الثلاثاء، 4 أكتوبر 2022

ج17.وج18.مفاتيح الغيب للفخر الرازي

 

 ج17.وج18.مفاتيح الغيب للفخر الرازي

ج17. مفاتيح الغيب ـ ترقيم الشاملة موافق للمطبوع
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي الشافعي

فأجابوا عنه من وجوه الأول أنه كان ينافق أباه فظن نوح أنه مؤمن فلذلك ناداه ولولا ذلك لما أحب نجاته والثاني أنه عليه السلام كان يعلم أنه كافر لكنه ظن أنه لما شاهد الغرق والأهوال العظيمة فإنه يقبل الإيمان فصار قوله مَعْزِلٍ يابُنَى َّ ارْكَبَ مَّعَنَا كالدلالة على أنه طلب منه الإيمان وتأكد هذا بقوله وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ أي تابعهم في الكفر واركب معنا والثالث أن شفقة الأبوة لعلها حملته على ذلك النداء والذي تقدم من قوله إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ كان كالمجمل فلعله عليه السلام جوز أن لا يكون هو داخلاً فيه
القول الثاني أنه كان ابن امرأته وهو قول محمد بن علي الباقر وقول الحسن البصري ويروى أن علياً رضي الله عنه قرأ وَنَادَى نُوحٌ والضمير لامرأته وقرأ محمد بن علي وعروة بن الزبير نُوحٌ ابْنَهُ بفتح الهاء يريد أن ابنها إلا أنهما اكتفيا بالفتحة عن الألف وقال قتادة سألت الحسن عنه فقال والله ما كان ابنه فقلت إن الله حكى عنه أنه قال إِنَّ ابُنِى مِنْ أَهْلِى وأنت تقول ما كان ابناً له فقال لم يقل إنه مني ولكنه قال من أهلي وهذا يدل على قولي
القول الثالث أنه ولد على فراشه لغير رشدة والقائلون بهذا القول احتجوا بقوله تعالى في امرأة نوح وامرأة لوط فخانتاهما وهذا قول خبيث يجب صون منصب الأنبياء عن هذه الفضيحة لا سيما وهو على خلاف نص القرآن أما قوله تعالى فَخَانَتَاهُمَا فليس فيه أن تلك الخيانة إنما حصلت بالسبب الذي ذكروه قبل لابن عباس رضي الله عنهما ما كانت تلك الخيانة فقال كانت امرأة نوح تقول زوجي مجنون وامرأة لوط تدل الناس على ضيفه إذا نزلوا به ثم الدليل القاطع على فساد هذا المذهب قوله تعالى الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيّبَاتُ لِلطَّيّبِينَ وَالطَّيّبُونَ لِلْطَّيّبَاتِ ( النور 26 ) وأيضاً قوله تعالى الزَّانِى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَة ً أَوْ مُشْرِكَة ً وَالزَّانِيَة ُ لاَ يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرّمَ ذالِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ( النور 3 ) وبالجملة فقد دللنا على أن الحق هو مقول الأول
وأما قوله وَكَانَ فِى مَعْزِلٍ فاعلم أن المعزل في اللغة معناه موضع منقطع عن غيره وأصله من العزل وهو التنحية والإبعاد تقول كنت بمعزل عن كذا أي بموضع قد عزل منه
واعلم أن قوله وَكَانَ فِى مَعْزِلٍ لا يدل على أنه في معزل من أي شيء فلهذا السبب ذكروا وجوهاً الأول أنه كان في معزل من السفينة لأنه كان يظن أن الجبل يمنعه من الغرق الثاني أنه كان في معزل عن أبيه وإخوته وقومه الثالث أنه كان في معزل من الكفار كأنه انفرد عنهم فظن نوح عليه السلام أن ذلك إنما كان لأنه أحب مفارقتهم
أما قوله يابُنَى َّ ارْكَبَ مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ فنقول قرأ حفص عن عاصم أَوْ بَنِى بفتح الياء في جميع القرآن والباقون بالكسر قال أبو علي الوجه الكسر وذلك أن اللام من ابن ياء أو واو فإذا صغرت ألحقت ياء التحقير فلزم أن ترد اللام المحذوفة وإلا لزم أن تحرك ياء التحقير بحركات الإعراب لكنها لا تحرك لأنها لو حركت لزم أن تنقلب كما تنقلب سائر حروف المد واللين إذا كانت حروف إعراب نحو عصا وقفا ولو انقلبت بطلت دلالتها على التحقير ثم أضفت إلى نفسك اجتمعت ثلاث آيات الأولى منها للتحقير والثانية لام الفعل والثالثة التي للإضافة تقول هذا بني فإذا ناديته صار فيه وجهان إثبات الياء

وحذفها والاختيار حذف الياء التي للإضافة وإبقاء الكسرة دلالة عليه نحو يا غلام ومن قرأ أَوْ بَنِى بفتح الياء فإنه أراد الإضافة أيضاً كما أرادها من قرأ بالكسر لكنه أبدل من الكسرة الفتحة ومن الياء الألف تخفيفا فصار يا بنيا كما قال يا ابنة عما لا تلومي واهجعي
ثم حذف الألف للتخفيف
واعلم أنه تعالى لما حكى عن نوح عليه السلام أنه دعاه إلى أن يركب السفينة حكى عن ابنه أنه قال سَاوِى إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِى مِنَ الْمَاء وهذا يدل على أن الابن كان متمادياً في الكفر مصراً عليه مكذباً لأبيه فيما أخبر عنه فعند هذا قال نوح عليه السلام لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وفيه سؤال وهو أن الذي رحمه الله معصوم فكيف يحسن استثناء المعصوم من العاصم وهو قوله لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وذكروا في الجواب طرقاً كثيرة
الوجه الأول أنه تعالى قال قبل هذه الآية وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبّى لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ( هود 41 ) فبين أنه تعالى رحيم وأنه برحمته يخلص هؤلاء الذين ركبوا السفينة من آفة الغرق
إذا عرفت هذا فنقول إن ابن نوح عليه السلام لما قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال نوح عليه السلام أخطأت لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ والمعنى إلا ذلك الذي ذكرت أنه برحمته يخلص هؤلاء من الغرق فصار تقدير الآية لا عاصم اليوم من عذاب الله إلا الله الرحيم وتقديره لا فرار من الله إلا إلى الله وهو نظير قوله عليه السلام في دعائه ( وأعوذ بك منك ) وهذا تأويل في غاية الحسن
الوجه الثاني في التأويل وهو الذي ذكره صاحب ( حل العقد ) أن هذا الاستثناء وقع من مضمر هو في حكم الملفوظ لظهور دلالة اللفظ عليه والتقدير لا عاصم اليوم لأحد من أمر الله إلا من رحم وهو كقولك لا نضرب اليوم إلا زيداً فإن تقديره لا تضرب أحداً إلا زيداً إلا أنه ترك التصريح به لدلالة اللفظ عليه فكذا ههنا
الوجه الثالث في التأويل أن قوله لاَ عَاصِمَ أي لاذا عصمة كما قالوا رامح ولابن ومعناه ذو رمح وذو لبن وقال تعالى مِن مَّاء دَافِقٍ ( الطارق 6 ) و عِيشَة ٍ رَّاضِيَة ٍ ( الحاقة 21 ) ومعناه ما ذكرنا فكذا ههنا وعلى هذا التقدير العاصم هو ذو العصمة فيدخل فيه المعصوم وحينئذ يصح استثناء قوله إِلاَّ مَن رَّحِمَ منه
الوجه الرابع قوله لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ عنى بقوله إلا من رحم نفسه لأن نوحاً وطائفته هم الذين خصهم الله تعالى برحمته والمراد لا عاصم لك إلا الله بمعنى أن بسببه تحصل رحمة الله كما أضيف الإحياء إلى عيسى عليه السلام في قوله وَرَسُولاً إِلَى ( آل عمران 49 ) لأجل أن الإحياء حصل بدعائه
الوجه الخامس أن قوله إِلاَّ مَن رَّحِمَ استثناء منقطع والمعنى لكن من رحم الله معصوم ونظيره قوله تعالى مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنّ ( النساء 157 ) ثم إنه تعالى بين بقوله وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ أي بسبب هذه الحيلولة خرج من أن يخاطبه نوح فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ

وَقِيلَ ياأَرْضُ ابْلَعِى مَآءَكِ وَياسَمَآءُ أَقْلِعِى وَغِيضَ الْمَآءُ وَقُضِى َ الاٌّ مْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِى ِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
اعلم أن المقصود من هذا الكلام وصف آخر لواقعة الطوفان فكان التقدير أنه لما انتهى أمر الطوفان قيل كذا وكذا وَقِيلَ ياأَرْضُ ابْلَعِى مَاءكِ يقال بلع الماء يبلعه بلعاً إذا شربه وابتلع الطعام ابتلاعاً إذا لم يمضغه وقال أهل اللغة الفصيح بلع بكسر اللام يبلع بفتحها مَاءكِ وَياسَمَاء أَقْلِعِى يقال أقلع الرجل عن عمله إذا كف عنه وأقلعت السماء بعدما مطرت إذا أمسكت وَغِيضَ الْمَاء يقال غاض الماء يغيض غيضاً ومغاضاً إذا نقص وغضته أنا وهذا من باب فعل الشيء وفعلته أنا ومثله جبر العظم وجبرته وفغر الفم وفغرته ودلع اللسان ودلعته ونقص الشيء ونقصته فقوله وَغِيضَ الْمَاء أي نقص وما بقي منه شيء
واعلم أن هذه الآية مشتملة على ألفاظ كثيرة كل واحد منها دال على عظمة الله تعالى وعلو كبريائه فأولها قوله وَقِيلَ وذلك لأن هذا يدل على أنه سبحانه في الجلال والعلو والعظمة بحيث أنه متى قيل قيل لم ينصرف العقل إلا إليه ولم يتوجه الفكر إلا إلى أن ذلك القائل هو هو وهذا تنبيه من هذا الوجه على أنه تقرر في العقول أنه لا حاكم في العالمين ولا متصرف في العالم العلوي والعالم السفلي إلا هو وثانيها قوله الْمُغْرَقِينَ وَقِيلَ ياأَرْضُ ابْلَعِى مَاءكِ وَياسَمَاء أَقْلِعِى فإن الحس يدل على عظمة هذه الأجسام وشدتها وقوتها فإذا شعر العقل بوجود موجود قاهر لهذه الأجسام مستول عليها متصرف فيها كيف شاء وأراد صار ذلك سبباً لوقوف القوة العقلية على كمال جلال الله تعالى وعلو قهره وكمال قدرته ومشيئته وثالثها أن السماء والأرض من الجمادات فقوله وَأَوْحَى فِى كُلّ سَمَاء مشعر بحسب الظاهر على أن أمره وتكليفه نافذ في الجمادات فعند هذا يحكم الوهم بأنه لما كان الأمر كذلك فلأن يكون أمره نافذاً على العقلاء كان أولى وليس مرادي منه أنه تعالى يأمر الجمادات فإن ذلك باطل بل المراد أن توجيه صيغة الأمر بحسب الظاهر على هذه الجمادات القوية الشديدة يقرر في الوهم نوع عظمته وجلاله تقريراً كاملاً
وأما قوله وَقُضِى َ الاْمْرُ فالمراد أن الذي قضى به وقدره في الأزل قضاء جزماً حتماً فقد وقع تنبيهاً على أن كل ما قضى الله تعالى فهو واقع في وقته وأنه لا دافع لقضائه ولا مانع من نفاذ حكمه في أرضه وسمائه
فإن قيل كيف يليق بحكمة الله تعالى أن يغرق الأطفال بسبب جرم الكفار
قلنا الجواب عنه من وجهين الأول أن كثيراً من المفسرين يقولون إن الله تعالى أعقم أرحام نسائهم قبل الغرق بأربعين سنة فلم يغرق إلا من بلغ سنه إلى الأربعين
ولقائل أن يقول لو كان الأمر على ما ذكرتم لكان ذلك آية عجيبة قاهرة ويبعد مع ظهورها

استمرارهم على الكفر وأيضاً فهب أنكم ذكرتم ما ذكرتم فما قولكم في إهلاك الطير والوحش مع أنه لا تكليف عليها ألبتة
والجواب الثاني وهو الحق أنه لا اعتراض على الله تعالى في أفعاله لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ ( الأنبياء 23 ) وأما المعتزلة فهم يقولون إنه تعالى أغرق الأطفال والحيوانات وذلك يجري مجرى إذنه تعالى في ذبح هذه البهائم وفي استعمالها في الأعمال الشاقة الشديدة
وأما قوله تعالى وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِى ّ فالمعنى واستوت السفينة على جبل بالجزيرة يقال له الجودي وكان ذلك الجبل جبلاً منخفضاً فكان استواء السفينة عليه دليلاً على انقطاع مادة ذلك الماء وكان ذلك الاستواء يوم عاشوراء
وأما قوله تعالى وَقِيلَ بُعْدًا لّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ففيه وجهان الأول أنه من كلام الله تعالى قال لهم ذلك على سبيل اللعن والطرد والثاني أن يكون ذلك من كلام نوح عليه السلام وأصحابه لأن الغالب ممن يسلم من الأمر الهائل بسبب اجتماع قوم من الظلمة فإذا هلكوا ونجا منهم قال مثل هذا الكلام ولأنه جار مجرى الدعاء عليهم فجعله من كلام البشر أليق

بداية الجزء الثامن عشر من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32

وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِى مِنْ أَهْلِى وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ يانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ قَالَ رَبِّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِى أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى اعلم أن قوله رَبّ إِنَّ ابُنِى مِنْ أَهْلِى فقد ذكرنا الخلاف في أنه هل كان ابناً له أم لا فلا نعيده ثم إنه تعالى ذكر أنه قال قَالَ يانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ واعلم أنه لما ثبت بالدليل أنه كان ابناً له وجب حمل قوله إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ على أحد وجهين أحدهما أن يكون المراد أنه ليس من أهل دينك والثاني المراد أنه ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم معك والقولان متقاربان
المسألة الثانية هذه الآية تدل على أن العبرة بقرابة الدين لا بقرابة النسب فإن في هذه الصورة كانت قرابة النسب حاصلة من أقوى الوجوه ولكن لما انتفت قرابة الدين لا جرم نفاه الله تعالى بأبلغ الألفاظ وهو قوله إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ
ثم قال تعالى إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ قرأ الكسائي عمل على صيغة الفعل الماضي وغير بالنصب والمعنى إن ابنك عمل عملاً غير صالح يعني أشرك وكذب وكلمة غَيْرِ نصب لأنها نعت لمصدر محذوف وقرأ الباقون عمل بالرفع والتنوين وفيه وجهان الأول أن الضمير في قوله إنه عائد إلى السؤال يعني أن هذا السؤال عمل وهو قوله إِنَّ ابُنِى مِنْ أَهْلِى وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ غير صالح لأن طلب نجاة الكافر بعد أن سبق الحكم الجزم بأنه لا ينجي أحداً منهم سؤال باطل الثاني أن يكون هذا الضمير عائداً إلى الابن وعلى هذا التقدير ففي وصفه بكوه عملاً غير صالح وجوه الأول أن الرجل إذا كثر عمله وإحسانه يقال له إنه علم وكرم وجود فكذا ههنا لما كثر إقدام ابن نوح على الأعمال الباطلة حكم عليه بأنه

في نفسه عمل باطل الثاني أن يكون المراد أنه ذو عمل باطل فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه الثالث قال بعضهم معنى قوله إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ أي إنه ولد زنا وهذا القول باطل قطعاً
ثم إنه تعالى قال لنوح عليه السلام فَلاَ تَسْأَلْنى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى احتج بهذه الآية من قدح في عصمة الأنبياء عليهم السلام من وجوه
الوجه الأول أن قراءة عمل بالرفع والتنوين قراءة متواترة فهي محكمة وهذا يقتضي عود الضمير في قوله إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ إما إلى ابن نوح وإما إلى ذلك السؤال فالقول بأنه عائد إلى ابن نوح لا يتم إلا بإضمار وهو خلاف الظاهر ولا يجوز المصير إليه إلا عند الضرورة ولا ضرورة ههنا لأنا إذا حكمنا بعود الضمير إلى السؤال المتقدم فقد استغنينا عن هذا الضمير فثبت أن هذا الضمير عائد إلى هذا السؤال فكان التقدير أن هذا السؤال عمل غير صالح أي قولك إن ابني من أهلي لطلب نجاته عمل غير صالح وذلك يدل على أن هذا السؤال كان ذنباً ومعصية
الوجه الثاني أن قوله فَلاَ تَسْأَلْنى نهي له عن السؤال والمذكور السابق هو قوله إِنَّ ابُنِى مِنْ أَهْلِى فدل هذا على أنه تعالى نهاه عن ذلك السؤال فكان ذلك السؤال ذنباً ومعصية
الوجه الثالث أن قوله فَلاَ تَسْأَلْنى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ يدل على أن ذلك السؤال كان قد صدر لا عن العلم والقول بغير العلم ذنب لقوله تعالى وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ( البقرة 169 )
الوجه الرابع أن قوله تعالى إِنّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ يدل على أن ذلك السؤال كان محض الجهل وهذا يدل على غاية التقريع ونهاية الزجر وأيضاً جعل الجهل كناية عن الذنب مشهور في القرآن قال تعالى يَعْمَلُونَ السُّوء بِجَهَالَة ٍ ( النساء 17 ) وقال تعالى حكاية عن موسى عليه السلام أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ( البقرة 67 )
الوجه الخامس أن نوحاً عليه السلام اعترف بإقدامه على الذنب والمعصية في هذا المقام فإنه قال إِنّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِى أَكُن مّنَ الْخَاسِرِينَ واعترافه بذلك يدل على أنه كان مذنباً
الوجه السادس في التمسك بهذه الآية أن هذه الآية تدل على أن نوحاً نادى ربه لطلب تخليص ولده من الغرق والآية المتقدمة وهي قوله وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وقال مَعْزِلٍ يابُنَى َّ ارْكَبَ مَّعَنَا تدل على أنه عليه السلام طلب من ابنه الموافقة فنقول إما أن يقال إن طلب هذا المعنى من الله كان سابقاً على طلبه من الولد أو كان بالعكس والأول باطل لأن بتقدير أن يكون طلب هذا المعنى من الله تعالى سابقاً على طلبه من الابن لكان قد سمع من الله أنه تعالى لا يخلص ذلك الابن من الغرق وأنه تعالى نهاه عن ذلك الطلب وبعد هذا كيف قال له مَعْزِلٍ يابُنَى َّ ارْكَبَ مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ وأما إن قلنا إن هذا الطلب من الابن كان متقدماً فكان قد سمع من الابن قوله سَاوِى إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِى مِنَ الْمَاء وظهر بذلك كفره فكيف طلب من الله تخليصه وأيضاً أنه تعالى أخبر أن نوحاً لما طلب ذلك منه

وامتنع هو صار من المغرقين فكيف يطلب من الله تخليصه من الغرق بعد أن صار من المغرقين فهذه الآية من هذه الوجوه الستة تدل على صدور المعصية من نوح عليه السلام
واعلم أنه لما دلت الدلائل الكثيرة على وجوب تنزيه الله تعالى الأنبياء عليهم السلام من المعاصي وجب حمل هذه الوجوه المذكورة على ترك الأفضل والأكمل وحسنات الأبرار سيئات المقربين فلهذا السبب حصل هذا العتاب والأمر بالاستغفار ولا يدل على سابقة الذنب كما قال إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِى دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ ( النصر 1 3 ) ومعلوم أن مجيء نصر الله والفتح ودخول الناس في دين الله أفواجاً ليست بذنب يوجب الاستغفار وقال تعالى وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ( محمد 19 ) وليس جميعهم مذنبين فدل ذلك على أن الاستغفار قد يكون بسبب ترك لأفضل
المسألة الثانية قرأ نافع برواية ورش وإسمعيل بتشديد النون وإثبات الياء تَسْأَلْنى وقرأ ابن عامر ونافع برواية قالون بتشديد النون وكسرها من غير إثبات الياء وقرأ أبو عمرو بتخفيف النون وكسرها وحذف الياء تسألن أما التشديد فللتأكيد وأما إثبات الياء فعلى الأصل وأما ترك التشديد والحذف فللتخيف من غير إخلال
واعلم أنه تعالى لما نهاه عن ذلك السؤال حكى عنه أنه قال قَالَ رَبّ إِنّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِى أَكُن مّنَ الْخَاسِرِينَ والمعنى أنه تعالى لما قال له فَلاَ تَسْأَلْنى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فقال عند ذلك قبلت يا رب هذا التكليف ولا أعود إليه إلا أني لا أقدر على الاحتراز منه إلا بإعانتك وهدايتك فلهذا بدأ أولاً بقوله إِنّى أَعُوذُ بِكَ
واعلم أن قوله إِنّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ إخبار عما في المستقبل أي لا أعود إلى هذا العمل ثم أشتغل بالاعتذار عما مضى فقال وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِى أَكُن مّنَ الْخَاسِرِينَ وحقيقة التوبة تقتضي أمرين أحدهما في المستقبل وهو العزم على الترك وإليه الإشارة بقوله إِنّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ والثاني في الماضي وهو الندم على ما مضى وإليه الإشارة بقوله وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِى أَكُن مّنَ الْخَاسِرِينَ ونختم هذا الكلام بالبحث عن الزلة التي صدرت عن نوح عليه السلام في هذا المقام فنقول إن أمة نوح عليه السلام كانوا على ثلاثة أقسام كافر يظهر كفره ومؤمن يعلم إيمانه وجمع من المنافقين وقد كان حكم المؤمنين هو النجاة وحكم الكافرين هو الغرق وكان ذلك معلوماً وأما أهل النفاق فبقي حكمهم مخفياً وكان ابن نوح منهم وكان يجوز فيه كونه مؤمناً وكانت الشفقة المفرطة التي تكون من الأب في حق الابن تحمله على حمل أعماله وأفعاله لا على كونه كافراً بل على الوجوه الصحيحة فلما رآه بمعزل عن القوم طلب منه أن يدخل السفينة فقال سَاوِى إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِى مِنَ الْمَاء وذلك لا يدل على كفره لجواز أن يكون قد ظن أن الصعود على الجبل يجري مجرى الركوب في السفينة في أنه يصونه عن الغرق وقول نوح لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ لا يدل إلا على أنه عليه السلام كان يقرر عند بنه أنه لا ينفعه إلا الإيمان والعمل الصالح وهذا أيضاً لا يدل على أنه علم من ابنه أنه كان كافراً فعند هذه الحالة كان قد بقي في قلبه ظن أن ذلك الابن مؤمن فطلب من الله

تعالى تخليصه بطريق من الطرق إما بأن يمكنه من الدخول في السفينة وإما أن يحفظه على قلة جبل فعند ذلك أخبره الله تعالى بأنه منافق وأنه ليس من أهل دينه فالزلة الصادرة عن نوح عليه السلام هو أنه لم يستقص في تعريف ما يدل على نفاقه وكفره بل اجتهد في ذلك وكان يظن أنه مؤمن مع أنه أخطأ في ذلك الاجتهاد لأنه كان كافراً فلم يصدر عنه إلا الخطأ في هذا الاجتهاد كما قررنا ذلك في أن آدم عليه السلام لم تصدر عنه تلك الزلة إلا لأنه أخطأ في هذا الاجتهاد فثبت بما ذكرنا أن الصادر عن نوح عليه السلام ما كان من باب الكبائر وإنما هو من باب الخطأ في الاجتهاد والله أعلم
قِيلَ يانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى أخبر عن السفينة أنها استوت على الجودي فهناك قد خرج نوح وقومه من السفينة لا محالة ثم إنهم نزلوا من ذلك الجبل إلى الأرض فقوله اهْبِطْ يحتمل أن يكون أمراً بالخروج من السفينة إلى أرض الجبل وأن يكون أمراً بالهبوط من الجبل إلى الأرض المستوية
المسألة الثانية أنه تعالى وعده عند الخروج بالسلامة أولاً ثم بالبركة ثانياً أما الوعد بالسلامة فيحتمل وجهين الأول أنه تعالى أخبر في الآية المتقدمة أن نوحاً عليه السلام تاب عن زلته وتضرع إلى الله تعالى بقوله وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِى أَكُن مّنَ الْخَاسِرِينَ ( هود 47 ) وهذا التضرع هو عين التضرع الذي حكاه الله تعالى عن آدم عليه السلام عند توبته من زلته وهو قوله رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( الأعراف 23 ) فكان نوح عليه السلام محتاجاً إلى أن بشره الله تعالى بالسلامة من التهديد والوعيد فلما قيل له قِيلَ يانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مّنَّا حصل له الأمن من جمبع المكاره المتعلقة بالدين والثاني أن ذلك الغرق لما كان عاماً في جميع الأرض فعند ما خرج نوح عليه السلام من السفينة علم أنه ليس في الأرض شيء مما ينتفع به من النبات والحيوان فكان كالخائف في أنه كيف يعيش وكيف يدفع جميع الحاجات عن نفسه من المأكول والمشروب فلما قال الله تعالى اهْبِطْ بِسَلَامٍ مّنَّا زال عنه ذلك الخوف لأن ذلك يدل على حصول السلامة من الآفات ولا يكون ذلك إلا مع الأمن وسعة الرزق ثم إنه تعالى لما وعده بالسلامة أردفه بأن وعده بالبركة هي عبارة عن الدوام والبقاء والثبات ونيل الأمل ومنه بروك الإبل ومنه البركة لثبوت الماء فيها ومنه تبارك وتعالى أي ثبت تعظيمه ثم اختلف المفسرون في تفسير هذا الثبات والبقاء
فالقول الأول أنه تعالى صير نوحاً أبا البشر لأن جميع من بقي كانوا من نسله وعند هذا قال هذا القائل إنه لما خرج نوح من السفينة مات كل من كان معه ممن لم يكن من ذريته ولم يحصل النسل إلا من

ذريته فالخلق كلهم من نسله وذريته وقال آخرون لم يكن في سفينة نوح عليه السلام إلا من كان من نسله وذريته وعلى التقديرين فالخلق كلهم إنما تولدوا منه ومن أولاده والدليل عليه قوله تعالى وَجَعَلْنَا ذُرّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ( الصافات 77 ) فثبت أن نوحاً عليه السلام كان آدم الأصغر فهذا هو المراد من البركات التي وعده الله بها
والقول الثاني أنه تعالى لما وعده بالسلامة من الآفات وعده بأن موجبات السلامة والراحة والفراغة يكون في التزايد والثبات والاستقرار ثم إنه تعالى لما شرفه بالسلامة والبركة شرح بعده حال أولئك الذين كانوا معه فقال وَعَلَى أُمَمٍ مّمَّن مَّعَكَ واختلفوا في المراد منه على ثلاثة أقوال منهم من حمله على أولئك الأقوام الذين نجوا معه وجعلهم أمماً وجماعات لأنه ما كان في ذلك الوقت في جميع الأرض أحد من البشر إلا هم فلهذا السبب جعلهم أمماً ومنهم من قال بل المراد ممن معك نسلاً وتولداً قالوا ودليل ذلك أنه ما كان معه إلا الذين آمنوا وقد حكم الله تعالى عليهم بالقلة في قوله تعالى وَمَا ءامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ ( هود 40 ) ومنهم من قال المراد من ذلك مجموع الحاضرين مع الذين سيولدون بعد ذلك والمختار هو القول الثاني ومن في قوله مّمَّن مَّعَكَ لابتداء الغاية والمعنى وعلى أمم ناشئة من الذين معك
واعلم أنه تعالى جعل تلك الأمم الناشئة من الذين معه على قسمين أحدهما الذين عطفهم على نوح في وصول سلام الله وبركاته إليهم وهم أهل الإيمان والثاني أمم وصفهم بأنه تعالى سيمتعهم مدة في الدنيا ثم في الآخرة يمسهم عذاب أليم فحكم تعالى بأن الأمم الناشئة من الذين كانوا مع نوح عليه السلام لا بد وأن ينقسموا إلى مؤمن وإلى كافر قال المفسرون دخل في تلك السلامة كل مؤمن وكل مؤمنة إلى يوم القيامة ودخل في ذلك المتاع وفي ذلك العذاب كل كافر وكافرة إلى يوم القيامة ثم قال أهل التحقيق إنه تعالى إنما عظم شأن نوح بإيصال السلامة والبركات منه إليه لأنه قال بِسَلَامٍ مّنَّا وهدا يدل على أن الصديقين لا يفرحون بالنعمة من حيث إنها نعمة ولكنهم إنما يفرحون بالنعمة من حيث إنها من الحق وفي التحقيق يكون فرحهم بالحق وطلبهم للحق وتوجههم إلى الحق وهذا مقام شريف لا يعرفه إلا خواص الله تعالى فإن الفرح بالسلامة وبالبركة من حيث هما سلامة وبركة غير والفرح بالسلامة والبركة من حيث إنهما من الحق غير والأول نصيب عامة الخلق والثاني نصيب المقربين ولهذا السبب قال بعضهم من آثر العرفان للعرفان فقد قال بالثاني ومن آثر العرفان لا للعرفان بل للمعروف فقد خاض لجة الوصول وأما أهل العقاب فقد قال في شرح أحوالهم وَأُمَمٌ سَنُمَتّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ فحكم بأنه تعالى يعطيهم نصيباً من متاع الدنيا فدل ذلك على خساسة الدنيا فإنه تعالى لما ذكر أحوال المؤمنين لم يذكر ألبتة أنه يعطيهم الدنيا أم لا ولما ذكر أحوال الكافرين ذكر أنه يعطيهم الدنيا وهذا تنبيه عظيم على خساسة السعادات الجسمانية والترغيب في المقامات الروحانية
تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَآ إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَاذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَة َ لِلْمُتَّقِينَ

واعلم أنه تعالى لما شرح قصة نوح عليه السلام على التفصيل قال تِلْكَ أي تلك الآيات التي ذكرناها وتلك التفاصيل التي شرحناها من أنباء الغيب أي من الأخبار التي كانت غائبة عن الخلق فقوله تِلْكَ في محل الرفع على الابتداء و مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ الخبر و نُوحِيهَا إِلَيْكَ خبر ثان وما بعده أيضاً خبر ثالث
ثم قال تعالى مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ والمعنى أنك ما كنت تعرف هذه القصة بل قومك ما كانوا يعرفونها أيضاً ونظيره أن تقول لإنسان لا تعرف هذه المسألة لا أنت ولا أهل بلدك
فإن قيل أليس قد كانت قصة طوفان نوح عليه السلام مشهورة عند أهل العلم
قلنا تلك القصة بحسب الإجمال كانت مشهورة أما التفاصيل المذكورة فما كانت معلومة
ثم قال فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَة َ لِلْمُتَّقِينَ والمعنى يا محمد اصبر أنت وقومك على أذى هؤلاء الكفار كما صبر نوح وقومه على أذى أولئك الكفار وفيه تنبيه على أن الصبر عاقبته النصر والظفر والفرح والسرور كما كان لنوح عليه السلام ولقومه
فإن قال قائل إنه تعالى ذكر هذه القصة في سورة يونس ثم إنه أعادها ههنا مرة أخرى فما الفائدة في هذا التكرير
قلنا إن القصة الواحدة قد ينتفع بها من وجوه ففي السورة الأولى كان الكفار يستعجلون نزول العذاب فذكر تعالى قصة نوح في بيان أن قومه كانوا يكذبونه بسبب أن العذاب ما كان يظهر ثم في العاقبة ظهر فكذا في واقعة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وفي هذه السورة ذكر هذه القصة لأجل أن الكفار كانوا يبالغون في الإيحاش فذكر الله تعالى هذه القصة لبيان أن إقدام الكفار على الإيذاء والإيحاش كان حاصلاً في زمان نوح إلا أنه عليه السلام لما صبر نال الفتح والظفر فكن يا محمد كذلك لتنال المقصود ولما كان وجه الانتفاع بهذه القصة في كل سورة من وجه آخر لم يكن تكريرها خالياً عن الفائدة
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ ياقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ ياقَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِى َ إِلاَّ عَلَى الَّذِى فَطَرَنِى أَفَلاَ تَعْقِلُونَ
اعلم أن هذا هو القصة الثانية من القصص التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة واعلم أن هذا

معطوف على قوله وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا ( الحديد 26 ) والتقدير ولقد أرسلنا إلى عاد أخاهم هوداً وقوله هُودًا عطف بيان
واعلم أنه تعالى وصف هوداً بأنه أخوهم ومعلوم أن تلك الأخوة ما كانت في الدين وإنما كانت في النسب لأن هوداً كان رجلاً من قبيلة عاد وهذه القبيلة كانت قبيلة من العرب وكانوا بناحية اليمن ونظيره ما يقال للرجل يا أخا تميم ويا أخا سليم والمراد رجل منهم
فإن قيل إنه تعالى قال في ابن نوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ( هود 46 ) فبين أن قرابة النسب لا تفيد إذا لم تحصل قرابة الدين وههنا أثبت هذه الأخوة مع الاختلاف في الدين فما الفرق بينهما
قلنا المراد من هذا الكلام استمالة قوم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لأن قومه كانوا يستعبدون في محمد مع أنه واحد من قبيلتهم أن يكون رسولاً إليهم من عند الله فذكر الله تعالى أن هوداً كان واحداً من عاد وأن صالحاً كان واحداً من ثمود لإزالة هذا الاستبعاد
واعلم أنه تعالى حكى عن هود عليه السلام أنه دعا قومه إلى أنواع من التكاليف
فالنوع الأول أنه دعاهم إلى التوحيد فقال ياقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ وفيه سؤال وهو أنه كيف دعاهم إلى عبادة الله تعالى قبل أن أقام الدلالة على ثبوت الإله تعالى
قلنا دلائل وجود الله تعالى ظاهرة وهي دلائل الآفاق والأنفس وقلما توجد في الدنيا طائفة ينكرون وجود الإله تعالى ولذلك قال تعالى في صفة الكفار وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ
قال مصنف هذا الكتاب محمد بن عمر الرازي رحمه الله وختم له بالحسن دخلت بلاد الهند فرأيت أولئك الكفار مطبقين على الاعتراف بوجود الإله وأكثر بلاد الترك أيضاً كذلك وأنما الشأن في عبادة الأوثان فإنها آفة عمت أكثر أطراف الأرض وهكذا الأمر كان في الزمان القديم أعني زمان نوح وهود وصالح عليهم السلام فهؤلاء الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم كانوا يمنعونهم من عبادة الأصنام فكان قوله اعْبُدُواْ اللَّهَ معناه لا تعبدوا غير الله والدليل عليه أنه قال عقيبه مَالَكُمْ مّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ وذلك يدل على أن المقصود من هذا الكلام منعهم عن الاشتغال بعبادة الأصنام
وأما قوله مَالَكُمْ مّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ فقرىء غَيْرُهُ بالرفع صفة على محل الجار والمجرور وقرىء بالجر صفة على اللفظ
ثم قال إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ يعني أنكم كاذبون في قولكم إن هذه الأصنام تحسن عبادتها أو في قولكم إنها تستحق العبادة وكيف لا يكون هذا كذباً وافتراء وهي جمادات لاحس لها ولا إدراك والإنسان هو الذي ركبها وصورها فكيف يليق بالإنسان الذي صنعها أن يعبدها وأن يضع الجبهة على التراب تعظيماً لها ثم إنه عليه الصلاة والسلام لما أرشدهم إلى التوحيد ومنعهم عن عبادة الأوثان قال و مُفْتَرُونَ ياقَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِى َ إِلاَّ عَلَى الَّذِى فَطَرَنِى وهو عين ما ذكره نوح عليه السلام وذلك لأن الدعوة إلى الله تعالى إذا كانت مطهرة عن دنس الطمع قوي تأثيرها في القلب

ثم قال أَفَلاَ تَعْقِلُونَ يعني أفلا تعقلون أني مصيب في المنع من عبادة الأصنام وذلك لأن العلم بصحة هذا المنع كأنه مركوز في بدائه العقول
وَياقَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّة ً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ
اعلم أن هذا هو النوع الثاني من التكاليف التي ذكرها هود عليه السلام لقومه وذلك لأنه في المقام الأول دعاهم إلى التوحيد وفي هذا المقام دعاهم إلى الاستغفار ثم إلى التوبة والفرق بينهما قد تقدم في أول هذه السورة قال أبو بكر الأصم استغفروا أي سلوه أن يغفر لكم ما تقدم من شرككم ثم توبوا من بعده بالندم على ما مضى وبالعزم على أن لا تعدوا إلى مثله ثم إنه عليه السلام قال ( إنكم متى فعلتم ذلك فالله تعالى يكثر النعم عندكم ويقويكم على الانتفاع بتلك النعم ) وهذا غاية ما يراد من السعادات فإن النعم إن لم تكن حاصلة تعذر الانتفاع وإن كانت حاصلة إلا أن الحيوان قام به المنع من الانتفاع بها لم يحصل المقصود أيضاً أما إذا كثرت النعمة وحصلت القوة الكاملة على الانتفاع بها فههنا تحصل غاية السعادة والبهجة فقوله تعالى يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً إشارة إلى تكثير النعم لأن مادة حصول النعم هي الأمطار الموافقة وقوله وَيَزِدْكُمْ قُوَّة ً إِلَى قُوَّتِكُمْ إشارة إلى كمال حال القوى التي بها يمكن الانتفاع بتلك النعمة ولا شك أن هذه الكلمة جامعة في البشارة بتحصيل السعادات وأن الزيادة عليها ممتنعة في صريح العقل ويجب على العاقل أن يتأمل في هذه اللطائف ليعرف ما في هذا الكتاب الكريم من الأسرار المخفية وأما المفسرون فإنهم قالوا القوم كانوا مخصوصين في الدنيا بنوعين من الكمال أحدهما أن بساتينهم ومزارعهم كانت في غاية الطيب والبهجة والدليل عليه قوله إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِى لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِى الْبِلَادِ ( الفجر 7 8 ) والثاني أنهم كانوا في غاية القوة والبطش ولذلك قالوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّة ً ( فصلت 15 ) ولما كان القوم مفتخرين على سائر الخلق بهذين الأمرين وعدهم هود عليه السلام أنهم لو تركوا عبادة الأصنام واشتغلوا بالاستغفار والتوبة فإن الله تعالى يقوي حالهم في هذين المطلوبين ويزيدهم فيها درجات كثيرة ونقل أيضاً أن الله تعالى لما بعث هوداً عليه السلام إليهم وكذبوه وحبس الله عنهم المطر سنين وأعقم أرحام نسائهم فقال لهم هود إن آمنتم بالله أحيا الله بلادكم ورزقكم المال والولد فذلك قوله يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً والمدرار الكثير الدر وهو من أبنية المبالغة وقوله وَيَزِدْكُمْ قُوَّة ً إِلَى قُوَّتِكُمْ ففسروا هذه القوة بالمال والولد والشدة في الأعضاء لأن كل ذلكم ما يتقوى به الإنسان
فإن قيل حاصل الكلام هو أن هوداً عليه السلام قال لو اشتغلتم بعبادة الله تعالى لانفتحت عليكم أبواب الخيرات الدنيوية وليس الأمر كذلك لأنه عليه الصلاة والسلام قال ( خص البلاء بالأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل ) فكيف الجمع بينهما وأيضاً فقد جرت عادة القرآن بالترغيب في الطاعات بسبب ترتيب الخيرات الدنيوية والأخروية عليها فأما الترغيب في الطاعات لأجل ترتيب الخيرات الدنيوية عليها فذلك

لا يليق بالقرآن بل هو طريق مذكور في التوراة
الجواب أنه لما أكثر الترغيب في السعادات الأخروية لم يبعد الترغيب أيضاً في خير الدنيا بقدر الكفاية
وأما قوله وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ فمعناه لا تعرضوا عني وعما أدعوكم إليه وأرغبكم فيه مجرمين أي مصرين على إجرامكم وآثامكم
قَالُواْ ياهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَة ٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِى ءالِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ ءَالِهَتِنَا بِسُو ءٍ قَالَ إِنِّى أُشْهِدُ اللَّهِ وَاشْهَدُوا أَنِّى بَرِى ءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ فَكِيدُونِى جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ إِنِّى تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّى وَرَبِّكُمْ مَّا مِن دَآبَّة ٍ إِلاَّ هُوَ ءاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ إِنَّ رَبِّى عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
اعلم أنه تعالى لما حكى عن هود عليه السلام ما ذكره للقوم حكى أيضاً ما ذكره القوم له وهو أشياء أولها قولهم مَا جِئْتَنَا بِبَيّنَة ٍ أي بحجة والبينة سميت بينة لأنها تبين الحق من الباطل ومن المعلوم أنه عليه السلام كان قد أظهر المعجزات إلا أن القوم بجهلهم أنكروها وزعموا أنه ما جاء بشيء من المعجزات وثانيها قولهم وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِى ءالِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وهذا أيضاً ركيك لأنهم كانوا يعترفون بأن النافع والضار هو الله تعالى وأن الأصنام لا تنفع ولا تضر ومتى كان الأمر كذلك فقد ظهر في بديهة العقل أنه لا تجوز عبادتها وتركهم آلهتهم لا يكون عن مجرد قوله بل عن حكم نظر العقل وبديهة النفس وثالثها قوله وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ وهذا يدل على الإصرار والتقليد والجحود ورابعها قولهم إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ ءالِهَتِنَا بِسُوء يقال اعتراه كذا إذا غشيه وأصابه والمعنى أنك شتمت آلهتنا فجعلتك مجنوناً وأفسدت عقلك ثم إنه تعالى ذكر أنهم لما قالوا ذلك قال هود عليه السلام إِنِى أُشْهِدُ اللَّهِ وَاشْهَدُواْ أَنّى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ وهو ظاهر
ثم قال فَكِيدُونِى جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ وهذا نظير ما قاله نوح عليه السلام لقومه فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ إلى قوله وَلاَ تُنظِرُونَ ( يونس 71 )
واعلم أن هذا معجزة قاهرة وذلك أن الرجل الواحد إذا أقبل على القوم العظيم وقال لهم بالغوا في عداوتي وفي موجبات إيذائي ولا تؤجلون فإنه لا يقول هذا إلا إذا كان واثقاً من عند الله تعالى بأنه يحفظه ويصونه عن كمد الأعداء

ثم قال مَّا مِن دَابَّة ٍ إِلاَّ هُوَ ءاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا قال الأزهري الناصية عند العرب منبت الشعر في مقدم الرأس ويسمى الشعر النابت هناك ناصية باسم منبته
واعلم أن العرب إذا وصفوا إنساناً بالذلة والخضوع قالوا ما ناصية فلان إلا بيد فلان أي أنه مطيع له لأن كل من أخذت بناصيته فقد قهرته وكانوا إذا أسروا الأسير فأرادوا إطلاقه والمن عليه جزوا ناصيته ليكون ذلك علامة لقهره فخوطبوا في القرآن بما يعرفون فقوله مَّا مِن دَابَّة ٍ إِلاَّ هُوَ ءاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا أي ما من حيوان إلا وهو تحت قهره وقدرته ومنقاد لقضائه وقدره
ثم قال إِنَّ رَبّى عَلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ وفيه وجوه الأول أنه تعالى لما قال مَّا مِن دَابَّة ٍ إِلاَّ هُوَ ءاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا أشعر ذلك بقدرة عالية وقهر عظيم فأتبعه بقوله إِنَّ رَبّى عَلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ أي أنه وإن كان قادراً عليهم لكنه لا يظلمهم ولا يفعل بهم إلا ما هو الحق والعدل والصواب قالت المعتزلة قوله مَّا مِن دَابَّة ٍ إِلاَّ هُوَ ءاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا يدل على التوحيد وقوله إِنَّ رَبّى عَلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ يدل على العدل فثبت أن الدين إنما يتم بالتوحيد والعدل والثاني أنه تعالى لما ذكر أن سلطانه قهر جميع الخلق أتبعه بقوله إِنَّ رَبّى عَلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ يعني أنه لا يخفى عليه مستتر ولا يفوته هارب فذكر الصراط المستقيم وهو يعني به الطريق الذي لا يكون لأحد مسلك إلا عليه كما قال إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ( الفجر 14 ) الثالث أن يكون المراد إِنَّ رَبّى يدل على الصراط المستقيم أي يحث أو يحملكم بالدعاء إليه
فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّى قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّى عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ حَفِيظٌ
اعلم أن قوله فَإِن تَوَلَّوْاْ يعني فإن تتولوا ثم فيه وجهان الأول تقدير الكلام فإن تتولوا لم أعاتب على تقصير في الإبلاغ وكنتم محجوبين كأنه يقول أنتم الذين أصررتم على التكذيب الثاني فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ
ثم قال وَيَسْتَخْلِفُ رَبّى قَوْمًا غَيْرَكُمْ يعني يخلق بعدكم من هو أطوع لله منكم وهذا إشارة إلى نزول عذاب الاستئصال ولا تضرونه شيئاً يعني أن إهلاككم لا ينقص من ملكه شيئاً
ثم قال إِنَّ رَبّى عَلَى كُلّ شَى ْء حَفِيظٌ وفيه ثلاثة أوجه الأول حفيظ لأعمال العباد حتى يجازيهم

عليها الثاني يحفظني من شركم ومكركم الثالث حفيظ على كل شيء يحفظه من الهلاك إذا شاء ويهلكه إذا شاء
وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَة ٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ وَأُتْبِعُواْ فِى هَاذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَة ً وَيَوْمَ الْقِيَامَة ِ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ
اعلم أن قوله وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا أي عذابنا وذلك هو ما نزل بهم من الريح العقيم عذبهم الله بها سبع ليال وثمانية أيام تدخل في مناخرهم وتخرج من أدبارهم وتصرعهم على الأرض على وجوههم حتى صاروا كأعجاز نخل خاوية
فإن قيل فهذه الريح كيف تؤثر في إهلاكهم
قنلا يحتمل أن يكون ذلك لشدة حرها أو لشدة بردها أو لشده قوتها فتخطف الحيوان من الأرض ثم تضربه على الأرض فكل ذلك محمل
وأما قوله نَجَّيْنَا هُودًا فاعلم أنه يجوز إتيان البلية على المؤمن وعلى الكافر معاً وحينئذ تكون تلك البلية رحمة على المؤمن وعذاباً على الكافر فأما العذاب النازل بمن يكذب الأنبياء عليهم السلام فإنه يجب في حكمة الله تعالى أن ينجي المؤمن منه ولولا ذلك لما عرف كونه عذاباً على كفرهم فلهذا السبب قال الله تعالى ههنا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ
وأما قوله بِرَحْمَة ٍ مّنَّا ففيه وجوه الأول أراد أنه لا ينجو أحد وإن اجتهد في الإيمان والعمل الصالح إلا برحمة من الله والثاني المراد من الرحمة ما هداهم إليه من الإيمان بالله والعمل الصالح الثالث أنه رحمهم في ذلك الوقت وميزهم عن الكافرين في العقاب
وأما قوله وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ فالمراد من النجاة الأولى هي النجاة من عذاب الدنيا والنجاة الثانية من عذاب القيامة وإنما وصفه بكونه غليظاً تنبيهاً على أن العذاب الذي حصل لهم بعد موتهم بالنسبة إلى العذاب الذي وقعوا فيه كان عذاباً غليظاً والمراد من قوله تعالى وَنَجَّيْنَاهُمْ أي حكمنا بأنهم لا يستحقون ذلك العذاب الغليظ ولا يقعون فيه
واعلم أنه تعالى لما ذكر قصة عاد خاطب قوم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فقال عَادٌ جَحَدُواْ فهو إشارة إلى قبورهم وآثارهم كأنه تعالى قال سيروا في الأرض فانظروا إليها واعتبروا ثم إنه تعالى جمع أوصافهم ثم ذكر عاقبة أحوالهم في الدنيا والآخرة فأما أوصافهم فهي ثلاثة
الصفة الأولى قوله جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبّهِمْ والمراد جحدوا دلالة المعجزات على الصدق أو الجحد ودلالة المحدثات على وجود الصانع الحكيم إن ثبت أنهم كانوا زنادقة
الصفة الثانية قوله وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ والسبب فيه أنهم إذا عصوا رسولاً واحداً فقد عصوا جميع الرسل لقوله تعالى لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ ( البقرة 285 ) وقيل لم يرسل إليهم إلا هود عليه السلام
الصفة الثالثة قوله وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ والمعنى أن السفلة كانوا يقلدون الرؤساء في قولهم

مَا هَاذَا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ ( المؤمنون 24 ) والمراد من الجبار المرتفع المتمرد العنيد العنود والمعاند وهو المنازع المعارض
واعلم أنه تعالى لما ذكر أوصافهم ذكر بعد ذلك أحوالهم فقال وَأُتْبِعُواْ فِى هَاذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَة ً وَيَوْمَ الْقِيَامَة ِ أي جعل اللعن رديفاً لهم ومتابعاً ومصاحباً في الدنيا وفي الآخرة ومعنى اللعنة الإبعاد من رحمة الله تعالى ومن كل خير
ثم إنه تعالى بين السبب الأصلي في نزول هذه الأحوال المكروهة بهم فقال أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُواْ رَبَّهُمْ قيل أراد كفروا بربهم فحذف الباء وقيل الكفر هو الجحد فالتقدير ألا إن عاداً جحدوا ربهم وقيل هو من باب حذف المضاف أي كفروا نعمة ربهم
ثم قال أَلاَ بُعْدًا لّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ وفيه سؤالان
السؤال الأول اللعن هو البعد فلما قال وَأُتْبِعُواْ فِى هَاذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَة ً وَيَوْمَ الْقِيَامَة ِ فما الفائدة في قوله أَلاَ بُعْدًا لّعَادٍ
والجواب التكرير بعبارتين مختلفتين يدل على غاية التأكيد
السؤال الثاني ما الفائدة في قوله لّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ
الجواب كان عاد عادين فالأولى القديمة هم قوم هود والثانية هم إرم ذات العماد فذكر ذلك لإزالة الاشتباه والثاني أن المبالغة في التنصيص تدل على مزيد التأكيد
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ ياقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّى قَرِيبٌ مُّجِيبٌ قَالُواْ ياصَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَاذَا أَتَنْهَانَآ أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِى شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ
اعلم أن هذا هو القصة الثالثة من القصص المذكورة في هذه السورة وهي قصة صالح مع ثمود ونظمها مثل النظم المذكور في قصة هود إلا أن ههنا لما أمرهم بالتوحيد ذكر في تقريره دليلين
الدليل الأول قوله هُوَ أَنشَأَكُمْ مّنَ الاْرْضِ وفيه وجهان
الوجه الأول أن الكل مخلوقون من صلب آدم وهو كان مخلوقاً من الأرض وأقول هذا صحيح لكن فيه وجه آخر وهو أقرب منه وذلك لأن الإنسان مخلوق من المني ومن دم الطمث والمني إنما تولد

من الدم فالإنسان مخلوق من الدم والدم إنما تولد من الأغذية وهذه الأغذية إما حيوانية وإما نباتية والحيوانات حالها كحال الإنسان فوجب انتهاء الكل إلى النبات وظاهر أن تولد النبات من الأرض فثبت أنه تعالى أنشأنا من الأرض
والوجه الثاني أن تكون كلمة مِنْ معناها في التقدير أنشأكم في الأرض وهذا ضعيف لأنه متى أمكن حمل الكلام على ظاهره فلا حاجة إلى صرفه عنه وأما تقرير أن تولد الإنسان من الأرض كيف يدل على وجود الصانع فقد شرحناه مراراً كثيرة
الدليل الثاني قوله وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا وفيه ثلاثة أوجه الأول جعلكم عمارها قالوا كان ملوك فارس قد أكثروا في حفر الأنهار وغرس الأشجار لا جرم حصلت لهم الأعمار الطويلة فسأل نبي من أنبياء زمانهم ربه ما سبب تلك الأعمار فأوحى الله تعالى إليه أنهم عمروا بلادي فعاش فيها عبادي وأخذ معاوية في إحياء أرض في آخر عمره فقيل له ما حملك عليه فقال ما حملني عليه إلا قول القائل ليس الفتى بفتى لا يستضاء به
ولا يكون له في الأرض آثار
الثاني أنه تعالى أطال أعماركم فيها واشتقاق وَاسْتَعْمَرَكُمْ من العمر مثل استبقاكم من البقاء والثالث أنه مأخوذ من العمرى أي جعلها لكم طول أعماركم فإذا متم انتقلت إلى غيركم
واعلم أن في كون الأرض قابلة للعمارات النافعة للإنسان وكون الإنسان قادراً عليها دلالة عظيمة على وجود الصانع ويرجع حاصله إلى ما ذكره الله تعالى في آية أخرى وهي قوله وَالَّذِى قَدَّرَ فَهَدَى ( الأعلى 3 ) وذلك لأن حدوث الإنسان مع أنه حصل في ذاته العقل الهادي والقدرة على التصرفات الموافقة يدل على وجود الصانع الحكيم وكون الأرض موصوفة بصفات مطابقة للمصالح موافقة للمنافع يدل أيضاً على وجود الصانع الحكيم
أما قوله فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ فقد تقدم تفسيره
وأما قوله إِنَّ رَبّى قَرِيبٌ مُّجِيبٌ يعني أنه قريب بالعلم والسمع مُّجِيبٌ دعاء المحتاجين بفضله ورحمته ثم بين تعالى أن صالحاً عليه السلام لما قرر هذه الدلائل قَالُواْ يأَبَانَا صَالِحٌ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّا قَبْلَ هَاذَا وفيه وجوه الأول أنه لما كان رجلاً قوي العقل قوي الخاطر وكان من قبيلتهم قوي رجاؤهم في أن ينصر دينهم ويقوي مذهبهم ويقرر طريقتهم لأنه متى حدث رجل فاضل في قوم طمعوا فيه من هذا الوجه الثاني قال بعضهم المراد أنك كنت تعطف على فقرائنا وتعين ضعفاءنا وتعود مرضانا فقوي رجاؤنا فيك أنك من الأنصار والأحباب فكيف أظهرت العداوة والبغضة ثم إنهم أضافوا إلى هذا الكلام التعجب الشديد من قوله فَقَالُواْ قَالُواْ ياصَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّا والمقصود من هذا الكلام التمسك بطريق التقليد ووجوب متابعة الآباء والأسلاف ونظير هذا التعجب ما حكاه الله تعالى عن كفار مكة حيث قالوا أَجَعَلَ الاْلِهَة َ إِلَهاً واحِداً إِنَّ هَاذَا لَشَى ْء عُجَابٌ ( ص 5 ) ثم قالوا وَإِنَّنَا لَفِى شَكّ مّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ والشك هو أن يبقى الإنسان متوقفاً بين النفي والإثبات والمريب هو الذي يظن به السوء فقوله وَإِنَّنَا لَفِى شَكّ يعني به أنه لم يترجح في اعتقادهم صحة قوله وقوله مُرِيبٍ يعني أنه ترجح في اعتقادهم فساد قوله وهذا مبالغة في تزييف كلامه

قَالَ ياقَوْمِ أَرَءَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَة ً مِّن رَّبِّى وَءَاتَانِى مِنْهُ رَحْمَة ً فَمَن يَنصُرُنِى مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِى غَيْرَ تَخْسِيرٍ
اعلم أن قوله إِن كُنتُ عَلَى بَيّنَة ٍ مّن رَّبّى ورد بحرف الشك وكان على يقين تام في أمره إلا أن خطاب المخالف على هذا الوجه أقرب إلى القبول فكأنه قال قدروا أني على بينة من ربي وأني نبي على الحقيقة وانظروا أني إن تابعتكم وعصيت ربي في أوامره فمن يمنعني من عذاب الله فما تزيدونني على هذاالتقدير غير تخسير وفي تفسير هذه الكلمة وجهان الأول أن على هذا التقدير تخسرون أعمالي وتبطلونها الثاني أن يكون التقدير فما تزيدونني بما تقولون لي وتحملوني عليه غير أن أخسركم أي أنسبكم إلى الخسران وأقول لكم إنكم خاسرون والقول الأول أقرب لأن قوله فَمَن يَنصُرُنِى مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ ( هود 63 ) كالدلالة على أنه أراد إن أتبعكم فيما أنتم عليه من الكفر الذي دعوتموني إليه لم أزدد إلا خسراناً في الدين فأصير من الهالكين الخاسرين
وَياقَوْمِ هَاذِهِ نَاقَة ُ اللَّهِ لَكُمْ ءَايَة ً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِى أَرْضِ اللَّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُو ءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِى دَارِكُمْ ثَلَاثَة َ أَيَّامٍ ذالِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ
اعلم أن العادة فيمن يدعي النبوة عند قوم يعبدون الأصنام أن يبتدىء بالدعوة إلى عبادة الله ثم يتبعه بدعوى النبوة لا بد وأن يطلبوا منه المعجزة وأمر صالح عليه السلام هكذا كان يروى أن قومه خرجوا في عيد لهم فسألوه أن يأتيهم بآية وأن يخرج لهم من صخرة معينة أشاروا إليها ناقة فدعا صالح ربه فخرجت الناقة كما سألوا
واعلم أن تلك الناقة كانت معجزة من وجوه الأول أنه تعالى خلقها من الصخرة وثانيها أنه تعالى خلقها في جوف الجبل ثم شق عنها الجبل وثالثها أنه تعالى خلقها حاملاً من غير ذكر ورابعها أنه خلقها على تلك الصورة دفعة واحدة من غير ولادة وخامسها ما روي أنه كان لها شرب يوم ولكل القوم شرب يوم آخر وسادسها أنه كان يحصل منها لبن كثير يكفي الخلق العظيم وكل من هذه الوجوه معجز قوي وليس في القرآن إلا أن تلك الناقة كانت آية ومعجزة فأما بيان أنها كانت معجزة من أي الوجوه فليس فيه بيانه

ثم قال فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِى أَرْضِ اللَّهِ والمراد أنه عليه السلام رفع عن القوم مؤنتها فصارت مع كونها آية لهم تنفعهم ولا تضرهم لأنهم كانوا ينتفعون بلبنها على ما روي أنه عليه السلام خاف عليها منهم لما شاهد من إصرارهم على الكفر فإن الخصم لا يحب ظهور حجة خصمه بل يسعى في إخفاءها وإبطالها بأقصى الإمكان فلهذا السبب كان يخاف من إقدامهم على قتلها فلهذا احتاط وقال وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوء وتوعدهم إن مسوها بسوء بعذاب قريب وذلك تحذير شديد لهم من الإقدام على قتلها ثم بين الله تعالى أنهم مع ذلك عقروها وذبحوها ويحتمل أنهم عقروها لإبطال تلك الحجة وأن يكون لأنها ضيقت الشرب على القوم وأن يكون لأنهم رغبوا في شحمها ولحمها وقوله فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ يريد اليوم الثالث وهو قوله تَمَتَّعُواْ فِى دَارِكُمْ ثم بين تعالى أن القوم عقروها فعند ذلك قال لهم صالح عليه السلام تَمَتَّعُواْ فِى دَارِكُمْ ثَلَاثَة َ أَيَّامٍ ومعنى التمتع التلذذ بالمنافع والملاذ التي تدرك بالحواس ولما كان التمتع لا يحصل إلا للحي عبر به عن الحياة وقوله فِى دَارِكُمْ فيه وجهان الأول أن المراد من الدار البلد وتسمى البلاد بالديار لأنه يدار فيها أي يتصرف يقال ديار بكر أي بلادهم الثاني أن المراد بالديار الدنيا وقوله ذالِكَ وَعْدٌ مَكْذُوبٍ أي غير مكذب والمصدر قد يرد بلفظ المفعول كالمجلود والمعقول وبأيكم المفتون وقيل غير مكذوب فيه قال ابن عباس رضي الله عنهما أنه تعالى لما أمهلهم تلك الأيام الثلاثة فقد رغبهم في الإيمان وذلك لأنهم لما عقروا الناقة أنذرهم صالح عليه السلام بنزول العذاب فقالوا وما علامة ذلك فقال تصير وجوهكم في اليوم الأول مصفرة وفي الثاني محمرة وفي الثالث مسودة ثم يأتيكم العذاب في اليوم الرابع فلما رأوا وجوههم قد اسودت أيقنوا بالعذاب فاحتاطوا واستعدوا للعذاب فصبحهم اليوم الرابع وهي الصيحة والصاعقة والعذاب
فإن قيل كيف يعقل أن تظهر فيهم هذه العلامات مطابقة لقول صالح عليه السلام ثم يبقون مصرين على الكفر
قلنا ما دامت الأمارات غير بالغة إلى حد الجزم واليقين لم يمتنع بقاؤهم على الكفر وإذا صارت يقينية قطعية فقد انتهى الأمر إلى حد الإلجاء والإيمان في ذلك الوقت غير مقبول
فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَة ٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْى ِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِى ُّ الْعَزِيزُ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَة ُ فَأَصْبَحُواْ فِى دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّثَمُودَ
اعلم أن مثل هذه الآية قد مضى في قصة عاد وقوله وَمِنْ خِزْى ِ يَوْمِئِذٍ فيه مسائل

المسألة الأولى الواو في قوله وَمِنْ خِزْى ِ واو العطف وفيه وجهان الأول أن يكون التقدير نجينا صالحاً والذين آمنوا معه برحمة منا من العذاب النازل بقومه ومن الخزي الذي لزمهم وبقي العار فيه مأثوراً عنهم ومنسوباً إليهم لأن معنى الخزي العيب الذي تظهر فضيحته ويستحيا من مثله فحذف ما حذف اعتماداً على دلالة ما بقي عليه الثاني أن يكون التقدير نجينا صالحاً برحمة منا ونجيناهم من خزي يومئذ
المسألة الثانية قرأ الكسائي ونافع في رواية ورش وقالون وإحدى الروايات عن الأعشى يَوْمَئِذٍ بفتح الميم وفي المعارج عَذَابِ يَوْمِئِذٍ ( المعارج 11 ) والباقون بكسرالميم فيهما فمن قرأ بالفتح فعلى أن يوم مضاف إلى إذ وأن إذ مبني والمضاف إلى المبني يجوز جعله مبنياً ألا ترى أن المضاف يكتسب من المضاف إليه التعريف والتنكير فكذا ههنا وأما الكسر في إذ فالسبب أنه يضاف إلى الجملة من المبتدأ والخبر تقول جئتك إذ الشمس طالعة فلما قطع عن المضاف إليه نون ليدل التنوين على ذلك ثم كسرت الذال لسكونها وسكون التنوين وأما القراءة بالكسر فعلى إضافة الخزي إلى اليوم ولم يلزم من إضافته إلى المبني أن يكون مبنياً لأن هذه الإضافة غير لازمة
المسألة الثالثة الخزي الذل العظيم حتى يبلغ حد الفضيحة ولذلك قال تعالى في المحاربين ذالِكَ لَهُمْ خِزْى ٌ فِى الدُّنْيَا ( المائدة 33 ) وإنما سمى الله تعالى ذلك العذاب خزياً لأنه فضيحة باقية يعتبر بها أمثالهم ثم قال إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِى ُّ الْعَزِيزُ وإنما حسن ذلك لأنه تعالى بين أنه أوصل ذلك العذاب إلى الكافر وصان أهل الإيمان عنه وهذا التمييز لا يصح إلا من القادر الذي يقدر على قهر طبائع الأشياء فيجعل الشيء الواحد بالنسبة إلى إنسان بلاء وعذاباً وبالنسبة إلى إنسان آخر راحة وريحاناً ثم إنه تعالى بين ذلك الأمر فقال وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وفيه مسألتان
المسألة الأولى إنما قال أَخَذَ ولم يقل أخذت لأن الصيحة محمولة على الصياح وأيضاً فصل بين الفعل والاسم المؤنث بفاصل فكان الفاصل كالعوض من تاء التأنيث وقد سبق لها نظائر
المسألة الثانية ذكروا في الصيحة وجهين قال ابن عباس رضي الله عنهما المراد الصاعقة الثاني الصيحة صيحة عظيمة هائلة سمعوها فماتوا أجمع منها فأصبحوا وهم موتى جاثمين في دورهم ومساكنهم وجثومهم سقوطهم على وجوههم يقال إنه تعالى أمر جبريل عليه السلام أن يصيح بهم تلك الصيحة التي ماتوا بها ويجوز أن يكون الله تعالى خلقها والصياح لا يكون إلا الصوت الحادث في حلق وفم وكذلك الصراخ فإن كان من فعل الله تعالى فقد خلقه في حلق حيوان وإن كان فعل جبريل عليه السلام فقد حصل في فمه وحلقه والدليل عليه أن صوت الرعد أعظم من كل صيحة ولا يسمى بذلك ولا بأنه صراخ
فإن قيل فما السبب في كون الصيحة موجبة للموت
قلنا فيه وجوه أحدها أن الصيحة العظيمة إنما تحدث عند سبب قوي يوجب تموج الهواء وذلك التموج الشديد ربما يتعدى إلى صماخ الإنسان فيمزق غشاء الدماغ فيورث الموت والثاني أنها شيء مهيب فتحدث الهيبة العظيمة عند حدوثها والأعراض النفسانية إذا قويت أوجبت الموت الثالث أن الصيحة

العظيمة إذا حدثت من السحاب فلا بد وأن يصحبها برق شديد محرق وذلك هو الصاعقة التي ذكرها ابن عباس رضي الله عنهما
ثم قال تعالى فَأَصْبَحُواْ فِى دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ والجثوم هو السكون يقال للطير إذا باتت في أوكارها أنها جثمت ثم إن العرب أطلقوا هذا اللفظ على ما لا يتحرك من الموت فوصف الله تعالى هؤلاء المهلكين بأنهم سكنوا عند الهلاك حتى كأنهم ما كانوا أحياء وقوله كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أي كأنهم لم يوجدوا والمغنى المقام الذي يقيم الحي به يقال غني الرجل بمكان كذا إذا أقام به
ثم قال تعالى أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لّثَمُودَ قرأ حمزة وحفص عن عاصم أَلا إِنَّ ثَمُودَ غير منون في كل القرآن وقرأ الباقون ثموداً بالتنوين ولثمود كلاهما بالصرف والصرف للذهاب إلى الحي أو إلى الأب الأكبر ومنعه للتعريف والتأنيث بمعنى القبيلة
وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَة ً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَة ٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ
اعلم أن هذا هو القصة الرابعة من القصص المذكورة في هذه السورة وههنا مسائل
المسألة الأولى قال النحويون دخلت كلمة ( قد ) ههنا لأن السامع لقصص الأنبياء عليهم السلام يتوقع قصة بعد قصة وقد للتوقع ودخت اللام في ( لقد ) لتأكيد الخبر ولفظ جَاءتْ رُسُلُنَا جمع وأقله ثلاثة فهذا يفيد القطع بحصول ثلاثة وأما الزائد على هذا العدد فلا سبيل إلى إثباته إلا بدليل آخر وأجمعوا على أن الأصل فيهم كان جبريل عليه السلام ثم اختلفت الروايات فقيل أتاه جبريل عليه السلام ومعه اثنا عشر ملكاً على صورة الغلمان الذين يكونون في غاية الحسن وقال الضحاك كانوا تسعة وقال ابن عباس رضي الله عنهما كانوا ثلاثة جبريل وميكائيل وإسرافيل عليهم السلام وهم الذين ذكرهم الله في سورة والذاريات في قوله هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ ( الذاريات 24 ) وفي الحجر وَنَبّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ ( الحجر 51 )
المسألة الثانية اختلفوا في المراد بالبشرى على وجهين الأول أن المراد ما بشره الله بعد ذلك بقوله فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ الثاني أن المراد منه أنه بشر إبراهيم عليه السلام بسلامة لوط وبإهلاك قومه

وأما قوله قَالُواْ سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكساني قَالُواْ سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ بكسر السين وسكون اللام بغير ألف وفي والذاريات مثله قال الفراء لا فرق بين القراءتين كما قالوا حل وحلال وحرم وحرام لأن في التفسير أنهم لما جاؤا سلموا عليه قال أبو علي الفارسي ويحتمل أن يكون سلم خلاف العدو والحرب كأنهم لما امتنعوا من تناول ما قدمه إليهم نكرهم وأوجس منهم خيفة قال إنا سلم ولست بحرب ولا عدو فلا تمتنعوا من تناول طعامي كما يمتنع من تناول طعام العدو وهذا الوجه عندي بعيد لأن على هذا التقدير ينبغي أن يكون تكلم إبراهيم عليه السلام بهذا اللفظ بعد إحضار الطعام إلا أن القرآن يدل على أن هذا الكلام إنما وجد قبل إحضار الطعام لأنه تعالى قال قَالُواْ سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ ( هود 69 ) والفاء للتعقيب فدل ذلك على أن مجيئه بذلك العجل الحنيذ كان بعد ذكر السلام
المسألة الثانية قالوا سلاماً تقديره سلمنا عليك سلاماً قال سلام تقديره أمري سلام أي لست مريداً غير السلامة والصلح قال الواحدي ويحتمل أن يكون المراد سلام عليكم فجاء به مرفوعاً حكاية لقوله كما قال وحذف عنه الخبر كما حذف من قوله فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ( يوسف 18 ) وإنما يحسن هذا الحذف إذا كان المقصود معلوماً بعد الحذف وههنا المقصود معلوم فلا جرم حسن الحذف ونظيره قوله تعالى فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ ( الزخرف 89 ) على حذف الخبر
واعلم أنه إنما سلم بعضهم على بعض رعاية للإذن المذكور في قوله تعالى لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلّمُواْ عَلَى أَهْلِهَا
المسألة الثالثة أكثر ما يستعمل سَلَامٌ عَلَيْكُمُ بغير ألف ولام وذلك لأنه في معنى الدعاء فهو مثل قولهم خير بين يديك
فإن قيل كيف جاز جعل النكرة مبتدأ
قلنا النكرة إذا كانت موصوفة جاز جعلها مبتدأ فإذا قلت سلام عليكم فالتنكير في هذا الموضع يدل على التمام والكمال فكأنه قيل سلام كامل تام عليكم ونظيره قولنا سلام عليك وقوله تعالى قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي ( مريم 47 ) وقوله سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ ( ي س 58 ) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِى الْعَالَمِينَ ( الصافات 79 ) الْمَلَائِكَة َ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ( الرعد 23 24 ) فأما قوله تعالى وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ( طه 47 ) فهذا أيضاً جائز والمراد منه الماهية والحقيقة وأقول قوله سَلَامٌ عَلَيْكُمُ أكمل من قوله السلام عليكم لأن التنكير في قوله سَلَامٌ عَلَيْكُمُ يفيد الكمال والمبالغة والتمام وأما لفظ السلام فإنه لا يفيد إلا الماهية قال الأخفش من العرب من يقول سلام عليكم فيعرى قوله سلام عن الألف واللام والتنوين والسبب في ذلك كثرة الاستعمال أباح هذا التخفيف والله أعلم
ثم قال تعالى فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ قالوا مكث إبراهيم خمس عشرة ليلة لا يأتيه ضيف فاغتم لذلك ثم جاءه الملائكة فرأى أضيافاً لم ير مثلهم فعجل وجاء بعجل حنيذ فقوله فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ معناه فما لبت في المجيء به بل عجل فيه أو التقدير فما لبث مجيئه والعجل ولد البقرة

أما الحنيذ فهو الذي يشوى في حفرة من الأرض بالحجارة المحماة وهو من فعل أهل البادية معروف وهو محنوذ في الأصل كما قيل طبيخ ومطبوخ وقيل الحنيذ الذي يقطر دسمه يقال حنذت الفرس إذا ألقيت عليه الجل حتى تقطر عرقاً
ثم قال تعالى فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ أي إلى العجل وقال الفراء إلى الطعام وهو ذلك العجل نَكِرَهُمْ أي أنكرهم يقال نكره وأنكره واستنكره
واعلم أن الأضياف إنما امتنعوا من الطعام لأنهم ملائكة والملائكة لا يأكلون ولا يشربون وإنما أتوه في صورة الأضياف ليكونوا على صفة يحبها وهو كان مشغوفاً بالضيافة وأما إبراهيم عليه السلام فنقول إما أن يقال إنه عليه السلام ما كان يعلم أنهم ملائكة بل كان يعتقد فيهم أنهم من البشر أو يقال إنه كان عالماً بأنهم من الملائكة أما على الاحتمال الأول فسبب خوفه أمران أحدهما أنه كان ينزل في طرف من الأرض بعيد عن الناس فلما امتنعوا من الأكل خاف أن يريدوا به مكروهاً وثانيها أن من لا يعرف إذا حضر وقدم إليه طعام فإن أكل حصل الأمن وإن لم يأكل حصل الخوف وأما الاحتمال الثاني وهو أنه عرف أنهم ملائكة الله تعالى فسبب خوفه على هذا التقدير أيضاً أمران أحدها أنه خاف أن يكون نزولهم لأمر أنكره الله تعالى عليه والثاني أنه خاف أن يكون نزولهم لتعذيب قومه
فإن قيل فأي هذين الاحتمالين أقرب وأظهر
قلنا أما الذي يقول إنه ما عرف أنهم ملائكة الله تعالى فله أن يحتج بأمور أحدها أنه تسارع إلى إحضار الطعام ولو عرف كونهم من الملائكة لما فعل ذلك وثانيها أنه لما رآهم ممتنعين من الأكل خافهم ولو عرف كونهم من الملائكة لما استدل بترك الأكل على حصول الشر وثالثها أنه رآهم في أول الأمر في صورة البشر وذلك لا يدل على كونهم من الملائكة وأما الذي يقول إنه عرف ذلك احتج بقوله لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ وإنما يقال هذا لمن عرفهم ولم يعرف بأي سبب أرسلوا ثم بين تعالى أن الملائكة أزالوا ذلك الخوف عنه فقالوا لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ ومعناه أرسلنا بالعذاب إلى قوم لوط لأنه أضمر لقيام الدليل عليه في سورة أخرى وهو قوله إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَة ً ( الذاريات 33 )
ثم قال تعالى وَامْرَأَتُهُ قَائِمَة ٌ يعني سارة بنت آزر بن باحورا بنت عم إبراهيم عليه السلام وقوله قَائِمَة ً قيل كانت قائمة من وراء الستر تستمع إلى الرسل لأنها ربما خافت أيضاً وقيل كانت قائمة تخدم الأضياف وإبراهيم عليه السلام جالس معهم ويأكد هذا التأويل قراءة ابن مسعود وَامْرَأَتُهُ قَائِمَة ٌ وهو قاعد
ثم قال تعالى فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ واختلفوا في الضحك على قولين منهم من حمله على نفس الضحك ومنهم من حمل هذا اللفظ على معنى آخر سوى الضحك أما الذين حملوه على نفس الضحك فاختلفوا في أنها لم ضحكت وذكروا وجوهاً الأول قال القاضي إن ذلك السبب لا بد وأن يكون سبباً جرى ذكره في هذه الآية وما ذاك إلا أنها فرحت بزوال ذلك الخوف عن إبراهيم عليه السلام حيث قالت الملائكة لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ وعظم سرورها بسبب سروره بزوال خوفه وفي مثل هذه

الحالة قد يضحك الإنسان وبالجملة فقد كان ضحكها بسبب قول الملائكة لإبراهيم عليه السلام لاَ تَخَفْ فكان كالبشارة فقيل لها نجعل هذه البشارة بشارتين فكما حصلت البشارة بزوال الخوف فقد حصلت البشارة أيضاً بحصول الولد الذي كنتم تطلبونه من أول العمر إلى هذا الوقت وهذا تأويل في غاية الحسن الثاني يحتمل أنها كانت عظيمة الإنكار على قوم لوط لما كانوا عليه من الكفر والعمل الخبيث فلما أظهروا أنهم جاؤا لإهلاكهم لحقها السرور فضحكت الثالث قال السدي قال إبراهيم عليه السلام لهم أَلا تَأْكُلُونَ قالوا لا نأكل طعاماً إلا بالثمن فقال ثمنه أن تذكروا اسم الله تعالى على أوله وتحمدوه على آخره فقال جبريل لميكائيل عليهما السلام ( حق لمثل هذا الرجل أن يتخذه ربه خليلاً ) فضحكت امرأته فرحاً منها بهذا الكلام الرابع أن سارة قالت لإبراهيم عليه السلام أرسل إلى ابن أخيك وضمه إلى نفسك فإن الله تعالى لا يترك قومه حتى يعذبهم فعند تمام هذا الكلام دخل الملائكة على إبراهيم عليه السلام فلما أخبروه بأنهم إنما جاؤا لإهلاك قوم لوط صار قولهم موافقاً لقولها فضحكت لشدة سرورها بحصول الموافقة بين كلامها وبين كلام الملائكة الخامس أن الملائكة لما أخبروا إبراهيم عليه السلام أنهم من الملائكة لا من البشر وأنهم إنما جاؤا لإهلاك قوم لوط طلب إبراهيم عليه السلام منهم معجزة دالة على أنهم من الملائكة فدعوا ربهم بإحياء العجل المشوي فطفر ذلك العجل المشوي من الموضع الذي كان موضوعاً فيه إلى مرعاه وكانت امرأة إبراهيم عليه السلام قائمة فضحكت لما رأت ذلك العجل المشوي قد طفر من موضعه السادس أنها ضحكت تعجباً من أن قوماً أتاهم العذاب وهم في غفلة السابع لا يبعد أن يقال إنهم بشروها بحصول مطلق الولد فضحكت إما على سبيل التعجب فإنه يقال إنها كانت في ذلك الوقت بنت بضع وتسعين سنة وإبراهيم عليه السلام ابن مائة سنة وإما على سبيل السرور ثم لما ضحكت بشرها الله تعالى بأن ذلك الولد هو إسحق ومن وراء إسحق يعقوب الثامن أنها ضحكت بسبب أنها تعجبت من خوف إبراهيم عليه السلام من ثلاث أنفس حال ما كان معه حشمه وخدمه التاسع أن هذا على التقديم والتأخير والتقدير وامرأته قائمة فبشرناها بإسحق فضحكت سروراً بسبب تلك البشارة فقدم الضحك ومعناه التأخير الثاني هو أن يكون معنى فضحكت حاضت وهو منقول عن مجاهد وعكرمة قالا ضحكت أي حاضت عند فرحها بالسلامة من الخوف فلما ظهر حيضها بشرت بحصول الولد وأنكر الفراء وأبو عبيدة أن يكون ضحكت بمعنى حاضت قال أبو بكر الأنباري هذه اللغة إن لم يعرفها هؤلاء فقد عرفها غيرهم حكى الليث في هذه الآية فَضَحِكَتْ طمثت وحكى الأزهري عن بعضهم أن أصله من ضحاك الطلعة يقال ضحكت الطلعة إذا انشقت
واعلم أن هذه الوجوه كلها زوائد وإنما الوجه الصحيح هو الأول
ثم قال تعالى وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ ابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم ويعقوب بالنصب والباقون بالرفع أما وجه النصب فهو أن يكون التقدير بشرناها بإسحق ومن وراء إسحق وهبنا لها يعقوب وأما وجه الرفع فهو أن يكون التقدير ومن وراء إسحق يعقوب مولود أو موجود
المسألة الثانية في لفظ وراء قولان الأول وهو قول الأكثرين أن معناه بعد أي بعد إسحق يعقوب

وهذا هو الوجه الظاهر والثاني أن الوراء ولد الولد عن الشعبي أنه قيل له هذا ابنك فقال نعم من الوراء وكان ولد ولده وهذا الوجه عندي شديد التعسف واللفظ كأنه ينبو عنه
قَالَتْ ياوَيْلَتَا ءَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَاذَا بَعْلِى شَيْخًا إِنَّ هَاذَا لَشَى ْءٌ عَجِيبٌ قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قال الفراء أصل الويل وي وهو الخزي ويقال وي لفلان أي خزي له فقوله ويلك أي خزي لك وقال سيبويه ويح زجر لمن أشرف على الهلاك وويل لمن وقع فيه قال الخليل ولم أسمع على بنائه إلا ويح وويس وويك وويه وهذه الكلمات متقاربة في المعنى وأما قوله يا ويلتا فمنهم من قال هذه الألف ألف الندبة وقال صاحب ( الكشاف ) الألف في ويلتا مبدلة من ياء الإضافة في يا ويلتى وكذلك في يا لهفا ويا عجبا ثم أبدل من الياء والكسرة الألف والفتحة لأن الفتح والألف أخف من الياء والكسرة
أما قوله ياوَيْلَتَا ءأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَاذَا بَعْلِى شَيْخًا إِنَّ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو آلد بهمزة ومدة والباقون بهمزتين بلا مد
المسألة الثانية لقائل أن يقول إنها تعجبت من قدرة الله تعالى والتعجب من قدرة الله تعالى يوجب الكفر بيان المقدمة الأولى من ثلاثة أوجه أولها قوله تعالى حكاية عنها في معرض التعجب وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَاذَا وثانيها قوله إِنَّ هَاذَا لَشَى ْء عَجِيبٌ وثالثها قول الملائكة لها أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وأما بيان أن التعجب من قدرة الله تعالى يوجب الكفر فلأن هذا التعجيب يدل على جهلها بقدرة الله تعالى وذلك يوجب الكفر
والجواب أنها إنما تعجبت بحسب العرف والعادة لا بحسب القدرة فإن الرجل المسلم لو أخبره مخبر صادق بأن الله تعالى يقلب هذا الجبل ذهباً إبريزاً فلا شك أنه يتعجب نظراً إلى أحوال العادة لا لأجل أنه استنكر قدرة الله تعالى على ذلك
المسألة الثالثة قوله وَهَاذَا بَعْلِى شَيْخًا فاعلم أن شيخاً منصوب على الحال قال الواحدي رحمه الله وهذا من لطائف النحو وغامضه فإن كلمة هذا للإشارة فكان قوله وَهَاذَا بَعْلِى شَيْخًا قائم مقام أن يقال أشير إلى بعلي حال كونه شيخاً والمقصود تعريف هذه الحالة المخصوصة وهي الشيخوخة
المسألة الرابعة قرأ بعضهم وَهَاذَا بَعْلِى شَيْخًا على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هذا بعلي وهو شيخ أو بعلي بدل من المبتدأ وشيخ خبر أو يكونان معاً خبرين ثم حكى تعالى أن الملائكة قالوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ

والمعنى أنهم تعجبوا من تعجبها ثم قالوا قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ والمقصود من هذا الكلام ذكر ما يزيل ذلك التعجب وتقديره إن رحمة الله عليكم متكاثرة وبركاته لديكم متوالية متعاقبة وهي النبوة والمعجزات القاهرة والتوفيق للخيرات العظيمة فإذا رأيت أن الله خرق العادات في تخصيصكم بهذه الكرامات العالية الرفيعة وفي إظهار خوارق العادات وإحداث البينات والمعجزات فكيف يليق به التعجب
وأما قوله أَهْلَ الْبَيْتِ فإنه مدح لهم فهو نصب على النداء أو على الاختصاص ثم أكدوا ذلك بقولهم إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ والحميد هو المحمود وهو الذي تحمد أفعاله والمجيد الماجد وهو ذو الشرف والكرم ومن محامد الأفعال إيصال العبد المطيع إلى مراده ومطلوبه ومن أنواع الفضل والكرم أن لا يمنع الطالب عن مطلوبه فإذا كان من المعلوم أنه تعالى قادر على الكل وأنه حميد مجيد فكيف يبقى هذا التعجب في نفس الأمر فثبت أن المقصود من ذكر هذه الكلمات إزالة التعجب
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَآءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِى قَوْمِ لُوطٍ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ
اعلم أن هذا هو القصة الخامسة وهي قصة لوط عليه السلام واعلم أن الروع هو الخوف وهو ما أوجس من الخيفة حين أنكر أضيافه والمعنى أنه لما زال الخوف وحصل السرور بسبب مجيء البشرى بحصول الولد أخذ يجادلنا في قوم لوط وجواب لما هو قوله أَخَذَ إلا أنه حذف في اللفظ لدلالة الكلام عليه وقيل تقديره لما ذهب عن إبراهيم الروع جادلنا
واعلم أن قوله يُجَادِلُنَا أي يجادل رسلنا
فإن قيل هذه المجادلة إن كانت مع الله تعالى فهي جراءة على الله والجراءة على الله تعالى من أعظم الذنوب ولأن المقصود من هذه المجادلة إزالة ذلك الحكم وذلك يدل على أنه ما كان راضياً بقضاء الله تعالى وأنه كفر وإن كانت هذه المجادلة مع الملائكة فهي أيضاً عجيبة لأن المقصود من هذه المجادلة أن يتركوا إهلاك قوم لوط فإن كان قد اعتقد فيهم أنهم من تلقاء أنفسهم يجادلون في هذا الإهلاك فهذا سوء ظن بهم وإن اعتقد فيهم أنهم بأمر الله جاؤا فهذه المجادلة تقتضي أنه كان يطلب منهم مخالفة أمر الله تعالى وهذا منكر
والجواب من وجهين
الوجه الأول وهو الجواب الإجمالي أنه تعالى مدحه عقيب هذه الآية فقال إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ ولو كان هذا الجدل من الذنوب لما ذكر عقيبه ما يدل على المدح العظيم

والوجه الثاني وهو الجواب التفصيلي أن المراد من هذه المجادلة سعي إبراهيم في تأخير العذاب عنهم وتقريره من وجوه
الوجه الأول أن الملائكة قالوا أَنَاْ مُهْلِكُو أَهْلِ هَاذِهِ الْقَرْيَة ِ فقال إبراهيم أرأيتم لو كان فيها خمسون رجلاً من المؤمنين أتهلكونها قالوا لا قال فأربعون قالوا لا قال فثلاثون قالوا لا حتى بلغ العشرة قالوا لا قال أرأيتم إن كان فيها رجل مسلم أتهلكونها قالوا لا فعند ذلك قال إن فيها لوطاً وقد ذكر الله تعالى هذا في سورة العنكبوت فقال وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَاذِهِ الْقَرْيَة ِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظَالِمِينَ قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ( العنكبوت 31 32 )
ثم قال وَلَمَّا أَن جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِىء بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالُواْ لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ فبان بهذا أن مجادلة إبراهيم عليه السلام إنما كانت في قوم لوط بسبب مقام لوط فيما بينهم
الوجه الثاني يحتمل أن يقال إنه عليه السلام كان يميل إلى أن تلحقهم رحمة الله بتأخير العذاب عنهم رجاء أنهم أقدموا على الإيمان والتوبة عن المعاصي وربما وقعت تلك المجادلات بسبب أن إبراهيم كان يقول إن أمر الله ورد بإيصال العذاب ومطلق الأمر لا يوجب الفور بل يقبل التراخي فاصبروا مدة أخرى والملائكة كانوا يقولون إن مطلق الأمر يقبل الفور وقد حصلت هناك قرائن دالة على الفور ثم أخذ كل واحد منهم يقرر مذهبه بالوجوه المعلومة فحصلت المجادلة بهذا السبب وهذا الوجه عندي هو المعتمد
الوجه الثالث في الجواب لعل إبراهيم عليه السلام سأل عن لفظ ذلك الأمر وكان ذلك الأمر مشروطاً بشرط فاختلفوا في أن ذلك الشرط هل حصل في ذلك القوم أم لا فحصلت المجادلة بسببه وبالجملة نرى العلماء في زماننا يجادل بعضهم بعضاً عند التمسك بالنصوص وذلك لا يوجب القدح في واحد منها فكذا ههنا
ثم قال تعالى إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ وهذا مدح عظيم من الله تعالى لإبراهيم أما الحليم فهو الذي لا يتعجل بمكافأة غيره بل يتأنى فيه فيؤخر ويعفو ومن هذا حاله فإنه يحب من غيره هذه الطريقة وهذا كالدلالة على أن جداله كان في أمر متعلق بالحلم وتأخير العقاب ثم ضم إلى ذلك ماله تعلق بالحلم وهو قوله أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ لأن من يستعمل الحلم في غيره فإنه يتأوه إذا شاهد وصول الشدائد إلى الغير فلما رأى مجيء الملائكة لأجل إهلاك قوم لوط عظم حزنه بسبب ذلك وأخذ يتأوه عليه فلذلك وصفه الله تعالى بهذه الصفة ووصفه أيضاً بأنه منيب لأن من ظهرت فيه هذه الشفقة العظيمة على الغير فإنه ينيب ويتوب ويرجع إلى الله في إزالة ذلك العذاب عنهم أو يقال إن من كان لا يرضى بوقوع غيره في الشدائد فأن لا يرضى بوقوع نفسه فيها كان أولى ولا طريق إلى صون النفس عن الوقوع في عذاب الله إلا بالتوبة والإنابة فوجب فيمن هذا شأنه يكون منيباً

يإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَاذَآ إِنَّهُ قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِى ءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَاذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ
اعلم أن قوله مُّنِيبٌ يإِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَاذَا معناه أن الملائكة قالوا له اترك هذه المجادلة لأنه قد جاء أمر ربك بإيصال هذا العذاب إليهم وإذا لاح وجه دلالة النص على هذا الحكم فلا سبيل إلى دفعه فلذلك أمروه بترك المجادلة ولما ذكروا إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبّكَ ولم يكن في هذا اللفظ دلالة على أن هذا الأمر بماذا جاء لا جرم بين الله تعالى أنهم آتيهم عذاب غير مردود أي عذاب لا سبيل إلى دفعه ورده
ثم قال وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِىء بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وهؤلاء الرسل هم الرسل الذين بشروا إبراهيم بالولد عليهم السلام قال ابن عباس رضي الله عنهما انطلقوا من عند إبراهيم إلى لوط وبين القريتين أربع فراسخ ودخلوا عليه على صورة شباب مرد من بني آدم وكانوا في غاية الحسن ولم يعرف لوط أنهم ملائكة الله وذكروا فيه ستة أوجه الأول أنه ظن أنهم من الإنس فخاف عليهم خبث قومه وأن يعجزوا عن مقاومتهم الثاني ساءه مجيئهم لأنه ما كان يجد ما ينفقه عليهم وما كان قادراً على القيام بحق ضيافتهم والثالث ساءه ذلك لأن قومه منعوه من إدخال الضيف داره الرابع ساءه مجيئهم لأنه عرف بالحذر أنهم ملائكة وأنهم إنما جاؤا لإهلاك قومه والوجه الأول هو الأصح لدلالة قوله تعالى وَجَاء قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ ( هود 78 ) وبقي في الآية ألفاظ ثلاثة لا بد من تفسيرها
اللفظ الأول قوله سِىء بِهِمْ ومعناه ساء مجيئهم وساء يسوء فعل لازم مجاوز يقال سؤته فسيء مثل شغلته فشغل وسررته فسر قال الزجاج أصله سوىء بهم إلا أن الواو سكنت ونقلت كسرتها إلى السين
اللفظ الثاني قوله وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا قال الأزهري الذرع يوضع موضع الطاقة والأصل فيه البعير يذرع بيديه في سيره ذرعاً على قدر سعة خطوته فإذا حمل عليه أكثر من طاقته ضاق ذرعه عن ذلك فضعف ومد عنقه فجعل ضيق الذرع عبارة عن قدر الوسع والطاقة فيقال مالي به ذرع ولا ذراع أي مالي به طاقة والدليل على صحة ما قلناه أنهم يجعلون الذراع في موضع الذرع فيقولون ضقت بالأمر ذراعاً
واللفظ الثالث قوله هَاذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ أي يوم شديد وإنما قيل للشديد عصيب لأنه يعصب الإنسان بالشر
وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ ياقَوْمِ هَاؤُلا ءِ بَنَاتِى هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِى ضَيْفِى أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِى بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ قَالَ لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّة ً أَوْ آوِى إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ

وفيه مسائل
المسألة الأولى أنه لما دخلت الملائكة دار لوط عليه السلام مضت امرأته عجوز السوء فقالت لقومه دخل دارنا قوم ما رأيت أحسن وجوهاً ولا أنظف ثياباً ولا أطيب رائحة منهم وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ أي يسرعون وبين تعالى أن إسراعهم ربما كان لطلب العمل الخبيث بقوله وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيّئَاتِ نقل أن القوم دخلوا دار لوط وأرادوا أن يدخلوا البيت الذي كان فيه جبريل عليه السلام فوضع جبريل عليه السلام يده على الباب فلم يطيقوا فتحه حتى كسروه فمسح أعينهم بيده فعموا فقالوا يا لوط قد أدخلت علينا السحرة وأظهرت الفتنة ولأهل اللغة في يُهْرَعُونَ قولان
القول الأول أن هذا من باب ما جاءت صيغة الفاعل فيه على لفظ المفعول ولا يعرف له فاعل نحو أولع فلان في الأمر وأرعد زيد وزهى عمرو من الزهو
والقول الثاني أنه لا يجوز ورود الفاعل على لفظ المفعول وهذه الأفعال حذف فاعلوها فتأويل أولع زيد أنه أولعه طبعه وأرعد الرجل أرعده غضبه وزهى عمرو معناه جعله ماله زاهياً وأهرع معناه أهرعه خوفه أو حرصه واختلفوا أيضاً فقال بعضهم الإهراع هو الإسراع مع الرعدة وقال آخرون هو العدو الشديد
أما قوله تعالى قَالَ يَاءادَمُ قَوْمٌ هَؤُلاء بَنَاتِى هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ففيه قولان قال قتادة المراد بناته لصلبه وقال مجاهد وسعيد بن جبير المراد نساء أمته لأنهن في أنفسهن بنات ولهن إضافة إليه بالمتابعة وقبول الدعوة قال أهل النحو يكفي في حسن الإضافة أدنى سبب لأنه كان نبياً لهم فكان كالأب لهم قال تعالى وَأَزْواجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ( الأحزاب 6 ) وهو أب لهم وهذا القول عندي هو المختار ويدل عليه وجوه الأول أن إقدام الإنسان على عرض بناته على الأوباش والفجار أمر متبعد لا يليق بأهل المروءة فكيف بأكابر الأنبياء الثاني وهو أنه قال هَؤُلاء بَنَاتِى هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فبناته اللواتي من صلبه لا تكفي للجمع العظيم أما نساء أمته ففيهن كفاية للكل الثالث أنه صحت الرواية أنه كان له بنتان وهما زنتا وزعوراً وإطلاق لفظ البنات على البنتين لا يجوز لما ثبت أن أقل الجمع ثلاثة فأما القائلون بالقول الأول فقد اتفقوا على أنه عليه السلام ما دعا القوم إلى لزنا بالنسوان بل المراد أنه دعاهم إلى التزوج بهن وفيه قولان أحدهما أنه دعاهم إلى التزوج بهن بشرط أن يقدموا الإيمان والثاني أنه كان يجوز تزويج المؤمنة من الكافر في شريعته وهكذا كان في أول الإسلام بدليل أنه عليه السلام زوج ابنته زينب من أبي العاص بن الربيع وكان مشركاً وزوج ابنته من عتبة بن أبي لهب ثم نسخ ذلك بقوله وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ( البقرة 221 ) وبقوله وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ ( البقرة 221 ) واختلفوا أيضاً فقال الأكثرون كان له بنتان وعلى هذا التقدير ذكر الاثنتين بلفظ الجمع كما في قوله فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَة ٌ ( النساء 21 ) فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ( التحريم 4 ) وقيل إنهن كن أكثر من اثنتين
أما قوله تعالى هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ففيه مسألتان

المسألة الأولى ظاهر قوله هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ يقتضي كون العمل الذي يطلبونه طاهراً ومعلوم أنه فاسد ولأنه لا طهارة في نكاح الرجل بل هذا جار مجرى قولنا الله أكبر والمراد أنه كبير ولقوله تعالى أَذالِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَة ُ الزَّقُّومِ ( الصافات 62 ) ولاخير فيها ولما قال أبو سفيان اعل أحداً واعل هبل قال النبي ( الله أعلى وأجل ) ولامقاربة بين الله وبين الصنم
المسألة الثانية روي عن عبد الملك بن مروان والحسن وعيسى بن عمر أنهم قرؤا هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ بالنصب على الحال كما ذكرنا في قوله تعالى وَهَاذَا بَعْلِى شَيْخًا ( هود 72 ) إلا أن أكثر النحويين اتفقوا على أنه خطأ قالوا لو قرىء هَؤُلاء بَنَاتِى هُنَّ أَطْهَرُ كان هذا نظير قوله وَهَاذَا بَعْلِى شَيْخًا إلا أن كلمة ( هن ) قد وقعت في البين وذلك يمنع من جعل أطهر حالاً وطولوا فيه ثم قال فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِى ضَيْفِى وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ أبو عمرو ونافع ولا تخزوني بإثبات الياء على الأصل والباقون بحذفها للتخفيف ودلالة الكسر عليه
المسألة الثانية في لفظ لا وجهان الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما لا تفضحوني في أضيافي يريد أنهم إذا هجموا على أضيافه بالمكروه لحقته الفضيحة والثاني لا تخزوني في ضيفي أي لا تخجلوني فيهم لأن مضيف الضيف يلزمه الخجالة من كل فعل قبيح يوصل إلى الضيف يقال خزي الرجل إذا استحيا
المسألة الثالثة الضيف ههنا قائم مقام الأضياف كما قام الطفل مقام الأطفال في قوله تعالى الرّجَالِ أَوِ الطّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ ( النور 31 ) ويجوز أن يكون الضيف مصدراً فيستغنى عن جمعه كما يقال رجال صوم ثم قال أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ وفيه قولان الأول رَّشِيدٌ بمعنى مرشد أي يقول الحق ويرد هؤلاء الأوباش عن أضيافي والثاني رشيد بمعنى مرشد والمعنى أليس فيكم رجل أرشده الله تعالى إلى الصلاح وأسعده بالسداد والرشاد حتى يمنع عن هذا العمل القبيح والأول أولى
ثم قال تعالى قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِى بَنَاتِكَ مِنْ حَقّ وفيه وجوه الأول مالنا في بناتك من حاجة ولا شهوة والتقدير أن من احتاج إلى شيء فكأنه حصل له فيه نوع حق فلهذا السبب جعل نفي الحق كناية عن نفي الحاجة الثاني أن نجري اللفظ على ظاهره فنقول معناه إنهن لسن لنا بأزواج ولا حق لنا فيهن ألبتة ولا يميل أيضاً طبعنا إليهن فكيف قيامهن مقام العمل الذي نريده وهو إشارة إلى العمل الخبيث الثالث مَا لَنَا فِى بَنَاتِكَ مِنْ حَقّ لأنك دعوتنا إلى نكاحهن بشرط الإيمان ونحن لا نجيبك إلى ذلك فلا يكون لنا فيهن حق ثم إنه تعالى حكى عن لوط أنه عند سماع هذا الكلام قال لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّة ً أَوْ اوِى إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ وفيه مسألتان
المسألة الأولى جواب ( لو ) محذوف لدلالة الكلام عليه والتقدير لمنعتكم ولبالغت في دفعكم ونظيره قوله تعالى وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا سُيّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ ( الرعد 31 ) وقوله وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ ( الأنعام 27 ) قال الواحدي وحذف الجواب ههنا لأن الوهم يذهب إلى أنواع كثيرة من المنع والدفع

المسألة الثانية لَوْ أَنَّ بِكُمْ قُوَّة ً أي لو أن لي ما أتقوى به عليكم وتسمية موجب القوة بالقوة جائز قال الله تعالى وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مّن قُوَّة ٍ وَمِن رّبَاطِ الْخَيْلِ ( الأنفال 60 ) والمراد السلاح وقال آخرون القدرة على دفعهم وقوله أَوْ اوِى إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ المراد منه الموضع الحصين المنيع تشبيهاً له بالركن الشديد من الجبل
فإن قيل ما الوجه ههنا في عطف الفعل على الاسم
قلنا قال صاحب ( الكشاف ) قرىء أَوْ اوِى بالنصب بإضمار أن كأنه قيل لو أن لي بكم قوة أو آوياً
واعلم أن قوله لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّة ً أَوْ اوِى إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ لا بد من حمل كل واحد من هذين الكلامين على فائدة مستقلة وفيه وجوه الأول المراد بقوله لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّة ً كونه بنفسه قادراً على الدفع وكونه متمكناً إما بنفسه وإما بمعاونة غيره على قهرهم وتأديبهم والمراد بقوله أَوْ اوِى إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ هو أن لا يكون له قدرة على الدفع لكنه يقدر على التحصن بحصن ليأمن من شرهم بواسطته الثالث أنه لما شاهد سفاهة القوم وإقدامهم على سوء الأدب تمنى حصول قوة قوية على الدفع ثم استدرك على نفسه وقال بلى الأولى أن آوى إلى ركن شديد وهو الاعتصام بعناية الله تعالى وعلى هذا التقدير فقوله أَوْ اوِى إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ كلام منفصل عما قبله ولا تعلق له به وبهذا الطريق لا يلزم عطف الفعل على الاسم ولذلك قال النبي عليه السلام ( رحم الله أخي لوطاً كان يأوي إلى ركن شديد )
قَالُواْ يالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ الَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَآ أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ
اعلم أن قوله تعالى مخبراً عن لوط عليه السلام أنه قال لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّة ً أَوْ اوِى إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ( هود 80 ) يدل على أنه كان في غاية القلق والحزن بسبب إقدام أولئك الأوباش على ما يوجب الفضيحة في حق أضيافه فلما رأت الملائكة تلك الحالة بشروه بأنواع من البشارات أحدها أنهم رسل الله وثانيها أن الكفار لا يصلون إلى ما هموا به وثالثها أنه تعالى يهلكهم ورابعها أنه تعالى ينجيه مع أهله من ذلك العذاب وخامسها إن ركنك شديد وإن ناصرك هو الله تعالى فحصل له هذه البشارات وروي أن جبريل عليه السلام قال له إن قومك لن يصلوا إليك فافتح الباب فدخلوا فضرب جبريل عليه السلام بجناحه وجوههم فطمس أعينهم فأعماهم فصاروا لا يعرفون الطريق ولا يهتدون إلى بيوتهم وذلك قوله تعالى وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ ( القمر 37 ) ومعنى قوله لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ أي بسوء ومكروه فإنا نحول بينهم وبين ذلك ثم قال فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ قرأ نافع وابن كثير فَأَسْرِ موصولة والباقون بقطع الألف وهما لغتان يقال سريت بالليل وأسريت وأنشد حسان

أسرت إليك ولم تكن تسري
فجاء باللغتين فمن قرأ بقطع الألف فحجته قوله سبحانه وتعالى سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ ( الإسراء 1 ) ومن وصل فحجته قوله وَالَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ( الفجر 4 ) والسرى السير في الليل يقال سرى يسري إذا سار بالليل وأسرى بفلان إذا سير به بالليل والقطع من الليل بعضه وهو مثل القطعة يريد اخرجوا ليلاً لتسبقوا نزول العذاب الذي موعده الصبح قال نافع بن الأزرق لعبدالله بن عباس رضي الله عنهما أخبرني عن قول الله بِقِطْعٍ مّنَ الَّيْلِ قال هو آخر الليل سحر وقال قتادة بعد طائفة من الليل وقال آخرون هو نصف الليل فإنه في ذلك الوقت قطع بنصفين
ثم قال وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ نهى من معه عن الالتفات والالتفات نظر الإنسان إلى ما وراءه والظاهر أن المراد أنه كان لهم في البلدة أموال وأقمشة وأصدقاء فالملائكة أمروهم بأن يخرجوا ويتركوا تلك الأشياء ولا يلتفتوا إليها ألبتة وكان المراد منه قطع القلب عن تلك الأشياء وقد يراد منه الانصراف أيضاً كقوله تعالى قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا ( يونس 78 ) أي لتصرفنا وعلى هذا التقدير فالمراد من قوله وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ النهي عن التخلف
ثم قال إِلاَّ امْرَأَتَكَ قرأ ابن كثير وأبو عمر إِلاَّ امْرَأَتَكَ بالرفع والباقون بالنصب قال الواحدي من نصب وهو الاختيار فقد جعلها مستثناة من الأهل على معنى فأسر بأهلك إلا امرأتك والذي يشهد بصحة هذه القراءة أن في قراءة عبدالله فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ فأسقط قوله وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ من هذا الموضع وأما الذين رفعوا فالتقدير وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ
فإن قيل فهذه القراءة توجب أنها أمرت بالالتفات لأن القائل إذا قال لا يقم منكم أحد إلا زيد كان ذلك أمراً لزيد بالقيام
وأجاب أبو بكر الأنباري عنه فقال معنى إِلا ههنا الاستثناء المنقطع على معنى لا يلتفت منكم أحد لكن امرأتك تلتفت فيصيبها ما أصابهم وإذا ان هذا الاستثناء منقطعاً كان التفاتها معصية ويتأكد ما ذكرنا بما روي عن قتادة أنه قال إنها كانت مع لوط حين خرج من القرية فلما سمعت هذا العذاب التفتت وقالت يا قوماه فأصابها حجر فأهلكها
واعلم أن القراءة بالرفع أقوى لأن القراءة بالنصب تمنع من خروجها مع أهله لكن على هذا التقدير الاستثناء يكون من الأهل كأنه أمر لوطاً بأن يخرج بأهله ويترك هذه المرأة فإنها هالكة مع الهالكين وأما القراءة بالنصب فإنها أقوى من وجه آخر وذلك لأن مع القراءة بالنصب يبقى الاستثناء متصلاً ومع القراءة بالرفع يصير الاستثناء منقطعاً ثم بين الله تعالى أنهم قالوا إنه مصيبها ما أصابهم والمراد أنه مصيبها ذلك العذاب الذي أصابهم ثم قالوا إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ روى أنهم لما قالوا لوط عليه السلام إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ قال أريد أعجل من ذلك بل الساعة فقالوا أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ قال المفسرون إن لوطاً عليه السلام لما سمع هذا الكلام خرج بأهله في الليل

فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَة ً مِّن سِجِّيلٍ مَّنْضُودٍ مُّسَوَّمَة ً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِى مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ
في الآية مسائل
المسألة الأولى في الأمر وجهان الأول أن المراد من هذا الأمر ما هو ضد النهي ويدل عليه وجوه الأول أن لفظ الأمر حقيقة في هذا المعنى مجاز في غيره دفعاً للاشتراك الثاني أن الأمر لا يمكن حمله ههنا على العذاب وذلك لأنه تعالى قال فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وهذا الجعل هو العذاب فدلت هذه الآية على أن هذا الأمر شرط والعذاب جزاء والشرط غير الجزاء فهذا الأمر غير العذاب وكل من قال بذلك قال إنه هو الأمر الذي هو ضد النهي والثالث أنه تعالى قال قبل هذه الآية إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ ( هود 70 ) فدل هذا على أنهم كانوا مأمورين من عند الله تعالى بالذهاب إلى قوم لوط وبإيصال هذا العذاب إليهم
إذا عرفت هذا فنقول إنه تعالى أمر جمعاً من الملائكة بأن يخربوا تلك المدائن في وقت معين فلما جاء ذلك الوقت أقدموا على ذلك العمل فكان قوله فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا إشارة إلى ذلك التكليف
فإن قيل لو كان الأمر كذلك لوجب أن يقال فلما جاء أمرنا جعلوا عاليها سافلها لأن الفعل صدر عن ذلك المأمور
قلنا هذا لا يلزم على مذهبنا لأن فعل العبد فعل الله تعالى عندنا وأيضاً أن الذي وقع منهم إنما وقع بأمر الله تعالى وبقدرته فلم يبعد إضافته إلى الله عز وجل لأن الفعل كما تحسن إضافته إلى المباشر فقد تحسن أيضاً إضافته إلى السبب
القول الثاني أن يكون المراد من الأمر ههنا قوله تعالى إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَى ْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( النحل 40 ) وقد تقدم تفسير ذلك الأمر
القول الثالث أن يكون المراد من الأمر العذاب وعلى هذا التقدير فيحتاج إلى الإضمار والمعنى ولما جاء وقت عذابنا جعلنا عاليها سافلها
المسألة الثانية اعلم أن ذلك العذاب قد وصفه الله تعالى في هذه الآية بنوعين من الوصف فالأول قوله جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا روي أن جبريل عليه السلام أدخل جناحه الواحد تحت مدائن قوم لوط وقلعها وصعد بها إلى السماء حتى سمع أهل السماء نهيق الحمير ونباح الكلاب وصياح الديوك ولم تنكفىء لهم جرة ولم ينكب لهم إناء ثم قلبها دفعة واحدة وضربها على الأرض
واعلم أن هذا العمل كان معجزة قاهرة من وجهين أحدهما أن قلع الأرض وإصعادها إلى قريب من

السماء فعل خارق للعادات والثاني أن ضربها من ذلك البعد البعيد على الأرض بحيث لم تتحرك سائر القرى المحيطة بها ألبتة ولم تصل الآفة إلى لوط عليه السلام وأهله مع قرب مكانهم من ذلك الموضع معجزة قاهرة أيضاً الثاني قوله وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَة ً مّن سِجّيلٍ واختلفوا في السجيل على وجوه الأول أنه فارسي معرب وأصله سنككل وأنه شيء مركب من الحجر والطين بشرط أن يكون في غاية الصلابة قال الأزهري لماعربته العرب صار عربياً وقد عربت حروفاً كثيرة كالديباج والديوان والاستبرق والثاني سجيل أي مثل السجل وهو الدلو العظيم والثالث سجيل أي شديد من الحجارة الرابع مرسلة عليهم من أسجلته إذا أرسلته وهو فعيل منه الخامس من أسجلته أي أعطيته تقديره مثل العطية في الإدرار وقيل كان كتب عليها أسامي المعذبين السادس وهو من السجل وهو الكتاب تقديره من مكتوب في الأزل أي كتب الله أن يعذبهم بها والسجيل أخذ من السجل وهو الدلو العظيمة لأنه يتضمن أحكاماً كثيرة وقيل مأخوذ من المساجلة وهي المفاخرة والسابع من سجيل أي من جهنم أبدلت النون لاماً والثامن من السماء الدنيا وتسمى سجيلاً عن أبي زيد والتاسع السجيل الطين لقوله تعالى حِجَارَة ً مّن طِينٍ ( الذاريات 33 ) وهو قول عكرمة وقتادة قال الحسن كان أصل الحجر هو من الطين إلا أنه صلب بمرور الزمان والعاشر سجيل موضع الحجارة وهي جبال مخصوصة ومنه قوله تعالى مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ ( النور 43 )
واعلم أنه تعالى وصف تلك الحجارة بصفات
فالصفة الأولى كونها من سجيل وقد سبق ذكره
الصفة الثانية قوله تعالى مَّنْضُودٍ قال الواحدي هو مفعول من النضد وهو موضع الشيء بعضه على بعض وفيه وجوه الأول أن تلك الحجارة كان بعضها فوق بعض في النزول فأتى به على سبيل المبالغة والثاني أن كل حجر فإن ما فيه من الأجزاء منضود بعضها ببعض وملتصق بعضها ببعض والثالث أنه تعالى كان قد خلقها في معادنها ونضد بعضها فوق بعض وأعدها لإهلاك الظلمة
واعلم أن قوله مَّنْضُودٍ صفة للسجيل
الصفة الثالثة مسومة وهذه الصفة صفة للأحجار ومعناها المعلمة وقد مضى الكلام فيه في تفسير قوله وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَة ِ ( آل عمران 14 ) واختلفوا في كيفية تلك العلامة على وجوه الأول قال الحسن والسدي كان عليها أمثال الخواتيم الثاني قال ابن صالح رأيت منها عند أم هانىء حجارة فيها خطوط حمر على هيئة الجزع الثالث قال ابن جريج كان عليها سيما لا تشارك حجارة الأرض وتدل على أنه تعالى إنما خلقها للعذاب الرابع قال الربيع مكتوب على كل حجر اسم من رمى به
ثم قال تعالى عِندَ رَبّكَ أي في خزائنه التي لا يتصرف فيها أحد إلا هو
ثم قال وَمَا هِى مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ يعني به كفار مكة والمقصود أنه تعالى يرميهم بها عن أنس أنه قال سأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) جبريل عليه السلام عن هذا فقال يعني عن ظالمي أمتك ما من ظالم منهم إلا وهو بمعرض حجر يسقط عليه من ساعة إلى ساعة وقيل الضمير في قوله وَمَا هِى َ للقرى أي وما تلك

القرى التي وقعت فيها هذه الواقعة من كفار مكة ببعيد وذلك لأن القرى كانت في الشأم وهي قريب من مكة
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ ياقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّى أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ وَياقَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الأرض مُفْسِدِينَ بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ
اعلم أن هذا هو القصة السادسة من القصص المذكورة في هذه السورة واعلم أن مدين اسم ابن لإبراهيم عليه السلام ثم صار اسماً للقبيلة وكثير من المفسرين يذهب إلى أن مدين اسم مدينة بناها مدين بن إبراهيم عليه السلام والمعنى على هذا التقدير وأرسلنا إلى أهل مدين فحذف الأهل
واعلم أنا بينا أن الأنبياء عليهم السلام يشرعون في أول الأمر بالدعوة إلى التوحيد فلهذا قال شعيب عليه السلام مَالَكُمْ مّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ ثم إنهم بعد الدعوة إلى التوحيد يشرعون في الأهم ثم الأهم ولما كان المعتاد من أهل مدين البخس في المكيال والميزان دعاهم إلى ترك هذه العادة فقال وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ والنقص فيه على وجهين أحدهما أن يكون الإيفاء من قبلهم فينقصون من قدره والآخر أن يكون لهم الاستيفاء فيأخذون أزيد من الواجب وذلك يوجب نقصان حق الغير وفي القسمين حصل النقصان في حق الغير ثم قال إِنّى أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وفيه وجهان الأول أنه حذرهم من غلاء السعر وزوال النعمة إن لم يتوبوا فكأنه قال اتركوا هذا التطفيف وإلا أزال الله عنكم ما حصل عندكم من الخير والراحة والثاني أن يكون التقدير أنه تعالى أتاكم بالخير الكثير والمال والرخص والسعة فلا حاجة بكم إلى هذا التطفيف ثم قال وَإِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ وفيه أبحاث
البحث الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما أخاف أي أعلم حصول عذاب يوم محيط وقال آخرون بل المراد هو الخوف لأنه يجوز أن يتركوا ذلك العمل خشية أن يحصل لهم العذاب ولما كان هذا التخويف قائماً فالحاصل هو الظن لاالعلم
البحث الثاني أنه تعالى توعدهم بعذاب يحيط بهم بحيث لا يخرج منه أحد والمحيط من صفة اليوم في الظاهر وفي المعنى من صفة العذاب وذلك مجاز مشهور كقوله هَاذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ ( هود 77 )

البحث الثالث اختلفوا في المراد بهذا العذاب فقال بعضهم هو عذاب يوم القيامة لأنه اليوم الذي نصب لإحاطة العذاب بالمعذبين وقال بعضهم بل يدخل فيه عذاب الدنيا والآخرة وقال بعضهم بل المراد منه عذاب الاستئصال في الدنيا كما في حق سائر الأنبياء والأقرب دخول كل عذاب فيه وإحاطة العذاب بهم كإحاطة الدائرة بما في داخلها فينالهم من كل وجه وذلك مبالغة في الوعد كقوله وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ ( الكهف 42 ) ثم قال مُّحِيطٍ وَياقَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ
فإن قيل وقع التكرير في هذه الآية من ثلاثة أوجه لأنه قال أولاً وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ ثم قال أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ وهذا عين الأول ثم قال وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وهذا عين ما تقدم فما الفائدة في هذا التكرير
قلنا إن فيه وجوهاً
الوجه الأول أن القوم كانوا مصرين على ذلك العمل فاحتج في المنع منه إلى المبالغة والتأكيد والتكرير يفيد التأكيد وشدة العناية والاهتمام
والوجه الثاني أن قوله وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ نهي عن التنقيص وقوله أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ أمر بإيفاء العدل والنهي عن ضد الشيء مغاير للأمر به وليس لقائل أن يقول النهي عن ضد الشيء أمر به فكان التكرير لازماً من هذا الوجه لأنا نقول الجواب من وجهين الأول أنه تعالى جمع بين الأمر والشيء وبين النهي عن ضده للمبالغة كما تقول صل قرابتك ولا تقطعهم فيدل هذا الجمع على غاية التأكيد الثاني أن نقول لا نسلم أن الأمر كما ذكرتم لأنه يجوز أن ينهى عن التنقيص وينهى أيضاً عن أصل المعاملة فهو تعالى منع من التنقيص وأمر بإيفاء الحق ليدل ذلك على أنه تعالى لم يمنع عن المعاملات ولم ينه عن المبايعات وإنما منع من التطفيف وذلك لأن طائفة من الناس يقولون إن المبايعات لا تنفك عن التطفيف ومنع الحقوق فكانت المبايعات محرمة بالكلية فلأجل إبطال هذا الخيال منع تعالى في الآية الأولى من التطفيف وفي الآية الأخرى أمر بالإيفاء وأما قوله ثالثاً وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ فليس بتكرير لأنه تعالى خص المنع في الآية السابقة بالنقصان في المكيال والميزان ثم إنه تعالى عم الحكم في جميع الأشياء فظهر بهذا البيان أنها غير مكررة بل في كل واحد منها فائدة زائدة
والوجه الثالث أنه تعالى قال في الآية الأولى وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ وفي الثانية قال أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ والإيفاء عبارة عن الإتيان به على سبيل الكمال والتمام لا يحصل ذلك إلا إذا أعطى قدراً زائداً على الحق ولهذا المعنى قال الفقهاء إنه تعالى أمر بغسل الوجه وذلك لا يحصل إلا عند غسل جزء من أجزاء الرأس فالحاصل أنه تعالى في الآية الأولى نهى عن النقصان وفي الآية الثانية أمر بإعطاء قدر من الزيادة ولا يحصل الجزم واليقين بأداء الواجب إلا عند أداء ذلك القدر من الزيادة فكأنه تعالى نهى أولاً عن سعي الإنسان في أن يجعل مال غيره ناقصاً لتحصل له تلك الزيادة وفي الثاني أمر بالسعي في تنقيص مال نفسه ليخرج باليقين عن العهدة وقوله بِالْقِسْطِ يعني بالعدل ومعناه الأمر بإيفاء الحق بحيث يحصل معه اليقين بالخروج عن العهدة فالأمر بإيتاء الزيادة على ذلك غير حاصل ثم قال وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ والبخس هو النقص في كل الأشياء وقد ذكرنا أن الآية الأولى دلت على المنع من النقص

في المكيال والميزان وهذه الآية دلت على المنع من النقص في كل الاْشياء ثم قال وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الاْرْضِ مُفْسِدِينَ
فإن قيل العثو الفساد التام فقوله وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الاْرْضِ مُفْسِدِينَ جار مجرى أن يقال ولا تفسدوا في الأرض مفسدين
قلنا فيه وجوه الأول أن من سعى في إيصال الضرر إلى الغير فقد حمل ذلك الغير على السعي إلى إيصال الضرر إليه فقوله وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الاْرْضِ مُفْسِدِينَ معناه ولا تسعوا في إفساد مصالح الغير فإن ذلك في الحقيقة سعي منكم في إفساد مصالح أنفسكم والثاني أن يكون المراد من قوله وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الاْرْضِ مُفْسِدِينَ مصالح دنياكم وآخرتكم والثالث ولا تعثوا في الأرض مفسدين مصالح الأديان ثم قال بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ قرىء تقية الله وهي تقواه ومراقبته التي تصرف عن المعاصي ثم نقول المعنى ما أبقى الله لكم من الحلال بعد إيفاء الكيل والوزن خير من البخس والتطفيف يعني المال الحلال الذي يبقى لكم خير من تلك الزيادة الحاصلة بطريق البخس والتطفيف وقال الحسن بقية الله أي طاعة الله خير لكم من ذلك القدر القليل لأن ثواب الطاعة يبقى أبداً وقال قتادة حظكم من ربكم خير لكم وأقول المراد من هذه البقية إما المال الذي يبقى عليه في الدنيا وإما ثواب الله وأما كونه تعالى راضياً عنه والكل خير من قدر التطفيف أما المال الباقي فلأن الناس إذا عرفوا إنساناً بالصدق والأمانة والبعد عن الخيانة اعتمدوا عليه ورجعوا في كل المعاملات إليه فيفتح عليه باب الرزق وإذا عرفوه بالخيانة والمكر انصرفوا عنه ولم يخالطوه ألبتة فتضيق أبواب الرزق عليه وأما إن حملنا هذه البقية على الثواب فالأمر ظاهر لأن كل الدنيا تفنى وتنقرض وثواب الله باق وأما إن حملناه على حصول رضا الله تعالى فالأمر فيه ظاهر فثبت بهذا البرهان أن بقية الله خير ثم قال إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وإنما شرط الإيمان في كونه خيراً لهم لأنهم إن كانوا مؤمنين مقرين بالثواب والعقاب عرفوا أن السعي في تحصيل الثواب وفي الحذر من العقاب خير لهم من السعي في تحصيل ذلك القليل
واعلم أن المعلق بالشرط عدم عند عدم الشرط فهذه الآية تدل بظاهرها على أن من لم يحترز عن هذا التطفيف فإنه لا يكون مؤمناً
ثم قال تعالى وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ وفيه وجهان الأول أن يكون المعنى إني نصحتكم وأرشدتكم إلى الخير وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ أي لا قدرة لي على منعكم عن هذا العمل القبيح الثاني أنه قد أشار فيما تقدم إلى أن الاشتغال بالبخس والتطفيف يوجب زوال نعمة الله تعالى فقال وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ يعني لو لم تتركوا هذا العمل القبيح لزالت نعم الله عنكم وأنا لا أقدر على حفظها عليكم في تلك الحالة
قَالُواْ ياشُعَيْبُ أَصَلَوَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِى أَمْوَالِنَا مَا نَشَؤُا إِنَّكَ لاّنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ

في الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم أصلاتك بغير واو والباقون ياشُعَيْبُ أَصَلَواتُكَ على الجمع
المسألة الثانية اعلم أن شعيباً عليه السلام أمرهم بشيئين بالتوحيد وترك البخس فالقوم أنكروا عليه أمره بهذين النوعين من الطاعة فقوله أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا إشارة إلى أنه أمرهم بالتوحيد وقوله قَالُواْ ياشُعَيْبُ أَصَلَواتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا إشارة إلى أنه أمرهم بترك البخس أما الأول فقد أشاروا فيه إلى التمسك بطريقة التقليد لأنهم استبعدوا منه أن يأمرهم بترك عبادة ما كان يعبد آباؤهم يعني الطريقة التي أخذناها من آبائنا وأسلافنا كيف نتركها وذلك تمسك بمحض التقليد
المسألة الثالثة في لفظ الصلاة وههنا قولان الأول المراد منه الدين والإيمان لأن الصلاة أظهر شعار الدين فجعلوا ذكر الصلاة كناية عن الدين أو نقول الصلاة أصلها من الإتباع ومنه أخذ المصلي من الخيل الذي يتلو السابق لأن رأسه يكون على صلوى السابق وهما ناحيتا الفخذين والمراد دينك يأمرك بذلك والثاني أن المراد منه هذه الأعمال المخصوصة روي أن شعيباً كان كثير الصلاة وكان قومه إذا رأوه يصلي تغامزوا وتضاحكوا فقصدوا بقولهم أصلاتك تأمرك السخرية والهزؤ وكما أنك إذا رأيت معتوهاً يطالع كتباً ثم يذكر كلاماً فاسداً فيقال له هذا من مطالعة تلك الكتب على سبيل الهزؤ والسخرية فكذا ههنا
فإن قيل تقدير الآية أصلواتك تأمرك أن نفعل في أموالنا ما نشاء وهم إنما ذكروا هذا الكلام على سبيل الإنكار وهم ما كانوا ينكرون كونهم فاعلين في أموالهم ما يشاؤن فكيف وجه التأويل
قلنا فيه وجهان الأول التقدير أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا وأن نترك فعل ما نشاء وعلى هذا فقوله أَوْ أَن نَّفْعَلَ معطوف على ما في قوله مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا والثاني أن تجعل الصلاة آمرة وناهية والتقدير أصلواتك تأمرك بأن نترك عبادة الأوثان وتنهاك أن نفعل في أموالنا ما نشاء وقرأ ابن أبي عبلة أَوْ أَن تَفْعَلْ فِى أَمْوَالِنَا مَا تَشَاء بتاء الخطاب فيهما وهو ما كان يأمرهم به من ترك التطفيف والبخس والاقتناع بالحلال القليل وأنه خير من الحرام الكثير
ثم قال تعالى حكاية عنهم إِنَّكَ لاَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ وفيه وجوه
الوجه الأول أن يكون المعنى إنك لأنت السفيه الجاهل إلا أنهم عكسوا ذلك على سبيل الاستهزاء والسخرية به كما يقال للبخيل الخسيس لو رآك حاتم لسجد لك
والوجه الثاني أن يكون المراد إنك موصوف عند نفسك وعند قومك بالحلم والرشد
والوجه الثالث أنه عليه السلام كان مشهوراً عندهم بأنه حليم رشيد فلما أمرهم بمفارقة طريقتهم قالوا له إنك لأنت الحليم الرشيد المعروف الطريقة في هذا الباب فكيف تنهانا عن دين ألفيناه من آبائنا وأسلافنا والمقصود استبعاد مثل هذا العمل ممن كان موصوفاً بالحلم والرشد وهذا الوجه أصوب الوجوه

قَالَ ياقَوْمِ أَرَءَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَة ٍ مِّن رَّبِّى وَرَزَقَنِى مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِى إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ وَياقَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِى أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَآ أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّى رَحِيمٌ وَدُودٌ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى حكى عن شعيب عليه السلام ما ذكره في الجواب عن كلماتهم فالأول قوله قَالَ ياقَوْمِ أَرَءيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيّنَة ٍ مّن رَّبّى وَرَزَقَنِى مِنْهُ وفيه وجوه الأول أن قوله إِن كُنتُ عَلَى بَيّنَة ٍ مّن رَّبّى إشارة إلى ما آتاه الله تعالى من العلم والهداية والدين والنبوة وقوله وَرَزَقَنِى مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا إشارة إلى ما آتاه الله من المال الحلال فإنه يروى أن شعيباً عليه السلام كان كثير المال
واعلم أن جواب إن الشرطية محذوف والتقدير أنه تعالى لما آتاني جميع السعادات الروحانية وهي البينة والسعادات الجسمانية وهي المال والرزق الحسن فهل يسعني مع هذا الإنعام العظيم أن أخون في وحيه وأن أخالفه في أمره ونهيه وهذا الجواب شديد المطابقة لما تقدم وذلك لأنهم قالوا له إِنَّكَ لاَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ فكيف يليق بك مع حلمك ورشدك أن تنهانا عن دين آبائنا فكأنه قال إنما أقدمت على هذا العمل لأن نعم الله تعالى عندي كثيرة وهو أمرني بهذا التبليغ والرسالة فكيف يليق بي مع كثرة نعم الله تعالى على أن أخالف أمره وتكليفه الثاني أن يكون التقدير كأنه يقول لما ثبت عندي أن الاشتغال بعبادة غير الله والاشتغال بالبخس والتطفيف عمل منكر ثم أنا رجل أريد إصلاح أحوالكم ولا أحتاج إلى أموالكم لأجل أن الله تعالى آتاني رزقاً حسناً فهل يسعني مع هذه الأحوال أن أخون في وحي الله تعالى وفي حكمه الثالث قوله إِن كُنتُ عَلَى بَيّنَة ٍ مّن رَّبّى أي ما حصل عنده من المعجزة وقوله وَرَزَقَنِى مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا المراد أنه لا يسألهم أجراً ولا جعلاً وهو الذي ذكره سائر الأنبياء من قولهم لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِى َ إِلاَّ عَلَى رَبّ الْعَالَمِينَ
المسألة الثانية قوله وَرَزَقَنِى مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا يدل على أن ذلك الرزق إنما حصل من عند الله تعالى وبإعانته وأنه لا مدخل للكسب فيه وفيه تنبيه على أن الإعزاز من الله تعالى والإذلال من الله تعالى وإذا كان الكل من الله تعالى فأنا لا أبالي بمخالفتكم ولا أفرح بموافقتكم وإنما أكون على تقرير دين الله تعالى

وإيضاح شرائع الله تعالى
وأما الوجه الثاني من الأجوبة التي ذكرها شعيب عليه السلام فقوله وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ قال صاحب ( الكشاف ) يقال خالفني فلان إلى كذا إذا قصده وأنت مول عنه وخالفني عنه إذا ولَّى عنه وأنت قاصده ويلقاك الرجل صادراً عن الماء فتسأله عن صاحبه فيقول خالفني إلى الماء يريد أنه قد ذهب إليه وارداً وأنا ذهب عنه صادراً ومنه قوله وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ يعني أن أسبقكم إلى شهواتكم التي نهيتكم عنها لأستبد بها دونكم فهذا بيان اللغة وتحقيق الكلام فيه أن القوم اعترفوا بأنه حليم رشيد وذلك يدل على كمال العقل وكمال العقل يحمل صاحبه على اختيار الطريق الأصوب الأصلح فكأنه عليه السلام قال لهم لما اعترفتم بكمال عقلي فاعلموا أن الذي اختاره عقلي لنفسي لا بد وأن يكون أصوب الطرق وأصلحها والدعوة إلى توحيد الله تعالى وترك البخس والنقصان يرجع حاصلهما إلى جزأين التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلق الله تعالى وأنا مواظب عليهما غير تارك لهما في شيء من الأحوال ألبتة فلما اعترفتم لي بالحلم والرشد وترون أني لا أترك هذه الطريقة فاعلموا أن هذه الطريقة خير الطرق وأشرف الأديان والشرائع
وأما الوجه الثالث من الوجوه التي ذكرها شعيب عليه السلام فهو قوله إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ والمعنى ما أريد إلا أن أصلحكم بموعظتي ونصيحتي وقوله مَا اسْتَطَعْتُ فيه وجوه الأول أنه ظرف والتقدير مدة استطاعتي للإصلاح وما دمت متمكناً منه لا آلو فيه جهداً والثاني أنه بدل من الإصلاح أي المقدار الذي استطعت منه والثالث أن يكون مفعولاً له أي ما أريد إلا أن أصلح ما استطعت إصلاحه
واعلم أن المقصود من هذا الكلام أن القوم كانوا قد أقروا بأنه حليم رشيد وإما أقروا له بذلك لأنه كان مشهوراً فيما بين الخلق بهذه الصفة فكأنه عليه السلام قال لهم إنكم تعرفون من حالي أني لا أسعى إلا في الإصلاح وإزالة الفساد والخصومة فلما أمرتكم بالتوحيد وترك إيذاء الناس فاعلموا أنه دين حق وأنه ليس غرضي منه إيقاع الخصومة وإثارة الفتنة فإنكم تعرفون أني أبغض ذلك الطريق ولا أدور إلا على ما يوجب الصلح والصلاح بقدر طاقتي وذلك هو الإبلاغ والإنذار وأما الإجبار على الطاعة فلا أقدر عليه ثم إنه عليه السلام أكد ذلك بقوله وَمَا تَوْفِيقِى إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ وبين بهذا أن توكله واعتماده في تنفيذ كل الأعمال الصالحة على توفيق الله تعالى وهدايته
واعلم أن قوله عليه السلام توكلت إشارة إلى محض التوحيد لأن قوله عليه السلام توكلت يفيد الحصر وهو أنه لا ينبغي للإنسان أن يتوكل على أحد إلا على الله تعالى وكيف وكل ما سوى الحق سبحانه ممكن لذاته فإن بذاته ولا يحصل إلا بإيجاده وتكوينه وإذا كان كذلك لم يجز التوكل إلا على الله تعالى وأعظم مراتب معرفة المبدأ هو الذي ذكرناه وأما قوله وَإِلَيْهِ أُنِيبُ فهو إشارة إلى معرفة المعاد وهو أيضاً يفيد الحصر لأن قوله وَإِلَيْهِ أُنِيبُ يدل على أنه لا مرجع للخلق إلا إلى الله تعالى وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه كان إذا ذكر شعيب عليه السلام قال ( ذاك خطيب الأنبياء ) لحسن مراجعته في كلامه بين قومه
وأما الوجه الرابع من الوجوه التي ذكرها شعيب عليه السلام فهو قوله أُنِيبُ وَياقَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِى أَن يُصِيبَكُم

قال صاحب ( الكشاف ) جرم مثل كسب في تعديته تارة إلى مفعول واحد وأخرى إلى مفعولين يقال جرم ذنباً وكسبه وجرمه ذنباً وكسبه إياه ومنه قوله تعالى لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِى أَن يُصِيبَكُم أي لا يكسبنكم شقاقي إصابة العذاب وقرأ ابن كثير يَجْرِمَنَّكُمْ بضم الياء من أجرمته ذنباً إذا جعلته جارماً له أي كاسباً له وهو منقول من جرم المتعدي إلى مفعول واحد وعلى هذا فلا فرق بين جرمته ذنباً وأجرمته إياه والقراءتان مستويتان في المعنى لا تفاوت بينهما إلا أن المشهورة أفصح لفظاً كما أن كسبه مالاً أفصح من أكسبه
إذا عرفت هذا فنقول المراد من الآية لا تكسبنكم معاداتكم إياي أي يصيبكم عذاب الاستئصال في الدنيا مثل ما حصل لقوم نوح عليه السلام من الغرق ولقوم عود من الريح العقيم ولقوم صالح من الرجفة ولقوم لوط من الخسف
وأما قوله وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مّنكُم بِبَعِيدٍ ففيه وجهان الأول أن المراد نفي البعد في المكان لأن بلاد قوم لوط عليه السلام قريبة من مدين والثاني أن المراد نفي البعد في الزمان لأن إهلاك قوم لوط عليه السلام أقرب الإهلاكات التي عرفها الناس في زمان شعيب عليه السلام وعلى هذين التقديرين فإن القرب في المكان وفي الزمان يفيد زيادة المعرفة وكمال الوقوف على الأحوال فكأنه يقول اعتبروا بأحوالهم واحذروا من مخالفة الله تعالى ومنازعته حتى لا ينزل بكم مثل ذلك العذاب
فإن قيل لم قال وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مّنكُم بِبَعِيدٍ وكان الواجب أن يقال ببعيدين
أجاب عنه صاحب ( الكشاف ) من وجهين الأول أن يكون التقدير ما إهلاكهم شيء بعيد الثاني أنه يجوز أن يسوى في قريب وبعيد وكثير وقليل بين المذكر والمؤنث لورودها على زنة المصادر التي هي الصهيل والنهيق ونحوهما
وأما الوجه الخامس من الوجوه التي ذكرها شعيب عليه السلام فهو قوله واستغفروا ربكم من عبادة الأوثان ثم توبوا إليه عن البخس والنقصان إن ربي رحيم بأوليائه ودود قال أبو بكر الأنباري الودود في أسماء الله تعالى المحب لعباده من قولهم وددت الرجل أوده وقال الأزهري في ( كتاب شرح أسماء الله تعالى ) ويجوز أن يكون ودود فعولاً بمعنى مفعول كركوب وحلوب ومعناه أن عباده الصالحين يودونه ويحبونه لكثرة إفضاله وإحسانه على الخلق
واعلم أن هذا الترتيب الذي راعاه شعيب عليه السلام في ذكر هذه الوجوه الخمسة ترتيب لطيف وذلك لأنه بين أولاً أن ظهور البينة له وكثرة إنعام الله تعالى عليه في الظاهر والباطن يمنعه عن الخيانة في وحي الله تعالى ويصده عن التهاون في تكاليفه ثم بين ثانياً أنه مواظب على العمل بهذه الدعوة ولو كانت باطلة لما اشتغل هو بها مع اعترافكم بكونه حليماً رشيداً ثم بين صحته بطريق آخر وهو أنه كان معروفاً بتحصيل موجبات الصلاح وإخفاء موجبات الفتن فلو كانت هذه الدعوة باطلة لمااشتغل بها ثم لما بين صحة طريقته أشار إلى نفي المعارض وقال لا ينبغي أن تحملكم عداوتي على مذهب ودين تقعون بسببه في العذاب الشديد من الله تعالى كما وقع فيه أقوام الأنبياء المتقدمين ثم إنه لما صحح مذهب نفسه بهذه الدلائل عاد إلى تقرير ما ذكره أولاً وهو التوحيد والمنع من البخس بقوله ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ ثم بين لهم أن سبق الكفر والمعصية منهم لا ينبغي أن يمنعهم من الإيمان والطاعة لأنه تعالى رحيم ودود يقبل الإيمان والتوبة من الكافر والفاسق لأن رحمته وحبه لهم يوجب ذلك وهذا التقرير في غاية الكمال

قَالُواْ ياشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ
اعلم أنه عليه السلام لما بالغ في التقرير والبيان أجابوه بكلمات فاسدة فالأول قولهم قَالُواْ ياشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مّمَّا تَقُولُ وفيه مسائل
المسألة الأولى لقائل أن يقول أنه عليه السلام كان يخاطبهم بلسانهم فلم قالوا مَا نَفْقَهُ والعلماء ذكروا عنه أنواعاً من الجوابات فالأول أن المراد ما نفهم كثيراً مما تقول لأنهم كانوا لا يلقون إليه أفهامهم لشدة نفرتهم عن كلامه وهو كقوله وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّة ً أَن يَفْقَهُوهُ ( الأنعام 25 ) الثاني أنهم فهموه بقلوبهم ولكنهم ما أقاموا له وزناً فذكروا هذا الكلام على وجه الاستهانة كما يقول الرجل لصاحبه إذ لم يعبأ بحديثه ما أدري ما تقول الثالث أن هذه الدلائل التي ذكرها ما أقنعتهم في صحة التوحيد والنبوة والبعث وما يجب من ترك الظلم والسرقة فقولهم مَا نَفْقَهُ أي لم نعرف صحة الدلائل التي ذكرتها على صحة هذه المطالب
المسألة الثانية من الناس من قال الفقه اسم لعلم مخصوص وهو معرفة غرض المتكلم من كلامه واحتجوا بهذه الآية وهي قوله مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مّمَّا تَقُولُ فأضاف الفقه إلى القول ثم صار اسماً لنوع معين من علوم الدين ومنهم من قال إنه اسم لمطلق الفهم يقال أوتي فلان فقهاً في الدين أي فهماً وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ) أي يفهمه تأويله
والنوع الثاني من الأشياء التي ذكروها قولهم وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وفيه وجهان الأول أنه الضعيف الذي يتعذر عليه منع القوم عن نفسه والثاني أن الضعيف هو الأعمى بلغة حمير واعلم أن هذا القول ضعيف لوجوه الأول أنه ترك للظاهر من غير دليل والثاني أن قوله فِينَا يبطل هذا الوجه ألا ترى أنه لو قال إنا لنراك أعمى فينا كان فاسداً لأن الأعمى أعمى فيهم وفي غيرهم الثالث أنهم قالوا بعد ذلك وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ فنفوا عنه القوة التي أثبتوها في رهطه ولما كان المراد بالقوة التي أثبتوها للرهط هي النصرة وجب أن تكون القوة التي نفوها عنه هي النصرة والذين حملوا اللفظ على ضعف البصر لعلهم إنما حملوه عليه لأنه سبب للضعف
واعلم أن أصحابنا يحوزون العمى على الأنبياء إلا أن هذا اللفظ لا يحسن الاستدلال به في إثبات هذا المعنى لما بيناه وأما المعتزلة فقد اختلفوا فيه فمنهم من قال إنه لا يجوز لكونه متعبداً فإنه لا يمكنه الاحتراز عن النجاسات ولأنه ينحل بجواز كونه حاكماً وشاهداً فلأن يمنع من النبوة كان أولى والكلام فيه لا يليق بهذه الآية لأنا بينا أن الآية لا دلالة فيها على هذا المعنى
والنوع الثالث من الأشياء التي ذكروها قولهم وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وفيه مسألتان

المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) الرهط من الثلاثة إلى العشرة وقيل إلى السبعة وقد كان رهطه على ملتهم قالوا لولا حرمة رهطك عندنا بسبب كونهم على ملتنا لرجمناك والمقصود من هذا الكلام أنهم بينوا أنه لا حرمة له عندهم ولا وقع له في صدورهم وأنهم إنما لم يقتلوه لأجل احترامهم رهطه
المسألة الثانية الرجم في اللغة عبارة عن الرمي وذلك قد يكون بالحجارة عند قصد القتل ولما كان هذا الرجم سبباً للقتل لا جرم سموا القتل رجماً وقد يكون بالقول الذي هو القذف كقوله رَجْماً بِالْغَيْبِ ( الكهف 22 ) وقوله وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ( سبأ 53 ) وقد يكون بالشتم واللعن ومنه قوله الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ( النحل 98 ) وقد يكون بالطرد كقوله رُجُوماً لّلشَّيَاطِينِ ( الملك 5 )
إذا عرفت هذا ففي الآية وجهان الأول لَرَجَمْنَاكَ لقتلناك الثاني لشتمناك وطردناك
النوع الرابع من الأشياء التي ذكروها قولهم وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ ومعناه أنك لما لم تكن علينا عزيزاً سهل علينا الإقدام على قتلك وإيذائك
واعلم أن كل هذه الوجوه التي ذكروها ليست دافعاً لما قرره شعيب عليه السلام من الدلائل والبينات بل هي جارية مجرى مقابلة الدليل والحجة بالشتم والسفاهة
قَالَ ياقَوْمِ أَرَهْطِى أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً إِنَّ رَبِّى بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ وَياقَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّى عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّى مَعَكُمْ رَقِيبٌ
اعلم أن الكفار لما خوفوا شعيباً عليه السلام بالقتل والإيذاء حكى الله تعالى عنه ما ذكره في هذا المقام وهو نوعان من الكلام
النوع الأول قوله قَالَ ياقَوْمِ أَرَهْطِى أَعَزُّ عَلَيْكُم مّنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءكُمْ ظِهْرِيّاً إِنَّ رَبّى بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ والمعنى أن القوم زعموا أنهم تركوا إيذاءه رعاية لجانب قومه فقال أنتم تزعمون أنكم تتركون قتلي إكراماً لرهطي والله تعالى أولى أن يتبع أمره فكأنه يقول حفظتكم إياي رعاية لأمر الله تعالى أولى من حفظكم إياي رعاية لحق رهطي
وأما قوله وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءكُمْ ظِهْرِيّاً فالمعنى أنكم نسيتموه وجعلتموه كالشيء المنبوذ وراء الظهر لا يعبأ به قال صاحب ( الكشاف ) والظهري منسوب إلى الظهر والكسر من تغيرات النسب ونظيره قولهم في النسبة إلى الأمس إمسي بكسر الهمزة وقوله إِنَّ رَبّى بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ يعني أنه عالم بأحوالكم فلا يخفى عليه شيء منها

والنوع الثاني قوله قُلْ يَاقَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنّى عَامِلٌ والمكانة الحالة يتمكن بها صاحبها من عمله والمعنى اعملوا حال كونكم موصوفين بغاية المكنة والقدرة وكل ما في وسعكم وطاقتكم من إيصال الشرور إلي فإني أيضاً عامل بقدر ما آتاني الله تعالى من القدرة
ثم قال سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وفيه مسألتان
المسألة الأولى لقائل أن يقول لم لم يقل فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ والجواب إدخال الفاء وصل ظاهر بحرف موضوع للوصل وإما بحذف الفاء فإنه يجعله جواباً عن سؤال مقدر والتدير أنه لما قال قُلْ يَاقَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنّى عَامِلٌ فكأنهم قالوا فماذا يكون بعد ذلك فقال سَوْفَ تَعْلَمُونَ فظهر أن حذف حرف الفاء ههنا أكمل في باب الفظاعة والتهويل ثم قال وَارْتَقِبُواْ إِنّى مَعَكُمْ رَقِيبٌ والمعنى فانتظروا العاقبة إني معكم رقيب أي منتظر والرقيب بمعنى الراقب من رقبه كالضريب والصريم بمعنى الضارب والصارم أو بمعنى المراقب كالعشير والنديم أو بمعنى المرتقب كالفقير والرفيع بمعنى المفتقر والمرتفع
وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَة ٍ مِّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَة ُ فَأَصْبَحُواْ فِى دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ أَلاَ بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ
روى الكلبي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لم يعذب الله تعالى أمتين بعذاب واحد إلا قوم شعيب وقوم صالح فأما قوم صالح فأخذتهم الصيحة من تحتهم وقوم شعيب أخذتهم من فوقهم وقوله وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا يحتمل أن يكون المراد منه ولما جاء وقت أمرنا ملكاً من الملائكة بتلك الصيحة ويحتمل أن يكون المراد من الأمر العقاب وعلى التقديرين فأخبر الله أنه نجى شعيباً ومن معه من المؤمنين برحمة منه وفيه وجهان الأول أنه تعالى إنما خلصه من ذلك العذاب لمحض رحمته تنبيهاً على أن كل ما يصل إلى العبد فليس إلا بفضل الله ورحمته والثاني أن يكون المراد من الرحمة الإيمان والطاعة وسائر الأعمال الصالحة وهي أيضاً ما حصلت إلا بتوفيق الله تعالى ثم وصف كيفية ذلك العذاب فقال وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَة ُ وإنما ذكر الصيحة بالألف واللام إشارة إلى المعهود السابق وهي صيحة جبريل عليه السلام فَأَصْبَحُواْ فِى دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ والجاثم الملازم لمكانه الذي لا يتحول عنه يعني أن جبريل عليه السلام لما صاح بهم تلك الصيحة زهق روح كل واحد منهم بحيث يقع في مكانه ميتاً كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أي كأن لم يقيموا في ديارهم أحياء متصرفين مترددين
ثم قال تعالى أَلاَ بُعْدًا لّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ وقد تقدم تفسير هذه اللفظة وإنما قاس حالهم على ثمود لما ذكرنا أنه تعالى عذبهم مثل عذاب ثمود

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ وَأُتْبِعُواْ فِى هَاذِهِ لَعْنَة ً وَيَوْمَ الْقِيَامَة ِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ
واعلم أن هذه هي القصة السابعة من القصص التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة وهي آخر القصص من هذه السورة أما قوله بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ففيه وجوه الأول أن المراد من الآيات التوراة مع ما فيها من الشرائع والأحكام ومن السلطان المبين المعجزات القاهرة الباهرة والتقدير ولقد أرسلنا موسى بشرائع وأحكام وتكاليف وأيدناه بمعجزات قاهرة وبينات باهرة الثاني أن الآيات هي المعجزات والبينات وهو كقوله إِنْ عِندَكُمْ مّن سُلْطَانٍ بِهَاذَا ( يونس 68 ) وقوله مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ ( النجم 23 ) وعلى هذا التقدير ففي الآية وجهان الأول أن هذه الآيات فيها سلطان مبين لموسى على صدق نبوته الثاني أن يراد السلطان المبين العصا لأنه أشهرها وذلك لأنه تعالى أعطى موسى تسع آيات بينات وهي العصا واليد والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ونقص من الثمرات والأنفس ومنهم من أبدل نقص الثمرات والأنفس بإظلال الجبل وفلق البحر واختلفوا في أن الحجة لم سميت بالسلطان فقال بعض المحققين لأن صاحب الحجة يقهر من لا حجة معه عند النظر كما يقهر السلطان غيره فلهذا توصف الحجة بأنها سلطان وقال الزجاج السلطان هو الحجة والسلطان سمي سلطاناً لأنه حجة الله في أرضه واشتقاقه من السليط والسليط ما يضاء به ومن هذا قيل للزيت السليط وفيه قول ثالث وهو أن السلطان مشتق من التسليط والعلماء سلاطين بسبب كمالهم في القوة العلمية والملوك سلاطين بسبب ما معهم من القدرة والمكنة إلا أن سلطنة العلماء أكمل وأقوى من سلطنة الملوك لأن سلطنة العلماء لا تقبل النسخ والعزل وسلطنة الملوك تقبلهما ولأن سلطنة الملوك تابعة لسلطنة العلماء وسلطنة العلماء من جنس سلطنة الأنبياء وسلطنة الملوك من جنس سلطنة الفراعنة
فإن قيل إذا حملتم الآيات المذكورة في قوله بِئَايَاتِنَا على المعجزات والسلطان أيضاً على الدلائل والمبين أيضاً معناه كونه سبباً للظهور فما الفرق بين هذه المراتب الثلاثة
قلنا الآيات اسم للقدر المشترك بين العلامات التي تفيد الظن وبين الدلائل التي تفيد اليقين وأما السلطان فهو اسم لما يفيد القطع واليقين إلا أنه اسم للقدر المشترك بين الدلائل التي تؤكد بالحس وبين الدلائل التي لم تتأكد بالحس وأما الدليل القاطع الذي تأكد بالحس فهو السلطان المبين ولما كانت

معجزات موسى عليه السلام هكذا لا جرم وصفها الله بأنها سلطان مبين ثم قال إِلَى فِرْعَوْنَ يعني وأرسلنا موسى بآياتنا بمثل هذه الآيات إلى فرعون وملائه أي جماعته ثم قال وَمَلإِيْهِ فَاتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ ويحتمل أن يكون المراد أمره إياهم بالكفر بموسى ومعجزاته ويحتمل أن يكون المراد من الأمر الطريق والشأن
ثم قال تعالى وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ أي بمرشد إلى خير وقيل رشيد أي ذي رشد
واعلم أن بعد طريق فرعون من الرشد كان ظاهراً لأنه كان دهرياً نافياً للصانع والمعاد وكان يقول لا إله للعالم وإنما يجب على أهل كل بلد أن يشتغلوا بطاعة سلطانهم وعبوديته رعاية لمصلحة العالم وأنكر أن يكون الرشد في عبادة الله ومعرفته فلما كان هو نافياً لهذين الأمرين كان خالياً عن الرشد بالكلية ثم إنه تعالى ذكر صفته وصفة قومه فقال يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وفيه بحثان
البحث الأول من حيث اللغة يقال قدم فلان فلاناً بمعنى تقدمه ومنه قادمة الرجل كما يقال قدمه بمعنى تقدمه ومنه مقدمة الجيش
والبحث الثاني من حيث المعنى وهو أن فرعون كان قدوة لقومه في الضلال حال ما كانوا في الدنيا وكذلك مقدمهم إلى النار وهم يتبعونه أو يقال كما تقدم قومه في الدنيا فأدخلهم في البحر وأغرقهم فكذلك يتقدمهم يوم القيامة فيدخلهم النار ويحرقهم ويجوز أيضاً أن يريد بقوله وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ أي وما أمره بصالح حميد العاقبة ويكون قوله يَقْدُمُ قَوْمَهُ تفسيراً لذلك وأيضاحاً له أي كيف يكون أمره رشيداً مع أن عاقبته هكذا
فإن قيل لم لم يقل يقدم قومه فيوردهم النار بل قال يقدم قومه فأوردهم النار بلفظ الماضي
قلنا لأن الماضي قد وقع ودخل في الوجود فلا سبيل ألبتة إلى دفعه فإذا عبر عن المستقبل بلفظ الماضي دل على غاية المبالغة ثم قال وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ وفيه بحثان
البحث الأول لفظ ( النار ) مؤنث فكان ينبغي أن يقال وبئست الورد المورود إلا أن لفظ ( الورد ) مذكر فكان التذكير والتأنيث جائزين كما تقول نعم المنزل دارك ونعمت المنزل دارك فمن ذكر غلب المنزل ومن أنث بنى على تأنيث الدار هكذا قاله الواحدي
البحث الثاني الورد قد يكون بمعنى الورود فيكون مصدراً وقد يكون بمعنى الوارد قال تعالى وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً ( مريم 86 ) وقد يكون بمعنى المورود عليه كالماء الذي يورد عليه قال صاحب ( الكشاف ) الورد المورود الذي حصل وروده فشبه الله تعالى فرعون بمن يتقدم الواردة إلى الماء وشبه أتباعه بالواردين إلى الماء ثم قال بئس الورد الذي يوردونه النار لأن الورد إنما يراد لتسكين العطش وتبريد الأكباد والنار ضده
ثم قال وَأُتْبِعُواْ فِى هَاذِهِ لَعْنَة ً وَيَوْمَ الْقِيَامَة ِ والمعنى أنهم أتبعوا في هذه الدنيا لعنة وفي يوم القيامة أيضاً ومعناه أن اللعن من الله ومن الملائكة والأنبياء ملتصق بهم في الدنيا وفي الآخرة لا يزول عنهم ونظيره قوله في سورة القصص وَأَتْبَعْنَاهُم فِى هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَة ً وَيَوْمَ القِيَامَة ِ هُمْ مّنَ الْمَقْبُوحِينَ ( القصص 42 )
ثم قال بِئْسَ الرّفْدُ الْمَرْفُودُ والرفد هو العطية وأصله الذي يعين على المطلوب سأل نافع بن

الأزرق ابن عباس رضي الله عنهما عن قوله بِئْسَ الرّفْدُ الْمَرْفُودُ قال هو اللعنة بعد اللعنة قال قتادة ترادفت عليهم لعنتان من الله تعالى لعنة في الدنيا ولعنة في الآخرة وكل شيء جعلته عوناً لشيء فقد رفدته به
ذَالِكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَاكِن ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ ءَالِهَتَهُمُ الَّتِى يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مِن شَى ْءٍ لَّمَّا جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ
اعلم أنه تعالى لما ذكر قصص الأولين قال ذالِكَ مِنْ أَنْبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ والفائدة في ذكرها أمور أولها أن الانتفاع بالدليل العقلي المحض إنما يحصل للإنسان الكامل وذلك إنما يكون في غاية الندرة فأما إذا ذكرت الدلائل ثم أكدت بأقاصيص الأولين صار ذكر هذه الأقاصيص كالموصل لتلك الدلائل العقلية إلى العقول
الوجه الثاني أنه تعالى خلط بهذه الأقاصيص أنواع الدلائل التي كان الأنبياء عليهم السلام يتمسكون بها ويذكر مدافعات الكفار لتلك الدلائل وشبهاتهم في دفعها ثم يذكر عقيبهما أجوبة الأنبياء عنها ثم يذكر عقيبها أنهم لما أصروا واستكبروا وقعوا في عذاب الدنيا وبقي عليهم اللعن والعقاب في الدنيا وفي الآخرة فكان ذكر هذه القصص سبباً لإيصال الدلائل والجوابات عن الشبهات إلى قلوب المنكرين وسبباً لإزالة القسوة والغلظة عن قلوبهم فثبت أن أحسن الطرق في الدعوة إلى الله تعالى ما ذكرناه
الفائدة الثالثة أنه عليه السلام كان يذكر هذه القصص من غير مطالعة كتب ولا تلمذ لأحد وذلك معجزة عظيمة تدل على النبوة كما قررناه
الفائدة الرابعة إن الذين يسمعون هذه القصص يتقرر عندهم أن عاقبة الصديق والزنديق والموافق والمنافق إلى ترك الدنيا والخروج عنها إلا أن المؤمن يخرج من الدنيا مع الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في الآخرة والكافر يخرج من الدنيا مع اللعن في الدنيا والعقاب في الآخرة فإذا تكررت هذه الأقاصيص على السمع فلا بد وأن يلين القلب وتخضع النفس وتزول العداوة ويحصل في القلب خوف يحمله على النظر والاستدلال فهذا كلام جليل في فوائد ذكر هذه القصص
أما قوله ذالِكَ مِنْ أَنْبَاء الْقُرَى ففيه أبحاث
البحث الأول أو قوله ذالِكَ إشارة إلى الغائب والمراد منه ههنا الإشارة إلى هذه القصص التي تقدمت وهي حاضرة إلا أن الجواب عنه ما تقدم في قوله ذالِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ ( البقرة 2 )
البحث الثاني أن لفظ ( ذلك ) يشار به إلى الواحد والاثنين والجماعة لقوله تعالى لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذالِكَ ( البقرة 68 )

وأيضاً يحتمل أن يكون المراد ذلك الذي ذكرناه هو كذا وكذا
البحث الثالث قال صاحب ( الكشاف ) ( ذلك ) مبتدأ مِنْ أَنْبَاء الْقُرَى خبر نَقُصُّهُ عَلَيْكَ خبر بعد خبر أي ذلك المذكور بعض أنبار القرى مقصوص عليك ثم قال مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ والضمير في قوله مِنْهَا يعود إلى القرى شبه ما بقي من آثار القرى وجدرانها بالزرع القائم على ساقه وما عفا منها وبطر بالحصيد والمعنى أن تلك القرى بعضها بقي منه شيء وبعضها هلك وما بقي منه أثر ألبتة
ثم قال تعالى وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَاكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وفيه وجوه الأول وما ظلمناهم بالعذاب والإهلاك ولكن ظلموا أنفسهم بالكفر والمعصية الثاني أن الذي نزل بالقوم ليس بظلم من الله بل هو عدل وحكمة لأجل أن القوم أولاً ظلموا أنفسهم بسبب إقدامهم على الكفر والمعاصي فاستوجبوا لأجل تلك الأعمال من الله ذلك العذاب الثالث قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد وما نقصناهم من النعيم في الدنيا والرزق ولكن نقصوا حظ أنفسهم حيث استخفوا بحقوق الله تعالى
ثم قال فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ ءالِهَتَهُمُ الَّتِى يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مِن شَى ْء أي ما نفعتهم تلك الآلهة في شيء ألبتة
ثم قال وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ قال ابن عباس رضي الله عنهما غير تخسير يقال تب إذا خسر وتببه غيره إذا أوقعه في الخسران والمعنى أن الكفار كانوا يعتقدون في الأصنام أنها تعين على تحصيل المنافع ودفع المضار ثم إنه تعالى أخبر أنهم عند مساس الحاجة إلى المعين ما وجدوا منها شيئاً لا جلب نفع ولا دفع ضر ثم كما لم يجدوا ذلك فقد وجدوا ضده وهو أن ذلك الاعتقاد زال عنهم به منافع الدنيا والآخرة وجلب إليهم مضار الدنيا والآخرة فكان ذلك من أعظم موجبات الخسران
وَكَذالِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِى َ ظَالِمَة ٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَة ً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الاٌّ خِرَة ِ ذالِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَالِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لاًّجَلٍ مَّعْدُودٍ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ عاصم والجحدري إِذْ أَخَذَ الْقُرَى بألف واحدة وقرأ الباقون بألفين
المسألة الثانية اعلم أنه تعالى لما أخبر الرسول عليه السلام في كتابه بما فعل بأمم من تقدم من الأنبياء لما خالفوا الرسل وردوا عليهم من عذاب الاستئصال وبين أنهم ظلموا أنفسهم فحل بهم العذاب في الدنيا قال بعده وَكَذالِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِى َ ظَالِمَة ٌ فبين أن عذابه ليس بمقتصر على من تقدم بل الحال في أخذ كل الظالمين يكون كذلك وقوله وَهِى َ ظَالِمَة ٌ الضمير فيه عائد إلى القرى وهو في

الحقيقة عائد إلى أهلها ونظيره قوله وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَة ٍ كَانَتْ ظَالِمَة ً ( الأنبياء 11 ) وقوله وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَة ٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا ( القصص 58 )
واعلم أنه تعالى لما بين كيفية أخذ الأمم المتقدمة ثم بين أنه إنما يأخذ جميع الظالمين على ذلك الوجه أتبعه بما يزيده تأكيداً وتقوية فقال إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ فوصف ذلك العذاب بالإيلام وبالشدة ولا منغصة في الدنيا إلا الألم ولا تشديد في الدنيا وفي الآخرة وفي الوهم والعقل إلا تشديد الألم
واعلم أن هذه الآية تدل على أن من أقدم على ظلم فإنه يجب عليه أن يتدارك ذلك بالتوبة والإنابة لئلا يقع في الأخذ الذي وصفه الله تعالى بأنه أليم شديد ولا ينبغي أن يظن أن هذه الأحكام مختصة بأولئك المتقدمين لأنه تعالى لما حكى أحوال المتقدمين قال وَكَذالِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِى َ ظَالِمَة ٌ فبين أن كل من شارك أولئك المتقدمين في فعل ما لا ينبغي فلا بد وأن يشاركهم في ذلك الأخذ الأليم الشديد
ثم قال تعالى إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَة ً لّمَنْ خَافَ عَذَابَ الاْخِرَة ِ قال القفال تقرير هذا الكلام أن يقال إن هؤلاء إنما عذبوا في الدنيا لأجل تكذيبهم الأنبياء وإشراكهم بالله فإذا عذبوا في الدنيا على ذلك وهي دار العمل فلأن يعذبوا عليه في الآخرة التي هي دار الجزاء كان أولى
واعلم أن كثيراً ممن تنبه لهذا البحث من المفسرين عولوا على هذا الوجه بل هو ضعيف وذلك لأن على هذا الوجه الذي ذكره القفال يكون ظهور عذاب الاستئصال في الدنيا دليلاً على أن القول بالقيامة والبعث والنشر حق وصدق وظاهر الآية يقتضي أن العلم بأن القيامة حق كالشرط في حصول الاعتبار بظهور عذاب الاستئصال وهذا المعنى كالمضاد لما ذكره القفال لأن القفال يجعل العلم بعذاب الاستئصال أصلاً للعلم بأن القيامة حق فبطل ما ذكره القفال والأصوب عندي أن يقال العلم بأن القيامة حق موقوف على العلم بأن المدبر لوجود هذه السموات والأرضين فاعل مختار لا موجب بالذات وما لم يعرف الإنسان أن إله العالم فاعل مختار وقادر على كل الممكنات وأن جميع الحوادث الواقعة في السموات والأرضين لا تحصل إلا بتكوينه وقضائه لا يمكنه أن يعتبر بعذاب الاستئصال وذلك لأن الذين يزعمون أن المؤثر في وجود هذا العالم موجب بالذات لا فاعل مختار يزعمون أن هذه الأحوال التي ظهرت في أيام الأنبياء مثل الغرق والحرق والخسف والمسخ والصيحة كلها إنما حدثت بسبب قرانات الكواكب واتصال بعضها ببعض وإذا كان الأمر كذلك فحينئذ لا يكون حصولها دليلاً على صدق الأنبياء فأما الذي يؤمن بالقيامة فلا يتم ذلك الإيمان إلا إذا اعتقد أنه إله العالم فاعل مختار وأنه عالم بجميع الجزئيات وإذا كان الأمر كذلك لزم القطع بأن حدوث هذه الحوادث الهائلة والوقائع العظيمة إنما كان بسبب أن إله العالم خلقها وأوجدها وأنها ليست بسبب طوالع الكواكب وقراناتها وحينئذ ينتفع بسماع هذه القصص ويستدل بها على صدق الأنبياء فثبت بهذا صحة قوله إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَة ً لّمَنْ خَافَ عَذَابَ الاْخِرَة ِ
ثم قال تعالى ذالِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذالِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ
واعلم أنه تعالى لما ذكر الآخرة وصف ذلك اليوم بوصفين أحدهما أنه يوم مجموع له الناس والمعنى أن خلق الأولين والآخرين كلهم يحشرون في ذلك اليوم ويجمعون والثاني أنه يوم مشهود قال

ابن عباس رضي الله عنهما يشهده البر والفاجر وقال آخرون يشهده أهل السماء وأهل الأرض والمراد من الشهود الحضور والمقصود من ذكره أنه ربما وقع في قلب إنسان أنهم لما جمعوا في ذلك الوقت لم يعرف كل أحد إلا واقعة نفسه فبين تعالى أن تلك الوقائع تصير معلومة للكل بسبب المحاسبة والمساءلة
ثم قال تعالى وَمَا نُؤَخّرُهُ إِلاَّ لاِجَلٍ مَّعْدُودٍ والمعنى أن تأخير الآخرة وإفناء الدنيا موقوف على أجل معدود وكل ماله عدد فهو متناه وكل ما كان متناهياً فإنه لا بد وأن يفنى فيلزم أن يقال إن تأخير الآخرة سينتهي إلى وقت لا بد وأن يقيم الله القيامة فيه وأن تخرب الدنيا فيه وكل ما هو آت قريب
يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِى ٌّ وَسَعِيدٌ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِى النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ والأرض إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِى الْجَنَّة ِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ والأرض إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة يَأْتِ بحذف الياء والباقون بإثبات الياء قال صاحب ( الكشاف ) وحذف الياء والاجتزاء عنها بالكسرة كثير في لغة هذيل ونحوه قولهم لا أدر حكاه الخليل وسيبويه
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) فاعل يأتي هو الله تعالى كقوله هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ ( البقرة 210 ) وقوله أَوْ يَأْتِى َ رَبُّكَ ( الأنعام 158 ) ويعضده قراءة من قرأ وَمَا بالياء أقول لا يعجبني هذا التأويل لأن قوله حَكِيمٌ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ حكاه الله تعالى عن أقوام والظاهر أنهم هم اليهود وذلك ليس فيه حجة وكذا قوله أَوْ يَأْتِى َ رَبُّكَ أما ههنا فهو صريح كلام الله تعالى وإسناد فعل الإتيان إليه مشكل
فإن قالوا فما قولك في قوله تعالى وَجَاء رَبُّكَ
قلنا هناك تأويلات وأيضاً فهو صريح فلا يمكن دفعه فوجب الامتناع منه بل الواجب أن يقال المراد منه يوم يأتي الشيء المهيب الهائل المستعظم فحذف الله تعالى ذكره بتعيينه ليكون أقوى في التخويف
المسألة الثالثة قال صاحب ( الكشاف ) العامل في انتصاب الظرف هو قوله لاَ تَكَلَّمُ أو إضمار اذكر

أما قوله لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ففيه حذف والتقدير لا تكلم نفس فيه إلا بإذن الله تعالى
فإن قيل كيف الجمع بين هذه الآية وبين سائر الآيات التي توهم كونها مناقضة لهذه الآية منها قوله تعالى يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا ( النحل 111 ) ومنها أنهم يكذبون ويحلفون بالله عليه وهو قولهم وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ( الأنعام 23 ) ومنها قوله تعالى وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ ( الصافات 24 ) ومنها قوله هَاذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذُونَ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ( المرسلات 35 )
والجواب من وجهين الأول أنه حيث ورد المنع من الكلام فهو محمول على الجوابات الحقية الصحيحة الثاني أن ذلك اليوم يوم طويل وله مواقف ففي بعضها يجادلون عن أنفسهم وفي بعضها يكفون عن الكلام وفي بعضها يؤذن لهم فيتكلمون وفي بعضها يختم على أفواههم وتتكلم أيديهم وتشهد أرجلهم
أما قوله فَمِنْهُمْ شَقِى ٌّ وَسَعِيدٌ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) الضمير في قوله فَمِنْهُمْ لأهل الموقف ولم يذكر لأنه معلوم ولأن قوله لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يدل عليه لأنه قد مر ذكر الناس في قوله مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ ( هود 103 )
المسألة الثانية قوله فَمِنْهُمْ شَقِى ٌّ وَسَعِيدٌ يدل ظاهره على أن أهل الموقف لا يخرجون عن هذين القسمين
فإن قيل أليس في الناس مجانين وأطفال وهم خارجون عن هذين القسمين
قلنا المراد من يحشر ممن أطلق للحساب وهم لا يخرجون عن هذين القسمين
فإن قيل قد احتج القاضي بهذه الآية على فساد ما يقال إن أهل الأعراف لا في الجنة ولا في النار فما قولكم فيه
قلنا لما سلم أن الأطفال والمجانين خارجون عن هذين القسمين لأنهم لا يحاسبون فلم لا يجوز أيضاً أن يقال إن أصحاب الأعراف خارجون عنه لأنهم أيضاً لا يحاسبون لأن الله تعالى علم من حالهم أن ثوابهم يساوي عذابهم فلا فائدة في حسابهم
فإن قيل القاضي استدل بهذه الآية أيضاً على أن كل من حضر عرصة القيامة فإنه لا بد وأن يكون ثوابه زائداً أو يكون عقابه زائداً فأما من كان ثوابه مساوياً لعقابه فإنه وإن كان جائزاً في العقل إلا أن هذا النص دل على أنه غير موجود
قلنا الكلام فيه ما سبق من أن السعيد هو الذي يكون من أهل الثواب والشقي هو الذي يكون من أهل العقاب وتخصيص هذين القسمين بالذكر لا يدل على نفي القسم الثالث والدليل على ذلك أن أكثر الآيات مشتملة على ذكر المؤمن والكافر فقط وليس فيه ذكر ثالث لا يكون لا مؤمناً ولا كافراً مع أن القاضي أثبته فإذا لم يلزم من عدم ذكر ذلك الثالث عدمه فكذلك لا يلزم من ذكر هذا الثالث عدمه

المسألة الثالثة اعلم أنه تعالى حكم الآن على بعض أهل القيامة بأنه سعيد وعلى بعضهم بأنه شقي ومن حكم الله عليه بحكم وعلم منه ذلك الأمر امتنع كونه بخلافه وإلا لزم أن يصير خبر الله تعالى كذباً وعلمه جاهلاً وذلك محال فثبت أن السعيد لا ينقلب شقياً وأن الشقي لا ينقلب سعيداً وتقرير هذا الدليل مر في هذا الكتاب مراراً لا تحصى وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال لما نزل قوله تعالى فَمِنْهُمْ شَقِى ٌّ وَسَعِيدٌ قلت يا رسول الله فعلى ماذا نعمل على شيء قد فرغ منه أم على شيء لم يفرغ منه فقال ( على شيء قد فرغ منه يا عمر وجفت به الأقلام وجرت به الأقدار ولكن كل ميسر لما خلق له ) وقالت المعتزلة نقل عن الحسن أنه قال فمنهم شقي بعمله وسعيد بعمله
قلنا الدليل القاطع لا يدفع بهذه الروايات وأيضاً فلا نزاع أنه إنما شقي بعمله وإنما سعد بعمله ولكن لما كان ذلك العمل حاصلاً بقضاء الله وقدره كان الدليل الذي ذكرناه باقياً
واعلم أنه تعالى لما قسم أهل القيامة إلى هذين القسمين شرح حال كل واحد منهما فقال فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِى النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ وفيه مسائل
المسألة الأولى ذكروا في الفرق بين الزفير والشهيق وجوهاً
الوجه الأول قال الليث الزفير أن يملأ الرجل صدره حال كونه في الغم الشديد من النفس ولم يخرجه والشهيق أن يخرج ذلك النفس وقال الفراء يقال للفرس إنه عظيم الزفرة أي عظيم البطن وأقول إن الإنسان إذا عظم غمه انحصر روح قلبه في داخل القلب فإذا انحصر الروح قويت الحرارة وعظمت وعند ذلك يحتاج الإنسان إلى النفس القوي لأجل أن يستدخل هواء كثيراً بارداً حتى يقوى على ترويح تلك الحرارة فلهذا السبب يعظم في ذلك الوقت استدخال الهواء في داخل البدن وحينئذ يرتفع صدره وينتفخ جنباه ولما كانت الحرارة الغريزية والروح الحيواني محصوراً داخل القلب استولت البرودة على الأعضاء الخارجة فربما عجزت آلات النفس عن دفع ذلك الهواء الكثير المستنشق فيبقى ذلك الهواء الكثير منحصراً في الصدر ويقرب من أن يختنق الإنسان منه وحينئذ تجتهد الطبيعة في إخراج ذلك الهواء فعلى قياس قول الأطباء الزفير هو استدخال الهواء الكثير لترويح الحرارة الحاصلة في القلب بسبب انحصار الروح فيه والشهيق هو إخراج ذلك الهواء عند مجاهدة الطبيعة في إخراجه وكل واحدة من هاتين الحالتين تدل على كرب شديد وغم عظيم
الوجه الثاني في الفرق بين الزفير والشهيق قال بعضهم الزفير بمنزلة ابتداء صوت الحمار بالنهيق وأما الشهيق فهو بمنزلة آخر صوت الحمار
الوجه الثالث قال الحسن قد ذكرنا أن الزفير عبارة عن الارتفاع فنقول الزفير لهيب جهنم يرفعهم بقوته حتى إذا وصلوا إلى أعلى درجات جهنم وطمعوا في أن يخرجوا منها ضربتهم الملائكة بمقامع من حديد ويردونهم إلى الدرك الأسفل من جهنم وذلك قوله تعالى كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَا أُعِيدُواْ فِيهَا فارتفاعهم في النار هو الزفير وانحطاطهم مرة أخرى هو الشهيق
الوجه الرابع قال أبو مسلم الزفير ما يجتمع في الصدر من النفس عند البكاء الشديد فينقطع النفس

والشهيق هوا لذي يظهر عند اشتداد الكربة والحزن وربما تبعهما الغشية وربما حصل عقيبه الموت
الوجه الخامس قال أبو العالية الزفير في الحلق والشهيق في الصدر
الوجه السادس قال قوم الزفير الصوت الشديد والشهيق الصوت الضعيف
الوجه السابع قال ابن عباس رضي الله عنهما لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ يريد ندامة ونفساً عالية وبكاء لا ينقطع وحزناً لا يندفع
الوجه الثامن الزفير مشعر بالقوة والشهيق بالضعف على ما قررناه بحسب اللغة
إذا عرفت هذا فنقول لم يبعد أن يكون المراد من الزفير قوة ميلهم إلى عالم الدنيا وإلى اللذات الجسدانية والمراد من الشهيق ضعفهم عن الاستسعاد بعالم الروحانيات والاستكمال بالأنوار الإلهية والمعارج القدسية
ثم قال تعالى خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ إِلا إِنَّ رَبَّكَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قال قوم إن عذاب الكفار منقطع ولها نهاية واحتجوا بالقرآن والمعقول أما القرآن فآيات منها هذه الآية والاستدلال بها من وجهين الأول أنه تعالى قال مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ دل هذا النص على أن مدة عقابهم مساوية لمدة بقاء السموات والأرض ثم توافقنا على أن مدة بقاء السموات والأرض متناهية فلزم أن تكون مدة عقاب الكفار منقطعة الثاني أن قوله إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ استثناء من مدة عقابهم وذلك يدل على زوال ذلك العذاب في وقت هذا الاستثناء ومما تمسكوا به أيضاً قوله تعالى في سورة عم يتساءلون لَّابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً ( النبأ 23 ) بين تعالى أن لبثهم في ذلك العذاب لا يكون إلا أحقاباً معدودة
وأما العقل فوجهان الأول أن معصية الكافر متناهية ومقابلة الجرم المتناهي بعقاب لا نهاية له ظلم وأنه لا يجوز الثاني أن ذلك العقاب ضرر خال عن النفع فيكون قبيحاً بيان خلوه عن النفع أن ذلك النفع لا يرجع إلى الله تعالى لكونه متعالياً عن النفع والضرر ولا إلى ذلك المعاقب لأنه في حقه ضرر محض ولا إلى غيره لأن أهل الجنة مشغولون بلذاتهم فلا فائدة لهم في الالتذاذ بالعذاب الدائم في حق غيرهم فثبت أن ذلك العذاب ضرر خال عن جميع جهات النفع فوجب أن لا يجوز وأما الجمهور الأعظم من الأمة فقد اتفقوا على أن عذاب الكافر دائم وعند هذا احتاجوا إلى الجواب عن التمسك بهذه الآية أما قوله خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فذكروا عنه جوابين الأول قالوا المراد سموات الآخرة وأرضها قالوا والدليل على أن في الآخرة سماء وأرضاً قوله تعالى يَوْمَ تُبَدَّلُ الاْرْضُ غَيْرَ الاْرْضِ ( إبراهيم 48 ) وقوله وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الاْرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّة ِ حَيْثُ نَشَاء ( الزمر 74 ) وأيضاً لا بد لأهل الآخرة مما يقلهم ويظلهم وذلك هو الأرض والسموات
ولقائل أن يقول التشبيه إنما يحسن ويجوز إذا كان حال المشبه به معلوماً مقرراً فيشبه به غيره تأكيداً لثبوت الحكم في المشبه ووجود السموات والأرض في الآخرة غير معلوم وبتقدير أن يكون وجوده معلوماً إلا أن بقاءها على وجه لا يفنى ألبتة غير معلوم فإذا كان أصل وجودهما مجهولاً لأكثر الخلق ودوامهما أيضاً

مجهولاً للأكثر كان تشبيه عقاب الأشقياء به في الدوام كلاماً عديم الفائدة أقصى ما في الباب أن يقال لما ثبت بالقرآن وجود سموات وأرض في الآخرة وثبت دوامهما وجب الاعتراف به وحينئذ يحسن التشبيه إلا أنا نقول لما كان الطريق في إثبات دوام سموات أهل الآخرة ودوام أرضهم هو السمع ثم السمع دل على دوام عقاب الكافر فحينئذ الدليل الذي دل على ثبوت الحكم في الأصل حاصل بعينه في الفرع وفي هذه الصورة أجمعوا على أن القياس ضائع والتشبيه باطل فكذا ههنا
والوجه الثاني في الجواب قالوا إن العرب يعبرون عن الدوام والأبد بقولهم ما دامت السموات والأرض ونظيره أيضاً قولهم ما اختلف الليل والنهار وما طما البحر وما أقام الجبل وأنه تعالى خاطب العرب على عرفهم في كلامهم فلما ذكروا هذه الأشياء بناء على اعتقادهم أنها باقية أبد الآباد علمنا أن هذه الألفاظ بحسب عرفهم تفيد الأبد والدوام الخالي عن الانقطاع
ولقائل أن يقول هل تسلمون أن قول القائل خالدين فيها ما دامت السموات والأرض يمنع من بقائها موجودة بعد فناء السموات أو تقولون إنه لا يدل على هذا المعنى فإن كان الأول فالإشكال لازم لأن النص لما دل على أنه يجب أن تكون مدة كونهم في النار مساوية لمدة بقاء السموات ويمنع من حصول بقائهم في النار بعد فناء السموات ثم ثبت أنه لا بد من فناء السموات فعندها يلزمكم القول بانقطاع ذلك العقاب وأما إن قلتم هذا الكلام لا يمنع بقاء كونهم في النار بعد فناء السموات والأرض فلا حاجة بكم إلى هذا الجواب ألبتة فثبت أن هذا الجواب على كلا التقديرين ضائع
واعلم أن الجواب الحق عندي في هذا الباب شيء آخر وهو أن المعهود من الآية أنه متى كانت السموات والأرض دائمتين كان كونهم في النار باقياً فهذا يقتضي أن كلما حصل الشرط حصل المشروط ولا يقتضي أنه إذا عدم الشرط يعدم المشروط ألا ترى أنا نقول إن كان هذا إنساناً فهو حيوان
فإن قلنا لكنه إنسان فإنه ينتج أنه حيوان أما إذا قلنا لكنه ليس بإنسان لم ينتج أنه ليس بحيوان لأنه ثبت في علم المنطق أن استثناء نقيض المقدم لا ينتج شيئاً فكذا ههنا إذا قلنا متى دامت السموات دام عقابهم فإذا قلنا لكن السموات دائمة لزم أن يكون عقابهم حاصلاً أما إذا قلنا لكنه ما بقيت السموات لم يلزم عدم دوام عقابهم
فإن قالوا فإذا كان العقاب حاصلاً سواء بقيت السموات أو لم تبق لم يبق لهذا التشبيه فائدة
قلنا بل فيه أعظم الفوائد وهو أنه يدل على نفاذ ذلك العذاب دهراً دهراً وزماناً لا يحيط العقل بطوله وامتداده فأما أنه هل يحصل له آخر أم لا فذلك يستفاد من دلائل أخر وهذا الجواب الذي قررته جواب حق ولكنه إنما يفهمه إنسان ألف شيئاً من المعقولات
وأما الشبهة الثانية وهي التمسك بقوله تعالى إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ فقد ذكروا فيه أنواعاً من الأجوبة
الوجه الأول في الجواب وهو الذي ذكره ابن قتيبة وابن الأنباري والفراء قالوا هذا استثناء استثناه الله تعالى ولا يفعله ألبتة كقولك والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك مع أن عزيمتك تكون على ضربه فكذا ههنا وطولوا في تقرير هذا الجواب وفي ضرب الأمثلة فيه وحاصله ما ذكرناه

