الاثنين، 10 أبريل 2023

ج3. منتهى الطلب من أشعار العرب ابن المبارك

ج3. منتهى الطلب من أشعار العرب  ابن المبارك
مصدر الكتاب : موقع الوراق/
http://www.alwarraq.com
[ الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع ]

فأبلِغْ رياحاً هذه يا بنَ مُرسَلٍ ... مُرَنَّحةً إنّي لها سأهينُها

أظنَّتْ رياحٌ أنّني لنْ أسُبَّها ... لقدْ كذَبَتْها حينَ ظنَّتْ ظنونُها
وقال عمر بن لجإٍ لجَرير:
لعلَّكَ ناهِيكَ الهوى أنْ تَجلَّدا ... وتاركَ أخلاقٍ بها عشتَ أمْردا
أفالآنَ بعدَ الشيبِ يَقتادُكَ الهوى ... إلى الأمرِ لا ترضى مغبَّتَهُ غدا
طرِبْتَ فلوْ طاوعتَ إذْ أنتَ واقفٌ ... بأسفلِ ذي خيمٍ هواكَ لأصعدا
أُتيحَ الهوى منْ أهلِ غَولٍ وثَهْمَدٍ ... كذاكَ يُتاحُ الوُدَّ من قدْ تودَّدا
فلوْ أنَّ أياماً بغَولٍ وثَهمدٍ ... رجعْنَ رضِيناهُنَّ إنْ كنَّ عُوَّدا
سقى ثَهمداً من يرسلُ الغيثَ واللِّوى ... فروَّى وأعلاماً يُقابِلْنَ ثَهمدا
بما نزلَتْ من ثَهمدٍ بينَ بُرقةٍ ... سُعادُ وطَودٍ يسبقُ الطيرَ أقْودا
إذا هيَ حلَّتْ بالسِّتارِ وقابلَتْ ... من النِّيرِ أعلاماً جميعاً وفُرَّدا
وأهلُكَ بالمَطْلى إلى حيثُ أنبَتَتْ ... رياضٌ من الصِّمّانِ سِدراً وغَرقدا
تقطَّعَ منها الودُّ إلاّ بقيّةً ... وجارَ الهوى عما تريدُ فأبْعَدا
فأصبحَ هذا النأيُ شيئاً كرهْتُهُ ... عسى أن يرى ما تكرهُ النفسُ أرْشَدا
فلمْ ترَ منّي غيرَ أشعث َ شاحبٍ ... مُضمَّنَ أحسابٍ فأنشدا
ولمْ أرَ منها غيرَ مَقعَدِ ساعةٍ ... بهِ اختلَبَتْ قلبي فيا لكَ مَقعدا
وسنَّتْ عليهِ مُجْسَداً فوقَ يُمنَةٍ ... عِتاقٍ ولاثَتْ فوقَ ذلك مُجْسَدا
على مَرْسَنٍ منها أغرَّ كأنّهُ ... سنا البرقِ لاقى ليلةَ البدرِ أسعُدا
إذا ارتادَتِ العينانِ فيها رأيتَهُ ... أنيقاً لطَرفِ العينِ حتى تزوَّدا
لها لَبَّةٌ يجري مجالُ وشاحِها ... على مُستوٍ من ناصعٍ غيرَ أكبَدا
وكَشْحٍ كطِيّ السابِريِّ حبَتْ لهُ ... روادفُ منها وعَثّةٌ فتَخضَّدا
كأنَّ نقاً من عالجٍ أُدجِنَتْ بهِ ... سَوارٍ نضحْنَ الرملَ حتى تلبَّدا
تَلُوثُ بهِ منها النطاقَيْنِ بعدَما ... أمرَّتْ ذَنُوبي متْنَها فتأوَّدا
ولاقَتْ نعيماً سامِقاً فسما بها ... سموَّ شبابٍ يملأُ العينَ أمْلدا
كما سمقَتْ بَرْدِيّةٌ وسْطَ حائرٍ ... منَ الماءِ تغدوهُ غِذاءً مُسَرْهَدا
مُنعمةٌ لم تلقَ بؤساً ولم تسُقْ ... حمارَ كُلَيْبيٍّ أقلَّ وأجحدا
عجبْتُ ليربوعٍ وتقديمُ سَوأَةٍ ... منَ الخطَفى كانَ اللئيمَ فأنفذا
فلوْ أنَّ يربوعاً على الخيلِ خاطَروا ... ولكنّما أجْرَوا حماراً مُقيَّدا
وقالوا جريرٌ سوفَ يحمي ذِمارَنا ... كذبْتُمْ ولكنّي بهِ كنتُ أنْقدا
فما اعترفَتْ من سابقٍ يومَ حَلْبَةٍ ... كُلَيْبٌ ولا وافَوا معَ الناسِ مَشهدا
فضجَّ ابنُ أختاتِ استِها إذْ قرنْتُهُ ... بمَتنِ القُوى منّي أمرَّ وأحْصدا
وإنّكَ لو جارَيْتَ بحراً مُقارباً ... ولكنّما جاريْتَ بحراً تَغمَّدا
لهُ حدَبٌ غمْرٌ عَلاكَ بزاخرٍ ... وألفاكَ مُجتافاً غُثاءً مُنضَّدا
خصَيتُ جريراً بعدَ ما شابَ رأسُهُ ... وكسَّرَ نابيَّهِ الذكاءُ وعرَّدا
لنِحْيا جريرِ اللؤمِ فوقَ حمارِهِ ... عليهِ ورِيقا أمِّهِ كانَ أعودا
وأهونُ من عَضْبِ اللسانِ بنَتْ لهُ ... أُسودٌ وساداتٌ بناءً مُشيَّدا
نزَتْ بكَ جهلاً من أتانَيْكَ دِرّةٌ ... فثَوَّرْتَ غَيّاظَ العدوِّ مُحسَّدا
أتفخرُ بالعَلْهانِ بِرْذَوْنِ عاصمٍ ... وسيَّبْتَ جدَّيْكَ المعيدَ وفَرْهدا
إلى الخطَفى عمداً فررْتَ ولم تجدٍ ... بني الخطَفى إلاّ إماءً وأعبُدا
وما استردفَتْ خيلُ الهُذَيلِ نساءَنا ... ولا قُمنَ في صفٍّ لسجْحةَ سُجّدا
ولكنْ منعناهُنَّ من الشِّرْكِ بالقَنا ... وفي السِّلمِ صدَّقْنا النبيَّ مُحمّدا
إذا فزِعتْ نسوانُهنَّ أتينَهُمْ ... مِكاثاً يُزَرِّدْنَ الدِّخالَ المسَرَّدا
أوامِنَ أنْ يُردفْنَ خلفَ عصابةٍ ... سِوانا إذا ما صارِخُ الرَّوعِ ندَّدا

نغارُ عليها غَيرةً مُضَرِيّةً ... إذا ما انتضَيْنا المَشْرَفِيَّ المهنّدا
نذودُ بهنَّ الوِردَ ما استمسكَتْ بهِ ... قوائمُها يذْرِينَ هاماً وأسعُدا
فلا تَغزُنا آلُ الرِّبابِ كتيبةً ... مَعَدِّيَّةً أو غيرَ منْ قدْ تمَعْددا
لهمْ رائسٌ إلاّ قتَلْنا رئيسَهمْ ... فمنْ شاءَ عدَّدْنا الفَعالَ وعدَّدا
ونحنُ قتلنا يومَ قِنعِ هُبالةٍ ... شَمَيْطاً وحسانَ الرئيسَ ومُرشِدا
ونحنُ أخذْنا من بني أسدٍ معاً ... بوشمِ القِرى قَسْراً سُويْداً ومَعْبدا
ونحنُ قتلْنا مَعقِلاً إذْ تداركَتْ ... بهِ الخيلُ إذْ هابَ الجبانُ وعرَّدا
ونحنُ قرَنَّا مالكاً وهْوَ جارُكمْ ... بذي كلَعٍ فينا أسيراً مُقيَّدا
ونحنُ حسرْنا يومَ سَخبانَ بالتي ... أطاعَ بها الناسُ الرئيسَ المُسَوَّدا
وعبدَ يغوثَ الهيرِ يومَ مُجِيزةٍ ... تركْناهُ يكبو في قَناً قد تقصَّدا
وغادرَ حسانَ بن عوفٍ طِعانُنا ... صريعاً على خدِّ الشمالِ مُوسَّدا
وعوفَ بنَ نعمانٍ أخذْناهُ عَنوةً ... وكنّا نفُضُّ الجندَ ممنْ تَجنَّدا
ومن قبلُ أوثَقْنا ابنَ خَضْرانَ عنوةً ... عَدِيّاً وطردْنا ابنَ حسانَ بُرجُدا
ونحنُ ضربْنا جيشَ سعدِ بنِ مالكٍ ... بلُبنانَ والأعراضِ حتى تبدَّدا
ومنْ قبلُ إذْ نالَتْ يزيدَ رماحُنا ... مَنَنّا عليهِ بعدَ إيثاقِهِ يدا
وما عرضَتْ من طيّئٍ عن أسيرِنا ... حُصَيْنٍ ثواباً كان ذِكراً ولا جَدا
مننّا عليهِ منّةً لمْ يكنْ لها ... ثوابٌ سوى ذِكرٍ يكونُ غدا غَدا
وقدْ أسلحتْ فرسانُ تَيمٍ ذوي النُّهى ... أبا نهْشَلٍ والدارِمِيَّ الضَّفَنْدَدا
وسلْمَةُ إذْ دارَتْ بنا الحربُ دَورةً ... كسوْنا قفاهُ المَشرفيَّ المهنَّدا
ونحنُ قتلْنا من رياحٍ بمَوحَدٍ ... قتيلاً أفَتْنا نفسَهُ حينَ حدَّدا
ونحنُ هزمْنا بالمَنِيحَيْنِ جمعَكمْ ... وكانَ لكمْ يومُ المنيحَيْنِ أنْكدا
قتلْناكمُ منْ بعدِ أسرٍ أصابَكمْ ... فساءَكمُ القتلُ الأسيرَ المُصفَّدا
فأوزَعَنا الإسلامُ بالسِّلمِ بعدَما ... قتلْنا ملوكَ الناسِ مَثنى وموحَدا
ولم يُخزِ حَوضي ما جبَتْ لي رماحُهمْ ... ولكنْ لقُوّادِ الكتائبِ صُيَّدا
فإنْ تكُ أرضَتْني الرِّبابُ بما بنَوا ... فقدْ وجدوا عنهمْ لسانيَ مِذْوَدا
فخَرْتُ بحقٍّ وافتخرْتَ بباطلٍ ... وزُورٍ فلمْ يجعلْ لكَ اللهُ مَصْعَدا
فخرْتَ بسعدٍ كالذي حنَّ والِهاً ... إلى القمرِ العالي إذا ما توقَّدا
تحِنُّ إلى بدرِ السماءِ ودونَهُ ... نَفانِفُ تُنْبي الطرْفَ أنْ يَتصعَّدا
فما من بني اليربوعِ قيسُ بنُ عاصمٍ ... ولا فَدَكِيٌّ يا جريرُ بنُ أعبُدا
ولا آلُ جَزْءٍ يا جريرُ ولا الذي ... سما بجنودِ البأسِ أيامَ صَيْهَدا
ولا اللُّبَدُ اللاتي بسطْنَ مُقاعساً ... إذا زأرَتْ في غَيْطَلٍ قد تَلبَّدا
ولا الغُرُّ من آلِ الأجارِبِ أصبحوا ... لمن نصروا رُكناً عزيزاً مؤيَّدا
ولا الزِّبْرِقانُ ابنُ العرانينِ والذُّرى ... ولا آلُ شَمّاسٍ ولا آلُ أسعدا
ولا منْ بني اليربوعِ غُرٌّ حبَتْ بهمْ ... بحورٌ من الآفاقِ مجداً وسوددا
ولكنّما سعدٌ عَلاكَ عُبابُها ... وقبلَكَ ما غَمُّوا أباكَ فبلَّدا
فتلكَ الذُّرى لا قاصِعٌ ومُنفِّقٌ ... إذا اتَّلَجَ اليربوعُ فيهنَّ أُفرِدا
إلى الغرِّ منها إنْ دعوْتُ أجابَني ... خَناذيذُ في رأسٍ من الغرِّ أصْيَدا
فدعْ ناصِري لا ذنبَ لي إنْ علوْتُكمْ ... وكنتُ كمنْ يرجو الرياحَ فأكسدا
ولمّا عددْنا كلَّ بؤسى وأنعُمٍ ... وجَدَّ الرهانُ الحقُّ حتى تخدَّدا
وجدتُ المُصَفَّى من تميمٍ سِواكمُ ... ولؤمَ بني يربوعَ شيئاً مُخلَّدا
فلوْ غيرَ يربوعٍ أبوكمْ صلَحْتُمُ ... ولكنَّ يربوعاً أبوكمْ فأفسَدا
ولكنَّ يربوعاً سَقيطٌ إذا دعَتْ ... غُدانَةُ أسْتاهَ الإماءِ مُقلِّدا

