مَا يُنْفِقُ } أَيْ مِنْ صَدَقَةٍ أَوْ نَفَقَةٍ فِي سَبِيلِ اللّه { مَغْرَمًا وَيَتَرَبّصُ بِكُمُ الدّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السّوْءِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } ثُمّ ذَكَرَ الْأَعْرَابَ أَهْلَ الْإِخْلَاصِ وَالْإِيمَانِ مِنْهُمْ فَقَالَ { وَيَتّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللّهِ وَصَلَوَاتِ الرّسُولِ أَلَا إِنّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ } . [ ص 329 ]

مَا نَزَلَ فِي السّابِقِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ
ثُمّ ذَكَرَ السّابِقِينَ الْأَوّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ، وَفَضْلَهُمْ وَمَا وَعَدَهُمْ اللّهُ مِنْ حُسْنِ ثَوَابِهِ إيّاهُمْ ثُمّ أَلْحَقَ بِهِمْ التّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ فَقَالَ { رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } ثُمّ قَالَ تَعَالَى : { وَمِمّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النّفَاقِ } أَيْ لَجّوا فِيهِ وَأَبَوْا غَيْرَهُ { سَنُعَذّبُهُمْ مَرّتَيْنِ } وَالْعَذَابُ الّذِي أَوْعَدَهَا اللّهُ تَعَالَى مَرّتَيْنِ فِيمَا بَلَغَنِي : غَمّهُمْ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنْ أَمْرِ الْإِسْلَامِ وَمَا يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْظِ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ حِسْبَةٍ ثُمّ عَذَابُهُمْ فِي الْقُبُورِ إذَا صَارُوا إلَيْهَا ، ثُمّ الْعَذَابُ الْعَظِيمُ الّذِي يَرُدّونَ إلَيْهِ عَذَابُ النّارِ وَالْخُلْدِ فِيهِ . ثُمّ قَالَ تَعَالَى : { وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّهِ إِمّا يُعَذّبُهُمْ وَإِمّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ } وَهُمْ الثّلَاثَةُ الّذِينَ خُلّفُوا ، وَأَرْجَأَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمْرَهُمْ حَتّى أَتَتْ مِنْ اللّهِ تَوْبَتُهُمْ . ثُمّ قَالَ تَعَالَى : { وَالّذِينَ اتّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا } إلَخْ . الْقِصّةَ ثُمّ قَالَ تَعَالَى : { إِنّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنّ لَهُمُ الْجَنّةَ } ثُمّ كَانَ قِصّةُ الْخَبَرِ عَنْ تَبُوكَ ، وَمَا كَانَ فِيهَا إلَى آخِرِ السّورَةِ . وَكَانَتْ بَرَاءَةٌ تُسَمّى فِي زَمَانِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَبَعْدَهُ الْمُبَعْثِرَةَ لِمَا كَشَفَتْ مِنْ سَرَائِرِ النّاسِ . وَكَانَتْ تَبُوكُ آخِرَ غَزْوَةٍ غَزَاهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .

شِعْرُ حَسّانَ الّذِي عَدّدَ فِيهِ الْمَغَازِيَ
وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ يُعَدّدُ أَيّامَ الْأَنْصَارِ مَعَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَيَذْكُرُ مَوَاطِنَهُمْ مَعَهُ فِي أَيّامِ غَزْوِهِ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَتُرْوَى لِابْنِهِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ حَسّانَ : [ ص 330 ]
أَلَسْت خَيْرَ مَعَدّ كُلّهَا نَفَرًا ... وَمَعْشَرًا إنْ هُمْ عُمّوا وَإِنْ حُصِلُوا
قَوْمٌ هُمْ شَهِدُوا بَدْرًا بِأَجْمَعِهِمْ ... مَعَ الرّسُولِ فَمَا آلَوْا وَمَا خَذَلُوا
وَبَايَعُوهُ فَلَمْ يَنْكُثْ بِهِ أَحَدٌ ... مِنْهُمْ وَلَمْ يَكُ فِي إيمَانِهِمْ دَخَلُ
وَيَوْمَ صَبّحَهُمْ فِي الشّعْبِ مِنْ أُحُدٍ ... ضَرْبٌ رَصِينٌ كَحَرّ النّارِ مُشْتَعِلُ
وَيَوْمَ ذِي قَرَدٍ يَوْمَ اسْتَثَارَ بِهِمْ ... عَلَى الْجِيَادِ فَمَا خَامُوا وَمَا نَكَلُوا
وَذَا الْعُشَيْرَةِ جَاسُوهَا بِخَيْلِهِمْ ... مَعَ الرّسُولِ عَلَيْهَا الْبَيْضُ وَالْأَسَلُ
وَيَوْمَ وَدّانَ أَجْلَوْا أَهْلَهُ رَقَصًا ... بِالْخَيْلِ حَتّى نَهَانَا الْحَزْنُ وَالْجَبَلُ
وَلَيْلَةً طَلَبُوا فِيهَا عَدُوّهُمْ ... لِلّهِ وَاَللّهُ يَجْزِيهِمْ بِمَا عَمِلُوا
وَغَزْوَةً يَوْمَ نَجْدٍ ثُمّ كَانَ لَهُمْ ... مَعَ الرّسُولِ بِهَا الْأَسْلَابُ وَالنّفَلُ
وَلَيْلَةً بِحُنَيْنٍ جَالَدُوا مَعَهُ ... فِيهَا يَعِلّهُمُ بِالْحَرْبِ إذْ نَهَلُوا
وَغَزْوَةَ الْقَاعِ فَرّقْنَا الْعَدُوّ بِهِ ... كَمَا تَفَرّقَ دُونَ الْمَشْرَبِ الرّسَلُ
وَيَوْمَ بُويِعَ كَانُوا أَهْلَ بَيْعَتِهِ ... عَلَى الْجِلَادِ فَآسَوْهُ وَمَا عَدَلُوا
وَغَزْوَةَ الْفَتْحِ كَانُوا فِي سَرِيّتِهِ ... مُرَابِطِينَ فَمَا طَاشُوا وَمَا عَجِلُوا
وَيَوْمَ خَيْبَرَ كَانُوا فِي كَتِيبَتِهِ ... يَمْشُونَ كُلّهُمْ مُسْتَبْسِلٌ بَطَلُ
بِالْبَيْضِ تَرْعَشُ فِي الْأَيْمَانِ عَارِيَةً ... تَعْوَجّ فِي الضّرْبِ أَحْيَانًا وَتَعْتَدِلُ
وَيَوْمَ سَارَ رَسُولُ اللّهِ مُحْتَسِبًا ... إلَى تَبُوكَ وَهُمْ رَايَاتُهُ الْأُوَلُ
وَسَاسَةُ الْحَرْبِ إنْ حَرْبٌ بَدَتْ لَهُمْ ... حَتّى بَدَا لَهُمْ الْإِقْبَالُ وَالْقَفَلُ
أُولَئِكَ الْقَوْمُ أَنْصَارُ النّبِيّ وَهُمْ ... قَوْمِي أَصِيرُ إلَيْهِمْ حِينَ أَتّصِلُ
مَاتُوا كِرَامًا وَلَمْ تُنْكَثْ عُهُودُهُمْ ... وَقَتْلُهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ إذْ قُتِلُوا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ عَجُزُ آخِرِهَا بَيْتًا عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ .
Sقَصِيدَةُ حَسّانَ الْمِيمِيّةُ
فَصْلٌ
[ ص 329 ] وَذَكَرَ كَلِمَةَ حَسّانَ الْمِيمِيّةَ وَفِيهَا : أَلَسْت خَيْرَ مَعَدّ كُلّهَا نَفَرًا
وَحَسّانُ لَيْسَ مِنْ مَعَدّ وَلَكِنْ أَرَادَ أَلَسْت خَيْرَ النّاسِ فَأَقَامَ مَعَدّا لِكَثْرَتِهَا مَقَامَ النّاسِ . [ ص 330 ]

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ أَيْضًا : [ ص 331 ]
كُنّا مُلُوكَ النّاسِ قَبْلَ مُحَمّدٍ ... فَلَمّا أَتَى الْإِسْلَامُ كَانَ لَنَا الْفَضْلُ
وَأَكْرَمَنَا اللّهُ الّذِي لَيْسَ غَيْرَهُ ... إلَهٌ بِأَيّامٍ مَضَتْ مَا لَهَا شَكْلُ
بِنَصْرِ الْإِلَهِ وَالرّسُولِ وَدِينِهِ ... وَأَلْبَسَنَاهُ اسْمًا مَضَى مَا لَهُ مِثْلُ
أُولَئِكَ قَوْمِي خَيْرُ قَوْمِك بِأَسْرِهِمْ ... فَمَا عُدّ مِنْ خَيْرٍ فَقَوْمِي لَهُ أَهْلُ
يَرُبّونَ بِالْمَعْرُوفِ مَعْرُوفَ مَنْ مَضَى ... وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ دُونَ مَعْرُوفِهِمْ قَفْلُ
إذَا اخْتُبِطُوا لَمْ يُفْحِشُوا فِي نَدِيّهِمْ ... وَلَيْسَ عَلَى سُؤَالِهِمْ عِنْدَهُمْ بُخْلُ
وَإِنْ حَارَبُوا أَوْ سَالَمُوا لَمْ يُشَبّهُوا ... فَحَرْبُهُمْ حَتْفٌ وَسِلْمُهُمْ سَهْلُ
وَجَارُهُمْ مُوفٍ بِعَلْيَاءِ بَيْتِهِ ... لَهُ مَا ثَوَى فِينَا الْكَرَامَةُ وَالْبَذْلُ
وَحَامِلُهُمْ مُوفٍ بِكُلّ حَمَالَةٍ ... تَحَمّلَ لَا غُرْمٌ عَلَيْهَا وَلَا خَذْلُ
وَقَائِلُهُمْ بِالْحَقّ إنْ قَالَ قَائِلٌ ... وَحِلْمُهُمْ عَوْدٌ وَحُكْمُهُمْ عَدْلُ
وَمِنّا أَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ حَيَاتَهُ ... وَمَنْ غَسّلَتْهُ مِنْ جَنَابَتِهِ الرّسْلُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَقَوْلُهُ " وَأَلْبَسَنَاهُ اسْمًا " عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ .

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ أَيْضًا : [ ص 332 ] [ ص 333 ]
قَوْمِي أُولَئِكَ إنْ تَسْأَلِي ... كِرَامٌ إذَا الضّيْفُ يَوْمًا أَلَمْ
عِظَامُ الْقُدُورِ لِأَيْسَارِهِمْ ... يَكُبّونَ فِيهَا الْمُسِنّ السّنِمْ
يُؤَاسُونَ جَارَهُمْ فِي الْغِنَى ... وَيَحْمُونَ مَوْلَاهُمْ إنْ ظُلِمْ
فَكَانُوا مُلُوكًا بِأَرْضِيهِمْ ... يُنَادُونَ عَضْبًا بِأَمْرٍ غُشُمْ
مُلُوكًا عَلَى النّاسِ لَمْ يُمْلَكُوا ... مِنْ الدّهْرِ يَوْمًا كَحِلّ القَسَمْ
فَأَنْبَوْا بِعَادٍ وَأَشْيَاعِهَا ... ثَمُودَ وَبَعْضِ بَقَايَا إرَمْ
بِيَثْرِبَ قَدْ شَيّدُوا فِي النّخِيلِ ... حُصُونًا وَدُجّنَ فِيهَا النّعَمْ
نَوَاضِحَ قَدْ عَلّمَتْهَا الْيَهُو ... دُ ( عَلْ ) إلَيْك وَقَوْلًا هَلُمْ
وَفِيمَا اشْتَهَوْا مِنْ عَصِيرِ الْقِطَا ... فِ وَالْعَيْشِ رَخْوًا عَلَى غَيْرِهِمْ
فَسِرْنَا إلَيْهِمْ بِأَثْقَالِنَا ... عَلَى كُلّ فَحْلٍ هِجَانٍ قَطِمْ
جَنَبْنَا بِهِنّ جِيَادَ الْخُيُو ... لِ قَدْ جَلّلُوهَا جِلَالَ الْأَدَمْ
فَلَمّا أَنَاخُوا بِجَنْبَيْ صِرَارٍ ... وَشَدّوا السّرُوجَ بِلَيّ الحُزُمْ
فَمَا رَاعَهُمْ غَيْرُ مَعْجِ الْخُيُو ... لِ وَالزّحْفُ مِنْ خَلْفِهِمْ قَدْ دَهِمْ
فَطَارُوا سِرَاعًا وَقَدْ أُفْزِعُوا ... وَجِئْنَا إلَيْهِمْ كَأُسْدِ الأُجُمْ
عَلَى كُلّ سَلْهَبَةٍ فِي الصّيَا ... نِ لَا يَشْتَكِينَ نُحُولَ السّأَمْ
وَكُلّ كُمَيْتٍ مُطَارِ الْفُؤَادِ ... أَمِينِ الْفُصُوصِ كَمِثْلِ الزّلَمْ
عَلَيْهَا فَوَارِسُ قَدْ عُوّدُوا ... قِرَاعَ الْكُمَاةِ وَضَرْبَ الْبُهَمْ
مُلُوكٌ إذَا غَشَمُوا فِي الْبِلَا ... دِ لَا يَنْكُلُونَ وَلَكِنْ قُدُمْ
فَأُبْنَا بِسَادَاتِهِمْ وَالنّسَاءِ ... وَأَوْلَادِهِمْ فِيهِمْ تُقْتَسَمْ
وَرِثْنَا مَسَاكِنَهُمْ بَعْدَهُمْ ... وَكُنّا مُلُوكًا بِهَا لَمْ نَرِمْ
فَلَمّا أَتَانَا الرّسُولُ الرّشِي ... دُ بِالْحَقّ وَالنّورِ بَعْدَ الظّلَمْ
قُلْنَا صَدَقْت رَسُولَ الْمَلِيكِ ... هَلُمّ إلَيْنَا وَفِينَا أَقِمْ
فَنَشْهَدُ أَنّك عَبْدُ الْإِلَ ... هِ أُرْسِلْت نُورًا بِدِينٍ قِيَمْ
فَإِنّا وَأَوْلَادَنَا جُنّةٌ ... نَقِيك وَفِي مَالِنَا فَاحْتَكِمْ
فَنَحْنُ أُولَئِكَ إنْ كَذّبُوك ... فَنَادِ نِدَاءً وَلَا تَحْتَشِمْ
وَنَادِ بِمَا كُنْت أَخْفَيْته ... نِدَاءً جِهَارًا وَلَا تَكْتَتِمْ
فَصَارَ الْغُوَاةُ بِأَسْيَافِهِمْ ... إلَيْهِ يَظُنّونَ أَنْ يُخْتَرَمْ
فَقُمْنَا إلَيْهِمْ بِأَسْيَافِنَا ... نُجَالِدُ عَنْهُ بُغَاةَ الْأُمَمْ
بِكُلّ صَقِيلٍ لَهُ مَيْعَةٌ ... رَقِيقِ الذّبَابِ عَضُوضٍ خَذِمْ
إذَا مَا يُصَادِفُ صُمّ الْعِظَا ... مِ لَمْ يَنْبُ عَنْهَا وَلَمْ يَنْثَلِمْ
فَذَلِكَ مَا وَرّثَتْنَا الْقُرُو ... مُ مَجْدًا تَلِيدًا وَعِزّا أَشَمّ
إذَا مَرّ نَسْلٌ كَفَى نَسْلُهُ ... وَغَادَرَ نَسْلًا إذَا مَا انْفَصَمْ
فَمَا إنْ مِنْ النّاسِ إلّا لَنَا ... عَلَيْهِ وَإِنْ خَاصَ فَضْلُ النّعَمْ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَنْشَدَنِي أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيّ بَيْتَهُ
فَكَانُوا مُلُوكًا بِأَرْضِيهِمْ ... يُنَادُونَ غُضْبًا بِأَمْرٍ غُشُمْ
[ ص 334 ]
بِيَثْرِبَ قَدْ شَيّدُوا فِي النّخِيلِ ... حُصُونًا وَدُجّنَ فِيهَا النّعَمْ
وَبَيْتَهُ " وَكُلّ كُمَيْتٍ مُطَارِ الْفُؤَادِ
" عَنْهُ . [ ص 335 ]
S[ ص 331 ] وَنَادِ جِهَارًا وَلَا تَحْتَشِمْ
وَفِيهَا رَدّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنّ الْحِشْمَةَ لَا تَكُونُ إلّا بِمَعْنَى الْغَضَبِ وَأَنّهَا مِمّا يَضَعُهَا النّاسُ غَيْرَ مَوْضِعِهَا ، وَقَدْ جَاءَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ : لِكُلّ طَاعِمٍ حِشْمَةٌ فَابْدَءُوهُ بِالْيَمِينِ وَفِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ لَا يَرْفَعَنّ أَحَدُكُمْ يَدَهُ عَنْ الطّعَامَ قَبْلَ أَكِيلِهِ فَإِنّ ذَلِكَ مِمّا يَحْشِمُه وَأَنْشَدَ أَبُو الْفَرَجِ لِمُحَمّدِ بْنِ يَسِيرٍ وَإِنْ كَانَ لَيْسَ مِثْلُ حَسّانَ فِي الْحُجّةِ
فِي انْقِبَاضٍ وَحِشْمَةٍ فَإِذَا ... جَالَسْت أَهْلَ الْوَفَاءِ وَالْكَرَمِ
أَرْسَلْت نَفْسِي عَلَى سَجِيّتِهَا ... وَقُلْت مَا شِئْت غَيْرَ مُحْتَشِمِ
[ ص 332 ]
وَكَانُوا مُلُوكًا ، وَلَمْ يَمْلِكُوا ... مِنْ الدّهْرِ يَوْمًا كَحِلّ القَسَمْ
فِيهِ شَاهِدٌ لِمَا قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي تَفْسِيرِ كَحِلّةِ الْقَسَمِ وَخِلَافُهُ لِأَبِي عُبَيْدٍ ، وَقَدْ قَدّمْنَا قَوْلَهُمَا فِيمَا تَقَدّمَ مِنْ شَرْحِ قَصِيدَةِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ . [ ص 333 ] ابْنُ قُتَيْبَةَ :
إذَا عَصَفَتْ رِيحٌ فَلَيْسَ بِقَائِمٍ ... بِهَا وَتَدٌ إلّا تَحِلّةَ مُقْسِمِ
وَأَنْشَدَ أَيْضًا : قَلِيلًا كَتَحْلِيلِ الْأُلَى ثُمّ أَصْبَحَتْ
الْبَيْتَ . وَقَوْلُهُ وَعِزّا أَشَمْ هُوَ كَقَوْلِ الْعَرَبِ : عِزّةٌ قَعْسَاءُ يُرِيدُ شَمّاءُ لِأَنّ الْأَقْعَسَ الّذِي يُخْرِجُ صَدْرَهُ وَيُدْخِلُ ظَهْرَهُ وَقَدْ فَسّرَهُ الْمُبَرّدُ غَيْرَ هَذَا التّفْسِيرِ وَبَيْتُ حَسّانَ يَشْهَدُ لِمَا قُلْنَاهُ إنّمَا هُوَ الشّمَمُ الّذِي يُوصَفُ بِهِ ذُو الْعِزّةِ فَوُصِفَتْ الْعِزّةُ بِهِ مَجَازًا .

تَفْسِيرُ سُورَةِ النّصْرِ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ سُورَةَ إذَا جَاءَ نَصْرُ اللّهِ وَتَفْسِيرُهُ لَهَا فِي الظّاهِرِ خِلَافُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبّاسٍ حِينَ سَأَلَهُ عُمَرُ عَنْ تَأْوِيلِهَا ، فَأَخْبَرَهُ أَنّ اللّهَ تَعَالَى أَعْلَمَ فِيهَا نَبِيّهُ عَلَيْهِ السّلَامُ بِانْقِضَاءِ أَجَلِهِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إلّا مَا قُلْت . وَظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ يَدُلّ عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ وَعُمَرُ لِأَنّ اللّهَ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ فَاشْكُرْ رَبّك ، وَاحْمَدْهُ كَمَا قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : إنّمَا قَالَ فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّك وَاسْتَغْفِرْهُ إنّهُ كَانَ تَوّابًا ، فَهَذَا أَمْرٌ لِنَبِيّهِ عَلَيْهِ السّلَامُ بِالِاسْتِعْدَادِ لِلِقَاءِ رَبّهِ تَعَالَى وَالتّوْبَةِ إلَيْهِ وَمَعْنَاهَا الرّجُوعُ عَمّا كَانَ بِسَبِيلِهِ مِمّا أُرْسِلَ بِهِ مِنْ إظْهَارِ الدّينِ إذْ قَدْ فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ وَتَمّ مُرَادُهُ فِيهِ فَصَارَ جَوَابُ إذَا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : [ ص 334 ] { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللّهِ أَفْوَاجًا } مَحْذُوفًا . وَكَثِيرًا مَا يَجِيءُ فِي الْقُرْآنِ الْجَوَابُ مَحْذُوفًا ، وَالتّقْدِيرُ { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللّهِ وَالْفَتْحُ } فَقَدْ انْقَضَى الْأَمْرُ وَدَنَا الْأَجَلُ وَحَانَ اللّقَاءُ { فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنّهُ كَانَ تَوّابًا } وَوَقَعَ فِي مُسْنَدِ الْبَزّارِ مُبَيّنًا مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ فَقَالَ فِيهِ فَقَدْ دَنَا أَجَلُك فَسَبّحْ هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الّذِي فَهِمَهُ ابْنُ عَبّاسٍ ، وَهُوَ حَذْفُ جَوَابِ إذَا ، وَمَنْ لَمْ يَتَنَبّهْ لِهَذِهِ النّكْتَةِ حَسِبَ أَنّ جَوَابَ إذَا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ فَسَبّحْ كَمَا تَقُولُ إذَا جَاءَ رَمَضَانُ فَصُمْ وَلَيْسَ فِي هَذَا التّأْوِيلِ مِنْ الْمُشَاكَلَةِ لِمَا قَبْلَهُ مَا فِي تَأْوِيلِ ابْنِ عَبّاسٍ فَتَدَبّرْهُ فَقَدْ وَافَقَهُ عَلَيْهِ عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَحَسْبُك بِهِمَا فَهْمًا لِكِتَابِ اللّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، فَالْفَاءُ عَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ رَابِطَةٌ لِلْأَمْرِ بِالْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ وَعَلَى مَا ظَهَرَ لِغَيْرِهِ رَابِطَةٌ لِجَوَابِ الشّرْطِ الّذِي فِي إذَا .

ذِكْرُ سَنَةِ تِسْعٍ وَتَسْمِيَتِهَا سَنَةَ الْوُفُودِ
وَنُزُولِ سُورَةِ الْفَتْحِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : لَمّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَكّةَ ، وَفَرَغَ مِنْ تَبُوكَ ، وَأَسْلَمَتْ ثَقِيفٌ وَبَايَعَتْ ضَرَبَتْ إلَيْهِ وُفُودُ الْعَرَبِ مِنْ كُلّ وَجْهٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : حَدّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ أَنّ ذَلِكَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَأَنّهَا كَانَتْ تُسَمّى سَنَةَ الْوُفُودِ .
انْقِيَادُ الْعَرَبِ وَإِسْلَامُهُمْ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَإِنّمَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَرَبّصُ بِالْإِسْلَامِ أَمْرَ هَذَا الْحَيّ مِنْ قُرَيْشٍ ، وَأَمْرَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَذَلِكَ أَنّ قُرَيْشًا كَانُوا إمَامَ النّاسِ وَهَادِيَهُمْ وَأَهْلَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ ، وَصَرِيحَ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ بْنِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السّلَامُ وَقَادَةَ الْعَرَبِ لَا يُنْكِرُونَ ذَلِكَ وَكَانَتْ [ ص 336 ] قُرَيْشٌ هِيَ الّتِي نَصَبَتْ لِحَرْبِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَخِلَافِهِ فَلَمّا اُفْتُتِحَتْ مَكّةُ ، وَدَانَتْ لَهُ قُرَيْشٌ ، وَدَوّخَهَا الْإِسْلَامُ وَعَرَفَتْ الْعَرَبُ أَنّهُ لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِحَرْبِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَا عَدَاوَتِهِ فَدَخَلُوا فِي دِينِ اللّهِ كَمَا قَالَ عَزّ وَجَلّ أَفْوَاجًا ، يَضْرِبُونَ إلَيْهِ مِنْ كُلّ وَجْهٍ يَقُولُ اللّهُ تَعَالَى لِنَبِيّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللّهِ أَفْوَاجًا فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنّهُ كَانَ تَوّابًا } أَيْ فَاحْمَدْ اللّهَ عَلَى مَا أَظْهَرَ مِنْ دِينِك ، وَاسْتَغْفِرْهُ إنّهُ كَانَ تَوّابًا .
Sقُدُومُ الْوُفُودِ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ
[ ص 335 ] قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَرْحَبًا بِالْوَفْدِ غَيْرَ خَزَايَا وَلَا نَدَامَى وَقَدْ تَكَرّرَ حَدِيثُهُمْ فِي الصّحِيحَيْنِ دُونَ تَسْمِيَةِ أَحَدٍ مِنْهُمْ فَمِنْهُمْ أَشَجّ عَبْدِ الْقَيْسِ ، وَهُوَ الْمُنْذِرُ بْنُ عَائِذٍ قَالَ لَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ [ ص 336 ] إنّ فِيك خَلّتَيْنِ يُحِبّهُمَا اللّهُ وَرَسُولُهُ الْحِلْمَ وَالْأَنَاةَ وَمِنْهُمْ أَبُو الْوَازِعِ الزّارِعُ بْنُ عَامِرٍ وَابْنُ أُخْتِهِ مَطَرُ بْنُ هِلَالٍ الْعَنْزِيّ " . وَلَمّا ذَكَرُوا لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ ابْنُ أُخْتِهِمْ قَالَ ابْنُ أُخْتِ الْقَوْمِ مِنْهُمْ . وَمِنْهُمْ ابْنُ أَخِي الزّارِعِ وَكَانَ مَجْنُونًا ، فَجَاءَ بِهِ مَعَهُ لِيَدْعُوَ لَهُ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَمَسَحَ ظَهْرَهُ وَدَعَا لَهُ فَبَرِئَ لِحِينِهِ وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا فَكُسِيَ جَمَالًا وَشَبَابًا ، حَتّى كَانَ وَجْهُهُ وَجْهَ الْعَذْرَاءِ وَمِنْهُمْ الْجَهْمُ بْنُ قُثَمَ لَمّا نَهَاهُمْ النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ عَنْ الشّرْبِ فِي الْأَوْعِيَةِ وَحَذّرَهُمْ مَا يَقَعُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْجِرَاحِ وَأَخْبَرَهُمْ أَنّهُمْ إذَا شَرِبُوا الْمُنْكَرَ عَمَدَ أَحَدُهُمْ إلَى ابْنِ عَمّهِ فَجَرَحَهُ وَكَانَ فِيهِمْ رَجُلٌ قَدْ جُرِحَ فِي ذَلِكَ وَكَانَ يُخْفِي جُرْحَهُ وَيَكْتُمُهُ وَذَلِكَ الرّجُلُ هُوَ جَهْمُ بْنُ قُثَمَ ، عَجِبُوا مِنْ عِلْمِ النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ بِذَلِكَ وَإِشَارَتِهِ إلَى ذَلِكَ الرّجُلِ . وَمِنْهُمْ أَبُو خَيْرَةَ الصّبَاحِيّ مِنْ بَنِي صُبَاحِ بْنِ لُكَيْزٍ مِنْ حَدِيثِهِ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ اللّهُمّ اغْفِرْ لِعَبْدِ الْقَيْسِ وَأَنّهُ زَوّدَهُمْ الْأَرَاكَ يَسْتَاكُونَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَزِيدَةُ الْعَصْرِيّ جَدّ هُودِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ مَزِيدَةَ وَعَلَى هُودٍ يَدُورُ حَدِيثُهُ فِي التّمْرِ الْبَرْنِيّ وَأَنّهُ دَوَاءٌ وَلَيْسَ فِيهِ دَاءٌ وَمِنْهُمْ قَيْسُ بْنُ النّعْمَانِ ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ فَهَذَا مَا بَلَغَنِي مِنْ تَسْمِيَةِ مَنْ وَفَدَ عَلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ .

قُدُومُ وَفْدِ بَنِي تَمِيمٍ وَنُزُولُ سُورَةِ الْحُجُرَاتِ
رِجَالُ الْوَفْدِ
فَقَدِمَتْ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وُفُودُ الْعَرَبِ ، فَقَدِمَ عَلَيْهِ عُطَارِدُ بْنُ حَاجِبِ بْنِ زُرَارَةَ بْنِ عُدَسَ التّمِيمِيّ ، فِي أَشْرَافِ بَنِي تَمِيمٍ مِنْهُمْ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التّمِيمِيّ ، وَالزّبْرِقَانُ بْنُ بَدْرٍ التّمِيمِيّ ، أَحَدُ بَنِي سَعْدٍ وَعَمْرُو بْنُ الْأَهْتَمِ ، وَالْحَبْحَابُ بْنُ يَزِيدَ . [ ص 337 ]
شَيْءٌ عَنْ الْحُتَاتِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْحُتَاتُ وَهُوَ الّذِي آخَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ ، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ آخَى بَيْنَ نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَبَيْنَ عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ وَعَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ، وَبَيْنَ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللّهِ وَالزّبَيْرِ بْنِ الْعَوّامِ ، وَبَيْنَ أَبِي ذَرّ الْغِفَارِيّ وَالْمِقْدَادِ بْنِ عَمْرٍو الْبَهْرَانِيّ ، وَبَيْنَ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ وَالْحُتَاتِ بْنِ يَزِيدَ الْمُجَاشِعِيّ فَمَاتَ الْحُتَاتُ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ فِي خِلَافَتِهِ فَأَخَذَ مُعَاوِيَةُ مَا تَرَكَ وِرَاثَةً بِهَذِهِ الْأُخُوّةِ فَقَالَ الْفَرَزْدَقُ لِمُعَاوِيَةَ
أَبُوك وَعَمّي يَا مُعَاوِيَ أَوْرَثَا ... تُرَاثًا فَيَحْتَازُ التّرَاثَ أَقَارِبُهْ
فَمَا بَالُ مِيرَاثِ الْحُتَاتِ أَكَلْته ... وَمِيرَاثِ حَرْبٍ جَامِدٌ لَك ذَائِبُهْ
وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ .
سَائِرُ رِجَالِ الْوَفْدِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَفِي وَفْدِ بَنِي تَمِيمٍ نُعَيْمُ بْنُ يَزِيدَ وَقَيْسُ بْنُ الْحَارِثِ ، وَقَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ ، أَخُو بَنِي سَعْدٍ فِي وَفْدٍ عَظِيمٍ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَعُطَارِدُ بْنُ حَاجِبٍ ، أَحَدُ بَنِي دَارِمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حَنْظَلَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ ، وَالْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ أَحَدُ بَنِي دَارِمِ بْنِ مَالِكٍ وَالْحُتَاتُ بْنُ يَزِيدَ أَحَدُ بَنِي دَارِمِ بْنِ مَالِكٍ وَالزّبْرِقَانُ بْنُ بَدْرٍ ، أَحَدُ بَنِي بَهْدَلَةَ بْنِ عَوْفِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ ، وَعَمْرُو بْنُ الْأَهْتَمِ ، أَحَدُ بَنِي مِنْقَرِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ ، وَقَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ ، أَحَدُ بَنِي مِنْقَرِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ الْحَارِثِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَمَعَهُمْ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ الْفَزَارِيّ ، وَقَدْ كَانَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ وَعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ شَهِدَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَتْحَ مَكّةَ وَحُنَيْنًا وَالطّائِفَ . [ ص 338 ]
صِيَاحُهُمْ بِالرّسُولِ وَكَلِمَةُ عُطَارِدٍ
فَلَمّا قَدِمَ وَفْدُ بَنِي تَمِيمٍ كَانَا مَعَهُمْ فَلَمّا دَخَلَ وَفْدُ بَنِي تَمِيمٍ الْمَسْجِدَ نَادَوْا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ وَرَاءِ حُجُرَاتِهِ أَنْ اُخْرُجْ إلَيْنَا يَا مُحَمّدُ فَآذَى ذَلِكَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ صِيَاحِهِمْ فَخَرَجَ إلَيْهِمْ فَقَالُوا : يَا مُحَمّدُ جِئْنَاك نُفَاخِرُك ، فَأْذَنْ لِشَاعِرِنَا وَخَطِيبِنَا ، قَالَ " قَدْ أُذِنَ لِخَطِيبِكُمْ فَلْيَقُلْ " فَقَالَ عُطَارِدُ بْنُ حَاجِبٍ ، فَقَالَ الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي لَهُ عَلَيْنَا الْفَضْلُ وَالْمَنّ ، وَهُوَ أَهْلُهُ الّذِي جَعَلَنَا مُلُوكًا ، وَوَهَبَ لَنَا أَمْوَالًا عِظَامًا ، نَفْعَلُ فِيهَا الْمَعْرُوفَ وَجَعَلَنَا أَعَزّ أَهْلِ الْمَشْرِقِ وَأَكْثَرَهُ عَدَدًا ، وَأَيْسَرَهُ عُدّةً فَمَنْ مِثْلُنَا فِي النّاسِ ؟ أَلَسْنَا بِرُءُوسِ النّاسِ وَأُولِي فَضْلِهِمْ ؟ فَمَنْ فَاخَرَنَا فَلْيَعْدُدْ مِثْلَ مَا عَدَدْنَا ، وَإِنّا لَوْ نَشَاءُ لَأَكْثَرْنَا الْكَلَامَ وَلَكِنّا نَحْيَا مِنْ الْإِكْثَارِ فِيمَا أَعْطَانَا ، وَإِنّا نُعْرَفُ بِذَلِكَ . أَقُولُ هَذَا لِأَنْ تَأْتُوا بِمِثْلِ قَوْلِنَا ، وَأَمْرٍ أَفْضَلَ مِنْ أَمْرِنَا . ثُمّ جَلَسَ .
S[ ص 337 ] وَذَكَرَ فِي الْوُفُودِ الْحُتَاتَ بْنَ يَزِيدَ وَقَوْلَ الْفَرَزْدَقِ لِمُعَاوِيَةَ فِيهِ فَمَا بَالُ مِيرَاثِ الْحُتَاتِ أَكَلْته
الْبَيْتَ وَبَعْدَهُ فِي غَيْرِ سِيرَةِ ابْنِ إسْحَاقَ :
فَلَوْ أَنّ هَذَا كَانَ فِي غَيْرِ مُلْكِكُمْ ... لَبُؤْت بِهَا أَوْ غَصّ بِالْمَاءِ شَارِبُهْ
[ ص 338 ]
شَرْحُ صَاحِبِ الْحُلّةِ
وَذَكَرَ فِيهِمْ عُطَارِدَ بْنَ حَاجِبِ بْنِ زُرَارَةَ ، وَهُوَ صَاحِبُ الْحُلّةِ الّتِي قَالَ فِيهَا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " إنّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ الْحُلّةَ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ [ فِي الْآخِرَةِ ] " وَقَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَتَكْسُونِي هَذِهِ وَقَدْ قُلْت فِي حُلّةِ عُطَارِدٍ مَا قُلْت ، وَكَانَ سَبَبُ تِلْكَ الْحُلّةِ أَنّ حَاجِبَ بْنَ زُرَارَةَ أَبَا عُطَارِدٍ كَانَ وَفَدَ عَلَى كِسْرَى لِيَأْخُذَ مِنْهُ أَمَانًا لِقَوْمِهِ لِيَقْرُبُوا مِنْ رِيفِ الْعِرَاقِ لِجَدْبٍ أَصَابَ بِلَادَهُمْ فَسَأَلَهُ كِسْرَى رَهْنًا لِيَسْتَوْثِقَ بِهَا مِنْهُمْ فَدَفَعَ إلَيْهِ قَوْسَهُ رَهِينَةً فَاسْتَحْمَقَهُ الْمَلِكُ وَضَحِكَ مِنْهُ فَقِيلَ لَهُ أَيّهَا الْمَلِكُ إنّهُمْ الْعَرَبُ لَوْ رَهَنَك أَحَدُهُمْ تِبْنَةً مَا أَسْلَمَهَا غَدْرًا فَقَبِلَهَا مِنْهُ كِسْرَى ، فَلَمّا أَخْصَبَتْ بِلَادُهُمْ انْتَشَرُوا رَاجِعِينَ إلَيْهَا ، وَجَاءَ حَاجِبٌ يَطْلُبُ قَوْسَهُ فَعِنْدَ ذَلِكَ كَسَاهُ كِسْرَى تِلْكَ الْحُلّةَ الّتِي كَانَتْ عِنْدَ عُطَارِدٍ الْمَذْكُورَةَ فِي جَامِعِ الْمُوَطّإِ . ذَكَرَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي الْمَعَارِفِ أَوْ مَعْنَاهُ وَفِي الْمُوَطّإِ أَنّ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - كَسَا الْحُلّةَ أَخًا لَهُ مُشْرِكًا بِمَكّةَ قَالَ ابْنُ الْحَذّاءِ كَانَ أَخَاهُ لِأُمّهِ وَاسْمُهُ عُثْمَانُ بْنُ حَكِيمٍ الثّقَفِيّ ، وَهُوَ جَدّ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ لِأُمّهِ هَكَذَا ذَكَرَ فِي تَسْمِيَةِ رِجَالِ الْمُوَطّإِ وَغَلِطَ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنّهُ قَالَ كَانَ أَخَا عُمَرَ لِأُمّهِ وَإِنّمَا هُوَ أَخُو زَيْدِ بْنِ الْخَطّابِ لِأُمّهِ أَسْمَاءَ بِنْتِ وَهْبِ بْنِ أَسَدِ بْنِ [ ص 339 ] خُزَيْمَةَ ، وَأَمّا أُمّ عُمَرَ فَهِيَ حَنْتَمَةُ بِنْتُ هَاشِمِ بْنِ الْمُغِيرَةِ [ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مَخْزُومٍ ] ، وَالْغَلَطُ الثّانِي أَنّهُ جَعَلَهُ ثَقِيفِيّا وَإِنّمَا هُوَ سُلَمِيّ وَهُوَ عُثْمَانُ بْنُ حَكِيمِ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ مُرّةَ بْنِ هِلَالِ بْنِ فَالِجِ بْنِ ذَكْوَانَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ بُهْثَةَ بْنِ سُلَيْمٍ هَكَذَا نَسَبَهُ الزّبَيْرُ وَبِنْتُهُ أُمّ سَعْدٍ وَلَدَتْ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيّبِ .
نَسَبُ ابْنِ الْأَهْتَمِ
وَذَكَرَ فِيهِمْ عَمْرَو بْنَ الْأَهْتَمِ وَنَسَبَهُ وَاسْمُ الْأَهْتَمِ سُمَيّ بْنُ سِنَانٍ وَهُوَ جَدّ شَبِيبِ بْنِ شَيْبَةَ وَخَالِدِ بْنِ صَفْوَانَ الْخَطِيبَيْنِ الْبَلِيغَيْنِ وَسُمّيَ سُمَيّ بِالْأَهْتَمِ لِأَنّ قَيْسَ بْنَ عَاصِمٍ ضَرَبَهُ فَهَتَمَ فَاهُ .

كَلِمَةُ ثَابِتٍ فِي الرّدّ عَلَى عُطَارِدٍ
[ ص 339 ] فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ الشّمّاسِ أَخِي بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ : قُمْ فَأَجِبْ الرّجُلَ فِي خُطْبَتِهِ . فَقَامَ ثَابِتٌ فَقَالَ الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي السّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ خَلْقُهُ قَضَى فِيهِنّ أَمْرَهُ وَوَسِعَ كُرْسِيّهُ عِلْمُهُ وَلَمْ يَكُ شَيْءٌ قَطّ إلّا مِنْ فَضْلِهِ ثُمّ كَانَ مِنْ قُدْرَتِهِ أَنْ جَعَلَنَا مُلُوكًا ، وَاصْطَفَى مِنْ خَيْرِ خَلْقِهِ رَسُولًا ، أَكْرَمَهُ نَسَبًا ، وَأَصْدَقَهُ حَدِيثًا ، وَأَفْضَلَهُ حَسَبًا ، فَأَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَابَهُ وَائْتَمَنَهُ عَلَى خَلْقِهِ فَكَانَ خِيرَةَ اللّهِ مِنْ الْعَالَمِينَ ثُمّ دَعَا النّاسَ إلَى الْإِيمَانِ بِهِ فَآمَنَ بِرَسُولِ اللّهِ الْمُهَاجِرُونَ مِنْ قَوْمِهِ وَذَوِي رَحِمِهِ أَكْرَمُ النّاسِ حَسَبًا ، وَأَحْسَنُ النّاسِ وُجُوهًا ، وَخَيْرُ النّاسِ فِعَالًا . ثُمّ كَانَ أَوّلَ الْخَلْقِ إجَابَةً وَاسْتَجَابَ لِلّهِ حِينَ دَعَاهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَحْنُ فَنَحْنُ أَنْصَارُ اللّهِ وَوُزَرَاءُ رَسُولِهِ نُقَاتِلُ النّاسَ حَتّى يُؤْمِنُوا بِاَللّهِ فَمَنْ آمَنَ بِاَللّهِ وَرَسُولِهِ مَنَعَ مِنّا مَالَهُ وَدَمَهُ وَمَنْ كَفَرَ جَاهَدْنَاهُ فِي اللّهِ أَبَدًا ، وَكَانَ قَتْلُهُ عَلَيْنَا يَسِيرًا . أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللّهَ لِي وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالسّلَامُ عَلَيْكُمْ .
Sعَنْ كُرْسِيّ اللّهِ
وَذَكَرَ خُطْبَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ ، وَفِيهَا وَسِعَ كُرْسِيّهُ عِلْمُهُ وَفِيهِ رَدّ عَلَى مَنْ قَالَ الْكُرْسِيّ هُوَ الْعِلْمُ وَكَذَلِك مَنْ قَالَ هُوَ الْقُدْرَةُ لِأَنّهُ لَا تُوصَفُ الْقُدْرَةُ وَالْعِلْمُ بِأَنّ الْعِلْمَ وَسِعَهَا ، وَإِنّمَا كُرْسِيّهُ مَا أَحَاطَ بِالسّمَوَاتِ وَالْأَرَضِينَ وَهُوَ دُونَ الْعَرْشِ كَمَا جَاءَتْ بِهِ الْآثَارُ فَعِلْمُهُ سُبْحَانَهُ قَدْ وَسِعَ الْكُرْسِيّ بِمَا حَوَاهُ مِنْ دَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ وَجَلَائِلِهَا وَجُمَلِهَا وَتَفَاصِيلِهَا ، وَقَدْ قِيلَ إنّ الْكُرْسِيّ فِي الْقُرْآنِ هُوَ الْعَرْشُ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مَا يَكَادُ أَنْ يَكُونَ حُجّةً لِهَذَا الْقَوْلِ لِأَنّهُ لَمْ يُرِدْ أَنّ الْعِلْمَ وَسِعَ الْكُرْسِيّ فَمَا دُونَهُ عَلَى الْخُصُوصِ دُونَ مَا فَوْقَهُ فَجَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْعَرْشَ وَمَا تَحْتَهُ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . فَإِنْ صَحّتْ الرّوَايَةُ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّ [ ص 340 ] أَشَارَ إلَى أَنّ مَعْنَى الْعِلْمِ وَالْإِحَاطَةِ يُفْهَمُ مِنْ الْآيَةِ لِأَنّ الْكُرْسِيّ الّذِي هُوَ عِنْدَ الْعَرَبِ مَوْضِعُ الْقَدَمَيْنِ مِنْ سَرِيرِ الْمُلْكِ إذَا وَسِعَ مَا وَسِعَ فَقَدْ وَسِعَهُ عِلْمُ الْمَلِكِ وَمُلْكُهُ وَقُدْرَتُهُ وَنَحْوَ هَذَا ، فَلَيْسَ فِي أَنْ يَسَعَ الْكُرْسِيّ مَا وَسِعَهُ مَدْحٌ وَثَنَاءٌ عَلَى الْمَلِكِ سُبْحَانَهُ إلّا مِنْ حَيْثُ تَضَمّنِ سَعَةِ الْعِلْمِ وَالْمُلْكِ وَإِلّا فَلَا مَدْحَ فِي وَصْفِ الْكُرْسِيّ بِالسّعَةِ وَالْآيَةُ لَا مَحَالَةَ وَارِدَةٌ فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ وَالتّعْظِيمِ لِلْعَلِيّ الْعَظِيمِ الّذِي لَا يَئُودُهُ حِفْظُ مَخْلُوقَاتِهِ كُلّهَا ، وَهُوَ الْحَيّ الْقَيّومُ وَقَرّى الطّبَرِيّ قَوْلَ ابْنِ عَبّاسٍ ، وَاحْتَجّ لَهُ بِقَوْلِهِ عَزّ وَجَلّ { وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا } وَبِأَنّ الْعَرَبَ تُسَمّي الْعُلَمَاءَ كَرَاسِيّ . قَالَ وَمِنْهُ سُمّيَتْ الْكُرّاسُ لِمَا تَضَمّنَتْهُ وَتَجْمَعُهُ مِنْ الْعِلْمِ وَأَنْشَدَ
تَحُفّهُمْ بِيضُ الْوُجُوهِ وَعَصَبَةٌ ... كَرَاسِيّ بِالْأَحْدَاثِ حِينَ تَنُوبُ
أَيْ عَالِمُونَ بِالْأَحْدَاثِ .

شِعْرُ الزّبْرِقَانِ فِي الْفَخْرِ بِقَوْمِهِ
[ ص 340 ] الزّبْرِقَانُ بْنُ بَدْرٍ ، فَقَالَ
نَحْنُ الْكِرَامُ فَلَا حَيّ يُعَادِلُنَا ... مِنّا الْمُلُوكُ وَفِينَا تُنْصَبُ الْبِيَعُ
وَكَمْ قَسَرْنَا مِنْ الْأَحْيَاءِ كُلّهِمْ ... عِنْدَ النّهَابِ وَفَضْلُ الْعِزّ يُتّبَعُ
وَنَحْنُ يُطْعِمُ عِنْدَ الْقَحْطِ مُطْعِمُنَا ... مِنْ الشّوَاءِ إذَا لَمْ يُؤْنَسْ الْقَزَعُ
بِمَا تَرَى النّاسَ تَأْتِينَا سَرَاتُهُمْ ... مِنْ كُلّ أَرْضٍ هُوِيّا ثُمّ تَصْطَنِعُ
[ ص 341 ] الْكُومَ عُبْطًا فِي أَرُومَتِنَا ... لِلنّازِلِينَ إذَا مَا أُنْزِلُوا شَبِعُوا
فَلَا تَرَانَا إلَى حَيّ نُفَاخِرُهُمْ ... إلّا اسْتَفَادُوا فَكَانُوا الرّأْسَ يُقْتَطَعُ
فَمَنْ يُفَاخِرُنَا فِي ذَاكَ نَعْرِفُهُ ... فَيَرْجِعُ الْقَوْمُ وَالْأَحْبَارُ تَسْتَمِعُ
إنّا أَبَيْنَا وَلَا يَأْبَى لَنَا أَحَدٌ ... إنّا كَذَلِكَ عِنْدَ الْفَخْرِ نَرْتَفِعُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُرْوَى : مِنّا الْمُلُوكُ وَفِينَا تُقْسَمُ الرّبَعُ
وَيُرْوَى : مِنْ كُلّ أَرْضٍ هَوَانَا ثُمّ نُتّبَعُ
رَوَاهُ لِي بَعْضُ بَنِي تَمِيمٍ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشّعْرِ يُنْكِرُهَا لِلزّبْرِقَانِ .
Sشِعْرُ الزّبْرِقَانِ
وَذَكَرَ شِعْرَ الزّبْرِقَانِ وَأَنّ بَعْضَ النّاسِ يُنْكِرُ الشّعْرَ لَهُ وَذَكَرَ الْبَرْقِيّ أَنّ الشّعْرَ لِقَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ الْمِنْقَرِيّ وَكَانَ الزّبْرِقَانُ يُرْفَعُ لَهُ بَيْتٌ مِنْ عَمَائِمَ وَثِيَابٍ وَيُنْضَخُ بِالزّعْفَرَانِ وَالطّيبِ وَكَانَتْ بَنُو تَمِيمٍ تَحُجّ ذَلِكَ الْبَيْتَ . قَالَ الشّاعِرُ وَهُوَ الْمُخَبّلُ السّعْدِيّ ، وَاسْمُهُ كَعْبُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ قِتَالٍ
وَأَشْهَدَ مِنْ عَوْفٍ حُلُولًا كَثِيرَةً ... يَحُجّونَ سِبّ الزّبْرِقَانِ الْمُزَعْفَرَا
وَالسّبّ : الْعِمَامَةُ وَأَحْسَبُهُ أَشَارَ إلَى هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ بِمَا تَرَى النّاسَ تَأْتِينَا سَرَاتُهُمْ
الْبَيْتَ . وَلَيْسَ السّرَاةُ جَمْعَ سَرِيّ كَمَا ظَنّوا ، وَإِنّمَا هُوَ كَمَا تَقُولُ ذُرْوَتُهُمْ وَسَنَامُهُمْ وَسَرَاةُ كُلّ شَيْءٍ أَعْلَاهُ وَقَدْ أَوْضَحْنَاهُ فِيمَا مَضَى مِنْ هَذَا الْكِتَابِ وَالزّبْرِقَانُ مِنْ أَسْمَاءِ [ ص 341 ] قَالَ الشّاعِرُ
تُضِيءُ بِهِ الْمَنَابِرُ حِينَ يَرْقَى ... عَلَيْهَا مِثْلَ ضَوْءِ الزّبْرِقَانِ
وَالزّبْرِقَانُ أَيْضًا : الْخَفِيفُ الْعَارِضَيْنِ وَكَانَتْ لَهُ ثَلَاثَةُ أَسْمَاءَ الزّبْرِقَانُ وَالْقَمَرُ وَالْحُصَيْنُ وَثَلَاثُ كُنًى : أَبُو الْعَبّاسِ وَأَبُو شَذْرَةَ وَأَبُو عَيّاشٍ وَهُوَ الزّبْرِقَانُ بْنُ بَدْرِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ خَلَفِ بْنِ بَهْدَلَةَ بْنِ عَوْفِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ .

شِعْرُ حَسّانَ فِي الرّدّ عَلَى الزّبْرِقَانِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ حَسّانُ غَائِبًا ، فَبَعَثَ إلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . قَالَ حَسّانُ جَاءَنِي رَسُولُهُ فَأَخْبَرَنِي أَنّهُ إنّمَا دَعَانِي لِأُجِيبَ شَاعِرَ بَنِي تَمِيمٍ فَخَرَجْت إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَنَا أَقُولُ
مَنَعْنَا رَسُولَ اللّهِ إذْ حَلّ وَسْطَنَا ... عَلَى أَنْفِ رَاضٍ مِنْ مَعَدّ وَرَاغِمِ
مَنَعْنَاهُ لَمّا حَلّ بَيْنَ بُيُوتِنَا ... بِأَسْيَافِنَا مِنْ كُلّ بَاغٍ وَظَالِمِ
بِبَيْتٍ حَرِيدٍ عِزّهُ وَثَرَاؤُهُ ... بِجَابِيَةِ الْجَوْلَانِ وَسْطَ الْأَعَاجِمِ
هَلْ الْمَجْدُ إلّا السّودَدُ الْعَوْدُ وَالنّدَى ... وَجَاهُ الْمُلُوكِ وَاحْتِمَالُ الْعَظَائِمِ
[ ص 342 ] قَالَ فَلَمّا انْتَهَيْت إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَامَ شَاعِرُ الْقَوْمِ فَقَالَ مَا قَالَ عَرَضْت فِي قَوْلِهِ وَقُلْت عَلَى نَحْوِ مَا قَالَ . قَالَ فَلَمّا فَرَغَ الزّبْرِقَانُ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِحَسّانَ بْنِ ثَابِتٍ قُمْ يَا حَسّانُ فَأَجِبْ الرّجُلَ فِيمَا قَالَ . فَقَامَ حَسّانُ فَقَالَ [ ص 343 ]
إنّ الذّوَائِبَ مِنْ فِهْرٍ وَإِخْوَتِهِمْ ... قَدْ بَيّنُوا سُنّةً لِلنّاسِ تُتّبَعُ
يَرْضَى بِهِمْ كُلّ مَنْ كَانَتْ سَرِيرَتُهُ ... تَقْوَى الْإِلَهِ وَكُلّ الْخَيْرِ يُصْطَنَعُ
قَوْمٌ إذَا حَارَبُوا ضَرّوا عَدُوّهُمْ ... أَوْ حَاوَلُوا النّفْعَ فِي أَشْيَاعِهِمْ نَفَعُوا
سَجِيّةٌ تِلْكَ مِنْهُمْ غَيْرُ مُحْدَثَةٍ ... إنّ الْخَلَائِقَ فَاعْلَمْ شَرّهَا الْبِدَعُ
إنْ كَانَ فِي النّاسِ سَبّاقُونَ بَعْدَهُمْ ... فَكُلّ سَبْقٍ لِأَدْنَى سَبْقِهِمْ تَبَعُ
لَا يَرْفَعُ النّاسُ مَا أَوْهَتْ أَكُفّهُمْ ... عِنْدَ الدّفَاعِ وَلَا يُوهُونَ مَا رَقَعُوا
إنْ سَابَقُوا النّاسَ يَوْمًا فَازَ سَبْقُهُمْ ... أَوْ وَازَنُوا أَهْلَ مَجْدٍ بِالنّدَى مَتَعُوا
أَعِفّةٌ ذُكِرَتْ فِي الْوَحْيِ عِفّتُهُمْ ... لَا يَطْمَعُونَ وَلَا يُرْدِيهِمْ طَمَعُ
لَا يَبْخَلُونَ عَلَى جَارٍ بِفَضْلِهِمْ ... وَلَا يَمَسّهُمْ مِنْ مَطْمَعٍ طَبَعُ
إذَا نَصَبْنَا لِحَيّ لَمْ نَدِبّ لَهُمْ ... كَمَا يَدِبّ إلَى الْوَحْشِيّةِ الذّرَعُ
نَسْمُو إذَا الْحَرْبُ نَالَتْنَا مَخَالِبُهَا ... إذَا الزّعَانِفُ مِنْ أَظْفَارِهَا خَشَعُوا
لَا يَفْخَرُونَ إذَا نَالُوا عَدُوّهُمْ ... وَإِنْ أُصِيبُوا فَلَا خُورٌ وَلَا هُلُعُ
كَأَنّهُمْ فِي الْوَغَى وَالْمَوْتِ مُكْتَنِعٌ ... أُسْدٌ بِحَلْبَةَ فِي أَرْسَاغِهَا فَدَعُ
خُذْ مِنْهُمْ مَا أَتَى عَفْوًا إذَا غَضِبُوا ... وَلَا يَكُنْ هَمّك الْأَمْرَ الّذِي مَنَعُوا
فَإِنّ فِي حَرْبِهِمْ فَاتْرُكْ عَدَاوَتَهُمْ ... شَرّا يُخَاضُ عَلَيْهِ السّمّ وَالسّلَعُ
أَكْرِمْ بِقَوْمٍ رَسُولُ اللّهِ شِيعَتُهُمْ ... إذَا تَفَاوَتَتْ الْأَهْوَاءُ وَالشّيَعُ
أَهْدَى لَهُمْ مِدْحَتِي قَلْبٌ يُؤَازِرُهُ ... فِيمَا أَحَبّ لِسَانٌ حَائِكٌ صَنَعُ
فَإِنّهُمْ أَفْضَلُ الْأَحْيَاءِ كُلّهِمْ ... إنْ جَدّ بِالنّاسِ جِدّ الْقَوْلِ أَوْ شَمَعُوا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَنْشَدَنِي أَبُو زَيْدٍ :
يَرْضَى بِهَا كُلّ مَنْ كَانَتْ سَرِيرَتُهُ ... تَقْوَى الْإِلَهِ وَبِالْأَمْرِ الّذِي شَرَعُوا
Sشِعْرُ حَسّانَ فِي الرّدّ عَلَى الزّبْرِقَانِ فِي الْمِيمِيّةِ وَالْعَيْنِيّةِ
وَقَوْلُ حَسّانَ بِبَيْتٍ حَرِيدٍ عِزّهُ وَثَرَاؤُهُ
[ ص 342 ] غَسّانَ وَهُمْ مُلُوكُ الشّامِ ، وَهُمْ وَسَطَ الْأَعَاجِمِ ، وَالْبَيْتُ الْحَرِيدُ الْمُنْفَرِدُ عَنْ الْبُيُوتِ كَمَا انْفَرَدَتْ غَسّانُ ، وَانْقَطَعَتْ عَنْ أَرْضِ الْعَرَبِ ، وَكَانَ حَسّانُ يَضْرِبُ بِلِسَانِهِ أَرْنَبَةَ أَنْفِهِ هُوَ وَابْنُهُ وَأَبُوهُ وَجَدّهُ وَكَانَ يَقُولُ لَوْ وَضَعْته يَعْنِي لِسَانَهُ عَلَى حَجَرٍ لَفَلَقَهُ أَوْ عَلَى شَعْرٍ لَحَلَقَهُ وَمَا يَسُرّنِي بِهِ مَقُولٌ مِنْ مَعَدّ . وَقَوْلُ حَسّانَ يُخَاضُ إلَيْهِ السّمّ وَالسّلَعُ . السّلَعُ شَجَرٌ مُرّ . قَالَ أُمَيّةُ [ بْنُ أَبِي الصّلْتِ ] :
عُشَرٌ مَا وَفَوْقَهُ سَلَعٌ مَا ... عَائِلٌ مَا ، وَعَالَتْ الْبَيْقُورَا
يُرِيدُ أَنّهُمْ كَانُوا إذَا اسْتَسْقَوْا فِي الْجَاهِلِيّةِ رَبَطُوا السّلَعَ وَالْعُشَرَ فِي أَذْنَابِ الْبَقَرِ . وَقَوْلُهُ شَمَعُوا ، أَيْ ضَحِكُوا وَمَزَحُوا . قَالَ الشّاعِرُ [ الْمُتَنَخّلُ الْهُذَلِيّ ] يَصِفُ الْأَضْيَافَ
وَأَبْدَؤُهُمْ بِمَشْمَعَةٍ وَأُثْنِي ... بِجُهْدِي مِنْ طَعَامٍ أَوْ بِسَاطِ
وَفِي الْحَدِيثِ مَنْ تَتَبّعَ الْمَشْمَعَةَ شَمّعَ اللّهُ بِهِ . يُرِيدُ مِنْ ضَحِكَ مِنْ النّاسِ وَأَفْرَطَ فِي الْمَزْحِ . [ ص 343 ] أَوْ وَازَنُوا أَهْلَ مَجْدٍ بِالنّدَى مَتَعُوا
أَيْ ارْتَفَعُوا ، يُقَال : مَتَعَ النّهَارُ إذَا ارْتَفَعَ .

شِعْرٌ آخَرُ لِلزّبْرِقَانِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : حَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشّعْرِ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ أَنّ الزّبْرِقَانَ بْنَ بَدْرٍ لَمّا قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي وَفْدِ بَنِي تَمِيمٍ قَامَ فَقَالَ
أَتَيْنَاك كَيْمَا يَعْلَمَ النّاسُ فَضْلَنَا ... إذَا احْتَفَلُوا عِنْدَ احْتِضَارِ الْمَوَاسِمِ
بِأَنّا فُرُوعُ النّاسِ فِي كُلّ مَوْطِنٍ ... وَأَنْ لَيْسَ فِي أَرْضِ الْحِجَازِ كَدَارِمِ
وَأَنّا نَذُودُ الْمُعْلِمِينَ إذَا انْتَخَوْا ... وَنَضْرِبُ رَأْسَ الْأَصْيَدِ الْمُتَفَاقِمِ
وَأَنّ لَنَا الْمِرْبَاعَ فِي كُلّ غَارَةٍ ... نُغِيرُ بِنَجْدٍ أَوْ بِأَرْضِ الْأَعَاجِمِ
Sشِعْرٌ آخَرُ لِحَسّانَ فِي الرّدّ عَلَى الزّبْرِقَانِ
[ ص 344 ] حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ فَأَجَابَهُ فَقَالَ
هَلْ الْمَجْدُ إلّا السّودَدُ الْعَوْدُ وَالنّدَى ... وَجَاهُ الْمُلُوكِ وَاحْتِمَالُ الْعَظَائِمِ
نَصَرْنَا وَآوَيْنَا النّبِيّ مُحَمّدًا ... عَلَى أَنْفِ رَاضٍ مِنْ مَعَدّ وَرَاغِمِ
بِحَيّ حَرِيدٍ أَصْلُهُ وَثَرَاؤُهُ ... بِجَابِيَةِ الْجَوْلَانِ وَسْطَ الْأَعَاجِمِ
نَصَرْنَاهُ لَمّا حَلّ وَسْطَ دِيَارِنَا ... بِأَسْيَافِنَا مِنْ كُلّ بَاغٍ وَظَالِمِ
جَعَلْنَا بَنِينَا دُونَهُ وَبَنَاتِنَا ... وَطِبْنَا لَهُ نَفْسًا بِفَيْءِ الْمَغَانِمِ
وَنَحْنُ ضَرَبْنَا النّاسَ حَتّى تَتَابَعُوا ... عَلَى دِينِهِ بِالْمُرْهَفَاتِ الصّوَارِمِ
وَنَحْنُ وَلَدْنَا مِنْ قُرَيْشٍ عَظِيمَهَا ... وَلَدْنَا نَبِيّ الْخَيْرِ مِنْ آلِ هَاشِمِ
بَنِي دَارِمٍ لَا تَفْخَرُوا إنّ فَخْرَكُمْ ... يَعُودُ وَبَالًا عِنْدَ ذِكْرِ الْمَكَارِمِ
هَبِلْتُمْ عَلَيْنَا تَفْخَرُونَ وَأَنْتُم ... لَنَا خَوَلٌ مَا بَيْنَ ظِئْرٍ وَخَادِمِ
فَإِنْ كُنْتُمْ جِئْتُمْ لِحَقْنِ دِمَائِكُمْ ... وَأَمْوَالِكُمْ أَنْ تُقْسَمُوا فِي الْمَقَاسِمِ
فَلَا تَجْعَلُوا لِلّهِ نِدّا وَأَسْلِمُوا ... وَلَا تَلْبَسُوا زِيّا كَزِيّ الْأَعَاجِمِ
[ ص 344 ]
شِعْرٌ آخَرُ لِحَسّانَ فِي الرّدّ عَلَى الزّبْرِقَانِ وَقَوْلُ حَسّانَ
وَطِبْنَا لَهُ نَفْسًا بِفَيْءِ الْمَغَانِمِ
يُرِيدُ طِيبَ نُفُوسِهِمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ حِينَ أَعْطَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمُؤَلّفَةَ قُلُوبُهُمْ وَلَمْ يُعْطِ الْأَنْصَارَ شَيْئًا .