ولقائل أن يقول هذا ضعيف لأنه إذا قال لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك معناه لأضربنك إلا إذا رأيت أن الأولى ترك مضرب وهذا لا يدل ألبتة على أن هذه الرؤية قد حصلت أم لا بخلاف قوله خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ فإن معناه الحكم بخلودهم فيها إلا المدة التي شاء ربك فههنا اللفظ يدل على أن هذه المشيئة قد حصلت جزماً فكيف يحصل قياس هذا الكلام على ذلك الكلام
الوجه الثاني في الجواب أن يقال إن كلمة إِلا ههنا وردت بمعنى سوى والمعنى أنه تعالى لما قال خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فهم منه أنهم يكونون في النار في جميع مدة بقاء السموات والأرض في الدنيا ثم قال سوى ما يتجاوز ذلك من الخلود الدائم فذكر أولاً في خلودهم ماليس عند العرب أطول منه ثم زاد عليه الدوام الذي لا آخر له بقوله إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ المعنى إلا ما شاء ربك من الزيادة التي لا آخر لها
الوجه الثالث في الجواب وهو أن المراد من هذا الاستثناء زمان وقوفهم في الموقف فكأنه تعالى قال فأما الذين شقوا ففي النار إلا وقت وقوفهم للمحاسبة فإنهم في ذلك الوقت لا يكونون في النار وقال أبو بكر الأصم المراد إلا ما شاء ربك وهو حال كونهم في القبر أو المراد إلا ما شاء ربك حال عمرهم في الدنيا وهذه الأقوال الثلاثة متقاربة والمعنى خالدين فيها بمقدار مكثهم في الدنيا أو في البرزخ أو مقدار وقوفهم للحساب ثم يصيرون إلى النار
الوجه الرابع في الجواب قالوا الاستثناء يرجع إلى قوله لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ( هود 106 ) وتقريره أن نقول قوله لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا يفيد حصول الزفير والشهيق مع الخلود فإذا دخل الاستثناء عليه وجب أن يحصل وقت لا يحصل فيه هذا المجموع لكنه ثبت في المعقولات أنه كما ينتفي المجموع بانتفاء جميع أجزائه فكذلك ينتفي بانتفاء فرد واحد من أجزائه فإذا انتهوا آخر الأمر إلى أن يصيروا ساكنين هامدين خامدين فحينئذ لم يبق لهم زفير وشهيق فانتفى أحد أجزاء ذلك المجموع فحينئذ يصح ذلك الاستثناء من غير حاجة إلى الحكم بانقطاع كونهم في النار
الوجه الخامس في الجواب أن يحمل هذا الاستثناء على أن أهل العذاب لا يكونون أبداً في النار بل قد ينقلون إلى البرد والزمهرير وسائر أنواع العذاب وذلك يكفي في صحة هذا الاستثناء
الوجه السادس في الجواب قال قوم هذا الاستثناء يفيد إخراج أهل التوحيد من النار لأن قوله فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِى النَّارِ يفيد أن جملة الأشقياء محكوم عليهم بهذا الحكم ثم قوله إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ يوجب أن لا يبقى ذلك الحكم على ذلك المجموع ويكفي في زوال حكم الخلود عن المجموع زواله عن بعضهم فوجب أن لا يبقى حكم الخلود لبعض الأشقياء ولما ثبت أن الخلود واجب للكفار وجب أن يقال الذين زال حكم الخلود عنهم هم الفساق من أهل الصلاة وهذا كلام قوي في هذا الباب
فإن قيل فهذا الوجه إنما يتعين إذا فسدت سائر الوجوه التي ذكرتموها فما الدليل على فسادها وأيضاً فمثل هذا الاستثناء مذكور في جانب السعداء فإنه تعالى قال وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِى الْجَنَّة ِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ

قلنا إنا بهذا الوجه بينا أن هذه الآية لا تدل على انقطاع وعيد الكفار ثم إذا أردنا الاستدلال بهذه الآية على صحة قولنا في أنه تعالى يخرج الفساق من أهل الصلاة من النار
قلنا أما حمل كلمة ( إلا ) على سوى فهو عدول عن الظاهر وأما حمل الاستثناء على حال عمر الدنيا والبرزخ والموقف فبعيد أيضاً لأن الاستثناء وقع عن الخلود في النار ومن المعلوم أن الخلود في النار كيفية من كيفيات الحصول في النار فقبل الحصول في النار امتنع حصول الخلود في النار وإذا لم يحصل الخلود لم يحصل المستثنى منه وامتنع حصول الاستثناء وأما قوله الاستثناء عائد إلى الزفير والشهيق فهذا أيضاً ترك للظاهر فلم يبق للآية محمل صحيح إلا هذا الذي ذكرناه وأما قوله المراد من الاستثناء نقله من النار إلى الزمهرير فنقول لو كان الأمر كذلك لوجب أن لا يحصل العذاب بالزمهرير إلا بعد انقضاء مدة السموات والأرض والأخبار الصحيحة دلت على أن النقل من النار إلى الزمهرير وبالعكس يحصل في كل يوم مراراً فبطل هذا الوجه وأما قوله إن مثل هذا الاستثناء حاصل في جانب السعداء فنقول أجمعت الأمة على أنه يمتنع أن يقال إن أحداً يدخل الجنة ثم يخرج منها إلى النار فلأجل هذا الإجماع افتقرنا فيه إلى حمل ذلك الاستثناء على أحد تلك التأويلات أما في هذه الآية لم يحصل هذا الإجماع فوجب إجراؤها على ظاهرها فهذا تمام الكلام في هذه الآية
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذا الاستثناء قال إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ وهذا يحسن انطباقه على هذه الآية إذا حملنا الاستثناء على إخراج الفساق من النار كأنه تعالى يقول أظهرت القهر والقدرة ثم أظهرت المغفرة والرحمة لأني فعال لما أريد وليس لأحد عليَّ حكم ألبتة
ثم قال وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِى الْجَنَّة ِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم سُعِدُواْ بضم السين والباقون بفتحها وإنما جاز ضم السين لأنه على حذف الزيادة من أسعد ولأن سعد لا يتعدى وأسعد يتعدى وسعد وأسعد بمعنى ومنه المسعود من أسماء الرجال
المسألة الثانية الاستثناء في باب السعداء يجب حمله على أحد الوجوه المذكورة فيما تقدم وههنا وجه آخر وهو أنه ربما اتفق لبعضهم أن يرفع من الجنة إلى العرش وإلى المنازل الرفيعة التي لا يعلمها إلا الله تعالى قال الله تعالى وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيّبَة ً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مّنَ اللَّهِ ( التوبة 72 ) وقوله عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ فيه مسألتان
المسألة الأولى جذه يجذه جذاً إذا قطعه وجذ الله دابرهم فقوله غَيْرَ مَجْذُوذٍ أي غير مقطوع ونظيره قوله تعالى في صفة نعيم الجنة لاَّ مَقْطُوعَة ٍ وَلاَ مَمْنُوعَة ٍ ( الواقعة 33 )
المسألة الثانية اعلم أنه تعالى لما صرح في هذه الآية أنه ليس المراد من هذا الاستثناء كون هذه الحالة منقطعة فلما خص هذا الموضع بهذا البيان ولم يذكر ذلك في جانب الأشقياء دل ذلك على أن المراد من ذلك الاستثناء هو الانقطاع فهذا تمام الكلام في هذه الآية

فَلاَ تَكُ فِى مِرْيَة ٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَاؤُلا ءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ ءَابَاؤهُم مِّن قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ
اعلم أنه تعالى لما شرح أقاصيص عبدة الأوثان ثم أتبعه بأحوال الأشقياء وأحوال السعداء شرح للرسول عليه الصلاة والسلام أحوال الكفار من قومه فقال فَلاَ تَكُ فِى مِرْيَة ٍ والمعنى فلا تكن إلا أنه حذف النون لكثرة الاستعمال ولأن النون إذا وقع على طرف الكلام لم يبق عند التلفظ به إلا مجرد الغنة فلا جرم أسقطوه والمعنى فلا تك في شك من حال ما يعبدون في أنها لا تضر ولا تنفع
ثم قال تعالى مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ ءابَاؤهُم مّن قَبْلُ والمراد أنهم أشبهوا آباءهم في لزوم الجهل والتقليد
ثم قال وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ فيحتمل أن يكون المراد إنا موفوهم نصيبهم أي ما يخصهم من العذاب ويحتمل أن يكون المراد أنهم وإن كفروا وأعرضوا عن الحق فإنا موفوهم نصيبهم من الرزق والخيرات الدنيوية ويحتمل أيضاً أن يكون المراد إنا موفوهم نصيبهم من إزالة العذر وإزاحة العلل وإظهار الدلائل وإرسال الرسل وإنزال الكتب ويحتمل أيضاً أن يكون الكل مراداً
وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَة ٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِى َ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى إصرار كفار مكة على إنكار التوحيد بين أيضاً إصرارهم على إنكار نبوته عليه السلام وتكذيبهم بكتابه وبين تعالى أن هؤلاء الكفار كانوا على هذه السيرة الفاسدة مع كل الأنبياء عليهم السلام وضرب لذلك مثلاً وهو أنه لما أنزل التوراة على موسى عليه السلام اختلفوا فيه فقبله بعضهم وأنكره آخرون وذلك يدل على أن عادة الخلق هكذا
ثم قال تعالى وَلَوْلاَ كَلِمَة ٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وفيه وجوه الأول أن المراد ولولا ما تقدم من حكم الله تعالى بتأخير عذاب هذه الأمة إلى يوم القيامة لكان الذي يستحقه هؤلاء الكفار عند عظيم كفرهم إنزال عذاب الاستئصال عليهم لكن المتقدم من قضائه أخر ذلك عنهم في دنياهم الثاني لولا كلمة سبقت من ربك وهي أن الله تعالى إنما يحكم بين المختلفين يوم القيامة وإلا لكان من الواجب تمييز المحق عن المبطل في دار الدنيا الثالث وَلَوْلاَ كَلِمَة ٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ وهي أن رحمته سبقت غضبه وأن إحسانه راجح على قهره وإلا لقضى بينهم ولما قرر تعالى هذا المعنى قال وَإِنَّهُمْ لَفِى شَكّ مّنْهُ مُرِيبٍ يعني أن كفار قومك لفي شك من هذا القرآن مريب

ثم قال تعالى وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى المعنى أن من عجلت عقوبته ومن أخرت ومن صدق الرسل ومن كذب فحالهم سواء في أنه تعالى يوفيهم جزاء أعمالهم في الآخرة فجمعت الآية الوعد والوعيد فإن توفية جزاء الطاعات وعد عظيم وتوفية جزاء المعاصي وعيد عظيم وقوله تعالى إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ توكيد الوعد والوعيد فإنه لما كان عالماً بجميع المعلومات كان عالماً بمقادير الطاعات والمعاصي فكان عالماً بالقدر اللائق بكل عمل من الجزاء فحينئذ لا يضيع شيء من الحقوق والأجزية وذلك نهاية البيان
المسألة الثانية قرأ أبو عمرو والكسائي وإن مشددة النون لَّمّاً خفيفة قال أبو علي اللام في لَّمّاً هي التي تقتضيه إن وذلك لأن حرف إن يقتضي أن يدخل على خبرها أو اسمها لام كقوله إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ( النحل 18 ) وقوله إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَة ً ( الحجر 77 ) واللام الثانية هي التي تجيء بعد القسم كقولك والله لتفعلن ولما اجتمع لامان دخلت ما لتفصل بينهما فكلمة ما على هذا التقدير زائدة وقال الفراء ما موصولة بمعنى من وبقية التقرير كما تقدم ومثله وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطّئَنَّ ( النساء 72 )
والقراءة الثانية في هذه الآية قرأ ابن كثير ونافع وأبو بكر عن عاصم وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا مخففتان والسبب فيه أنهم أعملوا إن مخففة كما تعمل مشددة لأن كلمة إن تشبه الفعل فكما يجوز أعمال الفعل تاماً ومحذوفاً في قولك لم يكن زيد قائماً ولم يك زيد قائماً فكذلك أن وإن
والقراءة الثالثة قرأ حمزة وابن عامر وحفص وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا ( الفجر 19 ) مشددتان قالوا وأحسن ما قيل فيه إن أصل لما بالتنوين كقوله أَكْلاً لَّمّاً والمعنى أن كلاً ملمومين أي مجموعين كأنه قيل وإن كلاً جميعاً
المسألة الثالثة سمعت بعض الأفاضل قال إنه تعالى لما أخبر عن توفية الأجزية على المستحقين في هذه الآية ذكر فيها سبعة أنواع من التوكيدات أولها كلمة ءانٍ وهي للتأكيد وثانيها كلمة ( كل ) وهي أيضاً للتأكيد وثالثها اللام الداخلة على خبر ءانٍ وهي تفيد التأكيد أيضاً ورابعها حرف مَا إذا جعلناه على قول الفراء موصولاً وخامسها القسم المضمر فإن تقدير الكلام وإن جميعهم والله ليوفينهم وسادسها اللام الثانية الداخلة على جواب القسم وسابعها النون المؤكدة في قوله لَيُوَفّيَنَّهُمْ فجميع هذه الألفاظ السبعة الدالة على التوكيد في هذه الكلمة الواحدة تدل على أن أمر الربوبية والعبودية لا يتم إلا بالبعث والقيامة وأمر الحشر والنشر ثم أردفه بقوله إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ وهو من أعظم المؤكدات
فَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعلى لما أطنب في شرح الوعد والوعيد قال لرسوله فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ

وهذ الكلمة كلمة جامعة في كل ما يتعلق بالعقائد والأعمال سواء كان مختصاً به أو كان متعلقاً بتبليغ الوحي وبيان الشرائع ولا شك أن البقاء على الاستقامة الحقيقية مشكل جداً وأنا أضرب لذلك مثالاً يقرب صعوبة هذا المعنى إلى العقل السليم وهو أن الخط المستقيم الذي يفصل بين الظل وبين الضوء جزء واحد لا يقبل القسمة في العرض إلا أن عين ذلك الخط مما لا يتميز في الحس عن طرفيه فإنه إذا قرب طرف الظل من طرف الضوء اشتبه البعض بالبعض في الحس فلم يقع الحس على إدراك ذلك الخط بعينه بحيث يتميز عن كل ما سواه
إذا عرفت هذا في المثال فاعرف مثاله في جميع أبواب العبودية فأولها معرفة الله تعالى وتحصيل هذه المعرفة على وجه يبقى العبد مصوناً في طرف الإثبات عن التشبيه وفي طرف النفي عن التعطيل في غاية الصعوبة واعتبر سائر مقامات المعرفة من نفسك وأيضاً فالقوة الغضبية والقوة الشهوانية حصل لكل واحدة منهما طرفا إفراط وتفريط وهما مذمومان والفاصل هو المتوسط بينهما بحيث لا يميل إلى أحد الجانبين والوقوف عليه صعب ثم العمل به أصعب فثبت أن معرفة الصراط المستقيم في غاية الصعوبة بتقدير معرفته فالبقاء عليه والعمل به أصعب ولما كان هذا المقام في غاية الصعوبة لا جرم قال ابن عباس ما نزلت على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في جميع القرآن آية أشد ولا أشق عليه من هذه الآية ولهذا قال عليه الصلاة والسلام ( شيبتني هود وأخواتها وعن بعضهم قال رأيت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في النوم فقلت له روي عنك أنك قلت شيبتني هود وأخواتها فقال ( نعم ) فقلت وبأي آية فقال بقوله فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ
المسألة الثانية اعلم أن هذه الآية أصل عظيم في الشريعة وذلك لأن القرآن لما ورد بالأمر بأعمال الوضوء مرتبة في اللفظ وجب اعتبار الترتيب فيها لقوله فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ولما ورد الأمر في الزكاة بأداء الإبل من الإبل والبقر من البقر وجب اعتبارها وكذا القول في كل ما ورد أمر الله تعالى به وعندي أنه لا يجوز تخصيص النص بالقياس لأنه لما دل عموم النص على حكم وجب الحكم بمقتضاه لقوله فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ والعمل بالقياس انحراف عنه ثم قال وَمَن تَابَ مَعَكَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي من في محل الرفع من وجوه الأول أن يكون عطفاً على الضمير المستتر في قوله فَاسْتَقِمْ وأغنى الوصل بالجار عن تأكيده بضمير المتصل في صحة العطف أي فاستقم أنت وهم والثاني أن يكون عطفاً على الضمير فى أمرت والثالث أن يكون ابتداء على تقدير ومن تاب معك فليستقم
المسألة الثانية أن الكافر والفاسق يجب عليهما الرجوع عن الكفر والفسق ففي تلك الحالة لا يصح اشتغالهما بالاستقامة وأما التائب عن الكفر والفسق فإنه يصح منه الاشتغال بالاستقامة على مناهج دين الله تعالى والبقاء على طريق عبودية الله تعالى ثم قال وَلاَ تَطْغَوْاْ ومعنى الطغيان أن يجاوز المقدار قال ابن عباس يريد تواضعوا لله تعالى ولا تتكبروا على أحد وقيل ولا تطغوا في القرآن فتحلوا حرامه وتحرموا حلاله وقيل لا تتجاوزوا ما أمرتم به وحد لكم وقيل ولا تعدلوا عن طريق شكره والتواضع له عند عظم نعمه عليكم والأولى دخول الكل فيه ثم قال وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ والركون هو السكون إلى الشيء والميل إليه بالمحبة ونقيضه النفور عنه وقرأ العامة بفتح التاء والكاف والماضي من هذا ركن كعلم

وفيه لغة أخرى ركن يركن قال الأزهري وليست بفصيحة قال المحققون الركون المنهي عنه هو الرضا بما عليه الظلمة من الظلم وتحسين تلك الطريقة وتزيينها عندهم وعند غيرهم ومشاركتهم في شيء من تلك الأبواب فأما مداخلتهم لدفع ضرر أو اجتلاب منفعة عاجلة فغير داخل في الركون ومعنى قوله فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ أي أنكم إن ركنتم إليهم فهذه عاقبة الركون ثم قال لَهُمْ مّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاء أي ليس لكم أولياء يخلصونكم من عذاب الله
ثم قال ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ والمراد لا تجدون من ينصركم من تلك الواقعة
واعلم أن الله تعالى حكم بأن من ركن إلى الظلمة لا بد وأن تمسه النار وإذا كان كذلك فكيف يكون حال الظالم في نفسه
وَأَقِمِ الصَّلَواة َ طَرَفَى ِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذالِكَ ذِكْرَى لِلذَاكِرِينَ وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ
اعلم أنه تعالى لما أمره بالاستقامة أردفه بالأمر بالصلاة وذلك يدل على أن أعظم العبادات بعد الإيمان بالله هو الصلاة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى رأيت في بعض ( كتب القاضي أبي بكر الباقلاني ) أن الخوارج تمسكوا بهذه الآية في إثبات أن الواجب ليس إلا الفجر والعشاء من وجهين
الوجه الأول أنهما واقعان على طرفي النهار والله تعالى أوجب إقامة الصلاة طرفي النهار فوجب أن يكون هذا القدر كافياً
فإن قيل قوله وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ يوجب صلوات أخرى
قلنا لا نسلم فإن طرفي النهار موصوفان بكونهما زلفاً من الليل فإن ما لا يكون نهاراً يكون ليلاً غاية ما في الباب أن هذا يقتضي عطف الصفة على الموصوف إلا أن ذلك كثير في القرآن والشعر
الوجه الثاني أنه تعالى قال إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيّئَاتِ وهذا يشعر بأن من صلى طرفي النهار كان إقامتهما كفارة لكل ذنب سواهما فبتقدير أن يقال إن سائر الصلوات واجبة إلا أن إقامتهما يجب أن تكون كفارة لترك سائر الصلوات واعلم أن هذا القول باطل بإجماع الأمة فلا يلتفت إليه
المسألة الثانية كثرت المذاهب في تفسير طرفي النهار والأقرب أن الصلاة التي تقام في طرفي النهار وهي الفجر والعصر وذلك لأن أحد طرفي النهار طلوع الشمس والطرف الثاني منه غروب الشمس فالطرف الأول هو صلاة الفجر والطرف الثاني لا يجوز أن يكون صلاة المغرب لأنها داخلة تحت قوله وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ فوجب حمل الطرف الثاني على صلاة العصر

إذا عرفت هذا كانت الآية دليلاً على قول أبي حنيفة رحمه الله في أن التنوير بالفجر أفضل وفي أن تأخير العصر أفضل وذلك لأن ظاهر هذه الآية يدل على وجوب إقامة الصلاة في طرفي النهار وبينا أن طرفي النهار هما الزمان الأول لطلوع الشمس والزمان الثاني لغروبها وأجمعت الأمة على أن إقامة الصلاة في ذلك الوقت من غير ضرورة غير مشروعة فقد تعذر العمل بظاهر هذه الآية فوجب حمله على المجاز وهو أن يكون المراد أقم الصلاة في الوقت الذي يقرب من طرفي النهار لأن ما يقرب من الشيء يجوز أن يطلق عليه اسمه وإذا كان كذلك فكل وقت كان أقرب إلى طلوع الشمس وإلى غروبها كان أقرب إلى ظاهر اللفظ وإقامة صلاة الفجر عند التنوير أقرب إلى وقت الطلوع من إقامتها عند التغليس وكذلك إقامة صلاة العصر عندما يصير ظل كل شيء مثليه أقرب إلى وقت الغروب من إقامتها عندما يصير ظل كل شيء مثله والمجاز كلما كان أقرب إلى الحقيقة كان حمل اللفظ عليه أولى فثبت أن ظاهر هذه الآية يقوي قول أبي حنيفة في هاتين المسألتين
وأما قوله وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ فهو يقتضي الأمر بإقامة الصلاة في ثلاث زلف من الليل لأن أقل الجمع ثلاثة وللمغرب والعشاء وقتان فيجب الحكم بوجوب الوتر حتى يحصل زلف ثلاثة يجب إيقاع الصلاة فيها وإذا ثبت وجوب الوتر في حق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وجب في حق غيره لقوله تعالى وَاتَّبِعُوهُ ( سبأ 20 ) ونظير هذه الآية بعينها قوله سبحانه وتعالى وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا ( طه 30 ) فالذي هو قبل طلوع الشمس هو صلاة الفجر والذي هو قبل غروبها هو صلاة العصر
ثم قال تعالى وَمِنْ ءانَاء الَّيْلِ فَسَبّحْ وهو نطير قوله وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ
المسألة الثالثة قال المفسرون نزلت هذه الآية في رجل أتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال ما تقولون في رجل أصاب من امرأة محرمة كلما يصيبه الرجل من امرأته غير الجماع فقال عليه الصلاة والسلام ( ليتوضأ وضوءاً حسناً ثم ليقم وليصل ) فأنزل الله تعالى هذه الآية فقيل للنبي عليه الصلاة والسلام هذا له خاصة فقال ( بل هو للناس عامة ) وقوله وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ قال الليث زلفة من أول الليل طائفة والجمع الزلف قال الواحدي وأصل الكلمة من الزلفى والزلفى هي القربى يقال أزلفته فازدلف أي قربته فاقترب
المسألة الرابعة قال صاحب ( الكشاف ) قرىء زلفاً بضمتين و زلفاً بإسكان اللام وزلفى بوزن قربى فالزلف جمع زلفة كظلم جمع ظلمة والزلف بالسكون نحو بسرة وبسر والزلف بضمتين نحو يسر في يسر والزلفى بمعنى الزلفة كما أن القربى بمعنى القربة وهو ما يقرب من آخر النهار من نحو يسر في يسر والزلفى بمعنى الزلفة كما أن القربى بمعنى القربة وهو ما يقرب من آخر النهار من الليل وقيل في تفسير قوله النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ وقرباً من الليل ثم قال إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيّئَاتِ وفيه مسألتان
المسألة الأولى في تفسير الحسنات قولان الأول قال ابن عباس المعنى أن الصلوات الخمس كفارات لسائر الذنوب بشرط الاجتناب عن الكبائر والثاني روي عن مجاهد أن الحسنات هي قول العبد سبحانه الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر
المسألة الثانية احتج من قال إن المعصية لا تضر مع الإيمان بهذه الآية وذلك لأن الإيمان أشرف الحسنات وأجلها وأفضلها ودلت الآية على أن الحسنات يذهبن السيئات فالإيمان الذي هو أعلى الحسنات درجة يذهب الكفر الذي هو أعلى درجة في العصيان فلأن يقوى على المعصية التي هي أقل

السيئات درجة كان أولى فإن لم يفد إزالة العقاب بالكلية فلا أقل من أن يفيد إزالة العذاب الدائم المؤبد
ثم قال تعالى ذالِكَ ذِكْرَى لِلذكِرِينَ فقوله ذالِكَ إشارة إلى قوله فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ إلى آخرها ذِكْرَى لِلذكِرِينَ عظة للمتعظين وإرشاد للمسترشدين
ثم قال وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ قيل على الصلاة وهو كقوله وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلواة ِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ( طه 132 )
فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّة ٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِى الأرض إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ
اعلم أنه تعالى لما بين أن الأمم المتقدمين حل بهم عذاب الاستئصال بين أن السبب فيه أمران
السبب الأول أنه ما كان فيهم قوم ينهون عن الفساد في الأرض فقال تعالى فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ والمعنى فهلا كان وحكي عن الخليل أنه قال كل ما كان في القرآن من كلمة لولا فمعناه هلا إلا التي في الصافات قال صاحب ( الكشاف ) وما صحت هذه الرواية عنه بدليل قوله تعالى في غير الصافات لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَة ٌ ن رَّبّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاء ( القلم 49 ) لَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ ( الفتح 25 ) لَّوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً ( الإسراء 74 ) وقوله أُوْلُواْ بَقِيَّة ٍ فالمعنى أولو فضل وخير وسمي الفضل والجود بقية لأن الرجل يستبقي مما يخرجه أجوده وأفضله فصار هذا اللفظ مثلاً في الجودة يقال فلان من بقية القيوم أي من خيارهم ومنه قولهم في الزوايا خبايا وفي الرجال بقايا ويجوز أن تكون البقية بمعنى البقوى كالتقية بمعنى التقوى أي فهلا كان منهم ذو بقاء على أنفسهم وصيانة لها من سخط الله تعالى وقرىء أُوْلُواْ بَقِيَّة ٍ بوزن لقية من بقاه يبقيه إذا راقبه وانتظره والبقية المرة من مصدره والمعنى فلولا كان منهم أولو مراقبة وخشية من انتقام الله تعالى ثم قال إِلاَّ قَلِيلاً ولا يمكن جعله استثناء متصلاً لأنه على هذا التقدير يكون ذلك ترغيباً لأولي البقية في النهي عن الفساد إلا القليل من الناجين منهم كما تقول هلا قرأ قومك القرآن إلا الصلحاء منهم تريد استثناء الصلحاء من المرغبين في قراءة القرآن وإذا ثبت هذا قلنا إنه استثناء منقطع والتقدير لكن قليلاً ممن أنجينا من القرون نهواعن الفساد وسائرهم تاركون للنهي
والسبب الثاني لنزول عذاب الاستئصال قوله وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ والترفه النعمة وصبي مترف إذا كان منعم البدن والمترف الذي أبطرته النعمة وسعة المعيشة وأراد بالذين ظلموا تاركي النهي عن المنكرات أي لم يهتموا بما هو ركن عظيم من أركان الدين وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واتبعوا طلب الشهوات واللذات واشتغلوا بتحصيل الرياسات وقرأ أبو عمرو في رواية الجعفي وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ أي واتبعوا حراماً أترفوا فيه ثم قال وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ ومعناه ظاهر

وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّة ً وَاحِدَة ً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذالِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَة ُ رَبِّكَ لاّمْلاّنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّة ِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ
اعلم أنه تعالى بين أنه ما أهلك أهل القرى إلا بظلم وفيه وجوه
الوجه الأول أن المراد من الظلم ههنا الشرك قال تعالى إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( لقمان 13 ) والمعنى أنه تعالى لا يهلك أهل القرى بمجرد كونهم مشركين إذا كانوا مصلحين في المعاملات فيما بينهم والحاصل أن عذاب الاستئصال لا ينزل لأجل كون القوم معتقدين للشرك والكفر بل إنما ينزل ذلك العذاب إذا أساؤا في المعاملات وسعوا في الإيذاء والظلم ولهذا قال الفقهاء إن حقوق الله تعالى مبناها على المسامحة والمساهلة وحقوق العباد مبناها على الضيق والشح ويقال في الأثر الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم فمعنى الآية وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ أي لا يهلكهم بمجرد شركهم إذا كانوا مصلحين يعامل بعضهم بعضاً على الصلاح والسداد وهذا تأويل أهل السنة لهذه الآية قالوا والدليل عليه أن قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب إنما نزل عليهم عذاب الاستئصال لما حكى الله تعالى عنهم من إيذاء الناس وظلم الخلق
والوجه الثاني في التأويل وهو الذي تختاره المعتزلة هو أنه تعالى لو أهلكهم حال كونهم مصلحين لما كان متعالياً عن الظلم فلا جرم لا يفعل ذلك بل إنما يهلكهم لأجل سوء أفعالهم
ثم قال تعالى وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّة ً وَاحِدَة ً والمعتزلة يحملون هذه الآية على مشيئة الإلجاء والإجبار وقد سبق الكلام عليه
ثم قال تعالى وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ والمراد افتراق الناس في الأديان والأخلاق والأفعال
واعلم أنه لا سبيل إلى استقصاء مذاهب العالم في هذا الموضع ومن أراد ذلك فليطالع كتابنا الذي سميناه ( بالرياض المونقة ) إلا أنا نذكر ههنا تقسيماً جامعاً للمذاهب فنقول الناس فريقان منهم من أقر بالعلوم الحسية كعلمنا بأن النار حارة والشمس مضيئة والعلوم البديهية كعلمنا بأن النفي والإثبات لا يجتمعان ومنهم من أنكرهما والمنكرون هم السفسطائية والمقرون هم الجمهور الأعظم من أهل

العالم وهم فريقان منهم من سلم أنه يمكن تركيب تلك العلوم البديهية بحيث يستنتج منها نتائج علمية نظرية ومنهم من أنكره وهم الذين ينكرون أيضاً النظر إلى العلوم وهم قليلون والأولون هم الجمهور الأعظم من أهل العالم وهم فريقان منهم من لا يثبت لهذا العالم الجسماني مبدأ أصلاً وهم الأقلون ومنهم من يثبت له مبدأ وهؤلاء فريقان منهم من يقول ذلك المبدأ موجب بالذات وهم جمهور الفلاسفة في هذا الزمان ومنهم من يقول إنه فاعل مختار وهم أكثر أهل العالم ثم هؤلاء فريقان منهم من يقول إنه ما أرسل رسولاً إلى العباد ومنهم من يقول إنه أرسل الرسول فالأولون هم البراهمة
والقسم الثاني أرباب الشرائع والأديان وهم المسلمون والنصارى واليهود والمجوس وفي كل واحد من هذه الطوائف اختلافات لا حدَّ لها ولا حصر والعقول مضطربة والمطالب غامضة ومنازعات الوهم والخيال غير منقطعة ولما حسن من بقراط أن يقول في صناعة الطب العمر قصير والصناعة طويلة والقضاء عسر والتجربة خطر فلأن يحسن ذكره في هذه المطالب العالية والمباحث الغامضة كان ذلك أولى
فإن قيل إنكم حملتم قوله تعالى وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ على الاختلاف في الأديان فما الدليل عليه ولم لا يجوز أن يحمل على الاختلاف في الألوان والألسنة والأرزاق والأعمال
قلنا الدليل عليه أن ما قبل هذه الآية هو قوله وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّة ً وَاحِدَة ً فيجب حمل هذا الاختلاف على ما يخرجهم من أن يكونوا أمة واحدة وما بعد هذه الآية هو قوله إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ فيجب حمل هذا الاختلاف على معنى يصح أن يستثنى منه قوله إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وذلك ليس إلا ما قلنا
ثم قال تعالى إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الهداية والإيمان لا تحصل إلا بتخليق الله تعالى وذلك لأن هذه الآية تدل على أن زوال الاختلاف في الدين لا يحصل إلا لمن خصه الله برحمته وتلك الرحمة ليست عبارة عن إعطاء القدرة والعقل وإرسال الرسل وإنزال الكتب وإزاحة العذر فإن كل ذلك حاصل في حق الكفار فلم يبق إلا أن يقال تلك الرحمة هو أنه سبحانه خلق فيه تلك الهداية والمعرفة قال القاضي معناه إلا من رحم ربك بأن يصير من أهل الجنة والثواب فيرحمه الله بالثواب ويحتمل إلا من رحمة الله بألطافه فصار مؤمناً بألطافه وتسهيله وهذان الجوابان في غاية الضعف
أما الأول فلأن قوله وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ يفيد أن ذلك الاختلاف إنما زال بسبب هذه الرحمة فوجب أن تكون هذه الرحمة جارية مجرى السبب المتقدم على زوال هذا الاختلاف والثواب شيء متأخر عن زوال هذا الاختلاف فالاختلاف جار مجرى المسبب له ومجرى المعلول فحمل هذه الرحمة على الثواب بعيد
وأما الثاني وهو حمل هذه الرحمة على الألطاف فنقول جميع الألطاف التي فعلها في حق المؤمن فهي مفعولة أيضاً في حق الكافر وهذه الرحمة أمر مختص به المؤمن فوجب أن يكون شيئاً زائداً على تلك الألطاف وأيضاً فحصول تلك الألطاف هل يوجب رجحان وجود الإيمان على عدمه أو لا يوجبه فإن لم يوجبه كان وجود تلك الألطاف وعدمها بالنسبة إلى حصول هذا المقصود سيان فلم يك لطفاً فيه وإن أوجب الرجحان فقد بينا في ( الكتب العقلية ) أنه متى حصل الرجحان فقد وجب وحينئذ يكون حصول الإيمان

من الله ومما يدل على أن حصول الإيمان لا يكون إلا بخلق الله أنه ما لم يتميز الإيمان عن الكفر والعلم عن الجهل امتنع القصد إلى تكوين الإيمان والعلم وإنما يحصل هذا الامتياز إذا علم كون أحد هذين الاعتقادين مطابقاً للمعتقد وكون الآخر ليس كذلك وإنما يصح حصول هذا العلم أن لو عرف أن ذلك المعتقد في نفسه كيف يكون وهذا يوجب أنه لا يصح من العبد القصد إلى تكوين العلم بالشيء إلا بعد أن كان عالماً وذلك يقتضي تكوين الكائن وتحصيل الحاصل وهو محال فثبت أن زوال الاختلاف في الدين وحصول العلم والهداية لا يحصل إلا بخلق الله تعالى وهو المطلوب
ثم قال تعالى وَلِذالِكَ خَلَقَهُمْ وفيه ثلاثة أقوال
القول الأول قال ابن عباس وللرحمة خلقهم وهذا اختيار جمهور المعتزلة قالوا ولا يجوز أن يقال وللاختلاف خلقهم ويدل عليه وجوه الأول أن عود الضمير إلى أقرب المذكورين أولى من عوده إلى أبعدهما وأقرب المذكورين ههنا هو الرحمة والاختلاف أبعدهما والثاني أنه تعالى لو خلقهم للاختلاف وأراد منهم ذلك الإيمان لكان لا يجوز أن يعذبهم عليه إذ كانوا مطيعين له بذلك الاختلاف الثالث إذا فسرنا الآية بهذا المعنى كان مطابقاً لقوله تعالى وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( الذاريات 56 )
فإن قيل لو كان المراد وللرحمة خلقهم لقال ولتلك خلقهم ولم يقل ولذلك خلقهم
قلنا إن تأنيث الرحمة ليس تأنيثاً حقيقياً فكان محمولاً على الفضل والغفران كقوله هَاذَا رَحْمَة ٌ مّن رَّبّى ( الكهف 98 ) وقوله وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ( الأعراف 56 )
والقول الثاني أن المراد وللاختلاف خلقهم
والقول الثالث وهو المختار أنه خلق أهل الرحمة للرحمة وأهل الاختلاف للاختلاف روى أبو صالح عن ابن عباس أنه قال خلق الله أهل الرحمة لئلا يختلفوا وأهل العذاب لأن يختلفوا وخلق الجنة وخلق لها أهلاً وخلق النار وخلق لها أهلاً والذي يدل على صحة هذا التأويل وجوه الأول الدلائل القاطعة الدالة على أن العلم والجهل لا يمكن حصولهما في العبد إلا بتخليق الله تعالى الثاني أن يقال إنه تعالى لما حكم على البعض بكونهم مختلفين وعلى الآخرين بأنهم من أهل الرحمة وعلم ذلك امتنع انقلاب ذلك وإلا لزم انقلاب العلم جهلاً وهو محال الثالث أنه تعالى قال بعده وَتَمَّتْ كَلِمَة ُ رَبّكَ لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّة ِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ وهذا تصريح بأنه تعالى خلق أقواماً للهداية والجنة وأقواماً آخرين للضلالة والنار وذلك يقوي هذا التأويل
وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَآءَكَ فِى هَاذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَة ٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ

اعلم أنه تعالى لما ذكر القصص الكثيرة في هذه السورة ذكر في هذه الآية نوعين من الفائدة
الفائدة الأولى تثبيت الفؤاد على أداء الرسالة وعلى الصبر واحتمال الأذى وذلك لأن الإنسان إذا ابتلى بمحنة وبلية فإذا رأى له فيه مشاركاً خف ذلك على قلبه كما يقال المصيبة إذا عمت خفت فإذا سمع الرسول هذه القصص وعلم أن حال جميع الأنبياء صلوات الله عليهم مع أتباعهم هكذا سهل عليه تحمل الأذى من قومه وأمكنه الصبر عليه
والفائدة الثانية قوله وَجَاءكَ فِى هَاذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَة ٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ وفي قوله فِى هَاذِهِ وجوه أحدها في هذه السورة وثانيها في هذه الآية وثالثها في هذه الدنيا وهذا بعيد غير لائق بهذا الموضع
واعلم أنه لا يلزم من تخصيص هذ السورة بمجيء الحق فيها أن يكون حال سائر السور بخلاف ذلك لاحتمال أن يكون الحق المذكور في هذه السورة أكمل حالاً مما ذكر في سائر السور ولو لم يكن فيها إلا قوله فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ( هود 112 ) لكان الأمر كما ذكرنا ثم إنه تعالى بين أنه جاء في هذه السورة أمور ثلاثة الحق والموعظة والذكرى
أما الحق فهو إشارة إلى البراهين الدالة على التوحيد والعدل والنبوة
وأما الذكرى فهي إشارة إلى الإرشاد إلى الأعمال الباقية الصالحة
وأما الموعظة فهي إشارة إلى التنفير من الدنيا وتقبيح أحوالها في الدار الآخرة والمذكرة لما هنالك من السعادة والشقاوة وذلك لأن الروح إنما جاء من ذلك العالم إلا أنه لاستغراقه في محبة الجسد في هذا العالم نسي أحوال ذلك العالم فالكلام الإلهي يذكره أحوال ذلك العالم فلهذا السبب صح إطلاق لفظ الذكر عليه
ثم ههنا دقيقة أخرى عجيبة وهي أن المعارف الإلهية لا بد لها من قابل ومن موجب وقابلها هو القلب والقلب ما لم يكن كامل الاستعداد لقبول تلك المعارف الإلهية والتجليات القدسية لم يحصل الانتفاع بسماع الدلائل فلهذا السبب قدم الله تعالى ذكر إصلاح القلب وهو تثبيت الفؤاد ثم لما ذكر صلاح حال القابل أردفه بذكر الموجب وهو مجيء هذه السورة المشتملة على الحق والموعظة والذكرى وهذا الترتيب في غاية الشرف والجلالة
وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ وَللَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ والأرض وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الاٌّ مْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ

اعلم أنه تعالى لما بلغ الغاية في الأعذار والإنذار والترغيب والترهيب أتبع ذلك بأن قال للرسول وَقُل لّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ولم تؤثر فيهم هذه البيانات البالغة اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ وهذا عين ما حكاه الله تعالى عن شعيب عليه السلام أنه قال لقومه والمعنى افعلوا كل ما تقدرون عليه في حقي من الشر فنحن أيضاً عاملون وقوله اعْمَلُواْ وإن كانت صيغته صيغة الأمر إلا أن المراد منها التهديد كقوله تعالى لإبليس وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ ( الإسراء 64 ) وكقوله فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ ( الكهف 29 ) وانتظروا ما يعدكم الشيطان من الخذلان فإنا منتظرون ما وعدنا الرحمن من أنواع الغفران والإحسان قال ابن عباس رضي الله عنهما وَانْتَظِرُواْ الهلاك فإنا منتظرون لكم العذاب ثم إنه تعالى ذكر خاتمة شريفة عالية جامعة لكل المطالب الشريفة المقدسة فقال وَللَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ
واعلم أن مجموع مايحتاج الإنسان إلى معرفته أمور ثلاثة وهي الماضي والحاضر والمستقبل أما الماضي فهو أن يعرف الموجود الذي كان موجوداً قبله وذلك الموجود المتقدم عليه هو الذي نقله من العدم إلى الوجود وذلك هو الإله تعالى وتقدس
واعلم أن حقيقة ذات الإله وكنه هويته غير معلومة للبشر ألبتة وإنما المعلوم للبشر صفاته ثم إن صفاته قسمان صفات الجلال وصفات الإكرام أما صفات الجلال فهي سلوب كقولنا إنه ليس بجوهر ولا جسم ولا كذا ولا كذا وهذه السلوب في الحقيقة ليست صفات الكمال لأن السلوب عدم والعدم المحض والنفي الصرف لا كمال فيه فقولنا لا تأخذه سنة ولا نوم إنما أفاد الكلام لدلالته على العلم المحيط الدائم المبرأ عن التغير ولولا ذلك كان عدم النوم ليس يدل على كمال أصلاً ألا ترى أن الميت والجماد لا تأخذه سنة ولا نوم وقوله وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ ( الأنعام 14 ) إنما أفاد الجلال والكمال والكبرياء لأن قوله وَلاَ يُطْعَمُ يفيد كونه واجب الوجود لذاته غنياً عن الطعام والشراب بل عن كل ما سواه فثبت أن صفات الكمال والعز والعلو هي الصفات الثبوتية وأشرف الصفات الثبوتية الدالة على الكمال والجلال صفتان العلم والقدرة فلهذا السبب وصف الله تعالى ذاته في هذه الآية بهما في معرض التعظيم والثناء والمدح أما صفة العلم فقوله وَللَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ والمراد أن علمه نافذ في جميع الكليات والجزئيات والمعدومات والموجودات والحاضرات والغائبات وتمام البيان والشرح في دلالة هذا اللفظ على نهاية الكمال ما ذكرناه في تفسير قوله سبحانه وتعالى وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ ( الأنعام 59 ) وأما صفة القدرة فقوله وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الاْمْرُ كُلُّهُ والمراد أن مرجع الكل إليه وإنما يكون كذلك لو كان مصدر الكل ومبدأ الكل هو هو والذي يكون مبدأ لجميع الممكنات وإليه يكون مرجع كل المحدثات والكائنات كان عظيم القدرة نافذ المشيئة قهاراً للعدم بالوجود والتحصيل جباراً له بالقوة والفعل والتكميل فهذان الوصفان هما المذكوران في شرح جلال المبدأ ونعت كبريائه
والمرتبة الثانية من المراتب التي يجب على الإنسان كونه عالماً بها أن يعرف ما هو مهم له في زمان حياته في الدنيا وما ذلك إلا تكميل النفس بالمعارف الروحانية والجلايا القدسية وهذه المرتبة لها بداية ونهاية أما بدايتها فالاشتغال بالعبادات الجسدانية والروحانية أما العبادات الجسدانية فأفضل الحركات

الصلاة وأكمل السكنات الصيام وأنفع البر الصدقة
وأما العبادة الروحانية فهي الفكر والتأمل في عجائب صنع الله تعالى في ملكوت السموات والأرض كما قال تعالى وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( آل عمران 191 ) وأما نهاية هذه المرتبة فالانتهاء من الأسباب إلى مسببها وقطع النظر عن كل الممكنات والمبدعات وتوجيه حدقة العقل إلى نور عالم الجلال واستغراق الروح في أضواء عالم الكبرياء ومن وصل إلى هذه الدرجة رأى كل ما سواه مهرولاً تائهاً في ساحة كبريائه هالكاً فانياً في فناء سناء أسمائه وحاصل الكلام أن أول درجات السير إلى الله تعالى هو عبودية الله وآخرها التوكل على الله فلهذا السبب قال فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ
والمرتبة الثالثة من المراتب المهمة لكل عامل معرفة المستقبل وهو أنه يعرف كيف يصير حاله بعد انقضاء هذه الحياة الجسمانية وهل لأعماله أثر في السعادة والشقاوة وإليه الإشارة بقوله تعالى وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ والمقصود أنه لا يضيع طاعات المطيعين ولا يهمل أحوال المتمردين الجاحدين وذلك بأن يحضروا في موقف القيامة ويحاسبوا على النقير والقطمير ويعاتبوا في الصغير والكبير ثم يحصل عاقبة الأمر فريق في الجنة وفريق في السعير فظهر أن هذه الآية وافية بالإشارة إلى جميع المطالب العلوية والمقاصد القدسية وأنه ليس وراءها للعقول مرتقى ولا للخواطر منتهى والله الهادي للصواب تمت السورة بحمد الله وعونه وقد وجد بخط المصنف رضي الله عنه في النسخة المنتقل منها ثم تفسير هذه السورة قبل طلوع الصبح ليلة الاثنين من شهر رجب ختمه الله بالخير والبركة سنة إحدى وستمائة وقد كان لي ولد صالح حسن السيرة فتوفى في الغربة في عنفوان شبابه وكان قلبي كالمحترق لذلك السبب فأنا أنشد الله إخواني في الدين وشركائي في طلب اليقين وكل من نظر في هذا الكتاب وانتفع به أن يذكر ذلك الشاب بالرحمة والمغفرة وأن يذكر هذا المسكين بالدعاء وهو يقول رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَة ً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ( آل عمران 8 ) وصلى الله على خير خلقه محمد وعلى آله وصحبه وسلم

سورة يوسف
مكية إلا الآيات 1 و 2 و 3 و 7 فمدنية
وآياتها 111 نزلت بعد سورة هود
ال ر تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
وقد ذكرنا في أول سورة يونس تفسير الر تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ( يونس 1 ) فقوله تِلْكَ إشارة إلى آيات هذه السورة أي تلك الآيات التي أنزلت إليك في هذه السورة المسماة الر هي الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا وهو القرآن وإنما وصف القررن بكونه مبيناً لوجوه الأول أن القرآن معجزة قاهرة وآية بينة لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) والثاني أنه بين فيه الهدى والرشد والحلال والحرام ولما بينت هذه الأشياء فيه كان الكتاب مبيناً لهذه الأشياء الثالث أنه بينت فيه قصص الأولين وشرحت فيه أحوال المتقدمين
ثم قال إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون وفيه مسائل
المسألة الأولى روي أن علماء اليهود قالوا لكبراء المشركين سلوا محمداً لم انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر وعن كيفية قصة يوسف فأنزل الله تعالى هذه الآية وذكر فيها أنه تعالى عبر عن هذه القصة بألفاظ عربية ليتمكنوا من فهمها ويقدروا على تحصيل المعرفة بها والتقدير إنا أنزلنا هذا الكتاب الذي فيه قصة يوسف في حال كونه قرآناً عربياً وسمى بعض القرآن قرآناً لأن القرآن اسم جنس يقع على الكل والبعض
المسألة الثانية احتج الجبائي بهذه الآية على كون القرآن مخلوقاً من ثلاثة أوجه الأول أن قوله إنا أنزلناه يدل عليه فإن القديم لا يجوز تنزيله وإنزاله وتحويله من حال إلى حال الثاني أنه تعالى وصفه بكونه عربياً والقديم لا يكون عربياً ولا فارسياً الثالث أنه لما قال إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْانًا عَرَبِيّا دل على أنه تعالى كان قادراً على أن ينزله لا عربياً وذلك يدل على حدوثه الرابع أن قوله تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ يدل

على أنه مركب من الآيات والكلمات وكل ما كان مركباً كان محدثاً
والجواب عن هذه الوجوه بأسرها أن نقول إنها تدل على أن المركب من الحروف والكلمات والألفاظ والعبارات محدث وذلك لا نزاع فيه إنما الذي ندعي قدمه شيء آخر فسقط هذا الاستدلال
المسأل الثالثة احتج الجبائي بقوله لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ فقال كلمة ( لعل ) يجب حملها على الجزم والتقدير إنا أنزلناه قرآناً عربياً لتعقلوا معانيه في أمر الدين إذ لا يجوز أن يراد بلعلكم تعقلون الشك لأنه على الله محال فثبت أن المراد أنه أنزله لإرادة أن يعرفوا دلائله وذلك يدل على أنه تعالى أراد من كل العباد أن يعقلوا توحيده وأمر دينه من عرف منهم ومن لم يعرف بخلاف قول المجبرة
والجواب هب أن الأمر ما ذكرتم إلا أنه يدل على أنه تعالى أنزل هذه السورة وأراد منهم معرفة كيفية هذه القصة ولكن لم قلتم إنها تدل على أنه تعالى أراد من الكل الإيمان والعمل الصالح
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هَاذَا الْقُرْءَانَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى روى سعيد بن جبير أنه تعالى لما أنزل القرآن على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وكان يتلوه على قومه فقالوا يا رسول الله لو قصصت علينا فنزلت هذه السورة فتلاها عليهم فقالوا لو حدثتنا فنزل اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً ( الزمر 23 ) فقالوا لو ذكرتنا فنزل أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ ( الحديد 16 )
المسألة الثانية القصص اتباع الخبر بعضه بعضاً وأصله في اللغة المتابعة قال تعالى وَقَالَتْ لاخْتِهِ قُصّيهِ ( القصص 11 ) أي اتبعي أثره وقال تعالى فَارْتَدَّا عَلَى ءاثَارِهِمَا قَصَصًا ( الكهف 64 ) أي اتباعاً وإنما سميت الحكاية قصصاً لأن الذي يقص الحديث يذكر تلك القصة شيئاً فشيئاً كما يقال تلا القرآن إذا قرأه لأنه يتلو أي يتبع ما حفظ منه آية بعد آية والقصص في هذه الآية يحتمل أن يكون مصدراً بمعنى الاقتصاص يقال قص الحديث يقصه قصاً وقصصاً إذا طرده وساقه كما يقال أرسله يرسله إرسالاً ويجوز أن يكون من باب تسمية المفعول بالمصدر كقولك هذا قدرة الله تعالى أي مقدوره وهذا الكتاب علم فلان أي معلومه وهذا رجاؤنا أي مرجونا فإن حملناه على المصدر كان المعنى نقص عليك أحسن الاقتصاص وعلى هذا التقدير فالحسن يعود إلى حسن البيان لا إلى القصة والمراد من هذا الحسن كون هذه الألفاظ فصيحة بالغة في الفصاحة إلى حد الإعجاز ألا ترى أن هذه القصة مذكورة في كتب التواريخ مع أن شيئاً منها لا يشابه هذه السورة في الفصاحة والبلاغة وإن حملناه على المفعول كان معنى كونه أحسن القصص لما فيه من العبر والنكت والحكم والعجائب التي ليست في غيرها فإن إحدى الفوائد التي في هذه القصة أنه لا دافع لقضاء

الله تعالى ولا مانع من قدر الله تعالى وأنه تعالى إذا قضى للإنسان بخير ومكرمة فلو أن أهل العالم اجتمعوا عليه لم يقدروا على دفعه
والفائدة الثانية دلالتها على أن الحسد سبب للخذلان والنقصان
والفائدة الثالثة أن الصبر مفتاح الفرج كما في حق يعقوب عليه السلام فإنه لما صبر فاز بمقصوده وكذلك في حق يوسف عليه السلام
فأما قوله بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَاذَا الْقُرْءانَ فالمعنى بوحينا إليك هذا القرآن وهذا التقدير إن جعلنا ( ما ) مع الفعل بمنزلة المصدر
ثم قال وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ يريد من قبل أن نوحي إليك لَمِنَ الْغَافِلِينَ عن قصة يوسف وإخوته لأنه عليه السلام إنما علم ذلك بالوحي ومنهم من قال المراد أنه كان من الغافلين عن الدين والشريعة قبل ذلك كما قال تعالى مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ ( الشورى 52 )
إِذْ قَالَ يُوسُفُ لاًّبِيهِ ياأَبتِ إِنِّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى تقدير الآية اذكر إِذْ قَالَ يُوسُفُ قال صاحب ( الكشاف ) الصحيح أنه اسم عبراني لأنه لو كان عربياً لانصرف لخلوه عن سبب آخر سوى التعريف وقرأ بعضهم يُوسُفَ بكسر السين وَيُوسُفَ بفتحها وأيضاً روى في يونس هذه اللغات الثلاث وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( إذا قيل من الكريم فقولوا الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم عليهم السلام )
المسألة الثانية قرأ ابن عامر يا أبت بفتح التاء في جميع القرآن والباقون بكسر التاء أما الفتح فوجهه أنه كان في الأصل يا أبتاه على سبيل الندبة فحذفت الألف والهاء وأما الكسر فأصله يا أبي فحذفت الياء واكتفى بالكسرة عنها ثم أدخل هاء الوقف فقال يا أبت ثم كثر استعماله حتى صار كأنه من نفس الكلمة فأدخلوا عليه الإضافة وهذا قول ثعلب وابن الأنباري
واعلم أن النحويين طولوا في هذه المسألة ومن أراد كلامهم فليطالع ( كتبهم )
المسألة الثالثة أن يوسف عليه السلام رأى في المنام أن أحد عشر كوكباً والشمس والقمر سجدت له وكان له أحد عشر نفراً من الأخوة ففسر الكواكب بالأخوة والشمس والقمر بالأب والأم والسجود بتواضعهم له ودخولهم تحت أمره وإنما حملنا قوله لاِبِيهِ ياأَبتِ إِنّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا على الرؤيا لوجهين الأول أن الكواكب لا تسجد في الحقيقة فوجب حمل هذا الكلام على الرؤيا والثاني قول يعقوب عليه السلام لاَ تَقْصُصْ رُءيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ ( يوسف 5 ) وفي الآية سؤالات

السؤال الأول قوله رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ فقوله سَاجِدِينَ لا يليق إلا بالعقلاء والكواكب جمادات فكيف جازت اللفظة المخصوصة بالعقلاء في حق الجمادات
قلنا إن جماعة من الفلاسفة الذين يزعمون أن الكواكب أحياء ناطقة احتجوا بهذه الآية وكذلك احتجوا بقوله تعالى وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ( الأنبياء 33 ) والجمع بالواو والنون مختص بالعقلاء وقال الواحدي إنه تعالى لما وصفها بالسجود صارت كأنها تعقل فأخبر عنها كما يخبر عمن يعقل كما قال في صفة الأصنام وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ ( الأعراف 198 ) وكما في قوله نَمْلَة ٌ يأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ ( النمل 18 )
السؤال الثاني قال إِنّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ثم أعاد لفظ الرؤيا مرة ثانية وقال رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ فما الفائدة في هذا التكرير
الجواب قال القفال رحمه الله ذكر الرؤية الأولى لتدل على أنه شاهد الكواكب والشمس والقمر والثانية لتدل على مشاهدة كونها ساجدة له وقال بعضهم إنه لما قال إِنّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ فكأنه قيل له كيف رأيت فقال رأيتهم لي ساجدين وقال آخرون يجوز أن يكون أحدهما من الرؤية والآخر من الرؤية وهذا القائل لم يبين أن أيهما يحمل على الرؤيا وأيهما الرؤيا فذكر قولاً مجملاً غير مبين
السؤال الثالث لم أخر الشمس والقمر
قلنا أخرهما لفضلهما على الكواكب لأن التخصيص بالذكر يدل على مزيد الشرف كما في قوله وَمَلئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ( البقرة 98 )
السؤال الرابع المراد بالسجود نفس السجود أو التواضع كما في قوله
ترى الأكم فيه سجداً للحوافر
قلنا كلاهما محتمل والأصل في الكلام حمله على حقيقته ولا مانع أن يرى في المنام أن الشمس والقمر والكواكب سجدت له
السؤال الخامس متى رأى يوسف عليه السلام هذه الرؤيا
قلنا لا شك أنه رآها حال الصغر فأما ذلك الزمان بعينه فلا يعلم إلا بالأخبار قال وهب رأى يوسف عليه السلام وهو ابن سبع سنين أن إحدى عشرة عصاً طوالاً كانت مركوزة في الأرض كهيئة الدائرة وإذا عصا صغيرة وثبت عليها حتى ابتلعتها فذكر ذلك لأبيه فقال إياك أن تذكر هذا لأخوتك ثم رأى وهو ابن ثنتي عشرة سنة الشمس والقمر والكواكب تسجد له فقصها على أبيه فقال لا تذكرها لهم فيكيدوا لك كيداً وقيل كان بين رؤيا يوسف ومصير أخوته إليه أربعون سنة وقيل ثمانون سنة
واعلم أن الحكماء يقولون إن الرؤيا الرديئة يظهر تعبيرها عن قريب والرؤيا الجيدة إنما يظهر تعبيرها بعد حين قالوا والسبب في ذلك أن رحمة الله تقتضي أن لا يحصل الإعلام بوصول الشر إلا عند قرب وصوله حتى يكون الحزن والغم أقل وأما الإعلام بالخير فإنه يحصل متقدماً على ظهوره بزمان طويل حتى

تكون البهجة الحاصلة بسبب توقع حصول ذلك الخير أكثر وأتم
السؤال السادس قال بعضهم المراد من الشمس والقمر أبوه وخالته فما السبب فيه
قلنا إنما قالوا ذلك من حيث ورد في الخبر أن والدته توفيت وما دخلت عليه حال ما كان بمصر قالوا ولو كان المراد من الشمس والقمر أباه وأمه لما ماتت لأن رؤيا الأنبياء عليهم السلام لا بد وأن تكون وحياً وهذه الحجة غير قوية لأن يوسف عليه السلام ما كان في ذلك الوقت من الأنبياء
السؤال السابع وما تلك الكواكب
قلنا روى صاحب ( الكشاف ) أن يهودياً جاء إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال يا محمد أخبرني عن النجوم التي رآهن يوسف فسكت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فنزل جبريل عليه السلام وأخبره بذلك فقال عليه الصلاة والسلام لليهودي ( إن أخبرتك هل تسلم ) قال نعم قال ( جربان والطارق والذيال وقابس وعمودان والفليق والمصبح والضروح والفرغ ووثاب وذو الكتفين رآها يوسف والشمس والقمر نزلت من السماء وسجدت له ) فقال اليهودي أي والله إنها لأسماؤها
واعلم أن كثيراً من هذه الأسماء غير مذكور في الكتب المصنفة في صورة الكواكب والله أعلم بحقيقة الحال
قَالَ يابُنَى َّ لاَ تَقْصُصْ رُءْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَكَذالِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الاٌّ حَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى ءالِ يَعْقُوبَ كَمَآ أَتَمَّهَآ عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ حفص أَوْ بَنِى بفتح الياء والباقون بالكسر
المسألة الثانية أن يعقوب عليه السلام كان شديد الحب ليوسف وأخيه فحسده إخوته لهذا السبب وظهر ذلك المعنى ليعقوب عليه السلام بالأمارات الكثيرة فلما ذكر يوسف عليه السلام هذه الرؤيا وكان تأويلها أن إخوته وأبويه يخضعون له فقال لا تخبرهم برؤياك فإنهم يعرفون تأويلها فيكيدوا لك كيداً
المسألة الثالثة قال الواحدي الرؤيا مصدر كالبشرى والسقيا والشورى إلا أنه لما صار اسماً لهذا المتخيل في المنام جرى مجرى الأسماء قال صاحب ( الكشاف ) الرؤيا بمعنى الرؤية إلا أنها مختصة

بما كان منها في المنام دون اليقطة فلا جرم فرق بينهما بحرفي التأنيث كما قيل القربة والقربى وقرىء روياك بقلب الهمزة واواً وسمع الكسائي يقرأ رياك ورياك بالإدغام وضم الراء وكسرها وهي ضعيفة
ثم قال تعالى فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا وهو منصوب بإضمار أن والمعنى إن قصصتها عليهم كادوك
فإن قيل فلم لم يقل فيكيدوك كما قال فَكِيدُونِى ( هود 55 )
قلنا هذه اللام تأكيد للصلة كقوله لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ وكقولك نصحتك ونصحت لك وشكرتك وشكرت لك وقيل هي من صلة الكيد على معنى فيكيدوا كيداً لك قال أهل التحقيق وهذا يدل على أنه قد كان لهم علم بتعبير الرؤيا وإلا لم يعلموا من هذه الرؤيا ما يوجب حقداً وغضباً
ثم قال إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ والسبب في هذا الكلام أنهم لو أقدموا على الكيد لكان ذلك مضافاً إلى الشيطان ونظيره قول موسى عليه السلام هذا من عمل الشيطان ثم إن يعقوب عليه السلام قصد بهذه النصيحة تعبير تلك الرؤيا وذكروا أموراً أولها قوله وَكَذالِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ يعني وكما اجتباك بمثل هذه الرؤيا العظيمة الدالة على شرف وعز وكبر شأن كذلك يجتبيك لأمور عظام قال الزجاج الاجتباء مشتق من جبيت الشيء إذا خلصته لنفسك ومنه جبيت الماء في الحوض واختلفوا في المراد بهذا الاجتباء فقال الحسن يجتبيك ربك بالنبوة وقال آخرون المراد منه إعلاء الدرجة وتعظيم المرتبة فأما تعيين النبوة فلا دلالة في اللفظ عليه وثانيها قوله وَيُعَلّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الاْحَادِيثِ وفيه وجوه الأول المراد منه تعبير الرؤيا سماه تأويلاً لأنه يؤل أمره إلى ما رآه في المنام يعني تأويل أحاديث الناس فيما يرونه في منامهم قالوا إنه عليه السلام كان في علم التعبير غاية والثاني تأويل الأحاديث في كتب الله تعالى والأخبار المروية عن الأنبياء المتقدمين كما أن الواحد من علماء زماننا يشتغل بتفسير القرآن وتأويله وتأويل الأحاديث المروية عن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) والثالث الأحاديث جمع حديث والحديث هو الحادث وتأويلها مآلها ومآل الحوادث إلى قدرة الله تعالى وتكوينه وحكمته والمراد من تأويل الأحاديث كيفية الاستدلال بأصناف المخلوقات الروحانية والجسمانية على قدرة الله تعالى وحكمته وجلالته وثالثها قوله وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى ءالِ يَعْقُوبَ
واعلم أن من فسر الاجتباء بالنبوة لا يمكنه أن يفسر إتمام النعمة ههنا بالنبوة أيضاً وإلا لزم التكرار بل يفسر إتمام النعمة ههنا بسعادات الدنيا وسعادات الآخرة أما سعادات الدنيا فالإكثار من الأولاد والخدم والأتباع والتوسع في المال والجاه والحشم وإجلاله في قلوب الخلق وحسن الثناء والحمد وأما سعادات الآخرة فالعلوم الكثيرة والأخلاق الفاضلة والاستغراق في معرفة الله تعالى وأما من فسر الاجتباء بنيل الدرجات العالية فههنا يفسر إتمام النعمة بالنبوة ويتأكيد هذا بأمور الأول أن إتمام النعمة عبارة عما به تصير النعمة تامة كاملة خالية عن جهات النقصان وما ذاك في حق البشر إلا بالنبوة فإن جميع مناصب الخلق دون منصب الرسالة ناقص بالنسبة إلى كمال النبوة فالكمال المطلق والتمام المطلق في حق البشر ليس إلا النبوة والثاني قوله كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحَاقَ ومعلوم أن النعمة التامة التي بها حصل امتياز إبراهيم وإسحق عن سائر البشر ليس إلا النبوة فوجب أن يكون المراد بإتمام النعمة هو النبوة

واعلم أنا لما فسرنا هذه الآية بالنبوة لزم الحكم بأن أولاد يعقوب كلهم كانوا أنبياء وذلك لأنه قال وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى ءالِ يَعْقُوبَ وهذا يقتضي حصول تمام النعمة لآل يعقوب فلما كان المراد من إتمام النعمة هو النبوة لزم حصولها لآل يعقوب ترك العمل به في حق من عدا أبناءه فوجب أن لا يبقى معمولاً به في حق أولاده وأيضاً أن يوسف عليه السلام قال إِنّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وكان تأويله أحد عشر نفساً لهم فضل وكمال ويستضيء بعلمهم ودينهم أهل الأرض لأنه لا شيء أضوأ من الكواكب وبها يهتدى وذلك يقتضي أن يكون جملة أولاد يعقوب أنبياء ورسلاً
فإن قيل كيف يجوز أن يكونوا أنبياء وقد أقدموا على ما أقدموا عليه في حق يوسف عليه السلام
قلنا ذاك وقع قبل النبوة وعندنا العصمة إنما تعتبر في وقت النبوة لا قبلها
القول الثاني أن المراد من قوله وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ خلاصه من المحن ويكون وجه التشبيه في ذلك بإبراهيم وإسحق عليهما السلام هو إنعام الله تعالى على إبراهيم بإنجائه من النار وعلى ابنه إسحق بتخليصه من الذبح
والقول الثالث أن إتمام النعمة هو وصل نعمة الله عليه في الدنيا بنعم الآخرة بأن جعلهم في الدنيا أنبياء وملوكاً ونقلهم عنها إلى الدرجات العلى في الجنة
واعلم أن القول الصحيح هو الأول لأن النعمة التامة في حق البشر ليست إلا النبوة وكل ما سواها فهي ناقصة بالنسبة إليها ثم إنه عليه السلام لما وعده بهذه الدرجات الثلاثة ختم الكلام بقوله إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ فقوله عَلِيمٌ إشارة إلى قوله اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ( الأنعام 124 ) وقوله حَكِيمٌ إشارة إلى أن الله تعالى مقدس عن السفه والعبث لا يضع النبوة إلا في نفس قدسية وجوهرة مشرقة علوية
فإن قيل هذه البشارات التي ذكرها يعقوب عليه السلام هل كان قاطعاً بصحتها أم لا فإن كان قاطعاً بصحتها فكيف حزن على يوسف عليه السلام وكيف جاز أن يشتبه عليه أن الذئب أكله وكيف خاف عليه من إخوته أن يهلكوه وكيف قال لإخوته وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون مع علمه بأن الله سبحانه سيجتبيه ويجعله رسولاً فأما إذا قلنا إنه عليه السلام ما كان عالماً بصحة هذه الأحوال فكيف قطع بها وكيف حكم بوقوعها حكماً جازماً من غير تردد
قلنا لا يبعد أن يكون قوله وَكَذالِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ مشروطاً بأن لا يكيدوه لأن ذكر ذلك قد تقدم وأيضاً فبتقدير أن يقال إنه عليه السلام كان قاطعاً بأن يوسف عليه السلام سيصل إلى هذه المناصب إلا أنه لا يمتنع أن يقع في المضايق الشديدة ثم يتخلص منها ويصل إلى تلك المناصب فكان خوفه لهذا السبب ويكون معنى قوله وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذّئْبُ ( يوسف 13 ) الزجر عن التهاون في حفظه وإن كان يعلم أن الذئب لا يصل إليه
لَّقَدْ كَانَ فِى يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ ءايَاتٌ لِّلسَّآئِلِينَ إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَة ٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ

في هذه الآية مسائل
المسألة الأولى ذكر صاحب ( الكشاف ) أسماء إخوة يوسف يهودا روبيل شمعون لاوي ربالون يشجر دينة دان نفتالي جاد آشر ثم قال السبعة الأولون من ليا بنت خالة يعقوب والأربعة الآخرون من سريتين زلفة وبلهة فلما توفيت ليا تزوج يعقوب أختها راحيل فولدت له بنيامين ويوسف
المسألة الثانية قوله لّلسَّائِلِينَ إِذْ قرأ ابن كثير آية بغير ألف حمله على شأن يوسف والباقون ءايَاتُ على الجمع لأن أمور يوسف كانت كثيرة وكل واحد منها آية بنفسه
المسألة الثالثة ذكروا في تفسير قوله تعالى لّلسَّائِلِينَ إِذْ وجوهاً الأول قال ابن عباس دخل حبر من اليهود على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فسمع منه قراءة يوسف فعاد إلى اليهود فأعلمهم أنه سمعها منه كما هي في التوراة فانطلق نفر منهم فسمعوا كما سمع فقالوا له من علمك هذه القصة فقال الله علمني فنزل لَّقَدْ كَانَ فِى يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ ءايَاتٌ لّلسَّائِلِينَ وهذا الوجه عندي بعيد لأن المفهوم من الآية أن في واقعة يوسف آيات للسائلين وعلى هذا الوجه الذي نقلناه ما كانت الآيات في قصة يوسف بل كانت الآيات في أخبار محمد ( صلى الله عليه وسلم ) عنها من غير سبق تعلم ولا مطالعة وبين الكلامين فرق ظاهر والثاني أن أهل مكة أكثرهم كانوا أقارب الرسول عليه الصلاة والسلام وكانوا ينكرون نبوته ويظهرون العداوة الشديدة معه بسبب الحسد فذكر الله تعالى هذه القصة وبين أن إخوة يوسف بالغوا في إيذائه لأجل الحسد وبالآخرة فإن الله تعالى نصره وقواه وجعلهم تحت يده ورايته ومثل هذه الواقعة إذا سمعها العاقل كانت زجراً له عن الإقدام على الحسد والثالث أن يعقوب لما عبر رؤيا يوسف وقع ذلك التعبير ودخل في الوجود بعد ثمانين سنة فكذلك أن الله تعالى لما وعد محمداً عليه الصلاة والسلام بالنصر والظفر على الأعداء فإذا تأخر ذلك الموعود مدة من الزمان لم يدل ذلك على كون محمد عليه الصلاة والسلام كاذباً فيه فذكر هذه القصة نافع من هذا الوجه الرابع أن إخوة يوسف بالغوا في إبطال أمره ولكن الله تعالى لما وعده بالنصر والظفر كان الأمر كما قدره الله تعالى لا كما سعى فيه الأعداء فكذلك واقعة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإن الله لما ضمن له إعلاء الدرجة لم يضره سعي الكفار في إبطال أمره وأما قوله لّلسَّائِلِينَ فاعلم أن هذه القصة فيها آيات كثيرة لمن سأل عنها وهو كقوله تعالى فِى أَرْبَعَة ِ أَيَّامٍ سَوَاء لّلسَّائِلِينَ ( فصلت 10 )
ثم قال تعالى إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَة ٌ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قوله لِيُوسُفَ اللام لام الابتداء وفيها تأكيد وتحقيق لمضمون الجملة أرادوا أن زيادة محبته لهما أمر لا شبهة فيه وأخوه هو بنيامين وإنما قالوا أخوه وهم جميعاً إخوة لأن أمهما كانت واحدة والعصبة والعصابة العشرة فصاعداً وقيل إلى الأربعين سموا بذلك لأنهم جماعة تعصب بهم الأمور ونقل عن علي عليه السلام أنه قرأ وَنَحْنُ عُصْبَة ٌ بالنصب قيل معناه ونحن نجتمع عصبة
المسألة الثانية المراد منه بيان السبب الذي لأجله قصدوا إيذاء يوسف وذلك أن يعقوب كان يفضل

يوسف وأخاه على سائر الأولاد في الحب وأنهم تأذوا منه لوجوه الأول أنهم كانوا أكبر سناً منهما وثانيها أنهم كانوا أكثر قوة وأكثر قياماً بمصالح الأب منهما وثالثها أنهم قالوا إنا نحن القائمون بدفع المفاسد والآفات والمشتغلون بتحصيل المنافع والخيرات إذا ثبت ما ذكرناه من كونهم متقدمين على يوسف وأخيه في هذه الفضائل ثم إنه عليه السلام كان يفضل يوسف وأخاه عليهم لا جرم قالوا إِنَّ أَبَانَا لَفِى ضَلالٍ مُّبِينٍ يعني هذا حيف ظاهر وضلال بين وههنا سؤالات
السؤال الأول إن من الأمور المعلومة أن تفضيل بعض الأولاد على بعض يورث الحقد والحسد ويورث الآفات فلما كان يعقوب عليه السلام عالماً بذلك فلم أقدم على هذا التفضيل وأيضاً الأسن والأعلم والأنفع أفضل فلم قلب هذه القضية
والجواب أنه عليه السلام ما فضلهما على سائر الأولاد إلا في المحبة والمحبة ليست في وسع البشر فكان معذوراً فيه ولا يلحقه بسبب ذلك لوم
السؤال الثاني أن أولاد يعقوب عليه السلام إن كانوا قد آمنوا بكونه رسولاً حقاً من عند الله تعالى فكيف اعترضوا عليه وكيف زيفوا طريقته وطعنوا في فعله وإن كانوا مكذبين لنبوته فهذا يوجب كفرهم
والجواب أنهم كانوا مؤمنين بنبوة أبيهم مقرين بكونه رسولاً حقاً من عند الله تعالى إلا أنهم لعلهم جوزوا من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أن يفعلوا أفعالاً مخصوصة بمجرد الاجتهاد ثم إن اجتهادهم أدى إلى تخطئة أبيهم في ذلك الاجتهاد وذلك لأنهم كانوا يقولون هما صبيان ما بلغا العقل الكامل ونحن متقدمون عليهما في السن والعقل والكفاية والمنفعة وكثرة الخدمة والقيام بالمهمات وإصراره على تقديم يوسف علينا يخالف هذا الدليل وأما يعقوب عليه السلام فلعله كان يقول زيادة المحبة ليست في الوسع والطاقة فليس لله علي فيه تكليف وأما تخصيصهما بمزيد البر فيحتمل أنه كان لوجوه أحدها أن أمهما ماتت وهما صغار وثانيها لأنه كان يرى فيه من آثار الرشد والنجابة ما لم يجد في سائر الأولاد وثالثها لعله عليه السلام وإن كان صغيراً إلا أنه كان يخدم أباه بأنواع من الخدم أشرف وأعلى بما كان يصدر عن سائر الأولاد والحاصل أن هذه المسألة كانت اجتهادية وكانت مخلوطة بميل النفس وموجبات الفطرة فلا يلزم من وقوع الاختلاف فيها طعن أحد الخصمين في دين الآخر أو في عرضه
السؤال الثالث أنهم نسبوا أباهم إلى الضلال المبين وذلك مبالغة في الذم والطعن ومن بالغ في الطعن في الرسول كفر لا سيما إذا كان الطاعن ولداً فإن حق الأبوة يوجب مزيد التعظيم
والجواب المراد منه الضلال عن رعاية المصالح في الدنيا لا البعد عن طريق الرشد والصواب
السؤال الرابع أن قولهم لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا محض الحسد والحسد من أمهات الكبائر لا سيما وقد أقدموا على الكذب بسبب ذلك الحسد وعلى تضييع ذلك الأخ الصالح وإلقائه في ذل العبودية وتبعيده عن الأب المشفق وألقوا أباهم في الحزن الدائم والأسف العظيم وأقدموا على الكذب فما بقيت خصلة مذمومة ولا طريقة في الشر والفساد إلا وقد أتوا بها وكل ذلك يقدح في العصمة والنبوة
والجواب الأمر كما ذكرتم إلا أن المعتبر عندنا عصمة الأنبياء عليهم السلام في وقت حصول النبوة وأما قبلها فذلك غير واجب والله أعلم

اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِى غَيَابَة ِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَة ِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ
واعلم أنه لما قوي الحسد وبلغ النهاية قالوا لا بد من تبعيد يوسف عن أبيه وذلك لا يحصل إلا بأحد طريقين القتل أو التغريب إلى أرض يحصل اليأس من اجتماعه مع أبيه ولا وجه في الشر يبلغه الحاسد أعظم من ذلك ثم ذكروا العلة فيه وهي قولهم يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ والمعنى أن يوسف شغله عنا وصرف وجهه إليه فإذا أفقده أقبل علينا بالميل والمحبة وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ وفيه وجوه الأول أنهم علموا أن ذلك الذي عزموا عليه من الكبائر فقالوا إذا فعلنا ذلك تبنا إلى الله ونصير من القوم الصالحين والثاني أنه ليس المقصود ههنا صلاح الدين بل المعنى يصلح شأنكم عند أبيكم ويصير أبوكم محباً لكم مشتغلاً بشأنكم الثالث المراد أنكم بسبب هذه الوحشة صرتم مشوشين لا تتفرغون لإصلاح مهم فإذا زالت هذه الوحشة تفرغتم لإصلاح مهماتكم واختلفوا في أن هذا القائل الذي أمر بالقتل من كان على قولين أحدهما أن بعض إخوته قال هذا والثاني أنهم شاوروا أجنبياً فأشار عليهم بقتله ولم يقل ذلك أحد من إخوته فأما من قال بالأول فقد اختلفوا فقال وهب إنه شمعون وقال مقاتل روبيل
فإن قيل كيف يليق هذا بهم وهم أنبياء
قلنا من الناس من أجاب عنه بأنهم كانوا في هذا الوقت مراهقين وما كانوا بالغين وهذا ضعيف لأنه يبعد من مثل نبي الله تعالى يعقوب عليه السلام أن يبعث جماعة من الصبيان من غير أن يكون معهم إنسان عاقل يمنعهم من القبائح وأيضاً أنهم قالوا وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ وهدا يدل على أنهم قبل التوبة لا يكونون صالحين وذلك ينافي كونهم من الصبيان ومنهم من أجاب بأن هذا من باب الصغائر وهذا أيضاً بعيد لأن إيذاء الأب الذي هو نبي معصوم والكذب معه والسعي في إهلاك الأخ الصغير كل واحد من ذلك من أمهات الكبائر بل الجواب الصحيح أن يقال إنهم ما كانوا أنبياء وإن كانوا أنبياء إلا أن هذه الواقعة إنما أقدموا عليها قبل النبوة
ثم إنه تعالى حكى أن قائلاً قال لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ قيل إنه كان روبيل وكان ابن خالة يوسف وكان أحسنهم رأياً فيه فمنعهم عن القتل وقيل يهودا وكان أقدمهم في الرأي والفضل والسن
ثم قال وَأَلْقُوهُ فِى غَيَابَة ِ الْجُبّ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع فِى غَيَابَة ِ الْجُبّ على الجمع في الحرفين هذا والذي بعده والباقون غَيَابَة ِ على الواحد في الحرفين أما وجه الغيابات فهو أن للجب أقطاراً ونواحي فيكون فيها غيابات ومن وحد قال المقصود موضوع واحد من الجب يغيب فيه يوسف فالتوحيد أخص وأدل على المعنى

المطلوب وقرأ الجحدري فِى غَيَابَة ِ الْجُبّ
المسألة الثانية قال أهل اللغة الغيابة كل ما غيب شيئاً وستره فغيابة الجب غوره وما غاب منه عن عين الناظر وأظلم من أسفله والجب البئر التي ليست بمطوية سميت جباً لأنها قطعت قطعاً ولم يحصل فيها غير القطع من طي أو ما أشبه ذلك وإنما ذكرت الغيابة مع الجب دلالة على أن المشير أشار بطرحه في موضع مظلم من الجب لا يلحقه نظر الناظرين فأفاد ذكر الغيابة هذا المعنى إذ كان يحتمل أن يلقى في موضع من الجب لا يحول بينه وبين الناظرين
المسألة الثالثة الألف واللام في الجب تقتضي المعهود السابق اختلفوا في ذلك الجب فقال قتادة هو بئر ببيت المقدس وقال وهب هو بأرض الأردن وقال مقاتل هو على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب وإنما عينوا ذلك الجب للعلة التي ذكروها وهي قولهم يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَة ِ وذلك لأن تلك البئر كانت معروفة وكانوا يردون عليها كثيراً وكان يعلم أنه إذا طرح فيها يكون إلى السلامة أقرب لأن السيارة إذا جازوا وردوها وإذا وردوها شاهدوا ذلك الإنسان فيها وإذا شاهدوه أخرجوه وذهبوا به فكان إلقاؤه فيها أبعد عن الهلاك
المسألة الرابعة الالتقاط تناول الشيء من الطريق ومنه اللقطة واللقيط وقرأ الحسن تلتقطه بالتاء على المعنى لأن بعض السيارة أيضاً سيارة والسيارة الجماعة الذين يسيرون في الطريق للسفر قال ابن عباس يريد المارة وقوله السَّيَّارَة ِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ فيه إشارة إلى أن الأولى أن لا تفعلوا شيئاً من ذلك وأما إن كان ولا بد فاقتصروا على هذا القدر ونظيره قوله تعالى وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ( النحل 126 ) يعني الأولى أن لا تفعلوا ذلك
قَالُواْ يَاأَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ
اعلم أن هذا الكلام يدل على أن يعقوب عليه السلام كان يخافهم على يوسف ولولا ذلك وإلا لما قالوا هذا القول
واعلم أنهم لما أحكموا العزم ذكروا هذا الكلام وأظهروا عند أبيهم أنهم في غاية المحبة ليوسف وفي غاية الشفقة عليه وكانت عادتهم أن يغيبوا عنه مدة إلى الرعي فسألوه أن يرسله معهم وقد كان عليه السلام يحب تطييب قلب يوسف فاغتر بقولهم وأرسله معهم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) لاَ تَأْمَنَّا قرىء بإظهار النونين وبالإدغام بإشمام وبغير إشمام والمعنى لم تخافنا عليه ونحن نحبه ونريد الخير به

المسألة الثانية في يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ خمس قراآت
القراءة الأولى قرأ ابن كثير بالنون وبكسر عين نرتع من الارتعاء ويلعب بالياء والارتعاء افتعال من رعيت يقال رعت الماشية الكلأ ترعاه رعياً إذا أكلته وقوله نرتع الارتعاء للإبل والمواشي وقد أضافوه إلى أنفسهم لأن المعنى نرتع إبلنا ثم نسبوه إلى أنفسهم لأنهم هم السبب في ذلك الرعي والحاصل أنهم أضافوا الارتعاء والقيام بحفظ المال إلى أنفسهم لأنهم بالغون كاملون وأضافوا اللعب إلى يوسف لصغره
القراءة الثانية قرأ نافع كلاهما بالياء وكسر العين من يرتع أضاف الارتعاء إلى يوسف بمعنى أنه يباشر رعي الإبل ليتدرب بذلك فمرة يرتع ومرة يلعب كفعل الصبيان
القراءة الثالثة قرأ أبو عمرو وابن عامر نرتع بالنون وجزم العين ومثله نلعب قال ابن الأعرابي الرتع الأكل بشره وقيل إنه الخصب وقيل المراد من اللعب الإقدام على المباحات وهذا يوصف به الإنسان وأما نلعب فروي أنه قيل لأبي عمرو كيف يقولون نلعب وهم أنبياء فقال لم يكونوا يومئذ أنبياء وأيضاً جاز أن يكون المراد من اللعب الإقدام على المباحات لأجل انشراح الصدر كما روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال لجابر ( فهلا بكراً تلاعبها وتلاعبك ) وأيضاً كان لعبهم الاستباق والغرض منه تعلم المحاربة والمقاتلة مع الكفار والدليل عليه قولهم إنا ذهبنا نستبق وإنما سموه لعباً لأنه في صورته
القراءة الرابعة قرأ أهل الكوفة كليهما بالياء وسكون العين ومعناه إسناد الرتع واللعب إلى يوسف عليه السلام
القراءة الخامسة غَداً يَرْتَعْ بالياء وَنَلْعَبُ بالنون وهذا بعيد لأنهم إنما سألوا إرسال يوسف معهم ليفرح هو باللعب لا ليفرحوا باللعب والله أعلم
قَالَ إِنِّى لَيَحْزُنُنِى أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَة ٌ إِنَّآ إِذَا لَّخَاسِرُونَ
اعلم أنهم لما طلبوا منه أن يرسل يوسف معهم اعتذر إليهم بشيئين أحدهما أن ذهابهم به ومفارقتهم إياه مما يحزنه لأنه كان لا يصبر عنه ساعة والثاني خوفه عليه من الذئب إذا غفلوا عنه برعيهم أو لعبهم لقلة اهتمامهم به قيل إنه رأى في النوم أن الذئب شد على يوسف فكان يحذره فمن هذا ذكر ذلك وكأنه لقنهم الحجة وفي أمثالهم البلاء موكل بالمنطق وقيل الذئاب كانت في أراضيهم كثيرة وقرىء الذّئْبُ بالهمز على الأصل وبالتفخيف وقيل اشتقاقه من تذاءبت الريح إذا أتت من كل جهة فلما ذكر يعقوب عليه السلام هذا الكلام أجابوا بقولهم لَئِنْ أَكَلَهُ الذّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَة ٌ إِنَّا إِذَا لَّخَاسِرُونَ وفيه سؤالات
السؤال الأول ما فائدة اللام في قوله لَئِنْ أَكَلَهُ الذّئْبُ

والجواب من وجهين الأول أن كلمة إن تفيد كون الشرط مستلزماً للجزاء أي إن وقعت هذه الواقعة فنحن خاسرون فهذه اللام دخلت لتأكيد هذا الاستلزام الثاني قال صاحب ( الكشاف ) هذه اللام تدل على إضمار القسم تقديره والله لئن أكله الذئب لكنا خاسرين
السؤال الثاني ما فائدة الواو في قوله وَنَحْنُ عُصْبَة ٌ
الجواب أنها واو الحال حلفوا لئن حصل ما خافه من خطف الذئب أخاهم من بينهم وحالهم أنهم عشرة رجال بمثلهم تعصب الأمور وتكفي الخطوب إنهم إذاً لقوم خاسرون
السؤال الثالث ما المراد من قولهم إِنَّا إِذَا لَّخَاسِرُونَ
الجواب فيه وجوه الأول خاسرون أي هالكون ضعفاً وعجزاً ونظيره قوله تعالى لَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ ( المؤمنون 34 ) أي لعاجزون الثاني أنهم يكونون مستحقين لأن يدعى عليهم بالخسارة والدمار وأن يقال خسرهم الله تعالى ودمرهم حين أكل الذئب أخاهم وهم حاضرون الثالث المعنى أنا إن لم نقدر على حفظ أخينا فقد هلكت مواشينا وخسرناها الرابع أنهم كانوا قد أتعبوا أنفسهم في خدمة أبيهم واجتهدوا في القيام بمهماته وإنما تحملوا تلك المتاعب ليفوزوا منه بالدعاء والثناء فقالوا لو قصرنا في هذه الخدمة فقد أحبطنا كل تلك الأعمال وخسرنا كل ما صدر منا من أنواع الخدمة
السؤال الرابع أن يعقوب عليه السلام اعتذر بعذرين فلم أجابوا عن أحدهما دون الآخر
والجواب أن حقدهم وغيظهم كان بسبب العذر الأول وهو شدة حبه له فلما سمعوا ذكر ذلك المعنى تغافلوا عنه
فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُوا أَن يَجْعَلُوهُ فِى غَيَابَة ِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَاذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ
اعلم أنه لا بد من الإضمار في هذه الآية في موضعين الأول أن تقدير الآية قالوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَة ٌ إِنَّا إِذَا لَّخَاسِرُونَ فأذن له وأرسله معهم ثم يتصل به قوله فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ والثاني أنه لا بد لقوله فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِى غَيَابَة ِ الْجُبّ من جواب إذ جواب لما غير مذكور وتقديره فجعلوه فيها وحذف الجواب في القرآن كثير بشرط أن يكون المذكور دليلاً عليه وههنا كذلك قال السدي إن يوسف عليه السلام لما برز مع إخوته أظهروا له العداوة الشديدة وجعل هذا الأخ يضربه فيستغيث بالآخر فيضربه ولا يرى فيهم رحيماً فضربوه حتى كادوا يقتلونه وهو يقول يا يعقوب لو تعلم ما يصنع بابنك فقال يهودا أليس قد أعطيتموني موثقاً أن لا تقتلوه فانطلقوا به إلى الجب يدلونه فيه وهو متعلق بشفير البئر فنزعوا قميصه وكان غرضهم أن يلطخوه بالدم ويعرضوه على يعقوب فقال لهم ردوا علي قميصي لأتوارى به فقالوا ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكباً لتؤنسك ثم دلوه في البئر حتى إذا بلغ نصفها ألقوه ليموت

وكان في البئر ماء فسقط فيه ثم آوى إلى صخرة فقام بها وهو يبكي فنادوه فظن أنه رحمة أدركتهم فأجابهم فأرادوا أن يرضخوه بصخرة فقام يهودا فمنعهم وكان يهودا يأتيه بالطعام وروي أنه عليه السلام لما ألقي في الجب قال يا شاهداً غير غائب ويا قريباً غير بعيد ويا غالباً غير مغلوب اجعل لي من أمري فرجاً ومخرجاً وروي أن إبراهيم عليه السلام لما ألقي في النار جرد عن ثيابه فجاءه جبريل عليه السلام بقميص من حرير الجنة وألبسه إياه فدفعه إبراهيم إلى إسحق وإسحق إلى يعقوب فجعله يعقوب في تميمة وعلقها في عنق يوسف عليه السلام فجاء جبريل عليه السلام فأخرجه وألبسه إياه
ثم قال تعالى وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَاذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ وفيه مسائل
المسألة الأولى في قوله وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ قولان أحدهما أن المراد منه الوحي والنبوة والرسالة وهذا قول طائفة عظيمة من المحققين ثم القائلون بهذا القول اختلفوا في أنه عليه السلام هل كان في ذلك الوقت بالغاً أو كان صبياً قال بعضهم إنه كان في ذلك الوقت بالغاً وكان سنه سبع عشرة سنة وقال آخرون إنه كان صغيراً إلا أن الله تعالى أكمل عقله وجعله صالحاً لقبول الوحي والنبوة كما في حق عيسى عليه السلام
والقول الثاني إن المراد من هذا الوحي الإلهام كما في قوله تعالى وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمّ مُوسَى ( القصص 7 ) وقوله وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ( النحل 68 ) والأول لأن الظاهر من الوحي ذلك
فإن قيل كيف يجعله نبياً في ذلك الوقت وليس هناك أحد يبلغه الرسالة
قلنا لا يمتنع أن يشرفه بالوحي والتنزيل ويأمره بتبليغ الرسالة بعد أوقات ويكون فائدة تقديم الوحي تأنيسه وتسكين نفسه وإزالة الغم والوحشة عن قلبه
المسألة الثانية في قوله وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ قولان الأول المراد أن الله تعالى أوحى إلى يوسف إنك لتخبرن إخوتك بصنيعهم بعد هذا اليوم وهم لا يشعرون في ذلك الوقت إنك يوسف والمقصود تقوية قلبه بأنه سيحصل له الخلاص عن هذه المحنة ويصير مستولياً عليهم ويصيرون تحت قهره وقدرته وروي أنهم حين دخلوا عليه لطلب الحنطة وعرفهم وهم له منكرون دعا بالصواع فوضعه على يده ثم نقره فظن فقال إنه ليخبرني هذا الجام أنه كان لكم أخ من أبيكم يقال له يوسف فطرحتموه في البئر وقلتم لأبيكم أكله الذئب والثاني أن المراد إنا أوحينا إلى يوسف عليه السلام في البئر بأنك تنبىء إخوتك بهذه الأعمال وهم ما كانوا يشعرون بنزول الوحي عليه والفائدة في إخفاء نزول ذلك الوحي عنهم أنهم لو عرفوه فربما ازداد حسدهم فكانوا يقصدون قتله
المسألة الثالثة إذا حملنا قوله وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ على التفسير الأول كان هذا أمراً من الله تعالى نحو يوسف في أن يستر نفسه عن أبيه وأن لا يخبره بأحوال نفسه فلهذا السبب كتم أخبار نفسه عن أبيه طول تلك المدة مع علمه بوجد أبيه به خوفاً من مخالفة أمر الله تعالى وصبر على تجرع تلك المرارة فكان الله سبحانه وتعالى قد قضى على يعقوب عليه السلام أن يوصل إليه تلك الغموم الشديدة والهموم العظيمة ليكثر رجوعه إلى الله تعالى وينقطع تعلق فكره عن الدنيا فيصل إلى درجة عالية في العبودية لا يمكن الوصول إليها إلا بتحمل المحن الشديدة والله أعلم

وَجَآءُو ا أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ قَالُواْ يَاأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ وَجَآءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ
اعلم أنهم لما طرحوا يوسف في الجب رجعوا إلى أبيهم وقت العشاء باكين ورواه ابن جني عشا بضم العين والقصر وقال عشوا من البكاء فعند ذلك فزع يعقوب وقال هل أصابكم في غنمكم شيء قالوا لا قال فما فعل يوسف قالوا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذّئْبُ فبكى وصاح وقال أين القميص فطرحه على وجهه حتى تخضب وجهه من دم القميص وروي أن امرأة تحاكمت إلى شريح فبكت فقال الشعبي يا أبا أمية ما تراها تبكي قال قد جاء إخوة يوسف يبكون وهم ظلمة كذبة لا ينبغي للإنسان أن يقضي إلا بالحق واختلفوا في معنى الاستباق قال الزجاج يسابق بعضهم بعضاً في الرمي ومنه قوله عليه الصلاة والسلام ( لا سبق إلا في خف أو نصل أو حافر ) يعني بالنصل الرمي وأصل السبق في الرمي بالسهم هو أن يرمي اثنان ليتبين أيهما يكون أسبق سهماً وأبعد غلوة ثم يوصف المتراميان بذلك فيقال استبقا وتسابقا إذا فعلا ذلك ليتبين أيهما أسبق سهماً ويدل على صحة هذا التفسير ما روي أن في قراءة عبدالله إِنَّا ذَهَبْنَا
والقول الثاني في تفسير الاستباق ما قاله السدي ومقاتل ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ نشتد ونعدو ليتبين أينا أسرع عدواً
فإن قيل كيف جاز أن يستبقوا وهم رجال بالغون وهذا من فعل الصبيان
قلنا الاستباق منهم كان مثل الاستباق في الخيل وكانوا يجربون بذلك أنفسهم ويدربونها على العدو ولأنه كالآلة لهم في محاربة العدو ومدافعة الذئب إذا اختلس الشاة وقوله فَأَكَلَهُ الذّئْبُ قيل أكل الذئب يوسف وقيل عرَّضوا وأرادوا أكل الذئب المتاع والوجه هو الأول
ثم قالوا وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ وفيه مسائل
المسألة الأولى ليس المعنى أن يعقوب عليه السلام لا يصدق من يعلم أنه صادق بل المعنى لو كنا عندك من أهل الثقة والصدق لاتهمتنا في يوسف لشدة محبتك إياه ولظننت أنا قد كذبنا والحاصل أنا وإن كنا صادقين لكنك لا تصدقنا لأنك تتهمنا وقيل المعنى إنا وإن كنا صادقين فإنك لا تصدقنا لأنه لم تظهر عندك أمارة تدل على صدقنا

المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الإيمان في أصل اللغة عبارة عن التصديق لأن المراد من قوله وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا أي بمصدق وإذا ثبت أن الأمر كذلك في أصل اللغة وجب أن يبقى في عرف الشرع كذلك وقد سبق الاستقصاء فيه في أول سورة البقرة في تفسير قوله الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ( البقرة 3 )
ثم قال تعالى وَجَاءوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ وفيه مسائل
المسألة الأولى إنما جاؤا بهذا القميص الملطخ بالدم ليوهم كونهم صادقين في مقالتهم قيل ذبحوا جدياً ولطخوا ذلك القميص بدمه قال القاضي ولعل غرضهم في نزع قميصه عند إلقائه في غيابة الجب أن يفعلوا هذا توكيداً لصدقهم لأنه يبعد أن يفعلوا ذلك طمعاً في نفس القميص ولا بد في المعصية من أن يقرن بهذا الخذلان فلو خرقوه مع لطخه بالدم لكان الإيهام أقوى فلما شاهد يعقوب القميص صحيحاً علم كذبهم
المسألة الثانية قوله وَجَاءوا عَلَى قَمِيصِهِ أي وجاؤا فوق قميصه بدم كما يقال جاؤا على جمالهم بأحمال
المسألة الثالثة قال أصحاب العربية وهم الفراء والمبرد والزجاج وابن الأنباري بِدَمٍ كَذِبٍ أي مكذوب فيه إلا أنه وصف بالمصدر على تقدير دم ذي كذب ولكنه جعل نفسه كذباً للمبالغة قالوا والمفعول والفاعل يسميان بالمصدر كما يقال ماء سكب أي مسكوب ودرهم ضرب الأمير وثوب نسج اليمن والفاعل كقوله إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً ( الملك 30 ) ورجل عدل وصوم ونساء نوح ولما سميا بالمصدر سمي المصدر أيضاً بهما فقالوا للعقل المعقول وللجلد المجلود ومنه قوله تعالى بِأَيّكُمُ الْمَفْتُونُ ( القلم 6 ) وقوله إِذَا مُزّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ( سبأ 7 ) قال الشعبي قصة يوسف كلها في قميصه وذلك لأنهم لما ألقوه في الجب نزعوا قميصه ولطخوه بالدم وعرضوه على أبيه ولما شهد الشاهد قال إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ ( يوسف 26 ) ولما أتي بقميصه إلى يعقوب عليه السلام فألقى على وجهه ارتد بصيراً ثم ذكر تعالى أن أخوة يوسف لما ذكروا ذلك الكلام واحتجوا على صدقهم بالقميص الملطخ بالدم قال يعقوب عليه السلام بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا
قال ابن عباس معناه بل زينت لكم أنفسكم أمراً والتسويل تقدير معنى في النفس مع الطمع في إتمامه قال الأزهري كأن التسويل تفعيل من سؤال الإنسان وهو أمنيته التي يطلبها فتزين لطالبها الباطل وغيره وأصله مهموز غير أن العرب استثقلوا فيه الهمز وقال صاحب ( الكشاف ) سَوَّلَتْ سهلت من السول وهو الاسترخاء
إذا عرفت هذا فنقول قوله بَلِ رد لقولهم أَكَلَهُ الذّئْبُ كأنه قال ليس كما تقولون بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ في شأنه أمْراً أي زينت لكم أنفسكم أمراً غير ما تصفون واختلفوا في السبب الذي به عرف كونهم كاذبين على وجوه لأول أنه عرف ذلك بسبب أنه كان يعرف الحسد الشديد في قلوبهم والثاني أنه كان عالماً بأنه حي لأنه عليه الصلاة والسلام قال ليوسف وَكَذالِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ ( يوسف 6 )

وذلك دليل قاطع على أنهم كاذبون في ذلك
القول الثالث قال سعيد بن جبير لما جاؤا على قميصه بدم كذب وما كان متخرقاً قال كذبتم لو أكله الذئب لخرق قميصه وعن السدي أنه قال إن يعقوب عليه السلام قال إن هذا الذئب كان رحيماً فكيف أكل لحمه ولم يخرق قميصه وقيل إنه عليه السلام لما قال ذلك قال بعضهم بل قتله اللصوص فقال كيف قتلوه وتركوا قميصه وهم إلى قميصه أحوج منه إلى قتله فلما اختلفت أقوالهم عرف بسبب ذلك كذبهم ثم قال يعقوب عليه السلام فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وفيه مسائل
المسألة الأولى منهم من قال إنه مرفوع بالابتداء وخبره محذوف والتقدير فصبر جميل أولى من الجزع ومنهم من أضمر المبتدأ قال الخليل الذي أفعله صبر جميل وقال قطرب معناه فصبري صبر جميل وقال الفراء فهو صبر جميل
المسألة الثانية كان يعقوب عليه السلام قد سقط حاجباه وكان يرفعهما بخرقة فقيل له ما هذا فقال طول الزمان وكثرة الأحزان فأوحى الله تعالى إليه يا يعقوب أتشكوني فقال يا رب خطيئة أخطأتها فاغفرها لي وروي عن عائشة رضي الله عنها في قصة الإفك أنها قالت والله لئن حلفت لا تصدقوني وإن اعتذرت لا تعذروني فمثلي ومثلكم كمثل يعقوب وولده فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ فأنزل الله عز وجل في عذرها ما أنزل
المسألة الثالثة عن الحسن أنه سئل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن قوله فَصَبْرٌ جَمِيلٌ فقال ( صبر لا شكوى فيه فمن بث لم يصبر ) ويدل عليه من القرآن قوله تعالى إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى وَحُزْنِى إِلَى اللَّهِ ( يوسف 86 ) وقال مجاهد فصبر جميل أي من غير جزع وقال الثوري من الصبر أن لا تحدث بوجعك ولا بمصيبتك ولا تزكي نفسك وههنا بحث وهو أن الصبر على قضاء الله تعالى واجب فأما الصبر على ظلم الظالمين ومكر الماكرين فغير واجب بل الواجب إزالته لا سيما في الضرر العائد إلى الغير وههنا أن إخوة يوسف لما ظهر كذبهم وخيانتهم فلم صبر يعقوب على ذلك ولم لم يبالغ في التفتيش والبحث سعياً منه في تخليص يوسف عليه السلام عن البلية والشدة إن كان في الأحياء وفي إقامة القصاص إن صح أنهم قتلوه فثبت أن الصبر في المقام مذموم
ومما يقوي هذا السؤال أنه عليه الصلاة والسلام كان عالماً بأنه حي سليم لأنه قال له وَكَذالِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الاْحَادِيثِ ( يوسف 6 ) والظاهر أنه إنما قال هذا الكلام من الوحي وإذا كان عالماً بأنه حي سليم فكان من الواجب أن يسعى في طلبه وأيضاً إن يعقوب عليه السلام كان رجلاً عظيم القدر في نفسه وكان من بيت عظيم شريف وأهل العلم كانوا يعرفونه ويعتقدون فيه ويعظمونه فلو بالغ في الطلب والتفحص لظهر ذلك واشتهر ولزال وجه التلبيس فما السبب في أنه عليه السلام مع شدة رغبته في حضور يوسف عليه السلام ونهاية حبه له لم يطلبه مع أن طلبه كان من الواجبات فثبت أن هذا الصبر في هذا المقام مذموم عقلاً وشرعاً

والجواب عنه أن نقول لا جواب عنه إلا أن يقال إنه سبحانه وتعالى منعه عن الطلب تشديداً للمحنة عليه وتغليظاً للأمر عليه وأيضاً لعله عرف بقرائن الأحوال أن أولاده أقوياء وأنهم لا يمكنونه من الطلب والتفحص وأنه لو بالغ في البحث فربما أقدموا على إيذائه وقتله وأيضاً لعله عليه السلام علم أن الله تعالى يصون يوسف عن البلاء والمحنة وأن أمره سيعظم بالآخرة ثم لم يرد هتك أستار سرائر أولاده وما رضي بإلقائهم في ألسنة الناس وذلك لأن أحد الولدين إذا ظلم الآخر وقع الأب في العذاب الشديد لأنه إن لم ينتقم يحترق قلبه على الولد المظلوم وإن انتقم فإنه يحترق قلبه على الولد الذي ينتقم منه فلما وقع يعقوب عليه السلام في هذه البلية رأى أن الأصوب الصبر والسكوت وتفويض الأمر إلى الله تعالى بالكلية
المسألة الرابعة قوله تعالى فَصَبْرٌ جَمِيلٌ يدل على أن الصبر على قسمين منه ما قد يكون جميلاً وما قد يكون غير جميل فالصبر الجميل هو أن يعرف أن منزل ذلك البلاء هو الله تعالى ثم يعلم أن الله سبحانه مالك الملك ولا اعتراض على المالك في أن يتصرف في ملك نفسه فيصير استغراق قلبه في هذا المقام مانعاً له من إظهار الشكاية
والوجه الثاني أنه يعلم أن منزل هذا البلاء حكيم لا يجهل وعالم لا يغفل عليم لا ينسى رحيم لا يطغى وإذا كان كذلك فكان كل ما صدر عنه حكمة وصواباً فعند ذلك يسكت ولا يعترض
والوجه الثالث أنه ينكشف له أن هذا البلاء من الحق فاستغراقه في شهود نور المبلى يمنعه من الاشتغال بالشكاية عن البلاء ولذلك قيل المحبة التامة لا تزداد بالوفاء ولا تنقص بالجفاء لأنها لو ازدادت بالوفاء لكان المحبوب هو النصيب والحظ وموصل النصيب لا يكون محبوباً بالذات بل بالعرض فهذا هو الصبر الجميل أما إذا كان الصبر لا لأجل الرضا بقضاء الحق سبحانه بل كان لسائر الأغراض فذلك الصبر لا يكون جميلاً والضابط في جميع الأفعال والأقوال والاعتقادات أن كل ما كان لطلب عبودية الله تعالى كان حسناً وإلا فلا وههنا يظهر صدق ما روي في الأثر ( استفت قلبك ولو أفتاك المفتون ) فليتأمل الرجل تأملاً شافياً أن الذي أتى به هل الحاصل والباعث عليه طلب العبودية أم لا فإن أهل العلم لو أفتونا بالشيء مع أنه لا يكون في نفسه كذلك لم يظهر منه نفع ألبتة ولما ذكر يعقوب قوله فَصَبْرٌ جَمِيلٌ قال وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ والمعنى أن إقدامه على الصبر لا يمكن إلا بمعونة الله تعالى لأن الدواعي النفسانية تدعوه إلى إظهار الجزع وهي قوية والدواعي الروحانية تدعوه إلى الصبر والرضا فكأنه وقعت المحاربة بين الصنفين فما لم تحصر إعانة الله تعالى لم تحصل الغلبة فقوله فَصَبْرٌ جَمِيلٌ يجري مجرى قوله إِيَّاكَ نَعْبُدُ ( الفاتحة 5 ) وقوله وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ يجري مجرى قوله وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ( الفاتحة 5 )
وَجَاءَتْ سَيَّارَة ٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يابُشْرَى هَاذَا غُلاَمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَة ً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَة ٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَاهِدِينَ

اعلم أنه تعالى بين كيف سهل السبيل في خلاص يوسف من تلك المحنة فقال وَجَاءتْ سَيَّارَة ٌ يعني رفقة تسير للسفر قال ابن عباس جاءت سيارة أي قوم يسيرون من مدين إلى مصر فأخطؤا الطريق فانطلقوا يهيمون على غير طريق فهبطوا على أرض فيها جب يوسف عليه السلام وكان الجب في قفرة بعيدة عن العمران لم يكن إلا للرعاة وقيل كان ماؤه ملحاً فعذب حين ألقي فيه يوسف عليه السلام فأرسلوا رجلاً يقال له مالك بن ذعر الخزاعي ليطلب لهم الماء والوارد الذي يرد الماء ليستقي القوم فَأَدْلَى دَلْوَهُ ونقل الواحدي عن عامة أهل اللغة أنه يقال أدلى دلوه إذا أرسلها في البئر ودلاها إذا نزعها من البئر يقال أدلى يدلي إدلاء إذا أرسل ودلا يدلو دلواً إذا جذب وأخرج والدلو معروف والجمع دلاء قَالَ يَاءادَمُ بُشْرى ً هَاذَا غُلاَمٌ وههنا محذوف والتقدير فظهر يوسف قال المفسرون لما أدلى الوارد دلوه وكان يوسف في ناحية من قعر البئر تعلق بالحبل فنظر الوارد إليه ورأى حسنه نادى فقال يا بشرى وفيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ عاصم وحمزة والكسائي بُشْرى ً بغير الألف وبسكون الياء والباقون يا بشراي بالألف وفتح الياء على الإضافة
المسألة الثانية في قوله الرّيَاحَ بُشْرى ً قولان
القول الأول أنها كلمة تذكر عند البشارة ونظيره قولهم يا عجباً من كذا وقوله فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ وعلى هذا القول ففي تفسير النداء وجهان الأول قال الزجاج معنى النداء في هذه الأشياء التي لا تجيب تنبيه المخاطبين وتوكيد القصة فإذا قلت يا عجباه فكأنك قلت اعجبوا الثاني قال أبو علي كأنه يقول يا أيتها البشرى هذا الوقت وقتك ولو كنت ممن يخاطب لخوطبت الآن ولأمرت بالحضور
واعلم أن سبب البشارة هو أنهم وجدوا غلاماً في غاية الحسن وقالوا نبيعه بثمن عظيم ويصير ذلك سبباً لحصول الغنى
والقول الثاني وهو الذي ذكره السدي أن الذي نادى صاحبه وكان اسمه فقال يا بشرى كما تقول يا زيد وعن الأعمش أنه قال دعا امرأة اسمها بشرى الرّيَاحَ بُشْرى ً قال أبو علي الفارسي إن جعلنا البشرى اسماً للبشارة وهو الوجه جاز أن يكون في محل الرفع كما قيل يا رجل لاختصاصه بالنداء وجاز أن يكون في موضع النصب على تقدير أنه جعل ذلك النداء شائعاً في جنس البشرى ولم يخص كما تقول يا رجلاً خَامِدُونَ ياحَسْرَة ً عَلَى الْعِبَادِ ( يس 30 )
وأما قوله تعالى وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَة ً ففيه مسألتان
المسألة الأولى الضمير في وَأَسَرُّوهُ إلى من يعود فيه قولان الأول أنه عائد إلى الوارد وأصحابه أخفوا من الرفقة أنهم وجدوه في الجب وذلك لأنهم قالوا إن قلنا للسيارة التقطناه شاركونا فيه وإن قلنا اشتريناه سألونا الشركة فالأصوب أن نقول إن أهل الماء جعلوه بضاعة عندنا على أن نبيعه لهم بمصر والثاني نقل عن ابن عباس أنه قال وَأَسَرُّوهُ يعني إخوة يوسف أسروا شأنه والمعنى أنهم أخفوا كونه

أخاً لهم بل قالوا إنه عبد لنا أبق منا وتابعهم على ذلك يوسف لأنهم توعدوه بالقتل بلسان العبرانية والأول أولى لأن قوله وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَة ً يدل على أن المراد أسروه حال ما حكموا بأنه بضاعة وذلك إنما يليق بالوارد لا بإخوة يوسف
المسألة الثانية البضاعة القطعة من المال تجعل للتجارة من بضعت اللحم إذا قطعته قال الزجاج وبضاعة منصوبة على الحال كأنه قال وأسروه حال ما جعلوه بضاعة
ثم قال تعالى وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ والمراد منه أن يوسف عليه السلام لما رأى الكواكب والشمس والقمر في النوم سجدت له وذكر ذلك حسده إخوته عليه واحتالوا في إبطال ذلك الأمر عليه فأوقعوه في البلاء الشديد حتى لا يتيسر له ذلك المقصود وأنه تعالى جعل وقوعه في ذلك البلاء سبباً إلى وصوله إلى مصر ثم تمادت وقائعه وتتابع الأمر إلى أن صار ملك مصر وحصل ذلك الذي رآه في النوم فكان العمل الذي عمله الأعداء في دفعه عن ذلك المطلوب صيره الله تعالى سبباً لحصول ذلك المطلوب فلهذا المعنى قال وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ
ثم قال تعالى وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَة ٍ أما قوله وَشَرَوْهُ ففيه قولان
القول الأول المراد من الشراء هو البيع وعلى هذا التقدير ففي ذلك البائع قولان
القول الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما إن إخوة يوسف لما طرحوا يوسف في الجب ورجعوا عادوا بعد ثلاث يتعرفون خبره فلما لم يروه في الجب ورأوا آثار السيارة طلبوهم فلما رأوا يوسف قالوا هذا عبدنا أبق منا فقالوا لهم فبيعوه منا فباعوه منهم والمراد من قوله وَشَرَوْهُ أي باعوه يقال شريت الشيء إذا بعته وإنما وجب حمل هذا الشراء على البيع لأن الضمير في قوله وَشَرَوْهُ وفي قوله وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزهِدِينَ عائد إلى شيء واحد لكن الضمير في قوله وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزهِدِينَ عائد إلى الإخوة فكذا في قوله وَشَرَوْهُ يجب أن يكون عائداً إلى الإخوة وإذا كان كذلك فهم باعوه فوجب حمل هذا الشراء على البيع
والقول الثاني أن بائع يوسف هم الذين استخرجوه من البئر وقال محمد بن إسحق ربك أعلم أإخوته باعوه أم السيارة وههنا قول آخر وهو أنه يحتمل أن يقال المراد من الشراء نفس الشراء والمعنى أن القوم اشتروه وكانوا فيه من الزاهدين لأنهم علموا بقائن الحال أن إخوة يوسف كذابون في قولهم إنه عبدنا وربما عرفوا أيضاً أنه ولد يعقوب فكرهوا شراءه خوفاً من الله تعالى ومن ظهور تلك الواقعة إلا أنهم مع ذلك اشتروه بالآخرة لأنهم اشتروه بثمن قليل مع أنهم أظهروا من أنفسهم كونهم فيه من الزاهدين وغرضهم أن يتوصلوا بذلك إلى تقليل الثمن ويحتمل أيضاً أن يقال إن الأخوة لما قالوا إنه عبدنا أبق صار المشتري عديم الرغبة فيه قال مجاهد وكانوا يقولون استوثقوا منه لئلا يأبق
ثم اعلم أنه تعالى وصف ذلك الثمن بصفات ثلاث
الصفة الأولى كونه بخساً قال ابن عباس يريد حراماً لأن ثمن الحر حرام وقال كل بخس في كتاب الله نقصان إلا هذا فإنه حرام قال الواحدي سموا الحرام بخساً لأنه ناقص البركة وقال قتادة بخس

ظلم والظلم نقصان يقال ظلمه أي نقصه وقال عكرمة والشعبي قليل وقيل ناقص عن القيمة نقصاناً ظاهراً وقيل كانت الدراهم زيوفاً ناقصة العيار قال الواحدي رحمه الله تعالى وعلى الأقوال كلها فالبخس مصدر وضع موضع الاسم والمعنى بثمن مبخوس
الصفة الثانية قوله دَراهِمَ مَعْدُودَة ٍ قيل تعد عداً ولا توزن لأنهم كانوا لا يزنون إلا إذا بلغ أوقية وهي الأربعون ويعدون ما دونها فقيل للقليل معدود لأن الكثيرة يمتنع من عدها لكثرتها وعن ابن عباس كانت عشرين درهماً وعن السدي اثنين وعشرين درهماً قالوا والإخوة كانوا أحد عشر فكل واحد منهم أخذ درهمين إلا يهوذا لم يأخذ شيئاً
الصفة الثالثة قوله وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزهِدِينَ ومعنى الزهد قلة الرغبة يقال زهد فلان في كذا إذا لم يرغب فيه وأصله القلة يقال رجل زهيد إذا كان قليل الطمع وفيه وجوه أحدها أن إخوة يوسف باعوه لأنهم كانوا فيه من الزاهدين والثاني أن السيارة الذين باعوه كانوا فيه من الزاهدين لأنهم التقطوه والملتقط للشيء متهاون به لا يبالي بأي شيء يبيعه أو لأنهم خافوا أن يظهر المستحق فينزعه من يدهم فلا جرم باعوه بأوكس الأثمان والثالث أن الذين اشتروه كانوا فيه من الزاهدين وقد سبق توجيه هذه الأقوال فيما تقدم والضمير في قوله فِيهِ يحتمل أن يكون عائد إلى يوسف عليه السلام ويحتمل أن يكون عائداً إلى الثمن البخس والله أعلم
وَقَالَ الَّذِى اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِى مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَآ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذالِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الأرض وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الاٌّ حَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه ثبت في الأخبار أن الذي اشتراه إما من الإخوة أو من الواردين على الماء ذهب به إلى مصر وباعه هناك وقيل إن الذي اشتراه قطفير أو إطفير وهو العزيز الذي كان يلي خزائن مصر والملك يومئذ الريان بن الوليد رجل من العماليق وقد آمن بيوسف ومات في حياة يوسف عليه السلام فملك بعده قابوس بن مصعب فدعاه يوسف إلى الإسلام فأبى واشتراه العزيز وهو ابن سبع عشرة سنة وأقام في منزله ثلاث عشرة سنة واستوزره ريان بن الوليد وهو ابن ثلاثين سنة وآتاه الله الملك والحكمة وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة وقيل كان الملك في أيامه فرعوه موسى عاش أربعمائة سنة بدليل قوله تعالى وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيّنَاتِ ( غافر 34 ) وقيل فرعون موسى من أولاد فرعون يوسف وقيل اشتراه العزيز بعشرين ديناراً وفيل أدخلوه السوق يعرضونه فترافعوا في ثمنه حتى بلغ ثمنه ما يساويه في الوزن من المسك والورق والحرير فابتاعه قطفير بذلك الثمن وقالوا اسم تلك المرأة زليخا وقيل راعيل

واعلم أن شيئاً من هذه الروايات لم يدل عليه القرآن ولم يثبت أيضاً في خبر صحيح وتفسير كتاب الله تعالى لا يتوقف على شيء من هذه الروايات فالأليق بالعاقل أن يحترز من ذكرها
المسألة الثانية قوله أَكْرِمِى مَثْوَاهُ ( يوسف 23 ) أي منزله ومقامه عندك من قولك ثويت بالمكان إذا أقمت به ومصدره الثواء والمعنى اجعلي منزله عندك كريماً حسناً مرضياً بدليل قوله إِنَّهُ رَبّى أَحْسَنَ مَثْوَاى َّ وقال المحققون أمر العزيز امرأته بإكرام مثواه دون إكرام نفسه يدل على أنه كان ينظر إليه على سبيل الإجلال والتعظيم وهو كما يقال سلام الله على المجلس العالي ولما أمرها بإكرام مثواه علل ذلك بأن قال عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا أي يقوم بإصلاح مهماتنا أو نتخذه ولداً لأنه كان لا يولد له ولد وكان حصوراً
ثم قال تعالى وَكَذالِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الاْرْضِ أي كما أنعمنا عليه بالسلامة من الجب مكناه بأن عطفنا عليه قلب العزيز حتى توصل بذلك إلى أن صار متمكناً من الأمر والنهي في أرض مصر
واعلم أن الكمالات الحقيقية ليست إلا القدرة والعلم وأنه سبحانه لما حاول إعلاء شأن يوسف ذكره بهذين الوصفين أما تكميله في صفة القدرة والمكنة فإليه الإشارة بقوله مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الاْرْضِ وأما تكميله في صفة العلم فإليه الإشارة بقوله وَلِنُعَلّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الاْحَادِيثِ وقد تقدم تفسير هذه الكلمة
واعلم أنا ذكرنا أنه عليه السلام لما ألقى في الجب قال تعالى وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَاذَا ( يوسف 15 ) وذلك يدل ظاهراً على أنه تعالى أوحى إليه في ذلك الوقت وعندنا الإرهاص جائز فلا يبعد أن يقال إن ذلك الوحي إليه في ذلك الوقت ما كان لأجل بعثته إلى الخلق بل لأجل تقوية قلبه وإزالة الحزن عن صدره ولأجل أن يستأنس بحضور جبريل عليه السلام ثم إنه تعالى قال ههنا وَلِنُعَلّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الاْحَادِيثِ والمراد منه إرساله إلى الخلق بتبليغ التكاليف ودعوة الخلق إلى الدين الحق ويحتمل أيضاً أن يقال إن ذلك الوحي الأول كان لأجل الرسالة والنبوة ويحمل قوله وَلِنُعَلّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الاْحَادِيثِ على أنه تعالى أوحى إليه بزيادات ودرجات يصير بها كل يوم أعلى حالاً مما كان قبله وقال ابن مسعود أشد النار فراسة ثلاثة العزيز حين تفرس في يوسف فقال لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا والمرأة لما رأت موسى فقالت إِحْدَاهُمَا ياأَبَتِ اسْتَجِرْهُ ( القصص 26 ) وأبو بكر حين استخلف عمر
ثم قال تعالى وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وفيه وجهان الأول غالب على أمر نفسه لأنه فعال لما يريد لا دافع لقضائه ولا مانع عن حكمه في أرضه وسمائه والثاني والله غالب على أمر يوسف يعني أن انتظام أموره كان إلهياً وما كان بسعيه وإخوته أرادوا به كل سوء ومكروه والله أراد به الخير فكان كما أراد الله تعالى ودبر ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن الأمر كله بيد الله واعلم أن من تأمل في أحوال الدنيا وعجائب أحوالها عرف وتيقن أن الأمر كله لله وأن قضاء الله غالب
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذالِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ

في الآية مسائل
المسألة الأولى وجه النظم أن يقال بين تعالى أن إخوته لما أساؤا إليه ثم إنه صبر على تلك الشدائد والمحن مكنه الله تعالى في الاْرض ثم لما بلغ أشده آتاه الله الحكم والعلم والمقصود بيان أن جميع ما فاز به من النعم كان كالجزاء على صبره على تلك المحن ومن الناس من قال إن النبوة جزاء على الأعمال الحسنة ومنهم من قال إن من اجتهد وصبر على بلاء الله تعالى وشكر نعماء الله تعالى وجد منصب الرسالة واحتجوا على صحة قولهم بأنه تعالى لما ذكر صبر يوسف على تلك المحن ذكر أنه أعطاه النبوة والرسالة
ثم قال تعالى وَكَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ وهذا يدل على أن كل من أتى بالطاعات الحسنة التي أتى بها يوسف فإن الله يعطيه تلك المناصب وهذا بعيد لاتفاق العلماء على أن النبوة غير مكتسبة
واعلم أن من قال إن يوسف ما كان رسولاً ولا نبياً ألبتة وإنما كان عبداً أطاع الله تعالى فأحسن الله إليه وهذا القول باطل بالإجماع وقال الحسن إنه كان نبياً من الوقت الذي قال الله تعالى في حقه وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَاذَا ( يوسف 15 ) وما كان رسولاً ثم إنه صار رسولاً من هذا الوقت أعني قوله وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ اتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ( يوسف 22 ) ومنهم من قال إنه كان رسولاً من الوقت الذي ألقى في غيابة الجب
المسألة الثانية قال أبو عبيدة تقول العرب بلغ فلان أشده إذا انتهى منتهاه في شبابه وقوته قبل أن يأخذ في النقصان وهذا اللفظ يستعمل في الواحد والجمع يقال بلغ أشده وبلغوا أشدهم وقد ذكرنا تفسير الأشد في سورة الأنعام عند قوله حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ( الأنعام 152 ) وأما التفسير فروى ابن جرير عن مجاهد عن ابن عباس ولما بلغ أشده قال ثلاثاً وثلاثين سنة وأقول هذه الرواية شديدة الانطباق على القوانين الطبية وذلك لأن الأطباء قالوا إن الإنسان يحدث في أول الأمر ويتزايد كل يوم شيئاً فشيئاً إلى أن ينتهي إلى غاية الكمال ثم يأخذ في التراجع والانتقاص إلى أن لا يبقى منه شيء فكانت حالته شبيهة بحال القمر فإنه يظهر هلالاً ضعيفاً ثم لا يزال يزداد إلى أن يصير بدراً تاماً ثم يتراجع إلى أن ينتهي إلى العدم والمحاق
إذا عرفت هذا فنقول مدة دور القمر ثمانية وعشرون يوماً وكسر فإذا جعلت هذه الدورة أربعة أقسام كان كل قسم منها سبعة أيام فلا جرم رتبوا أحوال الأبدان على الأسابيع فالإنسان إذا ولد كان ضعيف الخلقة نحيف التركيب إلى أن يتم له سبع سنين ثم إذا دخل في السبعة الثانية حصل فيه آثار الفهم والذكاء والقوة ثم لا يزال في الترقي إلى أن يتم له أربع عشرة سنة فإذا دخل في السنة الخامسة عشرة دخل في الأسبوع الثالث وهناك يكمل العقل ويبلغ إلى حد التكليف وتتحرك فيه الشهوة ثم لا يزال يرتقي على هذه الحالة إلى أن يتم السنة الحادية والعشرين وهناك يتم الأسبوع الثالث ويدخل في السنة الثانية والعشرين وهذا الأسبوع آخر أسابيع النشوء والنماء فإذا تمت السنة الثامنة والعشرون فقد تمت مدة النشوء والنماء وينتقل الإنسان منه إلى زمان الوقوف وهو الزمان الذي يبلغ الإنسان فيه أشده وبتمام هذا الأسبوع الخامس يحصل للإنسان خمسة وثلاثون سنة ثم إن هذه المراتب مختلفة في الزيادة والنقصان فهذا الأسبوع الخامس الذي هو أسبوع الشدة والكمال يبتدأ من السنة التاسعة والعشرين إلى الثالثة والثلاثين وقد يمتد إلى الخامسة والثلاثين فهذا هو الطريق المعقول في هذا الباب والله أعلم بحقائق الأشياء
المسألة الثالثة في تفسير الحكم والعلم وفيه أقوال

القول الأول أن الحكم والحكمة أصلهما حبس النفس عن هواها ومنعها مما يشينها فالمراد من الحكم الحكمة العملية والمراد من العلم الحكمة النظرية وإنما قدم الحكمة العملية هنا على العملية لأن أصحاب الرياضات يشتغلون بالحكمة العملية ثم يترقون منها إلى الحكمة النظرية وأما أصحاب الأفكار العقلية والأنظار الروحانية فإنهم يصلون إلى الحكمة النظرية أولاً ثم ينزلون منها إلى الحكمة العملية وطريقة يوسف عليه السلام هو الأول لأنه صبر على البلاء والمحنة ففتح الله عليه أبواب المكاشفات فلهذا السبب قال اتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا
القول الثاني الحكم هو النبوة لأن النبي يكون حاكماً على الخلق والعلم علم الدين
والقول الثالث يحتمل أن يكون المراد من الحكم صيرورة نفسه المطمئنة حاكمة على نفسه الأمارة بالسوء مستعلية عليها قاهرة لها ومتى صارت القوة الشهوانية والغضبية مقهورة ضعيفة فاضت الأنوار القدسية والأضواء الإلهية من عالم القدس على جوهر النفس وتحقيق القول في هذا الباب أن جوهر النفس الناطقة خلقت قابلة للمعارف الكلية والأنوار العقلية إلا أنه قد ثبت عندنا بحسب البراهين العقلية وبحسب المكاشفات العلوية أن جواهر الأرواح البشرية مختلفة بالماهيات فمنها ذكية وبليدة ومنها حرة ونذلة ومنها شريفة وخسيسة ومنها عظيمة الميل إلى عالم الروحانيات وعظيمة الرغبة في الجسمانيات فهذه الأقسام كثيرة وكل واحد من هذه المقامات قابل للأشد والأضعف والأكمل والأنقص فإذا اتفق أن كان جوهر النفس الناطقة جوهراً مشرقاً شريفاً شديد الاستعداد لقبول الأضواء العقلية واللوائح الإلهية فهذه النفس في حال الصغر لا يظهر منها هذه الأحوال لأن النفس الناطقة إنما تقوى على أفعالها بواسطة استعمال الآلات الجسدانية وهذه الآلات في حال الصغر تكون الرطوبات مستولية عليها فإذا كبر الإنسان واستولت الحرارة الغريزية على البدن نضجت تلك الرطوبات وقلت واعتدلت فصارت تلك الآلات البدنية صالحة لأن تستعملها النفس الإنسانية وإذا كانت النفس في أصل جوهرها شريفة فعند كمال الآلات البدنية تكمل معارفها وتقوى أنوارها ويعظم لمعان الأضواء فيها فقوله وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ إشارة إلى اعتدال الآلات البدنية وقوله اتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا إشارة إلى استكمال النفس في قوتها العملية والنظرية والله أعلم
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِى هُوَ فِى بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الاٌّ بْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّى أَحْسَنَ مَثْوَاى َّ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ
اعلم أن يوسف عليه السلام كان في غاية الجمال والحسن فلما رأته المرأة طمعت فيه ويقال أيضاً إن زوجها كان عاجزاً يقال راود فلان جاريته عن نفسها وراودته هي عن نفسه إذا حاول كل واحد منها الوطء والجماع وَغَلَّقَتِ الاْبْوَابَ والسبب أن ذلك العمل لا يؤتى به إلا في المواضع المستورة لا سيما إذا كان حراماً ومع قيام الخوف الشديد وقوله وَغَلَّقَتِ الاْبْوَابَ أي أغلقتها قال الواحدي وأصل هذا من قولهم في كل شيء تشبث في شيء فلزمه قد غلق يقال غلق في الباطل وغلق في غضبه ومنه غلق الرهن

ثم يعدى بالألف فيقال أغلق الباب إذا جعله بحيث يعسر فتحه قال المفسرون وإنما جاء غلقت على التكثير لأنها غلقت سبعة أبواب ثم دعته إلى نفسها ثم قال تعالى وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي هيت لك اسم للفعل نحو رويداً وصه ومه ومعناه هلم في قول جميع أهل اللغة وقال الأخفش هَيْتَ لَكَ مفتوحة الهاء والتاء ويجوز أيضاً كسر التاء ورفعها قال الواحدي قال أبو الفضل المنذري أفادني ابن التبريزي عن أبي زيد قال هيت لك بالعبرانية هيالح أي تعال عربه القرآن وقال الفراء إنها لغة لأهل حوران سقطت إلى بكة فتكلموا بها قال ابن الأنباري وهذا وفاق بين لغة قريش وأهل حوران كما اتفقت لغة العرب والروم في ( القسطاس ) ولغة العرب والفرس في السجيل ولغة العرب والترك في ( الغساق ) ولغة العرب والحبشة في ( ناشئة الليل )
المسألة الثانية قرأ نافع وابن عامر في رواية ابن ذكوان هَيْتَ بكسر الهاء وفتح التاء وقرأ ابن كثير هَيْتَ لَكَ مثل حيث وقرأ هشام بن عمار عن أبي عامر أَحْلَلْنَا لَكَ بكسر الهاء وهمز الياء وضم التاء مثل جئت من تهيأت لك والباقون بفتح الهاء وإسكان الياء وفتح التاء ثم إنه تعالى قال إن المرأة لما ذكرت هذا الكلام قال يوسف عليه السلام مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبّى أَحْسَنَ مَثْوَاى َّ فقوله مَعَاذَ اللَّهِ أي أعوذ بالله معاذاً والضمير في قوله أَنَّهُ للشأن والحديث رَبّى أَحْسَنَ مَثْوَاى َّ أي ربي وسيدي ومالكي أحسن مثواي حين قال لك أكرمي مثواه فلا يليق بالعقل أن أجازيه على ذلك الإحسان بهذه الخيانة القبيحة إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ الذين يجازون الإحسان بالإساءة وقيل أراد الزناة لأنهم ظالمون أنفسهم أو لأن عملهم يقتضي وضع الشيء في غير موضعه وههنا سؤالات
السؤال الأول أن يوسف عليه السلام كان حراً وما كان عبداً لأحد فقوله إِنَّهُ رَبّى يكون كذباً وذلك ذنب وكبيرة
والجواب أنه عليه السلام أجرى هذا الكلام بحسب الظاهر وعلى وفق ما كانوا يعتقدون فيه من كونه عبداً له وأيضاً أنه رباه وأنعم عليه بالوجوه الكثيرة فعنى بكونه رباً له كونه مربياً له وهذا من باب المعاريض الحسنة فإن أهل الظاهر يحملونه على كونه رباً له وهو كان يعني به أنه كان مربياً له ومنعماً عليه
السؤال الثاني هل يدل قول يوسف عليه السلام مَعَاذَ اللَّهِ على صحة مذهبنا في القضاء والقدر
والجواب أنه يدل عليه دلالة ظاهرة لأن قوله عليه السلام أعوذ بالله معاذاً طلب من الله أن يعيذه من ذلك العمل وتلك الإعاذة ليست عبارة عن إعطاء القدرة والعقل والآلة وإزاحة الأعذار وإزالة الموانع وفعل الألطاف لأن كل ما كان في مقدور الله تعالى من هذا الباب فقد فعله فيكون ذلك إما طلباً لتحصيل الحاصل أو طلباً لتحصيل الممتنع وأنه محال فعلمنا أن تلك الإعاذة التي طلبها يوسف من الله تعالى لا معنى لها إلا أن يخلق فيه داعية جازمة في جانب الطاعة وأن يزيل عن قلبه داعية المعصية وذلك هو المطلوب والدليل على أن المراد ما ذكرناه ما نقل أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما وقع بصره على زينب قال ( يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ) وكان المراد منه تقوية داعية الطاعة وإزالة داعية المعصية فكذا ههنا وكذا

قوله عليه السلام ( قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن ) فالمراد من الأصبعين داعية الفعل وداعية الترك وهاتان الداعيتان لا يحصلان إلا بخلق الله تعالى وإلا لافتقرت إلى داعية أخرى ولزم التسلسل فثبت أن قول يوسف عليه السلام مَعَاذَ اللَّهِ من أدل الدلائل على قولنا والله أعلم
السؤال الثالث ذكر يوسف عليه السلام في الجواب عن كلامها ثلاثة أشياء أحدها قوله مَعَاذَ اللَّهِ والثاني قوله تعالى عنه إِنَّهُ رَبّى أَحْسَنَ مَثْوَاى َّ والثالث قوله إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ فما وجه تعلق بعض هذا الجواب ببعض
والجواب هذا الترتيب في غاية الحسن وذلك لأن الانقياد لأمر الله تعالى وتكليفه أهم الأشياء لكثرة إنعامه وألطافه في حق العبد فقوله مَعَاذَ اللَّهِ إشارة إلى أن حق الله تعالى يمنع عن هذا العمل وأيضاً حقوق الخلق واجبة الرعاية فلما كان هذا الرجل قد أنعم في حقي يقبح مقابلة إنعامه وإحسانه بالإساءة وأيضاً صون النفس عن الضرر واجب وهذه اللذة لذة قليلة يتبعها خزي في الدنيا وعذاب شديد في الآخرة واللذة القليلة إذا لزمها ضرر شديد فالعقل يقتضي تركها والاحتزاز عنها فقوله إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ إشارة إليه فثبت أن هذه الجوابات الثلاثة مرتبة على أحسن وجوه الترتيب
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَالِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّو ءَ وَالْفَحْشَآءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ
اعلم أن هذه الآية من المهمات التي يجب الاعتناء بالبحث عنها وفي هذه الآية مسائل
المسألة الأولى في أنه عليه السلام هل صدر عنه ذنب أم لا وفي هذه المسألة قولان الأول أن يوسف عليه السلام هم بالفاحشة قال الواحدي في كتاب ( البسيط ) قال المفسرون الموثوق بعلمهم المرجوع إلى روايتهم هم يوسف أيضاً بهذه المرأة هما صحيحاً وجلس منها مجلس الرجل من المرأة فلما رأى البرهان من ربه زالت كل شهوة عنه قال جعفر الصادق رضي الله عنه بإسناده عن علي عليه السلام أنه قال طمعت فيه وطمع فيها فكان طمعه فيها أنه هم أن يحل التكة وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال حل الهميان وجلس منها مجلس الخائن وعنه أيضاً أنها استلقت له وجلس بين رجليها ينزع ثيابه ثم إن الواحدي طول في كلمات عديمة الفائدة في هذا الباب وما ذكر آية يحتج بها ولا حديثاً صحيحاً يعول عليه في تصحيح هذه المقالة وما أمعن النظر في تلك الكلمات العارية عن الفائدة روي أن يوسف عليه السلام لما قال ذالِكَ لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ( يوسف 52 ) قال له جبريل عليه السلام ولا حين هممت يا يوسف فقال يوسف عند ذلك وَمَا أُبَرّىء نَفْسِى ( يوسف 53 ) ثم قال والذين أثبتوا هذا العمل ليوسف كانوا أعرف بحقوق الأنبياء عليهم السلام وارتفاع منازلهم عند الله تعالى من الذين نفوا لهم عنه فهذا خلاصة كلامه في هذا الباب

والقول الثاني أن يوسف عليه السلام كان بريئاً عن العمل الباطل والهم المحرم وهذا قول المحققين من المفسرين والمتكلمين وبه نقول وعنه نذب
واعلم أن الدلائل الدالة على وجوب عصمة الأنبياء عليهم السلام كثيرة ولقد استقصيناها في سورة البقرة في قصة آدم عليه السلام فلا نعيدها إلا أنا نزيد ههنا وجوهاً
فالحجة الأولى أن الزنا من منكرات الكبائر والخيانة في معرض الأمانة أيضاً من منكرات الذنوب وأيضاً مقابلة الإحسان العظيم بالإساءة الموجبة للفضيحة التامة والعار الشديد أيضاً من منكرات الذنوب وأيضاً الصبي إذا تربى في حجر إنسان وبقي مكفي المؤنة مصون العرض من أول صباه إلى زمان شبابه وكما قوته فإقدام هذا الصبي على إيصال أقبح أنواع الإساءة إلى ذلك المنعم المعظم من منكرات الأعمال
إذا ثبت هذا فنقول إن هذه المعصية التي نسبوها إلى يوسف عليه السلام كانت موصوفة بجميع هذه الجهات الأربع ومثل هذه المعصية لو نسبت إلى أفسق خلق الله تعالى وأبعدهم عن كل خير لاستنكف منه فكيف يجوز إسنادها إلى الرسول عليه الصلاة والسلاما المؤيد بالمعجزات القاهرة الباهرة ثم إنه تعالى قال في غير هذه الواقعة كَذالِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوء وَالْفَحْشَاء ( يوسف 24 ) وذلك يدل على أن ماهية السوء والفحشاء مصروفة عنه ولا شك أن المعصية التي نسبوها إليه أعظم أنواع وأفحش أقسام الفحشاء فكيف يليق برب العالمين أن يشهد في عين هذه الواقعة بكونه بريئاً من السوء مع أنه كان قد أتى بأعظم أنواع السوء والفحشاء وأيضاً فالآية تدل على قولنا من وجه آخر وذلك لأنا نقول هب أن هذه الآية لا تدل على نفي هذه المعصية عنه إلا أنه لا شك أنها تفيد المدح العظيم والثناء البالغ فلا يليق بحكمة الله تعالى أن يحكى عن إنسان إقدامه على معصية عظيمة ثم إنه يمدحه ويثني عليه بأعظم الدمائح والأثنية عقيب أن حكى عنه ذلك الذنب العظيم فإن مثاله ما إذا حكى السلطان عن بعض عبيده أقبح الذنوب وأفحش الأعمال ثم إنه يذكره بالمدح العظيم والثناء البالغ عقيبه فإن ذلك يستنكر جداً فكذا ههنا والله أعلم الثالث أن الأنبياء عليهم السلام متى صدرت منهم زلة أو هفوة استعظموا ذلك وأتبعوها بإظهار الندامة والتوبة والتواضع ولو كان يوسف عليه السلام أقدم ههنا على هذه الكبيرة المنكرة لكان من المحال أن لا يتبعها بالتوبة والاستغفار ولو أتى بالتوبة لحكى الله تعالى عنه إتيانه بها كما في سائر المواضع وحيث لم يوجد شيء من ذلك علمنا أنه ما صدر عنه في هذه الواقعة ذنب ولا معصية الرابع أن كل من كان له تعلق بتلك الواقعة فقد شهد ببراءة يوسف عليه السلام من المعصية
واعلم أن الذين لهم تعلق بهذه الواقعة يوسف عليه السلام وتلك المرأة وزوجها والنسوة والشهود ورب العالمين شهد ببراءته عن الذنب وإبليس أقر ببراءته أيضاً عن المعصية وإذا كان الأمر كذلك فحينئذ لم يبق للمسلم توقف في هذا الباب أما بيان أن يوسف عليه السلام ادعى البراءة عن الذنب فهو قوله عليه السلام هِى َ رَاوَدَتْنِى عَن نَّفْسِى ( يوسف 26 ) وقوله عليه السلام رَبّ السّجْنُ أَحَبُّ إِلَى َّ مِمَّا يَدْعُونَنِى إِلَيْهِ ( يوسف 33 ) وأما بيان أن المرأة اعترفت بذلك فلأنها قالت للنسوة وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ ( يوسف 32 ) وأيضاً قالت قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ ( يوسف 51 ) وأما بيان أن زوج المرأة أقر بذلك فهو قوله إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَاذَا وَاسْتَغْفِرِى لِذَنبِكِ ( يوسف 28 29 )

وأما الشهود فقوله تعالى وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ ( يوسف 26 ) وأما شهادة الله تعالى بذلك فقوله كَذالِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوء وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ( يوسف 24 ) فقد شهد الله تعالى في هذه الآية على طهارته أربع مرات أولها قوله لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوء واللام للتأكيد والمبالغة والثاني قوله وَالْفَحْشَاء أي كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء والثالث قوله إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا مع أنه تعالى قال وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الاْرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً ( الفرقان 63 ) والرابع قوله الْمُخْلَصِينَ وفيه قراءتان تارة باسم الفاعل وأخرى باسم المفعول فوروده باسم الفاعل يدل على كونه آتياً بالطاعات والقربات مع صفة الأخلاص ووروده باسم المفعول يدل على أن الله تعالى استخلصه لنفسه واصطفاه لحضرته وعلى كلا الوجهين فإنه من أدل الألفاظ على كونه منزهاً عما أضافوه إليه وأما بيان أن إبليس أقر بطهارته فلأنه قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين ( ص 82 83 ) فأقر بأنه لا يمكنه إغواء المخلصين ويوسف من المخلصين لقوله تعالى ( ص 82 83 ) فأقر بأنه لا يمكنه إغواء المخلصين ويوسف من المخلصين لقوله تعالى إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ فكان هذا إقراراً من إبليس بأنه ما أغواه وما أضله عن طريقة الهدى وعند هذا نقول هؤلاء الجهال الذين نسبوا إلى يوسف عليه السلام هذه الفضيحة إن كانوا من أتباع دين الله تعالى فليقبلوا شهادة الله تعالى على طهارته وإن كانوا من أتباع إبليس وجنوده فليقبلوا شهادة إبليس على طهارته ولعلهم يقولون كنا في أول الأمر تلامذة إبليس إلى أن تخرجنا عليه فزدنا عليه في السفاهة كما قال الخوارزمي فوكنت امرأ من جند إبليس فارتقى
بي الدهر حتى صار إبليس من جندي
فلو مات قبلي كنت أحسن بعده
طرائق فسق ليس يحسنها بعدي
فثبت بهذه الدلائل أن يوسف عليه السلام برىء عما يقوله هؤلاء الجهال
وإذا عرفت هذا فنقول الكلام على ظاهر هذه الآية يقع في مقامين
المقام الأول أن نقول لا نسلم أن يوسف عليه السلام هم بها والدليل عليه أنه تعالى قال وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ وجواب لَوْلاَ ههنا مقدم وهو كما يقال قد كنت من الهالكين لولا أن فلاناً خلصك وطعن الزجاج في هذا الجواب من وجهين الأول أن تقديم جواب لَوْلاَ شاذ وغير موجود في الكلام الفصيح الثاني أن لَوْلاَ يجاب جوابها باللام فلو كان الأمر على ما ذكرتم لقال ولقد همت ولهم بها لولا وذكر غير الزجاج سؤالاً ثالثاً وهو أنه لو لم يوجد الهم لما كان لقوله لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ فائدة
واعلم أن ما ذكره الزجاج بعيد لأنا نسلم أن تأخير جواب لَوْلاَ حسن جائز إلا أن جوازه لا يمنع من جواز تقديم هذا الجواب وكيف ونقل عن سيبويه أنه قال إنهم يقدمون الأهم فالأهم والذي هم بشأنه أعنى فكان الأمر في جواز التقديم والتأخير مربوطاً بشدة الاهتمام وأما تعيين بعض الألفاظ بالمنع فذلك مما لا يليق بالحكمة وأيضاً ذكر جواب لَوْلاَ باللام جائز أما هذا لا يدل على أن ذكره بغير اللام لا يجوز ثم إنا نذكر آية أخرى تدل على فساد قول الزجاج في هذين السؤالين وهو قوله تعالى إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا ( القصص 10 )

وأما السؤال الثالث وهو أنه لو لم يوجد الهم لم يبق لقوله لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ فائدة فنقول بل فيه أعظم الفوائد وهو بيان أن ترك الهم بها ما كان لعدم رغبته في النساء وعدم قدرته عليهن بل لأجل أن دلائل دين الله منعته عن ذلك العمل ثم نقول إن الذي يدل على أن جواب لَوْلاَ ما ذكرناه أن لَوْلاَ تستدعي جواباً وهذا المذكور يصلح جواباً له فوجب الحكم بكونه جواباً له لا يقال إنا نضمر له جواباً وترك الجواب كثير في القرآن لأنا نقول لا نزاع أنه كثير في القرآن إلا أن الأصل أن لا يكون محذوفاً وأيضاً فالجواب إنما يحسن تركه وحذفه إذا حصل في اللفظ ما يدل على تعينه وههنا بتقدير أن يكون الجواب محذوفاً فليس في اللفظ ما يدل على تعين ذلك الجواب فإن ههنا أنواعاً من الإضمارات يحسن إضمار كل واحد منها وليس إضمار بعضها أولى من إضمار الباقي فظهر الفرق والله أعلم
المقام الثاني في الكلام على هذه الآية أن نقول سلمنا أن الهم قد حصل إلا أنا نقول إن قوله وَهَمَّ بِهَا لا يمكن حمله على ظاهره لأن تعليق الهم بذات المرأة محال لأن الهم من جنس القصد والقصد لا يتعلق بالذوات الباقية فثبت أنه لا بد من إضمار فعل مخصوص يجعل متعلق ذلك الهم وذلك الفعل غير مذكور فهم زعموا أن ذلك المضمر هو إيقاع الفاحشة بها ونحن نضمر شيئاً آخر يغاير ما ذكروه وبيانه من وجوه الأول المراد أنه عليه السلام هم بدفعها عن نفسه ومنعها عن ذلك القبيح لأن الهم هو القصد فوجب أن يحمل في حق كل أحد على القصد الذي يليق به فاللائق بالمرأة القصد إلى تحصيل اللذة والتنعيم والتمتع واللائق بالرسول المبعوث إلى الخلق القصد إلى زجر العاصي عن معصيته وإلى الأمر بالمعروف النهي عن المنكر يقال هممت بفلان أي بضربه ودفعه
فإن قالوا فعلى هذا التقدير لا يبقى لقوله لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ فائدة
قلنا بل فيه أعظم الفوائد وبيانه من وجهين الأول أنه تعالى أعلم يوسف عليه السلام أنه لو هم بدفعها لقتلته أو لكانت تأمر الحاضرين بقتله فأعلمه الله تعالى أن الامتناع من ضربها أولى صوناً للنفس عن الهلاك والثاني أنه عليه السلام لو اشتغل بدفعها عن نفسه فربما تعلقت به فكان يتمزق ثوبه من قدام وكان في علم الله تعالى أن الشاهد يشهد بأن ثوبه لو تمزق من قدام لكان يوسف هو الخائن ولو كان ثوبه ممزقاً من خلف لكانت المرأة هي الخائنة فالله تعالى أعلمه بهذا المعنى فلا جرم لم يشتغل بدفعها عن نفسه بل ولى هارباً عنها حتى صارت شهادة الشاهد حجة له على براءته عن المعصية
الوجه الثاني في الجواب أن يفسر الهم بالشهوة وهذا مستعمل في اللغة الشائعة يقول القائل فيما لا يشتهيه مايهمني هذا وفيما يشتهيه هذا أهم الأشياء إلي فسمى الله تعالى شهوة يوسف عليه السلام هماً فمعنى الآية ولقد اشتهته واشتهاها لولا أن رأى برهان ربه لدخل ذلك العمل في الوجود الثالث أن يفسر الهم بحديث النفس وذلك لأن المرأة الفائقة في الحسن والجمال إذا تزينت وتهيأت للرجل الشاب القوي فلا بد وأن يقع هناك بين الحكمة والشهوة الطبيعية وبين النفس والعقل مجاذبات ومنازعات فتارة تقوى داعية الطبيعة والشهوة وتارة تقوى داعية العقل والحكمة فالهم عبارة عن جواذب الطبيعة ورؤية البرهان عبارة عن جواذب العبودية ومثال ذلك أن الرجل الصالح الصائم في الصيف الصائف إذا رأى الجلاب المبرد بالثلج فإن طبيعته تحمله على شربه إلا أن دينه وهداه يمنعه منه فهذا لا يدل على حصول

الذنب بل كلما كانت هذه الحالة أشد كانت القوة في القيام بلوازم العبودية أكمل فقد ظهر بحمد الله تعالى صحة هذا القول الذي ذهبنا إليه ولم يبق في يد الواحدي إلا مجرد التصلف وتعديد أسماء المفسرين ولو كان قد ذكر في تقرير ذلك القول شبهة لأجبنا عنها إلا أنه ما زاد على الرواية عن بعض المفسرين
واعلم أن بعض الحشوية روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( ما كذب إبراهيم عليه السلام إلا ثلاث كذبات ) فقلت الأولى أن لا نقبل مثل هذه الأخبار فقار على طريق الاستنكار فإن لم نقبله لزمنا تكذيب الرواة فقلت له يا مسكين إن قبلناه لزمنا الحكم بتكذيب إبراهيم عليه السلام وإن رددناه لزمنا الحكم بتكذيب الرواة ولا شك أن صون إبراهيم عليه السلام عن الكذب أولى من صون طائفة من المجاهيل عن الكذب
إذا عرفت هذا الأصل فنقول للواحدي ومن الذي يضمن لنا أن الذين نقلوا هذا القول عن هؤلاء المفسرين كانوا صادقين أم كاذبين والله أعلم
المسألة الثانية في أن المراد بذلك البرهان ما هو أما المحققون المثبون للعصمة فقد فسروا رؤية البرهان بوجوه الأول أنه حجة الله تعالى في تحريم الزنا والعلم بما على الزاني من العقاب والثاني أن الله تعالى طهر نفوس الأنبياء عليهم السلام عن الأخلاق الذميمة بل نقول إنه تعالى طهر نفوس المتصلين به عنها كما قال إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً ( الأحزاب 33 ) فالمراد برؤية البرهان هو حصول تلك الأخلاق وتذكير الأحوال الرادعة لهم عن الإقدام على المنكرات والثالث أنه رأى مكتوباً في سقف البيت وَلاَ تَقْرَبُواْ الزّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَة ً وَسَاء سَبِيلاً ( الإسراء 32 ) والرابع أنه النبوة المانعة من ارتكاب الفواحش والدليل عليه أن الأنبياء عليهم السلام بعثوا لمنع الخلق عن القبائح والفضائح فلو أنهم منعوا الناس عنها ثم أقدموا على أقبح أنواعها وأفحش أقسامها لدخلوا تحت قوله تعالى الْحَكِيمُ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ ( الصف 2 3 ) وأيضاً أن الله تعالى عير اليهود بقوله أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ ( البقرة 44 ) وما يكون عيباً في حق اليهود كيف ينسب إلى الرسول المؤيد بالمعجزات
وأما الذين نسبوا المعصية إلى يوسف عليه السلام فقد ذكروا في تفسير ذلك البرهان أموراً الأول قالوا إن المرأة قامت إلى صنم مكلل بالدر والياقوت في زاوية البيت فسترته بثوب فقال يوسف لم فعلت ذلك قالت أستحي من إلهي هذا أن يراني على معصية فقال يوسف أتستحين من صنم لا يعقل ولا يسمع ولا أستحي من إلهي القائم على كل نفس بما كسبت فوالله لا أفعل ذلك أبداً قالوا فهذا هو البرهان الثاني نقلوا عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه تمثل له يعقوب فرآه عاضاً على أصابعه ويقول له أتعمل عمل الفجار وأنت مكتوب في زمرة الأنبياء فاستحى منه قال وهو قول عكرمة ومجاهد والحسن وسعيد بن جبير وقتادة والضحاك ومقاتل وابن سيرين قال سعيد بن جبير تمثل له يعقوب فضرب في صدره فخرجت شهوته من أنامله والثالث قالوا إنه سمع في الهواء قائلاً يقول يا ابن يعقوب لا تكن كالطير يكون له ريش فإذا زنا ذهب ريشه والرابع نقلوا عن ابن عباس رضي الله عنهما أن يوسف عليه السلام لم ينزجر برؤية صورة يعقوب حتى ركضه جبريل عليه السلام فلم يبق فيه شيء من الشهوة إلا خرج ولما نقل الواحدي هذه الروايات تصلف وقال هذا الذي ذكرناه قول أئمة التفسير الذين أخذوا التأويل عمن شاهد

التنزيل فيقال له إنك لا تأتينا ألبتة إلا بهذه التصلفات التي لا فائدة فيها فأين هذا من الحجة والدليل وأيضاً فإن ترادف الدلائل على الشيء الواحد جائز وأنه عليه الصلاة والسلام كان ممتنعاً عن الزنا بحسب الدلائل الأصلية فلما انضاف إليها هذه الزواجر قوي الانزجار وكمل الاحتراز والعجب أنهم نقلوا أن جرواً دخل حجرة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وبقي هناك بغير عمله قالوا فامتنع جبريل عليه السلام من الدخول عليه أربعين يوماً وههنا زعموا أن يوسف عليه السلام حال اشتغاله بالفاحشة ذهب إليه جبريل عليه السلام والعجب أنهم زعموا أنه لم يمتنع عن ذلك العمل بسبب حضور جبريل عليه السلام ولو أن أفسق الخلق وأكفرهم كان مشتغلاً بفاحشة فإذا دخل عليه رجل على زي الصالحين استحيا منه وفر وترك ذلك العمل وههنا أنه رأى يعقوب عليه السلام عض على أنامله فلم يلتفت إليه ثم إن جبريل عليه السلام على جلالة قدره دخل عليه فلم يمتنع أيضاً عن ذلك القبيح بسبب حضوره حتى احتاج جبريل عليه السلام إلى أن يركضه على ظهره فنسأل الله أن يصوننا عن الغي في الدين والخذلان في طلب اليقين فهذا هو الكلام المخلص في هذه المسألة والله أعلم
المسألة الثالثة في الفرق بين السوء والفحشاء وفيه وجوه الأول أن السوء جناية اليد والفحشاء هو الزنا الثاني السوء مقدمات الفاحشة من القبلة والنظر بالشهوة والفحشاء هو الزنا أما قوله إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ أي الذين أخلصوا دينهم لله تعالى ومن فتح اللام أراد الذين خلصهم الله من الأسواء ويحتمل أن يكون المراد أنه من ذرية إبراهيم عليه السلام الذي قال الله فيهم إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخَالِصَة ٍ ( ص 46 )
المسألة الرابعة قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو الْمُخْلَصِينَ بكسر اللام في جميع القرآن والباقون بفتح اللام
وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُو ءًا إِلاَ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالَ هِى َ رَاوَدَتْنِى عَن نَّفْسِى وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَاذَا وَاسْتَغْفِرِى لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ
اعلم أنه تعالى لما حكى عنها أنها هَمَّتْ أتبعه بكيفية طلبها وهربه فقال وَاسُتَبَقَا الْبَابَ والمراد أنه

هرب منها وحاول الخروج من الباب وعدت المرأة خلفه لتجذبه إلى نفسها والاستباق طلب السبق إلى الشيء ومعناه تبادر إلى الباب يجتهد كل واحد منهما أن يسبق صاحبه فإن سبق يوسف فتح الباب وخرج وإن سبقت المرأة أمسكت الباب لئلا يخرج وقوله وَاسُتَبَقَا الْبَابَ أي استبقا إلى الباب كقوله وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً ( الأعراف 155 ) أي من قومه
واعلم أن يوسف عليه السلام سبقها إلى الباب وأراد الخروج والمرأة تعدو خلقه فلم تصل إلا إلى دبر القميص فقدته أي قطعته طولاً وفي ذلك الوقت حضر زوجها وهو المراد من قوله وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ أي صادفا بعلها تقول المرأة لبعلها سيدي وإنما لم يقل سيدهما لأن يوسف عليه السلام ما كان مملوكاً لذلك الرجل في الحقيقة فعند ذلك خافت المرأة من التهمة فبادرت إلى أن رمت يوسف بالفعل القبيح وقالت مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءا إِلا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ والمعنى ظاهر وفي الآية لطائف إحداها أن ( ما ) يحتمل أن تكون نافية أي ليس جزاؤه إلا السجن ويجوز أيضاً أن تكون استفهامية يعني أي شيء جزاؤه إلا أن يسجن كما تقول من في الدار إلا زيد وثانيها أن حبها الشديد ليوسف حملها على رعاية دقيقتين في هذا الموضع وذلك لأنها بدأت بذكر السجن وأخرت ذكر العذاب لأن المحب لا يسعى في إيلام المحبوب وأيضاً أنها لم تذكر أن يوسف يجب أن يعامل بأحد هذين الأمرين بل ذكرت ذلك ذكراً كلياً صوناً للمحبوب عن الذكر بالسوء والألم وأيضاً قالت إِلا أَن يُسْجَنَ والمراد أن يسجن يوماً أو أقل على سبيل التخفيف
فأما الحبس الدائم فإنه لا يعبر بهذه العبارة بل يقال يجب أن يجعل من المسجونين ألا ترى أن فرعون هكذا قال حين تهدد موسى عليه السلام في قوله لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَاهَاً غَيْرِى لاجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ( الشعراء 29 ) وثالثها أنها لما شاهدت من يوسف عليه السلام أنه استعصم منها أنه كان في عنفوان العمر وكمال القوة ونهاية الشهوة عظم اعتقادها في طهارته ونزاهته فاستحيت أن تقول إن يوسف عليه السلام قصدني بالسوء وما وجدت من نفسها أن ترميه بهذا الكذب على سبيل التصريح بل اكتفت بهذا التعريض فانظر إلى تلك المرأة ما وجدت من نفسها أن ترميه بهذا الكذب وأن هؤلاء الحشوية يرمونه بعد قريب من أربعة آلاف سنة بهذا الذنب القبيح ورابعها أن يوسف عليه السلام أراد يضربها ويدفعها عن نفسه وكان ذلك بالنسبة إليها جارياً مجرى السوء فقولها مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ جارياً مجرى التعريض فلعلها بقلبها كانت تريد إقدامه على دفعها ومنعها وفي ظاهر الأمر كانت توهم أنه قصدني بما لا ينبغي
واعلم أن المرأة لما ذكرت هذا الكلام ولطخت عرض يوسف عليه السلام احتاج يوسف إلى إزالة هذه التهمة فقال هي راودتني عن نفسي وأن يوسف عليه السلام ما هتك سترها في أول الأمر إلا أنه لما خاف على النفس وعلى العرض أظهر الأمر
واعلم أن العلامات الكثيرة كانت دالة على أن يوسف عليه السلام هو الصادق فالأول أن يوسف عليه السلام في ظاهر الأمر كان عبداً لهم والعبد لا يمكنه أن يتسلط على مولاه إلى هذا الحد والثاني أنهم شاهدوا أن يوسف عليه السلام كان يعدو عدواً شديداً ليخرج والرجل الطالب للمرأة لا يخرج من الدار على هذا الوجه والثالث أنهم رأوا أن المرأة زينت نفسها على أكمل الوجوه وأما يوسف عليه السلام فما كان

عليه أثر من آثار تزيين النفس فكان إلحاق هذه الفتنة بالمرأة أولى الرابع أنهم كانوا قد شاهدوا أحوال يوسف عليه السلام في المدة الطويلة فما رأوا عليه حالة تناسب إقدامه على مثل هذا الفعل المنكر وذلك أيضاً مما يقوي الظن الخامس أن المرأة ما نسبته إلى طلب الفاحشة على سبيل التصريح بل ذكرت كلاماً مجملاً مبهماً وأما يوسف عليه السلام فإنه صرح بالأمر ولو أنه كان متهماً لما قدر على التصريح باللفظ الصريح فإن الخائن خائف السادس قيل إن زوج المرأة كان عاجزاً وآثار طلب الشهوة في حق المرأة كانت متكاملة فإلحاق هذه الفتنة بها أولى فلما حصلت هذه الأمارات الكثيرة الدالة على أن مبدأ هذه الفتنة كان من المرأة استحيا الزوج وتوقف وسكت لعلمه بأن يوسف صادق والمرأة كاذبة ثم إنه تعالى أظهر ليوسف عليه السلام دليلاً آخر يقوي تلك الدلائل المذكورة ويدل على أنه بريء عن الذنب وأن المرأة هي المذنبة وهو قوله هي راودتني عن نفسي وأن يوسف عليه السلام ما هتك سترها في أول الأمر إلا أنه لما خاف على النفس وعلى العرض أظهر الأمر
واعلم أن العلامات الكثيرة كانت دالة على أن يوسف عليه السلام هو الصادق فالأول أن يوسف عليه السلام في ظاهر الأمر كان عبداً لهم والعبد لا يمكنه أن يتسلط على مولاه إلى هذا الحد والثاني أنهم شاهدوا أن يوسف عليه السلام كان يعدو عدواً شديداً ليخرج والرجل الطالب للمرأة لا يخرج من الدار على هذا الوجه والثالث أنهم رأوا أن المرأة زينت نفسها على أكمل الوجوه وأما يوسف عليه السلام فما كان عليه أثر من آثار تزيين النفس فكان إلحاق هذه الفتنة بالمرأة أولى الرابع أنهم كانوا قد شاهدوا أحوال يوسف عليه السلام في المدة الطويلة فما رأوا عليه حالة تناسب إقدامه على مثل هذا الفعل المنكر وذلك أيضاً مما يقوي الظن الخامس أن المرأة ما نسبته إلى طلب الفاحشة على سبيل التصريح بل ذكرت كلاماً مجملاً مبهماً وأما يوسف عليه السلام فإنه صرح بالأمر ولو أنه كان متهماً لما قدر على التصريح باللفظ الصريح فإن الخائن خائف السادس قيل إن زوج المرأة كان عاجزاً وآثار طلب الشهوة في حق المرأة كانت متكاملة فإلحاق هذه الفتنة بها أولى فلما حصلت هذه الأمارات الكثيرة الدالة على أن مبدأ هذه الفتنة كان من المرأة استحيا الزوج وتوقف وسكت لعلمه بأن يوسف صادق والمرأة كاذبة ثم إنه تعالى أظهر ليوسف عليه السلام دليلاً آخر يقوي تلك الدلائل المذكورة ويدل على أنه بريء عن الذنب وأن المرأة هي المذنبة وهو قوله وأن يوسف عليه السلام ما هتك سترها في أول الأمر إلا أنه لما خاف على النفس وعلى العرض أظهر الأمر
واعلم أن العلامات الكثيرة كانت دالة على أن يوسف عليه السلام هو الصادق فالأول أن يوسف عليه السلام في ظاهر الأمر كان عبداً لهم والعبد لا يمكنه أن يتسلط على مولاه إلى هذا الحد والثاني أنهم شاهدوا أن يوسف عليه السلام كان يعدو عدواً شديداً ليخرج والرجل الطالب للمرأة لا يخرج من الدار على هذا الوجه والثالث أنهم رأوا أن المرأة زينت نفسها على أكمل الوجوه وأما يوسف عليه السلام فما كان عليه أثر من آثار تزيين النفس فكان إلحاق هذه الفتنة بالمرأة أولى الرابع أنهم كانوا قد شاهدوا أحوال يوسف عليه السلام في المدة الطويلة فما رأوا عليه حالة تناسب إقدامه على مثل هذا الفعل المنكر وذلك أيضاً مما يقوي الظن الخامس أن المرأة ما نسبته إلى طلب الفاحشة على سبيل التصريح بل ذكرت كلاماً مجملاً مبهماً وأما يوسف عليه السلام فإنه صرح بالأمر ولو أنه كان متهماً لما قدر على التصريح باللفظ الصريح فإن الخائن خائف السادس قيل إن زوج المرأة كان عاجزاً وآثار طلب الشهوة في حق المرأة كانت متكاملة فإلحاق هذه الفتنة بها أولى فلما حصلت هذه الأمارات الكثيرة الدالة على أن مبدأ هذه الفتنة كان من المرأة استحيا الزوج وتوقف وسكت لعلمه بأن يوسف صادق والمرأة كاذبة ثم إنه تعالى أظهر ليوسف عليه السلام دليلاً آخر يقوي تلك الدلائل المذكورة ويدل على أنه بريء عن الذنب وأن المرأة هي المذنبة وهو قوله نَّفْسِى وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّنْ أَهْلِهَا وفي هذا الشاهد ثلاثة أقوال الأول أنه كان لها ابن عم وكان رجلاً حكيماً واتفق في ذلك الوقت أنه كان مع الملك يريد أن يدخل عليها فقال قد سمعنا الجلبة من وراء الباب وشق القميص إلا أنا لا ندري أيكما قدام صاحبه فإن كان شق القميص من قدامه فأنت صادقة والرجل كاذب وإن كان من خلفه فالرجل صادق وأنت كاذبة فلما نظروا إلى القميص ورأوا الشق من خلفه قال ابن عمها إِنَّهُ مِنَ كَيْدَكُمْ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ أي من عملكن ثم قال ليوسف أعرض عن هذا واكتمه وقال لها استغفري لذنبك وهذا قول طائفة عظيمة من المفسرين والثاني وهو أيضاً منقول عن ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير والضحاك إن ذلك الشاهد كان صبياً أنطقه الله تعالى في المهد فقال ابن عباس تكلم في المهد أربعة صغار شاهد يوسف وابن ماشطة بنت فرعون وعيسى بن مريم وصاحب جريج الراهب قال الجبائي والقول الأول أولى لوجوه الأول أنه تعالى لو أنطق الطفل بهذا الكلام لكان مجرد قوله إنها كاذبة كافياً وبرهاناً قاطعاً لأنه من البراهين القاطعة القاهرة والاستدلال بتمزيق القميص من قبل ومن دبر دليل ظني ضعيف والعدول عن الحجة القاطعة حال حضورها وحصولها إلى الدلالة الظنية لا يجوز الثاني أنه تعالى قال وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّنْ أَهْلِهَا وإنما قال من أهلها ليكون أولى بالقبول في حق المرأة لأن الظاهر من حال من يكون من أقرباء المرأة ومن أهلها أن لا يقصدها بالسوء والإضرار فالمقصود بذكر كون ذلك الرجل من أهلها تقوية قول ذلك الرجل وهذه الترجيحات إنما يصار إليها عند كون الدلالة ظنية ولو كان هذا القول صادراً عن الصبي الذي في المهد لكان قوله حجة قاطعة ولا يتفاوت الحال بين أن يكون من أهلها وبين أن لا يكون من أهلها وحينئذ لا يبقى لهذا القيد أثر والثالث أن لفظ الشاهد لا يقع في العرف إلا على من تقدمت له معرفة بالواقعة وإحاطة بها
والقول الثالث أن ذلك الشاهد هو القميص قال مجاهد الشاهد كون قميصه مشقوقاً من دبر وهذا في غاية الضعف لأن القميص لا يوصف بهذا ولا ينسب إلى الأهل واعلم أن القول الأول عليه أيضاً إشكال وذلك لأن العلامة المذكورة لا تدل قطعاً على براءة يوسف عليه السلام عن المعصية لأن من المحتمل أن الرجل قصد المرأة لطلب الزنا فالمرأة غضبت عليه فهرب الرجل فعدت المرأة خلف الرجل وجذبته لقصد أن تضربه ضرباً وجيعاً فعلى هذا الوجه يكون القميص متخرقاً من دبر مع أن المرأة تكون برية عن الذنب والرجل يكون مذنباً

وجوابه أنا بينا أن علامات كذب المرأة كانت كثيرة بالغة مبلغ اليقين فضموا إليها هذه العلامة الأخرى لا لأجل أن يعولوا في الحكم عليها بل لأجل أن يكون ذلك جارياً مجرى المقويات والمرجحات
ثم إنه تعالى أخبر وقال فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ وذلك يحتمل السيد الذي هو زوجها ويحتمل الشاهد فلذلك اختلفوا فيه قال إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ أي أن قولك ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً من كيدكن إن كيدكن عظيم
فإن قيل إنه تعالى لما خلق الإنسان ضعيفاً فكيف وصف كيد المرأة بالعظم وأيضاً فكيد الرجال قد يزيد على كيد النساء
والجواب عن الأول أن خلقة الإنسان بالنسبة إلى خلقة الملائكة والسموات والكواكب خلقة ضعيفة وكيد النسوات بالنسبة إلى كيد البشر عظيم ولا منافاة بين القولين وأيضاً فالنساء لهن في هذا الباب من المكر والحيل ما لا يكون للرجال ولأن كيدهن في هذا الباب يورث من العار ما لا يورثه كيد الرجال
واعلم أنه لما ظهر للقوم براءة يوسف عليه السلام عن ذلك الفعل المنكر حكى تعالى عنه أنه قال يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَاذَا فقيل إن هذا من قول العزيز وقيل إنه من قول الشاهد ومعناه أعرض عن ذكر هذه الواقعة حتى لا ينتشر خبرها ولا يحصل العار العظيم بسببها وكما أمر يوسف بكتمان هذه الواقعة أمر المرأة بالاستغفار فقال وَاسْتَغْفِرِى لِذَنبِكِ وظاهر ذلك طلب المغفرة ويحتمل أن يكون المراد من الزوج ويكون معنى المغفرة العفو والصفح وعلى هذا التقدير فالأقرب أن قائل هذا القول هو الشاهد ويحتمل أن يكون المراد بالاستغفار من الله لأن أولئك الأقوام كانوا يثبتون الصانع إلا أنهم مع ذلك كانوا يعبدون الأوثان بدليل أن يوسف عليه السلام قال مُّتَّفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا ( يوسف 29 ) وعلى هذا التقدير فيجوز أن يكون القائل هو الزوج وقوله إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ نسبة لها إلى أنها كانت كثيرة الخطأ فيما تقدم وهذا أحد ما يدل على أن الزوج عرف في أول الأمر أن الذنب للمرأة لا ليوسف لأنه كان يعرف عنها إقدامها على ما لا ينبغي وقال أبو بكر الأصم إن ذلك لزوج كان قليل الغيرة فاكتفى منها بالاستغفار قال صاحب ( الكشاف ) وإنما قال من الخاطئين بلفظ التذكير تغليباً للذكور على الإناث ويحتمل أن يقال المراد إنك من نسل الخاطئين فمن ذلك النسل سرى هذا العرق الخبيث فيك والله أعلم
وَقَالَ نِسْوَة ٌ فِى الْمَدِينَة ِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئًا وَءَاتَتْ كُلَّ وَاحِدَة ٍ مَّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا هَاذَا بَشَرًا إِنْ هَاذَآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ

وفي الآية مسائل
المسألة الأولى لم لم يقل وَقَالَتِ نِسْوَة ٌ قلنا لوجهين الأول أن النسوة اسم مفرد لجمع المرأة وتأنيثه غير حقيقي فلذلك لم يلحق فعله تاء التأنيث الثاني قال الواحدي تقديم الفعل يدعو إلى إسقاط علامة التأنيث على قياس إسقاط علامة التثنية والجمع
المسألة الثانية قال الكلبي هن أربع امرأة ساقي العزيز وامرأة خبازه وامرأة صاحب سجنه وامرأة صاحب دوابه وزاد مقاتل وامرأة الحاجب والأشبه أن تلك الواقعة شاعت في البلد واشتهرت وتحدث بها النساء وامرأة العزيز هي هذه المرأة المعلومة تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ الفتى الحدث الشاب والفتاة الجارية الشابة قَدْ شَغَفَهَا حُبّا وفيه مسألتان
المسألة الأولى أن الشغاف فيه وجوه الأول أن الشغاف جلدة محيطة بالقلب يقال لها غلاف القلب يقال شغفت فلاناً إذا أصبت شغافه كما تقول كبدته أي أصبت كبده فقوله شَغَفَهَا حُبّا أي دخل الحب الجلد حتى أصاب القلب والثاني أن حبه أحاط بقلبها مثل إحاطة الشغاف بالقلب ومعنى إحاطة ذلك الحب بقلبها هو أن اشتغالها بحبه صار حجاباً بينها وبين كل ما سوى هذه المحبة فلا تعقل سواه ولا يخطر ببالها إلا إياه والثالث قال الزجاج الشغاف حبة القلب وسويداء القلب والمعنى أنه وصل حبه إلى سويداء قلبها وبالجملة فهذا كناية عن الحب الشديد والعشق العظيم
المسألة الثانية قرأ جماعة من الصحابة والتابعين شعفها بالعين قال ابن السكيت يقال شعفه الهوى إذا بلغ إلى حد الاحتراق وشعف الهناء البعير إذا بلغ منه الألم إلى حد الاحتراق وكشف أبو عبيدة عن هذا المعنى فقال الشعف بالعين إحراق الحب القلب مع لذة يجدها كما أن البعير إذا هنىء بالقطران يبلغ منه مثل ذلك ثم يستروح إليه وقال ابن الأنباري الشعف رؤوس الجبال ومعنى شعف بفلان إذا ارتفع حبه إلى أعلى المواضع من قلبه
المسألة الثالثة قوله حبها نصب على التمييز
ثم قال حُبّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ أي في ضلال عن طريق الرشد بسبب حبها إياه كقوله إِنَّ أَبَانَا لَفِى ضَلالٍ مُّبِينٍ ( يوسف 8 )
ثم قال تعالى فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئًا وفي الآية مسائل
المسألة الأولى المراد من قوله فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أنها سمعت قولهن وإنما سمي قولهن مكراً لوجوه الأول أن النسوة إنما ذكرت ذلك الكلام استدعاء لرؤية يوسف عليه السلام والنظر إلى وجهه لأنهن عرفن أنهن إذا قلن ذلك عرضت يوسف عليهن ليتمهد عذرها عندهن الثاني أن امرأة العزيز أسرت إليهن حبها ليوسف وطلبت منهن كتمان هذا السر فلما أظهرن السر كان ذلك غدراً ومكراً الثالث أنهن وقعن في غيبتها والغيبة إنما تذكر على سبيل الخفية فأشبهت المكر
المسألة الثانية أنها لما سمعت أنهن يلمنها على تلك المحبة المفرطة أرادت إبداء عذرها فاتخذت

مائدة ودعت جماعة من أكابرهن وأعتدت لهن متكأ وفي تفسيره وجوه الأول المتكأ النمرق الذي يتكأ عليه الثاني أن المتكأ هو الطعام قال العتبي والأصل فيه أن من دعوته ليطعم عندك فقد أعددت له وسادة تسمى الطعام متكأ على الاستعارة والثالث متكأ أترجاً وهو قول وهب وأنكر أبو عبيد ذلك ولكنه محمول على أنها وضعت عندهن أنواع الفاكهة في ذلك المجلس والرابع متكأ طعاماً يحتاج إلى أن يقطع بالسكين لأن الطعام متى كان كذلك احتاج الإنسان إلى أن يتكأ عليه عند القطع ثم نقول حاصل ذلك أنها دعت أولئك النسوة وأعدت لكل واحدة منهن مجلساً معيناً وآتت كل واحدة منهن سكيناً أي لأجل أكل الفاكهة أو لأجل قطع اللحم ثم إنها أمرت يوسف عليه السلام بأن يخرج إليهن ويعبر عليهن وأنه عليه السلام ما قدر على مخالتها خوفاً منها فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وههنا مسائل
المسألة الأولى في أَكْبَرْنَهُ قولان الأول أعظمنه والثاني أكبرن بمعنى حضن قال الأزهري والهاء للسكت يقال أكبرت المرأة إذا حاضت وحقيقته دخلت في الكبر لأنها بالحيض تخرج من حد الصغر إلى حد الكبر وفيه وجه آخر وهو أن المرأة إذا خافت وفزعت فربما أسقطت ولدها فحاضت فإن صح تفسير الإكبار بالحيض فالسبب فيه ما ذكرناه وقوله قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ كناية عن دهشتهن وحيرتهن والسبب في حسن هذه الكناية أنها لما دهشت فكانت تظن أنها تقطع الفاكهة وكانت تقطع يد نفسها أو يقال إنها لما دهشت صارت بحيث لا تميز نصابها من حديدها وكانت تأخذ الجانب الحاد من ذلك السكين بكفها فكان يحصل الجراحة في كفها
المسألة الثالثة اتفق الأكثرون على أنهن إنما أكبرنه بحسب الجمال الفائق والحسن الكامل قيل كان فضل يوسف على الناس في الفضل والحسن كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( مررت بيوسف عليه السلام ليلة عرج بي إلى السماء فقلت لجبريل عليه السلام من هذا فقال هذا يوسف فقيل يا رسول الله كيف رأيته قال كالقمر ليلة البدر ) وقيل كان يوسف إذا سار في أزقة مصر يرى تلألؤ وجهه على الجدران كما يرى نور الشمس من السماء عليها وقيل كان يشبه آدم يوم خلقه ربه وهذا القول هو الذي اتفقوا عليه وعندي أنه يحتمل وجهاً آخر وهو أنهن إنما أكبرنه لأنهن رأين عليه نور النبوة وسيما الرسالة وآثار الخضوع والاحتشام وشاهدن منها مهابة النبوة وهيئة الملكية وهي عدم الالتفات إلى المطعوم والمنكوح وعدم الاعتداد بهن وكان الجمال العظيم مقروناً بتلك الهيبة والهيئة فتعجبن من تلك الحالة فلا جرم أكبرنه وعظمنه ووقع الرعب والمهابة منه في قلوبهن وعندي أن حمل الآية على هذا الوجه أولى
فإن قيل فإذا كان الأمر كذلك فكيف ينطبق على هذا التأويل قولها فَذالِكُنَّ الَّذِى لُمْتُنَّنِى فِيهِ وكيف تصير هذه الحالة عذراً لها في قوة العشق وإفراط المحبة
قلنا قد تقرر أن الممنوع متبوع فكأنها قالت لهن مع هذا الخلق العجيب وهذه السيرة الملكية الطاهرة المطهرة فحسنه يوجب الحب الشديد وسيرته الملكية توجب اليأس عن الوصول إليه فلهذا السبب وقعت في المحبة والحسرة والأرق والقلق وهذا الوجه في تأويل الآية أحسن والله أعلم
المسألة الثالثة قرأ أبو عمرو وَقُلْنَ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ بإثبات الألف بعد الشين وهي رواية الأصمعي عن نافع

وهي الأصل لأنها من المحاشاة وهي التنحية والتبعيد والباقون بحذف الألف للتخفيف وكثرة دورها على الألسن اتباعاً للمصحف ( وحاشا ) كلمة يفيد معنى التنزيه والمعنى ههنا تنزيه الله تعالى من المعجز حيث قدر على خلق جميل مثله أما قوله حَاشَ للَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوء فالتعجب من قدرته على خلق عفيف مثله
المسألة الرابعة قوله مَا هَاذَا بَشَرًا إِنْ هَاذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ فيه وجهان
الوجه الأول وهو المشهور أن المقصود منه إثبات الحسن العظيم له قالوا لأنه تعالى ركز في الطباع أن لا حي أحسن من الملك كما ركز فيها أن لا حي أقبح من الشيطان ولذلك قال تعالى في صفة جهنم طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءوسُ الشَّياطِينِ ( الصافات 65 ) وذلك لما ذكرنا أنه تقرر في الطباع أن أقبح الأشياء هو الشيطان فكذا ههنا تقرر في الطباع أن أحسن الأحياء هو الملك فلما أرادت النسوة المبالغة في وصف يوسف عليه السلام بالحسن لا جرم شبهنه بالملك
والوجه الثاني وهو الأقرب عندي أن المشهور عند الجمهور أن الملائكة مطهرون عن بواعث الشهوة وجواذب الغضب ونوازع الوهم والخيال فطعامهم توحيد الله تعالى وشرابهم الثناء على الله تعالى ثم إن النسوة لما رأين يوسف عليه السلام لم يلتفت إليهن ألبتة ورأين عليه هيبة النبوة وهيبة الرسالة وسيما الطهارة قلن إنا ما رأينا فيه أثراً من أثر الشهوة ولا شيئاً من البشرية ولا صفة من الإنسانية فهذا قد تطهر عن جميع الصفات المغروزة في البشر وقد ترقى عن حد الإنسانية ودخل في الملكية
فإن قالوا فإن كان المراد ما ذكرتم فكيف يتمهد عذر تلك المرأة عند النسوة فالجواب قد سبق والله أعلم
المسألة الخامسة القائلون بأن الملك أفضل من البشر احتجوا بهذه الآية فقالوا لا شك إنهن إنما ذكرت هذا الكلام في معرض تعظيم يوسف عليه السلام فوجب أن يكون إخراجه من البشرية وإدخاله في الملكية سبباً لتعظيم شأنه وإعلاء مرتبته وإنما يكون الأمر كذلك لو كان الملك أعلى حالاً من البشر ثم نقول لا يخلو إما أن يكون المقصود بيان كمال حاله في الحسن الذي هو الخلق الظاهر أو كمال حاله في الحسن الذي هو الخلق الباطن والأول باطل لوجهين الأول أنهم وصفوه بكونه كريماً وإنما يكون كريماً بسبب الأخلاق الباطنة لا بسبب الخلقة الظاهرة والثاني أنا نعلم بالضرورة أن وجه الإنسان لا يشبه وجوه الملائكة ألبتة أما كونه بعيداً عن الشهوة والغضب معرضاً عن اللذات الجسمانية متوجهاً إلى عبودية الله تعالى مستغرق القلب والروح فيه فهو أمر مشترك فيه بين الإنسان الكامل وبين الملائكة
وإذا ثبت هذا فنقول تشبيه الإنسان بالملك في الأمر الذي حصلت المشابهة فيه على سبيل الحقيقة أولى من تشبيهه بالملك فيما لم تحصل المشابهة فيه ألبتة فثبت أن تشبيه يوسف عليه السلام بالملك في هذه الآية إنما وقع في الخلق الباطن لا في الصورة الظاهرة وثبت أنه متى كان الأمر كذلك وجب أن يكون الملك أعلى حالاً من الإنسان من هذه الفضائل فثبت أن الملك أفضل من البشر والله أعلم
المسألة السادسة لغة أهل الحجاز إعمال ( ما ) عمل ليس وبها ورد قوله مَا هَاذَا بَشَرًا ومنها قوله مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ ( المجادلة 2 )

ومن قرأ على لغة بني تميم قرأ مَا هَاذَا بَشَرًا وهي قراءة ابن مسعود وقرىء مَا هَاذَا بَشَرًا أي ما هو بعبد مملوك للبشر إِنْ هَاذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ ثم نقول ما هذا بشراً أي حاصل بشراً بمعنى هذا مشترى وتقول هذا لك بشراً أم بكراً والقراءة المعتبرة هي الأولى لموافقتها المصحف ولمقابلة البشر للملك
قَالَتْ فَذالِكُنَّ الَّذِى لُمْتُنَّنِى فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ ءَامُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّن الصَّاغِرِينَ
اعلم أن النسوة لما قلن في امرأة العزيز قد شغفها حباً إنا لنراها في ضلال مبين عظم ذلك عليها فجمعتهن فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ فعند ذلك ذكرت أنهن باللوم أحق لأنهن بنظرة واحدة لحقهن أعظم مما نالها مع أنه طال مكثه عندها
فإن قيل فلم قالت فَذالِكُنَّ مع أن يوسف عليه السلام كان حاضراً
والجواب عنه من وجوه الأول قال ابن الأنباري أشارت بصيغة ذلكن إلى يوسف بعد انصرافه من المجلس والثاني وهو الذي ذكره صاحب ( الكشاف ) وهو أحسن ما قيل إن النسوة كن يقلن إنها عشقت عبدها الكنعاني فلما رأينه ووقعن في تلك الدهشة قالت هذا الذي رأيتموه هو ذلك العبد الكنعاني الذي لمتنني فيه يعني أنكن لم تتصورنه حق تصوره ولو حصلت في خيالكن صورته لتركتن هذه الملامة
واعلم أنها لما أظهرت عذرها عند النسوة في شدة محبتها له كشفت عن حقيقة الحال فقالت وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ
واعلم أن هذا تصريح بأنه عليه السلام كان بريئاً عن تلك التهمة وعن السدي أنه قال فَاسَتَعْصَمَ بعد حل السراويل وما الذي يحمله على إلحاق هذه الزيادة الفاسدة الباطلة بنص الكتاب
ثم قال وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا ءامُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مّن الصَّاغِرِينَ والمراد أن يوسف عليه السلام إن لم يوافقها على مرادها يوقع في السجن وفي الصغار ومعلوم أن التوعد بالصغار له تأثير عظيم في حق من كان رفيع النفس عظيم الخطر مثل يوسف عليه السلام وقوله وَلَيَكُونًا كان حمزة والكسائي يقفان على وَلَيَكُونًا بالألف وكذلك قوله لَنَسْفَعاً ( العلق 15 ) والله أعلم
قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَى َّ مِمَّا يَدْعُونَنِى إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّى كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن منَ الْجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ

واعلم أن المرأة لما قالت وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا ءامُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مّن الصَّاغِرِينَ ( يوسف 32 ) وسائر النسوة سمعن هذا التهديد فالظاهر أنهن اجتمعن على يوسف عليه السلام وقلن لا مصلحة لك في مخالفة أمرها وإلا وقعت في السجن وفي الصغار فعند ذلك اجتمع في حق يوسف عليه السلام أنواع من الوسوسة أحدها أن زليخا كانت في غاية الحسن والثاني أنها كانت ذات مال وثروة وكانت على عزم أن تبذل الكل ليوسف بتقدير أن يساعدها على مطلوبها والثالث أن النسوة اجتمعن عليه وكل واحدة منهن كانت ترغبه وتخوفه بطريق آخر ومكر النساء في هذا الباب شديد والرابع أنه عليه السلام كان خائفاً من شرها وإقدامها على قتله وإهلاكه فاجتمع في حق يوسف جميع جهات الترغيب على موافقتها وجميع جهات التخويف على مخالفتها فخاف عليه السلام أن تؤثر هذه الأسباب القوية الكثيرة فيه
واعلم أن القوة البشرية والطاقة الإنسانية لا تفي بحصول هذه العصمة القوية فعند هذا التجأ إلى الله تعالى وقال رَبّ السّجْنُ أَحَبُّ إِلَى َّ مِمَّا يَدْعُونَنِى إِلَيْهِ وقرىء السّجْنِ بالفتح على المصدر وفيه سؤالان
السؤال الأول السجن في غاية المكروهية وما دعونه إليه في غاية المطلوبية فكيف قال المشقة أحب إلي من اللذة
والجواب أن تلك اللذة كانت تستعقب آلاماً عظيمة وهي الذم في الدنيا والعقاب في الآخرة وذلك المكروه وهو اختيار السجن كان يستعقب سعادات عظيمة وهي المدح في الدنيا والثواب الدائم في الآخرة فلهذا السبب قال السّجْنُ أَحَبُّ إِلَى َّ مِمَّا يَدْعُونَنِى إِلَيْهِ
السؤال الثاني أن حبسهم له معصية كما أن الزنا معصية فكيف يجوز أن يحب السجن مع أنه معصية
والجواب تقدير الكلام أنه إذا كان لا بد من التزام أحد الأمرين أعني الزنا والسجن فهذا أولى لأنه متى وجب التزام أحد شيئين كل واحد منهما شر فأخفهما أولاهما بالتحمل
ثم قال وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنّى كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مّنَ الْجَاهِلِينَ أصب إليهن أمل إليهن يقال صبا إلى اللهو يصبو صبواً إذا مال واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن الإنسان لا ينصرف عن المعصية إلا إذا صرفه الله تعالى عنها قالوا لأن هذه الآية تدل على أنه تعالى إن لم يصرفه عن ذلك القبيح وقع فيه وتقريره أن القدرة والداعي إلى الفعل والترك إن استويا امتنع الفعل لأن الفعل رجحان لأحد الطرفين ومرجوحية للطرف الآخر وحصولهما حال استواء الطرفين جمع بين النقيضين وهو محال وإن حصل الرجحان في أحد الطرفين فذلك الرجحان ليس من العبد وإلا لذهبت المراتب إلى غير النهاية بل هو من الله تعالى فالصرف عبارة عن جعله مرجوحاً لأنه متى صار مرجوحاً صار ممتنع الوقوع لأن الوقوع رجحان فلو وقع حال المرجوحية لحصل الرجحان حال حصول المرجوحية وهو يقتضي حصول الجمع بين النقيضين وهو محال

فثبت بهذا أن انصراف العبد عن القبيح ليس إلا من الله تعالى ويمكن تقرير هذا الكلام من وجه آخر وهو أنه كان قد حصل في حق يوسف عليه السلام جميع الأسباب المرغبة في تلك المعصية وهو الانتفاع بالمال والجاه والتمتع بالمنكوح والمطعوم وحصل في الإعراض عنها جميع الأسباب المنفرة ومتى كان الأمر كذلك فقد قويت الدواعي في الفعل وضعفت الدواعي في الترك فطلب من الله سبحانه وتعالى أن يحدث في قلبه أنواعاً من الدواعي المعارضة النافية لدواعي المعصية إذ لو لم يحصل هذا المعارض لحصل المرجح للوقوع في المعصية خالياً عما يعارضه وذلك يوجب وقوع الفعل وهو المراد بقوله أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مّنَ الْجَاهِلِينَ
ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّى أَرَانِى أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّى أَرَانِى أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِى خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن زوج المرأة لما ظهر له براءة ساحة يوسف عليه السلام فلا جرم لم يتعرض له فاحتالت المرأة بعد ذلك بجميع الحيل حتى تحمل يوسف عليه السلام على موافقتها على مرادها فلم يلتفت يوسف إليها فلما أيست منه احتالت في طريق آخر وقالت لزوجها إن هذا العبد العبراني فضحني في الناس يقول لهم إني راودته عن نفسه وأنا لا أقدر على إظهار عذري فإما أن تأذن لي فأخرج وأعتذر وإما أن تحبسه كما حبستني فعند ذلك وقع في قلب العزيز أن الأصلح حبسه حتى يسقط عن ألسنة الناس ذكر هذا الحديث وحتى تقل الفضيحة فهذا هو المراد من قوله ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ لأن البداء عبارة عن تغير الرأي عما كان عليه في الأول والمراد من الآيات براءته بقد القميص من دبر وخمش الوجه وإلزام الحكم أياها بقوله إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ( يوسف 28 ) وذكرنا أنه ظهرت هناك أنواع أخر من الآيات بلغت مبلغ القطع ولكن القوم سكتوا عنها سعياً في إخفاء الفضيحة
المسألة الثالثة قوله بدالهم فعل وفاعله في هذا الموضع قوله الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ وظاهر هذا الكلام يقتضي إسناد الفعل إلى فعل آخر إلا أن النحويين اتفقوا على أن إسناد الفعل إلى الفعل لا يجوز فإذا قلت خرج ضرب لم يفد ألبتة فعند هذا قالوا تقدير الكلام ثم بدا لهم سجنه إلا أنه أقيم هذا الفعل مقام ذلك الاسم وأقول الذوق يشهد بأن جعل الفعل مخبر عنه لا يجوز وليس لأحد أن يقول الفعل خبراً فجعل الخبر مخبراً عنه لا يجوز لأنا نقول الاسم قد يكون خبراً كقولك زيد قائم فقائم اسم وخبر فعلمنا أن كون الشيء خبراً لا ينافي كونه مخبراً عنه بل نقول في هذا المقام شكوك أحدها أنا إذا قلنا ضرب فعل

فالمخبر عنه بأنه فعل هو ضرب فالفعل صار مخبراً عنه
فإن قالوا المخبر عنه هو هذه الصيغة وهي اسم فنقول فعلى هذا التقدير يلزم أن يكون المخبر عنه بأنه فعل اسم لا فعل وذلك كذب وباطل بل نقول المخبر عنه بأنه فعل إن كان فعلاً فقد ثبت أن الفعل يصح الإخبار عنه وإن كان اسماً كان معناه أنا أخبرنا عن الاسم بأنه فعل ومعلوم أنه باطل وفي هذا الباب مباحث عميقة ذكرناها في ( كتب المعقولات )
المسألة الثالثة قال أهل اللغة الحين وقت من الزمان غير محدود يقع على القصير منه وعلى الطويل وقال ابن عباس يريد إلى انقطاع المقالة وما شاع في المدينة من الفاحشة ثم قيل الحين ههنا خمس سنين وقيل بل سبع سنين وقال مقاتل بن سليمان حبس يوسف اثنتي عشر سنة والصحيح أن هذه المقادير غير معلومة وإنما القدر المعلوم أنه بقي محبوساً مدة طويلة لقوله تعالى وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّة ٍ ( يوسف 45 )
أما قوله تعالى وَدَخَلَ مَعَهُ السّجْنَ فَتَيَانَ فههنا محذوف والتقدير لما أرادوا حبسه حبسوه وحذف ذلك لدلالة قوله وَدَخَلَ مَعَهُ السّجْنَ فَتَيَانَ عليه قيل هما غلامان كانا للملك الأكبر بمصر أحدهما صاحب طعامه والآخر صاحب شرابه رفع إليه أن صاحب طعامه يريد أن يسمه وظن أن الآخر يساعده عليه فأمر بحبسهما بقي في الآية سؤالات
السؤال الأول كيف عرفا أنه عليه السلام عالم بالتعبير
والجواب لعله عليه السلام سألهما عن حزنهما وغمهما فذكرا إنا رأينا في المنام هذه الرؤيا ويحتمل أنهما رأياه وقد أظهر معرفته بأمور منها تعبير الرؤيا فعندها ذكرا له ذلك
السؤال الثاني كيف عرف أنهما كانا عبدين للملك
الجواب لقوله فَيَسْقِى رَبَّهُ خَمْرًا ( يوسف 41 ) أي مولاه ولقوله اذْكُرْنِى عِندَ رَبّكَ ( يوسف 42 )
السؤال الثالث كيف عرف أن أحدهما صاحب شراب الملك والآخر صاحب طعامه
والجواب رؤيا كل واحد منهما تناسب حرفته لأن أحدهما رأى أنه يعصر الخمر والآخر كأنه يحمل فوق رأسه خبزاً
السؤال الرابع كيف وقعت رؤية المنام
والجواب فيه قولان
القول الأول أن يوسف عليه السلام لما دخل السجن قال لأهله إني أعبر الأحلام فقال أحد الفتيين هلم فلنخبر هذا العبد العبراني برؤيا نخترعها له فسألاه من غير أن يكونا رأيا شيئاً قال ابن مسعود ما كانا رأيا شيئاً وإنما تحالما ليختبرا علمه
والقول الثاني قال مجاهد كانا قد رأيا حين دخلا السجن رؤيا فأتيا يوسف عليه السلام فسألاه عنها

فقال الساقي أيها العالم إني رأيت كأني في بستان فإذا بأصل عنبة حسنة فيها ثلاثة أغصان عليها ثلاثة عناقيد من عنب فجنيتها وكأن كأس الملك بيدي فعصرتها فيه وسقيتها الملك فشربه فذلك قوله إِنّى أَرَانِى أَعْصِرُ خَمْرًا وقال صاحب الطعام إني رأيت كأن فوق رأسي ثلاث سلال فيها خبز وألوان وأطعمه وإذا سباع الطير تنهش منه فذلك قوله تعالى وَقَالَ الآخَرُ إِنّى أَرَانِى أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِى خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ
السؤال الخامس كيف عرف يوسف عليه السلام أن المراد من قوله إِنّى أَرَانِى أَعْصِرُ خَمْرًا رؤيا المنام
الجواب لوجوه الأول أنه لو لم يقصد النوم كان ذكر قوله أَعْصِرُ يغنيه عن ذكر قوله أَرَانِى والثاني دل عليه قوله نَبّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ ( يوسف 36 )
السؤال السادس كيف يعقل عصر الخمر
الجواب فيه ثلاثة أقوال أحدها أن يكون المعنى أعصر عنب خمر أي العنب الذي يكون عصيره خمراً فحذف المضاف الثاني أن العرب تسمي الشيء باسم ما يؤل إليه إذا انكشف المعنى ولم يلتبس يقولون فلان يطبخ دبساً وهو يطبخ عصيراً والثالث قال أبو صالح أهل عمان يسمون العنب بالخمر فوقعت هذه اللفظة إلى أهل مكة فنطقوا بها قال الضحاك نزل القرآن بألسنة جميع العرب
السؤال السابع ما معنى التأويل في قوله نَبّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ
الجواب تأويل الشيء ما يرجع إليه وهو الذي يؤل إليه آخر ذلك الأمر
السؤال الثامن ما المراد من قوله إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ
الجواب من وجوه الأول معناه إنا نراك تؤثر الإحسان وتأتي بمكارم الأخلاق وجميع الأفعال الحميدة قيل إنه كان يعود مرضاهم ويؤنس حزينهم فقالوا إنك من المحسنين أي في حق الشركاء والأصحاب وقيل إنه كان شديد المواظبة على الطاعات من الصوم والصلاة فقالوا إنك من المحسنين في أمر الدين ومن كان كذلك فإنه يوثق بما يقوله في تعبير الرؤيا وفي سائر الأمور وقيل المراد إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ في علم التعبير وذلك لأنه متى عبر لم يخط كما قال وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ الاْحَادِيثِ ( يوسف 101 )
السؤال التاسع ما حقيقة علم التعبير
الجواب القرآن والبرهان يدلان على صحته أما القرآن فهو هذه الآية وأما البرهان فهو أنه قد ثبت أنه سبحانه خلق جوهر النفس الناطقة بحيث يمكنها الصعود إلى عالم الأفلاك ومطالعة اللوح المحفوظ والمانع لها من ذلك اشتغالها بتدبير البدن وفي وقت النوم يقل هذا التشاغل فتقوى على هذه المطالعة فإذا وقعت الروح على حالة من الأحوال تركت آثاراً مخصوصة مناسبة لذلك الإدراك الروحاني إلى عالم الخيال فالمعبر يستدل بتلك الآثار الخيالية على تلك الإدراكات العقلية فهذا كلام مجمل وتفصيله مذكور في ( الكتب العقلية ) والشريعة مؤكدة له روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( الرؤيا ثلاثة رؤيا ما يحدث به الرجل

نفسه ورؤيا تحدث من الشيطان ورؤيا التي هي الرؤيا الصادقة حقة ) وهذا تقسيم صحيح في العلوم العقلية وقال عليه السلام ( رؤيا الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة )
قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ذالِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِى رَبِّى إِنِّى تَرَكْتُ مِلَّة َ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالاٌّ خِرَة ِ هُمْ كَافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّة َ ءَابَآءِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَى ْءٍ ذالِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن المذكور في هذه الآية ليس بجواب لما سألا عنه فلا بد ههنا من بيان الوجه الذي لأجله عدل عن ذكر الجواب إلى هذا الكلام والعلماء ذكروا فيه وجوهاً الأول أنه لما كان جواب أحد السائلين أنه يصلب ولا شك أنه متى سمع ذلك عظم حزنه وتشتد نفرته عن سماع هذا الكلام فرأى أن الصلاح أن يقدم قبل ذلك ما يؤثر معه بعلمه وكلامه حتى إذا جاء بها من بعد ذلك خرج جوابه عن أن يكون بسبب تهمة وعداوة الثاني لعله عليه السلام أراد أن يبين أن درجته في العلم أعلى وأعظم مما اعتقدوا فيه وذلك لأنهم طلبوا منه علم التعبير ولا شك أن هذا العلم مبني على الظن والتخمين فبين لهما أنه لا يمكنه الإخبار عن الغيوب على سبيل القطع واليقين مع عجز كل الخلق عنه وإذا كان الأمر كذلك فبأن يكون فائقاً على كل الناس في علم التعبير كان أولى فكان المقصود من ذكر تلك المقدمة تقرير كونه فائقاً في علم التعبير واصلاً فيه إلى ما لم يصل غيره والثالث قال السدي لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ في النوم بين ذلك أن علمه بتأويل الرؤيا ليس بمقصور على شيء دون غيره ولذلك قال إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ الرابع لعله عليه السلام لما علم أنهما اعتقدا فيه وقبلا قوله فأورد عليهما ما دل على كونه رسولاً من عند الله تعالى فإن الاشتغال بإصلاح مهمات الدين أولى من الاشتغال بمهمات الدنيا والخامس لعله عليه السلام لما علم أن ذلك الرجل سيصلب اجتهد في أن يدخله في الإسلام حتى لا يموت على الكفر ولا يستوجب العقاب الشديد لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَة ٍ وَيَحْيَى مَنْ حَى َّ عَن بَيّنَة ٍ ( الأنفال 42 ) والسادس قوله لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ محمول على اليقظة والمعنى أنه لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا أخبرتكما أي طعام هو وأي لون هو وكم هو وكيف يكون عاقبته أي إذا أكله الإنسان فهو يفيد الصحة أو السقم وفيه وجه آخر قيل كان الملك إذا أراد قتل إنسان صنع له طعاماً فأرسله إليه فقال يوسف لا يأتيكما طعام ألا أخبرتكما أن فيه سماً أم لا هذا هو المراد من قوله لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ وحاصله راجع إلى أنه ادعى الإخبار عن الغيب وهو يجري مجرى قوله عيسى عليه السلام

أُنَبّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِى بُيُوتِكُمْ ( آل عمران 49 ) فالوجوه الثلاثة الأول لتقرير كونه فائقاً في علم التعبير والوجوه الثلاثة الأخر لتقرير كونه نبياً صادقاً من عند الله تعالى
فإن قيل كيف يجوز حمل الآية على ادعاء المعجزة مع أنه لم يتقدم ادعاء للنبوة
قلنا إنه وإن لم يذكر ذلك لكن يعلم أنه لا بد وأن يقال إنه كان قد ذكره وأيضاً ففي قوله ذالِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِى رَبّى وفي قوله وَاتَّبَعْتُ مِلَّة َ ءابَاءي ما يدل على ذلك
ثم قال تعالى ذالِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِى رَبّى أي لست أخبركما على جهة الكهانة والنجوم وإنما أخبرتكما بوحي من الله وعلم حصل بتعليم الله
ثم قال إِنّى تَرَكْتُ مِلَّة َ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالاْخِرَة ِ هُمْ كَافِرُونَ وفيه مسائل
المسألة الأولى لقائل أن يقول في قوله إِنّى تَرَكْتُ مِلَّة َ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ توهم أنه عليه السلام كان في هذه الملة فنقول جوابه من وجوه الأول أن الترك عبارة عن عدم التعرض للشيء وليس من شرطه أن يكون قد كان خائضاً فيه والثاني وهو الأصح أن يقال إنه عليه السلام كان عبداً لهم بحسب زعمهم واعتقادهم الفاسد ولعله قبل ذلك كان لا يظهر التوحيد والإيمان خوفاً منهم على سبيل التقية ثم إنه أظهره في هذا الوقت فكان هذا جارياً مجرى ترك ملة أولئك الكفرة بحسب الظاهر
المسألة الثانية تكرير لفظ هُمْ في قوله وَهُمْ بِالاْخِرَة ِ هُمْ كَافِرُونَ لبيان اختصاصهم بالكفر ولعل إنكارهم للمعاد كان أشد من إنكارهم للمبدأ فلأجل مبالغتهم في إنكار المعاد كرر هذا اللفظ للتأكيد
واعلم أن قوله إِنّى تَرَكْتُ مِلَّة َ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ إشارة إلى علم المبدأ وقوله وَهُمْ بِالاْخِرَة ِ هُمْ كَافِرُونَ إشارة إلى علم المعاد ومن تأمل في القرآن المجيد وتفكر في كيفية دعوة الأنبياء عليهم السلام علم أن المقصود من إرسال الرسل وإنزال الكتب صرف الخلق إلى الإقرار بالتوحيد وبالمبدأ والمعاد وإن ما وراء ذلك عبث
ثم قال تعالى وَاتَّبَعْتُ مِلَّة َ ءابَاءي إِبْراهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وفيه سؤالات
السؤال الأول ما الفائدة في ذكر هذا الكلام
الجواب أنه عليه السلام لما ادعى النبوة وتحدى بالمعجزة وهو علم الغيب قرن به كونه من أهل بيت النبوة وأن أباه وجده وجد أبيه كانوا أنبياء الله ورسله فإن الإنسان متى ادعى حرفة أبيه وجده لم يستبعد ذلك منه وأيضاً فكما أن درجة إبراهيم عليه السلام وإسحاق ويعقوب كان أمراً مشهوراً في الدنيا فإذا ظهر أنه ولدهم عظموه ونظروا إليه بعين الإجلال فكان انقيادهم له أتم وأثر قلوبهم بكلامه أكمل
السؤال الثاني لما كان نبياً فكيف قال إني اتبعت ملة آبائي والنبي لا بد وأن يكون مختصاً بشريعة نفسه
قلنا لعل مراده التوحيد الذي لم يتغير وأيضاً لعله كان رسولاً من عند الله إلا أنه كان على شريعة إبراهيم عليه السلام
السؤال الثالث لم قال مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَى ْء وحال كل المكلفين كذلك

والجواب ليس المراد بقوله مَا كَانَ لَنَا أنه حرم ذلك عليهم بل المراد أنه تعالى ظهر آباءه عن الكفر ونظيره قوله مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ ( مريم 35 )
السؤال الرابع ما الفائدة في قوله مِن شَى ْء
الجواب أن أصناف الشرك كثيرة فمنهم من يعبد الأصنام ومنهم من يعبد النار ومنهم من يعبد الكواكب ومنهم من يعبد العقل والنفس والطبيعة فقوله مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَى ْء رد على كل هؤلاء الطوائف والفرق وإرشاد إلى الدين الحق وهو أنه لا موجد إلا الله ولا خالق إلا الله ولا رازق إلا الله
ثم قال ذالِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وفيه مسألة وهي أنه قال مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَى ْء
ثم قال ذالِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ فقوله ذالِكَ إشارة إلى ما تقدم من عدم الإشراك فهذا يدل على أن عدم الإشراك وحصول الإيمان من الله ثم بين أن الأمر كذلك في حقه بعينه وفي حق الناس ثم بين أن أكثر الناس لا يشكرون ويجب أن يكون المراد أنهم لا يشكرون الله على نعمة الإيمان حكي أن واحداً من أهل السنة دخل على بشر بن المعتمر وقال هل تشكر الله على الإيمان أم لا فإن قلت لا فقد خالفت الإجماع وإن شكرته فكيف تشكره على ما ليس فعلاً له فقال له بشر إنا نشكره على أنه تعالى أعطانا القدرة والعقل والآلة فيجب علينا أن نشكره على إعطاء القدرة والآلة فأما أن نشكره على الإيمان مع أن الإيمان ليس فعلاً له فذلك باطل وصعب الكلام على بشر فدخل عليهم ثمامة بن الأشرس وقال إنا لا نشكر الله على الإيمان بل الله يشكرنا عليه كما قال أُولائِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا ( الإسراء 19 ) فقال بشر لما صعب الكلام سهل
واعلم أن الذين ألزمه ثمامة باطل بنص هذه الآية وذلك لأنه تعالى بين أن عدم الإشراك من فضل الله ثم بين أن أكثر الناس لا يشكرون هذه النعمة وإنما ذكره على سبيل الذم فدل هذا على أنه يجب على كل مؤمن أن يشكر الله تعالى على نعمة الإيمان وحينئذ تقوى الحجة وتكمل الدلالة قال القاضي قوله ذالِكَ إن جعلناه إشارة إلى التمسك بالتوحيد فهو من فضل الله تعالى لأنه إنما حصل بألطافه وتسهيله ويحتمل أن يكون إشارة إلى النبوة
والجواب أن ذلك إشارة إلى المذكور السابق وذاك هو ترك الإشراك فوجب أن يكون ترك الإشراك من فضل الله تعالى والقاضي يصرفه إلى الألطاف والتسهيل فكان هذا تركاً للظاهر وأما صرفه إلى النبوة فبعيد لأن اللفظ الدال على الإشارة يجب صرفه إلى أقرب المذكورات وهو ههنا عدم الإشراك
ياصَاحِبَى ِ السِّجْنِ ءَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُمْ مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذالِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ

في الآية مسائل
المسألة الأولى قوله يَشْكُرُونَ ياصَاحِبَى ِ السّجْنِ يريد صاحبي في السجن ويحتمل أيضاً أنه لما حصلت مرافقتهما في السجن مدة قليلة أضيفا إليه وإذا كانت المرافقة القليلة كافية في كونه صاحباً فمن عرف الله وأحبه طول عمره أولى بأن يبقى عليه اسم المؤمن العارف المحب
المسألة الثانية اعلم أنه عليه السلام لما ادعى النبوة في الآية الأولى وكان إثبات النبوة مبنياً على إثبات الإلهيات لا جرم شرع في هذه الآية في تقرير الإلهيات ولما كان أكثر الخلق مقرين بوجود الإله العالم القادر وإنما الشأن في أنهم يتخذون أصناماً على صورة الأرواح الفلكية ويعبدونها ويتوقعون حصول النفع والضر منها لا جرم كان سعي أكثر الأنبياء في المنع من عبادة الأوثان فكان الأمر على هذا القانون في زمان يوسف عليه السلام فلهذا السبب شرع ههنا في ذكر ما يدل على فساد القول بعبادة الأصنام وذكر أنواعاً من الدلائل والحجج
الحجة الأولى قوله مُّتَّفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا وتقرير هذه الحجة أن نقول إن الله تعالى بين أن كثرة الآلهة توجب الخلل والفساد في هذا العالم وهو قوله لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَة ٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ( الأنبياء 22 ) فكثرة الآلهة توجب الفساد والخلل وكون الإله واحداً يقتضي حصول النظام وحسن الترتيب فلما قرر هذا المعنى في سائر الآيات قال ههنا مُّتَّفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا والمراد منه الاستفهام على سبيل الإنكار
والحجة الثانية أن هذه الأصنام معمولة لا عاملة ومقهورة لا قاهرة فإن الإنسان إذا أراد كسرها وإبطالها قدر عليها فهي مقهورة لا تأثير لها ولا يتوقع حصول منفعة ولا مضرة من جهتها وإله العالم فعال قهار قادر يقدر على إيصال الخيرات ودفع الشرور والآفات فكان المراد أن عبادة الآلهة المقهورة الذليلة خير أم عبادة الله الواحد القهار فقوله ءأَرْبَابٌ إشارة إلى الكثرة فجعل في مقابلته كونه تعالى واحداً وقوله مُّتَّفَرّقُونَ إشارة إلى كونها مختلفة في الكبر والصغر واللون والشكل وكل ذلك إنما حصل بسبب أن الناحت والصانع يجعله على تلك الصورة فقوله مُّتَّفَرّقُونَ إشارة إلى كونها مقهورة عاجزة وجعل في مقابلته كونه تعالى قهاراً فبهذا الطريق الذي شرحناه اشتملت هذه الآية على هذين النوعين الظاهرين
والحجة الثالثة أن كونه تعالى واحداً يوجب عبادته لأنه لو كان له ثان لم نعلم من الذي خلقنا ورزقنا ودفع الشرور والآفات عنا فيقع الشك في أنا نعبد هذا أم ذاك وفيه إشارة إلى ما يدل على فساد القول بعبادة الأوثان وذلك لأن بتقدير أن تحصل المساعدة على كونها نافعة ضارة إلا أنها كثيرة فحينئذ لا نعلم أن نفعنا ودفع الضرر عنا حصل من هذا الصنم أو من ذلك الآخر أو حصل بمشاركتهما ومعاونتهما وحينئذ يقع الشك في أن المستحق للعبادة هو هذا أم ذاك أما إذا كان المعبود واحداً ارتفع هذا الشك وحصل اليقين في

أنه لا يستحق للعبادة إلا هو ولا معبود للمخلوقات والكائنات إلا هو فهذا أيضاً وجه لطيف مستنبط من هذه الآية
الحجة الرابعة أن بتقدير أن يساعد على أن هذه الأصنام تنفع وتضر على ما يقوله أصحاب الطلسمات إلا أنه لا نزاع في أنها تنفع في أوقات مخصوصة وبحسب آثار مخصوصة والإله تعالى قادر على جميع المقدورات فهو قهار على الإطلاق نافذ المشيئة والقدرة في كل الممكنات على الإطلاق فكان الاشتغال بعبادته أولى
الحجة الخامسة وهي شريفة عالية وذلك لأن شرط القهار أن لا يقهره أحد سواه وأن يكون هو قهاراً لكل ما سواه وهذا يقتضي أن يكون الإله واجب الوجود لذاته إذ لو كان ممكناً لكان مقهوراً لا قاهراً ويجب أن يكون واحداً إذ لو حصل في الوجود واجبان لما كان قاهراً لكل ما سواه فالإله لا يكون قهاراً إلا إذا كان واجباً لذاته وكان واحداً وإذا كان المعبود يجب أن يكون كذلك فهذا يقتضي أن يكون الإله شيئاً غير الفلك وغير الكواكب وغير النور والظلمة وغير العقل والنفس فأما من تمسك بالكواكب فهي أرباب متفرقون وهي ليست موصوفة بأنها قهارة وكذا القول في الطبائع والأرواح والعقول والنفوس فهذا الحرف الواحد كاف في إثبات هذا التوحيد المطلق وأنه مقام عال فهذا مجموع الدلائل المستنبطة من هذه الآية بقي فيها سؤالان
السؤال الأول لم سماها أرباباً وليست كذلك
والجواب لاعتقادهم فيها أنها كذلك وأيضاً الكلام خرج على سبيل الفرض والتقدير والمعنى أنها إن كانت أرباباً فهي خير أم الله الواحد القهار
السؤال الثاني هل يجوز التفاضل بين الأصنام وبين الله تعالى حتى يقال إنها خير أم الله الواحد القهار
الجواب أنه خرج على سبيل الفرض والمعنى لو سلمنا أنه حصل منها ما يوجب الخير فهي خير أم الله الواحد القهار
ثم قال مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَءابَاؤُكُمْ مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ وفيه سؤال وهو أنه تعالى قال فيما قبل هذه الآية مُّتَّفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا وذلك يدل على وجود هذه المسميات ثم قال عقيب تلك الآية مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا وهذا يدل على أن المسمى غير حاصل وبينهما تناقض
الجواب أن الذات موجودة حاصلة إلا أن المسمى بالإله غير حاصل وبيانه من وجهين الأول أن ذوات الأصنام وإن كانت موجودة إلا أنها غير موصوفة بصفات الإلهية وإذا كان كذلك كان الشيء الذي هو مسمى بالإله في الحقيقة غير موجود ولا حاصل الثاني يروى أن عبدة الأوثان مشبهة فاعتقدوا أن الإله هو النور الأعظم وأن الملائكة أنوار صغيرة ووضعوا على صورة تلك الأنوار هذه الأثان ومعبودهم في الحقيقة هو تلك الأنوار السماوية وهذا قول المشبهة فإنهم تصوروا جسماً كبيراً مستقراً على العرش ويعبدونه وهذا المتخيل غير موجود ألبتة فصح أنهم لا يعبدون إلا مجرد الأسماء

واعلم أن جماعة ممن يعبدون الأصنام قالوا نحن لا نقول إن هذه الأصنام آلهة للعالم بمعنى أنها هي التي خلقت العالم إلا أنا نطلق عليها اسم الإله ونعبدها ونعظمها لاعتقادنا أن الله أمرنا بذلك فأجاب الله تعالى عنه فقال أما تسميتها بالآلهة فما أمر الله تعالى بذلك وما أنزل في حصول هذه التسمية حجة ولا برهاناً ولا دليلاً ولا سلطاناً وليس لغير الله حكم واجب القبول ولا أمر واجب الالتزام بل الحكم والأمر والتكليف ليس إلا له ثم إنه أمر أن ألا تعبدوا إلا أياه وذلك لأن العبادة نهاية التعظيم والإجلال فلا تليق إلا بمن حصل منه نهاية الإنعام وهو الإله تعالى لأن منه الخلق والإحياء والعقل والرزق والهداية ونعم الله كثيرة وجهات إحسانه إلى الخلق غير متناهية ثم إنه تعالى لما بين هذه الأشياء قال وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ وتفسيره أن أكثر الخلق يسندون حدوث الحوادث الأرضية إلى الاتصالات الفلكية والمناسبات الكوكبية لأجل أنه تقرر في العقول أن الحادث لا بد له من سبب فإذا رأوا أن تغير أحوال هذا العالم في الحر والبرد والفصول الأربعة إنما يحصل عند تغير أحوال الشمس في أرباع الفلك ربطوا الفصول الأربعة بحركة الشمس ثم لما شاهدوا أن أحوال النبات والحيوان مختلفة بحسب اختلاف الفصول الأربعة ربطوا حدوث النبات وتغير أحوال الحيوان باختلاف الفصول الأربعة فبهذا الطريق غلب على طباع أكثر الخلق أن المدبر لحدوث الحوادث في هذا العالم هو الشمس والقمر وسائر الكواكب ثم إنه تعالى إذا وفق إنساناً حتى ترقى من هذه الدرجة وعرف أنها في ذواتها وصفاتها مفتقرة إلى موجد ومبدع قاهر قادر عليم حكيم فذلك الشخص يكون في غاية الندرة فلهذا قال وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ
ياصَاحِبَى ِ السِّجْنِ أَمَّآ أَحَدُكُمَا فَيَسْقِى رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الاٌّ خَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِى َ الاٌّ مْرُ الَّذِى فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ
اعلم أنه عليه السلام لما قرر أمر التوحيد والنبوة عاد إلى الجواب عن السؤال الذي ذكراه والمعنى ظاهر وذلك لأن الساقي لما قص رؤياه على يوسف وقد ذكرنا كيف قص عليه قال له يوسف ما أحسن ما رأيت أما حسن العنبة فهو حسن حالك وأما الأغصان الثلاثة فثلاثة أيام يوجه إليك الملك عند انقضائهن فيردك إلى عملك فتصير كما كنت بل أحسن وقال للخباز لما قص عليه بئسما رأيت السلال الثلاث ثلاثة أيام يوجه إليك الملك عند انقضائهن فيصلبك وتأكل الطير من رأسك ثم نقل في التفسير أنهما قالا ما رأينا شيئاً فقال قُضِى َ الاْمْرُ الَّذِى فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ واختلف فيما لأجله قالا ما رأينا شيئاً فقيل إنهما وضعا هذا الكلام ليختبرا علمه بالتعبير مع أنهما ما رأيا شيئاً وقيل إنهما لما كرها ذلك الجواب قالا ما رأينا شيئاً
فإن قيل هذا الجواب الذي ذكره يوسف عليه السلام ذكره بناء على الوحي من قبل الله تعالى أو بناء على علم التعبير والأول باطل لأن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نقل أنه إنما ذكره على سبيل التعبير وأيضاً قال تعالى وَقَالَ لِلَّذِى ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مّنْهُمَا ( يوسف 42 ) ولو كان ذلك التعبير مبنياً على الوحي لكان الحاصل منه

القطع واليقين لا الظن والتخمين والثاني أيضاً باطل لأن علم التعبير مبني على الظن والحسبان
الجواب لا يبعد أن يقال إنهما لما سألاه عن ذلك المنام صدقا فيه أو كذبا فإن الله تعالى أوحى إليه أن عاقبة كل واحد منهما تكون على الوجه المخصوص فلما نزل الوحي بذلك الغيب عند ذلك السؤال وقع في الظن أنه ذكره على سبيل التعبير ولا يبعد أيضاً أن يقال إنه بنى ذلك الجواب على علم التعبير وقوله قُضِى َ الاْمْرُ الَّذِى فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ما عنى به أن الذي ذكره واقع لا محالة بل عنى به أنه حكمه في تعبير ما سألاه عنه ذلك الذي ذكره
وَقَالَ لِلَّذِى ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِى عِندَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِى السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ
فيه مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في أن الموصوف بالظن هو يوسف عليه السلام أو الناجي فعلى الأول كان المعنى وقال الرجل الذي ظن يوسف عليه السلام كونه ناجياً وعلى هذا القول وجهان الأول أن تحمل هذا الظن على العلم واليقين وهذا إذا قلنا بأنه عليه السلام إنما ذكر ذلك التعبير بناء على الوحي قال هذا القائل وورود لفظ الظن بمعنى اليقين كثير في القرآن قال تعالى الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُلاَقُواْ رَّبُّهُمْ ( البقرة 46 ) وقال إِنّى ظَنَنتُ أَنّى مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ ( الحاقة 20 ) والثاني أن تحمل هذا الظن على حقيقة الظن وهذا إذا قلنا إنه عليه السلام ذكر ذلك التعبير لا بناء على الوحي بل على الأصول المذكورة في ذلك العلم وهي لا تفيد إلا الظن والحسبان
والقول الثاني أن هذا الظن صفة الناجي فإن الرجلين السائلين ما كانا مؤمنين بنبوة يوسف ورسالته ولكنهما كانا حسني الاعتقاد فيه فكان قوله لا يفيد في حقهما إلا مجرد الظن
المسألة الثانية قال يوسف عليه السلام لذلك الرجل الذي حكم بأنه يخرج من الحبس ويرجع إلى خدمة الملك اذْكُرْنِى عِندَ رَبّكَ أي عند الملك والمعنى اذكر عنده أنه مظلوم من جهة إخوته لما أخرجوه وباعوه ثم إنه مظلوم في هذه الواقعة التي لأجلها حبس فهذا هو المراد من الذكر
ثم قال تعالى فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبّهِ وفيه قولان الأول أنه راجع إلى يوسف والمعنى أن الشيطان أنسى يوسف أن يذكر ربه وعلى هذا القول ففيه وجهان أحدهما أن تمسكه بغير الله كان مستدركاً عليه وتقريره من وجوه الأول أن مصلحته كانت في أن لا يرجع في تلك الواقعة إلى أحد من المخلوقين وأن لا يعرض حاجته على أحد سوى الله وأن يقتدي بجده إبراهيم عليه السلام فإنه حين وضع في المنجنيق ليرمى إلى النار جاءه جبريل عليه السلام وقال هل من حاجة فقال أما إليك فلا فلما رجع يوسف إلى المخلوق لا جرم وصف الله ذلك بأن الشيطان أنساه ذلك التفويض وذلك التوحيد ودعاه إلى

عرض الحاجة إلى المخلوقين ثم لما وصفه بذلك ذكر أنه بقي لذلك السبب في السجن بضع سنين والمعنى أنه لما عدل عن الانقطاع إلى ربه إلى هذا المخلوق عوقب بأن لبث في السجن بضع سنين وحاصل الأمر أن رجوع يوسف إلى المخلوق صار سبباً لأمرين أحدهما أنه صار سبباً لاستيلاء الشيطان عليه حتى أنساه ذكر ربه الثاني أنه صار سبباً لبقاء المحنة عليه مدة طويلة
الوجه الثاني أن يوسف عليه السلام قال في إبطال عبادة الأوثان مُّتَّفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا ثم إنه ههنا أثبت رباً غيره حيث قال اذْكُرْنِى عِندَ رَبّكَ ومعاذ الله أن يقال إنه حكم عليه بكونه رباً بمعنى كونه إلهاً بل حكم عليه بالربوبية كما يقال رب الدار ورب الثوب على أن إطلاق لفظ الرب عليه بحسب الظاهر يناقض نفي الأرباب
الوجه الثالث أنه قال في تلك الآية ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء وذلك نفي للشرك على الإطلاق وتفويض الأمور بالكلية إلى الله تعالى فههنا الرجوع إلى غير الله تعالى كالمناقض لذلك التوحيد
واعلم أن الاستعانة بالناس في دفع الظلم جائزة في الشريعة إلا أن حسنات الأبرار سيئات المقربين فهذا وإن كان جائزاً لعامة الخلق إلا أن الأولى بالصديقين أن يقطعوا نظرهم عن الأسباب بالكلية وأن لا يشتغلوا إلا بمسبب الأسباب
الوجه الثاني في تأويل الآية أن يقال هب أنه تمسك بغير الله وطلب من ذلك الساقي أن يشرح حاله عند ذلك الملك إلا أنه كان من الواجب عليه أن لا يخلي ذلك الكلام من ذكر الله مثل أن يقول إن شاء الله أو قدر الله فلما أخلاه عن هذا الذكر وقع هذا الاستدراك
القول الثاني أن يقال إن قوله فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبّهِ راجع إلى الناجي والمعنى أن الشيطان أنسى ذلك الفتى أن يذكر يوسف للملك حتى طال الأمر فَلَبِثَ فِى السّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ بهذا السبب ومن الناس من قال القول الأول أولى لما روي عنه عليه السلام قال ( رحم الله يوسف لو لم يقل اذكرني عند ربك ما لبث في السجن ) وعن قتادة أن يوسف عليه السلام عوقب بسبب رجوعه إلى غير الله وعن إبراهيم التيمي أنه لما انتهى إلى باب السجن قال له صاحبه ما حاجتك قال أن تذكرني عند رب سوى الرب الذي قال يوسف وعن مالك لما قال يوسف للساقي اذكرني عند ربك قيل يا يوسف اتخذت من دوني وكيلاً لأطيلن حبسك فبكى يوسف وقال طول البلاء أنساني ذكر المولى فقلت هذه الكلمة فويل لإخوتي
قال مصنف الكتاب فخر الدين الرازي رحمه الله والذي جربته من أول عمري إلى آخره أن الإنسان كلما عول في أمر من الأمور على غير الله صار ذلك سبباً إلى البلاء والمحنة والشدة والرزية وإذا عول العبد على الله ولم يرجع إلى أحد من الخلق ذلك المطلوب على أحسن الوجوه فهذه التجربة قد استمرت لي من أول عمري إلى هذا الوقت الذي بلغت فيه إلى السابع والخمسين فعند هذا استقر قلبي على أنه لا مصلحة للإنسان في التعويل على شيء سوى فضل الله تعالى وإحسانه ومن الناس من رجح القول الثاني لأن صرف وسوسة الشيطان إلى ذلك الرجل أولى من صرفها إلى يوسف الصديق ولأن الاستعانة بالعباد في التخلص من الظلم جائزة
واعلم أن الحق هو القول الأول وما ذكره هذا القائل الثاني تمسك بظاهر الشريعة وما قرره القائل

الأول تمسك بأسرار الحقيقة ومكارم الشريعة ومن كان له ذوق في مقام العبودية وشرب من مشرب التوحيد عرف أن الأمر كما ذكرناه وأيضاً ففي لفظ الآية ما يدل على أن هذا القول ضعيف لأنه لو كان المراد ذلك لقال فأنساه الشيطان ذكره لربه
المسألة الثالثة الاستعانة بغير الله في دفع الظلم جائزة في الشريعة لا إنكار عليه إلا أنه لما كان ذلك مستدركاً من المحققين المتوغلين في بحار العبودية لا جرم صار يوسف عليه السلام مؤاخذاً به وعند هذا نقول الذي يصير مؤاخذاً بهذا القدر لأن يصير مؤاخذاً بالإقدام على طلب الزنا ومكافأة الإحسان بالإساءة كان أولى فلما رأينا الله تعالى آخذه بهذا القدر ولم يؤاخذه في تلك القضية ألبتة وما عابه بل ذكره بأعظم وجوه المدح والثناء علمنا أنه عليه السلام كان مبرأ مما نسبه الجهال والحشوية إليه
المسألة الرابعة الشيطان يمكنه إلقاء الوسوسة وأما النسيان فلا لأنه عبارة عن إزالة العلم عن القلب والشيطان لا قدرة له عليه وإلا لكان قد أزال معرفة الله تعالى عن قلوب بني آدم
وجوابه أنه يمكنه من حيث إنه بوسوسته يدعو إلى سائر الأعمال واشتغال الإنسان بسائر الأعمال يمنعه عن استحضار ذلك العلم وتلك المعرفة
المسألة الخامسة قوله فَلَبِثَ فِى السّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ فيه بحثان
البحث الأول بحسب اللغة قال الزجاج اشتقاقه من بضعت بمعنى قطعت ومعناه القطعة من العدد قال الفراء ولا يذكر البضع إلا مع عشرة أو عشرين إلى التسعين وذلك يقتضي أن يكون مخصوصاً بما بين الثلاثة إلى التسعة وقال هكذا رأيت العرب يقولون وما رأيتهم يقولون بضع ومائة وروى الشعبي أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لأصحابه ( كم البضع ) قالوا الله ورسوله أعلم قال ( ما دون العشرة ) واتفق الأكثرون على أن المراد ههنا ببضع سنين سبع سنين قالوا إن يوسف عليه السلام حين قال لذلك الرجل اذْكُرْنِى عِندَ رَبّكَ كان قد بقي في السجن خمس سنين ثم بقي بعد ذلك سبع سنين قال ابن عباس رضي الله عنهما لما تضرع يوسف عليه السلام إلى ذلك الرجل كان قد اقترب وقت خروجه فلما ذكر ذلك لبث في السجن بعده سبع سنين وروي أن الحسن روى قوله صلوات الله عليه وسلامه ( رحم الله يوسف لولا الكلمة التي قالها لما لبث في السجن هذه المدة الطويلة ) ثم بكى الحسن وقال نحن إذا نزل بنا أمر تضرعنا إلى الناس
وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّى أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ ياأَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِى فِى رُؤْيَاى َ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الاٌّ حْلَامِ بِعَالِمِينَ

اعلم أنه تعالى إذا أراد شيئاً هيأ له أسباباً ولما دنا فرج يوسف عليه السلام رأى ملك مصر في النوم سبع بقرات سمان خرجن من نهر يابس وسبع بقرات عجاف فابتلعت العجاف السمان ورأى سبع سنبلات خضر قد انعقد حبها وسبعاً أخر يابسات فالتوت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها فجمع الكمنة وذكرها لهم وهو المراد من قوله يَابِسَاتٍ يأَيُّهَا الْمَلا أَفْتُونِى فِى رُؤْيَاى َ فقال القوم هذه الرؤيا مختلطة فلا تقدر على تأويلها وتعبيرها فهذا ظاهر الكلام وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الليث العجف ذهاب السمن والفعل عجف يعجف والذكر أعجف والأنثى عجفاء والجمع عجاف في الذكران والإناث وليس في كلام العرب أفعل وفعلاء جمعاً على فعال غير أعجف وعجاف وهي شاذة حملوها على لفظ سمان فقالوا سمان وعجاف لأنهما نقيضان ومن دأبهم حمل النظير على النظير والنقيض على النقيض واللام في قوله لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ على قول البعض زائدة لتقدم المفعول على الفعل وقال صاحب ( الكشاف ) يجوز أن تكون الرؤيا خبر كان كما تقول كان فلان لهذا الأمر إذا كان مستقلاً به متمكناً منه وتعبرون خبراً آخر أو حالاً ويقال عبرت الرؤيا أعبرها وعبرتها تعبيراً إذا فسرتها وحكى الأزهري أن هذا مأخوذ من العبر وهو جانب النهر ومعنى عبرت النهر والطريق قطعته إلى الجانب الآخر فقيل لعابر الرؤيا عابر لأنه يتأمل جانبي الرؤيا فيتفكر في أطرافها وينتقل من أحد الطرفين إلى الآخر والأضغاث جمع الضغث وهو الحزمة من أنواع النبت والحشيش بشرط أن يكون مما قام على ساق واستطال قال تعالى وَخُذْ بِيَدِكَ ( ص 44 )
إذا عرفت هذا فنقول الرؤيا إن كانت مخلوطة من أشياء غير متناسبة كانت شبيهة بالضغث
المسألة الثانية أنه تعالى جعل تلك الرؤيا سبباً لخلاص يوسف عليه السلام من السجن وذلك لأن الملك لما قلق واضطرب بسببه لأنه شاهد أن الناقص الضعيف استولى على الكامل القوي فشهدت فطرته بأن هذا ليس بجيد وأنه منذر بنوع من أنواع الشر إلا أنه ما عرف كيفية الحال فيه والشيء إذا صار معلوماً من وجه وبقي مجهولاً من وجه آخر عظم تشوف الناس إلى تكميل تلك المعرفة وقويت الرغبة في إتمام الناقص لا سيما إذا كان الإنسان عظيم الشأن واسع المملكة وكان ذلك الشيء دالاً على الشر من بعض الوجوه فبهذا الطريق قوى الله داعية ذلك الملك في تحصيل العلم بتعبير هذه الرؤيا ثم إنه تعالى أعجز المعبرين اللذين حضروا عند ذلك الملك عن جواب هذه المسألة وعماه عليهم ليصير ذلك سبباً لخلاص يوسف من تلك المحنة
واعلم أن القوم ما نفوا عن أنفسهم كونهم عالمين بعلم التعبير بل قالوا إن علم التعبير على قسمين منه ما تكون الرؤيا فيه منتسقة منتظمة فيسهل الانتقال من الأمور المتخيلة إلى الحقائق العقلية الروحانية ومنه ما تكون فيه مختلطة مضطربة ولا يكون فيها ترتيب معلوم وهو المسمى بالأضغاث والقوم قالوا إن رؤيا الملك من قسم الأضغاث ثم أخبروا أنهم غير عالمين بتعبير هذا القسم وكأنهم قالوا هذه الرؤيا مختلطة من أشياء كثيرة وما كان كذلك فنحن لا نهتدي إليها ولا يحيط عقلنا بها وفيها إيهام أن الكامل في هذا العلم والمتبحر فيه قد يهتدي إليها فعند هذه المقالة تذكر ذلك الشرابي واقعة يوسف فإنه كان يعتقد فيه كونه متبحراً في هذا العلم

وَقَالَ الَّذِى نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّة ٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِى سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّى أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ
اعلم أن الملك لما سأل الملأ عن الرؤيا واعترف الحاضرون بالعجز عن الجواب قال الشرابي إن في الحبس رجلاً فاضلاً صالحاً كثير العلم كثير الطاعة قصصت أنا والخباز عليه منامين فذكر تأويلهما فصدق في الكل وما أخطأ في حرف فإن أذنت مضيت إليه وجئتك بالجواب فهذا هو قوله بِعَالِمِينَ وَقَالَ الَّذِى نَجَا مِنْهُمَا
وأما قوله وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّة ٍ فنقول سيجيء اذكر في تفسير قوله تعالى مِن مُّدَّكِرٍ ( القمر 51 ) في سورة القمر قال صاحب ( الكشاف ) وَادَّكَرَ بالدال هو الفصيح عن الحسن وَاذْكُرْ بالذال أي تذكر وأما الأمة ففيه وجوه الأول بَعْدَ أُمَّة ٍ أي بعد حين وذلك لأن الحين إنما يحصل عند اجتماع الأيام الكثيرة كما أن الأمة إنما تحصل عند اجتماع الجمع العظيم فالحين كان أمة من الأيام والساعات والثاني قرأ الأشهب العقيلي بَعْدَ أُمَّة ٍ بكسر الهمزة والإمة النعمة قال عدي
ثم بعد الفلاح والملك والإمة وارتهم هناك القبور
والمعنى بعدما أنعم عليه بالنجاة الثالث قرىء بَعْدَ أُمُّهُ أي بعد نسيان يقال أمه يأمه أمها إذا نسي والصحيح أنها بفتح الميم وذكره أبو عبيدة بسكون الميم وحاصل الكلام أنه إما أن يكون المراد وادكر بعد مضي الأوقات الكثيرة من الوقت الذي أوصاه يوسف عليه السلام بذكره عند الملك والمراد وادكر بعد وجدان النعمة عند ذلك الملك أو المراد وادكر بعد النسيان
فإن قيل قوله وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّة ٍ يدل على أن الناسي هو الشرابي وأنتم تقولون الناسي هو يوسف عليه السلام
قلنا قال ابن الأنباري اذكر بمعنى ذكر وأخبر وهذا لا يدل على سبق النسيان فلعل الساقي إنما لم يذكره للملك خوفاً من أن يكون ذلك اذكاراً لذنبه الذي من أجله حبسه فيزداد الشر ويحتمل أيضاً أن يقال حصل النسيان ليوسف عليه السلام وحصل أيضاً لذلك الشرابي وأما قوله فَأَرْسِلُونِ خطاب إما للملك والجمع أو للملك وحده على سبيل التعظيم أما قوله يُوسُفُ أَيُّهَا الصّدِيقُ ففيه محذوف والتقدير فأرسل وأتاه وقال أيها الصديق والصديق هو البالغ في الصدق وصفه بهذه الصفة لأنه لم يجرب عليه كذباً وقيل لأنه صدق في تعبير رؤياه وهذا يدل على أن من أراد أن يتعلم من رجل شيئاً فإنه يجب عليه أن يعظمه وأن يخاطبه بالألفاظ المشعرة بالإجلال ثم إنه أعاد السؤال بعين اللفظ الذي ذكره الملك ونعم ما فعل فإن تعبير الرؤيا قد يختلف بسبب اختلاف اللفظ كما هو مذكور في ذلك العلم

أما قوله تعالى لَّعَلّى أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ فالمراد لعلي أرجع إلى الناس بفتواك لعلهم يعلمون فضلك وعلمك وإنما قال لعلي أرجع إلى الناس بفتواك لأنه رأى عجز سائر المعبرين عن جواب هذه المسألة فخاف أن يعجز هو أيضاً عنها فلهذا السبب قال لَّعَلّى أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ
قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِى سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ ثُمَّ يَأْتِى مِن بَعْدِ ذالِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ ثُمَّ يَأْتِى مِن بَعْدِ ذالِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ
اعلم أنه عليه السلام ذكر تعبير تلك الرؤيا فقال تَزْرَعُونَ وهو خبر بمعنى الأمر كقوله وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ ( البقرة 228 ) وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ ( البقرة 233 ) وإنما يخرج الخبر بمعنى الأمر ويخرج الأمر في صورة الخير للمبالغة في الإيجاب فيجعل كأنه وجد فهو يخبر عنه والدليل على كونه في معنى الأمر قوله فَذَرُوهُ فِى سُنبُلِهِ وقوله دَأَبًا قال أهل اللغة الدأب استمرار الشيء على حالة واحدة وهو دائب بفعل كذا إذا استمر في فعله وقد دأب يدأب دأباً ودأباً أي زراعة متوالية في هذه السنين قال أبو علي الفارسي الأكثرون في دأب الإسكان ولعل الفتحة لغة فيكون كشمع وشمع ونهر ونهر قال الزجاج وانتصب دأباً على معنى تدأبون دأباً وقيل إنه مصدر وضع في موضع الحال وتقديره تزرعون دائبين فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلاً مما تأكلون كل ما أردتم أكله فدوسوه ودعوا الباقي في سنبله حتى لا يفسد ولا يقع السوس فيه لأن إبقاء الحبة في سنبله يوجب بقاءها على الصلاح ثُمَّ يَأْتِى مِن بَعْدِ ذالِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ أي سبع سنين مجدبات والشداد الصعاب التي تشتد على الناس وقوله يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ هذا مجاز فإن السنة لا تأكل فيجعل أكل أهل تلك السنين مسنداً إلى السنين وقوله إِلاَّ قَلِيلاً مّمَّا تُحْصِنُونَ الإحصان الإحراز وهو إلقاء الشيء في الحصن يقال أحصنه إحصاناً إذا جعله في حرز والمراد إلا قليلاً مما تحرزون أي تدخرون وكلها ألفاظ ابن عباس رضي الله عنهما وقوله ثُمَّ يَأْتِى مِن بَعْدِ ذالِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ قال المفسرون السبعة المتقدمة سنو الخصب وكثرة النعم والسبعة الثانية سنو القحط والقلة وهي معلومة من الرؤيا وأما حال هذه السنة فما حصل في ذلك المنام شيء يدل عليه بل حصل ذلك من الوحي فكأنه عليه السلام ذكر أنه يحصل بعد السبعة المخصبة والسبعة المجدبة سنة مباركة كثيرة الخير والنعم وعن قتادة زاده الله علم سنة
فإن قيل لما كانت العجاف سبعاً دل ذلك على أن السنين المجدبة لا تزيد على هذا العدد ومن المعلوم أن الحاصل بعد انقضاء القحط هو الخصب وكان هذا أيضاً من مدلولات المنام فلم قلتم إنه حصل بالوحي والإلهام
قلنا هب أن تبدل القحط بالخصب معلوم من المنام أما تفصيل الحال فيه وهو قوله فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ

لا يعلم إلا بالوحي قال ابن السكيت يقال غاث الله البلاد يغيثها غيثاً إذا أنزل فيها الغيث وقد غيثت الأرض تغاث وقوله يُغَاثُ النَّاسُ معناه يمطرون ويجوز أن يكون من قولهم أغاثه الله إذا أنقذه من كرب أو غم ومعناه ينقذ الناس فيه من كرب الجدب وقوله وَفِيهِ يَعْصِرُونَ أي يعصرون السمسم دهناً والعنب خمراً والزيتون زيتاً وهذا يدل على ذهاب الجدب وحصول الخصب والخير وقيل يحلبون الضروع وقرىء يَعْصِرُونَ من عصره إذا نجاه وقيل معناه يمطرون من أعصرت السحابة إذا عصرت بالمطر ومنه قوله وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجاً ( النبأ 14 )
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِى بِهِ فَلَمَّا جَآءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَة ِ الَّاتِى قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّى بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُو ءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ اأنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ذالِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى كَيْدَ الْخَائِنِينَ
اعلم أنه لما رجع الشرابي إلى الملك وعرض عليه التعبير الذي ذكره يوسف عليه السلام استحسنه الملك فقال ائتوني به وهذا يدل على فضيلة العلم فإنه سبحانه جعل علمه سبباً لخلاصه من المحنة الدنيوية فكيف لا يكون العلم سبباً للخلاص من المحن الأخروية فعاد الشرابي إلى يوسف عليه السلام قال أجب الملك فأبى يوسف عليه السلام أن يخرج من السجن إلا بعد أن ينكشف أمره وتزول التهمة بالكلية عنه وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( عجبت من يوسف وكرمه وصبره والله يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان ولو كنت مكانه لما أخبرتهم حتى اشترطت أن يخرجوا لي ولقد عجبت منه حين أتاه الرسول فقال ارْجِعْ إِلَى رَبّكَ ولو كنت مكانه ولبثت في السجن ما لبثت لأسرعت الإجابة وبادرتهم إلى الباب ولما ابتغيت العذر أنه كان حليماً ذا أناة )
واعلم أن الذي فعله يوسف من الصبر والتوقف إلى أن تفحص الملك عن حاله هو اللائق بالحزم والعقل وبيانه من وجوه الأول أنه لو خرج في الحال فربما كان يبقى في قلب الملك من تلك التهمة أثرها فلما التمس من الملك أن يتفحص عن حال تلك الواقعة دل ذلك على براءته من تلك التهمة فبعد خروجه لا يقدر أحد أن يلطخه بتلك الرذيلة وأن يتوسل بها إلى الطعن فيه الثاني أن الإنسان الذي بقي في السجن اثنتي عشرة سنة إذا طلبه الملك وأمر بإخراجه الظاهر أنه يبادر بالخروج فحيث لم يخرج عرف منه كونه في نهاية العقل والصبر والثبات وذلك يصير سبباً لأن يعتقد فيه بالبراءة عن جميع أنواع التهم ولأن يحكم بأن كل ما قيل فيه كان كذباً وبهتاناً الثالث أن التماسه من الملك أن يتفحص عن حاله من تلك

النسوة يدل أيضاً على شدة طهارته إذ لو كان ملوثاً بوجه ما لكان خائفاً أن يذكر ما سبق الرابع أنه حين قال للشرابي اذْكُرْنِى عِندَ رَبّكَ فبقي بسبب هذه الكلمة في السجن بضع سنين وههنا طلبه الملك فلم يلتفت إليه ولم يقم لطلبه وزناً واشتغل بإظهار براءته عن التهمة ولعله كان غرضه عليه السلام من ذلك أن لا يبقى في قلبه التفات إلى رد الملك وقبوله وكان هذا العمل جارياً مجرى التلافي لما صدر من التوسل إليه في قوله اذْكُرْنِى عِندَ رَبّكَ ليظهر أيضاً هذا المعنى لذلك الشرابي فإنه هو الذي كان واسطة في الحالتين معاً
أما قوله وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِى بِهِ فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ ففيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ ابن كثير والكسائي فسله بغير همز والباقون رَبّكَ فَاسْأَلْهُ بالهمز وقرأ عاصم برواية أبي بكر عنه النّسْوَة ِ بضم النون والباقون بكسر النون وهما لغتان
المسألة الثانية اعلم أن هذه الآية فيها أنواع من اللطائف أولها أن معنى الآية فسل الملك يأن يسأل ما شأن تلك النسوة وما حالهن ليعلم براتي عن تلك التهمة إلا أنه اقتصر على أن يسأل الملك عن تلك الواقعة لئلا يشتمل اللفظ على ما يجري مجرى أمر الملك بعمل أو فعل وثانيها أنه لم يذكر سيدته مع أنها هي التي سعت في إلقائه في السجن الطويل بل اقتصر على ذكر سائر النسوة وثالثها أن الظاهر أن أولئك النسوة نسبنه إلى عمل قبيح وفعل شنيع عند الملك فاقتصر يوسف عليه السلام على مجرد قوله مَا بَالُ النّسْوَة ِ الَّاتِى قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وما شكا منهن على سبيل التعيين والتفصيل ثم قال يوسف بعد ذلك إِنَّ رَبّى بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ وفي المراد من قوله إِنَّ رَبّى وجهان الأول أنه هو الله تعالى لأنه تعالى هو العالم بخفيات الأمور والثاني أن المراد الملك وجعله رباً لنفسه لكونه مربياً وله وفيه إشارة إلى كون ذلك الملك عالماً بكيدهن ومكرهن
واعلم أن كيدهن في حقه يحتمل وجوهاً أحدها أن كل واحدة منهن ربما طمعت فيه فلما لم تجد المطلوب أخذت تطعن فيه وتنسبه إلى القبيح وثانيها لعل كل واحدة منهن بالغت في ترغيب يوسف في موافقة سيدته على مرادها ويوسف علم أن مثل هذه الخيانة في حق السيد المنعم لا تجوز فأشار بقوله إِنَّ رَبّى بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ إلى مبالغتهن في الترغيب في تلك الخيانة وثالثها أنه استخرج منهن وجوهاً من المكر والحيل في تقبيح صورة يوسف عليه السلام عند الملك فكان المراد من هذا اللفظ ذاك ثم إنه تعالى حكى عن يوسف عليه السلام أنه لما التمس ذلك أمر الملك بإحضارهن وقال لهن مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ وفيه وجهان الأول أن قوله إِذْ رَاوَدتُنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ وإن كانت صيغة الجمع فالمراد منها الواحدة كقوله تعالى الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ ( آل عمران 173 ) والثاني أن المراد منه خطاب الجماعة ثم ههنا وجهان الأول أن كل واحدة منهن راودت يوسف عن نفسها والثاني أن كل واحدة منهن راودت يوسف لأجل امرأة العزيز فاللفظ محتمل لكل هذه الوجوه وعند هذا السؤال قُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوء وهذا كالتأكيد لما ذكرن في أول الأمر في حقه وهو قولهن مَا هَاذَا بَشَرًا إِنْ هَاذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ
واعلم أن امرأة العزيز كانت حاضرة وكانت تعلم أن هذه المناظرات والتفحصات إنما وقعت بسببها ولأجلها فكشفت عن الغطاء وصرحت بالقول الحق وقالت الآن حصص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين

وفيه مسائل
المسألة الأولى هذه شهادة جازمة من تلك المرأة بأن بوسف صلوات الله عليه كان مبرأ عن كل الذنوب مطهراً عن جميع العيوب وههنا دقيقة وهي أن يوسف عليه السلام راعى جانب امرأة العزيز حيث قال مَا بَالُ النّسْوَة ِ الَّاتِى قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ فذكرهن ولم يذكر تلك المرأة ألبتة فعرفت المرأة أنه إنما ترك ذكرها رعاية لحقها وتعظيماً لجانبها وإخفاء للأمر عليها فأرادت أن تكافئه على هذا الفعل الحسن فلا جرم أزالت الغطاء والوطاء واعترفت بأن الذنب كله كان من جانبها وأن يوسف عليه السلام كان مبرأ عن الكل ورأيت في بعض الكتب أن امرأة جاءت بزوجها إلى القاضي وادعت عليه المهر فأمر القاضي بأن يكشف عن وجهها حتى تتمكن الشهود من إقامة الشهادة فقال الزوج لا حاجة إلى ذلك فإني مقر بصدقها في دعواها فقالت المرأة لما أكرمتني إلى هذا الحد فاشهدوا أني أبرأت ذمتك من كل حق لي عليك
المسألة الثانية قال أهل اللغة حَصْحَصَ الْحَقُّ معناه وضح وانكشف وتمكن في القلوب والنفوس من قولهم حصحص البعير في بروكه إذا تمكن واستقر في الأرض قال الزجاج اشتقاقه في اللغة من الحصة أي بانت حصة الحق من حصة الباطل
المسألة الثالثة اختلفوا في أن قوله ذالِكَ لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ كلام من وفيه أقوال
القول الأول وهو قول الأكثرين أنه قول يوسف عليه السلام قال الفراء ولا يبعد وصل كلام إنسان بكلام إنسان آخر إذا دلت القرينة عليه ومثاله قوله تعالى إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَة ً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُواْ أَعِزَّة َ أَهْلِهَا أَذِلَّة ً ( النمل 34 ) وهذا كلام بلقيس ثم إنه تعالى قال وَكَذالِكَ يَفْعَلُونَ وأيضاً قوله تعالى رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ ( آل عمران 9 ) كلام الداعي
ثم قال إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ بقي على هذا القول سؤالات
السؤال الأول قوله ذالِكَ إشارة إلى الغائب والمراد ههنا الإشارة إلى تلك الحادثة الحاضرة
والجواب أجبنا عنه في قوله ذالِكَ الْكِتَابُ ( البقرة 2 ) وقيل ذلك إشارة إلى ما فعله من رد الرسول كأنه يقول ذلك الذي فعلت من ردي الرسول إنما كان ليعلم الملك أني لم أخنه بالغيب
السؤال الثاني متى قال يوسف عليه السلام هذا القول
الجواب روى عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن يوسف عليه السلام لما دخل على الملك قال ذلك ليعلم وإنما ذكره على لفظ الغيبة تعظيماً للملك عن الخطاب والأولى أنه عليه السلام إنما قال ذلك عند عود الرسول إليه لأن ذكر هذا الكلام في حضرة الملك سوء أدب
السؤال الثالث هذه الخيانة وقعت في حق العزيز فكيف يقول ذالِكَ لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ
والجواب قيل المراد ليعلم الملك أني لم أخن العزيز بالغيبة وقيل إنه إذا خان وزيره فقد خانه من بعض الوجوه وقيل إن الشرابي لما رجع إلى يوسف عليه السلام وهو في السجن قال ذلك ليعلم العزيز أني لم أخنه بالغيب ثم ختم الكلام بقوله وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى يُحِبُّ الخَائِنِينَ ولعل المراد منه أني لو كنت خائناً لما خلصني الله تعالى من هذه الورطة وحيث خلصني منها ظهر أني كنت مبرأ عما نسبوني إليه
والقول الثاني أن قوله ذالِكَ لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ كلام امرأة العزيز والمعنى أني وإن أحلت الذنب عليه عند حضوره لكني ما أحلت الذنب عليه عند غيبته أي لم أقل فيه وهو في السجن خلاف

الحق ثم إنها بالغت في تأكيد الحق بهذا القول وقالت وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى كَيْدَ الْخَائِنِينَ يعني أني لما أقدمت على الكيد والمكر لا جرم افتضحت وأنه لما كان بريئاً عن الذنب لا جرم طهره الله تعالى عنه قال صاحب هذا القول والذي يدل على صحته أن يوسف عليه السلام ما كان حاضراً في ذلك المجلس حتى يقال لما ذكرت المرأة قولها قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ ففي تلك الحالة يقول يوسف ذالِكَ لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ بل يحتاج فيه إلى أن يرجع الرسول من ذلك المجلس إلى السجن ويذكر له تلك الحكاية ثم إن يوسف يقول ابتداء ذالِكَ لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ومثل هذا الوصل بين الكلامين الأجنبيين ما جاء ألبتة في نثر ولا نظم فعلمنا أن هذا من تمام كلام المرأة
المسألة الرابعة هذه الآية دالة على طهارة يوسف عليه السلام من الذنب من وجوه كثيرة الأول أن الملك لما أرسل إلى يوسف عليه السلام وطلبه فلو كان يوسف متهماً بفعل قبيح وقد كان صدر منه ذنب وفحش لاستحال بحسب العرف والعادة أن يطلب من الملك أن يتفحص عن تلك الواقعة لأنه لو كان قد أقدم على الذنب ثم إنه يطلبه من الملك أن يتفحص عن تلك الواقعة كان ذلك سعياً منه في فضيحة نفسه وفي تجديد العيوب التي صارت مندرسة مخفية والعاقل لا يفعل ذلك وهب أنه وقع الشك لبعضهم في عصمته أو في نبوته إلا أنه لا شك أنه كان عاقلاً والعاقل يمتنع أن يسعى في فضيحة نفسه وفي حمل الأعداء على أن يبالغوا في إظهار عيوبه والثاني أن النسوة شهدن في المرة الأولى بطهارته ونزاهته حيث قلن حَاشَ للَّهِ مَا هَاذَا بَشَرًا إِنْ هَاذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ ( يوسف 31 ) وفي المرة الثانية حيث قلن حَاشَ للَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوء والثالث أن امرأة العزيز أقرت في المرة الأولى بطهارته حيث قالت وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ ( يوسف 32 ) وفي المرة الثانية في هذه الآية
واعلم أن هذه الآية دالة على طهارته من وجوه أولها قول المرأة أَنَاْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ وثانيها قولها وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وهو إشارة إلى أنه صادق في قوله هِى َ رَاوَدَتْنِى عَن نَّفْسِى ( يوسف 26 ) وثالثها قول يوسف عليه السلام ذالِكَ لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ والحشوية يذكرون أنه لما قال يوسف هذا الكلام قال جبريل عليه السلام ولا حين هممت وهذا من رواياتهم الخبيثة وما صحت هذه الرواية في كتاب معتمد بل هم يلحقونها بهذا الموضع سعياً منهم في تحريف ظاهر القرآن ورابعها قوله وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى كَيْدَ الْخَائِنِينَ يعني أن صاحب الخيانة لا بد وأن يفتضح فلو كنت خائناً لوجب أن افتضح وحيث لم افتضح وخلصني الله تعالى من هذه الورطة فكل ذلك يدل على أني ما كنت من الخائنين وههنا وجه آخر وهو أقوى من الكل وهو أن في هذا الوقت تلك الواقعة صارت مندرسة وتلك المحنة صارت منتهية فإقدامه على قوله ذالِكَ لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ مع أنه خانه بأعظم وجوه الخيانة إقدام على وقاحة عظيمة وعلى كذب عظيم من غير أن يتعلق به مصلحة بوجه ما والإقدام على مثل هذه الوقاحة من غير فائدة أصلاً لا يليق بأحد من العقلاء فكيف يليق إسناده إلى سيد العقلاء وقدوة الأصفياء فثبت أن هذه الآية تدل دلالة قاطعة على براءته مما يقوله الجهال والحشوية
وَمَآ أُبَرِّى ءُ نَفْسِى إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَة ٌ بِالسُّو ءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّى إِنَّ رَبِّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ

وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن تفسير هذه الآية يختلف بحسب اختلاف ما قبلها لأنا إن قلنا إن قوله ذالِكَ لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ( يوسف 52 ) كلام يوسف كان هذا أيضاً من كلام يوسف وإن قلنا إن ذلك من تمام كلام المرأة كان هذا أيضاً كذلك ونحن نفسر هذه الآية على كلا التقديرين أما إذا قلنا إن هذا كلام يوسف عليه السلام فالحشوية تمسكوا به وقالوا إنه عليه السلام لما قال ذالِكَ لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ قال جبريل عليه السلام ولا حين هممت بفك سراويلك فعند ذلك قال يوسف وَمَا أُبَرّىء نَفْسِى إِنَّ النَّفْسَ لامَّارَة ٌ بِالسُّوء أي بالزنا إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى أي عصم ربي إِنَّ رَبّى غَفُورٌ للهم الذي هممت به رَّحِيمٌ أي لو فعلته لتاب علي
واعلم أن هذا الكلام ضعيف فإنا بينا أن الآية المتقدمة برهان قاطع على براءته عن الذنب بقي أن يقال فما جوابكم عن هذه الآية فنقول فيه وجهان
الوجه الأول أنه عليه السلام لما قال ذالِكَ لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ كان ذلك جارياً مجرى مدح النفس وتزكيتها وقال تعالى فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ ( النجم 32 ) فاستدرك ذلك على نفسه بقوله وَمَا أُبَرّىء نَفْسِى والمعنى وما أزكي نفسي إن النفس لأمارة بالسوء ميالة إلى القبائح راغبة في المعصية
والوجه الثاني في الجواب أن الآية لا تدل ألبتة على شيء مما ذكروه وذلك لأن يوسف عليه السلام لما قال أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ بين أن ترك الخيانة ما كان لعدم الرغبة ولعدم ميل النفس والطبيعة لأن النفس أمارة بالسوء والطبيعة تواقة إلى الذات فبين بهذا الكلام أن الترك ما كان لعدم الرغبة بل لقيام الخوف من الله تعالى أما إذا قلنا إن هذا الكلام من بقية كلام المرأة ففيه وجهان الأول وما أبرىء نفسي عن مراودته ومقصودها تصديق يوسف عليه السلام في قوله هِى َ رَاوَدَتْنِى عَن نَّفْسِى الثاني أنها لما قالت ذالِكَ لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ( يوسف 52 ) قالت وما أبرىء نفسي عن الخيانة مطلقاً فإني قد خنته حين قد أحلت الذنب عليه وقلت مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءا إِلا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( يوسف 25 ) وأودعته السجن كأنها أرادت الاعتذار مما كان
فإن قيل جعل هذا الكلام كلاماً ليوسف أولى أم جعله كلاماً للمرأة
قلنا جعله كلاماً ليوسف مشكل لأن قوله قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الئَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ ( يوسف 51 ) كلام موصول بعضه ببعض إلى آخره فالقول بأن بعضه كلام المرأة والبعض كلام يوسف مع تخلل الفواصل الكثيرة بين القولين وبين المجلسين بعيد وأيضاً جعله كلاماً للمرأة مشكل أيضاً لأن قوله وَمَا أُبَرّىء نَفْسِى إِنَّ النَّفْسَ لامَّارَة ٌ بِالسُّوء إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى كلام لا يحسن صدوره إلا ممن احترز عن المعاصي ثم يذكر هذا الكلام على سبيل كسر النفس وذلك لا يليق بالمرأة التي استفرغت جهدها في المعصية
المسألة الثانية قالوا مَا في قوله إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى بمعنى ( من ) والتقدير إلا من رحم ربي وما ومن كل واحد منهما يقوم مقام الآخر كقوله تعالى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَاء ( النساء 3 ) وقال

وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِى عَلَى أَرْبَعٍ ( النور 45 ) وقوله إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى استثناء متصل أو منقطع فيه وجهان الأول أنه متصل وفي تقريره وجهان الأول أن يكون قوله إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى أي إلا البعض الذي رحمه ربي بالعصمة كالملائكة الثاني إلا ما رحم ربي أي إلا وقت رحمة ربي يعني أنها أمارة بالسوء في كل وقت إلا في وقت العصمة
والقول الثاني أنه استثناء منقطع أي ولكن رحمة ربي هي التي تصرف الإساءة كقوله وَلَّاهُمْ يُنصَرُونَ ( البقرة 48 ) إِلاَّ رَحْمَة ً مّنَّا ( يس 44 )
المسألة الثالثة اختلف الحكماء في أن النفس الإمارة بالسوء ما هي والمحققون قالوا إن النفس الإنسانية شيء واحد ولها صفات كثيرة فإذا مالت إلى العالم الإلهي كانت نفساً مطمئنة وإذا مالت إلى الشهوة والغضب كانت أمارة بالسوء وكونها أمارة بالسوء يفيد المبالغة والسبب فيه أن النفس من أول حدوثها قد ألفت المحسوسات والتذت بها وعشقتها فأما شعورها بعالم المجردات وميلها إليه فذلك لا يحصل إلا نادراً في حق الواحد فالواحد وذلك الواحد فإنما يحصل له ذلك التجرد والانكشاف طول عمره في الأوقات النادرة فلما كان الغالب هو انجذابها إلى العالم الجسداني وكان ميلها إلى الصعود إلى العالم الأعلى نادراً لا جرم حكم عليها بكونها أمارة بالسوء ومن الناس من زعم أن النفس المطمئنة هي النفس العقلية النطقية وأما النفس الشهوانية والغضبية فهما مغايرتان للنفس العقلية والكلام في تحقيق الحق في هذا الباب مذكور في المعقولات
المسألة الرابعة تمسك أصحابنا في أن الطاعة والإيمان لا يحصلان إلا من الله بقوله إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى قالوا دلت الآية على أن انصراف النفس من الشر لا يكون إلا برحمته ولفظ الآية مشعر بأنه متى حصلت تلك الرحمة حصل ذلك الانصراف فنقول لا يمكن تفسير هذه الرحمة بإعطاء العقل والقدرة والألطاف كما قاله القاضي لأن كل ذلك مشترك بين الكافر والمؤمن فوجب تفسيرها بشيء آخر وهو ترجيح داعية الطاعة على داعية المعصية وقد أثبتنا ذلك أيضاً بالبرهان القاطع وحينئذ يحصل منه المطلوب
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِى بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِى فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ قَالَ اجْعَلْنِى عَلَى خَزَآئِنِ الأرض إِنِّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في هذا الملك فمنهم من قال هو العزيز ومنهم من قال بل هو الريان الذي هو الملك الأكبر وهذا هو الأظهر لوجهين الأول أن قول يوسف اجْعَلْنِى عَلَى خَزَائِنِ الاْرْضِ يدل عليه الثاني أن قوله أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِى يدل على أنه قبل ذلك ما كان خالصاً له وقد كان يوسف عليه السلام قبل ذلك خالصاً للعزيز فدل هذا على أن هذا الملك هو الملك الأكبر

المسألة الثانية ذكروا أن جبريل عليه السلام دخل على يوسف عليه السلام وهو في الحبس وقال ( قل اللهم اجعل لي من عندك فرجاً ومخرجاً وارزقني من حيث لا أحتسب ) فقبل الله دعاءه وأظهر هذا السبب في تخليصه من السجن وتقرير الكلام أن الملك عظم اعتقاده في يوسف لوجوه أحدها أنه عظم اعتقاده في علمه وذلك لأنه لما عجز القوم عن الجواب وقدر هو على الجواب الموافق الذي يشهد العقل بصحته مال الطبع إليه وثانيها أنه عظم اعتقاده في صبره وثباته وذلك لأنه بعد أن بقي في السجن بضع سنين لما أذن له في الخروج ما أسرع إلى الخروج بل صبر وتوقف وطلب أولاً ما يدل على براءة حاله عن جميع لتهم وثالثها أنه عظم اعتقاده في حسن أدبه وذلك لأنه اقتصر على قوله مَا بَالُ النّسْوَة ِ الَّاتِى قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ( يوسف 50 ) وإن كان غرضه ذكر امرأة العزيز فستر ذكرها وتعرض لأمر سائر النسوة مع أنه وصل إليه من جهتها أنواع عظيمة من البلاء وهذا من الأدب العجيب ورابعها براءة حاله عن جميع أنواع التهم فإن الخصم أقر له بالطهارة والنزاهة والبراءة عن الجرم وخامسها أن الشرابي وصف له جده في الطاعات واجتهاده في الإحسان إلى الذين كانوافي السجن وسادسها أنه بقي في السجن بضع سنين وهذه الأمور كل واحد منها يوجب حسن الاعتقاد في الإنسان فكيف مجموعها فلهذا السبب حسن اعتقاد الملك فيه وإذا أراد الله شيئاً جمع أسبابه وقواها
إذا عرفت هذا فنقول لما ظهر للملك هذه الأحوال من يوسف عليه السلام رغب أن يتخذه لنفسه فقال ائْتُونِى بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِى روي أن الرسول قال ليوسف عليه السلام ثم إلى الملك متنظفاً من درن السجن بالثياب النظيفة والهيئة الحسنة فكتب على باب السجن هذه منازل البلوى وقبور الأحياء وشماتة الأعداء وتجربة الأصدقاء ولما دخل عليه قال اللهم إني أسألك بخيرك من خيره وأعوذ بعزتك وقدرتك من شره ثم دخل عليه وسلم ودعا له بالعبرانية والاستخلاص طلب خلوص الشيء من شوائب الاشتراك وهذا الملك طلب أن يكون يوسف له وحده وأنه لا يشاركه فيه غيره لأن عادة الملوك أن ينفردوا بالأشياء النفيسة الرفيعة فلما علم الملك أنه وحيد زمانه وفريد أقرانه أراد أن ينفرد به
روي أن الملك قال ليوسف عليه السلام ما من شيء إلا وأحب أن تشركني فيه إلا في أهلي وفي أن لا تأكل معي فقال يوسف عليه السلام أما ترى أن آكل معك وأنا يوسف بن يعقوب بن إسحق الذبيح بن إبراهيم الخليل عليه السلام ثم قال فَلَمَّا كَلَّمَهُ وفيه قولان أحدهما أن المراد فلما كلم الملك يوسف عليه السلام قالوا لأن في مجالس الملوك لا يحسن لأحد أن يبتدىء بالكلام وإنما الذي يبتدىء به هو الملك والثاني أن المراد فلما كلم يوسف الملك قيل لما صار يوسف إلى الملك وكان ذلك الوقت ابن ثلاثين سنة فلما رآه الملك حدثاً شاباً قال للشرابي هذا هو الذي علم تأويل رؤياي مع أن السحرة والكهنة ماعلموها قال نعم فأقبل على يوسف وقال إني أحب أن أسمع تأويل الرؤيا منك شفاهاً فأجاب بذلك الجواب شفاهاً وشهد قلبه بصحته فعند ذلك قال له إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ يقال فلان مكين عند فلان بين المكانة أي المنزلة وهي حالة يتمكن بها صاحبها مما يريد وقوله أَمِينٌ أي قد عرفنا أمانتك وبراءتك مما نسبت إليه
واعلم أن قوله مِكِينٌ أَمِينٌ كلمة جامعة لكل ما يحتاج إليه من الفضائل والمناقب وذلك لأنه لا بد

في كونه مكيناً من القدرة والعلم أما القدرة فلأن بها يحصل المكنة وأما العلم فلأن كونه متمكناً من أفعال الخير لا يحصل إلا به إذ لو لم يكن عالماً بما ينبغي وبما لا ينبغي لا يمكنه تخصيص ما ينبغي بالفعل وتخصيص ما لا ينبغي بالترك فثبت أن كونه مكيناً لا يحصل إلا بالقدرة والعلم أما كونه أميناً فهو عبارة عن كونه حكيماً لا يفعل الفعل لداعي الشهوة بل إنما يفعله لداعي الحكمة فثبت أن كونه مكيناً أميناً يدل على كونه قادراً وعلى كونه عالماً بمواقع الخير والشر والصلاح والفساد وعلى كونه بحيث يفعل لداعي الحكمة لا لداعية الشهوة وكل من كان كذلك فإنه لا يصدر عنه فعل الشر والسفه فلهذا المعنى لما حاولت المعتزلة إثبات أنه تعالى لا يفعل القبيح قالوا إنه تعالى لا يفعل القبيح لأنه تعالى عالم بقبح القبيح عالم بكونه غنياً عنه وكل من كان كذلك لم يفعل القبيح قالوا وإنما يكون غنياً عن القبيح إذا كان قادراً وإذا كان منزهاً عن داعية السفه فثبت أن وصفه بكونه مكيناً أميناً نهاية ما يمكن ذكره في هذا الباب ثم حكى تعالى أن يوسف عليه السلام قال في هذا المقام اجْعَلْنِى عَلَى خَزَائِنِ الاْرْضِ إِنّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال المفسرون لما عبر يوسف عليه السلام رؤيا الملك بين يديه قال له الملك فما ترى أيها الصديق قال أرى أن تزرع في هذه السنين المخصبة زرعاً كثيراً وتبني الخزائن وتجمع فيها الطعام فإذا جاءت السنون المجدبة بعنا الغلات فيحصل بهذا الطريق مال عظيم فقال الملك ومن لي بهذا الشغل فقال يوسف اجْعَلْنِى عَلَى خَزَائِنِ الاْرْضِ أي على خزائن أرض مصر وأدخل الألف واللام على الأرض والمراد منه المعهود السابق روى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في هذه الآية أنه قال ( رحم الله أخي يوسف لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لأستعمله من ساعته لكنه لما قال ذلك أخره عنه سنة ) وأقول هذا من العجائب لأنه لما تأبى عن الخروج من السجن سهل الله عليه ذلك على أحسن الوجوه ولما تسارع في ذكر الالتماس أخر الله تعالى ذلك المطلوب عنه وهذا يدل على أن ترك التصرف والتفويض بالكلية إلى الله تعالى أولى
المسألة الثانية لقائل أن يقول لم طلب يوسف الإمارة والنبي عليه الصلاة والسلام قال لعبد الرحمن بن سمرة ( لا تسأل الإمارة ) وأيضاً فكيف طلب الإمارة من سلطان كافر وأيضاً لم لم يصبر مدة ولم أظهر الرغبة في طلب الأمارة في الحالة وأيضاً لم طلب أمر الخزائن في أول الأمر مع أن هذا يورث نوع تهمة وأيضاً كيف جوز من نفسه مدح نفسه بقوله إِنّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ مع أنه تعالى يقول فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ ( النجم 32 ) وأيضاً فما الفائدة في قوله إِنّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ وأيضاً لم ترك الاستثناء في هذا فإن الأحسن أن يقول إني حفيظ عليم إن شاء الله بدليل قوله تعالى وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَى ْء إِنّى فَاعِلٌ ذالِكَ غَداً إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ ( الكهف 23 24 ) فهذه أسئلة سبعة لا بد من جوابها فنقول الأصل في جواب هذه المسائل أن التصرف في أمور الخلق كان واجباً عليه فجاز له أن يتوصل إليه بأي طريق كان إنما قلنا إن ذلك التصرف كان واجباً عليه لوجوه الأول أنه كان رسولاً حقاً من الله تعالى إلى الخلق والرسول يجب عليه رعاية مصالح الأمة بقدر الإمكان والثاني وهو أنه عليه السلام علم بالوحي أنه سيحصل القحط والضيق الشديد الذي ربما أفضى إلى هلاك الخلق العظيم فلعله تعالى أمره بأن يدبر في ذلك ويأتي بطريق لأجله يقل ضرر ذلك القحط في حق الخلق والثالث أن السعي في إيصال النفع إلى المستحقين ودفع الضرر عنهم أمر مستحسن في العقول

وإذا ثبت هذا فنقول إنه عليه السلام كان مكلفاً برعاية مصالح الخلق من هذه الوجوه وما كان يمكنه رعايتها إلا بهذا الطريق وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب فكان هذا الطريق واجباً عليه ولما كان واجباً سقطت الأسئلة بالكلية وأما ترك الاستثناء فقال الواحدي كان ذلك من خطيئة أوجبت عقوبة وهي أنه تعالى أخر عنه حصول ذلك المقصود سنة وأقول لعل السبب فيه أنه لو ذكر هذا الاستثناء لاعتقد فيه الملك أنه إنما ذكره لعلمه بأنه لا قدرة له على ضبط هذه المصلحة كما ينبغي فلأجل هذا المعنى ترك الاستثناء وأما قوله لم مدح نفسه فجوابه من وجوه الأول لا نسلم أنه مدح نفسه لكنه بين كونه موصوفاً بهاتين الصفتين النافعتين في حصول هذا المطلوب وبين البابين فرق وكأنه قد غلب على ظنه أنه يحتاج إلى ذكر هذا الوصف لأن الملك وإن علم كماله في علوم الدين لكنه ما كان عالماً بأنه يفي بهذا الأمر ثم نقول هب أنه مدح نفسه إلا أن مدح النفس إنما يكون مذموماً إذا قصد الرجل به التطاول والتفاخر والتوصل إلى غير ما يحل فأما على غير هذا الوجه فلا نسلم أنه محرم فقوله تعالى فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ ( النجم 32 ) المراد منه تزكية النفس حال مايعلم كونها غير متزكية والدليل عليه قوله تعالى بعد هذه الآية هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى أما إذا كان الإنسان عالماً بأنه صدق وحق فهذا غير ممنوع منه والله أعلم
قوله ما الفائدة في وصفه نفسه بأنه حفيظ عليم
قلنا إنه جار مجرى أن يقول حفيظ بجميع الوجوه التي منها يمكن تحصيل الدخل والمال عليم بالجهات التي تصلح لأن يصرف المال إليها ويقال حفيظ بجميع مصالح الناس عليم بجهات حاجاتهم أو يقال حفيظ لوجوه أياديك وكرمك عليم بوجوب مقابلتها بالطاعة والخضوع وهذا باب واسع يمكن تكثيره لمن أراده
وَكَذالِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الأرض يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَآءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلاّجْرُ الاٌّ خِرَة ِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ
فيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن يوسف عليه السلام لما التمس من الملك أن يجعله على خزائن الأرض لم يحك الله عن الملك أنه قال قد فعلت بل الله سبحانه قال وَكَذالِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الاْرْضِ فههنا المفسرون قالوا في الكلام محذوف وتقديره قال الملك قد فعلت إلا أن تمكين الله له في الأرض يدل على أن الملك الملك قد أجابه إلى ما سأل وأقول ما قالوه حسن إلا أن ههنا ما هو أحسن منه وهو أن إجابة الملك له سبب في عالم الظاهر وأما المؤثر الحقيقي فليس إلا أنه تعالى مكنه في الأرض وذلك لأن ذلك الملك كان متمكناً من القبول ومن الرد فنسبة قدرته إلى القبول وإلى الرد على التساوي وما دام يبقى هذ التساوي امتنع حصول القبول فلا بد وأن يترجح القبول على الرد في خاطر ذلك الملك وذلك الترجح لا يكون إلا

بمرجح يخلقه الله تعالى إذا خلق الله تعالى ذلك المرجح حصل القبول لا محالة فالتمكن ليوسف في الأرض ليس إلا من خلق الله تعالى في قلب ذلك الملك بمجموع القدرة والداعية الجازمة اللتين عند حصولهما يجب الأثر فلهذا السبب ترك الله تعالى ذكر إجابة الملك واقتصر على ذكر التمكين الإلهي لأن المؤثر الحقيقي ليس إلا هو
المسألة الثانية روي أن الملك توجه وأخرج خاتم الملك وجعله في أصبعه وقلد بسيفه ووضع له سريراً من ذهب مكللاً بالدر والياقوت فقال يوسف عليه السلام أما السرير فأشد به ملكك وأما الخاتم فأدبر به أمرك وأما التاج فليس من لباسي ولا لباس آبائي وجلس على السرير ودانت له القوم وعزل الملك قطفير زوج المرأة المعلومة ومات بعد ذلك وزوجه الملك امرأته فلما دخل عليها قال أليس هذا خيراً مما طلبت فوجدها عذراء فولدت له ولدين أفرايم وميشا وأقام العدل بمصر وأحبته الرجال والنساء وأسلم على يده الملك وكثير من الناس وباع من أهل مصر في سني القحط الطعام بالدراهم والدنانير في السنة الأولى ثم بالحلي والجواهر في السنة الثانية ثم بالدواب ثم بالضياع والعقار ثم برقابهم حتى استرقهم سنين فقالوا والله ما رأينا ملكاً أعظم شأناً من هذا الملك حتى صار كل الخلق عبيداً له فلما سمع ذلك قال إني أشهد الله أني أعتقت أهل مصر عن آخرهم ورددت عليهم أملاكهم وكان لا يبيع لأحد ممن يطلب الطعام أكثر من حمل البعير لئلا يضيق الطعام على الباقين هكذا رواه صاحب ( الكشاف ) والله أعلم
المسألة الثالثة قوله وَكَذالِكَ الكاف منصوبة بالتمكين وذلك إشارة إلى ما تقدم يعني به ومثل ذلك الإنعام الذي أنعمنا عليه في تقريبنا إياه من قلب الملك وإنجائنا إياه من غم الحبس وقوله مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الاْرْضِ أي أقدرناه على ما يريد برفع الموانع وقوله يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء يتبوأ في موضع نصب على الحال تقديره مكناه متبوأ وقرأ ابن كثير نَشَاء بالنون مضافاً إلى الله تعالى والباقون بالياء مضافاً إلى يوسف
واعلم أن قوله يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء يدل على أنه صار في الملك بحيث لا يدافعه أحد ولا ينازعه منازع بل صار مستقلاً بكل ما شاء وأراد ثم بين تعالى ما يؤكد أن ذلك من قبله فقال نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء
واعلم أنه تعالى ذكر أولاً أن ذلك التمكين كان من الله لا من أحد سواه وهو قوله كَذالِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الاْرْضِ ثم أكد ذلك ثانياً بقوله نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وفيه فائدتان
الفائدة الأولى أن هذا يدل على أن الكل من الله تعالى قال القاضي تلك المملكة لما لم تتم إلا بالأمور فعلها الله تعالى صارت كأنها حصلت من قبله تعالى
وجوابه أنا ندعي أن نفس تلك المملكة إنما حصلت من قبل الله تعالى لأن لفظ القرآن يدل على قولنا والبرهان القاطع الذي ذكرناه يقوي قولنا فصرف هذا اللفظ إلى المجاز لا سبيل إليه
الفائدة الثانية أنه أتاه ذلك بمحض المشيئة الإلهية والقدرة النافذة قال القاضي هذه الآية تدل على أنه تعالى يجري أمر نعمه على ما يقتضيه الصلاح

قلنا الآية تدل على أن الأمور معلقة بالمشيئة الإلهية والقدرة المحضة فأمارعاية قيد الصلاح فأمر اعتبرته أنت من نفسك مع أن اللفظ لا يدل عليه
ثم قال تعالى وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وذلك لأن إضاعة الأجر إما أن يكون للعجز أو للجهل أو للبخل والكل ممتنع في حق الله تعالى فكانت الإضاعة ممتنعة
واعلم أن هذا شهادة من الله تعالى على أن يوسف عليه السلام كان من المحسنين ولو صدق القول بأنه جلس بين شعبها الأربع لامتنع أن يقال إنه كان من المحسنين فههنا لزم إما تكذيب الله في حكمه على يوسف بأنه كان من المحسنين وهو عين الكفر أو لزم تكذيب الحشوي فيما رواه وهو عين الإيمان والحق
ثم قال تعالى وَلاَجْرُ الاْخِرَة ِ خَيْرٌ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ وفيه مسائل
المسألة الأول في تفسير هذه الآية قولان
القول الأول المراد منه أن يوسف عليه السلام وإن كان قد وصل إلى المنازل العالية والدرجات الرفيعة في الدنيا إلا أن الثواب الذي أعده الله له في الآخرة خير وأفضل وأكمل وجهات الترجيح قد ذكرناها في هذا الكتاب مراراً وأطواراً وحاصل تلك الوجوه أن الخير المطلق هو الذي يكون نفعاً خالصاً دائماً مقروناً بالتعظيم وكل هذه القيود الأربعة حاصلة في خيرات الآخرة ومفقودة في خيرات الدنيا
القول الثاني أن لفظ الخير قد يستعمل لكون أحد الخيرين أفضل من الآخر كما يقال الجلاب خير من الماء وقد يستعمل لبيان كونه في نفسه خيراً من غير أن يكون المراد منه بيان التفضيل كما يقال الثريد خير من الله يعني الثريد خير من الخيرات حصل بإحسان من الله
إذا ثبت هذا فقوله وَلاَجْرُ الاْخِرَة ِ خَيْرٌ إن حملناه على الوجه الأول لزم أن تكون ملاذ الدنيا موصوفة بالخيرية أيضاً وأما إن حملناه على الوجه الثاني لزم أن لا يقال إن منافع الدنيا أيضاً خيرات بل لعله يفيد أن خير الآخرة هو الخير وأما ما سواه فعبث
المسألة الثانية لا شك أن المراد من قوله وَلاَجْرُ الاْخِرَة ِ خَيْرٌ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ شرح حال يوسف عليه السلام فوجب أن يصدق في حقه أنه من الذين آمنوا وكانوا يتقون وهذا تنصيص من الله عز وجل على أنه كان في الزمان السابق من المتقين وليس ههنا زمان سابق ليوسف عليه السلام يحتاج إلى بيان أنه كان فيه من المتقين إلا ذلك الوقت الذي قال الله فيه وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا ( يوسف 24 ) فكان هذا شهادة من الله تعالى على أنه عليه السلام كان في ذلك الوقت من المتقين وأيضاً قوله وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ شهادة من الله تعالى على أنه عليه السلام كان من المحسنين وقوله إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ شهادة من الله تعالى على أنه من المخلصين فثبت أن الله تعالى شهد بأن يوسف عليه السلام كان من المتقين ومن المحسنين ومن المخلصين والجاهل الحشوي يقول إنه كان من الأخسرين المذنبين ولا شك أن من لم يقل بقول الله سبحانه وتعالى مع هذه التأكيدات كان من الأخسرين
المسألة الثالثة قال القاضي قوله تعالى وَلاَجْرُ الاْخِرَة ِ خَيْرٌ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ يدل على بطلان قول المرجئة الذين يزعمون أن الثواب يحصل في الآخرة لمن لم يتق الكبائر

قلنا هذا ضعيف لأنا إن حملنا لفظ خير على أفعل التفضيل لزم أن يكون الثواب الحاصل للمتقين أفضل ولا يلزم أن لا يحصل لغيرهم أصلاً وإن حملناه على أصل معنى الخيرية فهذا يدل على حصول هذا الخير للمتقين ولا يدل على أن غيرهم لا يحصل لهم هذا الخير
وَجَآءَ إِخْوَة ُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِى بِأَخٍ لَّكُمْ مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّى أُوفِى الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ فَإِن لَّمْ تَأْتُونِى بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِى وَلاَ تَقْرَبُونِ قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ
اعلم أنه لما عم القحط في البلاد ووصل أيضاً إلى البلدة التي كان يسكنها يعقوب عليه السلام وصعب الزمان عليهم فقال لبنيه إن بمصر رجلاً صالحاً يمير الناس فاذهبوا إليه بدراهمكم وخذوا الطعام فخرجوا إليه وهم عشرة ودخلوا على يوسف عليه السلام وصارت هذه الواقعة كالسبب في اجتماع يوسف عليه السلام مع إخوته وظهور صدق ما أخبر الله تعالى عنه في قوله ليوسف عليه السلام حال ما ألقوه في الجب لَتُنَبّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَاذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ( يوسف 15 ) وأخبر تعالى أن يوسف عرفهم وهم ما عرفوه ألبتة أما أنه عرفهم فلأنه تعالى كان قد أخبره في قوله لَتُنَبّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ بأنهم يصلون إليه ويدخلون عليه وأيضاً الرؤيا التي رآها كانت دليلاً على أنهم يصلون إليه فلهذا السبب كان يوسف عليه السلام مترصداً لذلك الأمر وكان كل من وصل إلى بابه من البلاد البعيدة يتفحص عنهم ويتعرف أحوالهم ليعرف أن هؤلاء الواصلين هل هم إخوته أم لا فلما وصل إخوة يوسف إلى باب داره تفحص عن أحوالهم تفحصاً ظهر له أنهم إخوته وأما أنهم ما عرفوه فلوجوه الأول أنه عليه السلام أمر حجابه بأن يوقفوهم من البعد وما كان يتكلم معهم إلا بالواسطة ومتى كان الأمر كذلك لا جرم أنهم لم يعرفوه لا سيما مهابة الملك وشدة الحاجة يوجبان كثرة الخوف وكل ذلك مما يمنع من التأمل التام الذي عنده يحصل العرفان والثاني هو أنهم حين ألقوه في الجب كان صغيراً ثم إنهم رأوه بعد وفور اللحية وتغير الزي والهيئة فإنهم رأوه جالساً على سريره وعليه ثياب الحرير وفي عنقه طوق من ذهب وعلى رأسه تاج من ذهب والقوم أيضاً نسوا واقعة يوسف عليه السلام لطول المدة فيقال إن من وقت ما ألقوه في الجب إلى هذا الوقت كان قد مضى أربعون سنة وكل واحد من هذه الأسباب يمنع من حصول المعرفة لا سيما عند اجتماعها والثالث أن حصول العرفان والتذكير بخلق الله تعالى فلعله تعالى ما خلق ذلك العرفان والتذكير في قلوبهم تحقيقاً لما أخبره عنه بقوله لَتُنَبّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَاذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ وكان ذلك من معجزات يوسف عليه السلام
ثم قال تعالى وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قال الليث جهزت القوم تجهيزاً إذا تكلفت لهم جهازهم

للسفر وكذلك جهاز العروس والميت وهو ما يحتاج إليه في وجهه قال وسمعت أهل البصرة يقولون الجهاز بالكسر قال الأزهري القراء كلهم على فتح الجيم والكسر لغة ليست بجيدة قال المفسرون حمل لكل رجل منهم بعيراً وأكرمهم أيضاً بالنزول وأعطاهم ما احتاجوا إليه في السفر فذلك قوله جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ ثم بين تعالى أنه لما جهزهم بجهازهم قال ائْتُونِى بِأَخٍ لَّكُمْ مّنْ أَبِيكُمْ
واعلم أنه لا بد من كلام سابق حتى يصير ذلك الكلام سبباً لسؤال يوسف عن حال أخيهم وذكروا فيه وجوهاً
الوجه الأول وهو أحسنها إن عادة يوسف عليه السلام مع الكل أن يعطيه حمل بعير لا أزيد عليه ولا أنقص وإخوة يوسف الذين ذهبوا إليه كانوا عشرة فأعطاهم عشرة أحمال فقالوا إن لنا أباً شيخاً كبيراً وأخاً آخر بقي معه وذكروا أن أباهم لأجل سنه وشدة حزنه لم يحضر وأن أخاهم بقي في خدمة أبيه ولا بد لهما أيضاً من شيء من الطعام فجهز لهما أيضاً بعيرين آخرين من الطعام فلما ذكروا ذلك قال يوسف فهذا يدل على أن أحب أبيكم له أزيد من حبه لكم وهذا شيء عجيب لأنكم مع جمالكم وعقلكم وأدبكم إذا كانت محبة أبيكم لذلك الأخ أكثر من محبته لكم دل هذا على أن ذلك أعجوبة في العقل وفي الفضل والأدب فجيئوني به حتى أراه فهذا السبب محتمل مناسب
والوجه الثاني أنهم لما دخلوا عليه عليه السلام وأعطاهم الطعام قال لهم من أنتم قالوا نحن قوم رعاة من أهل الشام أصابنا الجهد فجئنا نمتار فقال لعلكم جئتم عيوناً فقالوا معاذ الله نحن إخوة بنو أب واحد شيخ صديق نبي اسمه يعقوب قال كم أنتم قالوا كنا اثني عشر فهلك منا واحد وبقي واحد مع الأب يتسلى به عن ذلك الذي هلك ونحن عشرة وقد جئناك قال فدعوا بعضكم عندي رهينة وائتوني بأخ لكم من أبيكم ليبلغ إلي رسالة أبيكم فعند هذا أقرعوا بينهم فأصابت القرعة شمعون وكان أحسنهم رأيا في يوسف فخلفوه عنده
والوجه الثالث لعلهم لما ذكروا أباهم قال يوسف فلم تركتموه وحيداً فريداً قالوا ما تركناه وحيداً بل بقي عنده واحد فقال لهم لم استخلصه لنفسه ولم خصه بهذا المعنى لأجل نقص في جسده فقالوا لا بل لأجل أنه يحبه أكثر من محبته لسائر الأولاد فعند هذا قال يوسف لما ذكرتم أن أباكم رجل عالم حكيم بعيد عن المجازفة ثم إنه خصه بمزيد المحبة وجب أن يكون زائداً عليكم في الفضل وصفات الكمال مع أني أراكم فضلاء علماء حكماء فاشتاقت نفسي إلى رؤية ذلك الأخ فائتوني به والسبب الثاني ذكره المفسرون والأول والثالث محتمل والله أعلم
ثم إنه تعالى حكى عنه أنه قال أَلاَ تَرَوْنَ أَنّى أُوفِى الْكَيْلَ أي أتمه ولا أبخسه وأزيدكم حمل بعير آخر لأجل أخيكم وأنا خير المنزلين أي خير المضيفين لأنه حين أنزلهم أحسن ضيافتهم وأقول هذا الكلام يضعف الوجه الثاني وهو الذي نقلناه عن المفسرين لأن مدار ذلك الوجه على أنه اتهمهم ونسبهم إلى أنهم جواسيس ولو شافههم بذلك الكلام فلا يليق به أن يقوم لهم أَلاَ تَرَوْنَ أَنّى أُوفِى الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ وأيضاً يبعد من يوسف عليه السلام مع كونه صديقاً أن يقول لهم أنتم جواسيس وعيون مع أنه

يعرف براءتهم عن هذه التهمة لأن البهتان لا يليق بحال الصديق
ثم قال فَإِن لَّمْ تَأْتُونِى بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِى وَلاَ تَقْرَبُونِ
واعلم أنه عليه السلام لما طلب منهم إحضار ذلك الأخ جمع بين الترغيب والترهيب أما الترغيب فهو قوله أَلاَ تَرَوْنَ أَنّى أُوفِى الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ وأما الترهيب فهو قوله فَإِن لَّمْ تَأْتُونِى بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِى وَلاَ تَقْرَبُونِ وذلك لأنهم كانوا في نهاية الحاجة إلى تحصيل الطعام وما كان يمكنهم تحصيله إلا من عنده فإذا منعهم من الحضور عنده كان ذلك نهاية الترهيب والتخويف ثم إنهم لما سمعوا هذا الكلام من يوسف قالوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ أي سنجتهد ونحتال على أن ننزعه من يده وإنا لفاعلون هذه المراودة والغرض من التكرير التأكيد ويحتمل أن يكون وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ أن نجيئك به ويحتمل وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ كل ما في وسعنا من هذا الباب
وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِى رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَآ إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ ياأَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَآ أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَاحِمِينَ
في الآية مسائل
المسائل الأولى قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم لفتيانه بالألف والنون والباقون لفتيته بالتاء من غير ألف وهما لغتان كالصبيان والصبية والإخوان والإخوة قال أبو علي الفارسي الفتية جمع فتى في العدد القليل والفتيان للكثير فوجه البناء الذي للعدد القليل أن الذين يحيطون بما يجعلون بضاعتهم فيه من رحالهم يكونون قليلين لأن هذا من باب الأسرار فوجب صونه إلا عن العدد القليل ووجه الجمع الكثير أنه قال لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِى رِحَالِهِمْ والرحال تفيد العدد الكثير فوجب أن يكون الذين يباشرون ذلك العمل كثيرين
المسألة الثانية اتفق الأكثرون على أن إخوة يوسف ما كانوا عالمين بجعل البضاعة في رحالهم ومنهم من قال إنهم كانوا عارفين به وهو ضعيف لأن قوله لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا يبطل ذلك ثم اختلفوا في السبب الذي لأجله أمر يوسف بوضع بضاعتهم في رحالهم على وجوه الأول أنهم متى فتحوا المتاع فوجدوا بضاعتهم فيه علموا أن ذلك كان كرماً من يوسف وسخاء محضاً فيبعثهم ذلك على العود إليه والحرص على معاملته الثاني خاف أن لا يكون عند أبيه من الورق ما يرجعون به مرة أخرى الثالث أراد به التوسعة على

أبيه لأن الزمان كان زمان القحط الرابع رأى أن أخذ ثمن الطعام من أبيه وإخوته مع شدة حاجتهم إلى الطعام لؤم الخامس قال الفراء إنهم متى شاهدوا بضاعتهم في رحالهم وقع في قلوبهم أنهم وضعوا تلك البضاعة في رحالهم على سبيل السهو وهم أنبياء وأولاد الأنبياء فرجعوا ليعرفوا السبب فيه أو رجعوا ليردوا المال إلى مالكه السادس أراد أن يحسن إليهم على وجه لا يلحقهم به عيب ولا منة السابع مقصوده أن يعرفوا أنه لا يطلب ذلك الأخ لأجل الإيذاء والظلم ولا لطلب زيادة في الثمن الثامن أراد أن يعرف أبوه أنه أكرمهم وطلبه له لمزيد الإكرام فلا يثقل على أبيه إرسال أخيه التاسع أراد أن يكون ذلك المال معونة لهم على شدة الزمان وكان يخاف اللصوص من قطع الطريق فوضع تلك الدراهم في رحالهم حتى تبقى مخفية إلى أن يصلوا إلى أبيهم العاشر أراد أن يقابل مبالغتهم في الإساءة بمبالغته في الإحسان إليهم
ثم إنه تعالى حكى عنهم أنهم لما رجعوا إلى أبيهم قالوا قَالُواْ يأَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ وفيه قولان الأول أنهم لما طلبوا الطعام لأبيهم وللأخ الباقي عنده منعوا منه فقولهم مَنَعَ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إشارة إليه والثاني أنه منع الكيل في المستقبل وهو إشارة إلى قول يوسف فَإِن لَّمْ تَأْتُونِى بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِى ( يوسف 60 ) والدليل على أن المراد ذلك قولهم فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ قرأ حمزة والكسائي يكتل بالياء والباقون بالنون والقراءة الأولى تقوى القول الأول والقراءة الثانية تقوي القول الثاني ثم قالوا وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ضمنوا كونهم حافظين له فلما قالوا ذلك قال يعقوب عليه السلام هَلْ امَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ والمعنى أنكم ذكرتم قبل هذا الكلام في يوسف وضمنتم لي حفظه حيث قلتم وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ( يوسف 12 ) ثم ههنا ذكرتم هذا اللفظ بعينه فهل يكون ههنا أماني إلا ما كان هناك يعني لما لم يحصل الأمان هناك فكذلك لا يحصل ههنا
ثم قال فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرحِمِينَ قرأ حمزة والكسائي حَافِظًا بالألف على التمييز والتفسير على تقدير هو خير لكم حافظاً كقولهم هو خيرهم رجلاً ولله دره فارساً وقيل على الحال والباقون حَافِظًا بغير ألف على المصدر يعني خيركم حفظاً يعني حفظ الله لبنيامين خير من حفظكم وقرأ الأعمش فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وقرأ أبو هريرة رضي الله عنه خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرحِمِينَ وقيل معناه وثقت بكم في حفظ يوسف عليه السلام فكان ما كان فالآن أتوكل على الله في حفظ بنيامين
فإن قيل لم بعثه معهم وقد شاهد ما شاهد
قلنا لوجوه أحدها أنهم كبروا ومالوا إلى الخير والصلاح وثانيها أنه كان يشاهد أنه ليس بينهم وبين بنيامين من الحسد والحقد مثل ما كان بينهم وبين يوسف عليه السلام وثالثها أن ضرورة القحط أحوجته إلى ذلك ورابعها لعله تعالى أوحى إليه وضمن حفظه وإيصاله إليه
فإن قيل هل يدل قوله فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا على أنه أذن في ذهاب ابنه بنيامين في ذلك الوقت
قلنا الأكثرون قالوا يدل عليه وقال آخرون لا يدل عليه وفيه وجهان الأول التقدير أنه لو أذن في خروجه معهم لكان في حفظ الله لا في حفظهم الثاني أنه لما ذكر يوسف قال فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا أي ليوسف لأنه كان يعلم أنه حي

وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ ياأَبَانَا مَا نَبْغِى هَاذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذالِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ
اعلم أن المتاع ما يصلح لأن يستمتع به وهو عام في كل شيء ويجوز أن يراد به ههنا الطعام الذي حملوه ويجوز أن يراد به أوعية الطعام
ثم قال وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ واختلف القراء في رُدَّتْ فالأكثرون بضم الراء وقرأ علقمة بكسر الراء قال صاحب ( الكشاف ) كسرة الدال المدغمة نقلت إلى الراء كما في قيل وبيع وحكى قطرب أنهم قالوا في قولنا ضرب زيد على نقل كسرة الراء فيمن سكنها إلى الضاد وأما قوله مَا نَبْغِى ففي كلمة مَا قولان
القول الأول أنها للنفي وعلى هذا التقدير ففيه وجوه الأول أنهم كانوا قد وصفوا يوسف بالكرم واللطف وقالوا إنا قدمنا على رجل في غاية الكرم أنزلنا وأكرمنا كرامة لو كان رجلاً من آل يعقوب لمافعل ذلك فقولهم مَا نَبْغِى أي بهذا الوصف الذي ذكرناه كذباً ولا ذكر شيء لم يكن الثاني أنه بلغ في الإكرام إلى غاية ما وراءها شيء آخر فإنه بعد أن بالغ في إكرامنا أمر ببضاعتنا فردت إلينا الثالث المعنى أنه رد بضاعتنا إلينا فنحن لا نبغي منك عند رجوعنا إليه بضاعة أخرى فإن هذه التي معنا كافية لنا
والقول الثاني أن كلمة ( ما ) ههنا للاستفهام والمعنى لما رأوا أنه رد إليهم بضاعتهم قالوا ما نبغي بعد هذا أي أعطانا الطعام ثم رد علينا ثمن الطعام على أحسن الوجوه فأي شيء نبغي وراء ذلك
واعلم أنا إذا حملنا ( ما ) على الاستفهام صار التقدير أي شيء نبغي فوق هذا الإكرام إن الرجل رد دراهمنا إلينا فإذا ذهبنا إليه نمير أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير بسبب حضور أخينا قال الأصمعي يقال ماره يميره ميراً إذا أتاه بميرة أي بطعام ومنه يقال ما عنده خير ولا مير وقوله وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ معناه أن يوسف عليه السلام كان يكيل لكل رجل حمل بعير فإذا حضر أخوه فلا بد وأن يزداد ذلك الحمل وأما إذا حملنا كلمة ( ما ) على النفي كان المعنى لا نبغي شيئاً آخر هذه بضاعتنا ردت إلينا فهي كافية لثمن الطعام في الذهاب الثاني ثم نفعل كذا وكذا
وأما قوله ذالِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ ففيه وجوه الأول قال مقاتل ذلك كيل يسير على هذا الرجل المحسن لسخائه وحرصه على البذل وهو اختيار الزجاج والثاني ذلك كيل يسير أي قصير المدة ليس سبيل مثله أن تطول مدته بسبب الحبس والتأخير والثالث أن يكون المراد ذلك الذي يدفع إلينا دون أخينا شيء يسير قليل فابعث أخانا معنا حتى نتبدل تلك القلة بالكثرة

قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِى بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّآ ءَاتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ
اعلم أن الموثق مصدر بمعنى الثقة ومعناه العهد الذي يوثق به فهو مصدر بمعنى المفعول يقول لن أرسله معكم حتى تعطوني عهداً موثوقاً به وقوله مِنَ اللَّهِ أي عهداً موثوقاً به بسبب تأكده بإشهاد الله وبسبب القسم بالله عليه وقوله لَتَأْتُنَّنِى بِهِ دخلت اللام ههنا لأجل أنا بينا أن المراد بالموثق من الله اليمين فتقديره حتى تحلفوا بالله لتأتنني به وقوله إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ فيه بحثان
البحث الأول قال صاحب ( الكشاف ) هذا الاستثناء متصل فقوله إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ مفعوله له والكلام المثبت الذي هو قوله لَتَأْتُنَّنِى بِهِ في تأويل المنفي فكان المعنى لا تمتنعون من الإتيان به لعلة من العلل إلا لعلة واحدة
البحث الثاني قال الواحدي للمفسرين فيه قولان
القول الأول أن قوله إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ معناه الهلاك قال مجاهد إلا أن تموتوا كلكم فيكون ذلك عذراً عندي والعرب تقول أحيط بفلان إذا قرب هلاكه قال تعالى وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ ( الكهف 42 ) أي أصابه ما أهلكه وقال تعالى وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ( يونس 22 ) وأصله أن من أحاط به العدو وانسدت عليه مسالك النجاة دنا هلاكه فقيل لكل من هلك قد أحيط به
والقول الثاني ما ذكره قتادة إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ إلا أن تصيروا مغلوبين مقهورين فلا تقدرون على الرجوع
ثم قال تعالى فَلَمَّا ءاتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ يريد شهيد لأن الشهيد وكيل بمعنى أنه موكول إليه هذا العهد فإن وفيتم به جازاكم بأحسن الجزاء وإن غدرتم فيه كافأكم بأعظم العقوبات
وَقَالَ يابَنِى َّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَة ٍ وَمَآ أُغْنِى عَنكُمْ مِّنَ اللَّهِ مِن شَى ْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ
اعلم أن أبناء يعقوب لما عزموا على الخروج إلى مصر وكانوا موصوفين بالكمال والجمال وأبناء رجل واحد قال لهم لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرّقَة ٍ وفيه قولان الأول وهو قول جمهور

المفسرين أنه خاف من العين عليهم ولنا ههنا مقامان
المقام الأول إثبات أن العين حق والذي يدل عليه وجوه الأول إطباق المتقدمين من المفسرين على أن المراد من هذه الآية ذلك والثاني ما روي أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان يعوذ الحسن والحسين فيقول ( أعيذ كما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة ) ويقول هكذا كان يعوذ إبراهيم إسمعيل وإسحق صلوات الله عليهم والثالث ما روى عبادة بن الصامت قال دخلت على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في أول النهار فرأيته شديد الوجع ثم عدت إليه آخر النهار فرأيته معافى فقال ( إن جبريل عليه السلام أتاني فرقاني فقال بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك ومن كل عين وحاسد الله يشفيك ) قال فأفقت والرابع روي أن بني جعفر ابن أبي طالب كانوا غلمناً بيضاً فقالت أسماء يا رسول الله إن العين إليهم سريعة أفأسترقي لهم من العين فقال لها نعم والخامس دخل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بيت أم سلمة وعندها صبي يشتكي فقالوا يا رسول الله أصابته العين فقال أفلا تسترقون له من العين والسادس قوله عليه السلام ( العين حق ولو كان شيء يسبق القدر لسبقت العين القدر ) والسابع قالت عائشة رضي الله عنها كن يأمر العائن أن يتوضأ ثم يغسل منه المعين الذي أصيب بالعين
المقام الثاني في الكشف عن ماهيته فنقول إن أبا علي الجبائي أنكر هذا المعنى إنكاراً بليغاً ولم يذكر في إنكاره شبهة فضلاً عن حجة وأما الذين اعترفوا به وأقروا بوجوده فقد ذكروا فيه وجوهاً الأول قال الحافظ إنه يمتد من العين أجزاء فتصل بالشخص المستحسن فتؤثر فيه وتسري فيه كتأثير اللسع والسم والنار وإن كان مخالفاً في جهة التأثير لهذه الأشياء قال القاضي وهذا ضعيف لأنه لو كان الأمر كما قال لوجب أن يؤثر في الشخص الذي لا يستحسن كتأثيره في المستحسن واعلم أن هذا الاعتراض ضعيف وذلك لأنه إذا استحسن شيئاً فقد يحب بقاءه كما إذا استحسن ولد نفسه وبستان نفسه وقد يكره بقاءه أيضاً كما إذا أحس الحاسد بشيء حصل لعدوه فإن كان الأول فإنه يحصل له عند ذلك الاستحسان خوف شديد من زواله والخوف الشديد يوجب انحصار الروح في داخل القلب فحينئذ يسخن القلب والروح جداً ويحصل في الروح الباصرة كيفية قوية مسخنة وإن كان الثاني فإنه يحصل عند ذلك الاستحسان حسد شديد وحزن عظيم بسبب حصول تلك النعمة لعدوه والحزن أيضاً يوجب انحصار الروح في داخل القلب ويحصل فيه سخونة شديدة فثبت أن عند الاستحسان القوي تسخن الروح جداً فيسخن شعاع العين بخلاف ما إذا لم يستحسن فإنه لا تحصل هذه السخونة فظهر الفرق بين الصورتين ولهذا السبب أمر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) العائن بالوضوء ومن أصابته العين بالاغتسال
الوجه الثاني قال أبو هاشم وأبو القاسم البلخي إنه لا يمتنع أن تكون العين حقاً ويكون معناه أن صاحب العين إذا شاهد الشيء وأعجب به استحساناً كان المصلحة له في تكليفه أن يغير الله ذلك الشخص وذلك الشيء حتى لا يبقى قلب ذلك المكلف متعلقاً به فهذا المعنى غير ممتنع ثم لا يبعد أيضاً أنه لو ذكر ربه عند تلك الحالة وعدل عن الإعجاب وسأل ربه تقية ذلك فعنده تتعين المصلحة ولما كانت هذه العادة مطردة لا جرم قيل العين حق
الوجه الثالث وهو قول الحكماء قالوا هذا الكلام مبني على مقدمة وهي أنه ليس من شرط المؤثر أن

يكون تأثيره بحسب هذه الكيفيات المحسوسة أعني الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة بل قد يكون التأثير نفسانياً محضاً ولا يكون للقوى الجسمانية بها تعلق والذي يدل عليه أن اللوح الذي يكون قليل العرض إذا كان موضوعاً على الأرض قدر الإنسان على المشي عليه ولو كان موضوعاً فيما بين جدارين عاليين لعجز الإنسان على المشي عليه وما ذاك إلا لأن خوفه من السقوط منه يوجب سقوطه فعلمنا أن التأثيرات النفسانية موجودة وأيضاً أن الإنسان إذا تصور كون فلان مؤذياً له حصل في قلبه غضب ويسخن مزاجه جداً فمبدأ تلك السخونة ليس إلا ذلك التصور النفساني ولأن مبدأ الحركات البدنية ليس إلا التصورات النفسانية فلما ثبت أن تصور النفس يوجب تغير بدنه الخاص لم يبعد أيضاً أن يكون بعض النفوس بحيث تتعدى تأثيراتها إلى سائر الأبدان فثبت أنه لا يمتنع في العقل كون النفس مؤثرة في سائر الأبدان وأيضاً جواهر النفوس المختلفة بالماهية فلا يمتنع أن يكون بعض النفوس بحيث يؤثر في تغيير بدن حيوان آخر بشرط أن يراه ويتعجب منه فثبت أن هذا المعنى أمر محتمل والتجارب من الزمن الأقدم ساعدت عليه والنفوس النبوية نطقت به فعنده لا يبقى في وقوعه شك
وإذا ثبت هذا ثبت أن الذي أطبق عليه المتقدمون من المفسرين في تفسير هذه الآية بإصابة العين كلام حق لا يمكن رده
القول الثاني وهو قول أبي علي الجبائي أن أبناء يعقوب اشتهروا بمصر وتحدث الناس بهم وبحسهم وكمالهم فقال لاَ تَدْخُلُواْ تلك المدينة مِن بَابٍ وَاحِدٍ على ما أنتم عليه من العدد والهيئة فلم يأمن عليهم حسد الناس أو يقال لم يأمن عليهم أن يخافهم الملك الأعظم على ملكه فيحبسهم واعلم أن هذا الوجه محتمل لا إنكار فيه إلا أن القول الأول قد بينا أنه لا امتناع فيه بحسب العقل والمفسرون أطبقوا عليه فوجب المصير إليه ونقل عن الحسن أنه قال خاف عليهم العين فقال لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ ثم رجع إلى علمه وقال وَمَا أُغْنِى عَنكُمْ مّنَ اللَّهِ مِن شَى ْء وعرف أن العين ليست بشيء وكان قتادة يفسر الآية بإصابة العين ويقول ليس في قوله وَمَا أُغْنِى عَنكُمْ مّنَ اللَّهِ مِن شَى ْء إبطال له لأن العين وإن صح فالله قادر على دفع أثره
القول الثالث أنه عليه السلام كان عالماً بأن ملك مصر هو ولده يوسف إلا أن الله تعالى ما أذن له في إظهار ذلك فلما بعث أبناءه إليه قال لا تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرّقَة ٍ وكان غرضه أن يصل بنيامين إلى يوسف في وقت الخلوة وهذا قول إبراهيم النخعي فأما قوله وَمَا أُغْنِى عَنكُمْ مّنَ اللَّهِ مِن شَى ْء فاعلم أن الإنسان مأمور بأن يراعي الأسباب المعتبرة في هذا العالم ومأمور أيضاً بأن يعتقد ويجزم بأنه لا يصل إليه إلا ما قدره الله تعالى وأن الحذر لا ينجي من القدر فإن الإنسان مأمور بأن يحذر عن الأشياء المهلكة والأغذية الضارة ويسعى في تحصيل المنافع ودفع المضار بقدر الإمكان ثم إنه مع ذلك ينبغي أن يكون جازماً بأنه لا يصل إليه إلا ما قدره الله ولا يحصل في الوجود إلا ما أراده الله فقوله عليه السلام لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرّقَة ٍ فهو إشارة إلى رعاية الأسباب المعتبرة في هذا العالم وقوله وَمَا أُغْنِى عَنكُمْ مّنَ اللَّهِ مِن شَى ْء إشارة إلى عدم الالتفات إلى الأسباب وإلى التوحيد المحض والبراءة عن كل شيء سوء الله تعالى وقول القائل كيف السبيل إلى الجمع بين هذين القولين فهذا

السؤال غير مختص به وذلك لأنه لا نزاع في أنه لا بد من إقامة الطاعات والاحتراز عن المعاصي والسيئات مع أنا نعتقد أن السعيد من سعد في بطن أمه وأن الشقي من شقي في بطن أمه فكذا ههنا نأكل ونشرب ونحترز عن السموم وعن الدخول في النار مع أن الموت والحياة لا يحصلان إلا بتقدير الله تعالى فكذا ههنا فظهر أن هذا السؤال غير مختص بهذا المقام بل هو بحث عن سر مسألة الجبر والقدر بل الحق أن العبد يجب عليه أن يسعى بأقصى الجهد والقدرة وبعد ذلك السعي البليغ والجد الجهيد فإنه يعلم أن كل ما يدخل في الوجود فلا بد وأن يكون بقضاء الله تعالى ومشيئته وسابق حكمه وحكمته ثم إنه تعالى أكد هذا المعنى فقال إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ
واعلم أن هذا من أدل الدلائل على صحة قولنا في القضاء والقدر وذلك لأن الحكم عبارة عن الإلزام والمنع من النقيض وسميت حكمة الدابة بهذا الاسم لأنها تمنع الدابة عن الحركات الفاسدة والحكم إنما سمي حكماً لأنه يقتضي ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر بحيث يصير الطرف الآخر ممتنع الحصول فبين تعالى أن الحكم بهذا التفسير ليس إلا لله سبحانه وتعالى وذلك يدل على أن جميع الممكنات مستندة إلى قضائه وقدره ومشيئته وحكمه إما بغير واسطة وإما بواسطة ثم قال عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكّلُونَ ومعناه أنه لما ثبت أن الكل من الله ثبت أنه لا توكل إلا على الله وأن الرغبة ليست إلا في رجحان وجود الممكنات على عدمها وذلك الرجحان المانع عن النقيض هو الحكم وثبت بالبرهان أنه لا حكم إلا لله فلزم القطع بأن حصول كل الخيرات ودفع كل الآفات من الله ويوجب أنه لا توكل إلا على الله فهذا مقام شريف عال ونحن قد أشرنا إلى ما هو البرهان الحق فيه والشيخ أبو حامد الغزالي رحمه الله أطنب في تقرير هذا المعنى في كتاب التوكل من كتاب ( إحياء علوم الدين ) فمن أراد الاستقصاء فيه فليطالع ذلك الكتاب
وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِى عَنْهُمْ مِّنَ اللَّهِ مِن شَى ْءٍ إِلاَّ حَاجَة ً فِى نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ
قال المفسرون لما قال يعقوب وَمَا أُغْنِى عَنكُمْ مّنَ اللَّهِ مِن شَى ْء ( يوسف 67 ) صدقه الله في ذلك فقال وما كان ذلك التفرق يغني من الله من شيء وفيه بحثان
البحث الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما ذلك التفرق ما كان يرد قضاء الله ولا أمراً قدره الله وقال الزجاج إن العين لو قدر أن تصيبهم لأصابتهم وهم متفرقون كما تصيبهم وهم مجتمعون وقال ابن الأنباري لو سبق في علم الله أن العين تهلكهم عند الاجتماع لكان تفرقهم كاجتماعهم وهذه الكلمات متقاربة وحاصلها أن الحذر لا يدفع القدر
البحث الثاني قوله مِن شَى ْء يحتمل النصب بالمفعولية والرفع بالفاعلية

أما الأول فهو كقوله ما رأيت من أحد والتقدير ما رأيت أحداً فكذا ههنا تقدير الآية أن تفرقهم ما كان يغني من قضاء الله شيئاً أي ذلك التفرق ما كان يخرج شيئاً من تحت قضاء الله تعالى
وأما الثاني فكقولك ما جاءني من أحد وتقديره ما جاءني أحد فكذا ههنا التقدير ما كان يغني عنهم من الله شيء مع قضائه
أما قوله إِلاَّ حَاجَة ً فِى نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا فقال الزجاج إنه استثناء منقطع والمعنى لكن حاجة في نفس يعقوب قضاها يعني أن الدخول على صفة التفرق قضاء حاجة في نفس يعقوب قضاها ثم ذكروا في تفسير تلك الحاجة وجوهاً أحدها خوفه عليهم من إصابة العين وثانيها خوفه عليهم من حسد أهل مصر وثالثها خوفه عليهم من أن يقصدهم ملك مصر بشر ورابعها خوفه عليهم من أن لا يرجعوا إليه وكل هذه الوجوه متقاربة
وأما قوله وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لّمَا عَلَّمْنَاهُ فقال الواحدي يحتمل أن يكون مَا مصدرية والهاء عائدة إلى يعقوب والتقدير وإنه لذو علم من أجل تعليمنا إياه ويمكن أن تكون مَا بمعنى الذي والهاء عائدة إليها والتأويل وإنه لذو علم للشيء الذي علمناه يعني أنا لما علمناه شيئاً حصل له العلم بذلك الشيء وفي الآية قولان آخران الأول أن المراد بالعلم الحفظ أي أنه لذو حفظ لما علمناه ومراقبة له والثاني لذو علم لفوائد ما علمناه وحسن آثاره وهو إشارة إلى كونه عاملاً بما علمه ثم قال وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ وفيه وجهان الأول ولكن أكثر الناس لا يعلمون مثل ما علم يعقوب والثاني لا يعلمون أن يعقوب بهذه الصفة والعلم والمراد بأكثر الناس المشركون فإنهم لا يعلمون بأن الله كيف أرشد أولياءه إلى العلوم التي تنفعهم في الدنيا والآخرة
وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّى أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَة َ فِى رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ مَّاذَا تَفْقِدُونَ قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَآءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ
اعلم أنهم لما أتوه بأخيه بنيامين أكرمهم وأضافهم وأجلس كل اثنين منهم على مائدة فبقي بنيامين وحده فبكى وقال لو كان أخي يوسف حياً لأجلسني معه فقال يوسف بقي أخوكم وحيداً فأجلسه معه على مائدة ثم أمر أن ينزل منهم كل اثنين بيتاً وقال هذا لا ثاني له فاتركوه معي فآواه إليه ولما رأى يوسف تأسفه على أخ له هلك قال له أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك قال من يجد أخاً مثلك ولكنك لم يلدك

يعقوب ولا راحيل فبكى يوسف عليه السلام وقام إليه وعانقه وقال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون
إذا عرفت هذا فنقول قوله اوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ أي أنزله في الموضع الذي كان يأوي إليه وقوله إِنّى أَنَاْ أَخُوكَ فيه قولان قال وهب لم يرد أنه أخوه من النسب ولكن أراد به إني أقوم لك مقام أخيك في الإيناس لئلا تستوحش بالتفرد والصحيح ما عليه سائر المفسرين من أنه أراد تعريف النسب لأن ذلك أقوى في إزالة الوحشة وحصول الأنس ولأن الأصل في الكلام الحقيقة فلا وجه لصرفه عنها إلى المجاز من غير ضرورة
وأما قوله فَلاَ تَبْتَئِسْ فقال أهل اللغة تبتئس تفتعل من البؤس وهو الضرر والشدة والابتئاس اجتلاب الحزن والبؤس وقوله بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ فيه وجوه الأول المراد بما كانوا يعملون من إقامتهم على حسدنا والحرص على انصراف وجه أبينا عنا الثاني أن يوسف عليه السلام ما بقي في قلبه شيء من العداوة وصار صافياً مع إخوته فأراد أن يجعل قلب أخيه صافياً معه أيضاً فقال فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ أي لا تلتفت إلى ما صنعوه فيما تقدم ولا تلتفت إلى أعمالهم المنكرة التي أقدموا عليها الثالث أنهم إنما فعلوا بيوسف ما فعلوه لأنهم حسدوه على إقبال الأب عليه وتخصيصه بمزيد الإكرام فخاف بنيامين أن يحسدوه بسبب أن الملك خصه بمزيد الإكرام فأمنه منه وقال لا تلتفت إلى ذلك فإن الله قد جمع بيني وبينك الرابع روى الكلبي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن إخوة يوسف عليه السلام كانوا يعيرون يوسف وأخاه بسبب أن جدهما أبا أمهما كان يعبد الأصنام وأن أم يوسف امرأت يوسف فسرق جونة كانت لأبيها فيها أصنام رجاء أن يترك عبادتها إذا فقدها فقال له فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ أي من التعيير لنا بما كان عليه جدنا والله أعلم
ثم قال تعالى فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السّقَايَة َ فِى رَحْلِ أَخِيهِ وقد مضى الكلام في الجهاز والرحل أما السقاية فقال صاحب ( الكشاف ) مشربة يسقي بها وهو الصواع قيل كان يسقي بها الملك ثم جعلت صاعاً يكال به وهو بعيد لأن الإناء الذي يشرب الملك الكبير منه لا يصلح أن يجعل صاعاً وقيل كانت الدواب تسقى بها ويكال بها أيضاً وهذا أقرب ثم قال وقيل كانت من فضة مموهة بالذهب وقيل كانت من ذهب وقيل كانت مرصعة بالجواهر وهذا أيضاً بعيد لأن الآنية التي يسقى الدواب فيها لا تكون كذلك والأولى أن يقال كان ذلك الإناء شيئاً له قيمة أما إلى هذا الحد الذي ذكروه فلا
ثم قال تعالى ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ يقال أذنه أي أعلمه وفي الفرق بين أذن وبين أذن وجهان قال ابن الأنباري أذن معناه أعلم إعلاماً بعد إعلام لأن فعل يوجب تكرير الفعل قال ويجوز أن يكون إعلاماً واحداً من قبيل أن العرب تجعل فعل بمعنى أفعل في كثير من المواضع وقال سيبويه أذنت وأذنت معناه أعلمت لا فرق بينهما والتأذين معناه النداء والتصويت بالإعلام
وأما قوله تعالى أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ قال أبو الهيثم كل ما سير عليه من الإبل والحمير والبغال فهو عير وقول من قال العير الإبل خاصة باطل وقيل العير الإبل التي عليها الأحمال لأنها تعير أي

تذهب وتجيء وقيل هي قافلة الحمير ثم كثر ذلك حتى قيل لكل قافلة عير كأنها جمع عير وجمعها فعل كسقف وسقف
إذا عرفت هذا فنقول أَيَّتُهَا الْعِيرُ المراد أصحاب العير كقوله يا خيل الله اركبي وقرأ ابن مسعود وَجَعَلَ السّقَايَة َ على حذف جواب لما كأنه قيل فلما جهزهم بجهازهم وجعل السقاية في رحل أخيه أمهلهم حتى انطلقوا ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ
فإن قيل هل كان ذلك النداء بأمر يوسف أو ما كان بأمره فإن كان بأمره فكيف يليق بالرسول الحق من عند الله أن يتهم أقواماً وينسبهم إلى السرقة كذباً وبهتاناً وإن كان الثاني وهو أنه ما كان ذلك بأمره فهلا أنكره وهلا أظهر براءتهم عن تلك التهمة
قلنا العلماء ذكروا في الجواب عنه وجوهاً الأول أنه عليه السلام لما أظهر لأخيه أنه يوسف قال له إني أريد أن أحبسك ههنا ولا سبيل إليه إلا بهذه الحيلة فإن رضيت بها فالأمر لك فرضي بأن يقال في حقه ذلك وعلى هذا التقدير لم يتألم قلبه بسبب هذا الكلام فخرج عن كونه ذنباً والثاني أن المراد إنكم لسارقون يوسف من أبيه إلا أنهم ما أظهروا هذا الكلام والمعاريض لا تكون إلا كذلك والثالث أن ذلك المؤذن ربما ذكر ذلك النداء على سبيل الاستفهام وعلى هذا التقدير يخرج عن أن يكون كذباً الرابع ليس في القرآن أنهم نادوا بذلك النداء عن أمر يوسف عليه السلام والأقرب إلى ظاهر الحال أنهم فعلوا ذلك من أنفسهم لأنهم لما طلبوا السقاية وما وجدوها وما كان هناك أحد إلا هم غلب على ظنونهم أنهم هم الذين أخذوها ثم إن إخوة يوسف قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ مَّاذَا تَفْقِدُونَ وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي تَفْقِدُونَ من أفقدته إذا وجدته فقيداً قالوا تفقد صواع الملك قال صاحب ( الكشاف ) قرىء صواع وصاع وصوع وصوع بفتح الصاد وضمها والعين معجمة وغير معجمة قال بعضهم جمع صواع صيعان كغراب وغربان وجمع صاع أصواع كباب وأبواب وقال آخرون لا فرق بين الصاع والصواع والدليل عليه قراءة أبي هريرة قَالُواْ نَفْقِدُ وَقَالَ الْمَلِكُ وقال بعضهم الصواع اسم والسقاية وصف كقولهم كوز وسقاء فالكوز اسم والسقاء وصف
ثم قال وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ أي من الطعام أَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ قال مجاهد الزعيم هو المؤذن الذي أذن وتفسير زعيم كفيل قال الكلبي الزعيم الكفيل بلسان أهل اليمن وروى أبو عبيدة عن الكسائي زعمت به تزعم زعماً وزعامة أي كفلت به وهذه الآية تدل على أن الكفالة كانت صحيحة في شرعهم وقد حكم بها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في قوله ( الزعيم غارم )
فإن قيل هذه كفالة بشيء مجهول
قلنا حمل بعير من الطعام كان معلوماً عندهم فصحت الكفالة به إلا أن هذه الكفالة مال لرد سرقة وهو كفالة بما لم يجب لأنه لا يحل للسارق أن يأخذ شيئاً على رد السرقة ولعل مثل هذه الكفالة كانت تصح عندهم

قَالُواْ تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِى الأرض وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ قَالُواْ جَزؤُهُ مَن وُجِدَ فِى رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذالِكَ نَجْزِى الظَّالِمِينَ
قال البصريون الواو في وَاللَّهُ بدل من التاء والتاء بدل من الواو فضعفت عن التصرف في سائر الأسماء وجعلت فيما هو أحق بالقسم وهو اسم الله عز وجل قال المفسرون حلفوا على أمرين أحدهما على أنهم ما جاؤا لأجل الفساد في الأرض لأنه ظهر من أحواله امتناعهم من التصرف في أموال الناس بالكلية لا بالأكل ولا بإرسال الدواب في مزارع الناس حتى روي أنهم كانوا قد سدوا أفواه دوابهم لئلا تعبث في زرع وكانوا مواظبين على أنواع الطاعات ومن كانت هذه صفته فالفساد في الأرض لا يليق به والثاني أنهم ما كانوا سارقين وقد حصل لهم فيه شاهداً قاطع وهو أنهم لما وجدوا بضاعتهم في رحالهم حملوها من بلادهم إلى مصر ولم يستحلوا أخذها والسارق لا يفعل ذلك ألبتة ثم لما بينوا براءتهم عن تلك التهمة قال أصحاب يوسف عليه السلام فَمَا جَزَاؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ فأجابوا و قَالُواْ جَزؤُهُ مَن وُجِدَ فِى رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ قال ابن عباس كانوا في ذلك الزمان يستعبدون كل سارق بسرقته وكان استعباد السارق في شرعهم يجري مجرى وجوب القطع في شرعنا والمعنى جزاء هذا الجرم من وجد المسروق في رحله أي ذلك الشخص هو جزاء ذلك الجرم والمعنى أن استعباده هو جزاء ذلك الجرم قال الزجاج وفيه وجهان أحدهما أن يقال جزاؤه مبتدأ ومن وجد في رحله خبره والمعنى جزاء السرقة هو الإنسان الذي وجد في رحله السرقة ويكون قوله فَهُوَ جَزَاؤُهُ زيادة في البيان كما تقول جزاء السارق القطع فهو جزاؤه الثاني أن يقال جَزَاؤُهُ مبتدأ وقوله مَن وُجِدَ فِى رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ جملة وهي في موضع خبر المبتدأ والتقدير كأنه قيل جزاؤه من وجد في رحله فهو هو إلا أنه أقام المضمر للتأكيد والمبالغة في البيان وأنشد النحويون لا أرى الموت يسبق الموت شيء
نغص الموت الغني والفقيرا
وأما قوله كَذالِكَ نَجْزِى الظَّالِمِينَ أي مثل هذا الجزاء جزاء الظالمين يريد إذا سرق استرق ثم قيل هذا من بقية كلام أخوة يوسف وقيل إنهم لما قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه فقال أصحاب يوسف كَذالِكَ نَجْزِى الظَّالِمِينَ
فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَآءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَآءِ أَخِيهِ كَذالِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِى دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ

اعلم أن إخوة يوسف لما أقروا بأن من وجد المسروق في رحله فجزاؤه أن يسترق قال لهم المؤذن إنه لا بد من تفتيش أمتعتكم فانصرف بهم إلى يوسف فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ لإزالة التهمة والأوعية جمع الوعاء وهو كل ما إذا وضع فيه شيء أحاط به استخرجها من وعاء أخيه وقرأ الحسن وِعَاء أَخِيهِ بضم الواو وهي لغة وقرأ سعيد بن جبير مِنْ أَخِيهِ فقلب الواو همزة
فإن قيل لم ذكر ضمير الصواع مرات ثم أنثه
قلنا قالوا رجع ضمير المؤنث إلى السقاية وضمير المذكر إلى الصواع أو يقال الصواع يؤنث ويذكر فكان كل واحد منهما جائزاً أو يقال لعل يوسف كان يسميه سقاية وعبيده صواعاً فقد وقع فيما يتصل به من الكلام سقاية وفيما يتصل بهم صواعاً عن قتادة أنه قال كان لا ينظر في وعاء إلا استغفر الله تائباً مما قذفهم به حتى إنه لما لم يبق إلا أخوه قال ما أرى هذا قد أخذ شيئاً فقالوا لا نذهب حتى تتفحص عن حاله أيضاً فلما نظروا في متاعه استخرجوا الصواع من وعائه والقوم كانوا قد حكموا بأن من سرق يسترق فأخذوا برقبته وجروا به إلى دار يوسف
ثم قال تعالى كَذالِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِى دِينِ الْمَلِكِ وفيه بحثان الأول المعنى ومثل ذلك الكيد كدنا ليوسف وذلك إشارة إلى الحكم باسترقاق السارق أي مثل هذا الحكم الذي ذكره إخوة يوسف حكمنا ليوسف الثاني لفظ الكيد مشعر بالحيلة والخديعة وذلك في حق الله تعالى محال إلا أنا ذكرنا قانوناً معتبراً في هذا الباب وهو أن أمثال هذه الألفاظ تحمل على نهايات الأغراض لا على بدايات الأغراض وقررنا هذا الأصل في تفسير قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْى ِ ( البقرة 26 ) فالكيد السعي في الحيلة والخديعة ونهايته إلقاء الإنسان من حيث لا يشعر في أمر مكروه ولا سبيل له إلى دفعه فالكيد في حق الله تعالى محمول على هذا المعنى ثم اختلفوا في المراد بالكيد ههنا فقال بعضهم المراد أن إخوة يوسف سعوا في إبطال أمر يوسف والله تعالى نصره وقواه وأعلى أمره وقال آخرون المراد من هذا الكيد هو أنه تعالى ألقى في قلوب إخوته أن حكموا بأن جزاء السارق هو أن يسترق لا جرم لما ظهر الصواع في رحله حكموا عليه بالاسترقاق وصار ذلك سبباً لتمكن يوسف عليه السلام من إمساك أخيه عند نفسه
ثم قال تعالى مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِى دِينِ الْمَلِكِ والمعنى أنه كان حكم الملك في السارق أن يضرب ويغرم ضعفي ما سرق فما كان يوسف قادراً على حبس أخيه عند نفسه بناء على دين الملك وحكمه إلا أنه تعالى كاد له ما جرى على لسان إخوته أن جزاء السارق هو الاسترقاق فقد بينا أن هذا الكلام توسل به إلى أخذ أخيه وحبسه عند نفسه وهو معنى قوله إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ ثم قال نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء وفيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ حمزة وعاصم والكسائي دَرَجَاتٌ بالتنوين غير مضاف والباقون بالإضافة
المسألة الثانية المراد من قوله نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء هو أنه تعالى يريه وجوه الصواب في بلوغ

المراد ويخصه بأنواع العلوم وأقسام الفضائل والمراد ههنا هو أنه تعالى رفع درجات يوسف على إخوته في كل شيء
واعلم أن هذه الآية تدل على أن العلم أشرف المقامات وأعلى الدرجات لأنه تعالى لما هدى يوسف إلى هذه الحيلة والفكرة مدحه لأجل ذلك فقال نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء وأيضاً وصف إبراهيم عليه السلام بقوله نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء ( الأنعام 83 ) عند إيراده ذكر دلائل التوحيد والبراءة عن إلهية الشمس والقمر والكواكب ووصف ههنا يوسف أيضاً بقوله نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء لما هداه إلى هذه الحيلة وكم بين المرتبتين من التفاوت
ثم قال تعالى وَفَوْقَ كُلّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ والمعنى أن إخوة يوسف عليه السلام كانوا علماء فضلاء إلا أن يوسف كان زائداً عليهم في العلم
واعلم أن المعتزلة احتجوا بهذه الآية على أنه تعالى عالم بذاته لا بالعلم فقالوا لو كان عالماً بالعلم لكان ذا علم ولو كان كذلك لحصل فوقه عليم تمسكاً بعموم هذه الآية وهذا باطل
واعلم أن أصحابنا قالوا دلت سائر الآيات على إثبات العلم لله تعالى وهي قوله إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَة ِ ( لقمان 34 ) أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ ( النساء 166 ) لا يُحِيطُونَ بِشَيْء مّنْ عِلْمِهِ ( البقرة 255 ) مَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ ( فاطر 11 ) وإذا وقع التعارض فنحن نحمل الآية التي تمسك الخصم بها على واقعة يوسف وإخوته خاصة غاية ما في الباب أنه يوجب تخصيص العموم إلا أنه لا بد من المصير إليه لأن العالم مشتق من العلم والمشتق مركب والمشتق منه مفرد وحصول المركب بدون حصول المفرد محال في بديهة العقل فكان الترجيح من جانبنا
قَالُوا إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِى نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً وَاللَّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ
اعلم أنه لما خرج الصواع من رحل أخي يوسف نكس إخوته رؤسهم وقالوا هذه الواقعة عجيبة أن راحيل ولدت ولدين لصين ثم قالوا يا بني راحيل ما أكثر البلاء علينا منكم فقال بنيامين ماأكثر البلاء علينا منكم ذهبتم بأخي وضيعتموه في المفازة ثم تقولون لي هذا الكلام قالوا له فكيف خرج الصواع من رحلك فقال وضعه في رحلي من وضع البضاعة في رحالكم
واعلم أن ظاهر الآية يقتضي أنهم قالوا للملك إن هذا الأمر ليس بغريب منه فإن أخاه الذي هلك كان أيضاً سارقاً وكان غرضهم من هذا الكلام أنا لسنا على طريقته ولا على سيرته وهو وأخوه مختصان بهذه الطريقة لأنهما من أم أخرى واختلفوا في السرقة التي نسبوها إلى يوسف عليه السلام على أقوال الأول

قال سعيد بن جبير كان جده أبو أمه كافراً يعبد الأوثان فأمرته أمه بأن يسرق تلك الأوثان ويكسرها فلعله يترك عبادة الأوثان ففعل ذلك فهذا هو السرقة والثاني أنه كان يسرق الطعام من مائدة أبيه ويدفعه إلى الفقراء وقيل سرق عناقاً من أبيه ودفعه إلى المسكين وقيل دجاجة والثالث أن عمته كانت تحبه حباً شديداً فأرادت أن تمسكه عند نفسها وكان قد بقي عندها منطقة لاسحق عليه السلام وكانوا يتبركون بها فشدتها على وسط يوسف ثم قالت بأنه سرقها وكان من حكمهم بأن من سرق يسترق فتوسلت بهذه الحيلة إلى إمساكه عند نفسها والرابع أنهم كذبوا عليه وبهتوه وكانت قلوبهم مملوءة بالغضب على يوسف بعد تلك الوقائع وبعد انقضاء تلك المدة الطويلة وهذه الواقعة تدل على أن قلب الحاسد لا يطهر عن الغل ألبتة
ثم قال تعالى فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِى نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ واختلفوا في أن الضمير في قوله فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ إلى أي شيء يعود على قولين قال الزجاج فأسرها إضمار على شريطة التفسير تفسيره أنتم شر مكاناً وإنما أنث لأن قوله أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً جملة أو كلمة لأنهم يسمون الطائفة من الكلام كلمة كأنه قال فأسر الجملة أو الكلمة التي هي قوله أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً وفي قراءة ابن مسعود فَأَسْرِ بالتذكير يريد القول أو الكلام وطعن أبو علي الفارسي في هذا الوجه فيما استدركه على الزجاج من وجهين
الوجه الأول قال الإضمار على شريطة التفسير يكون على ضربين أحدهما أن يفسر بمفرد كقولنا نعم رجلاً زيد ففي نعم ضمير فاعلها ورجلاً تفسير لذلك الفاعل المضمر والآخر أن يفسر بجملة وأصل هذا يقع في الابتداء كقوله فَإِذَا هِى َ شَاخِصَة ٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( الأنبياء 97 ) قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ( الصمد 1 ) والمعنى القصة شاخصة أبصار الذين كفروا والأمر الله أحد ثم إن العوامل الداخلة على المبتدأ والخبر تدخل عليه أيضاً نحو إن كقوله إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً ( طه 74 ) فَإِنَّهَا لاَ لاِوْلِى الاْبْصَارِ ( الحج 46 )
إذا عرفت هذا فنقول نفس المضمر على شريطة التفسير في كلا القسمين متصل بالجملة التي حصل منها الإضمار ولا يكون خارجاً عن تلك الجملة ولا مبايناً لها وههنا التفسير منفصل عن الجملة التي حصل منها الإضمار فوجب أن لا يحسن والثاني أنه تعالى قال أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً وذلك يدل على أنه ذكر هذا الكلام ولو قلنا إنه عليه السلام أضمر هذا الكلام لكان قوله أنه قال ذلك كذباً واعلم أن هذا الطعن ضعيف لوجوه
أما الأول فلأنه لا يلزم من حسن القسمين الأولين قبح قسم ثالث
وأما الثاني فلأنا نحمل ذلك على أنه عليه السلام قال ذلك على سبيل الخفية وبهذا التفسير يسقط هذا السؤال
والوجه الثاني وهو أن الضمير في قوله فَأَسَرَّهَا عائد إلى الإجابة كأنهم قالوا إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فأسر يوسف إجابتهم في نفسه في ذلك الوقت ولم يبدها لهم في تلك الحالة إلى وقت ثان ويجوز أيضاً أن يكون إضماراً للمقالة والمعنى أسر يوسف مقالتهم والمراد من المقالة متعلق تلك المقالة كما يراد بالخلق المخلوق وبالعلم المعلوم يعني أسر يوسف في نفسه كيفية تلك السرقة ولم يبين لهم

أنها كيف وقعت وأنه ليس فيها ما يوجب الذم والطعن روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال عوقب يوسف عليه السلام ثلاث مرات لأجل همه بها عوقب بالحبس وبقوله اذْكُرْنِى عِندَ رَبّكَ ( يوسف 42 ) عوقب بالحبس الطويل وبقوله إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ( يوسف 7 ) عوقب بقولهم فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ ثم حكى تعالى عن يوسف أنه قال أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً أي أنتم شر منزلة عند الله تعالى لما أقدمتم عليه من ظلم أخيكم وعقوق أبيكم فأخذتم أخاكم وطرحتموه في الجب ثم قلتم لأبيكم إن الذئب أكله وأنتم كاذبون ثم بعتموه بعشرين درهماً ثم بعد المدة الطويلة والزمان الممتد ما زال الحقد والغضب عن قلوبكم فرميتموه بالسرقة
ثم قال تعالى وَاللَّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ يريد أن سرقة يوسف كانت رضا لله وبالجملة فهذه الوجوه المذكورة في سرقته لا يوجب شيء منها عود الذم واللوم إليه والمعنى والله أعلم بأن هذا الذي وصفتموه به هل يوجب عود مذمة إليه أم لا
قَالُواْ ياأَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّآ إِذًا لَّظَالِمُونَ
اعلم أنه تعالى بين أنهم بعد الذي ذكروه من قولهم إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ ( يوسف 77 ) أحبوا موافقته والعدول إلى طريقة الشفاعة فإنهم وإن كانوا قد اعترفوا أن حكم الله تعالى في السارق أن يستعبد إلا أن العفو وأخذ الفداء كان أيضاً جائزا فقالوا يا أيها العزيز إن له أباً شيخاً كبيراً أي في السن ويجوز أن يكون في القدر والدين وإنما ذكروا ذلك لأن كونه ابناً لرجل كبير القدر يوجب العفو والصفح ثم قالوا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ يحتمل أن يكون المراد على طريق الاستبعاد ويحتمل أن يكون المراد على طريق الرهن حتى نوصل الفداء إليك ثم قالوا إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ وفيه وجوه أحدها إنا نراك من المحسنين لو فعلت ذلك وثانيها إنا نراك من المحسنين إلينا حيث أكرمتنا وأعطيتنا البذل الكثير وحصلت لنا مطلوبنا على أحسن الوجوه ووردت إلينا ثمن الطعام وثالثها نقل أنه عليه السلام لما اشتد القحط على القوم ولم يجدوا شيئاً يشترون به الطعام وكانوا يبيعون أنفسهم منه فصار ذلك سبباً لصيرورة أكثر أهل مصر عبيداً له ثم إنه أعتق الكل فلعلهم قالوا إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ إلى عامة الناس بالإعتاق فكن محسناً أيضاً إلى هذا الإنسان بإعتاقه من هذه المحنة فقال يوسف مَعَاذَ اللَّهِ أي أعود بالله معاذاً أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده أي أعوذ بالله أن آخذ بريئاً بمذنب قال الزجاج موضع ( أن ) نصب والمعنى أعوذ بالله من أخذ أحد بغيره فلما سقطت كلمة ( من ) انتصب الفعل عليه وقوله إِنَّا إِذًا لَّظَالِمُونَ أي لقد تعديت وظلمت إن آذيت إنساناً بجرم صدر عن غيره
فإن قيل هذه الواقعة من أولها إلى آخرها تزوير وكذب فكيف يجوز من يوسف عليه السلام مع

رسالته الإقدام على هذا التزوير والترويج وإيذاء الناس من غير سبب لا سيما ويعلم أنه إذا حبس أخاه عند نفسه بهذه التهمة فإنه يعظم حزن أبيه ويشتد غمه فكيف يليق بالرسول المعصوم المبالغة في التزوير إلى هذا الحد
والجواب لعله تعالى أمره بذلك تشديداً للمحنة على يعقوب ونهاه عن العفو والصفح وأخذ البدل كما أمر تعالى صاحب موسى بقتل من لو بقي لطغى وكفر
فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقًا مِّنَ اللَّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِى يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض حَتَّى يَأْذَنَ لِى أَبِى أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِى وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنهم لما قالوا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ ( يوسف 78 ) وهو نهاية ما يمكنهم بذله فقال يوسف في جوابه مَعَاذَ اللَّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ ( يوسف 79 ) فانقطع طمعهم من يوسف عليه السلام في رده فعند هذا قال تعالى فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّا وهو مبالغة في يأسهم من رده وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً أي تفردوا عن سائر الناس يتناجون ولا شبهة أن المراد يتشاورون ويتحيلون الرأي فيما وقعوا فيه لأنهم إنما أخذوا بنيامين من أبيهم بعد المواثيق المؤكدة وبعد أن كانوا متهمين في حق يوسف فلو لم يعيدوه إلى أبيهم لحصلت محن كثيرة أحدها أنه لو لم يعودوا إلى أبيهم وكان شيخاً كبيراً فبقاؤه وحده من غير أحد من أولاده محنة عظيمة وثانيها أن أهل بيتهم كانوا محتاجين إلى الطعام أشد الحاجة وثالثها أن يعقوب عليه السلام ربما كان يظن أن أولاده هلكوا بالكلية وذلك غم شديد ولو عادوا إلى أبيهم بدون بنيامين لعظم حياؤهم فإن ظاهر الأمر يوهم أنهم خانوه في هذا الابن كما أنهم خانوه في الابن الأول ولكان يوهم أيضاً أنهم ما أقاموا لتلك المواثيق المؤكدة وزنا ولا شك أن هذا الموضع موضع فكرة وحيرة وذلك يوجب التفاوض والتشاور طلباً للأصلح الأصوب فهذا هو المراد من قوله فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّا
المسألة الثانية قال الواحدي روي عن ابن كثير استياسوا حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ ( يوسف 110 ) بغير همز وفي ييئس لغتان يئس وييأس مثل حسب ويحسب ومن قال استيأس قلب العين إلى موضع الفاء فصار استعفل وأصله استيأس ثم خففت الهمزة قال صاحب ( الكشاف ) استيأسوا يئسوا وزيادة السين والتاء للمبالغة كما في قوله استعصم ( يوسف 32 ) وقوله مِنْهُ خَلَصُواْ قال الواحدي يقال خلص الشيء يخلص خلوصاً إذا ذهب عنه الشائب من غيره ثم فيه وجهان الأول قال الزجاج خلصوا أي انفردوا وليس معهم أخوهم والثاني قال الباقون تميزوا عن الأجانب وهذا هو الأظهر وأما قوله نَجِيّاً فقال صاحب ( الكشاف ) النجي على معنيين يكون بمعنى المناجي كالعشير والسمير بمعنى المعاشر والمسامر ومنه قوله تعالى وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً ( مريم 52 )

وبمعنى المصدر الذي هو التناجي كما قيل النجوى بمعنى المتناجين فعلى هذا معنى خَلَصُواْ نَجِيّا اعتزلوا وانفردوا عن الناس خالصين لا يخالطهم سواهم نَجِيّاً أي مناجياً روي نَجْوَى أي فوجاً نَجِيّاً أي مناجياً لمناجاة بعضهم بعضاً وأحسن الوجوه أن يقال إنهم تمحضوا تناجياً لأن من كمل حصول أمر من الأمور فيه وصف بأنه صار غير ذلك الشيء فلما أخذوا في التناجي على غاية الجد صاروا كأنهم في أنفسهم صاروا نفس التناجي حقيقة
أما قوله تعالى قَالَ كَبِيرُهُمْ فقيل المراد كبيرهم في السن وهو روبيل وقيل كبيرهم في العقل وهو يهودا وهو الذي نهاهم عن قتل يوسف ثم حكى تعالى عن هذا الكبير أنه قال أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقًا مّنَ اللَّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِى يُوسُفَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قال ابن عباس رضي الله عنهما لما قال يوسف عليه السلام مَعَاذَ اللَّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ ( يوسف 79 ) غضب يهودا وكان إذا غضب وصاح فلا تسمع صوته حامل إلا وضعت ويقوم شعره على جسده فلا يسكن حتى يضع بعض آل يعقوب يده عليه فقال لبعض إخوته اكفوني أسواق أهل مصر وأنا أكفيكم الملك فقال يوسف عليه السلام لابن صغير له مسه فمسه فذهب غضبه وهم أن يصيح فركض يوسف عليه السلام رجله على الأرض وأخذ بملابسه وجذبه فسقط فعنده قال يا أيها العزيز فلما أيسوا من قبول الشفاعة تذاكروا وقالوا إن أبانا قد أخذ علينا موثقاً عظيماً من الله وأيضاً نحن متهمون بواقعة يوسف فكيف المخلص من هذه الورطة
المسألة الثانية لفظ ما في قوله مَا فَرَّطتُمْ فيها وجوه الأول أن يكون أصله من قبل هذا فرطتم في شأن يوسف عليه السلام ولم تحفظوا عهد أبيكم الثاني أن تكون مصدرية ومحله الرفع على الابتداء وخبره الظرف وهو من قبل ومعناه وقع من قبل تفريطكم في يوسف الثالث النصب عطفاً على مفعول أَلَمْ تَعْلَمُواْ والتقدير ألم تعلموا أخذ أبيكم موثقكم وتفريطكم من قبل في يوسف الرابع أن تكون موصولة بمعنى ومن قبل هذا ما فرطتموه أي قدمتموه في حق يوسف من الخيانة العظيمة ومحله الرفع والنصب على الوجهين المذكورين ثم قال فَلَنْ أَبْرَحَ الاْرْضَ أي فلن أفارق أرض مصر حتى يأذن لي أبي في الانصراف إليه أو يحكم الله لي بالخروج منها أو بالانتصاف ممن أخذ أخي أو بخلاصه من يده بسبب من الأسباب وهو خير الحاكمين لأنه لا يحكم إلا بالعدل والحق وبالجملة فالمراد ظهور عذر يزول معه حياؤه وخجله من أبيه أو غيره قاله انقطاعاً إلى الله تعالى في إظهار عذره بوجه من الوجوه
ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ ياأَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ وَاسْئَلِ الْقَرْيَة َ الَّتِى كُنَّا فِيهَا وَالّعِيْرَ الَّتِى أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ

واعلم أنهم لما تفكروا في الأصوب ما هو ظهر لهم أن الأصوب هو الرجوع وأن يذكروا لأبيهم كيفية الواقعة على الوجه من غير تفاوت والظاهر أن هذا القول قاله ذلك الكبير الذي قال فَلَنْ أَبْرَحَ الاْرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِى أَبِى قيل إنه روبيل وبقي هو في مصر وبعث سائر إخوته إلى الأب
فإن قيل كيف حكموا عليه بأنه سرق من غير بينة لا سيما وهو قد أجاب بالجواب الشافي فقال الذي جعل الصواع في رحلي هو الذي جعل البضاعة في رحلكم
والجواب عنه من وجوه
الوجه الأول أنهم شاهدوا أن الصواع كان موضوعاً في موضع ما كان يدخله أحد إلا هم فلما شاهدوا أنهم أخرجوا الصواع من رحله غلب على ظنونهم أنه هو الذي أخذ الصواع وأما قوله وضع الصواع في رحلي من وضع البضاعة في رحالكم فالفرق ظاهر لأن هناك لما رجعوا بالبضاعة إليهم اعترفوا بأنهم هم الذين وضعوها في رحالهم وأما هذا الصواع فإن أحداً لم يعترف بأنه هو الذي وضع الصواع في رحله فظهر الفرق فلهذا السبب غلب على ظنونهم أنه سرق فشهدوا بناء على هذا الظن ثم بينهم غير قاطعين بهذا الأمر بقولهم وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ
والوجه الثاني في الجواب أن تقدير الكلام إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ في قول الملك وأصحابه ومثله كثير في القرآن قال تعالى إِنَّكَ لاَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ( هود 87 ) أي عند نفسك وقال تعالى ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ( الدخان 49 ) أي عند نفسك وأما عندنا فلا فكذا ههنا
الوجه الثالث في الجواب أن ابنك ظهر عليه ما يشبه السرقة ومثل هذا الشيء يسمى سرقة فإن إطلاق اسم أحد الشبيهين على الشبيه الآخر جائز في القرآن قال تعالى وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا ( الشورى 40 )
الوجه الرابع أن القوم ما كانوا أنبياء في ذلك الوقت فلا يبعد أن يقال إنهم ذكروا هذا الكلام على سبيل المجازفة لا سيما وقد شاهدوا شيئاً يوهم ذلك
الوجه الخامس أن ابن عباس رضي الله عنهما كان يقرأ إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ بالتشديد أي نسب إلى السرقة فهذه القراءة لا حاجة بها إلى التأويل لأن القوم نسبوه إلى السرقة إلا أنا ذكرنا في هذا الكتاب أن أمثال هذه القراآت لا تدفع السؤال لأن الإشكال إنما يدفع إذا قلنا القراءة الأولى باطلة والقراءة الحقة هي هذه أما إذا سلمنا أن القراءة الأولى حقة كان الإشكال باقياً سواء صحت هذه القراءة الثانية أو لم تصح فثبت أنه لا بد من الرجوع إلى أحد الوجوه المذكورة أما قوله وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا فمعناه ظاهر لأنه يدل على أن الشهادة غير العلم بدليل قوله تعالى وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وذلك يقتضي كون الشهادة مغايرة للعلم ولأنه عليه السلام قال إذا علمت مثل الشمس فاشهد وذلك أيضاً يقتضي ما ذكرنا وليست الشهادة أيضاً عبارة عن قوله أشهد لأن قوله أشهد إخبار عن الشهادة والإخبار عن الشهادة غير الشهادة
إذا ثبت هذا فنقول الشهادة عبارة عن الحكم الذهني وهو الذي يسميه المتكلمون بكلام النفس وأما قوله وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ ففيه وجوه الأول أنا قد رأينا أنهم أخرجوا الصواع من رحله وأما حقيقة الحال فغير معلومة لنا فإن الغيب لا يعلمه إلا الله والثاني قال عكرمة معناه لعل الصواع دس في متاعه

بالليل فإن الغيب اسم لليل على بعض اللغات والثالث قال مجاهد والحسن وقتادة وما كنا نعلم أن ابنك يسرق ولو علمنا ذلك ما ذهبنا به إلى الملك وما أعطيناك موثقاً من الله في رده إليك والرابع نقل أن يعقوب عليه السلام قال لهم فهب أنه سرق ولكن كيف عرف الملك أن شرع بني إسرائيل أن من سرق يسترق بل أنتم ذكرتموه له لغرض لكم فقالوا عند هذا الكلام أنا قد ذكرنا له هذا الحكم قبل وقوعنا في هذه الواقعة وما كنا نعلم أن هذه الواقعة نقع فيها فقوله وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ إشارة إلى هذا المعنى
فإن قيل فهل يجوز من يعقوب عليه السلام أن يسعى في إخفاء حكم الله تعالى على هذا القول
قلنا لعله كان ذلك الحكم مخصوصاً بما إذا كان المسروق منه مسلماً فلهذا أنكر ذكر هذا الحكم عند الملك الذي ظنه كافراً
ثم حكى تعالى عنهم أنهم قالوا وَاسْئَلِ الْقَرْيَة َ الَّتِى كُنَّا فِيهَا وَالّعِيْرَ الَّتِى أَقْبَلْنَا فِيهَا
واعلم أنهم لما كانوا متهمين بسبب واقعة يوسف عليه السلام بالغوا في إزالة التهمة عن أنفسهم فقالوا وَاسْئَلِ الْقَرْيَة َ الَّتِى كُنَّا فِيهَا والأكثرون اتفقوا على أن المراد من هذه القرية مصر وقال قوم بل المراد منه قرية على باب مصر جرى فيها حديث السرقة والتفتيش ثم فيه قولان الأول المراد واسأل أهل القرية إلا أنه حذف المضاف للإيجاز والاختصار وهذا النوع من المجاز مشهور في لغة العرب قال أبو علي الفارسي ودافع جواز هذا في اللغة كدافع الضروريات وجاحد المحسوسات والثاني قال أبو بكر الأنباري المعنى اسأل القرية والعير والجدار والحيطان فإنها تجيبك وتذكر لك صحة ما ذكرناه لأنك من أكابر أنبياء الله فلا يبعد أن ينطق الله هذه الجمادات معجزة لك حتى تخبر بصحة ما ذكرناه وفيه وجه ثالث وهو أن الشيء إذا ظهر ظهوراً تاماً كاملاً فقد يقال فيه سل السماء والأرض وجميع الأشياء عنه والمراد أنه بلغ في الظهور إلى الغاية التي ما بقي للشك فيه مجال
أما قوله وَالّعِيْرَ الَّتِى أَقْبَلْنَا فِيهَا فقال المفسرون كان قد صحبهم قوم من الكنعانيين فقالوا سلهم عن هذه الواقعة ثم إنهم لما بالغوا في التأكيد والتقرير قالوا وِإِنَّا لَصَادِقُونَ يعني سواء نسبتنا إلى التهمة أو لم تنسبنا إليها فنحن صادقون وليس غرضهم أن يثبتوا صدق أنفسهم بأنفسهم لأن هذا يجري مجرى إثبات الشيء بنفسه بل الإنسان إذا قدم ذكر الدليل القاطع على صحة الشيء فقد يقول بعده وأنا صادق في ذلك يعني فتأمل فيما ذكرته من الدلائل والبينات لتزول عنك الشبهة
قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ
اعلم أن يعقوب عليه السلام لما سمع من أبنائه ذلك الكلام لم يصدقهم فيما ذكروا كما في واقعة

يوسف فقال بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ فذكر هذا الكلام بعينه في هذه الواقعة إلا أنه قال في واقعة يوسف عليه السلام وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ( يوسف 18 ) وقال ههنا عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا وفيه مسائل
المسألة الأولى قال بعضهم إن قوله بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا ليس المراد منه ههنا الكذب والاحتيال كما في قوله في واقعة يوسف عليه السلام حين قال بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا لكنه عنى سولت لكم أنفسكم إخراج بنيامين عني والمصير به إلى مصر طلباً للمنفعة فعاد من ذلك شر وضرر وألححتم علي في إرساله معكم ولم تعلموا أن قضاء الله إنما جاء على خلاف تقديركم وقيل بل المعنى سولت لكم أنفسكم أمراً خيلت لكم أنفسكم أنه سرق وما سرق
المسألة الثانية قيل إن روبيل لما عزم على الإقامة بمصر أمره الملك أن يذهب مع إخوته فقال أتركوني وإلا صحت صيحة لا تبقى بمصر امرأة حامل إلا وتضع حملها فقال يوسف دعوه ولما رجع القوم إلى يعقوب عليه السلام وأخبروه بالواقعة بكى وقال يا بني لا تخرجوا من عندي مرة إلا ونقص بعضكم ذهبتم مرة فنقص يوسف وفي الثانية نقص شمعون وفي هذه الثالثة نقص روبيل وبنيامين ثم بكى وقال عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً وإنما حكم بهذا الحكم لوجوه الأول أنه لما طال حزنه وبلاؤه ومحنته علم أنه تعالى سيجعل له فرجاً ومخرجاً عن قريب فقال ذلك على سبيل حسن الظن برحمة الله والثاني لعله تعالى قد أخبره من بعد محنة يوسف أنه حي أو ظهرت له علامات ذلك وإنما قال عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا لأنهم حين ذهبوا بيوسف كانوا إثني عشر فضاع يوسف وبقي أحد عشر ولما أرسلهم إلى مصر عادوا تسعة لأن بنيامين حبسه يوسف واحتبس ذلك الكبير الذي قال فَلَنْ أَبْرَحَ الاْرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِى أَبِى أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِى ( يوسف 80 ) فلما كان الغائبون ثلاثة لا جرم قَالَ عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا
ثم قال إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ يعني هو العالم بحقائق الأمور الحكيم فيها على الوجه المطابق للفضل والإحسان والرحمة والمصلحة
وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ ياأَسَفَا عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ قَالَ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّى وَحُزْنِى إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ يابَنِى َّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَايْأسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَايْأسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ

واعلم أن يعقوب عليه السلام لما سمع كلام أبنائه ضاق قلبه جداً وأعرض عنهم وفارقهم ثم بالآخرة طلبهم وعاد إليهم
أما المقام الأول وهو أنه أعرض عنهم وفر منهم فهو قوله وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ ياأَسَفَا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ
واعلم أنه لما ضاق صدره بسبب الكلام الذي سمعه من أبنائه في حق بنيامين عظم أسفه على يوسف عليه السلام وَقَالَ يأَبَتِ دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ وإنما عظم حزنه على مفارقة يوسف عند هذه الواقعة لوجوه
الوجه الأول أن الحزن الجديد يقوي الحزن القديم الكامن والقدح إذا وقع على القدح كان أوجع وقال متمم بن نويرة وقد لامني عند القبور على البكا
رفيقي لتذراف الدموع السوافك
فقال أتبكي كل قبر رأيته
لقبر ثوى بين اللوى والدكادك
فقلت له إن الأسى يبعث الأسى
فدعني فهذا كله قبر مالك
وذلك لأنه إذا رأى قبراً فتجدد حزنه على أخيه مالك فلاموه عليه فأجاب بأن الأسى يبعث الأسى وقال آخر فلم تنسني أو في المصيبات بعده
ولكن نكاء القرح بالقرح أوجع
والوجه الثاني أن بنيامين ويوسف كانا من أم واحدة وكانت المشابهة بينهما في الصورة والصفة أكمل فكان يعقوب عليه السلام يتسلى برؤيته عن رؤية يوسف عليه السلام فلما وقع ما وقع زال ما يوجب السلوة فعظم الألم والوجد
الوجه الثالث أن المصيبة في يوسف كانت أصل مصائبه التي عليها ترتب سائر المصائب والرزايا وكان الأسف عليه أسفاً على الكل الرابع أن هذه المصائب الجديدة كانت أسبابها جارية مجرى الأمور التي يمكن معرفتها والبحث عنها وأما واقعة يوسف فهو عليه السلام كان يعلم كذبهم في السبب الذي ذكروه وأما السبب الحقيقي فما كان معلوماً له وأيضاً أنه عليه السلام كان يعلم أن هؤلاء في الحياة وأما يوسف فما كان يعلم أنه حي أو ميت فلهذه الأسباب عظم وجده على مفارقته وقويت مصيبته على الجهل بحاله
المسألة الثانية من الجهال من عاب يعقوب عليه السلام على قوله فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ قال لأن هذا إظهار للجزع وجار مجرى الشكاية من الله وأنه لا يجوز والعلماء بينوا أنه ليس الأمر كما ظنه هذا الجاهل وتقريره أنه عليه السلام لم يذكر هذه الكلمة ثم عظم بكاؤه وهو المراد من قوله وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ ثم أمسك لسانه عن النياحة وذكر مالا ينبغي وهو المراد من قوله فَهُوَ كَظِيمٌ ثم إنه ما أظهر الشكاية مع أحد من الخلق بدليل قوله إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى وَحُزْنِى إِلَى اللَّهِ وكل ذلك يدل على أنه لما عظمت مصيبته وقويت محنته فإنه صبر وتجرع الغصة وما أظهر الشكاية فلا جرم استوجب به المدح العظيم والثناء العظيم روي أن يوسف عليه السلام سأل جبريل هل لك علم بيعقوب قال نعم قال وكيف حزنه

قال حزن سبعين ثكلى وهي التي لها ولد واحد ثم يموت قال فهل له فيه أجر قال نعم أجر مائة شهيد
فإن قيل روي عن محمد بن علي الباقر قال مر بيعقوب شيخ كبير فقال له أنت إبراهيم فقال أنا ابن ابنه والهموم غيرتني وذهبت بحسني وقوتي فأوحى الله تعالى إليه ( حتى متى تشكوني إلى عبادي وعزتي وجلالي لو لم تشكني لأبدلنك لحماً خيراً من لحمك ودماً خيراً من دمك ) فكان من بعد يقول إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( كان ليعقوب أخ مواخ ) فقال له ما الذي أذهب بصرك وقوس ظهرك فقال الذي أذهب بصري البكاء على يوسف وقوس ظهري الحزن على بنيامين فأوحى الله تعالى إليه ( أما تستحي تشكوني إلى غيري ) فقال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله فقال يا رب أما ترحم الشيخ الكبير قوست ظهري وأذهبت بصري فاردد عليَّ ريحانتي يوسف وبنيامين فأتاه جبريل عليه السلام بالبشرى وقال لو كانا ميتين لنشرتهما لك فاصنع طعاماً للمساكين فإن أحب عبادي إلي الأنبياء والمساكين وكان يعقوب عليه السلام إذا أراد الغداء نادى مناديه من أراد الغداء فليتغد مع يعقوب وإذا كان صائماً نادى مثله عند الإفطار وروي أنه كان يرفع حاجبيه بخرقة من الكبر فقال له رجل ما هذا الذي أراه بك قال طول الزمان وكثرة الأحزان فأوحى الله إليه ( أتشكوني يا يعقوب ) فقال يارب خطيئة أخطأتها فاغفرها لي
قلنا إنا قد دللنا على أنه لم يأت إلا بالصبر والثبات وترك النياحة وروي أن ملك الموت دخل على يعقوب عليه السلام فقال له جئت لتقبضني قبل أن أرى حبيبي فقال لا ولكن جئت لأحزن لحزنك وأشجو لشجوك وأما البكاء فليس من المعاصي وروي أن النبي عليه الصلاة والسلام بكى على ولده إبراهيم عليه السلام وقال ( إن القلب ليحزن والعين تدمع ولا نقول ما يسخط الرب وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون ) وأيضاً فاستيلاء الحزن على الإنسان ليس باختياره فلا يكون ذلك داخلاً تحت التكليف وأما التأوه وإرسال البكاء فقد يصير بحيث لا يقدر على دفعه وأما ما ورد في الروايات التي ذكرتم فالمعاتبة فيها إنما كانت لأجل أن حسنات الأبرار سيئات المقربين وأيضاً ففيه دقيقة أخرى وهي أن الإنسان إذا كان في موضع التحير والتردد لا بد وأن يرجع إلى الله تعالى فيعقوب عليه السلام ما كان يعلم أن يوسف بقي حياً أم صار ميتاً فكان متوقفاً فيه وبسبب توقفه كان يكثر الرجوع إلى الله تعالى وينقطع قلبه عن الالتفات عن كل ما سوى الله تعالى إلا في هذه الواقعة وكان أحواله في هذه الواقعة مختلفة فربما صار في بعض الأوقات مستغرق الهم بذكر الله تعالى فإن عن تذكر هذا الواقعة فكان ذكرها كلا سواها فلهذا السبب صارت هذا الواقعة بالنسبة إليه جارية مجرى الإلقاء في النار للخليل عليه السلام ومجرى الذبح لابنه الذبيح
فإن قيل أليس أن الأولى عند نزول المصيبة الشديدة أن يقول إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعونَ ( البقرة 156 ) حتى يستوجب الثواب العظيم المذكور في قوله أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَة ٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ( البقرة 157 )
قلنا قال بعض المفسرين إنه لم يعط الاسترجاع أمة إلا هذه الأمة فأكرمهم الله تعالى إذا أصابتهم مصيبة وهذا عندي ضعيف لأن قوله إِنَّا لِلَّهِ إشارة إلى أنا مملوكون لله وهو الذي خلقنا وأوجدنا وقوله وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعونَ إشارة إلى أنه لا بد من الحشر والقيامة ومن المحال أن أمة من الأمم لا يعرفون ذلك فمن عرف عند نزول بعض المصائب به أنه لا بد في العاقبة من رجوعه إلى الله تعالى فهناك تحصل السلوة التامة عند