وعمروُ بنُ يربوعٍ قرودٌ أذلّةٌ ... يسوقونَ مبتوراً من العزِّ مُقْعَدا
أتتْكَ صُبَيْرٌ والحرامُ بنصرِها ... وذلكَ أمسى نصرُهمْ أنْ يُحشَّدا
وإنْ تُعجَمِ العجماءُ يوجدْ نحاسُها ... لئيماً ولا تلقى الإهابَيْنِ أحمِدا
وما درَنُ الأسْتاهِ رهْطُ ابنِ مُرسَلٍ ... بكُفْءِ كرامِ الناسِ قِنّاً مُولَّدا
فإنْ همّتِ الهمّامُ يوماً بسَوأةٍ ... هَداها لهُ إبليسُ حتى تورَّدا
تكنْ ذو طلوحٍ من عَرينٍ ولؤمُهمْ ... إذا ما غدَوا بالقُفِّ للشاءِ رُوَّدا
يُضافُ ابنُ يربوعٍ وما يُحْسِنُ القِرى ... إذا ما رياحُ الشامِ أمسَيْنَ بُرَّدا
هجَوْتَ عُبَيداً عن قضى وهْوَ صادقٌ ... ومن قبلِهِ غارَ القضاءُ وأنْجدا
فتلكَ بنو اليربوعِ إنْ كنتَ سائلاً ... فيا شرَّ يربوعٍ طِعاناً ومَرقدا
كذبْتَ عُبَيدٌ سامَكَ الضيمَ صاغراً ... فلمْ ترَ إلاّ أن تقِرَّ وتقعُدا
أقلتُمْ لهُ بعدَ التي ليسَ مثلَها ... بها رقَّ أفواهُ النساءِ وجَرَّدا
ومنْ قبلُ إذْ حاطَتْ جَنابُ حِماكُمُ ... وأصدرَ داعِيكمْ بفَلْجٍ وأوْردا
همُ استلَبوا منكمْ إزاراً ظُلامةً ... فلمْ تَبسُطوا فيها لساناً ولا يدا
وهمْ منعوا يومَ الصُّلَيْعاءِ سَرْبَهُمْ ... بطَعنٍ ترى منهُ النوافذَ عُنَّدا
وبالوَقَبى عُذْتُمْ بأسيافِ مازنٍ ... غداةَ كسَوا شَيبانَ عَضْباً مُهنّدا
فلولا حُمَيّا آلِ عمروٍ لكنتُمُ ... بأسفلِ مَوسوجٍ نَعاماً مُشرَّدا
فخَرْتُمْ بقتلِ المانحينَ وغيرُكمُ ... بَني شرِّ يربوعٍ بهِ كانَ أسعدا
ألستَ ليربوعيةٍ تلزمُ استَها ... إذا شربَتْ صاعَ المنيَّ المُصعَّدا
كما أرزمَتْ خَوّارةٌحينَ باشرَتْ ... مَناخرُها بوَّ الحمارِ المُجلَّدا
يفرُّ من السِّترَيْنِ زوجُ عروسِهمْ ... فراراً إذا ما الفَسْوُ منها تَردَّدا
ترى البظرَ منها مُرْمَعِلاًّ كأنّهُ ... لسانٌ بدا من ذي حِفافَيْنِ أنْجدا
هَرِيتاً كجَفْرٍ من عَمايةَ آجِنٍ ... صَراهُ أثارَتْهُ الأكفُّ فأزبَدا
إذا أرزمَتْ أسْتاهُهُنَّ تَهيَّجَتْ ... أعاصيرُ يرفعْنَ الغبارَ المُعضَّدا
وقال عمر بن لجإٍ أيضاً يهجو جريراً:
أتشتِمُ أقواماً أجارُوا نساءَكمْ ... وأنتَ ابنَ يربوعٍ على الضيمِ وارِكُ
أجرْنا ابنَ يربوعٍ من الضيمِ بعدَما ... سقتْكمْ بكأسِ الذلِّ والضيمِ مالِكُ
غداةَ أرادَتْ مالكٌ أنْ نُحِلَّكمْ ... على الخَسْفِ ما هبَّ الرياحُ السَّواهكُ
فعُذْتمْ بأحواءِ الرِّبابِ وأنتمُ ... كفَقْعِ التناهي استدرجَتْهُ السنابكُ
وبالعِرضِ إذْ جاءَتْ جموعٌ تجمَّعتْ ... بسجْحَةَ قادَتْها الظنونُ الهوالكُ
تركناهمُ صرعى كأنَّ ظهورَهمْ ... عليها من الطعنِ العَبيطِ الدَّرانِكُ
فذُدْنا وأرهبْنا أخاكمْ فأصبحَتْ ... لكمْ منهمُ أيدٍ وأيدٍ شَوابكُ
كما قد نبا عن مالكٍ جُلُّ جَمعِكمْ ... بسهلِ الحِمى والهضبِ طَعنٌ مُدارِكُ
فكيفَ يسُبُّ التَّيمَ من قدْ أجارَهُ ... فوارسٌ تيمٍ والرماحُ الشوابكُ
يُصدّقُ دفْعَ التيمِ عنكمْ إذا انتمَوا ... إلى المجدِ غاراتُ الكُلابِ المَسابكُ
نَمَتْمنِيَ شُمٌّ للذؤابةِ والذُّرى ... ولي من تميمٍ رأسُها والحوارِكُ
هناكَ ابنُ تيمٍ واسطُ الأصلِ فيهمِ ... وأنتَ ابنَ يربوعٍ بديلٌ مُتارِكُ
ويومَ إرابَ السهلِ يومَ استَبَتْكمُ ... عَلاكم بني اليربوعِ ورْدٌ مُواشِكُ
بنو تغلِبَ الغلباءِ راحَتْ عشيّةً ... بنسوتِكمْ لمْ تحمهنَّ النيازكُ
ومنْ هرَمِيٍّ قد تَغشَّتْ خَزايَةً ... وجوهُكمُ ما دامَ للشِّعرِ حائكُ
وأسلمْتُمُ سُفيانَ للقومِ عَنوةً ... ولو لحِقَ المُستصرِخاتُ اللوائكُ
وبالعَكنِ الكلبيِّ أخزى نساءَكمْ ... غَداةَ تُنادي البِيضَ منها الفواركُ
سَليطاً بأنْ تستنزِلوهُنَّ بعدَما ... جرى ولهاً منها الدموعُ السَّوافكُ