إسْلَامُهُمْ وَتَجْوِيزُ الرّسُولِ إيّاهُمْ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا فَرَغَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ مِنْ قَوْلِهِ قَالَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ وَأَبِي ، إنّ هَذَا الرّجُلَ لِمُؤَتّى لَهُ لَخَطِيبُهُ أَخْطَبُ مِنْ خَطِيبِنَا ، وَلَشَاعِرُهُ أَشْعَرُ مِنْ شَاعِرِنَا ، وَلَأَصْوَاتُهُمْ أَحْلَى مِنْ أَصْوَاتِنَا . فَلَمّا فَرَغَ الْقَوْمُ أَسْلَمُوا ، وَجَوّزَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَحْسَنَ جَوَائِزَهُمْ .
شِعْرُ ابْنِ الْأَهْتَمِ فِي هِجَاءِ قَيْسٍ لِتَحْقِيرِهِ إيّاهُ
[ ص 345 ] كَانَ عَمْرُو بْنُ الْأَهْتَمِ قَدْ خَلّفَهُ الْقَوْمُ فِي ظَهْرِهِمْ وَكَانَ أَصْغَرَهُمْ سِنّا ، فَقَالَ قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ ، وَكَانَ يُبْغِضُ عَمْرَو بْنَ الْأَهْتَمِ : يَا رَسُولَ اللّهِ إنّهُ قَدْ كَانَ رَجُلٌ مِنّا فِي رِحَالِنَا ، وَهُوَ غُلَامٌ حَدَثٌ وَأَزْرَى بِهِ فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِثْلَ مَا أَعْطَى الْقَوْمَ فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْأَهْتَمِ حِينَ بَلَغَهُ أَنّ قَيْسًا قَالَ ذَلِكَ يَهْجُوهُ
ظَلِلْت مُفْتَرِشَ الْهَلْبَاءِ تَشْتُمُنِي ... عِنْدَ الرّسُولِ فَلَمْ تَصْدُقْ وَلَمْ تُصِبْ
سُدْنَاكُمْ سُودَدًا رَهْوًا وَسُودَدُكُمْ ... بَادٍ نَوَاجِذُهُ مُقْعٍ عَلَى الذّنَبِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : بَقِيَ بَيْتٌ وَاحِدٌ تَرَكْنَاهُ لِأَنّهُ أَقْذَعَ فِيهِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَفِيهِمْ نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ { إِنّ الّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ } [ الْحُجُرَاتِ 4 ] .
S[ ص 345 ]
شَرْحُ قَوْلِ ابْنِ الْأَهْتَمِ لِابْنِ عَاصِمٍ
فَصْلٌ وَذَكَرَ قَوْلَ عَمْرِو بْنِ الْأَهْتَمِ لِقَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ
ظَلِلْت مُفْتَرِشَ الْهَلْبَاءِ تَشْتُمُنِي ... عِنْدَ النّبِيّ فَلَمْ تَصْدُقْ وَلَمْ تُصِبْ
الْهَلْبَاءُ فَعْلَاءُ مِنْ الْهُلْبِ وَهُوَ الْخَشِينُ مِنْ الشّعْرِ يُقَالُ مِنْهُ رَجُلٌ أَهْلَبُ وَمِنْهُ قَوْلُ الشّعْبِيّ فِي مُشْكِلَةٍ نَزَلَتْ هَلْبَاءُ زَبّاءُ ذَاتُ وَبَرٍ كَأَنّهُ أَرَادَ بِمُفْتَرِشِ الْهَلْبَاءِ أَيْ مُفْتَرِشًا لِحْيَتَهُ وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِمُفْتَرِشِ الْهَلْبَاءِ يَعْنِي امْرَأَةً . وَقِيلَ الْهَلْبَاءُ يُرِيدُ بِهَا هَاهُنَا دُبُرَهُ فَإِنْ كَانَ عَنَى امْرَأَةً فَهُوَ نَصْبٌ عَلَى النّدَاءِ .
مَا نَزَلَ فِي وَفْدِ تَمِيمٍ مِنْ الْحُجُرَاتِ
وَذَكَرَ مَا أَنْزَلَ اللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِيهِمْ فِي سُورَةِ الْحُجُرَاتِ وَقَدْ كَانَ عُمَرُ وَأَبُو بَكْرٍ اخْتَلَفَا فِي أَمْرِ الزّبْرِقَانِ وَعَمْرِو بْنِ الْأَهْتَمِ ، فَأَشَارَ أَحَدُهُمَا بِتَقْدِيمِ الزّبْرِقَانِ وَأَشَارَ الْآخَرُ بِتَقْدِيمِ عَمْرِو بْنِ الْأَهْتَمِ حَتّى ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا ، فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَاتّقُوا اللّهَ } إلَى قَوْلِهِ { لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النّبِيّ } فَكَانَ عُمَرُ بَعْدَ ذَلِكَ إذَا كَلّمَ النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ لَا يُكَلّمُهُ إلّا كَأَخِي السّرَارِ .
إنّ مِنْ الْبَيَانِ لَسِحْرًا
وَفِي هَذَا الْوَفْدِ جَاءَ الْحَدِيثُ أَنّ رَجُلَيْنِ قَدِمَا مِنْ نَجْدٍ فَخَطَبَا ، فَعَجِبَ النّاسُ لِبَيَانِهِمَا ، [ ص 346 ] فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّ مِنْ الْبَيَانِ لَسِحْرًا وَأَدْخَلَهُ مَالِكٌ فِي بَابِ مَا يُذَمّ مِنْ الْقَوْلِ مِنْ أَجْلِ أَنّ السّحْرَ مَذْمُومٌ شَرْعًا ، وَغَيْرُهُ يَذْهَبُ إلَى أَنّهُ مَدْحٌ لَهُمَا بِالْبَيَانِ وَاسْتِمَالَةِ الْقُلُوبِ كَالسّحْرِ وَكَانَ مِنْ قَوْلِهِمَا . إنّ عَمْرًا قَالَ لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الزّبْرِقَانِ إنّهُ مُطَاعٌ فِي أَدْنَيْهِ سَيّدٌ فِي عَشِيرَتِهِ فَقَالَ الزّبْرِقَانُ لَقَدْ حَسَدَنِي يَا رَسُولَ اللّهِ لِشَرَفِي ، وَلَقَدْ عَلِمَ أَفْضَلَ مِمّا قَالَ . قَالَ فَقَالَ عَمْرٌو : إنّهُ لَزَمِرُ الْمُرُوءَةِ ضَيّقُ الْعَطَنِ لَئِيمُ الْخَالِ فَعَرَفَ الْإِنْكَارَ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ رَضِيت فَقُلْت أَحْسَنَ مَا عَلِمْت ، وَسَخِطْت فَقُلْت أَقْبَحَ مَا عَلِمْت ، وَلَقَدْ صَدَقْت فِي الْأُولَى وَمَا كَذَبْت فِي الثّانِيَةِ فَحِينَئِذٍ قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّ مِنْ الْبَيَانِ لَسِحْرًا وَقَوْلُهُ لَئِيمُ الْخَالِ قِيلَ إنّ أُمّهُ كَانَتْ مِنْ بَاهِلَةَ ، قَالَهُ ابْنُ ثَابِتٍ فِي الدّلَائِلِ وَقَدْ أَنْكَرَ هَذَا عَلَيْهِ وَمِمّنْ أَنْكَرَهُ عَلَيْهِ أَبُو مَرْوَانَ بْنُ سِرَاجٍ فَاَللّهُ أَعْلَمُ لِأَنّ أَهْلَ النّسَبِ ذَكَرُوا أَنّ أُمّ الزّبْرِقَانِ عُكْلِيّةٌ مِنْ بَنِي أُقَيْشٍ وَعُكْلٌ وَإِنْ كَانَتْ تَجْتَمِعُ مَعَ تَمِيمٍ فِي أُدّ بْنِ طَابِخَةَ لَكِنّ تَمِيمًا أَشْرَفُ مِنْهُمْ وَلَا سِيّمَا بَنِي سَعْدٍ رَهْطُ الزّبْرِقَانِ فَلِذَلِكَ جَعَلَهُ عَمْرٌو لَئِيمَ الْخَالِ .

قِصّةُ عَامِرِ بْنِ الطّفَيْلِ وَأَرْبَدَ بْنِ قَيْسٍ فِي الْوِفَادَةِ عَنْ بَنِي عَامِر
بَعْضُ رِجَالِ الْوَفْدِ
وَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ [ ص 346 ] بَنِي عَامِرٍ فِيهِمْ عَامِرُ بْنُ الطّفَيْلِ وَأَرْبَدُ بْنُ قَيْسِ بْنِ جَزْءِ بْنِ خَالِدِ بْنِ جَعْفَرٍ وَجَبّارُ بْنُ سَلْمَى بْنِ مَالِكِ بْنِ جَعْفَرٍ ، وَكَانَ هَؤُلَاءِ الثّلَاثَةُ رُؤَسَاءَ الْقَوْمِ وَشَيَاطِينَهُمْ .
تَدْبِيرُ عَامِرٍ لِلْغَدْرِ بِالرّسُولِ
فَقَدِمَ عَامِرُ بْنُ الطّفَيْلِ عَدُوّ اللّهِ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ يُرِيدُ الْغَدْرَ بِهِ وَقَدْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ يَا عَامِرُ إنّ النّاسَ قَدْ أَسْلَمُوا فَأَسْلِمْ قَالَ وَاَللّهِ لَقَدْ كُنْت آلَيْتَ أَنْ لَا أَنْتَهِيَ حَتّى تَتّبِعَ الْعَرَبُ عَقِبِي ، أَفَأَنَا أَتّبِعُ عَقِبَ هَذَا الْفَتَى مِنْ قُرَيْشٍ ثُمّ قَالَ لِأَرْبَدَ إذَا قَدِمْنَا عَلَى الرّجُلِ فَإِنّي سَأَشْغَلُ عَنْك وَجْهَهُ فَإِذَا فَعَلْت ذَلِكَ فَاعْلُهُ بِالسّيْفِ فَلَمّا [ ص 347 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ عَامِرُ بْنُ الطّفَيْلِ : يَا مُحَمّدُ خَالِنِي ، قَالَ لَا وَاَللّهِ حَتّى تُؤْمِنَ بِاَللّهِ وَحْدَهُ . قَالَ يَا مُحَمّدُ خَالِنِي . وَجَعَلَ يُكَلّمُهُ وَيَنْتَظِرُ مِنْ أَرْبَدَ مَا كَانَ أَمَرَهُ بِهِ فَجَعَلَ أَرْبَدُ لَا يُحِيرُ شَيْئًا ، قَالَ فَلَمّا رَأَى عَامِرٌ مَا يَصْنَعُ أَرْبَدُ قَالَ يَا مُحَمّدُ خَالِنِي قَالَ لَا ، حَتّى تُؤْمِنَ بِاَللّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ . فَلَمّا أَبَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ أَمَا وَاَللّهِ لَأَمْلَأَنّهَا عَلَيْك خَيْلًا وَرِجَالًا ، فَلَمّا وَلّى قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اللّهُمّ اكْفِنِي عَامِرَ بْنَ الطّفَيْلِ . فَلَمّا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ عَامِرٌ لِأَرْبَدَ وَيْلَك يَا أَرْبَدُ أَيْنَ مَا كُنْت أَمَرْتُك بِهِ ؟ وَاَللّهِ مَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ رَجُلٌ هُوَ أَخْوَفَ عِنْدِي عَلَى نَفْسِي مِنْك . وَأَيْمُ اللّهِ لَا أَخَافُك بَعْدَ الْيَوْمِ أَبَدًا . قَالَ لَا أَبَالَك لَا تَعْجَلْ عَلَيّ وَاَللّهِ مَا هَمَمْت بِاَلّذِي أَمَرْتنِي بِهِ مِنْ أَمْرِهِ إلّا دَخَلْتَ بَيْنِي وَبَيْنَ الرّجُلِ حَتّى مَا أَرَى غَيْرَك ، أَفَأَضْرِبُك بِالسّيْفِ ؟
مَوْتُ عَامِرٍ بِدُعَاءِ الرّسُولِ عَلَيْهِ
وَخَرَجُوا رَاجِعِينَ إلَى بِلَادِهِمْ حَتّى إذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطّرِيقِ بَعَثَ اللّهُ عَلَى عَامِرِ بْنِ الطّفَيْلِ الطّاعُونَ فِي عُنُقِهِ فَقَتَلَهُ اللّهُ فِي بَيْتِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي سَلُولَ فَجَعَلَ يَقُولُ يَا بَنِي عَامِرٍ أَغُدّةً كَغُدّةِ الْإِبِلِ وَمَوْتًا فِي بَيْتِ سَلُولِيّةٍ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ أَغُدّةً كَغُدّةِ الْإِبِلِ وَمَوْتًا فِي بَيْتِ سَلُولِيّةٍ .
Sخَبَرُ عَامِرٍ وَأَرْبَد
فَصْلٌ
وَذَكَرَ خَبَرَ عَامِرِ بْنِ الطّفَيْلِ وَأَرْبَدَ وَأَنّ أَرْبَدَ قَالَ لِعَامِرٍ مَا هَمَمْت بِقَتْلِ مُحَمّدٍ إلّا رَأَيْتُك بَيْنِي وَبَيْنَهُ أَفَأَقْتُلُك ؟ وَفِي غَيْرِ رِوَايَةِ ابْنِ إسْحَاقَ : إلّا رَأَيْت بَيْنِي وَبَيْنَهُ [ ص 347 ] سُورًا مِنْ حَدِيدٍ وَكَذَلِك فِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ قَالَ عَامِرٌ لَأَمْلَأَنّهَا عَلَيْك خَيْلًا جُرْدًا ، وَرِجَالًا مُرْدًا ، وَلَأَرْبِطَنّ بِكُلّ نَخْلَةٍ فَرَسًا ، فَجَعَلَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ يَضْرِبُ فِي رُءُوسِهِمَا وَيَقُولُ اُخْرُجَا أَيّهَا الْهِجْرِسَانِ فَقَالَ لَهُ عَامِرٌ وَمَنْ أَنْتَ ؟ فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ فَقَالَ أَحُضَيْرُ بْنُ سِمَاكٍ ؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ أَبُوك كَانَ خَيْرًا مِنْك ، فَقَالَ بَلْ أَنَا خَيْرٌ مِنْك ، وَمِنْ أَبِي ، لِأَنّ أَبِي كَانَ مُشْرِكًا ، وَأَنْت مُشْرِكٌ . وَذَكَرَ سِيبَوَيْهِ قَوْلَ عَامِرٍ أَغُدّةً كَغُدّةِ الْبَعِيرِ وَمَوْتًا فِي بَيْتِ سَلُولِيّةٍ فِي بَابِ مَا يَنْتَصِبُ عَلَى إضْمَارِ الْفِعْلِ الْمَتْرُوكِ إظْهَارُهُ كَأَنّهُ قَالَ أُغَدّ غُدّةً وَالسّلُولِيّةُ امْرَأَةٌ مَنْسُوبَةٌ إلَى سَلُولَ بْنِ صَعْصَعَةَ وَهُمْ بَنُو مُرّةَ بْنِ صَعْصَعَةَ وَسَلُولُ أُمّهُمْ وَهِيَ بِنْتُ ذُهْلِ بْنِ شَيْبَانَ وَكَانَ عَامِرُ بْنُ الطّفَيْلِ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ فَلِذَلِكَ اخْتَصّهَا لِقُرْبِ النّسَبِ بَيْنَهُمَا ، حَتّى مَاتَ فِي بَيْتِهَا .

مَوْتُ أَرْبَدَ بِصَاعِقَةٍ وَمَا نَزَلَ فِيهِ وَفِي عَامِرٍ
[ ص 348 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ خَرَجَ أَصْحَابُهُ حِينَ وَارَوْهُ حِينَ قَدِمُوا أَرْضَ بَنِي عَامِرٍ شَاتِينَ فَلَمّا قَدِمُوا أَتَاهُمْ قَوْمُهُمْ فَقَالُوا : مَا وَرَاءَك يَا أَرْبَدُ ؟ قَالَ لَا شَيْءَ وَاَللّهِ لَقَدْ دَعَانَا إلَى عِبَادَةِ شَيْءٍ لَوَدِدْت أَنّهُ عِنْدِي الْآنَ فَأَرْمِيهِ بِالنّبْلِ حَتّى أَقْتُلَهُ فَخَرَجَ بَعْدَ مَقَالَتِهِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ مَعَهُ جَمَلٌ لَهُ يَتْبَعُهُ فَأَرْسَلَ اللّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَعَلَى جَمَلِهِ صَاعِقَةً فَأَحْرَقَتْهُمَا . وَكَانَ أَرْبَدُ بْنُ قَيْسٍ أَخَا لَبِيدِ بْنِ رَبِيعَةَ لِأُمّهِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَذَكَرَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ ، قَالَ وَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ فِي عَامِرٍ وَأَرْبَدَ { اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ } [ الرّعْدَ 8 ] . . . إلَى قَوْلِهِ { وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ } . قَالَ الْمُعَقّبَاتُ هِيَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ يَحْفَظُونَ مُحَمّدًا . ثُمّ ذَكَرَ أَرْبَدَ وَمَا قَتَلَهُ اللّهُ بِهِ فَقَالَ { وَيُرْسِلُ الصّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ } [ الرّعْدَ 13 ] إلَى قَوْلِهِ { شَدِيدُ الْمِحَالِ }
شِعْرُ لَبِيدٍ فِي بُكَاءِ أَرْبَدَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَقَالَ لَبِيدٌ يَبْكِي أَرْبَدَ [ ص 349 ]
مَا إنْ تُعَدّي الْمَنُونُ مِنْ أَحَدٍ ... لَا وَالِدٍ مُشْفِقٍ وَلَا وَلَدِ
أَخْشَى عَلَى أَرْبَدَ الْحُتُوفَ وَلَا ... أَرْهَبُ نَوْءَ السّمَاكِ وَالْأَسَدِ
فَعَيْنِ هَلّا بَكَيْت أَرْبَدَ إذْ ... قُمْنَا وَقَامَ النّسَاءُ فِي كَبَدِ
إنْ يَشْغَبُوا لَا يُبَالِ شَغْبَهُمْ ... أَوْ يَقْصِدُوا فِي الْحُكُومِ يَقْتَصِدْ
حُلْوٌ أَرِيبٌ وَفِي حَلَاوَتِهِ ... مُرّ لَطِيفُ الْأَحْشَاءِ وَالْكَبِدِ
وَعَيْنِ هَلّا بَكَيْت أَرْبَدَ إذْ ... أَلْوَتْ رِيَاحُ الشّتَاءِ بِالْعَضَدِ
وَأَصْبَحَتْ لَاقِحًا مُصَرّمَةً ... حَتّى تَجَلّتْ غَوَابِرُ الْمُدَدِ
أَشْجَعُ مِنْ لَيْثِ غَابَةٍ لَحِمٍ ... ذُو نَهْمَةٍ فِي الْعُلَا وَمُنْتَقَدِ
لَا تَبْلُغُ الْعَيْنُ كُلّ نَهْمَتِهَا ... لَيْلَةَ تَمْشِي الْجِيَادُ كَالْقِدَدِ
الْبَاعِثُ النّوْحَ فِي مَآتِمِهِ ... مِثْلَ الظّبَاءِ الْأَبْكَارِ بِالْجِرَدِ
فَجَعَنِي الْبَرْقُ وَالصّوَاعِقُ بِالْ ... ـفَارِسِ يَوْمَ الْكَرِيهَةِ النّجِدِ
وَالْحَارِبِ الْجَابِرِ الْحَرِيبَ إذَا ... جَاءَ نَكِيبًا وَإِنْ يَعُدْ يَعْدِ
يَعْفُو عَلَى الْجَهْدِ وَالسّؤَالِ كَمَا ... يَنْبُتُ غَيْثُ الرّبِيعِ ذُو الرّصَدِ
كُلّ بَنِي حُرّةٍ مُصِيرُهُمْ ... قُلّ وَإِنْ أَكْثَرَتْ مِنْ الْعَدَدِ
إنْ يُغْبِطُوا يُهْبَطُوا وَإِنْ أُمِرُوا ... يَوْمًا فَهُمْ لِلْهَلَاكِ وَالنّفَدِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : بَيْتُهُ " وَالْحَارِبِ الْجَابِرِ الْحَرِيبَ " عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ وَبَيْتُهُ " يَعْفُو عَلَى الْجَهْدِ " : عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ لَبِيدٌ أَيْضًا يَبْكِي أَرْبَدَ [ ص 350 ]
أَلَا ذَهَبَ الْمَحَافِظُ وَالْمُحَامِي ... وَمَانِعُ ضَيْمِهَا يَوْمَ الْخِصَامِ
وَأَيْقَنْت التّفَرّقَ يَوْمَ قَالُوا ... تُقُسّمَ مَالُ أَرْبَدَ بِالسّهَامِ
تَطِيرُ عَدَائِدُ الْأَشْرَاكِ شَفْعًا ... وَوِتْرًا وَالزّعَامَةُ لِلْغُلَامِ
فَوَدّعْ بِالسّلَامِ أَبَا حُرَيْزٍ ... وَقَلّ وَدَاعُ أَرْبَدَ بِالسّلَامِ
وَكُنْت إمَامَنَا وَلَنَا نِظَامًا ... وَكَانَ الْجَزْعُ يُحْفَظُ بِالنّظَامِ
وَأَرْبَدُ فَارِسُ الْهَيْجَا إذَا مَا ... تَقَعّرَتْ الْمَشَاجِرُ بِالْفِئَامِ
إذَا بَكَرَ النّسَاءُ مُرَدّفَاتٍ ... حَوَاسِرَ لَا يَجِئْنَ عَلَى الْخِدَامِ
فَوَاءَلَ يَوْمَ ذَلِكَ مَنْ أَتَاهُ ... كَمَا وَأَلَ الْمُحِلّ إلَى الْحَرَامِ
وَيَحْمَدُ قِدْرَ أَرْبَدَ مَنْ عَرَاهَا ... إذَا مَا ذُمّ أَرْبَابُ اللّحَامِ
وَجَارَتُهُ إذَا حَلّتْ لَدَيْهِ ... لَهَا نَفَلٌ وَحَظّ مِنْ سَنَامِ
فَإِنْ تَقْعُدْ فَمُكْرَمَةٌ حَصَانٌ ... وَإِنْ تَظْعَنْ فَمُحْسِنَةُ الْكَلَامِ
وَهَلْ حُدّثْت عَنْ أَخَوَيْنِ دَامَا ... عَلَى الْأَيّامِ إلّا ابْنَيْ شَمَامِ
وَإِلّا الْفَرْقَدَيْنِ وَآلَ نَعْشٍ ... خَوَالِدَ مَا تُحَدّثُ بِانْهِدَامِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَهِيَ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ لَبِيدٌ أَيْضًا يَبْكِي أَرْبَدَ
انْعَ الْكَرِيمَ لِلْكَرِيمِ أَرْبَدَا ... انْعَ الرّئِيسَ وَاللّطِيفَ كَبِدَا
يُحْذِي وَيُعْطِي مَالَهُ لِيُحْمَدَا ... أُدْمًا يُشَبّهْنَ صُوَارًا أُيّدَا
السّابِلَ الْفَضْلِ إذَا مَا عُدّدَا ... وَيَمْلَأُ الْجَفْنَةَ مَلْئًا مَدَدَا
رِفْهَا إذَا يَأْتِي ضَرِيكٌ وَرَدَا ... مِثْلُ الّذِي فِي الْغِيلِ يَقْرُو جُمُدَا
يَزْدَادُ قُرْبًا مِنْهُمْ أَنْ يُوعَدَا ... أَوْرَثْتنَا تُرَاثَ غَيْرِ أَنْكَدَا
غِبّا وَمَالًا طَارِفًا وَوَلَدًا ... شَرْخًا صُقُورًا يَافِعًا وَأَمْرَدَا
وَقَالَ لَبِيدٌ أَيْضًا :
لَنْ تُفْنِيَا خَيْرَاتِ أَرْ ... بَدَ فَابْكِيَا حَتّى يَعُودَا
قُولَا هُوَ الْبَطَلُ الْمُحَا ... مِي حِينَ يَكْسُونَ الْحَدِيدَا
وَيَصُدّ عَنّا الظّالِمِ ... ـينَ إذَا لَقِينَا الْقَوْمَ صِيدَا
فَاعْتَاقَهُ رَبّ الْبَرِيّ ... خُلُودَا
فَنَوَى وَلَمْ يُوجَعْ وَلَمْ ... يُوصَبْ وَكَانَ هُوَ الْفَقِيدَا
وَقَالَ لَبِيدٌ أَيْضًا [ ص 351 ]
يُذَكّرُنِي بِأَرْبَدَ كُلّ خَصْمٍ ... أَلَدّ تَخَالُ خُطّتَهُ ضِرَارَا
إذَا اقْتَصَدُوا فَمُقْتَصِدٌ كَرِيمٌ ... وَإِنْ جَارُوا سَوَاءَ الْحَقّ جَارَا
وَيَهْدِي الْقَوْمَ مُطّلِعًا إذَا مَا ... دَلِيلُ الْقَوْمِ بِالْمَوْمَاةِ حَارَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : آخِرُهَا بَيْتًا عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ لَبِيدٌ أَيْضًا :
أَصْبَحْت أَمْشِي بَعْدَ سَلْمَى بْنِ مَالِكٍ ... وَبَعْدَ أَبِي قَيْسٍ وَعُرْوَةَ كَالْأَجَبْ
إذَا مَا رَأَى ظِلّ الْغُرَابِ أَضَجّهُ ... حِذَارًا عَلَى بَاقِي السّنَاسِنِ وَالْعَصَبْ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ .
Sوَأَمّا أَشْعَارُ لَبِيدٍ فِي أَرْبَدَ فَفِيهَا قَوْلُهُ
تَطِيرُ عَدَائِدُ الْأَشْرَاكِ شَفْعًا ... وَوِتْرًا وَالزّعَامَةُ لِلْغُلَامِ
[ ص 348 ] وَقِيلَ أَرَادَ بِالزّعَامَةِ هُنَا بَيْضَةَ السّلَاحِ وَالْأَشْرَاكُ الشّرَكَاءُ وَالْعَدَائِدُ الْأَنْصِبَاءُ مَأْخُوذٌ مِنْ الْعَدَدِ وَيُقَالُ إنّ أَرْبَدَ حِينَ أَصَابَتْهُ الصّاعِقَةُ أَنْزَلَ اللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى مُحَمّدٍ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ { وَيُرْسِلُ الصّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ } [ الرّعْدَ 13 ] يَعْنِي أَرْبَدَ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَعَامِرٌ وَأَرْبَدُ يَجْتَمِعَانِ فِي جَعْفَرِ بْنِ كِلَابِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَامِرٍ وَأُمّهُمَا وَاحِدَةٌ وَسَائِرُ شِعْرِ لَبِيَدٍ فِي أَرْبَدَ مَرْغُوبٌ عَنْ الِاشْتِغَالِ بِشَرْحِهِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِنَا الْمُتَقَدّمِ وَاَللّهُ وَلِيّ التّوْفِيقِ [ ص 349 ]
عَنْ لَبِيدٍ
عَلَى أَنّ لَبِيدًا رَحِمَهُ اللّهُ قَدْ أَسْلَمَ وَحَسُنَ إسْلَامُهُ وَعَاشَ فِي الْإِسْلَامِ سِتّينَ سَنَةً لَمْ يَقُلْ فِيهَا بَيْتَ شِعْرٍ فَسَأَلَهُ عُمَرُ عَنْ تَرْكِهِ الشّعْرَ فَقَالَ مَا كُنْت لِأَقُولَ شِعْرًا بَعْدَ أَنْ عَلّمَنِي اللّهُ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ ، فَزَادَهُ عُمَرُ فِي عَطَائِهِ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ مِنْ أَجْلِ هَذَا الْقَوْلِ فَكَانَ عَطَاؤُهُ أَلْفَيْنِ وَخَمْسَمِائَةٍ فَلَمّا كَانَ مُعَاوِيَةُ أَرَادَ أَنْ يَنْقُصَهُ مِنْ عَطَائِهِ الْخَمْسَمِائَةِ وَقَالَ لَهُ مَا بَالُ الْعِلَاوَةِ فَوْقَ الْفَوْدَيْنِ ؟ فَقَالَ لَهُ لَبِيدٌ الْآنَ أَمُوتُ وَتَصِيرُ لَك الْعِلَاوَةُ وَالْفَوْدَانِ فَرَقّ لَهُ مُعَاوِيَةُ وَتَرَكَهَا لَهُ فَمَاتَ لَبِيدٌ إثْرَ ذَلِكَ بِأَيّامٍ قَلِيلَةٍ وَقَدْ قِيلَ إنّهُ قَالَ بَيْتًا وَاحِدًا فِي الْإِسْلَامِ
الْحَمْدُ لِلّهِ إذْ لَمْ يَأْتِنِي أَجَلِي ... حَتّى اكْتَسَيْت مِنْ الْإِسْلَامِ سِرْبَالًا

قُدُومُ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ وَافِدًا عَنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَبَعَثَ بَنُو سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَجُلًا مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ .
سُؤَالُهُ الرّسُولَ أَسْئِلَةً ثُمّ إسْلَامُهُ
[ ص 352 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ نُوَيْفِعٍ عَنْ كُرَيْبٍ ، مَوْلَى عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبّاسٍ ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ ، قَالَ بَعَثَتْ بَنُو سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ ضِمَامَ بْنَ ثَعْلَبَةَ وَافِدًا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَدِمَ عَلَيْهِ وَأَنَاخَ بَعِيرَهُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ ثُمّ عَقَلَهُ ثُمّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جَالِسٌ فِي أَصْحَابِهِ وَكَانَ ضِمَامٌ رَجُلًا جَلْدًا أَشْعَرَ ذَا غَدِيرَتَيْنِ فَأَقْبَلَ حَتّى وَقَفَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي أَصْحَابِهِ فَقَالَ أَيّكُمْ ابْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ؟ قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ . قَالَ أَمُحَمّدٌ ؟ قَالَ " نَعَمْ " ؛ قَالَ يَا ابْنَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، إنّي سَائِلُك وَمُغَلّظٌ عَلَيْك فِي الْمَسْأَلَةِ فَلَا تَجِدَنّ فِي نَفْسِك ، قَالَ لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي ، فَسَلْ عَمّا بَدَا لَك قَالَ أَنْشُدُك اللّهَ إلَهَك وَإِلَهَ مَنْ كَانَ قَبْلَك ، وَإِلَه مَنْ هُوَ كَائِنٌ بَعْدَك ، آللّهُ بَعَثَك إلَيْنَا رَسُولًا ؟ قَالَ " اللّهُمّ نَعَمْ " ؛ قَالَ فَأَنْشُدُك اللّهَ إلَهَك وَإِلَهَ مَنْ كَانَ قَبْلَك ، وَإِلَهَ مَنْ هُوَ كَائِنٌ بَعْدَك ، آللّهُ أَمَرَك أَنْ تَأْمُرَنَا أَنْ نَعْبُدَهُ وَحْدَهُ لَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا ، وَأَنْ نَخْلَعَ هَذِهِ الْأَنْدَادَ الّتِي كَانَ آبَاؤُنَا يَعْبُدُونَ مَعَهُ ؟ قَالَ " اللّهُمّ نَعَمْ " ، قَالَ فَأَنْشُدُك اللّهَ إلَهَك وَإِلَهَ مَنْ كَانَ قَبْلَك ، وَإِلَهَ مَنْ هُوَ كَائِنٌ بَعْدَك ، آللّهُ أَمَرَك أَنْ نُصَلّيَ هَذِهِ الصّلَوَاتِ الْخَمْسَ ؟ قَالَ " اللّهُمّ نَعَمْ قَالَ ثُمّ جَعَلَ يَذْكُرُ فَرَائِضَ الْإِسْلَامِ فَرِيضَةً فَرِيضَةً . الزّكَاةَ وَالصّيَامَ وَالْحَجّ وَشَرَائِعَ الْإِسْلَامِ كُلّهَا ، يَنْشُدُهُ عِنْدَ كُلّ فَرِيضَةٍ مِنْهَا كَمَا يَنْشُدُهُ فِي الّتِي قَبْلَهَا ، حَتّى إذَا فَرَغَ قَالَ فَإِنّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ ، وَأَشْهَدُ أَنّ مُحَمّدًا رَسُولُ اللّهِ وَسَأُؤَدّي هَذِهِ الْفَرَائِضَ وَأَجْتَنِبُ مَا نَهَيْتنِي عَنْهُ ثُمّ لَا أَزِيدُ وَلَا أَنْقُصُ ثُمّ انْصَرَفَ إلَى بَعِيرِهِ رَاجِعًا . قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنْ صَدَقَ ذُو الْعَقِيصَتَيْنِ دَخَلَ الْجَنّة
دَعْوَتُهُ قَوْمَهُ لِلْإِسْلَامِ
[ ص 353 ] قَالَ فَأَتَى بَعِيرَهُ فَأَطْلَقَ عِقَالَهُ ثُمّ خَرَجَ حَتّى قَدِمَ عَلَى قَوْمِهِ فَاجْتَمَعُوا إلَيْهِ فَكَانَ أَوّلَ مَا تَكَلّمَ بِهِ أَنْ قَالَ بِئْسَ اللّاتُ وَالْعُزّى قَالُوا : مَهْ يَا ضِمَامُ اتّقِ الْبَرَصَ اتّقِ الْجُذَامَ اتّقِ الْجُنُونَ قَالَ وَيْلَكُمْ إنّهُمَا وَاَللّهِ لَا يَضُرّانِ وَلَا يَنْفَعَانِ إنّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ رَسُولًا ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَابًا اسْتَنْقَذَكُمْ بِهِ مِمّا كُنْتُمْ فِيهِ وَإِنّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنّ مُحَمّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَقَدْ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِهِ بِمَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ قَالَ فَوَاَللّهِ مَا أَمْسَى مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ فِي حَاضِرِهِ رَجُلٌ وَلَا امْرَأَةٌ إلّا مُسْلِمًا . قَالَ يَقُولُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبّاسٍ : فَمَا سَمِعْنَا بِوَافِدِ قَوْمٍ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ .
S[ ص 350 ]
وَفْدُ جُرَشٍ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ وَفْدَ جُرَشٍ ، وَأَنّ خَثْعَمَ ضَوَتْ إلَيْهَا حِينَ حَاصَرَهُمْ صُرَدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ وَأَنْشَدَ
حَتّى أَتَيْنَا حُمَيْرًا فِي مَصَانِعِهَا ... وَجَمْعَ خَثْعَمَ قَدْ صَاغَتْ لَهَا النّذُرُ
[ ص 351 ] خُمَيْرًا بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَفِي حِمْيَرَ حِمْيَرُ الْأَدْنَى ، وَهُوَ حِمْيَرُ بْنُ الْغَوْثِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَدِيّ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ بْنِ شُدَدَ بْنِ زُرْعَةَ وَهُوَ حِمْيَرُ الْأَصْغَرُ بْنُ سَبَأٍ الْأَصْغَرِ بْنِ كَعْبِ كَهْفِ الظّلْمِ بْنِ زَيْدِ الْجُمْهُورِ بْنِ عَمْرِو بْنِ قَيْسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ جُشَمَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ وَائِلِ بْنِ الْغَوْثِ بْنِ حَيْدَان بْنِ قَطَنِ بْنِ عَرِيبِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ الْهَمَيْسَعِ بْنِ حِمْيَرَ الْأَكْبَرِ وَهُوَ الْعَرَنْجَجُ وَقَالَ الْأَبْرَهِيّ : وَهُوَ مِنْ عُلَمَاءِ حِمْيَرَ بِالنّسَبِ وَهُوَ مَنْسُوبٌ إلَى أَبَرْهَةَ بْنِ الصّبَاحِ الْحِمْيَرِيّ فِي حِمْيَرَ الْأَدْنَى الْمَبْدُوءِ بِذِكْرِهِ حِمْيَرُ ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَصِحّ رِوَايَةُ الْخَاءِ الْمَنْقُوطَةِ وَمَنْ رَوَاهُ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ فَهُوَ تَصْغِيرُ حِمْيَرَ تَصْغِيرَ التّرْخِيمِ وَالْعَرَنْجَجُ فِي لُغَةٍ حِمْيَرُ الْعَتِيقُ .
حَدِيثُ ضِمَامٍ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ حَدِيثَ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ وَهُوَ الّذِي قَالَ فِيهِ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللّهِ : جَاءَنَا أَعْرَابِيّ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ ثَائِرَ الرّأْسِ يُسْمَعُ دَوِيّ صَوْتِهِ وَلَا يُفْقَهُ مَا يَقُولُ حَتّى دَنَا ، فَإِذَا هُوَ [ ص 352 ] عَمّهِ عَنْ جَدّهِ عَنْ طَلْحَةَ وَقَدْ تَرْجَمَ عَلَيْهِ أَبُو دَاوُدَ لِمَا فِيهِ مِنْ دُخُولِ الْمُشْرِكِ الْمَسْجِدَ . وَذَكَرَ مَعَهُ حَدِيثَ الْيَهُودِ حِينَ دَخَلُوا الْمَسْجِدَ وَذَكَرُوا أَنّ رَجُلًا مِنْهُمْ وَامْرَأَةً زَنَيَا ، وَقَالَ بِهِ الشّافِعِيّ ، وَكَرِهَ مَالِكٌ دُخُولَ الذّمّيّ الْمَسْجِدَ وَخَصّصَ أَبُو حَنِيفَةَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ لِقَوْلِ اللّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { إِنّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ } . [ التّوْبَةَ 28 ] الْآيَةَ وَتَعَلّقَ مَالِكٌ بِالْعِلّةِ الّتِي نَبّهَتْ عَلَيْهَا الْآيَةُ وَهِيَ التّنْجِيسُ فَعَمّ الْمَسَاجِدَ كُلّهَا .