تلك المصيبة ومن المحال أن يكون لمؤمن بالله غير عارف بذلك
المسألة الثالثة قوله فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ نداء الأسف وهو كقوله ( يا عجباً ) والتقدير كأنه ينادي الأسف ويقول هذا وقت حصولك وأوان مجيئك وقد قررنا هذا المعنى في مواضع كثيرة منها في تفسير قوله حَاشَ للَّهِ ( يوسف 31 ) والأسف الحزن على ما فات قال الليث إذا جاءك أمر فحزنت له ولم تطقه فأنت أسيف أي حزني ومتأسف أيضاً قال الزجاج الأصل يا أسفى إلا أن ياء الإضافة يجوز إبدالها بالألف لخفة الألف والفتحة
ثم قال تعالى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ وفيه وجهان
الوجه الأول أنه لما قال يا أسفى على يوسف غلبه البكاء وعند غلبة البكاء يكثر الماء في العين فتصير العين كأنها ابيضت من بياض ذلك الماء وقوله وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ كناية عن غلبة البكاء والدليل على صحة هذا القول أن تأثير الحزن في غلبة البكاء لا في حصول العمى فلو حملنا الابيضاض على غلبة البكاء كان هذا التعليل حسناً ولو حملناه على العمى لم يحسن هذا التعليل فكان ما ذكرناه أولى وهذا للتفسير مع الدليل رواه الواحدي في ( البسيط ) عن ابن عباس رضي الله عنهما
والوجه الثاني أن المراد هو العمى قال مقاتل لم يبصر بهما ست سنين حتى كشف الله تعالى عنه بقميص يوسف عليه السلام وهو قوله فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِى يَأْتِ بَصِيرًا ( يوسف 93 ) قيل إن جبريل عليه السلام دخل على يوسف عليه السلام حينما كان في السجن فقال إن بصر أبيك ذهب من الحزن عليك فوضع يده على رأسه وقال ليت أمي لم تلدني ولم أك حزناً على أبي والقائلون بهذا التأويل قالوا الحزن الدائم يوجب البكاء الدائم وهو يوجب العمى فالحزن كان سبباً للعمى بهذه الواسطة وإنما كان البكاء الدائم يوجب العمى لأنه يورث كدورة في سوداء العين ومنهم من قال ما عمي لكنه صار بحيث يدرك إدراكاً ضعيفاً قيل ما جفت عينا يعقوب من وقت فراق يوسف عليه السلام إلى حين لقائه وتلك المدة ثمانون عاماً وما كان على وجه الأرض عبداً أكرم على الله تعالى من يعقوب عليه السلام
أما قوله تعالى مِنَ الْحُزْنِ فاعلم أنه قرىء مِنَ الْحُزْنِ بضم الحاء وسكون الزاي وقرأ الحسن بفتح الحاء والزاي قال الواحدي واختلفوا في الحزن والحزن فقال قوم الحزن البكاء والحزن ضد الفرح وقال قوم هما لغتان يقال أصابه حزن شديد وحزن شديد وهو مذهب أكثر أهل اللغة وروى يونس عن أبي عمرو قال إذا كان في موضع النصب فتحوا الحاء والزاي كقوله تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً ( التوبة 92 ) وإذا كان في موضع الخفض أو الرفع ضموا الحاء كقوله مِنَ الْحُزْنِ وقوله أَشْكُو بَثّى وَحُزْنِى إِلَى اللَّهِ قال هو في موضع رفع الابتداء
وأما قوله تعالى فَهُوَ كَظِيمٌ فيجوز أن يكون بمعنى الكاظم وهو الممسك على حزنه فلا يظهره قال ابن قتيبة ويجوز أن يكون بمعنى المكظوم ومعناه المملوء من الحزن مع سد طريق نفسه المصدور من كظم السقاء إذا اشتد على ملئه ويجوز أيضاً أن يكون بمعنى مملوء من الغيظ على أولاده
واعلم أن أشرف أعضاء الإنسان هذه الثلاثة فبين تعالى أنها كانت غريقة في الغم فاللسان كان

مشغولاً بقوله يا أسفى والعين بالبكاء والبياض والقلب بالغم الشديد الذي يشبه الوعاء المملوء الذي شد ولا يمكن خروج الماء منه وهذه مبالغة في وصف ذلك الغم
أما قوله تعالى قَالُواْ تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال ابن السكيت يقال ما زلت أفعله وما فتئت أفعله وما برحت أفعله ولا يتكلم بهن إلا مع الجحد قال ابن قتيبة يقال ما فتيت وما فتئت لغتان فتيا وفتوأ إذا نسيته وانقطعت عنه قال النحويون وحرف النفي ههنا مضمر على معنى قالوا ما تفتؤا ولا تفتؤ وجاز حذفه لأنه لو أريد الإثبات لكان باللام والنون نحو والله لتفعلن فلما كان بغير اللام والنون عرف أن كلمة لا مضمرة وأنشدوا قول امرىء القيس
فقلت يمين الله أبرح قاعداً
والمعنى لا أبرح قاعداً ومثله كثير وأما المفسرون فقال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة لا تزال تذكره وعن مجاهد لا تفتر من حبه كأنه جعل الفتور والفتوء أخوين
المسألة الثانية حكى الواحدي عن أهل المعاني أن أصل الحرض فساد الجسم والعقل للحزن والحب وقوله حرضت فلاناً على فلان تأويله أفسدته وأحميته عليه وقال تعالى حَرّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ( الأنفال 65 )
إذا عرفت هذا فنقول وصف الرجل بأنه حرض إما أن يكون لإرادة أنه ذو حرض فحذف المضاف أو لإرادة أنه لما تناهى في الفساد والضعف فكأنه صار عين الحرض ونفس الفساد وأما الحرض بكسر الراء فهو الصفة وجاءت القراءة بهما معاً
إذا عرفت هذا فنقول للمفسرين فيه عبارات أحدها الحرض والحارض هو الفاسد في جسمه وعقله وثانيهما سأل نافع بن الأزرق ابن عباس عن الحرض فقال الفاسد الدنف وثالثها أنه الذي يكون لا كالأحياء ولا كالأموات وذكر أبو روق أن أنس بن مالك قرأ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً بضم الحاء وتسكين الراء قال يعني مثل عود الأشنان وقوله أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ أي من الأموات ومعنى الآية أنهم قالوا لأبيهم إنك لا تزال تذكر يوسف بالحزن والبكاء عليه حتى تصير بذلك إلى مرض لا تنتفع بنفسك معه أو تموت من الغم كأنهم قالوا أنت الآن في بلاء شديد ونخاف أن يحصل ما هو أزيد منه وأقوى وأرادوا بهذا القول منعه عن كثرة البكاء والأسف
فإن قيل لم حلفوا على ذلك مع أنهم لم يعلموا ذلك قطعاً
قلنا إنهم بنوا هذا الأمر على الظاهر
فإن قيل القائلون بهذا الكلام وهو قوله تَاللَّهِ من هم
قلنا الأظهر أن هؤلاء ليسوا هم الإخوة الذين قد تولى عنهم بل الجماعة الذين كانوا في الدار من أولاد أولاده وخدمه

ثم حكى تعالى عن يعقوب عليه السلام أنه قال قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى وَحُزْنِى إِلَى اللَّهِ يعني أن هذا الذي أذكره لا أذكره معكم وإنما أذكره في حضرة الله تعالى والإنسان إذا بث شكواه إلى الله تعالى كان في زمرة المحققين كما قال عليه الصلاة والسلام ( أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بعفوك من غضبك وأعوذ بك منك ) والله هو الموفق والبث هو التفريق قال الله تعالى وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلّ دَابَّة ٍ ( البقرة 164 ) فالحزن إذا ستره الإنسان كان هماً وإذا ذكره لغيره كان بثاً وقالوا البث أشد الحزن والحزن أشد الهم وذلك لأنه متى أمكنه أن يمسك لسانه عن ذكره لم يكن ذلك الحزن مستولياً عليه وأما إذا عظم وعجز الإنسان عن ضبطه وانطلق اللسان بذكره شاء أم أبى كان ذلك بثاً وذلك يدل على أن الإنسان صار عاجزاً عنه وهو قد استولى على الإنسان فقوله بَثّى وَحُزْنِى إِلَى اللَّهِ أي لا أذكر الحزن العظيم ولا الحزن القليل إلا مع الله وقرأ الحسن وَحُزْنِى بفتحتين وحزني بضمتين قيل دخل على يعقوب رجل وقال يا يعقوب ضعف جسمك ونحف بدنك وما بلغت سناً عالياً فقال الذي بي لكثرة غمومي فأوحى الله إليه يا يعقوب أتشكوني إلى خلقي فقال يارب خطيئة أخطأتها فاغفرها لي فغفرها له وكان بعد ذلك إذا سئل قال إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى وَحُزْنِى إِلَى اللَّهِ وروي أنه أوحى الله إليه إنما وجدت عليكم لأنكم ذبحتم شاة فقام ببابكم مسكين فلم تطعموه وإن أحب خلقي إليَّ الأنبياء والمساكين فاصنع طعاماً وادع إليه المساكين وقيل اشترى جارية مع ولدها فباع ولدها فبكت حتى عميت
ثم قال يعقوب عليه السلام وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ أي أعلم من رحمته وإحسانه ما لا تعلمون وهو أنه تعالى يأتي بالفرج من حيث لا أحتسب فهو إشارة إلى أنه كان يتوقع وصول يوسف إليه وذكروا لسبب هذا التوقع أموراً أحدها أن ملك الموت أتاه فقال له يا ملك الموت هل قبضت روح ابني يوسف قال لا يا نبي الله ثم أشار إلى جانب مصر وقال أطلبه ههنا وثانيها أنه علم أن رؤيا يوسف صادقة لأن أمارات الرشد والكمال كانت ظاهرة في حق يوسف ورؤيا مثله عليه السلام لا تخطىء وثالثها لعله تعالى أوحى إليه أنه سيوصله إليه ولكنه تعالى ما عين الوقت فلهذا بقي في القلق ورابعها قال السدي لما أخبره بنوه بسيرة الملك وكمال حاله في أقواله وأفعاله طمع أن يكون هو يوسف وقال يبعد أن يظهر في الكفار مثله وخامسها علم قطعاً أن بنيامين لا يسرق وسمع أن الملك ما آذاه وما ضربه فغلب على ظنه أن ذلك الملك هو يوسف فهذا جملة الكلام في المقام الأول
والمقام الثاني أنه رجع إلى أولاده وتكلم معهم على سبيل اللطف وهو قوله تَعْلَمُونَ يبَنِى َّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ
واعلم أنه عليه السلام لما طمع في وجدان يوسف بناء على الأمارات المذكورة قال لبنيه تحسسوا من يوسف والتحسس طلب الشيء بالحاسة وهو شبيه بالسمع والبصر قال أبو بكر الأنباري يقال تحسست عن فلان ولا يقال من فلان وقيل ههنا من يوسف لأنه أقام من مقام عن قال ويجوز أن يقال من للتبعيض والمعنى تحسسوا خبراً من أخبار يوسف واستعلموا بعض أخبار يوسف فذكرت كلمة مِنْ لما فيها من الدلالة على التجيض وقرىء تَجَسَّسُواْ بالجيم كما قرىء بهما في الحجرات

ثم قال وَلاَ تَايْئَسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ قال الأصمعي الروح ما يجده الإنسان من نسيم الهواء فيسكن إليه وتركيب الراء والواو الحاء يفيد الحركة والاهتزاز فكلما يهتز انسان له ويلتذ بوجوده فهو روح وقال ابن عباس لا تيئسوا من روح الله يريد من رحمة الله وعن قتادة من فضل الله وقال ابن زيد من فرج الله وهذه الألفاظ متقاربة وقرأ الحسن وقتادة من روح الله بالضم أي من رحمته
ثم قال يبَنِى َّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَايْئَسُواْ مِن قال ابن عباس رضي الله عنهما إن المؤمن من الله على خير يرجوه في البلاء ويحمده في الرخاء
واعلم أن اليأس من رحمة الله تعالى لا يحصل إلا إذا اعتقد الإنسان أن الإله غير قادر على الكمال أو غير عالم بجميع المعلومات أو ليس بكريم بل هو بخيل وكل واحد من هذه الثلاثة يوجب الكفر فإذا كان اليأس لا يحصل إلا عند حصول أحد هذه الثلاثة وكل واحد منها كفر ثبت أن اليأس لا يحصل إلا لمن كان كافراً والله أعلم وقد بقي من مباحث هذه الآية سؤالات
السؤال الأول أن بلوغ يعقوب في حب يوسف إلى هذا الحد العظيم لا يليق إلا بمن كان غافلاً عن الله فإن من عرف الله أحبه ومن أحب الله لم يتفرغ قلبه لحب شيء سوى الله تعالى وأيضاً القلب الواحد لا يتسع للحب المستغرق لشيئين فلما كان قلبه مستغرقاً في حب ولده امتنع أن يقال إنه كان مستغرقاً في حب الله تعالى
والسؤال الثاني أن عند استيلاء الحزن الشديد عليه كان من الواجب أن يشتغل بذكر الله تعالى وبالتفويض إليه والتسليم لقضائه
وأما قوله فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ فذلك لا يليق بأهل الدين والعلم فضلاً عن أكابر الأنبياء
والسؤال الثالث لا شك أن يعقوب كان من أكابر الأنبياء وكان أبوه وجده وعمه كلهم من أكابر الأنبياء المشهورين في جميع الدنيا ومن كذلك ثم وقعت له واقعة هائلة صعبة في أعز أولاده عليه لم تبق تلك الواقعة خفية بل لا بد وأن يبلغ في الشهرة إلى حيث يعرفها كل أحد لا سيما وقد انقضت المدة الطويلة فيها وبقي يعقوب على حزنه الشديد وأسفه العظيم وكان يوسف في مصر وكان يعقوب في بعض بلاد الشام قريباً من مصر فمع قرب المسافة يمتنع بقاء هذه الواقعة مخفية
السؤال الرابع لم لم يبعث يوسف عليه السلام أحداً إلى يعقوب ويعلمه أنه في الحياة وفي السلامة ولا يقال إنه كان يخاف إخوته لأنه بعد أن صار ملكاً قاهراً كان يمكنه إرسال الرسول إليه وإخوته ما كانوا يقدرون على دفع الرسول
والسؤال الخامس كيف جاز ليوسف عليه السلام أن يضع الصاع في وعاء أخيه ثم يستخرجه منه ويلصق به تهمة السرقة مع أنه كان بريئاً عنها
السؤال السادس كيف رغب في إلصاق هذه التهمة به وفي حبسه عند نفسه مع أنه كان يعلم أنه يزداد حزن أبيه ويقوى

والجواب عن الأول أن مثل هذه المحنة الشديدة تزيل عن القلب كل ما سواه من الخواطر ثم إن صاحب هذه المحنة الشديدة يكون كثير الرجوع إلى الله تعالى كثير الاشتغال بالدعاء والتضرع فيصير ذلك سبباً لكمال الاستغراق
والجواب عن الثاني أن الداعي الإنسانية لا تزول في الحياة العاجلة فتارة كان يقول فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ ( يوسف 84 ) وتارة كان يقول فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ( يوسف 18 ) وأما بقية الأسئلة فالقاضي أجاب عنها بجواب كلي حسن فقال هذه الوقائع التي نقلت إلينا إما يمكن تخريجها على الأحوال المعتادة أو لا يمكن فإن كان الأول فلا إشكال وإن كان الثاني فنقول كان ذلك الزمان زمان الأنبياء عليهم السلام وخرق العادة في هذا الزمان غير مستبعد فلم يمتنع أن يقال إن بلدة يعقوب عليه السلام مع أنها كانت قريبة من بلدة يوسف عليه السلام ولكن لم يصل خبر أحدهما إلى الآخر على سبيل نقض العادة
فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ ياأَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَة ٍ مُّزْجَاة ٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ اللَّهَ يَجْزِى الْمُتَصَدِّقِينَ قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ قَالُوا أَءِنَّكَ لاّنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَاذَا أَخِى قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَآ إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ
اعلم أن المفسرين اتفقوا على أن ههنا محذوفاً والتقدير أن يعقوب لما قال لبنيه اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ قبلوا من أبيهم هذه الوصية فعادوا إلى مصر ودخلوا على يوسف عليه السلام فقالوا له هُوَ الْقَوِى ُّ الْعَزِيزُ
فإن قيل إذا كان يعقوب أمرهم أن يتحسسوا أمر يوسف وأخيه فلماذا عدلوا إلى الشكوى وطلبوا إيفاء الكيل
قلنا لأن المتحسسين يتوسلون إلى مطلوبهم بجميع الطرق والاعتراف بالعجز وضيق اليد ورقة الحال وقلة المال وشدة الحاجة مما يرقق القلب فقالوا نجربه في ذكر هذه الأمور فإن رق قلبه لنا ذكرنا له المقصود وإلا سكتنا فلهذا السبب قدموا ذكر هذه الواقعة وقالوا هُوَ الْقَوِى ُّ الْعَزِيزُ والعزيز هو الملك القادر المنيع مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وهوا الفقر والحاجة وكثرة العيال وقلة الطعام وعنوا بأهلهم من خلفهم وَجِئْنَا بِبِضَاعَة ٍ مُّزْجَاة ٍ وفيه أبحاث

البحث الأول معنى الإزجاء في اللغة الدفع قليلاً قليلاً ومثله التزجية يقال الريح تزجي السحاب قال الله تعالى أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِى سَحَاباً ( النور 43 ) وزجيت فلاناً بالقول دافعته وفلان يزجي العيش أي يدفع الزمان بالحيلة
والبحث الثاني إنما وصفوا تلك البضاعة بأنها مزجاة إما لنقصانها أو لرداءتها أو لهما جميعاً والمفسرون ذكروا كل هذه الأقسام قال الحسن البضاعة المزجاة القليلة وقال آخرون إنها كانت رديئة واختلفوا في تلك الرداءة فقال ابن عباس رضي الله عنهما كانت دراهم رديئة لا تقبل في ثمن الطعام وقيل خلق الغرارة والحبل وأمتعة رثة وقيل متاع الأعراب الصوف والسمن وقيل الحبة الخضراء وقيل الأقط وقيل النعال والأدم وقيل سويق المقل وقيل صوف المعز وقيل إن دراهم مصر كانت تنقش فيها صورة يوسف والدراهم التي جاؤا بها ما كان فيها صورة يوسف فما كانت مقبولة عند الناس
البحث الثالث في بيان أنه لم سميت البضاعة القليلة الرديئة مزجاة وفيه وجوه الأول قال الزجاج هي من قولهم فلان يزجي العيش أي يدفع الزمان بالقليل والمعنى أنا جئنا ببضاعة مزجاة ندافع بها الزمان وليست مما ينتفع به وعلى هذا الوجه فالتقدير ببضاعة مزجاة بها الأيام الثاني قال أبو عبيد إنما قيل للدراهم الرديئة مزجاة لأنها مردودة مدفوعة غير مقبولة ممن ينفقها قال وهي من الأزجاء والأزجاء عند العرب السوق والدفع الثالث ببضاعة مزجاة أي مؤخرة مدفوعة عن الإنفاق لا ينفق مثلها إلا من اضطر واحتاج إليها لفقد غيرها مما هو أجود منها الرابع قال الكلبي مزجاة لغة العجم وقيل هي من لغة القبط قال أبو بكر الأنباري لا ينبغي أن يجعل لفظ عربي معروف الاشتقاق والتصريف منسوباً إلى القبط
البحث الرابع قرأ حمزة والكسائي مزجاة بالإمالة لأن أصله الياء والباقون بالنصب والتفخيم
واعلم أن حاصل الكلام في كون البضاعة مزجاة إما لقلتها أو لنقصانها أو لمجموعها ولما وصفوا شدة حالهم ووصفوا بضاعتهم بأنها مزجاة قالوا له فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ والمراد أن يساهلهم إما بإن يقيم الناقص مقام الزائد أو يقيم الرديء مقام الجيد ثم قالوا وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا والمراد المسامحة بما بين الثمنين وأن يسعر لهم بالرديء كما يسع بالجيد واختلف الناس في أنه هل كان ذلك طلباً منهم للصدقة فقال سفيان بن عيينة إن الصدقة كانت حلالاً للأنبياء قبل محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بهذه الآية وعلى هذا التقدير كأنهم طلبوا القدر الزائد على سبيل الصدقة وأنكر الباقون ذلك وقالوا حال الأنبياء وحال أولاد الأنبياء ينافي طلب الصدقة لأنهم يأنفون من الخضوع للمخلوقين ويغلب عليهم الانقطاع إلى الله تعالى والاستغاثة به عمن سواه وروي عن الحسن ومجاهد أنهما كرها أن يقول الرجل في دعائه اللهم تصدق علي قالوا لأن الله لا يتصدق إنما يتصدق الذي يبتغي الثواب وإنما يقول اللهم أعطني أو تفضل فعلى هذا التصدق هو إعطاء الصدقة والمتصدق المعطي وأجاز الليث أن يقال للسائل متصدق وأباه الأكثرون وروي أنهم لما قالوا مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وتضرعوا إليه اغرورقت عيناه فعند ذلك قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ وقيل دفعوا إليه كتاب يعقوب فيه من يعقوب إسرائيل الله ابن إسحق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله إلى عزيز مصر أما بعد فإنا أهل بيت موكل بنا البلاء أما جدي فشدت يداه ورجلاه ورمي في النار ليحرق فنجاه الله وجعلها برداً وسلاماً عليه وأما أبي فوضع السكين على قفاه ليقتل ففداه الله وأما أنا فكان لي ابن وكان

أحب أولادي إلي فذهب به إخوته إلى البرية ثم أتوني بقميصه ملطخاً بالدم وقالوا قد أكله الذئب فذهبت عيناي من البكاء عليه ثم كان لي ابن وكان أخاه من أمه وكنت أتسلى به فذهبوا به إليك ثم رجعوا وقالوا إنه قد سرق وإنك حبسته عندك وإنا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقاً فإن رددته علي وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك فلما قرأ يوسف عليه السلام الكتاب لم يتمالك وعيل صبره وعرفهم أنه يوسف
ثم حكى تعالى عن يوسف عليه السلام في هذا المقام أنه قال هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ قيل إنه لما قرأ كتاب أبيه يعقوب ارتعدت مفاصله واقشعر جلده ولان قلبه وكثر بكاؤه وصرح بأنه يوسف وقيل إنه لما رأى إخوته تضرعوا إليه ووصفوا ما هم عليه من شدة الزمان وقلة الحيلة أدركته الرقة فصرح حينئذ بأنه يوسف وقوله هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ استفهام يفيد تعظيم الواقعة ومعناه ما أعظم ما ارتكبتم في يوسف وما أقبح ما أقدمتم عليه وهو كما يقال للمذنب هل تدري من عصيت وعل تعرف من خالفت
واعلم أن هذه الآية تصديق لقوله تعالى وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَاذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ( يوسف 15 ) وأما قوله وَأَخِيهِ فالمراد ما فعلوا به من تعريضه للغم بسبب إفراده عن أخيه لأبيه وأمه وأيضاً كانوا يؤذونه ومن جملة أقسام ذلك الإيذاء قالوا في حقه إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ ( يوسف 77 ) وأما قوله إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ فهو يجري مجرى العذر كأنه قال أنتم إنما أقدمتم على ذلك الفعل القبيح المنكر حال ما كنتم في جهالة الصبا أو في جهالة الغرور يعني والآن لستم كذلك ونظيره ما يقال في تفسير قوله تعالى مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الْكَرِيمِ ( الأنفطار 6 ) قيل إنما ذكر تعالى هذا الوصف المعين ليكون ذلك جارياً مجرى الجواب وهو أن يقول العبد يا رب غرني كرمك فكذا ههنا إنما ذكر ذلك الكلام إزالة للخجالة عنهم وتخفيفاً للأمر عليهم ثم إن إخوته قالوا أَءنَّكَ لاَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ قرأ ابن كثير إِنَّكَ على لفظ الخبر وقرأ نافع أَءنَّكَ لاَنتَ يُوسُفُ بفتح الألف غير ممدودة وبالياء وأبو عمرو آينك بمد الألف وهو رواية قالون عن نافع والباقون أئنك بهمزتين وكل ذلك على الاستفهام وقرأ أبي أَوْ أَنتَ يُوسُفَ فحصل من هذه القراءات أن من القراء من قرأ بالاستفهام ومنهم من قرأ بالخبر أما الأولون فقالوا إن يوسف لما قال لهم هَلْ عَلِمْتُمْ وتبسم فأبصروا ثناياه وكانت كاللؤلؤ المنظوم شبهوه بيوسف فقالوا له استفهاماً أَءنَّكَ لاَنتَ يُوسُفُ ويدل على صحة الاستفهام أنه قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وإنما أجابهم عما استفهموا عنه وأما من قرأ على الخبر فحجته ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن إخوة يوسف لم يعرفوه حتى وضع التاج عن رأسه وكان في فرقه علامة وكان ليعقوب وإسحق مثلها شبه الشامة فلما رفع التاج عرفوه بتلك العلامة فقالوا إِنَّكَ لاَنتَ يُوسُفَ ويجوز أن يكون ابن كثير أراد الاستفهام ثم حذف حرف الاستفهام وقوله قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ فيه بحثان
البحث الأول اللام لام الابتداء وأنت مبتدأ ويوسف خبره والجملة خبر إن
البحث الثاني أنه إنما صرح بالاسم تعظيماً لما نزل به من ظلم إخوته وماعوضه الله من الظفر والنصر فكأنه قال أنا الذي ظلمتموني على أعظم الوجوه والله تعالى أوصلني إلى أعظم المناصب أنا ذلك العاجز الذي قصدتم قتله وإلقاءه في البئر ثم صرت كما ترون ولهذا قال وَهَاذَا أَخِى مع أنهم كانوا

يعرفونه لأن مقصوده أن يقول وهذا أيضاً كان مظلوماً كما كنت ثم إنه صار منعماً عليه من قبل الله تعالى كما ترون وقوله قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا قال ابن عباس رضي الله عنهما بكل عز في الدنيا والآخرة وقال آخرون بالجمع بيننا بعد التفرقة وقوله إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ معناه من يتق معاصي الله ويصبر على أذى الناس فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ والمعنى إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجرهم فوضع المحسنين موضع الضمير لاشتماله على المتقين وفيه مسألتان
المسألة الأولى اعلم أن يوسف عليه السلام وصف نفسه في هذا المقام الشريف بكونه متقياً ولو أنه قدم على ما يقوله الحشوية في حق زليخا لكان هذا القول كذباً منه وذكر الكذب في مثل هذا المقام الذي يؤمن فيه الكافر ويتوب فيه العاصي لا يليق بالعقلاء
المسألة الثانية قال الواحدي روي عن ابن كثير في طريق قنبل إِنَّهُ مِنَ يَتَّقِى بإثبات الياء في الحالين ووجهه أن يجعل ( من ) بمنزلة الذي فلا يوجب الجزم ويجوز على هذا الوجه أن يكون قوله وَيِصْبِرْ في موضع الرفع إلا أنه حذف الرفع طلباً للتخفيف كما يخفف في عضد وشمع والباقون بحذف الياء في الحالين
قَالُواْ تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَاحِمِينَ اذْهَبُواْ بِقَمِيصِى هَاذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِى يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِى بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ
اعلم أن يوسف عليه السلام لما ذكر لإخوته أن الله تعالى منَّ عليه وأن من يتق المعاصي ويصبر على أذى الناس فإنه لا يضيعه الله صدقوه فيه واعترفوا له بالفضل والمزية قَالُواْ تَاللَّهِ لَقَدْ اثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ قال الأصمعي يقال آثرك إيثاراً أي فضلك الله وفلان آثر عبد فلان إذا كان يؤثره بفضله وصلته والمعنى لقد فضلك الله علينا بالعلم والحلم والعقل والفضل والحسن والملك واحتج بعضهم بهذه الآية على أن إخوته ما كانوا أنبياء لأن جميع المناصب التي تكون مغايرة لمنصب النبوة كالعدم بالنسبة إليه فلو شاركوه في منصب النبوة لما قالوا تَاللَّهِ لَقَدْ اثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وبهذا التقدير يذهب سؤال من يقول لعل المراد كونه زائداً عليهم في الملك وأحوال الدنيا وإن شاركوه في النبوة لأنا بينا أن أحوال الدنيا لا يعبأ بها في جنب منصب النبوة
وأما قوله وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ قيل الخاطىء هو الذي أتى بالخطيئة عمداً وفرق بين الخاطىء والمخطىء فلهذا الفرق يقال لمن يجتهد في الأحكام فلا يصيب إنه مخطىء ولا يقال إنه خاطىء وأكثر المفسرين على أن الذي اعتذروا منه هو إقدامهم على إلقائه في الجب وبيعه وتبعيده عن البيت والأب وقال

أبو علي الجبائي إنهم لم يعتذروا إليه من ذلك لأن ذلك وقع منهم قبل البلوغ فلا يكون ذنباً فلا يعتذر منه وإنما اعتذروا من حيث إنهم أخطؤا بعد ذلك بأن لم يظهروا لأبيهم ما فعلوه ليعلم أنه حي وأن الذئب لم يأكله وهذا الكلام ضعيف من وجوه
الوجه الأول أنا بينا أنه لا يجوز أن يقال إنهم أقدموا على تلك الأعمال في زمن الصبا لأنه من البعيد في مثل يعقوب أن يبعث جمعاً من الصبيان غير البالغين من غير أن يبعث معهم رجلاً عاقلاً يمنعهم عما لا ينبغي ويحملهم على ما ينبغي
الوجه الثاني هب أن الأمر على ما ذكره الجبائي إلا أنا نقول غاية ما في الباب أنه لا يجب الاعتذار عن ذلك إلا أنه يمكن أن يقال إنه يحسن الاعتذار عنه والدليل عليه أن المذنب إذا تاب زال عقابه ثم قد يعيد التوبة والاعتذار مرة أخرى فعلمنا أن الإنسان أيضاً قد يتوب عند ما لا تكون التوبة واجبة عليه
واعلم أنهم لما اعترفوا بفضله عليهم وبكونهم مجرمين خاطئين قال يوسف لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وفيه بحثان
البحث الأول التثريب التوبيخ ومنه قوله عليه الصلاة والسلام ( إذا زنت أمة أحدكم فليضربها الحد ولا يثربها ) أي ولا يعيرها بالزنا فقوله لاَ تَثْرَيبَ أي لا توبيخ ولا عيب وأصل التثريب من الثرب وهو الشحم الذي هو غاشية الكرش ومعناه إزالة الثرب كما أن التجليد إزالة الجلد قال عطاء الخراساني طلب الحوائج إلى الشباب أسهل منها إلى الشيوخ ألا ترى إلى قول يوسف عليه السلام لإخوته لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ وقوله يعقوب سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبّى ( يوسف 98 )
البحث الثاني إن قوله الْيَوْمَ متعلق بماذا وفيه قولان
القول الأول إنه متعلق بقوله لاَ تَثْرَيبَ أي لا أثر بكم اليوم وهو اليوم الذي هو مظنة التثريب فما ظنكم بسائر الأيام وفيه احتمال آخر وهو أني حكمت في هذا اليوم بأن لا تثريب مطلقاً لأن قوله لاَ تَثْرَيبَ نفي للماهية ونفي الماهية يقتضي انتفاء جميع أفراد الماهية فكان ذلك مفيداً للنفي المتناول لكل الأوقات والأحوال فتقدير الكلام اليوم حكمت بهذا الحكم العام المتناول لكل الأوقات والأحوال ثم إنه لما بين لهم أنه أزال عنهم ملامة الدنيا طلب من الله أن يزيل عنهم عقاب الآخرة فقال يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ والمراد منه الدعاء
والقول الثاني أن قوله الْيَوْمَ متعلق بقوله يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ كأنه لما نفى التثريب مطلقاً بشرهم بأن الله غفر ذنبهم في هذا اليوم وذلك لأنهم لما انكسروا وخجلوا واعترفوا وتابوا فالله قبل توبتهم وغفر ذنبهم فلذلك قال الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ روي أن الرسول عليه الصلاة والسلام أخذ بعضادتي باب الكعبة يوم الفتح وقال لقريش ( ما تروني فاعلاً بكم ) فقالوا نظن خيراً أخ كريم وابن أخ كريم وقد قدرت فقال ( أقول ما قال أخي يوسف لا تقريب عليكم اليوم ) وروي أن أبا سفيان لما جاء ليسلم قال له العباس إذا أتيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فاتل عليه قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ففعل فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( غفر الله لك ولمن علمك ) وروي أن إخوة يوسف لما عرفوه أرسلوا إليه إنك تحضرنا في مائدتك بكرة وعشيا ونحن نستحي منك

لما صدر منا من الإساءة إليك فقال يوسف عليه السلام إن أهل مصر وإن ملكت فيهم فإنهم ينظروني بالعين الأولى ويقولون سبحان من بلغ عبداً بيع بعشرين درهماً ما بلغ ولقد شرفت الآن بإتيانكم وعظمت في العيون لما جئتم وعلم الناس أنكم إخوتي وإني من حفدة إبراهيم عليه السلام
ثم قال يوسف عليه السلام اذْهَبُواْ بِقَمِيصِى هَاذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِى يَأْتِ بَصِيرًا قال المفسرون لما عرفهم يوسف سألهم عن أبيه فقالوا ذهبت عيناه فأعطاهم قميصه قال المحققون إنما عرف أن إلقاء ذلك القميص على وجهه يوجب قوة البصر بوحي من الله تعالى ولولا الوحي لما عرف ذلك لأن العقل لا يدل عليه ويمكن أن يقال لعل يوسف عليه السلام علم أن أباه ما صار أعمى إلا أنه من كثرة البكاء وضيق القلب ضعف بصره فإذا ألقي عليه قميصه فلا بد أن ينشرح صدره وأن يحصل في قلبه الفرح الشديد وذلك يقوي الروح ويزيل الضعف عن القوي فحينئذ يقوى بصره ويزول عنه ذلك النقصان فهذا القدر مما يمكن معرفته بالقلب فإن القوانين الطبية تدل على صحة هذا المعنى وقوله يَأْتِ بَصِيرًا أي يصير بصيراً ويشهد له فَارْتَدَّ بَصِيرًا ( يوسف 96 ) ويقال المراد يأت إلي وهو بصير وإنما أفرده بالذكر تعظيماً له وقال في الباقين وَأْتُونِى بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ قال الكلبي كان أهله نحواً من سبعين إنساناً وقال مسروق دخل قوم يوسف عليه السلام مصر وهم ثلاثة وتسعون من بين رجل وامرأة وروي أن يهودا حمل الكتاب وقال أنا أحزنته بحمل القميص الملطخ بالدم إليه فأفرحه كما أحزنته وقيل حمله وهو حاف وحاسر من مصر إلى كنعان وبينهما مسيرة ثمانين فرسخاً
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّى لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ قَالُواْ تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِى ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ فَلَمَّآ أَن جَآءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِّى أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ قَالُواْ ياأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَآ إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّى إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ
يقال فصل فلان من عند فلان فصولاً إذا خرج من عنده وفصل مني إليه كتاباً إذا أنفذ به إليه وفصل يكون لازماً ومتعدياً وإذا كان لازماً فمصدره الفصول وإذا كان متعدياً فمصدره الفصل قال لما خرجت العير من مصر متوجهة إلى كنعان قال يعقوب عليه السلام لمن حضر عنده من أهله وقرابته وولد ولده إِنّى لاجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنّدُونِ ولم يكن هذا القول مع أولاده لأنهم كانوا غائبين بدليل أنه عليه السلام قال لهم اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ ( يوسف 87 ) واختلفوا في قدر المسافة فقيل مسيرة ثمانية أيام وقيل عشرة أيام

وقيل ثمانون فرسخاً واختلفوا في كيفية وصول تلك الرائحة إليه فقال مجاهد هبت ريح فصفقت القميص ففاحت روائح الجنة في الدنيا واتصلت بيعقوب فوجد ريح الجنة فعلم عليه السلام أنه ليس في الدنيا من ريح الجنة إلا ما كان من ذلك القميص فمن ثم قال إِنّى لاجِدُ رِيحَ يُوسُفَ وروى الواحدي بإسناده عن أنس بن مالك عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال أما قوله اذْهَبُواْ بِقَمِيصِى هَاذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِى يَأْتِ بَصِيرًا ( يوسف 93 ) فإن نمروذ الجبار لما ألقى إبراهيم في النار نزل عليه جبريل عليه السلام بقميص من الجنة وطنفسة من الجنة فألبسه القميص وأجلسه على الطنفسة وقعد معه يحدثه فكسا إبراهيم عليه السلام ذلك القميص إسحاق وكساه إسحق يعقوب وكساه يعقوب يوسف فجعله في قصبة من فضة وعلقها في عنقه فألقى في الجب القميص في عنقه فذلك قوله اذْهَبُواْ بِقَمِيصِى هَاذَا والتحقيق أن يقال إنه تعالى أوصل تلك الرائحة إليه على سبيل إظهار المعجزات لا وصول الرائحة إليه من هذه المسافة البعيدة أمر مناقض للعادة فيكون معجزة ولا بد من كونها معجزة لأحدهما والأقرب أنه ليعقوب عليه السلام حين أخبر عنه ونسبوه في هذا الكلام إلى ما لا ينبغي فظهر أن الأمر كما ذكر فكان معجزة له قال أهل المعاني إن الله تعالى أوصل إليه ريح يوسف عليه السلام عند انقضاء مدة المحنة ومجيء وقت الروح والفرح من المكان البعيد ومنع من وصول خبره إليه مع قرب إحدى البلدتين من الأخرى في مدة ثمانين سنة وذلك يدل على أن كل سهل فهو في زمان المحنة صعب وكل صعب فهو في زمان الإقبال سهل ومعنى لأجد ريح يوسف أشم وعبر عنه بالوجود لأنه وجدان له بحاسة الشم وقوله لَوْلاَ أَن تُفَنّدُونِ قال أبو بكر ابن الأنباري أفند الرجل إذا حزن وتغير عقله وفند إذا جهل ونسب ذلك إليه وعن الأصمعي إذا كثر كلام الرجل من خرف فهو المفند قال صاحب ( الكشاف ) يقال شيخ مفند ولا يقال عجوز مفندة لأنها لم يكن في شبيبتها ذات رأي حتى تفند في كبرها فقوله لَوْلاَ أَن تُفَنّدُونِ أي لولا أن تنسبوني إلى الخرف ولما ذكر يعقوب ذلك قال الحاضرون عنده تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِى ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ وفي الضلال ههنا وجوه الأول قال مقاتل يعني بالضلال ههنا الشقاء يعني شقاء الدنيا والمعنى إنك لفي شقائك القديم بما تكابد من الأحزان على يوسف واحتج مقاتل بقوله إِنَّا إِذاً لَّفِى ضَلَالٍ وَسُعُرٍ ( القمر 24 ) يعنون لفي شقاء دنيانا وقال قتادة لفي ضلالك القديم أي لفي حبك القديم لا تنساه ولا تذهل عنه وهو كقولهم إِنَّ أَبَانَا لَفِى ضَلالٍ مُّبِينٍ ( يوسف 8 ) ثم قال قتادة قد قالوا كلمة غليظة ولم يكن يجوز أن يقولوها لنبي الله وقال الحسن إنما خاطبوه بذلك لاعتقادهم أن يوسف قد مات وقد كان يعقوب في ولوعه بذكره ذاهباً عن الرشد والصواب وقوله فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ في ( أن ) قولان الأول أنه لا موضع لها من الإعراب وقد تذكر تارة كما ههنا وقد تحذف كقوله فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ ( هود 74 ) والمذهبان جميعاً موجودان في أشعار العرب والثاني قال البصريون هي مع ( ما ) في موضع رفع بالفعل المضمر تقديره فلما ظهر أن جاء البشير أي ظهر مجيء البشير فأضمر الرافع قال جمهور المفسرين البشير هو يهودا قال أنا ذهبت بالقميص الملطخ بالدم وقلت إن يوسف أكله الذئب فأذهب اليوم بالقميص فأفرحه كما أحزنته قوله أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ أي طرح البشير القميص على وجه يعقوب أو يقال ألقاه يعقوب على وجه نفسه فَارْتَدَّ بَصِيرًا أي رجع بصيراً ومعنى الارتداد انقلاب الشيء إلى حالة قد كان عليها وقوله فَارْتَدَّ بَصِيرًا أي صيره الله بصيراً كما يقال طالت النخلة والله تعالى أطالها واختلفوا فيه فقال بعضهم إنه كان قد عمي بالكلية فالله تعالى جعله بصيراً في هذا الوقت وقال آخرون بل كان قد ضعف بصره من كثرة

البكاء وكثرة الأحزان فلما ألقوا القميص على وجهه وبشر بحياة يوسف عليه السلام عظم فرحه وانشرح صدره وزالت أحزانه فعند ذلك قوي بصره وزال النقصان عنه فعند هذا قال أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنّى أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ والمراد علمه بحياة يوسف من جهة الرؤيا لأن هذا المعنى هو الذي له تعلق بما تقدم وهو إشارة إلى ما تقدم من قوله إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى وَحُزْنِى إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ( يوسف 86 ) روي أنه سأل البشير وقال كيف يوسف قال هو ملك مصر قال ما أصنع بالملك على أي دين تركته قال على دين الإسلام قال الآن تمت النعمة ثم إن أولاد يعقوب أخذوا يعتذرون إليه وَقَالُواْ يأَيُّهَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبّى إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وظاهر الكلام أنه لم يستغفر لهم في الحال بل وعدهم بأنه يستغفر لهم بعد ذلك واختلفوا في سبب هذا المعنى على وجوه الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما والأكثرون أراد أن يستغفر لهم في وقت السحر لأن هذا الوقت أوفق الأوقات لرجاء الإجابة الثاني قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية أخرى أخر الاستغفار إلى ليلة الجمعة لأنها أوفق الأوقات للإجابة الثالث أراد أن يعرف أنهم هل تابوا في الحقيقة أم لا وهل حصلت توبتهم مقرونة بالإخلاص التام أم لا الرابع استغفر لهم في الحال وقوله سَأَسْتَغْفِرُ لَكُمْ معناه أني أداوم على هذا الاستغفار في الزمان المستقبل فقد روي أنه كان يستغفر لهم في كل ليلة جمعة في نيف وعشرين سنة وقيل قام إلى الصلاة في وقت فلما فرغ رفع يده إلى السماء وقال ( اللهم اغفر لي جزعي على يوسف وقلة صبري عليه واغفر لأولادي ما فعلوه في حق يوسف عليه السلام ) فأوحى الله تعالى إليه قد غفرت لك ولهم أجمعين وروي أن أبناء يعقوب عليه السلام قالوا ليعقوب وقد غلبهم الخوف والبكاء ما يغني عنا إن لم يغفر لنا فاستقبل الشيخ القبلة قائماً يدعو وقام يوسف خلفه يؤمن وقاموا خلفهما أذلة خاشعين عشرين سنة حتى قل صبرهم فظنوا أنها الهلكة فنزل جبريل عليه السلام وقال ( إن الله تعالى أجاب دعوتك في ولدك وعقد مواثيقهم بعدك على النبوة ) وقد اختلف الناس في نبوتهم وهو مشهور
فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ ءَاوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَآءَ اللَّهُ ءَامِنِينَ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَا وَقَالَ ياأَبَتِ هَاذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاى مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّى حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَى إِذْ أَخْرَجَنِى مِنَ السِّجْنِ وَجَآءَ بِكُمْ مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِى وَبَيْنَ إِخْوَتِى إِنَّ رَبِّى لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ
اعلم أنه روي أن يوسف عليه السلام وجه إلى أبيه جهازاً ومائتي راحلة ليتجهز إليه بمن معه وخرج يوسف عليه السلام والملك في أربعة آلاف من الجند والعظماء وأهل مصر بأجمعهم تلقوا يعقوب عليه

السلام وهو يمشي يتوكأ على يهودا فنظر إلى الخيل والناس فقال يا يهودا هذا فرعون مصر قال لا هذا ولدك يوسف فذهب يوسف يبدأ بالسلام فمنع من ذلك فقال يعقوب عليه السلام السلام عليك وقيل إن يعقوب وولده دخلوا مصر وهم اثنان وسبعون ما بين رجل وامرأة وخرجوا منها مع موسى والمقاتلون منهم ستمائة ألف وخمسمائة وبضع وسبعون رجلاً سوى الصبيان والشيوخ
أما قوله إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ففيه بحثان
البحث الأول في المراد بقوله أبويه قولان الأول المراد أبوه وأمه وعلى هذا القول فقيل إن أمه كانت باقية حية إلى ذلك الوقت وقيل إنها كانت قد ماتت إلا أن الله تعالى أحياها وأنشرها من قبرها حتى سجدت له تحقيقاً لرؤية يوسف عليه السلام
والقول الثاني أن المراد أبوه وخالته لأن أمه ماتت في النفاس بأخيه بنيامين وقيل بنيامين بالعبرانية ابن الوجع ولما ماتت أمه تزوج أبوه بخالته فسماها الله تعالى بأحد الأبوين لأن الرابة تدعى إما لقيامها مقام الأم أو لأن الخالة أم كما أن العم أب ومنه قوله تعالى وَإِلَاهَ آبَائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ( البقرة 133 )
البحث الثاني آوى إليه أبويه ضمهما إليهما واعتنقهما
فإن قيل ما معنى دخولهم عليه قبل دخولهم مصر
قلنا كأنه حين استقبلهم نزل بهم في بيت هناك أو خيمة فدخلوا عليه وضم إليه أبويه وقال لهم ادْخُلُواْ مِصْرَ
أما قوله دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ ءاوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ ففيه أبحاث
البحث الأول قال السدي إنه قال هذا القول قبل دخولهم مصر لأنه كان قد استقبلهم وهذا هو الذي قررناه وعن ابن عباس رضي الله عنهما المراد بقوله ادْخُلُواْ مِصْرَ أي أقيموا بها آمنين سمى الإقامة دخولاً لاقتران أحدهما بالآخر
البحث الثاني الاستثناء وهو قول إِن شَاء اللَّهُ فيه قولان الأول أنه عائد إلى الأمن لا إلى الدخول والمعنى ادخلوا مصر آمنين إن شاء الله ونظيره قوله تعالى لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ ءامِنِينَ ( الفتح 27 ) وقيل إنه عائد إلى الدخول على القول الذي ذكرناه إنه قال لهم هذا الكلام قبل أن دخلوا مصر
البحث الثالث معنى قوله ءامِنِينَ يعني على أنفسكم وأموالكم وأهليكم لا تخافون أحداً وكانوا فيما سلف يخافون ملوك مصر وقيل آمنين من القحط والشدة والفاقة وقيل آمنين من أن يضرهم يوسف بالجرم السالف
أما قوله وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ قال أهل اللغة العرش السرير الرفيع قال تعالى وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ( النمل 23 ) والمراد بالعرش ههنا السرير الذي كان يجلس عليه يوسف وأما قوله وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَا ففيه إشكال وذلك لأن يعقوب عليه السلام كان أبا يوسف وحق الأبوة عظيم قال تعالى وَقَضَى رَبُّكَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً ( الإسراء 23 )

فقرن حق الوالدين بحق نفسه وأيضاً أنه كان شيخاً والشاب يجب عليه تعظيم الشيخ
والقول الثالث أنه كان من أكابر الأنبياء ويوسف وإن كان نبياً إلا أن يعقوب كان أعلى حالاً منه
والقول الرابع أن جد يعقوب واجتهاده في تكثير الطاعات أكثر من جد يوسف ولما اجتمعت هذه الجهات الكثيرة فهذا يوجب أن يبالغ يوسف في خدمة يعقوب فكيف استجاز يوسف أن يسجد له يعقوب هذا تقرير السؤال
والجواب عنه من وجوه
الوجه الأول وهو قول ابن عباس في رواية عطاء أن المراد بهذه الآية أنهم خروا له أي لأجل وجدانه سجداً لله تعالى وحاصل الكلام أن ذلك السجود كان سجوداً للشكر فالمسجود له هو الله إلا أن ذلك السجود إنما كان لأجله والدليل على صحة هذا التأويل أن قوله وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَا مشعر بأنهم صعدوا ذلك السرير ثم سجدوا له ولو أنهم سجدوا ليوسف لسجدوا له قبل الصعود على السرير لأن ذلك أدخل في التواضع
فإن قالوا فهذا التأويل لا يطابق قوله وَقَالَ يأَبَتِ هَاذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاى مِن قَبْلُ والمراد منه قوله إِنّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ ( يوسف 4 )
قلنا بل هذا مطابق ويكون المراد من قوله وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ لأجلي أي أنها سجدت لله لطلب مصلحتي وللسعي في إعلاء منصبي وإذا كان هذا محتملاً سقط السؤال وعندي أن هذا التأويل متعين لأنه لا يستبعد من عقل يوسف ودينه أن يرضى بأن يسجد له أبوه مع سابقته في حقوق الولادة والشيخوخة والعلم والدين وكمال النبوة
والوجه الثاني في الجواب أن يقال إنهم جعلوا يوسف كالقبلة وسجدوا لله شكراً لنعمة وجدانه وهذا التأويل حسن فإنه يقال صليت للكعبة كما يقال صليت إلى الكعبة قال حسان شعراً ما كنت أعرف أن الأمر منصرف
عن هاشم ثم منها عن أبي حسن
أليس أول من صلى لقبلتكم
وأعرف الناس بالقرآن والسنن
وهذا يدل على أنه يجوز أن يقال فلان صلى للقبلة وكذلك يجوز أن يقال سجد للقبلة وقوله وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَا أي جعلوه كالقبلة ثم سجدوا لله شكراً لنعمة وجدانه
الوجه الثالث في الجواب قد يسمى التواضع سجوداً كقوله
ترى الأكم فيها سجداً للحوافر
وكان المراد ههنا التواضع إلا أن هذا مشكل لأنه تعالى قال وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَا والخرور إلى السجدة مشعر بالإتيان بالسجدة على أكمل الوجوه وأجيب عنه بأن الخرور قد يعني به المرور فقط قال تعالى لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً ( الفرقان 73 ) يعني لم يمروا

الوجه الرابع في الجواب أن نقول الضمير في قوله وَخَرُّواْ لَهُ غير عائد إلى الأبوين لا محالة وإلا لقال وخروا له ساجدين بل الضمير عائد إلى إخوته وإلى سائر من كان يدخل عليه لأجل التهنئة والتقدير ورفع أبويه على العرش مبالغة في تعظيمهما وأما الإخوة وسائر الداخلين فخروا له ساجدين
فإن قالوا فهذا لا يلائم قوله وَقَالَ يأَبَتِ هَاذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاى مِن قَبْلُ
قلنا إن تعبير الرؤيا لا يجب أن يكون مطابقاً للرؤيا بحسب الصورة والصفة من كل الوجوه فسجود الكواكب والشمس والقمر تعبير عن تعظيم الأكابر من الناس له ولا شك أن ذهاب يعقوب مع أولاده من كنعان إلى مصر لأجله في نهاية التعظيم له فكفى هذا القدر في صحة الرؤيا فأما أن يكون التعبير مساوياً لأصل الرؤيا في الصفة والصورة فلم يوجبه أحد من العقلاء
الوجه الخامس في الجواب لعل الفعل الدال على التحية والإكرام في ذلك الوقت هو السجود وكان مقصودهم من السجود تعظيمه وهذا في غاية البعد لأن المبالغة في التعظيم كانت أليق بيوسف منها بيعقوب فلو كان الأمر كما قلتم لكان من الواجب أن يسجد يوسف ليعقوب عليه السلام
والوجه السادس فيه أن يقال لعل إخوته حملتهم الأنفة والاستعلاء على أن لا يسجدوا له على سبيل التواضع وعلم يعقوب عليه السلام أنهم لو لم يفعلوا ذلك لصار ذلك سبباً لثوران الفتن ولظهور الأحقاد القديمة بعد كمونها فهو عليه السلام مع جلالة قدره وعظم حقه بسبب الأبوة والشيخوخة والتقدم في الدين والنبوة والعلم فعل ذلك السجود حتى تصير مشاهدتهم لذلك سبباً لزوال الأنفة والنفرة عن قلوبهم ألا ترى أن السلطان الكبير إذا نصب محتسباً فإذا أراد ترتيبه مكنه في إقامة الحسبة عليه ليصير ذلك سبباً في أن لا يبقى في قلب أحد منازعة ذلك المحتسب في إقامة الحسبة فكذا ههنا
الوجه السابع لعل الله تعالى أمر يعقوب بتلك السجدة لحكمة خفية لا يعرفها إلا هو كما أنه أمر الملائكة بالسجود لآدم لحكمة لا يعرفها إلا هو ويوسف ما كان راضياً بذلك في قلبه إلا أنه لما علم أن الله أمره بذلك سكت
ثم حكى تعالى أن يوسف لما رأى هذه الحالة قَالَ يَاءادَمُ يأَبَتِ هَاذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاى مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبّى حَقّا وفيه بحثان
البحث الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما إنه لما رأى سجود أبويه وإخوته هاله ذلك واقشعر جلده منه وقال ليعقوب هذا تأويل رؤياي من قبل وأقول هذا يقوي الجواب السابع كأنه يقول يا أبت لا يليق بمثلك على جلالتك في العلم والدين والنبوة أن تسجد لولدك إلا أن هذا أمر أمرت به وتكليف كلفت به فإن رؤيا الأنبياء حق كما أن رؤيا إبراهيم ذبح ولده صار سبباً لوجوب ذلك الذبح عليه في اليقظة فكذلك صارت هذه الرؤيا التي رآها يوسف وحكاها ليعقوب سبباً لوجوب ذلك السجود فلهذا السبب حكى ابن عباس رضي الله عنهما أن يوسف عليه السلام لما رأى ذلك هاله واقشعر جلده ولكنه لم يقل شيئاً وأقول لا يبعد أن يكون ذلك من تمام تشديد الله تعالى على يعقوب كأنه قيل له إنك كنت دائم الرغبة في وصاله ودائم الحزن بسبب فراقه فإذا وجدته فاسجد له فكان الأمر بذلك السجود من تمام الشديد والله أعلم بحقائق الأمور

البحث الثاني اختلفوا في مقدار المدة بين هذا الوقت وبين الرؤيا فقيل ثمانون سنة وقيل سبعون وقيل أربعون وهو قول الأكثرين ولذلك يقولون إن تأويل الرؤيا إنما صحت بعد أربعين سنة وقيل ثماني عشرة سنة وعن الحسن أنه ألقي في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة وبقي في العبودية والسجون ثمانين سنة ثم وصل إلى أبيه وأقاربه وعاش بعد ذلك ثلاثاً وعشرين سنة فكان عمره مائة وعشرين سنة والله أعلم بحقائق الأمور
ثم قال وَقَدْ أَحْسَنَ بَى أي إلي يقال أحسن بي وإليه قال كثير أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة
لدينا ولا مقلية إن ثقلت
إذا أخرجني من السجن ولم يذكر إخراجه من البئر لوجوه الأول أنه قال لإخوته لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ولو ذكر واقعة البئر لكان ذلك تثريباً لهم فكان إهماله جاراً مجري الكرم الثاني أنه لما خرج من البئر لم يصر ملكاً بل صيروه عبداً أما لما خرج من السجن صيروه ملكاً فكان هذا الإخراج أقرب من أن يكون إنعاماً كاملاً الثالث أنه لما أخرج من البئر وقع في المضار الحاصلة بسبب تهمة المرأة فلما أخرج من السجن وصل إلى أبيه وإخوته وزالت التهمة فكان هذا أقرب إلى المنفعة الرابع قال الواحدي النعمة في إخراجه من السجن أعظم لأن دخوله في السجن كان بسبب ذنب هم به وهذا ينبغي أن يحمل على ميل الطبع ورغبة النفس وهذا وإن كان في محل العفو في حق غيره إلا أنه ربما كان سبباً للمؤاخذة في حقه لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين
ثم قال وَجَاء بِكُمْ مّنَ الْبَدْوِ وفيه مسألتان
المسألة الأولى في الآية قولان
القول الأول جاء بكم من البدو أي من البداية وقال الواحدي البدو بسيط من الأرض يظهر فيه الشخص من بعيد وأصله من بدا يبدو بدواً ثم سمي المكان باسم المصدر فيقال بدو وحضر وكان يعقوب وولده بأرض كنعان أهل مواش وبرية
والقول الثاني قال ابن عباس رضي الله عنهما كان يعقوب قد تحول إلى بدا وسكنها ومنها قدم على يوسف وله بها مسجد تحت جبلها قال ابن الأنباري بدا اسم موضع معروف يقال هو بين شعب وبدا وهما موضعان ذكرهما جميعاً كثير فقال وأنت التي حببت شعباً إلى بدا
إلى وأوطاني بلاد سواهما
فالبدو على هذا القول معناه قصد هذا الموضع الذي يقال له بدا يقال بدا القوم يبدون بدوا إذا أتوا بدا كما يقال غار القوم غوراً إذا أتوا الغور فكان معنى الآية وجاء بكم من قصد بدا وعلى هذا القول كان يعقوب وولده حضريين لأن البدو لم يرد به البادية لكن عنى به قصد بدا إلى ههنا كلام قاله الواحدي في ( البسيط )
المسألة الثانية تمسك أصحابنا بهذه الآية على أن فعل العبد خلق الله تعالى لأن خروج العبد من

السجن أضافه إلى نفسه بقوله إِذْ أَخْرَجَنِى مِنَ السّجْنِ ومجيئهم من البدو وأضافه إلى نفسه سبحانه بقوله وَجَاء بِكُمْ مّنَ الْبَدْوِ وهذا صريح في أن فعل العبد بعينه فعل الله تعالى وحمل هذا على أن المراد أن ذلك إنما حصل بإقدار الله تعالى وتيسيره عدول عن الظاهر
ثم قال مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِى وَبَيْنَ إِخْوَتِى قال صاحب ( الكشاف ) نَّزغَ أفسد بيننا وأغوى وأصله من نزغ الراكض الدابة وحملها على الجري يقال نزغه ونسغه إذا نخسه
واعلم أن الجبائي والكعبي والقاضي احتجوا بهذه الآية على بطلان الجبر قالوا لأنه تعالى أخبر عن يوسف عليه السلام أنه أضاف الإحسان إلى الله وأضاف النزغ إلى الشيطان ولو كان ذلك أيضاً من الرحمن لوجب أن لا ينسب إلا إليه كما في النعم
والجواب أن إضافته هذا الفعل إلى الشيطان مجاز لأن عندكم الشيطان لا يتمكن من الكلام الخفي وقد أخبر الله عنه فقال وَمَا كَانَ لِى َ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى ( إبراهيم 22 ) فثبت أن ظاهر القرآن يقتضي إضافة هذا الفعل إلى الشيطان مع أنه ليس كذلك وأيضاً فإن كان إقدام المرء على المعصية بسبب الشيطان فإقدام الشيطان على المعصية إن كان بسبب شيطان آخر لزم التسلسل وهو محال وإن لم يكن بسبب شيطان آخر فليقل مثله في حق الإنسان فثبت أن إقدام المرء على الجهل والفسق ليس بسبب الشيطان وليس إيضاً بسبب نفسه لأن أحداً لا يميل طبعه إلى اختيار الجهل والفسق الذي يوجب وقوعه في ذم الدنيا وعقاب الآخرة ولما كان وقوعه في الكفر والفسق لا بد له من موقع وقد بطل القسمان لم يبق إلا أن يقال ذلك من الله تعالى ثم الذي يؤكد ذلك أن الآية المتقدمة على هذه الآية وهي قوله إِذْ أَخْرَجَنِى مِنَ السّجْنِ وَجَاء بِكُمْ مّنَ الْبَدْوِ صريح في أن الكل من الله تعالى
ثم قال إِنَّ رَبّى لَطِيفٌ لّمَا يَشَاء والمعنى أن حصول الاجتماع بين يوسف وبين أبيه وإخوته مع الألفة والمحبة وطيب العيش وفراغ البال كان في غاية البعد عن العقول إلا أنه تعالى لطيف فإذا أراد حصول شيء سهل أسبابه فحصل وإن كان في غاية البعد عن الحصول
ثم قال إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ أعني أن كونه لطيفاً في أفعاله إنما كان لأجل أنه عليم بجميع الاعتبارات الممكنة التي لا نهاية لها فيكون عالماً بالوجه الذي يسهل تحصيل ذلك الصعب وحكيم أي محكم في فعله حاكم في قضائه حكيم في أفعاله مبرأ عن العبث والباطل والله أعلم
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِى مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ الاٌّ حَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ والأرض أَنتَ وَلِى ِّ فِى الدُّنُيَا وَالاٌّ خِرَة ِ تَوَفَّنِى مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى روي أن يوسف عليه السلام أخذ بيد يعقوب وطاف به في خزائنه فأدخله خزائن

الذهب والفضة وخزائن الحلي وخزائن الثياب وخزائن السلاح فلما أدخله مخازن القراطيس قال يا بني ما أغفلك عندك هذه القراطيس وما كتبت إلي على ثمان مراحل قال نهاني جبريل عليه السلام عنه قال سله عن السبب قال أنت أبسط إليه فسأله فقال جبريل عليه السلام أمرني الله بذلك لقولك وأخاف أن يأكله الذئب فهلا خفتني وروي أن يعقوب عليه السلام أقام معه أربعاً وعشرين سنة ولما قربت وفاته أوصى إليه أن يدفنه بالشام إلى جنب أبيه إسحق فمضى بنفسه ودفنه ثم عاد إلى مصر وعاش بعد أبيه ثلاثاً وعشرين سنة فعند ذلك تمنى ملك الآخرة فتمنى الموت وقيل ما تمناه نبي قبله ولا بعده فتوفاه الله طيباً طاهراً فتخاصم أهل مصر في دفنه كل أحد يحب أن يدفه في محلتهم حتى هموا بالقتال فرأوا أن الأصلح أن يعملوا له صندوقاً من مرمر ويجعلوه فيه ويدفنوه في النيل بمكان يمر الماء عليه ثم يصل إلى مصر لتصل بركته إلى كل أحد وولد له افراثيم وميشا وولد لافراثيم نون ولنون يوشع فتى موسى ثم دفن يوسف هناك إلى أن بعث الله موسى فأخرج عظامه من مصر ودفنها عند قبر أبيه
المسألة الثانية من في قوله مّنَ الْمُلْكِ وَمِنْ تَأْوِيلِ الاْحَادِيثِ للتبعيض لأنه لم يؤت إلا بعض ملك الدنيا أو بعض ملك مصر وبعض التأويل قال الأصم إنما قال من الملك لأنه كان ذو ملك فوقه
واعلم أن مراتب الموجودات ثلاثة المؤثر الذي لا يتأثر وهو الإله تعالى وتقدس والمتأثر الذي لا يؤثر وهو عالم الأجسام فإنها قابلة للتشكيل والتصوير والصفات المختلفة والأعراض المتضادة فلا يكون لها تأثير في شيء أصلاً وهذان القسمان متباعدان جداً ويتوسطهما قسم ثالث وهو الذي يؤثر ويتأثر وهو عالم الأرواح فخاصية جوهر الأرواح أنها تقبل الأثر والتصرف عن عالم نور جلال الله ثم إنها إذا أقبلت على عالم الأجسام تصرفت فيه وأثرت فيه فتعلق الروح بعالم الأجسام بالتصرف والتدبير فيه وتعلقه بعالم الإلهيات بالعلم والمعرفة وقوله تعالى قَدْ اتَيْتَنِى مِنَ الْمُلْكِ إشارة إلى تعلق النفس بعالم الأجسام وقوله وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ الاْحَادِيثِ إشارة إلى تعلقها بحضرة جلال الله ولما كان لا نهاية لدرجات هذين النوعين في الكمال والنقصان والقوة والضعف والجلاء والخفاء امتنع أن يحصل منهما للإنسان إلا مقدار متناه فكان الحاصل في الحقيقة بعضاً من أبعاض الملك وبعضاً من أبعاض العلم فلهذا السبب ذكر فيه كلمة ( من ) لأنها دالة على التبعيض ثم قال فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وفيه أبحاث
البحث الأول في تفسير لفظ الفاطر بحسب اللغة قال ابن عباس رضي الله عنهما ما كنت أدري معنى الفاطر حتى احتكم إلي أعرابيان في بئر فقال أحدهما أنا فطرتها وأنا ابتدأت حفرها قال أهل اللغة أصل الفطر في اللغة الشق يقال فطر ناب البعير إذ بدا وفطرت الشيء فانفطر أي شققته فانشق وتفطر الأرض بالنبات والشجر بالورق إذا تصدعت هذا أصله في اللغة ثم صار عبارة عن الإيجاد لأن ذلك الشيء حال عدمه كأنه في ظلمة وخفاء فلما دخل في الوجود صار كأنه انشق عن العدم وخرج ذلك الشيء منه
البحث الثاني أن لفظ الفاطر قد يظن أنه عبارة عن تكوين الشيء عن العدم المحض بدليل الاشتقاق الذي ذكرناه إلا أن الحق أنه لا يدل عليه ويدل عليه وجوه أحدها أنه قال الْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( فاطر 1 )

ثم بين تعالى أنه إنما خلقها من الدخان حيث قال ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِى َ دُخَانٌ ( فصلت 11 ) فدل على أن لفظ الفاطر لا يفيد أنه أحدث ذلك الشيء من العدم المحض وثانيها أنه قال تعالى فِطْرَة َ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ( الروم 30 ) مع أنه تعالى إنما خلق الناس من التراب قال تعالى مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَة ً أُخْرَى ( طه 55 ) وثالثها أن الشيء إنما يكون حاصلاً عند حصول مادته وصورته مثل الكوز فإنه إنما يكون موجوداً إذا صارت المادة المخصوصة موصوفة بالصفة المخصوصة فعند عدم الصورة ما كان ذلك المجموع موجوداً وبإيجاد تلك الصورة صار موجداً لذلك الكوز فعلمنا أن كونه موجداً للكون لا يقتضي كونه موجداً لمادة الكوز فثبت أن لفظ الفاطر لا يفيد كونه تعالى موجداً للأجزاء التي منها تركبت السموات والأرض وإنما صار إلينا كونه موجداً لها بحسب الدلائل العقلية لا بحسب لفظ القرآن
واعلم أن قوله فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ يوهم أن تخليق السموات مقدم على تخليق الأرض عند من يقول الواو تفيد الترتيب ثم العقل يؤكده أيضاً وذلك لأن تعين المحيط يوجب تعين المركز وتعينه فإنه لا يوجب تعين المحيط لأنه يمكن أن يحيط بالمركز الواحد محيطات لا نهاية لها أما لا يمكن أن يحصل للمحيط الواحد إلا مركز واحد بعينه وأيضاً اللفظ يفيد أن السماء كثيرة والأرض واحدة ووجه الحكمة فيه قد ذكرناه في قوله الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الأنعام 1 )
البحث الثالث قال الزجاج نصبه من وجهين أحدهما على الصفة لقوله رَبّ وهو نداء مضاف في موضع النصب والثاني يجوز أن ينصب على نداء ثان
ثم قال أَنتَ وَلِيُّنَا فِى الدُّنُيَا وَالاْخِرَة ِ والمعنى أنت الذي تتولى إصلاح جميع مهماتي في الدنيا والآخرة فوصل الملك الفاني بالملك الباقي وهذا يدل على أن الإيمان والطاعة كلمة من الله تعالى إذ لو كان ذلك من العبد لكان المتولي لمصالحه هو هو وحينئذ يبطل عموم قوله رَبّ قَدْ اتَيْتَنِى مِنَ الْمُلْكِ
ثم قال تَوَفَّنِى مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام حكى عن جبريل عليه السلام عن رب العزة أنه قال ( من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين ) فلهذا المعنى من أراد الدعاء فلا بد وأن يقدم عليه ذكر الثناء على الله فههنا يوسف عليه السلام لما أراد أن يذكر الدعاء قدم عليه الثناء وهو قوله رَبّ قَدْ اتَيْتَنِى مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ الاْحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ثم ذكر عقيبه الدعاء وهو قوله تَوَفَّنِى مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ ونظيره ما فعله الخليل صلوات الله عليه في قوله الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ ( الشعراء 78 ) من هنا إلى قوله رَبّ هَبْ لِى حُكْماً ( الشعراء 83 ) ثناء على الله ثم قوله رَبّ هَبْ لِى إلى آخر الكلام دعاء فكذا ههنا
المسألة الثانية اختلفوا في أن قوله تَوَفَّنِى مُسْلِمًا هل هو طلب منه للوفاة أو لا فقال قتادة سأل ربه اللحوق به ولم يتمن نبي قط الموت قبله وكثير من المفسرين على هذا القول وقال ابن عباس رضي

الله عنهما في رواية عطاء يريد إذا توفيتني فتوفني على دين الإسلام فهذا طلب لأن يجعل الله وفاته على الإسلام وليس فيه ما يدل على أنه طلب الوفاة
واعلم أن اللفظ صالح للأمرين ولا يبعد في الرجل العاقل إذا كمل عقله أن يتمنى الموت ويعظم رغبته فيه لوجوه كثيرة منها أن كمال النفس الإنسانية على ما بيناه في أن يكون عالماً بالإلهيات وفي أن يكون ملكاً ومالكاً متصرفاً في الجسمانيات وذكرنا أن مراتب التفاوت في هذين النوعين غير متناهية والكمال المطلق فيهما ليس إلا لله وكل ما دون ذلك فهو ناقص والناقص إذا حصل له شعور بنقصانه وذاق لذة الكمال المطلق بقي في القلق وألم الطلب وإذا كان الكمال المطلق ليس إلا الله وما كان حصوله للإنسان ممتنعاً لزم أن يبقى الإنسان أبداً في قلق الطلب وألم التعب فإذا عرف الإنسان هذه الحالة عرف أنه لا سبيل له إلى دفع هذا التعب عن النفس إلا بالموت فحينئذ يتمنى الموت
والسبب الثاني لتمنى الموت أن الخطباء والبلغاء وإن أطنبوا في مذمة الدنيا إلا أن حاصل كلامهم يرجع إلى أمور ثلاثة أحدها أن هذه السعادات سريعة الزوال مشرفة على الفناء والألم الحاصل عند زوالها أشد من اللذة الحاصلة عند وجدانها وثانيها أنها غير خالصة بل هي ممزوجة بالمنغصات والمكدرات وثالثها أن الأراذل من الخلق يشاركون الأفاضل فيها بل ربما كان حصة الأراذل أعظم بكثير من حصة الأفاضل فهذه الجهات الثلاثة منفرة عن هذه اللذات ولما عرف العاقل أنه لا سبيل إلى تحصيل هذه اللذات إلا مع هذه الجهات الثلاثة المنفرة لا جرم يتمنى الموت ليتخلص عن هذه الآفات
والسبب الثالث وهو الأقوى عند المحققين رحمهم الله أجمعين أن هذه اللذات الجسمانية لا حقيقة لها وإنما حاصلها دفع الآلام فلذة الأكل عبارة عن دفع ألم الجوع ولذة الوقاع عبارة عن دفع الألم الحاصل بسبب الدغدغة المتولدة من حصول المني في أوعية المني ولذة الإمارة والرياسة عبارة عن دفع الألم الحاصل بسبب شهوة الانتقام وطلب الرياسة وإذا كان حاصل هذه اللذات ليس إلا دفع الألم لا جرم صارت عند العقلاء حقيرة خسيسة نازلة ناقصة وحينئذ يتمنى الإنسان الموت ليتخلص عن الاحتياج إلى هذه الأحوال الخسيسة
والسبب الرابع أن مداخل اللذات الدنيوية قليلة وهي ثلاثة أنواع لذة الأكل ولذة الوقاع ولذة الرياسة ولكل واحدة منها عيوب كثيرة أما لذة الأكل ففيها عيوب أحدها أن هذه اللذات ليست قوية فإن الشعور بألم القولنج الشديد والعياذ بالله منه أشد من الشعور باللذة الحاصلة عند أكل الطعام وثانيها أن هذه اللذة لا يمكن بقاؤها فإن الإنسان إذا أكل شبع وإذا شبع لم يبق شوقه للالتذاذ بالأكل فهذه اللذة ضعيفة ومع ضعفها غير باقية وثالثها أنها في نفسها خسيسة فإن الأكل عبارة عن ترطيب ذلك الطعام بالبزاق المجتمع في الفم ولا شك أنه شيء منفر مستقذر ثم لما يصل إلى المعدة تظهر فيه الاستحالة إلى الفساد والنتن والعفونة وذلك أيضاً منفر ورابعها أن جميع الحيوانات الخسيسة مشاركة فيها فإن الروث في مذاق الجعل كاللوزنيج في مذاق الإنسان وكما أن الإنسان يكره تناول غذاء الجعل فكذلك الجعل يكره تناول غذاء الإنسان وأما اللذة فمشتركة فيما بين الناس وخامسها أن الأكل إنما يطيب عند اشتداد الجوع وتلك حاجة شديدة والحاجة نقص وافر وسادسها أن الأكل يستحقر عند العقلاء قيل من كان همته ما

يدخل في بطنه فقيمته ما يخرج من بطنه فهذا هو الإشارة المختصرة في معايب الأكل وأما لذة النكاح فكل ما ذكرناه في الأكل حاصل ههنا مع أشياء أخرى وهي أن النكاح سبب لحصول الولد وحينئذ تكثر الأشخاص فتكثر الحاجة إلى المال فيحتاج الإنسان بسببها إلى الاحتيال في طلب المال بطرق لا نهاية لها وربما صار هالكاً سبب طلب المال وأما لذة الرياسة فعيوبها كثيرة والذي نذكره ههنا بسبب واحد وهو أن كل أحد يكره بالطبع أن يكون خادماً مأموراً ويحب أن يكون مخدوماً آمراً فإذا سعى الإنسان في أن يصير رئيساً آمراً كان ذلك دالاً على مخالفة كل ما سواه فكأنه ينازع كل الخلق في ذلك وهو يحاول تحصيل تلك الرياسة وجميع أهل الشرق والغرب يحاولون إبطاله ودفعه ولا شك أن كثرة الأسباب توجب قوة حصول الأثر وإذا كان كذلك كان حصول هذه الرياسة كالمعتذر ولو حصل فإنه يكون على شرف الزوال في كل حين وأوان بكل سبب من الأسباب وكان صاحبها عند حصولها في الخوف الشديد من الزوال وعند زوالها في الأسف العظيم والحزن الشديد بسبب ذلك الزوال
واعلم أن العاقل إذا تأمل هذه المعاني علم قطعاً أنه لا صلاح له في طلب هذه اللذات والسعي في هذه الخيرات ألبتة ثم إن النفس خلقت مجبولة على طلبها والعشق الشديد عليها والرغبة التامة في الوصول إليها وحينئذ ينعقد ههنا قياف وهو أن الإنسان ما دام يكون في هذه الحياة الجسمانية فإنه يكون طالباً لهذه اللذات وما دام يطلبها كان في عين الآفات وفي لجة الحسرات وهذا اللازم مكروه فالملزوم أيضاً مكروه فحينئذ يتمنى زوال هذه الحياة الجسمانية والسبب في الأمور المرغبة في الموت أن موجبات هذه اللذة الجسمانية متكررة ولا يمكن الزيادة عليها والتكرير يوجب الملالة أما سعادات الآخرة فهي أنواع كثيرة غير متناهية
قال الإمام فخر الدين الرازي رحمة الله عليه وهو مصنف هذا الكتاب أنار الله برهانه أنا صاحب هذه الحالة والمتوغل فيها ولو فتحت الباب وبالغت في عيوب هذه اللذات الجسمانية فربما كتبت المجلدات وما وصلت إلى القليل منها فلهذا السبب صرت مواظباً في أكثر الأوقات على ذكر هذا الذي ذكره يوسف عليه السلام وهو قوله رَبّ قَدْ اتَيْتَنِى مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ الاْحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ رَبّ قَدْ اتَيْتَنِى مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ الاْحَادِيثِ
المسألة الثالثة تمسك أصحابنا في بيان أن الإيمان من الله تعالى بقوله تَوَفَّنِى مُسْلِمًا وتقريره أن تحصيل الإسلام وإبقاءه إذا كان من العبد كان طلبه من الله فاسداً وتقريره كأنه يقول افعل يا من لا يفعل والمعتزلة أبداً يشنعون علينا ويقولون إذا كان الفعل من الله فكيف يجوز أن يقال للعبد افعل مع أنك لست فاعلاً فنحن نقول ههنا أيضاً إذا كان تحصيل الإيمان وإبقاؤه من العبد لا من الله تعالى فكيف يطلب ذلك من الله قال الجبائي والكعبي معناه اطلب اللطف لي في الإقامة على الإسلام إلى أن أموت عليه فهذا الجواب ضعيف لأن السؤال وقع على السلام فحمله على اللطف عدول عن الظاهر وأيضاً كل ما في المقدور من الألطاف فقد فعله فكان طلبه من الله محالاً
المسألة الرابعة لقائل أن يقول الأنبياء عليهم السلام يعلمون أنهم يموتون لا محالة على الإسلام فكان هذا الدعاء حاصله طلب تحصيل الحاصل وأنه لا يجوز

والجواب أحسن ما قيل فيه أن كمال حال المسلم أن يستسلم لحكم الله تعالى على وجه يستقر قلبه على ذلك الإسلام ويرضى بقضاء الله وقدره ويكون مطمئن النفس منشرح الصدر منفسح القلب في هذا الباب وهذه الحالة زائدة على الإسلام الذي هو ضد الكفر فالمطلوب ههنا هو الإسلام بهذا المعنى
المسألة الخامسة أن يوسف عليه السلام كان من أكابر الأنبياء عليهم السلام والصلاح أول درجات المؤمنين فالواصل إلى الغاية كيف يليق به أن يطلب البداية قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من المفسرين يعني بآبائه إبراهيم وإسمعيل وإسحق ويعقوب والمعنى ألحقني بهم في ثوابهم ومراتبهم ودرجاتهم وههنا مقام آخر من تفسير هذه الآية على لسان أصحاب المكاشفات وهو أن النفوس المفارقة أذا أشرقت بالأنوار الإلهية واللوامع القدسية فإذا كانت متناسبة متشاكلة انعكس النور الذي في كل واحدة منها إلى الأخرى بسبب تلك الملازمة والمجانسة فتعظم تلك الأنوار وتقوى تلك الأضواء ومثال تلك الأحوال المرآة الصقيلة الصافية إذا وضعت وضعاً متى أشرقت الشمس عليها انعكس الضوء من كل واحدة منها إلى الأخرى فهناك يقوى الضوء ويكمل النور وينتهي في الإشراق والبريق اللمعان إلى حد لا تطيقه العيون والأبصار الضعيفة فكذا ههنا
ذَلِكَ مِنْ أَنبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ
اعلم أن قوله ذالِكَ رفع بالابتداء وخبره مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ خبر ثان وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ أي ما كنت عند إخوة يوسف إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ أي عزموا على أمرهم وذكرنا الكلام في هذا اللفظ عند قوله فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وقوله وَهُمْ يَمْكُرُونَ أي بيوسف واعلم أن المقصد من هذا إخبار عن الغيب فيكون معجزاً بيان إن إخبار عن الغيب أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ما طالع الكتب ولم يتلمذ لأحد وما كانت البلدة بلدة العلماء فإتيانه بهذه القصة الطويلة على وجه لم يقع فيه تحريف ولا غلط من غير مطالعة ولا تعلم ومن غير أن يقال إنه كان حاضراً معهم لا بد وأن يكون معجزاً وكيف يكون معجزاً وقد سبق تقرير هذه المقدمة في هذا الكتاب مراراً وقوله وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ أي وما كنت هناك ذكر على سبيل التهكم بهم لأن كل أحد يعلم أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ما كان معهم
وَمَآ أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ وَكَأَيِّن مِّن ءَايَة ٍ فِى السَّمَاوَاتِ والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ أَفَأَمِنُوا أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَة ٌ مِّنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَة ُ بَغْتَة ً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ

اعلم أن وجه اتصال هذه الآية بما قبلها أن كفار قريش وجماعة من اليهود طلبوا هذه القصة من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على سبيل التعنت واعتقد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه إذا ذكرها فربما آمنوا فلما ذكرها أصروا على كفرهم فنزلت هذه الآية وكأنه إشارة إلى ما ذكره الله تعالى في قوله إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء ( القصص 56 ) قال أبو بكر بن الأنباري جواب لَوْ محذوف لأن جواب لَوْ لا يكون مقدماً عليها فلا يجوز أن يقال وقال الفراء في ( المصادر ) يقال حرص يحرص حرصاً ولغة أخرى شاذة حرص يحرص حريصاً ومعنى الحرص طلب الشيء بأقصى ما يمكن من الاجتهاد وقوله وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ معناه ظاهر وقوله إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ أي هو تذكرة لهم في دلائل التوحيد والعدل والنبوة والمعاد والقصص والتكاليف والعبادات ومعناه أن هذا القرآن يشتمل على هذه المنافع العظيمة ثم لا تطلب منهم مالاً ولا جعلاً فلو كانوا عقلاء لقبلوا ولم يتمردوا وقوله تعالى وَكَأَيّن مِن ءايَة ٍ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ يعني أنه لا عجب إذا لم يتأملوا في الدلائل الدالة على نبوتك فإن العالم مملوء من دلائل التوحيد والقدرة والحكمة ثم إنهم يمرون عليها ولا يلتفتون إليها
واعلم أن دلائل التوحيد والعلم والقدرة والحكمة والرحمة لابد وأن تكون من أمور محسوسة وهي إما الأجرام الفلكية وأما الأجرام العنصرية أما الأجرام الفلكية فهي قسمان إما الأفلاك وإما الكواكب أما الأفلاك فقد يستدل بمقاديرها المعينة على وجود الصانع وقد يستدل بكون بعضها فوق البعض أو تحته وقد يستدل بأحوال حركاتها إما بسبب أن حركاتها مسبوقة بالعدم فلا بد من محرك قادر وإما بسبب كيفية حركاتها في سرعتها وبطئها وإما بسبب اختلاف جهات تلك الحركات وأما الأجرام الكوكبية فتارة يستدل على وجود الصانع بمقاديرها أحيازها وحركاتها وتارة بألوانها وأضوائها وتار بتأثيراتها في حصول الأضواء والأظلال والظلمات والنور وأما الدلائل المأخوذة من الأجرام العنصرية فإما أن تكون مأخوذة من بسائط وهي عجائب البر والبحر وإما من المواليد وهي أقسام أحدها الآثار العلوية كالرعد والبرق والسحاب والمطر والثلج والهواء وقوس قزح وثانيها المعادن على اختلاف طبائعها وصفاتها وكيفياتها وثالثها النبات وخاصية الخشب والورق والثمر واختصاص كل واحد منها بطبع خاص وطعم خاص وخاصية مخصوصة ورابعها اختلاف أحوال الحيوانات في أشكالها وطبائعها وأصواتها وخلقتها وخامسها تشريح أبدان الناس وتشريح القوى الإنسانية وبيان المنفعة الحاصلة فيها فهذه مجامع الدلائل ومن هذا الباب أيضاً قصص الأولين وحكايات الأقدمين وأن الملوك الذين استولوا على الأرض وخربوا البلاد وقهروا العباد ماتوا ولم يبق منهم في الدنيا خبر ولا أثر ثم بقي الوزر والعقاب عليهم هذا ضبط أنواع هذه الدلائل والكتاب المحتوي على شرح هذه الدلائل هو شرح جملة العالم الأعلى والعالم الأسفل والعقل البشري لا يفي بالإحاطة به فلهذا السبب ذكره الله تعالى على سبيل الإبهام قال صاحب ( الكشاف ) قرىء والاْرْضِ بالرفع على أنه مبتدأ و يَمُرُّونَ عليها خبره وقرأ السدي والاْرْضِ بالنصب على تقدير أن يفسر قوله يَمُرُّونَ عَلَيْهَا بقولنا يطوفونها وفي مصحف عبدالله والاْرْضِ يَمْشُونَ عَلَيْهَا برفع الأرض
أما قوله وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ فالمعنى أنهم كانوا مقرين بوجود الإله بدليل قوله

وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ( لقمان 25 ) إلا أنهم كانوا يثبتون له شريكاً في المعبودية وعن ابن عباس رضي الله عنهما هم الذين يشبهون الله بخلقه وعنه أيضاً أنه قال نزلت هذه الآية في تلبية مشركي العرب لأنهم كانوا يقولون لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك وعنه أيضاً أن أهل مكة قالوا الله ربنا وحده لا شريك له الملائكة بناته فلم يوحدوا بل أشركوا وقال عبدة الأصنام ربنا الله وحده والأصنام شفعاؤنا عنده وقالت اليهود ربنا الله وحده وعزيز ابن الله وقالت النصارى ربنا الله وحده لا شريك له والمسيح ابن الله وقال عبدة الشمس والقمر ربنا الله وحده وهؤلاء أربابنا وقال المهاجرون والأنصار ربنا الله وحده ولا شريك معه واحتجت الكرامية بهذه الآية على أن الإيمان عبارة عن الإقرار باللسان فقط لأنه تعالى حكم بكونهم مؤمنين مع أنهم مشركون وذلك يدل على أن الإيمان عبارة عن مجرد الإقرار باللسان وجوابه معلوم أما قوله أَفَأَمِنُواْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَة ٌ مّنْ عَذَابِ اللَّهِ أي عقوبة تغشاهم وتنبسط عليهم وتغمرهم أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَة ُ بَغْتَة ً أي فجأة وبغتة نصب على الحال يقال بغتهم الأمر بغتاً وبغتة إذا فاجأهم من حيث لم يتوقعوا وقوله وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ كالتأكيد لقوله بَغْتَة ً
قُلْ هَاذِهِ سَبِيلِى أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَة ٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِى وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
قال المفسرون قل يا محمد لهم هذه الدعوة التي أدعو إليها والطريقة التي أنا عليها سبيلي وسنتي ومنهاجي وسمي الدين سبيلاً لأنه الطريق الذي يؤدي إلى الثواب ومثله قوله تعالى ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ ( النحل 125 )
واعلم أن السبيل في أصل اللغة الطريق وشبهوا المعتقدات بها لما أن الإنسان يمر عليها إلى الجنة ادعو الله على بصيرة وحجة وبرهان أنا ومن اتبعني إلى سيرتي وطريقتي وسيرة أتباعي الدعوة إلى الله لأن كل من ذكر الحجة وأجاب عن الشبهة فقد دعا بمقدار وسعه إلى الله وهذا يدل على أن الدعاء إلى الله تعالى إنما يحسن ويجوز مع هذا الشرط وهو أن يكون على بصيرة مما يقول وعلى هدى ويقين فإن لم يكن كذلك فهو محض الغرور وقال عليه الصلاة والسلام ( العلماء أمناء الرسل على عباد الله من حيث يحفظون لما تدعونهم إليه ) وقيل أيضاً يجوز أن ينقطع الكلام عند قوله ادْعُواْ إِلَى اللَّهِ ثم ابتدأ وقال عَلَى بَصِيرَة ٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِى وقوله وَسُبْحَانَ اللَّهِ عطف على قوله هَاذِهِ سَبِيلِى أي قل هذه سبيلي وقل سبحان الله تنزيهاً لله عما يشركون وما أنا من المشركين الذين اتخذوا مع الله ضداً ونداً وكفؤاً وولداً وهذه الآية تدل على أن حرفة الكلام وعلم الأصول حرفة الأنبياء عليهم السلام وأن الله ما بعثهم إلى الخلق إلا لأجلها
وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الاٌّ خِرَة ِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ

اعلم أنه قرأ حفص عن عاصم نُوحِى بالنون والباقون بالياء أَفَلاَ يَعْقِلُونَ قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو ورواية حفص عن عاصم تَعْقِلُونَ بالتاء على الخطاب والباقون بالياء على الغائب
واعلم أن من جملة شبه منكري نبوته عليه الصلاة والسلام أن الله لو أراد إرسال رسول لبعث ملكاً فقال تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ مّنْ أَهْلِ الْقُرَى فلما كان الكل هكذا فكيف تعجبوا في حقك يا محمد والآية تدل على أن الله ما بعث رسولاً إلى الحق من النسوان وأيضاً لم يبعث رسولاً من أهل البادية قال عليه الصلاة والسلام ( من بدا جفا ومن اتبع الصيد غفل )
ثم قال أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الاْرْضِ فَيَنظُرُواْ إلى مصارع الأمم المكذبة وقوله وَلَدَارُ الاْخِرَة ِ خَيْرٌ والمعنى دار الحالة الآخرة لأن للناس حالتين حال الدنيا وحال الآخرة ومثله قوله صلاة الأولى أي صلاة الفريضة الأولى وأما بيان أن الآخرة خير من الأولى فقد ذكرنا دلائله مراراً
حَتَّى إِذَا اسْتَيْأسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّى َ مَن نَّشَآءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ
اعلم أنه قرأ عاصم وحمزة والكسائي كَذَّبُواْ بالتخفيف وكسر الذال والباقون بالتشديد ومعنى التخفيف من وجهين أحدهما أن الظن واقع بالقوم أي حتى إذا استيأس الرسل من إيمان القوم فظن القوم أن الرسل كذبوا فيما وعدوا من النصر والظفر
فإن قيل لم يجر فيما سبق ذكر المرسل إليهم فكيف يحسن عود هذا الضمير إليهم
قلنا ذكر الرسل يدل على المرسل إليهم وإن شئت قلت أن ذكرهم جرى في قوله أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الاْرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ( يوسف 109 ) فيكون الضمير عائداً إلى الذين من قبلهم من مكذبي الرسل والظن ههنا بمعنى التوهم والحسبان
والوجه الثاني أن يكون المعنى أن الرسل ظنوا أنهم قد كذبوا فيما وعدوا وهذا التأويل منقول عن ابن

أبي مليكة عن ابن عباس رضي الله عنهما قالوا وإنما كان الأمر كذلك لأجل ضعف البشرية إلا أنه بعيد لأن المؤمن لا يجوز أن يطن بالله الكذب بل يخرج بذلك عن الإيمان فكيف يجوز مثله على الرسل وأما قراءة التشديد ففيها وجهان الأول أن الظن بمعنى اليقين أي وأيقنوا أن الأمم كذبوهم تكذيباً لا يصدر منهم الإيمان بعد ذلك فحينئذ دعوا عليهم فهنالك أنزل الله سبحانه عليهم عذاب الاستئصال وورود الظن بمعنى العلم كثير في القرآن قال تعالى الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُوا رَبّهِمْ ( البقرة 46 ) أي يتيقنون ذلك والثاني أن يكون الظن بمعنى الحسبان والتقدير حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم فظن الرسل أن الذين آمنوا بهم كذبوهم وهذا التأويل منقول عن عائشة رضي الله عنها وهو أحسن الوجوه المذكورة في الآية روي أن ابن أبي مليكة نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال وظن الرسل أنهم كذبوا لأنهم كانوا بشراً ألا ترى إلى قوله حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ ( البقرة 214 ) قال فذكرت ذلك لعائشة رضي الله عنها فأنكرته وقالت ما وعد الله محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) شيئاً إلا وقد علم أنه سيوفيه ولكن البلاء لم يزل بالأنبياء حتى خافوا من أن يكذبهم الذين كانوا قد آمنوا بهم وهذا الرد والتأويل في غاية الحسن من عائشة
وأما قوله جَاءهُمْ نَصْرُنَا أي لما بلغ الحال إلى الحد المذكور جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجّى َ مَن نَّشَاء قرأ عاصم وابن عامر فَنُجّى َ مَن نَّشَاء بنون واحدة وتشديد الجيم وفتح الياء على ما لم يسم فاعله واختاره أبو عبيدة لأنه في المصحف بنون واحدة وروي عن الكسائي إدغام إحدى النونين في الأخرى وقرأ بنون واحدة وتشديد الجيم وسكون الياء قال بعضهم هذا خطأ لأن النون متحركة فلا تدغم في الساكن ولا يجوز إدغام النون في الجيم والباقون بنونين وتخفيف الجيم وسكون الياء على معنى ونحن نفعل بهم ذلك
واعلم أن هذا حكاية حال ألا ترى أن القصة فيما مضى وإنما حكى فعل الحال كما أن قوله مِن شِيعَتِهِ وَهَاذَا مِنْ عَدُوّهِ ( القصص 15 ) إشارة إلى الحاضر والقصة ماضية
لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَة ٌ لاوْلِى الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَاكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَى ْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَة ً لْقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
اعلم أن الاعتبار عبارة عن العبور من الطرف المعلوم إلى الطرف المجهول والمراد منه التأمل والتفكر ووجه الاعتبار بقصصهم أمور الأول أن الذي قدر على إعزاز يوسف بعد إلقائه في الجب وإعلائه بعد حبسه في السجن وتمليكه مصر بعد أن كانوا يظنون به أنه عبد لهم وجمعه مع والديه وإخوته على ما أحب بعد المدة الطويلة لقادر على إعزاز محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وإعلاء كلمته الثاني أن الإخبار عنه جار مجرى الإخبار عن الغيب فيكون معجزة دالة على صدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) الثالث أنه ذكر في أول السورة نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ( يوسف 3 ) ثم ذكر في آخرها لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَة ٌ لاّوْلِى الالْبَابِ

تنبيهاً على أن حسن هذه القصة إنما كان بسبب أنه يحصل منها العبرة ومعرفة الحكمة والقدرة والمراد من قصصهم قصة يوسف عليه السلام وإخوته وأبيه ومن الناس من قال المراد قصص الرسل لأنه تقدم في القرآن ذكر قصص سائر الرسل إلا أن الأولى أن يكون المراد قصة يوسف عليه السلام
فإن قيل لم قال عِبْرَة ٌ لاّوْلِى الالْبَابِ مع أن قوم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كانوا ذوي عقول وأحلام وقد كان الكثير منهم لم يعتبر بذلك
قلنا إن جميعهم كانوا متمكنين من الاعتبار والمراد من وصف هذه القصة بكونها عبرة كونها بحيث يمكن أن يعتبر بها العاقل أو نقول المراد من أولي الألباب الذين اعتبروا وتفكروا وتأملوا فيها وانتفعوا بمعرفتها لأن أُوْلِى الالْبَابِ لفظ يدل على المدح والثناء فلا يليق إلا بما ذكرناه واعلم أنه تعالى وصف هذه القصة بصفات
الصفة الأولى كونها عِبْرَة ٌ لاّوْلِى الالْبَابِ وقد سبق تقريره
الصفة الثانية قوله مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وفيه قولان الأول أن المراد الذي جاء به وهو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لا يصح منه أن يفتري لأنه لم يقرأ الكتب ولم يتلمذ لأحد ولم يخالط العلماء فمن المحال أن يفتري هذه القصة بحيث تكون مطابقة لما ورد في التوراة من غير تفاوت والثاني أن المراد أنه ليس يكذب في نفسه لأنه لا يصح الكذب منه ثم إنه تعالى أكد كونه غير مفترى فقال وَلَاكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وهو إشارة إلى أن هذه القصة وردت على الوجه الموافق لما في التوراة وسائر الكتب الإلهية ونصب تصديقاً على تقدير ولكن كان تصديق الذي بين يديه كقوله تعالى مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ وَلَاكِن رَّسُولَ اللَّهِ ( الأحزاب 40 ) قاله الفراء والزجاج ثم قال ويجوز رفعه في قياس النحو على معنى ولكن هو تصديق الذي بين يديه
والصفة الثالثة قوله وَتَفْصِيلَ كُلّ شَى ْء وفيه قولان الأول المراد وتفصيل كل شيء من واقعة يوسف عليه السلام مع أبيه وإخوته والثاني أنه عائد إلى القرآن كقوله مَّا فَرَّطْنَا فِى الكِتَابِ مِن شَى ْء ( الأنعام 38 ) فإن جعل هذا الوصف وصفاً لكل القرآن أليق من جعله وصفاً لقصة يوسف وحدها ويكون المراد ما يتضمن من الحلال والحرام وسائر ما يتصل بالدين قال الواحدي على التفسيرين جميعاً فهو من العام الذي أريد به الخاص كقوله وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَى ْء ( الأعراف 156 ) يريد كل شيء يجوز أن يدخل فيها وقوله وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَى ْء ( النمل 23 )
الصفة الرابعة والخامسة كونها هدى في الدنيا وسبباً لحصول الرحمة في القيامة لقوم يؤمنون خصهم بالذكر لأنهم هم الذين انتفعوا به كما قررناه في قوله هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2 ) والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب قال المصنف رحمه الله تعالى تم تفسير هذه السورة بحمد الله تعالى يوم الأربعاء السابع من شعبان ختم بالخير والرضوان سنة إحدى وستمائة وقد كنت ضيق الصدر جداً بسبب وفاة الولد الصالح محمد تغمده الله بالرحمة والغفران وخصه بدرجات الفضل والإحسان وذكرت هذه الأبيات في مرثيته على

سبيل الإيجاز فلو كانت الأقدار منقادة لنا
فديناك من حماك بالروح والجسم
ولو كانت الأملاك تأخذ رشوة
خضعنا لها بالرق في الحكم والاسم
ولكنه حكم إذا حان حينه
سرى من مقر العرش في لجة اليم
سأبكي عليك العمر بالدم دائما
ولم أنحرف عن ذاك في الكيف والكم
سلام على قبر دفنت بتربه
وأتحفك الرحمن بالكرم الجم
وما صدني عن جعل جفني مدفنا
لجسمك إلا أنه أبداً يهمي
وأقسم إن مسوا رفاتي ورمتي
أحسوا بنار الحزن في مكمن العظم
حياتي وموتي واحد بعد بعدكم
بل الموت أولى من مداومة الغم
رضيت بما أمضى الإله بحكمه
لعلمي بأني لا يجاوزني حكمي
وأنا أوصي من طالع كتابي واستفاد ما فيه من الفوائد النفيسة العالية أن يخص ولدي ويخصني بقراءة الفاتحة ويدعو لمن قد مات في غربة بعيداً عن الإخوان والأب والأم بالرحمة والمغفرة فإني كنت أيضاً كثير الدعاء لمن فعل ذلك في حقي وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً آمين والحمد لله رب العالمين

سورة الرعد
مدنية وآياتها 43 نزلت بعد سورة محمد
سورة الرعد أربعون وثلاث آيات مكية
سوى قوله تعالى وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَة ٌ ( الرعد 31 ) وقوله وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ( الرعد 43 ) قال الأصم هي مدنية بالإجماع سوى قوله تعالى وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا سُيّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ ( الرعد 31 )
ال م ر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ
اعلم أنا قد تكلمنا في هذه الألفاظ قال ابن عباس رضي الله عنهما معناه أنا الله أعلم وقال في رواية عطاء أنا الله الملك الرحمن وقد أمالها أبو عمرو والكسائي وغيرهما وفخمها جماعة منهم عاصم وقوله تِلْكَ إشارة إلى آيات السورة المسماة بالمر ثم قال إنها آيات الكتاب وهذا الكتاب الذي أعطاه محمداً بأن ينزله عليه ويجعله باقياً على وجه الدهر وقوله وَالَّذِى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ مبتدأ وقوله الْحَقّ خبره ومن الناس من تمسك بهذه الآية في نفي القياس فقال الحكم المستنبط بالقياس غير نازل من عند الله وإلا لكان من لم يحكم به كافراً لقوله تعالى وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ( المائدة 44 ) وبالإجماع لا يكفر فثبت أن الحكم المثبت بالقياس غير نازل من عند الله وإذا كان كذلك وجب أن لا يكون حقاً لأجل أن قوله وَالَّذِى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ الْحَقُّ يقتضي أنه لا حق إلا ما أنزله الله فكل ما لم ينزله الله وجب أن لا يكون حقاً وإذا لم يكن حقاً وجب أن يكون باطلاً لقوله تعالى فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقّ إِلاَّ الضَّلاَلُ ( يونس 32 ) ومثبتو القياس يجيبون عنه بأن الحكم المثبت بالقياس نازل أيضاً من عند الله لأنه

لما أمر بالعمل بالقياس كان الحكم الذي دل عليه القياس نازلاً من عند الله ولما ذكر تعالى أن المنزل على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) هو الحق بين أن أكثر الناس لا يؤمنون به على سبيل الزجر والتهديد
اللَّهُ الَّذِى رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبَّرُ الاٌّ مْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر أن أكثر الناس لا يؤمنون ذكر عقيبه ما يدل على صحة التوحيد والمعاد وهو هذه الآية وفيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) الله مبتدأ والذي رفع السموات خبره بدليل قوله وَهُوَ الَّذِى مَدَّ الاْرْضَ ( الرعد 3 ) ويجوز أن يكون الذي رفع السموات صفة وقوله يُدَبّرُ الاْمْرَ يُفَصّلُ الآيَاتِ خبراً بعد خبر وقال الواحدي العمد الأساطين وهو جمع عماد يقال عماد وعمد مثل إهاب وأهب وقال الفراء العمد والعمد جمع العمود مثل أديم وادم وادم وقضيم وقضم وقضم والعماد والعمود ما يعمد به الشيء ومنه يقال فلان عمد قومه إذا كانوا يعتمدونه فيما بينهم
المسألة الثانية اعلم أنه تعالى استدل بأحوال السموات وبأحوال الشمس والقمر وبأحوال الأرض وبأحوال النبات أما الاستدلال بأحوال السموات بغير عمد ترونها فالمعنى أن هذه الأجسام العظيمة بقيت واقفة في الجو العالي ويستحيل أن يكون بقاؤها هناك لأعيانها ولذواتها لوجهين الأول أن الأجسام متساوية في تمام الماهية ولو وجب حصول جسم في حيز معين لوجب حصول كل جسم في ذلك الحين والثاني أن الخلاء لا نهاية له والأحياز المعترضة في ذلك الخلاء الصرف غير متناهية وهي بأسرها متساوية ولو وجب حصول جسم في حيز معين لوجب حصوله في جميع الأحياز ضرورة أن الأحياز بأسرها متشابهة فثبت أن حصول الأجرام الفلكية في أحيازها وجهاتها ليس أمراً واجباً لذاته بل لا بد من مخصص ومرجح ولا يجوز أن يقال إنها بقيت بسلسلة فوقها ولا عمد تحتها وإلا لعاد الكلام في ذلك الحافظ ولزم المرور إلى ما لا نهاية له وهو محال فثبت أن يقال الأجرام الفلكية في أحيازها العالية لأجل أن مدبر العالم تعالى وتقدس أوقفها هناك فهذا برهان قاهر على وجود الإله القاهر القادر ويدل أيضاً على أن الإله ليس بجسم ولا مختص بحيز لأنه لو كان حاصلاً في حيز معين لامتنع أن يكون حصوله في ذلك الحيز لذاته ولعينه لما بينا أن الأحياز بأسرها متساوية فيمتنع أن يكون حصوله في حيز معين لذاته فلا بد وأن يكون بتخصيص مخصص وكل ما حصل بالفاعل المختار فهو محدث فاختصاصه بالحيز المعين محدث وذاته لا تنفك عن ذلك الاختصاص وما لا يخلو عن الحادث فهو حادث فثبت أنه لو كان حاصلاً في الحيز المعين لكان حادثاً وذلك محال فثبت أنه تعالى متعال عن الحيز والجهة وأيضاً كل ما سماك فهو سماء فلو كان تعالى موجوداً في جهة فوق جهة لكان من جملة السموات فدخل تحت قوله اللَّهُ الَّذِى رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا

فكل ما كان مختصاً بجهة فوق جهة فهو محتاج إلى حفظ الإله بحكم هذه الآية فوجب أن يكون الإله منزهاً عن جهة فوق أما قوله تَرَوْنَهَا ففيه أقوال الأول أنه كلام مستأنف والمعنى رفع السموات بغير عمد ثم قال تَرَوْنَهَا أي وأنتم ترونها أي مرفوعة بلا عماد الثاني قال الحسن في تقرير الآية تقديم وتأخير تقديره رفع السموات ترونها بغير عمد
واعلم أنه إذا أمكن حمل الكلام على ظاهره كان المصير إلى التقديم والتأخير غير جائز والثالث أن قوله تَرَوْنَهَا صفة للعمد والمعنى بغير عمد مرئية أي للسموات عمد ولكنا لا نراها قالوا ولها عمد على جبل قاف وهو جبل من زبرجد محيط بالدنيا ولكنكم لا ترونها وهذا التأويل في غاية السقوط لأنه تعالى إنما ذكر هذا الكلام ليكون حجة على وجود الإله القادر ولو كان المراد ما ذكروه لما ثبتت الحجة لأنه يقال إن السموات لما كانت مستقرة على جبل قاف فأي دلالة لثبوتها على وجود الإله وعندي فيه وجه آخر أحسن من الكل وهو أن العماد ما يعتمد عليه وقد دللنا على أن هذه الأجسام إنما بقيت واقفة في الجو العالي بقدرة الله تعالى وحينئذ يكون عمدها هو قدرة الله تعالى فنتج أن يقال إنه رفع السماء بغير عمد ترونها أي لها عمد في الحقيقة إلا أن تلك العمد هي قدرة الله تعالى وحفظه وتدبيره وإبقاؤه إياها في الجو العالي وأنهم لا يرون ذلك التدبير ولا يعرفون كيفية ذلك الإمساك
وأما قوله ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ فاعلم أنه ليس المراد منه كونه مستقراً على العرش لأن المقصود من هذه الآية ذكر ما يدل على وجود الصانع ويجب أن يكون ذلك الشيء مشاهداً معلوماً وأن أحداً ما رأى أنه تعالى استقر على العرش فكيف يمكن الاستدلال به عليه وأيضاً بتقدير أن يشاهد كونه مستقراً على العرش إلا أن ذلك لا يشعر بكمال حاله وغاية جلاله بل يدل على احتياجه إلى المكان والحيز وأيضاً فهذا يدل على أنه ما كان بهذه الحالة ثم صار بهذه الحالة وذلك يوجب التغير وأيضاً الاستواء ضد الاعوجاج فظاهر الآية يدل على أنه كان معوجاً مضطرباً ثم صار مستوياً وكل ذلك على الله محال فثبت أن المراد استواؤه على عالم الأجسام بالقهر والقدرة والتدبير والحفظ يعني أن من فوق العرش إلى ما تحت الثرى في حفظه وفي تدبيره وفي الاحتياج إليه وأما الاستدلال بأحوال الشمس والقمر فهو قوله سبحانه وتعالى وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى لاجَلٍ مُّسَمًّى
واعلم أن هذا الكلام اشتمل على نوعين من الدلالة
النوع الأول قوله وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وحاصله يرجع إلى الاستدلال على وجود الصانع القادر القاهر بحركات هذه الأجرام وذلك لأن الأجسام متماثلة فهذه الأجرام قابلة للحركة والسكون فاختصاصها بالحركة الدائمة دون السكون لا بد له من مخصص وأيضاً أن كل واحدة من تلك الحركات مختصة بكيفية معينة من البطإ والسرعة فلا بد أيضاً من مخصص لا سيما عند من يقول الحركة البطيئة معناها حركات مخلوطة بسكنات وهذا يوجب الاعتراف بأنها تتحرك في بعض الأحياز وتسكن في البعض فحصول الحركة في ذلك الحيز المعين والسكون في الحيز الآخر لا بد فيه أيضاً من مرجح
الوجه الثالث وهو أن تقدير تلك الحركات والسكنات بمقادير مخصوصة على وجه تحصل عوداتها وأدوارها متساوية بحسب المدة حالة عجيبة فلا بد من مقدر

والوجه الرابع أن بعض تلك الحركات مشرقية وبعضها مغربية وبعضها مائلة إلى الشمال وبعضها مائلة إلى الجنوب وهذا أيضاً لا يتم إلا بتدبير كامل وحكمة بالغة
النوع الثاني من الدلائل المذكورة في هذه الآية قوله كُلٌّ يَجْرِى لاِجَلٍ مُّسَمًّى وفيه قولان الأول قال ابن عباس للشمس مائة وثمانون منزلاً كل يوم لها منزل وذلك يتم في ستة أشهر ثم إنها تعود مرة أخرى إلى واحد منها في ستة أشهر أخرى وكذلك القمر له ثمانية وعشرون منزلاً فالمراد بقوله كُلٌّ يَجْرِى لاِجَلٍ مُّسَمًّى هذا وتحقيقه أنه تعالى قدر لكل واحد من هذه الكواكب سيراً خاصاً إلى جهة خاصة بمقدار خاص من السرعة والبطء ومتى كان الأمر كذلك لزم أن يكون لها بحسب كل لحظة ولمحة حالة أخرى ما كانت حاصلة قبل ذلك
والقول الثاني أن المراد كونهما متحركين إلى يوم القيامة وعند مجيء ذلك اليوم تنقطع هذه الحركات وتبطل تلك السيرات كما وصف الله تعالى ذلك في قوله إِذَا الشَّمْسُ كُوّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ ( التكوير 1 2 ) إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ ( الإنشقاق 1 ) إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ ( الأنفطار 1 ) جَمَعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ( القيامة 9 ) وهو كقوله سبحانه وتعالى ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ( الأنعام 2 ) ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الدلائل قال يُدَبّرُ الاْمْرَ وكل واحد من المفسرين حمل هذا على تدبير نوع آخر من أحوال العالم والأولى حمله على الكل فهو يدبرهم بالإيجاد والإعدام وبالإحياء والإماتة والإغناء والإفقار ويدخل فيه إنزال الوحي وبعثة الرسل وتكليف العباد وفيه دليل عجيب على كمال القدرة والرحمة وذلك لأن هذا العالم المعلوم من أعلى العرش إلى ما تحت الثرى أنواع وأجناس لا يحيط بها إلا الله تعالى والدليل المذكور دل على أن اختصاص كل واحد منها بوضعه وموضعه وصفته وطبيعته وحليته ليس إلا من الله تعالى ومن المعلوم أن كل من اشتغل بتدبير شيء فإنه لا يمكنه شيء آخر إلا الباري سبحانه وتعالى فإنه لا يشغله شأن عن شأن أما العاقل فإنه إذا تأمل في هذه الآية علم أنه تعالى يدبر عالم الأجسام وعالم الأرواح ويدبر الكبير كما يدبر الصغير فلا يشغله شأن عن شأن ولا يمنعه تدبير عن تدبير وذلك يدل على أنه تعالى في ذاته وصفاته وعلمه وقدرته غير مشابه للمحدثات والممكنات
ثم قال يُفَصّلُ الآيَاتِ وفيه قولان الأول أنه تعالى بين الآيات الدالة على إلهيته وعلمه وحكمته والثاني أن الدلائل الدالة على وجود الصانع قسمان أحدهما الموجودات الباقية الدائمة كالأفلاك والشمس والقمر والكواكب وهذا النوع من الدلائل هو الذي تقدم ذكره والثاني الموجودات الحادثة المتغيرة وهي الموت بعد الحياة والفقر بعد الغنى والهرم بعد الصحة وكون الأحمق في أهنأ العيش والعاقل الذكي في أشد الأحوال فهذا النوع من الموجودات والأحوال دلالتها على وجود الصانع الحكيم ظاهرة باهرة وقوله يُفَصّلُ الآيَاتِ إشارة إلى أنه يحدث بعضها عقيب بعض على سبيل التمييز والتفصيل
ثم قال لَعَلَّكُمْ بِلِقَاء رَبّكُمْ تُوقِنُونَ واعلم أن الدلائل المذكورة كما تدل على وجود الصانع الحكيم فهي أيضاً تدل على صحة القول بالحشر والنشر لأن من قدر على خلق هذه الاْشياء وتدبيرها على عظمتها وكثرتها فلأن يقدر على الحشر والنشر كان أولى يروى أن رجلاً قال لعلي بن أبي طالب رضوان الله عليه أنه

تعالى كيف يحاسب الخلق دفعة واحدة فقال كما يرزقهم الآن دفعة واحدة وكما يسمع نداءهم ويجيب دعاءهم الآن دفعة واحدة وحاصل الكلام أنه تعالى كما قدر على إبقاء الأجرام الفلكية والنيرات الكوكبية في الجو العالي وإن كان الخلق عاجزين عنه وكما يمكنه أن يدبر من فوق العرش إلى ما تحت الثرى بحيث لا يشغله شأن عن شأن فكذلك يحاسب الخلق بحيث لا يشغله شأن عن شأن ومن الأصحاب من تمسك بلفظ اللقاء على رؤية الله تعالى وقد مر تقريره في هذا الكتاب مراراً وأطواراً

بداية الجزء التاسع عشر من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32

وَهُوَ الَّذِى مَدَّ الأرض وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِى َ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِى الَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
اعلم أنه تعالى لما قرر الدلائل السماوية أردفها بتقرير الدلائل الأرضية فقال وَهُوَ الَّذِى مَدَّ الاْرْضَ
واعلم أن الاستدلال بخلقه الأرض وأحوالها من وجوه الأول أن الشيء إذا تزايد حجمه ومقداره صار كأن ذلك الحجم وذلك المقدار يمتد فقوله وَهُوَ الَّذِى مَدَّ الاْرْضَ إشارة إلى أن الله سبحانه هو الذي جعل الأرض مختصة بذلك المقدار المعين الحاصل له لا أزيد ولا أنقص والدليل عليه أن كون الأرض أزيد مقداراً مما هو الآن وأنقص منه أمر جائز ممكن في نفسه فاختصاصه بذلك المقدار المعين لا بد أن يكون بتخصيص وتقدير الثاني قال أبو بكر الأصم المد هو البسط إلى ما لا يدرك منتهاه فقوله وَهُوَ الَّذِى مَدَّ الاْرْضَ يشعر بأنه تعالى جعل حجم الأرض حجماً عظيماً لا يقع البصر على منتهاه لأن الأرض لو كانت أصغر حجماً مما هي الآن عليه لما كمل الانتفاع به والثالث قال قوم كانت الأرض مدورة فمدها ودحا من مكة من تحت البيت فذهبت كذا وكذا وقال آخرون كانت مجتمعة عند البيت المقدس فقال لها اذهبي كذا وكذا
اعلم أن هذا القول إنما يتم إذا قلنا الأرض مسطحة لا كرة وأصحاب هذا القول احتجوا عليه بقوله وَالاْرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ( النازعات 30 ) وهذا القول مشكل من وجهين الأول أنه ثبت بالدلائل أن الأرض كرة فكيف يمكن المكابرة فيه
فإن قالوا وقوله مَدَّ الاْرْضَ ينافي كونها كرة فكيف يمكن مدها
قلنا لا نسلم أن الأرض جسم عظيم والكرة إذا كانت في غاية الكبر كان كل قطعة منها تشاهد كالسطح والتفاوت الحاصل بينه وبين السطح لا يحصل إلا في علم الله ألا ترى أنه قال وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً

( النبأ 7 ) فجعلها أوتاداً مع أن العالم من الناس يستقرون عليها فكذلك ههنا والثاني أن هذه الآية إنما ذكرت ليستدل بها على وجود الصانع والشرط فيه أن يكون ذلك أمراً مشاهداً معلوماً حتى يصح الاستدلال به على وجود الصانع وكونها مجتمعة تحت البيت أمر غير مشاهد ولا محسوس فلا يمكن الاستدلال به على وجود الصانع فثبت أن التأويل الحق هو ما ذكرناه
والنوع الثاني من الدلائل الاستدلال بأحوال الجبال وإليه الإشارة بقوله وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِى َ من فوقها ثابتة باقية في أحيازها غير منتقلة عن أماكنها يقال رسا هذا الوتد وأرسيته والمراد ما ذكرنا
واعلم أن الاستدلال بوجود الجبال على وجود الصانع القادر الحكيم من وجوه الأول أن طبيعة الأرض واحدة فحصول الجبل في بعض جوانبها دون البعض لا بد وأن يكون بتخليق القادر الحكيم قالت الفلاسفة هذه الجبال إنما تولدت لأن البحار كانت في هذا الجانب من العالم فكانت تتولد في البحر طيناً لزجاً ثم يقوي تأثير الشمس فيها فينقلب حجراً كما يشاهد في كوز الفقاع ثم إن الماء كان يغور ويقل فيتحجر البقية فلهذا السبب تولدت هذه الجبال قالوا وإنما كانت البحار حاصلة في هذا الجانب من العالم لأن أوج الشمس وحضيضها متحركان ففي الدهر الأقدم كان حضيض الشمس في جانب الشمال والشمس متى كانت في حضيضها كانت أقرب إلى الأرض فكان التسخين أقوى وشدة السخونة توجب انجذاب الرطوبات فحين كان الحضيض في جانب الشمال كانت البحار في جانب الشمال والآن لما انتقل الأوج إلى جانب الشمال والحضيض إلى جانب الجنوب انتقلت البحار إلى جانب الجنوب فبقيت هذه الجبال في جانب الشمال هذا حاصل كلام القوم في هذا الباب وهو ضعيف من وجوه الأول أن حصول الطين في البحر أمر عام ووقوع الشمس عليها أمر عام فلم وصل هذا الجبل في بعض الجوانب دون البعض والثاني وهو أنا نشاهد في بعض الجبال كأن تلك الأحجار موضوعة سافا فسافاً فكأن البناء لبنات كثيرة موضوع بعضها على بعض ويبعد حصول مثل هذا التركيب من السبب الذي ذكروه والثالث أن أوج الشمس الآن قريب من أول السرطان فعلى هذا من الوقت الذي انتقل أوج الشمس إلى الجانب الشمالي مضى قريب من تسعة آلاف سنة وبهذا التقدير أن الجبال في هذه المدة الطويلة كانت في التفتت فوجب أن لا يبقى من الأحجار شيء لكن ليس الأمر كذلك فعلمنا أن السبب الذي ذكروه ضعيف
والوجه الثاني من الاستدلال بأحوال الجبال على وجود الصانع ذي الجلال ما يحصل فيها من معادن الفلزات السبعة ومواضع الجواهر النفيسة وقد يحصل فيها معادن الزاجات والأملاح وقد يحصل فيها معادن النفط والقير والكبريت فكون الأرض واحدة في الطبيعة وكون الجبل واحداً في الطبع وكون تأثير الشمس واحداً في الكل يدل دليلاً ظاهراً على أن الكل بتقدير قادر قاهر متعال عن مشابهة المحدثات والممكنات
والوجه الثالث من الاستدلال بأحوال الجبال أن بسببها تتولد الأنهار على وجه الأرض وذلك أن الحجر جسم صلب فإذا تصاعدت الأبخرة من قعر الأرض ووصلت إلى الجبل احتبست هناك فلا تزال تتكامل فيحصل تحت الجبل مياه عظيمة ثم إنها لكثرتها وقوتها تثقب وتخرج وتسيل على وجه الأرض فمنفعة الجبال في تولد الأنهار هو من هذا الوجه ولهذا السبب ففي أكثر الأمر أينما ذكر الله الجبال قرن بها ذكر الأنهار مثل ما في هذه الآية ومثل قوله وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِى َ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاء فُرَاتاً ( المرسلات 27 )

والنوع الثالث من الدلائل المذكورة في هذه الآية الاستدلال بعجائب خلقة النبات وإليه الإشارة بقوله وَمِن كُلّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وفيه مسائل
المسألة الأولى أن الحبة إذا وضعت في الأرض وأثرت فيها نداوة الأرض ربت وكبرت وبسبب ذلك ينشق أعلاها وأسفلها فيخرج من الشق الأعلى الشجرة الصاعدة في الهواء ويخرج من الشق الأسفل العروق الغائصة في أسفل الأرض وهذا من العجائب لأن طبيعة تلك الحبة واحدة وتأثير الطبائع والأفلاك والكواكب فيها واحد ثم إنه خرج من الجانب الأعلى من تلك الحبة جرم صاعد إلى الهواء من الجانب الأسفل منه جرم غائص في الأرض ومن المحال أن يتولد من الطبيعة الواحدة طبيعتان متضادتان فعلمنا أن ذلك إنما كان بسبب تدبير المدبر الحكيم والمقدر القديم لا بسبب الطبع والخاصية ثم إن الشجرة الثابتة من تلك الحبة بعضها يكون خشباً وبعضها يكون نوراً وبعضها يكون ثمرة ثم إن تلك الثمرة أيضاً يحصل فيها أجسام مختلفة الطبائع فالجوز له أربعة أنواع من القشور فالقشر الأعلى وتحته القشرة الخشبة وتحته القشرة المحيطة باللبنة وتحت تلك القشرة قشرة أخرى في غاية الرقة تمتاز عما فوقها حال كون الجوز رطباً وأيضاً فقد يحصل في الثمرة الواحدة الطباع المختلفة فالأترج قشره حار يابس ولحمه حار رطب وحماضه بارد يابس وبزره حار يابس ونوره حار يابس وكذلك العنب قشره وعجمه باردان يابسان ولحمه وماؤه حاران رطبان فتولد هذه للطبائع المختلفة من الحبة الواحدة مع تساوي تأثيرات الطبائع وتأثيرات الأنجم والأفلاك لا بد وأن يكون لأجل تدبير الحكيم القادر القديم
المسألة الثانية المراد بزوجين اثنين صنفين اثنين والاختلاف إما من حيث الطعم كالحلو والحامض أو الطبيعة كالحار والبارد أو اللون كالأبيض والأسود
فإن قيل الزوجان لا بد وأن يكون اثنين فما الفائدة في قوله زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ
قلنا قيل إنه تعالى أول ما خلق العالم وخلق فيه الأشجار خلق من كل نوع من الأنواع اثنين فقط فلو قال خلق زوجين لم يعلم أن المراد النوع أو الشخص أما لما قال اثنين علمنا أن الله تعالى أول ما خلق من كل زوجين اثنين لا أقل ولا أزيد والحاصل أن الناس فيهم الآن كثرة إلا أنهم لما ابتدؤا من زوجين اثنين بالشخص هما آدم وحواء فكذلك القول في جميع الأشجار والزرع والله أعلم
النوع الرابع من الدلائل المذكورة في هذه الآية الاستدلال بأحوال الليل والنهار وإليه الإشارة بقوله وَهُوَ الَّذِى مَدَّ والمقصود أنم الإنعام لا يكمل إلا بالليل والنهار وتعاقبهما كما قال فَمَحَوْنَا ءايَة َ الَّيْلِ وَجَعَلْنَا ءايَة َ النَّهَارِ مُبْصِرَة ً ( الإسراء 12 ) ومنه قوله إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ ( الأعراف 54 ) وقد سبق الاستقصاء في تقريره فيما سلف من هذا الكتاب قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم يُغْشِى بالتشديد وفتح الغين والباقون بالتخفيف ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الدلائل النيرة والقواطع القاهرة قال إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
واعلم أنه تعالى في أكثر الأمر حيث يذكر الدلائل الموجودة في العالم السفلي يذكر عقبها إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ أو ما يقرب منه بحسب المعنى والسبب فيه أن الفلاسفة يسندون حوادث العالم السفلي إلى الاختلافات الواقعة في الأشكال الكوكبية فما لم تقم الدلالة على دفع هذا السؤال لا يتم

المقصود فلهذا المعنى قال إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ كأنه تعالى يقول مجال الفكر باق بعد ولا بد بعد هذا المقام من التفكر والتأمل ليتم الاستدلال
واعلم أن الجواب عن هذا السؤال من وجهين الأول أن نقول هب أنكم أسندتم حوادث العالم السفلي إلى الأحوال الفلكية والاتصالات الكوكبية إلا أنا أقمنا الدليل القاطع على أن اختصاص كل واحد من الأجرام الفلكية وطبعه ووضعه وخاصيته لا بد أن يكون بتخصيص المقدر القديم والمدبر الحكيم فقد سقط هذا السؤال وهذا الجواب قد قرره الله تعالى في هذا المقام لأنه تعالى ابتدأ بذكر الدلائل السماوية وقد بينا أنها كيف تدل على وجود الصانع ثم إنه تعالى أتبعها بالدلائل الأرضية
فإن قال قائل لم لا يجوز أن تكون هذه الحوادث الأرضية لأجل الأحوال الفلكية كان جوابنا أن نقول فهب أن الأمر كذلك إلا أنا دللنا فيما تقدم على افتقار الأجرام الفلكية إلى الصانع الحكيم فحينئذ لا يكون هذا السؤال قادحاً في غرضنا
والوجه الثاني من الجواب أن نقيم الدلالة على أنه لا يجوز أن يكون حدوث الحوادث السفلية لأجل الاتصالات الفلكية وذلك هو المذكور في الآية التي تأتي بعد هذه الآية ومن تأمل في هذه اللطائف ووقف عليها علم أن هذا الكتاب اشتمل على علوم الأولين والآخرين
وَفِى الأرض قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِى الاٍّ كُلِ إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن المقصود من هذه الآية إقامة الدلالة على أنه لا يجوز أن يكون حدوث الحوادث في هذا العالم لأجل الاتصالات الفلكية والحركات الكوكبية وتقريره من وجهين الأول أنه حصل في الأرض قطع مختلفة بالطبيعة والماهية وهي مع ذلك متجاورة فبعضها تكون سبخية وبعضها تكون رخوة وبعضها تكون صلبة وبعضها تكون منبتة وبعضها تكون حجرية أو رملية وبعضها يكون طيناً لزجاً ثم إنها متجاورة وتأثير الشمس وسائر الكواكب في تلك القطع على السوية فدل هذا على أن اختلافها في صفاتها بتقدير العليم القدير والثاني أن القطعة الواحدة من الأرض تسقى بماء واحد فيكون تأثير الشمس فيها متساوياً ثم إن تلك الثمار تجيء مختلفة في الطعم واللون والطبيعة والخاصية حتى أنك قد تأخذ عنقوداً من العنب فيكون جميع حباته حلوة نضيجة إلا حبة واحدة فإنها بقيت حامضة يابسة ونحن نعلم بالضرورة أن نسبة الطباع والأفلاك للكل على السوية بل نقول ههنا ما هو أعجب منه وهو أنه يوجد في بعض أنواع الورد ما يكون أحد وجهيه في غاية الحمرة والوجه الثاني في غاية السواد مع أن ذلك الورد يكون في غاية الرقة والنعومة فيستحيل أن يقال وصل تأثير الشمس إلى أحد طرفيه دون الثاني وهذا يدل دلالة

قطعية على أن الكل بتدبير الفاعل المختار لا بسبب الاتصالات الفلكية وهو المراد من قوله سبحانه وتعالى يُسْقَى بِمَاء واحِدٍ وَنُفَضّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِى الاْكُلِ فهذا تمام الكلام في تقرير هذه الحجة وتفسيرها وبيانها
واعلم أن بذكر هذا الجواب قد تمت الحجة فإن هذه الحوادث السفلية لا بد لها من مؤثر وبينا أن ذلك المؤثر ليس هو الكواكب والأفلاك والطبائع فعند هذا يجب القطع بأنه لا بد من فاعل آخر سوى هذه الأشياء وعندها يتم الدليل ولا يبقى بعده للفكر مقام ألبتة فلهذا السبب قال ههنا إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ لأنه لا دافع لهذه الحجة إلا أن يقال إن هذه الحوادث السفلية حدثت لا لمؤثر ألبتة وذلك يقدح في كمال العقل لأن العلم بافتقار الحادث إلى المحدث لما كان علماً ضرورياً كان عدم حصول هذا العلم قادحاً في كمال العقل فلهذا قال إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وقال في الآية المتقدمة إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ( الزمر 42 ) ( الجاثية 13 ) فهذه اللطائف نفيسة من أسرار علم القرآن ونسأل الله العظيم أن يجعل الوقوف عليها سبباً للفوز بالرحمة والغفران
المسألة الثانية قوله وَفِى الاْرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِراتٌ قال أبو بكر الأصم أرض قريبة من أرض أخرى واحدة طيبة وأخرى سبخة وأخرى حرة وأخرى رملة وأخرى تكون حصباء وأخرى تكون حمراء وأخرى تكون سوداء وبالجملة فاختلاف بقاع الأرض في الارتفاع والانخفاض والطباع والخاصية أمر معلوم وفي بعض المصاحف ( قطعاً متجاورات ) والتقدير وجعل فيها رواسي وجعل في الأرض قطعاً متجاورات وأما قوله وَجَنَّاتٌ مّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ فنقول الجنة البستان الذي يحصل فيه النخل والكرم والزرع وتحفه تلك الأشجار والدليل عليه قوله تعالى جَعَلْنَا لاِحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا ( الكهف 32 ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ كلها بالرفع عطفاً على قوله ( وجنات ) والباقون بالجر عطفاً على الأعناب وقرأ حفص عن عاصم في رواية القواس ( صنوان ) بضم الصاد والباقون بكسر الصاد وهما لغتان والصنوان جمع صنو مثل قنوان وقنو ويجمع على أصناء مثل اسم وأسماء فإذا كثرت فهو الصني والصني بكسر الصاد وفتحها والصنو أن يكون الأصل واحداً وتنبت فيه النخلتان والثلاثة فأكثر فكل واحدة صنو وذكر ثعلب عن ابن الأعرابي الصنو المثل ومنه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ألا إن عم الرجل صنو أبيه ) أي مثله
إذا عرفت هذا فنقول إذا فسرنا الصنو بالتفسير الأول كان المعنى أن النخيل منها ما ينبت من أصل واحد شجرتان وأكثر ومنها ما لا يكون كذلك وإذا فسرناه بالتفسير الثاني كان المعنى أن أشجار النخيل قد تكون متماثلة متشابهة وقد لا تكون كذلك
ثم قال تعالى تَسْقِى بِمَاء واحِدٍ قرأ عاصم وابن عامر ( يسقى ) بالياء على تقدير يسقى كله أو لتغليب المذكر على المؤنث والباقون بالتاء لقوله ( جنات ) قال أبو عمرو ومما يشهد للتأنيث قوله تعالى وَنُفَضّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِى الاْكُلِ قرأ حمزة والكسائي ( يفضل ) بالياء عطفاً على قوله يُدَبّرُ والباقون بالنون على تقدير ونحن نفضل و ( في الأكل ) قولان حكاهما الواحدي حكي عن الزجاج أن الأكل الثمر الذي يؤكل وحكى عن غيره أن الأكل المهيأ للأكل وأقول هذا أولى لقوله تعالى في صفة الجنة تَحْتِهَا الانْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ ( الرعد 35 )

وهو عام في جميع المطعومات وابن كثير ونافع يقرآن الأكل ساكنة الكاف في جميع القرآن والباقون بضم الكاف وهما لغتان
وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَءِذَا كُنَّا تُرَابًا أَءِنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الاٌّ غْلَالُ فِى أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ
فيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما ذكر الدلائل القاهرة على ما يحتاج إليه في معرفة المبدأ ذكر بعده مسألة المعاد فقال وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ وفيه أقوال
القول الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما إن تعجب من تكذيبهم إياك بعد ما كانوا قد حكموا عليك أنك من الصادقين فهذا عجب والثاني إن تعجب يا محمد من عبادتهم ما لا يملك لهم نفعاً ولا ضراً بعد ما عرفوا الدلائل الدالة على التوحيد فهذا عجب والثالث تقدير الكلام إن تعجب يا محمد فقد عجبت في موضع العجب لأنهم لما اعترفوا بأنه تعالى مدبر السموات والأرض وخالق الخلائق أجمعين وأنه هو الذي رفع السموات بغير عمد وهو الذي سخر الشمس والقمر على وفق مصالح العباد وهو الذي أظهر في العالم أنواع العجائب والغرائب فمن كانت قدرته وافية بهذه الأشياء العظيمة كيف لا تكون وافية بإعادة الإنسان بعد موته لأن القادر على الأقوى الأكمل فإن يكون قادراً على الأقل الأضعف أولى فهذا تقرير موضع التعجب
ثم إنه تعالى لما حكى هذا الكلام حكم عليهم بثلاثة أشياء أولها قوله أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ وهذا يدل على أن كل من أنكر البعث والقيامة فهو كافر وإنما لزم من إنكار البعث الكفر بربهم من حيث إن إنكار البعث لا يتم إلا بإنكار القدرة والعلم والصدق أما إنكار القدرة فكما إذا قيل إن إله العالم موجب بالذات لا فاعل بالاختيار فلا يقدر على الإعادة أو قيل إنه وإن كان قادراً لكنه ليس تام القدرة فلا يمكنه إيجاد الحيوان إلا بواسطة الأبوين وتأثيرات الطبائع والأفلاك وأما إنكار العلم فكما إذا قيل إنه تعالى غير عالم بالجزئيات فلا يمكنه تمييز هذا المطيع عن العاصي وأما إنكار الصدق فكما إذا قيل إنه وإن أخبر عنه لكنه لا يفعل لأن الكذب جائز عليه ولما كان كل هذه الأشياء كفراً ثبت أن إنكار البعث كفر بالله
الصفة الثانية قوله وَأُوْلَئِكَ الاْغْلَالُ فِى أَعْنَاقِهِمْ وفيه قولان الأول قال أبو بكر الأصم المراد بالأغلال كفرهم وذلتهم وانقيادهم للأصنام ونظيره قوله تعالى إِنَّا جَعَلْنَا فِى أَعْناقِهِمْ أَغْلَالاً ( يس 8 ) قال الشاعر
لهم عن الرشد أغلال وأقياد
ويقال للرجل هذا غل في عنقك للعمل الرديء معناه أنه لازم لك وأنك مجازى عليه بالعذاب قال القاضي هذا وإن كان محتملاً إلا أن حمل الكلام على الحقيقة أولى وأقول يمكن نصرة قول الأصم بأن

ظاهر الآية يقتضي حصول الأغلال في أعناقهم في الحال وذلك غير حاصل وأنتم تحملون اللفظ على أنه سيحصل هذا المعنى ونحن نحمله على أنه حاصل في الحال إلا أن المراد بالأغلال ما ذكرناه فكل واحد منا تارك للحقيقة من بعض الوجوه فلم كان قولكم أولى من قولنا
والقول الثاني المراد أنه تعالى يجعل الأغلال في أعناقهم يوم القيامة والدليل عليه قوله تعالى إِذِ الاْغْلَالُ فِى أَعْنَاقِهِمْ والسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ فِى الْحَمِيمِ ثُمَّ فِى النَّارِ يُسْجَرُونَ ( غافر 71 72 )
والصفة الثالثة قوله تعالى وَأُوْلئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ والمراد منه التهديد بالعذاب المخلد المؤبد واحتج أصحابنا رحمهم الله تعالى على أن العذاب المخلد ليس إلا للكفار بهذه الآية فقالوا قوله هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يفيد أنهم هم الموصوفون بالخلود لا غيرهم وذلك يدل على أن أهل الكبائر لا يخلدون في النار
المسألة الثانية قال المتكلمون العجب هو الذي لا يعرف سببه وذلك في حق الله تعالى محال فكان المراد وإن تعجب فعجب عندك
ولقائل أن يقول قرأ بعضهم في الآية الأخرى بإضافة العجب إلى نفسه تعالى فحينئذ يجب تأويله وقد بينا أن أمثال هذه الألفاظ يجب تنزيهها عن مبادىء الأعراض ويجب حملها على نهايات الأعراض فإن الإنسان إذا تعجب من الشيء أنكره فكان هذا محمولاً على الإنكار
المسألة الثالثة اختلف القراء في قوله مُزّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ وأمثاله إذا كان على صورة الاستفهام في الأول والثاني فمنهم من يجمع بين الاستفهامين في الحرفين وهم ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة ثم اختلف هؤلاء فابن كثير يستفهم بهمزة واحدة إلا أنه لا يمد وأبو عمرو يستفهم بهمزة مطولة يمد فيها وحمزة وعاصم بهمزتين في كل القرآن ومنهم من لا يجمع بين الاستفهامين ثم اختلفوا فنافع وابن عامر والكسائي يستفهم في الأول ويقرأ على الخبر في الثاني وابن عامر على الخبر في الأول والاستفهام في الثاني ثم اختلف هؤلاء من وجه آخر فنافع بهمزة غير مطولة وابن عامر والكسائي بهمزتين أما نافع فكذلك إلا في الصافات وكذلك ابن عامر إلا في الواقعة وكذلك الكسائي إلا في العنكبوت والصافات
المسألة الرابعة قال الزجاج العامل في أَءذَا كُنَّا تُرَابًا محذوف تقديره أئذا كنا تراباً نبعث ودل ما بعده على المحذوف
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَة ِ قَبْلَ الْحَسَنَة ِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَة ٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ

اعلم أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان يهددهم تارة بعذاب القيامة وتارة بعذاب الدنيا والقوم كلما هددهم بعذاب القيامة أنكروا القيامة والبعث والحشر والنشر وهو الذي تقدم ذكره في الآية الأولى وكلما هددهم بعذاب الدنيا قالوا له فجئنا بهذا العذاب وطلبوا منه إظهاره وإنزاله على سبيل الطعن فيه وإظهار أن الذي يقوله كلام لا أصل له فلهذا السبب حكى الله عنهم أنهم يستعجلون الرسول بالسيئة قبل الحسنة والمراد بالسيئة ههنا نزول العذاب عليهم كما قال الله تعالى عنهم في قوله فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَة ً ( الأنفال 32 ) وفي قوله لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الاْرْضِ يَنْبُوعًا ( الإسراء 90 ) إلى قوله أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا ( الإسراء 92 ) وإنما قالوا ذلك طعناً منهم فيما ذكره الرسول وكان ( صلى الله عليه وسلم ) يعدهم على الإيمان بالثواب في الآخرة وبحصول النصر والظفر في الدنيا فالقوم طلبوا منه نزول العذاب ولم يطلبوا منه حصول النصر والظفر فهذا هو المراد بقوله وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيّئَة ِ قَبْلَ الْحَسَنَة ِ ومنهم من فسر الحسنة ههنا بالإمهال والتأخير وإنما سموا العذاب سيئة لأنه يسوءهم ويؤذيهم
أما قوله وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ فاعلم أن العرب يقولون العقوبة مثلة ومثلة صدقة وصدقة فالأولى لغة الحجاز والثانية لغة تميم فمن قال مثلة فجمعه مثلات ومن قال مثلة فجمعه مثلات ومثلاث بإسكان التاء هكذا حكاه الفراء والزجاج وقال ابن الأنباري رحمه الله المثلة العقوبة المبينة في المعاقب شيئاً وهو تغيير تبقى الصورة معه قبيحة وهو من قولهم مثل فلان بفلان إذا قبح صورته إما بقطع أذنه أو أنفه أو سمل عينيه أو بقر بطنه فهذا هو الأصل ثم يقال للعار الباقي والخزي اللازم مثلة قال الواحدي وأصل هذا الحرف من المثل الذي هو الشبه ولما كان الأصل أن يكون العقاب مشابهاً للمعاقب ومماثلاً له لا جرم سمي بهذا الاسم قال صاحب ( الكشاف ) قرىء ( المثلات ) بضمتين لاتباع الفاء العين ( والمثلات ) بفتح الميم وسكون الثاء كما يقال السمرة والمثلات بضم الميم وسكون الثاء تخفيف المثلات بضمتين والمثلات جمع مثلة كركبة وركبات
إذا عرفت هذا فنقول معنى الآية ويستعجلونك بالعذاب الذي لم نعاجلهم به وقد علموا ما نزل من عقوباتنا بالأمم الخالية فلم يعتبروا بها وكان ينبغي أن يردعهم خوف ذلك عن الكفر اعتباراً بحال من سلف
أما قوله وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَة ٍ لّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ فاعلم أن أصحابنا تمسكوا بهذه الآية على أنه تعالى قد يعفو عن صاحب الكبيرة قبل التوبة ووجه الاستدلال به أن قوله تعالى لَذُو مَغْفِرَة ٍ لّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ أي حال اشتغالهم بالظلم كما أنه يقال رأيت الأمير على أكله أي حال اشتغاله بالأكل فهذا يقتضي كونه تعالى غافراً للناس حال اشتغالهم بالظلم ومعلوم أن حال اشتغال الإنسان بالظلم لا يكون تائباً فدل هذا على أنه تعالى قد يغفر الذنب قبل الاشتغال بالتوبة ثم نقول ترك العمل بهذا الدليل في حق الكفر فوجب أن يبقى معمولاً به في حق أهل الكبيرة وهو المطلوب أو نقول إنه تعالى لم يقتصر على قوله وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَة ٍ لّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ بل ذكر معه قوله وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ فوجب أن يحمل الأول على أصحاب الكبائر وأن يحمل الثاني على أحوال الكفار

فإن قيل لم لا يجوز أن يكون المراد لذو مغفرة لأهل الصغائر لأجل أن عقوبتهم مكفرة ثم نقول لم لا يجوز أن يكون المراد إن ربك لذو مغفرة إذا تابوا وأنه تعالى إنما لا يعجل العقاب إمهالاً لهم في الإتيان بالتوبة فإن تابوا فهو ذو مغفرة لهم ويكون من هذه المغفرة تأخير العقاب إلى الآخرة بل نقول يجب حمل اللفظ عليه لأن القوم لما طلبوا تعجيل العقاب فالجواب المذكور فيه يجب أن يكون محمولاً على تأخير العقاب حتى ينطبق الجواب على السؤال ثم نقول لم لا يجوز أن يكون المراد وإن ربك لذو مغفرة أنه تعالى إنما لا يعجل العقوبة إمهالاً لهم في الإتيان بالتوبة فإن تابوا فهو ذو مغفرة وإن عظم ظلمهم ولم يتوبوا فهو شديد العقاب
والجواب عن الأول أن تأخير العقاب لا يسمى مغفرة وإلا لوجب أن يقال الكفار كلهم مغفور لهم لأجل أن الله تعالى أخر عقابهم إلى الآخرة وعن الثاني أنه تعالى تمدح بهذا والتمدح إنما يحصل بالتفضل أما بأداء الواجب فلا تمدح فيه وعندكم يجب غفران الصغائر وعن الثالث أنا بينا أن ظاهر الآية يقتضي حصول المغفرة حال الظلم وبينا أن حال حصول الظلم يمنع حصول التوبة فسقطت هذه الأسئلة وصح ما ذكرناه
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَة ٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ
اعلم أنه تعالى حكى عن الكفار أنهم طعنوا في نبوته بسبب طعنهم في الحشر والنشر أولاً ثم طعنوا في نبوته بسبب طعنهم في صحة ما ينذرهم به من نزول عذاب الاستئصال ثانياً ثم طعنوا في نبوته بأن طلبوا منه المعجزة والبينة ثالثاً وهو المذكور في هذه الآية
واعلم أن السبب فيه أنهم أنكروا كون القرآن من جنس المعجزات وقالوا هذا كتاب مثل سائر الكتب وإتيان الإنسان بتصنيف معين وكتاب معين لا يكون معجزة ألبتة وإنما المعجز ما يكون مثل معجزات موسى وعيسى عليهما السلام
واعلم أن من الناس من زعم أنه لم يظهر معجز في صدق محمد عليه الصلاة والسلام سوى القرآن قالوا إن هذا الكلام إنما يصح إذا طعنوا في كون القرآن معجزاً مع أنه ما ظهر عليه نوع آخر من المعجزات لأن بتقدير أن يكون قد ظهر على يده نوع آخر من المعجزات لامتنع أن يقولوا لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَة ٌ مّن رَّبّهِ فهذا يدل على أنه عليه السلام ما كان له معجز سوى القرآن
واعلم أن الجواب عنه من وجهين الأول لعل المراد منه طلب معجزات سوى المعجزات التي شاهدوا منه ( صلى الله عليه وسلم ) كحنين الجذع ونبوع الماء من بين أصابعه وإشباع الخلق الكثير من الطعام القليل فطلبوا منه معجزات قاهرة غير هذه الأمور مثل فلق البحر بالعصا وقلب العصا ثعباناً
فإن قيل فما السبب في أن الله تعالى منعهم وما أعطاهم
قلنا إنه لما أظهر المعجزة الواحدة فقد تم الغرض فيكون طلب الباقي تحكماً وظهور القرآن معجزة

فما كان مع ذلك حاجة إلى سائر المعجزات وأيضاً فلعله تعالى علم أنهم يصرون على العناد بعد ظهور تلك المعجزات الملتمسة وكانوا يصيرون حينئذ مستوجبين لعذاب الاستئصال فلهذا السبب ما أعطاهم الله تعالى مطلوبهم وقد بين الله تعالى ذلك بقوله وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لاسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ ( الأنفال 23 ) بين أنه لم يعطهم مطلوبهم لعلمه تعالى أنهم لا ينتفعون به وأيضاً ففتح هذا الباب يفضي إلى ما لا نهاية له وهو أنه كلما أتى بمعجزة جاء واحد آخر فطلب منه معجزة أخرى وذلك يوجب سقوط دعوة الأنبياء عليهم السلام وأنه باطل
الوجه الثاني وفي الجواب لعل الكفار ذكروا هذا الكلام قبل مشاهدة سائر المعجزات ثم إنه تعالى لما حكى عن الكفار ذلك قال إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلّ قَوْمٍ هَادٍ وفيه مسائل
المسألة الأولى اتفق القراء على التنوين في قوله هَادٍ وحذف الياء في الوصل واختلفوا في الوقف فقرأ ابن كثير بالوقف على الياء والباقون بغير الياء وهو رواية ابن فليح عن ابن كثير للتخفيف
المسألة الثانية في تفسير هذه الآية وجوه الأول المراد أن الرسول عليه السلام منذر لقومه مبين لهم ولكل قوم من قبله هاد ومنذر وداع وأنه تعالى سوى بين الكل في إظهار المعجزة إلا أنه كان لكل قوم طريق مخصوص لأجله استحق التخصيص بتلك المعجزة المخصوصة فلما كان الغالب في زمان موسى عليه السلام هو السحر جعل معجزته ما هو أقرب إلى طريقتهم ولما كان الغالب في أيام عيسى عليه السلام الطب جعل معجزته ما كان من جنس تلك الطريقة وهو إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ولما كان الغالب في أيام الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) الفصاحة والبلاغة جعل معجزته ما كان لائقاً بذلك الزمان وهو فصاحة القرآن فلما كان العرب لم يؤمنوا بهذه المعجزة مع كونها أليق بطباعهم فبأن لا يؤمنوا عند إظهار سائر المعجزات أولى فهذا هو الذي قرره القاضي وهو الوجه الصحيح الذي يبقى الكلام معه منتظماً
والوجه الثاني وهو أن المعنى أنهم لا يجحدون كون القرآن معجزاً فلا يضيق قلبك بسببه إنما أنت منذر فما عليك إلا أن تنذر إلى أن يحصل الإيمان في صدورهم ولست بقادر عليهم ولكل قوم هاد قادر على هدايتهم بالتخليق وهو الله سبحانه وتعالى فيكون المعنى ليس لك إلا الإنذار وأما الهداية فمن الله تعالى
واعلم أن أهل الظاهر من المفسرين ذكروا ههنا أقوالاً الأول المنذر والهادي شيء واحد والتقدير إنما أنت منذر ولكل قوم منذر على حدة ومعجزة كل واحد منهم غير معجزة الآخر الثاني المنذر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والهادي هو الله تعالى روي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير ومجاهد والضحاك والثالث المنذر النبي والهادي علي قال ابن عباس رضي الله عنهما وضع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يده على صدره فقال ( أنا المنذر ) ثم أومأ إلى منكب علي رضي الله عنه وقال ( أنت الهادي يا علي بك يهتدي المهتدون من بعدي )
اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الاٌّ رْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَى ْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِالَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ

في الآية مسائل
المسألة الأولى في وجه النظم وجوه الأول أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم طلبوا آيات أخرى غير ما أتى به الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بين أنه تعالى عالم بجميع المعلومات فيعلم من حالهم أنهم هل طلبوا الآية الأخرى للاسترشاد وطلب البيان أو لأجل التعنت والعناد وهل ينتفعون بظهور تلك الآيات أو يزداد إصرارهم واستكبارهم فلو علم تعالى أنهم طلبوا ذلك لأجل الاسترشاد وطلب البيان ومزيد الفائدة لأظهره الله تعالى وما منعهم عنه لكنه تعالى لما علم أنهم لم يقولوا ذلك إلا لأجل محض العناد لا جرم أنه تعالى منعهم عن ذلك وهو كقوله تعالى وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَة ٌ مّن رَّبّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ للَّهِ فَانْتَظِرُواْ ( يونس 20 ) وقوله قُلْ إِنَّمَا الاْيَاتُ عِندَ اللَّهِ ( العنكبوت 50 ) والثاني أن وجه النظم أنه تعالى لما قال وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ ( الرعد 5 ) في إنكار البعث وذلك لأنهم أنكروا البعث بسبب أن أجزاء أبدان الحيوانات عند تفرقها وتفتتها يختلط بعضها ببعض ولا يبقى الامتياز فبين تعالى أنه إنما لا يبقى الامتياز في حق من لا يكون عالماً بجميع المعلومات أما في حق من كان عالماً بجميع المعلومات فإنه يبقى تلك الأجزاء بحيث يمتاز بعضها عن البعض ثم احتج على كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات بأنه يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام الثالث أن هذا متصل بقوله وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيّئَة ِ قَبْلَ الْحَسَنَة ِ ( الرعد 6 ) والمعنى أنه تعالى عالم بجميع المعلومات فهو تعالى إنما ينزل العذاب بحسب ما يعلم كونه فيه مصلحة والله أعلم
المسألة الثانية لفظ ( ما ) في قوله مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الاْرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ إما أن تكون موصولة وإما أن تكون مصدرية فإن كانت موصولة فالمعنى أنه يعلم ما تحمله من الولد أنه من أي الأقسام أهو ذكر أم أنثى وتام أو ناقص وحسن أو قبيح وطويل أو قصير وغير ذلك من الأحوال الحاضرة والمترقبة فيه
ثم قال وَمَا تَغِيضُ الاْرْحَامُ والغيض هو النقصان سواء كان لازماً أو متعدياً يقال غاض الماء وغضته أنا ومنه قوله تعالى وَغِيضَ الْمَاء ( هود 44 ) والمراد من الآية وما تغيضه الأرحام إلا أنه حذف الضمير الراجع وقوله وَمَا تَزْدَادُ أي تأخذه زيادة تقول أخذت منه حقي وازددت منه كذا ومنه قوله تعالى وَازْدَادُواْ تِسْعًا ( الكهف 25 ) ثم اختلفوا فيما تغيضه الرحم وتزداده على وجوه الأول عدد الولد فإن الرحم قد يشتمل على واحد واثنين وعلى ثلاثة وأربعة يروي أن شريكاً كان رابع أربعة في بطن أمه الثاني الولد قد يكون مخدجاً وقد يكون تاماً الثالث مدة ولادته قد تكون تسعة أشهر وأزيد عليها إلى سنتين عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وإلى أربعة عند الشافعي وإلى خمس عند مالك وقيل إن الضحاك ولد لسنتين وهرم بن حيان بقي في بطن أمه أربع سنين ولذلك سمي هرماً الرابع الدم فإنه تارة يقل وتارة يكثر الخامس ما ينقص بالسقط من غير أن يتم وما يزداد بالتمام السادس ما ينقص بظهور دم الحيض وذلك لأنه إذا سال الدم في وقت الحمل ضعف الولد ونقص وبمقدار حصول ذلك النقصان يزداد أيام الحمل لتصير هذه الزيادة جابرة لذلك النقصان قال ابن عباس رضي الله عنهما كلما سال الحيض في وقت

الحمل يوماً زاد في مدة الحمل يوماً ليحصل به الجبر ويعتدل الأمر السابع أن دم الحيض فضلة تجتمع في بطن المرأة فإذا امتلأت عروقها من تلك الفضلات فاضت وخرجت وسالت من دواخل تلك العروق ثم إذا سالت تلك المواد امتلأت تلك العروق مرة أخرى هذا كله إذا قلنا إن كلمة ( ما ) موصولة أما إذا قلنا إنها مصدرية فالمعنى أنه تعالى يعلم حمل كل أنثى ويعلم غيض الأرحام وازديادها لا يخفى عليه شيء من ذلك ولا من أوقاته وأحواله
وأما قوله تعالى وَكُلُّ شَى ْء عِندَهُ بِمِقْدَارٍ فمعناه بقدر واحد لا يجاوزه ولا ينقص عنه كقوله إِنَّا كُلَّ شَى ْء خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ( القمر 49 ) وقوله في أول الفرقان وَخَلَقَ كُلَّ شَى ْء فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ( الفرقان 2 )
واعلم أن قوله كُلّ شَى ْء عِندَهُ بِمِقْدَارٍ يحتمل أن يكون المراد من العندية العلم ومعناه أنه تعالى يعلم كمية كل شيء وكيفيته على الوجه المفصل المبين ومتى كان الأمر كذلك امتنع وقوع التغيير في تلك المعلومات ويحتمل أن يكون المراد من العندية أنه تعالى خصص كل حادث بوقت معين وحالة معينة بمشيئته الأزلية وإرادته السرمدية وعند حكماء الإسلام أنه تعالى وضع أشياء كلية وأودع فيها قوى وخواص وحركها بحيث يلزم من حركاتها المقدرة بالمقادير المخصوصة أحوال جزئية معينة ومناسبات مخصوصة مقدرة ويدخل في هذه الآية أفعال العباد وأحوالهم وخواطرهم وهو من أدل الدلائل على بطلان قول المعتزلة
ثم قال تعالى عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد علم ما غاب عن خلقه وما شهدوه قال الواحدي فعلى هذا ( الغيب ) مصدر يريد به الغائب ( والشهادة ) أراد بها الشاهد واختلفوا في المراد بالغائب والشاهد قال بعضهم الغائب هو المعلوم والشاهد هو الموجود وقال آخرون الغائب ما غاب عن الحس والشاهد ما حضر وقال آخرون الغائب ما لا يعرفه الخلق والشاهد ما يعرفه الخلق ونقول المعلومات قسمان المعلومات والموجودات والمعدومات منها معدومات يمتنع وجودها ومنها معدومات لا يمتنع وجودها والموجودات أيضاً قسمان موجودات يمتنع عدمها وموجودات لا يمتنع عدمها وكل واحد من هذه الأقسام الأربعة له أحكام وخواص والكل معلوم لله تعالى وحكى الشيخ الإمام الوالد عن أبي القاسم الأنصاري عن إمام الحرمين رحمهم الله تعالى أنه كان يقول لله تعالى معلومات لا نهاية لها وله في كل واحد من تلك المعلومات معلومات أخرى لا نهاية لها لأن الجوهر الفرد يعلم الله تعالى من حاله أنه يمكن وقوعه في أحياز لا نهاية لها على البدل وموصوفاً بصفات لا نهاية لها على البدل وهو تعالى عالم بكل الأحوال على التفصيل وكل هذه الأقسام داخل تحت قوله تعالى عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ
ثم إنه تعالى ذكر عقيبه قوله الْكَبِيرُ وهو تعالى يمتنع أن يكون كبيراً بحسب الجثة والحجم والمقدار فوجب أن يكون كبيراً بحسب القدرة والمقادير الإلهية ثم وصف تعالى نفسه بأنه المتعال وهو المتنزه عن كل ما لا يجوز عليه وذلك يدل على كونه منزهاً في ذاته وصفاته وأفعاله فهذه الآية دالة على كونه تعالى موصوفاً بالعلم الكامل والقدرة التامة ومنزهاً عن كل ما لا ينبغي وذلك يدل على كونه تعالى قادراً على البعث الذي أنكروه وعلى الآيات التي اقترحوها وعلى العذاب الذي استعجلوه وأنه إنما يؤخر ذلك بحسب المشيئة الإلهية عند قوم وبحسب المصلحة عند آخرين وقرأ ابن كثير ( المتعالي ) بإثبات الياء في

الوقف والوصل على الأصل والباقون بحذف الياء في الحالتين للتخفيف ثم إنه تعالى أكد بيان كونه عالماً بكل المعلومات فقال سَوَاء مّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِالَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ وفيه مسائل
المسألة الأولى لفظ ( سواء ) يطلب اثنين تقول سواء زيد وعمرو ثم فيه وجهان الأول أن سواء مصدر والمعنى ذو سواء كما تقول عدل زيد وعمرو أي ذوا عدل الثاني أن يكون سواء بمعنى مستو وعلى هذا التقدير فلا حاجة إلى الإضمار إلا أن سيبويه يستقبح أن يقول مستو زيد وعمرو لأن أسماء الفاعلين إذا كانت نكرات لا يبدأ بها
ولقائل أن يقول بل هذا الوجه أولى لأن حمل الكلام عليه يغني عن التزام الإضمار الذي هو خلاف الأصل
المسألة الثانية في المستخفي والسارب قولان
القول الأول يقال أخفيت الشيء أخفيه إخفاء فخفي واستخفى فلان من فلان أي توارى واستتر وقوله وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ قال الفراء والزجاج ظاهر بالنهار في سربه أي طريقه يقال خلا له سربه أي طريقه وقال الأزهري تقول العرب سربت الإبل تسرب سرباً أي مضت في الأرض ظاهرة حيث شاءت فإذا عرفت ذلك فمعنى الآية سواء كان الإنسان مستخفياً في الظلمات أو كان ظاهراً في الطرقات فعلم الله تعالى محيط بالكل قال ابن عباس رضي الله عنهما سواء ما أضمرته القلوب وأظهرته الألسنة وقال مجاهد سواء من يقدم على القبائح في ظلمات الليالي ومن يأتي بها في النهار الظاهر على سبيل التوالي
والقول الثاني نقله الواحدي عن الأخفش وقطرب أنه قال المستخفي الظاهر والسارب المتواري ومنه يقال خفيت الشيء وأخفيته أي أظهرته واختفيت الشيء استخرجته ويسمى النباش المستخفي والسارب المتواري ومنه يقال للداخل سرباً والسرب الوحش إذا دخل في السرب أي في كناسة قال الواحدي وهذا الوجه صحيح في اللغة إلا أن الاختيار هو الوجه الأول لاطباق أكثر المفسرين عليه وأيضاً فالليل يدل على الاستتار والنهار على الظهور والانتشار
لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُو ءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ
اعلم أن الضمير من ( له ) إلى ( من ) في قوله سَوَاء مّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ ( الرعد 10 ) وقيل على اسم الله في عالم الغيب والشهادة والمعنى لله معقبات وأما المعقبات فيجوز أن يكون أصل هذه الكلمة معتقبات فأدغمت التاء في القاف كقوله وَجَاء الْمُعَذّرُونَ مِنَ الاْعْرَابِ ( التوبة 90 ) والمراد المعتذرون ويجوز أن يكون من عقبه إذا جاء على عقبه فاسم المعقب من كل شيء ما خلف يعقب ما قبله

والمعنى في كلا الوجهين واحد
إذا عرفت هذا فنقول في المراد بالمعقبات قولان الأول وهو المشهور الذي عليه الجمهور أن المراد منه الملائكة الحفظة وإنما صح وصفهم بالمعقبات إما لأجل أن ملائكة الليل تعقب ملائكة النهار وبالعكس وإما لأجل أنهم يتعقبون أعمال العباد ويتبعونها بالحفظ والكتب وكل من عمل عملاً ثم عاد إليه فقد عقب فعلى هذا المراد من المعقبات ملائكة الليل وملائكة النهار روي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال يا رسول الله أخبرني عن العبد كم معه من ملك فقال عليه السلام ( ملك عن يمينك يكتب الحسنات وهو أمين على الذي على الشمال فإذا عملت حسنة كتبت عشراً وإذا عملت سيئة قال الذي على الشمال لصاحب اليمين أكتب فيقول لا لعله يتوب فإذا قال ثلاثاً قال نعم أكتب أراحنا الله منه فبئس القرين ما أقل مراقبته لله تعالى واستحياءه منا وملكان من بين يديك ومن خلفك فهو قوله تعالى لَهُ مُعَقّبَاتٌ مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ وملك قابض على ناصيتك فإذا تواضعت لربك رفعك وإن تجبرت قصمك وملكان على شفتك يحفظان عليك الصلاة علي وملك علي فيك لا يدع أن تدخل الحية في فيك وملكان على عينيك فهؤلاء عشرة أملاك على كل آدمي تبدل ملائكة الليل بملائكة النهار فهم عشرون ملكاً على كل آدمي ) وعن ( صلى الله عليه وسلم ) ( يتعاقب فيكم ملاكئة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر ) وهو المراد من قوله أَقِمِ الصَّلَواة َ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ ( الإسراء 78 ) قيل تصعد ملائكة الليل وهي عشرة وتنزل ملائكة النهار وقال ابن جريج هو مثل قوله تعالى عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشّمَالِ قَعِيدٌ ( ق 17 ) صاحب اليمين يكتب الحسنات والذي عن يساره يكتب السيئات وقال مجاهد ما من عبد إلا وله ملك يحفظه من الجن والإنس والهوام في نومه ويقظته وفي الآية سؤالات
السؤال الأول الملائكة ذكور فلم ذكر في جمعها جمع الإناث وهو المعقبات
والجواب فيه قولان الأول قال الفراء المعقبات ذكران جمع ملائكة معقبة ثم جمعت معقبة بمعقبات كما قيل ابناوات سعد ورجالات بكر جمع رجال والذي يدل على التذكير قوله يَحْفَظُونَهُ والثاني وهو قول الأخفش إنما أنثت لكثرة ذلك منها نحو نسابة وعلامة وهو ذكر
السؤال الثاني ما المراد من كون أولئك المعقبات من بين يديه ومن خلفه
والجواب أن المستخفي بالليل والسارب بالنهار قد أحاط به هؤلاء المعقبات فيعدون عليه أعماله وأقواله بتمامها ولا يشذ من تلك الأعمال والأقوال من حفظهم شيء أصلاً وقال بعضهم بل المراد يحفظونه من جميع المهالك من بين يديه ومن خلفه لأن السارب بالنهار إذا سعى في مهماته فإنما يحذر من بين يديه ومن خلفه
السؤال الثالث ما المراد من قوله مِنْ أَمْرِ اللَّهِ
والجواب ذكر الفراء فيه قولين
القول الأول أنه على التقديم والتأخير والتقدير له معقبات من أمر الله يحفظونه
القول الثاني أن فيه إضماراً أي ذلك الحفظ من أمر الله أي مما أمر الله به فحذف الاسم وأبقى خبره

كما يكتب على الكيس ألفان والمراد الذي فيه ألفان
والقول الثالث ذكره ابن الأنباري أن كلمة ( من ) معناها الباء والتقدير يحفظونه بأمر الله وباعانته والدليل على أنه لا بد من المصير إليه أنه لا قدرة للملائكة ولا لأحد من الخلق على أن يحفظوا أحداً من أمر الله ومما قضاه عليه
السؤال الرابع ما الفائدة في جعل هؤلاء الملائكة موكلين علينا
والجواب أن هذا الكلام غير مستبعد وذلك لأن المنجمين اتفقوا على أن التدبير في كل يوم لكوكب على حدة وكذا القول في كل ليلة ولا شك أن تلك الكواكب لها أرواح عندهم فتلك التدبيرات المختلفة في الحقيقة لتلك الأرواح وكذا القول في تدبير القمر والهيلاج والكدخدا على ما يقوله المنجمون وأما أصحاب الطلسمات فهذا الكلام مشهور في ألسنتهم ولذلك تراهم يقولون أخبرني الطباعي التام ومرادهم بالطباعي التام أن لكل إنسان روحاً فلكية يتولى إصلاح مهماته ودفع بلياته وآفاته وإذا كان هذا متفقاً عليه بين قدماء الفلاسفة وأصحاب الأحكام فكيف يستبعد مجيئه من الشرع وتمام التحقيق فيه أن الأرواح البشرية مختلفة في جواهرها وطبائعها فبعضها خيرة وبعضها شريرة وبعضها معزة وبعضها مذلة وبعضها قوية القهر والسلطان وبعضها ضعيفة سخيفة وكما أن الأمر في الأرواح البشرية كذلك فكذا القول في الأرواح الفلكية ولا شك أن الأرواح الفلكية في كل باب وكل صفة أقوى من الأرواح البشرية وكل طائفة من الأرواح البشرية تكون متشاركة في طبيعة خاصة وصفة مخصوصة لما أنها تكون في تربية روح من الأرواح الفلكية مشاكلة لها في الطبيعة والخاصية وتكون تلك الأرواح البشرية كأنها أولاد لذلك الروح الفلكي ومتى كان الأمر كذلك كان ذلك الروح الفلكي معيناً لها على مهماتها ومرشداً لها إلى مصالحها وعاصماً لها عن صنوف الآفات فهذا كلام ذكره محققو الفلاسفة وإذا كان الأمر كذلك علمنا أن الذي وردت به الشريعة أمر مقبول عند الكل فكيف يمكن استنكاره من الشريعة ثم في اختصاص هؤلاء الملائكة وتسلطهم على بني آدم فوائد كثيرة سوى التي مر ذكرها من قبل الأول أن الشياطين يدعون إلى الشرور والمعاصي وهؤلاء الملائكة يدعون إلى الخيرات والطاعات والثاني قال مجاهد ما من عبد إلا ومعه ملك يحفظه من الجن والإنس والهوام في نومه ويقظته الثالث أنا نرى أن الإنسان قد يقع في قلبه داع قوي من غير سبب ثم يظهر بالآخرة أن وقوع تلك الداعية في قلبه كان سبباً من أسباب مصالحه وخيراته وقد ينكشف أيضاً بالآخرة أنه كان سبباً لوقوعه في آفة أو في معصية فيظهر أن الداعي إلى الأمر الأول كان مريداً للخير والراحة وإلى الأمر الثاني كان مريداً للفساد والمحنة والأول هو الملك الهادي والثاني هو الشيطان المغوي الرابع أن الإنسان إذا علم أن الملائكة تحصي عليه أعماله كان إلى الحذر من المعاصي أقرب لأن من آمن يعتقد جلالة الملائكة وعلو مراتبهم فإذا حاول الإقدام على معصية واعتقد أنهم يشاهدونها زجره الحياء منهم عن الإقدام عليها كما يزجره عنها إذا حضره من يعطيه من البشر وإذا علم أن الملائكة تحصي عليه تلك الأعمال كان ذلك أيضاً رادعاً له عنها وإذا علم أن الملائكة يكتبونها كان الردع أكمل
السؤال الخامس ما الفائدة في كتبة أعمال العباد قلنا ههنا مقامات
المقام الأول أن تفسير الكتبة بالمعنى المشهور من الكتبة قال المتكلمون الفائدة في تلك

الصحف وزنها ليعرف رجحان إحدى الكفتين على الأخرى فإنه إذا رجحت كفة الطاعات ظهر للخلائق أنه من أهل الجنة وإن كان بالضد فبالضد قال القاضي هذا بعيد لأن الأدلة قد دلت على أن كل واحد قبل مماته عند المعاينة يعلم أنه من السعداء أو من الأشقياء فلا يتوقف حصول تلك المعرفة على الميزان ثم أجاب القاضي عن هذا الكلام وقال لا يمتنع أيضاً ما روينا لأمر يرجع إلى حصول سروره عند الخلق العظيم أنه من أولياء الله في الجنة وبالضد من ذلك في أعداء الله
والمقام الثاني وهو قول حكماء الإسلام أن الكتابة عبارة عن نقوش مخصوصة وضعت بالاصطلاح لتعريف المعاني المخصوصة فلو قدرنا كون تلك النقوش دالة على تلك المعاني لأعيانها وذواتها كانت تلك الكتبة أقوى وأكمل
إذا ثبت هذا فنقول إن الإنسان إذا أتى بعمل من الأعمال مرات وكرات كثيرة متوالية حصل في نفسه بسبب تكررها ملكة قوية راسخة فإن كانت تلك الملكة ملكة سارة بالأعمال النافعة في السعادات الروحانية عظم ابتهاجه بها بعد الموت وإن كانت تلك الملكة ملكة ضارة في الأحوال الروحانية عظم تضرره بها بعد الموت
إذا ثبت هذا فنقول إن التكرير الكثير لما كان سبباً لحصول تلك الملكة الراسخة كان لكل واحد من الأعمال المتكررة أثر في حصول تلك الملكة الراسخة وذلك الأثر وإن كان غير محسوس إلا أنه حاصل في الحقيقة وإذا عرفت هذا ظهر أنه لا يحصل للإنسان لمحة ولا حركة ولا سكون إلا ويحصل منه في جوهر نفسه أثر من آثار السعادة أو آثار الشقاوة قل أو كثر فهذا هو المراد من كتبة الأعمال عند هؤلاء والله أعلم بحقائق الأمور وهذا كله إذا فسرنا قوله تعالى لَهُ مُعَقّبَاتٌ مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ بالملائكة
القول الثاني وهو أيضاً منقول عن ابن عباس رضي الله عنهما واختاره أبو مسلم الأصفهاني المراد أنه يستوي في علم الله تعالى السر والجهر والمستخفي بظلمة الليل والسارب بالنهار المستظهر بالمعاونين والأنصار وهم الملوك والأمراء فمن لجأ إلى الليل فلن يفوت الله أمره ومن سار نهاراً بالمعقبات وهم الأحراس والأعوان الذين يحفظونه لم ينجه أحراسه من الله تعالى والمعقب العون لأنه إذا أبصر هذا ذاك فلا بد أن يبصر ذاك هذا فتصير بصيرة كل واحد منهم معاقبة لبصيرة الآخرة فهذه المعقبات لا تخلص من قضاء الله ومن قدره وهم إن ظنوا أنهم يخلصون مخدومهم من أمر الله ومن قضائه فإنهم لا يقدرون على ذلك ألبتة والمقصود من هذا الكلام بعث السلاطين والأمراء والكبراء على أن يطلبوا الخلاص من المكاره عن حفظ الله وعصمته ولا يعولوا في دفعها على الأعوان والأنصار ولذلك قال تعالى بعده وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مّن دُونِهِ مِن وَالٍ
أما قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ فكلام جميع المفسرين يدل على أن المراد لا يغير ما هم فيه من النعم بإنزال الانتقام إلا بأن يكون منهم المعاصي والفساد قال القاضي والظاهر لا يحتمل إلا هذا المعنى لأنه لا شيء مما يفعله تعالى سوى العقاب لا وقد يبتدىء به في الدنيا من دون تغيير يصدر من العبد فيما تقدم لأنه تعالى ابتدأ بالنعم دينا ودنياً ويفضل في ذلك من شاء على من يشاء فالمراد مما ذكره الله تعالى التغيير بالهلاك والعقاب ثم اختلفوا فبعضهم قال هذا الكلام راجع إلى قوله

وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيّئَة ِ قَبْلَ الْحَسَنَة ِ ( الرعد 6 ) فبين تعالى أنه لا ينزل بهم عذاب الاستئصال إلا والمعلوم منهم الإصرار على الكفر والمعصية حتى قالوا إذا كان المعلوم أن فيهم من يؤمن أو في عقبه من يؤمن فإنه تعالى لا ينزل عليهم عذاب الاستئصال وقال بعضهم بل الكلام يجري على إطلاقه والمراد منه أن كل قوم بالغوا في الفساد وغيروا طريقتهم في إظهار عبودية الله تعالى فإن الله يزيل عنهم النعم وينزل عليهم أنواعاً من العذاب وقال بعضهم إن المؤمن الذي يكون مختلطاً بأولئك الأقوام فربما دخل في ذلك العذاب روي عن أبي بكر رضي الله عنه قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه يوشك أن يعمهم الله تعالى بعقاب ) واحتج أبو علي الجبائي والقاضي بهذه الآية في مسألتين
المسألة الأولى أنه تعالى لا يعاقب أطفال المشركين بذنوب آبائهم لأنهم لم يغيروا ما بأنفسهم من نعمة فيغير الله حالهم من النعمة إلى العذاب
المسألة الثانية قالوا الآية تدل على بطلان قول المجبرة إنه تعالى يبتدىء العبد بالضلال والخذلان أول ما يبلغ وذلك أعظم من العقاب مع أنه ما كان منه تغيير
والجواب أن ظاهر هذه الآية يدل على أن فعل الله في التغيير مؤخر عن فعل العبد إلا أن قوله تعالى وَمَا يَشَآءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ ( الإنسان 30 ) يدل على أن فعل العبد مؤخر عن فعل الله تعالى فوقع التعارض
وأما قوله وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ فقد احتج أصحابنا به على أن العبد غير مستقل في الفعل قالوا وذلك لأنه إذا كفر العبد فلا شك أنه تعالى يحكم بكونه مستحقاً للذم في الدنيا والعقاب في الآخرة فلو كان العبد مستقلاً بتحصيل الإيمان لكان قادراً على رد ما أراده الله تعالى وحينئذ يبطل قوله وَإِذَا اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ فثبت أن الآية السابقة وإن أشعرت بمذهبهم إلا أن هذه الآية من أقوى الدلائل على مذهبنا قال الضحاك عن ابن عباس لم تغن المعقبات شيئاً وقال عطاء عنه لا راد لعذابي ولا ناقض لحكمي وَمَا لَهُمْ مّن دُونِهِ مِن وَالٍ أي ليس لهم من دون الله من يتولاهم ويمنع قضاء الله عنهم والمعنى ما لهم والٍ يلي أمرهم ويمنع العذاب عنهم
هُوَ الَّذِى يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِى ءُ السَّحَابَ الثِّقَالَ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلْائِكَة ُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِى اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ
اعلم أنه تعالى لما خوف العباد بإنزال ما لا مرد له أتبعه بذكر هذه الآيات وهي مشتملة على أمور ثلاثة وذلك لأنها دلائل على قدرة الله تعالى وحكمته وأنها تشبه النعم والإحسان من بعض الوجوه وتشبه العذاب والقهر من بعض الوجوه

واعلم أنه تعالى ذكر ههنا أموراً أربعة الأول البرق وهو قوله تعالى يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وفيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) في انتصاب قوله خَوْفًا وَطَمَعًا وجوه الأول لا يصح أن يكونا مفعولاً لهما لأنهما ليسا بفعل فاعل الفعل المعلل إلا على تقدير حذف المضاف أي إرادة خوف وطمع أو على معنى إخافة وإطماعاً الثاني يجوز أن يكونا منتصبين على الحال من البرق كأنه في نفسه خوف وطمع والتقدير ذا خوف وذا طمع أو على معنى إيخافاً وإطماعاً الثالث أن يكونا حالاً من المخاطبين أي خائفين وطامعين
المسألة الثانية في كون البرق خوفاً وطمعاً وجوه الأول أن عند لمعان البرق يخاف وقوع الصواعق ويطمع في نزول الغيث قال المتنبي فتى كالسحاب الجون يخشى ويرتجى
يرجى الحيا منها ويخشى الصواعق
الثاني أنه يخاف المطر من له فيه ضرر كالمسافر وكمن في جرابه التمر والزبيب ويطمع فيه من له فيه نفع الثالث أن كل شيء يحصل في الدنيا فهو خير بالنسبة إلى قوم وشر بالنسبة إلى آخرين فكذلك المطر خير في حق من يحتاج إليه في أوانه وشر في حق من يضره ذلك إما بحسب المكان أو بحسب الزمان
المسألة الثالثة اعلم أن حدوث البرق دليل عجيب على قدرة الله تعالى وبيانه أن السحاب لا شك أنه جسم مركب في أجزاء رطبة مائية ومن أجزاء هوائية ونارية ولا شك أن الغالب عليه الأجزاء المائية والماء جسم بارد رطب والنار جسم يابس وظهور الضد من الضد التام على خلاف العقل فلا بد من صانع مختار يظهر الضد من الضد
فإن قيل لم لا يجوز أن يقال إن الريح احتقن في داخل جرم السحاب واستولى البرد على ظاهره فانجمد السطح الظاهر منه ثم إن ذلك الريح يمزقه تمزيقاً عنيفاً فيتولد من ذلك التمزيق الشديد حركة عنيفة والحركة العنيفة موجبة للسخونة وهي البرق
والجواب أن كل ما ذكرتموه على خلاف المعقول وبيانه من وجوه الأول أنه لو كان الأمر كذلك لوجب أن يقال أينما يحصل البرق فلا بد وأن يحصل الرعد وهو الصوت الحادث من تمزق السحاب ومعلوم أنه ليس الأمر كذلك فإنه كثيراً ما يحدث البرق القوي من غير حدوث الرعد الثاني أن السخونة الحاصلة بسبب قوة الحركة مقابلة للطبيعة المائية الموجبة للبرد وعند حصول هذا العارض القوي كيف تحدث النارية بل نقول النيران العظيمة تنطفىء بصب الماء عليها والسحاب كله ماء فكيف يمكن أن يحدث فيه شعلة ضعيفة نارية الثالث من مذهبكم أن النار الصرفة لا لون لها البتة فهب أنه حصلت النارية بسبب قوة المحاكة الحاصلة بأجزاء السحاب لكن من أين حدث ذلك اللون الأحمر فثبت أن السبب الذي ذكروه ضعيف وأن حدوث النار الحاصلة في جرم السحاب مع كونه ماء خالصاً لا يمكن إلا بقدرة القادر الحكيم
النوع الثاني من الدلائل المذكورة في هذه الآية قوله تعالى وَيُنْشِىء السَّحَابَ الثّقَالَ قال صاحب

( الكشاف ) السحاب اسم جنس والواحدة سحابة والثقال جمع ثقيلة لأنك تقول سحابة ثقيلة وسحاب ثقال كما تقول امرأة كريمة ونساء كرام وهي الثقال بالماء
واعلم أن هذا أيضاً من دلائل القدرة والحكمة وذلك لأن هذه الأجزاء المائية إما أن يقال إنها حدثت في جو الهواء أو يقال إنها تصاعدت من وجه الأرض فإن كان الأول وجب أن يكون حدوثها باحداث محدث حكيم قادر وهو المطلوب وإن كان الثاني وهو أن يقال إن تلك الأجزاء تصاعدت من الأرض فلما وصلت إلى الطبقة الباردة من الهواء بردت فثقلت فرجعت إلى الأرض فنقول هذا باطل وذلك لأن الأمطار مختلفة فتارة تكون القطرات كبيرة وتارة تكون صغيرة وتارة تكون متقاربة وأخرى تكون متباعدة وتارة تدوم مدة نزول المطر زماناً طويلاً وتارة قليلاً فاختلاف الأمطار في هذه الصفات مع أن طبيعة الأرض واحدة وطبيعة الشمس المسخنة للبخارات واحدة لا بد وأن يكون بتخصيص الفاعل المختار وأيضاً فالتجربة دلت على أن للدعاء والتضرع في نزول الغيث أثراً عظيماً ولذلك كانت صلاة الاستسقاء مشروعة فعلمنا أن المؤثر فيه هو قدرة الفاعل لا الطبيعة والخاصية
النوع الثالث من الدلائل المذكورة في هذه الآية الرعد وهو قوله وَيُسَبّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلْائِكَة ُ مِنْ خِيفَتِهِ وفيه أقوال
القول الأول إن الرعد اسم ملك من الملائكة وهذا الصوت المسموع هو صوت ذلك الملك بالتسبيح والتهليل عن ابن عباس رضي الله عنهما أن اليهود سألت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن الرعد ما هو فقال ( ملك من الملائكة موكل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله ) قالوا فما الصوت الذي نسمع قال ( زجره السحاب ) وعن الحسن أنه خلق من خلق الله ليس بملك فعلى هذا القول الرعد هو الملك الموكل بالسحاب وصوته تسبيح لله تعالى وذلك الصوت أيضاً يسمى بالرعد ويؤكد هذا ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما كان إذا سمع الرعد قال سبحان الذي سبحت له وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( إن الله ينشىء السحاب الثقال فينطق أحسن النطق ويضحك أحسن الضحك فنطقه الرعد وضحكه البرق )
واعلم أن هذا القول غير مستبعد وذلك لأن عند أهل السنة البنية ليست شرطاً لحصول الحياة فلا يبعد من الله تعالى أن يخلق الحياة والعلم والقدرة والنطق في أجزاء السحاب فيكون هذا الصوت المسموع فعلاً له وكيف يستبعد ذلك ونحن نرى أن السمندل يتولد في النار والضفادع تتولد في الماء البارد والدودة العظيمة ربما تتولد في الثلوج القديمة وأيضاً فإذا لم يبعد تسبيح الجبال في زمن داود عليه السلام ولا تسبيح الحصى في زمان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ( فكيف يستبعد تسبيح السحاب ) وعلى هذاالقول فهذا الشيء المسمى بالرعد ملك أو ليس بملك فيه قولان أحدهما أنه ليس بملك لأنه عطف عليه الملائكة فقال وَالْمَلْائِكَة ُ مِنْ خِيفَتِهِ والمعطوف عليه مغاير للمعطوف والثاني وهو أنه لا يبعد أن يكون من جنس الملائكة وإنما إفراده بالذكر على سبيل التشريف كما في قوله وَمَلئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ ( البقرة 98 ) وفي قوله وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ مِنْ نُوحٌ ( الأحزاب 70 )
القول الثاني أن الرعد اسم لهذا الصوت المخصوص ومع ذلك فإن الرعد يسبح الله سبحانه لأن التسبيح والتقديس وما يجري مجراهما ليس إلا وجود لفظ يدل على حصول التنزيه والتقديس لله سبحانه

وتعالى فلما كان حدوث هذا الصوت دليلاً على وجود موجود متعال عن النقص والإمكان كان ذلك في الحقيقة تسبيحاً وهو معنى قوله تعالى وَإِن مّن شَى ْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ ( الإسراء 44 )
القول الثالث أن المراد من كون الرعد مسبحاً أن من يسمع الرعد فإنه يسبح الله تعالى فلهذا المعنى أضيف هذا التسبيح إليه
القول الرابع من كلمات الصوفية الرعد صعقات الملائكة والبرق زفرات أفئدتهم والمطر بكاؤهم
فإن قيل وما حقيقة الرعد
قلنا استقصينا القول في سورة ( البقرة ) في قوله فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ ( البقرة 19 )
أما قوله وَالْمَلْائِكَة ُ مِنْ خِيفَتِهِ فاعلم أن من المفسرين من يقول عنى بهؤلاء الملائكة أعوان الرعد فإنه سبحانه جعل له أعواناً ومعنى قوله وَالْمَلْائِكَة ُ مِنْ خِيفَتِهِ أي وتسبح الملائكة من خيفة الله تعالى وخشيته قال ابن عباس رضي الله عنهما إنهم خائفون من الله لا كخوف ابن آدم فإن أحدهم لا يعرف من على يمينه ومن على يساره ولا يشغله عن عبادة الله طعام ولا شراب ولا شيء
واعلم أن المحققين من الحكماء يذكرون أن هذه الآثار العلوية إنما تتم بقوى روحانية فلكية فللسحاب روح معين من الأرواح الفلكية يدبره وكذا القول في الرياح وفي سائر الآثار العلوية وهذا عين ما نقلناه من أن الرعد اسم ملك من الملائكة يسبح الله فهذا الذي قاله المفسرون بهذه العبارة هو عين ما ذكره المحققون عن الحكماء فكيف يليق بالعاقل الإنكار
النوع الرابع من الدلائل المذكورة في هذه الآية قوله وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاء واعلم أنا قد ذكرنا معنى الصواعق في سورة البقرة قال المفسرون نزلت هذه الآية في عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة أخي لبيد بن ربيعة أتيا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يخاصمانه ويجادلانه ويريدان الفتك به فقال أربد بن ربيعة أخو لبيد بن ربيعة أخبرنا عن ربنا أمن نحاس هو أم من