وعمروُ بن عمرو قادَكمْ فاشكروا لهُ ... بذي نجَبٍ والقومُ كابٍ وبارِكُ
بذي نجبٍ لو لمْ تذُدْ من ورائِكمْ ... بنو مالكٍ غالَتْكَ ثَمَّ العَوائكُ
فأسلمْتمُ فرسانَ سعدٍ وقدْ ترى ... بداركمُ المُستردفاتُ الهوالكُ
ويومَ علَتْ للحَوْفَزانِ كتيبةٌ ... جَدُودُ لكمْ من نحوش حجْرٍ مَسالِكُ
ويومَ بَحِيرٍ أنتمُ شرُّ عُصبةٍ ... عَضاريطُ لولا المازِنيُّ المُعارِكُ
ورومَ بني عبْسٍ بشَرْجٍ تَشاهَدَتْ ... على قتلِهِ أعلامُكمْ والدَّكادِكُ
وعَبْقَر إذ تدعوكمُ جلَّلتْكُمُ ... منَ الخزيِ ثوبَ الحائضاتِ العَوارك
ستسمحُ يربوعٌ سِبالاً لئيمةً ... بها منْ منيِّ العبدِ أسودُ حالكُ
حميد بن ثور
وقال حميد بن ثور بن حَزن بن عمرو بن أبي ربيعة بن نهيك بن هلال بن عامر بن صعصعة:
سَلا الربْعَ أنّي يمَّمتُ أمّ طارقٍ ... وهلْ عادةٌ للربعِ أنْ يتكلّما
وقُولا لهُ يا ربْعُ باللهِ هلْ بدا ... لها أو أرادَتْ بعدُ إلاّ تأيُّما
شهِدْتَ وأسمعتَ الفِراقَ وأشخصَتْ ... بنا الدارُ بعدَ الإلفِ حَولاً مُجرّما
ولو نطقَ الرَّبْعانِ قبلي لبيَّنا ... لصاحبِ هندٍ وامرئِ القيسِ مَنْسِما
هما سألا فوقَ السؤالِ وأفْضلا ... على كلِّ باكٍ عَوْلةً وتَلوُّما
وزادا على قولِ الوشاةِ وأنشدا ... من الشِّعرِ ما يُغوي الغوِيَّ المُلوَّما
أجِدَّكَ شاقَتْكَ الحُمولُ تيمَّمتْ ... هِدانَيْنِ واجتازَتْ يميناً عَرَمْرما
على كلِّ مَشبوحٍ بنِيرَيْنِ كُلِّفَتْ ... قُوى نِسْعَتَيْهِ مَحْزِماً غيرَ أهْضما
جِلادُ تَخاطَتْها الرِّعاءُ فأُهملَتْ ... وألفَيْنَ رَجّافاً جُرازاً تَلَهْزَما
رعَيْنَ المُرارَ الجَونَ منْ كلِّ مِذنَبٍ ... دَمِيثٍ جُمادى كلِّها والمحرَّما
من النِّيرِ واللَّعْباءِ حتى تبدَّلَتْ ... مكانَ رَواغِيها الصَّريفَ المُسدَّما
وحتى تَعفَّى النضْوُ منها وجُرِّدَتْ ... حَوالبُها من مَرْبَعٍ قد تَجرَّما
وعادَ مُدَمّاها كُمَيْتاً وشُبِّهتْ ... كُلومُ كُلاهُنَّ الوِجارَ المُهدَّما
وخاضَتْ بأيديها النِّطافَ وذعْذَعتْ ... بأقْيادِها إلاّ وظِيفاً مُخدّما
فجاءَ بها الرُّدادُ يحْجُزُ بينَها ... سُدىً بينَ قَرْقارِ الهديرِ وأعْجما
ترى القرْمَ منها ذا الشقاشقِ واضحاً ... نقيّاً كلونِ القُلْبِ والجَونِ أصْحَما
فقامَ العَذارى بالمَثاني فأُقْدِعَتْ ... أكُفُّ العذارى عِزّةً أنْ تَخطَّما
فلمّا ارعوى للزَّجْرِ كلُّ مُلَبِّثٍ ... كصُمِّ الصَّفا يتلو جِراناً مُقدَّما
إذا عزّةُ النفسِ التي كان يتَّقي بها ... حبْلَهُ لم تُنسِهِ ما تَعلَّما
فما زِلنَ بالتمساحِ حتى كأنّما ... أدَبَّتْ إليهِ في الخِزامةِ أرْقَما
وقرَّبْنَ مُقْورّاً كأنَّ وضِينَهُ ... بنِيقٍ إذا ما رامَهُ الغَفْرُ أحْجَما
وَقُوراً لوَ انَّ الجِنَّ يعزِفْنَ حولَهُ ... وضرْبَ المغَنِّي دُفَّهُ ما تَرَمْرما
رعى القَسْوَرَ الجَونيَّ من حولِ أشمُسٍ ... ومنْ بطنِ سُقْمانَ الدُّعاعَ المُديَّما
تراهُ إذا استدبرَتْهُ مُدمَجَ القَرا ... وفَعماً إذا أقبلْتَهُ العينَ سَلْجَما
بعيرُ حياً جاءَتْ بهِ أرحبيّةٌ ... أطالَ بهِ عامَ النِّتاجِ وأعْظَما
فقامَتْ إليهِ خَدْلَةُ الساقِ أشخصَتْ ... لهُ بالخلا كفّاً خَضيباً ومِعصَما
فألقى بلَحيَيْهِ فلاثَتْ برأسِهِ ... زِماماً كشيطانِ الحَماطةِ مُحكَما
فلمّا أناخَتْهُ إلى جَنْبِ خِدرِها ... عَجا شِدقَهُ أو هَمَّ أنْ يَتزعَّما
تراهُ إذا ما عجَّ يجلو عنِ الشَّبا ... فما مثلَ حِنوِ الخَيْبرانيِّ لَهْجَما
تَنَخْنَخَ حتى ما تكادُ طويلةٌ ... تنالُ بكفَّيْها الظِّعانَ المُسوَّما
وذا ذئبٍ جُوفٍ كأنَّ خُصورَهُ ... خصورُ نِعالِ السبتِ لأماً مُوشَّما
قِمَطْرٌ يَبِينُ الوَدْعُ فوقَ سَراتِهِ ... إذا أرزمَتْ من تحتهِ الريحُ أرزما

ضُبارِمُ طيِّ الحالبَيْنِ إذا خَدا ... على الأُكْمِ ولاّها حذاءً مُلَكَّما
كأنَّ هوِيَّ الريحِ بينَ فروجِهِ ... تَجاوُبُ جِنٍّ زُرنَ جِنّاً بجَيْهَما
فجئنَ بهِ لا جاسئاً ظَلِفاتُهُ ... ولا سلِساً فيهِ المساميرُ أكزَما
شأى أثلاثَ المُنْحنى من صُعائدٍ ... لهُ القَينُ عينيهِ وما قد تعلَّما
فشَذَّبَ عنهُ سُوقَ جلْسٍ عروقُها ... معَ الماءِ ما أروى النباتَ وأنعما
برَتْهُ سَفافيرُ الحديدِ فجرَّدتْ ... رفيعَ الأعالي كانَ في الصَّونِ مُكْرما
وجاءَ نساءُ الحيِّ بينَ صَنِيعِهِ ... وبينَ التي جاءتْ لكَيْما تَعلَّما
يُطِفْنَ بمَخدورٍ أغرَّ وصائمٍ ... صيامَ فُلُوِّ الخيلِ تَمَّ وأكرما
كما أوقدَ الطرْفَ الجوادُ بمَرْقَبٍ ... فهَمْهَمَ لمّا آنسَ الخيلَ صُيَّما
يُطِفْنَ بهِ رأدَ الضحى ويَنُشْنَهُ ... بأيدٍ ترى الأسوارَ فيهنَّ أعْجما
ترى من تباشيرِ الخِضابِ الذي بها ... بأطرافِها لوناً غَبِيطاً وأَسْحما
سَراةَ الضحى ما رِمْنَ حتى تَحدَّرتْ ... جباهُ العذارى زعْفراناً وعَنْدما
مَسحْنَ مُحَيّاهُ وقلَّدنَ جِيدَهُ ... قلائدَ حتى هَمَّ أنْ يتكلَّما
وحتى لوَ انَّ العَودَ من حُسنِ شِيمةٍ ... يُسلِّمُ أو يمشي مشى ثمَّ سلَّما
حملْنَ عليهِ من تَجافيفِ ناعتٍ ... حصى الأرضَ حتى ما ترى العينُ مَنْسِما
وغشَّيْنَهُ بالرَّقْمِ حتى كأنّما ... يُساقِينَهُ من جَوفِ مَعبوطةٍ دما
تَخيَّرْنَ أمّا أُرجواناً مُهدَّبا ... وأمّا سِجِلاّطَ العراقِ المُختَّما
وشُبْنَ السوادَ بالبياضِ فلا ترى ... منَ الخِدرِ إلاّ وارسَ اللونِ أرقما
من الشبَهِ السافي وحتى لوَ انَّهُ ... يرى أعوجِيّاتٍ جرى أو تَحَمْحَما
فشاكَهْنَهُ بالخيلِ حتى لوَ انّهُ ... يقُلنَ لهُ أقدِمْ هلا هلْ لأَقْدما
فلمّا قضيْنَ اللمَّ من كلِّ عقدةٍ ... بثَثْنَ الوصايا والحديثَ المُكتَّما
تعاوَرنَ مرآةً جلِيّاً فلمْ تعِبْ ... لراياتِها المرآةُ عيناً ولا فما
بعثْنَ إليها كيْ تجيءَ فلمْ تكدْ ... تجيءُ تَهادى المشيَ إلاّ تَحشُّما
أتتْها نساءٌ من سُلَيْمٍ وعامرٍ ... مشيْنَ إليها مأتماً ثمّ مأتما
تَهادَيْنَ جَمّاءَ العِظامِ خَريدةً ... منَ النسوةِ اللائي يَرِدْنَ التكرُّما
فجَرْجَرَ لما كانَ في الخِدرِ نِصفُها ... ونصفٌ على دأياتِهِ ما تَجرَّما
فلمّا علَتْ من فوقِهِ عضَّ نابَهُ ... بمِقْلاقِ ما تحتَ الوشاحَيْنِ أهْضَما
فما ركبْتُ إلاّ نَبيثاً كأنّما ... تُرفِّعُ بالأكفالِ رملاً مُسنَّما
فما كانَ جَونٌ أرجَبِيٌّ يُقِلُّها ... بنَهضتِهِ حتى اكْلأنَّ وأعصما
وحتى تداعَتْ بالنَّقيضِ حبالُهُ ... وهمَّتْ بَواني زفْرِهِ أنْ تَحطَّما
وبَصْبَصَ في صُمِّ الصَّفا ثَفِناتُهُ ... ورامَ بحُبَّى أمرَهُ ثمَّ صَمَّما
فكبَّرْنَ واستدبرْنَهُ كيفَ أتوُهُ ... بها رَبِذاً سهْوَ الأراجيحِ مِرْجَما
فلمّا استوَتْ في ظُلّةٍ لم تجدْ لها ... تكاليفَ إلاّ أنْ يَعيلَ ويَعْسَما
وقُمنَ بأطرافِ البيوتِ عشيّةً ... كما فيّأتْ ريحٌ يَراعاً وسَأْسَما
فلمّا تولّتْ قُلنَ يا أمَّ طارقٍ ... على الشَّحْطِ حيّاكِ المَليكُ وسلَّما
وبادرْنَ أسباباً جعلْنَ فصولَها ... مِلاكاً وأعناقَ النجائبِ سُلّما
فسُرْنَ انتِماءَ العُفْرِ للطلِّ أشفقَتْ ... منَ الشمسِ لمّا كانتِ الشمسُ مِيسَما
فرُحنَ وقدْ زايلْنَ كلَّ ضغينةٍ ... بهنَّ وسالَمْنَ السَّديلَ المُرقَّما
فقلتُ لأصحابي تراجعَ للصِّبا ... فؤادي وعادَ اليومَ عودةَ أعصما
وقلتُ لعبدَيَّ اسْعَيا لي بناقَتي ... فما لبِثا إلاّ قليلاً مُجرَّما
دعَوتُ جريرَيْنِ استحفَّا بناقتي ... وقد هَمْهَمَ الحادي بهنَّ ودَوَّما
فجاءا بعَجْلى وهْيَ حرْفٌ كأنّها ... كُداريّةٌ خافَتْ أظافيرَ عُرَّما

