الثلاثاء، 4 أكتوبر 2022

ج19.وج20.مفاتيح الغيب للرازي

ج19.وج20.مفاتيح الغيب للرازي

ج19.مفاتيح الغيب ـ ترقيم الشاملة موافق للمطبوع
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي الشافعي

حشر فإنه يحشر معه مركوبه وأيضا فبتقدير أنهم كانوا منكرين للقيامة فلعلهم قالوا إن كان محمد صادقا في قوله بالبعث والنشور فإنه يحصل لنا الجنة والثواب بسبب هذا الدين الحق الذي نحن عليه ومن الناس من قال الأولى أن يحمل الحسنى على هذا الوجه بدليل أنه تعالى قال بعده لا جرم أن لهم النار فرد عليهم قولهم وأثبت لهم النار فدل هذا على أنهم حكموا لأنفسهم بالجنة قال الزجاج لا رد لقولهم والمعنى ليس الأمر كما وصفوا جرم فعلهم أي كسب ذلك القول لهم النار فعلى هذا اللفظ أن في محل النصب بوقوع الكسب عليه وقال قطرب أن في موضع رفع والمعنى وجب أن لهم النار وكيف كان الإعراب فالمعنى هو أنه يحق لهم النار ويجب ويثبت وقوله وأنهم مفرطون قرأ نافع وقتيبة عن الكسائي مفرطون بكسر الراء والباقون مفرطون بفتح الراء أما قراءة نافع فقال الفراء المعنى أنهم كانوا مفرطين على أنفسهم في الذنوب وقيل أفرطوا في الافتراء على الله تعالى وقال أبو علي الفارسي كأنه من أفرط أي صار ذا فرط مثل أجرب أي صار ذا جرب والمعنى أنهم ذوو فرط إلى النار كأنهم قد أرسلوا من يهيء لهم مواضع فيها وأما قراءة قوله مفرطون بفتح الراء ففيه قولان
القول الأول المعنى أنهم متركون في النار قال الكسائي يقال ما أفرطت من القوم أحدا أي ما تركت وقال الفراء تقول العرب أفرطت منهم ناسا أي خلفتهم وأنسيتهم
والقول الثاني مفرطون أي معجلون قال الواحدي رحمه الله وهو الاختيار ووجهه ما قال أبو زيد وغيره فرط الرجل أصحابه يفرطهم فرطا وفروطا إذا تقدمهم إلى الماء ليصلح الدلاء والأرسان وأفرط القوم الفارط وفرطوه إذا قدموه فمعنى قوله مفرطون على هذا التقدير كأنهم قدموا إلى النار فهم فيها فرط للذين يدخلون بعدهم ثم بين تعالى أن مثل هذا الصنع الذي يصدر من مشركي قريش قد صدر من سائر الأمم السابقين في حق الأنبياء المتقدمين عليهم السلام فقال تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم وهذا يجري مجرى التسلية للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فيما كان يناله من الغم بسبب جهالات القوم قالت المعتزلة الآية تدل على فساد قول المجبرة من وجوه الأول أنه إذا كان خالق أعمالهم هو الله تعالى فلا فائدة في التزيين والثاني أن ذلك التزيين لما كان بخلق الله تعالى لم يجز ذم الشيطان بسببه والثالث أن التزيين هو الذي يدعة الإنسان إلى الفعل وإذا كان حصول الفعل فيه بخلق الله تعالى كان ضروريا فلم يكن التزيين داعيا والرابع أن على قولهم الخالق لذلك العمل أجدر أن يكون وليا لهم من الداعي إليه والخامس أنه تعالى أضاف التزيين إلى الشيطان ولو كان ذلك المزين هو الله تعالى لكانت إضافته إلى الشيطان كذبا
وجوابه إن كان مزين القبائح في أعين الكفار هو الشيطان فمزين تلك الوساوس في عين الشيطان إن كان شيطاناً آخر لزم التسلسل وإن كان هو الله تعالى فهو المطلوب
ثم قال تعالى فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وفيه احتمالان الأول أن المراد منه كفار مكة وبقوله فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ أي الشيطان ويتولى إغواءهم وصرفهم عنك كما فعل بكفار الأمم قبلك فيكون على هذا التقدير رجع عن أخبار الأمم الماضية إلى الأخبار عن كفار مكة الثاني أنه أراد باليوم يوم القيامة يقول فهو ولي أولئك الذين كفروا يزين لهم أعمالهم يوم القيامة وأطلق اسم اليوم على يوم القيامة لشهرة ذلك اليوم

والمقصود من قوله فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ هو أنه لا ولي لهم ذلك اليوم ولا ناصر وذلك لأنهم إذا عاينوا العذاب وقد نزل بالشيطان كنزوله بهم ورأوا أنه لا مخلص له منه كما لا مخلص لهم منه جاز أن يوبخوا بأن يقال لهم هذا وليكم اليوم على وجه السخرية ثم ذكر تعالى أن مع هذا الوعيد الشديد أقام الحجة وأزاح العلة فقال وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيّنَ لَهُمُ الَّذِى اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَة ً وفيه مسائل
المسألة الأولى المعنى أنا ما أنزلنا عليك القرآن إلا لتبين لهم بواسطة بيانات هذا القرآن الأشياء التي اختلفوا فيها والمختلفون هم أهل الملل والأهواء وما اختلفوا فيه هو الدين مثل التوحيد والشرك والجبر والقدر وإثبات المعاد ونفيه ومثل الأحكام مثل أنهم حرموا أشياء تحل كالبحيرة والسائبة وغيرهما وحللوا أشياء تحرم كالميتة
المسألة الثانية اللام في قوله لِتُبَيّنَ تدل على أن أفعال الله تعالى معللة بالأغراض ونظيره آيات كثيرة منها قوله كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ ( إبراهيم 1 ) وقوله وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( الذاريات 56 )
وجوابه أنه لما ثبت بالعقل امتناع التعليل وجب صرفه إلى التأويل
المسألة الثالثة قال صاحب ( الكشاف ) قوله هُدًى وَرَحْمَة ً معطوفان على محل قوله لِتُبَيّنَ إلا أنهما انتصبا على أنه مفعول لهما لأنهما فعلا الذي أنزل الكتاب ودخلت اللام في قوله لِتُبَيّنَ لأنه فعل المخاطب لا فعل المنزل وإنما ينتصب مفعولاً له ما كان فعلاً لذلك الفاعل
المسألة الرابعة قال الكلبي وصف القرآن بكونه هدى ورحمة لقوم يؤمنون لا ينفي كونه كذلك في حق الكل كما أن قوله تعالى في أول سورة البقرة هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2 ) لا ينفي كونه هدى لكل الناس كما ذكره في قوله هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ( البقرة 185 ) وإنما خص المؤمنين بالذكر من حيث إنهم قبلوه فانتفعوا به كما في قوله إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا ( النازعات 45 ) لأنه إنما انتفع بإنذاره هذا القوم فقط والله أعلم
وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنَ الْسَّمَآءِ مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَآ إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَة ً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ وَإِنَّ لَكُمْ فِى الاٌّ نْعَامِ لَعِبْرَة ً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِى بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالاٌّ عْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَة ً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
اعلم أنا قد ذكرنا أن المقصود الأعظم من هذا القرآن العظيم تقرير أصول أربعة الإلهيات والنبوات والمعاد وإثبات القضاء والقدر والمقصود الأعظم من هذه الأصول الأربعة تقرير الآلهيات فلهذا السبب

كلما امتد الكلام في فصل من الفصول في وعيد الكفار عاد إلى تقرير الآلهيات وقد ذكرنا في أول هذه السورة أنه تعالى لما أراد ذكر دلائل الآلهيات ابتدأ بالأجرام الفلكية وثنى بالإنسان وثلث بالحيوان وربع بالنبات وخمس بذكر أحوال البحر والأرض فههنا في هذه الآية لما عاد إلى تقرير دلائل الإلهيات بدأ أولاً بذكر الفلكيات فقال وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنَ الْسَّمَاء مَآء فَأَحْيَا بِهِ الاْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا والمعنى أنه تعالى خلق السماء على وجه ينزل منه الماء ويصير ذلك الماء سبباً لحياة الأرض والمراد بحياة الأرض نبات الزرع والشجر والنور والثمر بعد أن كان لا يثمر وينفع بعد أن كان لا ينفع وتقرير هذه الدلائل قد ذكرناه مراراً كثيرة
ثم قال إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَة ً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ سماع إنصاف وتدبر لأن من لم يسمع بقلبه فكأنه أصم لم يسمع
والنوع الثاني من الدلائل المذكورة في هذه الآيات الاستدلال بعجائب أحوال الحيوانات وهو قوله وَإِنَّ لَكُمْ فِى الاْنْعَامِ لَعِبْرَة ً نُّسْقِيكُمْ مّمَّا فِى بُطُونِهِ قد ذكرنا معنى العبرة في قوله لَعِبْرَة ً لاِوْلِى الاْبْصَارِ ( آل عمران 13 ) وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي نُّسْقِيكُمْ بضم النون والباقون بالفتح أما من فتح النون فحجته ظاهرة تقول سقيته حتى روى أسقيه قال تعالى وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً ( الإنسان 21 ) وقال وَالَّذِى هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ ( الشعراء 79 ) وقال وَسُقُواْ مَاء حَمِيماً ( محمد 15 ) ومن ضم النون فهو من قولك أسقاه إذا جعل له شراباً كقوله وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاء فُرَاتاً ( المرسلات 27 ) وقوله فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ ( الحجر 22 ) والمعنى ههنا أنا جعلناه في كثرته وإدامته كالسقيا واختار أبو عبيد الضم قال لأنه شرب دائم وأكثر ما يقال في هذا المقام أسقيت
المسألة الثانية قوله 6 مما في بطونه الضمير عائد إلى الأنعام فكان الواجب أن يقال مما في بطونها وذكر النحويون فيه وجوهاً الأول أن لفظ الأنعام مفرد وضع لإفادة جمع كالرهط والقوم والبقر والنعم فهو بحسب اللفظ لفظ مفرد فيكون ضميره ضمير الواحد وهو التذكير وبحسب المعنى جمع فيكون ضميره ضمير الجمع وهو التأنيث فلهذا السبب قال ههنا الضمير عائد إلى الأنعام فكان الواجب أن يقال مما في بطونها وذكر النحويون فيه وجوهاً الأول أن لفظ الأنعام مفرد وضع لإفادة جمع كالرهط والقوم والبقر والنعم فهو بحسب اللفظ لفظ مفرد فيكون ضميره ضمير الواحد وهو التذكير وبحسب المعنى جمع فيكون ضميره ضمير الجمع وهو التأنيث فلهذا السبب قال ههنا فِى بُطُونِهِ وقال في سورة المؤمنين فِى بُطُونِهَا ( المؤمنون 21 ) الثاني قوله فِى بُطُونِهِ أي في بطون ما ذكرنا وهذا جواب الكسائي قال المبرد هذا شائع في القرآن قال تعالى فَلَماَّ رَأَى الشَّمْسَ كَوْكَباً قَالَ هَاذَا رَبّى ( الأنعام 78 ) يعني هذا الشيء الطالع ربي وقال كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَة ٌ فَمَن شَاء ذَكَرَهُ ( المدثر 54 55 ) أي ذكر هذا الشيء
واعلم أن هذا إنما يجوز فيما يكون تأنيثه غير حقيقي أما الذي يكون تأنيثه حقيقياً فلا يجوز فإنه لا يجوز في مستقيم الكلام أن يقال جاريتك ذهب ولا غلامك ذهب على تقدير أن نحمله على النسمة الثالث أن فيه إضماراً والتقدير نسقيكم مما في بطونه اللبن إذ ليس كلها ذات لبن
المسألة الثالثة الفرث سرجين الكرش روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال إذا استقر العلف في الكرش صار أسفله فرثاً وأعلاه دماً وأوسطه لبناً فيجري الدم في العروق واللبن في

الضرع ويبقى الفرث كما هو فذاك هو قوله تعالى مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا لا يشوبه الدم ولا الفرث
ولقائل أن يقول الدم واللبن لا يتولدان ألبتة في الكرش والدليل عليه الحس فإن هذه الحيوانات تذبح ذبحاً متوالياً وما رأى أحد في كرشها لا دماً ولا لبناً ولو كان تولد الدم واللبن في الكرش لوجب أن يشاهد ذلك في بعض الأحوال والشيء الذي دلت المشاهدة على فساده لم يجز المصير إليه بل الحق أن الحيوان إذا تناول الغذاء وصل ذلك العلف إلى معدته إن كان إنساناً وإلى كرشه إن كان من الأنعام وغيرها فإذا طبخ وحصل الهضم الأول فيه فما كان منه صافياً انجذب إلى الكبد وما كان كثيفاً نزل إلى الأمعاء ثم ذلك الذي يحصل منه في الكبد ينطبخ فيها ويصير دماً وذلك هو الهضم الثاني ويكون ذلك الدم مخلوطاً بالصفراء والسوداء وزيادة المائية أما الصفراء فتذهب إلى المرارة والسوداء إلى الطحال والماء إلى الكلية ومنها إلى المثانة وأما ذلك الدم فإنه يدخل في الأوردة وهي العروق النابتة من الكبد وهناك يحصل الهضم الثالث وبين الكبد وبين الضرع عروق كثيرة فينصب الدم في تلك العروق إلى الضرع والضرع لحم غددي رخو أبيض فيقلب الله تعالى الدم عند انصبابه إلى ذلك اللحم الغددي الرخو الأبيض من صورة الدم إلى صورة اللبن فهذا هو القول الصحيح في كيفية تولد اللبن
فإن قيل فهذه المعاني حاصلة في الحيوان الذكر فلم لم يحصل منه اللبن
قلنا الحكمة الإلهية اقتضت تدبير كل شيء على الوجه اللائق به الموافق لمصلحته فمزاج الذكر من كل حيوان يجب أن يكون حاراً يابساً ومزاج الأنثى يجب أن يكون بارداً رطباً والحكمة فيه أن الولد إنما يتكون في داخل بدن الأنثى فوجب أن تكون الأنثى مختصة بمزيد الرطوبات لوجهين الأول أن الولد إنما يتولد من الرطوبات فوجب أن يحصل في بدن الأنثى رطوبات كثيرة لتصير مادة التولد الولد والثاني أن الولد إذا كبر وجب أن يكون بدن الأم قابلاً للتمدد حتى يتسع لذلك الولد فإذا كانت الرطوبات غالبة على بدن الأم كان بدنها قابلاً للتمدد فيتسع للولد فثبت بما ذكرنا أنه تعالى خص بدن الأنثى من كل حيوان بمزيد الرطوبات لهذه الحكمة ثم إن الرطوبات التي كانت تصير مادة لازدياد بدن الجنين حين كان في رحم الأم فعند انفصال الجنين تنصب إلى الثدي والضرع ليصير مادة لغذاء ذلك الطفل الصغير
إذا عرفت هذا فاعلم أن السبب الذي إجله يتولد اللبن من الدم في حق الأنثى غير حاصل في حق الذكر فظهر الفرق
إذا عرفت هذا التصوير فنقول المفسرون قالوا المراد من قوله مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ هو أن هذه الثلاثة تتولد في موضع واحد فالفرث يكون في أسفل الكرش والدم يكون في أعلاه واللبن يكون في الوسط وقد دللنا على أن هذا القول على خلاف الحس والتجربة ولأن الدم لو كان يتولد في أعلى المعدة والكرش كان يجب إذاقاء أن يقيء الدم وذلك باطل قطعاً وأما نحن فنقول المراد من الآية هو أن اللبن إنما يتولد من بعض أجزاء الدم والدم إنما يتولد من الأجزاء اللطيفة التي في الفرث وهو الأشياء المأكولة الحاصلة في الكرش وهذا اللبن متولد من الأجزاء التي كانت حاصلة فيما بين الفرث أولاً ثم كانت حاصلة فيما بين الدم ثانياً فصفاه الله تعالى عن تلك الأجزاء الكثيفة الغليظة وخلق فيها الصفات التي

باعتبارها صارت لبناً موافقاً لبدن الطفل فهذا ما حصلناه في هذا المقام والله أعلم
المسألة الرابعة اعلم أن حدوث اللبن في الثدي واتصافه بالصفات التي باعتبارها يكون موافقاً لتغذية الصبي مشتمل على حكم عجيبة وأسرار بديعة يشهد صريح العقل بأنها لا تحصل إلا بتدبير الفاعل الحكيم والمدبر الرحيم وبيانه من وجوه الأول أنه تعالى خلق في أسفل المعدة منفذاً يخرج منه ثقل الغذاء فإذا تناول الإنسان غذاء أو شربة رقيقة انطبق ذلك المنقذ انطباقاً كلياً لا يخرج منه شيء من ذلك المأكول والمشروب إلى أن يكمل انهضامه في المعدة وينجذب ما صفا منه إلى الكبد ويبقى الثقل هناك فحينئذ ينفتح ذلك المنفذ ويترك منه ذلك الثقل وهذا من العجائب التي لا يمكن حصولها إلا بتدبير الفاعل الحكيم لأنه متى كانت الحاجة إلى بقاء الغذاء في المعدة حاصلة انطبق ذلك المنفذ وإذا حصلت الحاجة إلى خروج ذلك الجسم عن المعدة انفتح فحصول الانطباق تارة والانفتاح أخرى بحسب الحاجة وتقدير المنفعة مما لا يتأتى إلا بتقدير الفاعل الحكيم الثاني أنه تعالى أودع في الكبد قوة تجذب الأجزاء اللطيفة الحاصلة في ذلك المأكول أو المشروب ولا تجذب الأجزاء الكثيفة وخلق في الأمعاء قوة تجذب تلك الأجزاء الكثيفة التي هي الثقل ولا تجذب الأجزاء اللطيفة ألبتة ولو كان الأمر بالعكس لاختلفت مصلحة البدن ولفسد نظام هذا التركيب الثالث أنه تعالى أودع في الكبد قوة هاضمة طابخة حتى أن تلك الأجزاء اللطيفة تنطبخ في الكبد وتنقلب دماً ثم إنه تعالى أودع في المرارة قوة جاذبة للصفراء وفي الطحال قوة جاذبة للسوداء وفي الكلية قوة جاذبة لزيادة المائية حتى يبقى الدم الصافي الموافق لتغذية البدن وتخصيص كل واحد من هذه الأعضاء بتلك القوة والخاصية لا يمكن إلا بتقدير الحكيم العليم الرابع أن في الوقت الذي يكون الجنين في رحم الأم ينصب من ذلك الدم نصيب وافر إليه حتى يصير مادة لنمو أعضاء ذلك الولد وازدياده فإذا انفصل ذلك الجنين عن الرحم ينصب ذلك النصيب إلى جانب الثدي ليتولد منه اللبن الذي يكون غذاء له فإذا كبر الولد لم ينصب ذلك النصيب لا إلى الرحم ولا إلى الثدي بل ينصب على مجموع بدن المغتذي فانصباب ذلك الدم في كل وقت إلى عضو آخر انصباباً موافقاً للمصلحة والحكمة لا يتأتى إلا بتدبير الفاعل المختار الحكيم والخامس أن عند تولد اللبن في الضرع أحدث تعالى في حلمة الثدي ثقوباً صغيرة ومسام ضيقة وجعلها بحيث إذا اتصل المص أو الحلب بتلك الحلمة انفصل اللبن عنها في تلك المسام الضيقة ولما كانت تلك المسام ضيقة جداً فحينئذ لا يخرج منها إلا ما كان في غاية الصفاء واللطافة وأما الأجزاء الكثيفة فإنه لا يمكنها الخروج من تلك المنافذ الضيقة فتبقى في الداخل والحكمة في إحداث تلك الثقوب الصغيرة والمنافذ الضيقة في رأس حلمة الثدي أن يكون ذلك كالمصفاة فكل ما كان لطيفاً خرج وكل ما كان كثيفاً احتبس في الداخل ولم يخرج فبهذا الطريق يصير ذلك اللبن خالصاً موافقاً لبدن الصبي سائغاً للشاربين السادس أنه تعالى ألهم ذلك الصبي إلى المص فإن الأم كلما ألقمت حلمة الثدي في فم الصبي فذلك الصبي في الحال يأخذ في المص فلولا أن الفاعل المختار الرحيم ألهم ذلك الطفل الصغير ذلك العمل المخصوص وإلا لم يحصل الانتفاع بتخليق ذلك اللبن في الثدي السابع أنا بينا أنه تعالى إنما خلق اللبن من فضلة الدم وإنما خلق الدم من لطيف تلك الأجزاء ثم خلق اللبن من بعض أجزاء ذلك الدم ثم إن اللبن حصلت فيه أجزاء ثلاثة على طبائع متضادة فما فيه من الدهن

يكون حاراً رطباً وما فيه من المائية يكون بارداً رطباً وما فيه من الجبنية يكون بارداً يابساً وهذه الطبائع ما كانت حاصلة في ذلك العشب الذي تناولته الشاة فظهر بهذا أن هذه الأجسام لا تزال تنقلب من صفة إلى صفة ومن حالة إلى حالة مع أنه لا يناسب بعضها بعضاً ولا يشاكل بعضها بعضاً وعند ذلك يظهر أن هذه الأحوال إنما تحدث بتدبير فاعل حكيم رحيم يدبر أحوال هذا العالم على وفق مصالح العباد فسبحان من تشهد جميع ذرات العالم الأعلى والأسفل بكمال قدرته ونهاية حكمته ورحمته له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين
أما قوله سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ فمعناه جارياً في حلوقهم لذيذاً هنيئاً يقال ساغ الشراب في الحلق وأساغه صاحبه ومنه قوله وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ ( إبراهيم 17 )
المسألة الخامسة قال أهل التحقيق اعتبار حدوث اللبن كما يدل على وجود الصانع المختار سبحانه فكذلك يدل على إمكان الحشر والنشر وذلك لأن هذا العشب الذي يأكله الحيوان إنما يتولد من الماء والأرض فخالق العالم دبر تدبيراً فقلب ذلك الطين نباتاً وعشباً ثم إذا أكله الحيوان دبر تدبيراً آخر فقلب ذلك العشب دماً ثم دبر تدبيراً آخر فقلب ذلك الدم لبناً ثم دبر تدبيراً آخر فحدث من ذلك اللبن الدهن والجبن فهذا يدل على أنه تعالى قادر على أن يقلب هذه الأجسام من صفة إلى صفة ومن حالة إلى حالة فإذا كان كذلك لم يمتنع أيضاً أن يكون قادراً على أن يقلب أجزاء أبدان الأموات إلى صفة الحياة والعقل كما كانت قبل ذلك فهذا الاعتبار يدل من هذا الوجه على أن البعث والقيامة أمر ممكن غير ممتنع والله أعلم
ثم قال تعالى وَمِن ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالاْعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا اعلم أنه تعالى لما ذكر بعض منافع الحيوانات في الآية المتقدمة ذكر في هذه الآية بعض منافع النبات وفيه مسائل
المسألة الأولى فإن قيل بم تعلق قوله وَمِن ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالاْعْنَابِ
قلنا بمحذوف تقديره ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب أي من عصيرها وحذف لدلالة نسقيكم قبله عليه وقوله تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا بيان وكشف عن كنه الإسقاء
المسألة الثانية قال الواحدي الأعناب عطف على الثمرات لا على النخيل لأنه يصير التقدير ومن ثمرات الأعناب والعنب نفسه ثمرة وليست له ثمرة أخرى
المسألة الثالثة في تفسير السكر وجوه الأول السكر الخمر سميت بالمصدر من سكر سكراً وسكراً نحو رشد رشداً ورشداً وأما الرزق الحسن فسائر ما يتخذ من النخيل والأعناب كالرب والخل والدبس والتمر والزبيب
فإن قيل الخمر محرمة فكيف ذكرها الله في معرض الإنعام
أجابوا عنه من وجهين الأول أن هذه السورة مكية وتحريم الخمر نزل في سورة المائدة فكان نزول هذه الآية في الوقت الذي كانت الخمر فيه غير محرمة الثاني أنه لا حاجة إلى التزام هذا النسخ وذلك لأنه تعالى ذكر ما في هذه الأشياء من النافع وخاطب المشركين بها والخمر من أشربتهم فهي منفعة في حقهم ثم إنه تعالى نبه في هذه الآية أيضاً على تحريمها وذلك لأنه ميز بينها وبين الرزق الحسن في

الذكر فوجب أن لا يكون السكر رزقاً حسناً ولا شك أنه حسن بحسب الشهوة فوجب أن يقال الرجوع عن كونه حسناً بحسب الشريعة وهذا إنما يكون كذلك إذا كانت محرمة
القول الثاني أن السكر هو النبيذ وهو عصير العنب والزبيب والتمر إذا طبخ حتى يذهب ثلثاه ثم يترك حتى يشتد وهو حلال عند أبي حنيفة رحمه الله إلى حد السكر ويحتج بأن هذه الآية تدل على أن السكر حلال لأنه تعالى ذكره في معرض الإنعام والمنة ودل الحديث على أن الخمر حرام قال عليه السلام ( الخمر حرام لعينها ) وهذا يقتضي أن يكون السكر شيئاً غير الخمر وكل من أثبت هذه المغايرة قال إنه النبيذ المطبوخ
والقول الثالث أن السكر هو الطعام قاله أبو عبيدة واحتج عليه بقول الشاعر
جعلت أعراض الكرام سكراً
أي جعلت ذمهم طعاماً لك قال الزجاج هذا بالخمر أشبه منه بالطعام والمعنى أنك جعلت تتخمر بأغراض الكرام والمعنى أنه جعل شغفه بغيبة الناس وتمزيق أعراضهم جارياً مجرى شرب الخمر
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه الوجوه التي هي دلائل من وجه وتعديد للنعم العظيمة من وجه آخر قال حَسَنًا إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَة ً لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ والمعنى أن من كان عاقلاً علم بالضرورة أن هذه الأحوال لا يقدر عليها إلا الله سبحانه وتعالى فيحتج بحصولها على وجود الإله القادر الحكيم والله أعلم
وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِى مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ثُمَّ كُلِى مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِى سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَة ً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين أن إخراج الألبان من النعم وإخراج السكر والرزق الحسن من ثمرات النخيل والأعناب دلائل قاهرة وبينات باهرة على أن لهذا العالم إلهاً قادراً مختاراً حكيماً فكذلك إخراج العسل من النحل دليل قاطع وبرهان ساطع على إثبات هذا المقصود وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قوله وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ يقال وحى وأوحى وهو الإلهام والمراد من الإلهام أنه تعالى قرر في أنفسها هذه الأعمال العجيبة التي تعجز عنها العقلاء من البشر وبيانه من وجوه الأول أنها تبني البيوت المسدسة من أضلاع متساوية لا يزيد بعضها على بعض بمجرد طباعها والعقلاء من البشر لا يمكنهم بناء مثل تلك البيوت إلا بآلات وأدوات مثل المسطر والفرجار والثاني أنه ثبت في الهندسة أن تلك البيوت لو كانت مشكلة بأشكال سوى المسدسات فإنه يبقى بالضرورة فيما بين تلك البيوت فرج خالية ضائعة

أما إذا كانت تلك البيوت مسدسة فإنه لا يبقى فيما بينها فرج ضائعة فإهداء ذلك الحيوان الضعيف إلى هذه الحكمة الخفية والدقيقة اللطيفة من الأعاجيب والثالث أن النحل يحصل فيما بينها واحد يكون كالرئيس للبقية وذلك الواحد يكون أعظم جثة من الباقي ويكون نافذ الحكم على تلك البقية وهم يخدمونه ويحملونه عند الطيران وذلك أيضاً من الأعاجيب والرابع أنها إذا نفرت من وكرها ذهبت مع الجمعية إلى موضع آخر فإذا أرادوا عودها إلى وكرها ضربوا الطنبور والملاهي وآلات الموسيقى وبواسطة تلك الألحان يقدرون على ردها إلى وكرها وهذا أيضاً حالة عجيبة فلما امتاز هذا الحيوان بهذه الخواص العجيبة الدالة على مزيد الذكاء والكياسة وكان حصول هذه الأنواع من الكياسة ليس إلا على سبيل الإلهام وهي حالة شبيهة بالوحي لا جرم قال تعالى في حقها وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ
واعلم أن الوحي قد ورد في حق الأنبياء لقوله تعالى وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً ( الشورى 51 ) وفي حق الأولياء أيضاً قال تعالى وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى ( المائدة 111 ) وبمعنى الإلهام في حق البشر قال تعالى يَحْذَرونَ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمّ مُوسَى ( القصص 7 ) وفي حق سائر الحيوانات كما في قوله وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ولكل واحد من هذه الأقسام معنى خاص والله أعلم
المسألة الثانية قال الزجاج يجوز أن يقال سمي هذا الحيوان نحلاً لأن الله تعالى نحل الناس العسل الذي يخرج من بطونها وقال غيره النحل يذكر ويؤنث وهي مؤنثة في لغة الحجاز ولذلك أنثها الله تعالى وكذلك كل جمع ليس بينه وبين واحده إلا الهاء
ثم قال تعالى أَنِ اتَّخِذِى مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) أَنِ اتَّخِذِى هي ( أن ) المفسرة لأن الإيحاء فيه معنى القول وقرىء بُيُوتًا بكسر الباء وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ أي يبنون ويسقفون وفيه لغتان قرىء بهما ضم الراء وكسرها مثل يعكفون ويعكفون
واعلم أن النحل نوعان
النوع الأول ما يسكن في الجبال والغياض ولا يتعهدها أحد من الناس
والنوع الثاني التي تسكن بيوت الناس وتكون في تعهدات الناس فالأول هو المراد بقوله أَنِ اتَّخِذِى مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ والثاني هو المراد بقوله وَمِمَّا يَعْرِشُونَ وهو خلايا النحل
فإن قيل ما معنى ( من ) في قوله أَنِ اتَّخِذِى مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ وهلا قيل في الجبال وفي الشجر
قلنا أريد به معنى البعضية وأن لا تبني بيوتها في كل جبل وشجر بل في مساكن توافق مصالحها وتليق بها
المسألة الثانية ظاهر قوله تعالى أَنِ اتَّخِذِى مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا أمر وقد اختلفوا فيه فمن الناس من يقول لا يبعد أن يكون لهذه الحيوانات عقول ولا يبعد أن يتوجه عليها من الله تعالى أمر ونهي وقال آخرون ليس الأمر كذلك بل المراد منه أنه تعالى خلق فيها غرائز وطبائع توجب هذه الأحوال والكلام

المستقصى في هذه المسألة مذكور في تفسير قوله تعالى نَمْلَة ٌ يأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ ( النمل 18 )
ثم قال تعالى ثُمَّ كُلِى مِن كُلّ الثَّمَراتِ لفظة ( من ) ههنا للتبعيض أو لابتداء الغاية ورأيت في ( كتب الطب ) أنه تعالى دبر هذا العالم على وجه وهو أنه يحدث في الهواء طل لطيف في الليالي ويقع ذلك الطل على أوراق الأشجار فقد تكون تلك الأجزاء الطلية لطيفة صغيرة متفرقة على الأوراق والأزهار وقد تكون كثيرة بحيث يجتمع منها أجزاء محسوسة
أما القسم الثاني فهو مثل الترنجبين فإنه طل ينزل من الهواء ويجتمع على أطراف الطرفاء في بعض البلدان وذلك محسوس
وأما القسم الأول فهو الذي ألهم الله تعالى هذا النحل حتى أنها تلتقط تلك الذرات من الأزهار وأوراق الأشجار بأفواهها وتأكلها وتغتذي بها فإذا شبعت التقطت بأفواهها مرة أخرى شيئاً من تلك الأجزاء وذهبت بها إلى بيوتها ووضعتها هناك لأنها تحاول أن تدخر لنفسها غذاءها فإذا اجتمع في بيوتها من تلك الأجزاء الطلية شيء كثير فذاك هو العسل ومن الناس من يقول إن النحل تأكل من الأزهار الطيبة والأوراق المعطرة أشياء ثم إنه تعالى يقلب تلك الأجسام في داخل بدنها عسلاً ثم إنها تقيء مرة أخرى فذاك هو العسل والقول الأول أقرب إلى العقل وأشد مناسبة إلى الاستقراء فإن طبيعة الترنجبين قريبة من العسل في الطعم والشكل ولا شك أنه طل يحدث في الهواء ويقع على أطراف الأشجار والأزهار فكذا ههنا وأيضاً فنحن نشاهد أن هذا النحل إنما يتغذى بالعسل ولذلك فإنا إذا استخرجنا العسل من بيوت النحل نترك لها بقية من ذلك لأجل أن تغتذي بها فعلمنا أنها إنما تغتذي بالعسل وأنها إنما تقع على الأشجار والأزهار لأنها تغتذي بتلك الأجزاء الطلية العسلية الواقعة من الهواء عليها
إذا عرفت هذا فنقول قوله تعالى ثُمَّ كُلِى مِن كُلّ الثَّمَراتِ كلمة ( من ) ههنا تكون لابتداء الغاية ولا تكون للتبعيض على هذا القول
ثم قال تعالى فَاسْلُكِى سُبُلَ رَبّكِ والمعنى ثم كلي كل ثمرة تشتهينها فإذا أكلتها فاسلكي سبل ربك في الطرق التي ألهمك وأفهمك في عمل العسل أو يكون المراد فاسلكي في طلب تلك الثمرات سبل ربك أما قوله ذُلُلاً ففيه قولان الأول أنه حال من السبل لأن الله تعالى ذللها لها ووطأها وسهلها كقوله هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاْرْضَ ذَلُولاً ( الملك 15 ) الثاني أنه حال من الضمير في فَاسْلُكِى أي وأنت أيها النحل ذلل منقادة لما أمرت به غير ممتنعة
ثم قال تعالى يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا وفيه بحثان
البحث الأول أن هذا رجوع من الخطاب إلى الغيبة والسبب فيه أن المقصود من ذكر هذه الأحوال أن يحتج الإنسان المكلف به على قدرة الله تعالى وحكمته وحسن تدبيره لأحوال العالم العلوي والسفلي فكأنه تعالى لما خاطب النحل بما سبق ذكره خاطب الإنسان وقال إنا ألهمنا هذا النحل لهذه العجائب لأجل أن يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه
البحث الثاني أنه قد ذكرنا أن من الناس من يقول العسل عبارة عن أجزاء طلية تحدث في الهواء وتقع

على أطراف الأشجار وعلى الأوراق والأزهار فيلقطها الزنبور بفمه فإذا ذهبنا إلى هذا الوجه كان المراد من قوله يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا أي من أفواهها وكل تجويف في داخل البدن فإنه يسمى بطناً ألا ترى أنهم يقولون بطون الدماغ وعنوا أنها تجاويف الدماغ وكذا ههنا يخرج من بطونها أي من أفواهها وأما على قول أهل الظاهر وهو أن النحلة تأكل الأوراق والثمرات ثم تقيء فذلك هو العسل فالكلام ظاهر
ثم قال تعالى شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَآء لِلنَّاسِ اعلم أنه تعالى وصف العسل بهذه الصفات الثلاثة
فالصفة الأولى كونه شراباً والأمر كذلك لأنه تارة يشرب وحده وتارة يتخذ من الأشربة
والصفة الثانية قوله مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ والمعنى أن منه أحمر وأبيض وأصفر ونظيره قوله تعالى وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ ( فاطر 27 ) والمقصود منه إبطال القول بالطبع لأن هذا الجسم مع كونه متساوي الطبيعة لما حدث على ألوان مختلفة دل ذلك على أن حدوث تلك الألوان بتدبير الفاعل المختار لا لأجل إيجاد الطبيعة
والصفة الثالثة قوله فِيهِ شِفَآء لِلنَّاسِ وفيه قولان
القول الأول وهو الصحيح أنه صفة للعسل
فإن قالوا كيف يكون شفاء للناس وهو يضر بالصفراء ويهيج المرارة
قلنا إنه تعالى لم يقل إنه شفاء لكل الناس ولكل داء وفي كل حال بل لما كان شفاء للبعض من بعض الأدواء صلح بأن يوصف بأنه فيه شفاء والذي يدل على أنه شفاء في الجملة أنه قال معجون من المعاجين إلا وتمامه وكماله إنما يحصل بالعجن بالعسل وأيضاً فالأشربة المتخذة منه في الأمراض البلغمية عظيمة النفع
والقول الثاني وهو قول مجاهد أن المراد أن القرآن شفاء للناس وعلى هذا التقدير فقصة تولد العسل من النحل تمت عند قوله يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ ثم ابتدأ وقال فِيهِ شِفَآء لِلنَّاسِ أي في هذا القرآن حصل ما هو شفاء للناس من الكفر والبدعة مثل هذا الذي في قصة النحل وعن ابن مسعود أن العسل شفاء من كل داء والقرآن شفاء لما في الصدور
واعلم أن هذا القول ضعيف ويدل عليه وجهان الأول أن الضمير في قوله فِيهِ شِفَآء لِلنَّاسِ يجب عوده إلى أقرب المذكورات وما ذاك إلا قوله شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ وأما الحكم بعود هذا الضمير إلى القرآن مع أنه غير مذكور فيما سبق فهو غير مناسب والثاني ما روى أبو سعيد الخدري أنه جاء رجل إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال إن أخي يشتكي بطنه فقال ( اسقه عسلاً ) فذهب ثم رجع فقال قد سقيته فلم يغن عنه شيئاً فقال عليه الصلاة والسلام ( اذهب واسقه عسلاً ) فذهب فسقاه فكأنما نشط من عقال فقال ( صدق الله وكذب بطن أخيك ) وحملوا قوله ( صدق الله وكذب بطن أخيك ) على قوله فِيهِ شِفَآء لِلنَّاسِ وذلك إنما يصح لو كان هذا صفة للعسل
فإن قال قائل ما المراد بقوله عليه السلام ( صدق الله وكذب بطن أخيك )

قلنا لعله عليه السلام علم بنور الوحي أن ذلك العسل سيظهر نفعه بعد ذلك فلما لم يظهر نفعه في الحال مع أنه عليه السلام كان عالماً بأنه سيظهر نفعه بعد ذلك كان هذا جارياً مجرى الكذب فلهذا السبب أطلق عليه هذا اللفظ
ثم أنه تعالى ختم الآية بقوله إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَة ً لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ واعلم أن تقرير هذه الآية من وجوه الأول اختصاص النحل بتلك العلوم الدقيقة والمعارف الغامضة مثل بناء البيوت المسدسة وسائر الأحوال التي ذكرناها والثاني اهتداؤها إلى جميع تلك الأجزاء العسلية من أطراف الأشجار والأوراق والثالث خلق الله تعالى الأجزاء النافعة في جو الهواء ثم إلقاؤها على أطراف الأشجار والأوراق ثم إلهام النحل إلى جمعها بعد تفريقها وكل ذلك أمور عجيبة دالة على أن إله العالم بنى ترتيبه على رعاية الحكمة والمصلحة والله أعلم
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَى ْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ
في الآية مسائل
المسألة الأولى لما ذكر تعالى بعض عجائب أحوال الحيوانات ذكر بعده بعض عجائب أحوال الناس فمنها ما هو مذكور في هذه الآية وهو إشارة إلى مراتب عمر الإنسان والعقلاء ضبطوها في أربع مراتب أولها سن النشو والنماء وثانيهما سن الوقوف وهو سن الشباب وثالثها سن الانحطاط القليل وهو سن الكهولة ورابعها سن الانحطاط الكبير وهو سن الشيخوخة فاحتج تعالى بانتقال الحيوان من بعض هذه المراتب إلى بعض على أن ذلك الناقل هو الله تعالى والأطباء الطبائعيون قالوا المقتضي لهذا الانتقال هو طبيعة الإنسان وأنا أحكي كلامهم على الوجه الملخص وأبين ضعفه وفساده وحينئذ يبقى أن ذلك الناقل هو الله سبحانه وعند ذلك يصح بالدليل العقلي ما ذكر الله تعالى في هذه الآية قال الطبائعيون إن بدن الإنسان مخلوق من المني ومن دم الطمث والمني والدم جوهران حاران رطبان والحرارة إذا عملت في الجسم الرطب قللت رطوبته وأفادته نوع يبس وهذا مشاهد معلوم قالوا فلا يزال ما في هذين الجوهرين من قوة الحرارة يقلل ما فيه من الرطوبة حتى تتصلب الأعضاء ويظهر فيه الانعقاد ويحدث العظم والغضروف والعصب والوتر والرباط وسائر الأعضاء فإذا تم تكون البدن وكمل فعند ذلك ينفصل الجنين من رحم الأم ومع ذلك فالرطوبات زائدة والدليل عليه أنك ترى أعضاء الطفل بعد انفصاله من الأم لينة لطيفة وعظامه لينة قريبة الطبع من الغضاريف ثم إن ما في البدن من الحرارة يعمل في تلك الرطوبات ويقللها قالوا ويحصل للبدن ثلاثة أحوال
الحالة الأولى أن تكون رطوبة البدن زائدة على حرارته وحينئذ تكون الأعضاء قابلة للتمدد والازدياد والنماء وذلك هو سن النشو والنماء ونهايته إلى ثلاثين سنة أو خمس وثلاثين سنة
الحالة الثانية أن تصير رطوبات البدن أقل ما كانت فتكون وافية بحفظ الحرارة الغريزية الأصلية إلا

أنها لا تكون زائدة على هذا القدر وهذا هو سن الوقوف وسن الشباب وغايته خمس سنين وعند تمامه يتم الأربعون
والحالة الثالثة أن تقل الرطوبات وتصير بحيث لا تكون وافية بحفظ الحرارة الغريزية وعند ذلك يظهر النقصان ثم هذا النقصان قد يكون خفياً وهو سن الكهولة وتمامه إلى ستين سنة وقد يكون ظاهراً وهو سن الشيخوخة وتمامه إلى مائة وعشرين سنة فهذا هو الذي حصله الأطباء في هذا الباب وعندي أن هذا التعليل ضعيف ويدل على ضعفه وجوه
الوجه الأول أنا نقول إن في أول ما كان المني منياً وكان الدم ماً كانت الرطوبات غالبة وكانت الحرارة الغريزية مغمورة وكانت ضعيفة بهذا السبب ثم إنها مع ضعفها قويت على تحليل أكثر تلك الرطوبات وأبانتها من حد الدموية والمنوية إلى أن صارت عظماً وغضروفاً وعصباً ورباطاً وعندما تولدت الأعضاء وكمل البدن قلت الرطوبات فوجب أن تكون للحرارة الغريزية قوة أزيد مما كانت قبل ذلك فوجب أن يكون تحليل الرطوبات بعد تولد البدن وكماله أزيد من تحللها قبل تولد البدن ومعلوم أنه ليس الأمر كذلك لأن قبل تولد البدن انتقل جسم المني والدم إلى أن صار عظماً وعصباً وأما بعد تولد البدن فلم يحصل مثل هذا الانتقال ولا عشر عشره فلو كان تولد هذه الأعضاء بسبب تأثير الحرارة في الرطوبة لوجب أن يكون تحلل الرطوبات بعد كمال البدن أكثر من تحللها قبل تكون البدن ولما لم يكن الأمر كذلك علمنا أن تولد البدن إنما كان بتدبير قادر حكيم يدبر أبدان الحيوانات على وفق مصالحها وأنه ما كان تولد البدن لأجل ما قالوه من تأثير الحرارة في الرطوبة
والوجه الثاني في إبطال هذا الكلام أن نقول إن الحرارة الغريزية الحاصلة في بدن الإنسان الكامل إما أن تكون هي عين ما كان حاصلاً في جوهر النطفة أو صارت أزيد مما كانت والأول باطل لأن الحار الغريزي الحاصل في جوهر النطفة كان بمقدار جرم النفطة ولا شك أن جرم النطفة كان قليلاً صغيراً فهذا البدن بعد كبره لو لم يحصل فيه من الحرارة الغريزية إلا ذلك القدر كان في غاية القلة ولم يظهر منه في هذا البدن أثر أصلاً وأما الثاني ففيه تسليم أن الحرارة الغريزية تتزايد بحسب تزايد الجثة والبدن وإذا تزايدت الحرارة الغريزية ساعة فساعة وثبت أن تزايدها يوجب تزايد القوة والصحة ساعة فساعة فوجب أن يبقى البدن الحيواني أبداً في التزايد والتكامل وحيث لم يكن الأمر كذلك علمنا أن ازدياد حال البدن الحيواني وانتقاصه ليس بحسب الطبيعة بل بسبب تدبير الفاعل المختار
والوجه الثالث وهو الذي أوردناه على الأطباء في ( كتابنا الكبير في الطب ) فقلنا هي أن الرطوبة الغريزية صارت معادلة للحرارة الغريزية فلم قلتم إن الحرارة الغريزية يجب أن تصير أقل مما كانت وأن ينتقل الإنسان من سن الشباب إلى سن النقصان قالوا السبب فيه أنه إذا حصل هذا الاستواء فالحرارة الغريزية بعد ذلك تؤثر في تخفيف الرطوبة الغريزية فتقل الرطوبات الغريزية حتى صارت بحيث لا تقي بحفظ الحرارة الغريزية وإذا حصلت هذه الحالة ضعفت الحرارة الغريزية أيضاً لأن الرطوبة الغريزية كالغذاء للحرارة الغريزية فإذا قل الغذاء ضعف المغتذي فالحاصل أن الحرارة الغريزية توجب قلة الرطوبة الغريزية وقلتها توجب ضعف الحرارة الغريزية ويلم من ضعف إحداهما ضعف الأخرى إلى أن تنتهي

إلى حيث لا يبقى من الرطوبة الغريزية شيء وحينئذ تنطفىء الحرارة الغريزية ويحصل الموت هذا منتهى ما قالوه في هذا الباب وهو ضعيف لأنا نقول إن الحرارة الغريزية إذا أثرت في تجفيف الرطوبة الغريزية وقلتها فلم لا يجوز أن يقال إن القوة الغاذية تورد بدلها فعند هذا قالوا القوة الغاذية إنما تقوى على إيراد بدلها لو كانت الحرارة الغريزية قوية فأما عند ضعفها فلا فنقول فههنا لزم الدور لأن الرطوبة الغريزية إنما تقل وتنقص لو لم تكن القوة الغاذية وافية بإيراد بدلها وإنما تعجز القوة الغاذية عن هذا الإيراد إذا كانت الحرارة الغريزية ضعيفة وإنما تكون الحرارة الغريزية ضعيفة أن لو قلت الرطوبة الغريزية وإنما تحصل هذه القلة إذا عجزت الغاذية عن إيراد البدل فثبت أن على القول الذي قالوه يلزوم الدور وأنه باطل فثبت أن تعليل انتقال الإنسان من سن إلى سن بما ذكروه من اعتبار الطبائع يوجب عليهم هذه المحاولات المذكورة فكان القول به باطلاً ولما بطل هذا القول وجب القطع بإسناد هذه الأحوال إلى الإله القادر المختار الحكيم الرحيم الذي يدبر أبدان الحيوانات على الوجه الموافق لمصالحها وذلك هو المطلوب وقد كنت أقرأ يوماً من الأيام سورة المرسلات فلما وصلت إلى قوله تعالى أَلَمْ نَخْلُقكُّم مّن مَّاء مَّهِينٍ فَجَعَلْنَاهُ فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ ( المرسلات 20 24 ) فقلت لا شك أن المراد بهؤلاء المكذبين هم الذين نسبوا تكون الأبدان الحيوانية إلى الطبائع وتأثير الحرارة في الرطوبة وأنا أؤمن من صميم قلبي يا رب العزة بأن هذه التدبيرات ليست من الطبائع بل من خالق العالم الذي هو أحكم الحاكمين وأكرم الأكرمين
إذا عرفت هذا فقد صح بالدليل العقلي صدق قوله وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ لأنه ثبت أن خالق أبدان الناس وسائر الحيوانات ليس هو الطبائع بل هو الله سبحانه وتعالى وقوله ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ قد بينا أن السبب الذي ذكروه في صيرورة الموت فاسد باطل وأنه يلزم عليه القول بالدور ولما بطل ذلك ثبت أن الحياة والموت إنما حصلا بتخليق الله وبتقديره وقوله وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ قد بينا بالدليل أن الطبائع لا يجوز أن تكون علة لانتقال الإنسان من الكمال إلى النقصان ومن القوة إلى الضعف فلزم القطع بأن انتقال الإنسان من الشباب إلى الشيخوخة ومن الصحة إلى الهرم ومن العقل الكامل إلى أن صار حرفاً غافلاً ليس بمقتضى الطبيعة بل بفعل الفاعل المختار وإذا ثبت ما ذكرنا ظهر أن الذي دل عليه لفظ القرآن قد ثبت صحته بقاطع القرآن
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ وهذا كالأصل الذي عليه تفريع كل ما ذكرناه وذلك لأن الطبيعة جاهلة لا تميز بين وقت المصلحة ووقت المفسدة فهذه الإنفعالات في هذا الإنسان لا يمكن إسنادها إليها أما إله العالم ومدبره وخالقه فهو الكامل في العلم الكامل في القدرة فلأجل كمال علمه يعلم مقادير المصالح والمفاسد ولأجل كمال قدرته يقدر على تحصيل المصالح ودفع المفاسد فلا جرم أمكن إسناد تخليق الحيوانات إلى إله العالم فلا يمكن إسناده إلى الطبائع والله أعلم
المسألة الثانية في تفسير ألفاظ الآية قال المفسرون والله خلقكم ولم تكونوا شيئاً ثم يتوفاكم عند انقضاء آجالكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر وهو أردؤه وأضعفه يقال رذل الشيء يرذل رذالة وأرذلة غيره ومنه قوله إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ وَأَطِيعُونِ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الاْرْذَلُونَ ( الشعراء 111 ) وقوله وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ

هل يتناول المسلم أو هو مختص بالكافر فيه قولان
القول الأول أنه يتناوله قيل إنه العمر الطويل وعلى هذا الوجه نقل عن علي عليه السلام أنه قال أرذل العمر خمس وسبعون سنة وقال قتادة تسعون سنة وقال السدي إنه الخرف والقول الأول أولى لأن الخرف معناه زوال العقل فقوله وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا يدل على أنه تعالى إنما رده إلى أرذل العمر لأجل أن يزيل عقله فلو كان المراد من أرذل العمر هو زوال العقل لصار الشيء عين الغاية المطلوبة منه وأنه باطل
والقول الثاني أن هذا ليس في المسلمين والمسلم لا يزداد بسبب طول العمر إلا كرامة على الله تعالى ولا يجوز أن يقال في حقه إنه يرد إلى أرذل العمر والدليل عليه قوله تعالى ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ( التبين 5 6 ) فبين تعالى أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ما ردوا إلى أسفل سافلين وقال عكرمة من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر وقوله إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قال ابن عباس يريد بما صنع أولياؤه وأعداؤه قدير 5 على ما يريد
المسألة الثالثة هذه الآية كما تدل على وجود إله العالم الفاعل المختار فهي أيضاً تدل على صحة البعث والقيامة وذلك لأن الإنسان كان عدماً محضاً فأوجده الله ثم أعدمه مرة ثانية فدل عهذا على أنه لما كان معدوماً في المرة الأولى وكان عوده إلى العدم في المرة الثانية جائزاً فكذلك لما صار موجوداً ثم عدم وجب أن يكون عوده إلى الوجود في المرة الثانية جائزاً وأيضاً كان ميتاً حين كان نطفة ثم صار حياً ثم مات فلما كان الموت الأول جائزاً كان عود الموت جائزاً فكذلك لما كانت الحياة الأولى جائزة وجب أن يكون عود الحياة جائزاً في المرة الثانية وأيضاً الإنسان في أول طفوليته جاهل لا يعرف شيئاً ثم صار عالماً عاقلاً فاهماً فلما بلغ أرذل العمر عاد إلى ما كان عليه في زمان الطفولية وهو عدم العقل والفهم فعدم العقل والفهم في المرة الأولى عاد بعينه في آخر العمر فكذلك العقل الذي حصل ثم زال وجب أن يكون جائز العود في المرة الثانية وإذا ثبتت هذه الجملة ثبت أن الذي مات وعدم فإنه يجوز عود وجوده وعود حياته وعود عقله مرة أخرى ومتى كان الأمر كذلك ثبت أن القول بالبعث والحشر والنشر حق والله أعلم
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِى الْرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّى رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ أَفَبِنِعْمَة ِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ
اعلم أن هذا اعتبار حال أخرى من أحوال الإنسان وذلك أنا نرى أكيس الناس وأكثرهم عقلاً وفهماً يفني عمره في طلب القدر القليل من الدنيا ولا يتيسر له ذلك ونرى أجهل الخلق وأقلهم عقلاً وفهماً تنفتح عليه أبواب الدنيا وكل شيء خطر بباله ودار في خياله فإنه يحصل له في الحال ولو كان السبب جهد

الإنسان وعقله لوجب أن يكون الأعقل أفضل في هذه الأحوال فلما رأينا أن الأعقل أقل نصيباً وأن الأجهل الأخس أوفر نصيباً علمنا أن ذلك بسبب قسمة القسام كما قال تعالى أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَة َ رَبّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا ( الزخرف 32 ) وقال الشافعي رحمه الله تعالى ومن الدليل على القضاء وكونه
بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق
واعلم أن هذا التفاوت غير مختص بالمال بل هو حاصل في الذكاء والبلادة والحسن والقبح والعقل والحمق والصحة والسقم والاسم الحسن والاسم القبيح وهذا بحر لا ساحل له وقد كنت مصاحباً لبعض الملوك في بعض الأسفار وكان ذلك الملك كثير المال والجاه وكانت الجنائب الكثيرة تقاد بين يديه وما كان يمكنه ركوب واحد منها وربما حضرت الأطعمة الشهية والفواكه العطرة عنده وما كان يمكنه تناول شيء منها وكان الواحد منا صحيح المزاج قوي البنية كامل القوة وما كان يجد ملء بطنه طعاماً فذلك الملك وإن كان يفضل على هذا الفقير في المال إلا أن هذا الفقير كان يفضل على ذلك الملك في الصحة والقوة وهذا باب واسع إذا اعتبره الإنسان عظم تعجبه منه
أما قوله فَمَا الَّذِينَ فُضّلُواْ بِرَآدّى رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ففيه قولان
القول الأول أن المراد من هذا الكلام تقرير ما سبق في الآية المتقدمة من أن السعادة والنحوسة لا يحصلان إلا من الله تعالى والمعنى أن الموالي والمماليك أنا رازقهم جميعاً فهم في رزقي سواء فلا يحسبن الموالي أنهم يردون على مماليكهم من عندهم شيئاً من الرزق وأن المالك لا يرزق العبد بل الرازق للعبد والمولى هو الله تعالى وتحقيق القول أنه ربما كان العبد أكمل عقلاً وأقوى جسماً وأكثر وقوفاً على المصالح والمفاسد من المولى وذلك يدل على أن ذلة ذلك العبد وعزة ذلك المولى من الله تعالى كما قال وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء ( آل عمران 26 )
والقول الثاني أن المراد من هذه الآية الرد على من أثبت شريكاً لله تعالى ثم على هذا القول ففيه وجهان الأول أن يكون هذا رداً على عبدة الأوثان والأصنام كأنه قيل إنه تعالى فضل الملوك على مماليكهم فجعل المملوك لا يقدر على ملك مع مولاه فلما لم تجعلوا عبيدكم معكم سواء في الملك فكيف تجعلون هذه الجمادات معي سواء في المعبودية والثاني قال ابن عباس رضي الله عنهما نزلت هذه الآية في نصارى نجران حين قالوا إن عيسى ابن مريم ابن الله فالمعنى أنكم لا تشركون عبيدكم فيما ملكتم فتكونوا سواء فكيف جعلتم عبدي ولداً لي وشريكاً في الإلهية
ثم قال تعالى فَهُمْ فِيهِ سَوَآء معنى الفاء في قوله فَهُمُ حتى والمعنى فما الذين فضلوا بجاعلي رزقهم لعبيدهم حتى تكون عبيدهم فيه معهم سواء في الملك
ثم قال أَفَبِنِعْمَة ِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ عاصم في رواية أبي بكر يَجْحَدُونَ بالتاء على الخطاب لقوله خَلَقَكُمْ وَفَضَّلَ بَعْضُكُمْ والباقون بالياء لقوله فَهُمْ فِيهِ سَوَآء واختاره أبو عبيدة وأبو حاتم لقرب الخبر عنه وأيضاً فظاهر

الخطاب أن يكون مع المسلمين والمسلمون لا يخاطبون بجحد نعمة الله تعالى
المسألة الثانية لا شبهة في أن المراد من قوله أَفَبِنِعْمَة ِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ الإنكار على المشركين الذين أورد الله تعالى هذه الحجة عليهم
فإن قيل كيف يصيرون جاحدين بنعمة الله عليهم بسبب عبادة الأصنام
قلنا فيه وجهان
الوجه الأول أنه لما كان المعطي لكل الخيرات هو الله تعالى فمن أثبت لله شريكاً فقد أضاف إليه بعض تلك الخيرات فكان جاحداً لكونها من عند الله تعالى وأيضاً فإن أهل الطبائع وأهل النجوم يضيفون أكثر هذه النعم إلى الطبائع وإلى النجوم وذلك يوجب كونهم جاحدين لكونها من الله تعالى
والوجه الثاني قال الزجاج المراد أنه تعالى لما قرر هذه الدلائل وبينها وأظهرها بحيث يفهمها كل عاقل كان ذلك إنعاماً عظيماً منه على الخلق فعند هذا قال أَفَبِنِعْمَة ِ اللَّهِ في تقريره هذه البيانات وإيضاح هذه البينات يَجْحَدُونَ
المسألة الثالثة الباء في قوله أَفَبِنِعْمَة ِ اللَّهِ يجوز أن تكون زائدة لأن الجحود لا يعدى بالباء كما تقول خذ الخطام وبالخطام وتعلقت زيداً وبزيد ويجوز أن يراد بالجحود الكفر فعدي بالباء لكونه بمعنى الكفر والله أعلم
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَة ً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ
اعلم أن هذا نوع آخر من أحوال الناس ذكره الله تعالى ليستدل به على وجود الإله المختار الكريم وليكون ذلك تنبيهاً على إنعام الله تعالى على عبيده بمثل هذه النعم فقوله جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا قال بعضهم المراد أنه تعالى خلق حواء من ضلع آدم وهذا ضعيف لأن قوله جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا خطاب مع الكل فتخصيصه بآدم وحواء خلاف الدليل بل هذا الحكم عام في جميع الذكور والإناث والمعنى أنه تعالى خلق النساء ليتزوج بهن الذكور ومعنى مّنْ أَنفُسِكُمْ مثل قوله فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ( البقرة 54 ) وقوله فَسَلّمُواْ عَلَى أَنفُسِكُمْ ( النور 61 ) أي بعضكم على بعض ونظير هذه الآية قوله تعالى وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْواجاً الروم 21 ) قال الأطباء وأهل الطبيعة التفاوت بين الذكر والأنثى إنما كان لأجل أن كل من كان أسخن مزاجاً فهو الذكر وكل من كان أكثر برداً ورطوبة فهو المرأة ثم قالوا المني إذا انصب إلى الخصية اليمنى من الذكر ثم انصب منه إلى الجانب الأيمن من الرحم كان الولد ذكراً تاماً في الذكورة وإن انصب إلى الخصية اليسرى من الرجل ثم انصب منها إلى الجانب

الأيسر من الرحم كان الولد أنثى تاماً في الأنوثة وإن انصب إلى الخصية اليمنى ثم انصب منها إلى الجانب الأيسر من الرحم كان الولد ذكراً في طبيعة الإناث وإن انصب إلى الخصية اليسرى من الرجل ثم انصب منها إلى الجانب الأيمن من الرحم كان هذا الولد أنثى في طبيعة الذكور
واعلم أن حاصل هذا الكلام أن الذكورة علتها الحرارة واليبوسة والأنوثة علتها البرودة والرطوبة وهذه العلة في غاية الضعف فقد رأينا في النساء من كان مزاجه في غاية السخونة وفي الرجال من كان مزاجه في غاية البرودة ولو كان الموجب للذكورة والأنوثة ذلك لامتنع ذلك فثبت أن خالق الذكر والأنثى هو الإله القديم الحكيم وظهر بالدليل الذي ذكرناه صحة قوله تعالى وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا
ثم قال تععالى وَجَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَزْواجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَة ً قال الواحدي إصل الحفدة من الحفد وهو الخفة في الخدمة والعمل يقال حفد يحفد حفداً وحفوداً وحفداناً إذا أسرع ومنه في دعاء القنوت وإليك نسعى ونحفد والحفدة جمع الحافد والحافد كل من يخف في خدمتك ويسرع في العمل بطاعتك يقال في جمعه الحفد بغير هاء كما يقال الرصد فمعنى الحفدة في اللغة الأعوان والخدام ثم يجب أن يكون المراد من الحفدة في هذه الآية الأعوان الذين حصلوا للرجل من قبل المرأة أنه تعالى قال وَجَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَزْواجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَة ً فالأعوان الذين لا يكونون من قبل المرأة لا يدخلون تحت هذه الآية
إذا عرفت هذا فنقول قيل هم الأختان وقيل هم الأصهار وقيل ولد الولد والأولى دخول الكل فيه لما بينا أن اللفظ محتمل للكل بحسب المعنى المشترك الذي ذكرناه
ثم قال تعالى وَرَزَقَكُم مّنَ الطَّيّبَاتِ لما ذكر تعالى إنعامه على عبيده بالمنكوح وما فيه من المنافع والمصالح ذكر إنعامه عليهم بالمطعومات الطيبة سواء كانت من النبات وهي الثمار والحبوب والأشربة أو كانت من الحيوان ثم قال أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ قال ابن عباس رضي الله عنهما يعني بالأصنام وقال مقاتل يعني بالشيطان وقال عطاء يصدقون أن لي شريكاً وصاحبة وولداً وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أي بأن يضيفوها إلى غير الله ويتركوا إضافتها إلى الله تعالى وفي الآية قول آخر وهو أنه تعالى لما قال وَرَزَقَكُم مّنَ الطَّيّبَاتِ قال بعده وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا والمراد منه أنهم يحرمون على أنفسهم طيبات أحلها الله لهم مثل البحيرة والسائبة والوصيلة ويبيحون لأنفسهم محرمات حرمها الله عليهم وهي الميتة والدم ولحم الخنزير وما ذبح على النصب يعني لم يحكمون بتلك الأحكام الباطلة وبإنعام الله في تحليل الطيبات وتحريم الخبيثات يجحدون ويكفرون والله أعلم
وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَاوَاتِ والأرض شَيْئًا وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الاٌّ مْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ
اعلم أنه تعالى لما شرح أنواعاً كثيرة في دلائل التوحيد وتلك الأنواع كما أنها دلائل على صحة التوحيد فكذلك بدأ بذكر أقسام النعم الجليلة الشريفة ثم أتبعها في هذه الآية بالرد على عبدة الأصنام

فقال وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مّنَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ شَيْئًا وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ أما الرزق الذي يأتي من جانب السماء فيعني به الغيث الذي يأتي من جهة السماء وأما الذي يأتي من جانب الأرض فهو النبات والثمار التي تخرج منها وقوله مِنْ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ من صفة النكرة التي هي قوله رِزْقاً كأنه قيل لا يملك لهم رزقاً من الغيث والنبات وقوله شَيْئاً قال الأخفش جعل قوله شَيْئاً بدلاً من قوله رِزْقاً والمعنى لا يملكون رزقاً لا قليلاً ولا كثيراً ثم قال وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ والفائدة في هذه اللفظة أن من لا يملك شيئاً قد يكون موصوفاً باستطاعته أن يتملكه بطريق من الطرق فبين تعالى أن هذه الأصنام لا تملك وليس لها أيضاً استطاعة تحصيل الملك
فإن قيل إنه تعالى قال وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ فعبر عن الأصنام بصيغة ( ما ) وهي لغير أولي العلم ثم قال وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ والجمع بالواو والنون مختص بأولى العلم فكيف الجمع بين الأمرين
والجواب أنه عبر عنها بلفظ ( ما ) اعتباراً لما هو الحقيقة في نفس الأمر وذكر الجمع بالواو والنون اعتباراً لما يعتقدون فيها أنها آلهة
ثم قال تعالى فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الاْمْثَالَ وفيه وجوه الأول قال المفسرون يعني لا تشبهوه بخلقه الثاني قال الزجاج أي لا تجعلوا لله مثلاً أونه واحد لا مثل له والثالث أقول يحتمل أن يكون المراد أن عبدة الأوثان كانوا يقولون إن إله العالم أجل وأعظم من أن يعبده الواحد منا بل نحن نعبد الكواكب أو نعبد هذه الأصنام ثم إن الكواكب والأصنام عبيد الإله الأكبر الأعظم والدليل عليه العرف فإن أصاغر الناس يخدمون أكابر حضرة الملك وأولئك الأكابر يخدمون الملك فكذا ههنا فعند هذا هذا قال الله تعالى لهم اتركوا عبادة هذا الأصنام والكواكب ولا تضربوا الله الأمثال التي ذكرتموها وكونوا مخلصين في عبادة الإله الحكيم القدير
ثم قال إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ وفيه وجهان الأول أن الله تعالى يعلم ما عليكم من العقاب العظيم بسبب عبادة هذه الأصنام وأنتم لا تعلمون ذلك ولو علمتموه لتركتم عبادتها الثاني أن الله تعالى لما نهاكم عن عبادة هذه الأصنام فاتركوا عبادتها واتركوا دليلكم الذي عولتم عليه وهو قولكم الاشتغال بعبادة عبيد الملك أدخل في التعظيم من الاشتغال بعبادة نفس الملك لأن هذا قياس والقياس يجب تركه عند ورود النص فلهذا قال إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ثم قال تعالى
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَى ْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
اعلم أنه تعالى أكد إبطال مذهب عبدة الأصنام بهذا المثال وفيه مسائل
المسألة الأولى في تفسير هذ المثل قولان

القول الأول أن المراد أنا لو فرضنا عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء وفرضنا حراً كريماً غنياً كثير الإنفاق سراً وجهراً فصريح العقل يشهد بأنه لا تجوز التسوية بينهما في التعظيم والإجلال لما لم تجز التسوية بينهما مع استهوائهما في الخلقة والصورة والبشرية فكيف يجوز للعاقل أن يسوي بين الله القادر على الرزق والإفضال وبين الأصنام التي لا تملك ولا تقدر ألبتة
والقول الثاني أن المراد بالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء هو الكافر فإنه من حيث إنه بقي محروماً عن عبودية الله تعالى وغعن طاعته صار كالعبد الذليل الفقير العاجز والمراد بقوله وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا هو المؤمن فإنه مشتغل بالتعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلق الله فبين تعالى أنهما لا يستويان في المرتبة والشرف والقرب من رضوان الله تعالى
واعلم أن القول الأول أقرب لأن ما قبل هذه الآية وما بعدها إنما ورد في إثبات التوحيد وفي الرد على القائلين بالشرك فحمل هذه الآية على هذا المعنى أولى
المسألة الثانية اختلوفا في المراد بقوله عبد مملوكا لا يقدر على شيء فقيل المراد به الصنم لأنه عبد بدليل قوله إن كل من في السموات والأرض إلا آت الرحمن عبدا مريم 93 وأما أنه مملوك ولا يقدر على شيء فظاهر والمراد بقوله ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا عابد الصنم لأن الله تعالى رزقه المال وهو ينفق من ذلك المال على نفسه وعل أتباعه سرا وجهرا
إذا ثبت هذا فنقول هما لا يستويان في بديهة العقل بل صريح العقل يشهد بأن ذلك القادر أكمل حالا وأفضل مرتبة من ذلك العاجز فهنا صريح العقل يشهد بأن عابد الصنم أفضل من ذلك الصنم فكيف يجوز الحكم بكونه مساويا لرب العالمين في العبودية
والقول الثاني أن المراد بقوله عبدا مملوكا عبد معين وقيل هو عبد لعثمان بن عفان وحملوا قوله ومن رزقناه منا رزقا حسنا على عثمان خاصة
والقول الثالث أنه عام في كل عبد بهذه الصفة وفي كل حر بهذه الصفة وهذا القول هو الأظهر لأنه هو الموافق لما أراده الله تعالى في هذه الآية والله أعلم
المسألة الثالثة احتج الفقهاء بهذه الآية على أن العبد لا يملك شيئا
فإن قالوا ظاهر الآية يدل على أن عبدا من العبيد لا يقدر على شيء فلم قلتم إن كل عبد كذلك فنقول الذي يدل عليه وجهان الأول أنه ثبت في أصول الفقه أن الحكم المذكور عقيب الوصف المناسب يدل على كون ذلك الوصف علة لذلك الحكم وكونه عبدا وصف مشعر بالذل والمقهورية وقوله لا يقدر على شيء حكم مذكور عقيبه فهذا يقتضي أن العلة لعدم القدرة على شيء هو كونه عبدا وبهذا الطريق يثبت العموم الثاني أنه تعالى قال بعده ومن رزقناه منا رزقا حسنا فميز هذا القسم الثاني عن القسم الأول وهو العبد بهذه الصفة وهو أنه يرزقه رزقا فوجب أن لا يحصل هذا الوصف للعبد حتى يحصل الامتياز بين القسم الثاني وبين القسم الأول ولو ملك العبد لكان الله قد آتاه رزقا حسنا لأن الملك الحلال رزق حسن سواء كان قليلا أو كثيرا فثبت بهذين الوجهين أن ظاهر الآية يقتضي أن العبد لا يقدر على شيء ولا

يملك شيئا ثم اختلفوا فروي عن ابن عباس وغيره التشدد في ذلك حتى قال لا يملك الطلاق أيضا وأكثر الفقهاء قالوا يملك الطلاق إنما لا يملك المال ولا ماله تعلق بالمال واختلفوا في أن المالك إذا ملكه شيئا فهل يملكه أم لا وظاهر الآية ينفيه بقي في الآية سؤالات
السؤال الأول لم قال مملوكا لا يقدر على شيء وكل عبد فهو مملوك وغير قادر على التصرف قلنا أما ذكر المملوك فليحصل الامتياز بينه وبين الحر لأن الحر قد يقال إنه عبد الله وأما قوله لا يقدر على شيء قد يحصل الامتياز بينه وبين المكاتب وبين العبد المأذون لأنهما لا يقدران على التصرف
السؤال الثاني من في قوله ومن رزقناه ما هي
قلنا الظاهر أنها موصوفة كأنه قيل وحرا رزقناه ليطابق عبدا ولا يمتنع أن تكون موصولة
السؤال الثالث لم قال يستوون على الجمع
قلنا معناه هل يستوي الأحرار والعبيد ثم قال الحمد لله وفيه وجوه الأول قال ابن عباس الحمد لله على ما فعل باوليائه وأنعم عليهم بالتوحيد والثاني المعنى أن كل الحمد لله وليس شيء من الحمد للأصنام لأنها لا نعمة لها على أحد وقوله بل أكثرهم لا يعلمون يعني أنهم لا يعلمون أن كل الحمد لله وليس شيء منه للأصنام الثالث قال القاضي في التفسير قال للرسول عليه الصلاة والسلام قل الحمد لله ويحتمل أن يكون خطابا لمن رزقه الله رزقا حسنا أن يقول الحمد لله على أن ميزه في هذه القدرة عن ذلك العبد الضعيف الرابع يحتمل أن يكون المراد أنه تعالى لما ذكر هذا المثل وكان هذا مثلا مطابقا للغرض كاشفا عن المقصود قال بعده الحمد لله يعني الحمد لله على قوة هذه الحجة وظهور هذه البينة ثم قال بل أكثرهم لا يعلمون يعني أنها مع غاية ظهورها ونهاية وضوحها لا يعلمها ولا يفهمها هؤلاء الضلال
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَى ْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِى هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
اعلم أنه تعالى أبطل قول عبدة الأوثان والأصنام بهذا المثل الثاني وتقريره أنه كما تقرر في أوائل العقول أن الأبكم العاجز لا يكون مساويا في الفضل والشرف للناطق القادر الكامل مع استوائهما في البشرية فلأن يحكم بأن الجماد لا يكون مساويا لرب العالمين في المعبودية كان أولى ثم نقول في الآية مسألتان
المسألة الأولى أنه تعالى وصف الرجل الأول بصفات

الصفة الأولى الأبكم وفي تفسيره أقوال نقلها الواحدي الأول قال أبو زيد رجل أبكم وهو العيي المقحم وقد بكم بكما وبكامة وقال أيضا الأبكم الأقطع اللسان وهو الذي لا يحسن الكلام الثاني روى ثعلب عن ابن الأعرابي الأبكم الذي لا يعقل الثالث قال الزجاج الأبكم المطبق الذي لا يسمع ولا يبصر
الصفة الثانية قوله لا يقدر على شيء وهو إشارة إلى العجز التام والنقصان الكامل
والصفة الثالثة قوله كل على مولاه أي هذا الأبكم العاجز كل على مولاه قال أهل المعاني أصله من الغلظ الذي هو نقيض الحدة يقال كل السكين إذا غلظت شفرته فلم يقطع وكل لسانه إذا غلظ فلم يقدر على الكلام وكل فلان عن الأمر إذا ثقل عليه فلم ينبعث فيه فقوله كل على مولاه أي غليظ وثقيل على مولاه
الصفة الرابعة أينما يوجهه لا يأت بخير أي أينما يرسله ومعنى التوجيه أن ترسل صاحبك في وجه معين من الطريق يقال وجهته إلى موضع كذا فتوجه إليه وقوله لا يأت بخير معناه لأنه عاجز لا يحسن ولا يفهم ثم قال تعالى هل يستوي هو أي هذا الموصوف بهذه الصفات الأربع ومن يأمر بالعدل واعلم أنه الآمر بالعدل يجب أن يكون موصوفا بالنطق وإلا لم يكن آمرا ويجب أن يكون قادرا لأن الأمر مشعر بعلة المرتبة وذلك لا يحصل إلا مع كونه قادرا ويجب أن يكون عالما حتى يمكنه التمييز بين العدل وبين الجور فثبت أن وصفه بانه يامر بالعدل يتضمن وصفه بكونه قادرا عالما وكونه آمرا يناقض كون الأول أبكم وكونه قادرا يناقض وصف الأول بأنه لا يقدر على شيء وبأنه كل على مولاه وكونه عالما يناقض وصف الأول بأنه لا يأت بخير
ثم قال وهو على صراط مستقيم معناه كونه عادلا مبرأ عن الجور والعبث
إذا ثبت هذا فنقول ظاهر في بديهة العقل أن الأول والثاني لا يستويان فكذا ههنا والله أعلم
المسألة الثانية في المراد بهذا المثل أقوال كما في المثل المتقدم
فالقول الأول قال مجاهد كل هذا مثل إله الخلق وما يدعي من دونه من الباطل وأما الأبكم فمثل الصنم لأنه لا ينطق البتة وكذلك لا يقدر على شيء وأيضا كل على عابديه لأنه لا ينفق عليهم وهم ينفقون عليه وأيضا إلى أي مهم توجه الصنم لم يأت بخير وأما الذي يأمر بالعدل فهو الله سبحانه وتعالى
والقول الثاني أن المراد من هذا الأبكم هو عبد لعثمان بن عفان كان ذلك العبد يكره الإسلام وما كان فيه خير ومولاه هو عثمان بن عفان كان يأمر بالعدل وكان على الدين القويم والصراط المستقيم
والقول الثالث أن المقصود منه كل عبد موصوف بهذه الصفات المذمومة وكل حر موصوف بتلك الصفات الحميدة وهذا القول أولى من القول الأول لأن وصفه تعالى إياهما بكونهما رجلين يمنع من حمل ذلك على الوثن وكذلك بالبكم وبالكل والتوجه في جهات المنافع وكذلك وصف الآخر بأنه على صراط مستقيم يمنع من حمله على الله تعالى وأيضا فالمقصود تشبيه صورة بصورة في أمر من الأمور وذلك التشبيه لا يتم إلا عند كون أحد الصورتين مغايرة للأخرى

وأما القول الثاني فضعيف أيضا لأن المقصود إبانة التفرقة بين رجلين موصوفين بالصفات المذكورة وذلك غير مختص بشخص معين بل أيما حصل التفاوت في الصفات المذكورة حصل المقصود والله أعلم
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَآ أَمْرُ السَّاعَة ِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدِيرٌ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالاٌّ بْصَارَ وَالأَفْئِدَة َ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِى جَوِّ السَّمَآءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية الأة لى مثل الكفار بالأبكم العاجز ومثل نفسه بالذي يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم ومعلوم أنه يمتنع أن يكون آمرا بالعدل وأن يكون على صراط مستقيم إلا إذا كان كاملا في العلم والقدرة ذكر في هذه الآية بيان كونه كاملا في العلم والقدرة أما بيان كمال العلم فهو قوله ولله غيب السموات والأرض والمعنى علم الله غيب السموات والأرض وأيضا فقوله ولله غيب السموات والأرض يفيد الحصر معناه أن العلم بهذه الغيوب ليس إلا لله وأما بيان كمال القدرة فقوله وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب والساعة هي الوقت الذي تقوم فيه القيامة سميت ساعة لأنها تفجأ الإنسان في ساعة فيموت الخلق بصيحة واحدة وقوله إلا كلمح البصر اللمح النظر بسرعة يقال لمحه ببصره لمحا ولمحانا والمعنى وما أمر القيامة في السرعة إلا كطرف العين والمراد منه تقرير كمال القدرة وقوله أو هو أقرب معناه أن لمح البصر عبارة عن انتقال الجسم المسمى بالطرف من أعلى الحدقة إلى أسفلها ولا شك أن الحدقة مؤلفة من أجزاء لا تتجزأ فلمح البصر عبارة عن المرور على جملة تلك الأجزاء التي منها تألف سطح الحدقة ولا شك أن تلك الأجزاء كثيرة والزمان الذي يحصل فيه لمح البصر مركب من آنات متعاقبة والله تعالى قادر على إقامة القيامة في آن واحد من تلك الآنات فلهذا قال أو هو أقرب إلا أنه لما كان أسرع الأحوال والحوادث في عقولنا وأفكارنا هو لمح البصر لا جرم ذكره ثم قال أو هو أقرب تنبيها على ما ذكرناه ولا شبهة في أنه ليس المراد طريقة الشك بل المراد بل هو أقرب وقال الزجاج المراد به الإبهام عن المخاطبين أنه تعالى يأتي بالساعة إما بقدر لمح البصر أو بما هو أسرع قال القاضي هذا لا يصح لأن إقامة الساعة ليست حال تكليف ختى يقال إنه تعالى يأتي بها في زمان بل الواجب أن يخلقها دفعة واحدة في وقت واحد ويفارق ما ذكرناه في ابتداء خلق السموات والأرض لأن تلك الحال حال تكليف فلم يمتنع أن يخلقها كذلك لما فيه من مصلحة الملائكة
واعلم أن هذا الاعرتاض إنما يستقيم على مذهب القاضي أما على قولنا في أنه تعالى يفعل ما يشاء

ويحكم ما يريد فليس له قوة والله أعلم ثم إنه تعالى عاد إلى الدلائل على وجود الصانع المختار فقال والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي إمهاتكم بكسر الهمزة والباقون بضمها
المسألة الثانية أمهاتكم أصله أماتكم إلا أنه زيد الهاء فيه كما زيد في أراق فقيل أهراق وشذت زيادتها في الواحدة في قوله أمهتي خندق واليأس أبي
المسألة الثالثة الإنسان خلق في مبدأ الفطرة خاليا عن معرفة الأشياء
ثم قال وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة المعنى أن المفس الإنسانية لما كانت في أول الخلقة خالية عن المعارف والعلوم بالله فالله أعطاه هذه الحواس ليستفيد بها المعارف والعلوم وتمام الكلام في هذا الباب يستدعي مزيد تقرير فنقول التصورات والتصديقات إما أن تكون كسبية وإما أن تكون بديهية والكسبيات إنما يمكن تحصيلها بواسطة تركيبات البديهيات فلا بد من سبق هذه العلوم البديهية وحينئذ لسائل أن يسأل فيقول هذه العلوم البديهية إما أن يقال أنها كانت حاصلة منذ خلقنا أو ما كانت حاصلة والأول باطل لأنا بالضرورة نعلم أنا حين كنا جنينا في رحم الأم ما كنا نعرف أن النفي والإثبات لا يجتمعان وما كنا نعرف أن الكل أعظم من الجزء
وأما القسم الثاني فإنه يقتضي أن هذه العلوم البديهية حصلت في نفوسنا بعد أنها ما كانت حاصلة فحينئذ لا يمكن حصولها إلا بكسب وطلب وكل ما كان كسبيا فهو مسبوق بعلوم أخرى فهذه العلوم البديهية تصير كسبية ويجب أن تكون مسبوقة بعلوم أخرى إلى غير نهاية وكل ذلك محال وهذا سؤال قوي مشكل
وجوابه أن نقول الحق أن هذه العلوم البديهية ما كانت حاصلة في نفوسنا ثم إنها حدثت وحصلت
أما قوله فيلزم أن تكون كسبية
قلنا هذه المقدمة ممنوعة بل نقول إنها إنما حدثت في نفوسنا بعد عدمها بواسطة إعانة الحواس التي هي السمع والبصر وتقريره أن النفس كانت في مبدأ الخلقة خالية عن جميع العلوم إلا أنه تعالى خلق السمع والبصر فإذا أبصر الطفل شيئا مرة بعد أخرى ارتسم في خياله ماهية ذلك المبصر وكذلك إذا سمع شيئا مرة بعد أخرى ارتسم في سمعه وخياله ماهية ذلك المسموع وكذا الطول في سائر الحواس فيصير حصول الحواس سببا لحضور ماهيات المحسوسات في النفس والعقل ثم إن تلك الماهيات على قسمين أحد القسمين ما يكون نفس حضوره موجبا تاما في جزم الذهن بإسناد بعضها إلى بعض بالنفي أو الإثبات مثل أنه إذا حضر في الذهن أن الواحد ما هو وأن نصف الاثنين ما هو كان حضور هذين التصورين في الذهن علة تامة في جزم الذهن بأن الواحد محكوك عليه بانه نصف الاثنين وهذا القسم هو عين العلوم البديهية
والقسم الثاني ما لا يكون كذلك وهو العلوم النظرية مثل أنه إذا حضر في الذهن أن الجسم ما هو وأن المحدث ما هو فإن مجرد هذين التصورين في الذهن لا يكفي في جزم الذهن بأن الجسم محدث بل

لا بد فيه من دليل منفصل وعلوم سابقة والحاصل أن العلوم الكسبية إنما يمكن اكتسابها بواسطة العلوم البديهية وحدوث هذه العلوم البديهية إنما كان عند حدوث تصور موضوعاتها وتصور محمولاتها وحدوث هذه التصورات إنما كان بسبب إعانة هذه الحواس على جزئياتها فظهر أن السبب الأول لحدوث هذه المعارف في النفوس والعقول هو أنه تعالى أعطى هذه الحواس فلهذا السبب قال تعالى والله أخرجكم نت بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة ليصير حصول هذه الحواس سببا لانتقال نفوسكم من الجهل إلى العلم بالطريق الذي ذكرناه وهذه أبحاث شريفة عقلية محضة مدرجة في هذه الآيات وقال المفسرون وجعل لكم السمع لتسمعوا مواعظ الله والأبصار لتبصروا دلائل الله والأفئدة لتعقلوا عظمة الله والأفئدة جمع فؤاد نحو أغربة وغراب قال لازجاج ولم يجمع فؤاد على أكثر العدد وما قيل فيه فئدان كما قيل غراب غران وأقول لعل الفؤاد إنما جمع على بناء جمع القلة تنبيها على أن السمع والبصر كثيران وأن الفؤاد قليل لأن الفؤاد إنما خلق للمعارف الحقيقية والعلوم اليقينية وأكثر الخلق ليسوا كذلك بل يكونون مشغولين بالأفعال البهيمية والصفات السبعية فكأن فؤادهم ليس بفؤاد فلهذا السبب ذكر في جمعه صيغة جمع القلة
فإن قيل قوله تعالى وجعل لكم السمع والأبصار عطف على قوله أخرجكم وهذا يقتضي أن يكون جعل السمع والبصر متأخرا عن الإخراج عن البطن ومعلوم أنه ليس كذلك
والجواب أن حرف الواو لا يوجب الترتيب وأيضا إذا حملنا السمع على الاستماع والأبصار على الرؤية زال السؤال والله أعلم
أما قوله ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله ففيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ بن عامر وحمزة والكسائي ألم تروا بالتاء وبالباقون بالياء على الحكاية لمن تقدم ذكره من الكفار
المسألة الثانية هذا دليل آخر على كمال قدرة الله تعالى وحكمته فإنه لولا أنه تعالى خلق الطير خلقة معها يمكنه الطيران وخلق الجو خلقة معها يمكن الطيران فيه لما أمكن ذلك فإنه تعالى أعطى الطير جناحا يبسطه مرة ويكسره أخرى مثل ما يعمله السابح في الماء وخلق الهواء خلقة لطيفة رقيقة يسهل بسببها خرقه والنفاذ فيه ولولا ذلك لما كان الطيران ممكنا وأما قوله تعالى ما يمسكهن إلا الله فالمعنى أن جسد الطير جسم ثقيل والجسم الثقيل يمتنع بقاؤه في الجو معلقا من غير دعامة تحته ولا علاقة فوقه فوجب أن يكون الممسك له في ذلك الجوهر الله تعالى ثم من الظاهر أن بقاءه في الجو معلقا فعله وحاصل باختياره فثبت أن خالق فعل العبد هو الله تعالى قال القاضي إنما أضاف الله تعالى هذا الإمساك إلى نفسه لأنه تعالى هو الذي أعطى الآلات التي لأجلها يمكن الطير من تلك الأفعال فلما كان تعالى هو المسبب لذلك لا جرم صحت هذه الإضافة إلى الله تعالى
والجواب أن هذا ترك للظاهر بغير دليل وأنه لا يجوز لا سيما والدلائل العقليلة ذلت على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى

ثم قال تعالى في آخر الآية إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون وخص هذه الآيات بالمؤمنين لأنهم هم المنتفعون بها وإن كانت هذه الآيات لكل العقلاء والله اعلم
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ الاٌّ نْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ
اعلم أن هذا نوع آخر من دلائل التوحيد وأقسام النعم والفضل والسكن والمسكن وأنشد الفراء جاء الشتاء ولما اتخذ سكنا
يا ريح كفي من حفر القراميص
والسكن ما سكنت إليه وما سكنت فيه قال صاحب الكشاف السكن فعل بمعنى مفعول وهو ما يسكن إليه وينقطع إليه من بيت أو ألف
واعلم أن البيوت التي يسكن الإنسان فيها على قسمين
القسم الأول البيوت المتخذة من الخشب والطين والآلات التي بها يمكن تسقيف البيوت وإليها الإشارة بقوله والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وهذا القسم من البيوت لا يمكن نقله لا الإنسان ينتقل إليه
والقسم الثاني القباب والخيام والفساطيط وإليها الإشارة بقوله وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تسخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم وهذا القسم من البيوت يمكن نقله وتحويله من مكان إلى مكان واعلم أن المراد الأنطاع وقد تعمل العرب البيوت من الأدم وهي جلود الأنعام أي يخف عليكم حملها في أسفاركم قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو يوم ظعنكم بفتح العين والباقون ساكنة العين قال الواحدي وهما لغتان كالشعر والشعر والنهر والنهر
واعلم أن الظعن سير البادية لنجعة أو حضور ماء أو طلب مرتع وقد يقال لكل شاخص لسفر ظاعن وهو ضد الخافض وقوله ويوم إقامتكم بمعنى لا يثقل عليكم في الحالين وقوله ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها قال المفسرون وأهل اللغة الأصواف للضأن والأوبار للإبل والأشعار للمعز وقوله أثاثا الأثاث أنواع متاع البيت من الفرش والأكسية قال الفراء ولا واحد له كما أن المتاع لا واحد له قال ولو جمعت فقلت آثثة في القليل وأثث في الكثير لم يبعد وقال أبو زيد وأحدها أثاثة قال ابن عباس في قوله أثاثا يريد طنافس وبسطا وثيابا وكسوة قال الخليل وأصله من قولهم أث النبات والشعر إذا كثر وقوله متاعا أي ما يتمتعون به وقوله إلى حين يريد إلى حين البلا وقيل إلى حين الموت وقيل إلى حين بعد حين وقيل إلى يوم القيامة

فإن قيل عطف المتاع على الأثاث والعطف يقتضي المغايرة وما الفرق بين الأثاث والمتاع
قلنا الأقرب أن الأثاث ما يكتسي به المرء ويستعمله في الغطاء والوطاء والمتاع ما يفرش في المنازل ويزين به
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظِلَالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ
اعلم أن الإنسان إما أن يكون مقيما أو مسافرا والمسافر إما أن يكون غنيا يمكنه استصحاب الخيام والفساطيط أو لا يمكنه ذلك فهذه أقسام ثلاثة
أما القسم الأول فإليه الإشارة بقوله والله جعل لكم من بيوتكم سكنا
وأما القسم الثاني فإليه الإشارة بقوله وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا
أما القسم الثالث فإليه الإشارة بقوله والله جعل لكم مما خلق ظلالا وذلك لأن المسافر إذا لم يكن له خيمة يستظل بها فإنه لا بد وأن يستظل بشيء آخر كالجدران والأشجار وقد يستظل بالغمام كما قال وظللنا عليكم الغمام البقرة 57
ثم قال وجعل لكم من الجبال أكنانا واحد الأكنان كن على قياس أحمال وحمل ولكن المراد كل شيء وقى شيئا ويقال استكن وأكن إذا صار في كن
واعلم أن بلاد العرب شديدة الحر وحاجتهم إلى الظل ودفع الحر شديدة فلهذا السبب ذكر الله تعالى هذه المعاني في معرض النعمة العظيمة وأيضا البلاد المعتدلة والأوقات المعتدلة نادرة جدا والغالب إما غلبة الحر أو غلبة البرد وعلى كل التقديرات فلا بد للإنسان من مسكن يأوي إليه فكان الإنعام بتحصيله عظيما ولما ذكر تعالى أمر المسكن ذكره بعدع أمر الملبوس فقال وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم السرابيل القمص واحدها سربال قال الزجاج كل ما لبسته فهو سربال من قميص أو درع أو جوشن أو غيره والذي يدل على صحة هذا القول أنه جعل السرابيل على قسمين أحدهما ما يكون واقيا من الحر والبرد والثاني ما يتقى به عن البأس والحروب وذلك هو الجوشن وغيره وذلك يدل على أن كل واحد من القسمين من السرابيل
فإن قيل لم ذكر الحر ولم يذكر البرد

أجابوا عنه من وجوه
الوجه الأول قال عطاء الخرساني المخاطبون بهذا الكلام هم العرب وبلادهم حارة فكانت حاجتهم إلى ما يدفع الحر فوق حاجتهم إلى ما يدفع البرد كما قال ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها وسائر أنواع الثياب أشرف إلا أنه تعالى ذكر ذلك النوع الأول لأنه كان إلفتهم بها أشد واعتيادهم للبسها أكثر ولذلك قال وينزل من السماء من جبال فيها برد النور 43 لمعرفتهم بذلك وما أنزل من الثلج أعظم ولكنهم كانوا لا يعرفونه
والوجه الثاني في الجواب قال المبرد إذا ذكر أحد الضدين تنبيه على الآخر قلت ثبت في العلوم العقلية أن العلم بأحد الضدين يستلزم العلم بالضد الآخر فإن الإنسان متى خطر بباله الحر خطر بباله أيضا البرد وكذا القول في النور والظلمة والسواد والبياض فلما كان الشعور بأحدهما مستتبعا للشعور بالآخر كان ذكر أحدهما مغنيا غن ذكر الآخر
والوجه الثالث قال الزجاج ما وقى من الحر وقى من البرد فكان ذكر أحدهما مغنيا عن ذكر الآخر
فإن قيل هذا بالضد أولى لأن دفع الحر يكفي فيه السرابيل التي هي القمص من دون تكلف زيادة وأما البرد فإنه لا يندفع إلا بتكلف زائد
قلنا القميص الواحد لما كان دافعا للحر كان الاستكثار من القميص نافعا للبرد فصح ما ذكرناه وقوله وسرابيل تقيكم بأسكم يعني دروع الحديد ومعنى البأس الشدة ويريد ههنا شدة الطعن والضرب والرمي
واعلم أنه تعالى لما عدد أقسام نعمة الدنيا قال كذلك يتم نعمته عليكم أي مثل ما خلق هذه الأشياء لكم وأنعم بها عليكم فإنه يتم نعمة الدنيا والدين عليكم لعلكم تسلمون قال ابن عباس لعلكم يا أهل مكة تخلصون لله الربوبية وتعلمون أنه لا يقدر على هذه الإنعامات أحد سواه ونقل عن ابن عباس أنه قرأ لعلكم تسلمون بفتح التاء والمعنى أنا أعطيناكم هذه السرابيلات لتسلموا عن بأس الحرب وقيل أعطيتكم هذه النعم لتتفكروا فيها فتؤمنوا فتسلموا من عذاب الله
ثم قال تعالى فإن تولوا فإنما عليكم البلاغ المبين أي فإن تولوا يا محمد وأعرضوا وآثروا لذات الدنيا ومتابعة الآباء والمعاداة في الكفر فعلى أنفسهم جنوا ذلك وليس عليك إلا ما فعلت من التبليغ التام ثم إنه تعالى ذمهم بأنهم يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وذلك نهاية في كفران النعمة
فإن قيل ما معنى ثم
قلنا الدلالة على أن إنكارهم أمر يستبعد بعد حصول المعرفة لأن حق من عرف النعمة أن يعترف لا أن ينكر وفي المراد بهذه النعمة وجوه الأول قال القاضي المراد بها جميع ما ذكره الله تعالى في الآيات المتقدمة من جميع أنواع النعم ومعنى أنهم انكروه هو أنهم ما أفردوه تعالى بالشكر والعبادة بل شكروا على تلك النعم غير الله تعالى ولأنهم قالوا إنما حصلت هذه النعم بشفاعة هذه الأصنام والثاني أن المراد أنهم عرفوا أن نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) حق ثم ينكرونها ونبوته نعمة عظيمة كما قال تعالى وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين الأنبياء 107

الثالث يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها أي لا يستعملونها في طلب رضوان الله تعالى
ثم قال تعالى وأكثرهم الكافرون
فإن قيل ما معنى قوله وأكثرهم الكافرون مع أنه كان كلهم كافرين
قلنا الجواب من وجوه الأول إنما قال وأكثرهم لأنه كان فيهم من لم تقم عليه الحجة ممن لم يبلغ حد التكليف أو كان ناقص العقل معتوها فأراد بالأكثر البالغبن الأصحاء الثاني أن يكون المراد بالكافر الجاحد المعاند وحينئذ نقول إنما قال وأكثرهم لأنه كان فيهم من لم يكن معاندا بل كان جاهلا بصدق الرسول عليه الصلاة والسلام وما ظهر له كونه نبيا حقا من عند الله الثالث أنه ذكر الأكثر والمراد الجميع لأن أكثر الشيء يقوم مقام الكل فذكر الأكثر كذكر الجميع وهذا كقوله الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون النحل 75 والله أعلم
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّة ٍ شَهِيدًا ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ وَإِذَا رَأى الَّذِينَ ظَلَمُواْ الْعَذَابَ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين من حال القوم أنهم عرفوا نعمة الله ثم أنكروها وذكر أيضا من حالهم أن أكثرهم الكافرون أتبعه بالوعيد فذكر حال يوم القيامة فقال ويوم نبعث من كل أمة شهيدا وذلك يدل على أن أولئك الشهداء يشهدون عليهم بذلك الإنكار وبذلك الكفر والمراد بهؤلاء الشهداء الأنبياء كما قال تعالى فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا النساء 41 وقوله ثم لا يؤذن للذين كفروا فيه وجوه أحدها لا يؤذن لهم في الاعتذار لقوله ولا يؤذن لهم فيعتذرون المرسلات 36 وثانيها لا يؤذن لهم في كثرة الكلام وثالثها لا يؤذن لهم في الرجوع إلى دار الدنيا وإلى التكليف ورابعها لا يؤذن لهم في حال شهادة الشهود بل يسكت أهل الجمع كلهم ليشهد الشهود وخامسها لا يؤذن لهم في كثرة الكلام ليظهر لهم كونهم آيسين من رحمة الله تعالى ثم قال ولا هم يستعتبون الاستعتاب طلب العتاب والرجل يطلب العتاب من خصمه إذا كان على جزم أنه إذا عاتبه رجع إلى الرضا فإذا لم يطلب العتاب منه دل على أنه راسخ في غضبه وسطوته ثم إنه تعالى أكد هذا الوعيد فقال وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم والمعنى أن المشركين إذا رأوا العذاب ووصلوا إليه فعند ذلك لا يخفف عنهم العذاب ولا هم أيضا ينظرون أي لا يؤخرون ولا يمهلون لأن التوبة هناك غير موجودة وتحقيقه ما يقوله المتكلمون من أن العذاب يجب أن يكون خالصا عن شوائب النفع وهو المراد من قوله لا يخفف عنهم العذاب ويجب أن يكون العذاب دائما وهو المراد من قوله ولا هم ينظرون

وَإِذَا رَءَا الَّذِينَ أَشْرَكُواْ شُرَكَآءَهُمْ قَالُواْ رَبَّنَا هَاؤُلآءِ شُرَكَآؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوْا مِن دُونِكَ فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ وَأَلْقَوْاْ إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ
اعلم أن هذا أيضاً من بقية وعيد المشركين وفي الشركاء قولان
القول الأول أنه تعالى يبعث الأصنام التي كان يعبدها المشركون والمقصود من إعادتها أن المشركين يشاهدونها في غاية الذلة والحقارة وأيضاً أنها تكذب المشركين وكل ذلك مما يوجب زيادة الغم والحسرة في قلوبهم وإنما وصفهم الله بكونهم شركاء لوجهين الأول أن الكفار كانوا يسمونها بأنها شركاء الله والثاني أن الكفار جعلوا لهم نصيباً من أموالهم
والقول الثاني أن المراد بالشركاء الشياطين الذين دعوا الكفار إلى الكفر وهو قول الحسن وإنما ذهب إلى هذا القول لأنه تعالى حكى عن أولئك الشركاء أنهم ألقوا إلى الذين أشركوا إنهم لكاذبون والأصنام جمادات فلا يصح منهم هذا القول فوجب أن يكون المراد من الشركاء الشياطين حتى يصح منهم هذا القول وهذا بعيد لأنه تعالى قادر على خلق الحياة في تلك الأصنام وعلى خلق العقل والنطق فيها وحينئذ يصح منها هذا القول ثم حكى تعالى عن المشركين أنهم إذا رأوا تلك الشركاء قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك
فإن قيل فما فائدتهم في هذا القول
قلنا فيه وجهان الأول قال أبو مسلم الأصفهاني مقصود المشركين إحالة الذنب على هذه الأصنام وظنوا أن ذلك ينجيهم من عذاب الله تعالى أو ينقص من عذابهم فعند هذا تكذبهم تلك الأصنام قال القاضي هذا بعيد لأن الكفار يعلمون علماً ضرورياً في الآخرة أن العذاب سينزل بهم وأنه لا نصرة ولا فدية ولا شفاعة
والقول الثاني أن المشركين يقولون هذا الكلام تعجباً من حضور تلك الأصنام مع أنه لا ذنب لها واعترافاً بأنهم كانوا مخطئين في عبادتها ثم حكى تعالى أن الأصنام يكذبونهم فقال فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ والمعنى أنه تعالى يخلق الحياة والعقل والنطق في تلك الأصنام حتى تقول هذا القول وقوله إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ بدل من القول والتقدير فألقوا إليهم إنكم لكاذبون
فإن قيل إن المشركين ما قالوا إلا أنهم لما أشاروا إلى الأصنام قالوا إن هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك وقد كانوا صادقين في كل ذلك فكيف قالت الأصنام إنكم لكاذبون
قلنا فيه وجوه والأصح أن يقال المراد من قولهم هؤلاء شركاؤنا هو أن هؤلاء الذين كنا نقول إنهم

شركاء الله في المعبودية فالأصنام كذبوهم في إثبات هذه الشركة وقيل المراد إنكم لكاذبون في قولكم إنا نستحق العبادة ويدل عليه قوله تعالى كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ ( مريم 82 )
ثم قال تعالى وَأَلْقَوْاْ إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ قال الكلبي استسلم العابد والمعبود وأقروا لله بالربوبية وبالبراءة عن الشركاء والأنداد وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ وفيه وجهان وقيل ذهب عنهم ما زين لهم الشيطان من أن لله شريكاً وصاحبة وولداً وقيل بطل ما كانوا يأملون من أن آلهتهم تشفع لهم عند الله تعالى
الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر وعيد الذين كفروا أتبعه بوعيد من ضم إلى كفره صد الغير عن سبيل الله وفي تفسير قوله وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وجهان قيل معناه الصد عن المسجد الحرام والأصح أنه يتناول جملة الإيمان بالله والرسول وبالشرائع لأن اللفظ عام فلا معنى للتخصيص وقوله زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ فالمعنى أنهم زادوا على كفرهم صد غيرهم عن الإيمان فهم في الحقيقة ازدادوا كفراً على كفر فلا جرم يزيدهم الله تعالى عذاباً على عذاب وأيضاً أتباعهم إنما اقتدوا بهم في الكفر فوجب أن يحصل لهم مثل عقاب أتباعهم لقوله تعالى وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ ( العنكبوت 13 ) ولقوله عليه السلام ( من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ) ومن المفسرين من ذكر تفصيل تلك الزيادة فقال ابن عباس المراد بتلك الزيادة خمسة أنهار من نار تسيل من تحت العرش يعذبون بها ثلاثة بالليل واثنان بالنهار وقال بعضهم زدناهم عذاباً بحيات وعقارب كأمثال البخث فيستغيثون بالهرب منها إلى النار ومنهم من ذكر لكل عقرب ثلثمائة فقرة في ثلثمائة قلة من سلم وقيل عقارب لها أنياب كالنخل الطوال
ثم قال تعالى بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ أي هذه الزيادة من العذاب إنما حصلت معللة بذلك الصد وهذا يدل على أن من دعا غيره إلى الكفر والضلال فقد عظم عذابه فكذلك إذا دعا إلى الدين واليقين فقد عظم قدره عند الله تعالى والله أعلم
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِى كُلِّ أُمَّة ٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَاؤُلآءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَى ْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَة ً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ
اعلم أن هذا نوع آخر من التهديدات المانعة للمكلفين عن المعاصي واعلم أن الأمة عبارة عن الفرن والجماعة

إذا ثبت هذا فنقول في الآية قولان الأول أن المراد أن كل نبي شاهد على أمته والثاني أن كل جمع وقرن يحصل في الدنيا فلا بد وأن يحصل فيهم واحد يكون شهيداً عليهم أما الشهيد على الذين كانوا في عصر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فهو الرسول بدليل قوله تعالى وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ( البقرة 143 ) وثبت أيضاً أنه لا بد في كل زمان بعد زمان الرسول من الشهيد فحصل من هذا أن عصراً من الإعصار لا يخلو من شهيد على الناس وذلك الشهيد لا بد وأن يكون غير جائز الخطأ وإلا لافتقر إلى شهيد آخر ويمتد ذلك إلى غير النهاية وذلك باطل فثبت أنه لا بد في كل عصر من أقوام تقوم الحجة بقولهم وذلك يقتضي أن يكون إجماع الأمة حجة قال أبو بكر الأصم المراد بذلك الشهيد هو أنه تعالى ينطق عشرة من أعضاء الإنسان حتى أنها تشهد عليه وهي الأذنان والعينان والرجلان واليدان والجلد واللسان قال والدليل عليه أنه قال في صفة الشهيد أنه من أنفسهم وهذه الأعضاء لا شك أنها من أنفسهم
أجاب القاضي عنه من وجوه الأول أنه تعالى قال شَهِيدًا عَلَيْهِمْ أي على الأمة فيجب أن يكون غيرهم الثاني أنه قال مِن كُلّ أمَّة ٍ فوجب أن يكون ذلك الشهيد من الأمة وآحاد الأعضاء لا يصح وصفها بأنها من الأمة وأما حمل هؤلاء الشهداء على الأنبياء فبعيد وذلك لأن كونهم أنبياء مبعوثين إلى الخلق أمر معلوم بالضرورة فلا فائدة في حمل هذه الآية عليه
ثم قال تعالى وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لّكُلّ شَى ْء وفيه مسائل
المسألة الأولى وجه تعلق هذا الكلام بما قبله أنه تعالى لما قال وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلآء بين أنه أزاح علتهم فيما كلفوا فلا حجة لهم ولا معذرة
المسألة الثانية من الناس من قال القرآن تبيان لكل شيء وذلك لأن العلوم إما دينية أو غير دينية أما العلوم التي ليست دينية فلا تعلق لها بهذه الآية لأن من المعلوم بالضرورة أن الله تعالى إنما مدح القرآن بكونه مشتملاً على علوم الدين فأما ما لا يكون من علوم الدين فلا التفات إليه وأما علوم الدين فإما الأصول وإما الفروع أما علم الأصول فهو بتمامه موجود في القرآن وأما علم الفروع فالأصل براءة الذمة إلا ما ورد على سبيل التفصيل في هذا الكتاب وذلك يدل على أنه لا تكليف من الله تعالى إلا ما ورد في هذا القرآن وإذا كان كذلك كان القول بالقياس باطلاً وكان القرآن وافياً ببيان كل الأحكام وأما الفقهاء فإنهم قالوا القرآن إنما كان تبياناً لكل شيء لأنه يدل على أن الإجماع وخبر الواحد والقياس حجة فإذا ثبت حكم من الأحكام بأحد هذه الأوصل كان ذلك الحكم ثابتاً بالقرآن وهذه المسألة قد سبق ذكرها بالاستقصاء في سورة الأعراف والله أعلم
المسألة الثالثة روى الواحدي بإسناده عن الزجاج أنه قال تبياناً في معنى اسم البيان ومثل التبيان التلقاء وروى ثعلب عن الكوفيين والمبرد عن البصريين أنهم قالوا لم يأت من المصادر على تفعل إلا حرفان تبياناً وتلقاء وإذا تركت هذين اللفظين استوى لك القياس فقلت في كل مصدر تفعال بفتح التاء مثل تسيار وتذكار وتكرار وقلت في كل اسم تفعال بكسر التاء مثل تقصار وتمثال

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإْحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِى الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
واعلم أنه تعالى لما استقصى في شرح الوعد والوعيد والترغيب والترهيب أتبعه بقوله إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإْحْسَانِ فجمع في هذه الآية ما يتصل بالتكليف فرضاً ونفلاً وما يتصل بالأخلاق والآداب عموماً وخصوصاً وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في بيان فضائل هذه الآية روي عن ابن عباس أن عثمان بن مظعون الجمحي قال ما أسلمت أولاً إلا حياء من محمد عليه السلام ولم يتقرر الإسلام في قلبي فحضرته ذات يوم فبينما هو يحدثني إذ رأيت بصره شخص إلى السماء ثم خفضه عن يمينه ثم عاد لمثل ذلك فسألته فقال ( بينما أنا أحدثك إذا بجبريل نزل عن يميني فقال يا محمد إن الله يأمر بالعدل والإحسان العدل شهادة أن لا إله إلا الله والإحسان القيام بالفراض وإيتاء ذي القربى أي صلة ذي القرابة وينهى عن الفحشاء والزنا والمنكر ما لا يعرف في شريعة ولا سنة والبغي الاستطالة ) قال عثمان فوقع الإيمان في قلبي فأتيت أبا طالب فأخبرته فقال يا معشر قريش اتبعوا ابن أخي ترشدوا ولئن كان صادقاً أو كاذباً فإنه ما يأمركم إلا بمكارم الأخلاق فلما رأى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من عمه اللين قال يا عماه أتأمر الناس أن يتبعوني وتدع نفسك وجهد عليه فأبى أن يسلم فنزل قوله إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ ( القصص 56 ) وعن ابن مسعود رضي الله عنه إن أجمع آية في القرآن لخير وشر هذه الآية وعن قتادة ليس من خلق حسن كان في الجاهلية يعمل ويستحب إلا أمر الله تعالى به في هذه الآية وليس من خلق سيء إلا نهى الله عنه في هذه الآية وروى القاضي في ( تفسيره ) عن ابن ماجه عن علي عليه السلام أنه قال أمر الله تعالى نبيه أن يعرض نفسه على قبائل العرب فخرج وأنا معه وأبو بكر فوقفنا على مجلس عليهم الوقار فقال أبو بكر ممن القوم فقالوا من شيبان بن ثعلبة فدعاهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى الشهادتين وإلى أن ينصروه فإن قريشاً كذبوه فقال مقرون بن عمرو إلام تدعونا أخا قريش فتلا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإْحْسَانِ الآية فقال مقرون بن عمرو دعوت والله إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك وعن عكرمة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قرأ هذه الآية على الوليد فاستعاده ثم قال إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته ) والله أعلم
المسألة الثانية في تفسير هذه الآية أكثر الناس في تفسير هذه الآية قال ابن عباس في بعض الروايات العدل شهادة أن لا إله إلا اًّ والإحسان أداء الفرائض وقال في رواية أخرى العدل خلع الأنداد والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه وأن تحب للناس ما تحب لنفسك فإن كان مؤمناً أحببت أن يزداد إيماناً وإن

كان كافراً أحببت أن يصير أخاك في الإسلام وقال في رواية ثالثة العدل هو التوحيد والإحسان الإخلاص فيه وقال آخرون يعني بالعدل في الأفعال والإحسان في الأقوال فلا تفعل إلا ما هو عدل ولا تقل إلا ما هو إحسان وقوله وَإِيتَآء ذِى الْقُرْبَى يريد صلة الرحم بالمال فإن لم يكن فبالدعاء روى أبو مسلم عن أبيه أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( إن أعجل الطاعة ثواباً صلة الرحم إن أهل البيت لكونوا فجاراً فتنمى أموالهم ويكثر عددهم إذا وصلوا أرحامهم ) وقوله وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء قيل الزنا وقيل البخل وقيل كل الذنوب سواء كانت صغيرة أو كبيرة وسواء كانت في القول أو في الفعل وأما المنكر فقيل إنه الكفر بالله تعالى وقيل المنكر ما لا يعرف في شريعة ولا سنة وأما البغي فقيل الكبر والظلم وقيل أن تبغي على أخيك
واعلم أن في المأمورات كثرة وفي المنهيات أيضاً كثرة وإنما حسن تفسير لفظ معين لشيء معين إذا حصل بين ذلك اللفظ وبين ذلك المعنى مناسبة أما إذا لم تحصل هذه الحالة كان ذلك التفسير فاسداً فإذا فسرنا العدل بشيء والإحسان بشيء آخر وجب أن نبين أن لفظ العدل يناسب ذلك المعنى ولفظ الإحسان يناسب هذا المعنى فلما لم نبين هذا المعنى كان ذلك مجرد التحكم ولم يكن جعل بعض تلك المعنى تفسيراً لبعض تلك الألفاظ أولى من العكس فثبت أن هذه الوجود التي ذكرناها ليست قوية في تفسير هذه الآية وأقول ظاهر هذه الآية يدل على أنه تعالى أمر بثلاثة أشياء وهي العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ونهى عن ثلاثة أشياء هي الفحشاء والمنكر والبغي فوجب أن يكون العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ثلاثة أشياء متغايرة ووجب أن تكون الفحشاء والمنكر والبغي ثلاثة أشياء متغايرة لأن العطف يوجب المغايرة فنقول أما العدل فهو عبارة عن الأمر المتوسط بين طرفي الإفراط والتفريط وذلك أمر واجب الرعاية في جميع الأشياء ولا بد من تفصيل القول فيه فنقول الأحوال التي وقع التكليف بها إما الاعتقادات وإما أعمال الجوارح أما الاعتقادات فالعدل في كلها واجب الرعاية فأحدها قال ابن عباس إن المراد بالعدل هو قول لا إله إلا الله وتحقيق القول فيه أن نفي الإله تعطيل محض وإثبات أكثر من إله واحد تشريك وتشبيه وهما مذمومان والعدل هو إثبات الإله الواحد وهو قول لا إله إلا الله وثانيها أن القول بأن الإله ليس بموجود ولا شيء تعطيل محض والقول بأنه جسم وجوهر مركب من الأعضاء ومختص بالمكان تشبيه محض والعدل إثبات إله موجود متحقق بشرط أن يكون منزهاً عن الجسمية والجوهرية والأعضاء والأجزاء والمكان وثالثها أن القول بأن الإله غير موصوف بالصفات من العلم والقدرة تعطيل محض والقول بأن صفاته حادثة متغيرة تشبيه محض والعدل هو إثبات أن الإله عالم قادر حي مع الإعتراف بأن صفاته ليست حادثة ولا متغيرة ورابعها أن القول بأن العبد ليس له قدرة ولا اختيار جبر محض والقول بأن العبد مستقل بأفعاله قدر محض وهما مذمومان والعدل أن يقال إن العبد يفعل الفعل لكن بواسطة قدرة وداعية يخلقهما الله تعالى فيه وخامسها القول أن الله تعالى لا يؤاخذ عبده على شيء من الذنوب مساهلة عظيمة والقول بأنه تعالى يخلد في النار عبده العارف بالمعصية الواحدة تشديد عظيم والعدل أنه يخرج من النار كل من قال واعتقد أنه لا إله إلا الله فهذه أمثلة ذكرناها في رعاية معنى العدل في الاعتقادات وأما رعاية العدل فيما يتعلق بأفعال الجوارح فنذكر ستة أمثلة منها أحدها أن قوماً من نفاة التكاليف يقولون لا يجب على العبد الاشتغال بشيء من الطاعات ولا يجب عليه الاحتراز عن شيء من المعاصي وليس لله عليه تكليف أصلاً وقال قوم من الهند ومن المانوية إنه يجب على الإنسان أن يجتنب عن كل الطيبات وأن يبالغ في تعذيب

نفسه وأن يحترز عن كل ما يميل الطبع إليه حتى أن المانوية يخصون أنفسهم ويحترزون عن التزوج ويحترزون عن أكل الطعام الطيب والهند يحرقون أنفسهم ويرمون أنفسهم من شاهق الجبل فهذان الطريقان مذمومان والوسط المعتدل هو هذا الشرع الذي جاءنا به محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وثانيها أن التشديد في دين موسى عليه السلام غالب جداً والتساهل في دين عيسى عليه السلام غالب جداً والوسط العدل شريعة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) قيل كان شرع موسى عليه السلام في القتل العمد استيفاء القصاص لا محالة وفي شرع عيسى عليه السلام العفو أما في شرعنا فإن شاء استوفى القصاص على سبيل المماثلة وإن شاء استوفى الدية وإن شاء عفا وأيضاً شرع موسى يقتضي الاحتراز العظيم عن المرأة حال حيضها وشرع عيسى يقتضي حل وطء الحائض والعدل ما حكم به شرعنا وهو أنه محرم وطؤها احترازاً عن التلطخ بتلك الدماء الخبيثة أما لا يجب إخراجها عن الدار وثالثها أنه تعالى قال وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا ( البقرة 143 ) يعني متباعدين عن طرفي الإفراط والتفريط في كل الأمور وقال وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً ( الفرقان 67 ) وقال وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَة ً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ ( الإسراء 29 ) ولما بالغ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في العبادات قال تعالى طه مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءانَ لِتَشْقَى ( طه 1 2 ) ولما أخذ قوم في المساهلة قال أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً ( المؤمنون 115 ) والمراد من الكل رعاية العدل والوسط ورابعها أن شريعتنا أمرت بالختان والحكمة فيه أن رأس العضو جسم شديد الحس ولأجله عظم الالتذاذ عند الوقاع فلو بقيت الجلدة على ذلك العضو بقي ذلك العضو على كمال القوة وشدة الإحساس فيعظم الإلتذاذ أما إذا قطعت تلك الجلدة وبقي ذلك العضو عارياً فيلقى الثياب وسائر الأجسام فيتصلب ويضعف حسه ويقل شعوره فيقل الالتذاذ بالوقاع فتقل الرغبة فيه فكأن الشريعة إنما أمرت بالختان سعياً في تقليل تلك اللذة حتى يصير ميل الإنسان إلى قضاء شهوة الجماع إلى حد الاعتدال وأن لا تصير الرغبة فيه غالبة على الطبع فالإخصاء وقطع الآلات على ما تذهب إليه المانوية مذموم لأنه إفراط وإبقاء تلك الجلدة مبالغة في تقوية تلك اللذة والعدل الوسط هو الإتيان بالختان فظهر بهذه الأمثلة أن العدل واجب الرعاية في جميع الأحوال ومن الكلمات المشهورة قولهم وبالعدل قامت السموات والأرض ومعناه أن مقادير العناصر لو لم تكن متعادلة متكافئة بل كان بعضها أزيد بحسب الكمية وبحسب الكيفية من الآخر لاستولى الغالب على المغلوب ووهى المغلوب وتنقلب الطبائع كلها إلى طبيعة الجرم الغالب ولو كان بعد الشمس من الأرض أقل مما هو الآن لعظمت السخونة في هذا العالم واحترق كل ما في هذا العالم ولو كان بعدها أزيد مما هو الآن لاستولى البرد والجمود على هذا العالم وكذا القول في مقادير حركات الكواكب ومراتب سرعتها وبطئها فإن الواحد منها لو كان أزيد مما هو الآن أو كان أنقص مما هو الآن لاختلت مصالح هذا العالم فظهر بهذا السبب الذي ذكرناه صدق قولهم وبالعدل قامت السموات والأرض فهذه إشارة مختصرة إلى شرح حقيقة العدل وأما الإحسان فاعلم أن الزيادة على العدل قد تكون إحساناً وقد تكون إساءة مثاله أن العدل في الطاعات هو أداء الواجبات أما الزيادة على الواجبات فهي أيضاً طاعات وذلك من باب الإحسان وبالجملة فالمبالغة في أداء الطاعات بحسب الكمية وبحسب الكيفية هو الإحسان والدليل عليه أن جبريل لما سأل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن الإحسان قال ( الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك )

فإن قالوا لم سمي هذا المعنى بالإحسان
قلنا كأنه بالمبالغة في الطاعة يحسن إلى نفسه ويوصل الخير والفعل الحسن إلى نفسه والحاصل أن العدل عبارة عن القدر الواجب من الخيرات والإحسان عبارة عن الزيادة في تلك الطاعات بحسب الكمية وبحسب الكيفية وبحسب الدواعي والصوارف وبحسب الاستغراق في شهود مقامات العبودية والربوبية فهذا هو الإحسان
واعلم أن الإحسان بالتفسير الذي دكرنا دخل فيه التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلق الله ومن الظاهر أن الشفقة على خلق الله أقسام كثيرة وأشرفها وأجلها صلة الرحم لا جرم أنه سبحانه أفرده بالذكر فقال وَإِيتَآء ذِى الْقُرْبَى فهذا تفصيل القول في هذه الثلاثة التي أمر الله تعالى بها وأما الثلاثة التي نهى الله عنها وهي الفحشاء والمنكر والبغي فنقول إنه تعالى أودع في النفس البشرية قوى أربعة وهي الشهوانية البهيمية والعصبية السبعية والوهمية الشيطانية والعقلية الملكية وهذه القوة الرابعة أعني العقلية الملكية لا يحتاج الإنسان إلى تأديبها وتهذيبها لأنها من جواهر الملائكة ومن نتائج الأرواح القدسية العلوية إنما المحتاج إلى التأديب والتهذيب تلك القوى الثلاثة الأولى أما القوة الشهوانية فهي إنما ترغب في تحصيل اللذات الشهوانية وهذا النوع مخصوص باسم الفحش إلا ترى أنه تعالى سمى الزنا فاحشة فقال إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَة ً وَمَقْتاً وَسَاء سَبِيلاً ( النساء 22 ) فقوله تعالى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء المراد منه المنع من تحصيل اللذات الشهوانية الخارجة عن إذن الشريعة وأما القوة الغضبية السبعية فهي أبداً تسعى في إيصال الشر والبلاء والإيذاب إلى سائر الناس ولا شك أن الناس ينكرون تلك الحالة فالمنكر عبارة عن الإفراط الحاصل في آثار القوة الغضبية وأما القوة الوهمية الشيطانية فهي أبداً تسعى في الاستعلاء على الناس والترفع وإظهار الرياسة والتقدم وذلك هو المراد من البغي فإنه لا معنى للبغي إلا التطاول على الناس والترفع عليهم فظهر بما ذكرنا أن هذه الألفاظ الثلاثة منطبقة على أحوال هذه القوى الثلاثة ومن العجائب في هذا الباب أن العقلاء قالوا أخس هذه القوى الثلاثة هي الشهوانية وأوسطها الغضبية وأعلاها الوهمية والله تعالى راعى هذا الترتيب فبدأ بالفحشاء التي هي نتيجة القوة الشهوانية ثم بالمنكر الذي هو نتيجة القوة الغضبية ثم بالبغي الذي هو نتيجة القوة الوهمية فهذا ما وصل إليه عقلي وخاطري في تفسير هذه الألفاظ فإن يك صواباً فمن الرحمن وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله عنه بريئان والحمد لله على ما خصنا بهذا النوع من الفضل والإحسان إنه الملك الديان
ثم قال تعالى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ والمراد بقوله تعالى يَعِظُكُمُ أمره تعالى بتلك الثلاثة ونهيه عن هذه الثلاثة لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى أنه تعالى لما قال في الآية الأولى وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لّكُلّ شَى ْء ( النحل 89 ) أردفه بهذه الآية مشتملة على الأمر بهذه الثلاثة والنهي عن هذه الثلاثة كان ذك تنبيهاً على أن المراد بكون القرآن تبياناً لكل شيء هو هذه التكاليف الستة وهي في الحقيقة كذلك لأن جوهر النفس من زمرة الملائكة ومن نتائج الأرواح العالية القدسية إلا أنه دخل في هذا العالم خالياً عارياً عن التعلقات فتلك الثلاثة التي أمر الله بها هي التي ترقيها بالمعارف الإلهية والأعمال الصالحة وتلك المعارف والأعمال هي التي

ترقيها إلى عالم الغيب وسرادقات القدس ومجاورة الملائكة المقربين في جوار رب العالمين وتلك الثلاثة التي نهى الله عنها هي التي تصدها عن تلك السعادات وتمنعها عن الفوز بتلك الخيرات فلما أمر الله تعالى بتلك الثلاثة ونهى عن هذه الثلاثة فقد نبه على كل ما يحتاج إليه المسافرون من عالم الدنيا إلى مبدأ عرصة القيامة
المسألة الثانية قال الكعبي الآية تدل على أنه تعالى لا يخلق الجور والفحشاء وذلك من وجوه الأول أنه تعالى كيف ينهاهم عما يخترعه فيهم وكيف ينهى عما يريد تحصيله فيهم ولو كان الأمر كما قالوا لكان كأنه تعالى قال إن الله يأمركم أن تفعلوا خلاف ما خلقه فيكم وينهاكم عن أفعال خلقها فيكم ومعلوم أن ذلك باطل في بديهة العقل والثاني أنه تعالى لما أمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي فلو أنه تعالى أمر بتلك الثلاثة ثم إنه ما فعلها لدخل تحت قوله أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ ( البقرة 2 3 ) الثالث أن قوله لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ليس المراد منه الترجي والتمني فإن ذلك محال على الله تعالى فوجب أن يكون معناه أنه تعالى يعظكم لإرادة أن تتذكروا طاعته وذلك يدل على أنه تعالى يريد الإيمان من الكل الرابع أنه تعالى لو صرح وقال إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ولكنه تمنع منه ويصد عنه ولا يمكن العبد منه ثم قال وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْى ولكنه يوجد كل هذه الثلاثة في العبد شاء أم أبى وأراده منه ومنعه من تركه ومن الاحتراز عنه لحكم كل أحد عليه بالركاكة وفساد النظم والتركيب وذلك يدل على كونه سبحانه متعالياً عن فعل القبائح
واعلم أن هذا النوع من الاستدلال كثير وقد مر الجواب عنه والمعتمد في دفع هذه المشاغبات التعويل على سؤال الداعي وسؤال العلم والله أعلم
المسألة الثالثة اتفق المتكلمون من أهل السنة ومن المعتزلة على أن تذكر الأشياء من فعل لله لا من فعل العبد والدليل عليه هو أن التذكرة عبارة عن طلب المتذكر فحال الطلب إما أن يكون له به شعور أو لا يكون له به شعور فإن كان له شعور فذلك الذكر حاصل والحاصل لا يطلب تحصيله وإن لم يكن له به شعور فكيف يطلبه بعينه لأن توجيه الطلب إليه بعينه حال ما لا يكون هو بعينه متصوراً محال
إذا ثبت هذا فنقول قوله لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ معناه أن المقصود من هذا الوعظ أن يقدموا على تحصيل ذلك التذكر فإذا لم يكن التذكر فعلاً له فكيف طلب منه تحصيله وهذا هو الذي يحتج به أصحابنا على أن قوله تعالى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ لا يدل على أنه تعالى يريد منه ذلك والله أعلم
وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الاٌّ يْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّة ٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّة ٌ هِى َ أَرْبَى مِنْ أُمَّة ٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ

اعلم أنه تعالى لما جمع كل المأمورات والمنهيات في الآية الأولى على سبيل الإجمال ذكر في هذه الآية بعض تلك الأقسام فبدأ تعالى بالأمر بالوفاء بالعهد وفي الآية مسائل
المسألة الأولى ذكروا في تفسير قوله بِعَهْدِ اللَّهِ وجوهاً الأول قال صاحب ( الكشاف ) عهد الله هي البيعة لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على الإسلام لقوله إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ( الفتح 10 ) أي ولا تنقضوا أيمان البيعة بعد توكيدها أي بعد توثيقها باسم الله الثاني أن المراد منه كل عهد يلتزمه الإنسان باختياره قال ابن عباس والوعد من العهد وقال ميمون بن مهران من عاهدته وف بعهده مسلماً كان أو كافراً فإنما العهد ( صلى الله عليه وسلم ) تعالى الثالث قال الأصم المراد منه الجهاد وما فرض الله في الأموال من حق الرابع عهد الله هو اليمين بالله وقال هذا القائل إنما يجب الوفاء باليمين إذا لم يكن الصلاح في خلافه لأنه عليه السلام قال ( من حلف على يمين ورأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير ثم ليكفر ) الخامس قال القاضي العهد يتناول كل أمر يجب الوفاء بمقتضاه ومعلوم أن أدلة العقل والسمع أوكد في لزوم الوفاء بما يدلان على وجوبه من اليمين ولذلك لا يصح في هذين الدليلين التغير والاختلاف ويصح ذلك في اليمين وربما ندب فيه خلاف الوفاء
ولقائل أن يقول إنه تعالى قال وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ فهذا يجب أن يكون مختصاً بالعهود التي يلتزمها الإنسان باختيار نفسه لأن قوله إِذَا عَاهَدتُّمْ يدل على هذا المعنى وحينئذ لا يبقى المعنى الذي ذكره القاضي معتبراً ولأنه تعالى قال في آخر الآية وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً وهذا يدل على أن الآية واردة فيمن آمن بالله والرسول وأيضاً يجب أن لا يحمل هذا العهد على اليمين لأنا لو حملناه عليه لكان قوله بعد ذلك وَلاَ تَنقُضُواْ الاْيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا تكراراً لأن الوفاء بالعهد والمنع من النقض متقاربان لأن الأمر بالفعل يستلزم النهي عن الترك إلا إذا قيل إن الوفاء بالعهد عام فدخل تحته اليمين ثم إنه تعالى خص اليمين بالذر تنبيهاً على أنه أولى أنواع العهد بوجوب الرعاية وعند هذا نقول الأولى أن يحمل هذا العهد على ما يلتزمه الإنسان باختياره ويدخل فيه المبايعة على الإيمان بالله وبرسوله ويدخل فيه عهد الجهاد وعهد الوفاء بالملتزمات من المنذورات والأشياء التي أكدها بالحلف واليمين وفي قوله وَلاَ تَنقُضُواْ الاْيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا مباحث
البحث الأول قال الزجاج يقال وكدت وأكدت لغتان جيدتان والأصل الواو والهمزة بدل منها
البحث الثاني قال أصحاب أبي حنيفة رحمه الله يمين اللغو هي يمين الغموس والدليل عليه أنه تعالى قال لا تَنقُضُواْ الاْيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا فنهى في هذه الآية عن نقض الأيمان فوجب أن يكون كل يمين قابلاً للبر والحنث ويمين الغموس غير قابلة للبر والحنث فوجب أن لا تكون من الأيمان واحتج الواحدي بهذه الآية على أن يمين اللغو هي قول العرب لا والله وبلى والله قال إنما قال تعالى بَعْدَ تَوْكِيدِهَا للفرق بين الأيمان المؤكدة بالعزم وبالعقد وبين لغو اليمين

البحث الثالث قوله وَلاَ تَنقُضُواْ الاْيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا عام دخله التخصيص لأنا بينا أن الخبر دل على أنه متى كان الصلاح في نقض الأيمان جاز نقضها
ثم قال وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً هذه واو الحال أي لا تنقضوها وقد جعلتم الله كفيلاً عليكم بالوفاء وذلك أن من حلف بالله تعالى فكأنه قد جعل الله كفيلاً بالوفاء بسبب ذلك الحلف
ثم قال إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وفيه ترغيب وترهيب والمراد فيجازيكم على ما تفعلون إن خيراً فخير وإن شراً فشر ثم إنه تعالى أكد وجوب الوفاء وتحريم النقض وقال وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّة ٍ أَنكَاثًا وفيه مسائل
المسألة الأولى في المشبه به قولان
القول الأول أنها امرأة من قريش يقال لها رايطة وقيل ريطة وقيل تلقب جعراء وكانت حمقاء تغزل الغزل هي وجواريها فإذا غزلت وأبرمت أمرتهن فنقضن ما غزلن
والقول الثاني أن المراد بالمثل الوصف دون التعين لأن القصد بالأمثال صرف المكلف عنه إذا كان قبيحاً والدعاء إليه إذا كان حسناً وذلك يتم به من دون التعيين
المسألة الثانية قوله مِن بَعْدِ قُوَّة ٍ أي من به قوة الغزل بإبرامها وفتلها
المسألة الثالثة قوله أَنكَاثًا قال الأزهري واحدها نكث وهو الغزل من الصوف والشعر يبرم وينسج فإذا أحكمت النسيجة قطعتها ونكثت خيوطها المبرمة ونفشت تلك الخيوط وخلطت بالصوف ثم غزلت ثانية والنكث المصدر ومنه يقال نكث فلان عهده إذا نقضه بعد إحكامه كما ينكث خيط الصوف بعد إبرامه
المسألة الرابعة في انتصاب قوله أَنكَاثًا وجوه الأول قال الزجاج أنكاثاً منصوب لأنه بمعنى المصدر لأن معنى نكثت نقضت ومعنى نقضت نكثت وهذا غلط منه لأن الأنكاث جمع نكث وهو اسم لا مصدر فكيف يكون قوله أَنكَاثًا بمعنى المصدر الثاني قال الواحدي أنكاثاً مفعول ثان كما تقول كسره أقطاعاً وفرقه أجزاء على معنى جعله أقطاعاً وأجزاء فكذا ههنا قوله نقضت غزلها أنكاثاً أي جعلت غزلها أنكاثاً الثالث إن قوله أَنكَاثًا حال مؤكدة
المسألة الخامسة قال ابن قتيبة هذه الآية متصلة بما قبلها والتقدير وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها فإنكم إن فعلتم ذلك كنتم مثل المرأة التي غزلت غزلاً وأحكمته فلما استحكم نقضته فجعلته أنكاثاً
ثم قال تعالى تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ قال الواحدي الدخل والدغل الغش والخيانة قال الزجاج كل ما دخله عيب قيل هو مدخول وفيه دخل وقال غيره الدخل ما أدخل في الشيء على فساد
ثم قال أَن تَكُونَ أُمَّة ٌ هِى َ أَرْبَى مِنْ أُمَّة ٍ أربى أي أكثر من ربا الشيء يربو إذا زاد وهذه الزيادة قد تكون في العدد وفي القوة وفي الشرف قال مجاهد كانوا يحالفون الحلفاء ثم يحدون من كان أعز منهم وأشرف فينقضون حلف الأولين ويحالفون هؤلاء الذين هم أعز فنهاهم الله تعالى عن ذلك وقوله أَن تَكُونَ

معناه أنكم تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم بسبب أن تكون أمة أربى من أمة في العدد والقوة والشرف فقوله تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ استفهام على سبيل الإنكار والمعنى أتتخذون أيمانكم دخلاً بينكم بسبب أن أمة أزيد في القوة والكثرة من أمة أخرى
ثم قال تعالى إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ أي بما يأمركم وينهاكم وقد تقدم ذكر الأمر والنهي وَلَيُبَيّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فيتميز المحق من المبطل بما يظهر من درجات الثواب والعقاب والله أعلم
وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّة ً وَاحِدَة ً وَلاكِن يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ وَلَتُسْألُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
اعلم أنه تعالى لما كلف القوم بالوفاء بالعهد وتحريم نقضه أتبعه ببيان أنه تعالى قادر على أن يجمعهم على هذا الوفاء وعلى سائر أبواب الأيمان ولكنه سبحانه بحكم الإلهية يضل من يشاء ويهدي من يشاء أما المعتزلة فإنهم حملوا ذلك على الإلجاء أي لو أراد أن يلجئهم إلى الإيمان أو إلى الكفر لقدر عليه إلا أن ذلك يبطل التكليف فلا جرم ما ألجأهم إليه وفوض الأمر إلى اختيارهم في هذه التكاليف وأما قول أصحابنا فيه فهو ظاهر وهذه المناظرة قد تكررت مراراً كثيرة وروى الواحدي أن عزيراً قال يا رب خلقت الخلق فتضل من تشاء وتهدي من تشاء فقال يا عزيز أعرض عن هذا فأعاده ثانياً فقال أعرض عن هذا فأعاده ثالثاً فقال أعرض عن هذا وإلا محوت اسمك من النبوة قالت المعتزلة ومما يدل على أن المراد من هذه المشيئة مشيئة الإلجاء أنه تعالى قال بعده وَلَوْ شَآء اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ فلو كانت أعمال العباد بخلق الله تعالى لكان سؤالهم عنها عبثاً والجواب عنه قد سبق مراراً والله أعلم
وَلاَ تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ الْسُّو ءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَواة ً طَيِّبَة ً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ

اعلم أنه تعالى لما حذر فء الآية الأولى عن نقض العهود والإيمان على الإطلاق حذر في هذه الآية فقال وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ وليس المراد منه التحذير عن نقض مطلق الإيمان وإلا لزم التكرير الخالي عن الفائدة في موضع واحد بل المراد نهي أولئك الأقوام المخاطبين بهذا الخطاب عن نقض أيمان مخصوصة أقدموا عليها فلهذا المعنى قال المفسرون المراد من هذه الآية نهي الذين بايعوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن نقض عهده لأن هذا الوعيد هو قوله فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا لا يليق بنقض عهده قبله وإنما يليق بنقض عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على الإيمان به وشرائعه وقوله فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا مثل يذكر لكل من وقع في بلاء بعد عافية فإن من نقض عهد الإسلام فقد سقط عن الدرجات العالية ووقع في مثل هذه الضلالة ويدل على هذا قوله تعالى وَتَذُوقُواْ الْسُّوء أي العذاب بِمَا صَدَدتُّمْ أي بصدكم عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ أي ذلك السوء الذي تذوقونه سوء عظيم وعقاب شديد ثم أكد هذا التحذير فقال وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً يريد عرض الدنيا وإن كان كثيراً إلا أن ما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون يعني أنكم وإن وجدتم على نقض عهد الإسلام خيراً من خيرات الدنيا فلا تلتفتوا إليه لأن الذي أعهد الله تعالى على البقاء على الإسلام خير وأفضل وأكمل مما يجدونه في الدنيا على نقض عهد الإسلام إن كنتم تعلمون التفاوت بين خيرات الدنيا وبين خيرات الآخرة ثم ذكر الدليل القاطع على أن ما عند الله خير مما يجدونه من طيبات الدنيا فقال مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ وفيه بحثان
البحث الأول الحس شاهد بأن خيرات الدنيا منقطعة والعقل دل على أن خيرات الآخرة باقية والباقي خير من المنقطع والدليل عليه أن هذا المنقطع إما أن يقال إنه كان خيراً عالياً شريفاً أو كان خيراً دنياً خسيساً فإن قلنا إنه كان خيراً عالياً شريفاً فالعلم بأنه سينقطع يجعله منغصاً حال حصوله وأما حال حصول ذلك الانقطاع فإنها تعظم الحسرة والحزن وكون تلك النعمة العالية الشريفة كذلك ينغص فيها ويقلل مرتبتها وتفتر الرغبة فيها وأما إن قلنا إن تلك النعمة المنقطعة كانت من الخيرات الخسيسة فهمنا من الظاهر أن ذلك الخير الدائم وجب أن يكون أفضل من ذلك الخير المنقطع فثبت بهذا أن قوله تعالى مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ برهان قاطع على أن خيرات الآخرة أفضل من خيرات الدنيا
البحث الثاني أن قوله وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ يدل على أن نعيم أهل الجنة باق لا ينقطع وقال جهم بن صفوان إنه منقطع والآية حجة عليه
واعلم أن المؤمن إذا آمن بالله فقد التزم شرائع الإسلام والإيمان وحينئذ يجب عليه أمران أحدهما أن يصبر على ذلك الإلتزام وأن لا يرجع عنه وأن لا ينقضه بعد ثبوته والثاني أن يأتي بكل ما هو من شرائع الإسلام ولوازمه
إذا عرفت هذا فنقول إنه تعالى رغب المؤمنين في القسم الأول وهو الصبر على ما التزموه فقال وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أي على ما الزموه من شرائع الإسلام بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ أي يجزيهم

على أحسن أعمالهم وذلك لأن المؤمن قد يأتي بالمباحثات وبالمندوبات وبالواجبات ولا شك أنه على فعل المندوبات والواجبات يثاب لا على فعل المباحثات فلهذا قال وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ثم إنه تعالى رغب المؤمنين في القسم الثاني وهو الإتيان بكل ما كان من شرائع الإسلام فقال مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَواة ً طَيّبَة ً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وفي الآية سؤالات
السؤال الأول لفظة ( من ) في قوله مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً تفيد العموم فما الفائدة في ذكر الذكر والأنثى
والجواب أن هذه الآية للوعد بالخيرات والمبالغة في تقرير الوعد من أعظم دلائل الكرم والرحمة إثباتاً للتأكيد وإزالة لوهم التخصيص
السؤال الثاني هل تدل هذه الآية على أن الأيمان مغاير للعمل الصالح
والجواب نعم لأنه تعالى جعل الإيمان شرطاً في كون العمل الصالح موجباً للثواب وشرط الشيء مغاير لذلك الشيء
السؤال الثالث ظاهر الآية يقتضي أن العمل الصالح إنما يفيد الأثر بشرط الإيمان فظاهر قوله فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ خَيْراً يَرَهُ يدل على أن العمل الصالح يفيد الأثر سواء كان مع الإيمان أو كان مع عدمه
والجواب أن إفادة العمل الصالح للحياة الطيبة مشروط بالإيمان أما إفادته لأثر غير هذه الحياة الطيبة وهو تخفيف العقاب فإنه لا يتوقف على الإيمان
السؤال الرابع هذه الحياة الطيبة تحصل في الدنيا أو في القبر أو في الآخرة
والجواب فيه ثلاثة أقوال
القول الأول قال القاضي الأقرب أنها تحصل في الدنيا بدليل أنه تعالى أعقبه بقوله وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ولا شبهة في أن المراد منه ما يكون في الآخرة
ولقائل أن يقول لا يبعد أن يكون المراد من الحياة الطيبة ما يحصل في الآخرة ثم إنه مع ذلك وعدهم الله على أنه إنما يجزيهم على ما هو أحسن أعمالهم فهذا لا امتناع فيه
فإن قيل بتقدير أن تكون هذه الحياة الطيبة إنما تحصل في الدنيا فما هي
والجواب ذكروا فيه وجوهاً قيل هو الرزق الحلال الطيب وقيل عبادة الله مع أكل الحلال وقيل القناعة وقيل رزق يوم بيوم كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول في دعائه ( قنعني بما رزقني ) وعن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه كان يدعو ( أللهم اجعل رزق آل محمد كفافاً ) قال الواحدي وقول من يقول إن القناعة حسن مختار لأنه لا يطيب عيش أحد في الدنيا إلا عيش القانع وأما الحريص فإنه يكون أبداً في الكد والعناء

واعلم أن عيش المؤمن في الدنيا أطيب من عيش الكافر لوجوه الأول أنه لما عرف أن رزقه إنما حصل بتدبير الله تعالى وعرف أنه تعالى محسن كريم لا يفعل إلا الصواب كان راضياً بكل ما قضاه وقدره وعلم أن مصلحته في ذلك أما الجاهل فلا يعرف هذه الأصول فكان أبداً في الحزن والشقاء وثانيها أن المؤمن أبداً يستحضر في عقله أنواع المصائب والمحن ويقدر وقوعها وعلى تقدير وقوعها يرضى بها لأن الرضا بقضاء الله تعالى واجب فعند وقوعها لا يستعظمها بخلاف الجاهل فإنه يكون غافلاً عن تلك المعارف فعند وقوع المصائب يعظم تأثيرها في قلبه وثالثها أن قلب المؤمن منشرح بنور معرفة الله تعالى والقلب إذا كان مملوءاً من هذه المعارف لم يتسع للأحزان الواقعة بسبب أحوال الدنيا أما قلب الجاهل فإنه خال عن معرفة الله تعالى فلا جرم يصير مملوءاً من الأحزان الواقعة بسبب مصائب الدنيا ورابعها أن المؤمن عارف بأن خيرات الحياة الجسمانية خسيسة فلا يعظم فرحه بوجدانها وغمه بفقدانها أما الجاهل فإنه لا يعرف سعادة أخرى تغايرها فلا جرم يعظم فرحه بوجدانها وغمه بفقدانها وخامسها أن المؤمن يعلم أن خيرات الدنيا واجبة التغير سريعة التقلب فلولا تغيرها وانقلابها لم تصل من غيره إليه
واعلم أن ما كان واجب التغير فإنه عند وصوله إليه لا تنقلب حقيقته ولا تتبدل ماهيته فعند وصوله إليه يكون أيضاً واجب التغير فعند ذلك لا يطبع العاقل قلبه عليه ولا يقيم له في قلبه وزناً بخلاف الجاهل فإنه يكون غافلاً عن هذه المعارف فيطبع قلبه عليها ويعانقها معانقة العاشق لمعشوقه فعند فوته وزواله يحترق قلبه ويعظم البلاء عنده فهذه وجوه كافية في بيان أن عيش المؤمن العارف أطيب من عيش الكافر هذا كله إذا فسرنا الحياة الطيبة بأنها في الدنيا
والقول الثاني وهو قول السدي إن هذه الحياة الطيبة إنما تحصل في القبر
والقول الثالث وهو قول الحسن وسعيد بن جبير إن هذه الحياة الطيبة لا تحصل إلا في الآخرة والدليل عليه قوله تعالى وَحُقَّتْ يأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ ( الإنشقاق 6 ) فبين أن هذا الكدح باقٍ إلى أن يصل إلى ربه وذلك ما قلناه وأما بيان أن الحياة الطيبة في الجنة فلأنها حياة بلا موت وغنى بلا فقر وصحة بلا مرض وملك بلا زوال وسعادة بلا شقاء فثبت أن الحياة الطيبة ليست إلا تلك الحياة ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله صَبَرُواْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وقد سبق تفسيره والله أعلم
فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ
اعلم أنه لما قال قبل هذه الآية وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( النحل 97 ) أرشد إلى العمل الذي به تخلص أعماله عن الوساوس فقال فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءانَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ وفي الآية مسائل

المسألة الأولى الشيطان ساع في إلقاء الوسوسة في القلب حتى في حق الأنبياء بدليل قوله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِى ّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِى أُمْنِيَّتِهِ ( الحج 52 ) والاستعاذة بالله مانعة للشيطان من إلقاء الوسوسة بدليل قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَئِفٌ مّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ( الأعراف 201 ) فلهذا السبب أمر الله تعالى رسوله بالاستعاذة عند القراءة حتى تبقى تلك القراءة مصونة عن الوسوسة
المسألة الثانية قوله فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءانَ خطاب للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إلا أن المراد به الكل لأن الرسول لما كان محتاجاً إلى الاستعاذة عند القراءة فغير الرسول أولى بها
المسألة الثالثة الفاء في قوله فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ للتعقيب فظاهر هذه الآية يدل على أن الاستعاذة بعد قراءة القرآن وإليه ذهب جماعة من الصحابة والتابعين قال الواحدي وهو قول أبي هريرة ومالك وداود قالوا والفائدة فيه أنه إذا قرأ القرآن استحق به ثواباً عظيماً فإن لم يأت بالاستعاذة وقعت الوسوسة في قلبه وتلك الوسوسة تحبط ثواب القراءة أما إذا استعاذ بعد القراءة اندفعت الوساوس وبقي الثواب مصوناً عن الإحباط أما الأكثرون من علماء الصحابة والتابعين فقد اتفقوا على أن الاستعاذة مقدمة على القراءة وقالوا معنى الآية إذا أردت أن تقرأ القرآن فاستعذ وليس معناه استعذ بعد القراءة ومثله إذا أكلت فقل بِسْمِ اللَّهِ وإذا سافرت فتأهب ونظيره قوله تعالى يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ ( المائدة 6 ) أي إذا أردتم القيام إلى الصلاة فاغسلوا وأيضاً لما ثبت أن الشيطان ألقى الوسوسة في أثناء قراءة الرسول بدليل قوله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِى ّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِى أُمْنِيَّتِهِ ( الحج 52 ) ومن الظاهر أنه تعالى إنما أمر الرسول بالاستعاذة عند القراءة لدفع تلك الوساوس فهذا المقصود إنما يحصل عند تقديم الإستعاذة
المسألة الرابعة مذهب عطاء أنه تجب الاستعاذة عند قراءة القرآن سواء كانت القراءة في الصلاة أو غيرها وسائر الفقهاء اتفقوا على أنه ليس كذلك لأنه لا خلاف بينهم أنه إن لم يتعوذ قبل القراءة في الصلاة فصلاته ماضية وكذلك حال القراءة في غير الصلاة لكن حال القراءة في الصلاة آكد
المسألة الخامسة المراد بالشيطان في هذه الآية قيل إبليس والأقرب أنه للجنس لأن لجميع المردة من الشياطين حظاً في الوسوسة
واعلم أنه تعالى لما أمر رسوله بالاستعاذة من الشيطان وكان ذلك يوهم أن للشيطان قدرة على التصرف في أبدان الناس فأزال الله تعالى هذا الوهم وبين أنه لا قدرة له ألبتة إلا على الوسوسة فقال إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ويظهر من هذا أن الاستعاذة إنما تفيد إذا حضر في قلب الإنسان كونه ضعيفاً وأنه لا يمكنه التحفظ عن وسوسة الشيطان إلا بعصمة الله تعالى ولهذا المعنى قال المحققون لا حول عن معصية الله تعالى إلا بعصمة الله ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله تعالى والتفويض الحاصل على هذا الوجه هو المراد من قوله وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ
ثم قال إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ قال ابن عباس يطيعونه يقال توليته أي أطعته وتوليت عنه أي أعرضت عنه وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ الضمير في قوله ( به ) إلى ماذا يعود فيه قولان الأول أنه

راجع إلى ربهم والثاني أنه راجع إلى الشيطان والمعنى بسببه وهذا كما تقول للرجل إذا تكلم بكلمة مؤدية إلى الكفر كفرت بهذه الكلمة أي من أجلها فكذلك قوله وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ أي من أجله ومن أجل حمله إياهم على الشرك بالله صاروا مشركين
وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءَايَة ً مَّكَانَ ءَايَة ٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ
اعلم أنه تعالى شرع من هذا الموضوع في حكاية شبهات منكري نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وفيه مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس رضي الله عنهما كان إذا نزلت آية فيها شدة ثم نزلت آية ألين منها تقول كفار قريش والله ما محمد إلا يسخر بأصحابه اليوم يأمر بأمر وغداً ينهى عنه وإنه لا يقول هذه الأشياء إلا من عند نفسه فأنزل الله تعالى قوله وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءايَة ً مَّكَانَ ءايَة ٍ ومعنى التبديل رفع الشيء مع وضع غيره مكانه وتبديل الآية رفعها بآية أخرى غيرها وهو نسخها بآية سواها وقوله وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزّلُ اعتراض دخل في الكلام والمعنى والله أعلم بما ينزل من الناسخ والمنسوخ والتغليظ والتخفيف أي هو أعلم بجميع ذلك في مصالح العباد وهذا توبيخ للكفار على قوله إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ أي إذا كان هو أعلم بما ينزل فما بالهم ينسبون محمد ( صلى الله عليه وسلم ) إلى الافتراء لأجل التبديل والنسخ وقوله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ أي لا يعلمون حقيقة القرآن وفائدة النسخ والتبديل وأن ذلك لمصالح العباد كما أن الطبيب يأمر المريض بشربة ثم بعد مدة ينهاه عنها ويأمره بضد تلك الشربة وقوله قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبّكَ تفسير روح القدس مر ذكره في سورة البقرة وقال صاحب ( الكشاف ) روح القدس جبريل عليه السلام أضيف إلى القدس وهو الطهر كما يقال حاتم الجود وزيد الخير والمراد الروح المقدس وحاتم الجواد وزيد الخير والمقدس المطهر من الماء و ( من ) في قوله مِن رَبّكَ صلة للقرآن أي أن جبريل نزل القرآن من ربك ليثبت الذين آمنوا أي ليبلوهم بالنسخ حتى إذا قالوا فيه هو الحق من ربنا حكم لهم بثبات القدم في الدين وصحة اليقين بأن الله حكيم فلا يفعل إلا ما هو حكمة وصواب وَهُدًى وَبُشْرَى مفعول لهما معطوف على محل ليثبت والتقدير تثبيتاً لهم وإرشاداً وبشارة وفيه تعريض بحصول أضداد هذه الصفات لغيرهم
المسألة الثانية قد ذكرنا أن مذهب أبي مسلم الأصفهاني أن النسخ غير واقع في هذه الشريعة فقال المراد ههنا إذا بدلنا آية مكان آية في الكتب المتقدمة مثل أنه حول القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة قال المشركون أنت مفتر في هذا التبديل وأما سائر المفسرين فقالوا النسخ واقع في هذه الشريعة والكلام فيه على الاستقصاء في سائر السور
المسألة الثالثة قال الشافعي رحمه الله القرآن لا ينسخ بالسنة واحتج على صحته بقوله تعالى

وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءايَة ً مَّكَانَ ءايَة ٍ وهذا يقتضي أن الآية لا تصير منسوخة إلا بآية أخرى وهذا ضعيف لأن هذه تدل على أنه تعالى يبدل آية بآية أخرى ولا دلالة فيها على أنه تعالى لا يبدل آية إلا بآية وأيضاً فجبريل عليه السلام قد ينزل بالسنة كما ينزل بالآية وأيضاً فالسنة قد تكون مثبتة للآية وأيضاً فهذا حكاية كلام الكفار فكيف يصح التعلق به والله أعلم
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِى ٌّ وَهَاذَا لِسَانٌ عَرَبِى ٌّ مُّبِينٌ إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ إِنَّمَا يَفْتَرِى الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلائِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ
اعلم أن المراد من هذه الآية حكاية شبهة أخرى من شبهات منكري نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك لأنهم كانوا يقولون إن محمداً إنما يذكر هذه القصص وهذه الكلمات لأنه يستفيدها من إنسان آخر ويتعلمها منه واختلفوا في هذا البشر الذي نسب المشركون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى التعلم منه قيل هو عبد لبني عامر بن لؤي يقال له يعيش وكان يقرأ الكتب وقيل عداس غلام عتبة بن ربيعة وقيل عبد لبني الحضرمي صاحب كتب وكان اسمه جبرا وكانت قريش تقول عبد بني الحضرمي يعلم خديجة وخديجة تعلم محمداً وقيل كان بمكة نصراني أعجمي اللسان اسمه بلعام ويقال له أبو ميسرة يتكلم بالرومية وقيل سلمان الفارسي وبالجملة فلا فائدة في العديد هذه الأسماء والحاصل أن القوم اتهموه بأنه يتعلم هذه الكلمات من غيره ثم إنه يظهرها من نفسه ويزعم أنه إنما عرفها بالوحي وهو كاذب فيه
ثم إنه تعالى أجاب عنه بأن قال لّسَانُ الَّذِى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِى ٌّ وَهَاذَا لِسَانٌ عَرَبِى ٌّ مُّبِينٌ ومعنى الإلحاد في اللغة الميل يقال لحد وألحد إذا مال عن القصد ومنه يقال للعادل عن الحق ملحد وقرأ حمزة والكسائي يُلْحِدُونَ بفتح الياء والحاء والباقون بضم الياء وكسر الحاء قال الواحدي والأولى ضم الياء لأنه لغة القرآن والدليل عليه قوله وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ ( الحج 25 ) والإلحاد قد يكون بمعنى الإمالة ومنه يقال ألحدت له لحداً إذا حفرته في جانب القبر مائلاً عن الاستواء وقبر ملحد وملحود ومنه الملحد لأنه أمال مذهبه عن الأديان كلها لم يمله عن دين إلى دين آخر وفسر الإلحاد في هذه الآية بالقولين قال الفراء يميلون من الميل وقال الزجاج يميلون من الإمالة أي لسان الذين يميلون القول إليه أعجمي وأما قوله أَعْجَمِى ٌّ فقال أبو الفتح الموصلي تركيب ع ج م وضع في كلام العرب للإبهام والإخفاء وضد الباين والإيضاح ومنه قولهم رجل أعجم وامرأة عجماء إذا كانا لا يفصحان وعجم الذنب سمي بذلك لاستتاره واختفائه والعجماء البهيمة لأنها لا توضح ما في نفسها وسموا صلاتي الظهر والعصر عجماوين لأن

القراءة حاصلة فيهما بالسر لا بالجهر فأما قولهم أعجمت الكتاب فمعناه أزلت عجمته وأفعلت قد يأتي والمراد منه السلب كقولهم أشكيت فلاناً إذا أزلت ما يشكوه فهذا هو الأصل في هذه الكلمة ثم إن العرب تسمي كل من لا يعرف لغتهم ولا يتكلم بلسانهم أعجم وأعجمياً قال الفراء وأحمد بن يحيى الأعجم الذي في لسانه عجمة وإن كان من العرب والأعجمي والعجمي الذي أصله من العجم قال أبو علي الفارسي الأعجم الذي لا يفصح سواء كان من العرب أو من العجم ألا ترى أنهم قالوا زيادة الأعجم لأنه كانت في لسانه عجمة مع أنه كان عربياً وأما معنى العربي واشتقاقه فقد ذكرناه عند قوله الاْعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا ( التوبة 97 ) وقال الفراء والزجاج في هذه الآية يقال عرب لسانه عرباة وعروبة هذا تفسير ألفاظ الآية
وأما تقرير ووجه الجواب فاعلم أنه إنما يظهر إذا قلنا القرآن إنما كان معجزاً لما فيه من الفصاحة العائدة إلى اللفظ وكأنه قيل هب أنه يتعلم المعاني من ذلك الأعجمي إلا أن القرآن إنما كان معجزاً لما في ألفاظه من الفصاحة فبتقدير أن تكونوا صادقين في أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) يتعلم تلك المعاني من ذلك الرجل إلا أنه لا يقدح ذلك في المقصود إذ القرآن إنما كان معجزاً لفصاحته وما ذكرتموه لا يقدح في ذلك المقصود ولما ذكر الله تعالى هذا الجواب أردفه بالتهديد والوعيد فقال إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللَّهُ أما تفسير أصحابنا لهذه الآية فظاهر وقال القاضي أقوى ما قيل في ذلك إنه لا يهديهم إلى طريق الجنة ولذلك قال بعده وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ والمراد أنهم لما تركوا الإيمان بالله لا يهديهم الله إلى الجنة بل يسوقهم إلى النار ثم إنه تعالى بين كونهم كذابين في ذلك القول فقال إِنَّمَا يَفْتَرِى الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ وفيه مسائل
المسألة الأولى المقصود منه أنه تعالى بين في الآية السابقة أن الذي قالوه بتقدير أن يصح لم يقدح فيه المقصود ثم إنه تعالى في هذه الآية أن الذي قالوه لم يصح وهم كذبوا فيه والدليل على كونهم كاذبين في ذلك القول وجوه الأول أنهم لا يؤمنون بآيات الله وهم كافرون ومتى كان الأمر كذلك كانوا أعداء للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وكلام العدا ضرب من الهذيان ولا شهادة لمتهم والثاني أن أمر التعلم لا يتأتى في جلسة واحدة ولا يتم في الخفية بل التعلم إنما يتم إذا اختلف المعلم إلى المتعلم أزمنة متطاولة ومدداً متباعدة ولو كان الأمر كذلك لاشتهر فيما بين الخلق أن محمداً عليه السلام يتعلم العلوم من فلان وفلان الثالث أن العلوم الموجودة في القرآن كثيرة وتعلمها لا يتأتى إلا إذا كان المعلم في غاية الفضل والتحقيق فلو حصل فيهم إنسان بلغ في التعليم والتحقيق إلى هذا الحد لكان مشاراً إليه بالأصابع في التحقيق والتدقيق في الدنيا فكيف يمكن تحصيل هذه العلوم العالية والمباحث النفيسة من عند فلان وفلان
واعلم أن الطعن في نبوة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بأمثال هذه الكلمات الركيكة يدل على أن الحجة لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كانت ظاهرة باهرة فإن الخصوم كانوا عاجزين عن الطعن فيها ولأجل غاية عجزهم عدلوا إلى هذه الكلمات الركيكية
المسألة الثانية في هذه الآية دلالة قوية على أن الكذب من أكبر الكبائر وأفحش الفواحش والدليل عليه أن كلمة ( إنما ) للحصر والمعنى أن الكذب والفرية لا يقدم عليهما إلا من كان غير مؤمن بآيات الله

تعالى وإلا من كان كافراً وهذا تهديد في النهاية
فإن قيل قوله لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ فعل وقوله وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ اسم وعطف الجملة الإسمية على الجملة الفعلية قبيح فما السبب في حصوله ههنا
قلنا الفعل قد يكون لازماً وقد يكون مفارقاً والدليل عليه قوله تعالى ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ( يوسف 35 ) ذكره بلفظ الفعل تنبيهاً على أن ذلك السجن لا يدوم وقال فرعون لموسى عليه السلام لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَاهَاً غَيْرِى لاجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ( الشعراء 29 ) ذكره بصيغة الاسم تنبيهاً على الدوام وقال أصحابنا إنه تعالى قال وَعَصَى ءادَمَ رَبَّهُ فَغَوَى ( طه 121 ) ولا يجوز أن يقال إن آدم عاصٍ وغاوٍ لأن صيغة الفعل لا تفيد الدوام وصيغة الاسم تفيده
إذا عرفت هذه المقدمة فنقول قوله إِنَّمَا يَفْتَرِى الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ذكر ذلك تنبيهاً على أن من أقدم على الكذب فكأنه دخل في الكفر ثم قال وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ تنبيهاً على أن صفة الكذب فيهم ثابتة راسخة دائمة وهذا كما تقول كذبت وأنت كاذب فيكون قولك وأنت كاذب زيادة في الوصف بالكذب ومعناه أن عادتك أن تكون كاذباً
المسألة الثانية ظاهر الآية يدل على أن الكاذب المفتري الذي لا يؤمن بآيات الله والأمر كذلك لأنه لا معنى للكفر إلا إنكار الإلهية ونبوة الأنبياء وهذا الإنكار مشتمل على الكذب والافتراء وروي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قيل له هل يكذب المؤمن قال ( لا ) ثم قرأ هذه الآية والله أعلم
مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَاكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ذالِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَواة َ الْدُّنْيَا عَلَى الاٌّ خِرَة ِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ أُولَائِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَائِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الاٌّ خِرَة ِ هُمُ الْخَاسِرونَ
اعلم أنه تعالى لما عظم تهديد الكافرين ذكر في هذه الآية تفصيلاً في بيان من يكفر بلسانه لا بقلبه ومن يكفر بلسان وقلبه معاً وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قوله مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ مبتدأ خبره غير مذكور فلهذا السبب اختلف المفسرون وذكروا فيه وجوهاً الأول أن يكون قوله مَن كَفَرَ بدلاً من قوله الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ

والتقدير إنما يفتري من كفر بالله من بعد إيمانه واستثنى منهم المكره فلم يدخل تحت حكم الافتراء وعلى هذا التقدير فقوله وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ اعتراض وقع بين البدل والمبدل منه الثاني يجوز أيضاً أن يكون بدلاً من الخبر الذي هو الكاذبون والتقدير وأولئك هم من كفر بالله من بعد إيمانه والثالث يجوز أن ينتصب على الذم والتقدير وأولئك هم الكاذبون أعني من كفر بالله من بعد إيمانه وهو أحسن الوجوه عندي وأبعدها عن التعسف والرابع أن يكون قوله مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ شرطاً مبتدأ ويحذف جوابه لأن جواب الشرط المذكور بعده يدل على جوابه كأنه قيل من كفر بالله من بعد إيمانه فعليهم غضب من الله إلا من أكره ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله
المسألة الثانية أجمعوا على أنه لا يجب عليه التكلم بالكفر يدل عليه وجوه أحدها أنا روينا أن بلالاً صبر على ذلك العذاب وكان يقول أحد أحد روي ناساً من أهل مكة فتنوا فارتدوا عن الإسلام بعد دخولهم فيه وكان فيهم من أكره فأجرى كلمة الكفر على لسانه مع أنه كان بقلبه مصراً على الإيمان منهم عمار وأبواه ياسر وسمية وصهيب وبلال وخباب وسالم عذبوا فأما سمية فقيل ربطت بين بعيرين ووخزت في قبلها بحربة وقالوا إنك أسلمت من أجل الرجال وقتلت وقتل ياسر وهما أول قتيلين قتلاً في الإسلام وأما عمار فقد أعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرهاً فقيل يا رسول الله إن عماراً كفر فقال كلا إن عماراً مليء إيماناً من فرقه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه فأتى عمار رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو يبكي فجعل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يمسح عينيه ويقول ( ما لك إن عادوا لك فعد لهم بما قلت ) ومنهم جبر مولى الحضرمي أكرهه سيده فكفر ثم أسلم مولاه وأسلم وحسن إسلامهما وهاجرا
المسألة الثالثة قوله إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ ليس باستثناء لأن المكره ليس بكافر فلا يصح استثناؤه من الكافر لكن المكره لما ظهر منه بعد الإيمان ما مثله يظهر من الكافر طوعاً صح هذا الاستثناء لهذه المشاكلة
المسألة الرابعة يجب ههنا بيان الإكراه الذي عنده يجوز التلفظ بكلمة الكفر وهو أن يعذبه بعذاب لا طاقة له به مثل التخويف بالقتل ومثل الضرب الشديد والإيلامات القوية قال مجاهد أول من أظهر الإسلام سبعة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأبو بكر وخباب وصهيب وبلال وعمار وسمية أما الرسول عليه السلام فمنعه أبو طالب وأما أبو بكر فمنعه قومه وأخذ الآخرون وألبسوا دروع الحديد ثم أجلسوا في الشمس فبلغ منهم الجهد بحر الحديد والشمس وأتاهم أبو جهل يشتمهم ويوبخهم ويشتم سمية ثم طعن الحربة في فرجها وقال الآخرون ما نالوا منهم غير بلال فإنهم جعلوا يعذبونه فيقول أحد أحد حتى ملوا فكتفوه وجعلوا في عنقه حبلاً من ليف ودفعوه إلى صبيانهم يلعبون به حتى ملوه فتركوه قال عمار كلنا تكلم بالذي أرادوا غير بلال فهانت عليه نفسه فتركوه قال خباب لقد أوقدوا لي ناراً ما أطفأها إلا ودك ظهري
المسألة الخامسة أجمعوا على أن عند ذكر كلمة الكفر يجب عليه أن يبرىء قلبه من الرضا به وأن يقتصر على التعريضات مثل أن يقول إن محمداً كذاب ويعني عند الكفار أو يعني به محمداً آخر أو يذكره على نية الاستفهام بمعنى الإنكار وههنا بحثان
البحث الأول أنه إذا أعجله من أكرهه عن إحضار هذه النية أو لأنه لما عظم خوفه زال عن قلبه ذكر

هذه النية كان ملوماً وعفو الله متوقع
البحث الثاني لو ضيق المكره الأمر عليه وشرح له كل أقسام التعريضات وطلب منه أن يصرح بأنه ما أراد شيئاً منها وما أراد إلا ذلك المعنى فههنا يتعين إما التزام الكذب وإما تعريض النفس للقتل فمن الناس من قال يباح له الكذب هنا ومنهم من يقول ليس له ذلك وهو الذي اختاره القاضي قال لأن الكذب إنما يقبح لكونه كذباً فوجب أن يقبح على كل حال ولو جاز أن يخرج عن القبيح لرعاية بعض المصالح لم يمنع أن يفعل الله الكذب لرعاية بعض المصالح وحينئذ لا يبقى وثوق بوعد الله تعالى ولا بوعيده لاحتمال أنه فعل ذلك الكذب لرعاية بعض المصالح التي لا يعرفها إلا الله تعالى
المسألة السادسة أجمعوا على أنه لا يجب عليه التكلم بكلمة الكفر ويدل عليه وجوه أحدها أنا روينا أن بلالاً صبر على ذلك العذاب وكان يقول أحد أحد ولم يقل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بئيس ما صنعت بل عظمه عليه فدل ذلك على أنه لا يجب التكلم بكلمة الكفر وثانيها ما روي أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين فقال لأحدهما ما قتلو في محمد فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال ما تقول في قال أنت أيضاً فخلاه وقال للآخر ما تقول في محمد قال رسول الله قال ما تقول في قال أنا أصم فأعاد عليه ثلاثاً فأعاد جوابه فقتله فبلغ ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال ( أما الأول فقد أخذ برخصة الله وأما الثاني فقد صدع بالحق فهنيئاً له ) وجه الاستدلال بهذا الخبر من وجهين الأول أنه سمى التلفظ بكلمة الكفر رخصة والثاني أنه عظم حال من أمسك عنه حتى فتل وثالثها أن بذل النفس في تقرير الحق أشق فوجب أن يكون أكثر ثواباً لقوله عليه السلام ( أفضل العبادات أحمزها ) أي أشقها ورابعها أن الذي أمسك عن كلمة الكفر طهر قلبه ولسانه عن الكفر أما الذي تلفظ بها فهب أن قلبه طاهر عنه إلا أن لسانه في الظاهر قد تلطخ بتلك الكلمة الخبيثة فوجب أن يكون حال الأول أفضل والله أعلم
المسألة السابعة اعلم أن للإكراه مراتب
المرتبة الأولى أن يجب الفعل المكره عليه مثل ما إذا أكرهه على شرب الخمر وأكل الخنزير وأكل الميتة فإذا أكرهه عليه بالسيف فههنا يجب الأكل وذلك لأن صون الروح عن الفوات واجب ولا سبيل إليه في هذه الصورة إلا بهذا الأكل وليس في هذا الأكل ضرر على حيوان ولا فيه إهانة لحق الله تعالى فوجب أن يجب لقوله تعالى وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة ِ ( البقرة 195 )
المرتبة الثانية أن يصير ذلك الفعل مباحاً ولا يصير واجباً ومثاله ما إذا أكرهه على التلفظ بكلمة الكفر فههنا يباح له ولكنه لا يجب كما قررناه
المرتبة الثالثة أن لا يجب ولا يباح بل يحرم وهذا مثل ما إذا أكرهه إنسان على قتل إنسان آخر أو على قطع عضو من أعضائه فههنا يبقى الفعل على الحرمة الأصلية وهل يسقط القصاص عن المكره أم لا قال الشافعي رحمه الله في أحد قوليه يجب القصاص ويدل عليه وجهان الأول أنه قتله عمداً عدواناً فيجب عليه القصاص لقوله تعالى الْمُتَّقُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ( البقرة 178 ) والثاني أجمعنا على أن المكره إذا قصد قتله فإنه يحل له أن يدفعه عن نفسه ولو بالقتل فلما كان توهم إقدامه على القتل يوجب إهدار دمه فلأن يكون عند صدور القتل منه حقيقة يصير دمه مهدراً كان أولى والله أعلم

المسألة الثامنة من الأفعال ما يقبل الإكراه عليه كالقتل والتكلم بكلمة الكفر ومنه ما لا يقبل الإكراه عليه قيل وهو الزنا لأن الإكراه يوجب الخوف الشديد وذلك يمنع من انتشار الآلة فحيث دخل الزنا في الوجود علم أنه وقع بالاختيار لا على سبيل الإكراه
المسألة التاسعة قال الشافعي رحمه الله طلاق المكره لا يقع وقال أبو حنيفة رحمه الله يقع وحجة الشافعي رحمه الله قوله لا إِكْرَاهَ فِى الدّينِ ولا يمكن أن يكون المراد نفي ذاته لأن ذاته موجودة فوجب حمله على نفي آثاره والمعنى أنه لا أثر له ولا عبرة به وأيضاً قوله عليه السلام ( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) وأيضاً قوله عليه السلام ( لا طلاق في إغلاق ) أي إكراه فإن قالوا طلقها فتدخل تحت قوله فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ ( البقرة 230 ) فالجواب لما تعارضت الدلائل وجب أن يبقى ما كان على ما كان على ما هو قولنا والله أعلم
المسألة العاشرة قوله وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ يدل على أنه محل الإيمان هو القلب والذي محله القلب إما الاعتقاد وإما كلام النفس فوجب أن يكون الإيمان عبارة إما عن المعرفة وإما عن التصديق بكلام النفس والله أعلم
ثم قال تعالى وَلَاكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا أي فتحه ووسعه لقبول الكفر وانتصب صدراً على أنه مفعول لشرح والتقدير ولكن من شرح بالكفر صدره وحذف الضمير لأنه لا يشكل بصدر غيره إذ البشر لا يقدر على شرح صدر غيره فهو نكرة يراد بها المعرفة
ثم قال فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مّنَ اللَّهِ والمعنى أنه تعالى حكم عليهم بالعذاب ثم وصف ذلك العذاب فقال وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ
ثم قال تعالى ذالِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَواة َ الْدُّنْيَا عَلَى الاْخِرَة ِ أي رجحوا الدنيا على الآخرة والمعنى أن ذلك الارتداد وذلك الإقدام على الكفر لأجل أنه تعالى ما هداهم إلى الإيمان وما عصمهم عن الكفر قال القاضي المراد أن الله لا يهديهم إلى الجنة فيقال له هذا ضعيف لأن قوله وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ معطوف على قوله ذالِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَواة َ الْدُّنْيَا عَلَى الاْخِرَة ِ فوجب أن يكون قوله وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ علة وسبباً موجباً لإقدامهم على ذلك الارتداد وعدم الهداية يوم القيامة إلى الجنة ليس سبباً لذلك الارتداد ولا علة له بل مسبباً عنه ومعلولاً له فبطل هذا التأويل ثم أكد بيان أنه تعالى صرفهم عن الإيمان فقال أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ قال القاضي الطبع ليس يمنع من الإيمان ويدل عليه وجوه الأول أنه تعالى ذكر ذلك في معرض الذم لهم ولو كانوا عاجزين عن الإيمان به لما استحقوا الذم بتركه والثاني أنه تعالى أشرك بين السمع والبصر وبين القلب في هذا الطبع ومعلوم من حال السمع والبصر أن مع فقدهما قد يصح أن يكون مؤمناً فضلاً عن طبع يلحقهما في القلب والثالث وصفهم بالغفلة ومن منع من الشيء لا يوصف بأنه غافل عنه فثبت أن المراد بهذا الطبع السمة والعلامة التي يخلقها في القلب وقد ذكرنا في سورة البقرة معنى الطبع والختم وأقول هذه الكلمات مع التقريرات الكثيرة ومع الجوابات القوية مذكورة في أول سورة البقرة وفي سائر الآيات فلا فائدة في الإعادة

ثم قال تعالى وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ قال ابن عباس أي عما يراد بهم في الآخرة
ثم قال لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الاْخِرَة ِ هُمُ الْخَاسِرونَ واعلم أن الموجب لهذا الخسران هو أن الله تعالى وصفهم في الآيات المتقدمة بصفات ستة
الصفة الأولى أنهم استوجبوا غضب الله
والصفة الثانية أنهم استحقوا العذاب الأليم
والصفة الثالثة أنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة
والصفة الرابعة أنه تعالى حرمهم من الهداية
والصفة الخامسة أنه تعالى طبع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم
والصفة السادسة أنه جعلهم من الغافلين عما يراد بهم من العذاب الشديد يوم القيامة فلا جرم لا يسعون في دفعها فثبت أنه حصل في حقهم هذه الصفات الستة التي كل واحد منها من أعظم الأحوال المانعة عن الفوز بالخيرات والسعادات ومعلوم أنه تعالى إنما أدخل الإنسان الدنيا ليكون كالتاجر الذي يشتري بطاعاته سعادات الآخرة فإذا حصلت هذه الموانع العظيمة عظم خسرانه فلهذا السبب قال لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الاْخِرَة ِ هُمُ الْخَاسِرونَ أي هم الخاسرون لا غيرهم والمقصود التنبيه على عظم خسرانهم والله أعلم
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى لما ذكر في الآية المتقدمة حال من كفر بالله من بعد إيمانه وحال من أكره على الكفر فذكر بسبب الخوف كلمة الكفر وحال من لم يذكرها ذكر بعده حال من هاجر من بعد ما فتن فقال إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ
المسألة الثانية قرأ ابن عامر فَتَنُواْ بفتح الفاء على إسناد الفعل إلى الفاعل والباقون بضم الفاء على فعل ما لم يسم فاعله أما وجه القراءة الأولى فأمور الأول أن يكون المراد أن أكابر المشركين وهم الذين آذوا فقراء المسلمين لو تابوا وهاجروا وصبروا فإن الله يقبل توبتهم والثاني أن فتن وأفتن بمعنى واحد كما يقال مان وأمان بمعنى واحد والثالث أن أولئك الضعفاء لما ذكروا كلمة الكفر على سبيل التقية

فكأنهم فتنوا أنفسهم وإنما جعل ذلك فتنة لأن الرخصة في إظهار كلمة الكفر ما نزلت في ذلك الوقت وأما وجه القراءة بفعل ما لم يسم فاعله فظاهر لأن أولئك المفتونين هم المستضعفون الذين حملهم أقوياء المشركين على الردة والرجوع عن الإيمان فبين تعالى أنهم إذا هاجروا وجاهدوا وصبروا فإن الله تعالى يغفر لهم تكلمهم بكلمة الكفر
المسألة الثانية قوله مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ يحتمل أن يكون المراد بالفتنة هو أنهم عذبوا ويحتمل أن يكون المراد هو أنهم خوفوا بالتعذيب ويحتمل أن يكون المراد أن أولئك المسلمين ارتدوا قال الحسن هؤلاء الذين هاجروا من المؤمنين كانوا بمكة فعرضت لهم فتنة فارتدوا وشكوا في الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ثم إنهم أسلموا وهاجروا فنزلت هذه الآية فيهم وقيل نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح ارتد فلما كان يوم الفتح أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بقتله فاستجار له عثمان فأجاره رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثم إنه أسلم وحسن إسلامه وهذه الرواية إنما تصح لو جعلنا هذه السورة مدنية أو جعلنا هذه الآية منها مدنية ويحتمل أن يكون المراد أن أولئك الضعفاء المعذبين تكلموا بكلمة الكفر على سبيل التقية فقوله مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ يحتمل كل واحد من هذه الوجوه الأربعة وليس في اللفظ ما يدل على التعيين
إذا عرفت هذا فنقول إن كانت هذه الآية نازلة فيمن أظهر الكفر فالمراد أن ذلك مما لا إثم فيه وأن حاله إذا هاجر وجاهد وصبر كحال من لم يكره وإن كانت واردة فيمن ارتد فالمراد أن التوبة والقيام بما يجب عليه يزيل ذلك العقاب ويحصل له الغفران والرحمة فالهاء في قوله مِن بَعْدِهَا تعود إلى الأعمال المذكورة فيما قبل وهي الهجرة والجهاد والصبر
أما قوله يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا ففيه أبحاث
البحث الأول قال الزجاج ( يوم ) منصوب على وجهين أحدهما أن يكون المعنى إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ يَوْمَ تَأْتِى يعني أنه تعالى يعطي الرحمة والغفران في ذلك اليوم الذي يعظم احتياج الإنسان فيه إلى الرحمة والغفران والثاني أن يكون التقدير وذكرهم أو اذكر يوم كذا وكذا لأن معنى القرآن العظمة والإنذار والتذكير
البحث الثاني لقائل أن يقول النفس لا تكون لها نفس أخرى فما معنى قوله كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا
والجواب النفس قد يراد به بدن الحي وقد يراد به ذات الشيء وحقيقته فالنفس الأولى هي الجثة والبدن والثانية عينها وذاتها فكأنه قيل يوم يأتي كل إنسان يجادل عن ذاته ولا يهمه شأن غيره قال تعالى لِكُلّ امْرِىء مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ( عبس 37 ) وعن بعضعهم تزفر جهنم زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثا على ركبتيه يقول يا رب نفسي نفسي حتى أن إبراهيم الخليل عليه السلام يفعل ذلك ومعنى المجادلة عنها الاعتذار عنها كقولهم هَؤُلاء أَضَلُّونَا ( الأعراف 38 ) وقولهم وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ( الأنعام 23 )
ثم قال تعالى وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ فيه محذوف والمعنى توفى كل نفس جزاء ما عملت من

غير بخس ولا نقصان وقوله وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ قال الواحدي معناه لا ينقضون قال القاضي هذه الآية من أقوى ما يدل على ما نذهب إليه في الوعيد لأنها تدل على أنه تعالى يوصل إلى كل أحد حقه من غير نقصان ولو أنه تعالى أزال عقاب المذنب بسبب الشفاعة لم يصح ذلك
والجواب لا نزاع أن ظاهر العمومات يدل على قولكم إلا أن مذهبنا أن التمسك بظواهر العمومات لا يفيد القطع وأيضاً فظواهر الوعيد معارضة بظواهر الوعد ثم بينا في سورة البقرة في تفسير قوله بَلَى مَن كَسَبَ سَيّئَة ً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ ( البقرة 81 ) أن جانب الوعد راجح على جانب الوعيد من وجوه كثيرة والله أعلم
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَة ً كَانَتْ ءَامِنَة ً مُّطْمَئِنَّة ً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما هدد الكفار بالوعيد الشديد في الآخرة هددهم أيضاً بآفات الدنيا وهو الوقوع في الجوع والخوف كما ذكره في هذه الآية
المسألة الثانية المثل قد يضرب بشيء موصوف بصفة معينة سواء كان ذلك الشيء موجوداً أو لم يكن موجوداً وقد يضرب بشيء موجود معين فهذه القرية التي ضرب الله بها هذا المثل يحتمل أن تكون شيئاً مفروضاً ويحتمل أن تكون قرية معينة وعلى هذا التقدير الثاني فتلك القرية يحتمل أن تكون مكة أو غيرها والأكثرون من المفسرين على أنها مكة والأقرب أنها غير مكة لأنها ضربت مثلاً لمكة ومثل مكة يكون غير مكة
المسألة الثالثة ذكر الله تعالى لهذه القرية صفات
الصفة الأولى كونها آمنة أي ذات أمن لا يغار عليهم كما قال أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءامِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ( العنكبوت 67 ) والأمر في مكة كان كذلك لأن العرب كان يغير بعضهم على بعض أما أهل مكة فإنهم كانوا أهل حرم الله والعرب كانوا يحترمونهم ويخصونهم بالتعظيم والتكريم
واعلم أنه يجوز وصف القرية بالأمن وإن كان ذلك لأهلها لأجل أنها مكان الأمن وظرف له والظروف من الأزمنة والأمكنة توصف بما حلها كما يقال طيب وحار وبارد
والصفة الثانية قوله مُّطْمَئِنَّة ً قال الواحدي معناه أنها قارة ساكنة فأهلها لا يحتاجون إلى الانتقال عنها لخوف أو ضيق أقول إن كان المراد من كونها مطمئنة أنهم لا يحتاجون إلى الانتقال عنها بسبب الخوف فهذا هو معنى كونها آمنة وإن كان المراد أنهم لا يحتاجون إلى الانتقال عنها بسبب الضيق فهذا هو معنى قوله يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ وعلى كلا التقديرين فإنه يلزم التكرار