حديد ثم إنه لما رجع أربد أرسل عليه صاعقة فأحرقته ورمى عامراً بغدة كغدة البعير ومات في بيت سلولية
واعلم أن أمر الصاعقة عجيب جداً وذلك لأنها تارة تتولد من السحاب وإذا نزلت من السحاب فربما غاصت في البحر وأحرقت الحيتان في لجة البحر والحكماء بالغوا في وصف قوتها ووجه الاستدلال أن النار حارة يابسة وطبيعتها ضد طبيعة السحاب فوجب أن تكون طبيعتها في الحرارة واليبوسة أضعف من طبيعة النيران الحادثة عندنا على العادة لكنه ليس الأمر كذلك فإنها أقوى نيران هذا العالم فثبت أن اختصاصها بمزيد تلك القوة لا بد وأن يكون بسبب تخصيص الفاعل المختار
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه الدلائل الأربعة قال وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِى اللَّهِ والمراد أنه تعالى بين دلائل كمال علمه في قوله يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى ( الرعد 8 ) وبين دلائل كمال القدرة في هذه الآيات
ثم قال وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِى اللَّهِ يعني هؤلاء الكفار مع ظهور هذه الدلائل يجادلون في الله وهو يحتمل وجوهاً أحدها أن يكون المراد الرد على الكافر الذي قال أخبرنا عن ربنا أمن نحاس أم من حديد وثانيها أن يكون المراد الرد على جدالهم في إنكار البعث وإبطال الحشر والنشر وثالثها أن يكون المراد الرد عليهم في طلب سائر المعجزات ورابعها أن يكون المراد الرد عليهم في استنزال عذاب الاستئصال وفي هذه الواو قولان الأول أنه للحال والمعنى فيصيب بالصاعقة من يشاء في حال جداله في الله وذلك أن أربد لما جادل في الله أحرقته الصاعقة والثاني أنها واو الاستئناف كأنه تعالى لما تمم ذكر هذه الدلائل قال بعد ذلك وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِى اللَّهِ
ثم قال تعالى وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ وفي لفظ المحال أقوال قال ابن قتيبة الميم زائدة وهو من الحول ونحوه ميم مكان وقال الأزهري هذا غلط فإن الكلمة إذا كانت على مثال فعال أوله ميم مكسورة فهي أصلية نحو مهاد ومداس ومداد واختلفوا مم أخذ على وجوه الأول قيل من قولهم محل فلان بفلان إذا سعى به إلى السلطان وعرضه للهلاك وتمحل لكذا إذا تكلف استعمال الحيلة واجتهد فيه فكان المعنى أنه سبحانه شديد المكر لأعدائه يهلكهم بطريق لا يتوقعونه الثاني أن المحال عبارة عن الشدة ومنه تسمى السنة الصعبة سنة المحل وما حلت فلاناً محالاً أي قاومته أينا أشد قال أبو مسلم ومحال فعال من المحل وهو الشدة ولفظ فعال يقع على المجازاة والمقابلة فكأن المعنى أنه تعالى شديد المغالبة وللمفسرين ههنا عبارات فقال مجاهد وقتادة شديد القوة وقال أبو عبيدة شديد العقوبة وقال الحسن شديد النقمة وقال ابن عباس شديد الحول الثالث قال ابن عرفة يقال ماحل عن أمره أي جادل فقوله شَدِيدُ الْمِحَالِ أي شديد الجدال الرابع روي عن بعضهم شَدِيدُ الْمِحَالِ أي شديد الحقد قالوا هذا لا يصح لأن الحقد لا يمكن في حق الله تعالى إلا أنا قد ذكرنا في هذا الكتاب أن أمثال هذه الألفاظ إذا وردت في حق الله تعالى فإنها تحصل على نهايات الأعراض لا على مبادىء الأعراض فالمراد بالحقد ههنا هو أنه تعالى يريد إيصال الشر إليه مع أنه يخفي عنه تلك الإرادة
لَهُ دَعْوَة ُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَى ْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَآءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَآءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِى ضَلَالٍ
اعلم أن قوله لَهُ دَعْوَة ُ الْحَقّ أي لله دعوة الحق وفيه بحثان
البحث الأول في أقوال المفسرين وهي أمور أحدها ما روى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال دَعْوَة ُ الْحَقّ قول لا إله إلا الله وثانيها قول الحسن إن الله هو الحق فدعاؤه هو الحق كأنه يومىء إلى أن الانقطاع إليه في الدعاء هو الحق وثالثها أن عبادته هي الحق والصدق
واعلم أن الحق هو الموجود والموجود قسمان قسم يقبل العدم وهو حق يمكن أن يصير باطلاً وقسم لا يقبل العدم فلا يمكن أن يصير باطلاً وذلك هو الحق الحقيقي وإذا كان واجب الوجود لذاته موجوداً لا يقبل العدم كان أحق الموجودات بأن يكون حقاً هو هو وكان أحق الاعتقادات وأحق الأذكار بأن يكون حقاً هو

اعتقاد ثبوته وذكر وجوده فثبت بهذا أن وجوده هو الحق في الموجودات واعتقاد وجوده هو الحق في الاعتقادات وذكره بالثناء والإلهية والكمال هو الحق في الأذكار فلهذا قال لَهُ دَعْوَة ُ الْحَقّ
البحث الثاني قال صاحب ( الكشاف ) دَعْوَة ُ الْحَقّ فيه وجهان أحدهما أن تضاف الدعوة إلى الحق الذي هو نقيض الباطل كما تضاف إليه الكلمة في قوله كَلِمَة َ الْحَقّ والمقصود منه الدلالة على كون هذه الدعوة مختصة بكونها حقة وكونها خالية عن أمارات كونه باطلاً وهذا من باب إضافة الشيء إلى صفته والثاني أن تضاف إلى الحق الذي هو الله سبحانه على معنى دعوة المدعو الحق الذي يسمع فيجيب وعن الحسن الحق هو الله وكل دعاء إليه فهو دعوة الحق
ثم قال تعالى وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ يعني الآلهة الذين يدعونهم الكفار من دون الله لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَى ْء مما يطلبونه إلا استجابة كاستجابة باسط كفيه إلى الماء والماء جماد لا يشعر ببسط كفيه ولا بعطشه وحاجته إليه ولا يقدر أن يجيب دعاءه ويبلغ فاه فكذلك ما يدعونه جماد لا يحس بدعائهم ولا يستطيع إجابتهم ولا يقدر على نفعهم وقيل شبهوا في قلة فائد دعائهم لآلهتهم بمن أراد أن يغرف الماء بيديه ليشربه فيبسطها ناشراً أصابعه ولم تصل كفاه إلى ذلك الماء ولم يبلغ مطلوبه من شربه وقرىء تَدْعُونَ بالتاء كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ بالتنوين ثم قال وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلَى فِى ضَلَالٍ أي إلا في ضياع لا منفعة فيه لأنهم إن دعوا الله لم يجبهم وإن دعوا الآلهة لم تستطع إجابتهم
وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ والأرض طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالاٌّ صَالِ
اعلم أن في المراد بهذا السجود قولين
القول الأول أن المراد منه السجود بمعنى وضع الجبهة على الأرض وعلى هذا الوجه ففيه وجهان أحدهما أن اللفظ وإن كان عاماً إلا أن المراد به الخصوص وهم المؤمنون فبعض المؤمنين يسجدون لله طوعاً بسهولة ونشاط ومن المسلمين من يسجد لله كرهاً لصعوبة ذلك عليه مع أنه يحمل نفسه على أداء تلك الطاعة شاء أم أبى والثاني أن اللفظ عام والمراد منه أيضاً العام وعلى هذا ففي الآية إشكال لأنه ليس كل من في السموات والأرض يسجد لله بل الملائكة يسجدون لله والمؤمنون من الجن والإنس يسجدون لله تعالى وأما الكافرون فلا يسجدون
الجواب عنه من وجهين الأول أن المراد من قوله وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أي ويجب على كل من في السموات والأرض أن يسجد لله فعبر عن الوجوب بالوقوع والحصول والثاني وهو أن المراد من السجود التعظيم والاعتراف بالعبودية وكل من في السموات ومن في الأرض يعترفون بعبودية الله تعالى على ما قال وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ( لقمان 25 )
وأما القول الثاني في تفسير الآية فهو أن السجود عبارة عن الانقياد والخضوع وعدم الامتناع وكل من في السموات والأرض ساجد لله بهذا المعنى لأن قدرته ومشيئته نافذة في الكل وتحقيق القول فيه أن ما

سواه ممكن لذاته والممكن لذاته هو الذي تكون ماهيته قابلة للعدم والوجود على السوية وكل من كان كذلك امتنع رجحان وجوده على عدمه أو بالعكس إلا بتأثير موجود ومؤثر فيكون وجود كل ما سوى الحق سبحانه بإيجاده وعدم كل ما سواه بإعدامه فتأثيره نافذ في جميع الممكنات في طرفي الإيجاد والإعدام وذلك هو السجود وهو التواضع والخضوع والانقياد ونظير هذه الآية بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ وقوله وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( آل عمران 83 )
وأما قوله تعالى طَوْعًا وَكَرْهًا فالمراد أن بعض الحوادث مما يميل الطبع إلى حصوله كالحياة والغنى وبعضها مما ينفر الطبع عنه كالموت والفقر والعمى والحزن والزمانة وجميع أصناف المكروهات والكل حاصل بقضائه وقدره وتكوينه وإيجاده ولا قدرة لأحد على الامتناع والمدافعة
ثم قال تعالى وَظِلَالُهُم بِالْغُدُوّ وَالاْصَالِ وفيه قولان
القول الأول قال المفسرون كل شخص سواء كان مؤمناً أو كافراً فإن ظله يسجد لله قال مجاهد ظل المؤمن يسجد لله طوعاً وهو طائع وظل الكافر يسجد لله كرهاً وهو كاره وقال الزجاج جاء في التفسير أن الكافر يسجد لغير الله وظله يسجد لله وعند هذا قال ابن الأنباري لا يبعد أن يخلق الله تعالى للظلال عقولاً وأفهاماً تسجد بها وتخشع كما جعل الله للجبال أفهاماً حتى اشتغلت بتسبيح الله تعالى وحتى ظهر أثر التجلي فيها كما قال فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّا ( الأعراف 143 )
والقول الثاني وهو أن المراد من سجود الظلال ميلانها من جانب إلى جانب وطولها بسبب انحطاط الشمس وقصرها بسبب ارتفاع الشمس فهي منقادة مستسلمة في طولها وقصرها وميلها من جانب إلى جانب وإنما خصص الغدو والآصال بالذكر لأن الظلال إنما تعظم وتكثر في هذين الوقتين
قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ والأرض قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ لاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الاٌّ عْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِى الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَى ْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ
اعلم أنه تعالى لما بين أن كل من في السموات والأرض ساجد له بمعنى كونه خاضعاً له عاد إلى الرد على عبدة الأصنام فقال قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ قُلِ اللَّهُ ولما كان هذا الجواب جواباً يقر به المسؤول ويعترف به ولا ينكره أمره ( صلى الله عليه وسلم ) أن يكون هو الذاكر لهذا الجواب تنبيهاً على أنهم لا ينكرونه ألبتة ولما بين أنه سبحانه هو الرب لكل الكائنات قال قل لهم فلم اتخذتهم من دون الله أولياء وهي جمادات وهي لا تملك لأنفسها نفعاً ولا ضراً ولما كانت عاجزة عن تحصيل المنفعة لأنفسها ودفع المضرة عن أنفسها فبأن تكون عاجزة عن=

ج18. مفاتيح الغيب ـ ترقيم الشاملة موافق للمطبوع
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي الشافعي

تحصيل المنفعة لغيرها ودفع المضرة عن غيرها كان ذلك أولى فإذا لم تكن قادرة على ذلك كانت عبادتها محض العبث والسفه ولما ذكر هذه الحجة الظاهرة بين أن الجاهل بمثل هذه الحجة يكون كالأعمى والعالم بها كالبصير والجهل بمثل هذه الحجة كالظلمات والعلم بها كالنور وكما أن كل أحد يعلم بالضرورة أن الأعمى لا يساوي البصير والظلمة لا تساوي النور كذلك كل أحد يعلم بالضرورة أن الجاهل بهذه الحجة لا يساوي العالم بها قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر وعمرو عن عاصم يَسْتَوِى الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ بالياء لأنها مقدمة على اسم الجمع والباقون بالتاء واختاره أبو عبيدة ثم أكد هذا البيان فقال أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ يعني هذه الأشياء التي زعموا أنها شركاء لله ليس لها خلق يشبه خلق الله حتى يقولوا إنها تشارك الله في الخالقية فوجب أن تشاركه في الإلهية بل هؤلاء المشركون يعلمون بالضرورة أن هذه الأصنام لم يصدر عنها فعل ألبتة ولا خلق ولا أثر وإذا كان الأمر كذلك كان حكمهم بكونها شركاء لله في الإلهية محض السفه والجهل وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن أصحابنا استدلوا بهذه الآية في مسألة خلق الأفعال من وجوه الأول أن المعتزلة زعموا أن الحيوانات تخلق حركات وسكنات مثل الحركات والسكنات التي يخلقها الله تعالى وعلى هذا التقدير فقد جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه ومعلوم أن الله تعالى إنما ذكر هذه الآية في معرض الذم والإنكار فدلت هذه الآية على أن العبد لا يخلق فعل نفسه قال القاضي نحن وإن قلنا إن العبد يفعل ويحدث إلا أنا لا نطلق القول بأنه يخلق ولو أطلقناه لم نقل إنه يخلق كخلق الله لأن أحدنا يفعل بقدرة الله وإنما يفعل لجلب منفعة ودفع مضرة والله تعالى منزه عن ذلك كله فثبت أن بتقدير كون العبد خالقاً إلا أنه لا يكون خلقه كخلق الله تعالى وأيضاً فهذا الإلزام لازم للمجبرة لأنهم يقولون عين ما هو خلق الله تعالى فهو كسب العبد وفعل له وهذا عين الشرك لأن الإله والعبد في خلق تلك الأفعال بمنزلة الشريكين اللذين لا مال لأحدهما إلا وللآخر فيه حق وأيضاً فهو تعالى إنما ذكر هذا الكلام عيباً للكفار وذماً لطريقتهم ولو كان فعل العبد خلقاً لله تعالى لما بقي لهذا الذم فائدة لأن للكفار أن يقولوا على هذا التقدير إن الله سبحانه وتعالى لما خلق هذا الكفر فينا فلم يذمنا عليه ولا ينسبنا إلى الجهل والتقصير مع أنه قد حصل فينا لا بفعلنا ولا باختيارنا
والجواب عن السؤال الأول أن لفظ الخلق إما أن يكون عبارة عن الإخراج من العدم إلى الوجود أو يكون عبارة عن التقدير وعلى الوجهين فبتقدير أن يكون العبد محدثاً فإنه لا بد وأن يكون حادثاً أما قوله والعبد وإن كان خالقاً إلا أنه ليس خلقه كخلق الله
قلنا الخلق عبارة عن الإيجاد والتكوين والإخراج من العدم إلى الوجود ومعلوم أن الحركة الواقعة بقدرة العبد لما كانت مثلاً للحركة الواقعة بقدرة الله تعالى كان أحد المخلوقين مثلاً للمخلوق الثاني وحينئذ يصح أن يقال إن هذا الذي هو مخلوق العبد مثل لما هو مخلوق لله تعالى بل لا شك في حصول المخالفة في سائر الاعتبارات إلا أن حصول المخالفة في سائر الوجوه لا يقدح في حصول المماثلة من هذا الوجه وهذا القدر يكفي في الاستدلال وأما قوله هذا لازم على المجبرة حيث قالوا إن فعل العبد مخلوق لله تعالى فنقول هذا غير لازم لأن هذه الآية دالة على أنه لا يجوز أن يكون خلق العبد مثلاً لخلق الله تعالى

ونحن لا نثبت للعبد خلقاً ألبتة فكيف يلزمنا ذلك وأما قوله لو كان فعل العبد خلقاً لله تعالى لما حسن ذم الكفار على هذا المذهب
قلنا حاصله يرجع إلى أنه لما حصل المدح والذم وجب أن يكون العبد مستقلاً بالفعل وهو منقوض لأنه تعالى ذم أبا لهب على كفره مع أنه عالم منه أنه يموت على الكفر وقد ذكرنا أن خلاف المعلوم محال الوقوع فهذا تقرير هذا الوجه في هذه الآية
وأما الوجه الثاني في التمسك بهذه الآية قوله قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلّ شَى ْء ولا شك أن فعل العبد شيء فوجب أن يكون خالقه هو الله وسؤالهم عليه ما تقدم
والوجه الثالث في التمسك بهذه الآية وقوله وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ وليس يقال فيه أنه تعالى واحد في أي المعاني ولما كان المذكور السابق هو الخالقية وجب أن يكون المراد هو الواحد في الخالقية القهار لكل ما سواه وحينئذ يكون دليلاً أيضاً على صحة قولنا
المسألة الثانية زعم جهم أن الله تعالى لا يقع عليه اسم الشيء اعلم أن هذا النزاع ليس إلا في اللفظ وهو أن هذا الاسم هل يقع عليه أم لا وزعم أنه لا يقع هذا الاسم على الله تعالى واحتج عليه بأنه لو كان شيئاً لوجب كونه خالقاً لنفسه لقوله تعالى اللَّهُ خَالِقُ كُلّ شَى ْء ولما كان ذلك محالاً وجب أن لا يقع عليه اسم الشيء ولا يقال هذا عام دخله التخصيص لأن العام المخصوص إنما يحسن إذا كان المخصوص أقل من الباقي وأخس منه كما إذا قال أكلت هذ الرمانة مع أنه سقطت منها حبات ما أكلها وههنا ذات الله تعالى أعلى الموجودات وأشرفها فكيف يمكن ذكر اللفظ العام الذي يتناوله مع كون الحكم مخصوصاً في حقه
والحجة الثانية تمسك بقوله تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ْء ( الشورى 11 ) والمعنى ليس مثل مثله شيء ومعلوم أن كل حقيقة فإنها مثل مثل نفسها فالباري تعالى مثل مثل نفسه مع أنه تعالى نبه على أن مثل مثله ليس بشيء فهذا تنصيص على أنه تعالى غير مسمى باسم الشيء
والحجة الثالثة قوله تعالى وَللَّهِ الاسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ( الأعراف 180 ) دلت هذه الآية على أنه لا يجوز أن يدعى الله إلا بالأسماء الحسنى ولفظ الشيء يتناول أخس الموجودات فلا يكون هذا اللفظ مشعراً بمعنى حسن فوجب أن لا يكون هذا اللفظ من الأسماء الحسنى فوجب أن لا يجوز دعاء الله تعالى بهذا اللفظ والأصحاب تمسكوا في إطلاق هذا الاسم عليه تعالى بقوله قُلْ أَى ُّ شَى ْء أَكْبَرُ شَهَادة ً قُلِ اللَّهِ شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ ( الأنعام 19 )
وأجاب الخصم عنه بأن قوله قُلْ أَى ُّ شَى ْء أَكْبَرُ شَهَادة ً سؤال متروك الجواب وقوله قُلِ اللَّهِ شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ كلام مبتدأ مستقل بنفسه لا تعلق له بما قبله
المسألة الثالثة تمسك المعتزلة بهذه الآية في أنه تعالى عالم لذاته لا بالعلم وقادر لذاته لا بالقدرة قالوا لأنه لو حصل لله تعالى علم وقدرة وحياة لكانت هذه الصفات إما أن تحصل بخلق الله أو لا بخلقه والأول باطل وإلا لزم التسلسل والثاني باطل لأن قوله اللَّهُ خَالِقُ كُلّ شَى ْء يتناول الذات والصفات حكمنا

بدخول التخصيص فيه في حق ذات الله تعالى فوجب أن يبقى فيما سوى الذات على الأصل وهو أن يكون تعالى خالقاً لكل شيء سوى ذاته تعالى فلو كان لله علم وقدرة لوجب كونه تعالى خالقاً لهما وهو محال وأيضاً تمسكوا بهذه الآية في خلق القرآن قالوا الآية دالة على أنه تعالى خالق لكل الأشياء والقرآن ليس هو الله تعالى فوجب أن يكون مخلوقاً وأن يكون داخلاً تحت هذا العموم
والجواب أقصى ما في الباب أن الصيغة عامة إلا أنا نخصصها في حق صفات الله تعالى بسبب الدلائل العقلية
أَنَزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَة ٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِى النَّارِ ابْتِغَآءَ حِلْيَة ٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذالِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى الأرض كَذالِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الاٌّ مْثَالَ لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِى الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ أُوْلَائِكَ لَهُمْ سُو ءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ
اعلم أنه تعالى لما شبه المؤمن والكافر والإيمان والكفر بالأعمى والبصير والظلمات والنور ضرب للإيمان والكفر مثلاً آخر فقال أَنَزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَة ٌ بِقَدَرِهَا ومن حق الماء أن يستقر في الأودية المنخفضة عن الجبال والتلال بمقدار سعة تلك الأودية وصغرها من حق الماء إذا زاد على قدر الأودية أن ينبسط على الأرض ومن حق الزبد الذي يحتمله الماء فيطفو ويربو عليه أن يتبدد في الأطراف ويبطل سواء كان ذلك الزبد ما يجري مجرى الغليان من البياض أو ما يحفظ بالماء من الأجسام الخفيفة ولما ذكر تعالى هذا الزبد الذي لا يظهر إلا عند اشتداد جري الماء ذكر الزبد الذي لا يظهر إلا بالنار وذلك لأن كل واحد من الأجساد السبعة إذا أذيب بالنار لابتغاء حلية أو متاع آخر من الأمتعة التي يحتاج إليها في مصالح البيت فإنه ينفصل عنها نوع من الزبد والخبث ولا ينتفع به بل يضيع ويبطل ويبقى الخالص فالحاصل أن الوادي إذا جرى طفا عليه زبد وذلك الزبد يبطل ويبقى الماء والأجساد السبعة إذا أذيبت لأجل اتخاذ الحلي أو لأجل اتخاذ سائر الأمتعة انفصل عنها خبث وزبد فيبطل ويبقى ذلك الجوهر المنتفع به فكذا ههنا أنزل من سماء الكبرياء والجلالة والإحسان ماء وهو القرآن والأودية قلوب العباد وشبه القلوب

بالأودية لأن القلوب تستقر فيها أنوار علوم القرآن كما أن الأودية تستقر فيها المياه النازلة من السماء وكما أن كل واحد فإنما يحصل فيه من مياه الأمطار ما يليق بسعته أو ضيقه فكذا ههنا كل قلب إنما يحصل فيه من أنوار علوم القرآن ما يليق بذلك القلب من طهارته وخبثه وقوة فهمه وقصور فهمه وكما أن الماء يعلوه زبد الأجساد السبعة المذابة يخالطها خبث ثم إن ذلك الزبد والخبث يذهب ويضيع ويبقى جوهر الماء وجوهر الأجساد السبعة كذا ههنا بيانات القرآن تختلط بها شكوك وشبهات ثم إنها بالآخرة تزول وتضيع ويبقى العلم والدين والحكمة والمكاشفة في العاقبة فهذا هو تقرير هذا المثل ووجه انطباق المثل على الممثل به وأكثر المفسرين سكتوا عن بيان كيفية التمثيل والتشبيه
المسألة الثانية في المباحث اللفظية التي في هذه الآية في لفظ الأودية أبحاث
البحث الأول الأودية جمع واد وفي الوادي قولان
القول الأول أنه عبارة عن الفضاء المنخفض عن الجبال والتلال الذي يجري فيه السيل هذا قول عامة أهل اللغة
والقول الثاني قال السهروردي يسمى الماء وادياً إذا سال قال ومنه سمي الودى ودياً لخروجه وسيلانه وعلى هذا القول فالوادي اسم للماء السائل كالمسيل والأول هو القول المشهور إلا أن على هذا التقدير يكون قوله فَسَالَتْ أَوْدِيَة ٌ مجازاً فكان التقدير سالت مياه الأودية إلا أنه حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه
البحث الثاني قال أبو علي الفارسي رحمه الله الأودية جمع واد ولا نعلم فاعلاً جمع على أفعلة قال ويشبه أن يكون ذلك لتعاقب فاعل وفعيل على الشيء الواحد كعالم وعليم وشاهد وشهيد وناصر ونصير ثم إن وزن فاعل يجمع على أفعال كصاحب وأصحاب وطائر وأطيار ووزن فعيل يجمع على أفعلة كجريب وأجربة ثم لما حصلت المناسبة المذكورة بين فاعل وفعيل لا جرم يجمع الفاعل جمع الفعيل فيقال واد وأودية ويجمع الفعيل على جمع الفاعل فيقال يتيم وأيتام وشريف وأشراف هذا ما قاله أبو علي الفارسي رحمه الله وقال غيره نظير واد وأودية ناد وأندية للمجالس
البحث الثالث إنما ذكر لفظ أودية على سبيل التنكير لأن المطر لا يأتي إلا على طريق المناوبة بين البقاع فتسيل بعض أودية الأرض دون بعض أما قوله تعالى بِقَدَرِهَا ففيه بحثان
البحث الأول قال الواحدي القدر والقدر مبلغ الشيء يقال كم قدر هذه الدراهم وكم قدرها ومقدارها أي كم تبلغ في الوزن فما يكون مساوياً لها في الوزن فهو قدرها
البحث الثاني فَسَالَتْ أَوْدِيَة ٌ بِقَدَرِهَا أي من الماء فإن صغر الوادي قل الماء وإن اتسع الوادي كثر الماء
أما قوله فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا ففيه بحثان
البحث الأول قال الفراء يقال أزبد الوادي إزباداً والزبد الاسم وقوله رَّابِيًا قال الزجاج طافياً عالياً فوق الماء وقال غيره زائداً بسبب انتفاخه يقال ربا يربو إذا زاد

أما قوله تعالى وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِى النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَة ٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مّثْلُهُ فاعلم أنه تعالى لما ضرب المثل بالزبد الحاصل من الماء أتبعه بضرب المثل بالزبد الحاصل من النار وفيه مباحث
البحث الأول قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم يُوقِدُونَ بالياء واختاره أبو عبيدة لقوله يَنفَعُ النَّاسَ وأيضاً فليس ههنا مخاطب والباقون بالتاء على الخطاب وعلى هذا التقدير ففيه وجهان الأول أنه خطاب للمذكورين في قوله قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مّن دُونِهِ أَوْلِيَاء ( الرعد 16 ) والثاني أنه يجوز أن يكون خطاباً عاماً يراد به الكافة كأنه قال ومما توقدون عليه في النار أيها الموقدون
البحث الثاني الإيقاد على الشيء على قسمين أحدهما أن لا يكون ذلك الشيء في النار وهو كقوله تعالى ) فَأَوْقِدْ لِى ياهَامَانُ ياهَامَانُ عَلَى الطّينِ ( القصص 38 ) والثاني أن يوقد على الشيء ويكون ذلك الشيء في النار فإن من أراد تذويب الأجساد السبعة جعلها في النار فلهذا السبب قال ههنا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِى النَّارِ
البحث الثالث في قوله ابْتِغَاء حِلْيَة ٍ قال أهل المعاني الذي يوقد عليه لابتغاء حلية الذهب والفضة والذي يوقد عليه لابتغاء الأمتعة الحديد والنحاس والرصاص والأسرب يتخذ منها الأواني والأشياء التي ينتفع بها والمتاع كل ما يتمتع به وقوله زَبَدٌ مّثْلُهُ أي زبد مثل زبد الماء الذي يحمله السيل
ثم قال تعالى وَكَذالِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ والمعنى كذلك يضرب الله الأمثال للحق والباطل ثم قال أَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ قال الفراء الجفاء الرمي والاطراح يقال جفا الوادي غثاءه يجفوه جفاء إذا رماه والجفاء اسم للمجتمع منه المنضم بعضه إلى بعض وموضع جفاء نصب على الحال والمعنى أن الزبد قد يعلو على وجه الماء ويربو وينتفخ إلا أنه بالآخرة يضمحل ويبقى الجوهر الصافي من الماء ومن الأجساد السبعة فكذلك الشبهات والخيالات قد تقوى وتعظم إلا أنها بالآخرة تبطل وتضمحل وتزول ويبقى الحق ظاهراً لا يشوبه شيء من الشبهات وفي قراءة رؤبة بن العجاج جفالاً وعن أبي حاتم لا يقرأ بقراءة رؤبة لأنه كان يأكل الفار
أما قوله تعالى لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبّهِمُ الْحُسْنَى ففيه وجهان الأول أنه تم الكلام عند قوله كَذالِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الاْمْثَالَ ثم استأنف الكلام بقوله لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبّهِمُ الْحُسْنَى ومحله الرفع بالابتداء وللذين خبره وتقديره لهم الخصلة الحسنى والحالة الحسنى الثاني أنه متصل بما قبله والتقدير كأنه قال الذي يبقى هو مثل المستجيب والذي يذهب جفاء مثل من لا يستجيب ثم بين الوجه في كونه مثلاً وهو أنه لمن يستجيب الحسنى وهو الجنة ولمن لا يستجيب أنواع الحسرة والعقوبة وفيه وجه آخر وهو أن يكون التقدير كذلك يضرب الله الأمثال للذين استجابوا لربهم الاستجابة الحسنى فيكون الحسنى صفة لمصدر محذوف
واعلم أنه تعالى ذكر ههنا أحوال السعداء وأحوال الأشقياء أما أحوال السعداء فهي قوله لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبّهِمُ الْحُسْنَى والمعنى أن الذين أجابوه إلى ما دعاهم إليه من التوحيد والعدل والنبوة وبعث الرسل والتزام الشرائع الواردة على لسان رسوله فلهم الحسنى قال ابن عباس الجنة وقال أهل المعاني الحسنى هي المنفعة العظمى في الحسن وهي المنفعة الخالصة عن شوائب المضرة الدائمة الخالية عن

الانقطاع المقرونة بالتعظيم والإجلال ولم يذكر الزيادة ههنا لأنه تعالى قد ذكرها في سورة أخرى وهو قوله لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَة ٌ ( يونس 206 ) وأما أحوال الأشقياء فهي قوله وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ فلهم أنواع أربعة من العذاب والعقوبة
فالنوع الأول قوله لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ والافتداء جعل أحد الشيئين بدلاً من الآخر ومفعول لافتدوا به محذوف تقديره لافتدوا به أنفسهم أي جعلوه فداء أنفسهم من العذاب والكناية في ( به ) عائدة إلى ( ما ) في قوله مَّا فِى الاْرْضِ
واعلم أن هذا المعنى حق لأن المحبوب بالذات لكل إنسان هو ذاته وكل ما سواه فإنما يحبه لكونه وسيله إلى مصالح ذاته فإذا كانت النفس في الضرر والألم والتعب وكان مالكاً لما يساوي عالم الأجساد والأرواح فإنه يرضى بأن يجعله فداء لنفسه لأن المحبوب بالعرض لا بد وأن يكون فداء لما يكون محبوباً بالذات
والنوع الثاني من أنواع العذاب الذي أعده الله لهم هو قوله أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوء الْحِسَابِ قال الزجاج ذاك لأن كفرهم أحبط أعمالهم وأقول ههنا حالتان فكل ما شغلك بالله وعبوديته ومحبته فهي الحالة السعيدة الشريفة العلوية القدسية وكل ما شغلك بغير الله فهي الحالة الضارة المؤذية الخسيسة ولا شك أن هاتين الحالتين يقبلان الأشد والأضعف والأقل والأزيد ولا شك أن المواظبة على الأعمال المناسبة لهذه الأحوال توجب قوتها ورسوخها لما ثبت في المعقولات أن كثرة الأفعال توجب حصول الملكات الراسخة ولا شك أنه لما كانت كثرة الأفعال توجب حصول تلك الملكات الراسخة وكل واحدة من تلك الأفعال حتى اللمحة واللحظة والخطور بالبال والالتفات الضعيف فإنه يوجب أثراً ما في حصول تلك الحالة في النفس فهذا هو الحساب وعند التأمل في هذه الفصول يتبين للإنسان صدق قوله فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ شَرّاً يَرَهُ ( الزلزلة 7 8 )
إذا ثبت هذا فالسعداء هم الذين استجابوا لربهم في الإعراض عما سوى الله وفي الإقبال بالكلية على عبودية الله تعالى ولا جرم حصل لهم الحسنى
وأما الأشقياء فهم الذين لم يستجيبوا لربهم فلهذا السبب وجب أن يحصل لهم سوء الحساب والمراد بسوء الحساب أنهم أحبوا الدنيا وأعرضوا عن المولى فلما ماتوا بقوا محرومين عن معشوقهم الذي هو الدنيا وبقوا محرومين عن الفوز بخدمة حضرة المولى
والنوع الثالث قوله تعالى وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وذلك لأنهم كانوا غافلين عن الاستسعاد بخدمة حضرة المولى عاكفين على لذات الدنيا فإذا ماتوا فارقوا معشوقهم فيحترقون على مفارقتها وليس عندهم شيء آخر يجبر هذه المصيبة فلذلك قال مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ثم إنه تعالى وصف هذا المأوى فقال وَبِئْسَ الْمِهَادُ ولا شك أن الأمر كذلك
ثم قال تعالى أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى فهذا إشارة إلى المثل المتقدم ذكره وهو أن العالم بالشيء كالبصير والجاهل به كالأعمى وليس أحدهما كالآخر لأن الأعمى إذا

أخذ يمشي من غير قائد فالظاهر أنه يقع في البئر وفي المهالك وربما أفسد ما كان على طريقه من الأمتعة النافعة أما البصير فإنه يكون آمناً من الهلاك والإهلاك
ثم قال إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الالْبَابِ والمراد أنه لا ينتفع بهذه الأمثلة إلا أرباب الألباب الذين يطلبون من كل صورة معناها ويأخذون من كل قشرة لبابها ويعبرون بظاهر كل حديث إلى سره ولبابه
الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلَواة َ وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَة ً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَة ِ السَّيِّئَة َ أُوْلَائِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ءَابَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلَائِكَة ُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ
اعلم أن هذه الآية هل هي متعلقة بما قبلها أم لا فيه قولان
القول الأول إنها متعلقة بما قبلها وعلى هذا التقدير ففيه وجهان الأول أنه يجوز أن يكون قوله الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ صفة لأولي الألباب والثاني أن يكون ذلك صفة لقوله أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبّكَ الْحَقُّ ( الرعد 19 )
والقول الثاني أن يكون قوله الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ مبتدأ وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ عُقْبَى الدَّارِ خبره كقوله وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَة ُ ( الرعد 25 ) واعلم أن هذه الآية من أولها إلى آخرها جملة واحدة شرط وجزاء وشرطها مشتمل على قيود وجزاؤها يشتمل أيضاً على قيود أما القيود المعتبرة في الشرط فهي تسعة
القيد الأول قوله الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وفيه وجوه الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد الذي عاهدهم عليه حين كانوا في صلب آدم وأشهدهم على أنفسهم أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَى والثاني أن المراد بعهد الله كل أمر قام الدليل على صحته وهو من وجهين أحدهما الأشياء التي أقام الله عليها دلائل عقلية قاطعة لا تقبل النسخ والتغيير والآخر التي أقام الله عليها الدلائل السمعية وبين لهم تلك الأحكام والحاصل أنه دخل تحت قوله يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ كل ما قام الدليل عليه ويصح إطلاق لفظ العهد على الحجة بل الحق أنه لا عهد أوكد من الحجة والدلالة على ذلك أن من حلف على الشيء فإنما

يلزمه الوفاء به إذا ثبت بالدليل وجوبه لا بمجرد اليمين ولذلك ربما يلزمه أن يحدث نفسه إذا كان ذلك خيراً له فلا عهد أوكد من إلزام الله تعالى إياه ذلك بدليل العقل أو بدليل السمع ولا يكون العبد موفياً للعهد إلا بأن يأتي بكل تلك الأشياء كما أن الحالف على أشياء كثيرة لا يكون باراً في يمينه إلا إذا فعل الكل ويدخل فيه الاتيان بجميع المأمورات والانتهاء عن كل المنهيات ويدخل فيه الوفاء بالعقود في المعاملات ويدخل فيه أداء الأمانات وهذا القول هو المختار الصحيح في تأويل الآية
القيد الثاني قوله وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ وفيه أقوال
القول الأول وهو قول الأكثرين إن هذا الكلام قريب من الوفاء بالعهد فإن الوفاء بالعهد قريب من عدم نقض الميثاق والعهد وهذا مثل أن يقول إنه لما وجب وجوده لزم أن يمتنع عدمه فهذان المفهومان متغايران إلا أنهما متلازمان فكذلك الوفاء بالعهد يلزمه أن لا ينقض الميثاق
واعلم أن الوفاء بالعهد من أجل مراتب السعادة قال عليه السلام ( لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن عهد له ) والآيات الواردة في هذا الباب كثيرة في القرآن
والقول الثاني أن الميثاق ما وثقه المكلف على نفسه فالحاصل أن قوله الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ إشارة إلى ما كلف الله العبد به ابتداء وقوله وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ إشارة إلى ما التزمه العبد من أنواع الطاعات بحسب اختياره نفسه كالنذر بالطاعات والخيرات
والقول الثالث أن المراد بالوفاء بالعهد عهد الربوبية والعبودية والمراد بالميثاق المواثيق المذكورة في التوراة والإنجيل وسائر الكتب الإلهية على وجوب الإيمان بنبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) عند ظهوره
واعلم أن الوفاء بالعهد أمر مستحسن في العقول والشرائع قال عليه السلام ( من عاهد الله فغدر كانت فيه خصلة من النفاق ) وعنه عليه السلام ( ثلاثة أنا خصمهم يوم القيام ومن كنت خصمه خصمته رجل أعطى عهداً ثم غدر ورجل استأجر أجيراً استوفى عمله وظلمه أجره ورجل باع حراً فاسترق الحر وأكل ثمنه ) وقيل كان بين معاوية وملك الروم عهد فأراد أن يذهب إليهم وينقض العهد فإذا رجل على فرس يقول وفاء بالعهد لا غدر سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول ( من كان بينه وبين قوم عهد فلا ينبذن إليهم عهده ولا يحلها حتى ينقضي الأمد وينبذ إليهم على سواء ) قال من هذا قالوا عمرو بن عيينة فرجع معاوية
القيد الثالث وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وههنا سؤال وهو أن الوفاء بالعهد وترك نقض الميثاق اشتمل على وجوب الإتيان بجميع المأمورات والاحتراز عن كل المنهيات فما الفائدة في ذكر هذه القيود المذكورة بعدهما
والجواب من وجهين الأول أنه ذكر لئلا يظن ظان أن ذلك فيما بينه وبين الله تعالى فلا جرم أفرد ما بينه وبين العباد بالذكر والثاني أنه تأكيد
إذا عرفت هذا فنقول ذكروا في تفسيره وجوهاً الأول أن المراد منه صلة الرحم قال عليه السلام ( ثلاث يأتين يوم القيامة لها ذلق الرحم تقول أي رب قطعت والأمانة تقول أي رب تركت والنعمة تقول أي رب كفرت )

والقول الثاني أن المراد صلة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ومؤازرته ونصرته في الجهاد
والقول الثالث رعاية جميع الحقوق الواجبة للعباد فيدخل فيه صلة الرحم وصلة القرابة الثابتة بسبب أخوة الإيمان كما قال إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة ٌ ( الحجرات 10 ) ويدخل في هذه الصلة امدادهم بإيصال الخيرات ودفع الآفات بقدر الإمكان وعيادة المريض وشهود الجنائز وإفشاء السلام على الناس والتبسم في وجوههم وكف الأذى عنهم ويدخل فيه كل حيوان حتى الهرة والدجاجة وعن الفضيل بن عياض رحمه الله أن جماعة دخلوا عليه بمكة فقال من أين أنتم قالوا من خراسان فقال اتقوا الله وكونوا من حيث شئتم واعلموا أن العبد لو أحسن كل الإحسان وكان له دجاجة فأساء إليها لم يكن من المحسنين وأقول حاصل الكلام أن قوله الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ إشارة إلى التعظيم لأمر الله وقوله وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ إشارة إلى الشفقة على خلق الله
القيد الرابع قوله وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ والمعنى أنه وإن أتى بكل ما قدر عليه في تعظيم أمر الله وفي الشفقة على خلق الله إلا أنه لا بد وأن تكون الخشية من الله والخوف منه مستولياً على قلبه وهذه الخشية نوعان أحدهما أن يكون خائفاً من أن يقع زيادة أو نقصان أو خلل في عباداته وطاعاته بحيث يوجب فساد العبادة أو يوجب نقصان ثوابها والثاني وهو خوف الجلال وذلك لأن العبد إذا حضر عند السلطان المهيب القاهر فإنه وإن كان في غير طاعته إلا أنه لا يزول عن قلبه مهابة الجلالة والرفعة والعظمة
القيد الخامس قوله وَيَخَافُونَ سُوء الحِسَابِ اعلم أن القيد الرابع إشارة إلى الخشية من الله وهذا القيد الخامس إشارة إلى الخوف والخشية وسوء الحساب وهذا يدل على أن المراد من الخشية من الله ما ذكرناه من خوف الجلال والمهابة والعظمة وإلا لزم التكرار
القيد السادس قوله تعالى وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبّهِمْ فيدخل فيه الصبر على فعل العبادات والصبر على ثقل الأمراض والمضار والغموم والأحزان والصبر على ترك المشتهيات وبالجملة الصبر على ترك المعاصي وعلى أداء الطاعات ثم إن الإنسان قد يقدم على الصبر لوجوه أحدها أن يصبر ليقال ما أكمل صبره وأشد قوته على تحمل النوازل وثانيها أن يصبر لئلا يعاب بسبب الجزع وثالثها أن يصبر لئلا تحصل شماتة الأعداء ورابعها أن يصبر لعلمه بأن لا فائدة في الجزع فالإنسان إذا أتى بالصبر لأحد هذه الوجوه لم يكن ذلك داخلاً في كمال النفس وسعادة القلب أما إذا صبر على البلاء لعلمه بأن ذلك البلاء قسمة حكم بها القسام العلام المنزه عن العيب والباطل والسفه بل لا بد أن تكون تلك القسمة مشتملة على حكمة بالغة ومصلحة راجحة ورضي بذلك لأنه تصرف المالك في ملكه ولا اعتراض على المالك في أن يتصرف في ملكه أو يصبر لأنه صار مستغرقاً في مشاهدة المبلى فكان استغراقه في تجلي نور المبلى أذهله على التألم بالبلاء وهذا أعلى مقامات الصديقين فهذه الوجوه الثلاثة هي التي يصدق عليها أنه صبر ابتغاء وجه ربه ومعناه أنه صبر لمجرد ثوابه وطلب رضا الله تعالى
واعلم أن قوله ابْتِغَاء وَجْهِ رَبّهِمْ فيه دقيقة وهي أن العاشق إذا ضربه معشوقه فربما نظر العاشق لذلك الضارب وفرح به فقوله ابْتِغَاء وَجْهِ رَبّهِمْ محمول على هذا المجاز يعني كما أن العاشق يرضى بذلك الضرب لالتذاذه بالنظر إلى وجه معشوقه فكذلك العبد يصبر على البلاء والمحنة ويرضى به

لاستغراقه في معرفة نور الحق وهذه دقيقة لطيفة
القيد السابع قوله وَالَّذِينَ يُمَسّكُونَ
واعلم أن الصلاة والزكاة وإن كانتا داخلتين في الجملة الأولى إلا أنه تعالى أفردها بالذكر تنبيهاً على كونها أشرف من سائر العبادات وقد سبق في هذا الكتاب تفسير إقامة الصلاة ولا يمتنع إدخال النوافل فيه أيضاً
القيد الثامن قوله تعالى وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّا وَعَلاَنِيَة ً وفيه مسألتان
المسألة الأولى قال الحسن المراد الزكاة المفروضة فإن لم يتهم بترك أداء الزكاة فالأولى أداؤها سراً وإن اتهم بترك الزكاة فالأولى أداؤها في العلانية وقيل السر ما يؤديه بنفسه والعلانية ما يؤديه إلى الأمام وقال آخرون بل المراد الزكاة الواجبة والصدقة التي يؤتى بها على صفة التطوع فقوله سِرّا يرجع إلى التطوع وقوله علانية يرجع إلى الزكاة الواجبة
المسألة الثانية قالت المعتزلة إنه تعالى رغب في الانفاق من كل ما كان رزقاً وذلك يدل على أنه لا رزق إلا الحلال إذ لو كان الحرام رزقاً لكان قد رغب تعالى في إنفاق الحرام وأنه لا يجوز
القيد التاسع قوله صَبَرُواْ وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَة ِ السَّيّئَة َ وفيه وجهان الأول أنهم إذا أتوا بمعصية درؤها ودفعوها بالتوبة كما روى أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال لمعاذ بن جبل ( إذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة تمحها ) والثاني أن المراد أنهم لا يقابلون الشر بالشر بل يقابلون الشر بالخير كما قال تعالى وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً ( الفرقان 72 ) وعن ابن عمر رضي الله عنهما ليس الوصول من وصل ثم وصل تلك المجازاة لكنه من قطع ثم وصل وعطف على من لم يصله وليس الحليم من ظلم ثم حلم حتى إذا هيجه قوم اهتاج لكن الحليم من قدر ثم عفا وعن الحسن هم الذين إذا حرموا أعطوا وإذا ظلموا عفوا ويروى أن شقيق بن إبراهيم البلخي دخل على عبد الله بن المبارك متنكراً فقال من أين أنت فقال من بلخ فقال وهل تعرف شقيقاً قال نعم فقال كيف طريقة أصحابه فقال إذا منعوا صبروا وإن أعطوا شكروا فقال عبد الله طريقة كلابنا هكذا فقال وكيف ينبغي أن يكون فقال الكاملون هم الذين إذا منعوا شكروا وإذا أعطوا آثروا
واعلم أن جملة هذه القيود التسعة هي القيود المذكورة في الشرط أما القيود المذكورة في الجزاء فهي أربعة
القيد الأول قوله أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ أي عاقبة الدار وهي الجنة لأنها هي التي أراد الله أن تكون عاقبة الدنيا ومرجع أهلها قال الواحدي العقبى كالعاقبة ويجوز أن تكون مصدراً كالشورى والقربى والرجعى وقد يجيء مثل هذا أيضاً على فَعلى كالنجوى والدعوى وعلى فِعلى كالذكرى والضيزى ويجوز أن يكون اسماً وهو ههنا مصدر مضاف إلى الفاعل والمعنى أولئك لهم أن تعقب أعمالهم الدار التي هي الجنة
القيد الثاني قوله جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وفيه مسألتان
المسألة الأولى قال الزجاج جنات عدن بدل من عقبى والكلام في جنات عدن ذكرناه مستقصى عند

قوله تعالى وَمَسَاكِنَ طَيّبَة ً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ وذكرنا هناك مذهب المفسرين ومذهب أهل اللغة
المسألة الثانية قرأ ابن كثير وأبو عمرو يَدْخُلُونَهَا بضم الياء وفتح الخاء على ما لم يسم فاعله والباقون بفتح الياء وضم الخاء على إسناد الدخول إليهم
القيد الثالث وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ءابَائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرّيَّاتِهِمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن علية ( صلح ) بضم اللام قال صاحب الكشاف والفتح أفصح
المسألة الثانية قال الزجاج موضع من رفع لأجل العطف على الواو في قوله يَدْخُلُونَهَا ويجوز أن يكون نصباً كما تقول قد دخلوا وزيداً أي مع زيد
المسألة الثالثة في قوله وَمَنْ صَلَحَ قولان الأول قال ابن عباس يريد من صدق بما صدقوا به وإن لم يعمل مثل أعمالهم وقال الزجاج بين تعالى أن الأنساب لا تنفع إذا لم يحصل معها أعمال صالحة بل الآباء والأزواج والذريات لا يدخلون الجنة إلا بالأعمال الصالحة قال الواحدي والصحيح ما قال ابن عباس لأن الله تعالى جعل من ثواب المطيع سروره بحضور أهله معه في الجنة وذلك يدل على أنهم يدخلونها كرامة للمطيع الآتي بالأعمال الصالحة ولو دخلوها بأعمالهم الصالحة لم يكن في ذلك كرامة للمطيع ولا فائدة في الوعد به إذ كل من كان مصلحاً في عمله فهو يدخل الجنة
واعلم أن هذه الحجة ضعيفة لأن المقصود بشارة المطيع بكل ما يزيده سروراً وبهجة فإذا بشر الله المكلف بأنه إذا دخل الجنة فإنه يحضر معه آباؤه وأزواجه وأولاده فلا شك أنه يعظم سرور المكلف بذلك وتقوى بهجته به ويقال إن من أعظم موجبات سروره هم أن يجتمعوا فيتذاكروا أحوالهم في الدنيا ثم يشكرون الله على الخلاص منها والفوز بالجنة ولذلك قال تعالى في صفة أهل الجنة إنهم يقولون قَالَ يالَيْتَ قَوْمِى يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِى رَبّى وَجَعَلَنِى مِنَ الْمُكْرَمِينَ ( يس 26 27 )
المسألة الرابعة قوله وَأَزْواجُهُمْ ليس فيه ما يدل على التمييز بين زوجة وزوجة ولعل الأولى من مات عنها أو ماتت عنه وما روي عن سودة أنه لما هم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بطلاقها قالت دعني يا رسول الله أحشر في زمرة نسائك كالدليل على ما ذكرناه
والقيد الرابع قوله وَالمَلَائِكَة ُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس لهم خيمة من درة مجوفة طولها فرسخ وعرضها فرسخ لها ألف باب مصاريعها من ذهب يدخلون عليهم الملائكة من كل باب يقولون لهم سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ على أمر الله وقال أبو بكر الأصم من كل باب من أبواب البر كباب الصلاة وباب الزكاة وباب الصبر ويقولون ونعم ما أعقبكم الله بعد الدار الأولى
واعلم أن دخول الملائكة إن حملناه على الوجه الأول فهو مرتبة عظيمة وذلك لأن الله تعالى أخبر عن هؤلاء المطيعين أنهم يدخلون جنة الخلد ويجتمعون بآبائهم وأزواجهم وذرياتهم على أحسن وجه ثم إن الملائكة مع جلالة مراتبهم يدخلون عليهم لأجل التحية والإكرام عند الدخول عليهم يكرمونهم بالتحية

والسلام ويبشرونهم بقوله فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ولا شك أن هذا غير ما يذكره المتكلمون من أن الثواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالإجلال والتعظيم وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه كان يأتي قبور الشهداء رأس كل حول فيقول ( السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ) والخلفاء الأربعة هكذا كانوا يفعلون وأما إن حملناه على الوجه الثاني فتفسير الآية أن الملائكة طوائف منهم روحانيون ومنهم كروبيون فالعبد إذا راض نفسه بأنواع الراضيات كالصبر والشكر والمراقبة والمحاسبة ولكل مرتبة من هذه المراتب جوهر قدسي وروح علوي يختص بتلك الصفة مزيد اختصاص فعند الموت إذا أشرقت تلك الجواهر القدسية تجلت فيها من كل روح من الأرواح السماوية ما يناسبها من الصفة المخصوصة بها فيفيض عليها من ملائكة الصبر كمالات مخصوصة نفسانية لا تظهر إلا في مقام الصبر ومن ملائكة الشكر كمالات روحانية لا تتجلى إلا في مقام الشكر وهكذا القول في جميع المراتب
المسألة الثانية تمسك بعضهم بهذه الآية على أن الملك أفضل من البشر فقال إنه سبحانه ختم مراتب سعادات البشر بدخول الملائكة عليهم على سبيل التحية والإكرام والعظيم فكانوا به أجل مرتبة من البشر ولو كانوا أقل مرتبة من البشر لما كان دخولهم عليهم لأجل السلام والتحية موجباً علو درجاتهم وشرف مراتبهم ألا ترى أن من عاد من سفره إلى بيته فإذا قيل في معرض كمال مرتبته أنه يزوره الأمير والوزير والقاضي والمفتي فهذا يدل على أن درجة ذلك المزور أقل وأدنى من درجات الزائرين فكذلك ههنا
المسألة الثالثة قال الزجاج ههنا محذوف تقديره الملائكة يدخلون عليهم من كل باب ويقولون سلام عليكم فأضمر القول ههنا لأن في الكلام دليلاً عليه وأما قوله بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ففيه وجهان أحدهما أنه متعلق بالسلام والمعنى أنه إنما حصلت لكم هذه السلامة بواسطة صبركم على الطاعات وترك المحرمات والثاني أنه متعلق بمحذوف والتقدير أن هذه الكرامات التي ترونها وهذه الخيرات التي تشاهدونها إنما حصلت بواسطة ذلك الصبر
وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِى الأرض أُوْلَائِكَ لَهُمُ اللَّعْنَة ُ وَلَهُمْ سُو ءُ الدَّارِ
اعلم أنه تعالى لما ذكر صفات السعداء وذكر ما ترتب عليها من الأحوال الشريفة العالية أتبعها بذكر حال الأشقياء وذكر ما يترتب عليها من الأحوال المخزية المكروهة وأتبع الوعد بالوعيد والثواب بالعقاب ليكون البيان كاملاً فقال وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وقد بينا أن عهد الله ما ألزم عباده بواسطة الدلائل العقلية والسمعية لأنها أوكد من كل عهد وكل يمين إذ الأيمان إنما تفيد التوكيد بواسطة الدلائل الدالة على أنها توجب الوفاء بمقتضاها والمراد من نقض هذه العهود أن لا ينظر المرء في الأدلة أصلاً فحينئذ لا يمكنه العمل بموجبها أو بأن ينظر فيها ويعلم صحتها ثم يعاند فلا يعمل بعمله أو بأن ينظر في الشبهة فيعتقد

خلاف الحق والمراد من قوله مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ أي من بعد أن وثق الله تلك الأدلة وأحكمها لأنه لا شيء أقوى مما دل الله على وجوبه في أن ينفع فعله ويضر تركه
فإن قيل إذا كان العهد لا يكون إلا مع الميثاق فما فائدة اشتراطه تعالى بقوله مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ
قلنا لا يمتنع أن يكون المراد بالعهد هو ما كلف الله العبد والمراد بالميثاق الأدلة المؤكدة لأنه تعالى قد يؤكد إليك العهد بدلائل أخرى سواء كانت تلك المؤكدة دلائل عقلية أو سمعية
ثم قال تعالى وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ ( الرعد 21 ) وذلك في مقابلة قوله وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ فجعل من صفات هؤلاء القطع بالضد من ذلك الوصل والمراد به قطع كل ما أوجب الله وصله ويدخل فيه وصل الرسول بالموالاة والمعاونة ووصل المؤمنين ووصل الأرحام ووصل سائر من له حق ثم قال وَيُفْسِدُونَ فِى الاْرْضِ وذلك الفساد هو الدعاء إلى غير دين الله وقد يكون بالظلم في النفوس والأموال وتخريب البلاد ثم إنه تعالى بعد ذكر هذه الصفات قال أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَة ُ واللعنة من الله الإبعاد من خيري الدنيا والآخرة إلى ضدهما من عذاب ونقمة وَلَهُمْ سُوء الدَّارِ لأن المراد جهنم وليس فيها إلا ما يسوء الصائر إليها
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ وَفَرِحُواْ بِالْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَواة ُ الدُّنْيَا فِى الاٌّ خِرَة ِ إِلاَّ مَتَاعٌ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءَايَة ٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَأابٍ كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِى أُمَّة ٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَآ أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَانِ قُلْ هُوَ رَبِّى لا إله إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرض أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل للَّهِ الاٌّ مْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَاْيْأسِ الَّذِينَ ءَامَنُوا أَن لَّوْ يَشَآءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَة ٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِى َ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ وَلَقَدِ اسْتُهْزِى ءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِى الأرض أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدُّواْ عَنِ السَّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ لَّهُمْ عَذَابٌ فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الاٌّ خِرَة ِ أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ مَّثَلُ الْجَنَّة ِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ
اعلم أنه تعالى لما حكم على من نقض عهد الله في قبول التوحيد والنبوة بأنهم ملعونون في الدنيا ومعذبون في الآخرة فكأنه قيل لو كانوا أعداء الله لما فتح الله عليهم أبواب النعم واللذات في الدنيا فأجاب الله تعالى عنه بهذه الآية وهو أنه يبسط الرزق على البعض ويضيقه على البعض ولا تعلق له بالكفر والإيمان فقد يوجد الكافر موسعاً عليه دون المؤمن ويوجد المؤمن مضيقاً عليه دون الكافر فالدنيا دار امتحان قال الواحدي معنى القدر في اللغة قطع الشيء على مساواة غيره من غير زيادة ولا نقصان وقال المفسرون معنى ( يقدر ) ههنا يضيق ومثله قوله تعالى وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ ( الطلاق 7 ) أي ضيق ومعناه أنه يعطيه بقدر كفايته لا يفضل عنه شيء
وأما قوله وَفَرِحُواْ بِالْحَيَواة ِ الدُّنْيَا فهو راجع إلى من بسط الله له رزقه وبين تعالى أن ذلك لا يوجب الفرح لأن الحياة العاجلة بالنسبة إلى الآخرة كالحقير القليل بالنسبة إلى ما لا نهاية له

قوله تعالى
ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب
اعلم أن الكفار قالوا يا محمد إن كنت رسولا فأتنا بآية ومعجزة قاهرة ظاهرة مثل معجوات موسى وعيسى عليهما السلام
فأجاب عن هذا السؤال بقوله قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب وبيان كيفية هذا الجواب من وجوه أحدها كأنه تعالى يقول إن الله أنزل عليه آيات ظاهرة ومعجزات قاهرة ولكن الاضلال والهداية من الله فأضلكم عن تلك الآيات القاهرة الباهرة وهدى أقواما آخرين إليها حتى عرفوا بها صدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في دعوى النبوة وإذا كان كذلك فلا فائدة في تكثير الآيات والمعجزات وثانيها أنه كلام يجري مجرى التعجب من قولهم وذلك لأن الآيات الباهرة المتكاثرة التي ظهرت على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كانت أكثر من أن تصير مشتبهة على العاقل فلما طلبوا بعدها آيات أخرى كان موضعا للتعجب والاستنكار فكأنه قيل لهم ما أعظم عنادكم إن الله يضل من يشاء من كان عل صفتكم وثالثها أنهم لما طلبوا سائر الآيات والمعجزات فكأنه قيل لهم لا فائدة من ظهور الآيات والمعجزات فإن الإضلال والهداية من الله فلو حصلت الآيات الكثيرة ولم تحصل الهداية فإنه لم يحصل الانتفاع بها ولو حصلت آية واحدة فقط وحصلت الهداية من الله فإنه يحصل الانتفاع بها فلا تشتغلوا بطلب الآيات ولكن تضرعوا إلى الله في طلب الهدايات ورابعها قال أبو علي الجبائي المعنى أن الله يضل من يشاء عن رحمته وثوابه عقوبة له على كفره فلستم ممن يجيبه الله تعالى إلى ما يسأل لاستحقاقكم العذاب والإضلال عن الثواب ويهدي إليه من أناب أي يهدي إلى جنته من تاب وآمن قال وهذا يبين أن الهدى هو الثواب من حيث انه عقبه بقوله من أناب أي تاب والهدى الذي يفعله بالمؤمن هو الثواب لأنه يستحقه على إيمانه وذلك يدل على أنه تعالى إنما يضل عن الثواب بالعقاب لا عن الدين بالكفر على ما ذهب إليه من خالفنا هذا تمام كلام أبي علي وقوله أناب أي اقبل إلى الحق وحقيقته دخل في نوبة الخير
قوله تعالى الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب
اعلم أن قوله الذين آمنوا بدل من قوله من أناب قال ابن عباس يريد إذا سمعوا القرآن خشعت قلوبهم واطمأنت
فإن قيل أليس أنه تعالى قال في سورة الأنفال إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم الأنفال 2 والوجل ضد الاطمئنان فكيف وصفهم ههنا بالاطمئنان
والجواب من وجوه الأول أنهم إذا ذكروا العقوبات ولم يأمنوا من أن يقدموا على المعاصي فهناك وصفهم بالوجل وإذا ذكروا بوعده بالثواب والرحمة سكنت قلوبهم إلى ذلك وأحد الأمرين لا ينافي الآخر لأن الوجل هو بذكر العقاب والطمأنينة بذكر الثواب ويوجد الوجل في حال فكرهم في المعاصي وتوجد الطمأنينة عند اشتغالهم بالطاعات الثاني أن المراد أن علمهم بكون القرآن معجزا يوجب حصول

الطمأنينة لهم في كون محمد ( صلى الله عليه وسلم ) نبيا حقا من عند الله أما شكلهم في أنهم أتوا بالطاعات على سبيل التمام والكمال فيوجب حصول الوجل في قلوبهم الثالث أنه حصلت في قلوبهم الطمأنينة في أن الله تعالى صادق في وعده ووعيده وأن محمدا ( صلى الله عليه وسلم ) صادق في كل ما أخبر عنه إلا أنه حصل الوجل والخوف في قلوبهم انهم هل أتوا بالطاعة الموجبة للثواب أم لا وهل احترزوا عن المعصية الموجبة للعقاب أم لا
واعلم أن لنا في قوله ألا بذكر الله تطمئن القلوب أبحاثا دقيقة غامضة وهي من وجوه
الوجه الأول أن الموجودات على ثلاثة أقسام مؤثر لا يتأثر ومتأثر لا يؤثر وموجود يؤثر في شيء ويتأثر في شيء فالمؤثر الذي لا يتأثر هو الله سبحانه وتعالى والمتأثر الذي لا يؤثر هو الجسم فإنه ذات قابلة للصفات المختلفة والآثار المتنافية وليس له خاصية إلا القبول فقط وأما الموجود الذي يؤثر تارة ويتأثر تارة أخرى فهي الموجودات الروحانية وذلك لأنها إذا توجهت إلى الحضرة الإلهية صارت قابلة للآثار الفائضة عن مشيئة الله تعالى وقدرته وتكوينه وإيجاده وإذا توجهت إلى عالم الأجسام اشتاقت إلى التصرف فيها لأن عالم الأرواح مدبر لعالم الأجسام
وإذا عرفت هذا فالقلب كلما توجه إلى مطالعة عالم الأجسام حصل فيه الاضطراب والقلق والميل الشديد إلى الاستيلاء عليها والتصرف فيها أما إذا توجه القلب إلى مطالعة الحضرة الإلهية حصل فيه أنوار الصمدية والأضواء الإلهية فناك يكون ساكنا فلهذا السبب قال ألا بذكر الله تطمئن القلوب
الوجه الثاني أن القلب كلما وصل إلى شيء فإنه يطلب الانتقال منه إلى حالة أشرف منها لأنه لا سعادة في عالم الأجسام إلا وفوقها مرتبة أخرى في اللذة والغبطة أما إذا انتهى القلب والعقل إلى الاستسعاد بالمعارف الإلهية والأضواء الصمدية بقي واستقر فلم يقدر على الانتقال منه البتة لأنه ليس هناك درجة أخرى في السعادة أعلى منها وأكمل فلهذا المعنى قال ألا بذكر الله تطمئن القلوب
والوجه الثالث في تفسير هذه الكلمة أن الاكسير إذا وقعت منه ذرة على الجسم النحاسي انقلب ذهبا باقيا على كر الدهور والأزمان صابرا على الذوبان الحاصل بالنار فإكسير جلال الله تعالى إذا وقع في القلب أولى أن يقلبه جوهرا باقيا صافيا نورانيا لا يقبل التغير والتدبل فلهذا قال ألا بذكر الله تطمئن القلوب
ثم قال تعالى
الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب
المسألة الأولى في تفسير كلمة طوبى ثلاثة أقوال القول الأول أنها اسم شجرة في الجنة روي عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال { طوبى شجرة في الجنة غرسها الله بيده تنبت الحلي والحلل وأن أغصانها لترى من وراء سور الجنة } وحكى أبو بكر الأصم رضي الله عنه أن أصل هذه الشجرة في دار النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وفي دار كل مؤمن منها غصن
والقول الثاني وهوقول أهل اللغة أن طوبى مصدر من طاب كبشرى وزلفى ومعنى طوبى لك أصبت طيبا ثم اختلفوا على وجوه فقيل فرح وقرة عين لهم عن ابن عباس رضي الله عنهما وقيل نعم

ما لهم عن عكرمة وقيل غبطة لهم عن الضحاك وقيل حسن لهم عن قتادة وقيل خير وكرامة عن أبي بكر الأصم وقيل العيش الطيب لهم عن الزجاج
واعلم أن المعاني متقاربة والتفاوت يقرب من أن يكون في اللفظ والحاصل أنه مبالغة في نيل الطيبات ويدخل فيه جميع اللذات وتفسيره أن أطيب الأشياء في كل الأمور حاصل لهم
والقول الثالث أن هذه اللفظة ليست عربية ثم اختلفوا فقال بعضهم طوبى اسم الجنة بالحبشية وقيل اسم الجنة بالهندية وقيل البستان بالهندية وهذا القول ضعيف لأنه ليس في القرآن إلا العربي لا سيما واشتقاق هذا اللفظ من اللغة العربية ظاهر
المسألة الثانية قال صاحب الكشاف الذين آمنوا مبتتدأ و طوبى لهم خبره ومعنى طوبى لك أي أصبت طيبا ومحلها النصب أو الرفع كقولك طيبا لك زطيب لك وسلاما لم وسلام لك والقراءة في قوله وحسن مآب بالرفع والنصب تدلك على محلها وقرأ مكوزة الأعرابي طيبى لهم
أما قوله وحسن مآب فالمراد حسن المرجع والمقر وكل ذلك وعد من الله بأعظم النعيم ترغيبا في طاعته وتحذيرا عن المعصية قوله تعالى
كذلك أرسلنا في أمة قد خلت من قبلها الأمم لتتلوا عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب
اعلم أن الكاف في كذلك للتشبيه فقيل أرسلناك كما أرسلنا الأنبياء قبلك في أمة قد خلت من قبلها أمم وهو قول ابن عباس والحسن وقتادة وقيل كما أرسلنا إلى أمم وأعطيناهم كتبا تتلى عليهم كذلك أعطيناك هذا الكتاب وأنت تتلوه عليهم فماذا اقترحوا غيره وقال صاحب الكشاف كذلك أرسلناك أي مثل ذلك الإرسال أرسلناك يعني أرسلناك إرسالا له شأن وفضل على سائر الإرسالات ثم فسر كيف أرسله فقال في أمة قد خلت من قبلها أمم أي أرسلناك في أمة قد تقدمتها أمم فهي آخر الأمم وأنت آخر الأنبياء
أما قوله لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك فالمراد لتقرأ عليهم الكتاب العظيم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن أي وحال هؤلاء أنهم يكفرون بالرحمن الذي رحمته وسعت كل شيء وما بهم من نعمة فمنه وكفروا بنعمته في إرسال مثلك إليهم وإنزال هذا القرآن المعجز عليهم قل هو ربي الواحد المتعال عن الشركاء لا إله إلا هو عليه توكلت في نصرتي عليكم وإليه متاب فيعينني على مصابرتكم زمجاهدتكم قيل نزل قوله وهم يكفرون بالرحمن في عبد الله بن أمية المخزومي وكان يقول أما الله فنعرفه وأما الرحمن فلا نقول نعرفه إلا صاحب اليمامة يعنون مسيلمة الكذلب فقال تعالى قل ادعوا أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى الإسراء 110 وكقوله وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن الفرقان 60

وقيل إنه عليه السلام حين صالح قريشا من الحديبية كتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله فقال المشركون إن كنت رسول الله وقد قاتلناك فقد ظلمنا ولكن اكتب هذا ما صالح عليه محمد عبد الله فكتب كذلك ولما كتب في الكتاب بسم الله الرحمن الرحيم قالوا أما الرحمن فلا نعرفه وكانوا يكتبون باسمك اللهم فقال عليه السلام { اكتبوا كما تريدون }
واعلم أنه قوله وهم يكفرون بالرحمن إذا حملناه على هاتين الروايتين كان معناه أنهم كفروا بإطلاق هذا الإسم على الله تعالى لا أنهم كفروا بالله تعالى وقال آخرون بل كفروا بالله إنا جحدا له وإما لإثباتهم الشركاء معه قال القاضي وهذا القول أليق بالظاهر لأن قوله تعالى وهم يكفرون بالرحمن يقتضي أنهم كفروا بالله قال القاضي هذا القول أليق بالظاهر لأن قوله تعالى وهم يكفرون بالرحمن يقتضي أنهم كفروا بالله وهو المفهوم من الرحمن وليس المفهوم منه الاسم كما لو قال قائل كفروا بمحمد وكذبوا به لكان المفهوم هو دون اسمه
ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد
اعلم أنه روي أن أهل مكة قعدوا في فناء مكة فأتاهم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وعرض الإسلام عليهم فقال له عبد الله بن أمية المخزومي سير لنا جبال مكة حتى ينفسح المكان علينا واجعل لنا فيها أنهارا نزرع فيها - أو أحي لنا بعض أموالنا لنسألهم أحق ما تقول أو باطل فقد كان عيسى يحيي الموتى أو سخر لنا الريح حتى نركبها ونسير في البلاد فقد كانت الريح مسخرة لسليمان فلست بأهون على ربك من سليمان فنزل قوله ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أي من أماكنها أو قطعت به الأرض أي شققت فجعلت أنهارا وعيونا أو كلم به الموتى لكان هو هذا القرآن الذي أنزلناه عليك وحذف جواب لو لكونه معلوما وقال الزجاج المحذوف هو أنه لو أن قرآنا سيرت به الجبال وكذا وكذا لما آمنوا به كقوله ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى الأنعام 111
ثم قال تعالى بل لله الأمر جميعا يعني إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل وليس لأحد أن يتحكم عليه في أفعاله وأحكامه
ثم قال تعالى أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا وفيه مسألتان
المسألة الأولى في قوله أفلم ييأس قولان

القول الأول أفلم يعلموا وعلى هذا التقدير ففيه وجهان
الوجه الأولك ييأس يعلم في لغة النخع وهذا قول أكثر المفسرين مثل مجاهد والحسن وقتادة واحتجوا عليه بقول الشاعر ألم ييأس الأقوام أني أنا ابنه
وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا
وأنشد أبو عبيدة أقول لهم بالشعب إذ يأسرونني
ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم
أي ألم تعلموا وقال الكسائي ما وجدت العرب يئست بمعنى علمت البتة
والوجه الثاني ما روي ان عليا وابن عباس كانا يقرآن أفلم يأس الذين آمنوا فقيل لابن عباس أفلم ييأس فقال أظن أن الكاتب كتبها وهو ناعس إنه كان في الخط يأس فزاد الكاتب سنة واحدة فصار ييأس فقرئ ييأس وهذا القول بعيد جدا لأنه يقتضي كون القرآن محلا للتحريف والتصحيف وذلك يخرجه عن كونه حجة قال صاحب الكشاف ما هذا القول والله إلا فرية بلا مرية
والقول الثاني قال الزجاج المعنى أو يئس الذين آمنوا من إيمان هؤلاء لأن الله لو شاء لهدى الناس جميعا وتقريره أن العلم بأن الشيء لا يكون يوجب اليأس من كونه والملازمة توجب حسن المجاز فلهذا السبب حسن إطلاق لفظ اليأس لإرادة العلم
المسألة الثانية احتج أصحابنا بقوله أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا وكلمة لو تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره والمعنى أنه تعالى ما شاء هداية جميع الناس والمعتزلة تارة يحملون هذه المشيئة على مشيئة الإلجاء وتارة يحملون الهداية على الهداية إلى طريق الجنة وفيهم من يجري الكلام على الظاهر ويقول إنه تعالى ما شاء هداية جميع الناس لأنه ما شاء هدابة الأطفال والمجانين فلا يكون شائيا لهداية جميع الناس والكلام في هذه المسألة قد سبق مرارا
أما قوله تعالى ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دراهم ففيه مسألتان
المسألة الأولى قوله الذين كفروا فيه قولان
القول الأول قيل أراد به جميع الكفار لأن الوقائع الشديدة التي وقعت لبعض الكفار من القتل والسبي أوجب حصول الغم في قلب الكل وقيل أراد بعض الكفار وهم جماعة معينون والألف واللام في لفظ الكفار للمعهود السابق وهو ذلك الجمع المعين
المسألة الثانية في الآية وجهان الأول ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا من كفرهم وسوء أعمالهم قارعة داهية تقرعهم بما يحل الله بهم في كل وقت من صنوف البلايا والمصائب في نفوسهم وأولادهم وأموالهم أو تحل القارعة قريبا منهم فيفزعون ويضطربون ويتطاير إليهم شرارهم ويتعدى إليهم شرورها حتى يأتي وعد الله وهو موتهم أو القيامة

والقول الثاني ولا يزال كفار مكة تصيبهم بما صنعوا برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من العداوة والتكذيب قارعة لأن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان لا يزال يبعث السرايا فتغير حول مكة وتختطف منهم وتصيب مواشيهم أو تحل أنت يا محمد قريبا من دراهم بجيشك كما حل بالحديبية حتى يأتي وعد الله وهو فتح مكة وكان الله قد وعده ذلك
ثم قال إن الله لا يخلف الميعاد والغرض منه تقوية قلب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وإزالة الحزن عنه قال القاضي وهذا يدل على بطلان قول من يجوز الخلف على الله تعالى في ميعاده وهذه الآية وإن كانت واردة في حق الكفار إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب إذ بعمومه يتناول كل وعيد ورد في حق الفساق
وجوابنا أن الحلف غيرن وتخصيص العموم غير ونحن لا نقول بالخلف ولكنا نخصص عمومات الوعيد بالآيات الدالة على العفو
وقوله تعالى
ولقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم فكيف كان عقاب أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت وجعلوا لله شركاء قل سموهم أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض أم بظاهر من القول بل زين للذين كفروا مكرهم وصدوا عن السبيل ومن يضلل الله فما له من هاد لهم عذاب في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أش وما لهم من واق
اعلم أن القول لما طلبوا سائر المعجزات من الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) على سبيل الاستهزاء والسخرية وكان ذلك يشق على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وكان يتأذى من تلك الكلمات فالله تعالى أنزل هذه الآية تسلية له وتصبيرا له على سفاهة قومه فقال له إن أقوام سائر الأنبياء استهزؤا بهم كمت أن قومك يستهزئون بك فأمليت للذين كفروا أي أطلت لهم المدة بتأخير العقوبة ثم أخذتهم فكيف كان عقابي لهم
واعلم أني سأنتقم من هؤلاء الكفار كما انمتقمت من أولئك المتقدمين والإملاء الإمهال وأن يتركوا مدة من الزمان في خفض وأمن كالبهيمة يملى لها في المرعى وهذا وعيد لهم وجواب عن اقتراحهم الآيات على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على سبيل الاستهزاء ثم إنه تعالى أورد على المشركين ما يجري مجرى الحجاج وما يكون توبيخا لهم وتعجيبا من عقولهم فقال أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت والمعنى أنه تعالى قادر على كل الممكنات عالم بجميع المعلومات من الجزيئات والكليات وإذا كان كذلك كان عالما بجميع أحوال النفوس وقادرا على تحصيل مطالبها من تحصيل المنافع ودفع المضار ومن إيصال الثواب إليها على كل الطاعات وإيصال العقاب إليها على كل المعاصي وهذا هو المراد من قوله قائم على كل نفس بما كسبت وما ذاك إلا الحق سبحانه ونظيره قوله تعالى قائما بالقسط آل عمران 18

واعلم أنه لا بد لهذا الكلام من جواب واختلفوا فيه على وجوه
الوجه الأول التقدير أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت كمن ليس بهذه الصفة وهي الأصنام التي لا تنفع ولا تضر وهذا الجواب مضمر في قوله تعالى وجعلوا لله شركاء والتقدير أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت كشركائهم التي لا تضر ولا تنفع ونظيره قوله تعالى أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور ربه الزمر 22 وما جاء جوابه لأنه مضمر في قوله فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله الزمر 22 فكذا ههنا قال صاحب الكشاف يجوز أن يقدر ما يقع خبرا للمبتدأ أو يعطف عليه قوله وجعلوا والتقدير أفمن هو بهذه الصفة لم يوحدوه ولم يمجدوه وجعلوا له شركاء
الوجه الثاني وهو الذي ذكره السيد صاحب حل العقد فقال نجعل الواو في قوله وجعلوا واو الحال ونضمر للمبتدأ خبرا يكون المبتدأ معه جملة مقررة لإمكان ما يقارنها من الحال والتقدير أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت موجود والحال أنهم جعلوا له شركاء ثم أقيم الظاهر وهو قوله لله مقام المضمر تقريرا للإلهية وتصريحا بها وهذا كما تقول جواد يعطي الناس ويغنيهم موجود ويحرم مثلي
واعلم أنه تعالى لما قرر هذه الحجة زاد في الحجاج فقال قل سموهم وإنما يقال ذلك في الأمر المستحقر الذي بلغ في الحقارة إلى أن لا يذكروا ولا يوضع له اسم فعند ذلك يقال سمه إن شئت يعني أنه أخس من أن يسمى ويذكر ولكنك إن شئت أن تضع له اسما فافعل فكأنه تعالى قال سموهم بالآلهة على سبيل التهديد والمعنى سواء سميتموهم بهذا الاسم أو لم تسموهم به فإنها في الحقارة بحيث لا تستحق أن يلتفت العاقل إليها ثم زاد في الحجاج فقال أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض والمراد أتقدرون على أن تخبروه وتعلموه بأمر تعلمونه وهو لا يعلمه وإنما خص الأرض بنفي الشريك عنها وإن لم يكن شريك البتة لأنهم ادعوا أن له شركاء في الأرض لا في غيرها أم بظاهر من القول يعني تموهون بإظهار قول لا حقيقة له وهو كقوله تعالى ذلك قولهم بأفواههم التوبة 30 ثم إنه تعالى بين بعد هذا الحجاج سوء طريقتهم فقال على وجه التحقير لما هم عليه بل زين للذين كفروا مكرهم قال الواحدي معنى بل ههنا كأنه يقول دع ذكر ما كنا فيه زين لهم مكرهم وذلك لأنه تعالى لما ذكر الدلائل على إفساد قولهم فكأنه يقول دع ذكر الدليل فإنه لا فائدة فيه لأنه زين لهم كفرهم ومكرهم فلا ينتفعون بذكر هذه الدلائل قال القاضي لا شبهة في أنه تعالى إنما ذكر ذلك لأجل أن يذمهم به وإذا كان كذلك امتنع أن يكون ذلك المزين هو الله بل لا بد وأن يكون إما شياطين الإنس وإما شياطين الجن
واعلم أن هذا التأويل ضعيف لوجوه الأول أنه لو كان المزين أحد شياطين الجن أو الأنس فالمزين في قلب ذلك الشيطان إن كان شيطانا آخر لزم التسلسل وإن كان هو الله فقد زال السؤال والثاني أن يقال القلوب لا يقدر عليها إلا الله والثالث أنا قد دللنا على أن ترجيح الداعي لا يحصل إلا من الله تعالى وعند حصوله يجب الفعل
أما قوله وصدوا عن السبيل فاعلم أنه قرأ عاصم وحمزة والكسائي وصدوا بضم الصاد وفي حم وصد عن السبيل غافر 37 على ما لم يسم فاعله بمعنى أن الكفار صدهم غيرهم وعند أهل السنة أن الله صدهم وللمعتزلة فيه وجهان قيل الشيطان وقيل أنفسهم وبعضهم لبعض كما يقال فلان معجب وإن

لم يكن ثمة غيره وهو قول أبي مسلم والباقون وصدوا بفتح الصاد في السورتين يعني أن الكفار صدوا عن سبيل الله أي أعرضوا وقيل صرفوا غيرهم وهو لازم ومتعد وحجة القراءة الأولى مشاكلتها لما قبلها من بناء الفعل للمفعول وحجة القراءة الثانية قوله الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله
ثم قال ومن يضلل الله فما له من هاد اعلم أن أصحابنا تمسكوا بهذه الآية من وجوه أولها قوله بل زين للذين كفروا مكرهم وقد بينا بالدليل أن ذلك المزين هو الله وثانيها قوله وصدوا عن البسيل بضم الصاد وقد بينا أن ذلك الصاد هو الله وثالثها قوله ومن يضلل الله فما له من هاد وهو صريح في المقصود وتصريح بأن ذلك المزين وذلك الصاد ليس إلا الله ورابعها قوله تعالى لهم عذاب في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أشق أخبر عنهم أنهم سيقعون في عقاب الآخرة وإخبار الله ممتنع التغير وإذا امتنع وقوع التغير في هذا الخبر امتنع صدور اٌ يمان منه وكل هذه الوجوه لقد لخصناها في هذا الكتاب مرارا قال القاضي من يضلل الله أي عن ثواب الجنة لكفره وقوله فما له من هاد منبئ بذلك أن الثواب لا ينال إلا بالطاعة خاصة فمن زاغ عنها لم يجد إليها سبيلا وقيل المراد بذلك من حكم بأنه ضال وسماه ضالا وقيل المراد من يضلله الله عن الإيمان بأن يجده كذلك ثم قال والوجه الأول أقوى
واعلم أن الوجه الأول ضعيف جدا لأن الكلام إنما وقع في شرح إيمانهم وكفرهم في الدنيا ولم يجر ذكر ذهابهم إلى الجنة البتة فصرف الكلام عن المذكور إلى غير المذكور بعيد وأيضا فهب أن نساعد على أن الأمر كما ذكرووه إلا أنه تعالى لما أخبر أنهم لا يدخلون الجنة فقد حصل المقصود لأن خلاف معلوم الله ومخبره محال ممتنع الوقوع
واعلم أنه تعالى لما أخبر عنهم بتلك الأمور المذكورة بين أنه جمع لهم بين عذاب الدنيا وبين عذاب الآخرة الذي هو أشق وأنه لا دافع لهم عنه لا في الدنيا ولا في الآخرة أما عذاب الدنيا فبالقتل والقتال واللعن والذم والإهانة وهل ديخل المصائب والأمراض في ذلك أم لا اختلفوا فيه قال بعضهم إنها تدخل فيه وقال بعضهم إنها تكون عقابا لأن كل أحد نزلت به مصيبة فإنه مأمور بالصبر عليها ولو كان عقابا لم يجب ذلك فالمراد على هذا القول من الآية القتل والسبي واغتنام الأموال واللعن وإنما قال ولعذاب الآخرة أشق لأنه أزيد إن شئت بسبب القوة والشدة وإن شئت بسبب كثرة الأنواع وإن شئت بسبب أنه لا يختلط بها شيء من موجبات الراحة وإن شئت بسبب الدوام وعدم الانقطاع ثم بين بقوله وما لهم من الله من واق أي أن أحدا لا يقيهم ما نزل بهم من عذاب الله قال الواحدي أكثر القراء وقفوا على القاف من غير إثبات ياء في قوله واق وكذلك في قوله ومن يضلل الله فما له من هاد وكذلك في قوله وال الرعد 1 وهو الوجه لأنك تقول في الوصل هذا هاد ووال وواق فتحذف الياء لسكونها والتقائها مع التنوين فإذا وقفت انحذفت التنوين في الوقف في الرفع والجر والياء كانت انحذفت فيصادف الوقف الحركة التي هي كسرة في غير فاعل فتحذفها كما تحذف سائر الحركات التي تقف عليها فيصير هاد ووال وواق وكان ابن كثير يقف بالياء في هاجي ووالي وواقي ووجهه ما حكى سيبويه أن بعض من يوثق به من العرب يقول هذا داعي فيقفون بالياء

قوله تعالى
مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما ذكر عذاب الكفار في الدنيا والآخرة أتبعه بذكر ثواب المتقين وفي قوله مثل الجنة أقوال الأول قال سيبويه مثل الجنة مبتدأ وخبره محذوف والتقدير فيما قصصنا عليكم مثل الجنة والثاني قال الزجاج مثل الجنة من صفتها كذا وكذا والثالث مثل الجنة مبتدأ وخبره تجري من تحتها الأنهار كما تقول صفة زيد اسم والرابع الخبر هو قوله أكلها دائم لأنه الخارج عن العادة كأنه قال مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار كما تعلمون من حال جناتكم إلا أن هذه أكلها دائم
المسألة الثانية اعلم أنه تعالى وصف الجنة بصفات ثلاث أولها تجري من تحتها الأنهار وثانيها أن أكلها دائم والمعنى أن جنات الدنيا لا يدوم ورقها وثمرها ومنافعها أما جنات الآخرة فثمارها دائمة غير منقطعة وثالثها أن ظلها دائم أيضاً والمراد أنه ليس هناك حر ولا برد ولا شمس ولا قمر ولا ظلمة ونظيره قوله تعالى لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً ( الإنسان 13 ) ثم إنه تعالى لما وصف الجنة بهذه الصفات الثلاثة بين أن ذلك عقبى الذين اتقوا يعني عاقبة أهل التقوى هي الجنة وعاقبة الكافرين النار وحاصل الكلام من هذه الآية أن ثواب المتقين منافع خالصة عن الشوائب موصوفة بصفة الدوام
واعلم أن قوله أُكُلُهَا دَائِمٌ فيه مسائل ثلاث
المسألة الأولى أنه يدل على أن أكل الجنة لا تفنى كما يحكى عن جهم وأتباعه
المسألة الثانية أنه يدل على أن حركات أهل الجنة لا تنتهي إلى سكون دائم كما يقوله أبو الهذيل وأتباعه
المسألة الثالثة قال القاضي هذه الآية تدل على أن الجنة لم تخلق بعد لأنها لو كانت مخلوقة لوجب أن تفنى وأن ينقطع أكلها لقوله تعالى كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ( الرحمن 26 ) و كُلُّ شَى ْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ( القصص 88 ) لكن لا ينقطع أكلها لقوله تعالى أُكُلُهَا دَائِمٌ فوجب أن لا تكون الجنة مخلوقة ثم قال فلا ننكر أن يحصل الآن في السموات جنات كثيرة يتمتع بها الملائكة ومن يعد حياً من الأنبياء والشهداء وغيرهم على ما روي في ذلك إلا أن الذي نذهب إليه أن جنة الخلد خاصة إنما تخلق بعد الإعادة
والجواب أن دليلهم مركب من آيتين أحدهما قوله كُلُّ شَى ْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ والأخرى قوله أُكُلُهَا دَائِمٌ وِظِلُّهَا فإذا أدخلنا التخصيص في أحد هذين العمومين سقط دليلهم فنحن نخصص أحد هذين العمومين بالدلائل الدالة على أن الجنة مخلوقة وهو قوله تعالى وَجَنَّة ٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ( آل عمران 133 )

وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الاٌّ حْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ
اعلم أن في المراد بالكتاب قولين الأول أنه القرآن والمراد أن أهل القرآن يفرحون بما أنزل على محمد من أنواع التوحيد والعدل والنبوة والبعث والأحكام والقصص ومن الأحزاب الجماعات من اليهود والنصارى وسائر الكفار من ينكر بعضه وهو قول الحسن وقتادة
فإن قيل الأحزاب ينكرون كل القرآن
قلنا الأحزاب لا ينكرون كل ما في القرآن لأنه ورد فيه إثبات الله تعالى وإثبات علمه وقدرته وحكمته وأقاصيص الأنبياء والأحزاب ما كانوا ينكرون كل هذه الأشياء
والقول الثاني إن المراد بالكتاب التوراة والإنجيل وعلى هذا التقدير ففي الآية قولان الأول قال ابن عباس الذين آتيناهم الكتاب هم الذين آمنوا بالرسول ( صلى الله عليه وسلم ) من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وكعب وأصحابهما ومن أسلم من النصارى وهم ثمانون رجلاً أربعون بنجران وثمانية باليمن واثنان وثلاثون بأرض الحبشة وفرحوا بالقرآن لأنهم آمنوا به وصدقوه والأحزاب بقية أهل الكتاب وسائر المشركين قال القاضي وهذا الوجه أولى من الأول لأنه لا شبهة في أن من أوتي القرآن فإنهم يفرحون بالقرآن أما إذا حملناه على هذا الوجه ظهرت الفائدة ويمكن أن يقال إن الذين أوتوا القرآن يزداد فرحهم به لما رأوا فيه من العلوم الكثيرة والفوائد العظيمة فلهذا السبب حكى الله تعالى فرحهم به والثاني والذين آتيناهم الكتاب اليهود أعطوا التوارة والنصارى أعطوا الإنجيل يفرحون بما أنزل في هذا القرآن لأنه مصدق لما معهم ومن الأحزاب من سائر الكفار من ينكر بعضه وهو قول مجاهد قال القاضي وهذا لا يصح لأن قوله يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ يعم جميع ما أنزل إليه ومعلوم أنهم لا يفرحون بكل ما أنزل إليه ويمكن أن يجاب فيقال إن قوله بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ لا يفيد العموم بدليل جواز ادخال لفظتي الكل والبعض عليه ولو كانت كلمة ( ما ) للعموم لكان إدخال لفظ الكل عليه تكريراً وإدخال لفظ البعض عليه نقصاً ثم إنه تعالى لما بين هذا جمع كل ما يحتاج المرء إليه في معرفة المبدأ والمعاد في ألفاظ قليلة منه فقال قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَابِ وهذا الكلام جامع لكل ما ورد التكليف به وفيه فوائد أولها أن كلمة ( إنما ) للحصر ومعناه إني ما أمرت إلا بعبادة الله تعالى وذلك يدل على أنه لا تكليف ولا أمر ولا نهي إلا بذلك وثانيها أن العبادة غاية التعظيم وذلك يدل على أن المرء مكلف بذلك وثالثها أن عبادة الله تعالى لا تمكن إلا بعد معرفته ولا سبيل إلى معرفته إلا بالدليل فهذا يدل على أن المرء مكلف بالنظر والاستدلال في معرفة ذات الصانع وصفاته وما يجب ويجوز ويستحيل عليه ورابعها أن عبادة الله واجبة

وهو يبطل قول نفاة التكليف ويبطل القول بالجبر المحض وخامسها قوله وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ وهذا يدل على نفي الشركاء والأنداد والأضداد بالكلية ويدخل فيه إبطال قول كل من أثبت معبوداً سوى الله تعالى سواء قال إن ذلك المعبود هو الشمس أو القمر أو الكواكب أو الأصنام والأوثان والأرواح العلوية أو يزدان وأهرمن على ما يقوله المجوس أو النور والظلمة على ما يقوله الثنوية وسادسها قوله إِلَيْهِ ادْعُواْ والمراد منه أنه كما وجب عليه الإتيان بهذه العبادات فكذلك يجب عليه الدعوة إلى عبودية الله تعالى وهو إشارة إلى نبوته وسابعها قوله وَإِلَيْهِ مَابِ وهو إشارة إلى الحشر والنشر والبعث والقيامة فإذا تأمل الإنسان في هذه الألفاظ القليلة ووقف عليها عرف أنها محتوية على جميع المطالب المعتبرة في الدين
وَكَذالِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِى ٍّ وَلاَ وَاقٍ
وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى شبه إنزاله حكماً عربياً بما أنزل إلى ما تقدم من الأنبياء أي كما أنزلنا الكتب على الأنبياء بلسانهم كذلك أنزلنا عليك القرآن والكناية في قوله أَنزَلْنَاهُ تعود إلى ( ما ) في قوله يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ يعني القرآن
المسألة الثانية قوله أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيّا فيه وجوه الأول حكمة عربية مترجمة بلسان العرب الثاني القرآن مشتمل على جميع أقسام التكاليف فالحكم لا يمكن إلا بالقرآن فلما كان القرآن سبباً للحكم جعل نفس الحكم على سبيل المبالغة الثالث أنه تعالى حكم على جميع المكلفين بقبول القرآن والعمل به فلما حكم على الخلق بوجوب قبوله جعله حكماً
واعلم أن قوله حُكْمًا عَرَبِيّا نصب على الحال والمعنى أنزلناه حال كونه حكماً عربياً
المسألة الثالثة قالت المعتزلة الآية دالة على حدوث القرآن من وجوه الأول أنه تعالى وصفه بكونه منزلاً وذلك لا يليق إلا بالمحدث الثاني أنه وصفه بكونه عربياً والعربي هو الذي حصل بوضع العرب واصطلاحهم وما كان كذلك كان محدثاً الثالث أن الآية دالة على أنه إنما كان حكماً عربياً لأن الله تعالى جعله كذلك ووصفه بهذه الصفة وكل ما كان كذلك فهو محدث
والجواب أن كل هذه الوجوه دالة على أن المركب من الحروف والأصوات محدث ولا نزاع فيه والله أعلم
المسألة الرابعة روي أن المشركين كانوا يدعونه إلى ملة آبائه فتوعده الله تعالى على متابعتهم في تلك المذاهب مثل أن يصلي إلى قبلتهم بعد أن حوله الله عنها قال ابن عباس الخطاب مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمراد أمته وقيل بل الغرض منه حث الرسول عليه السلام على القيام بحق الرسالة وتحذيره من خلافها ويتضمن

ذلك أيضاً تحذير جميع المكلفين لأن من هو أرفع منزلة إذا حذر هذا التحذير فهم أحق بذلك وأولى
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّة ً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِى َ بِأايَة ٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ
اعلم أن القوم كانوا يذكرون أنواعاً من الشبهات في إبطال نبوته
فالشبهة الأولى قولهم لِهَاذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِى فِى الاْسْوَاقِ ( الفرقان 7 ) وهذه الشبهة إنما ذكرها الله تعالى في سورة أخرى
والشبهة الثانية قولهم الرسول الذي يرسله الله إلى الخلق لا بد وأن يكون من جنس الملائكة كما حكى الله عنهم في قوله لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَئِكَة ِ ( الحجر 7 ) وقوله لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ( الأنعام 8 )
فأجاب الله تعالى عنه ههنا بقوله وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرّيَّة ً يعني أن الأنبياء الذين كانوا قبله كانوا من جنس البشر لا من جنس الملائكة فإذا جاز ذلك في حقهم فلم لا يجوز أيضاً مثله في حقه
الشبهة الثالثة عابوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بكثرة الزوجات وقالوا لو كان رسولاً من عند الله لما كان مشتغلاً بأمر النساء بل كان معرضاً عنهن مشتغلاً بالنسك والزهد فأجاب الله تعالى عنه بقوله وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرّيَّة ً وبالجملة فهذا الكلام يصلح أن يكون جواباً عن الشبهة المتقدمة ويصلح أن يكون جواباً عن هذه الشبهة فقد كان لسليمان عليه السلام ثلثمائة امرأة مهيرة وسبعمائة سرية ولداود مائة امرأة
والشبهة الرابعة قالوا لو كان رسولاً من عند الله لكان أي شيء طلبنا منه من المعجزات أتى به ولم يتوقف ولما لم يكن الأمر كذلك علمنا أنه ليس برسول فأجاب الله عنه بقوله وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِى َ بِئَايَة ٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وتقريره أن المعجزة الواحدة كافية في إزالة العذر والعلة وفي إظهار الحجة والبينة فأما الزائد عليها فهو مفوض إلى مشيئة الله تعالى إن شاء أظهرها وإن شاء لم يظهرها ولا اعتراض لأحد عليه في ذلك
الشبهة الخامسة أنه عليه السلام كان يخوفهم بنزول العذاب وظهور النصرة له ولقومه ثم إن ذلك الموعود كان يتأخر فلما لم يشاهدوا تلك الأمور احتجوا بها على الطعن في نبوته وقالوا لو كان نبياً صادقاً لما ظهر كذبه
فأجاب الله عنه بقوله لِكُلّ أَجَلٍ كِتَابٌ يعني نزول العذاب على الكفار وظهور الفتح والنصر للأولياء قضى الله بحصولها في أوقات معينة مخصوصة ولكل حادث وقت معين وَلِكُلّ أَجَلٍ كِتَابٌ فقبل حضور

ذلك الوقت لا يحدث ذلك الحادث فتأخر تلك المواعيد لا يدل على كونه كاذباً
الشبهة السادسة قالوا لو كان في دعوى الرسالة محقاً لما نسخ الأحكام التي نص الله تعالى على ثوبتها في الشرائع المتقدمة نحو التوراة والإنجيل لكنه نسخها وحرفها نحو تحريف القبلة ونسخ أكثر أحكام التوراة والإنجيل فوجب أن لا يكون نبياً حقاً
فأجاب الله سبحانه وتعالى عنه بقوله يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ويمكن أيضاً أن يكون قوله لِكُلّ أَجَلٍ كِتَابٌ كالمقدمة لتقرير هذا الجواب وذلك لأنا نشاهد أنه تعالى يخلق حيواناً عجيب الخلقة بديع الفطرة من قطرة من النطفة ثم يبقيه مدة مخصوصة ثم يميته ويفرق أجزاءه وأبعاضه فلما لم يمتنع أن يحيي أولاً ثم يميت ثانياً فكيف يمتنع أن يشرع الحكم في بعض الأوقات ثم ينسخه في سائر الأوقات فكان المراد من قوله لِكُلّ أَجَلٍ كِتَابٌ ما ذكرناه ثم إنه تعالى لما قرر تلك المقدمة قال يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ والمعنى أنه يوجد تارة ويعدم أخرى ويحيي تارة ويميت أخرى ويغني تارة ويفقر أخرى فكذلك لا يبعد أن يشرع الحكم تارة ثم ينسخه أخرى بحسب ما اقتضته المشيئة الإلهية عند أهل السنة أو بحسب ما اقتضته رعاية المصالح عند المعتزلة فهذا اتمام التحقيق في تفسير هذه الآية ثم ههنا مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى لِكُلّ أَجَلٍ كِتَابٌ فيه أقوال الأول أن لكل شيء وقتاً مقدراً فالآيات التي سألوها لها وقت معين حكم الله به وكتبه في اللوح المحفوظ فلا يتغير عن ذلك الحكم بسبب تحكماتهم الفاسدة ولو أن الله أعطاهم ما التمسوا لكان فيه أعظم الفساد الثاني أن لكل حادث وقتاً معيناً قضى الله حصوله فيه كالحياة والموت والغنى والفقر والسعادة والشقاوة ولا يتغير ألبتة عن ذلك الوقت والثالث أن هذا من المقلوب والمعنى أن لكل كتاب منزل من السماء أجلاً ينزله فيه أي لكل كتاب وقت يعمل به فوقت العمل بالتوراة والإنجيل قد انقضى ووقت العمل بالقرآن قد أتى وحضر والرابع لكل أجل معين كتاب عند الملائكة الحفظة فللانسان أحوال أولها نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم يصير شاباً ثم شيخاً وكذا القول في جميع الأحوال من الإيمان والكفر والسعادة والشقاوة والحسن والقبح الخامس كل وقت معين مشتمل على مصلحة خفية ومنفعة لا يعلمها إلا الله تعالى فإذا جاء ذلك الوقت حدث ذلك الحادث ولا يجوز حدوثه في غيره واعلم أن هذه الآية صريحة في أن الكل بقضاء الله وبقدره وأن الأمور مرهونة بأوقاتها لأن قوله لِكُلّ أَجَلٍ كِتَابٌ معناه أن تحت كل أجل حادث معين ويستحيل أن يكون ذلك التعيين لأجل خاصية الوقت فإن ذلك محال لأن الأجزاء المعروضة في الأوقات المتعاقبة متساوية فوجب أن يكون اختصاص كل وقت بالحادث الذي يحدث فيه بفعل الله تعالى واختياره وذلك يدل على أن الكل من الله تعالى وهو نظير قوله عليه السلام ( جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة )
المسألة الثانية يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وَيُثَبّتْ ساكنة الثاء خفيفة الباء من أثبت يثبت والباقون بفتح الثاء وتشديد الباء من التثبيت وحجة من خفف أن ضد المحو الإثبات لا التثبت ولأن التشديد للتكثير وليس القصد بالمحو التكثير فكذلك ما يكون في مقابلته ومن شدد احتج بقوله وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً ( النساء 66 ) وقوله فَثَبّتُواْ ( الأنفال 12 )

المسألة الثالثة المحو ذهاب أثر الكتابة يقال محاه يمحوه محواً إذا أذهب أثره وقوله وَيُثَبّتْ قال النحويون أراد ويثبته إلا أنه استغنى بتعدية للفعل الأول عن تعدية الثاني وهو كقوله تعالى وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ ( الأحزاب 35 )
المسألة الرابعة في هذه الآية قولان
القول الأول إنها عامة في كل شيء كما يقتضيه ظاهر اللفظ قالوا إن الله يمحو من الرزق ويزيد فيه وكذا القول في الأجل والسعادة والشقاوة والإيمان والكفر وهو مذهب عمر وابن مسعود والقائلون بهذا القول كانوا يدعون ويتضرعون إلى الله تعالى في أن يجعلهم سعداء لا أشقياء وهذا التأويل رواه جابر عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
والقول الثاني أن هذه الآية خاصة في بعض الأشقياء دون البعض وعلى هذا التقرير ففي الآية وجوه الأول المراد من المحو والإثبات نسخ الحكم المتقدم وإثبات حكم آخر بدلاً عن الأول الثاني أنه تعالى يمحو من ديوان الحفظة ما ليس بحسنة ولا سيئة لأنهم مأمورون بكتابة كل قول وفعل ويثبت غيره وطعن أبو بكر الأصم فيه فقال إنه تعالى وصف الكتاب بقوله لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَة ً وَلاَ كَبِيرَة ً إِلاَّ أَحْصَاهَا ( الكهف 49 ) وقال أيضاً فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ شَرّاً يَرَهُ ( الزلزلة 7 8 )
أجاب القاضي عنه بأنه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة من الذنوب والمباح لا صغيرة ولا كبيرة وللأصم أن يجيب عن هذا الجواب فيقول إنكم باصطلاحكم خصصتم الصغيرة بالذنب الصغير والكبيرة بالذنب الكيبر وهذا مجرد اصطلاح المتكلمين أما في أصل اللغة فالصغير والكبير يتناولان كل فعل وعرض لأنه إن كان حقيراً فهو صغير وإن كان غير ذلك فهو كبير وعلى هذا التقرير فقوله لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَة ً وَلاَ كَبِيرَة ً إِلاَّ أَحْصَاهَا ( الكهف 49 ) يتناول المباحات أيضاً الثالث أنه تعالى أراد بالمحو أن من أذنب أثبت ذلك الذنب في ديوانه فإذا تاب عنه محى من ديوانه الرابع يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وهو من جاء أجله ويدع من لم يجيء أجله ويثبته الخامس أنه تعالى يثبت في أول السنة حكم تلك السنة فإذا مضت السنة محيت وأثبت كتاب آخر للمستقبل السادس يمحو نور القمر ويثبت نور الشمس السابع يمحو الدنيا ويثبت الآخرة الثامن أنه في الأرزاق والمحن والمصائب يثبتها في الكتاب ثم يزيلها بالدعاء والصدقة وفيه حث على الانقطاع إلى الله تعالى التاسع تغير أحوال العبد فما مضى منها فهو المحو وما حصل وحضر فهو الإثبات العاشر يزيل ما يشاء ويثبت ما يشاء من حكمه لا يطلع على غيبه أحداً فهو المنفرد بالحكم كما يشاء وهو المستقل بالإيجاد والإعدام والإحياء والإماتة والإغناء والإفقار بحيث لا يطلع على تلك الغيوب أحد من خلقه
واعلم أن هذا الباب فيه مجال عظيم
فإن قال قائل ألستم تزعمون أن المقادير سابقة قد جف بها القلم وليس الأمر بأنف فكيف يستقيم مع هذا المعنى المحو والإثبات
قلنا ذلك المحو والإثبات أيضاً مما جف به القلم فلا يمحو إلا ما سبق في علمه وقضائه محوه

المسألة الخامسة قالت الرافضة البداء جائز على الله تعالى وهو أن يعتقد شيئاً ثم يظهر له أن الأمر بخلاف ما اعتقده وتمسكوا فيه بقوله يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ
واعلم أن هذا باطل لأن علم الله من لوازم ذاته المخصوصة وما كان كذلك كان دخول التغير والتبدل فيه محالاً
المسألة السادسة أما أُمُّ الْكِتَابِ فالمراد أصل الكتاب والعرب تسمي كل ما يجري مجرى الأصل للشيء أماً له ومنه أم الرأس للدماغ وأم القرى لمكة وكل مدينة فهي أم لما حولها من القرى فكذلك أم الكتاب هو الذي يكون أصلاً لجميع الكتب وفيه قولان
القول الأول أن أم الكتاب هو اللوح المحفوظ وجميع حوادث العالم العلوي والعالم السفلي مثبت فيه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( كان الله ولا شيء معه ثم خلق اللوح وأثبت فيه أحوال جميع الخلق إلى قيام الساعة ) قال المتكلمون الحكمة فيه أن يظهر للملائكة كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات على سبيل التفصيل وعلى هذا التقدير فعند الله كتابان أحدهما الكتاب الذي يكتبه الملائكة على الخلق وذلك الكتاب محل المحو والإثبات والكتاب الثاني هو اللوح المحفوظ وهو الكتاب المشتمل على تعين جميع الأحوال العلوية والسفلية وهو الباقية روى أبو الدرداء عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( أن الله سبحانه وتعالى في ثلاث ساعات بقين من الليل ينظر في الكتاب الذي لا ينظر فيه أحد غيره فيمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء وللحكماء في تفسير هذين الكتابين كلمات عجيبة وأسرار غامضة
والقول الثاني إن أم الكتاب هو علم الله تعالى فإنه تعالى عالم بجميع المعلومات من الموجودات والمعدومات وإن تغيرت إلا أن علم الله تعالى بها باق منزه عن التغير فالمراد بأم الكتاب هو ذاك والله أعلم
وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ
اعلم أن المعنى وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُمْ من العذاب أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل ذلك والمعنى سواء أريناك ذلك أو توفيناك قبل ظهوره فالواجب عليك تبليغ أحكام الله تعالى وأداء أمانته ورسالته وعلينا الحساب والبلاغ اسم أقيم مقام التبليغ كالسراج والأداء
أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِى الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ

اعلم أنه تعالى لما وعد رسوله بأن يريه بعض ما وعدوه أو يتوفاه قبل ذلك بين في هذه الآية أن آثار حصول تلك المواعيد وعلاماتها قد ظهرت وقويت وقوله أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِى الاْرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا فيه أقوال
القول الأول المراد أنا نأتي أرض الكفرة ننقصها من أطرافها وذلك لأن المسلمين يستولون على أطراف مكة ويأخذونها من الكفرة قهراً وجبراً فانتقاص أحوال الكفرة وازدياد قوة المسلمين من أقوى العلامات والأمارات على أن الله تعالى ينجز وعده ونظيره قوله تعالى أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِى الاْرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ ( الأنبياء 44 ) وقوله سَنُرِيهِمْ ءايَاتِنَا فِى الاْفَاقِ ( فصلت 53 )
والقول الثاني وهو أيضاً منقول عن ابن عباس رضي الله عنهما أن قوله نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا المراد موت أشرافها وكبرائها وعلمائها وذهاب الصلحاء والأخيار وقال الواحدي وهذا القول وإن احتمله اللفظ إلا أن اللائق بهذا الموضع هو الوجه الأول ويمكن أن يقال هذا الوجه أيضاً لا يليق بهذا الموضع وتقريره أن يقال أولم يروا ما يحدث في الدنيا من الاختلافات خراب بعد عمارة وموت بعد حياة وذل بعد عز ونقص بعد كمال وإذا كانت هذه التغيرات مشاهدة محسوسة فما الذي يؤمنهم من أن يقلب الله الأمر على هؤلاء الكفرة فيجعلهم ذليلين بعد أن كانوا عزيزين ويجعلهم مقهورين بعد أن كانوا قاهرين وعلى هذا الوجه فيحسن اتصال هذا الكلام بما قبله وقيل نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا بموت أهلها وتخريب ديارهم وبلادهم فهؤلاء الكفرة كيف أمنوا من أن يحدث فيهم أمثال هذه الوقائع
ثم قال تعالى مؤكداً لهذا المعنى وَاللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقّبَ لِحُكْمِهِ معناه لا راد لحكمه والمعقب هو الذي يعقبه بالرد والإبطال ومنه قيل لصاحب الحق معقب لأنه يعقب غريمه بالاقتضاء والطلب
فإن قيل ما محل قوله لاَ مُعَقّبَ لِحُكْمِهِ
قلنا هو جملة محلها النصب على الحال كأنه قيل والله يحكم نافذاً حكمه خالياً عن المدافع والمعارض والمنازع
ثم قال وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ قال ابن عباس يريد سريع الانتقام يعني أن حسابه للمجازاة بالخير والشر يكون سريعاً قريباً لا يدفعه دافع
أما قوله وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ يعني أن كفار الأمم الماضية قد مكروا برسلهم وأنبيائهم مثل نمروذ مكر بإبراهيم وفرعون مكر بموسى واليهود مكروا بعيسى
ثم قال فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا قال الواحدي معناه أن مكر جميع الماكرين له ومنه أي هو حاصل بتخليقه وإرادته لأنه ثبت أن الله تعالى هو الخالق لجميع أعمال العباد وأيضاً فذلك المكر لا يضر إلا بإذن الله تعالى ولا يؤثر إلى بتقديره وفيه تسلية للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأمان له من مكرهم كأنه قيل له إذا كان حدوث المكر من الله وتأثيره من الممكور به أيضاً من الله وجب أن لا يكون الخوف إلا من الله تعالى وأن لا يكون الرجاء إلا من

الله تعالى وذهب بعض الناس إلى أن المعنى فلله جزاء المكر وذلك لأنهم لما مكروا بالمؤمنين بين الله تعالى أنه يجازيهم على مكرهم قال الواحدي والأول أظهر لقولين بدليل قوله يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ يريد أن اكساب العباد بأسرها معلومة لله تعالى وخلاف المعلوم ممتنع الوقوع وإذا كان كذلك فكل ما علم الله وقوعه فهو واجب الوقوع وكل ما علم الله عدمه كان ممتنع الوقوع وإذا كان كذلك فلا قدرة للعبد على الفعل والترك فكان الكل من الله تعالى قالت المعتزلة الآية الأولى إن دلت على قولكم فالآية الثانية وهي قوله يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ دلت على قولنا لأن الكسب هو الفعل المشتمل على دفع مضرة أو جلب منفعة ولو كان حدوث الفعل بخلق الله تعالى لم يكن لقدرة العبد فيه أثر فوجب أن لا يكون للعبد كسب
وجوابه أن مذهبنا أن مجموع القدرة مع الداعي مستلزم للفعل وعلى هذا التقدير فالكسب حاصل للعبد ثم إنه تعالى أكد ذلك التهديد فقال وَسَيَعْلَمْ الْكَافِرُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وَسَيَعْلَمْ الْكَافِرُ على لفظ المفرد والباقون على الجمع قال صاحب ( الكشاف ) قرىء ( الكفار والكافرون والذين كفروا والكفر ) أي أهله قرأ جناح بن حبيش ( وسيعلم الكافر ) من أعلمه أي سيخبر
المسألة الثانية المراد بالكافر الجنس كقوله تعالى إِنَّ الإنسَانَ لَفِى خُسْرٍ ( العصر 2 ) والمعنى إنهم وإن كانوا جهالاً بالعواقب فسيعلمون لمن العاقبة الحميدة وذلك كالزجر والتهديد
والقول الثاني وهو قول عطاء يريد المستهزئين وهم خمسة والمقتسمين وهم ثمانية وعشرون
والقول الثالث وهو قول ابن عباس يريد أبا الجهل والقول الأول هو الصواب
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ
اعلم أنه تعالى حكى عن القوم أنهم أنكروا كونه رسولاً من عند الله ثم إنه تعالى احتج عليهم بأمرين الأول شهادة الله على نبوته والمراد من تلك الشهادة أنه تعالى أظهر المعجزات الدالة على كونه صادقاً في ادعاء الرسالة وهذا أعلى مراتب الشهادة لأن الشهادة قول يفيد غلبة الظن بأن الأمر كذلك أما المعجز فإنه فعل مخصوص يوجب القطع بكونه رسولاً من عند الله تعالى فكان إظهار المعجزة أعظم مراتب الشهادة والثاني قوله وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ وفيه قراءتان إحداهما القراءة المشهورة وَمَنْ عِندَهُ يعني والذي عنده علم الكتاب والثانية وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ وكلمة ( من ) ههنا لابتداء الغاية أي ومن عند الله حصل علم الكتاب أما على القراءة الأولى ففي تفسير الآية أقوال
القول الأول أن المراد شهادة أهل الكتاب من الذين آمنوا برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهم عبد الله بن سلام وسلمان

الفارسي وتميم الداري ويروى عن سعيد بن جبير أنه كان يبطل هذا الوجه ويقول السورة مكية فلا يجوز أن يراد به ابن سلام وأصحابه لأنهم آمنوا في المدينة بعد الهجرة وأجيب عن هذا السؤال بأن قيل هذه السورة وإن كانت مكية إلا أن هذه الآية مدنية وأيضاً فإثبات النبوة بقول الواحد والاثنين مع كونهما غير معصومين عن الكذب لا يجوز وهذا السؤال واقع
القول الثاني أراد بالكتاب القرآن أي أن الكتاب الذي جئتكم به معجز قاهر وبرهان باهر إلا أنه لا يحصل العلم بكونه معجزاً إلا لمن علم ما في هذا الكتاب من الفصاحة والبلاغة واشتماله على الغيوب وعلى العلوم الكثيرة فمن عرف هذا الكتاب على هذا الوجه علم كونه معجزاً فقوله وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ أي ومن عنده علم القرآن وهو قول الأصم
القول الثالث ومن عنده علم الكتاب المراد به الذي حصل عنده علم التوراة والإنجيل يعني أن كل من كان عالماً بهذين الكتابين علم اشتمالهما على البشارة بمقدم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإذا أنصف ذلك العالم ولم يكذب كان شاهداً على أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) رسول حق من عند الله تعالى
القول الرابع ومن عنده علم الكتاب هو الله تعالى وهو قول الحسن وسعيد بن جبير والزجاج قال الحسن لا والله ما يعني إلا الله والمعنى كفى بالذي يستحق العبادة وبالذي لا يعلم علم ما في اللوح إلا هو شهيداً بيني وبينكم وقال الزجاج الأشبه أن الله تعالى لا يستشهد على صحة حكمه بغيره وهذا القول مشكل لأن عطف الصفة على الموصوف وإن كان جائزاً في الجملة إلا أنه خلاف الأصل لا يقال شهد بهذا زيد والفقيه بل يقال شهد به زيد الفقيه وأما قوله إن الله تعالى لا يستشهد بغيره على صدق حكمه فبعيد لأنه لما جاز أن يقسم الله تعالى على صدق قوله بقوله وَالتّينِ وَالزَّيْتُونِ ( التين 1 ) فأي امتناع فيما ذكره الزجاج
وأما القراءة الثانية وهي قوله وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ على من الجارة فالمعنى ومن لدنه علم الكتاب لأن أحداً لا يعلم الكتاب إلا من فضله وإحسانه وتعليمه ثم على هذه القراءة ففيه أيضاً قراءتان ومن عنده علم الكتاب والمراد العلم الذي هو ضد الجهل أي هذا العلم إنما حصل من عند الله
والقراءة الثانية ومن عنده علم الكتاب بضم العين وبكسر اللام وفتح الميم على ما لم يسم فاعله والمعنى أنه تعالى لما أمر نبيه أن يحتج عليهم بشهادة الله تعالى على ما ذكرناه وكان لا معنى لشهادة الله تعالى على نبوته إلا إظهار القرآن على وفق دعواه ولا يعلم كون القرآن معجزاً إلا بعد الإحاطة بما في القرآن وأسراره بين تعالى أن هذا العلم لا يحصل إلا من عند الله والمعنى أن الوقوف على كون القرآن معجزاً لا يحصل إلا إذا شرف الله تعالى ذلك العبد بأن يعلمه علم القرآن والله تعالى أعلم بالصواب
تم تفسير هذه السورة يوم الأحد الثامن عشر من شعبان سنة إحدى وستمائة وأنا ألتمس من كل من نظر في كتابي هذا وانتفع به أن يخص ولدي محمداً بالرحمة والغفران وأن يذكرني بالدعاء وأقول في مرثية ذلك الولد شعراً أرى معالم هذا العالم الفاني
ممزوجة بمخافات وأحزان
خيراته مثل أحلام مفزعة
وشره في البرايا دائم داني

سورة إبراهيم
مكية إلا آيتي 28 و 29 فمدنيتان
وآياتها 52 نزلت بعد سورة نوح
بسم الله الرحمن الرحيم
الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ
سورة إبراهيم
عليه السلام خمسون وآيتان مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
اعلم أن الكلام في أن هذه السورة مكية أو مدنية طريقه الآحاد ومتى لم يكن في السورة ما يتصل بالأحكام الشرعية فنزولها بمكة والمدينة سواء وإنما يختلف الغرض في ذلك إذا حصل فيه ناسخ ومنسوخ فيكون فيه فائدة عظيمة وقوله الر كِتَابٌ معناه أن السورة المسماة بالر كتاب أنزلناه إليك لغرض كذا وكذا فقوله الر مبتدأ وقوله كِتَابٌ خبره وقوله أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ صفة لذلك الخبر وفيه مسائل
المسألة الأولى دلت هذه الآية على أن القرآن موصوف بكونه منزلاً من عند الله تعالى قالت المعتزلة النازل والمنزل لا يكون قديماً
وجوابنا أن الموصوف بالنازل والمنزل هو هذه الحروف وهي محدثة بلا نزاع
المسألة الثانية قالت المعتزلة اللام في قوله لِتُخْرِجَ النَّاسَ لام الغرض والحكمة وهذا يدل على أنه تعالى إنما أنزل هذا الكتاب لهذا الغرض وذلك يدل على أن أفعال الله تعالى وأحكامه معللة برعاية المصالح
أجاب أصحابنا عنه بأن من فعل فعلاً لأجل شيء آخر فهذا إنما يفعله لو كان عاجزاً عن تحصيل هذا المقصود إلا بهذه الواسطة وذلك في حق الله تعالى محال وإذا ثبت بالدليل أن يمتنع تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه بالعلل ثبت أن كل ظاهر أشعر به فإنه مؤول محمول على معنى آخر

المسألة الثالثة إنما شبه الكفر بالظلمات لأنه نهاية ما يتحير الرجل فيه عن طريق الهداية وشبه الإيمان بالنور لأنه نهاية ما ينجلي به طريق هدايته
المسألة الرابعة قال القاضي هذه الآية فيها دلالة على إبطال القول بالجبر من جهات أحدها أنه تعالى لو كان يخلق الكفر في الكافر فكيف يصح إخراجه منه بالكتاب وثانيها أنه تعالى أضاف الإخراج من الظلمات إلى النور إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فإن كان خالق ذلك الكفر هو الله تعالى فكيف يصح من الرسول عليه الصلاة والسلام إخراجهم منه وكان للكافر أن يقول إنك تقول إن الله خلق الكفر فينا فكيف يصح منك أن تخرجنا منه فإن قال لهم أنا أخرجكم من الظلمات التي هي كفر مستقبل لا واقع فلهم أن يقولوا إن كان تعالى سيخلقه فينا لم يصح ذلك الإخراج وإن لم يخلقه فنحن خارجون منه بلا إخراج وثالثها أنه ( صلى الله عليه وسلم ) إنما يخرجهم من الكفر بالكتاب بأن يتلوه عليهم ليتدبروه وينظروا فيه فيعلموا بالنظر والاستدلال كونه تعالى عالماً قادراً حكيماً ويعلموا بكون القرآن معجزة صدق الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وحينئذ يقبلوا منه كل ما أداه إليهم من الشرائع وذلك لا يصح إلا إذا كان الفعل لهم ويقع باختيارهم ويصح منهم أن يقدموا عليه ويتصرفوا فيه
والجواب عن الكل أن نقول الفعل الصادر من العبد إما أن يصدر عنه حال استواء الداعي إلى الفعل والترك أو حال رجحان أحد الطرفين على الآخر والأول باطل لأن صدور الفعل رجحان لجانب الوجود على جانب العدم وحصول الرجحان حال حصول الاستواء محال والثاني عين قولنا لأنه يمتنع صدور الفعل عنه إلا بعد حصول الرجحان فإن كان ذلك الرجحان منه عاد السؤال وإن لم يكن منه بل من الله تعالى فحينئذ يكون المؤثر الأول هو الله تعالى وذلك هو المطلوب والله أعلم
المسألة الخامسة احتج أصحابنا على صحة قولهم في أن فعل العبد مخلوق لله تعالى بقوله تعالى بِإِذْنِ رَبّهِمْ فإن معنى الآية أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لا يمكنه إخراج الناس من الظلمات إلى النور إلا بإذن ربهم والمراد بهذا الإذن إما الأمر وإما العلم وإما المشيئة والخلق وحمل الإذن على الأمر محال لأن الإخراج من الجهل إلى العلم لا يتوقف على الأمر فإنه سواء حصل الأمر أو لم يحصل فإن الجهل متميز عن العلم والباطل متميز عن الحق وأيضاً حمل الإذن على العلم محال لأن العلم يتبع المعلوم على ما هو عليه فالعلم بالخروج من الظلمات إلى النور تابع لذلك الخروج ويمتنع أن يقال إن حصول ذلك الخروج تابع للعلم بحصول ذلك الخروج ولما بطل هذان القسمان لم يبق إلا أن يكون المراد من الإذن المشيئة والتخليق وذلك يدل على أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لا يمكنه إخراج الناس من الظلمات إلى النور إلا بمشيئة الله وتخليقه
فإن قيل لم لا يجوز أن يكون المراد من الإذن الإلطاف
قلنا لفظ اللطف لفظ مجمل ونحن نفصل القول فيه فنقول المراد بالإذن إما أن يكون أمراً يقتضي ترجيح جانب الوجود على جانب العدم أو لا يقتضي ذلك فإن كان الثاني لم يكن فيه أمر ألبتة فامتنع أن يقال إنه مما حصل بسببه ولأجله فبقي الأول وهو أن المراد من الإذن معنى يقتضي ترجيح جانب الوجود على جانب العدم وقد دللنا في ( الكتب العقلية ) على أنه متى حصل الرجحان فقد حصل الوجوب ولا معنى لذلك إلا الداعية الموجبة وهو عين قولنا والله أعلم

المسألة السادسة القائلون بأن معرفة الله تعالى لا يمكن تحصيلها إلا من تعليم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) والإمام احتجوا عليه بهذه الآية وقالوا إنه تعالى صرح في هذه الآية بأن الرسول هو الذي يخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان وذلك يدل على أن معرفة الله تعالى لا تحصل إلا من طريق التعليم
وجوابنا أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يكون كالمنبه وأما المعرفة فهي إنما تحصل بالدليل والله أعلم
المسألة السابعة الآية دالة على أن طرق الكفر والبدعة كثيرة وأن طريق الخير ليس إلا الواحد لأنه تعالى قال لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ فعبر عن الجهل والكفر بالظلمات وهي صيغة جمع وعبر عن الإيمان والهداية بالنور وهو لفظ مفرد وذلك يدل على أن طرق الجهل كثيرة وأما طريق العلم والإيمان فليس إلا الواحد
المسألة الثامنة في قوله تعالى إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ وجهان الأول أنه بدل من قوله إلى النور بتكرير العامل كقوله لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ ءامَنَ مِنْهُمْ ( الأعراف 75 ) الثاني يجوز أن يكون على وجه الاستئناف كأنه قيل إلى أي نور فقيل إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ
المسألة التاسعة قالت المعتزلة الفاعل إنما يكون آتياً بالصواب والصلاح تاركاً للقبيح والعبث إذا كان قادراً على كل المقدورات عالماً بجميع المعلومات غنياً عن كل الحاجات فإنه إن لم يكن قادراً على الكل فربما فعل القبيح بسبب العجز وإن لم يكن عالماً بكل المعلومات فربما فعل القبيح بسبب الجهل وإن لم يكن غنياً عن كل الحاجات فربما فعل القبيح بسبب الحاجة أما إذا كان قادراً على الكل عالماً الكل غنياً عن الكل امتنع منه الإقدام على فعل القبيح فقوله الْعَزِيزُ إشارة إلى كمال القدرة وقوله الْحَمِيدِ إشارة إلى كونه مستحقاً للحمد في كل أفعاله وذلك إنما يحصل إذا كان عالماً بالكل غنياً عن الكل فثبت بما ذكرنا أن صراط الله إنما كان موصوفاً بكونه شريفاً رفيعاً عالياً لكونه صراطاً مستقيماً للإله الموصوف بكونه عزيزاً حميداً فلهذا المعنى وصف الله نفسه بهذين الوصفين في هذا المقام
المسألة العاشرة إنما قدم ذكر العزيز على ذكر الحميد لأن الصحيح أن أول العلم بالله العلم بكونه تعالى قادراً ثم بعد ذلك العلم بكونه عالماً ثم بعد ذلك العلم بكونه غنياً عن الحاجات والعزيز هو القادر والحميد هو العالم الغني فلما كان العلم بكونه تعالى قادراً متقدماً على العلم بكونه عالماً بالكل غنياً عن الكل لا جرم قدم الله ذكر العزيز على ذكر الحميد والله أعلم
اللَّهِ الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأرض وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَواة َ الدُّنْيَا عَلَى الاٌّ خِرَة ِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُوْلَائِكَ فِى ضَلَالٍ بَعِيدٍ

في الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وابن عامر اللَّهِ مرفوعاً بالابتداء وخبره ما بعده وقيل التقدير هو الله والباقون بالجر عطفاً على قوله الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ وههنا بحث وهو أن جماعة من المحققين ذهبوا إلى أن قولنا الله جار مجرى الإسم العلم لذات الله تعالى وذهب قوم آخرون إلى أن لفظ مشتق والحق عندنا هو الأول ويدل عليه وجوه الأول أن الاسم المشتق عبارة عن شيء ما حصل له المشتق منه فالأسود مفهومه شيء ما حصل له السواد والناطق مفهومه شيء ما حصل له النطق فلو كان قولنا الله اسماً مشتقاً من معنى لكان المفهوم منه أنه شيء ما حصل له ذلك المشتق منه وهذا المفهوم كلي لا يمتنع من حيث هو هو عن وقوع الشركة فيه فلو كان قولنا الله لفظاً مشتقاً لكان مفهومه صالحاً لوقوع الشركة فيه ولو كان الأمر كذلك لما كان قولنا لا إله إلا الله موجباً للتوحيد لأن المستثنى هو قولنا الله وهو غير مانع من وقوع الشركة فيه ولما اجتمعت الأمة على أن قولنا لا إله إلا الله يوجب التوحيد المحض علمنا أن قولنا الله جارٍ مجرى الاسم العلم الثاني أنه كلما أردنا أن نذكر سائر الصفات والأسماء ذكرنا أولاً قولنا الله ثم وصفناه بسائر الصفات كقولنا هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الملك القدوس ولا يمكننا أن نعكس الأمر فنقول الرحمن الرحيم الله فعلمنا أن الله هو اسم علم للذات المخصوصة وسائر الألفاظ دالة على الصفات والنعوت الثالث أن ما سوى قولنا الله كلها دالة إما على الصفات السلبية كقولنا القدوس السلام أو على الصفات الإضافية كقولنا الخالق الرازق أو على الصفات الحقيقية كقولنا العالم القادر أو على ما يتركب من هذه الثلاثة فلو لم يكن قولنا الله اسماً للذات المخصوصة لكان جميع أسماء الله تعالى ألفاظاً دالة على صفاته ولم يحصل فيها ما يدل على ذاته المخصوصة وذلك بعيد لأنه يبعد أن لا يكون له من حيث إنه هو اسم مخصوص والرابع قوله تعالى هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً ( مريم 65 ) والمراد هل تعلم من اسمه الله غير الله وذلك يدل على أن قولنا الله اسم لذاته المخصوصة وإذا ظهرت هذه المقدمة فالترتيب الحسن أن يذكر عقيبه الصفات كقوله تعالى هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِىء الْمُصَوّرُ ( الحشر 24 ) فإما أن يعكس فيقال هو الخالق المصور البارىء الله فذلك غير جائز
وإذا ثبت هذا فنقول الذين قرؤا اللَّهِ الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ بالرفع أرادوا أن يجعلوا قوله اللَّهِ مبتدأ ويجعلوا ما بعده خبراً عنه وهذا هو الحق الصحيح فأما الذين قرؤا اللَّهِ بالجر عطفاً على الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ فهو مشكل لما بينا أن الترتيب الحسن أن يقال الله الخالق وإما أن يقال الخالق الله فهذا لا يحسن وعند هذا اختلفوا في الجواب على وجوه الأول قال أبو عمرو بن العلاء القراءة بالخفض على التقديم والتأخير والتقدير صراط الله العزيز الحميد الذي له ما في السموات والثاني أنه لا يبعد أن يذكر الصفة أولاً ثم يذكر الاسم ثم يذكر الصفة مرة أخرى كما يقال مررت بالإمام الأجل محمد الفقيه وهو بعينه نظير قوله صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللَّهِ الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وتحقيق القول فيه أنا بينا أن الصراط إنما يكون ممدوحاً محموداً إذا كان صراطاً للعالم القادر الغني والله تعالى عبر عن هذه الأمور الثلاثة بقوله الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ثم لما ذكر هذا المعنى وقعت الشبهة في أن ذلك العزيز من هو فعطف عليها قوله اللَّهِ الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ إزالة لتلك الشبهة الثالث قال صاحب ( الكشاف ) الله عطف بيان للعزيز الحميد وتحقيق هذا القول ما قررناه فيما تقدم الرابع قد ذكرنا في أول هذا الكتاب أن قولنا الله

في أصل الوضع مشتق إلا أنه بالعرف صار جارياً مجرى الإسم العلم فحيث يبدأ بذكره ويعطف عليه سائر الصفات فذلك لأجل أنه جعل اسم علم وأما في هذه الآية حيث جعل وصفاً للعزيز الحميد فذاك لأجل أنه حمل على كونه لفظاً مشتقاً فلا جرم بقي صفة الخامس أن الكفار ربما وصفوا الوثن بكونه عزيزاً حميداً فلما قال لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ بقي في خاطر عبدة الأوثان أنه ربما كان ذلك العزيز الحميد هو الوثن فأزال الله تعالى هذه الشبهة وقال اللَّهِ الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ أي المراد من ذلك العزيز الحميد هو الله الذي له ما في السموات وما في الأرض
المسألة الثانية قوله اللَّهِ الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ يدل على أنه تعالى غير مختص بجهة العلو ألبتة وذلك لأن كل ما سماك وعلاك فهو سماء فلو حصل ذات الله تعالى في جهة فوق لكان حاصلاً في السماء وهذه الآية دالة على أن كل ما في السموات فهو ملكه فلزم كونه ملكاً لنفسه وهو محال فدلت هذه الآية على أنه منزه عن الحصول في جهة فوق
المسألة الثالثة احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى خالق لأعمال العباد لأنه قال لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وأعمال العباد حاصلة في السموات والأرض فوجب القول بأن أفعال العباد له بمعنى كونها مملوكة له والملك عبارة عن القدرة فوجب كونها مقدورة لله تعالى وإذا ثبت أنها مقدورة لله تعالى وجب وقوعها بقدرة الله تعالى وإلا لكان العبد قد منع الله تعالى من إيقاع مقدوره وذلك محال
واعلم أن قوله تعالى لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ يفيد الحصر والمعنى أن ما في السموات وما في الأرض له لا لغيره وذلك يدل على أنه لا مالك إلا الله ولا حاكم إلا الله ثم إنه تعالى لما ذكر ذلك عطف على الكفار بالوعيد فقال وَوَيْلٌ لّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ والمعنى أنهم لما تركوا عبادة الله تعالى الذي هو المالك للسموات والأرض ولكل ما فيهما إلى عبادة ما لا يملك ضراً ولا نفعاً ويخلق ولا يخلق ولا إدراك لها ولا فعل فالويل ثم الويل لمن كان كذلك وإنما خص هؤلاء بالويل لأن المعنى يولولون من عذاب شديد ويصيحون منه ويقولون يا ويلاه ونظيره قوله تعالى دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً ( الفرقان 13 ) ثم بين تعالى صفة هؤلاء الكافرين الذين توعدهم بالويل الذي يفيد أعظم العذاب وذكر من صفاتهم ثلاثة أنواع الأول قوله الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَواة َ الدُّنْيَا عَلَى الاْخِرَة ِ وفيه مسائل
المسألة الأولى إن شئت جعلت ( الذين ) صفة الكافرين في الآية المتقدمة وإن شئت جعلته مبتدأ وجعلت الخبر قوله أُوْلَائِكَ وإن شئت نصبته على الذم
المسألة الثانية الاستحباب طلب محبة الشيء وأقول إن الإنسان قد يحب الشيء ولكنه لا يحب كونه محباً لذلك الشيء مثل من يميل طبعه إلى الفسق والفجور ولكنه يكره كونه محباً لهما أما إذا أحب الشيء وطلب كونه محباً له وأحب تلك المحبة فهذا هو نهاية المحبة فقوله الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَواة َ الدُّنْيَا يدل على كونهم في نهاية المحبة للحياة الدنيوية ولا يكون الإنسان كذلك إلا إذا كان غافلاً عن الحياة الأخروية وعن معايب هذه الحياة العاجلة ومن كان كذلك كان في نهاية الصفات المذمومة وذلك لأن هذه الحياة موصوفة بأنواع كثيرة من العيوب فأحدها أن بسبب هذه الحياة انفتحت أبواب الآلام والأسقام

والغموم والهموم والمخاوف والأحزان وثانيها أن هذه اللذات في الحقيقة لا حاصل لها إلا دفع الآلام بخلاف اللذات الروحانية فإنها في أنفسها لذات وسعادات وثالثها أن سعادات هذه الحياة منغصة بسبب الانقطاع والإنقراض والانقضاء ورابعها أنها حقيرة قليلة وبالجملة فلا يحب هذه الحياة إلا من كان غافلاً عن معايبها وكان غافلاً عن فضائل الحياة الروحانية الأخروية ولذلك قال تعالى وَالاْخِرَة ُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ( الأعلى 17 ) فهذه الكلمة جامعة لكل ما ذكرناه
المسألة الثالثة إنما قال يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَواة َ الدُّنْيَا عَلَى الاْخِرَة ِ لأن فيه إضماراً والتقدير يستحبون الحياة الدنيا ويؤثرونها على الآخرة فجمع تعالى بين هذين الوصفين ليتبين بذلك أن الاستحباب للدنيا وحده لا يكون مذموماً إلا بعد أن يضاف إليه إيثارها على الآخرة فأما من أحبها ليصل بها إلى منافع النفس وإلى خيرات الآخرة فإن ذلك لا يكون مذموماً حتى إذا آثرها على آخرته بأن اختار منها ما يضره في آخرته فهذه المحبة هي المحبة المذمومة
النوع الثاني من الصفات التي وصف الله الكفار بها قوله تعالى وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ
واعلم أن من كان موصوفاً باستحباب الدنيا فهو ضال ومن منع الغير من الوصول إلى سبيل الله ودينه فهو مضل فالمرتبة الأولى إشارة إلى كونهم ضالين وهذه المرتبة الثانية وهي كونهم صادين عن سبيل الله إشارة إلى كونهم مضلين
والنوع الثالث من تلك الصفات قوله وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا واعلم أن الإضلال على مرتبتين
المرتبة الأولى أنه يسعى في صد الغير ومنعه من الوصول إلى المنهج القويم والصراط المستقيم
والمرتبة الثانية أن يسعى في إلقاء الشكوك والشبهات في المذهب الحق ويحاول تقبيح صفته بكل ما يقدر عليه من الحيل وهذا هو النهاية في الضلال والإضلال وإليه الإشارة بقوله وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا قال صاحب ( الكشاف ) الأصل في الكلام أن يقال ويبغون لها عوجاً فحذف الجار وأوصل الفعل ولما ذكر الله تعالى هذه المراتب الثلاثة لأحوال هؤلاء الكفار قال في صفتهم أُوْلَئِكَ فِى ضَلَالٍ بَعِيدٍ وإنما وصف هذا الضلال بالبعد لوجوه
الوجه الأول أنا بينا أن أقصى مراتب الضلال هو الذي وصفه الله تعالى في هذه المرتبة فهذه المرتبة في غاية البعد عن طريق الحق فإن شرط الضدين أن يكونا في غاية التباعد مثل السواد والبياض فكذا ههنا الضلال الذي يكون واقعاً على هذا الوجه يكون في غاية البعد عن الحق فإنه لا يعقل ضلال أقوى وأكمل من هذا الضلال
والوجه الثاني أن يكون المراد أنه يبعد ردهم عن طريقة الضلال إلى الهدى لأنه قد تمكن ذلك في نفوسهم
والوجه الثالث أن يكون المراد من الضلال الهلاك والتقدير أولئك في هلاك يطول عليهم فلا ينقطع وأراد بالبعد امتداده وزوال انقطاعه

وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما ذكر في أول السورة كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ( إبراهيم 1 ) كان هذا إنعاماً على الرسول من حيث إنه فوض إليه هذا المنصب العظيم وإنعاماً أيضاً على الخلق من حيث إنه أرسل إليهم من خلصهم من ظلمات الكفر وأرشدهم إلى نور الإيمان فذكر في هذه الآية ما يجري مجرى تكميل النعمة والإحسان في الوجهين أما بالنسبة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فلأنه تعالى بين أن سائر الأنبياء كانوا مبعوثين إلى قومهم خاصة وأما أنت يا محمد فمبعوث إلى عامة الخلق فكان هذا الإنعام في حقك أفضل وأكمل وأما بالنسبة إلى عامة الخلق فهو أنه تعالى ذكر أنه ما بعث رسولاً إلى قوم إلا بلسان أولئك القوم فإنه متى كان الأمر كذلك كان فهمهم لأسرار تلك الشريعة ووقوفهم على حقائقها أسهل وعن الغلط والخطأ أبعد فهذا هو وجه النظم
المسألة الثانية احتج بعض الناس بهذه الآية على أن اللغات اصطلاحية لا توفيقية قال لأن التوقيف لا يحصل إلا بإرسال الرسل وقد دلت هذه الآية على أن إرسال جميع الرسل لا يكون إلا بلغة قومهم وذلك يقتضي تقدم حصول اللغات على إرسال الرسل وإذا كان كذلك امتنع حصول تلك اللغات بالتوقيف فوجب حصولها بالإصطلاح
المسألة الثالثة زعم طائفة من اليهود يقال لهم العيسوية أن محمداً رسول الله لكن إلى العرب لا إلى سائر الطوائف وتمسكوا بهذه الآية من وجهين الأول أن القرآن لما كان نازلاً بلغة العرب لم يعرف كونه معجزة بسبب ما فيه من الفصاحة إلا العرب وحينئذ لا يكون القرآن حجة إلا على العرب ومن لا يكون عربياً لم يكن القرآن حجة عليه الثاني قالوا إن قوله وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ ( إبراهيم 4 ) المراد بذلك اللسان لسان العرب وذلك يقتضي أن يقال إنه ليس له قوم سوى العرب وذلك يدل على أنه مبعوث إلى العرب فقط
والجواب لم لا يجوز أن يكون المراد من قَوْمِهِ أهل بلده وليس المراد من قَوْمِهِ أهل دعوته والدليل على عموم الدعوة قوله تعالى قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا النَّاسُ إِنّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ( الأعراف 158 ) بل إلى الثقلين لأن التحدي كما وقع مع الإنس فقد وقع مع الجن بدليل قوله تعالى قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَاذَا الْقُرْءانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ( الإسراء 88 )
المسألة الرابعة تمسك أصحابنا بقوله تعالى فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء على أن الضلال والهداية من الله تعالى والآية صريحة في هذا المعنى قال الأصحاب ومما يؤكد هذا المعنى ما روي أن

أبا بكر وعمر أقبلا في جماعة من الناس وقد ارتفعت أصواتهما فقال عليه السلام ( ما هذا ) فقال بعضهم يا رسول الله يقول أبو بكر الحسنات من الله والسيئات من أنفسنا ويقول عمر كلاهما من الله وتبع بعضهم أبا بكر وبعضهم عمر فتعرف الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ما قاله أبو بكر وأعرض عنه حتى عرف ذلك في وجهه ثم أقبل على عمر فتعرف ما قاله وعرف البشر في وجهه ثم قال ( أقضي بينكما كما قضى به اسرافيل بين جبريل وميكائيل قال جبريل مثل مقالتك يا عمر وقال ميكائيل مثل مقالتك يا أبا بكر فقضاء اسرافيل أن القدر كله خيره وشره من الله تعالى وهذا قضائي بينكما ) قالت المعتزلة هذه الآية لا يمكن اجراؤها على ظاهرها وبيانه من وجوه الأول أنه تعالى قال وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيّنَ لَهُمْ والمعنى أنا إنما أرسلنا كل رسول بلسان قومه ليبين لهم تلك التكاليف بلسانهم فيكون إدراكهم لذلك البيان أسهل ووقوفهم على المقصود والغرض أكمل وهذا الكلام إنما يصح لو كان مقصود الله تعالى من إرسال الرسل حصول الإيمان للمكلفين فأما لو كان مقصوده الإضلال وخلق الكفر فيهم لم يكن ذلك الكلام ملائماً لهذا المقصود والثاني أنه عليه السلام إذا قال لهم إن الله يخلق الكفر والضلال فيكم فلهم أن يقولوا له فما الفائدة في بيانك وما المقصود من إرسالك وهل يمكننا أن نزيل كفراً خلقه الله تعالى فينا عن أنفسنا وحينئذ تبطل دعوة النبوة وتفسد بعثة الرسل الثالث أنه إذا كان الكفر حاصلاً بتخليق الله تعالى ومشيئته وجب أن يكون الرضا به واجباً لأن الرضا بقضاء الله تعالى واجب وذلك لا يقوله عاقل والرابع أنا قد دللنا على أن مقدمة هذه الآية وهو قوله لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ( إبراهيم 1 ) يدل على مذهب العدل وأيضاً مؤخرة الآية يدل عليه وهو قوله وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فكيف يكون حكيماً من كان خالقاً للكفر والقبائح ومريداً لها فثبت بهذه الوجوه أنه لا يمكن حمل قوله فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء على أنه تعالى يخلق الكفر في العبد فوجب المصير إلى التأويل وقد استقصينا ما في هذه التأويلات في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ( البقرة 26 ) ولا بأس بإعادة بعضها فالأول أن المراد بالإضلال هو الحكم بكونه كافراً ضالاً كما يقال فلان يكفر فلاناً ويضلله أي يحكم بكونه كافراً ضالاً والثاني أن يكون الإضلال عبارة عن الذهاب بهم عن طريق الجنة إلى النار والهداية عبارة عن إرشادهم إلى طريق الجنة والثالث أنه تعالى لما ترك الضال على إضلاله ولم يتعرض له صار كأنه أضله والمهتدي لما أعانه بالألطاف صار كأنه هو الذي هداه قال صاحب ( الكشاف ) المراد بالإضلال التخلية ومنع الألطاف وبالهداية التوفيق واللطف
والجواب عن قولهم أولاً أن قوله تعالى لِيُبَيّنَ لَهُمُ لا يليق به أن يضلهم
قلنا قال الفراء إذا ذكر فعل وبعده فعل آخر فإن كان الفعل الثاني مشاكلاً للأول نسقته عليه وإن لم يكن مشاكلاً له استأنفته ورفعته ونظيره قوله تعالى يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ ( التوبة 32 ) فقوله وَيَأْبَى اللَّهُ في موضع رفع لا يجوز إلا ذلك لأنه لا يحسن أن يقال يريدون أن يأبى الله فلما لم يمكن وضع الثاني موضع الأول بطل العطف ونظيره أيضاً قوله لّنُبَيّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِى الاْرْحَامِ ( الحج 5 ) ومن ذلك قولهم أردت أن أزورك فيمنعني المطر بالرفع غير منسوق على ما قبله لما ذكرناه ومثله قول الشاعر

يريد أن يعربه فيعجمه
إذا عرفت هذا فنقول ههنا قال تعالى لِيُبَيّنَ لَهُمُ ثم قال فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء ذكر فيضل بالرفع فدل على أنه مذكور على سبيل الاستئناف وأنه غير معطوف على ما قبله وأقول تقرير هذا الكلام من حيث المعنى كأنه تعالى قال وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليكون بيانه لهم تلك الشرائع بلسانهم الذي ألفوه واعتادوه ثم قال ومع أن الأمر كذلك فإنه تعالى يضل من يشاء ويهدي من يشاء والغرض منه التنبيه على أن تقوية البيان لا توجب حصول الهداية فربما قوي البيان ولا تحصل الهداية وربما ضعف البيان وحصلت الهداية وإنما كان الأمر كذلك لأجل أن الهداية والضلال لا يحصلان إلا من الله تعالى أما قوله ثانياً لو كان الضلال حاصلاً بخلق الله تعالى لكان الكافر أن يقول له ما الفائدة في بيانك ودعوتك فنقول يعارضه أن الخصم يسلم أن هذه الآيات أخبار عن كونه ضالاً فيقول له الكافر لما أخبر إلهك عن كوني كافراً فإن آمنت صار إلهك كاذباً فهل أقدر على جعل إلهك كاذباً وهل أقدر على جعل علمه جهلاً وإذا لم أقدر عليه فكيف يأمرني بهذا الإيمان فثبت أن هذا السؤال الذي أورده الخصم علينا هو أيضاً وارد عليه وأما قوله ثالثاً يلزم أن يكون الرضا بالكفر واجباً لأن الرضا بقضاء الله تعالى واجب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب
قلنا ويلزمك أيضاً على مذهبك أنه يجب على العبد السعي في تكذيب الله وفي تجهيله وهذا أشد استحالة مما ألزمته علينا لأنه تعالى لما أخبر عن كفره وعلم كفره فإزالة الكفر عنه يستلزم قلب علمه جهلاً وخبره الصدق كذباً وأما قوله رابعاً إن مقدمة الآية وهي قوله تعالى لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ( إبراهيم 1 ) يدل على صحة الاعتزال فنقول قد ذكرنا أن قوله بِإِذْنِ رَبّهِمْ يدل على صحة مذهب أهل السنة وأما قوله خامساً أنه تعالى وصف نفسه في آخر الآية بكونه حكيماً وذلك ينافي كونه تعالى خالقاً للكفر مريداً له فنقول وقد وصف نفسه بكونه عزيزاً والعزيز هو الغالب القاهر فلو أراد الإيمان من الكافر مع أنه لا يحصل أو أراد عمل الكفر منهم وقد حصل لما بقي عزيزاً غالباً فثبت أن الوجوه التي ذكروها ضعيفة وأما التأويلات الثلاثة التي ذكروها فقد مر إبطالها في هذا الكتاب مراراً فلا فائدة في الإعادة
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِأايَاتِنَآ أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَة َ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُو ءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِى ذالِكُمْ بَلا ءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ

وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما بين أنه إنما أرسل محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) إلى الناس ليخرجهم من الظلمات إلى النور وذكر كمال إنعامه عليه وعلى قومه في ذلك الإرسال وفي تلك البعثة أتبع ذلك بشرح بعثة سائر الأنبياء إلى أقوامهم وكيفية معاملة أقوامهم معهم تصبيراً للرسول عليه السلام على أذى قومه وإرشاداً له إلى كيفية مكالمتهم ومعاملتهم فذكر تعالى على العادة المألوفة قصص بعض الأنبياء عليهم السلام فبدأ بذكر قصة موسى عليه السلام فقال وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِئَايَاتِنَا قال الأصم آيات موسى عليه السلام هي العصا واليد والجراد والقمل والضفادع والدم وفلق البحر وانفجار العيون من الحجر وإظلال الجبل وإنزال المن والسلوى وقال الجبائي أرسل الله تعالى موسى عليه السلام إلى قومه من بني إسرائيل بآياته وهي دلالاته وكتبه المنزلة عليه وأمره أن يبين لهم الدين وقال أبو مسلم الأصفهاني إنه تعالى قال في صفة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ( إبراهيم 1 ) وقال في حق موسى عليه السلام أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ والمقصود بيان أن المقصود من البعثة واحد في حق جميع الأنبياء عليهم السلام وهو أن يسعوا في إخراج الخلق من ظلمات الضلالات إلى أنوار الهدايات
المسألة الثانية قال الزجاج قوله أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ أي بأن أخرج قومك ثم قال ءانٍ ههنا تصلح أن تكون مفسرة بمعنى أي ويكون المعنى ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أي أخرج قومك كأن المعنى قلنا له أخرج قومك ومثله قوله وَانطَلَقَ الْمَلا مِنْهُمْ أَنِ امْشُواْ ( ص 6 ) أي أمشوا والتأويل قيل لهم امشوا وتصلح أيضاً أن تكون المخففة التي هي للخبر والمعنى أرسلناه بأن يخرج قومه إلا أن الجار حذف ووصلت ( أن ) بلفظ الأمر ونظيره قولك كتبت إليه أن قم وأمرته أن قم ثم إن الزجاج حكى هذين القولين عن سيبويه
أما قوله وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ فاعلم أنه تعالى أمر موسى عليه السلام في هذا المقام بشيئين أحدهما أن يخرجهم من ظلمات الكفر والثاني أن يذكرهم بأيام الله وفيه مسألتان
المسألة الأولى قال الواحدي أيام جمع يوم واليوم هو مقدار المدة من طلوع الشمس إلى غروبها وكانت الأيام في الأصل أيوام فاجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون فأدغمت إحداهما في الأخرى وغلبت الياء
المسألة الثانية أنه يعبر بالأيام عن الوقائع العظيمة التي وقعت فيها يقال فلان عالم بأيام العرب ويريد وقائعها وفي المثل من ير يوماً ير له معناه من رؤي في يوم مسروراً بمصرع غيره ير في يوم آخر حزيناً بمصرع نفسه وقال تعالى وَتِلْكَ الاْيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ( آل عمران 140 )
إذا عرفت هذا فالمعنى عظهم بالترغيب والترهيب والوعد والوعيد فالترغيب والوعد أن يذكرهم ما أنعم الله عليهم وعلى من قبلهم ممن آمن بالرسل في سائر ما سلف من الأيام والترهيب والوعيد أن يذكرهم بأس الله وعذابه وانتقامه ممن كذب الرسل ممن سلف من الأمم فيما سلف من الأيام مثل ما نزل بعاد وثمود وغيرهم من العذاب ليرغبوا في الوعد فيصدقوا ويجذروا من الوعيد فيتركوا التكذيب
واعلم أن أيام الله في حق موسى عليه السلام منها ما كان أيام المحنة والبلاء وهي الأيام التي كانت بنو

إسرائيل فيها تحت قهر فرعون ومنها ما كان أيام الراحة والنعماء مثل إنزال المن والسلوى وانفلاق البحر وتظليل الغمام
ثم قال تعالى إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ والمعنى أن في ذلك التذكير والتنبيه دلائل لمن كان صباراً شكوراً لأن الحال إما أن يكون حال محنة وبلية أو حال منحة وعطية فإن كان الأول كان المؤمن صباراً وإن كان الثاني كان شكوراً وهذا تنبيه على أن المؤمن يجب أن لا يخلو زمانه عن أحد هذين الأمرين فإن جرى الوقت على ما يلائم طبعه ويوافق إرادته كان مشغولاً بالشكر وإن جرى ما لا يلائم طبعه كان مشغولاً بالصبر
فإن قيل إن ذلك التذكيرات آيات للكل فلماذا خص الصبار الشكور بها
قلنا فيه وجوه الأول أنهم لما كانوا هم المنتفعون بتلك الآيات صارت كأنها ليست آيات إلا لهم كما في قوله هُدًى لّلْمُتَّقِينَ وقوله إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا والثاني لا يبعد أن يقال الانتفاع بهذا النوع من التذكير لا يمكن حصوله إلا لمن كان صابراً أو شاكراً أما الذي لا يكون كذلك لم ينتفع بهذه الآيات
واعلم أنه تعالى لما ذكر أنه أمر موسى عليه السلام بأن يذكرهم بأيام الله تعالى حكى عن موسى عليه السلام أنه ذكرهم بها فقال وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَة َ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوء الْعَذَابِ فقوله إِذْ أَنجَاكُمْ ظرف للنعمة بمعنى الأنعام أي اذكروا إنعام الله عليكم في ذلك الوقت بقي في الآية سؤالات
السؤال الأول ذكر في سورة البقرة يُذَبّحُونَ ( البقرة 49 ) وفي سورة الأعراف يَقْتُلُونَ ( الأعراف 41 ) وههنا وَيُذَبّحُونَ مع الواو فما الفرق
والجواب قال تعالى في سورة البقرة يُذَبّحُونَ بغير واو لأنه تفسير لقوله سُوء الْعَذَابِ وفي التفسير لا يحسن ذكر الواو تقول أتاني القوم زيد وعمرو لأنك أردت أن تفسر القوم بهما ومثله قوله تعالى وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ ( الفرقان 68 69 ) فالآثام لما صار مفسراً بمضاعفة العذاب لا جرم حذف عنه الواو أما في هذه السورة فقد أدخل الواو فيه لأن المعنى أنهم يعذبونهم بغير التذبيح وبالتذبيح أيضاً فقوله وَيُذَبّحُونَ نوع آخر من العذاب لا أنه تفسير لما قبله
السؤال الثاني كيف كان فعل آل فرعون بلاء من ربهم
والجواب من وجهين أحدهما أن تمكين الله إياهم حتى فعلوا ما فعلوا كان بلاء من الله والثاني وهو أن ذلك إشارة إلى الإنجاء وهو بلاء عظيم والبلاء هو الابتلاء وذلك قد يكون بالنعمة تارة وبالمحنة أخرى قال تعالى وَنَبْلُوكُم بِالشَّرّ وَالْخَيْرِ فِتْنَة ً ( الأنبياء 35 ) وهذا الوجه أولى لأنه يوافق صدر الآية وهو قوله تعالى وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَة َ اللَّهِ عَلَيْكُمْ
السؤال الثالث هب أن تذبيح الأبناء كان بلاء أما استحياء النساء كيف يكون بلاء
الجواب كانوا يستخدمونهن بالاستحياء في الخلاص منه نعمة وأيضاً إبقاؤهن منفردات عن الرجال فيه أعظم المضار

وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ
اعلم أن قوله وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ من جملة ما قال موسى لقومه كأنه قيل وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم واذكروا حين تأذن ربكم ومعنى تَأَذَّنَ أذن ربكم ونظير تأذن وآذن توعد وأوعد وتفضل وأفضل ولا بد في تفعل من زيادة معنى ليس في أفعل كأنه قيل وإذ آذن ربكم إيذاناً بليغاً ينتفي عنده الشكوك وتنزاح الشبهة والمعنى وإذ تأذن ربكم فقال لَئِن شَكَرْتُمْ فأجرى تَأَذَّنَ مجرى قال لأنه ضرب من القول وفي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لَئِن شَكَرْتُمْ
واعلم أن المقصود من الآية بيان أن من اشتغل بشكر نعم الله زاده الله من نعمه ولا بد ههنا من معرفة حقيقة الشكر ومن البحث عن تلك النعم الزائدة الحاصلة عن الاشتغال بالشكر أما الشكر فهو عبارة عن الاعتراف بنعمة المنعم مع تعظيمه وتوطين النفس على هذه الطريقة وأما الزيادة في النعم فهي أقسام منها النعم الروحانية ومنها النعم الجسمانية أما النعم الروحانية فهي أن الشاكر يكون أبداً في مطالعة أقسام نعم الله تعالى وأنواع فضله وكرمه ومن كثر إحسانه إلى الرجل أحبه الرجل لا محالة فشغل النفس بمطالعة أنواع فضل الله وإحسانه يوجب تأكد محبة العبد لله تعالى ومقام المحبة أعلى مقامات الصديقين ثم قد يترقى العبد من تلك الحالة إلى أن يصير حبه للمنعم شاغلاً له عن الالتفات إلى النعمة ولا شك أن منبع السعادات وعنوان كل الخيرات محبة الله تعالى ومعرفته فثبت أن الاشتغال بالشكر يوجب مزيد النعم الروحانية وأما مزيد النعم الجسمانية فلأن الاستقراء دل على أن من كان اشتغاله بشكر نعم الله أكثر كان وصول نعم الله إليه أكثر وبالجملة فالشكر إنما حسن موقعه لأنه اشتغال بمعرفة المعبود وكل مقام حرك العبد من عالم الغرور إلى عالم القدس فهو المقام الشريف العالي الذي يوجب السعادة في الدين والدنيا
وأما قوله وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ فالمراد منه الكفران لا الكفر لأن الكفر المذكور في مقابلة الشكر ليس إلا الكفران والسبب فيه أن كفران النعمة لا يحصل إلا عند الجهل بكون تلك النعمة نعمة من الله والجاهل بها جاهل بالله والجهل بالله من أعظم أنواع العقاب والعذاب وأيضاً فههنا دقيقة أخرى وهي أن ما سوى الواحد الأحد الحق ممكن لذاته وكل ممكن لذاته فوجوده إنما يحصل بإيجاد الواجب لذاته وعدمه إنما يحصل بإعدام الواجب لذاته وإذا كان كذلك فكل ما سوى الحق فهو منقاد للحق مطواع له وإذا كانت الممكنات بأسرها منقادة للحق سبحانه فكل قلب حضر فيه نور معرفة الحق وشرف جلاله انقاد لصاحب ذلك القلب ما سواه لأن حضور ذلك النور في قلبه يستخدم كل ما سواه بالطبع وإذا خلا القلب عن ذلك النور ضعف وصار خسيساً فيستخدمه كل ما سواه ويستحقره كل ما يغايره فبهذا الطريق الذوقي يحصل العلم بأن الاشتغال بمعرفة الحق يوجب انفتاح أبواب الخيرات في الدنيا والآخرة وأما الإعراض عن معرفة الحق بالاشتغال بمجرد الجسمانيات يوجب انفتاح أبواب الآفات والمخافات في الدنيا والآخرة

وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَن فِى الأرض جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِى ٌّ حَمِيدٌ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِى أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِى شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ
اعلم أن موسى عليه السلام لما بين أن الاشتغال بالشكر يوجب تزايد الخيرات في الدنيا وفي الآخرة والاشتغال بكفران النعم يوجب العذاب الشديد وحصول الآفات في الدنيا والآخرة بين بعده أن منافع الشكر ومضار الكفران لا تعود إلا إلى صاحب الشكر وصاحب الكفران أما المعبود والمشكور فإنه متعال عن أن ينتفع بالشكر أو يستضر بالكفران فلا جرم قال تعالى وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِى الاْرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِى ٌّ حَمِيدٌ والغرض منه بيان أنه تعالى إنما أمر بهذه الطاعات لمنافع عائدة إلى العابد لا لمنافع عائدة إلى المعبود والذي يدل على أن الأمر كذلك ما ذكره الله في قوله إِنَّ اللَّهَ لَغَنِى ٌّ وتفسيره أنه واجب الوجود لذاته واجب الوجود بحسب جميع صفاته واعتباراته فإنه لو لم يكن واجب الوجود لذاته لافتقر رجحان وجوده على عدمه إلى مرجح فلم يكن غنياً وقد فرضناه غنياً هذا خلف فثبت أن كونه غنياً يوجب كونه واجب الوجود في ذاته وإذا ثبت أنه واجب الوجود لذاته كان أيضاً واجب الوجود بحسب جميع كمالاته إذ لو لم تكن ذاته كافية في حصول ذلك الكمال لافتقر في حصول ذلك الكمال إلى سبب منفصل فحينئذ لا يكون غنياً وقد فرضناه غنياً هذا خلف فثبت أن ذاته كافية في حصول جميع كمالاته وإذا كان الأمر كذلك كان حميداً لذاته لأنه لا معنى للحميد إلا الذي استحق الحمد فثبت بهذا التقرير الذي ذكرناه أن كونه غنياً حميداً يقتضي أن لا يزداد بشكر الشاكرين ولا ينتقص بكفران الكافرين فلهذا المعنى قال إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِى الاْرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِى ٌّ حَمِيدٌ وهذه المعاني من لطائف الأسرار
واعلم أن قولنا إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِى الاْرْضِ جَمِيعًا سواء حمل على الكفر الذي يقابل الإيمان أو على الكفران الذي يقابل الشكر فالمعنى لا يتفاوت ألبتة فإنه تعالى غني عن العالمين في كمالاته وفي جميع نعوت كبريائه وجلاله
ثم إنه تعالى قال أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وذكر أبو مسلم الأصفهاني أنه يحتمل أن يكون ذلك خطاباً من موسى عليه السلام لقومه والمقصود منه أنه عليه السلام كان يخوفهم بمثل هلاك من تقدم ويجوز أن يكون مخاطبة من الله تعالى على لسان موسى لقومه يذكرهم أمر القرون الأولى والمقصود إنما هو حصول العبرة بأحوال المتقدمين وهذا المقصود حاصل على التقديرين إلا أن الأكثرين ذهبوا إلى أنه اتبداء مخاطبة لقوم الرسول ( صلى الله عليه وسلم )

واعلم أنه تعالى ذكر أقواماً ثلاثة وهم قوم نوح وعاد وثمود
ثم قال تعالى وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ وذكر صاحب ( الكشاف ) فيه احتمالين الأول أن يكون قوله وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جملة من مبتدأ وخبر وقعت اعتراضاً والثاني أن يقال قوله وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ معطوف على قوم نوح وعاد وثمود وقوله لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ فيه قولان
القول الأول أن يكون المراد لا يعلم كنه مقاديرهم إلا الله لأن المذكور في القرآن جملة فأما ذكر العدد والعمر والكيفية والكمية فغير حاصل
والقول الثاني أن المراد ذكر أقوام ما بلغنا أخبارهم أصلاً كذبوا رسلاً لم نعرفهم أصلاً ولا يعلمهم إلا الله والقائلون بهذا القول الثاني طعنوا في قول من يصل الأنساب إلى آدم عليه السلام كان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية يقول كذب النسابون يعني أنهم يدعون علم الأنساب وقد نفى الله علمها عن العباد وعن ابن عباس بين عدنان وبين إسماعيل ثلاثون أباً لا يعرفون ونظير هذه الآية قوله تعالى وَقُرُوناً بَيْنَ ذالِكَ كَثِيراً ( الفرقان 38 ) وقوله مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ( عافر 78 ) وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه كان في انتسابه لا يجاوز معد بن عدنان بن أدد وقال ( تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم وتعلموا من النجوم ما تستدلون به على الطريق ) قال القاضي وعلى هذا الوجه لا يمكن القطع على مقدار السنين من لدن آدم عليه السلام إلى هذا الوقت لأنه إن أمكن ذلك لم يبعد أيضاً تحصيل العلم بالأنساب الموصولة
فإن قيل أي القولين أولى
قلنا القول الثاني عندي أقرب لأن قوله تعالى لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ نفى العلم بهم وذلك يقتضي نفي العلم بذواتهم إذ لو كانت ذواتهم معلومة وكان المجهول هو مدد أعمارهم وكيفية صفاتهم لما صح نفي العلم بذواتهم ولما كان ظاهر الآية دليلاً على نفي العلم بذواتهم لا جرم كان الأقرب هو القول الثاني ثم إنه تعالى حكى عن هؤلاء الأقوام الذين تقدم ذكرهم أنه لما جاءتهم رسلهم بالبينات والمعجزات أتوا بأمور أولها قوله فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِى أَفْوَاهِهِمْ وفي معناه قولان الأول أن المراد باليد والفم الخارجتان المعلومتان والثاني أن المراد بهما شيء غير هاتين الجارحتين وإنما ذكرهما مجازاً وتوسعاً أما من قال بالقول الأول ففيه ثلاثة أوجه
الوجه الأول أن يكون الضمير في أَيْدِيهِمْ و أَفْوَاهِهِمْ عائداً إلى الكفار وعلى هذا ففيه احتمالات الأول أن الكفار ردوا أيديهم في أفواههم فعضوها من الغيظ والضجر من شدة نفرتهم عن رؤية الرسل واستماع كلامهم ونظيره قوله تعالى عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الاْنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ ( آل عمران 119 ) وهذا القول مروي عن ابن عباس وابن مسعود رحمهما الله تعالى وهو اختيار القاضي والثاني أنهم لما سمعوا كلام الأنبياء عجبوا منه وضحكوا على سبيل السخرية فعند ذلك ردوا أيديهم في أفواههم كما يفعل ذلك من غلبة الضحك فوضع يده على فيه والثالث أنهم وضعوا أيديهم على أفواههم مشيرين بذلك إلى الأنبياء أن كفوا عن هذا الكلام واسكتوا عن ذكر هذا الحديث وهذا مروي عن الكلبي والرابع أنهم أشاروا بأيديهم إلى ألسنتهم وإلى ما تكلموا به من قولهم إنا كفرنا بما أرسلتم به أي هذا هو الجواب عندنا عما ذكرتموه وليس

عندنا غيره إقناطاً لهم من التصديق ألا ترى إلى قوله فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِى أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ
الوجه الثاني أن يكون الضميران راجعين إلى الرسل عليهم السلام وفيه وجهان الأول أن الكفار أخذوا أيدي الرسل ووضعوها على أفواههم ليسكتوهم ويقطعوا كلامهم الثاني أن الرسل لما أيسوا منهم سكتوا ووضعوا أيدي أنفسهم على أفواه أنفسهم فإن من ذكر كلاماً عند قوم وأنكروه وخافهم فذلك المتكلم ربما وضع يد نفسه على فم نفسه وغرضه أن يعرفهم أنه لا يعود إلى ذلك الكرم ألبتة
الوجه الثالث أن يكون الضمير في أيديهم يرجع إلى الكفار وفي الأفواه إلى الرسل وفيه وجهان الأول أن الكفار لما سمعوا وعظ الأنبياء عليهم السلام ونصائحهم وكلامهم أشاروا بأيديهم إلى أفواه الرسل تكذيباً لهم ورداً عليهم والثاني أن الكفار وضعوا أيديهم على أفواه الأنبياء عليهم السلام منعاً لهم من الكلام ومن بالغ في منع غيره من الكلام فقد يفعل به ذلك أما على القول الثاني وهو أن ذكر اليد والفم توسع ومجاز ففيه وجوه
الوجه الأول قال أبو مسلم الأصفهاني المراد باليد ما نطقت به الرسل من الحجج وذلك لأن اسماع الحجة انعام عظيم والإنعام يسمى يداً يقال لفلان عندي يد إذا أولاه معروفاً وقد يذكر اليد المراد منها صفقة البيع والعقد كقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ( الفتح 10 ) فالبينات التي كان الأنبياء عليهم السلام يذكرونها ويقررونها نعم وأياد وأيضاً العهود التي كانوا يأتون بها مع القوم أيادي وجمع اليد في العدد القليل هو الأيدي وفي العدد الكثير هو الأيادي فثبت أن بيانات الأنبياء عليهم السلام وعهودهم صح تسميتها بالأيدي وإذا كانت النصائح والعهود إنما تظهر من الفم فإذا لم تقبل صارت مردودة إلى حيث جاءت ونظيره قوله تعالى إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ( النور 15 ) فلما كان القبول تلقياً بالأفواه عن الأفواه كان الدفع رداً في الأفواه فهذا تمام كلام أبي مسلم في تقرير هذا الوجه
الوجه الثاني نقل محمد بن جرير عن بعضهم أن معنى قوله فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِى أَفْوَاهِهِمْ أنهم سكتوا عن الجواب يقال للرجل إذا أمسك عن الجواب رد يده في فيه وتقول العرب كلمت فلاناً في حاجة فرد يده في فيه إذا سكت عنه فلم يجب ثم إنه زيف هذا الوجه وقال إنهم أجابوا بالتكذيب لأنهم قالوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ
الوجه الثالث المراد من الأيدي نعم الله تعالى على ظاهرهم وباطنهم ولما كذبوا الأنبياء فقد عرضوا تلك النعم للإزالة والإبطال فقوله رُدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِى أَفْوَاهِهِمْ أي ردوا نعم الله تعالى عن أنفسهم بالكلمات التي صدرت عن أفواههم ولا يبعد حمل ( في ) على معنى الباء لأن حروف الجر لا يمتنع إقامة بعضها مقام بعض
النوع الثاني من الأشياء التي حكاها الله تعالى عن الكفار قولهم إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ والمعنى إنا كفرنا بما زعمتم أن الله أرسلكم فيه لأنهم ما أقروا بأنهم أرسلوا
واعلم أن المرتبة الأولى هو أنهم سكتوا عن قبول قول الأنبياء عليهم السلام وحاولوا اسكات الأنبياء

عن تلك الدعوى وهذه المرتبة الثانية أنهم صرحوا بكونهم كافرين بتلك البعثة
والنوع الثالث قولهم وَإِنَّا لَفِى شَكّ مّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ قال صاحب ( الكشاف ) وقرىء تَدْعُونَا بادغام النون مُرِيبٍ موقع في الريبة أو ذي ريبة من أرابه والريبة قلق النفس وأن لا تطمئن إلى الأمر
فإن قيل لما ذكروا في المرتبة الثانية أنهم كافرون برسالتهم كيف ذكروا بعد ذلك كونهم شاكين مرتابين في صحة قولهم
قلنا كأنهم قالوا إما أن نكون كافرين برسالتكم أو أن ندع هذا الجزم واليقين فلا أقل من أن نكون شاكين مرتابين في صحة نبوتكم وعلى التقديرين فلا سبيل إلى الاعتراف بنبوتكم والله أعلم
قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِى اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ والأرض يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ
اعلم أن أولئك الكفار لما قالوا للرسل وَإِنَّا لَفِى شَكّ مّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ( إبراهيم 9 ) قالت رسلهم وهل تشكون في الله وفي كونه فاطر السموات والأرض وفاطراً لأنفسنا وأرواحنا وأرزاقنا وجميع مصالحنا وإنا لا ندعوكم إلا إلى عبادة هذا الإله المنعم ولا نمنعكم إلا عن عبادة غيره وهذه المعاني يشهد صريح العقل بصحتها فكيف قلتم وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب وهذا النظم في غاية الحسن وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قوله أَفِى اللَّهِ شَكٌّ استفهام على سبيل الإنكار فلما ذكر هذا المعنى أردفه بالدلالة الدالة على وجود الصانع المختار وهو قوله فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وقد ذكرنا في هذا الكتاب أن وجود السموات والأرض كيف يدل على احتياجه إلى الصانع المختار الحكيم مراراً وأطواراً فلا نعيدها ههنا
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) أدخلت همزة الإنكار على الظرف لأن الكلام ليس في الشك إنما هو في أن وجود الله تعالى لا يحتمل الشك وأقول من الناس من ذهب إلى أنه قبل الوقوف على الدلائل الدقيقة فالفطرة شاهدة بوجود الصانع المختار ويدل على أن الفطرة الأولية شاهدة بذلك وجوه
الوجه الأول قال بعض العقلاء إن من لطم على وجه صبي لطمة فتلك اللطمة تدل على وجوب الصانع وعلى حصول التكليف وعلى وجوب دار الجزاء وعلى وجوب النبي أما دلالتها على وجود

الصانع المختار فلأن الصبي العاقل إذا وقعت اللطمة على وجهه يصيح ويقول من الذي ضربني وما ذاك إلا أن شهادة فطرته تدل على أن اللطمة لما حدثت بعد عدمها وجب أن يكون حدوثها لأجل فاعل فعلها ولأجل مختار أدخلها في الوجود فلما شهدت الفطرة الأصلية بافتقار ذلك الحادث مع قلته وحقارته إلى الفاعل فبأن تشهد بافتقار جميع حوادث العالم إلى الفاعل كان أولى وأما دلالتها على وجوب التكليف فلأن ذلك الصبي ينادي ويصيح ويقول لم ضربني ذلك الضارب وهذا يدل على أن فطرته شهدت بأن الأفعال الإنسانية داخلة تحت الأمر والنهي ومندرجة تحت التكليف وأن الإنسان ما خلق حتى يفعل أي فعل شاء واشتهى وأما دلالتها على وجوب حصول دار الجزاء فهو أن ذلك الصبي يطلب الجزاء على تلك اللطمة وما دام يمكنه طلب ذلك الجزاء فإنه لا يتركه فلما شهدت الفطرة الأصلية بوجوب الجزاء على ذلك العمل القليل فبأن تشهد على وجوب الجزاء على جميع الأعمال كان أولى وأما دلالتها على وجوب النبوة فلأنهم يحتاجون إلى إنسان يبين لهم أن العقوبة الواجبة على ذلك القدر من الجناية كم هي ولا معنى للنبي إلا الإنسان الذي يقدر هذه الأمور ويبين لهم هذه الأحكام فثبت أن فطرة العقل حاكمة بأن الإنسان لا بد له من هذه الأمور الأربعة
الوجه الثاني في التنبيه على أن الإقرار بوجود الصانع بديهي هو أن الفطرة شاهد بأن حدوث دار منقوشة بالنقوش العجيبة مبنية على التركيبات اللطيفة الموافقة للحكم والمصلحة يستحيل إلا عند وجود نقاش عالم وبان حكيم ومعلوم أن آثار الحكمة في العالم العلوي والسفلي أكثر من آثار الحكمة في تلك الدار المختصرة فلما شهدت الفطرة الأصلية بافتقار النقش إلى النقاش والبناء إلى الباني فبأن تشهد بافتقار كل هذا العالم إلى الفاعل المختار الحكيم كان أولى
الوجه الثالث أن الإنسان إذا وقع في محنة شديدة وبلية قوية لا يبقى في ظنه رجاء المعاونة من أحد فكأنه بأصل خلفته ومقضتى جبلته يتضرع إلى من يخلصه منها ويخرجه عن علائقها وحبائلها وما ذاك إلا شهادة الفطرة بالإفتقار إلى الصانع المدبر
الوجه الرابع أن الموجود إما أن يكون غنياً عن المؤثر أو لا يكون فإن كان غنياً عن المؤثر فهو الموجود الواجب لذاته فإنه لا معنى للواجب لذاته إلا الموجود الذي لا حاجة به إلى غيره وإن لم يكن غنياً عن المؤثر فهو محتاج والمحتاج لا بد له من المحتاج إليه وذلك هو الصانع المختار
الوجه الخامس أن الاعتراف بوجود الإله المختار المكلف وبوجود المعاد أحوط فوجب المصير إليه فهذه مراتب أربعة أولها أن الإقرار بوجود الإله أحوط لأنه لو لم يكن موجوداً فلا ضرر في الإقرار بوجوده وإن كان موجوداً ففي إنكاره أعظم المضار وثانيها الإقرار بكونه فاعلاً مختاراً لأنه لو كان موجباً فلا ضرر في الإقرار بكونه مختاراً أما لو كان مختاراً ففي إنكار كونه مختاراً أعظم المضار وثالثها الإقرار بأنه كلف عباده لأنه لو لم يكلف أحداً من عبيده شيئاً فلا ضرر في اعتقاد أنه كلف العباد أما إنه لو كلف ففي إنكار تلك التكاليف أعظم المضار ورابعها الإقرار بوجود المعاد فإنه إن كان الحق أنه لا معاد فلا ضرر في الإقرار بوجوده لأنه لا يفوت إلا هذه اللذات الجسمانية وهي حقيرة ومنقوصة وإن كان الحق هو وجوب المعاد ففي إنكاره أعظم المضار فظهر أن الإقرار بهذه المقامات أحوط فوجب المصير إليه لأن بديهة العقل حاكمة بأنه يجب دفع الضرر عن النفس بقدر الإمكان

المسألة الثالثة لما أقام الدلالة على وجود الإله بدليل كونه فاطر السموات والأرض وصفه بكمال الرحمة والكرم والجود وبين ذلك من وجهين الأول قوله يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ قال صاحب ( الكشاف ) لو قال قائل ما معنى التبعيض في قوله من ذنوبكم ثم أجاب فقال ما جاء هكذا إلا في خطاب الكافرين كقوله أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ ( نوح 3 4 ) طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ ياقَوْمَنَا أَجِيبُواْ دَاعِى َ اللَّهِ وَءامِنُواْ بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ( الأحقاف 31 ) وقال في خطاب المؤمنين هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى تِجَارَة ٍ تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ( الصف 10 ) إلى أن قال يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ( آل عمران 31 ) والاستقراء يدل على صحة ما ذكرناه ثم قال وكأن ذلك للتفرقة بين الخطابين ولئلا يسوي بين الفريقين في المعاد وقيل إنه أراد أنه يغفر لهم ما بينهم وبين الله تعالى بخلاف ما بينهم وبين العباد من المظالم هذا كلام هذا الرجل وقال الواحدي في ( البسيط ) قال أبو عبيدة ( من ) زائدة وأنكر سيبويه زيادتها في الواجب وإذا قلنا إنها ليست زائدة فههنا وجهان أحدهما أنه ذكر البعض ههنا وأريد به الجميع توسعاً والثاني أن ( من ) ههنا للبدل والمعنى لتكون المغفرة بدلاً من الذنوب فدخلت من لتضمن المغفرة معنى البدل من السيئة وقال القاضي ذكر الأصم أن كلمة ( من ) ههنا تفيد التبعيض والمعنى أنكم إذا تبتم فإنه يغفر لكم الذنوب التي هي من الكبائر فأما التي تكون من باب الصغائر فلا حاجة إلى غفرانها لأنها في أنفسها مغفورة قال القاضي وقد أبعد في هذا التأويل لأن الكفار صغائرهم ككبائرهم في أنها لا تغفر إلا بالتوبة وإنما تكون الصغيرة مغفورة من المؤمنين الموحدين من حيث يزيد ثوابهم على عقابها فأما من لا ثواب له أصلاً فلا يكون شيء من ذنوبه صغيراً ولا يكون شيء منها مغفوراً ثم قال وفيه وجه آخر وهو أن الكافر قد ينسى بعض ذنوبه في حال توبته وإنابته فلا يكون المغفور منها إلا ما ذكره وتاب منه فهذا جملة أقوال الناس في هذه الكلمة
المسألة الرابعة أقول هذه الآية تدل على أنه تعالى قد يغفر الذنوب من غير توبة في حق أهل الإيمان والدليل عليه أنه قال يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ وعد بغفران بعض الذنوب مطلقاً من غير اشتراط التوبة فوجب أن يغفر بعض الذنوب مطلقاً من غير التوبة وذلك البعض ليس هو الكفر لإنعقاد الإجماع على أنه تعالى لا يغفر الكفر إلا بالتوبة عنه والدخول في الإيمان فوجب أن يكون البعض الذي يغفر له من غير التوبة هو ما عد الكفر من الذنوب
فإن قيل لم لا يجوز أن يقال كلمة ( من ) صلة على ما قاله أبو عبيدة أو نقول المراد من البعض ههنا هو الكل على ما قاله الواحدي أو نقول المراد منها إبدال السيئة بالحسنة على ما قاله الواحدي أيضاً أو نقول المراد منه تمييز المؤمن عن الكافر في الخطاب على ما قاله صاحب ( الكشاف ) أو نقول المراد منه تخصيص هذا الغفران بالكبائر على ما قاله الأصم أو نقول المراد منه الذنوب التي يذكرها الكافر عند الدخول في الإيمان على ما قاله القاضي فنقول هذه الوجوه بأسرها ضعيفة أما قوله إنها صلة فمعناه الحكم على كلمة من كلام الله تعالى بأنها حشو ضائع فاسد والعاقل لا يجوز المصير إليه من غير ضرورة فأما قول الواحدي المراد من كلمة ( من ) ههنا هو الكل فهو عين ما قاله أبو عبيدة لأن حاصله أن قوله يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ هو أنه يغفر لكم ذنوبكم وهذا عين ما نقله عن أبي عبيدة وحكي عن سيبويه إنكاره وأما