وجاءَتْ تَبُذُّ القائدَيْنِ ولمْ تدَعْ ... نِعالَهما إلاّ سَريحاً مُخدَّما
أراها جَرِيّايَ الخَلا فتشَذَّرتْ ... مِراحاً ولم تقرأْ جَنيناً ولا دما
فجاءا بشَوْشاةٍ مِراقٍ ترى بها ... نُدوباً منَ الأنساعِ فذّاً وتوأَما
وجاءتْ ومنْ أخرى النهارِ بقيّةٌ ... وقد وَدَّكَ الحادي السَّليلَ وخَشْرما
أطاعتْ لعِرفانِ الزِّمامِ وأضمرتْ ... مكانَ خفيّ الجَرْسِ وحْفاً مُجَمْجما
فمارَتْ بضَبعَيْها رَجيعاً وكَلّفَتْ ... بَعيرَيْ غلامِيَّ الرَّسيمَ فأَرْسما
وعزَّتْ بقاياهُنَّ كلُّ جُلالةٍ ... يُنازعُ حَبْلاها أجَدَّ مُصرَّما
ترى العَيْهلَ الدَّفْقاءَ قدْ ماجَ غِرْضُها ... تسومُ المطايا ما أذلَّ وأرغما
فلمّا أدركْناهنَّ لم يقضِ قائلٌ ... مقالاً ولا ذو حاجةٍ ما تَجثَّما
فقلتُ لها عُوجي لنا أمَّ طارقٍ ... نُتاجِ ونَحواكمْ شِفاءٌ لأَهْيَما
فعادَتْ علينا من خِدَبٍّ إذا سدى ... سرى عن ذراعَيْهِ السَّديلَ المُرقّما
فكانَ اختلاساً من خَصاصٍ ورِقبةٍ ... بنا العيسُ يَنثُرْنَ اللُّغامَ المُعمّما
وقالتْ لأترابٍ لها شبَهِ الدُّمى ... ثلاثٍ يُنازعْنَ الحديثَ المُكتَّما
يُنازعْنَ خِيطانَ الأراكِ فأرجعَتْ لها ... كفُّها منهنَّ لَدْناً مُقوَّما
فماحَتْ بهِ غرُّ الثنايا مُفلَّجاً ... وسيماً جلَتْ عنهُ الطِّلالَ مُؤْشَّما
فواللهِ ما أدري أَوَصْلاً أرادَتا ... بما قالتا أمْ أصبحَ الحبلُ أجْذَما
وما هاجَ هذا الشوقَ غيرُ حمامةٍ ... دعَتْ ساقَ حرٍّ في حمامٍ تَرنَّما
إذا شئتُ غنَّتْني بأجزاعِ بِيشةٍ ... أوالرِّزْنِ من تَثليثَ أو يَبْنَما
مُطوَّقةٌ ورْقاءُ تسجعُ كلمّا دنا ... الصيفُ وانْجالَ الربيعُ فأنْجَما
مُحلاّةُ طوقٍ لمْ تكنْ من جَعيلةٍ ... ولا ضربِ صَوّاغٍ بكفّيْهِ دِرهما
بنَتْ بِنْيَةَ الخرقاءِ وهْيَ رفيقةٌ ... لها بيفاعٍ بينَ عُودَينِ سُلّما
منَ الوُرقِ حَمّاءِ العِلاطَينِ باكَرتْ ... عَسيبَ أشاءٍ مطلِعَ الشمسِ أسْحما
إذا حرّكتْهُ الريحُ أو مالَ جانباً ... تغنَّتْ عليهِ مائلاً ومُقوَّما
تغنَّى على فَرعِ الغصونِ وتَرْعَوي ... إلى ابنِ ثلاثٍ بينَ عُودَينِ أعجما
تَقيَّضَ عنهُ غِرْقئ البَيضِ واكتسى ... أنابيبَ من مستعجِلِ الريشِ حَمَّما
تُرَبِّبُ أحوى مُزْلَغِبّاً ترى لهُ ... أنابيبَ من مُسْتَحْنِكِ الريشِ أقْتما
يمُدُّ إليها خشيةَ الموتِ جِيدَهُ ... كهَزِّكَ بالكفِّ البريَّ المُقوَّما
كأنَّ على أشداقِهِ نَورَ حَنوَةٍ ... إذا هوَ مَدَّ الجِيدَ منهُ ليُطعَما
فلمّا اكتسى الريشَ السُّخامَ ولمْ تجدْ ... لها معهُ في جانبِ العُشِّ مَجْثِما
أُتيحَ لها صقرٌ مُسِفٌّ فلمْ يدعْ ... لها ولداً إلاّ رماها وأعْظُما
تحُتُّ على ساقٍ ضُحيّاً فلمْ تدَعْ ... لباكيةٍ في شجوِها مُتلَوَّما
فهاجَ حمامَ الأيكَتَيْنِ نَواحُها ... كما هيّجَتْ ثَكلى على النَّوحِ مأتَما
إذا خرجَتْ من مَسكنِ الأرضِ راجعَتْ ... لها مسكناً من منبِتِ العِيصِ مَعْلما
عجِبتُ لها أنّى يكونُ غناؤُها ... فَصيحاً ولمْ تفغَرْ بمَنطقِها فما
ولمْ أرَ محقوراً لهُ مثلَ صوتِها ... أحَنَّ وأحوى للحزينِ وأكْلَما
ولمْ أرَ مثلي شاقَهُ صوتُ مثلِها ... ولا عربيّاً شاقَهُ صوتُ أعْجَما
خليلَيَّ هُبّا عَلِّلانيَ وانظُرا ... إلى البرقِ ما يَفْري سَناً وتبسُّما
خَفا كاقتِذاءِ الطَّيرِ وهناً كأنّهُ ... سراجٌ إذا ما يكشفُ الليلَ أظْلَما
عَروضٌ تدلَّتْ من تِهامةَ أُهديَتْ ... لنجدٍ فساحَ البرقُ نجداً وأتْهَما
كأنَّ رماحاً أطلعَتْهُ ضعيفةً ... معَ الليلِ يسعَرْنَ الأباءَ المُضرَّما
كنقضِ عتاقِ الطيرِ حتى تَوجَّهتْ ... إليهنَّ أبصاراً وأيقظْنَ نُوَّما
وصوتٍ على فَوتٍ سمعتُ ونظرةٍ ... تلافَيْتُها والليلُ قد عادَ أغْسَما