قُدُومُ الْجَارُودِ فِي وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْجَارُودُ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَنَشٍ أَخُو عَبْدِ الْقَيْسِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْجَارُودُ بْنُ بِشْرِ بْنِ الْمُعَلّى فِي وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ وَكَانَ نَصْرَانِيّا . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي مَنْ لَا أَتّهِمُ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ لَمّا انْتَهَى إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَلّمَهُ فَعَرَضَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْإِسْلَامَ وَدَعَاهُ إلَيْهِ وَرَغّبَهُ فِيهِ فَقَالَ يَا مُحَمّدُ إنّي قَدْ كُنْت عَلَى دِينٍ وَإِنّي تَارِكٌ دِينِي لِدِينِك ، أَفَتَضْمَنُ لِي دِينِي ؟ قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَعَمْ أَنَا ضَامِنٌ أَنْ قَدْ هَدَاك اللّهُ إلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ قَالَ فَأَسْلَمَ وَأَسْلَمَ أَصْحَابُهُ ثُمّ سَأَلَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْحُمْلَانَ فَقَالَ " وَاَللّهِ مَا عِنْدِي مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ " . قَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ فَإِنّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ بِلَادِنَا ضَوَالّ مِنْ ضَوَالّ النّاسِ أَفَنَتَبَلّغُ عَلَيْهَا إلَى بِلَادِنَا ؟ قَالَ لَا ، إيّاكَ وَإِيّاهَا ، فَإِنّمَا تِلْكَ حَرَقُ النّارِ .
مَوْقِفُهُ مِنْ قَوْمِهِ فِي الرّدّةِ
[ ص 354 ] فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ الْجَارُودُ رَاجِعًا إلَى قَوْمِهِ وَكَانَ حَسَنَ الْإِسْلَامِ صُلْبًا عَلَى دِينِهِ حَتّى هَلَكَ وَقَدْ أَدْرَكَ الرّدّةَ فَلَمّا رَجَعَ مِنْ قَوْمِهِ مَنْ كَانَ أَسْلَمَ مِنْهُمْ إلَى دِينِهِمْ الْأَوّلِ مَعَ الْغَرُورِ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ النّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ ، قَامَ الْجَارُودُ فَتَكَلّمَ فَتَشَهّدَ شَهَادَةَ الْحَقّ وَدَعَا إلَى الْإِسْلَامِ فَقَالَ أَيّهَا النّاسُ إنّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَأَنّ مُحَمّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَأُكَفّرُ مَنْ لَمْ يَشْهَدْ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : يُرْوَى : وَأَكْفِي مَنْ لَمْ يَشْهَدْ .
إسْلَامُ ابْنِ سَاوَى
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعَثَ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيّ قَبْلَ فَتْحِ مَكّةَ إلَى الْمُنْذِرِ بْنِ سَاوَى الْعَبْدِيّ فَأَسْلَمَ فَحَسُنَ إسْلَامُهُ ثُمّ هَلَكَ بَعْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَبْلَ رِدّةِ أَهْلِ الْبَحْرَيْنِ ، وَالْعَلَاءُ عِنْدَهُ أَمِيرًا لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى الْبَحْرَيْنِ .
Sحَوْلَ حَدِيثِ الْجَارُودِ
فَصْلٌ
[ ص 353 ] وَذَكَرَ الْجَارُودَ الْعَبْدِيّ وَهُوَ بِشْرُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْمُعَلّى ، يُكَنّى أَبَا الْمُنْذِرِ وَقَالَ الْحَاكِمُ : يُكَنّى أَبَا غِيَاثٍ وَأَبَا عِتَابٍ وَسُمّيَ الْجَارُودَ لِأَنّهُ أَغَارَ عَلَى قَوْمٍ مِنْ بَكْرٍ فَجَرّدَهُمْ قَالَ الشّاعِرُ وَدُسْنَاهُمْ بِالْخَيْلِ مِنْ كُلّ جَانِبٍ كَمَا جَرّدَ الْجَارُودُ بَكْرَ بْنَ وَائِلِ
[ ص 354 ] وَذَكَرَ فِي آخِرِ حَدِيثِ الْجَارُودِ الْغَرُورَ بْنَ النّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ ، وَكَانَ كِسْرَى حِينَ قَتَلَ النّعْمَانَ صَيّرَ أَمْرَ الْحِيرَةِ إلَى هَانِئِ بْنِ قَبِيصَةَ الشّيْبَانِيّ وَلَمْ يَبْقَ لِآلِ الْمُنْذِرِ رَسْمٌ وَلَا أَمْرٌ يُذْكَرُ حَتّى كَانَتْ الرّدّةُ وَمَاتَ هَانِئُ بْنُ قَبِيصَةَ فَأَظْهَرَ أَهْلُ الرّدّةِ أَمْرَ الْغَرُورِ بْنِ النّعْمَانِ وَاسْمُهُ الْمُنْذِرُ وَإِنّمَا سُمّيَ الْغَرُورَ لِأَنّهُ غَرّ قَوْمَهُ فِي تِلْكَ الرّدّةِ أَوْ غَرّوهُ وَاسْتَعَانُوا بِهِ عَلَى حَرْبِهِمْ فَقُتِلَ هُنَالِكَ وَزَعَمَ وَثِيمَةُ بْنُ مُوسَى أَنّهُ أَسْلَمَ بَعْدَ ارْتِدَادِهِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .

قُدُومُ وَفْدِ بَنِي حَنِيفَةَ وَمَعَهُمْ مُسَيْلِمَةُ الْكَذّابُ
وَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَفْدُ بَنِي حَنِيفَةَ فِيهِمْ مُسَيْلِمَةُ بْنُ حَبِيبٍ الْحَنَفِيّ الْكَذّابُ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : مُسَيْلِمَةُ بْنُ ثُمَامَةَ وَيُكَنّى أَبَا ثُمَامَةَ .
مَا كَانَ مِنْ الرّسُولِ لِمُسَيْلِمَةَ
[ ص 355 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَكَانَ مَنْزِلُهُمْ فِي دَارِ بِنْتِ الْحَارِثِ امْرَأَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ ، ثُمّ مِنْ بَنِي النّجّارِ فَحَدّثَنِي بَعْضُ عُلَمَائِنَا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ : أَنّ بَنِي حَنِيفَةَ أَتَتْ بِهِ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَسْتُرُهُ بِالثّيَابِ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جَالِسٌ فِي أَصْحَابِهِ . مَعَهُ عَسِيبٌ مِنْ سَعَفِ النّخْلِ فِي رَأْسِهِ خُوصَاتٌ فَلَمّا انْتَهَى إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُمْ يَسْتُرُونَهُ بِالثّيَابِ كَلّمَهُ وَسَأَلَهُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَوْ سَأَلْتنِي هَذَا الْعَسِيبَ مَا أَعْطَيْتُكَهُ . [ ص 356 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ حَدّثَنِي شَيْخٌ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ مِنْ أَهْلِ الْيَمَامَةِ أَنّ حَدِيثَهُ كَانَ عَلَى غَيْرِ هَذَا . زَعَمَ أَنّ وَفْدَ بَنِي حَنِيفَةَ أَتَوْا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَخَلّفُوا مُسَيْلِمَةَ فِي رِحَالِهِمْ فَلَمّا أَسْلَمُوا ذَكَرُوا مَكَانَهُ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ إنّا قَدْ خَلّفْنَا صَاحِبًا لَنَا فِي رِحَالِنَا وَفِي رِكَابِنَا يَحْفَظُهَا لَنَا ، قَالَ فَأَمَرَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمِثْلِ مَا أَمَرَ بِهِ لِلْقَوْمِ وَقَالَ أَمَا إنّهُ لَيْسَ بِشَرّكُمْ مَكَانًا ، أَيْ لِحِفْظِهِ ضَيْعَةَ أَصْحَابِهِ وَذَلِكَ الّذِي يُرِيدُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
ارْتِدَادُهُ وَتَنَبّؤُهُ
[ ص 357 ] قَالَ ثُمّ انْصَرَفُوا عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَجَاءُوهُ بِمَا أَعْطَاهُ فَلَمّا انْتَهَوْا إلَى الْيَمَامَةِ ارْتَدّ عَدُوّ اللّهِ وَتَنَبّأَ وَتَكَذّبَ لَهُمْ وَقَالَ إنّي قَدْ أُشْرِكْت فِي الْأَمْرِ مَعَهُ . وَقَالَ لِوَفْدِهِ الّذِينَ كَانُوا مَعَهُ أَلَمْ يَقُلْ لَكُمْ حِينَ ذَكَرْتُمُونِي لَهُ أَمَا إنّهُ لَيْسَ بِشَرّكُمْ مَكَانًا ؛ مَا ذَاكَ إلّا لِمَا كَانَ يَعْلَمُ أَنّي قَدْ أُشْرِكْت فِي الْأَمْرِ مَعَهُ ثُمّ جَعَلَ يَسْجَعُ لَهُمْ الْأَسَاجِيعَ وَيَقُولُ لَهُمْ فِيمَا يَقُولُ مُضَاهَاةً لِلْقُرْآنِ " لَقَدْ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَى الْحُبْلَى ، أَخْرَجَ مِنْهَا نَسَمَةً تَسْعَى ، مِنْ بَيْنِ صِفَاقٍ وَحَشَى " وَأَحَلّ لَهُمْ الْخَمْرَ وَالزّنَا ، وَوَضَعَ عَنْهُمْ الصّلَاةَ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَشْهَدُ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِأَنّهُ نَبِيّ ، فَأَصْفَقَتْ مَعَهُ حَنِيفَةُ عَلَى ذَلِكَ فَاَللّهُ أَعْلَمُ أَيّ ذَلِكَ كَانَ .
Sوَفْدُ بَنِي حَنِيفَةَ وَنَسَبُ مُسَيْلِمَةَ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ وَفْدَ بَنِي حَنِيفَةَ وَاسْمُ حَنِيفَةَ أَثَالُ بْنُ لُجَيْمِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَلِيّ بْنِ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ مَعَ مُسَيْلِمَةَ عَلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ مُسَيْلِمَةُ بْنُ ثُمَامَةَ بْنِ كَبِيرِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْحَارِثِ بْنِ هِفّانَ بْنِ ذُهْلِ بْنِ الدّوَلِ بْنِ حَنِيفَةَ يُكَنّى أَبَا ثُمَامَةَ وَقِيلَ أَبَا هَارُونَ وكان [ ص 355 ] الزّهْرِيّ قَبْلَ مَوْلِدِ عَبْدِ اللّهِ وَالِدِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَقُتِلَ وَهُوَ ابْنُ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً وَكَانَتْ قُرَيْشٌ حِينَ سَمِعَتْ بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ قَالَ قَائِلُهُمْ دُقّ فُوك ، إنّمَا تَذْكُرُ مُسَيْلِمَةَ رَحْمَانَ الْيَمَامَةِ ، وَكَانَ الرّحّالُ الْحَنَفِيّ ، وَاسْمُهُ نَهَارُ بْنُ عُنْفُوَةَ وَالْعُنْفُوَةُ يَابِسُ الْحَلِيّ وَهُوَ نَبَاتٌ وَذَكَرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ فِيهِ عُنْثُوَ بِالثّاءِ الْمُثَلّثَةِ وَقَالَ هُوَ يَابِسُ الْحَلِيّ وَالْحَلِيّ : النّصِيّ ، وَهُوَ نَبْتٌ - قَدِمَ فِي وَفْدِ الْيَمَامَةِ عَلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَآمَنَ وَتَعَلّمَ سُوَرًا مِنْ الْقُرْآنِ فَرَآهُ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - يَوْمًا جَالِسًا مَعَ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ أَحَدُهُمَا فُرَاتُ بْنُ حَيّانَ ، وَالْآخَرُ أَبُو هُرَيْرَةَ ، فَقَالَ ضِرْسُ أَحَدِكُمْ فِي النّارِ مِثْلُ أُحُدٍ فَمَا زَالَا خَائِفَيْنِ حَتّى ارْتَدّ الرّحّالُ ، وَآمَنَ بِمُسَيْلِمَةَ وَشَهِدَ زُورًا أَنّ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَدْ شَرِكَهُ مَعَهُ فِي النّبُوّةِ وَنَسَبَ إلَيْهِ بَعْضَ مَا تَعَلّمَ مِنْ الْقُرْآنِ فَكَانَ مِنْ أَقْوَى أَسْبَابِ الْفِتْنَةِ عَلَى بَنِي حَنِيفَةَ وَقَتَلَهُ زَيْدُ بْنُ الْخَطّابِ يَوْمَ الْيَمَامَةِ ، ثُمّ قَتَلَ زَيْدَ بْنَ الْخَطّابِ سَلَمَةُ بْنُ صُبَيْحٍ الْحَنَفِيّ ، وَكَانَ مُسَيْلِمَةُ صَاحِبَ نَيْرُوجَاتٍ يُقَالُ إنّهُ أَوّلُ مَنْ أَدْخَلَ الْبَيْضَةَ فِي الْقَارُورَةِ وَأَوّلُ مَنْ وَصَلَ جَنَاحَ الطّائِرِ الْمَقْصُوصَ وَكَانَ يَدّعِي أَنّ ظَبْيَةً تَأْتِيهِ مِنْ الْجَبَلِ فَيَحْلُبُ لَبَنَهَا ، وَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يَرْثِيهِ
لَهَفِي عَلَيْك أَبَا ثُمَامَةَ ... لَهَفِي عَلَى رُكْنِي شَمَامَةِ
كَمْ آيَةٍ لَك فِيهِمْ ... كَالشّمْسِ تَطْلُعُ مِنْ غَمَامَةِ
وَكَذَبَ بَلْ كَانَتْ آيَاتُهُ مَنْكُوسَةً تَفَلَ فِي بِئْرِ قَوْمٍ سَأَلُوهُ ذَلِكَ تَبَرّكًا فَمَلُحَ مَاؤُهَا ، وَمَسَحَ رَأْسَ صَبِيّ فَقَرِعَ قَرَعًا فَاحِشًا ، وَدَعَا لِرَجُلٍ فِي ابْنَيْنِ لَهُ بِالْبَرَكَةِ فَرَجَعَ إلَى مَنْزِلِهِ فَوَجَدَ أَحَدَهُمَا قَدْ سَقَطَ فِي الْبِئْرِ وَالْآخَرَ قَدْ أَكَلَهُ الذّئْبُ وَمَسَحَ عَلَى عَيْنَيْ رَجُلٍ اسْتَشْفَى بِمَسْحِهِ فَابْيَضّتْ عَيْنَاهُ [ ص 356 ]
مُؤَذّنَا مُسَيْلِمَةَ وَسَجَاحَ
وَاسْمُ مُؤَذّنِهِ حُجَيْرٌ وَكَانَ أَوّلَ مَا أُمِرَ أَنْ يَذْكُرَ مُسَيْلِمَةَ فِي الْأَذَانِ تَوَقّفَ فَقَالَ لَهُ مُحَكّمُ بْنُ الطّفَيْلِ صَرّحْ حُجَيْرُ فَذَهَبَتْ مَثَلًا . وَأَمّا سَجَاحُ الّتِي تَنَبّأَتْ فِي زَمَانِهِ وَتَزَوّجَهَا ، فَكَانَ مُؤَذّنُهَا جَنَبَةَ بْنَ طَارِقٍ وَقَالَ الْقُتَبِيّ : اسْمُهُ زُهَيْرُ بْنُ عَمْرٍو ، وَقِيلَ إنّ شِبْثَ بْنَ رِبْعِيّ أَذّنَ لَهَا أَيْضًا ، وَتُكَنّى أُمّ صَادِرٍ وَكَانَ آخِرُ أَمْرِهَا أَنْ أَسْلَمَتْ فِي زَمَانِ عُمَرَ كُلّ هَذَا مِنْ كِتَابِ الوّاقِدِيّ وَغَيْرِهِ . وَكَانَ مُحَكّمُ بْنُ طُفَيْلٍ الْحَنَفِيّ ، صَاحِبَ حَرْبِهِ وَمُدَبّرَ أَمْرِهِ وَكَانَ أَشْرَفَ مِنْهُ فِي حَنِيفَةَ وَيُقَالُ فِيهِ مُحَكّمٌ وَمُحَكّمٌ وَفِيهِ يَقُولُ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ :
يَا مُحَكّمُ بْنَ طُفَيْلٍ قَدْ أُتِيحَ لَكُمْ ... لِلّهِ دُرّ أَبِيكُمْ حَيّةِ الْوَادِي
وَقَالَ أَيْضًا : يَخْبِطْنَ بِالْأَيْدِي حِيَاضَ مُحَكّمِ
امْرَأَةُ مُسَيْلِمَةَ
وَقَوْلُ ابْنِ إسْحَاقَ : انْزِلُوا ، يَعْنِي وَفْدَ بَنِي حَنِيفَةَ بِدَارِ الْحَارِثِ . الصّوَابُ بِنْتُ الْحَارِثِ وَاسْمُهَا : كَيْسَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ كُرَيْزِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ ، وَقَدْ تَقَدّمَ فِي غَزْوَةِ قُرَيْظَةَ الْكَلَامُ عَلَى كَيْسَةَ وَكَيْسَةُ بِالتّخْفِيفِ وَأَنّهَا كَانَتْ امْرَأَةً لِمُسَيْلِمَةَ قَبْلَ ذَلِكَ فَلِذَلِكَ أَنْزَلَهُمْ بِدَارِهَا وَكَانَتْ تَحْتَ مُسَيْلِمَةَ ثُمّ خَلَفَ عَلَيْهَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَامِرٍ وَذَكَرْنَا هُنَالِكَ أَنّ الصّوَابَ مَا قَالَهُ ابْنُ إسْحَاقَ أَنّ اسْمَ تِلْكَ الْمَرْأَةِ زَيْنَبُ بِنْتُ الْحَارِثِ ، كَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ ، وَالْمَذْكُورَةُ هَاهُنَا كَيْسَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ وَإِيّاهُ عَنَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ خَطَبَ فَقَالَ أُرِيت فِي يَدَيّ سِوَارَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ فَكَرِهْتهمَا ، فَنَفَخْت فِيهِمَا فَطَارَا فَأَوّلْتهمَا كَذّابَ الْيَمَامَةِ وَالْعَنْسِيّ ، صَاحِبَ صَنْعَاءَ ، فَأَمّا مُسَيْلِمَةُ فَقَتَلَهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ ، وَأَفْنَى قَوْمَهُ قَتْلًا وَسَبْيًا .
مَسْعُودٌ الْعَنْسِيّ
وَأَمّا مَسْعُودُ بْنُ كَعْبٍ الْعَنْسِيّ ، وَعَنْسٌ مِنْ مَذْحِجٍ ، فَاتّبَعَتْهُ قَبَائِلُ مِنْ مَذْحِجٍ وَالْيَمَنُ [ ص 357 ] أَمْرِهِ وَغَلَبَ عَلَى صَنْعَاءَ ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ ذُو الْخِمَارِ وَيُلَقّبُ عَيْهَلَةَ وَكَانَ يَدّعِي أَنّ سَحِيقًا وَشَرِيقًا يَأْتِيَانِهِ بِالْوَحْيِ وَيَقُول : هُمَا مَلَكَانِ يَتَكَلّمَانِ عَلَى لِسَانِي ، فِي خُدَعٍ كَثِيرَةٍ يُزَخْرِفُ بِهَا ، وَهُوَ مِنْ وَلَدِ مَالِكِ بْنِ عَنْسٍ ، وَبَنُو عَنْسٍ جُشَمُ وَجُشَيْمٌ وَمَالِكٌ وَعَامِرٌ وَعَمْرٌو ، وَعَزِيزٌ وَمُعَاوِيَةُ وَعَتِيكَةُ وَشِهَابٌ وَالْقِرّيّةُ وَيَامُ وَمِنْ وَلَدِ يَامَ بْنِ عَنْسٍ عَمّارُ بْنُ يَاسِرٍ ، وَأَخَوَاهُ عَبْدُ اللّهِ وَحُوَيْرِثٌ ابْنَا يَاسِرِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَالِكٍ قَتَلَهُ فَيْرُوزُ الدّيْلَمِيّ ، وَقَيْسُ بْنُ مَكْشُوحٍ وَدَاذَوَيْهِ رَجُلٌ مِنْ الْأَبْنَاءِ دَخَلُوا عَلَيْهِ مِنْ سِرْبٍ صَنَعَتْهُ لَهُمْ امْرَأَةٌ كَانَ قَدْ غَلَبَ عَلَيْهَا مِنْ الْأَبْنَاءِ فَوَجَدُوهُ سَكْرَانَ لَا يَعْقِلُ مِنْ الْخَمْرِ فَخَبَطُوهُ بِأَسْيَافِهِمْ وَهُمْ يَقُولُونَ
ضَلّ نَبِيّ مَاتَ وَهُوَ سَكْرَانْ ... وَالنّاسُ تَلْقَى جُلّهُمْ كَالذّبّانْ
النّورُ وَالنّارُ لَدَيْهِمْ سِيّانْ
ذَكَرَهُ الدّوْلَابِيّ ، وَزَادَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ عَنْهُ أَنّ امْرَأَتَهُ سَقَتْهُ الْبَنْجَ فِي شَرَابِهِ تِلْكَ اللّيْلَةَ وَهِيَ الّتِي احْتَفَرَتْ السّرْبَ لِلدّخُولِ عَلَيْهِ وَكَانَ اغْتَصَبَهَا ، لِأَنّهَا كَانَتْ مِنْ أَجْمَلِ النّسَاءِ وَكَانَتْ مُسْلِمَةً صَالِحَةً وَكَانَتْ تُحَدّثُ عَنْهُ أَنّهُ لَا يَغْتَسِلُ مِنْ الْجَنَابَةِ وَاسْمُهَا الْمَرْزُبَانَةُ وَفِي صُورَةِ قَتْلِهِ اخْتِلَافٌ . وَقَوْلُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أُرِيت سِوَارَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ فَنَفَخْتهمَا فَطَارَا ، قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالتّعْبِيرِ تَأْوِيلُ نَفْخِهِ لَهُمَا أَنّهُمَا بِرِيحِهِ قُتِلَا ، لِأَنّهُ لَمْ يَغْزُهُمَا بِنَفْسِهِ وَتَأْوِيلُ الذّهَبِ أَنّهُ زُخْرُفٌ فَدَلّ لَفْظُهُ عَلَى زَخْرَفَتِهِمَا ، وَكَذِبِهِمَا ، وَدَلّ الْإِسْوَارَانِ بِلَفْظِهِمَا عَلَى مَلِكَيْنِ لِأَنّ الْأَسَاوِرَةَ هُمْ الْمُلُوكُ وَبِمَعْنَاهُمَا عَلَى التّضْيِيقِ عَلَيْهِ لِكَوْنِ السّوَارِ مُضَيّقًا عَلَى الذّرَاعِ .

قُدُومُ زَيْدِ الْخَيْلِ فِي وَفْدِ طَيّئٍ
إسْلَامُهُ وَمَوْتُهُ
[ ص 358 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَفْدُ طَيّئٍ فِيهِمْ زَيْدُ الْخَيْلِ ، وَهُوَ سَيّدُهُمْ فَلَمّا انْتَهَوْا إلَيْهِ كَلّمُوهُ وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْإِسْلَامَ فَأَسْلَمُوا ، فَحَسُنَ إسْلَامُهُمْ وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَمَا حَدّثَنِي مَنْ لَا أَتّهِمُ مِنْ رِجَالِ طَيّئٍ مَا ذُكِرَ لِي رَجُلٌ مِنْ الْعَرَبِ بِفَضْلٍ ثُمّ جَاءَنِي ، إلّا رَأَيْته دُونَ مَا يُقَالُ فِيهِ إلّا زَيْدَ الْخَيْلِ : فَإِنّهُ لَمْ يَبْلُغْ كُلّ مَا كَانَ فِيهِ ثُمّ سَمّاهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ زَيْدَ الْخَيْرِ وَقَطَعَ لَهُ فَيْدًا وَأَرَضِينَ مَعَهُ وَكَتَبَ لَهُ بِذَلِكَ فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَاجِعًا إلَى قَوْمِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنْ يَنْجُ زَيْدٌ مِنْ حُمّى الْمَدِينَةِ فَإِنّهُ قَالَ قَدْ سَمّاهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِاسْمٍ غَيْرِ الْحُمّى ، [ ص 359 ] مَلْدَمٍ فَلَمْ يُثْبِتْهُ - فَلَمّا انْتَهَى مِنْ بَلَدِ نَجْدٍ إلَى مَاءٍ مِنْ مِيَاهِهِ يُقَالُ لَهُ فَرْدَةُ ، أَصَابَهُ الْحُمّى بِهَا فَمَاتَ وَلَمّا أَحَسّ زَيْدٌ بِالْمَوْتِ قَالَ [ ص 360 ]
أَمُرْتَحِلٌ قَوْمِي الْمَشَارِقَ غُدْوَةً ... وَأُتْرَكُ فِي بَيْتٍ بِفَرْدَةَ مُنْجِدِ
أَلَا رُبّ يَوْمٍ لَوْ مَرِضْت لَعَادَنِي ... عَوَائِدُ مَنْ لَمْ يُبْرَ مِنْهُنّ يُجْهَدْ
فَلَمّا مَاتَ عَمَدَتْ امْرَأَتُهُ إلَى مَا كَانَ مَعَهُ مِنْ كُتُبِهِ الّتِي قَطَعَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَحَرّقَتْهَا بِالنّارِ .
Sزَيْدُ الْخَيْلِ
فَصْلٌ
[ ص 358 ] وَذَكَرَ زَيْدَ الْخَيْلِ ، وَهُوَ زَيْدُ بْنُ مُهَلْهِلِ بْنِ زَيْدِ بْنِ مُنْهِبٍ يُكَنّى : أَبَا مُكْنِفٍ الطّائِيّ وَاسْمُ طَيّئٍ أُدَدُ وَقِيلَ لَهُ زَيْدُ الْخَيْلِ لِخَمْسِ أَفْرَاسٍ كَانَتْ لَهُ لَهَا أَسْمَاءُ أَعْلَامٍ ذَهَبَ عَنّي حِفْظُهَا الْآنَ . وَذَكَرَ قَوْلَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنْ يَنْجُ زَيْدٌ مِنْ حُمّى الْمَدِينَةِ .
أَسْمَاءُ الْحُمّى
قَالَ الرّاوِي : وَلَمْ يُسَمّهَا بِاسْمِهَا الْحُمّى ، وَلَا أُمّ مَلْدَمٍ سَمّاهَا بِاسْمٍ آخَرَ ذَهَبَ عَنّي ، وَالِاسْمُ الّذِي ذَهَبَ عَنْ الرّاوِي مِنْ أَسْمَاءِ الْحُمّى ، هُوَ أُمّ كُلْبَةَ ذُكِرَ لِي أَنّ أَبَا عُبَيْدَةَ ذَكَرَهُ فِي مَقَاتِلِ الْفُرْسَانِ وَلَمْ أَرَهُ وَلَكِنْ رَأَيْت الْبَكْرِيّ ذَكَرَهُ فِي بَابٍ أَفْرَدَهُ مِنْ أَسْمَاءِ الْبِلَادِ وَلَهَا أَيْضًا اسْمٌ سِوَى هَذِهِ الْأَسْمَاءِ ذَكَرَهُ ابْنُ دُرَيْدٍ فِي الْجَمْهَرِ قَالَ سَبَاطِ مِنْ أَسْمَاءِ الْحُمّى عَلَى وَزْنِ رَقَاشِ وَأَمّا أُمّ مَلْدَمٍ فَيُقَالُ بِالدّالِ وَبِالذّالِ وَبِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِهَا ، وَهُوَ [ مِنْ ] اللّدْمِ وَهُوَ شِدّةُ الضّرْبِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أُمّ كُلْبَةَ هَذَا الِاسْمُ مُغَيّرًا مِنْ كُلْبَةٍ بِضَمّ الْكَافِ وَالْكُلْبَةُ شِدّةُ الرّعْدَةِ وَكُلَبُ الْبَرْدِ مَدَائِدُهُ فَهَذِهِ أُمّ كُلْبَةَ بِالْهَاءِ وَهِيَ الْحُمّى ، وَأَمّا أُمّ كُلْبٍ ، فَشَجَرَةٌ لَهَا نُورٌ حَسَنٌ وَهِيَ إذَا حُرّكَتْ أَنْتَنُ شَيْءٍ وَزَعَمَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنّ الْغَنَمَ إذَا مَسّتْهَا لَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تَقْرَبَ الْغَنَمَ لَيْلَتَهَا تِلْكَ مِنْ شِدّةِ إنْتَانِهَا .
خَيْرُ زَيْدٍ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى
وَذَكَرَ فِي خَبَرِ زَيْدِ الْخَيْلِ فِي رِوَايَةِ أَبِي عَلِيّ الْبَغْدَادِيّ مَا هَذَا نَصّهُ خَرَجَ نَفَرٌ مِنْ طَيّئٍ يُرِيدُونَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْمَدِينَةِ وُفُودًا ، وَمَعَهُمْ زَيْدُ الْخَيْلِ ، وَوَزَرُ بْنُ سُدُوسٍ النّبْهَانِيّ وَقَبِيصَةُ بْنُ [ ص 359 ] جُوَيْنٍ الْجِرْمِيّ ، وَهُوَ النّصْرَانِيّ ، وَمَالِكُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ خَيْبَرِيّ بْنِ أَفْلَتَ بْنِ سَلْسَلَةَ وَقُعَيْنُ بْنُ خُلَيْفٍ الطّرِيفِيّ رَجُلٌ مِنْ جَدِيلَةَ ثُمّ مِنْ بَنِي بَوْلَانَ فَعَقَلُوا رَوَاحِلَهُمْ بِفِنَاءِ الْمَسْجِدِ وَدَخَلُوا ، فَجَلَسُوا قَرِيبًا مِنْ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حَيْثُ يَسْمَعُونَ صَوْتَهُ فَلَمّا نَظَرَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إلَيْهِمْ قَالَ إنّي خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ الْعُزّى ، وَلَاتِهَا ، وَمِنْ الْجَمَلِ الْأَسْوَدِ الّذِي تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ وَمِمّا حَازَتْ مِنَاع ، مِنْ كُلّ ضَارٍ غَيْرِ نَفّاعٍ فَقَامَ زَيْدُ الْخَيْلِ ، فَكَانَ مِنْ أَعْظَمِهِمْ خُلُقًا وَأَحْسَنِهِمْ وَجْهًا وَشِعْرًا ، وَكَانَ يَرْكَبُ الْفَرَسَ الْعَظِيمَ الطّوِيلَ فَتَخُطّ رِجْلَاهُ فِي الْأَرْضِ كَأَنّهُ حِمَارٌ فَقَالَ لَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَهُوَ لَا يَعْرِفُهُ " الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي أَتَى بِك مِنْ سَهْلِك وَحَزَنِك ، وَسَهّلَ قَلْبَك لِلْإِيمَانِ " ، ثُمّ قَبَضَ عَلَى يَدِهِ فَقَالَ " مَنْ أَنْتَ ؟ " فَقَالَ أَنَا زَيْدُ الْخَيْلِ بْنُ مُهَلْهِلٍ وَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ ، وَأَنّك عَبْدُ اللّهِ وَرَسُولُهُ فَقَالَ لَهُ " بَلْ أَنْتَ زَيْدُ الْخَيْرِ " ، ثُمّ قَالَ " يَا زَيْدُ مَا خُبّرْت عَنْ رَجُلٍ شَيْئًا قَطّ إلّا رَأَيْته دُونَ مَا خُبّرْت عَنْهُ غَيْرَك " ، فَبَايَعَهُ وَحَسُنَ إسْلَامُهُ وَكَتَبَ لَهُ كِتَابًا عَلَى مَا أَرَادَ وَأَطْعَمَهُ قِرًى كَثِيرَةً مِنْهَا : فَيْدٌ ، وَكَتَبَ لِكُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى قَوْمِهِ إلّا وَزَرَ بْنَ سُدُوسٍ فَقَالَ إنّي لَأَرَى رَجُلًا لَيَمْلِكَنّ رِقَابَ الْعَرَبِ ، وَلَا وَاَللّهِ لَا يَمْلِكُ رَقَبَتِي عَرَبِيّ أَبَدًا ، ثُمّ لَحِقَ بِالشّامِ وَتَنَصّرَ وَحَلَقَ رَأْسَهُ فَلَمّا قَامَ زَيْدٌ مِنْ عِنْدِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ أَيْ فَتًى لَمْ تُدْرِكْهُ أُمّ كُلْبَةَ يَعْنِي : الْحُمّى ، وَيُقَالُ بَلْ قَالَ إنْ نَجَا مِنْ آجَامِ الْمَدِينَةِ ، فَقَالَ زَيْدٌ حِينَ انْصَرَفَ
أُنِيخَتْ بِآجَامِ الْمَدِينَةِ أَرْبَعًا ... وَعَشْرًا يُغَنّي فَوْقَهَا اللّيْلَ طَائِرُ
فَلَمّا قَضَتْ أَصْحَابُهَا كُلّ بُغْيَةٍ ... وَخَطّ كِتَابًا فِي الصّحِيفَةِ سَاطِرُ
شَدَدْت عَلَيْهَا رَحْلَهَا وَشَلِيلَهَا ... مِنْ الدّرْسِ وَالشّعْرَاءِ وَالْبَطْنُ ضَامِر
الدّرْسُ الْجَرَبُ وَالشّعْرَاءُ ذُبَابٌ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْمَدَائِنِيّ فِي حَدِيثِهِ وَأَهْدَى زَيْدٌ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَخْذُومًا وَالرّسُوبَ وَكَانَا سَيْفَيْنِ لِصَنَمِ بَلِيّ الْفَلْسِ فَلَمّا انْصَرَفُوا قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " مَا قَدِمَ عَلَيّ رَجُلٌ مِنْ الْعَرَبِ يُفَضّلُهُ قَوْمُهُ إلّا رَأَيْته دُونَ مَا يُقَالُ إلّا مَا كَانَ مِنْ [ ص 360 ] الْمَدِينَةِ فَلِأَمْرٍ مَا هُوَ " . وَقَوْلُهُ
أَلَا رُبّ يَوْمٍ لَوْ مَرِضْت لَعَادَنِي ... عَوَائِدُ مَنْ لَمْ يُبْرَ مِنْهُنّ يُجْهَدْ
وَبَعْدَهُ
فَلَيْتَ اللّوَاتِي عُدْنَنِي ... لَمْ يَعُدْنَنِي وَلَيْتَ اللّوَاتِي غِبْنَ عَنّي شُهّدِي