قوله المراد منه إبدال السيئة بالحسنة فليس في اللغة أن كلمة من تفيد الإبدال وأما قول صاحب ( الكشاف ) المراد تمييز خطاب المؤمن عن خطاب الكافر بمزيد التشريف فهو من باب الطامات لأن هذا التبعيض إن حصل فلا حاجة إلى ذكر هذا الجواب وإن لم يحصل كان هذا الجواب فاسداً وأما قول الأصم فقد سبق إبطاله وأما قول القاضي فجوابه أن الكافر إذا أسلم صارت ذنوبه بأسرها مغفورة لقوله عليه السلام ( التائب من الذنب كمن لا ذنب له ) فثبت أن جميع ما ذكروه من التأويلات تعسف ساقط بل المراد ما ذكرنا أنه تعالى يغفر بعض ذنوبه من غير توبة وهو ما عدا الكفر وأما الكفر فهو أيضاً من الذنوب وأنه تعالى لا يغفره إلا بالتوبة وإذا ثبت أنه تعالى يغفر كبائر كافر من غير توبة بشرط أن يأتي بالإيمان فبأن تحصل هذه الحالة للمؤمن كان أولى هذا ما خطر بالبال على سبيل الارتجال والله أعلم بحقيقة الحال
النوع الثاني مما وعد الله تعالى به في هذه الآية قوله وَيُؤَخّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وفيه وجهان الأول المعنى أنكم إن آمنتم أخر الله موتكم إلى أجل مسمى وإلا عاجلكم بعذاب الاستئصال الثاني قال ابن عباس المعنى يمتعكم في الدنيا بالطيبات واللذات إلى الموت
فإن قيل أليس إنه تعالى قال فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَة ً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ( الأعراف 34 ) فكيف قال ههنا وَيُؤَخّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى
قلنا قد تكلمنا في هذه المسألة في سورة الأنعام في قوله ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ( الأنعام 2 ) ثم حكى تعالى أن الرسل لما ذكروا هذه الأشياء لأولئك الكفار قالوا قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِى اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاواتِ وَالاْرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخّرَكُمْ إِلَى
واعلم أن هذا الكلام مشتمل على ثلاثة أنوع من الشبه
فالشبهة الأولى أن الأشخاص الإنسانية متساوية في تمام الماهية فيمتنع أن يبلغ التفاوت بين تلك الأشخاص إلى هذا الحد وهو أن يكون الواحد منهم رسولاً من عند الله مطلعاً على الغيب مخالطاً لزمرة الملائكة والباقون يكونون غافلين عن كل هذه الأحوال أيضاً كانوا يقولون إن كنت قد فارقتنا في هذه الأحوال العالية الإلهية الشريفة وجب أن تفارقنا في الأحوال الخسيسة وفي الحاجة إلى الأكل والشرب والحدث والوقاع وهذه الشبهة هي المراد من قولهم إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا
والشبهة الثانية التمسك بطريقة التقليد وهي أنهم وجدوا آباءهم وعلماءهم وكبراءهم مطبقين متفقين على عبادة الأوثان قالوا ويبعد أن يقال إن أولئك القدماء على كثرتهم وقوة خواطرهم لم يعرفوا بطلان هذا الدين وأن الرجل الواحد عرف فساده ووقف على بطلانه والعوام ربما زادوا في هذا الباب كلاماً آخر وذلك أن الرجل العالم إذا بين ضعف كلام بعض المتقدمين قالوا له إن كلامك إنما يظهر صحته لو كان المتقدمون حاضرين أما المناظرة مع الميت فسهلة فهذا كلام يذكره الحمقى والرعاع وأولئك الكفار أيضاً ذكروه وهذه الشبهة هي المراد من قوله تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا
والشبهة الثالثة أن قالوا المعجز لا يدل على الصدق أصلاً وإن كانوا سلموا على أن المعجز يدل على الصدق إلا أن الذي جاء به أولئك الرسل طعنوا فيه وزعموا أنها أمور معتادة وأنها ليست من باب

المعجزات الخارجة عن قدرة البشر وإلى هذا النوع من الشبهة الإشارة بقوله فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ فهذا تفسير هذه الآية بحسب الوسع والله أعلم
قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَآ آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ
اعلم أنه تعالى لما حكى عن الكفار شبهاتهم في الطعن في النبوة حكى عن الأنبياء عليهم السلام جوابهم عنها
أما الشبهة الأولى وهي قولهم إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا فجوابه أن الأنبياء سلموا أن الأمر كذلك لكنهم بينوا أن التماثل في البشرية والإنسانية لا يمنع من اختصاص بعض البشر بمنصب النبوة لأن هذا المنصب منصب يمن الله به على من يشاء من عباده فإذا كان الأمر كذلك فقد سقطت هذه الشبهة
واعلم أن هذا المقام فيه بحث شريف دقيق وهو أن جماعة من حكماء الإسلام قالوا إن الإنسان ما لم يكن في نفسه وبدنه مخصوصاً بخواص شريفة علوية قدسية فإنه يمتنع عقلاً حصول صفة النبوة له وأما الظاهريون من أهل السنة والجماعة فقد زعموا أن حصول النبوة عطية من الله تعالى يهبها لكل من يشاء من عباده ولا يتوقف حصولها على امتياز ذلك الإنسان عن سائر الناس بمزيد إشراق نفساني وقوة قدسية وهؤلاء تمسكوا بهذه الآية فإنه تعالى بين أن حصول النبوة ليس إلا بمحض المنة من الله تعالى والعطية منه والكلام من هذا الباب غامض غائص دقيق والأولون أجابوا عنه بأنهم لم يذكروا فضائلهم النفسانية والجسدانية تواضعاً منهم واقتصروا على قولهم وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ بالنبوة لأنه قد علم أنه تعالى لا يخصهم بتلك الكرامات إلا وهم موصوفون بالفضائل التي لأجلها استوجبوا ذلك التخصيص كما قال تعالى اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ( الأنعام 124 )
وأما الشبهة الثانية وهي قولهم إطباق السلف على ذلك الدين يدل على كونه حقاً لأنه يبعد أن يظهر للرجل الواحد ما لم يظهر للخلق العظيم فجوابه عين الجواب المذكور عن الشبهة الأولى لأن التمييز بين الحق والباطل والصدق والكذب عطية من الله تعالى وفضل منه ولا يبعد أن يخص بعض عبيده بهذه العطية وأن يحرم الجمع العظيم منها
وأما الشبهة الثالثة وهي قولهم إنا لا نرضى بهذه المعجزات التي أتيتم بها وإنما نريد معجزات قاهرة قوية

فالجواب عنها قوله تعالى وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وشرح هذا الجواب أن المعجزة التي جئنا بها وتمسكنا بها حجة قاطعة وبينة قاهرة ودليل تام فأما الأشياء التي طلبتموها فهي أمور زائدة والحكم فيها لله تعالى فإن خلقها وأظهرها فله الفضل وإن لم يخلقها فله العدل ولا يحكم عليه بعد ظهور قدر الكفاية ثم إنه تعالى حكى عن الأنبياء والرسل عليهم السلام أنهم قالوا بعد ذلك وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ والظاهر أن الأنبياء لما أجابوا عن شبهاتهم بذلك الجواب فالقوم أخذوا في السفاهة والتخويف والوعيد وعند هذا قالت الأنبياء عليهم السلام لا نخاف من تخويفكم ولا نلتفت إلى تهديدكم فإن توكلنا على الله واعتمادنا على فضل الله ولعل الله سبحانه كان قد أوحى إليهم أن أولئك الكفرة لا يقدرون على إيصال الشر والآفة إليهم وإن لم يكن حصل هذا الوحي فلا يبعد منهم أن لا يلتفتوا إلى سفاهتهم لما أن أرواحهم كانت مشرقة بالمعارف الإلهية مشرقة بأضواء عالم الغيب والروح متى كانت موصوفة بهذه الصفات فقلما يبالي بالأحوال الجسمانية وقلما يقيم لها وزناً في حالتي السراء والضراء وطورى الشدة والرخاء فلهذا السبب توكلوا على الله وعولوا على فضل الله وقطعوا أطماعهم عما سوى الله والذي يدل على أن المراد ما ذكرناه قوله تعالى حكاية عنهم وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا اذَيْتُمُونَا يعني أنه تعالى لما خصنا بهذه الدرجات الروحانية والمعارف الإلهية الربانية فكيف يليق بنا أن لا نتوكل على الله بل اللائق بنا أن لا نتوكل إلا عليه ولا نعول في تحصيل المهمات إلا عليه فإن من فاز بشرف العبودية ووصل إلى مكان الإخلاص والمكاشفة يقبح به أن يرجع في أمر من الأمور إلى غير الحق سواء كان ملكاً له أو ملكاً أو روحاً أو جسماً وهذه الآية دالة على أنه تعالى يعصم أولياءه المخلصين في عبوديته من كيد أعدائهم ومكرهم ثم قالوا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا اذَيْتُمُونَا فإن الصبر مفتاح الفرج ومطلع الخيرات والحق لا بد وأن يصير غالباً قاهراً والباطل لا بد وأن يصير مغلوباً مقهوراً ثم أعادوا قولهم وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكّلُونَ والفائدة فيه أنهم أمروا أنفسهم بالتوكل على الله في قوله وَمَا لَنَا أَن لا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ ثم لما فرغوا من أنفسهم أمروا أتباعهم بذلك وقالوا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكّلُونَ وذلك يدل على أن الآمر بالخير لا يؤثر قوله إلا إذا أتى بذلك الخير أولاً ورأيت في كلام الشيخ أبي حامد الغزالي رحمه الله فصلاً حسناً وحاصله أن الإنسان إما أن يكون ناقصاً أو كاملاً أو خالياً عن الوصفين أما الناقص فإما أن يكون ناقصاً في ذاته ولكنه لا يسعى في تنقيص حال غيره وإما أن يكون ناقصاً ويكون مع ذلك ساعياً في تنقيص حال الغير فالأول هو الضال والثاني هو الضال المضل وأما الكامل فإما أن يكون كاملاً ولا يقدر على تكميل الغير وهم الأولياء وإما أن يكون كاملاً ويقدر على تكميل الناقصين وهم الأنبياء ولذلك قال عليه السلام ( علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل ) ولما كانت مراتب النقصان والكمال ومراتب الإكمال والإضلال غير متناهية بحسب الكمية والكيفية لا جرم كانت مراتب الولاية والحياة غير متناهية بحسب الكمال والنقصان فالولي هو الإنسان الكامل الذي لا يقوى على التكميل والنبي هو الإنسان الكامل المكمل ثم قد تكون قوته الروحانية النفسانية وافية بتكميل إنسانين ناقصين وقد تكون أقوى من ذلك فيفي بتكميل عشرة ومائة وقد تكون تلك القوة قاهرة قوية تؤثر تأثير الشمس في العالم فيقلب أرواح أكثر أهل العلم من مقام الجهل إلى مقام المعرفة ومن طلب الدنيا إلى طلب الآخرة وذلك مثل روح محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإن وقت ظهوره كان العالم مملوءاً من اليهود وأكثرهم كانوا مشبهة ومن النصارى وهم حلولية ومن المجوس وقبح مذاهبهم

ظاهر ومن عبدة الأوثان وسخف دينهم أظهر من أن يحتاج إلى بيان فلما ظهرت دعوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) سرت قوة روحه في الأرواح فقلب أكثر أهل العالم من الشرك إلى التوحيد ومن التجسيم إلى التنزيه ومن الاستغراق في طلب الدنيا إلى التوجه إلى عالم الآخرة فمن هذا المقام ينكشف للإنسان مقام النبوة والرسالة
إذا عرفت هذا فنقول قوله وَمَا لَنَا أَن لا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ إشارة إلى ما كانت حاصلة لهم من كمالات نفوسهم وقولهم في آخر الأمر وعلى الله فليتوكل المتوكلون إشارة إلى تأثير أرواحهم الكاملة في تكميل الأرواح الناقصة فهذه أسرار عالية مخزونة في ألفاظ القرآن فمن نظر في علم القرآن وكان غافلاً عنها كان محروماً من أسرار علوم القرآن والله أعلم وفي الآية وجه آخر وهو أن قوله وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ المراد منه أن الذين يطلبون سائر المعجزات وجب عليهم أن يتوكلوا في حصولها على الله تعالى لا عليها فإن شاء أظهرها وإن شاء لم يظهرها
وأما قوله في آخر الآية وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا اذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكّلُونَ المراد منه الأمر بالتوكل على الله في دفع شر الناس الكفار وسفاهتهم وعلى هذا التقدير فالتكرار غير حاصل لأن قوله وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ وارد في موضعين مختلفين بحسب مقصودين متغايرين وقيل أيضاً الأول ذكر لاستحداث التوكل والثاني للسعي في إبقائه وإدامته والله أعلم
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرض مِن بَعْدِهِمْ ذالِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِى وَخَافَ وَعِيدِ وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ
اعلم أنه تعالى لما حكى عن الأنبياء عليهم السلام أنهم اكتفوا في دفع شرور أعدائهم بالتوكل عليه والاعتماد على حفظه وحياطته حكى عن الكفار أنهم بالغوا في السفاهة وقالوا لَنُخْرِجَنَّكُمْ مّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا والمعنى ليكونن أحد الأمرين لا محالة إما إخراجكم وإما عودكم إلى ملتنا والسبب فيه أن أهل الحق في كل زمان يكونون قليلين وأهل الباطل يكونون كثيرين والظلمة والفسقة يكونون متعاونين متعاضدين فلهذه الأسباب قدروا على هذه السفاهة
فإن قيل هذا يوهم أنهم كانوا على ملتهم في أول الأمر حتى يعودوا فيها

قلنا الجواب من وجوه
الوجه الأول أن أولئك الأنبياء عليهم السلام إنما نشأوا في تلك البلاد وكانوا من تلك القبائل في أول الأمر ما أظهروا المخالفة مع أولئك الكفار بل كانوا في ظاهر الأمر معهم من غير إظهار مخالفة فالقوم ظنوا لهذا السبب أنهم كانوا في أول الأمر على دينهم فلهذا السبب قالوا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا
الوجه الثاني أن هذا حكاية كلام الكفار ولا يجب في كل ما قالوه أن يكونوا صادقين فيه فلعلهم توهموا ذلك مع أنه ما كان الأمر كما توهموه
الوجه الثالث لعل الخطاب وإن كان في الظاهر مع الرسل إلا أن المقصود بهذا الخطاب أتباعهم وأصحابهم ولا بأس أن يقال إنهم كانوا قبل ذلك لوقت على دين أولئك الكفار
الوجه الرابع قال صاحب ( الكشاف ) العود بمعنى الصيرورة كثير في كلام العرب
الوجه الخامس لعل أولئك الأنبياء كانوا قبل إرسالهم على ملة من الملل ثم إنه تعالى أوحى إليهم بنسخ تلك الملة وأمرهم بشريعة أخرى وبقي الأقوام على تلك الشريعة التي صارت منسوخة مصرين على سبيل الكفر وعلى هذا التقدير فلا يبعد أن يطلبوا من الأنبياء أن يعودوا إلى تلك الملة
الوجه السادس لا يبعد أن يكون المعنى أو لتعودن في ملتنا أي إلى ما كنتم عليه قبل إدعاء الرسالة من السكوت عن ذكر معايبة ديننا وعدم التعرض له بالطعن والقدح وعلى جميع هذه الوجوه فالسؤال زائل والله أعلم
واعلم أن الكفار لما ذكروا هذا الكلام قال تعالى فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الاْرْضَ مِن بَعْدِهِمْ قال صاحب ( الكشاف ) لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ حكاية تقتضي إضمار القول أو إجراء الإيحاء مجرى القول لأنه ضرب منه وقرأ أبو حيوة ليهلكن الظالمين وليسكننكم بالياء اعتباراً لأوحى فإن هذا اللفظ لفظ الغيبة ونظيره قولك أقسم زيد ليخرجن ولأخرجن والمراد بالأرض أَرْضُ الْظَّالِمِينَ وَدِيَارَهُمْ ونظيره قوله وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الاْرْضِ وَمَغَارِبَهَا ( الأعراف 137 ) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ ( الأحزاب 27 ) وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( من آذى جاره أورثه الله داره ) واعلم أن هذه الآية تدل على أن من توكل على ربه في دفع عدوه كفاه الله أمر عدوه
ثم قال تعالى ذالِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِى وَخَافَ وَعِيدِ فقوله ذلك إشارة إلى أن ما قضى الله تعالى به من إهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين ديارهم أثر ذلك الأمر حق لمن خاف مقامي وفيه وجوه الأول المراد موقفي وهو موقف الحساب لأن ذلك الموقف موقف الله تعالى الذي يقف فيه عباده يوم القيامة ونظيره قوله وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ ( النازعات 40 ) وقوله وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ ( الرحمن 46 ) الثاني أن المقام مصدر كالقيامة يقال قام قياماً ومقاماً قال الفراء ذلك لمن خاف قيامي عليه ومراقبتي إياه كقوله أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ( الرعد 33 ) الثالث ذالِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِى أي إقامتي على العدل والصواب فإنه تعالى لا يقضي إلا بالحق ولا يحكم إلا بالعدل وهو تعالى مقيم على العدل لا يميل عنه ولا ينحرف ألبتة الرابع ذالِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِى أي مقام العائذ عندي وهو من باب إضافة المصدر إلى

المفعول الخامس ذالِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِى أي لم خافني وذكر المقام ههنا مثل ما يقال سلام الله على المجلس الفلاني العالي والمراد سلام الله على فلان فكذا ههنا
ثم قال تعالى وَخَافَ وَعِيدِ قال الواحدي الوعيد اسم من أوعد إيعاداً وهو التهديد قال ابن عباس خاف ما أوعدت من العذاب
واعلم أنه تعالى ذكر أولاً قوله ذالِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِى ثم عطف عليه قوله وَخَافَ وَعِيدِ فهذا يقتضي أن يكون الخوف من الله تعالى مغايراً للخوف من وعيد الله ونظيره أن حب الله تعالى مغاير لحب ثواب الله وهذا مقام شريف عال في أسرار الحكمة والتصديق
ثم قال وَاسْتَفْتَحُواْ وفيه مسألتان
المسألة الأولى للاستفتاح ههنا معنيان أحدهما طلب الفتح بالنصرة فقوله وَاسْتَفْتَحُواْ أي واستنصروا الله على أعدائهم فهو كقوله إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ ( الأنفال 19 ) والثاني الفتح الحكم والقضاء فقول ربنا وَاسْتَفْتَحُواْ أي واستحكموا وسألوه القضاء بينهم وهو مأخوذ من الفتاحة وهي الحكومة كقوله رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقّ ( الأعراف 19 )
إذا عرفت هذا فنقول كلا القولين ذكره المفسرون أما على القول الأول فالمستفتحون هم الرسل وذلك لأنهم استنصروا الله ودعوا على قومهم بالعذاب لما أيسوا من إيمانهم قَالَ نُوحٌ رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الاْرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً ( نوح 26 ) وقال موسى رَبَّنَا اطْمِسْ ( يونس 88 ) الآية وقال لوط رَبّ انصُرْنِى عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ ( العنكبوت 30 ) وأما على القول الثالث وهو طلب الحكمة والقضاء فالأولى أن يكون المستفتحون هم الأمم وذلك أنهم قالوا اللهم إن كان هؤلاء الرسل صادقين فعذبنا ومنه قول كفار قريش اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَة ً مّنَ السَّمَاء ( الأنفال 32 ) وكقول آخرين ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( العنكبوت 29 )
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) قوله وَاسْتَفْتَحُواْ معطوف على قوله فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ وقرىء واستفتحوا بلفظ الأمر وعطفه على قوله لَنُهْلِكَنَّ أي أوحى إليهم ربهم وقال لهم لَنُهْلِكَنَّ وقال لهم استفتحوا
ثم قال تعالى وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ وفيه مسألتان
المسألة الأولى إن قلنا المستفتحون هم الرسل كان المعنى أن الرسل استفتحوا فنصروا وظفروا بمقصودهم وفازوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ وهم قومهم وإن قلنا المستفتحون هم الكفرة فكان المعنى أن الكفار استفتحوا على الرسل ظناً منهم أنهم على الحق والرسل على الباطل وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ منهم وما أفلح بسبب استفتاحه على الرسل
المسألة الثانية الجبار ههنا المتكبر على طاعة الله وعبادته ومنه قوله تعالى وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً ( مريم 14 ) قال أبو عبيدة عن الأحمر يقال فيه جبرية وجبروة وجبروت وجبورة وحكى الزجاج الجبرية والجبر بكسر الجيم والباء والنجبار والجبرياء قال الواحدي فهي ثمان لغات في مصدر الجبار وفي الحديث أن امرأة حضرت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأمرها أمراً فأبت عليه فقال ( دعوها فإنها جبارة ) أي مستكبرة وأما

العنيد فقد اختلف أهل اللغة في اشتقاقه قال النضر بن شميل العنود الخلاف والتباعد والترك وقال غيره أصله من العند وهو الناحية يقال فلان يمشي عنداً أي ناحية فمعنى عاند وعند أخذ في ناحية معرضاً وعاند فلان فلاناً إذا جانبه وكان منه على ناحية
إذا عرفت هذا فنقول كونه جباراً متكبراً إشارة إلى الخلق النفساني وكونه عنيداً إشارة إلى الأثر الصادر عن ذلك الخلق وهو كونه مجانباً عن الحق منحرفاً عنه ولا شك أن الإنسان الذي يكون خلقه هو التجبر والتكبر وفعله هو العنود وهو الانحراف عن الحق والصدق كان خائباً عن كل الخيرات خاسراً عن جميع أقسام السعادات
واعلم أنه تعالى لما حكم عليه بالخيبة ووصفه بكونه جباراً عنيداً وصف كيفية عذابه بأمور الأول قوله مِّن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وفيه إشكال وهو أن المراد أمامه جهنم فكيف أطلق لفظ الوراء على القدام والأمام
وأجابوا عنه من وجوه الأول أن لفظ ( وراء ) اسم لما يوارى عنك وقدام وخلف متوار عنك فصح إطلاق لفظ ( وراء ) على كل واحد منهما قال الشاعر عسى الكرب الذي أمسيت فيه
يكون وراءه فرج قريب
ويقال أيضاً الموت وراء كل أحد الثاني قال أبو عبيدة وابن السكيت الوراء من الأضداد يقع على الخلف والقدام والسبب فيه أن كل ما كان خلفاً فإنه يجوز أن ينقلب قداماً وبالعكس فلا جرم جاز وقوع لفظ الوراء على القدام ومنه قوله تعالى وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ ( الكهف 79 ) أي أمامهم ويقال الموت من وراء الإنسان الثاني قال ابن الأنباري ( وراء ) بمعنى بعد قال الشاعر
وليس وراء الله للمرء مذهب
أي وليس بعد الله مذهب
إذا ثبت هذا فنقول إنه تعالى حكم عليه بالخيبة في قوله وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ
ثم قال وَمِن وَرَائِهِ جَهَنَّمَ أي ومن بعده الخيبة يدخل جهنم
النوع الثاني مما ذكره الله تعالى من أحوال هذا الكافر قوله وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وفيه سؤالات
السؤال الأول علام عطف وَيُسْقَى
الجواب على محذوف تقديره من ورائه جهنم يلقى فيها ويسقى من ماء صديد
السؤال الثاني عذاب أهل النار من وجوه كثيرة فلم خص هذه الحالة بالذكر
الجواب يشبه أن تكون هذه الحالة أشد أنواع العذاب فخصص بالذكر مع قوله وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيّتٍ
السؤال الثالث ما وجه قوله مِن مَّاء صَدِيدٍ

الجواب أنه عطف بيان والتقدير أنه لما قال وَيُسْقَى مِن مَّاء فكأنه قيل وما ذلك الماء فقال صَدِيدٍ والصديد ما يسيل جلود أهل النار وقيل التقدير ويسقى من ماء كالصديد وذلك بأن يخلق الله تعالى في جهنم ما يشبه الصديد في النتن والغلظ والقذارة وهو أيضاً يكون في نفسه صديداً لأن كراهته تصد عن تناوله وهو كقوله وَسُقُواْ مَاء حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ ( محمد 15 ) وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِى الْوجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ ( الكهف 29 )
السؤال الرابع ما معنى يتجرعه ولا يكاد يسيغه
الجواب التجرع تناول المشروب جرعة جرعة على الاستمرار ويقال ساغ الشراب في الحلق يسوغ سوغاً وأساغه إساغة واعلم أن ( يكاد ) فيه قولان
القول الأول أن نفيه إثبات وإثباته نفي فقوله وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ أي ويسيغه بعد إبطاء لأن العرب تقول ما كدت أقوم أي قمت بعد إبطاء قال تعالى فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ ( البقرة 7 ) يعني فعلوا بعد إبطاء والدليل على حصول الإساغة قوله تعالى يُصْهَرُ بِهِ مَا فِى بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ ( الحج 20 ) ولا يحصل الصهر إلا بعد الإساغة وأيضاً فإن قوله يَتَجَرَّعُهُ يدل على أنهم أساغوا الشيء بعد الشيء فكيف يصح أن يقال بعده إنه يسيغه ألبتة
والقول الثاني أن كاد للمقاربة فقول لاَ يَكَادُونَ لنفي المقاربة يعني ولم يقارب أن يسيغه فكيف يحصل الإساغة كقوله تعالى لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ( النور 40 ) أي لم يقرب من رؤيتها فكيف يراها
فإن قيل فقد ذكرتم الدليل على حصول الإساغة فكيف الجمع بينه وبين هذا الوجه
قلنا عنه جوابان أحدهما أن المعنى لا يسيغ جميعه كأنه يجرع البعض وما ساغ الجميع الثاني أن الدليل الذي ذكرتم إنما دل على وصول بعض ذلك الشراب إلى جوف الكافر إلا أن ذلك ليس بإساغة لأن الإساغة في اللغة إجراء الشراب في الحلق بقبول النفس واستطابة المشروب والكافر يتجرع ذلك الشراب على كراهية ولا يسيغه أي لا يستطيبه ولا يشربه شرباً بمرة واحدة وعلى هذين الوجهين يصح حمل لا يكاد على نفي المقاربة والله أعلم
النوع الثالث مما ذكره الله تعالى في وعيد هذا الكافر قوله وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيّتٍ ( إبراهيم 17 ) والمعنى أن موجبات الموت أحاطت به من جميع الجهات ومع ذلك فإنه لا يموت وقيل من كل جزء من أجزاء جسده
النوع الرابع قوله وَمِن وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ وفيه وجهان الأول أن المراد من العذاب الغليظ كونه دائماً غير منقطع الثاني أنه في كل وقت يستقبله يتلقى عذاباً أشد مما قبله قال المفضل هو قطع الأنفاس وحبسها في الأجساد والله أعلم
مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَى ْءٍ ذالِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذالِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ

اعلم أنه تعالى لما ذكر أنواع عذابهم في الآية المتقدمة بين في هذه الآية أن أعمالهم بأسرها تصير ضائعة باطلة لا ينتفعون بشيء منها وعند هذا يظهر كمال خسرانهم لأنهم لا يجدون في القيامة إلا العقاب الشديد وكل ما عملوه في الدنيا وجدوه ضائعاً باطلاً وذلك هو الخسران الشديد وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في ارتفاع قوله مَثَلُ الَّذِينَ وجوه الأول قال سيبويه التقدير وفيما يتلى عليكم مثل الذين كفروا أو مثل الذين كفروا فيما يتلى عليكم وقوله كَرَمَادٍ جملة مستأنفة على تقدير سؤال سائل يقول كيف مثلهم فقيل أعمالهم كرماد الثاني قال الفراء التقدير مثل أعمال الذين كفروا بربهم كرماد فحذف المضاف اعتماداً على ذكره بعد المضاف إليه وهو قوله أَعْمَالَهُمْ ومثله قوله تعالى الَّذِى أَحْسَنَ كُلَّ شَى ْء خَلَقَهُ ( السجدة 7 ) أي خلق كل شيء وكذا قوله وَيَوْمَ الْقِيَامَة ِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّة ٌ ( الزمر 60 ) المعنى ترى وجوه الذين كذبوا على الله مسودة الثالث أن يكون التقدير صفة الذين كفروا أعمالهم كرماد كقولك صفة زيد عرضه مصون وماله مبذول الرابع أن تكون أعمالهم بدلاً من قوله مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ والتقدير مثل أعمالهم وقوله كَرَمَادٍ هو الخبر الخامس أن يكون المثل صلة وتقديره الذين كفروا أعمالهم
المسألة الثانية اعلم أن وجه المشابهة بين هذا المثل وبين هذه الأعمال هو أن الريح العاصف تطير الرماد وتفرق أجزاءه بحيث لا يبقى لذلك الرماد أثر ولا خبر فكذا ههنا أن كفرهم أبطل أعمالهم وأحبطها بحيث لم يبق من تلك الأعمال معهم خبر ولا أثر ثم اختلفوا في المراد بهذه الأعمال على وجوه
الوجه الأول أن المراد منها ما عملوه من أعمال البر كالصدقة وصلة الرحم وبر الوالدين وإطعام الجائع وذلك لأنها تصير محبطة باطلة بسبب كفرهم ولولا كفرهم لانتفعوا بها
والوجه الثاني أن المراد من تلك الأعمال عبادتهم للأصنام وما تكلفوه من كفرهم الذي ظنوه إيماناً وطريقاً إلى الخلاص والوجه في خسرانهم أنهم أتعبوا أبدانهم فيها الدهر الطويل لكي ينتفعوا بها فصارت وبالاً عليهم
والوجه الثالث أن المراد من هذه الأعمال كلا القسمين لأنهم إذا رأوا الأعمال التي كانت في أنفسها خيرات قد بطلت والأعمال التي ظنوها خيرات وأفنوا فيها أعمارهم قد بطلت أيضاً وصارت من أعظم الموجبات لعذابهم فلا شك أنه تعظم حسرتهم وندامتهم فلذلك قال تعالى وَذالِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ
المسألة الثالثة قرىء الرياح في يوم عاصف جعل العصف لليوم وهو لما فيه وهو الريح أو الرياح كقولك يوم ماطر وليلة ساكرة وإنما السكور لريحها قال الفراء وإن شئت قلت في يوم ذي عصوف وإن

شئت قلت في يوم عاصف الريح فحذف ذكر الريح لكونه مذكوراً قبل ذلك وقرىء في يوم عاصف بالإضافة
المسألة الرابعة قوله لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَى ْء أي لا يقدرون مما كسبوا على شيء منتفع به لا في الدنيا ولا في الآخرة وذلك لأنه ضاع بالكلية وفسد وهذه الآية دالة على كون العبد مكتسباً لأفعاله
واعلم أنه تعالى لما تمم هذا المثال قال أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بِالْحَقّ وفيه مسائل
المسألة الأولى وجه النظم أنه تعالى لما بين أن أعمالهم تصير باطلة ضائعة بين أن ذلك البطلان والإحباط إنما جاء بسبب صدر منهم وهو كفرهم بالله وإعراضهم عن العبودية فإن الله تعالى لا يبطل أعمال المخلصين ابتداء وكيف يليق بحكمته أن يفعل ذلك وأنه تعالى ما خلق كل هذا العالم إلا لداعية الحكمة والصواب
المسألة الثانية قرأ حمزة والكسائي خَالِقٌ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ على اسم الفاعل على أنه خبر أن والسموات والأرض على الإضافة كقوله فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( إبراهيم 10 ) فَالِقُ الإِصْبَاحِ ( الأنعام 95 ) و جَعَلَ الَّيْلَ سَكَناً ( الأنعام 96 ) والباقون خلق على فعل الماضي السَّمَاء والاْرْضِ بالنصب لأنه مفعول
المسألة الثالثة قوله بِالْحَقّ نظير لقوله في سورة يونس وَمَا خَلَقَ اللَّهُ ذالِكَ إِلاَّ بِالْحَقّ ( يونس 5 ) ولقوله في آل عمران رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً ( آل عمران 191 ) ولقوله في ص وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ( ص 27 ) أما أهل السنة فيقولون إلا بالحق وهو دلالتهما على وجود الصانع وعلمه وقدرته وأما المعتزلة فيقولون إلا بالحق أي لم يخلق ذلك عبثاً بل لغرض صحيح
ثم قال تعالى إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ والمعنى أن من كان قادراً على خلق السموات والأرض بالحق فبأن يقدر على إفناء قوم وإماتتهم وعلى إيجاد آخرين وإحيائهم كان أولى لأن القادر على الأصعب الأعظم بأن يكون قادراً على الأسهل الأضعف أولى قال ابن عباس هذا الخطاب مع كفار مكة يريد أميتكم يا معشر الكفار وأخلق قوماً خيراً منكم وأطوع منكم
ثم قال وَمَا ذالِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ أي ممتنع لما ذكرنا أن القادر على إفناء كل العالم وإيجاده بأن يكون قادراً على إفناء أشخاص مخصوصين وإيجاده أمثالهم أولى وأحرى والله أعلم
وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَى ْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ

اعلم أنه تعالى لما ذكر أصناف عذاب هؤلاء الكفار ثم ذكر عقيبه أن أعمالهم تصير محبطة باطلة ذكر في هذه الآية كيفية خجالتهم عند تمسك أتباعهم وكيفية افتضاحهم عندهم وهذا إشارة إلى العذاب الروحاني الحاصل بسبب الفضيحة والخجالة وفيه مسائل
المسألة الأولى برز معناه في اللغة ظهر بعد الخفاء ومنه يقال للمكان الواسع البراز لظهوره وقيل في قوله وَتَرَى الاْرْضَ بَارِزَة ً ( الكهف 47 ) أي ظاهرة لا يسترها شيء وامرأة برزة إذا كانت تظهر للناس ويقال برز فلان على أقرانه إذا فاقهم وسبقهم وأصله في الخيل إذا سبق أحدها قيل برز عليها كأنه خرج من غمارها فظهر
إذا عرفت هذا فنقول ههنا أبحاث
البحث الأول قوله وَبَرَزُواْ ورد بلفظ الماضي وإن كان معناه الاستقبال لأن كل ما أخبر الله تعالى عنه فهو صدق وحق فصار كأنه قد حصل ودخل في الوجود ونظيره قوله وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّة ِ ( الأعراف 50 )
البحث الثاني قد ذكرنا أن البروز في اللغة عبارة عن الظهور بعد الاستتار وهذا في حق الله تعالى محال فلا بد فيه من التأويل وهو من وجوه الأول أنهم كانوا يستترون من العيون عند ارتكاب الفواحش ويظنون أن ذلك خاف على الله تعالى فإذا كان يوم القيامة انكشفوا لله تعالى عند أنفسهم وعلموا أن الله لا يخفى عليه خافية الثاني أنهم خرجوا من قبورهم فبرزوا لحساب الله وحكمه الثالث وهو تأويل الحكماء أن النفس إذا فارقت الجسد فكأنه زال الغطاء والوطاء وبقيت متجردة بذاتها عارية عن كل ما سواها وذلك هو البروز لله
البحث الثالث قال أبو بكر الأصم قوله وَبَرَزُواْ للَّهِ هو المراد من قوله في الآية السابقة وَمِن وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ ( إبراهيم 17 )
واعلم أن قوله وَبَرَزُواْ للَّهِ قريب من قوله يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ فَمَا لَهُ مِن قُوَّة ٍ وَلاَ نَاصِرٍ ( الطارق 9 10 ) وذلك لأن البواطن تظهر في ذلك اليوم والأحوال الكامنة تنكشف فإن كانوا من السعداء برزوا للحاكم الحكيم بصفاتهم القدسية وأحوالهم العلوية ووجوههم المشرقة وأرواحهم الصافية المستنيرة فيتجلى لها نور الجلال ويعظم فيها إشراق عالم القدس فما أجل تلك الأحوال وإن كانوا من الأشقياء برزوا لموقف العظمة ومنازل الكبرياء ذليلين مهينين خاضعين خاشعين واقعين في خزي الخجالة ومذلة الفضيحة وموقف المهانة والفزع نعوذ بالله منها ثم حكى الله تعالى أن الضعفاء يقولون للرؤساء هل تقدرون على دفع عذاب الله عنا والمعنى أنه إنما اتبعناكم لهذا اليوم ثم إن الرؤساء يعترفون بالخزي والعجز والذل قالوا سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ ومن المعلوم أن اعتراف الرؤساء والسادة والمتبوعين بمثل هذا العجز والخزي والنكال يوجب الخجالة العظيمة والخزي الكامل التام فكان المقصود من ذكر هذه الآية استيلاء عذاب الفضيحة والخجالة والخزي عليهم مع ما تقدم ذكره من سائر وجوه أنواع العذاب والعقاب نعوذ بالله منها والله أعلم

المسألة الثانية كتبوا الضعفاء بواو قبل الهمزة في بعض المصاحف والسبب فيه أنه كتب على لفظ من يفخم الألف قبل الهمزة فيميلها إلى الواو ونظيره علماء بني إسرائيل
المسألة الثالثة الضعفاء الأتباع والعوام والذين استكبروا هم السادة والكبراء قال ابن عباس المراد أكابرهم الذين استكبروا عن عبادة الله تعالى إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا أي في الدنيا قال الفراء وأكثر أهل اللغة التبع تابع مثل خادم وخدم وباقر وبقر وحارس وحرس وراصد ورصد قال الزجاج وجائز أن يكون مصدراً سمي به أي كنا ذوي تبع
واعلم أن هذه التبعية يحتمل أن يقال المراد منها التبعية في الكفر ويحتمل أن يكون المراد منها التبعية في أحوال الدنيا فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَى ْء أي هل يمكنكم دفع عذاب الله عنا
فإن قيل فما الفرق بين من في قوله مّنْ عَذَابِ اللَّهِ وبينه في قوله مِن شَى ْء
قلنا كلاهما للتبعيض بمعنى هل أنتم مغنون عنا بعض شيء هو عذاب الله أي بعض عذاب الله وعند هذا حكى الله تعالى عن الذين استكبروا أنهم قالوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ وفيه وجوه الأول قال ابن عباس معناه لو أرشدنا الله لأرشدناكم قال الواحدي معناه أنهم إنما دعوهم إلى الضلال لأن الله تعالى أضلهم ولم يهدهم فدعوا أتباعهم إلى الضلال ولو هداهم لدعوهم إلى الهدى قال صاحب ( الكشاف ) لعلهم قالوا ذلك مع أنهم كذبوا فيه ويدل عليه قوله تعالى حكاية عن المنافقين يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهِ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ ( المجادلة 18 )
واعلم أن المعتزلة لا يجوزون صدور الكذب عن أهل القيامة فكان هذا القول منه مخالفاً لأصول مشايخه فلا يقبل منه الثاني قال صاحب ( الكشاف ) يجوز أن يكون المعنى لو كنا من أهل اللطف فلطف بنا ربنا واهتدينا لهديناكم إلى الإيمان وذكر القاضي هذا الوجه وزيفه بأن قال لا يجوز حمل هذا على اللطف لأن ذلك قد فعله الله تعالى والثالث أن يكون المعنى لو خلصنا الله من العقاب وهدانا إلى طريق الجنة لهديناكم والدليل على أن المراد من الهدى هذا الذي ذكرناه أن هذا هو الذي التمسوه وطلبوه فوجب أن يكون المراد من الهداية هذا المعنى
ثم قال سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا أي مستو علينا الجزع والصبر والهمزة وأم للتسوية ونظيره اصْبِرُواْ أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَاء عَلَيْكُمْ ( الطور 16 ) ثم قالوا ما لنا من محيص أي منجي ومهرب والمحيص قد يكون مصدراً كالمغيب والمشيب ومكاناً كالمبيت والمضيق ويقال حاص عنه وحاض بمعنى واحد والله أعلم
وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِى َ الاٌّ مْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِى َ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى فَلاَ تَلُومُونِى وَلُومُوا أَنفُسَكُمْ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِى َّ إِنِّى كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ

اعلم أنه تعالى لما ذكر المناظرة التي وقعت بين الرؤساء والأتباع من كفرة الإنس أردفها بالمناظرة التي وقعت بين الشيطان وبين أتباعه من الإنس فقال تعالى وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِى َ الاْمْرُ وفي المراد بقوله لَمَّا قُضِى َ الاْمْرُ وجوه
القول الأول قال المفسرون إذا استقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار أخذ أهل النار في لوم إبليس وتقريعه فيقوم في النار فيما بينهم خطيباً ويقول ما أخبر الله عنه بقوله وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِى َ الاْمْرُ
القول الثاني أن المراد من قوله قُضِى َ الاْمْرُ لما انقضت المحاسبة والقول الأول أولى لأن آخر أمر أهل القيامة استقرار المطيعين في الجنة واستقرار الكافرين في النار ثم يدوم الأمر بعد ذلك
والقول الثالث وهو أن مذهبنا أن الفساق من أهل الصلاة يخرجون من النار ويدخلون الجنة فلا يبعد أن يكون المراد من قوله لَمَّا قُضِى َ الاْمْرُ ذلك الوقت لأن في ذلك الوقت تنقطع الأحوال المعتبرة ولا يحصل بعده إلا دوام ما حصل فيه قبل ذلك وأما الشيطان فالمراد به إبليس لأن لفظ الشيطان لفظ مفرد فيتناول الواحد وإبليس رأس الشياطين ورئيسهم فحمل اللفظ عليه أولى لا سيما وقد قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا جمع الله الخلق وقضى بينهم يقول الكافر قد وجد المسلمون من يشفع لهم فمن يشفع لنا ما هو إلا إبليس هو الذي أضلنا فيأتونه ويسألونه فعند ذلك يقول هذا القول )
أما قوله إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ففيه مباحث
البحث الأول المراد أن الله تعالى وعدكم وعد الحق وهو البعث والجزاء على الأعمال فوفى لكم بما وعدكم ووعدتكم خلاف ذلك فأخلفتكم وتقرير الكلام أن النفس تدعو إلى هذه الأحوال الدنيوية ولا تتصور كيفية السعادات الأخروية والكمالات النفسانية والله يدعو إليها ويرغب فيها كما قال وَالاْخِرَة ُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ( الأعلى 17 )
البحث الثاني قوله وَعْدَ الْحَقّ من باب إضافة الشيء إلى نفسه كقوله حُبَّ الْحَصِيدِ ( ق 9 ) ومسجد الجامع على قول الكوفيين والمعنى وعدكم الوعد الحق وعلى مذهب البصريين يكون التقدير وعد اليوم الحق أو الأمر الحق أو يكون التقدير وعدكم الحق ثم ذكر المصدر تأكيداً
البحث الثالث في الآية إضمار من وجهين الأول أن التقدير إن الله وعدكم وعد الحق فصدقكم ووعدتكم فأخلفتكم وحذف ذلك لدلالة تلك الحالة على صدق ذلك الوعد لأنهم كانوا يشاهدونها وليس وراء العيان بيان ولأنه ذكر في وعد الشيطان الإخلاف فدل ذلك على الصدق في وعد الله تعالى الثاني أن في قوله وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ الوعد يقتضي مفعولاً ثانياً وحذف ههنا للعلم به والتقدير ووعدتكم أن لا جنة ولا نار ولا حشر ولا حساب

أما قوله وَمَا كَانَ لِى َ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ أي قدرة ومكنة وتسلط وقهر فاقهركم على الكفر والمعاصي وألجئكم إليها إلا أن دعوتكم أي إلا دعائي إياكم إلى الضلالة بوسوستي وتزييني قال النحويون ليس الدعاء من جنس السلطان فقوله إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ من جنس قولهم ما تحيتهم إلا الضرب وقال الواحدي إنه استثناء منقطع أي لكن دعوتكم وعندي أنه يمكن أن يقال كلمة ( إلا ) ههنا استثناء حقيقي لأن قدرة الإنسان على حمل الغير على عمل من الأعمال تارة يكون بالقهر والقسر وتارة يكون بتقوية الداعية في قلبه بإلقاء الوساوس إليه فهذا نوع من أنواع التسلط ثم إن ظاهر هذه الآية يدل على أن الشيطان لا قدرة له على تصريع الإنسان وعلى تعويج أعضائه وجوارحه وعلى إزالة العقل عنه كما يقوله العوام والحشوية ثم قال فَلاَ تَلُومُونِى وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ يعني ما كان مني إلا الدعاء والوسوسة وكنتم سمعتم دلائل الله وشاهدتم مجيء أنبياء الله تعالى فكان من الواجب عليكم أن لا تغتروا بقولي ولا تلتفتوا إلي فلما رجحتم قولي على الدلائل الظاهرة كان اللوم عليكم لا علي في هذا الباب وفي الآية مسألتان
المسألة الأولى قالت المعتزلة هذه الآية تدل على أشياء الأول أنه لو كان الكفر والمعصية من الله لوجب أن يقال فلا تلوموني ولا أنفسكم فإن الله قضى عليكم الكفر وأجبركم عليه الثاني ظاهر هذه الآية يدل على أن الشيطان لا قدرة له على تصريع الإنسان وعلى تعويج أعضائه وعلى إزالة العقل عنه كما تقول الحشوية والعوام الثالث أن هذه الآية تدل على أن الإنسان لا يجوز ذمه ولومه وعقابه بسبب فعل الغير وعند هذا يظهر أنه لا يجوز عقاب أولاد الكفار بسبب كفر آبائهم
أجاب بعض الأصحاب عن هذه الوجوه بأن هذا قول الشيطان فلا يجوز التمسك به
وأجاب الخصم عنه بأنه لو كان هذا القول منه باطلاً لبين الله بطلانه وأظهر إنكاره وأيضاً فلا فائدة في ذلك اليوم في ذكر هذا الكلام الباطل والقول الفاسد ألا ترى أن قوله إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ كلام حق وقوله وَمَا كَانَ لِى َ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ قول حق بدليل قوله تعالى إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ( الحجر 42 )
المسألة الثانية هذه الآية تدل على أن الشيطان الأصلي هو النفس وذلك لأن الشيطان بين أنه ما أتى إلا بالوسوسة فلولا الميل الحاصل بسبب الشهوة والغضب والوهم والخيال لم يكن لوسوسته تأثير ألبتة فدل هذا على أن الشيطان الأصلي هو النفس
فإن قال قائل بينوا لنا حقيقة الوسوسة
قلنا الفعل إنما يصدر عن الإنسان عند حصول أمور أربعة يترتب بعضها على البعض ترتيباً لازماً طبيعياً وبيانه أن أعضاء الإنسان بحكم السلامة الأصلية والصلاحية الطبيعية صالحة للفعل والترك والإقدام والإحجام فما لم يحصل في القلب ميل إلى ترجيح الفعل على الترك أو بالعكس فإنه يمتنع صدور الفعل وذلك الميل هو الإرادة الجازمة والقصد الجازم ثم إن تلك الإرادة الجازمة لا تحصل إلا عند حصول علم أو اعتقاد أو ظن بأن ذلك الفعل سبب للنفع أو سبب للضرر فإن لم يحصل فيه هذا الإعتقاد لم يحصل الميل لا إلى الفعل ولا إلى الترك فالحاصل أن الإنسان إذا أحس بشيء ترتب عليه شعوره بكونه ملائماً له أو بكونه منافراً له أو بكونه غير ملائم ولا منافر فإن حصل الشعور بكونه ملائماً له ترتب عليه الميل الجازم إلى الفعل

وإن حصل الشعور بكونه منافراً له ترتب عليه الميل الجازم إلى الترك وإن لم يحصل لا هذا ولا ذاك لم يحصل الميل لا إلى ذلك الشيء ولا إلى ضده بل بقي الإنسان كما كان وعند حصول ذلك الميل الجازم تصير القدرة مع ذلك الميل موجبة للفعل
إذا عرفت هذا فنقول صدور الفعل عن مجموع القدرة والداعي الحاصل أمر واجب فلا يكون للشيطان مدخل فيه وصدور الميل عن تصور كونه خيراً أو تصور كونه شراً أمر واجب فلا يكون للشيطان فيه مدخل وحصول كونه خيراً أو تصوراً كونه شراً عن مطلق الشعور بذاته أمر لازم فلا مدخل للشيطان فيه فلم يبق للشيطان مدخل في شيء من هذه المقامات إلا في أن يذكره شيئاً بأن يلقي إليه حديثه مثل أن الإنسان كان غافلاً عن صورة امرأة فيلقي الشيطان حديثها في خاطره فالشيطان لا قدرة له إلا في هذا المقام وهو عين ما حكى الله تعالى عنه أنه قال وَمَا كَانَ لِى َ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى فَلاَ تَلُومُونِى يعني ما كان مني إلا مجرد هذه الدعوة فأما بقية المراتب فما صدرت مني وما كان لي فيها أثر ألبتة بقي في هذا المقام سؤالان
السؤال الأول كيف يعقل تمكن الشيطان من النفوذ في داخل أعضاء الإنسان وإلقاء الوسوسة إليه
والجواب للناس في الملائكة والشياطين قولان
القول الأول أن ما سوى الله بحسب القسمة العقلية على أقسام ثلاثة المتحيز والحال في المتحيز والذي لا يكون متحيزاً ولا حالاً فيه وهذا القسم الثالث لم يقم الدليل ألبتة على فساد القول به بل الدلائل الكثيرة قامت على صحة القول به وهذا هو المسمى بالأرواح فهذه الأرواح إن كانت طاهرة مقدسة من عالم الروحانيات القدسية فهم الملائكة وإن كانت خبيثة داعية إلى الشرور وعالم الأجساد ومنازل الظلمات فهم الشياطين
إذا عرفت هذا فنقول فعلى هذا التقدير الشيطان لا يكون جسماً يحتاج إلى الولوج في داخل البدن بل هو جوهر روحاني خبيث الفعل مجبول على الشر والنفس الإنسانية أيضاً كذلك فلا يبعد على هذا التقدير في أن يلقى شيء من تلك الأرواح أنواعاً من الوساوس والأباطيل إلى جوهر النفس الإنسانية وذكر بعض العلماء في هذا الباب احتمالاً ثانياً وهو أن النفوس الناطقة البشرية مختلفة بالنوع فهي طوائف وكل طائفة منها في تدبير روح من الأرواح السماوية بعينها فنوع من النفوس البشرية تكون حسنة الأخلاق كريمة الأفعال موصوفة بالفرح والبشر وسهولة الأمر وهي تكون منتسبة إلى روح معين من الأرواح السماوية وطائفة أخرى منها تكون موصوفة بالحدة والقوة والغلظة وعدم المبالاة بأمر من الأمور وهي تكون منتسبة إلى روح آخر من الأرواح السماوية وهذه الأرواح البشرية كالأولاد لذلك الروح السماوي وكالنتائج الحاصلة وكالفروع المتفرعة عليها وذلك الروح السماوي هو الذي يتولى إرشادها إلى مصالحها وهو الذي يخصها بالإلهامات حالتي النوم واليقظة والقدماء كانوا يسمون ذلك الروح السماوي بالطباع التام ولا شك أن لذلك الروح السماوي الذي هو الأصل والينبوع شعباً كثيرة ونتائج كثيرة وهي بأسرها تكون من جنس روح هذا الإنسان وهي لأجل مشاكلتها ومجانستها يعين بعضها بعضاً على الأعمال اللائقة بها والأفعال المناسبة لطبائعها ثم إنها إن كانت خيرة طاهرة طيبة كانت ملائكة وكانت تلك الإعانة مسماة بالإلهام وإن كانت

شريرة خبيثة قبيحة الأعمال كانت شياطين وكانت تلك الإعانة مسماة بالوسوسة وذكر بعض العلماء أيضاً فيه احتمالاً ثالثاً وهو أن النفوس البشرية والأرواح الإنسانية إذا فارقت أبدانها قويت في تلك الصفات التي اكتسبتها في تلك الأبدان وكملت فيها فإذا حدثت نفس أخرى مشاكلة لتلك النفس المفارقة في بدن مشاكل لبدن تلك النفس المفارقة حدث بين تلك النفس المفارقة وبين هذا البدن نوع تعلق بسبب المشاكلة الحاصلة بين هذا البدن وبين ما كان بدناً لتلك النفس المفارقة فيصير لتلك النفس المفارقة تعلق شديد بهذا البدن وتصير تلك النفس المفارقة معاونة لهذه النفس المتعلقة بهذا البدن ومعاضدة لها على أفعالها وأحوالها بسبب هذه المشاكلة ثم إن كان هذا المعنى في أبواب الخير والبركات كان ذلك إلهاماً وإن كان في باب الشر كان وسوسة فهذه وجوه محتملة تفريعاً على القول بإثبات جواهر قدسية مبرأة عن الجسمية والتحيز والقول بالأرواح الطاهرة والخبيثة كلام مشهور عند قدماء الفلاسفة فليس لهم أن ينكروا إثباتها على صاحب شريعتنا محمد ( صلى الله عليه وسلم )
وأما القول الثاني وهو أن الملائكة والشياطين لا بد وأن تكون أجساماً فنقول إن على هذا التقدير يمتنع أن يقال إنها أجسام كثيفة بل لا بد من القول بأنها أجسام لطيفة والله سبحانه ركبها تركيباً عجيباً وهي أن تكون مع لطافتها لا تقبل التفرق والتمزق والفساد والبطلان ونفوذ الأجرام اللطيفة في عمق الأجرام الكثيفة غير مستبعد ألا ترى أن الروح الإنسانية جسم لطيف ثم إنه نفذ في داخل عمق البدن فإذا عقل ذلك فكيف يستبعد نفوذ أنواع كثيرة من الأجسام اللطيفة في داخل هذا البدن أليس أن جرم النار يسري في جرم الفحم وماء الورد يسري في ورق الورد ودهن السمسم يجري في جسم السمسم فكذا ههنا فظهر بما قررنا أن القول بإثبات الجن والشياطين أمر لا تحيله العقول ولا تبطله الدلائل وأن الإصرار على الإنكار ليس إلا من نتيجة الجهل وقلة الفطنة ولما ثبت أن القول بالشياطين ممكن في الجملة فنقول الأحق والأولى أن يقال الملائكة على هذا القول مخلوقون من النور والشياطين مخلوقون من الدخان واللهب كما قال الله تعالى وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ ( الحجر 27 ) وهذا الكلام من المشهورات عند قدماء الفلاسفة فكيف يليق بالعاقل أن يستبعده من صاحب شريعتنا محمد ( صلى الله عليه وسلم )
السؤال الثاني لم قال الشيطان فَلاَ تَلُومُونِى وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ وهو أيضاً ملوم بسبب اقدامه على تلك الوسوسة الباطلة
والجواب أراد بذلك فلا تلوموني على ما فعلتم ولوموا أنفسكم عليه لأنكم عدلتم عما توجبه هداية الله تعالى لكم ثم قال الله تعالى حكاية عن الشيطان أنه قال مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِى َّ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قال ابن عباس بمغيثكم ولا منقذكم قال ابن الأعرابي الصارخ المستغيث والمصرخ المغيث يقال صرخ فلان إذا استغاث وقال واغوثاه وأصرحته أغثته
المسألة الثانية قرأ حمزة بمصرخي بكسر الياء قال الواحدي وهي قراءة الأعمش ويحيى بن وثاب قال الفراء ولعلها من وهم القراء فإنه قل من سلم منهم عن الوهم ولعله ظن أن الباء في قوله بِمُصْرِخِى َّ خافضة لجملة هذه الكلمة وهذا خطأ لأن الياء من المتكلم خارجة من ذلك قال ومما نرى

أنهم وهموا فيه قوله نُوَلّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ( النساء 115 ) بجزم الهاء ظنوا والله أعلم أن الجزم في الهاء وهو خطأ لأن الهاء في موضع نصب وقد انجزم الفعل قبلها بسقوط الياء منه ومن النحويين من تكلف في ذكر وجه لصحته إلا أن الأكثرين قالوا إنه لحن والله أعلم
ثم قال تعالى حكاية عنه إِنّى كَفَرْتُ بِمَا أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ وفيه مسائل
المسألة الأولى ( ما ) في قوله إِنّى كَفَرْتُ بِمَا أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ فيه قولان الأول إنها مصدرية والمعنى كفرت بإشراككم إياي مع الله تعالى في الطاعة والمعنى أنه جحد ما كان يعتقده أولئك الأتباع من كون إبليس شريكاً لله تعالى في تدبير هذا العالم وكفر به أو يكون المعنى أنهم كانوا يطيعون الشيطان في أعمال الشر كما كانوا قد يطيعون الله في أعمال الخير وهذا هو المراد بالإشراك والثاني وهو قول الفراء أن المعنى أن إبليس قال إني كفرت بالله الذي أشركتموني به من قبل كفركم والمعنى أنه كان كفره قبل كفر أولئك الأتباع ويكون المراد بقوله ( ما ) في هذا الموضع ( من ) والقول هو الأول لأن الكلام إنما ينتظم بالتفسير الأول ويمكن أن يقال أيضاً الكلام منتظم على التفسير الثاني والتقدير كأنه يقول لا تأثير لوسوستي في كفركم بدليل أني كفرت قبل أن وقعتم في الكفر وما كان كفري بسبب وسوسة أخرى وإلا لزم التسلسل فثبت بهذا أن سبب الوقوع في الكفر شيء آخر سوى الوسوسة وعلى هذا التقدير ينتظم الكلام
أما قوله إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فالأظهر أنه كلام الله عز وجل وأن كلام إبليس تم قبل هذا الكلام ولا يبعد أيضاً أن يكون ذلك من بقية كلام إبليس قطعاً لأطماع أولئك الكفار عن الإعانة والإغاثة والله أعلم
وَأُدْخِلَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما بالغ في شرح أحوال الأشقياء من الوجوه الكثيرة شرح أحوال السعداء وقد عرفت أن الثواب يجب أن يكون منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم فالمنفعة الخالصة إليها الإشارة بقوله تعالى وَأُدْخِلَ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ وكونها دائمة أشير إليه بقوله خَالِدِينَ فِيهَا والتعظيم حصل من وجهين أحدهما أن تلك المنافع إنما حصلت بإذن الله تعالى وأمره والثاني قوله تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ لأن بعضهم يحيي بعضاً بهذه الكلمة والملائكة يحيونهم بها كما قال وَالمَلَائِكَة ُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ( الرعد 23 ) والرب الرحيم يحييهم أيضاً بهذه الكلمة كما قال سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ ( يس 58 )
واعلم أن السلام مشتق من السلامة وإلا ظهر أن المراد أنهم سلموا من آفات الدنيا وحسراتها أو فنون

آلامها وأسقامها وأنواع غمومها وهمومها وما أصدق ما قالوا فإن السلامة من محن عالم الأجسام الكائنة الفاسدة من أعظم النعم لا سيما إذا حصل بعد الخلاص منها الفوز بالبهجة الروحانية والسعادة الملكية
المسألة الثانية قرأ الحسن وَأُدْخِلَ الَّذِينَ ءامَنُواْ على معنى وأدخلهم أنا وعلى هذه القراءة فقوله بِإِذْنِ رَبّهِمْ متعلق بما بعده أي تحيتهم فيها سلام بإذن ربهم يعني أن الملائكة يحيونهم بإذن ربهم
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَة ً طَيِّبَة ً كَشَجَرة ٍ طَيِّبَة ٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِى السَّمَآءِ تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثلُ كَلِمَة ٍ خَبِيثَة ٍ كَشَجَرَة ٍ خَبِيثَة ٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأرض مَا لَهَا مِن قَرَارٍ
اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال الأشقياء وأحوال السعداء ذكر مثالاً يبين الحال في حكم هذين القسمين وهو هذا المثل وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى ذكر شجرة موصوفة بصفات أربعة ثم شبه الكلمة الطيبة بها
فالصفة الأولى لتلك الشجرة كونها طيبة وذلك يحتمل أموراً أحدها كونها طيبة المنظر والصورة والشكل وثانيها كونها طيبة الرائحة وثالثها كونها طيبة الثمرة يعني أن الفواكه المتولدة منها تكون لذيذة مستطابة ورابعها كونها طيبة بحسب المنفعة يعني أنها كما يستلذ بأكلها فكذلك يعظم الانتفاع بها ويجب حمل قوله شجرة طيبة على مجموع هذه الوجوه لأن اجتماعها يحصل كمال الطيب
والصفة الثانية قوله أَصْلُهَا ثَابِتٌ أي راسخ باق آمن الانقلاع والانقطاع والزوال والفناء وذلك لأن الشيء الطيب إذا كان في معرض الانقراض والانقضاء فهو وإن كان يحصل الفرح بسبب وجدانه إلا أنه يعظم الحزن بسبب الخوف من زواله وانقضائه أما إذا علم من حاله أنه باق دائم لا يزول ولا ينقضي فإنه يعظم الفرح بوجدانه ويكمل السرور بسبب الفوز به
والصفة الثالثة قوله وَفَرْعُهَا فِى السَّمَاء وهذا الوصف يدل على كمال حال تلك الشجرة من وجهين الأول أن ارتفاع الأغصان وقوتها في التصاعد يدل على ثبات الأصل ورسوخ العروق والثاني أنها متى كانت متصاعدة مرتفعة كانت بعيدة عن عفونات الأرض وقاذورات الأبنية فكانت ثمراتها نقية ظاهرة طيبة عن جميع الشوائب
والصفة الرابعة قوله تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبّهَا والمراد أن الشجرة المذكورة كانت موصوفة

بهذه الصفة وهي أن ثمرتها لا بد أن تكون حاضرة دائمة في كل الأوقات ولا تكون مثل الأشجار التي يكون ثمارها حاضراً في بعض الأوقات دون بعض فهذا شرح هذه الشجرة التي ذكرها الله تعالى في هذا الكتاب الكريم ومن المعلوم بالضرورة أن الرغبة في تحصيل مثل هذه الشجرة يجب أن تكون عظيمة وأن العاقل متى أمكنه تحصيلها وتملكها فإنه لايجوز له أن يتغافل عنها وأن يتساهل في الفوز بها
إذا عرفت هذا فنقول معرفة الله تعالى والاستغراق في محبته وفي خدمته وطاعته تشبه هذه الشجرة في هذه الصفات الأربع
أما الصفة الأولى وهي كونها طيبة فهي حاصلة بل نقول لا طيب ولا لذيذ في الحقيقة إلا هذه المعرفة وذلك لأن اللذة الحاصلة بتناول الفاكهة المعينة إنما حصلت لأن إدراك تلك الفاكهة أمر ملائم لمزاج البدن فلأجل حصول تلك الملاءمة والمناسبة حصلت تلك اللذة العظيمة وههنا الملائم لجوهر النفس النطقية والروح القدسية ليس إلا معرفة الله تعالى ومحبته والاستغراق في الابتهاج به فوجب أن تكون هذه المعرفة لذيذة جداً بل نقول اللذة الحاصلة من إدراك الفاكهة يجب أن تكون أقل حالاً من اللذة الحاصلة بسبب إشراق جوهر النفس بمعرفة الله وبيان هذا التفاوت من وجوه
الوجه الأول أن المدركات المحسوسة إنما تصير مدركة بسبب أن سطح الحاس يلاقي سطح المحسوس فقط فأما أن يقال إن جوهر المحسوس نفذ في جوهر الحاس فليس الأمر كذلك لأن الأجسام يمتنع تداخلها أما ههنا فمعرفة الله تعالى وذلك النور وذلك الإشراق صار سارياً في جوهر النفس متحداً به وكأن النفس عند حصول ذلك الإشراق تصير غير النفس التي كانت قبل حصول ذلك الإشراق فهذا فرق عظيم بين البابين
والوجه الثاني في الفرق أن في الالتذاذ بالفاكهة المدرك هو القوة الذائقة والمحسوس هو الطعم المخصوص وههنا المدرك هو جوهر النفس القدسية والمعلوم والمشعور به هو ذات الحق جل جلاله وصفات جلاله وإكرامه فوجب أن تكون نسبة إحدى اللذتين إلى الأخرى كنسبة أحد المدركين إلى الآخر
الوجه الثالث في الفرق أن اللذات الحاصلة بتناول الفاكهة الطيبة كلما حصلت زالت في الحال لأنها كيفية سريعة الاستحالة شديدة التغير أما كمال الحق وجلاله فإنه ممتنع التغير والتبدل واستعداد جوهر النفس لقبول تلك السعادة أيضاً ممتنع التغير فظهر الفرق العظيم من هذا الوجه
واعلم أن الفرق بين النوعين يقرب أن يكون من وجوه غير متناهية فليكتف بهذه الوجوه الثلاثة تنبيهاً للعقل السليم على سائرها وأما الصفة الثانية وهي كون هذه الشجرة ثابتة الأصل فهذه الصفة في شجرة معرفة الله تعالى أقوى وأكمل وذلك لأن عروق هذه الشجرة راسخة في جوهر النفس القدسية وهذا الجوهر جوهر مجرد عن الكون والفساد بعيد عن التغير والفناء وأيضاً مدد هذا الرسوخ إنما هو من تجلي جلال الله تعالى وهذا التجلي من لوازم كونه سبحانه في ذاته نور النور ومبدأ الظهور وذلك مما يمتنع عقلاً زواله لأنه سبحانه واجب الوجود لذاته وواجب الوجود في جميع صفاته والتغير والفناء والتبدل والزوال والبخل والمنع محال في حقه فثبت أن الشجرة الموصوفة بكونها ثابتة الأصل ليست إلا هذه الشجرة
الصفة الثالثة لهذه الشجرة كونها بحيث يكون فرعها في السماء

واعلم أن شجرة المعرفة لها أغصان صاعدة في هواء العالم الإلهي وأغصان صاعدة في هواء العالم الجسماني
وأما النوع الأول فهي أقسام كثيرة ويجمعها قوله عليه السلام ( التعظيم لأمر الله ) ويدخل فيه التأمل في دلائل معرفة الله تعالى في عالم الأرواح وفي عالم الأجسام وفي أحوال عالم الأفلاك والكواكب وفي أحوال العالم السفلي ويدخل فيه محبة الله تعالى والشوق إلى الله تعالى والمواظبة على ذكر الله تعالى والاعتماد بالكلية على الله تعالى والانقطاع بالكلية عما سوى الله تعالى والاستقصاء في ذكر هذه الأقسام غير مطموع فيه لأنها أحوال غير متناهية
وأما النوع الثاني فهي أقسام كثيرة ويجمعها قوله عليه السلام ( والشفقة على خلق الله ) ويدخل فيه الرحمة والرأفة والصفح والتجاوز عن الذنوب والسعي في إيصال الخير إليهم ودفع الشر عنهم ومقابلة الإساءة بالإحسان وهذه الأقسام أيضاً غير متناهية وهي فروع ثابتة من شجرة معرفة الله تعالى فإن الإنسان كلما كان أكثر توغلاً في معرفة الله تعالى كانت هذه الأحوال عنده أكمل وأقوى وأفضل
وأما الصفة الرابعة فهي قوله تعالى تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبّهَا فهذه الشجرة أولى بهذه الصفة من الأشجار الجسمانية لأن شجرة المعرفة موجبة لهذه الأحوال ومؤثرة في حصولها والسبب لا ينفك عن المسبب فأثر رسوخ شجرة المعرفة في أرض القلب أن يكون نظر بالعبرة كما قال فَاعْتَبِرُواْ ياأُوْلِى أُوْلِى الاْبْصَارِ ( الحشر 2 ) وأن يكون سماعه بالحكمة كما قال الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ( الزمر 18 ) ونطقه بالصدق والصواب كما قال كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ ( النساء 135 ) وقال عليه السلام ( قولوا الحق ولو على أنفسكم ) وهذا الإنسان كلما كان رسوخ شجرة المعرفة في أرض قلبه أقوى وأكمل كان ظهور هذه الآثار عنده أكثر وربما توغل في هذا الباب فيصير بحيث كلما لاحظ شيئاً لاحظ الحق فيه وربما عظم ترقيه فيه فيصير لا يرى شيئاً إلا وقد كان قد رأى الله تعالى قبله فهذا هو المراد من قوله سبحانه وتعالى تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبّهَا وأيضاً فما ذكرناه إشارة إلى الإلهامات النفسانية والملكات الروحانية التي تحصل في جواهر الأرواح ثم لا يزال يصعد منها في كل حين ولحظة ولمحة كلام طيب وعمل صالح وخضوع وخشوع وبكاء وتذلل كثمرة هذه الشجرة
وأما قوله بِإِذْنِ رَبّهَا ففيه دقيقة عجيبة وذلك لأن عند حصول هذه الأحوال السنية والدرجات العالية قد يفرح الإنسان بها من حيث هي هي وقد يترقى فلا يفرح بها من حيث هي هي وإنما يفرح بها من حيث إنها من المولى وعند ذلك فيكون فرحه في الحقيقة بالمولى لا بهذه الأحوال ولذلك قال بعض المحققين من آثر العرفان للعرفان فقد قال بالفاني ومن آثر العرفان لا للعرفان بل للمعروف فقد خاض لجة الوصول فقد ظهر بهذا التقرير الذي شرحناه والبيان الذي فصلناه أن هذا المثال الذي ذكره الله تعالى في هذا الكتاب مثال هادٍ إلى عالم القدس وحضرة الجلال وسرادقات الكبرياء فنسأل الله تعالى مزيد الاهتداء والرحمة إنه سميع مجيب وذكر بعضهم في تقرير هذا المثال كلاماً لا بأس به فقال إنما مثل الله سبحانه وتعالى الإيمان بالشجرة لأن الشجرة لا تستحق أن تسمى شجرة إلا بثلاثة أشياء عرق راسخ

وأصل قائم وأغصان عالية كذلك الإيمان لا يتم إلا بثلاثة أشياء معرفة في القلب وقول باللسان وعمل بالأبدان والله أعلم
المسألة الثانية قال صاحب الكشاف في نصب قوله كَلِمَة ً طَيّبَة ً وجهان الأول أنه منصوب بمضمر والتقدير جعل كلمة طيبة كشجرة طيبة وهو تفسير لقوله ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً الثاني قال ويجوز أن ينتصب مثلاً وكلمة بضرب أي ضرب كلمة طيبة مثلاً بمعنى جعلها مثلاً وقوله كَشَجَرة ٍ طَيّبَة ٍ خبر مبتدأ محذوف والتقدير هي كشجرة طيبة الثالث قال صاحب ( حل العقد ) أظن أن الأوجه أن يجعل قوله كَلِمَة َ عطف بيان والكاف في قوله كَشَجَرَة ٍ في محل النصب بمعنى مثل شجرة طيبة
المسألة الثالثة قال ابن عباس الكلمة الطيبة هي قول لا إله إلا الله والشجرة الطيبة هي النخلة في قول الأكثرين وقال صاحب ( الكشاف ) إنها كل شجرة مثمرة طيبة الثمار كالنخلة وشجرة التين والعنب والرمان وأراد بشجرة طيبة الثمرة إلا أنه لم يذكرها لدلالة الكلام عليها أصلها أي أصل هذه الشجرة الطيبة ثابت وفرعها أي أعلاها في السماء والمراد الهواء لأن كل ما سماك وعلاك فهو سماء تُؤْتِى أي هذه الشجرة أُكُلُهَا أي ثمرها وما يؤكل منها كل حين واختلفوا في تفسير هذا الحين فقال ابن عباس ستة أشهر لأن بين حملها إلى صرامها ستة أشهر جاء رجل إلى ابن عباس فقال نذرت أن لا أكلم أخي حتى حين فقال الحين ستة أشهر وتلا قوله تعالى تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ وقال مجاهد وابن زيد سنة لأن الشجرة من العام إلى العام تحمل الثمرة وقال سعيد بن المسيب شهران لأن مدة إطعام النخلة شهران وقال الزجاج جميع من شاهدنا من أهل اللغة يذهبون إلى أن الحين اسم كالوقت يصلح لجميع الأزمان كلها طالت أم قصرت والمراد من قوله تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ أنه ينتفع بها في كل وقت وفي كل ساعة ليلاً أو نهاراً أو شتاء أو صيفاً قالوا والسبب فيه أن النخلة إذا تركوا عليها الثمر من السنة إلى السنة انتفعوا بها في جميع أوقات السنة وأقول هؤلاء وإن أصابوا في البحث عن مفردات ألفاظ الآية إلا أنهم بعدوا عن إدراك المقصود لأنه تعالى وصف هذه الشجرة بالصفات المذكورة ولا حاجة بنا إلى أن تلك الشجرة هي النخلة أم غيرها فإنا نعلم بالضرورة أن الشجرة الموصوفة بالصفات الأربع المذكورة شجرة شريفة ينبغي لكل عاقل أن يسعى في تحصيلها وتملكها لنفسه سواء كان لها وجود في الدنيا أو لم يكن لأن هذه الصفة أمر مطلوب التحصيل واختلافهم في تفسير الحين أيضاً من هذا الباب والله أعلم بالأمور
ثم قال وَيَضْرِبُ اللَّهُ الامْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ والمعنى أن في ضرب الأمثال زيادة إفهام وتذكير وتصوير للمعاني وذلك لأن المعاني العقلية المحضة لا يقبلها الحس والخيال والوهم فإذا ذكر ما يساويها من المحسوسات ترك الحس والخيال والوهم تلك المنازعة وانطبق المعقول على المحسوس وحصل به الفهم التام والوصول إلى المطلوب
وأما قوله تعالى وَمَثلُ كَلِمَة ٍ خَبِيثَة ٍ كَشَجَرَة ٍ خَبِيثَة ٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الاْرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ
فاعلم أن الشجرة الخبيثة هي الجهل بالله فإنه أول الآفات وعنوان المخالفات ورأس الشقاوات ثم إنه تعالى شبهها بشجرة موصوفة بصفات ثلاثة
الصفة الأولى أنها تكون خبيثة فمنهم من قال إنها الثوم لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) وصف الثوم بأنها شجرة خبيثة

وقيل إنها الكراث وقيل إنها شجرة الحنظل لكثرة ما فيها من المضار وقيل إنها شجرة الشوك
واعلم أن هذا التفصيل لا حاجة إليه فإن الشجرة قد تكون خبيثة بحسب الرائحة وقد تكون بحسب الطعم وقد تكون بحسب الصورة والمنظر وقد تكون بحسب اشتمالها على المضار الكثيرة والشجرة الجامعة لكل هذه الصفات وإن لم تكن موجودة إلا أنها لما كانت معلومة الصفة كان التشبيه بها نافعاً في المطلوب
والصفة الثانية قوله اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الاْرْضِ وهذه الصفة في مقابلة قوله أَصْلُهَا ثَابِتٌ ومعنى اجتثت استؤصلت وحقيقة الإجتثاث أخذ الجثة كلها وقوله مِن فَوْقِ الاْرْضِ معناه ليس لها أصل ولا عرق فكذلك الشرك بالله تعالى ليس له حجة ولا ثبات ولا قوة
والصفة الثالثة قوله ما لها من قرار وهذه الصفة كالمتممة للصفة الثانية والمعنى أنه ليس لها استقرار يقال قر الشيء قراراً كقولك ثبت ثباتاً شبه بها القول الذي لم يعضد بحجة فهو داحض غير ثابت
واعلم أن هذا المثال في صفة الكلمة الخبيثة في غاية الكمال وذلك لأنه تعالى بين كونها موصوفة بالمضار الكثيرة وخالية عن كل المنافع أما كونها موصوفة بالمضار فإليه الإشارة بقوله خَبِيثَة ٍ وأما كونها خالية عن كل المنافع فإليه الإشارة بقوله اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الاْرْضِ لَهَا مِن قَرَارٍ والله أعلم
يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَفِى الاٌّ خِرَة ِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَآءُ
اعلم أنه تعالى لما بين أن صفة الكلمة الطيبة أن يكون أصلها ثابتاً وصفة الكلمة الخبيثة أن لا يكون لها أصل ثابت بل تكون منقطعة ولا يكون لها قرار ذكر أن ذلك القول الثابت الصادر عنهم في الحياة الدنيا يوجب ثبات كرامة الله لهم وثبات ثوابه عليهم والمقصود بيان أن الثبات في المعرفة والطاعة يوجب الثبات في الثواب والكرامة من الله تعالى فقوله يُثَبّتُ اللَّهُ أي على الثواب والكرامة وقوله بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَفِى الاْخِرَة ِ أي بالقول الثابت الذي كان يصدر عنهم حال ما كانوا في الحياة الدنيا
ثم قال وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ يعني كما أن الكلمة الخبيثة ما كان لها أصل ثابت ولا فرع باسق فكذلك أصحاب الكلمة الخبيثة وهم الظالمون يضلهم الله عن كراماته ويمنعهم عن الفوز بثوابه وفي الآية قول آخر وهو القول المشهور أن هذه الآية وردت في سؤال الملكين في القبر وتلقين الله المؤمن كلمة الحق في القبر عند السؤال وتثبيته إياه على الحق وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال في قوله يُثَبّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَفِى الاْخِرَة ِ قال ( حين يقال له في القبر من ربك وما دينك ومن نبيك فيقول ربي الله وديني الإسلام ونبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) والمراد في الباء في قوله بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ هو أن الله تعالى إنما

ثبتهم في القبر بسبب مواظبتهم في الحياة الدنيا على هذا القول ولهذا الكلام تقرير عقلي وهو أنه كلما كانت المواظبة على الفعل أكثر كان رسوخ تلك الحالة في العقل والقلب أقوى فكلما كانت مواظبة العبد على ذكر لا إله إلا الله وعلى التأمل في حقائقها ودقائقها أكمل وأتم كان رسوخ هذه المعرفة في عقله وقلبه بعد الموت أقوى وأكمل قال ابن عباس من داوم على الشهادة في الحياة الدنيا يثبته الله عليها في قبره ويلقنه إياها وإنما فسر الآخرة ههنا بالقبر لأن الميت انقطع بالموت عن أحكام الدنيا ودخل في أحكام الآخرة وقوله وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ يعني أن الكفار إذا سئلوا في قبورهم قالوا لا ندري وإنما قال ذلك لأن الله أضله وقوله وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاء يعني إن شاء هدى وإن شاء أضل ولا اعتراض عليه في فعله ألبتة
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ
اعلم أنه تعالى عاد إلى وصف أحوال الكفار في هذه الآية فقال أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا نزل في أهل مكة حيث أسكنهم الله تعالى حرمه الآمن وجعل عيشهم في السعة وبعث فيهم محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) فلم يعرفوا قدر هذه النعمة ثم إنه تعالى حكى عنهم أنواعاً من الأعمال القبيحة
النوع الأول قوله بَدَّلُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وفيه وجوه الأول يجوز أن يكون بدلوا شكر نعمة الله كفراً لأنه لما وجب عليهم الشكر بسبب تلك النعمة أتوا بالكفر فكأنهم غيروا الشكر إلى الكفر وبدلوه تبديلاً والثاني أنهم بدلوا نفس نعمة الله كفراً لأنهم لما كفروا سلب الله تلك النعمة عنهم فبقي الكفر معهم بدلاً من النعمة الثالث أنه تعالى أنعم عليهم بالرسول والقرآن فاختاروا الكفر على الإيمان
والنوع الثاني ما حكى الله تعالى عنهم قوله وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ وهو الهلاك يقال رجل بائر وقوم بور ومنه قوله تعالى وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً ( الفتح 12 ) وأراد بدار البوار جهنم بدليل أنه فسرها بجهنم فقال جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ أي المقر وهو مصدر سمي به
النوع الثالث من أعمالهم القبيحة قوله وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا لّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ وفيه مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم بدلوا نعمة الله كفراً ذكر أنهم بعد أن كفروا بالله جعلوا له أنداداً والمراد من هذا الجعل الحكم والاعتقاد والقول والمراد في الأنداد الأشباه والشركاء وهذا الشريك يحتمل وجوهاً أحدها أنهم جعلوا للأصنام حظاً فيما أنعم الله به عليهم نحو قولهم هذا لله وهذا لشركائنا وثانيها أنهم شركوا بين الأصنام وبين خالق العالم في العبودية وثالثها أنهم كانوا يصرحون بإثبات الشركاء لله وهو قولهم في الحج لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك

المسألة الثانية قرأ ابن كثير وأبو عمرو لِيُضِلُّواْ بفتح الياء من ضل يضل والباقون بضم الياء من أضل غيره يضل
المسألة الثالثة اللام في قوله لّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ لام العاقبة لأن عبادة الأوثان سبب يؤدي إلى الضلال ويحتمل أن تكون لام كي أي الذين اتخذوا الوثن كي يضلوا غيرهم هذا إذا قرىء بالضم فإنه يحتمل الوجهين وإذا قرىء بالنصب فلا يحتمل إلا لام العاقبة لأنهم لم يريدوا ضلال أنفسهم وتحقيق القول في لام العاقبة أن المقصود من الشيء لا يحصل إلا في آخر المراتب كما قيل أول الفكر آخر العمل وكل ما حصل في العاقبة كان شبيهاً بالأمر المقصود في هذا المعنى والمشابهة أحد الأمور المصححة لحسن المجاز فلهذا السبب حسن ذكر اللام في العاقبة ولما حكى الله تعالى عنهم هذه الأنواع الثلاثة من الأعمال القبيحة قال قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ والمراد أن حال الكافر في الدنيا كيف كانت فإنها بالنسبة إلى ما سيصل إليه من العقاب في الآخرة تمتع ونعيم فلهذا المعنى قال قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ وأيضاً إن هذا الخطاب مع الذين حكى الله عنهم أنهم بدلوا نعمة الله كفراً فأولئك كانوا في الدنيا في نعم كثيرة فلا جرم حسن قوله تعالى قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ وهذا الأمر يسمى أمر التهديد ونظيره قوله تعالى اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ ( فصلت 40 ) وكقوله قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ( الزمر 8 )
( 31 )
قُل لِّعِبَادِى َ الَّذِينَ ءَامَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَة َ وَيُنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَة ً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِى َ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلَالٌ
اعلم أنه تعالى لما أمر الكافرين على سبيل التهديد والوعيد بالتمتع بنعيم الدنيا أمر المؤمنين في هذه الآية بترك التمتع بالدنيا والمبالغة في المجاهدة بالنفس والمال وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي لّعِبَادِى َ بسكون الياء والباقون بفتح الياء لالتقاء الساكنين فحرك إلى النصب
المسألة الثانية في قوله يُقِيمُواْ وجهان الأول يجوز أن يكون جواباً لأمر محذوف هو المقول تقديره قل لعبادي الذين آمنوا أقيموا الصلاة وأنفقوا يقيموا الصلاة وينفقوا الثاني يجوز أن يكون هو أمراً مقولاً محذوفاً منه لام الأمر أي ليقيموا كقولك قل لزيد ليضرب عمراً وإنما جاز حذف اللام لأن قوله قُلْ عوض منه ولو قيل ابتداء يقيموا الصلاة لم يجز
المسألة الثالثة أن الإنسان بعد الفراغ من الإيمان لا قدرة له على التصرف في شيء إلا في نفسه أو في ماله أما النفس فيجب شغلها بخدمة المعبود في الصلاة وأما المال فيجب صرفه إلى البذل في طاعة الله تعالى فهذه الثلاثة هي الطاعات المعتبرة وهي الإيمان والصلاة والزكاة وتمام ما يجب أن يقال في هذه

الأمور الثلاثة ذكرناه في قوله تعالى الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلواة َ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ( البقرة 3 )
المسألة الرابعة قالت المعتزلة الآية تدل على أن الرزق لا يكون حراماً لأن الآية دلت على أن الانفاق من الرزق ممدوح ولا شيء من الانفاق من الحرام بممدوح فينتج أن الرزق ليس بحرام وقد مر تقرير هذا الكلام مراراً
المسألة الخامسة في انتصاب قوله سِرّا وَعَلاَنِيَة ً وجوه أحدها أن يكون على الحال أي ذوي سر وعلانية بمعنى مسرين ومعلنين وثانيها على الظرف أي وقت سر وعلانية وثالثها على المصدر أي انفاق سر وانفاق علانية والمراد إخفاء التطوع وإعلان الواجب
واعلم أنه تعالى لما أمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة قال مّن قَبْلِ أَن يَأْتِى َ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلَالٌ قال أبو عبيدة البيع ههنا الفداء والخلال المخالة وهو مصدر من خاللت خلالاً ومخالة وهي المصادقة قال مقاتل إنما هو يوم لا بيع فيه ولا شراء ولا مخالة ولا قرابة فكأنه تعالى يقول أنفقوا أموالكم في الدنيا حتى تجدوا ثواب ذلك الإنفاق في مثل هذا اليوم الذي لا تحصل فيه مبايعة ولا مخالة ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة البقرة لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّة ٌ وَلاَ شَفَاعَة ٌ ( البقرة 254 )
فإن قيل كيف نفى المخالة في هاتين الآيتين مع أنه تعالى أثبتها في قوله الاْخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ ( الزخرف 67 )
قلنا الآية الدالة على نفي المخالة محمولة على نفي المخالة بسبب ميل الطبيعة ورغبة النفس والآية الدالة على ثبوت المخالة محمولة على حصول المخالة الحاصلة بسبب عبودية الله تعالى ومحبة الله تعالى والله أعلم
اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِى َ فِى الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ
اعلم أنه لما أطال الكلام في وصف أحوال السعداء وأحوال الأشقياء وكان العمدة العظمى والمنزلة الكبرى في حصول السعادات معرفة الله تعالى بذاته وبصفاته وفي حصول الشقاوة فقدان هذه المعرفة لا جرم ختم الله تعالى وصف أحوال السعداء والأشقياء بالدلائل الدالة على وجود الصانع وكمال علمه وقدرته

وذكر ههنا عشرة أنواع من الدلائل أولها خلق السموات وثانيها خلق الأرض وإليهما الإشارة بقوله تعالى اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وثالثها وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَّكُمْ ورابعها قوله وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِى َ فِى الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وخامسها قوله وَسَخَّرَ لَكُمُ الانْهَارَ وسادسها وسابعها قوله وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَينَ وثامنها وتاسعها قوله وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وعاشرها قوله وَاتَاكُم مّن كُلّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وهذه الدلائل العشرة قد مر ذكرها في هذا الكتاب وتقريرها وتفسيرها مراراً وأطواراً ولا بأس بأن نذكر ههنا بعض الفوائد فاعلم أن قوله تعالى اللَّهِ مبتدأ وقوله وَالَّذِى خَلَقَ خبره ثم إنه تعالى بدأ بذكر خلق السموات والأرض وقد ذكرنا في هذا الكتاب أن السماء والأرض من كم وجه تدل على وجود الصانع الحكيم وإنما بدأ بذكرهما ههنا لأنهما هما الأصلان اللذان يتفرع عليهما سائر الأدلة المذكورة بعد ذلك فإنه قال بعده وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَّكُمْ وفيه مباحث
البحث الأول لولا السماء لم يصح إنزال الماء منها ولولا الأرض لم يوجد ما يستقر الماء فيه فظهر أنه لا بد من وجودهما حتى يحصل هذا المقصود وهذا المطلوب
البحث الثاني قوله وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء وفيه قولان الأول أن الماء نزل من السحاب وسمي السحاب سماء اشتقاقاً من السمو وهو الارتفاع والثاني أنه تعالى أنزله من نفس السماء وهذا بعيد لأن الإنسان ربما كان واقفاً على قلة جبل عال ويرى الغيم أسفل منه فإذا نزل من ذلك الجبل يرى ذلك الغيم ماطراً عليهم وإذا كان هذا أمراً مشاهداً بالبصر كان النزاع فيه باطلاً
البحث الثالث قال قوم إنه تعالى أخرج هذه الثمرات بواسطة هذا الماء المنزل من السماء على سبيل العادة وذلك لأن في هذا المعنى مصلحة للمكلفين لأنهم إذا علموا أن هذه المنافع القليلة يجب أن تتحمل في تحصيلها المشاق والمتاعب فالمنافع العظيمة الدائمة في الدار الآخرة أولى أن تتحمل المشاق في طلبها وإذا كان المرء يترك الراحة واللذات طلباً لهذه الخيرات الحقيرة فبأن يترك اللذات الدنيوية ليفوز بثواب الله تعالى ويتخلص عن عقابه أولى ولهذا السبب لما زال التكليف في الآخرة أنال الله تعالى كل نفس مشتهاها من غير تعب ولا نصب هذا قول المتكلمين وقال قوم آخرون إنه تعالى يحدث الثمار والزروع بواسطة هذا الماء النازل من السماء والمسألة كلامية محضة وقد ذكرناه في سورة البقرة
البحث الرابع قال أبو مسلم لفظ الثَّمَراتِ يقع في الأغلب على ما يحصل على الأشجار ويقع أيضاً على الزروع والنبات كقوله تعالى كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَءاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ( الأنعام 141 )
البحث الخامس قال تعالى فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَّكُمْ والمراد أنه تعالى إنما أخرج هذه الثمرات لأجل أن تكون رزقاً لنا والمقصود أنه تعالى قصد بتخليق هذه الثمرات إيصال الخير والمنفعة إلى المكلفين لأن الإحسان لا يكون إحساناً إلا إذا قصد المحسن بفعله إيصال النفع إلى المحسن إليه
البحث السادس قال صاحب ( الكشاف ) قوله مِنَ الثَّمَراتِ بيان للرزق أي أخرج به رزقاً هو ثمرات ويجوز أن يكون من الثمرات مفعول أخرج ورزقاً حال من المفعول أو نصباً على المصدر من أخرج لأنه في معنى رزق والتقدير ورزق من الثمرات رزقاً لكم

فأما الحجة الرابعة وهي قوله وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِى َ فِى الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ونظيره قوله تعالى وَمِنْ ءايَاتِهِ الْجَوَارِ فِى الْبَحْرِ كَالاْعْلَامِ ( الشور 32 ) ففيها مباحث
البحث الأول أن الانتفاع بما ينبت من الأرض إنما يكمل بوجود الفلك الجاري في البحر وذلك لأنه تعالى خص كل طرف من أطراف الأرض بنوع آخر من أنعمه حتى أن نعمة هذا الطرف إذا نقلت إلى الجانب الآخر من الأرض وبالعكس كثر الربح في التجارات ثم إن هذا النقل لا يمكن إلا بسفن البر وهي الجمال أو بسفن البحر وهي الفلك المذكور في هذه الآية فإن قيل ما معنى وسخر لكم الفلك مع أن تركيب السفينة من أعمال العباد
قلنا أما على قولنا إن فعل العبد خلق الله تعالى فلا سؤال وأما على مذهب المعتزلة فقد أجاب القاضي عنه فقال لولا أنه تعالى خلق الأشجار الصلبة التي منها يمكن تركيب السفن ولولا خلقه للحديد وسائر الآلات ولولا تعريفه العباد كيف يتخذوه ولولا أنه تعالى خلق الماء على صفة السيلان التي باعتبارها يصح جري السفينة ولولا خلقه تعالى الرياح وخلق الحركات القوية فيها ولولا أنه وسع الأنهار وجعل فيها من العمق ما يجوز جري السفن فيها لما وقع الانتفاع بالسفن فصار لأجل أنه تعالى هو الخالق لهذه الأحوال وهو المدبر لهذه الأمور والمسخر لها حسنت إضافة السفن إليه
البحث الثاني أنه تعالى أضاف ذلك التسخير إلى أمره لأن الملك العظيم قلما يوصف بأنه فعل وإنما يقال فيه إنه أمر بكذا تعظيماً لشأنه ومنهم من حمله على ظاهر قوله إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَى ْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( النحل 40 ) وتحقيق هذا الوجه راجع إلى ما ذكرناه
البحث الثالث الفلك من الجمادات فتسخيرها مجاز والمعنى أنه لما كان يجري على وجه الماء كما يشتهيه الملاح صار كأنه حيوان مسخر له
الحجة الخامسة قوله تعالى وَسَخَّرَ لَكُمُ الانْهَارَ واعلم أن ماء البحر قلما ينتفع به في الزراعات لا جرم ذكر تعالى إنعامه على الخلق بتفجير الأنهار والعيون حتى ينبعث الماء منها إلى مواضع الزرع والنبات وأيضاً ماء البحر لا يصلح للشرب والصالح لهذا المهم هو مياه الأنهار
الحجة السادسة والسابعة قوله وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَينَ
واعلم أن الانتفاع بالشمس والقمر عظيم وقد ذكره الله تعالى في آيات منها قوله وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً ( نوح 16 ) ومنها قوله الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ( الرحمن 5 ) ومنها قوله وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً ( الفرقان 61 ) ومنها قوله هُوَ الَّذِى جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً ( يونس 5 ) وقوله دَائِبَينَ معنى الدؤب في اللغة مرور الشيء في العمل على عادة مطردة يقال دأب يدأب دأباً ودؤباً وقد ذكرنا هذا في قوله قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَبًا ( يوسف 47 ) قال المفسرون قوله دَائِبَينَ معناه يدأبان في سيرهما وإنارتهما وتأثيرهما في إزالة الظلمة وفي إصلاح النبات والحيوان فإن الشمس سلطان النهار والقمر سلطان الليل ولولا الشمس لما حصلت الفصول الأربعة ولولاها لاختلت مصالح العالم بالكلية وقد ذكرنا منافع الشمس والقمر بالاستقصاء في أول هذا الكتاب

الحجة الثامنة والتاسعة قوله وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
واعلم أن منافعهما مذكورة في القرآن كقوله تعالى وَجَعَلْنَا الَّيْلَ لِبَاساً وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً ( النبأ 10 11 ) وقوله اللَّهُ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً قال المتكلمون تسخير الليل والنهار مجاز لأنهما عرضان والأعراض لا تسخر
والحجة العاشرة قوله وَاتَاكُم مّن كُلّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ثم إنه تعالى لما ذكر تلك النعمة العظيمة بين بعد ذلك أنه لم يقتصر عليها بل أعطى عباده من المنافع والمرادات ما لا يأتي على بعضها التعديد والإحصاء فقال وَاتَاكُم مّن كُلّ مَا سَأَلْتُمُوهُ والمفعول محذوف تقديره من كل مسؤول شيئاً وقرىء مِن كُلّ بالتنوين و مَا سَأَلْتُمُوهُ نفي ومحله نصب على الحال أي آتاكم من جميع ذلك غير سائليه ويجوز أن تكون ( ما ) موصولة والتقدير آتاكم من كل ذلك ما احتجتم إليه ولم تصلح أحوالكم ومعايشكم إلا به فكأنكم سألتموه أو طلبتموه بلسان الحال ثم إنه تعالى لما ذكر هذه النعم ختم الكلام بقوله وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا قال الواحدي النعمة ههنا اسم أقيم مقام المصدر يقال أنعم الله عليه ينعم إنعاماً ونعمة أقيم الاسم مقام الإنعام كقوله أنفقت عليه إنفاقاً ونفقة بمعنى واحد ولذلك لم يجمع لأنه في معنى المصدر ومعنى قوله لاَ تُحْصُوهَا أي لا تقدرون على تعديد جميعها لكثرتها
واعلم أن الإنسان إذا أراد أن يعرف أن الوقوف على أقسام نعم الله ممتنع فعليه أن يتأمل في شيء واحد ليعرف عجز نفسه عنه ونحن نذكر منه مثالين
المثال الأول أن الأطباء ذكروا أن الأعصاب قسمان منها دماغية ومنها نخاعية أما الدماغية فإنها سبعة ثم أتعبوا أنفسهم في معرفة الحكم الناشئة من كل واحد من تلك الأرواح السبعة ثم مما لا شك فيه أن كل واحد من الأرواح السبعة تنقسم إلى شعب كثيرة وكل واحد من تلك الشعب أيضاً إلى شعب دقيقة أدق من الشعر ولكل واحد منها ممر إلى الأعضاء ولو أن شعبة واحدة اختلت إما بسبب الكمية أو بسبب الكيفية أو بسبب الوضع لاختلت مصالح البنية ثم إن تلك الشعب الدقيقة تكون كثيرة العدد جداً ولكل واحدة منها حكمة مخصوصة فإذا نظر الإنسان في هذا المعنى عرف أن الله تعالى بحسب كل شظية من تلك الشظايا العصبية على العبد نعمة عظيمة لو فاتت لعظم الضرر عليه وعرف قطعاً أنه لا سبيل له إلى الوقوق عليها والاطلاع على أحوالها وعند هذا يقطع بصحة قوله تعالى وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا وكما اعتبرت هذا في الشظايا العصبية فاعتبر مثله في الشرايين والأوردة وفي كل واحد من الأعضاء البسيطة والمركبة بحسب الكمية والكيفية والوضع والفعل والإنفعال حتى ترى أقسام هذا الباب بحراً لا ساحل له وإذا اعتبرت هذا في بدن الإنسان الواحد فاعرف أقسام نعم الله تعالى في نفسه وروحه فإن عجائب عالم الأرواح أكثر من عجائب عالم الأجساد ثم لما اعتبرت حالة الحيوان الواحد فعند ذلك اعتبر أحوال عالم الأفلاك والكواكب وطبقات العناصر وعجائب البر والبحر والنبات والحيوان وعند هذا تعرف أن عقول جميع الخلائق لو ركبت وجعلت عقلاً واحداً ثم بذلك العقل يتأمل الإنسان في عجائب حكمة الله تعالى في أقل الأشياء لما أدرك منها إلا القليل فسبحانه تقدس عن أوهام المتوهمين
المثال الثاني أنك إذا أخذت اللقمة الواحدة لتضعها في الفم فانظر إلى ما قبلها وإلى ما بعدها أما

الأمور التي قبلها فاعرف أن تلك اللقمة من الخبز لا تتم ولا تكمل إلا إذا كان هذا العالم بكليته قائماً على الوجه الأصوب لأن الحنطة لا بد منها وأنها لا تنبت إلا معونة الفصول الأربعة وتركيب الطبائع وظهور الرياح والأمطار ولا يحصل شيء منها إلا بعد دوران الأفلاك واتصال بعض الكواكب ببعض على وجوه مخصوصة في الحركات وفي كيفيتها في الجهة والسرعة والبطء ثم بعد أن تكون الحنطة لا بد من آلات الطحن والخبز وهي لا تحصل إلا عند تولد الحديد في أرحام الجبال ثم إن الآلات الحديدية لا يمكن إصلاحها إلا بآلات أخرى حديدية سابقة عليها ولا بد من انتهائها إلى آلة حديدية هي أول هذه الآلات فتأمل أنها كيف تكونت على الأشكال المخصوصة ثم إذا حصلت تلك الآلات فانظر أنه لا بد من اجتماع العناصر الأربعة وهي الأرض والماء والهواء والنار حتى يمكن طبخ الخبز من ذلك الدقيق فهذا هو النظر فيما تقدم على حصول هذه اللقمة وأما النظر فيما بعد حصولها فتأمل في تركيب بدن الحيوان وهو أنه تعالى كيف خلق الأبدان حتى يمكنها الانتفاع بتلك اللقمة وأنه كيف يتضرر الحيوان بالأكل وفي أي الأعضاء تحدث تلك المضار ولا يمكنك أن تعرف القليل من هذه الأشياء إلا بمعرفة علم التشريح وعلم الطب بالكلية فظهر بما ذكرنا أن الانتفاع باللقمة الواحدة لا يمكن معرفته إلا بمعرفة جملة الأمور والعقول قاصرة عن إدراك ذرة من هذه المباحث فظهر بهذا البرهان القاهر صحة قوله تعالى وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا ثم إنه تعالى قال إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ قيل يظلم النعمة بإغفال شكرها كفار شديد الكفران لها وقيل ظلوم في الشدة يشكو ويجزع كفار في النعمة يجمع ويمنع والمراد من الإنسان ههنا الجنس يعني أن عادة هذا الجنس هو هذا الذي ذكرناه وههنا بحثان
البحث الأول أن الإنسان مجبول على النسيان وعلى الملالة فإذا وجد نعمة نسيها في الحال وظلمها بترك شكرها وإن لم ينسها فإنه في الحال يملها فيقع في كفران النعمة وأيضاً أن نعم الله كثيرة فمتى حاول التأمل في بعضها غفل عن الباقي
البحث الثاني أنه تعالى قال في هذا الموضع إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ وقال في سورة النحل إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ( النحل 18 ) ولما تأملت فيه لاحت لي فيه دقيقة كأنه يقول إذا حصلت النعم الكثيرة فأنت الذي أخذتها وأنا الذي أعطيتها فحصل لك عند أخذها وصفان وهما كونك ظلوماً كفاراً ولي وصفان عند إعطائها وهما كوني غفوراً رحيماً والمقصود كأنه يقول إن كنت ظلوماً فأنا غفور وإن كنت كفاراً فأنا رحيم أعلم عجزك وقصورك فلا أقابل تقصيرك إلا بالتوفير ولا أجازي جفاء إلا بالوفاء ونسأل الله حسن العاقبة والرحمة
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَاذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِى وَبَنِى َّ أَن نَّعْبُدَ الاٌّ صْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنِّى وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
اعلم أنه تعالى لما بين بالدلائل المتقدمة أنه لا معبود إلا الله سبحانه وأنه لا يجوز عبادة غيره تعالى

ألبتة حكى عن إبراهيم عليه السلام مبالغته في إنكار عبادة الأوثان
واعلم أنه تعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه طلب من الله أشياء أحدها قوله رَبّ اجْعَلْ هَاذَا الْبَلَدَ امِنًا والمراد مكة آمناً ذا أمن
فإن قيل أي فرق بين قوله ( اجعل هذا بلداً آمناً ) وبين قوله اجْعَلْ هَاذَا الْبَلَدَ امِنًا
قلنا سأل في الأول أن يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها فلا يخافون وفي الثاني أن يزيل عنها الصفة التي كانت حاصلة لها وهي الخوف ويحصل لها ضد تلك الصفة وهو الأمن كأنه قال هو بلد مخوف فاجعله آمناً وقد تقدم تفسيره في سورة البقرة وثانيها قوله وَاجْنُبْنِى وَبَنِى َّ أَن نَّعْبُدَ الاْصْنَامَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرىء وَاجْنُبْنِى وفيه ثلاث لغات جنبه واجنبه وجنبه قال الفراء أهل الحجاز يقول جنبني يجبني بالتخفيف وأهل نجد يقولون جنبني شره وأجنبني شره وأصله جعل الشيء عن غيره على جانب وناحية
المسألة الثانية لقائل أن يقول الإشكال على هذه الآية من وجوه أحدها أن إبراهيم عليه السلام دعا ربه أن يجعل مكة آمناً وما قبل الله دعاءه لأن جماعة خربوا الكعبة وأغاروا على مكة وثانيها أن الأنبياء عليهم السلام لا يعبدون الوثن ألبتة وإذا كان كذلك فما الفائدة في قوله أجنبني عن عبادة الأصنام وثالثها أنه طلب من الله تعالى أن لا يجعل أبناءه من عبدة الأصنام والله تعالى لم يقبل دعاءه ولأن كفار قريش كانوا من أولاده مع أنهم كانوا يعبدون الأصنام
فإن قالوا إنهم ما كانوا أبناء إبراهيم وإنما كانوا أبناء أبنائه والدعاء مخصوص بالأبناء فنقول فإذا كان المراد من أولئك الأبناء أبناءه من صلبه وهم ما كانوا إلا إسماعيل وإسحاق وهما كانا من أكابر الأنبياء وقد علم أن الأنبياء لا يعبدون الصنم فقد عاد السؤال في أنه ما الفائدة في ذلك الدعاء
والجواب عن السؤال الأول من وجهين الأول أنه نقل أنه عليه السلام لما فرغ من بناء الكعبة ذكر هذا الدعاء والمراد منه جعل تلك البلدة آمنة من الخراب والثاني أن المراد جعل أهلها آمنين كقوله وَاسْئَلِ الْقَرْيَة َ ( يوسف 82 ) أي أهل القرية وهذا الوجه عليه أكثر المفسرين وعلى هذا التقدير فالجواب من وجهين
الوجه الأول ما اختصت به مكة من حصول مزيد من الأمن وهو أن الخائف كان إذا التجأ إلى مكة أمن وكان الناس مع شدة العداوة بينهم يتلاقون بمكة فلا يخاف بعضهم بعضاً ومن ذلك أمن الوحش فإنهم يقربون من الناس إذا كانوا بمكة ويكونون مستوحشين عن الناس خارج مكة فهذا النوع من الأمن حاصل في مكة فوجب حمل الدعاء عليه
والوجه الثاني أن يكون المراد من قوله اجْعَلْ هَاذَا الْبَلَدَ امِنًا أي بالأمر والحكم بجعله آمناً وذلك الأمر والحكم حاصل لا محالة
والجواب عن السؤال الثاني قال الزجاج معناه ثبتني على اجتناب عبادتها كما قال وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ ( البقرة 128 ) أي ثبتنا على الإسلام
ولقائل أن يقول السؤال باق لأنه لأنه لما كان من المعلوم أنه تعالى يثبت الأنبياء عليهم السلام على

الاجتناب من عبادة الأصنام فما الفائدة في هذا السؤال والصحيح عندي في الجواب وجهان الأول أنه عليه السلام وإن كان يعلم أنه تعالى يعصمه من عبادة الأصنام إلا أنه ذكر ذلك هضماً للنفس وإظهاراً للحاجة والفاقة إلى فضل الله في كل المطالب والثاني أن الصوفية يقولون إن الشرك نوعان شرك جلي وهو الذي يقول به المشركون وشرك خفي وهو تعليق القلب بالوسايط وبالأسباب الظاهرة والتوحيد المحض هو أن ينقطع نظره عن الوسايط ولا يرى متصرفاً سوى الحق سبحانه وتعالى فيحتمل أن يكون قوله وَاجْنُبْنِى وَبَنِى َّ أَن نَّعْبُدَ الاْصْنَامَ المراد منه أن يعصمه عن هذا الشرك الخفي والله أعلم بمراده
والجواب عن السؤال الثالث من وجوه الأول قال صاحب ( الكشاف ) قوله ( وبني ) أراد بنيه من صلبه والفائدة في هذا الدعاء عين الفائدة التي ذكرناها في قوله وَاجْنُبْنِى والثاني قال بعضهم أراد من أولاده وأولاد أولاده كل من كانوا موجودين حال الدعاء ولا شبهة أن دعوته مجابة فيهم الثالث قال مجاهد لم يعبد أحد من ولد إبراهيم عليه السلام صنماً والصنم هو التمثال المصور ما ليس بمصور فهو وثن وكفار قريش ما عبدوا التمثال وإنما كانوا يعبدون أحجاراً مخصوصة وأشجاراً مخصوصة وهذا الجواب ليس بقوي لأنه عليه السلام لا يجوز أن يريد بهذا الدعاء إلا عبادة غير الله تعالى والحجر كالصنم في ذلك الرابع أن هذا الدعاء مختص بالمؤمنين من أولاده والدليل عليه أنه قال في آخر الآية فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنّى وذلك يفيد أن من لم يتبعه على دينه فإنه ليس منه ونظيره قوله تعالى لنوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ( هود 46 ) والخامس لعله وإن كان عمم في الدعاء إلا أن الله تعالى أجاب دعاءه في حق البعض دون البعض وذلك لا يوجب تحقير الأنبياء عليهم السلام ونظيره قوله تعالى في حق إبراهيم عليه السلام قَالَ إِنّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرّيَّتِى قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ( البقرة 124 )
المسألة الثالثة احتج أصحابنا بقوله وَاجْنُبْنِى وَبَنِى َّ أَن نَّعْبُدَ الاْصْنَامَ على أن الكفر والإيمان من الله تعالى وتقرير الدليل أن إبراهيم عليه السلام طلب من الله أن يجنبه ويجنب أولاده من الكفر فدل ذلك على أن التبعيد من الكفر والتقريب من الإيمان ليس إلا من الله تعالى وقول المعتزلة إنه محمول على الألطاف فاسد لأنه عدول عن الظاهر ولأنا قد ذكرنا وجوهاً كثيرة في إفساد هذا التأويل
ثم حكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه قال رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ النَّاسِ واتفق كل الفرق على أن قوله أَضْلَلْنَ مجاز لأنها جمادات والجماد لا يفعل شيئاً ألبتة إلا أنه لما حصل الإضلال عند عبادتها أضيف إليها كما تقول فتنتهم الدنيا وغرتهم أي افتتنوا بها واغتروا بسببها
ثم قال فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنّى يعني من تبعني في ديني واعتقادي فإنه مني أي جار مجرى بعضي لفرط اختصاصه بي وقربه مني ومن عصاني في غير الدين فإنك غفور رحيم واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن إبراهيم عليه السلام ذكر هذا الكلام والغرض منه الشفاعة في حق أصحاب الكبائر من أمته والدليل عليه أن قوله وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ صريح في طلب المغفرة والرحمة لأولئك العصاة فنقول أولئك العصاة إما أن يكونوا من الكفار أو لا يكونوا كذلك والأول باطل من وجهين الأول أنه عليه السلام بين في مقدمة هذه الآية أنه مبرأ عن الكفار وهو قوله وَاجْنُبْنِى وَبَنِى َّ أَن نَّعْبُدَ الاْصْنَامَ وأيضاً قوله فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنّى يدل بمفهومه على أن من لم يتبعه على دينه فإنه ليس منه ولا يهتم باصلاح مهماته والثاني أن الأمة

مجمعة على أن الشفاعة في إسقاط عقاب الكفر غير جائزة ولما بطل هذا ثبت أن قوله وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ شفاعة في العصاة الذين لا يكونون من الكفار
وإذا ثبت هذا فنقول تلك المعصية إما أن تكون من الصغائر أو من الكبائر بعد التوبة أو من الكبائر قبل التوبة والأول والثاني باطلان لأن قوله وَمَنْ عَصَانِى اللفظ فيه مطلق فتخصيصه بالصغيرة عدول عن الظاهر وأيضاً فالصغائر والكبائر بعد التوبة واجبة الغفران عند الخصوم فلا يمكن حمل اللفظ عليه فثبت أن هذه الآية شفاعة في إسقاط العقاب عن أهل الكبائر قبل التوبة وإذا ثبت حصول هذه الشفاعة في حق إبراهيم عليه السلام ثبت حصولها في حق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لوجوه الأول أنه لا قائل بالفرق والثاني وهو أن هذا المنصب أعلى المناصب فلو حصل لإبراهيم عليه السلام مع أنه غير حاصل لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) لكان ذلك نقصاناً في حق محمد عليه السلام والثالث أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) مأمور بالاقتداء بإبراهيم عليه السلام لقوله تعالى أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ( الأنعام 90 ) وقوله ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّة َ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا فهذا وجه قريب في إثبات الشفاعة لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وفي إسقاط العقاب عن أصحاب الكبائر والله أعلم
إذا عرفت هذا فلنذكر أقوال المفسرين قال السدي معناه ومن عصاني ثم تاب وقيل إن هذا الدعاء إنما كان قبل أن يعلم أن الله تعالى لا يغفر الشرك وقيل من عصاني بإقامته على الكفر فإنك غفور رحيم يعني أنك قادر على أن تغفر له وترحمه بأن تنقله عن الكفر إلى الإسلام وقيل المراد من هذه المغفرة أن لا يعاجلهم بالعقاب بل يمهلهم حتى يتوبوا أو يكون المراد أن لا تعجل اخترامهم فتفوتهم التوبة واعلم أن هذه الوجوه ضعيفة
أما الأول وهو حمل هذه الشفاعة على المعصية بشرط التوبة فقد أبطلناه
وأما الثاني وهو قوله إن هذه الشفاعة إنما كانت قبل أن يعلم أن الله لا يغفر الشرك فنقول هذا أيضاً بعيد لأنا بينا أن مقدمة هذه الآية تدل على أنه لا يجوز أن يكون مراد إبراهيم عليه السلام من هذا الدعاء هو الشفاعة في إسقاط عقاب الكفر
وأما الثالث وهو قوله المراد من كونه غَفُوراً رَّحِيماً أن ينقله من الكفر إلى الإيمان فهو أيضاً بعيد لأن المغفرة والرحمة مشعرة بإسقاط العقاب ولا إشعار فيهما بالنقل من صفة الكفر إلى صفة الإيمان والله أعلم
وأما الرابع وهو أن تحمل المغفرة والرحمة على تعجيل العقاب أو ترك تعجيل الإمانة فنقول هذا باطل لأن كفار زماننا هذا أكثر منهم ولم يعاجلهم الله تعالى بالعقاب ولا بالموت مع أن أهل الإسلام متفقون على أنهم ليسوا مغفورين ولا مرحومين فبطل تفسير المغفرة والرحمة على ترك تعجيل العقاب بهذا الوجه وظهر بما ذكرنا صحة ما قررناه من الدليل والله أعلم
رَّبَّنَآ إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلواة َ فَاجْعَلْ أَفْئِدَة ً مَّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ رَبَّنَآ إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِن شَى ْءٍ فَى الأرض وَلاَ فِى السَّمَآءِ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى وَهَبَ لِى عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّى لَسَمِيعُ الدُّعَآءِ رَبِّ اجْعَلْنِى مُقِيمَ الصَّلواة ِ وَمِن ذُرِّيَتِى رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَآءِ رَبَّنَا اغْفِرْ لِى وَلِوَالِدَى َّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ

اعلم أنه سبحانه وتعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام في هذا الموضع أنه طلب في دعائه أموراً سبعة
المطلوب الأول طلب من الله نعمة الأمان وهو قوله رَبّ اجْعَلْ هَاذَا الْبَلَدَ امِنًا ( البقرة 126 ) والابتداء بطلب نعمة الأمن في هذا الدعاء يدل على أنه أعظم أنواع النعم والخيرات وأنه لا يتم شيء من مصالح الدين والدنيا إلا به وسئل بعض العلماء الأمن أفضل أم الصحة فقال الأمن أفضل والدليل عليه أن شاة لو انكسرت رجلها فإنها تصح بعد زمان ثم إنها تقبل على الرعي والأكل ولو أنها ربطت في موضع وربط بالقرب منها ذئب فإنها تمسك عن العلف ولا تتناوله إلى أن تموت وذلك يدل على أن الضرر الحاصل من الخوف أشد من الضرر الحاصل من ألم الجسد
والمطلوب الثاني أن يرزقه الله التوحيد ويصونه عن الشرك وهو قوله وَاجْنُبْنِى وَبَنِى َّ أَن نَّعْبُدَ الاْصْنَامَ ( إبراهيم 35 )
والمطلوب الثالث قوله رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ فقوله مِن ذُرّيَّتِى أي بعض ذريتي وهو إسمعيل ومن ولد منه بِوَادٍ هو وادي مكة غَيْرِ ذِى زَرْعٍ أي ليس فيه شيء من زرع كقوله قُرْءاناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِى عِوَجٍ ( الزمر 28 ) بمعنى لا يحصل فيه اعوجاج عند بيتك المحرم وذكروا في تسميته المحرم وجوها الأول أن الله حرم التعرض له والتهاون به وجعل ما حوله حرماً لمكانه الثاني أنه كان لم يزل ممتنعاً عزيزاً يهابه كل جبار كالشيء المحرم الذي حقه أن يجتنب الثالث سمي محرماً لأنه محترم عظيم الحرمة لا يحل انتهاكه الرابع أنه حرم على الطوفان أي امتنع منه كما سمي عتيقاً لأنه أعتق منه فلم يستعل عليه الخامس أمر الصائرين إليه أن يحرموا على أنفسهم أشياء كانت تحل لهم من قبل السادس حرم موضع البيت حين خلق السموات والأرض وحفه بسبعة من الملائكة وهو مثل البيت المعمور الذي بناه آدم فرفع إلى السماء السابعة السابع حرم على عباده أن يقربوه بالدماء والأقذار وغيرها روي أن هاجر كانت أمة لسارة فوهبتها لإبراهيم عليه السلام فولدت له

إسمعيل عليه السلام فقالت سارة كنت أرجو أن يهب الله لي ولداً من خليله فمنعنيه ورزقه خادمتي وقالت لإبراهيم أبعدهما مني فنقلهما إلى مكة وإسمعيل رضيع ثم رجع فقالت هاجر إلى من تكلنا فقال إلى الله ثم دعا الله تعالى بقوله رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى بِوَادٍ إلى آخر الآية ثم إنها عطشت وعطش الصبي فانتهت بالصبي إلى موضع زمزم فضرب بقدمه ففارت عيناً فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( رحم الله أم إسمعيل لولا أنها عجلت لكانت زمزم عيناً معيناً ) ثم إن إبراهيم عليه السلام عاد بعد كبر إسمعيل واشتغل هو مع إسمعيل برفع قواعد البيت قال القاضي أكثر الأمور المذكورة في هذه الحكاية بعيدة لأنه لا يجوز لإبراهيم عليه السلام أن ينقل ولده إلى حيث لا طعام ولا ماء مع أنه كان يمكنه أن ينقلهما إلى بلدة أخرى من بلاد الشام لأجل قول سارة إلا إذا قلنا إن الله أعلمه أنه يحصل هناك ماء وطعام وأقول أما ظهور ماء زمزم فيحتمل أن يكون إرهاصاً لإسمعيل عليه السلام لأن ذلك عندنا جائز خلافاً للمعتزلة وعند المعتزلة أنه معجزة لإبراهيم عليه السلام
ثم قال رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ واللام متعلقة بأسكنت أي أسكنت قوماً من ذريتي وهم إسمعيل وأولاده بهذا الوادي الذي لا زرع فيه ليقيموا الصلاة
ثم قال فَاجْعَلْ أَفْئِدَة ً مّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وفيه مباحث
البحث الأول قال الأصمعي هوى يهوي هوياً بالفتح إذا سقط من علو إلى سفل وقيل تَهْوِى إِلَيْهِمْ تريدهم وقيل تسرع إليهم وقيل تنحط إليهم وتنحدر إليهم وتنزل يقال هوى الحجر من رأس الجبل يهوي إذا انحدر وانصب وهوى الرجل إذا انحدر من رأس الجبل
البحث الثاني أن هذا الدعاء جامع للدين والدنيا أما الدين فلأنه يدخل فيه ميل الناس إلى الذهاب إلى تلك البلدة بسبب النسك والطاعة لله تعالى وأما الدنيا فلأنه يدخل فيه ميل الناس إلى نقل المعاشات إليهم بسبب التجارات فلأجل هذا الميل يتسع عيشهم ويكثر طعامهم ولباسهم
البحث الثالث كلمة مِنْ في قوله فَاجْعَلْ أَفْئِدَة ً مّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ تفيد التبعيض والمعنى فاجعل أفئدة بعض الناس مائلة إليهم قال مجاهد لو قال أفئدة الناس لازدحمت عليه فارس والروم والترك والهند وقال سعيد بن جبير لو قال أفئدة الناس لحجت اليهود والنصارى المجوس ولكنه قال أَفْئِدَة ً مّنَ النَّاسِ فهم المسلمون
ثم قال وَارْزُقْهُمْ مّنَ الثَّمَراتِ وفيه بحثان
البحث الأول أنه لم يقل وارزقهم الثمرات بل قال وَارْزُقْهُمْ مّنَ الثَّمَراتِ وذلك يدل على أن المطلوب بالدعاء اتصال بعض الثمرات إليهم
البحث الثاني يحتمل أن يكون المراد بإيصال الثمرات إليهم إيصالها إليهم على سبيل التجارات وإنما يكون المراد عمارة القرى بالقرب منها لتحصيل الثمار منها
ثم قال لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ وذلك يدل على أن المقصود للعاقل من منافع الدنيا أن يتفرغ لأداء العبادات وإقامة الطاعات فإن إبراهيم عليه السلام بين أنه إنما طلب تيسير المنافع على أولاده لأجل أن

يتفرغوا لإقامة الصلوات وأداء الواجبات
المطلوب الرابع قوله رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُ
واعلم أنه عليه السلام لما طلب من الله تيسير المنافع لأولاده وتسهيلها عليهم ذكر أنه لا يعلم عواقب الأحوال ونهايات الأمور في المستقبل وأنه تعالى هو العالم بها المحيط بأسرارها فقال رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُ والمعنى أنك أعلم بأحوالنا ومصالحنا ومفاسدنا منا قيل ما نخفي من الوجد بسبب حصول الفرقة بيني وبين إسمعيل وما نعلن من البكاء وقيل ما نخفي من الحزن المتمكن في القلب وما نعلن يريد ما جرى بينه وبين هاجر حيث قالت له عند الوداع إلى من تكلنا فقال إلى الله أكلكم قالت آلله أمرك بهذا قال نعم قالت إذن لا نخشى
ثم قال وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِن شَى ْء فَى الاْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء وفيه قولان أحدهما أنه كلام الله عز وجل تصديقاً لإبراهيم عليه السلام كقوله وَكَذالِكَ يَفْعَلُونَ ( النحل 34 ) والثاني أنه من كلام إبراهيم عليه السلام يعني وما يخفي على الذي هو عالم الغيب من شيء في كل مكان ولفظ ( من ) يفيد الاستغراق كأنه قيل وما يخفى عليه شيء ما
ثم قال الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى وَهَبَ لِى عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وفيه مباحث
البحث الأول اعلم أن القرآن يدل على أنه تعالى إنما أعطى إبراهيم عليه السلام هذين الولدين أعني إسمعيل وإسحق على الكبر والشيخوخة فأما مقدار ذلك السن فغير معلوم من القرآن وإنما يرجع فيه إلى الروايات فقيل لما ولد إسماعيل كان سن إبراهيم تسعاً وتسعين سنة ولما ولد إسحق كان سنه مائة واثنتي عشرة سنة وقيل ولد له إسمعيل لأربع وستين سنة وولد إسحق لتسعين سنة وعن سعيد بن جبير لم يولد لإبراهيم إلا بعد مائة وسبع عشرة سنة وإنما ذكر قوله عَلَى الْكِبَرِ لأن المنة بهبة الولد في هذا السن أعظم من حيث إن هذا الزمان زمان وقوع اليأس من الولادة والظفر بالحاجة في وقت اليأس من أعظم النعم ولأن الولادة في تلك السن العالية كانت آية لإبراهيم
فإن قيل إن إبراهيم عليه السلام إنما ذكر هذا الدعاء عندما أسكن إسمعيل وهاجر أمه في ذلك الوادي وفي ذلك الوقت ما ولد له إسحق فكيف يمكنه أن يقول الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى وَهَبَ لِى عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ
قلنا قال القاضي هذا الدليل يقتضي أن إبراهيم عليه السلام إنما ذكر هذا الكلام في زمان آخر لا عقيب ما تقدم من الدعاء ويمكن أيضاً أن يقال إنه عليه السلام إنما ذكر هذا الدعاء بعد كبر إسمعيل وظهور إسحق وإن كان ظاهر الروايات بخلافه
البحث الثاني على في قوله عَلَى الْكِبَرِ بمعنى مع كقول الشاعر إني على ما ترين من كبري
أعلم من حيث يؤكل الكتف
وهو في موضع الحال ومعناه وهب لي في حال الكبر
البحث الثالث في المناسبة بين قوله رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِن شَى ْء فَى الاْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء

وبين قوله الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى وَهَبَ لِى عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وذلك هو كأنه كان في قلبه أن يطلب من الله إعانتهما وإعانة ذريتهما بعد موته ولكنه لم يصرح بهذا المطلوب بل قال رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُ أي إنك تعلم ما في قلوبنا وضمائرنا ثم قال الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى وَهَبَ لِى عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وذلك يدل ظاهراً على أنهما يبقيان بعد موته وأنه مشغول القلب بسببهما فكان هذا دعاء لهما بالخير والمعونة بعد موته على سبيل الرمز والتعريض وذلك يدل على أن الاشتغال بالثناء عند الحاجة إلى الدعاء أفضل من الدعاء قال عليه لاسلام حاكياً عن ربه أنه قال ( من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين ) ثم قال إِنَّ رَبّى لَسَمِيعُ الدُّعَاء
واعلم أنه لما ذكر الدعاء على سبيل الرمز والتعريض لا على وجه الإيضاح والتصريح قال إِنَّ رَبّى لَسَمِيعُ الدُّعَاء أي هو عالم بالمقصود سواء صرحت به أو لم أصرح وقوله سميع الدعاء من قولك سمع الملك كلام فلان إذا اعتد به وقبله ومنه سمع الله لمن حمده
المطلوب الخامس قوله رَبّ اجْعَلْنِى مُقِيمَ الصَّلواة ِ وَمِن ذُرّيَتِى وفيه مسائل
المسألة الأولى احتج أصحابنا بهذا الآية على أن أفعال العبد مخلوقة لله تعالى فقالوا إن قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام وَاجْنُبْنِى وَبَنِى َّ أَن نَّعْبُدَ الاْصْنَامَ يدل على أن ترك المنهيات لا يحصل إلا من الله وقوله رَبّ اجْعَلْنِى مُقِيمَ الصَّلواة ِ وَمِن ذُرّيَتِى يدل على أن فعل المأمورات لا يحصل إلا من الله وذلك تصريح بأن إبراهيم عليه السلام كان مصراً على أن الكل من الله
المسألة الثانية تقدير الآية رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي أي واجعل بعض ذريتي كذلك لأن كلمة ( من ) في قوله وَمِن ذُرّيَتِى للتبعيض وإنما ذكر هذا التبعيض لأنه علم باعلام الله تعالى أنه يكون في ذريته جمع من الكفار وذلك قوله لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ
المطلوب السادس أنه عليه السلام لما دعا الله في المطالب المذكورة دعا الله تعالى في أن يقبل دعاءه فقال رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء وقال ابن عباس يريد عبادتي بدليل قوله تعالى وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ( مريم 48 )
المطلوب السابع قوله رَبَّنَا اغْفِرْ لِى وَلِوَالِدَى َّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ وفيه مسألتان
المسألة الأولى لقائل أن يقول طلب المغفرة إنما يكون بعد سابقة الذنب فهذا يدل على أنه كان قد صدر الذنب عنه وإن كان قاطعاً بأن الله يغفر له فكيف طلب تحصيل ما كان قاطعاً بحصوله
والجواب المقصود منه الالتجاء إلى الله تعالى وقطع الطمع إلا من فضله وكرمه ورحمته
المسألة الثانية إن قال قائل كيف جاز أن يستغفر لأبويه وكانا كافرين
فالجواب عنه من وجوه الأول أن المنع منه لا يعلم إلا بالتوقيف فلعله لم يجد منه منعاً فظن كونه حائزاً الثاني أراد بوالديه آدم وحواء الثالث كان ذلك بشرط الإسلام
ولقائل أن يقول لو كان الأمر كذلك لما كان ذلك الاستغفار باطلاً ولو لم يكن لبطل قوله تعالى إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لاِبِيهِ لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ( الممتحنة 4 ) وقال بعضهم كانت أمه مؤمنة ولهذا السبب خص أباه

بالذكر في قوله تعالى فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ( التوبة 114 ) والله أعلم وفي قوله يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ قولان الأول يقوم أي يثبت وهو مستعار من قيام القائم على الرجل والدليل عليه قولهم قامت الحرب على ساقها ونظيره قوله ترجلت الشمس أي أشرقت وثبت ضوءها كأنها قامت على رجل الثاني أن يسند إلى الحساب قيام أهله على سبيل المجاز مثل قوله وَاسْئَلِ الْقَرْيَة َ ( يوسف 82 ) أي أهلها والله أعلم
وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِى رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ
اعلم أنه لما بين دلائل التوحيد ثم حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه طلب من الله أن يصونه عن الشرك وطلب منه أن يوفقه للأعمال الصالحة وأن يخصه بالرحمة والمغفرة في يوم القيامة ذكر بعد ذلك ما يدل على وجود يوم القيامة وما يدل على صفة يوم القيامة أما الذي يدل على وجود القيامة فهو قوله وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ فالمقصود منه التنبيه على أنه تعالى لو لم ينتقم للمظلوم من الظالم لزم أن يكون إما غافلاً عن ذلك الظالم أو عاجزاً عن الإنتقام أو كان راضياً بذلك الظلم ولما كانت الغفلة والعجز والرضا بالظلم محالاً على الله امتنع أن لا ينتقم للمظلوم من الظالم
فإن قيل كيف يليق بالرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أن يحسب الله موصوفاً بالغفلة
والجواب من وجوه الأول المراد به التثبيت على ما كان عليه من أنه لا يحسب الله غافلاً كقوله وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ ( الأنعام 14 ) وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً ءاخَرَ ( القصص 88 ) وكقوله ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ والثاني أن المقصود منه بيان أنه لو لم ينتقم لكان عدم الإنتقام لأجل غفلته عن ذلك الظلم ولما كان امتناع هذه الغفلة معلوماً لكل أحد لا جرم كان عدم الانتقام محالاً والثالث أن المراد ولا تحسبنه يعاملهم معاملة الغافل عما يعملون ولكن معاملة الرقيب عليهم المحاسب على النقير والقطمير الرابع أن يكون هذا الكلام وإن كان خطاباً مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في الظاهر إلا أنه يكون في الحقيقة خطاباً مع الأمة وعن سفيان بن عيينة أنه تسلية للمظلوم وتهديد للظالم ثم بين تعالى أنه إنما يؤخر عقاب هؤلاء الظالمين ليوم موصوف بصفات
الصفة الأولى أنه تشخص فيه الأبصار يقال شخص بصر الرجل إذا بقيت عينه مفتوحة لا يطرفها وشخوص البصر يدل على الحيرة والدهشة وسقوط القوة
والصفة الثانية قوله مُهْطِعِينَ وفي تفسير الإهطاع أقوال أربعة
القول الأول قال أبو عبيدة هو الإسراع يقال أهطع البعير في سيره واستهطع إذا أسرع وعلى هذا الوجه فالمعنى أن الغالب من حال من يبقى بصره شاخصاً من شدة الخوف أن يبقى واقفاً فبين الله تعالى

أن حالهم بخلاف هذا المعتاد فإنهم مع شخوص أبصارهم يكونون مهطعين أي مسرعين نحو وذلك البلاء
القول الثاني في الإهطاع قال أحمد بن يحيى المهطع الذي ينظر في ذل وخشوع
والقول الثالث المهطع الساكت
والقول الرابع قال الليث يقال للرجل إذا قر وذل أهطع
الصفة الثالثة قوله مُقْنِعِى رُؤُوسَهُمْ والإقناع رفع الرأس والنظر في ذل وخشوع فقوله مُقْنِعِى رُؤُوسَهُمْ أي رافعي رؤوسهم والمعنى أن المعتاد فيمن يشاهد البلاء أنه يطرق رأسه عنه لكي لا يراه فبين تعالى أن حالهم بخلاف هذا المعتاد وأنهم يرفعون رؤوسهم
الصفة الرابعة قوله لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ والمراد من هذه الصفة دوام ذلك الشخوص فقوله تَشْخَصُ فِيهِ الابْصَارُ لا يفيد كون هذا الشخوص دائماً وقوله لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ يفيد دوام هذا الشخوص وذلك يدل على دوام تلك الحيرة والدهشة في قلوبهم
الصفة الخامسة قوله وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء الهواء الخلاء الذي لم تشغله الأجرام ثم جعل وصفاً فقيل قلب فلان هواء إذا كان خالياً لا قوة فيه والمراد بيان أن قلوب الكفار خالية يوم القيامة عن جميع الخواطر والأفكار لعظم ما ينالهم من الحيرة ومن كل رجاء وأمل لما تحققوه من العقاب ومن كل سرور لكثرة ما فيه من الحزن إذا عرفت هذه الصفات الخمسة فقد اختلفوا في وقت حصولها فقيل إنها عند المحاسبة بدليل أنه تعالى إنما ذكر هذه الصفات عقيب وصف ذلك اليوم بأنه يوم يقوم الحساب وقيل إنها تحصل عند ما يتميز فريق عن فريق والسعداء يذهبون إلى الجنة والأشقياء إلى النار وقيل بل يحصل عند إجابة الداعي والقيام من القبور والأول أولى للدليل الذي ذكرناه والله أعلم
وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ وَسَكَنتُمْ فِى مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ
اعلم أن قوله يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فيه أبحاث
البحث الأول قال صاحب ( الكشاف ) يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ مفعول ثان لقوله وَأَنذِرِ وهو يوم القيامة
البحث الثاني الألف واللام في لفظ الْعَذَابَ للمعهود السابق يعني وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب الذي تقدم ذكره وهو شخوص أبصارهم وكونهم مهطعين مقنعي رؤوسهم

البحث الثالث الإنذار هو التخويف بذكر المضار والمفسرون مجمعون على أن قوله يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ هو يوم القيامة وحمله أبو مسلم على أنه حال المعاينة والظاهر يشهد بخلافه لأنه تعالى وصف اليوم بأن عذابهم يأتي فيه وأنهم يسألون الرجعة ويقال لهم أَوَ لَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مّن زَوَالٍ ولا يليق ذلك إلا بيوم القيامة وحجة أبي مسلم أن هذه الآية شبيهة بقوله تعالى وَأَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِى َ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبّ لَوْلا أَخَّرْتَنِى إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ ( المنافقون 10 ) ثم حكى الله سبحانه ما يقول الكفار في ذلك اليوم فقال فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ واختلفوا في المراد بقوله أَخّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فقال بعضهم طلبوا الرجعة إلى الدنيا ليتلافوا ما فرطوا فيه وقال بل طلبوا الرجوع إلى حال التكليف بدليل قولهم نجب دعوتك ونتبع الرسل وأما على قول أبي مسلم فتأويل هذه الآية ظاهر فقال تعالى مجيباً لهم أَوَ لَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مّن زَوَالٍ ومعناه ما ذكره الله تعالى في آية أخرى وهو قوله تعالى وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ ( النحل 38 ) إلى غير ذلك مما كانوا يذكرونه من إنكار المعاد فقرعهم الله تعالى بهذا القول لأن التقريع بهذا الجنس أقوى ومعنى ما لكم من زوال لا شبهة في أنهم كانوا يقولون لا زوال لنا من هذه الحياة إلى حياة أخرى ومن هذه الدار إلى دار المجازاة لا أنهم كانوا ينكرون أن يزولوا عن حياة إلى موت أو عن شباب إلى هرم أو عن فقر إلى غنى ثم إنه تعالى زادهم تقريعاً آخر بقوله وَسَكَنتُمْ فِى مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ يعني سكنتم في مساكن الذين كفروا قبلكم وهم قوم نوح وعاد وثمود وظلموا أنفسهم بالكفر والمعصية لأن من شاهد هذه الأحوال وجب عليه أن يعتبر فإذا لم يعتبر كان مستوجباً للذم والتقريع
ثم قال وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وظهر لكم أن عاقبتهم عادت إلى الوبال والخزي والنكال
فإن قيل ولماذا قيل وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ ولم يكن القوم يقرون بأنه تعالى أهلكهم لأجل تكذيبهم
قلنا إنهم علموا أن أولئك المتقدمين كانوا طالبين للدنيا ثم إنهم فنوا وانقرضوا فعند هذا يعلمون أنه لا فائدة في طلب الدنيا والواجب الجد والاجتهاد في طلب الدين والواجب على من عرف هذا أن يكون خائفاً وجلاً فيكون ذلك زجراً له هذا إذا قرىء بالتاء أما إذا قرىء بالنون فلا شبهة فيه لأن التقدير كأنه تعالى قال أولم نبين لكم كيف فعلنا بهم وليس كل ما بين لهم تبينوه
أما قوله وَضَرَبْنَا لَكُمُ الامْثَالَ فالمراد ما أورده الله في القرآن مما يعلم به أنه قادر على الإعادة كما قدر على الإبتداء وقادر على التعذيب المؤجل كما يفعل الهلاك المعجل وذلك في كتاب الله كثير والله أعلم
وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ

اعلم أنه تعالى لما ذكر صفة عقابهم أتبعها بذكر كيفية مكرهم فقال وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في أن الضمير في قوله وَقَدْ مَكَرُواْ إلى ماذا يعود على وجوه الأول أن يكون الضمير عائداً إلى الذين سكنوا في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وهذا القول الصحيح لأن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات والثاني أن يكون المراد به قوم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والدليل عليه قوله وَأَنذِرِ النَّاسَ ( إبراهيم 45 ) يا محمد وقد مكر قومك مكرهم وذلك المكر هو الذي ذكره الله تعالى في قوله وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ( الأنفال 30 ) وقوله مَكْرِهِمْ أي مكرهم العظيم الذي استفرغوا فيه جهدهم الثالث أن المراد من هذا المكر ما نقل أن نمروذ حاول الصعود إلى السماء فاتخذ لنفسه تابوتاً وربط قوائمه الأربع بأربعة نسور وكان قد جوعها ورفع فوق الجوانب الأربعة من التابوت عصياً أربعاً وعلق على كل واحدة منهن قطعة لحم ثم إنه جلس مع حاجبه في ذلك التابوت فلما أبصرت النسور تلك اللحوم تصاعدت في جو الهواء ثلاثة أيام وغابت الدنيا عن عين نمروذ ورأى السماء بحالها فنكس تلك العصي التي علق عليها اللحم فسفلت النسور وهبطت إلى الأرض فهذا هو المراد من مكرهم قال القاضي وهذا بعيد جداً لأن الخطر فيه عظيم ولا يكاد العاقل يقدم عليه وما جاء فيه خبر صحيح معتمد ولا حجة في تأويل الآية ألبتة
المسألة الثانية قوله وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ فيه وجهان الأول أن يكون المكر مضافاً إلى الفاعل كالأول والمعنى ومكتوب عند الله مكرهم فهو يجازيهم عليه بمكر هو أعظم منه والثاني أن يكون المكر مضافاً إلى المفعول والمعنى وعند الله مكرهم الذي يمكر بهم وهو عذابهم الذي يستحقونه يأتيهم به من حيث لا يشعرون ولا يحتسبون
أما قوله تعالى وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ فاعلم أنه قرأ الكسائي وحده لِتَزُولَ بفتح اللام الأولى ورفع اللام الأخرى منه والباقون بكسر الأولى ونصب الثانية
أما القراءة الأولى فمعناها أن مكرهم كان معداً لأن تزول منه الجبال وليس المقصود من هذا الكلام الإخبار عن وقوعه بل التعظيم والتهويل وهو كقوله تَكَادُ السَّمَاوَاتِ الْكِتَابَ مِنْهُ ( مريم 90 )
وأما القراءة الثانية فالمعنى أن لفظ ( إن ) في قوله وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ بمعنى ( ما ) واللام المكسورة بعدها يعني بها الجحد ومن سبيلها نصب الفعل المستقبل والنحويون يسمونها لام الجحد ومثله قوله تعالى وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ ( آل عمران 179 ) مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ ( آل عمران 179 ) والجبال ههنا مثل لأمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولأمر دين الإسلام وإعلامه ودلالته على معنى أن ثبوتها كثبوت الجبال الراسية لأن الله تعالى وعد نبيه إظهار دينه على كل الأديان ويدل على صحة هذا المعنى قوله تعالى بعد هذه الآية فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ ( إبراهيم 47 ) أي قد وعدك الظهور عليهم والغلبة لهم والمعنى وما كان مكرهم لتزول منه الجبال أي وكان مكرهم أوهن وأضعف من أن تزول منه الجبال الراسيات التي هي دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ودلائل شريعته وقرأ علي وعمرو إِن كَانَ مَكْرِهِمْ

فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ
اعلم أنه تعالى قال في الآية الأولى وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ( إبراهيم 42 ) وقال في هذه الآية فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ والمقصود منه التنبيه على أنه تعالى لو لم يقم القيامة ولم ينتقم للمظلومين من الظالمين لزم إما كونه غافلاً وإما كونه مخلفاً في الوعد ولما تقرر في العقول السليمة أن كل ذلك محال كان القول بأنه لا يقيم القيامة باطلاً وقوله مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ يعني قوله إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا ( غافر 51 ) وقوله كَتَبَ اللَّهُ لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى ( المجادلة 21 )
فإن قيل هلا قيل مخلف رسله وعده ولم قدم المفعول الثاني على الأول
قلنا ليعلم أنه لا يخلف الوعد أصلاً إن الله لا يخلف الميعاد ثم قال رُسُلَهُ ليدل به على أنه تعالى لما لم يخلف وعده أحداً وليس من شأنه إخلاف المواعيد فكيف يخلفه رسله الذين هم خيرته وصفوته وقرىء مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ بجر الرسل ونصب الوعد والتقدير مخلف رسله وعده وهذه القراءة في الضعف كمن قرأ قتل أولادهم شركائهم ثم قال إِنَّ اللَّهَ عَزِيزاً أي غالب لا يماكر ذو انتقام لأوليائه
يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِى الاٌّ صْفَادِ سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ لِيَجْزِى َ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ هَاذَا بَلَاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَاهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ
اعلم أن الله تعالى لما قال عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ بين وقت انتقامه فقال يَوْمَ تُبَدَّلُ الاْرْضُ غَيْرَ الاْرْضِ وعظم من حال ذلك اليوم لأنه لا أمر أعظم من العقول والنفوس من تغيير السموات والأرض وفي الآية مسائل
المسألة الأولى ذكر الزجاج في نصب يوم وجهين إما على الظرف لانتقام أو على البدل من قوله يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ
المسألة الثانية اعلم أن التبديل يحتمل وجهين أحدهما أن تكون الذات باقية وتتبدل صفتها بصفة أخرى والثاني أن تفنى الذات الأولى وتحدث ذات أخرى والدليل على أن ذكر لفظ التبدل لإرادة التغير في الصفة جائز أنه يقال بدلت الحلقة خاتماً إذا أذبتها وسويتها خاتماً فنقلتها من شكل إلى شكل ومنه قوله تعالى فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ اللَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ( الفرقان 70 ) ويقال بدلت قميصي جبة أي نقلت العين من

صفة إلى صفة أخرى ويقال تبدل زيد إذا تغيرت أحواله وأما ذكر لفظ التبديل عند وقوع التبدل في الذوات فكقولك بدلت الدراهم دنانير ومنه قوله بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا ( النساء 56 ) وقوله بَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّاتِهِمْ جَنَّتَيْنِ ( سبأ 16 ) إذا عرفت أن اللفظ محتمل لكل واحد من هذين المفهومين ففي الآية قولان
القول الأول أن المراد تبديل الصفة لا تبديل الذات قال ابن عباس رضي الله عنهما هي تلك الأرض إلا أنها تغيرت في صفاتها فتسير عن الأرض جبالها وتفجر بحارها وتسوى فلا يرى فيها عوج ولا أمت وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( يبدل الله الأرض غير الأرض فيبسطها ويمدها مد الأديم العاكظي فلا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً ) وقوله والسموات أي تبدل السموات غير السموات وهو كقوله عليه السلام ( لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده ) والمعنى ولا ذو عهد في عهده بكافر وتبديل السموات بانتثار كواكبها وانفطارها وتكوير شمسها وخسوف قمرها وكونها أبواباً وأنها تارة تكون كالمهل وتارة تكون كالدهان
والقول الثاني أن المراد تبديل الذات قال ابن مسعود تبدل بأرض كالفضة البيضاء النقية لم يسفك عليها دم ولم تعمل عليها خطيئة فهذا شرح هذين القولين ومن الناس من رجح القول الأول قال لأن قوله انتِقَامٍ يَوْمَ تُبَدَّلُ الاْرْضُ المراد هذه الأرض والتبدل صفة مضافة إليها وعند حصول الصفة لا بد وأن يكون الموصوف موجوداً فلما كان الموصوف بالتبدل هو هذه الأرض وجب كون هذه الأرض باقية عند حصول ذلك التبدل ولا يمكن أن تكون هذه الأرض باقية مع صفاتها عند حصول ذلك التبدل وإلا لامتنع حصول التبدل فوجب أن يكون الباقي هو الذات فثبت أن هذه الآية تقتضي كون الذات باقية والقائلون بهذا القول هم الذين يقولون إن عند قيام القيامة لا يعدم الله الذوات والأجسام وإنما يعدم صفاتها وأحوالها
واعلم أنه لا يبعد أن يقال المراد من تبديل الأرض والسموات هو أنه تعالى يجعل الأرض جهنم ويجعل السموات الجنة والدليل عليه قوله تعالى كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الاْبْرَارِ لَفِى عِلّيّينَ ( المطففين 18 ) وقوله كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِى سِجّينٍ ( المطففين 7 ) والله أعلم
أما قوله تعالى وَبَرَزُواْ للَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ فنقول أما البروز لله فقد فسرناه في قوله تعالى وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعًا وإنما ذكر الواحد القهار ههنا لأن الملك إذا كان لمالك واحد غلاب لا يغالب قهار لا يقهر فلا مستغاث لأحد إلى غيره فكال الأمر في غاية الصعوبة ونظيره قوله لّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ( غافر 16 ) ولما وصف نفسه سبحانه بكونه قهاراً بين عجزهم وذلتهم فقال وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ
واعلم أنه تعالى ذكر في صفات عجزهم وذلتهم أموراً
فالصفة الأولى كونهم مقرنين في الأصفاد يقال قرنت الشيء بالشيء إذا شددته به ووصلته والقرآن اسم للحبل الذي يشد به شيئان وجاء ههنا على التكثير لكثرة أولئك القوم والأصفاد جمع صفد وهو القيد
إذا عرفت هذا فنقول في قوله مُقْرِنِينَ ثلاثة أوجه أحدها قال الكلبي مقرنين كل كافر مع شيطان في غل وقال عطاء هو معنى قوله وَإِذَا النُّفُوسُ زُوّجَتْ ( التكوير 70 ) أي قرنت فيقرن الله تعالى نفوس المؤمنين بالحور العين ونفوس الكافرين بقرنائهم من الشياطين وأقول حظ البحث العقلي منه أن

الإنسان إذا فارق الدنيا فإما أن يكون قد راض نفسه وهذبها ودعاها إلى معرفة الله تعالى وطاعته ومحبته أو ما فعل ذلك بل تركها متوغلة في اللذات الجسدانية مقبلة على الأحوال الوهمية والخيالية فإن كان الأول فتلك النفس تفارق مع تلك الجهة بالحضرة الإلهية والسعادة بالعناية الصمدانية وإن كان الثاني فتلك النفس تفارق مع الأسف والحزن والبلاء الشديد بسبب الميل إلى عالم الجسم وهذا هو المراد بقوله وَإِذَا النُّفُوسُ زُوّجَتْ وشيطان النفس الكافرة هي الملكات الباطلة والحوادث الفاسدة وهو المراد من قول عطاء إن كل كافر مع شيطانه يكون مقروناً في الأصفاد
والقول الثاني في تفسير قوله مُّقَرَّنِينَ فِى الاْصْفَادِ هو قرن بعض الكفار ببعض والمراد أن تلك النفوس الشقية والأرواح المكدرة الظلمانية لكونها متجانسة متشاكلة ينضم بعضها إلى بعض وتنادي ظلمة كل واحدة منها إلى الأخرى فانحدار كل واحدة منها إلى الأخرى في تلك الظلمات والخسارات هي المراد بقوله مُّقَرَّنِينَ فِى الاْصْفَادِ
والقول الثالث قال زيد بن أرقم قرنت أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأغلال وحظ العقل من ذلك أن الملكات الحاصلة في جوهر النفس إنما تحصل بتكرير الأفعال الصادرة من الجوارح والأعضاء فإذا كانت تلك الملكات ظلمانية كدرة صارت في المثال كأن أيديها وأرجلها قرنت وغلت في رقابها وأما قوله فِى الاْصْفَادِ ففيه وجهان أحدها أن يكون ذلك متعلقاً بمقرنين والمعنى يقربون بالأصفاد والثاني أن لا يكون متعلقاً به والمعنى أنهم مقرنون مقيدون وحظ العقل معلوم مما سلفت الإشارة إليه
الصفة الثانية قوله تعالى سَرَابِيلُهُم مّن قَطِرَانٍ السرابيل جمع سربال وهو القميص والقطران فيه ثلاث لغات قطران وقطران وقطرن بفتح القاف وكسرها مع سكون الطاء وبفتح القاف وكسر الطاء وهو شيء يتحلب من شجر يسمى الأبهل فيطبخ ويطلى به الإبل الجرب فيحرق الجرب بحرارته وحدته وقد تصل حرارته إلى داخل الجوف ومن شأنه أن يتسارع فيه اشتعال النار وهو أسود اللون منتن الريح فتطلى به جلود أهل النار حتى يصير ذلك الطلي كالسرابيل وهي القمص فيحصل بسببها أربعة أنواع من العذاب لذع القطران وحرقته وإسراع النار في جلودهم واللون الوحش ونتن الريح وأيضاً التفاوت بين قطران القيامة وقطران الدنيا كالتفاوت بين النارين وأقول حظ العقل من هذا أن جوهر الروح جوهر مشرق لامع من عالم القدس وغيبة الجلال وهذا البدن جارٍ مجرى السربال والقميص له وكل ما يحصل للنفس من الآلام والغموم فإنما يحصل بسبب هذا البدن فلهذا البدن لذع وحرقة في جوهر النفس لأن الشهوة والحرص والغضب إنما تتسارع إلى جوهر الروح بسببه وكونه للكثافة والكدورة والظلمة هو الذي يخفي لمعان الروح وضوءه وهو سبب لحصول النتن والعفونة فتشبه هذا الجسد بسرابيل من القطران والقطر وقرأ بعضهم مّن قَطِرَانٍ والقطر النحاس أو الصفر المذاب والآني المتناهي حره قال أبو بكر بن الأنباري وتلك النار لا تبطل ذلك القطران ولا تفنيه كما لا تهلك النار أجسادهم والأغلال التي كانت عليهم
الصفة الثالثة قوله تعالى وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ ونظيره قوله تعالى أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ سُوء الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ ( الزمر 24 ) وقوله يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ( القمر 48 )
واعلم أن موضع المعرفة والنكرة والعلم والجهل هو القلب وموضع الفكر والوهم والخيال هو

الرأس وأثر هذه الأحوال إنما تظهر في الوجه فلهذا السبب خص الله تعالى هذين العضوين بظهور آثار العقاب فيهما فقال في القلب نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَة ُ الَّتِى تَطَّلِعُ عَلَى الاْفْئِدَة ِ ( الهمزة 6 7 ) وقال في الوجه وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ بمعنى تتغشى ولما ذكر تعالى هذه الصفات الثلاثة قال لِيَجْزِى َ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ قال الواحدي المراد منه أنفس الكفار لأن ما سبق ذكره لا يليق أن يكون جزاء لأهل الإيمان وأقول يمكن إجراء اللفظ على عمومه لأن لفظ الآية يدل على أنه تعالى يجزي كل شخص بما يليق بعمله وكسبه ولما كان كسب هؤلاء الكفار الكفر والمعصية كان جزاؤهم هو هذا العقاب المذكور ولما كان كسب المؤمنين الأيمان والطاعة كان اللائق بهم هو الثواب وأيضاً أنه تعالى لما عاقب المجرمين بجرمهم فلأن يثيب المطيعين على طاعتهم كان أولى
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ والمراد أنه تعالى لا يظلمهم ولا يزيد على عقابهم الذي يستحقونه وحظ العقل منه أن الأخلاق الظلمانية هي المبادي لحصول الآلام الروحانية وحصول تلك الأخلاق في النفس على قدر صدور تلك الأعمال منهم في الحياة الدنيا فإن الملكات النفسانية إنما تحصل في جوهر النفس بسبب الأفعال المتكررة وعلى هذا التقدير فتلك الآلام تتفاوت بحسب تلك الأفعال في كثرتها وقلتها وشدتها وضعفها وذلك يشبه الحساب
ثم قال تعالى هَاذَا بَلَاغٌ لّلنَّاسِ أي هذا التذكير والموعظة بلاغ للناس أي كفاية في الموعظة ثم اختلفوا فقيل إن قوله هذا إشارة إلى كل القرآن وقيل بل إشارة إلى كل هذه السورة وقيل بل إشارة إلى المذكور من قوله وَلاَ تَحْسَبَنَّ إلى قوله سَرِيعُ الْحِسَابِ وأما قوله وَلِيُنذَرُواْ بِهِ فهو معطوف على محذوف أي لينتصحوا وَلِيُنذَرُواْ بِهِ أي بهذا البلاغ
ثم قال وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَاهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الالْبَابِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قد ذكرنا في هذا الكتاب مراراً أن النفس الإنسانية لها شعبتان القوة النظرية وكمال حالها في معرفة الموجودات بأقسامها وأجناسها وأنواعها حتى تصير النفس كالمرآة التي يتجلى فيها قدس الملكوت ويظهر فيها جلال اللاهوت ورئيس هذه المعارف والجلاء معرفة توحيد الله بحسب ذاته وصفاته وأفعاله
والشعبة الثانية القوة العملية وسعادتها في أن تصير موصوفة بالأخلاق الفاضلة التي تصير مبادي لصدور الأفعال الكاملة عنها ورئيس سعادات هذه القوة طاعة الله وخدمته
إذا عرفت هذا فنقول قوله وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَاهٌ وَاحِدٌ إشارة إلى ما يجري مجرى الرئيس لكمال حال القوة النظرية وقوله وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الالْبَابِ إشارة إلى ما يجري مجرى الرئيس لكمال حال القوة العملية فإن الفائدة في هذا التذكر إنما هو الإعراض عن الأعمال الباطلة والإقبال على الأعمال الصالحة وهذه الخاتمة كالدليل القاطع في أنه لا سعادة للإنسان إلا من هاتين الجهتين
المسألة الثانية هذه الآيات مشعرة بأن التذكير بهذه المواعظ والنصائح يوجب الوقوف على التوحيد والإقبال على العمل الصالح والوجه فيه أن المرء إذا سمع هذه التخويفات والتحذيرات عظم خوفه واشتغل بالنظر والتأمل فوصل إلى معرفة التوحيد والنبوة واشتغل بالأعمال الصالحة

المسألة الثالثة قال القاضي أول هذه السورة وآخرها يدل على أن العبد مستقل بفعله إن شاء أطاع وإن شاء عصى أما أول هذه السورة فهو قوله تعالى لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ( إبراهيم 1 ) فإنا قد ذكرنا هناك أن هذا يدل على أن المقصود من إنزال الكتاب إرشاد الخلق كلهم إلى الدين والتقوى ومنعهم عن الكفر والمعصية وأما آخر السورة فلأن قوله وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الالْبَابِ يدل على أنه تعالى إنما أنزل هذه السورة وإنما ذكر هذه النصائح والمواعظ لأجل أن ينتفع الخلق بها فيصيروا مؤمنين مطيعين ويتركوا الكفر والمعصية فظهر أن أول هذه السورة وآخرها متطابقان في إفادة هذا المعنى واعلم أن الجواب المستقصى عنه مذكور في أول السورة فلا فائدة في الإعادة
المسألة الرابعة هذه الآية دالة على أنه لا فضيلة للإنسان ولا منقبة له إلا بسبب عقله لأنه تعالى بين أنه إنما أنزل هذه الكتب وإنما بعث الرسل لتذكير أولى الألباب فلولا الشرف العظيم والمرتبة العالية لأولى الألباب لما كان الأمر كذلك

سورة الحجر
مكية إلا آية 87 فمدنية
وآياتها 99 نزلت بعد سورة يوسف
بسم الله الرحمن الرحيم
ال رَ تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْءَانٍ مُّبِينٍ رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الاٌّ مَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ
اعلم أن قوله تِلْكَ إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآيات والمراد بالكتاب والقرآن المبين الكتاب الذي وعد الله تعالى به محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) وتنكير القرآن للتفخيم والمعنى تلك الآيات آيات ذلك الكتاب الكامل في كونه كتاباً وفي كونه قرآناً مفيداً للبيان
أما قوله رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وعاصم رُّبَمَا خفيفة الباء والباقون مشددة قال أبو حاتم أهل الحجاز يخففون ربما وقيس وبكر يثقلونها وأقول في هذه اللفظة لغات وذلك لأن الراء من رب وردت مضمومة ومفتوحة أما إذا كانت مضمومة فالباء قد وردت مشددة ومخففة وساكنة وعلى كل التقديرات تارة مع حرف ما وتارة بدونها وأيضاً تارة مع التاء وتارة بدونها وأنشدوا أسمى ما يدريك أن رب فتية
باكرت لذتهم بأذكر مسرع
ورب بتسكين الباء وأنشدوا بيت الهذلي أزهير أن يشب القذال فإنني
رب هيضل مرس كففت بهيضل
والهيضل جماعة متسلحة وأيضاً هذه الكلمة قد تجيء حالتي تشديد الباء وتخفيفها مع حرف ( ما )

كقولك ربما وربما وتارة مع التاء وحرف ( ما ) كقولك ربتما وربتما هذا كله إذا كانت الراء من رب مضمونة وقد تكون مفتوحة فيقال رب وربما وربتما حكاه قطرب قال أبو علي من الحروف ما دخل عليه حرف التأنيث نحو ثم وثمت ورب وربت ولا ولات فهذه اللغات بأسرها رواها الواحدي في ( البسيط )
المسألة الثانية رب حرف جر عند سيبويه ويلحقها ( ما ) على وجهين أحدهما أن تكون نكرة بمعنى شيء وذلك كقوله رب ما تكره النفوس من الأم
ر له فرجة كحل العقال
فما في هذا البيت اسم والدليل عليه عود الضمير إليه من الصفة فإن المعنى رب شيء تكرهه النفوس وإذا عاد الضمير إليه كان اسماً ولم يكن حرفاً كما أن قوله تعالى أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ ( المؤمنون 55 ) لما عاد الضمير إليه علمنا بذلك أنه اسم ومما يدل على أن ( ماء ) قد يكون اسماً إذا وقعت بعد رب وقوع من بعدها في قول الشاعر يا رب من ينقص أزوادنا
رحن على نقصانه واغتدين
فكما دخلت رب على كلمة ( من ) وكانت نكرة فكذلك تدخل على كلمة ( ما ) فهذا ضرب والضرب الآخر أن تدخل ما كافة كما في هذه الآية والنحويون يسمون ما هذه الكافة يريدون أنها بدخلوها كفت الحرف عن العمل الذي كان له وإذا حصل هذا الكف فحينئذ تتهيأ للدخول على ما لم تكن تدخل عليه ألا ترى أن رب إنما تدخل على الإسم المفرد نحو رب رجل يقول ذاك ولا تدخل على الفعل فلما دخلت ( ما ) عليها هيأتها للدخول على الفعل كهذه الآية والله أعلم
المسألة الثالثة اتفقوا على أن رب موضوعة للتقليل وهي في التقليل نظيرة كم في التكثير فإذا قال الرجل ربما زارنا فلان دل ربما على تقليله الزيارة قال الزجاج ومن قال إن رب يعني بها الكثرة فهو ضد ما يعرفه أهل اللغة وعلى هذا التقدير فههنا سؤال وهو أن تمني الكافر الإسلام مقطوع به وكلما رب تفيد الظن وأيضاً أن ذلك التمني يكثر ويتصل فلا يليق به لفظة رُّبَمَا مع أنها تفيد التقليل
والجواب عنه من وجوه
الوجه الأول أن من عادة العرب أنهم إذا أرادوا التكثير ذكروا لفظاً وضع للتقليل وإذا أرادوا اليقين ذكروا لفظاً وضع للشك والمقصود منه إظهار التوقع والاستغناء عن التصريح بالغرض فيقولون ربما ندمت على ما فعلت ولعلك تندم على فعلك وإن كان العلم حاصلاً بكثرة الندم ووجوده بغير شك ومنه قول القائل
قد أترك القرن مصفراً أنامله
والوجه الثاني في الجواب أن هذا التقليل أبلغ في التهديد ومعناه أنه يكفيك قليل الندم في كونه زاجراً عن هذا الفعل فكيف كثيره
والوجه الثالث في الجواب أن يشغلهم العذاب عن تمني ذاك إلا في القليل

المسألة الرابعة اتفقوا على أن كلمة ( رب ) مختصة بالدخول على الماضي كما يقال ربما قصدني عبد الله ولا يكاد يستعمل المستقبل بعدها وقال بعضهم ليس الأمر كذلك والدليل عليه قول الشاعر
ربما تكره النفوس من الأمر
وهذا الاستدلال ضعيف لأنا بينا أن كلمة ( رب ) في هذا البيت داخلة على الإسم وكلامنا في أنها إذا دخلت على الفعل وجب كون ذلك الفعل ماضياً فأين أحدهما من الآخر إلا أني أقول قول هؤلاء الأدباء إنه لا يجوز دخول هذه الكلمة على الفعل المستقبل لا يمكن تصحيحه بالدليل العقلي وإنما الرجوع فيه إلى النقل والاستعمال ولو أنهم وجدوا بيتاً مشتملاً على هذا الاستعمال لقالوا إنه جائز صحيح وكلام الله أقوى وأجل وأشرف فلم لم يتمسكوا بوروده في هذه الآية على جوازه وصحته ثم نقول إن الأدباء أجابوا عن هذا السؤال من وجهين الأول قالوا إن المترقب في أخبار الله تعالى بمنزلة الماضي المقطوع به في تحققه فكأنه قيل ربما ودوا الثاني أن كلمة ( ما ) في قوله رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ اسم و يَوَدُّ صفة له والتقدير رب شيء يوده الذين كفروا قال الزجاج ومن زعم أن الآية على إضمار كان وتقديره ربما يود الذين كفروا فقد خرج بذلك عن قول سيبويه ألا ترى أن كان لا تضمر عنده ولم يجز عبد الله المقبول وأنت تريد كان عبد الله المقبول
المسألة الخامسة في تفسير الآية وجوه على مذهب المفسرين فإن كل أحد حمل قوله رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ على محمل آخر والأصح ما قاله الزجاج فإنه قال الكافر كلما رأى حالاً من أحوال العذاب ورأى حالاً من أحوال المسلم ود لو كان مسلماً وهذا الوجه هو الأصح وأما المتقدمون فقد ذكروا وجوهاً قال الضحاك المراد منه ما يكون عند الموت فإن الكافر إذا شاهد علامات العقاب ود لو كان مسلماً وقيل إن هذه الحالة تحصل إذا اسودت وجوههم وقيل بل عند دخولهم النار ونزول العذاب فإنهم يقولون أَخّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ ( إبراهيم 44 ) وروى أبو موسى أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( إذا كان يوم القيامة واجتمع أهل النار في النار ومعهم من شاء من أهل القبلة قال الكفار لهم ألستم مسلمين قالوا بلى قالوا فما أغنى عنكم إسلامكم وقد صرتم معنا في النار فيتفضل الله تعالى بفضل رحمته فيأمر بإخراج كل من كان من أهل القبلة من النار فيخرجون منها فحينئذ يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين ) وقرأ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هذه الآية وعلى هذا القول أكثر المفسرين وروى مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال ما يزال الله يرحم المؤمنين ويخرجهم من النار ويدخلهم الجنة بشفاعة الأنبياء والملائكة حتى أنه تعالى في آخر الأمر يقول من كان من المسلمين فليدخل الجنة قال فههنالك يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين قال القاضي هذه الروايات مبنية على أنه تعالى يخرج أصحاب الكبائر من النار وعلى أن شفاعة الرسول مقبولة في إسقاط العقاب وهذان الأصلان عنده مردودان فعند هذا حمل هذا الخبر على وجه يطابق قوله ويوافق مذهبه وهو أنه تعالى يؤخر إدخال طائفة من المؤمنين الجنة بحيث يغلب على ظن هؤلاء الكفرة أنه تعالى لا يدخلهم الجنة ثم إنه تعالى يدخلهم الجنة فيزداد غم الكفرة وحسرتهم وهناك يودون لو كانوا مسلمين قال فبهذه الطريق تصحح هذه الأخبار والله أعلم
فإن قيل إذا كان أهل القيامة قد يتمنون أمثال هذه الأحوال وجب أن يتمنى المؤمن الذي يقل ثوابه

درجة المؤمن الذي يكثر ثوابه والمتمني لما لم يجده يكون في الغصة وتألم القلب وهذا يقضي أن يكون أكثر المؤمنين في الغصة وتألم القلب
قلنا أحوال أهل الآخرة لا تقاس بأحوال أهل الدنيا فالله سبحانه أرضى كل أحد بما فيه ونزع عن قلوبهم طلب الزيادات كما قال وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ ( الحجر 47 ) والله أعلم
أما قوله تعالى ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الاْمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ففيه مسائل
المسألة الأولى المعنى دع الكفار يأخذوا حظوظهم من دنياهم فتلك أخلاقهم ولا خلاق لهم في الآخرة وقوله وَيُلْهِهِمُ الاْمَلُ يقال لهيت عن الشيء الهى لهياً وجاء في الحديث أن ابن الزبير كان إذا سمع صوت الرعد لهى عن حديثه قال الكسائي والأصمعي كل شيء تركته فقد لهيت عنه وأنشد صرمت حبالك فاله عنها زينب
ولقد أطلت عتابها لو تعتب
فقوله فاله عنها أي اتركها وأعرض عنها قال المفسرون شغلهم الأمل عند الأخذ بحظهم عن الإيمان والطاعة فسوف يعلمون
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذة الآية على أنه تعالى قد يصد عن الإيمان ويفعل بالمكلف ما يكون له مفسدة في الدين والدليل عليه أنه تعالى قال لرسوله ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الاْمَلُ فحكم بأن إقبالهم على التمتع واستغراقهم في طول الأمل يلهيهم عن الإيمان والطاعة ثم إنه تعالى أذن لهم فيها وذلك يدل على المقصود قالت المعتزلة ليس هذا إذناً وتجويزاً بل هذا تهديد ووعيد
قلنا ظاهر قوله ذَرْهُمْ إذن أقصى ما في الباب أنه تعالى نبه على أن إقبالهم على هذه الأعمال يضرهم في دينهم وهذا عين ما ذكرناه من أنه تعالى أذن في شيء مع أنه نص على كون ذلك الشيء مفسدة لهم في الدين
المسألة الثالثة دلت الآية على أن إيثار التلذذ والتنعم وما يؤدي إليه طول الأمل ليس من أخلاق المؤمنين وعن بعضهم التمرغ في الدنيا من أخلاق الهالكين والأخبار في ذم الأمل كثيرة فمنها ما روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( يهرم ابن آدم ويشب فيه اثنان الحرص على المال وطول الأمل ) وعنه ( صلى الله عليه وسلم ) أنه نقط ثلاث وقال ( هذا ابن آدم وهذا الأمل وهذا الأجل ودون الأمل تسع وتسعون منية فإن أخذته إحداهن وإلا فالهرم من ورائه ) وعن علي عليه السلام أنه قال إنما أخشى عليكم اثنين طول الأمل واتباع الهوى فإن طول الأمل ينسي الآخرة واتباع الهوى يصد عن الحق والله أعلم
وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَة ٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّة ٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأخِرُونَ
وفي الآية مسائل

المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما توعد من قبل من كذب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الاْمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ أتبعه بما يؤكد الزجر وهو قوله تعالى وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَة ٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ في الهلاك والعذاب وإنما يقع فيه التقديم والتأخير فالذين تقدموا كان وقت هلاكهم في الكتاب معجلاً والذين تأخروا كان وقت هلاكهم في الكتاب مؤخراً وذلك نهاية في الزجر والتحذير
المسألة الثانية قال قوم المراد بهذا الهلاك عذاب الاستئصال الذي كان الله ينزله بالمكذبين المعاندين كما بينه في قوم نوح وقوم هود وغيرهم وقال آخرون المراد بهذا الهلاك الموت قال القاضي والأقرب ما تقدم لأنه في الزجر أبلغ فبين تعالى أن هذا الإمهال لا ينبغي أن يغتر به العاقل لأن العذاب مدخر فإن لكل أمة وقتاً معيناً في نزول العذاب لا يتقدم ولا يتأخر وقال قوم آخرون المراد بهذا الهلاك مجموع الأمرين وهو نزول عذاب الاستئصال ونزول الموت لأن كل واحد منهما يشارك الآخر في كونه هلاكاً فوجب حمل اللفظ على القدر المشترك الذي يدخل فيه القسمان معاً
المسألة الثالثة قال الفراء لو لم تكن الواو مذكورة في قوله وَلَهَا كِتَابٌ كان صواباً كما في آية أخرى وهي قوله وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَة ٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ ( الشعراء 208 ) وهو كما تقول ما رأيت أحداً إلا وعليه ثياب وإن شئت قلت إلا عليه ثياب
أما قوله مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّة ٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَخِرُونَ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي من في قوله مِنْ أُمَّة ٍ زائدة مؤكدة كقولك ما جاءني من أحد وقال آخرون إنها ليست بزائدة لأنها تفيد التبعيض أي هذا الحكم لم يحصل في بعض من أبعاض هذه الحقيقة فيكون ذلك في إفادة عموم النفي آكد
المسألة الثانية قال صاحب ( النظم ) معنى سبق إذا كان واقعاً على شخص كان معناه أنه جاز وخلف كقولك سبق زيد عمراً أي جازه وخلفه وراءه ومعناه أنه قصر عنه وما بلغه وإذا كان واقعاً على زمان كان بالعكس في ذلك كقولك سبق فلان عام كذا معناه مضى قبل إتيانه ولم يبلغه فقوله مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّة ٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَخِرُونَ معناه أنه لا يحصل ذلك الأجل قبل ذلك الوقت ولا بعده بل إنما يحصل في ذلك الوقت بعينه والسبب فيه أن اختصاص كل حادث بوقته المعين دون الوقت الذي قبله أو بعده ليس على سبيل الاتفاق الواقع لا عن مرجح ولا عن مخصص فإن رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح محال وإنما اختص حدوثه بذلك الوقت المعين لأن إله العالم خصصه به بعينه وإذا كان كذلك فقدرة الإله وإرادته اقتضتا ذلك التخصيص وعلمه وحكمته تعلقا بذلك الاختصاص بعينه ولما كان تغير صفات الله تعالى أعني القدرة والإرادة والعلم والحكمة ممتنعاً كان تغير ذلك الاختصاص ممتنعاً
إذا عرفت هذا فنقول هذا الدليل بعينه قائم في أفعال العباد أعني أن الصادر من زيد هو الإيمان والطاعة ومن عمرو هو الكفر والمعصية فوجب أن يمتنع دخول التغير فيهما
فإن قالوا هذا إنما يلزم لو كان المقتضي لحدوث الكفر والإيمان من زيد وعمرو هو قدرة الله تعالى ومشيئته أما إذا قلنا المقتضى لذلك هو قدرة زيد وعمرو ومشيئتهما سقط ذلك

قلنا قدرة زيد وعمرو مشيئتهما إن كانتا موجبتين لذلك الفعل المعين فخالق تلك القدرة والمشيئة الموجبتين لذلك الفعل هو الذي قدر ذلك الفعل بعينه فيعود الإلزام وإن لم تكونا موجبتين لذلك الفعل بل كانتا صالحتين له ولضده كان رجحان أحد الطرفين على الآخر لم يكن لمرجح فقد عاد الأمر إلى أنه حصل ذلك الاختصاص لا لمخصص وهو باطل وإن كان لمخصص فذلك المخصص إن كان هو العبد عاد البحث ولزم التسلسل وإن كان هو الله تعالى فحينئذ يعود البحث إلى أن فعل العبد إنما تعين وتقدر بتخصيص الله تعالى وحينئذ لا يعود الإلزام
المسألة الثالثة دلت الآية على أن كل من مات أو قتل فإنما مات بأجله وأن من قال يجوز بأن يموت قبل أجله فمخطى ء
فإن قالوا هذا الاستدلال إنما يتم إذا حملنا قوله وَمَآ أَهْلَكْنَا على الموت أما إذا حملناه على عذاب الاستئصال فكيف يلزم
قلنا قوله وَمَآ أَهْلَكْنَا إما أن يدخل تحته الموت أو لا يدخل فإن دخل الاستدلال ظاهر لازم وإن لم يدخل فنقول إن ما لأجله وجب في عذاب الاستئصال أن لا يتقدم ولا يتأخر عن وقته المعين قائم في الموت فوجب أن يكون الحكم ههنا كذلك والله أعم
وَقَالُواْ ياأَيُّهَا الَّذِى نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَة ِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَة َ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ
اعلم أنه تعالى لما بالغ في تهديد الكفار ذكر بعده شبههم في إنكار نبوته
فالشبهة الأولى أنهم كانوا يحكمون عليه بالجنون وفيه احتمالات الأول أنه عليه السلام كان يظهر عليه عند نزول الوحي حالة شبيهة بالغشي فظنوا أنها جنون والدليل عليه قوله وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لّلْعَالَمِينَ ( القلم 51 52 ) وأيضاً قوله أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مّن جِنَّة ٍ ( الأعراف 184 ) والثاني أنم كانوا يستبعدون كونه رسولاً حقاً من عند الله تعالى فالرجل إذا سمع كلاماً مستبعداً من غيره فربما قال له هذا جنون وأنت مجنون لبعد ما يذكره من طريقة العقل وقوله إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ في هذه الآية يحتمل الوجهين
أما قوله وَقَالُواْ يأَيُّهَا الَّذِى نُزّلَ عَلَيْهِ الذّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ففيه وجهان الأول أنهم ذكروه على سبيل الاستهزاء كما قال فرعون إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ( الشعراء 27 ) وكما قال قوم شعيب إِنَّكَ لاَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ( هود 87 ) وكما قال تعالى فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( آل عمران 21 ) لأن البشارة

بالعذاب ممتنعة والثاني وَقَالُواْ يأَيُّهَا الَّذِى نُزّلَ عَلَيْهِ الذّكْرُ في زعمه واعتقاده وعند أصحابه وأتباعه ثم حكى عنهم أنهم قالوا في تقرير شبههم لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَئِكَة ِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى المراد لو كنت صادقاً في ادعاء النبوة لأتيتنا بالملائكة يشهدون عندنا بصدقك فيما تدعيه من الرسالة لأن المرسل الحكيم إذا حاول تحصيل أمر وله طريق يفضي إلى تحصيل ذلك المقصود قطعاً وطريق آخر قد يفضي وقد لا يفضي ويكون في محل الشكوك والشبهات فإن كان ذلك الحكيم أراد تحصيل ذلك المقصود فإنه يحاول تحصيله بالطريق الأول لا بالطريق الثاني وإنزال الملائكة الذين يصدقونك ويقررون قولك طريق يفضي إلى حصول هذا المقصود قطعاً والطريق الذي تقرر به صحة نبوتك طريق في محل الشكوك والشبهات فلو كنت صادقاً في ادعاء النبوة لوجب في حكمة الله تعالى إنزال الملائكة الذين يصرحون بتصديقك وحيث لم تفعل ذلك علمنا أنك لست من النبوة في شيء فهذا تقرير هذه الشبهة ونظيرها قوله تعالى في سورة الأنعام وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْكَ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِى َ الاْمْرُ ( الأنعام 8 ) وفيه احتمال آخر وهو أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يخوفهم بنزول العذاب إن لم يؤمنوا به فالقوم طالبوه بنزول العذاب وقالوا له لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَئِكَة ِ الذين ينزلون عليك ينزلون علينا بذلك العذاب الموعود وهذا هو المراد بقوله تعالى وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَاءهُمُ الْعَذَابُ ( العنكبوت 53 ) ثم إنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة بقوله مَا نُنَزّلُ الْمَلَائِكَة َ إِلاَّ بِالحَقّ وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ فنقول إن كان المراد من قولهم لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَئِكَة ِ هو الوجه الأول كان تقرير هذا الجواب أن إنزال الملائكة لا يكون إلا بالحق وعند حصول الفائدة وقد علم الله تعالى من حال هؤلاء الكفار أنه لو أنزل عليهم الملائكة لبقوا مصرين على كفرهم وعلى هذا التقرير فيصير إنزالهم عبثاً باطلاً ولا يكون حقاً فلهذا السبب ما أنزلهم الله تعالى وقال المفسرون المراد بالحق ههنا الموت والمعنى أنهم لا ينزلون إلا بالموت وإلا بعذاب الاستئصال ولم يبق بعد نزولهم إنظار ولا إمهال ونحن لا نريد عذاب الاستئصال بهذه الأمة فلهذا السبب ما أنزلنا الملائكة وأما إن كان المراد من قوله تعالى لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَئِكَة ِ استعجالهم في نزول العذاب الذي كان الرسول عليه السلام يتوعدهم به فتقرير الجواب أن الملائكة لا تنزل إلا بعذاب الاستئصال وحكمنا في أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أن لا نفعل بهم ذلك وأن نمهلهم لما علمنا من إيمان بعضهم ومن إيمان أولاد الباقين
المسألة الثانية قال الفراء والزجاج لولا ولو ما لغتان معناهما هلا ويستعملان في الخبر والاستفهام فالخبر مثل قولك لولا أنت لفعلت كذا ومنه قوله تعالى لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ( سبأ 31 ) والاستفهام كقولهم لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ( الأنعام 8 ) وكهذه الآية وقال الفراء لو ما الميم فيه بدل عن اللام في لولا ومثله استولى على الشيء واستومى عليه وحكى الأصمعي خاللته وخالمته إذا صادقته وهو خلى وخلمي أي صديقي
المسألة الثالثة قوله مَا نُنَزّلُ الْمَلَائِكَة َ إِلاَّ بِالحَقّ قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم مَا نُنَزّلُ بالنون وبكسر الزاي والتشديد والملائكة بالنصب لوقوع الإنزال عليها والمنزل هو الله تعالى وقرأ أبو بكر عن عاصم مَا تُنَزَّلَ عن فعل ما لم يسمى فاعله والملائكة بالرفع والباقون ما تنزل الملائكة على إسناد فعل النزول إلى الملائكة والله أعلم

المسألة الرابعة قوله وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ يعني لو نزلت الملائكة لم ينظروا أي يمهلوا فإن التكليف يزول عند نزول الملائكة قال صاحب ( النظم ) لفظ اذن مركبة من كلمتين من إذا وهو اسم بمنزلة حين ألا ترى أنك تقول أتيتك إذ جئتني أي حين جئتني ثم ضم إليها أن فصار إذ أن ثم استثقلوا الهمزة فحذفوها فصار إذن ومجيء لفظة إذن دليل على اضمار فعل بعدها والتقدير وما كانوا منظرين إذ كان ما طلبوا وهذا تأويل حسن
ثم قال تعالى إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ وفيه مسائل
المسألة الأولى أن القوم إنما قالوا وَقَالُواْ يأَيُّهَا الَّذِى نُزّلَ عَلَيْهِ الذّكْرُ ( الحجر 6 ) لأجل أنهم سمعوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يقول ( إن الله تعالى نزل الذكر علي ) ثم إنه تعالى حقق قوله في هذه الآية فقال إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ
فأما قوله إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ فهذه الصيغة وإن كانت للجمع إلا أن هذا من كلام الملوك عند إظهار التعظيم فإن الواحد منهم إذا فعل فعلاً أو قال قولاً قال إنا فعلنا كذا وقلنا كذا فكذا ههنا
المسألة الثانية الضمير في قوله لَهُ لَحَافِظُونَ إلى ماذا يعود فيه قولان
القول الأول أنه عائد إلى الذكر يعني وإنا نحفظ ذلك الذكر من التحريف والزيادة والنقصان ونظيره قوله تعالى في صفة القرآن لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ ( فصلت 42 ) وقال وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً ( النساء 82 )
فإن قيل فلم اشتغلت الصحابة بجمع القرآن في المصحف وقد وعد الله تعالى بحفظه وما حفظه الله فلا خوف عليه
والجواب أن جمعهم للقرآن كان من أسباب حفظ الله تعالى إياه فإنه تعالى لما أن حفظه قيضهم لذلك قال أصحابنا وفي هذه الآية دلالة قوية على كون التسمية آية من أول كل سورة لأن الله تعالى قد وعد بحفظ القرآن والحفظ لا معنى له إلا أن يبقى مصوناً من الزيادة والنقصان فلو لم تكن التسمية من القرآن لما كان القرآن مصوناً عن التغيير ولما كان محفوظاً عن الزيادة ولو جاز أن يظن بالصحابة أنهم زادوا لجاز أيضاً أن يظن بهم النقصان وذلك يوجب خروج القرآن عن كونه حجة
والقول الثاني أن الكناية في قوله لَهُ راجعة إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والمعنى وإنا لمحمد لحافظون وهو قول الفراء وقوى ابن الأنباري هذا القول فقال لما ذكر الله الإنزال والمنزل دل ذلك على المنزل عليه فحسنت الكناية عنه لكونه أمراً معلوماً كما في قوله تعالى إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَة ِ الْقَدْرِ ( القدر 1 ) فإن هذه الكناية عائدة إلى القرآن مع أنه لم يتقدم ذكره وإنما حسنت الكناية للسبب المعلوم فكذا ههنا إلا أن القول الأول أرجح القولين وأحسنهما مشابهة لظاهر التنزيل والله أعلم
المسألة الثالثة إذا قلنا الكناية عائدة إلى القرآن فاختلفوا في أنه تعالى كيف يحفظ القرآن قال بعضهم حفظه بأن جعله معجزاً مبايناً لكلام البشر فعجز الخلق عن الزيادة فيه والنقصان عنه لأنهم لو زادوا فيه أو نقصوا عنه لتغير نظم القرآن فيظهر لكل العقلاء أن هذا ليس من القرآن فصار كونه معجزاً كإحاطة السور

بالمدينة لأنه يحصنها ويحفظها وقال آخرون إنه تعالى صانه وحفظه من أن يقدر أحد من الخلق على معارضته وقال آخرون أعجز الخلق عن إبطاله وإفساده بأن قيض جماعة يحفظونه ويدرسونه ويشهرونه فيما بين الخلق إلى آخر بقاء التكليف وقال آخرون المراد بالحفظ هو أن أحداً لو حاول تغييره بحرف أو نقطة لقال له أهل الدنيا هذا كذب وتغيير لكلام الله تعالى حتى أن الشيخ المهيب لو اتفق له لحن أو هفوة في حرف من كتاب الله تعالى لقال له كل الصبيان أخطأت أيها الشيخ وصوابه كذا وكذا فهذا هو المراد من قوله وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ
واعلم أنه لم يتفق لشيء من الكتب مثل هذا الحفظ فإنه لا كتاب إلا وقد دخله التصحيف والتحريف والتغيير إما في الكثير منه أو في القليل وبقاء هذا الكتاب مصوناً عن جميع جهات التحريف مع أن دواعي الملحدة واليهود والنصارى متوفرة على إبطاله وإفساده من أعظم المعجزات وأيضاً أخبر الله تعالى عن بقائه محفوظاً عن التغيير والتحريف وانقضى الآن قريباً من ستمائة سنة فكان هذا إخباراً عن الغيب فكان ذلك أيضاً معجزاً قاهراً
المسألة الرابعة احتج القاضي بقوله إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ على فساد قول بعض الإمامية في أن القرآن قد دخله التغيير والزيادة والنقصان قال لأنه لو كان الأمر كذلك لما بقي القرآن محفوظاً وهذا الاستدلال ضعيف لأنه يجري مجرى إثبات الشيء بنفسه فالإمامية الذين يقولون إن القرآن قد دخله التغيير والزيادة والنقصان لعلهم يقولون إن هذه الآية من جملة الزوائد التي ألحقت بالقرآن فثبت أن إثبات هذا المطلوب بهذه الآية يجري مجرى إثبات الشيء نفسه وأنه باطل والله أعلم
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى شِيَعِ الاٌّ وَّلِينَ وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِى قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّة ُ الاٌّ وَّلِينَ
اعلم أن القوم لما أساؤوا في الأدب وخاطبوه بالسفاهة وقالوا إنك لمجنون فالله تعالى ذكر أن عادة هؤلاء