والجواب أن العقلاء قالوا
ثلاثة ليس لها نهاية
الأمن والصحة والكفاية قوله ءامِنَة ً إشارة إلى الأمن وقوله مُّطْمَئِنَّة ً إشارة إلى الصحة لأن هواء ذلك البلد لما كان ملائماً لأمزجتهم اطمأنوا إليه واستقروا فيه وقوله يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ إشارة إلى الكفاية قال المفسرون وقوله مّن كُلّ مَكَانٍ السبب فيه إجابة دعوة إبراهيم عليه السلام وهو قوله فَاجْعَلْ أَفْئِدَة ً مّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مّنَ الثَّمَراتِ ( إبراهيم 37 ) ثم إنه تعالى لما وصف القرية بهذه الصفات الثلاثة قال فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ الأنعم جمع نعمة مثل أشد وشدة أقول ههنا سؤال وهو أن الأنعم جمع قلة فكان المعنى أن أهل تلك القرية كفرت بأنواع قليلة من النعم فعذبها الله وكان اللائق أن يقال إنهم كفروا بنعم عظيمة لله فاستوجبوا العذاب فما السبب في ذكر جمع القلة
والجواب المقصود التنبيه بالأدنى على الأعلى يعني أن كفران النعم القليلة لما أوجب العذاب فكفران النعم الكثيرة أولى بإيجاب العذاب وهذا مثل أهل مكة لأنهم كانوا في الأمن والطمأنينة والخصب ثم أنعم الله عليهم بالنعمة العظيمة وهو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فكفروا به وبالغوا في إيذائه فلا جرم سلط الله عليهم البلاد قال المفسرون عذبهم الله بالجوع سبع سنين حتى أكلوا الجيف والعظام والعلهز والقد أما الخوف فهو أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يبعث إليهم السرايا فيغيرون عليهم ونقل أن ابن الراوندي قال لابن الأعرابي الأديب هل يذاق اللباس قال ابن الأعرابي لا باس ولا لباس يا أيها النسناس هب أنك تشك أن محمداً ما كان نبياً أما كان عربياً وكان مقصود ابن الراوندي الطعن في هذه الآية وهو أن اللباس لا يذاق بل يلبس فكان الواجب أن يقال فكساهم الله لباس الجوع أو يقال فأذاقهم الله طعم الجوع وأقول جوابه من وجوه
الوجه الأول أن الأحوال التي حصلت لهم عند الجوع نوعان أحدهما أن المذوق هو الطعم فلما فقدوا الطعام صاروا كأنهم يذوقون الجوع والثاني أن ذلك الجوع كان شديداً كاملاً فصار كأنه أحاط بهم من كل الجهات فأشبه اللباس فالحاصل أنه حصل في ذلك الجوع حالة تشبه المذوق وحالة تشبه الملبوس فاعتبر الله تعالى كلا الاعتبارين فقال فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ
والوجه الثاني أن التقدير أن الله عرفها لباس الجوع والخوف إلا أنه تعالى عبر عن التعريف بلفظ الإذاقة وأصل الذوق بالفم ثم قد يستعار فيوضع موضع التعرف وهو الاختبار تقول ناظر فلاناً وذق ما عنده قال الشاعر
ومن يذق الدنيا فإني طعمتها
وسيق إلينا عذبها وعذابها ولباس الجوع والخوف هو ما ظهر عليهم من الضمور وشحوب اللون ونهكة البدن وتغير الحال وكسوف البال فكما تقول تعرفت سوء أثر الخوف والجوع على فلان كذلك يجوز أن تقول ذقت لباس الجوع والخوف على فلان
والوجه الثالث أن يحمل لفظ اللبس على المماسة فصار التقدير فأذاقها الله مساس الجوع والخوف

ثم قال تعالى بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ قال ابن عباس يريد بفعلهم بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) حين كذبوه وأخرجوه من مكة وهموا بقتله قال الفراء ولم يقل بما صنعت ومثله في القرآن كثير ومنه قوله تعالى فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ ( الأعراف 4 ) ولم يقل قائلة وتحقيق الكلام أنه تعالى وصف القرية بأنها مطمئنة يأتيها رزقها رغداً فكفرت بأنعم الله فكل هذه الصفات وإن أجريت بحسب اللفظ على القرية إلا أن المراد في الحقيقة أهلها فلا جرم قال في آخر الآية بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ والله أعلم
وَلَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَلاً طَيِّباً وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر المثل ذكر الممثل فقال وَلَقَدْ جَاءهُمْ يعني أهل مكة رَسُولٌ مّنْهُمْ يعني من أنفسهم يعرفونه بأصله ونسبه فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ قال ابن عباس رضي الله عنهما يعني الجوع الذي كان بمكة وقيل القتل يوم بدر وأقول قول ابن عباس أولى لأنه تعالى قال بعده فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ يعني أن ذلك الجوع إنما كان بسبب كفركم فاتركوا الكفر حتى تأكلوا فلهذا السبب قال فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قال ابن عباس رضي الله عنهما فكلوا يا معشر المسلمين مما رزقكم الله يريد من الغنائم وقال الكلبي إن رؤساء مكة كلموا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حين جهدوا وقالوا عاديت الرجال فما بال النسوان والصبيان وكانت الميرة قد قطعت عنهم بأمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأذن في حمل الطعام إليهم فحمل إليهم العظام فقال الله تعالى فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَلاً طَيّباً والقول ما قال ابن عباس رضي الله عنهما ويدل عليه قوله تعالى بعد هذه الآية إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة َ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ ( النحل 115 ) الآية يعني أنكم لما آمنتم وتركتم الكفر فكلوا الحلال الطيب وهو الغنيمة واتركوا الخبائث وهي الميتة والدم
إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة َ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
اعلم أن هذه الآية إلى آخرها مذكورة في سورة البقرة مفسرة هناك ولا فائدة في الإعادة وأقول إنه تعالى حصر المحرمات في هذه الأشياء الأربعة في هذه السورة لأن لفظة إِنَّمَا تفيد الحصر وحصرها أيضاً في هذه الأربعة في سورة الأنعام في قوله تعالى قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوْحِى َ إِلَى َّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ ( الأنعام 145 )

وهاتان السورتان مكيتا وحصرها أيضاً في هذه الأربعة في سورة البقرة لأن هذه الآية بهذه اللفظة وردت في سورة البقرة وحصرها أيضاً في سورة المائدة فإنه تعالى قال في أول هذه السورة أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَة ُ الاْنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ( المائدة 1 ) فأباح الكل إلا ما يتلى عليهم وأجمعوا على أن المراد بقوله عَلَيْكُمْ هو قوله تعالى في تلك السورة حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة ُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ( المائدة 3 ) فذكر تلك الأربعة المذكورة في تلك السور الثلاثة ثم قال وَالْمُنْخَنِقَة ُ وَالْمَوْقُوذَة ُ وَالْمُتَرَدّيَة ُ وَالنَّطِيحَة ُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ ( المائدة 3 ) وهذه الأشياء داخلة في الميتة ثم قال وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وهو أحد الأقسام الداخلة تحت قوله وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فثبت أن هذه السور الأربعة دالة على حصر المحرمات في هذه الأربع سورتان مكيتان وسورتان مدنيتان فإن سورة البقرة مدنية وسورة المائدة من آخر ما أنزل الله تعالى بالمدينة فمن أنكر حصر التحريم في هذه الأربع إلا ما خصه الإجماع والدلائل القاطعة كان في محل أن يخشى عليه لأن هذه السورة دلت على أن حصر المحرمات في هذه الأربع كان شرعاً ثابتاً في أول أمر مكة وآخرها وأول المدينة وآخرها وأنه تعالى أعاد هذا البيان في هذه السور الأربع قطعاً للأعذار وإزالة للشبهة والله أعلم
وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَاذَا حَلَالٌ وَهَاذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما حصر المحرمات في تلك الأربع بالغ في تأكيد ذلك الحصر وزيف طريقة الكفار في الزيادة على هذه الأربع وفي النقصان عنها أخرى فإنهم كانوا يحرمون البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وكانوا يقولون ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا فقد زادوا في المحرمات وزادوا أيضاً في المحللات وذلك لأنهم حللوا الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله تعالى فالله تعالى بين أن المحرمات هي هذه الأربعة وبين أن الأشياء التي يقولون إن هذا حلال وهذا حرام كذب وافتراء على الله ثم ذكر الوعيد الشديد على هذا الكذب وأقول إنه تعالى لما بين هذا الحصر في هذه السور الأربع ثم ذكر في هذه الآية أن الزيادة عليها والنقصان عنها كذب وافتراء على الله تعالى وموجب للوعيد الشديد علمنا أنه لا مزيد على هذا الحصر والله أعلم
المسألة الثانية في انتصاب الكذب في قوله لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ وجهان الأول قال الكسائي والزجاج ( ما ) مصدرية والتقدير ولا تقولوا لأجل وصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام نظيره أن يقال لا تقولوا لكذا كذا وكذا
فإن قالوا حمل الآية عليه يؤدي إلى التكرار لأن قوله تعالى لّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ عين ذلك

والجواب أن قوله لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ ليس فيه بيان كذب على الله تعالى فأعاد قوله لّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ليحصل فيه هذا البيان الزائد ونظائره في القرآن كثيرة وهو أنه تعالى يذكر كلاماً ثم يعيده بعينه مع فائدة زائدة الثاني أن تكون ( ما ) موصولة والتقدير ولا تقولوا للذي تصف ألسنتكم الكذب فيه هذا حلال وهذا حرام وحذف لفظ فيه لكونه معلوماً
المسألة الثالثة قوله تعال تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ من فصيح الكلام وبليغه كأن ماهية الكذب وحقيقته مجهولة وكلامهم الكذب يكشف حقيقة الكذب ويوضح ماهيته وهذا مبالغ في وصف كلامهم بكونه كذباً ونظيره قول أبي العلاء المعري
سرى برق المعرة بعد وهن
فبات برامة يصف الكلالا والمعنى أن سرى ذلك البرق يصف الكلال فكذا ههنا والله أعلم
ثم قال تعالى لّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ المعنى أنهم كانوا ينسبون ذلك التحريم والتحليل إلى الله تعالى ويقولون إنه أمرنا بذلك وأظن أن هذا اللام ليس لام الغرض لأن ذلك الافتراء ما كان غرضاً لهم بل كان لام العاقبة كقوله تعالى لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً ( القصص 8 ) قال الواحدي وقوله لّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ بدل من قوله لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ لأن وصفهم الكذب هو افتراء على الله تعالى ففسر وصفهم الكذب بالافتراء على الله تعالى ثم أوعد المفترين وقال إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ ثم بيّن أن ما هم فيه من نعيم الدنيا يزول عنهم من قريب فقال مَتَاعٌ قَلِيلٌ قال الزجاج المعنى متاعهم متاع قليل وقال ابن عباس بل متاع كل الدنيا متاع قليل ثم يردون إلى عذاب أليم وهو قوله وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَاكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين ما يحل وما يحرم لأهل الإسلام أتبعه ببيان ما خص اليهود به من المحرمات فقال وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وهو الذي سبق ذكره في سورة الأنعام
ثم قال تعالى وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ وتفسيره هو المذكور في قوله تعالى فَبِظُلْمٍ مّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ( النساء 160 )
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّو ءَ بِجَهَالَة ٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ

اعلم أن المقصود بيان أن الافتراء على الله ومخالفة أمر الله لا يمنعهم من التوبة وحصول المغفرة والرحمة ولفظ السوء يتناول كل ما لا ينبغي وهو الكفر والمعاصي وكل من عمل السوء فإنما يفعله بالجهالة أما الكفر فلأن أحداً لا يرضى به مع العلم بكونه كفراً فإنه ما لم يعتقد كون ذلك المذهب حقاً وصدقاً فإنه لا يختاره ولا يرتضيه وأما المعصية فما لم تصر الشهوة غالبة للعقل والعلم لم تصدر عنه تلك المعصية فثبت أن كل من عمل السوء فإنما يقدم عليه بسبب الجهالة فقال تعالى إنا قد بالغنا في تهديد أولئك الكفار الذين يحللون ويحرمون بمقتضى السهوة والفرية على الله تعالى ثم إنا بعد ذلك نقول إن ربك في حق الذين عملوا السوء بسبب الجهالة ثم تابوا من بعد ذلك أي من بعد تلك السيئة وقيل من بعد تلك الجهالة ثم إنهم بعد التوبة عن تلك السيئات أصلحوا أي آمنوا وأطاعوا الله
ثم أعاد قوله إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا على سبيل التأكيد ثم قال لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ والمعنى إنه لغفور رحيم لذلك السوء الذي صدر عنهم بسبب الجهالة وحاصل الكلام أن الإنسان وإن كان قد أقدم على الكفر والمعاصي دهراً دهيراً وأمداً مديداً فإذا تاب عنه وآمن وأتى بالأعمال الصالحة فإن الله غفور رحيم يقبل توبته ويخلصه من العذاب
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّة ً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِراً لانْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ وَءاتَيْنَاهُ فِى الْدُّنْيَا حَسَنَة ً وَإِنَّهُ فِى الاٌّ خِرَة ِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّة َ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
اعلمأنه تعالى لما زيف في هذه السورة مذاهب المشركين في أشياء منها قولهم بإثبات الشركاء والأنداد لله تعالى ومنها طعنهم في نبوة الأنبياء والرسل عليهم السلام وقولهم لو أرسل الله رسولاً لكان ذلك الرسول من الملائكة ومنها قولهم بتحليل أشياء حرمها الله وتحريم أشياء أباحها الله تعالى فلما بالغ في إبطال مذاهبهم في هذه الأقوال وكان إبراهيم عليه السلام رئيس الموحدين وقدوة الأصوليين وهو الذي دعا الناس إلى التوحيد وإبطال الشرك وإلى الشرائع والمشركون كانوا مفتخرين به معترفين بحسن طريقته مقرين بوجوب الاقتداء به لا جرم ذكره الله تعالى في آخر هذه السورة وحكى عنه طريقته في التوحيد ليصير ذلك حاملاً لهؤلاء المشركين على الإقرار بالتوحيد والرجوع عن الشرك واعلم أنه تعالى وصف إبراهيم عليه السلام بصفات
الصفة الأول أنه كان أمة وفي تفسيره وجوه الأول أنه كان وحده أمة من الأمم لكماله في صفات الخير كقوله
ليس على الله بمستنكر
أن يجمع العالم في واحد

الثاني قال مجاهد كان مؤمناً وحده والناس كلهم كانوا كفاراً فلهذا المعنى كان وحده أمة وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول في زيد بن عمرو بن نفيل ( يبعثه الله أمة وحدة ) الثالث أن يكون أمة فعلة بمعنى مفعول كالرحلة والبغية فالأمة هو الذي يؤتم به ودليله قوله إِنّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ( البقرة 124 ) الرابع أنه عليه السلام هو السبب الذي لأجله جعلت أمته ممتازين عمن سواهم بالتوحيد والدين الحقا ولما جرى مجرى السبب لحصول تلك الأمة سماه الله تعالى بالأمة إطلاقاً لاسم المسبب على السبب وعن شهر بن حوشب لم تبق أرض إلا وفيها أربعة عشر يدفع الله بهم عن أهل الأرض إلا زمن إبراهيم عليه السلام فإنه كان وحده
الصفة الثانية كونه قانتاً لله والقانت هو القائم بما أمره الله تعالى به قال ابن عباس رضي الله عنهما معناه كونه مطيعاً لله
الصفة الثالثة كونه حنيفاً والحنيف المائل إلى ملة الإسلام ميلاً لا يزول عنه قال ابن عباس رضي الله عنهما إنه أول من اختتن وأقام مناسك الحج وضحى وهذه صفة الحنيفية
الصفة الرابعة قوله وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ معناه أنه كان من الموحدين في الصغر والكبر والذي يقرر كونه كذلك أن أكثر همته عليه السلام كان في تقرير علم الأصول فذكر دليل إثبات الصانع مع ملك زمانه وهو قوله رَبّيَ الَّذِى يُحْى ِ وَيُمِيتُ ( البقرة 258 ) ثم أبطل عبادة الأصنام والكواكب بقوله لا أُحِبُّ الاْفِلِينَ ( الأنعام 76 ) ثم كسر تلك الأصنام حتى آل الأمر إلى أن ألقوه في النار ثم طلب من الله أن يريه كيفية إحياء الموتى ليحصل له مزيد الطمأنينة ومن وقف على علم القرآن علم أن إبراهيم عليه السلام كان غارقاً في بحر التوحيد
الصفة الخامسة قوله شَاكِراً لاّنْعُمِهِ روي أنه عليه السلام كان لا يتغدى إلا مع ضيف فلم يجد ذات يوم ضيفاً فأخر غداءه فإذا هو بقوم من الملائكة في صورة البشر فدعاهم إلى الطعام فأظهروا أن بهم علة الجذام فقال الآن يجب عليّ مؤاكلتكم فلولا عزتكم على الله تعالى لما ابتلاكم بهذا البلاء
فإن قيل لفظ الأنعم جمع قلة ونعم الله تعالى على إبراهيم عليه السلام كانت كثيرة فلم قال شَاكِراً لاّنْعُمِهِ
قلنا المراد أنه كان شاكراً لجميع نعم الله إن كانت قليلة فكيف الكثيرة
الصفة السادسة قوله اجْتَبَاهُ أي اصطفاه للنبوة والاجتباء هو أن تأخذ الشيء بالكلية وهو افتعال من جبيت وأصله جمع المال في الحوض والجابية هي الحوض
الصفة السابعة قوله وَهَدَاهُ إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ أي في الدعوة إلى الله والترغيب في الدين الحق والتنفير عن الدين الباطل نظيره قوله تعالى وَأَنَّ هَاذَا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ( الأنعام 153 )
الصفة الثامنة قوله وَءاتَيْنَاهُ فِى الْدُّنْيَا حَسَنَة ً قال قتادة إن الله حببه إلى كل الخلق فكل أهل الأديان يقرون به أما المسلمون واليهود والنصارى فظاهر وأما كفار قريش وسائر العرب فلا فخر لهم إلا به وتحقيق الكلام أن الله أجاب دعاءه في قوله وَاجْعَل لّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الاْخِرِينَ ( الشعراء 84 ) وقال

آخرون هو قول المصلي منا كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وقيل الصدق والوفاء والعبادة
الصفة التاسعة قوله وَإِنَّهُ فِى الاْخِرَة ِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ
فإن قيل لم قال وَإِنَّهُ فِى الاْخِرَة ِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ولم يقل وإنه في الآخرة في أعلى مقامات الصالحين
قلنا لأنه تعالى حكى عنه أنه قال رَبّ هَبْ لِى حُكْماً وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ ( البقرة 130 ) فقال ههنا وَإِنَّهُ فِى الاْخِرَة ِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ تنبيهاً على أنه تعالى أجاب دعاءه ثم إن كونه من الصالحين لا ينفي أن يكون في أعلى مقامات الصالحين فإن الله تعالى بين ذلك في آية أخرى وهي قوله وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءاتَيْنَاهَا إِبْراهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء ( الأنعام 83 )
واعلم أنه تعالى لما وصف إبراهيم عليه السلام بهذه الصفات العالية الشريفة قال ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّة َ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا وفيه مباحث
البحث الأول قال قوم إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان على شريعة إبراهيم عليه السلام وليس له شرع هو به منفرد بل المقصود من بعثته عليه السلام إحياء شرع إبراهيم عليه السلام وعول في إثبات مذهبه على هذه الآية وهذا القول ضعيف لأنه تعالى وصف إبراهيم عليه السلام في هذه الآية بأنه ما كان من المشركين فلما قال اتَّبِعْ مِلَّة َ إِبْراهِيمَ كان المراد ذلك
فإن قيل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إنما نفى الشرك وأثبت التوحيد بناء على الدلائل القطعية وإذا كان كذلك لم يكن متابعاً له فيمتنع حمل قوله إِنْ أَتَّبِعُ على هذا المعنى فوجب حمله على الشرائع التي يصح حصول المتابعة فيها
قلنا يحتمل أن يكون المراد الأمر بمتابعته في كيفية الدعوة إلى التوحيد وهو أن يدعو إليه بطريق الرفق والسهولة وإيراد الدلائل مرة بعد أخرى بأنواع كثيرة على ما هو الطريقة المألوفة في القرآن
البحث الثاني قال صاحب ( الكشاف ) لفظة ( ثم ) في قوله ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ تدل على تعظيم منزلة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وإجلال محله والإيذان بأن أشرف ما أوتي خليل الله من الكرامة وأجل ما أوتي من النعمة اتباع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ملته من قبل إن هذه اللفظة دلت على تباعد هذا النعت في المرتبة عن سائر المدائح التي مدحه الله بها
إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ
اعلم أنه تعالى لما أمر محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بمتابعة إبراهيم عليه السلام وكان محمد عليه السلام اختار يوم

الجمعة فهذه المتابعة إنما تحصل إذا قلنا إن إبراهيم عليه السلام كان قد اختار في شرعه يوم الجمعة وعند هذا لسائل أن يقول فلم اختار اليهود يوم السبت
فأجاب الله تعالى عنه بقوله إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ وفي الآية قولان
القول الأول روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال أمرهم موسى بالجمعة وقال تفرغوا لله في كل سبعة أيام يوماً واحداً وهو يوم الجمعة لا تعملوا فيه شيئاً من أعمالكم فأبوا أن يقبلوا ذلك وقالوا لا نريد إلا اليوم الذي فرغ فيه من الخلق وهو يوم السبت فجعل الله تعالى السبت لهم وشدد عليهم فيه ثم جاءهم عيسى عليه السلام أيضاً بالجمعة فقالت النصارى لا نريد أن يكون عيدهم بعد عيدنا واتخذوا الأحد وروى أبو هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( إن الله كتب يوم الجمعة على من كان قبلنا فاختلفوا فيه وهدانا الله له فالناس لنا فيه تبع اليهود غداً والنصارى بعد غد )
إذا عرفت هذا فنقول قوله تعالى عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ أي على نبيهم موسى حيث أمرهم بالجمعة فاختاروا السبت فاختلافهم في السبت كان اختلافهم على نبيهم في ذلك اليوم أي لأجله وليس معنى قوله اخْتَلَفُواْ فِيهِ أن اليهود اختلفوا فيه فمنهم من قال بالسبت ومنهم من لم يقل به لأن اليهود اتفقوا على ذلك فلا يمكن تفسير قوله اخْتَلَفُواْ فِيهِ بهذا بل الصحيح ما قدمناه
فإن قال قائل هل في العقل وجه يدل على أن يوم الجمعة أفضل من يوم السبت وذلك لأن أهل الملل اتفقوا على أنه تعالى خلق العالم في ستة أيام وبدأ تعالى بالخلق والتكوين من يوم الأحد وتم في يوم الجمعة فكان يوم السبت يوم الفراغ فقالت اليهود نحن نوافق ربنا في ترك الأعمال فعينوا السبت لهذا المعنى وقالت النصارى مبدأ الخلق والتكوين هو يوم الأحد فنجعل هذا اليوم عيداً لنا فهذان الوجهان معقولان فما الوجه في جعل يوم الجمعة عيداً لنا
قلنا يوم الجمعة هو يوم الكمال والتمام وحصول التمام والكمال يوجب الفرح الكامل والسرور العظيم فجعل يوم الجمعة يوم العيد أولى من هذا الوجه والله أعلم
والقول الثاني في اختلافهم في السبت أنهم أحلوا الصيد فيه تارة وحرموه تارة وكان الواجب عليهم أن يتفقوا في تحريمه على كلمة واحدة
ثم قال تعالى وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ والمعنى أنه تعالى سيحكم يوم القيامة للمحقين بالثواب وللمبطلين بالعقاب
ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَة ِ وَالْمَوْعِظَة ِ الْحَسَنَة ِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ

اعلم أنه تعالى لما أمر محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بإتباع إبراهيم عليه السلام بين الشيء الذي أمره بمتابعته فيه فقال ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَة ِ
واعلم أنه تعالى أمر رسوله أن يدعو الناس بأحد هذه الطرق الثلاثة وهي الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالطريق الأحسن وقد ذكر الله تعالى هذا الجدل في آية أخرى فقال وَلاَ تُجَادِلُواْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ ( العنكبوت 46 ) ولما ذكر الله تعالى هذه الطرق الثلاثة وعطف بعضها على بعض وجب أن تكون طرقاً متغايرة متباينة وما رأيت للمفسرين فيه كلاماً ملخصاً مضبوطاً
واعلم أن الدعوة إلى المذهب والمقالة لا بد وأن تكون مبنية على حجة وبينة والمقصود من ذكر الحجة إما تقرير ذلك المذهب وذلك الاعتقاد في قلوب المستمعين وإما أن يكون المقصود إلزام الخصم وإفحامه
أما القسم الأول فينقسم أيضاً إلى قسمين لأن الحجة إما أن تكون حجة حقيقية يقينية قطعية مبرأة عن احتمال النقيض وإما أن لا تكون كذلك بل تكون حجة تفيد الظن الظاهر والإقناع الكامل فظهر بهذا التقسيم إنحصار الحجج في هذه الأقسام الثلاثة أولها الحجة القطعية المفيدة للعقائد اليقينية وذلك هو المسمى بالحكمة وهذه أشرف الدرجات وأعلى المقامات وهي التي قال الله في صفتها وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَة َ فَقَدْ أُوتِى َ خَيْرًا كَثِيرًا ( البقرة 269 ) وثانيها الأمارات الظنية والدلائل الإقناعية وهي الموعظة الحسنة وثالثها الدلائل التي يكون المقصود من ذكرها إلزام الخصوم وإفحامهم وذلك هو الجدل ثم هذا الجدل على قسمين
القسم الأول أن يكون دليلاً مركباً من مقدمات مسلمة في المشهور عند الجمهور أو من مقدمات مسلمة عند ذلك القائل وهذا الجدل هو الجدل الواقع على الوجه الأحسن
القسم الثاني أن يكون ذلك الدليل مركباً من مقدمات باطلة فاسدة إلا أن قائلها يحاول ترويجها على المستمعين بالسفاهة والشغب والحيل الباطلة والطرق الفاسدة وهذا القسم لا يليق بأهل الفضل إنما اللائق بهم هو القسم الأول وذلك هو المراد بقوله تعالى وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ فثبت بما ذكرنا انحصار الدلائل والحجج في هذه الأقسام الثلاثة المذكورة في هذه الآية
إذا عرفت هذا فنقول أهل العلم ثلاث طوائف الكاملون الطالبون للمعارف الحقيقية والعلوم اليقينية والمكالمة مع هؤلاء لا تمكن إلا بالدلائل القطعية اليقينية وهي الحكمة والقسم الثاني الذي تغلب على طباعهم المشاغبة والمخاصمة لا طلب المعرفة الحقيقية والعلوم اليقينية والمكالمة اللائقة بهؤلاء المجادلة التي تفيد الإفحام والإلزام وهذان القسمان هما الطرفان فالأول هو طرف الكمال والثاني طرف النقصان
وأما القسم الثاني فهو الواسطة وهم الذين ما بلغوا في الكمال إلى حد الحكماء المحققين وفي النقصان والرذالة إلى حد المشاغبين المخاصمين بل هم أقوام بقوا على الفطرة الأصلية والسلامة الخلقية وما بلغوا إلى درجة الاستعداد لفهم الدلائل اليقينية والمعارف الحكمية والمكالمة مع هؤلاء لا تمكن إلا

بالموعظة الحسنة وأدناها المجادلة وأعلى مراتب الخلائق الحكماء المحققو وأوسطهم عامة الخلق وهم أرباب السلامة وفيهم الكثيرة والغلبة وأدنى المراتب الذين جبلوا على طبيعة المنازعة والمخاصمة فقوله تعالى ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ معناه ادع الأقوياء الكاملين إلى الدين الحق بالحكمة وهي البراهين القطعية اليقينية وعوام الخلق بالموعظة الحسنة وهي الدلائل اليقينية الإقناعية الظنية والتكلم مع المشاغبين بالجدل على الطريق الأحسن الأكمل
ومن لطائف هذه الآية أنه قال يَخْتَلِفُونَ ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَة ِ وَالْمَوْعِظَة ِ الْحَسَنَة ِ فقصر الدعوة على ذكر هذين القسمين لأن الدعوة إذا كانت بالدلائل القطعية فهي الحكمة وإن كانت بالدلائل الظنية فهي الموعظة الحسنة أما الجدل فليس من باب الدعوة بل المقصود منه غرض آخر مغاير للدعوة وهو الإلزام والإفحام فهلذا السبب لم يقل ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة والجدل الأحسن بل قطع الجدل عن باب الدعوة تنبيهاً على أنه لا يحصل الدعوة وإنما الغرض منه شيء آخر والله أعلم
واعلم أن هذه المباحث تدل على أنه تعالى أدرج في هذه الآية هذه الأسرار العالية الشريفة مع أن أكثر الخلق كانوا غافلين عنها فظهر أن هذا الكتاب الكريم لا يهتدي إلى ما فيه من الأسرار إلا من كان من خواص أولي الأبصار
ثم قال تعالى إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ والمعنى أنك مكلف بالدعوة إلى الله تعالى بهذه الطرق الثلاية فأما حصول الهداية فلا يتعلق بك فهو تعالى أعلم بالضالين وأعلم بالمهتدين والذي عندي في هذا الباب أن جواهر النفوس البشرية مختلفة بالماهية فبعضها نفوس مشرقة صافية قلية التعلق بالجسمانيات كثيرة الانجذاب إلى عالم الروحانيات وبعضها مظلمة كدرة قوية التعلق بالجسمانيات عديمة الالتفات إلى الروحانيات ولما كانت هذه الاستعدادات من لوازم جواهرها لا جرم يمتنع انقلابها وزوالها فلهذا قال تعالى اشتغل أنت بالدعوة ولا تطمع في حصول الهداية للكل فإنه تعالى هو العالم بضلال النفوس الضالة الجاهلة وبإشراق النفوس المشرقة الصافية فلكل نفس فطرة مخصوصة وماهية مخصوصة كما قال فِطْرَة َ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ( الروم 30 ) والله أعلم
وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِى ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي هذه الآية فيها ثلاثة أقوال

القول الأول وهو الذي عليه العامة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما رأى حمزة وقد مثلوا به قال ( والله لأمثلن بسبعين منهم مكانك ) فنزل جبريل عليه السلام بخواتيم سورة النحل فكف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأمسك عما أراد
وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عطاء وأبي بن كعب والشعبي وعلى هذا قالوا إن سورة النحل كلها مكية إلا هذه الآيات الثلاث
والقول الثاني أن هذا كان قبل الأمر بالسيف والجهاد حين كان المسلمون قد أمروا بالقتال مع من يقاتلهم ولا يبدؤوا بالقتال وهو قوله تعالى وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ( البقرة 190 ) وفي هذه الآية أمر الله بأن يعاقبوا بمثل ما يصيبهم من العقوبة ولا يزيدوا
والقول الثالث أن المقصود من هذه الآية نهي المظلوم عن استيفاء الزيادة من الظالم وهذا قول مجاهد والنخعي وابن سيرين قال ابن سيرين إن أخذ منك رجل شيئاً فخذ منه مثله وأقول إن حمل هذه الآية على قصة لا تعلق لها بما قبلها يوجب حصول سوء الترتيب في كلام الله تعالى وذلك يطرق الطعن إليه وهو في غاية البعد بل الأصوب عندي أن يقال المراد أنه تعالى أمر محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) أن يدعو الخلق إلى الدين الحق بأحد الطرق الثلاثة وهي الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالطريق الأحسن ثم إن تلك الدعوة تتضمن أمرهم بالرجوع عن دين آبائهم وأسلافهم وبالإعراض عنه والحكم عليه بالكفر والضلالة وذلك مما يشوش القلوب ويوحش الصدور ويحمل أكثر المستعمين على قصد ذلك الداعي بالقتل تارة وبالضرب ثانياً وبالشتم ثالثاً ثم إن ذلك المحق إذا شاهد تلك السفاهات وسمع تلك المشاغبات لا بد وأن يحمله طبعه على تأديب أولئك السفهاء تارة بالقتل وتارة بالضرب فعند هذا أمر المحقين في هذا المقام برعاية العدل والإنصاف وترك الزيادة فهذا هو الوجه الصحيح الذي يجب حمل الآية عليه
فإن قيل فهل تقدحون فيما روي أنه عليه السلام ترك العزم على المثلة وكفر عن يمينه بسبب هذه الآية
قلنا لا حاجة إلى القدح في تلك الرواية لأنا نقول تلك الواقعة داخلة في عموم هذه الآية فيمكن التمسك في تلك الواقعة بعموم هذه الآية إنما الذي ينازع فيه أنه لا يجوز قصر هذه الآية على هذه الواقعة لأن ذلك يوجب سوء الترتيب في كلام الله تعالى
المسألة الثالثة اعلم أنه تعالى أمر برعاية العدل والإنصاف في هذه الآية ورتب ذلك على أربع مراتب
المرتبة الأولى قوله وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ يعني إن رغبتم في استقباء القصاص فاقنعوا بالمثل ولا تزيدوا عليه فإن استيفاء الزيادة ظلم والظلم ممنوع منه في عدل الله ورحمته وفي قوله وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ دليل على أن الأولى له أن لا يفعلن كما أنك إذا قلت للمريض إن كنت تأكل الفاكهة فكل التفاح كان معناه أن الأولى بك أن لا تأكله فذكر تعالى بطريق الرمز والتعريض على أن الأولى تركه
والمرتبة الثانية الانتقال من التعريض إلى التصريح وهو قوله وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لّلصَّابِرينَ وهذا تصريح بأن الأولى ترك ذلك الانتقام لأن الرحمة أفضل من القسوة والإنفاع أفضل من الإيلام

المرتبة الثالثة وهو ورود الأمر بالجزم بالترك وهو قوله وَاصْبِرْ لأنه في المرتبة الثانية ذكر أن الترك خير وأولى وفي هذه المرتبة الثالثة صرح بالأمر بالصبر ولما كان الصبر في هذا المقام شاقاً شديداً ذكر بعده ما يفيد سهولته فقال وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ أي بتوفيقه ومعونته وهذا هو السبب الكلي الأصلي المفيد في حصول الصبر وفي حصلو جميع أنواع الطاعات ولما ذكر هذا السبب الكلي الأصلي ذكر بعده ما هو السبب الجزئي القريب فقال وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِى ضَيْقٍ مّمَّا يَمْكُرُونَ وذلك لأن إقدام الإنسان على الانتقام وعلى إنزال الضرر بالغير لا يكون إلا عند هيجان الغضب وشدة الغضب لا تحصل إلا لأحد أمرين أحدهما فوات نفع كان حاصلاً في الماضي وإليه الإشارة بقوله وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ قيل معناه ولا تحزن على قتلى أحد ومعناه لا تحزن بسبب فوت أولئك الأصدقاء ويرجع حاصله إلى فوت النفع والسبب الثاني لشدة الغضب توقع ضرر في المستقبل وإليه الإشارة بقوله وَلاَ تَكُ فِى ضَيْقٍ مّمَّا يَمْكُرُونَ ومن وقف على هذه اللطائف عرف أنه لا يمكن كلام أدخل في حسن والضبط من هذا الكلام بقي في لفظ الآية مباحث
البحث الأول قرأ ابن كثير وَلاَ تَكُ فِى ضَيْقٍ بكسر الضاد وفي النمل مثله والباقون بفتح الضاد في الحرفين أما الوجه في القراءة المشهورة فأمور قال أبو عبيدة الضيق بالكسر في قلة المعاش والمساكن وما كان في القلب فإنه الضيق وقال أبو عمرو الضيق بالكسر الشدة والضيق بفتح الضاد الغم وقال القتيبي ضيق تخفيف ضيق مثل هين وهين ولين ولين وبهذا الطريق قلنا إنه تصح قراءة ابن كثير
البحث الثاني قرىء وَلاَ تَكُن فِى ضَيْقٍ
البحث الثالث هذا من كلام المقلوب لأن الضيق صفة والصفة تكون حاصلة في الموصوف ولا يكون المصوف حاصلاً في الصفة فكان المعنى فلا يكون الضيق فيك إلا أن الفائدة في قوله وَلاَ تَكُ فِى ضَيْقٍ هو أن الضيق إذا عظم وقوي صار كالشيء المحيط بالإسنان من كل الجوانب وصار كالقميص المحيط به فكانت الفائدة في ذكر هذا اللفظ هذا المعنى والله أعلم
المرتبة الرابعة قوله إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ وهذا يجري مجرى التهديد لأن في المرتبة الأولى رغب في ترك الانتقام على سبيل الرمز وفي المرتبة الثانية عدل عن الرمز إلى التصريح وهو قوله وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لّلصَّابِرينَ وفي المرتبة الثالثة أمرنا بالصبر على سبيل الجزم وفي هذه المرتبة الرابعة كأنه ذكر الوعيد في فعل الانتقام فقال إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ عن استيفاء الزيادة وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ في ترك أصل الانتقام فإن أردت أن أكون معك فكن من المتقين ومن المحسنين ومن وقف على هذا التريب عرف أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجب أن يكون على سبيل الرفق واللطف مرتبة فمرتبة ولما قال الله لرسوله ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَة ِ وَالْمَوْعِظَة ِ الْحَسَنَة ِ ذكر هذه المراتب الأربعة تنبيهاً على أن الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة يجب أن تكون واقعة على هذا الوجه وعند الوقوف على هذه اللطائف يعلم العاقل أن هذا الكتاب الكريم بحر لا ساحل له
المسألة الثالثة قوله إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ معيته بالرحمة والفضل والرتبة وقوله الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إشارة إلى التعظيم لأمر الله تعالى وقوله وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ إشارة إلى الشفقة على خلق الله وذلك

يدل على أن كمال السعادة للإنسان في هذين الأمرين أعني التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلق الله وعبر عنه بعض المشايخ فقال كمال الطريق صدق مع الحق وخلق مع الخلق وقال الحكماء كمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به وعن هرم بن حيان أنه قيل له عند القرب من الوفاة أوص فقال إنما الوصية من المال ولا مال لي ولكني أوصيكم بخواتيم سورة النحل
المسألة الرابعة قال بعهضم إن قوله تعالى وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لّلصَّابِرينَ منسوخ بآية السيف وهذا في غاية البعد لأن المقصود من هذه الآية تعليم حسن الأدب في كيفية الدعوة إلى الله تعالى وترك التعدي وطلب الزيادة ولا تعلق لهذه الأشياء بآية السيف وأكثر المفسرين مشغوفون بتكثير القول بالنسخ ولا أرى فيه فائدة والله أعلم بالصواب

سورة الإسراء
مكية إلا الآيات 26 و 32 و 33 و 57 ومن آية 73 إلى غاية آية 80 فمدنية
وآياتها 111 نزلت بعض القصص
سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الاٌّ قْصَى الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ ءْايَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ
سورة بني إسرائيل
عددها مائة آية وعشر آيات
عن ابن عباس أنها مكية غير قوله
سورة بني إسرائيل
عددها مائة آية وعشر آيات
عن ابن عباس أنها مكية غير قوله وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الاْرْضِ ( الإسراء 71 ) إلى قوله وَاجْعَل لّى مِن لَّدُنْكَ سُلْطَاناً نَّصِيرًا ( الإسراء 80 ) فإنها مدنيات نزلت حين جاء وفد ثقيف
سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الاْقْصَى الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ ءايَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قال النحويون سُبْحَانَ اسم علم للتسبيح يقال سبحت الله تسبيحاً وسبحاناً فالتسبيح هو المصدر وسبحان اسم علم للتسبيح كقولك كفرت اليمين تكفيراً وكفراناً وتفسيره تنزيه الله تعالى من كل سوء قال صاحب ( النظم ) السبح في اللغة التباعد يدل عليه قوله تعالى إِنَّ لَكَ فِى النَّهَارِ سَبْحَاً ( المزمل 7 ) أي تباعداً فمعنى سبح الله تعالى أي بعده ونزهه عما لا ينبغي وتمام المباحث العقلبية في لفظ التسبيح قد ذكرناها في أول سورة الحديد وقد جاء في لفظ التسبيح معان آخرى أحدها أن التسبيح يذكر بمعنى الصلاة ومنه قوله تعالى فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبّحِينَ ( الصفات 143 ) أي من المصلين والسبحة الصلاة النافلة وإنما قيل للمصلي مسبح

لأنه معظم لله بالصلاة ومنزه له عما لا ينبغي وثانيها ورد التسبيح بمعنى الاستثناء في قوله تعالى قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبّحُونَ ( القلم 28 ) أي تستثنون وتأويله أيضاً يعود إلى تعظيم الله تعالى في الاستثناء بمشيئته وثالثها جاء في الحديث ( لأحرقت سبحات وجهه ما أدركت من شيء ) قيل معناه نور وجهه وقيل سبحات وجهه نور وجهه الذي إذا رآه الرائي قال سبحان الله وقوله أَسْرَى قال أهل اللغة أسرى وسرى لغتان وقوله بِعَبْدِهِ أجمع المفسرون على أن المراد محمد عليه الصلاة والسلام وسمعت الشيخ الإمام الوالد عمر بن الحسين رحمه الله قال سمعت الشيخ الإمام أبا القاسم سليمان الأنصاري قال لما وصل محمد صلوات الله عليه إلى الدرجات العالية والمراتب الرفيعة في العارج أوحى الله تعالى إليه يا محمد بم أشرفك قال ( رب بأن تنسبني إلى نفسك بالعبودية ) فأنزل الله فيه سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ وقوله لَيْلاً نصب على الظرف
فإن قيل الإسراء لا يكون إلا بالليل فما معنى ذكر الليل
قلنا أراد بقوله لَيْلاً بلفظ التنكير تقليل مدة الإسراء وأنه أسرى به في بعض الليل من مكة إلى الشام مسيرة أربعين ليلة وذلك أن التنكير فيه قد دل على معنى البعضية واختلفوا في ذلك الليل قال مقاتل كان ذلك الليل قبل الهجرة بسنة ونقل صاحب ( الكشاف ) عن أنس والحسن أنه كان ذلك قبل البعثة وقوله مّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ اختلفوا في المكان الذي أسرى به منه فقيل هو المسجد الحرام بعينه وهو الذي يدل عليه ظاهر لفظ القرآن وروي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان إذ أتاني جبريل بالبراق ) وقيل أسري به من دار أم هانيء بنت أبي طالب والمراد على هذا القول بالمسجد الحرام الحرم لإحاطته بالمسجد والتباسه به وعن ابن عباس الحرم كله مسجد وهذا قول الأكثرين وقوله إِلَى الْمَسْجِدِ الاْقْصَى اتفقوا على أن المراد منه بيت المقدس وسمي بالأقصى لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام وقوله الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ قيل بالثمار والأزهار وقيل بسبب أنه مقر الأنبياء ومهبط الملائكة
واعلم أن كلمة إِلَى لانتهاء الغاية فمدلول قوله إِلَى الْمَسْجِدِ الاْقْصَى أنه وصل إلى حد ذلك المسجد فأما أنه دخل ذلك المسجد أم لا فليس في اللفظ دلالة عليه وقوله لِنُرِيَهُ مِنْ ءايَاتِنَا يعني ما رأى في تلك الليلة من العجائب والآيات التي تدل على قدرة الله تعالى
فإن قالوا قوله لِنُرِيَهُ مِنْ ءايَاتِنَا يدل على أنه تعالى ما أراه إلا بعض الآيات لأن كلمة مِنْ تفيد التبعيض وقال في حق إبراهيم وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الأنعام 75 ) فيلزم أن يكون معراج إبراهيم عليه السلام أفضل من معراج محمد ( صلى الله عليه وسلم )
قلنا الذي رآه إبراهيم ملكوت السموات والأرض والذي رآه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بعض آيات الله تعالى ولا شك أن آيات الله أفضل
ثم قال إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أي أن الذي أسرى بعبده هو السميع لأقوال محمد البصير بأفعاله العالم بكونها مهذبة خالصة عن شوائب الرياء مقرونة بالصدق والصفاء فلهذا السبب خصه الله تعالى بهذه الكرامات وقيل المراد سميع لما يقولون للرسول في هذا الأمر بصير بما يعملون في هذه الواقعة

المسألة الثانية اختلف في كيفية ذلك الإسراء فالأكثرون من طوائف المسلمين اتفقوا على أنه أسرى بجسد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والأقلون قالوا إنه ما أسري إلا بروحه حكي عن محمد بن جرير الطبري في ( تفسيره ) عن حذيفة أنه قال ذلك رؤيا وأنه ما فقد جسد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وإنما أسري بروحه وحكي هذا القول أيضاً عن عائشة رضي الله عنها وعن معاوية رضي الله عنه واعلم أن الكلام في هذا الباب يقع في مقامين أحدهما في إثبات الجواز العقلي الثاني في الوقوع
أما المقام الأول وهو إثبات الجواز العقللي فنقول الحركة الواقعة في السرعة إلى هذا الحد ممكنة في نفسها والله تعالى قادر على جميع الممكنات وذلك يدل على أن حصول الحركة في هذا الحد من السرعة غير ممتنع فنفتقر ههنا إلى بيان مقدمتين
المقدمة الأولى في إثبات أن الحركة الواقعة إلى هذا الحد ممكنة في نفسها ويدل عليه وجوه
الوجه الأول أن الفلك الأعظم يتحرك من أول الليل إلى آخره ما يقرب من نصف الدور وقد ثبت في الهندسة أن نسبة القطر الواحد إلى الدور نسبة الواحد إلى ثلاثة وسبع فيلزم أن تكون نسبة نصف القطر إلى نصف الدور نسبة الواحد إلى ثلاثة وسبع وبتقدير أن يقال أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ارتفع من مكة إلى ما فوق الفلك الأعظم فهو لم يتحرك إلا بمقدار نصف القطر فلما حصل في ذلك القدر من الزمان حركة نصف الدور فكان حصول الحركة بمقدار نصف القطر أولى بالإمكان فهذا برهان قاطع على أن الارتقاء من مكة إلى ما فوق العرش في مقدار ثلث من الليل أمر ممكن في نفسه وإذا كان كذلك كان حصوله في كل الليل أولى بالإمكان والله أعلم
الوجه الثاني وهو أنه ثبت في الهندسة أن قرص الشمس يساوي كرة الأرض مائة وستين وكذا مرة ثم إنا نشاهد أن طلوع القرص يحصل في زمان لطيف سريع وذلك يدل على أن بلوغ الحركة في السرعة إلى الحد المذكور أمر ممكن في نفسه
الوجه الثالث أنه كما يستبعد في العقل صعود الجسم الكثيف من مركز العالم إلى ما فوق العرش فكذلك يستبعد نزول الجسم اللطيف الروحاني من فوق العرش إلى مركز العالم فإن كان القول بمرعاج محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في الليلة الواحدة ممتنعاً في العقول كان القول بنزول جبريل عليه الصلاة والسلام من العرش إلى مكة في اللحظة الواحدة ممتنعاً ولو حكمنا بهذا الامتناع كان ذلك طعناً في نبوة جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والقول بثبوت المعراج فرع على تسليم جواز أصل النبوة فثبت أن القائلين بامتناع حصول حركة سريعة إلى هذا الحد يلزمهم القول بامتناع نزول جبريل عليه الصلاة والسلام في اللحظة ممن العرش إلى مكة ولما كان ذلك باطلاً كان ما ذكروه أيضاً باطلاً
فإن قالوا نحن لا نقول إن جبريل عليه الصلاة والسلام جسم ينتقل من مكان إلى مكان وإنما نقول المراد من نزول جبريل عليه السلام هو زوال الحجب الجسمانية عن روح محمد ( صلى الله عليه وسلم ) حتى يظهر في روحه من المكاشفات والمشاهدات بعض ما كان حاضراً متجلياً في ذات جبريل عليه الصلاة والسلام
قلنا تفسير الوحي بهذا الوجه هو قول الحكماء فأما جمهور المسلمين فهم مقرون بأن جبريل عليه

الصلاة والسلام جسم وأن نزوله عبارة عن انتقاله من عالم الأفلاك إلى مكة وإذاكان كذلك كان الإلزام المذكور قوياً روي أنه عليه الصلاة والسلام لما ذكر قصة المعراج كذبه الكل وذهبوا إلى أبي بكر وقالوا له إن صاحبك يقول كذا وكذا فقال أبو بكر إن كان قد قال ذلك فهو صادق ثم جاء إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فذكر الرسول له تلك التفاصيل فكلما ذكر شيئاً قال أبو بكر صدقت فلما تمم الكلام قال أبو بكر أشهد أنك رسول الله حقاً فقال له الرسول وأنا أشهد أنك الصديق حقاً وحاصل الكلام أن أبا بكر رضي الله عنه كأنه قال لما سلمت رسالته فقد صدقته فيما هو أعظم من هذا فكيف أكذبه في هذا
الوجه الرابع أن أكثر أرباب الملل والنحل يسلمون وجود إبليس ويسلمون أنه هو الذي يتولى إلقاء الوسوسة في قلوب بني آدم ويسلمون أنه يمكنه الانتقال من المشرق إلى المغرب لأجل إلقاء الوساوس في قلوب بني آدم فلما سلموا جواز مثل هذه الحركة السريعة في حق إبليس فلأن يسلموا جواز مثلها في حق أكابر الأنبياء كان أولى وهذا الإلزام قوي على من يسلم أن إبليس جسم ينتقل من مكان إلى مكان أما الذين يقولون إنه من الأرواح الخبيثة الشريرة وأنه ليس بجسم ولا جسماني فهذا الإلزام غير وارد عليهم إلا أن أكثر أرباب الملل والنحل يوافقون على أنه جسم لطيف متنقل
فإن قالوا هب أن الملائكة والشياطين يصح في حقهم حصول مثل هذه الحركة السريعة لأنهم أجسام لطيفة ولا يمتنع حصول مثل هذه الحركة السريعة في ذواتها أما الإنسان فإنه جسم كثيف فكيف يعقل حصول مثل هذه الحركة السريعة فيه
قلنا نحن إنما استدللنا بأحوال الملائكة والشياطين على أن حصول حركة منتهية في السرعة إلى هذا الحد ممكن في نفس الأمر وأما بيان أن هذه الحركة لما كانت ممكنة الوجود في نفسها كانت أيضاً ممكنة الحصول في جسم البدن الإنساني فذاك مقام آخر سيأتي تقريره إن شاء الله تعالى
الوجه الخامس أنه جاء في القرآن أن الرياح كانت تسير بسليمان عليه الصلاة والسلام إلى المواضع البعيدة في الأوقات القليلة قال تعالى في صفلا مسير سليمان عليه الصلاة والسلام غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ( سبأ 12 ) بل نقول الحس يدل على أن الرياح تنتقل عند شدة هبوبها من مكان إلى مكان في غاية البعد في اللحظة الواحدة وذلك أيضاً يدل على أن مثل هذه الحركة السريعة في نفسها ممكنة
الوجه السادس أن القرآن يدل على أن الذي عنده علم من الكتاب أحضر عرش بقليس من أقصى اليمن إلى أقصى الشام في مقدار لمح البصر بدليل قوله تعالى قَالَ الَّذِى عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الْكِتَابِ أَنَاْ ءاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ( النمل 40 ) وإذاكان ممكناً في حق بعض الناس علمنا أنه في نفسه ممكن الوجود
الوجه السابع إن من الناس من يقول الحيوان إنما يبصر المبصرات لأجل أن الشعاع يخرج من عينيه ويتصل بالمبصر ثم إنا إذا فتحنا العين ونظرنا إلى رجل رأيناه فعلى قول هؤلاء انتقل شعاع العين من أبصارنا إلى رجل في تلك اللحظة اللطيفة وذلك يدل على أن الحركة الواقعة على هذا الحد من السريعة من الممكنات لا من الممتنعات فثبت بهذه الوجوه أن حصول الحركة المنتهية في السرعة إلى هذا الحد أمر ممكن الوجود في نفسه

المقدمة الثانية في بيان أن هذه الحركة لما كانت ممكنة الوجود في نفسها وجب أن لا يكون حصولها في جسد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ممتنعاً والذي يدل عليه أنا بينا بالدلائل القطعية أن الأجسام متماثلة في تمام ماهياتها فلما صح حصول مثل هذه الحركة في حق بعض الأجسام وجب إمكان حصولها في سائر الأجسام وذلك يوجب القطع بأن حصول مثل هذه الحركة في جسد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أمر ممكن الوجود في نفسه
وإذا ثبت هذا فنقول ثبت بالدليل أن خالق العالم قادر على كل الممكنات وثبت أن حصول الحركة البالغة في السرعة إلى هذا الحد في جسد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ممكن فوجب كونه تعالى قادراً عليه وحينئذ يلزم من مجموع هذه المقدمات أن القول بثبوت هذا المعراج أمر ممكن الوجود في نفسه أقصى ما في الباب أنه يبقى التعجب إلا أن هذا التعجب غير مخصوص بهذا المقام بل هو حاصل في جميع المعجزات فانقلات العصا ثعباناً تبلغ سبعين ألف حبل من الحبال والعصي ثم تعود في الحال عصا صغيرة كما كانت أمر عجيب وخروج الناقة العظيمة من الجبل الأصم وإظلال الجبل العظيم في الهواء عجيب وكذا القول في جميع المعجزات فإن كان مجرد التعجب يوجب الإنكار والدفع لزم الجزم بفساد القول بإثبات المعجزات وإثبات المعجزات فرع على تسليم أصل النبوة وإن كان مجرد التعجب لا يوجب الإنكار والإبطال فكذا ههنا فهذا تمام القول في بيان أن القول بالمعراج ممكن غير ممتنع والله أعلم
المقام الثاني في البحث عن وقوع المعراج قال أهل التحقيق الذي يدل على أنه تعالى أسرى بروح محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وجسده من مكة إلى المسجد الأقصى القرآن والخبر أما القرآن فهو هذه الآية وتقرير الدليل أن العبد اسم لمجموع الجسد والروح فوجب أن يكون الإسراء حاصلاً لمجموع الجسد والروح
واعلم أن هذا الاستدلال موقوف على أن الإنسان هو الروح وحده أو الجسد وحده أو مجموع الجسد والروح أما القائلون بأن الإنسان هو الروح وحده فقد احتجوا عليه بوجوه أحدها أن الإنسان شيء واحد باق من أول عمره إلى آخر والأجزاء البدنية في التبدل والتغير والانتقال والباقي غير متبدل فالإنسان مغاير لهذا البدن وثانيها إن الإنسان قد يكون عارفاً بذاته المخصوصة حال ما يكون غافلاً عن جميع أجزائه البدنية والمعلوم مغاير للمغفول عنه فالإنسان مغاير لهذا البدن وثالثها أن الإنسان يقول بمقتضى فطرته السليمة يدي ورجلي ودماغي وقلبي وكذا القول في سائر الأعضاء فيضيف كلها إلى ذاته المخصوصة والمضاف غير المضاف إليه فذاته المخصوصة وجب أن تكون مغايرة لكل هذه الأعضاء
فإن قالوا أليس أنه يضيف ذاته إلى نفسه فيقول ذاتي ونفسي فيلزمكم أن تكون نفسه مغايرة لذاته وهذا محال
قلنا نحن لا نتمسك بمجرد اللفظ حتى يلزمنا ما ذكرتموه بل إنما نتمسك بمحض العقل فإن صريح العقل يدل على أن الإنسان موجود واحد وذلك الشيء الواحد يأخذ بآله اليد ويبصر بآلة العين ويسمع بآلة الأذن فالإنسان شيء واحد وهذه الأعضاء آلات له في هذه الأفعال وذلك يدل على أن الإنسان شيء مغاير لهذه الأعضاء والآلات فثبت بهذه الوجوه أن الإنسان شيء مغاير لهذه البنية ولهذا الجسد
إذا ثبت هذا فنقول سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ المراد من العبد جوهر الروح وعلى هذا التقرير فلم

يبقى في الآية دلالة على حصول الإسراء بالجسد
فإن قالوا فالإسرا بالروح ليس بأمر مخالف للعادة فلا يليق به أن يقال سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ
قلنا هذا أيضاً بعيد لأنه لا يبعد أن يقال إنه حصل لروحه من أنواع المكاشفات والمشاهدات ما لم يحصل لغيره ألبتة فلا جرم كان هذا الكلام لائقاً به فهذا تقرير وجه السؤال على الاستدلال بهذه الآية في إثبات المعراج بالروح والجسد معاً
والجواب أن لفظ العبد لا يتناول إلا مجموع الروح والجسد والدليل عليه قوله تعالى أَرَأَيْتَ الَّذِى يَنْهَى عَبْداً إِذَا صَلَّى ( العلق 9 10 ) ولا شك أن المراد من العبد ههنا مجموع الروح والجسد وقال أيضاً في سورة الجن وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ( الجن 19 ) والمراد مجموع الروح والجسد فكذا ههنا وأما الخبر فهو الحديث المروي في الصحاح وهو مشهور وهو يدل على الذهاب من مكة إلى بيت المقدس ثم منه إلى السموات واحتج المنكرون له بوجوه أحدها بالوجوه العقلية وهي ثلاثة أولها أن الحركة البالغة في السرعة إلى هذا الحد غير معقولة وثانيها أن صعود الجرم الثقيل إلى السموات غير معقول وثالثها أن صعوده إلى السموات يوجب انحراق الأفلاك وذلك محال
والشبهة الثانية أن هذا المعنى لو صح لكان أعظم من سائر المعجزات وكان يجب أن يظهر ذلك عند اجتماع الناس حتى يستدلوا به على صدقه في ادعاء النبوة فأما أن يحصل ذلك في وقت لا يراه أحد ولا يشاهده أحد فإنه يكون ذلك عبثاً وذلك لا يليق بالحكيم
والشبهة الثالثة تمسكوا بقوله وَمَا جَعَلْنَا الرُّءيَا الَّتِى أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَة ً لّلنَّاسِ ( الإسراء 60 ) وما تلك الرؤيا إلا حديث المعراج وإنما كان فتنة للناس لأن كثيراً ممن آمن به لما سمع هذا الكلام كذبه وكفر به فكان حديث المعراج سبباً لفتنة الناس فثبت أن ذلك رؤيا رآه في المنام الشبهة الرابعة أن حديث المعراج اشتمل على أشياء بعيدة منها ما روي من شق بطنه وتطهيره بما زمزم وهو بعيد لأن الذي يمكن غسله بالماء هو النجاسات العينية ولا تأثير لذلك في تطهير القلب عن العقائد الباطلة والأخلاق المذمومة ومنها ما روي من ركوب البراق وهو بعيد لأنه تعالى لما سيره من هذا العالم إلى عالم الأفلاك فأي حاجة إلى البراق ومنها ما روي أنه تعالى أوجب خمسين صلاة ثم إن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) لم يزل يتردد بين الله تعالى وبين موسى إلى أن عاد الخمسون إلى خمس بسبب شفقة موسى عليه الصلاة والسلام قال القاضي وهذا يقتضي نسخ الحكم قبل حضوره وأنه يوجب البداء وذلك على الله تعالى محال فثبت أن ذلك الحديث مشتمل على ما يجوز قبوله فكان مردوداً
والجواب عن الوجوه العقلية قد سبق فلا نعيدها
والجواب عن الشبهة الثانية ما ذكره الله تعالى وهو قوله لِنُرِيَهُ مِنْ ءايَاتِنَا وهذا كلام مجمل وفي تفصيله وشرحه وجوه الأول أن خيرات الجنة عطيمة وأهوال النار شديدة فلو أنه عليه الصلاة والسلام ما شاهدهما في الدنيا ثم شاهدهما في ابتداء يوم القيامة فربما رغب في خيرات الجنة أو خاف من أهوال

النار أما لما شاهدهما في الدنيا في ليلة المعراج فحينئذ لا يعظم وقعهما في قلبه يوم القيامة فلا يبقى مشغول القلب بهما وحينئذ يتفرغ للشفاعة الثاني لا يمتنع أن تكون مشاهدته ليلة المعراج للأنبياء والملائكة صارت سبباً لتكامل مصلحته أو مصلحتهم الثالث أنه لا يبعد أنه إذا صعد الفلك وشاهد أحوال السموات والكرسي والعرش صارت مشاهدة أحوال هذا العالم وأهواله حقيرة في عينه فتحصل له زيادة قوة في القلب باعتبارها يكون في شروعه في الدعوة إلى الله تعالى أكمل وقلة التفاته إلى أعداء الله تعالى أقوى يبين ذلك أن من عاين قدرة الله تعالى في هذا الباب لا يكون حاله في قوة النفس وثبات القلب على احتمال المكاره في الجهاد وغيره إلا أضعاف ما يكون عليه حال من لم يعاين
واعلم أن قوله لِنُرِيَهُ مِنْ ءايَاتِنَا كالدلالة على أن فائدة ذلك الإسراءة مختصة به وعائدة إلى على بسل التعيين
والجواب عن الشبهة الثالثة أنا عند الانتهاء إلى تفسير تلك الآية في هذه السورة نبين أن تلك الرؤيا رؤيا عيان لا رؤيا منام
والجواب عن الشبهة الرابعة لا اعتراض على الله تعالى في أفعاله فهو يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد والله أعلم
المسألة الرابعة أما العروج إلى السموات وإلى ما فوق العرش فهذه الآية لا تدل عليه ومنهم من استدل عليه بأول سورة والنجم ومنهم من استدل عليه بقوله تعالى لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ ( الإنشقاق 19 ) وتفسيرهما مذكور في موضعه وأما دلالة الحديث فكما سلف والله أعلم
وَءَاتَيْنَآ مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِى إِسْرَاءِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِى وَكِيلاً ذُرِّيَّة َ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن الكلام في الآية التي قبل هذه الآية وفيها انتقل من الغيبة إلى الخطاب ومن الخطاب إلى الغيبة لأن قوله سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى فيه ذكر الله على سبيل الغيبة وقوله بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ ءايَاتِنَا فيه ثلاثة ألفاظ دالة على الحضور وقوله إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ يدل على الغيبة وقوله وَءاتَيْنَآ مُوسَى الْكِتَابَ الخ يدل على الحضور وانتقال الكلام من الغيبة إلى الحضور وبالعكس يسمى صنعة الالتفات
المسألة الثانية ذكر الله تعالى في الآية الأولى إكرامه محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بأن أسرى به وذكر في هذه الآية أنه أكرم موسى عليه الصلاة والسلام قبله بالكتاب الذي آتاه فقال وَءاتَيْنَآ مُوسَى الْكِتَابَ يعني التوراة وَجَعَلْنَاهُ هُدًى

أي يخرجهم بواسطة ذلك الكتاب من ظلمات الجهل والكفر إلى نور العلم والدين الحق وقوه أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِى وَكِيلاً وفيه أبحاث
البحث الأول قرأ أبو عمرو أَلاَّ تَتَّخِذُواْ بالياء خبراً عن بني إسرائيل والباقون بالتاء على الخطاب أي قلنا لهم لا تتخذوا
البحث الثاني قال أبو علي الفارسي إن قوله أَلاَّ تَتَّخِذُواْ فيه ثلاثة أوجه أحدها أن تكون ( أن ) ناصبة للفعل فيكون المعنى وجعلناه هدى لئلا تتخذوا وثانيها أن تكون ( أن ) بمعنى أي التي للتفسير وانصرف الكلام من الغيبة إلى الخطاب في قراءة العامة كما انصرف منها إلى الخطاب والأمر في قوله وَانطَلَقَ الْمَلا مِنْهُمْ أَنِ امْشُواْ ( ص 6 ) فكذلك انصرف من الغيبة إلى النهي في قوله أَلاَّ تَتَّخِذُواْ وثالثها أن تكون ( أن ) زائدة ويجعل تتخذوا على القول المضمر والتقدير وجعلناه هدى لبني إسرائيل فقلنا لا تتخذوا من دوني وكيلاً
البحث الثالث قوله وَكِيلاً أي رباً تكلون أموركم إليه أقول حاصل الكلام في الآية أنه تعالى ذكر تشريف محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بالإسراء ثم ذكر عقيبه تشريف موسى عليه الصلاة والسلام بإنزال التوراة عليه ثم وصف التوراة بكونها هدى ثم بين أن التوراة إنما كان هدى لاشتماله على النهي عن اتخاذ غير الله وكيلاً وذلك هو التوحيد فرجع حاصل الكلام بعد رعاية هذه المراتب أنه لا معراج أعلى ولا درجة أشرف ولا منقبة أعظم من أن يصير المرء غرقاً في بحر التوحيد وأن لا يعول في أمر من الأمور إلا على الله فإن نطق نطق بذكر الله وإن تفكر تفكر في دلائل تنزيه الله تعالى وإن طلب طلب من الله فيكون كله لله وبالله ثم قال ذُرّيَّة َ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وفي نصب ذُرّيَّة ِ وجهان
الوجه الأول أن يكون نصباً على النداء يعني يا ذرية من حملنا مع نوح وهذا قول مجاهد لأنه قال هذا نداء قال الواحدي وإنما يصح هذا على قراءة من قرأ بالتاء كأنه قيل لهم لا تتخذوا من دوني وكيلاً يا ذرية من حملنا مع نوح في السفينة قال قتادة الناس كلهم ذرية نوح لأنه كان معه في السفينة ثلاثة بنين سام وحام ويافث فالناس كلهم من ذرية أولئك فكان قوله يا ذرية من حملنا مع نوح قائماً مقام قوله يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ
الوجه الثاني في نصب قوله ذُرّيَّة ِ أن الاتخاذ فعل يتعدى إلى مفعولين كقوله وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً ( النساء 125 ) والتقدير لا تتخذوا ذرية من حملنا مع نوح من دوني وكيلاً ثم إنه تعالى أثنى على نوح فقال إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ( الإسراء 3 ) أي كان كثير الشكر روي أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا أكل قال ( الحمد لله الذي أطعمني ولو شاء أجاعني ) وإذا شرب قال ( الحمد لله الذي أسقاني ولو شاء أظمأني ) وإذا اكتسى قال ( الحمد لله الذي كساني ولو شاء أعراني ) وإذا احتذى قال ( الحمد لله الذي حذاني ولو شاء أحفاني ) وإذا قضى حاجته قال ( الحمد لله الذي أخرج عني أذاه في عافية ولو شاء حبسه ) وروي أنه كان إذا أراد الإفطار عرض طعامه على من آمن به فإن وجده محتاجاً آثره به
فإن قيل قوله إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ما وجه ملايمته لما قبله

قلنا التقدير كأنه قال لا تتخذوا من دوني وكيلاً ولا تشركوا بي لأن نوحاً عليه الصلاة والسلام كان عبداً شكوراً وإنما يكون العبد شكوراً لو كان موحداً لا يرى حصول شيء من النعم إلا من فضل الله وأنتم ذرية قومه فاقتدوا بنوح عليه السلام كما أن آباءكم اقتدوا به والله أعلم
وَقَضَيْنَآ إِلَى بَنِى إِسْرَاءِيلَ فِى الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِى الأرض مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَآ أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّة َ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا
اعلم أنه تعالى لما ذكر إنعامه على بني إسرائيل بإنزال التوراة عليهم وبأنه جعل التوراة هدى لهم بين أنهم ما اهتدوا بهداه بل وقعوا في الفساد فقال وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِى إِسْراءيلَ فِى الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِى الاْرْضِ مَرَّتَيْنِ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى القضاء في اللغة عبارة عن قطع الأشياء عن إحكام ومنه قوله فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ( فصلت 12 ) وقول الشاعر
وعليهما مسرودتان قضاهما داود
فقوله وَقَضَيْنَا أي أعلمناهم وأخبرناهم بذلك وأوحينا إليهم ولفظ إِلَى صلة للإيحاء لأن معنى قضينا أوحينا إليهم كذا وقوله لَتُفْسِدُنَّ يريد المعاصي وخلاف أحكام التوراة وقوله فِى الاْرْضِ يعني أرض مصر وقوله وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً يعني أنه يكون استعلاؤكم على الناس بغير الحق استعلاء عظيماً لأنه يقال لكل متجبر قد علا وتعظم ثم قال فَإِذَا جَآء وَعْدُ أُولَاهُمَا يعني أولى المرتين بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ والمعنى أنه إذا جاء وعد الفساق في المرة الأولى أرسلنا عليكم قوماً أولى بأس شديد ونجدة وشدة والبأس القتال ومنه قوله تعالى وَحِينَ الْبَأْسِ ( البقرة 177 ) ومعنى بعثنا عليكم أرسلنا عليكم وخلينا بينكم وبينهم خاذلين إياكم واختلفوا في أن هؤلاء العباد من هم قيل إن بني إسرائيل تعظموا وتكبروا واستحلوا المحارم وقتلوا الأنبياء وسفكوا الدماء وذلك أول الفسادين فسلط الله عليهم بختنصر فقتل منهم أربعين ألفاً ممن يقرأ التوراة وذهب بالبقية إلى أرض نفسه فبقوا هناك في الذل إلى أن قيض الله ملكاً آخر غزا أهل بابل واتفق أن تزوج بامرأة من بني إسرائيل فطلبت تلك المرأة من ذلك الملك أن يرد بني إسرائيل إلى بيت المقدس ففعل وبعد مدة قامت فيهم الأنبياء ورجعوا إلى أحسن ما كانوا فهو قوله ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّة َ عَلَيْهِمْ

والقول الثاني إن المراد من قوله بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أن الله تعالى سلط عليهم جالوت حتى أهلكهم وأبادهم وقوله ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّة َ هو أنه تعالى قوى طالوت حتى حارب جالوت ونصر داود حتى قتل جالوت فذاك هو عود الكرة
والقول الثالث إن قوله بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا هو أنه تعالى ألقى الرعب من بني إسرائيل في قلوب المجوس فلما كثرت المعاصي فيهم أزال ذلك الرعب عن قلوب المجوس فقصدوهم وبالغوا في قتلهم وإفنائهم وإهلاكهم
واعلم أنه لا يتعلق كثير غرض في معرفة أولئك الأقوام بأعيانهم بل المقصود هو أنهم لما أكثروا من المعاصي سلط عليهم أقواماً قتلوهم وأفنوهم
ثم قال تعالى فَجَاسُواْ خِلَالَ الدّيَارِ قال الليث الجوس والجوسان التردد خلال الديار والبيوت في الفساد والخلال هو الانفراج بين الشيئين والديار ديار بيت المقدس واختلفت عبارات المفسرين في تفسير جاسوا فعن ابن عباس فتشوا وقال أبو عبيدة طلبوا من فيها وقال ابن قتيبة عاثوا وأفسدوا وقال الزجاج طافوا خلال الديار هل بقي أحد لم يقتلوه قال الواحدي الجوس هو التردد والطلب وذلك محتمل لكل ما قالوه
ثم قال تعالى وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً أي كان قضاء الله بذلك قضاء جزماً حتماً لا يقبل النقض والنسخ ثم قال تعالى ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّة َ أي أهلكنا أعداءكم ورددنا الدولة والقوة عليكم وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا النفير العدد من الرجال وأصله من نفر مع الرجل من عشيرته وقومه والنفير والنافر واحد كالقدير والقادر وذكرنا معنى نفر عند قوله فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلّ فِرْقَة ٍ ( التوبة 122 ) وقوله انْفِرُواْ خِفَافًا ( التوبة 41 )
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية على صحة قولهم في مسألة القضاء والقدر من وجوه الأول أنه تعالى قال وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِى إِسْراءيلَ فِى الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِى الاْرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً وهذا القضاء أقل احتمالاته الحكم الجزم والخبر الحتم فثبت أنه تعالى أخبر عنهم أنهم سيقدمون على الفساد والمعاصي خبراً جزماً لا يقبل النسخ لأن القضاء معناه الحكم الجزم على ما شرحناه ثم إنه تعالى أكد ذلك القضاء مزيد تأكيد فقال وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً
إذا ثبت هذا فنقول عدم وقوع ذلك الفساد عنهم يستلزم انقلاب خبر الله تعالى الصدق كذباً وانقلاب حكمه الجازم باطلاً وانقلاب علمه الحق جهلاً وكل ذلك محال فكان عدم إقدامهم على ذلك الفساد محالاً فكان إقدامهم عليه واجباً ضرورياً لا يقبل النسخ والرفع مع أنهم كلفوا بتركه ولعنوا على فعله وذلك يدل على قولنا إن الله قد يأمر بشيء ويصد عنه وقد ينهى عن شيء ويقضي بتحصيله فهذا أحد وجوه الاستدلال بهذه الآية
الوجه الثاني في الاستدلال بهذه الآية قوله تعالى بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ والمراد أولئك الذين تسلطوا على بني إسرائيل بالقتل والنهب والأسر فبين تعالى أنه هو الذي بعثهم على بني

إسرائيل ولا شك أن قتل بني إسرائيل ونهب أموالهم وأسر أولادهم كان مشتملاً على الظلم الكثير والمعاصي العظيمة ثم إنه تعالى أضاف كل ذلك إلى نفسه بقوله ثُمَّ بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ وذلك يدل على أن الخير والشر والطاعة والمعصية من الله تعالى
أجاب الجبائي عنه من وجهين الأول المراد من بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ هو أنه تعالى أمر أولئك الأقوام بغزو بني إسرائيل لما ظهر فيهم من الفساد فأضيف ذلك الفعل إلى الله تعالى من حيث الأمر والثاني أن يكون المراد خلينا بينهم وبين بني إسرائيل وما ألقينا الخوف من بني إسرائيل في قلوبهم وحاصل الكلام أن المراد من هذا البعث التخلية وعدم المنع
واعلم أن الجواب الأول ضعيف لأن الذين قصدوا تخريب بيت المقدس وإحراق التوراة وقتل حفاظ التوراة لا يجوز أن يقال إنهم فعلوا ذلك بأمر الله تعالى والجواب الثاني أيضاً ضعيف لأن البعث على الفعل عبارة عن التقوية عليه وإلقاء الدواعي القوية في القلب وأما التخلية فعبارة عن عدم المنع والأول فعل والثاني ترك فتفسير البعث بالتخلية تفسير لأحد الضدين بالآخر وأنه لا يجوز فثبت صحة ما ذكرناه والله أعلم
إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لاًّنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الاٌّ خِرَة ِ لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّة ٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا
وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى حكى عنهم أنهم لما عصوا سلط عليهم أقواماً قصدوهم بالقتل والنهب والسبي ولما تابوا أزال عنهم تلك المحنة وأعاد عليهم الدولة فعند ذلك ظهر أنهم إن أطاعوا فقد أحسنوا إلى أنفسهم وإن أصروا على المعصية فقد أساؤا إلى أنفسهم وقد تقرر في العقول أن الإحسان إلى النفس حسن مطلوب وأن الإساءة إليها قبيحة فلهذا المعنى قال تعالى إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لاِنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا
المسألة الثانية قال الواحدي لا بد ههنا من إضمار والتقدير وقلنا إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم والمعنى إن أحسنتم بفعل الطاعات فقد أحسنتم إلى أنفسكم من حيث إن ببركة تلك الطاعات يفتح الله عليكم أبواب الخيرات والبركات وإن أسأتم بفعل المحرمات أسأتم إلى أنفسكم من حيث إن بشؤم تلك المعاصي يفتح الله عليكم أبواب العقوبات

المسألة الثالثة قال النحويون إنما قال وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا للتقابل والمعنى فإليها أو فعليها مع أن حروف الإضافة يقوم بعضها مقام بعض كقوله تعالى يَوْمَئِذٍ تُحَدّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا ( الزلزلة 4 5 ) أي إليها
المسألة الرابعة قال أهل الإشارات هذه الآية تدل على أن رحمة الله تعالى غالبة على غضبه بدليل أنه لما حكى عنهم الإحسان أعاده مرتين فقال إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لاِنفُسِكُمْ ولما حكى عنهم الإساءة اقتصر على ذكرها مرة واحدة فقال وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ولولا أن جانب الرحمة غالب وإلا لما كان كذلك
ثم قال تعالى فَإِذَا جَاء وَعْدُ الاْخِرَة ِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال المفسرون معناه وعد المرة الأخيرة وهذه المرة الأخيرة هي إقدامهم على قتل زكريا ويحيى عليهما الصلاة والسلام قال الواحدي فبعث الله تعالى عليهم بختنصر البابلي المجوسي أبغض خلقه إليه فسبى بني إسرائيل وقتل وخرب بيت المقدس أقول التواريخ تشهد بأن بختنصر كان قبل وقت عيسى عليه الصلاة والسلام ويحيى وزكريا عليهما الصلاة والسلام بسنين متطاولة ومعلوم أن الملك الذي انتقم من اليهود بسبب هؤلاء ملك من الروم يقال له قسطنطين الملك والله أعلم بأحوالهم ولا يتعلق غرض من أغراض تفسير القرآن بمعرفة أعيان هؤلاء الأقوام
المسألة الثانية جواب قوله فَإِذَا جَاء محذوف تقديره فإذا جاء وعد الآخرة بعثناهم ليسوؤا وجوهكم وإنما حسن هذا الحذف لدلالة ما تقدم عليه من قوله بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا ( الإسراء 5 ) ثم قال فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ وفيه مسألتان
المسألة الأولى يقال ساءه يسوءه أي أحزنه وإنما عزا الإساءة إلى الوجوه لأن آثار الأعراض النفسانية الحاصلة في القلب إنما تظهر على الوجه فإن حصل الفرح في القلب ظهرت النضرة والإشراق والإسفار في الوجه وإن حصل الحزن والخوف في القلب ظهر الكلوح والغبرة والسواد في الوجه فلهذا السبب عزيت الإساءة إلى الوجوه في هذه الآية ونظير هذا المعنى كثير في القرآن
المسألة الثانية قرأ العامة ليسوؤا على صيغة المغايبة قال الواحدي وهي موافقة للمعنى وللفظ أما المعنى فهو أن المبعوثين هم الذين يسوؤنهم في الحقيقة لأنهم هم الذين يقتلون ويأسرون وأما اللفظ فلأنه يوافق قوله وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وحمزة ليسوء على إسناد الفعل إلى الواحد وذلك الواحد يحتمل أن يكون أحد أشياء ثلاثة إما اسم الله سبحانه لأن الذي تقدم هو قوله ثم ردنا وأمددنا وكل ذلك ضمير عائد إلى الله تعالى وإما أن يكون ذلك الواحد هو البعث ودل عليه قوله أُولَاهُمَا بَعَثْنَا والفعل المتقدم يدل على المصدر كقوله تعالى وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا ءاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ ( آل عمران 18 ) وقال الزجاج ليسوء الوعد وجوهكم وقرأ الكسائي بالنون وهذا على إسناد الفعل إلى الله تعالى كقوله بعثنا عليكم وأمددنا
ثم قال تعالى وَلِيُتَبّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا يقال تبر الشيء تبراً إذا هلك وتبره أهلكه قال الزجاج كل شيء جعلته مكسراً ومفتتاً فقد تبرته ومنه قيل تبر الزجاج وتبر الذهب لمكسره ومنه قوله تعالى إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( الأعراف 139 )

وقوله وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ ( نوح 28 ) وقوله وَلِيُتَبّرُواْ مَا عَلَوْاْ يحتمل ما غلبوا عليه وظفروا به ويحتمل ويتبروا ما داموا غالبين أي ما دام سلطانهم جارياً على بني إسرائيل وقوله تَتْبِيرًا ذكر للمصدر على معنى تحقيق الخبر وإزالة الشك في صدقه كقوله وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً ( النساء 164 ) أي حقاً والمعنى وليدمروا ويخربوا ما غلبوا عليه
ثم قال تعالى عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ والمعنى لعل ربكم أن يرحمكم ويعفو عنكم بعد انتقامه منكم يا بني إسرائيل
ثم قال وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا يعني أن بعثنا عليكم من بعثنا ففعلوا بكم ما فعلوا عقوبة لكم وعظة لتنتفعوا به وتنزجروا به عن ارتكاب المعاصي ثم رحمكم فأزال هذا العذاب عنكم فإن عدتم مرة أخرى إلى المعصية عدنا إلى صب البلاء عليكم في الدنيا مرة أخرى قال القفال إنما حملنا هذه الآية على عذاب الدنيا لقوله تعالى في سورة الأعراف خبراً عن بني إسرائيل وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ مَن يَسُومُهُمْ سُوء الْعَذَابِ ( الأعراف 167 ) ثم قال وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا أي وإنهم قد عادوا إلى فعل ما لا ينبغي وهو التكذيب لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وكتمان ما ورد في التوراة والإنجيل فعاد الله عليهم بالتعذيب على أيدي العرب فجرى على بني النضير وقريظة وبني قينقاع ويهود خيبر ما جرى من القتل والجلاء ثم الباقون منهم مقهورون بالجزية لا ملك لهم ولا سلطان
ثم قال تعالى وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا والحصير فعيل فيحتمل أن يكون بمعنى الفاعل أي وجعلنا جهنم حاصرة لهم ويحتمل أن يكون بمعنى مفعول أي جعلناها موضعاً محصوراً لهم والمعنى أن عذاب الدنيا وإن كان شديداً قوياً إلا أنه قد يتفلت بعض الناس عنه والذي يقع في ذلك العذاب يتخلص عنه إما بالموت وإما بطريق آخر وأما عذاب الآخرة فإنه يكون حاصراً للإنسان محيطاً به لا رجاء في الخلاص عنه فهؤلاء الأقوام لهم من عذاب الدنيا ما وصفناه ويكون لهم بعد ذلك من عذاب الآخرة ما يكون محيطاً بهم من جميع الجهات ولا يتخلصون منه أبداً
إِنَّ هَاذَا الْقُرْءَانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِى َ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاٌّ خِرَة ِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا
اعلم أنه تعالى لما شرح ما فعله في حق عباده المخلصين وهو الإسراء برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وإيتاء الكتاب لموسى عليه الصلاة والسلام وما فعله في حق العصاة والمتمردين وهو تسليط أنواع البلاء عليهم كان ذلك تنبيهاً على أن طاعة الله توجب كل خير وكرامة ومعصيته توجب كل بلية وغرامة لا جرم أثنى على القرآن فقال إِنَّ هَاذَا الْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِى َ أَقْوَمُ

واعلم أن قوله تعالى دِينًا قِيَمًا مّلَّة َ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ( إبراهيم 161 ) يدل على كون هذا الدين مستقيماً وقوله في هذه الآية لِلَّتِى هِى َ أَقْوَمُ يدل على أن هذا الدين أقوم من سائر الأديان وأقول قولنا هذا الشيء أقوم من ذاك إنما يصح في شيئين يشتركان في معنى الاستقامة ثم كان حصول معنى الاستقامة في إحدى الصورتين أكثر وأكمل من حصوله في الصورة الثانية وهذا محال لأن المراد من كونه مستقيماً كونه حقاً وصدقاً ودخول التفاوت في كون الشيء حقاً وصدقاً محال فكان وصفه بأنه أقوم مجازاً إلا أن لفظ الأفعل قد جاء بمعنى الفاعل كقولنا الله أكبر أي الله كبير وقولنا الأشج والناقص أعدلا بني مروان أي عادلاً بني مروان أو يحمل هذا اللفظ على الظاهر المتعارف والله أعلم
البحث الثاني قوله لِلَّتِى هِى َ أَقْوَمُ نعت لموصوف محذوف والتقدير يهدي للملة أو الشريعة أو الطريقة التي هي أقوم الملل والشرائع والطرق ومثل هذه الكناية كثيرة الاستعمال في القرآن كقوله ادْفَعْ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ ( فصلت 34 ) أي بالخصلة التي هي أحسن
أما قوله وَيُبَشّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا فاعلم أنه تعالى وصف القرآن بثلاثة أنواع من الصفات
الصفة الأولى أنه يهدي للتي هي أقوم وقد مر تفسيره
والصفة الثانية أنه يبشر الذين يعملون الصالحات بالأجر الكبير وذلك لأن الصفة الأولى لما دلت على كون القرآن هادياً إلى الاعتقاد الأصوب والعمل الأصلح وجب أن يظهر لهذا الصواب والصلاح أثر وذلك هو الأجر الكبير لأن الطريق الأقوم لا بد وأن يفيد الربح الأكبر والنفع الأعظم
والصفة الثالثة قوله وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَة ِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وذلك لأن الاعتقاد الأصوب والعمل الأصلح كما يوجب لفاعله النفع الأكمل الأعظم فكذلك تركه يوجب لتاركه الضرر الأعظم الأكمل
واعلم أن قوله وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَة ِ عطف على قوله أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا والمعنى أنه تعالى بشر المؤمنين بنوعين من البشارة بثوابهم وبعقاب أعدائهم ونظيره قوله بشرت زيداً أنه سيعطى وبأن عدوه سيمنع
فإن قيل كيف يليق لفظ البشارة بالعذاب
قلنا مذكور على سبيل التهكم أو يقال إنه من باب إطلاق اسم الضدين على الآخر كقوله وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا ( الشورى 40 )
فإن قيل هذه الآية واردة في شرح أحوال اليهود وهم ما كانوا ينكرون الإيمان بالآخرة فكيف يليق بهذا الموضع قوله وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَة ِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا
قلنا عنه جوابان أحدهما أن أكثر اليهود ينكرون الثواب والعقاب الجسمانيين والثاني أن بعضهم قال لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَّعْدُوداتٍ ( آل عمران 24 ) فهم في هذا القول صاروا كالمنكرين للآخرة والله أعلم

وَيَدْعُ الإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَآءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً
وفي الآية مباحث
البحث الأول اعلم أن وجه النظم هو أن الإنسان بعد أن أنزل الله عليه القرآن وخصه بهذه النعمة العظيمة والكرامة الكاملة قد يعدل عن التمسك بشرائعه والرجوع إلى بياناته ويقدم على ما لا فائدة فيه فقال وَيَدْعُ الإِنْسَانُ بِالشَّرّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ
البحث الثاني اختلفوا في المراد من دعاء الإنسان بالشر على أقوال
القول الأول المراد منه النضر بن الحرث حيث قال اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ ( الأنفال 32 ) فأجاب الله دعاءه وضربت رقبته فكان بعضهم يقول ائتنا بعذاب الله وآخرون يقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين وإنما فعلوا ذلك للجهل واعتقاد أن محمداً كاذب فيما يقول
والقول الثاني المراد أنه في وقت الضجر يلعن نفسه وأهله وولده وماله ولو استجيب له في الشر كما يستجاب له في الخير لهلك وروي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) دفع إلى سودة بنت زمعة أسيراً فأقبل يئن بالليل فقالت له ما لك تئن فشكى ألم القيد فأرخت له من كتافه فلما نامت أخرج يده وهرب فلما أصبح النبي عليه الصلاة والسلام دعا به فأعلم بشأنه فقال عليه الصلاة والسلام ( اللهم اقطع يدها ) فرفعت سودة يدها تتوقع أن يقطع الله يدها فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إني سألت الله أن يجعل دعائي على من لا يستحق عذاباً من أهلي رحمة لأني بشر أغضب كما تغضبون فلترد سودة يدها )
والقول الثالث أقول يحتمل أن يكون المراد أن الإنسان قد يبالغ في الدعاء طلباً لشيء يعتقد أن خيره فيه مع أن ذلك الشيء يكون منبع شره وضرره وهو يبالغ في طلبه لجهله بحال ذلك الشيء وإنما يقدم على مثل هذا العمل لكونه عجولاً مغتراً بظواهر الأمور غير متفحص عن حقائقها وأسرارها
البحث الرابع القياس إثبات الواو في قوله وَيَدْعُ إلا أنه حذف في المصحف من الكتابة لأنه لا يظهر في اللفظ أما لم تحذف في المعنى لأنها في موضع الرفع ونظيره سَنَدْعُ الزَّبَانِيَة َ ( العلق 18 ) وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ ( المؤمنين 146 ) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ الْمُنَادِ ( ق 41 ) فَمَا تُغْنِى النُّذُرُ ( القمر 5 ) ولو كان بالواو والياء لكان صواباً هذا كلام الفراء وأقول إن هذا يدل على أنه سبحانه قد عصم هذا القرآن المجيد عن التحريف والتغيير فإن إثبات الياء والواو في أكثر ألفاظ القرآن وعدم إثباتهما في هذه المواضع المعدودة يدل على أن هذا القرآن نقل كما سمع وأن أحداً لم يتصرف فيه بمقدار فهمه وقوة عقله
ثم قال تعالى وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً وفي هذا الإنسان قولان
القول الأول آدم عليه السلام وذلك لأنه لما انتهت الروح إلى سرته نظر إلى جسده فأعجبه فذهب لينهض فلم يقدر فهو قوله وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً
والقول الثاني أنه محمول على الجنس لأن أحداً من الناس لا يعرى عن عجلة ولو تركها لكان تركها أصلح له في الدين والدنيا وأقول بتقدير أن يكون المراد هو القول الأول كان المقصود عائداً إلى

القول الثاني لأنا إذا حملنا الإنسان على آدم عليه الصلاة والسلام كان المعنى أن آدم الذي كان أصل البشر لما كان موصوفاً بهذه العجلة وجب أن تكون هذه صفة لازمة للكل فكان المقصود عائداً إلى القول الثاني والله أعلم
وَجَعَلْنَا الَّيْلَ وَالنَّهَارَ ءَايَتَيْنِ فَمَحَوْنَآ ءَايَة َ الَّيْلِ وَجَعَلْنَآ ءَايَة َ النَّهَارِ مُبْصِرَة ً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَى ْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً
في الآية مسائل
المسألة الأولى في تقرير النظم وجوه
الوجه الأول أنه تعالى لما بين في الآية المتقدمة ما أوصل إلى الخلق من نعم الدين وهو القرآن أتبعه ببيان ما أوصل إليهم من نعم الدنيا فقال وَجَعَلْنَا الَّيْلَ وَالنَّهَارَ ءايَتَيْنِ وكما أن القرآن ممتزج من المحكم والمتشابه فكذلك الدهر مركب من النهار والليل فالمحكم كالنهار والمتشابه كالليل وكما أن المقصود من التكليف لا يتم إلا بذكر المحكم والمتشابه فكذلك الوقت والزمان لا يكمل الانتفاع به إلا بالنهار والليل
والوجه الثاني في تقرير النظم أنه تعالى لما بين في الآية المتقدمة أن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم وذلك الأقوم ليس إلا ذكر الدلائل الدالة على التوحيد والنبوة لا جرم أردفه بذكر دلائل التوحيد وهو عجائب العالم العلوي والسفلي
الوجه الثالث أنه لما وصف الإنسان بكونه عجولاً أي منتقلاً من صفة إلى صفة ومن حالة إلى حالة بين أن كل أحوال هذا العالم كذلك وهو الانتقال من النور إلى الظلمة وبالضد وانتقال نور القمر من الزيادة إلى النقصان وبالضد والله أعلم
المسألة الثانية في قوله وَجَعَلْنَا الَّيْلَ وَالنَّهَارَ ءايَتَيْنِ قولان
القول الأول أن يكون المراد من الآيتين نفس الليل والنهار والمعنى أنه تعالى جعلهما دليلين للخلق على مصالح الدين والدنيا أما في الدين فلأن كل واحد منهما مضاد للآخر مغاير له مع كونهما متعاقبين على الدوام من أقوى الدلائل على أنهما غير موجودين لذاتهما بل لا بد لهما من فاعل يدبرهما ويقدرهما بالمقادير المخصوصة وأما في الدنيا فلأن مصالح الدنيا لا تتم إلا بالليل والنهار فلولا الليل لما حصل السكون والراحة ولولا النهار لما حصل الكسب والتصرف في وجوه المعاش
ثم قال تعالى فَمَحَوْنَا ءايَة َ الَّيْلِ وعلى هذا القول تكون الإضافة في آية الليل والنهار للتبيين والتقدير فمحونا الآية التي هي الليل وجعلنا الآية التي هي نفس النهار مبصرة ونظيره قولنا نفس الشيء

وذاته فكذلك آية الليل هي نفس الليل ويقال أيضاً دخلت بلاد خراسان أي دخلت البلاد التي هي خراسان فكذلك ههنا
القول الثاني أن يكون المراد وجعلنا نيري الليل والنهر آيتين يريد الشمس والقمر فمحونا آية الليل وهي القمر وفي تفسير محو القمر قولان
القول الأول المراد منه ما يظهر في القمر من الزيادة والنقصان في النور فيبدو في أول الأمر في صورة الهلال ثم لا يزال يتزايد نوره حتى يصير بدراً كاملاً ثم يأخذ في الانتقاص قليلاً قليلاً وذلك هو المحو إلى أن يعود إلى المحاق
والقول الثاني المراد من محو القمر الكلف الذي يظهر في وجهه يروى أن الشمس والقمر كانا سواء في النور والضوء فأرسل الله جبريل عليه الصلاة والسلام فأمر جناحه على وجه القمر فطمس عنه الضوء ومعنى المحو في اللغة إذهاب الأثر تقول محوته أمحوه وانمحى وامتحى إذا ذهب أثره وأقول حمل المحو في هذه الآية على الوجه الأول أولى وذلك لأن اللام في قوله لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ متعلق بما هو مذكور قبل وهو محو آية الليل وجعل آية النهار مبصرة ومحو آية الليل إنما يؤثر في ابتغاء فضل الله إذا حملنا المحو على زيادة نور القمر ونقصانه لأن سبب حصول هذه الحالة يختلف بأحوال نور القمر وأهل التجارب يبنوا أن اختلاف أحوال القمر في مقادير النور له أثر عظيم في أحوال هذا العالم ومصالحه مثل أحوال البحار في المد والجزر ومثل أحوال التجربات على ما تذكره الأطباء في كتبهم وأيضاً بسبب زيادة نور القمر ونقصانه يحصل الشهور وبسبب معاودة الشهور يحصل السنون العربية المبنية على رؤية الأهلة كما قال وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ فثبت أن حمل المحو على ما ذكرناه أولى وأقول أيضاً لو حملنا المحو على الكلف الحاصل في وجه القمر فهو أيضاً برهان عظيم قاهر على صحة قول المسلمين في المبدأ والمعاد أما دلالته على صحة قولهم في المبدأ فلأن جرم القمر جرم بسيط عند الفلاسفة فوجب أن يكون متشابه الصفات فحصول الأحوال المختلفة الحاصلة بسبب المحو يدل على أنه ليس بسبب الطبيعة بل لأجل أن الفاعل المختار خصص بعض أجزائه بالنور القوي وبعض أجزائه بالنور الضعيف وذلك يدل على أن مدبر العالم فاعل مختار لا موجب بالذت وأحسن ما ذكره الفلاسفة في الاعتذار عنه أنه ارتكز في وجه القمر أجسام قليلة الضوء مثل ارتكاز الكواكب في أجرام الأفلاك فلما كانت تلك الأجرام أقل ضوأ من جرم القمر لا جرم شوهدت تلك الأجرام في وجه القمر كالكلف في وجه الإنسان وهذا لا يفيد مقصود الخصم لأن جرم القمر لما كان متشابه الأجزاء فلم ارتكزت تلك الأجرام الظلمانية في بعض أجزاء القمر دون سائر الأجزاء وبمثل هذا الطريق يتمسك في أحوال الكواكب وذلك لأن الفلك جرم بسيط متشابه الأجزاء فلم لم يكن حصول جرم الكواكب في بعض جوانبه أولى من حصوله في سائر الجوانب وذلك يدل على أن اختصاص ذلك الكوكب بذلك الموضع المعين من الفلك لأجل تخصيص الفاعل المختار وكل هذه الدلائل إنما يراد من تقريرها وإيرادها التنبيه على أن المؤثر في العالم فاعل بالاختيار لا موجب بالذات والله أعلم
أما قوله وَجَعَلْنَا الَّيْلَ وَالنَّهَارَ ءايَتَيْنِ ففيه وجهان الأول أن معنى كونها مبصرة أي مضيئة وذلك لأن

الإضاءة سبب لحصول الإبصار فأطلق اسم الأبصار على الإضاءة إطلاقاً لاسم المسبب على السبب والثاني قال أبو عبيدة يقال قد أبصر النهار إذا صار الناس يبصرون فيه كقوله رجل مخبث إذا كان أصحابه خبثاء ورجل مضعف إذا كانت ذراريه ضعافاً فكذا قوله والنهار مبصراً أي أهله بصراء
واعلم أنه تعالى ذكر في آيات كثيرة منافع الليل والنهار قال وَجَعَلْنَا الَّيْلَ لِبَاساً وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً ( النبأ 10 و 11 ) وقال أيضاً جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ ( القصص 73 )
ثم قال تعالى وَلِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ أي لتبصروا كيف تتصرفون في أعمالكم وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ
واعلم أن الحساب مبني على أربع مراتب الساعات والأيام والشهور والسنون فالعدد للسنين والحساب لما دون السنين وهي الشهور والأيام والساعات وبعد هذه المراتب الأربع لا يحصل إلا التكرار كما أنهم رتبوا العدد على أربع مراتب الآحاد والعشرات والمئات والألوف وليس بعدها إلا التكرار والله أعلم
ثم قال وَكُلَّ شَى ْء فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً والمعنى أنه تعالى لما ذكر أحوال آيتي الليل والنهار وهما من وجه دليلان قاطعان على التوحيد ومن وجه آخر نعمتان عظيمتان من الله تعالى على أهل الدنيا فلما شرح الله تعالى حالهما وفصل ما فيهما من وجوه الدلالة على الخالق ومن وجوه النعم العظيمة على الخلق كان ذلك تفصيلاً نافعاً وبياناً كاملاً فلا جرم قال وَكُلَّ شَى ْء فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً أي كل شيء بكم إليه حاجة في مصالح دينكم ودنياكم فقد فصلناه وشرحناه وهو كقوله تعالى مَّا فَرَّطْنَا فِى الكِتَابِ مِن شَى ْء ( الأنعام 38 ) وقوله وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لّكُلّ شَى ْء ( النحل 89 ) وقوله تُدَمّرُ كُلَّ شَى ْء بِأَمْرِ رَبّهَا ( الأحقاف 25 ) وإنما ذكر المصدر وهو قوله تَفْصِيلاً لأجل تأكيد الكلام وتقريره كأنه قال وفصلناه حقاً وفصلناه على الوجه الذي لا مزيد عليه والله أعلم
وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِى عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا
اعلم أن في الآية مسائل
المسألة الأولى في كيفية النظم وجوه
الوجه الأول أنه تعالى لما قال وَكُلَّ شَى ْء فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً كان معناه أن كل ما يحتاج إليه من دلائل التوحيد والنبوة والمعاد فقد صار مذكوراً وكل ما يحتاج إليه من شرح أحوال الوعد والوعيد والترغيب والترهيب فقد صار مذكوراً وإذا كان الأمر كذلك فقد أزيحت الأعذار وأزيلت العلل فلا جرم كل من ورد عرصة القيامة فقد ألزمناه طائره في عنقه ونقول له اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا

الوجه الثاني أنه تعالى لما بين أنه أوصل إلى الخلق أصناف الأشياء النافعة لهم في الدين والدنيا مثل آيتي الليل والنهار وغيرهما كان منعماً عليهم بأعظم وجوه النعم وذلك يقتضي وجوب اشتغالهم بخدمته وطاعته فلا جرم كل من ورد عرصة القيامة فإنه يكون مسؤولاً عن أعماله وأقواله
الوجه الثالث في تقرير النظم أنه تعالى لما بين أنه ما خلق الخلق إلا ليشتغلوا بعبادته كما قال وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( الذاريات 56 ) فلما شرح أحوال الشمس والقمر والليل والنهار كان المعنى إني إنما خلقت هذه الأشياء لتنتفعوا بها فتصيروا متمكنين من الاشتغال بطاعتي وخدمتي وإذا كان كذلك فكل من ورد عرصة القيامة سألته أنه هل أتى بتلك الخدمة والطاعة أو تمرد وعصى وبغى فهذا هو الوجه في تقرير النظم
المسألة الثانية في تفسير لفظ الطائر قولان
القول الأول أن العرب إذا أرادوا الإقدام على عمل من الأعمال وأرادوا أن يعرفوا أن ذلك العمل يسوقهم إلى خير أو إلى شر اعتبروا أحوال الطير وهو أنه يطير بنفسه أو يحتاج إلى ازعاجه وإذا طار فهل يطير متيامناً أو متياسراً أو صاعداً إلى الجو إلى غير ذلك من الأحوال التي كانوا يعتبرونها ويستدلون بكل واحد منها على أحوال الخير والشر والسعادة والنحوسة فلما كثر ذلك منهم سمي الخير والشر بالطائر تسمية للشيء باسم لازمه ونظيره قوله تعالى في سورة يس قَالُواْ إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ ( يس 18 ) إلى قوله قَالُواْ طَائِرُكُم مَّعَكُمْ ( يس 19 ) فقوله وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَئِرَهُ فِى عُنُقِهِ أي كل إنسان ألزمناه عمله في عنقه وتدل على صحة هذا الوجه قراءة الحسن ومجاهد أَلْزَمْنَاهُ طَئِرَهُ فِى عُنُقِهِ
القول الثاني قال أبو عبيدة الطائر عند العرب الحظ وهو الذي تسميه الفرس البخت وعلى هذا يجوز أن يكون معنى الطائر ما طار له من خير وشر والتحقيق في هذا الباب أنه تعالى خلق الخلق وخص كل واحد منهم بمقدار مخصوص من العقل والعلم والعمر والرزق والسعادة والشقاوة والإنسان لا يمكنه أن يتجاوز ذلك القدر وأن ينحرف عنه بل لا بد وأن يصل إلى ذلك القدر بحسب الكمية والكيفية فتلك الأشياء المقدورة كأنها تطير إليه وتصير إليه فبهذا المعنى لا يبعد أن يعبر عن تلك الأحوال المقدرة بلفظ الطائر فقوله وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَئِرَهُ فِى عُنُقِهِ كناية عن أن كل ما قدره الله تعالى ومضى في علمه حصوله فهو لازم له واصل إليه غير منحرف عنه
واعلم أن هذا من أدل الدلائل على أن كل ما قدره الله تعالى للإنسان وحكم عليه به في سابق علمه فهو واجب الوقوع ممتنع العدم وتقريره من وجهين
الوجه الأول أن تقدير الآية وكل إنسان ألزمناه عمله في عنقه فبين تعالى أن ذلك العمل لازم له وما كان لازماً للشيء كان ممتنع الزوال عنه واجب الحصول له وهو المقصود
والوجه الثاني أنه تعالى أضاف ذلك الإلزام إلى نفسه لأن قوله أَلْزَمْنَاهُ تصريح بأن ذلك الإلزام إنما صدر منه ونظيره قوله تعالى وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَة َ التَّقْوَى ( الفتح 26 ) وهذه الآية دالة على أنه لا يظهر في الأبد إلا ما حكم الله به في الأزل وإليه الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام ( جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة ) والله أعلم

المسألة الثالثة قوله فِى عُنُقِهِ كناية عن اللزوم كما يقال جعلت هذا في عنقك أي قلدتك هذا العمل وألزمتك الاحتفاظ به ويقال قلدتك كذا وطوقتك كذا أي صرفته إليك وألزمته إياك ومنه قلده السلطان كذا أي صارت الولاية في لزومها له في موضع القلادة ومكان الطوق ومنه يقال فلان يقلد فلاناً أي جعل ذلك الاعتقاد كالقلادة المربوطة على عنقه قال أهل المعاني وإنما خص العنق من بين سائر الأعضاء بهذا المعنى لأن الذي يكون عليه إما أن يكون خيراً يزينه أو شراً يشينه وما يزين يكون كالطوق والحلي والذي يشين فهو كالغل فههنا عمله إن كان من الخيرات كان زينة له وإن كان من المعاصي كان كالغل على رقبته
ثم قال تعالى وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُوراً قال الحسن يا ابن آدم بسطنا لك صحيفة ووكل بك ملكان فهما عن يمينك وشمالك فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك وأما الذي عن شمالك فيحفظ سيئاتك حتى إذا مت طويت صحيفتك وجعلت معك في قبرك حتى تخرج لك يوم القيامة قوله وَنُخْرِجُ لَهُ أي من قبره يجوز أن يكون معناه نخرج له ذلك لأنه لم ير كتابه في الدنيا فإذا بعث أظهر له ذلك وأخرج من الستر وقرأ يعقوب ( ويخرج له يوم القيامة كتاباً ) أي يخرج له الطائر أي عمله كتاباً منشوراً كقوله تعالى وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ ( التكوير 10 ) وقرأ ابن عمر ( يلقاه ) من قولهم لقيت فلاناً الشيء أي استقبلته به قال تعالى وَلَقَّاهُمْ نَضْرَة ً وَسُرُوراً ( الإنسان 11 ) وهو منقول بالتشديد من لقيت الشيء ولقانيه زيد
ثم قال تعالى اقْرَأْ كَتَابَكَ والتقدير يقال له وهذا القائل هو الله تعالى على ألسنة الملائكة اقْرَأْ كَتَابَكَ قال الحسن يقرؤه أمياً كان أو غير أمي وقال بكر بن عبد الله يؤتى بالمؤمن يوم القيامة بصحيفته وهو يقرؤها وحسناته في ظهرها يغبطه الناس عليها وسيئاته في جوف صحيفته وهو يقرؤها حتى إذا ظن أنها أوبقته قال الله تعالى ( اذهب فقد غفرتها لك فيما بيني وبينك ) فيعظم سروره ويصير من الذين قال في حقهم وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَة ٌ ضَاحِكَة ٌ مُّسْتَبْشِرَة ٌ ( عبس 38 39 ) ثم يقول هَاؤُمُ اقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ ( الحاقة 19 )
وأما قوله كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا أي محاسباً قال الحسن عدل والله في حقك من جعلك حسيب نفسك قال السدي يقول الكافر يومئذ إنك قضيت أنك لست بظلام للعبيد فاجعلني أحاسب نفسي فيقال له اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا والله أعلم
المسألة الرابعة قال حكماء الإسلام هذه الآية في غاية الشرف وفيها أسرار عجيبة في أبحاث
البحث الأول أنه تعالى جعل فعل العبد كالطير الذي يطير إليه وذلك لأنه تعالى قدر لكل أحد في الأزل مقداراً من الخير والشر فذلك الحكم الذي سبق في علمه الأزلي وحكمه الأزلي لا بد وأن يصل إليه فذلك الحكم كأنه طائر يطير إليه من الأزل إلى ذلك الوقت فإذا حضر ذلك الوقت وصل إليه ذلك الطائر وصولاً لا خلاص له ألبتة ولا انحراف عنه ألبتة وإذا علم الإنسان في كل قول وفعل ولمحة وفكرة أنه كان ذلك بمنزلة طئر طيره الله إليه على منهج معين وطريق معين وأنه لا بد وأن يصل إليه ذلك الطائر فعند ذلك عرف أن الكفاية الأبدية لا تتم إلا بالعناية الأزلية

والبحث الثاني أن هذه التقديرات إنما تقدرت بإلزام الله تعالى وذلك باعتبار أنه تعالى جعل لكل حادث حادثاً متقدماً عليه لحصول الحادث المتأخر فلما كان وضع هذه السلسلة من الله لا جرم كان الكل من الله وعند هذا يتخيل الإنسان طيوراً لا نهاية لها ولا غاية لأعدادها فإنه تعالى طيرها من وكر الأزل وظلمات عالم الغيب وأنها صارت وطارت طيراناً لا بداية له ولا غاية له وكان كل واحد منها متوجهاً إلى ذلك الإنسان المعين في الوقت المعين بالصفة المعينة وهذا هو المراد من قوله أَلْزَمْنَاهُ طَئِرَهُ فِى عُنُقِهِ
البحث الثالث أن التجربة تدل على أن تكرار الأعمال الاختيارية تفيد حدوث الملكة النفسانية الراسخة في جوهر النفس ألا ترى أن من واظب على تكرار قراءة درس واحد صار ذلك الدرس محفوظاً ومن واظب على عمل واحد مدة مديدة صار ذلك العمل ملكة له
إذا عرفت هذا فنقول لما كان التكرار الكثير يوجب حصول الملكة الراسخة وجب أن يحصل لكل واحد من تلك الأعمال أثر ما في جوهر النفس فإنا لما رأينا أن عند توالي القطرات الكثيرة من الماء على الحجر حصلت الثقبة في الحجر علمنا أن لكل واحد من تلك القطرات أثراً ما في حصول ذلك الثقب وإن كان ضعيفاً قليلاً وإن كانت الكتابة أيضاً في عرف الناس عبارة عن نقوش مخصوصة اصطلح الناس على جعلها معرفات لألفاظ مخصوصة فعلى هذا دلالة تلك النقوش على تلك المعاني المخصوصة دلالة كائنة جوهرية واجبة الثبوت ممتنعة الزوال كان الكتاب المشتمل على تلك النقوش أولى باسم الكتاب من الصحيفة المشتملة على النقوش الدالة بالوضع والاصطلاح
وإذا عرفت هاتين المقدمتين فنقول إن كل عمل يصدر من الإنسان كثيراً كان أو قليلاً قوياً كان أو ضعيفاً فإنه يحصل منه لا محالة في جوهر النفس الإنسانية أثر مخصوص فإن كان ذلك الأثر أثراً لجذب جوهر الروح من الخلق إلى حضرة الحق كان ذلك من موجبات السعادات والكرامات وإن كان ذلك الأثر أثراً لجذب الروح من حضرة الحق إلى الاشتغال بالخلق كان ذلك من موجبات الشقاوة والخذلان إلا أن تلك الآثار تخفى ما دام الروح متعلقاً بالبدن لأن اشتغال الروح بتدبير البدن يمنع من انكشاف هذه الأحوال وتجليها وظهورها فإذا انقطع تعلق الروح عن تدبير البدن فهناك تحصل القيامة لقوله عليه الصلاة والسلام ( من مات فقد قامت قيامته ) ومعنى كون هذه الحالة قيامة أن النفس الناطقة كأنها كانت ساكنة مستقرة في هذا الجسد السفلي فإذا انقطع ذلك التعلق قامت النفس وتوجهت نحو الصعود إلى العالم العلوي فهذا هو المراد من كون هذه الحالة قيامة ثم عند حصول القيامة بهذا المعنى زال الغطاء وانكشف الوطاء وقيل له فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ( ق 22 ) وقوله وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُوراً معناه ونخرج له عند حصول هذه القيامة من عمق البدن المظلم كتاباً مشتملاً على جميع تلك الآثار الحاصلة بسبب الأحوال الدنيوية ويكون هذا الكتاب في هذا الوقت منشوراً لأن الروح حين كانت في البدن كانت هذه الأحوال فيه مخفية فكانت كالمطوية أما بعد انقطاع التعلق الجسداني ظهرت هذه الأحوال وجلت وانكشفت فصارت كأنها مكشوفة منشورة بعد أن كانت مطوية وظاهرة بعد أن كانت مخفية وعند ذلك تشاهد القوة العقلية جميع تلك الآثار مكتوبة بالكتابة الذاتية في جوهر الروح فيقال له في تلك الحالة اقْرَأْ كَتَابَكَ ثم يقال له كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا فإن تلك الآثار إن كانت من موجبات السعادة

حصلت السعادة لا محالة وإن كانت من موجبات الشقاوة حصلت الشقاوة لا محالة فهذا تفسير هذه الآية بحسب الأحوال الروحانية
واعلم أن الحق أن الأحوال الظاهرة التي وردت فيها الروايات حق وصدق لا مرية فيها واحتمال الآية لهذه المعاني الروحانية ظاهر أيضاً والمنهج القويم والصراط المستقيم هو الإقرار بالكل والله أعلم بحقائق الأمور
مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً
في الآية مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى لما قال في الآية الأولى وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَئِرَهُ فِى عُنُقِهِ ( الإسراء 13 ) ومعناه أن كل أحد مختص بعمل نفسه عبر عن هذا المعنى بعبارة أخرى أقرب إلى الأفهام وأبعد عن الغلط فقال مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا يعني أن ثواب العمل الصالح مختص بفاعله ولا يتعدى منه إلى غيره ويتأكد هذا بقوله وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ( النجم 39 40 ) قال الكعبي الآية دالة على أن العبد متمكن من الخير والشر وأنه غير مجبور على عمل بعينه أصلاً لأن قوله مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا إنما يليق بالقادر على الفعل المتمكن منه كيف شاء وأراد أما المجبور على أحد الطرفين الممنوع من الطرف الثاني فهذا لا يليق به
المسألة الثانية أنه تعالى أعاد تقرير أن كل أحد مختص بأثر عل نفسه بقوله وَلاَ تَزِرُ وَازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى قال الزجاج يقال وزر يزر فهو وازر ووزر وزرا وزرة ومعناه أثم يأثم إثماً قال وفي تأويل الآية وجهان الأول أن المذنب لا يؤاخذ بذنب غيره وأيضاً غيره لا يؤاخذ بذنبه بل كل أحد مختص بذنب نفسه والثاني أنه لا ينبغي أن يعمل الإنسان بالإثم لأن غيره عمله كما قال الكفار وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَة ٍ مّن نَّذِيرٍ ( الزخرف 32 )
واعلم أن الناس تمسكوا بهذه الآية في إثبات أحكام كثيرة
الحكم الأول
قال الجبائي في الآية دلالة على أنه تعالى لا يعذب الأطفال بكفر آبائهم وإلا لكان الطفل مؤاخذاً بذنب أبيه وذلك على خلاف ظاهر هذه الآية
الحكم الثاني
روى ابن عمر عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( إن الميت ليعذب ببكاء أهله ) فعائشة طعنت في صحة هذا

الخبر واحتجت على صحة ذلك الطعن بقوله تعالى وَلاَ تَزِرُ وَازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى فإن تعذيب الميت بسبب بكاء أهله أخذ للإنسان بجرم غيره وذلك خلاف هذه الآية
الحكم الثالث
قال القاضي دلت هذه الآية على أن الوزر والإثم ليس من فعل الله تعالى وبيانه من وجوه أحدها أنه لو كان كذلك لامتنع أن يؤاخذ العبد به كما لا يؤاخذ بوزر غيره وثانيها أنه كان يجب ارتفاع الوزر أصلاً لأن الوازر إنما يصح أن يوصف بذلك إذا كان مختاراً يمكنه التحرز ولهذا المعنى لا يوصف الصبي بهذا
الحكم الرابع
أن جماعة من قدماء الفقهاء امتنعوا من ضرب الدية على العاقلة وقالوا لأن ذلك يقتضي مؤاخذة الإنسان بسبب فعل الغير وذلك على مضادة هذه الآية
وأجيب عنه بأن المخطىء ليس بمؤاخذ على ذلك الفعل فكيف يصير غيره مؤاخذاً بسبب ذلك الفعل بل ذلك تكليف واقع على سبيل الابتداء من الله تعالى
المسألة الثالثة قال أصحابنا وجوب شكر المنعم لا يثبت بالعقل بل بالسمع والدليل عليه قوله تعالى وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً وجه الاستدلال أن الوجوب لا تتقرر ماهيته إلا بترتيب العقاب على الترك ولا عقاب قبل الشرع بحكم هذه الآية فوجب أن لا يتحقق الوجوب قبل الشرع ثم أكدوا هذه الآية بقوله تعالى رُّسُلاً مُّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّة ٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ( النساء 165 ) وبقوله وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ ءايَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى ( طه 134 )
ولقائل أن يقول هذا الاستدلال ضعيف وبيانه من وجهين الأول أن نقول لو لم يثبت الوجوب العقلي لم يثبت الوجوب الشرعي ألبتة وهذا باطل فذاك باطل بيان الملازمة من وجوه أحدها أنه إذا جاء المشرع وادعى كونه نبياً من عند الله تعالى وأظهر المعجزة فهل يجب على المستمع استماع قوله والتأمل في معجزاته أو لا يجب فإن لم يجب فقد بطل القول بالنبوة وإن وجب فإما أن يجب بالعقل أو بالشرع فإن وجب بالعقل فقد ثبت الوجوب العقلي وإن وجب بالشرع فهو باطل لأن ذلك الشرع إما أن يكون هو ذلك المدعي أو غيره والأول باطل لأنه يرجع حاصل الكلام إلى أن ذلك الرجل يقول الدليل على أنه يجب قبول قولي أني أقول إنه يجب قبول قولي وهذا إثبات للشيء بنفسه وإن كان ذلك الشارع غيره كان الكلام فيه كما في الأول ولزم إما الدور أو التسلسل وهما محالان وثانيها أن الشرع إذا جاء وأوجب بعض الأفعال وحرم بعضها فلا معنى للإيجاب والتحريم إلا أن يقول لو تركت كذا وفعلت كذا لعاقبتك فنقول إما أن يجب عليه الاحتراز عن العقاب أو لا يجب فلو لم يجب عليه الاحتراز عن العقاب لم يتقرر معنى الوجوب ألبتة وهذا باطل فذاك باطل وإن وجب عليه الاحتراز عن العقاب فإما أن يجب بالعقل أو بالسمع فإن وجب بالعقل فهو المقصود وإن وجب بالسمع لم يتقرر معنى هذا الوجوب إلا بسبب ترتيب

العقاب عليه وحينئذ يعود التقسيم الأول ويلزم التسلسل وهو محال وثالثها أن مذهب أهل السنة أنه يجوز من الله تعالى أن يعفو عن العقاب على ترك الواجب وإذا كان كذلك كانت ماهية الوجوب حاصلة مع عدم العقاب فلم يبق إلا أن يقال إن ماهية الواجب إنما تتقرر بسبب حصول الخوف من العقاب وهذا الخوف حاصل بمحض العقل فثبت أن ماهية الوجوب إنما تحصل بسبب هذا الخوف وثبت أن هذا الخوف حاصل بمجرد العقل فلزم أن يقال الوجوب حاصل بمحض العقل
فإن قالوا ماهية الوجوب إنما تتقرر بسبب حصول الخوف من الذم
قلنا إنه تعالى إذا عفا فقد سقط الذم فعلى هذا ماهية الوجوب إنما تتقرر بسبب حصول الخوف من الذم وذلك حاصل بمحض العقل فثبت بهذه الوجوه أن الوجوب العقلي لا يمكن دفعه
وإذا ثبت هذا فنقول في الآية قولان الأول أن نجري الآية على ظاهرها ونقول العقل هو رسول الله إلى الخلق بل هو الرسول الذي لولاه لما تقررت رسالة أحد من الأنبياء فالعقل هو الرسول الأصلي فكان معنى الآية وما كنا معذبين حتى نبعث رسول العقل والثاني أن نخصص عموم الآية فنقول المراد وما كنا معذبين في الأعمال التي لا سبيل إلى معرفة وجوبها إلا بالشرع إلا بعد مجيء الشرع وتخصيص العموم وإن كان عدولاً عن الظاهر إلا أنه يجب المصير إليه عند قيام الدلائل وقد بينا قيام الدلائل الثلاثة على أنا لو نفينا الوجوب العقلي لزمنا نفي الوجوب الشرعي والله أعلم
واعلم أن الذي نرتضيه ونذهب إليه أن مجرد العقل سبب في أن يجب علينا فعل ما ينتفع به وترك ما يتضرر به أما مجرد العقل لا يدل على أنه يجب على الله تعالى شيء وذلك لأنا مجبولون على طلب النفع والاحتراز عن الضرر فلا جرم كان العقل وحده كافياً في الوجوب في حقنا والله تعالى منزه عن طلب النفع والهرب من الضرر فامتنع أن يحكم العقل عليه بوجوب فعل أو ترك فعل والله أعلم
وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَة ً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَا بَصِيرًا
في الآية مسائل
المسألة الأولى قوله أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا في تفسير هذا الأمر قولان
القول الأول أن المراد منه الأمر بالفعل ثم إن لفظ الآية لا يدل على أنه تعالى بماذا يأمرهم فقال الأكثرون معناه أنه تعالى يأمرهم بالطاعات والخيرات ثم إنهم يخالفون ذلك الأمر ويفسقون وقال صاحب ( الكشاف ) ظاهر اللفظ يدل على أنه تعالى يأمرهم بالفسق فيفسقون إلا أن هذا مجاز ومعناه أنه فتح عليهم أبواب الخيرات والراحات فعند ذلك تمردوا وطغوا وبغوا قال والدليل على أن ظاهر اللفظ يقتضي ما ذكرناه أن المأمور به إنما حذف لأن قوله فَفَسَقُواْ يدل عليه يقال أمرته فقام وأمرته فقرأ لا يفهم منه إلا أن

المأمور به قيام أو قراءة فكذا ههنا لما قال أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا وجب أن يكون المعنى أمرناهم بالفسق ففسقوا لا يقال يشكل هذا بقولهم أمرته فعصاني أو فخالفني فإن هذا لا يفهم منه أني أمرته بالمعصية والمخالفة لأنا نقول إن المعصية منافية للأمر ومناقضة له فكذلك أمرته ففسق يدل على أن المأمور به شيء غير الفسق لأن الفسق عبارة عن الإتيان بضد المأمور به فكونه فسقاً ينافي كونه مأموراً به كما أن كونها معصية ينافي كونها مأموراً بها فوجب أن يدل هذا اللفظ على أن المأمور به ليس بفسق وهذا الكلام في غاية الظهور فلا أدري لم أصر صاحب ( الكشاف ) على قوله مع ظهور فساده فثبت أن الحق ما ذكره الكل وهو أن المعنى أمرناهم بالأعمال الصالحة وهي الإيمان والطاعة والقوم خالفوا ذلك الأمر عناداً وأقدموا على الفسق
القول الثاني في تفسير قوله أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا أي أكثرنا فساقها قال الواحدي العرب تقول أمر القوم إذا كثروا وأمرهم الله إذ كثرهم وآمرهم أيضاً بالمد روى الجرمي عن أبي زيد أمر الله القوم وآمرهم أي كثرهم واحتج أبو عبيدة على صحة هذه اللغة بقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( خير المال مهرة مأمورة وسكة مأبورة ) والمعنى مهرة قد كثر نسلها يقولون أمر الله المهرة أي كثر ولدها ومن الناس من أنكر أن يكون أمر بمعنى كثر وقالوا أمر القوم إذا كثروا وآمرهم الله بالمد أي كثرهم وحملوا قوله عليه الصلاة والسلام ( مهر مأمورة ) على أن المراد كونها مأمورة بتكثير النسل على سبيل الاستعارة وأما المترف فمعناه في اللغة المتنعم الذي قد أبطرته النعمة وسعة العيش فَفَسَقُواْ فِيهَا أي خرجوا عما أمرهم الله فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ يريد استوجبت العذاب وهذا كالتفسير لقوله تعالى وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ( الإسراء 15 ) وقوله وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِى أُمّهَا رَسُولاً ( القصص 59 ) وقوله ذالِكَ أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ ( الأنعام 131 ) فلما حكم تعالى في هذه الآيات أنه تعالى لا يهلك قرية حتى يخالفوا أمر الله فلا جرم ذكر أنه ها هنا يأمرهم فإذا خالفوا الأمر فعند ذلك استوجبوا الأهلاك المعبر عنه بقوله فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ وقوله فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا أي أهلكناها إهلاك الاستئصال والدمار هلاك على سبيل الاستئصال
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية على صحة مذهبهم من وجوه الأول أن ظاهر الآية يدل على أنه تعالى أراد إيصال الضرر إليهم ابتداء ثم توسل إلى إهلاكهم بهذا الطريق الثاني أن ظاهر الآية يدل على أنه تعالى إنما خص المترفين بذلك الأمر لعلمه بأنهم يفسقون وذلك يدل على أنه تعالى أراد منهم الفسق والثالث أنه تعالى قال فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ بالتعذيب والكفر ومتى حق عليها القول بذلك امتنع صدور الإيمان منهم لأن ذلك يستلزم انقلاب خبر الله تعالى الصدق كذباً وذلك محال والمفضي إلى المحال محال قال الكعبي إن سائر الآيات دلت على أنه تعالى لا يبتدىء بالتعذيب والإهلاك لقوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ ( الرعد 11 ) وقوله مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءامَنْتُمْ ( النساء 147 ) وقوله وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ( القصص 59 ) فكل هذه الآيات تدل على أنه تعالى لا يبتدىء بالإضرار وأيضاً ما قبل هذه الآية يدل على هذا المعنى وهو قوله مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى ( الإسراء 15 ) ومن المحال أن يقع بين آيات القرآن تناقض فثبت أن الآيات التي تلوناها محكمة وكذا الآية التي نحن في تفسيرها فيجب حمل هذه الآية

على تلك الآيات هذا ما قاله الكعبي واعلم أن أحسن الناس كلاماً في تأويل هذه الآية على وجه يوافق قول المعتزلة القفال فإنه ذكر فيه وجهين
الوجه الأول قال إنه تعالى أخبر أنه لا يعذب أحداً بما يعلمه منه ما لم يعمل به أي لا يجعل علمه حجة على من علم أنه إن أمره عصاه بل يأمره فإذا ظهر عصيانه للناس فحينئذ يعاقبه فقوله وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَة ً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا معناه وإذا أردنا إمضاء ما سبق من القضاء بإهلاك قوم أمرنا المتنعمين المتعززين الظانين أن أموالهم وأولادهم وأنصارهم ترد عنهم بأسنا بالإيمان بي والعمل بشرائع ديني على ما بلغهم عني رسولي ففسقوا فحينئذ يحق عليهم القضاء السابق بإهلاكهم لظهور معاصيهم فحينئذ دمرناها والحاصل أن المعنى وإذا أردنا أن نهلك قرية بسبب علمنا بأنهم لا يقدمون إلا على المعصية لم نكتف في تحقيق ذلك الإهلاك بمجرد ذلك العلم بل أمرنا مترفيها ففسقوا فإذا ظهر منهم ذلك الفسق فحينئذ نوقع عليهم العذاب الموعود به
والوجه الثاني في التأويل أن نقول وإذا أردنا أن نهلك قرية بسبب ظهور المعاصي من أهلها لم نعاجلها بالعذاب في أول ظهور المعاصي منهم بل أمرنا مترفيها بالرجوع عن تلك المعاصي وإنما خص المترفين بذلك الأمر لأن المترف هو المتنعم ومن كثرت نعم الله عليه كان قيامه بالشكر أوجب فإذا أمرهم بالتوبة والرجوع مرة بعد أخرى مع أنه تعالى لا يقطع عنهم تلك النعم بل يزيدها حالاً بعد حال فحينئذ يظهر عنادهم وتمردهم وبعدهم عن الرجوع عن الباطل إلى الحق فحينئذ يصب الله البلاء عليهم صباً ثم قال القفال وهذان التأويلان راجعان إلى أن الله تعالى أخبر عباده أنه لا يعاجل بالعقوبة أمة ظالمة حتى يعذر إليهم غاية الأعذار الذي يقع منه اليأس من إيمانهم كما قال في قوم نوح وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً ( نوح 27 ) وقال وَأُوحِى َ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ ( هود 36 ) وقال في غيرهم فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ ( يونس 74 ) فأخبر تعالى أولاً أنه لا يظهر العذاب إلا بعد بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام ثم أخبر ثانياً في هذه الآية أنه إذا بعث الرسول أيضاً فكذبوا لم يعاجلهم بالعذاب بل يتابع عليهم النصائح والمواعظ فإن بقوا مصرين على الذنوب فهناك ينزل عليهم عذاب الاستئصال وهذا التأويل الذي ذكره القفال في تطبيق الآية على قول المعتزلة لم يتيسر لأحد من شيوخ المعتزلة مثله
وأجاب الجبائي بأن قال ليس المراد من الآية أنه تعالى يريد إهلاكهم قبل أن يعصوا ويستحقوا وذلك لأنه ظلم وهو على الله محال بل المراد من الإرادة قرب تلك الحالة فكان التقدير وإذا قرب وقت إهلاك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها وهو كقول القائل إذا أراد المريض أن يموت ازدادت أمراضه شدة وإذا أراد التاجر أن يفتقر أتاه الخسران من كل جهة وليس المراد أن المريض يريد أن يموت والتاجر يريد أن يفتقر وإنما يعنون أنه سيصير كذلك فكذا ههنا
واعلم أن جميع الوجوه الثلاثة التي ذكرناها في التمسك بهذه الآية لا شك أن كلها عدول عن ظاهر اللفظ أما الوجه الثاني والثالث فقد بقي سليماً عن الطعن والله أعلم
المسألة الثالثة المشهور عند القراء السبعة أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا بالتخفيف غير ممدودة الألف وروي برواية غير مشهورة عن نافع وابن عباس أَمْرُنَا بالمد وعن أبي عمرو أَمْرُنَا بالتشديد فالمد على الكثير يقال أمر

القوم بكسر الميم إذا كثروا وآمرهم الله بالمد أي كثرهم الله والتشديد على التسليط أي سلطنا مترفيها ومعناه التخلية وزوال المنع بالقهر والله أعلم
أما قوله تعالى وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ فاعلم أن المراد أن الطريق الذي ذكرناه هو عادتنا مع الذين يفسقون ويتمردون فيما تقدم من القرون الذين كانوا بعد نوح وهم عاد وثمود وغيرهم ثم إنه تعالى خاطب رسوله بما يكون خطاباً لغيره وردعاً وزجراً للكل فقال وَكَفَى بِرَبّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَا بَصِيرًا وفيه بحثان
البحث الأول أنه تعالى عالم بجميع المعلومات راء لجميع المرئيات فلا يخفى عليه شيء من أحوال الخلق وثبت أنه قادر على كل الممكنات فكان قادراً على إيصال الجزاء إلى كل أحد بقدر استحقاقه وأيضاً أنه منزه عن العبث والظلم ومجموع هذه الصفات الثلاث أعني العلم التام والقدرة الكاملة والبراءة عن الظلم بشارة عظيمة لأهل الطاعة وخوف عظيم لأهل الكفر والمعصية
البحث الثاني قال الفراء لو ألغيت الباء من قولك بربك جاز وإنما يجوز دخول الباء في المرفوع إذا كان يمدح به صاحبه أو يذم كقولك كفاك به وأكرم به رجلاً وطاب بطعامك طعاماً وجاد بثوبك ثوباً أما إذا لم يكن مدحاً أو ذماً لم يجز دخولها فلا يجوز أن يقال قام بأخيك وأنت تريد قام أخوك والله أعلم
مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَة َ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الاٌّ خِرَة َ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَائِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا كُلاًّ نُّمِدُّ هَاؤُلا ءِ وَهَاؤُلا ءِ مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلاٌّ خِرَة ُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً
في الآية مسائل
المسألة الأولى قال القفال رحمه الله هذه الآية داخلة في معنى قوله وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَئِرَهُ فِى عُنُقِهِ ( الإسراء 13 ) ومعناه أن الكمال في الدنيا قسمان فمنهم من يريد بالذي يعمله الدنيا ومنافعها والرياسة فيها فهذا يأنف من الانقياد للأنبياء عليهم الصلاة والسلام والدخول في طاعتهم والإجابة لدعوتهم اشفاقاً من زوال الرياسة عنه فهذا قد جعل طائر نفسه شؤماً لأنه في قبضة الله تعالى فيؤتيه الله في الدنيا منها قدراً لا كما يشاء ذلك الإنسان بل كما يشاء الله إلا أن عاقبته جهنم يدخلها فيصلاها بحرها مذموماً ملوماً مدحوراً منفياً

مطروداً من رحمة الله تعالى وفي لفظ هذه الآية فوائد
الفائدة الأولى أن العقاب عبارة عن مضرة مقرونة بالإهانة والذم بشرط أن تكون دائمة وخالية عن شوب المنفعة فقوله ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا إشارة إلى المضرة العظيمة وقوله مَذْمُومًا إشارة إلى الإهانة والذم وقوله مَّدْحُورًا إشارة إلى البعد والطرد عن رحمة الله وهي تفيد كون تلك المضرة خالية عن شوب النفع والرحمة وتفيد كونها دائمة وخالية عن التبدل بالراحة والخلاص
الفائدة الثانية أن من الجهال من إذا ساعدته الدنيا اغتر بها وظن أن ذلك لأجل كرامته على الله تعالى وأنه تعالى بين أن مساعدة الدنيا لا ينبغي أن يستدل بها على رضا الله تعالى لأن الدنيا قد تحصل مع أن عاقبتها هي المصير إلى عذاب الله وإهانته فهذا الإنسان أعماله تشبه طائر السوء في لزومها له وكونها سائقة له إلى أشد العذاب
الفائدة الثالثة قوله تعالى لِمَن نُّرِيدُ يدل على أنه لا يحصل الفوز بالدنيا لكل أحد بل كثير من الكفار والضلال يعرضون عن الدين في طلب الدنيا ثم يبقون محرومين عن الدنيا وعن الدين وهذا أيضاً فيه زجر عظيم لهؤلاء الكفار الضلال الذين يتركون الدين لطلب الدنيا فإنه ربما فاتتهم الدنيا فهم الأخسرون أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً
وأما القسم الثاني وهو قوله تعالى وَمَنْ أَرَادَ الاْخِرَة َ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فشرط تعالى فيه شروطاً ثلاثة
الشرط الأول أن يريد بعمله الآخرة أي ثواب الآخرة فإنه إن لم تحصل هذه الإرادة وهذه النية لم ينتفع بذلك العمل لقوله تعالى وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى ( النجم 39 ) ولقوله عليه الصلاة والسلام ( إنما الأعمال بالنيات ) ولأن المقصود من الأعمال استنارة القلب بمعرفة الله تعالى ومحبته وهذا لا يحصل إلا إن نوى بعمله عبودية الله تعالى وطلب طاعته
والشرط الثاني قوله وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وذلك هو أن يكون العمل الذي يتوصل به إلى الفوز بثواب الآخرة من الأعمال التي بها ينال ثواب الآخرة ولا يكون كذلك إلا إذا كان من باب القرب والطاعات وكثير من الناس يتقربون إلى الله تعالى بأعمال باطلة فإن الكفار يتقربون إلى الله تعالى بعبادة الأوثان ولهم فيه تأويلان
التأويل الأول يقولون إله العالم أجل وأعظم من أن يقدر الواحد منا على إظهار عبوديته وخدمته فليس لنا هذا القدر والدرجة ولكن غاية قدرنا أن نشتغل بعبودية بعض المقربين من عباد الله تعالى مثل أن نشتغل بعبادة كوكب أو عبادة ملك من الملائكة ثم إن الملك والكوكب يشتغلون بعبادة الله تعالى فهؤلاء يتقربون إلى الله تعالى بهذا الطريق إلا أنه لما كان فاسداً في نفسه لا جرم لم يحصل الانتفاع به
والتأويل الثاني لهم أنهم قالوا نحن اتخذنا هذه التماثيل على صور الأنبياء والأولياء ومرادنا من عبادتها أن تصير أولئك الأنبياء والأولياء شفعاء لنا عند الله تعالى وهذا الطريق أيضاً فاسد وأيضاً نقل عن الهند أنهم يتقربون إلى الله تعالى بقتل أنفسهم تارة وبإحراق أنفسهم أخرى ويبالغون في تعظيم الله تعالى

إلا أنه لما كان الطريق فاسداً لا جرم لم ينتفع به وكذلك القول في جميع فرق المبطلين الذين يتقربون إلى الله تعالى بمذاهبهم الباطلة وأقوالهم الفاسدة وأعمالهم المنحرفة عن قانون الصدق والصواب
والشرط الثالث قوله تعالى وَهُوَ مُؤْمِنٌ وهذا الشرط معتبر لأن الشرط في كون أعمال البر موجبة للثواب تقدم الإيمان فإذا لم يوجد الشرط لم يحصل المشروط ثم إنه تعالى أخبر أن عند حصول هذه الشرائط يصير السعي مشكوراً والعمل مبروراً
واعلم أن الشكر عبارة عن مجموع أمور ثلاثة اعتقاد كونه محسناً في تلك الأعمال والثناء عليه بالقول والإتيان بأفعال تدل على كونه معظماً عن ذلك الشاكر والله تعالى يعامل المطيعين بهذه الأمور الثلاثة فإنه تعالى عالم بكونهم محسنين في تلك الأعمال وأنه تعالى يثني عليهم بكلامه وأنه تعالى يعاملهم بمعاملات دالة على كونهم معظمين عند الله تعالى وإذا كان مجموع هذه الثلاثة حاصلاً كانوا مشكورين على طاعاتهم من قبل الله تعالى ورأيت في كتب المعتزلة أن جعفر بن حرب حضر عنده واحد من أهل السنة وقال الدليل على أن الإيمان حصل بخلق الله تعالى أنا نشكر الله على الإيمان ولو لم يكن الإيمان حاصلاً بإيجاده لامتنع أن نشكره عليه لأن مدح الإنسان وشكره على ما ليس من عمله قبيح قال الله تعالى وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ ( آل عمران 188 ) فعجز الحاضرون عن الجواب فدخل ثمامة بن الأشرس وقال إنما نمدح الله تعالى ونشكره على ما أعطانا من القدرة والعقل وإنزال الكتب وإيضاح الدلائل والله تعالى يشكرنا على فعل الإيمان قال تعالى فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا قال فضحك جعفر بن حرب وقال صعب المسألة فسهلت
واعلم أن قولنا مجموع القدرة مع الداعي يوجب الفعل كلام واضح لأنه تعالى هو الذي أعطى الموجب التام لحصول الإيمان فكان هو المستحق للشكر ولما حصل الإيمان للعبد وكان الإيمان موجباً للسعادة التامة صار العبد أيضاً مشكوراً ولا منافاة بين الأمرين
المسألة الثانية اعلم أن كل من أتى بفعل فإما أن يقصد بذلك الفعل تحصيل خيرات الدنيا أو تحصيل خيرات الآخرة أو يقصد به مجموعهما أو لم يقصد به واحداً منهما هذا هو التقسيم الصحيح أما إن قصد به تحصيل الدنيا فقط أو تحصيل الآخرة فقط فالله تعالى ذكر حكم هذين القسمين في هذه الآية
أما القسم الثالث فهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام لأنه إما أن يكون طلب الآخرة راجحاً أو مرجوحاً أو يكون الطلبان متعادلين
أما القسم الأول وهو أن يكون طلب الآخرة راجحاً فهل يكون هذا العمل مقبولاً عند الله تعالى فيه بحث يحتمل أن يقال إنه غير مقبول لما روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حكى عن رب العزة أنه قال ( أنا أغنى الأغنياء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه غيري تركته وشريكه ) وأيضاً فطلب رضوان الله إما أن يقال إنه كان سبباً مستقلاً بكونه باعثاً على ذلك الفعل أو داعياً إليه وإما أن يقال ما كان كذلك فإن كان الأول امتنع أن يكون لغيره مدخل في ذلك البعث والدعاء لأن الحكم إذا حصل مسنداً إلى سبب تام كامل امتنع أن يكون لغيره

مدخل فيه وإن كان الثاني فحينئذ يكون الحامل على ذلك الفعل والداعي إليه ذلك المجموع وذلك المجموع ليس هو طلب رضوان الله تعالى لأن المجموع الحاصل من الشيء ومن غيره يجب كونه مغايراً لكل واحد من جزئيه فهذا القسم التحق بالقسم الذي كان الداعي إليه مغايراً لطلب رضوان الله تعالى فوجب أن يكون مقبولاً ويمكن أن يقال لما كان طلب الآخرة راجحاً على طلب الدنيا تعارض المثل بالمثل فيبقى القدر الزائد داعية خالصة لطلب الآخرة فوجب كونه مقبولاً وأما إذا كان طلب الدنيا وطلب الآخرة متعادلين أو كان طلب الدنيا راجحاً فهذا قد اتفقوا على أنه غير مقبول إلا أنه على كل حال خير مما إذا كان طلب الدنيا خالياً بالكلية عن طلب الآخرة
وأما القسم الرابع وهو أن يقال إنه أقدم على ذلك الفعل من غير داع فهذا بناء على أن صدور الفعل من القادر هل يتوقف على حصول الداعي أم لا فالذين يقولون إنه متوقف قالوا هذا القسم ممتنع الحصول والذين قالوا إنه لا يتوقف قالوا هذا الفعل لا أثر له في الباطن وهو محرم في الظاهر لأنه عبث والله أعلم
ثم قال تعالى كَلاَّ أي كل واحد من الفريقين والتنوين عوض من المضاف إليه نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبّكَ أي أنه تعالى يمد الفريقين بالأموال ويوسع عليهما في الرزق مثل الأموال والأولاد وغيرهما من أسباب العز والزينة في الدنيا لأن عطاءنا ليس يضيق عن أحد مؤمناً كان أو كافراً لأن الكل مخلوقون في دار العمل فوجب إزاحة العذر وإزالة العلة عن الكل وإيصال متاع الدنيا إلى الكل على القدر الذي يقتضيه الصلاح فبين تعالى أن عطاءه ليس بمحظور أي غير ممنوع يقال حظره يحظره وكل من حال بينه وبين شيء فقد حظره عليك
ثم قال تعالى انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وفيه قولان
القول الأول المعنى انظر إلى عطائنا المباح إلى الفريقين في الدنيا كيف فضلنا بعضهم على بعض فأوصلناه إلى مؤمن وقبضناه عن مؤمن آخر وأوصلناه إلى كافر وقبضناه عن كافر آخر وقد بين تعالى وجه الحكمة في هذا التفاوت فقال نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً ( الزخرف 32 ) وقال في آخر سورة الأنعام وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لّيَبْلُوَكُمْ فِيمَا ءاتَاكُمُ ( الأنعام 165 )
ثم قال وَلَلاْخِرَة ُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً والمعنى أن تفاضل الخلق في درجات منافع الدنيا محسوس فتفاضلهم في درجات منافع الآخرة أكبر وأعظم فإن نسبة التفاضل في درجات الآخرة إلى التفاضل في درجات الدنيا كنسبة الآخرة إلى الدنيا فإذا كان الانسان تشتد رغبته في طلب فضيلة الدنيا فبأن تقوى رغبته في طلب فضيلة الآخرة أولى
القول الثاني أن المراد أن الآخرة أعظم وأشرف من الدنيا والمعنى أن المؤمنين يدخلون الجنة والكافرين يدخلون النار فيظهر فضل المؤمنين على الكافرين ونظيره قوله تعالى أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً ( الفرقان 24 )

لاَّ تَجْعَل مَعَ اللَّهِ إِلَهًا ءَاخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً
في الآية مسائل
المسألة الأولى في بيان وجه النظم فنقول إنه تعالى لما بين أن الناس فريقان منهم من يريد بعمله الدنيا فقط وهم أهل العقاب والعذاب ومنهم من يريد به طاعة الله وهم أهل الثواب ثم شرط ذلك بشرائط ثلاثة أولها إرادة الآخرة وثانيها أن يعمل عملاً ويسعى سعياً موافقاً لطلب الآخرة وثالثها أن يكون مؤمناً لا جرم فصل في هذه الآية تلك المجملات فبدأ أولاً بشرح حقيقة الإيمان وأشرف أجزاء الإيمان هو التوحيد ونفي الشركاء والأضداد فقال لاَّ تَجْعَل مَعَ اللَّهِ إِلَهًا ءاخَرَ ثم ذكر عقيبه سائر الأعمال التي يكون المقدم عليها والمشتغل بها ساعياً سعياً يليق بطلب الآخرة وصار من الذين سعد طائرهم وحسن بختهم وكملت أحوالهم
المسألة الثانية قال المفسرون هذا في الظاهر خطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولكن في المعنى عام لجميع المكلفين كقوله الْحَكِيمُ يأيُّهَا النَّبِى ُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاء ( الطلاق 1 ) ويحتمل أيضاً أن يكون الخطاب للإنسان كأنه قيل أيها الإنسان لا تجعل مع الله إلهاً آخر وهذا الاحتمال عندي أولى لأنه تعالى عطف عليه قوله وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ( الإسراء 23 ) إلى قوله إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا ( الإسراء 23 ) وهذا لا يليق بالنبي عليه السلام لأن أبويه ما بلغا الكبر عنده فعلمنا أن المخاطب بهذا هو نوع الإنسان
المسألة الثالثة معنى الآية أن من أشرك بالله كان مذموماً مخذولاً والذي يدل على أن الأمر كذلك وجوه الأول أن المشرك كاذب والكاذب يستوجب الذم والخذلان الثاني أنه لما ثبت بالدليل أنه لا إله ولا مدبر ولا مقدر إلا الواحد الأحد فعلى هذا التقدير تكون جميع النعم حاصلة من الله تعالى فمن أشرك بالله فقد أضاف بعض تلك النعم إلى غير الله تعالى مع أن الحق أن كلها من الله فحينئذ يستحق الذم لأن الخالق تعالى استحق الشكر بإعطاء تلك النعم فلما جحد كونها من الله فقد قابل إحسان الله تعالى بالإساءة والجحود والكفران فاستوجب الذم وإنما قلنا إنه يستحق الخذلان لأنه لما أثبت شريكاً لله تعالى استحق أن يفوض أمره إلى ذلك الشريك فلما كان ذلك الشريك معدوماً بقي بلا ناصر ولا حافظ ولا معين وذلك عين الخذلان الثالث أن الكمال في الوحدة والنقصان في الكثرة فمن أثبت الشريك فقد وقع في جانب النقصان واستوجب الذم والخذلان واعلم أنه لما دل لفظ الآية على أن المشرك مذموم مخذول وجب بحكم الآية أن يكون الموحد ممدوحاً منصوراً والله أعلم
المسألة الرابعة القعود المذكور في قوله فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً فيه وجوه الأول أن معناه المكث أي فتمكث في الناس مذموماً مخذولاً وهذه اللفظة مستعملة في لسان العرب والفرس في هذا المعنى فإذا سأل الرجل غيره ما يصنع فلان في تلك البلدة فيقول المجيب هو قاعد بأسوأ حال معناه المكث سواء كان قائماً أو جالساً الثاني إن من شأن المذموم المخذول أن يقعد نادماً متفكراً على ما فرط منه الثالث أن المتمكن من تحصيل الخيرات يسعى في تحصيلها والسعي إنما يتأتى بالقيام وأما العاجز عن تحصيلها فإنه لا يسعى بل يبقى جالساً قاعداً عن الطلب فلما كان القيام على الرجل أحد الأمور التي بها يتم الفوز بالخيرات وكان القعود والجلوس علامة على عدم تلك المكنة والقدرة لا جرم جعل القيام كناية عن القدرة على تحصيل الخيرات والقعود كناية عن العجز والضعف

المسألة الخامسة قال الواحدي قوله ( فتقعد ) انتصب لأنه وقع بعد الفاء جواباً للنهي وانتصابه بإضمار ( أن ) كقولك لا تنقطع عنا فنجفوك والتقدير لا يكن منك انقطاع فيحصل أن نجفوك فما بعد الفاء متعلق بالجملة المتقدمة بحرف الفاء التي هي حرف العطف وإنما سماه النحويون جواباً لكونه مشابهاً للجزاء في أن الثاني مسبب عن الأول ألا ترى أن المعنى إن انقطعت جفوتك كذلك تقدير الآية إن جعلت مع الله إلهاً آخر قعدت مذموماً مخذولاً
وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا
اعلم أنه لما ذكر في الآية الأولى ما هو الركن الأعظم في الأيمان أتبعه بذكر ما هو من شعائر الإيمان وشرائطه وهي أنواع
النوع الأول أن يكون الإنسان مشتغلاً بعبادة الله تعالى وأن يكون محترزاً عن عبادة غير الله تعالى وهذا هو المراد من قوله وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وفيه بحثان
البحث الأول القضاء معناه الحكم الجزم البت الذي لا يقبل النسخ والدليل عليه أن الواحد منا إذا أمر غيره بشيء فإنه لا يقال إنه قضى عليه أما إذا أمره أمراً جزماً وحكم عليه بذلك الحكم على سبيل البت والقطع فههنا يقال قضى عليه ولفظ القضاء في أصل اللغة يرجع إلى إتمام الشيء وانقطاعه وروى ميمون بن مهران عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية كان الأصل ووصى ربك فالتصقت إحدى الواوين بالصاد فقرىء وَقَضَى رَبُّكَ ثم قال ولو كان على القضاء ما عصى الله أحد قط لأن خلاف قضاء الله ممتنع هكذا رواه عنه الضحاك وسعيد بن جبير وهو قراءة علي وعبد الله
واعلم أن هذا القول بعيد جداً لأنه يفتح باب أن التحريف والتغيير قد تطرق إلى القرآن ولو جوزنا ذلك لارتفع الأمان عن القرآن وذلك يخرجه عن كونه حجة ولا شك أنه طعن عظيم في الدين
البحث الثاني قد ذكرنا أن هذه الآية تدل على وجوب عبادة الله تعالى وتدل على المنع عن عبادة غير الله تعالى وهذا هو الحق وذلك لأن العبادة عبارة عن الفعل المشتمل على نهاية التعظيم ونهاية التعظيم لا تليق إلا بمن يصدر عنه نهاية الإنعام ونهاية الإنعام عبارة عن إعطاء الوجود والحياة والقدرة والشهوة والعقل وقد ثبت بالدلائل أن المعطي لهذه الأشياء هو الله تعالى لا غيره وإذا كان المنعم بجميع النعم هو الله لا غيره لا جرم كان المستحق للعبادة هو الله تعالى لا غيره فثبت بالدليل العقلي صحة قوله وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ
وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَة ِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِى نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلاٌّ وَّابِينَ غَفُوراً

في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى أمر بعبادة نفسه ثم أتبعه بالأمر ببر الوالدين وبيان المناسبة بين الأمر بعبادة الله تعالى وبين الأمر ببر الوالدين من وجوه
الوجه الأول أن السبب الحقيقي لوجود الإنسان هو تخليق الله تعالى وإيجاده والسبب الظاهري هو الأبوان فأمر بتعظيم السبب الحقيقي ثم أتبعه بالأمر بتعظيم السبب الظاهري
الوجه الثاني أن الموجود إما قديم وإما محدث ويجب أن تكون معاملة الإنسان مع الإله القديم بالتعظيم والعبودية ومع المحدث بإظهار الشفقة وهو المراد من قوله عليه السلام ( التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله ) وأحق الخلق بصرف الشفقة إليه هو الأبوان لكثرة إنعامهما على الإنسان فقوله وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ إشارة إلى التعظيم لأمر الله وقوله وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً إشارة إلى الشفقة على خلق الله
الوجه الثالث أن الاشتغال بشكر المنعم واجب ثم المنعم الحقيقي هو الخالق سبحانه وتعالى وقد يكون أحد من المخلوقين منعماً عليك وشكره أيضاً واجب لقوله عليه السلام ( من لم يشكر الناس لم يشكر الله ) وليس لأحد من الخلائق نعمة على الإنسان مثل ما للوالدين وتقريره من وجوه أحدها أن الولد قطعة من الوالدين قال عليه السلام ( فاطمة بضعة مني ) وثانيها أن شفقة الأبوين على الولد عظيمة وجدهما في إيصال الخير إلى الولد كالأمر الطبيعي واحترازهما عن إيصال الضرر إليه كالأمر الطبيعي ومتى كانت الدواعي إلى إيصال الخير متوفرة والصوارف عنه زائلة لا جرم كثر إيصال الخير فوجب أن تكون نعم الوالدين على الولد كثيرة أكثر من كل نعمة تصل من إنسان إلى إنسان وثالثها أن الإنسان حال ما يكون في غاية الضعف ونهاية العجز يكون في إنعام الأبوين فاصناف نعمهما في ذلك الوقت واصلة إليه وأصناف رحمة ذلك الولد واصلة إلى الوالدين في ذلك الوقت ومن المعلوم أن الإنعام إذا كان واقعاً على هذا الوجه كان موقعه عظيماً ورابعها أن إيصال الخير إلى الغير قد يكون لداعية إيصال الخير إليه وقد يمتزج بهذا الغرض سائر الأغراض وإيصال الخير إلى الولد ليس لهذا الغرض فقط فكان الإنعام فيه أتم وأكمل فثبت أنه ليس لأحد من المخلوقين نعمة على غيره مثل ما للوالدين على الولد فبدأ الله تعالى بشكر نعمة الخالق وهو قوله وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ثم أردفه بشكر نعمة الوالدين وهو قوله وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً والسبب فيه ما بينا أن أعظم النعم بعد إنعام الإله الخالق نعمة الوالدين
فإن قيل الوالدان إنما طلبا تحصيل اللذة لنفسيهما فلزم منه دخول الولد في الوجود وحصوله في عالم الآفات والمخافات فأي إنعام للأبوين على الولد حكي أن واحداً من المتسمين بالحكمة كان يضرب أباه ويقول هو الذي أدخلني في عالم الكون والفساد وعرضني للموت والفقر والعمى والزمانة وقيل لأبي العلاء المعري ماذا نكتب على قبرك قال اكتبوا عليه

هذا جناه أبي علي
وما جنيت على أحد وقال في ترك التزوج والولد
وتركت أولادي وهم في نعمة ال
عدم التي سبقت نعيم العاجل ولو أنهم ولدوا لعانوا شدة
ترمي بهم في موبقات الآجل وقيل للإسكندر أستاذك أعظم منة عليك أم والدك فقال الأستاذ أعظم منة لأنه تحمل أنواع الشدائد والمحن عند تعليمي أرتعني في نور العلم وأما الوالد فإنه طلب تحصيل لذة الوقاع لنفسه وأخرجني إلى آفات عالم الكون والفساد ومن الكلمات المشهورة المأثورة خير الآباء من علمك
والجواب هب أنهما في أول الأمر طلبا لذة الوقاع إلا أن الاهتمام بإيصال الخيرات وفي دفع الآفات من أول دخوله في الوجود إلى وقت بلوغه الكبر أليس أنه أعظم من جميع ما يتخيل من جهات الخيرات والمبرات فسقطت هذه الشبهات والله أعلم
المسألة الثانية قوله وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً قال أهل اللغة تقدير الآية وقضى ربك ألا تعبدوا إلا الله وأن تحسنوا أو يقال وقضى ألا تعبدوا إلا إياه وأحسنوا بالوالدين إحساناً قال صاحب ( الكشاف ) ولا يجوز أن تتعلق الباء في وَبِالْوالِدَيْنِ بالإحسان لأن المصدر لا تتقدم عليه صلته ثم لم يذكر دليلاً على أن المصدر لا يجوز أن تتقدم عليه صلته وقال الواحدي في ( البسيط ) الباء في وَبِالْوالِدَيْنِ من صلة الإحسان وقدمت عليه كما تقول بزيد فامرر وهذا المثال الذي ذكره الواحدي غير مطابق لأن المطلوب تقديم صلة المصدر عليه والمثال المذكور ليس كذلك
المسألة الثالثة قال القفال لفظ الإحسان قد يوصل بحرف الباء تارة وبحرف إلى أخرى وكذلك الإساءة يقال أحسنت به وإليه وأسأت به وإليه قال الله تعالى وَقَدْ أَحْسَنَ بَى ( يوسف 100 ) وقال القائل
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة
لدينا ولا مقلية إن تقلت وأقول لفظ الآية مشتمل على قيود كثيرة كل واحد منها يوجب المبالغة في الإحسان إلى الوالدين أحدها أنه تعالى قال في الآية المتقدمة وَمَنْ أَرَادَ الاْخِرَة َ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا ( الإسراء 19 ) ثم إنه تعالى أردفه بهذه الآية المشتملة على الأعمال التي بواسطتها يحصل الفوز بسعادة الآخرة فذكر من جملتها البر بالوالدين وذلك يدل على أن هذه الطاعة من أصول الطاعات التي تفيد سعادة الآخرة وثانيها أنه تعالى بدأ بذكر الأمر بالتوحيد وثنى بطاعة الله تعالى وثلث بالبر بالوالدين وهذه درجة عالية ومبالغة عظيمة في تعظيم هذه الطاعة وثالثها أنه تعالى لم يقل وإحساناً بالوالدين بل قال وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً فتقديم ذكرهما يدل على شدة الاهتمام ورابعها أنه قال إِحْسَاناً بلفظ التنكير والتنكير يدل على التعظيم والمعنى وقضى ربك أن تحسنوا إلى الوالدين إحساناً عظيماً كاملاً وذلك لأنه لما كان إحسانهما إليك قد بلغ الغاية العظيمة وجب أن يكون إحسانك إليهما كذلك ثم على جميع التقديرات فلا تحصل المكافأة لأن إنعامهما عليك كان على سبيل الابتداء وفي الأمثال المشهورة أن البادي بالبر لا يكافأ

ثم قال تعالى إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا وفيه مسائل
المسألة الأولى لفظ ( إما ) لفظة مركبة من لفظتين إن وما أما كلمة إن فهي للشرط وأما كلمة ( ما ) فهي أيضاً للشرط كقوله تعالى مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَة ٍ ( البقرة 106 ) فلما جمع بين هاتين الكلمتين أفاد التأكيد في معنى الاشتراط إلا أن علامة الجزم لم تظهر مع نون التوكيد لأن الفعل يبنى مع نون التأكيد وأقول لقائل أن يقول إن نون التأكيد إنما يليق بالموضع الذي يكون اللائق به تأكيد ذلك الحكم المذكور وتقريره وإثباته على أقوى الوجوه إلا أن هذا المعنى لا يليق بهذا الموضع لأن قول القائل الشيء إما كذا وإما كذا فالمطلوب منه ترديد الحكم بين ذينك الشيئين المذكورين وهذا الموضع لا يليق به التقرير والتأكيد فكيف يليق الجمع بين كلمة إما وبين نون التأكيد
وجوابه أن المراد أن هذا الحكم المتقرر المتأكد إما أن يقع وإما أن لا يقع والله أعلم
المسألة الثانية قرأ الأكثرون أَمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا وعلى هذا التقدير فقوله يَبْلُغَنَّ فعل وفاعله هو قوله أَحَدُهُمَا وقوله أَوْ كِلاَهُمَا عطف عليه كقولك ضرب زيد أو عمرو ولو أسند قوله يَبْلُغَنَّ إلى قوله كِلاَهُمَا جاز لتقدم الفعل تقول قال رجل وقال رجلان وقالت الرجال وقرأ حمزة والكسائي يبلغان وعلى هذه القراءة فقوله رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا بدل من ألف الضمير الراجع إلى الوالدين وكلاهما عطف على أحدهما فاعلاً أو بدلاً
فإن قيل لو قيل إما يبلغان كلاهما كان كلاهما توكيداً لا بدلاً فلم زعمتم أنه بدل
قلنا لأنه معطوف على ما لا يصح أن يكون توكيداً للاثنين فانتظم في حكمه فوجب أن يكون مثله في كونه بدلاً
فإن قيل لم لا يجوز أن يقال قوله أَحَدُهُمَا بدل وقوله أَوْ كِلاَهُمَا توكيد ويكون ذلك عطفاً للتوكيد على البدل
قلنا العطف يقتضي المشاركة فجعل أحدهما بدلاً والآخر توكيداً خلاف الأصل والله أعلم
المسألة الثالثة قال أبو الهيثم الرازي وأبو الفتح الموصلي وأبو علي الجرجاني إن كلاً اسم مفرد يفيد معنى التثنية ووزنه فعل ولامه معتل بمنزلة لام حجي ورضي وهي كلمة وضعت على هذه الخلقة يؤكد بها الاثنان خاصة ولا تكون إلا مضافة والدليل عليه أنها لو كانت تثنية لوجب أن يقال في النصب والخفض مررت بكلى الرجلين بكسر الياء كما تقول بين يدي الرجل ومن ثلثي الليل ويا صاحبي السجن وطرفي النهار ولما لم يكن الأمر كذلك علمنا أنها ليست تثنية بل هي لفظة مفردة وضعت للدلالة على التثنية كما أن لفظة كل اسم واحد موضوع للجماعة فاذن أخبرت عن لفظة كما تخبر عن الواحد كقوله تعالى وَكُلُّهُمْ ءاتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ فَرْداً ( مريم 95 ) وكذلك إذا أخبرت عن كلا أخبرت عن واحد فقلت كلا إخوتك كان قائماً قال الله تعالى كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ اتَتْ أُكُلَهَا ( الكهف 33 ) ولم يقل آتتا والله أعلم
المسألة الرابعة قوله يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا معناه أنهما يبلغان إلى حالة الضعف والعجز فيصيران عندك في آخر العمر كما كنت عندهما في أول العمر

واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه الجملة فعند هذا الذكر كلف الإنسان في حق الوالدين بخمسة أشياء
النوع الأول قوله تعالى فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الزجاج فيه سبع لغات كسر الفاء وضمها وفتحها وكل هذه الثلاثة بتنوين وبغير تنوين فهذه ستة واللغة السابعة أفي بالياء قال الأخفش كأنه أضاف هذا القول إلى نفسه فقال قولي هذا وذكر ابن الأنباري من لغات هذه اللفظة ثلاثة زائدة على ما ذكره الزجاج أُفّ بكسر الألف وفتح الفاء وافه بضم الألف وادخال الهاء و أُفّ بضم الألف وتسكين الفاء
المسألة الثانية قرأ ابن كثير وابن عامر بفتح الفاء من غير تنوين ونافع وحفص بكسر الفاء والتنوين والباقون بكسر الفاء من غير تنوين وكلها لغات وعلى هذا الخلاف في سورة الأنبياء أُفّ لَّكُمْ ( الأنبياء 67 ) وفي الأحقاف أُفّ لَّكُمَا ( الأحقاف 17 ) وأقول البحث المشكل ههنا أنا لما نقلنا عشرة أنواع من اللغات في هذه اللفظة فما السبب في أنهم تركوا أكثر تلك اللغات في قراءة هذه اللفظة واقتصروا على وجوه قليلة منها
المسألة الثالثة ذكروا في تفسير هذه اللفظة وجوهاً الأول قال الفراء تقول العرب جعل فلان يتأفف من ريح وجدها معناه يقول أف أف الثاني قال الأصمعي الأف وسخ الأذن والتف وسخ الظفر يقال ذلك عند استقذار الشيء ثم كثر حتى استعملوا عند كل ما يتأذون به الثالث قال بعضهم أف معناه قلة وهو مأخوذ من الأفيف وهو الشيء القليل وتف أتباع له كقولهم شيطان ليطان خبيث نبيث الرابع روى ثعلب عن ابن الأعرابي الأف الضجر الخامس قال القتبي أصل هذه الكلمة أنه إذا سقط عليك تراب أو رماد نفخت فيه لتزيله والصوت الحاصل عند تلك النفخة هو قولك أف ثم إنهم توسعوا فذكروا هذه اللفظة عند كل مكروه يصل إليهم السادس قال الزجاج أف معناه النتن وهذا قول مجاهد لأنه قال معنى قوله وَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ أي لا تتقذرهما كما أنهما لم يتقذراك كنت تخر أو تبول وفي رواية أخرى عن مجاهد أنه إذا وجدت منهما رائحة تؤذيك فلا تقل لهما أف
المسألة الرابعة قول القائل لا تقل لفلان أف مثل يضرب للمنع من كل مكروه وأذية وإن خف وقل واختلف الأصوليون في أن دلالة هذا للفظ على المنع من سائر أنواع الإيذاء دلالة لفظية أو دلالة مفهومة بمقتضى القياس قال بعضهم إنها دلالة لفظية لأن أهل العرف إذا قالوا لا تقل لفلان أف عنوا به أنه لا يتعرض له بنوع من أنواع الإيذاء والايحاش وجرى هذا مجرى قولهم فلان لا يملك نقيراً ولا قطميراً في أنه بحسب العرف يدل على أنه لا يملك شيئاً
والقول الثاني أن هذا اللفظ إنما يدل على المنع من سائر أنواع الإيذاء بحسب القياس الجلي وتقريره أن الشرع إذا نص على حكم صورة وسكت عن حكم صورة أخرى فإذا أردنا إلحاق الصورة المسكوت عن حكمها بالصورة المذكور حكمها فهذا على ثلاثة أقسام أحدها أن يكون ثبوت ذلك الحكم في محل السكوت أولى من ثبوته في محل الذكر مثل هذه الصورة فإن اللفظ إنما دل على المنع من التأفيف والضرب أولى بالمنع من التأفيف وثانيها أن يكون الحكم في محل السكوت مساوياً للحكم في محل الذكر وهذا هو الذي يسميه الأصوليون القياس في معنى الأصل وضربوا لهذا مثلاً وهو قوله عليه

السلام ( من أعتق نصيباً له من عبد قوم عليه الباقي ) فإن الحكم في الأمة والعبد متساويان وثالثها أن يكون الحكم في محل السكوت أخفى من الحكم في محل الذكر وهو أكبر القياسات
إذا عرفت هذا فنقول المنع من التأفيف إنما يدل على المنع من الضرب بواسطة القياس الجلي الذي يكون من باب الاستدلال بالأدنى على الأعلى والدليل عليه أن التأفيف غير الضرب فالمنع من التأفيف لا يكون منعاً من الضرب وأيضاً المنع من التأفيف لا يستلزم المنع من الضرب عقلاً لأن الملك الكبير إذا أخذ ملكاً عظيماً كان عدواً له فقد يقول للجلاد إياك وأن تستخف به أو تشافهه بكلمة موحشة لكن اضرب رقبته وإذا كان هذا معقولاً في الجملة علمنا أن المنع من التأفيف مغاير للمنع من الضرب وغير مستلزم للمنع من الضرب عقلاً في الجملة إلا أنا علمنا في هذه الصورة أن المقصود من هذا الكلام المبالغة في تعظيم الوالدين بدليل قوله وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلّ مِنَ الرَّحْمَة ِ فكانت دلالة المنع من التأفيف على المنع من الضرب من باب القياس بالأدنى على الأعلى والله أعلم
النوع الثاني من الأشياء التي كلف الله تعالى العباد بها في حق الأبوين قوله وَلاَ تَنْهَرْهُمَا يقال نهره وانتهره إذا استقبله بكلام يزجره قال تعالى وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ ( الضحى 10 )
فإن قيل المنع من التأفيف يدل على المنع من الانتهار بطريق الأولى فلما قدم المنع من التأفيف كان ذكر المنع من الانتهار بعده عبثاً أما لو فرضنا أنه قدم المنع من الانتهار ثم أتبعه بالمنع من التأفيف كان مفيداً حسناً لأنه يلزم من المنع من الانتهار المنع من التأفيف فما السبب في رعاية هذا الترتيب
قلنا المراد من قوله فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ المنع من إظهار الضجر بالقليل أو الكثير والمراد من قوله وَلاَ تَنْهَرْهُمَا المنه من إظهار المخالفة في القول على سبيل الرد عليه والتكذيب له
النوع الثالث قوله تعالى وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا واعلم أنه تعالى لما منع الإنسان بالآية المتقدمة عن ذكر القول المؤذي الموحش والنهي عن القول المؤذي لا يكون أمراً بالقول الطيب لا جرم أردفه بأن أمره بالقول الحسن والكلام الطيب فقال وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا والمراد منه أن يخاطبه بالكلام المقرون بأمارات التعظيم والاحترام قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه هو أن يقول له يا أبتاه يا أماه وسئل سعيد بن المسيب عن القول الكريم فقال هو قول العبد المذنب للسيد الفظ وعن عطاء أن يقال هو أن تتكلم معه بشرط أن لا ترفع عليهما صوتك ولا تشد إليهما نظرك وذلك لأن هذين الفعلين ينافيان القول الكريم
فإن قيل إن إبراهيم عليه السلام كان أعظم الناس حلماً وكرماً وأدباً فكيف قال لأبيه يا آزر على قراءة من قرأ وَإِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ لاِبِيهِ ءازَرَ بالضم إِنّى أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ ( الأنعام 74 ) فخاطبه بالاسم وهو إيذاء ثم نسبه ونسب قومه إلى الضلال وهو أعظم أنواع الإيذاء
قلنا إن قوله تعالى وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً يدل على أن حق الله تعالى مقدم على حق الأبوين فإقدام إبراهيم عليه السلام على ذلك الإيذاء إنما كان تقديماً لحق الله تعالى على حق الأبوين
النوع الرابع قوله وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلّ مِنَ الرَّحْمَة ِ والمقصود منه المبالغة في التواضع وذكر

القفال رحمه الله في تقريره وجهين الأول أن الطائر إذا أراد ضم فرخه إليه للتربية خفض له جناحه ولهذا السبب صار خفض الجناح كناية عن حسن التربية فكأنه قال للولد اكفل والديك بأن تضمهما إلى نفسك كما فعلا ذلك بك حال صغرك والثاني أن الطائر إذا أراد الطيران والارتفاع نشر جناحه وإذا أراد ترك الطيران وترك الارتفاع خفض جناحه فصار خفض الجناح كناية عن فعل التواضع من هذا الوجه
فإن قيل كيف أضاف الجناح إلى الذل والذل لا جناح له
قلنا فيه وجهان الأول أنه أضيف الجناح إلى الذل كما يقال حاتم الجود فكما أن المراد هناك حاتم الجواد فكذلك ههنا المراد واخفض لهما جناحك الذليل أي المذلول والثاني أن مدار الاستعارة على الخيالات فههنا تخيل للذل جناحاً وأثبت لذلك الجناح ضعفاً تكميلاً لأمر هذه الاستعارة كما قال لبيد
إذ أصبحت بيد الشمال زمامها
فأثبت للشمال يداً ووضع زمامها في يد الشمال فكذا ههنا وقوله مِنَ الرَّحْمَة ِ معناه ليكن خفض جناحك لهما بسبب فرط رحمتك لهما وعطفك عليهما بسبب كبرهما وضعفهما
والنوع الخامس قوله وَقُل رَّبّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا وفيه مباحث
البحث الأول قال القفال رحمه الله تعالى إنه لم يقتصر في تعليم البر بالوالدين على تعليم الأقوال بل أضاف إليه تعليم الأفعال وهو أن يدعو لهما بالرحمة فيقول رَّبّ ارْحَمْهُمَا ولفظ الرحمة جامع لكل الخيرات في الدين والدنيا ثم يقول كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا يعين رب افعل بهما هذا النوع من الإحسان كما أحسنا إلي في تربيتهما إياي والتربية هي التنمية وهي من قولهم ربا الشيء إذا انتفع ومنه قوله تعالى فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ( فصلت 39 )
البحث الثاني اختلف المفسرون في هذه الآية على ثلاثة أقوال
القول الأول أنها منسوخة بقوله تعالى مَا كَانَ لِلنَّبِى ّ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ ( التوبة 113 ) فلا ينبغي للمسلم أن يستغفر لوالديه إذا كانا مشركين ولا يقول رب ارحمهما
والقول الثاني أن هذه الآية غير منسوخة ولكنها مخصوصة في حق المشركين وهذا أولى من القول الأول لأن التخصيص أولى من النسخ
والقول الثالث أنه لا نسخ ولا تخصيص لأن الوالدين إذا كانا كافرين فله أن يدعو لهما بالهداية والإرشاد وأن يطلب الرحمة لهما بعد حصول الإيمان
البحث الثالث ظاهر الأمر للوجوب فقوله وَقُل رَّبّ ارْحَمْهُمَا أمر وظاهر الأمر لا يفيد التكرار فيكفي في العمل بمقتضى هذه الآية ذكر هذا القول مرة واحدة سئل سفيان كم يدعو الإنسان لوالديه أفي اليوم مرة أو في الشهر أو في السنة فقال نرجو أن نجزئه إذا دعا لهما في أواخر التشهدات كما أن الله تعالى قال النَّبِى ّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ ( الأحزاب 56 ) فكانوا يرون أن التشهد يجزي عن الصلاة على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وكما أن الله تعالى قال وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُوداتٍ ( البقرة 203 ) فهم يكررون في أدبار الصلوات

ثم قال تعالى رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِى نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ والمعنى أنا قد أمرناكم في هذه الآية بإخلاص العبادة لله تعالى وبالإحسان بالوالدين ولا يخفى على الله ما تضمرونه في أنفسكم من الإخلاص في الطاعة وعدم الإخلاص فيها فاعلموا أن الله تعالى مطلع على ما في نفوسكم بل هو أعلم بتلك الأحوال منكم بها لأن علوم البشر قد يختلط بها السهو والنسيان وعدم الإحاطة بالكل فأما علم الله فمنزه عن كل هذه الأحوال وإذا كان الأمر كذلك كان عالماً بكل ما في قلوبكم والمقصود منه التحذير عن ترك الإخلاص
ثم قال تعالى إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ أي إن كنتم برآء عن جهات الفساد في أحوال قلوبكم كنتم أوابين أي رجاعين إلى الله منقطعين إليه في كل الأعمال وسنة الله وحكمه في الأوابين أنه غفور لهم يكفر عنهم سيآتهم والأواب هو الذي من عادته وديدنه الرجوع إلى أمر الله تعالى والالتجاء إلى فضله ولا يلتجىء إلى شفاعة شفيع كما يفعله المشركون الذين يعبدون من دون الله جماداً يزعمون أنه يشفع لهم ولفظ الأواب على وزن فعال وهو يفيد المداومة والكثرة كقولهم قتال وضراب والمقصود من هذه الآية أن الآية الأولى لما دلت على وجوب تعظيم الوالدين من كل الوجوه ثم إن الولد قد يظهر منه نادرة مخلة بتعظيمهما فقال رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِى نُفُوسِكُمْ يعني أنه تعالى عالم بأحوال قلوبكم فإن كانت تلك الهفوة ليست لأجل العقوق بل ظهرت بمقتضى الجبلة البشرية كانت في محل الغفران والله أعلم
وَءَاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَآءَ رَحْمَة ٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا
اعلم أن هذا هو النوع الرابع من أعمال الخير والطاعة المذكورة في هذه الآيات وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله وَءاتِ خطاب مع من فيه قولان
القول الأول أنه خطاب للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فأمره الله أن يؤتي أقاربه الحقوق التي وجبت لهم في الفيء والغنيمة وأوجب عليه أيضاً إخراج حق المساكين وأبناء السبيل أيضاً من هذين المثالين
والقول الثاني أنه خطاب للكل والدليل عليه أنه معطوف على قوله وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ( الإسراء 23 ) والمعنى أنك بعد فراغك من بر الوالدين يجب أن تشتغل ببر سائر الأقارب الأقرب فالأقرب ثم بإصلاح أحوال المساكين وأبناء السبيل
واعلم أن قوله تعالى وَءاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ مجمل وليس فيه بيان أن ذلك الحق ما هو وعند الشافعي رحمه الله أنه لا يجب الانفاق إلا على الولد والوالدين وقال قوم يجب الإنفاق على المحارم بقدر

الحاجة واتفقوا على أن من لم يكن من المحارم كأبناء العم فلا حق لهم إلا الموادة والزيارة وحسن المعاشرة والمؤالفة في السراء والضراء أما المسكين وابن السبيل فقد تقدم وصفهما في سورة التوبة في تفسير آية الزكاة ويجب أن يدفع إلى المسكين ما يفي بقوته وقوت عياله وأن يدفع إلى ابن السبيل ما يكفيه من زاده وراحلته إلى أن يبلغ مقصده
ثم قال تعالى وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا والتبذير في اللغة إفساد المال وإنفاقه في السرف قال عثمان بن الأسود كنت أطوف في المساجد مع مجاهد حول الكعبة فرفع رأسه إلى أبي قبيس وقال لو أن رجلاً أنفق مثل هذا في طاعة الله لم يكن من المسرفين ولو أنفق درهماً واحداً في معصية الله كان من المسرفين وأنفق بعضهم نفقة في خير فأكثر فقيل له لا خير في السرف فقال لا سرف في الخير وعن عبد الله بن عمر قال مر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بسعد وهو يتوضأ فقال ما هذا السرف يا سعد فقال أو في الوضوء سرف قال نعم وإن كنت على نهر جارٍ ثم نبه تعالى على قبح التبذير بإضافته إياه إلى أفعال الشياطين فقال إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوانَ الشَّيَاطِينِ والمراد من هذه الأخوة التشبه بهم في هذا الفعل القبيح وذلك لأن العرب يسمون الملازم للشيء أخاً له فيقولون فلان أخو الكرم والجود وأخو السفر إذا كان مواظباً على هذه الأعمال وقيل قوله إِخْوانَ الشَّيَاطِينِ أي قرناءهم في الدنيا والآخرة كما قال وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ( الأعراف 36 ) وقال تعالى احْشُرُواْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْواجَهُمْ ( الصافات 22 ) أي قرناءهم من الشياطين ثم إنه تعالى بين صفة الشيطان فقال وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبّهِ كَفُورًا ومعنى كون الشيطان كفوراً لربه هو أنه يستعمل بدنه في المعاصي والإفساد في الأرض والإضلال للناس وكذلك كل من رزقه الله تعالى مالاً أو جاهاً فصرفه إلى غير مرضاة الله تعالى كان كفوراً لنعمة الله تعالى والمقصود أن المبذرين إخوان الشياطين بمعنى كونهم موافقين للشياطين في الصفة والفعل ثم الشيطان كفور لربه فيلزم كون المبذر أيضاً كفوراً لربه وقال بعض العلماء خرجت هذه الآية على وفق عادة العرب وذلك لأنهم كانوا يجمعون الأموال بالنهب والغارة ثم كانوا ينفقونها في طلب الخيلاء والتفاخر وكان المشركون من قريش وغيرهم ينفقون أموالهم ليصدوا الناس عن الإسلام وتوهين أهله وإعانة أعدائه فنزلت هذه الآية تنبيهاً على قبح أعمالهم في هذا الباب
ثم قال تعالى وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَة ٍ مّن رَّبّكَ تَرْجُوهَا والمعنى أنك إن أعرضت عن ذي القربى والمسكين وابن السبيل حياء من التصريح بالرد بسبب الفقر والقلة فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا أي سهلاً ليناً وقوله ابْتِغَاء رَحْمَة ٍ مّن رَّبّكَ تَرْجُوهَا كناية عن الفقر لأن فاقد المال يطلب رحمة الله وإحسانه فلما كان فقد المال سبباً لهذا الطلب ولهذا الابتغاء أطلق اسم السبب على المسبب فسمى الفقر بابتغاء رحمة الله تعالى والمعنى أن عند حصول الفقر والقلة لا تترك تعهدهم بالقول الجميل والكلام الحسن بل تعدهم بالوعد الجميل وتذكر لهم العذر وهو حصول القلة وعدم المال أو تقول لهم الله يسهل وفي تفسير القول الميسور وجوه الأول القول الميسور هو الرد بالطريق الأحسن والثاني القول الميسور اللين السهل قال الكسائي يسرت أيسر له القول أي لينته له الثالث قال بعضهم القول الميسور مثل قوله قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَة ٌ خَيْرٌ مّن صَدَقَة ٍ يَتْبَعُهَا أَذًى ( البقرة 363 ) قالوا والميسور هو المعروف لأن القول المتعارف لا يحوج إلى تكلف والله أعلم

وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَة ً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُوراً إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا
اعلم أنه تعالى لما أمره بالانفاق في الآية المتقدمة علمه في هذه الآية أدب الإنفاق واعلم أنه تعالى شرح وصف عبادة المؤمنين في الإنفاق في سورة الفرقان فقال وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً ( الفرقان 67 ) فههنا أمر رسوله بمثل ذلك الوصف فقال وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَة ً إِلَى عُنُقِكَ أي لا تمسك عن الإنفاق بحيث تضيق على نفسك وأهلك في وجوه صلة الرحم وسبيل الخيرات والمعنى لا تجعل يدك في انقباضها كالمغلولة الممنوعة من الانبساط وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ أي ولا تتوسع في الإنفاق توسعاً مفرطاً بحيث لا يبقى في يدك شيء وحاصل الكلام أن الحكماء ذكروا في كتب ( الأخلاق ) أن لكل خلق طرفي إفراط وتفريط وهما مذمومان فالبخل إفراط في الإمساك والتبذير إفراط في الإنفاق وهما مذمومان والخلق الفاضل هو العدل والوسط كما قال تعالى وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا
ثم قال تعالى فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُوراً أما تفسير تقعد فقد سبق في الآية المتقدمة وأما كونه ملوماً فلأنه يلوم نفسه وأصحابه أيضاً يلومونه على تضييع المال بالكلية وإبقاء الأهل والولد في الضر والمحنة وأما كونه محسوراً فقال الفراء تقول العرب للبعير هو محسور إذا انقطع سيره وحسرت الدابة إذا سيرها حتى ينقطع سيرها ومنه قوله تعالى يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ ( الملك 4 ) وجمع الحسير حسرى مثل قتلى وصرعى وقال القفال المقصود تشبيه حال من أنفق كل ماله ونفقاته بمن انقطع في سفره بسبب انقطاع مطيته لأن ذلك المقدار من المال كأنه مطية يحمل الإنسان ويبلغه إلى آخر الشهر أو السنة كما أن ذلك البعير يحمله ويبلغه إلى آخر المنزل فإذا انقطع ذلك البعير بقي في وسط الطريق عاجزاً متحيراً فكذلك إذا أنفق الإنسان مقدار ما يحتاج إليه في مدة شهر بقي في وسط ذلك الشهر عاجزاً متحيراً ومن فعل هذا لحقه اللوم من أهله والمحتاجين إلى إنفاقه عليهم بسبب سوء تدبيره وترك الحزم في مهمات معاشه
ثم قال تعالى إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ والمقصود أنه عرف رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) كونه رباً والرب هو الذي يربي المربوب ويقوم بإصلاح مهماته ودفع حاجاته على مقدار الصلاح والصواب فيوسع الرزق على البعض ويضيقه على البعض والقدر في اللغة التضييق ومنه قوله تعالى وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ ( الطلاق 7 ) وقوله تعالى وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ ( الفجر 16 ) أي ضيق وإنما وسع على البعض لأن ذلك هو الصلاح لهم قال تعالى وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِى الاْرْضِ وَلَاكِن يُنَزّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء ( الشورى 27 )
ثم قال تعالى إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا يعنى أنه تعالى عالم بأن مصلحة كل إنسان في أن لا