بحِدْثانِ عهدٍ من شبابٍ كأنّما ... إذا قمتُ يَكسوني رداءً مُسَهَّما
أرى بصري قد رابَني بعدَ صحّةٍ ... وحَسبُكَ داءً أن تَصِحَّ وتسْلَما
ولا يلبثُ العصرانِ يومٌ وليلةٌ ... إذا اختلَفا أنْ يُدركا ما تَيمَّما
وقال حُميد أيضاً:
نأتْ أمُّ عمروٍ فالفؤادُ مَشوقُ ... يحِنُّ إليها نازعاً ويَتُوقُ
لعَمْرةَ إذْ دانَتْ لكَ الدَّينَ بعدَما ... تلفَّعَ من ضاحي القَذالِ فُروقُ
لطُولِ الليالي إذْ تطاولَ ما مضى ... وفي الصُّلبِ والأحْناءِ منكَ حُنوقُ
أثَبْنَ بياضاً من سوادٍ سرقْنَهُ ... وطولُ الليالي للشبابِ سَرُوقُ
ولمْ أرَها بعدَ المُحصَّبِ من مِنىً ... وكلَّ مَتاقٍ للرحيلِ يَتوقُ
عُمَيرةٌ ما أدراكِ أنْ رُبَّ مهجَعٍ ... تركْتُ ومن ليلِ التِّمامِ طَبيقُ
وقدْ غارَ نجمٌ بعدَ نجمٍ وقدْ دنَتْ ... أواخرُ أُخرى واستقلَّ فريقُ
عفا الربيعُ بينَ الأخْرَجَيْنِ وأوزعَتْ ... بهِ حَرْجَفٌ تُذْري الحصى وتَسوقُ
إذا يومُ نحسٍ هبَّ ريحاً كسوْنَهُ ... ذُرى عَقِداتٍ تُرْبُهنَّ دقيقُ
وأسْحمَ دانٍ في نَشاصٍ خفا بهِ ... لوامعُ في أعناقِهنَّ يَسوقُ
يَقُدنَ منَ الوسْمِيِّ جُوناً كأنّما ... تُذَكّي على آثارِهنَّ حريقُ
لعِبْنَ بحَوْضَى والسِّبالِ كأنّما ... يُنشِّرُ رَيطٌ بينهنَّ صَفيقُ
فغادرْنَ وحْياً من رمادٍ كأنّهُ ... حصى إثْمدٍ بينَ الصَّلاءِ سَحيقُ
وسُفْعاً ثَوَيْنَ العامَ والعامَ قبلَهُ ... على مَوقِدٍ ما بينهنَّ رقيقُ
ومن نَسْفِ أقدامِ الوليدَيْنِ بالضحى ... سطورٌ تُرى عامِيَّةً فتَشوقُ
ألا طرقَتْ صَحْبي عُمَيرةُ إنّها ... لنا بالمَرَوْراةِ المضِلِّ طَروقُ
بلَمّاعةٍ قفْرٍ تَرودُ نِعاجُها ... أجارِعَ لمْ يُسمعْ بهنَّ نَعيقُ
فأعرضْتُ عنها في الزيادةِ إنّني ... وذو اللبِّ بالتقوى هناكَ حَقيقُ
بمَثوى حرامٍ والمطِيُّ كأنّها ... قَناً مُسْنَدٌ هبَّتْ لهنَّ خَريقُ
تَرودُ مدى أرسانِها ثمَّ تَرْعَوي ... سَواهِمَ في أصلابِهنَّ عتيقُ
حُرِمْنَ القِرى إلاّ رَجيعاً تعلَّلَتْ ... بهِ غَرِضاتٌ لحمُهنَّ مَشيقُ
أُنِخْنَ ثلاثاً بالمُحَصَّبِ من مِنىً ... ولمّا يَبِنْ للناعجاتِ طريقُ
فلمّا قضَينَ النُّسكَ من كلِّ مَشْعَرٍ ... وقدْ حانَ من شمسِ النهارِ خُفوقُ
رأتْني بنِسْعَيْها فردَّتْ مخافةً ... إلى الصدرِ رَوعاءُ الفؤادِ فَروقُ
فخفَّضتُها حتى اطمأنتْ وراجعَتْ ... هَماهِمَ صدرٍ بينهنَّ خُروقُ
فقلتُ لها أعطي فأعطَتْ برأسِها ... غَشَمْشَمةٌ للقائدِينَ زَهوقُ
جَهولٌ وكانَ الجهلُ منها سجيّةً ... إذا ضمَّها جَونُ الفلاةِ خَروقُ
فعُجْنا إلينا من سوالفَ ضُمَّرٍ ... فرُحنَ عجالى وَقْعُهنَّ رشيقُ
وراحتْ كما راحتْ بسَرْحٍ مُوَقَّفٌ ... منَ الدُّورِ بَدّاءُ اليدَينِ زَنيقُ
تَعادى يداها بالنِّجاءِ ورِجلُها ... إذا ما اشتملَتْ باليدَينِ لَحوقُ
تُباري جُلالاً ذا جديلَينِ ينتَحي ... أساهِيَّ منها هِزَّةٌ وعَنيقُ
إذا انبعثَتْ من مَبْرَكٍ ينبَري لها ... مُشرَّفُ أطرافِ العِظامِ فَنيقُ
أرتْهُ حِياضَ الموتِ عجْلى كأنَّها ... مُواشكةٌ رجْعَ الجناحِ خَفوقُ
منَ الكُدْرِ راحتْ عن ثلاثٍ فعجَّلَتْ ... عليهِ قلوبُ المنكبَينِ ذَليقُ
إذا ضمَّ مَيْثاءُ الطريق عليهما ... أضرَّتْ به مَرْخى الحبالِ زَهوقُ
مِراراً ويَشْآها إذا ما تعرَّضَتْ ... لهُ سُبُلٌ مجهولةٌ وفُروقُ
لها عنُقٌ تهدي يداً مُشْمَعِلّةً ... ورِجلٌ كمِخراقِ الغلامِ لَحوقُ
يداها كأوْبِ الماتِحينَ ورِجلُها ... أبُوضُ النِّسا بالمَنْسِمَيْنِ خَسوقُ
ونحْضٍ كساقِ السُّوذَقانِيِّ نازعَتْ ... بكَفّيَ جَشّاءُ البُغامِ دَفوقُ
إذا القومُ وِرْدُهنَّ ضُحى غدٍ ... تَواهَقْنَ حتى سَيرُهنَّ طُروقُ

فما اطَّعَمَتْ بالنومِ حتى تَضمنَّتْ ... سَوابقَها من شَمْطَتَيْنِ حُلوقُ
وأصبحْنَ يستأنِسْنَ من ذي بُوانةٍ ... قَرىً دونَهُ هابِي الترابِ عميقُ
وأضحى تَعالى بالرحالِ كأنّها ... سَعالٍ بجَنبَيْ نخلةٍ وسَلوقُ
وبَشَّتْ بعُلْوِيِّ الرياحِ كأنّها ... أخو جَذْلَةٍ نالَ الإسارَ طَليقُ
برَيْتُ رَهيصَ الصُّلبِ عاريةَ القَرا ... بها منمرادِ النِّسْعَتَيْنِ سُلوقُ
تقاتلُ عن دامي الكُلى حينَ جرَّدَتْ ... منَ الطيرِ غِرْباناً لهنَّ نَغيقُ
وما لحقَ الغَيرانُ حتى تلاحقَتْ ... جِمالٌ تسامى في البُرِينَ ونُوقُ
أقولُ لعبدِ اللهِ بيني وبينَهُ ... لكَ الخيرُ أخبرْني وأنتَ صديقُ
لأنّي وإنْ علَّلْتُ صَحبي بسَرْحةٍ ... منَ السَّرْحِ موجودٌ عليَّ طريقُ
سقى السَّرْحةَ المِحلالَ بالبُهْرةِ التي ... بها السَّرْحُ دَجْنٌ دائمٌ وبُروقُ
بأجرعَ رابٍ كلَّ عامٍ يَعلُّهُ ... منَ الغيثِ عَرّاضُ الغَمامِ دَفوقُ
أبى اللهُ إلاّ أنَّ سَرْحَةَ مالِكٍ ... على كلِّ أفنانِ العِضاهِ تَروقُ
منَ النبْتِ حتى نالَ أفنانُها العُلا ... وفي الماءِ أصلٌ ثابتٌ وعُروقُ
فما ذهبَتْ عرْضاً ولا فوقَ طولِها ... منَ السَّرْحِ إلاّ عَشَّةٌ وسُجوقُ
تَورَّطَ فيها دُخَّلُ الصيفِ بالضحى ... ذُرى لَبساتٍ فَرعُهنَّ ورِيقُ
فيا طِيبَ رَيّاها ويا بردَ ظلِّها ... إذا حانَ من شمسِ النهارِ وَدُوقُ
حمى ظلَّها شكْسُ الخليقةِ خائفٌ ... عليها عُرامُ الطائفِينَ شَفيقُ
فلا الظلُّ من بردِ الضحى تستطيعُهُ ... ولا الفَيءُ من بردِ العشِيِّ تَذوقُ
وما وَجْدُ مُشتاقٍ أُصيبَ فؤادُهُ ... أخي شهواتٍ بالعِناقِ لَبيقُ
بأكثرَ من وجْدي على ظلِّ سَرحةٍ ... من السَّرحِ أو ضَحّى عليَّ رَفيقُ
ولولا وِصالٌ من عُمَيرةَ لمْ أكنْ ... لأصرمَها إنّي إذنْ لمُطيقُ
وقال حميد بن ثور، وقال يمدح الوليد بن عبد الملك بن مروان، ويرثي عبد الملك:
أبصرْتُ ليلةَ مَنزلي بتَبالةٍ ... والمرءُ تُسْهِرُهُ الهمومُ فيسهَرُ
ناراً لعَمْرَةَ بالرُّزونِ وأهلُنا ... بالأدهمَيْنِ تَباعَدَ المُتنوِّرُ
للهِ صاحبِيَ الذي أوفى لها ... ووقودُها ثَئِرٌ وكلٌّ ينظرُ
هبَّتْ لمَوقعِها جَنوبٌ رادَةٌ ... طَوراً تُخفِّضُها الجَنوبُ وتظهرُ
لمْ ألقَ عَمْرَةَ بعدَ إذْ هيَ ناشئٌ ... خرجَتْ مُعطَّفةً عليها مِئزرُ
برزَتْ عقيلةَ أربعٍ هادَيْنَها ... بِيضُ الوجوهِ كأنّهن العَبقَرُ
ذهبَتْ بعقلِكَ رَيطةٌ مَطْويّةٌ ... وهْيَ التي تَهذي بها لو تُنشَرُ
فهمَمْتُ أن أغشى إليها مَحْجراً ... ولمثلِها يُؤتى إليهِ المَحجَرُ
أبلِغْ أميرَ المؤمنينَ فإنّهُ ... فَطِنٌ يلومُ المُستَليمَ ويعْذِرُ
إنّي كبرْتُ وإنَّ كلَّ كبيرةٍ ... ممّا يُظنُّ بهِ يَملُّ ويَفتُرُ
وفقدْتُ شِرّاتي التي أودى بها ... زمنٌ يُطوِّحُ بالرجالِ وأعصُرُ
أنتمْ بجابِيَةِ الملوكِ وأهلُنا ... بالجَوفِ جِيرتُنا صُداءُ وحِمْيَرُ
فلئِنْ بلغْتُ لأبلُغَنْ مُتكلِّفاً ... ولئنْ قصَرتُ لكارهاً ما أُقصِرُ
أذِنَ الوليدُ لكمْ فسيروا سِيرةً ... أمّا تُبلِّغُكمْ وأمّا تَحسَرُ
سيروا الظلامَ ولا تَحلُّوا عُقدةً ... حتى يُجَلِّيَهُ النهارُ المُبصرُ
ويُرى الصباحُ كأنَّ فيهِ مُصْلِتاً ... بالسيفِ يحملُهُ حصانٌ أشقرُ
لا يدركُ الحاجاتِ إلاّ مُزمِعٌ ... والناجِياتُ من القِلاصِ الضُّمَّرُ
راحوا بساهمةِ العيونِ غُدوُّها ... مُصْعَنْفِرٌ ورَواحُها مُسْحَنْفِرُ
منْ كلِّ ناجيَةٍ يظَلُّ زِمامُها ... يسعى كما هربَ الشجاعُ المُنْفَرُ
قُلُصٌ إذا غَرِثَتْ فصولُ حبالِها ... شبعَتْ بَراذِعُها ومَيسٌ أحمرُ
تغدو مُواشكةَ العَنيقِ وتارةً ... يستعجلونَ عَنيقَها فتُشمِّرُ
تعلو بأذرُعِها إذا اسْتَنعى بها ... خَرِقٌ يموتُ بهِ العَجاجُ الأكدرُ