الجهال مع جميع الأنبياء هكذا كانت ولك أسوة في الصبر على سفاهتهم وجهالتهم بجميع الأنبياء عليهم السلام فهذا هو الكلام في نظم الآية وفيه مسائل
المسألة الأولى في الآية محذوف والتقدير ولقد أرسلنا من قبلك رسلاً إلا أنه حذف ذكر الرسل لدلالة الإرسال عليه وقوله فِى شِيَعِ الاْوَّلِينَ أي في أمم الأولين وأتباعهم قال الفراء الشيع الأتباع واحدهم شيعة وشيعة الرجل أتباعه والشيعة الأمة سموا بذلك لأن بعضهم شايع بعضاً وشاكله وذكرنا الكلام في هذا الحرف عند قوله أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً ( الأنعام 65 ) قال الفراء وقوله فِى شِيَعِ الاْوَّلِينَ من إضافة الصفة إلى الموصوف كقوله لَحَقُّ الْيَقِينِ ( الحاقة 51 ) وقوله بِجَانِبِ الْغَرْبِى ّ ( القصص 44 ) وقوله وَذَلِكَ دِينُ القَيّمَة ِ ( البينة 5 ) أما قوله وَمَا يَأْتِيهِم مّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ أي عادة هؤلاء الجهال مع جميع الأنبياء والرسل ذلك الاستهزاء بهم كما فعلوا بك ذكره تسلية للنبي ( صلى الله عليه وسلم )
واعلم أن السبب الذي يحمل هؤلاء الجهال على هذه العادة الخبيثة أمور الأول أنهم يستثقلون التزام الطاعات والعبادات والاحتراز عن الطيبات واللذات والثاني أن الرسول يدعوهم إلى ترك ما ألفوه من أديانهم الخبيثة ومذاهبهم الباطلة وذلك شاق شديد على الطباع والثالث أن الرسول متبوع مخدوم والأقوام يجب عليهم طاعته وخدمته وذلك أيضاً في غاية المشقة والرابع أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قد يكون فقيراً ولا يكون له أعوان وأنصار ولا مال ولا جاه فالمتنعمون والرؤساء يثقل عليهم خدمة من يكون بهذه الصفة والخامس خذلان الله لهم وإلقاء دواعي الكفر والجهل في قلوبهم وهذا هو السبب الأصلي فلهذه الأسباب وما يشبهها تقع الجهال والضلال مع أكابر الأنبياء عليهم السلام في هذه الأعمال القبيحة والأفعال المنكرة
أما قوله تعالى يَسْتَهْزِئُونَ كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِى قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ففيه مسألتان
المسألة الأولى السلك إدخال الشيء في الشيء كإدخال الخيط في المخيط والرمح في المطعون وقيل في قوله مَا سَلَكَكُمْ فِى سَفَرٍ ( المدثر 42 ) أي أدخلكم في جهنم وذكر أبو عبيدة وأبو عبيد سلكته وأسلكته بمعنى واحد
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى يخلق الباطل في قلوب الكفار فقالوا قوله كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ أي كذلك نسلك الباطل والضلال في قلوب المجرمين قالت المعتزلة لم يجر للضلال والكفر ذكر فيما قبل هذا اللفظ فلا يمكن أن يكون الضمير عائداً إليه لا يقال إنه تعالى قال وَمَا يَأْتِيهِم مّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ وقوله يَسْتَهْزِئُونَ يدل على الاستهزاء فالضمير في قوله كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ عائد إليه والاستهزاء بالأنبياء كفر وضلال فثبت صحة قولنا المراد من قوله كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِى قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ هو أنه كذلك نسلك الكفر والضلال والاستهزاء بأنبياء الله تعالى ورسله في قلوب المجرمين لأنا نقول إن كان الضمير في قوله كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ عائداً إلى الاستهزاء وجب أن يكون الضمير في قوله لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ عائداً أيضاً إلى الاستهزاء لأنهما ضميران تعاقبا وتلاصقا فوجب عودهما إلى شيء واحد فوجب أن لا يكونوا مؤمنين بذلك الاستهزاء وذلك يوجب التناقض لأن الكافر لا بد وأن يكون مؤمناً بكفره والذي لا يكون كذلك هو المسلم العالم ببطلان الكفر فلا يصدق به وأيضاً فلو كان تعالى هو الذي يسلك الكفر في قلب الكافر ويخلقه فيه فما أحد أولى بالعذر من هؤلاء الكفار ولكان على هذا التقدير يمتنع أن يذمهم في الدنيا وأن يعاقبهم في الآخرة عليه فثبت أنه لا يمكن حمل هذه الآية على هذ الوجه فنقول التأويل الصحيح أن الضمير في قوله تعالى كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ عائد إلى الذكر الذي هو القرآن فإنه تعالى قال قبل هذه الآية إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ وقال بعده كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ أي هكذا نسلك القرآن في قلوب المجرمين والمراد من هذا السلك هو أنه تعالى يسمعهم هذا القرآن ويخلق في قلوبهم حفظ هذا القرآن ويخلق فيها العلم بمعانيه وبين أنهم لجهلهم وإصرارهم لا يؤمنون به مع هذه الأحوال عناداً وجهلاً فكان هذا موجباً للحوق الذم الشديد بهم ويدل على صحة هذا التأويل وجهان الأول أن الضمير في قوله لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ عائد إلى القرآن بالإجماع فوجب أن يكون الضمير في قوله كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ عائداً إليه أيضاً لأنهما ضميران متعاقبان فيجب عودهما إلى شيء واحد والثاني أن قوله كَذالِكَ معناه مثل ما

عملنا كذا وكذا نعمل هذا السلك فيكون هذا تشبيهاً لهذا السلك بعمل آخر ذكره الله تعالى قبل هذه الآية من أعمال نفسه ولم يجر لعمل من أعمال الله ذكر في سابقة هذه الآية إلا قوله إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ فوجب أن يكون هذا معطوفاً عليه ومشبهاً به ومتى كان الأمر كذلك كان الضمير في قوله نَسْلُكُهُ عائداً إلى الذكر وهذا تمام تقرير كلام القوم
والجواب لا يجوز أن يكون الضمير في قوله نَسْلُكُهُ عائداً على الذكر ويدل عليه وجوه
الوجه الأول أن قوله كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ مذكور بحرف النون والمراد منه إظهار نهاية التعظيم والجلالة ومثل هذا التعظيم إنما يحسن ذكره إذا فعل فعلاً يظهر له أثر قوي كامل بحيث صار المنازع والمدافع له مغلوباً مقهوراً فأما إذا فعل فعلاً ولم يظهر له أثر ألبتة صار المنازع والمدافع غالباً قاهراً فإن ذكر اللفظ المشعر بنهاية العظمة والجلالة يكون مستقبحاً في هذا المقام والأمر ههنا كذلك لأنه تعالى سلك أسماع القرآن وتحفيظه وتعليمه في قلب الكافر لأجل أن يؤمن به ثم إنه لم يلتفت إليه ولم يؤمن به فصار فعل الله تعالى كالهدر الضائع وصار الكافر والشيطان كالغالب الدافع وإذا كان كذلك كان ذكر النون المشعر بالعظمة والجلالة في قوله نَسْلُكُهُ غير لائق بهذا المقام فثبت بهذا التأويل الذي ذكروه فاسد
والوجه الثاني أنه لو كان المراد ما ذكروه لوجب أن يقال كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِى قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ولا يؤمنون به أي ومع هذا السعي العظيم في تحصيل إيمانهم لا يمؤمنون أما ما لم يذكر الواو فعلمنا أن قوله لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ كالتفسير والبيان لقوله نَسْلُكُهُ فِى قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ وهذا إنما يصح إذا كان المراد أنا نسلك الكفر والضلال في قلوبهم
والوجه الثالث أن قوله إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ ( الحجر 9 ) بعيد وقوله يَسْتَهْزِئُونَ قريب وعود الضمير إلى أقرب المذكورات هو الواجب أما قوله لو كان الضمير في قوله نَسْلُكُهُ عائداً إلى الاستهزاء لكان في قوله لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ عائداً إليه وحينئذ يلزم التناقض
قلنا الجواب عنه من وجوه
الوجه الأول أن مقضتى الدليل عود الضمير إلى أقرب المذكورات ولا مانع من اعتبار هذا الدليل في الضمير الأول وحصل المانع من اعتباره في الضمير الثاني فلا جرم قلنا الضمير الأول عائد إلى الاستهزاء والضمير الثاني عائد إلى الذكر وتفريق الضمائر المتعاقبة على الأشياء المختلفة ليس بقليل في القرآن أليس أن الجبائي والكعبي والقاضي قالوا في قوله تعالى هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَة ٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا فَلَمَّا ءاتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا ءاتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( الأعراف 189 190 ) فقالوا هذه الضمائر من أول الآية إلى قوله جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء عائدة إلى آدم وحواء وأما في قوله جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا ءاتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ عائدة إلى غيرهما فهذا ما اتفقوا عليه في تفاسيرهم وإذا ثبت هذا ظهر أنه لا يلزم من تعاقب الضمائر عودها إلى شيء واحد بل الأمر فيه موقوف على الدليل فكذا ههنا والله أعلم

والوجه الثاني في الجواب قال بعض الأدباء من أصحابنا قوله لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ تفسير للكناية في قوله نَسْلُكُهُ والتقدير كذلك نسلك في قلوب المجرمين أن لا يؤمنوا به والمعنى نجعل في قلوبهم أن لا يؤمنوا به
والوجه الثالث وهو أنا بينا بالبراهين العقلية القاهرة أن حصول الإيمان والكفر يمتنع أن يكون بالعبد وذلك لأن كل أحد إنما يريد الإيمان والصدق والعلم والحق وأن أحداً لا يقصد تحصيل الكفر والجهل والكذب فلما كان كل أحد لا يقصد إلا الإيمان والحق ثم إنه لايحصل ذلك وإنما يحصل الكفر والباطل علمنا أن حصول ذلك الكفر ليس منه
فإن قالوا إنما حصل ذلك الكفر لأنه ظن أنه هو الإيمان فنقول فعلى هذا التقدير إنما رضي بتحصيل ذلك الجهل لأجل جهل آخر سابق عليه فينقل الكلام إلى ذلك الجهل السابق فإن كان ذلك لأجل جهل آخر لزم التسلسل وهو محال وإلا وجب انتهاء كل الجهالات إلى جهل أول سابق حصل في قلبه لا بتحصيله بل بتخليق الله تعالى وذلك هو الذي قلناه أن المراد من قوله كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِى قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ والمعنى نجعل في قلوبهم أن لا يؤمنوا به وهو أنه تعالى يخلق الكفر والضلال فيها وأيضاً قدماء المفسرين مثل ابن عباس وتلامذته أطبقوا على تفسير هذه الآية بأنه تعالى يخلق الكفر والضلال فيها والتأويل الذي ذكره المعتزلة تأويل مستحدث لم يقل به أحد من المتقدمين فكان مردوداً وروى القاضي عن عكرمة أن المراد كذلك نسلك القسوة في قلوب المجرمين ثم قال القاضي إن القسوة لا تحصل إلا من قبل الكافر بأن يستمر على كفره ويعاند فلا يصح إضافته إلى الله تعالى فيقال للقاضي إن هذا يجري مجرى المكابرة وذلك لأن الكافر يجد من نفسه نفرة شديدة عن قبول قول الرسول ونبوة عظيمة عنه حتى أنه كلما رآه تغير لونه واصفر وجهه وربما ارتعدت أعضاؤه ولا يقدر على الالتفات إليه والاصغاء لقوله فحصول هذه الأحوال في قلبه أمر اضطراري لا يمكنه دفعها عن نفسه فكيف يقال إنها حصلت بفعله واختياره
فإن قالوا إنه يمكنه ترك هذه الأحوال والرجوع إلى الانقياد والقبول فنقول هذا مغالطة محضة لأنك إن أردت أنه مع حصول هذه النفرة الشديدة في القلب والنبوة العظيمة في النفس يمكنه أن يعود إلى الإنقياد والقبول والطاعة والرضا فهذا مكابرة وإن أردت أن عند زوال هذه الأحوال النفسانية يمكنه العود إلى القبول والتسليم فهذا حق إلا أنه لا يمكنه إزالة هذه الدواعي والصوارف عن القلب فإنه إن كان الفاعل لها هو الإنسان لافتقر في تحصيل هذه الدواعي والصوارف إلى دواعي سابقة عليها ولزم الذهاب إلى ما لا نهاية له وذلك محال وإن كان الفاعل لها هو الله تعالى فحينئذ يصح أنه تعالى هو الذي يسلك هذه الدواعي والصوارف في القلوب وذلك عين ما ذكرناه والله أعلم
أما قوله تعالى وَقَدْ خَلَتْ سُنَّة ُ الاْوَّلِينَ ففيه قولان الأول أنه تهديد لكفار مكة يقول قد مضت سنة الله بإهلاك من كذب الرسل في القرون الماضية الثاني وهو قول الزجاج وقد مضت سنة الله في الأولين بأن يسلك الكفر والضلال في قلوبهم وهذا أليق بظاهر اللفظ

وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ
اعلم أن هذا الكلام هو المذكور في سورة الأنعام في قوله وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِى قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَاذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ( الأنعام 7 ) والحاصل أن القوم لما طلبوا نزول ملائكة يصرحون بتصديق الرسول عليه السلام في كونه رسولاً من عند الله تعالى بين الله تعالى في هذه الآية أن بتقدير أن يحصل هذا المعنى لقال الذين كفروا هذا من باب السحر وهؤلاء الذين يظن أنا نراهم فنحن في الحقيقة لا نراهم والحاصل أنه لما علم الله تعالى أنه لا فائدة في نزول الملائكة فلهذا السبب ما أنزلهم
فإن قيل كيف يجوز من الجماعة العظيمة أن يصيروا شاكرين في وجود ما يشاهدونه بالعين السليمة في النهار الواضح ولو جاز حصول الشك في ذلك كانت السفسطة لازمة ولا يبقى حينئذ اعتماد على الحس والمشاهدة
أجاب القاضي عنه بأنه تعالى ما وصفهم بالشك فيما يبصرون وإنما وصفهم بأنهم يقولون هذا القول وقد يجوز أن يقدم الإنسان على الكذب على سبيل العناد والمكابرة ثم سأل نفسه وقال أفيصح من الجمع العظيم أن يظهروا الشك في المشاهدات وأجاب بأنه يصح ذلك إذا جمعهم عليه غرض صحيح معتبر من مواطأة على دفع حجة أو غلبة خصم وأيضاً فهذه الحكاية إنما وقعت عن قوم مخصومين سألوا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إنزال الملائكة وهذا السؤال ما كان إلا من رؤساء القوم وكانوا قليلي العدد وإقدام العدد القليل على ما يجري مجرى المكابرة جائز
المسألة الثانية قوله تعالى فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ يقال ظل فلان نهاره يفعل كذا إذا فعله بالنهار ولا تقول العرب ظل يظل إلا لكل عمل عمل بالنهار كما لا يقولون بات يبيت إلا بالليل والمصدر الظلول وقوله فِيهِ يَعْرُجُونَ يقال عرج يعرج عروجاً ومنه المعارج وهي المصاعد التي يصعد فيها وللمفسرين في هذه الآية قولان
القول الأول أن قوله فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ من صفة المشركين قال ابن عباس رضي الله عنهما لو ظل المشركون يصعدون في تلك المعارج وينظرون إلى ملكوت الله تعالى وقدرته وسلطانه وإلى عبادة الملائكة الذين هم من خشيته مشفقون لشكوا في تلك الرؤية وبقوا مصرين على كفرهم وجهلهم كما جحدوا سائر المعجزات من انشقاق القمر وما خص به النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من القرآن المعجز الذي لا يستطيع الجن والإنس أن يأتوا بمثله
القول الثاني أن هذه العروج للملائكة والمعنى أنه تعالى لو جعل هؤلاء الكفار بحيث يروا أبواباً من السماء مفتوحة وتصعد منها الملائكة وتنزل لصرفوا ذلك عن وجهه ولقالوا إن السحرة سحرونا وجعلونا

بحيث نشاهد هذه الأباطيل التي لا حقيقة لها وقوله لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكّرَتْ أَبْصَارُنَا فيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ ابن كثير سُكّرَتْ بالتخفيف والباقون مشددة الكاف قال الواحدي سكرت غشيت وسددت بالسحر هذا قول أهل اللغة قالوا وأصله من السكر وهو سد الشق لئلا ينفجر الماء فكأن هذه الأبصار منعت من النظر كما يمنع السكر الماء من الجري والتشديد يوجب زيادة وتكثيراً وقال أبو عمرو بن العلاء هو مأخوذ من سكر الشراب يعني أن الأبصار حارت ووقع بها من فساد النظر مثل ما يقع بالرجل السكران من تغير العقل فإذا كان هذا معنى التخفيف فسكرت بالتشديد يراد به وقوع هذا الأمر مرة بعد أخرى وقال أبو عبيدة سُكّرَتْ أَبْصَارُنَا أي غشيت أبصارنا فوجب سكونها وبطلانها وعلى هذا القول أصله من السكون يقال سكرت الريح سكراً إذا سكنت وسكر الحر يسكر وليلة ساكرة لا ريح فيها وقال أوس جذلت على ليلة ساهرة
فليست بطلق ولا ساكره
ويقال سكرت عينه سكراً إذا تحيرت وسكنت عن النظر وعلى هذا معنى سكرت أبصارنا أي سكنت عن النظر وهذا القول اختيار الزجاج وقال أبو علي الفارسي سكرت صارت بحيث لا ينفذ نورها ولا تدرك الأشياء على حقائقها وكان معنى السكر قطع الشيء عن سننه الجاري فمن ذلك تسكير الماء وهو رده عن سننه في الجرية والسكر في الشراب هو أن ينقطع عما كان عليه من المضاء في حال الصحو فلا ينفذ رأيه على حد نفاذه في الصحو فهذه أقوال أربعة في تفسير سُكّرَتْ وهي في الحقيقة متقاربة والله أعلم
المسألة الثانية قال الجبائي من جوز قدرة السحرة على أن يأخذوا بأعين الناس حتى يروهم الشيء على خلاف ما هو عليه لم يصح إيمانه بالأنبياء والرسل وذلك لأنهم إذا جوزوا ذلك فلعل هذا الذي يرى أنه محمد بن عبد الله ليس هو ذلك الرجل وإنما هو شيطان ولعل هذه المعجزات التي نشاهدها ليس لها حقائق بل هي تكون من باب الآراء الباطلة من ذلك الساحر وإذا حصل هذا التجويز بطل الكل والله أعلم
وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِى السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ
اعلم أنه تعالى لما أجاب عن شبهة منكري النبوة وكان قد ثبت أن القول بالنبوة مفرع على القول بالتوحيد أتبعه تعالى بدلائل التوحيد ولما كانت دلائل التوحيد منها سماوية ومنها أرضية بدأ منها بذكر الدلائل السماوية فقال وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِى السَّمَاء بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ قال الليث البرج واحد من بروج الفلك والبروج جمع وهي اثنا عشر برجاً ونظيره قوله تعالى تَبَارَكَ الَّذِى جَعَلَ فِى السَّمَاء بُرُوجاً ( الفرقان 61 )

وقال وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ ( البروج 1 ) ووجه دلالتها على وجود الصانع المختار هو أن طبائع هذه البروج مختلفة على ما هو متفق عليه بين أرباب الأحكام وإذا كان الأمر كذلك فالفلك مركب من هذه الأجزاء المختلفة في الماهية والأبعاض المختلفة في الحقيقة وكل مركب فلا بد له من مركب يركب تلك الأجزاء والأبعاض بحسب الاختيار والحكمة فثبت أن كون السماء مركبة من البروج يدل على وجود الفاعل المختار وهو المطلوب وأما قوله وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ فقد استقصينا الكلام فيه في سورة الملك في تفسير قوله تعالى وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لّلشَّيَاطِينِ ( الملك 5 ) فلا نعيد ههنا إلا القدر الذي لا بد منه قوله وَزَيَّنَّاهَا أي بالشمس والقمر والنجوم لِلنَّاظِرِينَ أي للمعتبرين بها والمستدلين بها على توحيد صانعها وقوله وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ
فإن قيل ما معنى وحفظناها من كل شيطان رجيم والشيطان لا قدرة له على هدم السماء فأي حاجة إلى حفظ السماء منه
قلنا لما منعه من القرب منها فقد حفظ السماء من مقاربة الشيطان فحفظ الله السماء منهم كما قد يحفظ منازلنا عن متجسس يخشى منه الفساد ثم نقول معنى الرجم في اللغة الرمي بالحجارة ثم قيل للقتيل رجم تشبيهاً له بالرجم بالحجارة والرجم أيضاً السب والشتم لأنه رمي بالقول القبيح ومنه قوله لارْجُمَنَّكَ أي لأسبنك والرجم اسم لكل ما يرمى به ومنه قوله وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لّلشَّيَاطِينِ ( الملك 5 ) أي مرامي لهم والرجم القول بالظن ومنه قوله رَجْماً بِالْغَيْبِ ( الكهف 22 ) لأنه يرميه بذلك الظن والرجم أيضاً اللعن والطرد وقوله الشيطان الرجيم قد فسروه بكل هذه الوجوه قال ابن عباس رضي الله عنهما كانت الشياطين لا تحجب عن السموات فكانوا يدخلونها ويسمعون أخبار الغيوب من الملائكة فيلقونها إلى الكهنة فلما ولد عيسى عليه السلام منعوا من ثلاثة سموات فلما ولد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) منعوا من السموات كلها فكل واحد منهم إذا أراد استراق السمع رمى بشهاب وقوله إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ لا يمكن حمل لفظة إِلا ههنا على الاستثناء بدليل أن إقدامهم على استراق السمع لا يخرج السماء من أن تكون محفوظة منهم إلا أنهم ممنوعون من دخولها وإنما يحاولون القرب منها فلا يصح أن يكون استثناء على التحقيق فوجب أن يكون معناه لكن من استرق السمع قال الزجاج موضع مِنْ نصب على هذا التقدير قال وجائز أن يكون في موضع خفض والتقدير إلا ممن قال ابن عباس في قوله إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ يريد الخطفة اليسيرة وذلك لأن المارد من الشياطين يعلو فيرمى بالشهاب فيحرقه ولا يقتله ومنهم من يحيله فيصير غولاً يضل الناس في البراري وقوله فَأَتْبَعَهُ ذكرنا معناه في سورة الأعراف في قصة بلعم بن باعورا في قوله فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ ( الأعراف 175 ) معناه لحقه والشهاب شعلة نار ساطع ثم يسمى الكواكب شهاباً والسنان شهاباً لأجل أنهما لما فيهما من البريق يشبهان النار
واعلم أن في هذا الموضع أبحاثاً دقيقة ذكرناها في سورة الملك وفي سورة الجن ونذكر منها ههنا إشكالاً واحداً وهو أن لقائل أن يقول إذا جوزتم في الجملة أن يصعد الشيطان إلى السموات ويختلط بالملائكة ويسمع أخبار الغيوب عنهم ثم إنها تنزل وتلقي تلك الغيوب على الكهنة فعلى هذا التقدير وجب

أن يخرج الأخبار عن المغيبات عن كونه معجزاً لأن كل غيب يخبر عنه الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قام فيه هذا الاحتمال وحينئذ يخرج عن كونه معجزاً دليلاً على الصدق لا يقال إن الله تعالى أخبر أنهم عجزوا عن ذلك بعد مولد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لأنا نقول هذا العجز لا يمكن إثباته إلا بعد القطع بكون محمد رسولاً وكون القرآن حقاً والقطع بهذا لا يمكن إلا بواسطة المعجز وكون الإخبار عن الغيب معجزاً لا يثبت إلا بعد إبطال هذا الاحتمال وحينئذ يلزم الدور وهو باطل محال ويمكن أن يجاب عنه بأنا نثبت كون محمد ( صلى الله عليه وسلم ) رسولاً بسائر المعجزات ثم بعد العلم بنبوته نقطع بأن الله تعالى أعجز الشياطين عن تلقف الغيب بهذا الطريق وعند ذلك يصير الإخبار عن الغيوب معجز وبهذا الطريق يندفع الدور والله أعلم
وَالاٌّرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَى ْءٍ مَّوْزُونٍ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ
علم أنه تعالى لما شرح الدلائل السماوية في تقرير التوحيد أتبعها بذكر الدلائل الأرضية وهي أنواع
النوع الأول قوله تعالى وَالاْرْضَ مَدَدْنَاهَا قال ابن عباس بسطناها على وجه الماء وفيه احتمال آخر وذلك لأن الأرض جسم والجسم هو الذي يكون ممتداً في الجهات الثلاثة وهي الطول والعرض والثخن وإذا كان كذلك فتمدد جسم الأرض في هذه الجهات الثلاثة مختص بمقدار معين لما ثبت أن كل جسم فإنه يجب أن يكون متناهياً وإذا كان كذلك كان تمدد جسم الأرض مختصاً بمقدار معين مع أن الإزدياد عليه معقول والانتقاص عنه أيضاً معقول وإذا كان كذلك كان اختصاص ذلك التمدد بذلك القدر المقدر مع جواز حصول الأزيد والأنقص اختصاصاً بأمر جائز وذلك يجب أن يكون بتخصيص مخصص وتقدير مقدر وهو الله سبحانه وتعالى
فإن قيل هل يدل قوله وَالاْرْضَ مَدَدْنَاهَا على أنها بسيطة
قلنا نعم لأن الأرض بتقدير كونها كرة فهي كرة في غاية العظمة والكرة العظيمة يكون كل قطعة صغيرة منها إذا نظر إليها فإنها ترى كالسطح المستوي وإذا كان كذلك زال ما ذكروه من الإشكال والدليل عليه قوله تعالى وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً ( النبأ 7 ) سماها أوتاداً مع أنه قد يحصل عليها سطوح عظيمة مستوية فكذا ههنا
النوع الثاني من الدلائل المذكورة في هذه الآية قوله تعالى وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَواسِيَ وهي الجبال الثوابت واحدها راسي والجمع راسية وجمع الجمع رواسي وهو كقوله تعالى وَأَلْقَى فِى الاْرْضِ رَوَاسِى َ أَن تَمِيدَ بِكُمْ ( النحل 15 ) وفي تفسيره وجهان
الوجه الأول قال ابن عباس لما بسط الله تعالى الأرض على الماء مالت بأهلها كالسفينة فأرساها الله

تعالى بالجبال الثقال لكيلا تميل بأهلها
فإن قيل أتقولون إنه تعالى خلق الأرض بدون الجبال فمالت بأهلها فخلق فيها الجبال بعد ذلك أو تقولون إن الله خلق الأرض والجبال معاً
قلنا كلا الوجهين محتمل
والوجه الثاني في تفسير قوله وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَواسِيَ يجوز أن يكون المراد أنه تعالى خلقها لتكون دلالة للناس على طرق الأرض ونواحيها لأنها كالأعلام فلا تميل الناس عن الجادة المستقيمة ولا يقعون في الضلال وهذا الوجه ظاهر الاحتمال
النوع الثالث من الدلائل المذكورة في هذه الآية قوله تعالى وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ شَى ْء مَّوْزُونٍ وفيه بحثان
البحث الأول أن الضمير في قوله وَأَنبَتْنَا فِيهَا يحتمل أن يكون راجعاً إلى الأرض وأن يكون راجعاً إلى الجبال الرواسي إلا أن رجوعه إلى الأرض أولى لأن أنواع النبات المنتفع بها إنما تتولد في الأراضي فأما الفواكه الجبلية فقليلة النفع ومنهم من قال رجوع ذلك الضمير إلى الجبال أولى لأن المعادن إنما تتولد في الجبال والأشياء الموزونة في العرف والعادة هي المعادن لا النبات
البحث الثاني اختلفوا في المراد بالموزون وفيه وجوه
الوجه الأول أن يكون المراد أنه متقدر بقدر الحاجة قال القاضي وهذا الوجه أقرب لأنه تعالى يعلم المقدار الذي يحتاج إليه الناس وينتفعون به فينبت تعالى في الأرض ذلك المقدار ولذلك أتبعه بقوله وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ لأن ذلك الرزق الذي يظهر بالنبات يكون معيشة لهم من وجهين الأول بحسب الأكل والانتفاع بعينه والثاني أن ينتفع بالتجارة فيه والقائلون بهذا القول قالوا الوزن إنما يراد لمعرفة المقدار فكان إطلاق لفظ الوزن لإرادة معرفة المقدار من باب اطلاق اسم السبب على المسبب قالوا ويتأكد ذلك أيضاً بقوله تعالى وَكُلُّ شَى ْء عِندَهُ بِمِقْدَارٍ ( الرعد 8 ) وقوله وَإِن مّن شَى ْء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ( الحجر 21 )
والوجه الثاني في تفسير هذا اللفظ أن هذا العالم عالم الأسباب والله تعالى إنما يخلق المعادن والنبات والحيوان بواسطة تركيب طبائع هذا العالم فلا بد وأن يحصل من الأرض قدر مخصوص ومن الماء والهواء كذلك ومن تأثير الشمس والكواكب في الحر والبرد مقدار مخصوص ولو قدرنا حصول الزيادة على ذلك القدر المخصوص أو النقصان عنه لم تتولد المعادن والنبات والحيوان فالله سبحانه وتعالى قدرها على وجه مخصوص بقدرته وعلمه وحكمته فكأنه تعالى وزنها بميزان الحكمة حتى حصلت هذه الأنواع
والوجه الثالث في تفسير هذا اللفظ أن أهل العرف يقولون فلان موزون الحركات أي حركات متناسبة حسنة مطابقة للحكمة وهذا الكلام كلام موزون إذا كان متناسباً حسناً بعيداً عن اللغو والسخف فكان المراد منه أنه موزون بميزان الحكمة والعقل وبالجملة فقد جعلوا لفظ الموزون كناية عن الحسن والتناسب فقوله وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ شَى ْء مَّوْزُونٍ أي متناسب محكوم عليه عند العقول السليمة بالحسن

واللطافة ومطابقة المصلحة
والوجه الرابع في تفسير هذا اللفظ أن الشيء الذي ينبت من الأرض نوعان المعادن والنبات أما المعادن فهي بأسرها موزونة وهي الأجساد السبعة والأحجار والأملاح والزاجات وغيرها وأما النبات فيرجع عاقبتها إلى الوزن لأن الحبوب توزن وكذلك الفواكه في الأكثر والله أعلم وقوله تعالى وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ فيه مسألتان
المسألة الأولى ذكرنا الكلام في المعايش في سورة الأعراف وقوله وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ فيه قولان
القول الأول أنه معطوف على محل لكم والتقدير وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين
والقول الثاني أنه عطف على قوله مَعَايِشَ والتقدير وجعلنا لكم معايش ومن لستم له برازقين وعلى هذا القول ففيه احتمالات ثلاثة
الاحتمال الأول أن كلمة ( من ) مختصة بالعقلاء فوجب أن يكون المراد من قوله وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ العقلاء وهم العيال والمماليك والخدم والعبيد وتقرير الكلام أن الناس يظنون في أكثر الأمر أنهم الذين يرزقون العيال والخدم والعبيد وذلك خطأ فإن الله هو الرزاق يرزق الخادم والمخدوم والمملوك والمالك فإنه لولا أنه تعالى خلق الأطعمة والأشربة وأعطى القوة الغاذية والهاضمة وإلا لم يحصل لأحد رزق
والاحتمال الثاني وهو قول الكلبي قال المراد بقوله وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ الوحش والطير
فإن قيل كيف يصح هذا التأويل مع أن صيغة من مختصة بمن يعقل
قلنا الجواب عنه من وجهين الأول أن صيغة من قد وردت في غير العقلاء والدليل عليه قوله تعالى وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّة ٍ مّن مَّاء فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِى عَلَى بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِى عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِى عَلَى أَرْبَعٍ ( النور 45 ) والثاني أنه تعالى أثبت لجميع الدواب رزقاً على الله حيث قال وَمَا مِن دَابَّة ٍ فِي الاْرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ( هود 6 ) فكأنها عند الحاجة تطلب أرزاقها من خالقها فصارت شبيهة بمن يعقل من هذه الجهة فلم يبعد ذكرها بصيغة من يعقل ألا ترى أنه قال نَمْلَة ٌ يأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ ( النحل 18 ) فذكرها بصيغة جمع العقلاء وقال في الأصنام فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى ( الشعراء 77 ) وقال كُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ( الأنبياء 33 ) فكذا ههنا لا يبعد إطلاق اللفظة المختصة بالعقلاء على الوحش والطير لكونها شبيهة بالعقلاء من هذه الجهة وسمعت في بطن الحكايات أنه قلت المياه في الأودية والجبال واشتد الحر في عام من الأعوام فحكى عن بعضهم أنه رأى بعض الوحش رافعاً رأسه إلى السماء عند اشتداد عطشه قال فرأيت الغيوم قد أقبلت وأمطرت بحيث امتلأت الأودية منها
والاحتمال الثالث أنا نحمل قوله وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ على الإماء والعبيد وعلى الوحش والطير وإنما أطلق عليها صيغة من تغليباً لجانب العقلاء على غيرهم
المسألة الثانية قوله وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ لا يجوز أن يكون مجروراً عطفاً على الضمير المجرور

في لكم لأنه لا يعطف على الضمير المجرور لا يقال أخذت منك وزيد إلا بإعادة الخافض كقوله تعالى وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ ( الأحزاب 7 )
واعلم أن هذا المعنى جائز على قراءة من قرأ تَسَاءلُونَ بِهِ وَالاْرْحَامَ ( النساء 1 ) بالخفض وقد ذكرنا هذه المسألة هنالك والله أعلم
وَإِن مِّن شَى ْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ
اعلم أنه تعالى لما بين أنه أنبت في الأرض كل شيء موزون وجعل فيها معايش أتبعه بذكر ما هو كالسبب لذلك فقال وَإِن مّن شَى ْء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ
وهذا هو النوع الرابع من الدلائل المذكورة في هذه السورة على تقرير التوحيد وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي رحمه الله الخزائن جمع الخزانة وهو اسم المكان الذي يخزن فيه الشيء أي يحفظ والخزانة أيضاً عمل الخازن ويقال خزن الشيء يخزنه إذا أحرزه في خزانة وعامة المفسرين على أن المراد بقوله وَإِن مّن شَى ْء إِلاَّ مّنْ عِنْدِنَا خَزَائِنُهُ هو المطر وذلك لأنه هو السبب للأرزاق ولمعايش بني آدم وغيرهم من الطيور والوحوش فلما ذكر تعالى أنه يعطيهم المعايش بين أن خزائن المطر الذي هو سبب المعايش عنده أي في أمره وحكمه وتدبيره وقوله وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ قال ابن عباس رحمهما الله يريد قدر الكفاية وقال الحكم ما من عام بأكثر مطراً من عام آخر ولكنه يمطر قوم ويحرم قوم آخرون وربما كان في البحر يعني أن الله تعالى ينزل المطر كل عام بقدر معلوم غير أنه يصرفه إلى من يشاء حيث شاء كما شاء
ولقائل أن يقول لفظ الآية لا يدل على هذا المعنى فإن قوله تعالى وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ لا يدل على أنه تعالى ينزله في جميع الأعوام على قدر واحد وإذا كان كذلك كان تفسير الآية بهذا المعنى تحكماً من غير دليل وأقول أيضاً تخصيص قوله تعالى وَإِن مّن شَى ْء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ بالمطر تحكم محض لأن قوله وَإِن مّن شَى ْء يتناول جميع الأشياء إلا ما خصه الدليل وهو الموجود القديم الواجب لذاته وقوله أَنَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ إشارة إلى كون تلك الأشياء مقدورة له تعالى وحاصل الأمر فيه أن المراد أن جميع الممكنات مقدورة له ومملوكة يخرجها من العدم إلى الوجود كيف شاء إلا أنه تعالى وإن كانت مقدوراته غير متناهية إلا أن الذي يخرجه منها إلى الوجود يجب أن يكون متناهياً لأن دخول ما لا نهاية له في الوجود محال فقوله وَإِن مّن شَى ْء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ إشارة إلى كون مقدوراته غير متناهية وقوله وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ إشارة إلى أن كل ما يدخل منها في الوجود فهو متناه ومتى كان الخارج منها إلى الوجود متناهياً كان لا محالة مختصاً في الحدوث بوقت مقدر مع جواز حصوله قبل ذلك الوقت أو بعده بدلاً عنه

وكان مختصاً بحيز معين مع جواز حصوله في سائر الأحياز بدلاً عن ذلك الحيز وكان مختصاً بصفات معينة مع أنه كان يجوز في العقل حصول سائر الصفات بدلاً عن تلك الصفات وإذا كان كذلك كان اختصاص تلك الأشياء المتناهية بذلك الوقت المعين والحيز المعين والصفات المعينة بدلاً عن أضدادها لا بد وأن يكون بتخصيص مخصص وتقدير مقدر وهذا هو المراد من قوله وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ والمعنى أنه لولا القادر المختار الذي خصص تلك الأشياء بتلك الأحوال الجائزة لامتنع اختصاصها بتلك الصفات الجائزة والمراد من الإنزال الإحداث والإنشاء والإبداع كقوله تعالى وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الاْنْعَامِ ثَمَانِيَة َ أَزْواجٍ ( الزمر 6 ) وقوله وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ ( الحديد 25 ) والله أعلم
المسألة الثانية تمسك بعض المعتزلة بهذه الآية في إثبات أن المعدوم شيء قال لأن قوله تعالى وَإِن مّن شَى ْء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ يقتضي أن يكون لجميع الأشياء خزائن وأن تكون تلك الخزائن حاصلة عند الله تعالى ولا جائز أن يكون المراد من تلك الخزائن الموجودة عند الله تعالى هي تلك الموجودات من حيث إنها موجودة لأنا بينا أن المراد من قوله تعالى وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ الإحداث والإبداع والإنشاء والتكوين وهذا يقتضي أن يكون حصول تلك الخزائن عند الله متقدماً على حدوثها ودخولها في الوجود وإذا بطل هذا وجب أن يكون المراد أن تلك الذوات والحقائق والماهيات كانت متقررة عند الله تعالى بمعنى أنها كانت ثابتة من حيث إنها حقائق وماهيات ثم إنه تعالى أنزل بعضها أي أخرج بعضها من العدم إلى الوجود
ولقائل أن يجيب عن ذلك بقوله لا شك أن لفظ الخزائن إنما ورد ههنا على سبيل التمثيل والتخييل فلم لا يجوز أن يكون المراد منه مجرد كونه تعالى قادراً على إيجاد تلك الأشياء وتكوينها وإخراجها من العدم إلى الوجود وعلى هذا التقدير يسقط الإستدلال والمباحثات الدقيقة باقية والله أعلم
أما قوله تعالى وَأَرْسَلْنَا الرّيَاحَ لَوَاقِحَ فاعلم أن هذا هو النوع الخامس من دلائل التوحيد وفيه مسائل
المسألة الأولى في وصف الرياح بأنها لواقح أقوال
القول الأول قال ابن عباس الرياح لواقح للشجر وللسحاب وهو قول الحسن وقتادة والضحاك وأصل هذا من قولهم لقحت الناقة وألقحها الفحل إذا ألقى الماء فيها فحملت فكذلك الرياح جارية مجرى الفحل للسحاب قال ابن مسعود في تفسير هذه الآية يبعث الله الرياح لتلقح السحاب فتحمل الماء وتمجه في السحاب ثم إنه يعصر السحاب ويدره كما تدر اللقحة فهذا هو تفسير إلقاحها للشجر فما ذكروه
فإن قيل كيف قال لَوَاقِحَ وهي ملقحة
والجواب ما ذهب إليه أبو عبيدة أن ( لواقح ) ههنا بمعنى ملاقح جمع ملقحة وأنشد لسهيل يرثي أخاه لبيك يزيد يائس ذو ضراعة
وأشعث مما طوحته الطوائح

أراد المطوحات وقرر ابن الأنباري ذلك فقال تقول العرب أبقل النبت فهل باقل يريدون هو مبقل وهذا بدل على جواز ورود لاقح عبارة عن ملقح
والوجه الثاني في الجواب قال الزجاج يجوز أن يقال لها لواقح وإن ألحقت غيرها لأن معناها النسبة وهو كما يقال درهم وازن أي ذو وزن ورامح وسائف أي ذو رمح وذو سيف قال الواحدي هذا الجواب ليس بمغن لأنه كان يجب أن يصح اللاقح بمعنى ذات اللقاح وهذا ليس بشيء لأن اللاقح هو المنسوب إلى اللقحة ومن أفاد غيره اللقحة فله نسبة إلى اللقحة فصح هذا الجواب والله أعلم
والوجه الثالث في الجواب أن الريح في نفسها لاقح وتقريره بطريقين
الطريق الأول أن الريح حاصلة للسحاب والدليل عليه قوله سبحانه وَهُوَ الَّذِى يُرْسِلُ الرّيَاحَ بُشْرًاَ بَيْنَ يَدَى ْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً ( الأعراف 57 ) أي حملت فعلى هذا المعنى تكون الريح لاقحة بمعنى أنها حاملة تحمل السحاب والماء
والطريق الثاني قال الزجاج يجوز أن يقال للريح لقحت إذا أتت بالخير كما قيل لها عقيم إذا لم تأت بالخير وهذا كما تقول العرب قد لقحت الحرب وقد نتجت ولداً أنكد يشبهون ما تشتمل عليه من ضروب الشر بما تحمله الناقة فكذا ههنا والله أعلم
المسألة الثانية الريح هواء متحرك وحركة الهواء بعد أن لم يكن متحركاً لا بد له من سبب وذلك السبب ليس نفس كونه هواء ولا شيئاً من لوازم ذاته وإلا لدامت حركة الهواء بدوام ذاته وذلك محال فلم يبق إلا أن يقال إنه يتحرك بتحريك الفاعل المختار والأحوال التي تذكرها الفلاسفة في سبب حركة الهواء عند حدوث الريح قد حكيناها في هذا الكتاب مراراً فأبطلناها وبينا أنه لا يمكن أن يكون شيء منها سبباً لحدوث الرياح فبقي أن يكون محركها هو الله سبحانه
وأما قوله وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ ففيه مباحث الأول أن ماء المطر هل ينزل من السماء أو ينزل من ماء السحاب وبتقدير أن يقال إنه ينزل من السحاب كيف أطلق الله على السحاب لفظ السماء وثانيها أنه ليس السبب في حدوث المطر ما يذكره الفلاسفة بل السبب فيه أن الفاعل المختار ينزله من السحاب إلى الأرض لغرض الإحسان إلى العباد كما قال ههنا فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ قال الأزهري تقول العرب لكل ما كان في بطون الأنعام ومن السماء أو نهر يجري أسقيته أي جعلته شرباً له وجعلت له منها مسقى فإذا كانت السقيا لسقيه قالوا سقاه ولم يقولوا أسقاه والذي يؤكد هذا اختلاف القراء في قوله نُّسْقِيكُمْ مّمَّا فِى بُطُونِهِ ( النحل 66 ) فقرؤا باللغتين ولم يختلفوا في قوله وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً ( الإنسان 21 ) وفي قوله وَالَّذِى هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ ( الشعراء 79 ) قال أبو علي سقيته حتى روي وأسقيته نهراً أي جعلته شرباً له وقوله فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ أي جعلناه سقياً لكم وربما قالوا في أسقى سقى كقول لبيد يصف سحاباً أقول وصوبه مني بعيد
يحط السيب من قلل الجبال
سقى قومي بني نجد وأسقى
نميرا والقبائل من هلال

فقوله سقى قومي ليس يريد به ما يروي عطاشهم ولكن يريد رزقهم سقياً لبلادهم يخصبون بها وبعيد أن يسأل لقومه ما يروى العطاش وليغرهم ما يخصبون به وأما سقيا السقية فلا يقال فيها أسقاه وأما قول ذي الرمة وأسقيه حتى كاد مما أبنه
تكلمني أحجاره وملاعبه
فمعنى أسقيه أدعو له بالسقاء وأقول سقاه الله وقوله وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ يعني به ذلك الماء المنزل من السماء يعني لستم له بحافظين
وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْى ِ وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأخِرِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ
اعلم أن هذا هو النوع السادس من دلائل التوحيد وهو الاستدلال بحصول الإحياء والإماتة لهذه الحيوانات على وجود الإله القادر المختار
أما قوله وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْى ِ وَنُمِيتُ ففيه قولان منهم من حمله على القدر المشترك بين إحياء النبات والحيوان ومنهم من يقول وصف النبات بالإحياء مجاز فوجب تخصيصه بإحياء الحيوان ولما ثبت بالدلائل العقلية أنه لا قدرة على خلق الحياة إلا للحق سبحانه كان حصول الحياة للحيوان دليلاً قاطعاً على وجود الإله الفاعل المختار وقوله وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْى ِ وَنُمِيتُ يفيد الحصر أي لا قدرة على الإحياء ولا على الإماتة إلا لنا وقوله وَنَحْنُ الْوارِثُونَ معناه أنه إذا مات جميع الخلائق فحينئذ يزول ملك كل أحد عند موته ويكون الله هو الباقي الحق المالك لكل المملوكات وحده فكان هذا شبيهاً بالإرث فكان وارثاً من هذا الوجه
وأما قوله وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَخِرِينَ ففيه وجوه الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عطاء المستقدمين يريد أهل طاعة الله تعالى والمستأخرين يريد المتخلفين عن طاعة الله الثاني أراد بالمستقدمين الصف الأول من أهل الصلاة وبالمستأخرين الصف الآخر روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) رغب في الصف الأول في الصلاة فازدحم الناس عليه فأنزل الله تعالى هذه الآية والمعنى أنا نجزيهم على قدر نياتهم الثالث قال الضحاك ومقاتل يعني في وصف القتال الرابع قال ابن عباس في رواية أبي الجوزاء كانت امرأة حسناء تصلي خلف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وكان قوم يتقدمون إلى الصف الأول لئلا يروها وآخرون يتخلفون ويتأخرون ليروها وإذا ركعوا جافوا أيديهم لينظروا من تحت آباطهم فأنزل الله تعالى هذه الآية الخامس قيل المستقدمون هم الأموات والمستأخرون هم الأحياء وقيل المستقدمون هم الأمم السالفة والمستأخرون هم أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وقال عكرمة المستقدمون من خلق والمستأخرون من لم يخلق

واعلم أنه تعالى لما قال وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْى ِ وَنُمِيتُ أتبعه بقوله وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَخِرِينَ تنبيهاً على أنه لا يخفى على الله شيء من أحوالهم فيدخل فيه علمه تعالى بتقدمهم وتأخرهم في الحدوث والوجود وبتقدمهم وتأخرهم في أنواع الطاعات والخيرات ولا ينبغي أن نخص الآية بحالة دون حالة
وأما قوله وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ فالمراد منه التنبيه على أن الحشر والنشر والبعث والقيامة أمر واجب وقوله إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ معناه أن الحكمة تقتضي وجوب الحشر والنشر على ما قررناه بالدلائل الكثيرة في أول سورة يونس عليه السلام
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن هذا هو النوع السابع من دلائل التوحيد فإنه تعالى لما استدل بتخليق الحيوانات على صحة التوحيد في الآية المتقدمة أردفه بالاستدلال بتخليق الإنسان على هذا المطلوب
المسألة الثانية ثبت بالدلائل القاطعة أنه يمتنع القول بوجود حوادث لا أول لها وإذا ثبت هذا ظهر وجوب انتهاء الحوادث إلى حادث أول هو أول الحوادث وإذا كان كذلك فلا بد من انتهاء الناس إلى إنسان هو أول الناس وإذا كان كذلك فذلك الإنسان الأول غير مخلوق مع الأبوين فيكون مخلوقاً لا محالة بقدرة الله تعالى فقوله وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ إشارة إلى ذلك الإنسان الأول والمفسرون أجمعوا على أن المراد منه هو آدم عليه السلام ونقل في ( كتب الشيعة ) عن محمد بن علي الباقر عليه السلام أنه قال قد انقضى قبل آدم الذي هو أبونا ألف ألف آدم أو أكثر وأقول هذا لا يقدح في حدوث العالم بل لأمر كيف كان فلا بد من الانتهاء إلى إنسان أول هو أول الناس وأما أن ذلك الإنسان هو أبونا آدم فلا طريق إلى إثباته إلا من جهة السمع
واعلم أن الجسم محدث فوجب القطع بأن آدم عليه السلام وغيره من الأجسام يكون مخلوقاً عن عدم محض وأيضاً دل قوله تعالى إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ( آل عمران 59 ) على أن آدم مخلوق من تراب ودلت آية أخرى على أنه مخلوق من الطين وهي قوله إِنّى خَالِقٌ بَشَراً مّن طِينٍ ( ص 71 ) وجاء في هذه الآية أن آدم عليه السلام مخلوق من صلصال من حمأ مسنون والأقرب أنه تعالى خلقه أولاً من تراب ثم من طين ثم من حمأ مسنون ثم من صلصال كالفخار ولا شك أنه تعالى قادر على خلقه من أي جنس من الأجسام كان بل هو قادر على خلقه ابتداء وإنما خلقه على هذا الوجه إما لمحض المشيئة أو لما فيه من دلالة الملائكة ومصلحتهم ومصلحة الجن لأن خلق الإنسان من هذه الأمور أعجب من خلق الشيء من شكله وجنسه

المسألة الثالثة في الصلصال قولان قيل الصلصال الطين اليابس الذي يصلصل وهو غير مطبوخ وإذا طبخ فهو فخار قالوا إذا توهمت في صوته مداً فهو صليل وإذا توهمت فيه ترجيعاً فهو صلصلة قال المفسرون خلق الله تعالى آدم عليه السلام من طين فصوره وتركه في الشمس أربعين سنة فصار صلصالاً كالخزف ولا يدري أحد ما يراد به ولم يروا شيئاً من الصور يشبهه إلى أن نفخ فيه الروح وحقيقة الكلام أنه تعالى خلق آدم من طين على صورة الإنسان فجف فكانت الريح إذا مرت به سمع له صلصلة فلذلك سماه الله تعالى صلصالاً
والقول الثاني الصلصال والمنتن من قولهم صل اللحم وأصل إذا نتن وتغير وهذا القول عندي ضعيف لأنه تعالى قال مِن صَلْصَالٍ مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ وكونه حمأ مسنوناً يدل على النتن والتغير وظاهر الآية يدل على أن هذا الصلصال إنما تولد من الحمأ المسنون فوجب أن يكون كونه صلصالاً مغايراً لكونه حمأ مسنوناً ولو كان كونه صلصالاً عبارة عن النتن والتغير لم يبق بين كونه صلصالاً وبين كونه حمأ مسنوناً تفاوت وأما الحمأ فقال الليث الحمأة بوزن فعلة والجمع الحمأ وهو الطين الأسود المنتن وقال أبو عبيدة والأكثرون حماة بوزن كمأة وقوله مَّسْنُونٍ فيه أقوال الأول قال ابن السكيت سمعت أبا عمر يقول في قوله مَّسْنُونٍ أي متغير قال أبو الهيثم يقال سن الماء فهو مسنون أي تغير والدليل عليه قوله تعالى لَمْ يَتَسَنَّهْ ( البقرة 259 ) أي لم يتغير الثاني المسنون المحكوك وهو مأخوذ من سننت الحجر إذا حككته عليه والذي يخرج من بينهما يقال له السنن وسمي المسن مسناً لأن الحديد يسن عليه والثالث قال الزجاج هذا اللفظ مأخوذ من أي موضوع على سنن الطريق لأنه متى كان كذلك فقد تغير الرابع قال أبو عبيدة المسنون المصبوب والسن والصب يقال سن الماء على وجهه سناً الخامس قال سيبويه المسنون المصور على صورة ومثال من سنة الوجه وهي صورته السادس روي عن ابن عباس أنه قال المسنون الطين الرطب وهذا يعود إلى قول أبي عبيدة لأنه إذا كان رطباً يسيل وينبسط على الأرض فيكون مسنوناً بمعنى أنه مصبوب
أما قوله تعالى وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ فاختلفوا في أن الجان من هو فقال عطاء عن ابن عباس يريد إبليس وهو قول الحسن ومقاتل وقتادة وقال ابن عباس في رواية أخرى الجان هو أب الجن وهو قول الأكثرين وسمي جاناً لتواريه عن الأعين كما سمي الجنين جنيناً لهذا السبب والجنين متوارٍ في بطن أمه ومعنى الجان في اللغة الساتر من قولك جن الشيء إذا ستره فالجان المذكور ههنا يحتمل أنه سمي جاناً لأنه يستر نفسه عن أعين بني آدم أو يكون من باب الفاعل الذي يراد به المفعول كما يقال في لابن وتامر وماء دافق وعيشة راضية واختلفوا في الجن فقال بعضهم إنهم جنس غير الشياطين والأصح أن الشياطين قسم من الجن فكل من كان منهم مؤمناً فإنه لا يسمى بالشيطان وكل من كان منهم كافراً يسمى بهذا الإسم والدليل على صحة ذلك أن لفظ الجن مشتق من الاستتار فكل من كان كذلك كان من الجن وقوله تعالى خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ قال ابن عباس يريد من قبل خلق آدم وقوله مِن نَّارِ السَّمُومِ معنى السموم في اللغة الريح الحارة تكون بالنهار وقد تكون بالليل وعلى هذا فالريح الحارة فيها نار ولها لفح وأوار على ما ورد في الخبر أنها لفح جهنم قيل سميت سموماً لأنها بلطفها تدخل في مسام البدن وهي الخروق الخفية التي تكون في جلد الإنسان يبرز منها عرقه وبخار باطنه قال ابن مسعود هذه السموم جزء

من سبعين جزأ من السموم التي خلق الله بها الجان وتلا هذه الآية
فإن قيل كيف يعقل خلق الجان من النار
قلنا هذا على مذهبنا ظاهر لأن البنية عندنا ليست شرطاً لإمكان حصول الحياة فالله تعالى قادر على خلق الحياة والعلم في الجواهر الفرد فكذلك يكون قادراً على خلق الحياة والعقل في الجسم الحار واستدل بعضهم على أن الكواكب يمتنع حصول الحياة فيها قال لأن الشمس في غاية الحرارة وما كان كذلك امتنع حصول الحياة فيه فننقضه عليه بقوله تعالى وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ بل المعتمد في نفي الحياة عن الكواكب الإجماع
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَة ِ إِنِّى خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَة ُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قَالَ ياإِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قَالَ لَمْ أَكُن لاًّسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَة َ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ
اعلم أنه تعالى لما ذكر حدوث الإنسان الأول واستدل بذكره على وجود الإله القادر المختار ذكر بعده واقعته وهو أنه تعالى أمر الملائكة بالسجود له فأطاعوه إلا إبليس فإنه أبى وتمرد وفي الآية مسائل
المسألة الأولى ما تفسير كونه بشراً فالمراد منه كونه جسماً كثيفاً يباشر ويلاقي والملائكة والجن لا يباشرون للطف أجسامهم عن أجسام البشر والبشرة ظاهرة الجلد من كل حيوان وأما كونه صلصالاً من حمأ مسنون فقد تقدم ذكره وأما قوله فَإِذَا سَوَّيْتُهُ ففيه قولان الأول فإذا سويت شكله بالصورة الإنسانية والخلقة البشرية والثاني فإذا سويت أجزاء بدنه باعتدال الطبائع وتناسب الأمشاج كما قال تعالى إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَة ٍ أَمْشَاجٍ ( الإنسان 2 )
وأما قوله وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى ففيه مباحث الأول أن النفخ إجراء الريح في تجاويف جسم آخر وظاهر هذا اللفظ يشعر بأن الروح هي الريح وإلا لما صح وصفها بالنفخ إلا أن البحث الكامل في حقيقة الروح سيجيء في قوله تعالى قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى ( الإسراء 85 ) وإنما أضاف الله سبحانه روح آدم إلى نفسه تشريفاً له وتكريماً وقوله فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ فيه مباحث أحدها أن ذلك السجود كان لآدم في الحقيقة أو كان آدم كالقبلة لذلك السجود وهذا البحث قد تقدم ذكره في سورة

البقرة وثانيها أن المأمورين بالسجود لآدم عليه السلام كل ملائكة السموات أو بعضهم أو ملائكة الأرض من الناس من لا يجوز أن يقال إن أكابر الملائكة كانوا مأمورين بالسجود لآدم عليه السلام والدليل عليه قوله تعالى في آخر سورة الاْعْرَافِ في صفة الملائكة إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ فقوله وَلَهُ يَسْجُدُونَ ( الأعراف 20 ) يفيد الحصر وذلك يدل على أنهم لا يسجدون إلا لله تعالى وذلك ينافي كونهم ساجدين لآدم عليه السلام أو لأحد غير الله تعالى أقصى ما في الباب أن يقال إن قوله تعالى فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ يفيد العموم إلا أن الخاص مقدم على العام وثالثها أن ظاهر الآية يدل على أنه تعالى كما نفخ الروح في آدم عليه السلام وجب على الملائكة أن يسجدوا له لأن قوله فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ مذكور بفاء التعقيب وذلك يمنع من التراخي وقوله فَسَجَدَ الْمَلَائِكَة ُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ قال الخليل وسيبويه قوله كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ توكيد بعد توكيد وسئل المبرد عن هذه الآية فقال لو قال فسجد الملائكة احتمل أن يكون سجد بعضهم فلما قال كُلُّهُمْ زال هذا الاحتمال فظهر أنهم بأسرهم سجدوا ثم بعد هذا بقي احتمال آخر وهو أنهم سجدوا دفعة واحدة أو سجد كل واحد منهم في وقت آخر فلما قال أَجْمَعُونَ ظهر أن الكل سجدوا دفعة واحدة ولما حكى الزجاج هذا القول عن المبرد قال وقول الخليل وسيبويه أجود لأن أجمعين معرفة فلا يكون حالاً وقوله إِلاَّ إِبْلِيسَ أجمعوا على أن إبليس كان مأموراً بالسجود لآدم واختلفوا في أنه هل كان من الملائكة أم لا وقد سبقت هذه المسألة بالاستقصاء في سورة البقرة وقوله أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ استئناف وتقديره أن قائلاً قال هلا سجد فقيل أبى ذلك واستكبر عنه
أما قوله قَالَ يَاءادَمُ إِبْلِيسَ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ فاعلم أنهم أجمعوا على أن المراد من قوله قَالَ يَاءادَمُ إِبْلِيسَ أي قال الله تعالى له يا إبليس وهذا يقتضي أنه تعالى تكلم معه فعند هذا قال بعض المتكلمين إنه تعالى أوصل هذا الخطاب إلى إبليس على لسان بعض رسله إلا أن هذا ضعيف لأن إبليس قال في الجواب لَمْ أَكُن لاِسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ فقوله خَلَقْتَهُ خطاب الحضور لا خطاب الغيبة وظاهره يقتضي أن الله تعالى تكلم مع إبليس بغير واسطة وأن إبليس تكلم مع الله تعالى بغير واسطة وكيف يعقل هذا مع أن مكالمة الله تعالى بغير واسطة من أعظم المناصب وأشرف المراتب فكيف يعقل حصوله لرأس الكفرة ورئيسهم ولعل الجواب عنه أن مكالمة الله تعالى إنما تكون منصباً عالياً إذا كان على سبيل الإكرام والإعظام فأما إذا كان على سبيل الإهانة والإذلال فلا وقوله لَمْ أَكُن لاِسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ فيه بحثان
البحث الأول اللام في قوله لاِسْجُدَ لتأكيد النفي ومعناه لا يصح مني أن أسجد لبشر
البحث الثاني معنى هذا الكلام أن كونه بشراً يشعر بكونه جسماً كثيفاً وهو كان روحانياً لطيفاً فالتفرقة حاصلة بينهما في الحال من هذا الوجه كأنه يقول البشر جسماني كثيف له بشرة وأنا روحاني لطيف والجسماني الكثيف أدون حالاً من الروحاني اللطيف والأدون كيف يكون مسجوداً للأعلى وأيضاً أن آدم مخلوق من صلصال تولد من حمأ مسنون فهذا الأصل في غاية الدناءة وأصل إبليس هو النار وهي أشرف العناصر فكان أصل إبليس أشرف من أصل آدم فوجب أن يكون إبليس أشرف من آدم والأشرف

يقبح أن يؤمر بالسجود للأدون فالكلام الأول إشارة إلى الفرق الحاصل بسبب البشرية والروحانية وهو فرق حاصل في الحال والكلام الثاني إشارة إلى الفرق الحاصل بحسب العنصر والأصل فهذا مجموع شبهة إبليس وقوله تعالى قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ فهذا ليس جواباً عن تلك الشبهة على سبيل التصريح ولكنه جواب عنها على سبيل التنبيه وتقريره أن الذي قاله الله تعالى نص والذي قاله إبليس قياس ومن عارض النص بالقياس كان رجيماً ملعوناً وتمام الكلام في هذا المعنى ذكرناه مستقصى في سورة الأعراف وقوله فَاخْرُجْ مِنْهَا قيل المراد من جنة عدن وقيل من السموات وقيل من زمرة الملائكة وتمام هذا الكلام مع تفسير الرجيم قد سبق ذكره في سورة الأعراف وقوله وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَة َ إِلَى يَوْمِ الدّينِ قال ابن عباس يريد يوم الجزاء حيث يجازي العباد بأعمالهم مثل قوله مَالِكِ يَوْمِ الدّينِ ( الفاتحة 4 )
فإن قيل كلمة ( إلى ) تفيد انتهاء الغاية فهذا يشعر بأن اللعن لا يحصل إلا إلى يوم القيامة وعند قيام القيامة يزول اللعن
أجابوا عنه من وجوه الأول المراد منه التأبيد وذكر القيامة أبعد غاية يذكرها الناس في كلامهم كقولهم مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( هود 107 ) في التأبيد والثاني أنك مذموم مدعو عليك باللعنة في السموات والأرض إلى يوم الدين من غير أن يعذب فإذا جاء ذلك اليوم عذب عذاباً ينسى اللعن معه فيصير اللعن حينئذ كالزائل بسبب أن شدة العذاب تذهل عنه
قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِى الأرض وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَى َّ مُسْتَقِيمٌ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قوله فَأَنظِرْنِى متعلق بما تقدم والتقدير إذا جعلتني رجيماً ملعوناً إلى يوم الدين فأنظرني فطلب الإبقاء من الله تعالى عند اليأس من الآخرة إلى وقت قيام القيامة لأن قوله إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ المراد منه يوم البعث والنشور وهو يوم القايمة وقوله فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ اعلم أن إبليس استنظر إلى يوم البعث والقيامة وغرضه منه أن لا يموت لأنه إذا كان لا يموت قبل يوم القيامة وظاهره أن بعد قيام القيامة لا يموت أحد فحينئذ يلزم منه أن لا يموت ألبتة ثم إنه تعالى منعه عن هذا المطلوب وقال إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ واختلفوا في المراد منه على وجوه أحدها أن المراد من يوم الوقت المعلوم وقت النفخة الأولى حين يموت كل الخلائق وإنما سمي هذا الوقت بالوقت المعلوم لأن من المعلوم أن يموت كل الخلائق فيه وقيل إنما سماه الله تعالى بهذا الاسم

لأن العالم بذلك الوقت هو الله تعالى لا غير كما قال تعالى إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبّي لاَ يُجَلّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ( الأعراف 187 ) وقال إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَة ِ ( لقمان 34 ) وثانيها أن المراد من يوم الوقت المعلوم هو الذي ذكره إبليس وهو قوله إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ وإنما سماه تعالى بيوم الوقت المعلوم لأن إبليس لما عينه وأشار إليه بعينه صار ذلك كالمعلوم
فإن قيل لما أجابه الله تعالى إلى مطلوبه لزم أن لا يموت إلى وقت قيام الساعة وبعد قيام القيامة لا يموت أيضاً فيلزم أن يندفع عنه الموت بالكلية
قلنا يحمل قوله إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ إلى ما يكون قريباً منه والوقت الذي يموت فيه كل المكلفين قريب من يوم البعث وعلى هذا الوجه فيرجع حاصل هذا الكلام إلى الوجه الأول وثالثها أن المراد بيوم الوقت المعلوم يوم لا يعلمه إلا الله تعالى وليس المراد منه يوم القيامة
فإن قيل إنه لا يجوز أن يعلم المكلف متى يموت لأن فيه إغراء بالمعاصي وذلك لا يجوز على الله تعالى
أجيب عنه بأن هذا الإلزام إنما يتوجه إذا كان وقت قيام القيامة معلوماً للمكلف فأما إذا علم أنه تعالى أمهله إلى وقت قيام القيامة إلا أنه تعالى ما أعلمه الوقت الذي تقوم القيامة فيه فلم يلزم منه الإغراء بالمعاصي
وأجيب عن هذا الجواب بأنه وإن لم يعلم الوقت الذي فيه تقوم القيامة على التعيين إلا أنه علم في الجملة أن من وقت خلقة آدم عليه الصلاة والسلام إلى وقت قيام القيامة مدة طويلة فكأنه قد علم أنه لا يموت في تلك المدة الطويلة
أما قوله تعالى قَالَ رَبّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى لازَيّنَنَّ لَهُمْ فِى الاْرْضِ وَلاغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ففيه بحثان
البحث الأول الباء في بِمَآ أَغْوَيْتَنِى للقسم وما مصدرية وجواب القسم لأزينن والمعنى أقسم بإغوائك إياي لأزينن لهم ونظيره قوله تعالى فَبِعِزَّتِكَ لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ( ص 82 ) إلا أنه في ذلك الموضع أقسم بعزة الله وهي من صفات الذات وفي قوله بِمَآ أَغْوَيْتَنِى أقسم بإغواء الله وهو من صفات الأفعال والفقهاء قالوا القسم بصفات الذات صحيح أما بصفات الأفعال فقد اختلفوا فيه ونقل الواحدي عن قوم آخرين أنهم قالوا الباء ههنا بمعنى السبب أي بسبب كوني غاوياً لأزينن كقول القائل أقسم فلان بمعصيته ليدخلن النار وبطاعته ليدخلن الجنة
البحث الثاني اعلم أن أصحابنا قد احتجوا بهذه الآية على أنه تعالى قد يريد خلق الكفر في الكافر ويصده عن الدين ويغويه عن الحق من وجوه الأول أن إبليس استمهل وطلب البقاء إلى قيام القيامة مع أنه صرح بأنه إنما يطلب هذا الإمهال والإبقاء لإغواء بني آدم وإضلالهم وأنه تعالى أمهله وأجابه إلى هذا المطلوب ولو كان تعالى يراعي مصالح المكلفين في الدين لما أمهله هذا الزمان الطويل ولما مكنه من الإغواء والإضلال والوسوسة الثاني أن أكابر الأنبياء والأولياء مجدون ومجتهدون في إرشاد الخلق إلى الدين الحق وأن إبليس ورهطه وشيعته مجدون ومجتهدون في الضلال والإغواء فلو كان مراد الله تعالى هو

الإرشاد والهداية لكان من الواجب إبقاء المرشدين والمحققين وإهلاك المضلين والمغوين وحيث فعل بالضد منه علمنا أنه أراد بهم الخذلان والكفر الثالث أنه تعالى لما أعلمه بأنه يموت على الكفر وأنه ملعون إلى يوم الدين كان ذلك إغراء له بالكفر والقبيح لأنه أيس عن المغفرة والفوز بالجنة يجترىء حينئذ على أنواع المعاصي والكفر الرابع أنه لما سأل الله تعالى هذا العمر الطويل مع أنه تعالى علم منه أنه لا يستفيد من هذا العمر الطويل إلا زيادة الكفر والمعصية وبسبب تلك الزيادة يزداد استحقاقه لأنواع العذاب الشديد كان هذا الإمهال سبباً لمزيد عذابه وذلك يدل على أنه تعالى أراد به أن يزداد عذابه وعقابه الخامس أنه صرح بأن الله أغواه فقال رَبّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى وذلك تصريح بأن الله تعالى أغواه لا يقال هذا كلام إبليس وهو ليس بحجة وأيضاً فهو معارض بقول إبليس فَبِعِزَّتِكَ لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ فأضاف الإغواء إلى نفسه لأنا نقول
أما الجواب عن الأول فهو أنه لما ذكر هذا الكلام فإن الله تعالى ما أنكره عليه وذلك يدل على أنه كان صادقاً فيما قال
وأما الجواب عن الثاني فهو أنه قال في هذه الآية رَبّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى لازَيّنَنَّ لَهُمْ فالمراد ههنا من قوله لازَيّنَنَّ لَهُمْ هو المراد من قوله في تلك الآية لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إلا أنه بين في هذه الآية أنه إنما أمكنه أن يزين لهم الأباطيل لأجل أن الله تعالى أغواه قبل ذلك وعلى هذا التقدير فقد زال التناقض ويتأكد هذا بما ذكره الله تعالى حكاية عن الشياطين في سورة القصص هَؤُلاء الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا ( القصص 63 )
السؤال السادس أنه اقل رَبّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى وهذا اعتراف بأن الله تعالى أغواه فنقول إما أن يقال إنه كان قد عرف بأن الله تعالى أغواه أو ما عرف ذلك فإن كان قد عرف بأن الله تعالى أغواه امتنع كونه غاوياً لأنه إنما يعرف أن الله تعالى أغواه إذا عرف أن الذي هو عليه جهل وباطل ومن عرف ذلك امتنع بقاؤه على الجهل والضلالة وأما إن قلنا بأنه ما عرف أن الله أغواه فكيف أمكنه أن يقول رَبّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى فهذا مجموع السؤالات الواردة في هذه الآية
أما الإشكال الأول فللمعتزلة فيه طريقان
الطريق الأول وهو طريق الجبائي أنه تعالى إنما أمهل إبليس تلك المدة الطويلة لأنه تعالى علم أنه لا يتفاوت أحوال الناس بسبب وسوسته فبتقدير أن لا يوجد إبليس ولا وسوسته فإن ذلك الكافر والعاصي كان يأتي بذلك الكفر والمعصية فلما كان الأمر كذلك لا جرم أمهله هذه المدة
الطريق الثاني وهو طريق أبي هاشم أنه لا يبعد أن يقال إنه تعالى علم أن أقواماً يقعون بسبب وسوسته في الكفر والمعصية إلا أن وسوسته ما كانت موجبة لذلك الكفر والمعصية بل الكافر والعاصي بسبب اختياره اختار ذلك الكفر وتلك المعصية أقصى ما في الباب أن يقال الاحتراز عن القبائح حال عدم الوسوسة أسهل منه حال وجودها إلا أن على هذا التقدير تصير وسوسته سبباً لزيادة المشقة في أداء الطاعات وذلك لا يمنع الحكيم من فعله كما أن إنزال المشاق وإنزال المتشابهات صار سبباً لمزيد الشبهات ومع ذلك فلم يمتنع فعله فكذا ههنا وهذان الطريقان هما بعينهما

الجواب عن السؤال الثاني
وأما السؤال الثالث وهو أن إعلامه بأنه يموت على الكفر يحمله على الجرأة على المعاصي والإكثار منها فجوابه أن هذا إنما يلزم إذا كان علم إبليس بموته على الكفر يحمله على الزيادة في المعاصي أما إذا علم الله تعالى من حاله أن ذلك لايوجب التفاوت ألبتة فالسؤال زائل وهذا بعينه هو الجواب عن السؤال الرابع
وأما السؤال الخامس وهو أن إبليس صرح بأن الله تعالى أغواه وأضله عن الدين فقد أجابوا عنه بأنه ليس المراد ذلك بل فيه وجوه أخرى أحدها المراد بما خيبتني من رحمتك لأخيبنهم بالدعاء إلى معصيتك وثانيها المراد كما أضللتني عن طريق الجنة أضلهم أنا أيضاً عنه بالدعاء إلى المعصية وثالثها أن يكون المراد بالإغواء الأول الخيبة وبالثاني الإضلال ورابعها أن المراد بإغواء الله تعالى إياه هو أنه أمره بالسجود لآدم فأفضى ذلك إلى غيه يعني أنه حصل ذلك الغي عقيبه باختيار إبليس فأما أن يقال إن ذلك الأمر صار موجباً لذاته لحصول ذلك الغي فمعلوم أنه ليس الأمر كذلك هذا جملة كلام القوم في هذا الباب وكله ضعيف أما قوله إنه لا يتفاوت الحال بسبب وسوسة إبليس فنقول هذا باطل ويدل عليه القرآن والبرهان أما القرآن فقوله تعالى فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ ( البقرة 36 ) فأضاف تلك الزلة إلى الشيطان وقال فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّة ِ فَتَشْقَى ( طه 117 ) فأضاف الإخراج إليه وقال موسى عليه السلام هَاذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ( القصص 15 ) وكل ذلك يدل على أن لعمل الشيطان في تلك الأفعال أثراً وأما البرهان فلأن بداية العقول شاهدة بأنه ليس حال من ابتلى بمجالسة شخص يرغبه أبداً في القبائح وينفره عن الخيرات مثل شخص كان حاله بالضد منه والعلم بهذا التفاوت ضروري وأما قوله إن وجوده يصير سبباً لزيادة المشقة في الطاعة فنقول تأثير زيادة المشقة إنما هو في كثرة الثواب على أحد التقديرين وفي الإلقاء في العذاب الشديد على التقدير الثاني وهو التقدير الأكثر الأغلب وكل من يراعي المصالح فإن رعاية هذا التقدير الثاني أولى عنده من رعاية التقدير الأول لأن دفع الضرر العظيم أولى من السعي في طلب النفع الزائد الذي لا حاجة إلى حصوله أصلاً ولما اندفع هذان الجوابان عن هذا السؤال قويت سائر الوجوه المذكورة وأما قوله المراد من قوله رَبّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى الخيبة عن الرحمة أو الإضلال عن طريق الجنة فنقول كل هذا بعيد لأنه هو الذي خيب نفسه عن الرحمة وهو الذي أضل نفسه عن طريق الجنة لأنه لما أقدم على الكفر باختياره فقد خيب نفسه عن الرحمة وأضل نفسه عن طريق الجنة فكيف يحسن إضافته إلى الله تعالى فثبت أن الإشكالات لازمة وأن أجوبتهم ضعيفة والله أعلم
وأما قوله إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ففيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن إبليس استثنى المخلصين لأنه علم أن كيده لا يعمل فيهم ولا يقبلون منه وذكرت في مجلس التذكير أن الذي حمل إبليس على ذكر هذا الإستثناء أن لا يصير كاذباً في دعواه فلما احترز إبليس عن الكذب علمنا أن الكذب في غاية الخساسة
المسألة الثانية قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو الْمُخْلَصِينَ بكسر اللام في كل القرآن والباقون بفتح اللام وجه القراءة الأولى أنهم الذين أخلصوا دينهم وعبادتهم عن كل شائب يناقض الإيمان والتوحيد

ومن فتح اللام فمعناه الذين أخلصهم الله بالهداية والإيمان والتوفيق والعصمة وهذه القراءة تدل على أن الإخلاص والإيمان ليس إلا من الله تعالى
المسألة الثالثة الإخلاص جعل الشيء خالصاً عن شائبة الغير فنقول كل من أتى بعمل فإما أن يكون قد أتى به لله فقط أو لغير الله فقط أو لمجموع الأمرين وعلى هذا التقدير الثالث فإما أن يكون طلب رضوان الله راجحاً أو مرجوحاً أو معادلاً والتقدير الرابع أنيأتي به لا لغرض أصلاً وهذا محال لأن الفعل بدون الداعية محال
أما الأول فهو الإخلاص في حق الله تعالى لأن الحامل له على ذلك الفعل طلب رضوان الله وما جعل هذه الداعية مشوبة بداعية أخرى بل بقيت خالصة عن شوائب الغير فهذا هو الإخلاص
وأما الثاني وهو الإخلاص في حق غير الله فظاهر أن هذا لا يكون إخلاصاً في حق الله تعالى
وأما الثالث وهو أن يشتمل على الجهتين إلا أن جانب الله يكون راجحاً فهذا يرجى أن يكون من المخلصين لأن المثل يقابله المثل فيبقى القدر الزائد خالصاً عن الشوب
وأما الرابع والخامس فظاهر أنه ليس من المخلصين في حق الله تعالى والحاصل أن القسم الأول إخلاص في حق الله تعالى قطعاً والقسم الثاني يرجى من فضل الله أن يجعله من قسم الإخلاص وأما سائر الأقسام فهو خارج عن الإخلاص قطعاً والله أعلم
أما قوله تعالى قَالَ هَذَا صِراطٌ عَلَى َّ مُسْتَقِيمٌ ففيه وجوه الأول أن إبليس لما قال إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ فلفظ المخلص يدل على الإخلاص فقوله هذا عائد إلى الإخلاص والمعنى أن الإخلاص طريق علي وإلي أي أنه يؤدي إلى كرامتي وثوابي وقال الحسن معناه هذا صراط إلي مستقيم وقال آخرون هذا صراط من مر عليه فكأنه مر علي وعلى رضواني وكرامتي وهو كما يقال طريقك علي الثاني أن الإخلاص طريق العبودية فقوله هَذَا صِراطٌ عَلَى َّ مُسْتَقِيمٌ أي هذا الطريق في العبودية طريق علي مستقيم الثالث قال بعضهم لما ذكر إبليس أنه يغوي بني آدم إلا من عصمه الله بتوفيقه تضمن هذا الكلام تفويض الأمور إلى الله تعالى وإلى إرادته فقال تعالى هَذَا صِراطٌ عَلَى َّ أي تفويض الأمور إلى إرادتي ومشيئتي طريق علي مستقيم الرابع معناه هذا صراط علي تقريره وتأكيده وهو مستقيم حق وصدق وقرأ يعقوب صِراطٌ عَلَى َّ بالرفع والتنوين على أنه صفة لقوله صِراطِ أي هو علي بمعنى أنه رفيع مستقيم لا عوج فيه قال الواحدي معناه أن طريق التفويض إلى الله تعالى والإيمان بقضاء الله طريق رفيع مستقيم
إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَهَا سَبْعَة ُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ

اعلم أن إبليس لما قال لازَيّنَنَّ لَهُمْ فِى الاْرْضِ وَلاغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ أوهم هذا الكلام أن له سلطاناً على عباد الله الذين يكونون من المخلصين فبين تعالى في هذه الآية أنه ليس له سلطان على أحد من عبيد الله سواء كانوا مخلصين أو لم يكونوا مخلصين بل من اتبع منهم إبليس باختياره صار متبعاً له ولكن حصول تلك المتابعة أيضاً ليس لأجل أن إبليس يقهره على تلك المتابعة أو يجبره عليها والحاصل في هذا القول أن إبليس أوهم أن له على بعض عباد الله سلطاناً فبين تعالى كذبه فيه وذكر أنه ليس له على أحد منهم سلطان ولا قدرة أصلاً ونظير هذه الآية قوله تعالى حكاية عن إبليس أنه قال وَمَا كَانَ لِى َ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى ( إبراهيم 22 ) وقال تعالى في آية أخرى إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ ( النحل 99 100 ) قال الجبائي هذه الآية تدل على بطلان قول من زعم أن الشيطان والجن يمكنهم صرع الناس وإزالة عقولهم كما يقوله العامة وربما نسبوا ذلك إلى السحرة قال وذلك خلاف ما نص الله تعالى عليه وفي الآية قول آخر وهو أن إبليس لما قال إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ( الحجر 40 ) فذكر أنه لا يقدر على إغواء المخلصين صدقه الله في هذا الاستثناء فقال إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ فلهذا قال الكلبي العباد المذكورون في هذه الآية هم الذين استثناهم إبليس
واعلم أن على القول الأول يمكن أن يكون قوله إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ استثناء لأن المعنى أن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين فإن لك عليهم سلطاناً بسبب كونهم منقادين لك في الأمر والنهي
وأما على القول الثاني فيمتنع أن يكون استثناء بل تكون لفظة ( إلا ) بمعنى لكن وقوله إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ قال ابن عباس يريد إبليس وأشياعه ومن اتبعه من الغاوين
ثم قال تعالى لَهَا سَبْعَة ُ أَبْوَابٍ وفيه قولان
القول الأول إنها سبع طبقات بعضها فوق البعض وتسمى تلك الطبقات بالدركات ويدل على كونها كذلك قوله تعالى إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِى الدَّرْكِ الاْسْفَلِ مِنَ النَّارِ ( النساء 145 )
والقول الثاني إن قرار جهنم مقسوم سبعة أقسام ولكل قسم باب وعن ابن جريج أولها جهنم ثم لظى ثم الحطمة ثم السعير ثم سقر ثم الجحيم ثم الهاوية قال الضحاك الطبقة الأولى فيها أهل التوحيد يعذبون على قدر أعمالهم ثم يخرجون والثانية لليهود والثالثة للنصارى والرابعة للصابئين والخامسة للمجوس والسادسة للمشركين والسابعة للمنافقين وقوله لِكُلّ بَابٍ مّنْهُمْ جُزْء مَّقْسُومٌ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ عاصم في رواية أبي بكر جُزْء مَّقْسُومٌ والباقون ( جز ) بتخفيف الزاي وقرأ الزهري ( جز ) بالتشديد كأنه حذف الهمزة وألقى حركتها على الزاي كقولك خب في خبء ثم وقف عليه بالتشديد
المسألة الثانية الجزء بعض الشيء والجمع الأجزاء وجزأته جعلته أجزاء والمعنى أنه تعالى يجزي أتباع إبليس إجزاء بمعنى أنه يجعلهم أقساماً وفرقاً ويدخل في كل قسم من أقسام جهنم طائفة من

هؤلاء الطوائف والسبب فيه أن مراتب الكفر مختلفة بالغلظ والخفة فلا جرم صارت مراتب العذاب والعقاب مختلفة بالغلظ والخفة والله أعلم
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ءَامِنِينَ وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ
اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال أهل العقاب أتبعه بصفة أهل الثواب وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في قوله إِنَّ الْمُتَّقِينَ قولان
القول الأول قال الجبائي وجمهور المعتزلة القائلون بالوعيد المراد بالمتقين هم الذين اتقوا جميع المعاصي قالوا لأنه اسم مدح فلا يتناول إلا من يكون كذلك
والقول الثاني وهو قول جمهور الصحابة والتابعين وهو المنقول عن ابن عباس أن المراد الذين اتقوا الشرك بالله تعالى والكفر به وأقول هذا القول هو الحق الصحيح والذي يدل عليه هو أن المتقى هو الآتي بالتقوى مرة واحدة كما أن الضارب هو الآتي بالضرب مرة واحدة والقاتل هو الآتي بالقتل مرة واحدة فكما أنه ليس من شرط الوصف كونه ضارباً وقاتلاً كونه آتياً بجميع أنواع الضرب والقتل فكذلك ليس من شرط صدق الوصف بكونه متقياً كونه آتياً بجميع أنواع التقوى والذي يقوي هذا الكلام أن الآتي بفرد واحد من أفراد التقوى يكون آتياً بالتقوى لأن كل فرد من أفراد الماهية فإنه يجب كونه مشتملاً على تلك الماهية فالآتي بالتقوى يجب أن يكون متقياً فثبت أن الآتي بفرد واحد من أفراد التقوى يصدق عليه كونه متقياً ولهذا التحقيق اتفق المفسرون على أن ظاهر الأمر لا يفيد التكرار
إذا ثبت هذا فنقول ظاهر قوله إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يقتضي حصول الجنات والعيون لكل من اتقى عن شيء واحد إلا أن الأمة مجمعة على أن التقوى عن الكفر شرط في حصول هذا الحكم وأيضاً فإن هذه الآية وردت عقيب قول إبليس إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ( الحجر 40 ) وعقيب قول الله تعالى إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ( الحجر 42 ) فلأجل هذه الدلائل اعتبرنا الإيمان في هذا الحكم فوجب أن لا يزيد فيه قيد آخر لأن تخصيص العام لما كان بخلاف الظاهر فكلما كان التخصيص أقل كان أوفق لمقتضى الأصل والظاهر فثبت أن قوله إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يتناول جميع القائلين بلا إله إلا الله محمد رسول الله قولاً واعتقاداً سواء كانوا من أهل الطاعة أو من أهل المعصية وهذا تقرير بين وكلام ظاهر
المسألة الثانية قوله تعالى فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ أما الجنات فأربعة لقوله تعالى وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ ( الرحمن 46 ) ثم قال وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ ( الرحمن 46 ) فيكون المجموع أربعة وقوله وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ يؤكد ما قلناه لأن من آمن بالله لا ينفك قلبه عن الخوف من الله تعالى وقوله وَلِمَنْ خَافَ يكفي في صدقه حصول هذا الخوف مرة واحدة وأما العيون فيحتمل أن يكون المراد منها ما ذكر الله

تعالى في قوله مَّثَلُ الْجَنَّة ِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مّن مَّاء غَيْرِ ءاسِنٍ وَأَنْهَارٌ مّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مّنْ ( محمد 15 ) ويحتمل أن يكون المراد من هذه العيون ينابيع مغايرة لتلك الأنهار
فإن قيل أتقولون إن كل واحد من المتقين يختص بعيون أو تجري تلك العيون من بعض إلى بعض قيل لا يمتنع كل واحد من الوجهين فيجوز أن يختص كل أحد بعين وينتفع به كل من في خدمته من الحور والولدان ويكون ذلك على قدر حاجتهم وعلى حسب شهواتهم ويحتمل أن يكون يجري من بعضهم إلى بعض لأنهم مطهرون عن الحقد والحسد وقوله ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ءامِنِينَ يحتمل أن القائل لقوله ادْخُلُوهَا هو الله تعالى وأن يكون ذلك القائل بعض ملائكته وفيه سؤال لأنه تعالى حكم قبل هذه الآية بأنهم في جنات وعيون وإذا كانوا فيها فكيف يمكن أن يقال لهم ادْخُلُوهَا
والجواب عنه من وجهين الأول لعل المراد به قيل لهم قبل دخولهم فيها ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ الثاني لعل المراد لما ملكوا جنات كثيرة فكلما أرادوا أن ينتقلوا من جنة إلى أخرى قيل لهم ادخلوها وقوله ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ءامِنِينَ المراد ادخلوا الجنة مع السلامة من كل الآفات في الحال ومع القطع ببقاء هذه السلامة والأمن من زوالها
ثم قال تعالى وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ والغل الحقد الكامن في القلب وهو مأخوذ من قولهم أغل في جوفه وتغلغل أي إن كان لأحدهم في الدنيا غل على آخر نزع الله ذلك من قلوبهم وطيب نفوسهم وعن علي عليه السلام أنه قال أرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم وحكى عن الحرث بن الأعور أنه كان جالساً عند علي عليه السلام إذ دخل زكريا بن طلحة فقال له علي مرحباً بك يا ابن أخي أما والله إني لأرجو أن أكون أنا وأبوك ممن قال الله تعالى في حقهم وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ فقال الحرث كلا بل الله أعدل من أن يجعلك وطلحة في مكان واحد قال عليه السلام فلمن هذه الآية لا أم لك يا أعور وروي أن المؤمنين يحبسون على باب الجنة فيقتص لبعضهم من بعض ثم يؤمر بهم إلى الجنة وقد نقى الله قلوبهم من الغل والغش والحقد والحسد وقوله إِخْوَانًا نصب على الحال وليس المراد الأخوة في النسب بل المراد الأخوة في المودة والمخالصة كما قال الاْخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ ( الزخرف 67 ) وقوله عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ السرير معروف والجمع أسرة وسرر قال أبو عبيدة يقال سرر وسرر بفتح الراء وكذا كل فعيل من المضاعف فإن جمعه فعل وفعل نحو سرر وسرر وجدد وجدد قال المفضل بعض تميم وكلب يفتحون لأنهم يستثقلون ضمتين متواليتين في حرفين من جنس واحد وقال بعض أهل المعاني السرير مجلس رفيع مهيأ للسرور وهو مأخوذ منه لأنه مجلس سرور قال الليث وسرير العيش مستقره الذي اطمأن إليه في حال سروره وفرحه قال ابن عباس يريد على سرر من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت والسرير مثل ما بين صنعاء إلى الجابية وقوله مُّتَقَابِلِينَ التقابل التواجه وهو نقيض التدابر ولا شك أن المواجهة أشرف الأحوال وقوله لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ النصب الإعياء والتعب أي لا ينالهم فيها تعب وَمَا هُمْ مّنْهَا بِمُخْرَجِينَ والمراد به كونه خلوداً بلا زوال وبقاء بلا فناء وكمالاً بلا نقصان وفوزاً بلا حرمان

واعلم أن للثواب أربع شرائط وهي أن تكون منافع مقرونة بالتعظيم خالصة عن الشوائب دائمة
أما القيد الأول وهو كونها منفعة فإليه الإشارة بقوله إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ
وأما القيد الثاني وهو كونها مقرونة بالتعظيم فإليه الإشارة بقوله ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ءامِنِينَ لأن الله سبحانه إذا قال لعبيده هذا الكلام أشعر ذلك بنهاية التعظيم وغاية الإجلال
وأما القيد الثالث وهو كون تلك المنافع خالصة عن شوائب الضرر فاعلم أن المضار إما أن تكون روحانية وإما أن تكون جسمانية أما المضار الروحانية فهي الحقد والحسد والغل والغضب وأما المضار الجسمانية فكالإعياء والتعب فقوله وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ إشارة إلى نفي المضار الروحانية وقوله لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ إشارة إلى نفي المضار الجسمانية
وأما القيد الرابع وهو كون تلك المنافع دائمة آمنة من الزوال فإليه الإشارة بقوله وَمَا هُمْ مّنْهَا بِمُخْرَجِينَ فهذا ترتيب حسن معقول بناء على القيود الأربعة المعتبرة في ماهية الثواب ولحكماء الإسلام في هذه الآية مقال فإنهم قالوا المراد من قوله وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إشارة إلى أن الأرواح القدسية النطقية نقية مطهرة عن علائق القوى الشهوانية والغضبية مبرأة عن حوادث الوهم والخيال وقوله إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ معناه أن تلك النفوس لما صارت صافية عن كدورات عالم الأجسام ونوازع الخيال والأوهام ووقع عليها أنوار عالم الكبرياء والجلال فأشرقت بتلك الأنوار الإلهية وتلألأت بتلك الأضواء الصمدية فكل نور فاض على واحد منها انعكس منه على الآخر مثل المزايا المتقابلة المتحاذية فلكونها بهذه الصفة وقع التعبير عنها بقوله إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ والله أعلم
نَبِّى ءْ عِبَادِى أَنِّى أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِى هُوَ الْعَذَابُ الاٌّ لِيمُ
في الآية مسألتان
المسألة الأولى أثبتت الهمزة الساكنة في ( نبىء ) صورة وما أثبتت في قوله دِفْء لأن ما قبلها ساكن فهي تحذف كثيراً وتلقى حركتها على الساكن قبلها ف ( نبىء ) في الخط على تحقيق الهمزة وليس قبل همزة ( نبىء ) ساكن فاجرؤها على قياس الأصل
المسألة الثانية اعلم أن عباد الله قسمان منهم من يكون متقياً ومنهم من لا يكون كذلك فلما ذكر الله تعالى أحوال المتقين في الآية المتقدمة ذكر أحوال غير المتقين في هذه الآية فقال بِمُخْرَجِينَ نَبّىء عِبَادِى
واعلم أنه ثبت في أصول الفقه أن ترتيب الحكم على الوصف المناسب مشعر بكون ذلك الوصف علة لذلك الحكم فههنا وصفهم بكونهم عباداً له ثم أثبت عقيب ذكر هذا الوصف الحكم بكونه غفوراً رحيماً فهذا يدل على أن كل من اعترف بالعبودية ظهر في حقه كونه الله غفوراً رحيماً ومن أنكر ذلك كان مستوجباً للعقاب الأليم وفي الآية لطائف أحدها أنه أضاف العباد إلى نفسه بقوله عِبَادِى وهذا تشيف عظيم ألا ترى أنه لما أراد أن يشرف محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ليلة المعراج لم يزد على قوله سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ

( الإسراء 1 ) وثانيها أنه لما ذكر الرحمة والمغفرة بالغ في التأكيد بألفاظ ثلاثة أولها قوله إِنّى وثانيها قوله أَنَاْ وثالثها ادخال حرف الألف واللام على قوله الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ولما ذكر العذاب لم يقل أني أنا المعذب وما وصف نفسه بذلك بل قال وَأَنَّ عَذَابِى هُوَ الْعَذَابُ الاْلِيمُ وثالثها أنه أمر رسوله أن يبلغ إليهم هذا المعنى فكأنه أشهد رسوله على نفسه في التزام المغفرة والرحمة ورابعها أنه لما قال نَبّىء عِبَادِى كان معناه نبىء كل من كان معترفاً بعبوديتي وهذا كما يدخل فيه المؤمن المطيع فكذلك يدخل فيه المؤمن العاصي وكل ذلك يدل على تغليب جانب الرحمة من الله تعالى وعن قتادة قال بلغنا عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( لو يعلم العبد قدر عفو الله تعالى ما تورع من حرام ولو علم قدر عقابه لبخع نفسه ) أي قتلها وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه مر بنفر من أصحابه وهم يضحكون فقال ( أتضحكون والنار بين أيديكم ) فنزل قوله نَبّىء عِبَادِى أَنّى أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ والله أعلم
وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِى عَلَى أَن مَّسَّنِى َ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَة ِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما بالغ في تقرير أمر النبوة ثم أردفه بذكر دلائل التوحيد ثم ذكر عقيبه أحوال القيامة وصفة الأشقياء والسعداء أتبعه بذكر قصص الأنبياء عليهم السلام ليكون سماعها مرغباً في الطاعة الموجبة للفوز بدرجات الأنبياء ومحذراً عن المعصية لاستحقاق دركات الأشقياء فبدأ أولاً بقصة إبراهيم عليه السلام والضمير في قوله وَنَبّئْهُمْ راجع إلى قوله عِبَادِى والتقدير ونبىء عبادي عن ضيف إبراهيم يقال أنبأت القوم إنباء ونبأتهم تنبئة إذا أخبرتهم وذكر تعالى في الآية أن ضيف إبراهيم عليه السلام بشروه بالولد بعد الكبر وبانجاء المؤمنين من قوم لوط من العذاب وأخبروه أيضاً بأنه تعالى سيعذب الكفار من قوم لوط بعذاب الاستئصال وكل ذلك يقوي ما ذكره من أنه غفور رحيم للمؤمنين وأن عذابه عذاب أليم في حق الكفار
المسألة الثانية الضيف في الأصل مصدر ضاف يضيف إذا أتى إنساناً لطلب القرى ثم سمى به ولذلك وحد في اللفظ وهم جماعة
فإن قيل كيف سماهم ضيفاً مع امتناعهم عن الأكل

قلنا لما ظن إبراهيم أنهم إنما دخلوا عليه لطلب الضيافة جاز تسميتهم بذلك وقيل أيضاً إن من يدخل دار الإنسان ويلتجىء إليه يسمى ضيفاً وإن لم يأكل وقوله تعالى إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلامًا أي نسلم عليك سلاماً أو سلمت سلاماً فقال إبراهيم إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ أي خائفون وكان خوفه لامتناعهم من الأكل وقيل لأنهم دخلوا عليه بغير إذن وبغير وقت وقرأ الحسن لاَ تَوْجَلْ بضم التاء من أوجله يوجله إذا أخافه وقرىء لا تأجل ولا تواجل من واجله بمعنى أو جله وهذه القصة قد مر ذكرها بالاستقصاء في سورة هود وقوله قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ فيه أبحاث
البحث الأول قرأ حمزة إِنَّا نُبَشّرُكَ بفتح النون وتخفيف الباء والباقون نُبَشّرُكَ بالتشديد
البحث الثاني قوله ءانٍ نُبَشّرُكَ استئناف في معنى التعليل للنهي عن الوجل والمعنى أنك بمثابة الآمن المبشر فلا توجل
البحث الثالث قوله إِنَّا نُبَشّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ بشروه بأمرين أحدهما أن الولد ذكر والآخر أنه يصير عليماً واختلفوا في تفسير العليم فقيل بشروه بنبوته بعده وقيل بشروه بأنه عليم بالدين ثم حكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فيم تبشرون فمعنى عَلَى ههنا للحال أي حالة الكبر وقوله فِيمَ تُبَشّرُونَ فيه مسألتان
المسألة الأولى لفظ ما ههنا استفهام بمعنى التعجب كأنه قال بأي أعجوبة تبشروني
فإن قيل في الآية إشكالان الأول أنه كيف استبعد قدرة الله تعالى على خلق الولد منه في زمان الكبر وإنكار قدرة الله تعالى في هذا الموضع كفر الثاني كيف قال فِيمَ تُبَشّرُونَ مع أنهم قد بينوا ما بشروه به وما فائدة هذا الإستفهام قال القاضي أحسن ما قيل في الجواب عن ذلك أنه أراد أن يعرف أنه تعالى يعطيه الولد مع أنه يبقيه على صفة الشيخوخة أو يقلبه شاباً ثم يعطيه الولد والسبب في هذا الاستفهام أن العادة جارية بأنه لا يحصل الولد حال الشيخوخة التامة وإنما يحصل في حال الشباب
فإن قيل فإذا كان معنى الكلام ما ذكرتم فلم قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين
قلنا إنهم بينوا أن الله تعالى بشره بالولد مع إبقائه على صفة الشيخوخة وقوله فلا تكن من القانطين لا يدل على أنه كان كذلك بدليل أنه صرح في جوابهم بما يدل على أنه ليس كذلك فقال وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَة ِ رَبّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ وفيه جواب آخر وهو أن الإنسان إذا كان عظيم الرغبة في شيء وفاته الوقت الذي يغلب على ظنه حصول ذلك المراد فيه فإذا بشر بعد ذلك بحصوله عظم فرحه وسروره ويصير ذلك الفرح القوي كالمدهش له والمزيل لقوة فهمه وذكائه فلعله يتكلم بكلمات مضطربة في ذلك الفرح في ذلك الوقت وقيل أيضاً إنه يستطيب تلك البشارة فربما يعيد السؤال ليسمع تلك البشارة مرة أخرى ومرتين وأكثر طلباً للالتذاذ بسماع تلك البشارة وطلباً لزيادة الطمأنينة والوثوق مثل قوله وَلَاكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى ( البقرة 260 ) وقيل أيضاً استفهم أبأمر الله تبشرون أم من عند أنفسكم واجتهادكم
المسألة الثانية قرأ نافع تُبَشّرُونَ بكسر النون خفيفة في كل القرآن وقرأ ابن كثير بكسر النون وتشديدها والباقون بفتح النون خفيفة أما الكسر والتشديد فتقديره تبشرونني أدغمت نون الجمع في نون

الإضافة وأما الكسر والتخفيف فعلى حذف نون الجمع استثقالاً لاجتماع المثلين وطلباً للتخفيف قال أبو حاتم حذف نافع الياء مع النون قال وإسقاط الحرفين لا يجوز وأجيب عنه بأنه أسقط حرفاً واحداً وهي النون التي هي علامة للرفع وعلى أن حذف الحرفين جائز قال تعالى في موضع وَلاَ تَكُ وفي موضع وَلاَ تَكُن فأما فتح النون فعلى غير الإضافة والنون علامة الرفع وهي مفتوحة أبداً وقوله بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقّ قال ابن عباس يريد بما قضاه الله تعالى والمعنى أن الله تعالى قضى أن يخرج من صلب إبراهيم إسحق عليه السلام ويخرج من صلب إسحق مثل ما أخرج من صلب آدم فإنه تعالى بشر بأنه يخرج من صلب إسحق أكثر الأنبياء فقوله بِالْحَقّ إشارة إلى هذا المعنى وقوله فَلاَ تَكُن مّنَ الْقَانِطِينَ نهي لإبراهيم عليه السلام عن القنوط وقد ذكرنا كثيراً أن نهي الإنسان عن الشيء لا يدل على كون المنهى فاعلاً للمنهى عنه كما في قوله وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ( الأحزاب 1 ) ثم حكى تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه قال وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَة ِ رَبّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى هذا الكلام حق لأن القنوط من رحمة الله تعالى لا يحصل إلا عند الجهل بأمور أحدها أن يجهل كونه تعالى قادراً عليه وثانيها أن يجهل كونه تعالى عالماً باحتياح ذلك العبد إليه وثالثها أن يجهل كونه تعالى منزهاً عن البخل والحاجة والجهل فكل هذه الأمور سبب للضلال فلهذا المعنى قال وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَة ِ رَبّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ
المسألة الثانية قرأ أبو عمرو والكسائي ( يقنط ) بكسر النون ولا تقطنوا كذلك والباقون بفتح النون وهما لغتان قنط يقنط نحو ضرب يضرب وقنط يقنط نحو علم يعلم وحكى أبو عبيدة قنط يقنط بضم النون قال أبو علي الفارسي قنط يقنط بفتح النون في الماضي وكسرها في المستقبل من أعلى اللغات يدل على ذلك اجتماعهم في قوله مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ ( الشورى 28 ) وحكاية أبي عبيدة تدل أيضاً على أن قنط بفتح النون أكثر لأن المضارع من فعل يجيء على يفعل ويفعل مثل فسق يفسق ويفسق ولا يجيء مضارع فعل على يفعل والله أعلم
مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّة ٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأخِرُونَ وَقَالُواْ ياأَيُّهَا الَّذِى نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَة ِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَة َ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى شِيَعِ الاٌّ وَّلِينَ وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِى قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّة ُ الاٌّ وَّلِينَ وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِى السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ والأرض مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَى ْءٍ مَّوْزُونٍ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ وَإِن مِّن شَى ْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْى ِ وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأخِرِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَة ِ إِنِّى خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَة ُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قَالَ ياإِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قَالَ لَمْ أَكُن لاًّسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَة َ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِى الأرض وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَى َّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَهَا سَبْعَة ُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ءَامِنِينَ وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ نَبِّى ءْ عِبَادِى أَنِّى أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِى هُوَ الْعَذَابُ الاٌّ لِيمُ وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِى عَلَى أَن مَّسَّنِى َ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَة ِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ إِلاَ ءَالَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قوله فَمَا خَطْبُكُمْ سؤال عما لأجله أرسلهم الله تعالى والخطب والشأن والأمر سواء إلا أن لفظ الخطب أدل على عظم الحال
فإن قيل إن الملائكة لما بشروه بالولد الذكر العليم فكيف قال لهم بعد ذلك فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ

قلنا فيه وجوه الأول قال الأصم معناه ما الأمر الذي توجهتم له سوى البشرى الثاني قال القاضي إنه علم أنه لو كان كمال المقصود إيصال البشارة لكان الواحد من الملائكة كافياً فلما رأى جمعاً من الملائكة علم أن لهم غرضاً آخر سوى إيصال البشارة فلا جرم قال فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ الثالث يمكن أن يقال إنهم قالوا إنا نبشرك بغلام عليم في معرض إزالة الخوف والوجل ألا ترى أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما خاف قالوا له لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم ولو كان تمام المقصود من المجيء هو ذكر تلك البشارة لكانوا في أول ما دخلوا عليه ذكروا تلك البشارة فلما لم يكن الأمر كذلك علم إبراهيم عليه الصلاة والسلام بهذا الطريق أنه ما كان مجيئهم لمجرد هذه البشارة بل كان لغرض آخر فلا جرم سألهم عن ذلك الغرض فقال فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ
ثم حكى تعالى عن الملائكة أنهم قالوا إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ وإنما اقتصروا على هذا القدر لعلم إبراهيم عليه السلام بأن الملائكة إذا أرسلوا إلى المجرمين كان ذلك لإهلاكهم واستئصالهم وأيضاً فقولهم إِلا ءالَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ يدل على أن المراد بذلك الإرسال إهلاك القوم
أما قوله تعالى إِلا ءالَ لُوطٍ فالمراد من آل لوط أتباعه الذين كانوا على دينه
فإن قيل قوله إِلا ءالَ لُوطٍ هل هو استثناء منقطع أو متصل
قلنا قال صاحب ( الكشاف ) إن كان هذا الاستثناء استثناء من ( قوم ) كان منقطعاً لأن القوم موصوفون بكونهم مجرمين وآل لوط ما كانوا مجرمين فاختلف الجنسان فوجب أن يكون الاستثناء منقطعاً وإن كان استثناء من الضمير في ( مجرمين ) كان متصلاً كأنه قيل إلى قوم قد أجرموا كلهم إلا آل لوط وحدهم كما قال فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مّنَ الْمُسْلِمِينَ ( الذاريات 36 ) ثم قال صاحب ( الكشاف ) ويختلف المعنى بحسب اختلاف هذين الوجهين وذلك لأن آل لوط يخرجون في المنقطع من حكم الإرسال لأن على هذا التقير الملائكة أرسلوا إلى القوم المجرمين خاصة وما أرسلوا إلى آل لوط أصلاً وأما في المتصل فالملائكة أرسلوا إليهم جميعاً ليهلكوا هؤلاء وينجوا هؤلاء وأما قوله إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ فاعلم أنه قرأ حمزة والكسائي منجوهم خفيفة والباقون مشددة وهما لغتان
أما قوله تعالى أَجْمَعِينَ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قال صاحب ( الكشاف ) هذا استثناء من الضمير المجرور في قوله لَمُنَجُّوهُمْ وليس ذلك من باب الاستثناء من الاستثناء لأن الاستثناء من الإستثناء إنما يكون فيما اتحد الحكم فيه كما لو قيل أهلكناهم إلا آل لوط إلا امرأته وكما لو قال المطلق لامرأته أنت طالق ثلاثاً إلا ثنتين إلا واحدة وكما إذا قال المقر لفلان على عشرة دراهم إلا ثلاثة إلا درهماً فأما في هذه الآية فقد اختلف الحكمان لأن قوله إِلا ءالَ لُوطٍ متعلق بقوله أَرْسَلْنَا أو بقوله مُّجْرِمِينَ وقوله إِلاَّ امْرَأَتَهُ قد تعلق بقوله منجوهم فكيف يكون هذا استثناء من استثناء
وأما قوله امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ ففيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن معنى التقدير في اللغة جعل الشيء على مقدار غيره يقال قدر هذا الشيء بهذا أي اجعله على مقداره وقدر الله تعالى الأقوات أي جعلها على مقدار الكفاية ثم يفسر التقدير

بالقضاء فقال قضى الله عليه كذا وقدره عليه أي جعله على مقدار ما يكفي في الخير والشر وقيل في معنى قَدَّرْنَآ كتبنا قال الزجاج دبرنا وقيل قضينا والكل متقارب
المسألة الثانية قرأ أبو بكر عن عاصم قَدَّرْنَآ بتخفيف الدال ههنا وفي النمل وقرى الباقون فيهما بالتشديد قال الواحدي يقال قدرت الشيء وقدرته ومنه قراءة ابن كثير نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ ( الواقعة 60 ) خفيفاً وقراءة الكسائي وَالَّذِى قَدَّرَ فَهَدَى ثم قال والمشددة في هذا المعنى أكثر استعمالاً لقوله تعالى وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْواتَهَا ( فصلت 10 ) وقوله وَخَلَقَ كُلَّ شَى ْء فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً
المسألة الثالثة لقائل أن يقول لم أسند الملائكة فعل التقدير إلى أنفسهم مع أنه لله تعالى ولم لم يقولوا قدر الله تعالى
والجواب إنما ذكروا هذه العبارة لما لهم من القرب والاختصاص بالله تعالى كما يقول خاصة الملك دبرنا كذا وأمرنا بكذا والمدبر والآمر هو الملك لا هم وإنما يريدون بذكر هذا الكلام إظهار ما لهم من الاختصاص بذلك الملك فكذا ههنا والله أعلم
المسألة الرابعة قوله إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ في موضع مفعول التقدير قضينا أنها تتخلف وتبقى مع من يبقى حتى تهلك كما يهلكون ولا تكون ممن يبقى مع لوط فتصل إلى النجاة والله أعلم
فَلَمَّا جَآءَ ءَالَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ وَآتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ
اعلم أن الملائكة لما بشروا إبراهيم بالولد وأخبروه بأنهم مرسلون لعذاب قوم مجرمين ذهبوا بعد ذلك إلى لوط وإلى آله وأن لوط وقومه ما عرفوا أنهم ملائكة الله فلهذا قال لهم إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ وفي تأويله وجوه الأول أنه إنما وصفهم بأنهم منكرون لأنه عليه الصلاة والسلام ما عرفهم فلما هجموا عليه استنكر منهم ذلك وخاف أنهم دخلوا عليه لأجل شر يوصلونه إليه فقال هذه الكلمة والثاني أنهم كانوا شباباً مرداً حسان الوجوه فخاف أن يهجم قومه عليه بسبب طلبهم فقال هذه الكلمة والثالث أن النكرة ضد المعرفة فقوله إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ أي لا أعرفكم ولا أعرف أنكم من أي الأقوام ولأي غرض دخلتم علي فعند هذه الكلمة قالت الملائكة بل جئناك بما كانوا فيه يمترون أي بالعذاب الذي كانوا يشكون في نزوله ثم أكدوا ما ذكروه بقولهم وَاتَيْنَاكَ بِالْحَقّ قال الكلبي بالعذاب وقيل باليقين والأمر الثابت الذي لا شك فيه وهو عذاب أولئك الأقوام ثم أكدوا هذا التأكيد بقولهم وِإِنَّا لَصَادِقُونَ
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ الَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الاٌّ مْرَ أَنَّ دَابِرَ هَاؤُلآْءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ

قرىء فَأَسْرِ بقطع الهمزة ووصلها من أسرى وسرى وروى صاحب الكشاف عن صاحب الإقليد فسر مِنْ السير والقطع آخر الليل قال الشاعر افتحي الباب وانظري في النجوم
كم علينا من قطع ليل بهيم
وقوله وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ معناه اتبع آثار بناتك وأهلك وقوله وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ الفائدة فيه أشياء أحدها لئلا يتخلف منكم أحد فينا له العذاب وثانيها لئلا يرى عظيم ما ينزل بهم من البلاء وثالثها معناه الإسراع وترك الاهتمام لما خلف وراءه كما تقول امض لشأنك ولا تعرج على شيء ورابعها لو بقي منه متاع في ذلك الموضع فلا يرجعن بسببه ألبتة وقوله وَامْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ قال ابن عباس يعني الشام قال المفضل حيث يقول لكم جبريل وذلك لأن جبريل عليه السلام أمرهم أن يمضوا إلى قرية معينة أهلها ما عملوا مثل عمل قوم لوط وقوله وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ عدى قضينا بإلى لأنه ضمن معنى أوحينا كأنه قيل وأوحيناه إليه مقضياً مبتوتاً ونظيره قوله تعالى وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِى إِسْراءيلَ ( الإسراء 4 ) وقوله ثُمَّ اقْضُواْ إِلَى َّ ( يونس 71 ) ثم إنه فسر بعد ذلك القضاء المبتوت بقوله أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآْء مَقْطُوعٌ وفي إبهامه أولاً وتفسيره ثانياً تفخيم للأمر وتعظيم له وقرأ الأعمش ءانٍ بالكسر على الاستئناف كان قائلاً قال أخبرنا عن ذلك الأمر فقال إن دابر هؤلاء وفي قراءة ابن مسعود وقلنا أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآْء ودابرهم آخرهم يعني يستأصلون عن آخرهم حتى لا يبقى منهم أحد وقوله مُّصْبِحِينَ أي حال ظهور الصبح
وَجَآءَ أَهْلُ الْمَدِينَة ِ يَسْتَبْشِرُونَ قَالَ إِنَّ هَاؤُلآءِ ضَيْفِى فَلاَ تَفْضَحُونِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَلاَ تُخْزُونِ قَالُواْ أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ قَالَ هَاؤُلآءِ بَنَاتِى إِن كُنْتُمْ فَاعِلِينَ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِى سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَة ُ مُشْرِقِينَ فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَة ً مِّن سِجِّيلٍ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَة ً لِلْمُؤْمِنِينَ
اعلم أن المراد بأهل المدينة قوم لوط وليس في الآية دليل على أن المكان الذي جاؤه إلا أن القصة تدل

على أنهم جاؤوا دار لوط قيل إن الملائكة لما كانوا في غاية الحسن اشتهر خبرهم حتى وصل إلى قوم لوط وقيل امرأة لوط أخبرتهم بذلك وبالجملة فالقوم قالوا نزل بلوط ثلاثة من المرد ما رأينا قط أصبح وجهاً ولا أحسن شكلاً منهم فذهبوا إلى دار لوط طلبها منهم لأولئك المرد والاستبشار إظهار السرور فقال لهم لوط لما قصدوا أضيافه كلامين
الكلام الأول قال إِنَّ هَؤُلآء ضَيْفِى فَلاَ تَفْضَحُونِ يقال فضحه يفضحه فضحاً وفضيحة إذا أظهر من أمره ما يلزمه به العار والمعنى أن الضيف يجب إكرامه فإذا قصدتموهم بالسوء كان ذلك إهانة بي ثم أكد ذلك بقوله وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فأجابوه بقولهم أَوَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ والمعنى ألسنا قد نهيناك أن تكلمنا في أحد من الناس إذا قصدناه بالفاحشة
والكلام الثاني مما قاله لوط قوله هَاؤُلآء بَنَاتِى إِن كُنْتُمْ فَاعِلِينَ قيل المراد بناته من صلبه وقيل المراد نساء قومه لأن رسول الأمة يكون كالأب لهم وهو كقوله تعالى النَّبِى ُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ( الأحزاب 6 ) وفي قراءة أبي وهو أب لهم والكلام في هذه المباحث قد مر بالاستقصاء في سورة هود عليه السلام
أما قوله لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِى سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ فيه مسائل
المسألة الأولى العمر والعمر واحد وسمي الرجل عمراً تفاؤلاً أن يبقى ومنه قول ابن أحمر
ذهب الشباب وأخلق العمر
وعمر الرجل يعمر عمراً وعمرا فإذا أقسموا به قالوا لعمرك وعمرك فتحوا العين لا غير قال الزجاج لأن الفتح أخف عليهم وهم يكثرون القسم بلعمري ولعمرك فالتزموا الأخف
المسألة الثانية في قوله لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِى سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ قولان الأول أن المراد أن الملائكة قالت للوط عليه السلام لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِى سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ أي في غوايتهم يعمهون أي يتحيرون فكيف يقبلون قولك ويلتفتون إلى نصيحتك والثاني أن الخطاب لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأنه تعالى أقسم بحياته وما أقسم بحياة أحد وذلك يدل على أنه أكرم الخلق على الله تعالى قال النحويون ارتفع قوله لَعَمْرُكَ بالابتداء والخبر محذوف والمعنى لعمرك قسمي وحذف الخبر لأن في الكلام دليلاً عليه وباب القسم يحذف منه الفعل نحو بالله لأفعلن والمعنى أحلف بالله فيحذف لعلم المخاطب بأنك حالف
ثم قالت عالى فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَة ُ أي صيحة جبريل عليه السلام قال أهل المعاني ليس في الآية دلالة على أن تلك الصيحة صيحة جبريل عليه السلام فإن ثبت ذلك بدليل قوي قيل به وإلا فليس في الآية دلالة إلا على أنه جاءتهم صيحة عظيمة مهلكة وقوله مُشْرِقِينَ يقال شرق الشارق يشرق شروقاً لكل ما طلع من جانب الشرق ومنه قولهم ما ذر شارق أي طلع طالع فقوله مُشْرِقِينَ أي داخلين في الشروق يقال أشرق الرجل إذا دخل في الشروق وهو بزوغ الشمس
واعلم أن الآية تدل على أنه تعالى عذبهم بثلاثة أنواع من العذاب أحدها الصيحة الهائلة المنكرة وثانيها أنه جعل عاليها سافلها وثالثها أنه أمطر عليهم حجارة من سجيل وكل هذه الأحوال قد مر

تفسيرها في سورة هود
ثم قال تعالى إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسّمِينَ يقال توسمت في فلان خيراً أي رأيت فيه أثراً منه وتفرسته فيه واختلفت عبارات المفسرين في تفسير المتوسمين قيل المتفرسين وقيل الناظرين وقيل المتفكرين وقيل المعتبرين وقيل المتبصرين قال الزجاج حقيقة المتوسمين في اللغة المتثبتون في نظرهم حتى يعرفوا سمة الشيء وصفته وعلامته والمتوسم الناظر في السمة الدالة تقول توسمت في فلان كذا أي عرفت وسم ذلك وسمته فيه
ثم قال وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ الضمير في قوله وَإِنَّهَا عائد إلى مدينة قوم لوط وقد سبق ذكرها في قوله وَجَآء أَهْلُ الْمَدِينَة ِ وقوله لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ أي هذه القرى وما ظهر فيها من آثار قهر الله وغضبه لبسبيل مقيم ثابت لم يندرس ولم يخف والذين يمرون من الحجاز إلى الشام يشاهدونها
ثم قال إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَة ً لِلْمُؤْمِنِينَ أي كل من آمن بالله وصدق الأنبياء والرسل عرف أن ذلك إنما كان لأجل أن الله تعالى انتقم لأنبيائه من أولئك الجهال أما الذين لا يؤمنون بالله فإنهم يحملونه على حوادث العالم ووقائعه وعلى حصول القرانات الكوكبية والاتصالات الفلكية والله أعلم
وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الاٌّ يْكَة ِ لَظَالِمِينَ فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ
اعلم أن هذه هي القصة الثالثة من القصص المذكورة في هذه السورة فأولها قصة آدم وإبليس وثانيها قصة إبراهيم ولوط وثالثها هذه القصة وأصحاب الأيكة هم قوم شعيب عليه السلام كانوا أصحاب غياض فكذبوا شعيباً فأهلكهم الله تعالى بعذاب يوم الظلة وقد ذكر الله تعالى قصتهم في سورة الشعراء والأيكة الشجر الملتف يقال أيكة وأيك كشجرة وشجر قال ابن عباس الأيك هو شجر المقل وقال الكلبي الأيكة الغيضة وقال الزجاج هؤلاء أهل موضع كان ذا شجر قال الواحدي ومعنى إن واللام للتوكيد وإن ههنا هي المخففة من الثقيلة وقوله فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ قال المفسرون اشتد الحر فيهم أياماً ثم اضطرم عليهم المكان ناراً فهلكوا عن آخرهم وقوله وَإِنَّهُمَا فيه قولان
القول الأول المراد قرى قوم لوط عليه السلام والأيكة
والقول الثاني الضمير للأيكة ومدين لأن شعيباً عليه السلام كان مبعوثاً إليهما فلما ذكر الأيكة دل بذكرها على مدين فجاء بضميرهما وقوله لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ أي بطريق واضح والإمام اسم ما يؤتم به قال الفراء والزجاج إنما جعل الطريق إماماً لأنه يؤم ويتبع قال ابن قتيبة لأن المسافر يأتم به حتى يصير إلى الموضع الذي يريده وقوله مُّبِينٌ يحتمل أنه مبين في نفسه ويحتمل أنه مبين لغيره لأن الطريق يهدي إلى المقصد
وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ وَءَاتَيْنَاهُمْ ءَايَاتِنَا فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا ءَامِنِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَة ُ مُصْبِحِينَ فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ

هذه هي القصة الرابعة وهي قصة صالح قال المفسرون الحجر اسم وادٍ كان يسكنه ثمود وقوله الْمُرْسَلِينَ المراد منه صالح وحده ولعل القوم كانوا براهمة منكرين لكل الرسل وقوله وَءاتَيْنَاهُمْ ءايَاتِنَا يريد الناقة وكان في الناقة آيات كثيرة كخروجها من الصخرة وعظم خلقها وظهور نتاجها عند خروجها وكثرة لبنها وأضاف الإيتاء إليهم وإن كانت الناقة آية لصالح لأنها آيات رسولهم وقوله فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ يدل على أن النظر والاستدلال واجب وأن التقليد مذموم وقوله وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ قد ذكرنا كيفية ذلك النحت في سورة الأعراف وقوله ءامِنِينَ يريد من عذاب الله وقال الفراء ءامِنِينَ أن يقع سقفهم عليهم وقوله فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ أي ما دفع عنهم الضر والبلاء ما كانوا يعملون من نحت تلك الجبال ومن جمع تلك الأموال والله أعلم
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَة َ لآتِيَة ٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ
اعلم أنه تعالى لما ذكر أنه أهلك الكفار فكأنه قيل الإهلاك والتعذيب كيف يليق بالرحيم الكريم فأجاب عنه بأني إنما خلقت الخلق ليكونوا مشتغلين بالعبادة والطاعة فإذا تركوها وأعرضوا عنها وجب في الحكمة إهلاكهم وتطهير وجه الأرض منهم وهذا النظم حسن إلا أنه إنما يستقيم على قول المعتزلة قال الجبائي دلت الآية على أنه تعالى ما خلق السموات والأرض وما بينهما إلا حقاً وبكون الحق لا يكون الباطل لأن كل ما فعل باطلاً وأريد بفعله كون الباطل لا يكون حقاً ولا يكون مخلوقاً بالحق وفيه بطلان مذهب الجبرية الذين يزعمون أن أكثر ما خلقه الله تعالى بين السموات والأرض من الكفر والمعاصي باطل
واعلم أن أصحابنا قالوا هذه الآية تدل على أنه سبحانه هو الخالق لجميع أعمال العباد لأنها تدل على أنه سبحانه هو الخالق للسموات والأرض ولكل ما بينهما ولا شك أن أفعال العباد بينهما فوجب أن يكون خالقها هو الله سبحانه وفي الآية وجه آخر في النظم وهو أن المقصود من ذكر هذه القصص تصبير الله تعالى محمداً عليه الصلاة والسلام على سفاهة قومه فإنه إذا سمع أن الأمم السالفة كانوا يعاملون أنبياء الله تعالى بمثل هذه المعاملات الفاسدة سهل تحمل تلك السفاهات على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ثم إنه تعالى لما بين أنه أنزل العذاب على الأمم السالفة فعند هذا قال لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وَإِنَّ السَّاعَة َ لآتِيَة ٌ وإن الله لينتقم لك فيها من أعدائك ويجازيك وإياهم على حسناتك وسيئاتهم فإنه ما خلق السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق والعدل والإنصاف فكيف يليق بحكمته إهمال أمرك ثم إنه تعالى لما صبره على أذى قومه رغبه بعد ذلك في الصفح عن سيئاتهم فقال فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ أي فأعرض عنهم واحتمل ما تلقى منهم إعراضاً جميلاً

بحلم وإغضاء وقيل هو منسوخ بآية السيف وهو بعيد لأن المقصود من ذلك أن يظهر الخلق الحسن والعفو والصفح فكيف يصير منسوخاً
ثم قال إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ومعناه أنه خلق الخلق مع اختلاف طبائعهم وتفاوت أحوالهم مع علمه بكونهم كذلك وإذا كان كذلك فإنما خلقهم مع هذا التفاوت ومع العلم بذلك التفاوت أما على قول أهل السنة فلمحض المشيئة والإرادة وأما على قول المعتزلة فلأجل المصلحة والحكمة والله أعلم
وَلَقَدْ ءاتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْءَانَ الْعَظِيمَ لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ
اعلم أنه تعالى لما صبره على أذى قومه وأمره بأن يصفح الصفح الجميل أتبع ذلك بذكر النعم العظيمة التي خص الله تعالى محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بها لأن الإنسان إذا تذكر كثرة نعم الله عليه سهل عليه الصفح والتجاوز وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن قوله سَبْعًا مّنَ يحتمل أن يكون سبعاً من الآيات وأن يكون سبعاً من السور وأن يكون سبعاً من الفوائد وليس في اللفظ ما يدل على التعيين وأما المثاني فهو صيغة جمع واحده مثناة والمثناة كل شيء يثنى أي يجعل اثنين من قولك ثنيت الشيء إذا عطفته أو ضممت إليه آخر ومنه يقال لركبتي الدابة ومرفقيها مثاني لأنها تثنى بالفخذ والعضد ومثاني الوادي معاطفه
إذا عرفت هذا فنقول سبعاً من المثاني مفهومه سبعة أشياء من جنس الأشياء التي تثنى ولا شك أن هذا القدر مجمل ولا سبيل إلى تعيينه إلا بدليل منفصل وللناس فيه أقوال الأول وهو قول أكثر المفسرين إنه فاتحة الكتاب وهو قول عمر وعلي وابن مسعود وأبي هريرة والحسن وأبي العالية ومجاهد والضحاك وسعيد بن جبير وقتادة وروي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قرأ الفاتحة وقال هي السبع المثاني رواه أبو هريرة والسبب في وقوع هذا الاسم على الفاتحة أنها سبع آيات وأما السبب في تسميتها بالمثاني فوجوه الأول أنها تثنى في كل صلاة بمعنى أنها تقرأ في كل ركعة والثاني قال الزجاج سميت مثاني لأنها يثنى بعدها ما يقرأ معها الثالث سميت آيات الفاتحة مثاني لأنها قسمت قسمين اثنين والدليل عليه ما روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( يقول الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ) والحديث مشهور الرابع سميت مثاني لأنها قسمان ثناء ودعاء وأيضاً النصف الأول منها حق الربوبية وهو الثناء والنصف الثاني حق العبودية وهو الدعاء الخامس سميت الفاتحة بالمثاني لأنها نزلت مرتين مرة بمكة في أوائل ما نزل من القرآن ومرة بالمدينة السادس سميت بالمثاني لأن كلماتها مثناة مثل الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ( الفاتحة 2 7 ) وفي قراءة عمر ( غير المغضوب عليهم وغير الضالين )

السابع قال الزجاج سميت الفاتحة بالمثاني لاشتمالها على الثناء على الله تعالى وهو حمد الله وتوحيده وملكه
واعلم أنا إذا حملنا قوله سَبْعًا مّنَ الْمَثَانِي على سورة الفاتحة فههنا أحكام
الحكم الأول
نقل القاضي عن أبي بكر الأصم أنه قال كان ابن مسعود يكتب في مصحفه فاتحة الكتاب رأى أنها ليست من القرآن وأقول لعل حجته فيه أن السبع المثاني لما ثبت أنه هو الفاتحة ثم إنه تعالى عطف السبع المثاني على القرآن والمعطوف مغاير للمعطوف عليه وجب أن يكون السبع المثاني غير القرآن إلا أن هذا يشكل بقوله تعالى وإذا أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح الأحزاب 7 وكذلك قوله وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل البقرة 98 وللخصم أن يجيب بأنه لا يبعد أن يذكر الكل ثم يعطف عليه ذكر بعض أجزائه وأقسامه لكونه أشرف الأقسام أما إذا ذكر شيء ثم عطف عليه شيء آخر كان المذكور أولا مغايرا للمذكور ثانيا وههنا ذكر السبع المثاني ثم عطف عليه القرآن العظيم فوجب حصول المغايرة
والجواب الصحيح أن بعض الشيء مغاير لمجموعه فلم لا يكفي هذا القدر من المغايرة في حسن العطف والله أعلم
الحكم الثاني
أنه لما كان المراد بقوله سبعا من المثاني هو الفاتحة دل على أن هذه السورة أفضل سور القرآن من وجهين أحدهما أن إفرادها بالذكر مع كونها جزءا من أجزاء القرآن لا بد وأن يكون لاختصاصها بمزيد الشرف والفضيلة ولاثاني أنه تعالى لما أنزلها مرتين دل ذلك على زيادة فضلها وشرفها
وإذا ثبت هذا فنقول لما رأينا أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) واظب على قراءتها في جميع الصلوات طول عمره وما أقام سورة أخرى مقامها في شيء من الصلوات دل ذلك على أنه يجب على المكلف أن يقرأها في صلاته وأن لا يقيم سائر آيات القرآن مقامها وأن يحترز عن هذا الإبدال فإن فيه خطرا عظيما والله أعلم
القول الثاني في تفسير قوله سبعا من المثاني أنها السبع الطوال وهذا قول ابن عمر وسعيد بن جبير في بعض الروايات ومجاهد وهي البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف والأنفال والتوبة معا قالوا وسميت هذه السور مثاني لأن الفرائض والحدود والأمثال والعبر ثنيت فيها وأنكر الربيع هذا القول وقال هذه الآية مكية وأكثر هذه السور السبعة مدنية وما نزل شيء منها في مكة فكيف يمكن حمل هذه الآية عليها
وأجاب قوم عن هذا الإشكال بأن الله تعالى أنزل القرآن كله إلى السماء الدنيا ثم أنزله على نبيه منها نجوما فلما أنزله إلى السماء الدنيا وحكم بإنزاله عليه فهو من جملة ما آتاه وإن لم ينزل عليه بعد
ولقائل أن يقول إنه تعالى قال ولقد آتيناك سبعا من المثاني وهذا الكلام إنما يصدق إذا وصل ذلك الشيء إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فأما الذي أنزله إلى السماء الدنيا وهو لم يصل بعد إلى محمد عليه السلام فهذا الكلام لا يصدق فيه وأما قوله بأنه لما حكم الله تعالى بإنزاله على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كان ذلك جاريا مجرى ما نزل

عليه فهذا أيضا ضعيف لأن إقامة ما لم ينزل عليه مقام النازل عليه مخالف للظاهر
والقول الثالث في تفسير السبع المثاني أنها هي السور التي هي دون الطوال والمئين وفوق المفصل واختار هذا القول قوم واحتجوا عليه بما روى ثوبان أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال إن الله أعطاني السبع الطوال مكان التوراة أعطاني المئين مكان الإنجيل وأعطاني المثاني مكان الزبور وفضلني ربي بالمفصل قال الواحدي والقول في تسمية هذه السور مثاني كالقول في تسمية الطوال مثاني وأقول إن صح هذا التفسير عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلا غبار عليه وإن لم يصح فهذا القول مشكل لأنا بينا أن المسمى بالسبع المثانييجب أن يكون أفضل من سائر السور وأجمعوا على أن هذه السور التي سموها بالمثاني ليست أفضل من غيرها فيمتنع حمل السبع المثاني على تلك السور
والقول الرابع أن السبع المثاني هو القرآن كله وهو منقول عن ابن عباس في بعض الروايات وقول طاوس قالوا ودليل هذا القول قوله تعالى كتابا متشابها مثاني الزمر 23 فوصف كل القرآن بكونه مثاني ثم اختلف القائلون بهذا القول في أنه ما المراد بالسبع وما المراد بالمثاني أما السبع فذكر فيه وجوها أحدها أن القرآن سبعة أسباع وثانيها أن القرآن مشتمل على سبعة أنواع من العلوم التوحيد والنبوة والمعاد والقضاء والقدر وأحوال العالم والقصص والتكاليف وثالثها أنه مشتمل على الأمر والنهي والخبر والاستخبار والنداء والقسم والأمثال وأما وصف كل القرآن بالمثاني فلأنه كرر فيه دلائل التوحيد والنبوة والتكاليف وهذا القول ضعيف أيضا لأنه لو كان المراد بالسبع المثاني القرآن لكان قوله والقرآن العظيم عطفا للشيء على نفسه وذلك غير جائز
وأجيب عنه بأنه حسن إدخال حرف العطف فيه لاختلاف اللفظين كقول الشاعر إلى الملك القرم وابن الهمام
وليث الكتيبة في المزدحم
واعلم أن هذا وإن كان جائزا لأجل وروده في هذا البيت إلا أنهم أجمعوا على أن الأصل خلافه
والقول الخامس يجوز أن يكون المراد بالسبع الفاتحة لأنها سبع آيات ويكون المراد بالمثاني كل القرآن ويكون التقدير ولقد آتيناك سبع آيات هي الفاتحة وهي من جملة المثاني الذي هو القرآن وهذا القول عين الأول والتفاوت ليس إلا بقليل والله أعلم
المسألة الثانية لفظة من في قوله سبعا من المثاني قال الزجاج فيها وجهان أحدهما أن تكون للتبعيض من القرآن أي ولقد آتيناك سبع آيات من جملة الآيات التي يثنى بها على الله تعالى وآتيناك القرآن العظيم قال ويجوز أن تكون من صلة والمعنى آتيناك سبعا هي المثاني كما قال فاجتنبوا الرجس من الأوثان الحج 30 المعنى اجتنبوا الأوثان لا أن بعضها رجس والله أعلم
أما قوله تعالى لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم فاعلم أنه تعالى لما عرف رسوله عظم نعمه عليه فيما يتعلق بالدين وهو أنه آتاه سبعا من المثاني والقرآن العظيم نهاه عن الرغبة في الدنيا فحظر عليه أن يمد عينيه إليها رغبة فيها وفي مد العين أقوال
القول الأول كأنه قيل له إنك أوتيت القرآن العظيم فلا تشغل سرك وخاطرك بالالتفات إلى الدنيا ومنه

الحديث { ليس منا من لم يتغن بالقرآن } وقال أبو بكر من أوتي القرآن فرأى أن أحدا أوتي من الدنيا أفضل مما أوتي فقد صغر عظيما وعظم صغيرا وقيل وافت من بعض البلاد سبع قوافل ليهود بني قريظة والنضير فيها أنواع البز والطيب والجواهر وسائر الأمتعة فقال المسلمون لو كانت هذه الأموال لنا لتقوينا بها ولأنفقناها في سبيل الله تعالى فقال الله تعالى لقد أعطيتكم سبع آيات هي خير من هذه القوافل السبع
القول الثاني قال ابن عباس لا تمدن عينيك أي لا تتمن ما فضلنا به أحد من متاع الدنيا وقرر الواحدي هذا المعنى فقال إنما يكون مادا عينيه إلى الشيء إذا أدام النظر نحوه وإدامة النظر إلى الشيء تدل على استحسانه وتمنيه وكان ( صلى الله عليه وسلم ) لا ينظر إلى ما يستحسن من متاع الدنيا وروي أنه نظر إلى نعم بني المصطلق وقد عبست في أبوالها وأبعارها فتقنع في ثوبه وقرأ هذه الآية وقوله عبست في أبوالها وأبعارها هو أن تجف أبوالها وأبعارها على أفخاذها إذا تركت من العمل أيام الربيع فتكثر شحومها ولحومها وهي أحسن ما تكون
والقول الثالث قال بعضهم ولا تمدن عينيك أي لا تحسدن أحدا على ما أوتي من الدنيا قال القاضي هذا بعيد لأن الحسد من كل أحد قبيح لأنه إرادة لزوال نعم الغير عنه وذلك يجري مجرى الاعتراض على الله تعالى والاستقباح لحكمه وقضائه وذلك من كل أحد قبيح فكيف يحسن تخصيص الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) به
أما قوله تعالى أزواجا منهم قال ابن قتيبة أي أصنافا من الكفار والزوج في اللغة الصنف ثم قال ولا تحزن عليهم إن لم يؤمنوا فيقوى بمكانهم الإسلام وينتعش بهم المؤمنون والحاصل أن قوله ولا تمدن عينيك إلا ما متعنا به أزواجا منهم نهي له عن الالتفات إلى أموالهم وقوله ولا تحزن عليهم نهي له عن الالتفات إليهم وأن يحصل لهم في قلبه قدر ووزن
ثم قال واخفض جناحك للمؤمنين الخفض معناه في اللغة نقيض الرفع ومنه قوله تعالى في صفة القيامة خافضة رافعة الواقعة 3 أي أنها تخفض أهل المعاصي وترفع أهل الطاعات فالخفض معناه الوضع وجناح الإنسان يده قال الليث يدا الإنسان جناحاه ومنه قوله واضمم إليك جناحك من الرهب القصص 32 وخفض الجناح كناية عن اللين والرفق والتواضع والمقصود أنه تعالى لما نهاه عن الالتفات إلى أولئك الأغنياء من الكفار أمره بالتواضع لفقراء المسلمين ونظيره قوله تعالى أذلة المؤمنين أعزة على الكافرين المائدة 54 وقال في صفة أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أشداء على الكفار رحماء بينهم الفتح 29
وَقُلْ إِنِّى أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُواْ الْقُرْءَانَ عِضِينَ
اعلم أنه تعالى لما أمر رسوله بالزهد في الدنيا وخفض الجناح للمؤمنين أمره بأن يقول للقوم إِنّى أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ

فيدخل تحت كونه نذيراً كونه مبلغاً لجميع التكاليف لأن كل ما كان واجباً ترتب على تركه عقاب وكل ما كان حراماً ترتب على فعله عقاب فكان الأخبار بحصول هذا العقاب داخلاً تحت لفظ النذير ويدخل تحته أيضاً كونه شارحاً لمراتب الثواب والعقاب والجنة والنار ثم أردفه بكونه مبيناً ومعناه كونه آتياً في كل ذلك بالبيانات الشافية والبينات الوافية ثم قال بعده كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ وفيه بحثان
البحث الأول اختلفوا في أن المقتسمين من هم وفيه أقوال
القول الأول قال ابن عباس هم الذين اقتسموا طرق مكة يصدون الناس عن الإيمان برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ويقرب عددهم من أربعين وقال مقاتل بن سليمان كانوا ستة عشر رجلاً بعثهم الوليد بن المغيرة أيام الموسم فاقتسموا عقبات مكة وطرقها يقولون لمن يسلكها لا تغتروا بالخارج منا والمدعي للنبوة فإنه مجنون وكانوا ينفرون الناس عنه بأنه ساحر أو كاهن أو شاعر فأنزل الله تعالى بهم خزياً فماتوا شر ميتة والمعنى أنذرتكم مثل ما نزل بالمقتسمين
والقول الثاني وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما في بعض الروايات أن المقتسمين هم اليهود والنصارى واختلفوا في أن الله تعالى لم سماهم مقتسمين فقيل لأنهم جعلوا القرآن عضين آمنوا بما وافق التوراة وكفروا بالباقي وقال عكرمة لأنهم اقتسموا القرآن استهزاء به فقال بعضهم سورة كذا لي وقال بعضهم سورة كذا لي وقال مقاتل بن حبان اقتسموا القرآن فقال بعضهم سحر وقال بعضهم شعر وقال بعضهم كذب وقال بعضهم أساطير الأولين
والقول الثالث في تفسير المقتسمين قال ابن زيد هم قوم صالح تقاسموا لنبيتنه وأهله فرمتهم الملائكة بالحجارة حتى قتلوهم فعلى هذا والاقتسام من القسم لا من القسمة وهو اختيار ابن قتيبة
البحث الثالث أن قوله كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ يتقضي تشبيه شيء بذلك فما ذلك الشيء
والجواب عنه من وجهين
الوجه الأول التقدير ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم كما أنزلنا على أهل الكتاب وهم المقتسمون الذين جعلوا القرآن عضين حيث قالوا بعنادهم وجهلهم بعضه حق موافق للتوارة والإنجيل وبعضه باطل مخالف لهما فاقتسموه إلى حق وباطل
فإن قيل فعلى هذا القول كيف توسط بين المشبه والمشبه به قوله وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ( الحجر 88 ) إلى آخره
قلنا لما كان ذلك تسلية لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن تكذيبهم وعداوتهم اعترض بما هو مدار لمعنى التسلية من النهي عن الالتفات إلى دنياهم والتأسف على كفرهم
والوجه الثاني أن يتعلق هذا الكلام بقوله وَقُلْ إِنّى أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ
واعلم أن هذا الوجه لا يتم إلا بأحد أمرين إما التزام إضمار أو التزام حذف أما الإضمار فهو أن يكون التقدير إني أنا النذير المبين عذاباً كما أنزلناه على المقتسمين وعلى هذا الوجه المفعول محذوف وهو المشبه ودل عليه المشبه به وهذا كما تقول رأيت كالقمر في الحسن أي رأيت إنساناً كالقمر في

الحسن وأما الحذف فهو أن يقال الكاف زائدة محذوفة والتقدير إني أنا النذير المبين ما أنزلناه على المقتسمين وزيادة الكاف له نظير وهو قوله تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ْء ( الشورى 11 ) والتقدير ليس مثله شيء وقال بعضهم لا حاجة إلى الإضمار والحذف والتقدير إني أنا النذير أي أنذر قريشاً مثل ما أنزلنا من العذاب على المقتسمين وقوله الَّذِينَ جَعَلُواْ الْقُرْءانَ عِضِينَ فيه بحثان
البحث الأول في هذا اللفظ قولان الأول أنه صفة للمقتسمين والثاني أنه مبتدأ وخبره هو قوله لَنَسْئَلَنَّهُمْ وهو قول ابن زيد
البحث الثاني ذكر أهل اللغة في واحد عضين قولين
القول الأول أن واحدها عضة مثل عزة وبرة وثبة وأصلها عضوة من عضيت الشيء إذا فرقته وكل قطعة عضة وهي مما نقص منها واو هي لام الفعل والتعضية التجزئة والتفريق يقال عضيت الجزور والشاة تعضية إذا جعلتها أعضاء وقسمتها وفي الحديث ( لا تعضية في ميراث إلا فيما احتمل القسمة ) أي لا تجزئه فيما لا يحتمل القسمة كالجوهرة والسيف فقوله جَعَلُواْ الْقُرْءانَ عِضِينَ يريد جزؤه أجزاء فقالوا سحر وشعر وأساطير الأولين ومفترى
والقول الثاني أن واحدها عضة وأصلها عضهة فاستثقلوا الجمع بين هاءين فقالوا عضة كما قالوا شفة والأصل شفهة بدليل قولهم شافهت مشافهة وسنة وأصلها سنهة في بعض الأقوال وهو مأخوذ من العضة بمعنى الكذب ومنه الحديث ( إياكم والعضة ) وقال ابن السكيت العضة بأن يعضه الإنسان ويقول فيه ما ليس فيه وهذا قول الخليل فيما روى الليث عنه فعلى هذا القول معنى قوله تعالى جَعَلُواْ الْقُرْءانَ عِضِينَ أي جعلوه مفترى وجمعت العضة جمع ما يعقل لما لحقها من الحذف فجعل الجمع بالواو والنون عوضاً مما لحقها من الحذف
فَوَرَبِّكَ لَنَسْألَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِءِينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلاهًا ءَاخَرَ فَسَوْفَ يَعْمَلُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قوله فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ يحتمل أن يكون راجعاً إلى المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين لأن عود الضمير إلى الأقرب أولى ويكون التقدير أنه تعالى أقسم بنفسه أن يسأل هؤلاء المقتسمين عما كانوا يقولونه من اقتسام القرآن وعن سائر المعاصي ويحتمل أن يكون راجعاً إلى جميع المكلفين لأن ذكرهم قد تقدم في قوله وَقُلْ إِنّى أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ ( الحجر 89 ) أي لجميع الخلق وقد تقدم ذكر المؤمنين وذكر الكافرين فيعود قوله فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ على الكل ولا معنى لقول من يقول إن

السؤال إنما يكون عن الكفر أو عن الإيمان بل السؤال واقع عنهما وعن جميع الأعمال لأن اللفظ عام فيتناول الكل
فإن قيل كيف الجمع بين قوله فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ وبين قوله فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْئَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ ( الرحمن 39 ) أجابوا عنه من وجوه
الوجه الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما لا يسئلون سؤال الاستفهام لأنه تعالى عالم بكل أعمالهم وإنما يسئلون سؤال التقريع يقال لهم لم فعلتم كذا
ولقائل أن يقول هذا الجواب ضعيف لأنه لو كان المراد من قوله فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْئَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ سؤال الاستفهام لما كان في تخصيص هذا النفي بقوله يومئذ فائدة لأن مثل هذا السؤال على الله تعالى محال في كل الأوقات
والوجه الثاني في الجواب أن يصرف النفي إلى بعض الأوقات والإثبات إلى وقت آخر لأن يوم القيامة يوم طويل
ولقائل أن يقول قوله فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْئَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ ( الرحمن 39 ) هذا تصريح بأنه لا يحصل السؤال في ذلك اليوم فلو حصل السؤال في جزء من أجزاء ذلك اليوم لحصل التناقض
والوجه الثالث أن نقول قوله فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْئَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ يفيد عموم النفي وقوله فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عائد إلى المقتسمين وهذا خاص ولا شك أن الخاص مقدم على العام أما قوله فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ فاعلم أن معنى الصدع في اللغة الشق والفصل وأنشد ابن السكيت لجرير هذا الخليفة فارضوا ما قضى لكم
بالحق يصدع ما في قوله حيف
فقال يصدع يفصل وتصدع القوم إذا تفرقوا ومنه قوله تعالى يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ( الروم 43 ) قال الفراء يتفرقون والصدع في الزجاجة الإبانة أقول ولعل ألم الرأس إنما سمي صداعاً لأن قحف الرأس عند ذلك الألم كأنه ينشق قال الأزهري وسمي الصبح صديعاً كما يسمى فلقاً وقد انصدع وانفلق الفجر وانفطر الصبح
إذا عرفت هذا فقول فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ أي فرق بين الحق والباطل وقال الزجاج فاصدع أظهر ما تؤمر به يقال صدع بالحجة إذا تكلم بها جهاراً كقولك صرح بها وهذا في الحقيقة يرجع أيضاً إلى الشق والتفريق أما قوله بِمَا تُؤْمَرُ ففيه قولان الأول أن يكون ( ما ) بمعنى الذي أي بما تؤمر به من الشرائع فحذف الجار كقوله
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به
الثاني أن تكون ( ما ) مصدرية أي فاصدع بأمرك وشأنك قالوا وما زال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مستخفياً حتى نزلت هذه الآية
ثم قال تعالى وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ أي لا تبال بهم ولا تلتفت إلى لومهم إياك على إظهار

الدعوة قال بعضهم هذا منسوخ بآية القتال وهو ضعيف لأن معنى هذا الإعراض ترك المبالاة بهم فلا يكون منسوخاً
ثم قال إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِءينَ قيل كانوا خمسة نفر من المشركين الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وعدي بن قيس والأسود بن المطلب والأسود بن عبد يغوث قال جبريل لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أمرت أن أكفيكهم فأومأ إلى عقب الوليد فمر بنبال فتعلق بثوبه سهم فلم ينعطف تعظماً لأخذه فأصاب عرقاً في عقبه فقطعه فمات وأومأ إلى أخمص العاص بن وائل فدخلت فيها شوكة فقال لدغت لدغت وانتفخت رجله حتى صارت كالرحا ومات وأشار إلى عيني الأسود بن المطلب فعمي وأشار إلى أنف عدي بن قيس فامتخط قيحاً فمات وأشار إلى الأسود بن عبد يغوث وهو قاعد في أصل شجرة فجعل ينطح رأسه بالشجرة ويضرب وجهه بالشوك حتى مات
واعلم أن المفسرين قد اختلفوا في عدد هؤلاء المستهزئين وفي أسمائهم وفي كيفية طريق استهزائهم ولا حاجة إلى شيء منها والقدر المعلوم أنهم طبقة لهم قوة وشوكة ورياسة لأن أمثالهم هم الذين يقدرون على إظهار مثل هذه السفاهة مع مثل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في علو قدره وعظم منصبه ودل القرآن على أن الله تعالى أفناهم وأبادهم وأزال كيدهم والله أعلم
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِّنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ
اعلم أنه تعالى لما ذكر أن قومه يسفهون عليه ولا سيما أولئك المقتسمون وأولئك المستهزؤون قال له وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ لأن الجبلة البشرية والمزاج الإنساني يقتضي ذلك فعند هذا قال له فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ فأمره بأربعة أشياء بالتسبيح والتحميد والسجود والعبادة واختلف الناس في أنه كيف صار الإقبال على هذه الطاعات سبباً لزوال ضيق القلب والحزن فقال العارفون المحققون إذا اشتغل الإنسان بهذه الأنواع من العبادات انكشفت له أضواء عالم الربوبية ومتى حصل ذلك الإنكشاف صارت الدنيا بالكلية حقيرة وإذا صارت حقيرة خف على القلب فقدانها ووجدانها فلا يستوحش من فقدانها ولا يستريح بوجدانها وعند ذلك يزول الحزن والغم وقالت المعتزلة من اعتقد تنزيه الله تعالى عن القبائح سهل عليه تحمل المشاق فإنه يعلم أنه عدل منزه عن إنزال المشاق به من غير غرض ولا فائدة فحينئذ يطيب قلبه وقال أهل السنة إذا نزل بالعبد بعض المكاره فزع إلى الطاعات كأنه يقول تجب على عبادتك سواء أعطيتني الخيرات أو ألقيتني في المكروهات وقوله وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد الموت وسمي الموت باليقين لأنه أمر متيقن
فإن قيل فأن فائدة لهذا التوقيت مع أن كل أحد يعلم أنه إذا مات سقطت عنه العبادات

قلنا المراد منه وَاعْبُدْ رَبَّكَ في زمان حياتك ولا تخل لحظة من لحظات الحياة عن هذه العبادة والله أعلم

سورة النحل
مكية إلا الآيات الثلاث الأخيرة فمدنية
وآياتها 128 نزلت بعد سورة الكهف
بسم الله الرحمن الرحيم
أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَة َ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لاَ إله إِلاَ أَنَاْ فَاتَّقُونِ
سورة النحل
مكية غير ثلاث آيات في أخرها
وحكى الأصم عن بعضهم أن كلها مدنية وقال آخرون من أولها إلى قوله كُنْ فَيَكُونُ مدني وما سواه فمكي وعن قتادة بالعكس
واعلم أن هذه السورة تسمى سورة النعم وهي مائة وعشرون وثمان آيات مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ يُنَزّلُ الْمَلَائِكَة َ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَآء مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُواْ أَنَّهُ لا إله إِلا أَنَاْ فَاتَّقُونِ
فيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن معرفة تفسير هذه الآية مرتبة على سؤالات ثلاثة
فالسؤال الأول أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان يخوفهم بعذاب الدنيا تارة وهو القتل والاستيلاء عليهم كما حصل في يوم بدر وتارة بعذاب يوم القيامة وهو الذي يحصل عند قيام الساعة ثم إن القوم لما لم يشاهدوا شيئاً من ذلك احتجوا بذلك على تكذيبه وطلبوا منه الإتيان بذلك العذاب وقالوا له ائتنا به وروي أنه لما نزل قوله تعالى اقْتَرَبَتِ السَّاعَة ُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ ( القمر 1 ) قال الكفار فيما بينهم إن هذا يزعم أن القيامة قد قربت فأمسكوا عن بعض ما تعملون حتى ننظر ما هو كائن فلما تأخرت قالوا ما نرى شيئاً مما تخوفنا به فنزل قوله اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ ( الأنبياء 1 ) فأشفقوا وانتظروا يومها فلما امتدت الأيام قالوا يا محمد ما نرى شيئاً مما تخوفنا به فنزل قوله أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فوثب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ورفع الناس رؤوسهم فنزل قوله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ

والحاصل أنه عليه السلام لما أكثر من تهديدهم بعذاب الدنيا وعذاب الآخرة ولم يروا شيئاً نسبوه إلى الكذب
فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ وفي تقرير هذا الجواب وجهان
الوجه الأول أنه وإن لم يأت ذلك العذاب إلا أنه كان واجب الوقوع والشيء إذا كان بهذه الحالة والصفة فإنه يقال في الكلام المعتاد أنه قد أتى ووقع إجراء لما يجب وقوعه بعد ذلك مجرى الواقع يقال لمن طلب الإغاثة وقرب حصولها قد جاءك الغوث فلا تجزع
والوجه الثاني وهو أن يقال أن أمر الله بذلك وحكمه به قد أتى وحصل ووقع فأما المحكوم به فإنما لم يقع لأنه تعالى حكم بوقوعه في وقت معين فقبل مجيء ذلك الوقت لا يخرج إلى الوجود والحاصل كأنه قيل أمر الله وحكمه بنزول العذاب قد حصل ووجد من الأزل إلى الأبد فصح قولنا أتى أمر الله إلا أن المحكوم به والمأمور به إنما لم يحصل لأنه تعالى خصص حصوله بوقت معين فلا تستعجلوه ولا تطلبوا حصوله قبل حضور ذلك الوقت
السؤال الثاني قالت الكفار هب أنا سلمنا لك يا محمد صحة ما تقوله من أنه تعالى حكم بإنزال العذاب علينا إما في الدنيا وإما في الآخرة إلا أنا نعبد هذه الأصنام فإنها شفعاؤنا عند الله فهي تشفع لنا عنده فنتخلص من هذا العذاب المحكوم به بسبب شفاعة هذه الأصنام
فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ فنزه نفسه عن شركة الشركاء والأضداد والأنداد وأن يكون لأحد من الأرواح والأجسام أن يشفع عنده إلا بإذنه و مَا في قوله عَمَّا يُشْرِكُونَ يجوز أن تكون مصدرية والتقدير سبحانه وتعالى عن إشراكهم ويجوز أن تكون بمعنى الذي أي سبحانه وتعالى عن هذه الأصنام التي جعلوها شركاء لله لأنها جمادات خسيسة فأي مناسبة بينها وبين أدون الموجودات فضلاً عن أن يحكم بكونها شركاء لمدبر الأرض والسموات
السؤال الثالث هب أنه تعالى قضى على بعض عبيده بالسراء وعلى آخرين بالضراء ولكن كيف يمكنك أن تعرف هذه الأسرار التي لا يعلمها إلا الله وكيف صرت بحيث تعرف أسرار الله وأحكامه في ملكه وملكوته
فأجاب الله تعالى عنه بقوله يُنَزّلُ الْمَلَائِكَة َ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَآء مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُواْ أَنَّهُ لا إله إِلا أَنَاْ فَاتَّقُونِ وتقرير هذا الجواب أنه تعالى ينزل الملائكة على من يشاء من عبيده ويأمر ذلك العبد بأن يبلغ إلى سائر الخلق أن إله العالم واحد كلفهم بمعرفة التوحيد والعبادة وبين أنهم إن فعلوا ذلك فازوا بخيري الدنيا والآخرة وإن تمردوا وقعوا في شر الدنيا والآخرة فبهذا الطريق صار مخصوصاً بهذه المعارف من دون سائر الخلق وظهر بهذا الترتيب الذي لخصناه أن هذه الآيات منتظمة على أحسن الوجوه والله أعلم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي ( ينزل ) بالياء وكسر الزاي وتشديدها والملائكة بالنصب وقرأ ابن كثير وأبو عمرو يُنَزّلٍ بضم الياء وكسر الزاي وتخفيفها والأول من التفعيل والثاني من

الأفعال وهما لغتان
المسألة الثانية روي عن عطاء عن ابن عباس قال يريد بالملائكة جبريل وحده قال الواحدي وتسمية الواحد باسم الجمع إذا كان ذلك الواحد رئيساً مقدماً جائز كقوله تعالى إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ ( نوح 1 ) وَأَنَا أَنزَلْنَاهُ ( يوسف 2 ) وَأَنَا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ ( الحجر 9 ) وفي حق الناس كقوله الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ وفيه قول آخر سيأتي شرحه بعد ذلك وقوله بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ فيه قولان
القول الأول أن المراد من الروح الوحي وهو كلام الله ونظيره قوله تعالى وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا ( الشورى 52 ) وقوله يُلْقِى الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ ( غافر 15 ) قال أهل التحقيق الجسد موات كثيف مظلم فإذا اتصل به الروح صار حياً لطيفاً نورانياً فظهرت آثار النور في الحواس الخمس ثم الروح أيضاً ظلمانية جاهلة فإذا اتصل العقل بها صارت مشرقة نورانية كما قال تعالى وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالاْبْصَارَ وَالافْئِدَة َ ( النحل 78 ) ثم العقل أيضاً ليس بكامل النورانية والصفاء والإشراق حتى يستكمل بمعرفة ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله ومعرفة أحوال عالم الأرواح والأجساد وعالم الدنيا والآخرة ثم إن هذه المعارف الشريفة الإلهية لا تكمل ولا تصفو إلا بنور الوحي والقرآن
إذا عرفت هذا فنقول القرآن والوحي به تكمل المعارف الإلهية والمكاشفات الربانية وهذه المعارف بها يشرق العقل ويصفو ويكمل والعقل به يكمل جوهر الروح والروح به يكمل حال الجسد وعند هذا يظهر أن الروح الأصلي الحقيقي هو الوحي والقرآن لأن به يحصل الخلاص من رقدة الجهالة ونوم الغفلة وبه يحصل الانتقال من حضيض البهيمية إلى أوج الملكية فظهر أن إطلاق لفظ الروح على الوحي في غاية المناسبة والمشاكلة ومما يقوى ذلك أنه تعالى أطلق لفظ الروح على جبريل عليه السلام في قوله نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ عَلَى قَلْبِكَ ( الشعراء 193 194 ) وعلى عيسى عليه السلام في قوله رَّوْحِ اللَّهِ ( يوسف 87 ) وإنما حسن هذا الإطلاق لأنه حصل بسبب وجودهما حياة القلب وهي الهداية والمعارف فلما حسن إطلاق اسم الروح عليهما لهذا المعنى فلأن يحسن إطلاق لفظ الروح على الوحي والتنزيل كان ذلك أولى
والقول الثاني في هذه الآية وهو قول أبي عبيدة إن الروح ههنا جبريل عليه السلام والباء في قوله بِالْرُّوحِ بمعنى مع كقولهم خرج فلان بثيابه أي مع ثيابه وركب الأمير بسلاحه أي مع سلاحه فيكون المعنى ينزل الملائكة مع الروح وهو جبريل والأول أقرب وتقرير هذا الوجه أنه سبحانه وتعالى ما أنزل على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) جبريل وحده بل في أكثر الأحوال كان ينزل مع جبريل أفواجاً من الملائكة ألا ترى أن في يوم بدر وفي كثير من الغزوات كان ينزل مع جبريل عليه السلام أقوام من الملائكة وكان ينزل على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تارة ملك الجبال وتارة ملك البحار وتارة رضوان وتارة غيرهم وقوله مِنْ أَمْرِهِ يعني أن ذلك التنزيل والنزول لا يكون إلا بأمر الله تعالى ونظيره قوله تعالى وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ ( مريم 64 ) وقوله لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْلَمُونَ ( الأنبياء 27 ) وقوله وَهُمْ مّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ( الأنبياء 28 )

وقوله يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ( النحل 5 ) وقوله لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ( التحريم 6 ) فكل هذه الآيات دالة على أنهم لا يقدمون على عمل من الأعمال إلا بأمر الله تعالى وإذنه وقوله عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ يريد الأنبياء الذين خصهم الله تعالى برسالته وقوله أَنْ أَنْذِرُواْ قال الزجاج ءانٍ بدل من الروح والمعنى ينزل الملائكة بأن أنذروا أي أعلموا الخلائق أنه لا إله إلا أنا والإنذار هو الإعلام مع التخويف
المسألة الثانية في الآية فوائد الفائدة الأولى أن وصول الوحي من الله تعالى إلى الأنبياء لا يكون إلا بواسطة الملائكة ومما يقوى ذلك أنه تعالى قال في آخر سورة البقرة وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ءامَنَ بِاللَّهِ وَمَلَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ( البقرة 285 ) فبدأ بذكر الله سبحانه ثم أتبعه بذكر الملائكة لأنهم هم الذين يتلقون الوحي من الله ابتداء من غير واسطة وذلك الوحي هو الكتب ثم إن الملائكة يوصلون ذلك الوحي إلى الأنبياء فلا جرم كان الترتيب الصحيح هو الابتداء بذكر الله تعالى ثم بذكر الملائكة ثم بذكر الكتب وفي الدرجة الرابعة بذكر الرسل
إذا عرفت هذا فنقول إذا أوحى الله تعالى إلى الملك فعلم ذلك الملك بأن ذلك الوحي وحي الله علم ضروري أو استدلالي وبتقدير أن يكون استدلالياً فكيف الطريق إليه وأيضاً الملك إذا بلغ ذلك الوحي إلى الرسول فعلم الرسول بكونه ملكاً صادقاً لا شيطاناً رجيماً ضروري أو استدلالي فإن كان استدلالياً فكيف الطريق إليه فهذه مقامات ضيقة وتمام العلم بها لا يحصل إلا بالبحث عن حقيقة الملك وكيفية وحي الله إليه وكيفية تبليغ الملك ذلك الوحي إلى الرسول فأما إذا أجرينا هذه الأمور على الكلمات المألوفة صعب المرام وزال النظام وذلك لأن آيات القرآن ناطقة بأن هذا الوحي والتنزيل إنما حصل من الملائكة أو نقول هب أن آيات القرآن لم تدل على ذلك إلا أن احتمال كون الأمر كذلك قائم في بديهة العقل
وإذا عرفت هذا فنقول لا نعلم كون جبريل عليه السلام صادقاً معصوماً عن الكذب والتلبيس إلا بالدلائل السمعية وصحة الدلائل السمعية موقوفة على أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) صادق وصدقه يتوقف على أن هذا القرآن معجز من قبل الله تعالى لا من قبل شيطان خبيث والعلم بذلك يتوقف على العلم بأن جبريل صادق محق مبرأ عن التلبيس وعن أفعال الشيطان وحينئذ يلزم الدور فهذا مقام صعب أما إذا عرفنا حقيقة النبوة وعرفنا حقيقة الوحي زالت هذه الشبهة بالكلية والله أعلم
المسألة الرابعة هذه الآية تدل على أن الروح المشار إليها بقوله يُنَزّلُ الْمَلَائِكَة َ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ليس إلا لمجرد قوله لا إله إِلا أَنَاْ فَاتَّقُونِ وهذا كلام حق لأن مراتب السعادات البشرية أربعة أولها النفسانية وثانيها البدنية وفي المرتبة الثالثة الصفات البدنية التي لا تكون من اللوازم وفي المرتبة الرابعة الأمور المنفصلة عن البدن
أما المرتبة الأولى وهي الكمالات النفسانية فاعلم أن النفس لها قوتان إحداهما استعدادها لقبول صور الموجودات من عالم الغيب وهذه القوة هي القوة المسماة بالقوة النظرية وسعادة هذه القوة في حصول المعارف وأشرف المعارف وأجلها معرفة أنه لا إله إلا هو وإليه الإشارة بقوله أَنْ أَنْذِرُواْ أَنَّهُ لا إله إِلا أَنَاْ والقوة الثانية للنفس استعدادها للتصرف في أجسام هذا العالم وهذه القوة هي القوة

المسماة بالقوة العملية وسعادة هذه القوة في الإتيان بالأعمال الصالحة وأشرف الأعمال الصالحة هو عبودية الله تعالى وإليه الإشارة بقوله فَاتَّقُونِ ولما كانت القوة النظرية أشرف من القوة العملية لا جرم قدم الله تعالى كمالات القوة النظرية وهي قوله لا إله إِلا أَنَاْ على كمالات القوة العملية وهي قوله فَاتَّقُونِ
وأما المرتبة الثانية وهي السعادات البدنية فهي أيضاً قسمان الصحة الجسدانية وكمالات القوى الحيوانية أعني القوى السبع عشرة البدنية
وأما المرتبة الثالثة وهي السعادات المتعلقة بالصفات العرضية البدنية فهي أيضاً قسمان سعادة الأصول والفروع أعني كمال حال الآباء وكمال حال الأولاد
وأما المرتبة الرابعة وهي أخس المراتب فهي السعادات الحاصلة بسبب الأمور المنفصلة وهي المال والجاه فثبت أن أشرف مراتب السعادات هي الأحوال النفسانية وهي محصورة في كمالات القوة النظرية والعملية فلهذا السبب ذكر الله ههنا أعلى حال هاتين القوتين فقال أَنْ أَنْذِرُواْ أَنَّهُ لا إله إِلا أَنَاْ فَاتَّقُونِ
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين فيما سبق أن معرفة الحق لذاته وهي المراد من قوله أَنَّهُ لا إله إِلا أَنَاْ ومعرفة الخير لأجل العمل به وهي المراد من قوله فَاتَّقُونِ ( النحل 2 ) روح الأرواح ومطلع السعادات ومنبع الخيرات والكرامات أتبعه بذكر الدلائل على وجود الصانع الإله تعالى وكمال قدرته وحكمته
واعلم أنا بينا أن دلائل الإلهيات إما التمسك بطريقة الإمكان في الذوات أو في الصفات أو التمسك بطريقة الحدوث في الذوات أو في الصفات أو بمجموع الإمكان والحدوث في الذوات أو الصفات فهذه طرق ستة والطريق المذكور في كتب الله تعالى المنزلة هو التمسك بطريقة حدوث الصفات وتغيرات الأحوال ثم هذا الطريق يقع على وجهين أحدهما أن يتمسك بالأظهر فالأظهر مترقياً إلى الأخفى فالأخفى وهذا الطريق هو المذكور في أول سورة البقرة فإنه تعالى قال اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى ْ خَلَقَكُمْ فجعل تعالى تغير أحوال نفس كل واحد دليلاً على احتياجه إلى الخالق ثم ذكر عقيبه الاستدلال بأحوال الآباء والأمهات وإليه الإشارة بقوله وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ( البقرة 21 ) ثم ذكر عقيبه الاستدلال بأحوال الأرض وهي قوله الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاْرْضَ فِرَاشاً لأن الأرض أقرب إلينا من السماء ثم ذكر في المرتبة الرابعة قوله وَالسَّمَاء بِنَاء ثم ذكر في المرتبة الخامسة الأحوال المتولدة من تركيب السماء بالأرض فقال وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَّكُمْ ( البقرة 22 )
الثاني من الدلائل القرآنية أن يحتج الله تعالى بالأشرف فالأشرف نازلاً إلى الأدون فالأدون وهذا الطريق هو المذكور في هذه السورة وذلك لأنه تعالى ابتدأ في الاحتجاج على وجود الإله المختار بذكر الأجرام العالية الفلكية ثم ثنى بذكر الاستدلال بأحوال الإنسان ثم ثلث بذكر الاستدلال بأحوال الحيوان

ثم ربع بذكر الاستدلال بأحوال النبات ثم خمس بذكر الاستدلال بأحوال العناصر الأربعة وهذا الترتيب في غاية الحسن
إذا عرفت هذه المقدمة فنقول
النوع الأول من الدلائل المذكورة على وجود الإله الحكيم الاستدلال بأحوال السموات والأرض فقال خُلِقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بِالْحَقّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ وقد ذكرنا في تفسير قوله تعالى الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الأنعام 1 ) إن لفظ الخلق من كم وجه يدل على الاحتياج إلى الخالق الحكيم ولا بأس بأن نعيد تلك الوجوه ههنا فنقول الخلق عبارة عن التقدير بمقدار مخصوص وهذا المعنى حاصل في السموات من وجوه الأول أن كل جسم متناه فجسم السماء متناه وكل ما كان متناهياً في الحجم والقدر كان اختصاصه بذلك القدر المعين دون الأزيد والأنقص امراً جائزاً وكل جائز فلا بد له من مقدر ومخصص وكل ما كان مفتقراً إلى الغير فهو محدث الثاني وهو أن الحركة الأزلية ممتنعة لأن الحركة تقتضي المسبوقية بالغير والأزل ينافيه فالجمع بين الحركة والأزل محال
إذا ثبت هذا فنقول إما أن يقال أن الأجرام والأجسام كانت معدومة في الأزل ثم حدثت أو يقال إنها وإن كانت موجودة في الأزل إلا أنها كانت ساكنة ثم تحركت وعلى التقديرين فلحركتها أول فحدوث الحركة من ذلك المبدأ دون ما قبله أو ما بعده خلق وتقدير فوجب افتقاره إلى مقدر وخالق ومخصص له الثالث أن جسم الفلك مركب من أجزاء بعضها حصلت في عمق جرم الفلك وبعضها في سطحه والذي حصل في العمق كان يعقل حصوله في السطح وبالعكس وإذا ثبت هذا كان اختصاص كل جزء بموضعه المعين أمراً جائزاً فيفتقر إلى المخصص والمقدر وبقية الوجوه مذكورة في أول سورة الأنعام
واعلم أنه سبحانه لما احتج بالخلق والتقدير على حدوث السموات والأرض قال بعده تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ والمراد أن القائلين بقدم السموات والأرض كأنهم أثبتوا لله شريكاً في كونه قديماً أزلياً فنزه نفسه عن ذلك وبين أنه لا قديم إلا هو وبهذا البيان ظهر أن الفائدة المطلوبة من قوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ( يونس 18 ) في أول السورة غير الفائدة المطلوبة من ذكر هذه الكلمة ههنا لأن المطلوب هناك إبطال قول من يقول إن الأصنام تشفع للكفار في دفع العقاب عنهم والمقصود ههنا إبطال قول من يقول الأجسام قديمة والسموات والأرض أزلية فنزه الله سبحانه نفسه عن أن يشاركه غيره في الأزلية والقدم والله أعلم
خَلَقَ الإِنْسَانَ مِن نُّطْفَة ٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ
اعلم أن أشرف الأجسام بعد الأفلاك والكواكب هو الإنسان فلما ذكر الله تعالى الاستدلال على وجود الإله الحكيم بأجرام الأفلاك أتبعه بذكر الاستدلال على هذا المطلوب بالإنسان
واعلم أن الإنسان مركب من بدن ونفس فقوله تعالى خَلَقَ الإِنْسَانَ مِن نُّطْفَة ٍ اشارة إلى الاستدلال ببدنه على وجود الصانع الحكيم وقوله فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ إشارة إلى الاستدلال بأحوال نفسه على وجود الصانع الحكيم

أما الطريق الأول فتقريره أن نقول لا شك أن النطفة جسم متشابه الأجزاء بحسب الحس والمشاهدة إلا أن من الأطباء من يقول إنه مختلف الأجزاء في الحقيقة وذلك لأنه إنما يتولد من فضلة الهضم الرابع فإن الغذاء يحصل له في المعدة هضم أول وفي الكبد هضم ثان وفي العروق هضم ثالث وعند وصوله إلى جواهر الأعضاء هضم رابع ففي هذا الوقت وصل بعض أجزاء الغذاء إلى العظم وظهر فيه أثر من الطبيعة العظيمة وكذا القول في اللحم والعصب والعروق وغيرها ثم عند استيلاء الحرارة على البدن عند هيجان الشهوة يحصل ذوبان من جملة الأعضاء وذلك هو النطفة وعلى هذا التقدير تكون النطفة جسماً مختلف الأجزاء والطبائع
إذا عرفت هذا فنقول النطفة في نفسها إما أن تكون جسماً متشابه الأجزاء في الطبيعة والماهية أو مختلف الأجزاء فيها فإن كان الحق هو الأول لم يجز أن يكون المقتضى لتولد البدن منها هو الطبيعة الحاصلة في جوهر النطفة ودم الطمث لأن الطبيعة تأثيرها بالذات والإيجاب لا بالتدبير والاختيار والقوة الطبيعية إذا عملت في مادة متشابهة الأجزاء وجب أن يكون فعلها هو الكرة وعلى هذا الحرف عولوا في قولهم البسائط يجب أن تكون أشكالها الطبيعية في الكرة فلو كان المقتضى لتولد الحيوان من النطفة هو الطبيعة لوجب أن يكون شكلها الكرة وحيث لم يكن الأمر كذلك علمنا أن المقتضى لحدوث الأبدان الحيوانية ليس هو الطبيعة بل فاعل مختار وهو يخلق بالحكمة والتدبير والاختيار
وأما القسم الثاني وهو أن يقال النطفة جسم مركب من أجزاء مختلفة في الطبيعة والماهية فنقول بتقدير أن يكون الأمر كذلك فإنه يجب أن يكون تولد البدن منها بتدبير فاعل مختار حكيم وبيانه من وجوه
الوجه الأول أن النطفة رطوبة سريعة الاستحالة وإذا كان كذلك كانت الأجزاء الموجودة فيها لا تحفظ الوضع والنسبة فالجزء الذي هو مادة الدماغ يمكن حصوله في الأسفل والجزء الذي هو مادة القلب قد يحصل في الفوق وإذا كان الأمر كذلك وجب أن لا تكون أعضاء الحيوان على هذا الترتيب المعين أمراً دائماً ولا أكثرياً وحيث كان الأمر كذلك علمنا أن حدوث هذه الأعضاء على هذا الترتيب الخاص ليس إلا بتدبيرالفاعل المختار الحكيم
والوجه الثاني أن النطفة بتقدير أنها جسم مركب من أجزاء مختلفة الطبائع إلا أنه يجب أن ينتهي تحليل تركيبها إلى أجزاء يكون كل واحد منها في نفسه جسماً بسيطاً وإذا كان الأمر كذلك فلو كان المدبر لها قوة طبيعية لكان كل واحد من تلك البسائط يجب أن يكون شكله هو الكرة فكان يلزم أن يكون الحيوان على شكل كرات مضمومة بعضها إلى بعض وحيث لم يكن الأمر كذلك علمنا أن مدبر أبدان الحيوانات ليس هي الطبائع ولا تأثيرات الأنجم والأفلاك لأن تلك التأثيرات متشابهة فعلمنا أن مدبر أبدان الحيوانات فاعل مختار حكيم وهو المطلوب هذا هو الاستدلال بأبدان الحيوانات على وجود الإله المختار وهو المراد من قوله سبحانه وتعالى خَلَقَ الإِنْسَانَ مِن نُّطْفَة ٍ وأما الاستدلال على وجود الصانع المختار الحكيم بأحوال النفس الإنسانية فهو المراد من قوله فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ وفيه مسائل
المسألة الأولى في بيان وجه الاستدلال وتقريره أن النفوس الإنسانية في أول الفطرة أقل فهماً وذكاء وفطنة من نفوس سائر الحيوانات ألا ترى أن ولد الدجاجة كما يخرج من قشر البيضة يميز بين العدو

والصديق فيهرب من الهرة ويلتجىء إلى الأم ويميز بين الغذاء الذي يوافقه والغذاء الذي لا يوافقه وأما ولد الإنسان فإنه حال انفصاله عن بطن الأم لا يميز ألبتة بين العدو والصديق ولا بين الضار والنافع فظهر أن الإنسان في أول الحدوث أنقص حالاً وأقل فطنة من سائر الحيوانات ثم إن الإنسان بعد كبره يقوى عقله ويعظم فهمه ويصير بحيث يقوى على مساحة السموات والأرض ويقوى على معرفة ذات الله وصفاته وعلى معرفة أصناف المخلوقات من الأرواح والأجسام والفلكيات والعنصريات ويقوى على إيراد الشبهات القوية في دين الله تعالى والخصومات الشديدة في كل المطالب فانتقال نفس الإنسان من تلك البلاد المفرطة إلى هذه الكياسة المفرطة لا بد وأن يكون بتدبير إله مختار حكيم ينقل الأرواح من نقصانها إلى كمالاتها ومن جهالاتها إلى معارفها بحسب الحكمة والاختيار فهذا هو المراد من قوله سبحانه وتعالى خَلَقَ الإِنْسَانَ مِن نُّطْفَة ٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ
وإذا عرفت هذه الدقيقة أمكنك التنبيه لوجوه كثيرة
المسألة الثانية أنه تعالى إنما يخلق الإنسان من النطفة بواسطة تغيرات كثيرة مذكورة في القرآن العزيز منها قوله تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلَالَة ٍ مّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَة ً فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ ( المؤمنون 12 13 ) إلا أنه تعالى اختصر ههنا لأجل أن ذلك الاستقصاء مذكور في سائر الآيات وقوله فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ فيه بحثان
البحث الأول قال الواحدي الخصيم بمعنى المخاصم قال أهل اللغة خصيمك الذي يخاصمك وفعيل بمعنى مفاعل معروف كالنسيب بمعنى المناسب والعشير بمعنى المعاشر والأكيل والشريب ويجوز أن يكون خصيم فاعلاً من خصم يخصم بمعنى اختصم ومنه قراءة حمزة تَأُخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصّمُونَ ( يس 49 )
البحث الثاني لقوله فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ وجهان أحدهما فإذا هو منطبق مجادل عن نفسه منازع للخصوم بعد أن كان نطفة قذرة وجماداً لا حس له ولا حركة والمقصود منه أن الانتقال من تلك الحالة الخسيسة إلى هذه الحالة العالية الشريفة لا يحصل إلا بتدبير مدبر حكيم عليم والثاني فإذا هو خصيم لربه منكر على خالقه قائل مَن يُحى ِ الْعِظَامَ وَهِى َ رَمِيمٌ ( يس 78 ) والغرض منه وصف الإنسان بالإفراط في الوقاحة والجهل والتمادي في كفران النعمة والوجه الأول أوفق لأن هذه الآيات مذكورة لتقرير وجه الاستدلال على وجود الصانع الحكيم لا لتقرير وقاحة الناس وتماديهم في الكفر والكفران
وَالاٌّ نْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ

وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن أشرف الأجسام الموجودة في العالم السفلي بعد الإنسان سائر الحيوانات لاختصاصها بالقوى الشريفة وهي الحواس الظاهرة والباطنة والشهوة والغضب ثم هذه الحيوانات قسمان منها ما ينتفع الإنسان بها ومنها ما لا يكون كذلك والقسم الأول أشرف من الثاني لأنه لما كان الإنسان أشرف الحيوانات وجب في كل حيوان يكون انتفاع الإنسان به أكمل وأكثر أن يكون أكمل وأشرف من غيره ثم نقول والحيوان الذي ينتفع الإنسان به إما أن ينتفع به في ضروريات معيشته مثل الأكل واللبس أو لا يكون كذلك وإنما ينتفع به في أمور غير ضرورية مثل الزينة وغيرها والقسم الأول أشرف من الثاني وهذا القسم هو الأنعام فلهذا السبب بدأ الله بذكره في هذه الآية فقال وَالاْنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ
واعلم أن الأنعام عبارة عن الأزواج الثمانية وهي الضأن والمعز والإبل والبقر وقد يقال أيضاً الأنعام ثلاثة الإبل والبقر والغنم قال صاحب ( الكشاف ) وأكثر ما يقع هذا اللفظ على الإبل وقوله وَالاْنْعَامُ منصوبة وانتصابها بمضمر يفسره الظاهر كقوله تعالى وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ ( يس 39 ) ويجوز أن يعطف على الإنسان أي خلق الإنسان والأنعام قال الواحدي تم الكلام عند قوله وَالاْنْعَامَ خَلَقَهَا ثم ابتدأ وقال لَكُمْ فِيهَا دِفْء ويجوز أيضاً أن يكون تمام الكلام عند قوله لَكُمْ ثم ابتدأ وقال فِيهَا دِفْء قال صاحب ( النظم ) أحسن الوجهين أن يكون الوقف عند قوله خَلَقَهَا والدليل عليه أنه عطف عليه قوله وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ والتقدير لكم فيها دفء ولكم فيها جمال
المسألة الثانية أنه تعالى لما ذكر أنه خلق الأنعام للمكلفين أتبعه بتعديد تلك المنافع واعلم أن منافع النعم منها ضرورية ومنها غير ضرورية والله تعالى بدأ بذكر المنافع الضرورية
فالمنفعة الأولى قوله لَكُمْ فِيهَا دِفْء وقد ذكر هذه المعنى في آية أخرى فقال وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا ( النحل 80 ) والدفء عند أهل اللغة ما يستدفأ به من الأكسية قال الأصمعي ويكون الدفء السخونة يقال أقعد في دفء هذا الحائط أي في كنه وقرىء دف بطرح الهمزة وإلقاء حركتها على الفاء
والمنفعة الثانية قوله كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ قالوا المراد نسلها ودرها وإنما عبر الله تعالى عن نسلها ودرها بلفظ المنفعة وهو اللفظ الدال على لوصف الأعم لأن النسل والدر قد ينتفع به في الأكل وقد ينتفع به في البيع بالنقود وقد ينتفع به بأن يبدل بالثياب وسائر الضروريات فعبر عن جملة هذه الأقسام بلفظ المنافع ليتناول الكل
والمنفعة الثالثة قوله وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ
فإن قيل قوله وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ يفيد الحصر وليس الأمر كذلك فإنه قد يؤكل من غيرها وأيضاً منفعة الأكل مقدمة على منفعة اللبس فلم أخر منفعته في الذكر
قلنا الجواب عن الأول إن الأكل منها هو الأصل الذي يعتمده الناس في معايشهم وأما الأكل من غيرها كالدجاج والبط وصيد البر والبحر فيشبه غير المعتاد وكالجاري مجرى التفكه ويحتمل أيضاً أن غالب أطعمتكم منها لأنكم تحرثون بالبقر والحب والثمار التي تأكلونها منها وأيضاً تكتسبون باكراء الإبل