يعطيه إلا ذلك القدر فالتفاوت في أرزاق العباد ليس لأجل البخل بل لأجل رعاية المصالح
وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَة َ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا
هذا هو النوع الخامس من الطاعات المذكورة في هذه الآيات وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في تقرير النظم وجوه
الوجه الأول أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أنه هو المتكفل بأرزاق العباد حيث قال إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ ( الإسراء 30 ) أتبعه بقوله وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَة َ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم
الوجه الثاني أنه تعالى لما علم كيفية البر بالوالدين في الآية المتقدمة علم في هذه الآية كيفية البر بالأولاد ولهذا قال بعضهم إن الذين يسمون بالأبرار إنما سموا بذلك لأنهم بروا الآباء والأبناء وإنما وجب بر الآباء مكافأة على ما صدر منهما من أنواع البر بالأولاد وإنما وجب البر بالأولاد لأنهم في غاية الضعف ولا كافل لهم غير الوالدين
الوجه الثالث أن امتناع الأولاد من البر بالآباء يوجب خراب العالم لأن الآباء إذا علموا ذلك قلت رغبتهم في تربية الأولاد فيلزم خراب العالم من الوجه الذي قررناه فثبت أن عمارة العالم إنما تحصل إذا حصلت المبرة بين الآباء والأولاد من الجانبين
الوجه الرابع أن قتل الأولاد إن كان لخوف الفقر فهو سوء ظن بالله وإن كان لأجل الغيرة على البنات فهو سعي في تخريب العالم فالأول ضد التعظيم لأمر الله تعالى والثاني ضد الشفقة على خلق الله تعالى وكلاهما مذموم والله أعلم
الوجه الخامس أن قرابة الأولاد قرابة الجزئية والبعضية وهي من أعظم الموجبات للمحبة فلو لم تحصل المحبة دل ذلك على غلظ شديد في الروح وقسوة في القلب وذلك من أعظم الأخلاق الذميمة فرغب الله في الإحسان إلى الأولاد إزالة لهذه الخصلة الذميمة
المسألة الثانية العرب كانوا يقتلون البنات لعجز البنات عن الكسب وقدرة البنين عليه بسبب إقدامهم على النهب والغارة وأيضاً كانوا يخافون أن فقرها ينفر كفأها عن الرغبة فيها فيحتاجون إلى إنكاحها من غير الأكفاء وفي ذلك عار شديد فقال تعالى وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ وهذا لفظ عام للذكور والإناث والمعنى أن الموجب للرحمة والشفقة هو كونه ولداً وهذا المعنى وصف مشترك بين الذكور وبين الإناث وأما ما يخاف من الفقر من البنات فقد يخاف مثله في الذكور في حال الصغر وقد يخاف أيضاً في العاجزين من البنين
ثم قال تعالى نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم يعني الأرزاق بيد الله تعالى فكما أنه تعالى فتح أبواب الرزق على الرجال فكذلك يفتح أبواب الرزق على النساء
المسألة الثالثة الجمهور قرؤا إن قتلهم كان خطأ كبيراً أي إثماً كبيراً يقال خطىء يخطأ خطأ مثل

أثم يأثم إثماً قال تعالى إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ ( يوسف 97 ) أي آثمين وقرأ ابن عامر خطأ بالفتح يقال أخطأ يخطىء إخطاء وخطأ إذا أتى بما لا ينبغي من غير قصد ويكون الخطأ اسماً للمصدر والمعنى على هذه القراءة أن قتلهم ليس بصواب قال القفال رحمه الله وقرأ ابن كثير خطاء بكسر الخاء ممدودة ولعلهما لغتان مثل دفع ودفاع ولبس ولباس
وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَة ً وَسَآءَ سَبِيلاً
اعلم أنه تعالى لما أمر بالأشياء الخمسة التي تقدم ذكرها وحاصلها يرجع إلى شيئين التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله أتبعها بذكر النهي عن أشياء أولها أنه تعالى نهى عن الزنا فقال وَلاَ تَقْرَبُواْ قال القفال إذا قيل للإنسان لا تقربوا هذا فهذا آكد من أن يقول له لا تفعله ثم إنه تعالى علل هذا النهي بكونه كَانَ فَاحِشَة ً وَسَاء سَبِيلاً
واعلم أن الناس قد اختلفوا في أنه تعالى إذا أمر بشيء أو نهى عن شيء فهل يصح أن يقال إنه تعالى إنما أمر بذلك الشيء أو نهى عنه لوجه عائد إليه أم لا فقال القائلون بتحسين العقل وتقبيحه الأمر كذلك وقال المنكرون لتحسين العقل وتقبيحه ليس الأمر كذلك احتج القائلون بتحسين العقل وتقبيحه على صحة قولهم بهذه الآية قالوا إنه تعالى نهى عن الزنا وعلل ذلك النهي بكونه فاحشة فيمتنع أن يكون كونه فاحشة عبارة عن كونه منهياً عنه وإلا لزم تعليل الشيء بنفسه وهو محال فوجب أن يقال كونه فاحشة وصف حاصل له باعتبار كونه زنا وذلك يدل على أن الأشياء تحسن وتقبح لوجوه عائدة إليها في أنفسها ويدل أيضاً على أن نهي الله تعالى عنها معلل بوقوعها في أنفسها على تلك الوجوه وهذا الاستدلال قريب والأولى أن يقال إن كون الشيء في نفسه مصلحة أو مفسدة أمر ثابت لذاته لا بالشرع فإن تناول الغذاء الموافق مصلحة والضرب المؤلم مفسدة وكونه كذلك أمر ثابت بالعقل لا بالشرع
وإذا ثبت هذا فنقول تكاليف الله تعالى واقعة على وفق مصالح العالم في المعاش والمعاد فهذا هو الكلام الظاهري وفيه مشكلات هائلة ومباحث عميقة نسأل الله التوفيق لبلوغ الغاية فيها
إذا عرفت هذا فنقول الزنا اشتمل على أنواع من المفاسد أولها اختلاط الأنساب واشتباهها فلا يعرف الإنسان أن الولد الذي أتت به الزانية أهو منه أو من غيره فلا يقوم بتربيته ولا يستمر في تعهده وذلك يوجب ضياع الأولاد وذلك يوجب انقطاع النسل وخراب العالم وثانيها أنه إذا لم يوجد سبب شرعي لأجله يكون هذا الرجل أولى بهذه المرأة من غيره لم يبق في حصول ذلك الاختصاص إلا التواثب والتقاتل وذلك يفضي إلى فتح باب الهرج والمرج والمقاتلة وكم سمعنا وقوع القتل الذريع بسبب إقدام المرأة الواحدة على الزنا وثالثها أن المرأة إذا باشرت الزنا وتمرنت عليه يستقذرها كل طبع سليم وكل خاطر مستقيم وحينئذ لا تحصل الألفة والمحبة ولا يتم السكن والإزدواج ولذلك فإن المرأة إذا اشتهرت بالزنا تنفر عن مقارنتها طباع أكثر الخلق ورابعها أنه إذا انفتح باب الزنا فحينئذ لا يبقى لرجل اختصاص بامرأة وكل رجل يمكنه التواثب على كل امرأة شاءت وأرادت وحينئذ لا يبقى بين نوع الإنسان وبين سائر البهائم

فرق في هذا الباب وخامسها أنه ليس المقصود من المرأة مجرد قضاء الشهوة بل أن تصير شريكة للرجل في ترتيب المنزل وإعداد مهماته من المطعوم والمشروب والملبوس وأن تكون ربة البيت وحافظة للباب وأن تكون قائمة بأمور الأولاد والعبيد وهذه المهمات لا تتم إلا إذا كانت مقصورة الهمة على هذا الرجل الواحد منقطعة الطمع عن سائر الرجال وذلك لا يحصل إلا بتحريم الزنا وسد هذا الباب بالكلية وسادسها أن الوطء يوجب الذل الشديد والدليل عليه أن أعظم أنواع الشتم عند الناس ذكر ألفاظ الوقاع ولولا أن الوطء يوجب الذل وإلا لما كان الأمر كذلك وأيضاً فإن جميع العقلاء لا يقدمون على الوطء إلا في المواضع المستورة وفي الأوقات التي لا يطلع عليهم أحد وأن جميع العقلاء يستنكفون عن ذكر أزواج بناتهم وأخواتهم وأمهاتهم لما يقدمون على وطئهن ولولا أن الوطء ذل وإلا لما كان كذلك
وإذا ثبت هذا فنقول لما كان الوطء ذلاً كان السعي في تقليله موافقاً للعقول فاقتصار المرأة الواحدة على الرجل الواحد سعى في تقليل ذلك العمل وأيضاً ما فيه من الذل يصير مجبوراً بالمنافع الحاصلة في النكاح أما الزنا فإنه فتح باب لذلك العمل القبيح ولم يصر مجبوراً بشيء من المنافع فوجب بقاؤه على أصل المنع والحجر فثبت بما ذكرنا أن العقول السليمة تقضي على الزنا بالقبح
وإذا ثبت هذا فنقول إنه تعالى وصف الزنا بصفات ثلاثة كونه فاحشة ومقتاً في آية أخرى وَسَاء سَبِيلاً أما كونه فاحشة فهو إشارة إلى اشتماله على فساد الأنساب الموجبة لخراب العالم وإلى اشتماله على التقاتل والتواثب على الفروج وهو أيضاً يوجب خراب العالم وأما المقت فقد ذكرنا أن الزانية تصير ممقوتة مكروهة وذلك يوجب عدم حصول السكن والازدواج وأن لا يعتمد الإنسان عليها في شيء من مهماته ومصالحه وأما أنه ساء سبيلاً فهو ما ذكرنا أنه لا يبقى فرق بين الإنسان وبين البهائم في عدم اختصاص الذكران بالإناث وأيضاً يبقى ذل هذا العمل وعيبه وعاره على المرأة من غير أن يصير مجبوراً بشيء من المنافع فقد ذكرنا في قبح الزنا ستة أوجه والله تعالى ذكر ألفاظاً ثلاثة فحملنا كل واحد من هذه الألفاظ الثلاثة على وجهين من تلك الوجوه الستة والله أعلم بمراده
وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّى الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا
هذا هو النوع الثاني مما نهى الله عنه في هذه الآية وفيه مسائل
المسألة الأولى لقائل أن يقول إن أكبر الكبائر بعد الكفر بالله القتل فما السبب في أن الله تعالى بدأ أولاً بذكر النهي عن الزنا وثانياً بذكر النهي عن القتل
وجوابه أنا بينا أن فتح باب الزنا يمنع من دخول الإنسان في الوجود والقتل عبارة عن إبطال الإنسان بعد دخوله في الوجود ودخوله في الوجود مقدم على إبطاله وإعدامه بعد وجوده فلهذا السبب ذكر الله تعالى

الزنا أولاً ثم ذكر القتل ثانياً
المسألة الثانية اعلم أن الأصل في القتل هو الحرمة المغلظة والحل إنما يثبت بسبب عارضي فلما كان الأمر كذلك لا جرم نهى الله عن القتل مطلقاً بناء على حكم الأصل ثم استثنى عنه الحالة التي يحصل فيها حل القتل وهو عند حصول الأسباب العرضية فقال إِلاَّ بِالْحَقّ فنفتقر ههنا إلى بيان أن الأصل في القتل التحريم والذي يدل عليه وجوه الأول أن القتل ضرر والأصل في المضار الحرمة لقوله مَّا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ ( الحج 78 ) ولا يريد بكم العسر ولا ضرر ولا ضرار الثاني قوله عليه السلام ( الآدمي بنيان الرب ملعون من هدم بنيان الرب ) الثالث أن الآدمي خلق للاشتغال بالعبادة لقوله وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( الذاريات 56 ) ولقوله عليه السلام ( حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ) والاشتغال بالعبادة لا يتم إلا عند عدم القتل الرابع أن القتل إفساد فوجب أن يحرم لقوله تعالى وَلاَ تُفْسِدُواْ ( الأعراف 85 ) الخامس أنه إذا تعارض دليل تحريم القتل ودليل إباحته فقد أجمعوا على أن جانب الحرمة راجح ولولا أن مقتضى الأصل هو التحريم وإلا لكان ذلك ترجيحاً لا لمرجح وهو محال السادس أنا إذا لم نعرف في الإنسان صفة من الصفات إلا مجرد كونه إنساناً عاقلاً حكمنا فيه بتحريم قتله وما لم نعرف شيئاً زائداً على كونه إنساناً لم نحكم فيه بحل دمه ولولا أن أصل الإنسانية يقتضي حرمة القتل وإلا لما كان كذلك فثبت بهذه الوجوه أن الأصل في القتل هو التحريم وأن حله لا يثبت إلا بأسباب عرضية
وإذا ثبت هذا فنقول إنه تعالى حكم بأن الأصل في القتل هو التحريم فقال وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ فقوله وَلاَ تَقْتُلُواْ نهي وتحريم وقوله حَرَّمَ اللَّهُ إعادة لذكر التحريم على سبيل التأكيد ثم استثنى عنه الأسباب العرضية الاتفاقية فقال إِلاَّ بِالْحَقّ ثم ههنا طريقان
الطريق الأول أن مجرد قوله إِلاَّ بِالْحَقّ مجمل لأنه ليس فيه بيان أن ذلك الحق ما هو وكيف هو ثم إنه تعالى قال وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَاناً أي في استيفاء القصاص من القاتل وهذا الكلام يصلح جعله بياناً لذلك المجمل وتقريره كأنه تعالى قال وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ وذلك الحق هو أن من قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً في استيفاء القصاص وإذا ثبت هذا وجب أن يكون المراد من الحق هذه الصورة فقط فصار تقدير الآية ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا عند القصاص وعلى هذا التقدير فتكون الآية نصاً صريحاً في تحريم القتل إلا بهذا السبب الواحد فوجب أن يبقى على الحرمة فيما سوى هذه الصورة الواحدة
والطريق الثاني أن نقول دلت السنة على أن ذلك الحق هو أحد أمور ثلاثة وهو قوله عليه السلام ( لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان وزنا بعد إحصان وقتل نفس بغير حق )
واعلم أن هذا الخبر من باب الآحاد فإن قلنا إن قوله وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَاناً تفسير لقوله إِلاَّ بِالْحَقّ كانت الآية صريحة في أنه لا يحل القتل إلا بهذا السبب الواحد فحينئذ يصير هذا الخبر مخصصاً لهذه الآية ويصير ذلك فرعاً لقولنا إنه يجوز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد وأما إن قلنا إن قوله وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَاناً ليس تفسيراً لقوله إِلاَّ بِالْحَقّ فحينئذ يصير هذا

الخبر مفسراً للحق المذكور في الآية وعلى هذا التقدير لا يصير هذا فرعاً على مسألة جواز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد فلتكن هذه الدقيقة معلومة والله أعلم
المسألة الثالثة ظاهر هذه الآية أنه لا سبب لحل القتل إلا قتل المظلوم وظاهر الخبر يقتضي ضم شيئين آخرين إليه وهو الكفر بعد الإيمان والزنا بعد الإحصان ودلت آية أخرى على حصول سبب رابع وهو قوله تعالى إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الاْرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ ( المائدة 33 ) ودلت آية أخرى على حصول سبب خامس وهو الكفر قال تعالى قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الاْخِرِ ( التوبة 29 ) وقال وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ( النساء 89 ) والفقهاء تكلموا واختلفوا في أشياء أخرى فمنها أن تارك الصلاة هل يقتل أم لا فعند الشافعي رحمه الله يقتل وعن أبي حنيفة رحمه الله لا يقتل وثانيها أن فعل اللواط هل يوجب القتل فعند الشافعي يوجب وعند أبي حنيفة لا يوجب وثالثها أن الساحر إذا قال قتلت بسحري فلاناً فعند الشافعي يوجب القتل وعند أبي حنيفة لا يوجب ورابعها أن القتل بالمثقل هل يوجب القصاص فعند الشافعي يوجب وعند أبي حنيفة لا يوجب وخامسها أن الامتناع من أداء الزكاة هل يوجب القتل أم لا اختلفوا فيه في زمان أبي بكر وسادسها أن إتيان البهيمة هل يوجب القتل فعند أكثر الفقهاء لا يوجب وعند قوم يوجب حجة القائلين بأنه لا يجوز القتل في هذه الصور هو أن الآية صريحة في منع القتل على الإطلاق إلا لسبب واحد وهو قتل المظلوم ففيما عدا هذا السببب الواحد وجب البقاء على أصل الحرمة ثم قالوا وهذا النص قد تأكد بالدلائل الكثيرة الموجبة لحرمة الدم على الإطلاق فترك العمل بهذه الدلائل لا يكون إلا لمعارض وذلك المعارض إما أن يكون نصاً متواتراً أو نصاً من باب الآحاد أو يكون قياساً أما النص المتواتر فمفقود وإلا لما بقي الخلاف وأما النص من باب الآحاد فهو مرجوح بالنسبة إلى هذه النصوص المتواترة الكثيرة وأما القياس فلا يعارض النص فثبت بمقتضى هذا الأصل القوي القاهر أن الأصل في الدماء الحرمة إلا في الصور المعدودة والله أعلم
المسألة الرابعة قوله تعالى وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فيه بحثان
البحث الأول أن هذه الآية تدل على أنه أثبت لولي الدم سلطاناً فأما بيان أن هذه السلطنة تحصل فيما ذا فليس في قوله فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَاناً دلالة عليه ثم ههنا طريقان الأول أنه تعالى لما قال بعده فَلاَ يُسْرِف فّى الْقَتْلِ عرف أن تلك السلطنة إنما حصلت في استيفاء القتل وهذا ضعيف لاحتمال أن يكون المراد وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَاناً فلا ينبغي أن يسرف الظالم في ذلك القتل لأن ذلك المقتول منصور بواسطة إثبات هذه السلطنة لوليه والثاني أن تلك السلطنة مجملة ثم صارت مفسرة بالآية والخبر أما الآية فقوله تعالى في سورة البقرة الْمُتَّقُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ( البقرة 178 ) إلى قوله فَمَنْ عُفِى َ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَى ْء فَاتِبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ( البقرة 178 ) وقد بينا في تفسير هذه الآية أنها تدل على أن الواجب هو كون المكلف مخيراً بين القصاص وبين الدية وأما الخبر فهو قوله عليه السلام يوم الفتح ( من قتل قتيلاً فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية ) وعلى هذا الطريق فقوله فَلاَ يُسْرِف فّى الْقَتْلِ معناه أنه لما حصلت له سلطنة استيفاء القصاص إن شاء

وسلطنة استيفاء الدية إن شاء قال بعده فَلاَ يُسْرِف فّى الْقَتْلِ معناه أن الأولى أن لا يقدم على استيفاء القتل وأن يكتفي بأخذ الدية أو يميل إلى العفو وبالجملة فلفظة ( في ) محمولة على الباء والمعنى فلا يصير مسرفاً بسبب إقدامه على القتل ويصير معناه الترغيب في العفو والاكتفاء بالدية كما قال وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ( البقرة 237 )
البحث الثاني أن في قوله وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا ذكر كونه مظلوماً بصيغة التنكير وصيغة التنكير على ما عرف تدل على الكمال فالإنسان المقتول ما لم يكن كاملاً في وصف المظلومية لم يدخل تحت هذا النص قال الشافعي رحمه الله قد دللنا على أن المسلم إذا قتل الذمي لم يدخل تحت هذه الآية بدليل أن الذمي مشرك والمشرك يحل دمه إنما قلنا إنه مشرك لقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ( النساء 116 ) حكم بأن ما سوى الشرك مغفور في حق البعض فلو كان كفر اليهودي والنصراني شيئاً مغايراً للشرك لوجب أن يصير مغفوراً في حق بعض الناس بمقتضى هذه الآية فلما لم يصر مغفوراً في حق أحد دل على أن كفرهم شرك ولأنه تعالى قال لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَة ٍ ( البقرة 73 ) فهذا التثليث الذي قال به هؤلاء إما أن يكون تثليثاً في الصفات وهو باطل لأن ذلك هو الحق وهو مذهب أهل السنة والجماعة فلا يمكن جعله تثليثاً للكفر وإما أن يكون تثليثاً في الذوات وذلك هو الحق ولا شك أن القائل به مشرك فثبت أن الذمي مشرك وإنما قلنا إن المشرك يجب قتله لقوله تعالى اقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ ( التوبة 5 ) ومقتضى هذا الدليل إباحة دم الذمي فإن لم تثبت الإباحة فلا أقل من حصول شبهة الإباحة
وإذا ثبت هذا فنقول ثبت أنه ليس كاملاً في المظلومية فلم يندرج تحت قوله تعالى وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَاناً وأما الحر إذا قتل عبداً فهو داخل تحت هذه الآية إلا أنا بينا أن قوله كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ ( البقرة 178 ) يدل على المنع من قتل الحر بالعبد من وجوه كثيرة وتلك الآية أخص من قوله وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَاناً والخاص مقدم على العام فثبت أن هذه الآية لا يجوز التمسك بها في مسألة أن موجب العمد هو القصاص ولا في مسألة أنه يجب قتل المسلم بالذمي ولا في مسألة أنه يجب قتل الحر بالعبد والله أعلم
أما قوله تعالى فَلاَ يُسْرِف فّى الْقَتْلِ ففيه مباحث
البحث الأول فيه وجوه الأول المراد هو أن يقتل القاتل وغير القاتل وذلك لأن الواحد منهم إذا قتل واحداً من قبيلة شريفة فأولياء ذلك المقتول كانوا يقتلون خلقاً من القبيلة الدنيئة فنهى الله تعالى عنه وأمر بالاقتصار على قتل القاتل وحده الثاني هو أن لا يرضى بقتل القاتل فإن أهل الجاهلية كانوا يقصدون أشراف قبيلة القاتل ثم كانوا يقتلون منهم قوماً معينين ويتركون القاتل والثالث هو أن لا يكتفي بقتل القاتل بل يمثل به ويقطع أعضاؤه قال القفال ولا يبعد حمله على الكل لأن جملة هذه المعاني مشتركة في كونها إسرافاً
البحث الثاني قرأ الأكثرون فَلاَ يُسْرِف بالياء وفيه وجهان الأول التقدير فلا ينبغي أن يسرف الولي في القتل الثاني أن الضمير للقاتل الظالم ابتداء أي فلا ينبغي أن يسرف ذلك الظالم وإسرافه عبارة

عن إقدامه على ذلك القتل الظلم وقرأ حمزة والكسائي فَلا بالتاء على الخطاب وهذه القراءة تحتمل وجهين أحدهما أن يكون الخطاب للمبتدىء القاتل ظلماً كأنه قيل له لا تسرف أيها الإنسان وذلك الإسراف هو إقدامه على ذلك القتل الذي هو ظلم محض والمعنى لا تفعل فإنك إن قتلته مظلوماً استوفى القصاص منك والآخر أن يكون الخطاب للولي فيكون التقدير لا تسرف في القتل أيها الولي أي اكتف باستيفاء القصاص ولا تطلب الزيادة وأما قوله الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ففيه ثلاثة أوجه الأول كأنه قيل للظالم المبتدىء بذلك القتل على سبيل الظلم لا تفعل ذلك فإن ذلك المقتول يكون منصوراً في الدنيا والآخرة أما نصرته في الدنيا فبقتل قاتله وأما في الآخرة فبكثرة الثواب له وكثرة العقاب لقاتله
والقول الثاني أن هذا الولي يكون منصوراً في قتل ذلك القاتل الظالم فليكتف بهذا القدر فإنه يكون منصوراً فيه ولا ينبغي أن يطمع في الزيادة منه لأن من يكون منصوراً من عند الله يحرم عليه طلب الزيادة
والقول الثالث أن هذا القاتل الظالم ينبغي أن يكتفي باستيفاء القصاص وأن لا يطلب الزيادة
واعلم أن على القول الأول والثاني ظهر أن المقتول وولي دمه يكونان منصورين من عند الله تعالى وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال قلت لعلي بن أبي طالب عليه السلام وأيم الله ليظهرن عليكم ابن أبي سفيان لأن الله تعالى يقول وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَاناً وقال الحسن والله ما نصر معاوية على علي عليه السلام إلا بقول الله تعالى وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَاناً والله أعلم
وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً
اعلم أن هذا هو النوع الثالث من الأشياء التي نهى الله عنها في هذه الآيات
اعلم أنا ذكرنا أن الزنا يوجب اختلاط الأنساب وذلك يوجب منع الاهتمام بتربية الأولاد وذلك يوجب انقطاع النسل وذلك يوجب المنع من دخول الناس في الوجود وأما القتل فهو عبارة عن إعدام الناس بعد دخولهم في الوجود فثبت أن النهي عن الزنا والنهي عن القتل يرجع حاصله إلى النهي عن إتلاف النفوس فلما ذكر الله تعالى ذلك أتبعه بالنهي عن إتلاف الأموال لأن أعز الأشياء بعد النفوس الأموال وأحق الناس بالنهي عن إتلاف أموالهم هو اليتيم لأنه لصغره وضعفه وكمال عجزه يعظم ضرره بإتلاف ماله فلهذا السبب خصهم الله تعالى بالنهي عن إتلاف أموالهم فقال وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ ونظيره قوله تعالى وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ( النساء 6 ) وفي تفسير قوله إِلاَّ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ وجهان الأول إلا بالتصرف الذي ينميه ويكثره الثاني المراد هو أن تأكل معه إذا احتجت إليه وروى مجاهد عن ابن عباس قال إذا احتاج أكل بالمعروف فإذا أيسر قضاه فإن لم يوسر فلا شيء عليه
واعلم أن الولي إنما تبقى ولايته على اليتيم إلى أن يبلغ أشده وهو بلوغ النكاح كما بينه الله تعالى

في آية أخرى وهو قوله وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ فَإِنْ ءانَسْتُمْ مّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ ( النساء 6 ) والمراد بالأشد بلوغه إلى حيث يمكنه بسبب عقله ورشده القيام بمصالح ماله وعند ذلك تزول ولاية غيره عنه وذلك حد البلوغ فأما إذا بلغ غير كامل العقل لم تزل الولاية عنه والله أعلم وبلوغ العقل هو أن يكمل عقله وقواه الحسية والحركية والله أعلم
وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذالِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً
اعلم أنه تعالى أمر بخمسة أشياء أولاً ثم أتبعه بالنهي عن ثلاثة أشياء وهي النهي عن الزنا وعن القتل إلا بالحق وعن قربان مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ثم أتبعه بهذه الأوامر الثلاثة فالأول قوله وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ
واعلم أن كل عقد تقدم لأجل توثيق الأمر وتوكيده فهو عهد فقوله وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ نظير لقوله تعالى عَلِيمٌ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ( المائدة 1 ) فدخل في قوله أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ كل عقد من العقود كعقد البيع والشركة وعقد اليمين والنذر وعقد الصلح وعقد النكاح وحاصل القول فيه أن مقتضى هذه الآية أن كل عقد وعهد جرى بين إنسانين فإنه يجب عليهما الوفاء بمقتضى ذلك العقد والعهد إلا إذا دل دليل منفصل على أنه لا يجب الوفاء به فمقتضاه الحكم بصحة كل بيع وقع التراضي به وبصحة كل شركة وقع التراضي بها ويؤكد هذا النص بسائر الآيات الدالة على الوفاء بالعهود والعقود كقوله وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ ( البقرة 177 ) وقوله وَالَّذِينَ هُمْ لاِمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ ( المؤمنون 8 ) وقوله وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ ( البقرة 275 ) وقوله لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَة ً عَن تَرَاضٍ مّنْكُمْ ( النساء 29 ) وقوله وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ ( البقرة 282 ) وقوله عليه السلام ( لا يحل مال امرىء مسلم إلا عن طيبة من نفسه ) وقوله ( إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم يداً بيد ) وقوله ( من اشترى شيئاً لم يره فهو بالخيار إذا رآه ) فجميع هذه الآيات والأخبار دالة على أن الأصل في البيوعات والعهود والعقود الصحة ووجوب الالتزام
إذا ثبت هذا فنقول إن وجدنا نصاً أخص من هذه النصوص يدل على البطلان والفساد قضينا به تقديماً للخاص على العام وإلا قضينا بالصحة في الكل وأما تخصيص النص بالقياس فقد أبطلناه وبهذا الطريق تصير أبواب المعاملات على طولها وأطنابها مضبوطة معلومة بهذه الآية الواحدة ويكون المكلف آمن القلب مطمئن النفس في العمل لأنه لما دلت هذه النصوص على صحتها فليس بعد بيان الله بيان وتصير الشريعة مضبوطة معلومة

ثم قال تعالى إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ وفيه وجوه أحدها أن يراد صاحب العهد كان مسؤلاً فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه كقوله حَافِظِينَ وَاسْئَلِ الْقَرْيَة َ ( يوسف 82 ) وثانيها أن العهد كان مسؤلا أي مطلوباً يطلب من المعاهد أن لا يضيعه ويفي به وثالثها أن يكون هذا تخييلاً كأنه يقال للعهد لم نكثت وهلا وفي بك تبكيتاً للناكث كما يقال للموؤدة بِأَى ّ ذَنبٍ قُتِلَتْ ( التكوير 9 ) وكقوله قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى وَأُمّى َ إِلَاهَيْنِ مِن ( المائدة 116 ) الآية فالمخاطبة لعيسى عليه السلام والإنكار على غيره
النوع الثاني من الأوامر المذكورة في هذه الآية قوله وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ والمقصود منه إتمام الكيل وذكر الوعيد الشديد في نقصانه في قوله وَيْلٌ لّلْمُطَفّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ( المطففين 1 3 )
النوع الثالث من الأوامر المذكورة في هذه الآية قوله وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ فالآية المتقدمة في إتمام الكيل وهذه الآية في إتمام الوزن ونظيره قوله تعالى وَأَقِيمُواْ الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُواْ الْمِيزَانَ ( الرحمن 9 ) وقوله وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الاْرْضِ مُفْسِدِينَ ( هود 85 )
واعلم أن التفاوت الحاصل بسبب نقصان الكيل والوزن قليل والوعيد الحاصل عليه شديد عظيم فوجب على العاقل الاحتراز منه وإنما عظم الوعيد فيه لأن جميع الناس محتاجون إلى المعاوضات والبيع والشراء وقد يكون الإنسان غافلاً لا يهتدي إلى حفظ ماله فالشارع بالغ في المنع من التطفيف والنقصان سعياً في إبقاء الأموال على الملاك ومنعاً من تلطيخ النفس بسرقة ذلك المقدار الحقير والقسطاس في معنى الميزان إلا أنه في العرف أكبر منه ولهذا اشتهر في ألسنة العامة أنه القبان وقيل أنه بلسان الروم أو السرياني والأصح أنه لغة العرب وهو مأخوذ من القسط وهو الذي يحصل فيه الاستقامة والاعتدال وبالجملة فمعناه المعتدل الذي لا يميل إلى أحد الجانبين وأجمعوا على جواز اللغتين فيه ضم القاف وكسرها فالكسر قراءة حمزة والكسائي وحفص عن عاصم والباقون بالضم
ثم قال تعالى ذالِكَ خَيْرٌ أي الإيفاء بالتمام والكمال خير من التطفيف القليل من حيث أن الإنسان يتخلص بواسطته عن الذكر القبيح في الدنيا والعقاب الشديد في الآخرة وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً والتأويل ما يؤل إليه الأمر كما قال في موضع آخر خَيْرٌ مَّرَدّاً ( مريم 76 ) خَيْرٌ عُقْبًا ( الكهف 46 ) خَيْرٌ أَمَلاً ( الكهف 44 ) وإنما حكم تعالى بأن عاقبة هذا الأمر أحسن العواقب لأنه في الدنيا إذا اشتهر بالاحتراز عن التطفيف عول الناس عليه ومالت القلوب إليه وحصل له الاستغناء في الزمان القليل وكم قد رأينا من الفقراء لما اشتهروا عند الناس بالأمانة والاحتراز عن الخيانة أقبلت القلوب عليهم وحصلت الأموال الكثيرة لهم في المدة القليلة وأما في الآخرة فالفوز بالثواب العظيم والخلاص من العقاب الأليم
وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولائِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً

في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما شرح الأوامر الثلاثة عاد بعده إلى ذكر النواهي فنهى عن ثلاثة أشياء أولها قوله وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ وقوله تَقْفُ مأخوذ من قولهم قفوت أثر فلان أقفو قفواً وقفواً إذا اتبعت أثره وسميت قافية الشعر قافية لأنها تقفو البيت وسميت القبيلة المشهورة بالقافة لأنهم يتبعون آثار أقدام الناس ويستدلون بها على أحوال الإنسان وقال تعالى ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى ءاثَارِهِم بِرُسُلِنَا ( الحديد 27 ) وسمي القفا قفا لأنه مؤخر بدن الإنسان كأنه شيء يتبعه ويقفوه فقوله وَلاَ تَقْفُ أي ولا تتبع ولا تقتف ما لا علم لك به من قول أو فعل وحاصله يرجع إلى النهي عن الحكم بما لا يكون معلوماً وهذه قضية كلية يندرج تحتها أنواع كثيرة وكل واحد من المفسرين حمله على واحد من تلك الأنواع وفيه وجوه
الوجه الأول المراد نهي المشركين عن المذاهب التي كانوا يعتقدونها في الإلهيات والنبوات بسبب تقليد أسلافهم لأنه تعالى نسبهم في تلك العقائد إلى اتباع الهوى فقال إِنْ هِى َ إِلاَّ أَسْمَاء ضِيزَى إِنْ هِى َ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَءابَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ ( النجم 23 ) وقال في إنكارهم البعث بَلِ ادرَكَ عِلْمُهُمْ فِى الاْخِرَة ِ بَلْ هُمْ فِى شَكّ مّنْهَا بَلْ هُم مّنْهَا عَمُونَ ( النمل 66 ) وحكي عنهم أنهم قالوا إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ( الجاثية 32 ) وقال وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مّنَ اللَّهِ ( القصص 50 ) وقال وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَاذَا حَلَالٌ وَهَاذَا حَرَامٌ ( النحل 116 ) الآية وقال هَلْ عِندَكُم مّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ ( الأنعام 148 )
والقول الثاني نقل عن محمد بن الحنفية أن المراد منه شهادة الزور وقال ابن عباس لا تشهد إلا بما رأته عيناك وسمعته أذناك ووعاه قلبك
والقول الثالث المراد منه النهي عن القذف ورمي المحصنين والمحصنات بالأكاذيب وكانت عادة العرب جارية بذلك يذكرونها في الهجاء ويبالغون فيه
والقول الرابع المراد منه النهي عن الكذب قال قتادة لا تقل سمعت ولم تسمع ورأيت ولم تر وعلمت ولم تعلم
والقول الخامس أن القفو هو البهت وأصله من القفا كأنه قول يقال خلفه وهو في معنى الغيبة وهو ذكر الرجل في غيبته بما يسوءه وفي بعض الأخبار من قفا مسلماً بما ليس فيه حبسه الله في ردغة الخبال واعلم أن اللفظ عام يتناول الكل فلا معنى للتقليد والله أعلم
المسألة الثانية احتج نفاة القياس بهذه الآية فقالوا القياس لا يفيد إلا الظن والظن مغاير للعلم فالحكم في دين الله بالقياس حكم بغير المعلوم فوجب أن لا يجوز لقوله تعالى وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ
أجيب عنه من وجوه الأول أن الحكم في الدين بمجرد الظن جائز بإجماع الأمة في صور كثيرة

أحدها أن العمل بالفتوى عمل بالظن وهو جائز وثانيها العمل بالشهادة عمل بالظن وأنه جائز وثالثها الاجتهاد في طلب القبلة لا يفيد إلا الظن وأنه جائز ورابعها قيم المتلفات وأروش الجنايات لا سبيل إليها إلا بالظن وأنه جائز وخامسها الفصد والحجامة وسائر المعالجات بناء على الظن وأنه جائز وسادسها كون هذه الذبيحة ذبيحة للمسلم مظنون لا معلوم وبناء الحكم عليه جائز وسابعها قال تعالى وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مّنْ أَهْلِهَا ( النساء 35 ) وحصول ذلك الشقاق مظنون لا معلوم وثامنها الحكم على الشخص المعين بكونه مؤمناً مظنون ثم نبني على هذا الظن أحكاماً كثيرة مثل حصول التوارث ومثل الدفن في مقابر المسلمين وغيرهما وتاسعها جميع الأعمال المعتبرة في الدنيا من الأسفار وطلب الأرباح والمعاملات إلى الآجال المخصوصة والاعتماد على صداقة الأصدقاء وعداوة الأعداء كلها مظنونة وبناء الأمر على تلك الظنون جائز وعاشرها قال عليه السلام ( نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر ) وذلك تصريح بأن الظن معتبر في هذه الأنواع العشرة فبطل قول من يقول إنه لا يجوز بناء الأمر على الظن
والجواب الثاني أن الظن قد يسمى بالعلم والدليل عليه قوله تعالى إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ ( الممتحنة 10 ) ومن المعلوم أنه إنما يمكن العلم بأيمانهن بناء على اقرارهن وذلك لا يفيد إلا الظن فههنا الله تعالى سمى الظن علماً
والجواب الثالث أن الدليل القاطع لما دل على وجوب العمل بالقياس وكان ذلك الدليل دليلاً على أنه متى حصل ظن أن حكم الله في هذه السورة يساوي حكمه في محل النص فأنتم مكلفون بالعمل على وفق ذلك الظن فههنا الظن وقع في طريق الحكم فأما ذلك الحكم فهو معلوم متيقن
أجاب نفاة القياس عن السؤال الأول فقالوا قوله تعالى وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ عام دخله التخصيص في الصور العشرة المذكورة فيبقى هذا العموم فيما وراء هذه الصور حجة ثم نقول الفرق بين هذه الصور العشر وبين محل النزاع أن هذه الصور العشر مشتركة في أن تلك الأحكام أحكام مختصة بأشخاص معينين في أوقات معينة فإن الواقعة التي يرجع فيها الإنسان المعين إلى المعنى المعين واقعة متعلقة بذلك الشخص المعين وكذلك القول في الشهادة وفي طلب القبلة وفي سائر الصور والتنصيص على وقائع الأشخاص المعينين في الأوقات المعينة يجري مجرى التنصيص على ما لا نهاية له وذلك متعذر فلهذه الضرورة اكتفينا بالظن أما الأحكام المثبتة بالأقيسة فهي أحكام كلية معتبرة في وقائع كلية وهي مضبوطة قليلة والتنصيص عليها ممكن ولذلك فإن الفقهاء الذين استخرجوا تلك الأحكام بطريق القياس ضبطوها وذكروها في كتبهم
إذا عرفت هذا فنقول التنصيص على الأحكام في الصور العشر التي ذكرتموها غير ممكن فلا جرم اكتفى الشارع فيها بالظن أما المسائل المثبتة بالطرق القياسية التنصيص عليها ممكن فلم يجز الاكتفاء فيها بالظن فظهر الفرق
وأما الجواب الثاني وهو قولهم الظن قد يسمى علماً فنقول هذا باطل فإنه يصح أن يقال هذا مظنون وغير معلوم وهذا معلوم وغير مظنون وذلك يدل على حصول المغايرة ثم الذي يدل عليه قوله تعالى

قُلْ هَلْ عِندَكُم مّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ ( الأنعام 148 ) نفي العلم واثبات للظن وذلك يدل على حصول المغايرة وأما قوله تعالى فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ ( الممتحنة 10 ) فالمؤمن هو المقر وذلك الإقرار هو العلم
وأما الجواب الثالث فهو أيضاً ضعيف لأن ذلك الكلام إنما يتم لو ثبت أن القياس حجة بدليل قاطع وذلك باطل لأن تلك الحجة إما أن تكون عقلية أو نقلية والأول باطل لأن القياس الذي يفيد الظن لا يجب عقلاً أن يكون حجة والدليل عليه أنه لا نزاع أن يصح من الشرع أن يقول نهيتكم عن الرجوع إلى القياس ولو كان كونه حجة أمراً عقلياً محضاً لامتنع ذلك والثاني أيضاً باطل لأن الدليل النقلي في كون القياس حجة إنما يكون قطعياً لو كان منقولاً نقلاً متواتراً وكانت دلالته على ثبوت هذا المطلوب دلالة قطعية غير محتملة النقيض ولو حصل مثل هذا الدليل لوصل إلى الكل ولعرفه الكل ولارتفع الخلاف وحيث لم يكن كذلك علمنا أنه لم يحصل في هذه المسألة دليل سمعي قاطع فثبت أنه لم يوجد في إثبات كون القياس حجة دليل قاطع ألبتة فبطل قولكم كون الحكم المثبت بالقياس حجة معلوم لا مظنون فهذا تمام الكلام في تقرير هذا الدليل وأحسن ما يمكن أن يقال في الجواب عنه إن التمسك بهذه الآية التي عولتم عليها تمسك بعام مخصوص والتمسك بالعام المخصوص لا يفيد إلا الظن فلو دلت هذه الآية على أن التمسك بالظن غير جائز لدلت على أن التمسك بهذه الآية غير جائز فالقول بكون هذه الآية حجة يفضي ثبوته إلى نفيه فكان تناقضاً فسقط الاستدلال به والله أعلم وللمجيب أن يجيب فيقول نعلم بالتواتر الظاهر من دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أن التمسك بآيات القرآن حجة في الشريعة ويمكن أن يجاب عن هذا الجواب بأن كون العام المخصوص حجة غير معلوم بالتواتر والله أعلم
المسألة الثالثة قوله إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولائِكَ كَانَ عَنْهُ فيه بحثان
البحث الأول أن العلوم إما مستفادة من الحواس أو من العقول أما القسم الأول فإليه الإشارة بذكر السمع والبصر فإن الإنسان إذا سمع شيئاً ورآه فإنه يرويه ويخبر عنه وأما القسم الثاني فهو العلوم المستفادة من العقل وهي قسمان البديهية والكسبية وإلى العلوم العقلية الإشارة بذكر الفؤاد
البحث الثاني ظاهر الآية يدل على أن هذه الجوارح مسؤولة وفيه وجوه
الوجه الأول أن المراد أن صاحب السمع والبصر والفؤاد هو المسؤول لأن السؤال لا يصح إلا ممن كان عاقلاً وهذه الجوارح ليست كذلك بل العاقل الفاهم هو الإنسان فهو كقوله تعالى حَافِظِينَ وَاسْئَلِ الْقَرْيَة َ ( يوسف 82 ) والمراد أهلها يقال له لم سمعت ما لايحل لك سماعه ولم نظرت إلى ما لا يحل لك النظر إليه ولم عزمت على ما لا يحل لك العزم عليه
والوجه الثاني أن تقرير الآية أن أولئك الأقوام كلهم مسؤولون عن السمع والبصر والفؤاد فيقال لهم استعملتم السمع فيماذا أفي الطاعة أو في المعصية وكذلك القول في بقية الأعضاء وذلك لأن هذه الحواس آلات النفس والنفس كالأمير لها والمستعمل لها في مصالحها فإن استعملتها النفس في الخيرات استوجبت الثواب وإن استعملتها في المعاصي استحقت العقاب

والوجه الثالث أنه ثبت بالقرآن أنه تعالى يخلق الحياة في الأعضاء ثم إنها تشهد على الإنسان والدليل عليه قوله تعالى يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( النور 24 ) ولذلك لا يبعد أن يخلق الحياة والعقل والنطق في هذه الأعضاء ثم إنه تعالى يوجه السؤال عليها
وَلاَ تَمْشِ فِى الأرض مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأرض وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً كُلُّ ذالِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا
اعلم أن هذا هو النوع الثاني من الأشياء التي نهى الله عنها في هذه الآيات وفيه مسائل
المسألة الأولى المرح شدة الفرح يقال مرح يمرح مرحاً فهو مرح والمراد من الآية النهي عن أن يمشي الإنسان مشياً يدل على الكبرياء والعظمة قال الزجاج لا تمش في الأرض مختالاً فخوراً ونظيره قوله تعالى في سورة الفرقان وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الاْرْضِ هَوْناً ( الفرقان 63 ) وقال في سورة لقمان وَاقْصِدْ فِى مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ ( لقمان 19 ) وقال أيضاً فيها وَلاَ تَمْشِ فِى الاْرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ( لقمان 18 )
المسألة الثانية قال الأخفش ولو قرى مَرَحاً بالكسر كان أحسن في القراءة قال الزجاج مرحاً مصدر ومرحاً اسم الفاعل وكلاهما جائز إلا أن المصدر أحسن ههنا وأوكد تقول جاء زيد ركضاً وراكضاً فركضاً أوكد لأنه يدل على توكيد الفعل ثم إنه تعالى أكد النهي عن الخيلاء والتكبر فقال إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الاْرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً والمراد من الخرق ههنا نقب الأرض ثم ذكروا فيه وجوهاً الأول أن المشي إنما يتم بالارتفاع والانخفاض فكأنه قيل إنك حال الانخفاض لا تقدر على خرق الأرض ونقبها وحال الارتفاع لا تقدر على أن تصل إلى رؤوس الجبال والمراد التنبيه على كونه ضعيفاً عاجزاً فلا يليق به التكبر الثاني المراد منه أن تحتك الأرض التي لا تقدر على خرقها وفوقك الجبال التي لا تقدر على الوصول إليها فأنت محاط بك من فوقك وتحتك بنوعين من الجماد وأنت أضعف منهما بكثير والضعيف المحصور لا يليق به التكبر فكأنه قيل له تواضع ولا تتكبر فإنك خلق ضعيف من خلق الله المحصور بين حجارة وتراب فلا تفعل فعل المقتدر القوي
ثم قال تعالى كُلُّ ذالِكَ كَانَ سَيّئُهُ عِنْدَ رَبّكَ مَكْرُوهًا وفيه مسائل
المسألة الأولى الأكثرون قرؤا سيئه بضم الهاء والهمزة وقرى نافع وابن كثير وأبو عمرو سيئه منصوبة أما وجه قراءة الأكثرين فظاهر من وجهين
الوجه الأول قال الحسن إنه تعالى ذكر قبل هذا أشياء أمر ببعضا ونهى عن بعضها فلو حكم على الكل بكونه سيئه لزم كون المأمور به سيئة وذلك لا يجوز أما إذا قرأناه بالإضافة كان المعنى أن ما كان من تلك الأشياء المذكورة سيئة فهو مكروه عند الله واستقام الكلام

والوجه الثاني أنا لو حكمنا على كل ما تقدم ذكره بكونه سيئه لوجب أن يقال إنها مكروهة وليس الأمر كذلك لأنه تعالى قال مَكْرُوهًا أما إذا قرأناه بصيغة الإضافة كان المعنى أن سيىء تلك الأقسام يكون مكروهاً وحينئذ يستقيم الكلام أما قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو فيها وجوه الأول أن الكلام تم عند قوله ذالِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ( النساء 59 ) ثم ابتدأ وقال وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ( الإسراء 36 ) وَلاَ تَمْشِ فِى الاْرْضِ مَرَحًا ( الإسراء 37 )
ثم قال كُلُّ ذالِكَ كَانَ سَيّئُهُ والمراد هذه الأشياء الأخيرة التي نهى الله عنها والثاني أن المراد بقوله كُلُّ ذالِكَ أي كل ما نهى الله عنه فيما تقدم وأما قوله مَكْرُوهًا فذكروا في تصحيحه على هذه القراءة وجوهاً الأول التقدير كل ذلك كان سيئة وكان مكروهاً الثاني قال صاحب ( الكشاف ) السيئة في حكم الأسماء بمنزلة الذنب والإثم زال عنه حكم الصفات فلا اعتبار بتأنيثه ولا فرق بين من قرأ سيئة ومن قرأ سيئه ألا ترى أنك تقول الزنا سيئة كما تقول السرقة سيئة فلا تفرق بين إسنادها إلى مذكر ومؤنث الثالث فيه تقديم وتأخير والتقدير كل ذلك كان مكروهاً وسيئة عند ربك الرابع أنه محمول على المعنى لأن السيئة هي الذنب وهو مذكر
المسألة الثانية قال القاضي دلت هذه الآية على أن هذه الأعمال مكروهة عند الله تعالى والمكروه لا يكون مراداً له فهذه الأعمال غير مرادة لله تعالى فبطل قول من يقول كل ما دخل في الوجود فهو مراد لله تعالى وإذا ثبت أنها ليست بإرادة الله تعالى وجب أن لا تكون مخلوقة له لأنها لو كانت مخلوقة لله تعالى لكانت مرادة له لا يقال المراد من كونها مكروهة أن الله تعالى نهى عنها وأيضاً معنى كونها مكروهة أن الله تعالى كره وقوعها وعلى هذا التقدير فهذا لا يمنع أن الله تعالى أراد وجودها لأن الجواب عن الأول أنه عدول عن الظاهر وأيضاً فكونها سيئة عند ربك يدل على كونها منهياً عنها فلو حملنا المكروه على النهي لزم التكرار
والجواب عن الثاني أنه تعالى إنما ذكر هذه الآية في معرض الزجر عن هذه الأفعال ولا يليق بهذا الموضع أن يقال إنه يكره وقوعها هذا تمام هذا الاستدلال
والجواب أن المراد من المكروه المنهي عنه ولا بأس بالتكرير لأجل التأكيد والله أعلم
المسألة الثالثة قال القاضي دلت هذه الآية على أنه تعالى كما أنه موصوف بكونه مريداً فكذلك أيضاً موصوف بكونه كارهاً وقال أصحابنا الكراهية في حقه تعالى محمولة إما على النهي أو على إرادة العدم والله أعلم
ذَالِكَ مِمَّآ أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَة ِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا ءَاخَرَ فَتُلْقَى فِى جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَة ِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا

اعلم أنه تعالى جمع في هذه الآية خمسة وعشرين نوعاً من التكاليف فأولها قوله وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا ءاخَرَ ( الإسراء 22 ) وقوله وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ( الإسراء 23 ) مشتمل على تكليفين الأمر بعبادة الله تعالى والنهي عن عبادة غير الله فكان المجموع ثلاثة وقوله وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً ( الإسراء 23 ) هو الرابع ثم ذكر في شرح ذلك الإحسان خمسة أخرى وهي قوله فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلّ مِنَ الرَّحْمَة ِ وَقُل رَّبّ ارْحَمْهُمَا ( الإسراء 23 24 ) فيكون المجموع تسعة ثم قال وَءاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وهو ثلاثة فيكون المجموع إثني عشر ثم قال وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا ( الإسراء 26 ) فيصير ثلاثة عشر ثم قال وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَة ٍ مّن رَّبّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا وهو الرابع عشر ثم قال وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَة ً إِلَى عُنُقِكَ ( الإسراء 28 29 ) إلى آخر الآية وهو الخامس عشر ثم قال وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ ( الإسراء 31 ) وهو السادس عشر ثم قال وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ وهو السابع عشر ثم قال وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَاناً وهو الثامن عشر ثم قال فَلاَ يُسْرِف فّى الْقَتْلِ ( الإسراء 33 ) وهو التاسع عشر ثم قال وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ ( الإسراء 34 ) وهو العشرون ثم قال وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وهو الحادي والعشرون ثم قال وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ( الإسراء 35 ) وهو الثاني والعشرون ثم قال وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ( الإسراء 36 ) وهو الثالث والعشرون ثم قال وَلاَ تَمْشِ فِى الاْرْضِ مَرَحًا ( الإسراء 37 ) وهو الرابع والعشرون ثم قال وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا ءاخَرَ وهو الخامس والعشرون فهذه خمسة وعشرون نوعاً من التكاليف بعضها أوامر وبعضها نواه جمعها الله تعالى في هذه الآيات وجعل فاتحتها قوله وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا ءاخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً ( الإسراء 22 ) وخاتمتها قوله وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا ءاخَرَ فَتُلْقَى فِى جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا
إذا عرفت هذا فنقول ههنا فوائد
الفائدة الأولى قوله ذالِكَ إشارة إلى كل ما تقدم ذكره من التكاليف وسماها حكمة وإنما سماها بهذا الاسم لوجوه أحدها أن حاصلها يرجع إلى الأمر بالتوحيد وأنواع الطاعات والخيرات والإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة والعقول تدل على صحتها فالأتي بمثل هذه الشريعة لا يكون داعياً إلى دين الشيطان بل الفطرة الأصلية تشهد بأنه يكون داعياً إلى دين الرحمن وتمام تقرير هذا ما نذكره في سورة الشعراء في قوله هَلْ أُنَبّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ( الشعراء 221 222 ) وثانيها أن الأحكام المذكورة في هذه الآيات شرائع واجبة الرعاية في جميع الأديان والملل ولا تقبل النسخ والإبطال فكانت محكمة وحمكة من هذا الاعتبار وثالثها أن الحكمة عبارة عن معرفة الحق لذاته والخير لأجل العمل به فالأمر بالتوحيد عبارة عن القسم الأول وسائر التكاليف عبارة عن تعليم الخيرات حتى يواظب الإنسان عليها ولا ينحرف عنها فثبت أن هذه الأشياء المذكورة في هذه الآيات عين الحكمة وعن ابن عباس أن هذه الآيات كانت في ألواح موسى عليه الصلاة والسلام أولها وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا ءاخَرَ قال تعالى وَكَتَبْنَا لَهُ فِى الاْلْوَاحِ مِن كُلّ شَى ْء مَّوْعِظَة ً وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَى ْء ( الأعراف 145 )
والفائدة الثانية من فوائد هذه الآية أنه تعالى بدأ في هذه التكاليف بالأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك

وختمها بعين هذا المعنى والمقصود منه التنبيه على أن أول كل عمل وقول وفكر وذكر يجب أن يكون ذكر التوحيد وآخره يجب أن يكون ذكر التوحيد تنبيهاً على أن المقصود من جميع التكاليف هو معرفة التوحيد والاستغراق فيه فهذا التكرير حسن موقعه لهذه الفائدة العظيمة ثم إنه تعالى ذكر في الآية الأولى أن الشرك يوجب أن يكون صاحبه مذموماً مخذولاً وذكر في الآية الأخيرة أن الشرك يوجب أن يلقي صاحبه في جهنم ملوماً مدحوراً فاللوم والخذلان يحصل في الدنيا وإلقاؤه في جهنم يحصل يوم القيامة ويجب علينا أن نذكر الفرق بين المذموم المخذول وبين الملوم المدحور فنقول أما الفرق بين المذموم وبين الملوم فهو أن كونه مذموماً معناه أن يذكر له أن الفعل الذي أقدم عليه قبيح ومنكر فهذا معنى كونه مذموماً وإذا ذكر له ذلك فبعد ذلك يقال له لم فعلت مثل هذا الفعل وما الذي حملك عليه وما استفدت من هذا لعمل إلا إلحاق الضرر بنفسك وهذا هو اللوم فثبت أن أول الأمر هو أن يصير مذموماً وآخره أن يصير ملوماً وأما الفرق بين المخذول وبين المدحور فهو أن المخذول عبارة عن الضعيف يقال تخاذلت أعضاؤه أي ضعفت وأما المدحور فهو المطرود والطرد عبارة عن الاستخفاف والإهانة قال تعالى وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً فكونه مخذولاً عبارة عن ترك إعانته وتفويضه إلى نفسه وكونه مدحوراً عبارة عن إهانته والاستخفاف به فثبت أن أول الأمر أن يصير مخذولاً وآخره أن يصير مدحوراً والله أعلم بمراده
وأما قوله أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَئِكَة ِ إِنَاثًا فاعلم أنه تعالى لما نبه على فساد طريقة من أثبت لله شريكاً ونظيراً نبه على طريقة من أثبت له الولد وعلى كمال جهل هذه الفرقة وهي أنهم اعتقدوا أن الولد قسمان فأشرف القسمين البنون وأخسهما البنات ثم إنهم أثبتوا البنين لأنفسهم مع علمهم بنهاية عجزهم ونقصهم وأثبتوا البنات لله مع علمهم بأن الله تعالى هو الموصوف بالكمال الذي لا نهاية له والجلال الذي لا غاية له وذلك يدل على نهاية جهل القائل بهذا القول ونظيره قوله تعالى أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ ( الطور 39 ) وقوله أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الاْنثَى ( النجم 21 ) وقوله أَفَأَصْفَاكُمْ يقال أصفاه بالشيء إذا آثر به ويقال للضياع التي يستخصها السلطان بخاصية الصوافي قال أبو عبيدة في قوله أَفَأَصْفَاكُمْ أفخصكم وقال المفضل أخلصكم قال النحويون هذه الهمزة همزة تدل على الإنكار على صيغة السؤال عن مذهب ظاهر الفساد لا جواب لصاحبه إلا بما فيه أعظم الفضيحة
ثم قال تعالى إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا وبيان هذا التعظيم من وجهين الأول أن إثبات الولد يقتضي كونه تعالى مركباً من الأجزاء والأبعاض وذلك يقدح في كونه قديماً واجب الوجود لذاته وذلك عظيم من القول ومنكر من الكلام والثاني أن بتقدير ثبوت الولد فقد جعلتم أشرف القسمين لأنفسكم وأخس القسمين لله وهذا أيضاً جهل عظيم
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِى هَاذَا الْقُرْءَانِ لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ ءَالِهَة ٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِى الْعَرْشِ سَبِيلاً سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ والأرض وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَى ْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَاكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا

اعلم أن التصريف في اللغة عبارة عن صرف الشيء من جهة إلى جهة نحو تصريف الرياح وتصريف الأمور هذا هو الأصل في اللغة ثم جعل لفظ التصريف كناية عن التبيين لأن من حاول بيان شيء فإنه يصرف كلامه من نوع إلى نوع آخر ومن مثال إلى مثال آخر ليكمل الإيضاح ويقوي البيان فقوله وَلَقَدْ صَرَّفْنَا أي بينا ومفعول التصريف محذوف وفيه وجوه أحدها ولقد صرفنا في هذا القرآن ضروباً من كل مثل وثانيها أن تكون لفظة ( في ) زائدة كقوله وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرّيَّتِى ( الأحقاف 15 ) أي أصلح لي ذريتي أما قوله لّيَذْكُرُواْ ففيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ الجمهور لّيَذْكُرُواْ بفتح الذال والكاف وتشديدهما والمعنى ليتذكروا فأدغمت التاء في الذال لقرب مخرجيهما وقرأ حمزة والكسائي ليذكروا ساكنة الذال مضمومة الكاف وفي سورة الفرقان مثله من الذكر قال الواحدي والتذكر ههنا أشبه من الذكر لأن المراد منه التدبر والتفكر وليس المراد منه الذكر الذي يحصل بعد النسيان ثم قال وأما قراءة حمزة والكسائي ففيها وجهان الأول أن الذكر قد جاء بمعنى التأمل والتدبر كقوله تعالى خُذُواْ مَا ءاتَيْنَاكُم بِقُوَّة ٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ ( البقرة 63 ) والمعنى وافهموا ما فيه والثاني أن يكون المعنى صرفنا هذه الدلائل في هذا القرآن ليذكروه بألسنتهم فإن الذكر باللسان قد يؤدي إلى تأثر القلب بمعناه
المسألة الثانية قال الجبائي قوله وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِى هَاذَا الْقُرْءانِ لِيَذَّكَّرُواْ يدل على أنه تعالى إنما أنزل هذا القرآن وإنما أكثر فيه من ذكر الدلائل لأنه تعالى أراد منهم فهمها والإيمان بها وهذا يدل على أنه تعالى يفعل أفعاله لأغراض حكمية ويدل على أنه تعالى أراد الإيمان من الكل سواء آمنوا أو كفروا والله أعلم
ثم قال تعالى وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا وفيه مسألتان
المسألة الأولى قال الأصم شبههم بالدواب النافرة أي ما ازدادوا من الحق إلا بعداً وهو كقوله فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا ( التوبة 125 )
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى ما أراد الإيمان من الكفار وقالوا إنه تعالى عالم بأن تصريف القرآن لا يزيدهم إلا نفوراً فلو أراد الإيمان منهم لما أنزل عليهم ما يزيدهم نفرة ونبوة عنه لأن الحكيم إذا أراد تحصيل أمر من الأمور وعلم أن الفعل الفلاني يصير سبباً لمزيد النفرة والنبوة عنه فإنه عندما يحاول تحصيل ذلك المقصود يحترز عما يوجب مزيد النفرة والنبوة فلما أخبر تعالى أن هذا التصريف يزيدهم نفوراً علمنا أنه ما أراد الإيمان منهم والله أعلم
أما قوله تعالى قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ ءالِهَة ٌ كَمَا تَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِى الْعَرْشِ سَبِيلاً ففيه مسألتان
المسألة الأولى في تفسيره وجهان

الوجه الأول أن المراد من قوله إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِى الْعَرْشِ سَبِيلاً هو أنا لو فرضنا وجود آلهة مع الله تعالى لغلب بعضهم بعضاً وحاصله يرجع إلى دليل التمانع وقد شرحناه في سورة الأنبياء في تفسير قوله لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَة ٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ( الأنبياء 22 ) فلا فائدة في الإعادة
الوجه الثاني أن الكفار كانوا يقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى فقال الله لو كانت هذه الأصنام كما تقولون من أنها تقربكم إلى الله زلفى لطلبت لأنفسها أيضاً قربة إلى الله تعالى وسبيلاً إليه ولطلبت لأنفسها المراتب العالية والدرجات الشريفة من الأحوال الرفيعة فلما لم تقدر أن تتخذ لأنفسها سبيلاً إلى الله فكيف يعقل أن تقربكم إلى الله
المسألة الثانية قرأ ابن كثير كما يقولون وعما يقولون ويسبح بالياء في هذه الثلاثة والمعنى كما يقول المشركون من إثبات الآلهة من دونه فهو مثل قوله قُلْ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ ( آل عمران 12 ) وقرأ حمزة والكسائي كلها بالتاء وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم في الأول بالتاء على الخطاب وفي الثاني والثالث بالياء على الحكاية وقرأ حفص عن عاصم الأولين بالياء والأخير بالتاء وقرأ أبو عمرو الأول والأخير بالتاء والأوسط بالياء
ثم قال تعالى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّا كَبِيرًا وفيه مسألتان
المسألة الأولى لما أقام الدليل القاطع على كونه منزهاً عن الشركاء وعلى أن القول بإثبات الآلهة قول باطل أردفه بما يدل على تنزيهه عن هذا القول الباطل فقال سُبْحَانَهُ وقد ذكرنا أن التسبيح عبارة عن تنزيه الله تعالى عما لا يليق به ثم قال وَتَعَالَى والمراد من هذا التعالي الارتفاع وهو العلو وظاهر أن المراد من هذا التعالي ليس هو التعالي في المكان والجهة لأن التعالي عن الشريك والنظير والنقائص والآفات لا يمكن تفسيره بالتعالي بالمكان والجهة فعلمنا أن لفظ التعالي في حق الله تعالى غير مفسر بالعلو بحسب المكان والجهة
المسألة الثانية جعل العلو مصدر التعالي فقال تعالى عُلُوّاً كَبِيراً وكان يجب أن يقال تعالى تعالياً كبيراً إلا أن نظيره قوله تعالى وَاللَّهُ أَنبَتَكُمْ مّنَ الاْرْضِ نَبَاتاً ( نوح 17 )
فإن قيل ما الفائدة في وصف ذلك العلو بالكبير
قلنا لأن المنافاة بين ذاته وصفاته سبحانه وبين ثبوت الصاحبة والولد والشركاء والأضداد والأنداد منافاة بلغت في القوة والكمال إلى حيث لا تعقل الزيادة عليها لأن المنافاة بين الواجب لذاته والممكن لذاته وبين القديم والمحدث وبين الغني والمحتاج منافاة لا تعقل الزيادة عليها فلهذا السبب وصف الله تعالى ذلك العلو بالكبير
ثم قال تعالى تُسَبّحُ لَهُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَن فِيهِنَّ وفيه مسألتان
المسألة الأولى اعلم أن الحي المكلف يسبح لله بوجهين الأول بالقول كقوله باللسان سبحان الله والثاني بدلالة أحواله على توحيد الله تعالى وتقديسه وعزته فأما الذي لا يكون مكلفاً مثل البهائم ومن لا يكون حياً مثل الجمادات فهي إنما تسبح لله تعالى بالطريق الثاني لأن التسبيح بالطريق الأول لا يحصل إلا

مع الفهم والعلم والإدراك والنطق وكل ذلك في الجماد محال فلم يبق حصول التسبيح في حقه إلا بالطريق الثاني
واعلم أنا لو جوزنا في الجماد أن يكون عالماً متكلماً لعجزنا عن الاستدلال بكونه تعالى عالماً قادراً على كونه حياً وحينئذ يفسد علينا باب العلم بكونه حياً وذلك كفر فإنه يقال إذا جاز في الجمادات أن تكون عالمة بذات الله تعالى وصفاته وتسبحه مع أنها ليست بأحياء فحينئذ لا يلزم من كون الشيء عالماً قادراً متكلماً كونه حياً فلم يلزم من كونه تعالى عالماً قادراً كونه حياً وذلك جهل وكفر لأن من المعلوم بالضرورة أن من ليس بحي لم يكن عالماً قادراً متكلماً هذا هو القول الذي أطبق العلماء المحققون عليه ومن الناس من قال إن الجمادات وأنواع النبات والحيوان كلها تسبح الله تعالى واحتجوا على صحة قولهم بأن قالوا دل هذا النص على كونها مسبحة لله تعالى ولا يمكن تفسير هذا التسبيح بكونها دلائل على كمال قدرة الله تعالى وحكمته لأنه تعالى قال وَلَاكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ فهذا يقتضي أن تسبيح هذه الأشياء غير معلوم لنا ودلالتها على وجود قدرة الله وحكمته معلوم والمعلوم مغاير لما هو غير معلوم فدل على أنها تسبح الله تعالى وأن تسبيحها غير معلوم لنا فوجب أن يكون التسبيح المذكور في هذه الآية مغايراً لكونها دالة على وجود قدرة الله تعالى وحكمته
والجواب عنه من وجوه
الوجه الأول أنك إذا أخذت تفاحة واحدة فتلك التفاحة مركبة من عدد كثر من الأجزاء التي لا تتجزأ وكل واحد من تلك الأجزاء دليل تام مستقل على وجود الإله ولكل واحد من تلك الأجزاء التي لا تتجزأ حفاة مخصوصة من الطبع والطعم واللون والرائحة والحيز والجهة واختصاص ذلك الجوهر الفرد بتلك الصفة المعينة من الجائزات فلا يحصل ذلك الاختصاص إلا بتخصيص مخصص قادر حكيم
إذا عرفت هذا فقد ظهر أن كل واحد من أجزاء تلك التفاحة دليل تام على وجود الإله وكل صفة من الصفات القائمة بذلك الجزء الواحد فهو أيضاً دليل تام على وجود الإله تعالى ثم عدد تلك الأجزاء غير معلوم وأحوال تلك الصفات غير معلومة فلهذا المعنى قال تعالى وَلَاكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ
والوجه الثاني هو أن الكفار وإن كانوا يقرون بألسنتهم بإثبات إله العالم إلا أنهم ما كانوا يتفكرون في أنواع الدلائل ولهذا المعنى قال تعالى وَكَأَيّن مِن ءايَة ٍ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ فكان المراد من قوله وَلَاكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ هذا المعنى
والوجه الثالث أن القوم وإن كانوا مقرين بألسنتهم بإثبات إله العالم إلا أنهم ما كانوا عالمين بكمال قدرته ولذلك فإنهم استبعدوا كونه تعالى قادراً على الحشر والنشر فكان المراد ذلك وأيضاً فإنه تعالى قال لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ ءالِهَة ٌ كَمَا تَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِى الْعَرْشِ سَبِيلاً فهم ما كانوا عالمين بهذا الدليل فلما ذكر هذا الدليل قال تُسَبّحُ لَهُ السَّمَاوَاتِ السَّبْعُ وَالاْرْضُ وَمَن فِيهِنَّ فتسبيح السموات والأرض ومن فيهن يشهد بصحة هذا الدليل وقوته وأنتم لا تفقهون هذا الدليل ولا تعرفونه بل نقول إن القوم كانوا غافلين عن أكثر دلائل التوحيد والعدل والنبوة والمعاد فكان المراد من قوله وَلَاكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ذلك ومما يدل على أن الأمر كما ذكرناه قوله إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا فذكر الحليم

والغفور ههنا يدل على أن كونهم بحيث لا يفقهون ذلك التسبيح جرم عظيم صدر عنهم وهذا إنما يكون جرماً إذا كان المراد من ذلك التسبيح كونها دالة على كمال قدرة الله تعالى وحكمته ثم إنهم لغفلتهم وجهلهم ما عرفوا وجه دلالة تلك الدلائل أما لو حملنا هذا التسبيح على أن هذه الجمادات تسبح الله بأقوالها وألفاظها لم يكن عدم الفقه لتلك التسبيحات جرماً ولا ذنباً وإذا لم يكن ذلك جرماً ولا ذنباً لم يكن قوله إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا لائقاً بهذا الموضع فهذا وجه قوي في نصرة القول الذي اخترناه واعلم أن القائلين بأن هذه الجمادات والحيوانات تسبح الله بألفاظها أضافوا إلى كل حيوان نوعاً آخر من التسبيح وقالوا إنها إذا ذبحت لم تسبح مع أنهم يقولون إن الجمادات تسبح الله فإذا كان كونه جماداً لا يمنع من كونه مسبحاً فكيف صار ذبح الحيوان مانعاً له من التسبيح وقالوا أيضاً إن غصن الشجرة إذا كسر لم يسبح وإذا كان كونه جماداً لم يمنع من كونه مسبحاً فكسره كيف يمنع من ذلك فعلم أن هذه الكلمات ضعيفة والله أعلم
المسألة الثانية قوله تُسَبّحُ لَهُ السَّمَاوَاتِ السَّبْعُ وَالاْرْضُ وَمَن فِيهِنَّ تصريح بإضافة التسبيح إلى السموات والأرض وإلى المكلفين الحاصلين فيهن وقد دللنا على أن التسبيح المضاف إلى الجمادات ليس إلا بمعنى الدلالة على تنزيه الله تعالى وإطلاق لفظ التسبيح على هذا المعنى مجاز وأما التسبيح الصادر عن المكلفين وهو قولهم سبحان الله فهذا حقيقة فيلزم أن يكون قوله تُسَبّحُ لفظاً واحداً قد استعمل في الحقيقة والمجاز معاً وأنه باطل على ما ثبت دليله في أصول الفقه فالأولى أن يحمل هذا التسبيح على الوجه المجازي في حق الجمادات لا في حق العقلاء لئلا يلزم ذلك المحذور والله أعلم
وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرءَانَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاٌّ خِرَة ِ حِجَابًا مَّسْتُورًا وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّة ً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءَاذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِى الْقُرْءَانِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الاٌّ مْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً
اعلم أنه تعالى لما تكلم في الآية المتقدمة في المسائل الإلهية تكلم في هذه الآية فيما يتعلق بتقرير النبوة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في قوله وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرءانَ قولان
القول الأول أن هذه الآية نزلت في قوم كانوا يؤذون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا قرأ القرآن على الناس روي أنه عليه الصلاة والسلام كان كلما قرأ القرآن قام عن يمينه رجلان وعن يساره آخران من ولد قصي يصفقون ويصفرون ويخلطون عليه بالأشعار وعن أسماء أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان جالساً ومعه أبو بكر إذ أقبلت امرأة أبي لهب

ومعها فهر تريد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهي تقول
مذمماً أتينا ودينه قلينا وأمره عصينا
فقال أبو بكر يا رسول الله معها فهر أخشاها عليك فتلا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هذه الآية فجاءت فما رأت رسول الله عليه الصلاة والسلام وقالت إن قريشاً قد علمت أني ابنة سيدها وأن صاحبك هجاني فقال أبو بكر لا ورب هذا البيت ما هجاك وروى ابن عباس أن أبا سفيان والنضر بن الحرث وأبا جهل وغيرهم كانوا يجالسون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ويستمعون إلى حديثه فقال النضر يوماً ما أدري ما يقول محمد غير أني أرى شفتيه تتحرك بشيء وقال أبو سفيان أني لأرى بعض ما يقوله حقاً وقال أبو جهل هو مجنون وقال أبو لهب هو كاهن وقال حويطب بن عبد العزى هو شاعر فنزلت هذه الآية وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا أراد تلاوة القرآن قرأ قبلها ثلاثة آيات وهي قوله في سورة الكهف وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكّرَ بِئَايِاتِ رَبّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِى َ مَا ( الكهف 57 ) وفي النحل أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ( النحل 108 ) وفي حم الجاثية أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَاهَهُ هَوَاهُ ( الجاثية 23 ) إلى آخر الآية فكان الله تعالى يحجبه ببركات هذه الآيات عن عيون المشركين وهو المراد من قوله تعالى جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَة ِ حِجَابًا مَّسْتُورًا وفيه سؤال وهو أنه كان يجب أن يقال حجاباً ساتراً
والجواب عنه من وجوه
الوجه الأول أن ذلك الحجاب حجاب يخلقه الله تعالى في عيونهم بحيث يمنعهم ذلك الحجاب عن رؤية النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك الحجاب شيء لا يراه فكان مستوراً من هذا الوجه احتج أصحابنا بهذه الآية على صحة قولهم في أنه يجوز أن تكون الحاسة سليمة ويكون المرئي حاضراً مع أنه لا يراه ذلك الإنسان لأجل أن الله تعالى خلق في عينيه مانعاً يمنعه عن رؤيته بهذه الآية قالوا إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان حاضراً وكانت حواس الكفار سليمة ثم إنهم ما كانوا يرونه وأخبر الله تعالى أن ذلك إنما كان لأجل أنه جعل بينه وبينهم حجاباً مستوراً والحجاب المستور لا معنى له إلا المعنى الذي خلقه الله تعالى في عيونهم وكان ذلك المعنى مانعاً لهم من أن يروه ويبصروه
والوجه الثاني في الجواب أنه كما يجوز أن يقال لابن وتامر بمعنى ذو لبن وذو تمر فكذلك لا يبعد أن يقال مستوراً معناه ذو ستر والدليل عليه قوله مرطوب أي ذو رطوبة ولا يقال رطيبة ويقال مكان مهول أي فيه هول ولا يقال هلت المكان بمعنى جعلت فيه الهول ويقال جارية مغنوجة ذات غنج ولا يقال غنجتها
والوجه الثالث في الجواب قال الأخفش المستور ههنا بمعنى الساتر فإن الفاعل قد يجيء بلفظ المفعول كما يقال إنك لمشؤم علينا وميمون وإنما هو شائم ويامن لأنه من قولهم شأمهم ويمنهم هذا قول الأخفش وتابعه عليه قوم إلا أن كثيراً منهم طعن في هذا القول والحق هو الجواب الأول
القول الثاني أن معنى الحجاب الطبع الذي على قلوبهم والطبع والمنع الذي منعهم عن أن يدركوا لطائف القرآن ومحاسنه وفوائده فالمراد من الحجاب المستور ذلك الطبع الذي خلقه الله في قلوبهم
ثم قال تعالى وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّة ً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءاذَانِهِمْ وَقْراً وهذه الآية مذكورة بعينها في

سورة الأنعام وذكرنا استدلال أصحابنا بها وذكرنا سؤالات المعتزلة ولا بأس بإعادة بعضها قال الأصحاب دلت هذه الآية على أنه تعالى جعل قلوبهم في الأكنة والأكنة جمع كنان وهو ما ستر الشيء مثل كنان النبل وقوله أَن يَفْقَهُوهُ أي لئلا يفقهوه وجعل في آذانهم وقراً ومعلوم أنهم كانوا عقلاء سامعين فاهمين فعلمنا أن المراد منعهم عن الإيمان ومنعهم عن سماع القرآن بحيث لا يقفون على أسراره ولا يفهمون دقائقه وحقائقه قالت المعتزلة ليس المراد من الآية ما ذكرتم بل المراد منه وجوه أخرى الأول قال الجبائي كانوا يطلبون موضعه في الليالي لينتهوا إليه ويؤذونه ويستدلون على مبيته باستماع قراءته فأمنه الله تعالى من شرهم وذكر له أنه جعل بينه وبينهم حجاباً لا يمكنهم الوصول إليه معه وبين أنه جعل في قلوبهم ما يشغلهم عن فهم القرآن وفي آذانهم ما يمنع من سماع صوته ويجوز أن يكون ذلك مرضاً شاغلاً يمنعهم من المصير إليه والتفرغ له لا أنه حصل هناك كن للقلب ووقر في الأذن الثاني قال الكعبي إن القوم لشدة امتناعهم عن قبول دلائل محمد ( صلى الله عليه وسلم ) صاروا كأنه حصل بينهم وبين تلك الدلائل حجاب مانع وساتر وإنما نسب الله تعالى ذلك الحجاب إلى نفسه لأنه لما خلاهم مع أنفسهم وما منعهم عن ذلك الأعراض صارت تلك التخلية كأنها هي السبب لوقوعهم في تلك الحالة وهذا مثل أن السيد إذا لم يراقب أحوال عبده فإذا ساءت سيرته فالسيد يقول أنا الذي ألقيتك في هذه الحالة بسبب أني خليتك مع رأيك وما راقبت أحوالك الثالث قال القفال إنه تعالى لما خذلهم بمعنى أنه لم يفعل الألطاف الداعية لهم إلى الإيمان صح أن يقال إنه فعل الحجاب السائر
واعلم أن هذه الوجوه مع كلمات أخرى ذكرناها في سورة الأنعام وأجبنا عنها فلا فائدة في الإعادة
ثم قال تعالى وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّة ً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءاذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا واعلم أن المراد أن القوم كانوا عند استماع القرآن على حالتين لأنهم إذا سمعوا من القرآن ما ليس فيه ذكر الله تعالى بقوا مبهوتين متحيرين لا يفهمون منه شيئاً وإذا سمعوا آية فيها ذكر الله تعالى وذم الشرك بالله ولوا نفوراً وتركوا ذلك المجلس وذكر الزجاج في قوله وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً وجهين الأول المصدر والمعنى ولوا نافرين نفورا والثاني أن يكون نفوراً جمع نافر مثل شهود وشاهد وركوع وراكع وسجود وساجد وقعود وقاعد
ثم قال تعالى نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أي نحن أعلم بالوجه الذي يستمعون به وهو الهزؤ والتكذيب و بِهِ في موضع الحال كما تقول مستمعين بالهزؤ و إِذْ يَسْتَمِعُونَ نصب بأعلم أي أعلم وقت استماعهم بما به يستمعون وَإِذَا هُمْ نَجْوَى أي وبما يتناجون به إذ هم ذو نجوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ بدل من قوله وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا وفيه مباحث الأول قال المفسرون أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) علياً أن يتخذ طعاماً ويدعو إليه أشراف قريش من المشركين ففعل علي عليه السلام ذلك ودخل عليهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقرأ عليهم القرآن ودعاهم إلى التوحيد وقال قولوا لا إله إلا الله حتى تطيعكم العرب وتدين لكم العجم فأبوا عليه ذلك وكانوا عند استماعهم من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) القرآن والدعوة إلى الله تعالى يقولون بينهم متناجين هو ساحر وهو مسحور وما أشبه ذلك من القول فأخبر الله تعالى نبيه بأنهم يقولون إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا
فإن قيل إنهم لم يتبعوا رسول الله فكيف يصح أن يقولوا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا

قلنا معناه أنكم إن اتبعتموه فقد اتبعتم رجلاً مسحوراً والمسحور الذي قد سحر فاختلط عليه عقله وزال عن حد الاستواء هذا هو القول الصحيح وقال بعضهم المسحور هو الذي أفسد يقال طعام مسحور إذا أفسد عمله وأرض مسحورة أصابها من المطر أكثر مما ينبغي فأفسدها قال أبو عبيدة يريد بشراً ذا سحر أي ذارئة قال ابن قتيبة ولا أدري ما الذي حمله على هذا التفسير المستكره مع أن السلف فسروه بالوجوه الواضحة وقال مجاهد مَّسْحُورًا أي مخدوعاً لأن السحر حيلة وخديعة وذلك لأن المشركين كانوا يقولون إن محمداً يتعلم من بعض الناس هذه الكلمات وأولئك الناس يخدعونه بهذه الكلمات وهذه الحكايات فلذلك قالوا إنه مسحور أي مخدوع وأيضاً كانوا يقولون إن الشيطان يتخيل له فيظن أنه ملك فقالوا إنه مخدوع من قبل الشيطان
ثم قال انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الاْمْثَالَ أي كل أحد شبهك بشيء آخر فقالوا إنه كاهن وساحر وشاعر ومعلم ومجنون فضلوا عن الحق والطريق المستقيم فلا يستطيعون سبيلاً إلى الهدى والحق
وَقَالُوا أَءِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً قُلْ كُونُواْ حِجَارَة ً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِى صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِى فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّة ٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً
اعلم أنه تعالى لما تكلم أولاً في الإلهيات ثم أتبعه بذكر شبهاتهم في النبوات ذكر في هذه الآية شبهات القوم في إنكار المعاد والبعث والقيامة وقد ذكرنا كثيراً أن مدار القرآن على المسائل الأربعة وهي الإلهيات والنبوات والمعاد والقضاء والقدر وأيضاً أن القوم وصفوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بكونه مسحوراً فاسد العقل فذكروا من جملة ما يدل على فساد عقله أنه يدعي أن الإنسان بعدما يصير عظاماً ورفاتاً فإنه يعود حياً عاقلاً كما كان فذكروا هذا الكلام رواية عنه لتقرير كونه مختل العقل قال الواحدي رحمه الله الرفت كسر الشيء بيدك تقول رفته أرفته بالكسر كما يرفت المدر والعظم البالي والرفات الأجزاء المتفتتة من كل شيء يكسر يقال رفت عظام الجزور رفتاً إذا كسرها ويقال للتبن الرفت لأنه دقاق الزرع قال الأخفش رفت رفتاً فهو مرفوت نحو حطم حطماً فهو محطوم والرفات والحطام الاسم كالجذاد والرضاض والفتات فهذا ما يتعلق باللغة أما تقرير شبهة القوم فهي أن الإنسان إذا مات جفت أعضاؤه وتناثرت وتفرقت في حوالي العالم فاختلط بتلك الأجزاء سائر أجزاء العالم أما الأجزاء المائية في البدن فتختلط بمياه العالم وأما الأجزاء الترابية فتختلط بتراب العالم وأما الأجزاء الهوائية فتختلط بهواء العالم وأما الأجزاء النارية فتختلط بنار العالم وإذا صار الأمر كذلك فكيف يعقل اجتماعها بأعيانها مرة أخرى وكيف يعقل عود الحياة

إليها بأعيانها مرة أخرى فهذا هو تقرير الشبهة
والجواب عنها أن هذا الإشكال لا يتم إلا بالقدح في كمال علم الله وفي كمال قدرته أما إذا سلما كونه تعالى عالماً بجميع الجزئيات فحينئذ هذه الأجزاء وإن اختلطت بأجزاء العالم إلا أنها متمايزة في علم الله تعالى ولما سلمنا كونه تعالى قادراً على كل الممكنات كان قادراً على إعادة التأليف والتركيب والحياة والعقل إلى تلك الأجزاء بأعيانها فثبت أنا متى سلمنا كمال علم الله وكمال قدرته زالت هذه الشبهة بالكلية
أما قوله تعالى قُلْ كُونُواْ حِجَارَة ً أَوْ حَدِيداً فالمعنى أن القوم استبعدوا أن يردهم إلى حال الحياة بعد أن صاروا عظاماً ورفاتاً وهي وإن كانت صفة منافية لقبول الحياة بحسب الظاهر لكن قدروا انتهاء هذه الأجسام بعد الموت إلى صفة أخرى أشد منافاة لقبول الحياة من كونها عظاماً ورفاتاً مثل أن تصير حجارة أو حديداً فإن المنافاة بين الحجرية والحديدية وبين قبول الحياة أشد من المنافاة بين العظمية وبين قبول الحياة وذلك أن العظم قد كان جزءاً من بدن الحي أما الحجارة والحديد فما كانا البتة موصوفين بالحياة فبتقدير أن تصير أبدان الناس موصوفة بصفة الحجرية والحديدية بعد الموت فإن الله تعالى يعيد الحياة إليها ويجعلها حياً عاقلاً كما كان والدليل على صحة ذلك أن تلك الأجسام قابلة للحياة والعقل إذ لو لم يكن هذا القبول حاصلاً لما حصل العقل والحياة لها في أول الأمر وإله العالم عالم بجميع الجزئيات فلا تشتبه عليه أجزاء بدن زيد المطيع بأجزاء بدن عمر والعاصي وقادر على كل الممكنات وإذا ثبت أن عود الحياة إلى تلك الأجزاء ممكن في نفسه وثبت أن إله العالم عالم بجميع المعلومات قادر على كل الممكنات كان عود الحياة إلى تلك الأجزاء ممكناً قطعاً سواء صارت عظاماً ورفاتاً أو صارت شيئاً أبعد من العظم في قبول الحياة وهي أن تصير حجارة أو حديداً فهذا تقرير هذا الكلام بالدليل العقلي القاطع وقوله كُونُواْ حِجَارَة ً أَوْ حَدِيداً ليس المراد منه الأمر بل المراد أنكم لو كنتم كذلك لما أعجزتم الله تعالى عن الإعادة وذلك كقول القائل للرجل أتطمع في وأنا فلان فيقول كن من شئت كن ابن الخليفة فسأطلب منك حقي
فإن قيل ما المراد بقوله أَوْ خَلْقًا
قلنا المراد أن كون الحجر والحديد قابلاً للحياة أمر مستبعد فقيل لهم فافرضوا شيئاً آخر أبعد عن قبول الحياة من الحجر والحديد بحيث يستبعد عقلكم كونه قابلاً للحياة وعلى هذا الوجه فلا حاجة إلى أن يتعين ذلك الشيء لأن المراد أن أبدان الناس وإن انتهت بعد موتها إلى أي صفة فرضت وأي حالة قدرت وإن كانت في غاية البعد عن قبول الحياة فإن الله تعالى قادر على إعادة الحياة إليها وإذا كان المراد من الآية هذا المعنى فلا حاجة إلى تعيين ذلك الشيء وقال ابن عباس المراد منه الموت يعني لو صارت أبدانكم نفس الموت فإن الله تعالى يعيد الحياة إليها واعلم أن هذا الكلام إنما يحسن ذكره على سبيل المبالغة مثل أن يقال لو كنت عين الحياة فالله يميتك ولو كنت عين الغنى فإن الله يفقرك فهذا قد ذكر على سبيل المبالغة أما في نفس الأمر فهذا محال لأن أبدان الناس أجسام والموت عرض والجسم لا ينقلب عرضاً ثم بتقدير أن ينقلب عرضاً فالموت لا يقبل الحياة لأن أحد الضدين يمتنع اتصافه بالضد الآخر وقال مجاهد يعني السماء والأرض
ثم قال فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِى فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّة ٍ والمعنى أنه لما قال لهم كونوا حجارة أو

حديداً أو شيئاً أبعد في قبول الحياة من هذين الشيئين فإن إعادة الحياة إليه ممكنة فعند ذلك قالوا من هذا الذي يقدر على إعادة الحياة إليه قال تعالى قل يا محمد الذي فطركم أول مرة يعني أن القول بصحة الإعادة فرع على تسليم أن خالق الحيوانات هو الله تعالى
فإذا ثبت ذلك فنقول إن تلك الأجسام قابلة للحياة والعقل وإله العالم قادر لذاته عالم لذاته فلا يبطل علمه وقدرته ألبتة فالقادر على الابتداء يجب أن يبقى قادراً على الإعادة وهذا كلام تام وبرهان قوي
ثم قال تعالى فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ قال الفراء يقال أنغض فلان رأسه ينغضه إنغاضاً إذا حركه إلى فوق وإلى أسفل وسمي الظليم نغضاً لأنه يحرك رأسه وقال أبو الهيثم يقال للرجل إذا أخبر بشيء فحرك رأسه إنكاراً له قد أنغض رأسه فقوله فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ يعني يحركونها على سبيل التكذيب والاستبعاد ثم قال تعالى رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ واعلم أن هذا السؤال فاسد لأنهم حكموا بامتناع الحشر والنشر بناء على الشبهة التي حكيناها ثم إن الله تعالى بين بالبرهان الباهر كونه ممكناً في نفسه فقولهم متى هو كلام لا تعلق له بالبحث الأول فإنه لما ثبت بالدليل العقلي كونه ممكن الوجود في نفسه وجب الاعتراف بامكانه فأما أنه متى يوجد فذاك لا يمكن إثباته من طريق العقل بل إنما يمكن إثباته بالدلائل السمعية فإن أخبر الله تعالى عن ذلك الوقت المعين عرف وإلا فلا سبيل إلى معرفته
واعلم أنه تعالى بين في القرآن أنه لا يطلع أحداً من الخلق على وقته المعين فقال إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَة ِ ( لقمان 34 ) وقال إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبّي ( الأعراف 187 ) وقال إِنَّ السَّاعَة َ ءاتِيَة ٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا ( طه 15 ) فلا جرم قال تعالى قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا قال المفسرون عسى من الله واجب معناه أنه قريب
فإن قالوا كيف يكون قريباً وقد انقرض ستمائة سنة ولم يظهر
قلنا إذا كان ما مضى أكثر مما بقي كان الباقي قريباً قليلاً ثم قال تعالى يَوْمَ يَدْعُوكُمْ وفيه قولان الأول أنه خطاب مع الكفار بدليل أن ما قبل هذه الآية كله خطاب مع الكفار ثم نقول انتصب يوماً على البدل من قوله قريباً والمعنى عسى أن يكون البعث يوم يدعوكم أي بالنداء الذي يسمعكم وهو النفحة الأخيرة كما قال يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ ( ق 41 ) يقال إن إسرافيل ينادي أيتها الأجساد البالية والعظام النخرة والأجزاء المتفرقة عودي كما كنت بقدرة الله تعالى وبإذنه وتكوينه وقال تعالى يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِ إِلَى شَى ْء نُّكُرٍ ( القمر 6 ) وقوله فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ أي تجيبون والاستجابة موافقة الداعي فيما دعا إليه وهي الإجابة إلا أن الاستجابة تقتضي طلب الموافقة فهي أوكد من الإجابة وقوله بِحَمْدِهِ قال سعيد بن جبير يخرجون من قبورهم وينفضون التراب عن رؤسهم ويقولون سبحانك وبحمدك فهو قوله فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وقال قتادة بمعرفته وطاعته وتوجيه هذا القول أنهم لما أجابوا بالتسبيح والتحميد كان ذلك معرفة منهم وطاعة ولكنهم لا ينفعهم ذلك في ذلك اليوم فلهذا قال المفسرون حمدوا حين لا ينفعهم الحمد وقال أهل المعاني تستجيبون بحمده أي تستجيبون حامدين كما يقال جاء بغضبه أي جاء غضبان وركب الأمير بسيفه أي وسيفه معه وقال صاحب ( الكشاف ) بحمده حال منهم أي حامدين وهذا مبالغة في انقيادهم للبعث كقولك لمن تأمره بعمل يشق عليه ستأتي به وأنت حامد شاكر أي

ستنتهي إلى حالة تحمد الله وتشكره على أن اكتفي منك بذلك العمل وهذا يذكر في معرض التهديد
ثم قال وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً قال ابن عباس يريد بين النفختين الأولى والثانية فإنه يزال عنهم العذاب في ذلك الوقت والدليل عليه قوله في سورة يس مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا ( يس 52 ) فظنهم بأن هذا لبث قليل عائد إلى لبثهم فيما بين النفختين وقال الحسن معناه تقريب وقت البعث فكأنك بالدنيا لم تكن وبالآخرة لم تزل فهذا يرجع إلى استقلال مدة اللبث في الدنيا وقيل المراد استقلال لبثهم في عرصة القيامة لأنه لما كانت عاقبة أمرهم الدخول في النار استقصروا مدة لبثهم في برزخ القيامة
القول الثاني أن الكلام مع الكفار تم عند قوله عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا وأما قوله يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ فهو خطاب مع المؤمنين لا مع الكافرين لأن هذا الكلام هو اللائق بالمؤمنين لأنهم يستجيبون لله بحمده ويحمدونه على إحسانه إليهم والقول الأول هو المشهور والثاني ظاهر الاحتمال
وَقُل لِّعِبَادِى يَقُولُواْ الَّتِى هِى َ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِى السَّمَاوَاتِ والأرض وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَءَاتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا
اعلم أن قوله قُل لّعِبَادِى َ فيه قولان
القول الأول أن المراد به المؤمنون وذلك لأن لفظ العباد في أكثر آيات القرآن مختص بالمؤمنين قال تعالى فَبَشّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ ( الزمر 17 18 ) وقال فَادْخُلِى فِى عِبَادِى ( الفجر 29 ) وقال عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ ( الإنسان 6 )
إذا عرفت هذا فنقول إنه تعالى لما ذكر الحجة اليقينية في إبطال الشرك وهو قوله لَّوْ كَانَ مَعَهُ ءالِهَة ٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِى الْعَرْشِ سَبِيلاً ( الإسراء 42 ) وذكر الحجة اليقينية في صحة المعاد وهو قوله قُلِ الَّذِى فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّة ٍ ( الإسراء 51 ) قال في هذه الآية وقل يا محمد لعبادي إذا أردتم إيراد الحجة على المخالفين فاذكروا تلك الدلائل بالطريق الأحسن وهو أن لا يكون ذكر الحجة مخلوطاً بالشتم والسب ونظير هذه الآية قوله ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَة ِ وَالْمَوْعِظَة ِ الْحَسَنَة ِ ( النحل 125 ) وقوله وَلاَ تُجَادِلُواْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ ( العنكبوت 46 ) وذلك لأن ذكر الحجة لو اختلط به شيء من السب والشتم لقابلوكم بمثله كما قال وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ ( الأنعام 108 ) ويزداد الغضب وتتكامل النفرة ويمتنع حصول المقصود أما إذا وقع الاقتصار على ذكر الحجة بالطريق

الأحسن الخالي عن الشتم والإيذاء أثر في القلب تأثيراً شديداً فهذا هو المراد من قوله وَقُل لّعِبَادِى يَقُولُواْ الَّتِى هِى َ أَحْسَنُ ثم إنه تعالى نبه على وجه المنفعة في هذا الطريق فقال إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ جامعاً للفريقين أي متى صارت الحجة مرة ممزوجة بالبذاءة صارت سبباً لثوران الفتنة
ثم قال إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّا مُّبِينًا والمعنى أن العداوة الحاصلة بين الشيطان وبين الإنسان عداوة قديمة قال تعالى حكاية عنه ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ ( الأعراف 17 ) وقال كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذَا قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنّى بَرِىء مّنكَ إِنّى أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ( الحشر 16 ) وقال وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ ( الأنفال 48 ) وقال لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنّي جَارٌ لَّكُمْ إلى قوله إِنّي بَرِىء مّنْكُمْ ( الأنفال 48 )
ثم قال تعالى رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذّبْكُمْ واعلم أنا إنما نتكلم الآن على تقدير أن قوله تعالى قُل لّعِبَادِى َ المراد به المؤمنون وعلى هذا التقدير فقوله رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ خطاب مع المؤمنين والمعنى إن يشأ يرحمكم والمراد بتلك الرحمة الإنجاء من كفار مكة وأذاهم أو إن يشأ يعذبكم بتسليطهم عليكم ثم قال وَمَا أَرْسَلْنَاكَ يا محمد عَلَيْهِمْ وَكِيلاً أي حافظاً وكفيلاً فاشتغل أنت بالدعوة ولا شيء عليك من كفرهم فإن شاء الله هدايتهم هداهم وإلا فلا
والقول الثاني أن المراد من قوله وَقُل لّعِبَادِى الكفار وذلك لأن المقصود من هذه الآيات الدعوة فلا يبعد في مثل هذا الموضع أن يخاطبوا بالخطاب الحسن ليصير ذلك سبباً لجذب قلوبهم وميل طباعهم إلى قبول الدين الحق فكأنه تعالى قال يا محمد قل لعبادي الذين أقروا بكونهم عباداً لي يقولوا التي هي أحسن وذلك لأنا قبل النظر في الدلائل والبينات نعلم بالضرورة أن وصف الله تعالى بالتوحيد والبراءة عن الشركاء والأضداد أحسن من إثبات الشركاء والأضداد ووصفه بالقدرة على الحشر والنشر بعد الموت أحسن من وصفه بالعجز عن ذلك وعرفهم أنه لا ينبغي لهم أن يصروا على تلك المذاهب الباطلة تعصباً للأسلاف لأن الحامل على مثل هذا التعصب هو الشيطان والشيطان عدو فلا ينبغي أن يلتفت إلى قوله ثم قال لهم رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ بأن يوفقكم للإيمان والهداية والمعرفة وإن يشأ يمتكم على الكفر فيعذبكم إلا أن تلك المشيئة غائبة عنكم فاجتهدوا أنتم في طلب الدين الحق ولا تصروا على الباطل والجهل لئلا تصيروا محرومين عن السعادات الأبدية والخيرات السرمدية ثم قال لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً أي لا تشدد الأمر عليهم ولا تغلظ لهم في القول والمقصود من كل هذه الكلمات إظهار اللين والرفق لهم عند الدعوة فإن ذلك هو الذي يؤثر في القلب ويفيد حصول المقصود
ثم قال وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ والمعنى أنه لما قال قبل ذلك رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ قال بعده رَبَّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بمعنى أن علمه غير مقصور عليكم ولا على أحوالكم بل علمه متعلق بجميع الموجودات والمعدومات ومتعلق بجميع ذوات الأرضين والسموات فيعلم حال كل واحد ويعلم ما يليق به من المصالح والمفاسد فلهذا السبب فضل بعض النبيين على بعض وآتى موسى التوراة وداود الزبور وعيسى الإنجيل فلم يبعد أيضاً أن يؤتي محمداً القرآن ولم يبعد أن يفضله على جميع الخلق

فإن قيل ما السبب في تخصيص داود عليه الصلاة والسلام في هذا المقام بالذكر 0
قلنا فيه وجوه
الوجه الأول أنه تعالى ذكر أنه فضل بعض النبيين على بعض
ثم قال وَءاتَيْنَا دَاوُودُ زَبُوراً يعني أن داود كان ملكاً عظيماً ثم إنه تعالى لم يذكر ما آتاه من الملك وذكر ما آتاه من الكتاب تنبيهاً على أن التفضيل الذي ذكره قبل ذلك المراد منه التفضيل بالعلم والدين لا بالمال
والوجه الثاني أن السبب في تخصيصه بالدكر أنه تعالى كتب في الزبور أن محمداً خاتم النبيين وأن أمته خير الأمم قال تعالى وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذّكْرِ أَنَّ الاْرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِى َ الصَّالِحُونَ ( الأنبياء 105 ) وهم محمد وأمته
فإن قيل هل عرف كما في فقوله ولقد كتبنا في الزبور 5
قلنا التنكير ههنا يدل على تعظيم حاله لأن الزبور عبارة عن المزبور فكان معناه الكتاب فكان معنى التنكير أنه كامل في كونه كتاباً
والوجه الثالث أن السبب فيه أن كفار قريش ما كانوا أهل نظر وجدل بل كانوا يرجعون إلى اليهود في استخراج الشبهات واليهود كانوا يقولون إنه لا نبي بعد موسى ولا كتاب بعد التوراة بنقض الله تعالى عليهم كلامهم بإنزال الزبور على داود وقرأ حمزة زبوراً بضم الزاي وذكرنا وجه ذلك في آخر سورة ( النساء 163 )
قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً أُولَائِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَة َ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا
اعلم أن المقصود من هذه الآية الرد على المشركين وقد ذكرنا أن المشركين كانوا يقولون ليس لنا أهلية أن نشتغل بعبادة الله تعالى فنحن نعبد بعض المقربين من عباد الله وهم الملائكة ثم إنهم اتخذوا لذلك الملك الذي عبدوه تمثالاً وصورة واشتغلوا بعبادته على هذا التأويل والله تعالى احتج على بطلان قولهم في هذه الآية فقال قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مّن دُونِهِ وليس المراد الأصنام لأنه تعالى قال في صفتهم أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبّهِمُ الْوَسِيلَة َ وابتغاء الوسيلة إلى الله تعالى لا يليق بالأصنام ألبتة
إذا ثبت هذا فنقول إن قوماً عبدوا الملائكة فنزلت هذه الآية فيهم وقيل إنها نزلت في الذين عبدوا المسيح وعزيراً وقيل إن قوماً عبدوا نفراً من الجن فأسلم النفر من الجن وبقي أولئك الناس متمسكين

بعبادتهم فنزلت هذه الآية قال ابن عباس كل موضع في كتاب الله تعالى ورد فيه لفظ زعم فهو كذب ثم إنه تعالى احتج على فساد مذهب هؤلاء أن الإله المعبود هو الذي يقدر على إزالة الضرر وإيصال المنفعة وهذه الأشياء التي يعبدونها وهي الملائكة والجن والمسيح وعزير لا يقدرون على كشف الضر ولا على تحصيل النفع فوجب القطع بأنها ليست آلهة
ولقائل أن يقول هذا الدليل إنما يتم إذا دللتم على أن الملائكة لا قدرة لها على كشف الضر ولا على تحصيل النفع فما الدليل على أن الأمر كذلك حتى يتم دليلكم فإن قلتم لأنا نرى أن أولئك الكفار كانوا يتضرعون إليها فلا تحصل الإجابة
قلنا معارضة لذلك قد نرى أيضاً أن المسلمين يتضرعون إلى الله تعالى فلا تحصل الإجابة والمسلمون يقولون إن القدر الحاصل من كشف الضر وتحصيل النفع إنما يحصل من الله تعالى لا من الملائكة وأولئك الكفار يقولون إنه يحصل من الملائكة لا من الله تعالى وعلى هذا التقدير فالدليل غير تام
والجواب أن الدليل تام كامل وذلك لأن الكفار كانوا مقرين بأن الملائكة عباد الله وخالق الملائكة وخالق العالم لا بد وأن يكون أقدر من الملائكة وأقوى منهم وأكمل حالاً منهم
وإذا ثبت هذا فنقول كمال قدرة الله تعالى معلوم متفق عليه وكمال قدرة الملائكة غير معلوم ولا متفق عليه بل المتفق عليه أن قدرتهم بالنسبة إلى قدرة الله تعالى قليلة حقيرة وإذا كان كذلك وجب أن يكون الاشتغال بعبادة الله تعالى أولى من الاشتغال بعبادة الملائكة لأن كون الله مستحقاً للعبادة معلوم وكون الملائكة كذلك مجهول والأخذ بالمعلوم أولى وأما أصحابنا المتكلمون من أهل السنة والجماعة فلهم في هذا الباب طريقة أخرى وهو أنهم يقيمون بالحجة العقلية على أنه لا موجد إلا الله تعالى ولا مخرج لشيء من العدم إلى الوجود إلا الله تعالى
وإذا ثبت هذا ثبت أنه لا ضار ولا نافع إلا الله تعالى فوجب القطع بأنه لا معبود إلا الله تعالى وهذه الطريقة لا تتم للمعتزلة لأنهم لما ججوزوا كون العبد موجداً لأفعاله امتنع عليهم الاستدلال على أن الملائكة لا قدرة لها على الإحياء والإماتة وخلق الجسم وإذا عجزوا عن ذلك لم يتم لهم هذا الدليل فهذا هو ذكر الدليل القاطع على صحة قوله لاَّ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرّ عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً والتحويل عبارة عن النقل من حال إلى حال ومكان إلى مكان يقال حوله فتحول
ثم قال تعالى أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبّهِمُ الْوَسِيلَة َ وفيه قولان الأول قال الفراء قوله يَدَّعُونَ فعل الآدميين العابدين وقوله يَبْتَغُونَ فعل المعبودين ومعناه أولئك المعبودين يبتغون إلى ربهم الوسيلة فإنه لا نزاع أن الملائكة يرجعون إلى الله في طلب المنافع ودفع المضار ويرجون رحمته ويخافون عذابه وإذا كان كذلك كانوا موصوفين بالعجز والحاجة والله تعالى أغنى الأغنياء فكان الاشتغال بعبادته أولى
فإن قالوا لا نسلم أن الملائكة محتاجون إلى رحمة الله وخائفون من عذابه فنقول هؤلاء الملائكة إما أن يقال إنها واجبة الوجود لذواتها أو يقال ممكنة الوجود لذواتها والأول باطل لأن جميع الكفار كانوا

معترفين بأن الملائكة عباد الله ومحتاجون إليه وأما الثاني فهو يوجب القول بكون الملائكة محتاجين في ذواتها وفي كمالاتها إلى الله تعالى فكان الاشتغال بعبادة الله أولى من الاشتغال بعبادة الملائكة
والقول الثاني أن قوله أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ هم الأنبياء الذين ذكرهم الله تعالى بقوله وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيّينَ عَلَى بَعْضٍ ( الإسراء 55 ) وتعلق هذا الكلام بما سبق هو أن الذين عظمت منزلتهم وهم الأنبياء لا يعبدون إلا الله تعالى ولا يبتغون الوسيلة إلا إليه فأنتم بالاقتداء بهم حق فلا تعبدوا غبر الله تعالى واحتج القائلون بهذا القول على صحته بأن قالوا الملائكة لا يعصون الله فلا يخافون عذابه فثبت أن هذا غير لائق بالملائكة وإنما هو لائق بالأنبياء
قلنا الملائكة يخافون عذاب الله لو أقدموا على الذنب والدليل عليه قوله تعالى وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنّى إِلَاهٌ مّن دُونِهِ فَذالِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ ( الأنبياء 29 )
أما قوله إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ كَانَ مَحْذُورًا فالمراد أن من حقه أن يحذر فإن لم يحذره بعض الناس لجهله فهو لا يخرج من كونه بحيث يجب الحذر عنه
وَإِن مِّن قَرْيَة ٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَة ِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذالِك فِى الْكِتَابِ مَسْطُورًا
واعلم أنه تعالى لما قال إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ كَانَ مَحْذُورًا ( الإسراء 57 ) بين أن كل قرية مع أهلها فلا بد وأن يرجع حالها إلى أحد أمرين إما الإهلاك وإما التعذيب قال مقاتل أما الصالحة فبالموت وأما الطالحة فبالعذاب وقيل المراد من قوله وَإِن مّن قَرْيَة ٍ قرى الكفار ولا بد أن تكون عاقبتها أحد أمرين إما الاستئصال بالكلية وهو المراد من الإهلاك أو بعذاب شديد دون ذلك من قتل كبرائهم وتسليط المسلمين عليهم بالسبي واغتنام الأموال وأخذ الجزية ثم بين تعالى أن هذا الحكم حكم مجزوم به واقع فقال كَانَ ذالِك فِى الْكِتَابِ مَسْطُورًا ومعناه ظاهر
وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِالاٌّ يَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الاٌّ وَّلُونَ وَءَاتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَة َ مُبْصِرَة ً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالاٌّ يَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّءْيَا الَّتِى أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَة ً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَة َ الْمَلْعُونَة َ فِى القُرْءَانِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا

اعلم تعالى أنه لما ذكر الدليل على فساد قول المشركين وأتبعه بالوعيد أتبعه بذكر مسألة النبوة وذلك لأن كفار قريش اقترحوا من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إظهار معجزات عظيمة قاهرة كما حكى الله عنهم أنهم قالوا لَوْلاَ يَأْتِينَا بِئَايَة ٍ ( طه 133 ) كَمَا أُرْسِلَ الاْوَّلُونَ ( الأنبياء 5 ) وقال آخرون المراد ما طلبوه بقولهم لَن نُّؤْمِنَ ذالِكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الاْرْضِ يَنْبُوعًا ( الإسراء 90 ) وعن سعيد بن جبير أن القوم قالوا إنك تزعم أنه كان قبلك أنبياء فمنهم من سخرت له الريح ومنهم من كان يحيي الموتى فأتنا بشي من هذه المعجزات فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالاْيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الاْوَّلُونَ وفي تفسير هذا الجواب وجوه
الوجه الأول المعنى أنه تعالى لو أظهر تلك المعجزات القاهرة ثم لم يؤمنوا بها بل بقوا مصرين على كفرهم فحينئذ يصيرون مستحقين لعذاب الاستئصال لكن إنزال عذاب الاستئصال على هذه الأمة غير جائز لأن الله تعالى أعلم أن فيهم من سيؤمن أو يؤمن أولادهم فلهذا السبب ما أجابهم الله تعالى إلى مطلوبهم وما أظهر تلك المعجزات القاهرة روى ابن عباس أن أهل مكة سألوا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أن يجعل لهم الصفا ذهباً وأن يزيل لهم الجبال حتى يزرعوا تلك الأراضي فطلب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك من الله تعالى فقال الله تعالى إن شئت فعلت ذلك لكن بشرط أنهم إن كفروا أهلكتهم فقال الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا أريد ذلك بل تتأنى بهم ) فنزلت هذه الآية
الوجه الثاني في تفسير هذا الجواب أنا لا نظهر هذه المعجزات لأن آباءكم الذين رأوها لم يؤمنوا بها وأنتم مقلدون لهم فلو رأيتموها أنتم لم تؤمنوا بها أيضاً
الوجه الثالث أن الأولين شاهدوا هذه المعجزات وكذبوا بها فعلم الله منكم أيضاً أنكم لو شاهدتموها لكذبتم فكان إظهارها عبثاً والعبث لا يفعله الحكيم
ثم قال تعالى 6 وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وفيه أبحاث
البحث الأول المعنى أن الآية التي التمسوها هي مثل آية ثمود وقد آتيناها ثمود واضحة بينة ثم كفروا بها فاستحقوا عذاب الاستئصال فكيف يتمناها هؤلاء على سبيل الاقتراح والتحكم على الله تعالى
البحث الثاني قوله تعالى وفيه أبحاث
البحث الأول المعنى أن الآية التي التمسوها هي مثل آية ثمود وقد آتيناها ثمود واضحة بينة ثم كفروا بها فاستحقوا عذاب الاستئصال فكيف يتمناها هؤلاء على سبيل الاقتراح والتحكم على الله تعالى
البحث الثاني قوله تعالى مُبْصِرَة ً وفيه وجهان الأول قال الفراء مُبْصِرَة ً أي مضيئة قال تعالى وَالنَّهَارَ مُبْصِراً ( يونس 67 ) أي مضيئاً والثاني مُبْصِرَة ً أي ذات أبصار أي فيها أبصار لمن تأملها يبصر بها رشده ويستدل بها على صدق ذلك الرسول
البحث الثالث قوله فَظَلَمُواْ بِهَا أي ظلموا أنفسهم بتكذيبهم بها وقال ابن قتيبة ظَلَمُواْ بِهَا أي جحدوا بأنها من الله تعالى
ثم قال تعالى وَمَا نُرْسِلُ بِالاْيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا قيل لا آية إلا وتتضمن التخويف بها عند التكذيب إما من العذاب المعجل أو من عذاب الآخرة
فإن قيل المقصود الأعظم من إظهار الآيات أن يستدل بها على صدق المدعي فكيف حصر المقصود من إظهارها في التخويف
قلنا المقصود أن مدعي النبوة إذا أظهر الآية فإذا سمع الخلق أنه أظهر آية فهم لا يعلمون أن تلك

الآية معجزة أو مخوفة إلا أنهم يجوزون كونها معجزة وبتقدير أن تكون معجزة فلو لم يتفكروا فيها ولم يستدلوا بها على الصدق لاستحقوا العقاب الشديد فهذا هو الخوف الذي يحملهم على التفكر والتأمل في تلك المعجزات فالمراد من قوله وَمَا نُرْسِلُ بِالاْيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا هذا الذي ذكرناه والله أعلم
واعلم أن القوم لما طالبوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالمعجزات القاهرة وأجاب الله تعالى بأن إظهارها ليس بمصلحة صار ذلك سبباً لجرأة أولئك الكفار بالطعن فيه وأن يقولوا له لو كنت رسولاً حقاً من عند الله تعالى لأتيت بهذه المعجزات التي اقترحناها منك كما أتى بها موسى وغيره من الأنبياء فعند هذا قوى الله قلبه وبين له أنه تعالى ينصره ويؤيده فقال وَإِذَا قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وفيه قولان
القول الأول المعنى أن حكمته وقدرته محيطة بالناس فهم في قبضته وقدرته ومتى كان الأمر كذلك فهم لا يقدرون على أمر من الأمور إلا بقضائه وقدره والمقصود كأنه تعالى يقول له ننصرك ونقويك حتى تبلغ رسالتنا وتظهر ديننا قال الحسن حال بينهم وبين أن يقتلوه كما قال تعالى وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ( المائدة 67 )
والقول الثاني أن المراد بالناس أهل مكة وإحاطة الله بهم هو أنه تعالى يفتحها للمؤمنين فكان المعنى وإذ بشرناك بأن الله أحاط بأهل مكة بمعنى أنه يغلبهم ويقهرهم ويظهر دولتك عليهم ونظيره قوله تعالى سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ( القمر 45 ) وقال قُلْ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ ( آل عمران 12 ) إلى قوله أَحَاطَ بِالنَّاسِ لما كان كل ما يخبر الله عن وقوعه فهو واجب الوقوع فكان من هذا الاعتبار كالواقع فلا جرم قال أَحَاطَ بِالنَّاسِ وروي أنه لما تزاحف الفريقان يوم بدر ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في العريش مع أبي بكر كان يدعو ويقول ( أللهم إني أسألك عهدك ووعدك لي ) ثم خرج وعليه الدرع يحرض الناس ويقول سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ
ثم قال تعالى وَمَا جَعَلْنَا الرُّءيَا الَّتِى أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَة ً لّلنَّاسِ وفي هذه الرؤيا أقوال
القول الأول أن الله أرى محمداً في المنام مصارع كفار قريش فحين ورد ماء بدر قال ( والله كأني أنظر إلى مصارع القوم ) ثم أخذ يقول ( هذا مصرع فلان هذا مصرع فلان ) فلما سمعت قريش ذلك جعلوا رؤياه سخرية وكانوا يستعجلون بما وعد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
والقول الثاني أن المراد رؤياه التي رآها أنه يدخل مكة وأخبر بذلك أصحابه فلما منع عن البيت الحرام عام الحديبية كان ذلك فتنة لبعض القوم وقال عمر لأبي بكر أليس قد أخبرنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنا ندخل البيت ونطوف به فقال أبو بكر إنه لم يخبر أنا نفعل ذلك في هذه السنة فسنفعل ذلك في سنة أخرى فلما جاء العام المقبل دخلها وأنزل الله تعالى لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقّ ( الفتح 27 ) اعترضوا على هذين القولين فقالوا هذه السورة مكية وهاتان الواقعتان مدنيتان وهذا السؤال ضعيف لأن هاتين الواقعتين مدنيتان أما رؤيتهما في المنام فلا يبعد حصولها في مكة
والقول الثالث قال سعيد بن المسيب رأى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بني أمية ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء والإشكال المذكور عائد فيه لأن هذه الآية مكية وما كان

لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بمكة منبر ويمكن أن يجاب عنه بأنه لا يبعد أن يرى بمكة أن له بالمدينة منبراً يتداوله بنو أمية
والقول الرابع وهو الأصح وهو قول أكثر المفسرين أن المراد بها ما أراه الله تعالى ليلة الإسراء واختلفوا في معنى هذه الرؤيا فقال الأكثرون لا فرق بين الرؤية والرؤيا في اللغة يقال رأيت بعيني رؤية ورؤيا وقال الأقلون هذا يدل على أن قصة الإسراء إنما حصلت في المنام وهذا القول ضعيف باطل على ما قررناه في أول هذه السورة وقوله إِلاَّ فِتْنَة ً لّلنَّاسِ معناه أنه عليه الصلاة والسلام لما ذكر لهم قصة الإسراء كذبوه وكفر به كثير ممن كان آمن به وازداد المخلصون إيماناً فلهذا السبب كان امتحاناً
ثم قال تعالى وَالشَّجَرَة َ الْمَلْعُونَة َ فِى القُرْءانِ وهذا على التقديم والتأخير والتقدير وما جعلنا الرؤيا التي أريناك والشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس وقيل المعنى والشجرة الملعونة في القرآن كذلك واختلفوا في هذه الشجرة فالأكثرون قالوا إنها شجرة الزقوم المذكورة في القرآن في قوله إِنَّ شَجَرَة َ الزَّقُّومِ طَعَامُ الاْثِيمِ ( الدخان 43 44 ) وكانت هذه الفتنة في ذكر هذه الشجرة من وجهين الأول أن أبا جهل قال زعم صاحبكم بأن نار جهنم تحرق الحجر حيث قال وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَة ُ ( التحريم 6 ) ثم يقول بأن في النار شجراً والنار تأكل الشجر فكيف تولد فيها الشجر والثاني قال ابن الزبعري ما نعلم الزقوم إلا التمر والزبد فتزقموا منه فأنزل الله تعالى حين عجبوا أن يكون في النار شجر إِنَّا جَعَلْنَاكَ فِتْنَة ً لّلظَّالِمِينَ ( الصافات 63 ) الآيات
فإن قيل ليس في القرآن لعن هذه الشجرة
قلنا فيه وجوه الأول المراد لعن الكفار الذين يأكلونها الثاني العرب تقول لكل طعام مكروه ضار إنه ملعون والثالث أن اللعن في أصل اللغة هو التبعيد فلما كانت هذه الشجرة الملعونة في القرآن مبعدة عن جميع صفات الخير سميت ملعونة
القول الثاني قال ابن عباس رضي الله عنهما الشجرة بنو أمية يعني الحكم بن أبي العاص قال ورأى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في المنام أن ولد مروان يتداولون منبره فقص رؤياه على أبي بكر وعمر وقد خلا في بيته معهما فلما تفرقوا سمع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الحكم يخبر برؤيا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فاشتد ذلك عليه واتهم عمر في إفشاء سره ثم ظهر أن الحكم كان يتسمع إليهم فنفاه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال الواحدي هذه القصة كانت بالمدينة والسورة مكية فيبعد هذا التفسير إلا أن يقال هذه الآية مدنية ولم يقل به أحد ومما يؤكد هذا التأويل قول عائشة لمروان لعن الله أباك وأنت في صلبه فأنت بعض من لعنه الله
والقول الثالث أن الشجرة الملعونة في القرآن هي اليهود لقوله تعالى لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( المائدة 78 )
فإن قال قائل إن القوم لما طلبوا من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الإتيان بالمعجزات القاهرة فأجاب أنه لا مصلحة في إظهارها لأنها لو ظهرت ولم تؤمنوا نزل الله عليكم عذاب الاستئصال وذلك غير جائز وأي تعلق لهذا الكلام بذكر الرؤيا التي صارت فتنة للناس وبذكر الشجرة التي صارت فتنة للناس

قلنا التقدير كأنه قيل إنهم لما طلبوا هذه المعجزات ثم إنك لم تظهرها صار عدم ظهورها شبهة لهم في أنك لست بصادق في دعوى النبوة إلا أن وقوع هذه الشبهة لا يوهن أمرك ولا يصير سبباً لضعف حالك ألا ترى أن ذكر تلك الرؤيا صار سبباً لوقوع الشبهة العظيمة في القلوب ثم إن قوة تلك الشبهات ما أوجبت ضعفاً في أمرك ولا فتوراً في اجتماع المحقين عليك فكذلك هذه الشبهة الحاصلة بسبب عدم ظهور هذه المعجزات لا توجب فتوراً في حالك ولا ضعفاً في أمرك والله أعلم
ثم قال تعالى وَنُخَوّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا والمقصود منه ذكر سبب آخر في أنه تعالى ما أظهر المعجزات التي اقترحوها وذلك لأن هؤلاء خوفوا بمخاوف الدنيا والآخرة وبشجرة الزقوم فما زادهم هذا التخويف إلا طغياناً كبيراً وذلك يدل على قسوة قلوبهم وتماديهم في الغي والطغيان وإذا كان الأمر كذلك فبتقدير أن يظهر الله لهم تلك المعجزات التي اقترحوها لم ينتفعوا بها ولا يزدادون إلا تمادياً في الجهل والعناد وإذا كان كذلك وجب في الحكمة أن لا يظهر الله لهم ما اقترحوه من الآيات والمعجزات والله أعلم

بداية الجزء الحادى والعشرين من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَة ِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَءَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا قَالَ أَرَءَيْتَكَ هَاذَا الَّذِى كَرَّمْتَ عَلَى َّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوفُورًا وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِى الاٌّ مْوَالِ وَالاٌّ وْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً
فيه مسائل
المسألة الأولى ي كيفية النظم وجوه الأول اعلم أنه تعالى لما ذكر أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان في محنة عظيمة من قومه وأهل زمانه بين أن حال الأنبياء مع أهل زمانهم كذلك ألا ترى أن أول الأولياء هو آدم ثم إنه كان في محنة شديدة من إبليس الثاني أن القوم إنما نازعوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وعاندوه واقترحوا عليه الاقتراحات الباطلة لأمرين الكبر والحسد أما الكبر فلأن تكبرهم كان يمنعهم من الانقياد وأما الحسد فلأنهم كانوا يحسدونه على ما آتاه الله من النبوة والدرجة العالية فبين تعالى أن هذا الكبر والحسد هما اللذان حملا إبليس على الخروج من الإيمان والدخول في الكفر فهذه بلية قديمة ومحنة عظيمة للخلق والثالث أنه تعالى لما وصفهم بقوله فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا الإسراء 60 بين ما هو السبب لحصول هذا الطغيان وهو قول إبليس لأحتنكن ذريته إلا قليلا فلأجل هذا المقصود ذكر الله تعالى قصة إبليس وآدم فهذا هو الكلام في كيفية النظم
المسألة الثانية اعلم أنه هذه القصة قد ذكرها الله تعالى في سور سبعة وهي البقرة والأعراف والحجر وهذه السورة والكهف وطه وص والكلام المستقصى فيها قد تقدم في البقرة الأعراف والحجر فلا فائدة في الإعادة ولا بأس بتعديد بعض المسائل
المسألة الأولى اختلفوا في أن المأمورين بالسجود لآدم أهم جميع الملائكة أم ملائكة الأرض على التخصيص فظاهر لفظ الملائكة بفبد العموم إلا أن قوله تعالى في آخر سورة الأعراف في صفة ملائكة السموات وله يسجدون الأعراف 206 يوجب خروج ملائكة السموات من هذا العموم
المسألة الثانية أن المراد من هذه السجدة وضع الجبهة على الأرض أو التحية وعلى التقدير الأول

فآدم كان هو المسجود له أو يقال كان المسجود له هو الله تعالى وآدم كان قبلة للسجود
المسألة الثالثة إن إبليس هل هو من الملائكة أم لا وإن لم يكن من الملائكة فأمر الملائكة بالسجود كيف يتناوله
المسألة الرابعة هل كان إبليس كافرا من أول الأمر أو يقال إنما كفر في ذلك الوقت
المسالة الخامسة الملائكة سجدوا لآدم من أول ما كملت حياته أو بعد ذلك
االمسألة السادسة شبهة إبليس في الامتناع من السجود أهو قوله أأسجد لمن خلقت طينا أو غيره
المسألة السابعة دلت هذه الآيات على أن إبليس كان عارفا بربه إلا أنه وقع في الكفر بسبب الكبر والحسد ومنهم من أنكر وقال ما عرف الله البتة
المسألة الثامنة ما سبب حكمة إمهال إبليس وتسليطه على الخلق بالوسوسة
ولنرجع إلى التفسير فنقول إنه تعالى حكة في هذه الآية عن إبليس نوعا واحدا من العمل ونوعين من القول أما العمل فهو أنه لم يسجد لآدم وهو المراد من قوله فسجدوا إلا إبليس وأما النوعان من القول فأولهما قوله أأسجد لمن خلقت طينا وهذا استفهام بمعنى الإنكار معناه أن أصلي أشرف من أصله فوجب أن أكون أنا أشرف منه والأشرف يقبح في العقول أمره بخدمة الأدنى والنوع الثاني من كلامه قوله أرأيتك هذا الذي كرمت علي قال الزجاج قوله أرأيت معناه أخبرني وقد استقصينا البحث في تفسير هذه الكلمة في سورة الأنعام وقوله هذا الذي كرمت علي فيه وجوه الأول معناه أخبرني عن هذا الذي فضلته علي لم فضلته علي وأنا خير منه ثم اختصر الكلام لكونه مفهوما الثاني يمكن أن يقال خذا مبتدأ محذوف منه حرف الاستفهام والذي مع صلته خبر تقديره أخبرني أهذا الذي كرمته علي وذلك على وجه محذوف منه حرف الاستفهام والذي مع صلته خبر تقديره أخبرني أهذا الذي كرمته علي أغنى عن تكراره والوجه الثالث أن يكون هذا مفعول أرأيت لأن الكاف جاءت لمجرد الخطاب لا محل لها كأنه قال على وجه التعجب والإنكار أبصرت أو علمت هذا الذي كرمت علي بمعنى لو أبصرته أو علمته لكان يجب أن لا تكرمه علي هذا هو حقيقة هذه الكلمة ثم قال تعالى حكاية عنه لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا وفيه مباحث
البحث الأول قرأ ابن كثير لئن أخرتني إلى يوم القيامة بإثبات الياء في الوصل والوقف وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي بالحذف نافع وأبو عمرو بإثباته في الوصل دون الوقف
البحث الثاني في الاحتناك قولان أحدهما أنه عبارة عن الأخذ بالكلية يقال احتنك فلان ما عند فلان من مال إذا استقصاه وأخذه بالكلية واحتنك الجراد الزرع إذا أكله بالكلية والثاني أنه من قول العرب حنك الدابة يحنكها إذا جعل في حنكها الأسفل حبلا يقودها به وقال أبو مسلم الأحتناك افتعال من الحنك كأنهم يملكهم كما يملك الفارس فرسه بلجامه فعلى القول الأول معنى الآية لأستأصلنهم بالإغواء وعلى القول الثاني لأقودنهم إلى المعاصي كما تقاد الدابة بحبلها
البحث الثالث قوله إلا قليلا هم الذين ذكرهم الله تعالى في قوله إن عبادي ليس لك عليهم سلطان البقرة 30

فإن قيل كيف ظن إبليس هذا الظن الصادق بذرية آدم قلنا فيه وجوه الأول أنه سمع الملائكة يقولون أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء البقرة 30 فعرف هذه الأحوال الثاني أنه وسوس إلى آدم فلم يجد له عزما فقال الظاهر أن أولاده يكونون مثله في ضعف العزم الثالث أنه عرف أنه مركب من قوة بهيمية شهوانية وقوة سبعية غضبية وقوة وهمية شيطانية وقوة عقلية ملكية وعرف أن القوى الثلاث أعني الشهوانية والغضبية والوهمية تكون هي المستولية في أول الخلقة ثم إن القوة العقلية إنما تكمل في آخر الأمر ومتى كان الأمر كذلك كان ما ذكره إبليس لازما واعلم أنه تعالى لما حكى عن إبليس ذلك حكى عن نفسه أنه تعالى قال له اذهب وهذا ليس من الذهاب الذي هو نقيض المجيء وإنما معناه امض لشأنك الذي اخترته والمقصود التخلية وتفويض الأمر إليه
ثم قال فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا ونظيره قول موسى عليه الصلاة والسلام فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس طه 97 فإن قيل أليس الأولى أن يقال فإن جهنم جزاؤهم جزاء موفورا ليكون هذا الضمير راجعا إلى قوله فمن تبعك قلنا فيه وجوه الأول التقدير فإن جهنم جزاؤهم وجزاؤكم ثم غلب المخاطب على الغائب فقيل جزاؤكم والثاني يجوز أن يكون هذا الخطاب مع الغائبين على طريقة الالتفات والثالث أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال { من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة } فكل معصية توجد فيحصل لإبليس مثل وزر ذلك العامل
فلما كان إبليس هو الأصل في كل المعاصي صار المخاطب بالوعيد هو إبليس ثم قال جزاء موفورا وهذه اللفظة قد تجيء متعديا ولازما أما المتعدي فيقال وفرته أفره وفرا و وفرة فهو موفور و موفر قال زهير ومن يجعل المعروف من دون عرضه
يفره ومن لا يتق الشتم يشتم
واللازم كقوله وفر المال يفر وفورا فهو وافر فعلى التقدير الأول يكون المعنى جزاء موفورا موفرا وعلى الثاني يكون المعنى جزاء موفورا وافرا وانتصب قوله جزاء على المصدر
قوله تعالى
واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا

اعلم أن إبليس لما طلب من الله الإمهال إلى يوم القيامة لأجل أن يحتنك ذرية آدم فالله تعالى ذكر أشياء أولها قوله اذْهَبْ ومعناه أمهلتك هذه المدة وثانيها قوله تعالى وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ يقال أفزه الخوف واستفزه أي أزعجه واستخفه وصوته دعاؤه إلى معصية الله تعالى وقيل أراد بصوتك الغناء واللهو واللعب ومعنى صيغة الأمر هنا التهديد كما يقال اجهد جهدك فسترى ما ينزل بك وثالثها بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ في قوله وَأَجْلِبْ وجوه الأول قال الفراء إنه من الجلبة وهو الصياح وربما قالوا الجلب كما قالوا الغلبة والغلب والشفقة والشفق وقال الليث وأبو عبيدة أجلبوا وجلبوا من الصياح الثاني قال الزجاج في فعل وأفعل أجلب على العدو إجلاباً إذا جمع عليه الخيول الثالث قال ابن السكيت يقال هم يجلبون عليه بمعنى أنهم يعينون عليه والرابع روى ثعلب عن ابن الأعرابي أجلب الرجل على الرجل إذا توعده الشر وجمع عليه الجمع فقوله وأجلب عليهم معناه على قول الفراء صح عليهم بخيلك ورجلك وعلى قول الزجاج أجمع عليهم كل ما تقدر عليه من مكايدك وتكون الباء في قوله بخيلك زائدة على هذا القول وعلى قول ابن السكيت معناه أعن عليهم بخيلك ورجلك ومفعول الإجلاب على هذا القول محذوف كأنه يستعين على إغوائهم بخيله ورجله وهذا أيضاً يقرب من قول ابن الأعرابي واختلفوا في تفسير الخيل والرجل فروى أبو الضحى عن ابن عباس أنه قال ( كل راكب أو راجل في معصية الله تعالى فهو من خيل إبليس وجنوده ) ويدخل فيه كل راكب وماشٍ في معصية الله تعالى فعلى هذا التقدير خيله ورجله كل من شاركه في الدعاء إلى المعصية والقول الثاني يحتمل أن يكون لإبليس جند من الشياطين بعضهم راكب وبعضهم راجل والقول الثالث أن المراد منه ضرب المثل كما تقول للرجل المجد في الأمر جئتنا بخيلك ورجلك وهذا الوجه أقرب والخيل تقع على الفرسان قال عليه الصلاة والسلام ( يا خيل الله اركبي ) وقد تقع على الأفراس خاصة والمراد ههنا الأول والرجل جمع راجل كما قالوا تاجر وتجر وصاحب وصحب وراكب وركب وروى حفص عن عاصم ورجلك بكسر الجيم وغيره بالضم قال أبو زيد يقال رجل ورجل بمعنى واحد ومثله حدث وحدث وندس وندس قال ابن الأنباري أخبرنا ثعلب عن الفراء قال يقال رجل ورجل ورجلان بمعنى واحد والنوع الرابع من الأشياء التي ذكرها الله تعالى لإبليس قوله وَشَارِكْهُمْ فِى الاْمْوالِ وَالاْوْلَادِ نقول أما المشاركة في الأموال فهي عبارة عن كل تصرف قبيح في المال سواء كان ذلك القبيح بسبب أخذه من غير حقه أو وضعه في غير حقه ويدخل فيه الربا والغصب والسرقة والمعاملات الفاسدة وهكذا قاله القاضي وهو ضبط حسن وأما المفسرون فقد ذكروا وجوهاً قال قتادة المشاركة في الأموال هي أن جعلوا بحيرة وسائبة وقال عكرمة هي عبارة عن تبتيكهم آذان الأنعام وقيل هي أن جعلوا من أموالهم شيئاً لغير الله تعالى كما قال تعالى فَقَالُواْ هَاذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَاذَا لِشُرَكَائِنَا ( الأنعام 136 ) والأصوب ما قاله القاضي وأما المشاركة في الأولاد فذكروا فيه وجوهاً أحدها أنها الدعاء إلى الزنا وزيف الأصم ذلك بأن قال إنه لا ذم على الولد ويمكن أن يجاب عنه بأن المراد وشاركهم في طريق تحصيل الولد وذلك بالدعاء إلى الزنا وثانيها أن يسموا أولادهم بعبد اللات وعبد العزى وثالثها أن يرغبوا أولادهم في الأديان الباطلة كاليهودية والنصرانية وغيرهما ورابعها إقدامهم على قتل الأولاد ووأدهم وخامسها ترغيبهم في حفظ الأشعار المشتملة على الفحش وترغيبهم في القتل والقتال والحرف الخبيثة الخسيسة والضابط أن يقال إن كل تصرف من المرء في ولده على وجه يؤدي إلى ارتكاب منكر أو

قبيح فهو داخل فيه
والنوع الخامس من الأشياء التي ذكرها الله تعالى لإبليس في هذه الآية قوله وَعَدَّهُمْ
واعلم أنه لما كان مقصود الشيطان الترغيب في الاعتقاد الباطل والعمل الباطل والتنفير عن الاعتقاد الحق والعمل الحق ومعلوم أن الترغيب في الشيء لا يمكن إلا بأن يقرر عنده أنه لا ضرر البتة في فعله ومع ذلك فإنه يفيد المنافع العظيمة والتنفير عن الشيء لا يمكن إلا بأن يقرر عنده أنه لا فائدة في فعله ومع ذلك فيفيد المضار العظيمة إذا ثبت هذا فنقول إن الشيطان إذا دعا إلى المعصية فلا بد وأن يقرر أولاً أنه لا مضرة في فعله البتة وذلك إنما يمكن إذا قال لا معاد ولا جنة ولا نار ولا حياة بعد هذه الحياة فبهذا الطريق يقرر عنده أنه لا مضرة البتة في فعل هذه المعاصي وإذا فرغ عن هذا المقام قرر عنده أن هذا الفعل يفيد أنواعاً من اللذة والسرور ولا حياة للإنسان في هذه الدنيا إلا به فتفويتها غبن وخسران كما قال الشاعر خذوا بنصيب من سرور ولذة
فكل وإن طال المدى يتصرم
فهذا هو طريق الدعوة إلى المعصية وأما طريق التنفير عن الطاعة فهو أن يقرر أولاً عنده أنه لا فائدة فيه وتقريره من وجهين الأول أن يقول لا جنة ولا نار ولا ثواب ولا عذاب والثاني أن هذه العبادات لا فائدة فيها للعابد والمعبود فكانت عبثاً محضاً فبهذين الطريقين يقرر الشيطان عند الإنسان أنه لا فائدة فيها وإذا فرغ عن هذا المقام قال إنها توجب التعب والمحنة وذلك أعظم المضار فهذه مجامع تلبيس الشيطان فقوله وَعَدَّهُمْ يتناول كل هذه الأقسام قال المفسرون قوله وَعَدَّهُمْ أي بأنه لا جنة ولا نار وقال آخرون وَعَدَّهُمْ بتسويف التوبة وقال آخرون وَعَدَّهُمْ بالأماني الباطلة مثل قوله لآدم مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَاذِهِ الشَّجَرَة ِ إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ( الأعراف 20 ) وقال آخرون وعدهم بشفاعة الأصنام عند الله تعالى وبالأنساب الشريفة وإيثار العاجل على الآجل وبالجملة فهذه الأقسام كثيرة وكلها داخلة في الضبط الذي ذكرناه وإن أردت الاستقصاء في هذا الباب فطالع كتاب ذم الغرور من كتاب إحياء علوم الدين للشيخ الغزالي حتى يحيط عقلك بمجامع تلبيس إبليس واعلم أن الله تعالى لما قال وَعَدَّهُمْ أردفه بما يكون زاجراً عن قبول وعده فقال وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً والسبب فيه أنه إنما يدعو إلى أحد أمور ثلاثة قضاء الشهوة وإمضاء الغضب وطلب الرياسة وعلو الدرجة ولا يدعو البتة إلى معرفة الله تعالى ولا إلى خدمته وتلك الأشياء الثلاثة معنوية من وجوه كثيرة أحدها أنها في الحقيقة ليست لذات بل هي خلاص عن الآلام وثانيها وإن كانت لذات لكنها لذات خسيسة مشترك فيها بين الكلاب والديدان والخنافس وغيرها وثالثها أنها سريعة الذهاب والانقضاء والانقراض ورابعها أنها لا تحصل إلا بمتاعب كثيرة ومشاق عظيمة وخامسها أن لذات البطن والفرج لا تتم إلا بمزاولة رطوبات عفنة مستقذرة وسادسها أنها غير باقية بل يتبعها الموت والهرم والفقر والحسرة على الفوت والخوف من الموت فلما كانت هذه المطالب وإن كانت لذيذة بحسب الظاهر إلا أنها ممزوجة بهذه الآفات العظيمة والمخالفات الجسيمة كان الترغيب فيها تغريراً ولهذا المعنى قال تعالى وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً
واعلم أنه تعالى لما قال له افعل ما تقدر عليه فقال تعالى إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وفيه قولان

الأول أن المراد كل عباد الله من المكلفين وهذا قول أبي علي الجبائي قال والدليل عليه أن الله تعالى إستثنى منه في آيات كثيرة من يتبعه بقوله إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ ( الحجر 42 ) ثم استدل بهذا على أنه لا سبيل لإبليس وجنوده على تصريع الناس وتخبيط عقولهم وأنه لا قدرة له إلا على قدر الوسوسة وأكد ذلك بقوله تعالى وَمَا كَانَ لِى َ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى فَلاَ تَلُومُونِى وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ ( إبراهيم 22 ) وأيضاً فلو قدر على هذه الأعمال لكان يجب أن يتخبط أهل الفضل وأهل العلم دون سائر الناس ليكون ضرره أعظم ثم قال وإنما يزول عقله لا من جهة الشيطان لكن لغلبة الأخلاط الفاسدة ولا يمتنع أن يكون أحد أسباب ذلك المرض اعتقاد أن الشيطان يقدم عليه فيغلب الخوف فيحدث ذلك المرض
والقول الثاني أن المراد بقوله إِنَّ عِبَادِى أهل الفضل والعلم والإيمان لما بينا فيما تقدم أن لفظ العباد في القرآن مخصوص بأهل الإيمان والدليل عليه أنه قال في آية أخرى إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ ( النحل 100 )
ثم قال وَكَفَى بِرَبّكَ وَكِيلاً وفيه بحثان
البحث الأول أنه تعالى لما مكن إبليس من أن يأتي بأقصى ما يقدر عليه في باب الوسوسة وكان ذلك سبباً لحصول الخوف الشديد في قلب الإنسان قال وَكَفَى بِرَبّكَ وَكِيلاً ومعناه أن الشيطان وإن كان قادراً فالله تعالى أقدر منه وأرحم بعباده من الكل فهو تعالى يدفع عنه كيد الشيطان ويعصمه من إضلاله وإغوائه
البحث الثاني هذه الآية تدل على أن المعصوم من عصمه الله تعالى وأن الإنسان لا يمكنه أن يحترز بنفسه عن مواقع الضلالة لأنه لو كان الإقدام على الحق والاحجام عن الباطل إنما يحصل للإنسان من نفسه لوجب أن يقال وكفى الإنسان نفسه في الاحتراز عن الشيطان فلما لم يقل ذلك بل قال وَكَفَى بِرَبّكَ علمنا أن الكل من الله ولهذا قال المحققون لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله بقي في الآية سؤالان
السؤال الأول أن إبليس هل كان عالماً بأن الذي تكلم معه بقوله وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ هو إله العالم أو لم يعلم ذلك فإن علم ذلك ثم إنه تعالى قال فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاء مَّوفُورًا فكيف لم يصر هذا الوعيد الشديد مانعاً له من المعصية مع أنه سمعه من الله تعالى من غير واسطة وإن لم يعلم أن هذا القائل هو إله العالم فكيف قال قَالَ أَرَءيْتَكَ هَاذَا الَّذِى كَرَّمْتَ
والجواب لعله كان شاكاً في الكل أو كان يقول في كل قسم ما يخطر بباله على سبيل الظن
والسؤال الثاني ما الحكمة في أنه تعالى أنظره إلى يوم القيامة ومكنه من الوسوسة والحكيم إذا أراد أمراً وعلم أن شيئاً من الأشياء يمنع من حصوله فإنه لا يسعى في تحصيل ذلك المانع
والجواب أما مذهبنا فظاهر في هذا الباب وأما المعتزلة فلهم قولان قال الجبائي علم الله تعالى أن الذين كفروا عند وسوسة إبليس يكفرون بتقدير أن لا يوجد إبليس وإذا كان كذلك لم يكن في وجوده

مزيد مفسدة وقال أبو هاشم لا يبعد أن يحصل من وجوده مزيد مفسدة إلا أنه تعالى أبقاه تشديداً للتكليف على الخلق ليستحقوا بسبب ذلك التشديد مزيد الثواب وهذان الوجهان قد ذكرناهما في سورة الأعراف والحجر وبالغنا في الكشف عنهما والله أعلم
رَّبُّكُمُ الَّذِى يُزْجِى لَكُمُ الْفُلْكَ فِى الْبَحْرِ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِى الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَة ً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا
اعلم أنه تعالى عاد إلى ذكر الدلائل الدالة على قدرته وحكمته ورحمته وقد ذكرنا أن المقصود الأعظم في هذا الكتاب الكريم تقرير دلائل التوحيد فإذا امتد الكلام في فصل من الفصول عاد الكلام بعده إلى ذكر دلائل التوحيد والمذكور ههنا الوجوه المستنبطة من الانعامات في أحوال ركوب البحر
فالنوع الأول كيفية حركة الفلك على وجه البحر وهو قوله رَّبُّكُمُ الَّذِى يُزْجِى لَكُمُ الْفُلْكَ فِى الْبَحْرِ والإزجاء سوق الشيء حالاً بعد حال وقد ذكرنا ذلك في تفسير قوله بِبِضَاعَة ٍ مُّزْجَاة ٍ والمعنى ربكم الذي يسير الفلك على وجه البحر لتبتغوا من فضله في طلب التجارة إنه كان بكم رحيماً والخطاب في قوله رَبُّكُمْ وفي قوله إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ عام في حق الكل والمراد من الرحمة منافع الدنيا ومصالحها
والنوع الثاني قوله وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِى الْبَحْرِ والمراد من الضر الخوف الشديد كخوف الغرق ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ والمراد أن الإنسان في تلك الحالة لا يتضرع إلى الصنم والشمس والقمر والملك والفلك وإنما يتضرع إلى الله تعالى فلما نجاكم من الغرق والبحر وأخرجكم إلى البر أعرضتم عن الإيمان والإخلاص وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا لنعم الله بسبب أن عند الشدة يتمسك بفضله ورحمته وعند الرخاء والراحة يعرض عنه ويتمسك بغيره
والنوع الثالث قوله أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفْ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرّ قال الليث الخسف والخسوف هو دخول الشيء في الشيء يقال عين خاسفة وهي التي غابت حدقتها في الرأس وعين من الماء خاسفة أي غائرة الماء وخسفت الشمس أي احتجبت وكأنها وقعت تحت حجاب أو دخلت في جحر فقوله ءانٍ يَخْسِفْ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرّ

أي نغيبكم من جانب البر وهو الأرض وإنما قال جَانِبَ الْبَرّ لأنه ذكر البحر في الآية الأولى فهو جانب والبر جانب خبر الله تعالى أنه كما قدر على أن يغيبهم في الماء فهو قادر أيضاً على أن يغيبهم في الأرض فالغرق تغييب تحت الماء كما أن الخسف تغييب تحت التراب وتقرير الكلام أنه تعالى ذكر في الآية الأولى أنهم كانوا خائفين من هول البحر فلما نجاهم منه آمنوا فقال هب أنكم نجوتم من هول البحر فكيف أمنتم من هو البر فإنه تعالى قادر على أن يسلط عليكم آفات البر من جانب التحت أو من جانب الفوق أما من جانب التحت فبالخسف وأما من جانب الفوق فبامطار الحجارة عليهم وهو المراد من قوله أَوْ نُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فكما لا يتضرعون إلا إلى الله تعالى عند ركوب البحر فكذلك يجب أن لا يتضرعوا إلا إليه في كل الأحوال ومعنى الحصب في اللغة الرمي يقال حصبت أحصب حصباً إذا رميت والحصب المرمي ومنه قوله تعالى حَصَبُ جَهَنَّمَ أي يلقون فيها ومعنى قوله حَاصِباً أي عذاباً يحصبهم أي يرميهم بحجارة ويقال للريح التي تحمل التراب والحصباء حاصب والسحاب الذي يرمي بالثلج والبرد يسمى حاصباً لأنه يرمي بهما رمياً وقال الزجاج الحاصب التراب الذي فيه حصباء والحاصب على هذا ذو الحصباء مثل اللابن والتامر وقوله ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً يعني لا تجدوا ناصراً ينصركم ويصونكم من عذاب الله ثم قال أَمْ أَمِنتُمْ أَن نُعِيدُكُمْ فِيهِ أي في البحر تارة أخرى وقوله فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا من الريح القاصف الكاسر يقال قصف الشيء يقصفه قصفاً إذا كسره بشدة والقاصف من الريح التي تكسر الشجر وأراد ههنا ريحاً شديدة تقصف الفلك وتغرقهم وقوله فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ أي بسبب كفركم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعاً قال الزجاج أي لا تجدوا من يتبعنا بإنكار ما نزل بكم بأن يصرفه عنكم وتبيع بمعنى تابع
واعلم أن هذه الآية مشتملة على ألفاظ خمسة وهي قوله ءانٍ نَخْسِفْ أَوْ نُرْسِلُ أَوْ نُعِيدُكُمْ قرأ ابن كثير وأبو عمرو جميع هذه الخمسة بالنون والباقون بالياء فمن قرأ بالياء فلأن ما قبله على الواحد الغائب وهو قوله مَن تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ ( الإسراء 67 ) ومن قرأ بالنون فلأن هذا البحر من الكلام قد ينقطع بعضه من بعض وهو سهل لأن المعنى واحد ألا ترى أنه قد جاء وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لّبَنِى إِسْراءيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِى وَكِيلاً فانتقل من الجمع إلى الأفراد وكذلك ههنا يجوز أن ينتقل من الغيبة إلى الخطاب والمعنى واحد والكل جائز والله أعلم
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً
اعلم أن المقصود من هذه الآية ذكر نعمة أخرى جليلة رفيعة من نعم الله تعالى على الإنسان وهي الأشياء التي بها فضل الإنسان على غيره وقد ذكر الله تعالى في هذه الآية أربعة أنواع
النوع الأول قوله وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ واعلم أن الإنسان جوهر مركب من النفس والبدن فالنفس

الإنسانية أشرف النفوس الموجودة في العالم السفلي وبدنه أشرف الأجسام الموجودة في العالم السفلي وتقرير هذه الفضيلة في النفس الإنسانية هي أن النفس الإنسانية قواها الأصلية ثلاث وهي الأغتذاء والنمو والتوليد والنفس الحيوانية لها قوتان الحساسة سواء كانت ظاهرة أو باطنة والحركة بالاختيار فهذه القوى الخمسة أعني الاغتذاء والنمو والتوليد والحس والحركة حاصلة للنفس الإنسانية ثم إن النفس الإنسانية مختصة بقوة أخرى وهي القوة العاقلة المدركة لحقائق الأشياء كما هي وهي التي يتجلى فيها نور معرفة الله تعالى ويشرق فيها ضوء كبريائه وهو الذي يطلع على أسرار عالمي الخلق والأمر ويحيط بأقسام مخلوقات الله من الأرواح والأجسام كما هي وهذه القوة من تلقيح الجواهر القدسية والأرواح المجردة الإلهية فهذه القوة لا نسبة لها في الشرف والفضل إلى تلك القوى النباتية والحيوانية وإذا كان الأمر كذلك ظهر أن النفس الإنسانية أشرف النفوس الموجودة في هذا العالم وإن أردت أن تعرف فضائل القوة العقلية ونقصانات القوى الجسمية فتأمل ما كتبناه في هذا الكتاب في تفسير قوله تعالى اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( النور 35 ) فإنا ذكرنا هناك عشرين وجهاً في بيان أن القوة العقلية أجل وأعلى من القوة الجسمية فلا فائدة في الإعادة وأما بيان أن البدن الإنساني أشرف أجسام هذا العالم فالمفسرون إنما ذكروا في تفسير قوله تعالى وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ هذا النوع من الفضائل وذكروا أشياء أحدها روى ميمون بن مهران عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ قال كل شيء يأكل بفيه إلا ابن آدم فإنه يأكل بيديه وقيل إن الرشيد أحضرت عنده أطعمة فدعا بالملاعق وعنده أبو يوسف فقال له جاء في التفسير عن جدك في قوله تعالى وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ جعلنا لهم أصابع يأكلون بها فرد الملاعق وأكل بأصابعه وثانيها قال الضحاك بالنطق والتمييز وتحقيق الكلام أن من عرف شيئاً فأما أن يعجز عن تعريف غيره كونه عارفاً بذلك الشيء أو يقدر على هذا التعريف
أما القسم الأول فهو حال جملة الحيوانات سوى الإنسان فإنه إذا حصل في باطنها ألم أو لذة فإنها تعجز عن تعريف غيرها تلك الأحوال تعريفاً تاماً وافيا
وأما القسم الثاني فهو الإنسان فإنه يمكنه تعريف غيره كل ما عرفه ووقف عليه وأحاط به فكونه قادراً على هذا النوع من التعريف هو المراد بكونه ناطقاً وبهذا البيان ظهر أن الإنسان الأخرس داخل في هذا الوصف لأنه وإن عجز عن تعريف غيره ما في قلبه بطريق اللسان فإنه يمكنه ذلك بطريق الإشارة وبطريقة الكتابة وغيرهما ولا يدخل فيه الببغاء لأنه وإن قدر على تعريفات قليلة فلا قدرة له على تعريف جميع الأحوال على سبيل الكمال والتمام وثالثها قال عطاء بامتداد القامة
واعلم أن هذا الكلام غير تام لأن الأشجار أطور من قامة الإنسان بل ينبغي أن يشترط فيه شرط وهو طول القامة مع استكمال القوة العقلية والقوى الحسية والحركية ورابعها قال بيان بحسن الصورة والدليل عليه قوله تعالى وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ( غافر 64 ) لما ذكر الله تعالى خلقة الإنسان قال فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ وقال صِبْغَة َ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَة ً ( البقرة 138 ) وإن شئت فتأمل عضواً واحداً من أعضاء الإنسان وهو العين فخلق الحدقة سوداء ثم أحاط بذلك السواد بياض العين ثم أحاط بذلك البياض سواد الأشفار ثم أحاط بذلك السواد بياض الأجفان ثم خلق فوق بياض

الجفن سواد الحاجبين ثم خلق فوق ذلك السواد بياض الجبهة ثم خلق فوق بياض الجبهة سواد الشعر وليكن هذا المثال الواحد أنموذجاً لك في هذا الباب وخامسها قال بعضهم من كرامات الآدمي أن آتاه الله الخط وتحقيق الكلام في هذا الباب أن العلم الذي يقدر الإنسان على استنباطه يكون قليلاً أما إذا استنبط الإنسان علماً وأودعه في الكتاب وجاء الإنسان الثاني واستعان بذلك الكتاب وضم إليه من عند نفسه أشياء أخرى ثم لا يزالون يتعاقبون ويضم كل متأخر مباحث كثيرة إلى علم المتقدمين كثرت العلوم وقويت الفضائل والمعارف وانتهت المباحث العقلية والمطالب الشرعية إلى أقصى الغايات وأكمل النهايات ومعلوم أن هذا الباب لا يتأتى إلا بواسطة الخط والكتبة ولهذه الفضيلة الكاملة قال تعالى اقْرَأْ وَرَبُّكَ الاْكْرَمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ وسادسها أن أجسام هذا العالم إما بسائط وإما مركبات أما البسائط فهي الأرض والماء والهواء والنار والإنسان ينتفع بكل هذه الأربع أما الأرض فهي لنا كالأم الحاضنة قال تعالى مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَة ً أُخْرَى ( طه 55 ) وقد سماها الله تعالى بأسماء بالنسبة إلينا وهي الفراش والمهد والمهاد وأما الماء فانتفاعنا به في الشرب والزراعة والحراثة ظاهر وأيضاً سخر البحر لنأكل منه لحماً طرياً ونستخرج منه حلية نلبسها ونرى الفلك مواخر فيه وأما الهواء فهو مادة حياتنا ولولا هبوب الرياح لاستولى النتن على هذه المعمورة وأما النار فيها طبخ الأغذية والأشربة ونضجها وهي قائمة مقام الشمس والقمر في الليالي المظلمة وهي الدافعة لضرر البرد كما قال الشاعر ومن يرد في الشتاء فاكهة
فإن نار الشتاء فاكهته
وأما المركبات فهي إما الآثار العلوية وإما المعادن والنبات وأما الحيوان والإنسان كالمستولي على هذه الأقسام والمنتفع بها والمستسخر لكل أقسامها فهذا العالم بأسره جار مجرى قرية معمورة أو خان معد وجميع منافعها ومصالحها مضروفة إلى الإنسان فيه كالرئيس المخدوم والملك المطاع وسائر الحيوانات بالنسبة إليه كالعبيد وكل ذلك يدل على كونه مخصوصاً من عند الله بمزيد التكريم والتفضيل والله أعلم وسابعها أن المخلوقات تنقسم إلى أربعة أقسام إلى ما حصلت له القوة العقلية الحكمية ولم تحصل له القوة الشهوانية الطبيعية وهم الملائكة وإلى ما يكون بالعكس وهم البهائم وإلى ما خلا عن القسمين وهو النبات والجمادات وإلى ما حصل النوعان فيه وهو الإنسان ولا شك أن الإنسان لكونه مستجمعاً للقوة العقلية القدسية المحضة وللقوى الشهوانية البهيمية والغضبية والسبعية يكون أفضل من البهيمية ومن السبعية ولا شك أيضاً أنه أفضل من الأجسام الخالية عن القوتين مثل النبات والمعادن والجمادات وإذا ثبت ذلك ظهر أن الله تعالى فضل الإنسان على أكثر أقسام المخلوقات بقي ههنا بحث في أن الملك أفضل أم البشر والمعنى أن الجوهر البسيط الموصوف بالقوة العقلية القدسية المحضة أفضل أم البشر المستجمع لهاتين القوتين وذلك بحث آخر وثامنها الموجود إما أن يكون أزلياً وأبدياً معاً وهو الله سبحانه وتعالى وإما أن يكون ولا أزلياً لا أبدياً وهو عالم الدنيا مع كل ما فيه من المعادن والنبات والحيوان وهذا أخس الأقسام وإما أن يكون أزلياً لا أبدياً وهو الممتنع الوجود لأن ما ثبت قدمه امتنع عدمه وإما أن لا يكون أزلياً ولكنه يكون أبدياً وهو الإنسان والملك ولا شك أن هذا القسم أشرف من القسم الثاني والثالث وذلك يقتضي كون الإنسان أشرف من أكثر مخلوقات الله تعالى وتاسعها العالم العلوي أشرف من العالم السفلي وروح

الإنسان من جنس الأرواح العلوية والجواهر القدسية فليس في موجودات العالم السفلي شيء حصل فيه شيء من العالم العلوي إلا الإنسان فوجب كون الإنسان أشرف موجودات العالم السفلي وعاشرها أشرف الموجودات هو الله تعالى وإذا كان كذلك فكل موجود كان قربه من الله تعالى أتم وجب أن يكون أشرف لكن أقرب موجودات هذا العالم من الله هو الإنسان بسبب أن قلبه مستنير بمعرفة الله تعالى ولسانه مشرف بذكر الله وجوارحه وأعضاؤه مكرمة بطاعة الله تعالى فوجب الجزم بأن أشرف موجودات هذا العالم السفلي هو الإنسان ولما ثبت أن الإنسان موجود ممكن لذاته والممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد الواجب لذاته ثبت أن كل ما حصل للإنسان من المراتب العالية والصفات الشريفة فهي إنما حصلت بإحسان الله تعالى وإنعامه فلهذا المعنى قال تعالى وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ ومن تمام كرامته على الله تعالى أنه تعالى لما خلقه في أول الأمر وصف نفسه بأنه أكرم فقال اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الَّذِى خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الاْكْرَمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ بِالْقَلَمِ ( العلق 1 4 ) ووصف نفسه بالتكريم عند تربيته للإنسان فقال وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ ووصف نفسه بالكرم في آخر أحوال الإنسان فقال وَأَخَّرَتْ ياأَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الْكَرِيمِ ( الإنفطار 6 ) وهذا يدل على أنه لا نهاية لكرم الله تعالى ولفضله وإحسانه مع الإنسان والله أعلم
والوجه الحادي عشر قال بعضهم هذا التكريم معناه أنه تعالى خلق آدم بيده وخلق غيره بطريق كن فيكون ومن كان مخلوقاً بيد الله كانت العناية به أتم وأكمل وكان أكرم وأكمل ولما جعلنا من أولاده وجب كون بني آدم أكرم وأكمل والله أعلم
النوع الثاني من المدائح المذكورة في هذه الآية قوله وَحَمَلْنَاهُمْ فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ قال ابن عباس في البر على الخيل والبغال والحمير والإبل وفي البحر على السفن وهذا أيضاً من مؤكدات التكريم المذكور أولاً لأنه تعالى سخر هذه الدواب له حتى يركبها ويحمل عليها ويغزو ويقاتل ويذب عن نفسه وكذلك تسخير الله تعالى المياه والسفن وغيرها ليركبها وينقل عليها ويتكسب بها مما يختص به ابن آدم كل ذلك مما يدل على أن الإنسان في هذا العالم كالرئيس المتبوع والملك المطاع وكل ما سواه فهو رعيته وتبع له
النوع الثالث من المدائح قوله وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطَّيّبَاتِ وذلك لأن الأغذية إما حيوانية وإما نباتية وكلا القسمين إنما يتغذى الإنسان منه بألطف أنواعها وأشرف أقسامها بعد التنقية التامة والطبخ الكامل والنضج البالغ وذلك مما لا يحصل إلا للإنسان
النوع الرابع قوله وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً وههنا بحثان
البحث الأول أنه قال في أول الآية وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ وقال في آخرها وَفَضَّلْنَاهُمْ ولا بد من الفرق بين هذا التكريم والتفضيل وإلا لزم التكرار والأقرب أن يقال إنه تعالى فضل الإنسان على سائر الحيوانات بأمور خلقية طبيعية ذاتية مثل العقل والنطق والخط والصورة الحسنة والقامة المديدة ثم إنه تعالى عرضه بواسطة ذلك العقل والفهم لاكتساب العقائد الحقة والأخلاق الفاضلة فالأول هو التكريم والثاني هو التفضيل
البحث الثاني أنه تعالى لم يقل وفضلناهم على الكل بل قال وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً

فهذا يدل على أنه حصل في مخلوقات الله تعالى شيء لا يكون الإنسان مفضلاً عليه وكل من أثبت هذا القسم قال إنه هو الملائكة فلزم القول بأن الإنسان ليس أفضل من الملائكة بل الملك أفضل من الإنسان وهذا القول مذهب ابن عباس واختيار الزجاج على ما رواه الواحدي في البسيط واعلم أن هذا الكلام مشتمل على بحثين
البحث الأول أن الأنبياء عليهم السلام أفضل أم الملائكة وقد سبق ذكر هذه المسألة بالاستقصاء في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَة ِ اسْجُدُواْ لاِدَمَ ( البقرة 34 )
والبحث الثاني أن عوام الملائكة وعوام المؤمنين أيهما أفضل منهم من قال بتفضيل المؤمنين على الملائكة واحتجوا عليه بما روي عن زيد بن أسلم أنه قال قالت الملائكة ربنا إنك أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون فيها ويتنعمون ولم تعطنا ذلك فأعطنا ذاك في الآخرة فقال وعزتي وجلالي لا أجعل ذرية من خلقت بيدي كما قلت له كُنَّ فكان وقال أبو هريرة رضي الله عنه المؤمن أكرم على الله من الملائكة الذين عنده هكذا أورده الواحدي في ( البسيط ) وأما القائلون بأن الملك أفضل من البشر على الإطلاق فقد عولوا على هذه الآية وهو في الحقيقة تمسك بدليل الخطاب لأن تقرير الدليل أن يقال إن تخصيص الكثير بالذكر يدل على أن الحال في القليل بالضد وذلك تمسك بدليل الخطاب والله أعلم
يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِى َ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَائِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً وَمَن كَانَ فِى هَاذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِى الاٌّ خِرَة ِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً
اعلم أنه تعالى لما ذكر أنواع كرامات الإنسان في الدنيا ذكر أحوال درجاته في الآخرة في هذه الآية وفيها مسائل
المسألة الأولى قرىء يدعو بالياء والنون ويدعى كل أناس على البناء للمفعول وقرأ الحسن يدعو كل أناس قال الفراء وأهل العربية لا يعرفون وجهاً لهذه القراءة المنقولة عن الحسن ولعله قرأ يدعى بفتحة ممزوجة بالضم فظن الراوي أنه قرأ يدعو
المسألة الثانية قوله يوم ندعو نصب بإضمار اذكر ولا يجوز أن يقال العامل فيه قوله وفضلناهم لأنه فعل ماضٍ ويمكن أن يجاب عنه فيقال المراد ونفضلهم بما نعطيهم من الكرامة والثواب
المسألة الثالثة قوله بِإِمَامِهِمْ الإمام في اللغة كل من ائتم به قوم كانوا على هدى أو ضلالة فالنبي إمام أمته والخليفة إمام رعيته والقرآن إمام المسلمين وإمام القوم هو الذي يقتدي به في الصلاة وذكروا في تفسير الإمام ههنا أقوال القول الأول إمامهم نبيهم روي ذلك مرفوعاً عن أبي هريرة رضي الله عنه عن

النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ويكون المعنى أنه ينادي يوم القيامة يا أمة إبراهيم يا أمة موسى يا أمة عيسى يا أمة محمد فيقوم أهل الحق الذين اتبعوا الأنبياء فيأخذون كتبهم بإيمانهم ثم ينادي يا أتباع فرعون يا أتباع نمروذ يا أتباع فلان وفلان من رؤساء الضلال وأكابر الكفر وعلى هذا القول فالباء في قوله بإمامهم فيه وجهان الأول أن يكون التقدير يدعو كل أناس بإمامهم تبعاً وشيعة لأمامهم كما تقول ادعوك باسمك والثاني أن يتعلق بمحذوف وذلك المحذوف في موضع الحال كأنه قيل يدعو كل أناس مختلطين بإمامهم أي يدعون وإمامهم فيهم نحو ركب بجنوده والقول الثاني وهو قول الضحاك وابن زيد بإمامهم أي بكتابهم الذي أنزل عليهم وعلى هذا التقدير ينادي في القيامة يا أهل القرآن يا أهل التوراة يا أهل الإنجيل والقول الثالث قال الحسن بكتابهم الذي فيه أعمالهم وهو قول الربيع وأبي العالية والدليل على أن هذا الكتاب يسمى إماماً قوله تعالى وَكُلَّ شى ْء أَحْصَيْنَاهُ فِى إِمَامٍ مُّبِينٍ ( ي س 12 ) فسمى الله تعالى هذا الكتاب إماماً وتقدير الباء على هذا القول بمعنى مع أي ندعو كل أناس ومعهم كتابهم كقولك ادفعه إليه برمته أي ومعه رمته القول الرابع قال صاحب ( الكشاف ) ومن بدع التفاسير أن الإمام جمع أم وأن الناس يدعون يوم القيامة بإمهاتهم وأن الحكمة في الدعاء بالأمهات دون الآباء رعاية حق عيسى وإظهار شرف الحسن والحسين وأن لا يفتضح أولاد الزنا ثم قال صاحب ( الكشاف ) وليت شعري أيهما أبدع أصحة لفظه أم بيان حكمته والقول الخامس أقول في اللفظ احتمال آخر وهو أن أنواع الأخلاق الفاضلة والفاسدة كثيرة والمستولي على كل إنسان نوع من تلك الأخلاق فمنهم من يكون الغالب عليه الغضب ومنهم من يكون الغالب عليه شهوة النقود أو شهوة الضياع ومنهم من يكون الغالب عليه الحقد والحسد وفي جانب الأخلاق الفاضلة منهم من يكون الغالب عليه العفة أو الشجاعة أو الكرم أو طلب العلم والزهد إذا عرفت هذا فنقول الداعي إلى الأفعال الظاهرة من تلك الأخلاق الباطنة فذلك الخلق الباطن كالإمام له والملك المطاع والرئيس المتبوع فيوم القيامة إنما يظهر الثواب والعقاب بناء على الأفعال الناشئة من تلك الأخلاق فهذا هو المراد من قوله يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فهذا الاحتمال خطر بالبال والله أعلم بمراده ثم قال تعالى فَمَنْ أُوتِى َ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً قال صاحب ( الكشاف ) إنما قال أولئك لأن من أوتي في معنى الجمع والفتيل القشرة التي في شق النواة وسمي بهذا الاسم لأنه إذا أراد الإنسان استخراجه انفتل وهذا يضرب مثلاً للشيء الحقير التافه ومثله القطمير والنقير في ضرب المثل به والمعنى لا ينقصون من الثواب بمقدار فتيل ونظيره قوله وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً ( مريم 60 ) فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً ( طه 112 ) وروى مجاهد عن ابن عباس أنه قال الفتيل هو الوسخ الذي يظهر بفتل الإنسان إبهامه بسبابته وهو فعيل من الفتل بمعنى مفتول فإن قيل لهم خص أصحاب اليمين بقراءة كتابهم مع أن أصحاب الشمال يقرؤونه أيضاً قلنا الفرق أن أصحاب الشمال إذا طالعوا كتابهم وجدوه مشتملاً على المهلكات العظيمة والقبائح الكاملة والمخازي الشديدة فيستولي الخوف والدهشة على قلوبهم ويثقل لسانهم فيعجزوا عن القراءة وأما أصحاب اليمين فأمرهم على عكس ذلك لا جرم أنهم يقرؤون كتابهم على أحسن الوجوه وأثبتها ثم لا يكتفون بقراءتهم وحدهم بل يقول القارىء لأهل الحشر هَاؤُمُ اقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ ( الحاقه 19 ) فظهر الفرق والله أعلم ثم قال تعالى وَمَن كَانَ فِى هَاذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِى الاْخِرَة ِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً وفيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ أبو عمرو وأبو بكر عن عاصم ونصر عن الكسائي ومن كان في هذه أعمى بالامالة

والكسر فهو في الآخرة أعمى بالفتح وقرأ بالفتح والتفخيم فيهما ابن كثير ونافع وابن عامر وحفص عن عاصم وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم في رواية بالامالة فيهما قال أبو علي الفارسي الوجه في تصحيح قراءة أبي عمرو أن المراد بالأعمى في الكلمة الأولى كونه في نفسه أعمى وبهذا التقدير تكون هذه الكلمة تامة فتقبل الإمالة وأما في الكلمة الثانية فالمراد من الأعمى أفعل التفضيل فكانت بمعنى أفعل من وبهذا التقدير لا تكون لفظة أعمى تامة فلم تقبل الإمالة والحاصل أن إدخال الأمالة في الأولى دل على أنه ليس المراد أفعل التفضيل وتركها في الثانية يدل على أن المراد منها أفعل التفضيل والله أعلم
المسألة الثانية لا شك أنه ليس المراد من قوله تعالى وَمَن كَانَ فِى هَاذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِى الاْخِرَة ِ أَعْمَى عمى البصر بل المراد منه عمى القلب أما قوله فهو في الآخرة أعمى ففيه قولان القول الأول أن المراد منه أيضاً عمى القلب وعلى هذا التقدير ففيه وجوه الأول قال عكرمة جاء نفر من أهل اليمن إلى ابن عباس فسأله رجل عن هذه الآية فقال اقرأ ما قبلها فقرأ رَبَّكُمُ الَّذِى يُزْجِى لَكُمُ الْفُلْكَ فِى الْبَحْرِ ( الإسراء 66 ) إلى قوله تَفْضِيلاً ( الإسراء 66 70 ) قال ابن عباس من كان أعمى في هذه النعم التي قد رأى وعاين فهو في أمر الآخرة التي لم ير ولم يعاين أعمى وأضل سبيلا وعلى هذا الوجه فقوله في هذه إشارة إلى النعم المذكورة في الآيات المتقدمة وثانياً روى أبو ورق عن الضحاك عن ابن عباس قال من كان في الدنيا أعمى عما يرى من قدرتي في خلق السموات والأرض والبحار والجبال والناس والدواب فهو عن أمر الآخرة أعمى وأضل سبيلاً وأبعد عن تحصيل العلم به وعلى هذا الوجه فقوله فمن كان في هذه إشارة إلى الدنيا وعلى هذين القولين فالمراد من كان في الدنيا أعمى القلب عن معرفة هذه النعم والدلائل فبأن يكون في الآخرة أعمى القلب عن معرفة أحوال الآخرة أولى فالعمى في المرتين حصل في الدنيا وثالثها قال الحسن من كان في الدنيا ضالاً كافراً فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً لأنه في الدنيا تقبل توبته وفي الآخرة لا تقبل توبته وفي الدنيا يهتدي إلى التخلص من أبواب الآفات وفي الآخرة لا يهتدي إلى ذلك البتة ورابعها أنه لا يمكن حمل العمى الثاني على الجهل بالله لأن أهل الآخرة يعرفون الله بالضرورة فكان المراد منه العمى عن طريق الجنة أي ومن كان في هذه الدنيا أعمى عن معرفة الله فهو في الآخرة أعمى عن طريق الجنة وخامسها أن الذين حصل لهم عمى القلب في الدنيا إنما حصلت هذه الحالة لهم لشدة حرصهم على تحصيل الدنيا وابتهاجهم بلذاتها وطيباتها فهذه الرغبة تزداد في الآخرة وتعظم هناك حسرتها على فوات الدنيا وليس معهم شيء من أنوار معرفة الله تعالى فيبقون في ظلمة شديدة وحسرة عظيمة فذاك هو المراد من العمى القول الثاني أن يحمل العمى الثاني على عمى العين والبصر فمن كان في هذه الدنيا أعمى القلب حشر يوم القيامة أعمى العين والبصر كما قال وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَة ِ أَعْمَى قَالَ رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً قَالَ كَذالِكَ أَتَتْكَ ايَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذالِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ( طه 124 126 ) وقال وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمّا وهذا العمى زيادة في عقوبتهم والله أعلم

وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتفْتَرِى َ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لآَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَواة ِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا
إعلم أنه تعالى لما عدد في الآيات المتقدمة أقسام نعمه على خلقه وأتبعها بذكر درجات الخلق في الآخرة وشرح أحوال السعداء أردفه بما يجري مجرى تحذير السعداء من الاغترار بوساوس أرباب الضلال والانخداع بكلامهم المشتمل على المكر والتلبي فقال وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس في رواية عطاء نزلت هذه الآية في وفد ثقيف أتوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فسألوه شططاً وقالوا متعنا باللات سنة وحرم وادينا كما حرمت مكة شجرها وطيرها ووحشها فأبى ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولم يجبهم فكرروا ذلك الالتماس وقالوا إنا نحب أن تعرف العرب فضلنا عليهم فإن كرهت ما نقول وخشيت أن تقول العرب أعطيتهم ما لم تعطنا فقل الله أمرني بذلك فأمسك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عنهم وداخلهم الطمع فصاح عليهم عمر وقال أما ترون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قد أمسك عن الكلام كراهية لما تذكرونه فأنزل الله هذه الآية وروى صاحب ( الكشاف ) أنهم جاءوا بكاتبهم فكتب بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمد رسول الله إلى ثقيف لا يعشرون ولا يحشرون فقالوا ولا يجبون فسكت رسول الله ثم قالوا للكاتب اكتب ولا يجبون والكاتب ينظر إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقام عمر بن الخطاب وسل سيفه وقال أسعرتم قلب نبينا يا معشر قريش أسعر الله قلوبكم ناراً فقالوا لسنا نكلمك إنما نكلم محمداً فنزلت هذه الآية واعلم أن هذه القصة إنما وقعت بالمدينة فلهذا السبب قالوا إن هذه الآيات مدنية وروى أن قريشاً قالوا له اجعل آية رحمة آية عذاب وآية عذاب آية رحمة حتى نؤمن بك فنزلت هذه الآية وقال الحسن الكفار أخذوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ليلة بمكة قبل الهجرة فقالوا كف يا محمد عن ذم آلهتنا وشتمها فلو كان ذلك حقاً كان فلان وفلان بهذا الأمر أحق منك فوقع في قلب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يكف عن شتم آلهتهم وعلى هذا التقدير فهذه الآية مكية وعن سعيد بن جبير أنه عليه السلام كان يستلم الحجر فتمنعه قريش ويقولون لا ندعك حتى تستلم آلهتنا فوقع في نفسه أن يفعل ذلك مع كراهية فنزلت هذه الآية
المسألة الثانية قال الزجاج معنى الكلام كادوا يفتنونك ودخلت إن واللام للتأكيد وإن مخففة من

الثقيلة واللام هي الفارقة بينها وبين النافية والمعنى إن الشأن ( أنهم ) قاربوا أن يفتنوك أي يخدعوك فاتنين ( و ) أصل الفتنة الاختبار يقال فتن الصائغ الذهب إذا أدخله النار وأذابه لتميز جيده من رديئه ثم استعملوه في كل من أزال الشيء عن حده وجهته فقالوا فتنه فقوله وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أي يزيلونك ويصرفونك عن الذي أوحينا إليك يعني القرآن والمعنى عن حكمة وذلك لأن في إعطائهم ما سألوه مخالفة لحكم القرآن وقوله لِتفْتَرِى َ عَلَيْنَا غَيْرَهُ أي غير ما أوحينا إليك وهو قولهم قل الله أمرني بذلك وَإِذاً لآَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً أي لو فعلت ما أرادوا لاتخذوك خليلاً وأظهروا للناس أنك موافق لهم على كونهم وراضٍ بشركهم ثم قال وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ أي على الحق بعصمتنا إياك لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ أي تميل إليهم شيئاً قليلاً وقوله شَيْئاً عبارة عن المصدر أي ركوناً قليلاً قال ابن عباس يريد حيث سكت عن جوابهم قال قتادة لما نزلت هذه الآية قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين ) ثم توعده في ذلك أشد التوعد فقال إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَواة ِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ أي ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات يريد عذاب الدنيا وعذاب الآخرة والضعف عبارة عن أن يضم إلى الشيء مثله فإن الرجل إذا قال لوكيله أعط فلاناً شيئاً فأعطاه درهماً فقال أضعفه كان المعنى ضم إلى ذلك الدرهم مثله إذا عرفت هذا فنقول إنا حسن إضمار العذاب في قوله ضِعْفَ الْحَيَواة ِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ لما تقدم في القرآن من وصف العذاب بالضعف في قوله رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَاذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِى النَّارِ ( ص 61 ) وقال لِكُلّ ضِعْفٌ وَلَاكِن لاَّ تَعْلَمُونَ ( الأعراف 38 ) وحاصل الكلام أنك لو مكنت خواطر الشيطان من قلبك وعقدت على الركون إليه همتك لاستحققت بذلك تضعيف العذاب عليك في الدنيا والآخرة ولصار عذابك مثلي عذاب المشرك في الدنيا ومثلي عذابه في الآخرة والسبب في تضعيف هذا العذاب أن أقسام نعم الله تعالى في حق الأنبياء عليهم السلام أكثر فكانت ذنوبهم أعظم فكانت العقوبة المستحقة عليها أكثر ونظيره قوله تعالى عَظِيماً يانِسَاء النَّبِى ّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَة ٍ مُّبَيّنَة ٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ( الأحزاب 30 ) فإن قيل قال عليه السلام ( من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ) فموجب هذا الحديث أنه عليه السلام لو رضي بما قالوه لكان وزره مثل وزر كل أحد من أولئك الكفار وعلى هذا التقدير يكون عقابه زائداً على الضعف قلنا إثبات الضعف لا يدل على نفي الزائد عليه إلا بالبناء على دليل الخطاب وهو حجة ضعيفة ثم قال تعالى ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا يعني إذا أذقناك العذاب المضاعف لم تجد أحداً يخلصك من عذابنا وعقابنا والله أعلم
المسألة الثالثة احتج الطاعنون في عصمة الأنبياء عليهم السلام بهذه الآية فقالوا هذه الآية تدل على صدور الذنب العظيم عنهم من وجوه الأول أن الآية دلت على أنه عليه السلام قرب من أن يفتري على الله والفرية على الله من أعظم الذنوب والثاني أنها تدل على أنه لولا أن الله تعالى ثبته وعصمه لقرب من أن يركن إلى دينهم ويميل إلى مذهبهم والثالث أنه لولا سبق جرم وجناية وإلا فلا حاجة إلى ذكر هذا الوعيد الشديد والجواب عن الأول أن كاد معناه المقاربة فكان معنى الآية أنه قرب وقوعه في الفتنة وهذا القدر لا يدل على الوقوع في تلك الفتنة فإنا إذا قلنا كاد الأمير أن يضرب فلاناً لا يفهم منه أنه ضربه والجواب عن الثاني أن كلمة لولا تفيد انتفاء الشيء لثبوت غيره تقول لولا علي لهلك عمر معناه أن وجود علي منع من حصول الهلاك لعمر فكذلك ههنا قوله وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ معناه

أنه حصل تثبيت الله تعالى لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فكان حصول ذلك التثبيت مانعاً من حصول ذلك الركون والجواب عن الثالث أن ذلك التهديد على المعصية لا يدل على الإقدام عليها والدليل عليه آيات منها قوله وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الاْقَاوِيلِ لاخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ( الحاقة 44 46 ) ومنها قوله لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ( الزمر 65 ) ومنها قوله وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ( الأحزاب 48 ) والله أعلم
المسألة الرابعة احتج أصحابنا على صحة قولهم بأنه لا عصمة عن المعاصي إلا بتوفيق الله تعالى بقوله وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً قالوا إنه تعالى بين أنه لولا تثبيت الله تعالى له لمال إلى طريقة الكفار ولا شك أن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كان أقوى من غيره في قوة الدين وصفاء اليقين فلما بين الله تعالى أن بقاءه معصوماً عن الكفر والضلال لم يحصل إلا باعانة الله تعالى وإغاثته كان حصول هذا المعنى في حق غيره أولى قالت المعتزلة المراد بهذا التثبيت الألطاف الصارفة له عن ذلك وهي ما خطر بباله من ذكر وعده ووعيده ومن ذكر أن كونه نبياً من عند الله تعالى يمنع من ذلك والجواب لا شك أن هذا التثبيت عبارة عن فعل فعله الله يمنع الرسول من الوقوع في ذلك العمل المحذور فنقول لو لم يوجد المقتضى للإقدام على ذلك العمل المحذور في حق الرسول لما كان إلى إيجاد هذا المانع حاجة وحيث وقعت الحاجة إلى تحصيل هذا المانع علمنا أن المقتضى قد حصل في حق الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وأن هذا المانع الذي فعله الله منع ذلك المقتضى من العمل وهذا لا يتم إلا إذا قلنا إن القدرة مع الداعي توجب الفعل فإذا حصلت داعية أخرى معارضة للداعية الأولى اختل المؤثر فامتنع الفعل ونحن لا نريد إلا إثبات هذا المعنى والله أعلم
المسألة الخامسة قال القفال رحمه الله قد ذكرنا في سبب نزول هذه الآية الوجوه المذكورة ويمكن أيضاً تأويلها من غير تقييد بسبب يضاف نزولها فيه لأن من المعلوم أن المشركين كانوا يسعون في إبطال أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بأقصى ما يقدرون عليه فتارة كانوا يقولون إن عبدت آلهتنا عبدنا إلهك فأنزل الله تعالى قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ( الكافرون 1 2 ) وقوله وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ( القلم 9 ) وعرضوا عليه الأموال الكثيرة والنسوان الجميلة ليترك ادعاء النبوة فأنزل الله تعالى وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ( طه 131 ) ودعوه إلى طرد المؤمنين عن نفسه فأنزل الله تعالى قوله وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ ( الأنعام 52 ) فيجوز أن تكون هذه الآيات نزلت في هذا الباب وذلك أنهم قصدوا أن يفتنوه عن دينه وأن يزيلوه عن منهجه فبين تعالى أنه يثبته على الدين القويم والمنهج المستقيم وعلى هذا الطريق فلا حاجة في تفسير هذه الآيات إلى شيء من تلك الروايات والله أعلم
وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرض لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً سُنَّة َ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً
في هذه الآية قولان الأول قال قتادة هم أهل مكة هموا بإخراج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من مكة ولو فعلوا ذلك ما أمهلوا ولكن الله منعهم من اخراجه حتى أمره الله بالخروج ثم إنه قل لبثهم بعد خروج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من