أَمْرُ عَدِيّ بْنِ حَاتِمٍ
وَأَمّا [ ص 361 ] عَدِيّ بْنُ حَاتِمٍ فَكَانَ يَقُولُ فِيمَا بَلَغَنِي : مَا مِنْ رَجُلٍ مِنْ الْعَرَبِ كَانَ أَشَدّ كَرَاهِيَةً لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ سَمِعَ بِهِ مِنّي ، أَمّا أَنَا فَكُنْت امْرَأً شَرِيفًا ، وَكُنْت نَصْرَانِيّا ، وَكُنْت أَسِيرُ فِي قَوْمِي بِالْمِرْبَاعِ فَكُنْت فِي نَفْسِي عَلَى دِينٍ وَكُنْت مَلِكًا فِي قَوْمِي ، لِمَا كَانَ يُصْنَعُ بِي . فَلَمّا سَمِعْت بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَرِهْته ، فَقُلْت لِغُلَامٍ كَانَ لِي عَرَبِيّ وَكَانَ رَاعِيًا لِإِبِلِي : لَا أَبَالَك ، أَعْدِدْ لِي مِنْ إبِلِي أَجْمَالًا ذُلُلًا سِمَانًا ، فَاحْتَبِسْهَا قَرِيبًا مِنّي ، فَإِذَا سَمِعْت بِجَيْشٍ لِمُحَمّدٍ قَدْ وَطِئَ هَذِهِ الْبِلَادَ فَآذِنّي ، فَفَعَلَ ثُمّ إنّهُ أَتَانِي ذَاتَ غَدَاةٍ فَقَالَ يَا عَدِيّ مَا كُنْت صَانِعًا إذَا غَشِيَتْك خَيْلُ مُحَمّدٍ فَاصْنَعْهُ الْآنَ فَإِنّي قَدْ رَأَيْت رَايَاتٍ فَسَأَلْت عَنْهَا ، فَقَالُوا : هَذِهِ جُيُوشُ مُحَمّدٍ . قَالَ فَقُلْت : فَقَرّبْ إلَيّ أَجْمَالِي ، فَقَرّبَهَا ، فَاحْتَمَلْت بِأَهْلِي وَوَلَدِي ، ثُمّ قُلْت : أَلْحَقُ بِأَهْلِ دِينِي مِنْ النّصَارَى بِالشّامِ فَسَلَكْت الْجَوْشِيّةَ ، وَيُقَالُ الْحَوْشِيّةَ فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ - وَخَلّفْت بِنْتًا لِحَاتِمٍ فِي الْحَاضِرِ فَلَمّا قَدِمْت الشّامَ أَقَمْت بِهَا . وَتُخَالِفُنِي خَيْلٌ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَتُصِيبُ ابْنَةَ حَاتِمٍ فِيمَنْ أَصَابَتْ فَقُدِمَ بِهَا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي سَبَايَا مِنْ طَيّئٍ وَقَدْ بَلَغَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هَرَبِي إلَى الشّامِ ، قَالَ فَجُعِلَتْ بِنْتُ حَاتِمٍ فِي حَظِيرَةٍ بِبَابِ الْمَسْجِدِ كَانَتْ السّبَايَا يُحْبَسْنَ فِيهَا ، فَمَرّ بِهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَامَتْ إلَيْهِ وَكَانَتْ امْرَأَةً جَزْلَةً فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ هَلَكَ الْوَالِدُ وَغَابَ الْوَافِدُ فَامْنُنْ عَلَيّ مَنّ اللّهُ عَلَيْك . قَالَ وَمَنْ وَافِدُك ؟ قَالَتْ عَدِيّ بْنُ حَاتِمٍ . قَالَ الْفَارّ مِنْ اللّهِ وَرَسُولِهِ ؟ قَالَتْ ثُمّ مَضَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَتَرَكَنِي ، حَتّى إذَا كَانَ مِنْ الْغَدِ مَرّ بِي ، فَقُلْت لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ وَقَالَ لِي مِثْلَ مَا قَالَ بِالْأَمْسِ . قَالَتْ حَتّى إذَا كَانَ بَعْدَ الْغَدِ مَرّ بِي وَقَدْ يَئِسْت مِنْهُ فَأَشَارَ إلَيّ رَجُلٌ مِنْ خَلْفِهِ أَنْ قُومِي فَكَلّمِيهِ قَالَ فَقُمْت إلَيْهِ فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ هَلَكَ الْوَالِدُ وَغَابَ الْوَافِدُ فَامْنُنْ عَلَيّ مَنّ اللّهُ عَلَيْك ؛ فَقَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ فَعَلْت ، فَلَا تَعْجَلِي بِخُرُوجٍ حَتّى تَجِدِي مِنْ قَوْمِك مَنْ يَكُونُ لَهُ ثِقَةً حَتّى يُبَلّغَك إلَى بِلَادِك ، ثُمّ آذِنِينِي . فَسَأَلْت عَنْ الرّجُلِ الّذِي أَشَارَ إلَيّ أَنْ أُكَلّمَهُ فَقِيلَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِ وَأَقَمْت حَتّى قَدِمَ رَكْبٌ مِنْ بَلِيّ أَوْ قُضَاعَةَ ، قَالَتْ وَإِنّمَا أُرِيدُ أَنْ آتِيَ أَخِي بِالشّامِ . قَالَتْ فَجِئْت رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ قَدْ قَدِمَ رَهْطٌ مِنْ قَوْمِي ، لِي فِيهِمْ ثِقَةٌ وَبَلَاغٌ . قَالَتْ فَكَسَانِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَحَمَلَنِي ، وَأَعْطَانِي نَفَقَةً فَخَرَجْت مَعَهُمْ حَتّى قَدِمْت الشّامَ . قَالَ عَدِيّ : فَوَاَللّهِ إنّي لَقَاعِدٌ فِي أَهْلِي ، إذْ نَظَرْت إلَى ظَعِينَةٍ تُصَوّبُ إلَيّ تَؤُمّنَا ، قَالَ فَقُلْت ابْنَةُ حَاتِمٍ قَالَ فَإِذَا هِيَ هِيَ فَلَمّا وَقَفَتْ عَلَيّ انْسَحَلَتْ تَقُولُ الْقَاطِعُ الظّالِمُ احْتَمَلْت بِأَهْلِك وَوَلَدِك ، وَتَرَكْت بَقِيّةَ وَالِدِك عَوْرَتَك ، قَالَ قُلْت : أَيْ أُخَيّةُ لَا تَقُولِي إلّا خَيْرًا ، فَوَاَللّهِ مَا لِي مِنْ عُذْرٍ لَقَدْ صَنَعْت مَا ذَكَرْت . قَالَ ثُمّ نَزَلَتْ فَأَقَامَتْ عِنْدِي ، فَقُلْت لَهَا : وَكَانَتْ امْرَأَةً حَازِمَةً مَاذَا تَرَيْنَ فِي أَمْرِ هَذَا الرّجُلِ ؟ قَالَتْ أَرَى وَاَللّهِ أَنْ تَلْحَقَ بِهِ سَرِيعًا ، فَإِنْ يَكُنْ الرّجُلُ نَبِيّا فَلِلسّابِقِ إلَيْهِ فَضْلُهُ وَإِنْ يَكُنْ مَلِكًا فَلَنْ تُذَلّ فِي عِزّ الْيَمَنِ ، وَأَنْتَ أَنْتَ . قَالَ قُلْت : وَاَللّهِ إنّ هَذَا الرّأْيُ
إسْلَامُ عَدِيّ
قَالَ [ ص 362 ] فَخَرَجْت حَتّى أَقْدَمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ ، فَدَخَلْت عَلَيْهِ وَهُوَ فِي مَسْجِدِهِ فَسَلّمْت عَلَيْهِ فَقَالَ مَنْ الرّجُلُ ؟ فَقُلْت : عَدِيّ بْنُ حَاتِمٍ ؛ فَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَانْطَلَقَ بِي إلَى بَيْتِهِ فَوَاَللّهِ إنّهُ لَعَامِدٌ بِي إلَيْهِ إذْ لَقِيَتْهُ امْرَأَةٌ ضَعِيفَةٌ كَبِيرَةٌ فَاسْتَوْقَفَتْهُ فَوَقَفَ لَهَا طَوِيلًا تُكَلّمُهُ فِي حَاجَتِهَا ؛ قَالَ قُلْت فِي نَفْسِي : وَاَللّهِ مَا هَذَا بِمَلِكٍ قَالَ ثُمّ مَضَى بِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى إذَا دَخَلَ بِي بَيْتَهُ تَنَاوَلَ وِسَادَةً مِنْ أَدَمٍ مَحْشُوّةً لِيفًا ، فَقَذَفَهَا إلَيّ فَقَالَ اجْلِسْ عَلَى هَذِهِ قَالَ قُلْت : بَلْ أَنْتَ فَاجْلِسْ عَلَيْهَا ، فَقَالَ بَلْ أَنْتَ فَجَلَسْت عَلَيْهَا ، وَجَلَسَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْأَرْضِ قَالَ قُلْت فِي نَفْسِي : وَاَللّهِ مَا هَذَا بِأَمْرِ مَلِكٍ ثُمّ قَالَ إيهِ يَا عَدِيّ بْنَ حَاتِمٍ أَلَمْ تَكُ رَكُوسِيّا ؟ قَالَ قُلْت : بَلَى ، ( قَالَ ) : أَوَلَمْ تَكُنْ تَسِيرُ فِي قَوْمِك بِالْمِرْبَاعِ ؟ قَالَ قُلْت : بَلَى ، قَالَ فَإِنّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ يَحِلّ لَك فِي دِينِك ؛ قَالَ قُلْت : أَجَلْ وَاَللّهِ وَقَالَ وَعَرَفْت أَنّهُ نَبِيّ مُرْسَلٌ يَعْلَمُ مَا يُجْهَلُ ثُمّ قَالَ لَعَلّك يَا عَدِيّ إنّمَا يَمْنَعُك مِنْ دُخُولٍ فِي هَذَا الدّينِ مَا تَرَى مِنْ حَاجَتِهِمْ فَوَاَللّهِ لَيُوشِكَنّ الْمَالُ أَنْ يَفِيضَ فِيهِمْ حَتّى لَا يُوجَدَ مَنْ يَأْخُذُهُ وَلَعَلّك إنّمَا يَمْنَعُك مِنْ دُخُولٍ فِيهِ مَا تَرَى مِنْ كَثْرَةِ عَدُوّهِمْ وَقِلّةِ عَدَدِهِمْ فَوَاَللّهِ لَيُوشِكَنّ أَنْ تَسْمَعَ بِالْمَرْأَةِ تَخْرُجُ مِنْ الْقَادِسِيّةِ عَلَى بَعِيرِهَا ( حَتّى ) تَزُورَ هَذَا الْبَيْتَ لَا تَخَافُ وَلَعَلّك إنّمَا يَمْنَعُك مِنْ دُخُولٍ فِيهِ أَنّك تَرَى أَنّ الْمُلْكَ وَالسّلْطَانَ فِي غَيْرِهِمْ وَأَيْمُ اللّهِ لَيُوشِكَنّ أَنْ تَسْمَعَ بِالْقُصُورِ الْبِيضِ مِنْ أَرْضِ بَابِلَ قَدْ فُتِحَتْ عَلَيْهِمْ قَالَ فَأَسْلَمْت .
وُقُوعُ مَا وَعَدَ بِهِ الرّسُولُ عَدِيّا
وَكَانَ عَدِيّ يَقُولُ قَدْ مَضَتْ اثْنَتَانِ وَبَقِيَتْ الثّالِثَةُ وَاَللّهِ لَتَكُونَنّ قَدْ رَأَيْت الْقُصُورَ الْبِيضَ مِنْ أَرْضِ بَابِلَ قَدْ فُتِحَتْ وَقَدْ رَأَيْت الْمَرْأَةَ تَخْرُجُ مِنْ الْقَادِسِيّةِ عَلَى بَعِيرِهَا لَا تَخَافُ حَتّى تَحُجّ هَذَا الْبَيْتَ وَأَيْمُ اللّهِ لَتَكُونَنّ الثّالِثَةُ لَيَفِيضَنّ الْمَالُ حَتّى لَا يُوجَدَ مَنْ يَأْخُذُهُ
Sقُدُومُ عَدِيّ بْنِ حَاتِمٍ
[ ص 361 ] عَدِيّ بْنُ حَاتِمِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ حَشْرَجِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ عَدِيّ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ جَرْوَلَ بْنِ ثُعَلَ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْغَوْثِ بْنِ طَيّئٍ يُكَنّى أَبَا ظَرِيفٍ وَحَدِيثُ إسْلَامِهِ صَحِيحٌ عَجِيبٌ خَرّجَهُ التّرْمِذِيّ ، وَأُخْتُهُ الّتِي ذُكِرَ إسْلَامُهَا أَحْسَبُ اسْمَهَا سَفّانَةَ لِأَنّي وَجَدْت فِي خَبَرٍ عَنْ امْرَأَةِ حَاتِمٍ تَذْكُرُ فِيهِ مِنْ سَخَائِهِ قَالَتْ فَأَخَذَ حَاتِمٌ عَدِيّا يُعَلّلُهُ مِنْ الْجُوعِ وَأَخَذْت أَنَا سَفّانَةَ وَلَا يُعْرَفُ لِعَدِيّ وَلَدًا نُقْرَضُ عَقِبُهُ وَلِحَاتِمٍ عَقِبٌ مِنْ قَبْلِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ حَاتِمٍ ذَكَرَهُ الْقُتَبِيّ ، وَلَا يُعْرَفُ لَهُ بِنْتٌ إلّا سَفّانَةُ فَهِيَ إذًا هَذِهِ الْمَذْكُورَةُ فِي السّيرَةِ وَاَللّهُ [ ص 362 ] أَعْلَمُ وَأُمّ حَاتِمٍ عِنَبَةُ بِنْتُ عَفِيفِ [ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ الْقَيْسِ ] كَانَتْ مِنْ أَكْرَمِ النّاسِ وَهِيَ الّتِي تَقُولُ
لَعَمْرِي لَقَدْ مَا عَضّنِي الْجُوعُ عَضّةً ... فَآلَيْت أَلّا أَحْرِمَ الدّهْرَ جَائِعًا
وَالسّفّانَةُ الدّرّةُ وَبِهَا كَانَ يُكَنّى حَاتِمٌ . [ ص 363 ]

قُدُومُ فَرْوَةَ بْنِ مُسَيْكٍ الْمُرَادِيّ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدِمَ فَرْوَةُ بْنُ مُسَيْكٍ الْمُرَادِيّ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُفَارِقًا لِمُلُوكِ كِنْدَةَ ، وَمُبَاعِدًا لَهُمْ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . وَقَدْ كَانَ قُبَيْلَ الْإِسْلَامِ بَيْنَ مُرَادٍ وَهَمْدَانَ وَقْعَةٌ أَصَابَتْ فِيهَا هَمْدَانُ مِنْ مُرَادٍ مَا أَرَادُوا ، حَتّى أَثْخَنُوهُمْ فِي يَوْمٍ كَانَ يُقَالُ لَهُ يَوْمُ الرّدْمِ ، فَكَانَ الّذِي قَادَ هَمْدَانَ إلَى مُرَادٍ الْأَجْدَعُ بْنُ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ . [ ص 363 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الّذِي قَادَ هَمْدَانَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مَالِكُ بْنُ حَرِيمٍ الْهَمْدَانِيّ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَفِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يَقُولُ فَرْوَةُ بْنُ مُسَيْكٍ :
مَرَرْنَا عَلَى لُفَاةَ وَهُنّ خُوصٌ ... يُنَازِعْنَ الْأَعِنّةَ يَنْتَحِينَا
فَإِنْ نَغْلِبْ فَغَلّابُونَ قِدْمًا ... وَإِنْ نُغْلَبْ فَغَيْرُ مُغَلّبِينَا
وَمَا إنْ طِبّنَا جُبْنٌ وَلَكِنْ ... مَنَايَانَا وَطُعْمَةُ آخَرِينَا
كَذَاك الدّهْرُ دَوْلَتُهُ سِجَالٌ ... تَكُرّ صُرُوفُهُ حِينًا فَحِينَا
فَبَيْنَا مَا نُسَرّ بِهِ وَنَرْضَى ... وَلَوْ لُبِسَتْ غَضَارَتُهُ سِنِينَا
إذْ انْقَلَبَتْ بِهِ كَرّاتُ دَهْرٍ ... فَأَلْقَيْت الْأُلَى غُبِطُوا طَحِينَا
فَمَنْ يُغْبَطْ بِرَيْبِ الدّهْرِ مِنْهُمْ ... يَجِدْ رَيْبَ الزّمَانِ لَهُ خَئُونَا
فَلَوْ خَلَدَ الْمُلُوكُ إذَنْ خَلَدْنَا ... وَلَوْ بَقِيَ الْكِرَامُ إذَنْ بَقِينَا
فَأَفْنَى ذَلِكَ سَرَوَاتِ قَوْمِي ... كَمَا أَفْنَى الْقُرُونَ الْأَوّلِينَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَوّلُ بَيْتٍ مِنْهَا ، وَقَوْلُهُ " فَإِنْ نَغْلِبْ " عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ .
قُدُومُ فَرْوَةَ عَلَى الرّسُولِ وَإِسْلَامُهُ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَلَمّا تَوَجّهَ فَرْوَةُ بْنُ مُسَيْكٍ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُفَارِقًا لِمُلُوكِ كِنْدَةَ ، قَالَ
لَمّا رَأَيْت مُلُوكَ كِنْدَةَ أَعْرَضَتْ ... كَالرّجْلِ خَانَ الرّجْلَ عِرْقُ نَسَائِهَا
قَرّبْت رَاحِلَتِي أَؤُمّ مُحَمّدًا ... أَرْجُو فَوَاضِلَهَا وَحُسْنَ ثَرَائِهَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَنْشَدَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ أَرْجُو فَوَاضِلَهُ وَحُسْنَ ثَنَائِهَا
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا انْتَهَى إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيمَا بَلَغَنِي : يَا فَرْوَةُ هَلْ سَاءَك مَا أَصَابَ قَوْمَك يَوْمَ الرّدْمِ ؟ قَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ مَنْ ذَا يُصِيبُ قَوْمَهُ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمِي يَوْمَ الرّدْمِ لَا يَسُوءُهُ ذَلِكَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَهُ أَمَا إنّ ذَلِكَ لَمْ يَزِدْ قَوْمَك فِي الْإِسْلَامِ إلّا خَيْرًا . [ ص 364 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى مُرَادٍ وَزُبَيْدٍ وَمَذْحِجٍ كُلّهَا ، وَبَعَثَ مَعَهُ خَالِدَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ عَلَى الصّدَقَةِ فَكَانَ مَعَهُ فِي بِلَادِهِ حَتّى تُوُفّيَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . [ ص 364 ]

قُدُومُ عَمْرِو بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ فِي أُنَاسٍ مِنْ بَنِي زُبَيْدٍ
وَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِ يَكْرِبَ فِي أُنَاسٍ مِنْ بَنِي زُبَيْدٍ ، فَأَسْلَمَ وَكَانَ عَمْرٌو قَدْ قَالَ لِقَيْسِ بْنِ مَكْشُوحٍ الْمُرَادِيّ حِينَ انْتَهَى إلَيْهِمْ أَمْرُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَا قَيْسُ ، إنّك سَيّدُ قَوْمِك ، وَقَدْ ذُكِرَ لَنَا أَنّ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ يُقَالُ لَهُ مُحَمّدٌ قَدْ خَرَجَ بِالْحِجَازِ يَقُولُ إنّهُ نَبِيّ ، فَانْطَلِقْ بِنَا إلَيْهِ حَتّى نَعْلَمَ عِلْمَهُ فَإِنْ كَانَ نَبِيّا كَمَا يَقُولُ فَإِنّهُ لَنْ يَخْفَى عَلَيْك ، وَإِذَا لَقِينَاهُ اتّبَعْنَاهُ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ عَلِمْنَا عِلْمَهُ فَأَبَى عَلَيْهِ قَيْسٌ ذَلِكَ وَسَفّهَ رَأْيَهُ فَرَكِبَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِ يَكْرِبَ حَتّى قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَسْلَمَ وَصَدّقَهُ وَآمَنَ بِهِ . فَلَمّا بَلَغَ ذَلِكَ قَيْسَ بْنَ مَكْشُوحٍ أَوْعَدَ عَمْرًا ، وَتَحَطّمَ عَلَيْهِ وَقَالَ خَالَفَنِي وَتَرَكَ رَأْيِي ؛ فَقَالَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِ يَكْرِبَ فِي ذَلِكَ
أَمَرْتُك يَوْمَ ذِي صَنْعَا ... ءَ أَمْرًا بَادِيًا رَشَدُهْ
أَمَرْتُك بِاتّقَاءِ الل ... ه وَالْمَعْرُوفِ تَتّعِدُهْ
خَرَجْت مِنْ الْمُنَى مِثْلَ الْ ... حُمَيّرِ غَرّهُ وَتِدُهْ
تُمَنّانِي عَلَى فَرَسٍ ... عَلَيْهِ جَالِسًا أَسَدُهْ
عَلَيّ مُفَاضَةٌ كَالنّهْ ... يِ أَخْلَصَ مَاءَهُ جَدَدُهْ
تَرُدّ الرّمْحَ مُنْثَنِيَ الس ... نان عَوَائِرًا قِصَدُهْ
فَلَوْ لَاقَيْتنِي لَلَقِيَ ... تَ لَيْثًا فَوْقَهُ لِبَدُهْ
تُلَاقِي شَنْبَثًا شَثْنَ الْ ... بَرَاثِنِ نَاشِزًا كَتَدُهْ
يُسَامِي الْقِرْنَ إنْ قِرْنٌ ... تَيَمّمَهُ فَيَعْتَضِدُهْ
فَيَأْخُذُهُ فَيَرْفَعُهُ ... فَيَخْفِضُهُ فَيَقْتَصِدُهْ
فَيَدْمَغُهُ فَيَحْطِمُهُ ... فَيَخْضِمُهُ فَيَزْدَرِدُهْ
ظَلُومُ الشّرْكِ فِيمَا أَحْ ... رَزَتْ أَنْيَابُهُ وَيَدُهْ
[ ص 365 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَنْشَدَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ
أَمَرْتُك يَوْمَ ذِي صَنْعَا ... ءَ أَمْرًا بَاديًا رَشَدُهْ
أَمَرْتُك بِاتّقَاءِ الل ... ه تَأْتِيهِ وتَتّعِدُهْ
فَكُنْت كَذِي الحُمَيّرِ غَرّ ... رَه مِمّا بِهِ وَتِدُهْ
لَمْ يُعْرَفْ سَائِرُهَا .
ارْتِدَادُهُ وَشِعْرُهُ فِي ذَلِكَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَأَقَامَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِ يَكْرِبَ فِي قَوْمِهِ مِنْ بَنِي زُبَيْدَةَ وَعَلَيْهِمْ فَرْوَةُ بْنُ مُسَيْكٍ . فَلَمّا تُوُفّيَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ارْتَدّ عَمْرُو بْنُ مَعْدِ يَكْرِبَ ، وَقَالَ حِينَ ارْتَدّ
وَجَدْنَا مُلْكَ فَرْوَةَ شَرّ مُلْكٍ ... حِمَارًا سَافَ مَنْخَرُهُ بِثُفْرِ
وَكُنْت إذَا رَأَيْت أَبَا عُمَيْرٍ ... تَرَى الْحُوَلَاءَ مِنْ خَبَثٍ وَغَدْرِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَوْلُهُ " بِثُفْرِ " عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ . [ ص 365 ]

قُدُومُ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ فِي وَفْدِ كِنْدَةَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ فِي وَفْدِ كِنْدَةَ ، فَحَدّثَنِي الزّهْرِيّ بْنُ شِهَابٍ أَنّهُ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي ثَمَانِينَ رَاكِبًا مِنْ كِنْدَةَ ، فَدَخَلُوا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَسْجِدَهُ وَقَدْ رَجّلُوا جُمَمَهُمْ وَتَكَحّلُوا ، وَعَلَيْهِمْ جُبَبُ الْحِبَرَةِ وَقَدْ كَفّفُوهَا بِالْحَرِيرِ فَلَمّا دَخَلُوا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ أَلَمْ تُسْلِمُوا ؟ قَالُوا : بَلَى ، قَالَ فَمَا بَالُ هَذَا الْحَرِيرِ فِي أَعْنَاقِكُمْ ؟ قَالَ فَشَقّوهُ مِنْهَا ، فَأَلْقَوْهُ . ثُمّ قَالَ لَهُ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ : يَا رَسُولَ اللّهِ نَحْنُ بَنُو آكِلِ الْمُرَارِ ، وَأَنْتَ ابْنُ آكِلِ الْمُرَارِ قَالَ فَتَبَسّمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَالَ نَاسِبُوا بِهَذَا النّسَبِ الْعَبّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، وَرَبِيعَةَ بْنَ الْحَارِثِ ، وَكَانَ الْعَبّاسُ وَرَبِيعَةُ رَجُلَيْنِ تَاجِرَيْنِ وَكَانَا إذَا شَاعَا فِي بَعْضِ الْعَرَبِ ، فَسُئِلَا مِمّنْ هُمَا ؟ قَالَا : نَحْنُ بَنُو آكِلِ الْمُرَارِ ، يَتَعَزّزَانِ بِذَلِكَ وَذَلِكَ أَنّ كِنْدَةَ كَانُوا مُلُوكًا : ثُمّ قَالَ لَهُمْ لَا ، بَلْ نَحْنُ بَنُو النّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ ، لَا نَقْفُو أُمّنَا ، وَلَا نَنْتَفِي مِنْ أَبِينَا ، فَقَالَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ : هَلْ فَرَغْتُمْ يَا مَعْشَرَ كِنْدَةَ ؟ وَاَللّهِ لَا أَسْمَعُ رَجُلًا يَقُولُهَا إلّا ضَرَبْته ثَمَانِينَ . [ ص 366 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ مِنْ وَلَدِ آكِلِ الْمُرَارِ مِنْ قِبَلِ النّسَاءِ وَآكِلُ الْمُرَارِ الْحَارِثُ بْنُ عَمْرِو بْنِ حُجْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ ثَوْرِ بْنِ مُرَتّعِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ كِنْدِيّ وَيُقَالُ كِنْدَةُ ، وَإِنّمَا سُمّيَ آكِلَ الْمُرَارِ لِأَنّ عَمْرَو بْنَ الْهَبُولَةِ الْغَسّانِيّ أَغَارَ عَلَيْهِمْ وَكَانَ الْحَارِثُ غَائِبًا ، فَغَنِمَ وَسَبَى ، وَكَانَ فِيمَنْ سَبَى أُمّ أُنَاسِ بِنْتُ عَوْفِ بْنِ مُحَلّمِ الشّيْبَانِيّ امْرَأَةُ الْحَارِثِ بْنِ عَمْرٍو ، فَقَالَتْ لِعَمْرٍو فِي مَسِيرِهِ لَكَأَنّي بِرَجُلٍ أَدْلَمَ أَسْوَدَ كَأَنّ مَشَافِرَهُ مَشَافِرُ بَعِيرٍ آكِلِ مُرَارٍ قَدْ أَخَذَ بِرَقَبَتِك ، تَعْنِي : الْحَارِثَ فَسُمّيَ آكِلَ الْمُرَارِ وَالْمُرَارُ شَجَرٌ . ثُمّ تَبِعَهُ الْحَارِثُ فِي بَنِي بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ ، فَلَحِقَهُ فَقَتَلَهُ وَاسْتَنْقَذَ امْرَأَتَهُ وَمَا كَانَ أَصَابَ . فَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلّزَةَ الْيَشْكُرِيّ لِعَمْرِو بْنِ الْمُنْذِرِ وَهُوَ عَمْرُو بْنُ هِنْدٍ اللّخْمِيّ :
وَأَقَدْنَاك رَبّ غَسّانَ بِالْمُنْ ... ذِرْ كَرْهًا إذْ لَا تُكَالُ الدّمَاءُ
لِأَنّ الْحَارِثَ الْأَعْرَجَ الْغَسّانِيّ قَتَلَ الْمُنْذِرُ أَبَاهُ وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَهَذَا الْحَدِيثُ أَطْوَلُ مِمّا ذَكَرْت ، وَإِنّمَا مَنَعَنِي مِنْ اسْتِقْصَائِهِ مَا ذَكَرْت مِنْ الْقَطْعِ . وَيُقَالُ بَلْ آكِلُ الْمُرَارِ حُجْرُ بْنُ عَمْرِو بْنِ مُعَاوِيَةَ وَهُوَ صَاحِبُ هَذَا الْحَدِيثِ وَإِنّمَا سُمّيَ آكِلَ الْمُرَارِ لِأَنّهُ أَكَلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ شَجَرًا يُقَالُ لَهُ الْمُرَارُ . [ ص 366 ]