تلقى إذا انْجرمَ الشتاءُ سِباعَها ... ونَعامَها قِطَعاً بها لا تُذعرُ
سئموا الرِّحالَ بها فقالوا نَزْلَةً ... فأقولُ ليسَ بما ترَونَ مُعصَّرُ
كائنْ حسَرْنا دونَكمْ منْ طالحٍ ... رَوعاءُ يَنقُرُها الغرابُ الأعوَرُ
بسواءِ مَجمعَةٍ كأنَّ أمارَةً ... منها إذا برزَتْ فَنيقٌ يَخطِرُ
ولقدْ أرانا نعتَلي برِحالِنا ... زَهراءَ تَجتابُ الفَلاةَ وأزهَرُ
كعَجاجةِ الوادي يَراحُ شَلِيلَهُ ... غَوجُ الجِرانِ غَدَوْدَنِيٌّ مِعْوَرُ
أجُدٌ مُداخَلَةٌ وآدمُ مُصْلَقٌ ... كَبداءُ لاحقةُ الرَّحا وشَمَيْذَرُ
مثلُ الحجارةِ لحمُهُ وعِظامُهُ ... مثلُ الحديدِ وجِلدُهُ يتمَرْمَرُ
تمشي العُجَيْلى من مخافةِ شَدْقَمٍ ... يمشي الدِّفَفَّى والخَنِيفَ ويَضْبِرُ
وإذا تُبادرُهُ الطريقُ رأيْتها ... زَوراءَ عنهُ وهْوَ عنها أزْوَرُ
وإذا تُراعُ رمَتْ بها رَوْعاتُها ... حتى يميلَ بها النِّجادُ المُدْبِرُ
وإذا احْزألاّ في المناخِ رأيتَهُ ... كالطودِ أفْردَهُ العَماءُ المُمطِرُ
حتى إذا طالَ السِّفارُ عليهما ... زُجرَتْ وظلَّ مُصانِعاً لا يُزجَرُ
تَهوي بأشعثَ قدْ وهى سِربالُهُ ... بَعثٍ تُؤرِّقُهُ الهمومُ فيسهَرُ
قدْ لاحَهُ عُقَبُ النهارِ فسيَّرَهُ ... بالفَرقدَيْنِ كما يُلاحُ المِسعَرُ
نضعُ الزيارةَ حيثُ لا يُزري بنا ... شرفُ الملوكِ ولا يَخيبُ الزُّوَّرُ
يا بنَ الخليفةِ ثمَّ أنتَ خليفةٌ ... وخليفةٌ ما أنتَ إذْ تَتخيَّرُ
بَحرانِ تنتسبُ البحورُ إليهما ... لا بحرَ بعدَهما يُهارُ ويُغمَرُ
أنتمْ أَسِدّةُ كلِّ ثغرٍ خائفٍ ... وخلائفُ اللهِ التي تَتخيَّرُ
إنَّ المنيّةَ حينَ أُرسلَ سهمُها ... لأبي الوليدِ قدَ انفذَتْ ما تُؤمَرُ
ويلُ الجبالِ ألا تبوحُ لفَقدِهِ ... ولصخرِهنَّ الصمِّ لا تَتحدَّرُ
إنَّ الجبالَ ولوْ بكَيْنَ لهالِكٍ ... يوماً رأيتَ صِلابَها تَستعْبِرُ
وقال حُميد بن ثور:
على طلَلَيْ جُمْلٍ وقفْتَ ابنَ عامرٍ ... وقد كنتَ تُفْدى والمزارُ قريبُ
وقد عُجتَ في رَبعَينِ جرَّتْ عليهما ... سِنونٌ وعادَتْ أمْرُعٌ وجُدوبُ
أرَبَّتْ رياحُ الأخرجَيْنِ عليهما ... ومُستحلَبٌ من ذي البُراقِ غريبُ
دُقاقَ الحصى ممّا تُسَدِّي مُرِبَّةٌ ... لها بنُسالِ الصِّلِّيانِ دَبيبُ
بمُختلَفٍ من رادَةٍ وصقالَها ... بنَعْفٍ تُغاديها الصَّبا وتَؤوبُ
فلمْ يدَعِ العصْرانِ إلاّ بقيّةً ... من الدارِ تبكي فيهِما وتَحوبُ
فحيِّ ربوعَ الجارتَينِ ولا أرى ... مَغانيَ دارِ الجارتَينِ تُجيبُ
عفَتْ مثلَ ما يعفو الطَّلِيحُ فأصبحَتْ ... بها كبرياءُ الصعْبِ وهْيَ رَكوبُ
كأنَّ الرِّعاثَ والنطافَ تصَلْصَلَتْ ... لياليَ جُمْلٌ للرجالِ خَلوبُ
بوحشيّةٍ أمّا ضواحي مُتونِها ... فمُلْسٌ وأمّا كَشْحُها فقَبيبُ
خلَتْ بالضواحي من أعالي لَجِيفةٍ ... وليسَ بَبْرحٍ فالبُلَيُّ عَرِيبُ
ألثَّتْ عليها دِيمةٌ بعدَ وابلٍ ... فلِلجزعِ من جَوحِ السيولِ قَسيبُ
فأخْلَسَ منها البقلَ لوناً كأنّهُ ... عليلٌ بماءِ الزعفرانِ ذَهيبُ
منَ العالقاتِ المَرْدَ يعلو كِناسَها ... حمامُ بلادٍ مُعْلَمٌ وغريبُ
فَفُوها خَضِيبٌ بالبَرِيرِ وسِنُّها ... بهِ من تآشيرِ الغصونِ غُروبُ
تُراعي طَلاً من ليلتَينِ تلبَّسَتْ ... بهِ النفسُ حتى للفؤادِ وجِيبُ
يَجُورُ بمَدْرِيَّتَيْنِ قد غاضَ منهما ... شديدُ سوادِ المُقلتَينِ نَجيبُ
على مثلِ حُقِّ العاجِ تَهمي شِعابُهُ ... بأسمرَ يحلَوْلِي لنا ويطيبُ
فلمّا غدَتْ قد قلَّصَتْ غيرَ حُشوةٍ ... من الجوفِ منها عُلَّفٌ وخُضوبُ
رأتْ مُستَجيراً فاشرأَبَّتْ لشخصِهِ ... بمَحْنيةٍ يبدو لها ويغيبُ
جُنِنْتَ بجُمْلٍ والنحيلةِ إذْ هما ... كهَمِّكَ بِكرٌ عاتقٌ وسَلوبُ

وإذ قالَتا زَورٌ مُغِبٌّ زيارةً ... وقدْ ظلَّ يومٌ للمَطِيِّ عَصيبُ
وقائلةٍ هذا حُمَيدٌ وإنْ ترى ... بحَلْيَةَ أو وادي قناةَ عجيبُ
فلا تأمَنا أنْ يعدوا النأيُ منكما ... ولا بُعدَ نأيٍ إنْ ألَمَّ حَبيبُ
تقولانِ طالَ النأيُ أو نُحصيَ الذي ... نأيْناكَ إلاّ أنْ يَعُدَّ لَبيبُ
بلى فاذكُرا عامَ اجتَوَرْنا وأهلُنا ... مَدافعَ دارا والجنابُ خَصيبُ
لياليَ أبصارُ الغواني وسَمعُها ... إليَّ وإذْ رِيحي لهنَّ حَبيبُ
وإذْ ما يقولُ الناسُ شيء مُهوّنٌ ... عليَّ وإذْ غصنُ الشبابَ رَطيبُ
وإذْ شَعَري ضافٍ ولونيَ مُذْهَبٌ ... وإذْ ليَ من ألبابِهِنَّ نَصيبُ
فأضحى الغواني قد سئمْنَ هَزالَتي ... وأجلَيْنَ لمّا راعَهُنَّ مَشيبُ
وقدْ كُنَّ بعضَ الدهرِ يَهوَيْنَ مَجلسي ... وجِنِّي إلى جِنانِهِنَّ حَبيبُ
إذا الرأسُ غِرْبيبٌ أحَمٌّ سَوادُهُ ... ومُذهَبُ ألوانٍ عليَّ مَجوبُ
فلا يُبعدُ اللهُ الشبابَ وقولَنا ... إذا ما صبَونا صَبوةً سَنَتوبُ
جرَتْ يومَ رُحنا عَوْهَجٌ لا شَخاصةٌ ... نَوارٌ ولا رَيّا الغزالِ لَحيبُ
منَ الأدْمِ أمّا خدُّها حينَ أتْلعَتْ ... فصلْتٌ وأمّا خلْقُها فسَليبُ
مُوشَّحةُ الأقرابِ كالسيفِ صَقْلُها ... بها منْ وِحامٍ لَوحةٌ وذُبوبُ
ذكرتُكِ لمّا أتلعَتْ من كِناسِها ... وذِكرُكِ سبّاتٍ إليَّ عَجيبُ
فقلتُ على اللهِ لا يدعُوانِها ... وقدْ أوَّلَتْ أنَّ اللقاءَ قريبُ
وأنَّ الذي مَنّاكَ أنْ تُسعِفَ النَّوى ... بها يومَ رَعْنَيْ صارةٍ لَكَذوبُ
وما نَوَّلَتْ من طائلٍ غيرَ أنّها ... جَوىً فالهوى يُلوي بنا ويُهيبُ
فأنتَ جَنيبٌ للهوى يومَ عاقلٍ ... ويومَ نِضادِ النِّيرِ أنتَ جَنيبُ
أظلُّ كأنّي شاربٌ بمُدامةٍ ... لها في عِظامِ الشاربينَ دَبيبُ
رَكودُ الحُميّا قهوةٍ شابَ ماؤُها ... لها من عُقاراتِ الكُرومِ رَبيبُ
إذا استُوكِفَتْ باتَ الغَوِيُّ يَسوفُها ... كما جَسَّ أحشاءَ السَّقيمِ طَبيبُ
وداوِيّةٍ ظلَّتْ بها الشمسُ حاسراً ... كما لاحَ في رأسِ اليَفاعِ رَقيبُ
إذا صمَحَتْ رَكْباً ولو كانَ فوقَهمْ ... عَمائمُ خَزٍّ سابعٍ وسُهوبُ
أناخَتْ بهمْ أو كادَ أنْ لم يُوايُلوا ... إلى عُصَرٍ هامُ الرجالِ تَذُوبُ
ظَلِلْنا إلى كهفٍ وظلَّتْ رِكابُنا ... إلى مُسْتَكِفّاتٍ لهنَّ غُروبُ
إلى شجرٍ ألْمى الظِّلالِ كأنّها ... رَواهبُ أحرَمْنَ الشرابَ عُذوبُ
كَفاني بها دِرعٌ منَ الليلِ سابغٌ ... وصهباءُ للحاجِ المُهِمِّ طَلوبُ
رِتاجُ الصَّلا مَعْرُشَةُ الزَّورِ تَغتَلي ... لها عُسُبٌّ تعلو بها فتَصوبُ
إذا وُجِّهَتْ وجهاً أنابَتْ مُدِلّةً ... كذاتِ الهوى بالمِشفرَينِ لَعوبُ
كما انقضَبَتْ كَدْراءُ تسقي فِراخَها ... بشَمْظَةَ رِفْهاً والمياهُ شُعوبُ
غدَتْ لمْ تَصعَّدْ في السماءِ وتحتَها ... إذا نظرَتْ أُهْوِيَّةٌ وصُبوبُ
قرينةُ سبْعٍ إنْ تواترْنَ مرّةً ... ضربْنَ فصدَّتْ أرْؤُسٌ وجُنوبُ
ثمانٍ بأستارِينَ ما زِدنَ عِدّةً ... غدَوْنَ قُراناً ما لهنَّ جَنيبُ
وقعْنَ بجُوفِ الماءِ ثُمَّتَ صوَّتَتْ ... بهنَّ قَلْولاةُ الغُدوِّ ضَريبُ
على أحوذِيَّيْنِ استقلَّتْ عليهما ... نجاةٌ تَبدّا تارةً وتَغيبُ
فجاءَتْ وما جاءَ القَطا ثمَّ شمَّرتْ ... لمَفْحَصِها والوارداتُ تَلوبُ
فجاءَتْ ومَسقاها الذي وردَتْ بهِ ... إلى الزَّورِ مِدودُ الوثاقِ كَتيبُ
تَغيثُ بهِ زُغْباً مساكينَ دونَها ... مَلاً ما تخطّاهُ العيونُ رَغيبُ
جعلْنَ لها حزناً بأرضٍ تَنوفةٍ ... فما هيَ إلاّ نهلةٌ فوُثوبُ
تَواطَنَّ تَوطينَ الرِّهانِ وقلَّصَتْ ... بهنَّ سَرَنْداةُ الغُدوِّ سُروبُ
وقال حميد بن ثور:
وأغبرَ تُمسي العيسُ قبلَ تَمامِها ... تَهادى بهِ التُّرْبَ الرياحُ الزَّعازعُ