مكة حتى بعث الله عليهم القتل يوم بدر وهذا قول مجاهد والقول الثاني قال ابن عباس إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لما هاجر إلى المدينة حسدته اليهود وكرهوا قربه منهم فقالوا يا أبا القاسم إن الأنبياء إنما بعثوا بالشام وهي بلاد مقدسة وكانت مسكن إبراهيم فلو خرجت إلى الشام آمنا بك واتبعناك وقد علمنا أنه لا يمنعك من الخروج إلا خوف الروم فإن كنت رسول الله فالله مانعك منهم فعسكر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على أميال من المدينة قيل بذي الحليفة حتى يجتمع إليه أصحابه ويراه الناس عازماً على الخروج إلى الشام لحرصه على دخول الناس في دين الله فنزلت هذه الآية فرجع فالقول الأول اختيار الزجاج وهو الوجه لأن السورة مكية فإن صح القول الثاني كانت الآية مدنية والأرض في قوله لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الاْرْضِ على القول الأول مكة وعلى القول الثاني المدينة وكثر في التنزيل ذكر الأرض والمراد منها مكان مخصوص كقوله أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الاْرْضِ ( المائدة 33 ) يعني من مواضعهم وقوله فَلَنْ أَبْرَحَ الاْرْضَ ( يوسف 80 ) يعني الأرض التي كان قصدها لطلب الميرة فإن قيل قال الله تعالى وَكَأَيّن مّن قَرْيَة ٍ هِى َ أَشَدُّ قُوَّة ً مّن قَرْيَتِكَ الَّتِى أَخْرَجَتْكَ ( محمد 13 ) يعني مكة والمراد أهلها فذكر أنهم أخرجوه وقال في هذه الآية وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الاْرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا فكيف ( يمكن ) الجمع بينهما على قول من قال الأرض في هذه الآية مكة قلنا إنهم هموا بإخراجه وهو عليه السلام ما خرج بسبب إخراجهم وإنما خرج بأمر الله تعالى فزال التناقض ثم قال تعالى وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً وفيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو عن عاصم خلفك بفتح الخاء وسكون اللام والباقون خلافك زعم الأخفش أن خلافك في معنى خلفك وروى ذلك يونس عن عيسى وهذا كقوله بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ ( التوبة 81 ) وقال الشاعر عفت الديار خلافهم فكأنما
بسط الشواطب بينهن حصير
قال صاحب ( الكشاف ) قرىء لا يلبثون وفي قراءة أبي لا يلبثوا على إعمال إذن فإن قيل ما وجه القراءتين قلنا أما السابقة فقد عطف فيها الفعل على الفعل وهو مرفوع لوقوعه خبر كاد والفعل في خير كاد واقع موقع الاسم وأما قراءة أبي ففيها الجملة برأسها التي هي قوله إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ يَلْبَثُونَ عطف على جملة قوله وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ ثم قال تعالى سُنَّة َ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا يعني أن كل قوم أخرجوا نبيهم من ظهرانيهم فسنة الله أن يهلكهم فقوله سَنَة ٍ نصب على المصدر المؤكد أي سننا ذلك سنة فيمن قد أرسلنا قبلك ثم قال وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً والمعنى أن ما أجرى الله تعالى به العادة لم يتهيأ لأحد أن يقلب تلك العادة وتمام الكلام في هذا الباب أن اختصاص كل حادث بوقته المعين وصفته المعينة ليس أمراً ثابتاً له لذاته وإلا لزم أن يدوم أبداً على تلك الحالة وأن لا يتميز الشيء عما يماثله في تلك الصفات بل إنما يحصل ذلك الاختصاص بتخصيص المخصص وذلك التخصيص هو أنه تعالى يريد تحصيله في ذلك الوقت ثم تتعلق قدرته بتحصيله في ذلك الوقت ثم يتعلق علمه بحصوله في ذلك الوقت ثم نقول هذه الصفات الثلاثة التي هي المؤثرة في حصول ذلك الاختصاص إن كانت حادثة افتقر حدوثها إلى تخصيص آخر ولزم التسلل وهو محال وإن كانت قديمة فالقديم يمتنع تغيره لأن ما ثبت قدمه امتنع عدمه ولما كان التغير على تلك الصفات المؤثرة في ذلك الاختصاص ممتنعاً كان التغير في تلك الأشياء المقدرة ممتنعاً فثبت بهذا البرهان صحة قوله تعالى وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً

أَقِمِ الصَّلَواة َ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ وَقُرْءَانَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْءَانَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَة ً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّى مِن لَّدُنْكَ سُلْطَاناً نَّصِيرًا وَقُلْ جَآءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا
في الآية مسائل
المسألة الأولى في النظم وجوه الأول أنه تعالى لما قرر أمر الالهيات والمعاد والنبوات أردفها بذكر الأمر بالطاعات بعد الإيمان وأشرف الطاعات بعد الإيمان الصلاة فلهذا السبب أمر بها الثاني أنه تعالى لما قال وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الاْرْضِ أمره تعالى بالإقبال على عبادته لكي ينصره عليهم فكأنه قيل له لا تبال بسعيهم في إخراجك من بلدتك ولا تلتفت إليهم واشتغل بعبادة الله تعالى وداوم على أداء الصلوات فإنه تعالى يدفع مكرهم وشرهم عنك ويجعل يدك فوق أيديهم ودينك غالباً على أديانهم ونظيره قوله في سورة طه فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ ءانَاء الَّيْلِ فَسَبّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ ( طه 130 ) وقال وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَكُنْ مّنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ( الحجر 97 99 ) والوجه الثالث في تقرير النظم أن اليهود لما قالوا له اذهب إلى الشام فإنه مسكن الأنبياء عزم ( صلى الله عليه وسلم ) على الذهاب إليه فكأنه قيل له المعبود واحد في كل البلاد وما النصرة والدولة إلا بتأييده ونصرته فداوم على الصلوات وارجع إلى مقرك ومسكنك وإذا دخلته ورجعت إليه فقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي في هذا البلد سلطاناً نصيراً في تقرير دينك وإظهار شرعك والله أعلم
المسألة الثانية اختلف أهل اللغة والمفسرون في معنى دلوك الشمس على قولين أحدهما أن دلوكها غروبها وهذا القول مروي عن جماعة من الصحابة فنقل الواحدي في البسيط عن علي عليه السلام أنه قال دلوك الشمس غروبها وروى زر بن حبيش أن عبد الله بن مسعود قال دلوك الشمس غروبها وروى سعيد بن جبير هذا القول عن ابن عباس وهذا القول اختيار الفراء وابن قتيبة من المتأخرين والقول الثاني أن دلوك الشمس هو زوالها عن كبد السماء وهو اختيار الأكثرين من الصحابة والتابعين واحتج القائلون بهذا القول على صحته بوجوه الحجة الأولى روى الواحدي في البسيط عن جابر أنه قال ( طعم عندي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه ثم خرجوا حين زالت الشمس فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) هذا حين دلكت الشمس ) الحجة الثانية روى صاحب ( الكشاف ) عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( أتاني جبريل عليه السلام لدلوك الشمس حين زالت الشمس فصلى بي الظهر ) الحجة الثالثة قال أهل اللغة معنى الدلوك في كلام العرب الزوال ولذلك

قيل للشمس إذا زالت نصف النهار دالكة وقيل لها إذا أفلت دالكة لأنها في الحالتين زائلة هكذا قاله الأزهري وقال القفال أصل الدلوك الميل يقال مالت الشمس للزوال ويقال مالت للغروب إذا عرفت هذا فنقول وجب أن يكون المراد من الدلوك ههنا الزوال عن كبد السماء وذلك لأنه تعالى علق إقامة الصلاة بالدلوك والدلوك عبارة عن الميل والزوال فوجب أن يقال إنه أول ما حصل الميل والزوال تعلق به هذا الحكم فلما حصل هذا المعنى حال ميلها من كبد السماء وجب أن يتعلق به وجوب الصلاة وذلك يدل على أن المراد من الدلوك في هذه الآية ميلها عن كبد السماء وهذه حجة قوية في هذا الباب استنبطتها بناء على ما اتفق عليه أهل اللغة أن الدلوك عبارة عن الميل والزوال والله أعلم الحجة الرابعة قال الأزهري الأولى حمل الدلوك على الزوال في نصف النهار والمعنى أَقِمِ الصَّلَواة َ أي أدمها من وقت زوال الشمس إلى غسق الليل وعلى هذا التقدير فيدخل فيه الظهر والعصر والمغرب والعشاء ثم قال أَقِمِ الصَّلَواة َ فإذا حملنا الدلوك على الزوال دخلت الصلوات الخمس في هذه الآية وإن حملناه على الغروب لم يدخل فيه إلا ثلاث صلوات وهي المغرب والعشاء والفجر وحمل كلام الله تعالى على ما يكون أكثر فائدة أولى فوجب أن يكون المراد من الدلوك الزوال واحتج الفراء على قوله الدلوك هو الغروب بقول الشاعر هذا مقام قدمي رباح
وقفت حتى دلكت براح
وبراح اسم الشمس أي حتى غابت واحتج ابن قتيبة بقول ذي الرمة مصابيح ليست باللواتي يقودها
نجوم ولا أفلاكهن الدوالك
واعلم أن هذا الاستدلال ضعيف لأن عندنا الدلوك عبارة عن الميل والتغير وهذا المعنى حاصل في الغروب فكان الغروب نوعاً من أنواع الدلوك فكان وقوع لفظ الدلوك على الغروب لا ينافي وقوعه على الزوال كما أن وقوع لفظ الحيوان على الإنسان لا ينافي وقوعه على الفرس ومنهم من احتج أيضاً على صحة هذا القول بأن الدلوك اشتقاقه من الدلك لأن الإنسان يدلك عينيه عند النظر إليها وهذا إنما يصح في الوقت الذي يمكن النظر إليها ومعلوم أنها عند كونها في وسط السماء لا يمكن النظر إليها أما عند قربها من الغروب فيمكن النظر إليها ( و ) عندما ينظر الإنسان إليها في ذلك الوقت يدلك عينيه فثبت أن لفظ الدلوك مختص بالغروب والجواب أن الحاجة إلى ذلك التبيين عند كونها في وسط السماء أتم فهذا الذي ذكرته بأن يدل على أن الدلوك عبارة عن الزوال من وسط السماء أولى والله أعلم
المسألة الثالثة قال الواحدي اللام في قوله لدلوك الشمس لام الأجل والسبب وذلك لأن الصلاة إنما تجب بزوال الشمس فيجب على المصلي إقامتها لأجل دلوك الشمس
المسألة الرابعة قوله أَقِمِ الصَّلَواة َ لِدُلُوكِ غسق الليل سواده وظلمته قال الكسائي غسق الليل غسوقاً والغسق الاسم بفتح السين وقال النضر بن شميل غسق الليل دخول أوله وأتيته حين غسق الليل أي حين يختلط ويسد المناظر وأصل هذا الحرف من السيلان يقال غسقت العين تغسق وهو هملان العين بالماء والغاسق السائل ومن هذا يقال لما يسيل من أهل النار الغساق فمعنى غسق الليل أي انصب بظلامه وذلك أن الظلمة كأنها تنصب على العالم وأما قول المفسرين قال ابن جريج قلت لعطاء ما غسق الليل قال أوله حين يدخل وسأل نافع بن الأزرق ابن عباس ما الغسق قال دخول الليل

بظلمته وقال الأزهري غسق الليل عند غيبوبة الشفق عند تراكم الظلمة واشتدادها يقال غسقت العين إذا امتلأت دمعاً وغسقت الجراحة إذا امتلأت دماً قال لأنا لو حملنا الغسق على هذا المعنى دخلت الصلوات الأربع فيه وهي الظهر والعصر والمغرب والعشاء ولو حملنا الغسق على ظهور أول الظلمة لم يدخل فيه إلا الظهر والمغرب فوجب أن يكون الأول أولى واعلم أنه يتفرع على هذين القولين بحث شريف فإن فسرنا الغسق بظهور أول الظلمة كان الغسق عبارة عن أول المغرب وعلى هذا التقدير يكون المذكور في الآية ثلاثة أوقات وقت الزوال ووقت أول المغرب ووقت الفجر وهذا يقتضي أن يكون الزوال وقتاً للظهر والعصر فيكون هذا الوقت مشتركاً بين هاتين الصلاتين وأن يكون أول المغرب وقتاً للمغرب والعشاء فيكون هذا الوقت مشتركاً أيضاً بين هاتين الصلاتين فهذا يقتضي جواز الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء مطلقاً إلا أنه دل الدليل على أن الجمع في الحضر من غير عذر ولا يجوز فوجب أن يكون الجمع جائزاً بعذر السفر وعذر المطر وغيره أما إن فسرنا الغسق بالظلمة المتراكمة فنقول الظلمة المتراكمة إنما تحصل عند غيبوبة الشفق الأبيض وكلمة إلى لانتهاء الغاية والحكم الممدود إلى غاية يكون مشروعاً قبل حصول تلك الغاية فوجب جواز إقامة الصلوات كلها قبل غيبوبة الشفق الأبيض وهذا إنما يصح إذا قلنا إنها تجب عند غيبوبة الشفق الأحمر والله أعلم
المسألة الخامسة قوله وقرآن الفجر أجمعوا على أن المراد منه صلاة الصبح وانتصابه بالعطف على الصلاة في قوله أقم الصلاة والتقدير أقم الصلاة وأقم قرآن الفجر وفيه فوائد الأولى أن هذه الآية تدل على أن الصلاة لا تتم إلا بالقراءة الفائدة الثانية أنه تعالى أضاف القرآن إلى الفجر والتقدير أقم قرآن الفجر فوجب أن تتعلق القراءة بحصول الفجر وفي أول طلوع الصبح قد حصل الفجر لأن الفجر سمى فجراً لانفجار ظلمة الليل عن نور الصباح وظاهر الأمر للوجوب فمقتضى هذا اللفظ وجوب إقامة صلاة الفجر من أول طلوعه إلا أنا أجمعنا على أن هذا الوجوب غير حاصل فوجب أن يبقى الندب لأن الوجوب عبارة عن رجحان مانع من الترك فإذا منع مانع من تحقق الوجوب وجب أن يرتفع المنع من الترك وأن يبقى أصل الرجحان حتى تنقل مخالفة الدليل فثبت أن هذه الآية تقتضي أن إقامة الفجر في أول الوقت أفضل وهذا يدل على صحة مذهب الشافعي في أن التغليس أفضل من التنوير والله أعلم الفائدة الثالثة أن الفقهاء بينوا أن السنة أن تكون القراءة في هذه الصلاة أطول من القراءة في سائر الصلوات فالمقصود من قوله وقرآن الفجر الحث على أن تطويل القراءة في هذه الصلاة مطلوب لأن التخصيص بالذكر يدل على كونه أكمل من غيره الفائدة الرابعة أنه وصف قرآن الفجر بكونه مشهوداً قال الجمهور معناه أن ملائكة الليل وملائكة النهار يجتمعون في صلاة الصبح خلف الإمام تنزل ملائكة النهار عليهم وهم في صلاة الغداة وقبل أن تعرج ملائكة الليل فإذا فرغ الإمام من صلاته عرجت ملائكة الليل ومكثت ملائكة النهار ثم إن ملائكة الليل إذا صعدت قالت يا رب إنا تركنا عبادك يصلون لك وتقول ملائكة النهار ربنا أتينا عبادك وهم يصلون فيقول الله تعالى للملائكة اشهدوا أني قد غفرت لهم وأقول هذا أيضاً دليل قوي في أن التغليس أفضل من التنوير لأن الإنسان إذا شرع فيها من أول الصبح ففي ذلك الوقت الظلمة باقية فتكون ملائكة الليل حاضرين ثم إذا امتدت الصلاة بسبب ترتيل القراءة وتكثيرها زالت الظلمة وظهر الضوء وحضرت ملائكة النهار فبهذا الطريق تحضر في هذه الصلاة ملائكة الليل وملائكة النهار أما إذا ابتدأ بهذه الصلاة في وقت التنوير فهناك ما بقيت

الظلمة فلم يبق في ذلك الوقت أحد من ملائكة الليل فلا يحصل المعنى المذكور فثبت أن قوله تعالى إِنَّهُ كَانَ مَشْهُودًا دليل قوي على أن التغليس أفضل وعندي في تفسير قوله تعالى إِنَّهُ كَانَ مَشْهُودًا احتمال آخر وذلك لأنه كلما كانت الحوادث الحادثة أعظم وأكمل كان الإستدلال بها على كمال قدرة الله تعالى أكمل فالإنسان إذا شرع في أداء صلاة الصبح من أول هذا الوقت كانت الظلمة القوية باقية في العالم فإذا امتدت القراءة في أثناء هذا الوقت ينقلب العالم من الظلمة إلى الضوء والظلمة مناسبة للموت والعدم والضوء مناسب للحياة والوجود وعلى هذا التقدير فالإنسان لما قام من منامه فكأنه انتقل من الموت إلى الحياة ومن العدم إلى الوجود ثم إنه مع ذلك يشاهد في أثناء صلاته انقلاب كلية هذا العالم من الظلمة إلى الضوء ومن الموت إلى الحياة ومن السكون إلى الحركة ومن العدم إلى الوجود وهذه الحالة حالة عجيبة تشهد العقول والأرواح بأنه لا يقدر على هذا التقليب والتحويل والتبديل إلا الخالق المدبر بالحكمة البالغة والقوة الغير المتناهية وحينئذ يستنير العقل بنور هذه المعرفة وينفتح على العقل والروح أبواب المكاشفات الروحانية الإلهية فتصير الصلاة التي هي عبارة عن أعمال الجوارح مشهوداً عليها بهذه المكاشفات الإلهية المقدسة ولذلك فكل من له ذوق سليم وطبع مستقيم إذا قام من منامه وأدى صلاة الصبح في أول الوقت واعتبر اختلاف أحوال العالم من الظلمة الحاصلة إلى النور ومن السكون إلى الحركة فإنه يجد في قلبه روحاً وراحة ومزيداً في نور المعرفة وقوة اليقين فهذا هو المراد من قوله أَقِمِ الصَّلَواة َ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى وظهر أن هذا الاعتبار لا يحصل إلا عند أداء صلاة الفجر على سبيل التغليس فهذا ما خطر بالبال والله أعلم بمراده وفي الآية احتمال ثالث وهو أن يكون المراد من قوله أَقِمِ الصَّلَواة َ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى الترغيب في أن تؤدي هذه الصلاة بالجماعة ويكون المعنى كونه مشهوداً بالجماعة الكثيرة ومزيد التحقيق فيه أنا بينا أن تأثير هذه الصلاة في تصفية القلب وفي تنويره أكثر من تأثير سائر الصلوات فإذا حضر جمع من المسلمين في المسجد لأداء هذه العبادة استنار قلب كل واحد منهم ثم بسبب ذلك الاجتماع كأنه ينعكس نور معرفة الله تعالى ونور طاعته في ذلك الوقت من قلب كل واحد إلى قلب الآخر فتصير أرواحهم كالمرايا المشرقة المتقابلة إذا وقعت عليها أنوار الشمس فإنه ينعكس النور من كل واحدة من تلك المرايا إلى الأخرى فكذا في هذه الصورة ولهذا السبب فإن كل من له ذوق سليم وأدى هذه الصلاة في هذا الوقت بالجماعة وجد من قلبه فسحة ونوراً وراحة الفائدة الخامسة قوله أَقِمِ الصَّلَواة َ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ يحتمل أن يكون السبب في كونه مشهوداً هو أن الإنسان لما نام طول الليل فصار كالغافل في هذه المدة عن مراقبة أحوال الدنيا فزالت صورة الحوادث الجسمانية عن لوح خياله وفكره وعقله وصارت هذه الألواح كألواح سطرت فيها نقوش فاسدة ثم غسلت وأزيلت تلك النقوش عنها ففي أول وقت القيام من المنام صارت ألواح عقله وفكره وخياله مطهرة عن النقوش الفاسدة الباطلة فإذا تسارع الإنسان في ذلك الوقت إلى عبادة الله تعالى وقراءة الكلمات الدالة على تنزيهه والإقدام على الأفعال الدالة على تعظيم الله تعالى انتقش في لوح عقله وفكره وخياله هذه النقوش الطاهرة المقدسة ثم إن حصول هذه النقوش يمنع من استحكام النقوش الفاسدة وهي النقوش المتولدة من الميل إلى الدنيا وشهواتها فبهذا الطريق يترشح الميل إلى معرفة الله تعالى ومحبته وطاعته ويضعف الميل إلى الدنيا وشهواتها إذا عرفت هذا فنقول هذه الحكمة إنما تحصل إذا شرع الإنسان في الصلاة من أول قيامه من النوم عند التغليس وذلك يدل على المقصود واعلم أن أكثر الخلق وقعوا في أمراض القلوب وهي حب

الدنيا والحرص والحسد والتفاخر والتكاثر وهذه الدنيا مثل دار المرضى إذا كانت مملوءة من المرضى والأنبياء كالأطباء الحاذقين والمريض ربما قد قوي مرضه فلا يعود إلى الصحة إلا بمعالجات قوية وربما كان المريض جاهلاً فلا ينقاد للطبيب ويخالفه في أكثر الأمر إلا أن الطبيب إذا كان مشفقاً حاذقاً فإنه يسعى في إزالة ذلك المرض بكل طريق يقدر عليه فإن لم يقدر على إزالته فإنه يسعى في تقليله وتخفيفه إذا عرفت هذا فنقول مرض حب الدنيا مستولٍ على الخلق ولا علاج له إلا بالدعوة إلى معرفة الله تعالى وخدمته وطاعته وهذا علاج شاق على النفوس وقل من يقبله وينقاد له لا جرم ( أن ) الأنبياء اجتهدوا في تقليل هذا المرض وحمل الخلق على الشروع في الطاعة والعبودية من أول وقت القيام من النوم مما ينفع في إزالة هذا المرض من الوجه الذي قررناه فوجب أن يكون مشروعاً والله أعلم بأسرار كلامه
أما قوله تعالى وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَة ً لَّكَ فاعلم أنه تعالى لما أمر بالصلوات الخمس على سبيل الرمز والإشارة أردفه بالحث على صلاة الليل وفيه مباحث
البحث الأول التهجد عبارة عن صلاة الليل فقوله فتهجد به أي بالقرآن كما قال قُمِ الَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً ( المزمل 2 ) إلى قوله وَرَتّلِ الْقُرْءانَ تَرْتِيلاً ( المزمل 4 )
البحث الثاني قال الواحدي الهجود في اللغة النوم وهو معروف كثير في الشعر يقال أهجدته وهجدته أي أنمته ومنه قول لبيد
هجدنا فقد طال السرى
كأنه قال نومنا فإن السرى قد طال علينا حتى غلبنا النوم وروى أبو عبيد عن أبي عبيدة الهاجد النائم والهاجد المصلي بالليل وروى ثعلب عن ابن الأعرابي مثل هذا القول كأنه قال هجد الرجل إذا صلى من الليل وهجد إذا نام بالليل فعند هؤلاء هذا اللفظ من الأضداد وأما الأزهري فإنه توسط في تفسير هذا اللفظ وقال المعروف في كلام العرب أن الهاجد هو النائم ثم رأينا أن في الشرع يقال لمن قام من النوم إلى الصلاة إنه متهجد فوجب أن يحمل هذا على أنه سمي متهجداً لالقائه الهجود عن نفسه كما قيل للعابد متحنث لألقائه الحنث عن نفسه وهو الإثم ويقال فلان رجل متحرج ومتأثم ومتحوب أي يلقي الحرج والإثم والحوب عن نفسه وأقول فيه احتمال آخر وهو أن الإنسان إنما يترك لذة النوم ويتحمل مشقة القيام إلى الصلاة ليطيب رقاده وهجوده عند الموت فلما كان غرضه من ترك هذا الهجود أن يصل إلى الهجود اللذيذ عند الموت كان هذا القيام طلباً لذلك الهجود فسمي تهجداً لهذا السبب وفيه وجه ثالث وهو ما روي أن الحجاج بن عمرو المازني قال أيحسب أحدكم إذا قام من الليل فصلى حتى يصبح أنه قد تهجد إنما التهجد الصلاة بعد الرقاد ثم صلاة أخرى بعد رقدة ثم صلاة أخرى بعد رقدة هكذا كانت صلاة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا عرفت هذا فنقول كلما صلى الإنسان طلب هجوداً ورقاداً فلا يبعد أنه سمي تهجداً لهذا السبب
البحث الثالث قوله مِنْ في قوله وَمِنَ الَّيْلِ لا بد له من متعلق والفاء في قوله فَتَهَجَّدْ لا بد له من معطوف عليه والتقدير قم من الليل أي في بعض الليل فتهجد به وقوله بِهِ أي بالقرآن والمراد منه الصلاة المشتملة على القرآن

البحث الرابع معنى النافلة في اللغة ما كان زيادة على الأصل ذكرناه في قوله تعالى يَسْأَلُونَكَ عَنِ الانفَالِ ( الأنفال 1 ) ومعناها أيضاً في هذه الآية الزيادة وفي تفسير كونها زيادة قولان مبنيان على أن صلاة الليل هل كانت واجبة على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أم لا فمن الناس من قال إنها كانت واجبة عليه ثم نسخت فصارت نافلة أي تطوعاً وزيادة على الفرائض وذكر مجاهد والسدي في تفسير كونها ( نافلة ) وجهاً حسناً قالا إنه تعالى غفر للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ما تقدم من ذنبه وما تأخر فكل طاعة يأتي بها سوى المكتوبة فإنه لا يكون تأثيرها في كفارة الذنوب البتة بل يكون تأثيرها في زيادة الدرجات وكثرة الثواب وكان المقصود من تلك العبادة زيادة الثواب فلهذا سميت نافلة بخلاف الأمة فإن لهم ذنوباً محتاجة إلى الكفارات فهذه الطاعة محتاجون إليها لتكفير الذنوب والسيئات فثبت أن هذه الطاعات إنما تكون زوائد ونوافل في حق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لا في حق غيره فلهذا السبب قال نَافِلَة ً لَّكَ يعني أنها زوائد ونوافل في حقك لا في حق غيرك وتقريره ما ذكرناه وأما الذين قالوا إن صلاة الليل كانت واجبة على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قالوا معنى كونها نافلة له على التخصيص أنها فريضة عليك زائدة على الصلوات الخمس خصصت بها من بين أمتك ويمكن نصرة هذا القول بأن قوله فتهجد أمر وصيغة الأمر للوجوب فوجب كون هذا التهجد واجباً فلو حملنا قوله نافلة لك على عدم الوجوب لزم التعارض وهو خلاف الأصل فوجب أن يكون معنى كونها نافلة له ما ذكرناه من كون وجوبها زائداً على وجوب الصلوات الخمس والله أعلم
البحث الخامس قوله أَقِمِ الصَّلَواة َ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ وَقُرْءانَ الْفَجْرِ وإن كان ظاهر الأمر فيه مختصاً بالرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إلا أنه في المعنى عام في حق الأمة والدليل عليه أنه قال ومن الليل فتهجد به نافلة لك فبين أن الأمر بالتهجد مخصوص بالرسول وهذا يدل على أن الأمر بالصلاة الخمس غير مخصوص بالرسول عليه السلام وإلا لم يكن لتقييد الأمر بالتهجد بهذا القيد فائدة أصلاً والله أعلم ثم قال تعالى عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا اتفق المفسرون على أن كلمة عسى من الله واجب قال أهل المعاني لأن لفظة عسى تفيد الأطماع ومن أطمع إنساناً في شيء ثم حرمه كان عاراً والله تعالى أكرم من أن يطمع أحداً في شيء ثم لا يعطيه ذلك وقوله مَقَاماً مَّحْمُودًا فيه بحثان
البحث الأول في انتصاب قوله محموداً وجهان الأول أن يكون انتصابه على الحال من قوله يبعثك أي يبعثك محموداً والثاني أن يكون نعتاً للمقام وهو ظاهر
البحث الثاني في تفسير المقام المحمود أقوال الأول أنه الشفاعة قال الواحدي أجمع المفسرون على أنه مقام الشفاعة كما قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في هذه الآية ( هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي ) وأقول اللفظ مشعر به وذلك لأن الإنسان إنما يصير محموداً إذا حمده حامد والحمد إنما يكون على الانعام فهذا المقام المحمود يجب أن يكون مقاماً أنعم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيه على قوم فحمدوه على ذلك الإنعام وذلك الإنعام لا يجوز أن يكون هو تبليغ الدين وتعليم الشرع لأن ذلك كان حاصلاً في الحال وقوله عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا تطميع وتطميع الإنسان في الشيء الذي وعده في الحال محال فوجب أن يكون ذلك الانعام الذي لأجله يصير محموداً إنعاماً سيصل منه حصل له بعد ذلك إلى الناس وما ذاك إلا شفاعته عند الله فدل هذا على أن لفظ الآية وهو قوله عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا يدل على هذا المعنى وأيضاً التنكير في قوله مقاماً محموداً يدل على أنه يحصل للنبي عليه السلام في ذلك المقام حمد بالغ عظيم كامل ومن المعلم أن حمد

الإنسان على سعيه في التخليص عن العقاب أعظم من حمده في السعي في زيادة من الثواب لا حاجة به إليها لأن احتياج الإنسان إلى دفع الآلام العظيمة عن النفس فوق احتياجه إلى تحصيل المنافع الزائدة التي لا حاجة به إلى تحصيلها وإذا ثبت هذا وجب أن يكون المراد من قوله عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا هو الشفاعة في إسقاط العقاب على ما هو مذهب أهل السنة ولما ثبت أن لفظ الآية مشعر بهذا المعنى إشعاراً قوياً ثم وردت الأخبار الصحيحة في تقرير هذا المعنى وجب حل اللفظ عليه ومما يؤكد هذا الوجه الدعاء المشهور وابعثه المقام المحمود الذي وعدته يغبطه به الأولون والآخرون واتفق الناس على أن المراد منه الشفاعة والقول الثاني قال حذيفة يجمع الناس في صعيد فلا تتكلم نفس فأول مدعو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فيقول ( لبيك وسعديك والشر ليس إليك والمهدي من هديت وعبدك بين يديك وبك وإليك لا ملجأ ولا منجاً منك إلا إليك تباركت وتعاليت سبحانك رب البيت ) فهذا هو المراد من قوله عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا وأقول القول الأول أولى لأن سعيه في الشفاعة يفيده إقدام الناس على حمده فيصير محموداً وأما ذكر هذا الدعاء فلا يفيد إلا الثواب أما الحمد فلا فإن قالوا لم لا يجوز أن يقال إنه تعالى يحمده على هذا القول قلنا لأن الحمد في اللغة مختص بالثناء المذكور في مقابلة الأنعام فقط فإن ورد لفظ الحمد في غير هذا المعنى فعلى سبيل المجاز القول الثالث المراد مقام تحمد عاقبته وهذا أيضاً ضعيف للوجه الذي ذكرناه في القول الثاني القول الرابع قال الواحدي روى عن ابن مسعود أنه قال ( يقعد الله محمداً على العرش ) وعن مجاهد أنه قال يجلسه معه على العرش ثم قال الواحدي وهذا قول رذل موحش فظيع ونص الكتاب ينادي بفساد هذا التفسير ويدل عليه وجوه الأول أن البعث ضد الإجلاس يقال بعثت النازل والقاعد فانبعث ويقال بعث الله الميت أي أقامه من قبره فتفسير البعث بالإجلاس تفسير للضد بالضد وهو فاسد والثاني أنه تعالى قال مقاماً محموداً ولم يقل مقعداً والمقام موضع القيام لا موضع القعود والثالث لو كان تعالى جالساً على العرش بحيث يجلس عنده محمد عليه الصلاة والسلام لكان محدوداً متناهياً ومن كان كذلك فهو محدث والرابع يقال إن جلوسه مع الله على العرش ليس فيه كثير إعزاز لأن هؤلاء الجهال والحمقى يقولون في كل أهل الجنة إنهم يزورون الله تعالى وإنهم يجلسون معه وإنه تعالى يسألهم عن أحوالهم التي كانوا فيها في الدنيا وإذا كانت هذه الحالة حاصلة عندهم لكل المؤمنين لم يكن لتخصيص محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بها مزيد شرف ورتبة والخامس أنه إذا قيل السلطان بعث فلاناً فهم منه أنه أرسله إلى قوم لإصلاح مهماتهم ولا يفهم منه أنه أجلسه مع نفسه فثبت أن هذا القول كلام رذل ساقط لا يميل إليه إلا إنسان قليل العقل عديم الدين والله أعلم ثم قال تعالى وَقُل رَّبّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ وفيه مباحث
البحث الأول أنا ذكرنا في تفسير قوله وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الاْرْضِ ( الإسراء 76 ) قولين أحدهما المراد منه سعي كفار مكة في إخراجه منها والثاني المراد منه أن اليهود قالوا له الأولى لك أن تخرج من المدينة إلى الشام ثم إنه تعالى قال له أَقِمِ الصَّلَواة َ واشتغل بعبادة الله تعالى ولا تلتفت إلى هؤلاء الجهال فإنه تعالى ناصرك ومعينك ثم عاد بعد هذا الكلام إلى شرح تلك الواقعة فإن فسرنا تلك الآية أن المراد منها أن كفار مكة أرادوا إخراجه من مكة كان معنى هذه الآية أنه تعالى أمره بالهجرة إلى المدينة وقال له وَقُل رَّبّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وهو المدينة وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ وهو مكة وهذا قول الحسن وقتادة وإن فسرنا تلك الآية بأن المراد منها أن اليهود حملوه على الخروج من المدينة والذهاب إلى الشام فخرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) منها

ثم أمره الله بأن يرجع إليها كان المراد أنه عليه الصلاة والسلام عند العود إلى المدينة قال رَّبّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وهو المدينة وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ يعني أخرجني منها إلى مكة مخرج صدق أي افتحها لي والقول الثاني في تفسير هذه الآية وهو أكمل مما سبق أن المراد وَقُل رَّبّ أَدْخِلْنِى في الصلاة وَأَخْرِجْنِى منها مع الصدق والإخلاص وحضور ذكرك والقيام بلوازم شكرك والقول الثالث وهو أكمل مما سبق أن المراد وَقُل رَّبّ أَدْخِلْنِى فِى وَقُل رَّبّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِى منها بعد الفراغ منها إخراجاً لا يبقى علي منها تبعة ربقية والقول الرابع وهو أعلى مما سبق وَقُل رَّبّ أَدْخِلْنِى في بحار دلائل توحيدك وتنزيهك وقدسك ثم أخرجني من الاشتغال بالدليل إلى ضياء معرفة المدلول ومن التأمل في آثار حدوث المحدثات إلى الاستغراق في معرفة الأحد الفرد المنزه عن التكثيرات والتغيرات والقول الخامس أدخلني في كل ما تدخلني فيه مع الصدق في عبوديتك والاستغراق بمعرفتك وأخرجني عن كل ما تخرجني عنه مع الصدق في العبودية والمعرفة والمحبة والمقصود منه أن يكون صدق العبودية حاصلاً في كل دخول وخروج وحركة وسكون والقول السادس أدخلني القبر مدخل صدق وأخرجني منه مخرج صدق
البحث الثاني مدخل بضم الميم مصدر كالإدخال يقال أدخلته مدخلاً كما قال وَقُل رَّبّ أَنزِلْنِى مُنزَلاً مُّبَارَكاً ( المؤمنون 29 ) ومعنى إضافة المدخل والمخرج إلى الصدق مدحهما كأنه سأل الله تعالى إدخالاً حسناً وإخراجاً حسناً لا يرى فيهما ما يكره ثم قال تعالى وَاجْعَل لّى مِن لَّدُنْكَ سُلْطَاناً نَّصِيرًا ( الإسراء 80 ) أي حجة بينة ظاهرة تنصرني بها على جميع من خالفني وبالجملة فقد سأل الله تعالى أن يرزقه التقوية على من خالفه بالحجة وبالقهر والقدرة وقد أجاب الله تعالى دعاءه وأعلمه بأنه يعصمه من الناس فقال وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ( المائدة 67 ) وقال أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( المجادلة 22 ) وقال لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ ( التوبة 33 ) ولما سأل الله النصرة بين الله له أنه أجاب دعاءه فقال وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وهو دينه وشرعه وَزَهَقَ الْبَاطِلُ وهو كل ما سواه من الأديان والشرائع وزهق بطل واضمحل وأصله من زهقت نفسه تزهق أي هلكت وعن ابن مسعود ( أنه دخل مكة يوم الفتح وحول البيت ثلاثمائة وستون صنماً فجعل يطعنها بعود في يده ويقول جاء الحق وزهق الباطل فجعل الصنم ينكب على وجهه ) وقوله إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا يعني أن الباطل وإن اتفقت له دولة وصولة إلا أنها الا تبقى بل تزول على أسرع الوجوه والله أعلم
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَة ٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوساً قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً
اعلم أنه تعالى لما أطنب في شرح الإلهيات والنبوات والحشر والمعاد والبعث وإثبات القضاء والقدر ثم أتبعه بالأمر بالصلاة ونبه على ما فيها من الأسرار وإنما ذكر كل ذلك في القرآن أتبعه ببيان كون القرآن

شفاء ورحمة فقال وَنُنَزّلُ مِنَ الْقُرْءانِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَة ٌ ولفظة من ها هنا ليست للتبعيض بل هي للجنس كقوله فَاجْتَنِبُواْ الرّجْسَ مِنَ الاْوْثَانِ ( الحج 30 ) والمعنى وننزل من هذا الجنس الذي هو قرآن ما هو شفاء فجميع القرآن شفاء للمؤمنين واعلم أن القرآن شفاء من الأمراض الروحانية وشفاء أيضاً من الأمراض الجسمانية أما كونه شفاء من الأمراض الروحانية فظاهر وذلك لأن الأمراض الروحانية نوعان الاعتقادات الباطلة والاخلاق المذمومة أما الاعتقادات الباطلة فأشدها فساداً الاعتقادات الفاسدة في الإلهيات والنبوات والمعاد والقضاء والقدر والقرآن كتاب مشتمل على دلائل المذهب الحق في هذه المطالب وإبطال المذاهب الباطلة فيها ولما كان أقوى الأمراض الروحانية هو الخطأ في هذه المطالب والقرآن مشتمل على الدلائل الكاشفة عما في هذه المذاهب الباطلة من العيوب الباطنة لا جرم كان القرآن شفاء من هذا النوع من المرض الروحاني وأما الأخلاق المذمومة فالقرآن مشتمل على تفصيلها وتعريف ما فيها من المفاسد والإرشاد إلى الأخلاق الفاضلة الكاملة والأعمال المحمودة فكان القرآن شفاء من هذا النوع من المرض فثبت أن القرآن شفاء من جميع الأمراض الروحانية وأما كونه شفاء من الأمراض الجسمانية فلأن التبرك بقراءته يدفع كثيراً من الأمراض ولما اعترف الجمهور من الفلاسفة وأصحاب الطلسمات بأن لقراءة الرقي المجهولة والعزائم التي لا يفهم منها شيء آثاراً عظيمة في تحصيل المنافع ودفع المفاسد فلأن تكون قراءة هذا القرآن العظيم المشتمل على ذكر الله وكبريائه وتعظيم الملائكة المقربين وتحقير المردة والشياطين سبباً لحصول النفع في الدين والدنيا كان أولى ويتأكد ما ذكرنا بما روى أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله تعالى ) وأما كونه رحمة للمؤمنين فاعلم أنا بينا أن الأرواح البشرية مريضة بسبب العقائد الباطلة والأخلاق الفاسدة والقرآن قسمان بعضهما يفيد الخلاص عن شبهات الضالين وتمويهات المبطلين وهو الشفاء وبعضهما يفيد تعليم كيفية اكتساب العلوم العالية والأخلاق الفاضلة التي بها يصل الإنسان إلى جوار رب العالمين والاختلاط بزمرة الملائكة المقربين وهو الرحمة ولما كان إزالة المرض مقدمة على السعي في تكميل موجبات الصحة لا جرم بدأ الله تعالى في هذه الآية بذكر الشفاء ثم أتبعه بذكر الرحمة واعلم أنه تعالى لما بين كون القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين بين كونه سبباً للخسار والضلال في حق الظالمين والمراد به المشركون وإنما كان كذلك لأن سماع القرآن يزيدهم غيظاً وغضباً وحقداً وحسداً وهذه الأخلاق الذميمة تدعوهم إلى الأعمال الباطلة وتزيد في تقوية تلك الأخلاق الفاسدة في جواهر نفوسهم ثم لا يزال الخلق الخبيث النفساني يحمل على الأعمال الفاسدة والإتيان بتلك الأعمال يقوي تلك الأخلاق فبهذا الطريق يصير القرآن سبباً لتزايد هؤلاء المشركين الضالين في درجات الخزي والضلال والفساد والنكال ثم إنه تعالى ذكر السبب الأصلي في وقوع هؤلا الجاهلين الضالين في أودية الضلال ومقامات الخزي والنكال وهو حب الدنيا والرغبة في المال والجاه واعتقادهم أن ذلك إنما يحصل بسبب جدهم واجتهادهم فقال وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وفيه مباحث
الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما إن الإنسان ها هنا هو الوليد بن المغيرة وهذا بعيد بل المراد أن نوع الإنسان من شأنه أنه إذا فاز بمقصوده ووصل إلى مطلوبه اغتر وصار غافلاً عن عبودية الله تعالى متمرداً عن طاعة الله كما قال إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّءاهُ اسْتَغْنَى ( العلق 6 7 )
البحث الثاني قوله أعرض أي ولى ظهره أي عرضه إلى ناحية ونأى بجانبه أي تباعد ومعنى النأي

في اللغة البعد والإعراض عن الشيء أن يوليه عرض وجهه والنأي بالجانب أن يلوي عنه عطفه ويوليه ظهره وأراد الاستكبار لأن ذلك عادة المتكبرين وفي قوله نأى قراءات إحداها وهي قراءة العامة بفتح النون والهمزة وفي حم السجدة مثله وهي اللغة الغالبة والنأي البعد يقال نأي أي بعد وثانيها قراءة ابن عامر ناء وله وجهان تقديم اللام على العين كقولهم راء في رأى ويجوز أن يكون من نأى بمعنى نهض وثالثها قراءة حمزة والكسائي بإمالة الفتحتين وذلك لأنهم أمالوا الهمزة من نأى ثم كسروا النون إتباعاً للكسرة مثل رأى ورابعها قرأ أبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر ونصير عن الكسائي وحمزة نأى بفتح النون وكسر الهمزة على الأصل في فتح النون وإمالة الهمزة ثم قال تعالى وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ أي إذا مسه فقر أو مرض أو نازلة من النوازل كان يؤوساً شديد اليأس من رحمة الله وَلاَ يبَنِى َّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ ( يوسف 87 ) والحاصل أنه إن فاز بالنعمة والدولة اغتر بها فنسي ذكر الله وإن بقي في الحرمان عن الدنيا استولى عليه الأسف والحزن ولم يتفرغ لذكر الله تعالى فهذا المسكين محروم أبداً عن ذكر الله ونظيره قوله تعالى فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبّى أَكْرَمَنِ ( الفجر 15 ) إلى قوله رَبّى أَهَانَنِ ( الفجر 16 ) وكذلك قوله إِنَّ الإنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً ( المعارج 19 20 21 ) ثم قال تعالى قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ قال الزجاج الشاكلة الطريقة والمذهب والدليل عليه أنه يقال هذا طريق ذو شواكل أي يتشعب منه طرق كثيرة ثم الذي يقوي عندي أن المراد من الآية ذلك قوله تعالى فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً وفيه وجه آخروهو أن المراد أن كل أحد يفعل على وفق ما شاكل جوهر نفسه ومقتضى روحه فإن كانت نفسه نفساً مشرقة خيرة طاهرة علوية صدرت عنه أفعال فاضلة كريمة وإن كانت نفسه نفساً كدرة نذلة خبيثة مضلة ظلمانية صدرت عنه أفعال خسيسة فاسدة وأقول العقلاء اختلفوا في أن النفوس الناطقة البشرية هل هي مختلفة بالماهية أم لا منهم من قال إنها مختلفة بالماهية وإن اختلاف أفعالها وأحوالها لأجل اختلاف جواهرها وماهياتها ومنهم من قال إنها متساوية في الماهية واختلاف أفعالها لأجل اختلاف أمزجتها والمختار عندي هو القسم الأول والقرآن مشعر بذلك وذلك لأنه تعالى بين في الآية المتقدمة أن القرآن بالنسبة إلى البعض يفيد الشفاء والرحمة وبالنسبة إلى أقوام آخرين يفيد الخسارة والخزي ثم أتبعه بقوله قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ ومعناه أن اللائق بتلك النفوس الطاهرة أن يظهر فيها من القرآن آثار الذكاء والكمال وبتلك النفوس الكدرة أن يظهر فيها من القرآن آثار الخزي والضلال كما أن الشمس تعقد الملح وتلين الدهن وتبيض ثوب القصار وتسود وجهه وهذا الكلام إنما يتم المقصود منه إذا كانت الأرواح والنفوس مختلفة بماهياتها فبعضها مشرقة صافية يظهر فيها من القرآن نور على نور وبعضها كدرة ظلمانية يظهر فيها من القرآن ضلال على ضلال ونكال على نكال
وَيَسْألُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى وَمَآ أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً
اعلم أنه تعالى لما ختم الآية المتقدمة بقوله كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ وذكرنا أن المراد منه مشاكلة الأرواح للأفعال الصادرة عنها وجب البحث ها هنا عن ماهية الروح وحقيقته فلذلك سألوا عن الروح وفي الآية مسائل
المسألة الأولى للمفسرين في الروح المذكورة في هذه الآية أقوال أظهرها أن المراد منه الروح الذي

هو سبب الحياة روى أن اليهود قالوا لقريش اسألوا محمداً عن ثلاث فإن أخبركم باثنتين وأمسك عن الثالثة فهو نبي اسألوه عن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح فسألوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن هذه الثلاثة فقال عليه السلام غداً أخبركم ولم يقل إن شاء الله فانقطع عنه الوحي أربعين يوماً ثم نزل الوحي بعده وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَى ْء إِنّى فَاعِلٌ ذالِكَ غَداً إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ ( الكهف 23 24 ) ثم فسر لهم قصة أصحاب الكهف وقصة ذي القرنين وأبهم قصة الروح ونزل فيه قوله تعالى وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى وبين أن عقول الخلق قاصرة عن معرفة حقيقة الروح فقال وَمَا أُوتِيتُم مّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ومن الناس من طعن في هذه الرواية من وجوه أولها أن الروح ليس أعظم شأناً ولا أعلى مكاناً من الله تعالى فإذا كانت معرفة الله تعالى ممكنة بل حاصلة فأي مانع يمنع من معرفة الروح وثانيها أن اليهود قالوا إن أجاب عن قصة أصحاب الكهف وقصة ذي القرنين ولم يجب عن الروح فهو نبي وهذا كلام بعيد عن العقل لأن قصة أصحاب الكهف وقصة ذي القرنين ليست إلا حكاية من الحكايات وذكر الحكاية يمتنع أن يكون دليلاً على النبوة وأيضاً فالحكاية التي يذكرها إما أن تعتبر قبل العلم بنبوته أو بعد العلم بنبوته فإن كان قبل العلم بنبوته كذبوه فيها وإن كان بعد العلم بنبوته فحينئذ صارت نبوته معلومة قبل ذلك فلا فائدة في ذكر هذه الحكاية وأما عدم الجواب عن حقيقة الروح فهذا يبعد جعله دليلاً على صحة النبوة وثالثها أن مسألة الروح يعرفها أصاغر الفلاسفة وأراذل المتكلمين فلو قال الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إني لا أعرفها لأورث ذلك ما يوجب التحقير والتنفير فإن الجهل بمثل هذه المسألة يفيد تحقير أي إنسان كان فكيف الرسول الذي هو أعلم العلماء وأفضل الفضلاء ورابعها أنه تعالى قال في حقه الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْءانَ ( الرحمن 1 2 ) وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ( النساء 113 ) وقال وَقُل رَّبّ زِدْنِى عِلْماً ( طه 114 ) وقال في صفة القرآن وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ ( الأنعام 59 ) وكان عليه السلام يقول ( أرنا الأشياء كما هي ) فمن كان هذا حاله وصفته كيف يليق به أن يقول أنا لا أعرف هذه المسألة مع أنها من المسائل المشهورة المذكورة بين جمهور الخلق بل المختار عندنا أنهم سألوه عن الروح وأنه ( صلى الله عليه وسلم ) أجاب عنه على أحسن الوجوه وتقريره أن المذكور في الآية أنهم سألوه عن الروح والسؤال عن الروح يقع على وجوه كثيرة أحدها أن يقال ماهية الروح أهو متحيز أو حال في المتحيز أو موجود غير متحيز ولا حال في التحيز وثانيها أن يقال الروح قديمة أو حادثة وثالثها أن يقال الأرواح هل تبقى بعد موت الأجسام أو تفنى ورابعها أن يقال ما حقيقة سعادة الأرواح وشقاوتها وبالجملة فالمباحث المتعلقة بالروح كثيرة وقوله يَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحُ ليس فيه ما يدل على أنهم عن هذه المسائل سألوا أو عن غيرها إلا أنه تعالى ذكر له في الجواب عن هذا السؤال قوله قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى وهذا الجواب لا يليق إلا بمسألتين من المسائل التي ذكرناها إحداهما السؤال عن ماهية الروح والثانية عن قدمها وحدوثها
أما البحث الأول فهم قالوا ما حقيقة الروح وماهيته أهو عبارة عن أجسام موجودة في داخل هذا البدن متولدة من امتزاج الطبائع والأخلاط أو عبارة عن نفس هذا المزاج والتركيب أو هو عبارة عن عرض آخر قائم بهذه الأجسام أو هو عبارة عن موجود يغاير هذه الأجسام والأعراض فأجاب الله عنه بأنه موجود مغاير لهذه الأجسام ولهذه الأعراض وذلك لأن هذه الأجسام أشياء تحدث من امتزاج الأخلاط والعناصر وأما الروح فإنه ليس كذلك بل هو جوهر بسيط مجرد لا يحدث إلا بمحدث قوله كُنْ فَيَكُونُ ( النحل 40 )

فقالوا لم كان شيئاً مغايراً لهذه الأجسام ولهذه الأعراض فأجاب الله عنه بأنه موجود يحدث بأمر الله وتكوينه وتأثيره في إفادة الحياة لهذا الجسد ولا يلزم من عدم العلم بحقيقته المخصوصة نفيه فإن أكثر حقائق الأشياء وماهياتها مجهولة فأنا نعلم أن السكنجبين له خاصية تقتضي قطع الصفراء فأما إذا أردنا أن نعرف ماهية تلك الخاصية وحقيقتها المخصوصة فذاك غير معلوم فثبت أن أكثر الماهيات والحقائق مجهولة ولم يلزم من كونها مجهولة نفيها فكذلك ها هنا وهذا هو المراد من قوله وَمَا أُوتِيتُم مّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ( الإسراء 85 )
وأما المبحث الثاني فهو أن لفظ الأمر قد جاء بمعنى الفعل قال تعالى وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ( هود 97 ) وقال فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا ( هود 66 ) أي فعلنا فقوله قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى أي من فعل ربي وهذا الجواب يدل على أنهم سألوه أن الروح قديمة أو حادثة فقال بل هي حادثة وإنما حصلت بفعل الله وتكوينه وإيجاده ثم احتج على حدوث الروح بقوله وَمَا أُوتِيتُم مّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً يعني أن الأرواح في مبدأ الفطرة تكون خالية عن العلوم والمعارف ثم يحصل فيها العلوم والمعارف فهي لا تزال تكون في التغيير من حال إلى حال وفي التبديل من نقصان إلى كمال والتغيير والتبديل من أمارات الحدوث فقوله قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى يدل على أنهم سألوه أن الروح هل هي حادثة فأجاب بأنها حادثة واقعة بتخليق الله وتكوينه وهو المراد من قوله قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى ثم استدل على حدوث الأرواح بتغيرها من حال إلى حال وهو المراد من قوله وَمَا أُوتِيتُم مّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً فهذا ما نقوله في هذا الباب والله أعلم
المسألة الثانية في ذكر سائر الأقوال المقولة في نفس الروح المذكورة في هذه الآية اعلم أن الناس ذكروا أقوالاً أخرى سوى ما تقدم ذكره فالقول الأول أن المراد من هذا الروح هو القرآن قالوا وذلك لأن الله تعالى سمى القرآن في كثير من الآيات روحاً واللائق بالروح المسؤول عنه في هذا الموضع ليس إلا القرآن فلا بد من تقرير مقامين المقام الأول تسمية الله القرآن بالروح يدل عليه قوله تعالى وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا ( الشورى 52 ) وقوله يُنَزّلُ الْمَلَائِكَة َ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ( النحل 2 ) وأيضاً السبب في تسمية القرآن بالروح أن بالقرآن تحصل حياة الأرواح والعقول لأن به تحصل معرفة الله تعالى ومعرفة ملائكته ومعرفة كتبه ورسله والأرواح إنما تحيا بهذه المعارف وتمام تقرير هذا الموضع ذكرناه في تفسير قوله يُنَزّلُ الْمَلَائِكَة َ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ( النحل 2 ) وأما بيان المقام الثاني وهو أن الروح اللائق بهذا الموضع هو القرآن لأنه تقدمه قوله وَنُنَزّلُ مِنَ الْقُرْءانِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَة ٌ لّلْمُؤْمِنِينَ ( الإسراء 82 ) والذي تأخر عنه قوله وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ( الإسراء 86 ) إلى قوله قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَاذَا الْقُرْءانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ( الإسراء 88 ) فلما كان قبل هذه الآية في وصف القرآن وما بعدها كذلك وجب أيضاً أن يكون المراد من هذا الروح القرآن حتى تكون آيات القرآن كلها متناسبة متناسقة وذلك لأن القوم استعظموا أمر القرآن فسألوا أنه من جنس الشعر أو من جنس الكهانة فأجابهم الله تعالى بأنه ليس من جنس كلام البشر وإنما هو كلام ظهر بأمر الله ووحيه وتنزيله فقال قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى أي القرآن ظهر بأمر ربي وليس من جنس كلام البشر والقول الثاني أن الروح المسؤول عنه في هذه الآية ملك من ملائكة السموات وهو أعظمهم قدراً وقوة وهو المراد من قوله تعالى يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَة ُ صَفّاً ( النبأ 38 ) ونقلوا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال هو ملك له سبعون ألف وجه لكل وجه سبعون ألف وجه لكل وجه سبعون ألف لسان لكل لسان سبعون ألف لغة يسبح الله تعالى بتلك اللغات كلها ويخلق

الله من كل تسبيحة ملكاً يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة قالوا ولم يخلق الله تعالى خلقاً أعظم من الروح غير العرش ولو شاء أن يبتلع السموات السبع والأرضين السبع ومن فيهن بلقمة واحدة لفعل ولقائل أن يقول هذا القول ضعيف وبيانه من وجوه الأول أن هذا التفصيل لما عرفه علي فالنبي أولى أن يكون قد عرفه فلم لم يخبرهم به وأيضاً أن علياً ما كان ينزل عليه الوحي فهذا التفصيل ما عرفه إلا من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فلم ذكر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك الشرح والبيان لعلي ولم يذكره لغيره الثاني أن ذلك الملك إن كان حيواناً واحداً وعاقلاً واحداً لم يكن في تكثير تلك اللغات فائدة وإن كان المتكلم بكل واحدة من تلك اللغات حيواناً آخر لم يكن ذلك ملكاً واحداً بل يكون ذلك مجموع ملائكة والثالث أن هذا شيء مجهول الوجود فكيف يسأل عنه أما الروح الذي هو سبب الحياة فهو شيء تتوفر دواعي العقلاء على معرفته فصرف هذا السؤال إليه أولى والقول الرابع وهو قول الحسن وقتادة أن هذا الروح جبريل والدليل عليه أنه تعالى سمى جبريل بالروح في قوله نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ عَلَى قَلْبِكَ ( الشعراء 193 194 ) وفي قوله فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا ( مريم 17 ) ويؤكد هذا أنه تعالى قال قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى ( في جبريل ) وقال ( حكاية عن ) جبريل وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ ( مريم 64 ) فسألوا الرسول كيف جبريل في نفسه وكيف قيامه بتبليغ الوحي إليه والقول الخامس قال مجاهد الروح خلق ليسوا من الملائكة على صورة بني آدم يأكلون ولهم أيد وأرجل ورؤوس وقال أبو صالح يشبهون الناس وليسوا بالناس ولم أجد في القرآن ولا في الأخبار الصحيحة شيئاً يمكن التمسك به في إثبات هذا القول وأيضاً فهذا شيء مجهول فيبعد صرف هذا السؤال إليه فحاصل ما ذكرناه في تفسير الروح المذكور في هذه الآية هذه الأقوال الخمسة والله أعلم بالصواب
المسألة الثالثة في شرح مذاهب الناس في حقيقة الإنسان اعلم أن العلم الضروري حاصل بأن ها هنا شيئاً إليه يشير الإنسان بقوله أنا وإذا قال الإنسان علمت وفهمت وأبصرت وسمعت وذقت وشممت ولمست وغضبت فالمشار إليه لكل أحد بقوله أنا إما أن يكون جسماً أو عرضاً أو مجموع الجسم والعرض أو شيئاً مغايراً للجسم والعرض أو من ذلك الشيء الثالث فهذا ضبط معقول أما القسم الأول وهو أن يقال إن الإنسان جسم فذلك الجسم إما أن يكون هو هذه البنية أو جسماً داخلاً في هذه البنية أو جسماً خارجاً عنها أما القائلون بأن الإنسان عبارة عن هذه البنية المحسوسة وعن هذا الجسم المحسوس فهم جمهور المتكلمين وهؤلاء يقولون الإنسان لا يحتاج تعريفه إلى ذكر حد أو رسم بل الواجب أن يقال الإنسان هو الجسم المبني بهذه البنية المسحوسة واعلم أن هذا القول عندنا باطل وتقريره أنهم قالوا الإنسان هو هذا الجسم المحسوس فإذا أبطلنا كون الإنسان عبارة عن هذا الجسم وأبطلنا كون الإنسان محسوساً فقد بطل كلامهم بالكلية والذي يدل على أنه لا يمكن أن يكون الإنسان عبارة ( عن ) هذا الجسم وجوه الحجة الأولى أن العلم البديهي حاصل بأن أجزاء هذه الجثة متبدلة بالزيادة والنقصان تارة بحسب النمو والذبول وتارة بحسب السمن والهزال والعلم الضروري حاصل بأن المتبدل المتغير مغاير للثابت الباقي ويحصل من مجموع هذه المقدمات الثلاثة العلم القطعي بأن الإنسان ليس عبارة عن مجموع هذه الجثة الحجة الثانية أن الإنسان حال ما يكون مشتغل الفكر متوجه الهمة نحو أمر معين مخصوص فإنه في تلك الحالة يكون غافلا عن جميع أجزاء بدنه وعن أعضائه وأبعاضه مجموعها ومفصلها وهو في تلك الحالة

غير غافل عن نفسه المعينة بدليل أنه في تلك الحالة قد يقول غضبت واشتهيت وسمعت كلامك وأبصرت وجهك وتاء الضمير كناية عن نفسه فهو في تلك الحالة عالم بنفسه المخصوصة وغافل عن جملة بدنه وعن كل واحد من أعضائه وأبعاضه و ( يكون ) المعلوم غير معلوم فالإنسان يجب أن يكون مغايراً لجملة هذا البدن ولكل واحد من أعضائه وأبعاضه الحجة الثالثة أن كل أحد يحكم عقله بإضافة كل واحد من هذه الأعضاء إلى نفسه فيقول رأسي وعيني ويدي ورجلي ولساني وقلبي والمضاف غير المضاف إليه فوجب أن يكون الشيء الذي هو الإنسان مغايراً لجملة هذا البدن ولكل واحد من هذه الأعضاء فإن قالوا قد يقول نفسي وذاتي فيضيف النفس والذات إلى نفسه فيلزم أن يكون الشيء وذاته مغايرة لنفسه وهو محال قلنا قد يراد به هذا البدن المخصوص وقد يراد بنفس الشيء وذاته الحقيقة المخصوصة التي يشير إليها كل أحد بقوله أنا فإذا قال نفسي وذاتي فإن كان المراد البدن فعندنا أنه مغاير لجوهر الإنسان أما إذا أريد بالنفس والذات المخصوصة المشار إليها بقوله أنا فلا نسلم أن الإنسان يمكنه أن يضيف ذلك الشيء إلى نفسه بقوله إنساني وذلك لأن عين الإنسان ذاته فكيف يضيفه مرة أخرى إلى ذاته الحجة الرابعة أن كل دليل على أن الإنسان يمتنع أن يكون جسماً فهو أيضاً يدل على أنه يمتنع أن يكون عبارة عن هذا الجسم وسيأتي تقرير تلك الدلائل الحجة الخامسة أن الإنسان قد يكون حياً حال ما يكون البدن ميتاً فوجب كون الإنسان مغايراً لهذا البدن والدليل على صحة ما ذكرناه قوله تعالى وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ ( آل عمران 169 ) فهذا النص صريح في أن أولئك المقتولين أحياء والحس يدل على أن هذا الجسد ميت
الحجة السادسة أن قوله تعالى النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً ( غافر 46 ) وقوله أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً ( نوح 25 ) يدل على أن الإنسان يحيا بعد الموت وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام ( أنبياء الله لا يموتون ولكن ينقلون من دار إلى دار ) وكذلك قوله عليه السلام ( القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار ) وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام ( من مات فقد قامت قيامته ) كل هذه النصوص تدل على أن الإنسان يبقى بعد موت الجسد وبديهة العقل والفطرة شاهدان بأن هذا الجسد ميت ولو جوزنا كونه حياً جاز مثله في جميع الجمادات وذلك عين السفسطة وإذا ثبت أن الإنسان شيء وكان الجسد ميتاً لزم أن الإنسان شيء غير هذا الجسد
الحجة السابعة قوله عليه السلام في خطبة طويلة له ( حتى إذا حمل الميت على نعشه رفرف روحه فوق النعش ويقول يا أهلي ويا ولدي لا تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي جمعت المال من حله وغير حله فالغنى لغيري والتبعة علي فاحذروا مثل ما حل بي ) وجه الاستدلال أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) صرح بأن حال ما يكون الجسد محمولاً على النعش بقي هناك شيء ينادي ويقول يا أهلي ويا ولدي جمعت المال من حله وغير حله ومعلوم أن الذي كان الأهل أهلاً له وكان جامعاً للمال من الحرام والحلال والذي بقي في رقبته الوبال ليس إلا ذلك الإنسان فهذا تصريح بأن في الوقت الذي كان فيه الجسد ميتاً محمولاً كان ذلك الإنسان حياً باقياً

فاهماً وذلك تصريح بأن الإنسان شيء مغاير لهذا الجسد ولهذا الهيكل
الحجة الثامنة قوله تعالى أَحَدٌ يأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّة ُ ارْجِعِى إِلَى رَبّكِ رَاضِيَة ً مَّرْضِيَّة ً ( الفجر 27 28 ) والخطاب بقوله ارجعي إنما هو متوجه عليها حال الموت فدل هذا على أن الشيء الذي يرجع إلى الله بعد موت الجسد يكون حياً راضياً عن الله ويكون راضياً عنه الله والذي يكون راضياً ليس إلا الإنسان فهذا يدل على أن الإنسان بقي حياً بعد موت الجسد والحي غير الميت فالإنسان مغاير لهذا الجسد
الحجة التاسعة قوله تعالى حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرّطُونَ ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقّ ( الأنعام 61 62 ) أثبت كونهم مردودين إلى الله الذي هو مولاهم حال كون الجسد ميتاً فوجب أن يكون ذلك المردود إلى الله مغايراً لذلك الجسد الميت
الحجة العاشرة نرى جميع فرق الدنيا من الهند والروم والعرب والعجم وجميع أرباب الملل والنحل من اليهود والنصارى والمجوس والمسلمين وسائر فرق العالم وطوائفهم يتصدقون عن موتاهم ويدعون لهم بالخير ويذهبون إلى زياراتهم ولولا أنهم بعد موت الجسد بقوا أحياء لكان التصدق عنهم عبثاً والدعاء لهم عبثاً ولكان الذهاب إلى زيارتهم عبثاً فالاطباق على هذه الصدقة وعلى هذا الدعاء وعلى هذه الزيارة يدل على أن فطرتهم الأصلية السليمة شاهدة بأن الإنسان شيء غير هذا الجسد وأن ذلك الشيء لا يموت بل ( الذي ) يموت هذا الجسد
الحجة الحادية عشرة أن كثيراً من الناس يرى أباه أو ابنه بعد موته في المنام ويقول له اذهب إلى الموضع الفلاني فإن فيه ذهباً دفنته لك وقد يراه فيوصيه بقضاء دين عنه ثم عند اليقظة إذا فتش كان كما رآه في النوم من غير تفاوت ولولا أن الإنسان يبقى بعد الموت لما كان كذلك ولما دل هذا الدليل على أن الإنسان يبقى بعد الموت ودل الحس على أن الجسد ميت كان الإنسان مغايراً لهذا الجسد الميت
الحجة الثانية عشرة أن الإنسان إذا ضاع عضو من أعضائه مثل أن تقطع يداه أو رجلاه أو تقلع عيناه أو تقطع أذناه إلى غيرها من الأعضاء فإن ذلك الإنسان يجد من قلبه وعقله أنه هو عين ذلك الإنسان ولم يقع في عين ذلك الإنسان تفاوت حتى أنه يقول أنا ذلك الإنسان الذي كنت موجوداً قبل ذلك إلا أنه يقول إنهم قطعوا يدي ورجلي وذلك برهان يقيني على أن ذلك الإنسان شيء مغاير لهذه الأعضاء والأبعاض وذلك يبطل قول من يقول الإنسان عبارة عن هذه البنية المخصوصة
الحجة الثالثة عشرة أن القرآن والأحاديث يدلان على أن جماعة من اليهود قد مسخهم الله وجعلهم في صورة القردة والخنازير فنقول إن ذلك الإنسان هل بقي حال ذلك المسخ أو لم يبق فإن لم يبق كان هذا إماتة لذلك الإنسان وخلقاً لذلك الخنزير وليس هذا من المسخ في شيء وإن قلنا إن ذلك الإنسان بقي حال حصول ذلك المسخ فنقول على ذلك التقدير ذلك الإنسان باق وتلك البنية وذلك الهيكل غير باق فوجب أن يكون ذلك الإنسان شيئاً مغايراً لتلك البنية
الحجة الرابعة عشرة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان يرى جبريل عليه الصلاة والسلام في صورة دحية الكلبي وكان يرى إبليس في صورة الشيخ النجدي فها هنا بنية الإنسان وهيكله وشكله حاصل مع أن حقيقة الإنسان

غير حاصلة وهذا يدل على أن الإنسان ليس عبارة عن هذه البنية وهذا الهيكل والفرق بين هذه الحجة والتي قبلها أنه حصلت صورة هذه البنية مع عدم هذه البنية وهذا الهيكل
الحجة الخامسة عشرة أن الزاني يزني بفرجه فيضرب على ظهره فوجب أن يكون الإنسان شيئاً آخر سوى الفرج وسوى الظهر ويقال إن ذلك الشيء يستعمل الفرج في عمل والظهر في عمل آخر فيكون المتلذذ والمتألم هو ذلك الشيء إلا أنه تحصل تلك اللذة بواسطة ذلك العضو ويتألم بواسطة الضرب على هذا العضو
الحجة السادسة عشرة أني إذا تكلمت مع زيد وقلت له افعل كذا أو لا تفعل كذا فالمخاطب بهذا الخطاب والمأمور والمنهي ليس هو جبهة زيد ولا حدقته ولا أنفه ولا فمه ولا شيئاً من أعضائه بعينه فوجب أن يكون المأمور والمنهي والمخاطب شيئاً مغايراً لهذه الأعضاء وذلك يدل على أن ذلك المأمور والمنهي غير هذا الجسد فإن قالوا لم لا يجوز أن يقال المأمور والمنهي جملة هذا البدن لا شيء من أعضائه وأبعاضه قلنا بوجه التكليف على الجملة إنما يصح لو كانت الجملة فاهمة عالمة فنقول لو كانت الجملة فاهمة عالمة فإما أن يقوم بمجموع البدن علم واحد أو يقوم بكل واحد من أجزاء البدن علم على حدة والأول يقتضي قيام العرض بالمحال الكثيرة وهو محال والثاني يقتضي أن يكون كل واحد من أجزاء البدن عالماً فاهماً مدركاً على سبيل الاستقلال وقد بينا أن العلم الضروري حاصل بأن الجزء المعين من البدن ليس عالماً فاهماً مدركاً بالاستقلال فسقط هذا السؤال
الحجة السابعة عشرة أن الإنسان يجب أن يكون عالماً والعلم لا يحصل إلا في القلب فيلزم أن يكون الإنسان عبارة عن الشيء الموجود في القلب وإذا ثبت هذا بطل القول بأن الإنسان عبارة عن هذا الهيكل وهذه الجثة إنما قلنا إن الإنسان يجب أن يكون عالماً لأنه فاعل مختار والفاعل المختار هو الذي يفعل بواسطة القلب والاختيار وهما مشروطان بالعلم لأن ما لا يكون مقصوداً امتنع القصد إلى تكوينه فثبت أن الإنسان يجب أن يكون عالماً بالأشياء وإنما قلنا إن العلم لا يوجد إلا في القلب للبرهان والقرآن أما البرهان فلأنا نجد العلم الضروري بأنا نجد علومنا من ناحية القلب وأما القرآن فآيات نحو قوله تعالى لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا ( الأعراف 179 ) وقوله كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ ( المجادلة 22 ) وقوله نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ عَلَى قَلْبِكَ ( الشعراء 193 194 ) وإذا ثبت أن الإنسان يجب أن يكون عالماً وثبت أن العلم ليس إلا في القلب هو هذا الجسد وهذا الهيكل
وأما البحث الثاني وهو بيان أن الإنسان غير محسوس وهو أن حقيقة الإنسان شيء مغاير للسطح واللون وكل ما هو مرئي فهو إما السطح وإما اللون وهما مقدمتان قطعيتان وينتج هذا القياس أن حقيقة الإنسان غير مرئية ولا محسوسة وهذا برهان يقيني
المسألة الرابعة في شرح مذاهب القائلين بأن الإنسان جسم موجود في داخل البدن اعلم أن الأجسام الموجودة في هذا العالم السفلي إما أن تكون أحد العناصر الأربعة أو ما يكون متولداً من امتزاجها ويمتنع أن يحصل في البدن الإنساني جسم عنصري خالص بل لا بد وأن يكون الحاصل جسماً متولداً من

امتزاجات هذه الأربعة فنقول أما الجسم الذي تغلب عليه الأرضية فهو الأعضاء الصلبة الكثيفة كالعظم والغضروف والعصب والوتر والرباط والشحم واللحم والجلد ولم يقل أحد من العقلاء الذين قالوا الإنسان شيء مغاير لهذا الجسد بأنه عبارة عن عضو معين من هذه الأعضاء وذلك لأن هذه الأعضاء كثيفة ثقيلة ظلمانية فلا جرم لم يقل أحد من العقلاء بأن الإنسان عبارة عن أحد هذه الأعضاء وأما الجسم الذي تغلب عليه المائية فهو الأخلاط الأربعة ولم يقل أحد في شيء منها إنه الإنسان إلا في الدم فإن منهم من قال إنه هو الروح بدليل أنه إذا خرج لزم الموت أما الجسم الذي تغلب عليه الهوائية والنارية فهو الأرواح وهي نوعان أحدهما أجسام هوائية مخلوطة بالحرارة الغريزية متولدة إما في القلب أو في الدماغ وقالوا إنها هي الروح وإنها هي الإنسان ثم اختلفوا فمنهم من يقول الإنسان هو الروح الذي في القلب ومنهم من يقول إنه جزء لا يتجزأ في الدماغ ومنهم من يقول الروح عبارة عن أجزاء نارية مختلطة بهذه الأرواح القلبية والدماغية وتلك الأجزاء النارية وهي المسماة بالحرارة الغريزية وهي الإنسان ومن الناس من يقول الروح عبارة عن أجسام نورانية سماوية لطيفة والجوهر على طبيعة ضوء الشمس وهي لا تقبل التحلل والتبدل ولا التفرق ولا التمزق فإذا تكون البدن وتم استعداده وهو المراد بقوله فَإِذَا سَوَّيْتُهُ نفذت تلك الأجسام الشريفة السماوية الإلهية في داخل أعضاء البدن نفاذ النار في الفحم ونفاذ دهن السمسم في السمسم ونفاذ ماء الورد في جسم الورد ونفاذ تلك الأجسام السماوية في جوهر البدن هو المراد بقوله وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى ( ص 72 ) ثم إن البدن ما دام يبقى سليماً قابلاً لنفاذ تلك الأجسام الشريفة بقي حياً فإذا تولدت في البدن أخلاط غليظة منعت تلك الأخلاط الغليظة من سريان تلك الأجسام الشريفة فيها فانفصلت عن هذا البدن فحينئذ يعرض الموت فهذا مذهب قوي شريف يجب التأمل فيه فإنه شديد المطابقة لما ورد في الكتب الإلهية من أحوال الحياة والموت فهذا تفصيل مذاهب القائلين بأن الإنسان جسم موجود في داخل البدن وأما أن الإنسان جسم موجود خارج البدن فلا أعرف أحداً ذهب إلى هذا القول أما القسم الثاني وهو أن يقال الإنسان عرض حال في البدن فهذا لا يقول به عاقل لأن من المعلوم بالضرورة أن الإنسان جوهر لأنه موصوف بالعلم والقدرة والتدبر والتصرف ومن كان كذلك كان جوهراً والجوهر لا يكون عرضاً بل الذي يمكن أن يقول به كل عاقل هو أن الإنسان يشترط أن يكون موصوفاً بأعراض مخصوصة وعلى هذا التقدير فللناس فيه أقوال القول الأول أن العناصر الأربعة إذا امتزجت وانكسرت سورة كل واحدة منها بسورة الآخر حصلت كيفية معتدلة هي المزاج ومراتب هذا المزاج غير متناهية فبعضها هي الإنسانية وبعضها هي الفرسية فالإنسانية عبارة عن أجسام موصوفة متولدة عن امتزاجات أجزاء العناصر بمقدار مخصوص هذا قول جمهور الأطباء ومنكري بقاء النفس وقول أبي الحسين البصري من المعتزلة والقول الثاني أن الإنسان عبارة عن أجسام مخصوصة بشرط كونها موصوفة بصفة الحياة والعلم والقدرة والحياة عرض قائم بالجسم وهؤلاء أنكروا الروح والنفس وقالوا ليس ها هنا إلا أجسام مؤتلفة موصوفة بهذه الأعراض المخصوصة وهي الحياة والعلم والقدرة وهذا مذهب أكثر شيوخ المعتزلة والقول الثالث أن الإنسان عبارة عن أجسام موصوفة بالحياة والعلم والقدرة والإنسان إنما يمتاز عن سائر الحيوانات بشكل جسده وهيئة أعضائه وأجزائه إلا أن هذا مشكل فإن الملائكة قد يتشبهون بصور الناس فها هنا صورة الإنسان حاصلة مع عدم الإنسانية وفي صورة المسخ معنى الإنسانية حاصل مع أن هذه الصورة غير حاصلة

فقد بطل اعتبار هذا الشكل في حصول معنى الإنسانية طرداً وعكساً أما القسم الثالث وهو أن يقال الإنسان موجود ليس بجسم ولا جسمانية فهو قول أكثر الإلهيين من الفلاسفة القائلين ببقاء النفس المثبتين للنفس معاداً روحانياً وثواباً وعقاباً وحساباً روحانياً وذهب إليه جماعة عظيمة من علماء المسلمين مثل الشيخ أبي القاسم الراغب الأصفهاني والشيخ أبي حامد الغزالي رحمهما الله ومن قدماء المعتزلة معمر بن عباد السلمي ومن الشيعة الملقب عندهم بالشيخ المفيد ومن الكرامية جماعة واعلم أن القائلين بإثبات النفس فريقان الأول وهم المحققون منهم من قال الإنسان عبارة عن هذا الجوهر المخصوص وهذا البدن وعلى هذا التقدير فالإنسان غير موجود في داخل العالم ولا في خارجه وغير متصل في داخل العالم ولا في خارجه وغير متصل بالعالم ولا منفصل عنه ولكنه متعلق بالبدن تعلق التدبير والتصرف كما أن إله العالم لا تعلق له بالعالم إلا على سبيل التصرف والتدبير والفريق الثاني الذين قالوا النفس إذا تعلقت بالبدن اتحدت بالبدن فصارت النفس عين البدن والبدن عين النفس ومجموعهما عند الاتحاد هو الإنسان فإذا جاء وقت الموت بطل هذا الاتحاد وبقيت النفس وفسد البدن فهذه جملة مذاهب الناس في الإنسان وكان ثابت بن قرة يثبت النفس ويقول إنها متعلقة بأجسام سماوية نورانية لطيفة غير قابلة للكون والفساد التفرق والتمزق وأن تلك الأجسام تكون سارية في البدن وما دام يبقى ذلك السريان بقيت النفس مدبرة للبدن فإذا انفصلت تلك الأجسام اللطيفة عن جوهر البدن انقطع تعلق النفس عن البدن
المسألة الخامسة في دلائل مثبتي النفس من ناحية العقل احتج القوم بوجوه كثيرة بعضها قوي وبعضها ضعيف والوجوه القوية بعضها قطعية وبعضها إقناعية فلنذكر الوجوه القطعية
الحجة الأولى لا شك أن الإنسان جوهر فإما أن يكون جوهراً متحيزاً أو غير متحيز والأول باطل فتعين الثاني والذي يدل على أنه يمتنع أن يكون جوهراً متحيزاً أنه لو كان كذلك لكان كونه متحيزاً غير تلك الذات ولو كان كذلك لكان كل ما علم الإنسان ذاته المخصوصة وجب أن يعلم كونه متحيزاً بمقدار مخصوص وليس الأمر كذلك فوجب أن لا يكون الإنسان جوهراً متحيزاً فنفتقر في تقرير هذا الدليل إلى مقدمات ثلاثة المقدمة الأولى لو كان الإنسان جوهراً متحيزاً لكان كونه متحيزاً عين ذاته المخصوصة والدليل عليه أنه لو كان تحيزه صفة قائمة لكان ذلك المحل من حيث هو مع قطع النظر عن هذه الصفة إما أن يكون متحيزاً أو لا يكون والقسمان باطلان فبطل القول بكون التحيز صفة قائمة بالمحل إنما قلنا إنه يمتنع أن يكون محل التحيز لأنه يلزم كون الشيء الواحد متحيزاً مرتين ولأنه يلزم اجتماع المثلين ولأنه ليس جعل أحدهما ذاتاً والآخر صفة أولى من العكس ولأن التحيز الثاني إن كان عين الذات فهو المقصود وإن كان صفة لزم التسلسل وهو محال وإنما قلنا إنه يمتنع أن يكون محل التحيز غير متحيز لأن حقيقة التحيز هو الذهاب في الجهات والامتداد فيها والشيء الذي لا يكون متحيزاً لم يكن له اختصاص بالجهات وحصوله فيها ليس بمتحيز محال فثبت بهذا أنه لو كان الإنسان جوهراً متحيزاً لكان تحيزه غير ذاته المخصوصة المقدمة الثانية لو كان تحيز ذاته المخصوصة عين ذاته المخصوصة لكان متى عرف ذاته المخصوصة فقد عرف كونها متحيزة والدليل عليه أنه لو صارت ذاته المخصوصة معلومة وصار تحيزه مجهولاً لزم اجتماع النفي والإثبات في الشيء الواحد وهو محال

المقدمة الثالثة أنا قد نعرف ذاتنا حال كوننا جاهلين بالتحيز والامتداد في الجهات الثلاثة وذلك ظاهر عند الاختبار والامتحان فإن الإنسان حال كونه مشتغلاً بشيء من المهمات مثل أن يقول لعبده لم فعلت كذا ولم خالفت أمري وإني أبالغ في تأديبك وضربك فعندما يقول لم خالفت أمري يكون عالماً بذاته المخصوصة إذ لو لم يعلم ذاته المخصوصة لامتنع أن يعلم أن ذلك الإنسان خالفه ولامتنع أن يخبر عن نفسه بأنه على عزم أن يؤدبه ويضربه ففي هذه الحالة يعلم ذاته المخصوصة مع أنه في تلك الحالة لا يخطر بباله حقيقة التحيز والامتداد في الجهات والحصول في الحيز فثبت بما ذكرنا أنه لو كان ذات الإنسان جوهراً متحيزاً لكان تحيزه عن عين المخصوصة ولو كان كذلك لكان كل ما علم ذاته المخصوصة فقد علم التحيز وثبت أنه ليس كذلك فيلزم أن يقال ذات الإنسان ليس جوهراً متحيزاً وذلك هو المطلوب فإن قالوا هذا معارض بأنه لو كان جوهراً مجرداً لكان كل من عرف ذات نفسه عرف كونه جوهراً مجرداً وليس الأمر كذلك قلنا الفرق ظاهر لأن كونه مجرداً معناه أنه ليس بمتحيز ولا حالاً في المتحيز وهذا السلب ليس عين تلك الذات المخصوصة لأن السلب ليس عين الثبوت وإذا كان كذلك لم يبعد أن تكون تلك الذات المخصوصة معلومة وأن لا يكون ذلك السلب معلوماً بخلاف كونه متحيزاً فأنا قد دللنا على أن تقدير كون الإنسان جوهراً متحيزاً يكون تحيزه عين ذاته المخصوصة وعلى هذا التقدير يمتنع أن تكون ذاته معلومة ويكون تحيزه مجهولاً فظهر الفرق
الحجة الثانية النفس واحدة ومتى كانت واحدة وجب أن تكون مغايرة لهذا البدن ولكل واحد من أجزائه فهذه الحجة مبنية على مقدمات المقدمة الأولى هي قولنا النفس واحدة ولنا ها هنا مقامان تارة ندعي العلم البديهي فيه وأخرى نقيم البرهان على صحته أما المقام الأول وهو إدعاء البديهية فنقول المراد من النفس هو الشيء الذي يشير إليه كل أحد بقوله أنا وكل أحد يعلم بالضرورة أنه إذا أشار إلى ذاته المخصوصة بقوله أنا كان ذلك المشار إليه واحداً غير متعدد فإن قيل لم لا يجوز أن يكون المشار إليه لكل أحد بقوله أنا وإن كان واحداً إلا أن ذلك الواحد يكون مركباً من أشياء كثيرة قلنا إنه لا حاجة لنا في هذا المقام إلى دفع هذه السؤال بل نقول المشار إليه بقول أنا معلوم بالضرورة أنه شيء واحد فأما أن ذلك الواحد هل هو واحد مركب من أشياء كثيرة أو هو واحد في نفسه واحد في حقيقته فهذا لا حاجة إليه في هذا المقام أما المقام الثاني وهو مقام الاستدلال فالذي يدل على وحدة النفس وجوه
الحجة الأولى أن الغضب حالة نفسانية تحدث عند إرادة دفع المنافر والشهوة حالة نفسانية تحدث عند طلب الملايم مشروطاً بالشعور بكون الشيء ملايماً ومنافراً فالقوة الغضبية التي هي قوة دافعة للمنافر إن لم يكن لها شعور بكونه منافراً امتنع انبعاثها لدفع ذلك المنافر على سبيل القصد والاختيار لأن القصد إلى الجذب تارة وإلى لدفع أخرى مشروط بالشعور بالشيء فالشيء المحكوم عليه بكونه دافعاً للمنافر على سبيل الاختيار لا بد وأن يكون له شعور بكونه منافراً فالذي يغضب لا بد وأن يكون هو بعينه مدركاً فثبت بهذا البرهان اليقيني مباينة حاصلة في ذوات متباينة
الحجة الثانية أنا إذا فرضنا جوهرين مستقلين يكون كل واحد منهما مستقلاً بفعله الخاص امتنع أن يصير اشتغال أحدهما بفعله الخاص مانعاً للآخر من اشتغاله بفعله الخاص به وإذا ثبت هذا فنقول لو كان محل الإدراك والفكر جوهراً ومحل الغضب جوهراً آخر ومحل الشهوة جوهراً ثالثاً وجب أن لا يكون اشتغال

القوة الغضبية بفعلها مانعاً للقوة الشهوانية من الاشتغال بفعلها ولا بالعكس لكن الثاني باطل فإن اشتغال الإنسان بالشهوة وانصبابه إليها يمنعه من الاشتغال بالغضب وانصبابه إليه وبالعكس فعلمنا أن هذه الأمور الثلاثة ليست مباديء مستقلة بل هي صفات مختلفة بجوهر واحد فلا جرم كان اشتغال ذلك الجوهر بأحد هذه الأفعال عائقاً له عن الإشتغال بالفعل الآخر
الحجة الثالثة أنا إذا أدركنا أشياء فقد يكون الإدراك سبباً لحصول الشهوة وقد يصير سبباً لحصول الغضب فلو كان الجوهر المدرك مغايراً للذي يغضب والذي يشتهي فحين أدرك الجوهر المدرك لم يحصل عند الجوهر المشتهى من ذلك الإدراك أثر ولا خبر فوجب أن لا يترتب على ذلك الإدراك لا حصول الشهوة ولا حصول الغضب وحيث حصل هذا الترتيب والاستلزام علمنا أن صاحب الإدراك بعينه هو صاحب الشهوة بعينها وصاحب الغضب بعينه
الحجة الرابعة أن حقيقة الحيوان أنه جسم ذو نفس حساسة متحركة بالإرادة فالنفس لا يمكنها أن تتحرك بالإدارة إلا عند حصول الداعي ولا معنى للداعي إلا الشعور بخير يرغب في جذبه أو بشر يرغب في دفعه وهذا يقتضي أن يكون المتحرك بالإرادة هو بعينه مدركاً للخير والشر والملذ والمؤذي والنافع والضار فثبت بما ذكرنا أن النفس الإنسانية شيء واحد وثبت أن ذلك الشيء هو المبصر والسامع والشام والذائق واللامس والمتخيل والمتفكر والمتذكر والمشتهي والغاضب وهو الموصوف بجميع الإدراكات وهو الموصوف بجميع الأفعال الاختيارية والحركات الإرادية وأما المقدمة الثانية في بيان أنه لما كانت النفس شيئاً واحداً وجب أن لا تكون النفس في هذا البدن ولا شيئاً من أجزائه فنقول أما بيان أنه متى كان الأمر كذلك امتنع كون النفس عبارة عن جملة هذا البدن وكذا القوة السامعة وكذا سائر القوى كالتخيل والتذكر والتفكر والعلم بأن هذه القوى غير سارية في جملة أجزاء البدن علم بديهي بل هو من أقوى العلوم البديهية وأما بيان أنه يمتنع أن تكون النفس جزءاً من أجزاء هذا البدن فانا نعلم بالضرورة أنه ليس في البدن جزء واحد وهو بعينه موصوف بالأبصار والسماع والفكر والذكر بل الذي يتبادر إلى الخاطر أن الأبصار مخصوص بالعين لا بسائر الأعضاء والسماع مخصوص بالأذن لا بسائر الأعضاء والصوت مخصوص بالحلق لا بسائر الأعضاء وكذلك القول في سائر الإدراكات وسائر الأفعال فأما أن يقال إنه حصل في البدن جزء واحد موصوف بكل هذه الإدراكات وبكل هذه الأفعال فالعلم الضروري حاصل بأنه ليس الأمر كذلك فثبت بما ذكرنا أن النفس الإنسانية شيء واحد موصوف بجملة هذه الإدراكات وبجملة هذه الأفعال وثبت بالبديهية أن جملة البدن ليست كذلك وثبت أيضاً أن شيئاً من أجزاء البدن ليس كذلك فحينئذ يحصل اليقين بأن النفس شيء مغاير لهذا البدن ولكل واحد من أجزائه وهو المطلوب ولنقرر هذا البرهان بعبارة أخرى فنقول إنا نعلم بالضرورة أنا إذا أبصرنا شيئاً عرفناه وإذا عرفناه اشتهيناه وإذا اشتهيناه حركنا أبداننا إلى القرب منه فوجب القطع بأن الذي أبصر هو الذي عرف وأن الذي عرف هو الذي اشتهى وأن الذي اشتهى هو الذي حرك إلى القرب منه فيلزم القطع بأن المبصر لذلك الشيء والعارف به والمشتهي والمتحرك إلى القرب منه شيء واحد إذ لو كان المبصر شيئاً والعارف شيئاً ثانياً والمشتهي شيئاً ثالثاً والمتحرك شيئاً رابعاً لكان الذي أبصر لم يعرف والذي عرف لم يشته والذي اشتهى لم يتحرك ومن المعلوم أن كون الشيء مبصراً لشيء لا يقتضي

صيرورة شيء آخر عالماً بذلك الشيء وكذلك القول في سائر المراتب وأيضاً فأنا نعلم بالضرورة أن الرائي للمرئيات لما كان رآها فقد عرفها ولما عرفها فقد اشتهاها ولما اشتهاها طلبها وحرك الأعضاء إلى القرب منها ونعلم أيضاً بالضرورة أن الموصوف بهذه الرؤية وبهذا العلم وبهذ الشهوة وبهذا التحرك هو لا غيره وأيضاً العقلاء قالوا الحيوان لا بد أن يكون حساساً متحركاً بالإرادة فإنه إن لم يحس بشيء لم يشعر بكونه ملائماً أو بكونه منافراً وإذا لم يشعر بذلك امتنع كونه مريداً للجذب أو الدفع فثبت أن الشيء الذي يكون متحركاً بالإرادة فإنه بعينه يجب أن يكون حساساً فثبت أن المدرك لجميع المدركات يدرك بجميع أصناف الإدراكات وأن المباشر لجميع التحريكات الاختيارية شيء واحد وأيضاً فلأنا إذا تكلمنا بكلام نقصد منه تفهيم الغير ( عقلنا ) معاني تلك الكلمات ثم لما عقلناها أردنا تعريف غيرنا تلك المعاني ولما حصلت هذه الإرادة في قلوبنا حاولنا إدخال تلك الحروف والأصوات في الوجود لنتوسل بها إلى تعريف غيرنا تلك المعاني إذ ثبت هذا فنقول إن كان محمل العلم والإرادة ومحل تلك الحروف والأصوات جسماً واحداً لزم أن يقال إن محل العلوم والإرادات هو الحنجرة واللهاة واللسان ومعلوم أنه ليس كذلك وإن قلنا محل العلوم والإرادات هو القلب لزم أيضاً أن يكون محل الصوت هو القلب وذلك أيضاً باطل بالضرورة وإن قلنا محل الكلام هو الحنجرة واللهاة واللسان ومحل العلوم والإرادات هو القلب ومحل القدرة هو الأعصاب والأوتار والعضلات كنا قد وزعنا هذه الأمور على هذه الأعضاء المختلفة لكنا أبطلنا ذلك وبينا أن المدرك لجميع المدركات والمحرك لجميع الأضاء بكل أنواع التحريكات يجب أن يكون شيئاً واحداً فلم يبق إلا أن يقال في الإدراك والقدرة على التحريك ( أنه ) شيء سوى هذا البدن وسوى أجزاء هذا البدن وأن هذه الأعضاء جارية مجرى الآلات والأدوات فكما أن الإنسان يعقل أفعالاً مختلفة بواسطة آلات محتلفة فكذلك النفس تبصر بالعين وتسمع بالأذن وتتفكر بالدماغ وتعقل بالقلب فهذه الأعضاء آلات النفس وأدوات لها والنفس جوهر مغاير لها مفارق عنها بالذات متعلق بها تعلق التصرف والتدبير وهذا البرهان برهان شريف يقيني في ثبوت هذا المطلوب والله أعلم
المقدمة الثالثة لو كان الإنسان عبارة عن هذا الجسد لكان إما أن يقوم بكل واحد من الأجزاء حياة وعلم وقدرة على حدة وإما أن يقوم بمجموع الأجزاء حياة وعلم وقدرة والقسمان باطلان فبطل القول بكون الإنسان عبارة عن هذا الجسد وأما بطلان القسم الأول فلأنه يقتضي كون كل واحد من أجزاء الجسد حياً عالماً قادراً على سبيل الاستقلال فوجب أن لا يكون الإنسان الواحد حيواناً واحداً بل أحياء عالمين قادرين وحينئذ لا يبقى فرق بين الإنسان الواحد وبين أشخاص كثيرين من الناس وربط بعضهم بالبعض بالتسلسل لكنا نعلم بالضرورة فساد هذا الكلام لأني أجد ذاتي ذاتاً واحدة لا حيوانات كثيرين وأيضاً فبتقدير أن يكون كل واحد من أجزاء هذا الجسد حيواناً واحداً على حدة فحينئذ لا يكون لكل واحد منهما خبر عن حال صاحبه فلا يمتنع أن يريد هذا أن يتحرك إلى هذا الجانب ويريد الجزء الآن أن يتحرك إلى الجانب الآخر فحينئذ يقع التدافع بين أجزاء بدن الإنسان الواحد كما يقع بين شخصين وفساد ذلك معلوم بالبديهة وأما بطلان القسم الثاني فلأنه يقضتي قيام الصفة الواحدة بالمحال الكثيرة وذلك معلوم البطلان بالضرورة ولأنه لو جاز حلول الصفة الواحدة في المحال الكثيرة لم يبعد أيضاً حصول الجسم الواحد في الأحياز الكثيرة ولأن بتقدير أن تحصل الصفة الواحدة في المحال المتعددة فحينئذ يكون كل واحد من تلك الأجزاء حياً عاقلاً

عالماً فيتجرد الأمر إلى كون هذه الجثة الواحدة أناساً كثيرين ولما ظهر فساد القسمين ثبت أن الإنسان ليس هو هذه الجثة فإن قالوا لم لا يجوز أن تقوم الحياة الواحدة بالجزء الواحد ثم إن تلك الحياة تقتضي صيرورة جملة الأجزاء أحياء قلنا هذا باطل لأنه لا معنى للحياة إلا الحيية ولا معنى للعلم إلا العالمية وبتقدير أن نساعد على أن الحياة معنى يوجب الحيية والعلم معنى يوجب العالمية إلا أنا نقول إن حصل في مجموع جثة مجموع حياة واحدة وعالمية واحدة فقد حصلت الصفة الواحدة في المحال الكثيرة وهو محال وإن حصل في كل جزء وجثة حياة على حدة وعالمية على حدة عاد ما ذكرنا من كون الإنسان الواحد أناساً كثيرين وهو محال
المقدمة الرابعة أنا لما تأملنا في أحوال النفس رأينا أحوالها بالضد من أحوال الجسم وذلك يدل على أن النفس ليست جسماً وتقرير هذه المنافاة من وجوه الأول أن كل جسم حصلت فيه صورة فإنه لا يقبل صورة أخرى من جنس الصورة الأولى إلا بعد زوال الصورة الأولى زوالاً تاماً مثاله أن الشمع إذا حصل فيه شكل التثليث امتنع أن يحصل فيه شكل التربيع والتدوير إلا بعد زوال الشكل الأول عنه نعم إنا وجدنا الحال في تصور النفس بصور المعقولات بالضد من ذلك فإن النفس التي لم تقبل صورة عقلية البتة يبعد قبولها شيئاً من الصور العقلية فإذا قبلت صورة واحدة صار قبولها للصورة الثانية أسهل ثم إن النفس لا تزال تقبل صورة بعد صورة من غير أن تضعف ألبتة بل كلما كان قبولها للصور أكثر صار قبولها للصور الآتية بعد ذلك أسهل وأسرع ولهذا السبب يزداد الإنسان فهماً وإدراكاً كلما ازداد تخرجاً وارتباطاً في العلوم فثبت أن قبول النفس للصور العقلية على خلاف قبول الجسم للصورة وذلك يوهم أن النفس ليست بجسم والثاني أن المواظبة على الأفكار الدقيقة لها أثر في النفس وأثر في البدن أما أثرها في النفس فهو تأثيرها في إخراج النفس من القوة إلى الفعل في التعقلات والإدراكات وكلما كانت الأفكار أكثر كان حصول هذه الأحوال أكمل وذلك غاية كمالها ونهاية شرفها وجلالتها وأما أثرها في البدن فهو أنها توجب استيلاء اليبس على البدن واستيلاء الذبول عليه وهذه الحالة لو استمرت لانتقلت إلى الماليخوليا وسوق الموت فثبت بما ذكرنا أن هذه الأفكار توجب حياة النفس وشرفها وتوجب نقصان البدن وموته فلو كانت النفس هي البدن لصار الشيء الواحد سبباً لكماله ونقصانه معاً ولحياته وموته معاً وأنه محال والثالث أنا إذا شاهدنا أنه ربما كان بدن الإنسان ضعيفاً نحيفاً فإذا لاح له نور من الأنوار القدسية وتجلى له سر من أسرار عالم الغيب حصل لذلك الإنسان جراءة عظيمة وسلطنة قوية ولم يعبأ بحضور أكابر السلاطين ولم يقم لهم وزناً ولولا أن النفس شيء سوى البدن لما كان الأمر كذلك الرابع أن أصحاب الرياضات والمجاهدات كلما أمعنوا في قهر القوى البدنية وتجويع الجسد قويت قواهم الروحانية وأشرقت أسرارهم بالمعارف الإلهية وكلما أمعن الإنسان في الأكل والشرب وقضاء الشهوة الجسدانية صار كالبهيمة وبقي محروماً عن آثار النطق والعقل والمعرفة ولولا أن النفس غير البدن لما كان الأمر كذلك الخامس أنا نرى أن النفس تفعل أفاعيلها بآلات بدنية فإنها تبصر بالعين وتسمع بالأذن وتأخذ باليد وتمشي بالرجل أما إذا آل الأمر إلى العقل والإدراك فإنها مستقلة بذاتها في هذا الفعل من غير إعانة شيء من الآلات ولذلك فإن الإنسان لا يمكنه أن يبصر شيئاً إذا أغمض عينيه وأن لا يسمع صوتاً إذا سد أذنيه كما لا يمكنه البتة أن يزيل عن قلبه العلم بما كان عالماً به فعلمنا أن النفس غنية بذاتها في العلوم والمعارف عن شيء من الآلات البدنية فهذه الوجوه الخمسة أمارات قوية في أن النفس

ليست بجسم وفي المسألة الأولى كثير من دلائل المتقدمين ذكرناها في كتبنا الحكمية فلا فائدة في الاعادة
المسألة السادسة في إثبات أن النفس ليست بجسم من الدلائل السمعية
الحجة الأولى قوله تعالى وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ نَسُواْ اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ( الحشر 19 ) ومعلوم أن أحداً من العقلاء لا ينسى هذا الهيكل المشاهد فدل ذلك على أن النفس التي ينساها الإنسان عند فرط الجهل شيء آخر غير هذا البدن
الحجة الثانية قوله تعالى أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ ( الأنعام 93 ) وهذا صريح أن النفس غير البدن وقد استقصينا في تفسير هذه فليرجع إليه
الحجة الثالثة أنه تعالى ذكر مراتب الخلقة الجسمانية فقال وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلَالَة ٍ مّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَة ً فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ ( المؤمنون 12 13 ) إلى قوله فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ( المؤمنون 14 ) ولا شك أن جميع هذه المراتب اختلافات واقعة في الأحوال الجسمانية ثم إنه تعالى لما أراد أن يذكر نفخ الروح قال ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَة َ عَلَقَة ً وهذا تصريح بأن ما يتعلق بالروح جنس مغاير لما سبق ذكره من التغيرات الواقعة في الأحوال الجسمانية وذلك يدل على أن الروح شيء مغاير للبدن فإن قالوا هذه الآية حجة عليكم لأنه تعالى قال وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلَالَة ٍ مّن طِينٍ وكلمة من للتبعيض وهذا يدل على أن الإنسان بعض من أبعاض الطين قلنا كلمة من أصلها لابتداء الغاية كقولك خرجت من البصرة إلى الكوفة فقوله تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلَالَة ٍ مّن طِينٍ يقتضي أن يكون ابتداء تخليق الإنسان حاصلاً من هذه السلالة ونحن نقول بموجبه لأنه تعالى يسوي المزاج أولاً ثم ينفخ فيه الروح فيكون ابتداء تخليقه من السلالة
الحجة الرابعة قوله فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى ( الحجر 29 ) ميز تعالى بين البشرية وبين نفخ الروح فالتسوية عبارة عن تخليق الأبعاض والأعضاء وتعديل المزاج والأشباح فلما ميز نفخ الروح عن تسوية الأعضاء ثم أضاف الروح إلى نفسه بقوله مِن رُّوحِى دل ذلك على أن جوهر الروح معنى مغاير لجوهر الجسد
الحجة الخامسة قوله تعالى وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ( الشمس 7 8 ) وهذه الآية صريحة في وجود شيء موصوف بالإدراك والتحريك حقاً لأن الإلهام عبارة عن الإدراك وأما الفجور والتقوى فهو فعل وهذه الآية صريحة في أن الإنسان شيء واحد وهو موصوف أيضاً بالإدراك والتحريك وموصوف أيضاً بفعل الفجور تارة وفعل التقوى تارة أخرى ومعلوم أن جملة البدن غير موصوف بهذين الوصفين فلا بد من إثبات جوهر آخر يكون موصوفاً بكل هذه الأمور
الحجة السادسة قوله تعالى ءانٍ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَة ٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً ( الإنسان 2 ) فهذا تصريح بأن الإنسان شيء واحد وذلك الشيء هو المبتلي بالتكاليف الإلهية والأمور الربانية وهو الموصوف بالسمع والبصر ومجموع البدن ليس كذلك وليس عضواً من أعضاء البدن كذلك فالنفس شيء مغاير لجملة البدن ومغاير لأجزاء البدن وهو موصوف بكل هذه الصفات واعلم أن الأحاديث

الواردة في صفة الأرواح قبل تعلقها بالأجساد وبعد انفصالها من الأجساد كثيرة وكل ذلك يدل على أن النفس شيء غير هذا الجسد والعجب ممن يقرأ هذه الآيات الكثيرة ويروي هذه الأخبار الكثيرة ثم يقول توفى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وما كان يعرف الروح وهذا من العجائب والله أعلم
المسألة السابعة في دلالة الآية التي نحن في تفسيرها على صحة ما ذكرناه أن الروح لو كان جسماً منتقلاً من حالة إلى حالة ومن صفة إلى صفة لكان مساوياً للبدن في كونه متولداً من أجسام اتصفت بصفات مخصوصة بعد أن كانت موصوفة بصفات أخرى فإذا سئل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن الروح وجب أن يبين أنه جسم كان كذا ثم صار كذا حتى صار روحاً مثل ما ذكر في كيفية تولد البدن أنه كان نطفة ثم علقة ثم مضغة فلما لم يقل ذلك بل قال إِنَّهُ مِنَ أَمَرَ رَبّي بمعنى أنه لا يحدث ولا يدخل في الوجود إلا لأجل أن الله تعالى قال له كُنْ فَيَكُونُ ( البقرة 117 ) دل ذلك على أنه جوهر ليس من جنس الأجسام بل هو جوهر قدسي مجرد واعلم أن أكثر العارفين المكاشفين من أصحاب الرياضيات وأرباب المكاشفات والمشاهدات مصرون على هذا القول جازمون بهذا المذهب قال الواسطي خلق الله الأرواح من بين الجمال والبهاء فلولا أنه سترها لسجد لها كل كافر وأما بيان أن تعلقه الأول بالقلب ثم بواسطته يصل تأثيره إلى جملة الأعضاء فقد شرحناه في تفسير قوله تعالى نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ( الشعراء 193 194 ) واحتج المنكرون بوجوه الأول لو كانت مساوية لذات الله في كونه ليس بجسم ولا عرض لكانت مساوية له في تمام الماهية وذلك محال الثاني قوله تعالى قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ مِنْ أَى ّ شَى ْء خَلَقَهُ مِن نُّطْفَة ٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ ( عبس 17 22 ) وهذا تصريح بأن الإنسان شيء مخلوق من النطفة وأنه يموت ويدخل القبر ثم إنه تعالى يخرجه من القبر ولو لم يكن الإنسان عبارة عن هذه الجثة لم تكن الأحوال المذكورة في هذه الآية صحيحة الثالث قوله وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ إلى قوله يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ ( آل عمران 169 170 ) وهذا يدل على أن الروح جسم لأن الأرزاق والفرح من صفات الأجسام الجواب عن الأول أن المساواة في أنه ليس بمتحيز ولا حال في المتحيز مساواة في صفة سلبية والمساواة في الصفة السلبية لا توجب المماثلة واعلم أن جماعة من الجهال يظنون أنه لما كان الروح موجوداً ليس بمتحيز ولا حال في المتحيز وجب أن يكون مثلاً للإله أو جزءاً للإله وذلك جهل فاحش وغلط قبيح وتحقيقه ما ذكرناه من أن المساواة في السلوب لو أوجبت المماثلة لوجب القول باستواء كل المختلفات وأن كل ماهيتين مختلفتين فلا بد أن يشتركا في سلب كل ما عداهما فلتكن هذه الدقيقة معلومة فإنها مغلطة عظيمة للجهال والجواب عن الثاني أنه لما كان الإنسان في العرف والظاهر عبارة عن هذه الجثة أطلق عليه اسم الإنسان في العرف والجواب عن الثالث أن الرزق المذكور في الآية محمول على ما يقوي حالهم ويكمل كمالهم وهو معرفة الله ومحبته بل نقول هذا من أدل الدلائل على صحة قولنا لأن أبدانهم قد بليت تحت التراب والله تعالى يقول إن أرواحهم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش وهذا يدل على أن الروح غير البدن وليكن هذا آخر كلامنا في هذا الباب ولنرجع إلى علم التفسير ثم قال تعالى وَمَا أُوتِيتُم مّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً وعلى قولنا قد ذكرنا فيه احتمالين أما المفسرون فقالوا إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما قال لهم ذلك قالوا نحن مختصون بهذا الخطاب أم أنت معنا فقال عليه الصلاة والسلام ( بل نحن وأنتم لم نؤت من العلم إلا قليلاً ) فقالوا ما أعجب شأنك يا محمد ساعة تقول

( ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً ) وساعة تقول هذا فنزل قوله وَلَوْ أَنَّ مَّا فِى الاْرْضِ مِن شَجَرَة ٍ أَقْلاَمٌ ( لقمان 27 ) إلى آخره وما ذكروه ليس بلازم لأن الشيء قد يكون قليلاً بالنسبة إلى شيء كثيراً بالنسبة إلى شيء آخر فالعلوم الحاصلة عند الناس قليلة جداً بالنسبة إلى علم الله وبالنسبة إلى حقائق الأشياء ولكنها كثيرة بالنسبة إلى الشهوات الجسمانية واللذات الجسدانية
وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً إِلاَّ رَحْمَة ً مِّن رَّبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أنه ما آتاهم مّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً بين في هذه الآية أنه لو شاء أن يأخذ منهم ذلك القليل أيضاً لقدر عليه وذلك بأن يمحو حفظه من القلوب وكتابته من الكتب وهذا وإن كان أمراً مخالفاً للعادة إلا أنه تعالى قادر عليه
المسألة الثانية احتج الكعبي بهذه الآية على أن القرآن مخلوق فقال والذي يقدر على إزالته والذهاب به يستحيل أن يكون قديماً بل يجب أن يكون محدثاً وهذا الاستدلال بعيد لأن المراد بهذا الإذهاب إزالة العلم به عن القلوب وإزالة النقوش الدالة عليه عن المصحف وذلك لا يوجب كون ذلك المعلوم المدلول محدثاً وقوله ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً أي لا تجد من تتوكل عليه في رد شيء منه ثم قال إِلاَّ رَحْمَة ً مّن رَّبّكَ أي إلا أن يرحمك ربك فيرده عليك أو يكون على الاستثناء المنقطع بمعنى ولكن رحمة ربك تركته غير مذهوب به وهذا امتنان من الله ببقاء القرآن على أنه تعالى من على جميع العلماء بنوعين من المنة أحدهما تسهيل ذلك العلم عليه الثاني إبقاء حفظه عليه وقوله إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا فيه قولان الأول المراد أن فضله كان عليك كبيراً بسبب إبقاء العلم والقرآن عليك الثاني المراد أن فضله كان عليك كبيراً بسبب أنه جعلك سيد ولد آدم وختم بك النبيين وأعطاك المقام المحمود فلما كان كذلك لا جرم أنعم عليك أيضاً بإبقاء العلم والقرآن عليك
( 88 )
قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَاذَا الْقُرْءَانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنا في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَة ٍ مّن مِّثْلِهِ ( البقرة 23 ) بالغنا في بيان إعجاز القرآن وللناس فيه قولان منهم من قال القرآن معجز في

نفسه ومنهم من قال إنه ليس في نفسه معجزاً إلا أنه تعالى لما صرف دواعيهم عن الإثبات بمعارضته مع أن تلك الدواعي كانت قوية كانت هذه الصرفة معجزة والمختار عندنا في هذا الباب أن نقول القرآن في نفسه إما أن يكون معجزاً أو لا يكون فإن كان معجزاً فقد حصل المطلوب وإن لم يكن معجزاً بل كانوا قادرين على الإتيان بمعارضته وكانت الدواعي متوفرة على الإتيان بهذه المعارضة وما كان لهم عنها صارف ومانع وعلى هذا التقدير كان الإتيان بمعارضته واجباً لازماً فعدم الإتيان بهذه المعارضة مع التقديرات المذكورة يكون نقضاً للعادة فيكون معجزاً فهذا هو الطريق الذي نختاره في هذا الباب
المسألة الثانية لقائل أن يقول هب أنه قد ظهر عجز الإنسان عن معارضته فكيف عرفتم عجز الجن عن معارضته وأيضاً فلم لا يجوز أن يقال إن هذا الكلام نظم الجن ألقوه على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وخصوه به على سبيل السعي في إضلال الخلق فعلى هذا إنما تعرفون صدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) إذا عرفتم أن محمداً صادق في قوله أنه ليس من كلام الجن بل هو من كلام الله تعالى فحينئذ يلزم الدور وليس لأحد أن يقول كيف يعقل أن يكون هذا من قول الجن لأنا نقول إن هذه الآية دلت على وقوع التحدي مع الجن وإنما يحسن هذا التحدي لو كانوا فصحاء بلغاء ومتى كان الأمر كذلك كان الاحتمال المذكور قائماً أجاب العلماء عن الأول بأن عجز البشر عن معارضته يكفي في إثبات كونه معجزاً وعن الثاني أن ذلك لو وقع لوجب في حكمة الله أن يظهر ذلك التلبيس وحيث لم يظهر ذلك دل على عدمه وعلى أنه تعالى قد أجاب عن هذا السؤال بالأجوبة الشافية الكافية في آخر سورة الشعراء في قوله هَلْ أُنَبّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ( الشعراء 221 222 ) وقد شرحنا هذه الأجوبة هناك فلا فائدة في الإعادة
المسألة الثالثة قالت المعتزلة الآية دالة على أن القرآن مخلوق لأن التحدي بالقديم وهذه المسألة قد ذكرناها أيضاً بالاستقصاء في سورة البقرة فلا فائدة في الإعادة
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِى هَاذَا الْقُرْءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا
وهذا الكلام يحتمل وجوهاً أحدها أنه وقع التحدي بكل القرآن كما في هذه الآية ووقع التحدي أيضاً بعشر سور منه كما في قوله تعالى فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ( هود 13 ) ووقع التحدي بالسورة الواحدة كما في قوله تعالى فَأْتُواْ بِسُورَة ٍ مّن مِّثْلِهِ ووقع التحدي بكلام من سورة واحدة كما في قوله فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مّثْلِهِ ( الطور 34 ) فقوله وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِى هَاذَا الْقُرْءانِ مِن كُلّ مَثَلٍ يحتمل أن يكون المراد منه التحدي كما شرحناه ثم أنهم مع ظهور عجزهم في جميع هذه المراتب بقوا مصرين على كفرهم وثانيها أن يكون المراد من قوله وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِى هَاذَا الْقُرْءانِ مِن كُلّ مَثَلٍ أنا أخبرناهم بأن الذين بقوا مصرين على الكفر مثل قوم نوح وعاد وثمود كيف ابتلاهم بأنواع البلاء وشرحنا هذه الطريقة مراراً وأطواراً ثم إن هؤلاء الأقوام يعني أهل مكة لم ينتفعوا بهذا البيان بل بقوا مصرين على الكفر وثالثها أن يكون المراد أنه تعالى ذكر دلائل التوحيد ونفي الشركاء والأضداد في هذا القرآن مراراً كثيرة وذكر شبهات منكري النبوة والمعاد مراراً وأطواراً وأجاب عنها ثم أردفها بذكر الدلائل القاطعة على صحة النبوة والمعاد

ثم إن هؤلاء الكفار لم ينتفعوا بسماعها بل بقوا مصرين على الشرك وإنكار النبوة
يريد ( أبى ) أكثر أهل مكة إِلاَّ كُفُورًا أي جحودا للحق وذلك أنهم أنكروا ما لا حاجة إلى إظهاره فإن قيل كيف جاز فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا ولا يجوز أن يقال ضربت إلا زيداً قلنا لفظ أبى يفيد النفي كأنه قيل فلم يرضوا إلا كفورا
وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّة ٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الاٌّ نْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِى َ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَة ِ قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِى السَّمَآءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَءُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّى هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً
اعلم أنه تعالى لما بين بالدليل كون القرآن معجزاً وظهر هذا المعجز على وفق دعوى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فحينئذ تم الدليل على كونه نبياً صادقاً لأنا نقول إن محمداً ادعى النبوة وظهر المعجزة على وفق دعواه وكل من كان كذلك فهو نبي صادق فهذا يدل على أن محمدالله ( صلى الله عليه وسلم ) صادق وليس من شرط كونه نبياً صادقاً تواتر المعجزات الكثيرة وتواليها لأنا لو فتحنا هذا الباب للزم أن لا ينتهي الأمر فيه إلى مقطع وكلما أتى الرسول بمعجز اقترحوا عليه معجزاً آخر ولا ينتهي الأمر فيه إلى حد ينقطع عنده عناد المعاندين وتغلب الجاهلين لأنه تعالى حكى عن الكفار أنهم بعد أن ظهر كون القرآن معجزاً التمسوا من الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ستة أنواع من المعجزات القاهرة كما حكى عن ابن عباس ( أن رؤساء أهل مكة أرسلوا إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وهم جلوس عند الكعبة فأتاهم فقالوا يا محمد إن أرض مكة ضيقة فسير جبالها لننتفع فيها وفجر لنا فيها ينبوعاً أي نهراً وعيوناً نزرع فيها فقال لا أقدر عليه فقال قائل منهم أو يكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً فقال لا أقدر عليه فقيل أو يكون لك بيت من زخرف أي من ذهب فيغنيك عنا فقال لا أقدر عليه فقيل له أما تستطيع أن تأتي قومك بما يسألونك فقال لا أستطيع قالوا فإذا كنت لا تستطيع الخير فاستطع الشر فأسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً أي قطعاً بالعذاب وقوله كما زعمت إشارة إلى قوله إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ ( الإنشقاق 1 ) إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ ( الانفطار 1 ) فقال عبد الله بن أمية المخزومي وأمه عمة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لا والذي يحلف به لا أومن بك حتى تشد سلماً فتصعد فيه ونحن ننظر إليك فتأتي بأربعة من الملائكة يشهدون لك

بالرسالة ثم بعد ذلك لا أدري أنؤمن بك أم لاا ) فهذا شرح هذه القصة كما رواها ابن عباس
المسألة الثانية اعلم أنهم اقترحوا على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنواعاً من المعجزات أولها قولهم حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الاْرْضِ يَنْبُوعًا قرأ عاصم وحمزة والكسائي تفجر بفتح التاء وسكون الفاء وضم الجيم مخففة واختاره أبو حاتم قال لأن الينبوع واحد والباقون بالتشديد واختاره أبو عبيدة ولم يختلفوا في الثانية مشددة لأجل الأنهار لأنها جمع يقال فجرت الماء فجراً وفجرته تفجيراً فمن ثقل أراد به كثرة الأشجار من الينبوع وهو وإن كان واحداً فلكثرة الانفجار فيه يحسن أن يثقل كما تقول ضرب زيد إذا كثر الضرب منه فيكثر فعله وإن كان الفاعل واحداً ومن خفف فلأن الينبوع واحد وقوله ينبوعاً يعني عيناً ينبع الماء منه تقول نبع الماء ينبع نبعاً ونبوعاً ونبعاً ذكره الفراء قال القوم أزل عنا جبال مكة وفجر لنا الينبوع ليسهل علينا أمر الزراعة والحراثة وثانيها قولهم أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّة ٌ مّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجّرَ الاْنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا والتقدير كأنهم قالوا هب أنك لا تفجر هذه الأنهار لأجلنا ففجرها من أجلك وثالثها قولهم أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن عامر كسفاً بفتح السين ها هنا وفي سائر القرآن بسكونها وقرأ نافع وأبو بكر عن عاصم ها هنا وفي الروم بفتح السين وفي باقي القرآن بسكونها وقرأ حفص في سائر القرآن بالفتح إلا في الروم وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي في الروم بفتح السين وفي سائر القرآن بسكون السين قال الواحدي رحمه الله كسفاً فيه وجهان من القراءة سكون السين وفتحها قال أبو زيد يقال كسفت الثوب أكسفه كسفاً إذا قطعته قطعاً وقال الليث الكسف قطع العرقوب والكسفة القطعة وقال الفراء سمعت أعرابياً يقول لبزاز أعطني كسفة يريد قطعة فمن قرأ بسكون السين احتمل قوله وجوهاً أحدها قال الفراء أن يكون جمع كسفة مثل دمنة ودمن وسدرة وسدر وثانيها قال أبو علي إذا كان المصدر الكسف فالكسف الشيء المقطوع كما تقول في الطحن والطبخ السقي ويؤكد هذا قوله وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مّنَ السَّمَاء سَاقِطاً ( الطور 44 ) وثالثها قال الزجاج من قرأ كسفاً كأنه قال أو يسقطها طبقاً علينا واشتقاقه من كسفت الشيء إذا غطيته وأما فتح السين فهو جمع كسفة مثل قطعة وقطع وسدرة وسدر وهو نصب على الحال في القراءتين جميعاً كأنه قيل أو تسقط السماء علينا مقطعة
المسألة الثانية قوله كَمَا زَعَمْتَ فيه وجوه الأول قال عكرمة كما زعمت يا محمد أنك نبي فأسقط السماء علينا والثاني قال آخرون كما زعمت أن ربك إن شاء فعل الثالث يمكن أن يكون المراد ما ذكره الله تعالى في هذه السورة في قوله أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ( الإسراء 68 ) فقيل اجعل السماء قطعاً متفرقة كالحاصب وأسقطها علينا ورابعها قولهم أَوْ تَأْتِى َ بِاللَّهِ وَالْمَلَئِكَة ِ قَبِيلاً وفي لفظ القبيل وجوه الأول القبيل بمعنى المقابل كالعشير بمعنى المعاشر وهذا القول منهم يدل على جهلهم حيث لم يعلموا أنه لا يجوز عليه المقابلة ويقرب منه قوله وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَى ْء قُبُلاً ( الأنعام 111 ) والقول الثاني ما قاله ابن عباس يريد فوجاً بعد فوج قال الليث وكل جند من الجن والإنس قبيل وذكرنا ذلك في قوله إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ القول الثالث إن قوله قبيلاً معناه ها هنا ضامناً وكفيلاً قال الزجاج يقال قبلت به أقبل كقولك كفلت به أكفل وعلى

هذا القول فهو واحد أريد به الجمع كقوله تعالى وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً ( النساء 69 ) والقول الرابع قال أبو علي معناه المعاينة والدليل عليه قوله تعالى لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَئِكَة ُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا ( الفرقان 21 ) وخامسها قولهم أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مّن زُخْرُفٍ قال مجاهد كنا لا ندري ما الزخرف حتى رأيت في قراءة عبد الله أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مّن ذَهَبَ قال الزجاج الزخرف الزينة يدل عليه قوله تعالى حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الاْرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ ( يونس 24 ) أي أخذت كمال زينتها ولا شيء في تحسين البيت وتزيينه كالذهب وسادسها قولهم أَوْ تَرْقَى فِى السَّمَاء قال الفراء يقال رقيت وأنا أرقى رقي ورقيا وأنشد أنت الذي كلفتني رقي الدرج
على الكلال والمشيب والعرج
وقوله في السماء أي في معارج السماء فحذف المضاف يقال رقي السلم ورقي الدرجة ثم قالوا وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيّكَ أي لن نؤمن لأجل رقيك حَتَّى تُنَزّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا مّنَ السَّمَاء فيه تصديقك قال عبد الله بن أمية لَن نُّؤْمِنَ حتى نصنع على السماء سلماً ثم ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها ثم تأتي معك بصك منشور معه أربعة من الملائكة يشهدون لك أن الأمر كما تقول ولما حكى الله تعالى عن الكفار اقتراح هذه المعجزات قال لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) قُلْ سُبْحَانَ رَبّى هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً وفيه مباحث
المبحث الأول أنه تعالى حكى من قول الكفار قولهم لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الاْرْضِ يَنْبُوعًا ( الإسراء 90 ) إلى قوله قُلْ سُبْحَانَ رَبّى وكل ذلك كلام القوم وإنا لا نجد بين تلك الكلمات وبين سائر آيات القرآن تفاوتاً في النظم فصح بهذا صحة ما قاله الكفار لو نشاء لقلنا مثل هذا والجواب أن هذا القرآن قليل لا يظهر فيه التفاوت بين مراتب الفصاحة والبلاغة فزال هذا السؤال
البحث الثاني هذه الآيات من أدل الدلائل على أن المجيء والذهاب على الله محال لأن كلمة سبحان للتنزيه عما لا ينبغي وقوله سبحان ربي تنزيه لله تعالى عن شيء لا يليق به أو نسب إليه مما تقدم ذكره وليس فيما تقدم ذكره شيء لا يليق بالله إلا قولهم أو تأتي بالله فدل هذا على أن قوله سُبْحَانَ رَبّى تنزيه لله عن الإتيان والمجيء وذلك يدل على فساد قول المشبهة في أن الله تعالى يجيء ويذهب فإن قالوا لم لا يجوز أن يكون المراد تنزيه الله تعالى عن أن يتحكم عليه المتحكمون في اقتراح الأشياء قلنا القوم لم يتحكموا على الله وإنما قالوا للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إن كنت نبياً صادقاً فاطلب من الله أن يشرفك بهذه المعجزات فالقوم تحكموا على الرسول وما تحكموا على الله فلا يليق حمل قوله سُبْحَانَ رَبّى على هذا المعنى فوجب حمله على قولهم أو تأتي بالله
البحث الثالث تقرير هذا الجواب أن يقال إما أن يكون مرادكم من هذا الاقتراح أنكم طلبتم الإتيان من عند نفسي بهذه الأشياء أو طلبتم مني أن أطلب من الله تعالى إظهارها على يدي لتدل على كوني رسولاً حقاً من عند الله والأول باطل لأني بشر والبشر لا قدرة له على هذه الأشياء والثاني أيضاً باطل لأني قد أتيتكم بمعجزة واحدة وهي القرآن والدلالة على كونها معجزة فطلب هذه المعجزات طلب لما لا حاجة إليه ولا ضرورة فكأن طلبها يجري مجرى التعنت والتحكم وأنا عبد مأمور ليس لي أن أتحكم على الله فسقط هذا السؤال فثبت أن قوله قُلْ سُبْحَانَ رَبّى هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً جواب كاف في هذا الباب وحاصل الكلام أنه سبحانه بين بقوله سُبْحَانَ رَبّى هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً كونهم على الضلال في الإلهيات

وفي النبوات أما في الإلهيات فيدل على ضلالهم قوله سبحان ربي أي سبحانه عن أن يكون له إتيان ومجيء وذهاب وأما في النبوات فيدل على ضلالهم قوله هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً وتقريره ما ذكرناه
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَّسُولاً قُل لَوْ كَانَ فِى الأرض مَلَائِكَة ٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَآءِ مَلَكًا رَّسُولاً قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا
اعلم أنه تعالى لما حكى شبهة القوم في اقتراح المعجزات الزائدة وأجاب عنها حكى عنهم شبهة أخرى وهي أن القوم استبعدوا أن يبعث الله إلى الخلق رسولاً من البشر بل اعتقدوا أن الله تعالى لو أرسل رسولاً إلى الخلق لوجب أن يكون ذلك الرسول من الملائكة فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة من وجوه الأول قوله وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى وتقرير هذا الجواب أن بتقدير أن يبعث الله ملكاً رسولاً إلى الخلق فالخلق إنما يؤمنون بكونه رسولاً من عند الله لأجل قيام المعجز الدال على صدقه وذلك المعجز هو الذي يهديهم إلى معرفة ذلك الملك في إدعاء رسالة الله تعالى فالمراد من قوله تعالى إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى هو المعجز فقط فهذا المعجز سواء ظهر على يد الملك أو على يد البشر وجب الإقرار برسالته فثبت أن يكون قولهم بأن الرسول لا بد وأن يكون من الملائكة تحكماً فاسداً وتعنتاً باطلاً الوجه الثاني من الأجوبة التي ذكرها الله في هذه الآية عن هذه الشبهة هو أن أهل الأرض لو كانوا ملائكة لوجب أن يكون رسولهم من الملائكة لأن الجنس إلى الجنس أميل أما لو كان أهل الأرض من البشر لوجب أن يكون رسولهم من البشر وهو المراد من قوله لَوْ كَانَ فِى الاْرْضِ مَلَائِكَة ٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً الوجه الثالث من الأجوبة المذكورة في هذه الآية قوله قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وتقريره أن الله تعالى لما أظهر المعجزة على وفق دعواي كان ذلك شهادة من الله تعالى على كوني صادقاً ومن شهد الله على صدقه فهو صادق فبعد ذلك قول القائل بأن الرسول يجب أن يكون ملكاً لا إنساناً تحكم فاسد لا يلتفت إليه ولما ذكر الله تعالى هذه الأجوبة الثلاثة أردفها بما يجري مجرى التهديد والوعيد فقال إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا يعني يعلم ظواهرهم وبواطنهم ويعلم من قلوبهم أنهم لا يذكرون هذه الشبهات إلا لمحض الحسد وحب الرياسة والاستنكاف من الانقياد للحق
وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِأايَاتِنَا وَقَالُواْ أَءِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا

اعلم أنه تعالى لما أجاب عن شبهات القوم في إنكار النبوة وأردفها بالوعيد الإجمالي وهو قوله إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ذكر بعده الوعيد الشديد على سبيل التفصيل أما قوله مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء مِن دُونِهِ فالمقصود تسلية الرسول وهو أن الذين سبق لهم حكم الله بالإيمان والهداية وجب أن يصيروا مؤمنين ومن سبق لهم حكم الله بالضلال والجهل استحال أن ينقلبوا عن ذلك الضلال واستحال أن يوجد من يصرفهم عن ذلك الضلال واحتج أصحابنا بهذه الآية على صحة مذهبهم في الهدى والضلال والمعتزلة حملوا هذا الإضلال تارة على الإضلال عن طريق الجنة وتارة على منع الألطاف وتارة على التخلية وعدم التعرض له بالمنع وهذه المباحث قد ذكرناها مراراً فلا فائدة في الإعادة أما قوله تعالى وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمّا فإن قيل كيف يمكنهم المشي على وجوههم قلنا الجواب من وجهين الأول إنهم يسحبون على وجوههم قال تعالى يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ( القمر 48 ) الثاني روى أبو هريرة قيل يا رسول الله كيف يمشون على وجوههم قال إن الذي يمشيهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم قال حكماء الإسلام الكفار أرواحهم شديدة التعلق بالدنيا ولذاتها وليس لها تعلق بعالم الأبرار وحضرة الإله سبحانه وتعالى فلما كانت وجوه قلوبهم وأرواحهم متوجهة إلى الدنيا لا جرم كان حشرهم على وجوههم وأما قوله عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمّا فاعلم أن واحداً قال لابن عباس رضي الله عنه أليس أنه تعالى يقول وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ ( الكهف 53 ) وقال سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً ( الفرقان 12 ) وقال دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً ( الفرقان 13 ) وقال يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا ( النحل 111 ) وقال حكاية عن الكفار وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ( الأنعام 23 ) فثبت بهذه الآيات أنهم يرون ويسمعون ويتكلمون فكيف قال ههنا عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمّا أجاب ابن عباس وتلامذته عنه من وجوه الأول قال ابن عباس عمياً لا يرون شيئاً يسرهم صماً لا يسمعون شيئاً يسرهم بكماً لا ينطقون بحجة الثاني قال في رواية عطاء عمياً عن النظر إلى ما جعله الله لأوليائه بكماً عن مخاطبة الله ومخاطبة الملائكة المقربين صماً عن ثناء الله تعالى على أوليائه الثالث قال مقاتل إنه حين يقال لهم اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ ( المؤمنون 108 ) يصيرون عمياً بكماً صماً أما قبل ذلك فهم يرون ويسمعون وينطقون الرابع أنهم يكونون رائين سامعين ناطقين في الموقف ولولا ذلك لما قدروا على أن يطالعوا كتبهم ولا أن يسمعوا إلزام حجة الله عليهم إلا أنهم إذا أخذوا يذهبون من الموقف إلى النار جعلهم الله عمياً وبكماً وصماً والجواب أن الآيات السابقة تدل على أنهم في النار يبصرون ويسمعون ويصيحون أما قوله تعالى مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ فظاهر وأما قوله كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ففيه مباحث
البحث الأول قال الواحدي الخبو سكون النار يقال خبت النار تخبوا إذا سكن لهبها ومعنى خبت سكنت وطفئت يقال في مصدره الخبو وأخبأها المخبىء إخباء أي أخمدها ثم قال زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا قال ابن قتيبة زدناهم سعيراً أي تلهباً
البحث الثاني لقائل أن يقول إنه تعالى لا يخفف عنهم العذاب وقوله كُلَّمَا خَبَتْ يدل على أن العذاب يخف في ذلك الوقت قلنا كلما خبت يقتضي سكون لهب النار أما لا يدل هذا على أنه يخف

العذاب في ذلك الوقت
البحث الثالث قوله كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ظاهره يقتضي وجوب أن تكون الحالة الثانية أزيد من الحالة الأولى وإذا كان كذلك كانت الحالة الأولى بالنسبة إلى الحالة الثانية تخفيفاً والجواب الزيادة حصلت في الحالة الأولى أخف من حصولها في الحالة الثانية فكان العذاب شديداً ويحتمل أن يقال لما عظم العذاب صار التفاوت الحاصل في أوقاته غير مشعور به نعوذ بالله منه ولما ذكر تعالى أنواع هذا الوعيد قال ذَلِكَ جَزَاؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ والباء في قوله بأنهم كفروا باء السببية وهو حجة لمن يقول العمل علة الجزاء والله أعلم
أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إَلاَّ كُفُورًا
قوله تعالى وَقَالُواْ وَقَالُواْ أَءذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالاْرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إَلاَّ كُفُورًا
اعلم أنه تعالى لما أجاب عن شبهات منكري النبوة عاد إلى حكاية شبهة منكري الحشر والنشر ليجيب عنها وتلك الشبهة هي أن الإنسان بعد أن يصير رفاتاً ورميماً يبعد أن يعود هو بعينه وأجاب الله تعالى عنه بأن من قدر على خلق السموات والأرض لم يبعد أن يقدر على إعادتهم بأعيانهم وفي قوله قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ قولان الأول المعنى قادر على أن يخلقهم ثانياً فعبر عن خلقهم ثانياً بلفظ المثل كما يقول المتكلمون أن الإعادة مثل الابتداء القول الثاني المراد قادر على أن يخلق عبيداً آخرين يوحدونه ويقرون بكمال حكمته وقدرته ويتركون ذكر هذه الشبهات الفاسدة وعلى هذا التفسير فهو كقوله تعالى وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ( إبراهيم 19 ) وقوله وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ( التوبة 39 ) قال الواحدي والقول هو الأول لأنه أشبه بما قبله ولما بين الله تعالى بالدليل المذكور أن البعث والقيامة أمر ممكن الوجود في نفسه أردفه بأن لوقوعه ودخوله في الوجود وقتاً معلوماً عند الله وهو قوله وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ ( الإسراء 99 ) ثم قال تعالى فَأَبَى الظَّالِمُونَ إَلاَّ كُفُورًا أي بعد هذه الدلائل الظاهرة أبوا إلا الكفر والنفور والجحود
قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَة ِ رَبِّى إِذًا لأمْسَكْتُمْ خَشْيَة َ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُورًا
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أن الكفار لما قالوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الاْرْضِ يَنْبُوعًا ( الإسراء 90 ) طلبوا

إجراء الأنهار والعيون في بلدتهم لتكثر أموالهم وتتسع عليهم معيشتهم فبين الله تعالى لهم أنهم لو ملكوا خزائن رحمة الله لبقوا على بخلهم وشحهم ولما أقدموا على إيصال النفع إلى أحد وعلى هذا التقدير فلا فائدة في إسعافهم بهذا المطلوب الذي التمسوه فهذا هو الكلام في وجه النظم والله أعلم
المسألة الثانية قوله لَّوْ أَنتُمْ فيه بحث يتعلق بالنحو وبحث آخر يتعلق بعلم البيان أما البحث النحوي فهو أن كلمة لَوْ من شأنها أن تختص بالفعل لأن كلمة لَوْ تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره والاسم يدل على الذوات والفعل هو الذي يدل على الآثار والأحوال والمنتفى هو الأحوال والآثار لا الذوات فثبت أن كلمة لَوْ مختصة بالأفعال وأنشدوا قول المتلمس لو غير أخوالي أرادوا نقيصتي
نصبت لهم فوق العرانين مأتما
والمعنى لو أراد غير أخوالي وأما البحث المتعلق بعلم البيان فهو أن التقديم بالذكر يدل على التخصيص فقوله أَنتُمْ تَمْلِكُونَ دلالة على أنهم هم المختصون بهذه الحالة الخسيسة والشح الكامل
المسألة الثالثة خزائن فضل الله ورحمته غير متناهية فكان المعنى أنكم لو ملكتم من الخير والنعم خزائن لا نهاية لها لبقيتم على الشح وهذا مبالغة عظيمة في وصفهم بهذا الشيء ثم قال تعالى وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُورًا أي بخيلاً يقال قتر يقتر قتراً وأقتر إقتاراً وقتر تقتيراً إذا قصر في الانفاق فإن قيل فقد دخل في الإنسان الجواد الكريم فالجواب من وجوه الأول أن الأصل في الإنسان البخل لأنه خلق محتاجاً والمحتاج لا بد أن يحب ما به يدفع الحاجة وأن يمسكه لنفسه إلا أنه قد يجود به لأسباب من خارج فثبت أن الأصل في الإنسان البخل الثاني أن الإنسان إنما يبذل لطلب الثناء والحمد وللخروج عن عهدة الواجب فهو في الحقيقة ما أنفق إلا ليأخذ العوض فهو في الحقيقة بخيل الثالث إن المراد بهذا الإنسان المعهود السابق وَهُمْ الَّذِينَ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الاْرْضِ يَنْبُوعًا ( الإسراء 90 )
وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ ءَايَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِى إِسْرَاءِيلَ إِذْ جَآءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّى لأَظُنُّكَ يامُوسَى مَسْحُورًا قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَاؤُلا ءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ والأرض بَصَآئِرَ وَإِنِّى لأَظُنُّكَ يافِرْعَونُ مَثْبُورًا فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الأرض فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعًا وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِى إِسْرَاءِيلَ اسْكُنُواْ الأرض فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الاٌّ خِرَة ِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا
في الآية مسائل

المسألة الأولى اعلم أن المقصود من هذا الكلام أيضاً الجواب عن قولهم لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تأتينا بهذه المعجزات القاهرة فقال تعالى أَنَاْ مُوسَى الْكِتَابَ معجزات مساوية لهذه الأشياء التي طلبتموها بل أقوى منها وأعظم فلو حصل في علمنا أن جعلها في زمانكم مصلحة لفعلناها كما فعلنا في حق موسى فدل هذا على إنا إنما لم نفعلها في زمانكم لعلمنا أنه لا مصلحة في فعلها
المسألة الثانية اعلم أنه تعالى ذكر في القرآن أشياء كثيرة من معجزات موسى عليه الصلاة والسلام أحدها أن الله تعالى أزال العقدة من لسانه قيل في التفسير ذهبت العجمة وصار فصيحاً وثانيها إنقلاب العصا حية وثالثها تلقف الحية حبالهم وعصيهم مع كثرتها ورابعها اليد البيضاء وخمسة أخر وهي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والعاشر شق البحر وهو قوله وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ ( البقرة 50 ) والحادي عشر الحجر وهو قوله أَنِ اضْرِب بّعَصَاكَ الْحَجَرَ ( الأعراف 160 ) الثاني عشر إظلال الجبل وهو قوله تعالى وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّة ٌ والثالث عشر إنزال المن والسلوى عليه وعلى قومه والرابع عشر والخامس عشر قوله تعالى وَلَقَدْ أَخَذْنَا ءالَ فِرْعَوْنَ بِالسّنِينَ وَنَقْصٍ مّن الثَّمَرَاتِ ( الأعراف 130 ) والسادس عشر الطمس على أموالهم من النحل والدقيق والأطعمة والدراهم والدنانير روى ابن عمر بن عبد العزيز سأل محمد بن كعب عن قوله تِسْعَ ءايَاتٍ بَيّنَاتٍ فذكر محمد بن كعب في مسألة التسع حل عقدة اللسان والطمس فقال عمر بن عبد العزيز هكذا يجب أن يكون الفقيه ثم قال يا غلام اخرج ذلك الجراب فأخرجه فنفضه فإذا فيه بيض مكسور نصفين وجوز مكسور وفول وحمص وعدس كلها حجارة إذا عرفت هذا فنقول إنه تعالى ذكر في القرآن هذه المعجزات الستة عشر لموسى عليه الصلاة والسلام وقال في هذه الآية وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ ءايَاتٍ بَيّنَاتٍ وتخصيص التسعة بالذكر لا يقدح فيه ثبوت الزائد عليه لأنا بينا في أصول الفقه أن تخصيص العدد بالذكر لا يدل على نفي الزائد بل نقول إنما يتمسك في هذه المسألة بهذه الآية ثم نقول أما هذه التسعة فقد اتفقوا على سبعة منها وهي العصا واليد والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم وبقي الاثنان ولكل واحد من المفسرين قول آخر فيهما ولما لم تكن تلك الأحوال مستندة إلى حجة ظنية فضلاً عن حجة يقينية لا جرم تركت تلك الروايات وفي تفسير قوله تعالى تِسْعَ ءايَاتٍ بَيّنَاتٍ أقوال أجودها ما روى صفوان بن عسال أنه قال إن يهودياً قال لصاحبه إذهب بنا إلى هذا النبي نسأله عن تسع آيات فذهبا إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وسألاه عنها فاقل هن أن لا تشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا ولا تسحروا ولا تأكلوا الربا ولا تقذفوا المحصنة ولا تولوا الفرار يوم الزحف وعليكم خاصة اليهود أن تعدلوا في السبت فقام اليهوديان فقبلا يديه ورجليه وقالوا نشهد إنك نبي ولولا نخاف القتل وإلا اتبعناك
المسألة الثالثة قوله فَاسْأَلْ بَنِى إِسْراءيلَ إِذْ جَاءهُمْ فيه مباحث
البحث الأول فيه وجوه الوجه الأول أنه اعتراض دخل في الكلام والتقدير وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ ءايَاتٍ بَيّنَاتٍ إذ جاء بني إسرائيل فاسألهم وعلى هذا التقدير فليس المطلوب من سؤال بني إسرائيل أن يستفيد هذا العلم منهم بل المقصود أن يظهر لعامة اليهود وعلمائهم صدق ما ذكره الرسول فيكون هذا السؤال سؤال استشهاد والوجه الثاني أن يكون قوله فاسأل بني إسرائيل أي سلهم عن فرعون وقل له

أرسل معي بني إسرائيل والوجه الثالث سل بني إسرائيل أي سلهم أن يوافقوك والتمس منهم الإيمان الصالح وعلى هذا التأويل فالتقدير فقلنا له سلهم أن يعاضدوك وتكون قلوبهم وأيديهم معك
البحث الثاني أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بأن يسأل بني إسرائيل معناه الذين كانوا موجودين في زمان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والذين جاءهم موسى عليه الصلاة والسلام هم الذين كانوا في زمانه إلا أن الذين كانوا في زمان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لما كانوا أولاد أولئك الذين كانوا في زمان موسى حسنت هذه الكناية ثم أخبر تعالى أن فرعون قال لموسى إِنّى لاظُنُّكَ يامُوسَى مُوسَى مَّسْحُورًا ( الإسراء 45 ) وفي لفظ المسحور وجوه الأول قال الفراء إنه بمعنى الساحر كالمشؤوم والميمون وذكرنا هذا في قوله حِجَابًا مَّسْتُورًا أنه مفعول من السحر أي أن الناس سحروك وخبلوك فتقول هذه الكلمات لهذا السبب الثالث قال محمد بن جرير الطبري معناه أعطيت علم السحر فهذه العجائب التي تأتي بها من ذلك السحر ثم أجابه موسى عليه الصلاة والسلام بقوله لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وفيه مباحث
البحث الأول قرأ الكسائي علمت بضم التاء أي علمت أنها من علم الله فإن علمت وأقررت وإلا هلكت والباقون بالفتح وضم التاء قراءة علي وفتحها قراءة ابن عباس وكان علي رضي الله عنه يقول والله ما علم عدو الله ولكن موسى هو الذي علم فبلغ ذلك ابن عباس رضي الله عنهما فاحتج بقوله وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ( النمل 14 ) على أن فرعون وقومه كانوا قد عرفوا صحة أمر موسى عليه السلام قال الزجاج الأجود في القراءة الفتح لأن علم فرعون بأنها آيات نازلة من عند الله أوكد في الحجة فاحتجاج موسى عليه الصلاة والسلام على فرعون بعلم فرعون أوكد من الاحتجاج بعلم نفسه وأجاب الناصرون لقراءة علي عليه السلام عن دليل ابن عباس فقالوا قوله وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ يدل على أنهم استيقنوا شيئاً ما فأما أنهم استيقنوا كون هذه الآيات نازلة من عند الله فليس في الآية ما يدل عليه وأجابوا عن الوجه الثاني بأن فرعون قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ( الشعراء 27 ) قال موسى لَقَدْ عَلِمْتَ فكأنه نفي ذلك وقال لقد علمت صحة ما أتيت به علماً صحيحاً علم العقلاء واعلم أن هذه الآيات من عند الله ولا تشك في ذلك بسبب سفاهتك
البحث الثاني التقدير ما أنزل هؤلاء الآيات ونظيره قوله والعيش بعد أولئك الأقوام
وقوله بصائر أي حججاً بينة كأنها بصائر العقول وتحقيق الكلام أن المعجزة فعل خارق للعادة فعله فاعله لغرض تصديق المدعى ومعجزات موسى عليه الصلاة والسلام كانت موصوفة بهذين الوصفين لأنها كانت أفعالاً خارقة للعادة وصرائح العقول تشهد بأن قلب العصا حية معجزة عظيمة لا يقدر عليها إلا الله ثم إن تلك الحية تلقفت حبال السحرة وعصيهم على كثرتها ثم عادت عصا كما كانت فأصناف تلك الأفعال لا يقدر عليها أحد إلا الله وكذا القول في فرق البحر وإظلال الجبل فثبت أن تلك الأشياء ما أنزلها إلا رب السموات الصفة الثانية أنه تعالى إنما خلقها لتدل على صدق موسى في دعوة النبوة وهذا هو المراد من قوله مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ حال كونها بصائر أي دالة على صدق موسى في دعواه وهذه الدقائق لا يمكن فهمها من القرآن إلا بعد إتقان علم الأصول وأقول يبعد أن يصير غير علم الأصول العقلي قاهراً في تفسير كلام الله ثم حكى تعالى أن موسى قال لفرعون إِنّى لاظُنُّكَ يامُوسَى فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا ( الإسراء 103 ) واعلم أن فرعون

قال لموسى وَإِنّى لاظُنُّكَ يافِرْعَونُ مُوسَى مَّسْحُورًا فعارضه موسى وقال له وَإِنّى لاظُنُّكَ يافِرْعَونُ فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا قال الفراء المثبور الملعون المحبوس عن الخير والعرب تقول ما ثبرك عن هذا أي ما منعك منه وما صرفك وقال أبو زيد يقال ثبرت فلاناً عن الشيء أثبره أي رددته عنه وقال مجاهد وقتادة هالكاً وقال الزجاج يقال ثبر الرجل فهو مثبور إذا هلك والثبور الهلاك ومن معروف الكلام فلان يدعو بالويل والثبور عند مصيبة تناله وقال تعالى دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً لاَّ تَدْعُواْ الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُواْ ثُبُوراً كَثِيراً ( الفرقان 13 14 ) واعلم أن فرعون لما وصف موسى بكونه مسحوراً أجابه موسى بأنك مثبور يعني هذه الآيات ظاهرة وهذه المعجزات قاهرة ولا يرتاب العاقل في أنها من عند الله وفي أنه تعالى إنما أظهرها لأجل تصديقي وأنت تنكرها فلا يحملك على هذا الإنكار إلا الحسد والعناد والغي والجهل وحب الدنيا ومن كان كذلك كانت عاقبته الدمار والثبور ثم قال تعالى فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مّنَ الاْرْضِ يعني أراد فرعون أن يخرجهم يعني موسى وقومه بني إسرائيل ومعنى تفسير الاستفزاز تقدم في هذه السورة من الأرض يعني أرض مصر قال الزجاج لا يبعد أن يكون المراد من استفزازهم إخراجهم منهم بالقتل أو بالتنحية ثم قال فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعًا المعنى ما ذكره الله تعالى في قوله وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيّىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ ( فاطر 43 ) أراد فرعون أن يخرج موسى من أرض مصر لتخلص له تلك البلاد والله تعالى أهلك فرعون وجعل ملك مصر خالصة لموسى ولقومه وقال لِبَنِى إِسْراءيلَ اسْكُنُواْ الاْرْضَ خالصة لكم خالية من عدوكم قال تعالى فَإِذَا جَاء وَعْدُ الاْخِرَة ِ يريد القيامة جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا من ها هنا وها هنا واللفيف الجمع العظيم من أخلاط شتى من الشريف والدنيء والمطيع والعاصي والقوي والضعيف وكل شيء خلطته بشيء آخر فقد لففته ومنه قيل لففت الجيوش إذا ضربت بعضها ببعض وقوله التفت الزحوف ومنه التفت الساق بالساق والمعنى جئنا بكم من قبوركم إلى المحشر أخلاطاً يعني جميع الخلق المسلم والكافر والبر والفاجر
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَقُرْءانًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً قُلْ ءَامِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلاٌّ ذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً
اعلم أنه تعالى لما بين أن القرآن معجز قاهر دال على الصدق في قوله قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ

( الإسراء 88 ) ثم حكى عن الكفار أنهم لم يكتفوا بهذا المعجز بل طلبوا سائر المعجزات ثم أجاب الله بأنه لا حاجة إلى إظهار سائر المعجزات وبين ذلك بوجوه كثيرة منها أن قوم موسى عليه الصلاة والسلام آتاهم الله تسع آيات بينات فلما جحدوا بها أهلكهم الله فكذا ها هنا ثم إنه تعالى لو آتى قوم محمد تلك المعجزات التي اقترحوها ثم كفروا بها وجب إنزال عذاب الاستئصال بهم وذلك غير جائز في الحكمة لعلمه تعالى أن منهم من يؤمن والذي لا يؤمن فسيظهر من نسله من يصير مؤمناً ولما تم هذا الجواب عاد إلى تعظيم حال القرآن وجلالة درجته فقال وَبِالْحَقّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقّ نَزَلَ والمعنى أنه ما أردنا بإنزاله إلا تقرير الحق والصدق وكما أردنا هذا المعنى فكذلك وقع هذا المعنى وحصل وفي هذه الآية فوائد الفائدة الأولى أن الحق هو الثابت الذي لا يزول كما أن الباطل هو الزائل الذاهب وهذا الكتاب الكريم مشتمل على أشياء لا تزول وذلك لأنه مشتمل على دلائل التوحيد وصفات الجلال والإكرام وعلى تعظيم الملائكة وتقرير نبوة الأنبياء وإثبات الحشر والنشر والقيامة وكل ذلك مما لا يقبل الزوال ومشتمل أيضاً على شريعة باقية لا يتطرق إليها النسخ والنقض والتحريف وأيضاً فهذا الكتاب كتاب تكفل الله بحفظه عن تحريف الزائغين وتبديل الجاهلين كما قال إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ( الحجر 9 ) فكان هذا الكتاب حقاً من كل الوجوه الفائدة الثانية أن قوله وَبِالْحَقّ أَنْزَلْنَاهُ يفيد الحصر ومعناه أنه ما أنزل لمقصود آخر سوى إظهار الحق وقالت المعتزلة وهذا يدل على أنه ما قصد بإنزاله إضلال أحد من الخلق ولا إغواؤه ولا منعه عن دين الله الفائدة الثالثة قوله وَبِالْحَقّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقّ نَزَلَ يدل على أن الإنزال غير النزول فوجب أن يكون الخلق غير المخلوق وأن يكون التكوين غير المكون على ما ذهب إليه قوم الفائدة الرابعة قال أبو علي الفارسي الباء في قوله وَبِالْحَقّ أَنْزَلْنَاهُ بمعنى مع كما تقول نزل بعدته وخرج بسلاحه والمعنى أنزلنا القرآن مع الحق وقوله وَبِالْحَقّ نَزَلَ فيه احتمالان أحدهما أن يكون التقدير نزل بالحق كما تقول نزلت بزيد وعلى هذا التقدير الحق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لأن القرآن نزل به أي عليه الثاني أن تكون بمعنى مع كما قلنا في قوله وَبِالْحَقّ أَنْزَلْنَاهُ ثم قال تعالى وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشّرًا وَنَذِيرًا والمقصود أن هؤلاء الجهال الذين يقترحون عليك هذه المعجزات ويتمردون عن قبول دينك لا شيء عليك من كفرهم فإني ما أرسلتك إلا مبشراً للمطيعين ونذيراً للجاحدين فإن قبلوا الدين الحق انتفعوا به وإلا فليس عليك من كفرهم شيء
ثم قال وَقُرْءانًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وفيه مباحث
البحث الأول أن القوم قالوا هب إن هذا القرآن معجز إلا أنه بتقدير أن يكون الأمر كذلك فكان من الواجب أن ينزله الله عليك دفعة واحدة ليظهر فيه وجه الإعجاز فجعلوا إتيان الرسول بهذا القرآن متفرقاً شبهة في أنه يتفكر في فصل فصل ويقرأه على الناس فأجاب الله عنه بأنه إنما فرقه ليكون حفظه أسهل ولتكون الإحاطة والوقوف على دقائقه وحقائقه أسهل
البحث الثاني قال سعيد بن جيبر نزل القرآن كله ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء السفلى ثم فصل في السنين التي نزل فيها قال قتادة كان بين أوله وآخره عشرون سنة والمعنى قطعناه آية آية وسورة سورة ولم ننزله جملة لتقرأه على الناس على مكث بالفتح والضم على مهل وتؤدة أي لا على فورة قال الفراء يقال مكث ومكث يمكث والفتح قراءة عاصم في قوله فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ ( النمل 22 )

البحث الثالثة الاختيار عند الأئمة فرقناه بالتخفيف وفسره أبو عمرو بيناه قال أبو عبيد التخفيف أعجب إلي لأن تفسيره بيناه ومن قرأ بالتشديد لم يكن له معنى إلا أنه أنزل متفرقاً فالفرق يتضمن التبيين ويؤكده ما روى ثعلب عن ابن الأعرابي أنه قال فرقت أفرق بين الكلام وفرقت بين الأجسام ويدل عليه أيضاً قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ) ولم يقل يفترقا والتفرق مطاوع التفريق والافتراق مطاوع الفرق ثم قال وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً أي على الحد المذكور والصفة المذكورة ثم قال قُلْ ءامِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ يخاطب الذين اقترحوا تلك المعجزات العظيمة على وجه التهديد والإنكار أي أنه تعالى أوضح البينات والدلائل وأزاح الأعذار فاختاروا ما تريدون ثم قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ أي من قبل نزول القرآن قال مجاهد هم ناس من أهل الكتاب حين سمعوا ما أنزل على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) خروا سجداً منهم زيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وعبد الله بن سلام ثم قال يَخِرُّونَ لِلاْذْقَانِ سُجَّدًا وفيه أقوال القول الأول قال الزجاج الذقن مجمع اللحيين وكلما يبتدىء الإنسان بالخرور إلى السجود فأقرب الأشياء من الجبهة إلى الأرض الذقن والقول الثاني أن الأذقان كناية عن اللحى والإنسان إذا بالغ عند السجود في الخضوع والخشوع ربما مسح لحيته على التراب فإن اللحية يبالغ في تنظيفها فإذا عفرها الإنسان بالتراب فقد أتى بغاية التعظيم والقول الثالث أن الإنسان إذا استولى عليه خوف الله تعالى فربما سقط على الأرض في معرض السجود كالمغشي عليه ومتى كان الأمر كذلك كان خروره على الذقن في موضع السجود فقوله يَخِرُّونَ لِلاْذْقَانِ كناية عن غاية ولهه وخوفه وخشيته ثم بقي في الآية سؤالان السؤال الأول لم قال يَخِرُّونَ لِلاْذْقَانِ سُجَّدًا ولم يقل يسجدون والجواب المقصود من ذكر هذا اللفظ مسارعتهم إلى ذلك حتى أنهم يسقطون السؤال الثاني لم قال يَخِرُّونَ لِلاْذْقَانِ ولم يقل على الأذقان والجواب العرب تقول إذا خر الرجل فوقع على وجهه خر للذقن والله أعلم ثم قال تعالى وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبّنَا لَمَفْعُولاً والمعنى أنهم يقولون في سجودهم سُبْحَانَ رَبّنَا أي ينزهونه ويعظمونه إِن كَانَ وَعْدُ رَبّنَا لَمَفْعُولاً أي بإنزال القرآن وبعث محمد وهذا يدل على أن هؤلاء كانوا من أهل الكتاب لأن الوعد ببعثة محمد سبق في كتابهم فهم كانوا ينتظرون إنجاز ذلك الوعد ثم قال وَيَخِرُّونَ لِلاْذْقَانِ يَبْكُونَ والفائدة في هذا التكرير اختلاف الحالين وهما خرورهم للسجود وفي حال كونهم باكين عند استماع القرآن ويدل عليه قوله وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ويجوز أن يكون تكرار القول دلالة على تكرار الفعل منهم وقوله يَبْكُونَ معناه الحال وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا أي تواضعاً واعلم أن المقصود من هذه الآية تقرير تحقيرهم والازدراء بشأنهم وعدم الاكتراث بهم وبإيمانهم وامتناعهم منه وأنهم وإن لم يؤمنوا به فقد آمن به من هو خير منهم
قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الاٌّ سْمَآءَ الْحُسْنَى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذالِكَ سَبِيلاً وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِى الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِى ٌّ مَّنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا

قال صاحب ( الكشاف ) المراد بهما الاسم لا المسمى والواو للتخيير بمعنى ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أي سموا بهذا الاسم أو بهذا أو اذكروا إما هذا وإما هذا والتنوين في أَيّا عوض عن المضاف إليه و مَا صلة للإبهام المؤكد لما في أي والتقدير أي هذين الاسمين سميتم وذكرتم فَلَهُ الاْسْمَاء الْحُسْنَى والضمير في قوله فَلَهُ ليس براجع إلى أحد الإسمين المذكورين ولكن إلى مسماهما وهو ذاته عز وعلا والمعنى أَيّا مَّا تَدْعُواْ فهو حسن فوضع موضعه قوله فَلَهُ الاْسْمَاء الْحُسْنَى لأنه إذا حسنت أسماؤه فقد حسن هذان الإسمان لأنهما منها ومعنى حسن أسماء الله كونها مفيدة لمعاني التحميد والتقديس وقد سبق الاستقصاء في هذا الباب في آخر سورة الأعراف في تفسير قوله وَللَّهِ الاسْمَاء الْحُسْنَى فادعوه بها واحتج الجبائي بهذه الآية فقال لو كان تعالى هو الخالق للظلم والجور لصح أن يقال يا ظالم وحينئذ يبطل ما ثبت في هذه الآية من كون أسمائه بأسرها حسنة والجواب أنا لا نسلم أنه لو كان خالقاً لأفعال العباد لصح وصفه بأنه ظالم وجائر كما أنه لا يلزم من كونه خالقاً للحركة والسكون والسواد والبياض أن يقال يا متحرك ويا ساكن ويا أسود ويا أبيض فإن قالوا فيلزم جواز أن يقال يا خالق الظلم والجور قلنا فيلزمكم أن تقولوا يا خالق العذرات والديدان والخنافس وكما أنكم تقولون أن ذلك حق في نفس الأمر ولكن الأدب أن يقال يا خالق السموات والأرض فكذا قولنا هنا ثم قال تعالى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وفيه مباحث
البحث الأول قوله وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ فيه أقوال الأول روى سعيد بن جبير عن ابن عباس في هذه الآية قال كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يرفع صوته بالقراءة فإذا سمعه المشركون سبوه وسبوا من جاء به فأوحى الله تعالى إليه وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ فيسمع المشركون فيسبوا الله عدواً بغير علم وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا فلا تسمع أصحابك وابتغ بين ذلك سبيلا القول الثاني روى أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) طاف بالليل على دور الصحابة وكان أبو بكر يخفي صوته بالقراءة في صلاته وكان عمر يرفع صوته فلما جاء النهار وجاء أبو بكر وعمر فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لأبي بكر لم تخفي صوتك فقال أناجي ربي وقد علم حاجتي وقال لعمر لم ترفع صوتك فقال أزجر الشيطان وأوقظ الوسنان فأمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أبا بكر أن يرفع صوته قليلاً وعمر أن يخفض صوته قليلاً القول الثالث معناه وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ كلها وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا كلها وابتغ بين ذلك سبيلاً بأن تجهر بصلاة الليل وتخافت بصلاة النهار والقول الرابع أن المراد بالصلاة الدعاء وهذا قول عائشة رضي الله عنها وأبي هريرة ومجاهد قالت عائشة رضي الله عنها هي في الدعاء وروى هذا مرفوعاً أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال في هذه الآية إنما ذلك في الدعاء والمسألة لا ترفع صوتك فتذكر ذنوبك فيسمع ذلك فتعير بها فالجهر بالدعاء منهى عنه والمبالغة في الإسرار غير جائزة والمستحب من ذلك التوسط وهو أن يسمع نفسه كما روي عن ابن مسعود أنه قال لم يخافت من أسمع أذنيه والقول الخامس قال الحسن لا تراه بعلانيتها ولا تسىء بسريتها
البحث الثاني الصلاة عبارة عن مجموع الأفعال والأذكار والجهر والمخافتة من عوارض الصوت

فالمراد ههنا من الصلوات بعض أجزاء ماهية الصلاة وهو الأذكار والقرآن وهو من باب إطلاق اسم الكل لإرادة الجزء
البحث الثالث يقال خفت صوته يخفت خفتاً وخفوتاً إذا ضعف وسكن وصوت خفيت أي خفيض ومنه يقال للرجل إذا مات قد خفت أي انقطع كلامه وخفت الزرع إذا ذبل وخفت الرجل يخافت بقراءته إذا لم يبين قراءته برفع الصوت وقد تخافت القوم إذا تساروا بينهم وأقول ثبت في كتب الأخلاق أن كلا طرفي الأمور ذميم والعدل هو رعاية الوسط ولهذا المعنى مدح الله هذه الأمة بقوله وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا ( البقرة 143 ) وقال في مدح المؤمنين وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً ( الفرقان 67 ) وأمر الله رسوله فقال وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَة ً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ ( الإسراء 29 ) فكذا ههنا نهى عن الطرقين وهو الجهر والمخافتة وأمر بالتوسط بينهما فقال وَابْتَغِ بَيْنَ ذالِكَ سَبِيلاً ومنهم من قال الآية منسوخة بقوله ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَة ً ( الأعراف 55 ) وهو بعيد واعلم أنه تعالى لما أمر أن لا يذكر ولا ينادى إلا بأسمائه الحسنى علمه كيفية التحميد فقال وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِى الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِى ٌّ مَّنَ الذُّلّ فذكر ههنا من صفات التنزيه والجلال وهي السلوب ثلاثة أنواع من الصفات النوع الأول من الصفات أنه لم يتخذ ولداً والسبب فيه وجوه الأول أن الولد هو الشيء المتولد من جزء من أجزاء شيء آخر فكل من له ولد فهو مركب من الأجزاء والمركب محدث والمحدث محتاج لا يقدر على كمال الإنعام فلا يستحق كمال الحمد الثاني أن كل من له ولد فإنه يمسك جميع النعم لولده فإذا لم يكن له ولد أفاض كل تلك النعم على عبيده الثالث أن الولد هو الذي يقوم مقام الوالد بعد انقضائه وفنائه فلو كان له ولد لكان منقضياً ومن كان كذلك لم يقدر على كمال الإنعام في كل الأوقات فوجب أن لا يستحق الحمد على الإطلاق والنوع الثاني من الصفات السلبية قوله وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِى الْمُلْكِ والسبب في اعتبار هذه الصفة أنه لو كان له شريك فحينئذ لا يعرف كونه مستحقاً للحمد والشكر والنوع الثالث قوله وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِى ٌّ مَّنَ الذُّلّ والسبب في اعتبار هذه الصفة أنه لو جاز عليه ولي من الذل لم يجب شكره لتجويز أن غيره حمله على ذلك الإنعام أو منعه منه أما إذا كان منزهاً عن الولد وعن الشريك وكان منزهاً عن أن يكون له ولي يلي أمره كان مستوجباً لأعظم أنواع الحمد ومستحقاً لأجل أقسام الشكر ثم قال تعالى وَكَبّرْهُ تَكْبِيرًا ومعناه أن التحميد يجب أن يكون مقروناً بالتكبير ويحتمل أنواعاً من المعاني أولها تكبيره في ذاته وهو أن يعتقد أنه واجب الوجود لذاته وأنه غني عن كل ما سواه وثانيها تكبيره في صفاته وذلك من ثلاثة أوجه أولها أن يعتقد أن كل ما كان صفة له فهو من صفات الجلال والعز والعظمة والكمال وهو منزه عن كل صفات النقائص وثالثها أن يعتقد أن كل واحد من تلك الصفات متعلق بما لا نهاية له من المعلومات وقدرته متعلقة بما لا نهاية له من المقدورات والممكنات ورابعها أن يعتقد أنه كما تقدست ذاته عن الحدوث وتنزهت عن التغير والزوال والتحول والانتقال فكذلك صفاته أزلية قديمة سرمدية منزهة عن التغير والزوال والتحول والانتقال النوع الثالث من تكبير الله تكبيره في أفعاله وعند هذا تختلف أهل الجبر والقدر فقال أهل السنة إنا نحمد الله ونكبره ونعظمه على أن يجري في سلطانه شيء لا على وفق حكمه وإرادته فالكل واقع بقضاء الله وقدرته ومشيئته وإرادته وقالت المعتزلة إنا نكبر الله ونعظمه عن أن يكون فاعلاً لهذه القبائح والفواحش بل نعتقد أن حكمته تقتضي التنزيه والتقديس عنها وعن إرادتها وسمعت

أن الأستاذ أبا إسحاق الإسفراييني كان جالساً في دار الصاحب بن عباد فدخل القاضي عبد الجبار بن أحمد الهمداني فلما رآه قال سبحان من تنزه عن الفحشاء فقال الأستاذ أبو إسحاق سبحان من لا يجري في ملكه إلا ما يشاء النوع الرابع تكبير الله في أحكامه وهو أن يعتقد أنه ملك مطاع وله الأمر والنهي والرفع والخفض وأنه لا اعتراض لأحد عليه في شيء من أحكامه يعز من يشاء ويذل من يشاء النوع الخامس تكبير الله في أسمائه وهو أن لا يذكر إلا بأسمائه الحسنى ولا يوصف إلا بصفاته المقدسة العالية المنزهة النوع السادس من التكبير هو أن الإنسان بعد أن يبلغ في التكبير والتعظيم والتنزيه والتقديس مقدار عقله وفهمه وخاطره يعترف أن عقله وفهمه لا يفي بمعرفة جلال الله ولسانه لا يفي بشكره وجوارحه وأعضاؤه لا تفي بخدمته فكبر الله عن أن يكون تكبيره وافياً بكنه مجده وعزته وهذا أقصى ما يقدر عليه العبد الضعيف من التكبير والتعظيم ونسأل الله تعالى الرحمة قبل الموت وعند الموت وبعد الموت إنه الكريم الرحيم وبالله العصمة والتوفيق وحسبنا الله ونعم الوكيل

سورة الكهف
مائة وإحدى عشرة آية مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا قَيِّماً لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا
في الآية مسائل
المسألة الأولى أما الكلام في حقائق قولنا الْحَمْدُ للَّهِ فقد سبق والذي أقوله ههنا أن التسبيح أينما جاء فإنما جاء مقدماً على التحميد ألا ترى أنه يقال سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ للَّهِ إذا عرفت هذا فنقول إنه جل جلاله ذكر التسبيح عندما أخبر أنه أسرى بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فقال سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً ( الإسراء 1 ) وذكر التحميد عندما ذكر أنه أنزل الكتاب على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فقال الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وفيه فوائد
الفائدة الأولى أن التسبيح أول الأمر لأنه عبارة عن تنزيه الله عما لا ينبغي وهو إشارة إلى كونه كاملاً في ذاته والتحميد عبارة عن كونه مكملاً لغيره ولا شك أن أول الأمر هو كونه كاملاً في ذاته ونهاية الأمر كونه مكملاً لغيره فلا جرم وقع الابتداء في الذكر بقولنا سبحان الله ثم ذكر بعده الحمد لله تنبيهاً على أن مقام التسبيح مبدأ ومقام التحميد نهاية إذا عرفت هذا فنقول ذكر عند الإسراء لفظ التسبيح وعند إنزال الكتاب لفظ التحميد وهذا تنبيه على أن الإسراء به أول درجات كماله وإنزال الكتاب غاية درجات كماله والأمر في الحقيقة كذلك لأن الإسراء به إلى المعراج يقتضي حصول الكمال له وإنزال الكتاب عليه يقتضي

كونه مكملاً للأرواح البشرية وناقلاً لها من حضيض البهيمية إلى أعلى درجات الملكية ولا شك أن هذا الثاني أكمل وهذا تنبيه على أن أعلى مقامات العباد مقاماً أن يصير ( العبد ) عالماً في ذاته معلماً لغيره ولهذا روي في الخبر أنه عليه الصلاة والسلام قال ( من تعلم وعلم فذاك يدعى عظيماً في السموات )
الفائدة الثانية أن الإسراء عبارة عن رفع ذاته من تحت إلى فوق وإنزال الكتاب عليه عبارة عن إنزال نور الوحي عليه من فوق إلى تحت ولا شك أن هذا الثاني أكمل
الفائدة الثالثة أن منافع الإسراء به كانت مقصورة عليه ألا ترى أنه تعالى قال هنالك لِنُرِيَهُ مِنْ ءايَاتِنَا ( الإسراء 1 ) ومنافع إنزال الكتاب عليه متعدية ألا ترى أنه قال لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مّن لَّدُنْهُ وَيُبَشّرَ الْمُؤْمِنِينَ والفوائد المتعدية أفضل من القاصرة
المسألة الثانية المشبهة استدلوا بلفظ الإسراء في السورة المتقدمة وبلفظ الإنزال في هذه السورة على أنه تعالى مختص بجهة فوق والجواب عنه مذكور بالتمام في سورة الأعراف في تفسير قوله تعالى ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ( الأعراف 54 )
المسألة الثالثة إنزال الكتاب نعمة عليه ونعمة علينا أما كونه نعمة عليه فلأنه تعالى أطلعه بواسطة هذا الكتاب الكريم على أسرار علوم التوحيد والتنزيه وصفات الجلال والإكرام وأسرار أحوال الملائكة والأنبياء وأحوال القضاء والقدر وتعلق أحوال العالم السفلي بأحوال العالم العلوي وتعلق أحوال عالم الآخرة بعالم الدنيا وكيفية نزول القضاء من عالم الغيب وكيفية ارتباط عالم الجسمانيات بعالم الروحانيات وتصيير النفس كالمرآة التي يتجلى فيها عالم الملكوت وينكشف فيها قدس اللاهوت فلا شك أن ذلك من أعظم النعم وأما كون هذا الكتاب نعمة علينا فلأنه مشتمل على التكاليف والأحكام والوعد والوعيد والثواب والعقاب وبالجملة فهو كتاب كامل في أقصى الدرجات فكل واحد ينتفع به بمقدار طاقته وفهمه فلما كان كذلك وجب على الرسول وعلى جميع أمته أن يحمدوا الله عليه فعلمهم الله تعالى كيفية ذلك التحميد فقال الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ ثم إنه تعالى وصف الكتاب بوصفين فقال وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا قَيِّماً وفيه أبحاث
البحث الأول أنا قد ذكرنا أن الشيء يجب أن يكون كاملاً في ذاته ثم يكون مكملاً لغيره ويجب أن يكون تاماً في ذاته ثم يكون فوق التمام بأن يفيض عليه كمال الغير إذا عرفت هذا فنقول في قوله وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا إشارة إلى كونه كاملاً في ذاته وقوله قَيِّماً إشارة إلى كونه مكملاً لغيره لأن القيم عبارة عن القائم بمصالح الغير ونظيره قوله في أول سورة البقرة في صفة الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2 ) فقوله لاَ رَيْبَ فِيهِ إشارة إلى كونه في نفسه بالغاً في الصحة وعدم الإخلال إلى حيث يجب على العاقل أن لا يرتاب فيه وقوله هُدًى لّلْمُتَّقِينَ إشارة إلى كونه سبباً لهداية الخلق وإكمال حالهم فقوله وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا قائم مقام قوله لاَ رَيْبَ فِيهِ وقوله قَيِّماً قائم مقام قوله هُدًى لّلْمُتَّقِينَ وهذه أسرار لطيفة

البحث الثاني قال أهل اللغة العوج في المعاني كالعوج في الأعيان والمراد منه وجوه أحدها نفي التناقض عن آياته كما قال وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً ( النساء 82 ) وثانيها أن كل ما ذكر الله من التوحيد والنبوة والأحكام والتكاليف فهو حق وصدق ولا خلل في شيء منها البتة وثالثها أن الإنسان كأنه خرج من عالم الغيب متوجهاً إلى عالم الآخرة وإلى حضرة جلال الله وهذه الدنيا كأنها رباط بني على طريق عالم القيامة حتى أن المسافر إذا نزل فيه اشتغل بالمهمات التي يجب رعايتها في هذا السفر ثم يرتحل منه متوجهاً إلى عالم الآخرة فكل ما دعاه في الدنيا إلى الآخرة ومن الجسمانيات إلى الروحانيات ومن الخلق إلى الحق ومن اللذات الشهوانية الجسدانية إلى الاستنارة بالأنوار الصمدانية فثبت أنه مبرأ عن العوج والانحراف والباطل فلهذا قال تعالى وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا الصفة الثانية للكتاب وهي قوله قَيِّماً قال ابن عباس يريد مستقيماً وهذا عندي مشكل لأنه لا معنى لنفي الإعوجاج إلا حصول الاستقامة فتفسير القيم بالمستقيم يوجب التكرار وأنه باطل بل الحق ما ذكرناه وأن المراد من كونه قَيِّماً أنه سبب لهداية الخلق وأنه يجري مجرى من يكون قيماً للأطفال فالأرواح البشرية كالأطفال والقرآن كالقيم الشفيق القائم بمصالحهم
البحث الثالث قال الواحدي جميع أهل اللغة والتفسير قالوا هذا من التقديم والتأخير والتقدير أنزل على عبده الكتاب قيماً ولم يجعل له عوجاً وأقول قد بينا ما يدل على فساد هذا الكلام لأنا بينا أن قوله وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا يدل على كونه كاملاً في ذاته وقوله قَيِّماً يدل على كونه مكملاً لغيره وكونه كاملاً في ذاته متقدم بالطبع على كونه مكملاً لغيره فثبت بالبرهان العقلي أن الترتيب الصحيح هو الذي ذكره الله تعالى وهو قوله وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا قَيِّماً فظهر أن ما ذكروه من التقديم والتأخير فاسد يمتنع العقل من الذهاب إليه
البحث الرابع اختلف النحويون في انتصاب قوله قَيِّماً وذكروا فيه وجوهاً الأول قال صاحب ( الكشاف ) لا يجوز جعله حالاً من الكتاب لأن قوله وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا معطوف على قوله أَنَزلَ فهو داخل في حيز الصلة فجعله حالاً من الكتاب يوجب الفصل بين الحال وذي الحال ببعض الصلة وأنه لا يجوز قال ولما بطل هذا وجب أن ينتصب بمضمر والتقدير وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا وجعله قَيِّماً الوجه الثاني قال الأصفهاني الذي نرى فيه أن يقال قوله وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا حال وقوله قَيِّماً حال أخرى وهما حالان متواليان والتقدير أنزل على عبده الكتاب غير مجعول له عوجاً قيماً الوجه الثالث قال السيد صاحب ( حل العقد ) يمكن أن يكون قوله قَيِّماً بدلاً من قوله وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا لأن معنى لَّمْ يَجْعَلِ لَّهُ عِوَجَا أنه جعله مستقيماً فكأنه قيل أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وجعله قَيِّماً الوجه الرابع أن يكون حالاً من الضمير في قوله وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا أي حال كونه قائماً بمصالح العباد وأحكام الدين واعلم أنه تعالى لما ذكر أنه أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ الموصوف بهذه الصفات المذكورة أردفه ببيان ما لأجله أنزله فقال لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مّن لَّدُنْهُ وأنذر متعد إلى مفعولين كقوله إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً ( النبإ 40 ) إلا أنه اقتصر ههنا على أحدهما وأصله لّيُنذِرَ الذين كفروا بَأْسًا شَدِيدًا كما قال في ضده وَيُبَشّرُ الْمُؤْمِنِينَ والبأس مأخوذ من قوله تعالى بِعَذَابٍ بَئِيسٍ وقد بؤس العذاب وبؤس الرجل=

ج20. مفاتيح الغيب ـ ترقيم الشاملة موافق للمطبوع
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي الشافعي

بأساً وبآسة وقوله مِن لَّدُنْهُ أي صادراً من عنده قال الزجاج وفي لَّدُنْ لغات يقال لدن ولدي ولد والمعنى واحد قال وهي لا تتمكن تمكن عند لأنك تقول هذا القول صواب عندي ولا تقول صواب لدني وتقول عندي مال عظيم والمال غائب عنك ولدني لما يليك لا غير وقرأ عاصم في رواية أبي بكر بسكون الدال مع إشمام الضم وكسر النون والهاء وهي لغة بني كلاب ثم قال تعالى وَيُبَشّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا واعلم أن المقصود من إرسال الرسل إنذار المذنبين وبشارة المطيعين ولما كان دفع الضرر أهم عند ( ذوي ) لعقول من إيصال النفع لا جرم قدم الإنذار على التبشير في اللفظ قال صاحب ( الكشاف ) وقرىء ويبشر بالتخفيف والتثقيل وقوله مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا يعني خالدين وهو حال للمؤمنين من قوله أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا قال القاضي الآية دالة على صحة قولنا في مسائل أحدها أن القرآن مخلوق وبيانه من وجوه الأول أنه تعالى وصفه بالإنزال والنزول وذلك من صفات المحدثات فإن القديم لا يجوز عليه التغير الثاني وصفه بكونه كتاباً والكتب هو الجمع وهو سمي كتاباً لكونه مجموعاً من الحروف والكلمات وما صح فيه التركيب والتأليف فهو محدث الثالث أنه تعالى أثبت الحمد لنفسه على إنزال الكتاب والحمد إنما يستحق على النعمة والنعمة محدثة مخلوقة الرابع أنه وصف الكتاب بأنه غير معوج وبأنه مستقيم والقديم لا يمكن وصفه بذلك فثبت أنه محدث مخلوق وثانيها مسألة خلق الأعمال فإن هذه الآيات تدل على قولنا في هذه المسألة من وجوه الأول نفس الأمر بالحمد لأنه لو لم يكن للعبد فعل لم ينتفع بالكتاب إذ الانتفاع به إنما يحصل إذا قدر على أن يفعل ما دل الكتاب على أنه يجب فعله ويترك ما دل الكتاب على أنه يجب تركه وهو إنما يفعل ذلك لو كان مستقلاً بنفسه أما إذا لم يكن مستقلاً بنفسه لم يكن لعوج الكتاب أثر في اعوجاج فعله ولم يكن لكون الكتاب قيماً أثر في استقامة فعله أما إذا كان العبد قادراً على الفعل مختاراً فيه بقي لعوج الكتاب واستقامته أثر في فعله والثاني أنه تعالى لو كان أنزل بعض الكتاب ليكون سبباً لكفر البعض وأنزل الباقي ليؤمن البعض الآخر فمن أين أن الكتاب قيم لا عوج فيه لأنه لو كان فيه عوج لما زاد على ذلك والثالث قوله لّيُنذِرَ وفيه دلالة على أنه تعالى أراد منه ( صلى الله عليه وسلم ) إنذار الكل وتبشير الكل وبتقدير أنه يكون خالق الكفر والإيمان هو الله تعالى لم يبق للإنذار والتبشير معنى لأنه تعالى إذا خلق الإيمان فيه حصل شاء أو لم يشأ وإذا خلق الكفر فيه حصل شاء أو لم يشاء فبقي الإنذار والتبشير على الكفر والإيمان جارياً مجرى الإنذار والتبشير على كونه طويلاً قصيراً وأسود وأبيض مما لا قدرة له عليه والرابع وصفه المؤمنين بأنهم يعملون الصالحات فإن كان ما وقع خلق الله تعالى فلا عمل لهم البتة الخامس إيجابه لهم الأجر الحسن على ما عملوا فإن كان الله تعالى يخلق ذلك فيهم فلا إيجاب ولا استحقاق
المسألة الرابعة قال قوله لّيُنذِرَ يدل على أنه تعالى إنما يفعل أفعاله لأغراض صحيحة وذلك يبطل قول من يقول إن فعله غير معلل بالغرض واعلم أن هذه الكلمات قد تكررت في هذا الكتاب فلا فائدة في الإعادة
وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لأبَآئِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَة ً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى ءَاثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَاذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً

في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن قوله تعالى وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا معطوف على قوله لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مّن لَّدُنْهُ ( الكهف 2 ) والمعطوف يجب كونه مغايراً للمعطوف عليه فالأول عام في حق كل من استحق العذاب والثاني خاص بمن أثبت لله ولداً وعادة القرآن جارية بأنه إذا ذكر قضية كلية عطف عليها بعض جزئياتها تنبيهاً على كونه أعظم جزئيات ذلك الكلي كقوله تعالى وَمَلئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ( البقرة 98 ) فكذا ههنا العطف يدل على أن أقبح أنواع الكفر والمعصية إثبات الولد لله تعالى
المسألة الثانية الذين أثبتوا الولد لله تعالى ثلاث طوائف أحدها كفار العرب الذين قالوا الملائكة بنات الله وثانيها النصارى حيث قالوا المسيح ابن الله وثالثها اليهود الذين قالوا عزيز ابن الله والكلام في أن إثبات الولد لله كفر عظيم ويلزم منه محالات عظيمة قد ذكرناه في سورة الأنعام في تفسير قوله تعالى وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ ( الأنعام 10 ) وتمامه مذكور في سورة مريم ثم إنه تعالى أنكر على القائلين بإثبات الولد لله تعالى من وجهين الأول قوله مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لائَبَائِهِمْ فإن قيل اتخاذ الله ولداً محال في نفسه فكيف قيل ما لهم به من علم قلنا انتفاء العلم بالشيء قد يكون للجهل بالطريق الموصل إليه وقد يكون لأنه في نفسه محال لا يمكن تعلق العلم به ونظيره قوله وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهَا ءاخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ ( المؤمنون 117 ) واعلم أن نفاة القياس تمسكوا بهذه الآية فقالوا هذه الآية تدل على أن القول في الدين بغير علم باطل والقول بالقياس الظني قول في الدين بغير علم فيكون باطلاً وتمام تقريره مذكور في قوله وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ( الإسراء 36 ) وقوله وَلاَ لائَبَائِهِمْ أي ولا أحد من أسلافهم وهذا مبالغة في كون تلك المقالة باطلة فاسدة النوع الثاني مما ذكره الله في إبطاله قوله كَبُرَتْ كَلِمَة ً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وفيه مباحث
البحث الأول قرىء كَبُرَتْ كَلِمَة ً بالنصب على التمييز وبالرفع على الفاعلية قال الواحدي ومعنى التمييز أنك إذا قلت كبرت المقالة أو الكلمة جاز أن يتوهم أنها كبرت كذباً أو جهلاً أو افتراء فلما قلت كلمة ميزتها من محتملاتها فانتصبت على التمييز والتقدير كبرت الكلمة كلمة فحصل فيه الإضمار أما من رفع فلم يضمر شيئاً كما تقول عظم فلان فلذلك قال النحويون والنصب أقوى وأبلغ وفيه معنى التعجب كأنه قيل ما أكبرها كلمة
البحث الثاني قوله كَبُرَتْ أي كبرت الكلمة والمراد من هذه الكلمة ما حكاه الله تعالى عنهم في قوله قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا فصارت مضمرة في كبرت وسميت كلمة كما يسمون القصيدة كلمة
البحث الثالث احتج النظام في إثبات قوله أن الكلام جسم بهذه الآية قال إنه تعالى وصف الكلمة بأنها تخرج من أفواههم والخروج عبارة عن الحركة والحركة لا تصح إلا على الأجسام والجواب أن الحروف إنما تحدث بسبب خروج النفس عن الحلق فلما كان خروج النفس سبباً لحدوث الكلمة أطلق لفظ الخروج على الكلمة

البحث الرابع قوله تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ يدل على أن هذا الكلام مستكره جداً عند العقل كأنه يقول هذا الذي يقولونه لا يحكم به عقلهم وفكرهم البتة لكونه في غاية الفساد والبطلان فكأنه شيء يجري به لسانهم على سبيل التقليد لأنهم مع أنها قولهم عقولهم وفكرهم تأباها وتنفر عنها ثم قال تعالى إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا ومعناه ظاهر واعلم أن الناس قد اختلفوا في حقيقة الكذب فعندنا أنه الخبر الذي لا يطابق المخبر عنه سواء اعتقد المخبر أنه مطابق أم لا ومن الناس من قال شرط كونه كذباً أن لا يطابق المخبر عنه مع علم قائله بأنه غير مطابق وهذا القيد عندنا باطل والدليل عليه هذه الآية فإنه تعالى وصف قولهم بإثبات الولد لله بكونه كذباً مع أن الكثير منهم يقول ذلك ولا يعلم كونه باطلاً فعلمنا أن كل خبر لا يطابق المخبر عنه فهو كذب سواء علم القائل بكونه مطابقاً أو لم يعلم ثم قال تعالى فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى ءاثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَاذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً وفيه مباحث
البحث الأول المقصود منه أن يقال للرسول لا يعظم حزنك وأسفك بسبب كفرهم فإنا بعثناك منذراً ومبشراً فأما تحصيل الإيمان في قلوبهم فلا قدرة لك عليه والغرض تسلية الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) عنه
البحث الثاني قال الليث بخع الرجل نفسه إذا قتلها غيظاً من شدة وجده بالشيء وقال الأخفش والفراء أصل البخع الجهد يقال بخعت لك نفسي أي جهدتها وفي حديث عائشة رضي الله عنها أنها ذكرت عمر فقالت بخع الأرض أي جهدها حتى أخذ ما فيها من أموال الملوك وقال الكسائي بخعت الأرض بالزراعة إذا جعلتها ضعيفة بسبب متابعة الحراثة وبخع الرجل نفسه إذا نهكها وعلى هذا معنى بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أي ناهكها وجاهدها حتى تهلكها ولكن أهل التأويل كلهم قالوا قاتل نفسك ومهلكها والأصل ما ذكرناه هكذا قال الواحدي
البحث الثالث قوله عَلَى ءاثَارِهِمْ أي من بعدهم يقال مات فلان على أثر فلان أي بعده وأصل هذا أن الإنسان إذا مات بقيت علاماته وآثاره بعد موته مدة ثم إنها تنمحي وتبطله بالكلية فإذا كان موته قريباً من موت الأول كان موته حاصلاً حال بقاء آثار الأول فصح أن يقال مات فلان على أثر فلان
البحث الرابع قوله إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَاذَا الْحَدِيثِ المراد بالحديث القرآن قال القاضي وهذا يقتضي وصف القرآن بأنه حديث وذلك يدل على فساد قول من يقول إنه قديم وجوابه أنه محمول على الألفاظ وهي حادثة
البحث الخامس قوله أَسَفاً الأسف المبالغة في الحزن وذكرنا الكلام فيه عند قوله غَضْبَانَ أَسِفًا في سورة الأعراف وعند قوله فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ وفي انتصابه وجوه الأول أنه نصب على المصدر ودل ما قبله من الكلام على أنه يأسف الثاني يجوز أن يكون مفعولاً له أي للأسف كقولك جئتك ابتغاء الخير والثالث قال الزجاج أَسَفاً منصوب لأنه مصدر في موضع الحال
البحث السادس الفاء في قوله فَلَعَلَّكَ جواب الشرط وهو قوله إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ قدم عليه ومعناه التأخير
إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَة ً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً

في الآية مسائل
المسألة الأولى قال القاضي وجه النظم كأنه تعالى يقول يا محمد إني خلقت الأرض وزينتها وأخرجت منها أنواع المنافع والمصالح والمقصود من خلقها بما فيها من المنافع ابتلاء الخلق بهذه التكاليف ثم إنهم يكفرون ويتمردون مع ذلك فلا أقطع عنهم مواد هذه النعم فأنت أيضاً يا محمد ينبغي أن لا تنتهي في الحزن بسبب كفرهم إلى أن تترك الاشتغال بدعوتهم إلى الدين الحق
المسألة الثانية اختلفوا في تفسير هذه الزينة فقال بعضهم النبات والشجر وضم بعضهم إليه الذهب والفضة والمعادن وضم بعضهم إلى سائر الحيوانات وقال بعضهم بل المراد الناس فهم زينة الأرض وبالجملة فليس بالأرض إلا المواليد الثلاثة وهي المعادن والنبات والحيوان وأشرف أنواع الحيوان الإنسان وقال القاضي الأولى أنه لا يدخل في هذه الزينة المكلف لأنه تعالى قال إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الاْرْضِ زِينَة ً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ فمن يبلوه يجب أن لا يدخل في ذلك فأما سائر النبات والحيوان فإنهم يدخلون فيه كدخول سائر ما ينتفع به وقوله زِينَة ً لَّهَا أي للأرض ولا يمتنع أن يكون ما يحسن به الأرض زينة للأرض كما جعل الله السماء مزينة بزينة الكواكب أما قوله لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً ففيه مسائل
المسألة الأولى ذهب هشام بن الحكم إلى أنه تعالى لا يعلم الحوادث إلا عند دخولها في الوجود فعلى هذا الابتلاء والامتحان على الله جائز واحتج عليه بأنه تعالى لو كان عالماً بالجزئيات قبل وقوعها لكان كل ما علم وقوعه واجب الوقوع وكل ما علم عدمه ممتنع الوقوع وإلا لزم انقلاب علمه جهلاً وذلك محال والمفضي إلى المحال محال ولو كان ذلك واجباً فالذي علم وقوعه يجب كونه فاعلاً له ولا قدرة له على الترك والذي علم عدمه يكون ممتنع الوقوع ولا قدرة له على الفعل وعلى هذا يلزم أن لا يكون الله قادراً على شيء أصلاً بل يكون موجباً بالذات وأيضاً فيلزم أن لا يكون للعبد قدرة لا على الفعل ولا على الترك لأن ما علم الله وقوعه امتنع من العبد تركه وما علم الله عدمه امتنع منه فعله فالقول بكونه تعالى عالماً بالأشياء قبل وقوعها يقدح في الربوبية وفي العبودية وذلك باطل فثبت أنه تعالى إنما يعلم الأشياء عند وقوعها وعلى هذا التقدير فالابتلاء والامتحان والاختبار جائز عليه وعند هذا قال يجري قوله تعالى لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً على ظاهره وأما جمهور علماء الإسلام فقد استبعدوا هذا القول وقالوا إنه تعالى من الأزل إلى الأبد عالم بجميع الجزئيات فالابتلاء والامتحان محالان عليه وأينما وردت هذه الألفاظ فالمراد أنه تعالى يعاملهم معاملة لو صدرت تلك المعاملة عن غيره لكان ذلك على سبيل الإبتلاء والامتحان وقد ذكرنا هذه المسألة مراراً كثيرة
المسألة الثانية قال القاضي معنى قوله لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً هو أنه يبلوهم ليبصرهم أيهم أطوع لله وأشد استمراراً على خدمته لأن من هذا حاله هو الذي يفوز بالجنة فبين تعالى أنه كلف لأجل ذلك لا لأجل أن يعصى فدل ذلك على بطلان قول من يقول خلق بعضهم للنار
المسألة الثالثة اللام في قوله لِنَبْلُوَهُمْ تدل ظاهراً على أن أفعال الله معللة بالأغراض عند المعتزلة وأصحابنا قالوا هذا محال لأن التعليل بالغرض إنما يصح في حق من لا يمكنه تحصيل ذلك الغرض إلا بتلك الواسطة وهذا يقتضي العجز وهو على الله محال

المسألة الرابعة قال الزجاج أيهم رفع بالإبتداء إلا أن لفظه لفظ الاستفهام والمعنى لنختبر ونمتحن هذا أحسن عملاً أم ذاك ثم قال تعالى وَأَنْ لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً والمعنى أنه تعالى بين أنه إنما زين الأرض لأجل الإمتحان والإبتلاء لا لأجل أن يبقى الإنسان فيها متنعماً أبداً لأنه يزهد فيها بقوله وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا الآية ونظيره قوله كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ( الرحمن 26 ) وقوله فَيَذَرُهَا قَاعاً ( طه 106 ) الآية وقوله وَإِذَا الاْرْضُ مُدَّتْ ( الإنشقاق 13 ) الآية والمعنى أنه لا بد من المجازاة بعد فناء ما على الأرض وتخصيص الإبطال والإهلاك بما على الأرض يوهم بقاء الأرض إلا أن سائر الآيات دلت على أن الأرض أيضاً لا تبقى وهو قوله يَوْمَ تُبَدَّلُ الاْرْضُ غَيْرَ الاْرْضِ ( إبراهيم 48 ) قال أبو عبيدة الصعيد المستوي من الأرض وقال الزجاج هو الطريق الذي لا نبات فيه وقد ذكرنا تفسير الصعيد في آية التيمم وأما الجرز فقال الفراء الجرز الأرض التي لا نبات عليها يقال جرزت الأرض فهي مجروزة وجرزها الجراد والشاء والإبل إذا أكلت ما عليها وامرأة جروز إذا كانت أكولاً وسيف جراز إذا كان مستأصلاً ونظيره قوله تعالى نَسُوقُ الْمَاء إِلَى الاْرْضِ الْجُرُزِ ( السجدة 27 )
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُواْ مِنْ ءَايَاتِنَا عَجَبًا إِذْ أَوَى الْفِتْيَة ُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُواْ رَبَّنَآ ءَاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَة ً وَهَيِّى ءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا فَضَرَبْنَا عَلَى ءَاذَانِهِمْ فِى الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُواْ أَمَدًا
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن القوم تعجبوا من قصة أصحاب الكهف وسألوا عنها الرسول على سبيل الامتحان فقال تعالى أم حسبت أنهم كانوا عجباً من آياتنا فقط فلا تحسبن ذلك فإن آياتنا كلها عجب فإن من كان قادراً على تخليق السموات والأرض ثم يزين الأرض بأنواع المعادن والنبات والحيوان ثم يجعلها بعد ذلك صعيداً جرزاً خالية عن الكل كيف يستبعدون من قدرته وحفظه ورحمته حفظ طائفة مدة ثلاثمائة سنة وأكثر في النوم هذا هو الوجه في تقرير النظم والله أعلم
المسألة الثانية قد ذكرنا سبب نزول قصة أصحاب الكهف عند قوله وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى ( الإسراء 85 ) وذكر محمد بن إسحاق سبب نزول هذه القصة مشروحاً فقال كان النضر بن الحارث من شياطين قريش وكان يؤذي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وينصب له العداوة وكان قد قدم الحيرة وتعلم بها أحاديث رستم واسفنديار وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا جلس مجلساً ذكر فيه الله وحدث قومه ما أصاب من كان قبلهم من الأمم وكان النضر يخلفه في مجلسه إذا قام فقال أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثاً منه فهلموا فأنا أحدثكم بأحسن من حديثه ثم يحدثهم عن ملوك فارس ثم إن قريشاً بعثوه وبعثوا معه عتبة بن

أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة وقالوا لهما سلوهم عن محمد وصفته وأخبروهم بقوله فإنهم أهل الكتاب الأول وعندهم من العلم ما ليس عندنا من علم الأنبياء فخرجا حتى قدما إلى المدينة فسألوا أحبار اليهود عن أحوال محمد فقال أحبار اليهود سلوه عن ثلاث عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم فإن حديثهم عجب وعن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه وسلوه عن الروح وما هو فإن أخبركم فهو نبي وإلا فهو متقول فلما قدم النضر وصاحبه مكة قالا قد جئناكم بفصل ما بيننا وبين محمد وأخبروا بما قاله اليهود فجاؤوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وسألوه فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أخبركم بما سألتم عنه غداً ) ولم يستثن فانصرفوا عنه ومكث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيما يذكرون خمس عشرة ليلة حتى أرجف أهل مكة به وقالوا وعدنا محمد غداً واليوم خمس عشرة ليلة فشق عليه ذلك ثم جاءه جبريل من عند الله بسورة أصحاب الكهف وفيها معاتبة الله إياه على حزنه عليهم وفيها خبر أولئك الفتية وخبر الرجل الطواف
المسألة الثالثة الكهف الغار الواسع في الجبل فإذا صغر فهو الغار وفي الرقيم أقوال الأول روى عكرمة عن ابن عباس أنه قال كل القرآن اعلمه إلا أربعة غسلين وحنانا والأواه والرقيم الثاني روى عكرمة عن ابن عباس أنه سئل عن الرقيم فقال زعم كعب أنها القرية التي خرجوا منها وهو قول السدي الثالث قال سعيد بن جبير ومجاهد الرقيم لوح من حجارة وقيل من رصاص كتب فيه أسماؤهم وقصتهم وشد ذلك اللوح على باب الكهف وهذا قول جميع أهل المعاني والعربية قالوا الرقيم الكتاب والأصل فيه المرقوم ثم نقل إلى فعيل والرقم الكتابة ومنه قوله تعالى كِتَابٌ مَّرْقُومٌ ( المطففين 9 ) أي مكتوب قال الفراء الرقيم لوح كان فيه أسماؤهم وصفاتهم ونظن أنه إنما سمي رقيماً لأن أسماءهم كانت مرقومة فيه وقيل الناس رقموا حديثهم نقراً في جانب الجبل وقوله كَانُواْ مِنْ ءايَاتِنَا عَجَبًا المراد أحسبت أن واقعتهم كانت عجيبة في أحوال مخلوقاتنا فلا تحسب ذلك فإن تلك الواقعة ليست عجيبة في جانب مخلوقاتنا والعجب ههنا مصدر سمي المفعول به والتقدير كانوا معجوباً منهم فسموا بالمصدر والمفعول به من هذا يستعمل باسم المصدر ثم قال تعالى إِذْ أَوَى الْفِتْيَة ُ إِلَى الْكَهْفِ لا يجوز أن يكون إذ هنا متعلقاً بما قبله على تقدير أم حسبت إذ أوى الفتية لأنه كان بين النبي وبينهم مدة طويلة فلم يتعلق الحسبان بذلك الوقت الذي أووا فيه إلى الكهف بل يتعلق بمحذوف والتقدير اذكر إذ أوى ومعنى أوى الفتية في الكهف صاروا إليه وجعلوه مأواهم قال فقالوا رَبَّنَا ءاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَة ً أي رحمة من خزائن رحمتك وجلائل فضلك وإحسانك وهي الهداية بالمعرفة والصبر والرزق والأمن من الأعداء وقوله من لدنك يدل على عظمة تلك الرحمة وهي التي تكون لائقة بفضل الله تعالى وواسع جوده وهيىء لنا أي أصلح من قولك هيأت الأمر فتهيأ مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا الرشد والرشاد نقيض الضلال وفي تفسير اللفظ وجهان الأول التقدير وهيىء لنا أمراً ذا رشد حتى نكون بسببه راشدين مهتدين الثاني اجعل أمرنا رشداً كله كقولك رأيت منك رشداً ثم قال تعالى فَضَرَبْنَا عَلَى ءاذَانِهِمْ قال المفسرون معناه أنمناهم وتقدير الكلام أنه تعالى ضرب على آذانهم حجاباً يمنع من أن تصل إلى أسماعهم الأصوات الموقظة والتقدير ضربنا عليهم حجاباً إلا أنه حذف المفعول الذي هو الحجاب كما يقال بنى على امرأته يريدون بنى عليها القبة ثم إنه تعالى بين أنه ضرب على آذانهم في الكهف وهو ظرف المكان وقوله سنين عدداً ظرف الزمان وفي قوله عدداً بحثان الأول قال الزجاج ذكر العدد ههنا يفيد كثرة السنين وكذلك كل شيء مما يعد إذا ذكر فيه العدد ووصف به أريد كثرته لأنه إذا قل فهم مقداره بدون

التعديد أما إذا أكثر فهناك يحتاج إلى التعديد فإذا قلت أقمت أياماً عدداً أردت به الكثرة
البحث الثاني في انتصاب قوله عدداً وجهان أحدهما نعت لسنين المعنى سنين ذات عدد أي معدودة هذا قول الفراء وقول الزجاج وعلى هذا يجوز في الآية ضربان من التقدير أحدهما حذف المضاف والثاني تسمية المفعول باسم المصدر قال الزجاج ويجوز أن ينتصب على المصدر المعنى تعد عداً ثم قال تعالى ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ يريد من بعد نومهم يعني أيقظناهم بعد نومهم وقوله لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُواْ أَمَدًا فيه مسائل
المسألة الأولى قوله ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لنعلم اللام لام الغرض فيدل على أن أفعال الله معللة بالأغراض وقد سبق الكلام فيه
المسألة الثانية ظاهر اللفظ يقتضي أنه تعالى إنما بعثهم ليحصل له هذا العلم وعند هذا يرجع إلى أنه تعالى هل يعلم الحوادث قبل وقوعها أم لا فقال هشام لا يعلمها إلا عند حدوثها واحتج بهذه الآية والكلام فيه قد سبق ونظائر هذه الآية كثيرة في القرآن منها ما سبق في هذه السورة ومنها قوله في سورة البقرة إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ( البقرة 143 ) وفي آل عمران وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ ( التوبة 16 ) وقوله إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الاْرْضِ زِينَة ً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ ( الكهف 7 ) وقوله وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ ( محمد 31 )
المسألة الثالثة أَيُّ رفع بالإبتداء وَأَحْصَى خبره وهذه الجملة بمجموعها متعلق العلم فلهذا السبب لم يظهر عمل قوله لَنَعْلَمُ في لفظة أَيُّ بل بقيت على ارتفاعها ونظيره قوله اذهب فاعلم أيهم قام قال تعالى سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذالِكَ زَعِيمٌ ( القلم 40 ) وقوله ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلّ شِيعَة ٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً ( مريم 69 ) وقرىء ليعلم على فعل ما لم يسم فاعله وفي هذه القراءة فائدتان إحداهما أن على هذا التقدير لا يلزم إثبات العلم المتجدد لله بل المقصود أنا بعثناهم ليحصل هذا العلم لبعض الخلق والثانية أن على هذا التقدير يجب ظهور النصب في لفظة أي لكن لقائل أن يقول الإشكال بعد باق لأن ارتفاع لفظة أي بالإبتداء لا بإسناد يعلم إليه ولمجيب أن يجيب فيقول إنه لا يمتنع اجتماع عاملين على معمول واحد لأن العوامل النحوية علامات ومعرفات ولا يمتنع اجتماع المعرفات الكثيرة على الشيء الواحد والله أعلم
المسألة الرابعة اختلفوا في الحزبين فقال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما المراد بالحزبين الملوك الذين تداولوا المدينة ملكاً بعد ملك فالملوك حزب وأصحاب الكهف حزب والقول الثاني قال مجاهد الحزبان من هذه الفتية لأن أصحاب الكهف لما انتبهوا اختلفوا في أنهم كم ناموا والدليل عليه قوله تعالى قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ ( الكهف 19 ) فالحزبان هما هذان وكان الذين قالوا ربكم أعلم بما لبثتم هم الذين علموا أن لبثهم قد تطاول القول الثالث قال الفراء إن طائفتين من المسلمين في زمان أصحاب الكهف اختلفوا في مدة لبثهم
المسألة الخامسة قال أبو علي الفارسي قوله أحصى ليس من باب أفعل التفضيل لأن هذا البناء من غير الثلاثي المجرد ليس بقياس فأما قولهم ما أعطاه للدرهم وما أولاه للمعروف وأعدى من الجرب وأفلس من ابن المدلق فمن الشواذ والشاذ لا يقاس عليه بل الصواب أن أحصى فعل ماضٍ وهو خبر المبتدأ والمبتدأ

والخبر مفعول نعلم وأمداً مفعول به لأحصى وما في قوله تعالى لِمَا لَبِثُواْ مصدرية والتقدير أحصى أمداً للبثهم وحاصل الكلام لنعلم أي الحزبين أحصى أمد ذلك اللبث ونظيره قوله أَحْصَاهُ اللَّهُ ( المجادلة 6 ) وقوله وَأَحْصَى كُلَّ شَى ْء عَدَداً ( الجن 28 )
المسألة السادسة احتج أصحابنا الصوفية بهذه الآية على صحة القول بالكرامات وهو استدلال ظاهر ونذكر هذه المسألة ههنا على سبيل الاستقصاء فنقول قبل الخوض في الدليل على جواز الكرامات نفتقر إلى تقديم مقدمتين
المقدمة الأولى في بيان أن الولي ما هو فنقول ههنا وجهان الأول أن يكون فعيلاً مبالغة من الفاعل كالعليم والقدير فيكون معناه من توالت طاعاته من غير تخلل معصية الثاني أن يكون فعيلاً بمعنى مفعول كقتيل وجريح بمعنى مقتول ومجروح وهو الذي يتولى الحق سبحانه حفظه وحراسته على التوالي عن كل أنواع المعاصي ويديم توفيقه على الطاعات واعلم أن هذا الاسم مأخوذ من قوله تعالى اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( البقرة 257 ) وقوله وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ( الأعراف 196 ) وقوله تعالى أَنتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ( البقرة 286 ) وقوله ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ ( محمد 11 ) وقوله إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ( المائدة 55 ) وأقول الولي هو القريب في اللغة فإذا كان العبد قريباً من حضرة الله بسبب كثرة طاعاته وكثرة إخلاصه وكان الرب قريباً منه برحمته وفضله وإحسانه فهناك حصلت الولاية
المقدمة الثانية إذا ظهر فعل خارق للعادة على الإنسان فذاك إما أن يكون مقروناً بالدعوى أو لا مع الدعوى والقسم الأول وهو أن يكون مع الدعوى فتلك الدعوى إما أن تكون دعوى الإلهية أو دعوى النبوة أو دعوى الولاية أو دعوى السحر وطاعة الشياطين فهذه أربعة أقسام القسم الأول إدعاء الإلهية وجوز أصحابنا ظهور خوارق العادات على يده من غير معارضة كما نقل أن فرعون كان يدعي الإلهية وكانت تظهر خوارق العادات على يده وكما نقل ذلك أيضاً في حق الدجال قال أصحابنا وإنما جاز ذلك لأن شكله وخلقته تدل على كذبه فظهور الخوارق على يده لا يفضي إلى التلبيس والقسم الثاني وهو ادعاء النبوة فهذا القسم على قسمين لأنه إما أن يكون ذلك المدعي صادقاً أو كاذباً فإن كان صادقاً وجب ظهور الخوارق على يده وهذا متفق عليه بين كل من أقر بصحة نبوة الأنبياء وإن كان كاذباً لم يجز ظهور الخوارق على يده وبتقدير أن تظهر وجب حصول المعارضة وأما القسم الثالث وهو ادعاء الولاية والقائلون بكرامات الأولياء اختلفوا في أنه هل يجوز أن يدعي الكرامات ثم إنها تحصل على وفق دعواه أم لا وأما القسم الرابع وهو ادعاء السحر وطاعة الشيطان فعند أصحابنا يجوز ظهور خوارق العادات على يده وعند المعتزلة لا يجوز وأما القسم الثاني وهو أن تظهر خوارق العادات على يد إنسان من غير شيء من الدعاوى فذلك الإنسان إما أن يكون صالحاً مرضياً عند الله وإما أن يكون خبيثاً مذنباً والأول هو القول بكرامات الأولياء وقد اتفق أصحابنا على جوازه وأنكرها المعتزلة إلا أبا الحسين البصري وصاحبه محمود الخوارزمي وأما القسم الثالث وهو أن تظهر خوارق العادات على بعض من كان مردوداً عن طاعة الله تعالى فهذا هو المسمى بالاستدراج فهذا تفصيل الكلام في هاتين المقدمتين إذا عرفت ذلك فنقول الذي يدل على جواز كرامات الأولياء القرآن والأخبار والآثار والمعقول أما القرآن فالمعتمد فيه عندنا آيات

الحجة الأولى قصة مريم عليها السلام وقد شرحناها في سورة آل عمران فلا نعيدها
الحجة الثانية قصة أصحاب الكهف وبقاؤهم في النوم أحياء سالمين عن الآفات مدة ثلثمائة سنة وتسع سنين وأنه تعالى كان يعصمهم من حر الشمس كما قال وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ ( الكهف 18 ) إلى قوله وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ ( الهف 17 ) ومن الناس من تمسك في هذه المسألة بقوله تعالى قَالَ الَّذِى عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الْكِتَابِ أَنَاْ ءاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ( النمل 39 ) وقد بينا أن ذلك الذي كان عنده علم من الكتاب هو سليمان فسقط هذا الاستدلال أجاب القاضي عنه بأن قال لا بد من أن يكون فيهم أو في ذلك الزمان نبي يصير ذلك علماً له لما فيه من نقض العادة كسائر المعجزات قلنا إنه يستحيل أن تكون هذه الواقعة معجزة لأحد من الأنبياء لأن إقدامهم على النوم أمر غير خارق للعادة حتى يجعل ذلك معجزة لأن الناس لا يصدقونه في هذه الواقعة لأنهم لا يعرفون كونهم صادقين في هذه الدعوى إلا إذا بقوا طول هذه المدة وعرفوا أن هؤلاء الذين جاؤوا في هذا الوقت هم الذين ناموا قبل ذلك بثلثمائة سنين وتسع سنين وكل هذه الشرائط لم توجد فامتنع جعل هذه الواقعة معجزة لأحد من الأنبياء فلم يبق إلا أن تجعل كرامة للأولياء وإحساناً إليهم أما الأخبار فكثيرة الخبر الأول ما أخرج في ( الصحيحين ) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة عيسى ابن مريم عليه السلام وصبي في زمن جريج الناسك وصبي آخر أما عيسى فقد عرفتموه وأما جريج فكان رجلاً عابداً ببني إسرائيل وكانت له أم فكان يوماً يصلي إذ اشتاقت إليه أمه فقالت يا جريج فقال يا رب الصلاة خير أم رؤيتها ثم صلى فدعته ثانياً فقال مثل ذلك حتى قال ثلاث مرات وكان يصلي ويدعها فاشتد ذلك على أمه قالت اللهم لا تمته حتى تريه المومسات وكانت زانية هناك فقالت لهم أنا أفتن جريجاً حتى يزني فأتته فلم تقدر على شيء وكان هناك راعٍ يأوي بالليل إلى أصل صومعته قلما أعياها راودت الراعي على نفسها فأتاها فولدت ثم قالت ولدي هذا من جريج فأتاها بنو إسرائيل وكسروا صومعته وشتموه فصلى ودعا ثم نخس الغلام قال أبو هريرة كأني أنظر إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حين قال بيده يا غلام من أبوك فقال الراعي فندم القوم على ما كان منهم واعتذروا إليه وقالوا نبني صومعتك من ذهب أو فضة فأبى عليهم وبناها كما كانت وأما الصبي الآخر فإن امرأة كان معها صبي لها ترضعه إذ مر بها شاب جميل ذو شارة حسنة فقالت اللهم اجعل ابني مثل هذا فقال الصبي اللهم لا تجعلني مثله ثم مرت بها امرأة ذكروا أنها سرقت وزنت وعوقبت فقالت اللهم لا تجعل ابني مثل هذا فقال الصبي اللهم اجعلني مثلها فقالت له أمه في ذلك فقال إن الشاب كان جباراً من الجبابرة فكرهت أن أكون مثله وإن هذه قيل إنها زنت ولم تزن وقيل إنها سرقت ولم تسرق وهي تقول حسبي الله ) الخبر الثاني وهو خبر الغار وهو مشهور في ( الصحاح ) عن الزهري عن سالم عن ابن عمر قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم فأواهم المبيت إلى غار فدخلوه فانحدرت صخرة من الجبل وسدت عليهم باب الغار فقالوا والله لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم فقال رجل منهم كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبق قبلهما فناما في ظل شجرة يوماً فلم أبرح عنهما وحلبت لهما غبوقهما فجئتهما به فوجدتهما نائمين فكرهت أن أوقظهما وكرهت أن أغبق قبلهما فقمت والقدح في يدي انتظر استيقاظهما حتى ظهر الفجر فاستيقظا فشربا غبوقهما اللهم إن كنت فعلت هذا ابتغاء وجهك فافرج عنا

ما نحن فيه من هذه الصخرة فانفرجت انفراجاً لا يستطيعون الخروج منه ثم قال الآخر كانت لي ابنة عم وكانت أحب الناس إلي فراودتها عن نفسها فامتنعت حتى ألمت بها سنة من السنين فجاءتني وأعطيتها مالاً عظيماً على أن تخلي بيني وبين نفسها فلما قدرت عليها قالت لا يجوز لك أن تفك الخاتم إلا بحقها فتحرجت من ذلك العمل وتركتها وتركت المال معها اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منه قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثم قال الثالث اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم أجورهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال فجاءني بعد حين وقال يا عبد الله أد إلي أجرتي فقلت له كل ما ترى من أجرتك من الإبل والغنم والرقيق فقال يا عبد الله أتستهزىء بي فقلت إني لا أستهزىء بك فأخذ ذلك كله اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة عن الغار فخرجوا يمشون ) وهذا حديث حسن صحيح متفق عليه الخبر الثالث قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره ) ولم يفرق بين شيء وشيء فيما يقسم به على الله الخبر الرابع روى سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( بينا رجل يسوق بقرة قد حمل عليها فالتفتت إليه البقرة فقالت إني لم أخلق لهذا وإنما خلقت للحرث فقال الناس سبحان الله بقرة تتكلم فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) آمنت بهذا أنا وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما ) الخبر الخامس عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( بينما رجل يسمع رعداً أو صوتاً في السحاب أن اسق حديقة فلان قال فعدوت إلى تلك الحديقة فإذا رجل قائم فيها فقلت له ما اسمك قال فلان بن فلان بن فلان قلت فما تصنع بحديقتك هذه إذا صرمتها قال ولم تسأل عن ذلك قلت لأني سمعت صوتاً في السحاب أن اسق حديقة فلان قال أما إذ قلت فإني أجعلها أثلاثاً فأجعل لنفسي وأهلي ثلثاً وأجعل للمساكين وابن السبيل ثلثاً وأنفق عليها ثلثاً ) ( أما الآثار ) فلنبدأ بما نقل أنه ظهر عن الخلفاء الراشدين من الكرامات ثم بما ظهر عن سائر الصحابة أما أبو بكر رضي الله عنه فمن كراماته أنه لما حملت جنازته إلى باب قبر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ونودي السلام عليك يا رسول الله هذا أبو بكر بالباب فإذا الباب قد انفتح وإذا بهاتف يهتف من القبر ادخلوا الحبيب إلى الحبيب وأما عمر رضي الله عنه فقد ظهرت أنواع كثيرة من كراماته وأحدها ما روي أنه بعث جيشاً وأمر عليهم رجلاً يدعى سارية بن الحصين فبينا عمر يوم الجمعة يخطب جعل يصيح في خطبته وهو على المنبر يا سارية الجبل الجبل قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه فكتبت تاريخ تلك الكلمة فقدم رسول مقدم الجيش فقال يا أمير المؤمنين غزونا يوم الجمعة في وقت الخطبة فهزمونا فإذا بإنسان يصيح يا سارية الجبل الجبل فأسندنا ظهورنا إلى الجبل فهزم الله الكفار وظفرنا بالغنائم العظيمة ببركة ذلك الصوت قلت سمعت بعض المذكرين قال كان ذلك معجزة لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه قال لأبي بكر وعمر أنتما مني بمنزلة السمع والبصر فلما كان عمر بمنزلة البصر لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) لا جرم قدر على أن يرى من ذلك البعد العظيم الثاني روي أن نيل مصر كان في الجاهلية يقف في كل سنة مرة واحدة وكان لا يجري حتى يلقى فيه

جارية واحدة حسناء فلما جاء الإسلام كتب عمرو بن العاص بهذه الواقعة إلى عمر فكتب عمر على خزفة أيها النيل إن كنت تجري بأمر الله فاجر وإن كنت تجري بأمرك فلا حاجة بنا إليكا فألقيت تلك الخزفة في النيل فجرى ولم يقف بعد ذلك الثالث وقعت الزلزلة في المدينة فضرب عمر الدرة على الأرض وقال اسكني بإذن الله فسكنت وما حدثت الزلزلة بالمدينة بعد ذلك الرابع وقعت النار في بعض دور المدينة فكتب عمر على خزفة يا نار اسكني بإذن الله فألقوها في النار فانطفأت في الحال الخامس روى أن رسول ملك الروم جاء إلى عمر فطلب داره فظن أن داره مثل قصور الملوك فقالوا ليس له ذلك وإنما هو في الصحراء يضرب اللبن فلما ذهب إلى الصحراء رأى عمر رضي الله عنه وضع درته تحت رأسه ونام على التراب فعجب الرسول من ذلك وقال إن أهل الشرق والغرب يخافون من هذا الإنسان وهو على هذه الصفة ا ثم قال في نفسه إني وجدته خالياً فأقتله وأخلص الناس منه فلما رفع السيف أخرج الله من الأرض أسدين فقصداه فخاف وألقى السيف من يده وانتبه عمر ولم ير شيئاً فسأله عن الحال فذكر له الواقعة وأسلم وأقول هذه الوقائع رويت بالآحاد وههنا ما هو معلوم بالتواتر وهو أنه مع بعده عن زينة الدنيا واحترازه عن التكلفات والتهويلات ساس الشرق والغرب وقلب الممالك والدول لو نظرت في كتب التواريخ علمت أنه لم يتفق لأحد من أول عهد آدم إلى الآن ما تيسر له فإنه مع غاية بعده عن التكلفات كيف قدر على تلك السياسات ولا شك أن هذا من أعظم الكرامات وأما عثمان رضي الله عنه فروى أنس قال سرت في الطريق فرفعت عيني إلى امرأة ثم دخلت على عثمان فقال ما لي أراكم تدخلون علي وآثار الزنا ظاهرة عليكم فقلت أجاء الوحي بعد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال لا ولكن فراسة صادقة الثاني أنه لما طعن بالسيف فأول قطرة من دمه سقطت وقعت على المصحف على قوله تعالى فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( البقرة 137 ) الثالث أن جهجاها الغفاري انتزع العصا من يد عثمان وكسرها على ركبته فوقعت الأكلة في ركبته وأما علي كرم الله وجهه فيروي أن واحداً من محبيه سرق وكان عبداً أسود فأتى به إلى علي فقال له أسرقت قال نعم فقطع يده فانصرف من عند علي عليه السلام فلقيه سلمان الفارسي وابن الكرا فقال ابن الكرا من قطع يدك فقال أمير المؤمنين ويعسوب المسلمين وختن الرسول وزوج البتول فقال قطع يدك وتمدحه فقال ولم لا أمدحه وقد قطع يدي بحق وخلصني من النارا فسمع سلمان ذلك فأخبر به علياً فدعا الأسود ووضع يده على ساعده وغطاه بمنديل ودعا بدعوات فسمعنا صوتاً من السماء ارفع الرداء عن اليد فرفعناه فإذا اليد قد برأت بإذن الله تعالى وجميل صنعه أما سائر الصحابة فأحوالهم في هذا الباب كثيرة فنذكر منها شيئاً قليلاً الأول روى محمد بن المنكدر عن سفينة مولى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال ركبت البحر فانكسرت سفينتي التي كنت فيها فركبت لوحاً من ألواحها فطرحني اللوح في خيسة فيها أسد فخرج الأسد إلي يريدني فقلت يا أبا الحرث أنا مولى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فتقدم ودلني على الطريق ثم همهم فظننت أنه يودعني ورجع الثاني روى ثابت عن أنس أن أسيد بن حضير ورجلاً آخر من الأنصار تحدثا عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في حاجة لهما حتى ذهب من الليل زمان ثم خرجا من عنده وكانت الليلة شديدة الظلمة وفي يد كل واحد منهما عصا فأضاءت عصا أحدهما لهما حتى مشيا في ضوئها فلما انفرق بينهما الطريق أضاءت للآخر عصاه فمشى في ضوئها حتى بلغ منزله الثالث قالوا لخالد بن الوليد إن في عسكرك من يشرب الخمر فركب فرسه ليلة فطاف بالعسكر فلقي رجلاً على فرس ومعه زق خمر فقال ما هذا قال خل فقال خالد اللهم اجعله خلاً فذهب الرجل إلى

أصحابه فقال أتيتكم بخمر ما شربت العرب مثلهاا فلما فتحوا فإذا هو خل فقالوا والله ما جئتنا إلا بخل فقال هذا والله دعاء خالد بن الوليد الرابع الواقعة المشهورة وهي أن خالد بن الوليد أكل كفاً من السم على اسم الله وماضره الخامس روي أن ابن عمر كان في بعض أسفاره فلقي جماعة وقفوا على الطريق من خوف السبع فطرد السبع من طريقهم ثم قال إنما يسلط على ابن آدم ما يخافه ولو أنه لم يخف غير الله لما سلط عليه شيء السادس روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعث العلاء بن الحضرمي في غزاة فحال بينهم وبين المطلوب قطعة من البحر فدعا باسم الله الأعظم ومشوا على الماء وفي كتب الصوفية من هذا الباب روايات متجاوزة عن الحد والحصر فمن أرادها طالعها وأما الدلائل العقلية القطعية على جواز الكرامات فمن وجوه
الحجة الأولى أن العبد ولي الله قال الله تعالى أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ( يونس 62 ) والرب ولي العبد قال تعالى اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( البقرة 257 ) وقال وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ( الأعراف 166 ) وقال إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ( المائدة 55 ) وقال أَنتَ مَوْلَانَا ( البقرة 286 ) وقال ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ ءامَنُواْ ( محمد 11 ) فثبت أن الرب ولي العبد وأن العبد ولي الرب وأيضاً الرب حبيب العبد والعبد حبيب الرب قال تعالى يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ( المائدة 54 ) وقال وَالَّذِينَ ءامَنُواْ أَشَدُّ حُبّا لِلَّهِ ( البقرة 165 ) وقال إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوبِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهّرِينَ ( البقرة 222 ) وإذا ثبت هذا فنقول العبد إذا بلغ في الطاعة إلى حيث يفعل كل ما أمره الله وكل ما فيه رضاه وترك كل ما نهى الله وزجر عنه فكيف يبعد أن يفعل الرب الرحيم الكريم مرة واحدة ما يريده العبد بل هو أولى لأن العبد مع لؤمه وعجزه لما فعل كل ما يريده الله ويأمره به فلأن يفعل الرب الرحيم مرة واحدة ما أراده العبد كان أولى ولهذا قال تعالى أَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ( البقرة 45 )
الحجة الثانية لو امتنع إظهار الكرامة لكان ذلك إما لأجل أن الله ليس أهلاً لأن يفعل مثل هذا الفعل أو لأجل أن المؤمن ليس أهلاً لأن يعطيه الله هذه العطية والأول قدح في قدرة الله وهو كفر والثاني باطل فإن معرفة ذات الله وصفاته وأفعاله وأحكامه وأسمائه ومحبة الله وطاعاته والمواظبة على ذكر تقديسه وتمجيده وتهليله أشرف من إعطاء رغيف واحد مني مفازة أو تسخير حية أو أسد فلما أعطى المعرفة والمحبة والذكر والشكر من غير سؤال فلأن يعطيه رغيفاً في مفازة فأي بعد فيه
الحجة الثالثة قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حكاية عن رب العزة ( ما تقرب عبد إلي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت له سمعاً وبصراً ولساناً وقلباً ويداً ورجلاً بي يسمع وبي يبصر وبي ينطق وبي يمشي ) وهذا الخبر يدل على أنه لم يبق في سمعهم نصيب لغير الله ولا في بصرهم ولا في سائر أعضائهم إذ لو بقي هناك نصيب لغير الله لما قال أنا سمعه وبصره إذا ثبت هذا فنقول لا شك أن هذا المقام أشرف من تسخير الحية والسبع وإعطاء الرغيف وعنقود من العنب أو شربة من الماء فلما أوصل الله برحمته عبده إلى هذه الدرجات العالية فأي بعد في أن يعطيه رغيفاً واحداً أو شربة ماء في مفازة
الحجة الرابعة قال عليه السلام حاكياً عن رب العزة ( من آذى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة ) فجعل إيذاء الولي قائماً مقام إيذائه وهذا قريب من قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ ( الفتح 10 ) وقال وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَة ٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً ( الأحزاب 36 ) وقال إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِى الدُّنْيَا وَالاْخِرَة ِ

( الأحزاب 57 ) فجعل بيعة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بيعة مع الله ورضاء محمد ( صلى الله عليه وسلم ) رضاء الله وإيذاء محمد ( صلى الله عليه وسلم ) إيذاء الله فلا جرم كانت درجة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أعلى الدرجات إلى أبلغ الغايات فكذا ههنا لما قال ( من آذى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة ) دل ذلك على أنه تعالى جعل إيذاء الولي قائماً مقام إيذاء نفسه ويتأكد هذا بالخبر المشهور أنه تعالى يقول ( يوم القيامة مرضت فلم تعدني استسقيتك فما سقيتني استطعمتك فما أطعمتني فيقول يا رب كيف أفعل هذا وأنت رب العالمينا فيقول إن عبدي فلاناً مرض فلم تعده أما علمت أنك لو عدته لوجدت ذلك عندي ) وكذا في السقي والإطعام فدلت هذه الأخبار على أن أولياء الله يبلغون إلى هذه الدرجات فأي بعد في أن يعطيه الله كسرة خبز أو شربة ماء أو يسخر له كلباً أو ورداً
الحجة الخامسة أنا نشاهد في العرف أن من خصه الملك بالخدمة الخاصة وأذن له في الدخول عليه في مجلس الأنس فقد يخصه أيضاً بأن يقدره على ما لا يقدر عليه غيره بل العقل السليم يشهد بأنه متى حصل ذلك القرب فإنه يتبعه هذه المناصب فجعل القرب أصلاً والمنصب تبعاً وأعظم الملوك هو رب العالمين فإذا شرف عبداً بأنه أوصله إلى عتبات خدمته ودرجات كرامته وأوقفه على أسرار معرفته ورفع حجب البعد بينه وبين نفسه وأجلسه على بساط قربه فأي بعد في أن يظهر بعض تلك الكرامات في هذا العالم مع أن كل هذا العالم بالنسبة إلى ذرة من تلك السعادات الروحانية والمعارف الربانية كالعدم المحض
الحجة السادسة لا شك أن المتولي للأفعال هو الروح لا البدن ولا شك أن معرفة الله تعالى للروح كالروح للبدن على ما قررناه في تفسير قوله تعالى يُنَزّلُ الْمَلَائِكَة َ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ( النمل 20 ) وقال عليه السلام ( أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني ) ولهذا المعنى نرى أن كل من كان أكثر علماً بأحوال عالم الغيب كان أقوى قلباً وأقل ضعفاً ولهذا قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه والله ما قلعت باب خيبر بقوة جسدانية ولكن بقوة ربانية وذلك لأن علياً كرم الله وجهه في ذلك الوقت انقطع نظره عن عالم الأجساد وأشرقت الملائكة بأنوار عالم الكبرياء فتقوى روحه وتشبه بجواهر الأرواح الملكية وتلألأت فيه أضواء عالم القدس والعظمة فلا جرم حصل له من القدرة ما قدر بها على ما لم يقدر عليه غيره وكذلك العبد إذا واظب على الطاعات بلغ إلى المقام الذي يقول الله كنت له سمعاً وبصراً فإذا صار نور جلال الله سمعاً له سمع القريب والبعيد وإذا صار ذلك النور بصراً له رأى القريب والبعيد وإذا صار ذلك النور يداً له قدر على التصرف في الصعب والسهل والبعيد والقريب
الحجة السابعة وهي مبنية على القوانين العقلية الحكمية وهي أنا قد بينا أن جوهر الروح ليس من جنس الأجسام الكائنة الفاسدة المتعرضة للتفرق والتمزق بل هو من جنس جواهر الملائكة وسكان عالم السموات ونوع المقدسين المطهرين إلا أنه لما تعلق بهذا البدن واستغرق في تدبيره صار في ذلك الاستغراق إلى حيث نسي الوطن الأول والمسكن المتقدم وصار بالكلية متشبهاً بهذا الجسم الفاسد فضعفت قوته وذهبت مكنته ولم يقدر على شيء من الأفعال أما إذا استأنست بمعرفة الله ومحبته وقل انغماسها في تدبير

هذا البدن وأشرقت عليها أنوار الأرواح السماوية العرشية المقدسة وفاضت عليها من تلك الأنوار قويت على التصرف في أجسام هذا العالم مثل قوة الأرواح الفلكية على هذه الأعمال وذلك هو الكرامات وفيه دقيقة أخرى وهي أن مذهبنا أن الأرواح البشرية مختلفة بالماهية ففيها القوية والضعيفة وفيها النورانية والكدرة وفيها الحرة والنذلة والأرواح الفلكية أيضاً كذلك ألا ترى إلى جبريل كيف قال الله في وصفه إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِى قُوَّة ٍ عِندَ ذِى الْعَرْشِ مَكِينٍ مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ( التكوير 19 20 ) وقال في قوم آخرين من الملائكة وَكَمْ مّن مَّلَكٍ فِى السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِى شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً ( النجم 26 ) فكذا ههنا فإذا اتفق في نفس من النفوس كونها قوية القوة القدسية العنصرية مشرقة الجوهر علوية الطبيعة ثم انضاف إليها أنواع الرياضات التي تزيل عن وجهها غبرة عالم الكون والفساد أشرقت وتلألأت وقويت على التصرف في هيولي عالم الكون والفساد بإعانة نور معرفة الحضرة الصمدية وتقوية أضواء حضرة الجلال والعزة ولنقبض ههنا عنان البيان فإن وراءها أسراراً دقيقة وأحوالاً عميقة من لم يصل إليها لم يصدق بها ونسأل الله الإعانة على إدراك الخيرات واحتج المنكرون للكرامات بوجوه الشبهة الأولى وهي التي عليها يعولون وبها يضلون أن ظهور الخارق للعادة جعله الله دليلاً على النبوة فلو حصل لغير نبي لبطلت هذه الدلالة لأن حصول الدليل مع عدم المدلول يقدح في كونه دليلاً وذلك باطل والشبهة الثانية تمسكوا بقوله عليه السلام حكاية عن الله سبحانه ( لن يتقرب المتقربون إلي بمثل أداء ما افترضت عليهم ) قالوا هذا يدل على أن التقرب إلى الله بأداء الفرائض أعظم من التقرب إليه بأداء النوافل ثم إن المتقرب إليه بأداء الفرائض لا يحصل له شيء من الكرامات فالمتقرب إليه بأداء النوافل أولى أن لا يحصل له ذلك الشبهة الثالثة تمسكوا بقوله تعالى وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقّ الانفُسِ ( النحل 7 ) والقول بأن الولي ينتقل من بلد إلى بلد بعيد لا على الوجه طعن في هذه الآية وأيضاً أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) لم يصل من مكة إلى المدينة إلا في أيام كثيرة مع التعب الشديد فكيف يعقل أن يقال أن الولي ينتقل من بلد نفسه إلى الحج في يوم واحد الشبهة الرابعة قالوا هذا الولي الذي تظهر عليه الكرامات إذا ادعى على إنسان درهماً فهل نطالبه بالبينة أم لا فإن طالبناه بالبينة كان عبثاً لأن ظهور الكرامات عليه يدل على أنه لا يكذب ومع قيام الدليل القاطع كيف يطلب الدليل الظني وإن لم نطالبه بها فقد تركنا قوله عليه السلام ( البينة على المدعي ) فهذا يدل على أن القول بالكرامة باطل الشبهة الخامسة إذا جاز ظهور الكرامة على بعض الأولياء جاز ظهورها على الباقين فإذا كثرت الكرامات حتى خرقت العادة جرت وفقاً للعادة وذلك يقدح في المعجزة والكرامة ( والجواب ) عن الشبهة الأولى أن الناس اختلفوا في أنه هل يجوز للولي دعوى الولاية فقال قوم من المحققين إن ذلك لا يجوز فعلى هذا القول يكون الفرق بين المعجزات والكرامات أن المعجزة تكون مسبوقة بدعوى النبوة والكرامة لا تكون مسبوقة بدعوى الولاية والسبب في هذا الفرق أن الأنبياء عليهم السلام إنما بعثوا إلى الخلق ليصيروا دعاة للخلق من الكفر إلى الإيمان ومن المعصية إلى الطاعة فلو لم تظهر دعوى النبوة لم يؤمنوا به وإذا لم يؤمنوا به بقوا على الكفر وإذا ادعوا النبوة وأظهروا المعجزة آمن القوم بهم فإقدام الأنبياء على دعوى النبوة ليس الغرض منه تعظيم النفس بل المقصود منه إظهار الشفقة على الخلق حتى ينتقلوا من الكفر إلى الإيمان أما ثبوت الولاية للولي فليس الجهل بها كفراً ولا معرفتها إيماناً فكان دعوى الولاية طلباً لشهوة النفس فعلمنا أن النبي يجب عليه إظهار دعوى النبوة

والولي لا يجوز له دعوى الولاية فظهر الفرق أما الذين قالوا يجوز للولي دعوى الولاية فقد ذكروا الفرق بين المعجزة والكرامة من وجوه الأول أن ظهور الفعل الخارق للعادة يدل على كون ذلك الإنسان مبرءاً عن المعصية ثم إن اقترن هذا الفعل بادعاء النبوة دل على كونه صادقاً في دعوى النبوة وإن اقترن بادعاء الولاية دل على كونه صادقاً في دعوى الولاية وبهذا الطريق لا يكون ظهور الكرامة على الأولياء طعناً في معجزات الأنبياء عليهم السلام الثاني أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يدعي المعجزة ويقطع بها والولي إذا ادعى الكرامة لا يقطع بها لأن المعجزة يجب ظهورها أما الكرامة ( ف ) لا يجب ظهورها الثالث أنه يجب نفي المعارضة عن المعجزة ولا يجب نفيها عن الكرامة الرابع أنا لا نجوز ظهور الكرامة على الولي عند ادعاء الولاية إلا إذا أقر عند تلك الدعوى بكونه على دين ذلك النبي ومتى كان الأمر كذلك صارت تلك الكرامة معجزة لذلك النبي ومؤكدة لرسالته وبهذا التقدير لا يكون ظهور الكرامة طاعناً في نبوة النبي بل يصير مقوياً لها ( والجواب ) عن الشبهة الثانية أن التقرب بالفرائض وحدها أكمل من التقرب بالنوافل أما الولي فإنما يكون ولياً إذا كان آتياً بالفرائض والنوافل ولا شك أنه يكون حاله أتم من حال من اقتصر على الفرائض فظهر الفرق ( والجواب ) على الشبهة الثالثة أن قوله تعالى وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقّ الانفُسِ محمول على المعهود المتعارف وكرامات الأولياء أحوال نادرة فتصير كالمستثناة عن ذلك العموم وهذا هو ( الجواب ) عن الشبهة الرابعة وهي التمسك بقوله عليه السلام البينة على المدعي ( والجواب ) عن الشبهة الخامسة أن المطيعين فيهم قلة كما قال تعالى وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِى َ الشَّكُورُ ( سبأ 13 ) وكما قال إبليس وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ( الأعراف 17 ) وإذا حصلت القلة فيهم لم يكن ما يظهر عليهم من الكرامات في الأوقات النادرة قادحاً في كونها على خلاف العادة
المسألة السابعة في الفرق بين الكرامات والاستدراج اعلم أن من أراد شيئاً فأعطاه الله مراده لم يدل ذلك على كون ذلك العبد وجيهاً عند الله تعالى سواء كانت العطية على وفق العادة أو لم تكن على وفق العادة بل قد يكون ذلك إكراماً للعبد وقد يكون استدراجاً له ولهذا الاستدراج أسماء كثيرة من القرآن أحدها الاستدراج قال الله تعالى سَنَسْتَدْرِجُهُم مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ ( الأعراف 182 ) ومعنى الاستدراج أن يعطيه الله كل ما يريده في الدنيا ليزداد غيه وضلاله وجهله وعناده فيزداد كل يوم بعداً من الله وتحقيقه أنه ثبت في العلوم العقلية أن تكرر الأفعال سبب لحصول الملكة الراسخة فإذا مال قلب العبد إلى الدنيا ثم أعطاه الله مراده فحينئذ يصل الطالب إلى المطلوب وذلك يوجب حصول اللذة وحصول اللذة يزيد في الميل وحصول الميل يوجب مزيد السعي ولا يزال يتأدى كل واحد منهما إلى الآخر وتتقوى كل واحدة من هاتين الحالتين درجة فدرجة ومعلوم أن الاشتغال بهذه اللذات العاجلة مانع عن مقامات المكاشفات ودرجات المعارف فلا جرم يزداد بعده عن الله درجة فدرجة إلى أن يتكامل فهذا هو الاستدراج وثانيها المكر قال تعالى فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ( الأعراف 99 ) وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ( آل عمران 54 ) وقال وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ( النمل 50 ) وثالثها الكيد قال تعالى يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ( النساء 142 ) وقال يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ ءامَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ ( البقرة 9 ) ورابعها الإملاء قال تعالى وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرًا لاِنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً ( آل

عمران 178 ) وخامسها الإهلاك قال تعالى حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُمْ ( الأنعام 44 ) وقال في فرعون وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِى الاْرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِى الْيَمّ ( القصص 39 40 ) فظهر بهذه الآيات أن الإيصال إلى المرادات لا يدل على كمال الدرجات والفوز بالخيرات بقي علينا أن نذكر الفرق بين الكرامات وبين الاستدراجات فنقول إن صاحب الكرامة لا يستأنس بتلك الكرامة بل عند ظهور الكرامة يصير خوفه من الله تعالى أشد وحذره من قهر الله أقوى فإنه يخاف أن يكون ذلك من باب الاستدراج وأما صاحب الاستدراج فإنه يستأنس بذلك الذي يظهر عليه ويظن أنه إنما وجد تلك الكرامة لأنه كان مستحقاً لها وحينئذ يستحقر غيره ويتكبر عليه ويحصل له أمن من مكر الله وعقابه ولا يخاف سوء العاقبة فإذا ظهر شيء من هذه الأحوال على صاحب الكرامة دل ذلك على أنها كانت استدراجاً لا كرامة فلهذا المعنى قال المحققون أكثر ما اتفق من الانقطاع عن حضرة الله إنما وقع في مقام الكرامات فلا جرم ترى المحققين يخافون من الكرامات كما يخافون من أنواع البلاء والذي يدل على أن الاستئناس بالكرامة قاطع عن الطريق وجوه
الحجة الأولى أن هذا الغرور إنما يحصل إذا اعتقد الرجل أنه مستحق لهذ الكرامة لأن بتقدير أن لا يكون مستحقاً لها امتنع حصول الفرح بها بل يجب أن يكون فرحه بكرم المولى وفضله أكبر من فرحه بنفسه فثبت أن الفرح بالكرامة أكثر من فرحه بنفسه وثبت أن الفرح بالكرامة لا يحصل إلا إذا اعتقد أنه أهل ومستحق لها وهذا عين الجهل لأن الملائكة قالوا لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا ( البقرة 32 ) وقال تعالى وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ( الأنعام 91 ) وأيضاً قد ثبت بالبرهان اليقيني أنه لا حق لأحد من الخلق على الحق فكيف يحصل ظن الاستحقاق
الحجة الثانية أن الكرامات أشياء مغايرة للحق سبحانه فالفرح بالكرامة فرح بغير الحق والفرح بغير الحق حجاب عن الحق والمحجوب عن الحق كيف يليق به الفرح والسرور
الحجة الثالثة أن من اعتقد في نفسه أنه صار مستحقاً للكرامة بسبب عمله حصل لعمله وقع عظيم في قلبه ومن كان لعمله وقع عنده كان جاهلاً ولو عرف ربه لعلم أن كل طاعات الخلق في جنب جلال الله تقصير وكل شكرهم في جنب آلائه ونعمائه قصور وكل معارفهم وعلومهم فهي في مقابلة عزته حيرة وجهل رأيت في بعض الكتب أنه قرأ المقرىء في مجلس الأستاذ أبي علي الدقاق قوله تعالى إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ( فاطر 10 ) فقال علامة أن الحق رفع عملك أن لا يبقى ( ذكره ) عندك فإن بقي عملك في نظرك فهو مدفوع وإن لم يبق معك فهو مرفوع مقبول
الحجة الرابعة أن صاحب الكرامة إنما وجد الكرامة لإظهار الذل والتواضع في حضرة الله فإذا ترفع وتجبر وتكبر بسبب تلك الكرامات فقد بطل ما به وصل إلى الكرامات فهذا طريق ثبوته يؤديه إلى عدمه فكان مردوداً ولهذا المعنى لما ذكر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مناقب نفسه وفضائلها كان يقول في آخر كل واحد منها ولا فخر يعني لا أفتخر بهذه الكرامات وإنما أفتخر بالمكرم والمعطي
الحجة الخامسة أن ظاهر الكرامات في حق إبليس وفي حق بلعام كان عظيماً ثم قيل لإبليس وكان من الكافرين وقيل لبلعام فمثله كمثل الكلب وقيل لعلماء بني إسرائيل مَثَلُ الَّذِينَ حُمّلُواْ التَّوْرَاة َ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً

( الجمعة 5 ) وقيل أيضاً في حقهم وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ( آل عمران 19 ) فبين أن وقوعهم في الظلمات والضلالات كان بسبب فرحهم بما أوتوا من العلم والزهد
الحجة السادسة أن الكرامة غير المكرم وكل ما هو غير المكرم فهو ذليل وكل من تعزز بالذليل فهو ذليل ولهذا المعنى قال الخليل صلوات الله عليه أما إليك فلا فالاستغناء بالفقير فقر والتقوي بالعاجز عجز والاستكمال بالناقص نقصان والفرح بالمحدث بله والإقبال بالكلية على الحق خلاص فثبت أن الفقير إذا ابتهج بالكرامة سقط عن درجته أما إذا كان لا يشاهد في الكرامات إلا المكرم ولا في الإعزاز إلا المعز ولا في الخلق إلا الخالق فهناك يحق الوصول
الحجة السابعة أن الافتخار بالنفس وبصفاتها من صفات إبليس وفرعون قال إبليس أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ ( الأعراف 12 ) وقال فرعون أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ ( الزخرف 51 ) وكل من ادعى الإلهية أو النبوة بالكذب فليس له غرض إلا تزيين النفس وتقوية الحرص والعجب ولهذا قال عليه السلام ( ثلاث مهلكات وختمها بقوله وإعجاب المرء بنفسه )
الحجة الثامنة أنه تعالى قال فَخُذْ مَا ءاتَيْتُكَ وَكُنْ مّنَ الشَّاكِرِينَ ( الأعراف 144 ) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ( الحجر 99 ) فلما أعطاه الله العطية الكبرى أمره بالاشتغال بخدمة المعطى لا بالفرح بالعطية
الحجة التاسعة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما خيره الله بين أن يكون ملكاً نبياً وبين أن يكون عبداً نبياً ترك الملك ولا شك أن وجدان الملك الذي يعم المشرق والمغرب من الكرامات بل من المعجزات ثم إنه ( صلى الله عليه وسلم ) ترك ذلك الملك واختار العبودية لأنه إذا كان عبداً كان افتخاره بمولاه وإذا كان ملكاً كان افتخاره بعبيده فلما اختار العبودية لا جرم جعل السنة التي في التحيات التي رواها ابن مسعود ( وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ) وقيل في المعراج سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ ( الإسراء 1 )
الحجة العاشرة أن محب المولى غير ومحب ما للمولى غير فمن أحب المولى لم يفرح بغير المولى ولم يستأنس بغير المولى فالاستئناس بغير المولى والفرح بغيره يدل على أنه ما كان محباً للمولى بل كان محباً لنصيب نفسه ونصيب النفس إنما يطلب للنفس فهذا الشخص ما أحب إلا نفسه وما كان المولى محبوباً له بل جعل المولى وسيلة إلى تحصيل ذلك المطلوب والصنم الأكبر هو النفس كما قال تعالى أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَاهَهُ هَوَاهُ ( الجاثية 23 ) فهذا الإنسان عابد للصنم الأكبر حتى أن المحققين قالوا لا مضرة في عبادة شيء من الأصنام مثل المضرة الحاصلة في عبادة النفس ولا خوف من عبادة الأصنام كالخوف من الفرح بالكرامات
الحجة الحادية عشرة قوله تعالى وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ وهذا يدل على أن من لم يتق الله ولم يتوكل عليه لم يحصل له شيء

من هذه الأفعال والأحوال
المسألة الثامنة في أن الولي هل يعرف كونه ولياً قال الأستاذ أبو بكر بن فورك لا يجوز وقال الأستاذ أبو علي الدقاق وتلميذه أبو القاسم القشيري يجوز وحجة المانعين وجوه
الحجة الأولى لو عرف الرجل كونه ولياً لحصل له الأمن بدليل قوله تعالى أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ لكن حصول الأمن غير جائز ويدل عليه وجوه أحدها قوله مالي فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ واليأس أيضاً غير جائز لقوله تعالى يبَنِى َّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَايْئَسُواْ مِن ولقوله تعالى وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَة ِ رَبّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ والمعنى فيه أن الأمن لا يحصل إلا عند اعتقاد العجز واليأس لا يحصل إلا عند اعتقاد البخل واعتقاد العجز والبخل في حق الله كفر فلا جرم كان حصول الأمن والقنوط كفراً الثاني أن الطاعات وإن كثرت إلا أن قهر الحق أعظم ومع كون القهر غالباً لا يحصل الأمن الثالث أن الأمن يقتضي زوال العبودية وترك الخدمة والعبودية يوجب العداوة والأمن يقتضي ترك الخوف الرابع أنه تعالى وصف المخلصين بقوله وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ قيل رغباً في ثوابنا ورهباً من عقابنا وقيل رغباً في فضلنا ورهباً من عدلنا وقيل رغباً في وصالنا ورهباً من فراقنا والأحسن أن يقال رغباً فينا ورهباً منا
الحجة الثانية على أن الولي لا يعرف كونه ولياً أن الولي إنما يصير ولياً لأجل أن الحق يحبه لا لأجل أنه يحب الحق وكذلك القول في العدو ثم إن محبة الحق وعداوته سران لا يطلع عليهما أحد فطاعات العباد ومعاصيهم لا تؤثر في محبة الحق وعداوته لأن الطاعات والمعاصي محدثة وصفات الحق قديمة غير متناهية والمحدث المتناهي لا يصير غالباً للقديم غير المتناهي وعلى هذا التقدير فربما كان العبد في الحال في عين المعصية إلا أن نصيبه من الأزل عين المحبة وربما كان العبد في الحال في عين الطاعة ولكن نصيبه من الأزل عين العداوة وتمام التحقيق أن محبته وعداوته صفة وصفة الحق غير معللة ومن كانت محبته لا لعلة فإنه يمتنع أن يصير عدواً بعلة المعصية ومن كانت عدواته لا لعلة يمتنع أن يصير محباً لعلة الطاعة ولما كانت محبة الحق وعداوته سرين لا يطلع عليهما لا جرم قال عيسى عليه السلام تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ
الحجة الثالثة على أن الولي لا يعرف كونه ولياً أن الحكم بكونه ولياً وبكونه من أهل الثواب والجنة يتوقف على الخاتمة والدليل عليه قوله تعالى مَن جَاء بِالْحَسَنَة ِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ولم يقل من عمل حسنة فله عشر أمثالها وهذا يدل على أن استحقاق الثواب مستفاد من الخاتمة لا من أول العمل والذي يؤكد ذلك أنه لو مضى عمره في الكفر ثم أسلم في آخر الأمر كان من أهل الثواب وبالضد وهذا دليل على أن العبرة بالخاتمة لا بأول العمل ولهذا قال تعالى قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ فثبت أن العبرة في الولاية والعداوة وكونه من أهل الثواب أو من أهل العقاب بالخاتمة فظهر أن الخاتمة غير معلومة لأحد فوجب القطع بأن الولي لا يعلم كونه ولياً أما الذين قالوا إن الولي قد يعرف كونه ولياً فقد احتجوا على صحة قولهم بأن الولاية لها ركنان أحدهما كونه في الظاهر منقاداً للشريعة الثاني كونه في الباطن مستغرقاً في نور الحقيقة فإذا حصل الأمران وعرف الإنسان حصولهما

عرف لا محالة كونه ولياً أما الانقياد في الظاهر للشريعة فظاهر وأما استغراق الباطن في نور الحقيقة فهو أن يكون فرحه بطاعة الله واستئناسه بذكر الله وأن لا يكون له استقرار مع شيء سوى الله والجواب أن تداخل الأغلاط في هذا الباب كثيرة غامضة والقضاء عسر والتجربة خطر والجزم غرور ودون الوصول إلى عالم الربوبية أستار تارة من النيران وأخرى من الأنوار والله العالم بحقائق الأسرار ولنرجع إلى التفسير
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَة ٌ ءَامَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ والأرض لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إِلاهاً لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا هَاؤُلا ءِ قَوْمُنَا اتَّخَذْواْ مِن دُونِهِ ءَالِهَة ً لَّوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا
اعلم أنه تعالى ذكر من قبل جملة من واقعتهم ثم قال نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بِالْحَقّ أي على وجه الصدق نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم كانوا جماعة من الشبان آمنوا بالله ثم قال تعالى في صفاتهم وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أي ألهمناها الصبر وثبتناها إِذْ قَامُواْ وفي هذا القيام أقوال الأول قال مجاهد كانوا عظماء مدينتهم فخرجوا فاجتمعوا وراء المدينة من غير ميعاد فقال رجل منهم أكبر القوم إني لأجد في نفسي شيئاً ما أظن أن أحداً يجده قالوا ما تجد قال أجد في نفسي أن ربي رب السموات والأرض القول الثاني أنهم قاموا بين يدي ملكهم دقيانوس الجبار وقالوا ربنا رب السموات والأرض وذلك لأنه كان يدعو الناس إلى عبادة الطواغيت فثبت الله هؤلاء الفتية وعصمهم حتى عصوا ذلك الجبار وأقروا بربوبية الله وصرحوا بالبراءة عن الشركاء والأنداد والقول الثالث وهو قول عطاء ومقاتل أنهم قالوا ذلك عند قيامهم من النوم وهذا بعيد لأن الله استأنف قصتهم بقوله نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ وقوله لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا معنى الشطط في اللغة مجاوزة الحد قال الفراء يقال قد أشط في السوم إذ جاوز الحد ولم يسمع إلا أشط يشط أشطاطاً وشططاً وحكى الزجاج وغيره شط الرجل وأشط إذا جاوز الحد ومنه قوله وَلاَ تُشْطِطْ ( ص 22 ) وأصل هذا من قولهم شطت الدار إذا بعدت فالشطط البعد عن الحق وهو ههنا منصوب على المصدر والمعنى لقد قلنا إذا قولاً شططاً أما قوله هَؤُلاء قَوْمُنَا اتَّخَذْواْ مِن دُونِهِ ءالِهَة ً هذا من قول أصحاب الكهف ويعنون الذين كانوا في زمان دقيانوس عبدوا الأصنام لَّوْلاَ يَأْتُونَ لَّوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيّنٍ بحجة بينة

ومعنى عليهم أي على عبادة الآلهة ومعنى الكلام أن عدم البينة بعدم الدلائل على ذلك لا يدل على عدم المدلول ومن الناس من يحتج بعدم الدليل على عدم المدلول ويستدل على صحة هذه الطريقة بهذه الآية فقال إنه تعالى استدل على عدم الشركاء والأضداد بعدم الدليل عليها فثبت أن الاستدلال بعدم الدليل على عدم المدلول طريقة قوية ثم قال فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا يعني أن الحكم بثبوت الشيء مع عدم الدليل عليه ظلم وافتراء على الله وكذب عليه وهذا من أعظم الدلائل على فساد القول بالتقليد
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إَلاَّ اللَّهَ فَأْوُواْ إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّى ءْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقًا وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِى فَجْوَة ٍ مِّنْهُ ذالِكَ مِنْ ءَايَاتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا
اعلم أن المراد أنه قال بعضهم لبعض وَإِذَا اعْتَزَلْتُمُوهُمْ واعتزلتم الشيء الذي يعبدونه إلا الله فإنكم لم تعتزلوا عبادة الله فَأْوُواْ إِلَى الْكَهْفِ قال الفراء هو جواب إذ كما تقول إذ فعلت كذا فافعل كذا ومعناه إذهبوا إليه واجعلوه مأواكم يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مّن رَّحْمَتِهِ أي يبسطها عليكم وَيُهَيّىء لَكُمْ مّنْ أَمْرِكُمْ مّرْفَقًا قرأن افع وابن عامر وعاصم في رواية مرفقاً بفتح الميم وكسر الفاء والباقون مرفقاً بكسر الميم وفتح الفاء قال الفراء وهما لغتان واشتقاقهما من الإرتفاق وكان الكسائي ينكر في مرفق الإنسان الذي في اليد إلا كسر الميم وفتح الفاء والفراء يجيزه في الأمر وفي اليد وقيل هما لغتان إلا أن الفتح أقيس والكسر أكثر وقيل المرفق ما ارتفقت به والمرفق بالفتح المرافق ثم قال تعالى وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشّمَالِ وفيه مباحث
البحث الأول قرأ ابن عامر تَزْوَرُّ ساكنة الزاي المعجمة مشددة الراء مثل تحمر وقرأ عاصم وحمزة والكسائي تزاور بالألف والتخفيف والباقون تزاور بالتشديد والألف والكل بمعنى واحد والتزاور هو الميل والانحراف ومنه زاره إذا مال إليه والزور الميل عن الصدق وأما التشديد فأصله تتزاور سكنت التاء الثانية وأدغمت في الزاي وأما التخفيف فهو تفاعل من الزور وأما تزور فهو من الإزورار
البحث الثاني قوله وَتَرَى الشَّمْسَ أي أنت أيها المخاطب ترى الشمس عند طلوعها تميل عن كهفهم وليس المراد أن من خوطب بهذا يرى هذا المعنى ولكن العادة في المخاطبة تكون على هذا النحو ومعناه أنك لو رأيته على هذه الصورة
البحث الثالث قوله ذَاتَ الْيَمِينِ أي جهة اليمين وأصله أن ذات صفة أقيمت مقام الموصوف لأنها

تأنيث ذو في قولهم رجل ذو مال وامرأة ذات مال والتقدير كأنه قيل تزاور عن كهفهم جهة ذات اليمين وأما قوله وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشّمَالِ ففيه بحثان
البحث الأول قال الكسائي قرضت المكان أي عدلت عنه وقال أبو عبيدة القرض في أشياء فمنها القطع وكذلك السير في البلاد أي إذا قطعها تقول لصاحبك هل وردت مكان كذا فيقول المجيب إنما قرضته فقوله تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشّمَالِ أي تعدل عن سمت رؤوسهم إلى جهة الشمال
البحث الثاني للمفسرين ههنا قولان القول الأول أن باب ذلك الكهف كان مفتوحاً إلى جانب الشمال فإذا طلعت الشمس كانت على يمين الكهف وإذا غربت كانت على شماله فضوء الشمس ما كان يصل إلى داخل الكهف وكان الهواء الطيب والنسيم الموافق يصل والمقصود أن الله تعالى صان أصحاب الكهف من أن يقع عليهم ضوء الشمس وإلا لفسدت أجسامهم فهي مصونة عن العفونة والفساد والقول الثاني أنه ليس المراد ذلك وإنما المراد أن الشمس إذا طلعت منع الله ضوء الشمس من الوقوع وكذا القول حال غروبها وكان ذلك فعلاً خارقاً للعادة وكرامة عظيمة خص الله بها أصحاب الكهف وهذا قول الزجاج واحتج على صحته بقوله ذالِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ قال ولو كان الأمر كما ذكره أصحاب القول الأول لكان ذلك أمراً معتاداً مألوفاً فلم يكن ذلك من آيات الله وأما إذا حملنا الآية على هذا الوجه الثاني كان ذلك كرامة عجيبة فكانت من آيات الله واعلم أنه تعالى أخبر بعد ذلك أنهم كانوا في متسع من الكهف ينالهم فيه برد الريح ونسيم الهواء قال وَهُمْ فِى فَجْوَة ٍ مّنْهُ أي من الكهف والفجوة متسع في مكان قال أبو عبيدة وجمعها فجوات ومنه الحديث ( فإذا وجد فجوة نص ) ثم قال تعالى ذالِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وفيه قولان الذين قالوا إنه يمنع وصول ضوء الشمس بقدرته قالوا المراد من قوله ذلك أي ذلك التزاور والميل والذين لم يقولوا به قالوا المراد بقوله ذلك أي ذلك الحفظ الذي حفظهم الله في الغار تلك المدة الطويلة من آيات الله الدالة على عجائب قدرته وبدائع حكمته ثم بين تعالى أنه كما أن بقاءهم هذه المدة الطويلة مصوناً عن الموت والهلاك من تدبيراته ولطفه وكرمه فكذلك رجوعهم أولاً عن الكفر ورغبتهم في الإيمان كان بإعانة الله ولطفه فقال مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ مثل أصحاب الكهف وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّا مُّرْشِدًا كدقيانوس الكافر وأصحابه ومناظرات أهل الجبر والقدر في هذه الآية معلومة
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ اليَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا
اعلم أن معنى قوله وَتَحْسَبُهُمْ على ما ذكرناه في قوله وَتَرَى الشَّمْسَ أي لو رأيتهم لحسبتهم أَيْقَاظًا وهو جمع يقظ ويقظان قاله الأخفش وأبو عبيدة والزجاج وأنشدوا لرؤبة
ووجدوا إخوانهم أيقاظاً

ومثله قوله نجد ونجدان وأنجاد وهم رقود أي نائمون وهو مصدر سمي المفعول به كما يقال قوم ركوع وقعود وسجود يوصف الجمع بالمصدر ومن قال إنه جمع راقد فقد أبعد لأنه لم يجمع فاعل على فعول قال الواحدي وإنما يحسبون أَيْقَاظًا لأن أعينهم مفتحة وهم نيام وقال الزجاج لكثرة تقلبهم يظن أنهم أيقاظ والدليل عليه قوله تعالى وَنُقَلّبُهُمْ ذَاتَ اليَمِينِ وَذَاتَ الشّمَالِ واختلفوا في مقدار مدة التقليب فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن لهم في كل عام تقليبتين وعن مجاهد يمكثون على أيمانهم تسع سنين ثم يقلبون على شمائلهم فيمكثون رقوداً تسع سنين وقيل لهم تقليبة واحدة في يوم عاشوراء وأقول هذه التقديرات لا سبيل للعقل إليها ولفظ القرآن لا يدل عليه وما جاء فيه خبر صحيح فكيف يعرف وقال ابن عباس رضي الله عنهما فائدة تقليبهم لئلا تأكل الأرض لحومهم ولا تبليهم وأقول هذا عجيب لأنه تعالى لما قدر على أن يمسك حياتهم مدة ثلثمائة سنة وأكثر فلم لا يقدر على حفظ أجسادهم أيضاً من غير تقليب وقوله ذَاتُ منصوبة على الظرف لأن المعنى نقلبهم في ناحية عَنِ الْيَمِينِ أو على ناحية الْيَمِينِ كما قلنا في قوله تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وقوله وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ قال ابن عباس وأكثر المفسرين قالوا إنهم هربوا ليلاً من ملكهم فمروا براع معه كلب فتبعهم على دينهم ومعه كلبه وقال كعب مروا بكلب فنبح عليهم فطردوه فعاد ففعلوا مراراً فقال لهم الكلب ما تريدون مني لا تخشوا جانبي أنا أحب أحباء الله فناموا حتى أحرسكم وقال عبيد بن عمير كان ذلك كلب صيدهم ومعنى بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ أي يلقيهما على الأرض مبسوطتين غير مقبوضتين ومنه الحديث في الصلاة ( أنه نهى عن افتراش السبع ) وقال ( لا تفترش ذراعيك افتراش السبع ) قوله بِالوَصِيدِ يعني فناء الكهف قال الزجاج الوصيد فناء البيت وفناء الدار وجمعه وصائد ووصد وقال يونس والأخفش والفراء الوصيد والأصيد لغتان مثل الوكاف والإكاف وقال السدي الوصيد الباب والكهف لا يكون له باب ولا عتبة وإنما أراد أن الكلب منه بموضع العتبة من البيت ثم قال بِالوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ أي أشرفت عليهم يقال اطلعت عليهم أي أشرفت عليهم ويقال أطلعت فلاناً على الشيء فاطلع وقوله لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا قال الزجاج قوله فِرَاراً منصوب على المصدر لأن معنى وليت منهم فررت وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا أي فزعاً وخوفاً قيل في التفسير طالت شعورهم وأظفارهم وبقيت أعينهم مفتوحة وهم نيام فلهذا السبب لو رآهم الرائي لهرب منهم مرعوباً وقيل إنه تعالى جعلهم بحيث كل من رآهم فزع فزعاً شديداً فأما تفصيل سبب الرعب فالله أعلم به وهذا هو الأصح وقوله وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا قرأ نافع وابن كثير لملئت بتشديد اللام والهمزة والباقون بتخفيف اللام وروى عن ابن كثير بالتخفيف والمعنى واحد إلا أن في التشديد مبالغة قال الأخفش الخفيفة أجود في كلام العرب يقال ملأتني رعباً ولا يكادون يعرفون ملأتني ويدل على هذا أكثر استعمالهم كقوله
فيملأ بيتنا أقطاً وسمناً

وقول الآخر ومن مالىء عينيه من شيء غيره
إذا راح نحو الجمرة البيض كالدمى
وقال الآخر
لا تملأ الدلو وعرق فيها
وقال الآخر
امتلأ الحوض وقال قطني
وقد جاء التثقيل أيضاً وأنشدوا للمخبل السعدي وإذا قتل النعمان بالناس محرما
فملأ من عوف بن كعب سلاسله
وقرأ ابن عامر والكسائي رعباً بضم العين في جميع القرآن والباقون بالإسكان
وَكَذالِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَاذِهِ إِلَى الْمَدِينَة ِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِى مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا
اعلم أن التقدير وكما زِدْنَاهُمْ هُدًى وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ فَضَرَبْنَا عَلَى ءاذَانِهِمْ وأنمناهم وأبقيناهم أحياء لا يأكلون ولا يشربون ونقلبهم فكذلك بعثناهم أي أحييناهم من تلك النومة التي تشبه الموت ليتساءلوا بينهم تساءل تنازع واختلاف في مدة لبثهم فإن قيل هل يجوز أن يكون الغرض من بعثهم أن يتساءلوا ويتنازعوا قلنا لا يبعد ذلك لأنهم إذا تساءلوا انكشف لهم من قدرة الله تعالى أمور عجيبة وأحوال غريبة وذلك الانكشاف أمر مطلوب لذاته ثم قال تعالى قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ كَم أي كم مقدار لبثنا في هذا الكهف لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قال المفسرون إنهم دخلوا الكهف غدوة وبعثهم الله في آخر النهار فلذلك قالوا لبثنا يوماً فلما رأوا الشمس باقية قالوا أو بعض يوم ثم قال تعالى قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ قال ابن عباس هو رئيسهم يمليخا رد علم ذلك إلى الله تعالى لأنه لما نظر إلى أشعارهم وأظفارهم وبشرة وجوههم رأى فيها آثار التغير الشديد فعلم أن مثل ذلك التغير لا يحصل إلا في الأيام

الطويلة ثم قال فَابْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَاذِهِ إِلَى الْمَدِينَة ِ قرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم بورقكم ساكنة الراء مفتوحة الواو ومنهم من قرأ ( ها ) مكسورة الواو ساكنة الراء وقرأ ابن كثير بورقكم بكسر الراء وإدغام القاف في الكاف وعن ابن محيصن أنه كسر الواو وأسكن الراء وأدغم القاف في الكاف وهذا غير جائز لالتقاء الساكنين على هذه والورق اسم للفضة سواء كانت مضروبة أم لا ويدل عليه ما روى أن عرفجة اتخذ أنفاً من ورق وفيه لغات ورق وورق وورق مثل كبد وكبد وكبد ذكره الفراء والزجاج قال الفراء وكسر الواو أردؤها ويقال أيضاً للورق الرقة قال الأزهري أصله ورق مثل صلة وعدة قال المفسرون كانت معهم دراهم عليها صورة الملك الذي كان في زمانهم يعني بالمدينة التي يقال لها اليوم طرسوس وهذه الآية تدل على أن السعي في إمساك الزاد أمر مهم مشروع وأنه لا يبطل التوكل وقوله فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا قال ابن عباس يريد ما حل من الذبائح لأن عامة أهل بلدهم كانوا مجوساً وفيهم قوم يخفون إيمانهم وقال مجاهد كان ملكهم ظالماً فقولهم أَزْكَى طَعَامًا يريدون أيها أبعد عن الغضب وقيل أيها أطيب وألذ وقيل أيها أرخص قال الزجاج قوله أَيُّهَا رفع بالابتداء و أَزْكَى خبره و طَعَامًا نصب على التمييز وقوله وَلْيَتَلَطَّفْ أي يكون ذلك في سر وكتمان يعني دخول المدينة وشراء الطعام وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا أي لا يخبرن بمكانكم أحداً من أهل المدينة إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ أي يطلعوا ويشرفوا على مكانكم أو على أنفسكم من قولهم ظهرت على فلان إذا علوته وظهرت على السطح إذا صرت فوقه ومنه قوله تعالى فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ ( الصف 14 ) أي عالين وكذلك قوله لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ ( التوبة 33 ) أي ليعليه وقوله يَرْجُمُوكُمْ يقتلوكم والرجم بمعنى القتل كثير في التنزيل كقوله وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ ( هود 91 ) وقوله أَن تَرْجُمُونِ ( الدخان 20 ) وأصله الرمي قال الزجاج أي يقتلوكم بالرجم والرجم أخبث أنواع القتل أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِى مِلَّتِهِمْ أي يردوكم إلى دينهم وَلَن تُفْلِحُواْ إِذًا أَبَدًا أي إذا رجعتم إلى دينهم لن تسعدوا في الدنيا ولا في الآخرة قال الزجاج قوله إِذًا أَبَدًا يدل على الشرط أي ولن تفلحوا إن رجعتم إلى ملتهم أبداً قال القاضي ما على المؤمن الفار بدينه أعظم من هذين فأحدهما فيه هلاك النفس وهو الرجم الذي هو أخبث أنواع القتل والآخر هلاك الدين بأن يردوا إلى الكفر فإن قيل أليس أنهم لو أكرهوا على الكفر حتى إنهم أظهروا الكفر لم يكن عليهم مضرة فكيف قالوا وَلَن تُفْلِحُواْ إِذًا أَبَدًا قلنا يحتمل أن يكون المراد أنهم لو ردوا هؤلاء المسلمين إلى الكفر على سبيل الإكراه بقوا مظهرين لذلك الكفر مدة فإنه يميل قلبهم إلى ذلك الكفر ويصيرون كافرين في الحقيقة فهذا الاحتمال قائم فكان خوفهم منه والله أعلم
وَكَذالِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَة َ لاَ رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُواْ ابْنُواْ عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِدًا سَيَقُولُونَ ثَلَاثَة ٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَة ٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَة ٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّى أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِرًا وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِّنْهُمْ أَحَداً

اعلم أن المعنى كما زدناهم هدى وربطنا على قلوبهم وأنمناهم وقلبناهم وبعثناهم لما فيها من الحكم الظاهرة فكذلك أعثرنا عليهم أي أطلعنا غيرهم على أحوالهم يقال عثرت على كذا أي علمته وقالو إن أصل هذا أن من كان غافلاً عن شيء فعثر به نظر إليه فعرفه فكان العثار سبباً لحصول العلم والتبين فأطلق اسم السبب على المسبب واختلفوا في السبب الذي لأجله عرف الناس واقعة أصحاب الكهف على وجهين الأول أنه طالت شعورهم وأظفارهم طولاً مخالفاً للعادة وظهرت في بشرة وجوههم آثار عجيبة تدل على أن مدتهم قد طالت طولاً خارجاً عن العادة والثاني أن ذلك الرجل لما دخل إلى لسوق ليشتري الطعام وأخرج الدراهم لثمن الطعام قال صاحب الطعام هذه النقود غير موجودة في هذا اليوم وإنها كانت موجودة قبل هذا الوقت بمدة طويلة ودهر داهر فلعلك وجدت كنزاً واختلف الناس فيه وحملوا ذلك الرجل إلى ملك البلد فقال الملك من أين وجدت هذه الدراهم فقال بعت بها أمس شيئاً من التمر وخرجنا فراراً من الملك دقيانوس فعرف ذلك الملك أنه ما وجد كنزاً وأن الله بعثه بعد موته ثم قال تعالى لِيَعْلَمُواْ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ يعني أنا إنما أطلعنا القوم على أحوالهم ليعلم القوم أن وعد الله حق بالبعث والحشر والنشر روى أن ملك ذلك الوقت كان ممن ينكر البعث إلا أنه كان مع كفرة منصفاً فجعل الله أمر الفتية دليلاً للملك وقيل بل اختلفت الأمة في ذلك الزمان فقال بعضهم الجسد والروح يبعثان جميعاً وقال آخرون الروح تبعث وأما الجسد فتأكله الأرض ثم إن ذلك الملك كان يتضرع إلى الله أن يظهر له آية يستدل بها على ما هو الحق في هذه المسألة فأطلعه الله تعالى على أمر أصحاب أهل الكهف فاستدل ذلك الملك بواقعتهم على صحة البعث للأجساد لأن انتباههم بعد ذلك النوم الطويل يشبه من يموت ثم يبعث فقوله إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ متعلق باعثرنا أي أعثرناهم عليهم حين يتنازعون بينهم واختلفوا في المراد بهذا التنازع فقيل كانوا يتنازعون في صحة البعث فالقائلون به استدلوا بهذه الواقعة على صحته وقالوا كما قدر الله على حفظ أجسادهم مدة ثلثمائة سنة وتسع سنين فكذلك يقدر على حشر الأجساد بعد موتها وقيل إن الملك وقومه لما رأوا أصحاب الكهف ووقفوا على أحوالهم عاد القوم إلى كهفهم فأماتهم الله فعند هذا اختلف الناس فقال قوم إنهم نيام كالكرة الأولى وقال آخرون بل الآن ماتوا والقول الثالث أن بعضهم قال الأولى أن يسد باب الكهف لئلا يدخل عليهم أحد ولا يقف على أحوالهم إنسان وقال آخرون بل الأولى أن يبني على باب الكهف مسجد وهذا القول يدل على أن أولئك الأقوام كانوا عارفين بالله معترفين بالعبادة والصلاة والقول الرابع أن الكفار قالوا إنهم كانوا على ديننا فنتخذ عليهم بنياناً والمسلمون قالوا كانوا على ديننا فنتخذ عليهم مسجداً والقول الخامس أنهم تنازعوا في قدر مكثهم والسادس أنهم تنازعوا في عددهم وأسمائهم ثم قال تعالى رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ وهذا فيه وجهان أحدهما أنه من كلام المتنازعين كأنهم لما تذاكروا أمرهم وتناقلوا الكلام في أسمائهم وأحوالهم ومدة لبثهم فلما لم يهتدوا إلى حقيقة ذلك قالوا ربهم أعلم بهم الثاني أن هذا من كلام الله تعالى ذكره رداً للخائضين في حديثهم من

أولئك المتنازعين ثم قال تعالى قَالَ الَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَى أَمْرِهِمْ قيل المراد به الملك المسلم وقيل أولياء أصحاب الكهف وقيل رؤساء البلد لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِدًا نعبد الله فيه ونستبقي آثار أصحاب الكهف بسبب ذلك المسجد ثم قال تعالى سَيَقُولُونَ ثَلَاثَة ٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ الضمير في قوله سَيَقُولُونَ عائد إلى المتنازعين روى أن السيد والعاقب وأصحابهما من أهل نجران كانوا عند النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فجرى ذكر أصحاب الكهف فقال السيد وكان يعقوبياً كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم وقال العاقب وكان نسطورياً كانوا خمسة سادسهم كلبهم وقال المسلمون كانوا سبعة وثامنهم كلبهم قال أكثر المفسرين هذا الأخير هو الحق ويدل عليه وجوه الأول أن الواو في قوله وَثَامِنُهُمْ هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة كما تدخل على الواقعة حالاً عن المعرفة في نحو قولك جاءني رجل ومعه آخر ومررت بزيد وفي يده سيف ومنه قوله تعالى وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَة ٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ ( الحجر 4 ) وفائدتها توكيد ثبوت الصفة للموصوف والدلالة على أن اتصافه بها ) أمر ثابت مستقر فكانت هذه الواو دالة على صدق الذين قالوا إنهم كانوا سبعة وثامنهم كلبهم وأنهم قالوا قولاً متقرراً متحققاً عن ثبات وعلم وطمأنينة نفس الوجه الثاني قالوا إنه تعالى خص هذا الموضع بهذا الحرف الزائد وهو الواو فوجب أن تحصل به فائدة زائدة صوناً للفظ عن التعطيل وكل من أثبت هذه الفائدة الزائدة قال المراد منها تخصيص هذا القول بالإثبات والتصحيح الوجه الثالث أنه تعالى أتبع القولين الأولين بقوله رَجْماً بِالْغَيْبِ وتخصيص الشيء بالوصف يدل على أن الحال في الباقي بخلافه فوجب أن يكون المخصوص بالظن الباطل هو القولان الأولان وأن يكون القول الثالث مخالفاً لهما في كونهما رجماً بالظن والوجه الرابع أنه تعالى لما حكى قولهم وَيَقُولُونَ سَبْعَة ٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قال بعده قُل رَّبّى أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فاتباع القولين الأولين بكونهما رجماً بالغيب وإتباع هذا القول الثالث بقوله قُل رَّبّى أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ يدل على أن هذا القول ممتاز عن القولين الأولين بمزيد القوة والصحة والوجه الخامس أنه تعالى قال مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ وهذا يقتضي أنه حصل العلم بعدتهم لذلك القليل وكل من قال من المسلمين قولاً في هذا الباب قالوا إنهم كانوا سبعة وثامنهم كلبهم فوجب أن يكون المراد من ذلك القليل هؤلاء الذين قالوا هذا القول كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول كانوا سبعة وأسماؤهم هذا يمليخا مكسلمينا مسلثينا وهؤلاء الثلاثة كانوا أصحاب يمين الملك وكان عن يساره مرنوس ودبرنوس وسادنوس وكان الملك يستشير هؤلاء الستة في مهماته والسابع هو الراعي الذي وافقهم لما هربوا من ملكهم واسم كلبهم قطمير وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول أنا من ذلك العدد القليل وكان يقول إنهم سبعة وثامنهم كلبهم
الوجه السادس أنه تعالى لما قال وَيَقُولُونَ سَبْعَة ٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبّى أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ والظاهر أنه تعالى لما حكى الأقوال فقد حكى كل ما قيل من الحق والباطل لأنه يبعد أنه تعالى ذكر الأقوال الباطلة ولم يذكر ما هو الحق فثبت أن جملة الأقوال الحقة والباطلة ليست إلا هذه الثلاثة ثم خص

الأولين بأنهما رجم بالغيب فوجب أن يكون الحق هو هذا الثالث الوجه السابع أنه تعالى قال لرسوله فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآء ظَاهِرًا وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مّنْهُمْ أَحَداً فمنعه الله تعالى عن المناظرة معهم وعن استفتائهم في هذا الباب وهذا إنما يكون لو علمه حكم هذه الواقعة وأيضاً أنه تعالى قال مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ ويبعد أن يحصل العلم بذلك لغير النبي ولا يحصل للنبي فعلمنا أن العلم بهذه الواقعة حصل للنبي عليه السلام والظاهر أنه لم يحصل ذلك العلم إلا بهذا الوحي لأن الأصل فيما سواه العدم وأن يكون الأمر كذلك فكان الحق هو قوله وَيَقُولُونَ سَبْعَة ٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ واعلم أن هذه الوجوه وإن كان بعضها أضعف من بعض إلا أنه لما تقوى بعضها ببعض حصل فيه كمال وتمام والله أعلم بقي في الآية مباحث
البحث الأول في الآية حذف والتقدير سيقولون هم ثلاثة فحذف المبتدأ لدلالة الكلام عليه
البحث الثاني خص القول الأول بسين الاستقبال وهو قوله سيقولون والسبب فيه أن حرف العطف يوجب دخول القولين الآخرين فيه
البحث الثالث الرجم هو الرمي والغيب ما غاب عن الإنسان فقوله رَجْماً بِالْغَيْبِ معناه أن يرى ما غاب عنه ولا يعرفه بالحقيقة يقال فلان يرمي بالكلام رمياً أي يتكلم من غير تدبر
البحث الرابع ذكروا في فائدة الواو في قوله وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ وجوهاً الوجه الأول ما ذكرنا أنه يدل على أن هذا القول أولى من سائر الأقوال وثانيها أن السبعة عند العرب أصل في المبالغة في العدد قال تعالى إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّة ً وإذا كان كذلك فإذا وصلوا إلى الثمانية ذكروا لفظاً يدل على الاستئناف فقالوا وثمانية فجاء هذا الكلام على هذا القانون قالوا ويدل عليه نظيره في ثلاث آيات وهي قوله وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ ( التوبة 112 ) لأن هذا هو العدد الثامن من الأعداد المتقدمة وقوله حَتَّى إِذَا جَاءوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوابُهَا ( الزمر 73 ) لأن أبواب الجنة ثمانية وأبواب النار سبعة وقوله ثَيّبَاتٍ وَأَبْكَاراً ( التحريم 5 ) هو العدد الثامن مما تقدم والناس يسمون هذه الواو واو الثمانية ومعناه ما ذكرناه قال القفال وهذا ليس بشيء والدليل عليه قوله تعالى هُوَ اللَّهُ الَّذِى لاَ إله إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبّرُ ( الحشر 23 ) ولم يذكر الواو في النعت الثامن ثم قال تعالى قُل رَّبّى أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ وهذا هو الحق لأن العلم بتفاصيل كائنات العالم والحوادث التي حدثت في الماضي والمستقبل لا تحصل إلا عند الله تعالى وإلا عند من أخبره الله عنها وقال ابن عباس أنا من أولئك القليل قال القاضي إن كان قد عرفه ببيان الرسول صح وإن كان قد تعلق فيه بحرف الواو فضعيف ويمكن أن يقال الوجوه السبعة المذكورة وإن كانت لا تفيد الجزم إلا أنها تفيد الظن واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه القصة أتبعه بأن نهي رسوله عن شيئين عن المراء والاستفتاء أما النهي عن المراء فقوله فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآء ظَاهِرًا والمراد من المراء الظاهر أن لا يكذبهم في تعيين ذلك العدد بل يقول هذا التعيين لا دليل عليه فوجب التوقف وترك القطع ونظيره قوله تعالى وَلاَ تُجَادِلُواْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ ( العنكبوت 46 ) وأما النهي عن الاستفتاء فقوله وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مّنْهُمْ أَحَداً وذلك لأنه لما ثبت أنه ليس عندهم علم في هذا الباب وجب المنع من استفتائهم واعلم أن نفاة القياس تمسكوا بهذه الآية

قالوا لأن قوله رَجْماً بِالْغَيْبِ وضع الرجم فيه موضع الظن فكأنه قيل ظناً بالغيب لأنهم أكثروا أن يقولوا رجم بالظن مكان قولهم ظن حتى لم يبق عندهم فرق بين العبارتين ألا ترى إلى قوله
وما هو عنها بالحديث المرجم
أي المظنون هكذا قاله صاحب الكشاف وذلك يدل على أن القول بالظن مذموم عند الله ثم إنه تعالى لما ذم هذه الطريقة رتب عليه من استفتاء هؤلاء الظانين فدل ذلك على أن الفتوى بالمظنون غير جائز عند الله وجواب مثبتي القياس عنه قد ذكرناه مراراً
وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَى ْءٍ إِنِّى فَاعِلٌ ذالِكَ غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّى لاًّقْرَبَ مِنْ هَاذَا رَشَدًا وَلَبِثُواْ فِى كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَة ٍ سِنِينَ وَازْدَادُواْ تِسْعًا قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ والأرض أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِى ٍّ وَلاَ يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ أَحَدًا
اعلم أن في الآية مسائل
المسألة الأولى قال المفسرون إن القوم لما سألوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن المسائل الثلاثة قال عليه السلام أجيبكم عنها غداً ولم يقل إن شاء الله فاحتبس الوحي خمسة عشر يوماً وفي رواية أخرى أربعين يوماً ثم نزلت هذه الآية اعترض القاضي على هذا الكلام من وجهين الأول أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان عالماً بأنه إذا أخبر عن أنه سيفعل الفعل الفلاني غداً فربما جاءته الوفاة قبل الغد وربما عاقه عائق آخر عن الإقدام على ذلك الفعل غداً وإذا كان كل هذه الأمور محتملاً فلو لم يقل إن شاء الله ربما خرج الكلام مخالفاً لما عليه الوجود وذلك يوجب التنفير عنه وعن كلامه عليه السلام أما إذا قال إن شاء الله كان محترزاً عن هذا المحذور وإذا كان كذلك كان من البعيد أن يعد بشيء ولم يقل فيه إن شاء الله الثاني أن هذه الآية مشتملة على فوائد كثيرة وأحكام جمة فيبعد قصرها على هذا السبب ويمكن أن يجاب عن الأول أنه لا نزاع أن الأولى أن يقول إن شاء الله إلا أنه ربما اتفق له أنه نسي هذا الكلام لسبب من الأسباب فكان ذلك من باب ترك الأولى والأفضل وأن يجاب عن الثاني أن اشتماله على الفوائد الكثيرة لا يمنع من أن يكون سبب نزوله واحداً منها

المسألة الثانية قوله إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ ليس فيه بيان أنه شاء الله ماذا وفيه قولان الأول التقدير وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَى ْء إِنّى فَاعِلٌ ذالِكَ غَداً إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ أن يأذن لك في ذلك القول والمعنى أنه ليس لك أن تخبر عن نفسك أنك تفعل الفعل الفلاني إلا إذا أذن الله لك في ذلك الإخبار القول الثاني أن يكون التقدير وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَى ْء إِنّى فَاعِلٌ ذالِكَ غَداً إلا أن تقول إِن شَاء اللَّهُ والسبب في أنه لا بد من ذكر هذا القول هو أن الإنسان إذا قال سأفعل الفعل الفلاني غداً لم يبعد أن يموت قبل مجيء الغد ولم يبعد أيضاً لو بقي حياً أن يعوقه عن ذلك الفعل شيء من العوائق فإذا كان لم يقل إن شاء الله صار كاذباً في ذلك الوعد والكذب منفرد وذلك لا يليق بالأنبياء عليهم السلام فلهذا السبب أوجب عليه أن يقول إِن شَاء اللَّهُ حتى أن بتقدير أن يتعذر عليه الوفاء بذلك الموعود لم يصر كاذباً فلم يحصل التنفير
المسألة الثالثة اعلم أن مذهب المعتزلة أن الله تعالى يريد الإيمان والطاعة من العبد والعبد يريد الكفر والمعصية لنفسه فيقع مراد العبد ولا يقع مراد الله فتكون إرادة العبد غالبة وإرادة الله تعالى مغلوبة وأما عندنا فكل ما أراد الله تعالى فهو واقع فهو تعالى يريد الكفر من الكافر ويريد الإيمان من المؤمن وعلى هذا التقرير فإرادة الله تعالى غالبة وإرادة العبد مغلوبة إذا عرفت هذا فنقول إذا قال العبد لأفعلن كذا غداً إلا أن يشاء الله والله إنما يدفع عنه الكذب إذا كانت إرادة الله غالبة على إرادة العبد فإن على هذا القول يكون التقدير أن العبد قال أنا أفعل الفعل الفلاني إلا إذا كانت إرادة الله بخلافه فأنا على هذا التقدير لا أفعل لأن إرادة الله غالبة على إرادتي فعند قيام المانع الغالب لا أقوى على الفعل أما بتقدير أن تكون إرادة الله تعالى مغلوبة فإنها تلا تصلح عذراً في هذا الباب لأن المغلوب لا يمنع الغالب إذا ثبت هذا فنقول أجمعت الأمة على أنه إذا قال والله لأفعلن كذا ثم قال إن شاء الله دافعاً للحنث فلا يكون دافعاً للحنث إلا إذا كانت إرادة الله غالبة فلما حصل دفع الحنث بالإجماع وجب القطع بكون إرادة الله تعالى غالبة وأنه لا يحصل في الوجود إلا ما أراده الله وأصحابنا أكدوا هذا الكلام في صورة معينة وهو أن الرجل إذا كان له على إنسان دين وكان ذلك المديون قادراً على أداء الدين فقال والله لأقضين هذا الدين غداً ثم قال إن شاء الله فإذا جاء الغد ولم يقض هذا الدين لم يحنث وعلى قول المعتزلة أنه تعالى يريد منه قضاء الدين وعلى هذا التقدير فقوله إِن شَاء اللَّهُ تعليق لذلك الحكم على شرط واقع فوجب أن يحنث ولما أجمعوا على أن لا يحنث علمنا أن ذلك إنما كان لأن الله تعالى ما شاء ذلك الفعل مع أن ذلك الفعل قد أمر الله به ورغب فيه وزجر عن الإخلال به وثبت أنه تعالى قد ينهى عن الشيء ويريده وقد يأمر بالشيء ولا يريده وهو المطلوب فإن قيل هب أن الأمر كما ذكرتم إلا أن كثيراً من الفقهاء قالوا إذا قال الرجل لامرأته أنت طالق إن شاء الله لم يقع الطلاق فما السبب فيه قلنا السبب هو أنه لما علق وقوع الطلاق على مشيئة الله لم يقع إلا إذا عرفنا وقوع الطلاق ولا نعرف وقوع الطلاق إلا إذا عرفنا أولاً حصول هذه المشيئة لكن مشيئة الله تعالى غيب فلا سبيل إلى العلم بحصولها إلا إذا علمنا أن متعلق المشيئة قد وقع وحصل وهو الطلاق فعلى هذا الطريق لا نعرف حصول المشيئة إلا إذا عرفنا وقوع الطلاق ولا نعرف وقوع الطلاق إلا إذا عرفنا وقوع المشيئة فيتوقف العلم بكل واحد منها على العلم بالآخرة وهو دور والدور باطل فلهذا السبب قالوا الطلاق غير واقع
المسألة الرابعة احتج القائلون بأن المعدوم شيء بقوله وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَى ْء إِنّى فَاعِلٌ ذالِكَ غَداً أَن يَشَاء اللَّهُ قالوا الشيء الذي سيفعله الفاعل غداً سماه الله تعالى في الحال بأنه شيء لقوله

وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَى ْء ومعلوم أن الشيء الذي سيفعله الفاعل غداً فهو معدوم في الحال فوجب تسمية المعدوم بأنه شيء والجواب أن هذا الاستدلال لا يفيد إلا أن المعدوم مسمى بكونه شيئاً وعندنا أن السبب فيه أن الذي سيصير شيئاً يجوز تسميته بكونه شيئاً في الحال كما أنه قال أَتَى أَمْرُ اللَّهِ ( النحل 1 ) والمراد سيأتي أمر الله أما قوله وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ففيه وجهان الأول أنه كلام متعلق بما قبله والتقدير أنه إذا نسي أن يقول إن شاء الله فليذكره إذا تذكره وعند هذا اختلفوا فقال ابن عباس رضي الله عنهما لو لم يحصل التذكر إلا بعد مدة طويلة ثم ذكر إن شاء الله كفى في دفع الحنث وعن سعيد بن جبير بعد سنة أو شهر أو أسبوع أو يوم وعن طاوس أنه يقدر على الاستثناء في مجلسه وعن عطاء يستثني على مقدار حلب الناقة الغزيرة وعند عامة الفقهاء أنه لا أثر له في الأحكام ما لم يكن موصولاً واحتج ابن عباس بقوله وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ لأن الظاهر أن المراد من قوله وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ هو الذي تقدم ذكره في قوله إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ وقوله وَاذْكُر رَّبَّكَ غير مختص بوقت معين بل هو يتناول كل الأوقات فوجب أن يجب عليه هذا الذكر في أي وقت حصل هذا التذكر وكل من قال وجب هذا الذكر قال إنه إنما وجب لدفع الحنث وذلك يفيد المطلوب واعلم أن استدلال ابن عباس رضي الله عنهما ظاهر في أن الاستثناء لا يجب أن يكون متصلاً أما الفقهاء فقالوا إنا لو جوزنا ذلك لزم أن لا يستقر شيء من العقود والإيمان يحكى أنه بلغ المنصور أن أبا حنيفة رحمه الله خالف ابن عباس في الأستثناء المنفصل فاستحضره لينكر عليه فقال أبو حنيفة رحمه الله هذا يرجع عليك فإنك تأخذ البيعة بالإيمان أتفرض أن يخرجوا من عندك فيستثنوا فيخرجوا عليك فاستحسن المنصور كلامه ورضي به واعلم أن حاصل هذا الكلام يرجع إلى تخصيص النص بالقياس وفيه ما فيه وأيضاً فلو قال إن شاء الله على سبيل الخفية بلسانه بحيث لا يسمعه أحد فهو معتبر ودافع للحنث بالإجماع مع أن المحذور الذي ذكرتم حاصل فيه فثبت أن الذي عولوا عليه ليس بقوي والأولى أن يحتجوا في وجوب كون الاستثناء متصلاً بأن الآيات الكثيرة دلت على وجوب الوفاء بالعقد والعهد قال تعالى أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ( المائدة 1 ) وقال وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ ( الإسراء 34 ) فالآتي بالعهد يجب عليه الوفاء بمقتضاه لأجل هذه الآيات خالفنا هذا الدليل فيما إذا كان متصلاً لأن الاستثناء مع المستثنى منه كالكلام الواحد بدليل أن لفظ الاستثناء وحده لا يفيد شيئاً فهو جار مجرى نصف اللفظ الواحدة فجملة الكلام كالكلمة الواحدة المفيدة وعلى هذا التقدير فعند ذكر الاستثناء عرفنا أنه لم يلزم شيء بخلاف ما إذا كان الاستثناء متصلاً فإنه حصل الالتزام التام بالكلام فوجب عليه الوفاء بذلك الملتزم والقول الثاني أن قوله وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ لا تعلق له بما قبله بل هو كلام مستأنف وعلى هذا القول ففيه وجوه أحدها واذكر ربك بالتسبيح والاستغفار إذا نسيت كلمة الاستثناء والمراد منه الترغيب في الاهتمام بذكر هذه الكلمة وثانيها واذكر ربك إذا اعتراك النسيان ليذكرك المنسي وثالثها حمله بعضهم على أداء الصلاة المنسية عند ذكرها وهذا القول بما فيه من الوجوه الثلاثة بعيد لأن تعلق هذا الكلام بما قبله يفيد إتمام الكلام في هذه القضية وجعله كلاماً مستأنفاً يوجب صيرورة الكلاء مبتدأ منقطعاً وذلك لا يجوز ثم قال

تعالى وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبّى لاِقْرَبَ مِنْ هَاذَا رَشَدًا وفيه وجوه الأول أن ترك قوله أَن يَشَاء اللَّهُ ليس بحسن وذكره أحسن من تركه وقوله لاِقْرَبَ مِنْ هَاذَا رَشَدًا المراد منه ذكر هذه الجملة الثاني إذا وعدهم بشيء وقال معه إن شاء الله فيقول عسى أن يهديني ربي لشيء أحسن وأكمل مما وعدتكم به والثالث أن قوله لاِقْرَبَ مِنْ هَاذَا رَشَدًا إشارة إلى نبأ أصحاب الكهف ومعناه لعل الله يؤتيني من البينات والدلائل على صحة أني نبي من عند الله صادق القول في ادعاء النبوة ما هو أعظم في الدلالة وأقرب رشداً من نبأ أصحاب الكهف وقد فعل الله ذلك حيث آتاه من قصص الأنبياء والإخبار بالغيوب ما هو أعظم من ذلك وأما قوله تعالى وَلَبِثُواْ فِى كَهْفِهِمْ مِئَة ٍ سِنِينَ وَازْدَادُواْ تِسْعًا قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ لَهُ غَيْبُ السَّمَاواتِ وَالاْرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مّن دُونِهِ مِن وَلِى ّ وَلاَ يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ أَحَدًا فاعلم أن هذه الآية آخر الآيات المذكورة في قصة أصحاب الكهف وفي قوله وَلَبِثُواْ فِى كَهْفِهِمْ قولان الأول أن هذا حكاية كلام القوم والدليل عليه أنه تعالى قال سَيَقُولُونَ ثَلَاثَة ٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وكذا إلى أن قال وَلَبِثُواْ فِى كَهْفِهِمْ أي أن أولئك الأقوام قالوا ذلك ويؤكده أنه تعالى قال بعده قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ وهذا يشبه الرد على الكلام المذكور قبله ويؤكده أيضاً ما روي في مصحف عبد الله وقالوا ولبثوا في كهفهم والقول الثاني أن قوله وَلَبِثُواْ فِى كَهْفِهِمْ هو كلام الله تعالى فإنه أخبر عن كمية تلك المدة وأما قوله سَيَقُولُونَ ثَلَاثَة ٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ فهو كلام قد تقدم وقد تخلل بينه وبين هذه الآية ما يوجب انقطاع أحدهما عن الآخر وهو قوله فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآء ظَاهِرًا وقوله قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لا يوجب أن ما قبله حكاية وذلك لأنه تعالى أراد قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فارجعوا إلى خبر الله دون ما يقوله أهل الكتاب
المسألة الثانية قرأ حمزة والكسائي ثلثمائة سنين بغير تنوين والباقون بالتنوين وذلك لأن قوله سِنِينَ عطف بيان لقوله ثلثمائة لأنه لما قال وَلَبِثُواْ فِى كَهْفِهِمْ لم يعرف أنها أيام أم شهور أم سنون فلما قال سنين صار هذا بياناً لقوله ثلثمائة فكان هذا عطف بيان له وقيل هو على التقديم والتأخير أي لبثوا سنين ثلثمائة وأما وجه قراءة حمزة فهو أن الواجب في الإضافة ثلثمائة سنة إلا أنه يجوز وضع الجمع موضع الواحد في التمييز كقوله نُنَبّئُكُم بِالاْخْسَرِينَ أَعْمَالاً ( الكهف 103 )
المسألة الثالثة قوله وَازْدَادُواْ تِسْعًا المعنى وازدادوا تسع سنين فإن قالوا لم لم يقل ثلثمائة وتسع سنين وما الفائدة في قوله وَازْدَادُواْ تِسْعًا قلنا قال بعضهم كانت المدة ثلثمائة سنة من السنين الشمسية وثلثمائة وتسع سنين من القمرية وهذا مشكل لأنه لا يصح بالحساب هذا القول ويمكن أن يقال لعلهم لما استكملوا ثلثمائة سنة قرب أمرهم من الأنبياء ثم اتفق ما أوجب بقاءهم في النوم بعد ذلك تسع سنين ثم قال قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ معناه أنه تعالى أعلم بمقدار هذه المدة من الناس الذين اختلفوا فيها وإنما كان أولى بأن يكون عالماً به لأنه موجد للسموات والأرض ومدبر للعالم وإذا كان كذلك كان عالماً بغيب

السموات والأرض فيكون عالماً بهذه الواقعة لا محالة ثم قال تعالى أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ وهذه كلمة تذكر في التعجب والمعنى ما أبصره وما أسمعه وقد بالغنا في تفسير كلمة التعجب في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ( البقرة 175 ) ثم قال تعالى مَا لَهُم مّن دُونِهِ مِن وَلِى ّ وفيه وجوه الأول ما لأصحاب الكهف من دون الله من ولي فإنه هو الذي يتولى حفظهم في ذلك النوم الطويل الثاني ليس لهؤلاء المختلفين في مدة لبث أهل الكهف ولي من دون الله يتولى أمرهم ويقيم لهم تدبير أنفسهم فإذا كانوا محتاجين إلى تدبير الله وحفظه فكيف يعلمون هذه الواقعة من غير أعلامه الثالث أن بعض القوم لما ذكروا في هذا الباب أقوالاً على خلاف قول الله فقد استوجبوا العقاب فبين الله أنه ليس لهم من دونه ولي يمنع الله من إنزال العقاب عليهم ثم قال وَلاَ يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ أَحَدًا والمعنى أنه تعالى لما حكم أن لبثهم هو هذا المقدار فليس لأحد أن يقول قولاً بخلافه والأصل أن الاثنين إذا كانا لشريكين فإن الاعتراض من كل واحد منهما على صاحبه يكثر ويصير ذلك مانعاً لكل واحد منهما من إمضاء الأمر على وفق ما يريده وحاصله يرجع إلى قوله تعالى لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَة ٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ( الأنبياء 22 ) فالله تعالى نفى ذلك عن نفسه بقوله تعالى وَلاَ يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ أَحَدًا وقرأ ابن عامر ولا تشرك بالتاء والجزم على النهي والخطاب عطفاً على قوله وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَى ْء أو على قوله وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ والمعنى ولا تسأل أحداً عما أخبرك الله به من عدة أصحاب الكهف واقتصر على حكمه وبيانه ولا تشرك أحداً في طلب معرفة تلك الواقعة وقرأ الباقون بالياء والرفع على الخبر والمعنى أنه تعالى لا يفعل ذلك
المسألة الرابعة اختلف الناس في زمان أصحاب الكهف وفي مكانهم أما الزمان الذي حصلوا فيه فقيل إنهم كانوا قبل موسى عليه السلام وإن موسى ذكرهم في التوراة ولهذا السبب فإن اليهود سألوا عنهم وقيل إنهم دخلوا الكهف قبل المسيح وأخبر المسيح بخبرهم ثم بعثوا في الوقت الذي بين عيسى عليه السلام وبين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وقيل إنهم دخلوا الكهف بعد المسيح وحكى القفال هذا القول عن محمد بن إسحق وقال قوم إنهم لم يموتوا ولا يموتون إلى يوم القيامة وأما مكان هذا الكهف فحكى القفال عن محمد بن موسى الخوارزمي المنجم أن الواثق أنفذه ليعرف حال أصحاب الكهف إلى الروم قال فوجه ملك الروم معي أقواماً إلى الموضع الذي يقال إنهم فيه قال وإن الرجل الموكل بذلك الموضع فزعني من الدخول عليهم قال فدخلت ورأيت الشعور على صدورهم قال وعرفت أنه تمويه واحتيال وأن الناس كانوا قد عالجوا تلك الجثث بالأدوية المجففة لأبدان الموتى لتصونها عن البلى مثل التلطيخ بالصبر وغيره ثم قال القفال والذي عندنا لا يعرف أن ذلك الموضع هو موضع أصحاب الكهف أو موضع آخر والذي أخبر الله عنه وجب القطع به ولا عبرة بقول أهل الروم إن ذلك الموضع هو موضع أصحاب الكهف وذكر في الكشاف عن معاوية أنه غزا الروم فمر بالكهف فقال لو كشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم فقال ابن عباس رضي الله عنهما ليس لك ذلك قد منع الله من هو خير منك فقال لو اطلعت عليهم لوليت منهم فراراً ولملئت منهم رعباً فقال لابن عباس لا أنتهي حتى أعلم حالهم فبعث أناساً فقال لهم اذهبوا فانظروا فلما دخلوا الكهف بعث الله عليهم ريحاً فأحرقتهم وأقول العلم بذلك الزمان وبذلك المكان ليس للعقل فيه مجال وإنما يستفاد ذلك من نص وذلك مفقود فثبت أنه لا سبيل إليه

المسألة الخامسة اعلم أن مدار القول بإثبات البعث والقيامة على أصول ثلاثة أحدها أنه تعالى قادر على كل الممكنات والثاني أنه تعالى عالم بجميع المعلومات من الكليات والجزئيات وثالثها أن كل ما كان ممكن الحصول في بعض الأوقات كان ممكن الحصول في سائر الأوقات فإذا ثبتت هذه الأصول الثلاثة ثبت القول بإمكان البعث والقيامة فكذلك ها هنا ثبت أنه تعالى عالم قادر على الكل وثبت أن بقاء الإنسان حياً في النوم مدة يوم ممكن فكذلك بقاؤه مدة ثلثمائة سنة يجب أن يكون ممكناً بمعنى أن إله العالم يحفظه ويصونه عن الآفة وأما الفلاسفة فإنهم يقولون أيضاً لا يبعد وقوع أشكال فلكية غريبة توجب في هيولي عالم الكون والفساد حصول أحوال غريبة نادرة وأقول هذه السور الثلاثة المتعاقبة اشتمل كل واحد منها على حصول حالة عجيبة نادرة في هذا العالم فسورة بني إسرائيل اشتملت على الإسراء بجسد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من مكة إلى الشام وهو حالة عجيبة وهذه السورة اشتملت على بقاء القوم في النوم مدة ثلثمائة سنة وأزيد وهو أيضاً حالة عجيبة وسورة مريم اشتملت على حدوث الولد لا من الأب وهو أيضاً حالة عجيبة والمعتمد في بيان إمكان كل هذه العجائب والغرائب المذكورة في هذه السور الثلاثة المتوالية هو الطريقة التي ذكرناها ومما يدل على أن هذا المعنى من الممكنات أن أبا علي بن سينا ذكر في باب الزمان من كتاب الشفاء أن أرسطاطاليس الحكيم ذكر أنه عرض لقوم من المتألهين حالة شبيهة بحالة أصحاب الكهف ثم قال أبو علي ويدل التاريخ على أنهم كانوا قبل أصحاب الكهف
وَاتْلُ مَآ أُوْحِى َ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا
اعلم أن من هذه الآية إلى قصة موسى والخضر كلام واحد في قصة واحدة وذلك أن أكابر كفار قريش احتجوا وقالوا لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إن أردت أن نؤمن بك فاطرد من عندك هؤلاء الفقراء الذين آمنوا بك والله تعالى نهاه عن ذلك ومنعه عنه وأطنب في جملة هذه الآيات في بيان أن الذي اقترحوه والتمسوه مطلوب فاسد واقتراح باطل ثم إنه تعالى جعل الأصل في هذا الباب شيئاً واحداً وهو أن يواظب على تلاوة الكتاب الذي أوحاه الله إليه وعلى العمل به وأن لا يلتفت إلى اقتراح المقترحين وتعنت المتعنتين فقال وَاتْلُ مَا أُوْحِى َ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبّكَ وفي الآية مسألة وهي أن قوله اتْلُ يتناول القراءة ويتناول الإتباع فيكون المعنى الزم قراءة الكتاب الذي أوحى إليك والزم العمل به ثم قال لاَ مُبَدّلَ لِكَلِمَاتِهِ أي يمتنع تطرق التغيير والتبديل إليه وهذه الآية يمكن التمسك بها في إثبات أن تخصيص النص بالقياس غير جائز لأن قوله اتْلُ مَا أُوْحِى َ إِلَيْكَ مِنَ كِتَابِ رَبّكَ معناه ألزم العمل بمقتضى هذا الكتاب وذلك يقتضي وجوب العمل بمقتضى ظاهره

فإن قيل فيجب ألا يتطرق النسخ إليه قلنا هذا هو مذهب أبي مسلم الأصفهاني فليس يبعد وأيضاً فالنسخ في الحقيقة ليس بتبديل لأن المنسوخ ثابت في وقته إلى وقت طريان الناسخ فالناسخ كالغاية فكيف يكون تبديلاً أما قوله وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا اتفقوا على أن الملتحد هو الملجأ قال أهل اللغة هو من لحد وألحد إذا مال ومنه قوله تعالى لّسَانُ الَّذِى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ ( النحل 103 ) والملحد المائل عن الدين والمعنى ولن تجد من دونه ملجأ في البيان والرشاد
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاة ِ وَالْعَشِى ِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَة َ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا
اعلم أن أكابر قريش اجتمعوا وقالوا لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إن أردت أن نؤمن بك فاطرد هؤلاء الفقراء من عندك فإذا حضرنا لم يحضروا وتعين لهم وقتاً يجتمعون فيه عندك فأنزل الله تعالى وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ ( الأنعام 52 ) الآية فبين فيها إنه لا يجوز طردهم بل تجالسهم وتوافقهم وتعظم شأنهم ولا تلتفت إلى أقوال أولئك الكفار ولا تقيم لهم في نظرك وزناً سواء غابوا أو حضروا وهذه القصة منقطعة عما قبلها وكلام مبتدأ مستقل ونظير هذه الآية قد سبق في سورة الأنعام وهو قوله وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ بِهِمُ بِالْغَدَاة ِ وَالْعَشِى ّ ( الأنعام 52 ) ففي تلك الآية نهي الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) عن طردهم وفي هذه الآية أمره بمجالستهم والمصابرة معهم فقوله وَاصْبِرْ نَفْسَكَ أصل الصبر الحبس ومنه نهى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن المصبورة وهي البهيمة تحبس فترمي أما قوله مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاة ِ وَالْعَشِى ّ ففيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ ابن عامر بالغدوة بضم الغين والباقون بالغداة وكلاهما لغة
المسألة الثانية في قوله بِالْغَدَاة ِ وَالْعَشِى ّ وجوه الأول المراد كونهم مواظبين على هذا العمل في كل الأوقات كقول القائل ليس لفلان عمل بالغداة والعشي إلا شتم الناس الثاني أن المراد صلاة الفجر والعصر الثالث المراد أن الغداة هي الوقت الذي ينتقل الإنسان فيه من النوم إلى اليقظة وهذا الانتقال شبيه بالانتقال من الموت إلى الحياة والعشي هو الوقت الذي ينتقل الإنسان فيه من اليقظة إلى النوم ومن الحياة إلى الموت والإنسان العاقل يكون في هذين الوقتين كثير الذكر لله عظيم الشكر لآلاء الله ونعمائه ثم قال وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ يقال عداه إذا جاوزه ومنه قولهم عدا طوره وجاء القوم عدا زيداً وإنما عدي بلفظة عن لأنها تفيد المباعدة فكأنه تعالى نهى عن تلك المباعدة وقرى وَلاَ تَعْدُ عَيْنَيْكَ ولا تعد عينيك من أعداه وعداه نقلاً بالهمزة وتثقيل الحشو ومنه قوله شعر
فعد عما ترى إذ لا ارتجاع له
والمقصود من الآية أنه تعالى نهى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن أن يزدرى فقراء المؤمنين وأن تنبو عيناه عنهم لأجل رغبته في مجالسة الأغنياء وحسن صورتهم وقوله تُرِيدُ زِينَة َ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا نصب في موضع الحال يعني أنك ( إن ) فعلت ذلك لم يكن إقدامك عليه إلا لرغبتك في زينة الحياة الدنيا ولما بالغ في أمره بمجالسة الفقراء من المسلمين بالغ في النهي عن الالتفات إلى أقوال الأغنياء والمتكبرين فقال وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا وفيه مسائل

المسألة الأولى احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى هو الذي يخلق الجهل والغفلة في قلوب الجهال لأن قوله أَغْفَلْنَا يدل على هذا المعنى قالت المعتزلة المراد بقوله تعالى أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا أنا وجدنا قلبه غافلاً وليس المراد خلق الغفلة فيه والدليل عليه ما روي عن عمرو بن معديكرب الزبيدي أنه قال لبني سليم قاتلناكم فما أجبناكم وسألناكم فما ابخلناكم وهجوناكم فما أفحمناكم أي ما وجدناكم جبناء ولا بخلاء ولا مفحمين ثم نقول حمل اللفظ على هذا المعنى أولى ويدل عليه وجوه الأول أنه لو كان كذلك لما استحقوا الذم الثاني أنه تعالى قال بعد هذه الآية فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ ولو كان تعالى خلق الغفلة في قلبه لما صح ذلك الثالث لو كان المراد هو أنه تعالى جعل قلبه غافلاً لوجب أن يقال ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا فاتبع هواه لأن على هذا التقدير يكون ذلك من أفعال المطاوعة وهي إنما تعطف بالفاء لا بالواو ويقال كسرته فانكسر ودفعته فاندفع ولا يقال وانكسر واندفع الرابع قوله تعالى وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ولو كان تعالى أغفل في الحقيقة قلبه لم يجز أن يضاف ذلك إلى اتباعه هواه والجواب قوله المراد من قوله أَغْفَلْنَا أي وجدناه غافلاً وليس المارد تحصيل الغفلة فيه قلنا الجواب عنه من وجهين الأول أن الاشتراك خلاف الأصل فوجب أن يعتقد أن وزن الأفعال حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر وجعله حقيقة في التكوين مجازاً في الوجدان أولى من العكس وبيانه من وجوه أحدها أن مجيء بناء الأفعال بمعنى التكوين أكثر من مجيئه بمعنى الوجدان والكثرة دليل الرجحان وثانيها أن مبادرة الفهم من هذا البناء إلى التكوين أكثر من مبادرته إلى الوجدان ومبادرة الفهم دليل الرجحان وثالثها أنا إن جعلناه حقيقة في التكوين أمكن جعله مجازاً في الوجدان لأن العلم بالشيء تابع لحصول المعلوم فجعل اللفظ حقيقة في المتبوع ومجازاً في التبع موافق للمعقول أما لو جعلناه حقيقة في الوجدان مجازاً في الإيجاد لزم جعله حقيقة في التبع مجازاً في الأصل وأنه عكس المعقول فثبت أن الأصل جعل هذا البناء حقيقة في الإيجاد لا في الوجدان الوجه الثاني في الجواب عن السؤال أنا نسلم كون اللفظ مشتركاً بالنسبة إلى الإيجاد وإلى الوجدان إلا أنا نقول يجب حمل قوله أَغْفَلْنَا على إيجاد الغفلة وذلك لأن الدليل العقلي دل على أنه يمتنع كون العبد موجداً للغفلة في نفسه والدليل عليه أنه إذا حاول إيجاد الغفلة فأما أن يحاول إيجاد مطلق الغفلة أو يحاول إيجاد الغفلة عن شيء معين والأول باطل وإلا لم يكن بأن تحصل له الغفلة عن هذا الشيء أولى بأن تحصل له الغفلة عن شيء آخر لأن الطبيعة المشترك فيها بين الأنواع الكثيرة تكون نسبتها إلى كل تلك الأنواع على السوية أما الثاني فهو أيضاً باطل لأن الغفلة عن كذا عبارة عن غفلة لا تمتاز عن سائر أقسام الغفلات إلا بكونها منتسبة إلى ذلك الشيء المعين بعينه فعلى هذا لا يمكنه أن يقصد إلى إيجاد الغفلة عن كذا إلا إذا تصور أن تلك الغفلة غفلة عن كذا ولا يمكنه أن يتصور كون تلك الغفلة غفلة عن كذا إلا إذا تصور كذا لأن العلم بنسبة أمر إلى أمر آخر مشروط بتصور كل واحد من المنتسبين فثبت أنه لا يمكنه القصد إلى إيجاد الغفلة عن كذا إلا مع الشعور بكذا لكن الغفلة عن كذا ضد الشعور بكذا فثبت أن العبد لا يمكنه إيجاد هذه اغفلة إلا عند اجتماع الضدين وذلك محال والموقوف على المحال محال فثبت أن العبد غير قادر على إيجاد الغفلة فوجب أن يكون خالق الغفلات وموجدها في العباد هو الله وهذه نكتة قاطعة في

إثبات هذا المطلوب وعند هذا يظهر أن المراد بقوله تعالى وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ هو إيجاد الغفلة لا وجدانها أما حديث المدح والذ فقد عارضناه مراراً وأطواراً بالعلم والداعي أما قوله تعالى بعد هذه الآية فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ فالبحث عنه سيأتي إن شاء الله تعالى أما قوله وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ لو كان المراد إيجاد الغفلة لوجب ذكر الفاء لا ذكر الواو فنقول هذا إنما يلزم لو كان خلق الغفلة في القلب من لوازمه حصول اتباع الهوى كما أن الكسر من لوازمه حصول الإنكسار وليس الأمر كذلك لأنه لا يلزم من حصول الغفلة عن الله حصول متابعة الهوى لاحتمال أن يصير غافلاً عن ذكر الله ومع ذلك فلا يتبع الهوى بل يبقى متوقفاً لا ينافي مقام الحيرة والدهشة والخوف من الكل فسقط هذا السؤال وذكر القفال في تأويل الآية على مذهب المعتزلة وجوهاً أخرى فأحدها أنه تعالى لما صب عليهم الدنيا صباً وأدى ذلك إلى رسوخ الغفلة في قلوبهم صح على هذا التأويل أنه تعالى حصل الغفلة في قلوبهم كما في قوله تعالى فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِى إِلاَّ فِرَاراً ( نوح 6 ) والوجه الثاني أن معنى قوله أَغْفَلْنَا أي تركناه غافلاً فلم نسمه بسمة أهل الطهارة والتقوى وهو من قولهم بعير غفل أي لا سمة عليه وثالثها أن المراد من قوله أغفلنا قلبه أي خلاه مع الشيطان ولم يمنع الشيطان منه فيقال في الوجه الأول إن فتح باب لذات الدنيا عليه هل يؤثر في حصول الغفلة في قلبه أو لا يؤثر فإن أثر كان أثر إيصال اللذات إليه سبباً لحصول الغفلة في قلبه وذلك عين القول بأنه تعالى فعل ما يوجب حصول الغفلة في قلبه وإن كان لا تأثير له في حصول هذه الغفلة بطل إسناده إليه وقد يقال في الوجه الثاني إن قوله أغفلنا قلبه بمنزلة قوله سودنا قلبه وبيضنا وجهه ولا يفيد إلا ما ذكرناه ويقال في الوجه الثالث إن كان لتلك التخلية أثر في حصول تلك الغفلة فقد صح قولنا وإلا بطل استناد تلك الغفلة إلى الله تعالى
المسألة الثانية قوله وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ يدل على أن شر أحوال الإنسان أن يكون قلبه خالياً عن ذكر الحق ويكون مملوءاً من الهوى الداعي إلى الاشتغال بالخلق وتحقيق القول أن ذكر الله نور وذكر غيره ظلمة لأن الوجود طبيعة النور والعدم منبع الظلمة والحق تعالى واجب الوجود لذاته فكان النور الحق هو الله وما سوى الله فهو ممكن الوجود لذاته والإمكان طبيعة عدمية فكان منبع الظلمة فالقلب إذا أشرق فيه ذكر الله فقد حصل فيه النور والضوء والإشراق وإذا توجه القلب إلى الخلق فقد حصل فيه الظلم والظلمة بل الظلمات فلهذا السبب إذا أعرض القلب عن الحق وأقبل على الخلق فهو الظلمة الخالصة التامة فالإعراض عن الحق هو المراد بقوله أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا والإقبال على الخلق هو المراد بقوله وَاتَّبَعَ هَوَاهُ
المسألة الثالثة قيل فُرُطًا أي مجاوزاً للحد من قولهم فرس فرط إذا كان متقدماً الخيل قال الليث الفرط الأمر الذي يفرط فيه يقال كل أمر فلان فرط وأنشد شعراً لقد كلفني شططا
وأمراً خائباً فرطا
أي مضيعاً فقوله وكان أمره فرطاً معناه أن الأمر الذي يلزمه الحفظ له والاهتمام به وهو أمر دينه يكون مخصوصاً بإيقاع التفريط والتقصير فيه وهذه الحالة صفة من لا ينظر لدينه وإنما عمله لدنياه فبين تعالى من حال الغافلين عن ذكر الله التابعين لهواهم أنهم مقصرون في مهماتهم معرضون عما وجب عليهم من التدبر

في الآيات والتحفظ بمهمات الدنيا والآخرة والحاصل أنه تعالى وصف أولئك الفقراء بالمواظبة على ذكر الله والإعراض عن غير ذكر الله فقال مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاة ِ وَالْعَشِى ّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ووصف هؤلاء الأغنياء بالإعراض عن ذكر الله تعالى والإقبال على غير الله وهو قوله أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ثم أمر رسوله بمجالسة أولئك والمباعدة عن هؤلاء روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال كنت جالساً في عصابة من ضعفاء المهاجرين وإن بعضهم ليستر بعضاً من العرى وقارىء يقرأ القرآن فجاء رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال ماذا كنتم تصنعون قلنا يا رسول الله كان واحد يقرأ من كتاب الله ونحن نستمع فقال عليه السلام ( الحمد لله الذي جعل من أمتي من أمرت إلى أن أصبر نفسي معهم ) ثم جلس وسطنا وقال ( أبشروا يا صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة تدخلون الجنة قبل الأغنياء بمقدار خمسين ألف سنة )
وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِى الْوجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقًا
في الآية مسائل
المسألة الأولى في تقرير النظم وجوه الأول أنه تعالى لما أمر رسوله بأن لا يلتفت إلى أولئك الأغنياء الذين قالوا إن طردت الفقراء آمنا بك قال بعده وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبّكُمْ أي قل لهؤلاء إن هذا الدين الحق إنما أتى من عند الله فإن قبلتموه عاد النفع إليكم وإن لم تقبلوه عاد الضرر إليكم ولا تعلق لذلك بالفقر والغنى والقبح والحسن والخمول والشهرة الوجه الثاني في تقرير النظم يمكن أن يكون المراد أن الحق ما جاء من عند الله والحق الذي جاءني من عنده أن أصبر نفسي مع هؤلاء الفقراء ولا أطردهم ولا ألتفت إلى الرؤساء وأهل الدنيا والوجه الثالث في تقرير النظم أن يكون المراد هو أن الحق الذي جاء من عند الله فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر وأن الله تعالى لم يأذن في طرد من آمن وعمل صالحاً لأجل أن يدخل في الإيمان جمع من الكفار فإن قيل أليس أن العقل يقتضي ترجيح الأهم على المهم فطرد أولئك الفقراء لا يوجب إلا سقوط حرمتهم وهذا ضرر قليل أما عدم طردهم فإنه يوجب بقاء الكفار على الكفر وهذا ضرر عظيم قلنا أما عدم طردهم فإنه يوجب بقاء الكفار على الكفر فمسلم إلا أن من ترك الإيمان لأجل الحذر من مجالسة الفقراء فإيمانه ليس بإيمان بل هو نفاق قبيح فوجب على العاقل أن لا يلتفت إلى إيمان من هذا حاله وصفته
المسألة الثانية قالت المعتزلة قوله تعالى فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ صريح في أن الأمر في الإيمان والكفر والطاعة والمعصية مفوض إلى العبد واختياره فمن أنكر ذلك فقد خالف صريح القرآن ولقد سألني بعضهم عن هذه الآية فقلت هذه الآية من أقوى الدلائل على صحة قولنا وذلك لأن الآية صريحة في

أن حصول الإيمان وحصول الكفر موقوف على حصول مشيئة الإيمان وحصول مشيئة الكفر وصريح العقل أيضاً يدل له فإن العقل الاختياري يمتنع حصوله بدون القصد إليه وبدون الاختيار له إذا عرفت هذا فنقول حصول ذلك القصد والاختيار إن كان بقصد آخر يتقدمه واختيار آخر يتقدمه لزمه أن يكون كل قصد واختيار مسبوقاً بقصد آخر إلى غير النهاية وهو محال فوجب انتهاء تلك القصود وتلك الاختيارت إلى قصد واختيار يخلقه الله تعالى في العبد على سبيل الضرورة عند حصول ذلك القصد الضروري والاختيار الضروري يوجب الفعل فالإنسان شاء أو لم يشأ إن لم تحصل في قلبه تلك المشيئة الجازمة الخالية عن المعارض لم يترتب الفعل وإذا حصلت تلك المشيئة الجازمة شاء أو لم يشأ يجب ترتب الفعل عليه فلا حصول المشيئة مترتب على حصول الفعل ولا حصول الفعل مترتب على المشيئة فالإنسان مضطر في صورة مختار ولقد قرر الشيخ أبو حامد الغزالي رحمه الله هذا المعنى في باب التوكل من كتاب إحياء علوم الدين فقال فإن قلت إني أجد في نفسي وجداناً ضرورياً أني إن شئت الفعل قدرت على الفعل وإن شئت الترك قدرت على الترك فالفعل والترك بي لا بغيري وأجاب عنه وقال هب أنك تجد من نفسك هذا المعنى ولكن هل تجد من نفسك أنك إن شئت مشيئة الفعل حصلت تلك المشيئة وإن لم تشأ تلك المشيئة لم تحصل بل العقل يشهد بأنه يشاء الفعل لا بسبق مشيئة أخرى على تلك المشيئة وإذا شاء الفعل وجب حصول الفعل من غير مكنة واختيار في هذا المقام فحصول المشيئة في القلب أمر لازم وترتب الفعل على حصول المشيئة أيضاً أمر لازم وهذا يدل على أن الكل من الله تعالى
المسألة الثالثة قوله فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ فيه فوائد
الفائدة الأولى الآية تدل على أن صدور الفعل عن الفاعل بدون القصد والداعي محال
الفائدة الثانية أن صيغة الأمر لا لمعنى الطلب في كتاب الله كثيرة ثم نقل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال هذه الصيغة تهديد ووعيد وليست بتخيير
الفائدة الثالثة أنها تدل على أنه تعالى لا ينتفع بإيمان المؤمنين ولا يستضر بكفر الكافرين بل نفع الإيمان يعود عليهم وضرر الكفر يعود عليهم كما قال تعالى إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لاِنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ( الإسراء 7 ) واعلم أنه تعالى لما وصف الكفر والإيمان والباطل والحق أتبعه بذكر الوعيد على الكفر والأعمال الباطلة وبذكر الوعد على الإيمان والعمل الصالح أما الوعيد فقوله تعالى إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا يقول اعتدنا لمن ظلم نفسه ووضع العبادة في غير موضعها والأنفة في غير محلها فعندما استحسن بهواه وأنف عن قبول الحق لأجل أن الذين قبلوه فقراء ومساكين فهذا كله ظلم ووضع للشيء في غير موضعه فأخبر تعالى أنه أعد لهؤلاء الأقوام ناراً وهي الجحيم ثم وصف تعالى تلك النار بصفتين الصفة الأولى قوله وَأَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا والسرادق هو الحجزة التي تكون حول الفسطاط فأثبت للنار شيئاً شبيهاً بذلك يحيط بهم من جميع الجهات والمراد أنه لا مخلص لهم منها ولا فرجة يتفرجون بالنظر إلى ما وراءها من غير النار بل هي محيطة بهم من كل الجوانب وقال بعضهم المراد من هذا السرادق الدخان الذي وصفه الله في قوله انطَلِقُواْ إِلَى ظِلّ ذِى ثَلَاثِ شُعَبٍ ( المرسلات 30 ) وقالوا هذه الإحاطة بهم إنما تكون قبل دخولهم النار فيغشاهم هذا الدخان ويحيط بهم كالسرادق حول الفسطاط

والصفة الثانية لهذه النار قوله وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَاء كَالْمُهْلِ قيل في حديث مرفوع إنه دردي الزيت وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه دخل بيت المال وأخرج نفاثة كانت فيه وأوقد عليها النار حتى تلألأت ثم قال هذا هو المهل قال أبو عبيدة والأخفش كل شيء أذبته من ذهب أو نحاس أو فضة فهو المهل وقيل إنه الصديد والقيح وقيل إنه ضرب من القطران ثم يحتمل أن تكون هذه الاستغاثة لأنهم إذا طلبوا ماء للشرب فيعطون هذا المهل قال تعالى تَصْلَى نَاراً حَامِيَة ً تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ ءانِيَة ٍ ( الغاشية 4 5 ) ويحتمل أن يستغيثوا من حر جهنم فيطلبوا ماء يصبونه على أنفسهم للتبريد فيعطون هذا الماء قال تعالى حكاية عنهم أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء ( الأعراف 50 ) وقال في آية أخرى سَرَابِيلُهُم مّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ ( إبراهيم 50 ) فإذا استغاثوا من حر جهنم صب عليهم القطران الذي يعم كل أبدانهم كالقميص وقوله تعالى يُغَاثُواْ بِمَاء كَالْمُهْلِ وارد على سبيل الاستهزاء كقوله
تحية بينهم ضرب وجيع
ثم قال تعالى بِئْسَ الشَّرَابُ أي أن الماء الذي هو كالمهل بئس الشراب لأن المقصود بشرب الشراب تسكين الحرارة وهذا يبلغ في احتراق الأجسام مبلغاً عظيماً ثم قال تعالى وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا قال قائلون ساءت النار منزلاً ومجتمعاً للرفقة لأن أهل النار يجتمعون رفقاء كأهل الجنة قال تعالى في صفة أهل الجنة وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً ( النساء 69 ) وأما رفقاء النار فهم الكفار والشياطين والمعنى بئس الرفقاء هؤلاء وبئس موضع الترافق النار كما أنه نعم الرفقاء أهل الجنة ونعم موضع الرفقاء الجنة وقال آخرون مرتفقاً أي متكأ وسمي المرفق مرفقاً لأنه يتكأ عليه فالإتكاء إنما يكون للاستراحة والمرتفق موضع الاستراحة والله أعلم
أُوْلَائِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الاٌّ رَآئِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً
اعلم أنه تعالى لما ذكر وعيد المبطلين أردفه بوعد المحقين وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قوله إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يدل على أن العمل الصالح مغاير للإيمان لأن العطف يوجب المغايرة
المسألة الثانية قوله إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً ظاهره يقتضي أنه يستوجب المؤمن بحسن عمله على الله أجراً وعند أصحابنا ذلك الاستيجاب حصل بحكم الوعد وعند المعتزلة لذات الفعل وهو باطل لأن نعم الله كثيرة وهي موجبة للشكر والعبودية فلا يصير الشكر والعبودية موجبين لثواب آخر لأن أداء

الواجب لا يوجب شيئاً آخر
المسألة الثالثة نظير قوله إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ الخ قول الشاعر إن الخليفة إن الله سربله
سربال ملك به ترجى الخواتيم
كرر أن تأكيداً للأعمال والجزاء عليها
المسألة الرابعة أولئك خبر إن وإنا لا نضيع اعتراض ولك أن تجعل إنا لا نضيع وأولئك خبرين معاً ولك أن تجعل أولئك كلاماً مستأنفاً بياناً للأجر المبهم واعلم أنه تعالى لما أثبت الأجر المبهم أردفه بالتفصيل من وجوه أولها صفة مكانهم وهو قوله أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الانْهَارُ والعدن في اللغة عبارة عن الإقامة فيجوز أن يكون المعنى أولئك لهم جنات إقامة كما يقال هذه دار إقامة ويجوز أن يكون العدن إسماً لموضع معين من الجنة وهو وسطها وأشرف أماكنها وقد استقصينا فيه فيما تقدم وقوله جَنَّاتُ لفظ جمع فيمكن أن يكون المراد ما قاله تعالى وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ ( الرحمن 46 ) ويمكن أن يكون المراد أن نصيب كل واحد من المكلفين جنة على حدة وذكر أن من صفات تلك الجنات أن الأنهار تجري من تحتها وذلك لأن أفضل المساكن في الدنيا البساتين التي يجري فيها الأنهار وثانيها إن لباس أهل الدنيا إما لباس التحلي وإما لباس التستر أما لباس التحلي فقال تعالى في صفته يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ والمعنى أنه يحليهم الله تعالى ذلك أو تحليهم الملائكة وقال بعضهم على كل واحد منهم ثلاثة أسورة سوار من ذهب لأجل هذه الآية وسوار من فضة لقوله تعالى وَحُلُّواْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّة ٍ ( الإنسان 21 ) وسوار من لؤلؤ لقوله تعالى وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ( الحج 23 ) وأما لباس التستر فقوله وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ والمراد من سندس الآخرة واستبرق الآخرة والأول هو الديباج الرقيق وهو الخز والثاني هو الديباج الصفيق وقيل أصله فارسي معرب وهو استبره أي غليظ فإن قيل ما السبب في أنه تعالى قال في الحلي يُحَلَّوْنَ على فعل ما لم يسم فاعله وقال في السندس والاستبرق ويلبسون فأضاف اللبس إليهم قلنا يحتمل أن يكون اللبس إشارة إلى ما استوجبوه بعملهم وأن يكون الحلي إشارة إلى ما تفضل الله عليهم ابتداء من زوائد الكرم وثالثها كيفية جلوسهم فقال في صفتها متكئين فيها على الأرائك قالوا الأرائك جمع أريكة وهي سرير في حجلة أما للسرير وحده فلا يسمى أريكة ولما وصف الله تعالى هذه الأقسام قال نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً والمراد أن يكون هذا في مقابلة ما تقدم ذكره من قوله وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا
وَاضْرِبْ لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لاًّحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمِ مِّنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَراً وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لَصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَاْ أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَاذِهِ أَبَداً وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَة َ قَائِمَة ً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّى لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَة ٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً لَّكِنَّ هُوَ اللَّهُ رَبِّى وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّى أَحَدًا وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ اللَّهُ لاَ قُوَّة َ إِلاَّ بِاللَّهِ إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَدًا فعسَى رَبِّى أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَآءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْرًا فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَآ أَنْفَقَ فِيهَا وَهِى َ خَاوِيَة ٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يالَيْتَنِى لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّى أَحَدًا وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَة ٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً هُنَالِكَ الْوَلَايَة ُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا

اعلم أن المقصود من هذا أن الكفار افتخروا بأموالهم وأنصارهم على فقراء المسلمين فبين الله تعالى أن ذلك مما لا يوجب الافتخار لاحتمال أن يصير الفقير غنياً والغني فقيراً أما الذي يجب حصول المفاخرة به فطاعة الله وعبادته وهي حاصلة لفقراء المؤمنين وبين ذلك بضرب هذا المثل المذكور في الآية فقال وَاضْرِبْ لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ أي مثل حال الكافرين والمؤمنين بحال رجلين كانا أخوين في بني إسرائيل أحدهما كافر اسمه براطوس والآخر مؤمن اسمه يهوذا وقيل هما المذكوران في سورة الصافات في قوله تعالى قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ إِنّى كَانَ لِى قَرِينٌ ( الصافات 51 ) ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار فأخذ كل واحد منهما النصف فاشترى الكافر أرضاً فقال المؤمن اللهم إني أشتري منك أرضاً في الجنة بألف فتصدق به ثم بنى أخوه داراً بألف فقال المؤمن اللهم إني اشتري منك داراً في الجنة بألف فتصدق به ثم تزوج أخوه امرأة بألف فقال المؤمن اللهم إني جعلت ألفاً صداقاً للحور العين ثم اشترى أخوه خدماً وضياعاً بألف فقال المؤمن

اللهم إني اشتريت منك الولدان بألف فتصدق به ثم أصابه حاجة فجلس لأخيه على طريقه فمر به في حشمه فتعرض له فطرده ووبخه على التصدق بماله وقوله تعالى جَعَلْنَا لاِحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ فاعلم أن الله تعالى وصف تلك الجنة بصفات الصفة الأولى كونها جنة وسمى البستان جنة لاستتار ما يستتر فيها بظل الأشجار وأصل الكلمة من الستر والتغطية والصفة الثانية قوله وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ أي وجعلنا النخل محيطاً بالجنتين نظيره قوله تعالى وَتَرَى الْمَلَائِكَة َ حَافّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ ( الزمر 75 ) أي واقفين حول العرش محيطين به والحفاف جانب الشيء والأحفة جمع فمعنى قول القائل حف به القوم أي صاروا في أحفته وهي جوانبه قال الشاعر له لحظات في حفافي سريره
إذا كرها فيها عقاب ونائل
قال صاحب ( الكشاف ) حفوه إذا طافوا به وحففته بهم أي جعلتهم حافين حوله وهو متعد إلى مفعول واحد فتزيده الباء مفعولاً ثانياً كقوله غشيته وغشيته به قال وهذه الصفة مما يؤثرها الدهاقين في كرومهم وهي أن يجعلوها محفوفة بالأشجار المثمرة وهو أيضاً حسن في المنظر الصفة الثالثة وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا والمقصود منه أمور أحدها أن تكون تلك الأرض جامعة للأقوات والفواكه وثانيها أن تكون تلك الأرض متسعة الأطراف متباعدة الأكناف ومع ذلك فإنها لم يتوسطها ما يقطع بعضها عن بعض وثالثها أن مثل هذه الأرض تأتي في كل وقت بمنفعة أخرى وهي ثمرة أخرى فكانت منافعها دارة متواصلة الصفة الرابعة قوله تعالى كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ اتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمِ مّنْهُ شَيْئًا كلا إسم مفرد معرفة يؤكد به مذكران معرفتان وكلتا اسم مفرد يؤكد به مؤنثان معرفتان وإذا أضيفا إلى المظهر كانا بالألف في الأحوال الثلاثة كقولك جاءني كلا أخويك ورأيت كلا أخويك ومررت بكلا أخويك وجاءني كلتا أختيك ورأيت كلتا أختيك ومررت بكلتا أختيك وإذا أضيفا إلى المضمر كانا في الرفع بالألف وفي الجر والنصب بالياء وبعضهم يقول مع المضمر بالألف في الأحوال الثلاثة أيضاً وقوله اتَتْ أُكُلَهَا حمل على اللفظ لأن كلتا لفظه لفظ مفرد ولو قيل أتتا على المعنى لجاز وقوله وَلَمْ تَظْلِمِ مّنْهُ شَيْئًا أي لم تنقص والظلم النقصان يقول الرجل ظلمني حقي أي نقصني الصفة الخامسة قوله تعالى وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَراً أي كان النهر يجري في داخل تلك الجنتين وفي قراءة يعقوب وفجرنا مخففة وفي قراءة الباقين وفجرنا مشددة والتخفيف هو الأصل لأنه نهر واحد والتشديد على المبالغة لأن النهر يمتد فيكون كأنهار و خِلَالَهُمَا أي وسطهما وبينهما ومنه قوله تعالى ولاَوْضَعُواْ خِلَالَكُمْ ( التوبة 47 ) ومنه يقال خللت القوم أي دخلت بين القوم الصفة السادسة قوله تعالى وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ قرأ عاصم بفتح الثاء والميم في الموضعين وهو جمع ثمار أو ثمرة وقرأ أبو عمرو بضم الثاء وسكون الميم في الحرفين والباقون بضم الثاء والميم في الحرفين ذكر أهل اللغة أنه بالضم أنواع الأموال من الذهب والفضة وغيرهما وبالفتح حمل الشجر قال قطرب كان أبو عمرو بن العلاء يقول الثمر المال والولد وأنشد للحارث بن كلدة ولقد رأيت معاشرا
قد أثمروا مالاً وولدا
مهلاً فداء لك الأقوام كلهم
ما أثمروه أمن مال ومن ولد

وقوله وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ أي أنواع من المال من ثمر ماله إذا كثر وعن مجاهد الذهب والفضة أي كان مع الجنتين أشياء من النقود ولما ذكر الله تعالى هذه الصفات قال بعده فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَاْ أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً والمعنى أن المسلم كان يحاوره بالوعظ والدعاء إلى الإيمان بالله وبالبعث والمحاورة مراجعة الكلام من قولهم حار إذا رجع قال تعالى إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ بَلَى ( الانشقاق 14 15 ) فذكر تعالى أن عند هذه المحاورة قال الكافر أَنَاْ أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً والنفر عشيرة الرجل وأصحابه الذين يقومون بالذب عنه وينفرون معه وحاصل الكلام أن الكافر ترفع على المؤمن بجاهه وماله ثم إنه أراد أن يظهر لذلك المسلم كثرة ماله فأخبر الله تعالى عن هذه الحالة فقال وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وأراه إياها على الحالة الموجبة للبهجة والسرور وأخبره بصنوف ما يملكه من المال فإن قيل لم أفرد الجنة بعد التثنية قلنا المراد أنه ليس له جنة ولا نصيب في الجنة التي وعد المتقون المؤمنون وهذا الذي ملكه في الدنيا هو جنته لا غير ولم يقصد الجنتين ولا واحداً منهما ثم قال تعالى وَهُوَ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ وهو اعتراض وقع في أثناء الكلام والمراد التنبيه على أنه لما اعتز بتلك النعم وتوسل بها إلى الكفران والجحود لقدرته على البعث كان واضعاً تلك النعم في غير موضعها ثم حكى تعالى عن الكافر أنه قال وَمَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَاذِهِ أَبَداً وَمَا أَظُنُّ السَّاعَة َ قَائِمَة ً فجمع بين هذين فالأول قطعه بأن تلك الأشياء لا تهلك ولا تبيد أبداً مع أنها متغيرة متبدلة فإن قيل هب أنه شك في القيامة فكيف قال ما أظن أن تبيد هذه أبداً مع أن الحدس يدل على أن أحوال الدنيا بأسرها ذاهبة باطلة غير باقية قلنا المراد أنها لا تبيد مدة حياته ووجوده ثم قال وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبّى لاجِدَنَّ خَيْراً مّنْهَا مُنْقَلَباً أي مرجعاً وعاقبة وانتصابه على التمييز ونظيره قوله تعالى وَلَئِن رُّجّعْتُ إِلَى رَبّى إِنَّ لِى عِندَهُ لَلْحُسْنَى وقوله لاَوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً والسبب في وقوع هذه الشبهة أنه تعالى لما أعطاه المال في الدنيا ظن أنه إنما أعطاه ذلك لكونه مستحقاً له والاستحقاق باق بعد الموت فوجب حصول العطاء والمقدمة الأولى كاذبة فإن فتح باب الدنيا على الإنسان يكون في أكثر الأمر للاستدراج والتملية قرأ نافع وابن كثير خيراً منهما والمقصود عود الكناية إلى الجنتين والباقون منها والمقصود عود الكناية إلى الجنة التي دخلها ثم ذكر تعالى جواب المؤمن فقال جل جلاله قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَة ٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً وفيه بحثان
البحث الأول أن الإنسان الأول قال وَمَا أَظُنُّ السَّاعَة َ قَائِمَة ً وهذا الثاني كفره حيث قال أَكَفَرْتَ بِالَّذِى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ وهذا يدل على أن الشاك في حصول البعث كافر
البحث الثاني هذا الاستدلال يحتمل وجهين الأول يرجع إلى الطريقة المذكورة في القرآن وهو أنه تعالى لما قدر على الابتداء وجب أن يقدر على الإعادة فقوله خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَة ٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً إشارة إلى خلق الإنسان في الابتداء الوجه الثاني أنه لما خلقك هكذا فلم يخلقك عبثاً وإنما خلقك للعبودية وإذا خلقك لهذا المعنى وجب أن يحصل للمطيع ثواب وللمذنب عقاب وتقريره ما ذكرناه في سورة يس ويدل على هذا الوجه قوله ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً أي هيأك هيئة تعقل وتصلح للتكليف فهل يجوز في العقل مع هذه الحالة إهماله أمرك ثم قال المؤمن لَكُنَّا هُوَ اللَّهُ رَبّى وفيه بحثان
البحث الأول قال أهل اللغة لكنا أصله لكن أنا فحذفت الهمزة وألقيت حركتها على نون لكن فاجتمعت النونان فادغمت نون لكن في النون التي بعدها ومثله

وتقلينني لكن إياك لا أقلى
أي لكن أنا لا أقليك وهو في قوله هُوَ اللَّهُ رَبّى ضمير الشأن وقوله اللَّهُ رَبّى جملة من المبتدأ والخبر واقعة في معرض الخبر لقوله هو فإن قيل قوله لَكُنَّا استدراك لماذا قلنا لقوله أَكَفَرْتَ كأنه قال لأخيه أكفرت بالله لكني مؤمن موحد كما تقول زيد غائب لكن عمرو حاضر
والبحث الثاني قرأ ابن عامر ويعقوب الحضرمي ونافع في رواية لَكُنَّا هُوَ اللَّهُ رَبّى في الوصل بالألف وفي قراءة الباقين لَّكِنَّ هُوَ اللَّهُ رَبّى بغير ألف والمعنى واحد ثم قال المؤمن وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبّى أَحَدًا ذكر القفال فيه وجوهاً أحدها إني لا أرى الفقر والغنى إلا منه فأحمده إذا أعطى وأصبر إذا ابتلي ولا أتكبر عندما ينعم علي ولا أرى كثرة المال والأعوان من نفسي وذلك لأن الكافر لما اعتز بكثرة المال والجاه فكأنه قد أثبت لله شريكاً في إعطاء العز والغنى وثانيها لعل ذلك الكافر مع كونه منكراً للبعث كان عابد صنم فبين هذا المؤمن فساد قوله بإثبات الشركاء وثالثها أن هذا الكافر لما عجز الله عن البعث والحشر فقد جعله مساوياً للخلق في هذا العجز وإذا أثبت المساواة فقد أثبت الشريك ثم قال المؤمن للكافر وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لاَ قُوَّة َ إِلاَّ بِاللَّهِ فأمره أن يقول هذين الكلامين الأول قوله مَا شَاء اللَّهُ وفيه وجهان الأول أن تكون ( ما ) شرطية ويكون الجزاء محذوفاً والتقدير أي شيء شاء الله كان والثاني أن تكون ما موصولة مرفوعة المحل على أنها خبر مبتدأ محذوف وتقديره الأمر ما شاء الله واحتج أصحابنا بهذا على أن كل ما أراده الله وقع وكل ما لم يرده لم يقع وهذا يدل على أنه ما أراد الله الإيمان من الكافر وهو صريح في إبطال قول المعتزلة أجاب الكعبي عنه بأن تأويل قولهم ما شاء مما تولى فعله لا مما هو فعل العباد كما قالوا لا مرد لأمر الله لم يرد ما أمر به العباد ثم قال لا يمتنع أن يحصل في سلطانه ما لا يريده كما يحصل فيه ما نهى عنه واعلم أن الذي ذكر الكعبي ليس جواباً عن الاستدلال بل هو التزام المخالفة لظاهر النص وقياس الإرادة على الأمر باطل لأن هذا النص دال على أنه لا يوجد إلا ما أراده الله وليس في النصوص ما يدل على أنه لا يدخل في الوجود إلا ما أمر به فظهر الفرق وأجاب القفال عنه بأن قال هلا إذا دخلت بستانك قلت ما شاء الله كقول الإنسان هذه الأشياء الموجودة في هذا البستان ما شاء الله ومثله قوله سَيَقُولُونَ ثَلَاثَة ٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وهم ثلاثة وقوله وَقُولُواْ حِطَّة ٌ ( البقرة 58 ) أي قولوا هذه حطة وإذا كان كذلك كان المراد من هذا الشيء الموجود في البستان شيء شاء الله تكوينه وعلى هذا التقدير لم يلزم أن يقال كل ما شاء الله وقع لأن هذا الحكم غير عام في الكل بل مختص بالأشياء المشاهدة في البستان وهذا التأويل الذي ذكره القفال أحسن بكثير مما ذكره الجبائي والكعبي وأقول إنه على جوابه لا يدفع الإشكال على المعتزلة لأن عمارة ذلك البستان ربما حصلت بالغصوب والظلم الشديد فلا يصح أيضاً على قول المعتزلة أن يقال هذا واقع بمشيئة الله اللهم إلا أن نقول المراد أن هذه الثمار حصلت بمشيئة الله تعالى إلا أن هذا تخصيص لظاهر النص من غير دليل والكلام الثاني الذي أمر المؤمن الكافر بأن يقوله هو قوله لاَ قُوَّة َ إِلاَّ بِاللَّهِ أي لا قوة لأحد على أمر من الأمور إلا بإعانة الله وإقداره والمقصود إنه قال المؤمن للكافر هلا قلت عند دخول جنتك الأمر ما شاء الله والكائن ما قدره الله

اعترافاً بأنها وكل خير فيها بمشيئة الله وفضله فإن أمرها بيده إن شاء تركها وإن شاء خربها وهلا قلت لا قوة إلا بالله إقراراً بأن ما قويت به على عمارتها وتدبير أمرها فهو بمعونة الله وتأييده لا يقوى أحد في بدنه ولا في ملك يده إلا بالله ثم إن المؤمن لما علم الكافر الإيمان أجابه عن افتخاره بالمال والنفر فقال إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَدًا من قرأ أقل بالنصب فقد جعل أنا فصلاً وأقل مفعولاً ثانياً ومن قرأ بالرفع جعل قوله أَنَاْ مبتدأ وقوله أَقُلْ خبر والجملة مفعولاً ثانياً لترن واعلم أن ذكر الولد ههنا يدل على أن المراد بالنفر المذكور في قوله وَأَعَزُّ نَفَراً الأعوان والأولاد كأنه يقول له إن كنت تراني أَقُلْ مَالاً وَوَلَدًا وأنصاراً في الدنيا الفانية فعسَى رَبّى أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مّن جَنَّتِكَ إما في الدنيا وإما في الآخرة ويرسل على جنتك حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاء أي عذاباً وتخريباً والحسبان مصدر كالغفران والبطلان بمعنى الحساب أي مقداراً قدره الله وحسبه وهو الحكم بتخريبها قال الزجاج عذاب حسبان وذلك الحسبان حسبان ما كسبت يداك وقيل حسباناً أي مرامي الواحد منها حسبانة وهي الصواعق فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا أي فتصبح جنتك أرضاً ملساء لا نبات فيها والصعيد وجه الأرض زلقاً أي تصير بحيث تزلق الرجل عليها زلقاً ثم قال أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا أي يغوص ويسفل في الأرض فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا أي فيصير بحيث لا تقدر على رده إلى موضعه قال أهل اللغة في قوله مَاؤُهَا غَوْرًا أي غائراً وهو نعت على لفظ المصدر كما يقال فلان زور وصوم للواحد والجمع والمذكر والمؤنث ويقال نساء نوح أي نوائح ثم أخبر الله تعالى أنه حقق ما قدره هذا المؤمن فقال وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ وهو عبارة عن إهلاكه بالكلية وأصله من إحاطة العدو لأنه إذا أحاط به فقد ملكه واستولى عليه ثم استعمل في كل إهلاك ومنه قوله إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ ( يوسف 66 ) ومثله قولهم أتى عليه إذا أهلكه من أتى عليهم العدو إذا جاءهم مستعلياً عليهم ثم قال تعالى فَأَصْبَحَ يُقَلّبُ كَفَّيْهِ وهو كناية عن الندم والحسرة فإن من عظمت حسرته يصفق إحدى يديه على الأخرى وقد يمسح إحداهما على الأخرى وإنما يفعل هذا ندامة على ما أنفق في الجنة التي وعظه أخوه فيها وعذله وَهِى َ خَاوِيَة ٌ عَلَى عُرُوشِهَا أي ساقطة على عروشها فيمكن أن يكون المراد بالعروش عروش الكرم فهذه العروش سقطت ثم سقطت الجدران عليها ويمكن أن يراد من العروش السقوف وهي سقطت على الجدران وحاصل الكلام أن هذه اللفظة كناية عن بطلانها وهلاكها ثم قال تعالى وَيَقُولُ يالَيْتَنِى لَيْتَنِى لَمْ أُشْرِكُ بِرَبّى أَحَدًا والمعنى أن المؤمن لما قال لَكُنَّا هُوَ اللَّهُ رَبّى وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبّى أَحَدًا فهذا الكافر تذكر كلامه وقال وَيَقُولُ يالَيْتَنِى لَمْ أُشْرِكْ بِرَبّى أَحَدًا فإن قيل هذا الكلام يوهم أنه إنما هلكت جنته بشؤم شركه وليس الأمر كذلك لأن أنواع البلاء أكثرها إنما يقع للمؤمنين قال تعالى وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّة ً واحِدَة ً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَانِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مّن فِضَّة ٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ( الزخرف 33 ) وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( خص البلاء بالأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل ) وأيضاً فلما قال وَيَقُولُ يالَيْتَنِى لَمْ أُشْرِكْ بِرَبّى أَحَدًا فقد ندم على الشرك ورغب في التوحيد فوجب أن يصير مؤمناً فلم قال بعده وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَة ٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً والجواب عن السؤال الأول أنه لما عظمت حسرته لأجل أنه أنفق عمره في تحصيل الدنيا وكان معرضاً في كل عمره عن طلب الدين فلما ضاعت الدنيا بالكلية بقي الحرمان عن الدنيا والدين عليه فلهذا السبب عظمت حسرته والجواب عن السؤال الثاني أنه إنما ندم على الشرك لاعتقاده أنه لو كان موحداً غير مشرك لبقيت عليه جنته فهو إنما رغب في التوحيد والرد عن الشرك لأجل طلب

الدنيا فلهذا السبب ما صار توحيده مقبولاً عند الله ثم قال تعالى وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَة ٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وفيه بحثان
البحث الأول قرأ حمزة والكسائي ( ولم يكن له فئة ) بالياء لأن قوله فِئَة ٌ جمع فإذا تقدم على الكناية جاز التذكير ولأنه رعاية للمعنى والباقون بالتاء المنقوطة باثنتين من فوق لأن الكناية عائدة إلى اللفظة وهي الفئة
البحث الثاني المراد من قوله يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ هو أنه ما حصلت له فئة يقدرون على نصرته من دون الله أي هو الله تعالى وحده القادر على نصرته ولا يقدر أحد غيره أن ينصره ثم قال تعالى هُنَالِكَ الْوَلَايَة ُ لِلَّهِ الْحَقّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبَى
المسألة الأولى اختلف القراء في ثلاثة مواضع من هذه الآية أولها في لفظ الولاية ففي قراءة حمزة والكسائي بكسر الواو وفي قراءة الباقين بالفتح وحكى عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال كسر الواو لحن قال صاحب الكشاف الولاية بالفتح النصرة والتولي وبالكسر السلطان والملك وثانيها قرأ أبو عمرو والكسائي قوله الحق بالرفع والتقدير هنالك الولاية الحق لله وقرأ الباقون بالجر صفة لله وثالثها قرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع والكسائي وابن عامر عقباً بضم القاف وقرأ عاصم وحمزة عقبى بتسكين القاف
المسألة الثانية هُنَالِكَ الْوَلَايَة ُ لِلَّهِ فيه وجوه الأول أنه تعالى لما ذكر من قصة الرجلين ما ذكر علمنا أن النصرة والعاقبة المحمودة كانت للمؤمن على الكافر وعرفنا أن الأمر هكذا يكون في حق كل مؤمن وكافر فقال هُنَالِكَ الْوَلَايَة ُ لِلَّهِ الْحَقّ أي في مثل ذلك الوقت وفي مثل ذلك المقام تكون الولاية لله يوالي أولياءه فيغلبهم على أعدائه ويفوض أمر الكفار إليهم فقوله هنالك إشارة إلى الموضع والوقت الذي يريد الله إظهار كرامة أوليائه وإذلال أعدائه ( فيهما ) والوجه الثاني في التأويل أن يكون المعنى في مثل تلك الحالة الشديدة يتولى الله ويلتجيء إليه كل محتاج مضطر يعني أن قوله وَيَقُولُ يالَيْتَنِى لَمْ أُشْرِكْ بِرَبّى أَحَدًا كلمة ألجيء إليها ذلك الكافر فقالها جزعاً مما ساقه إليه شؤم كفره ولولا ذلك لم يقلها والوجه الثالث المعنى هنالك الولاية لله ينصر بها أولياءه المؤمنين على الكفرة وينتقم لهم ويشفي صدورهم من أعدائهم يعني أنه تعالى نصر بما فعل بالكافر أخاه المؤمن وصدق قوله في قوله فعسَى رَبّى أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاء ويعضده قوله هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبَى أي لأوليائه والوجه الرابع أن قوله هنالك إشارة إلى الدار الآخرة أي في تلك الدار الآخرة الولاية لله كقوله لمن الملك اليوم لله ثم قال تعالى هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا أي في الآخرة لمن آمن به والتجأ إليه وَخَيْرٌ عُقْبَى أي هو خير عاقبة لمن رجاه وعمل لوجهه وقد ذكرنا أنه قرىء عقبى بضم القاف وسكونها وعقبى على فعلى وكلها بمعنى العاقبة
وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرض فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ مُّقْتَدِرًا

اعلم أن المقصود اضرب مثلاً آخر يدل على حقارة الدنيا وقلة بقائها والكلام متصل بما تقدم من قصة المشركين المتكبرين على فقراء المؤمنين فقال وَاضْرِبْ لَهُم أي لهؤلاء الذين افتخروا بأموالهم وأنصارهم على فقراء المسلمين مَثَلُ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا ثم ذكر المثل فقال كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الاْرْضِ وحينئذ يربو ذلك النبات ويهتز ويحسن منظره كما قال تعالى فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ( الحج 5 ) ثم إذا انقطع ذلك مدة جف ذلك النبات وصار هشيماً وهو النبت المتكسر المتفتت ومنه قوله هشمت أنفه وهشمت الثريد وأنشد عمرو الذي هشم الثريد لأهله
ورجال مكة مسنتون عجاف
وإذا صار النبات كذلك طيرته الرياح وذهبت بتلك الأجزاء إلى سائر الجوانب وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلّ شَى ْء مُّقْتَدِرًا بتكوينه أولاً وتنميته وسطاً وإبطاله آخراً وأحوال الدنيا أيضاً كذلك تظهر أولاً في غاية الحسن والنضارة ثم تتزايد قليلاً قليلاً ثم تأخذ في الانحطاط إلى أن تنتهي إلى الهلاك والفناء ومثل هذا الشيء ليس للعاقل أن يبتهج به والباء في قوله فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الاْرْضِ فيه وجوه الأول التقدير فاختلط بعض أنواع النبات بسائر الأنواع بسبب هذا الماء وذلك لأن عند نزول المطر يقوي النبات ويختلط بعضه بالبعض ويشتبك بعضه بالبعض ويصير في المنظر في غاية الحسن والزينة والثاني فاختلط ذلك الماء بالنبات واختلط ذلك النبات بالماء حتى روى ورف رفيفاً وكان حق اللفظ على هذا التفسير فاختلط بنبات الأرض ووجه صحته أن كل مختلطين موصوف كل واحد منها بصفة صاحبه
الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَة ُ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً
لما بين تعالى أن الدنيا سريعة الانقراض والانقضاء مشرفة على الزوال والبوار والفناء بين تعالى أن المال والبنين زينة الحياة الدنيا والمقصود إدخال هذا الجزء تحت ذلك الكل وسنعقد منه قياس الإنتاج وهو أن المال والبنون زينة الحياة الدنيا وكل ما كان من زينة الدنيا فهو سريع الانقضاء والانقراض ينتج إنتاجاً بديهياً أن المال والبنين سريعة الانقضاء والانقراض ومن المقتضى البديهي أن ما كان كذلك فإنه يقبح بالعاقل أن يفتخر به أو يفرح بسببه أو يقيم له في نظره وزناً فهذا برهان باهر على فساد قول أولئك المشركين الذين افتخروا على فقراء المؤمنين بكثرة الأموال والأولاد ثم ذكر ما يدل على رجحان أولئك الفقراء على أولئك الكفار من الأغنياء فقال وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً وتقرير هذا الدليل أن خيرات الدنيا منقرضة منقضية وخيرات الآخرة دائمة باقية والدائم الباقي خير من المنقرض المنقضي وهذا معلوم بالضرورة لا سيما إذا ثبت أن خيرات الدنيا خسيسة حقيرة وأن خيرات الآخرة عالية رفيعة لأن خيرات

الدنيا حسية وخيرات الآخرة عقلية والعقلية أشرف من الحسية بكثير بالدلائل المذكورة في تفسير قوله تعالى اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ في بيان أن الإدراكات العقلية أفضل من الحسية وإذا كان كذلك كان مجموع السعادات العقلية والحسية هي السعادات الأخروية فوجب أن تكون أفضل من السعادات الحسية الدنيوية والله أعلم والمفسرون ذكروا في الباقيات الصالحات أقوالاً قيل إنها قولنا ( سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ) وللشيخ الغزالي رحمه الله في تفسير هذه الكلمات وجه لطيف فقال روي أن من قال سبحان الله حصل له من الثواب عشر مرات فإذا قال والحمد لله صارت عشرين فإذا قال ولا إله إلا الله صارت ثلاثين فإذا قال والله أكبر صارت أربعين قال وتحقيق القول فيه أن أعظم مراتب الثواب هو الاستغراق في معرفة الله وفي محبته فإذا قال سبحان الله فقد عرف كونه سبحانه منزهاً عن كل ما لا ينبغي فحصول هذا العرفان سعادة عظيمة وبهجة كاملة فإذا قال مع ذلك والحمد لله فقد أقر بأن الحق سبحانه مع كونه منزهاً عن كل ما لا ينبغي فهو المبدأ لإفادة كل ما ينبغي ولإفاضة كل خير وكمال فقد تضاعفت درجات المعرفة فلا جرم قلنا تضاعف الثواب فإذا قال مع ذلك ولا إله إلا الله فقد أقر بأن الذي تنزه عن كل ما لا ينبغي فهو المبدأ لكل ما ينبغي وليس في الوجود موجود هكذا إلا الواحد فقد صارت مراتب المعرفة ثلاثة فلا جرم صارت درجات الثواب ثلاثة فإذا قال والله أكبر معناه أنه أكبر وأعظم من أن يصل العقل إلى كنه كبريائه وجلاله فقد صارت مراتب المعرفة أربعة لا جرم صارت درجات الثواب أربعة والقول الثاني أن الباقيات الصالحات هي الصلوات الخمس والقول الثالث أنها الطيب من القول كما قال تعالى وَهُدُواْ إِلَى الطَّيّبِ مِنَ الْقَوْلِ ( الحج 24 ) والقول الرابع أن كل عمل وقول دعاك إلى الاشتغال بمعرفة الله وبمحبته وخدمته فهو الباقيات الصالحات وكل عمل وقول دعاك إلى الاشتغال بأحوال الخلق فهو خارج عن ذلك وذلك أن كل ما سوى الحق سبحانه فهو فان لذاته هالك لذاته فكان الاشتغال به والالتفات إليه عملاً باطلاً وسعياً ضائعاً أما الحق لذاته فهو الباقي لا يقبل الزوال لا جرم كان الاشتغال بمعرفة الله ومحبته وطاعته هو الذي يبقى بقاء لا يزول ولا يفنى ثم قال تعالى خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً أي كل عمل أريد به وجه الله فلا شك أن ما يتعلق به من الثواب وما يتعلق به من الأمل يكون خيراً وأفضل لأن صاحب تلك الأعمال يؤمل في الدنيا ثواب الله ونصيبه في الآخرة
( 47 )
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأرض بَارِزَة ً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً وَعُرِضُواْ عَلَى رَبِّكَ صَفَا لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّة ٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِدًا وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ ياوَيْلَتَنَا مَا لِهَاذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَة ً وَلاَ كَبِيرَة ً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا

اعلم أنه تعالى لما بين خساسة الدنيا وشرف القيامة أردفه بأحوال القيامة فقال وَيَوْمَ نُسَيّرُ الْجِبَالَ والمقصود منه الرد على المشركين الذي افتخروا على فقراء المسلمين بكثرة الأموال والأعوان واختلفوا في الناصب لقوله وَيَوْمَ نُسَيّرُ الْجِبَالَ على وجوه أحدها أنه يكون التقدير واذكر لهم يَوْمٍ نُسَيّرُ الْجِبَالَ عطفاً على قوله وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا ( الكهف 45 ) الثاني أنه يكون التقدير وَيَوْمَ نُسَيّرُ الْجِبَالَ حصل كذا وكذا يقال لهم لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّة ٍ لأن القول مضمر في هذا الموضع فكان المعنى أنه يقال لهم هذا في هذا الموضع الثالث أن يكون التقدير خَيْرٌ أَمَلاً في يَوْمٍ نُسَيّرُ الْجِبَالَ والأول أظهر إذا عرفت هذا فنقول إنه ذكر في الآية من أحوال القيامة أنواعاً النوع الأول قوله وَيَوْمَ نُسَيّرُ الْجِبَالَ وفيه بحثان
البحث الأول قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر تسير على فعل ما لم يسم فاعله الجبال بالرفع بإسناد تسير إليه اعتباراً بقوله تعالى وَإِذَا الْجِبَالُ سُيّرَتْ ( التكوير 3 ) والباقون نسير باسناد فعل التسيير إلى نفسه ( تعالى و ) الجبال بالنصب لكونه مفعول نسير والمعنى نحن نفعل بها ذلك اعتباراً بقوله وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً والمعنى واحد لأنها إذا سيرت فمسيرها ليس إلا الله سبحانه ونقل صاحب الكشاف قراءة أخرى وهي تسير الجبال بإسناد تسير إلى الجبال
البحث الثاني قوله وَيَوْمَ نُسَيّرُ الْجِبَالَ ليس في لفظ الآية ما يدل على أنها إلى أين تسير فيحتمل أن يقال إنه تعالى يسيرها إلى الموضع الذي يريده ولم يبين ذلك الموضع لخلقه والحق أن المراد أنه تعالى يسيرها إلى العدم لقوله تعالى وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفاً فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً لاَّ تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً ( طه 105 107 ) ولقوله وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثّاً ( الواقعة 5 6 ) و النوع الثاني من أحوال القيامة قوله تعالى وَتَرَى الاْرْضَ بَارِزَة ً وفي تفسيره وجوه أحدها أنه لم يبق على وجهها شيء من العمارات ولا شيء من الجبال ولا شيء من الأشجار فبقيت بارزة ظاهرة ليس عليها ما يسترها وهو المراد من قوله لاَّ تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً وثانيها أن المراد من كونها بارزة أنها أبرزت ما في بطنها وقذفت الموتى المقبورين فيها فهي بارزة الجوف والبطن فحذف ذكر الجوف ودليله قوله تعالى وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ ( الانشقاق 4 ) وقوله وَأَخْرَجَتِ الارْضُ أَثْقَالَهَا ( الزلزلة 2 ) وقوله وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعًا وثالثها أن وجوه الأرض كانت مستورة بالجبال والبحار فلما أفنى الله تعالى الجبال والبحار فقد برزت وجوه تلك البقاع بعد أن كانت مستورة والنوع الثالث من أحوال القيامة قوله وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً والمعنى جمعناهم للحساب فلم نغادر منهم أحداً أي لم نترك من الأولين والآخرين أحداً إلا وجمعناهم لذلك اليوم ونظيره قوله تعالى قُلْ إِنَّ الاْوَّلِينَ وَالاْخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ ( الواقعة 49 50 ) ومعنى لم نغادر لم نترك يقال غادره وأغدره إذا تركه ومنه الغدر ترك الوفاء ومنه الغدير لأنه ما تركته السيول ومنه سميت ضفيرة المرأة بالغديرة لأنها تجعلها خلفها
ولما ذكر الله تعالى حشر الخلق ذكر كيفية عرضهم فقال وَعُرِضُواْ عَلَى رَبّكَ صَفَّا وفيه مسألتان
المسألة الأولى في تفسير الصف وجوه أحدها أنه تعرض الخلق كلهم على الله صفاً واحداً ظاهرين بحيث لا يحجب بعضهم بعضاً قال القفال ويشبه أن يكون الصف راجعاً إلى الظهور والبروز ومنه اشتق الصفصف للصحراء وثانيها لا يبعد أن يكون الخلق صفوفاً يقف بعضهم وراء بعض مثل الصفوف