وتنتفعون بألبانها ونتاجها وجلودها وتشترون بها جميع أطعمتكم
والجواب عن السؤال الثاني أن الملبوس أكثر بقاء من المطعوم فلهذا قدمه عليه في الذكر
واعلم أن هذه المنافع الثلاثة هي المنافع الضرورية الحاصلة من الأنعام وأما المنافع الحاصلة من الأنعام التي هي ليست بضرورية فأمور
المنفعة الأولى قوله تعالى وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ الإراحة رد الإبل بالعشي إلى مراحها حيث تأوي إليه ليلاً ويقال سرح القوم إبلهم سرحاً إذا أخرجوها بالغداة إلى المرعى قال أهل اللغة هذه الإراحة أكثر ما تكون أيام الربيع إذا سقط الغيث وكثر الكلأ وخرجت العرب للنجعة وأحسن ما يكون النعم في ذلك الوقت
واعلم أن وجه التجمل بها أن الراعي إذا روحها بالعشي وسرحها بالغداة تزينت عند تلك الإراحة والتسريح الأفنية وتجاوب فيها الثغاء والرغاء وفرحت أربابها وعظم وقعهم عند الناس بسبب كونهم مالكين لها
فإن قيل لم قدمت الإراحة على التسريح
قلنا لأن الجمال في الإراحة أكثر لأنها تقبل ملأى البطون حافلة الضروع ثم اجتمعت في الحظائر حاضرة لأهلها بخلاف التسريح فإنها عند خروجها إلى المرعى تخرج جائعة عادمة اللبن ثم تأخذ في التفرق والإنتشار فظهر أن الجمال في الإراحة أكثر منه في التسريح
والمنفعة الثانية قوله وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقّ الانفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ وفيه مسألتان
المسألة الأولى الأثقال جمع ثقل وهو متاع المسافر لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس قال ابن عباس يريد من مكة إلى المدينة أو إلى اليمن أو إلى الشام أو إلى مصر قال الواحدي هذا قوله والمراد كل بلد لو تكلفتم بلوغه على غير إبل لشق عليكم وخص ابن عباس هذه البلاد لأن متاجر أهل مكة كانت إلى هذه البلاد وقرىء بِشِقّ الانفُسِ بكسر الشين وفتحها وأكثر القراء على كسر الشين والشق المشقة والشق نصف الشيء وحمل اللفظ ههنا على كلا المعنيين جائز فإن حملناه على المشقة كان المعنى لم يكونوا بالغيه إلا بالمشقة وإن حملناه على نصف الشيء كان المعنى لم يكونوا بالغيه إلا عند ذهاب النصف من قوتكم أو من بدنكم ويرجع عند التحقيق إلى المشقة ومن الناس من قال المراد من قوله وَالاْنْعَامَ خَلَقَهَا الإبل فقط بدليل أنه وصفها في آخر الآية بقوله وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ وهذا الوصف لا يليق إلا بالإبل
قلنا المقصود من هذه الآيات تعديد منافع الأنعام فبعض تلك المنافع حاصلة في الكل وبعضها مختص بالبعض والدليل عليه أن قوله وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حاصل في البقر والغنم مثل حصوله في الإبل والله أعلم
المسألة الثانية احتج منكرو كرامات الأولياء بهذه الآية فقالوا هذه الآية تدل على أن الإنسان لا

يمكنه الانتقال من بلد إلى بلد إلا بشق الأنفس وحمل الأثقال على الجمال ومثبتو الكرامات يقولون إن الأولياء قد ينتقلون من بلد إلى بلد آخر بعيد في ليلة واحدة من غير تعب وتحمل مشقة فكان ذلك على خلاف هذه الآية فيكون باطلاً ولما بطل القول بالكرامات في هذه الصورة بطل القول بها في سائر الصور لأنه لا قائل بالفرق
وجوابه أنا نخصص عموم هذه الآية بالأدلة الدالة على وقوع الكرمات والله أعلم
وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَة ً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر منافع الحيوانات التي ينتفع الإنسان بها في المنافع الضرورية والحاجات الأصلية ذكر بعده منافع الحيوانات التي ينتفع بها الإنسان في المنافع التي ليست بضرورية فقال وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَة ً وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قوله وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ عطف على الأنعام أي وخلق الأنعام لكذا وكذا وخلق هذه الأشياء للركوب وقوله وَزِينَة ٌ أي وخلقها زينة ونظيره قوله تعالى زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ( فصلت 12 ) المعنى وحفظناها حفظاً قال الزجاج نصب قوله وَزِينَة ٌ على أنه مفعول له والمعنى وخالقها للزينة
المسألة الثانية احتج القائلون بتحريم لحوم الخيل بهذه الآية فقالوا منفعة الأكل أعظم من منفعة الركوب فلو كان أكل لحم الخيل جائزاً لكان هذا المعنى أولى بالذكر وحيث لم يذكره الله تعالى علمنا أنه يحرم أكله ويمكن أيضاً أن يقوي هذا الاستدلال من وجه آخر فيقال إنه تعالى قال في صفة الأنعام وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ( النحل 5 ) وهذه الكلمة تفيد الحصر فيقتضي أن لا يجوز الأكل من غير الأنعام فوجب أن يحرم أكل لحم الخيل بمقتضى هذا الحصر ثم إنه تعالى بعد هذا الكلام ذكر الخيل والبغال والحمير وذكر أنها مخلوقة للركوب فهذا يقتضي أن منفعة الأكل مخصوصة بالأنعام وغير حاصلة في هذه الأشياء ويمكن الاستدلال بهذه الآية من وجه ثالث وهو أن قوله لِتَرْكَبُوهَا يقتضي أن تمام المقصود من خلق هذه الأشياء الثلاثة هو الركوب والزينة ولو حل أكلها لما كان تمام المقصود من خلقها هو الركوب بل كان حل أكلها أيضاً مقصوداً وحينئذ يخرج جواز ركوبها عن أن يكون تمام المقصود بل يصير بعض المقصود
وأجاب الواحدي بجواب في غاية الحسن فقال لو دلت هذه الآية على تحريم أكل هذه الحيوانات لكان تحريم أكلها معلوماً في مكة لأجل أن هذه السورة مكية ولو كان الأمر كذلك لكان قول عامة المفسرين والمحدثين أن لحوم الحمر الأهلية حرمت عام خيبر باطلاً لأن التحريم لما كان حاصلاً قبل هذا اليوم لم يبق لتخصيص هذا التحريم بهذه الشبهة فائدة وهذا جواب حسن متين
المسألة الثالثة القائلون بأن أفعال الله تعالى معللة بالمصالح والحكم احتجوا بظاهر هذه الآية فإنه يقتضي أن هذه الحيوانات مخلوقة لأجل المنفعة الفلانية ونظيره قوله كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ( إبراهيم 1 )

وقوله وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( الذاريات 56 ) والكلام فيه معلوم
المسألة الرابعة لقائل أن يقول لما كان معنى الآية أنه تعالى خلق الخيل والبغال والحمير لتركبوها وليجعلها زينة لكم فلم ترك هذه العبارة
وجوابه أنه تعالى لو ذكر هذا الكلام بهذه العبارة لصار المعنى أن التزين بها أحد الأمور المعتبرة في المقصود وذلك غير جائز لأن التزين بالشيء يورث العجب والتيه والتكبر وهذه أخلاق مذمومة والله تعالى نهى عنها وزجر عنها فكيف يقول إني خلقت هذه الحيوانات لتحصيل هذه المعاني بل قال خلقها لتركبوها فتدفعوا عن أنفسكم بواسطتها ضرر الإعياء والمشقة وأما التزين بها فهو حاصل في نفس الأمر ولكنه غير مقصود بالذات فهذا هو الفائدة في اختيار هذه العبارة
أو اعلم أنه تعالى لما ذكر أولاً أحوال الحيوانات التي ينتفع الإنسان بها انتفاعاً ضرورياً وثانياً أحوال الحيوانات التي ينتفع الإنسان بها انتفاعاً غير ضروري بقي القسم الثالث من الحيوانات وهي الأشياء التي لا ينتفع الإنسان بها في الغالب فذكرها على سبيل الإجمال فقال وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وذلك لأن أنواعها وأصنافها وأقسامها كثيرة خارجة عن الحد والإحصاء ولو خاض الإنسان في شرح عجائب أحوالها لكان المذكور بعد كتبة المجلدات الكثيرة كالقطرة في البحر فكان أحس الأحوال ذكرها على سبيل الإجمال كما ذكر الله تعالى في هذه الآية وروى عطاء ومقاتل والضحاك عن ابن عباس أنه قال إن على يمين العرش نهراً من نور مثل السموات السبع والأرضين السبع والبحار السبعة يدخل فيه جبريل عليه السلام كل سحر ويغتسل فيزداد نوراً إلى نوره وجمالاً إلى جماله ثم ينتفض فيخلق الله من كل نقطة تقع من ريشه كذا وكذا ألف ملك يدخل منهم كل يوم سبعون ألفاً البيت المعمور وفي الكعبة أيضاً سبعون ألفاً ثم لا يعودون إليه إلى أن تقوم الساعة
وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ
اعلم أنه تعالى لما شرح دلائل التوحيد قال وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ أي إنما ذكرت هذه الدلائل وشرحتها إزاحة للعذر وإزالة للعلة ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيى عن بينة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي القصد استقامة الطريق يقال طريق قصد وقاصد إذا أداك إلى مطلوبك إذا عرفت هذا ففي الآية حذف والتقدير وعلى الله بيان قصد السبيل ثم قال وَمِنْهَا جَائِرٌ أي عادل مائل ومعنى الجور في اللغة الميل عن الحق والكناية في قوله وَمِنْهَا جَائِرٌ تعود على السبيل وهي مؤنثة في لغة الحجاز يعني ومن السبيل ما هو جائر غير قاصد للحق وهو أنواع الكفر والضلال والله أعلم
المسألة الثانية قالت المعتزلة دلت الآية على أنه يجب على الله تعالى الإرشاد والهداية إلى الدين

وإزاحة العلل والأعذار لأنه تعالى قال وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وكلمة ( على ) للوجوب قال تعالى وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ( آل عمران 97 ) ودلت الآية أيضاً على أنه تعالى لا يضل أحداً ولا يغويه ولا يصده عنه وذلك لأنه تعالى لو كان فاعلاً للضلال لقال وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وعليه جائرها أو قال وعليه الجائر فلما لم يقل كذلك بل قال في قصد السبيل أنه عليه ولم يقل في جور السبيل أنه عليه بل قال وَمِنْهَا جَائِرٌ دل على أنه تعالى لا يضل عن الدين أحداً
أجاب أصحابنا أن المراد على الله بحسب الفضل والكرم أن يبين الدين الحق والمذهب الصحيح فإما أن يبين كيفية الاغواء والإضلال فذلك غير واجب فهذا هو المراد والله أعلم
المسألة الثالثة قوله وَلَوْ شَآء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ يدل على أنه تعالى ما شاء هداية الكفار وما أراد منهم الإيمان لأن كلمة ( لو ) تفيد انتفاء شيء لانتفاء شيء غيره قوله وَلَوْ شَآء لَهَدَاكُمْ معناه لو شاء هدايتكم لهداكم وذلك يفيد أنه تعالى ما شاء هدايتهم فلا جرم ما هداهم وذلك يدل على المقصود
وأجاب الأصم عنه بأن المراد لو شاء أن يلجئكم إلى الإيمان لهداكم وهذا يدل على أن مشيئة الإلجاء لم تحصل
وأجاب الجبائي بأن المعنى ولو شاء لهداكم إلى الجنة وإلى نيل الثواب لكنه لا يفعل ذلك إلا بمن يستحقه ولم يرد به الهدى إلى الإيمان لأنه مقدور جميع المكلفين
وأجاب بعضهم فقال المراد ولو شاء لهداكم إلى الجنة ابتداء على سبيل التفضل إلا أنه تعالى عرفكم للمنزلة العظيمة بما نصب من الأدلة وبين فمن تمسك بها فاز بتلك المنازل ومن عدل عنها فاتته وصار إلى العذاب والله أعلم
واعلم أن هذه الكلمات قد ذكرناها مراراً وأطواراً مع الجواب فلا فائدة في الإعادة
هُوَ الَّذِى أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَآءً لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَة ً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
اعلم أن أشرف أجسام العالم السفلي بعد الحيوان النبات فلما قرر الله تعالى الاستدلال على وجود الصانع الحكيم بعجائب أحوال الحيوانات أتبعه في هذه الآية بذكر الاستدلال على وجود الصانع الحكيم بعجائب أحوال النبات
واعلم أن الماء المنزل من السماء هو المطر وأما أن المطر نازل من السحاب أو من السماء فقد ذكرناه في هذا الكتاب مراراً والحاصل أن ماء المطر قسمان أحدهما هو الذي جعله الله تعالى شراباً لنا ولكل

حي وهو المراد بقوله لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ وقد بين الله تعالى في آية أخرى أن هذه النعمة جليلة فقال وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَى ْء حَى ّ ( الأنبياء 30 )
فإن قيل أفتقولون إن شرب الخلق ليس إلا من المطر أو تقولون قد يكون منه وقد يكون من غيره وهو الماء الموجود في قعر الأرض
أجاب القاضي بأنه تعالى بين أن المطر شرابنا ولم ينف أن نشرب من غيره
ولقائل أن يقول ظاهر الآية يدل على الحصر لأن قوله لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ يفيد الحصر لأن معناه منه لا من غيره
إذا ثبت هذا فنقول لا يمتنع أن يكون الماء العذب تحت الأرض من جملة ماء المطر يسكن هناك والدليل عليه قوله تعالى في سورة المؤمنين وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِى الاْرْضِ ( المؤمنون 18 ) ولا يمتنع أيضاً في غير العذب وهو البحر أن يكون من جملة ماء المطر والقسم الثاني من المياه النازلة من السماء ما يجعله الله سبباً لتكوين النبات وإليه الإشارة بقوله وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ إلى آخر الآية وفيه مباحث
البحث الأول ظاهر هذه الآية يقتضي أن أسامة الشجر ممكنة وهذا إنما يصح لو كان المراد من الشجر الكلأ والعشب وههنا قولان
القول الأول قال الزجاج كل ما ثبت على الأرض فهو شجر وأنشد
يطعمها اللحم إذا عز الشجر
يعني أنهم يسقون الخيل اللبن إذا أجدبت الأرض وقال ابن قتيبة في هذه الآية المراد من الشجر الكلأ وفي حديث عكرمة لا تأكلوا ثمن الشجر فإنه سحت يعني الكلأ
ولقائل أن يقول إنه تعالى قال وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ ( الرحمن 6 ) والمراد من النجم ما ينجم من الأرض مما ليس له ساق ومن الشجر ما له ساق هكذا قال المفسرون وبالجملة فلما عطف الشجر على النجم دل على التغاير بينهما ويمكن أن يجاب عنه بأنه عطف الجنس على النوع وبالضد مشهور وأيضاً فلفظ الشجر مشعر بالاختلاط يقال تشاجر القوم إذا اختلط أصوات بعضهم بالبعض وتشاجرت الرماح إذا اختلطت وقال تعالى حَتَّى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ( النساء 65 ) ومعنى الاختلاط حاصل في العشب والكلأ فوجب جواز إطلاق لفظ الشجر عليه
القول الثاني أن الإبل تقدر على رعي ورق الأشجار الكبار وعلى هذا التقدير فلا حاجة إلى ما ذكرناه في القول الأول
البحث الثاني قوله فِيهِ تُسِيمُونَ أي في الشجر ترعون مواشيكم يقال أسمت الماشية إذا خليتها ترعى وسامت هي تسوم سوماً إذا رعت حيث شاءت فهي سوام وسائمة قال الزجاج أخذ ذلك من السومة وهي العلامة وتأويلها أنها تؤثر في الأرض برعيها علامات وقال غيره لأنها تعلم للإرسال في المرعى

وتمام الكلام في هذا اللفظ قد ذكرناه في سورة آل عمران في قوله تعالى وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَة ِ ( آل عمران 14 )
أما قوله تعالى يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالاعْنَابَ ففيه مباحث
البحث الأول هو أن النبات الذي ينبته الله من ماء السماء قسمان أحدهما معد لرعي الأنعام وأسامة الحيوانات وهو المراد من قوله فِيهِ تُسِيمُونَ والثاني ما كان مخلوقاً لأكل الإنسان وهو المراد من قوله يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ
فإن قيل إنه تعالى بدأ في هذه الآية بذكر ما يكون مرعى للحيوانات وأتبعه بذكر ما يكون غذاء للإنسان وفي آية أخرى عكس هذا الترتيب فبدأ بذكر مأكول الإنسان ثم بما يرعاه سائر الحيوانات فقال كُلُواْ وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ ( طه 54 ) فما الفائدة فيه
قلنا أما الترتيب المذكور في هذه الآية فينبه على مكارم الأخلاق وهو أن يكون اهتمام الإنسان بمن يكون تحت يده أكمل من اهتمامه بحال نفسه وأما الترتيب المذكور في الآية الأخرى فالمقصود منه ما هو المذكور في قوله عليه السلام ( ابدأ بنفسك ثم بمن تعول )
البحث الثاني قرأ عاصم في رواية أبي بكر ننبت بالنون على التفخيم والباقون بالياء قال الواحدي والياء أشبه بما تقدم
البحث الثالث اعلم أن الإنسان خلق محتاجاً إلى الغذاء والغذاء إما أن يكون من الحيوان أو من النبات والغذاء الحيواني أشرف من الغذاء النباتي لأن تولد أعضاء الإنسان عند أكل أعضاء الحيوان أسهل من تولدها عند أكل النبات لأن المشابهة هناك أكمل وأتم والغذاء الحيواني إنما يحصل من أسامة الحيوانات والسعي في تنميتها بواسطة الرعي وهذا هو الذي ذكره الله تعالى في الأسامة وأما الغذاء النباتي فقسمان حبوب وفواكه أما الحبوب فإليها الإشارة بلفظ الزرع وأما الفواكه فأشرفها الزيتون والنخيل والأعناب أما الزيتون فلأنه فاكهة من وجه وإدام من وجه آخر لكثرة ما فيه من الدهن ومنافع الأدهان كثيرة في الأكل والطلي واشتعال السرج وأما امتياز النخيل والأعناب من سائر الفواكه فظاهر معلوم وكما أنه تعالى لما ذكر الحيوانات التي ينتفع الناس بها على التفصيل ثم قال في صفة البقية وَزِينَة ً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ( النحل 8 ) فكذلك ههنا لما ذكر الأنواع المنتفع بها من النبات قال في صفة البقية وَمِن كُلّ الثَّمَراتِ تنبيهاً على أن تفصيل القول في أجناسها وأنواعها وصفاتها ومنافعها لا يمكن ذكره في مجلدات فالأولى الاقتصار فيه على الكلام المجمل
ثم قال إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَة ً لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وههنا بحثان
البحث الأول في شرح كون هذه الأشياء آيات دالة على وجود الله تعالى فنقول إن الحبة الواحدة تقع في الطين فإذا مضت على هذه الحالة مقادير معينة من الوقت نفذت في داخل تلك الحبة أجزاء من رطوبة الأرض ونداوتها فتنتفخ الحبة فينشق أعلاها وأسفلها فيخرج من أعلى تلك الحبة شجرة صاعدة من داخل الأرض إلى الهواء ومن أسفلها شجرة أخرى غائصة في قعر الأرض وهذه الغائصة هي المسماة بعروق

الشجرة ثم إن تلك الشجرة لا تزال تزداد وتنمو وتقوى ثم يخرج منها الأوراق والأزهار والأكمام والثمار ثم إن تلك الثمرة تشتمل على أجسام مختلفة الطبائع مثل العنب فإن قشره وعجمه باردان يابسان كثيفان ولحمه وماؤه حاران رطبان لطيفان
إذا عرفت هذا فنقول نسبة الطبائع السفلية إلى هذا الجسم متشابهة ونسبة التأثيرات الفلكية والتحريكات الكوكبية إلى الكل متشابهة ومع تشابه نسب هذه الأشياء ترى هذه الأجسام مختلفة في الطبع والطعم واللون والرائحة والصفة فدل صريح العقل على أن ذلك ليس إلا لأجل فاعل قادر حكيم رحيم فهذا تقدير هذه الدلالة
البحث الثاني أنه تعالى ختم هذه الآية بقوله لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ والسبب فيه أنه تعالى ذكر أنه أَنزَلَ مِنَ الْسَّمَاء مَآء يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالاعْنَابَ
ولقائل أن يقول لا نسلم أنه تعالى هو الذي أنبتها ولم لا يجوز أن يقال إن هذه الأشياء إنما حدثت وتولدت بسبب تعاقب الفصول الأربعة وتأثيرات الشمس والقمر والكواكب وإذا عرفت هذا السؤال فما لم يقم الدليل على فساد هذا الاحتمال لا يكون هذا الدليل تاماً وافياً بإفادة هذا المطلوب بل يكون مقام الفكر والتأمل باقياً فلهذا السبب ختم هذه الآية بقوله لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ

بداية الجزء العشرين من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32

وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِى الأرض مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَة ً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن الله تعالى لما أجاب في هذه الآية عن السؤال الذي ذكرناه من وجهين الأول أن نقول إن حدوث الحوادث في هذا العالم السفلي مسندة إلى الاتصالات الفلكية والتشكلات الكوكبية إلا أنه لا بد لحركاتها واتصالاتها من أسباب وأسباب تلك الحركات إما ذواتها وإما أمور مغايرة لها والأول باطل لوجهين الأول أن الأجسام متماثلة فلو كان جسم علة لصفة لكان كل جسم واجب الاتصاف بتلك الصفة وهو محال والثاني أن ذات الجسم لو كانت علة لحصول هذا الجزء من الحركة لوجب دوام هذا الجزء من الحركة بدوام تلك الذات ولو كان كذلك لوجب بقاء الجسم على حالة واحدة من غير تغير أصلاً وذلك يوجب كونه ساكناً ويمنع من كونه متحركاً فثبت أن القول بأن الجسم متحرك لذاته يوجب كونه ساكناً لذاته وما أفضى ثبوته إلى عدمه كان باطلاً فثبت أن الجسم يمتنع أن يكون متحركاً لكونه جسماً فبقي أن يكون متحركاً لغيره وذلك الغير إما أن يكون سارياً فيه أو مبايناً عنه والأول باطل لأن البحث المذكور عائد في أن ذلك الجسم بعينه لم اختص بتلك القوة بعينها دون سائر الأجسام فثبت أن محرك أجسام الأفلاك والكواكب أمور مباينة عنها وذلك المباين إن كان جسماً أو جسمانياً عاد التقسم الأول فيه وإن لم يكن جسماً ولا جسمانياً فإما أن يكون موجباً بالذات أو فاعلاً مختاراً والأول باطل لأن نسبة ذلك الموجب بالذات إلى جميع الأجسام على السوية فلم يكن بعض الأجسام بقبول بعض الآثار المعينة أولى من بعض ولما بطل هذا ثبت أن محرك الأفلاك والكواكب هو الفاعل المختار القادر المنزه عن كونه جسماً وجسمانياً وذلك هو الله تعالى فالحاصل أنا ولو حكمنا بإسناد حوادث العالم السفلي إلى الحركات الفلكية والكوكبية فهذه الحركات الكوكبية والفلكية لا يمكن إسنادها إلى أفلاك أخرى وإلا لزم التسلسل وهو

محال فوجب أن يكون خالق هذه الحركات ومدبرها هو الله تعالى وإذا كانت الحوادث السفلية مستندة إلى الحركات الفلكية وثبت أن الحركات الفلكية حادثة بتخليق الله تعالى وتقديره وتكوينه فكان هذا اعترافاً بأن الكل من الله تعالى وبإحداثه وتخليقه وهذا هو المراد من قوله وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ يعني إن كانت تلك الحوادث السفلية لأجل تعاقب الليل والنهار وحركات الشمس والقمر فهذه الأشياء لا بد وأن يكون حدوثها بتخليق الله تعالى وتسخيره قطعاً للتسلسل ولما تم هذا الدليل في هذا المقام لا جرم ختم هذه الآية بقوله إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يعني أن كل من كان عاقلاً علم أن القول بالتسلسل باطل ولا بد من الانتهاء في آخر الأمر إلى الفاعل المختار القدير فهذا تقرير أحد الجوابين
والجواب الثاني عن ذلك السؤال أن نقول نحن نقيم الدلالة على أنه لا يجوز أن يكون حدوث النبات والحيوان لأجل تأثير الطباع والأفلاك والأنجم وذلك لأن تأثير الطبائع والأفلاك والأنجم والشمس والقمر بالنسبة إلى الكل واحد ثم نرى أنه إذا تولد العنب كان قشره على طبع وعجمه على طبع ولحمه على طبع ثالث وماؤه على طبع رابع بل نقول إنا نرى في الورد ما يكون أحد وجهي الورقة الواحدة منه في غاية الصفرة والوجه الثاني من تلك الورقة في غاية الحمرة وتلك الورقة تكون في غاية الرقة واللطافة ونعلم بالضرورة أن نسبة الأنجم والأفلاك إلى وجهي تلك الورقة الرقيقة نسبة واحدة والطبيعة الواحدة في المادة الواحدة لا تفعل إلا فعلاً واحداً ألا ترى أنهم قالوا شكل البسيط هو الكرة لأن تأثير الطبيعة الواحدة في المادة الواحدة يجب أن يكون متشابهاً والشكل الذي يتشابه جميع جوانبه هو الكرة وأيضاً إذا وضعنا الشمع فإذا استضاء خمسة أذرع من ذلك الشمع من أحد الجوانب وجب أن يحصل مثل هذا الأثر في جميع الجوانب لأن الطبيعة المؤثرة يجب أن تتشابه نسبتها إلى كل الجوانب
إذا ثبت هذا فنقول ظهر أن نسبة الشمس والقمر والأنجم والأفلاك والطبائع إلى وجهي تلك الورقة اللطيفة الرقيقة نسبة واحدة وثبت أن الطبيعة المؤثرة متى كانت نسبتها واحدة كان الأثر متشابهاً وثبت أن الأثر غير متشابه لأن أحد جانبي تلك الورقة في غاية الصفرة والوجه الثاني في غاية الحمرة فهذا يفيد القطع بأن المؤثر في حصول هذه الصفات والألوان والأحوال ليس هو الطبيعة بل المؤثر فيها هو الفاعل المختار الحكيم وهو الله سبحانه وتعالى وهذا هو المراد من قوله وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِى الاْرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ
واعلم أنه لما كان مدار هذه الحجة على أن المؤثر الموجب بالذات وبالطبيعة يجب أن يكون نسبته إلى الكل نسبة واحدة فلما دل الحس في هذه الأجسام النباتية على اختلاف صفاتها وتنافر أحوالها ظهر أن المؤثر فيها ليس واجباً بالذات بل فاعلاً مختاراً فهذا تمام تقرير هذه الدلائل وثبت أن ختم الآية الأولى بقوله لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ والآية الثانية بقوله لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ والآية الثالثة بقوله لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ هو الذي نبه على هذه الفوائد النفيسة والدلائل الظاهرة والحمد لله على ألطافه في الدين والدنيا
المسألة الثانية قرأ ابن عامر وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ كلها بالرفع على الابتداء والخبر هو قوله مُسَخَّراتٍ وقرأ حفص عن عاصم وَالنُّجُومَ بالرفع على أن يكون قوله وَالنُّجُومَ ابتداء وإنما حملها على هذا لئلا يتكرر لفظ التسخير إذ العرب لا تقول سخرت هذا الشيء مسخراً فجوابه أن المعنى أنه تعالى

سخر لنا هذه الأشياء حال كونها مسخرة تحت قدرته وإرادته وهذا هو الكلام الصحيح والتقدير أنه تعالى سخر للناس هذه الأشياء وجعلها موافقة لمصالحها حال كونها مسخرة تحت قدرة الله تعالى وأمره وإذنه وعلى هذا التقدير فالتكرير الخالي عن الفائدة غير لازم والله علم بقي في الآية سؤالات
السؤال الأول التسخير عبارة عن القهر والقسر ولا يليق ذلك إلا بمن هو قادر يجوز أن يقهر فكيف يصح ذلك في الليل والنهار وفي الجمادات والشمس والقمر
والجواب من وجهين الأول أنه تعالى لما دبر هذه الأشياء على طريقة واحدة مطابقة لمصالح العباد صارت شبيهة بالعبد المنقاد المطواع فلهذا المعنى أطلق على هذا النوع من التدبير لفظ التسخير وعن الوجه الثاني في الجواب وهو لا يستقيم إلا على مذهب أصحاب علم الهيئة وذلك لأنهم يقولون الحركة الطبيعية للشمس والقمر هي الحركة من المغرب إلى المشرق والله تعالى يحرك هذه الكواكب بواسطة حركة الفلك الأعظم من المشرق إلى المغرب فكانت هذه الحركة قسرية فلهذا السبب ورد فيها اللفظ التسخير
السؤال الثاني إذا كان لا يحصل للنهار والليل وجود إلا بسبب حركات الشمس كان ذكر النهار والليل مغنياً عن ذكر الشمس
والجواب أن حدوث النهار والليل ليس بسبب حركة الشمس بل حدوثهما بسبب حركة الفلك الأعظم الذي دللنا على أن حركته ليست إلا بتحريك الله سبحانه وأما حركة الشمس فإنها علة لحدوث السنة لا لحدوث اليوم
السؤال الثالث ما معنى قوله مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ والمؤثر في التسخير هو القدرة لا الأمر
والجواب أن هذه الآية مبنية على أن الأفلاك والكواكب جمادات أم لا وأكثر المسلمين عليها أنها جمادات فلا جرم حملوا الأمر في هذه الآية على الخلق والتقدير ولفظ الأمر بمعنى الشأن والفعل كثير قال تعالى إِنَّمَا قَوْلُنَا إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( النحل 40 ) ومن الناس من يقول إنها ليست جمادات فههنا يحمل الأمر على الأذن والتكليف والله أعلم
وَهُوَ الَّذِى سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَة ً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
اعلم أنه تعالى لما احتج على إثبات الإله في المرتبة الأولى بأجرام السموات وفي المرتبة الثانية ببدن الإنسان ونفسه وفي المرتبة الثالثة بعجائب خلقة الحيوانات وفي المرتبة الرابعة بعجائب طبائع النبات ذكر في المرتبة الخامسة الاستدلال على وجود الصانع بعجائب أحوال العناصر فبدأ منها بالاستدلال بعنصر الماء

واعلم أن علماء الهيئة قالوا ثلاثة أرباع كرة الأرض غائصة في الماء وذاك هو البحر المحيط وهو كلية عنصر الماء وحصل في هذا الربع المسكون سبعة من البحار كما قال بعده وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَة ُ أَبْحُرٍ ( لقمان 27 ) والبحر الذي سخره الله تعالى للناس هو هذه البحار ومعنى تسخير الله تعالى إياها للخلق جعلها بحيث يتمكن الناس من الانتفاع بها إما بالركوب أو بالغوص
واعلم أن منافع البحار كثيرة والله تعالى ذكر منها في هذه الآية ثلاثة أنواع
المنفعة الأولى قوله تعالى لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيّا وفيه مسائل
المسألة الأولى قال ابن الأعرابي لحم طري غير مهموز وقد طرو يطرو طراوة وقال الفراء طرا يطرا طراء ممدوداً وطراوة كما يقال شقى يشقى شقاء وشقاوة
واعلم أن في ذكر الطري مزيد فائدة وذلك لأنه لو كان السمك كله مالحاً لما عرف به من قدرة الله تعالى ما يعرف بالطري فإنه لما خرج من البحر الملح الزعاق الحيوان الذي لحمه في غاية العذوبة علم أنه إنما حدث لا بحسب الطبيعة بل بقدرة الله وحكمته حيث أظهر الضد من الضد
المسألة الثانية قال أبو حنيفة رحمه الله لو حلف لا يأكل اللحم فأكل لحم السمك لا يحنث قالوا لأن لحم السمك ليس بلحم وقال آخرون إنه يحنث لأنه تعالى نص على كونه لحماً في هذه الآية وليس فوق بيان الله بيان روي أن أبا حنيفة رحمه الله لما قال بهذا القول وسمعه سفيان الثوري فأنكر عليه ذلك واحتج عليه بهذه الآية بعث إليه رجلاً وسأله عن رجل حلف لا يصلي على البساط فصلى على الأرض هل يحنث أم لا قال سفيان لا يحنث فقال السائل أليس أن الله تعالى قال وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الاْرْضَ بِسَاطاً ( نوح 19 ) قال فعرف سفيان أن ذلك كان بتلقين أبي حنيفة
ولقائل أن يقول هذا الكلام ليس بقوي لأن أقصى ما في الباب أنا تركنا العمل بظاهر القرآن في لفظ البساط للدليل الذي قام عليه فكيف يلزمنا ترك العمل بظاهر القرآن في آية أخرى والفرق بين الصورتين من وجهين الأول أنه لما حلف لا يصلي على البساط فلو أدخلنا الأرض تحت لفظ البساط لزمنا أن نمنعه من الصلاة لأنه إن صلى على الأرض المفروشة بالبساط لزمه الحنث لا محالة ولو صلى على الأرض التي لا تكون مفروشة لزمه الحنث أيضاً على تقدير أن يدخل الأرض تحت لفظ البساط فهذا يقتضي منعه من الصلاة وذلك مما لا سبيل إليه بخلاف ما إذا أدخلنا لحم السمك تحت لفظ اللحم لأنه ليس في منعه من أكل اللحم على الإطلاق محذور فظهر الفرق الثاني أنا نعلم بالضرورة من عرف أهل اللغة أن وقوع اسم البساط على الأرض الخالصة مجاز أما وقوع اسم اللحم على لحم السمك فلم يعرف أنه مجاز فظهر الفرق والله أعلم
وحجة أبي حنيفة رحمه الله أن مبنى الأيمان على العادة وعادة الناس إذا ذكر اللحم على الإطلاق أن لا يفهم منه لحم السمك بدليل أنه إذا قال الرجل لغلامه اشتر بهذه الدراهم لحماً فجاء بالسمك كان حقيقاً بالإنكار
والجواب أنا رأيناكم في كتاب الأيمان تارة تعتبرون اللفظ وتارة تعتبرون العرف وما رأيناكم ذكرتم

ضابطاً بين القسمين والدليل عليه أنه إذا قال لغلامه اشتر بهذه الدراهم لحماً فجاء بلحم العصفور كان حقيقاً بالإنكار عليه مع أنكم تقولون إنه يحنث بأكل لحم العصفور فثبت أن العرف مضطرب والرجوع إلى نص القرآن متعين والله أعلم
المنفعة الثانية من منافع البحر قوله تعالى وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَة ً تَلْبَسُونَهَا والمراد بالحلية اللؤلؤ والمرجان كما قال تعالى يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ ( الرحمن 22 ) والمراد بلبسهم لبس نسائهم لأنهن من جملتهم ولأن إقدامهن على التزين بها إنما يكون من أجلهم فكأنها زينتهم ولباسهم ورأيت بعض أصحابنا تمسكوا في مسألة أنه لا يجب الزكاة في الحلي المباح بحديث عروة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( لا زكاة في الحلي ) فقلت هذا الحديث ضعيف الرواية وبتقدير الصحة فيمكن أن يقال فيه لفظ الحلي لفظ مفرد محلى بالألف واللام وقد بينا في أصول الفقه أن هذا اللفظ يجب حمله على المعهود السابق والحلي الذي هو المعهود السابق هو الذي ذكره الله تعالى في كتابه في هذه الآية وهو قوله وَتَسْتَخْرِجُونَ مِنْهُ حِلْيَة ً تَلْبَسُونَهَا فصار بتقدير صحة ذلك الخبر لا زكاة في اللآلىء وحينئذ يسقط الاستدلال به والله أعلم
المنفعة الثالثة قوله تعالى وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ قال أهل اللغة مخر السفينة شقها الماء بصدرها وعن الفراء أنه صوت جري الفلك بالرياح
إذا عرفت هذا فقول ابن عباس مَوَاخِرَ أي جواري إنما حسن التفسير به لأنها لا تشق الماء إلا إذا كانت جارية وقوله تعالى وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ يعني لتركبوه للتجارة فتطلبوا الربح من فضل الله وإذا وجدتم فضل الله تعالى وإحسانه فلعلكم تقدمون على شكره والله أعلم
وَأَلْقَى فِى الأرض رَوَاسِى َ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ
اعلم أن المقصود من هذه الآية ذكر بعض النعم التي خلقها الله تعالى في الأرض
فالنعمة الأولى قوله وَأَلْقَى فِى الاْرْضِ رَوَاسِى َ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قوله أَن تَمِيدَ بِكُمْ يعني لئلا تميد بكم على قول الكوفيين وكراهة أن تميد بكم على قول البصريين وذكرنا هذا عند قوله تعالى يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ ( النساء 176 ) والميد الحركة والاضطراب يميناً وشمالاً يقال ماد يميد ميداً
المسألة الثانية المشهور عن الجمهور في تفسير هذه الآية أن قالوا إن السفينة إذا ألقيت على وجه الماء فإنها تميد من جانب إلى جانب وتضطرب فإذا وضعت الأجرام الثقيلة في تلك السفينة استقرت على وجه الماء فاستوت قالوا فكذلك لما خلق الله تعالى الأرض على وجه الماء اضطربت ومادت فخلق الله تعالى عليها هذه الجبال الثقال فاستقرت على وجه الماء بسبب ثقل هذه الجبال

ولقائل أن يقول هذا يشكل من وجوه الأول أن هذا التعليل إما أن يذكر مع تسليم كون الأرض والماء ثقيلة بالطبع أو مع المنع من هذا الأصل ومع القول بأن حركات هذه الأجسام بطباعها أو ليست بطباعها بل هي واقعة بتخليق الفاعل المختار أما على التقدير الأول فهذا التعليل مشكل لأن على هذا الأصل لا شك أن الأرض أثقل من الماء والأثقل من الماء يغوص في الماء ولا يبقى طافياً عليه وإذا لم يبق طافياً عليه امتنع أن يقال إنها تميد وتميل وتضطرب وهذا بخلاف السفينة لأنها متخذة من الخشب وفي داخل الخشب تجويفات مملوءة من الهواء فلهذا السبب تبقى الخشبة طافية على الماء فحينئذ تضطرب وتميد وتميل على وجه الماء فإذا أرسيت بالأجسام الثقيلة استقرت وسكنت فظهر الفرق وأما على التقدير الثاني وهو أن يقال ليس للأرض ولا للماء طبائع توجب الثقل والرسوب والأرض إنما تنزل لأن الله تعالى أجرى عادته بجعلها كذلك وإنما صار الماء محيطاً بالأرض لمجرد إجراء العادة وليس ههنا طبيعة للأرض ولا للماء توجب حالة مخصوصة فنقول فعلى هذا التقدير علة سكون الأرض هي أن الله تعالى يخلق فيها السكون وعلة كونها مائدة مضطربة هي أن الله تعالى يخلق فيها الحركة وعلى هذا التقدير فإنه يفسد القول بأن الأرض كانت مائلة فخلق الله الجال وأرساها عليها لتبقى ساكنة لأن هذا إنما يصح إذا كان طبيعة الأرض توجب الميدان وطبيعة الجبال توجب الإرساء والثبات ونحن إنما نتكلم الآن على تقدير نفي الطبائع الموجبة لهذه الأحوال فثبت أن هذا التعليل مشكل على كل التقديرات
السؤال الثاني هو أن إرساء الأرض بالجبال إنما يعقل لأجل أن تبقى الأرض على وجه الماء من غير أن تميد وتميل من جانب إلى جانب وهذا إنما يعقل إذا كان الماء الذي استقرت الأرض على وجهه واقفاً فنقول فما المقتضى لسكون ذلك الماء ووقوفه في حيزه المخصوص فإن قلت المقتضي لسكونه في ذلك الحيز المخصوص هو أن طبيعته المخصوصة توجب وقوفه في ذلك المعين فلم لا تقول مثله في الأرض وهو أن الطبيعة المخصوصة التي للأرض توجب وقوفها في ذلك الحيز المعين وذلك يفيد القول بأن الأرض إنما وقفت بسبب أن الله تعالى أرساها بالجبال فإن قلت المقتضى لسكون الماء في حيزه المعين هو أن الله تعالى سكن الماء بقدرته في ذلك الحيز المخصوص فلم لا تقول مثله في سكون الأرض وحينئذ يفسد هذا التعليل أيضاً
السؤال الثالث أن مجموع الأرض جسم عظيم فبتقدير أن تميد كليته وتضطرب على وجه البحر المحيط لم تظهر تلك الحالة للناس
فإن قيل أليس أن الأرض تحركها البخارات المحتقنة في داخلها عند الزلازل وتظهر تلك الحركات للناس فبم تنكرون على من يقول إنه لولا الجبال لتحركت الأرض إلا أنه تعالى لما أرساها بالجبال الثقال لم تقو الرياح على تحريكها
قلنا تلك البخارات إنما احتقنت في داخل قطعة صغيرة من الأرض فلما حصلت الحركة في تلك القطعة الصغيرة ظهرت تلك الحركة قال القائلون بهذا القول إن ظهور الحركة في تلك القطعة المعينة من الأرض يجري مجرى اختلاج يحصل في عضو معين من بدن الإنسان أما لو حركت كلية الأرض لم تظهر تلك الحركة ألا ترى أن الساكن في السفينة لا يحس بحركة كلية السفينة وإن كانت واقعة على أسرع الوجوه

وأقواها فكذا ههنا فهذا ما في هذا الموضع من المباحث الدقيقة العميقة والذي عندي في هذا الموضع المشكل أن يقال ثبت بالدلائل اليقينية أن الأرض كرة وثبت أن هذه الجبال على سطح هذه الكرة جارية مجرى خشونات تحصل على وجه هذه الكرة
إذا ثبت هذا فنقول لو فرضنا أن هذه الخشونات ما كانت حاصلة بل كانت الأرض كرة حقيقية خالية عن الخشونات والتضريسات لصارت بحيث تتحرك بالاستدارة بأدنى سبب لأن الجرم البسيط المستدير إما أن يجب كونه متحركاً بالاستدارة على نفسه وإن لم يجب ذلك عقلاً إلا أنه بأدنى سبب يتحرك على هذا الوجه أما لما حصل على ظاهر سطح كرة الأرض هذه الجبال وكانت كالخشونات الواقعة على وجه الكرة فكل واحد من هذه الجبال إنما يتوجه بطبعه نحو مركز العالم وتوجه ذلك الجبل نحو مركز العالم بثقله العظيم وقوته الشديدة يكون جارياً مجرى الوتد الذي يمنع كرة الأرض من الاستدارة فكان تخليق هذه الجبال على وجه الأرض كالأوتاد المغروزة في الكرة المانعة لها عن الحركة المستديرة فكانت مانعة للأرض من الميد والميل والاضطراب بمعنى أنها منعت الأرض من الحركة المستديرة فهذا ما وصل إليه بحثي في هذا الباب والله أعلم بمراده
النعمة الثانية من النعم التي أظهرها الله تعالى على وجه الأرض هي أنه تعالى أجرى الأنهار على وجه الأرض واعلم أنه حصل ههنا بحثان
البحث الأول أن قوله وَأَنْهَارٌ معطوف على قوله وَأَلْقَى فِى الاْرْضِ رَوَاسِى َ والتقدير ألقى رواسي وأنهاراً وخلق الأنهار لا يبعد أن يسمى بالإلقاء فيقال ألقى اًّ في الأرض أنهاراً كما قال وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَواسِيَ ( قَ 7 ) والإلقاء معناه الجعل ألا تر أنه تعالى قال في آية أخرى وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِى َ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا ( فصلت 10 والإلقاء يقارب الإنوال لأن الإلقاء يدل على طرح الشيء من الأعلى إلى الأسفل إلا أن المراد من هذا الإلقاء الجعل والخلق قال تعالى والإلقاء يقارب الإنوال لأن الإلقاء يدل على طرح الشيء من الأعلى إلى الأسفل إلا أن المراد من هذا الإلقاء الجعل والخلق قال تعالى وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّة ً مّنّى ( طه 39 )
البحث الثاني أنه ثبت في العلوم العقلية أن أكثر الأنهار إنما تتفجر منابعها في الجبال فلهذا السبب لما ذكر الله تعالى الجبال أتبع ذكرها بتفجير العيون والأنهار
النعمة الثالثة قوله وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وهي أيضاً على قوله وَأَلْقَى فِى الاْرْضِ رَوَاسِى َ والتقدير وألقى في الأرض سبلاً ومعناه أنه تعالى أظهرها وبينها لأجل أن تهتدوا بها في أسفاركم ونظيره قوله تعالى في آية أخرى وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً ( طه 53 ) وقوله لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ أي لكي تهتدوا
واعلم أنه تعالى لما ذكر أنه أظهر في الأرض سبلاً معينة ذكر أنه أظهر فيها علامات مخصوصة حتى يتمكن المكلف من الاستدلال بها فيصل بواسطتها إلى مقصوده فقال وَعَلامَاتٍ وهي أيضاً معطوفة على قوله فِى الاْرْضِ رَوَاسِى َ والتقدير وألقى في الأرض رواسي وألقى فيها أنهاراً وسبلاً وألقى فيها علامات والمراد بالعلامات معالم الطرق وهي الأشياء التي بها يهتدي وهذه العلامات هي الجبال والرياح ورأيت جماعة يشمون التراب وبواسطة ذلك الشم يتعرفون الطرق قال الأخفش تم الكلام عند قوله وَعَلامَاتٍ وقوله وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ كلام منفصل عن الأول والمراد بالنجم الجنس كقولك كثر الدرهم في

أيدي الناس وعن السدي هو الثريا والفرقدان وبنات نعش والجدي وقرأ الحسن وَبِالنَّجْمِ بضمتين وبضمة فسكون وهو جمع نجم كرهن ورهن والسكون تخفيف وقيل حذف الواو من النجم تخفيفاً
فإن قيل قوله أَن تَمِيدَ بِكُمْ خطاب الحاضرين وقوله وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ خطاب للغائبين فما السبب فيه
قلنا إن قريشاً كانت تكثر أسفارها لطلب المال ومن كثرت أسفاره كان علمه بالمنافع الحاصلة من الاهتداء بالنجوم أكثر وأتم فقوله وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ إشارة إلى قريش للسبب الذي ذكرناه والله أعلم
واختلف المفسرون فمنهم من قال قوله وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ مختص بالبحر لأنه تعالى لما ذكر صفة البحر وما فيه من المنافع بين أن من يسيرون فيه يهتدون بالنجم ومنهم من قال بل هو مطلق يدخل فيه السير في البر والبحر وهذا القول أولى لأنه أعم في كونه نعمة ولأن الاهتداء بالنجم قد يحصل في الوقتين معاً ومن الفقهاء من يجعل ذلك دليلاً على أن المسافر إذا عميت عليه القبلة فإنه يجب عليه أن يستدل بالنجوم وبالعلامات التي في الأرض وهي الجبال والرياح وذلك صحيح لأنه كما يمكن الاهتداء بهذه العلامات في معرفة الطرق والمسالك فكذلك يمكن الاستدلال بها في معرفة طلب القبلة
واعلم أن اشتباه القبلة إما أن يكون بعلامات لائحة أو لا يكون فإن كانت لائحة وجب أن يجب الاجتهاد ويتوجه إلى حيث غلب على الظن أنه هو القبلة فإن تبين الخطأ وجب الإعادة لأنه كان مقصراً فيما وجب عليه وإن لم تظهر العلامات فههنا طريقان
الطريق الأول أن يكون مخيراً في الصلاة إلى أي جهة شاء لأن الجهات لما تساوت وامتنع الترجيح لم يبق إلا التخيير
والطريق الثاني أن يصلي إلى جميع الجهات فحينئذ يعلم بيقين أنه خرج عن العهدة وهذا كما يقوله الفقهاء فيمن نسي صلاة لا يعرفها بعينها أن الواجب عليه في القضاء أن يأتي بالصلوات الخمس ليكون على يقين من قضاء ما لزمه ومنهم من يقول الواجب منها واحدة فقط وهذا غلط لأنه لما لزمه أن يفعل الكل كان الكل واجباً وإن كان سبب وجوب كل هذه الصلوات فوت الصلاة الواحدة والله أعلم
أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَآ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ

في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما ذكر الدلائل الدالة على وجود القادر الحكيم على الترتيب الأحسن والنظم الأكمل وكانت تلك الدلائل كما أنها كانت دلائل فكذلك أيضاً كانت شرحاً وتفصيلاً لأنواع نعم الله تعالى وأقسام إحسانه أتبعه بذكر إبطال عبادة غير الله تعالى والمقصود أنه لما دلت هذه الدلائل الباهرة والبينات الزاهرة القاهرة على وجود إله قادر حكيم وثبت أنه هو المولي لجميع هذه النعم والمعطي لكل هذه الخيرات فكيف يحسن في العقول الاشتغال بعبادة موجود سواه لا سيما إذا كان الموجود جماداً لا يفهم ولا يدر فلهذا الوجه قال بعد تلك الآيات أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ والمعنى أفمن يخلق هذه الأشياء التي ذكرناها كمن لا يخلق بل لا يقدر البتة على شيء أفلا تذكرون فإن هذا القدر لا يحتاج إلى تدبر وتفكر ونظر ويكفي فيه أن تتنبهوا على ما في عقولكم من أن العبادة لا تليق إلا بالمنعم الأعظم وأنتم ترون في الشاهد إنساناً عاقلاً فاهماً ينعم بالنعمة العظيمة ومع ذلك فتعلمون أنه يقبح عبادته فهذه الأصنام جمادات محضة وليس لها فهم ولا قدرة ولا اختيار فكيف تقدمون على عبادتها وكيف تجوزون الاشتغال بخدمتها وطاعتها
المسألة الثانية المراد بقوله مَّن لاَّ يَخْلُقُ الأصنام وأنها جمادات فلا يليق بها لفظة ( من ) لأنها لأولي العلم وأجيب عنه من وجوه
الوجه الأول أن الكفار لما سموها آلهة وعبدوها لا جرم أجريت مجرى أولي العلم ألا ترى إلى قوله على أثره وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ
والوجه الثاني في الجواب أن السبب فيه المشاكلة بينه وبين من يخلق
والوجه الثالث أن يكون المعنى أن من يخلق ليس كمن لا يخلق من أولي العلم فكيف من لا علم عنده كقوله أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا يعني أن الآلهة التي تدعونها حالهم منحطة عن حال من لهم أرجل وأيد وآذان وقلوب لأن هؤلاء أحياء وهم أموات فكيف يصح منهم عبادتها وليس المراد أنه لو صحت لهم هذه الأعضاء لصح أن يعبدوا
فإن قيل قوله أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ المقصود منه إلزام عبدة الأوثان حيث جعلوا غير الخالق مثل الخالق في التسمية بالإله وفي الاشتغال بعبادتها فكان حق الإلزام أن يقال أفمن لا يخلق كمن يخلق
والجواب المراد منه أن من يخلق هذه الأشياء العظيمة ويعطي هذه المنافع الجليلة كيف يسوى بينه وبين هذه الجمادات الخسيسة في التسمية باسم الإله وفي الاشتغال بعبادتها والإقدام على غاية تعظيمها فوقع التعبير عن هذا المعنى بقوله أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ
المسألة الثالثة احتج بعض أصحابنا بهذه الآية على أن العبد غير خالق لأفعال نفسه فقال إنه تعالى ميز نفسه عن سائر الأشياء التي كانوا يعبدونها بصفة الخالقية لأن قوله أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ الغرض منه بيان كونه ممتازاً عن الأنداد بصفة الخالقية وأنه إنما استحق الإلهية والمعبودية بسبب كونه خالقاً فهذا

يقتضي أن العبد لو كان خالقاً لبعض الأشياء لوجب كونه إلهاً معبوداً ولما كان ذلك باطلاً علمنا أن العبد لا يقدر على الخلق والإيجاد قالت المعتزلة الجواب عنه من وجوه
الوجه الأول أن المراد أفمن يخلق ما تقدم ذكره من السموات والأرض والإنسان والحيوان والنبات والبحار والنجوم والجبال كمن لا يقدر على خلق شيء أصلاً فهذا يقتضي أن من كان خالقاً لهذه الأشياء فإنه يكون إلهاً ولم يلزم منه أن من يقدر على أفعال نفسه أن يكون إلهاً
والوجه الثاني أن معنى الآية أن من كان خالقاً كان أفضل ممن لا يكون خالقاً فوجب امتناع التسوية بينهما في الإلهية والمعبودية وهذا القدر لا يدل على أن كل من كان خالقاً فإنه يجب أن يكون إلهاً والدليل عليه قوله تعالى أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا ( الأعراف 195 ) ومعناه أن الذي حصل له رجل يمشي بها يكون أفضل من الذي حصل له رجل لا يقدر أن يمشي بها وهذا يوجب أن يكون الإنسان أفضل من الصنم والأفضل لا يليق به عبادة الأخس فهذا هو المقصود من هذه الآية ثم إنها لا تدل على أن من حصل له رجل يمشي بها أن يكون إلهاً فكذلك ههنا المقصود من هذه الآية بيان أن الخالق أفضل من غير الخالق فيمتنع التسوية بينهما في الإلهية والمعبودية ولا يلزم منه أن يمجرد حصول صفة الخالقية يكون إلهاً
والوجه الثالث في الجواب أن كثيراً من المعتزلة لا يطلقون لفظ الخالق على العبد قال الكعبي في ( تفسيره ) إنا لا نقول إنا نخلق أفعالنا قال ومن أطلق ذلك فقد أخطأ إلا في مواضع ذكرها الله تعالى كقوله وَإِذَا تَخْلُقُ مِنَ الطّينِ كَهَيْئَة ِ الطَّيْرِ ( المائدة 110 ) وقوله فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ( المؤمنون 14 )
واعلم أن أصحاب أبي هاشم يطلقون لفظ الخالق على العبد حتى أن أبا عبد الله البصير بالغ وقال إطلاق لفظ الخالق على العبد حقيقة وعلى الله مجاز لأن الخالق عبارة عن التقدير وذلك عبارة عن الظن والحسبان وهو في حق العبد حاصل وفي حق الله تعالى محال
واعلم أن هذه الأجوبة قوية والاستدلال بهذه الآية على صحة مذهبنا ليس بقوي والله أعلم
أما قوله تعالى وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا ففيه مسألتان
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما بين بالآية المتقدمة أن الاشتغال بعبادة غير الله باطل وخطأ بين بهذه الآية أن العبد لا يمكنه الإتيان بعبادة الله تعالى وشكر نعمه والقيام بحقوق كرمه على سبيل الكمال والتمام بل العبد وإن أتعب نفسه في القيام بالطاعات والعبادات وبالغ في شكر نعمة الله تعالى فإنه يكون مقصراً وذلك لأن الاشتغال بشكر النعم مشروط بعلمه بتلك النعم على سبيل التفصيل والتحصيل فإن من لا يكون متصوراً ولا مفهوماً ولا معلوماً امتنع الاشتغال بشكره إلا أن العلم بنعم الله تعالى على سبيل التفصيل غير حاصل للعبد لأن نعم الله تعالى كثيرة وأقسامها وشعبها واسعة عظيمة وعقول الخلق قاصرة عن الإحاطة بمباديها فضلاً عن غاياتها وأنها غير معلومة على سبيل التفصيل وما كان كذلك امتنع الاشتغال بشكره على الوجه الذي يكون ذلك الشكر لائقاً بتلك النعم فهذا هو المفهوم من قوله وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا يعني أنكم لا تعرفونها على سبيل التمام والكمال وإذا لم تعرفوها امتنع منكم القيام بشكرها

على سبيل التمام والكمال وذلك يدل على أن شكر الخالق قاصر عن نعم الحق وعلى أن طاعات الخلق قاصرة عن ربوبية الحق وعلى أن معارف الخلق قاصرة عن كنه جلال الحق ومما يدل قطعاً على أن عقول الخلق قاصرة عن معرفة أقسام نعم الله تعالى أن كل جزء من أجزاء البدن الإنساني لو ظهر فيه أدنى خلل لتنغص العيش على الإنسان ولتمنى أن ينفق كل الدنيا حتى يزول عنه ذلك الخلل ثم إنه تعالى يدبر أحوال بدن الإنسان على الوجه الأكمل الأصلح مع أن الإنسان لا علم له بوجود ذلك الجزء ولا بكيفية مصالحه ولا بدفع مفاسده فليكن هذا المثال حاضراً في ذهنك ثم تأمل في جميع ما خلق الله في هذا العالم من المعادن والنبات والحيوان وجعلها مهيأة لانتفاعك بها حتى تعلم أن عقول الخلق تفنى في معرفة حكمة الرحمن في خلق الإنسان فضلاً عن سائر وجوه الفضل والإحسان
فإن قيل فلما قررتم أن الاشتغال بالشكر موقوف على حصول العلم بأقسام النعم ودللتم على أن حصول العالم بأقسام النعم محال أو غير واقع فكيف أمر الله الخلق بالقيام بشكر النعم
قلنا الطريق إليه أن يشكر الله تعالى على جميع نعمه مفصلها ومجملها فهذا هو الطريق الذي به يمكن الخروج عن عهدة الشكر والله أعلم
المسألة الثانية قال بعضهم إنه ليس لله على الكفار نعمة وقال الأكثرون لله على الكافر والمؤمن نعم كثيرة والدليل عليه أن الإنعام بخلق السموات والأرض والإنعام بخلق الإنسان من النطفة والإنعام بخلق الإنعام ويخلق الخيل والبغال والحمير ويخلق أصناف النعم من الزرع والزيتون والنخيل والأعناب وبتسخير البحر ليأكل الإنسان منه لحماً طرياً ويستخرج منه حلية يلبسها كل ذلك مشترك فيه بين المؤمن والكافر ثم أكد تعالى ذلك بقوله تعالى وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا وذلك يدل على أن كل هذه الأشياء نعم من الله تعالى في حق الكل وهذا يدل على أن نعم الله واصلة إلى الكفار والله أعلم
أما قوله إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ اعلم أنه تعالى قال في سورة إبراهيم وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ( إبراهيم 34 ) وقال ههنا إن الله لغفور رحيم ) والمعنى أنه لما بين أن الإنسان لا يمكنه القيام بأداء الشكر على سبيل التفصيل قال ( إن الله لغفور رحيم ) أي غفور للتقصير الصادر عنكم في القيام بشكر نعمه رحيم بكم حيث لم يقطع نعمه عليكم بسبب تقصيركم
أما قوله والله يعلم ما تسرون وما تعلنون ففيه وجهان الأول أن الكفار كانوا مع اشتغالهم بعبادة غير الله تعالى يسرون ضروباً من الكفر في مكايد الرسول عليه السلام فجعل هذا زجراً لهم عنها والثاني أنه تعالى زيف في الآية الأولى عبادة الأصنام بسبب أنه لا قدرة لها على الخلق والإنعام وزيف في هذه الآية أيضاً عبادتها بسبب أن الإله يجب أن يكون عالماً بالسر والعلانية وهذه الأصنام جمادات لا معرفة لها بشيء أصلاً فكيف تحسن عبادتها
أما قوله وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ فاعلم أنه تعالى وصف هذه الأصنام بصفات كثيرة
فالصفة الأولى أنهم لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون قرأ حفص عن عاصم يسرون ويعلنون ويدعون كلها بالياء على الحكاية عن الغائب وقرأ أبو بكر عن عاصم يَدَّعُونَ بالياء خاصة على المغايبة وتسرون

وتعلنون بالتاء على الخطاب والباقون كلها بالتاء على الخطاب عطفاً على ما قبله
فإن قيل أليس أن قوله في أول الآية أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ يدل على أن هذه الأصنام لا تخلق شيئاً وقوله ههنا لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا يدل على نفس هذا المعنى فكان هذا محض التكرير
وجوابه أن المذكور في أول الآية أنهم لا يخلقون شيئاً والمذكور ههنا أنهم لا يخلقون شيئاً وأنهم مخلوقون لغيرهم فكان هذا زيادة في المعنى وكأنه تعالى بدأ بشرح نقصهم في ذواتهم وصفاتهم فبين أولاً أنها لا تخلق شيئاً ثم ثانياً أنها كما لا تخلق غيرها فهي مخلوقة لغيرها
والصفة الثانية قوله أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء والمعنى أنها لو كانت آلهة على الحقيقة لكانوا أحياء غير أموات أي غير جائز عليها الموت كالحي الذي لا يموت سبحانه وتعالى وأمر هذه الأصنام على العكس من ذلك
فإن قيل لما قال أَمْوَاتٌ علم أنها غير أحياء فما القائدة في قوله غَيْرُ أَحْيَاء
والجواب من وجهين الأول أن الإله هو الحي الذي لا يحصل عقيب حياته موت وهذه الأصنام أموات لا يحصل عقيب موتها الحياة والثاني أن هذا الكلام مع الكفار الذين يعبدون الأوثان وهم في نهاية الجهالة والضلالة ومن تكلم مع الجاهل الغر الغبي فقد يحسن أن يعبر عن المعنى الواحد بالعبارات الكثيرة وغرضه منه الإعلام بكون ذلك المخاطب في غاية الغباوة وأنه إنما يعيد تلك الكلمات لكون ذلك السامع في نهاية الجهالة وأنه لا يفهم المعنى المقصود بالعبارة الواحدة
الصفة الثالثة قوله وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ والضمير في قوله وَمَا يَشْعُرُونَ عائد إلى الأصنام وفي الضمير في قوله يُبْعَثُونَ قولان أحدهما أنه عائد إلى العابدين للأصنام يعني أن الأصنام لا يشعرون متى تبعث عبدتهم وفيه تهكم بالمشركين وأن آلهتهم لا يعلمون وقت بعثهم فكيف يكون لهم وقت جزاء منهم على عبادتهم والثاني أنه عائد إلى الأصنام يعني أن هذه الأصنام لا تعرف متى يبعثها الله تعالى قال ابن عباس إن الله يبعث الأصنام ولها أرواح ومعها شياطينها فيؤمر بها إلى النار
فإن قيل الأصنام جمادات والجمادات لا توصف بأنها أموات ولا توصف بأنهم لا يشعرون كذا وكذا
والجواب عنه من وجوه الأول أن الجماد قد يوصف بكونه ميتاً قال تعالى يُخْرِجُ الْحَى َّ مِنَ الْمَيّتِ ( الروم 19 ) والثاني أن القوم لما وصفوا تلك الأصنام بالإلهية والمعبودية قيل لهم ليس الأمر كذلك بل هي أموات ولا يعرفون شيئاً فنزلت هذه العبارات على وفق معتقدهم والثالث أن يكون المراد بقوله وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ الملائكة وكان ناس من الكفار يعبدونهم فقال الله إنهم أموات لا بد لهم من الموت غير أحياء أي غير باقية حياتهم وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ أي لا علم لهم بوقت بعثهم والله أعلم
إِلَاهُكُمْ إِلاهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاٌّ خِرَة ِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَة ٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ لاَ جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ

اعلم أنه تعالى لما زيف فيما تقدم طريقة عبدة الأوثان والأصنام وبين فساد مذهبهم بالدلائل القاهرة قال إِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ واحِدٌ ثم ذكر الله تعالى ما لأجله أصر الكفار على القول بالشرك وإنكار التوحيد فقال فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَة ِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَة ٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ والمعنى أن الذين يؤمنون بالآخرة ويرغبون في الفوز بالثواب الدائم ويخافون الوقوع في العقاب الدائم إذا سمعوا الدلائل والترغيب والترهيب خافوا العقاب فتأملوا وتفكروا فيما يسمعونه فلا جرم ينتفعون بسماع الدلائل ويرجعون من الباطل إلى الحق أما الذين لا يؤمنون بالآخرة وينكرونها فإنهم لا يرغبون في حصول الثواب ولا يرهبون من الوقوع في العقاب فيبقون منكرين لكل كلام يخالف قولهم ويستكبرون عن الرجوع إلى قول غيرهم فلا جرم يبقون مصرين على ما كانوا عليه من الجهل والضلال
ثم قال تعالى لاَ جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ والمعنى أنه تعالى يعلم أن إصرارهم على هذه المذاهب الفاسدة ليس لأجل شبهة تصوروهاأو إشكال تخيلوه بل ذلك لأجل التقليد والنفرة عن الرجوع إلى الحق والشغف بنصرة مذاهب الأسلاف والتكبر والنخوة فلهذا قال إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ وهذا الوعيد يتناول كل المتكبرين
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَّاذَآ أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الاٌّ وَّلِينَ لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَة ً يَوْمَ الْقِيَامَة ِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ
اعلم أنه تعالى لما بالغ في تقرير دلائل التوحيد وأورد الدلائل القاهرة في إبطال مذاهب عبدة الأصنام ذكر بعد ذلك شبهات منكري النبوة مع الجواب عنها
فالشبهة الأولى أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لما احتج على صحة نبوة نفسه بكون القرآن معجزة طعنوا في القرآن وقالوا إنه أساطير الأولين وليس هو من جنس المعجزات وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في أن ذلك السائل من كان قيل هو كلام بعضهم لبعض وقيل هو قول المسلمين لهم وقيل هو قول المقتسمين الذين اقتسموا مداخل مكة ينفرون عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا سألهم وفود الحاج عما أنزل على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
المسألة الثانية لقائل أن يقول كيف يكون تنزيل ربهم أساطير الأولين
وجوابه من وجوه الأول أنه مذكور على سبيل السخرية كقوله تعالى عنهم إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ ( الشعراء 27 ) وقوله وَقَالُواْ يأَيُّهَا الَّذِى نُزّلَ عَلَيْهِ الذّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ( الحجر 6 ) وقوله يأَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ ( الزخرف 49 )

الثاني أن يكون التقدير هذا الذي تذكرون أنه منزل من ربكم هو أساطير الأولين الثالث يحتمل أن يكون المراد أن هذا القرآن بتقدير أن يكون مما أنزله الله لكنه أساطير الأولين ليس فيه شيء من العلوم والفصاحة والدقائق والحقائق
واعلم أنه تعالى لما حكى شبههم قال لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَة ً يَوْمَ الْقِيَامَة ِ اللام في ليحملوا لام العاقبة وذلك أنهم لم يصفوا القرآن بكونه أساطير الأولين لأجل أن يحملوا الأوزار ولكن لما كانت عاقبتهم ذلك حسن ذكر هذه اللام كقوله ءالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ ( القصص 8 ) وقوله كَامِلَة ٌ معناه أنه تعالى لا يخفف من عقابهم شيئاً بل يوصل ذلك العقاب بكليته إليهم وأقول هذا يدل على أنه تعالى قد يسقط بعض العقاب عن المؤمنين إذ لو كان هذا المعنى حاصلاً في حق الكل لم يكن لتخصيص هؤلاء الكفار بهذا التكميل معنى وقوله وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ معناه ويحصل للرؤساء مثل أوزار الأتباع والسبب فيه ما روي عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( أيما داع دعا إلى الهدى فاتبع كان له مثل أجر من اتبعه لا ينقص من أجورهم شيء وأيما داع دعا إلى ضلالة فاتبع كان عليه مثل وزر من اتبعه لا ينقص من آثامهم شيء )
واعلم أنه ليس المراد منه أنه تعالى يوصل العقاب الذي يستحقه الأتباع إلى الرؤساء وذلك لأن هذا لا يليق بعدل الله تعالى والدليل عليه قوله تعالى وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى ( النجم 39 ) وقوله وَلاَ تَزِرُ وازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى ( الإسراء 15 ) بل المعنى أن الرئيس إذا وضع سنة قبيحة عظم عقابه حتى أن ذلك العقاب يكون مساوياً لكل ما يستحقه كل واحد من الأتباع قال الواحدي ولفظه مِنْ في قوله وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ ليست للتبعيض لأنها لو كانت للتبعيض لخف عن الأتباع بعض أوزارهم وذلك غير جائز لقوله عليه السلام ( من غير أن ينقص من أوزارهم شيء ) ولكنها للجنس أي ليحملوا من جنس أوزار الأتباع وقوله بِغَيْرِ عِلْمٍ يعني أن هؤلاء الرؤساء إنما يقدمون على هذا الإضلال جهلاً منهم بما يستحقونه من العذاب الشديد على ذلك الإضلال ثم إنه تعالى ختم الكلام بقوله أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ والمقصود المبالغة في الزجر
فإن قيل إنه تعالى لما حكى عن القوم هذه الشبهة لم يجب عليها بل اقتصر على محض الوعيد فما السبب فيه
قلنا السبب فيه أنه تعالى بين كون القرآن معجزاً بطريقين الأول أنه ( صلى الله عليه وسلم ) تحداهم بكل القرآن وتارة بعشر سور وتارة بسورة واحدة وتارة بحديث واحد وعجزوا عن المعارضة وذلك يدل على كونه معجزاً الثاني أنه تعالى حكى هذه الشبهة بعينها في آية أخرى وهو قوله اكْتَتَبَهَا فَهِى َ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَة ً وَأَصِيلاً ( الفرقان 5 ) وأبطلها بقوله قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِى يَعْلَمُ السّرَّ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الفرقان 6 ) ومعناه أن القرآن مشتمل على الأخبار عن الغيوب وذلك لا يتأتى إلا ممن يكون عالماً بأسرار السموات والأرض فلما ثبت كون القرآن معجزاً بهذين الطريقين وتكرر شرح هذين الطريقين مراراً كثيرة لا جرم اقتصر في هذه الآية على مجرد الوعيد ولم يذكر ما يجري مجرى الجواب عن هذه الشبهة والله أعلم

قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِى َ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْى َ الْيَوْمَ وَالْسُّو ءَ عَلَى الْكَافِرِينَ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَة ُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُو ءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
اعلم أن المقصود من الآية المبالغة في وصف وعيد أولئك الكفار وفي المراد بالذين من قبلهم قولان
القول الأول وهو قول الأكثر من المفسرين أن المراد منه نمروذ بن كنعان بنى صرحاً عظيماً ببابل طوله خمسة آلاف ذراع وقيل فرسخان ورام منه الصعود إلى السماء ليقاتل أهلها فالمراد بالمكر ههنا بناء الصرح لمقاتلة أهل السماء
والقول الثاني وهو الأصح أن هذا عام في جميع المبطلين الذين يحاولون إلحاق الضرر والمكر بالمحقين
أما قوله تعالى فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مّنَ الْقَوَاعِدِ ففيه مسألتان
المسألة الأولى أن الإتيان والحركة على الله محال فالمراد أنهم لما كفروا أتاهم الله بزلازل قلع بها بنيانهم من القواعد والأساس
المسألة الثانية في قوله فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مّنَ الْقَوَاعِدِ قولان
القول الأول أن هذا محض التمثيل والمعنى أنهم رتبوا منصوبات ليمكروا بها أنبياء الله تعالى فجعل الله تعالى حالهم في تلك المنصوبات مثل حال قوم بنوا بنياناً وعمدوه بالأساطين فانهدم ذلك البناء وضعفت تلك الأساطين فسقط السقف عليهم ونظيره قولهم من حفر بئراً لأخيه أوقعه الله فيه
والقول الثاني أن المراد منه ما دل عليه الظاهر وهو أنه تعالى أسقط عليهم السقف وأماتهم تحته والأول أقرب إلى المعنى
أما قوله تعالى فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ ففيه سؤال وهو أن السقف لا يخر إلا من فوقهم فما معنى هذا الكلام

وجوابه من وجهين الأول أن يكون المقصود بالتأكيد والثاني ربما خر السقف ولا يكون تحته أحد فلما قال فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ دل هذا الكلام على أنهم كانوا تحته وحينئذ يفيد هذا الكلام أن الأبنية قد تهدمت وهم ماتوا تحتها وقوله وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ إن حملنا هذا الكلام على محض التمثيل فالأمر ظاهر والمعنى أنهم اعتمدوا على منصوباتهم ثم تولد البلاء منها بأعيانها وإن حملناه على الظاهر فالمعنى أنه نزل ذلك السقف عليهم بغتة لأنه إذا كان كذلك كان أعظم في الزجر لمن سلك مثل سبيلهم ثم بين تعالى أن عذابهم لا يكون مقصوراً على هذا القدر بل الله تعالى يخزيهم يوم القيامة والخزي هو العذاب مع الهوان وفسر تعالى ذلك الهوان بأنه تعالى يقول لهم أَيْنَ شُرَكَآئِى َ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ وفيه أبحاث
البحث الأول قال الزجاج قوله أَيْنَ شُرَكَائِى َ معناه أين شركائي في زعمكم واعتقادكم ونظيره قوله تعالى أَيْنَ شُرَكَاؤُهُمْ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ( الأنعام 22 ) وقال أيضاً وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ ( يونس 28 ) وإنما حسنت هذه الإضافة لأنه يكفي في حسن الإضافة أدنى سبب وهذا كما يقال لمن يحمل خشبة خذ طرفك وآخذ طرفي فأضيف الطرف إليه
البحث الثاني قوله تُشَاقُّونَ فِيهِمْ أي تعادون وتخاصمون المؤمنين في شأنهم وقيل المشاقة عبارة عن كون أحد الخصمين في شق وكون الآخر في الشق الآخر
البحث الثالث قرأ نافع تُشَاقُّونَ بكسر النون على الإضافة والباقون بفتح النون على الجمع
ثم قال تعالى قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْى َ الْيَوْمَ وَالْسُّوء عَلَى الْكَافِرِينَ وفيه بحثان
البحث الأول قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ قال ابن عباس يريد الملائكة وقال آخرون هم المؤمنون يقولون حين يرون خزي الكفار يوم القيامة إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين والفائدة فيه أن الكفار كانوا ينكرون على المؤمنين في الدنيا فإذا ذكر المؤمن هذا الكلام يوم القيامة في معرض إهانة الكافر كان وقع هذا الكلام على الكافر وتأثيره في إيذائه أكمل وحصول الشماتة به أقوى
البحث الثاني المرجئة احتجوا بهذه الآية على أن العذاب مختص بالكافر قالوا لأن قوله تعالى إِنَّ الْخِزْى َ الْيَوْمَ وَالْسُّوء عَلَى الْكَافِرِينَ يدل على أن ماهية الخزي والسوء في يوم القيامة مختصة بالكافر وذلك ينفي حصول هذه الماهية في حق غيرهم وتأكد هذا بقول موسى عليه السلام إِنَّا قَدْ أُوحِى َ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى ( طه 48 ) ثم أنه تعالى وصف عذاب هؤلاء الكفار من وجه آخر فقال الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَة ُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ قرأ حمزة نُنَزّلُ الْمَلَائِكَة َ بالياء لأن الملائكة ذكور والباقون بالتاء للفظ
ثم قال فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوء وفيه قولان

القول الأول أنه تعالى حكى عنهم إلقاء السلم عند القرب من الموت قال ابن عباس أسلموا وأقروا لله بالعبودية عند الموت وقوله مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوء أي قالوا ما كنا نعمل من سوءا والمراد من هذا السوء الشرك فقالت الملائكة رداً عليهم وتكذيباً بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون من التكذيب والشرك ومعنى بلى رداً لقولهم مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوء وفيه قولان
القول الأول أنه تعالى حكى عنهم إلقاء السلم عند القرب من الموت
والقول الثاني أنه تم الكلام عند قوله ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ ثم عاد الكلام إلى حكاية كلام المشركين يوم القيامة والمعنى أنهم يوم القيامة ألقوا السلم وقالوا ما كنا نعمل في الدنيا من سوء ثم ههنا اختلفوا فالذين جوزوا الكذب على أهل القيامة قالوا هذا القول منهم على سبيل الكذب وإنما أقدموا على هذا الكذب لغاية الخوف والذين قالوا إن الكذب لا يجوز عليهم قالوا معنى الآية ما كنا نعمل من سوء عند أنفسنا أو في اعتقادنا وأما بيان أن الكذب على أهل القيامة هل يجوز أم لا فقد ذكرناه في سورة الأنعام في تفسير قوله تعالى ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ( الأنعام 23 ) واعلم أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم قالوا ما كنا نعمل من سوء قال بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون ولا يبعد أن يكون قائل هذا القول هو الله تعالى أو بعض الملائكة رداً عليهم وتكذيباً لهم ومعنى بلى الرد لقولهم مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوء وقوله إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ يعني أنه عالم بما كنتم عليه في الدنيا فلا ينفعكم هذا الكذب فإنه يجازيكم على الكفر الذي علمه منكم ثم صرح بذكر العقاب فقال
فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ
وهذا يدل على تفاوت منازلهم في العقاب فيكون عقاب بعضم أعظم من عقاب بعض وإنما صرح تعالى بذكر الخلود ليكون الغم والحزن أعظم
ثم قال فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبّرِينَ على قبول التوحيد وسائر ما أتت به الأنبياء وتفسير التكبر قد مر في هذا الكتاب غير مرة والله أعلم
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِى هاذِهِ الْدُّنْيَا حَسَنَة ٌ وَلَدَارُ الاٌّ خِرَة ِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِى اللَّهُ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَة ُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّة َ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين أحوال الأقوام الذين إذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين وذكر أنهم يحملون أوزارهم ومن أوزار أتباعهم وذكر أن الملائكة تتوفاهم ظالمي أنفسهم وذكر أنهم في الآخرة يلقون السلم وذكر أنه تعالى يقول لهم ادخلوا أبواب جهنم أتبعه بذكر وصف المؤمنين الذين إذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا وذكر ما أعده لهم في الدنيا والآخرة من منازل الخيرات ودرجات السعادات

ليكون وعد هؤلاء مذكوراً مع وعيد أولئك وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال القاضي يدخل تحت التقوى أن يكون تاركاً لكل المحرمات فاعلاً لكل الواجبات ومن جمع بين هذين الأمرين فهو مؤمن كامل الإيمان وقال أصحابنا يريد الذين اتقوا الشرك وأيقنوا أنه لا إله إلا الله محمد رسول الله وأقول هذا أولى مما قاله القاضي لأنا بينا أنه يكفي في صدق قوله فلان قاتل أو ضارب كونه آتياً بقتل واحد وضرب واحد ولا يتوقف صدق هذا الكلام على كونه آتياً بجميع أنواع القتل وجميع أنواع الضرب فعلى هذا قوله وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ يتناول كل من أتى بنوع واحد من أنواع التقوى إلا أنا أجمعنا على أنه لا بد من التقوى عن الكفر والشرك فوجب أن لا يزيد على هذا القيد لأنه لما كان تقييد المطلق خلاف الأصل كان تقييد المقيد أكثر مخالفة وأيضاً فلأنه تعالى إنما ذكر هؤلاء في مقابلة أولئك الذين كفروا وأشركوا فوجب أن يكون المراد من اتقى عن ذلك الكفر والشرك والله أعلم
المسألة الثانية لقائل أن يقول إنه قال في الآية الأولى قالوا أساطير الأولين وفي هذه الآية قالوا خيراً فلم رفع الأول ونصب هذا
أجاب صاحب ( الكشاف ) عنه بأن قال المقصود منه الفصل بين جواب المقر وجواب الجاحد يعني أن هؤلاء لما سئلوا لم يتلعثموا وأطبقوا الجواب على السؤال بينا مكشوفاً مفعولاً للإنزال فقالوا خيراً أي أنزل خيراً وأولئك عدلوا بالجواب عن السؤال فقالوا هو أساطير الأولين وليس من الإنزال في شيء
المسألة الثالثة قال المفسرون هذا كان في أيام الموسم يأتي الرجل مكة فيسأل المشركين عن محمد وأمره فيقولون إنه ساحر وكاهن وكذاب فيأتي المؤمنين ويسألهم عن محمد وما أنزل الله عليه فيقولون خيراً والمعنى أنزل خيراً ويحتمل أن يكون المراد الذي قالوه من الجواب موصوف بأنه خير وقولهم خير جامع لكونه حقاً وصواباً ولكونهم معترفين بصحته ولزومه فهو بالضد من قول الذين لا يؤمنون بالآخرة أن ذلك أساطير الأولين على وجه التكذيب
المسألة الرابعة قوله لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ وما بعده بدل من قوله خَيْرًا وهو حكاية لقول الذين اتقوا أي قالوا هذا القول ويجوز أيضاً أن يكون قوله لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ إخباراً عن الله والتقدير إن المتقين لما قيل لهم مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا ثم إنه تعالى أكد قولهم وقال لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِى هاذِهِ الْدُّنْيَا حَسَنَة ٌ وفي المراد بقوله لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ قولان أما الذين يقولون إن أهل لا إله إلا الله يخرجون من النار فإنهم يحملونه على قول لا إله إلا الله مع الاعتقاد الحق وأما المعتزلة الذين يقولون إن فساق أهل الصلاة لا يخرجون من النار يحلوم قوله أَحْسَنُواْ على من أتى بالإيمان وجميع الواجبات واحترز عن كل المحرمات وأما قوله فِى هَاذِهِ الدُّنْيَا ففيه قولان
القول الأول أنه متعلق بقوله أَحْسَنُواْ والتقدير للذين اتقوا بعمل الحسنة في الدنيا فلهم في الآخرة حسنة وتلك الحسنة هي الثواب العظيم وقيل تلك الحسنة هو أن ثوابها يضاعف بعشر مرات وبسبعمائة وإلى ما لا نهاية له
والقول الثاني أن قوله فِى هَاذِهِ الدُّنْيَا متعلق بقوله حَسَنَة ٌ والتقدير للذين أحسنوا أن تحصل

لهم الحسنة في الدنيا وهذا القول أولى لأنه قال بعده وَلَدَارُ الاْخِرَة ِ خَيْرٌ وعلى هذا التقدير ففي تفسير هذه الحسنة الحاصلة في الدنيا وجوه الأول يحتمل أن يكون المراد ما يستحقونه من المدح والتعظيم والثناء والرفعة وجميع ذلك جزاء على ما عملوه والثاني يحتمل أن يكون المراد به الظفر على أعداء الدين بالحجة وبالغلبة لهم وباستغنام أموالهم وفتح بلادهم كما جرى ببدر وعند فتح مكة وقد أجلوهم عنها وأخرجوهم إلى الهجرة وإخلاء الوطن ومفارقة الأهل والولد وكل ذلك مما يعظم موقعه والثالث يحتمل أن يكون المراد أنهم لما أحسنوا بمعنى أنهم أتوا بالطاعات فتح الله عليهم أبواب المكاشفات والمشاهدات والألطاف كقوله تعالى وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى ( محمد 17 )
وأما قوله وَلَدَارُ الاْخِرَة ِ خَيْرٌ فقد بينا في سورة الأنعام في قوله وَلَلدَّارُ الاْخِرَة ُ خَيْرٌ لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ ( الأنعام 32 ) بالدلائل القطعية العقلية حصول هذا الخير ثم قال وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ أي لنعم دار المتقين دار الآخرة فحذفت لسبق ذكرها هذا إذا لم تجعل هذه الآية متصلة بما بعدها فإن وصلتها بما بعدها قلت ولنعم دار المتقين جنات عدن فترفع جنات على أنها اسم لنعم كما تقول نعم الدار دار ينزلها زيد وأما قوله جَنَّاتِ عَدْنٍ ففيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنها إن كانت موصولة بما قبلها فقد ذكرنا وجه ارتفاعها وأما إن كانت مقطوعة فقال الزجاج جنات عدن مرفوعة بإضمار ( هي ) كأنك لما قلت ولنعم دار المتقين قيل أي دار هي هذه الممدوحة فقلت هي جنات عدن وإن شئت قلت جنات عدن رفع بالإبتداء ويدخلونها خبره وإن شئت قلت نعم دار المتقين خبره والتقدير جنات عدن نعم دار المتقين
المسألة الثانية قوله جَنَّاتُ يدل على القصور والبساتين وقوله عَدْنٍ يدل على الدوام وقوله تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ يدل على أنه حصل هناك أبنية يرتفعون عليها وتكون الأنهار جارية من تحتهم ثم إنه تعالى قال لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءونَ وفيه بحثان الأول أن هذه الكلمة تدل على حصول كل الخيرات والسعادات وهذا أبلغ من قوله فِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الاْنْفُسُ وَتَلَذُّ الاْعْيُنُ ( الزخرف 71 ) لأن هذين القسمين داخلان في قوله لَّهُمْ فِيهَا مَا مع أقسام أخرى الثاني قوله لَّهُمْ فِيهَا مَا يعني هذه الحالة لا تحصل إلا في الجنة لأن قوله لَّهُمْ فِيهَا مَا يفيد الحصر وذلك يدل على أن الإنسان لا يجد كل ما يريده في الدنيا
ثم قال تعالى يَشَآءونَ كَذَلِكَ يَجْزِى اللَّهُ الْمُتَّقِينَ أي هكذا جزاء التقوى ثم إنه تعالى عاد إلى وصف المتقين فقال الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَة ُ طَيّبِينَ وهذا مذكور في مقابلة قوله الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَة ُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ ( النخل 28 ) وقوله الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَة ُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءونَ كَذَلِكَ يَجْزِى اللَّهُ الْمُتَّقِينَ وقوله طَيّبِينَ كلمة مختصرة جامعة للمعاني الكثيرة وذلك لأنه يدخل فيه إتيانهم بكل ما أمروا به واجتنابهم عن كل ما نهوا عنه ويدخل فيه كونهم موصوفين بالأخلاق الفاضلة مبرئين عن الأخلاق المذمومة ويدخل فيه كونهم مبرئين عن العلائق الجسمانية متوجهين إلى حضرة القدس والطهارة ويدخل فيه أنه طاب لهم قبض الأرواح وأنها لم تقبض إلا مع البشارة بالجنة حتى صاروا كأنهم مشاهدون لها ومن هذا حاله لا يتألم بالموت وأكثر المفسرين على أن هذا التوفي هو قبض الأرواح وإن كان الحسن يقول إنه وفاة الحشر ثم

بين تعالى أنه يقال لهم عند هذه الحالة ادْخُلُواْ الْجَنَّة َ فاحتج الحسن بهذا على أن المراد بذلك التوفي وفاة الحشر لأنه لا يقال عند قبض الأرواح في الدنيا ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون ومن ذهب إلى القول الأول وهم الأكثرون يقولون إن الملائكة لما بشروهم بالجنة صارت الجنة كأنها دارهم وكأنهم فيها فيكون المراد بقولهم ادخلوا الجنة أي هي خاصة لكم كأنكم فيها
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَة ُ أَوْ يَأْتِى َ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ
اعلم أن هذا هو الشبهة الثانية لمنكري النبوة فإنهم طلبوا من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن ينزل الله تعالى ملكاً من السماء يشهد على صدقه في ادعاء النبوة فقال تعالى هَلْ يَنظُرُونَ في التصديق بنبوتك إلا أن تأتيهم الملائكة شاهدين بذلك ويحتمل أن يقال إن القوم لما طعنوا في القرآن بأن قالوا إنه أساطير الأولين وذكر الله تعالى أنواع التهديد والوعيد لهم ثم أتبعه بذكر الوعد لمن وصف القرآن بكونه خيراً وصدقاً وصواباً عاد إلى بيان أن أولئك الكفار لا ينزجرون عن الكفر بسبب البيانات التي ذكرناها بل كانوا لا ينزجرون عن تلك الأقوال الباطلة إلا إذا جاءتهم الملائكة بالتهديد وأتاهم أمر ربك وهو عذاب الاستئصال
واعلم أن على كلا التقديرين فقد قال تعالى كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أي كلام هؤلاء وأفعالهم يشبه كلام الكفار المتقدمين وأفعالهم
ثم قال وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ والتقدير كذلك فعل الذين من قبلهم فأصابهم الهلاك المعجل وما ظلمهم الله بذلك فإنه أنزل بهم ما استحقوه بكفرهم ولكنهم ظلموا أنفسهم بأن كفروا وكذبوا الرسول فاستوجبوا ما نزل بهم
ثم قال فَأَصَابَهُمْ سَيّئَاتُ مَا عَمِلُواْ والمراد أصابهم عقاب سيئات ما عملوا وَحَاقَ بِهِم أي نزل بهم على وجه أحاط بجوانبهم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ أي عقاب استهزائهم

وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَى ْءٍ نَّحْنُ وَلا ءَابَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَى ْءٍ كَذالِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلِّ أُمَّة ٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَة ُ فَسِيرُواْ فِى الأرض فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الْمُكَذِّبِينَ إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ
اعلم أن هذا هو الشبهة الثالثة لمنكري النبوة وتقريرها أنهم تمسكوا بصحة القول بالجبر على الطعن في النبوة فقالوا لو شاء الله الإيمان لحصل الإيمان سواء جئت أو لم تجىء ولو شاء الله الكفر فإنه يحصل الكفر سواء جئت أو لم تجىء وإذا كان الأمر كذلك فالكل من الله تعالى ولا فائدة في مجيئك وإرسالك فكان القول بالنبوة باطلاً وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن هذه الشبهة هي عين ما حكى الله تعالى عنهم في سورة الأنعام في قوله سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ ى َابَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَى ْء كَذالِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ( الأنعام 148 ) واستدلال المعتزلة به مثل استدلالهم بتلك الآية والكلام فيه استدلالاً واعتراضاً عين ما تقدم هناك فلا فائدة في الإعادة ولا بأس بأن نذكر منه القليل فنقول الجواب عن هذه الشبهة هي أنهم قالوا لما كان الكل من الله تعالى كان بعثة الأنبياء عبثاً فنقول هذا اعتراض على الله تعالى فإن قولهم إذا لم يكن في بعثة الرسول مزيد فائدة في حصول الإيمان ودفع الكفر كانت بعثة الأنبياء غير جائزة من الله تعالى فهذا القول جار مجرى طلب العلة في أحكام الله تعالى وفي أفعاله وذلك باطل بل الله تعالى أن يحكم في ملكه وملكوته ما يشاء ويفعل ما يريد ولا يجوز أن يقال له لم فعلت هذا ولم لم تفعل ذلك والدليل على أن الإنكار إنما توجه إلى هذا المعنى أنه تعالى صرح في آخر هذه الآية بهذا المعنى فقال وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّة ٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ فبين تعالى أن سنته في عبيده إرسال الرسل إليهم وأمرهم بعبادة الله ونهيهم عن عبادة الطاغوت
ثم قال الْطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَة ُ والمعنى أنه تعالى وإن أمر الكل بالإيمان ونهى الكل عن الكفر إلا أنه تعالى هدى البعض وأضل البعض فهذه سنة قديمة لله تعالى مع العباد وهي أنه يأمر الكل بالإيمان وينهاهم عن الكفر ثم يخلق الإيمان في البعض والكفر في البعض ولما كانت سنة الله تعالى في هذا المعنى سنة قديمة في حق كل الأنبياء وكل الأمم والملل وإنما يحسن منه تعالى ذلك بحكم كونه إلهاً منزهاً عن اعتراضات المعترضين ومطالبات المنازعين كان إيراد هذا السؤال من هؤلاء الكفار موجباً للجهل والضلال والبعد عن الله فثبت أن الله تعالى إنما حكم على هؤلاء باستحقاق الخزي واللعن لا لأنهم كذبوا في قولهم لَوْ شَآء اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ بل لأنهم اعتقدوا أن كون الأمر كذلك يمنع من جواز بعثة الأنبياء والرسل وهذا باطل فلا جرم استحقوا على هذا الاعتقاد مزيد الذم واللعن فهذا هو الجواب الصحيح الذي يعول عليه في هذا الباب وأما من تقدمنا من المتكلمين والمسفرين فقد ذكروا فيه وجهاً آخر فقالوا إن المشركين ذكروا هذا الكلام على جهة الاستهزاء كما قال قوم شعيب عليه السلام له نَشَؤُا إِنَّكَ لاَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ( هود 87 ) ولو قالوا ذلك معتقدين لكانوا مؤمنين والله أعلم

المسألة الثانية اعلم أنه تعالى لما حكى هذه الشبهة قال كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أي هؤلاء للكفار ألداً كانوا متمسكين بهذه الشبهة
ثم قال فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ أما المعتزلة فقالوا معناه أن الله تعالى ما منع أحداً من الإيمان وما أوقعه في الكفر والرسل ليس عليهم إلا التبليغ فلما بلغوا التكاليف وثبت أنه تعالى ما منع أحداً عن الحق كانت هذه الشبهة ساقطة أما أصحابنا فقالوا معناه أنه تعالى أمر الرسل بالتبليغ فهذا التبليغ واجب عليهم فأما أن الإيمان هل يحصل أم لا يحصل فذلك لا تعلق للرسول به ولكنه تعالى يهدي من يشاء بإحسانه ويضل من يشاء بخذلانه
المسألة الثالثة احتج أصحابنا في بيان أن الهدي والضلال من الله بقوله وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّة ٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطَّاغُوتَ وهذا يدل على أنه تعالى كان أبداً في جميع الملل والأمم آمراً بالإيمان وناهياً عن الكفر
ثم قال فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَة ُ يعني فمنهم من هداه الله إلى الإيمان والصدق والحق ومنهم من أضله عن الحق وأعماه عن الصدق وأوقعه في الكفر والضلال وهذا يدل على أن أمر الله تعالى لا يوافق إرادته بل قد يأمر بالشيء ولا يريده وينهى عن الشيء ويريده كما هو مذهبنا والحاصل أن المعتزلة يقولون الأمر والإرادة متطابقان أما العلم والإرادة فقد يختلفان ولفظ هذه الآية صريح في قولنا وهو أن الأمر بالإيمان عام في حق الكل أما إرادة الإيمان فخاصة بالبعض دون البعض
أجاب الجبائي بأن المراد فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ لنيل ثوابه وجنته وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَة ُ أي العقاب قال وفي صفة قوله حَقَّتْ عَلَيْهِ دلالة على أنها العذاب دون كلمة الكفر لأن الكفر والمعصية لا يجوز وصفهما بأنه حق وأيضاً قال تعالى بعده فَسِيرُواْ فِى الاْرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الْمُكَذّبِينَ وهذه العاقبة هي آثار الهلاك لمن تقدم من الأمم الذين استأصلهم الله تعالى بالعذاب وذلك يدل على أن المراد بالضلال المذكور هو عذاب الاستئصال
وأجاب الكعبي عنه بأنه قال قوله فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ أي من اهتدى فكان في حكم الله مهتدياً وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَة ُ يريد من ظهرت ضلالته كما يقال للظالم حق ظلمك وتبين ويجوز أن يكون المراد حق عليهم من الله أن يضلهم إذا ضلوا كقوله وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ( إبراهيم 27 )
واعلم أنا بينا في آيات كثيرة بالدلائل العقلية القاطعة أن الهدى والإضلال لا يكونان إلا من الله تعالى فلا فائدة في الإعادة وهذه الوجوه المتعسفة والتأويلات المستكرهة قد بينا ضعفها وسقوطها مراراً فلا حاجة إلى الإعادة والله أعلم
المسألة الرابعة في الطاغوت قولان أحدهما أن المراد به اجتنبوا عبادة ما تعبدون من دون الله فسمى الكل طاغوتاً ولا يمتنع أن يكون المراد اجتنبوا طاعة الشيطان في دعائه لكم
المسألة الخامسة قوله تعالى وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَة ُ يدل على مذهبنا لأنه تعالى لما أخبر عنه أنه حقت عليه الضلالة امتنع أن لا يصدر منه الضلالة وإلا لانقلب خبر الله الصدق كذباً وذلك محال

ومستلزم المحال محال فكان عدم الضلالة منهم محالاً ووجود الضلالة منهم واجباً عقلاً فهذه الآية دالة على صحة مذهبنا في هذه الوجوه الكثيرة والله أعلم ونظائر هذه الآية كثيرة منها قوله فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَة ُ ( الأعراف 30 ) وقوله إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَة ُ رَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ ( يونس 96 ) وقوله لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ ( يس 7 )
ثم قال تعالى فَسِيرُواْ فِى الاْرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الْمُكَذّبِينَ والمعنى سيروا في الأرض معتبرين لتعرفوا أن العذاب نازل بكم كما نزل بهم ثم أكد أن من حقت عليه الضلالة فإنه لا يهتدي فقال إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ أي إن تطلب بجهدك ذلك فإن الله لا يهدي من يضل وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ عاصم وحمزة والكسائي يَهْدِى بفتح الياء وكسر الذال والباقون لاَّ يَهِدِّى بضم الياء وفتح الدال
أما القراءة الأولى ففيها وجهان الأول فإن الله لا يرشد أحداً أضله وبهذا فسره ابن عباس رضي الله عنهما والثاني أن يهدي بمعنى يهتدي قال الفراء العرب تقول قد هدى الرجل يريدون قد اهتدى والمعنى أن الله إذا أضل أحداً لم يصر ذلك مهتدياً
وأما القراءة المشهورة فالوجه فيها إن الله لا يهدي من يضل أي من يضله فالراجع إلى الموصول الذي هو من محذوف مقدر وهذا كقوله مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ ( الأعراف 186 ) وكقوله فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ( الجاثية 23 ) أي من بعد إضلال الله إياه
ثم قال تعالى وَمَا لَهُم مّن نَّاصِرِينَ أي وليس لهم أحد ينصرهم أي يعينهم على مطلوبهم في الدنيا والآخرة وأقول أول هذه الآيات موهم لمذهب المعتزلة وآخرها مشتمل على الوجوه الكثيرة الدالة على قولنا وأكثر الآيات كذلك مشتملة على الوجهين والله أعلم
وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ الْنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِى يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَى ْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى اعلم أن هذا هو الشبهة الرابعة لمنكري النبوة فقالوا القول بالبعث والحشر والنشر باطل فكان القول بالنبوة باطلاً

أما المقام الأول فتقريره أن الإنسان ليس إلا هذه البينة المخصوصة فإذا مات وتفرقت أجزاؤه وبطل ذلك المزاج والاعتدال امتنع عوده بعينه لأن الشيء إذا عدم فقد فنى ولم يبق له ذات ولا حقيقة بعد فنائه وعدمه فالذي يعود يجب أن يكون شيئاً مغايراً للأول فلا يكون عينه
وأما المقام الثاني وهو أنه لما بطل القول بالبعث بطل القول بالنبوة وتقريره من وجهين الأول أن محمداً كان داعياً إلى تقرير القول بالمعاد فإذا بطل ذلك ثبت أنه كان داعياً إلى القول الباطل ومن كان كذلك لم يكن رسولاً صادقاً الثاني أنه يقرر نبوة نفسه ووجوب طاعته بناء على الترغيب في الثواب والترهيب عن العقاب وإذا بطل ذلك بطلت نبوته
إذا عرفت هذا فنقول قوله وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ معناه أنهم كانوا يدعون العلم الضروري بأن الشيء إذا فنى وصار عدماً محضاً ونفياً صرفاً فإنه بعد هذا العدم الصرف لا يعود بعينه بل العائد يكون شيئاً آخر غيره وهذا القسم واليمين إشارة إلى أنهم كانوا يدعون العلم الضروري بأن عوده بعينه بعد عدمه محال في بديهة العقل وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ على أنهم يجحدون في قلوبهم وعقولهم هذا العلم الضروري وأما بيان أنه لما بطل القول بالبعث بطل القول بالنبوة فلم يذكره على سبيل التصريح لأنه كلام جلي متبادر إلى العقول فتركوه لهذا العذر ثم إنه تعالى بين أن القول بالبعث ممكن ويدل عليه وجهان
الوجه الأول أنه وعد حق على الله تعالى فوجب تحقيقه ثم بين السبب الذي لأجله كان وعداً حقاً على الله تعالى وهو التمييز بين المطيع وبين العاصي وبين المحقق والمبطل وبين الظالم والمظلوم وهو قوله لِيُبَيّنَ لَهُمُ الَّذِينَ يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ وهذه الطريقة قد بالغنا في شرحها وتقريرها في سورة يونس
والوجه الثاني في بيان إمكان الحشر والنشر أن كونه تعالى موجداً للأشياء ومكوناً لها لا يتوقف على سبق مادة ولا مدة ولا آلة وهو تعالى إنما يكونها بمحض قدرته ومشئته وليس لقدرته دافع ولا لمشيئته مانع فعبر تعالى عن هذا النفاذ الخالي عن المعارض بقوله إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَى ْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وإذا كان كذلك فكما أنه تعالى قدر على الإيجاد في الإبتداء وجب أن يكون قادراً عليه في الإعادة فثبت بهذين الدليلين القاطعين أن القول بالحشر والنشر والبعث والقيامة حق وصدق والقول إنما طعنوا في صحة النبوة بناء على الطعن في هذا الأصل فلما بطل هذا الطعن بطل أيضاً طعنهم في النبوة والله أعلم
المسألة الثانية قوله وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ حكاية عن الذين أشركوا وقوله بَلَى إثبات لما بعد النفي أي بلى يبعثهم وقوله وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّا مصدر مؤكد أي وعد بالبعث وعداً حقاً لا خلف فيه لأن قوله يبعثهم دل على قوله وعد بالبعث وقوله لِيُبَيّنَ لَهُمُ الَّذِى يَخْتَلِفُونَ فِيهِ من أمور البعث أي بلى يبعثهم ليبين لهم وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين فيما أقسموا فيه
ثم قال تعالى إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَى ْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وفيه مسائل
المسألة الأولى لقائل أن يقول قوله كُنَّ إن كان خطاباً مع المعدوم فهو محال وإن كان خطاباً مع الموجود كان هذا أمراً بتحصيل الحاصل وهو محال

والجواب أن هذا تمثيل لنفي الكلام والمعاياة وخطاب مع الخلق بما يعقلون وليس خطاباً للمعدوم لأن ما أراده الله تعالى فهو كائن على كل حال وعلى ما أراده من الإسراع ولو أراد خلق الدنيا والآخرة بما فيهما من السموات والأرض في قدر لمح البصر لقدر على ذلك ولكن العباد خوطبوا بذلك على قدر عقولهم
المسألة الثانية قوله تعالى قَوْلُنَا مبتدأ و إِن نَّقُولُ خبره و كُنْ فَيَكُونُ من كان التامة التي بمعنى الحدوث والوجود أي إذا أردنا حدوث شيء فليس إلا أن نقول له أحدث فيحدث عقيب ذلك من غير توقف
المسألة الثالثة قرأ ابن عامر والكسائي فَيَكُونُ بنصب النون والباقون بالرفع قال الفراء القراءة بالرفع وجهها أن يجعل قوله أَن نَّقُولَ لَهُ كلاماً تاماً ثم يخبر عنه بأنه سيكون كما يقال إن زيداً يكفيه إن أمر فيفعل فترفع قولك فيفعل على أن تجعله كلاماً مبتدأ وأما القراءة بالنصب فوجهه أن تجعله عطفاً على أن نقول والمعنى أن نقول كن فيكون هذا قول جميع النحويين قال الزجاج ويجوز أن يكون نصباً على جواب كُنَّ قال أبو علي لفظة ( كن ) وإن كانت على لفظة الأمر فليس القصد بها ههنا الأمر إنما هو والله أعلم الإخبار عن كون الشيء وحدوثه وإذا كان الأمر كذلك فحينئذ يبطل قوله إنه نصب على جواب كُنَّ والله أعلم
المسألة الرابعة احتج بعض أصحابنا بهذه الآية على قدم القرآن فقالوا قوله تعالى إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَى ْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ يدل على أنه تعالى إذا أراد إحداث شيء قال له كن فيكون فلو كان قوله كُنَّ حادثاً لافتقر إحداثه إلى أن يقول له كن وذلك يوجب التسلسل وهو محال فثبت أن كلام الله قديم
واعلم أن هذا الدليل عندي ليس في غاية القوة وبيانه من وجوه
الوجه الأول أن كلمة إِذَا لا تفيد التكرار والدليل عليه أن الرجل إذا قال لامرأته إذا دخلت الدار فأنت طالق فدخلت الدار مرة طلقت طلقة واحدة فلو دخلت ثانياً لم تطلق طلقة ثانية فعلمنا أن كلمة إذا لا تفيد التكرار وإذا كان كذلك ثبت أنه لا يلزم في كل ما يحدثه الله تعالى أن يقول له كن فلم يلزم التسلسل
والوجه الثاني أن هذا الدليل إن صح لزم القول بقدم لفظه ( كن ) وهذا معلوم البطلان بالضرورة لأن لفظة كن مركبة من الكاف والنون وعند حضور الكاف لم تكن النون حاضرة وعند مجيء النون تتولى الكاف وذلك يدل على أن كلمة كن يمتنع كونها قديمة وإنما الذي يدعي أصحابنا كونه قديماً صفة مغايرة للفظة كن فالذي تدل عليه الآية لا يقول به أصحابنا والذي يقولون به لا تدل عليه الآية فسقط التمسك به
والوجه الثالث أن الرجل إذا قال إن فلاناً لا يقدم على قول ولا على فعل إلا ويستعين فيه بالله تعالى فإن عاقلاً لا يقول إن استعانته بالله فعل من أفعاله فيلزم أن يكون كل استعانة مسبوقة باستعانة أخرى إلى غير النهاية لأن هذا الكلام بحسب العرف باطل فكذلك ما قالوه
والوجه الرابع أن هذه الآية مشعرة بحدوث الكلام من وجوه
الوجه الأول أن قوله تعالى إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَى ْء إِذَا أَرَدْنَاهُ يقتضي كون القول واقعاً بالإرادة وما كان كذلك فهو محدث

والوجه الثاني أنه علق القول بكلمة إذا ولا شك أن لفظة ( إذا ) تدخل للاستقبال
والوجه الثالث أن قوله أَن نَّقُولَ لَهُ لا خلاف أن ذلك ينبىء عن الاستقبال
والوجه الرابع أن قوله كُنْ فَيَكُونُ يدل على أن حدوث الكون حاصل عقيب قوله كُنَّ فتكون كلمة كُنَّ متقدمة على حدوث الكون بزمان واحد والمتقدم على المحدث بزمان واحد يجب أن يكون محدثاً
والوجه الخامس أنه معارض بقوله تعالى وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً ( النساء 47 ) وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً ( الأحزاب 38 ) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ ( الزمر 23 ) فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مّثْلِهِ ( الطيور 34 ) وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى مَّوَدَّة ً وَرَحْمَة ً ( الأحقاف 12 )
فإن قيل فهب أن هذه الآية لا تدل على قدم الكلام ولكنكم ذكرتم أنها تدل على حدوث الكلام فما الجواب عنه
قلنا نصرف هذه الدلائل إلى الكلام المسموع الذي هو مركب من الحروف والأصوات ونحن نقول بكونه محدثاً مخلوقاً والله أعلم
وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِى اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِى الدُّنْيَا حَسَنَة وَلاّجْرُ الاٌّ خِرَة ِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ
اعلم أنه تعالى لما حكى عن الكفار أنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم على إنكار البعث والقيامة دل ذلك على أنهم تمادوا في الغي والجهل والضلال وفي مثل هذه الحالة لا يبعد إقدامهم على إيذاء المسلمين وضرهم وإنزال العقوبات بهم وحينئذ يلزم على المؤمنين أن يهاجروا عن تلك الديار والمساكن فذكر تعالى في هذه الآية حكم تلك الهجرة وبين ما لهؤلاء المهاجرين من الحسنات في الدنيا والأجر في الآخرة من حيث هاجروا وصبروا وتوكلوا على الله وذلك ترغيب لغيرهم في طاعة الله تعالى قال ابن عباس رضي الله عنهما نزلت هذه الآية في ستة من الصحابة صهيب وبلال وعمار وخباب وعابس وجبير موليين لقريش فجعلوا يعذبونهم ليردوهم عن الإسلام أما صهيب فقال لهم أنا رجل كبير إن كنت لكم لم أنفعكم وإن كنت عليكم لم أضركم فافتدى منهم بماله فلما رآه أبو بكر قال ربح البيع يا صهيب وقال عمر نعم الرجل صهيب لو لم يخف الله لم يعصه وهو ثناء عظيم يريد لو لم يخلق الله النار لأطاعه فكيف ظنك به وقد خلقها وأما سائرهم فقد قالوا بعض ما أراد أهل مكة من كلمة الكفر والرجوع عن الإسلام فتركوا عذابهم ثم هاجروا فنزلت هذه الآية وبين الله تعالى بهذه الآية عظم محل الهجرة ومحل المهاجرين فالوجه فيه ظاهر لأن بسبب هجرتهم ظهرت قوة الإسلام كما أن بنصرة الأنصار قويت شوكتهم ودل تعالى بقوله وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِى اللَّهِ أن الهجرة إذا لم تكن لله بل لم يكن لها موقع وكانت بمنزلة الانتقال من بلد إلى

بلد وقوله مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ معناه أنهم كانوا مظلومين في أيدي الكفار لأنهم كانوا يعذبونهم
ثم قال لَنُبَوّئَنَّهُمْ فِى الدُّنْيَا حَسَنَة وفيه وجوه الأول أن قوله حَسَنَة ٌ صفة للمصدر من قوله لَنُبَوّئَنَّهُمْ فِى الدُّنْيَا والتقدير لنبوئنهم تبوئة حسنة وفي قراءة علي عليه السلام ( لنبوئنهم إبواءة حسنة ) الثاني لننزلنهم في الدنيا منزلة حسنة وهي الغلبة على أهل مكة الذين ظلموهم وعلى العرب قاطبة وعلى أهل المشرق والمغرب وعن عمر أنه كان إذا أعطى رجلاً من المهاجرين عطاء قال خذ بارك الله لك فيه هذا ما وعدك الله في الدنيا وما ذخر لك في الآخرة أكبر
والقول الثالث لنبوئنهم مباءة حسنة وهي المدينة حيث آواهم أهلها ونصروهم وهذا قول الحسن والشعبي وقتادة والتقدير لنبوئنهم في الدنيا داراً حسنة أو بلدة حسنة يعني المدينة
ثم قال تعالى وَلاَجْرُ الاْخِرَة ِ أَكْبَرُ وأعظم وأشرف وَلَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ والضمير إلى من يعود فيه قولان الأول أنه عائد إلى الكفار أي لو علموا أن الله تعالى يجمع لهؤلاء المستضعفين في أيديهم الدنيا والآخرة لرغبوا في دينهم والثاني أنه راجع إلى المهاجرين أي لو كانوا يعلمون ذلك لزادوا في اجتهادهم وصبرهم
ثم قال الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وفي محل الَّذِينَ وجوه الأول أنه بدل من قوله وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ والثاني أن يكون التقدير هم الذين صبروا والثالث أن يكون التقدير أعني الذين صبروا وكلا الوجهين مدح والمعنى أنهم صبروا على العذاب وعلى مفارقة الوطن الذي هو حرم الله وعلى المجاهدة وبذل الأموال والأنفس في سبيل الله وبالجملة فقد ذكر فيه الصبر والتوكل أما الصبر فللسعي في قهر النفس وأما التوكل فللانقطاع بالكلية من الخلق والتوجه بالكلية إلى الحق فالأول هو مبدأ السلوك إلى الله تعالى والثاني آخر هذا الطريق ونهايته والله أعلم
وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأرض أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِى تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ
وفي الآية مسائل

المسألة الأولى اعلم أن هذا هو الشبهة الخامسة لمنكري النبوة كانوا يقولون الله أعلى وأجل من أن يكون رسوله واحداً من البشر بل لو أراد بعثة رسول إلينا لكان يبعث ملكاً وقد ذكرنا تقرير هذه الشبهة في سورة الأنعام فلا نعيده ههنا ونظير هذه الآية قوله تعالى حكاية عنهم وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ( الأنعام 8 ) وقالوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا ( المؤمنون 47 ) وقالوا مَا هَاذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مّثْلَكُمْ ( المؤمنون 33 34 ) وقال أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مّنْهُمْ ( يونس 2 ) وقالوا لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً ( الفرقان 7 )
فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ والمعنى أن عادة الله تعالى من أول زمان الخلق والتكليف أنه لم يبعث رسولاً إلا من البشر فهذه العادة مستمرة لله سبحانه وتعالى وطعن هؤلاء الجهال بهذا السؤال الركيك أيضاً طعن قديم فلا يلتفت إليه
المسألة الثانية دلت الآية على أنه تعالى ما أرسل أحداً من النساء ودلت أيضاً على أنه ما أرسل ملكاً لكن ظاهر قوله جَاعِلِ الْمَلَائِكَة ِ رُسُلاً ( فاطر 1 ) يدل على أن الملائكة رسل الله إلى سائر الملائكة فكان ظاهر هذه الآية دليلاً على أنه ما أرسل رسولاً من الملائكة إلى الناس قال القاضي وزعم أبو علي الجبائي أنه لم يبعث إلى الأنبياء عليهم السلام إلا من هو بصورة الرجال من الملائكة ثم قال القاضي لعله أراد أن الملك الذي يرسل إلى الأنبياء عليهم السلام بحضرة أممهم لأنه إذا كان كذلك فلا بد من أن يكون أيضاً بصورة الرجال كما روي أن جبريل عليه السلام حضر عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في صورة دحية الكلبي وفي صورة سراقة وإنما قلنا ذلك لأن المعلوم من حال الملائكة أن عند إبلاغ الرسالة من الله تعالى إلى الرسول قد يبقون على صورتهم الأصلية الملكية وقد روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) رأى جبريل عليه السلام على صورته التي هو عليها مرتين وعليه تأولوا قوله تعالى وَلَقَدْ رَءاهُ نَزْلَة ً أُخْرَى ( النجم 13 ) ولما ذكر الله تعالى هذا الكلام أتبعه بقوله فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ وفيه مسائل
المسألة الأولى في المراد بأهل الذكر وجوه الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد أهل التوراة والذكر هو التوراة والدليل عليه قوله تعالى وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذّكْرِ ( الأنبياء 105 ) يعني التوراة الثاني قال الزجاج فاسألوا أهل الكتب الذين يعرفون معاني كتب الله تعالى فإنهم يعرفون أن الأنبياء كلهم بشر والثالث أهل الذكر أهل العلم بأخبار الماضين إذ العالم بالشيء يكون ذاكراً له والرابع قال الزجاج معناه سلوا كل من يذكر بعلم وتحقيق وأقول الظاهر أن هذه الشبهة وهي قولهم الله أعلى وأجل من أن يكون رسوله واحداً من البشر إنما تمسك بها كفار مكة ثم إنهم كانوا مقرين بأن اليهود والنصارى أصحاب العلوم والكتب فأمرهم الله بأن يرجعوا في هذه المسألة إلى اليهود والنصارى ليبينوا لهم ضعف هذه الشبهة وسقوطها فإن اليهودي والنصراني لا بد لهما من تزييف هذه الشبهة وبيان سقوطها
المسألة الثانية اختلف الناس في أنه هل يجوز للمجتهد تقليد المجتهد منهم من حكم بالجواز واحتج بهذه الآية فقال لما لم يكن أحد المجتهدين عالماً وجب عليه الرجوع إلى المجتهد الآخر الذي يكون عالماً لقوله تعالى فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ فإن لم يجب فلا أقل من الجواز
المسألة الثالثة احتج نفاة القياس بهذه الآية فقالوا المكلف إذا نزلت به واقعة فإن كان عالماً بحكمها

لم يجز له القياس وإن لم يكن عالماً بحكمها وجب عليه سؤال من كان عالماً بها لظاهر هذه الآية ولو كان القياس حجة لما وجب عليه سؤال العالم لأجل أنه يمكنه استنباط ذلك الحكم بواسطة القياس فثبت أن تجويز العمل بالقياس يوجب ترك العمل بظاهر هذه الآية فوجب أن لا يجوز والله أعلم
وجوابه أنه ثبت جواز العمل بالقياس بإجماع الصحابة والإجماع أقوى من هذا الدليل والله أعلم
ثم قال تعالى بِالْبَيّنَاتِ وَالزُّبُرِ وفيه مسألتان
المسألة الأولى ذكروا في الجالب لهذه الباء وجوهاً الأول أن التقدير وما أرسلنا من قبلك بالبينات والزبر إلا رجالاً يوحى إليهم وأنكر الفراء ذلك وقال إن صلة ما قبل إلا لا يتأخر إلى بعد والدليل عليه أن المستثنى عنه هو مجموع ما قبل إلا مع صلته فما لم يصر هذا المجموع مذكوراً بتمامه امتنع إدخال الاستثناء عليه الثاني أن التقدير وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً يوحى إليهم بالبينات والزبر وعلى هذا التقدير فقوله بِالْبَيّنَاتِ وَالزُّبُرِ متعلق بالمستثنى والثالث أن الجالب لهذا الباء محذوف والتقدير أرسلناهم بالبينات وهذا قول الفراء قال ونظيره ما مر إلا أخوك بزيد ما مر إلا أخوك ثم يقول مر بزيد الرابع أن يقال الذكر بمعنى العلم والتقدير فاسألوا أهل الذكر بالبينات والزبر إن كنتم لا تعلمون الخامس أن يكون التقدير إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر فاسألوا أهل الذكر
المسألة الثانية قوله تعالى بِالْبَيّنَاتِ وَالزُّبُرِ لفظة جامعة لكل ما تكامل به الرسالة لأن مدار أمرها على المعجزات الدالة على صدق من يدعي الرسالة وهي البينات وعلى التكاليف التي يبلغها الرسول من الله تعالى إلى العباد وهي الزبر
ثم قال تعالى وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذّكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى ظاهر هذا الكلام يقتضي أن هذا الذكر مفتقر إلى بيان رسول الله والمفتقر إلى البيان مجمل فظاهر هذا النص يقتضي أن القرآن كله مجمل فلهذا المعنى قال بعضهم متى وقع التعارض بين القرآن وبين الخبر وجب تقديم الخبر لأن القرآن مجمل والدليل عليه هذه الآية والخبر مبين له بدلالة هذه الآية والمبين مقدم على المجمل
والجواب أن القرآن منه محكم ومنه متشابه والمحكم يجب كونه مبيناً فثبت أن القرآن ليس كله مجملاً بل فيه ما يكون مجملاً فقوله لِتُبَيّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ محمول على المجملات
المسألة الثانية ظاهر هذه الآية يقتضي أن يكون الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) هو المبين لكل ما أنزله الله تعالى على المكلفين فعند هذا قال نفاة القياس لو كان القياس حجة لما وجب على الرسول بيان كل ما أنزله الله تعالى على المكلفين من الأحكام لاحتمال أن بين المكلف ذلك الحكم بطريقة القياس ولما دلت هذه الآية على أن المبين لكل التكاليف والأحكام هو الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) علمنا أن القياس ليس بحجة
وأجيب عنه بأنه ( صلى الله عليه وسلم ) لما بين أن القياس حجة فمن رجع في تبيين الأحكام والتكاليف إلى القياس كان ذلك في الحقيقة رجوعاً إلى بيان الرسول ( صلى الله عليه وسلم )
ثم قال تعالى أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيّئَاتِ المكر في اللغة عبارة عن السعي بالفساد على سبيل

الإخفاء ولا بد ههنا من إضمار والتقدير المكرات السيئات والمراد أهل مكة ومن حول المدينة قال الكلبي المراد بهذا المكر اشتغالهم بعبادة غير الله تعالى والأقرب أن المراد سعيهم في إيذاء الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه على سبيل الخفية ثم إنه تعالى ذكر في تهديدهم أموراً أربعة الأول أن يخسف الله بهم الأرض كما خسف بقارون الثاني أن يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون والمراد أن يأتيهم العذاب من السماء من حيث يفجؤهم فيهلكهم بغتة كما فعل بقوم لوط والثالث أن يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين وفي تفسير هذا التقلب وجوه الأول أنه يأخذهم بالعقوبة في أسفارهم فإنه تعالى قادر على إهلاكهم في السفر كما أنه قادر على إهلاكهم في الحضر وهم لا يعجزون الله بسبب ضربهم في البلاد البعيدة بل يدركهم الله حيث كانوا وحمل لفظ التقلب على هذا المعنى مأخوذ من قوله تعالى لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى الْبِلَادِ ( آل عمران 196 ) وثانيهما تفسير هذا اللفظ بأنه يأخذهم بالليل والنهار في أحوال إقبالهم وإدبارهم وذهابهم ومجيئهم وحقيقته في حال تصرفهم في الأمور التي يتصرف فيها أمثالهم وثالثها أن يكون المعنى أو يأخذهم في حال ما ينقلبون في قضايا أفكارهم فيحول الله بينهم وبين إتمام تلك الحيل قسراً كما قال وَلَوْ نَشَاء لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُواْ الصّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ ( يس 66 ) وحمل لفظ التقلب على هذا المعنى مأخوذ من قوله وَقَلَّبُواْ لَكَ الامُورَ ( التوبة 48 ) فإنهم إذا قلبوها فقد تقلبوا فيها
والنوع الرابع من الأشياء التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية على سبيل التهديد قوله تعالى أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ وفي تفسير التخوف قولان
القول الأول التخوف تفعل من الخوف يقال خفت الشيء وتخوفته والمعنى أنه تعالى لا يأخذهم بالعذاب أولاً بل يخيفهم أولاً ثم يعذبهم بعده وتلك الإخافة هو أنه تعالى يهلك فرقة فتخاف التي تليها فيكون هذا أخذاً ورد عليهم بعد أن يمر بهم قبل ذلك زماناً طويلاً في الخوف والوحشة
والقول الثاني أن التخوف هو التنقص قال ابن الأعرابي يقال تخوفت الشيء وتخفيته إذا تنقصته وعن عمر أنه قال على المنبر ما تقولون في هذه الآية فسكتوا فقام شيخ من هذيل فقال هذه لغتنا التخوف التنقص فقال عمر هل تعرف العرب ذلك في أشعارها قال نعم قال شاعرنا وأنشد
تخوف الرحل منها تامكا قردا
كما تخوف عود النبعة السفن فقال عمر أيها الناس عليكم بديوانكم لا تضلوا قالوا وما ديواننا قال شعر الجاهلية فيه تفسير كتابكم
إذا عرفت هذا فنقول هذا التنقص يحتمل أن يكون المراد منه ما يقع في أطراف بلادهم كما قال تعالى أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِى الاْرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ( الأنبياء 44 ) والمعنى أنه تعالى لا يعاجلهم بالعذاب ولكن ينقص من أطراف بلادهم إلى القرى التي تجاورهم حتى يخلص الأمر إليهم فحينئذ يهلكهم ويحتمل أن يكون المراد أنه ينقص أموالهم وأنفسهم قليلاً قليلاً حتى يأتي الفناء على الكل فهذا تفسير هذه الأمور الأربعة والحاصل أنه تعالى خوفهم بخسف يحصل في الأرض أو بعذاب ينزل من السماء أو بآفات تحدث دفعة واحدة حال ما لا يكونون عالمين بعلاماتها ودلائلها أو بآفات تحدث قليلاً قليلاً إلى أن يأتي الهلاك على آخرهم ثم ختم الآية بقوله فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ والمعنى أنه يمهل في أكثر الأمور لأنه رؤوف رحيم فلا يعاجل بالعذاب

أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَى ْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأرض مِن دَآبَّة ٍ وَالْمَلَائِكَة ُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما خوف المشركين بالأنواع الأربعة المذكورة من العذاب أردفه بذكر ما يدل على كمال قدرته في تدبير أحوال العالم العلوي والسفلي وتدبير أحوال الأرواح والأجسام ليظهر لهم أن مع كمال هذه القدرة القاهرة والقوة الغير المتناهية لا يعجز عن إيصال العذاب إليهم على أحد تلك الأقسام الأربعة
المسألة الثانية قرأ حمزة والكسائي أَوَ لَمْ تَرَوْاْ بالتاء على الخطاب وكذلك في سورة العنكبوت أَوَ لَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِىء اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ( العنكبوت 19 ) بالتاء على الخطاب والباقون بالياء فيهما كناية عن الذين مكروا السيئات وأيضاً أن ما قبله غيبة وهو قوله أَن يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الاْرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ أَوْ يَأْخُذَهُمْ ( النحل 45 46 ) فكذا قوله أَوَ لَمْ يَرَوْاْ وقرأ أبو عمرو وحده تتفيؤ بالتاء والباقون بالياء وكلاهما جائز لتقدم الفعل على الجمع
المسألة الثالثة قوله أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ لما كانت الرؤية ههنا بمعنى النظر وصلت بإلى لأن المراد به الاعتبار ولاعتبار لا يكون بنفس الرؤية حتى يكون معها نظر إلى الشيء وتأمل لأحواله وقوله إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَى ْء قال أهل المعاني أراد من شيء له ظل من جبل وشجر وبناء وجسم قائم ولفظ الآية يشعر بهذا القيد لأن قوله مِن شَى ْء يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ يدل على أن ذلك الشيء كثيف يقع له ظل على الأرض وقوله يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ إخبار عن قوله شَى ْء وليس بوصف له ويتفيأ يتفعل من الفيء يقال فاء الظل يفيء فيئاً إذا رجع وعاد بعد ما نسخه ضياء الشمس وأصل الفيء الرجوع ومنه فيء المولي وذكرنا ذلك في قوله تعالى فَانٍ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( البقرة 226 ) وكذلك فيء المسلمين لما يعود على المسلمين من مال من خالف دينهم ومنه قوله تعالى مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ ( الحشر 6 ) وأصل هذا كله من الرجوع
إذا عرفت هذا فنقول إذا عدي فاء فإنه يعدى إما بزيادة الهمزة إو بتضعيف العين أما التعدية بزيادة الهمزة كقوله مَّا أَفَاء اللَّهُ وأما بتضعيف العين فكقوله فيأ الله الظل فتفيأ وتفيأ مطاوع فيأ قال الأزهري تفيؤ الظلال رجوعها بعد انتصاف النهار فالتفيؤ لا يكون إلا بالعشي بعدما انصرفت عنه الشمس والظل ما يكون بالغداة وهو ما لم تنله الشمس كمال قال الشاعر

فلا الظل من برد الضحى تستطيعه
ولا الفيء من برد العشي تذوق قال ثعلب أخبرت عن أبي عبيدة أن رؤبة قال كل ما كانت عليه الشمس فزالت عنه فهو فيء وما لم يكن عليه الشمس فهو ظل ومنهم من أنكر ذلك فإن أبا زيد أنشد للنابغة الجعدي
فلام الإله يغدو عليهم
وفيؤ الغروس ذات الظلال فهذا الشعر قد أوقع فيه لفظ الفيء على ما لم تنسخه الشمس لأن ما في الجنة من الظل ما صحل بعد أن كان زائلاً بسبب نور الشمس وتقول العرب في جمع في أفياء وهي للعدد القليل وفيؤ للكثير كالنفوس والعيون وقوله ظِلَالُهُ أضاف الظلال إلى مفرد ومعناه الإضافة إلى ذوي الظلال وإنما حسن هذا لأن الذي عاد إليه الضمير وإن كان واحداً في اللفظ وهو قوله إلى ما خلق الله إلا أنه كثير في المعنى ونظيره قوله تعالى لِتَسْتَوُواْ عَلَى ظُهُورِهِ ( الزخرف 13 ) فأضاف الظهور وهو جمع إلى ضمير مفرد لأنه يعود إلى واحد أريد به الكثرة وهو قوله مَا تَرْكَبُونَ هذا كله كلام الواحدي وهو بحث حسن أما قوله عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ ففيه بحثان
البحث الأول في المراد باليمين والشمائل قولان
القول الأول أن يمين الفلك هو المشرق وشماله هو المغرب والسبب في تخصيص هذين الاسمين بهذين الجانبين أن أقوى جانبي الإنساني يمينه ومنه تظهر الحركة القوية فلما كانت الحركة الفلكية اليومية آخذة من المشرق إلى المغرب لا جرم كان المشرق يمين الفلك والمغرب شماله
إذا عرفت هذا فنقول إن الشمس عند طلوعها إلى وقت انتهائها إلى وسط الفلك تقع الإظلال إلى الجانب الغربي فإذا انحدرت الشمس من وسط الفلك إلى الجانب الغربي وقع الإظلال في الجانب الشرقي فهذا هو المراد من تفيؤ الظلال من اليمين إلى الشمال وبالعكس وعلى هذا التقدير فالإظلال في أول النهار تبتدىء من يمين الفلك على الربع الغربي من الأرض ومن وقت انحدار الشمس من وسط الفلك تبتدىء الإظلال من شمال الفلك واقعة على الربع الشرقي من الأرض
القول الثاني أن البلدة التي يكون عرضها أقل من مقدار الميل فإن في الصيف تحصل الشمس على يسارها وحينئذ يقع الإظلال على يمينهم فهذا هو المراد من انتقال الإظلال عن الأيمان إلى الشمائل وبالعكس هذا ما حصلته في هذا الباب وكلام المفسرين فيه غير ملخص
البحث الثاني لقائل أن يقول ما السبب في أن ذكر اليمين بلفظ الواحد والشمائل بصيغة الجمع
وأجيب عنه بأشياء أحدها أنه وحد اليمين والمراد الجمع ولكنه اقتصر في اللفظ على الواحد كقوله تعالى وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ( القمر 45 ) وثانيها قال الفراء كأنه إذا وحد ذهب إلى واحدة من ذوات الأظلال وإذا جمع ذهب إلى كلها وذلك لأن قوله مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَى ْء لفظه واحد ومعناه الجمع على ما بيناه فيحتمل كلا الأمرين وثالثها أن العرب إذا ذكرت صيغتي جمع عبرت عن إحداهما بلفظ الواحد كقوله تعالى وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ( الأنعام 1 ) وقوله خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ ( البقرة 7 ) ورابعها أنا إذا فسرنا اليمين بالمشرق كانت النقطة التي هي مشرق الشمس واحدة بعينها فكانت اليمين

واحدة وأما الشمائل فهي عبارة عن الانحرافات الواقعة في تلك الأظلال بعد وقوعها على الأرض وهي كثيرة فلذلك عبر الله تعالى عنها بصيغة الجمع والله أعلم
المسألة الرابعة أما قوله سُجَّدًا لِلَّهِ ففيه احتمالات الأول أن يكون المراد من السجود الاستسلام والانقياد يقال سجد البعير إذا طأطأ رأسه ليركب وسجدت النخلة إذا مالت لكثرة الحمل ويقال أسجد لقرد السوء في زمانه أي أخضع له قال الشاعر
ترى الأكم فيها سجداً للحوافر
أي متواضعة إذا عرفت هذا فنقول إنه تعالى دبر النيرات الفلكية والأشخاص الكوكبية بحيث يقع أضواؤها على هذا العالم السفلي على وجوه مخصوصة ثم إنا نشاهد أن تلك الأضواء وتلك الإظلال لا تقع في هذا العالم إلا على وفق تدبير الله تعالى وتقديره فنشاهد أن الشمس إذا طلعت وقعت الأجسام الكثيفة أظلال ممتدة في الجانب الغربي من الأرض ثم كلما ازدادت الشمس طلوعاً وارتفاعاً ازدادت تلك الأظلال تقلصاً وانتقاصاً إلى الجانب الشرقي إلى أن تصل الشمس إلى وسط الفلك فإذا انحدرت إلى الجانب الغربي ابتدأت الأظلال بالوقوع في الجانب الشرقي وكلما ازدادت الشمس انحداراً ازدادت الأظلال تمدداً وتزايداً في الجانب الشرقي وكما أنا نشاهد هذه الحالة في اليوم الواحد فكذلك نشاهد أحوال الأظلال مختلفة في التيامن والتياسر في طول السنة بسبب اختلاف أحوال الشمس في الحركة من الجنوب إلى الشمال وبالعكس فلما شاهدنا أحوال هذه الأظلال مختلفة بسبب الاختلافات اليومية الواقعة في شرق الأرض وغربها وبحسب الاختلافات الواقعة في طول السنة في يمين الفلك ويساره ورأينا أنها واقعة على وجه مخصوص وترتيب معين علمنا أنها منقادة لقدرة الله خاضعة لتقديره وتدبيره فكانت السجدة عبارة عن هذه الحالة
فإن قيل لم لا يجوز أن يقال اختلاف حال هذه الأظلال معلل باختلاف سير النير الأعظم الذي هو الشمس لا لأجل تقدير الله تعالى وتدبيره
قلنا قد دللنا على أن الجسم لا يكون متحركاً لذاته إذ لو كانت ذاته علة لهذا الجزء المخصوص من الحركة لبقي هذا الجزء من الحركة لبقاء ذاته ولو بقي ذلك الجزء من الحركة لامتنع حصول الجزء الآخر من الحركة ولو كان الأمر كذلك لكان هذا سكوناً لا حركة فالقول بأن الجسم المتحرك لذاته يوجب القول بكونه ساكناً لذاته وأنه محال وما أفضى ثبوته إلى نفيه كان باطلاً فعلمنا أن الجسم يمتنع كونه متحركاً لذاته وأيضاً فقد دللنا على أن الأجسام متماثلة في تمام الماهية فاختصاص جرم الشمس بالقوة المعينة والخاصية المعينة لا بد وأن يكون بتدبير الخالق المختار الحكيم
إذا ثبت هذا فنقول هب أن اختلاف أحوال الأظلال إنما كان لأجل حركات الشمس إلا أنا لما دللنا على أن محرك الشمس بالحركة الخاصة ليس إلا الله سبحانه كان هذا دليلاً على أن اختلاف أحوال الأظلال لم يقع إلا بتدبير الله تعالى وتخليقه فثبت أن المراد بهذا السجود الانقياد والتواضع ونظيره قوله وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ ( الرحمن 6 ) وقوله وَظِلَالُهُم بِالْغُدُوّ وَالاْصَالِ ( الرعد 15 ) قد مر بيانه وشرحه
والقول الثاني في تفسير هذا السجود أن هذه الأظلال واقعة على الأرض ملتصقة بها على هيئة

الساجد قال أبو العلاء المعري في صفة واد
بحرف يطيل الجنح فيه سجوده
وللأرض زي الراهب المتعبد فلما كانت الأظلال تشبه بشكلها شكل الساجدين أطلق الله عليها هذا اللفظ وكان الحسن يقول أما ظلك فسجد لربك وأما أنت فلا تسجد له بئسما صنعت وقال مجاهد ظل الكافر يصلي وهو لا يصلي وقيل ظل كل شيء يسجد لله سواء كان ذلك ساجداً أم لا
واعلم أن الوجه الأول أقرب إلى الحقائق العقلية والثاني أقرب إلى الشبهات الظاهرة
المسألة الخامسة وقوله سُجَّدًا حال من الظلال وقوله وَهُمْ داخِرُونَ أي صاغرون يقال دخر يدخر دخوراً أي صغر يصغر صغاراً وهو الذي يفعل ما تأمره شاء أم أبى وذلك لأن هذه الأشياء منقادة لقدرة الله تعالى وتدبيره وقوله وَهُمْ داخِرُونَ حال أيضاً من الظلال
فإن قيل الظلال ليست من العقلاء فكيف جاز جمعها بالواو والنون
قلنا لأنه تعالى لما وصفهم بالطاعة والدخور أشبهوا العقلاء
أما قوله تعالى وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ مَن دَآبَّة ٍ وَالْمَلَئِكَة ُ ففيه مسائل
المسألة الأولى قد ذكرنا أن السجود على نوعين سجود هو عبادة كسجود المسلمين لله تعالى وسجود هو عبارة عن الانقياد لله تعالى والخضوع ويرجع حاصل هذا السجود إلى أنها في نفسها ممكنة الوجود والعدم قابلة لهما وأنه لا يترجح أحد الطرفين على الآخر إلا لمرجح
إذا عرفت هذا فنقول من الناس من قال المراد بالسجود المذكور في هذه الآية السجود بالمعنى الثاني وهو التواضع والانقياد والدليل عليه أن اللائق بالدابة ليس إلا هذا السجود ومنهم من قال المراد بالسجود ههنا هو المعنى الأول لأن اللائق بالملائكة هو السجود بهذا المعنى لأن السجود بالمعنى الثاني حاصل في كل الحيوانات والنباتات والجمادات ومنهم من قال السجود لفظ مشترك بين المعنيين وحمل اللفظ المشترك لإفادة مجموع معنييه جائز فحمل لفظ السجود في هذه الآية على الأمرين معاً أما في حق الدابة فبمعنى التواضع وأما في حق الملائكة فبمعنى سجود المسلمين لله تعالى وهذا القول ضعيف لأنه ثبت أن استعمال اللفظ المشترك لإفادة جميع مفهوماته معاً غير جائز
المسألة الثانية قوله مِن دَابَّة ٍ قال الأخفش يريد من الدواب وأخبر بالواحد كما تقول ما أتاني من رجل مثله وما أتاني من الرجال مثله وقال ابن عباس يريد كل ما دب على الأرض
المسألة الثالثة لقائل أن يقول ما الوجه في تخصبص الدواب والملائكة بالذكر فنقول فيه وجوه
الوجه الأول أنه تعاني بين في آية الظلال أن الجمادات بأسرها منقادة لله تعالى وبين بهذه الآية أن الحيوانات بأسرها منقادة لله تعالى لأن أخسها الدواب وأشرفها الملائكة فلما بين في أخسها وفي أشرفها كونها منقادة لله تعالى كان ذلك دليلاً على أنها بأسرها منقادة خاضعة لله تعالى
والوجه الثاني قال حكماء الإسلام الدابة اشتقاقها من الدبيب والدبيب عبارة عن الحركة

الجسمانية فالدابة اسم لكل حيوان جسماني يتحرك ويدب فلما بين الله تعالى الملائكة عن الدابة علمنا أنها ليست مما يدب بل هي أرواح محضة مجردة ويمكن الجواب عنه بأن الجناح للطيران مغاير للدبيب بدليل قوله تعالى وَمَا مِن دَابَّة ٍ فِى الاْرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ ( الأنعام 38 ) والله أعلم
أما قوله تعالى وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ففيه مسائل
المسألة الأولى المقصود من هذه الآية شرح صفات الملائكة وهي دلالة قاهرة قاطعة على عصمة الملائكة عن جميع الذنوب لأن قوله وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ يدل على أنهم منقادون لصانعهم وخالقهم وأنهم ما خالفوه في أمر من الأمور ونظيره قوله تعالى وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ ( مريم 64 ) وقوله لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ( الأنبياء 27 ) وأما قوله وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ فهذا أيضاً يدل على أنهم فعلوا كل ما كانوا مأمورين به وذلك يدل على عصمتهم عن كل الذنوب
فإن قالوا هب أن هذه الآية تدل على أنهم فعلوا كل ما أمروا به فلم قلتم إنها تدل على أنهم تركوا كل ما نهوا عنه
قلنا لأن كل ما نهي عن شيء فقد أمر بتركه وحينئذ يدخل في اللفظ وإذا ثبت بهذه الآية كون الملائكة معصومين من كل الذنوب وثبت أن إبليس ما كان معصوماً من الذنوب بل كان كافراً لزم القطع بأن إبليس ما كان من الملائكة
والوجه الثاني في بيان هذا المقصود أنه تعالى قال في صفة الملائكة وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ثم قال لإبليس أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ ( ص 75 ) وقال أيضاً له فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا ( الأعراف 13 ) فثبت أن الملائكة لا يستكبرون وثبت أن إبليس تكبر واستكبر فوجب أن لا يكون من الملائكة وأيضاً لما ثبت بهذه الآية وجوب عصمة الملائكة ثبت أن القصة الخبيثة التي يذكرونها في حق هاروت وماروت كلام باطل فإن الله تعالى وهو أصدق القائلين لما شهد في هذه الآية على عصمة الملائكة وبراءتهم عن كل ذنب وجب القطع بأن تلك القصة كاذبة باطلة والله أعلم واحتج الطاعنون في عصمة الملائكة بهذه الآية فقالوا إنه تعالى وصفهم بالخوف ولولا أنهم يجوزون على أنفسهم الإقدام على الكبائر والذنوب وإلا لم يحصل الخوف
والجواب من وجهين الأول أنه تعالى منذرهم من العقاب فقال وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنّى إِلَاهٌ مّن دُونِهِ فَذالِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ ( الأنبياء 29 ) وهم لهذا الخوف يتركون الذنب والثاني وهو الأصح أن ذلك الخوف خوف الإجلال هكذا نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما والدليل على صحته قوله تعالى إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ( فاطر 28 ) وهذا يدل على أنه كلما كانت معرفة الله تعالى أتم كان الخوف منه أعظم وهذا الخوف لا يكون إلا خوف الإجلال والكبرياء والله أعلم
المسألة الثانية قالت المشبهة قوله تعالى يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ هذا يدل على أن الإله تعالى فوقهم بالذات

واعلم أنا بالغنا في الجواب عن هذه الشبهة في تفسير قوله تعالى وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ( الأنعام 18 ) والذي نزيده ههنا أن قوله يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ معناه يخافون ربهم من أن ينزل عليهم العذاب من فوقهم وإذا كان اللفظ محتملاً لهذا المعنى سقط قولهم وأيضاً يجب حمل هذه الفوقية على الفوقية بالقدرة والقهر كقوله وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ( الأعراف 127 ) والذي يقوي هذا الوجه أنه تعالى لما قال يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ وجب أن يكون المقتضى لهذا الخوف هو كون ربهم فوقهم لما ثبت في أصول الفقه أن الحكم المرتب على الوصف يشعر بكون الحكم معللاً بذلك الوصف
إذا ثبت هذا فنقول هذا التعطيل إنما يصح لو كان المراد بالفوقية الفوقية بالقهر والقدرة لأنها هي الموجبة للخوف أما الفوقية بالجهة والمكان فهي لا توجب الخوف بدليل أن حارس البيت فوق الملك بالمكان والجهة مع أنه أخس عبيده فسقطت هذه الشبهة
المسألة الثالثة دلت هذه الآية على أن الملائكة مكلفون من قبل الله تعالى وأن الأمر والنهي متوجه عليهم كسائر المكلفين ومتى كانوا كذلك وجب أن يكونوا قادرين على الخير والشر
المسألة الرابعة تمسك قوم بهذه الآية في بيان أن الملك أفضل من البشر في وجوه
الوجه الأول أنه تعالى قال وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ مَن دَآبَّة ٍ وَالْمَلَئِكَة ُ وذكرنا أن تخصيص هذين النوعين بالذكر إنما يحسن إذا كان أحد الطرفين أخس المراتب وكان الطرف الثاني أشرفها حتى يكون ذكر هذين الطرفين منبهاً على الباقي وإذا كان كذلك وجب أن يكون الملائكة أشرف خلق الله تعالى
الوجه الثاني أن قوله تعالى وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ يدل على أنه ليس في قلوبهم تكبر وترفع وقوله وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ يدل على أن أعمالهم خالية عن الذنب والمعصية فمجموع هذين الكلامين يدل على أن بواطنهم وظواهرهم مبرأة عن الأخلاق الفاسدة والأفعال الباطلة وأما البشر فليسوا كذلك ويدل عليه القرآن والخبر أما القرآن فقوله تعالى قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ( عبس 17 ) وهذا الحكم عام في الإنسان وأقل مراتبه أن تكون طبيعة الإنسان مقتضية لهذه الأحوال الذميمة وأما الخبر فقوله عليه السلام ( ما منا إلا وقد عصى أو هم بالمعصية غير يحيى بن زكريا ) ومن المعلوم بالضرورة أن المبرأ عن المعصية والهم بها أفضل ممن عصى أو هم بها
الوجه الثالث أنه لا شك أن الله تعالى خلق الملائكة قبل البشر بأدوار متطاولة وأزمان ممتدة ثم إنه وصفهم بالطاعة والخضوع والخشوع طول هذه المدة وطول العمر مع الطاعة يوجب مزيد الفضيلة لوجهين الأول قوله عليه السلام ( الشيخ في قومه كالنبي في أمته ) فضل الشيخ على الشاب وما ذاك إلا لأنه لما كان عمره أطول فالظاهر أن طاعته أكثر فكان أفضل والثاني أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة فلما كان شروع الملائكة في الطاعات قبل شروع البشر فيها لزم أن يقال إنهم هم الذين سنوا هذه السنة الحسنة وهي طاعة الخالق القديم الرحيم والبشر إنما جاؤوا بعدهم واستنوا سنتهم فوجب بمقتضى هذا الخبر أن كل ما حصل للبشر من الثواب فقد حصل مثله للملائكة ولهم ثواب القدر الزائد من الطاعة فوجب كونهم أفضل من غيرهم

الوجه الرابع في دلالة الآية على هذا المعنى قوله يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ وقد بينا بالدليل أن هذه الفوقية عبارة عن الفوقية بالرتبة والشرف والقدرة والقوة فظاهر الآية يدل على أنه لا شيء فوقهم في الشرف والرتبة إلا الله تعالى وذلك يدل على كونهم أفضل المخلوقات والله أعلم
وَقَالَ اللَّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلاهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلاهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ وَلَهُ مَا فِى الْسَّمَاوَاتِ والأرض وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَة ٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأرُونَ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُواْ بِمَآ ءاتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِّمّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْألُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالاٍّ نْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُو ءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِى التُّرَابِ أَلاَ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاٌّ خِرَة ِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الاٌّ عْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّة ٍ وَلاكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأخِرُونَ سَاعَة ً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَِّنُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِى اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَة ً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أن كل ما سوى الله سواء كان من عالم الأرواح أو من عالم الأجسام فهو منقاد خاضع لجلال الله تعالى وكبريائه أتبعه في هذه الآية بالنهي عن الشرك وبالأمر بأن كل ما سواه فهو ملكه وملكه وأنه غني عن الكل فقال لاَ تَتَّخِذُواْ إِلاهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلاهٌ وَاحِدٌ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى لقائل أن يقول إن الإلهين لا بد وأن يكونا اثنين فما الفائدة في قوله إِلاهَيْنِ اثْنَيْنِ
وجوابه من وجوه أحدها قال صاحب ( النظم ) فيه تقديم وتأخير والتقدير لا تتخذوا اثنين إلهين وثانيها وهو الأقرب عندي أن الشيء إذا كان مستنكراً مستقبحاً فمن أراد المبالغة في التنفير عنه عبر عنه بعبارات كثيرة ليصير توالي تلك العبارات سبباً لوقوف العقل على ما فيه من القبح
إذا عرفت هذا القول بوجود الإلهين قول مستقبح في العقول ولهذا المعنى فإن أحداً من العقلاء لم يقل بوجود إلهين متساويين في الوجوب والقدم وصفات الكمال فقوله لاَ تَتَّخِذُواْ إِلاهَيْنِ اثْنَيْنِ المقصود من تكريره تأكيد التنفير عنه وتكميل وقوف العقل على ما فيه من القبح وثالثها أن قوله إِلاهَيْنِ لفظ واحد يدل على أمرين ثبوت الإله وثبوت التعدد فإذا قيل لا تتخذوا إلهين لم يعرف من هذا الفظ أن النهي وقع عن إثبات الإله أو عن إثبات التعدد أو عن مجموعهما فلما قال لاَ تَتَّخِذُواْ إِلاهَيْنِ اثْنَيْنِ ثبت أن قوله لاَ تَتَّخِذُواْ إِلاهَيْنِ نهي عن إثبات التعدد فقط ورابعها أن الأثينية منافية للإلهية وتقريره من وجوه الأول أنا لو فرضنا موجودين يكون كل واحد منهما واجباً لذاته لكانا مشتركين في الوجوب الذاتي ومتباينين بالتعين وما به المشاركة غير ما به المباينة فكل واحد منهما مركب من جزأين وكل مركب فهو ممكن فثبت أن القول بأن واجب الوجود أكثر من واحد ينفي القول بكونهما واجبي الوجود والثاني أنا لو فرضنا إلهين وحاول

أحدهما تحريك جسم والآخر تسكينه امتنع كون أحدهما أولى بالفعل من الثاني لأن الحركة الواحدة والسكون الواحد لا يقبل القسمة أصلاً ولا التفاوت أصلاً وإذا كان كذلك امتنع أن تكون القدرة على أحدهما أكمل من القدرة على الثاني وإذا ثبت هذا امتنع كون إحدى القدرتين أولى بالتأثير من الثانية وإذا ثبت هذا فإما أن يحصل مراد كل واحد منهما وهو محال أو لا يحصل مراد كل واحد منهما وهو محال أو لا يحصل مراد كل واحد منهما ألبتة فحينئذ يكون كل واحد منهما عاجزاً والعاجز لا يكون إلهاً فثبت أن كونهما اثنين ينفي كون كل واحد منهما إلهاً الثالث أنا لو فرضنا إلهين اثنين لكان إما أن يقدر أحدهما على أن يستر ملكه عن الآخر أو لا يقدر فإن قدر ذاك إله والآخر ضعيف وإن لم يقدر فهو ضعيف والرابع وهو أن أحدهما إما أن يقوى على مخالفة الآخر أو لا يقوى عليه فإن لم يقو عليه فهو ضعيف وإن قوي عليه فذاك الآخر إن لم يقو على الدفع فهو ضعيف وإن قوي عليه فالأول المغلوب ضعيف فثبت أن الأثنينية والإلهية متضادتان فقوله لاَ تَتَّخِذُواْ إِلاهَيْنِ اثْنَيْنِ المقصود منه التنبيه على حصول المنافاة والمضادة بين الإلهية وبين الأثينية والله أعلم
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذا الكلام قال إِنَّمَا هُوَ إِلاهٌ وَاحِدٌ والمعنى أنه لما دلت الدلائل السابقة على أنه لا بد للعالم من الإله وثبت أن القول بوجود الإلهين محال ثبت أنه لا إله إلا الواحد الأحد الحق الصمد
ثم قال بعده فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ وهذا رجوع من الغيبة إلى الحضور والتقدير أنه لما ثبت أن الإله واحد وثبت أن المتكلم بهذا الكلام إله فحينئذ ثبت إنه لا إله للعالم إلا المتكلم بهذا الكلام فحينئذ يحسن منه أن يعدل من الغيبة إلى الحضور ويقول فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ وفيه دقيقة أخرى وهو أن قوله فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ يفيد الحصر وهو أن لا يرهب الخلق إلا منه وأن لا يرغبوا إلا في فضله وإحسانه وذلك لأن الموجود إما قديم وإما محدث أما القديم الذي هو الإله فهو واحد وأما ما سواه فمحدث وإنما حدث بتخليق ذلك القديم وبإيجاده وإذا كان كذلك فلا رغبة إلا إليه ولا رهبة إلا منه فبفضله تندفع الحاجات وبتكوينه وبتخليقه تنقطع الضرورات
ثم قال بعده وَلَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وهذا حق لأنه لما كان الإله واحداً والواجب لذاته واحداً كان كل ما سواه حاصلاً بتخليقه وتكوينه وإيجاده فثبت بهذا البرهان صحة قوله وَلَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى لأن أفعال العباد من جملة ما في السموات والأرض فوجب أن تكون أفعال العباد لله تعالى وليس المراد من كونها لله تعالى أنها مفعولة لله لأجله ولغرض طاعته لأن فيها المباحات والمحظورات التي يؤتى بها لغرض الشهوة واللذة لا لغرض الطاعة فوجب أن يكون المراد من قولنا إنها لله أنها واقعة بتكوينه وتخليقه وهو المطلوب
ثم قال بعده وَلَهُ الدّينُ وَاصِبًا الدين ههنا الطاعة والواصب الدائم يقال وصب الشيء يصب وصوباً إذا دام قال تعالى وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ ( الصافات 9 ) ويقال واظب على الشيء وواصب عليه إذا داوم ومفازة واصبة أي بعيدة لا غاية لها ويقال للعليل واصب ليكون ذلك المرض لازماً له قال ابن قتيبة ليس من أحد يدان له ويطاع إلا انقطع ذلك بسبب في حال الحياة أو بالموت إلا الحق سبحانه فإن

طاعته واجبة أبداً
واعلم أن قوله واصبا حال والعامل فيه ما في الظرف من معنى الفعل وأقول الدين قد يعني به الأنقياد يقال يا من دانت له الرقاب أي انقادت فقوله وله الدين واصبا أي انقياد كل ما سواه لا لازم أبدا لأن انقياد غيره له معلل بأن غيره ممكن لذاته والممكن لذاته يلزمه أن يكون محتاجا إلى السبب في طرفي الوجود والعدم والماهيات يلزمها الإمكان لزوما ذاتيا والإمكان يلزمه الاحتياج إلى المؤثر لزوما ذاتيا ينتج أن الماهيات يلزمها الاحتياج إلى المؤثر لزوما ذاتيا فهذه الماهيات موصوفة بالانقياد لله تعالى اتصافا دائما واجبا لازما ممتنع التغير وأقول في الآية دقيقة أخرى وهي أن العقلاء اتفقوا على أن الممكن حال حدوثه محتاج إلى السبب المرجح واختلفوا في الممكن حال بقائه هل هو محتاج إلى السبب قال المحققون إنه محتاج لأن علة الحاجة هي الامكان والإمكان من لوازم الماهية فيكون حاصلا للماهية حال حدوثها وحال بقائها فتكون علة الحاجة حال حدوث الممكن وحال بقائه فوجب أن تكون الحاجة حاصلة حال حدوثها وحال بقائها
إذا عرفت هذا فقوله وله ما في السموات والأرض معناه أن كل ما سوى الحق فإنه محتاج في انقلابه من العدم إلى الوجود أو من الوجود إلى العدم إلى مرجح ومخصص وقوله وله الدين واصبا معناه أن هذا الانقياد وهذا الاحتياج حاصل دائما أبدا وهو إشارة إلى ما ذكرناه من أن الممكن حال بقائه لا يستغني عن المرجح والمخصص وهذه دقائق من أسرار العلوم الإلهية مودعة في هذه الألفاظ الفائضة من عالم الوحي والنبوة
ثم قال تعالى أفغير الله تتقون والمعنى أنكم بعدما عرفتم أن إله العالم واحد وعرفتم أن كل ما سواه محتاج إليه في وقت حدوثه ومحتاج إليه أيضا في وقت دوامه وبقائه فبعد العلم بهذه الأصول كيف يعقل أن يكون للإنسان رغبة في غير الله تعالى أو رهبة عن غير الله تعالى فلهذا المعنى قال على سبيل التعجب أفغير الله تتقون
ثم قال وما بكم من نعمة فمن الله وفيه مسائل
المسألة الأولى أنه لما بين بالآية أن الواجب على العاقل أن لا يتقي غير الله بين في هذه الآية أنه يجب عليه أن لا يشكر أحدا إلا الله تعالى لأن الشكر إنما يلزم على النعمة وكل نعمة حصلت للإنسان فهي من الله تعالى لقوله وما بكم من نعمة فمن الله فثبت بهذا أن العاقل يجب عليه أن لا يخاف وأن لا يتقي أحدا إلا الله وأن لا يشكر أحدا إلا الله تعالى
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الإيمان حصل بخلق الله تعالى فقالوا الإيمان نعمة وكل نعمة فهي من الله تعالى لقوله وما بكم من نعمة فمن الله ينتج أن الإيمان من الله وإنما قلنا إن الإيمان نعمة لأن المسلمين مطبقون على قولهم الحمد لله على نعمة الإيمان وأيضا فالنعمة عبارة عن كل ما يكون منتفعا به وأعظم الأشياء في النفع هو الإيمان فثبت أن الإيمان نعمة
وإذا ثبت هذا فنقول وكل نعمة فهي من الله تعالى لقوله تعالى وما بكم من نعمة فمن الله وهذه

اللفظة تفيد العموم وأيضا مما يدل على أن كل نعمة فهي من الله لأن كل ما كان موجودا فهو إما واجب لذاته وإما ممكن لذاته والواجب لذاته ليس إلا الله تعالى والممكن لذاته لا يوجد إلا لمرجح وذلك المرجح إن كان واجبا لذاته كان حصول ذلك الممكن بإيجاد الله تعالى وإن كان ممكنا لذاته عاد التقسيم الأول فيه ولا يذهب إلى التسلسل بل ينتهي إلى إيجاد الواجب لذاته فثبت بهذا البيان أن كل نعمة فهي من الله تعالى
المسألة الثالثة النعم إما دينية وإما دنيوية أما النعم الدينية فهي إما معرفة الحق لذاته وإما معرفة الخير لأجل العمل به وأما النعم الدنيوية فهي إما نفسانية وأما بدنية وإما خارجية وكل واحد من هذه الثلاثة جنس تحته أنواع خارجة عن الحصر والتحديد كما قال وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إبراهيم 34 والإشارة إلى تفصيل تلك الأنواع قد ذكرناها مرارا فلا نعيدها
المسألة الرابعة إنما دخلت الفاء في قوله فمن الله لأن الباء في قوله بكم متصلة بفعل مضمر والمعنى ما يمكن بكم أو ما حل بكم من نعمة فمن الله
ثم قال تعالى ثم إذا مسكم الضر قال ابن عباس يريد الأسقام والأمراض والحاجة فإليه تجأرون أي ترفعون أصواتكم بالاستغاثة وتتضرعون إليه بالدعاء يقال جأر يجأر جؤارا وهو الصوت الشديد كصوت البقرة وقال الأعشى يصف راهبا يراوح من صلوات المليك
طورا سجودا وطورا جؤارا
والمعنى أنه تعالى بين أن جميع النعم من الله تعالى ثم إذا اتفق لأحد مضرة توجب زوال شيء من تلك النعم فإلى الله يجأر أي لا يستغيث أحدا إلا الله تعالى لعلمه بأنه لا مفزع للخلق إلا هو فكأنه تعالى قال لهم فأين أنتم عن هذه الطريقة في حال الرخاء والسلامة ثم قال بعده ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون فبين تعالى أن عند كشف الضر وسلامة الأحوال يفترقون ففريق منهم يبقى على مثل ما كان عليه عند الضر في أن لا يفزع إلا إلى الله تعالى وفريق منهم عند ذلك يتغيرون فيشركون بالله غيره وهذا جهل وضلال لأنه لما شهدت فطرته الأصلية وخلقته الغريزية عند نزول البلاء والضراء والآفات والمخافات أن لا مفزع إلا إلى الواحد ولا مستغاث إلا الواحد فعند زوال البلاء والضراء وجب أن يبقى على ذلك الاعتقاد فأما أنه عند نزول البلاء يقر بأنه لا مستغاث إلا الله تعالى وعند زوال البلاء يثبت الأضداد والشركاء فهذا جعل عظيم وضلال كامل ونظير هذه الآية قوله تعالى فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون العنكبوت 65
ثم قال تعالى ليكفروا بما آتيناهم وفي هذه اللام وجهان الأول أنها لام كي والمعنى أنهم شركوا بالله غيره في كشف ذلك الضر عنهم وغرضهم منذلك الإشراك أن ينكروا كون ذلك الإنعام من الله تعالى ألا ترى أن العليل إذا اشتد وجعه تضرع إلى الله تعالى في إزالة ذلك الوجع فإذا زال أحال زواله على الدواء الفلاني والعلاج الفلاني وهذا أكثر أحوال الخلق وقال مصنف هذا الكتاب محمد بن عمر الرازي رحمه الله في اليوم الذي كنت أكتب هذه الأوراق وهو اليوم الأول من محرم سنة اثنتين وستمائة حصلت زلزلة شديدة وهدة عظيمة وقت الصبح ورأيت الناس يصيحون بالدعاء والتضرع فلما سكتت وطاب

الهواء وحسن أنواع الوقت نسوا في الحال تلك الزلزلة وعادوا إلى ما كانوا عليه من تلك السفاهة والجهالة وكان هذه الحالة التي شرحها الله تعالى في هذه الآية تجري مجرى الصفة اللازمة لجوهر نفس الإنسان
والقول الثاني أن هذه اللام لام العاقبة كقوله تعالى فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا القصص 8 يعني ان عاقبة تلك التضرعات ما كانت إلا هذا الكفر
واعلم أن المراد بقوله بما آتيناهم فيه قولان الأول أنه عبارة عن كشف الضر وإزالة المكروه والثاني قال بعضهم المراد به القرآن وما جاء به محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من النبوة والشرائع
واعلم أنه تعالى توعدهم بعد ذلك فقال فتمتعوا وهذا لفظ أمر والمراد منه التهديد كقوله فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر الكهف 29 وقوله قل آمنوا به أو لا تؤمنوا الإسراء 107
ثم قال تعالى فسوف تعلمون أي عاقبة أمركم وما ينزل بكم من العذاب والله أعلم
قوله تعالى
ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم
اعلم أنه تعالى لما بين بالدلائل القاهرة فساد أقوال أهل الشرك والتشبيه شرح في هذه الآية تفاصيل أقوالهم وبين فسادها وسخافتها
فالنوع الأول من كلماتهم الفاسدة أنهم يجعلون لما لا يعلمون نصيبا وفيه مسألتان
المسألة الأولى الضمير في قوله لما لا يعلمون إلى ماذا يعود فيه قولان الأول أنه عائد إلى المشركين المذكورين في قوله إذا فؤيق منكم بربهم يشركون والمعنى أن المشركين لا يعلمون والثاني أنه عائد إلى الأصنام أي لا يعلم الأصنام ما يفعل عبادها قال بعضهم الأول أولى لوجوه أحدها أن نفي العلم عن الحي حقيقة وعن الجماد مجاز وثانيها أن الضمير في قوله ويجعلون عائد إلى المشركين فكذلك في قوله لما لا يعلمون يجب أن يكون عائد إليهم وثالثها أن قوله لما لا يعلمون جمع بالواو والنون وهو بالعقلاء أليق منه بالأصنام التي هي جمادات ومنهم من قال بل القول الثاني أولى لوجوه الأول أنا إذا قلنا إنه عائد إلى المشركين افتقرنا إلى إضمار فإن التقدير ويجعلون لما لا يعلمون إلها أو لما لا يعلمون كونه نافعا ضارا وإذا قلنا إنه عائد إلى الأصنام لم نفتقر إلى الإضمار لأن التقدير ويجعلون

لما لا علم لها ولا فهم والثاني أنه لو كان العلم مضافا إلى المشركين لفسد المعنى لأن من المحال أن يجعلوا نصيبا من رزقهم لما لا يعلمونه فهذا ما قيل في ترجيح أحد هذين القولين على الآخر
واعلم أنا إذا قلنا بالقول الأول افتقرنا فيه إلى الإضمار وذلك يحتمل وجة ها أحدها ويجعلون لما لا يعلمون له حقا ولا يعلمون في طاعته نفعا ولا في الاعراض عنه ضررا قال مجاهد يعلمون أن الله خلقهم ويضرهم وينفعهم ثم يجعلون لما لا يعلمون أنه ينفعهم ويضرهم نصيبا وثانيها ويجعلون لما لا يعلمون إلهيتها وثالثها ويجعلون لما لا يعلمون السبب في صيرورتها معبودة ورابعها المراد استحقار الأصنام حتى كأنها لقلتها لا تعلم
المسألة الثانية في تفسير ذلك نصيب احتمالات الأول المراد منه أنهم جعلوا لله نصيبا من الحرث والأنعام يتقربون إلى الله تعالى به ونصيبا إلى الأصنام يتقربون به إليها وقد شرحنا ذلك في آخر سورة الأنعام والثاني أن المراد من هذا النصيب البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وهي قول الحسن والثالث ربما اعتقدوا في بعض الأشياء أنه إنما حصل بإعانة بعض تلك الأصنام كما أن المنجمين يوزعون موجودات هذا العالم على الكواكب السبعة فيقولون لزحل كذا من المعادن والنبات والحيوانات وللمشتري أشياء أخرى فكذا ههنا
واعلم أنه تعالى لما حكى عن المشركين هذا المذهب قال تالله لتسألن وهذا في هؤلاء الأقوام خاصة بمنزلة قوله فوربك لنسألن أجمعين عما كانوا يعملون الحجر 92 وعلى التقديرين فأقسم الله تعالى بنفسه أنه يسألهم وهذا تهديد منه شديد لأن المراد أنه يسألهم سؤال توبيخ وتهديد وفي وقت هذا السؤال احتمالان الأول أنه يقع ذلك السؤال عند القرب من الموت ومعاينة ملائكة العذاب وقيل عند عذاب القبر والثاني أنه يقع ذلك في الآخرة وهذا أولى لأنه تعالى قد أخبر بما يجري هناك من ضروب التوبيخ عند المسألة فهو إلى الوعيد أقرب
النوع الثاني من كلماتهم الفاسدة أنهم يجعلون لله البنات ونظيره قوله تعالى وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا الزخرف 19 كانت خزاعة وكنانة تقول الملائكة بنات الله أقول أظن أن العرب إنما أطلقوا لفظ البنات لأن الملائكة لما كانوا مستترين عن العيون أشبهوا النساء في الاستتار فأطلقوا عليهم لفظ البنات وأيضا قرص الشمس يجري مجرى المستتر عن العيون بسبب ضوئه الباهر ونوره القاهر فأطلقوا عليه لفظ التأنيث فهذا ما يغلب على الظن في سبب إقدامهم على هذا القول الفاسد والمذهب الباطل ولما حكى الله تعالى عنهم هذا القول قال سبحانه وفيه وجوه الأول أن يكون المراد تنزيه ذاته عن نسبة الولد إليه والثاني تعجيب الخلق من هذا الجهل القبيح وهو وصف الملائكة بالأنوثة ثم نسبتها بالولدية إلى الله تعالى والثالث قيل في التفسير معناه معاذ الله وذلك مقارب للوجه الأول
ثم قال تعالى ولهم ما يشتهون أجاز الفراء في ما وجهين الأول أن يكون في محل النصب على معنى ويجعلون لأنفسهم ما يشتهون والثاني أن يكون رفعا على الابتداء كأنه تم الكلام عند قوله سبحانه ثم ابتدأ فقال ولهم ما يشتهون يعني البنين وهو كقوله أم له البنات ولكم البنون الطور 39 ثم اختار الوجه الثاني وقال لو كان نصيبا لقال ولأنفسهم ما يشتهون لأنك تقول جعلت لنفسك كذا

وكذا ولا تقول جعلت لك وأبى الزجاج إجازة الوجه الأول وقال ما في موضع رفع لا غير والتقدير ولهم الشيء الذي يشتهونه ولا يجوز النصب لأن العرب تقول جعل لنفسه ما تشتهي ولا تقول جعل له ما يشتهي وهو يعني نفسه ثم إنه تعالى ذكر أن الواحد من هؤلاء المشركين لا يرضى بالولد البنت لنفسه فما لا يرتضيه لنفسه كيف ينسبه لله تعالى فقال وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم وفيه مسائل
المسألة الأولى التبشير في عرف اللغة مختص بالخبر الذي يفيد السرور إلا أنه بحسب أصل اللغة عبارة عن الخبر الذي يؤثر في تغير بشرة الوجه ومعلوم أن السرور كما يوجب تغير البشرة فكذلك الحزن يوجبه فوجب أن يكون لفظة التبشير حقيقة في القسمين ويتأكد هذا بقوله فبشرهم بعذاب أليم آل عمران 21 ومنهم من قال المراد بالتبشير ههنا الأخبار والقول الأول أدخل في التحقيق
أما قوله ظل وجهه مسودا فالمعنى أنه يصير متغيرا تغير مغتم ويقال لمن لقي مكروها قد اسود وجهه غما وحزنا وأقول إنما جعل اسوداد الوجه كناية عن الغم وذلك لأن الإنسان إذا قوي فرحه انشرح صدره وانبسط روح قلبه من داخل القلب ووصل إلى الأطراف ولا سيما إلى الوجه لما بينهما من التعلق الشديد وإذا وصل الروح إلى ظاهر الوجه أشرق الوجه وتلألأ واستنار وأما إذا قوي غم الإنسان احتقن الروح في باطن القلب ولم يبق منه أثر قوي في ظاهر الوجه فلا جرم يربد الوجه ويصفر ويسود ويظهر فيه أثر الأرضية والكثافة فثبت أن من لوازم الفرح استنارة الوجه وإشراقه ومن لوازم الغم كمودة الوجه وغبرته وسواده فلهذا السبب جعل بياض الوجه وإشراقه كناية عن الفرح وغبرته وكمودته وسوداه كناية عن الغم والحزن والكراهية ولهذا المعنى قال ظل وجهه مسودا وهو كظيم أي ممتلئ غما وحزنا
ثم قال تعالى يتوارى من القوم من سوء أي يختفي ويتغيب من سوء ما بشر به قال المفسرون كان الرجل في الجاهلية إذا ظهر آثار الطلق بامرأته توارى واختفى عن القوم إلى أن يعلم ما يولد له فإن كان ذكرا ابتهج به وإن كان أنثى حزن ولم يظهر للناس أياما فيها أنه ماذا يصنع بها وهو قوله أيمسكه على هون أم يدسه في التراب والمعنى أيحسبه والإمساك ههنا بمعنى الحبس كقوله أمسك عليك زوجك الأحزاب 37 وإنما قال أيمسكه ذكره بضمير الذكران لأن هذا الضمير عائد على ما في قوله بشر به والهون الهوان قال النضر بن شميل يقال إنه أهون عليه هونا وهوانا وأهنته هونا وهوانا وذكرنا هذا في سورة الأنعام عند قوله عذاب الهون وفي أن هذا الهون صفة من قولان الأول أنه صفة المولودة ومعناه أنه يمسكها عن هون منه لها والثاني قال عطاء عن ابن عباس إنه صفة للأب ومعناه أنه يمسكها مع الرضا بهوان نفسه وعلى رغم أنفه
ثم قال أم يدسه في التراب والدس إخفاء الشيء في الشيء يروى أن العرب كانوا يحفرون حفيرة ويجعلونها فيها حتى تموت وروي عن قيس بن عاصم أنه قال يا رسول الله إني واريت ثماني بنات في الجاهلية فقال عليه السلام { أعتق عن كل واحدة منهن رقبة } فقال يا نبي الله إن ذو إبل فقال { اهد عن كل واحدة منهن هديا } وروي أن رجلا قال يا رسول الله ما أجد حلاوة الإسلام منذ أسلمت فقد كانت لي في الجاهلية ابنة فأمرت امرأتي أن تزينها فأخرجتها إلي فانتهيت بها إلى واد بعيد القعر فألقيتها فيه فقالت يا

أبت قتلتني فكلما ذكرت قولها لم ينفعني شيء فقال عليه السلام { ما كان في الجاهلية فقد هدمه الإسلام وما كان في الإسلام يهدمه الاستغفار } واعلم أنهم كانوا مختلفين في قتل البنات فمنهم من يحفر الحفيرة ويدفنها فيها إلى أن تموت ومنهم من يرميها من شاهق جبل ومنهم من يغرقها ومنهم من يذبحها وهم كانوا يفعلون ذلك تارة للغيرة والحمية وتارة خوفا من الفقر والفاقة ولزوم النفقة ثم إنه قال ألا ساء ما يحكمون وذلك لأنهم بلغوا من الاستنكاف من البنت إلى أعظم الغايات فأولها أن يسود وجهه وثانيها أنه يختفي عن القوم من شدة نفرته عن البنت وثالثها أن الولد محبوب بحسب الطبيعة ثم إنه بسبب شدة نفرته عنها يقدم على قتلها وذلك يدل على أن النفرة عن البنت والاستنكاف عنها قد بلغ مبلغا لا يزداد عليه إذا ثبت هذا فالشيء الذي بلغ الاستنكاف منه إلى هذا الحد العظيم كيف يليق بالعاقل أن ينسبه لإله العالم المقدس العالي عن مشابهة جميع المخلوقات ونظير هذه الآية قوله تعالى ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى النجم 22
المسألة الثانية قال القاضي هذه الآية تدل على بطلان الخبر لأنهم يضيقون إلى الله تعالى من الظلم والفواحش ما إذا أضيف إلى أحدهم أجهد نفسه في البراءة منه والتباعد عنه فحكمهم في ذلك مشابهة لحكم هؤلاء المشركين ثم قال بل أعظم لأن إضافة البنات إليه إضافة قبح واحد وذلك أسهل من إضافة كل القبائح والفواحش إلى الله تعالى فيقال للقاضي إنه لما ثبت بالدليل استحالة الصاحبة والولد على الله تعالى أردفه الله تعالى بذكر هذا الوجه الاقناعي وإلا فليس كل ما قبح منا في العرف قبح من الله تعالى ألا ترى رجلا زين إماءه وعبيده وبالغ في تحسين صورهن ثم بالغ في تقوية الشهوة فيهم وفيهن ثم جمع بين الكل وأزال الحائل والمانع فإن هذا بالاتفاق حسن من الله تعالى وقبيح من كل خلق فعلمنا أن التعويل على هذه الوجوه المبنية على العرف فلا جرم حسنت تقويتها بهذه الوجوه الاقناعية أما أفعال العباد فقد ثبت بالدلائل اليقينية القاطعة أن خالقها هو الله تعالى فكيف يمكن إلحاق أحد البابين بالآخر لولا شدة التعصب والله أعلم
ثم قال تعالى للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى والمثل لاسوء عبارة عن الصفة السوء وهي احتياجهم إلى الولد وكراهتهم الإناث خوف الفقر والعار ولله المثل الأعلى أي الصفة العالية المقدسة وهي كونه تعالى منزها عن الولد
فإن قيل كيف جاء ولله المثل الأعلى مع قوله فلا تضربوا لله الأمثال النحل 74
قلنا المثل الذي يذكره الله حق وصدق والذي يذكره غيره فهو الباطل والله أعلم

قوله تعالى
ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم أنم لهم عذاب أليم وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون
اعلم أنه تعالى لما حكى عن القوم عظيم كفرهم وقبيح قولهم بين أنه يمهل هؤلاء الكفار ولا يعالجهم بالعقوبة إظهارا للفضل والرحمة والكرم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى احتج الطاعنون في عصمة الأنبياء عليهم السلام بقوله تعالى ولو يؤاخ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة من وجهين الأول أنه قال ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم فأضاف الظلم إلى كل الناس ولا شك أن الظلم من المعاصي فهذا يقتضي كون كل إنسان آتيا بالذنب والمعصية والأنبياء عليهم السلام من الناس فوجب كونهم آتين بالذنب والمعصية والثاني أنه تعالى قال ما ترك على ظهرها من دابة وهذا يقتضي أن كل من كان على ظهر الأرض فهو آت بالظلم والذنب حتى يلزم من إفناء كل من كان ظالما إفناء كل الناس أما إذا قلنا الأنبياء عليهم السلام لم يصدر عنهم ظلم فلا يجب إفناؤهم وحينئذ لا يلزم من إفناء كل الظالمين إفناء كل الناس وأن لا يبقى على ظهر الأرض دابة ولما لزم علمنا أن كل البشر ظالمون سواء كانوا من الأنبياء أو لم يكونوا كذلك
والجواب ثبت بالدليل أن كل الناس ليسوا ظالمين لأنه تعالى قال ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات فاطر 32 أي فمن العباد من هو ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق ولو كان المقتصد والسابق ظالما لفسد ذلك التقسيم فعلمنا أن المقتصدين والسابقين ليسوا ظالمين فثبت بهذا الدليل أنه لا يجوز أن يقال كل الخلق ظالمون
وإذا ثبت هذا فنقول الناس المذكورون في قوله ولو يؤاخذ الله الناس إما كل العصاة المستحقين للعقاب أو الذين ذكرهم من المشركين ومن الذين أثبتوا لله البنات وعلى هذا التقدير فيسقط الاستدلال والله أعلم
المسألة الثانية من الناس من احتج بهذه الآية على أن الأصل في المضمار الحرمة فقال لو كان الضرر مشروعا لكان إما أن يكون مشروعا على وجه يكون جزاء على جرم صادر منهم أو لا على هذا الوجه والقسمان باطلان فوجب أن لا يكون مشروعا أصلا
أما بيان فساد القسم الأول فقوله تعالى ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك على ظهرها من دابة

والاستدلال به من وجهين الأول أن كلمة لو وضعت لانتفاء الشيء لانتفاء غيره فقوله لول يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك على ظهرها من دابة يقتضي أنه تعالى ما أخذهم بظلمهم وأنه ترك على ظهرها من دابة والثاني أنه لما دلت الآية على أن لازمة الله الناس بظلمهم هو أن لا يترك على ظهرها دابة ثم إنا نشاهد أنه تعالى ترك على ظهرها دواب كثيرين فوجب القطع بأنه تعالى لا يؤاخذ الناس بظلمهم فثبت بهذا أنه لا يجوز أن تكون المضار مشروعة على وجه تقع أجزية عن الجرائم
وأما القسم الثاني وهو أن يكون مشروعا ابتداء لا على وجه يقع أجزية عن جرم سابق فهذا باطل بالاجماع فثبت أن مقتضى هذه الآية تحريم المضار مطلقا ويتأكد هذا أيضا بآيات أخرى كقوله تعالى ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها الأعراف 56 وكقوله وما جعل عليكم في الدين من حرج الحج 78 وكقوله يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر البقرة 185 وكقوله عليه السلام { لا ضرر ولا ضرار في الإسلام } وكقوله { ملعون من ضر مسلما } فثبت بمجموع هذه الآيات والأخبار أن الأصل في المضار الحرمة فنقول إذا وقعت حادثة مشتملة على الضرر من كل الوجوه فإن وجدنا نصا خاصا يدل على كونه مشروعا قضينا به تقديما للخاص على العام وإلا قضينا عليه بالحرمة بناء على هذا الأصل الذي قررناه ومنهم من قال هذه القاعدة تدل على أن كل ما يريده الإنسان وجب أن يكون في حقه لأن المنع منه ضرر والضرر غير مشروع بمقتضى هذا الأصل وكل ما يكرهه الإنسان وجب أن يحرم لأن وجوده ضرر والضرر غير مشروع فثبت أن هذا الأصل يتناول جميع الوقائع الممكنة إلى يوم القيامة ثم نقول القياس الذي يتمسك به في إثبات الأحكام إما أن يكون لى وفق هذه القاعدة أو على خلافها والأول باطل لأن هذا الأصل يغني عنه والثاني باطل لأن النص راجح على القياس والله أعلم
المسألة الثالثة قالت المعتزلة هذه الآية دالة على أن الظلم والمعاصي ليست فعلا لله تعالى بل تكون أفعالا للعباد لأنه تعالى أضاف ظلم العباد إليهم وما أضافه إلى نفسه فقال ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم وأيضا فلو كان خلقا لله تعالى لكانت مؤاخذتهم بها ظلما من الله تعالى ولما منع الله تعالى العباد من الظلم في هذه الآية فبأن يكون منزها عن الظلم كان أولى قالوا ويدل أيضا على أن أعمالهم مؤثرة في وجوب الثواب والعقاب أن قوله بظلمهم الباء فيه تدل على العلية كما في قوله ذلك بأنهم شاقوا الله الأنفال 13
واعلم أن الكلام في هذه المسائل قد ذكرناه مرارا فلا نعيده والله أعلم
المسألة الرابعة ظاهر الآية يدل على أن إقدام الناس على الظلم يوجب إهلاك جميع الدواب وذلك غير جائز لأن الدابة لم يصدر عنها ذنب فكيف يجوز إهلاكها بسبب ظلم الناس
والجواب عنه من وجهين
الوجه الأول أنا لا نسلم أن قوله ما ترك على ظهرها من دابة يتناول جميع الدواب وأجاب أبو علي الجبائي عنه أن المراد لو يؤاخذهم الله بما كسبوا من كفر ومعصية لعجل هلالكهم وحينئذ لا يبقى لهم نسل ثم من المعلوم أنه لا أحدا إلا وفي أحد آبائه من يستحق العذاب وإذا هلكوا فقد بطل نسلهم فكان يلزمه أن لا يبقى في العالم أحد من الناس وإذا بطلوا وجب أن لا يبقى أحد من الدواب أيضا لأن الدواب

مخلوقة لمنافع العباد ومصالحهم فهذا وجه لطيف حسن
والوجه الثاني أن الهلاك إذا ورد على الظلمة ورد أيضا على سائر الناس والدواب فكان ذلك الهلاك في حق الظلمة عذابا وفي حق غيرهم امتحانا وقد وقعت هذه الواقعة في زمان نوح عليه السلام
والوجه الثالث أنه تعالى لو آخذهم لا نقطع القطر وفي انقطاعه انقطاع النبت فكان لا تبقى على ظهرها دابة وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رجلا يقول إن الظالم لا يضير إلا نفسه فقال لا والله بل إن الحبارى في وكرها لتموت بظلم الظالم وعن ابن مسعود رضي الله عنه كاد الجعل يهلك في جحره بذنب ابن آدم فهذه الوجوه الثلاثة من الجواب مفرعة على تسليم أن لفظة الدابة يتناول جميع الدواب
والجواب الثاني أن المراد من قوله ما ترك على ظهرها من دابة أي ما ترك على ظهرها من كافر فالمراد بالدابة الكافر والدليل عليه قوله تعالى أولئك كالأنعام بل هم أضل الأعراف 179 والله أعلم
المسألة الخامسة الكناية في قوله عليها عائدة على الأرض ولم يسبق لها ذكر إلا أن ذكر الدابة يدل على الأرض فإن الدابة إنما تدب عليها وكثيرا ما يكنى عن الأرض وإن لم يتقدم ذكرها لأنهم يقولون ما عليها مثل فلان وما عليها أكرم من فلان يعنون على الأرض
ثم قال تعالى ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى ليتوالدوا وفي تفسير هذا الأجل قولان
القول الأول وهو قول عطاء عن ابن عباس أنه يريد أجل القيامة
والقول الثاني أن المراد منتهى العمر وجه القول الأول أن معظم العذاب يوافيهم يوم القيامة ووجه القول الثاني أن المشركين يؤاخذهم بالعقوبة إذا انقضت أعمارهم وخرجوا من الدنيا
النوع الثالث من الأقاويل الفاسدة التي كان يذكرها الكفار وحكاها الله تعالى عنهم قوله ويجعلون لله ما يكرهون
واعلم أن المراد من قوله ويجعلون أي البنات التي يكرهونها لأنفسهم ومعنى قوله يجعلون يصفون الله بذلك ويحكمون به له كقوله جعلت زيدا على الناس أي حكمت بهذا الحكم وذكرنا معنى الجعل عند قوله ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة المائدة 103
ثم قال تعالى وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى قال الفراء والزجاج موضع أن نصب لأن قوله أن لهم الحسنى بدل نت الكذب وتقدير الكلام وتصف ألسنتهم أن لهم الحسنى وفي تفسير الحسنى ههنا قولان الأول المراد منه البنون يعني أنهم قالوا لله البنات ولنا البنون والثاني أنهم مع قولهم بإثبات البنات لله تعالى يصفون أنفسهم بأنهم فازوا برضوان الله تعالى بسبب هذا القول وأنهم على الدين الحق والمذهب الحسن الثالث أنهم حكموا لأنفسهم بالجنة والثواب من الله تعالى
فإن قيل كيف يحكمون بذلك وهم كانوا منكرين للقيامة
قلنا كلهم ما كانوا منكرين للقيامة فقد قيل إنه كان في العرب جمع يقرون بالبعث والقيامة ولذلك فإنهم كانوا يربطون البعير النفيس على قبر الميت ويتركونه إلى أن يموت ويقولون أن ذلك الميت إذا

التالي ان شاء الله ج19.وج20.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب الإبانة عن أصول الديانة علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري أبو الحسن

  كتاب الإبانة عن أصول الديانة علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري أبو الحسن بسم الله الرحمن الرحيم وهو حسبي ونعم الوكيل وصلى الله على...