يظلُّ بهِ فرْخُ القطاةِ كأنّهُ ... يتيمٌ جفَتْ عنهُ المراضيعُ راضِعُ
ومُرْئِلَةٍ تهدي رِئالاً كأنّها ... مُخرَّبَةٌ خُرْسٌ عليها المَدارِعُ
وأُمّاتِ أطلاءٍ صغارٍ كأنّها ... دَماليجُ يجلوها تَشفُّقٌ بائعُ
وأزهَرَ يعتادُ الكِناسَ كأنّهُ ... إذا لاحَ دَرِّيٌّ معَ الفجرِ طالعُ
تَعسَّفتْهُ بالقومِ فانتصبَتْ لهُ ... بأعناقَهنَّ اليَعملاتُ الشَّعاشعُ
مَليعٌ ترى للآلِ فوقَ حِدابِهِ ... سَبائبَ لم تنسجْ بهنَّ وشائعُ
نهَزْنَ بأيديهنَّ فانتصبَتْ بها ... بَراطيلُ فانقادَتْ إليها الأخادعُ
إذا أصبحَتْ من ليلةِ الخِمْسِ عنَّسَتْ ... مَراقيلُ ألْحَيْها لهنَّ قَعاقعُ
جزى اللهُ عنّا شَوْذَباً ما جزى بهِ ... زميلاً وشلَّتْ من يدَيهِ الأصابعُ
ووثبةُ لا حانَتْ منَ الدهرِ ساعةً ... بخيرٍ وصمَّتْ من أبيها المَسامعُ
ترى رَبّةَ البَهْمِ الفِرارِ عشيّةً ... إذا ما غدا في بَهْمِها وهْوَ ضائعُ
تلومُ ولو كانَ ابْنها قنعَتْ بهِ ... إذا هَبَّ أرواحُ الشتاءِ الزعازعُ
تظلُّ تُراعي الخُنْسَ حيثُ تيمَّمَتْ ... منَ الأرضِ ما يطلُعْ لهُ فهْوَ طالعُ
رأتْهُ فشكَّتْ وهْوَ أطحلُ مائلٌ ... إلى الأرضِ مَثْنِيٌّ إليهِ الأكارعُ
طوى البطنَ إلاّ من مصيرٍ يَبُلُّهُ ... دمُ الجوفِ أو سُؤْرٌ من الحوضِ ناقعُ
ترى طرفَيهِ يَعسِلانِ كِلاهما ... كما اهتزَّ عُودُ الساسَمِ المُتتابعُ
إذا خافَ جَوراً من عدوٍّ رمَتْ بهِ ... قُصايَتُهُ والجانبُ المُتواسعُ
وإنْ باتَ وحْشاً ليلةً لم يضِقْ بها ... ذراعاً ولمْ يصبحْ لها وهو خاشعُ
إذا احتلَّ حِضْناً بلدةٍ طُرَّ منهُما ... لأخرى حَفِيُّ الشخصِ للريحِ تابعُ
وإنْ حذِرَتْ أرضٌ عليهِ فإنّهُ ... بغرَّةِ أخرى طيِّبُ النفسِ قانعُ
ينامُ بإحدى مُقلتَيهِ ويتَّقي ... المنايا بأخرى فهْوَ يقظانُ هاجعُ
إذا قامَ ألقى بُوعَهُ قَدْرَ طُولِهِ ... ومدَّدَ منهُ صُلبَهُ وهْوَ بائعُ
وفكَّكَ لَحيَيهِ فلمّا تَعادَيا ... صأى ثمّ أقعى والبلادُ بَلاقعُ
إذا ما غزا يوماً رأيتَ ظِلالةً ... منَ الطيرِ ينظُرنَ الذي هوَ صانعُ
وهَمَّ بأمرٍ ثمَّ أزمعَ غيرَهُ ... وإنْ ضاقَ رِزقٌ مرّةً فهْوَ واسعُ
نهشل بن حرِّيّ
وقال نهشل بن حرِّيّ بن ضمرة بن ضمرة بن جابر بن قطن بن نهشل بن دارم ابن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم:
يخالجنَ أشطانَ الهوى كلَّ وجهةٍ ... بذي السِّدرِ حتَّى خفتَ أنْ لنْ تريَّما
غرائرُ لم يتركنَ للنَّفسِ إذ علَوا ... على الصُّهبِ تُحدى السَّيرَ روحاً وأعظُما
سراةَ الضُّحى ثمَّ استمرَّ حداتهمْ ... على كلِّ موَّارِ الملاطينِ أخزما
على كلِّ حرِّ اللَّونِ صافٍ نجارهُ ... يواهقُ جوناً ذا عثانينَ مكرما
إذا اجتهدَ الرُّكبانُ ذلَّتْ وسامحتْ ... وإنْ قصَّروا عاجُوا سماماً مخزَّما
كأنَّ ظباءَ السِّيِّ أو عينَ عالجٍ ... على العيرِ أو أبهى بهاءً وأفخما
كأنَّ غمامَ الصَّيفِ تحتَ خدورِها ... جلا البرقَ عنْ أعطافهِ فتبسَّما
تهادينَ يومَ البينِ كلَّ تحيَّةٍ ... وكيفَ التَّهادي بالودادةِ بعدَما
تفرقنَ عنْ أهوالِ أرضٍ مريضةٍ ... ترى لونَها منَ المخافةِ أقتَما
فأصبحَ جمعُ القومِ شتّى ولمْ يكنْ ... يفرِّقُ إلاَّ ذا زهاءٍ عرمرما
كأنَّ بواديهم هلالَ بنَ عامرٍ ... وإنْ لم يكنْ إلاَّ حميماً أو ابنَ ما
كما انشقَّ وادٍ شعبتينِ كلاهُما ... يعارضُ عرنيناً من الرَّملِ أحزَما
تبيتُ لها الوجناءُ من رهبةِ الرَّدى ... بأقتابِها والسَّابحُ الطَّرفُ ملجَما
رَذايا بَغايا مقشعرّاً جنوبُها ... يغضُّونَ منْ أجراسِها أنْ تزغَّما
يغضُّونَ صوتَ العيسِ إلاَّ صريفَها ... وصوتَ الصِّريحيَّاتِ إلاَّ تحمحُما
بني قطنٍ إنِّي عبدتُ بيوتكمْ ... برهوةَ داراً أو أعزَّ وأكرَما