المحيطة بالكعبة التي يكون بعضها خلف بعض وعلى هذا التقدير فالمراد من قوله صفاً صفوفاً كقوله يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ( غافر 67 ) أي أطفالاً وثالثها صفاً أي قياماً كما قال تعالى فَاذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ ( الحج 36 ) قالوا قياماً
المسألة الثانية قالت المشبهة قوله تعالى وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً ( الفجر 22 ) يدل على أنه تعالى يحضر في ذلك المكان وتعرض عليه أهل القيامة صفاً وكذلك قوله تعالى لَّقَدْ جِئْتُمُونَا يدل على أنه تعالى يحضر في ذلك المكان وأجيب عنه بأنه تعالى جعل وقوفهم في الموضع الذي يسألهم فيه عن أعمالهم ويحاسبهم عليها عرضاً عليه لا على أنه تعالى يحضر في مكان وعرضوا عليه ليراهم بعد أن لم يكن يراهم ثم قال تعالى لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّة ٍ وليس المراد حصول المساواة من كل الوجوه لأنهم خلقوا صغاراً ولا عقل لهم ولا تكليف عليهم بل المراد أنه قال للمشركين المنكرين للبعث المفتخرين في الدنيا على فقراء المؤمنين بالأموال والأنصار لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّة ٍ عراة حفاة بغير أموال ولا أعوان ونظيره قوله تعالى لَّقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ وَتَرَكْتُمْ مَرَّة ٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وقال تعالى أَفَرَأَيْتَ الَّذِى كَفَرَ بِئَايَاتِنَا وَقَالَ لاَوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً إِلَى قَوْلُهُ وَيَأْتِينَا فَرْداً ( مريم 77 80 ) ثم قال تعالى بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِدًا أي كنتم مع التعزز على المؤمنين بالأموال والأنصار تنكرون البعث والقيامة فالآن قد تركتم الأموال والأنصار في الدنيا وشاهدتم أن البعث والقيامة حق ثم قال تعالى وَوُضِعَ الْكِتَابُ والمراد أنه يوضع في هذا اليوم كتاب كل إنسان في يده إما في اليمين أو في الشمال والمراد الجنس وهو صحف الأعمال فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ أي خائفين مما في الكتاب من أعمالهم الخبيثة وخائفين من ظهور ذلك لأهل الموقف فيفتضحون وبالجملة يحصل لهم خوف العقاب من الحق وخوف الفضيحة عند الخلق ويقولون يا ويلتنا ينادون هلكتهم التي هلكوها خاصة من بين الهلكات مَّالِ هَاذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَة ً وَلاَ كَبِيرَة ً إِلاَّ أَحْصَاهَا وهي عبارة عن الإحطاة بمعنى لا يترك شيئاً من المعاصي سواء كانت أو كبيرة إلا وهي مذكورة في هذا الكتاب ونظيره قوله تعالى وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ( الانفطار 10 12 ) وقوله إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( الجاثية 29 ) وإدخال تاء التأنيث في الصغيرة والكبيرة على تقدير أن المراد الفعلة الصغيرة والكبيرة إِلاَّ أَحْصَاهَا إلا ضبطها وحصرها قال بعض العلماء ضجوا من الصغائر قبل الكبائر لأن تلك الصغائر هي التي جرتهم إلى الكبائر فاحترزوا من الصغائر جداً وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا في الصحف عتيداً أو جزاء ما عملوا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا معناه أنه لا يكتب عليه ما لم يفعل ولا يزيد في عقابه المستحق ولا يعذب أحداً بجرم غيره بقي في الآية مسائل
المسألة الأولى قال الجبائي هذه الآية تدل على فساد قول المجبرة في مسائل أحدها أنه لو عذب عباده من غير فعل صدر منهم لكان ظالماً وثانيها أنه لا يعذب الأطفال بغير ذنب وثالثها بطلان قولهم لله

أن يفعل ما يشاء ويعذب من غير جرم لأن الخلق خلقه إذ لو كان كذلك لما كان لنفي الظلم عنه معنى لأن بتقدير أنه إذا فعل أي شيء أراد لم يكن ظلماً منه لم يكن لقوله إنه لا يظلم فائدة فيقال له أما الجواب عن الأولين فهو المعارضة بالعلم والداعي وأما الجواب عن هذا الثالث فهو أنه تعالى قال مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ ( مريم 35 ) ولم يدل هذا على أن اتخاذ الولد صحيح عليه فكذا ههنا
المسألة الثانية عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( يحاسب الناس في القيامة على ثلاثة يوسف وأيوب وسليمان فيدعو بالمملوك ويقول له ما شغلك عني فيقول جعلتني عبداً للآدمي فلم تفرغني فيدعو يوسف عليه السلام ويقول كان هذا عبداً مثلك فلم يمنعه ذلك عن عبادتي فيؤمر به إلى النار ثم يدعو بالمبتلي فإذا قال شغلتني بالبلاء دعا بأيوب عليه السلام فيقول قد ابتليت هذا بأشد من بلائك فلم يمنعه ذلك عن عبادتي فيؤمر به إلى النار ثم يؤتى بالملك في الدنيا مع ما آتاه الله من الغنى والسعة فيقول ماذا عملت فيما آتيتك فيقول شغلني الملك عن ذلك فيدعى بسليمان عليه السلام فيقول هذا عبدي سليمان آتيته أكثر ما آتيتك فلم يشغله ذلك عن عبادتي اذهب فلا عذر لك ويؤمر به إلى النار ) وعن معاذ عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( لن يزول قدم العبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع عن جسده فيما أبلاه وعن عمره فيما أفناه وعن ماله من أين أكتسبه وفيم أنفقه وعن علمه كيف عمل به )
المسألة الثالثة دلت الآية على إثبات صغائر وكبائر في الذنوب وهذا متفق عليه بين المسلمين إلا أنهم اختلفوا في تفسيره فقالت المعتزلة الكبيرة ما يزيد عقابه على ثواب فاعله والصغيرة ما ينقص عقابه عن ثواب فاعله واعلم أن هذا الحد إنما يصح لو ثبت أن الفعل يوجب ثواباً وعقاباً وذلك عندنا باطل لوجوه كثيرة ذكرناها في سورة البقرة في إبطال القول بالإحباط والتكفير بل الحق عندنا أن الطاعات محصورة في نوعين التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله فكل ما كان أقوى في كونه جهلاً بالله كان أعظم في كونه كبيرة وكل ما كان أقوى في كونه إضراراً بالغير كان أكثر في كونه ذنباً أو معصية فهذا هو الضبط
وَإِذَا قُلْنَا لِلْمَلَائِكَة ِ اسْجُدُواْ لآِدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِى وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ والأرض وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآئِى َ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفًا

وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن المقصود من ذكر الآيات المتقدمة الرد على القوم الذين افتخروا بأموالهم وأعوانهم على فقراء المسلمين وهذه الآية المقصود من ذكرها عين هذا المعنى وذلك لأن إبليس إنما تكبر على آدم لأنه افتخر بأصله ونسبه وقال خلقتني من نار وخلقته من طين فأنا أشرف منه في الأصل والنسب فكيف أسجد وكيف أتواضع لها وهؤلاء المشركون عاملوا فقراء المسلمين بعين هذه المعاملة فقالوا كيف نجلس مع هؤلاء الفقراء مع أنا من أنساب شريفة وهم من أنساب نازلة ونحن أغنياء وهم فقراء فالله تعالى ذكر هذه القصة ههنا تنبيهاً على أن هذه الطريقة هي بعينها طريقة إبليس ثم إنه تعالى حذر عنها وعن الاقتداء بها في قوله أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرّيَّتَهُ أَوْلِيَاء فهذا هو وجه النظم وهو حسن معتبر وذكر القاضي وجهاً آخر فقال إنه تعالى لما ذكر من قبل أمر القيامة وما يجري عند الحشر ووضع الكتاب وكأن الله تعالى يريد أن يذكر ههنا أنه ينادي المشركين ويقول لهم أين شركائي الذي زعمتم وكان قد علم تعالى أن إبليس هو الذي يحمل الإنسان على إثبات هؤلاء الشركاء لا جرم قدم قصته في هذه الآية إتماماً لذلك الغرض ثم قال القاضي وهذه القصة وإن كان تعالى قد كررها في سور كثيرة إلا أن في كل موضع منها فائدة مجددة
المسألة الثانية أنه تعالى بين في هذه الآية أن إبليس كان من الجن وللناس في هذه المسألة ثلاثة أقوال الأول أنه من الملائكة وكونه من الملائكة لا ينافي كونه من الجن ولهم فيه وجوه الأول أن قبيلة من الملائكة يسمون بذلك لقوله تعالى وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّة ِ نَسَباً ( الصافات 158 ) وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ ( الأنعام 100 ) والثاني أن الجن سموا جناً للاستتار والملائكة كذلك فهم داخلون في الجن الثالث أنه كان خازن الجنة ونسب إلى الجنة كقولهم كوفي وبصري وعن سعيد بن جبير أنه كان من الجنانين الذين يعملون في الجنات حي من الملائكة يصوغون حلية أهل الجنة مذ خلقوا رواه القاضي في تفسيره عن هشام عن سعيد بن جبير والقول الثاني أنه من الجن الذين هم الشياطين والذين خلقوا من نار وهو أبوهم والقول الثالث قول من قال كان من الملائكة فمسخ وغير وهذه المسألة قد أحكمناها في سورة البقرة وأصل ما يدل على أنه ليس من الملائكة أنه تعالى أثبت له ذرية ونسلاً في هذه الآية وهو قوله أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِى والملائكة ليس لهم ذرية ولا نسل فوجب أن لا يكون إبليس من الملائكة بقي أن يقال إن الله تعالى أمر الملائكة بالسجود فلو لم يكن إبليس من الملائكة فكيف تناوله ذلك الأمر وأيضاً لو لم يكن من الملائكة فكيف يصح استثناؤه منهم وقد أجبنا عن كل ذلك بالاستقصاء ثم قال تعالى فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ وفي ظاهره إشكال لأن الفاسق لا يفسق عن أمر ربه فلهذا السبب ذكروا فيه وجوهاً الأول قال الفراء ففسق عن أمر ربه أي خرج عن طاعته والعرب تقول فسقت الرطبة من قشرها أي خرجت وسميت الفأرة فويسقة لخروجها من جحرها من البابين وقال رؤبة يهوين في نجد وغور غائرا
فواسقا عن قصدها جوائرا

الثاني حكى الزجاج عن الخليل وسيبويه أنه قال لما أمر فعصى كان سبب فسقه هو ذلك الأمر والمعنى أنه لولا ذلك الأمر السابق لما حصل الفسق فلأجل هذا المعنى حسن أن يقال فسق عن أمر ربه الثالث قال قطرب فسق عن أمر ربه رده كقوله واسأل القرية واسأل العير قال تعالى أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِى وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ وفيه مسائل
المسألة الأولى المقصود من هذا الكلام أن إبليس تكبر على آدم وترفع عليه لما ادعى أن أصله أشرف من أصل آدم فوجب أن يكون هو أشرف من آدم فكأنه تعالى قال لأولئك الكافرين الذين افتخروا على فقراء المسلمين بشرف نسبهم وعلو منصبهم إنكم في هذا القول اقتديتم بإبليس في تكبره على آدم فلما علمتم أن إبليس عدو لكم فكيف تقتدون به في هذه الطريقة المذمومة هذا هو تقرير الكلام فإن قيل إن هذا الكلام لا يتم إلا بإثبات مقدمات فأولها إثبات إبليس وثانيها إثبات ذرية إبليس وثالثها إثبات عداوة بين إبليس وذريته وبين أولاد آدم ورابعها أن هذا القول الذي قاله أولئك الكفار اقتدوا فيه بإبليس وكل هذه المقدمات الأربعة لا سبيل إلى إثباتها إلا بقول النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فالجاهل بصدق النبي جاهل بها إذا عرفت هذا فنقول المخاطبون بهذه الآيات هل عرفوا كون محمد نبياً صادقاً أو ما عرفوا ذلك فإن عرفوا كونه نبياً صادقاً قبلوا قوله في كل ما يقوله فكلما نهاهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن قول انتهو عنه وحينئذ فلا حاجة إلى قصة إبليس وإن لم يعرفوا كونه نبياً جهلوا كل هذه المقدمات الأربعة ولم يعرفوا صحتها فحينئذ لا يكون في إيرادها عليهم فائدة والجواب أن المشركين كانوا قد سمعوا قصة إبليس وآدم من أهل الكتاب واعتقدوا صحتها وعلموا أن إبليس إنما تكبر على آدم بسبب نسبه فإذا أوردنا عليهم هذه القصة كان ذلك زاجراً لهم عما أظهروه مع فقراء المسلمين من التكبر والترفع
المسألة الثانية قال الجبائي في هذه الآية دلالة على أنه تعالى لا يريد الكفر ولا يخلقه في العبد إذ لو أراده وخلقه فيه ثم عاقبه عليه لكان ضرر إبليس أقل من ضرر الله عليهما فكيف يوبخهم بقوله بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً تعالى الله عنه علواً كبيراً بل على هذا المذهب لا ضرر البتة من إبليس بل الضرر كله من الله والجواب المعارضة بالداعي والعلم
المسألة الثالثة إنما قال للكفار المفتخرين بأنسابهم وأموالهم على فقراء المسلمين أفتتخذون إبليس وذريته أولياء من دون الله لأن الداعي لهم إلى ترك دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) هو النخوة وإظهار العجب فهذا يدل على أن كل من أقدم على عمل أو قول بناء على هذا الداعي فهو متبع لإبليس حتى أن من كان غرضه في إظهار العلم والمناظرة التفاخر والتكبر والترفع فهو مقتد بإبليس وهو مقام صعب غرق فيه أكثر الخلق فنسأل الله الخلاص منه ثم قال تعالى بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً أي بئس البدل من الله إبليس لمن استبدله به فأطاعه بدل طاعته ثم قال مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وفيه مسألتان
المسألة الأولى اختلفوا في أن الضمير في قوله مَّا أَشْهَدتُّهُمْ إلى من يعود فيه وجوه أحدها وهو الذي ذهب إليه الأكثرون أن المعنى ما أشهدت الذي اتخذتموهم أولياء خلق السموات والأرض ولا أشهدت بعضهم خلق بعض كقوله اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ( النساء 66 ) يعني ما أشهدتهم لأعتضد بهم والدليل عليه قوله وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلّينَ عَضُداً أي وما كنت متخذهم فوضع الظاهر موضع المضمر بياناً لإضلالهم وقوله عَضُداً أي أعواناً وثانيها وهو أقرب عندي أن الضمير عائد إلى الكفار الذين قالوا

للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إن لم تطرد من مجلسك هؤلاء الفقراء لم نؤمن بك فكأنه تعالى قال إن هؤلاء الذين أتوا بهذا الاقتراح الفاسد والتعنت الباطل ما كانوا شركاء لي في تدبير العالم بدليل قوله تعالى مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ ولا اعتضدت بهم في تدبير الدنيا والآخرة بل هم قوم كسائر الخلق فلم أقدموا على هذا الاقتراح الفاسد ونظيره أن من اقترح عليك اقتراحات عظيمة فإنك تقول له لست بسلطان البلد ولا ذرية المملكة حتى نقبل منك هذه الاقتراحات الهائلة فلم تقدم عليها والذي يؤكد هذا أن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات وفي هذه الآية المذكورة الأقرب هو ذكر أولئك الكفار وهو قوله تعالى بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً والمراد بالظالمين أولئك الكفار وثالثها أن يكون المراد من قوله مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ كون هؤلاء الكفار جاهلين بما جرى به القلم في الأزل من أحوال السعادة والشقاوة فكأنه قيل لهم السعيد من حكم الله بسعادته في الأزل والشقي من حكم الله بشقاوته في الأزل وأنتم غافلون عن أحوال الأزل كأنه تعالى قال مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وإذا جهلتم هذه الحالة فكيف يمكنكم أن تحكموا لأنفسكم بالرفعة والعلو والكمال ولغيركم بالدناءة والذل بل ربما صار الأمر في الدنيا والآخرة على العكس فيما حكمتم به
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) قرىء وما كنت بالفتح والخطاب لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والمعنى وما صح لك الاعتضاد بهم وما ينبغي لك أن تعتز بهم وقرأ علي رضوان الله عليه مُتَّخِذَ الْمُضِلّينَ بالتنوين على الأصل وقرأ الحسن عَضُداً بسكون الضاد ونقل ضمتها إلى العين وقرىء عَضُداً بالفتح وسكون الضاد وعضداً بضمتين وعضداً بفتحتين جمع عاضد كخادم وخدم وراصد ورصد من عضده إذا قواه وأعانه واعلم أنه تعالى لما قرر أن القول الذي قالوه في الافتخار على الفقراء اقتداء بإبليس عاد بعده إلى التهويل بأحوال يوم القيامة فقال عَضُداً وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَائِى َ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ وفيه أبحاث
البحث الأول قرأ حمزة ( نقول ) بالنون عطفاً على قوله وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَة ِ اسْجُدُواْ لاِدَمَ و أَوْلِيَاء مِن دُونِى وَمَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلّينَ عَضُداً والباقون قرأوا بالياء
البحث الثاني واذكر يوم نقول عطفاً على قوله وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَة ِ اسْجُدُواْ
البحث الثالث المعنى واذكر لهم يا محمد أحوالهم وأحوال آلهتهم يوم القيامة إذ يقول الله لهم نَادُواْ شُرَكَائِى َ أي ادعوا من زعمتم أنهم شركاء لي حيث أهلتموهم للعبادة ادعوهم يشفعوا لكم وينصروكم والمراد بالشركاء الجن فدعوهم ولم يذكر تعالى في هذه الآية أنهم كيف دعوا الشركاء لأنه تعالى بين ذلك في آية أخرى وهو أنهم قالوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا ( غافر 47 ) ثم قال تعالى فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ أي لم يجيبوهم إلى ما دعوهم إليه ولم يدفعوا عنهم ضرراً وما أوصلوا إليهم نفعاً ثم قال تعالى وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً وفيه وجوه الأول قال صاحب ( الكشاف ) الموبق المهلك من وبق يبق وبوقاً ووبقاً إذا هلك وأوبقه غيره فيجوز أن يكون مصدراً كالمورد والموعد وتقرير هذا الوجه أن يقال إن هؤلاء المشركين الذين اتخذوا من دون الله آلهة كالملائكة وعيسى دعوا هؤلاء فلم يستجيبوا لهم

ثم حيل بينهم وبينهم فأدخل الله تعالى هؤلاء المشركين جهنم وأدخل عيسى الجنة وصار الملائكة إلى حيث أراد الله من دار الكرامة وحصل بين أولئك الكفار وبين الملائكة وعيسى عليه السلام هذا الموبق وهو ذلك الوادي في جهنم الوجه الثاني قال الحسن ( موبقاً ) أي عداوة والمعنى عداوة هي في شدتها هلاك ومنه قوله لا يكن حبك كلفاً ولا بغضك تلفاً الوجه الثالث قال الفراء البين المواصلة أي جعلنا مواصلتهم في الدنيا هلاكاً في يوم القيامة الوجه الرابع الموبق البرزخ البعيد أي جعلنا بين هؤلاء الكفار وبين الملائكة وعيسى برزخاً بعيداً يهلك فيه الساري لفرط بعده لأنهم في قعر جهنم وهم في أعلى الجنان ثم قال تعالى وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا وفي هذا الظن قولان الأول أن الظن ههنا بمعنى العلم واليقين والثاني وهو الأقرب أن المعنى أن هؤلاء الكفار يرون النار من مكان بعيد فيظنون أنهم مواقعوها في تلك الساعة من غير تأخير ومهلة لشدة ما يسمعون من تغيظها وزفيرها كما قال إِذَا رَأَتْهُمْ مّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً ( الفرقان 12 ) وقوله مُّوَاقِعُوهَا أي مخالطوها فإن مخالطة الشيء لغيره إذا كانت قوية تامة يقال لها مواقعة ثم قال تعالى وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفًا أي لم يجدوا عن النار معدلاً إلى غيرها لأن الملائكة تسوقهم إليها
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِى هَاذَا الْقُرْءَانِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَى ءٍ جَدَلاً وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّة ُ الاٌّ وَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا ءايَاتِى وَمَا أُنْذِرُواْ هُزُواً
اعلم أن أولئك الكفرة لما افتخروا على فقراء المسلمين بكثرة أموالهم وأتباعهم وبين تعالى بالوجوه الكثيرة أن قولهم فاسد وشبهتهم باطلة وذكر فيه المثلين المتقدمين قال بعده وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِى هَاذَا الْقُرْءانِ لِلنَّاسِ مِن كُلّ مَثَلٍ وهو إشارة إلى ما سبق والتصريف يقتضي التكرير والأمر كذلك لأنه تعالى أجاب عن شبهتهم التي ذكروها من وجوه كثيرة ومع تلك الجوابات الشافية والأمثلة المطابقة فهؤلاء الكفار لا يتركون المجادلة الباطلة فقال وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً أي أكثر الأشياء التي يتأتى منها الجدل وانتصاب قوله جدلاً على التمييز قال بعض المحققين والآية دالة على أن الأنبياء عليهم السلام جادلوهم في الدين حتى صاروا هم مجادلين لأن المجادلة لا تحصل إلا من الطرفين وذلك يدل على أن القول بالتقليد باطل ثم قال وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ وفيه بحثان

البحث الأول قالت المعتزلة الآية دالة على أنه لم يوجد ما يمنع من الإقدام على الإيمان وذلك يدل على فساد قول من يقول إنه حصل المانع قال أصحابنا العلم بأنه لا يؤمن مضاد لوجود الإيمان فإذا كان ذلك العلم قائماً كان المانع قائماً وأيضاً حصول الداعي إلى الكفر قائم وإلا لما وجب لأن الفعل الاختياري بدون الداعي محال ووجود الداعي إلى الكفر مانع من حصول الإيمان وإذا ثبت هذا ظهر أن المراد مقدار الموانع المحسوسة
البحث الثاني المعنى أنه لما جاءهم الهدى وهو الدليل الدال على صحة الإسلام وثبت أنه لا مانع لهم من الإيمان ولا من الاستغفار والتوبة والتخلية حاصلة والأعذار زائلة فلم لم يقدموا على الإيمان ثم قال تعالى إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّة ُ الاْوَّلِينَ وهو عذاب الاستئصال أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً قرأ حمزة وعاصم والكسائي قبلاً بضم القاف والباء جميعاً وهو جمع قبيل بمعنى ضروب من العذاب تتواصل مع كونهم أحياء وقيل مقابلة وعياناً والباقون قبلاً بكسر القاف وفتح الباء أي عياناً أيضاً وروى صاحب الكشاف قبلاً بفتحتين أي مستقبلاً والمعنى أنهم لا يقدمون على الإيمان إلا عند نزول عذاب الاستئصال فيهلكوا أو أن يتواصل أنواع العذاب والبلاء حال بقائهم في الحياة الدنيا واعلم أنهم لا يقدمون على الإيمان إلا على هذين الشرطين لأن العاقل لا يرضى بحصول هذين الأمرين إلا أن حالهم شبيه بحال من وقف العمل على هذين الشرطين ثم بين تعالى أنه إنما أرسل الرسل مبشرين بالثواب على الطاعة ومنذرين بالعقاب على المعصية لكي يؤمنوا طوعاً وبين مع هذه الأحوال أنه يوجد من الكفار المجادلة بالباطل لغرض دحض الحق وهذا يدل على أن الأنبياء كانوا يجادلونهم لما بينا أن المجادلة إنما تحصل من الجانبين وبين تعالى أيضاً أنهم اتخذوا آيات الله وهي القرآن وإنذارات الأنبياء هزواً وكل ذلك يدل على استيلاء الجهل والقسوة قال النحويون ما في قوله وَمَا أُنْذِرُواْ يجوز أن تكون موصولة ويكون العائد من الصلة محذوفاً ويجوز أن تكون مصدرية بمعنى إنذارهم
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِأايِاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِى َ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّة ً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءَاذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَة ِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا

إعلم أنه تعالى لما حكى عن الكفار جدالهم بالباطل وصفهم بعده بالصفات الموجبة للخزي والخذلان الصفة الأولى قوله وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكّرَ بِئَايِاتِ رَبّهِ أي لا ظلم أعظم من كفر من ترد عليه الآيات والبينات فيعرض عنها وينسى ما قدمت يداه أي مع إعراضه عن التأمل في الدلائل والبينات يتناسى ما قدمت يداه من الأعمال المنكرة والمذاهب الباطلة والمراد من النسيان التشاغل والتغافل عن كفره المتقدم الصفة الثانية ( قوله ) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكّرَ بِئَايِاتِ رَبّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِى َ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّة ً أَن وقد مر تفسير هذه الآية على الاستقصاء في سورة الأنعام والعجب أن قوله وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكّرَ بِئَايِاتِ رَبّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِى َ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ متمسك القدرية وقوله إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّة ً أَن يَفْقَهُوهُ إلى آخر الآية متمسك الجبرية وقلما نجد في القرآن آية لأحد هذين الفريقين إلا ومعها آية للفريق الآخر والتجربة تكشف عن صدق قولنا وما ذاك إلا امتحان شديد من الله تعالى ألقاه على عباده ليتميز العلماء الراسخون من المقلدين ثم قال تعالى وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَة ِ الغفور البليغ المغفرة وهو إشارة إلى دفع المضار ذو الرحمة الموصوف بالرحمة وإنما ذكر لفظ المبالغة في المغفرة لا في الرحمة لأن المغفرة ترك الإضرار وهو تعالى قد ترك مضار لا نهاية لها مع كونه قادراً عليها أما فعل الرحمة فهو متناه لأن ترك ما لا نهاية له ممكن أما فعل ما لا نهاية له فمحال ويمكن أن يقال المراد أنه يغفر كثيراً لأنه ذو الرحمة ولا حاجة به إليها فيهبها من المحتاجين كثيراً ثم استشهد بترك مؤاخذة أهل مكة عاجلاً من غير إمهال مع إفراطهم في عداوة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثم قال بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ وهو إما يوم القيامة وإما في الدنيا وهو يوم بدر وسائر أيام الفتح ( وقوله ) لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً ( أي ) منجى ولا ملجأ يقال وأل إذا لجأ ووأل إليه إذا لجأ إليه ثم قال تعالى وَتِلْكَ الْقُرَى يريد قرى الأولين من ثمود وقوم لوط وغيرهم أشار إليها ليعتبروا وتلك مبتدأ والقرى صفة لأن أسماء الإشارة توصف بأصناف الأجناس وأهلكناهم خبر والمعنى وتلك أصحاب القرى أهلكناهم لما ظلموا مثل ظلم أهل مكة وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا أي وضربنا لإهلاكهم وقتاً معلوماً لا يتأخرون عنه كما ضربنا لأهل مكة يوم بدر والمهلك الإهلاك أو وقته وقرىء لمهلكهم بفتح الميم واللام مفتوحة أو مكسورة أي لهلاكهم أو وقت هلاكهم والموعد وقت أو مصدر والمراد إنا عجلنا هلاكهم ومع ذلك لم ندع أن نضرب له وقتاً ليكونوا إلى التوبة أقرب
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِى َ حُقُباً فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى الْبَحْرِ سَرَباً فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ ءَاتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَاذَا نَصَباً قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصَّخْرَة ِ فَإِنِّى نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى الْبَحْرِ عَجَبًا قَالَ ذَالِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى ءَاثَارِهِمَا قَصَصًا

اعلم أن هذا ابتداء قصة ثالثة ذكرها الله تعالى في هذه السورة وهي أن موسى عليه السلام ذهب إلى الخضر عليه السلام ليتعلم منه العلم وهذا وإن كان كلاماً مستقلاً في نفسه إلا أنه يعين على ما هو المقصود في القصتين السابقتين أما نفع هذه القصة في الرد على الكفار الذين افتخروا على فقراء المسلمين بكثرة الأموال والأنصار فهو أن موسى عليه السلام مع كثرة علمه وعمله وعلو منصبه واستجماع موجبات الشرف التام في حقه ذهب إلى الخضر لطلب العلم وتواضع له وذلك يدل على أن التواضع خير من التكبر وأما نفع هذه القصة في قصة أصحاب الكهف فهو أن اليهود قالوا لكفار مكة إن أخبركم محمد عن هذه القصة فهو نبي وإلا فلا وهذا ليس بشيء لأنه لا يلزم من كونه نبياً من عند الله تعالى أن يكون عالماً بجميع القصص والوقائع كما أن كون موسى عليه السلام نبياً صادقاً من عند الله لم يمنع من أمر الله إياه بأن يذهب إلى الخضر ليتعلم منه فظهر مما ذكرنا أن هذه القصة قصة مستقلة بنفسها ومع ذلك فهي نافعة في تقرير المقصود في القصتين المتقدمتين
المسألة الثانية أكثر العلماء على أن موسى المذكور في هذه الآية هو موسى بن عمران صاحب المعجزات الظاهرة وصاحب التوراة وعن سعيد بن جبير أنه قال لابن عباس إن نوفا ابن امرأة كعب يزعم أن الخضر ليس صاحب موسى بن عمران وإنما هو صاحب موسى بن ميشا بن يوسف بن يعقوب وقيل هو كان نبياً قبل موسى بن عمران فقال ابن عباس كذب عدو الله واعلم أنه كان ليوسف عليه السلام ولدان أفرائيم وميشا فولد افرائيم نون وولد نون يوشع بن نون وهو صاحب موسى وولي عهده بعد وفاته وأما ولد ميشا فقيل إنه جاءته النبوة قبل موسى بن عمران ويزعم أهل التوراة أنه هو الذي طلب هذا العلم ليتعلم والخضر هو الذي خرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدار وموسى بن ميشا معه هذا هو قول جمهور اليهود واحتج القفال على صحة قولنا إن موسى هذا هو صاحب التوراة قال إن الله تعالى ما ذكر موسى في كتابه إلا وأراد به صاحب التوراة فاطلاق هذا الإسم يوجب الإنصراف إليه ولو كان المراد شخصاً آخر مسمى بموسى غيره لوجب تعريفه بصفة توجب الامتياز وإزالة الشبهة كما أنه لما كان المشهور في العرف من أبي حنيفة رحمه الله هو الرجل المعين فلو ذكرنا هذا الاسم وأردنا به رجلاً سواء لقيدناه مثل أن نقول قال أبو حنيفة الدينوري وحجة الذين قالوا موسى هذا غير صاحب التوراة أنه تعالى بعد أن أنزل التوراة عليه وكلمه بلا واسطة وحج خصمه بالمعجزات القاهرة العظيمة التي لم يتفق مثلها لأكثر أكابر الأنبياء يبعد أن

يبعثه بعد ذلك لتعلم الاستفادة وأجيب عنه بأنه لا يبعد أن العالم الكامل في أكثر العلوم يجهل بعض الأشياء فيحتاج في تعلمها إلى من دونه وهذا أمر متعارف معلوم
المسألة الثالثة اختلفوا في فتى موسى فالأكثرون على أنه يوشع بن نون وروى القفال عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي هريرة عن أبي بن كعب عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول فتاه يوشع بن نون والقول الثاني أن فتى موسى أخو يوشع وكان صاحباً لموسى عليه السلام في هذا السفر والقول الثالث روى عمرو بن عبيد عن الحسن في قوله وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ قال يعني عبده قال القفال واللغة تحتمل ذلك روى عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي وليقل فتاي وفتاتي ) وهذا يدل على أنهم كانوا يسمون العبد فتى والأمة فتاة
المسألة الرابعة قيل إن موسى عليه السلام لما أعطي الألواح وكلمه الله تعالى قال من الذي أفضل مني وأعلم فقيل عبد لله يسكن جزائر البحر وهو الخضر وفي رواية أخرى أن موسى عليه السلام لما أوتي من العلم ما أوتي ظن أنه لا أحد مثله فأتاه جبريل عليه السلام وهو بساحل البحر قال يا موسى انظر إلى هذا الطير الصغير يهوي إلى البحر يضرب بمنقاره فيه ثم يرتفع فأنت فيما أوتيت من العلم دون قدر ما يحمل هذا الطير بمنقاره من البحر قال الأصوليون هذه الرواية ضعيفة لأن الأنبياء يجب أن يعلموا أن معلومات الله لا نهاية لها وأن يعلموا أن معلومات الخلق يجب كونها متناهية وكل قدر متناه فإن الزائد عليه ممكن فلا مرتبة من مراتب العلم إلا وفوقها مرتبة ولهذا قال تعالى وَفَوْقَ كُلّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ وإذا كانت هذه المقدمات معلومة فمن المستبعد جداً أن يقطع العاقل بأنه لا أحد أعلم مني لا سيما موسى عليه السلام مع علمه الوافر بحقائق الأشياء وشدة براءته عن الأخلاق الذميمة كالعجب والتيه والصلف والرواية الثالثة قيل إن موسى عليه السلام سأل ربه أي عبادك أحب إليك قال الذي يذكرني ولا ينساني قال فأي عبادك أقضى قال الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى قال فأي عبادك أعلم قال الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة تدله على هدى أو ترده عن ردي فقال موسى عليه السلام إن كان في عبادك من هو أعلم مني فادللني عليه فقال اعلم منك الخضر قال فأين أطلبه قال على الساحل عند الصخرة قال يا رب كيف لي به قال تأخذ حوتاً في مكتل فحيث فقدته فهو هناك فقال لفتاه إذا فقدت الحوت فأخبرني فذهبا يمشيان ورقد موسى واضطرب الحوت وطفر إلى البحر فلما جاء وقت الغداء طلب موسى الحوت فأخبره فتاه بوقوعه في البحر فرجع من ذلك الموضع إلى الموضع الذي طفر الحوت فيه إلى البحر فإذا رجل مسجى بثوبه فسلم عليه موسى عليه السلام فقال وأني بأرضك السلاما فعرفه نفسه فقال يا موسى أنا على علم علمني الله لا تعلمه أنت وأنت على علم علمك الله لا أعلمه أنا فلما ركبا السفينة جاء عصفور فوقع على حرفها فنقر في الماء فقال الخضر ما ينقص علمي وعلمك من علم الله مقدار ما أخذ هذا العصفور من البحر أقول نسبة ذلك القدر القليل الذي أخذه ذلك العصفور من ذلك الماء إلى كلية ماء البحر نسبة متناه إلى متناه ونسبة معلومات جميع المخلوقات إلى معلومات الله تعالى نسبة متناه إلى غير متناه فأين إحدى النسبتين من

الأخرى والله العالم بحقائق الأمور ونرجع إلى التفسير أما قوله تعالى لا أَبْرَحُ قال الزجاج قوله لا أَبْرَحُ ليس معناه لا أزول لأنه لو كان كذلك لم يقطع أرضاً أقول يمكن أن يجاب عنه بأن الزوال عن الشيء عبارة عن تركه والإعراض عنه يقال زال فلان عن طريقته في الجود أي تركها فقوله لا أبرح بمعنى لا أزول عن السير والذهاب بمعنى لا أترك هذا العمل وهذا الفعل وأقول المشهور عند الجمهور أن قوله لا أبرح معناه لا أزول والعرب تقول لا أبرح ولا أزال ولا انفك ولا افتأ بمعنى واحد قال القفال وقالوا أصل قولهم لا أبرح من البراح كما أن أصل لا أزال من الزوال يقال زال يزال ويزول كما يقال دام يدام ويدوم ومات يمات ويموت إلا أن المستعمل في هذه اللفظة يزال فقوله لا أبرح أي أقيم لأن البراح هو العدم فقوله لا أبرح يكون عدماً للعدم فيكون ثبوتاً فقوله لا أزال ولا أبرح يفيد الدوام والثبات على العمل فإن قيل إذا كان قوله لا أبرح بمعنى لا أزال فلا بد من الخبر قلنا حذف الخبر لأن الحال والكلام يدلان عليه أما الحال فلأنها كانت حال سفر وأما الكلام فلأن قوله حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ غاية مضروبة تستدعي شيئاً هي غاية له فيكون المعنى لا أبرح أسير حتى أبلغ مجمع البحرين ويحتمل أن يكون المعنى لا أبرح مما أنا عليه يعني ألزم المسير والطلب ولا أتركه ولا أفارقه حتى أبلغ كما تقول لا أبرح المكان وأما مجمع البحرين فهو المكان الذي وعد فيه موسى بلقاء الخضر عليهما السلام وهو ملتقى بحري فارس والروم مما يلي المشرق وقيل غيره وليس في اللفظ ما يدل على تعيين هذين البحرين فإن صح بالخبر الصحيح شيء فذاك وإلا فالأولى السكوت عنه ومن الناس من قال البحران موسى والخضر لأنهما كانا بحري العلم وقرىء مجمع بكسر الميم ثم قال أو أمضى حقباً أي أسير زماناً طويلاً وقيل الحقب ثمانون سنة وقد تكلمنا في هذا اللفظ في قوله تعالى لَّابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً ( النبأ 23 ) وحاصل الكلام أن الله عز وجل كان أعلم موسى حال هذا العالم وما أعلمه موضعه بعينه فقال موسى عليه السلام لا أزال أمضي حتى يجتمع البحران فيصيرا بحراً واحداً أو أمضي دهراً طويلاً حتى أجد هذا العالم وهذا إخبار من موسى بأنه وطن نفسه على تحمل التعب الشديد والعناء العظيم في السفر لأجل طلب العلم وذلك تنبيه على أن المتعلم لو سافر من المشرق إلى المغرب لطلب مسألة واحدة لحق له ذلك ثم قال تعالى فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا والمعنى فانطلقا إلى أن بلغا مجمع بينهما والضمير في قوله بينهما إلى ماذا يعود فيه قولان الأول مجمع بينهما أي مجمع البحرين وهو كأنه إشارة إلى ( قول ) موسى لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أي فحقق ( الله ) ما قاله والقول الثاني أن المعنى فلما بلغ الموضع الذي يجتمع ( فيه ) موسى وصاحبه الذي كان يقصده لأن ذلك الموضع الذي وقع فيه نسيان الحوت هو الموضع الذي كان يسكنه الخضر أو يسكن بقربه ولأجل هذا المعنى لما رجع موسى وفتاه بعد أن ذكر الحوت صار إليه وهو معنى حسن والمفسرون على القول الأول ثم قال تعالى نَسِيَا حُوتَهُمَا وفيه مباحث
البحث الأول الروايات تدل على أنه تعالى بين لموسى عليه السلام أن هذا العالم موضعه مجمع البحرين إلا أنه تعالى جعل انقلاب الحوت حياً علامة على مسكنه المعين كمن يطلب إنساناً فيقال له إن موضعه محلة كذا من الري فإذا انتهيت إلى المحلة فسل فلاناً عن داره وأين ما ذهب بك فاتبعه فإنك تصل إليه فكذا ههنا قيل له إن موضعه مجمع البحرين فإذا وصلت إليه رأيت الحوت انقلب حياً وطفر إلى البحر فيحتمل أنه قيل له فهنالك موضعه ويحتمل أنه قيل له فاذهب على موافقة ذهاب ذلك الحوت فإنك تجده

إذا عرفت هذا فنقول إن موسى وفتاه لما بلغا مجمع بينهما طفرت السمكة إلى البحر وسارت وفي كيفية طفرها روايات أيضاً قيل إن الفتى كان يغسل السمكة لأنها كانت مملحة فطفرت وسارت وقيل إن يوشع توضأ في ذلك المكان فانتضح الماء على الحوت المالح فعاش ووثب في الماء وقيل انفجر ( ت ) هناك عين من الجنة ووصلت قطرات من تلك العين إلى السمكة فحييت وطفرت إلى البحر فهذا هو الكلام في صفة الحوت
البحث الثاني المراد من قوله نَسِيَا حُوتَهُمَا أنهما نسيا كيفية الاستدلال بهذه الحالة المخصوصة على الوصول إلى المطلوب فإن قيل انقلاب السمكة المالحة حية حالة عجيبة فلما جعل الله حصول هذه الحالة العجيبة دليلاً على الوصول إلى المطلوب فكيف يعقل حصول النسيان في هذا المعنى أجاب العلماء عنه بأن يوشع كان قد شاهد المعجزات القاهرة من موسى عليه السلام كثيراً فلم يبق لهذه المعجزة عنده وقع عظيم فجاز حصول النسيان وعندي فيه جواب آخر وهو أن موسى عليه السلام لما استعظم علم نفسه أزال الله عن قلب صاحبه هذا العلم الضروري تنبيهاً لموسى عليه السلام على أن العلم لا يحصل إلا بتعليم الله وحفظه على القلب والخاطر أما قوله فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى الْبَحْرِ سَرَباً ففيه وجوه الأول أن يكون التقدير سرب في البحر سرباً إلا أنه أقيم قوله فاتخذ مقام قوله سرب والسرب هو الذهاب ومنه قوله وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ ( الرعد 10 ) الثاني أن الله تعالى أمسك إجراء الماء على البحر وجعله كالطاق والكوة حتى سرى الحوت فيه فلما جاوز أي موسى وفتاه الموعد المعين وهو الوصول إلى الصخرة بسبب النسيان المذكور وذهبا كثيراً وتعبا وجاعا قَالَ لِفَتَاهُ ءاتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَاذَا نَصَباً قَالَ الفتى أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَة ِ الهمزة في أرأيت همزة الاستفهام ورأيت على معناه الأصلي وقد جاء هذا الكلام على ما هو المتعارف بين الناس فإنه إذا حدث لأحدهم أمر عجيب قال لصاحبه أرأيت ما حدث لي كذلك ههنا كأنه قال أرأيت ما وقع لي منه إذ أوينا إلى الصخرة فحذف مفعول أرأيت لأن قوله فَإِنّى نَسِيتُ الْحُوتَ يدل عليه ثم قال وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وفيه مباحث
البحث الأول أنه اعتراض وقع بين المعطوف والمعطوف عليه والتقدير فإني نسيت الحوت واتخذ سبيله في البحر عجباً والسبب في وقوع هذا الاعتراض ما يجري مجرى العذر والعلة لوقوع ذلك النسيان
البحث الثاني قال الكعبي وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ يدل على أنه تعالى ما خلق ذلك النسيان وما أراده وإلا كانت إضافته إلى الله تعالى أوجب من إضافته إلى الشيطان لأنه تعالى إذا خلقه فيه لم يكن لسعي الشيطان في وجوده ولا في عدمه أثر قال القاضي والمراد بالنسيان أن يشتغل قلب الإنسان بوساوسه التي هي من فعله دون النسيان الذي يضاد الذكر لأن ذلك لا يصح أن يكون إلا من قبل الله تعالى
البحث الثالث قوله أن اذكره بدل من الهاء في أنسانيه أي وما أنساني ذكره إلا الشيطان ثم قال وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى الْبَحْرِ عَجَبًا وفيه وجوه الأول أن قوله عجباً صفة لمصدر محذوف كأنه قيل واتخذ سبيله في البحر اتخاذاً عجباً ووجه كونه عجباً انقلابه من المكتل وصيرورته حياً وإلقاء نفسه في البحر على غفلة منهما والثاني أن يكون المراد منه ما ذكرنا أنه تعالى جعل الماء عليه كالطاق وكالسرب الثالث قيل إنه تم الكلام عند قوله وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى الْبَحْرِ ثم قال بعده عجباً والمقصود منه تعجبه من تلك العجيبة

التي رآها ومن نسيانه لها وقيل إن قوله عجباً حكاية لتعجب موسى وهو ليس بقوله ثم قال تعالى قَالَ ذالِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ أي قال موسى ذلك الذي كنا نطلبه لأنه أمارة الظفر بالمطلوب وهو لقاء الخضر وقوله نبغ أصله نبغي فحذفت الياء طلباً للتخفيف لدلالة الكسرة عليه وكان القياس أن لا يحذف لأنهم إنما يحذفون الياء في الأسماء وهذا فعل إلا أنه قد يجوز على ضعف القياس حذفها لأنها تحذف مع الساكن الذي يكون بعدها كقولك ما نبغي اليوم فلما حذفت مع الساكن حذفت أيضاً مع غير الساكن ثم قال فارتدا على آثارهما أي فرجعا وقوله قَصَصًا فيه وجهان أحدهما أنه مصدر في موضع الحال أي رجعا على آثارهما مقتصين آثارهما والثاني أن يكون مصدراً لقوله فارتدا على آثارهما لأن معناه فاقتصا على آثارهما وحاصل الكلام أنهما لما عرفا أنهما تجاوزا عن الموضع الذي يسكن فيه ذلك العالم رجعا وعادا إليه والله أعلم
فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَآ ءَاتَيْنَاهُ رَحْمَة ً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِى َ صَبْراً وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً قَالَ سَتَجِدُنِى إِن شَآءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلاَ أَعْصِى لَكَ أمْراً قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِى فَلاَ تَسْأَلْنى عَن شَى ءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً
في الآية مسائل
المسألة الأولى قوله فَوَجَدَا عَبْدًا مّنْ عِبَادِنَا فيه بحثان
البحث الأول قال الأكثرون إن ذلك العبد كان نبياً واحتجوا عليه بوجوه الأول أنه تعالى قال رَحْمَة ً مّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ والرحمة هي النبوة بدليل قوله تعالى أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَة َ رَبّكَ ( الزخرف 32 ) وقوله وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَة ً مّن رَّبّكَ ( القصص 86 ) والمراد من هذه الرحمة النبوة ولقائل أن يقول نسلم أن النبوة رحمة أما لا يلزم أن يكون كل رحمة نبوة
الحجة الثانية قوله تعالى وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا وهذا يقتضي أنه تعالى علمه لا بواسطة تعليم معلم ولا إرشاد مرشد وكل من علمه الله لا بواسطة البشر وجب أن يكون نبياً يعلم الأمور بالوحي من الله وهذا الاستدلال ضعيف لأن العلوم الضرورية تحصل ابتداء من عند الله وذلك لا يدل على النبوة
الحجة الثالثة أن موسى عليه السلام قال هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن ( الكهف 66 ) والنبي لا يتبع غير النبي في التعليم وهذا أيضاً ضعيف لأن النبي لا يتبع غير النبي في العلوم التي باعتبارها صار نبياً أما في غير تلك العلوم فلا

الحجة الرابعة أن ذلك العبد أظهر الترفع على موسى حيث قال له صَبْراً وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً وأما موسى فإنه أظهر التواضع له حيث قال لا أَعْصِى لَكَ أمْراً وكل ذكل يدل على أن ذلك العالم كان فوق موسى ومن لا يكون نبياً لا يكون فوق النبي وهذا أيضاً ضعيف لأنه يجوز أن يكون غير النبي فوق النبي في علوم لا تتوقف نبوته عليها فلم قلتم إن ذلك لا يجوز فإن قالوا لأنه يوجب التنفير قلنا فارسال موسى إلى التعلم منه بعد إنزال الله عليه التوراة وتكليمه بغير واسطة يوجب التنفير فإن قالوا إن هذا لا يوجب التنفير فكذا القول فيما ذكروه
الحجة الخامسة احتج الأصم على نبوته بقوله في أثناء القصة وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِى ومعناه فعلته بوحي الله وهو يدل على النبوة وهذا أيضاً دليل ضعيف وضعفه ظاهر
الحجة السادسة ما روي أن موسى عليه السلام لما وصل إليه قال السلام عليك فقال وعليك السلام يا نبي بني إسرائيل فقال موسى عليه السلام من عرفك هذا قال الذي بعثك إلي قالوا وهذا يدل على أنه إنما عرف ذلك بالوحي والوحي لا يكون إلا مع النبوة ولقائل أن يقول لم لا يجوز أن يكون ذلك من باب الكرامات والإلهامات
البحث الثاني قال الأكثرون إن ذلك العبد هو الخضر وقالوا إنما سمي بالخضر لأنه كان لا يقف موقفاً إلا أخضر ذلك الموضع قال الجبائي قد ظهرت الرواية أن الخضر إنما بعث بعد موسى عليه السلام من بني إسرائيل فإن صح ذلك لم يجز أن يكون هذا العبد هو الخضر وأيضاً فبتقدير أن يكون هذا العبد هو الخضر وقد ثبت أنه يجب أن يكون نبياً فهذا يقتضي أن يكون الخضر أعلى شأناً من موسى صاحب التوراة لأنا قد بينا أن الألفاظ المذكورة في هذه الآيات تدل على أن ذلك كان يترفع على موسى وكان موسى يظهر التواضع له إلا أن كون الخضر أعلى شأناً من موسى غير جائز لأن الخضر إما أن يقال إنه كان من بني إسرائيل أو ما كان من بني إسرائيل فإن قلنا إنه كان من بني إسرائيل ( فقد ) كان من أمة موسى لقوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام أنه قال لفرعون أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إِسْراءيلَ ( الشعراء 17 ) والأمة لا تكون أعلى حالاً من النبي وإن قلنا إنه ما كان من بني إسرائيل لم يجز أن يكون أفضل من موسى لقوله تعالى لبني إسرائيل وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ( البقرة 47 ) وهذه الكلمات تقوي قول من يقول إن موسى هذا غير موسى صاحب التوراة
المسألة الثالثة قوله وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا يفيد أن تلك العلوم حصلت عنده من عند الله من غير واسطة والصوفية سموا العلوم الحاصلة بطريق المكاشفات العلوم اللدنية وللشيخ أبي حامد الغزالي رسالة في إثبات العلوم اللدنية وأقول تحقيق الكلام في هذا الباب أن نقول إذا أدركنا أمراً من الأمور وتصورنا حقيقة من الحقائق فإما أن نحكم عليه بحكم وهو التصديق أو لا نحكم وهو التصور وكل واحد من هذين القسمين فإما أن يكون نظرياً حاصلاً من غير كسب وطلب وإما أن يكون كسبياً أم العلوم النظرية فهي تحصل في النفس والعقل من غير كسب وطلب مثل تصورنا الألم واللذة والوجود والعدم ومثل تصديقنا بأن النفي والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان وأن الواحد نصف الإثنين وأما العلوم الكسبية فهي التي لا تكون حاصلة في جوهر النفس ابتداء بل لا بد من طريق يتوصل به إلى اكتساب تلك العلوم وهذا الطريق

على قسمين أحدهما أن يتكلف الإنسان تركب تلك العلوم البديهية النظرية حتى يتوصل بتركبها إلى استعلام المجهولات وهذا الطريق هو المسمى بالنظر والتفكر والتدبر والتأمل والتروي والاستدلال وهذا النوع من تحصيل العلوم هو الطريق الذي لا يتم إلا بالجهد والطلب والنوع الثاني أن يسعى الإنسان بواسطة الرياضات والمجاهدات في أن تصير القوى الحسية والخيالية ضعيفة فإذا ضعفت قويت القوة العقلية وأشرقت الأنوار الإلهية في جوهر العقل وحصلت المعارف وكملت العلوم من غير واسطة سعي وطلب في التفكر والتأمل وهذا هو المسمى بالعلوم اللدنية إذا عرفت هذا فنقول جواهر النفس الناطقة مختلفة بالماهية فقد تكون النفس نفساً مشرقة نورانية إلهية علوية قليلة التعلق بالجواذب البدنية والنوازع الجسمانية فلا جرم كانت أبداً شديدة الاستعداد لقبول الجلايا القدسية والأنوار الإلهية فلا جرم فاضت عليها من عالم الغيب تلك الأنوار على سبيل الكمال والتمام وهذا هو المراد بالعلم اللدني وهو المراد من قوله رَحْمَة ً مّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا قَالَ وأما النفس التي ما بلغت في صفاء الجوهر وإشراق العنصر فهي النفس الناقصة البليدة التي لا يمكنها تحصيل المعارف والعلوم إلا بمتوسط بشري يحتال في تعليمه وتعلمه والقسم الأول بالنسبة إلى القسم الثاني كالشمس بالنسبة إلى الأضواء الجزئية وكالبحر بالنسبة إلى الجداول الجزئية وكالروح الأعظم بالنسبة إلى الأرواح الجزئية فهذا تنبيه قليل على هذا المأخذ ووراءه أسرار لا يمكن ذكرها في هذا الكتاب ثم قال تعالى قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلّمَنِ مِمَّا عُلّمْتَ رُشْداً وفيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ أبو عمرو ويعقوب رَشَدًا بفتح الراء والشين وعن ابن عباس رضي الله عنهما بضم الراء والشين والباقون بضم الراء وتسكين الشين قال القفال وهي لغات في معنى واحد يقال رَشَد ورُشْد مثل نكر ونكر كما يقال سقم وسقم وشغل وشغل وبخل وبخل وعدم وعدم وقوله رَشَدًا أي علماً ذا رشد قال القفال قوله رَشَدًا يحتمل وجهين أحدهما أن يكون الرشد راجعاً إلى الخضر أي مما علمك الله وأرشدك به والثاني أن يرجع ذلك إلى موسى ويكون المعنى على أن تعلمني وترشدني مما علمت
المسألة الثانية اعلم أن هذه الآيات تدل على أن موسى عليه السلام راعى أنواعاً كثيرة من الأدب واللطف عندما أراد أن يتعلم من الخضر فأحدها أنه جعل نفسه تبعاً له لأنه قال هَلْ أَتَّبِعُكَ وثانيها أن استأذن في إثبات هذا التبعية فإنه قال هل تأذن لي أن أجعل نفسي تبعاً لك وهذا مبالغة عظيمة في التواضع وثالثها أنه قال على أن تعلمني وهذا إقرار له على نفسه بالجهل وعلى أستاذه بالعلم ورابعها أنه قال تُعَلّمَنِ مِمَّا عُلّمْتَ وصيغة من للتبعيض فطلب منه تعليم بعض ما علمه الله وهذا أيضاً مشعر بالتواضع كأنه يقول له لا أطلب منك أن تجعلني مساوياً في العلم لك بل أطلب منك أن تعطيني جزأً من أجزاء علمك كما يطلب الفقير من الغني أن يدفع إليه جزأً من أجزاء ماله وخامسها أن قوله مِمَّا عُلّمْتَ اعتراف بأن الله علمه ذلك العلم وسادسها أن قوله رَشَدًا طلب منه للإرشاد والهداية والإرشاد هو الأمر الذي لو لم يحصل لحصلت الغواية والضلال وسابعها أن قوله تُعَلّمَنِ مِمَّا عُلّمْتَ معناه أنه طلب منه أن يعامله بمثل ما عامله الله به وفيه إشعار بأنه يكون إنعامك علي عند هذا التعليم شبيهاً بإنعام الله تعالى عليك في هذا

التعليم ولهذا المعنى قيل أنا عبد من تعلمت منه حرفاً وثامنها أن المتابعة عبارة عن الإتيان بمثل فعل الغير لأجل كونه فعلاً لذلك الغير فإنا إذا قلنا لا إله إلا الله فاليهود الذين كانوا قبلنا كانوا يذكرون هذه الكلمة فلا يجب كوننا متبعين لهم في ذكر هذه الكلمة لأنا لا نقول هذه الكلمة لأجل أنهم قالوها بل إنما نقولها لقيام الدليل على أنه يجب ذكرها أما إذا أتينا بهذه الصلوات الخمس على موافقة فعل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فإنما أتينا بها لأجل أنه عليه السلام أتى بها لا جرم كنا متابعين في فعل هذه الصلوات لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا ثبت هذا فنقول قوله هَلْ أَتَّبِعُكَ يدل على أنه يأتي بمثل أفعال ذلك الأستاذ لمجرد كون ذلك الأستاذ آتياً بها وهذا يدل على أن المتعلم يجب عليه في أول الأمر التسليم وترك المنازعة والاعتراض وتاسعها أن قوله اتَّبَعَكَ يدل على طلب متابعته مطلقاً في جميع الأمور غير مقيد بشيء دون شيء وعاشرها أنه ثبت بالإخبار أن الخضر عرف أولاً أنه نبي بني إسرائيل وأنه هو موسى صاحب التوراة وهو الرجل الذي كلمه الله عز وجل من غير واسطة وخصه بالمعجزات القاهرة الباهرة ثم إنه عليه السلام مع هذه المناصب الرفيعة والدرجات العالية الشريفة أتى بهذه الأنواع الكثيرة من التواضع وذلك يدل على كونه عليه السلام آتياً في طلب العلم بأعظم أنواع المبالغة وهذا هو اللائق به لأن كل من كانت إحاطته بالعلوم أكثر كان علمه بما فيها من البهجة والسعادة أكثر فكان طلبه لها أشد وكان تعظيمه لأرباب العلم أكمل وأشد والحادي عشر أنه قال هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن فأثبت كونه تبعاً له أولاً ثم طلب ثانياً أن يعلمه وهذا منه ابتداء بالخدمة ثم في المرتبة الثانية طلب منه التعليم والثاني عشر أنه قال هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن فلم يطلب على تلك المتابعة على التعليم شيئاً كان قال لا أطلب منك على هذه المتابعة المال والجاه ولا غرض لي إلا طلب العلم ثم إنه تعالى حكى عن الخضر أنه قال إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِى َ صَبْراً وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن المتعلم على قسمين متعلم ليس عنده شيء من العلم ولم يمارس القيل والقال ولم يتعود التقرير والاعتراض ومتعلم حصل العلوم الكثيرة ومارس الاستدلال والاعتراض ثم إنه يريد أن يخالط إنساناً أكمل منه ليبلغ درجة التمام والكمال والتعلم في هذا القسم الثاني شاق شديد وذلك لأنه إذا رأى شيئاً أو سمع كلاماً فربما كان ذلك بحسب الظاهر منكراً إلا أنه كان في الحقيقة حقاً صواباً فهذا المتعلم لأجل أنه ألف القيل والقال وتعود الكلام والجدال يغتر ظاهره ولأجل عدم كماله لا يقف على سره وحقيقته وحينئذ يقدم على النزاع والاعتراض والمجادلة وذلك مما يثقل سماعه على الأستاذ الكامل المتبحر فإذا اتفق مثل هذه الواقعة مرتين أو ثلاثة حصلت النفرة التامة والكراهة الشديدة وهذا هو الذي أشار إليه الخضر بقوله إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِى َ صَبْراً إشارة إلى أنه ألف الكلام وتعود الإثبات والإبطال والاستدلال والاعتراض وقوله وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً إشارة إلى كونه غير عالم بحقائق الأشياء كما هي وقد ذكرنا أنه متى حصل الأمران صعب السكوت وعسر التعليم وانتهى الأمر بالآخرة إلى النفرة والكراهية وحصول التقاطع والتنافر
المسألة الثانية احتج أصحابنا بقوله إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِى َ صَبْراً على أن الاستطاعة لا تحصل قبل

الفعل قالوا لو كانت الاستطاعة على الفعل حاصلة قبل حصول الفعل لكانت الاستطاعة على الصبر حاصلة لموسى عليه السلام قبل حصول الصبر فيلزم أن يصير قوله إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِى َ صَبْراً كذباً ولما بطل ذلك علمنا أن الاستطاعة لا توجد قبل الفعل أجاب الجبائي عنه أن المراد من هذا القول أنه يثقل عليه الصبر لا أنه لا يستطيعه يقال في العرف إن فلاناً لا يستطيع أن يرى فلاناً و ( لا ) أن يجالسه إذا كان يثقل عليه ذلك ونظيره قوله تعالى مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ أي كان يشق عليهم الاستماع فيقال له هذا عدول عن الظاهر من غير دليل وإنه لا يجوز وأقول مما يؤكد هذا الاستدلال الذي ذكره الأصحاب قوله تعالى وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً استبعد حصول الصبر على ما لم يقف الإنسان على حقيقته ولو كانت الاستطاعة قبل الفعل لكانت القدرة على العلم حاصلة قبل حصول ذلك العلم ولو كان كذلك لما كان حصول الصبر عند عدم ذلك العلم مستبعداً لأن القادر على الفعل لا يبعد منه إقدامه على ذلك الفعل ولما حكم الله باستبعاده علمنا أن الاستطاعة لا تحصل قبل الفعل ثم حكى الله تعالى عن موسى أنه قال سَتَجِدُنِى إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلاَ أَعْصِى لَكَ أمْراً وفيه مسائل
المسألة الأولى احتج الطاعنون في عصمة الله الأنبياء بهذه الآية فقالوا إن الخضر قال لموسى إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِى َ صَبْراً وقال موسى سَتَجِدُنِى إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلاَ أَعْصِى لَكَ أمْراً وكل واحد من هذين القولين يكذب الآخر فيلزم إلحاق الكذب بأحدهما وعلى التقديرين فيلزم صدور الكذب عن الأنبياء عليهم السلام والجواب أن يحمل قوله إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِى َ صَبْراً على الأكثر الأغلب وعلى هذا التقدير فلا يلزم ما ذكروه
المسألة الثانية لفظة إن كان كذا تفيد الشك فقوله سَتَجِدُنِى إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا معناه ستجدني صابراً إن شاء الله كوني صابراً وهذا يقتضي وقوع الشك في أن الله هل يريد كونه صابراً أم لا ولا شك أن الصبر في مقام التوقف واجب فهذا يقتضي أن الله تعالى قد لا يريد من العبد ما أوجبه عليه وهذا يدل على صحة قولنا إن الله تعالى قد يأمر بالشيء مع أنه لا يريده قالت المعتزلة هذه الكلمة إنما تذكر رعاية للأدب فيما يريد الإنسان أن يفعله في المستقبل فيقال لهم هذا الأدب إن صح معناه فقد ثبت المطلوب وإن فسد فأي أدب في ذكر هذا الكلام الباطل
المسألة الثالثة قوله تعالى وَلاَ أَعْصِى لَكَ أمْراً يدل على أن ظاهر الأمر يفيد الوجوب لأن تارك المأمور به عاص بدلالة هذه الآية والعاصي يستحق العقاب لقوله تعالى وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ ( الجن 23 ) وهذا يدل على أن ظاهر الأمر يفيد الوجوب
المسألة الرابعة قول الخضر لموسى عليه السلام وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً نسبة إلى قلة العلم والخبر وقول موسى له سَتَجِدُنِى إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلاَ أَعْصِى لَكَ أمْراً تواضع شديد وإظهار للتحمل التام والتواضع الشديد وكل ذلك يدل على أن الواجب على المتعلم إظهار التواضع بأقصى الغايات وأما المعلم فإن رأى أن في التغليظ على المتعلم ما يفيده نفعاً وإرشاداً إلى الخير فالواجب عليه ذكره فإن السكوت عنه يوقع المتعلم في الغرور والنخوة وذلك يمنعه من التعلم ثم قال فَإِنِ اتَّبَعْتَنِى فَلاَ تَسْأَلْنى عَن شَىء حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً أي لا تستخبرني عما تراه مني مما لا تعلم وجهه حتى أكون أنا

المبتدىء لتعليمك إياه وإخبارك به وفي قراءة ابن عامر فلا تسألن محركة اللام مشددة النون بغير ياء وروى عنه لا تسألني مثقلة مع الياء وهي قراءة نافع وفي قراءة الباقين لا تسألن خفيفة والمعنى واحد
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِى السَّفِينَة ِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِى َ صَبْراً قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِى بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِى مِنْ أَمْرِى عُسْراً
اعلم أن موسى وذلك العالم لما تشارطا على الشرط المذكور وسارا فانتهيا إلى موضع احتاجا فيه إلى ركوب السفينة فركباها وأقدم ذلك العالم على خرق السفينة وأقول لعله أقدم على خرق جدار السفينة لتصير السفينة بسبب ذلك الخرق معيبة ظاهرة العيب فلا يتسارع الغرق إلى أهلها فعند ذلك قال موسى له أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا وفيه بحثان
البحث الأول قرأ حمزة والكسائي أَعِزَّة َ أَهْلِهَا بفتح الياء على إسناد الغرق إلى الأهل والباقون لتغرق أهلها على الخطاب والتقدير لتغرق أنت أهل هذه السفينة
البحث الثاني أن موسى عليه السلام لما شاهد ذلك الأمر المنكر بحسب الظاهر نسي الشرط المتقدم فلهذا المعنى قال ما قال واحتج الطاعنون في عصمة الأنبياء عليهم السلام بهذه الآية من وجهين الأول أنه ثبت بالدليل أن ذلك العالم كان من الأنبياء ثم قال موسى عليه السلام أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا فإن صدق موسى في هذا القول دل ذلك على صدور الذنب العظيم عن ذلك النبي وإن كذب دل على صدور الكذب عن موسى عليه السلام الثاني أنه التزم أن لا يعترض على ذلك العالم وجرت العهود المؤكدة لذلك ثم إنه خالف تلك العهود وذلك ذنب والجواب عن الأول أنه لما شاهد موسى عليه السلام منه الأمر الخارج عن العادة قال هذا الكلام لا لأجل أنه اعتقد فيه أنه فعل قبيحاً بل لأنه أحب أن يقف على وجهه وسببه وقد يقال في الشيء العجيب الذي لا يعرف سببه إنه أمر يقال أمر الأمر إذا عظم وقال الشاعر
داهية دهياء
وعلى الثاني أنه فعل بناء على النسيان ثم إنه تعالى حكى عن ذلك العالم أنه لما خالف الشرط لم يزد على أن قال أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِى َ صَبْراً فعند هذا اعتذر موسى عليه السلام بقوله لاَ تُؤَاخِذْنِى بِمَا نَسِيتُ أراد أنه نسي وصيته ولا مؤاخذة على الناسي بشيء وَلاَ تُرْهِقْنِى مِنْ أَمْرِى عُسْراً يقال رهقه إذا غشيه وأرهقه إياه أي ولا تغشني من أمري عسراً وهو اتباعه إياه يعني ولا تعسر على متابعتك ويسرها علي بالإغضاء وترك المناقشة وقرىء عُسْراً بضمتين
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاَمًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّة ً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِى َ صَبْراً قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَى ْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِى قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّى عُذْراً

اعلم أن لفظ الغلام قد يتناول الشاب البالغ بدليل أنه يقال رأى الشيخ خير من مشهد الغلام جعل الشيخ نقيضاً للغلام وذلك يدل على أن الغلام هو الشاب وأصله من الاغتلام وهو شدة الشبق وذلك إنما يكون في الشباب وأما تناول هذا اللفظ للصبي الصغير فظاهر وليس في القرآن كيف لقياه هل كان يلعب مع جمع من الغلمان الصبيان أو كان منفرداً وهل كان مسلماً أو كان كافراً وهل كان منعزلاً وهل كان بالغاً أو كان صغيراً وكان اسم الغلام بالصغير أليق وإن احتمل الكبير إلا أن قوله بِغَيْرِ نَفْسٍ أليق بالبالغ منه بالصبي لأن الصبي لا يقتل وإن قتل وأيضاً فهل قتله بأن حز رأسه أو بأن ضرب رأسه بالجدار أو بطريق آخر فليس في لفظ القرآن ما يدل على شيء من هذه الأقسام فعند هذا قال موسى عليه السلام أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّة ً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً وفيه مباحث
البحث الأول قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو زاكية بالألف والباقون زكية بغير ألف قال الكسائي الزاكية والزكية لغتان ومعناهما الطاهرة وقال أبو عمرو الزاكية التي لم تذنب والزكية التي أذنبت ثم تابت
البحث الثاني ظاهر الآية يدل على أن موسى عليه السلام استبعد أن يقتل النفس إلا لأجل القصاص بالنفس وليس الأمر كذلك لأنه قد يحل دمه بسبب من الأسباب وجوابه أن السبب الأقوى هو ذلك
البحث الثالث النكر أعظم من الإمر في القبح وهذا إشارة إلى أن قتل الغلام أقبح من خرق السفينة لأن ذلك ما كان اتلافاً للنفس لأنه كان يمكن أن لا يحصل الغرق أما ههنا حصل الإتلاف قطعاً فكان أنكر وقيل إن قوله لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا أي عجباً والنكر أعظم من العجب وقيل النكر ما أنكرته العقول ونفرت عنه النفوس فهو أبلغ في تقبيح الشيء من الإمر ومنهم من قال الإمر أعظم قال لأن خرق السفينة يؤدي إلى إتلاف نفوس كثيرة وهذ القتل ليس إلا إتلاف شخص واحد وأيضاً الإمر هو الداهية العظيمة فهو أبلغ من النكر وأنه تعالى حكى عن ذلك العالم أنه ما زاد على أن ذكره ما عاهده عليه فقال أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِى َ صَبْراً وهذا عين ما ذكره في المسألة الأولى إلا أنه زاد ههنا لفظة لك لأن هذه اللفظة تؤكد التوبيخ فعند هذا قال موسى إِن سَأَلْتُكَ عَن شَى ْء بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِى مع العلم بشدة حرصه على مصاحبته وهذا كلام نادم شديد الندامة ثم قال قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنّى عُذْراً والمراد منه أنه يمدحه بهذه الطريقة من حيث احتمله مرتين أولاً وثانياً مع قرب المدة وبقي مما يتعلق بالقراءة في هذه الآية ثلاثة مواضع الأول قرأ نافع برواية ورش وقالون وابن عامر وأبو بكر عن عاصم نكراً بضم الكاف في جميع القرآن والباقون ساكنة الكاف حيث كان وهما لغتان الثاني الكل قرأوا لا تُصَاحِبْنِى بالألف إلا يعقوب

فإنه قرأ ( لا تصحبني ) من صحب والمعنى واحد الثالث في لَّدُنّى قراءات الأولى قراءة نافع وأبي بكر في بعض الروايات عن عاصم مِن لَّدُنّى بتخفيف النون وضم الدال الثانية قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم لندي مشددة النون وضم الدال الثالثة قرأ أبو بكر عن عاصم بالإشمام وغير إشباع الرابعة مِن لَّدُنّى بضم اللام وسكون الدال في بعض الروايات عن عاصم وهذه القراءات كلها لغات في هذه اللفظة
فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَة ٍ اسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً قَالَ هَاذَا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً
اعلم أن تلك القرية هي أنطاكية وقيل هي الأيلة وههنا سؤالات الأول إن الاستطعام ليس من عادة الكرام فكيف أقدم عليه موسى وذلك العالم لأن موسى كان من عادته عرض الحاجة وطلب الطعام ألا ترى أنه تعالى حكى عنه أنه قال في قصة موسى عند ورود ماء مدين رَبّ إِنّى لِمَا أَنزَلْتَ إِلَى َّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ( القصص 24 ) الجواب أن إقدام الجائع على الاستطعام أمر مباح في كل الشرائع بل ربما وجب ذلك عند خوف الضرر الشديد السؤال الثاني لم قال حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَة ٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا وكان من الواجب أن يقال استطعما منهم والجواب أن التكرير قد يكون للتأكيد كقول الشاعر ليت الغراب غداة ينعب دائما
كان الغراب مقطع الأوداج
السؤال الثالث إن الضيافة من المندوبات فتركها ترك للمندوب وذلك أمر غير منكر فكيف يجوز من موسى عليه السلام مع علو منصبه أنه غضب عليهم الغضب الشديد الذي لأجله ترك العهد الذي التزمه مع ذلك العالم في قوله إِن سَأَلْتُكَ عَن شَى ْء بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِى وأيضاً مثل هذا الغضب لأجل ترك الأكل في ليلة واحدة لا يليق بأدون الناس فضلاً عن كليم الله الجواب أما قوله الضيافة من المندوبات قلنا قد تكون من المندوبات وقد تكون من الواجبات بأن كان الضيف قد بلغ في الجوع إلى حيث لو لم يأكل لهلك وإذا كان التقدير ما ذكرناه لم يكن الغضب الشديد لأجل ترك الأكل يوماً فإن قالوا ما بلغ في الجوع إلى حد الهلاك بدليل أنه قال لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً وكان يطلب على إصلاح ذلك الجدار أجرة ولو كان قد بلغ في الجوع إلى حد الهلاك لما قدر على ذلك العمل فكيف يصح منه طلب الأجرة قلنا لعل ذلك الجوع كان شديداً إلا أنه ما بلغ حد الهلاك ثم قال تعالى فَأَبَوْاْ أَن يُضَيّفُوهُمَا وفيه بحثان
البحث الأول يضيفوهما يقال ضافه إذا كان له ضيفاً وحقيقته مال إليه من ضاف السهم عن الغرض ونظيره زاره من الإزورار وأضافه وضيفه أنزله وجعله ضيفه وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كانوا أهل قرية لئاماً

البحث الثاني رأيت في كتب الحكايات أن أهل تلك القرية لما سمعوا نزول هذه الآية استحيوا وجاؤوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بحمل من الذهب وقالوا يا رسول الله نشتري بهذا الذهب أن تجعل الباء تاءاً حتى تصير القراءة هكذا فأتوا أن يضيفوهما أي أتوا لأن يضيفوهما أي كان إتيان أهل تلك القرية إليهما لأجل الضيافة وقالوا غرضنا منه أن يندفع عنا هذا اللؤم فامتنع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال إن تغيير هذه النقطة يوجب دخول الكذب في كلام الله وذلك يوجب القدح في الإلهية فعلمنا أن تغيير النقطة الواحدة من القرآن يوجب بطلان الربوبية والعبودية ثم قال تعالى فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ أي فرأيا في القرية حائطاً مائلاً فإن قيل كيف يجوز وصف الجدار بالإرادة مع أن الإرادة من صفات الأحياء قلنا هذا اللفظ ورد على سبيل الاستعارة وله نظائر في الشعر قال يريد الرمح صدر أبي براء
ويرغب عن دماء بني عقيل
وأنشد الفراء إن دهراً يلف شملي بجمعل
لزمان يهم بالإحسان
في مهمة فلقت به هاماتها
فلق الفؤوس إذا أردن نصولا
ونظيره من القرآن قوله تعالى وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ وقوله أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ وقوله قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ وقوله أَن يَنقَضَّ يقال انقض إذا أسرع سقوطه من انقضاض الطائر وهو انفعل مطاوع قضضته وقيل انقض فعل من النقض كأحمر من الحمرة وقرىء أن ينقض من النقض وأن ينقاض من انقاضت العين إذا انشقت طولاً وأما قوله فَأَقَامَهُ قيل نقضه ثم بناه وقيل أقامه بيده وقيل مسحه بيده فقام واستوى وكان ذلك من معجزاته واعلم أن ذلك العالم لما فعل ذلك وكانت الحالة حالة اضطرار وافتقار إلى الطعام فلأجل تلك الضرورة نسي موسى ما قاله من قوله إِن سَأَلْتُكَ عَن شَى ْء بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِى فلا جرم قال لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً أي طلبت على عملك أجرة تصرفها في تحصيل المطعوم وتحصيل سائر المهمات وقرىء لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً والتاء تخذت أصل كما في تبع واتخذ افتعل منه كقولنا اتبع من قولنا تبع واعلم أن موسى عليه السلام لما ذكر هذا الكلام قال العالم هَاذَا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ وههنا سؤالات السؤال الأول قوله هذه إشارة إلى ماذا والجواب من وجهين الأول أن موسى عليه السلام قد شرط أنه إن سأله بعد ذلك سؤالاً آخر يحصل الفراق حيث قال إِن سَأَلْتُكَ عَن شَى ْء بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِى فلما ذكر هذا السؤال فارقه ذلك العالم وقال هَاذَا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ أي هذا الفراق الموعود الثاني أن يكون قوله هذا إشارة إلى السؤال الثالث أي هذا الاعتراض هو سبب الفراق السؤال الثاني ما معنى قوله هَاذَا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ الجواب معناه هذا فراق حصل بيني وبينك فأضيف المصدر إلى الظرف حكى القفال عن بعض أهل العربية أن البين هو الوصل لقوله تعالى لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ فكان المعنى هذا فراق بيننا أي اتصالنا كقول القائل أخزى الله الكاذب مني ومنك أي أحدنا هكذا قاله الزجاج ثم قال العالم لموسى عليه السلام سَأُنَبّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً أي سأخبرك بحكمة هذه المسائل الثلاثة وأصل التأويل راجع إلى قولهم آل الأمر إلى كذا أي صار إليه فإذا قيل ما تأويله فالمعنى ما مصيره

أَمَّا السَّفِينَة ُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِى الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَة ٍ غَصْباً وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَواة ً وَأَقْرَبَ رُحْماً وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِى الْمَدِينَة ِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَة ً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِى ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِى الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن هذه المسائل الثلاثة مشتركة في شيء واحد وهو أن أحكام الأنبياء صلوات الله عليهم مبنية على الظواهر كما قال عليه السلام ( نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر ) وهذا العالم ما كانت أحكامه مبنية على ظواهر الأمور بل كانت مبنية على الأسباب الحقيقية الواقعة في نفس الأمر وذلك لأن الظاهر أنه يحرم التصرف في أموال الناس وفي أرواحهم في المسألة الأولى وفي الثانية من غير سبب ظاهر يبيح ذلك التصرف لأن تخريق السفينة تنقيص لملك الإنسان من غير سبب ظاهر وقتل الغلام تفويت لنفس معصومة من غير سبب ظاهر والإقدام على إقامة ذلك الجدار المائل في المسألة الثالثة تحمل التعب والمشقة من غير سبب ظاهر وفي هذه المسائل الثلاثة ليس حكم ذلك العالم فيها مبنياً عن الأسباب الظاهرة المعلومة بل كان ذلك الحكم مبنياً على أسباب معتبرة في نفس الأمر وهذا يدل على أن ذلك العالم كان قد آتاه الله قوة عقلية قدر بها أن يشرف على بواطن الأمور ويطلع بها على حقائق الأشياء فكانت مرتبة موسى عليه السلام في معرفة الشرائع والأحكام بناء الأمر على الظواهر وهذا العالم كانت مرتبته الوقوف على بواطن الأشياء وحقائق الأمور والإطلاع على أسرارها الكامنة فبهذا الطريق ظهر أن مرتبته في العلم كانت فوق مرتبة موسى عليه السلام إذا عرفت هذا فنقول المسائل الثلاثة مبنية على حرف واحد وهو أن عند تعارض الضررين يجب تحمل الأدنى لدفع الأعلى فهذا هو الأصل المعتبر في المسائل الثلاثة
أما المسألة الأولى فلأن ذلك العالم علم أنه لو لم يعب تلك السفينة بالتخريق لغصبها ذلك الملك وفاتت منافعها عن ملاكها بالكلية فوقع التعارض بين أن يخرقها ويعيبها فتبقى مع ذلك على ملاكها وبين أن لا يخرقها فيغصبها الملك فتفوت منافعها بالكلية على ملاكها ولا شك أن الضرر الأول أقل فوجب تحمله لدفع الضرر الثاني الذي هو أعظمهما

وأما المسألة الثانية فكذلك لأن بقاء ذلك الغلام حياً كان مفسدة للوالدين في دينهم وفي دنياهم ولعله علم بالوحي أن المضار الناشئة من قتل ذلك الغلام أقل من المضار الناشئة بسبب حصول تلك المفاسد للأبوين فهلذا السبب أقدم على قتله
والمسألة الثالثة أيضاً كذلك لأن المشقة الحاصلة بسبب الإقدام على إقامة ذلك الجدار ضررها أقل من سقوطه لأنه لو سقط لضاع مال تلك الأيتام وفيه ضرر شديد فالحاصل أن ذلك العالم كان مخصوصاً بالوقوف على بواطن الأشياء وبالأطلاع على حقائقها كما هي عليها في أنفسها وكان مخصوصاً ببناء الأحكام الحقيقية على تلك الأحوال الباطنة وأما موسى عليه السلام فما كان كذلك بل كانت أحكامه مبنية على ظواهر الأمور فلا جرم ظهر التفاوت بينهما في العلم فإن قال قائل فحاصل الكلام أنه تعالى أطلعه على بواطن الأشياء وحقائقها في نفسها وهذا النوع من العلم لا يمكن تعلمه وموسى عليه السلام إنما ذهب إليه ليتعلم منه العلم فكان من الواجب على ذلك العالم أن يظهر له علماً يمكن له تعلمه وهذه المسائل الثلاثة علوم لا يمكن تعلمها فما الفائدة في ذكرها وإظهارها والجواب أن العلم بظواهر الأشياء يمكن تحصيله بناء على معرفة الشرائع الظاهرة وأما العلم ببواطن الأشياء فإنما يمكن تحصيله بناء على تصفية الباطن وتجريد النفس وتطهير القلب عن العلائق الجسدانية ولهذا قال تعالى في صفة علم ذلك العالم وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا ( الكهف 65 ) ثم إن موسى عليه السلام لما كملت مرتبته في علم الشريعة بعثه الله إلى هذا العالم ليعلم موسى عليه السلام أن كمال الدرجة في أن ينتقل الإنسان من علوم الشريعة المبنية على الظواهر إلى علوم الباطن المبنية على الإشراف على البواطن والتطلع على حقائق الأمور
المسألة الثانية اعلم أن ذلك العالم أجاب عن المسألة الأولى بقوله أَمَّا السَّفِينَة ُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِى الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَة ٍ غَصْباً وفيه فوائد الفائدة الأولى أن تلك السفينة كانت لأقوام محتاجين متعيشين بها في البحر والله تعالى سماهم مساكين واعلم أن الشافعي رحمه الله احتج بهذه الآية على أن حال الفقير في الضر والحاجة أشد من حال المسكين لأنه تعالى سماهم مساكين مع أنهم كانوا يملكون تلك السفينة الفائدة الثانية أن مراد ذلك العالم من هذا الكلام أنه ما كان مقصودي من تخريق تلك السفينة تغريق أهلها بل مقصودي أن ذلك الملك الظالم كان يغصب السفن الخالية عن العيوب فجعلت هذه السفينة معيبة لئلا يغصبها ذلك الظالم فإن ضرر هذا التخريق أسهل من الضرر الحاصل من ذلك الغصب فإن قيل وهل يجوز للأجنبي أن يتصرف في ملك الغير لمثل هذا الغرض قلنا هذا مما يختلف أحواله بحسب اختلاف الشرائع فلعل هذا المعنى كان جائزاً في تلك الشريعة وأما في شريعتنا فمثل هذا الحكم غير بعيد فإنا إذا علمنا أن الذين يقطعون الطريق ويأخذون جميع ملك الإنسان فإن دفعنا إلى قاطع الطريق بعض ذلك المال سلم الباقي فحينئذ يحسن منا أن ندفع بعض مال ذلك الإنسان إلى قاطع الطريق ليسلم الباقي وكان هذا منا يعد إحساناً إلى ذلك المالك الفائدة الثالثة أن ذلك التخريق وجب أن يكون واقعاً على وجه لا تبطل به تلك السفينة بالكلية إذ لو كان كذلك لم يكن الضرر الحاصل من غصبها أبلغ من الضرر الحاصل من تخريقها وحينئذ لم يكن تخريقها جائزاً الفائدة الرابعة لفظ الوراء على قوله وَكَانَ وَرَاءهُم فيه قولان الأول أن المراد منه وكان أمامهم ملك يأخذ هكذا قاله الفراء

وتفسيره قوله تعالى مّن وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ ( الجاثية 10 ) أي أمامهم وكذلك قوله تعالى وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً ( الإنسان 27 ) وتحقيقه أن كل ما غاب عنك فقد توارى عنك وأنت متوار عنه فكل ما غاب عنك فهو وراءك وأمام الشيء وقدامه إذا كان غائباً عنه متوارياً عنه فلم يبعد إطلاق لفظ وراء عليه والقول الثاني يحتمل أن يكون الملك كان من وراء الموضع الذي يركب منه صاحبه وكان مرجع السفينة عليه
وأما المسألة الثانية وهي قتل الغلام فقد أجاب العالم عنها بقوله وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ قيل إن ذلك الغلام كان بالغاً وكان يقطع الطريق ويقدم على الأفعال المنكرة وكان أبواه يحتاجان إلى دفع شر الناس عنه والتعصب له وتكذيب من يرميه بشيء من المنكرات وكان يصير ذلك سبباً لوقوعهما في الفسق وربما أدى ذلك الفسق إلى الكفر وقيل إنه كان صبياً إلا أن الله تعالى علم منه أنه لو صار بالغاً لحصلت منه هذه المفاسد وقوله فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً الخشية بمعنى الخوف وغلبة الظن والله تعالى قد أباح له قتل من غلب على ظنه تولد مثل هذا الفساد منه وقوله أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً فيه قولان الأول أن يكون المراد أن ذلك الغلام يحمل أبويه على الطغيان والكفر كقوله وَلاَ تُرْهِقْنِى مِنْ أَمْرِى عُسْراً ( الكهف 73 ) أي لا تحملني على عسر وضيق وذلك لأن أبويه لأجل حب ذلك الولد يحتاجان إلى الذب عنه وربما احتاجا إلى موافقته في تلك الأفعال المنكرة والثاني أن يكون المعنى أن ذلك الولد كان يعاشرهما معاشرة الطغاة الكفار فإن قيل هل يجوز الإقدام على قتل الإنسان لمثل هذا الظن قلنا إذا تأكد ذلك الظن بوحي الله جاز ثم قال تعالى فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مّنْهُ زَكَواة ً أي أردنا أن يرزقهما الله تعالى ولداً خيراً من هذا الغلام زكاة أي ديناً وصلاحاً وقيل إن ذكره الزكاة ههنا على مقابلة قول موسى عليه السلام أَقَتَلْتَ نَفْسًا نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ فقال العالم أردنا أن يرزق الله هذين الأبوين خيراً بدلاً عن ابنهما هذا ولداً يكون خيراً منه كما ذكرته من الزكاة ويكون المراد من الزكاة الطهارة فكأن موسى عليه السلام قال أقتلت نفساً طاهرة لأنها ما وصلت إلى حد البلوغ فكانت زاكية طاهرة من المعاصي فقال العالم إن تلك النفس وإن كانت زاكية طاهرة في الحال إلا أنه تعالى علم منها أنها إذا بلغت أقدمت على الطغيان والكفر فأردنا أن يجعل لهما ولداً أعظم زكاة وطهارة منه وهو الذي يعلم الله منه أنه عند البلوغ لا يقدم على شيء من هذه المحظورات ومن قال إن ذلك الغلام كان بالغاً قال المراد من صفة نفسه بكونها زاكية أنه لم يظهر عليه ما يوجب قتله ثم قال وَأَقْرَبَ رُحْماً أي يكون هذا البدل أقرب عطفاً ورحمة بأبويه بأن يكون أبر بهما وأشفق عليهما والرحم الرحمة والعطف روى أنه ولدت لهما جارية تزوجها نبي فولدت نبياً هدى الله على يديه أمة عظيمة
بقي من مباحث هذه الآية موضعان في القراءة الأول قرأ نافع وأبو عمرو يبدلهما بفتح الباء وتشديد الدال وكذلك في التحريم أَن يُبْدِلَهُ أَزْواجاً وفي القلم عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا والباقون ساكنة الباء خفيفة الدال وهما لغتان أبدل يبدل وبدل يبدل الثاني قراءة ابن عامر في إحدى الروايتين عن أبي عمرو رحماً بضم الحاء والباقون بسكونها وهما لغتان مثل نكر ونكر وشغل وشغل
وأما المسألة الثالثة وهي إقامة الجدار فقد أجاب العالم عنها بأن الداعي له إليها أنه كان تحت ذلك الجدار كنز وكان ذلك ليتيمين في تلك المدينة وكان أبوهما صالحاً ولما كان ذلك الجدار مشرفاً على السقوط

ولو سقط لضاع ذلك الكنز فأراد الله إبقاء ذلك الكنز على ذينك اليتيمين رعاية لحقهما ورعاية لحق صلاح أبيهما فأمرني بإقامة ذلك الجدار رعاية لهذه المصالح وفي الآية فوائد الفائدة الأولى أنه تعالى سمى ذلك الموضع قرية حيث قال إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَة ٍ وسماه أيضاً مدينة حيث قال وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِى الْمَدِينَة ِ الفائدة الثانية اختلفوا في هذا الكنز فقيل إنه كان مالاً وهذا هو الصحيح لوجهين الأول أن المفهوم من لفظ الكنز هو المال والثاني أن قوله وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا يدل على أن ذلك الكنز هو المال وقيل إنه كان علماً بدليل أنه قال وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً والرجل الصالح يكون كنزه العلم لا المال إذ كنز المال لا يليق بالصلاح بدليل قوله تعالى وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّة َ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( التوبة 34 ) وقيل كان لوحاً من ذهب مكتوب فيه عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن وعجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها لا إله إلا الله محمد رسول الله الفائدة الثالثة قوله وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً يدل على أن صلاح الآباء يفيد العناية بأحوال الأبناء وعن جعفر بن محمد كان بين الغلامين وبين الأب الصالح سبعة آباء وعن الحسن ابن علي أنه قال لبعض الخوارج في كلام جرى بينهما بم حفظ الله مال الغلامين قال بصلاح أبيهما قال فأبي وجدي خير منه قال قد أنبأنا الله أنكم قوم خصمون وذكروا أيضاً أن ذلك الأب الصالح كان الناس يضعون الودائع إليه فيردها إليهم بالسلامة فإن قيل اليتيمان هل عرف أحد منهما حصول الكنزل تحت ذلك الجدار أو ما عرف أحد منهما فإن كان الأول امتنع أن يتركوا سقوط ذلك الجدار وإن كان الثاني فكيف يمكنهم بعد البلوغ استخراج ذلك الكنز والانتفاع به الجواب لعل اليتيمين كانا جاهلين به إلا أن وصيهما كان عالماً به ثم ( إن ) ذلك الوصي غاب وأشرف ذلك الجدار في غيبته على السقوط ولما قرر العالم هذه الجوابات قال رَحْمَة ً مّن رَّبّكَ يعني إنما فعلت هذه الفعال لغرض أن تظهر رحمة الله تعالى لأنها بأسرها ترجع إلى حرف واحد وهو تحمل الضرر الأدنى لدفع الضرر الأعلى كما قررناه ثم قال وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِى يعني ما فعلت ما رأيت من هذه الأحوال عن أمري واجتهادي ورأيي وإنما فعلته بأمر الله ووحيه لأن الإقدام على تنقيص أموال الناس وإراقة دمائهم لا يجوز إلا بالوحي والنص القاطع بقي في الآية سؤال وهو أنه قال فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وقال فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مّنْهُ زَكَواة ً وقال فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا كيف اختلفت الإضافة في هذه الإرادات الثلاث وهي كلها في قصة واحدة وفعل واحد والجواب أنه لما ذكر العيب أضافه إلى إرادة نفسه فقال أردت أن أعيبها ولما ذكر القتل عبر عن نفسه بلفظ الجمع تنبيهاً على أنه من العظماء في علوم الحكمة فلم يقدم على هذا القتل إلا لحكمة عالية ولما ذكر رعاية مصالح اليتيمين لأجل صلاح أبيهما أضافه إلى الله تعالى لأن المتكفل بمصالح الأبناء لرعاية حق الآباء ليس إلا الله سبحانه وتعالى
إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى الأرض وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَى ْءٍ سَبَباً فَأَتْبَعَ سَبَباً

اعلم أن هذا هو القصة الرابعة من القصص المذكورة في هذه السورة وفيها مسائل
المسألة الأولى قد ذكرنا في أول هذه السورة أن اليهود أمروا المشركين أن يسألوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن قصة أصحاب الكهف وعن قصة ذي القرنين وعن الروح فالمراد من قوله وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِى الْقَرْنَيْنِ ( الكهف 83 ) هو ذلك السؤال
المسألة الثانية اختلف الناس في أن ذا القرنين من هو وذكروا فيه أقوالاً الأول أنه هو الاسكندر بن فيلبوس اليوناني قالوا والدليل عليه أن القرآن دل على أن الرجل المسمى بذي القرنين بلغ ملكه إلى أقصى المغرب بدليل قوله حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِى عَيْنٍ حَمِئَة ٍ ( الكهف 86 ) وأيضاً بلغ ملكه أقصى المشرق بدليل قوله حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ ( الكهف 90 ) وأيضاً بلغ ملكه أقصى الشمال بدليل أن يأجوج ومأجوج قوم من الترك يسكنون في أقصى الشمال وبدليل أن السد المذكور في القرآن يقال في كتب التواريخ إنه مبني في أقصى الشمال فهذا الإنسان المسمى بذي القرنين في القرآن قد دل القرآن على أن ملكه بلغ أقصى المغرب والمشرق وهذا هو تمام القدر المعمور من الأرض ومثل هذا الملك البسيط لا شك أنه على خلاف العادات وما كان كذلك وجب أن يبقى ذكره مخلداً على وجه الدهر وأن لا يبقى مخفياً مستتراً والملك الذي اشتهر في كتب التواريخ أنه بلغ ملكه إلى هذا الحد ليس إلا الإسكندر وذلك لأنه لما مات أبوه جمع ملوك الروم بعد أن كانوا طوائف ثم جمع ملوك المغرب وقهرهم وأمعن حتى انتهى إلى البحر الأخضر ثم عاد إلى مصر فبنى الإسكندرية وسماها باسم نفسه ثم دخل الشام وقصد بني إسرائيل وورد بيت المقدس وذبح في مذبحه ثم انعطف إلى أرمينية وباب الأبواب ودانت له العراقيون والقبط والبربر ثم توجه نحو دارا بن دارا وهزمه مرات إلى أن قتله صاحب حرسه فاستولى الإسكندر على ممالك الفرس ثم قصد الهند والصين وغزا الأمم البعيدة ورجع إلى خراسان وبنى المدن الكثيرة ورجع إلى العراق ومرض بشهرزور ومات بها فلما ثبت بالقرآن أن ذا القرنين كان رجلاً ملك الأرض بالكلية أو ما يقرب منها وثبت بعلم التواريخ أن الذي هذا شأنه ما كان إلا الإسكندر وجب القطع بأن المراد بذي القرنين هو الإسكندر بن فيلبوس اليوناني ثم ذكروا في سبب تسميته بهذا الإسم وجوهاً الأول أنه لقب بهذا اللقب لأجل بلوغه قرني الشمس أي مطلعها ومغربها كما لقب أردشير بن بهمن بطويل اليدين لنفوذ أمره حيث أراد والثاني أن الفرس قالوا إن دارا الأكبر كان قد تزوج بابنة فيلبوس فلما قرب منها وجد منها رائحة منكرة فردها على أبيها فيلبوس وكانت قد حملت منه بالإسكندر فولدت الإسكندر بعد عودها إلى أبيها فبقي الإسكندر عند فيلبوس وأظهر فيلبوس أنه ابنه وهو في الحقيقة ابن دارا الأكبر قالوا والدليل عليه أن الإسكندر لما أدرك دارا بن دارا وبه رمق وضع رأسه في حجره وقال لدارا يا أبي أخبرني عمن فعل هذا لأنتقم لك منها فهذا ما قاله الفرس قالوا وعلى هذا التقدير فالإسكندر أبوه دارا الأكبر وأمه بنت فيلبوس فهو إنما تولد من أصلين

مختلفين الفرس والروم وهذا الذي قاله الفرس إنما ذكروه لأنهم أرادوا أن يجعلوه من نسل ملوك العجم حتى لا يكون ملك مثله من نسب غير نسب ملوك العجم وهو في الحقيقة كذب وإنما قال الإسكندر لدارا يا أبي على سبيل التواضع وأكرم دارا بذلك الخطاب والقول الثاني قال أبو الريحان الهروي المنجم في كتابه الذي سماه بالآثار الباقية عن القرون الخالية قيل إن ذا القرنين هو أبو كرب شمر بن عبير بن أفريقش الحميري فإنه بلغ ملكه مشارق الأرض ومغاربها وهو الذي افتخر به أحد الشعراء من حمير حيث قال قد كان ذو القرنين قبلي مسلما
ملكاً علا في الأرض غير مفندي
بلغ المشارق والمغارب يبتغي
أسباب ملك من كريم سيد
ثم قال أبو الريحان ويشبه أن يكون هذا القول أقرب لأن الأذواء كانوا من اليمن وهم الذين لا تخلو أساميهم من ذي كذا كذي النادي وذي نواس وذي النون وغير ذلك والقول الثالث أنه كان عبداً صالحاً ملكه الله الأرض وأعطاه العلم والحكمة وألبسه الهيبة وإن كنا لا نعرف أنه من هو ثم ذكروا في تسميته بذي القرنين وجوهاً الأول سأل ابن الكوا علياً رضي الله عنه عن ذي القرنين وقال أملك هو أم نبي فقال لا ملك ولا نبي كان عبداً صالحاً ضرب على قرنه الأيمن في طاعة الله فمات ثم بعثه الله فضرب على قرنه الأيسر فمات فبعثه الله فسمى بذي القرنين وملك ملكه الثاني سمي بذي القرنين لأنه انقرض في وقته قرنان من الناس الثالث قيل كان صفحتاً رأسه من نحاس الرابع كان على رأسه ما يشبه القرنين الخامس ( كان ) لتاجه قرنان السادس عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سمي ذا القرنين لأنه طاف قرني الدنيا يعني شرقها وغربها السابع كان له قرنان أي ضفيرتان الثامن أن الله تعالى سخر له النور والظلمة فإذا سرى يهديه النور من أمامه وتمده الظلمة من ورائه التاسع يجوز أن يلقب بذلك لشجاعته كما يسمى الشجاع كبشاً كأنه ينطح أقرانه العاشر رأى في المنام كأنه صعد الفلك فتعلق بطرفي الشمس وقرنيها وجانبيها فسمي لهذا السبب بذي القرنين الحادي عشر سمي بذلك لأنه دخل النور والظلمة والقول الرابع أن ذا القرنين ملك من الملائكة عن عمر أنه سمع رجلاً يقول يا ذا القرنين فقال اللهم اغفر أما رضيتم أن تسموا بأسماء الأنبياء حتى تسموا بأسماء الملائكة ا فهذا جملة ما قيل في هذا الباب والقول الأول أظهر لأجل الدليل الذي ذكرناه وهو أن مثل هذا الملك العظيم يجب أن يكون معلوم الحال عند أهل الدنيا والذي هو معلوم الحال بهذا الملك العظيم هو الإسكندر فوجب أن يكون المراد بذي القرنين هو هو إلا أن فيه إشكالاً قوياً وهو أنه كان تلميذ أرسططاليس الحكيم وكان على مذهبه فتعظيم الله إياه يوجب الحكم بأن مذهب أرسططاليس حق وصدق وذلك مما لا سبيل إليه والله أعلم
المسألة الثالثة اختلفوا في ذي القرنين هل كان من الأنبياء أم لا منهم من قال إنه كان نبياً واحتجوا عليه بوجوه الأول قوله إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى الاْرْضِ والأولى حمله على التمكين في الدين والتمكين الكامل في الدين هو النبوة والثاني قوله وَاتَيْنَاهُ مِن كُلّ شَى ْء سَبَباً ومن جملة الأشياء النبوة فمقتضى العموم في

قوله وَاتَيْنَاهُ مِن كُلّ شَى ْء سَبَباً هو أنه تعالى آتاه في النبوة سبباً الثالث قوله تعالى قُلْنَا ياذَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً والذي يتكلم الله معه لا بد وأن يكون نبياً ومنهم من قال إنه كان عبداً صالحاً وما كان نبياً
المسألة الرابعة في دخول السين في قوله سَأَتْلُواْ معناه إني سأفعل هذا إن وفقني الله تعالى عليه وأنزل فيه وحياً وأخبرني عن كيفية تلك الحال وأما قوله تعالى إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى الاْرْضِ فهذا التمكين يحتمل أن يكون المراد منه التمكين بسبب النبوة ويحتمل أن يكون المراد منه التمكين بسبب الملك من حيث إنه ملك مشارق الأرض ومغاربها والأول أولى لأن التمكين بسبب النبوة أعلى من التمكين بسبب الملك وحمل كلام الله على الوجه الأكمل الأفضل أولى ثم قال وَاتَيْنَاهُ مِن كُلّ شَى ْء سَبَباً قالوا السبب في أصل اللغة عبارة عن الحبل ثم استعير لكل ما يتوصل به إلى المقصود وهو يتناول العلم والقدرة والآلة فقوله وَاتَيْنَاهُ مِن كُلّ شَى ْء سَبَباً معناه أعطيناه من كل شيء من الأمور التي يتوصل بها إلى تحصيل ذلك الشيء ثم إن الذين قالوا إنه كان نبياً قالوا من جملة الأشياء النبوة فهذه الآية تدل على أنه تعالى أعطاه الطريق الذي به يتوصل إلى تحصيل النبوة والذين أنكروا كونه نبياً قالوا المراد به وآتيناه من كل شيء يحتاج إليه في إصلاح ملكه سبباً إلا أن لقائل أن يقول إن تخصيص العموم خلاف الظاهر فلا يصار إليه إلا بدليل ثم قال فَأَتْبَعَ سَبَباً ومعناه أنه تعالى لما أعطاه من كل شيء سببه فإذا أراد شيئاً أتبع سبباً يوصله إليه ويقربه منه قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو فاتبع بتشديد التاء وكذلك ثم اتبع أي سلك وسار والباقون فأتبع بقطع الألف وسكون التاء مخففة
حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِى عَيْنٍ حَمِئَة ٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا ياذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً
اعلم أن المعنى أنه أراد بلوغ المغرب فأتبع سبباً يوصله إليه حتى بلغه أما قوله وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِى عَيْنٍ حَمِئَة ٍ ففيه مباحث
الأول قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم في عين حامية بالألف من غير همزة أي حارة وعن أبي ذر قال كنت رديف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على جمل فرأى الشمس حين غابت فقال أتدري يا أبا ذر أين تغرب هذه قلت الله ورسوله أعلم قال فإنها تغرب في عين حامية وهي قراءة ابن مسعود وطلحة

وابن عامر والباقون حمئة وهي قراءة ابن عباس واتفق أن ابن عباس كان عند معاوية فقرأ معاوية حامية بألف فقال ابن عباس حمئة فقال معاوية لعبد الله بن عمر كيف تقرأ قال كما يقرأ أمير المؤمنين ثم وجه إلى كعب الأحبار كيف تجد الشمس تغرب قال في ماء وطين كذلك نجده في التوراة والحمئة ما فيه ماء وحمأة سوداء واعلم أنه لا تنافي بين الحمئة والحامية فجائز أن تكون العين جامعة للوصفين جميعاً
البحث الثاني أنه ثبت بالدليل أن الأرض كرة وأن السماء محيطة بها ولا شك أن الشمس في الفلك وأيضاً قال وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً ومعلوم أن جلوس قوم في قرب الشمس غير موجود وأيضاً الشمس أكبر من الأرض بمرات كثيرة فكيف يعقل دخولها في عين من عيون الأرض إذا ثبت هذا فنقول تأويل قوله تَغْرُبُ فِى عَيْنٍ حَمِئَة ٍ من وجوه الأول أن ذا القرنين لما بلغ موضعها في المغرب ولم يبق بعده شيء من العمارات وجد الشمس كأنها تغرب في عين وهدة مظلمة وإن لم تكن كذلك في الحقيقة كما أن راكب البحر يرى الشمس كأنها تغيب في البحر إذا لم ير الشط وهي في الحقيقة تغيب وراء البحر هذا هو التأويل الذي ذكره أبو علي الجبائي في تفسيره الثاني أن للجانب الغربي من الأرض مساكن يحيط البحر بها فالناظر إلى الشمس يتخيل كأنها تغيب في تلك البحار ولا شك أن البحار الغربية قوية السخونة فهي حامية وهي أيضاً حمئة لكثرة ما فيها من الحمأة السوداء والماء فقوله تَغْرُبُ فِى عَيْنٍ حَمِئَة ٍ إشارة إلى أن الجانب الغربي من الأرض قد أحاط به البحر وهو موضع شديد السخونة الثالث قال أهل الأخبار إن الشمس تغيب في عين كثيرة الماء والحمأة وهذا في غاية البعد وذلك لأنا إذا رصدنا كسوفاً قمرياً فإذا اعتبرناه ورأينا أن المغربيين قالوا حصل هذا الكسوف في أول الليل ورأينا المشرقيين قالوا حصل في أول النهار فعلمنا أن أول الليل عند أهل المغرب هو أول النهار الثاني عند أهل المشرق بل ذلك الوقت الذي هو أول الليل عندنا فهو وقت العصر في بلد ووقت الظهر في بلد آخر ووقت الضحوة في بلد ثالث ووقت طلوع الشمس في بلد رابع ونصف الليل في بلد خامس وإذا كانت هذه الأحوال معلومة بعد الاستقراء والاعتبار وعلمنا أن الشمس طالعة ظاهرة في كل هذه الأوقات كان الذي يقال إنها تغيب في الطين والحمأة كلاماً على خلاف اليقين وكلام الله تعالى مبرأ عن هذه التهمة فلم يبق إلا أن يصار إلى التأويل الذي ذكرناه ثم قال تعالى وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً الضمير في قوله عندها إلى ماذا يعود فيه قولان الأول أنه عائد إلى الشمس ويكون التأنيث للشمس لأن الإنسان لما تخيل أن الشمس تغرب هناك كان سكان هذا الموضع كأنهم سكنوا بالقرب من الشمس والقول الثاني أن يكون الضمير عائداً إلى العين الحامية وعلى هذا القول فالتأويل ما ذكرناه ثم قال تعالى قُلْنَا ياذَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً وفيه مباحث
الأول أن قوله تعالى قُلْنَا ياذَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً يدل على أنه تعالى تكلم معه من غير واسطة وذلك يدل على أنه كان نبياً وحمل هذا اللفظ على أن المراد أنه خاطبه على ألسنة بعض الأنبياء فهو عدول عن الظاهر
البحث الثاني قال أهل الأخبار في صفة ذلك الموضع أشياء عجيبة قال ابن جريج هناك مدينة لها إثنا عشر ألف باب لولا أصوات أهلها سمع الناس وجبة الشمس حين تغيب
البحث الثالث قوله تعالى قُلْنَا ياذَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً يدل على أن

سكان آخر المغرب كانوا كفاراً فخير الله ذا القرنين فيهم بين التعذيب لهم إن أقاموا على كفرهم وبين المن عليهم والعفو عنهم وهذا التخيير على معنى الإجتهاد في أصلح الأمرين كما خير نبيه عليه السلام بين المن على المشركين وبين قتلهم وقال الأكثرون هذا التعذيب هو القتل وأما اتخاذ الحسنى فيهم فهو تركهم أحياء ثم قال ذو القرنين أَمَّا مَن ظَلَمَ نَفْسَهُ أي ظلم نفسه بالإقامة على الكفر والدليل على أن هذا هو المراد أنه ذكر في مقابلته وَأَمَّا مَنْ امَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثم قال فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ أي بالقتل في الدنيا ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبّهِ فَيُعَذّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً أي منكراً فظيعاً وَأَمَّا مَنْ امَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم جَزَاء الْحُسْنَى بالنصب والتنوين والباقون بالرفع والإضافة فعلى القراءة الأولى يكون التقدير فله الحسنى جزاء كما تقول لك هذا الثوب هبة وأما على القراءة الثانية ففي التفسير وجهان الأول فله جزاء الفعلة الحسنى والفعلة الحسنى هي الإيمان والعمل الصالح والثاني أن يكون التقدير فله جزاء المثوبة الحسنى ويكون المعنى فله ذا الجزاء الذي هو المثوبة الحسنى والجزاء موصوف بالمثوبة الحسنى وإضافة الموصوف إلى الصفة مشهورة كقوله وَلَدَارُ الاْخِرَة ِ ( الأنعام 32 ) و حَقُّ الْيَقِينِ ( الواقعة 95 ) ثم قال وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً أي لا نأمره بالصعب الشاق ولكن بالسهل الميسر من الزكاة والخراج وغيرهما وتقدير هذا يسر كقوله قَوْلاً مَّيْسُورًا ( الإسراء 28 ) وقرىء يسراً بضمتين
حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً
اعلم أنه تعالى لما بين أولاً أنه قصد أقرب الأماكن المسكونة من مغرب الشمس أتبعه ببيان أنه قصد أقرب الأماكن المسكونة من مطلع الشمس فبين الله تعالى أنه وجد الشمس تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها ستراً وفيه قولان الأول أنه ليس هناك شجر ولا جبل ولا أبنية تمنع من وقوع شعاع الشمس عليهم فلهذا السبب إذا طلعت الشمس دخلوا في أسراب واغلة في الأرض أو غاصوا في الماء فيكون عند طلوع الشمس يتعذر عليهم التصرف في المعاش وعند غروبها يشتغلون بتحصيل مهمات المعاش حالهم بالضد من أحوال سائر الخلق والقول الثاني أن معناه أنه لا ثياب لهم ويكونون كسائر الحيوانات عراة أبداً ويقال في كتب الهيئة إن حال أكثر الزنج كذلك وحال كل من يسكن البلاد القريبة من خط الاستواء كذلك وذكر في كتب التفسير أن بعضهم قال سافرت حتى جاوزت الصين فسألت عن هؤلاء القوم فقيل بينك وبينهم مسيرة يوم وليلة فبلغتهم فإذا أحدهم يفرش أذنه الواحدة ويلبس الأخرى ولما قرب طلوع الشمس سمعت كهيئة الصلصلة فغشي علي ثم أفقت وهم يمسحونني بالدهن فلما طلعت الشمس إذا هي فوق الماء كهيئة الزيت فأدخلونا سرباً لهم فلما ارتفع النهار جعلوا يصطادون السمك ويطرحونه في الشمس فينضج ثم قال تعالى كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً وفيه وجوه الأول أي كذلك فعل ذو القرنين اتبع هذه الأسباب حتى بلغ ما بلغ وقد علمنا حين ملكناه ما عنده من الصلاحية لذلك الملك والاستقلال به والثاني كذلك جعل

الله أمر هؤلاء القوم على ما قد أعلم رسوله عليه السلام في هذا الذكر والثالث كذلك كانت حالته مع أهل المطلع كما كانت مع أهل المغرب قضى في هؤلاء كما قضى في أولئك من تعذيب الظالمين والإحسان إلى المؤمنين والرابع أنه تم الكلام عند قوله كذلك والمعنى أنه تعالى قال أمر هؤلاء القوم كما وجدهم عليه ذو القرنين ثم قال بعده وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً أي كنا عالمين بأن الأمر كذلك
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً قَالُواْ ياذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِى الأرض فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا قَالَ مَا مَكَّنِّى فِيهِ رَبِّى خَيْرٌ فَأَعِينُونِى بِقُوَّة ٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا
اعلم أن ذا القرنين لما بلغ المشرق والمغرب أتبع سبباً آخر وسلك الطريق حتى بلغ بين السدين وقد آتاه الله من العلم والقدرة ما يقوم بهذه الأمور وههنا مباحث
الأول قرأ حمزة والكسائي السدين بضم السين وسداً بفتحها حيث كان وقرأ حفص عن عاصم بالفتح فيهما في كل القرآن وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم بالضم فيهما في كل القرآن وقرأ ابن كثير وأبو عمرو السدين وسداً ههنا بفتح السين فيهما وضمها في يس في الموضعين قال الكسائي هما لغتان وقيل ما كان من صنعة بني آدم فهو السد بفتح السين وما كان من صنع الله فهو السد بضم السين والجمع سدد وهو قول أبي عبيدة وابن الأنباري قال صاحب الكشاف السد بالضم فعل بمعنى مفعول أي هو مما فعله الله وخلقه والسد بالفتح مصدر حدث يحدثه الناس
البحث الثاني الأظهر أن موضع السدين في ناحية الشمال وقيل جبلان بين أرمينية وبين أذربيجان وقيل هذا المكان في مقطع أرض الترك وحكى محمد بن جرير الطبري في تاريخه أن صاحب أذربيجان أيام فتحها وجه إنساناً إليه من ناحية الخزر فشاهده ووصف أنه بنيان رفيع وراء خندق عميق وثيق منيع وذكر ابن خردا ( ذبة ) في كتاب المسالك والممالك أن الواثق بالله رأى في المنام كأنه فتح هذا الردم فبعث بعض الخدم إليه ليعاينوه فخرجوا من باب الأبواب حتى وصلوا إليه وشاهدوه فوصفوا أنه بناء من لبن من حديد مشدود بالنحاس المذاب وعليه باب مقفل ثم إن ذلك الإنسان لما حاول الرجوع أخرجهم الدليل على البقاع المحاذية لسمرقند قال أبو الريحان مقتضى هذا أن موضعه في الربع الشمالي الغربي من المعمورة والله أعلم بحقيقة الحال
البحث الثالث أن ذا القرنين لما بلغ ما بين السدين وجد من دونهما أي من ورائهما مجاوزاً عنهما قَوْماً أي أمة من الناس لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً قرأ حمزة والكسائي يفقهون بضم الياء وكسر القاف

على معنى لا يمكنهم تفهيم غيرهم والباقون بفتح الياء والقاف والمعنى أنهم لا يعرفون غير لغة أنفسهم وما كانوا يفهمون اللسان الذي يتكلم به ذو القرنين ثم قال تعالى قَالُواْ يأَبَانَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِى الاْرْضِ فإن قيل كيف فهم ذو القرنين منهم هذا الكلام بعد أن وصفهم الله بقوله لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً والجواب أن نقول كاد فيه قولان الأول أن إثباته نفي ونفيه إثبات فقوله لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً لا يدل على أنهم لا يفهمون شيئاً بل يدل على أنهم قد يفهمون على مشقة وصعوبة والقول الثاني أن كاد معناه المقاربة وعلى هذا القول فقوله لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً أي لا يعلمون وليس لهم قرب من أن يفقهوا وعلى هذا القول فلا بد من إضمار وهو أن يقال لا يكادون يفهمونه إلا بعد تقريب ومشقة من إشارة ونحوها وهذه الآية تصلح أن يحتج بها على صحة القول الأول في تفسير كاد
البحث الرابع في يأجوج ومأجوج قولان الأول أنهما إسمان أعجميان موضوعان بدليل منع الصرف والقول الثاني أنهما مشتقان وقرأ عاصم يأجوج ومأجوج بالهمز وقرأ الباقون ياجوج وماجوج وقرىء في رواية آجوج ومأجوج والقائلون بكون هذين الإسمين مشتقين ذكروا وجوهاً الأول قال الكسائي يأجوج مأخوذ من تأجج النار وتلهبها فلسرعتهم في الحركة سموا بذلك ومأجوج من موج البحر الثاني أن يأجوج مأخوذ من تأجج الملح وهو شدة ملوحته فلشدتهم في الحركة سموا بذلك الثالث قال القتيبي هو مأخوذ من قولهم أج الظليم في مشيه يئج أجاً إذا هرول وسمعت حفيفه في عدوه الرابع قال الخليل الأج حب كالعدس والمج مج الريق فيحتمل أن يكونا مأخوذين منهما واختلفوا في أنهما من أي الأقوام فقيل إنهما من الترك وقيل يَأْجُوجَ من الترك وَمَأْجُوجَ من الجيل والديلم ثم من الناس من وصفهم بقصر القامة وصغر الجثة بكون طول أحدهم شبراً ومنهم من وصفهم بطول القامة وكبر الجثة وأثبتوا لهم مخاليب في الأظفار وأضراساً كأضراس السباع واختلفوا في كيفية إفسادهم في الأرض فقيل كانوا يقتلون الناس وقيل كانوا يأكلون لحوم الناس وقيل كانوا يخرجون أيام الربيع فلا يتركون لهم شيئاً أخضر وبالجملة فلفظ الفساد محتمل لكل هذه الأقسام والله أعلم بمراده ثم إنه تعالى حكى عن أهل ما بين السدين أنهم قالوا لذي القرنين فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّا قرأ حمزة والكسائي خراجاً والباقون خرجاً قيل الخراج والخرج واحد وقيل هما أمران متغايران وعلى هذا القول اختلفوا قيل الخرج بغير ألف هو الجعل لأن الناس يخرج كل واحد منهم شيئاً منه فيخرج هذا أشياء وهذا أشياء والخراج هو الذي يجبيه السلطان كل سنة وقال الفراء الخراج هو الإسم الأصلي والخرج كالمصدر وقال قطرب الخرج الجزية والخراج في الأرض فقال ذو القرنين مَا مَكَّنّى فِيهِ رَبّى خَيْرٌ فَأَعِينُونِى أي ما جعلني مكيناً من المال الكثير واليسار الواسع خير مما تبذلون من الخراج فلا حاجة بي إليه وهو كما قال سليمان عليه السلام فَمَا ءاتَانِى اللَّهُ خَيْرٌ مّمَّا ءاتَاكُمْ ( النمل 36 ) قرأ ابن كثير ( ما مكنني ) بنونين على الإظهار والباقون بنون واحدة مشددة على الإدغام ثم قال ذو القرنين فَأَعِينُونِى بِقُوَّة ٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا أي لا حاجة لي في مالكم ولكن أعينوني برجال وآلة أبني بها السد وقيل المعنى أعينوني بمال أصرفه إلى هذا المهم ولا أطلب المال لآخذه لنفسي والردم هو السد يقال ردمت الباب أي سددته وردمت الثوب رقعته لأنه يسد الخرق بالرقعة والردم أكثر من السد من قولهم ثوب مردوم أي وضعت عليه رقاع

ءَاتُونِى زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُواْ حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِى أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُواْ لَهُ نَقْبًا قَالَ هَاذَا رَحْمَة ٌ مِّن رَّبِّى فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّى جَعَلَهُ دَكَّآءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّى حَقّاً
اعلم أن ءاتُونِى زُبَرَ الْحَدِيدِ قطعة قال الخليل الزبرة من الحديد القطعة الضخمة قراءة الجميع آتوني بمد الألف إلا حمزة فإنه قرأ ائتوني من الإتيان وقد روى ذلك عن عاصم والتقدير ائتوني بزبر الحديد ثم حذف الباء كقوله شكرته وشكرت له وكفرته وكفرت له وقوله حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ فيه إضمار أي فأتوه بها فوضع تلك الزبر بعضها على بعض حتى صارت بحيث تسد ما بين الجبلين إلى أعلاهما ثم وضع المنافخ عليها حتى إذا صارت كالنار صب النحاس المذاب على الحديد المحمى فالتصق بعضه ببعض وصار جبلاً صلداً واعلم أن هذا معجز قاهر لأن هذه الزبر الكثيرة إذا نفخ عليها حتى صارت كالنار لم يقدر الحيوان على القرب منها والنفخ عليها لا يمكن إلا مع القرب منها فكأنه تعالى صرف تأثير تلك الحرارة العظيمة عن أبدان أولئك النافخين عليها قال صاحب الكشاف قيل بعدما بين السَّدَّيْنِ مائة فرسخ والصدفان بفتحتين جانبا الجبلين لأنهما يتصادفان أي يتقابلان وقرىء بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ بضمتين والصدفين بضمة وسكون والقطر النحاس المذاب لأنه يقطر وقوله عَلَيْهِ قِطْراً منصوب بقوله أَفْرِغْ وتقديره آتوني قطراً أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً فحذف الأول لدلالة الثاني عليه ثم قال فَمَا اسْطَاعُواْ فحذف التاء للخفة لأن التاء قريبة المخرج من الطاء وقرىء فَمَا بقلب السين صاداً اسْطَاعُواْ أَن يَظْهَرُوهُ أن يعلوه أي ما قدروا على الصعود عليه لأجل ارتفاعه وملاسته ولا على نقبه لأجل صلابته وثخانته ثم قال ذو القرنين هَاذَا رَحْمَة ٌ مّن رَّبّى فقوله هذا إشارة إلى السد أي هذا السد نعمة من الله ورحمة على عباده أو هذا الاقتدار والتمكين من تسويته فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبّى يعني فإذا دنا مجيء القيامة جعل السد دكاً أي مدكوكاً مسوى بالأرض وكل ما انبسط بعد الارتفاع فقد اندك وقرىء دكاء بالمد أي أرضاً مستوية وَكَانَ وَعْدُ رَبّى حَقّاً وههنا آخر حكاية ذي القرنين
وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِى بَعْضٍ وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضاً الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِى غِطَآءٍ عَن ذِكْرِى وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً
اعلم أن الضمير في قوله بعضهم عائد إلى يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وقوله يَوْمَئِذٍ فيه وجوه الأول أن يوم السد

ماج بعضهم في بعض خلفه لما منعوا من الخروج الثاني أن عند الخروج يموج بعضهم في بعض قيل إنهم حين يخرجون من وراء السد يموجون مزدحمين في البلاد يأتون البحر فيشربون ماءه ويأكلون دوابه ثم يأكلون الشجر ويأكلون لحوم الناس ولا يقدرون أن يأتوا مكة والمدينة وبيت المقدس ثم يبعث الله عليهم حيوانات فتدخل آذانهم فيموتون والقول الثالث أن المراد من قوله يَوْمَئِذٍ يوم القيامة وكل ذلك محتمل إلا أن الأقرب أن المراد الوقت الذي جعل الله ذلك السد دكاً فعنده ماج بعضهم في بعض وبعده نفخ في الصور وصار ذلك من آيات القيامة والكلام في الصور قد تقدم وسيجيء من بعد وأما عرض جهنم وإبرازه حتى يصير مكشوفاً بأهواله فذلك يجري مجرى عقاب الكفار لما يتداخلهم من الغم العظيم وبين تعالى أنه يكشفه للكافرين الذين عموا وصموا أما العمى فهو المراد من قوله كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِى غِطَاء عَن ذِكْرِى والمراد منه شدة انصرافهم عن قبول الحق وأما الصمم فهو المراد من قوله وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً يعني أن حالتهم أعظم من الصمم لأن الأصم قد يستطيع السمع إذا صيح به وهؤلاء زالت عنهم تلك الاستطاعة واحتج الأصحاب بقوله وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً على أن الاستطاعة مع الفعل وذلك لأنهم لما لم يسمعوا لم يستطيعوا قال القاضي المراد منه نفرتهم عن سماع ذلك الكلام واستثقالهم إياه كقول الرجل لا أستطيع النظر إلى فلان
أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِى مِن دُونِى أَوْلِيَآءَ إِنَّآ أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالاٌّ خْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا أُوْلَائِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأايَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ وَزْناً ذَلِكَ جَزَآؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُواْ وَاتَّخَذُوا ءَايَاتِى وَرُسُلِى هُزُواً
وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما بين من حال الكافرين أنهم أعرضوا عن الذكر وعن استماع ما جاء به الرسول أتبعه بقوله أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِى مِن دُونِى أَوْلِيَاء والمراد أفظنوا أنهم ينتفعون بما عبدوه مع إعراضهم عن تدبر الآيات وتمردهم عن قبول أمره وأمر رسوله وهو استفهام على سبيل التوبيخ
المسألة الثانية قرأ أبو بكر ولم يرفعه إلى عاصم أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بسكون السين ورفع الباء وهي من الأحرف التي خالف فيها عاصماً وذكر أنه قراءة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وعلى هذا التقدير فقوله حسب مبتدأ أن يتخذوا خبر والمعنى أفكافيهم وحسبهم أن يتخذوا كذا وكذا وأما الباقون

فقرأوا فحسب على لفظ الماضي وعلى هذا التقدير ففيه حذف والمعنى أفحسب الذين كفروا اتخاذ عبادي أولياء نافعاً
المسألة الثالثة في العباد أقوال قيل أراد عيسى والملائكة وقيل هم الشياطين يوالونهم ويطيعونهم وقيل هي الأصنام سماهم عباداً كقوله عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ ثم قال تعالى إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً وفي النزل قولان الأول قال الزجاج إنه المأوى والمنزل والثاني أنه الذي يقام للنزيل وهو الضيف ونظيره قوله فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ثم ذكر تعالى ما نبه به على جهل القوم فقال قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُم بِالاْخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا قيل إنهم هم الرهبان كقوله تعالى عَامِلَة ٌ نَّاصِبَة ٌ وعن مجاهد أهل الكتاب وعن علي أن ابن الكواء سأله عنهم فقال هم أهل حروراء والأصل أن يقال هو الذي يأتي بالأعمال يظنها طاعات وهي في أنفسها معاصي وإن كانت طاعات لكنها لا تقبل منهم لأجل كفرهم فأولئك إنما أتوا بتلك الأعمال لرجاء الثواب وإنما أتبعوا أنفسهم فيها لطلب الأجر والفوز يوم القيامة فإذا لم يفوزوا بمطالبهم بين أنهم كانوا ضالين ثم إنه تعالى بين صنعهم فقال أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِئَايَاتِ رَبّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وفيه مسألتان
المسألة الأولى لقاء الله عبارة عن رؤيته بدليل أنه يقال لقيت فلاناً أي رأيته فإن قيل اللقاء عبارة عن الوصول قال تعالى فَالْتَقَى المَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ( القمر 12 ) وذلك في حق الله تعالى محال فوجب حمله على لقاء ثواب الله والجواب أن لفظ اللقاء وإن كان في الأصل عبارة عن الوصول والملاقاة إلا أن استعماله في الرؤية مجاز ظاهر مشهور والذي يقولونه من أن المراد منه لقاء ثواب الله فهو لا يتم إلا بالإضمار ومن المعلوم أن حمل اللفظ على المجاز المتعارف المشهور أولى من حمله على ما يحتاج معه إلى الإضمار
المسألة الثانية استدلت المعتزلة بقوله تعالى فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ على أن القول بالإحباط والتكفير حق وهذه المسألة قد ذكرناه بالاستقصاء في سورة البقرة فلا نعيدها ثم قال تعالى فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ وَزْناً وفيه وجوه الأول أنا نزدري بهم وليس لهم عندنا وزن ومقدار الثاني لا نقيم لهم ميزاناً لأن الميزان إنما يوضع لأهل الحسنات والسيئات من الموحدين لتمييز مقدار الطاعات ومقدار السيئات الثالث قال القاضي إن من غلبت معاصيه صار ما في فعله من الطاعة كأن لم يكن فلا يدخل في الوزن شيء من طاعته وهذا التفسير بناء على قوله بالإحباط والتكفير ثم قال تعالى ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ فقوله ذالِكَ أي ذلك الذي ذكرناه وفصلناه من أنواع الوعيد هو جزاؤهم على أعمالهم الباطلة وقوله جَهَنَّمَ عطف بيان لقوله جَزَآؤُهُمْ ثم بين تعالى أن ذلك الجزاء جزاء على مجموع أمرين أحدهما كفرهم الثاني أنهم أضافوا إلى الكفر أن اتخذوا آيات الله واتخذوا رسله هزواً فلم يقتصروا على الرد عليهم وتكذيبهم حتى استهزأوا بهم
إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً

في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما ذكر الوعيد أتبعه بالوعد ولما ذكر في الكفار أن جهنم نزلهم أتبعه بذكر ما يرغب في الإيمان والعمل الصالح فقال إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً
المسألة الثانية عطف عمل الصالحات على الإيمان والمعطوف مغاير للمعطوف عليه وذلك يدل على أن الأعمال الصالحة مغايرة للإيمان
المسألة الثالثة عن قتادة الفردوس وسط الجنة وأفضلها وعن كعب ليس في الجنان أعلى من جنة الفردوس وفيها الأمرون بالمعروف والناهون عن المنكر وعن مجاهد الفردوس هو البستان بالرومية وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين مسيرة مائة عام والفردوس أعلاها درجة ومنها الأنهار الأربعة والفردوس من فوقها فإذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإن فوقها عرش الرحمن ومنها تتفجر أنهار الجنة )
المسألة الرابعة قال بعضهم إنه تعالى جعل الجنة بكليتها نزلاً للمؤمنين والكريم إذا أعطى النزل أولاً فلا بد أن يتبعه بالخلعة وليس بعد الجنة بكليتها إلا رؤية الله فإن قالوا أليس أنه تعالى جعل في الآية الأولى جملة جهنم نزلا الكافرين ولم يبق بعد جملة جهنم عذاب آخر فكذلك ههنا جعل جملة الجنة نزلاً للمؤمنين مع أنه ليس له شيء آخر بعد الجنة والجواب قلنا للكافر بعد حصول جهنم مرتبة أعلى منها وهو كونه محجوباً عن رؤية الله كما قال تعالى كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُواْ الْجَحِيمِ ( المطففين 15 16 ) فجعل الصلاء بالنار متأخر في المرتبة عن كونه محجوباً عن الله ثم قال تعالى لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً الحول التحول يقال حال من مكانه حولاً كقوله عاد في حبها عوداً يعني لا مزيد على سعادات الجنة وخيراتها حتى يريد أشياء غيرها وهذا الوصف يدل على غاية الكمال لأن الإنسان في الدنيا إذا وصل إلى أي درجة كانت في السعادات فهو طامح الطرف إلى ما هو أعلى منها
قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّى لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّى وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَى َّ أَنَّمَآ إِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَة ِ رَبِّهِ أَحَدَا
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما ذكر في هذه السورة أنواع الدلائل والبينات وشرح أقاصيص

الأولين نبه على كمال حال القرآن فقال قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لّكَلِمَاتِ رَبّى والمداد اسم لما تمد به الدواة من الحبر ولما يمد به السراج من السليط والمعنى لو كتبت كلمات علم الله وحكمه وكان البحر مداداً لها والمراد بالبحر الجنس لنفد قبل أن تنفد الكلمات تقرير الكلام أن البحار كيفما فرضت في الاتساع والعظمة فهي متناهية ومعلومات الله غير متناهية والمتناهي لا يفي البتة بغير المتناهي قرأ حمزة والكسائي ينفد بالياء لتقدم الفعل على الجمع والباقون بالتاء لتأنيث كلمات وروي أن حيي بن أخطب قال في كتابكم وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَة َ فَقَدْ أُوتِى َ خَيْرًا كَثِيرًا ( البقرة 269 ) ثم تقرأون وَمَا أُوتِيتُم مّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ( الإسراء 85 ) فنزلت هذه الآية يعني أن ذلك خير كثير ولكنه قطرة من بحر كلمات الله
المسألة الثانية احتج المخالفون على الطعن في قول أصحابنا أن كلام الله تعالى واحد بهذه الآية وقالوا إنها صريحة في إثبات كلمات الله تعالى وأصحابنا حملوا الكلمات على متعلقات علم الله تعالى قال الجبائي وأيضاً قوله قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبّى يدل على أن كلمات الله تعالى قد تنفد في الجملة وما ثبت عدمه امتنع قدمه وأيضاً قال لَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مِدَاداً وهذا يدل على أنه تعالى قادر على أن يجيء بمثل كلامه والذي يجاء به يكون محدثاً والذي يكون المحدث مثلاً له فهو أيضاً محدث وجواب أصحابنا أن المراد منه الألفاظ الدالة على تعلقات تلك الصفة الأزلية واعلم أنه تعالى لما بين كمال كلام الله أمر محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بأن يسلك طريقة التواضع فقال قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَى َّ أي لا امتياز بيني وبينكم في شيء من الصفات إلا أن الله تعالى أوحى إلي أنه لا إله إلا الله الواحد الأحد الصمد والآية تدل على مطلوبين الأول أن كلمة إِنَّمَا تفيد الحصر وهي قوله أَنَّمَا إِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ واحِدٌ والثاني أن كون الإله تعالى إِلَهاً واحِداً يمكن إثباته بالدلائل السمعية وقد قررنا هذين المطلوبين في سائر السور بالوجوه القوية ثم قال فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ والرجاء هو ظن المنافع الواصلة إليه والخوف ظن المضار الواصلة إليه وأصحابنا حملوا لقاء الرب على رؤيته والمعتزلة حملوه على لقاء ثواب الله وهذه المناظرة قد تقدمت والعجب أنه تعالى أورد في آخر هذه السورة ما يدل على حصول رؤية الله في ثلاث آيات أولها قوله أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِئَايَاتِ رَبّهِمْ وَلِقَائِهِ ( الكهف 105 ) وثانيها قوله كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً ( الكهف 107 ) وثالثها قوله فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ ولا بيان أقوى من ذلك ثم قال فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً أي من حصل له رجاء لقاء الله فليشتغل بالعمل الصالح ولما كان العمل الصالح قد يؤتي به لله وقد يؤتى به للرياء والسمعة لا جرم اعتبر فيه قيدان أن يؤتى به لله وأن يكون مبرأ عن جهات الشرك فقال وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَة ِ رَبّهِ أَحَدَا قيل نزلت هذه الآية في جندب بن زهير قال لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إني أعمل العمل لله تعالى فإذا اطلع عليه أحد سرني ) فقال عليه الصلاة والسلام ( إن الله لا يقبل ما شورك فيه ) وروي أيضاً أنه قال له ( لك أجران أجر السر وأجر العلانية ) فالرواية الأولى محمولة على ما إذا قصد بعمله الرياء والسمعة والرواية الثانية محمولة على ما إذا قصد أن يقتدى به والمقام الأول مقام المبتدئين والمقام الثاني مقام الكاملين والحمد ( صلى الله عليه وسلم ) رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين

سورة مريم عليها السلام
( وهي ثمان وتسعون آية مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
كهيعص
قبل الخوض في القراءات لا بد من مقدمات ثلاثة المقدمة الأولى أن حروف المعجم على نوعين ثنائي وثلاثي وقد جرت عادة العرب أن ينطقوا بالثنائيات مقطوعة ممالة فيقولوا با تا ثا وكذلك أمثالها وأن ينطقوا بالثلاثيات التي في وسطها الألف مفتوحة مشبعة فيقولوا دال ذال صاد ضاد وكذلك أشكالها أما الزاي وحده من بين حروف المعجم فمعتاد فيه الأمران فإن من أظهر ياءه في النطق حتى يصير ثلاثياً لم يمله ومن لم يظهر ياءه في النطق حتى يشبه الثنائي يمله أما المقدمة الثانية ينبغي أن يعلم أن إشباع الفتحة في جميع المواضع أصل والإمالة فرع عليه ولهذا يجوز إشباع كل ممال ولا يجوز إمالة كل مشبع من الفتحات المقدمة الثالثة للقراء في القراءات المخصوصة بهذا الموضع ثلاثة طرق أحدها أن يتمسكوا بالأصل وهو إشباع فتحة الهاء والياء وثانيها أن يميلوا الهاء والياء وثالثها أن يجمعوا بين الأصل والفرع فيقع الاختلاف بين الهاء والياء فيفتحوا أحدهما أيهما كان ويكسروا الآخر ولهم في السبب الموجب لهذا الاختلاف قولان الأول أن الفتحة المشبعة أصل والإمالة فرع مشهور كثير الاستعمال فأشبع أحدهما وأميل الآخر ليكون جامعاً لمراعاة الأصل والفرع وهو أحسن من مراعاة أحدهما وتضييع الآخر القول الثاني أن الثنائية من حروف المعجم إذا كانت مقطوعة كانت بالإمالة وإذا كانت موصولة كانت بالإشباع وها ويا في قوله تعالى كهيعص مقطوعان في اللفظ موصولان في الخط فأميل أحدهما وأشبع الآخر ليكون كلا الجانبين مرعياً جانب القطع اللفظي وجانب الوصل الخطي إذا عرفت هذا فنقول فيه قراءات إحداها وهي القراءة المعروفة فيه فتحة الهاء والياء جميعاً وثانيها كسر الهاء وفتح الياء وهي قراءة أبي عمرو وابن مبادر والقطعي عن أيوب وإنما كسروا الهاء دون الياء ليكون فرقاً بينه وبين الهاء الذي للتنبيه فإنه لا يكسر قط وثالثها فتح الهاء وكسر الياء وهو قراءة حمزة والأعمش وطلحة والضحاك عن

عاصم وإنما كسروا الياء دون الهاء لأن الياء أخت الكسرة وإعطاء الكسرة أختها أولى من إعطائها إلى أجنبية مفتوحة للمناسبة ورابعها إمالتهما جميعاً وهي قراءة الكسائي والمفضل ويحيى عن عاصم والوليد بن أسلم عن ابن عامر والزهري وابن جرير وإنما أمالوهما للوجهين المذكورين في إمالة الهاء وإمالة الياء وخامسها قراءة الحسن وهي ضم الهاء وفتح الياء وعنه أيضاً فتح الهاء وضم الياء وروى صاحب ( الكشاف ) عن الحسن بضمهما فقيل له لم تثبت هذه الرواية عن الحسن لأنه أورد ابن جنى في كتاب ( المكتسب ) أن قراءة الحسن ضم أحدهما وفتح الآخر لا على التعيين وقال بعضهم إنما أقدم الحسن على ضم أحدهما لا على التعيين لأنه تصور أن عين الفعل في الهاء والياء ألف منقلب عن الواو كالدار والمال وذلك لأن هذه الألفات وإن كانت مجهولة لأنها لا اشتقاق لها فإنها تحمل على ما هو مشابه لها في اللفظ والألف إذا وقع عيناً فالواجب أن يعتقد أنه منقلب عن الواو لأن الغالب في اللغة ذلك فلما تصور الحسن أن ألف الهاء والياء منقلب عن الواو جعله في حكم الواو وضم ما قبله لأن الواو أخت الضمة وسادسها ها يا بإشمامهما شيئاً من الضمة
المسألة الثالثة قرأ أبو جعفر كهيعص يفصل الحروف بعضها من بعض بأدنى سكتة مع إظهار نون العين وباقي القراء يصلون الحروف بعضها ببعض ويخفون النون
المسألة الثالثة القراءة المعروفة صاد ذكر بالإدغام وعن عاصم ويعقوب بالإظهار
البحث الثاني المذاهب المذكورة في هذه الفواتح قد تقدمت لكن الذي يختص بهذا الموضع ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن قوله تعالى كهيعص ثناء من الله على نفسه فمن الكاف وصفه بأنه كاف ومن الهاء هاد ومن العين عالم ومن الصاد صادق وعن ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً أنه حمل الكاف على الكبير والكريم ويحكى أيضاً عنه أنه حمل الياء على الكريم مرة وعلى الحكيم أخرى وعن الربيع بن أنس في الياء أنه من مجير وعن ابن عباس رضي الله عنهما في العين أنه من عزيز ومن عدل وهذه الأقوال ليست قوية لما بينا أنه لا يجوز من الله تعالى أن يودع كتابه ما لا تدل عليه اللغة لا بالحقيقة ولا بالمجاز لأنا إن جوزنا ذلك فتح علينا قول من يزعم أن لكل ظاهر باطناً واللغة لا تدل على ما ذكروه فإنه ليست دلالة الكاف أولى من دلالته على الكريم أو الكبير أو على اسم آخر من أسماء الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أو الملائكة أو الجنة أو النار فيكون حمله على بعضها دون البعض تحكماً لا تدل عليه اللغة أصلاً
ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ
فيه مسائل
المسألة الأولى في لفظة ذكر أربع قراءات صيغة المصدر أو الماضي مخففة أو مشددة أو الأمر أما صيغة المصدر فلا بد فيها من كسر رحمة ربك على الإضافة ثم فيها ثلاثة أوجه أحدها نصب الدال من عبده والهمزة من زكرياء وهو المشهور وثانيها برفعهما والمعنى وتلك الرحمة هي عبده زكرياء عن ابن عامر

وثالثها بنصب الأول وبرفع الثاني والمعنى رحمة ربك عبده وهو زكرياء وأما صيغة الماضي بالتشديد فلا بد فيها من نصب رحمة وأما صيغة الماضي بالتخفيف ففيها وجهان أحدهما رفع الباء من ربك والمعنى ذكر ربك عبده زكرياء وثانيها نصب الباء من ربك والرفع في عبده زكرياء وذلك بتقديم المفعول على الفاعل وهاتان القراءتان للكلبي وأما صيغة الأمر فلا بد من نصب رحمة وهي قراءة ابن عباس واعلم أن على تقدير جعله صيغة المصدر والماضي يكون التقدير هذا المتلو من القرآن ذكر رحمة ربك
المسألة الثانية يحتمل أن يكون المراد من قوله رحمة ربك أعني عبده زكرياء ثم في كونه رحمة وجهان أحدهما أن يكون رحمة على أمته لأنه هداهم إلى الإيمان والطاعات والآخر أن يكون رحمة على نبينا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وعلى أمة محمد لأن الله تعالى لما شرح لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) طريقه في الإخلاص والإبتهال في جميع الأمور إلى الله تعالى صار ذلك لفظاً داعياً له ولأمته إلى تلك الطريقة فكان زكرياء رحمة ويحتمل أن يكون المراد أن هذه السورة فيها ذكر الرحمة التي رحم بها عبدة زكرياء
إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً
قوله تعالى إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً راعى سنة الله في إخفاء دعوته لأن الجهر والإخفاء عند الله سيان فكان الإخفاء أولى لأنه أبعد عن الرياء وأدخل في الإخلاص وثانيها أخفاه لئلا يلام على طلب الولد في زمان الشيخوخة وثالثها أسره من مواليه الذين خافهم ورابعها خفي صوته لضعفه وهرمه كما جاء في صفة الشيخ صوته خفات وسمعه تارات فإن قيل من شرط النداء الجهر فكيف الجمع بين كونه نداء وخفياً والجواب من وجهين الأول أنه أتى بأقصى ما قدر عليه من رفع الصوت إلا أن الصوت كان ضعيفاً لنهاية الضعف بسبب الكبر فكان نداء نظراً إلى قصده وخفياً نظراً إلى الواقع الثاني أنه دعا في الصلاة لأن الله تعالى أجابه في الصلاة لقوله تعالى فَنَادَتْهُ الْمَلَئِكَة ُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلّى فِى الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشّرُكَ بِيَحْيَى ( آل عمران 39 ) فكون الإجابة في الصلاة يدل على كون الدعاء في الصلاة فوجب أن يكون النداء فيها خفياً
قَالَ رَبِّ إِنِّى وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّى وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِى َ مِن وَرَآئِى وَكَانَتِ امْرَأَتِى عَاقِرًا فَهَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْ ءَالِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً
القراءة فيها مسائل
المسألة الأولى قرىء وَهَنَ بالحركات الثلاث
المسألة الثانية إدغام السين في الشين ( من الرأس شيباً ) عن أبي عمرو
المسألة الثالثة وَإِنّي خِفْتُ الْمَوَالِى َ بفتح الياء وعن الزهري بإسكان الياء من الموالي وقرأ عثمان

وعلي بن الحسين ومحمد بن علي وسعيد بن جبير وزيد بن ثابت وابن عباس خفت بفتح الخاء والفاء مشددة وكسر التاء وهذا يدل على معنيين أحدهما أن يكون ورائي بمعنى بعدي والمعنى أنهم قلوا وعجزوا عن إقامة الدين بعده فسأل ربه تقويتهم بولي يرزقه والثاني أن يكون بمعنى قدامي والمعنى أنهم خفوا قدامه ودرجوا ولم يبق من به تقو واعتضاد
المسألة الرابعة القراءة المعروفة مِن وَرَائِى بهمزة مكسورة بعدها ياء ساكنة وعن حميد بن مقسم كذلك لكن بفتح الياء وقرأ ابن كثير وراي كعصاي
المسألة الخامسة من يرثني ويرث وجوه أحدها القراءة المعروفة بالرفع فيهما صفة وثانيها وهي قراءة أبي عمرو والكسائي والزهري والأعمش وطلحة بالجزم فيهما جواباً للدعاء وثالثها عن علي ابن أبي طالب وابن عباس وجعفر بن محمد والحسن وقتادة وَلِيّاً يَرِثُنِى جزم وارث بوزن فاعل ورابعها عن ابن عباس يَرِثُنِى وارث من آل يعقوب وخامسها عن الجحدري وَيَرِثُ تصغير وارث على وزن أفيعل ( اللغة ) الوهن ضعف القوة قال في ( الكشاف ) شبه الشيب بشواظ النار في بياضه وأنارته وانتشاره في الشعر وفشوه فيه وأخذه كل مأخذ كاشتعال النار ثم أخرجه مخرج الاستعارة ثم أسند الاشتعال إلى مكان الشعر ومنبته وهو الرأس وأخرج الشيب مميزاً ولم يضف الرأس اكتفاء بعلم المخاطب أنه رأس زكريا فمن ثم فصحت هذه الجملة وأما الدعاء فطلب الفعل ومقابله الإجابة كما أن مقابل الأمر الطاعة وأما أصل التركيب في ( ولي ) فيدل على معنى القرب والدنو يقال وليته أليه ولياً أي دنوت وأوليته أدنيته منه وتباعد ما بعده وولي ومنه قول ساعدة ( ابن جؤبة )
وعدت عواد دون وليك تشغب
وكل مما يليك وجلست مما ايليه ومنه الولي وهو المطر الذي يلي الوسمي والولية البرذعة لأنها تلي ظهر الدابة وولي اليتيم والقتيل وولي البلد لأن من تولى أمراً فقد قرب منه وقوله تعالى فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ من قولهم ولاه بركنه أي جعله مما يليه أما ولي عني إذا أدبر فهو من باب تثقيل الحشو للسلب وقولهم فلان أولى من فلان أي أحق أفعل التفضيل من الوالي أو الولي كالأدنى والأقرب من الداني والقريب وفيه معنى القرب أيضاً لأن من كان أحق بالشيء كان أقرب إليه والمولى اسم لموضع الولي كالمرمى والمبني اسم لموضع والمرمي والبناء وأما العاقر فهي التي لا تلد والعقر في اللغة الجرح ومنه أخذ العاقر لأنه نقص أصل الخلقة وعقرت الفرس بالسيف إذا ضربت قوائمه وأما الآل فهم خاصة الرجل الذين يؤول أمرهم إليه ثم قد يؤول أمرهم إليه للقرابة تارة وللصحبة أخرى كآل فرعون وللموافقة في الدين كآل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) واعلم أن زكرياء عليه السلام قدم على السؤال أموراً ثلاثة أحدها كونه ضعيفاً والثاني أن الله تعالى ما رد دعاءه البتة والثالث كون المطلوب بالدعاء سبباً للمنفعة في الدين ثم بعد تقرير هذه الأمور الثلاثة صرح بالسؤال

أما المقام الأول وهو كونه ضعيفاً فأثر الضعف إما أن يظهر في الباطن أو في الظاهر والضعف الذي يظهر في الباطن يكون أقوى مما يظهر في الظاهر فلهذا السبب ابتدأ ببيان الضعف الذي في الباطن وهو قوله وَهَنَ الْعَظْمُ مِنّى وتقريره هو أن العظام أصلب الأعضاء التي في البدن وجعلت كذلك لمنفعتين إحداهما لأن تكون أساساً وعمداً يعتمد عليها سائر الأعضاء الأخر إذ كانت الأعضاء كلها موضوعة على العظام والحامل يجب أن يكون أقوى من المحمول والثانية أنه احتيج إليها في بعض المواضع لأن تكون جنة يقوى بها ما سواها من الأعضاء بمنزلة قحف الرأس وعظام الصدر وما كان كذلك فيجب أن يكون صلباً ليكون صبوراً على ملاقاة الآفات بعيداً من القبول لها إذا ثبت هذا فنقول إذا كان العظم أصلب الأعضاء فمتى وصل الأمر إلى ضعفها كان ضعف ما عداها مع رخاوتها أولى ولأن العظم إذا كان حاملاً لسائر الأعضاء كان تطرق الضعف إلى الحامل موجباً لتطرقه إلى المحمول فلهذا السبب خص العظم بالوهن من بين سائر الأعضاء وأما أثر الضعف في الظاهر فذلك استيلاء الشيب على الرأس فثبت أن هذا الكلام يدل على استيلاء الضعف على الباطن والظاهر وذلك مما يزيد الدعاء توكيداً لما فيه من الارتكان على حول الله وقوته والتبري عن الأسباب الظاهرة المقام الثاني أنه ما كان مردود الدعاء ألبتة ووجه التوسل به من وجهين أحدهما ما روي أن محتاجاً سأل واحداً من الأكابر وقال أنا الذي أحسنت إلى وقت كذا فقال مرحباً بمن توسل بنا إلينا ثم قضى حاجته وذلك أنه إذا قبله أولا فلو أنه رده ثانياً لكان الرد محبطاً للأنعام الأول والمنعم لا يسعى في إحباط أنعامه والثاني وهو أن مخالفة العادة شاقة على النفس فإذا تعود الإنسان إجابة الدعاء فلو صار مردوداً بعد ذلك لكان في غاية المشقة ولأن الجفاء ممن يتوقع منه الإنعام يكون أشق فقال زكرياء عليه السلام إنك ما رددتني في أول الأمر مع أني ما تعودت لطفك وكنت قوي البدن قوي القلب فلو رددتني الآن بعد ما عودتني القبول مع نهاية ضعفي لكان ذلك بالغاً إلى الغاية القصوى في ألم القلب واعلم أن العرب تقول سعد فلان بحاجته إذا ظفر بها وشقي بها إذا خاب ولم ينلها ومعنى بدعائك أي بدعائي إياك فإن الفعل قد يضاف إلى الفاعل تارة وإلى المفعول أخرى المقام الثالث بيان كون المطلوب منتفعاً به في الدين وهو قوله وَإِنّي خِفْتُ الْمَوَالِى َ مِن وَرَائِى وفيه أبحاث الأول قال ابن عباس والحسن إني خفت الموالي أي الورثة من بعدي وعن مجاهد العصبة وعن أبي صالح الكلالة وعن الأصم بنو العم وهم الذين يلونه في النسب وعن أبي مسلم المولي يراد به الناصر وابن العم والمالك والصاحب وهو ههنا من يقوم بميراثه مقام الولد والمختار أن المراد من الموالي الذين يخلفون بعده إما في السياسة أو في المال الذي كان له أو في القيام بأمر الدين فقد كانت العادة جارية أن كل من كان إلى صاحب الشرع أقرب فإنه كان متعيناً في الحياة الثاني اختلفوا في خوفه من الموالي فقال بعضهم خافهم على إفساد الدين وقال بعضهم بل خاف أن ينتهي أمره إليهم بعد موته في مال وغيره مع أنه عرف من حالهم قصورهم في العلم والقدرة عن القيام بذلك المنصب وفيه قول ثالث وهو أنه يحتمل أن يكون الله تعالى قد اعلمه أنه لم يبق من أنبياء بني إسرائيل نبي له أب إلا واحد فخاف أن يكون ذلك من بني عمه إذ لم يكن له ولد فسأل الله تعالى أن يهب له ولداً يكون هو ذلك النبي وذلك يقتضي أن

يكون خائفاً من أمر يهتم بمثله الأنبياء وإن لم يدل على تفصيل ذلك ولا يمتنع أن زكرياء كان إليه مع النبوة السياسة من جهة الملك وما يتصل بالإمامة فخاف منهم بعده على أحدهما أو عليهما أما قوله وَإِنّي خِفْتُ فهو وإن خرج على لفظ الماضي لكنه يفيد أنه في المستقبل أيضاً كذلك يقول الرجل قد خفت أن يكون كذا وخشيت أن يكون كذا أي أنا خائف لا يريد أنه قد زال الخوف عنه وهكذا قوله وَكَانَتِ امْرَأَتِى عَاقِرًا أي أنها عاقر في الحال وذلك لأن العاقر لا تحول ولوداً في العادة ففي الإخبار عنه بلفظ الماضي إعلام بتقادم العهد في ذلك وغرض زكرياء من هذا الكلام بيان استبعاد حصول الولد فكان إيراده بلفظ الماضي أقوى وإلى هذا يرجع الأمر في قوله وإني خفت الموالي من ورائي لأنه إنما قصد به الإخبار وعن تقادم الخوف ثم استغنى بدلالة الحال وما يوجب مسألة الوارث وإظهار الحاجة عن الإخبار بوجود الخوف في الحال وأيضاً فقد يوضع الماضي مكان المستقبل وبالعكس قال الله تعالى وَإِذْ قَالَ اللَّهُ ياعِيسَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى ( المائدة 116 ) والله أعلم وأما قوله من ورائي ففيه قولان الأول قال أبو عبيدة أي قدامي وبين يدي وقال آخرون أي بعد موتي وكلاهما محتمل فإن قيل كيف خافهم من بعده وكيف علم أنهم يبقون بعده فضلاً من أن يخاف شرهم قلنا إن ذلك قد يعرف بالأمارات والظن وذلك كاف في حصول الخوف فربما عرف ببعض الإمارات استمرارهم على عادتهم في الفساد والشر واختلف في تفسير قوله فَهَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً فالأكثرون على أنه طلب الولد وقال آخرون بل طلب من يقوم مقامه ولداً كان أو غيره والأقرب هو الأول لثلاثة أوجه الأول قوله تعالى في سورة آل عمران حكاية عنه قَالَ رَبّ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرّيَّة ً طَيّبَة ً ( آل عمران 38 ) والثاني قوله في هذه السورة هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْ ءالِ يَعْقُوبَ والثالث قوله تعالى في سورة الأنبياء وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبّ لاَ تَذَرْنِى فَرْداً ( الأنبياء 89 ) وهذا يدل على أنه سأل الولد لأنه قد أخبر في سورة مريم أن له موالي وأنه غير منفرد عن الورثة وهذا وإن أمكن حمله على وارث يصلح أن يقوم مقامه لكن حمله على الولد أظهر واحتج أصحاب القول الثالث بأنه لما بشر بالولد استعظم على سبيل التعجب فقال أنى يكون لي غلام ولو كان دعاؤه لأجل الولد لما استعظم ذلك ( الجواب ) أنه عليه السلام سأل عما يوهب له أيوهب له وهو وامرأته على هيئتهما أو يوهب بأن يحولا شابين يكون لمثلهما ولد وهذا يحكي عن الحسن وقال غيره إن قول زكرياء عليه السلام في الدعاء وَكَانَتِ امْرَأَتِى عَاقِرًا إنما هو على معنى مسألته ولداً من غيرها أو منها بأن يصلحها الله للولد فكأنه عليه السلام قال إني أيست أن يكون لي منها ولد فهب لي من لدنك ولياً كيف شئت إما بأن تصلحها فيكون الولد منها أو بأن تهب لي من غيرها فلما بشر بالغلام سأل أيرزق منها أو من غيرها فأخبر بأنه يرزق منها واختلفوا في المراد بالميراث على وجوه أحدها أن المراد بالميراث في الموضعين هو وراثة المال وهذا قول ابن عباس والحسن والضحاك وثانيها أن المراد به في الموضعين وراثة النبوة وهو قول أبي صالح وثالثها يرثني المال ويرث من آل يعقوب النبوة وهو قول السدي ومجاهد والشعبي وروي أيضاً عن ابن عباس والحسن والضحاك ورابعها يرثني العلم ويرث من آل يعقوب النبوة وهو مروي عن مجاهد واعلم أن هذه الروايات ترجع إلى أحد أمور خمسة وهي المال ومنصب الحبورة والعلم والنبوة والسيرة الحسنة ولفظ الإرث مستعمل في كلها أما في المال

فلقوله تعالى وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمولَهُمْ وأما في العلم فلقوله تعالى وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِى إِسْراءيلَ الْكِتَابَ ( غافر 53 ) وقال عليه السلام ( العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم ) وقال تعالى وَلَقَدْ ءاتَيْنَا دَاوُودُ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالاَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودُ ( النمل 15 6 ) وهذا يحتمل وراثة الملك ووراثة النبوة وقد يقال أورثني هذا غماً وحزناً وقد ثبت أن اللفظ محتمل لتلك الوجوه واحتج من حمل اللفظ على وراثة المال بالخبر والمعقول أما الخبر فقوله عليه السلام ( رحم الله زكريا ما كان له من يرثه ) وظاهره يدل على أن المراد إرث المال وأما المعقول فمن وجهين الأول أن العلم والسيرة والنبوة لا تورث بل لا تحصل إلا بالاكتساب فوجب حمله على المال الثاني أنه قال وَاجْعَلْهُ رَبّ رَضِيّاً ولو كان المراد من الإرث إرث النبوة لكان قد سأل جعل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) رضياً وهو غير جائز لأن النبي لا يكون إلا رضياً معصوماً وأما قوله عليه السلام ( إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة ) فهذا لا يمنع أن يكون خاصاً به واحتج من حمله على العلم أو المنصب والنبوة بما علم من حال الأنبياء أن اهتمامهم لا يشتد بأمر المال كما يشتد بأمر وقيل لعله أوتي من الدنيا ما كان عظيم النفع في الدين فلهذا كان مهتماً به أما قوله النبوة كيف تورث قلنا المال إنما يقال ورثه الابن بمعنى قام فيه مقام أبيه وحصل له من فائدة التصرف فيه ما حصل لأبيه وإلا فملك المال من قبل الله لا من قبل المورث فكذلك إذا كان المعلوم في الإبن أن يصير نبياً بعده فيقوم بأمر الدين بعده جاز أن يقال ورثه أما قوله عليه السلام ( إنا معشر الأنبياء ) فهذا وإن جاز حمله على الواحد كما في قوله تعالى إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ ( الحجر 9 ) لكنه مجاز وحقيقته الجمع والعدول عن الحقيقة من غير موجب لا يجوز لا سيما وقد روي قوله ( إنا معاشر الأنبياء لا نورث ) والأولى أن يحمل ذلك على كل ما فيه نفع وصلاح في الدين وذلك يتناول النبوة والعلم والسيرة الحسنة والمنصب النافع في الدين والمال الصالح فإن كل هذه الأمور مما يجوز توفر الدواعي على بقائها ليكون ذلك النفع دائماً مستمراً السابع اتفق أكثر المفسرين على أن يعقوب ههنا هو يعقوب بن إسحق بن إبراهيم عليهم السلام لأن زوجة زكرياء هي أخت مريم وكانت من ولد سليمان بن داود من ولد يهوذا بن يعقوب وأما زكرياء عليه السلام فهو من ولد هرون أخى موسى عليه السلام وهرون وموسى عليهما السلام من ولد لاوي بن يعقوب بن إسحق وكانت النبوة في سبط يعقوب لأنه هو إسرائيل ( صلى الله عليه وسلم ) وقال بعض المفسرين ليس المراد من يعقوب ههنا ولد إسحق بن إبراهيم عليه السلام بل يعقوب بن ماثان أخو عمران بن ماثان وكان آل يعقوب أخوال يحيى بن زكرياء وهذا قول الكلبي ومقاتل وقال الكلبي كان بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وملوكهم وكان زكريا رأس الأحبار يومئذ فأراد أن يرثه ولده حبورته ويرث من بني ماثان ملكهم واعلم أنهم ذكروا في تفسير الرضى وجوهاً أحدها أن المراد واجعله رضياً من الأنبياء وذلك لأن كلهم مرضيون فالرضي منهم مفضل على جملتهم فائق لهم في كثير من أمورهم فاستجاب الله تعالى له ذلك فوهب له سيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين لم يعص ولم يهم بمعصية وهذا غاية ما يكون به المرء رضياً وثانيها المراد بالرضي أن يكون رضياً في أمته لا يتلقى بالتكذيب ولا يواجه بالرد وثالثها المراد بالرضي أن لا يكون متهماً في شيء ولا

يوجد فيه مطعن ولا ينسب إليه شيء من المعاصي ورابعها أن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام قالا في الدعاء رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ ( البقرة 182 ) وكانا في ذلك الوقت مسلمين وكأن المراد هناك ثبتنا على هذا أو المراد اجعلنا فاضلين من أنبيائك المسلمين فكذا ههنا واحتج أصحابنا في مسألة خلق الأفعال بهذه الآية لأنه إنما يكون رضياً بفعله فلما سأل الله تعالى جعله رضياً دل على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى فإن قيل المراد منه أن يلطف له بضروب الألطاف فيختار ما يصير مرضياً فينسب ذلك إلى الله تعالى والجواب من وجهين الأول أن جعله رضياً لو حملناه على جعل الألطاف وعندها يصير المرء باختياره رضياً لكان ذلك مجازاً وهو خلاف الأصل والثاني أن جعل تلك الألطاف واجبة على الله تعالى لا يجوز الإخلال به وما كان واجباً لا يجوز طلبه بالدعاء والتضرع
يازَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً
فيه مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في من المنادي بقوله يا زكريا فالأكثرون على أنه هو الله تعالى وذلك لأن ما قبل هذه الآية يدل على أن زكريا عليه السلام إنما كان يخاطب الله تعالى ويسأله وهو قوله رَبّ إِنّى وَهَنَ الْعَظْمُ مِنّى ( مريم 4 ) وقوله وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبّ شَقِيّاً ( مريم 4 ) وقوله فَهَبْ لِى ( مريم 5 ) وما بعدها يدل على أنه كان يخاطب الله تعالى وهو يقول رَبّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ إذا كان ما قبل هذه الآية وما بعدها خطاباً مع الله تعالى وجب أن يكون النداء من الله تعالى وإلا لفسد النظم ومنهم من قال هذا نداء الملك واحتج عليه بوجهين الأول قوله تعالى في سورة آل عمران فَنَادَتْهُ الْمَلَئِكَة ُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلّى فِى الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشّرُكَ بِيَحْيَى ( آل عمران 39 ) الثاني أن زكريا عليه السلام لما قال أَنَّى يَكُونُ لِى غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِى عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً قَالَ كَذالِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَى َّ هَيّنٌ ( مريم 8 9 ) وهذا لا يجوز أن يكون كلام الله فوجب أن يكون كلام الملك والجواب عن الأول أنه يحتمل أن يقال حصل النداءان نداء الله ونداء الملائكة وعن الثاني أنا نبين إن شاء تعالى أن قوله قَالَ كَذالِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَى َّ هَيّنٌ يمكن أن يكون كلام الله
المسألة الثانية فإن قيل إن كان الدعاء بإذن فما معنى البشارة وإن كان بغير إذن فلماذا أقدم عليه والجواب هذا أمر يخصه فيجوز أن يسأل بغير إذن ويحتمل أنه أذن له فيه ولم يعلم وقته فبشر به
المسألة الثالثة اختلف المفسرون في قوله لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً على وجهين أحدهما وهو قول ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير وعكرمة وقتادة أنه لم يسم أحد قبله بهذا الاسم الثاني أن المراد بالسمي النظير كما في قوله هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً ( مريم 65 ) واختلفوا في ذلك على وجوه أحدها أنه سيد وحصور لم يعص ولم يهم بمعصية كأنه جواب لقوله وَاجْعَلْهُ رَبّ رَضِيّاً ( مريم 6 ) فقيل له إنا نبشرك بغلام لم نجعل له من قبل شبيهاً في الدين ومن كان هكذا فهو في غاية الرضا وهذا الوجه ضعيف لأنه يقتضي تفضيله على الأنبياء الذين كانوا قبله كآدم ونوح وإبراهيم وموسى وذلك باطل بالإتفاق وثانيها أن كل الناس إنما يسميهم آباؤهم وأمهاتهم بعد دخولهم في الوجود وأما يحيى عليه السلام فإن الله تعالى هو الذي سماه

قبل دخوله في الوجود فكان ذلك من خواصه فلم يكن له مثل وشبيه في هذه الخاصية وثالثها أنه ولد بين شيخ فان وعجوز عاقر واعلم أن الوجه الأول أولى وذلك لأن حمل السمي على النظير وإن كان يفيد المدح والتعظيم ولكنه عدول عن الحقيقة من غير ضرورة وإنه لا يجوز وأما قول الله تعالى هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً فهناك إنما عدلنا عن الظاهر لأنه قال فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً ( مريم 65 ) ومعلوم أن مجرد كونه تعالى مسمى بذلك الاسم لا يقتضي وجوب عبادته فلهذه العلة عدلنا عن الظاهرة أما ههنا لا ضرورة في العدول عن الظاهر فوجب اجراؤه عليه ولأن في تفرده بذلك الاسم ضرباً من التعظيم لأنا نشاهد أن الملك إذا كان له لقب مشهور فإن حاشيته لا يتلقبون به بل يتركونه تعظيماً له فكذلك ههنا
المسألة الرابعة في أنه عليه السلام سمي بيحيى روى الثعلبي فيه وجوهاً أحدها عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الله تعالى أحيا به عقر أمه وثانيها عن قتادة أن الله تعالى أحيا قلبه بالإيمان والطاعة والله تعالى سمى المطيع حياً والعاصي ميتاً بقوله تعالى أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ ( الأنعام 122 ) وقال إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا ( الأنفال 24 ) وثالثها إحياؤه بالطاعة حتى لم يعص ولم يهم بمعصية لما روى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهم قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما من أحد إلا وقد عصى أو هم إلا يحيى بن زكريا فإنه لم يهم ولم يعملها ) ورابعها عن أبي القاسم بن حبيب أنه استشهد وأن الشهداء أحياء عند ربهم لقوله تعالى أَمْواتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ ( آل عمران 169 ) وخامسها ما قاله عمرو بن عبد الله المقدسي أوحى الله تعالى إلى إبراهيم عليه السلام أن قل ليسارة وكان اسمها كذلك بأني مخرج منها عبداً لا يهم بمعصية اسمه حيي فقال هبي له من اسمك حرفاً فوهبته حرفاً من اسمها فصار يحيى وكان اسمها يسارة فصار اسمها سارة وسادسها أن يحيى عليه السلام أول من آمن بعيسى فصار قلبه حياً بذلك الإيمان وذلك أن أم يحيى كانت حاملاً به فاستقبلتها مريم وقد حملت بعيسى فقالت لها أم يحيى يا مريم أحامل أنت فقالت لماذا تقولين فقالت إني أرى ما في بطني يسجد لما في بطنك وسابعها أن الدين يحيا به لأنه إنما سأله زكريا لأجل الدين واعلم أن هذه الوجوه ضعيفة لأن أسماء الألقاب لا يطلب فيها وجه الإشتقاق ولهذا قال أهل التحقيق أسماء الألقاب قائمة مقام الإشارات وهي لا تفيد في المسمى صفة البتة
قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِى غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِى عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً
وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي عتياً وصلياً وجثياً وبكياً بكسر العين والصاد والجيم والباء وقرأ حفص عن عاصم بكياً بالضم والباقي بالكسر والباقون جميعاً بالضم وقرأ ابن مسعود بفتح العين والصاد من عتياً وصلياً وقرأ أبي بن كعب وابن عباس عسياً بالسين غير المعجمة والله أعلم
المسألة الثانية في الألفاظ وهي ثلاثة الأول الغلام الإنسان الذكر في ابتداء شهوته للجماع ومنه اغتلم إذا اشتدت شهوته للجماع ثم يستعمل في التلميذ يقال غلام ثعلب الثاني العتي والعبسي واحد

تقول عتا يعتو عتواً وعتياً فهو عات وعسا يعسو عسواً وعسياً فهو عاص والعاسي هو الذي غيره طول الزمان إلى حال البؤس وليل عات طويل وقيل شديد الظلمة الثالث لم يقل عاقرة لأن ما كان على فاعل من صفة المؤنث مما لم يكن للمذكر فإنه لا تدخل فيه الهاء نحو امرأة عاقر وحائض قال الخليل هذه الصفات مذكرة وصف بها المؤنث كما وصفوا المذكر بالمؤنث حين قالوا رجل ملحة وربعة وغلام نفعة
المسألة الثالثة في هذه الآية سؤالان الأول أن زكريا عليه السلام لم تعجب بقوله أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ مع أنه هو الذي طلب الغلام السؤال الثاني أن قوله أنى يكون لي غلام لم يكن هذا مذكوراً بين أمته لأنه كان يخفي هذه الأمور عن أمته فدل على أنه ذكره في نفسه وهذا التعجب يدل على كونه شاكاً في قدرة الله تعالى على ذلك وذلك كفر وهو غير جائز على الأنبياء عليهم السلام والجواب عن السؤال الأول أما على قول من قال إنه لم يطلب خصوص الولد فالسؤال زائل وأما على قول من قال إنه طلب الولد فالجواب عنه أن المقصود من قوله أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ هو التعجب من أنه تعالى يجعلهما شابين ثم يرزقهما الولد أو يتركهما شيخين ويرزقهما الولد مع الشيخوخة بطريق الاستعلام لا بطريق التعجب والدليل عليه قوله تعالى وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبّ لاَ تَذَرْنِى فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ( الأنبياء 89 90 ) وما هذا الإصلاح إلا أنه أعاد قوة الولادة وقد تقدم تقرير هذا الكلام وذكر السدي في الجواب وجهاً آخر فقال إنه لما سمع النداء بالبشارة جاءه الشيطان فقال إن هذا الصوت ليس من الله تعالى بل هو من الشيطان يسخر منك فلما شك زكريا قال أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ واعلم أن غرض السدي من هذا أن زكريا عليه السلام لو علم أن المبشر بذلك هو الله تعالى لما جاز له أن يقول ذلك فارتكب هذا وقال بعض المتكلمين هذا باطل قطعاً إذ لو جوز الأنبياء في بعض ما يرد عن الله تعالى أنه من الشيطان لجوزوا في سائره ولزالت الثقة عنهم في الوحي وعنا فيما يوردونه إلينا ويمكن أن يجاب عنه بأن هذا الاحتمال قائم في أول الأمر وإنما يزول بالمعجزة فلعل المعجزة لم تكن حاصلة في هذه الصورة فحصل الشك فيها دون ما عداها والله أعلم والجواب عن السؤال الثاني من وجوه الأول أن قوله إِنَّا نُبَشّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى ( مريم 7 ) ليس نصاً في كون ذلك الغلام ولداً له بل يحتمل أن زكريا عليه السلام راعى الأدب ولم يقل هذا الكلام هل يكون لي ولد أم لا بل ذكر أسباب تعذر حصول الولد في العادة حتى أن تلك البشارة إن كانت بالولد فالله تعالى يزيل الإبهام ويجعل الكلام صريحاً فلما ذكر ذلك صرح الله تعالى بكون ذلك الولد منه فكان الغرض من كلام زكريا هذا لا أنه كان شاكاً في قدرة الله تعالى عليه الثاني أنه ما ذكر ذلك للشك لكن على وجه التعظيم لقدرته وهذا كالرجل الذي يرى صاحبه قد وهب الكثير الخطير فيقول أنى سمحت نفسك بإخراج مثل هذا من ملككا تعظيماً وتعجباً الثالث أن من شأن من بشر بما يتمناه أن يتولد له فرط السرور به عند أول ما يرد علي استثبات ذلك الكلام إما لأن شدة فرحه به توجب ذهوله عن مقتضيات العقل والفكر وهذا كما أن امرأة إبراهيم عليه السلام بعد أن بشرت باسحق قالت وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَاذَا بَعْلِى شَيْخًا إِنَّ هَاذَا لَشَى ْء عَجِيبٌ قَالُواْ ( هود 72 ) فأزيل تعجبها بقوله أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ( هود 73 ) وإما طلباً للالتذاذ بسماع ذلك الكلام مرة أخرى وإما مبالغة في تأكيد التفسير
قَالَ كَذالِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَى َّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً

وفيه مسائل
المسألة الأولى في قوله قَالَ رَبُّكَ هُوَ هَيّنٌ وجوه أحدها أن الكاف رفع أي الأمر كذلك تصديقاً له ثم ابتدأ قال ربك وثانيها نصب يقال وذلك إشارة إلى مبهم تفسيره هو علي هين وهو كقوله تعالى وَقَضَيْنَا إِلَيْكَ ذَلِكَ الاْمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآْء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ ( الحجر 66 ) وثالثها أن المراد لا تعجب فإنه كذلك قال ربك لا خلف في قوله ولا غلط ثم قال بعده هو علي هين بدليل خلقتك من قبل ولم تك شيئاً ورابعها أن اذكرنا أن قوله أنى يكون لي غلام معناه تعطيني الغلام بأن تجعلني وزوجتي شابين أو بأن تتركنا على الشيخوخة ومع ذلك تعطينا الولد وقوله كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ أي نهب الولد مع بقائك وبقاء زوجتك على الحاصلة في الحال
المسألة الثانية قرأ الحسن وهو علي هين وهذا لا يخرج إلا على الوجه الأول أي الأمر كما قلت ولكن قال ربك هو مع ذلك علي هين
المسألة الثالثة إطلاق لفظ الهين في حق الله تعالى مجاز لأن ذلك إنما يجوز في حق من يجوز أن يصعب عليه شيء ولكن المراد أنه إذا أراد شيئاً كان
المسألة الرابعة في وجه الاستدلال بقوله تعالى وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً فنقول إنه لما خلقه من العدم الصرف والنفي المحض كان قادراً على خلق الذوات والصفات والآثار وأما الآن فخلق الولد من الشيخ والشيخة لا يحتاج فيه إلا إلى تبديل الصفات والقادر على خلق الذوات والصفات والآثار معاً أولى أن يكون قادراً على تبديل الصفات وإذا أوجده عن عدم فكذا يرزقه الولد بأن يعيد إليه وإلى صاحبته القوة التي عنها يتولد الماءان اللذان من اجتماعهما يخلق الولد ولذلك قال فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ( الأنبياء 90 ) فهذا وجه الاستدلال
المسألة الخامسة الجمهور على أن قوله قال كذلك قال ربك يقتضي أن القائل لذلك ملك مع الاعتراف بأن قوله رَضِيّاً يازَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشّرُكَ ( مريم 7 ) قول الله تعالى وقوله هُوَ عَلَى َّ هَيّنٌ قول الله تعالى وهذا بعيد لأنه إذا كان ما قبل هذا الكلام وما بعده قول الله تعالى فكيف يصح إدراج هذه الألفاظ فيما بين هذين القولين والأولى أن يقال قائل هذا القول أيضاً هو الله تعالى كما أن الملك العظيم إذا وعد عبده شيئاً عظيماً فيقول العبد من أين يحصل لي هذا فيقول إن سلطانك ضمن لك ذلك كأنه ينبه بذلك على أن كونه سلطاناً مما يوجب عليه الوفاء بالوعد فكذا ههنا
قَالَ رَبِّ اجْعَل لِى ءَايَة ً قَالَ ءَايَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً
وفيه مسائل
المسألة الأولى قال بعضهم طلب الآية لتحقيق البشارة وهذا بعيد لأن بقول الله تعالى قد تحققت البشارة فلا يكون إظهار الآية أقوى من ذلك من صريح القول وقال آخرون البشارة بالولد وقعت مطلقة فلا يعرف وقتها بمجرد البشارة فطلب الآية ليعرف بها وقت الوقوع وهذا هو الحق

المسألة الثانية اتفقوا على أن تلك الآية هي تعذر الكلام عليه فإن مجرد السكوت مع القدرة على الكلام لا يكون معجزة ثم اختلفوا على قولين أحدهما أنه اعتقل لسانه أصلاً والثاني أنه امتنع عليه الكلام مع القوم على وجه المخاطبة مع أنه كان متمكناً من ذكر الله ومن قراءة التوراة وهذا القول عندي أصح لأن اعتقال اللسان مطلقاً قد يكون لمرض وقد يكون من فعل الله فلا يعرف زكريا عليه السلام أن ذلك الاعتقال معجزاً إلا إذا عرف أنه ليس لمرض بل لمحض فعل الله تعالى مع سلامة الآلات وهذا مما لا يعرف إلا بدليل آخر فتفتقر تلك الدلالة إلى دلالة أخرى أما لو اعتقل لسانه عن الكلام مع القوم مع اقتداره على التكلم بذكر الله تعالى وقراءة التوراة علم بالضرورة أن ذلك الاعتقال ليس لعلة ومرض بل هو لمحض فعل الله فيتحقق كونه آية ومعجزة ومما يقوي ذلك قوله تعالى أَلاَّ تُكَلّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً فَخَرَجَ خص ذلك بالتكلم مع الناس وهذا يدل بطريق المفهوم أنه كان قادراً على التكلم مع غير الناس
المسألة الثالثة اختلفوا في معنى سَوِيّاً فقال بعضهم هو صفة لليالي الثلاث وقال أكثر المفسرين هو صفة لزكريا والمعنى آيتك أن لا تكلم الناس في هذه المدة مع كونك سوياً لم يحدث بك مرض
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَة ً وَعَشِيّاً
وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ قيل كان له موضع ينفرد فيه بالصلاة والعبادة ثم ينتقل إلى قومه فعند ذلك أوحى إليهم وقيل كان موضعاً يصلي فيه هو وغيره إلا أنهم كانوا لا يدخلونه للصلاة إلا بإذنه وأنهم اجتمعوا ينتظرون خروجه للإذن فخرج إليهم وهو لا يتكلم فأوحى إليهم
المسألة الثانية لا يجوز أن يكون المراد من قوله أوحى إليهم الكلام لأن الكلام كان ممتنعاً عليه فكان المراد غير الكلام وهو أن يعرفهم ذلك إما بالإشارة أو برمز مخصوص أو بكتابة لأن كل ذلك يفهم منه المراد فعلموا أنه قد كان ما بشر به فكما حصل السرور له حصل لهم فظهر لهم إكرام الله تعالى له بالإجابة واعلم أن الأشبه بالآية هو الإشارة لقوله تعالى في سورة آل عمران ثَلَاثَة َ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا ( آل عمران 41 ) والرمز لا يكون كناية للكلام
المسألة الثالثة اتفق المفسرون على أنه أراد بالتسبيح الصلاة وهو جائز في اللغة يقال سبحه الضحى أي صلاة الضحى وعن عائشة رضي الله عنها في صلاة الضحى ( إني لأسبحها ) أي لأصليها إذا ثبت هذا فنقول روي عن أبي العالية أن البكرة صلاة الفجر والعشي صلاة العصر ويحتمل أن يكون إنما كانوا يصلون معه في محرابه هاتين الصلاتين فكان يخرج إليهم فيأذن لهم بلسانه فلما اعتقل لسانه خرج إليهم كعادته فأذن لهم بغير كلام والله أعلم
يايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّة ٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَواة ً وَكَانَ تَقِيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً

اعلم أنه تعالى وصف يَحْيَى في هذه الآية بصفات تسع الصفة الأولى كونه مخاطباً من الله تعالى بقوله وَعَشِيّاً يايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّة ٍ وفيه مسائل
المسألة الأولى أن قوله وَعَشِيّاً يايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ يدل على أن الله تعالى بلغ بيحيى المبلغ الذي يجوز أن يخاطبه بذلك فحذف ذكره لدلالة الكلام عليه
المسألة الثانية الكتاب المذكور يحتمل أن يكون هو التوراة التي هي نعمة الله على بني إسرائيل لقوله تعالى وَلَقَدْ ءاتَيْنَا بَنِى إِسْراءيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّة َ ( الجاثية 16 ) ويحتمل أن يكون كتاباً خص الله به يحيى كما خص الله تعالى الكثير من الأنبياء بذلك والأول أولى لأن حمل الكلام ههنا على المعهود السابق أولى ولا معهود ههنا إلا التوراة
المسألة الثالثة قوله بِقُوَّة ٍ ليس المراد منه القدرة على الأخذ لأن ذلك معلوم لكل أحد فيجب حمله على معنى يفيد المدح وهو الجد والصبر على القيام بأمر النبوة وحاصلها يرجع إلى حصول ملكة تقتضي سهولة الإقدام على المأمور به والإحجام عن المنهي عنه الصفة الثانية قوله تعالى وَاتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً اعلم أن في الحكم أقوالاً الأول أنه الحكمة ومنه قول الشاعر واحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت
إلى حمام سراع وارد الثمد
وهو الفهم في التوراة والفقه في الدين والثاني وهو قول معمر أنه العقل روي أنه قال ما للعب خلقنا والثالث أنه النبوة فإن الله تعالى أحكم عقله في صباه وأوحى إليه وذلك لأن الله تعالى بعث يحيى وعيسى عليهما السلام وهما صبيان لا كما بعث موسى ومحمداً عليهما السلام وقد بلغا الأشد والأقرب حمله على النبوة لوجهين الأول أن الله تعالى ذكر في هذه الآية صفات شرفه ومنقبته ومعلوم أن النبوة أشرف صفات الإنسان فذكرها في معرض المدح أولى من ذكر غيرها فوجب أن تكون نبوته مذكورة في هذه الآية ولا لفظ يصلح للدلالة على النبوة إلا هذه اللفظة فوجب حملها عليها الثاني أن الحكم هو ما يصلح لأن يحكم به على غيره ولغيره على الإطلاق وذلك لا يكون إلا بالنبوة فإن قيل كيف يعقل حصول العقل والفطنة والنبوة حال الصبا قلنا هذا السائل إما أن يمنع من خرق العادة أو لا يمنع منه فإن منع منه فقد سد باب النبوات لأن بناء الأمر فيها على المعجزات ولا معنى لها إلا خرق العادات وإن لم يمنع فقد زال هذا الاستبعاد فإنه ليس استبعاد صيرورة الصبي عاقلاً أشد من استبعاد انشقاق القمر وانفلاق البحر الصفة الثالثة قوله تعالى وَحَنَانًا مّن لَّدُنَّا اعلم أن الحنان أصله من الحنين وهو الارتياح والجزع للفراق كما يقال حنين الناقة وهو صوتها إذا اشتاقت إلى ولدها ذكر الخليل ذلك في الحديث ( أنه عليه السلام كان يصلي إلى جذع من المسجد فلما اتخذ له المنبر وتحول إليه حنت تلك الخشبة حتى سمع حنينها ) فهذا هو الأصل ثم قيل تحنن فلان على فلان إذا تعطف عليه ورحمه وقد اختلف الناس في وصف الله بالحنان فأجازه بعضهم وجعله بمعنى الرؤوف الرحيم ومنهم من أباه لما يرجع إليه أصل الكلمة قالوا لم يصح الخبر بهذه اللفظة في أسماء الله تعالى إذا عرفت هذا فنقول الحنان هنا فيه وجهان