قُدُومُ صُرَدَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ الْأَزْدِيّ
إسْلَامُهُ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صُرَدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْأَزْدِيّ ، فَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إسْلَامُهُ فِي وَفْدٍ مِنْ الْأَزْدِ ، فَأَمّرَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ مِنْ قَوْمِهِ . وَأَمَرَهُ أَنْ يُجَاهِدَ بِمَنْ أَسْلَمَ مَنْ كَانَ يَلِيهِ مِنْ أَهْلِ الشّرْكِ مِنْ قِبَلِ الْيَمَنِ .
قِتَالُهُ أَهْلَ جُرَشَ
فَخَرَجَ صُرَدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ يَسِيرُ بِأَمْرِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى نَزَلَ بِجُرَشَ وَهِيَ يَوْمَئِذٍ مَدِينَةٌ مُعَلّقَةٌ وَبِهَا قَبَائِلُ مِنْ قَبَائِلِ الْيَمَنِ ، وَقَدْ ضَوَتْ إلَيْهِمْ خَثْعَمُ ، فَدَخَلُوهَا مَعَهُمْ حِينَ سَمِعُوا بِسَيْرِ الْمُسْلِمِينَ إلَيْهِمْ فَحَاصَرُوهُمْ فِيهَا قَرِيبًا مِنْ شَهْرٍ وَامْتَنَعُوا فِيهَا مِنْهُ ثُمّ إنّهُ رَجَعَ عَنْهُمْ قَافِلًا ، حَتّى إذَا كَانَ إلَى جَبَلٍ لَهُمْ يُقَالُ لَهُ شَكْرٌ ، ظَنّ أَهْلُ جُرَشَ أَنّهُ إنّمَا [ ص 367 ] عَطَفَ عَلَيْهِمْ فَقَتَلَهُمْ قَتْلًا شَدِيدًا .
إخْبَارُ الرّسُولِ وَافِدِي جُرَشَ بِمَا حَدَثَ لِقَوْمِهَا
وَقَدْ كَانَ أَهْلُ جُرَشَ بَعَثُوا رَجُلَيْنِ مِنْهُمْ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْمَدِينَةِ يَرْتَادَانِ وَيَنْظُرَانِ فَبَيْنَمَا هُمَا عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَشِيّةً بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إذْ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِأَيّ بِلَادِ اللّهِ شَكْرٌ ؟ فَقَامَ إلَيْهِ الْجُرَشِيّانِ فَقَالَا : يَا رَسُولَ اللّهِ بِبِلَادِنَا جَبَلٌ يُقَال لَهُ كَشْرٌ ؛ وَكَذَلِكَ يُسَمّيهِ أَهْلُ جُرَشَ ، فَقَالَ إنّهُ لَيْسَ بِكَشْرٍ وَلَكِنّهُ شَكْرٌ ؛ قَالَا : فَمَا شَأْنُهُ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ إنّ بُدْنَ اللّهِ لَتُنْحَرُ عِنْدَهُ الْآنَ قَالَ فَجَلَسَ الرّجُلَانِ إلَى أَبِي بَكْرٍ أَوْ إلَى عُثْمَانَ فَقَالَ لَهُمَا : وَيْحَكُمَا إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَيَنْعَى لَكُمَا قَوْمَكُمَا ، فَقُومَا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَاسْأَلَاهُ أَنْ يَدْعُوَ اللّهَ أَنْ يَرْفَعَ عَنْ قَوْمِكُمَا ؛ فَقَامَا إلَيْهِ فَسَأَلَاهُ ذَلِكَ فَقَالَ اللّهُمّ ارْفَعْ عَنْهُمْ فَخَرَجَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَاجِعِينَ إلَى قَوْمِهِمَا ، فَوَجَدَا قَوْمَهُمَا قَدْ أُصِيبُوا يَوْمَ أَصَابَهُمْ صُرَدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ فِي الْيَوْمِ الّذِي قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا قَالَ وَفِي السّاعَةِ الّتِي ذَكَرَ فِيهَا مَا ذَكَرَ
إسْلَامُ أَهْلِ جُرَشَ
وَخَرَجَ وَفْدُ جُرَشَ حَتّى قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَسْلَمُوا ، وَحَمَى لَهُمْ حِمًى حَوْلَ قَرْيَتِهِمْ عَلَى أَعْلَامٍ مَعْلُومَةٍ لِلْفَرَسِ وَالرّاحِلَةِ وَلِلْمُثِيرَةِ بَقَرَةِ الْحَرْثِ فَمَنْ رَعَاهُ مِنْ النّاسِ فَمَالُهُمْ سُحْتٌ . فَقَالَ فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ رَجُلٌ مِنْ الْأَزْدِ : وَكَانَتْ خَثْعَمُ تُصِيبُ مِنْ الْأَزْدِ فِي الْجَاهِلِيّةِ وَكَانُوا يَعْدُونَ فِي الشّهْرِ الْحَرَامِ
يَا غَزْوَةً مَا غَزَوْنَا غَيْرَ خَائِبَةٍ ... فِيهَا الْبِغَالُ وَفِيهَا الْخَيْلُ وَالْحُمُرُ
حَتّى أَتَيْنَا حُمَيْرًا فِي مَصَانِعِهَا ... وَجَمْعَ خَثْعَمَ قَدْ شَاعَتْ لَهَا النّذُرُ
إذَا وَضَعْت غَلِيلًا كُنْت أَحْمِلُهُ ... فَمَا أُبَالِي أَدَانُوا بَعْدُ أَمْ كَفَرُوا

قُدُومُ رَسُولِ مُلُوكِ حِمْيَرَ بِكِتَابِهِمْ :
[ ص 367 ] حِمْيَرَ ، مَقْدَمَهُ مِنْ تَبُوكَ ، وَرَسُولُهُمْ إلَيْهِ بِإِسْلَامِهِمْ الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ كُلَالٍ ، وَنُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ كُلَالٍ . وَالنّعْمَانُ قِيلَ ذِي رُعَيْنٍ وَمَعَافِرَ [ ص 368 ] وَهَمْدَانَ ؛ وَبَعَثَ إلَيْهِ زُرْعَةُ ذُو يَزَنٍ مَالِكَ بْنَ مُرّةَ الرّهَاوِيّ بِإِسْلَامِهِمْ وَمُفَارَقَتِهِمْ الشّرْكَ وَأَهْلَهُ .
كِتَابُ الرّسُولِ إلَيْهِمْ
فَكَتَبَ إلَيْهِمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ [ ص 369 ] بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ مِنْ مُحَمّدٍ رَسُولِ اللّهِ النّبِيّ ، إلَى الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ ، وَإِلَى نُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ ، وَإِلَى النّعْمَانِ قِيلَ ذِي رُعَيْنٍ وَمَعَافِرَ وَهَمْدَانَ . أَمّا بَعْدَ ذَلِكُمْ فَإِنّي أَحْمَدُ إلَيْكُمْ اللّهَ الّذِي لَا إلَهَ إلّا هُوَ أَمّا بَعْدُ فَإِنّهُ قَدْ وَقَعَ بِنَا رَسُولُكُمْ مُنْقَلَبَنَا مِنْ أَرْضِ الرّومِ ، فَلَقِيَنَا بِالْمَدِينَةِ فَبَلّغَ مَا أَرْسَلْتُمْ بِهِ وَخَبّرَنَا مَا قِبَلَكُمْ وَأَنْبَأَنَا بِإِسْلَامِكُمْ وَقَتْلِكُمْ الْمُشْرِكِينَ وَأَنّ اللّهَ قَدْ هَدَاكُمْ بِهُدَاهُ إنْ أَصْلَحْتُمْ وَأَطَعْتُمْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَأَقَمْتُمْ الصّلَاةَ وَآتَيْتُمْ الزّكَاةَ وَأَعْطَيْتُمْ مِنْ الْمَغَانِمِ خُمُسَ اللّهِ وَسَهْمَ الرّسُولِ وَصَفِيّهُ وَمَا كُتِبَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الصّدَقَةِ مِنْ الْعَقَارِ عُشْرَ مَا سَقَتْ الْعَيْنُ وَسَقَتْ السّمَاءُ وَعَلَى مَا سَقَى الْغَرْبُ نِصْفَ الْعُشْرِ وَأَنّ فِي الْإِبِلِ الْأَرْبَعِينَ ابْنَةَ لَبُونٍ وَفِي ثَلَاثِينَ مِنْ الْإِبِلِ ابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٍ وَفِي كُلّ خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ شَاةٌ وَفِي كُلّ عَشْرٍ مِنْ الْإِبِلِ شَاتَانِ وَفِي كُلّ أَرْبَعِينَ مِنْ الْبَقَرِ بَقَرَةٌ وَفِي كُلّ ثَلَاثِينَ مِنْ الْبَقَرِ تَبِيعٌ جَذَعٌ أَوْ جَذَعَةٌ وَفِي كُلّ أَرْبَعِينَ مِنْ الْغَنَمِ سَائِمَةً وَحْدَهَا ، شَاةٌ وَأَنّهَا فَرِيضَةُ اللّهِ الّتِي فُرِضَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي الصّدَقَةِ فَمَنْ زَادَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَمَنْ أَدّى ذَلِكَ وَأَشْهَدَ عَلَى إسْلَامِهِ وَظَاهَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَإِنّهُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَهُ مَا لَهُمْ وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْهِمْ وَلَهُ ذِمّةُ اللّهِ وَذِمّةُ رَسُولِهِ وَإِنّهُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ يَهُودِيّ أَوْ نَصْرَانِيّ فَإِنّهُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَهُ مَا لَهُمْ وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْهِمْ وَمَنْ كَانَ عَلَى يَهُودِيّتِهِ أَوْ نَصْرَانِيّتِهِ فَإِنّهُ لَا يُرَدّ عَنْهَا ، وَعَلَيْهِ الْجِزْيَةُ عَلَى كُلّ حَالٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى ، حُرّ أَوْ عَبْدٍ دِينَارٌ وَافٍ مِنْ قِيمَةِ الْمَعَافِرِ أَوْ عِوَضُهُ ثِيَابًا ، فَمَنْ أَدّى ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَإِنّ لَهُ ذِمّةَ اللّهِ وَذِمّةَ رَسُولِهِ وَمَنْ مَنَعَهُ فَإِنّهُ عَدُوّ لِلّهِ وَلِرَسُولِهِ . أَمّا بَعْدُ فَإِنّ رَسُولَ اللّهِ مُحَمّدًا النّبِيّ أَرْسَلَ إلَى زُرْعَةَ ذِي يَزَنٍ أَنْ إذَا أَتَاكُمْ رُسُلِي فَأُوصِيكُمْ بِهِمْ خَيْرًا : مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ ، وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ زَيْدٍ ، وَمَالِكُ بْنُ عُبَادَةَ ، وَعُقْبَةُ بْنُ نَمِرٍ وَمَالِكُ بْنُ مُرّةَ وَأَصْحَابُهُمْ وَأَنْ اجْمَعُوا مَا عِنْدَكُمْ مِنْ الصّدَقَةِ وَالْجِزْيَةِ مِنْ مُخَالِفِيكُمْ وَأَبْلِغُوهَا رُسُلِي ، وَأَنّ أَمِيرَهُمْ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ ، فَلَا يَنْقَلِبَنّ إلّا رَاضِيًا . أَمّا بَعْدُ . فَإِنّ مُحَمّدًا يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَأَنّهُ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ثُمّ إنّ مَالِكَ بْنَ مُرّةَ الرّهَاوِيّ قَدْ حَدّثَنِي أَنّك أَسْلَمْت مِنْ أَوّلِ حِمْيَرَ ، وَقَتَلْت الْمُشْرِكِينَ فَأَبْشِرْ بِخَيْرٍ وَآمُرُك بِحِمْيَرَ خَيْرًا ، وَلَا تَخُونُوا وَلَا تَخَاذَلُوا ، فَإِنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هُوَ وَلِيّ غَنِيّكُمْ وَفَقِيرِكُمْ وَأَنّ الصّدَقَةَ لَا تَحِلّ لِمُحَمّدٍ وَلَا لِأَهْلِ بَيْتِهِ إنّمَا هِيَ زَكَاةٌ يُزَكّى بِهَا عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَابْنِ السّبِيلِ وَإِنّ مَالِكًا قَدْ بَلّغَ الْخَبَرَ ، وَحَفِظَ الْغَيْبَ وَآمُرُكُمْ بِهِ خَيْرًا ، وَإِنّي قَدْ أَرْسَلْت إلَيْكُمْ مِنْ صَالِحِي أَهْلِي وَأُولِي دِينِهِمْ وَأُولِي عِلْمِهِمْ وَآمُرُك بِهِمْ خَيْرًا ، فَإِنّهُمْ مَنْظُورٌ إلَيْهِمْ وَالسّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ . [ ص 368 ]

وَصِيّةُ الرّسُولِ مُعَاذًا حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ
بَعْثُ الرّسُولِ مُعَاذًا عَلَى الْيَمَنِ وَشَيْءٌ مِنْ أَمْرِهِ بِهَا
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ أَنّهُ حَدّثَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ بَعَثَ مُعَاذًا ، أَوْصَاهُ وَعَهِدَ إلَيْهِ ثُمّ قَالَ لَهُ يَسّرْ وَلَا تُعَسّرْ وَبَشّرْ وَلَا تُنَفّرْ وَإِنّك سَتَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يَسْأَلُونَك مَا مِفْتَاحُ الْجَنّةِ فَقُلْ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ قَالَ فَخَرَجَ مُعَاذٌ حَتّى إذَا قَدِمَ الْيَمَنَ قَامَ بِمَا أَمَرَهُ بِهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ ، فَقَالَتْ يَا صَاحِبَ رَسُولِ اللّهِ مَا حَقّ زَوْجِ الْمَرْأَةِ عَلَيْهَا ؟ قَالَ وَيْحَك إنّ الْمَرْأَةَ لَا تَقْدِرُ عَلَى أَنْ تُؤَدّيَ حَقّ زَوْجِهَا ، فَأَجْهِدِي نَفْسَك فِي أَدَاءِ حَقّهِ مَا اسْتَطَعْت ، قَالَتْ وَاَللّهِ لَئِنْ كُنْت صَاحِبَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّك لَتَعْلَمُ مَا حَقّ الزّوْجِ عَلَى الْمَرْأَةِ . قَالَ وَيْحَك لَوْ رَجَعْت إلَيْهِ فَوَجَدْته تَنْثَعِبُ مَنْخَرَاهُ قَيْحًا وَدَمًا ، فَمَصَصْت ذَلِكَ حَتّى تُذْهِبِيهِ مَا أَدّيْت حَقّهُ .

إسْلَامُ فَرْوَةَ بْنِ عَمْرٍو الْجُذَامِيّ
إسْلَامُهُ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَبَعَثَ فَرْوَةُ بْنُ عَمْرٍو النّافِرَةَ الْجُذَامِيّ ثُمّ النّفَاثِيّ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَسُولًا بِإِسْلَامِهِ وَأَهْدَى لَهُ بَغْلَةً بَيْضَاءَ وَكَانَ فَرْوَةُ عَامِلًا لِلرّومِ عَلَى مَنْ يَلِيهِمْ مِنْ الْعَرَبِ ، وَكَانَ مَنْزِلُهُ مَعَانَ وَمَا حَوْلَهَا مِنْ أَرْضِ الشّامِ .
حَبْسُ الرّومِ لَهُ وَشِعْرُهُ فِي مَحْبِسِهِ
فَلَمّا بَلَغَ الرّومَ ذَلِكَ مِنْ إسْلَامِهِ طَلَبُوهُ حَتّى أَخَذُوهُ فَحَبَسُوهُ عِنْدَهُمْ فَقَالَ فِي مَحْبِسِهِ ذَلِكَ [ ص 370 ]
طَرَقَتْ سُلَيْمَى مَوْهِنًا أَصْحَابِي ... وَالرّومُ بَيْنَ الْبَابِ وَالْقِرْوَانِ
صَدّ الْخَيَالُ وَسَاءَهُ مَا قَدْ رَأَى ... وَهَمَمْت أَنْ أُغْفِي وَقَدْ أَبْكَانِي
لَا تَكْحَلَنّ الْعَيْنَ بَعْدِي إثْمِدًا ... سَلْمَى وَلَا تَدِيِنّ لِلْإِتْيَانِ
وَلَقَدْ عَلِمْت أَبَا كُبَيْشَةَ أَنّنِي ... وَسْطَ الْأَعِزّةِ لَا يُحَصّ لِسَانِي
فَلَئِنْ هَلَكْت لَتَفْقِدُنّ أَخَاكُمْ ... وَلَئِنْ بَقِيت لَتَعْرِفُنّ مَكَانِي
وَلَقَدْ جَمَعْت أَجَلّ مَا جَمَعَ الْفَتَى ... مِنْ جَوْدَةٍ وَشَجَاعَةٍ وَبَيَانِ
فَلَمّا أَجَمَعَتْ الرّومُ لِصَلْبِهِ عَلَى مَاءٍ لَهُمْ يُقَالُ لَهُ عَفْرَاءُ بِفِلَسْطِينَ قَالَ
أَلَا هَلْ أَتَى سَلْمَى بِأَنّ حَلِيلَهَا ... عَلَى مَاءِ عَفْرَا فَوْقَ إحْدَى الرّوَاحِلِ
عَلَى نَاقَةٍ لَمْ يَضْرِبْ الْفَحْلُ أُمّهَا ... مُشَذّبَةٍ أَطْرَافُهَا بِالْمَنَاجِلِ
مَقْتَلُهُ فَزَعَمَ الزّهْرِيّ بْنُ شِهَابٍ ، أَنّهُمْ لَمّا قَدّمُوهُ لِيَقْتُلُوهُ . قَالَ
بَلّغْ سَرَاةَ الْمُسْلِمِينَ بِأَنّنِي ... سِلْمٌ لِرَبّي أَعْظُمِي وَمَقَامِي
ثُمّ ضَرَبُوا عُنُقَهُ وَصَلَبُوهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَاءِ يَرْحَمُهُ اللّهُ تَعَالَى .
Sحَدِيثُ فَرْوَةَ " مَعْنَى قَرْوٍ "
[ ص 369 ] وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ حَدِيثَ فَرْوَةَ وَقَوْلَهُ
طَرَقَتْ سُلَيْمَى مَوْهِنًا أَصْحَابِي ... وَالرّومُ بَيْنَ الْبَابِ وَالْقِرْوَانِ
[ ص 370 ] يَكُونَ جَمْعَ قَرْوٍ وَهُوَ حَوْضُ الْمَاءِ مِثْلُ صِنْوَانٍ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ : قَرِيّ مِثْلُ صَلِيبٍ وَصُلْبَانٍ . وَأَصَحّ مَا قِيلَ فِي الْقَرْوِ إنّهُ حُوَيْضٌ مِنْ خَشَبٍ تُسْقَى فِيهِ الدّوَابّ ، وَتَلِغُ فِيهِ الْكِلَابُ وَفِي الْمَثَلِ مَا فِيهَا لَاعِي قَرْوٍ أَيْ مَا فِي الدّارِ حَيَوَانٌ وَأَرَادَ بِلَاعِي قَرْوٍ لَاعِقَ قَرْوٍ وَقَلَبَ الْقَافَ الْأُولَى يَاءً لِلتّضْعِيفِ .
إبْدَالُ آخِرِ حَرْفٍ فِي اسْمِ الْفَاعِلِ
وَحَسّنَ ذَلِكَ أَنّهُ اسْمُ فَاعِلٍ وَقَدْ يُبْدِلُونَ مِنْ آخِرِ حَرْفٍ فِي اسْمِ الْفَاعِلِ يَاءً وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمّ تَضْعِيفٌ كَقَوْلِهِمْ فِي الْخَامِسِ خَامِيهِمْ وَفِي سَادِسِهِمْ سَادِيهِمْ وَكَذَلِكَ إلَى الْعَاشِرِ وَنَحْوٌ مِنْهُ مَا أَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ . وَلِضَفَادِي جَمّهِ نَقَانِقُ
أَيْ لِضَفَادِعِ جَمّهِ وَأَنْشَدَ مِنْ الثّعَالِي وَوَخْزٌ مِنْ أَرَانِبِهَا
أَرَادَ الثّعَالِبَ وَأَرَانِبِهَا ، وَإِذَا كَانَ هَذَا مَعْرُوفًا فَلَاعِي قَرْوٍ أَحَقّ أَنْ يُقْلَبَ آخِرُهُ يَاءً كَرَاهَةَ اجْتِمَاعِ قَافَيْنِ .

إسْلَامُ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ عَلَى يَدَيْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ لَمّا سَارَ إلَيْهِمْ
دَعْوَةُ خَالِدٍ النّاسَ إلَى الْإِسْلَامِ وَإِسْلَامُهُمْ
[ ص 371 ] [ ص 372 ] ثُمّ بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ أَوْ جُمَادَى الْأُولَى ، سَنَةَ عَشْرٍ إلَى بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ بِنَجْرَانَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ يُقَاتِلَهُمْ ثَلَاثًا ، فَإِنْ اسْتَجَابُوا فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَقَاتِلْهُمْ . فَخَرَجَ خَالِدٌ حَتّى قَدِمَ عَلَيْهِمْ فَبَعَثَ الرّكْبَانَ يَضْرِبُونَ فِي كُلّ وَجْهٍ وَيَدْعُونَ إلَى الْإِسْلَامِ وَيَقُولُونَ أَيّهَا النّاسُ أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا . فَأَسْلَمَ النّاسُ وَدَخَلُوا فِيمَا دُعُوا إلَيْهِ فَأَقَامَ فِيهِمْ خَالِدٌ يُعَلّمُهُمْ الْإِسْلَامَ وَكِتَابَ اللّهِ وَسُنّةَ نَبِيّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَبِذَلِكَ كَانَ أَمَرَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنْ هُمْ أَسْلَمُوا وَلَمْ يُقَاتِلُوا . ثُمّ كَتَبَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ ، السّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللّهِ وَرَحْمَةُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ فَإِنّي أَحْمَدُ إلَيْك اللّهَ الّذِي لَا إلَهَ إلّا هُوَ أَمّا بَعْدُ يَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْك ، فَإِنّك بَعَثْتنِي إلَى بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ وَأَمَرْتنِي إذَا أَتَيْتهمْ أَلّا أُقَاتِلَهُمْ ثَلَاثَةَ أَيّامٍ وَأَنْ أَدْعُوَهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ فَإِنْ أَسْلَمُوا أَقَمْت فِيهِمْ وَقَبِلْت مِنْهُمْ وَعَلّمْتهمْ مَعَالِمَ الْإِسْلَامِ وَكِتَابَ اللّهِ وَسُنّةَ نَبِيّهِ وَإِنْ لَمْ يُسْلِمُوا قَاتَلْتهمْ . وَإِنّي قَدِمْت عَلَيْهِمْ فَدَعَوْتهمْ إلَى الْإِسْلَامِ ثَلَاثَةَ أَيّامٍ كَمَا أَمَرَنِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَبَعَثْت فِيهِمْ رُكْبَانًا ، قَالُوا : يَا بَنِي الْحَارِثِ أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا ، فَأَسْلَمُوا وَلَمْ يُقَاتِلُوا ، وَأَنَا مُقِيمٌ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ آمُرُهُمْ بِمَا أَمَرَهُمْ اللّهُ بِهِ وَأَنْهَاهُمْ عَمّا نَهَاهُمْ اللّهُ عَنْهُ وَأُعَلّمُهُمْ مَعَالِمَ الْإِسْلَامِ وَسُنّةَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى يَكْتُبَ إلَيّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . وَالسّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللّهِ وَرَحْمَةُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ
كِتَابُ الرّسُولِ إلَى خَالِدٍ يَأْمُرُهُ بِالْمَجِيءِ
فَكَتَبَ إلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ مِنْ مُحَمّدٍ النّبِيّ رَسُولِ اللّهِ إلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ . سَلَامٌ عَلَيْك ، فَإِنّي أَحْمَدُ إلَيْك اللّهَ الّذِي لَا إلَهَ إلّا هُوَ . أَمّا بَعْدُ فَإِنّ كِتَابَك جَاءَنِي مَعَ رَسُولِك تُخْبِرُ أَنّ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ قَدْ أَسْلَمُوا قَبْلَ أَنْ تُقَاتِلَهُمْ وَأَجَابُوا إلَى مَا دَعَوْتهمْ إلَيْهِ مِنْ الْإِسْلَامِ وَشَهِدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَأَنّ مُحَمّدًا عَبْدُ اللّهِ وَرَسُولُهُ وَأَنْ قَدْ هَدَاهُمْ اللّهُ بِهُدَاهُ فَبَشّرْهُمْ وَأَنْذِرْهُمْ وَأَقْبِلْ وَلْيُقْبِلْ مَعَك وَفْدُهُمْ وَالسّلَامُ عَلَيْك وَرَحْمَةُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ
قُدُومُ خَالِدٍ مَعَ وَفْدِهِمْ عَلَى الرّسُولِ
فَأَقْبَلَ خَالِدٌ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَقْبَلَ مَعَهُ وَفْدُ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ مِنْهُمْ قَيْسُ بْنُ الْحُصَيْنِ ذِي الْغُصّةِ ، وَيَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَدَانِ ، وَيَزِيدُ بْنُ الْمُحَجّلِ ، وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ قُرْدٍ الزّيَادِيّ ؛ وَشَدّادُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْقَنَانِيّ ، وَعَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللّهِ الضّبَابِيّ . [ ص 373 ]
حَدِيثُ وَفْدِهِمْ مَعَ الرّسُولِ
فَلَمّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَرَآهُمْ قَالَ مَنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ الّذِينَ كَأَنّهُمْ رِجَالُ الْهِنْدِ ؟ قِيلَ يَا رَسُولَ اللّهِ هَؤُلَاءِ رِجَالُ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ فَلَمّا وَقَفُوا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَلّمُوا عَلَيْهِ وَقَالُوا : نَشْهَدُ أَنّك رَسُولُ اللّهِ وَأَنّهُ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَأَنّي رَسُولُ اللّهِ ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْتُمْ الّذِينَ إذَا زُجِرُوا اُسْتُقْدِمُوا ؟ فَسَكَتُوا ، فَلَمْ يُرَاجِعْهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ ، ثُمّ أَعَادَهَا الثّانِيَةَ فَلَمْ يُرَاجِعْهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ ، ثُمّ أَعَادَهَا الثّالِثَةَ فَلَمْ يُرَاجِعْهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ ، ثُمّ أَعَادَهَا الرّابِعَةَ فَقَالَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَدَانِ : نَعَمْ يَا رَسُولَ اللّهِ نَحْنُ الّذِينَ إذَا زُجِرُوا اُسْتُقْدِمُوا ، قَالَهَا أَرْبَعَ مِرَارٍ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَوْ أَنّ خَالِدًا لَمْ يَكْتُبْ إلَيّ أَنّكُمْ أَسْلَمْتُمْ وَلَمْ تُقَاتِلُوا ، لَأَلْقَيْت رُءُوسَكُمْ تَحْتَ أَقْدَامِكُمْ فَقَالَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَدَانِ : أَمَا وَاَللّهِ مَا حَمِدْنَاك وَلَا حَمِدْنَا خَالِدًا ، قَالَ فَمَنْ حَمِدْتُمْ ؟ قَالُوا : حَمِدْنَا اللّهَ عَزّ وَجَلّ الّذِي هَدَانَا بِك يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ صَدَقْتُمْ . ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَ كُنْتُمْ تَغْلِبُونَ مَنْ قَاتَلَكُمْ فِي الْجَاهِلِيّةِ ؟ قَالُوا : لَمْ نَكُنْ نَغْلِبُ أَحَدًا ؛ قَالَ بَلَى ، قَدْ كُنْتُمْ تَغْلِبُونَ مَنْ قَاتَلَكُمْ قَالُوا : كُنّا نَغْلِبُ مَنْ قَاتَلَنَا يَا رَسُولَ اللّهِ إنّا كُنّا نَجْتَمِعُ وَلَا نَفْتَرِقُ وَلَا نَبْدَأُ أَحَدًا بِظُلْمٍ قَالَ صَدَقْتُمْ وَأَمّرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ قَيْسَ بْنَ الْحُصَيْنِ . فَرَجَعَ وَفْدُ بَنِي الْحَارِثِ إلَى قَوْمِهِمْ فِي بَقِيّةٍ مِنْ شَوّالٍ أَوْ فِي صَدْرِ ذِي الْقَعْدَةِ فَلَمْ يَمْكُثُوا بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا إلَى قَوْمِهِمْ إلّا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ حَتّى تُوُفّيَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَرَحِمَ وَبَارَكَ وَرَضِيَ وَأَنْعَمَ .
بَعْثُ الرّسُولِ عَمْرَو بْنَ حَزْمٍ بِعَهْدِهِ إلَيْهِمْ
وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعَثَ إلَيْهِمْ بَعْدَ أَنْ وَلّى وَفْدُهُمْ عَمْرَو بْنَ حَزْمٍ ، لِيُفَقّهَهُمْ فِي الدّينِ وَيُعَلّمَهُمْ السّنّةَ وَمَعَالِمَ الْإِسْلَامِ وَيَأْخُذَ مِنْهُمْ صَدَقَاتِهِمْ وَكَتَبَ لَهُ كِتَابًا عَهِدَ إلَيْهِ فِيهِ عَهْدَهُ وَأَمَرَهُ فِيهِ بِأَمْرِهِ .َ [ ص 374 ] بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ هَذَا بَيَانٌ مِنْ اللّهِ وَرَسُولِهِ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ عَهْدٌ مِنْ مُحَمّدٍ النّبِيّ رَسُولِ اللّهِ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ ، أَمَرَهُ بِتَقْوَى اللّهِ فِي أَمْرِهِ كُلّهِ فَإِنّ اللّهَ مَعَ الّذِينَ اتّقَوْا وَاَلّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالْحَقّ كَمَا أَمَرَهُ اللّهُ وَأَنْ يُبَشّرَ النّاسَ بِالْخَيْرِ وَيَأْمُرَهُمْ بِهِ وَيُعَلّمَ النّاسَ الْقُرْآنَ وَيُفَقّهَهُمْ فِيهِ وَيَنْهَى النّاسَ فَلَا يَمَسّ الْقُرْآنَ إنْسَانٌ إلّا وَهُو طَاهِرٌ وَيُخْبِرَ النّاسَ بِاَلّذِي لَهُمْ وَاَلّذِي عَلَيْهِمْ وَيَلِينَ لِلنّاسِ فِي الْحَقّ وَيَشُدّ عَلَيْهِمْ فِي الظّلْمِ فَإِنّ اللّهَ كَرِهَ الظّلْمَ وَنَهَى عَنْهُ فَقَالَ { أَلَا لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظّالِمِينَ } [ هُودُ : 18 ] ، وَيُبَشّرَ النّاسَ بِالْجَنّةِ وَبِعَمَلِهَا ، وَيُنْذِرَ النّاسَ النّارَ وَعَمَلَهَا ، وَيَسْتَأْلِفَ النّاسَ حَتّى يَفْقَهُوا فِي الدّينِ وَيُعَلّمَ النّاسَ مَعَالِمَ الْحَجّ وَسُنّتَهُ وَفَرِيضَتَهُ وَمَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ وَالْحَجّ الْأَكْبَرُ الْحَجّ الْأَكْبَرُ وَالْحَجّ الْأَصْغَرُ هُوَ الْعُمْرَةُ وَيَنْهَى النّاسَ أَنْ يُصَلّيَ أَحَدٌ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ صَغِيرٍ إلّا أَنْ يَكُونَ ثَوْبًا يُثْنِي طَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقَيْهِ وَيَنْهَى النّاسَ أَنْ يَحْتَبِيَ أَحَدٌ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ يُفْضِي بِفَرْجِهِ إلَى السّمَاءِ وَيَنْهَى أَنْ يُعَقّصَ أَحَدٌ شَعْرَ رَأْسِهِ فِي قَفَاهُ وَيَنْهَى إذَا كَانَ بَيْنَ النّاسِ هَيْجٌ عَنْ الدّعَاءِ إلَى الْقَبَائِلِ وَالْعَشَائِرِ وَلْيَكُنْ دَعْوَاهُمْ إلَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فَمَنْ لَمْ يَدْعُ إلَى اللّهِ وَدَعَا إلَى الْقَبَائِلِ وَالْعَشَائِرِ فَلْيُقْطَفُوا بِالسّيْفِ حَتّى تَكُونَ دَعْوَاهُمْ إلَى اللّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَيَأْمُرَ النّاسَ بِإِسْبَاغِ الْوُضُوءِ وُجُوهَهُمْ وَأَيْدِيَهُمْ إلَى الْمَرَافِقِ وَأَرْجُلَهُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ وَيَمْسَحُونَ بِرُءُوسِهِمْ كَمَا أَمَرَهُمْ اللّهُ وَأَمَرَ بِالصّلَاةِ لِوَقْتِهَا ، وَإِتْمَامِ الرّكُوعِ وَالسّجُودِ وَالْخُشُوعِ وَيُغَلّسُ بِالصّبْحِ وَيُهَجّرُ بِالْهَاجِرَةِ حِينَ تَمِيلُ الشّمْسُ وَصَلَاةُ الْعَصْرِ وَالشّمْسُ فِي الْأَرْضِ مُدْبِرَةٌ وَالْمَغْرِبِ حِينَ يُقْبِلُ اللّيْلُ لَا يُؤَخّرُ حَتّى تَبْدُوَ النّجُومُ فِي السّمَاءِ وَالْعِشَاءِ أَوّلَ اللّيْلِ وَأَمَرَ بِالسّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ إذَا نُودِيَ لَهَا ، وَالْغُسْلِ عِنْدَ الرّوَاحِ إلَيْهَا ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْمَغَانِمِ خُمُسَ اللّهِ وَمَا كُتِبَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي الصّدَقَةِ مِنْ الْعَقَارِ عُشْرَ مَا سَقَتْ الْعَيْنُ وَسَقَتْ السّمَاءُ وَعَلَى مَا سَقَى الْغَرْبُ نِصْفُ الْعُشْرِ وَفِي كُلّ عَشْرٍ مِنْ الْإِبِلِ شَاتَانِ وَفِي كُلّ عِشْرِينَ أَرْبَعُ شِيَاهٍ وَفِي كُلّ أَرْبَعِينَ مِنْ الْبَقَرِ بَقَرَةٌ وَفِي كُلّ ثَلَاثِينَ مِنْ الْبَقَرِ تَبِيعٌ جَذَعٌ أَوْ جَذَعَةٌ وَفِي كُلّ أَرْبَعِينَ مِنْ الْغَنَمِ سَائِمَةً وَحْدَهَا شَاةٌ فَإِنّهَا فَرِيضَةُ اللّهِ الّتِي افْتَرَضَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي الصّدَقَةِ فَمَنْ زَادَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنّهُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ يَهُودِيّ أَوْ نَصْرَانِيّ إسْلَامًا خَالِصًا مِنْ نَفْسِهِ وَدَانَ بِدِينِ الْإِسْلَامِ فَإِنّهُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَهُ مِثْلُ مَا لَهُمْ وَعَلَيْهِ مِثْلُ مَا عَلَيْهِمْ وَمَنْ كَانَ عَلَى نَصْرَانِيّتِهِ أَوْ يَهُودِيّتِهِ فَإِنّهُ لَا يُرَدّ عَنْهَا ، وَعَلَى كُلّ حَالِمٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى ، حُرّ أَوْ عَبْدٍ دِينَارٌ وَافٍ أَوْ عِوَضُهُ ثِيَابًا . فَمَنْ أَدّى ذَلِكَ فَإِنّ لَهُ ذِمّةَ اللّهِ وَذِمّةَ رَسُولِهِ وَمَنْ مَنَعَ ذَلِكَ فَإِنّهُ عَدُوّ لِلّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ جَمِيعًا ، صَلَوَاتُ اللّهِ عَلَى مُحَمّدٍ وَالسّلَامُ عَلَيْهِ وَرَحْمَةُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ
S[ ص 371 ] وَذَكَرَ قُدُومَ وَفْدِ كِنْدَةَ ، وَفِيهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ لَا نَقْفُو أُمّنَا ، وَلَا نَنْتَفِي مِنْ أَبِينَا وَفِي هَذَا مَا يَدُلّ عَلَى أَنّ الْأَشْعَثَ قَدْ أَصَابَ فِي بَعْضِ قَوْلِهِ نَحْنُ وَأَنْتَ بَنُو آكِلِ الْمُرَارِ ، وَذَلِكَ أَنّ فِي جَدّاتِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ هِيَ مِنْ ذَلِكَ الْقَبِيلِ مِنْهُنّ دَعْدُ بِنْتُ سُرَيْرِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ الْحَارِثِ الْكِنْدِيّ الْمَذْكُورِ وَهِيَ أُمّ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ ، وَقِيلَ بَلْ هِيَ جَدّةُ كِلَابٍ أُمّ أُمّهِ هِنْدٍ ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ هِنْدًا هَذِهِ وَأَنّهَا وَلَدَتْ كِلَابًا .
قُدُومُ وَفْدِ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ
ذَكَرَ فِيهِمْ يَزِيدَ بْنَ عَبْدِ الْمَدَانِ ، وَاسْمُ عَبْدِ الْمَدَانِ عَمْرُو بْنُ الدّيّانِ وَالدّيّانُ اسْمُهُ يَزِيدُ بْنُ قَطَنِ بْنِ زِيَادِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مَالِكِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ الْحَارِثِيّ . [ ص 372 ] وَذَكَرَ فِيهِمْ أَيْضًا ذَا الْغُصّةِ وَاسْمُهُ الْحُصَيْنُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ شَدّادٍ الْحَارِثِيّ ، وَقِيلَ لَهُ ذُو الْغُصّةِ لِغُصّةٍ كَانَتْ فِي حَلْقِهِ لَا يَكَادُ يُبِينُ مِنْهَا ، وَذَكَرَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ يَوْمًا ، فَقَالَ لَا تُزَادُ امْرَأَةٌ فِي صَدَاقِهَا عَلَى كَذَا وَكَذَا ، وَلَوْ كَانَتْ بِنْتَ ذِي الْغُصّةِ وَذَكَرَ فِيهِمْ عَمْرَو بْنَ عَبْدِ اللّهِ الضّبَابِيّ وَهُوَ ضِبَابٌ بِكَسْرِ الضّادِ فِي بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَذْلِجَ وَضِبَابٌ أَيْضًا فِي قُرَيْشٍ وَهُوَ ابْنُ حُجَيْرِ بْنِ عَبْدِ بْنِ مَعِيصِ بْنِ عَامِرٍ أَخُو حَجَرِ بْنِ عَبْدٍ وَفِي حَجَرٍ وَحُجَيْرٍ يَقُولُ الشّاعِرُ
أُنْبِئْت أَنّ غُوَاةً مِنْ بَنِي حَجَرٍ ... وَمِنْ حُجَيْرٍ بِلَا ذَنْبٍ أَرَاغُونِي
أَغْنُوا بَنِي حَجَرٍ عَنّا غُوَاتَكُمْ ... وَيَا حُجَيْرُ إلَيْكُمْ لَا تَبُورُونِي
وَالضّبَابُ فِي بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ وَهُمْ ضِبَابٌ وَمُضِبّ وَحِسْلٌ وَحُسَيْلٌ بَنُو مُعَاوِيَةَ بْنِ كِلَابٍ وَأَمّا الضّبَابُ بِالْفَتْحِ فَفِي نَسَبِ النّابِغَةِ الذّبْيَانِيّ ضَبَابُ بْنُ يَرْبُوعِ بْنِ غَيْظٍ وَأَمّا الضّبَابُ بِالضّمّ فَزَيْدٌ وَمَنْجَا ابْنَا ضُبَابٍ مِنْ بَنِي بَكْرٍ ذَكَرَهُ الدّارَقُطْنِيّ . [ ص 373 ] [ ص 374 ]