أحدهما أن يجعل صفة لله وثانيهما أن يجعل صفة ليحيى أما إذا جعلناه صفة لله تعالى فنقول التقدير وآتيناه الحكم حناناً أي رحمة منا ثم ههنا احتمالات الأول أن يكون الحنان من الله ليحيى المعنى آتيناه الحكم صبياً ثم قال وَحَنَانًا مّن لَّدُنَّا أي إنما آتيناه الحكم صبياً حناناً من لدنا عليه أي رحمة عليه وزكاة أي وتزكية له وتشريفاً له الثاني أن يكون الحنان من الله تعالى لزكريا عليه السلام فكأنه تعالى قال إنما استجبنا لزكريا دعوته بأن أعطيناه ولداً ثم آتيناه الحكم صبياً وحناناً من لدنا عليه أي على زكريا فعلنا ذلك وَزَكَواة ً أي وتزكية له عن أن يصير مردود الدعاء والثالث أن يكون الحنان من الله تعالى لأمة يحيى عليه السلام كأنه تعالى قال وَاتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً وَحَنَانًا منا على أمته لعظيم انتفاعهم بهدايته وإرشاده أما إذا جعلناه صفة ليحيى عليه السلام ففيه وجوه الأول آتيناه الحكم والحنان على عبادنا أي التعطف عليهم وحسن النظر على كافتهم فيما أوليه من الحكم عليهم كما وصف نبيه فقال فَبِمَا رَحْمَة ٍ مّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ( آل عمران 159 ) وقال حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ ( التوبة 128 ) ثم أخبر تعالى أنه آتاه زكاة ومعناه أن لا تكون شفقته داعية له إلى الإخلال بالواجب لأن الرأفة واللين ربما أورثا ترك الواجب ألا ترى إلى قوله تعالى وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَة ٌ فِى دِينِ اللَّهِ ( النور 2 ) وقال قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَة ً ( التوبة 123 ) وقال أَذِلَّة ٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّة ٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَة َ لائِمٍ ( المائدة 54 ) فالمعنى إنما جعلنا له التعطف على عباد الله مع الطهارة عن الإخلال بالواجبات ويحتمل آتيناه التعطف على الخلق والطهارة عن المعاصي فلم يعص ولم يهم بمعصية وفي الآية وجه آخر وهو المنقول عن عطاء بن رباح وَحَنَانًا مّن لَّدُنَّا والمعنى آتيناه الحكم صبياً تعظيماً إذ جعلناه نبياً وهو صبي ولا تعظيم أكثر من هذا والدليل عليه ما روى أنه مر ورقة بن نوفل على بلال وهو يعذب قد ألصق ظهره برمضاء البطحاء ويقول أحد أحد فقال والذي نفسي بيده لئن قتلتموه لأتخذنه حناناً أي معظماً الصفة الرابعة قوله وَزَكَواة ً وفيه وجوه أحدها أن المراد وآتيناه زكاة أي عملاً صالحاً زكياً عن ابن عباس وقتادة والضحاك وابن جريج وثانيها زكاة لمن قبل منه حتى يكونوا أزكياء عن الحسن وثالثها زكيناه بحسن الثناء كما تزكى الشهود الإنسان ورابعها صدقة تصدق الله بها على أبويه عن الكبي وخامسها بركة ونماء وهو الذي قال عيسى عليه الصلاة والسلام وَجَعَلَنِى مُبَارَكاً أَيْنَمَا كُنتُ ( مريم 31 ) واعلم أن هذا يدل على أن فعل العبد خلق لله تعالى لأنه جعل طهارته وزكاته من الله تعالى وحمله على الألطاف بعيد لأنه عدول عن الظاهر الصفة الحامسة قوله وَكَانَ تَقِيّا وقد عرفت معناه وبالجملة فإنه يتضمن غاية المدائح لأنه هو الذي يتقي نهي الله فيجتنبه ويتقي أمره فلا يهمله وأولى الناس بهذا الوصف من لم يعص الله ولا يهم بمعصية وكان يحيى عليه الصلاة والسلام كذلك فإن قيل ما معنى وَكَانَ تَقِيّا وهذا حين ابتداء تكليفه قلنا إنما خاطب الله تعالى بذلك الرسول وأخبر عن حاله حيث كان كما أخبر عن نعم الله عليه الصفة السادسة قوله وَبَرّا بِوالِدَيْهِ وذلك لأنه لا عبادة بعد تعظيم الله تعالى مثل تعظيم الوالدين ولهذا السبب قال وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً ( الإسراء 23 ) الصفة السابعة قوله وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً والمراد وصفه بالتواضع ولين الجانب وذلك من صفات المؤمنين كقوله تعالى وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ( الحجر 88 ) وقال

تعالى وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ( آل عمران 159 ) ولأن رأس العبادات معرفة الإنسان نفسه بالذل ومعرفة ربه بالعظمة والكمال ومن عرف نفسه بالذل وعرف ربه بالكمال كيف يليق به الترفع والتجبر ولذلك فإن إبليس لما تجبر وتمرد صار مبعداً عن رحمة الله تعالى وعن الدين وقيل الجبار هو الذي لا يرى لأحد على نفسه حقاً وهو من العظم والذهاب بنفسه عن أن يلزمه قضاء حق أحد وقال سفيان في قوله جَبَّاراً عَصِيّاً إنه الذي يقبل على الغضب والدليل عليه قوله تعالى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِى كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالاْمْسِ إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِى الاْرْضِ ( القصص 19 ) وقيل كل من عاقب على غضب نفسه من غير حق فهو جبار لقوله تعالى وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ( الشعراء 130 ) الصفة الثامنة قوله عَصِيّاً وهو أبلغ من العاصي كما أن العليم أبلغ من العالم الصفة التاسعة قوله وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً وفيه أقوال أحدها قال محمد بن جرير الطبري وَسَلَامٌ عَلَيْهِ أي أمان من الله يوم ولد من أن يناله الشيطان كما ينال سائر بني آدم وَيَوْمَ يَمُوتُ أي وأمان عليه من عذاب القبر وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً أي ومن عذاب القيامة وثانيها قال سفيان بن عيينة أوحش ما يكون الخلق في ثلاثة مواطن يوم يولد فيرى نفسه خارجاً مما كان فيه ويوم يموت فيرى قوماً ما شاهدهم قط ويوم يبعث فيرى نفسه في محشر عظيم فأكرم الله يحيى عليه الصلاة والسلام فخصه بالسلام عليه في هذه المواطن الثلاثة وثالثها قال عبد الله بن نفطوية وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ أي أول ما يرى الدنيا وَيَوْمَ يَمُوتُ أي أول يوم يرى فيه أول أمر الآخرة وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً أي أول يوم يرى فيه الجنة والنار وهو يوم القيامة وإنما قال حَياً تنبيهاً على كونه من الشهداء لقوله تعالى بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ ( آل عمران 169 ) فروع الأول هذا لاسلام يمكن أن يكون من الله تعالى وأن يكون من الملائكة وعلى التقديرين فدلالة شرفه وفضله لا تختلف لأن الملائكة لا يسلمون إلا عن أمر الله تعالى الثاني ليحيى مزية في هذا السلام على ما لسائر الأنبياء عليهم السلام كقوله سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِى الْعَالَمِينَ ( الصافات 79 ) سَلَامٌ عَلَى إِبْراهِيمَ ( الصافات 109 ) لأنه قال و يَوْمَ وُلِدَ وليس ذلك لسائر الأنبياء عليهم السلام الثالث روي أن عيسى عليه السلام قال ليحيى عليه السلام أنت أفضل مني لأن الله تعالى سلم عليك وأنا سلمت على نفسي وهذا ليس يقوى لأن سلام عيسى على نفسه يجري مجرى سلام الله على يحيى لأن عيسى معصوم لا يفعل إلا ما أمره الله به الرابع السلام عليه يوم ولد لا بد وأن يكون تفضلاً من الله تعالى لأنه لم يتقدم منه ما يكون ذلك جزاء له وأما السلام عليه يوم يموت ويوم يبعث في المحشر فقد يجوز أن يكون ثواباً كالمدح والتعظيم والله تعالى أعلم القول في فوائد هذه القصة الفائدة الأولى تعليم آداب الدعاء وهي من جهات أحدها قوله نِدَاء خَفِيّاً ( مريم 3 ) وهو يدل على أن أفضل الدعاء ما هذا حاله ويؤكد قوله تعالى ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَة ً ( الأعراف 55 ) ولأن رفع الصوت مشعر بالقوة والجلادة وإخفاء الصوت مشعر بالضعف والانكسار وعمدة الدعاء الإنكسار والتبري عن حول النفس وقوتها والاعتماد على فضل الله تعالى وإحسانه وثانيها أن المحتسب أن يذكر في مقدمة الدعاء عجز النفس وضعفها كما في قوله تعالى عنه وَهَنَ الْعَظْمُ مِنّى وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ( مريم 4 ) ثم يذكر كثرة نعم الله

على ما في قوله وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبّ شَقِيّاً ( مريم 4 ) وثالثها أن يكون الدعاء لأجل شيء متعلق بالدين لا لمحض الدنيا كما قال وَإِنّي خِفْتُ الْمَوَالِى َ مِن وَرَائِى ( مريم 5 ) ورابعها أن يكون الدعاء بلفظ يا رب على ما في هذا الموضع الفائدة الثانية ظهور درجات زكريا ويحيى عليهما السلام أما زكريا فأمور أحدها نهاية تضرعه في نفسه وانقطاعه إلى الله تعالى بالكلية وثانيها إجابة الله تعالى دعاءه وثالثها أن الله تعالى ناداه وبشره أو الملائكة أو حصل الأمران معاً ورابعها اعتقال لسانه عن الكلام دون التسبيح وخامسها أنه يجوز للأنبياء عليهم السلام طلب الآيات لقوله رب اجعل لي آية الفائدة الثالثة كونه تعالى قادراً على خلق الولد وإن كان الأبوان في نهاية الشيخوخة رداً على أهل الطبائع الفائدة الرابعة صحة الاستدلال في الدين لقوله تعالى وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً الفائدة الخامسة أن المعدوم ليس بشيء والآية نص في ذلك فإن قيل المراد ولم تك شيئاً مذكوراً كما في قوله تعالى هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً ( الإنسان 1 ) قلنا الإضمار خلاف الأصل وللخصم أن يقول الآية تدل على أن الإنسان لم يكن شيئاً ونحن نقول به لأن الإنسان عبارة عن جواهر متألفة قامت بها أعراض مخصوصة والجواهر المتألفة الموصوفة بالأعراض المخصوصة غير ثابتة في العدم إنما الثابت هو أعيان تلك الجواهر مفردة غير مركبة وهي ليست بإنسان فظهر أن الآية لا دلالة فيها على المطلوب الفائدة السادسة أن الله تعالى ذكر هذه القصة في سورة آل عمران وذكرها في هذا الموضع فلنعتبر حالها في الموضعين فنقول الأول أنه تعالى بين في هذه السورة أنه دعا ربه ولم يبين الوقت وبينه في آل عمران بقوله كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يامَرْيَمُ مَرْيَمَ أَنَّى لَكِ هَاذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبّ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرّيَّة ً طَيّبَة ً ( آل عمران 37 38 ) والمعنى أن زكريا عليه السلام لما رأى خرق العادة في حق مريم عليها السلام طمع فيه في حق نفسه فدعا الثاني وهو أن الله تعالى صرح في آل عمران بأن المنادي هو الملائكة لقوله فَنَادَتْهُ الْمَلَئِكَة ُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلّى فِى الْمِحْرَابِ ( آل عمران 39 ) وفي هذه السورة الأظهر أن المنادي بقوله رَضِيّاً يازَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشّرُكَ ( مريم 7 ) هو الله تعالى وقد بينا أنه لا منافاة بين الأمرين الثالث أنه قال في آل عمران أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وَامْرَأَتِى عَاقِرٌ ( آل عمران 40 ) فذكر أولاً كبر نفسه ثم عقر المرأة وهو في هذه السورة قال أَنَّى يَكُونُ لِى غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِى عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً ( مريم 8 ) وجوابه أن الواو لا تقتضي الترتيب الرابع قال في آل عمران وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وقال ههنا وقد بلغت من الكبر وجوابه أن ما بلغك فقد بلغته الخامس قال في آل عمران أَلاَّ تُكَلّمَ النَّاسَ ثَلَاثَة َ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا وَاذْكُر ( آل عمران 41 ) وقال ههنا ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً ( مريم 10 ) وجوابه دلت الآيتان على أن المراد ثلاثة أيام بلياليهن والله أعلم القصة الثانية قصة مريم وكيفية ولادة عيسى عليه السلام اعلم أنه تعالى إنما قدم قصة يحيى على قصة عيسى

عليهما السلام لأن خلق الولد من شيخين فانيين أقرب إلى مناهج العادات من تخليق الولد لا من الأب البتة وأحسن الطرق في التعليم والتفهيم الأخذ من الأقرب فالأقرب مترقياً إلى الأصعب فالأصعب
وَاذْكُرْ فِى الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِم حِجَاباً فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً
وفيه مسائل
المسألة الأولى إذ بدل من مريم بدل اشتمال لأن الأحيان مشتملة على ما فيها وفيه أن المقصود بذكر مريم ذكر وقت هذا الوقوع لهذه القصة العجيبة فيه
المسألة الثانية النبذ أصله الطرح والإلقاء والانتباذ افتعال منه ومنه فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ ( آل عمران 187 ) وانتبذت تنحت يقال جلس نبذة من الناس ونبذة بضم النون وفتحها أي ناحية وهذا إذا جلس قريباً منك حتى لو نبذت إليه شيئاً وصل إليه ونبذت الشيء رميته ومنه النبيذ لأنه يطرح في الإناء وأصله منبوذ فصرف إلى فعيل ومنه قيل للقيط منبوذ لأنه يرمى به ومنه النهي عن المنابذة في البيع وهو أن يقول إذا نبذت إليك هذا الثوب أو الحصاة فقد وجب البيع إذ عرفت هذا فنقول قوله تعالى إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً معناه تباعدت وانفردت على سرعة إلى مكان يلي ناحية الشرق ثم بين تعالى أنها مع ذلك اتخذت من دون أهلها حجاباً مستوراً وظاهر ذلك أنها لم تقتصر على أن انفردت إلى موضع بل جعلت بينها وبينهم حائلاً من حائط أو غيره ويحتمل أنها جعلت بين نفسها وبينهم ستراً وهذا الوجه الثاني أظهر من الأول ثم لا بد من احتجابها من أن يكون لغرض صحيح وليس مذكوراً واختلف المفسرون فيه على وجوه الأول أنها لما رأت الحيض تباعدت عن مكانها المعتاد للعبادة لكي تنتظر الطهر فتغتسل وتعود فلما طهرت جاءها جبريل عليه السلام والثاني أنها طلبت الخلوة لئلا تشتغل عن العبادة والثالث قعدت في مشرقة للاغتسال من الحيض محتجبة بشيء يسترها والرابع أنها كان لها في منزل زوج أختها زكرياء محراب على حدة تسكنه وكان زكريا إذا خرج أغلق عليها فتمنت ( على ) الله ( أن ) تجد خلوة في الجبل لتفلي رأسها فانفرج السقف لها فخرجت إلى المفازة فجلست في المشرفة وراء الجبل فأتاها الملك وخامسها عطشت فخرجت إلى المفازة لتستقي واعلم أن كل هذه الوجوه محتمل وليس في اللفظ ما يدل على ترجيح واحد منها
المسألة الثالثة المكان الشرقي هو الذي يلي شرقي بيت المقدس أو شرقي دارها وعن ابن عباس رضي الله عنهما إني لأعلم خلق الله لأي شيء اتخذت النصارى المشرق قبلة لقوله تعالى مَكَاناً شَرْقِياً فاتخذوا ميلاد عيسى قبلة
المسألة الرابعة أنها لما جلست في ذلك المكان أرسل الله إليها الروح واختلف المفسرون في هذا الروح فقال الأكثرون إنه جبريل عليه السلام وقال أبو مسلم إنه الروح الذي تصور في بطنها بشراً والأول أقرب لأن جبريل عليه السلام يسمى روحاً قال الله تعالى نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ عَلَى قَلْبِكَ ( الشعراء 193 194 )

وسمي روحاً لأنه روحاني وقيل خلق من الروح وقيل لأن الدين يحيا به أو سماه الله تعالى بروحه على المجاز محبة له وتقريباً كما تقول لحبيبك روحي وقرأ أبو حيوة روحنا بالفتح لأنه سبب لما فيه روح العباد وإصابة الروح عند الله الذي هو عدة المتقين في قوله فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّة ٍ نَعِيمٍ ( الواقعة 88 89 ) أو لأنه من المقربين وهم الموعودون بالروح أي مقربنا وذا روحنا وإذا ثبت أنه يسمى روحاً فهو هنا يجب أن يكون المراد به هو لأنه قال إِنَّمَا أَنَاْ رَسُولُ رَبّكِ لاِهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً ( مريم 19 ) ولا يليق ذلك إلا بجبريل عليه السلام واختلفوا في أنه كيف ظهر لها فالأول أنه ظهر لها على صورة شاب أمرد حسن الوجه سوي الخلق والثاني أنه ظهر لها على صورة ترب لها اسمه يوسف من خدم بيت المقدس وكل ذلك محتمل ولا دلالة في اللفظ على التعيين ثم قال وإنما تمثل لها في صورة الإنسان لتستأنس بكلامه ولا تنفر عنه فلو ظهر لها في صورة الملائكة لنفرت عنه ولم تقدر على استماع كلامه ثم ههنا إشكالات أحدهما وهو أنه لو جاز أن يظهر الملك في صورة إنسان معين فحينئذ لا يمكننا القطع بأن هذا الشخص الذي أراه في الحال هو زيد الذي رأيته بالأمس لاحتمال أن الملك أو الجني تمثل في صورته وفتح هذا الباب يؤدي إلى السفسطة لا يقال هذا إنما يجوز في زمان جواز البعثة فأما في زماننا هذا فلا يجوز لأنا نقول هذا الفرق إنما يعلم بالدليل فالجاهل بذلك الدليل يجب أن لا يقطع بأن هذا الشخص الذي أراه الآن هو الشخص الذي رأيته بالأمس وثانيها أنه جاء في الأخبار أن جبريل عليه السلام شخص عظيم جداً فذلك الشخص العظيم كيف صار بدنه في مقدار جثة الإنسان أبأن تساقطت أجزاؤه وتفرقت بنيته فحينئذ لا يبقى جبريل أو بأن تداخلت أجزاؤه وذلك يوجب تداخل الأجزاء وهو محال وثالثها وهو أنا لو جوزنا أن يتمثل جبريل عليه السلام في صورة الآدمي فلم لا يجوز تمثله في صورة جسم أصغر من الآدمي حتى الذباب والبق والبعوض ومعلوم أن كل مذهب جر إلى ذلك فهو باطل ورابعها أن تجويزه يفضي إلى القدح في خبر التواتر فلعل الشخص الذي حارب يوم بدر لم يكن محمداً بل كان شخصاً آخر تشبه به وكذا القول في الكل والجواب عن الأول أن ذلك التجويز لازم على الكل لأن من اعترف بافتقار العالم إلى الصانع المختار فقد قطع بكونه تعالى قادراً على أن يخلق شخصاً آخر مثل زيد في خلقته وتخطيطه وإذا جوزنا ذلك فقد لزم الشك في أن زيداً المشاهد الآن هو الذي شاهدناه بالأمس أم لا ومن أنكر الصانع المختار وأسند الحوادث إلى اتصالات الكواكب وتشكلات الفلك لزمه تجويز أن يحدث اتصال غريب في الأفلاك يقتضي حدوث شخص مثل زيد في كل الأمور وحينئذ يعود التجويز المذكور ( وعن الثاني ) أنه لا يمتنع أن يكون جبريل عليه السلام له أجزاء أصلية وأجزاء فاضلة والأجزاء الأصلية قليلة جداً فحينئذ يكون متمكناً من التشبه بصورة الإنسان هذا إذا جعلناه جسمانياً أما إذا جعلناه روحانياً فأي استبعاد في أن يتدرع تارة بالهيكل العظيم وأخرى بالهيكل الصغير ( وعن الثالث ) أن أصل التجويز قائم في العقل وإنما عرف فساده بدلائل السمع وهو الجواب عن السؤال الرابع والله أعلم
قَالَتْ إِنِّى أَعُوذُ بِالرَّحْمَانِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً
وفيه وجوه أحدها أرادت أن كان يرجى منك أن تتقي الله ويحصل ذلك بالاستعاذة به فإني عائذة به منك وهذا في نهاية الحسن لأنها علمت أنه لا تؤثر

الاستعاذة إلا في التقي وهو كقوله وَذَرُواْ مَا بَقِى َ مِنَ الرّبَوااْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ ( البقرة 278 ) أي أن شرط الإيمان يوجب هذا لا أن الله تعالى يخشى في حال دون حال وثانيها أن معناه ما كنت تقياً حيث استحللت النظر إلي وخلوت بي وثالثها أنه كان في ذلك الزمان إنسان فاجر اسمه تقى يتبع النساء فظنت مريم عليها السلام أن ذلك الشخص المشاهد هو ذلك التقي والأول هو الوجه
قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لاًّهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً
وفيه مسائل
المسألة الأولى لما علم جبريل خوفها قال إِنَّمَا أَنَاْ رَسُولُ رَبّكِ ليزول عنها ذلك الخوف ولكن الخوف لا يزول بمجرد هذا القول بل لا بد من دلالة تدل على أنه جبريل عليه السلام وما كان من الناس فههنا يحتمل أن يكون قد ظهر معجز عرفت به جبريل عليه السلام ويحتمل أنها من جهة زكريا عليه السلام عرفت صفة الملائكة فلما قال لها إِنَّمَا أَنَاْ رَسُولُ رَبّكِ أظهر لها من باطن جسده ما عرفت أنه ملك فيكون ذلك هو العلم وسأل القاضي عبد الجبار في تفسيره نفسه فقال إذا لم تكن نبية عندكم وكان من قولكم أن الله تعالى لم يرسل إلى خلقه إلا رجالاً فكيف يصح ذلك وأجاب أن ذلك إنما وقع في زمان زكريا عليه السلام وكان رسولاً وكل ذلك كان عالماً به وهذا ضعيف لأن المعجز إذا كان مفعولاً للنبي فأقل ما فيه أن يكون عليه السلام عالماً به وزكريا ما كان عنده علم بهذه الوقائع فكيف يجوز جعله معجزاً له بل الحق أن ذلك إما أن يكون كرامة لمريم أو إرهاصاً لعيسى عليه السلام
المسألة الثانية قرأ ابن عامر ونافع ليهب بياء مفتوحة بعد اللام أي ليهب الله لك والباقون بهمزة مفتوحة بعدها أما قوله لأهب لك ففي مجازه وجهان الأول أن الهبة لما جرت على يده بأن كان هو الذي نفخ في جيبها بأمر الله تعالى جعل نفسه كأنه هو الذي وهب لها وإضافة الفعل إلى ما هو سبب له مستعمل قال تعالى في الأصنام إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ النَّاسِ ( إبراهيم 36 ) الثاني أن جبريل عليه السلام لما بشرها بذلك كانت تلك البشارة الصادقة جارية مجرى الهبة فإن قال قائل ما الدليل على أن جبريل عليه السلام لا يقدر على تركيب الأجزاء وخلق الحياة والعقل والنطق فيها والذي يقال فيه إن جبريل عليه السلام جسم والجسم لا يقدر على هذه الأشياء أما أنه جسم فلأنه محدث وكل محدث إما متحيز أو قائم بالمتحيز وأما أن الجسم لا يقدر على هذه الأشياء فلأنه لو قدر جسم على ذلك لقدر عليه كل جسم لأن الأجسام متماثلة وهو ضعيف لأن للخصم أن يقول لا نسلم أن كل محدث إما متحيز أو قائم به بل ههنا موجودات قائمة بأنفسها لا متحيزة ولا قائمة بالمتحيز ولا يلزم من كونها كذلك كونها أمثالاً لذات الله تعالى لأن الاشتراك في الصفات الثبوتية لا يقتضي التماثل فكيف في الصفات السلبية سلمنا كونه جسماً فلم قلت الجسم لا يقدر عليه قوله الأجسام متماثلة قلنا نعني به أنها متماثلة في كونها حاصلة في الأحياز ذاهبة في الجهات أو نعني به أنها متماثلة في تمام ماهياتها والأول مسلم لكن حصولها في الأحياز صفات لتلك الذوات والاشتراك في الصفات لا يوجب الاشتراك في ماهيات المواصفات سلمنا أن الأجسام متماثلة فلم لا يجوز أن يقال إن الله تعالى خص بعضها بهذه القدرة دون البعض حتى أنه يصح منها ذلك ولا يصح من البشر ذلك والجواب

الحق أن المعتمد في دفع هذا الاحتمال اجماع الأمة فقط والله أعلم
المسألة الثالثة الزكي يفيد أموراً ثلاثة الأول أنه الطاهر من الذنوب والثاني أنه ينمو على التزكية لأنه يقال فيمن لا ذنب له زكي وفي الزرع النامي زكي والثالث النزاهة والطهارة فيما يجب أن يكون عليه ليصح أن يبعث نبياً وقال بعض المتكلمين الأولى أن يحمل على الكل وهو ضعيف لما عرفت في أصول الفقه أن اللفظ الواحد لا يجوز حمله على المعنيين سواء كان حقيقة فيهما أو في أحدهما مجازاً وفي الآخر حقيقة
المسألة الرابعة سماه زكياً مع أنه لم يكن له شيء من الدنيا وأنت إذا نظرت في سوقك فمن لم يملك شيئاً فهو شقي عندك وإنما الزكي من يملك المال والله يقول كان زكياً لأن سيرته الفقر وغناه الحكمة والكتاب وأنت فإنما تسمى بالزكي من كانت سيرته الجهل وطريقته المال
قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِى غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً قَالَ كَذالِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَى َّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ ءَايَة ً لِّلْنَّاسِ وَرَحْمَة ً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً
وفيه مسائل
المسألة الأولى أنها إنما تعجبت بما بشرها جبريل عليه السلام لأنها عرفت بالعادة أن الولادة لا تكون إلا من رجل والعادات عند أهل المعرفة معتبرة في الأمور وإن جوزوا خلاف ذلك في القدرة فليس في قولها هذا دلالة على أنها لم تعلم أنه تعالى قادر على خلق الولد ابتداء وكيف وقد عرفت أنه تعالى خلق أبا البشر على هذا الحد ولأنها كانت منفردة بالعبادة ومن يكون كذلك لا بد من أن يعرف قدرة الله تعالى على ذلك
المسألة الثانية لقائل أن يقول قولها وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ يدخل تحته قولها وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً فلماذا أعادتها ومما يؤكد هذا السؤال أن في سورة آل عمران قالت رَبّ أَنَّى يَكُونُ لِى وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ قَالَ كَذالِكَ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء ( آل عمران 47 ) فلم تذكر البغاء والجواب من وجوه أحدها أنها جعلت المس عبارة عن النكاح الحلال لأنه كناية عنه لقوله مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ ( الأحزاب 49 ) والزنا ليس كذلك إنما يقال فجر بها أو ما أشبه ذلك ولا يليق به رعاية الكنايات وثانيها أن أعادتها لتعظيم حالها كقوله حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَواتِ والصَّلَواة ِ الْوُسْطَى ( البقرة 238 ) وقوله وَمَلئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فكذا ههنا إن من لم تعرف من النساء بزوج فأغلظ أحوالها إذا أتت بولد أن تكون زانية فأفراد ذكر البغاء بعد دخوله في الكلام الأول لأنه أعظم ما في بابه
المسألة الثالثة قال صاحب ( الكشاف ) البغي الفاجرة التي تبغي الرجال وهو فعول عند المبرد بغوي فأدغمت الواو في الياء وقال ابن جني في كتاب ( التمام ) هو فعيل ولو كان فعولاً لقيل بغوا كما قيل نهوا عن المنكر

المسألة الرابعة أن جبريل عليه السلام أجابها بقوله قَالَ كَذالِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَى َّ هَيّنٌ وهو كقوله في آل عمران كَذالِكَ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ( آل عمران 47 ) لا يمتنع عليه فعل ما يريد خلقه ولا يحتاج في إنشائه إلى الآلات والمواد
المسألة الخامسة الكناية في هُوَ عَلَى َّ هَيّنٌ وفي قوله وَلِنَجْعَلَهُ ءايَة ً لّلْنَّاسِ تحتمل وجهين الأول أن تكون راجعة إلى الخلق أي أن خلقه علي هين ولنجعل خلقه آية للناس إذ ولد من غير ذكر ورحمة منا يرحم عبادنا بإظهار هذه الآيات حتى تكون دلائل صدقه أبهر فيكون قبول قوله أقرب الثاني أن ترجع الكنايات إلى الغلام وذلك لأنها لما تعجبت من كيفية وقوع هذا الأمر على خلاف العادة أعلمت أن الله تعالى جاعل ولدها آية على وقوع ذلك الأمر الغريب فأما قوله تعالى وَرَحْمَة ً مّنَّا فيحتمل أن يكون معطوفاً على وَلِنَجْعَلَهُ ءايَة ً لّلْنَّاسِ أي فعلنا ذلك وَرَحْمَة ً مّنَّا فعلنا ذلك ويحتمل أن يكون معطوفاً على الآية أي ولنجعله آية ورحمة فعلنا ذلك
المسألة السادسة قوله وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً المراد منه أنه معلوم لعلم الله تعالى فيمتنع وقوع خلافه لأنه لو لم يقع لانقلب علم الله جهلاً وهو محال والمفضي إلى المحال محال فخلافه محال فوقوعه واجب وأيضاً فلأن جميع الممكنات منتهية في سلسلة القضاء والقدر إلى واجب الوجود والمنتهي إلى الواجب انتهاء واجباً يكون واجب الوجود وإذا كان واجب الوجود فلا فائدة في الحزن والأسف وهذا هو سر قوله عليه السلام ( من عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب )
فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً فَأَجَآءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَة ِ قَالَتْ يالَيْتَنِى مِتُّ قَبْلَ هَاذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً
وفيه مسائل
المسألة الأولى ذكر الله تعالى أمر النفخ في آيات فقال فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا ( التحريم 12 ) أي في عيسى عليه السلام كما قال لآدم عليه السلام وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى ( الحجر 29 ) وقال فنفخنا فيها لأن عيسى عليه السلام كان في بطنها واختلفوا في النافخ فقال بعضهم كان النفخ من الله تعالى لقوله فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وظاهره يفيد أن النافخ هو الله تعالى لقوله تعالى إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ( آل عمران 59 ) ومقتضى التشبيه حصول المشابهة إلا فيما أخرجه الدليل وفي حق آدم النافخ هو الله تعالى لقوله تعالى وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فكذا ههنا وقال آخرون النافخ هو جبريل عليه السلام لأن الظاهر من قول جبريل عليه السلام لاِهَبَ لَكِ ( مريم 19 ) أنه أمر أن يكون من قبله حتى يحصل الحمل لمريم عليها السلام فلا بد من إحالة النفخ إليه ثم اختلفوا في كيفية ذلك النفخ على قولين الأول قول وهب إنه نفخ جبريل في جيبها حتى وصلت إلى الرحم الثاني في ذيلها فوصلت إلى الفرج الثالث قول السدي أخذ بكمها فنفخ في جنب درعها فدخلت النفخة صدرها فحملت فجاءتها أختها امرأة زكريا

تزورها فالتزمتها فلما التزمتها علمت أنها حبلى وذكرت مريم حالها فقالت امرأة زكريا إني وجدت ما في بطني يسجد لما في بطنك فذلك قوله تعالى مُصَدّقاً بِكَلِمَة ٍ مّنَ اللَّهِ ( آل عمران 39 ) الرابع أن النفخة كانت في فيها فوصلت إلى بطنها فحملت في الحال إذ عرفت هذا ظهر أن في الكلام حذفاً وهو وكان أمراً مقضياً فنفخ فيها فحملته
المسألة الثانية قيل حملته وهي بنت ثلاث عشرة سنة وقيل بنت عشرين وقد كانت حاضت حيضتين قبل أن تحمل وليس في القرآن ما يدل على شيء من هذه الأحوال
المسألة الثالثة فَانْتَبَذَتْ بِهِ أي اعتزلت وهو في بطنها كقوله تَنبُتُ بِالدُّهْنِ ( المؤمنون 20 ) أي تنبت والدهن فيها واختلفوا في علة الإنتباذ على وجوه أحدها ما رواه الثعلبي في ( العرائس ) عن وهب قال إن مريم لما حملت بعيسى عليه السلام كان معها ابن عم لها يقال له يوسف النجار وكانا منطلقين إلى المسجد الذي عند جبل صهيون وكان يوسف ومريم يخدمان ذلك المسجد ولا يعلم في أهل زمانهما أحد أشد اجتهاداً ولا عبادة منهما وأول من عرف حمل مريم يوسف فتحير في أمرها فكلما أراد أن يتهمها ذكر صلاحها وعبادتها وأنها لم تغب عنه ساعة قط وإذا أراد أن يبرئها رأى الذي ظهر بها من الحمل فأول ما تكلم أنه قال إنه وقع في نفسي من أمرك شيء وقد حرصت على كتمانه فغلبني ذلك فرأيت أن الكلام فيه أشفى لصدري فقالت قل قولاً جميلاً قال أخبريني يا مريم هل ينبت زرع بغير بذر وهل تنبت شجرة من غير غيث وهل يكون ولد من غير ذكر قالت نعم ألم تعلم أن الله أنبت الزرع يوم خلقه من غير بذر وهذا البذر إنما حصل من الزرع الذي أنبته من غير بذر ألم تعلم أن الله تعالى أنبت الشجرة من غير غيث وبالقدرة جعل الغيث حياة الشجر بعد ما خلق كل واحد منهما على حدة أو تقول إن الله تعالى لا يقدر على أن ينبت الشجرة حتى استعان بالماء ولولا ذلك لم يقدر على إنباتها فقال يوسف لا أقول هذا ولكني أقول إن الله قادر على ما يشاء فيقول له كن فيكون فقالت له مريم أو لم تعلم أن الله خلق آدم وامرأته من غير ذكر ولا أنثى فعند ذلك زالت التهمة عن قلبه وكان ينوب عنها في خدمة المسجد لاستيلاء الضعف عليها بسبب الحمل وضيق القلب فلما دنا نفاسها أوحى الله إليها أن أخرجي من أرض قومك لئلا يقتلوا ولدك فاحتملها يوسف إلى أرض مصر على حمار له فلما بلغت تلك البلاد أدركها النفاس فألجأها إلى أصل نخلة وذلك في زمان برد فاحتضنتها فوضعت عندها وثانيها أنها استحيت من زكريا فذهبت إلى مكان بعيد لا يعلم بها زكريا وثالثها أنها كانت مشهورة في بني إسرائيل بالزهد لنذر أمها وتشاح الأنبياء في تربيتها وتكفل زكريا بها ولأن الرزق كان يأتيها من عند الله تعالى فلما كانت في نهاية الشهرة استحيت من هذه الواقعة فذهبت إلى مكان بعيد لا يعلم بها زكريا ورابعها أنها خافت على ولدها لو ولدته فيما بين أظهرهم واعلم أن هذه الوجوه محتملة وليس في القرآن ما يدل على شيء منها
المسألة الرابعة اختلفوا في مدة حملها على وجوه الأول قول ابن عباس رضي الله عنهما إنها كانت تسعة أشهر كما في سائر النساء بدليل أن الله تعالى ذكر مدائحها في هذا الموضع فلو كانت عادتها في مدة حملها بخلاف عادات النساء لكان ذلك أولى بالذكر الثاني أنها كانت ثمانية أشهر ولم يعش مولود وضع لثمانية إلا عيسى ابن مريم عليه السلام الثالث وهو قول عطاء وأبي العالية والضحاك سبعة أشهر

الرابع أنها كانت ستة أشهر الخامس ثلاث ساعات حملته في ساعة وصور في ساعة ووضعته في ساعة السادس وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً كانت مدة الحمل ساعة واحدة ويمكن الاستدلال عليه من وجهين الأول قوله تعالى فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ ( مريم 23 ) فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ ( مريم 23 ) فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا ( مريم 24 ) والفاء للتعقيب فدلت هذه الفاءات على أن كل واحد من هذه الأحوال حصل عقيب الآخر من غير فصل وذلك يوجب كون مدة الحمل ساعة واحدة لا يقال انتباذها مكاناً قصياً كيف يحصل في ساعة واحدة لأنا نقول السدي فسره بأنها ذهبت إلى أقصى موضع في جانب محرابها الثاني أن الله تعالى قال في وصفه إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ( آل عمران 59 ) فثبت أن عيسى عليه السلام كما قال الله تعالى له كُنْ فَيَكُونُ وهذا مما لا يتصور فيه مدة الحمل وإنما تعقل تلك المدة في حق من يتولد من النطفة
المسألة الخامسة قَصِيّاً أي بعيد من أهلها يقال مكان قاص وقصي بمعنى واحد مثل عاص وعصي ثم اختلفوا فقيل أقصى الدار وقيل وراء الجبل وقيل سافرت مع ابن عمها يوسف وقد تقدمت هذه الحكاية
المسألة السادسة قال صاحب ( الكشاف ) أجاء منقول من جاء إلا أن استعماله قد تغير بعد النقل إلى معنى الإلجاء فإنك لا تقول جئت المكان وأجاءنيه زيد كما تقول بلغنيه وأبلغته والمعنى أن طلقها ألجأها إلى جذع النخلة ثم يحتمل أنها إنما ذهبت إلى النخلة طلباً لسهولة الولادة للتشبث بها ويحتمل للتقوية والاستناد إليها ويحتمل للتستر بها ممن يخشى منه القالة إذا رآها ولذلك حكى الله عنها أنها تمنت الموت
المسألة السابعة قال في ( الكشاف ) قرأ ابن كثير في رواية المخاض بالكسر يقال مخضت الحامل ومخاضاً وهو تمخض الولد في بطنها
المسألة الثامنة قال في ( الكشاف ) كان جذع نخلة يابسة في الصحراء ليس لها رأس ولا ثمر ولا خضرة وكان الوقت شتاء والتعريف إما أن يكون من تعريف الأسماء الغالبة كتعريف النجم والصعق كأن تلك الصحراء كان فيها جذع نخلة مشهور عند الناس فإذا قيل جذع النخلة فهم منه ذلك دون سائره وإما أن يكون تعريف الجنس أي إلى جذع هذه الشجرة خاصة كان الله أرشدها إلى النخلة ليطعمها منها الرطب الذي هو أشد الأشياء موافقة للنفساء ولأن النخلة أقل الأشياء صبراً على البرد ولا تثمر إلا عند اللقاح وإذا قطعت رأسها لم تثمر فكأنه تعالى قال كما أن الأنثى لا تلد إلا مع الذكر فكذا النخلة لا تثمر إلا عند اللقاح ثم إني أظهر الرطب من غير اللقاح ليدل ذلك على جواز ظهور الولد من غير ذكر
المسألة التاسعة لم قالت قَالَتْ يالَيْتَنِى مِتُّ قَبْلَ هَاذَا مع أنها كانت تعلم أن الله تعالى بعث جبريل إليها وخلق ولدها من نفخ جبريل عليه السلام ووعدها بأن يجعلها وابنها آية للعالمين والجواب من وجهين الأول قال وهب أنساها كربة الغربة وما سمعته من الناس ( من ) بشارة الملائكة بعيسى عليه السلام الثاني أن عادة الصالحين إذا وقعوا في بلاء أن يقولوا ذلك وروى عن أبي بكر أنه نظر إلى طائر على شجرة فقال طوبى لك يا طائر تقع على الشجرة وتأكل من الثمرا وددت أبي ثمرة ينقرها الطائرا وعن عمر أنه أخذ تبنة من

الأرض وقال ليتني هذه التبنة يا ليتني لم أك شيئاً وقال علي يوم الجمل يا ليتني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة وعن بلال ليت بلال لم تلده أمه فثبت أن هذا الكلام يذكره الصالحون عند اشتداد الأمر عليهم الثالث لعلها قالت ذلك لكي لا تقع المعصية ممن يتكلم فيها وإلا فهي راضية بما بشرت به
المسألة العاشرة قال صاحب ( الكشاف ) النسي ما من حقه أن يطرح وينسى كخرقة الطمث ونحوها كالذبح اسم ما من شأنه أن يذبح كقوله وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ( الصافات 107 ) تمنت لو كانت شيئاً تافهاً لا يؤبه به ومن حقه أن ينسى في العادة وقرأ ابن وثاب والأعمش وحمزة نسياً بالفتح والباقون نسياً بالكسر قال الفراء هما لغتان كالوتر والوتر والجسر والجسر وقرأ محمد بن كعب القرظي نسيئاً بالهمزة وهو الحليب المخلوط بالماء ينساه أهله لقلته وقرأ الأعمش منسياً بالكسر على الإتباع كالمغير والمنخر والله أعلم
فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ أَلاَّ تَحْزَنِى قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً وَهُزِّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَة ِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً فَكُلِى وَاشْرَبِى وَقَرِّى عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البَشَرِ أَحَداً فَقُولِى إِنِّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمَانِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً
في الآية مسائل
المسألة الأولى فناداها من تحتها القراءة المشهورة فناداها وقرأ زر وعلقمة فخاطبها وفي الميم فيها قراءتان فتح الميم وهو المشهور وكسره وهو قراءة نافع وحمزة والكسائي وحفص وفي المنادي ثلاثة أوجه الأول أنه عيسى عليه السلام وهو قول الحسن وسعيد بن جبير والثاني أنه جبريل عليه السلام وأنه كان كالقابلة للولد والثالث أن المنادي على القراءة بالكسر هو الملك وعلى القراءة بالفتح هو عيسى عليه السلام وهو مروي عن ابن عيينة وعاصم والأول أقرب لوجوه الأول أن قوله فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا بفتح الميم إنما يستعمل إذا كان قد علم قبل ذلك أن تحتها أحداً والذي علم كونه حاصلاً تحتها هو عيسى عليه السلام فوجب حمل اللفظ عليه وأما القراءة بكسر الميم فهي لا تقتضي كون المنادي جبريل عليه السلام فقد صح قولنا الثاني أن ذلك الموضع موضع اللوث والنظر إلى العورة وذلك لا يليق بالملائكة الثالث أن قوله فناداها فعل ولا بد وأن يكون فاعله قد تقدم ذكره ولقد تقدم قبل هذه الآية ذكر جبريل وذكر عيسى عليهما السلام إلا أن ذكر عيسى أقرب لقوله تعالى فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ ( مريم 22 ) والضمير ههنا عائد إلى المسيح فكان حمله عليه أولى والرابع وهو دليل الحسن بن علي عليه السلام أن عيسى عليه السلام لو لم يكن كلمها لما علمت أنه ينطق فما كانت تشير إلى عيسى عليه السلام بالكلام فأما من قال المنادي هو عيسى عليه السلام فالمعنى أنه تعالى أنطقه لها حين وضعته تطييباً لقلبها وإزالة للوحشة عنها حتى تشاهد في أول الأمر ما بشرها به جبريل عليه السلام من علو شأن ذلك الولد ومن قال المنادي جبريل عليه السلام قال إنه أرسل إليها ليناديها بهذه الكلمات كما أرسل إليها في أول الأمر ليكون ذلك تذكيراً لها بما تقدم من أصناف البشارات وأما

قوله مِن تَحْتِهَا فإن حملناه على الولد فلا سؤال وإن حملناه على الملك ففيه وجهان الأول أن يكونا معاً في مكان مستو ويكون هناك مبدأ معين كتلك النخلة ههنا فكل من كان أقرب منها كان فوق وكل من كان أبعد منها كان تحت وفسر الكلبي قوله تعالى إِذْ جَاءوكُمْ مّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ ( الأحزاب 10 ) بذلك وعلى هذا الوجه قال بعضهم إنه ناداها من أقصى الوادي والثاني أن يكون موضع أحدهما أعلى من موضع الآخر فيكون صاحب العلو فوق صاحب السفل وعلى هذا الوجه روي عن عكرمة أنها كانت حين ولدت على مثل رابية وفيه وجه ثالث يحكى عن عكرمة وهو أن جبريل عليه السلام ناداها من تحت النخلة ثم على التقديرات الثلاثة يحتمل أن تكون مريم قد رأته وأنها ما رأته وليس في اللفظ ما يدل على شيء من ذلك
المسألة الثانية اتفق المفسرون إلا الحسن وعبد الرحمن بن زيد أن السري هو النهر والجدول سمي بذلك لأن الماء يسري فيه وأما الحسن وابن زيد فجعلا السري عيسى والسري هو النبيل الجليل يقال فلان من سروات قومه أي من أشرافهم وروي أن الحسن رجع عنه وروي عن قتادة وغيره أن الحسن تلا هذه الآية وبجنبه حميد بن عبد الرحمن الحميري قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً فقال إن كان لسرياً وإن كان لكريماً فقال له حميد يا أبا سعيد إنما هو الجدول فقال له الحسن من ثم تعجبنا مجالستك واحتج من حمله على النهر بوجهين أحدهما أنه سأل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن السري فقال هو الجدول والثاني أن قوله فَكُلِى وَاشْرَبِى يدل على أنه نهر حتى ينضاف الماء إلى الرطب فتأكل وتشرب واحتج من حمله ( على ) عيسى بوجهين الأول أن النهر لا يكون تحتها بل إلى جانبها ولا يجوز أن يجاب عنه بأن المراد منه أنه جعل النهر تحت أمرها يجري بأمرها ويقف بأمرها كما في قوله وَهَاذِهِ الاْنْهَارُ تَجْرِى مِن تَحْتِى ( الزخرف 51 ) لأن هذا حمل للفظ على مجازه ولو حملناه على عيسى عليه السلام لم يحتج إلى هذا المجاز الثاني أنه موافق لقوله تعالى وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ءايَة ً وَءاوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَة ٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ( المؤمنون 50 ) والجواب عنه ما تقدم أن المكان المستوي إذا كان فيه مبدأ معين فكل من كان أقرب منه كان فوق وكل من كان أبعد منه كان من تحت فرعان الأول إن حملنا السري على النهر ففيه وجهان أحدهما أن جبريل عليه السلام ضرب برجله فظهر ماء عذب والثاني أنه كان هناك ماء جار والأول أقرب لأن قوله قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً مشعر بالحدوث في ذلك الوقت ولأن الله تعالى ذكره تعظيماً لشأنها وذلك لا يثبت إلا على الوجه الذي قلناه الثاني اختلفوا في أن السري هو النهر مطلقاً وهو قول أبي عبيدة والفراء أو النهر الصغير على ما هو قول الأخفش
المسألة الثالثة قال القفال الجذع من النخلة هو الأسفل وما دون الرأس الذي عليه الثمرة وقال قطرب كل خشبة في أصل شجرة فهي جذع وأما الباء في قوله بجذع النخلة فزائدة والمعنى هزي إليك أي حركي جذع النخلة قال الفراء العرب تقول هزه وهز به وخذ الخطام وخذ بالخطام وزوجتك فلانة وبفلانة وقال الأخفش يجوز أن يكون على معنى هزي إليك رطباً بجذع النخلة أي على جذعها إذا عرفت هذا فنقول قد تقدم أن الوقت كان شتاء وأن النخلة كانت يابسة واختلفوا في أنه هل أثمر الرطب وهو على حاله أو تغير وهل أثمر مع الرطب غيره والظاهر يقتضي أنه صار نخلة لقوله بجذع النخلة وأنه ما أثمر إلا الرطب
المسألة الرابعة قال صاحب ( الكشاف ) تساقط فيه تسع قراءات تساقط بادغام التاء وتتساقط بإظهار

التاءين وتساقط بطرح الثانية ويساقط بالياء وإدغام التاء وتساقط وتسقط ويسقط وتسقط ويسقط التاء للنخلة والياء للجذع
المسألة الخامسة رطباً تمييز أو مفعول على حسب القراءة الجني المأخوذ طرياً وعن طلحة بن سليمان جنياً بكسر الجيم للأتباع والمعنى جمعنا لك في السري والرطب فائدتين إحداهما الأكل والشرب والثانية سلوة الصدر بكونهما معجزتين فإن قال قائل فتلك الأفعال الخارقة للعادات لمن قلنا قالت المعتزلة إنها كانت معجزة لزكريا وغيره من الأنبياء وهذا باطل لأن زكرياء عليه السلام ما كان له علم بحالها ومكانها فكيف بتلك المعجزات بل الحق أنها كانت كرامات لمريم أو إرهاصاً لعيسى عليه السلام
المسألة السادسة فكلي واشربي وقري عيناً قرىء بكسر القاف لغة نجد ونقول قدم الأكل على الشرب لأن احتياج النفساء إلى أكل الرطب أشد من احتياجها إلى شرب الماء لكثرة ما سال منها من الدماء ثم قال وقري عيناً وههنا سؤال وهو أن مضرة الخوف أشد من مضرة الجوع والعطش والدليل عليه أمران أحدهما أن الخوف ألم الروح والجوع ألم البدن وألم الروح أقوى من ألم البدن والثاني ما روي أنه أجيعت شاة ثم قدم العلف إليها وربط عندها ذئب فبقيت الشاة مدة مديدة لا تتناول العلف مع جوعها الشديد خوفاً من الذئب ثم كسرت رجلها وقدم العلف إليها فتناولت العلف مع ألم البدن دلت هذه الحكاية على أن ألم الخوف أشد من ألم البدن إذا ثبت هذا فنقول فلم قدم الله تعالى في الحكاية دفع ضرر الجوع والعطش على دفع ضرر الخوف والجواب أن هذا الخوف كان قليلاً لأن بشارة جبريل عليه السلام كانت قد تقدمت فما كانت تحتاج إلى التذكير مرة أخرى
المسألة السابعة قال صاحب ( الكشاف ) قرأ ترئن بالهمزة ابن الرومي عن أبي عمرو وهذا من لغة من يقول لبأت بالحج وحلأت السويق وذلك لتآخ بين الهمز وحرف اللين في الإبدال صَوْماً صمتاً وفي مصحف عبد الله صمتاً وعن أنس بن مالك مثله وقيل صياماً إلا أنهم كانوا لا يتكلمون في صيامهم فعلى هذا كان ذكر الصوم دالاً على الصمت وهذا النوع من النذر كان جائزاً في شرعهم وهل يجوز مثل هذا النذر في شرعنا قال القفال لعله يجوز لأن الاحتراز عن كلام الآدميين وتجريد الفكر لذكر الله تعالى قربة ولعله لا يجوز لما فيه من التضييق وتعذيب النفس كنذر القيام في الشمس وروي أنه دخل أبو بكر على امرأة قد نذرت أنها لا تتكلم فقال أبو بكر إن الإسلام هدم هذا فتكلمي والله أعلم
المسألة الثامنة أمرها الله تعالى بأن تنذر الصوم لئلا تشرع مع من اتهمها في الكلام لمعنيين أحدهما أن كلام عيسى عليه السلام أقوى في إزالة التهمة من كلامها وفيه دلالة على أن تفويض الأمر إلى الأفضل أولى والثاني كراهة مجادلة السفهاء وفيه أن السكوت عن السفيه واجب ومن أذل الناس سفيه لم يجد مسافهاً
المسألة التاسعة اختلفوا في أنها هل قالت معهم إِنّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمَانِ صَوْماً فقال قوم إنها ما تكلمت معهم بذلك لأنها كانت مأمورة بأن تأتي بهذا النذر عند رؤيتها فإذا أتت بهذا النذر فلو تكلمت معهم بعد ذلك لوقعت في المناقضة ولكنها أمسكت وأومأت برأسها وقال آخرون إنها ما نذرت في الحال بل صبرت حتى أتاها القوم فذكرت لهم إِنّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمَانِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً وهذه الصيغة وإن

كانت عامة إلا أنها صارت بالقرينة مخصوصة في حق هذا الكلام
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُواْ يامَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً ياأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِى الْمَهْدِ صَبِيّاً
وفيه مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في أنها كيف أتت بالولد على أقوال الأول ما روي عن وهب قال أنساها كرب الولادة وما سمعته من الناس ما كان من كلام الملائكة من البشارة بعيسى عليه السلام فلما كلمها جاءها مصداق ذلك فاحتملته وأقبلت به إلى قومها الثاني ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن يوسف انتهى بمريم إلى غار فأدخلها فيه أربعين يوماً حتى طهرت من النفاس ثم أتت به قومها تحمله فكلمها عيسى في الطريق فقال يا أماه أبشري فإني عبد الله ومسيحه وهذان الوجهان محتملان وليس في القرآن ما يدل على التعيين
المسألة الثانية الفريء البديع وهو من فري الجلد يروى أنهم لما رأوها ومعها عيسى عليه السلام قالوا لها لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً فيحتمل أن يكون المراد شيئاً عجيباً خارجاً عن العادة من غير تعيير وذم ويحتمل أن يكون مرادهم شيئاً عظيماً منكراً فيكون ذلك منهم على وجه الذم وهذا أظهر لقولهم بعده فَرِيّاً ياأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْء وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً لأن هذا القول ظاهره التوبيخ وأما هرون ففيه أربعة أقوال الأول أنه رجل صالح من بني إسرائيل ينسب إليه كل من عرف بالصلاح والمراد أنك كنت في الزهد كهرون فكيف صرت هكذا وهو قول قتادة وكعب وابن زيد والمغيرة بن شعبة ذكر أن هرون الصالح تبع جنازته أربعون ألفاً كلهم يسمون هرون تبركاً به وباسمه الثاني أنه أخو موسى عليه السلام وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إنما عنوا هرون النبي وكانت من أعقابه وإنما قيل أخت هرون كما يقال يا أخا همدان أي يا واحداً منهم والثالث كان رجلاً معلناً بالفسق فنسبت إليه بمعنى التشبيه لا بمعنى النسبة الرابع كان لها أخ يسمى هرون من صلحاء بني إسرائيل فعيرت به وهذا هو الأقرب لوجهين الأول أن الأصل في الكلام الحقيقة وإنما يكون ظاهر الآية محمولاً على حقيقتها لو كان لها أخ مسمى بهرون الثاني أنها أضيفت إليه ووصف أبواها بالصلاح وحينئذ يصير التوبيخ أشد لأن من كان حال أبويه وأخيه هذه الحالة يكون صدور الذنب عنه أفحش
المسألة الثالثة القراءة المشهورة مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْء وقرأ عمرو بن رجاء التميمي ( ما كان أباك امرؤ سوء

المسألة الرابعة أنهم لما بالغوا في توبيخها سكتت وأشارت إليه أي إلى عيسى عليه السلام أي هو الذي يجيبكم إذا ناطقتموه وعن السدي لما أشارت إليه غضبوا غضباً شديداً وقالوا لسخريتها بنا أشد من زناها روي أنه كان يرضع فلما سمع ذلك ترك الرضاع وأقبل عليهم بوجهه واتكأ على يساره وأشار بسبابته وقيل كلمهم بذلك ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغاً يتكلم فيه الصبيان وقيل إن زكرياء عليه السلام أتاها عند مناظرة اليهود إياها فقال لعيسى عليه السلام انطق بحجتك إن كنت أمرت بها فقال عيسى عليه السلام عند ذلك
المسألة الرابعة أنهم لما بالغوا في توبيخها سكتت وأشارت إليه أي إلى عيسى عليه السلام أي هو الذي يجيبكم إذا ناطقتموه وعن السدي لما أشارت إليه غضبوا غضباً شديداً وقالوا لسخريتها بنا أشد من زناها روي أنه كان يرضع فلما سمع ذلك ترك الرضاع وأقبل عليهم بوجهه واتكأ على يساره وأشار بسبابته وقيل كلمهم بذلك ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغاً يتكلم فيه الصبيان وقيل إن زكرياء عليه السلام أتاها عند مناظرة اليهود إياها فقال لعيسى عليه السلام انطق بحجتك إن كنت أمرت بها فقال عيسى عليه السلام عند ذلك إِنّى عَبْدُ اللَّهِ ( مريم 30 ) فإن قيل كيف عرفت مريم من حال عيسى عليه السلام أنه يتكلم قلنا إن جبريل عليه السلام أو عيسى عليه السلام ناداها من تحتها أن لا تحزني وأمرها عند رؤية الناس بالسكوت فصار ذلك كالتنبيه لها على أن المجيب هو عيسى عليه السلام أو لعلها عرفت ذلك بالوحي إلى زكرياء أو لعلها عرفت بالوحي إليها على سبيل الكرامة بقي ههنا بحثان
البحث الأول قوله كَيْفَ نُكَلّمُ مَن كَانَ فِى الْمَهْدِ صَبِيّاً أي حصل في الْمَهْدِ فكان ههنا بمعنى حصل ووجد وهذا هو الأقرب في تأويل هذا اللفظ وإن كان الناس قد ذكروا وجوهاً أخر
البحث الثاني اختلفوا في المهد فقيل هو حجرها لما روى أنها أخذته في خرقة فأتت به قومها فلما رأوها قالوا لها ما قالوا فأشارت إليه وهو في حجرها ولم يكن لها منزل معد حتى يعد لها المهد أو المعنى كيف نكلم صبياً سبيله أن ينام في المهد
قَالَ إِنِّى عَبْدُ اللَّهِ ءَاتَانِى َ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِى نَبِيّاً وَجَعَلَنِى مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِى بِالصَّلَواة ِ وَالزَّكَواة ِ مَا دُمْتُ حَيّاً وَبَرّاً بِوَالِدَتِى وَلَمْ يَجْعَلْنِى جَبَّاراً شَقِيّاً وَالسَّلَامُ عَلَى َّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً
اعلم أنه وصف نفسه بصفات تسع الصفة الأولى قوله إِنّى عَبْدُ اللَّهِ وفيه فوائد الفائدة الأولى أن الكلام منه في ذلك الوقت كان سبباً للوهم الذي ذهبت إليه النصارى فلا جرم أول ما تكلم إنما تكلم بما يرفع ذلك الوهم فقال إِنّى عَبْدُ اللَّهِ وكان ذلك الكلام وإن كان موهماً من حيث إنه صدر عنه في تلك الحالة ولكن ذلك الوهم يزول ولا يبقى من حيث إنه تنصيص على العبودية الفائدة الثانية أنه لما أقر بالعبودية فإن كان صادقاً في مقاله فقد حصل الغرض وإن كان كاذباً لم تكن القوة قوة إلهية بل قوة شيطانية فعلى التقديرين يبطل كونه إلهاً الفائدة الثالثة أن الذي اشتدت الحاجة إليه في ذلك الوقت إنما هو نفي تهمة الزنا عن مريم عليها السلام ثم إن عيسى عليه السلام لم ينص على ذلك وإنما نص على إثبات عبودية نفسه كأنه جعل إزالة

التهمة عن الله تعالى أولى من إزالة التهمة عن الأم فلهذا أول ما تكلم إنما تكلم بها الفائدة الرابعة وهي أن التكلم بإزالة هذه التهمة عن الله تعالى يفيد إزالة التهمة عن الأم لأن الله سبحانه لا يخص الفاجرة بولد في هذه الدرجة العالية والمرتبة العظيمة وأما التكلم بإزالة التهمة عن الأم لا يفيد إزالة التهمة عن الله تعالى فكان الاشتغال بذلك أولى فهذا مجموع ما في هذا اللفظ من الفوائد واعلم أن مذهب النصارى متخبط جداً وقد اتفقوا على أنه سبحانه ليس بجسم ولا متحيز ومع ذلك فإنا نذكر تقسيماً حاصراً يبطل مذهبهم على جميع الوجوه فنقول إما أن يعتقدوا كونه متحيزاً أو لا فإن اعتقدوا كونه متحيزاً أبطلنا قولهم بإقامة الدلالة على حدوث الأجسام وحينئذ يبطل كل ما فرعوا عليه وإن اعتقدوا أنه ليس بمتحيز يبطل ما يقوله بعضهم من أن الكلمة اختلطت بالناسوت اختلاط الماء بالخمر وامتزاج النار بالفحم لأن ذلك لا يعقل إلا في الأجسام فإذا لم يكن جسماً استحال ذلك ثم نقول للناس قولان في الإنسان منهم من قال إنه هو هذه البنية أو جسم موجود في داخلها ومنهم من يقول إنه جوهر مجرد عن الجسمية والحلول في الأجسام فنقول هؤلاء النصارى إما أن يعتقدوا أن الله أو صفة من صفاته اتحد ببدن المسيح أو بنفسه أو يعتقدوا أن الله أو صفة من صفاته حل في بدن المسيح أو في نفسه أو يقولوا لا نقول بالاتحاد ولا بالحلول ولكن نقول إنه تعالى أعطاه القدرة على خلق الأجسام والحياة والقدرة وكان لهذا السبب إلهاً أو لا يقولوا بشيء من ذلك ولكن قالوا إنه على سبيل التشريف اتخذه ابناً كما اتخذ إبراهيم على سبيل التشريف خليلاً فهذه هي الوجوه المعقولة في هذا الباب والكل باطل أما القول الأول بالاتحاد فهو باطل قطعاً لأن الشيئين إذا اتحدا فهما حال الاتحاد إما أن يكونا موجودين أو معدومين أو يكون أحدهما موجوداً والآخر معدوماً فإن كانا موجودين فهما اثنان لا واحد فالاتحاد باطل وإن عدما وحصل ثالث فهو أيضاً لا يكون اتحاداً بل يكون قولاً بعدم ذينك الشيئين وحصول شيء ثالث وإن بقي أحدهما وعدم الآخر فالمعدوم يستحيل أن يتحد بالوجود لأنه يستحيل أن يقال المعدوم بعينه هو الموجود فظهر من هذا البرهان الباهر أن الاتحاد محال وأما الحلول فلنا فيه مقامان الأول أن التصديق مسبوق بالتصور فلا بد من البحث عن ماهية الحلول حتى يمكننا أن نعلم أنه هل يصح على الله تعالى أو لا يصح وذكروا للحلول تفسيرات ثلاثة أحدها كون الشيء في غيره ككون ماء الورد في الورد والدهن في السمسم والنار في الفحم واعلم أن هذا باطل لأن هذا إنما يصح لو كان الله تعالى جسماً وهم وافقونا على أنه ليس بجسم وثانيها حصوله في الشيء على مثال حصول اللون في الجسم فنقول المعقول من هذه التبعية حصول اللون في ذلك الحيز تبعاً لحصول محله فيه وهذا أيضاً إنما يعقل في حق الأجسام لا في حق الله تعالى وثالثها حصوله في الشيء على مثال حصول الصفات الإضافية للذوات فنقول هذا أيضاً باطل لأن المعقول من هذه التبعية الاحتياج فلو كان الله تعالى في شيء بهذا المعنى لكان محتاجاً فكان ممكناً فكان مفتقراً إلى المؤثر وذلك محال وإذا ثبت أنه لا يمكن تفسير هذا الحلول بمعنى ملخص يمكن إثباته في حق الله تعالى امتنع إثباته المقام الثاني احتج الأصحاب على نفي الحلول مطلقاً بأن قالوا لو حل لحل إما مع وجوب أن يحل أو مع جواز أن يحل والقسمان باطلان فالقول بالحلول باطل وإنما قلنا إنه لا يجوز أن يحل مع وجوب أن

يحل لأن ذلك يقتضي إما حدوث الله تعالى أو قدم المحل وكلاهما باطلان لأنا دللنا على أن الله قديم وعلى أن الجسم محدث ولأنه لو حل مع وجوب أن يحل لكان محتاجاً إلى المحل والمحتاج إلى الغير ممكن لذاته لا يكون واجباً لذاته وإنما قلنا إنه لا يجوز أن يحل مع جواز أن يحل لأنه لما كانت ذاته واجبة الوجود لذاته وحلوله في المحل أمر جائز والموصوف بالوجوب غير ما هو موصوف بالجواز فيلزم أن يكون حلوله في المحل أمراً زائداً على ذاته وذلك محال لوجهين أحدهما أن حلوله في المحل لو كان زائداً على ذاته لكان حلول ذلك الزائد في محله زائداً على ذاته أو لزم التسلسل وهو محال والثاني أن حلوله في ذلك لما كان زائداً على ذاته فإذا حل في محل وجب أن يحل فيه صفة محدثة وذلك محال لأنه لو كان قابلاً للحوادث لكانت تلك القابلية من لوازم ذاته وكانت حاصلة أزلاً وذلك محال لأن وجود الحوادث في الأزل محال فحصول قابليتها وجب أن يكون ممتنع الحصول فإن قيل لم لا يجوز أن يحل مع وجوب أن يحل لأنه يلزم إما حدوث الحال أو قدم المحل قلنا لا نسلم وجوب أحد الأمرين ولم لا يجوز أن يقال إن ذاته تقتضي الحلول بشرط وجود المحل ففي الأزل ما وجد المحل فلم يوجد شرط هذا الوجوب فلا جرم لم يجب الحلول وفيما لا يزال حصل هذا الشرط فلا جرم وجب سلمنا أنه يلزم إما حدوث الحال أو قدم المحل فلم لا يجوز قوله إنا دللنا على حدوث الأجسام قلنا لم لا يجوز أن يكون محله ليس بجسم ولكنه يكون عقلاً أو نفساً أو هيولى على ما يثبته بعضهم ودليلكم على حدوث الأجسام لا يقبل حدوث هذه الأشياء قوله ثانياً لو حل مع وجوب أن يحل لكان محتاجاً إلى المحل قلنا لا نسلم وجوب أحد الأمرين بل ههنا احتمالان آخران أحدهما أن العلة وإن امتنع انفكاكها عن المعلول لكنها لا تكون محتاجة إلى المعلول فلم لا يجوز أن يقال إن ذاته غنية عن ذلك المحل ولكن ذاته توجب حلول نفسها في ذلك المعلول فيكون وجوب حلولها في ذلك المحل من معلولات ذاته وقد ثبت أن العلة وإن استحال انفكاكها عن المعلول لكن ذلك لا يقتضي احتياجها إلى المعلول الثاني أن يقال إنه في ذاته يكون غنياً عن المحل وعن الحلول إلا أن المحل يوجب لذاته صفة الحلول فالمفتقر إلى المحل صفة من صفاته وهي حلوله في ذلك المحل فأما ذاته فلا ولا يلزم من افتقار صفة من صفاته الإضافية إلى الغير افتقار ذاته إلى الغير وذلك لأن جميع الصفات الإضافية الحاصلة له مثل كونه أولاً وآخراً ومقارناً ومؤثراً ومعلوماً ومذكوراً مما لا يتحقق إلا عند حصول التحيز وكيف لا والإضافات لا بد في تحققها من أمرين سلمنا ذلك فلم لا يجوز أن يحل مع جواز أن يحل قوله يلزم أن يكون حلوله فيه زائداً عليه ويلزم التسلسل قلنا حلوله في المحل لما كان جائزاً كان حلوله في المحل زائداً عليه أما كون ذلك الحلول حالاً في المحل أمر واجب فلا يلزم أن يكون حلول الحلول زائداً عليه فلا يلزم التسلسل قوله ثانياً يلزم أن يصير محل الحوادث قلنا لم لا يجوز ذلك قوله يلزم أن يكون قابلاً للحوادث في الأزل قلنا لا شك أن تمكنه من الإيجاد ثابت له إما لذاته أو لأمر ينتهي إلى ذاته وكيف كان فيلزم صحة كونه مؤثراً في الأزل فكل ما ذكرتموه في المؤثرية فنحن نذكره في القابلية والجواب أنا نقرر هذه الدلالة على وجه آخر

بحيث تسقط عنها هذه الأسئلة فنقول ذاته إما أن تكون كافية اقتضاء هذا الحلول أو لا تكون كافية في ذلك فإن كان الأول استحال توقف ذلك الاقتضاء على حصول شرط فيعود ما قلنا إنه يلزم إما قدم المحل أو حدوث الحال وإن كان الثاني كان كونه مقتضياً لذلك الحلول أمراً زائداً على ذاته حادثاً فيه فعلى التقديرات كلها يلزم من حدوث حلوله في محل حدوث شيء فيه لكن يستحيل أن يكون قابلاً للحوادث وإلا لزم أن يكون في الأزل قابلاً لها وهو محال على ما بيناه وأما المعارضة بالقدرة فغير واردة لأنه تعالى لذاته قادر على الإيجاد في الأزل فهو قادر على الإيجاد فيما لا يزال فههنا أيضاً لو كانت ذاته قابلة للحوادث لكانت في الأزل قابلة لها فحينئذ يلزم المحال المذكور هذا تمام القول في هذه الأدلة ولنا في إبطال قول النصارى وجوه أخر أحدها أنهم وافقونا على أن ذاته سبحانه وتعالى لم تحل في ناسوت عيسى عليه السلام بل قالوا الكلمة حلت فيه والمراد من الكلمة العلم فنقول العلم لما حل في عيسى ففي تلك الحالة إما أن يقال إنه بقي في ذات الله تعالى أو ما بقي فيها فإن كان الأول لزم حصول الصفة الواحدة في محلين وذلك غير معقول ولأنه لو جاز أن يقال العلم الحاصل في ذات عيسى عليه السلام هو العلم الحاصل في ذات الله تعالى بعينه فلم لا يجوز في حق كل واحد ذلك حتى يكون العلم الحاصل لكل واحد هو العلم الحاصل لذات الله تعالى وإن كان الثاني لزم أن يقال إن الله تعالى لم يبق عالماً بعد حلول علمه في عيسى عليه السلام وذلك مما لا يقوله عاقل وثانيها مناظرة جرت بيني وبين بعض النصارى فقلت له هل تسلم أن عدم الدليل لا يدل على عدم المدلول أم لا فإن أنكرت لزمك أن لا يكون الله تعالى قديماً لأن دليل وجوده هو العالم فإذا لزم من عدم الدليل عدم المدلول لزم من عدم العالم في الأزل عدم الصانع في الأزل وإن سلمت أنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول فنقول إذا جوزت اتحاد كلمة الله تعالى بعيسى أو حلولها فيه فكيف عرفت أن كلمة الله تعالى ما دخلت في زيد وعمرو بل كيف أنها ما حلت في هذه الهرة وفي هذا الكلب فقال لي إن هذا السؤال لا يليق بك لأنا إنما أثبتنا ذلك الاتحاد أو الحلول بناء على ما ظهر على يد عيسى عليه السلام من إحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص فإذا لم نجد شيئاً من ذلك ظهر على يد غيره فكيف نثبت الاتحاد أو الحلول فقلت له إني عرفت من هذا الكلام أنك ما عرفت أول الكلام لأنك سلمت لي أن عدم الدليل لا يدل على عدم المدلول فإذا كان هذا الحلول غير ممتنع في الجملة فأكثر ما في الباب أنه وجد ما يدل على حصوله في حق عيسى عليه السلام ولم يوجد ذلك الدليل في حق زيد وعمرو ولكن عدم الدليل لا يدل على عدم المدلول فلا يلزم من عدم ظهور هذه الخوارق على يد زيد وعمرو وعلى السنور والكلب عدم ذلك الحلول فثبت أنك مهما جوزت القول بالاتحاد والحلول لزمك تجويز حصول ذلك الاتحاد وذلك الحلول في حق كل واحد بل في حق كل حيوان ونبات ولا شك أن المذهب الذي يسوق قائله إلى مثل هذا القول الركيك يكون باطلاً قطعاً ثم قلت له وكيف دل إحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص على ما قلت أليس أن انقلاب العصا ثعباناً أبعد من انقلاب الميت حياً فإذا ظهر ذلك على يد موسى عليه السلام ولم يدل على إهليته فبأن لا يدل هذا على آلهية عيسى أولى

وثالثها أنا نقول دلالة أحوال عيسى على العبودية أقوى من دلالتها على الربوبية لأنه كان مجتهداً في العبادة والعبادة لا تليق إلا بالعبيد فإنه كان في نهاية البعد عن الدنيا والاحتراز عن أهلها حتى قالت النصارى إن اليهود قتلوه ومن كان في الضعف هكذا فكيف تليق به الربوبية ورابعها المسيح إما أن يكون قديماً أو محدثاً والقول بقدمه باطل لأنا نعلم بالضرورة أنه ولد وكان طفلاً ثم صار شاباً وكان يأكل ويشرب ويعرض له ما يعرض لسائر البشر وإن كان محدثاً كان مخلوقاً ولا معنى للعبودية إلا ذلك فإن قيل المعنى بإلهيته أنه حلت صفة الآلهية فيه قلنا هب أنه كان كذلك لكن الحال هو صفة الإله والمسيح هو المحل والمحل محدث مخلوق فما هو المسيح ( إلا ) عبد محدث فكيف يمكن وصفه بالإلهية وخامسها أن الولد لا بد وأن يكون من جنس الوالد فإن كان لله ولد فلا بد وأن يكون من جنسه فإذن قد اشتركا من بعض الوجوه فإن لم يتميز أحدهما عن الآخر بأمر ما فكل واحد منهما هو الآخر وإن حصل الإمتياز فما به الإمتياز غير ما به الاشتراك فيلزم وقوع التركيب في ذات الله وكل مركب ممكن فالواجب ممكن هذا خلف محال هذا كله على الإتحاد والحلول أما الاحتمال الثالث وهو أن يقال معنى كونه إلهاً أنه سبحانه خص نفسه أو بدنه بالقدرة على خلق الأجسام والتصرف في هذا العالم فهذا أيضاً باطل لأن النصارى حكوا عنه الضعف والعجز وأن اليهود قتلوه ولو كان قادراً على خلق الأجسام لما قدروا على قتله بل كان هو يقتلهم ويخلق لنفسه عسكراً يذبون عنه وأما الاحتمال الرابع وهو أنه اتخذه ابناً لنفسه على سبيل التشريف فهذا قد قال به قوم من النصارى يقال لهم الأرميوسية وليس فيه كثير خطأ إلا في اللفظ فهذا جملة الكلام على النصارى وبه ثبت صدق ما حكاه الله تعالى عنه أنه قال إني عبد الله الصفة الثانية قوله تعالى الْكِتَابَ وَجَعَلَنِى وفيه مسائل
المسألة الأولى اختلف الناس فيه فالجمهور على أنه قال هذا الكلام حال صغره وقال أبو القاسم البلخي إنه إنما قال ذلك حين كان كالمراهق الذي يفهم وإن لم يبلغ حد التكليف أما الأولون فلهم قولان أحدهما أنه كان في ذلك الصغر نبياً الثاني روى عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال المراد بأن حكم وقضى بأنه سيبعثني من بعد ولما تكلم بذلك سكت وعاد إلى حال الصغر ولما بلغ ثلاثين سنة بعثه الله نبياً واحتج من نص على فساد القول الأول بأمور أحدها أن النبي لا يكون إلا كاملاً والصغير ناقص الخلقة بحيث يعد هذا التحدي من الصغير منفراً بل هو في التنفير أعظم من أن يكون امراأة وثانيها أنه لو كان نبياً في هذا الصغر لكان كمال عقله مقدماً على ادعائه للنبوة إذ النبي لا بد وأن يكون كامل العقل لكن كمال عقله في ذلك الوقت خارق للعادة فيكون المعجز متقدماً على التحدي وإنه غير جائز وثالثها أنه لو كان نبياً في ذلك الوقت لوجب أن يشتغل ببيان الأحكام وتعريف الشرائع ولو وقع ذلك لاشتهر ولنقل فحيث لم يحصل ذلك علمنا أنه ما كان نبياً في ذلك الوقت أجاب الأولون عن الكلام الأول بأن كون الصبي ناقصاً ليس لذاته بل الأمر يرجع إلى صغر جسمه ونقصان فهمه فإذا أزال الله تعالى هذه الأشياء لم تحصل النفرة بل تكون الرغبة إلى استماع قوله وهو على هذه الصفة أتم وأكمل وعن الكلام الثاني لم لا يجوز أن يقال إكمال عقله وإن حصل مقدماً على دعواه إلا أنه معجزة لزكريا عليه السلام أو يقال إنه إرهاص لنبوته أو كرامة لمريم عليها السلام وعندنا الإرهاص والكرامات جائزة وعن الكلام الثالث لم لا يجوز أن يقال مجرد بعثته إليهم من غير بيان شيء من الشرائع والأحكام جائز ثم بعد البلوغ أخذ في شرح تلك الأحكام فثبت

بهذا أنه لا امتناع في كونه نبياً في ذلك الوقت وقوله الْكِتَابَ وَجَعَلَنِى يدل على كونه نبياً في ذلك الوقت فوجب إجراؤه على ظاهره بخلاف ما قاله عكرمة أما قول أبي القاسم البلخي فبعيد وذلك لأن الحاجة إلى كلام عيسى عليه السلام إنما كانت عند وقوع التهمة على مريم عليها السلام
المسألة الثانية اختلفوا في ذلك الكتاب فقال بعضهم هو التوراة لأن الألف واللام في الكتاب تنصرف للمعهود والكتاب المعهود لهم هو التوراة وقال أبو مسلم المراد هو الإنجيل لأن الألف واللام ههنا للجنس أي آتاني من هذا الجنس وقال قوم المراد هو التوراة والإنجيل لأن الألف واللام تفيد الاستغراق
المسألة الثالثة اختلفوا في أنه متى آتاه الكتاب ومتى جعله نبياً لأن قوله الْكِتَابَ وَجَعَلَنِى نَبِيّاً وَجَعَلَنِى يدل على أن ذلك كان قد حصل من قبل إما ملاصقاً لذلك الكلام أو متقدماً عليه بأزمان والظاهر أنه من قبل أن كلمهم آتاه الله الكتاب وجعله نبياً وأمره بالصلاة والزكاة وأن يدعو إلى الله تعالى وإلى دينه وإلى ما خص به من الشريعة فقيل هذا الوحي نزل عليه وهو في بطن أمه وقيل لما انفصل من الأم آتاه الله الكتاب والنبوة وأنه تكلم مع أمه وأخبرها بحاله وأخبرها بأنه يكلمهم بما يدل على براءة حالها فلهذا أشارت إليه بالكلام الصفة الثالثة قوله وَجَعَلَنِى نَبِيّاً قال بعضهم أخبر أنه نبي ولكنه ما كان رسولاً لأنه في ذلك الوقت ما جاء بالشريعة ومعنى كونه نبياً أنه رفيع القدر على الدرجة وهذا ضعيف لأن النبي في عرف الشرع هو الذي خصه الله بالنبوة وبالرسالة خصوصاً إذا قرن إليه ذكر الشرع وهو قوله وأوصاني بالصلاة والزكاة الصفة الرابعة قوله وَجَعَلَنِى مُبَارَكاً أَيْنَمَا كُنتُ فلقائل أن يقول كيف جعله مباركاً والناس كانوا قبله على الملة الصحيحة فلما جاء صار بعضهم يهوداً وبعضهم نصارى قائلين بالتثليث ولم يبق على الحق إلا القليل والجواب ذكروا في ( تفسير المبارك ) وجوهاً أحدها أن البركة في اللغة هي الثبات وأصله من بروك البعير فمعناه جعلني ثابتاً على دين الله مستقراً عليه وثانيها أنه إنما كان مباركاً لأنه كان يعلم الناس دينهم ويدعوهم إلى طريق الحق فإن ضلوا فمن قبل أنفسهم لا من قبله وروى الحسن عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال أسلمت أم عيسى عليها السلام عيسى إلى الكتاب فقالت للمعلم أدفعه إليك على أن لا تضربه فقال له المعلم اكتب فقال أي شيء أكتب فقال اكتب أبجد فرفع عيسى عليه السلام رأسه فقال هل تدري ما أبجد فعلاه بالدرة ليضربه فقال يا مؤدب لا تضربني إن كنت لا تدري فاسألني فأنا أعلمك الألف من آلاء الله والباء من بهاء الله والجيم من جمال الله والدال من أداء الحق إلى الله وثالثها البركة الزيادة والعلو فكأنه قال جعلني في جميع الأحوال غالباً مفلحاً منجحاً لأني ما دمت أبقى في الدنيا أكون على الغير مستعلياً بالحجة فإذا جاء الوقت المعلوم يكرمني الله تعالى بالرفع إلى السماء ورابعها مبارك على الناس بحيث يحصل بسبب دعائي إحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص عن قتادة أنه رأته امرأة وهو يحيي الموتى ويبرىء الأكمة والأبرص فقالت طوبى لبطن حملك وثدي أرضعت به فقال عيسى عليه السلام مجيباً لها طوبى لمن تلا كتاب الله واتبع ما فيه ولم يكن جباراً شقياً أما قوله أَيْنَ مَا كُنتُ فهو يدل على أن حاله لم يتغير كما قيل إنه عاد إلى حال الصغر وزوال التكليف الصفة الخامسة قوله وَجَعَلَنِى مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِى فإن قيل كيف أمر بالصلاة والزكاة مع أنه كان طفلاً صغيراً والقلم مرفوع عنه على ما قاله ( صلى الله عليه وسلم ) ( رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يبلغ ) الحديث وجوابه

من وجهين الأول أن قوله وَجَعَلَنِى مُبَارَكاً أَيْنَ لا يدل على أنه تعالى أوصاه بأدائهما في الحال بل بعد البلوغ فلعل المراد أنه تعالى أوصاه بهما وبأدائهما في الوقت المعين له وهو وقت البلوغ الثاني لعل الله تعالى لما انفصل عيسى عن أمه صيره بالغاً عاقلاً تام الأعضاء والخلقة وتحقيقه قوله تعالى إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءادَمَ ( آل عمران 59 ) فكما أنه تعالى خلق آدم تاماً كاملاً دفعة فكذا القول في عيسى عليه السلام وهذا القول الثاني أقرب إلى الظاهر لقوله مَا دُمْتُ حَيّاً فإنه يفيد أن هذا التكليف متوجه عليه في جميع زمان حيائه ولكن لقائل أن يقول لو كان الأمر كذلك لكان القوم حين رأوه فقد رأوه شخصاً كامل الأعضاء تام الخلقة وصدور الكلام عن مثل هذا الشخص لا يكون عجباً فكان ينبغي أن لا يعجبوا فلعل الأول أن يقال إنه تعالى جعله مع صغر جثته قوي التركيب كامل العقل بحيث كان يمكنه أداء الصلاة والزكاة والآية دالة على أن تكليفه لم يتغير حين كان في الأرض وحين رفع إلى السماء وحين ينزل مرة أخرى الصفة السادسة قوله تعالى وَبَرّاً بِوَالِدَتِى أي جعلني براً بوالدتي وهذا يدل على قولنا إن فعل العبد مخلوق لله تعالى لأن الآية تدل على أن كونه براً إنما حصل بجعل الله وخلقه وحمله على الألطاف عدول عن الظاهر ثم قوله وَبَرّاً بِوَالِدَتِى إشارة إلى تنزيه أمه عن الزنا إذ لو كانت زانية لما كان الرسول المعصوم مأموراً بتعظيمها قال صاحب ( الكشاف ) جعل ذاته براً لفرط بره ونصبه بفعل في معنى أوصاني وهو كلفني لأن أوصاني بالصلاة وكلفني بها واحد الصفة السابعة قوله وَلَمْ يَجْعَلْنِى جَبَّاراً شَقِيّاً وهذا أيضاً يدل على قولنا لأنه لما بين أنه جعله براً وما جعله جباراً فهذا إنما يحسن لو أن الله تعالى جعل غير جباراً وغيره بار بأمه فإن الله تعالى لو فعل ذلك بكل أحد لم يكن لعيسى عليه السلام مزيد تخصيص بذلك ومعلوم أنه عليه السلام إنما ذكر ذلك في معرض التخصيص وقوله وَلَمْ يَجْعَلْنِى جَبَّاراً أي ما جعلني متكبراً بل أنا خاضع لأني متواضع لها ولو كنت جباراً لكنت عاصياً شقياً وروي أن عيسى عليه السلام قال قلبي لين وأنا صغير في نفسي وعن بعض العلماء لا تجد العاق إلا جباراً شقياً وتلا وَبَرّاً بِوَالِدَتِى وَلَمْ يَجْعَلْنِى جَبَّاراً شَقِيّاً ولا تجد سيىء الملكة إلا مختالاً فخوراً وقرأ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً الصفة الثامنة هي قوله وَالسَّلَامُ عَلَى َّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً وفيه مسائل
المسألة الأولى قال بعضهم لام التعريف في السلام منصرف إلى ما تقدم في قصتي يحيى عليه السلام من قوله وَسَلَامٌ عَلَيْهِ ( مريم 15 ) أي السلام الموجه إليه في المواطن الثلاثة موجه إلي أيضاً وقال صاحب ( الكشاف ) الصحيح أن يكون هذا التعريف تعويضاً باللعن على من اتهم مريم بالزنا وتحقيقه أن اللام للاستغراق فإذا قال وَالسَّلَامُ عَلَى َّ فكأنه قال وكل السلام علي وعلى أتباعي فلم يبق للأعداء إلا اللعن ونظيره قول موسى عليه السلام وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ( طه 47 ) بمعنى أن العذاب على من كذب وتولى وكان المقام مقام اللجاج والعناد ويليق به مثل هذا التعريض
المسألة الثانية روى بعضهم عن عيسى عليه السلام أنه قال ليحيى أنت خير مني سلم الله عليك وسلمت على نفسي وأجاب الحسن فقال إن تسليمه على نفسه بتسليم الله عليه

المسألة الثالثة قال القاضي السلام عبارة عما يحصل به الأمان ومنه السلامة في النعم وزوال الآفات فكأنه سأل ربه وطلب منه ما أخبر الله تعالى أنه فعله بيحيى ولا بد في الأنبياء من أن يكونوا مستجابي الدعوة وأعظم أحوال الإنسان احتياجاً إلى السلامة هي هذه الأحوال الثلاثة وهي يوم الولادة ويوم الموت ويوم البعث فجميع الأحوال التي يحتاج فيها إلى السلامة واجتماع السعادة من قبله تعالى طلبها ليكون مصوناً عن الآفات والمخافات في كل الأحوال واعلم أن اليهود والنصارى ينكرون أن عيسى عليه السلام تكلم في زمان الطفولية واحتجوا عليه بأن هذا من الوقائع العجيبة التي تتوافر الدواعي على نقلها فلو وجدت لنقلت بالتواتر ولو كان ذلك لعرفه النصارى لا سيما وهم من أشد الناس بحثاً عن أحواله وأشد الناس غلواً فيه حتى زعموا كونه إلهاً ولا شك أن الكلام في الطفولية من المناقب العظيمة والفضائل التامة فلما لم تعرفه النصارى مع شدة الحب وكمال البحث عن أحواله علمنا أنه لم يوجد ولأن اليهود أظهروا عداوته حال ما أظهر ادعاء النبوة فلو أنه عليه السلام تكلم في زمان الطفولية وادعى الرسالة لكانت عداوتهم معه أشد ولكان قصدهم قتله أعظم فحيث لم يحصل شيء من ذلك علمنا أنه ما تكلم أما المسلمون فقد احتجوا من جهة العقل على أنه تكلم فإنه لولا كلامه الذي دلهم على براءة أمه من الزنا لما تركوا إقامة الحد على الزنا عليها ففي تركهم لذلك دلالة على أنه عليه السلام تكلم في المهد وأجابوا عن الشبهة الأولى بأنه ربما كان الحاضرون عند كلامه قليلين فلذلك لم يشتهر وعن الثاني لعل اليهود ما حضروا هناك وما سمعوا كلامه فلذلك لم يشتغلوا بقصد قتله
ذالِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِى فِيهِ يَمْتُرُونَ مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ
وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ عاصم وابن عامر قَوْلَ الْحَقّ بالنصب وعن ابن مسعود قَالَ الْحَقّ و قَالَ اللَّهُ وعن الحسن قَوْلَ الْحَقّ بضم القاف وكذلك في الأنعام قوله الْحَقّ والقول والقال القول في معنى واحد كالرهب والرهب والرهب أما ارتفاعه فعلى أنه خبر بعد خبر أو خبر مبتدأ محذوف وأما انتصابه فعلى المدح إن فسر بكلمة الله أو على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة كقولك هو عند الله الحق لا الباطل والله أعلم
المسألة الثانية لا شبهة أن المراد بقوله ذالِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ الإشارة إلى ما تقدم وهو قوله قَالَ إِنّى عَبْدُ اللَّهِ ءاتَانِى َ ( مريم 30 ) أي ذلك الموصوف بهذه الصفات هو عيسى ابن مريم وفي قوله عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ إشارة إلى أنه ولد هذه المرأة وابنها لا أنه ابن الله فأما قوله الْحَقّ ففيه وجوه أحدها وهو أن نفس عيسى عليه السلام هو قول الحق وذلك لأن الحق هو اسم الله فلا فرق بين أن نقول عيسى كلمة الله وبين أن نقول عيسى قول الحق وثانيها أن يكون المراد ( ذلك عيسى ابن مريم القول الحق ) إلا أنك أضفت الموصوف إلى الصفة فهو كقوله إِنَّ هَاذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ ( الواقعة 95 ) وفائدة قولك القول الحق تأكيد

ما ذكرت أولاً من كون عيسى عليه السلام ابناً لمريم وثالثها أن يكون قَوْلَ الْحَقّ خبراً لمبتدأ محذوف كأنه قيل ذلك عيسى ابن مريم ووصفنا له هو قول الحق فكأنه تعالى وصفه أولاً ثم ذكر أن هذا الموصوف هو عيسى ابن مريم ثم ذكر أن هذا الوصف أجمع هو قول الحق على معنى أنه ثابت لا يجوز أن يبطل كما بطل ما يقع منهم من المرية ويكون في معنى إن هذا لهو الحق اليقين فأما امتراؤهم في عيسى عليه السلام فالمذاهب التي حكيناها من قول اليهود والنصارى وقد تقدم ذكر ذلك في سورة آل عمران روي أن عيسى عليه السلام لما رفع حضر أربعة من أكابرهم وعلمائهم فقيل للأول ما تقول في عيسى فقال هو إله والله إله وأمه إله فتابعه على ذلك ناس وهم الإسرائيلية وقيل للرابع ما تقول فقال هو عبد الله ورسوله وهو المؤمن المسلم وقال أما تعلمون أن عيسى كان يطعم وينام وأن الله تعالى لا يجوز عليه ذلك فخصمهم أما قوله مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ فهو يحتمل أمرين أحدهما أن ثبوت الولد له محال فقولنا مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ كقوله ما كان لله أن يقول لأحد إنه ولدي لأن هذا الخبر كذب والكذب لا يليق بحكمة الله تعالى وكماله فقوله مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ كقولنا ما كان لله أن يظلم أي لا يليق ذلك بحكمته وكمال إلهيته واحتج الجبائي بالآية بناء على هذا التفسير أنه ليس لله أن يفعل كل شيء لأنه تعالى صرح بأنه ليس له هذا الإيجاد أي ليس له هذا الاختيار وأجاب أصحابنا عنه بأنه الكذب محال على الله تعالى فلا جرم قال مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ أما قوله سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ففيه مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى لما قال سُبْحَانَهُ ثم قال عقيبه إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ كان كالحجة على تنزيهه عن الولد وبيان ذلك أن الذي يجعل ولداً لله إما أن يكون قديماً أزلياً أو يكون محدثاً فإن كان أزلياً فهو محال لأنه لو كان واجباً لذاته لكان واجب الوجود أكثر من واحد هذا خلف وإن كان ممكناً لذاته كان مفتقراً في وجوده إلى الواجب لذاته غنياً لذاته فيكون الممكن محتاجاً لذاته فيكون عبداً له لأنه لا معنى للعبودية إلا ذلك وأما إن كان الذي يجعل ولداً يكون محدثاً فيكون وجوده بعد عدمه بخلق ذلك القديم وإيجاده وهو المراد من قوله إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ فيكون عبداً له لا ولداً له فثبت أنه يستحيل أن يكون لله ولد
المسألة الثانية احتج الأصحاب بقوله إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ على قدم كلام الله تعالى قالوا لأن الآية تدل على أنه تعالى إذا أراد إحداث شيء قال له كن فيكون فلو كان قوله كن محدثاً لافتقر حدوثه إلى قول آخر ولزم التسلسل وهو محال فثبت أن قول الله قديم لا محدث واحتج المعتزلة بالآية على حدوث كلام الله تعالى من وجوه أحدها أنه تعالى أدخل عليه كلمة إذا وهذه الكلمة دالة على الاستقبال فوجب أن لا يحصل القول إلا في الاستقبال وثانيها أن حرف الفاء للتعقيب والفاء في قوله فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ يدل على تأخر ذلك القول عن ذلك القضاء والمتأخر عن غيره محدث وثالثها الفاء في قوله فَيَكُونُ يدل على حصول ذلك الشيء عقيب ذلك القول من غير فصل فيكون قول الله متقدماً على حدوث الحادث تقدماً بلا فصل والمتقدم على المحدث تقدماً بلا فصل يكون محدثاً فقول الله محدث واعلم أن استدلال الفريقين ضعيف أما استدلال الأصحاب فلأنه يقتضي أن يكون قوله كُنَّ قديماً وذلك باطل بالاتفاق وأما استدلال المعتزلة فلأنه يقتضي أن يكون قول الله تعالى هو المركب من الحروف

والأصوات وهو محدث وذلك لا نزاع فيه إنما المدعي قدم شيء آخر
المسألة الثالثة من الناس من أجرى الآية على ظاهرها فزعم أنه تعالى إذا أحدث شيئاً قال له كن وهذا ضعيف لأنه إما أن يقول له كن قبل حدوثه أو حال حدوثه فإن كان الأول كان ذلك خطاباً مع المعدوم وهو عبث وإن كان الثاني فهو حال حدوثه قد وجد بالقدرة والإرادة فأي تأثير لقوله كن فيه ومن الناس من زعم أن المراد من قوله كُنَّ هو الخليق والتكوين وذلك لأن القدرة على الشيء غير وتكوين الشيء غير فإن الله سبحانه قادر في الأزل وغير مكون في الأزل ولأنه الآن قادر على عوالم سوى هذا العالم وغير مكون لها والقادرية غير المكونية والتكوين ليس هو نفس المكون لأنا نقول المكون إنما حدث لأن الله تعالى كونه فأوجده فلو كان التكوين نفس المكون لكان قولنا المكون إنما وجد بتكوين الله تعالى نازلاً منزلة قولنا المكون إنما وجد بنفسه وذلك محال فثبت أن التكوين غير المكون فقوله كُنَّ إشارة إلى الصفة المسماة بالتكوين وقال آخرون قوله كُنَّ عبارة عن نفاذ قدرة الله تعالى ومشيئته في الممكنات فإن وقوعها بتلك القدرة والإرادة من غير امتناع واندفاع يجري مجرى العبد المطيع المسخر المنقاد لأوامر مولاه فعبر الله تعالى عن ذلك المعنى بهذه العبارة على سبيل الاستعارة
وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَاذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ فَاخْتَلَفَ الاٌّ حْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوْيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشْهِدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَاكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَة ِ إِذْ قُضِى َ الاٌّ مْرُ وَهُمْ فِى غَفْلَة ٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرض وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ
اعلم أن قوله وَإِنَّ اللَّهَ رَبّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ فيه مسائل
المسألة الأولى قرأ المدنيون وأبو عمرو بفتح أن ومعناه ولأنه ربي وربكم فاعبدوه وقرأ الكوفيون وأبو عبيدة بالكسر على الابتداء وفي حرف أبي إِنَّ اللَّهَ بالكسر من غير واو أي بسبب ذلك فاعبدوه
المسألة الثانية أنه لا يصح أن يقول الله وَإِنَّ اللَّهَ رَبّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ فلا بد وأن يكون قائل هذا غير الله تعالى وفيه قولان الأول التقدير فقل يا محمد إن الله ربي وربكم بعد إظهار البراهين الباهرة في أن عيسى هو عبد الله الثاني قال أبو مسلم الأصفهاني الواو في وإن الله عطف على قول عيسى عليه السلام قَالَ إِنّى عَبْدُ اللَّهِ ءاتَانِى َ ( مريم 30 ) كأنه قال إني عبد الله وإنه ربي وربكم فاعبدوه وقال وهب بن منبه عهد إليهم حين أخبرهم عن بعثه ومولده ونعته أن الله ربي وربكم أي كلنا عبيد الله تعالى

المسألة الثالثة قوله وَإِنَّ اللَّهَ رَبّى وَرَبُّكُمْ يدل على أن مدبر الناس ومصلح أمورهم هو الله تعالى على خلاف قول المنجمين إن مدبر الناس ومصلح أمورهم في السعادة والشقاوة هي الكواكب ويدل أيضاً على أن الإله واحد لأن لفظ الله اسم علم له سبحانه فلما قال إِنَّ اللَّهَ رَبّى وَرَبُّكُمْ أي لا رب للمخلوقات سوى الله تعالى وذلك يدل على التوحيد أما قوله فَاعْبُدُوهُ فقد ثبت في أصول الفقه أن ترتيب الحكم على الوصف المناسب مشعر بالعلية فههنا الأمر بالعبادة وقع مرتباً على ذكر وصف الربوبية فدل على أنه إنما تلزمنا عبادته سبحانه لكونه رباً لنا وذلك يدل على أنه تعالى إنما تجب عبادته لكونه منعماً على الخلائق بأصول النعم وفروعها ولذلك فإن إبراهيم عليه السلام لما منع أباه من عبادة الأوثان قال لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً يعني أنها لما لم تكن منعمة على العباد لم تجز عبادتها وبهذه الآية ثبت أن الله تعالى لما كان رباً ومربياً لعباده وجب عبادته فقد ثبت طرداً وعكساً تعلق العبادة بكون المعبود منعماً أما قوله هَاذَا صِراطٌ مُّسْتَقِيمٌ يعني القول بالتوحيد ونفي الولد والصاحبة صراط مستقيم وأنه سمي هذا القول بالصراط المستقيم تشبيهاً بالطريق لأنه المؤدي إلى الجنة أما قوله تعالى فَاخْتَلَفَ الاْحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ ففي الأحزاب أقوال الأول المراد فرق النصارى على ما بينا أقسامهم الثاني المراد النصارى واليهود فجعله بعضهم ولداً وبعضهم كذاباً الثالث المراد الكفار الداخل فيهم اليهود والنصارى والكفار الذين كانوا في زمن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وإذا قلنا المراد بقوله وَإِنَّ اللَّهَ رَبّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أي قل يا محمد إن الله ربي وربكم فهذا القول أظهر لأنه لا تخصيص فيه وكذا قوله فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ مؤكد لهذا الاحتمال وأما قوله مِن مَّشْهِدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ فالمشهد إما أن يكون هو الشهود وما يتعلق به أو الشهادة وما يتعلق بها أما الأول فيحتمل أن يكون المراد من المشهد نفس شهودهم هول الحساب والجزاء في القيامة أو مكان الشهود فيه وهو الموقف أو وقت الشهود وأما الشهادة فيحتمل أن يكون المراد شهادة الملائكة والأنبياء وشهادة ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بالكفر وسوء الأعمال وأن يكون مكان الشهادة أو وقتها وقيل هو ما قالوه وشهدوا به في عيسى وأمه وإنما وصف ذلك المشهد بأنه عظيم لأنه لا شيء أعظم مما يشاهد في ذلك اليوم من محاسبة ومساءلة ولا شيء من المنافع أعظم مما هنالك من الثواب ولا بد من المضار أعظم مما هنالك من العقاب أما قوله تعالى أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا ففيه مسائل
المسألة الأولى قالوا التعجب هو استعظام الشيء مع الجهل بسبب عظمه ثم يجوز استعمال لفظ التعجب عند مجرد الاستعظام من غير خفاء السبب أو من غير أن يكون للعظم سبب حصول قال الفراء قال سفيان قرأت عند شريح بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخُرُونَ ( الصافات 12 ) فقال إن الله لا يعجب من شيء إنما يعجب من لا يعلم فذكرت ذلك لإبراهيم النخعي فقال إن شريحاً شاعر يعجبه علمه وعبد الله أعلم بذلك منه قرأها بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخُرُونَ ومعناه أنه صدر من الله تعالى فعل لو صدر مثله عن الخلق لدل على حصول التعجب في قلوبهم وبهذا التأويل يضاف المكر والاستهزاء إلى الله تعالى وإذا عرفت هذا فنقول للتعجب صفتان إحداهما ما أفعله والثانية أفعل به كقوله تعالى أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ والنحويون ذكروا له تأويلات الأول قالوا أكرم بزيد أصله أكرم زيد أي صار ذا كرم كأغد البعير أي صار ذا غدة إلا أنه خرج على لفظ الأمر ومعناه الخبر كما خرج على لفظ الخبر ما معناه الأمر كقوله تعالى وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ

( البقرة 228 ) وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ ( البقرة 233 ) قُلْ مَن كَانَ فِى الضَّلَالَة ِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً ( مريم 75 ) أي يمد له الرحمن مداً وكذا قولهم رحمه الله خبر وإن كان معناه الدعاء والباء زائدة الثاني أن يقال إنه أمر لكل أحد بأن يجعل زيداً كريماً أي بأن يصفه بالكرم والباء زائدة مثل قوله وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة ِ ( البقرة 195 ) ولقد سمعت لبعض الأدباء فيه تأويلاً ثالثاً وهو أن قولك أكرم بزيد يفيد أن زيداً بلغ في الكرم إلى حيث كأنه في ذاته صار كرماً حتى لو أردت جعل غيره كريماً فهو الذي يلصقك بمقصودك ويحصل لك غرضك كما أن من قال أكتب بالقلم فمعناه أن القلم هو الذي يلصقك بمقصودك ويحصل لك غرضك
المسألة الثانية قوله أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا فيه ثلاثة أوجه أحدها وهو المشهور الأقوى أن معناه ما أسمعهم وما أبصرهم والتعجب على الله تعالى محال كما تقدم وإنما المراد أن أسماعهم وأبصارهم يومئذ جدير بأن يتعجب منهما بعدما كانوا صماً وعمياً في الدنيا وقيل معناه التهديد مما سيسمعون وسيبصرون مما يسوء بصرهم ويصدع قلوبهم وثانيها قال القاضي ويحتمل أن يكون المراد أسمع هؤلاء وأبصرهم أي عرفهم حال القوم الذين يأتوننا ليعتبروا وينزجروا وثالثها قال الجبائي ويجوز أسمع الناس بهؤلاء وأبصرهم بهم ليعرفوا أمرهم وسوء عاقبتهم فينزجروا عن الإتيان بمثل فعلهم أما قوله لَاكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ ففيه قولان الأول لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين وفي الآخرة يعرفون الحق والثاني لَاكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ وهم في الآخرة في ضلال عن الجنة بخلاف المؤمنين وأما قوله تعالى وَأَنذِرْهُمْ فلا شبهة في أنه أمر لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) بأن ينذر من في زمانه فيصلح بأن يجعل هذا كالدلالة على أن قوله فاختلف الأحزاب أراد به اختلاف جميعهم في زمن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وأما الإنذار فهو التخويف من العذاب لكي يحذروا من ترك عبادة الله تعالى وأما يوم الحسرة فلا شبهة في أنه يوم القيامة من حيث يكثر التحسر من أهل النار وقيل يتحسر أيضاً في الجنة إذا لم يكن من السابقين الواصلين إلى الدرجات العالية والأول هو الصحيح لأن الحسرة غم وذلك لا يليق بأهل الثواب أما قوله تعالى إِذْ قُضِى َ الاْمْرُ ففيه وجوه أحدها إذ قضى الأمر ببيان الدلائل وشرح أمرالثواب والعقاب وثانيها إذ قضى الأمر يوم الحسرة بفناء الدنيا وزوال التكليف والأول أقرب لقوله وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ فكأنه تعالى بين أنه ظهرت الحجج والبينات وهم في غفلة وهم لا يؤمنون وثالثها روي أنه سئل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن قوله قضى الأمر ( فقال حين يجاء بالموت في صورة كبش أملح فيذبح والفريقان ينظران فيزداد أهل الجنة فرحاً على فرح وأهل النار غماً على غم ) واعلم أن الموت عرض فلا يجوز أن يصير جسماً حيوانياً بل المراد أنه لا موت البتة بعد ذلك وأما قوله وَهُمْ فِى غَفْلَة ٍ أي عن ذلك اليوم وعن كيفية حسرته وهم لا يؤمنون أي بذلك اليوم ثم قال بعده إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الاْرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا أي هذه الأمور تؤول إلى أن لا يملك الضر والنفع إلا الله تعالى وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ أي إلى محل حكمنا وقضائنا لأنه تعالى منزه عن المكان حتى يكون الرجوع إليه وهذا تخويف عظيم وزجر بليغ للعصاة

القصة الثالثة قصة إبراهيم عليه السلام
وَاذْكُرْ فِى الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً إِذْ قَالَ لاًّبِيهِ ياأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً ياأَبَتِ إِنِّى قَدْ جَآءَنِى مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِى أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً ياأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَانِ عَصِيّاً ياأَبَتِ إِنِّى أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً
اعلم أن الغرض من هذه السورة بيان التوحيد والنبوة والحشر والمنكرون للتوحيد هم الذين أثبتوا معبوداً سوى الله تعالى وهؤلاء فريقان منهم من أثبت معبوداً غير الله حياً عاقلاً فاهماً وهم النصارى ومنهم من أثبت معبوداً غير الله جماداً ليس بحي ولا عاقل ولا فاهم وهم عبدة الأوثان والفريقان وإن اشتركا في الضلال إلا أن ضلال الفريق الثاني أعظم فلما بين تعالى ضلال الفريق الأول تكلم في ضلال الفريق الثاني وهم عبدة الأوثان فقال وَاذْكُرْ فِى الْكِتَابِ والواو في قوله واذكر عطف على قوله ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا كأنه لما انتهت قصة عيسى وزكريا عليهما السلام قال قد ذكرت حال زكريا فاذكر حال إبراهيم وإنما أمر بذكره لأنه عليه السلام ما كان هو ولا قومه ولا أهل بلدته مشتغلين بالعلم ومطالعة الكتب فإذا أخبر عن هذه القصة كما كانت من غير زيادة ولا نقصان كان ذلك إخباراً عن الغيب الغيب ومعجزاً قاهراً دالاً على نبوته وإنما شرع في قصة إبراهيم عليه السلام لوجوه أحدها أن إبراهيم عليه السلام كان أب العرب وكانوا مقرين بعلو شأنه وطهارة دينه على ما قال تعالى مّلَّة َ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ ( الحج 78 ) وقال تعالى وَمَن يَرْغَبُ عَن مِلَّة ِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ( البقرة 130 ) فكأنه تعالى قال للعرب إن كنتم مقلدين لآبائكم على ما هو قولكم وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَة ٍ مّن نَّذِيرٍ ( الزخرف 23 )

ومعلوم أن أشرف آبائكم وأجلهم قدراً هو إبراهيم عليه السلام فقلدوه في ترك عبادة الأوثان وإن كنتم من المستدلين فانظروا في هذه الدلائل التي ذكرها إبراهيم عليه السلام لتعرفوا فساد عبادة الأوثان وبالجملة فاتبعوا إبراهيم إما تقليداً وإما استدلالاً وثانيها أن كثيراً من الكفار في زمن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) كانوا يقولون كيف نترك دين آبائنا وأجدادنا فذكر الله تعالى قصة إبراهيم عليه السلام وبين أنه ترك دين أبيه وأبطل قوله بالدليل ورجح متابعة الدليل على متابعة أبيه ليعرف الكفار أن ترجيح جانب الأب على جانب الدليل رد على الأب الأشرف الأكبر الذي هو إبراهيم عليه السلام وثالثها أن كثيراً من الكفار كانوا يتمسكون بالتقليد وينكرون الاستدلال على ما قال الله تعالى قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا عَلَى أُمَّة ٍ ( الزخرف 22 ) و قَالُواْ وَجَدْنَا ءابَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ ( الأنبياء 53 ) فحكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام التمسك بطريقة الاستدلال تنبيهاً لهؤلاء على سقوط هذه الطريقة ثم قال تعالى في وصف إبراهيم عليه السلام إِنَّهُ كَانَ صِدّيقاً نَّبِيّاً وفي الصديق قولان أحدهما أنه مبالغة في كونه صادقاً وهو الذي يكون عادته الصدق لأن هذا البناء ينبىء عن ذلك يقال رجل خمير وسكير للمولع بهذه الأفعال والثاني أنه الذي يكون كثير التصديق بالحق حتى يصير مشهوراً به والأول أولى وذلك لأن المصدق بالشيء لا يوصف بكونه صديقاً إلا إذا كان صادقاً في ذلك التصديق فيعود الأمر إلى الأول فإن قيل أليس قد قال تعالى وَالَّذِينَ ءامَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصّدّيقُونَ وَالشُّهَدَاء ( الحديد 19 ) قلنا المؤمنون بالله ورسله صادقون في ذلك التصديق واعلم أن النبي يجب أن يكون صادقاً في كل ما أخبر عنه لأن الله تعالى صدقه ومصدق الله صادق وإلا لزم الكذب في كلام الله تعالى فيلزم من هذا كون الرسول صادقاً في كل ما يقول ولأن الرسل شهداء الله على الناس على ما قال الله تعالى فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّة ٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً ( النساء 41 ) والشهيد إنما يقبل قوله إذا لم يكن كاذباً فإن قيل فما قولكم في إبراهيم عليه السلام في قوله بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ ( الأنبياء 63 ) و إِنّى سَقِيمٌ قلنا قد شرحنا في تأويل هذه الآيات بالدلائل الظاهرة أن شيئاً من ذلك ليس بكذب فلما ثبت أن كل نبي يجب أن يكون صديقاً ولا يجب في كل صديق أن يكون نبياً ظهر بهذا قرب مرتبة الصديق من مرتبة النبي فلهذا انتقل من ذكر كونه صديقاً إلى ذكر كونه نبياً وأما النبي فمعناه كونه رفيع القدر عند الله وعند الناس وأي رفعة أعلى من رفعة من جعله الله واسطة بينه وبين عباده وقوله كَانَ صِدّيقاً قيل إنه صار وقيل إن معناه وجد صديقاً نبياً أي كان من أول وجوده إلى انتهائه موصوفاً بالصدق والصيانة قال صاحب ( الكشاف ) هذه الجملة وقعت اعتراضاً بين المبدل منه وبدله أعني إبراهيم وإذ قال ونظيره قولك رأيت زيداً ونعم الرجل أخاك ويجوز أن يتعلق إذ بكان أو بصديقاً نبياً أي كان جامعاً لخصائص الصديقين والأنبياء حين خاطب أباه بتلك المخاطبات أما قوله يا أبت فالتاء عوض عن ياء الإضافة ولا يقال يا أبتي لئلا يجمع بين العوض والمعوض عنه وقد يقال يا أبتا لكون الألف بدلاً من الياء واعلم أنه تعالى حكى أن إبراهيم عليه السلام تكلم مع أبيه بأربعة أنواع من الكلام النوع الأول قوله لاِبِيهِ ياأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً ووصف الأوثان بصفات ثلاثة كل واحدة منها قادحة في الإلهية وبيان ذلك من وجوه أحدها أن العبادة غاية التعظيم فلا يستحقها إلا من له غاية الانعام وهو الإله الذي منه أصول النعم وفروعها على ما قررناه في تفسير قوله و إِنَّ اللَّهَ رَبّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ( آل عمران 51 ) وقال كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْواتًا فَأَحْيَاكُمْ ( البقرة 28 ) الآية وكما يعلم بالضرورة أنه لا يجوز الاشتغال بشكرها ما لم تكن منعمة وجب أن لايجوز الاشتغال بعبادتها وثانيها أنها إذا لم تسمع ولم تبصر ولم تميز من يطيعها عمن يعصيها فأي فائدة في عبادتها وهذا ينبهك على أن الإله يجب أن يكون عالماً بكل المعلومات حتى يكون العبد آمناً من وقوع الغلط للمعبود وثالثها أن الدعاء مخ العبادة فالوثن إذا لم يسمع دعاء الداعي فأي منفعة في عبادته وإذا كانت لا تبصر بتقرب من يقترب إليها فأي منفعة في ذلك التقرب ورابعها أن السامع المبصر الضار النافع أفضل ممن كان عارياً عن كل ذلك والإنسان موصوف بهذه الصفات فيكون أفضل وأكمل من الوثن فكيف يليق بالأفضل عبادة الأخس

وخامسها إذا كانت لا تنفع ولا تضر فلا يرجى منها منفعة ولا يخاف من ضررها فأي فائدة في عبادتها وسادسها إذا كانت لا تحفظ أنفسها عن الكسر والإفساد على ما حكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه كسرها وجعلها جذاذاً فأي رجاء للغير فيها واعلم أنه عاب الوثن من ثلاثة أوجه أحدها لا يسمع وثانيها لا يبصر وثالثها لا يغني عنك شيئاً كأنه قال له بل الإلهية ليست إلا لربي فإنه يسمع ويجيب دعوة الداعي ويبصر كما قال إِنَّنِى مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ( طه 46 ) ويقضي الحوائج أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ ( النمل 62 ) واعلم أن قوله ههنا لِمَ تَعْبُدُ محمول على نفس العبادة وأما قوله في المقام الثالث لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ لا يقال ذلك بل المراد الطاعة لأنهم ما كانوا يعبدون الشيطان فوجب حمله على الطاعة ولأنا نقول ليس إذا تركنا الظاهر ههنا لدليل وجب ترك الظاهر في المقام الأول بغير دليل فإن قيل إما أن يقال إن أبا إبراهيم كان يعتقد في تلك الأوثان أنها آلهة بمعنى أنها قادرة مختارة موجدة للناس والحيوانات أو يقال إنه ما كان يعتقد ذلك بل كان يعتقد أنها تماثيل الكواكب والكواكب هي الآلهة المدبرة لهذا العالم فتعظيم تماثيل الكواكب بموجب تعظيم الكواكب أو كان يعتقد أن هذه الأوثان تماثيل أشخاص معظمة عند الله تعالى من البشر فتعظيمها يقتضي كون أولئك الأشخاص شفعاء لهم عند الله تعالى أو كان يعتقد أن تلك الأوثان طلسمات ركبت بحسب اتصالات مخصوصة للكواكب قلما يتفق مثلها وأنها مشفع بها أو غير ذلك من الأعذار المنقولة عن عبدة الأوثان فإن كان أبو إبراهيم من القسم الأول كان في نهاية الجنون لأن العلم بأن هذا الخشب المنحوت في هذه الساعة ليس خالقاً للسموات والأرض من أجلى العلوم الضرورية فالشاك فيه يكون فاقداً لأجلى العلوم الضرورية فكان مجنوناً والمجنون لا يجوز إيراد الحجة عليه والمناظرة معه وإن كان من القسم الثاني فهذه الدلائل لا تقدح في شيء من ذلك لأن ذلك المذهب إنما يبطل بإقامة الدلالة على أن الكواكب ليست أحياء ولا قادرة على خلق الأجسام وخلق الحياة ومعلوم أن الدليل المذكور ههنا لا يفيد ذلك المطلوب فعلمنا أن هذه الدلالة عديمة الفائدة على كل التقديرات قلنا لا نزاع أنه لا يخفى على العاقل أن الخشبة المنحوتة لا تصلح لخلق العالم وإنما مذهبهم هذا على الوجه الثاني وإنما أورد إبراهيم عليه السلام هذه الدلالة عليهم لأنهم كانوا يعتقدون أن عبادتها تفيد نفعاً إما على سبيل الخاصية الحاصلة من الطلسمات أو على سبيل أن الكواكب تنفع وتضر فبين إبراهيم عليه السلام أنه لا منفعة في طاعتها ولا مضرة في الإعراض عنها فوجب أن لا تحسن عبادتها النوع الثاني قوله شَيْئاً ياأَبَتِ إِنّى قَدْ جَاءنِى مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِى أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً ومعناه ظاهر وطمع في التمسك به أهل التعليم وأهل التقليد أما أهل التعليم فقالوا إنه أمره بالإتباع في الدين وما أمره بالتمسك بدليل لا يستفاد إلا من الإتباع وأما أهل التقليد فقد تمسكوا به أيضاً من هذا الوجه ومن الناس من طعن أنه أمره بالإتباع لتحصل الهداية فإذن لا تحصل الهداية إلا باتباعه ولا تبعية إلا إذا اهتدى لقولنا إنه لا بد من اتباعه فيقع الدور وإنه باطل ( والجواب ) عن الأول أن المراد بالهداية بيان الدليل وشرحه وإيضاحه فعند هذا عاد السائل فقال أنا لا أنكر أنه لا بد من الدلالة ولكني أقول الوقوف على تلك الدلالة لا يستفاد إلا ممن له نفس كاملة بعيدة عن النقص والخطأ وهي نفس النبي المعصوم أو الإمام المعصوم فإذا سلمت أنه لا بد من النبي في هذا المقصود فقد سلمت حصول الغرض أجاب المجيب وقال أنا ما سلمت أنه لا بد في الوقوف على الدلائل من هداية النبي ولكني أقول هذا الطريق أسهل وإن إبراهيم عليه السلام

دعاه إلى الأسهل والجواب عن سؤال الدور أن قوله فَاتَّبِعْنِى ليس أمر إيجاب بل أمر إرشاد والنوع الثالث قوله سَوِيّاً ياأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَانِ عَصِيّاً أي لا تطعه لأنه عاص لله فنفره بهذه الصفة عن القبول منه لأنه أعظم الخصال المنفرة واعلم أن إبراهيم عليه السلام لإمعانه في الإخلاص لم يذكر من جنايات الشيطان إلا كونه عاصياً لله ولم يذكر معاداته لآدم عليه السلام كأن النظر في عظم ما ارتكبه من ذلك العصيان غمى فكره وأطبق على ذهنه وأيضاً فإن معصية الله تعالى لا تصدر إلا عن ضعيف الرأي ومن كان كذلك كان حقيقاً أن لا يلتفت إلى رأيه ولا يجعل لقوله وزن فإن قيل إن هذا القول يتوقف على إثبات أمور أحدها إثبات الصانع وثانيها إثبات الشيطان وثالثها إثبات أن الشيطان عاص لله ورابعها أنه لما كان عاصياً لم تجز طاعته في شيء من الأشياء وخامسها أن الاعتقاد الذي كان عليه ذلك الإنسان كان مستفاداً من طاعة الشيطان ومن شأن الدلالة التي تورد على الخصم أن تكون مركبة من مقدمات معلومات مسلمة ولعل أبا إبراهيم كان منازعاً في كل هذه المقدمات وكيف والمحكى عنه أنه ما كان يثبت إلهاً سوى نمروذ فكيف يسلم وجود الإله الرحمن وإذا لم يسلم وجوده فكيف يمكنه تسليم أن الشيطان كان عاصياً للرحمن ثم إن على تسليم ذلك فكيف يسلم الخصم بمجرد هذا الكلام أن مذهبه مقتبس من الشيطان بل لعله يقلب ذلك على خصمه قلنا الحجة المعول عليها في إبطال مذهب آزر هو الذي ذكره أولاً من قوله لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً فأما هذا الكلام فيجري مجرى التخويف والتحذير الذي يحمله على النظر في تلك الدلالة وعلى هذا التقدير يسقط السؤال النوع الرابع قوله عَصِيّاً ياأَبَتِ إِنّى أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مّنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً قال الفراء معنى أخاف أعلم والأكثرون على أنه محمول على ظاهره والقول الأول إنما يصح لو كان إبراهيم عليه السلام عالماً بأن أباه سيموت على ذلك الكفر وذلك لم يثبت فوجب إجراؤه على ظاهره فإنه كان يجوز أن يؤمن فيصير من أهل الثواب ويجوز أن يصر فيموت على الكفر فيكون من أهل العقاب ومن كان كذلك كان خائفاً لا قاطعاً واعلم أن من يظن وصول الضرر إلى غيره فإنه لا يسمى خائفاً إلا إذا كان بحيث يلزم من وصول ذلك الضرر إليه تألم قلبه كما يقال أنا خائف على ولدي أما قوله فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً فذكروا في الولي وجوهاً أحدها أنه إذا استوجب عذاب الله كان مع الشيطان في النار والولاية سبب للمعية وإطلاق اسم السبب على المسبب مجاز وإن لم يجز حمله الى الولاية الحقيقية لقوله تعالى الاْخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ ( الزخرف 67 ) وقال ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ( العنكبوت 25 ) وحكى عن الشيطان أنه يقول لهم إِنّى كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ ( إبراهيم 22 ) واعلم أن هذا الإشكال إنما يتوجه إذا كان المراد من العذاب عذاب الآخرة أما إذا كان المراد منه عذاب الدنيا فالإشكال ساقط وثانيها أن يحمل العذاب على الخذلان أي إني أخاف أن يمسك خذلان الله فتصير موالياً للشيطان ويبرأ الله منك على ما قال تعالى وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً ( النساء 119 ) وثالثها ولياً أي تالياً للشيطان تليه كما يسمى المطر الذي يأتي تالياً ولياً فإن قيل قوله أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مّنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً يقتضي أن تكون ولاية الشيطان أسوأ حالاً من العذاب نفسه وأعظم فما السبب لذلك ( والجواب ) أن رضوان الله تعالى أعظم من الثواب على ما قال

وَرِضْوانٌ مّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( التوبة 72 ) فوجب أن تكون ولاية الشيطان التي هي في مقابلة رضوان الله أكبر من العذاب نفسه وأعظم واعلم أن إبراهيم عليه السلام رتب هذا الكلام في غاية الحسن لأنه نبه أولاً على ما يدل على المنع من عبادة الأوثان ثم أمره باتباعه في النظر والاستدلال وترك التقليد ثم نبه على أن طاعة الشيطان غير جائزة في العقول ثم ختم الكلام بالوعيد الزاجر عن الإقدام على ما لا ينبغي ثم إنه عليه السلام أورد هذا الكلام الحسن مقروناً باللطف والرفق فإن قوله في مقدمة كل كلام يا أبت دليل على شدة الحب والرغبة في صونه عن العقاب وإرشاده إلى الصواب وختم الكلام بقوله إِلَيْكَ لاِقْتُلَكَ إِنّى أَخَافُ وذلك يدل على شدة تعلق قلبه بمصالحه وإنما فعل ذلك لوجوه أحدها قضاء لحق الأبوة على ما قال تعالى وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً ( الإسراء 23 ) والإرشاد إلى الدين من أعظم أنواع الإحسان فإذا انضاف إليه رعاية الأدب والرفق كان ذلك نوراً على نور وثانيها أن الهادي إلى الحق لا بد وأن يكون رفيقاً لطيفاً يورد الكلام لا على سبيل العنف لأن إيراده على سبيل العنف يصير كالسبب في إعراض المستمع فيكون ذلك في الحقيقة سعياً في الإغواء وثالثها ما روى أبو هريرة أنه قال عليه السلام ( أوحى الله إلى إبراهيم عليه السلام أنك خليلي فحسن خلقك ولو مع الكفار تدخل مداخل الأبرار فإن كلمتي سبقت لمن حسن خلقه أن أظله تحت عرشي وأن أسكنه حظيرة قدسي وأدنيه من جواري ) والله أعلم
قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِى ياإِبْرَاهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِى مَلِيّاً قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِى حَفِيّاً وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّى عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبِّى شَقِيًّا
اعلم أن إبراهيم عليه السلام لما دعا أباه إلى التوحيد وذكر الدلالة على فساد عبادة الأوثان وأردف تلك الدلالة بالوعظ البليغ وأورد كل ذلك مقروناً باللطف والرفق قابله أبوه بجواب يضاد ذلك فقابل حجته بالتقليد فإنه لم يذكر في مقابلة حجته إلا قوله أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ الِهَتِى ياإِبْراهِيمُ إِبْرَاهِيمَ فأصر على ادعاء إلهيتها جهلاً وتقليداً وقابل وعظه بالسفاهة حيث هدده بالضرب والشتم وقابل رفقه في قوله يا أبت ( مريم 44 ) بالعنف حيث لم يقل له يا بني بل قال ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ وإنما حكى الله تعالى ذلك لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ليخفف على قلبه ما كان يصل إليه من أذى المشركين فيعلم أن الجهال منذ كانوا على هذه السيرة المذمومة أما قوله أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ الِهَتِى ياإِبْراهِيمُ إِبْرَاهِيمَ فإن كان ذلك على وجه الاستفهام فهو خذلان لأنه قد عرف منه ما تكرر منه من وعظه وتنبيهه على الدلالة وهو يفيد أنه راغب عن ذلك أشد رغبة فما فائدة هذا القول وإن كان ذلك على سبيل التعجب فأي تعجب في الإعراض عن حجة لا فائدة فيها وإنما التعجب كله من الإقدام على عبادتها فإن الدليل الذي ذكره إبراهيم عليه السلام كما أنه يبطل جواز عبادتها فهو يفيد التعجب من أن العاقل كيف يرضى

بعبادتها فكأن أباه قابل ذلك التعجب الظاهر المبني على الدليل بتعجب فاسد غير مبني على دليل وشبهة ولا شك أن هذا التعجب جدير بأن يتعجب منه أما قوله لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لارْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِى مَلِيّاً ففيه مسائل
المسألة الأولى في الرجم ههنا قولان الأول أنه الرجم باللسان وهو الشتم والذم ومنه قوله وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ( النور 4 ) أي بالشتم ومنه الرجم أي المرمي باللعن قال مجاهد الرجم في القرآن كله بمعنى الشتم والثاني أنه الرجم باليد وعلى هذا التقدير ذكروا وجوهاً أحدها لأرجمنك بإظهار أمرك للناس ليرجموك ويقتلوك وثانيها لأرجمنك بالحجارة لتتباعد عني وثالثها عن المؤرج لأقتلنك بلغة قريش ورابعها قال أبو مسلم لأرجمنك المراد منه الرجم بالحجارة إلا أنه قد يقال ذلك في معنى الطرد والإبعاد اتساعاً ويدل على أنه أراد الطرد قوله تعالى وَاهْجُرْنِى مَلِيّاً واعلم أن أصل الرجم هو الرمي بالرجام فحمله عليه أولى فإن قيل أفما يدل قوله تعالى وَاهْجُرْنِى مَلِيّاً على أن المراد به الرجم بالشتم قلنا لا وذلك لأنه هدده بالرجم إن بقي على قربه منه وأمره أن يبعد هرباً من ذلك فهو في معنى قوله وَاهْجُرْنِى مَلِيّاً
المسألة الثانية في قوله تعالى وَاهْجُرْنِى مَلِيّاً قولان أحدهما المراد واهجرني بالقول والثاني بالمفارقة في الدار والبلد وهي هجرة الرسول والمؤمنين أي تباعد عني لكي لا أراك وهذا الثاني أقرب إلى الظاهر
المسألة الثالثة في قوله مَلِيّاً قولان الأول ملياً أي مدة بعيدة مأخوذ من قولهم أتى على فلان ملاوة من الدهر أي زمان بعيد والثاني ملياً بالذهاب عني والهجران قبل أن أثخنك بالضرب حتى لا تقدر أن تبرح يقال فلان ملي بكذا إذا كان مطيقاً له مضطلعاً به
المسألة الرابعة عطف اهجرني على معطوف عليه محذوف يدل عليه لأرجمنك أي فاحذرني واهجرني لئلا أرجمنك ثم إن إبراهيم عليه السلام لما سمع من أبيه ذلك أجاب عن أمرين أحدهما أنه وعده التباعد منه وذلك لأن أباه لما أمره بالتباعد أظهر الإنقياد لذلك الأمر وقوله سَلَامٌ عَلَيْكَ توادع ومتاركة كقوله تعالى لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِى الْجَاهِلِينَ ( القصص 55 ) وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً ( الفرقان 63 ) وهذا دليل على جواز متاركة المنصوح إذا ظهر منه اللجاج وعلى أنه تحسن مقابلة الإساءة بالإحسان ويجوز أن يكون قد دعا له بالسلامة استمالة له ألا ترى أنه وعده بالاستغفار ثم إنه لما ودع أباه بقوله سَلَامٌ عَلَيْكَ ضم إلى ذلك ما دل به على أنه وإن بعد عنه فاشفاقه باق عليه كما كان وهو قوله سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي واحتج بهذه الآية من طعن في عصمة الأنبياء وتقريره أن إبراهيم عليه السلام فعل ما لا يجوز لأنه استغفر لأبيه وهو كافر والاستغفار للكافر لا يجوز فثبت بمجموع هذه المقدمات أن إبراهيم عليه السلام فعل ما لا يجوز إنما قلنا إنه استغفر لأبيه لقوله تعالى حكاية عن إبراهيم سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي وقوله وَاغْفِرْ لاِبِى إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالّينَ ( الشعراء 86 ) وأما أن أباه كان كافراً فذاك بنص القرآن وبالإجماع وأما أن الاستغفار للكافر لا يجوز فلوجهين الأول قوله تعالى مَا كَانَ لِلنَّبِى ّ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ ( التوبة 113 ) الثاني قوله في سورة الممتحنة قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَة ٌ حَسَنَة ٌ فِى إِبْراهِيمَ

إلى قوله لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وأمر الناس إلا في هذا الفعل فوجب أن يكون ذلك معصية منه ( والجواب ) لا نزاع إلا في قولكم الاستغفار للكافر لا يجوز فإن الكلام عليه من وجوه أحدها أن القطع على أن الله تعالى يعذب الكافر لا يعرف إلا بالسمع فلعل إبراهيم عليه السلام لم يجد في شرعه ما يدل على القطع بعذاب الكافر فلا جرم استغفر لأبيه وثانيها أن الاستغفار قد يكون بمعنى الاستماحة كما في قوله قُل لّلَّذِينَ ءامَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ ( الجاثية 14 ) والمعنى سأسأل ربي أن لا يجزيك بكفرك ما كنت حياً بعذاب الدنيا المعجل وثالثها أنه عليه السلام إنما استغفر لأبيه لأنه كان يرجو منه الإيمان فلما أيس من ذلك ترك الاستغفار ولعل في شرعه جواز الاستغفار للكافر الذي يرجي منه الإيمان والدليل على وقوع هذا الاحتمال قوله تعالى مَا كَانَ لِلنَّبِى ّ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِى قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ( التوبة 113 ) فبين أن المنع من الاستغفار إنما يحصل بعد أن يعرفوا أنهم من أصحاب الجحيم ثم قال بعد ذلك وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْراهِيمَ لاِبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَة ٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ( التوبة 114 ) فدلت الآية على أنه وعده بالاستغفار لو آمن فلما لم يؤمن لم يستغفر له بل تبرأ منه فإن قيل فإذا كان الأمر كذلك فلم منعنا من التأسي به في قوله قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَة ٌ حَسَنَة ٌ فِى إِبْراهِيمَ إلى قوله إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لاِبِيهِ لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ( الممتحنة ) قلنا الآية تدل على أنه لا يجوز لنا التأسي به في ذلك لكن المنع من التأسي به في ذلك لا يدل على أن ذلك كان معصية فإن كثيراً من الأشياء هي من خواص رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولا يجوز لنا التأسي به مع أنها كانت مباحة له عليه السلام ورابعها لعل هذا الاستغفار كان من باب ترك الأولى وحسنات الأبرار سيئآت المقربين أما قوله إِنَّهُ كَانَ بِى حَفِيّاً أي لطيفاً رفيقاً يقال أحفى فلان في المسألة بفلان إذا لطف به وبالغ في الرفق ومنه قوله تعالى ؤإِن يَسْئَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ ( محمد 37 ) أي وإن لطفت المسألة والمراد أنه سبحانه للطفه بي وإنعامه على عودني الإجابة فإذا أنا استغفرت لك حصل المراد فكأنه جعله بذلك على يقين إن هو تاب أن يحصل له الغفران ( الجواب الثاني ) من الجوابين قوله وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ الاعتزال للشيء هو التباعد عنه والمراد أني أفارقكم في المكان وأفارقكم في طريقتكم أيضاً وأبعد عنكم وأتشاغل بعبادة ربي الذي ينفع ويضر والذي خلقني وأنعم علي فإنكم بعبادة الأصنام سالكون طريقة الهلاك فواجب على مجانبتكم ومعنى قوله عَسَى أَن لا أَكُونَ بِدُعَاء رَبّى شَقِيّا أرجو أن لا أكون كذلك وإنما ذكر ذلك على سبيل التواضع كقوله وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِينِ ( الشعراء 82 ) وأما قوله شَقِيّاً مع ما فيه من التواضع لله ففيه تعريض بشقاوتهم في دعاء آلهتهم على ما قرره أولاً في قوله لَمْ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً
فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً وَوَهَبْنَا لَهْمْ مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً

اعلم أنه ما خسر على الله أحد فإن إبراهيم عليه السلام لما اعتزلهم في دينهم وفي بلدهم واختار الهجرة إلى ربه إلى حيث أمره لم يضره ذلك ديناً ودنيا بل نفعه فعوضه أولاداً أنبياء ولا حالة في الدين والدنيا للبشر أرفع من أن يجعل الله له رسولاً إلى خلقه ويلزم الخلق طاعته والإنقياد له مع ما يحصل فيه من عظيم المنزلة في الآخرة فصار جعله تعالى إياهم أنبياء من أعظم النعم في الدنيا والآخرة ثم بين تعالى أنه مع ذلك وهب لهم من رحمته أي وهب لهم من النبوة ما وهب ويدخل فيه المال والجاه والأتباع والنسل الطاهر والذرية الطيبة ثم قال وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً ولسان الصدق الثناء الحسن وعبر باللسان عما يوجد باللسان كما عبر باليد عما يعطي باليد وهو العطية واستجاب الله دعوته في قوله وَاجْعَل لّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الاْخِرِينَ ( الشعراء 84 ) فصيره قدوة حتى ادعاه أهل الأديان كلهم وقال عز وجل مّلَّة َ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ ( الحج 78 ) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّة َ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا ( النحل 123 ) قال بعضهم إن الخليل اعتزل عن الخلق على ما قال وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ( مريم 48 ) فلا جرم بارك الله في أولاده فقال وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً وثانيها أنه تبرأ من أبيه في الله تعالى على ما قال فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لاوَّاهٌ حَلِيمٌ ( التوبة 114 ) لا جرم أن الله سماه أباً للمسلمين فقال مّلَّة َ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ وثالثها تل ولده للجبين ليذبحه على ما قال فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ( الصافات 103 ) لا جرم فداه الله تعالى على ما قال وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ( الصافات 107 ) ورابعها أسلم نفسه فقال أَسْلَمْتُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ ( البقرة 131 ) فجعل الله تعالى النار عليه برداً وسلاماً فقال قُلْنَا ياذَا نَّارٍ كُونِى بَرْداً وَسَلَامَا عَلَى إِبْراهِيمَ ( الأنبياء 69 ) وخامسها أشفق على هذه الأمة فقال رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ ( البقرة 129 ) لا جرم أشركه الله تعالى في الصلوات الخمس كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وسادسها في حق سارة في قوله وَإِبْراهِيمَ الَّذِى وَفَّى ( النجم 37 ) لا جرم جعل موطىء قدميه مباركاً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى ( البقرة 125 ) وسابعها عادى كل الخلق في الله فقال فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ ( الشعراء 77 ) لا جرم اتخذه الله خليلاً على ما قال وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً ( النساء 125 ) ليعلم صحة قولنا أنه ما خسر على الله أحد
( القصة الرابعة قصة موسى عليه السلام )
وَاذْكُرْ فِى الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصاً وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الاٌّ يْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَآ أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً
اعلم أنه تعالى وصف موسى عليه السلام بأمور أحدها أنه كان مخلصاً فإذا قرىء بفتح اللام فهو من الإصطفاء والإختباء كأن الله تعالى اصطفاه واستخلصه وإذا قرىء بالكسر فمعناه أخلص لله في التوحيد في العبادة والإخلاص هو القصد في العبادة إلى أن يعبد المعبود بها وحده ومتى ورد القرآن بقراءتين فكل واحدة منهما ثابت مقطوع به فجعل الله تعالى من صفة موسى عليه السلام كلا الأمرين وثانيها كونه

رسولاً نبياً ولا شك أنهما وصفان مختلفان لكن المعتزلة زعموا كونهما متلازمين فكل رسول نبي وكل نبي رسول ومن الناس من أنكر ذلك وقد بينا الكلام فيه في سورة الحج في قوله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِى ّ ( الحج 52 ) وثالثها قوله تعالى وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الاْيْمَنِ من اليمين أي من ناحية اليمين والأيمن صفة الطور أو الجانب ورابعها قوله وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً ولما ذكر كونه رسولاً قال وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً وفي قوله قربناه قولان أحدهما المراد قرب المكان عن أبي العالية قربه حتى سمع صرير القلم حيث كتبت التوراة في الألواح والثاني قرب المنزلة أي رفعنا قدره وشرفناه بالمناجاة قال القاضي وهذا أقرب لأن استعمال القرب في الله قد صار بالتعارف لا يراد به إلا المنزلة وعلى هذا الوجه يقال في العبادة تقرب ويقال في الملائكة عليهم السلام إنهم مقربون وأما وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً فقيل فيه أنجيناه من أعدائه وقيل هو من المناجاة في المخاطبة وهو أولى وخامسها قوله وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً قال ابن عباس رضي الله عنهما كان هرون عليه السلام أكبر من موسى عليهما السلام وإنما وهب الله له نبوته لا شخصه وأخوته وذلك إجابة لدعائه في قوله وَاجْعَل لّى وَزِيراً مّنْ أَهْلِى هَارُونَ أَخِى اشْدُدْ بِهِ أَزْرِى ( طه 29 30 31 ) فأجابه الله تعالى إليه بقوله قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يامُوسَى مُوسَى ( طه 36 ) وقوله سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ
( القصة الخامسة قصة إسمعيل عليه السلام )
وَاذْكُرْ فِى الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَواة ِ وَالزَّكَواة ِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً
اعلم أن إسمعيل هذا هو إسمعيل بن إبراهيم عليهما السلام واعلم أن الله تعالى وصف إسماعيل عليه السلام بأشياء أولها قوله إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وهذا الوعد يمكن أن يكون المراد فيما بينه وبين الله تعالى ويمكن أن يكون المراد فيما بينه وبين الناس أما الأول فهو أن يكون المراد أنه كان لا يخالف شيئاً مما يؤمر به من طاعة ربه وذلك لأن الله تعالى إذا أرسل الملك إلى الأنبياء وأمرهم بتأدية الشرع فلا بد من ظهور وعد منهم يقتضي القيام بذلك ويدل على القيام بسائر ما يخصه من العبادة وأما الثاني فهو أنه عليه السلام كان إذا وعد الناس بشيء أنجز وعده فالله تعالى وصفه بهذا الخلق الشريف وروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه وعد صاحباً له أن ينتظره في مكان فانتظره سنة وأيضاً وعد من نفسه الصبر على الذبح فوفى به حيث قال سَتَجِدُنِى إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ( الصافات 102 ) ويروى أن عيسى عليه السلام قال له رجل انتظرني حتى آتيك فقال عيسى عليه السلام نعم وانطلق الرجل ونسي الميعاد فجاء لحاجة إلى ذلك المكان وعيسى عليه السلام هنالك للميعاد وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أنه واعد رجلاً ونسي ذلك الرجل فانتظره من الضحى إلى قريب من غروب الشمس ) وسئل الشعبي عن الرجل يعد ميعاداً إلى أي وقت ينتظره فقال إن

واعده نهاراً فكل النهار وإن واعده ليلاً فكل الليل وسئل إبراهيم بن زيد عن ذلك فقال إذا واعدته في وقت الصلاة فانتظره إلى وقت صلاة أخرى وثانيها قوله وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً وقد مر تفسيره وثالثها قوله وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَواة ِ وَالزَّكَواة ِ والأقرب في الأهل أن المراد به من يلزمه أن يؤدي إليه الشرع فيدخل فيه كل أمته من حيث لزمه في جميعهم ما يلزم المرء في أهله خاصة هذا إذا حمل الأمر على المفروض من الصلاة والزكاة فإن حمل على الندب فيهما كان المراد أنه كما كان يتهجد بالليل يأمر أهله أي من كان في داره في ذلك الوقت بذلك وكان نظره لهم في الدين يغلب على شفقته عليهم في الدنيا بخلاف ما عليه أكثر الناس وقيل كان يبدأ بأهله في الأمر بالصلاح والعبادة ليجعلهم قدوة لمن سواهم كما قال تعالى وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاْقْرَبِينَ ( الشعراء 214 ) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلواة ِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ( طه 132 ) قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً ( التحريم 6 ) وأيضاً فهم أحق أن يتصدق عليهم فوجب أن يكونوا بالإحسان الديني أولى فأما الزكاة فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنها طاعة الله تعالى والاخلاص فكأنه تأوله على ما يزكو به الفاعل عند ربه والظاهر أنه إذا قرنت الزكاة إلى الصلاة أن يراد بها الصدقات الواجبة وكان يعرف من خاصة أهله أن يلزمهم الزكاة فيأمرهم بذلك أو يأمرهم أن يتبرعوا بالصدقات على الفقراء ورابعها قوله وَكَانَ عِندَ رَبّهِ مَرْضِيّاً وهو في نهاية المدح لأن المرضى عند الله هو الفائز في كل طاعاته بأعلى الدرجات
( القصة السادسة قصة إدريس عليه السلام )
وَاذْكُرْ فِى الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيَّاً وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً
اعلم أن إدريس عليه السلام هو جد أبي نوح عليه السلام وهو نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ قيل سمي إدريس لكثرة دراسته واسمه أخنوخ ووصفه الله تعالى بأمور أحدها أنه كان صديقاً وثانيها أنه كان نبياً وقد تقدم القول فيهما وثالثها قوله وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً وفيه قولان أحدهما أنه من رفعة المنزلة كقوله تعالى لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ( الشرح 4 ) فإن الله تعالى شرفه بالنبوة وأنزل عليه ثلاثين صحيفة وهو أول من خط بالقلم ونظر في علم النجوم والحساب وأول من خاط الثياب ولبسها وكانوا يلبسون الجلود الثاني أن المراد به الرفعة في المكان إلى موضع عال وهذا أولى لأن الرفعة المقرونة بالمكان تكون رفعة في المكان لا في الدرجة ثم اختلفوا فقال بعضهم إن الله رفعه إلى السماء وإلى الجنة وهو حي لم يمت وقال آخرون بل رفع إلى السماء وقبض روحه سأل ابن عباس رضي الله عنهما كعباً عن قوله وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً قال جاءه خليل له من الملائكة فسأله حتى يكلم ملك الموت حتى يؤخر قبض روحه فحمله ذلك الملك بين جناحيه فصعد به إلى السماء فلما كان في السماء الرابعة فإذا ملك الموت يقول بعثت وقيل لي اقبض روح إدريس في السماء الرابعة وأنا أقول كيف ذلك وهو في الأرض فالتفت إدريس فرآه ملك الموت فقبض روحه هناك واعلم أن الله تعالى إنما مدحه بأن رفعه إلى السماء لأنه جرت العادة أن لا يرفع إليها إلا من كان عظيم القدر والمنزلة ولذلك قال في حق الملائكة وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ ( الأنبياء 19 ) وههنا آخر القصص

أُولَائِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّيْنَ مِن ذُرِّيَّة ِ ءادَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّة ِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَاءِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَآ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءايَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً
اعلم أنه تعالى أثنى على كل واحد ممن تقدم ذكره من الأنبياء بما يخصه من الثناء ثم جمعهم آخراً فقال أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم أي بالنبوة وغيرها مما تقدم وصفه وأولئك إشارة إلى المذكورين في السورة من لدن زكريا إلى إدريس ثم جمعهم في كونهم من ذرية آدم ثم خص بعضهم بأنه من ذرية من حمل مع نوح والذي يختص بأنه من ذرية آدم دون من حمل مع نوح هو إدريس عليه السلام فقد كان سابقاً على نوح على ما ثبت في الأخبار والذين هم من ذرية من حمل مع نوح هو إبراهيم عليه السلام لأنه من ولد سام بن نوح وإسمعيل وإسحق ويعقوب من ذرية إبراهيم ثم خص بعضهم بأنهم من ولد إسرائيل أي يعقوب وهم موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى من قبل الأم فرتب الله سبحانه وتعالى أحوال الأنبياء عليهم السلام الذين ذكرهم على هذا الترتيب منبهاً بذلك على أنهم كما فضلوا بأعمالهم فلهم مزيد في الفضل بولادتهم من هؤلاء الأنبياء ثم بين أنهم ممن هدينا واجتبينا منبهاً بذلك على أنهم اختصوا بهذه المنازل لهداية الله تعالى لهم ولأنه اختارهم للرسالة ثم قال أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ النَّبِيّيْنَ مِن تتلى عليهم أي على هؤلاء الأنبياء فبين تعالى أنهم مع نعم الله عليهم قد بلغوا الحد الذي عند تلاوة آيات الله يخرون سجداً وبكياً خضوعاً وخشوعاً وحذراً وخوفاً والمراد بآيات الله ما خصهم الله تعالى به من الكتب المنزلة عليهم وقال أبو مسلم المراد بالآيات التي فيها ذكر العذاب المنزل بالكفار وهو بعيد لأن سائر الأيات التي فيها ذكر الجنة والنار إلى غير ذلك أولى أن يسجدوا عنده ويبكوا فيجب حمله على كل آية تتلى مما يتضمن الوعد والوعيد والترغيب والترهيب لأن كل ذلك إذا فكر فيه المتفكر صح أن يسجد عنده وأن يبكي واختلفوا فقال بعضهم في السجود إنه الصلاة وقال بعضهم المراد سجود التلاوة على حسب ما تعبدنا به وقيل المراد الخضوع والخشوع والظاهر يقتضي سجوداً مخصوصاً عند التلاوة ثم يحتمل أن يكون المراد سجود التلاوة للقرآن ويحتمل أنهم عند الخوف كانوا قد تعبدوا بالسجود فيفعلون ذلك لا لأجل ذكر السجود في الآية قال الزجاج في بكياً جمع باك مثل شاهد وشهود وقاعد وقعود ثم قال الإنسان في حال خروره لا يكون ساجداً فالمراد خروا مقدرين للسجود ومن قال في بكياً إنه مصدر فقد أخطأ لأن سجداً جمع ساجد وبكياً معطوف عليه وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( اتلو القرآن وابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا ) وعن صالح المري قال قرأت القرآن عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في المنام فقال لي يا صالح هذه القراءة فأين البكاء وعن ابن عباس رضي الله عنهما إذا قرأتم سجدة سبحان فلا تعجلوا بالسجود حتى تبكوا فإن لم تبك عين أحدكم فليبك قلبه وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( القرآن نزل بحزن فاقرأوه بحزن ) وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما اغرورقت عين به بماء إلا حرم الله على النار جسدها ) وعن أبي هريرة رضي الله عنه ( لا يلج النار من بكى من خشية الله ) وقال العلماء يدعو في سجود التلاوة بما يليق بها فإن قرأ آية تنزيل السجدة قال اللهم اجعلني من الساجدين لوجهك المسبحين

بحمدك وأعوذ بك أن أكون من المستكبرين عن أمرك وإن قرأ سجدة سبحان قال اللهم اجعلني من الباكين إليك الخاشعين لك وإن قرأ هذه السجدة قال اللهم اجعلني من عبادك المنعم عليهم المهتدين الساجدين لك الباكين عند تلاوة آيات كتابك
فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصَّلَواة َ وَاتَّبَعُواْ الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً إِلاَّ مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَائِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّة َ وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً
اعلم أنه تعالى لما وصف هؤلاء الأنبياء بصفات المدح ترغيباً لنا في التأسي بطريقتهم ذكر بعدهم من هو بالضد منهم فقال فخلف من بعدهم خلف وظاهر الكلام أن المراد من بعد هؤلاء الأنبياء خلف من أولادهم يقال خلفه إذا أعقبه ثم قيل في عقب الخبر خلف بفتح اللام وفي عقب الشر خلف بالسكون كما قالوا وعد في ضمان الخير ووعيد في ضمان الشر وفي الحديث ( في الله خلف من كل هالك ) وفي الشعر للبيد ذهب الذين يعاش في أكنافهم
وبقيت في خلف كجلد الأجرب
ثم وصفهم بإضاعة الصلاة واتباع الشهوات فإضاعة الصلاة في مقابلة قوله خَرُّواْ سُجَّداً ( السجدة 15 ) واتباع الشهوات في مقابلة قوله وَبُكِيّاً لأن بكاءهم يدل على خوفهم واتباع هؤلاء لشهواتهم يدل على عدم الخوف لهم وظاهر قوله فَخَلَفَ مِن تركوها لكن تركها قد يكون بأن لا تفعل أصلاً وقد يكون بأن لا تفعل في وقتها وإن كان الأظهر هو الأول وأما اتباع الشهوات فقال ابن عباس رضي الله عنهما هم اليهود تركوا الصلاة المفروضة وشربوا الخمر واستحلوا نكاح الأخت من الأب واحتج بعضهم بقوله إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ على أن تارك الصلاة كافر واحتج أصحابنا بها في أن الإيمان غير العمل لأنه تعالى قال وَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً فعطف العمل على الإيمان والمعطوف غير المعطوف عليه أجاب الكعبي عنه بأنه تعالى فرق بين التوبة والإيمان والتوبة من الإيمان فكذلك العمل الصالح يكون من الإيمان وإن فرق بينهما وهذا الجواب ضعيف لأن عطف الإيمان على التوبة يقتضي وقوع المغايرة بينهما لأن التوبة عزم على الترك والإيمان إقرار بالله تعالى وهما متغايران فكذا في هذه الصورة ثم بين تعالى أن من هذه صفته يَلْقُونَ غَيّاً وذكروا في الغي وجوهاً أحدها أن كل شر عند العرب غي وكل خير رشاد قال الشاعر فمن يلق خيراً يحمد الناس أمره
ومن يغو لا يعدم على الغي لائما
وثانيها قال الزجاج يَلْقُونَ غَيّاً أي يلقون جزاء الغي كقوله تعالى يَلْقَ أَثَاماً ( الفرقان 68 ) أي مجازاة الآثام وثالثها غياً عن طريق الجنة ورابعها الغي واد في جهنم يستعيذ منه أوديتها والوجهان الأولان أقرب فإن كان في جهنم موضع يسمى بذلك جاز ولا يخرج من أن يكون المراد ما قدمنا لأنه المعقول في اللغة ثم بين سبحانه أن هذا الوعيد فيمن لم يتب وأما من تاب وآمن وعمل صالحاً فلهم الجنة لا

يلحقهم ظلم وههنا سؤالان الأول الاستثناء دل على أنه لا بد من التوبة والإيمان والعمل الصالح وليس الأمر كذلك لأن من تاب عن كفره ولم يدخل وقت الصلاة أو كانت المرأة حائضاً فإنه لا يجب عليها الصلاة والزكاة أيضاً غير واجبة وكذا الصوم فههنا لو مات في ذلك الوقت كان من أهل النجاة مع أنه لم يصدر عنه عمل فلم يجز توقف الأجر على العمل الصالح و ( الجواب ) أن هذه الصورة نادرة والمراد منه الغالب السؤال الثاني قوله وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً هذا إنما يصح لو كان الثواب مستحقاً على العمل لأنه لو كان الكل بالتفضل لاستحال حصول الظلم لكن من مذهبكم أنه لا استحقاق للعبد بعمله إلا بالوعد ( الجواب ) أنه لما أشبهه أجرى على حكمه
جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِى وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سَلَاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَة ً وَعَشِيّاً تِلْكَ الْجَنَّة ُ الَّتِى نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً
اعلم أنه تعالى لما ذكر في التائب أنه يدخل الجنة وصف الجنة بأمور أحدها قوله جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِى وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ والعدن الإقامة وصفها بالدوام على خلاف حال الجنان في الدنيا التي لا تدوم ولذلك فإن حالها لا يتغير في مناظرها فليست كجنان الدنيا التي حالها يختلف في خضرة الورق وظهور النور والثمر وبين تعالى أنها وعد الرحمن لعباده وأما قوله بِالْغَيْبِ ففيه وجهان أحدهما أنه تعالى وعد ( هم إيا ) ها وهي غائبة عنهم غير حاضرة أو هم غائبون عنها لا يشاهدونها والثاني أن المراد وعد الرحمن للذين يكونون عباداً بالغيب أي الذين يعبدونه في السر بخلاف المنافقين فإنهم يعبدونه في الظاهر ولا يعبدونه في السر وهو قول أبي مسلم والوجه الأول أقوى لأنه تعالى بين أن الوعد منه تعالى وإن كان بأمر غائب فهو كأنه مشاهد حاصل لذلك قال بعده إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً أما قوله مَأْتِيّاً فقيل إنه مفعول بمعنى فاعل والوجه أن الوعد هو الجنة وهم يأتونها قال الزجاج كل ما وصل إليك فقد وصلت إليه وما أتاك فقد أتيته والمقصود من قوله إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً بيان أن الوعد منه تعالى وإن كان بأمر غائب فهو كأنه مشاهد وحاصل والمراد تقرير ذلك في القلوب وثانيها قوله لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سَلَاماً ( مريم 62 ) واللغو من الكلام ما سبيله أن يلغي ويطرح وهو المنكر من القول ونظيره قوله لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَة ً ( الغاشية 11 ) وفيه تنبيه ظاهر على وجوب تجنب اللغو حيث نزه الله تعالى عنه الدار التي لا تكليف فيها وما أحسن قوله وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً ( الفرقان 72 ) وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِى الْجَاهِلِينَ ( القصص 55 ) أما قوله إِلاَّ سَلَاماً ففيه بحثان
البحث الأول أن فيه إشكالاً وهو أن السلام ليس من جنس اللغو فكيف استثنى السلام من اللغو والجواب عنه من وجوه أحدها أن معنى السلام هو الدعاء بالسلامة وأهل الجنة لا حاجة بهم إلى هذا الدعاء فكان ظاهره من باب اللغو وفضول الحديث لولا ما فيه من فائدة الإكرام وثانيها أن يحمل ذلك على الاستثناء المنقطع وثالثها أن يكون هذا من جنس قول الشاعر

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
بهن فلول من قراع الكتائب
البحث الثاني أن ذلك السلام يحتمل أن يكون من سلام بعضهم على بعض أو من تسليم الملائكة أو من تسليم الله تعالى على ما قال تعالى وَالمَلَائِكَة ُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ( الرعد 23 24 ) وقوله سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ ( يس 58 ) ورابعها قوله تعالى وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَة ً وَعَشِيّاً وفيه سؤالان السؤال الأول أن المقصود من هذه الآيات وصف الجنة بأحوال مستعظمة ووصول الرزق إليهم بكرة وعشياً ليس من الأمور المستعظمة ( والجواب ) من وجهين الأول قال الحسن أراد الله تعالى أن يرغب كل قوم بما أحبوه في الدنيا ولذلك ذكر أساور من الذهب والفضة ولبس الحرير التي كانت عادة العجم والأرائك التي هي الحجال المضروبة على الأسرة وكانت من عادة أشراف العرب في اليمن ولا شيء كان أحب إلى العرب من الغداء والعشاء فوعدهم بذلك الثاني أن المراد دوام الرزق كما تقول أنا عند فلان صباحاً ومساء وبكرة وعشياً تريد الدوام ولا تقصد الوقتين المعلومين السؤال الثاني قال تعالى لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً ( الإنسان 13 ) وقال عليه السلام ( لا صباح عند ربك ولا مساء ) والبكرة والعشي لا يوجدان إلا عند وجود الصباح والمساء ( والجواب ) المراد أنهم يأكلون عند مقدار الغداة والعشي إلا أنه ليس في الجنة غدوة وعشي إذ لا ليل فيها ويحتمل ما قيل إنه تعالى جعل لقدر اليوم علامة يعرفون بها مقادير الغداة والعشي ويحتمل أن يكون المراد لهم رزقهم متى شاءوا كما جرت العادة في الغداة والعشي وخامسها قوله تِلْكَ الْجَنَّة ُ الَّتِى نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً وفيه أبحاث الأول قوله تِلْكَ الْجَنَّة ُ هذه الإشارة إنما صحت لأن الجنة غائبة وثانيها ذكروا في نورث وجوهاً الأول نورث استعارة أي نبقي عليه الجنة كما نبقي على الوارث مال المورث الثاني أن المراد أنا ننقل تلك المنازل ممن لو أطاع لكانت له إلى عبادنا الذين اتقوا ربهم فجعل هذا النقل إرثاً قاله الحسن الثالث أن الإتقياء يلقون ربهم يوم القيامة وقد انقضت أعمالهم وثمراتها باقية وهي الجنة فإذا أدخلهم الجنة فقد أورثهم من تقواهم كما يرث الوارث المال من المتوفى ورابعها معنى من كان تقياً من تمسك باتقاء معاصيه وجعله عادته واتقى ترك الواجبات قال القاضي فيه دلالة على أن الجنة يختص بدخولها من كان متقياً والفاسق المرتكب للكبائر لا يوصف بذلك ( والجواب ) الآية تدل على أن المتقي يدخلها وليس فيها دلالة على أن غير المتقي لا يدخلها وأيضاً فصاحب الكبيرة متق عن الكفر ومن صدق عليه أنه متق عن الكفر فقد صدق عليه أنه متق لأن المتقي جزء من مفهوم قولنا المتقي عن الكفر وإذا كان صاحب الكبيرة يصدق عليه أنه متق وجب أن يدخل تحته فالآية بأن تدل على أن صاحب الكبيرة يدخل الجنة أولى من أن تدل على أنه لا يدخلها
وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذالِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً رَّبُّ السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً

اعلم أن في الآية إشكالاً وهو أو قوله تِلْكَ الْجَنَّة ُ الَّتِى نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً ( مريم 63 ) كلام الله وقوله وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ كلام غير الله فكيف جاز عطف هذا على ما قبله من غير فصل ( والجواب ) أنه إذا كانت القرينة ظاهرة لم يقبح كما أن قوله سبحانه إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ( البقرة 117 ) هو كلام الله وقوله وَإِنَّ اللَّهَ رَبّى وَرَبُّكُمْ ( آل عمران 51 ) كلام غير الله وأحدهما معطوف على الآخر واعلم أن ظاهر قوله تعالى وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ خطاب جماعة لواحد وذلك لا يليق إلا بالملائكة الذين ينزلون على الرسول ويحتمل في سببه ما روي أن قريشاً بعثت خمسة رهط إلى يهود المدينة يسألونهم عن صفة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهل يجدونه في كتابهم فسألوا النصارى فزعموا أنهم لا يعرفونه قوالت اليهود نجده في كتابنا وهذا زمانه وقد سألنا رحمن اليمامة عن خصال ثلاث فلم يعرف فاسألوه عنهن فإن أخبركم بخصلتين منهما فاتبعوه فاسألوه عن فتية أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح قال فجاءوا فسألوه عن ذلك لم يدر كيف يجيب فوعدهم أن يجيبهم بعد ذلك ولم يقل إن شاء الله فاحتبس الوحي عنه أربعين يوماً وقيل خمسة عشر يوماً فشق عليه ذلك مشقة شديدة وقال المشركون ودعه ربه وقلاه فنزل جبريل عليه السلام فقال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أبطأت عني حتى ساء ظني واشتقت إليك قال إني كنت أشوق ولكني عبد مأمور إذا بعثت نزلت وإذا حبست احتبست فأنزل الله تعالى هذه الآية وأنزل قوله وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَى ْء إِنّى فَاعِلٌ ذالِكَ غَداً إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ ( الكهف 23 ) وسورة الضحى ثم أكدوا ذلك بقولهم لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا أي هو المدبر لنا في كل الأوقات الماضي والمستقبل وما بينهما أو الدنيا والآخرة وما بينهما فإنه يعلم إصلاح التدبير مستقبلاً وماضياً وما بينهما والغرض أن أمرنا موكول إلى الله تعالى يتصرف فينا بحسب مشيئته وإرادته وحكمته لا اعتراض لأحد عليه فيه وقال أبو مسلم قوله وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ يجوز أن يكون قول أهل الجنة والمراد وما نتنزل الجنة إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا أي في الجنة مستقبلاً وما خلفنا مما كان في الدنيا وما بين ذلك أي ما بين الوقتين وما كان ربك نسياً لشيء مما خلق فيترك إعادته لأنه عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة وقوله وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً ابتداء كلام منه تعالى في مخاطبة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ويتصل به رَبّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أي بل هو رَبّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ قال القاضي وهذا مخالف للظاهر من وجوه أحدها أن ظاهر التنزل نزول الملائكة إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لقوله بأمر ربك وظاهر والأمر بحال التكليف أليق وثانيها أنه خطاب من جماعة لواحد وذلك لا يليق بمخاطبة بعضهم لبعض في الجنة وثالثها أن ما في سياقه من قوله وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً رَبّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لا يليق إلا بحال التكليف ولا يوصف به الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فكأنهم قالوا للرسول وما كان ربك يا محمد نسياً يجوز عليه السهو حتى يضرك إبطاؤنا بالتنزل عليك إلى مثل ذلك ثم ههنا أبحاث
البحث الأول قال صاحب ( الكشاف ) التنزل على معنيين أحدهما النزول على مهل والثاني بمعنى النزول على الإطلاق والدليل عليه أنه مطاوع نزل ونزل يكون بمعنى أنزل وبمعنى التدريج واللائق بمثل هذا الموضع هو النزول على مهل والمراد أن نزولنا في الأحايين وقتاً بعد وقت ليس إلا بأمر الله تعالى
البحث الثاني ذكروا في قوله مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذالِكَ وجوهاً أحدها له ما قدامنا وما خلفنا من الجهات وما نحن فيه فلا نتمالك أن ننتقل من جهة إلى جهة ومن مكان إلى مكان إلا بأمره ومشيئته فليس لنا أن ننقلب من السماء إلى الأرض إلا بأمره وثانيها له ما بين أيدينا ما سلف من أمر الدنيا

وما خلفنا ما يستقبل من أمر الآخرة وما بين ذلك وما بين النفختين وهو أربعون سنة وثالثها ما مضى من أعمارنا وما غبر من ذلك والحال التي نحن فيها ورابعها ما قبل وجودنا وما بعد فنائنا وخامسها الأرض التي بين أيدينا إذا نزلنا والسماء التي وراءنا وما بين السماء والأرض وعلى كل التقديرات فالمقصود أنه المحيط بكل شيء لا تخفى عليه خافية ولا يعزب عنه مثقال ذرة فكيف نقدم على فعل إلا بأمره وحكمه
البحث الثالث قوله وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً أي تاركاً لك كقوله مَا وَعْدَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ( الضحى 3 ) أي ما كان امتناع النزول إلا لامتناع الأمر به ولم يكن ذلك عن ترك الله لك وتوديعه إياك أما قوله رَبّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فالمراد أن من يكون رباً لها أجمع لا يجوز عليه النسيان إذ لا بد من أن يمسكها حالاً بعد حال وإلا بطل الأمر فيهما وفيمن يتصرف فيهما واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن فعل العبد خلق الله تعالى لأن فعل العبد حاصل بين السماء والأرض والآية دالة على أنه رب لكل شيء حصل بينهما قال صاحب ( الكشاف ) رب السموات والأرض بدل من ربك ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هو رب السموات والأرض فاعبده واصطبر لعبادته فهو أمر للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بالعبادة والمصابرة على مشاق التكاليف في الأداء والإبلاغ وفيما يخصه من العبادة فإن قيل لم لم يقل واصطبر على عبادته بل قال واصطبر لعبادته قلنا لأن العبادة جعلت بمنزلة القرن في قولك للمحارب اصطبر لقرنك أي اثبت له فيما يورد عليك من شداته ( والمعنى ) أن العبادة تورد عليك شدائد ومشاق فاثبت لها ولا تهن ولا يضق صدرك من إلقاء أهل الكتاب إليك الأغاليط عن احتباس الوحي عنك مدة وشماتة المشركين بك أما قوله تعالى هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً فالظاهر يدل على أنه تعالى جعل علة الأمر بالعبادة والأمر بالمصابرة عليها أنه لا سمي له والأقرب هو كونه منعماً بأصول النعم وفروعها وهي خلق الأجسام والحياة والعقل وغيرها فإنه لا يقدر على ذلك أحد سواه سبحانه فإذا كان هو قد أنعم عليك بغاية الإنعام وجب أن تعظمه بغاية التعظيم وهي العبادة ومن الناس من قال المراد أنه سبحانه ليس له شريك في اسمه وبينوا ذلك من وجهين الأول أنهم وإن كانوا يطلقون لفظ الإله على الوثن فما أطلقوا لفظ الله على شيء سواه وعن ابن عباس رضي الله عنهما لا يسمى بالرحمن غيره الثاني هل تعلم من سمى باسمه على الحق دون الباطل لأن التسمية على الباطل في كونها غير معتد بها كلا تسمية والقول الأول هو الصواب والله أعلم
وَيَقُولُ الإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً أَوَلاَ يَذْكُرُ إلإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَة ٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً

اعلم أنه تعالى لما أمر بالعبادة والمصابرة عليها فكأن سائلاً سأل وقال هذه العبادات لا منفعة فيها في الدنيا وأما في الآخرة فقد أنكرها قوم فلا بد من ذكر الدلالة على القول بالحشر حتى يظهر أن الاشتغال بالعبادة مفيد فلهذا حكى الله تعالى قول منكري الحشر فقال وَيَقُولُ الإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً وإما قالوا ذلك على وجه الإنكار والاستبعاد وذكروا في الإنسان وجهين أحدهما أن يكون المراد الجنس بأسره فإن قيل كلهم غير قائلين بذلك فكيف يصح هذا القول قلنا الجواب من وجهين الأول أن هذه المقالة لما كانت موجودة فيما هو من جنسهم صح إسنادها إلى جميعهم كما يقال بنو فلان قتلوا فلاناً وإنما القاتل رجل منهم والثاني أن هذا الاستبعاد موجود ابتداء في طبع كل أحد إلا أن بعضهم ترك ذلك الاستبعاد المبني على محض الطبع بالدلالة القاطعة التي قامت على صحة القول به الثاني أن المراد بالإنسان شخص معين فقيل هو أبو جهل وقيل هو أبي بن خلف وقيل المراد جنس الكفار القائلين بعدم البعث ثم إن الله تعالى أقام الدلالة على صحة البعث بقوله أَوْ لاَ يَذْكُرُ إلإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً والقراء كلهم على يُذْكَرِ بالتشديد إلا نافعاً وابن عامر وعاصماً فقد خففوا أي أو لا يتذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل وإذا قرىء أو لا يذكر فهو أقرب إلى المراد إذ الغرض التفكر والنظر في أنه إذا خلق من قبل لا من شيء فجائز أن يعاد ثانياً قال بعض العلماء لو اجتمع كل الخلائق على إيراد حجة في البعث على هذا الاختصار لما قدروا عليها إذ لا شك أن الإعادة ثانياً أهون من الإيجاد أولاً ونظيره قوله قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّة ٍ ( يس 79 ) وقوله وَهُوَ الَّذِى يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ( الروم 27 ) واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن المعدوم ليس بشيء وهو ضعيف لأن الإنسان عبارة عن مجموع جواهر متألفة قامت بها أعراض وهذا المجموع ما كان شيئاً ولكن لم قلت إن كل واحد من تلك الأجزاء ما كان شيئاً قبل كونه موجوداً فإن قيل كيف أمر تعالى الإنسان بالذكر مع أن الذكر هو العلم بما قد علمه من قبل ثم تخللهما سهو قلنا المراد أو لا يتفكر فيعلم خصوصاً إذا قرىء أو لا يذكر الإنسان بالتشديد أما إذا قرىء أو لا يذكر بالتخفيف فالمراد أو لا يعلم ذلك من حال نفسه لأن كل أحد يعلم أنه لم يكن حياً في الدنيا ثم صار حياً ثم إنه سبحانه لما قرر المطلوب بالدليل أردفه بالتهديد من وجوه أحدها قوله فَوَرَبّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ وفائدة القسم أمران أحدهما أن العادة جارية بتأكيد الخبر باليمين والثاني أن في إقسام الله تعالى باسمه مضافاً إلى اسم رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) تفخيم لشأنه ( صلى الله عليه وسلم ) ورفع منه كما رفع من شأن السماء والأرض في قوله فَوَرَبّ السَّمَاء وَالاْرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ ( الذاريات 23 ) والواو في الشَّياطِينِ ويجوز أن تكون للعطف وأن تكون بمعنى مع وهي بمعنى مع أوقع والمعنى أنهم يحشرون مع قرنائهم من الشياطين الذين أغووهم يقرن كل كافر مع شيطان في سلسلة وثانيها قوله ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً وهذا الإحضار يكون قبل إدخالهم جهنم ثم إنه تعالى يحضرهم على أذل صورة لقوله تعالى جِثِيّاً لأن البارك على ركبتيه صورته صورة الذليل أو صورته صورة العاجز فإن قيل هذا المعنى حاصل للكل بدليل قوله تعالى وَتَرَى كُلَّ أُمَّة ٍ جَاثِيَة ً ( الجاثية 28 ) والسبب فيه جريان العادة أن الناس في مواقف المطالبات من الملوك يتجاثون على ركبهم لما في ذلك من الاستنظار والقلق أو لما يدهمهم من شدة الأمر الذي لا يطيقون معه القيام على أرجلهم وإذا كان هذا عاماً للكل فكيف يدل على مزيد ذل الكفار قلنا لعل المراد أنهم يكونون من وقت الحشر إلى وقت الحضور في الموقف على هذه الحالة وذلك

يوجب مزيد الذل في حقهم وثالثها قوله ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلّ شِيعَة ٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً والمراد بالشيعة وهي فعلة كفرقة وفئة الطائفة التي شاعت أي تبعت غاوياً من الغواة قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا ( الأنعام 159 ) والمراد أنه تعالى يحضرهم أولا حول جهنم جثياً ثم يميز البعض من البعض فمن كان أشدهم تمرداً في كفره خص بعذاب أعظم لأن عذاب الضال المضل يجب أن يكون فوق عذاب من يضل تبعاً لغيره وليس عذاب من يتمرد ويتجبر كعذاب المقلد وليس عذاب من يورد الشبه في الباطل كعذاب من يقتدي به مع الغفلة قال تعالى الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ ( النحل 88 ) وقال وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ ( العنكبوت 13 ) فبين تعالى أنه ينزع من كل فرقة من كان أشد عتواً وأشد تمرداً ليعلم أن عذابه أشد ففائدة هذه التمييز التخصيص بشدة العذاب لا التخصيص بأصل العذاب فلذلك قال في جميعهم ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً ولا يقال أولى إلا مع اشتراك القوم في العذاب واختلفوا في إعراب أيهم فعن الخليل أنه مرتفع على الحكاية تقديره لننزعن الذين يقال فيهم أيهم أشد وسيبويه على أنه مبني على الضم لسقوط صدر الجملة التي هي صلة حتى لو جيء به لأعرب وقيل أيهم هو أشد
وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً ثُمَّ نُنَجِّى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً
واعلم أنه تعالى لما قال من قبل فَوَرَبّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثم قال ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ ( مريم 68 ) أردفه بقوله وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا يعني جهنم واختلفوا فقال بعضهم المراد من تقدم ذكره من الكفار فكنى عنهم أولاً كناية الغيبة ثم خاطب خطاب المشافهة قالوا إنه لا يجوز للمؤمنين أن يردوا النار ويدل عليه أمور أحدها قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ( الأنبياء 101 ) والمبعد عنها لا يوصف بأنه واردها والثاني قوله لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا ( الأنبياء 102 ) ولو وردوا جهنم لسمعوا حسيسها وثالثها قوله وَهُمْ مّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ ءامِنُونَ ( النحل 89 ) وقال الأكثرون إنه عام في كل مؤمن وكافر لقوله تعالى وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا فلم يخص وهذا الخطاب مبتدأ مخالف للخطاب الأول ويدل عليه قوله ثُمَّ نُنَجّى الَّذِينَ اتَّقَواْ أي من الواردين من اتقى ولا يجوز أن يقال ثُمَّ نُنَجّى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً إلا والكل واردون والأخبار المروية دالة على هذا القول ثم هؤلاء اختلفوا في تفسير الورود فقال بعضهم الورود الدنو من جهنم وأن يصيروا حولها وهو موضع المحاسبة واحتجوا على أن الورود قد يراد به القرب بقوله تعالى فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ ( يوسف 19 ) ومعلوم أن ذلك الوارد ما دخل الماء وقال تعالى وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّة ً مّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ ( القصص 23 ) وأراد به القرب ويقال وردت القافلة البلدة وإن لم تدخلها فعلى هذا معنى الآية أن الجن والإنس يحضرون حول

جهنم كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً ( مريم 71 ) أي واجباً مفروغاً منه بحكم الوعيد ثم ننجي أي نبعد الذين اتقوا عن جهنم وهو المراد من قوله تعالى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ( الأنبياء 101 ) ومما يؤكد هذا القول ما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( لا يدخل النار أحد شهد بدراً والحديبية فقالت حفصة أليس الله يقول وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا فقال عليه السلام فمه ثم ننجي الذين اتقوا ) ولو كان الورود عبارة عن الدخول لكان سؤال حفصة لازماً القول الثاني أن الورود هو الدخول ويدل عليه الآية والخبر أما الآية فقوله تعالى إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ( الأنبياء 98 ) وقال فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ ( هود 98 ) ويدل عليه قوله تعالى الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ والمبعد هو الذي لولا التبعيد لكان قريباً فهذا إنما يحصل لو كانوا في النار ثم إنه تعالى يبعدهم عنها ويدل عليه قوله تعالى وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً وهذا يدل على أنهم يبقون في ذلك الموضع الذي وردوه وهم إنما يبقون في النار فلا بد وأن يكونوا قد دخلوا النار وأما الخبر فهو أن عبد الله بن رواحة قال ( أخبر الله عن الورود ولم يخبر بالصدور فقال عليه السلام يا ابن رواحة اقرأ ما بعدها ثم ننجي الذين اتقوا ) وذلك يدل على أن ابن رواحة فهم من الورود الدخول والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ما أنكر عليه في ذلك وعن جابر ( أنه سئل عن هذه الآية فقال سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول الورود الدخول لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمنين برداً وسلاماً حتى أن للناس ضجيجاً من بردها ) والقائلون بهذا القول يقولون المؤمنون يدخلون النار من غير خوف وضرر ألبتة بل مع الغبطة والسرور وذلك لأن الله تعالى أخبر عنهم أنهم لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاْكْبَرُ ( الأنبياء 103 ) ولأن الآخرة دار الجزاء لا دار التكليف وإيصال الغم والحزن إنما يجوز في دار التكليف ولأنه صحت الرواية عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الملائكة تبشر في القبر من كان من أهل الثواب بالجنة حتى يرى مكانه في الجنة ويعلمه ) وكذلك القول في حال المعاينة فكيف يجوز أن يردوا القيامة وهم شاكون في أمرهم وإنما تؤثر هذه الأحوال في أهل النار لأنهم لا يعلمون كونهم من أهل النار والعقاب ثم اختلفوا في أنه كيف يندفع عنهم ضرر النار فقال بعضهم البقعة المسماة بجهنم لا يمتنع أن يكون في خلالها ما لا نار فيه ويكون من المواضع التي يسلك فيها إلى دركات جهنم وإذا كان كذلك لم يمتنع أن يدخل الكل في جهنم فالمؤمنون يكونون في تلك المواضع الخالية عن النار والكفار يكونون في وسط النار وثانيها أن الله تعالى يخمد النار فيعبرها المؤمنون وتنهار بغيرهم قال ابن عباس رضي الله عنهما ( يردونها كأنها إهالة ) وعن جابر بن عبد الله ( أنه سأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال إذا دخل أهل الجنة الجنة قال بعضهم لبعض أليس وعدنا ربنا بأن نرد النار فيقال لهم قد وردتموها وهي خامدة ) وثالثها أن حرارة النار ليست بطبعها فالأجزاء الملاصقة لأبدان الكفار يجعلها الله عليهم محرقة مؤذية والأجزاء الملاصقة لأبدان المؤمنين يجعلها الله برداً وسلاماً عليهم كما في حق إبراهيم عليه السلام وكما أن الكوز الواحد من الماء يشربه القبطي فكان يصير دماً ويشربه الإسرائيلي فكان يصير ماء عذباً واعلم أنه لا بد من أحد هذه الوجوه في الملائكة الموكلين بالعذاب حتى يكونوا في النار مع المعاقبين فإن قيل إذا لم يكن على المؤمنين عذاب في دخولهم النار فما الفائدة في ذلك الدخول قلنا فيه وجوه

أحدها أن ذلك مما يزيدهم سروراً إذا علموا الخلاص منه وثانيها أن فيه مزيد غم على أهل النار حيث يرون المؤمنين الذين هم أعداؤهم يتخلصون منها وهم يبقون فيها وثالثها أن فيه مزيد غم على أهل النار من حيث تظهر فضيحتهم عند المؤمنين بل وعند الأولياء وعند من كان يخوفهم من النار فما كانوا يلتفتون إليه ورابعها أن المؤمنين إذا كانوا معهم في النار يبكتونهم فزاد ذلك غماً للكفار وسروراً للمؤمنين وخامسها أن المؤمنين كانوا يخوفونهم بالحشر والنشر ويقيمون عليهم صحة الدلائل فما كانوا يقبلون تلك الدلائل فإذا دخلوا جهنم معهم أظهروا لهم أنهم كانوا صادقين فيما قالوا وأن المكذبين بالحشر والنشر كانوا كاذبين وسادسها أنهم إذا شاهدوا ذلك العذاب صار ذلك سبباً لمزيد التذاذهم بنعيم الجنة كما قال الشاعر
وبضدها تتبين الأشياء
فأما الذين تمسكوا بقوله تعالى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ( الأنبياء 101 ) فقد بينا أنه أحد ما يدل على الدخول في جهنم وأيضاً فالمراد عن عذابها وكذا قوله لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا ( الأنبياء 102 ) فإن قيل هل ثبت بالأخبار كيفية دخول النار ثم خروج المتقين منها إلى الجنة قلنا ثبت بالأخبار أن المحاسبة تكون في الأرض أو حيث كانت الأرض ويدل عليه أيضاً قوله تعالى يَوْمَ تُبَدَّلُ الاْرْضُ غَيْرَ الاْرْضِ ( إبراهيم 48 ) وجهنم قريبة من الأرض والجنة في السماء ففي موضع المحاسبة يكون الاجتماع فيدخلون من ذلك الموضع إلى جهنم ثم يرفع الله أهل الجنة وينجيهم ويدفع أهل النار فيها أما قوله كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً فالحتم مصدر حتم الأمر إذا أوجبه فسمى المحتوم بالحتم كقولهم خلق الله وضرب الأسير واحتج من أوجب العقاب عقلاً فقال إن قوله كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً يدل على وجوب ما جاء من جهة الوعيد والأخبار لأن كلمة على للوجوب والذي ثبت بمجرد الأخبار لا يسمى واجباً ( والجواب ) أن وعد الله تعالى لما استحال تطرق الخلف إليه جرى مجرى الواجب أما قوله ثُمَّ نُنَجّى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ قرىء ننجي وننجي وينجي على ما لم يسم فاعله قال القاضي الآية دالة على قولنا في الوعيد لأن الله تعالى بين أن الكل يردونها ثم بين صفة من ينجو وهم المتقون والفاسق لا يكون متقياً ثم بين تعالى أن من عدا المتقين يذرهم فيها جثياً فثبت أن الفاسق يبقى في النار أبداً قال ابن عباس المتقي هو الذي اتقى الشرك بقول لا إله إلا الله واعلم أن الذي قاله ابن عباس هو الحق الذي يشهد الدليل بصحته وذلك لأن من آمن بالله وبرسله صح أن يقال إنه متق عن الشرك ومن صدق عليه أنه متق عن الشرك صدق عليه أنه متق لأن المتقي جزء من المتقي عن الشرك ومن صدق عليه المركب صدق عليه المفرد فثبت أن صاحب الكبيرة متق وإذا ثبت ذلك وجب أن يخرج من النار لعموم قوله ثُمَّ نُنَجّى الَّذِينَ اتَّقَواْ فصارت هذه الآية التي توهموها دليلاً من أقوى الدلائل على فساد قولهم قال القاضي وتدل الآية أيضاً على فساد قول من يقول إن من المكلفين من لا يكون في الجنة ولا في النار قلنا هذا ضعيف لأن الآية تدل على أنه تعالى ينجي الذين اتقوا وليس فيها ما يدل على أنه ينجيهم إلى الجنة ثم هب أنها تدل على ذلك ولكن الآية تدل على أن المتقين يكونون في الجنة والظالمين يبقون في النار فيبقى ههنا قسم ثالث خارج عن القسمين وهو الذي استوت طاعته ومعصيته فتسقط كل واحدة منهما بالأخرى فيبقى لا مطيعاً ولا عاصياً فهذا القسم إن بطل فإنما يبطل بشيء سوى هذه الآية فلا تكون هذه الآية دالة على الحصر الذي ادعاه ومن المعتزلة من تمسك في الوعيد بقوله وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً

ولفظ الظالمين لفظ جمع دخل عليه حرف التعريف فيفيد العموم والكلام على التمسك بصيغ العموم قد تقدم مراراً كثيرة في هذا الكتاب أما قوله جِثِيّاً قال صاحب ( الكشاف ) قوله وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً دليل على أن المراد بالورود الجثو حواليها وأن المؤمنين يفارقون الكفرة إلى الجنة بعد نجاتهم وتبقى الكفرة في مكانهم جاثين
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بِيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَى ُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً
اعلم أنه تعالى لما أقام الحجة على مشركي قريش المنكرين للبعث أتبعه بالوعيد على ما تقدم ذكره عنهم أنهم عارضوا حجة الله بكلام فقالوا لو كنتم أنتم على الحق وكنا على الباطل لكان حالكم في الدنيا أحسن وأطيب من حالنا لأن الحكيم لا يليق به أن يوقع أولياءه المخلصين في العذاب والذل وأعداءه المعروضين عن خدمته في العز والراحة ولما كان الأمر بالعكس فإن الكفار كانوا في النعمة والراحة والاستعلاء والمؤمنين كانوا في ذلك الوقت في الخوف والذل دل على أن الحق ليس مع المؤمنين هذا حاصل شبهتهم في هذا الباب ونظيره قوله تعالى لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ ( الأحقاف 11 ) ويروى أنهم كانوا يرجلون شعورهم ويدهنون ويتطيبون ويتزينون بالزينة الفاخرة ثم يدعون مفتخرين على فقراء المسلمين أنهم أكرم على الله منهم بقي بحثان
الأول قوله بَيّنَاتٍ تَعْرِفُ يحتمل وجوهاً أحدها أنها مرتلات الألفاظ مبينات المعاني إما محكمات أو متشابهات فقد تبعها البيان بالمحكمات أو بتبيين الرسول قولاً أو فعلاً وثانيها أنها ظاهرات الإعجاز تحدى بها فما قدروا على معارضتها وثالثها المراد بكونها آيات بينات أي دلائل ظاهرة واضحة لا يتوجه عليها سؤال ولا اعتراض مثل قوله تعالى في إثبات صحة الحشر أَوْ لاَ يَذْكُرُ إلإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً ( مريم 67 )
البحث الثاني قرأ ابن كثير مَقَاماً بالضم وهو موضع الإقامة والمنزل والباقون بالفتح وهو موضع القيام والمراد والندى المجلس يقال ندى وناد والجمع الأندية ومنه قوله وَتَأْتُونَ فِى نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ ( العنكبوت 29 ) وقال فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ ( العلق 17 ) ويقال ندوت القوم أندوهم إذا جمعتهم في المجلس ومنه دار الندوة بمكة وكانت مجتمع القوم ثم أجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً
وتقرير هذا الجواب أن يقال إن من كان أعظم نعمة منكم في الدنيا قد أهلكهم الله تعالى وأبادهم فلو دل حصول نعم الدنيا للإنسان على كونه حبيباً لله تعالى لوجب في حبيب الله أن لا يوصل إليه غماً في الدنيا ووجب عليه أن لا يهلك أحداً من المنعمين في دار الدنيا وحيث أهلكهم دل إما على فساد المقدمة الأولى

وهي أن من وجد الدنيا كان حبيباً لله تعالى أو على فساد المقدمة الثانية وهي أن حبيب الله لا يوصل الله إليه غماً وعلى كلا التقديرين فيفسد ما ذكرتموه من الشبهة بقي البحث عن تفسير الألفاظ فنقول أهل كل عصر قرن لمن بعدهم لأنهم يتقدمونهم وهم أحسن في محل النصب صفة لكم ألا ترى أنك لو تركت هم لم يكن لك بد من نصب أحسن على الوصفية والأثاث متاع البيت أما رئياً فقرىء على خمسة أوجه لأنها إما أن تقرأ بالراء التي ليس فوقها نقطة أو بالزاي التي فوقها نقطة فأما الأول فإما أن يجمع بين الهمزة والياء أو يكتفي بالياء أما إذا جمع بين الهمزة والياء ففيه وجهان أحدهما بهمزة ساكنة بعدها ياء وهو المنظر والهيئة فعل بمعنى مفعول من رأيت رئياً والثاني ريئاً على القلب كقولهم راء في رأى أما إن اكتفينا بالياء فتارة بالياء المشددة على قلب الهمزة ياء والإدغام أو من الري الذي هو النعمة والترفه من قولهم ريان من النعيم والثاني بالياء على حذف الهمزة رأساً ووجهه أن يخفف المقلوب وهو ريئاً بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على الياء الساكنة قبلها وأما بالزاي المنقطة من فوق زياً فاشتقاقه من الزي وهو الجمع لأن الزي محاسن مجموعة والمعنى أحسن من هؤلاء والله أعلم
قُلْ مَن كَانَ فِى الضَّلَالَة ِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً حَتَّى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ إِمَّا العَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَة َ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَواْ هُدًى وَالْبَِّقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَّرَدّاً
اعلم أن هذا الجواب الثاني عن تلك الشبهة وتقريره لنفرض أن هذا الضال المتنعم في الدنيا قد مد الله في أجله وأمهله مدة مديدة حتى ينضم إلى النعمة العظيمة المدة الطويلة فلا بد وأن ينتهي إلى عذاب في الدنيا أو عذاب في الآخرة بعد ذلك سيعلمون أن نعم الدنيا ما تنقذهم من ذلك العذاب فقوله فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً مذكور في مقابلة قولهم خَيْرٌ مَّقَاماً ( مريم 73 ) وَأَضْعَفُ جُنداً في مقابلة قولهم أَحْسَنُ نَدِيّاً ( مريم 73 ) فبين تعالى أنهم وإن ظنوا في الحال أن منزلتهم أفضل من حيث فضلهم الله تعالى بالمقام والندى فسيعلمون من بعد أن الأمر بالضد من ذلك وأنهم شر مكاناً فإنه لا مكان شر من النار والمناقشة في الحساب وَأَضْعَفُ جُنداً فقد كانوا يظنون وهم في الدنيا أن اجتماعهم ينفع فإذا رأوا أن لا ناصر لهم في الآخرة عرفوا عند ذلك أنهم كانوا في الدنيا مبطلين فيما ادعوه بقي البحث عن الألفاظ وهو من وجوه أحدها مد له الرحمن أي أمهله وأملى له في العمر فأخرج على لفظ الأمر إيذاناً بوجوب ذلك وأنه مفعول لا محالة كالمأمور الممتثل ليقطع معاذير الضال ويقال له يوم القيامة أَوَ لَمْ نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ ( فاطر 37 ) وكقولهم إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً

وثانيها أن قوله إِمَّا العَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَة َ يدل على أن المراد بالعذاب عذاب يحصل قبل يوم القيامة لأن قوله وَإِمَّا السَّاعَة َ المراد منه يوم القيامة ثم العذاب الذي يحصل قبل يوم القيامة يمكن أن يكون هو عذاب القبر ويمكن أن يكون هو العذاب الذي سيكون عند المعاينة لأنهم عند ذلك يعلمون ما يستحقون ويمكن أيضاً أن يكون المراد تغير أحوالهم في الدنيا من العز إلى الذل ومن الغنى إلى الفقر ومن الصحة إلى المرض ومن الأمن إلى الخوف ويمكن أن يكون المراد تسليط المؤمنين عليهم ويمكن أيضاً أن يكون المراد ما نالهم يوم بدر وكل هذه الوجوه مذكورة واعلم أنه تعالى بين بعد ذلك أنه كما يعامل الكفار بما ذكره فكذلك يزيد المؤمنين المهتدين هدى واعلم أنا نبين إمكان ذلك بحسب العقل فنقول إنه لا يبعد أن يكون بعض أنواع الاهتداء مشروطاً بالبعض فإن حاصل الاهتداء يرجع إلى العلم ولا امتناع في كون بعض العلم مشروطاً بالبعض فمن اهتدى بالهداية التي هي الشرط صار بحيث لا يمتنع أن يعطي الهداية التي هي المشروط فصح قوله وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَواْ هُدًى مثاله الإيمان هدى والإخلاص في الإيمان زيادة هدى ولا يمكن تحصيل الإخلاص إلا بعد تحصيل الإيمان فمن اهتدى بالإيمان زاده الله الهداية بالإخلاص هذا إذا أجرينا لفظ الهداية على ظاهره ومن الناس من حمل الزيادة في الهدى على الثواب أي ويزيد الله الذين اهتدوا ثواباً على ذلك الاهتداء ومنهم من فسر هذه الزيادة بالعبادات المترتبة على الإيمان قال صاحب ( الكشاف ) يزيد معطوف على موضع فليمدد لأنه واقع موقع الخبر وتقديره من كان في الضلالة يمد له الرحمن مداً ويزيد أي يزيد في ضلال الضلال بخذلانه بذلك المد ويزيد المهتدين هداية بتوفيقه ثم إنه تعالى بين أن ما عليه المهتدون هو الذي ينفع في العاقبة فقال وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا وذلك لأن ما عليه المهتدون ضرر قليل متناه يعقبه نفع عظيم غير متناه والذي عليه الضالون نفع قليل متناه يعقبه ضرر عظيم غير متناه وكل أحد يعلم بالضرورة أن الأول أولى وبهذا الطريق تسقط الشبهة التي عولوا عليها واختلفوا في المراد بالباقيات الصالحات فقال المحققون إنها الإيمان والأعمال الصالحة سماها باقية لأن نفعها يدوم ولا يبطل ومنهم من قال المراد بها بعض العبادات ولعلهم ذكروا ما هو أعظم ثواباً فبعضهم ذكر الصلوات وبعضهم ذكر التسبيح وروي عن أبي الدرداء قال ( جلس رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ذات يوم وأخذ عوداً يابساً فأزال الورق عنه ثم قال إن قول لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله يحط الخطايا حطاً كما يحط ورق هذه الشجرة الريح خذهن يا أبا الدرداء قبل أن يحال بينك وبينهن هن الباقيات الصالحات وهن من كنوز الجنة وكان أبو الدرداء يقول لأعلمن ذلك ولأكثرن منه حتى إذا رآني جاهل حسب أني مجنون ) والقول الأول أولى لأنه تعالى إنما وصفها بالباقيات الصالحات من حيث يدوم ثوابها ولا ينقطع فبعض العبادات وإن كان أنقص ثواباً من البعض فهي مشتركة في الدوام فهي بأسرها باقية صالحة نظراً إلى آثارها التي هي الثواب ثم إنه تعالى أخبر أنها خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَّرَدّاً ولا يجوز أن يقال هذا خير إلا والمراد أنه خير من غيره فالمراد إذن أنها خير مما ظنه الكفار بقولهم خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً ( مريم 73 )
أَفَرَأَيْتَ الَّذِى كَفَرَ بِأايَاتِنَا وَقَالَ لأوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً

اعلم أنه تعالى لما ذكر الدلائل أولاً على صحة البعث ثم أورد شبهة المنكرين وأجاب عنها أورد عنهم الآن ما ذكروه على سبيل الاستهزاء طعناً في القول بالحشر فقال أَفَرَأَيْتَ الَّذِى كَفَرَ بِئَايَاتِنَا وَقَالَ لاَوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً قرأ حمزة والكسائي ولداً وهو جمع ولد كأسد في أسد أو بمعنى الولد كالعرب في العرب وعن يحيى بن يعمر ولداً بالكسر وعن الحسن نزلت الآية في الوليد بن المغيرة والمشهورة أنها في العاص بن وائل قال خباب بن الأرت كان لي عليه دين فاقتضيته فقال لا والله حتى تكفر بمحمد قلت لا والله لا أكفر بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) لا حياً ولا ميتاً ولا حين تبعث فقال فإني إذا مت بعثت قلت نعم قال إني بعثت وجئتني فسيكون لي ثم مال وولد فأعطيك وقيل صاغ خباب له حلياً فاقتضاه فطلب الأجرة فقال إنكم تزعمون أنكم تبعثون وأن في الجنة ذهباً وفضة وحريراً فأنا أقضيك ثم فإني أوتي مالاً وولداً حينئذ ثم أجاب الله تعالى عن كلامه بقوله أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً قال صاحب ( الكشاف ) أطلع الغيب من قولهم أطلع الجبل أي ارتقى إلى أعلاه ويقال مر مطلعاً لذلك الأمر أي غالباً له مالكاً له والاختيار في هذه الكلمة أن تقول أو قد بلغ من عظم شأنه أنه ارتقى إلى علم الغيب الذي توحد به الواحد القهار والمعنى أن الذي ادعى أن يكون حاصلاً له لا يتوصل إليه إلا بأحد هذين الأمرين إما علم الغيب وإما عهد من عالم الغيب فبأيهما توصل إليه وقيل في العهد كلمة الشهادة عن قتادة هل له عمل صالح قدمه فهو يرجو بذلك ما يقول ثم إنه سبحان بين من حاله ضد ما ادعاه فقال كَلاَّ وهي كلمة ردع وتنبيه على الخطأ أي هو مخطىء فيما يقوله ويتمناه فإن قيل لم قال سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ بسين التسويف وهو كما قاله كتب من غير تأخير قال تعالى مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ( ق 18 ) قلنا فيه وجهان أحدهما سيظهر له ويعلم أنا كتبنا الثاني أن المتوعد يقول للجاني سوف أنتقم منك وإن كان في الحال في الانتقام ويكون غرضه من هذا الكلام محض التهديد فكذا ههنا أما قوله تعالى وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً أي نطول له من العذاب ما يستأهله ونزيده من العذاب ونضاعف له من المدد ويقال مده وأمده بمعنى ويدل عليه قراءة علي بن أبي طالب عليه السلام ويمد له بالضم أما قوله ونرثه ما يقول أي يزول عنه ما وعده من مال وولد فلا يعود كما لا يعود الإرث إلى من خلفه وإذا سلب ذلك في الآخرة يبقى فرداً فلذلك قال وَيَأْتِينَا فَرْداً فلا يصح أن ينفرد في الآخرة بمال وولد وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّة ٍ ( الأنعام 94 ) والله أعلم
وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ ءالِهَة ً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً لاَّ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَة َ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً

اعلم أنه تعالى لما تكلم في مسألة الحشر والنشر تكلم الآن في الرد على عباد الأصنام فحكى عنهم أنهم إنما اتخذوا آلهة لأنفسهم ليكونوا لهم عزاً حيث يكونون لهم عند الله شفعاء وأنصاراً ينقذونهم من الهلاك ثم أجاب الله تعالى بقوله كَلاَّ وهو ردع لهم وإنكار لتعززهم بالآلهة وقرأ ابن نهيك كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ أي كلهم سيكفرون بعبادة هذه الأوثان وفي ( محتسب ) ابن جني كلا بفتح الكاف والتنوين وزعم أن معناه كل هذا الاعتقاد والرأي كلا قال صاحب ( الكشاف ) إن صحت هذه الرواية فهي كلا التي هي للردع قلب الواقف عليها ألفها نوناً كما في قواريرا واختلفوا في أن الضمير في قوله سَيَكْفُرُونَ يعود إلى المعبود أو إلى العابد فمنهم من قال إنه يعود إلى المعبود ثم قال بعضهم أراد بذلك الملائكة لأنهم في الآخرة يكفرون بعبادتهم ويتبرءون منهم ويخاصمونهم وهو المراد من قوله أَهَؤُلاَء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ ( سبأ 40 ) وقال آخرون إن الله تعالى يحيي الأصنام يوم القيامة حتى يوبخوا عبادهم ويتبرؤا منهم فيكون ذلك أعظم لحسرتهم ومن الناس من قال الضمير يرجع إلى العباد أي أن هؤلاء المشركين يوم القيامة ينكرون أنهم عبدوا الأصنام ثم قال تعالى ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ( الأنعام 23 ) أما قوله وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً فذكر ذلك في مقابلة قوله لَهُمْ عِزّاً ( مريم 81 ) والمراد ضد العز وهو الذل والهوان أن يكونون عليهم ضداً لما قصدوه وأرادوه كأنه قيل ويكونون عليهم ذلالهم لا عزاً أو يكونون عليهم عوناً والضد العون يقال من أضدادكم أي من أعوانكم وكأن العون يسمى ضداً لأنه يضاد عدوك وينافيه باعانته لك عليه فإن قيل ولم وحد قلنا وحد توحيد قوله عليه السلام ( وهم يد على من سواهم ) لاتفاق كلمتهم فإنهم كشيء واحد لفرط انتظامهم وتوافقهم ومعنى كون الآلهة عوناً عليهم أنهم وقود النار وحصب جهنم ولأنهم عذبوا بسبب عبادتها واعلم أنه تعالى لما ذكر حال هؤلاء الكفار مع الأصنام في الآخرة ذكر بعده حالهم مع الشياطين في الدنيا فإنهم يسألونهم وينقادون لهم فقال أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً وفيه مسائل
المسألة الأولى احتج الأصحاب بهذه الآية على أن الله تعالى مريد لجميع الكائنات فقالوا قول القائل أرسلت فلاناً على فلان موضوع في اللغة لإفادة أنه سلطه عليه لإرادة أن يستولي عليه قال عليه السلام سم الله وأرسل كلبك عليه إذا ثبت هذا فقوله أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ يفيد أنه تعالى سلطهم عليهم لإرادة أن يستولوا عليهم وذلك يفيد المقصود ثم يتأكد هذا بقوله تَؤُزُّهُمْ أَزّاً فإن معناه إنا أرسلنا الشياطين على الكافرين لتؤزهم أزاً ويتأكد بقوله وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ ( الإسراء 64 ) قال القاضي حقيقة اللفظ توجب أنه تعالى أرسل الشياطين إلى الكفار كما أرسل الأنبياء بأن حملهم رسالة يؤدونها إليهم

فلا يجوز في تلك الرسالة إلا ما أرسل عليه الشياطين من الإغواء فكان يجب في الكفار أن يكونوا بقبولهم من الشياطين مطيعين وذلك كفر من قائله ولأن من العجب تعلق المجبرة بذلك لأن عندهم أن ضلال الكفار من قبله تعالى بأن خلق فيهم الكفر وقدر الكفر فلا تأثير لما يكون من الشيطان وإذا بطل حمل اللفظ في ظاهره فلا بد من التأويل فنحمله على أنه تعالى خلى بين الشياطين وبين الكفار وما منعهم من إغوائهم وهذه التخلية تسمى إرسالاً في سعة اللغة كما إذا لم يمنع الرجل كلبه من دخول بيت جيرانه يقال أرسل كلبه عليه وإن لم يرد أذى الناس وهذه التخلية وإن كان فيها تشديد للمحنة عليهم فهم متمكنون من أن لا يقبلوا منهم ويكون ثوابهم على ترك القبول أعظم والدليل عليه قوله تعالى وَمَا كَانَ لِى َ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى فَلاَ تَلُومُونِى وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ ( إبراهيم 22 ) هذا تمام كلامه ونقول لا نسلم أنه لا يمكن حمله على ظاهره فإن قوله أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ لو أرسلهم الله إلى الكفار لكان الكفار مطيعين له بقبول قول الشياطين قلنا الله تعالى ما أرسل الشياطين إلى الكفار بل أرسلها عليهم والإرسال عليهم هو التسليط لإرادة أن يصير مستولياً عليه فأين هذا من الإرسال إليهم قوله ضلال الكافر من قبل الله تعالى فأي تأثير للشيطان فيه قلنا لم لا يجوز أن يقال إن إسماع الشيطان إياه تلك الوسوسة يوجب في قلبه ذلك الضلال بشرط سلامة فهم السامع لأن كلام الشيطان من خلق الله تعالى فيكون ذلك الضلال الحاصل في قلب الكافر منتسباً إلى الشيطان وإلى الله تعالى من هذين الوجهين قوله لم لا يجوز أن يكون المراد بالإرسال التخلية قلنا كما خلى بين الشيطان والكفرة فقد خلى بينهم وبين الأنبياء ثم إنه تعالى خص الكافر بأنه أرسل الشيطان عليه فلا بد من فائدة زائدة ههنا ولأن قوله تَؤُزُّهُمْ أَزّاً أي تحركهم تحريكاً شديداً كالغرض من ذلك الإرسال فوجب أن يكون الأز مراداً لله تعالى ويحصل المقصود منه فهذا ما في هذا الموضع والله أعلم
المسألة الثانية قال ابن عباس تَؤُزُّهُمْ أَزّاً أي تزعجهم في المعاصي إزعاجاً نزلت في المستهزئين بالقرآن وهم خمسة رهط قال صاحب ( الكشاف ) الأز والهز والاستفزاز أخوات في معنى التهييج وشدة الإزعاج أي تغريهم على المعاصي وتحثهم وتهيجهم لها بالوساس والتسويلات أما قوله تعالى فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً يقال عجلت عليه بكذا إذا استعجلته به أي لا تعجل عليهم بأن يهلكوا أو يبيدوا حتى تستريح أنت والمسلمون من شرورهم فليس بينك وبين ما تطلب من هلاكهم إلا أيام محصورة وأنفاس معدودة ونظيره قوله تعالى وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَة ً مّن نَّهَارٍ بَلاَغٌ ( الأحقاف 35 ) عن ابن عباس أنه كان إذا قرأها بكى وقال آخر العدد خروج نفسك آخر العدد دخول قبرك آخر العدد فراق أهلك وعن ابن السماك رحمه الله أنه كان عند المأمون فقرأها فقال إذا كانت الأنفاس بالعدد ولم يكن لها مدد فما أسرع ما تنفد وذكروا في قوله نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً وجهين آخرين الأول نعد أنفاسهم وأعمالهم فنجازيهم على قليلها وكثيرها والثاني نعد الأوقات إلى وقت الأجل المعين لكل أحد الذي لا يتطرق إليه الزيادة والنقصان ثم بين سبحانه ما سيظهر في ذلك اليوم من الفصل بين المتقين وبين المجرمين في كيفية الحشر فقال يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً قال صاحب ( الكشاف ) نصب يوم بمضمر أي يوم نحشر ونسوق نفعل بالفريقين ما لا يحيط به الوصف أو اذكر يوم نحشر ويجوز أن ينتصب بلا يملكون عن علي عليه السلام قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( والذي نفسي بيده إن المتقين إذا خرجوا من قبورهم استقبلوا بنوق بيض لها أجنحة عليها رحال الذهب ) ثم تلا هذه الآية وفيها مسائل

المسألة الأولى قال القاضي هذه الآية أحد ما يدل على أن أهوال يوم القيامة تختص بالمجرمين لأن المتقين من الابتداء يحشرون على هذا النوع من الكرامة فهم آمنون من الخوف فكيف يجوز أن تنالهم الأهوال
المسألة الثانية المشبهة احتجوا بالآية وقالوا قوله إِلَى الرَّحْمَنِ يفيد أن انتهاء حركتهم يكون عند الرحمن وأهل التوحيد يقولون المعنى يوم نحشر المتقين إلى محل كرامة الرحمن
المسألة الثالثة طعن الملحد فيه فقال قوله يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً هذا إنما يستقيم أن لو كان الحاشر غير الرحمن أما إذا كان الحاشر هو الرحمن فهذا الكلام لا ينتظم أجاب المسلمون بأن التقدير يوم نحشر المتقين إلى كرامة الرحمن أما قوله وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ ورداً فقوله نَسُوقُ يدل على أنهم يساقون إلى النار بإهانة واستخفاف كأنهم نعم عطاش تساق إلى الماء والورد اسم للعطاش لأن من يرد الماء لا يرده إلا للعطش وحقيقة الورود السير إلى الماء فسمي به الواردون أما قوله لاَّ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَة َ أي فليس لهم والظاهر أن المراد شفاعتهم لغيرهم أو شفاعة غيرهم لهم فلذلك اختلفوا وقال بعضهم لا يملكون أن يشفعوا لغيرهم كما يملك المؤمنون وقال بعضهم بل المراد لا يملك غيرهم أن يشفعوا لهم وهذا الثاني أولى لأن حمل الآية على الأول يجري مجرى إيضاع الواضحات وإذا ثبت ذلك دلت الآية على حصول الشفاعة لأهل الكبائر لأنه قال عقيبه إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً والتقدير أن هؤلاء لا يستحقون أن يشفع لهم غيرهم إلا إذا كانوا قد اتخذوا عند الرحمن عهداً التوحيد والنبوة فوجب أن يكون داخلاً تحته ومما يؤكد قولنا ما روى ابن مسعود أنه عليه السلام قال لأصحابه ذات يوم ( أيعجز أحدكم أن يتخذ كل صباح ومساء عند الله عهداً قالوا وكيف ذلك قال يقول كل صباح ومساء اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة إني أعهد إليك بأني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأن محمداً عبدك ورسولك فإنك إن تكلني إلى نفسي تقربني من الشر وتبعدني من الخير وإني لا أثق إلا برحمتك فاجعل لي عهداً توفينيه يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد فإذا قال ذلك طبع الله عليه بطابع ووضع تحت العرش فإذا كان يوم القيامة نادى منادٍ أين الذين لهم عند الرحمن عهد فيدخلون الجنة ) فظهر بهذا الحديث أن المراد من العهد كلمة الشهادة وظهر وجه دلالة الآية على أن الشفاعة لأهل الكبائر وقال القاضي الآية دالة على مذهبه وقد ظهر أن الآية قوية في الدلالة على قولنا والله أعلم
لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَانِ وَلَداً وَمَا يَنبَغِى لِلرَّحْمَانِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً إِن كُلُّ مَن فِى السَّمَاوَاتِ والأرض إِلاَّ آتِى الرَّحْمَنِ عَبْداً لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً وَكُلُّهُمْ ءَاتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ فَرْداً

اعلم أنه تعالى لما رد على عبده الأوثان عاد إلى الرد على من أثبت له ولداً وَقَالَتِ الْيَهُودُ عَزِيزٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ( التوبة 30 ) وقالت العرب الملائكة بنات الله والكل داخلون في هذه الآية ومنهم من خصها بالعرب الذي أثبتوا أن الملائكة بنات الله قالوا لأن الرد على النصارى تقدم في أول السورة أما الآن فإنه لما رد على العرب الذين قالوا بعبادة الأوثان تكلم في إفساد قول الذين قالوا بعبادة الملائكة لكونهم بنات الله أما قوله لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً فقرىء إداً بالكسر والفتح قال ابن خالويه الإد والأد العجب وقيل المنكر العظيم والأدة الشدة وأدنى الأمر وآدنى أثقلي قرىء يتفطرن بالتاء بعد الياء أعني المعجمة من تحتها واختلفوا في يكاد فقرأ بعضهم بالياء المعجمة من تحتها وبعضهم بالتاء من فوق والانفطار من فطرة إذا شقه والتفطر من فطره إذا شققه وكرر الفعل فيه وقرأ ابن مسعود يتصدعن وقوله وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أي تهد هداً أو مهدودة أو مفعول له أي لأنها تهد والمعنى أنها تتساقط أشد ما يكون تساقط البعض على البعض فإن قيل من أين يؤثر القول بإثبات الولد لله تعالى في انفطار السموات وانشقاق الأرض وخرور الجبال قلنا فيه وجوه أحدها أن الله سبحانه وتعالى يقول أفعل هذا بالسموات والأرض والجبال عند وجود هذه الكلمة غضباً مني على من تفوه بها لولا حلمي وأني لا أعجل بالعقوبة كما قال إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً ( فاطر 41 ) وثانيها أن يكون استعظاماً للكلمة وتهويلاً من فظاعتها وتصويراً لأثرها في الدين وهدمها لأركانه وقواعده وثالثها أن السموات والأرض والجبال تكاد أن تفعل ذلك لو كانت تعقل من غلظ هذا القول وهذا تأويل أبي مسلم ورابعها أن السموات والأرض والجبال كانت سليمة من كل العيوب فلما تكلم بنو آدم بهذا القول ظهرت العيوب فيها أما قوله أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَانِ وَلَداً ففيه مسائل
المسألة الأولى في إعرابه ثلاثة أوجه أحدها أن يكون مجروراً بدلاً من الهاء في منه أو منصوباً بتقدير سقوط اللام وإفضاء الفعل أي هذا لأن دعوا أو مرفوعاً بأنه فاعل هَدّاً أي هدها دعاء الولد للرحمن والحاصل أنه تعالى بين أن سبب تلك الأمور العظيمة هذا القول
المسألة الثانية إنما كرر لفظ الرحمن مرات تنبيهاً على أنه سبحانه وتعالى هو الرحمن وحده من قبل أن أصول النعم وفروعها ليست إلا منه
المسألة الثالثة قوله دَعَوْا لِلرَّحْمَانِ هو من دعا بمعنى سمى المتعدي إلى مفعولين فاقتصر على أحدهما الذي هو الثاني طلباً للعموم والإحاطة بكل من ادعى له ولداً أو من دعا بمعنى نسب الذي هو مطاوعة ما في قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من ادعى إلى غير مواليه ) قال الشاعر
إنا بني نهشل لا ندعى لأب
أي لا ننتسب إليه ثم قال تعالى وَمَا يَنبَغِى لِلرَّحْمَانِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً أي هو محال أما الولادة المعروفة فلا مقال في امتناعها وأما التبني فلأن الولد لا بد وأن يكون شبيهاً بالوالد ولا مشبه لله تعالى ولأن اتخاذ الولد إنما يكون لأغراض لا تصح في الله من سروره به واستعانته به وذكر جميل وكل ذلك لا يليق به ثم قال إِن كُلُّ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ إِلاَّ اتِى الرَّحْمَنِ عَبْداً والمراد أنه ما من معبود لهم في السموات

والأرض من الملائكة والناس إلا وهو يأتي الرحمن أي يأوي إليه ويلتجىء إلى ربوبيته عبداً منقاداً مطيعاً خاشعاً راجياً كما يفعل العبيد ومنهم من حمله على يوم القيامة خاصة والأول أولى لأنه لا تخصيص فيه وقوله لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً أي كلهم تحت أمره وتدبيره وقهره وقدرته فهو سبحانه ميحط بهم ويعلم مجمل أمورهم وتفاصيلها لا يفوته شيء من أحوالهم وكل واحد منهم يأتيه يوم القيامة منفرداً ليس معه من هؤلاء المشركين أحد وهم براء منهم
إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلَسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً
اعلم أنه تعالى لما رد على أصناف الكفرة وبالغ في شرح أحوالهم في الدنيا والآخرة ختم السورة بذكر أحوال المؤمنين فقال إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً وللمفسرين في قوله وُدّاً قولان الأول وهو قول الجمهور أنه تعالى سيحدث لهم في القلوب مودة ويزرعها لهم فيها من غير تودد منهم ولا تعرض للأسباب التي يكتسب الناس بها مودات القلوب من قرابة أو صداقة أو اصطناع معروف أو غير ذلك وإنما هو اختراع منه تعالى وابتداء تخصيصاً لأوليائه بهذه الكرامة كما قذف في قلوب أعدائهم الرعب والهيبة إعظاماً لهم وإجلالاً لمكانهم والسين في سيجعل إما لأن السورة مكية وكان المؤمنون حينئذ ممقوتين بين الكفرة فوعدهم الله تعالى ذلك إذا جاء الإسلام وإما أن يكون ذلك يوم القيامة يحببهم إلى خلقه بما يعرض من حسناتهم وينشر من ديوان أعمالهم عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في هذه الآية ( إذا أحب الله عبداً نادى جبريل قد أحببت فلاناً فأحبوه فينادي جبريل عليه السلام بذلك في السماء والأرض وإذا أبغض عبداً فمثل ذلك ) وعن كعب قال مكتوب في التوراة والإنجيل لا محبة لأحد في الأرض حتى يكون ابتداؤها من الله تعالى ينزلها على أهل السماء ثم على أهل الأرض وتصديق ذلك في القرآن قوله سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً القول الثاني وهو اختيار أبي مسلم معنى سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً أي يهب لهم ما يحبون والود والمحبة سواء يقال آتيت فلاناً محبته وجعل لهم ما يحبون وجعلت له وده ومن كلامهم يود لو كان كذا ووددت أن لو كان كذا أي أحببت ومعناه سيعطيهم الرحمن ودهم أي محبوبهم في الجنة والقول الأول أولى لأن حمل المحبة على المحبوب مجاز ولأنا ذكرنا أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قرأ هذه الآية وفسرها بذلك فكان ذلك أولى وقال أبو مسلم بل القول الثاني أولى لوجوه

أحدها كيف يصح القول الأول مع علمنا بأن المسلم المتقي يبغضه الكفار وقد يبغضه كثير من المسلمين وثانيها أن مثل هذه المحبة قد تحصل للكفار والفساق أكثر فكيف يمكن جعله إنعاماً في حق المؤمنين وثالثها أن محبتهم في قلوبهم من فعلهم لا أن الله تعالى فعله فكان حمل الآية على إعطاء المنافع الأخروية أولى ( والجواب ) عن الأول أن المراد يجعل لهم الرحمن محبة عند الملائكة والأنبياء وروى عنه عليه السلام أنه حكى عن ربه عز وجل أنه قال ( إذا ذكرني عبدي المؤمن في نفسه ذكرته في نفسي وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ أطيب منهم وأفضل ) وهذا هو ( الجواب ) عن الكلام الثاني لأن الكافر والفاسق ليس كذلك ( والجواب ) عن الثالث أنه محمول على فعل الألطاف وخلق داعية إكرامه في قلوبهم أما قوله تعالى فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلَسَانِكَ لِتُبَشّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ فهو كلام مستأنف بين به عظيم موقع هذه السورة لما فيها من التوحيد والنبوة والحشر والنشر والرد على فرق المضلين المبطلين فبين تعالى أنه يسر ذلك بلسانه ليبشر به وينذر ولولا أنه تعالى نقل قصصهم إلى اللغة العربية لما تيسر ذلك على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فأما أن القرآن يتضمن تبشير المتقين وإنذار من خرج منهم فبين لكنه تعالى لما ذكر أنه يبشر به المتقين ذكر في مقابلته من هو في مخالفة التقوى أبلغ وأبلغهم الألد الذي يتمسك بالباطل ويجادل فيه ويتشدد وهو معنى لداً ثم إنه تعالى ختم السورة بموعظة بليغة فقال وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ لأنهم إذا تأملوا وعلموا أنه لا بد من زوال الدنيا والانتهاء إلى الموت خافوا ذلك وخافوا أيضاً سوء العاقبة في الآخرة فكانوا فيها إلى الحذر من المعاصي أقرب ثم أكد تعالى في ذلك فقال هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مّنْ أَحَدٍ لأن الرسول عليه السلام إذا لم يحس منهم برؤية أو إدراك أو وجدان وَلاَ يَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً وهو الصوت الخفي ومنه ركز الرمح إذا غيب طرفه في الأرض والركاز المال المدفون دل ذلك على انقراضهم وفنائهم بالكلية والأقرب في قوله أَهْلَكْنَا أن المراد به الانقراض بالموت وإن كان من المفسرين من حمله على العذاب المعجل في الدنيا والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم

بداية الجزء الثانى والعشرين من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32

سورة طه
وهي مائة وثلاثون وخمس آيات
طه مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لِتَشْقَى إِلاَّ تَذْكِرَة ً لِّمَن يَخْشَى تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَق الأرض وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرض وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى اللَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ لَهُ الاٌّ سْمَآءُ الْحُسْنَى
سورة طه
اعلم أن قوله طه فيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ أبو عمرو بفتح الطاء وكسر الهاء وقرأ أهل المدينة بين الفتح والكسر وقرأ ابن كثير وابن عامر بفتح الطاء وقرأ حمزة والكسائي بكسر الطاء والهاء قال الزجاج وقرىء طه بفتح الطاء وسكون الهاء وكلها لغات قال الزجاج من فتح الطاء والهاء فلأن ما قبل الألف مفتوح ومن كسر الطاء والهاء فأمال الكسرة لأن الحرف مقصور والمقصور يغلب عليه الإمالة إلى الكسرة
المسألة الثانية للمفسرين فيه قولان أحدهما أنه من حروف التهجي والآخر أنه كلمة مفيدة أما على القول الأول فقد تقدم الكلام فيه في أول سورة البقرة والذي زادوه ههنا أمور أحدها قال الثعلبي طا شجرة طوبى والهاء الهاوية فكأنه أقسم بالجنة والنار وثانيها يحكى عن جعفر الصادق عليه السلام الطاء طهارة أهل البيت والهاء هدايتهم وثالثها يا مطمع الشفاعة للأمة ويا هادي الخلق إلى الملة ورابعها قال سعيد بن جبير

هو افتتاح اسمه الطيب الطاهر الهادي وخامسها الطاء من الطهارة والهاء من الهداية كأنه قيل يا طاهراً من الذنوب ويا هادياً إلى علام الغيوب وسادسها الطاء طول القراء والهاء هيبتهم في قلوب الكفار قال الله تعالى سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ ( آل عمران 151 ) وسابعها الطاء تسعة في الحساب والهاء خمسة تكون أربعة عشر ومعناه يا أيها البدر وقد عرفت فيما تقدم أن أمثال هذه الأقوال لا يجب أن يعتمد عليها القول الثاني قول من قال إنها كلمة مفيدة وعلى هذا القول ذكروا وجهين أحدهما معناه يا رجل وهو مروي عن ابن عباس والحسن ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وعكرمة والكلبي رضي الله عنهم ثم قال سعيد بن جبير بلسان النبطية وقال قتادة بلسان السريانية وقال عكرمة بلسان الحبشة وقال الكلبي بلغة عك وأنشد الكلبي لشاعرهم إن السفاهة طه في خلائقكم
لا قدس الله أرواح الملاعين
وقد تكلم الناس على هذا القول من وجهين الأول أنه بمعنى يا رجل في اللغة حمل عليه لكنه لا يجوز إن ثبت على هذا المعنى إلا في لغة العرب إذ القرآن بهذه اللغة نزل فيحتمل أن تكون لغة العرب في هذه اللفظة موافقة لسائر اللغات التي حكيناها فأما على غير هذا الوجه فلا يحتمل ولا يصح الثاني قال صاحب ( الكشاف ) إن كان طه في لغة عك بمعنى يا رجل فلعلهم تصرفوا في يا هذا فقلبوا الياء طاء فقالوا طا واختصروا في هذا واقتصروا على ها فقوله طه بمعنى يا هذا واعترض بعضهم عليه وقالوا لو كان كذلك لوجب أن يكتب أربعة أحرف طا ها وثانيهما أنه عليه السلام كان يقوم في تهجده على إحدى رجليه فأمر أن يطأ الأرض بقدميه معاً وكان الأصل طأ فقلبت همزته هاء كما قالوا هياك في إياك وهرقت في أرقت ويجوز أن يكون الأصل من وطىء على ترك الهمزة فيكون أصله طأ يا رجل ثم أثبت الهاء فيها للوقف والوجهان ذكرهما الزجاج أما قوله تعالى مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابِ لِتَشْقَى ففيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) إن جعلت طه تعديداً لأسماء الحروف فهذا ابتداء كلام وإن جعلتها اسماً للسورة احتمل أن يكون قوله مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءانَ لِتَشْقَى خبراً عنها وهي في موضع المبتدأ والقرآن ظاهر أوقع موقع المضمر لأنها قرآن وأن يكون جواباً لها وهي قسم
المسألة الثانية قرىء مَّا نَزَّلَ عَلَيْكَ الْقُرْءانَ لِتَشْقَى
المسألة الثالثة ذكروا في سبب نزول الآية وجوهاً أحدها قال مقاتل إن أبا جهل والوليد بن المغيرة ومطعم بن عدي والنضر بن الحارث قالوا لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إنك لتشقى حيث تركت دين آبائك فقال عليه السلام ( بل بعثت رحمة للعالمين ) قالوا بل أنت تشقى فأنزل الله تعالى هذه الآية رداً عليهم وتعريفاً لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) بأن دين الإسلام هو السلام وهذا القرآن هو السلام إلى نيل كل فوز والسبب في إدراك كل سعادة وما فيه الكفرة هو الشقاوة بعينها وثانيها أنه عليه السلام صلى بالليل حتى تورمت قدماه فقال له جبريل عليه السلام ( أبق على نفسك فإن لها عليك حقاً ) أي ما أنزلناه لتهلك نفسك بالعبادة وتذيقها المشقة العظيمة وما بعثت إلا بالحنيفية السمحة وروى أيضاً أنه عليه السلام ( كان إذا قام من الليل ربط صدره بحبل حتى لا ينام ) وقال بعضهم كان يقوم على رجل واحدة وقال بعضهم كان يسهر طول الليل فأراد بقوله لِتَشْقَى ذلك قال القاضي هذا بعيد لأنه عليه السلام إن فعل شيئاً من ذلك فلا بد وأن يكون قد فعله بأمر الله تعالى وإذا فعله بأمره فهو من باب السعادة فلا يجوز أن يقال له ما أمرناك بذلك وثالثها قال بعضهم يحتمل أن يكون المراد لا تشق على نفسك ولا تعذبها

بالأسف على كفر هؤلاء فإنا إنما أنزلنا عليك القرآن لتذكر به فمن آمن وأصلح فلنفسه ومن كفر فلا يحزنك كفره فما عليك إلا البلاغ وهو كقوله تعالى لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ ( الكهف 6 ) الآية وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ ( يونس ) 65 ) ورابعها أنك لا تلام على كفر قومك كقوله تعالى لَّسْتَ عَلَيْهِم ( الغاشية 22 ) حَفِيظاً وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ ( الأنعام 107 ) أي ليس عليك كفرهم إذا بلغت ولا تؤاخذ بذنبهم وخامسها أن هذه السورة من أوائل ما نزل بمكة وفي ذلك الوقت كان عليه السلام مقهوراً تحت ذل أعدائه فكأنه سبحانه قال له لا تظن أنك تبقى على هذه الحالة أبداً بل يعلو أمرك ويظهر قدرك فإنا ما أنزلنا عليك مثل هذا القرآن لتبقى شقياً فيما بينهم بل تصير معظماً مكرماً وأما قوله تعالى إِلاَّ تَذْكِرَة ً لّمَن يَخْشَى ففيه مسائل
المسألة الأولى في كلمة إلا ههنا قولان أحدهما أنه استثناء منقطع بمعنى لكن والثاني التقدير ما أنزلنا عليك القرآن لتحمل متاعب التبليغ إلا ليكون تذكرة كما يقال ما شافهناك بهذا الكلام لتتأذى إلا ليعتبر بك غيرك
المسألة الثانية إنما خص من يخشى بالتذكرة لأنهم المنتفعون بها وإن كان ذلك عاماً في الجميع وهو كقوله هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2 ) وقال سبحانه وتعالى تَبَارَكَ الَّذِى نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً ( الفرقان 1 ) وقال لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ ءابَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ ( يس 6 ) وقال وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً ( مريم 97 ) وقال وَذَكّرْ فَإِنَّ الذّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ
المسألة الثالثة وجه كون القرآن تذكرة أنه عليه السلام كان يعظمهم به وببيانه فيدخل تحت قوله لمن يخشى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه في الخشية والتذكرة بالقرآن كان فوق الكل وأما قوله تعالى تَنزِيلاً مّمَّنْ خَلَق الاْرْضَ وَالسَّمَاواتِ الْعُلَى ففيه مسائل
المسألة الأولى ذكروا في نصب تنزيلا وجوهاً أحدها تقديره نزل تنزيلاً ممن خلق الأرض فنصب تنزيلاً بمضمر وثانيها أن ينصب بأنزلنا لأن معنى ما أنزلناه إلا تذكرة أنزلناه تذكرة وثالثها أن ينصب على المدح والاختصاص ورابعها أن ينصب بيخشى مفعولاً به أي أنزله الله تعالى تَذْكِرَة ً لّمَن يَخْشَى تنزيل الله وهو معنى حسن وإعراب بين وقرىء تنزيل بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف
المسألة الثانية فائدة الانتقال من لفظ التكلم إلى لفظ الغيبة أمور أحدها أن هذه الصفات لا يمكن ذكرها إلا مع الغيبة وثانيها أنه قال أولا أنزلنا ففخم بالإسناد إلى ضمير الواحد المطاع ثم ثنى بالنسبة إلى المختص بصفات العظمة والتمجيد فتضاعفت الفخامة من طريقين وثالثها يجوز أن يكون أنزلنا حكاية لكلام جبريل عليه السلام والملائكة النازلين معه
المسألة الثالثة أنه تعالى عظم حال القرآن بأن نسبه إلى أنه تنزيل ممن خلق الأرض وخلق السموات على علوها وإنما قال ذلك لأن تعظيم الله تعالى يظهر بتعظيم خلقه ونعمه وإنما عظم القرآن ترغيباً في تدبره والتأمل في معانيه وحقائقه وذلك معتاد في الشاهد فإنه تعظم الرسالة بتعظيم حال المرسل ليكون المرسل إليه أقرب إلى الامتثال
المسألة الرابعة يقال سماء عليا وسموات علا وفائدة وصف السموات بالعلا الدلالة على عظم قدرة من

يخلق مثلها في علوها وبعد مرتقاها أما قوله تعالى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ففيه مسائل
المسألة الأولى قرىء الرحمن مجروراً صفة لمن خلق والرفع أحسن لأنه إما أن يكون رفعاً على المدح والتقدير هو الرحمن وإما أن يكون مبتدأ مشاراً بلامه إلى من خلق فإن قيل الجملة التي هي على العرش استوى ما محلها إذا جررت الرحمن أو رفعته على المدح قلنا إذا جررت فهو خبر مبتدأ محذوف لا غير وإن رفعت جاز أن يكون كذلك وأن يكون مع الرحمن خبرين للمبتدأ
المسألة الثانية المشبهة تعلقت بهذه الآية في أن معبودهم جالس على العرش وهذا باطل بالعقل والنقل من وجوه أحدها أنه سبحانه وتعالى كان ولا عرش ولا مكان ولما خلق الخلق لم يحتج إلى مكان بل كان غنياً عنه فهو بالصفة التي لم يزل عليها إلا أن يزعم زاعم أنه لم يزل مع الله عرش وثانيها أن الجالس على العرش لا بد وأن يكون الجزء الحاصل منه في يمين العرش غير الحاصل في يسار العرش فيكون في نفسه مؤلفاً مركباً وكل ما كان كذلك احتاج إلى المؤلف والمركب وذلك محال وثالثها أن الجالس على العرش إما أن يكون متمكناً من الإنتقال والحركة أو لا يمكنه ذلك فإن كان الأول فقد صار محل الحركة والسكون فيكون محدثاً لا محالة وإن كان الثاني كان كالمربوط بل كان كالزمن بل أسوأ منه فإن الزمن إذا شاء الحركة في رأسه وحدقته أمكنه ذلك وهو غير ممكن على معبودهم ورابعها هو أن معبودهم إما أن يحصل في كل مكان أو في مكان دون مكان فإن حصل في كل مكان لزمهم أن يحصل في مكان النجاسات والقاذورات وذلك لا يقوله عاقل وإن حصل في مكان دون مكان افتقر إلى مخصص يخصصه بذلك المكان فيكون محتاجاً وهو على الله محال وخامسها أن قوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ْء ( الشورى 11 ) يتناول نفي المساواة من جميع الوجوه بدليل صحة الاستثناء فإنه يحسن أن يقال ليس كمثله شيء إلا في الجلوس وإلا في المقدار وإلا في اللون وصحة الاستثناء تقتضي دخول جميع هذه الأمور تحته فلو كان جالساً لحصل من يماثله في الجلوس فحينئذ يبطل معنى الآية وسادسها قوله تعالى وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَة ٌ ( الحاقة 17 ) فإذا كانوا حاملين للعرش والعرش مكان معبودهم فيلزم أن تكون الملائكة حاملين لخالقهم ومعبودهم وذلك غير معقول لأن الخلق هو الذي يحفظ المخلوق أما المخلوق فلا يحفظ الخالق ولا يحمله وسابعها أنه لو جاز أن يكون المستقر في المكان إلهاً فكيف يعلم أن الشمس والقمر ليس بإله لأن طريقنا إلى نفس إلهية الشمس والقمر أنهما موصوفان بالحركة والسكون وما كان كذلك كان محدثاً ولم يكن إلهاً فإذا أبطلتم هذا الطريق انسد عليكم باب القدح في إلهية الشمس والقمر وثامنها أن العالم كرة فالجهة التي هي فوق بالنسبة إلينا هي تحت بالنسبة إلى ساكني ذلك الجانب الآخر من الأرض وبالعكس فلو كان المعبود مختصاً بجهة فتلك الجهة وإن كانت فوقاً لبعض الناس لكنها تحت لبعض آخرين وباتفاق العقلاء لا يجوز أن يقال المبعود تحت جميع الأشياء وتاسعها أجمعت الأمة على أن قوله قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ( الإخلاص 1 ) من المحكمات لا من المتشابهات فلو كان مختصاً بالمكان لكان الجانب الذي منه يلي ما على يمينه غير الجانب الذي منه يلي ما على يساره فيكون مركباً منقسماً فلا يكون أحداً في الحقيقة فيبطل قوله قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وعاشرها أن الخليل عليه السلام قال لا أُحِبُّ الاْفِلِينَ ( الأنعام 76 ) ولو كان المعبود جسماً لكان آفلاً أبداً غائباً أبداً فكان يندرج تحت قوله لا أُحِبُّ الاْفِلِينَ فثبت بهذه الدلائل أن الإستقرار على الله تعالى محال وعند هذا للناس فيه

قولان الأول أنا لا نشتغل بالتأويل بل نقطع بأن الله تعالى منزه عن المكان والجهة ونترك تأويل الآية وروي الشيخ الغزالي عن بعض أصحاب الإمام أحمد بن حنبل أنه أول ثلاثة من الأخبار قوله عليه السلام ( الحجر الأسود يمين الله في الأرض ) وقوله عليه السلام ( قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن ) وقوله عليه السلام ( إني لأجد نفس الرحمن من قبل اليمن ) واعلم أن هذا القول ضعيف لوجهين الأول أنه إن قطع بأن الله تعالى منزه عن المكان والجهة فقد قطع بأن ليس مراد الله تعالى من الإستواء الجلوس وهذا هو التأويل وإن لم يقطع بتنزيه الله تعالى عن المكان والجهة بل بقي شاكاً فيه فهو جاهل بالله تعالى اللهم إلا أن يقول أنا قاطع بأنه ليس مراد الله تعالى ما يشعر به ظاهره بل مراده به شيء آخر ولكني لا أعين ذلك المراد خوفاً من الخطأ فهذا يكون قريباً وهو أيضاً ضعيف لأنه تعالى لما خاطبنا بلسان العرب وجب أن لا يريد باللفظ إلا موضوعه في لسان العرب وإذا كان لا معنى للاستواء في اللغة إلا الاستقرار والإستيلاء وقد تعذر حمله على الإستقرار فوجب حمله على الإستيلاء وإلا لزم تعطيل اللفظ وإنه غير جائز والثاني وهو دلالة قاطعة على أنه لا بد من المصير إلى التأويل وهو أن الدلالة العقلية لما قامت على امتناع الاستقرار ودل ظاهر لفظ الاستواء على معنى الاستقرار فإما أن نعمل بكل واحد من الدليلين وإما أن نتركهما معاً وإما أن نرجح النقل على العقل وإما أن نرجح العقل ونؤول النقل والأول باطل وإلا لزم أن يكون الشيء الواحد منزهاً عن المكان وحاصلاً في المكان وهو محال والثاني أيضاً محال لأنه يلزم رفع النقيضين معاً وهو باطل والثالث باطل لأن العقل أصل النقل فإنه ما لم يثبت بالدلائل العقلية وجود الصانع وعلمه وقدرته وبعثته للرسل لم يثبت النقل فالقدح في العقل يقتضي القدح في العقل والنقل معاً فلم يبق إلا أن نقطع بصحة العقل ونشتغل بتأويل النقل وهذا برهان قاطع في المقصود إذا ثبت هذا فنقول قال بعض العلماء المراد من الإستواء الإستيلاء قال الشاعر قد استوى بشر على العراق
من غير سيف ودم مهراق
فإن قيل هذا التأويل غير جائز لوجوه أحدها أن الإستيلاء معناه حصول الغلبة بعد العجز وذلك في حق الله تعالى محال وثانيها أنه إنما يقال فلان استولى على كذا إذا كان له منازع ينازعه وكان المستولى عليه موجوداً قبل ذلك وهذا في حق الله تعالى محال لأن العرش إنما حدث بتخليقه وتكوينه وثالثها الاستيلاء حاصل بالنسبة إلى كل المخلوقات فلا يبقى لتخصيص العرش بالذكر فائدة والجواب أنا إذا فسرنا الاستيلاء بالاقتدار زالت هذه المطاعن بالكلية قال صاحب الكشاف لما كان الاستواء على العرش وهو سرير الملك لا يحصل إلامع الملك جعلوه كناية عن الملك فقالوا استوى فلان على البلد يريدون ملك وإن لم يقعد على السرير البتة وإنما عبروا عن حصول الملك بذلك لأنه أصرح وأقوى في الدلالة من أن يقال فلان ملك ونحوه قولك يد فلان مبسوطة ويد فلان مغلولة بمعنى أنه جواد وبخيل لا فرق بين العبارتين إلا فيما قلت حتى أن من لم تبسط يده قط بالنوال أو لم يكن له يد رأساً قيل فيه يده مبسوطة لأنه لا فرق عندهم بينه وبين قوله جواد ومنه قوله تعالى وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَة ٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ ( المائدة 64 ) أي هو بخيل بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ( المائدة 64 ) أي هو جواد من غير تصور يد ولا غل ولا بسط والتفسير بالنعمة والتمحل بالتسمية من ضيق العطن وأقول إنا لو فتحنا هذا الباب لانفتحت تأويلات الباطنية فإنهم أيضاً يقولون المراد من قوله فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ( طه 12 ) الاستغراق في خدمة الله تعالى من غير تصور فعل وقوله قُلْنَا يانَارُ كُونِى بَرْداً وَسَلَامَا عَلَى إِبْراهِيمَ

( ابراهيم 69 ) المراد منه تخليص إبراهيم عليه السلام من يد ذلك الظالم من غير أن يكون هناك نار وخطاب البتة وكذا القول في كل ما ورد في كتاب الله تعالى بل القانون أنه يجب حمل كل لفظ ورد في القرآن على حقيقته إلا إذا قامت دلالة عقلية قطعية توجب الانصراف عنه وليت من لم يعرف شيئاً لم يخض فيه فهذا تمام الكلام في هذه الآية ومن أراد الاستقصاء في الآيات والأخبار المتشابهات فعليه بكتاب تأسيس التقديس وبالله التوفيق أما قوله تعالى لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى فاعلم أنه سبحانه لم شرح ملكه بقوله الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى والملك لا ينتظم إلا بالقدرة والعلم لا جرم عقبه بالقدرة ثم بالعلم أما القدرة فهي هذه الآية والمراد أنه سبحانه مالك لهذه الأقسام الأربعة فهو مالك لما في السموات من ملك ونجم وغيرهما ومالك لما في الأرض من المعادن والفلزات ومالك لما بينهما من الهواء ومالك لما تحت الثرى فإن قيل الثرى هو السطح الأخير من العالم فلا يكون تحته شيء فكيف يكون الله مالكاً له قلنا الثرى في اللغة التراب الندي فيحتمل أن يكون تحته شيء وهو إما الثور أو الحوت أو الصخرة أو البحر أو الهواء على اختلاف الروايات أما العلم فقوله تعالى وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السّرَّ وَأَخْفَى وفيه قولان أحدهما أن قوله وَأَخْفَى بناء المبالغة وعلى هذا القول نقول إنه تعالى قسم الأشياء إلى ثلاثة أقسام الجهر والسر والأخفى فيحتمل أن يكون المراد من الجهر القول الذي يجهر به وقد يسر في النفس وإن ظهر البعض وقد يسر ولا يظهر على ما قال بعضهم ويحتمل أن يكون المراد بالسر وبالأخفى ما ليس بقول وهذا أظهر فكأنه تعالى بين أنه يعلم السر الذي لا يسمع وما هو أخفى منه فكيف لا يعلم الجهر والمقصود منه زجر المكلف عن القبائح ظاهرة كانت أو باطنة والترغيب في الطاعات ظاهرة كانت أو باطنة فعلى هذا الوجه ينبغي أن يحمل السر والأخفى على ما فيه ثواب أو عقاب والسر هو الذي يسره المرء في نفسه من الأمور التي عزم عليها والأخفى هو الذي لم يبلغ حد العزيمة ويحتمل أن يفسر الأخفى بما عزم عليه وما وقع في وهمه الذي لم يعزم عليه ويتحمل ما لم يقع في سره بعد فيكون أخفى من السر ويحتمل أيضاً ما سيكون من قبل الله تعالى من الأمور التي لم تظهر وإن كان الأقرب ما قدمناه مما يدخل تحت الزجر والترغيب القول الثاني أن أخفى فعل يعني أنه يعلم أسرار العباد وأخفى عنهم ما يعلمه وهو كقوله يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْء مّنْ عِلْمِهِ ( البقرة 255 ) فإن قيل كيف يطابق الجزاء الشرط قلنا معناه إن تجهر بذكر الله تعالى من دعاء أو غيره فاعلم أنه غني عن جهرك وإما أن يكون نهياً عن الجهر كقوله وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَة ً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ ( الأعراف 205 ) وإما تعليماً للعباد أن الجهر ليس لاستماع الله تعالى وإنما هو لغرض آخر واعلم أن الله تعالى لذاته عالم وأنه عالم بكل المعلومات في كل الأوقات بعلم واحد وذلك العلم غير متغير وذلك العلم من لوازم ذاته من غير أن يكون موصوفاً بالحدوث أو الإمكان والعبد لا يشارك الرب إلا في السدس الأول وهو أصل العلم ثم هذا السدس بينه وبين عباده أيضاً نصفان فخمسة دوانيق ونصف جزء من العلم مسلم له والنصف الواحد لجملة عباده ثم هذا الجزء الواحد مشترك بين الخلائق كلهم من الملائكة الكروبية

والملائكة الروحانية وحملة العرش وسكان السموات وملائكة الرحمة وملائكة العذاب وكذا جميع الأنبياء الذين أولهم آدم وآخرهم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وعليهم أجمعين وكذا جميع الخلائق كلهم في علومهم الضرورية والكسبية والحرف والصناعات وجميع الحيوانات في إدراكاتها وشعوراتها والاهتداء إلى مصالحها في أغذيتها ومضارها ومنافعها والحاصل لك من ذلك الجزء أقل من الذرة المؤلفة ثم إنك بتلك الذرة عرفت أسرار إلهيته وصفاته الواجبة والجائزة والمستحيلة فإذا كنت بهذه الذرة عرفت هذه الأسرار فكيف يكون علمه بخمس دوانيق ونصف أفلا يعلم بذلك العلم أسرار عبوديتك فهذا تحقيق قوله وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السّرَّ وَأَخْفَى بل الحق أن الدينار بتمامه له لأن الذي علمته فإنما علمته بتعليمه على ما قال أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ ( النساء 166 ) وقال أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ ( الملك 14 ) ولهذا مثال وهو الشمس فإن ضوءها يجعل العالم مضيئاً ولا ينتقص ألبتة من ضوئها شيء فكذا ههنا فكيف لا يكون عالماً بالسر والأخفى فإن من تدبيراته في خلق الأشجار وأنواع النبات أنها ليس لها فم ولا سائر آلات الغذاء فلا جرم أصولها مركوزة في الأرض تمتص بها الغذاء فيتأدى ذلك الغذاء إلى الأغصان ومنها إلى العروق ومنها إلى الأوراق ثم إنه تعالى جعل عروقها كالأطناب التي بها يمكن ضرب الخيام وكما أنه لا بد من مد الطنب من كل جانب لتبقى الخيمة واقفة كذلك العروق تذهب من كل جانب لتبقى الشجرة واقفة ثم لو نظرت إلى كل ورقة وما فيها من العروق الدقيقة المبثوثة فيها ليصل الغذاء منها إلى كل جانب من الورقة ليكون ذلك تقوية لجرم الورقة فلا يتمزق سريعاً وهي شبه العروق المخلوقة في بدن الحيوان لتكون مسالك للدم والروح فتكون مقوية للبدن ثم انظر إلى الأشجار فإن أحسنها في المنظر الدلب والخلاف ولا حاصل لهما وأقبحها شجرة التين والعنب و ( لكن ) انظر إلى منفعتهما فهذه الأشياء وأشباهها تظهر أنه لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض
أما قوله تعالى اللَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ لَهُ الاْسْمَاء الْحُسْنَى فالكلام فيه على قسمين الأول في التوحيد اعلم أن دلائل التوحيد ستأتي إن شاء الله في تفسير قوله تعالى لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَة ٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ( الأنبياء 22 ) وإنما ذكره ههنا ليبين أن الموصوف بالقدرة وبالعلم على الوجه الذي تقدم واحد لا شريك له وهو الذي يستحق العبادة دون غيره ولنذكر ههنا نكتاً متعلقة بهذا الباب وهي أبحاث
البحث الأول اعلم أن مراتب التوحيد أربع أحدها الإقرار باللسان والثاني الاعتقاد بالقلب والثالث تأكيد ذلك الاعتقاد بالحجة والرابع أن يصير العبد مغموراً في بحر التوحيد بحيث لا يدور في خاطره شيء غير عرفان الأحد الصمد أما الإقرار باللسان فإن وجد خالياً عن الاعتقاد بالقلب فذلك هو المنافق وأما الاعتقاد بالقلب إذا وجد خالياً عن الإقرار باللسان ففيه صور الصورة الأولى أن من نظر وعرف الله تعالى وكما عرفه مات قبل أن يمضي عليه من الوقت ما يمكنه التلفظ بكلمة الشهادة فقال قوم إنه لا يتم إيمانه والحق أنه يتم لأنه أدى ما كلف به وعجز عن التلفظ به فلا يبقى مخاطباً ورأيت في ( بعض ) الكتب أن ملك الموت مكتوب على جبهته لا إله إلا الله لكي إذا رآه المؤمن تذكر كلمة الشهادة فيكفيه ذلك التذكر عن الذكر الصورة الثانية أن من عرف الله ومضى عليه من الوقت ما يمكنه التلفظ بالكلمة ولكنه قصر فيه قال الشيخ الغزالي يحتمل أن يقال اللسان ترجمان القلب فإذا حصل المقصود في القلب كان امتناعه من التلفظ جارياً مجرى امتناعه من الصلاة والزكاة وكيف يكون من أهل النار وقد قال عليه السلام ( يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان ) وقلب هذا الرجل مملوء من

الإيمان وقال آخرون الإيمان والكفر أمور شرعية نحن نعلم أن الممتنع من هذه الكلمة كافر الصورة الثالثة من أقر باللسان واعتقد بالقلب من غير دليل فهو مقلد والاختلاف في صحة إيمانه مشهور أما المقام الثالث وهو إثبات التوحيد بالدليل والبرهان فقد بينا في تفسير قوله تعالى لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَة ٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ( الأنبياء 22 ) أنه يمكن إثبات هذا المطلوب بالدلائل العقلية والسمعية واستقصينا القول فيها هناك أما المقام الرابع وهو الفناء في بحر التوحيد فقال المحققون العرفان مبتدأ من تفريق ونقض وترك ورفض ممكن في جميع صفات هي من صفات الحق للذات المريدة بالصدق منتبه إلى الواحد القهار ثم وقوف هذه الكلمات محيطة بأقصى نهايات درجات السائرين إلى الله تعالى
البحث الثاني في الأخبار الواردة في التهليل أولها عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء أستغفر الله ثم تلا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات ) وثانيها قال عليه السلام ( إن الله تعالى خلق ملكاً من الملائكة قبل أن خلق السموات والأرض وهو يقول أشهد أن لا إله إلا الله ماداً بها صوته لا يقطعها ولا يتنفس فيها ولا يتمها فإذا أتمها أمر إسرافيل بالنفخ في الصور وقامت القيامة تعظيماً لله عز وجل ) وثالثها عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال عليه السلام ( ما زلت أشفع إلى ربي ويشفعني وأشفع إليه ويشفعني حتى قلت يا رب شفعني فيمن قال لا إله إلا الله قال يا محمد هذه ليست لك ولا لأحد وعزتي وجلالي لا أدع أحداً في النار قال لا إله إلا الله ) وثانيها قال سفيان الثوري سألت جعفر بن محمد عن حم عسق قال الحاء حكمه والميم ملكه والعين عظمته والسين سناؤه والقاف قدرته يقول الله جل ذكره بحكمي وملكي وعظمتي وسنائي وقدرتي لا أعذب بالنار من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله وخامسها أن عمر قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قام في السوق فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير كتب له الله ألف ألف حسنة ومحا عنه ألف ألف سيئة وبنى له بيتاً في الجنة )
البحث الثالث في النكت أحدها ينبغي لأهل لا إله إلا الله أن يحصلوا أربعة أشياء حتى يكونوا من أهل لا إله إلا الله التصديق والتعظيم والحلاوة والحرية فمن ليس له التصديق فهو منافق ومن ليس له التعظيم فهو مبتدع ومن ليس له الحلاوة فهو مراء ومن ليس له الحرية فهو فاجر وثانيها قال بعضهم قوله أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَة ً طَيّبَة ً كَشَجَرة ٍ طَيّبَة ٍ ( إبراهيم 24 ) إنه لا إله إلا الله إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ( فاطر 10 ) لا إله إلا الله وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقّ ( العصر 3 ) لا إله إلا الله قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِواحِدَة ٍ ( سبأ 46 ) لا إله إلا الله وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ ( الصافات 24 ) عن قول لا إله إلا الله مَّجْنُونٍ بَلْ جَاء بِالْحَقّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ ( الصافات 37 ) هو لا إله إلا الله يُثَبّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَفِى الاْخِرَة ِ ( إبراهيم 27 ) هو لا إله إلا الله وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ( إبراهيم 27 ) عن قول لا إله إلا الله وثالثها أن موسى بن عمران عليه السلام قال ( يا رب علمني شيئاً أذكرك به قال قل لا إله إلا الله قال كل عبادك يقولون لا إله إلا الله فقال قل لا إله إلا الله قال إنما أردت شيئاً تحصني بها قال يا موسى لو أن السموات السبع ومن فيهن في كفة ولا إله إلا الله في كفة لمالت بهن لا إله إلا الله )
البحث الرابع في إعرابه قالوا كلمة لا ههنا دخلت على الماهية فانتفت الماهية وإذا انتفت الماهية انتفت كل أفراد الماهية وأما الله فإنه اسم علم للذات المعينة إذ لو كان اسم معنى لكان كلها محتملاً للكثرة فلم

تكن هذه الكلمة مفيدة للتوحيد فقالوا لا استحقت عمل أن لمشابهتها لها من وجهين أحدهما ملازمة الأسماء والآخر تناقضهما فإن أحدهما لتأكيد الثبوت والآخر لتأكيد النفي ومن عادتهم تشبيه أحد الضدين بالآخر في الحكم إذا ثبت هذا فنقول لما قالوا إن زيداً ذاهب كان يجب أن يقولوا لا رجلاً ذاهب إلا أنهم بنوا لا مع ما دخل عليه من الاسم المفرد على الفتح أما البناء فلشدة اتصال حرف النفي بما دخل عليه كأنهما صارا اسماً واحداً وأما الفتح فلأنهم قصدوا البناء على الحركة المستحقة توفيقاً بين الدليل الموجب للإعراب والدليل الموجب للبناء الثاني خبره محذوف والأصل لا إله في الوجود ولا حول ولا قوة لنا وهذا يدل على أن الوجود زائد على الماهية
البحث الخامس قال بعضهم تصور الثبوت مقدم على تصور السلب فإن السلب ما لم يضف إلى الثبوت لا يمكن تصوره فكيف قدم ههنا السلب على الثبوت وجوابه أنه لما كان هذا السلب من مؤكدات الثبوت لا جرم قدم عليه القسم الثاني من الكلام في الآية البحث عن أسماء الله تعالى وفيه أبحاث
البحث الأول قال عليه السلام ( إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ أيها الناس أنا جعلت لكم نسباً وأنتم جعلتم لأنفسكم نسباً أنا جعلت أكرمكم عندي أتقاكم وأنتم جعلتم أكرمكم أغناكم فالآن أرفع نسبي وأضع نسبكم أين المتقون الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنونا ) واعلم أن الأشياء في قسمة العقول على ثلاثة أقاسم كامل لا يحتمل النقصان وناقص لا يحتمل الكمال وثالث يقبل الأمرين أما الكامل الذي لا يحتمل النقصان فهو الله تعالى وذلك في حقه بالوجوب الذاتي وبعده الملائكة فإن من كمالهم أنهم لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ ( التحريم 6 ) ومن صفاتهم أنهم عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ( الأنبياء 26 ) ومن صفاتهم أنهم يستغفرون للذين آمنوا وأما الناقص الذي لا يحتمل الكمال فهو الجمادات والنبات والبهائم وأما الذي يقبل الأمرين جميعاً فهو الإنسان تارة يكون في الترقي بحيث يخبر عنه بأنه فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ ( القمر 55 ) وتارة في التسفل بحيث يقال ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ( التين 5 ) وإذا كان كذلك استحال أن يكون الإنسان كاملاً لذاته وما لا يكون كاملاً لذاته استحال أن يصير موصوفاً بالكمال إلى أن يصير منتسباً إلى الكامل لذاته لكن الانتساب قسمان قسم يعرض للزوال وقسم لا يكون يعرض للزوال أما الذي يكون يعرض للزوال فلا فائدة فيه ومثاله الصحة والمال والجمال وأما الذي لا يكون يعرض للزوال فعبوديتك لله تعالى فإنه كما يمتنع زوال صفة الإلهية عنه يمتنع زوال صفة العبودية عنك فهذه النسبة لا تقبل الزوال والمنتسب إليه وهو الحق سبحانه لا يقبل الخروج عن صفة الكمال ثم إذا كنت من بلد أو منتسباً إلى قبيلة فإنك لا تزال تبالغ في مدح تلك البلدة والقبيلة بسبب ذلك الانتساب العرضي فلأن تشتغل بذكر الله تعالى ونعوت كبريائه بسبب الانتساب الذاتي كان أولى فلهذا قال وَللَّهِ الاسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ( الأعراف 180 ) وقال اللَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ لَهُ الاْسْمَاء الْحُسْنَى
البحث الثاني في تقسيم أسماء الله تعالى اعلم أن اسم كل شيء إما أن يكون واقعاً عليه بحسب ذاته أو بحسب أجزاء ذاته أو بحسب الأمور الخارجة عن ذاته أما القسم الأول فقد اختلفوا في أنه هل لله تعالى اسم على هذا الوجه وهذه المسألة مبنية على أن حقيقة الله تعالى هل هي معلومة للبشر أم لا فمن قال إنها غير معلومة للبشر قال ليس لذاته المخصوصة اسم لأن المقصود من الاسم أن يشار به إلى المسمى وإذا كانت الذات المخصوصة غير معلومة امتنعت الإشارة العقلية إليها فامتنع وضع الاسم لها وقد تكلمنا في تحقيق

ذلك في تفسير اسم الله وأما الاسم الواقع عليه بحسب أجزاء ذاته فذلك محال لأنه ليس لذاته شيء من الأجزاء لأن كل مركب ممكن وواجب الوجود لا يكون ممكناً فلا يكون مركباً وأما الاسم الواقع بحسب الصفات الخارجة عن ذاته فالصفات إما أن تكون ثبوتية حقيقية أو ثبوتية إضافية أو سلبية أو ثبوتية مع إضافية أو ثبوتية مع سلبية أو إضافية مع سلبية أو ثبوتية وإضافية وسلبية ولما كانت الإضافات الممكنة غير متناهية وكذا السلوب غير متناهية أمكن أن يكون للباري تعالى أسماء متباينة لا مترادفة غير متناهية فهذا هو التنبيه على المأخذ
البحث الثالث يقال إن لله تعالى أربعة آلاف اسم ألف لا يعلمها إلا الله تعالى وألف لا يعلمها إلا الله والملائكة وألف لا يعلمها إلا الله والملائكة والأنبياء وأما الألف الرابع فإن المؤمنين يعلمونها فلثمائة منها في التوراة وثلثمائة في الإنجيل وثلثمائة في الزبور ومائة في الفرقان تسع وتسعون منها ظاهرة وواحد مكتوم فمن أحصاها دخل الجنة
البحث الرابع الأسماء الواردة في القرآن منها ما ليس بانفراده ثناء ومدحاً كقوله جاعل وفالق وخالق فإذا قيل فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ الَّيْلَ سَكَناً ( الأنعام 96 ) صار مدحاً وأما الاسم الذي يكون مدحاً فمنه ما إذا قرن بغيره صار أبلغ نحو قولنا حي فإذا قيل الحي القيوم أو الحي الذي لا يموت كان أبلغ وأيضاً قولنا بديع فإنك إذا قلت بديع السموات والأرض ازداد المدح ومن هذا الباب ما كان اسم مدح ولكن لا يجوز إفراده كقولك دليل وكاشف فإذا قيل يا دليل المتحيرين ويا كاشف الضر والبلوى جاز ومنه ما يكون اسم مدح مفرداً أو مقروناً كقولنا الرحمن الرحيم
البحث الخامس من الأسماء ما يكون مقارنتها أحسن كقولك الأول الآخر المبدىء المعيد الظاهر الباطن ومثاله قوله تعالى في حكاية قول المسيح إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( المائدة 118 ) وبقية الأبحاث قد تقدمت في تفسير بسم الله الرحمن الرحيم
البحث السادس في النكت ( أولها ) رأى بشر الحافي كاغداً مكتوباً فيه بسم الله الرحمن الرحيم فرفعه وطيبه بالمسك وبلعه فرأى في النوم قائلاً يقول يا بشر طيبت اسمنا فنحن نطيب اسمك في الدنيا والآخرة وثانيها قوله تعالى وَللَّهِ الاسْمَاء الْحُسْنَى ( الأعراف 180 ) وليس حسن الأسماء لذواتها لأنها ألفاظ وأصوات بل حسنها لحسن معانيها ثم ليس حسن أسماء الله حسناً يتعلق بالصورة والخلقة فإن ذلك محال على من ليس بجسم بل حسن يرجع إلى معنى الإحسان مثلاً اسم الستار والغفار والرحيم إنا كانت حسناء لأنها دالة على معنى الإحسان وروى أن حكيماً ذهب إليه قبيح وحسن والتمسا الوصية فقال للحسن أنت حسن والحسن لا يليق به الفعل القبيح وقال للآخر أنت قبيح والقبيح إذا فعل الفعل القبيح عظم قبحه فنقول إلهنا أسماؤك حسنة وصفاتك حسنة فلا تظهر لنا من تلك الأسماء الحسنة والصفات الحسنة إلا الإحسان إلهنا يكفينا قبح أفعالنا وسيرتنا فلا نضم إليه قبح العقاب ووحشة العذاب وثالثها قوله عليه السلام ( اطلبوا الحوائج عند حسان الوجوه ) إلهنا حسن الوجه عرضى أما حسن الصفات والأسماء فذاتي فلا تردنا عن إحسانك خائبين خاسرين رابعها ذكر أن صياداً كان يصيد السمك فصاد سمكة وكان له ابنة فأخذتها ابنته فطرحتها الماء وقالت إنها ما وقعت في الشبكة إلا لغفلتها إلهنا تلك الصبية رحمت غفلة هاتيك السمكة وكانت تلقيها مرة أخرى في البحر ونحن قد اصطادتنا وسوسة إبليس وأخرجتنا من بحر رحمتك فارحمنا بفضلك وخلصنا منها وألقنا في بحار رحمتك مرة

أخرى وخامسها ذكرت من الأسماء خمسة في الفاتحة وهي الله والرب والرحمن والرحيم والملك فذكرت الإلهية وهي إشارة إلى القهارية والعظمة فعلم أن الأرواح لا تطيق ذلك القهر والعلو فذكر بعده أربعة أسماء تدل على اللطف الرب وهو يدل على التربية والمعتاد أن من ربى أحداً فإنه لا يهمل أمره ثم ذكر الرحمن الرحيم وذلك هو النهاية في اللطف والرأفة ثم ختم الأمر بالملك والملك العظيم لا ينتقم من الضعيف العاجز ولأن عائشة قالت لعلي عليه السلام ( ملكت فأشجع فأنت أولى بأن تعفو عن هؤلاء الضعفاء ) وسادسها عن محمد بن كعب القرظي قال موسى عليه السلام ( إلهي أي خلقك أكرم عليك قال الذي لا يزال لسانه رطباً من ذكري قال فأي خلقك أعلم قال الذي يلتمس إلى علمه علم غيره قال فأي خلقك أعدل قال الذي يقضي على نفسه كما يقضي على الناس قال فأي خلقك أعظم جرماً قال الذي يتهمني وهو الذي يسألني ثم لا يرضى بما قضيته له ) إلهنا إنا لا نتهمك فإنا نعلم أن كل ما أحسنت به فهو فضل وكل ما تفعله فهو عدل فلا تؤاخذنا بسوء أعمالنا وسابعها قال الحسن إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ سيعلم الجمع من أولى بالكرم أين الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع فيقومون فيتخطون رقاب الناس ثم يقال أين الذين كانوا لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ثم ينادي منادٍ أين الحامدون لله على كل حال ثم تكون التبعة والحساب على من بقي إلهنا فنحن حمدناك وأثنينا عليك بمقدار قدرتنا ومنتهى طاقتنا فاعف عنا بفضلك ورحمتك ومن أراد الاستقصاء في الأسماء والصفات فعليه بكتاب لوامع البينات في الأسماء والصفات وبالله التوفيق
وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لاًّهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّى ءَانَسْتُ نَاراً لَّعَلِّى آتِيكُمْ مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِى َ يامُوسَى إِنِّى أَنَاْ رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى
اعلم أنه تعالى لما عظم حال القرآن وحال الرسول فيما كلفه اتبع ذلك بما يقوي قلب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من ذكر أحوال الأنبياء عليهم السلام تقوية لقلبه في الإبلاغ كقوله وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ( هود 120 ) وبدأ بموسى عليه السلام لأن المحنة والفتنة الحاصلة له كانت أعظم ليسلي قلب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بذلك ويصبره على تحمل المكاره فقال وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى وههنا مسائل
المسألة الأولى قوله وَهَلْ أَتَاكَ يحتمل أن يكون هذا أول ما أخبر به من أمر موسى عليه السلام فقال وَهَلْ أَتَاكَ أي لم يأتك إلى الآن وقد أتاك الآن فتنبه له وهذا قول الكلبي ويحتمل أن يكون قد أتاه ذلك في الزمان المتقدم فكأنه قال أليس قد أتاك وهذا قول مقاتل والضحاك عن ابن عباس
المسألة الثانية قوله وَهَلْ أَتَاكَ وإن كان على لفظ الاستفهام الذي لا يجوز على الله تعالى لكن المقصود منه تقرير الجواب في قلبه وهذه الصيغة أبلغ في ذلك كما يقول المرء لصاحبه هل بلغك خبر كذا فيتطلع السامع إلى معرفة ما يرمى إليه ولو كان المقصود هو الاستفهام لكان الجواب يصدر من قبل النبي عليه

السلام لا من قبل الله تعالى
المسألة الثالثة قوله تعالى إِذْ رَأَى نَاراً أي هل أتاك حديثه حين رأى ناراً قال المفسرون استأذن موسى عليه السلام شعيباً في الرجوع إلى والدته فأذن له فخرج فولد له ابن في الطريق في ليلة شاتية مثلجة وكانت ليلة الجمعة وقد حاد عن الطريق فقدح موسى عليه السلام النار فلم تور المقدحة شيئاً فبينا هو مزاولة ذلك إذ نظر ناراً من بعيد عن يسار الطريق قال السدي ظن أنها نار من نيران الرعاة وقال آخرون إنه عليه السلام رآها في شجرة وليس في لفظ القرآن ما يدل على ذلك واختلفوا فقال بعضهم الذي رآه لم يكن ناراً بل تخيله ناراً والصحيح أنه رأى ناراً ليكون صادقاً في خبره إذ الكذب لا يجوز على الأنبياء قيل النارس أربعة أقسام نار تأكل ولا تشرب وهي نار الدنيا ونار تشرب ولا تأكل وهي نار الشجر لقوله تعالى جَعَلَ لَكُم مّنَ الشَّجَرِ الاْخْضَرِ نَاراً ( يس 80 ) ونار تأكل وتشرب وهي نار المعدة ونار لا تأكل ولا تشرب وهي نار موسى عليه السلام وقيل أيضاً النار على أربعة أقسام أحدها نار لها نور بلا حرقة وهي نار موسى عليه السلام وثانيها حرقة بلا نور وهي نار جهنم وثالثها الحرقة والنور وهي نار الدنيا ورابعها لا حرقة ولا نور وهي نار الأشجار فلما أبصر النار توجه نحوها ( فقال لأهله امثكثوا فيجوز أن يكون الخطاب للمرأة وولدها والخادم الذي معها ويجوز أن يكون للمرأة وحدها ولكن خرج على ظاهر لفظ الأهل فإن الأهل يقع على الجمع وأيضاً فقد يخاطب الواحد بلفظ الجماعة تفخيماً أي أقيموا في مكانكم فيجوز أن يكون الخطاب للمرأة وولدها والخادم الذي معها ويجوز أن يكون للمرأة وحدها ولكن خرج على ظاهر لفظ الأهل فإن الأهل يقع على الجمع وأيضاً فقد يخاطب الواحد بلفظ الجماعة تفخيماً أي أقيموا في مكانكم إِنّى آنَسْتُ نَاراً أي أبصرت والإيناس الإبصار البين الذي لا شبهة فيه ومنه إنسان العين فإنه يبين به الشيء والإنس لظهورهم كما قيل الجن لاستتارهم وقيل هو أيضاً ما يؤنس به ولما وجد منه الإيناس وكان منتفياً حقيقة لهم أتى بكلمة إني لتوطين أنفسهم ولما كان الإيناس بالقبس ووجود الهدى مترقبين متوقعين بني الأمر فيهما على الرجاء والطمع فقال فَلَمَّا قَضَى ولم يقطع فيقول إني آتيكم لئلا يعد ما لم يتيقن الوفاء به والنكتة فيه أن قوماً قالوا كذب إبراهيم للمصلحة وهو محال لأن موسى عليه السلام قبل نبوته احترز عن الكذب فلم يقل آتيكم ولكن قال لعلي آتيكم ولم يقطع فيقول إني آتيكم لئلا يعد ما لم يتيقن الوفاء به والقبس النار المقتبسة في رأس عود أو فتيلة أو غيرهما أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى والهدى ما يهتدى به وهو اسم مصدر فكأنه قال أجد على النار ما أهتدي به من دليل أو علامة ومعنى الاستعلاء على النار أن أهل النار يستعلون المكان القريب منها ولأن المصطلين بها إذا أحاطوا بها كانوا مشرفين عليها فَلَمَّا أَتَاهَا أي أتى النار قال ابن عباس رأى شجرة خضراء من أسفلها إلى أعلاها كأنها نار بيضاء فوقف متعجباً من شدة ضوء تلك النار وشدة خضرة تلك الشجرة فلا النار تغير خضرتها ولا كثرة ماء الشجرة تغير ضوء النار فسمع تسبيح الملائكة ورأى نوراً عظيماً قال وهب فظن موسى عليه السلام أنها نار أوقدت فأخذ من دقاق الحطب ليقتبس من لهبها فمالت إليه كأنها تريده فتأخر عنها وهابها ثم لم تزل تطمعه ويطمع فيها ثم لم يكن أسرع من خمودها فكأنها لم تكن ثم رمى موسى بنظره إلى فرعها فإذا خضرته ساطعة في السماء وإذا نور بين السماء والأرض له شعاع تكل عنه الأبصار فلما رأى موسى ذلك وضع يده على عينيه فنودي يا موسى قال القاضي الذي يروى من أن الزند ما كان يورى فهذا جائز وأما الذين يروى من أن النار كانت تتأخر عنه فإن كانت النبوة قد تقدمت له جاز ذلك وإلا فهو ممتنع إلا أن يكون معجزة لغيره من الأنبياء عليهم السلام وفي قوله وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى ( طه 13 ) دلالة على أن هذه الحالة

أوحى الله إليه وجعله نبياً وعلى هذا الوجه يبعد ما ذكروه من تأخر النار عنه وبين فساد ذلك قوله تعالى فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِى َ يامُوسَى مُوسَى وإن كانت تتأخر عنه حالاً بعد حال لما صح ذلك ولما بقي لفاء التعقيب فائدة قلنا القاضي إنما بنى هذا الاعتراض على مذهبه في أن الإرهاص غير جائز وذلك عندنا باطل فبطل قوله وأما التمسك بفاء التعقيب فقريب لأن تخلل الزمان القليل فيما بين المجيء والنداء لا يقدح في فاء التعقيب
المسألة الرابعة قرأ أبو عمرو وابن كثير ( أنى ) بالفتح أي نودي بأني أنا ربك والباقون بالكسر أي نودي فقيل يا موسى أو لأن النداء ضرب من القول فعومل معاملته
المسألة الخامسة قال الأشعري إن الله تعالى أسمعه الكلام القديم الذي ليس بحرف ولا صوت وأما المعتزلة فإنهم أنكروا وجود ذلك الكلام فقالوا إنه سبحانه خلق ذلك النداء في جسم من الأجسام كالشجرة أو غيرها لأن النداء كلام الله تعالى والله قادر عليه ومتى شاء فعله وأما أهل السنة من أهل ما وراء النهر فقد أثبتوا الكلام القديم إلا أنهم زعموا أن الذي سمعه موسى عليه السلام صوت خلقه الله تعالى في الشجرة واحتجوا بالآية على أن المسموع هو الصوت المحدث قالوا إنه تعالى رتب النداء على أنه أتى النار والمرتب على المحدث محدث فالنداء محدث
المسألة السادسة اختلفوا في أن موسى عليه السلام كيف عرف أن المنادي هو الله تعالى فقال أصحابنا يجوز أن يخلق الله تعالى له علماً ضرورياً بذلك ويجوز أن يعرفه بالمعجزة قالت المعتزلة أما العلم الضروري فغير جائز لأنه لو حصل العلم الضروري بكون هذا النداء كلام الله تعالى لحصل العلم الضروري بوجود الصانع العالم القادر لاستحالة أن تكون الصفة معلومة بالضرورة والذات تكون معلومة بالاستدلال ولو كان وجود الصانع تعالى معلوماً له بالضرورة لخرج موسى عن كونه مكلفاً لأن حصول العلم الضروري ينافي التكليف وبالإتفاق لم يخرج موسى عن التكليف فعلمنا أن الله تعالى عرفه ذلك بالمعجز ثم اختلفوا في ذلك المعجز على وجوه أولها منهم من قال نعلم قطعاً أن الله تعالى عرفه ذلك بواسطة المعجز ولا حاجة بنا إلى أن نعرف ذلك المعجز ما هو وثانيها يروى أن موسى عليه السلام لما شاهد النور الساطع من الشجرة إلى السماء وسمع تسبيح الملائكة وضع يديه على عينيه فنودي يا موسى فقال لبيك إني أسمع صوتك ولا أراك فأين أنت قال أنا معك وأمامك وخلفك ومحيط بك وأقرب إليك منك ثم إن إبليس أخطر بباله هذا الشك وقال ما يدريك أنك تسمع كلام الله فقال لأني أسمعه من فوقي ومن تحتي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي كما أسمعه من قدامي فعلمت أنه ليس بكلام المخلوقين ومعنى إطلاقه هذه الجهات أنى أسمعه بجميع أجزائي وأبعاضي حتى كأن كل جارحة مني صارت أذناً وثالثها لعله سمع النداء من جماد كالحصى وغيرها فيكون ذلك معجزاً ورابعها أنه رأى النار في الشجرة الخضراء بحيث أن تلك الخضرة ما كانت تطفىء تلك النار وتلك النار ما كانت تضر تلك الخضرة وهذا لا يقدر عليه أحد إلا الله سبحانه
المسألة السابعة قالوا إن تكرير الضمير في إِنّى أَنَاْ رَبُّكَ كان لتوليد الدلالة وإزالة الشبهة
المسألة الثامنة ذكروا في قوله فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ وجوهاً أحدها كانتا من جلد حمار ميت فلذلك أمر بخلعهما صيانة للوادي المقدس ولذلك قال عقيبه إِنَّكَ إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ وهذا قول علي عليه السلام

وقول مقاتل والكلبي والضحاك وقتادة والسدي والثاني إنما أمر بخلعهما لينال قدميه بركة الوادي وهذا قول الحسن وسعيد بن جبير ومجاهد وثالثها أن يحمل ذلك على تعظيم البقعة من أن يطأها إلا حافياً ليكون معظماً لها وخاضعاً عند سماع كلام ربه والدليل عليه أنه تعالى قال عقيبه إِنَّكَ إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ وهذا يفيد التعليل فكأنه قال تعالى اخلع نعليك لأنك بالوادي المقدس طوى وأما أهل الإشارة فقد ذكروا فيها وجوهاً أحدها أن النعل في النوم يفسر بالزوجة والولد فقوله فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إشارة إلى أن لا يلفت خاطره إلى الزوجة والولد وأن لا يبقى مشغول القلب بأمرهما وثانيها المراد بخلع النعلين ترك الالتفات إلى الدنيا والآخرة كأنه أمره بأن يصير مستغرق القلب بالكلية في معرفة الله تعالى ولا يلتفت بخاطره إلى ما سوى الله تعالى والمراد من الوادي المقدس قدس جلال الله تعالى وطهارة عزته يعني أنك لما وصلت إلى بحر المعرفة فلا تلتفت إلى المخلوقات وثالثها أن الإنسان حال الاستدلال على الصانع لا يمكنه أن يتوصل إليه إلا بمقدمتين مثل أن يقول العالم المحسوس محدث أو ممكن وكل ما كان كذلك فله مدبر ومؤثر وصانع وهاتان المقدمتان تشبهان النعلين لأن بهما يتوصل العقل إلى المقصود ويتنقل من النظر في الخلق إلى معرفة الخالق ثم بعد الوصول إلى معرفة الخالق وجب أن لا يبقى ملتفتاً إلى تينك المقدمتين لأن بقدر الاشتغال بالغير يبقى محروماً عن الاستغراق فيه فكأنه قيل له لا تكن مشتغل القلب والخاطر بتينك المقدمتين فإنك وصلت إلى الوادي المقدس الذي هو بحر معرفة الله تعالى ولجة ألوهيته
المسألة التاسعة استدلت المعتزلة بقوله فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ على أن كلام الله تعالى ليس بقديم إذ لو كان قديماً لكان الله قائلاً قبل وجود موسى اخلع نعليك يا موسى ومعلوم أن ذلك سفه فإن الرجل في الدار الخالية إذا قال يا زيد افعل ويا عمرو لا تفعل مع أن زيداً وعمراً لا يكونان حاضرين بعد ذلك جنوناً وسفهاً فكيف يليق ذلك بالإله سبحانه وتعالى وأجاب أصحابنا عنه من وجهين الأول أن كلامه تعالى وإن كان قديماً إلا أنه في الأزل لم يكن أمراً ولا نهياً والثاني أنه كان أمراً بمعنى أنه وجد في الأزل شيء لما استمر إلى ما لا يزال صار الشخص به مأموراً من غير وقوع التغير في ذلك الشيء كما أن القدرة تقتضي صحة الفعل ثم إنها كانت موجودة في الأزل من غير هذه الصحة فلما استمرت إلى ما لا يزال حصلت الصحة كذا ههنا وهذا الكلام فيه غموض وبحث دقيق
المسألة العاشرة ليس في الآية دلالة على كراهة الصلاة والطواف في النعل والصحيح عدم الكراهة وذلك لأنا إن عللنا الأمر بخلع النعلين بتعظيم الوادي وتعظيم كلام الله كان الأمر مقصوراً على تلك الصورة وإن عللناه بأن النعلين كانا من جلد حمار ميت فجائز أن يكون قد كان محظوراً لبس جلد الحمار الميت وإن كان مدبوغاً فإن كان كذلك فهو منسوخ بقوله عليه السلام ( أيما إيهاب دبغ فقد طهر ) وقد صلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في نعليه ثم خلعهما في الصلاة فخلع الناس نعالهم فلما سلم قال ( ما لكم خلعتم نعالكم ) قالوا خلعت فخلعنا قال ( فإن جبريل أخبرني أن فيهما قذراً ) فلم يكره النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الصلاة في النعل وأنكر على الخالعين خلعهما وأخبرهم بأنه إنما خلعهما لما فيهما من القذر
المسألة الحادية عشر قرىء طوى بالضم والكسر منصرفاً وغير منصرف فمن نونه فهو اسم الوادي ومن لم ينونه ترك صرفه لأنه معدول عن طاوي فهو مثل عمر المعدول عن عامر ويجوز أن يكون اسماً للبقعة

المسألة الثانية عشرة في طوى وجوه الأول أنه اسم للوادي وهو قول عكرمة وابن زيد والثاني معناه مرتين نحو مثنى أي قدس الوادي مرتين أو نودي موسى عليه السلام نداءين يقال ناديته طوى أي مثنى والثالث طوى أي طياً قال ابن عباس رضي الله عنهما إنه مر بذلك الوادي ليلاً فطواه فكان المعنى بالوادي المقدس الذي طويته طياً أي قطعته حتى ارتفعت إلى أعلاه ومن ذهب إلى هذا قال طوى مصدر خرج عن لفظه كأنه قال طويته طوى كما يقال هدى يهدي هدي والله أعلم
وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ لا إله إِلا أَنَاْ فَاعْبُدْنِى وَأَقِمِ الصَّلَواة َ لِذِكْرِى
قرأ حمزة ( وإنا اخترناك ) وقرأ أبي بن كعب ( وإني اخترتك ) ههنا مسائل
المسألة الأولى معناه اخترتك للرسالة وللكلام الذي خصصتك به وهذه الآية تدل على أن النبوة لا تحصل بالاستحقاق لأن قوله وَأَنَا اخْتَرْتُكَ يدل على أن ذلك المنصب العلي إنما حصل لأن الله تعالى اختاره له ابتداء لا أنه استحقه على الله تعالى
المسألة الثانية قوله فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى فيه نهاية الهيبة والجلالة فكأنه قال لقد جاءك أمر عظيم هائل فتأهب له واجعل كل عقلك وخاطرك مصروفاً إليه فقوله وَأَنَا اخْتَرْتُكَ يفيد نهاية اللطف والرحمة وقوله فَاسْتَمِعْ يفيد نهاية الهيبة فيحصل له من الأول نهاية الرجاء ومن الثاني نهاية الخوف
المسألة الثالثة قوله إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ لا إله إِلا أَنَاْ فَاعْبُدْنِى يدل على أن علم الأصول مقدم على علم الفروع لأن التوحيد في علم الأصول والعبادة من علم الفروع وأيضاً الفاء في قوله فَاعْبُدْنِى تدل على أن عبادته إنما لزمت لإلهيته وهذا هو تحقيق العلماء أن الله هو المستحق للعبادة
المسألة الرابعة أنه سبحانه بعد أن أمره بالتوحيد أولاً ثم بالعبادة ثانياً أمره بالصلاة ثالثاً احتج أصحابنا بهذه الآية على أن تأخير البيان عن وقت الحاجة جائز من وجهين الأول أنه أمره بالعبادة ولم يذكر كيفية تلك العبادة فثبت أنه يجوز ورود المجمل منفكاً عن البيان الثاني أنه قال إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ ولم يبين كيفية الصلاة قال القاضي لا يمتنع أن موسى عليه السلام قد عرف الصلاة التي تعبد الله تعالى بها شعيباً عليه السلام وغيره من الأنبياء فصار الخطاب متوجهاً إلى ذلك ويحتمل أنه تعالى بين له في الحال وأن كان المنقول في القرآن لم يذكر فيه إلا هذا القدر والجواب أما العذر الأول فإنه لا يتوجه في قوله تعالى فَاعْبُدْنِى وأيضاً فحمل مثل هذا الخطاب العظيم على فائدة جديدة أولى من حمله على أمر معلوم لأن موسى عليه السلام ما كان يشك في وجوب الصلاة التي جاء بها شعيب عليه السلام فلو حملنا قوله اتْلُ مَا على ذلك لم يحصل من هذا الخطاب العظيم فائدة زائدة أما لو حملناه على صلاة أخرى لحصلت الفائدة الزائدة قوله لعل الله تعالى بينه في ذلك الموضع وإن لم يحكه في القرآن قلنا لا نشك أن البيان أكثر فائدة من المجمل فلو كان مذكوراً لكان أولى بالحكاية

المسألة الخامسة في قوله لِذِكْرِى وجوه أحدها لذكري يعني لتذكرني فإن ذكري أن أعبد ويصلي لي وثانيها لتذكرني فيها لاشتمال الصلاة على الأذكار عن مجاهد وثالثها لأني ذكرتها في الكتب وأمرت بها ورابعها لأن أذكرك بالمدح والثناء واجعل لك لسان صدق وخامسها لذكري خاصة لا تشوبه بذكر غيري وسادسها لإخلاص ذكري وطلب وجهي لا ترائي بها ولا تقصد بها غرضاً آخر وسابعها لتكون لي ذاكراً غير ناس فعل المخلصين في جعلهم ذكر ربهم على بال منهم كما قال تعالى لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَة ٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ ( النور 37 ) وثامنها لأوقات ذكرى وهي مواقيت الصلاة لقوله تعالى فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَواة َ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً ( النساء 103 ) وتاسعها أَقِمِ الصَّلَواة َ حين تذكرها أي أنك إذا نسيت صلاة فاقضها إذا ذكرتها روى قتادة عن أنس رضي الله عنهما قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك ) ثم قرأ إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ قال الخطابي يحتمل هذا الحديث وجهين أحدهما أنه لا يكفرها غير قضائها والآخر أنه لا يلزم في نسيانها غرامة ولا كفارة كما تلزم الكفارة في ترك صوم رمضان من غير عذر وكما يلزم المحرم إذا ترك شيئاً من نسكه فدية من إطعام أو دم وإنما يصلي ما ترك فقط فإن قيل حق العبارة أن يقول أقم الصلاة لذكرها كما قال عليه السلام ( فليصلها إذا ذكرها ) قلنا قوله لِذِكْرِى معناه للذكر الحاصل بخلقي أو بتقدير حذف المضاف أي لذكر صلاتي
المسألة السادسة لو فاتته صلوات يستحب أن يقضيها على ترتيب الأداء فلو ترك الترتيب في قضائها جاز عند الشافعي رحمه الله ولو دخل عليه وقت فريضة وتذكر فائتة نظر إن كان في الوقت سعة استحب أن يبدأ بالفائتة ولو بدأ بصلاة الوقت جاز وإن ضاق الوقت بحيث لو بدأ بالفائتة فات الوقت يجب أن يبدأ بصلاة الوقت حتى لا تفوت ولو تذكر الفائتة بعدما شرع في صلاة الوقت أتمها ثم قضى الفائتة ويستحب أن يعيد صلاة الوقت بعدها ولا يجب وقال أبو حنيفة رحمه الله يجب الترتيب في قضاء الفوائت ما لم تزد على صلاة يوم وليلة حتى قال لو تذكر في خلال صلاة الوقت فائتة تركها اليوم يبطل فرض الوقت فيقضي الفائتة ثم يعيد صلاة الوقت إلا أن يكون الوقت ضيقاً فلا تبطل حجة أبي حنيفة رحمه الله الآية والخبر والأثر والقياس أما الآية فقوله تعالى أَقِمِ الصَّلَواة َ لِذِكْرِى أي لتذكرها واللام بمعنى عند كقوله أَقِمِ الصَّلَواة َ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ( الإسراء 78 ) أي عند دلوكها فمعنى الآية أقم الصلاة المتذكرة عند تذكرها وذلك يقتضي رعاية الترتيب وأما الخبر فقوله عليه السلام ( من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها ) والفاء للتعقيب وأيضاً روى جابر بن عبد الله قال ( جاء عمر بن الخطاب رضي الله عنهما إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يوم الخندق فجعل يسب كفار قريش ويقول يا رسول الله ما صليت صلاة العصر حتى كادت تغيب الشمس قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأنا والله ما صليتها بعد قال فنزل إلى البطحاء وصلى العصر بعد ما غابت الشمس ثم صلى المغرب بعدها وهذا الحديث مذكور في ( الصحيحين ) قالت الحنفية والاستدلال به من وجهين أحدهما أنه عليه الصلاة والسلام قال ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) فلما صلى الفوائت على الولاء وجب علينا ذلك والثاني إن فعل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إذا خرج مخرج البيان للمجمل كان حجة وهذا الفعل خرج بياناً لمجمل قوله تعالى وَأَنْ أَقِيمُواْ ( النور 56 ) ولهذا قلنا إن الفوائت إذا كانت في حد القلة يجب مراعاة الترتيب فيها وإذا دخلت في حد الكثرة يسقط الترتيب وأما الأثر فما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال ( من فاتته صلاة فلم يذكرها إلا في صلاة الإمام فليمض في صلاته فإذا قضى صلاته مع الإمام يصلي ما فاته ثم ليعد التي صلاها مع الإمام ) وقد يروى هذا مرفوعاً إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأما القياس فهو أنهما

صلاتان فريضتان جمعهما وقت واحد في اليوم والليلة فأشبهتا صلاتي عرفة والمزدلفة فلما لم يجب إسقاط الترتيب فيهما وجب أن يكون حكم الفوائت فيما دون اليوم والليلة كذلك حجة الشافعي رحمه الله أنه روى في حديث أبي قتادة ( أنهم لما ناموا عن صلاة الفجر ثم انتبهوا بعد طلوع الشمس أمرهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يقودوا رواحلهم ثم صلاها ) ولو كان وقت التذكر معيناً للصلاة لما جاز ذلك فعلمنا أن ذلك الوقت وقت لتقرر الوجوب عليه لكن لا على سبيل التضييق بل على سبيل التوسع إذا ثبت هذا فنقول إيجاب قضاء الفوائت وإيجاب أداء فرض الوقت الحاضر يجري مجرى التخيير بين الواجبين فوجب أن يكون المكلف مخيراً في تقديم أيهما شاء ولأنه لو كان الترتيب في الفوائت شرطاً لما سقط بالنسيان ألا ترى أنه إذا صلى الظهر والعصر بعرفة في يوم غيم ثم تبين أنه صلى الظهر قبل الزوال والعصر بعد الزوال فإنه يعيدهما جميعاً ولم يسقط الترتيب بالنسيان لما كان شرطاً فيهما فههنا أيضاً لو كان شرطاً فيهما لما كان يسقط بالنسيان
إِنَّ السَّاعَة َ ءَاتِيَة ٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى
اعلم أنه تعالى لما خاطب موسى عليه السلام بقوله إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ لا ( طه 14 ) أتبعه بقوله إِنَّ السَّاعَة َ ءاتِيَة ٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا وما أليق هذا بتأويل من تأول قوله لِذِكْرِى أي لأذكرك بالأمانة والكرامة فقال عقيب ذلك إِنَّ السَّاعَة َ ءاتِيَة ٌ لأنها وقت الإثابة ووقت المجازاة ثم قال أَكَادُ أُخْفِيهَا وفيه سؤالان
السؤال الأول هو أن كاد نفيه إثبات وإثباته نفي بدليل قوله وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ ( البقرة 71 ) أي وفعلوا ذلك فقوله أَكَادُ أُخْفِيهَا يقتضي أنه ما أخفاها وذلك باطل لوجهين أحدهما قوله إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَة ِ ( لقمان 34 ) والثاني أن قوله لِتَجْرِى َ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى إنما يليق بالإخفاء لا بالإظهار والجواب من وجوه أحدها أن كاد موضوع للمقاربة فقط من غير بيان النفي والإثبات فقوله أَكَادُ أُخْفِيهَا معناه قرب الأمر فيه من الإخفاء وأما أنه هل حصل ذلك الإخفاء أو ما حصل فذلك غير مستفاد من اللفظ بل من قرينة قوله لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى فإن ذلك إنما يليق بالإخفاء لا بالإظهار وثانيها أن كاد من الله واجب فمعنى قوله أَكَادُ أُخْفِيهَا أي أنا أخفيها عن الخلق كقوله عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا ( الإسراء 51 ) أي هو قريب قاله الحسن وثالثها قال أبو مسلم أَكَادُ بمعنى أريد وهو كقوله كَذالِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ ( يوسف 76 ) ومن أمثالهم المتداولة لا أفعل ذلك ولا أكاد أي ولا أريد أن أفعله ورابعها معناه أَكَادُ أُخْفِيهَا من نفسي وقيل إنها كذلك في مصحف أبي وفي حرف ابن مسعود أَكَادُ أُخْفِيهَا من نفسي فكيف أعلنها لكم قال القاضي هذا بعيد لأن الإخفاء إنما يصح فيمن يصلح له الإظهار وذلك مستحيل على الله تعالى لأن كل معلوم معلوم له فالإظهار والإسرار منه مستحيل ويمكن أن يجاب عنه بأن ذلك واقع على التقدير يعني لو صح مني إخفاؤه على نفسي لأخفيته عني والإخفاء وإن كان محالاً في نفسه إلا أنه لا يمتنع أن يذكر ذلك على هذا التقدير مبالغة في عدم

إطلاع الغير عليه قال قطرب هذا على عادة العرب في مخاطبة بعضهم بعضاً يقولون إذا بالغوا في كتمان الشيء كتمته حتى من نفسي فالله تعالى بالغ في إخفاء الساعة فذكره بأبلغ ما تعرفه العرب في مثله وخامسها أَكَادُ صلة في الكلام والمعنى إن الساعة آتية أخفيها قال زيد الخيل سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه
فما إن يكاد قرنه يتنفس
والمعنى فما يتنفس قرنه وسادسها قال أبو الفتح الموصلي أَكَادُ أُخْفِيهَا تأويله أكاد أظهرها وتلخيص هذا اللفظ أكاد أزيل عنها إخفاءها لأن أفعل قد يأتي بمعنى السلب والنفي كقولك أعجمت الكتاب وأشكلته أي أزلت عجمته وإشكاله وأشكيته أي أزلت شكواه وسابعها قرىء أخفيها بفتح الألف أي أكاد أظهرها من خفاه إذا أظهره أي قرب إظهاره كقوله ) اقْتَرَبَتِ السَّاعَة ُ ( القمر 1 ) قال امرؤ القيس فإن تدفنوا الداء لا نخفه
وإن تمنعوا الحرب لا نقعد
معنى هذاأي لا نظهره قال الزجاج وهذه القراءة أبين لأن معنى أكاد أظهرها يفيد أنه قد أخفاها وثامنها أراد أن الساعة آتية أكاد وانقطع الكلام ثم قال أخفيها ثم رجع الكلام الأول إلى أن الأولى الإخفاء لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى وهذا الوجه بعيد والله أعلم السؤال الثاني ما الحكمة في إخفاء الساعة وإخفاء وقت الموت الجواب لأن الله تعالى وعد قبول التوبة فلو عرف وقت الموت لاشتغل بالمعصية إلى قريب من ذلك الوقت ثم يتوب فيتخلص من عقاب المعصية فتعريف وقت الموت كالإغراء بفعل المعصية وإنه لا يجوز أما قوله لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ففيه مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى لما حكم بمجيء يوم القيامة ذكر الدليل عليه وهو أنه لولا القيامة لما تميز المطيع عن العاصي والمحسن عن المسيء وذلك غير جائز وهو الذي عناه الله تعالى بقوله أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِى الاْرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ( ص 28 )
المسألة الثانية احتجت المعتزلة بهذه الآية على أن الثواب مستحق على العمل لأن الباء للالصاق فقوله بِمَا تَسْعَى يدل على أن المؤثر في ذلك الجزاء هو ذلك السعي
المسألة الثالثة احتجوا بها على أن فعل العبد غير مخلوق لله تعالى وذلك لأن الآية صريحة في إثبات سعي العبد ولو كان الكل مخلوقاً لله تعالى لم يكن للعبد سعي ألبتة أما قوله فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا فالصد المنع وههنا مسائل
المسألة الأولى في هذين الضميرين وجهان أحدهما قال أبو مسلم لا يصدنك عنها أي عن الصلاة التي أمرتك بها من لا يؤمن بها أي بالساعة فالضمير الأول عائد إلى الصلاة والثاني إلى الساعة ومثل هذا جائز في اللغة فالعرب تلف الخبرين ثم ترمي بجوابهما جملة ليرد السامع إلى كل خبر حقه وثانيهما قال ابن عباس فلا يصدنك عن الساعة أي عن الإيمان بمجيئها من لا يؤمن بها فالضميران عائدان إلى يوم القيامة قال القاضي وهذا أولى لأن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورين وههنا الأقرب هو الساعة وما قاله أبو مسلم فإنما يصار إليه عند الضرورة ولا ضرورة ههنا
المسألة الثانية الخطاب في قوله فَلاَ يَصُدَّنَّكَ يحتمل أن يكون مع موسى عليه السلام وأن يكون مع

محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والأقرب أنه مع موسى لأن الكلام أجمع خطاب له وعلى كلا الوجهين فلا معنى لقول الزجاج إنه ليس بمراد وإنما أريد به غيره وذلك لأنه ظن أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما لم يجز عليه مع النبوة أن يصده أحد عن الإيمان بالساعة لم يجز أن يكون مخاطباً بذلك وليس الأمر كما ظن لأنه إذا كان مكلفاً بأن لا يقبل الكفر بالساعة من أحد وكان قادراً على ذلك جاز أن يخاطب به ويكون المراد هو وغيره ويحتمل أيضاً أن يكون المراد بقوله فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا النهي له عن الميل إليهم ومقاربتهم
المسألة الثالثة المقصود نهي موسى عليه السلام عن التكذيب بالبعث ولكن ظاهر اللفظ يقتضي نهي من لم يؤمن عن صد موسى عليه السلام وفيه وجهان أحدهما أن صد الكافر عن التصديق بها سبب للتكذيب فذكر السبب ليدل على المسبب والثاني أن صد الكافر مسبب عن رخاوة الرجل في الدين فذكر المسبب ليدل حمله على السبب كقوله لا أرينك ههنا المراد نهيه عن مشاهدته والكون بحضرته فكذا ههنا كأنه قيل لا تكن رخواً بل كن في الدين شديداً صلباً
المسألة الرابعة الآية تدل على أن تعلم علم الأصول واجب لأن قوله فَلاَ يَصُدَّنَّكَ يرجع معناه إلى صلابته في الدين وتلك الصلابة إن كان المراد بها التقليد لم يتميز المبطل فيه من المحق فلا بد وأن يكون المراد بهذه الصلابة كونه قوياً في تقرير الدلائل وإزالة الشبهات حتى لا يتمكن الخصم من إزالته عن الدين بل هو يكون متمكناً من إزالة المبطل عن بطلانه
المسألة الخامسة قال القاضي قوله فَلاَ يَصُدَّنَّكَ يدل على أن العباد هم الذين يصدون ولو كان تعالى هو الخالق لأفعالهم لكان هو الصاد دونهم فدل ذلك على بطلان القول بالجبر والجواب المعارضة بمسألة العلم والداعي والله أعلم أما قوله تعالى وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فالمعنى أن منكر البعث إنما أنكره اتباعاً للهوى لا لدليل وهذا من أعظم الدلائل على فساد التقليد لأن المقلد متبع للهوى لا الحجة أما قوله فَتَرْدَى فهو بمعنى ولا يصدنك فتردى وإن صدوك وقبلت فليس إلا الهلاك بالنار واعلم أن المتوغلين في أسرار المعرفة قالوا المقام مقامان أحدهما مقام المحو والفناء عما سوى الله تعالى والثاني مقام البقاء بالله والأول مقدم على الثاني لأن من أراد أن يكتب شيئاً في لوح مشغول بكتابة أخرى فلا سبيل له إليه إلا بإزالة الكتابة الأولى ثم بعد ذلك يمكن إثبات الكتابة الثانية والحق سبحانه راعى هذا الترتيب الحسن في هذا الباب لأنه قال لموسى عليه السلام اولا فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ وهو إشارة إلى تطهير السر عما سوى الله تعالى ثم بعد ذلك أمره بتحصيل ما يجب تحصيله وأصول هذا الباب ترجع إلى ثلاثة علم المبدأ وعلم الوسط وعلم المعاد فعلم المبدأ هو معرفة الحق سبحانه وتعالى وهو المراد بقوله إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ لا إله إِلا أَنَاْ ( طه 14 ) وأما علم الوسط فهو علم العبودية ومعناها الأمر الذي يجب أن يشتغل الإنسان به في هذه الحياة الجسمانية وهو المراد بقوله إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ لا ( طه 14 ) ثم في هذا أيضاً تعثر لأن قوله فَاعْبُدْنِى إشارة إلى الأعمال الجسمانية وقوله لِذِكْرِى إشارة إلى الأعمال الروحانية والعبودية أولها الأعمال الجسمانية وآخرها الأعمال الروحانية وأما علم المعاد فهو قوله إِنَّ السَّاعَة َ ءاتِيَة ٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا ثم إنه تعالى افتتح هذه التكاليف بمحض اللطف وهو قوله إِنّى أَنَاْ رَبُّكَ ( طه 12 ) واختتمها بمحض القهر وهو قوله فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى تنبيهاً على أن رحمته سبقت غضبه وإشارة إلى أن العبد لا بد له في العبودية من الرغبة والرهبة والرجاء والخوف وعند الوقوف على هذه الجملة تعرف أن هذا الترتيب هو النهاية في الحسن والجودة وأن ذلك لا يتأتى إلا من العالم بكل المعلومات

وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يامُوسَى قَالَ هِى َ عَصَاى َ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِى وَلِى َ فِيهَا مَأَرِبُ أُخْرَى قَالَ أَلْقِهَا يامُوسَى فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِى َ حَيَّة ٌ تَسْعَى قَالَ خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الاٍّ ولَى
اعلم أن قوله وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ لفظتان فقوله وَمَا تِلْكَ إشارة إلى العصا وقوله بِيَمِينِكَ إشارة إلى اليد وفي هذا نكت إحداها أنه سبحانه لما أشار إليهما جعل كل واحدة منهما معجزاً قاهراً وبرهاناً باهراً ونقله من حد الجمادية إلى مقام الكرامة فإذا صار الجماد بالنظر الواحد حيواناً وصار الجسم الكثيف نورانياً لطيفاً ثم إنه تعالى ينظر كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة إلى قلب العبد فأي عجب لو انقلب قلبه من موت العصيان إلى سعادة الطاعة ونور المعرفة وثانيها أن بالنظر الواحد صار الجماد ثعباناً يبتلع سحر السحرة فأي عجب لو صار القلب بمدد النظر الإلهي بحيث يبتلع سحر النفس الأمارة بالسوء وثالثها كانت العصا في يمين موسى عليه السلام فبسبب بركة يمينه انقلبت ثعباناً وبرهاناً وقلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن فإذا حصلت ليمين موسى عليه السلام هذه الكرامة والبركة فأي عجب لو انقلب قلب المؤمن بسبب إصبعي الرحمن من ظلمة المعصية إلى نور العبودية ثم ههنا سؤالات الأول قوله وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يامُوسَى مُوسَى سؤال والسؤال إنما يكون لطلب العلم وهو على الله تعالى محال فما الفائدة فيه والجواب فيه فوائد إحداها أن من أراد أن يظهر من الشيء الحقير شيئاً شريفاً فإنه يأخذه ويعرضه على الحاضرين ويقول لهم هذا ما هو فيقولون هذا هو الشيء الفلاني ثم إنه بعد إظهار صفته الفائقة فيه يقول لهم خذا منه كذا وكذا فالله تعالى لما أراد أن يظهر من العصا تلك الآيات الشريفة كانقلابها حية وكضربه البحر حتى انفلق وفي الحجر حتى انفجر منه الماء عرضه أولاً على موسى فكأنه قال له يا موسى هل تعرف حقيقة هذا الذي بيدك وأنه خشبة لا تضر ولا تنفع ثم إنه قلبه ثعباناً عظيماً فيكون بهذا الطريق قد نبه العقول على كمال قدرته ونهاية عظمته من حيث إنه أظهر هذه الآيات العظيمة من أهون الأشياء عنده فهذا هو الفائدة من قوله وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يامُوسَى مُوسَى وثانيها أنه سبحانه لما أطلعه على تلك الأنوار المتصاعدة من الشجرة إلى السماء وأسمعه تسبيح الملائكة ثم أسمعه كلام نفسه ثم إنه مزج اللطف بالقهر فلاطفه أولاً بقوله وَأَنَا اخْتَرْتُكَ ثم قهره بإيراد التكاليف الشاقة عليه وإلزامه علم المبدأ والوسط والمعاد ثم ختم كل ذلك بالتهديد العظيم تحير موسى ودهش وكاد لا يعرف اليمين من الشمال فقيل له وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يامُوسَى مُوسَى ليعرف موسى عليه السلام أن يمينه هي التي فيها العصا أو لأنه لما تكلم معه أولاً بكلام الإلهية وتحير موسى من الدهشة تكلم معه بكلام البشر إزالة لتلك الدهشة والحيرة والنكتة فيه أنه لما غلبت الدهشة على موسى في الحضرة أراد رب العزة إزالتها فسأله عن العصا وهو لا يقع الغلط فيه كذلك المؤمن إذا مات ووصل إلى حضرة ذي الجلال فالدهشة تغلبه والحياء يمنعه عن الكلام فيسألونه عن الأمر الذي لم يغلط فيه في الدنيا وهو التوحيد فإذا ذكره زالت الدهشة والوحشة عنه وثالثها أنه تعالى لما عرف موسى كمال الإلهية

أراد أن يعرفه نقصان البشرية فسأله عن منافع العصا فذكر بعضها فعرفه الله تعالى أن فيها منافع أعظم مما ذكر تنبيهاً على أن العقول قاصرة عن معرفة صفات النبي الحاضر فلولا التوفيق والعصمة كيف يمكنهم الوصول إلى معرفة أجل الأشياء وأعظمها ورابعها فائدة هذا السؤال أن يقرر عنده أنه خشبة حتى إذا قلبها ثعباناً لا يخافها السؤال الثاني قوله وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يامُوسَى مُوسَى خطاب من الله تعالى مع موسى عليه السلام بلا واسطة ولم يحصل ذلك لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فيلزم أن يكون موسى أفضل من محمد الجواب من وجهين الأول أنه تعالى كما خاطب موسى فقد خاطب محمداً عليه السلام في قوله فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ( النجم 10 ) إلا أن الفرق بينهما أن الذي ذكره مع موسى عليه السلام أفشاه الله إلى الخلق والذي ذكره مع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كان سراً لم يستأهل له أحد من الخلق والثاني إن كان موسى تكلم معه وهو ( تكلم ) مع موسى فأمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) يخاطبون الله في كل يوم مرات على ما قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( المصلي يناجي ربه ) والرب يتكلم مع آحاد أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) يوم القيامة بالتسليم والتكريم والتكليم في قوله سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ ( يس 58 ) السؤال الثالث ما إعراب قوله وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يامُوسَى مُوسَى الجواب قال صاحب ( الكشاف ) ( تلك بيمينك ) كقوله وَهَاذَا بَعْلِى شَيْخًا ( هود 72 ) في انتصاب الحال بمعنى الإشارة ويجوز أن يكون تلك اسماً موصولاً وصلته بِيَمِينِكَ قال الزجاج معناه وما التي بيمينك قال الفراء معناه ما هذه التي في يمينك واعلم أنه سبحانه لما سأل موسى عليه السلام عن ذلك أجاب موسى عليه السلام بأربعة أشياء ثلاثة على التفصيل وواحد على الإجمال الأول قوله هِى َ عَصَاى َ قرأ ابن أبي إسحق ( هي عصي ) ومثلها ( يا بشرى ) قرأ الحسن ( هي عصاي ) بسكون الياء والنكث ههنا ثلاثة إحداها أنه قال هِى َ عَصَاى َ فذكر العصا ومن كان قلبه مشغولاً بالعصا ومنافعها كيف يكون مستغرقاً في بحر معرفة الحق ولكن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) عرض عليه الجنة والنار فلم يلتفت إلى شيء مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ( النجم 17 ) ولما قيل له امدحنا قال ( لا أحصي ثناء عليك ) ثم نسي نفسه ونسي ثناءه فقال ( أنت كما أثنيت على نفسك ) وثانيها لما قال عَصَاى َ قال الله سبحانه وتعالى أَلْقَاهَا فلما ألقاها فَإِذَا هِى َ حَيَّة ٌ تَسْعَى ليعرف أن كل ما سوى الله فالالتفات إليه شاغل وهو كالحية المهلكة لك ولهذا قال الخليل عليه السلام فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ وفي الحديث ( يجاء يوم القيامة بصاحب المال الذي لم يؤد زكاته ويؤتي بذلك المال على صورة شجاع أقرع ) الحديث بتمامه وثالثها أنه قال هي عصاي فقد تم الجواب إلا أنه عليه السلام ذكر الوجوه الأخر لأنه كان يحب المكالمة مع ربه فجعل ذلك كالوسيلة إلى تحصيل هذا الغرض الثاني قوله قَالَ هِى َ والتوكي والإتكاء واحد كالتوقي والإتقاء معناه اعتمد عليها إذا عييت أو وقفت على رأس القطيع أو عند الطفرة فجعل موسى عليه السلام نفسه متوكئاً على العصا وقال الله تعالى لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ( اتكىء على رحمتي ) بقوله تعالى حَكِيمٌ يَاأَيُّهَا النَّبِى ُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( الأنفال 64 ) وقال وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ( المائدة 67 ) فإن قيل أليس قوله وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يقتضي كون محمد يتوكأ على المؤمنين قلنا قوله وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ معطوف على الكاف في قوله حَسْبَكَ اللَّهُ والمعنى الله حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين الثالث قوله وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِى أي أخبط بها فأضرب أغصان الشجر ليسقط ورقها على غنمي فتأكله وقال أهل اللغة هش على غنمه يهش بضم الهاء في المستقبل وهششت الرجل أهش بفتح الهاء في المستقبل وهش الرغيف يهش بكسر الهاء قاله ثعلب وقرأ

عكرمة ( وأهس ) بالسين غير المنقوطة والهش زجر الغنم واعلم أن غنمه رعيته فبدأ بمصالح نفسه في قوله قَالَ هِى َ ثم بمصالح رعيته في قوله وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِى فكذلك في القيامة يبدأ بنفسه فيقول نفسي نفسي ومحمد ( صلى الله عليه وسلم ) لم يشتغل في الدنيا إلا بإصلاح أمر الأمة وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ( الأنفال 33 ) ( اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ) فلا جرم يوم القيامة يبدأ أيضاً بأمته فيقول ( أمتي أمتي ) والرابع قوله وَلِى َ فِيهَا مَأَرِبُ أُخْرَى أي حوائج ومنافع واحدتها مأربة بفتح الراء وضمها وحكى ابن الأعرابي وقطرب بكسر الراء أيضاً والأرب بفتح الراء والإربة بكسر الألف وسكون الراء الحاجة وإنما قال أخرى لأن المآرب في معنى جماعة فكأنه قال جماعة من الحاجات أخرى ولو جاءت أخر لكان صواباً كما قال فَعِدَّة ٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ( البقرة 184 ) ثم ههنا نكت إحداها أنه لما سمع قول الله تعالى وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ عرف أن لله فيه أسراراً عظيمة فذكر ما عرف وعبر عن البواقي التي ما عرفها إجمالاً لا تفصيلاً بقوله وَلِى َ فِيهَا مَأَرِبُ أُخْرَى وثانيها أن موسى عليه السلام أحس بأنه تعالى إنما سأله عن أمر العصا لمنافع عظيمة فقال موسى إلهي ما هذه العصا إلا كغيرها لكنك لما سألت عنها عرفت أن لي فيها مآرب أخرى ومن جملتها أنك كلمتني بسببها فوجدت هذا الأمر العظيم الشريف بسببها وثالثها أن موسى عليه السلام أجمل رجاء أن يسأل ربه عن تلك المآرب فيسمع كلام الله مرة أخرى ويطول أمر المكالمة بسبب ذلك ورابعها أنه بسبب اللطف انطلق لسانه ثم غلبته الدهشة فانقطع لسانه وتشوش فكره فأجمل مرة أخرى ثم قال وهب كانت ذات شعبتين كالمحجن فإذا طال الغصن حناه بالمحجن وإذا حاول كسره لواه بالشعبتين ( و ) إذا سار وضعها على عاتقه يعلق فيها أدواته من القوس والكنانة والثياب وإذا كان في البرية ركزها وألقى كساء عليها فكانت ظلاً وقيل كان فيها من المعجزات أنه كان يستقي بها فتطول بطول البئر وتصير شعبتاها دلواً ويصيران شمعتين في الليالي وإذا ظهر عدو حاربت عنه وإذا اشتهى ثمرة ركزها فأورقت وأثمرت وكان يحمل عليها زاده وماءه وكانت تماشيه ويركزها فينبع الماء فإذا رفعها نصب وكانت تقيه الهوام واعلم أن موسى عليه السلام لما ذكر هذه الجوابات أمره الله تعالى بإلقاء العصا فقال أَلْقِهَا يامُوسَى مُوسَى وفيه نكت إحداها أنه عليه السلام لما قال وَلِى َ فِيهَا مَأَرِبُ أُخْرَى أراد الله أن يعرفه أن فيها مأربة أخرى لا يفطن لها ولا يعرفها وأنها أعظم من سائر مآربه فقال أَلْقِهَا يامُوسَى يامُوسَى فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِى َ حَيَّة ٌ تَسْعَى وثانيتها كان في رجله شيء وهو النعل وفي يده شيء وهو العصا والرجل آلة الهرب واليد آلة الطلب فقال أولاً فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ( طه 12 ) إشارة إلى ترك الهرب ثم قال ألقها يا موسى وهو إشارة إلى ترك الطلب كأنه سبحانه قال إنك ما دمت في مقام الهرب والطلب كنت مشتغلاً بنفسك وطالباً لحظك فلا تكون خالصاً لمعرفتي فكن تاركاً للهرب والطلب لتكون خالصاً لي وثالثتها أن موسى عليه السلام مع علو درجته وكمال منقبته لما وصل إلى الحضرة ولم يكن معه إلا النعلان والعصا أمره بالقائهما حتى أمكنه الوصول إلى الحضرة فأنت مع ألف وقر من المعاصي كيف يمكنك الوصول إلى جنابة ورابعتها أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) كان مجرداً عن الكل ما زاغ البصر فلا جرم وجد الكل لعمرك أما موسى لما بقي معه تلك العصا لا جرم أمره بإلقاء العصا واعلم أن الكعبي تمسك به في أن الاستطاعة قبل الفعل فقال القدرة على إلقاء العصا إما أن توجد والعصا في يده أو خارجة من يده فإن أتته القدرة وهي في يده فذاك قولنا وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ ( آل عمران 182 ) وإذا أتته وليست في يده وإنما استطاع أن يلقي من يده ما ليس في يده فذلك محال أما قوله فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِى َ حَيَّة ٌ تَسْعَى ففيه أسئلة

السؤال الأول ما الحكمة في قلب العصا حية في ذلك الوقت الجواب فيه وجوه أحدها أنه تعالى قلبها حية لتكون معجزة لموسى عليه السلام يعرف بها نبوة نفسه وذلك لأنه عليه السلام إلى هذا الوقت ما سمع إلا النداء والنداء وإن كان مخالفاً للعادات إلا أنه لم يكن معجزاً لاحتمال أن يكون ذلك من عادات الملائكة أو الجن فلا جرم قلب الله العصا حية ليصير ذلك دليلاً قاهراً والعجب أن موسى عليه السلام قال أتوكأ عليها فصدقه الله تعالى فيه وجعلها متكأ له بأن جعلها معجزة له وثانيها أن النداء كان إكراماً له فقلب العصا حية مزيداً في الكرامة ليكون توالي الخلع والكرامات سبباً لزوال الوحشة عن قلبه وثالثها أنه عرض عليه ليشاهده أولاً فإذا شاهده عند فرعون لا يخافه ورابعها أنه كان راعياً فقيراً ثم إنه نصب للمنصب العظيم فلعله بقي في قلبه تعجب من ذلك فقلب العصا حية تنبيهاً على أني لما قدرت على ذلك فكيف يستبعد مني نصرة مثلك في إظهار الدين وخامسها أنه لما قال قَالَ هِى َ عَصَاى َ أَتَوَكَّؤُا إلى قوله وَلِى َ فِيهَا مَأَرِبُ أُخْرَى فقيل له أَلْقَاهَا فلما ألقاها وصارت حية فر موسى عليه السلام منها فكأنه قيل له ادعيت أنها عصاك وأن لك فيها مآرب أخرى فلم تفر منها تنبيهاً على سر قوله فَفِرُّواْ إِلَى اللَّهِ ( الذاريات 50 ) وقوله قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ ( الأنعام 91 ) السؤال الثاني قال ههنا حية وفي موضع آخر ثعبان وجان أما الحية فاسم جنس يقع على الذكر والأنثى والصغير والكبير وأما الثعبان والجان فبينهما تناف لأن الثعبان العظيم من الحيات والجان الدقيق وفيه وجهان أحدهما أنها كانت وقت انقلابها حية صغيرة دقيقة ثم تورمت وتزايد جرمها حتى صارت ثعباناً فأريد بالجان أول حالها وبالثعبان مآلها والثاني أنها كانت في شخص الثعبان وسرعة حركة الجان والدليل عليه قوله تعالى فَلَمَّا رَءاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ السؤال الثالث كيف كانت صفة الحية الجواب كان لها عرف كعرف الفرس وكان بين لحييها أربعون ذراعاً وابتلعت كل ما مرت به من الصخور والأشجار حتى سمع موسى صرير الحجر في فمها وجوفها أما قوله تعالى قَالَ خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الاْولَى ففيه سؤالات السؤال الأول لما نودي موسى وخص بتلك الكرامات العظيمة وعلم أنه معبوث من عند الله تعالى إلى الخلق فلم خاف والجواب من وجوه أحدها أن ذلك الخوف كان من نفرة الطبع لأنه عليه السلام ما شاهد مثل ذلك قط وأيضاً فهذه الأشياء معلومة بدلائل العقول وعند الفزع الشديد قد يذهل الإنسان عنه قال الشيخ أبو القاسم الأنصاري رحمه الله تعالى وذلك الخوف من أقوى الدلائل على صدقه في النبوة لأن الساحر يعلم أن الذي أتى به تمويه فلا يخافه ألبتة وثانيها قال بعضهم خافها لأنه عليه السلام عرف ما لقي آدم منها وثالثها أن مجرد قوله لاَ تَخَفْ لا يدل على حصول الخوف كقوله تعالى وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ ( الأحزاب 1 ) لا يدل على وجود تلك الطاعة لكن قوله فَلَمَّا رَءاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً ( النمل 10 ) يدل عليه ولكن ذلك الخوف إنما ظهر ليظهر الفرق بينه وبين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإنه عليه السلام أظهر تعلق القلب بالعصا والنفرة عن الثعبان وأما محمد عليه السلام فما أظهر الرغبة في الجنة ولا النفرة عن النار السؤال الثاني متى أخذها بعد انقلابها عصا أو قبل ذلك والجواب روي أنه أدخل يده بين أسنانها فانقلبت خشبة والقرآن يدل عليه أيضاً بقوله سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الاْولَى وذلك يقع في الاستقبال وأيضاً فهذا أقرب للكرامة لأنه كما أن انقلاب العصا حية معجزة فكذلك إدخال يده في فمها من غير ضرر معجزة وانقلابها

خشباً معجز آخر فيكون فيه توالي المعجزات فيكون أقوى في الدلالة السؤال الثالث كيف أخذه أمع الخوف أو بدونه والجواب روي مع الخوف ولكنه بعيد لأن بعد توالي الدلائل يبعد ذلك وإذا علم موسى عليه السلام أنه تعالى عند الأخذ سيعيدها سيرتها الأولى فكيف يستمر خوفه وقد علم صدق هذا القول وقال بعضهم لما قال له ربه لاَ تَخَفْ بلغ من ذلك ذهاب خوفه وطمأنينة نفسه إلى أن أدخل يده في فمها وأخذ بلحييها السؤال الرابع ما معنى سيرتها الأولى والجواب قال صاحب ( الكشاف ) السيرة من السير كالركبة من الركوب يقال سار فلان سيرة حسنة ثم اتسع فيها فنقلت إلى معنى المذهب والطريقة السؤال الخامس علام انتصب سيرتها الجواب فيه وجهان أحدهما بنزع الخافض يعني إلى سيرتها وثانيهما أن يكون سنعيدها مستقلاً بنفسه غير متعلق بسيرتها بمعنى أنها كانت أولاً عصا فصارت حية فسنجعلها عصا كما كانت فنصب سيرتها بفعل مضمر أي تسير سيرتها الأولى يعني سنيعدها سائرة بسيرتها الأولى حيث كنت تتوكأ عليها ولك فيها المآرب التي عرفتها
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُو ءٍ ءَايَة ً أُخْرَى لِنُرِيَكَ مِنْ ءَايَاتِنَا الْكُبْرَى اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى
اعلم أن هذا هو المعجزة الثانية وفيه مسائل
المسألة الأولى يقال لك ناحيتين جناحان كجناحي العسكر لطرفيه وجناحا الإنسان جنباه والأصل المستعار منه جناحا الطائر لأنه يجنحهما عند الطيران وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما إلى جناحك إلى صدرك والأول أولى لأن يدي الإنسان يشبهان جناحي الطائر لأنه قال تَخْرُجْ بَيْضَاء ولو كان المراد بالجناح الصدر لم يكن لقوله تُخْرِجُ معنى واعلم أن معنى ضم اليد إلى الجناح ما قال في آية أخرى وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ ( النمل 12 ) لأنه إذا أدخل يده في جيبه كان قد ضم يده إلى جناحه والله أعلم
المسألة الثانية السوء الرداءة والقبح في كل شيء فكنى به عن البرص كما كنى عن العورة بالسوأة والبرص أبغض شيء إلى العرب فكان جديراً بأن يكنى عنه يروى أنه عليه السلام كان شديد الأدمة فكان إذا أدخل يده اليمنى في جيبه وأدخلها تحت إبطه الأيسر وأخرجها كانت تبرق مثل البرق وقيل مثل الشمس من غير برص ثم إذا ردها عادت إلى لونها الأول بلا نور
المسألة الثالثة بيضاء وآية حالان معاً ومن غير سوء من صلة البيضاء كما تقول ابيضت من غير سوء وفي نصب آية وجه آخر وهو أن يكون بإضمار نحو خذ ودونك وما أشبه ذلك حذف لدلالة الكلام وقد تعلق بهذا المحذوف لنريك أي خذ هذه الآية أيضاً بعد قلب العصا لنريك بهاتين الآيتين بعض آياتنا الكبرى أو لنريك بهما

الكبرى من آياتنا أو لنريك من آياتنا الكبرى فعلنا ذلك فإن قيل الكبرى من نعت الآيات فلم لم يقل الكبر قلنا بل هي نعت الآية والمعنى لنريك الآية الكبرى ولئن سلمنا ذلك فهو كما قدمنا في قوله مَأَرِبُ أُخْرَى ( طه 18 ) و الاْسْمَاء الْحُسْنَى ( طه 8 )
المسألة الرابعة قال الحسن اليد أعظم في الإعجاز من العصا لأنه تعالى ذكر لِنُرِيَكَ مِنْ ءايَاتِنَا الْكُبْرَى عقيب ذكر اليد وهذا ضعيف لأنه ليس في اليد إلا تغير اللون وأما العصا ففيه تغير اللون وخلق الزيادة في الجسم وخلق الحياة والقدرة والأعضاء المختلفة وابتلاع الحجر والشجر ثم عاد عصا بعد ذلك فقد وقع التغير مرة أخرى في كل هذه الأمور فكانت العصا أعظم وأما قوله لِنُرِيَكَ مِنْ ءايَاتِنَا الْكُبْرَى فقد بينا أنه عائد إلى الكل وأنه غير مختص باليد
المسألة الخامسة أنه سبحانه وتعالى لما أظهر له هذه الآية عقبها بأن أمره بالذهاب إلى فرعون وبين العلة في ذلك وهي أنه طغى وإنما خص فرعون بالذكر مع أن موسى عليه السلام كان مبعوثاً إلى الكل لأنه ادعى الإلهية وتكبر وكان متبوعاً فكان ذكره أولى قال وهب قال الله تعالى لموسى عليه السلام ( اسمع كلامي واحفظ وصيتي وانطلق برسالتي فإنك بعيني وسمعي وإن معك يدي وبصري وإني ألبستك جنة من سلطاني لتستكمل بها القوة في أمري أبعثك إلى خلق ضعيف من خلقي بطر نعمتي وأمن مكري وغرته الدنيا حتى جحد حقي وأنكر ربوبيتي وإني أقسم بعزتي لولا الحجة والعذر الذي وضعت بيني وبين خلقي لبطشت به بطشة جبار ولكن هان علي وسقط من عيني فبلغه عني رسالتي وادعه إلى عبادتي وحذره نقمتي وقل له قولاً ليناً لا يغترن بلباس الدنيا فإن ناصيته بيدي لا يطرف ولا يتنفس إلا بعلمي في كلام طويل قال فسكت موسى سبعة أيام لا يتكلم ثم جاءه ملك فقال أجب ربك فيما أمرك بعبده )
قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى وَيَسِّرْ لِى أَمْرِى وَاحْلُلْ عُقْدَة ً مِّن لِّسَانِى يَفْقَهُواْ قَوْلِي وَاجْعَل لِّى وَزِيراً مِّنْ أَهْلِى هَارُونَ أَخِى اشْدُدْ بِهِ أَزْرِى وَأَشْرِكْهُ فِى أَمْرِى كَى ْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً
اعلم أن الله تعالى لما أمر موسى عليه السلام بالذهاب إلى فرعون وكان ذلك تكليفاً شاقاً فلا جرم سأل ربه أموراً ثمانية ثم ختمها بما يجري مجرى العلة لسؤال تلك الأشياء
المطلوب الأول قوله رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى واعلم أنه يقال شرحت الكلام أي بينته وشرحت صدره أي وسعته والأول يقرب منه لأن شرح الكلام لا يحصل إلا ببسطة والسبب في هذا السؤال ما حكى الله تعالى عنه في موضع آخر وهو قوله وَيَضِيقُ صَدْرِى وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِى ( الشعراء 13 ) فسأل الله تعالى أن يبدل ذلك الضيق بالسعة وقال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى فأفهم عنك ما أنزلت علي من الوحي وقيل

شجعني لأجترىء به على مخاطبة فرعون ثم الكلام فيه يتعلق بأمور أحدها فائدة الدعاء وشرائطه وثانيها ما السبب في أن الإنسان لا يذكر وقت الدعاء من أسماء الله تعالى إلا الرب وثالثها ما معنى شرح الصدر ورابعها بماذا يكون شرح الصدر وخامسها كيف كان شرح الصدر في حق موسى عليه السلام ومحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وسادسها صفة صدر موسى عليه السلام هل كان منشرحاً أو لم يكن منشرحاً فإن كان منشرحاً كان طلب شرح الصدر تحصيلاً للحاصل وهو محال وإن لم يكن منشرحاً فهو باطل من وجهين الأول أنه سبحانه بين له فيما تقدم كل ما يتعلق بالأديان من معرفة الربوبية والعبودية وأحوال المعاد وكل ما يتعلق بشرح الصدر في باب الدين فقد حصل ثم إنه سبحانه تلطف له بقوله وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى ( طه 13 ) ثم كلمه على سبيل الملاطفة بقوله وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يامُوسَى مُوسَى ( طه 17 ) ثم أظهر له المعجزات العظيمة والكرامات الجسيمة ثم أعطاه منصب الرسالة بعد أن كان فقيراً وكل ما يتعلق به الإعزاز والإكرام فقد حصل ولو أن ذرة من هذه المناصب حصلت لأدون الناس لصار منشرح الصدر فبعد حصولها لكليم الله تعالى يستحيل أن لا يصير منشرح الصدر والثاني أنه لما لم يصر منشرح الصدر بعد هذه الأشياء لم يجز من الله تعالى تفويض النبوة إليه فإن من كان ضيق القلب مشوش الخاطر لا يصلح للقضاء على ما قال عليه السلام ( لا يقضي القاضي وهو غضبان ) فكيف يصلح للنبوة التي أقل مراتبها القضاء فهذا مجموع الأمور التي لا بد من البحث عنها في هذه الآية
أما البحث الأول وهو فائدة الدعاء وشرائطه فقد تقدم في تفسير قوله رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ( البقرة 286 ) إلا أنه نذكر منها ههنا بعض الفوائد المتعلقة بهذا الموضع فنقول اعلم أن للكمال مراتب ودرجات وأعلاها أن يكون كاملاً في ذاته مكملاً لغيره أما كونه كاملاً في ذاته فكل ما كان كذلك كان كماله من لوازم ذاته وكل ما كان كذلك كان كاملاً في الأزل ولكنه يستحيل أن يكون مكملاً في الأزل لأن التكميل عبارة عن جعل الشيء كاملاً وذلك لا يتحقق إلا عند عدم الكمال فإنه لو كان حاصلاً في الأزل لاستحال التأثير فيه فإن تحصيل الحاصل محال وتكوين الكائن ممتنع فلا جرم أنه سبحانه وإن كان كاملاً في الأزل إلا أنه يصير مكملاً فيما لا يزال فإن قيل إذا كان التكميل من صفات الكمال فحيث لم يكن مكملاً في الأزل فقد كان عارياً عن صفات الكمال فيكون ناقصاً وهو محال قلنا النقصان إنما يلزم لو كان ذلك ممكناً في الأزل لكنا بينا أن الفعل الأزلي محال فالتكميل الأزلي محال فعدمه لا يكون نقصاناً كما أن قولنا إنه لا يقدر على تكوين مثل نفسه لا يكون نقصاناً لأنه غير ممكن الوجود في نفسه وكقولنا إنه لا يعلم عدداً مفصلاً كحركات أهل الجنة لأن كل ما له عدد مفصل فهو متناه وحركات أهل الجنة غير متناهية فلا يكون له عدد مفصل فامتنع ذلك لا لقصور في العلم بل لكونه في نفسه ممتنع الحصول إذا ثبت هذا فنقول إنه سبحانه وتعالى لما قصد إلى التكوين وكان الغرض منه تكميل الناقصين لأن الممكنات قابلة للوجود وصفة الوجود صفة كمال فاقتضت قدرة الله تعالى على التكميل وضع مائدة الكمال للممكنات فأجلس على المائدة بعض المعدومات دون البعض لأسباب أحدها أن المعدومات غير متناهية فلو أجلس الكل على مائدة الوجود لدخل ما لا نهاية له

في الوجود وثانيها أنه لو أوجد الكل لما بقي بعد ذلك قادراً على الإيجاد لأن إيجاد الموجود محال فكان ذلك وإن كان كمالاً للناقص لكنه يقتضي نقصان الكامل فإنه ينقلب القادر من القدرة إلى العجز وثالثها أنه لو دخل الكل في الوجود لما بقي فيه تمييز فلا يتميز القادر على الموجب والقدرة كمال والإيجاب بالطبع نقصان فلهذه الأسباب أخرج بعض الممكنات إلى الوجود فإن قيل عليه سؤالان أحدهما أن الموجودات متناهية والمعدومات غير متناهية ولا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي فتكون أيضاً الضيافة ضيافة للأقل وأما الحرمان فإنه عدد لما لا نهاية له وهذا لا يكون وجوداً الثاني أن البعض الذي خصه بهذه الضيافة إن كان لاستحقاق حصل فيه دون غيره فذلك الاستحقاق ممن حصل وإن كان لا لهذا الاستحقاق كان ذلك عبثاً وهو محال كما قيل يعطي ويمنع لا بخلاً ولا كرماً
وإنه لا يليق بأكرم الأكرمين والجواب عن الكل أن هذه الشبهات إنما تدور في العقول والخيالات لأن الإنسان يحاول قياس فعله على فعلنا وذلك باطل لأنه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون إذا عرفت هذا فهذا الوجود الفائض من نور رحمته على جميع الممكنات هو الضيافة العامة والمائدة الشاملة وهو المراد من قوله وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَى ْء ( الأعراف 156 ) ثم إن الموجودات انقسمت إلى الجمادات وإلى الحيوانات ولا شك أن الجماد بالنسبة إلى الحيوان كالعدم بالنسبة إلى الوجود لأن الجماد لا خبر عنده من وجوده فوجوده بالنسبة إليه كالعدم وعدمه كالوجود وأما الحيوان فهو الذي يميز بين الموجود والمعدوم ويتفاوتان بالنسبة إليه ولأن الجماد بالنسبة إلى الحيوان آلة لأن الحيوانات تستعمل الجمادات في أغراض أنفسها ومصالحها وهي كالعبد المطيع المسخر والحيوان كالمالك المستولي فكانت الحيوانية أفضل من الجمادية فكما أن إحسان الله ورحمته اقتضيا وضع مائدة الوجود لبعض المعدومات دون البعض كذلك اقتضيا وضع مائدة الحياة لبعض الموجودات دون البعض فلا جرم جعل بعض الموجودات أحياء دون البعض والحياة بالنسبة إلى الجمادية كالنور بالنسبة إلى الظلمة والبصر بالنسبة إلى العمى والوجود بالنسبة إلى العدم فعدن ذلك صار بعض الموجودات حياً مدركاً للمنافي والملائم واللذة والألم والخير والشر فمن ثم قالت الأحياء عند ذلك يا رب الأرباب إنا وإن وجدنا خلعة الوجود وخلعة الحياة وشرفتنا بذلك لكن ازدادت الحاجة لأنا حال العدم وحال الجمادية ما كنا نحتاج إلى الملائم والموافق وما كنا نخاف المنافي والمؤذي ولما حصل الوجود والحياة احتجنا إلى طلب الملائم ودفع المنافي فإن لم تكن لنا قدرة على الهرب والطلب والدفع والجذب لبقينا كالزمن المقعد على الطريق عرضة للآفات وهدفاً لسهام البليات فأعطنا من خزائن رحمتك القدرة والقوة التي بها نتمكن من الطلب تارة والهرب أخرى فاقتضت الرحمة التامة تخصيص بعض الأحياء بالقدرة كما اقتضت تخصيص بعض الموجودات بالحياة وتخصيص بعض المعدومات بالوجود فقال القادرون عند ذلك إلهنا الجواد الكريم إن الحياة والقدرة بلا عقل لا تكون إلا لأحد القسمين إما للمجانين المقيدين بالسلاسل والأغلال وإما للبهائم المستعملة في حمل الأثقال وكل ذلك من صفات النقصان وأنت قد رقيتنا من حضيض النقصان إلى أوج الكمال فأفض علينا من العقل الذي هو أشرف مخلوقاتك وأعز مبدعاتك الذي شرفته بقولك ( بك أهين وبك أثيب وبك أعاقب ) حتى تفوز من خزائن رحمتك بالخلع الكاملة والفضيلة التامة فأعطاهم العقل وبعث في أرواحهم نور البصيرة وجوهر الهداية

فعند هذه الدرجة فازوا بالخلع الأربعة الوجود والحياة والقدرة والعقل فالعقل خاتم الكل والخاتم يجب أن يكون أفضل ألا ترى أن رسولنا ( صلى الله عليه وسلم ) لما كان خاتم النبيين كان أفضل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والإنسان لما كان خاتم المخلوقات الجسمانية كان أفضلها فكذلك العقل لما كان خاتم الخلع الفائضة من حضرة ذي الجلال كان أفضل الخلع وأكملها ثم نظر العقل في نفسه فرأى نفسه كالجفنة المملوءة من الجواهر النفيسة بل كأنها سماء مملوءة من الكواكب الزاهرة وهي العلوم الضرورية البديهية المركوزة في بدائه العقول وصرائح الأذهان وكما أن الكواكب المركوزة في السموات علامات يهتدى بها في ظلمات البر والبحر فكذلك الجواهر المركوزة في سماء العقل كواكب زاهرة يهتدي بها السائرون في ظلمات عالم الأجسام إلى أنوار العالم الروحانية وفسحة السموات وأضوائها فلما نظر العقل إلى تلك الكواكب الزاهرة والجواهر الباهرة رأى رقم الحدوث على تلك الجواهر وعلى جميع تلك الخلع فاستدل بتلك الأرقام على راقم وبتلك النقوش على ناقش وعند ذلك عرف أن النقاش بخلاف النقش والباني بخلاف البناء فانفتح له من أعلى سماء عالم المحدثات روازن إلى أضواء لوائح عالم القدم وطالع عالم القدم الأزلية والجلال وكان العقل إنما نظر إلى أضواء عالم الأزلية من ظلمات عالم الحدوث والإمكان فغلبته دهشة أنوار الأزلية فعميت عيناه فبقي متحيراً فالتجأ بطبعه إلى مفيض الأنوار فقال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى فإن البحار عميقة والظلمات متكاثفة وفي الطريق قطاع من الأعداء الداخلة والخارجة وشياطين الإنس والجن كثيرة فإن لم تشرح لي صدري ولم تكن لي عوناً في كل الأمور انقطعت وصارت هذه الخلع سبباً لنيل الآفات لا للفوز بالدرجات فهذا هو المراد من قوله رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى ثم قال وَيَسّرْ لِى أَمْرِى وذلك لأن كل ما يصدر من العبد من الأفعال والأقوال والحركات والسكنات فما لم يصر العبد مريداً له استحال أن يصير فاعلاً له فهذه الإرادة صفة محدثة ولا بد لها من فاعل وفاعلها إن كان هو العبد افتقر في تحصيل تلك الإرادة إلى إرادة أخرى ولزم التسلسل بل لا بد من الانتهاء إلى إرادة يخلقها مدبر العالم فيكون في الحقيقة هو الميسر للأمور وهو المتمم لجميع الأشياء وتمام التحقيق أن حدوث الصفة لا بد له من قابل وفاعل فعبر عن استعداد القابل بقوله رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى وعبر عن حصول الفاعل بقوله وَيَسّرْ لِى أَمْرِى وفيه التنبيه على أنه سبحانه وتعالى هو الذي يعطي القابل قابليته والفاعل فاعليته ولهذا كان السلف رضي الله عنهم يقولون يا مبتدئاً بالنعم قبل استحقاقها ومجموع هذين الكلامين كالبرهان القاطع على أن جميع الحوادث في هذا العالم واقعة بقضائه وقدره وحكمته وقدرته ويمكن أن يقال أيضاً كأن موسى عليه السلام قال إلهي لا أكتفي بشرح الصدر ولكن أطلب منك تنفيذ الأمر وتحصيل الغرض فلهذا قال وَيَسّرْ لِى أَمْرِى أو يقال إنه سبحانه وتعالى لما أعطاه الخلع الأربع وهي الوجود والحياة والقدرة والعقل فكأنه قال له يا موسى أعطيتك هذه الخلع الأربع فلا بد في مقابلتها من خدمات أربع لتقابل كل نعمة بخدمة فقال موسى عليه السلام ما تلك الخدمات فقال وأقم الصلاة لذكري فإن فيها أنواعاً أربعة من الخدمة القيام والقراءة والركوع والسجود فإذا أتيت بالصلاة فقد قابلت كل نعمة بخدمة ثم إنه تعالى لما أعطاه الخلعة الخامسة وهي خلعة الرسالة قال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى حتى أعرف أني بأي خدمة أقابل هذه النعمة فقيل له بأن تجتهد في أداء هذه الرسالة على الوجه المطلوب فقال موسى يا رب إن هذا لا يتأتى مني مع عجزي وضعفي وقلة آلاتي وقوة خصمي فاشرح لي صدري ويسر لي أمري

الفصل الثاني في قوله رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى اعلم أن الدعاء سبب القرب من الله تعالى وإنما اشتغل موسى بهذا الدعاء طلباً للقرب فتفتقر إلى بيان أمرين إلى بيان أن الدعاء سبب القرب ثم إلى بيان أن موسى عليه السلام طلب القرب بهذا الدعاء أما بيان أن الدعاء سبب القرب فيدل عليه وجوه الأول أن الله تعالى ذكر السؤال والجواب في كتابه في عدة مواضع منها أصولية ومنها فروعية أما الأصولية فأولها في البقرة يَسْئَلُونَكَ عَنِ الاهِلَّة ِ قُلْ هِى َ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجّ ( البقرة 189 ) وثانيها في بني إسرائيل وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى وثالثها وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفاً ( طه 105 ) ورابعها يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَة ِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ( النازعات 42 ) وأما الفروعية فستة منها في البقرة على التوالي أحدها يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مّنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالاْقْرَبِينَ ( البقرة 215 ) وثانيها يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ( البقرة 217 ) وثالثها يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ ( البقرة 219 ) ورابعها يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ ( البقرة 219 ) وخامسها فِى الدُّنْيَا وَالاْخِرَة ِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ ( البقرة 220 ) وسادسها وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى ( البقرة 222 ) وسابعها يَسْأَلُونَكَ عَنِ الانفَالِ قُلِ الانفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ( الأنفال 1 ) وثامنها وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِى الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مّنْهُ ذِكْراً ( الكهف 83 ) وتاسعها وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِى وَرَبّى إِنَّهُ لَحَقٌّ ( يونس 53 ) وعاشرها يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِى الْكَلَالَة ِ ( النساء 176 ) والحادية عشر وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ ( البقرة 186 ) إذا عرفت هذا فنقول جاءت هذه الأسئلة والأجوبة على صور مختلفة فالأغلب فيها أنه سبحانه وتعالى لما ذكر السؤال قال لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) قل وفي صورة أخرى جاء الجواب بصيغة فقل مع فاء التعقيب وفي صورة ثالثة ذكر السؤال ولم يذكر الجواب وهو قوله تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَة ِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ( الأعراف 187 ) وفي صورة رابعة ذكر الجواب ولم يذكر فيه لفظ قل ولا لفظ فقل وهو قوله تعالى وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ ولا بد لهذه الأشياء من الفائدة فنقول أما الأجوبة الواردة بلفظ قل فلا إشكال فيها لأن قوله تعالى قل كالتوقيع المحدد في ثبوت نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وكالتشريف المحدد في كونه مخاطباً من الله تعالى بأداء الوحي والتبليغ وأما الصورة الثانية وهي قوله فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفاً ( طه 105 ) فالسبب أن قولهم وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ ( طه 105 ) سؤال إما عن قدمها أو عن وجوب بقائها وهذه المسألة من أمهات مسائل أصول الدين فلا جرم أمر الله تعالى محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) أن يجيب بلفظ الفاء المفيد للتعقيب كأنه سبحانه قال يا محمد أجب عن هذا السؤال في الحال ولا تقتصر فإن الشك فيه كفر ولا تمهل هذا الأمر لئلا يقعوا في الشك والشبهة ثم كيفية الجواب أنه قال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفاً ولا شك أن النسف ممكن لأنه ممكن في حق كل جزء من أجزاء الجبل والحس يدل عليه فوجب أن يكون ممكناً في حق كل الجبل وذلك يدل على أنه ليس بقديم ولا واجب الوجود لأن القديم لا يجوز عليه التغير والنسف فإن قيل إنهم قالوا أخبرنا عن إلهك أهو ذهب أو فضة أو حديد فقال قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ( الإخلاص 1 ) ولم يقل فقل هو الله أحد مع أن هذه المسألة من المهمات قلنا إنه تعالى لم يحك في هذا الموضع سؤالهم وحرف الفاء من الحروف العاطفة فيستدعي سبق كلام فلما لم يوجد ترك الفاء بخلاف ههنا فإنه

تعالى حكى سؤالهم فحسن عطف الجواب عليه بحرف الفاء وأما الصورة الثالثة فإنه تعالى لم يذكر الجواب في قوله يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَة ِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فالحكمة فيه أن معرفة وقت الساعة على التعيين مشتملة على المفاسد التي شرحناها فيما سبق فلهذا لم يذكر الله تعالى ذلك الجواب وذلك يدل على أن من الأسئلة ما لا يجاب عنها وأما الصورة الرابعة وهي قوله فَإِنّي قَرِيبٌ ولم يذكر في جوابه قل ففيه وجوه أحدها أن ذلك يدل على تعظيم حال الدعاء وأنه من أعظم العبادات فكأنه سبحانه قال يا عبادي أنت إنما تحتاج إلى الواسطة في غير الدعاء أما في مقام الدعاء فلا واسطة بيني وبينك يدل عليه أن كل قصة وقعت لم تكن معرفتها من المهمات قال لرسوله ( صلى الله عليه وسلم ) اذكر لهم تلك القصة كقوله تعالى وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَى ْ ءادَمَ بِالْحَقّ ( المائدة 27 ) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِى ءاتَيْنَاهُ ءايَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا ( الأعراف 175 ) وَاذْكُرْ فِى الْكِتَابِ مُوسَى ( مريم 51 ) وَاذْكُرْ فِى الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ ( مريم 54 ) وَاذْكُرْ فِى الْكِتَابِ إِدْرِيسَ ( مريم 56 ) وَنَبّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ ( الحجر 51 ) ثم قال في قصة يوسف نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ( يوسف 3 ) وفي أصحاب الكهف نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بِالْحَقّ ( الكهف 13 ) وما ذاك إلالما في هاتين القصتين من العجائب والغرائب والحاصل كأنه سبحانه وتعالى قال يا محمد إذا سئلت عن غيري فكن أنت المجيب وإذا سئلت عني فاسكت أنت حتى أكون أنا القائل وثانيها أن قوله وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي يدل على أن العبد له ( أن يسأل ) وقوله فَإِنّي قَرِيبٌ يدل على أن الرب قريب من العبد وثالثها لم يقل فالعبد مني قريب بل قال أنا منه قريب وهذا فيه سر نفيس فإن العبد ممكن الوجود فهو من حيث هو هو في مركز العدم وحضيض الفناء فكيف يكون قريباً بل القريب هو الحق سبحانه وتعالى فإنه بفضله وإحسانه جعله موجوداً وقربه من نفسه فالقرب منه لا من العبد فلهذا قال فَإِنّي قَرِيبٌ ورابعها أن الداعي ما دام يبقى خاطره مشغولاً بغير الله تعالى فإنه لا يكون داعياً لله تعالى فإذا فنى عن الكل وصار مستغرقاً بمعرفة الله الأحد الحق امتنع أن يبقى في مقام الفناء عن غير الله مع الالتفات إلى غير الله تعالى فلا جرم رفعت الواسطة من البين فما قال فقل إني قريب بل قال فَإِنّي قَرِيبٌ فثبت بما تقرر فضل الدعاء وأنه من أعظم القربات ثم من شأن العبد إذا أراد أن يتحف مولاه أن لا يتحفه إلا بأحسن التحف والهدايا فلا جرم أول ما أراد موسى أن يتحف الحضرة الإلهية بتحف الطاعات والعبادات أتحفها بالدعاء فلا جرم قال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى والوجه الثاني في بيان فضل الدعاء قوله عليه السلام ( الدعاء مخ العبادة ) ثم إن أول شيء أمر الله تعالى به موسى عليه السلام ( العبادة ) لأن قوله إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ ( طه 14 ) إخبار وليس بأمر إنما الأمر قوله فَاعْبُدْنِى ( طه 14 ) فلما كان أول ما أورد على موسى من الأوامر هو الأمر بالعبادة لا جرم أول ما أتحف به موسى عليه السلام حضرة الربوبية من تحف العبادة هو تحفة الدعاء فقال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى والوجه الثالث وهو أن الدعاء نوع من أنواع العبادة فكما أنه سبحانه وتعالى أمر بالصلاة والصوم فكذلك أمر بالدعاء ويدل عليه قوله تعالى وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ ( البقرة 186 ) وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ ( غافر 60 ) وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ( الأعراف 56 ) ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَة ً

( الأعراف 55 ) هُوَ الْحَى ُّ لاَ إله إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ ( غافر 65 ) قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ ( الإسراء 110 ) وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَة ً ( الأعراف 205 ) وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( ادعوا بياذا الجلال والإكرام ) فبهذه الآيات عرفنا أن الدعاء عبادة قال بعض الجهال الدعاء على خلاف العقل من وجوه أحدها أنه علام الغيوب يعلم ما في الأنفس وما تخفي الصدور فأي حاجة بنا إلى الدعاء وثانيها أن المطلوب إن كان معلوم الوقوع فلا حاجة إلى الدعاء وإن كان معلوم اللاوقوع فلا فائدة فيه وثالثها الدعاء يشبه الأمر والنهي وذلك من العبد في حق المولى سوء أدب ورابعها المطلوب بالدعاء إن كان من المصالح فالحكيم لا يهمله وإن لم يكن من المصالح لم يجز طلبه وخامسها فقد جاء أن أعظم مقامات الصديقين الرضا بقضاء الله تعالى وقد ندب إليه والدعاء ينافي ذلك لأنه اشتغال بالالتماس والطلب وسادسها قال عليه السلام رواية عن الله تعالى ( من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين ) فدل على أن الأولى ترك الدعاء والآيات التي ذكرتموها تقتضي وجوب الدعاء وسابعها أن إبراهيم عليه السلام لما ترك الدعاء واكتفى بقوله ( حسبي من سؤالي علمه بحالي ) استحق المدح العظيم فدل على أن الأولى ترك الدعاء والجواب عن الأول أنه ليس الغرض من الدعاء الأعلام بل هو نوع تضرع كسائر التضرعات وعن الثاني أنه يجري مجرى أن نقول للجائع والعطشان إن كان الشبع معلوم الوقوع فلا حاجة إلى الأكل والشرب وإن كان معلوم اللاوقوع فلا فائدة فيه وعن الثالث أن الصيغة وإن كانت صيغة الأمر إلا أن صورة التضرع والخشوع تصرفه عن ذلك وعن الرابع يجوز أن يصير مصلحة بشرط سبق الدعاء وعن الخامس أنه إذا دعا إظهاراً للتضرع ثم رضي بما قدره الله تعالى فذاك أعظم المقامات وهو الجواب عن البقية إذا ثبت أنه من العبادات ثم إنه تعالى أمره بالعبادة وبالصلاة أمراً ورد مجملاً لا جرم شرع في أجل العبادات وهو الدعاء الوجه الرابع في فضل الدعاء أنه سبحانه لم يقتصر في بيان فضل الدعاء على الأمر به بل بين في آية أخرى أنه يغضب إذا لم يسأل فقال فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَاكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ ( الأنعام 43 ) وقال عليه السلام ( لا يقولون أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت ) ولكن يجزم فيقول اللهم اغفر لي فلهذا السر جزم موسى عليه السلام بالدعاء وقال رب اشرح لي صدري الوجه الخامس في فضل الدعاء قوله تعالى وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ ( غافر 60 ) وفيه كرامة عظيمة لأمتنا لأن بني إسرائيل فضلهم الله تفضيلاً عظيماً فقال في حقهم وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ( البقرة 47 ) وقال أيضاً وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَة َ ( المائدة 20 ) ثم مع هذه الدرجة العظيمة قالوا لموسى عليه السلام ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيّنَ لَّنَا مَا هِى َ ( البقرة 68 ) وأن الحواريين مع جلالتهم في قولهم نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ ( آل عمران 52 ) سألوا عيسى عليه السلام أن يسأل لهم مائدة تنزل من السماء ثم إنه سبحانه وتعالى رفع هذه الواسطة في أمتنا فقال مخاطباً لهم من غير واسطة ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ وقال وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ ( النساء 32 ) فلهذا السبب لما حصلت هذه الفضيلة لهذه الأمة وكان موسى عليه السلام قد عرفها لا جرم فقال ( اللهم اجعلني من أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) فلا جرم رفع يديه ابتداء فقال

رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى واعلم أنه تعالى قال وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ ( البقرة 186 ) ثم إنه تعالى جعل العباد على سبعة أقسام أحدها عبد العصمة إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ( الحجر 42 ) وموسى عليه السلام كان مخصوصاً بمزيد العصمة وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِى ( طه 41 ) فلا جرم طلب زوائد العصمة فقال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى وثانيها عبد الصفوة وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ( النمل 59 ) وموسى عليه السلام كان مخصوصاً بمزيد الصفوة قَالَ يامُوسَى إِنْى اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي ( الأعراف 144 ) فلا جرم أراد مزيد الصفوة فقال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى وثالثها عبد البشارة فَبَشّرْ عِبَادِى الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ( الزمر 17 18 ) وكان موسى عليه السلام مخصوصاً بذلك وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى ( طه 13 ) فأراد مزيد البشارة فقال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى ورابعها عبد الكرامة الْمُتَّقِينَ ياعِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ ( الزخرف 68 ) وموسى عليه السلام كان مخصوصاً بذلك لاَ تَخَافَا إِنَّنِى مَعَكُمَا ( طه 46 ) فأراد الزيادة عليها فقال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى وخامسها عبد المغفرة نَبّىء عِبَادِى أَنّى أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ( الحجر 49 ) وكان موسى عليه السلام مخصوصاً بذلك رَبّ اغْفِرْ لِى ( ص 35 ) فغفر له فأراد الزيادة فقال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى وسادسها عبد الخدمة اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ( البقرة 21 ) وموسى عليه السلام كان مخصوصاً بذلك وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِى فطلب الزيادة فيها فقال اشْرَحْ لِى صَدْرِى وسابعها عبد القربة وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَة َ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ( البقرة 186 ) وموسى عليه السلام كان مخصوصاً بالقرب وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الاْيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً ( مريم 52 ) فأراد كمال القرب فقال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى
الفصل الثالث في قوله رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى وفيه وجوه أحدها أنه تعالى لما خاطبه بالأشياء الستة ( التي ) أحدها معرفة التوحيد إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ لا إله إِلا أَنَاْ ( طه 14 ) وثانيها أمره بالعبادة والصلاة إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ لا ( طه 14 ) وثالثها معرفة الآخرة إِنَّ السَّاعَة َ ءاتِيَة ٌ ( طه 15 ) ورابعها حكمة أفعاله في الدنيا وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يامُوسَى مُوسَى ( طه 17 ) وخامسها عرض المعجزات الباهرة عليه لِنُرِيَكَ مِنْ ءايَاتِنَا الْكُبْرَى ( طه 23 ) وسادسها إرساله إلى أعظم الناس كفراً وعتواً فكانت هذه التكاليف الشاقة سبباً للقهر فأراد موسى عليه السلام جبر هذا القهر بالمعجز فعرفه أن كل من سأله قرب منه فقال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى فأراد جبر القهر الحاصل من هذه التكاليف بالقرب منه فقال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى أو يقال خاف شياطين الإنس والجن فدعا ليصل بسبب الدعاء إلى مقام القرب فيصير مأموناً من غوائل شياطين الجن والإنس وثانيها أن المراد أنه أراد الذهاب إلى فرعون وقومه فأراد أن يقطع طمع الخلق عن نفسه بالكلية فعرف أن من دعا ربه قربه له وقربه لديه فحينئذ تنقطع الأطماع بالكلية فقال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى وثالثها الوجود كالنور والعدم كالظلمة وكل ما سوى الله تعالى فهو عدم محض فكل شيء هالك إلا وجهه فالكل كأنهم في ظلمات العدم وإظلال عالم الأجسام والإمكان فقال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى حتى يجلس قلبي في بهي ضوء المعرفة وسادة شرح الصدر والجالس في الضوء لا يرى من كان جالساً في الظلمة فحين جلس في ضوء شرح الصدر لا يرى أحداً في الوجود فلهذا عقبه بقوله وَيَسّرْ لِى أَمْرِى فإن العبد في مقام الاستغراق لا يتفرغ لشيء من المهمات ورابعها رب اشرح لي صدري فإن عين العين ضعيفة فأطلع يا إلهي شمس التوفيق حتى أرى كل شيء كما

هو وهذا في معنى قول محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ( أرنا الأشياء كما هي ) واعلم أن شرح الصدر مقدمة لسطوع الأنوار الإلهية في القلب والاستماع مقدمة الفهم الحاصل من سماع الكلا فالله تعالى أعطى موسى عليه السلام المقدمة الثانية وهي فاستمع لما يوحى فلا جرم نسج موسى على ذلك المنوال فطلب المقدمة الأخرى فقال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى ولما آل الأمر إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) قيل له وَقُل رَّبّ زِدْنِى عِلْماً ( طه 114 ) والعلم هو المقصود فلما كان موسى عليه السلام كالمقدمة لمقدم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لا جرم أعطى المقدمة ولما كان محمد كالمقصود لا جرم أعطى المقصود فسبحانه ما أدق حكمته في كل شيء وسادسها الداعي له صفتان إحداهما أن يكون عبداً للرب وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ ( البقرة 186 ) وثانيتهما أن يكون الرب له وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ ( غافر 60 ) أضاف نفسه إلينا وما أضافنا إلى نفسه والمشتغل بالدعاء قد صار كاملاً من هذين الوجهين فأراد موسى عليه السلام أن يرتع في هذا البستان فقال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى وسابعها أن موسى عليه السلام شرفه الله تعالى بقوله وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً ( مريم 52 ) فكأن موسى عليه السلام قال إلهي لما قلت وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً صرت قريباً منك ولكن أريد قربك مني فقال يا موسى أما سمعت قولي وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ فأشتغل بالدعاء حتى أصير قريباً منك فعند ذلك قَالَ رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى وثامنها قال موسى عليه السلام رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى وقال لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ( الشرح 1 ) ثم إنه تعالى ما تركه على هذه الحالة بل قال وَسِرَاجاً مُّنِيراً ( الأحزاب 46 ) فانظر إلى التفاوت فإن شرح الصدر هو أن يصير الصدر قابلاً للنور والسراج المنير هو أن يعطي النور فالتفاوت بين موسى عليه السلام ومحمد ( صلى الله عليه وسلم ) كالتفاوت بين الآخذ والمعطي ثم نقول إلهنا إن ديننا وهي كلمة لا إله إلا الله نور والوضوء نور والصلاة نور والقبر نور والجنة نور فبحق أنوارك التي أعطيتنا في الدنيا لا تحرمنا أنوار فضلك وإحسانك يوم القيامة الفصل الرابع في قوله رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى سئل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن شرح الصدر فقال نور يقذف في القلب فقيل وما أمارته فقال التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل النزول ويدل على أن شرح الصدر عبارة عن النور قوله تعالى أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مّن رَّبّهِ ( الزمر 22 ) واعلم أن الله تعالى ذكر عشرة أشياء ووصفها بالنور أحدها وصف ذاته بالنور اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( النور 35 ) وثانيها الرسول قَدْ جَاءكُمْ مّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ( المائدة 15 ) وثالثها القرآن وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِى أُنزِلَ مَعَهُ ( الأعراف 157 ) ورابعها الإيمان يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ ( التوبة 32 ) وخامسها عدل الله وَأَشْرَقَتِ الاْرْضُ بِنُورِ رَبّهَا ( الزمر 69 ) وسادسها ضياء القمر وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً ( نوح 16 ) وسابعها النهار وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ( الأنعام 1 ) وثامنها البينات إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاة َ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ( المائدة 44 ) وتاسعها الأنبياء نُّورٌ عَلَى نُورٍ ( النور 35 ) وعاشرها المعرفة مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاة ٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ( النور 35 ) إذا ثبت هذا فنقول كأن موسى عليه السلام قال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى بمعرفة أنوار جلالك وكبريائك وثانيها رب اشرح لي صدري بالتخلق بأخلاق رسلك وأنبيائك وثالثها رب اشرح لي صدري باتباع وحيك وامتثال أمرك ونهيك ورابعها رب اشرح لي صدري بنور الإيمان

والإيقان بإلهيتك وخامسها رب اشرح صدري بالإطلاع على أسرار عدلك في قضائك وحكمك وسادسها رب اشرح لي صدري بالإنتقال من نور شمسك وقمرك إلى أنوار جلال عزتك كما فعله إبراهيم عليه السلام حيث انتقل من الكوكب والقمر والشمس إلى حضرة العزة وسابعها رب اشرح لي صدري من مطالعة نهارك وليلك إلى مطالعة نهار فضلك وليل عدلك وثامنها رب اشرح لي صدري بالإطلاع على مجامع آياتك ومعاقد بيناتك في أرضك وسمواتك وتاسعها رب اشرح لي صدري في أن أكون خلف صور الأنبياء المتقدمين ومتشبهاً بهم في الإنقياد لحكم رب العالمين وعاشرها رب اشرح لي صدري بأن تجعل سراج الإيمان في قلبي كالمشكاة التي فيها المصباح واعلم أن شرح الصدر عبارة عن إيقاد النور في القلب حتى يصير القلب كالسراج وذلك النور كالنار ومعلوم أن من أراد أن يستوقد سراجاً احتاج إلى سبعة أشياء زند وحجر وحراق وكبريت ومسرجة وفتيلة ودهن فالعبد إذا طلب النور الذي هو شرح الصدر افتقر إلى هذه السبعة فأولها لا بد من زند المجاهدة وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ( العنكبوت 69 ) وثانيها حجر التضرع ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَة ً ( الأعراف 55 ) وثالثها حراق منع الهوى وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ( النازعات 40 ) ورابعها كبريت الإنابة وَأَنِيبُواْ إِلَى رَبّكُمْ الزمر 54 ) ملطخاً رؤوس تلك الخشبات بكبريت توبوا إلى الله وخامسها مسرجة الصبر وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَواة ِ ( البقرة 45 ) وسادسها فتيلة الشكر لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ ( إبراهيم 7 ) وسابعها دهن الرضا وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ ( الطور 48 ) أي ارض بقضاء ربك فإذا صلحت هذه الأدوات فلا تعول عليها بل ينبغي أن لا تطلب المقصود إلا من حضرته مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَة ٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا ( فاطر 2 ) ثم اطلبها بالخشوع والخضوع وَخَشَعَتِ الاصْوَاتُ لِلرَّحْمَانِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً ( طه 108 ) فعند ذلك ترفع يد التضرع وتقول رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى فهنالك تسمع قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يامُوسَى مُوسَى ( طه 36 ) ثم نقول هذا النور الروحاني المسمى بشرح الصدر أفضل من الشمس الجسمانية لوجوه أحدها الشمس تحجبها غمامة وشمس المعرفة لا يحجبها السموات السبع إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيّبُ ( فاطر 10 ) وثانيها الشمس تغيب ليلاً وتعود نهاراً قال إبراهيم عليه السلام لا أُحِبُّ الاْفِلِينَ ( الأنعام 76 ) أما شمس المعرفة فلا تغيب ليلاً إِنَّ نَاشِئَة َ الَّيْلِ هِى َ أَشَدُّ ( المزمل 6 ) وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالاْسْحَارِ ( آل عمران 17 ) بل أكمل الخلع الروحانية تحصل في الليل سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً ( الإسراء 1 ) وثالثها الشمس تفنى إِذَا الشَّمْسُ كُوّرَتْ ( التكوير 1 ) وشمس المعرفة لا تفنى سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ ( يس 58 ) ورابعها الشمس إذا قابلها القمر انكسفت أما ههنا فشمس المعرفة وهي معرفة أشهد أن لا إله إلا الله ما لم يقابلها قمر أشهد أن محمداً رسول الله لم يصل نوره إلى عالم الجوارح وخامسها الشمس تسود الوجوه والمعرفة تبيضها يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ( آل عمران 106 ) وسادسها الشمس تحرق والمعرفة تنجي من الحرق جزياً مؤمن فإن نورك قد أطفأ لهبي وسابعها الشمس تصدع والمعرفة تصعد إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيّبُ ( فاطر 10 ) وثامنها الشمس منفعتها في الدنيا والمعرفة منفعتها في العقبى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ ( الكهف 46 ) وتاسعها الشمس في السماء زينة لأهل الأرض والمعرفة في الأرض زينة لأهل السماء وعاشرها الشمس فوقاني الصورة تحتاني المعنى

وذلك يدل على الحسد مع التكبر والمعارف الإلهية تحتانية الصورة فوقانية المعنى وذلك يدل على التواضع مع الشرف وحادي عشرها الشمس تعرف أحوال الخلق وبالمعرفة يصل القلب إلى الخالق وثاني عشرها الشمس تقع على الولي والعدو والمعرفة لا تحصل إلا للولي فلما كانت المعرفة موصوفة بهذه الصفات النفيسة لا جرم قال موسى رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى وأما النكت فإحداها الشمس سراج استوقدها الله تعالى للفناء كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ( الرحمن 26 ) والمعرفة استوقدها للبقاء فالذي خلقها للفناء لو قرب الشيطان منها لاحترق شِهَاباً رَّصَداً ( الجن 9 ) والمعرفة التي خلقها للبقاء كيف يقرب منها الشيطان رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى وثانيتها استوقد الله الشمس في السماء وإنها تزيل الظلمة عن بيتك مع بعدها عن بيتك وأوقد شمس المعرفة في قلبك أفلا تزيل ظلمة المعصية والكفر عن قلبك مع قربها منك وثالثتها من استوقد سراجاً فإنه لا يزال يتعهده ويمده والله تعالى هو الموقد لسراج المعرفة وَلَاكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الاْيمَانَ ( الحجرات 7 ) أفلا يمده وهو معنى قوله رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى ورابعتها اللص إذا رأى السراج يوقد في البيت لا يقرب منه والله قد أوقد سراج المعرفة في قلبك فكيف يقرب الشيطان منه فلهذا قال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى وخامستها المجوس أوقدوا ناراً فلا يريدون إطفاءها والملك القدوس أوقد سراج الإيمان في قلبك فكيف يرضى بإطفائه واعلم أنه سبحانه وتعالى أعطى قلب المؤمن تسع كرامات أحدها الحياة أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ ( الأنعام 122 ) فلما رغب موسى عليه السلام في الحياة الروحانية قال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى ثم النكتة أنه عليه السلام قال من أحيا أرضاً ميتة فهي له فالعبد لما أحيا أرضاً فهي له فالرب لما خلق القلب وأحياه بنور الإيمان فكيف يجوز أن يكون لغيره فيه نصيب قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ ( الأنعام 91 ) وكما أن الإيمان حياة القلب بالكفر موته أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ ( النحل 21 ) وثانيها الشفاء وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ ( التوبة 14 ) فلما رغب موسى في الشفاء رفع الأيدي قال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى والنكتة أنه تعالى لما جعل الشفاء في العسل بقي شفاء أبداً فههنا لما وضع الشفاء في الصدر فكيف لا يبقى شفاء أبداً وثالثها الطهارة أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى ( الحجرات 3 ) فلما رغب موسى عليه السلام في تحصيل طهارة التقوى قال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى والنكتة أن الصائغ إذا امتحن الذهب مرة فبعد ذلك لا يدخله في النار فههنا لما امتحن الله قلب المؤمن فكيف يدخله النار ثانياً ولكن الله يدخل في النار قلب الكافر لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيّبِ ( الأنفال 37 ) ورابعها الهداية ومن يؤمن بالله يهد قلبه فرغب موسى عليه السلام في طلب زوائد الهداية فقال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى والنكتة أن الرسول يهدي نفسك والقرآن يهدي روحك والمولى يهدي قلبك فلما كانت الهداية من الكفر من محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لا جرم تارة تحصل وأخرى لا تحصل إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء ( القصص 56 ) وهداية الروح لما كانت من القرآن فتارة تحصل وأخرى لا تحصل يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ( البقرة 26 ) أما هداية القلب فلما كانت من الله تعالى فإنها لا تزول لأن الهادي لا يزول وَيَهْدِى مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( يونس 25 ) وخامسها الكتابة أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ ( المجادلة 22 ) فلما رغب موسى عليه السلام في تلك الكتابة قال رَبّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى وفيه نكت

التالي بمشيئة الله ج21.وج22.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب الإبانة عن أصول الديانة علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري أبو الحسن

  كتاب الإبانة عن أصول الديانة علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري أبو الحسن بسم الله الرحمن الرحيم وهو حسبي ونعم الوكيل وصلى الله على...