قُدُومُ رِفَاعَةَ بْنِ زَيْدٍ الْجُذَامِيّ
إسْلَامُهُ وَحَمْلُهُ كِتَابَ الرّسُولِ إلَى قَوْمِهِ
وَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي هُدْنَةِ الْحُدَيْبِيَةِ ، قَبْلَ خَيْبَرَ ، رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ الْجُذَامِيّ ثُمّ الضّبَيْبِيّ ، فَأَهْدَى لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ غُلَامًا ، وَأَسْلَمَ ، فَحَسُنَ إسْلَامُهُ وَكَتَبَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كِتَابًا إلَى قَوْمِهِ . وَفِي الْكِتَابِ بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ هَذَا كِتَابٌ مِنْ مُحَمّدٍ رَسُولِ اللّهِ لِرِفَاعَةِ بْنِ زَيْدٍ . إنّي بَعَثْته إلَى قَوْمِهِ عَامّةً وَمَنْ دَخَلَ فِيهِمْ يَدْعُوهُمْ إلَى اللّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ فَمَنْ أَقْبَلَ مِنْهُمْ فَفِي حِزْبِ اللّهِ وَحِزْبِ رَسُولِهِ وَمَنْ أَدْبَرَ فَلَهُ أَمَانُ شَهْرَيْنِ . فَلَمّا قَدِمَ رِفَاعَةُ عَلَى قَوْمِهِ أَجَابُوا وَأَسْلَمُوا ، ثُمّ سَارُوا إلَى الْحَرّةِ : حَرّةِ الرّجْلَاءِ . وَنَزَلُوهَا .
Sوُفُودُ رِفَاعَةَ
[ ص 375 ] وَذَكَرَ وُفُودَ رِفَاعَةَ الضّبَيْبِيّ وَأَنّهُ أَهْدَى لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ غُلَامًا ، وَذَلِكَ الْغُلَامُ هُوَ الّذِي يُقَالُ لَهُ مِدْعَمٌ ، وَقَعَ ذِكْرُهُ فِي الْمُوَطّإِ .

قُدُومُ وَفْدِ هَمْدَانَ
أَسَمَاؤُهُمْ وَكَلِمَةُ ابْنِ نَمَطٍ بَيْنَ يَدَيْ الرّسُولِ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَقَدِمَ وَفْدُ هَمْدَانَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيمَا حَدّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُذَيْنَةَ الْعَبْدِيّ عَنْ أَبِي إسْحَاقَ السّبِيعِيّ قَالَ قَدِمَ وَفْدُ هَمْدَانَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مِنْهُمْ مَالِكُ بْنُ نَمَطٍ وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَهُوَ ذُو الْمِشْعَارِ وَمَالِكُ بْنُ أَيْفَعَ وَضِمَامُ بْنُ مَالِكٍ السّلْمَانِيّ وَعَمِيرَةُ بْنُ مَالِكٍ الْخَارِفِيّ ، فَلَقُوا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَرْجِعَهُ مِنْ تَبُوكَ وَعَلَيْهِمْ مُقَطّعَاتُ الْحِبَرَاتِ . وَالْعَمَائِمُ الْعَدَنِيّةُ بِرِحَالِ الْمَيْسِ عَلَى الْمَهْرِيّةِ وَالْأَرْحَبِيّةِ وَمَالِكُ بْنُ نَمَطٍ وَرَجُلٌ آخَرُ يَرْتَجِزَانِ بِالْقَوْمِ يَقُولُ أَحَدُهُمَا :
هَمْدَانُ خَيْرٌ سَوْقَةً وَأَقْيَالْ ... لَيْسَ لَهَا فِي الْعَالَمِينَ أَمْثَالْ
مَحَلّهَا الْهَضْبُ وَمِنْهَا الْأَبْطَالْ ... لَهَا إطَابَاتٌ بِهَا وَآكَالْ
[ ص 376 ]
إلَيْك جَاوَزْنَ سَوَادَ الرّيفِ ... فِي هَبَوَاتِ الصّيْفِ وَالْخَرِيفِ
مُخَطّمَاتٍ بِحِبَالِ اللّيفِ
فَقَامَ مَالِكُ بْنُ نَمَطٍ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ نَصِيّةٌ مِنْ هَمْدَانَ ، مِنْ كُلّ حَاضِرٍ وَبَادٍ أَتَوْك عَلَى قُلُصٍ نَوَاجٍ مُتّصِلَةٍ بِحَبَائِلِ الْإِسْلَامِ لَا تَأْخُذُهُمْ فِي اللّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ مِنْ مِخْلَافِ خَارِفٍ وَيَامٍ وَشَاكِرٍ أَهْلِ السّودِ وَالْقُودِ أَجَابُوا دَعْوَةَ الرّسُولِ وَفَارَقُوا آلِهَاتِ الْأَنْصَابِ عَهْدُهُمْ لَا يُنْقَضُ مَا أَقَامَتْ لَعْلَعُ ، وَمَا جَرَى الْيَعْفُورُ بِصُلّعٍ . فَكَتَبَ لَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كِتَابًا فِيهِ بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ . هَذَا كِتَابٌ مِنْ رَسُولِ اللّهِ مُحَمّدٍ ، لِمِخْلَافِ خَارِفٍ وَأَهْلِ جَنَابِ الْهَضْبِ وَحِقَافِ الرّمْلِ مَعَ وَفْدِهَا ذِي الْمِشْعَارِ مَالِكِ بْنِ نَمَطٍ وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى أَنّ لَهُمْ فِرَاعَهَا وَوِهَاطَهَا ، مَا أَقَامُوا الصّلَاةَ وَآتَوْا الزّكَاةَ يَأْكُلُونَ عِلَافَهَا وَيَرْعَوْنَ عَافِيَهَا ، لَهُمْ بِذَلِكَ عَهْدُ اللّهِ وَذِمَامُ رَسُولِهِ وَشَاهِدُهُمْ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ فَقَالَ فِي ذَلِكَ مَالِكُ بْنُ نَمَطٍ [ ص 377 ]
ذَكَرْت رَسُولَ اللّهِ فِي فَحْمَةِ الدّحَى ... وَنَحْنُ بِأَعْلَى رَحْرَحَانَ وَصَلْدَدِ
وَهُنّ بِنَا خُوصٌ طَلَائِحُ تَعْتَلِي ... بِرُكْبَانِهَا فِي لَاحِبٍ مُتَمَدّدِ
عَلَى كُلّ فَتْلَاءِ الذّرَاعَيْنِ جَسْرَةٍ ... تَمُرّ بِنَا مَرّ الْهِجَفّ الخَفَيْدَدِ
حَلَفْت بِرَبّ الرّاقِصَاتِ إلَى مِنًى ... صَوَادِرَ بِالرّكْبَانِ مِنْ هَضْبِ قَرْدَدِ
بِأَنّ رَسُولَ اللّهِ فِينَا مُصَدّقٌ ... رَسُولٌ أَتَى مِنْ عِنْدِ ذِي الْعَرْشِ مُهْتَدِي
فَمَا حَمَلَتْ مِنْ نَاقَةٍ فَوْقَ رَحْلِهَا ... أَشَدّ عَلَى أَعْدَائِهِ مِنْ مُحَمّدِ
وَأَعْطَى إذَا مَا طَالِبُ الْعُرْفِ جَاءَهُ ... وَأَفْضَى بِحَدّ الْمَشْرَفِيّ الْمُهَنّدِ
Sوَذَكَرَ وَفْدَ هَمْدَانَ ، وَمَالِكَ بْنَ نَمَطٍ الْهَمْدَانِيّ الّذِي يُقَالُ لَهُ ذُو الْمِشْعَارِ وَكُنْيَتُهُ أَبُو ثَوْرٍ وَقَعَ فِي النّسْخَةِ وَفِي أَكْثَرِ النّسَخِ وَأَبُو ثَوْرٍ بِالْوَاوِ كَأَنّهُ غَيْرُهُ وَالصّوَابُ سُقُوطُ الْوَاوِ لِأَنّهُ هُوَ هُوَ وَقَدْ يُخَرّجُ إثْبَاتُ الْوَاوِ عَلَى إضْمَارِ هُوَ كَأَنّهُ قَالَ وَهُوَ أَبُو ثَوْرٍ ذُو الْمِشْعَارِ ، وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ ، فَقَالَ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ مَالِكٌ ذُو الْمِشْعَارِ وَذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ فَقَالَ هُوَ [ ص 376 ] الْمِشْعَارِ يُكَنّى : أَبَا ثَوْرٍ وَفِي الْكِتَابِ الّذِي كَتَبَهُ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هَذَا كِتَابٌ مِنْ مُحَمّدٍ رَسُولِ اللّهِ إلَى مِخْلَافِ خَارِفٍ وَيَامٍ وَأَهْلِ جَنَابِ الْهَضْبِ وَحِقَافِ الرّمْلِ مَعَ وَافِدِهَا ذِي الْمِشْعَارِ مَالِكِ بْنِ نَمَطٍ فَهَذَا كُلّهُ يَدُلّ عَلَى أَنّ الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ وَأَبُو ثَوْرٍ ذُو الْمِشْعَارِ لَا مَعْنَى لَهُ . وَقَوْلُهُ عَلَيْهِمْ مُقَطّعَاتُ الْحِبَرَاتِ الْمُقَطّعَاتُ مِنْ الثّيَابِ فِي تَفْسِيرِ أَبِي عُبَيْدٍ ، هِيَ الْقِصَارُ وَاحْتَجّ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ فِي صَلَاةِ الضّحَى إذَا انْقَطَعَتْ الظّلَالُ أَيْ قَصُرَتْ وَبِقَوْلِهِمْ فِي الْأَرَاجِيزِ مُقَطّعَاتٍ وَخَطّأَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي هَذَا التّأْوِيلِ وَقَالَ إنّمَا الْمُقَطّعَاتُ الثّيَابُ الْمَخِيطَةُ كَالْقُمُصِ وَنَحْوِهَا ، سُمّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنّهَا تُقَطّعُ وَتُفَصّلُ ثُمّ تُخَاطُ وَاحْتَجّ بِحَدِيثٍ رَوَاهُ عَنْ بَعْضِ وَلَدِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ ، وَفِيهِ أَنّهُ خَرَجَ وَعَلَيْهِ مُقَطّعَاتٌ يَجُرّهَا ، فَقَالَ لَهُ شَيْخٌ مِنْ بَنِي أُمَيّةَ لَقَدْ رَأَيْت أَبَاك ، وَكَانَ مُشَمّرًا غَيْرَ جَرّارٍ لِثِيَابِهِ فَقَالَ لَهُ الْفَتَى : لَقَدْ هَمَمْت بِتَقْصِيرِهَا ، فَمَنَعَنِي قَوْلُ الشّاعِرِ فِي أَبِيك : قَصِيرُ الثّيَابِ فَاحِشٌ عِنْدَ ضَيْفِهِ لِشَرّ قُرَيْشٍ فِي قُرَيْشٍ مُرَكّبَا [ ص 377 ] قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ ، وَلَا مَعْنَى لِوَصْفِهَا بِالْقِصَرِ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ . وَالْمَهْرِيّةُ مَنْسُوبَةٌ إلَى مَهْرَةَ بْنِ حَيْدَانَ بْنِ الْحَافّ بْنِ قُضَاعَةَ . وَالْأَرْحَبِيّةُ [ ص 378 ] أَرْحَبَ بَطْنٍ مِنْ هَمْدَانَ . وَيَامٌ هُوَ يَامُ بْنُ أُصْبَى ، وَخَارِفُ بْنُ الْحَارِثِ بَطْنَانِ مِنْ هَمْدَانَ يُنْسَبُ إلَى يَامٍ زُبَيْدُ [ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ ] الْيَامِيّ الْمُحَدّثُ ، وَأَهْلُ الْحَدِيثِ يَقُولُونَ فِيهِ الْأَيَامِيّ : وَالْفِرَاعُ مَا عَلَا مِنْ الْأَرْضِ . وَالْوِهَاطُ مَا انْخَفَضَ مِنْهَا ، وَاحِدُهَا : وَهْطٌ وَلَعْلَعٌ : اسْمُ جَبَلٍ . وَالصّلّعُ الْأَرْضُ الْمَلْسَاءُ . وَالْخَفَيْدَدُ وَلَدُ النّعَامَةِ . وَالْهِجَفّ : الضّخْمُ . وَذَكَرَ حَدِيثَ عَمْرِو بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ ، وَقَيْسُ بْنُ مَكْشُوحٍ . وَذَكَرَ فِي الشّعْرِ
تُلَاقِ شَنْبَثًا شَثْنَ الْ ... بَرَاثِنِ نَاشِزًا قَتَدَهْ
[ ص 379 ] أَلْفَيْت بِخَطّ الشّيْخِ أَبِي بَحْرٍ عَلَى هَذَا الْبَيْتِ قَالَ قَالَ الْقَاضِي : لَا أَعْرِفُ شَنْبَثًا الْآنَ وَلَعَلّهُ تُلَاقِ شَرْ نَبَثًا ، وَجَزَمَ تُلَاقِ لِمَا فِي قَوْلِهِ فَلَوْ لَاقَيْتنِي مِنْ قُوّةِ الشّرْطِ فَكَأَنّهُ أَرَادَ إنْ لَاقَيْتنِي تُلَاقِ .

ذِكْرُ الْكَذّابَيْنِ مُسَيْلِمَةَ الْحَنَفِيّ وَالْأَسْوَدِ الْعَنْسِيّ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ كَانَ تَكَلّمَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْكَذّابَانِ مُسَيْلِمَةُ بْنُ حَبِيبٍ بِالْيَمَامَةِ فِي حَنِيفَةَ وَالْأَسْوَدُ بْنُ كَعْبٍ الْعَنْسِيّ بِصَنْعَاءَ .
رُؤْيَا الرّسُولِ فِيهِمَا
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ قُسَيْطٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَوْ أَخِيهِ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ يَخْطُبُ النّاسَ عَلَى مِنْبَرِهِ وَهُوَ يَقُولُ أَيّهَا النّاسُ إنّي قَدْ رَأَيْت لَيْلَةَ الْقَدْرِ ثُمّ أُنْسِيتهَا ، وَرَأَيْت فِي ذِرَاعَيّ سِوَارَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ فَكَرِهْتهمَا ، فَنَفَخْتهمَا فَطَارَا ، فَأَوّلْتهمَا هَذَيْنِ الْكَذّابَيْنِ صَاحِبَ الْيَمَنِ ، وَصَاحِبَ الْيَمَامَةِ
حَدِيثُ الرّسُولِ عَنْ الدّجّالِينَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي مَنْ لَا أَتّهِمُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّهُ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ لَا تَقُومُ السّاعَةُ حَتّى يَخْرُجَ ثَلَاثُونَ دَجّالًا كُلّهُمْ يَدّعِي النّبُوّةَ

خُرُوجُ الْأُمَرَاءِ وَالْعُمّالِ عَلَى الصّدَقَاتِ
الْأُمَرَاءُ وَأَسْمَاءُ الْعُمّالِ وَمَا تَوَلّوْهُ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ بَعَثَ أُمَرَاءَهُ وَعُمّالَهُ عَلَى الصّدَقَاتِ إلَى كُلّ مَا أَوْطَأَ الْإِسْلَامُ مِنْ الْبُلْدَانِ فَبَعَثَ الْمُهَاجِرَ بْنَ أَبِي أُمَيّة بْنِ الْمُغِيرَةِ إلَى صَنْعَاءَ ، [ ص 378 ] فَخَرَجَ عَلَيْهِ الْعَنْسِيّ وَهُوَ بِهَا ، وَبَعَثَ زِيَادَةَ بْنَ لَبِيدٍ أَخَا بَنِي بَيَاضَةَ الْأَنْصَارِيّ إلَى حَضْرَمَوْتَ وَعَلَى صَدَقَاتِهَا ؛ وَبَعَثَ عَدِيّ بْنَ حَاتِمٍ عَلَى طَيّئٍ وَصَدَقَاتِهَا ، وَعَلَى بَنِي أَسَدٍ ، وَبَعَثَ مَالِكَ بْنَ نُوَيْرَةَ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْيَرْبُوعِيّ - عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي حَنْظَلَةَ وَفَرّقَ صَدَقَةَ بَنِي سَعْدٍ عَلَى رَجُلَيْنِ مِنْهُمْ فَبَعَثَ الزّبْرِقَانَ بْنَ بَدْرٍ عَلَى نَاحِيَةٍ مِنْهَا ، وَقَيْسَ بْنَ عَاصِمٍ عَلَى نَاحِيَةٍ وَكَانَ قَدْ بَعَثَ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيّ عَلَى الْبَحْرَيْنِ ، وَبَعَثَ عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِ إلَى أَهْلِ نَجْرَانَ ، لِيَجْمَعَ صَدَقَتَهُمْ وَيَقْدَمَ عَلَيْهِ بِجِزْيَتِهِمْ .

كِتَابُ مُسَيْلِمَةَ إلَى رَسُولِ اللّهِ وَالْجَوَابُ عَنْهُ
وَقَدْ كَانَ مُسَيْلِمَةُ بْنُ حَبِيبٍ قَدْ كَتَبَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " مِنْ مُسَيْلِمَةَ رَسُولِ اللّهِ إلَى مُحَمّدٍ رَسُولِ اللّهِ : سَلَامٌ عَلَيْك ، أَمّا بَعْدُ فَإِنّي قَدْ أُشْرِكْت فِي الْأَمْرِ مَعَك ، وَإِنّ لَنَا نِصْفَ الْأَرْضِ وَلِقُرَيْشٍ نِصْفَ الْأَرْضِ وَلَكِنّ قُرَيْشًا قَوْمٌ يَعْتَدُونَ " . فَقَدِمَ عَلَيْهِ رَسُولَانِ لَهُ بِهَذَا الْكِتَابِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي شَيْخٌ مِنْ أَشْجَعَ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ نُعَيْمِ بْنِ مَسْعُودٍ الْأَشْجَعِيّ عَنْ أَبِيهِ نُعَيْمٍ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ لَهُمَا حِينَ قَرَأَ كِتَابَهُ فَمَا تَقُولَانِ أَنْتُمَا ؟ " قَالَا : نَقُولُ كَمَا قَالَ فَقَالَ " أَمَا وَاَللّهِ لَوْلَا أَنّ الرّسُلَ لَا تُقْتَلُ لَضَرَبْت أَعْنَاقَكُمَا " . ثُمّ كَتَبَ إلَى مُسَيْلِمَةَ " بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ مِنْ مُحَمّدٍ رَسُولِ اللّهِ ، إلَى مُسَيْلِمَةَ الْكَذّابِ : السّلَامُ عَلَى مَنْ اتّبَعَ الْهُدَى . أَمّا بَعْدُ الْأَرْضُ لِلّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتّقِينَ [ ص 379 ]

حَجّةُ الْوَدَاعِ
تَجَهّزُ الرّسُولِ وَاسْتِعْمَالُهُ عَلَى الْمَدِينَةِ أَبَا دُجَانَةَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ذُو الْقَعْدَةِ تَجَهّزَ لِلْحَجّ وَأَمَرَ النّاسَ بِالْجَهَازِ لَهُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ ، عَنْ أَبِيهِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمّدٍ ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَتْ خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الْحَجّ لِخَمْسِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : فَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ أَبَا دُجَانَةَ السّاعِدِيّ وَيُقَالُ سِبَاعَ بْنَ عُرْفُطَةَ الْغِفَارِيّ .
مَا أَمَرَ بِهِ الرّسُولُ عَائِشَةَ فِي حَيْضِهَا
[ ص 381 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ ، عَنْ أَبِيهِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمّدٍ ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ لَا يَذْكُرُ وَلَا يَذْكُرُ النّاسُ إلّا الْحَجّ حَتّى إذَا كَانَ بِسَرِفَ وَقَدْ سَاقَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَعَهُ الْهَدْيَ وَأَشْرَافٌ مِنْ أَشْرَافِ النّاسِ أَمَرَ النّاسَ أَنْ يُحِلّوا بِعُمْرَةٍ إلّا مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ قَالَتْ وَحِضْت ذَلِكَ الْيَوْمَ فَدَخَلَ عَلَيّ وَأَنَا أَبْكِي ، فَقَالَ مَا لَك يَا عَائِشَةُ ؟ لَعَلّك نُفِسْت ؟ قَالَتْ قُلْت : نَعَمْ وَاَللّهِ لَوَدِدْت أَنّي لَمْ أَخْرُجْ مَعَكُمْ عَامِي فِي هَذَا السّفَرِ فَقَالَ " لَا تَقُولِنّ ذَاكَ فَإِنّك تَقْضِينَ كُلّ مَا يَقْضِي الْحَاجّ إلّا أَنّك لَا تَطُوفِينَ بِالْبَيْتِ . قَالَتْ وَدَخَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَكّةَ ، فَحَلّ كُلّ مَنْ كَانَ لَا هَدْيَ مَعَهُ وَحَلّ نِسَاؤُهُ بِعُمْرَةٍ فَلَمّا كَانَ يَوْمُ النّحْرِ أُتِيت بِلَحْمِ بَقَرٍ كَثِيرٍ فَطُرِحَ فِي بَيْتِي ، فَقُلْت : مَا هَذَا ؟ قَالُوا : ذَبَحَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ نِسَائِهِ الْبَقَرَ حَتّى إذَا كَانَتْ لَيْلَةُ الْحَصْبَةِ بَعَثَ بِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَعَ أَخِي عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ فَأَعْمَرَنِي مِنْ التّنْعِيمِ ، مَكَانَ عُمْرَتِي الّتِي فَاتَتْنِي . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي نَافِعٌ مَوْلَى عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ ، عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ قَالَتْ لَمّا أَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نِسَاءَهُ أَنْ يَحْلُلْنَ بِعُمْرَةٍ قُلْنَ فَمَا يَمْنَعُك يَا رَسُولَ اللّهِ أَنْ تَحِلّ مَعَنَا ؟ فَقَالَ " إنّي أَهْدَيْت وَلَبّدْت ، فَلَا أَحِلّ حَتّى أَنْحَرَ هَدْيِي .
Sحَجّةُ الْوَدَاعِ
[ ص 380 ] ذَكَرَ فِيهَا حَدِيثَ عَائِشَةَ وَقَوْلَهَا : فَأَهْلَلْنَا بِالْحَجّ وَمَا نَذْكُرُ إلّا أَمْرَ الْحَجّ وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنّهُمْ أَفْرَدُوا ، وَقَدْ بَيّنَ ذَلِكَ جَابِرٌ فِي حَدِيثِهِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَفْرَدَ الْحَجّ وَهَذَا هُوَ الصّحِيحُ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ فِيهَا لِينٌ عَنْ جَابِرٍ أَنّهُ قَالَ قَرَنَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَيْنَ الْحَجّ وَالْعُمْرَةِ وَطَافَ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا ، وَسَعَى لَهُمَا سَعْيًا وَاحِدًا رَوَاهُ الدّارَقُطْنِيّ ، وَرُوِيَ أَيْضًا أَنّ جَابِرًا قَالَ حَجّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثَلَاثَ حَجّاتٍ حَجّتَيْنِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَحَجّتَهُ الّتِي قَرَنَهَا بِعُمْرَتِهِ وَأَمّا حَدِيثُ ابْنِ عَبّاسٍ فَصَحِيحٌ وَقَالَ فِيهِ طَافَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ حَجّتِهِ وَعُمْرَتِهِ طَوَافًا وَاحِدًا [ ص 381 ] عَلِيّ فَرُوِيَ عَنْهُ أَنّهُ طَافَ عَنْهُمَا طَوَافَيْنِ وَلَمْ يُخْتَلَفْ عَنْهُ أَنّهُ كَانَ قَارِنًا ، وَكَذَلِكَ حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فِي أَنّهُ عَلَيْهِ السّلَامُ كَانَ قَارِنًا ، وَأَمّا حَدِيثُ أَنَسٍ فَصَرّحَ فِيهِ بِأَنّهُ كَانَ قَارِنًا ، وَقَالَ مَا تَعُدّونَا إلّا صِبْيَانًا سَمِعْت رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَصْرُخُ بِهِمَا جَمِيعًا يَعْنِي الْحَجّ وَالْعُمْرَةَ فَاخْتَلَفَتْ الرّوَايَاتُ فِي إحْرَامِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَمَا تَرَى : هَلْ كَانَ مُفْرِدًا أَوْ قَارِنًا ، أَوْ مُتَمَتّعًا ، وَكُلّهَا صِحَاحٌ إلّا مَنْ قَالَ كَانَ مُتَمَتّعًا ، وَأَرَادَ بِهِ أَنّهُ أَهَلّ بِعُمْرَةٍ وَأَمّا مَنْ قَالَ تَمَتّعَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَيْ أَمَرَ بِالتّمَتّعِ وَفَسْخِ الْحَجّ بِالْعُمْرَةِ فَقَدْ يَصِحّ هَذَا التّأْوِيلُ وَيَصِحّ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ تَمَتّعَ إذَا قَرَنَ ، لِأَنّ الْقِرَانَ ضَرْبٌ مِنْ الْمُتْعَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ إسْقَاطِ أَحَدِ السّفَرَيْنِ . وَاَلّذِي يَرْفَعُ الْإِشْكَالَ حَدِيثُ الْبُخَارِيّ [ ص 382 ] أَهَلّ بِالْحَجّ ، فَلَمّا كَانَ بِالْعَقِيقِ أَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ لَهُ إنّك بِهَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ فَقُلْ لَبّيْكَ بِحَجّ وَعُمْرَةٍ مَعًا فَقَدْ صَارَ قَارِنًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مُفْرِدًا ، وَصَحّ الْقَوْلَانِ جَمِيعًا ، وَأَمْرُهُ لِأَصْحَابِهِ أَنْ يَفْسَخُوا الْحَجّ بِالْعُمْرَةِ خُصُوصٌ لَهُمْ وَلَيْسَ لِغَيْرِهِمْ أَنْ يَفْعَلَهُ وَإِنّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِيُذْهِبَ مِنْ قُلُوبِهِمْ أَمْرَ الْجَاهِلِيّةِ فِي تَحْرِيمِهِمْ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجّ فَكَانُوا يَرَوْنَ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ وَيَقُولُونَ إذَا بَرَأَ الدّبَرُ ، وَعَفَا الْأَثَرُ وَانْسَلَخَ صَفَرُ حَلّتْ الْعُمْرَةُ لِمَنْ اعْتَمَرَ وَلَمْ يَفْسَخْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَجّهُ كَمَا فَعَلَ أَصْحَابُهُ لِأَنّهُ سَاقَ الْهَدْيَ وَقَلّدَهُ وَاَللّهُ سُبْحَانَهُ يَقُولُ { حَتّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلّهُ } [ الْبَقَرَةَ 196 ] وَقَالَ حِينَ رَأَى أَصْحَابَهُ قَدْ شَقّ عَلَيْهِمْ خِلَافُهُ لَوْ اسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت لَجَعَلْتهَا عُمْرَةً وَلَمَا سُقْت الْهَدْي قَالَ شَيْخُنَا أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ إنّمَا نَدِمَ عَلَى تَرْكِ مَا هُوَ أَسْهَلُ وَأَرْفَقُ لَا عَلَى تَرْكِ مَا هُوَ أَفْضَلُ وَأَوْفَقُ وَذَلِكَ لِمَا رَأَى مِنْ كَرَاهَةِ أَصْحَابِهِ لِمُخَالَفَتِهِ وَلَمْ يَكُنْ سَاقَ الْهَدْيَ مِنْ أَصْحَابِهِ إلّا طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللّهِ ، فَلَمْ يَحِلّ حَتّى نَحَرَ وَعَلِيّ أَيْضًا أَتَى مِنْ الْيَمَنِ وَسَاقَ الْهَدْيَ فَلَمْ يَحِلّ إلّا بِإِحْلَالِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .

مُوَافَاةُ عَلِيّ فِي قُفُولِهِ مِنْ الْيَمَنِ رَسُولَ اللّهِ فِي الْحَجّ
بِهِ مَا أَمَرَ الرّسُولُ عَلِيّا مِنْ أُمُورِ الْحَجّ
[ ص 382 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ : أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ بَعَثَ عَلِيّا رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ إلَى نَجْرَانَ ، فَلَقِيَهُ بِمَكّةَ وَقَدْ أَحْرَمَ فَدَخَلَ عَلَى فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا ، فَوَجَدَهَا قَدْ حَلّتْ وَتَهَيّأَتْ فَقَالَ مَا لَك يَا بِنْتَ رَسُولِ اللّهِ ؟ قَالَتْ أَمَرَنَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ نَحِلّ بِعُمْرَةٍ فَحَلَلْنَا . ثُمّ أَتَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَمّا فَرَغَ مِنْ الْخَبَرِ عَنْ سَفَرِهِ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ انْطَلِقْ فَطُفْ بِالْبَيْتِ ، وَحِلّ كَمَا حَلّ أَصْحَابُك . قَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّي أَهْلَلْتُ كَمَا أَهْلَلْتَ فَقَالَ ارْجِعْ فَاحْلِلْ كَمَا حَلّ أَصْحَابُك ؛ قَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّي قُلْت حِينَ أَحْرَمْت : اللّهُمّ إنّي أُهِلّ بِمَا أَهَلّ بِهِ نَبِيّك وَعَبْدُك وَرَسُولُك مُحَمّدٌ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ " فَهَلْ مَعَك مِنْ هَدْيٍ ؟ " قَالَ لَا . فَأَشْرَكَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي هَدْيِهِ وَثَبَتَ عَلَى إحْرَامِهِ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى فَرَغَا مِنْ الْحَجّ وَنَحَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْهَدْيَ عَنْهُمَا
شَكَا عَلِيّا جُنْدُهُ إلَى الرّسُولِ لِانْتِزَاعِهِ عَنْهُمْ حُلَلًا مِنْ بَزّ الْيَمَنِ
[ ص 383 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ طَلْحَةَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ رُكَانَةَ قَالَ لَمّا أَقْبَلَ عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ مِنْ الْيَمَنِ لِيَلْقَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَكّةَ تَعَجّلَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَاسْتَخْلَفَ عَلَى جُنْدِهِ الّذِينَ مَعَهُ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ فَعَمَدَ ذَلِكَ الرّجُلُ فَكَسَا كُلّ رَجُلٍ مِنْ الْقَوْمِ حُلّةً مِنْ الْبَزّ الّذِي كَانَ مَعَ عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ . فَلَمّا دَنَا جَيْشُهُ خَرَجَ لِيَلْقَاهُمْ فَإِذَا عَلَيْهِمْ الْحُلَلُ قَالَ وَيْلَك مَا هَذَا ؟ قَالَ كَسَوْت الْقَوْمَ لِيَتَجَمّلُوا بِهِ إذَا قَدِمُوا فِي النّاسِ قَالَ وَيْلَك انْزِعْ قَبْلَ أَنْ تَنْتَهِيَ بِهِ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . قَالَ فَانْتَزَعَ الْحُلَلَ مِنْ النّاسِ فَرَدّهَا فِي الْبَزّ قَالَ وَأَظْهَرَ الْجَيْشُ شَكْوَاهُ لِمَا صَنَعَ بِهِمْ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ مَعْمَرِ بْنِ حَزْمٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ عَنْ عَمّتِهِ زَيْنَبَ بِنْتِ كَعْبٍ وَكَانَتْ عِنْدَ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ قَالَ اشْتَكَى النّاسُ عَلِيّا رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِ فَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِينَا خَطِيبًا ، فَسَمِعْته يَقُولُ أَيّهَا النّاسُ لَا تَشْكُوا عَلِيّا ، فَوَاَللّهِ إنّهُ لَأَخْشَنُ فِي ذَاتِ اللّهِ أَوْ فِي سَبِيلِ اللّهِ مِنْ أَنْ يُشْكَى

خُطْبَةُ الرّسُولِ فِي حَجّةِ الْوَدَاعِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ مَضَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى حَجّهِ فَأَرَى النّاسَ مَنَاسِكَهُمْ وَأَعْلَمَهُمْ سُنَنَ حَجّهِمْ وَخَطَبَ النّاسَ خُطْبَتَهُ الّتِي بَيّنَ فِيهَا مَا بَيّنَ فَحَمِدَ اللّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمّ قَالَ [ ص 384 ] أَيّهَا النّاسُ اسْمَعُوا قَوْلِي ، فَإِنّي لَا أَدْرِي لَعَلّي لَا أَلْقَاكُمْ بَعْدَ عَامِي هَذَا بِهَذَا الْمَوْقِفِ أَبَدًا ، أَيّهَا النّاسُ إنّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ إلَى أَنْ تَلْقَوْا رَبّكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا ، وَكَحُرْمَةِ شَهْرِكُمْ هَذَا ، وَإِنّكُمْ سَتَلْقَوْنَ رَبّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ وَقَدْ بَلّغْت ، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ فَلْيُؤَدّهَا إلَى مَنْ ائْتَمَنَهُ عَلَيْهَا ، وَإِنّ كُلّ رِبًا مَوْضُوعٌ وَلَكِنْ لَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ . قَضَى اللّهُ أَنّهُ لَا رِبَا ، وَإِنّ رِبَا عَبّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ مَوْضُوعٌ كُلّهُ وَأَنّ كُلّ دَمٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيّةِ مَوْضُوعٌ وَإِنّ أَوّلَ دِمَائِكُمْ أَضَعُ دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، وَكَانَ مُسْتَرْضَعًا فِي بَنِي لَيْثٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ فَهُوَ أَوّلُ مَا أَبْدَأُ بِهِ مِنْ دِمَاءِ الْجَاهِلِيّةِ . أَمّا بَعْدُ أَيّهَا النّاسُ فَإِنّ الشّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ مِنْ أَنْ يُعْبَدَ بِأَرْضِكُمْ هَذِهِ أَبَدًا ، وَلَكِنّهُ إنْ يُطَعْ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ فَقَدْ رَضِيَ بِهِ بِمَا تُحَقّرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ فَاحْذَرُوهُ عَلَى دِينِكُمْ أَيّهَا النّاسُ إنّ النّسِيءَ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلّ بِهِ الّذِينَ كَفَرُوا ، يُحِلّونَهُ عَامًا وَيُحَرّمُونَهُ عَامًا ، لِيُوَاطِئُوا عِدّةَ مَا حَرّمَ اللّهُ فَيُحِلّوا مَا حَرّمَ اللّهُ وَيُحَرّمُوا مَا أَحَلّ اللّهُ . إنّ الزّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللّهُ السّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَإِنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِنْدَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا ، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَةٌ وَرَجَبُ مُضَرَ ، الّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ . أَمّا بَعْدُ أَيّهَا النّاس ، فَإِنّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقّا ، وَلَهُنّ عَلَيْكُمْ حَقّا ، لَكُمْ عَلَيْهِنّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ وَعَلَيْهِنّ أَنْ لَا يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيّنَةٍ فَإِنْ فَعَلْنَ فَإِنّ اللّهَ قَدْ أَذِنَ لَكُمْ أَنْ تَهْجُرُوهُنّ فِي الْمَضَاجِعِ وَتَضْرِبُوهُنّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرّحٍ فَإِنْ انْتَهَيْنَ فَلَهُنّ رِزْقُهُنّ وَكُسْوَتُهُنّ بِالْمَعْرُوفِ وَاسْتَوْصُوا بِالنّسَاءِ خَيْرًا ، فَإِنّهُنّ عِنْدَكُمْ عَوَانٌ لَا يَمْلِكْنَ لِأَنْفُسِهِنّ شَيْئًا ، وَإِنّكُمْ إنّمَا أَخَذْتُمُوهُنّ بِأَمَانَةِ اللّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنّ بِكَلِمَاتِ اللّهِ فَاعْقِلُوا أَيّهَا النّاسُ قَوْلِي ، فَإِنّي قَدْ بَلّغْت ، وَقَدْ تَرَكْت فِيكُمْ مَا إنْ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ فَلَنْ تَضِلّوا أَبَدًا ، أَمْرًا بَيّنًا ، كِتَابَ اللّهِ وَسُنّةَ نَبِيّهِ . أَيّهَا النّاسُ اسْمَعُوا قَوْلِي وَاعْقِلُوهُ تَعَلّمُنّ أَنّ كُلّ مُسْلِمٍ أَخٌ لِلْمُسْلِمِ وَأَنّ الْمُسْلِمِينَ إخْوَةٌ فَلَا يَحِلّ لِامْرِئٍ مِنْ أَخِيهِ إلّا مَا أَعْطَاهُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ فَلَا تَظْلِمُنّ أَنْفُسَكُمْ اللّهُمّ هَلْ بَلّغْت ؟ فَذُكِرَ لِي أَنّ النّاسَ قَالُوا : اللّهُمّ نَعَمْ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " اللّهُمّ ا شْهَدْ
اسْمُ الصّارِخِ بِكَلَامِ الرّسُولِ وَمَا كَانَ يُرَدّدُهُ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبّادِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الزّبَيْرِ ، عَنْ أَبِيهِ عَبّادٍ قَالَ كَانَ الرّجُلُ الّذِي يَصْرُخُ فِي النّاسِ بِقَوْلِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ بِعَرَفَةَ رَبِيعَةَ بْنَ أُمَيّةَ بْنِ خَلَفٍ . قَالَ يَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ [ ص 385 ] قُلْ يَا أَيّهَا النّاسُ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ هَلّا تَدْرُونَ أَيّ شَهْرٍ هَذَا ؟ " فَيَقُولُ لَهُمْ فَيَقُولُونَ الشّهْرُ الْحَرَامُ فَيَقُولُ قُلْ لَهُمْ " إنّ اللّهَ قَدْ حَرّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ إلَى أَنْ تَلْقَوْا رَبّكُمْ كَحُرْمَةِ شَهْرِكُمْ هَذَا " ؛ ثُمّ يَقُولُ قُلْ " يَا أَيّهَا النّاسُ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ هَلْ تَدْرُونَ أَيّ بَلَدٍ هَذَا ؟ " قَالَ فَيَصْرُخُ بِهِ قَالَ فَيَقُولُونَ الْبَلَدُ الْحَرَامُ ، قَالَ فَيَقُولُ قُلْ لَهُمْ " إنّ اللّهَ قَدْ حَرّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ إلَى أَنْ تَلْقَوْا رَبّكُمْ كَحُرْمَةِ بَلَدِكُمْ هَذَا " . قَالَ ثُمّ يَقُولُ قُلْ " يَا أَيّهَا النّاسُ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ هَلْ تَدْرُونَ أَيّ يَوْمٍ هَذَا ؟ قَالَ فَيَقُولُهُ لَهُمْ . فَيَقُولُونَ يَوْمُ الْحَجّ الْأَكْبَرِ قَالَ فَيَقُولُ قُلْ لَهُمْ إنّ اللّهَ قَدْ حَرّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ إلَى أَنْ تَلْقَوْا رَبّكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا .
رِوَايَةُ ابْنِ خَارِجَةَ عَمّا سَمِعَهُ مِنْ الرّسُولِ فِي حَجّةِ الْوَدَاعِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي لَيْثُ بْنُ أَبَى سُلَيْمٍ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ الْأَشْعَرِيّ عَنْ عَمْرِو بْنِ خَارِجَةَ قَالَ بَعَثَنِي عَتّابُ بْنُ أُسَيْدٍ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي حَاجَةٍ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ فَبَلَغْته ، ثُمّ وَقَفْت تَحْتَ نَاقَةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَإِنّ لُغَامَهَا لَيَقَعُ عَلَى رَأْسِي ، فَسَمِعْته وَهُوَ يَقُولُ أَيّهَا النّاسُ إنّ اللّهَ قَدْ أَدّى إلَى كُلّ ذِي حَقّ حَقّهُ وَإِنّهُ لَا تَجُوزُ وَصِيّةٌ لِوَارِثٍ وَالْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ ، وَمَنْ ادّعَى إلَى غَيْرِ أَبِيهِ أَوْ تَوَلّى غَيْرَ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ لَا يَقْبَلُ اللّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا
بَعْضُ تَعْلِيمِ الرّسُولِ فِي الْحَجّ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ : أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَالَ هَذَا الْمَوْقِفُ لِلْجَبَلِ الّذِي هُوَ عَلَيْهِ وَكُلّ عَرَفَةَ مَوْقِفٌ وَقَالَ حِينَ وَقَفَ عَلَى قُزَحَ صَبِيحَةَ الْمُزْدَلِفَةِ : هَذَا الْمَوْقِفُ وَكُلّ الْمُزْدَلِفَةِ مَوْقِفٌ ثُمّ لَمّا نَحَرَ بِالْمَنْحَرِ بِمِنًى قَالَ هَذَا الْمَنْحَرُ وَكُلّ مِنًى مَنْحَرٌ فَقَضَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْحَجّ وَقَدْ أَرَاهُمْ مَنَاسِكَهُمْ وَأَعْلَمَهُمْ مَا فَرَضَ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَجّهِمْ مِنْ الْمَوْقِفِ وَرَمْيِ الْجِمَارِ وَطَوَافٍ بِالْبَيْتِ وَمَا أُحِلّ لَهُمْ مِنْ حَجّهِمْ وَمَا حُرّمَ عَلَيْهِمْ فَكَانَتْ حَجّةَ الْبَلَاغِ وَحَجّةَ الْوَدَاعِ وَذَلِكَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَحُجّ بَعْدَهَا .
S[ ص 383 ] وَرَجَبُ مُضَرَ الّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ إنّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنّ رَبِيعَةَ كَانَتْ تُحْرِمُ فِي رَمَضَانَ وَتُسَمّيهِ رَجَبًا مِنْ رَجِبْت الرّجُلَ وَرَجّبْتُهُ إذَا عَظّمْته ، وَرَجَبْت النّخْلَةَ إذَا دَعّمْتهَا ، فَبَيّنَ عَلَيْهِ السّلَامُ أَنّهُ رَجَبُ مُضَرَ لَا رَجَبُ رَبِيعَةَ ، وَأَنّهُ [ ص 384 ] إنّ الزّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ وَتَقَدّمَ اسْمُ ابْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمُسْتَرْضَعِ فِي هُذَيْلٍ ، وَأَنّ اسْمَهُ آدَمُ وَقِيلَ تَمّامٌ وَكَانَ سَبَبَ قَتْلِهِ حَرْبٌ كَانَتْ بَيْنَ قَبَائِلِ هُذَيْلٍ تَقَاذَفُوا فِيهَا بِالْحِجَارَةِ فَأَصَابَ الطّفْلَ حَجَرٌ وَهُوَ يَحْبُو بَيْنَ الْبُيُوتِ كَذَلِكَ ذَكَرَ الزّبَيْرُ .

بَعْثُ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ إلَى أَرْضِ فِلَسْطِينَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ قَفَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ بَقِيّةَ ذِي الْحِجّةِ وَالْمُحَرّمَ وَصَفَرَ وَضَرَبَ عَلَى النّاسِ بَعْثًا إلَى الشّامِ ، وَأَمّرَ عَلَيْهِمْ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ مَوْلَاهُ [ ص 386 ] وَأَمَرَهُ أَنْ يُوطِئَ الْخَيْلَ تُخُومَ الْبَلْقَاءِ وَالدّارُومِ مِنْ أَرْضِ فِلَسْطِينَ ، فَتَجَهّزَ النّاسُ وَأَوْعَبَ مَعَ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ الْمُهَاجِرُونَ الْأَوّلُونَ .
Sبَعْثُ أُسَامَةَ
[ ص 385 ] وَأَمّرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أُسَامَةَ عَلَى جَيْشٍ كَثِيفٍ وَأَمَرَهُ أَنْ يُغِيرَ عَلَى أُبْنَى صَبَاحًا ، وَأَنْ يُحَرّفَ . وَأُبْنَا ، هِيَ الْقَرْيَةُ الّتِي عِنْدَ مُؤْتَةَ حَيْثُ قُتِلَ أَبُوهُ زَيْدٌ وَلِذَلِكَ أَمّرَهُ عَلَى حَدَاثَةِ سِنّهِ [ ص 386 ] لِيُدْرِكَ ثَأْرَهُ وَطَعَنَ فِي إمَارَتِهِ أَهْلُ الرّيْبِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَاَيْمُ اللّهِ إنّهُ لَخَلِيقٌ بِالْإِمَارَةِ وَإِنْ كَانَ أَبُوهُ لَخَلِيقًا بِهَا وَإِنّمَا طَعَنُوا فِي إمْرَتِهِ لِأَنّهُ مَوْلًى مَعَ حَدَاثَةِ سِنّهِ لِأَنّهُ كَانَ إذْ ذَاكَ ابْنَ ثَمَانِ عَشْرَةَ سَنَةً وَكَانَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَسْوَدَ الْجِلْدَةِ وَكَانَ أَبُوهُ أَبْيَضَ صَافِيَ الْبَيَاضِ ، نَزَعَ فِي اللّوْنِ إلَى أُمّهِ بَرَكَةَ وَهِيَ أُمّ أَيْمَنَ وَقَدْ تَقَدّمَ حَدِيثُهَا ، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُحِبّهُ وَيَمْسَحُ خَشْمَهُ وَهُوَ صَغِيرٌ بِثَوْبِهِ وَعَثَرَ يَوْمًا فَأَصَابَهُ جُرْحٌ فِي رَأْسِهِ فَجَعَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَمُصّ دَمَهُ وَيَمُجّهُ وَيَقُولُ لَوْ كَانَ أُسَامَةُ جَارِيَةً لَحَلّيْنَاهَا ، حَتّى يُرْغَبَ فِيهَا وَكَانَ يُسَمّى الْحِبّ مِنْ الْحُبّ .

إِرْسَالُ رَسُولِ اللّهِ إلَى الْمُلُوكِ
تَذْكِيرُ الرّسُولِ قَوْمَهُ بِمَا حَدَثَ لِلْحَوَارِيّينَ حِينَ اخْتَلَفُوا عَلَى عِيسَى
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعَثَ إلَى الْمُلُوكِ رُسُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ وَكَتَبَ مَعَهُمْ إلَيْهِمْ يَدْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ . [ ص 387 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْهُذَلِيّ قَالَ بَلَغَنِي أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَرَجَ عَلَى أَصْحَابِهِ ذَاتَ يَوْمٍ بَعْدَ عُمْرَتِهِ الّتِي صُدّ عَنْهَا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ ، فَقَالَ أ َيّهَا النّاسُ إنّ اللّهَ قَدْ بَعَثَنِي رَحْمَةً وَكَافّةً فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيّ كَمَا اخْتَلَفَ الْحَوَارِيّونَ عَلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ . فَقَالَ أَصْحَابُهُ وَكَيْف اخْتَلَفَ الْحَوَارِيّونَ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ دَعَاهُمْ إلَى الّذِي دَعَوْتُكُمْ إلَيْهِ فَأَمّا مَنْ بَعَثَهُ مَبْعَثًا قَرِيبًا فَرَضِيَ وَسَلّمَ وَأَمّا مَنْ بَعَثَهُ مَبْعَثًا بَعِيدًا فَكَرِهَ وَجْهَهُ وَتَثَاقَلَ فَشَكَا ذَلِكَ عِيسَى إلَى اللّهِ فَأَصْبَحَ الْمُتَثَاقِلُونَ وَكُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَتَكَلّمُ بِلُغَةِ الْأُمّةِ الّتِي بُعِثَ إلَيْهَا
Sإرْسَالُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الْمُلُوكِ
الْحَوَارِيّونَ
[ ص 388 ] ذَكَرَ فِيهِ إرْسَالَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ الْحَوَارِيّينَ وَأَصَحّ مَا قِيلَ فِي مَعْنَى الْحَوَارِيّينَ أَنّ [ ص 387 ] الصّافِي مِنْ كُلّ شَيْءٍ وَمِنْهُ الْحَوَارِيّ ، وَالْحُورُ وَقَوْلُ الْمُفَسّرِينَ هُوَ الْخُلْصَانُ كَلِمَةٌ فَصَيْحَةٌ أَنْشَدَ أَبُو حَنِيفَةَ
خَلِيلَيّ خُلْصَانَيّ لَمْ يَبْقَ حِسّهَا ... مِنْ الْقَلْبِ إلّا عُوّذًا سَبَبًا
لَهَا قَالَ وَالْعُوّذُ مَا لَمْ تُدْرِكْهُ الْمَاشِيَةُ لِارْتِفَاعِهِ أَوْ لِأَنّهُ بِأَهْدَافٍ فَكَأَنّهُ قَدْ عَاذَ مِنْهَا .
مَعْنَى الْمَسِيحِ وَنِهَايَتُهُ
وَأَصَحّ مَا قِيلَ فِي مَعْنَى الْمَسِيحِ عَلَى كَثْرَةِ الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ أَنّهُ الصّدّيقُ بِلُغَتِهِمْ ثُمّ عَرّبَتْهُ الْعَرَبُ . وَكَانَ إرْسَالُ الْمَسِيحِ لِلْحَوَارِيّينَ بَعْدَ مَا رُفِعَ وَصُلِبَ الّذِي شُبّهَ بِهِ فَجَاءَتْ مَرْيَمُ الصّدّيقَةُ وَالْمَرْأَةُ الّتِي كَانَتْ مَجْنُونَةً فَأَبْرَأَهَا الْمَسِيحُ وَقَعَدَتَا عِنْدَ الْجِذْعِ تَبْكِيَانِ وَقَدْ أَصَابَ أُمّهُ مِنْ الْحُزْنِ عَلَيْهِ مَا لَا يَعْلَمُ عِلْمَهُ إلّا اللّهُ فَأُهْبِطَ إلَيْهِمَا ، وَقَالَ عَلَامَ تَبْكِيَانِ ؟ فَقَالَتَا : عَلَيْك ، فَقَالَ إنّي لَمْ أُقْتَلْ وَلَمْ أُصْلَبْ وَلَكِنّ اللّهَ رَفَعَنِي وَكَرّمَنِي ، وَشُبّهَ عَلَيْهِمْ فِي أَمْرِي ، أَبْلِغَا عَنّي الْحَوَارِيّينَ أَمْرِي ، أَنْ يَلْقَوْنِي فِي مَوْضِعِ كَذَا لَيْلًا ، فَجَاءَ الْحَوَارِيّونَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ فَإِذَا الْجَبَلُ قَدْ اشْتَعَلَ نُورًا لِنُزُولِهِ بِهِ ثُمّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَدْعُوا النّاسَ إلَى دِينِهِ وَعِبَادَةِ رَبّهِمْ فَوَجّهَهُمْ إلَى الْأُمَمِ الّتِي ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ وَغَيْرُهُ ثُمّ كُسِيَ كُسْوَةَ الْمَلَائِكَةِ فَعَرَجَ مَعَهُمْ فَصَارَ مَلَكِيّا إنْسِيّا سَمَائِيّا أَرْضِيّا . [ ص 388 ] وَذَكَرَ فِي الْأُمَمِ الْأُمّةَ الّذِينَ يَأْكُلُونَ النّاسَ وَهُمْ مِنْ الْأَسَاوِدَةِ فِيمَا ذَكَرَهُ الطّبَرِيّ . أُسْطُورَةُ زُرَيْبٍ وَذَكَرَ فِي الْحَوَارِيّينَ زُرَيْبَ بْنَ بَرْثُمْلِي وَهُوَ الّذِي عَاشَ إلَى زَمَنِ عُمَرَ وَسَمِعَ نَضْلَةَ بْنَ مُعَاوِيَةَ أَذَانَهُ فِي الْجَبَلِ فَكَلّمَهُ فَإِذَا رَجُلٌ عَظِيمُ الْخَلْقِ رَأْسُهُ كَدُورِ الرّحَى ، فَسَأَلَ نَضْلَةَ وَالْجَيْشَ الّذِينَ كَانُوا مَعَهُ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالُوا : قُبِضَ وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ فَقَالُوا : قُبِضَ ثُمّ سَأَلَهُمْ عَنْ عُمَرَ فَقَالُوا : هُوَ حَيّ ، وَنَحْنُ جَيْشُهُ فَقَالَ لَهُمْ " أَقْرِئُوهُ مِنّي السّلَامَ ثُمّ أَمَرَهُمْ أَنْ يُبَلّغُوا عَنْهُ وَصَايَا كَثِيرَةً وَأَنْ يُحَذّرَ النّاسَ مِنْ خِصَالٍ إذَا ظَهَرَتْ فِي أُمّةِ مُحَمّدٍ فَقَدْ قَرُبَ الْأَمْرُ وَمِنْهَا لُبْسُ الْحَرِيرِ وَشُرْبُ الْخَمْرِ وَأَنْ يَكْتَفِيَ الرّجَالُ بِالرّجَالِ وَالنّسَاءُ بِالنّسَاءِ " . وَذَكَرَ فِيهَا أَيْضًا الْمَعَازِفَ وَالْقِيَانَ وَأَشْيَاءَ غَيْرَ هَذِهِ فَقَالُوا لَهُ مَنْ أَنْتَ يَرْحَمُك اللّهُ ؟ فَقَالَ زُرَيْبُ بْنُ بَرْثُمْلِي حَوَارِيّ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السّلَامُ دَعَوْت اللّهَ أَنْ يُحْيِيَنِي ، حَتّى أَرَى أُمّةَ مُحَمّدٍ أَوْ نَحْوَ هَذَا الْكَلَامِ وَقَدْ أَرَدْت الْخُلُوصَ إلَى أُمّةِ مُحَمّدٍ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَمْ أَسْتَطِعْ حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ الْكُفّارُ . وَذَكَرَ الدّارَقُطْنِيّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا أَنّ عُمَرَ قَالَ لِنَضْلَةَ إنْ لَقِيته فَأَقْرِئْهُ مِنّي السّلَامَ فَإِنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ إنّ بِذَلِكَ الْجَبَلِ وَصِيّا مِنْ أَوْصِيَاءِ عِيسَى عَلَيْهِ السّلَامُ وَالْخَبَرُ بِهَذَا مَشْهُورٌ عَنْهُ " ، وَفِيهِ طُولٌ فَاخْتَصَرْنَاهُ وَيُقَالُ إنّهُ الْآنَ حَيّ . وَمَنْ قَالَ إنّ الْخَضِرَ وَإِلْيَاسَ قَدْ مَاتَا ، فَمِنْ أَصْلِهِ أَيْضًا أَنّ زُرَيْبًا قَدْ مَاتَ لِأَنّهُمْ يَحْتَجّونَ بِالْحَدِيثِ الصّحِيحِ إلَى رَأْسِ مِائَةِ سَنَةٍ لَا يَبْقَى عَلَى الْأَرْضِ مِمّنْ هُوَ عَلَيْهَا أَحَدٌ .

أَسْمَاءُ الرّسُلِ وَمَنْ أُرْسِلُوا إلَيْهِمْ
[ ص 389 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رُسُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ وَكَتَبَ مَعَهُمْ كُتُبًا إلَى الْمُلُوكِ يَدْعُوهُمْ فِيهَا إلَى الْإِسْلَامِ . فَبَعَثَ دِحْيَةَ بْنَ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيّ إلَى قَيْصَرَ مَلِكِ الرّومِ . وَبَعَثَ عَبْدَ اللّهِ بْنَ حُذَافَةَ السّهْمِيّ إلَى كِسْرَى ، مَلِكِ فَارِسَ ، وَبَعَثَ عَمْرَو بْنَ أُمَيّةَ الضّمْرِيّ إلَى النّجَاشِيّ ، مَلِكِ الْحَبَشَةِ
Sرَسُولُهُ إلَى النّجَاشِيّ وَقَيْصَرَ
[ ص 389 ] وَذَكَرَ إرْسَالَ عَمْرِو بْنِ أُمَيّةَ إلَى النّجَاشِيّ ، وَقَدْ قَدّمْنَا ذِكْرَ مَا قَالَ وَمَا قِيلَ لَهُ وَكَذَلِكَ ذَكَرْنَا خَبَرَ سَلِيطٍ مَعَ هَوْذَةَ وَمَا قَالَ لَهُ وَخَبَرَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ حُذَافَةَ مَعَ كِسْرَى ، وَكَلَامَهُ مَعَهُ وَنَذْكُرُ هُنَا بَقِيّةَ الْإِرْسَالِ وَكَلَامَهُمْ فَمِنْهُمْ دِحْيَةُ بْنُ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيّ ، فَقَدِمَ دِحْيَةُ عَلَى قَيْصَرَ وَقَدْ ذَكَرْنَا مَعْنَى هَذَا الِاسْمِ أَعْنِي اسْمَ دِحْيَةَ وَاسْمَ قَيْصَرَ فِيمَا مَضَى مِنْ الْكِتَابِ فَلَمّا قَدِمَ دِحْيَةُ عَلَى قَيْصَرَ قَالَ لَهُ " يَا قَيْصَرُ أَرْسَلَنِي إلَيْك مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْك ، وَاَلّذِي أَرْسَلَهُ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ وَمِنْك ، فَاسْمَعْ بِذُلّ ثُمّ أَجِبْ بِنُصْحٍ فَإِنّك إنْ لَمْ تَذْلِلْ لَمْ تَفْهَمْ وَإِنْ لَمْ تَنْصَحْ لَمْ تُنْصِفْ قَالَ هَاتِ قَالَ هَلْ تَعْلَمُ أَكَانَ الْمَسِيحُ يُصَلّي ؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَإِنّي أَدْعُوك إلَى مَنْ كَانَ الْمَسِيحُ يُصَلّي لَهُ وَأَدْعُوك إلَى مَنْ دَبّرَ خَلْقَ السّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْمَسِيحُ فِي بَطْنِ أُمّهِ وَأَدْعُوك إلَى هَذَا النّبِيّ الْأُمّيّ الّذِي بَشّرَ بِهِ مُوسَى ، وَبَشّرَ بِهِ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ بَعْدَهُ وَعِنْدَك مِنْ ذَلِكَ أَثَارَةٌ مِنْ عِلْمٍ تَكْفِي مِنْ الْعِيَانِ وَتَشْفِي مِنْ الْخَبَرِ ، فَإِنْ أَجَبْت [ ص 390 ] كَانَتْ لَك الدّنْيَا وَالْآخِرَةُ وَإِلّا ذَهَبَتْ عَنْك الْآخِرَةُ وَشُورِكْت فِي الدّنْيَا ، وَاعْلَمْ أَنّ لَك رَبّا يَقْصِمُ الْجَبَابِرَةَ وَيُغَيّرُ النّعَمَ " ، فَأَخَذَ قَيْصَرُ الْكِتَابَ فَوَضَعَهُ عَلَى عَيْنَيْهِ وَرَأْسِهِ وَقَبّلَهُ ثُمّ قَالَ أَمَا وَاَللّهِ مَا تَرَكْت كِتَابًا إلّا وَقَرَأْته ، وَلَا عَالِمًا إلّا سَأَلْته ، فَمَا رَأَيْت إلّا خَيْرًا ، فَأَمْهِلْنِي حَتّى أَنْظُرَ مَنْ كَانَ الْمَسِيحُ يُصَلّي لَهُ فَإِنّي أَكْرَهُ أَنْ أُجِيبَك الْيَوْمَ بِأَمْرٍ أَرَى غَدًا مَا هُوَ أَحْسَنُ مِنْهُ فَأَرْجِعَ عَنْهُ فَيَضُرّنِي ذَلِكَ وَلَا يَنْفَعَنِي ، أَقِمْ حَتّى أَنْظُرَ فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ أَتَاهُ وَفَاةُ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَفِي غَزْوَةِ تَبُوكَ بَقِيّةُ حَدِيثِ قَيْصَرَ فَانْظُرْهُ هُنَالِكَ .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب الإبانة عن أصول الديانة علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري أبو الحسن

  كتاب الإبانة عن أصول الديانة علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري أبو الحسن بسم الله الرحمن الرحيم وهو حسبي ونعم الوكيل وصلى الله على...