فلا تنزلُوا من رأسِ رهوةَ داركمْ ... إلى خربٍ لا تمسكُ السَّيلَ أثلَما
أناسٌ إذ حلَّتْ بواٍد بيوتهمْ ... نفى الطَّيرَ حتَّى لا ترى الطَّيرُ مجثَما
تظلِّلُ منْ شمسِ النَّهارِ رماحهمْ ... إذا ركزَ القومُ الوشيجَ المقوَّما
ترى كلَّ لونِ الخيلِ وسطَ بيوتهمْ ... أبابيلَ تعدُو بالمتانِ وهيَّما
وذي عزَّةٍ أنذرنهُ من أمامهِ ... فلمَّا عصاني في المضاءِ تندَّما
فودَّ بضاحي جلدهِ لوْ أطاعني ... إذا زلَّ واعروْرى بهِ الأمرُ معظَما
وفرَّقَ بينَ الحيِّ بعدَ اجتماعهمْ ... مشائيمُ دقُّوا بينهمْ عطرَ منشِما
غواةٌ كنيرانِ الحريقِ تسوقهُ ... شآميَّةٌ في حائلِ العربِ أصحَما
إذا ألهب من جانبٍ باخَ شرُّهُ ... ذكا لهبٌ من جانبٍ فتضرَّما
وفي النَّاسِ أذرابٌ إذا ما نهيتهمْ ... عنِ الشَّرِّ كالنُّشَّابِ ينزعُ مقدِما
جزى اللهُ قومي منْ شفيعٍ وطالبٍ ... عنِ الأصلِ والجاني ربيعاً وأنعُما
ولوْ أنَّ قومي يقبَل المالُ منهمُ ... لمدُّوا النَّدى سيلاً إلى المجدِ مفعَما
لما عدموا منْ نهشلٍ ذا حفيظةٍ ... بصيراً بأخلاقِ امرئ الصِّدقِ خضرِما
حمولاً لأثقالِ العشيرَة بينَها ... إذا أجشموهُ باعَ مجدٍ تجشَّما
ولكنْ أبى قومٌ أصيبَ أخوهمُ ... رُقى النَّاس واختاروا على اللَّبنِ الدَّما
أرى قومَنا يبكونَ شجوَ نفوسهمْ ... وقدْ بعثُوا منَّا كذلكَ مأتَما
على فاجعٍ هدَّ العشيرةَ فقدهُ ... كرورٍ إذا ما فارسُ الشَّدِّ أحجَما
فإذا جلَّتِ الأحداثُ وانشقَّتِ العصا ... فولَّى الإلهُ اللَّومَ منْ كانَ ألوما
وقال نهشل أيضاً:
أجدَّكَ شاقتكَ الرُّسومُ الدوارسُ ... بجنبيْ قَساً قدْ غيَّرتْها الرَّوامِسُ
فلمْ يبقَ منها غيرُ نؤيٍ نباهُ ... منَ السَّيلِ العذارَى العوانِسُ
وموقدُ نيرانٍ كأنَّ رسومَها ... بحولينِ بالقاعِ الجديدِ الطّيالِسُ
لياليَ إذْ سلمى بها لك جارةٌ ... وإذْ لمْ تخبِّرْ بالفراقِ العواطِسُ
لياليَ سلمى درَّةٌ عندَ غائصٍ ... تضيءُ لكَ الظَّلماءَ واللَّيلُ دامِسُ
تناولَها في لجَّة البحرِ بعدَما ... رأى الموتَ ثمَّ احتالَ حوتٌ مغامِسُ
فجاءَ بها يُعطي المنَى مِن ورائها ... ويأبَى فيُغليها على منْ يماكِسُ
إذا صدَّ عنها تاجرٌ جاءَ تاجرٌ ... مِن العجمِ مخشيٌّ عليهِ النَّقارِسُ
يسومونهُ خلدَ الحياةِ ودونَها ... بروجُ الرُّخامِ والأسودُ الحوارِسُ
وما روضةٌ مِن بطنِ فلجٍ تعاونتْ ... لها بالرَّبيعِ المدجِناتِ الرَّواجِسُ
حمتْها رماحُ الحربِ واعتمَّ نبتُها ... وأعشبَ ميثُ الجانبينِ الرَّوائِسُ
بأحسنَ من سلمى غداةَ انبرَى لنا ... بذاتِ الآزاءِ المرشقاتُ الأوانِسُ
نواعمُ لا يسألنَ حيّاً ببثِّهِ ... عليهنَّ حليٌ كاملٌ وملابسُ
لنا إبلٌ لم نكتسبْها بغدرةٍ ... ولمْ يغنَ مولاها السِّنونُ الأحامِسُ
نحلِّئها عنْ جارِنا وشرِيبنا ... وإن صبَّحتنا وهي عوجٌ خوامِسُ
ويحبسُها في كلِّ يومِ كريهةٍ ... وللحقِّ في مالِ الكريمِ محابِسُ
وحتَّى تريحَ الذَّمَّ والذَّمُّ يتَّقى ... ويروى بذاتِ الجمَّةِ المتغامِسُ
فتصبحُ يومَ الوردِ غلباً كأنَّها ... هضابُ شروْرى مسنفاتٌ قناعِسُ
تساقطُ شفَّانَ الصَّبا عنْ متونِها ... لأكتافِها منَ الخميلِ برانِسُ
تلبَّطُ ما بينَ الثَّماني وقلهبٍ ... بحيثُ تلاقى خمصهُ المتكاوِسُ
يصدُّ العدَى عنها فتوٌّ مساعرٌ ... وتركبُ عوفٌ دونَها ومقاعِسُ
بكلِّ طوالِ السَّاعدينِ شمردلٍ ... غلا جسمهُ واشتدَّ منهُ الأباخِسُ
بأيديهم في كلِّ يومٍ كريهةٍ ... على الأعوجِياتِ الرِّماحُ المداعِسُ
وقال نهشل يرثي أخاه مالكاً، وهو المخوَّل:
ذكرتُ أخي المخوَّلَ بعدَ يأسٍ ... فهاجَ عليَّ ذكراهُ اشتياقي
فلا أنْسى أخي ما دمتُ حيّاً ... وإخواني بأقريةِ العناقِ

فوارسُنا بدار وذي قساءٍ ... وأيسارَ الهريَّةِ والطِّراقِ
يجرُّونَ العضال إلى الندامى ... بروض الحزن من كنفي أفاق
ويغلون السِّباءَ إذا لقوهُ ... بربع الخيلِ والشَّولِ الحقاقِ
إذا اتَّصلوا وقالوا يالَ غرفٍ ... وراحُوا في المحبَّرةِ الرِّقاقِ
أجابكَ كلُّ أروعَ شمّريٌّ ... رخيُّ البالِ منطلقُ الخناقِ
أناسٌ صالحونَ نشأتُ فيهمْ ... فأودَوا بعدَ إلفٍ واتِّساقِ
مضَوا لسبيلهمْ ولبثتُ عنهمْ ... ولكنْ لا محالةَ مِن لحاقِ
كذي الأُلاَّفِ إذ أدلجنَ عنهُ ... فحنَّ ولا يتوقُ إلى متاقِ
أرى الدُّنيا ونحنُ نعيثُ فيها ... مولِّيةً تهيَّأُ لانطلاقِ
أعاذلَ قدْ بقيتُ بقاءَ نفسٍ ... وما حيٌّ على الدُّنيا بباقِ
كأنَّ الشَّيبَ والأحداثَ تجري ... إلى نفسِ الفتى فرسا سباقِ
فإمَّا الشَّيبُ يدركهُ وإمَّا ... يُلاقي حتفهُ فيما يُلاقي
فإنْ تك لمَّتي بالشَّيبِ أمستْ ... شميطَ اللَّونِ واضحةَ المشاقِ
فقدْ أغدو بداجيةٍ أُربِّي ... بها المتطلِّعاتِ منَ الرِّواقِ
إليَّ كأنَّهنَّ ظباءُ قفرٍ ... برهبَى أوْ بباعجتيْ فتاقِ
وقدْ تلهُو إليَّ منعَّماتٌ ... سواجي الطَّرفِ بالنَّظرِ البراقِ
يُرامقنَ الجبالَ بغيرِ وصلٍ ... وليسَ وصال حبلِي بالرِّماقِ
وعهدُ الغانياتِ كعهدِ قينٍ ... ونتْ عنهُ الجعائلُ مستذاقِ
كجلبِ السَّوءِ يعجبُ مَن رآهُ ... ولا يشفي الحوائمَ مِنْ لماقِ
فلا يبعدْ مضائي في الميامِي ... وإشرافي العلايةَ وانْصفاقي
وغبراءَ القتامِ جلوتُ عنِّي ... بعجْلى الطَّرفِ سالمةَ المآقي
وقد طوَّفتُ في الآفاقِ حتَّى ... سئمتُ النَّصَّ بالقلصِ العتاقِ
هبطتُ السَّيلحينِ وذاتَ عرقٍ ... وأوردتُ المطيَّ عُلى حذاقِ
وكمْ قاسيتُ من سنَةٍ جمادٍ ... تعصُّ اللَّحمَ ما دونَ العُراقِ
إذا أفنيتُها بدِّلتُ أُخرى ... أعدُّ شهورها عددَ الأواقي
فأفنتْني السّنون وليسَ تفنَى ... وتعدادُ الأهلَّةِ والمحاقِ
وما سبقَ الحوادثَ ليثُ غابٍ ... يجرُّ لعرسهِ جزرَ الرِّفاقِ
كميتٌ تعجزُ الحلفاءُ عنهُ ... كبغلِ المرجِ حطَّ منَ الزِّناقِ
تنازعهُ الفريسةَ أمُّ شبلٍ ... عبوسُ الوجهِ فاحشةُ العناقِ
ولا بطلٌ تفادَى الخيلَ منُ ... فرارَ الطَّيرِ من بردٍ بعاقِ
كريمٌ مِن خزيمةَ أو تميمٍ ... أغرُّ على مسافعةٍ مزاقِ
فذلكَ إنْ تخطأهُ المنايا ... فكيفَ يقيهِ طولَ الدَّهرِ واقِ
وقال نهشل حين هرب إلى بني سعد بن زيد مناة لما جدعوا أذن نهيك بن الحارث بن نهيك:
سمتْ لكَ حاجةٌ منْ حبِّ سلمى ... وصحبكَ بينَ عروَى والطُّواحِ
فبتُّ كذي اللَّذاذةِ خالستهُ ... فراتُ المزجِ عاليةُ الرِّباحِ
سَباها تاجرٌ منْ أذرعاتٍ ... بأغلاءِ العطيَّةِ والسَّماحِ
ولستَ بعازفٍ عن ذكرِ سلمى ... وقلبكَ عن تماضرَ غيرُ صاحِ
تبسَّمُ عنْ حصَى بردٍ عذابٍ ... أغرَّ كأنَّهُ نورُ الأقاحي
إذا ما ذقتهُ عسلٌ مصفَّى ... جنتهُ النَّحلُ في علمٍ شناحِ
وقدْ قطعتْ تماضرُ بطنَ قوٍّ ... يمانيةَ التَّهجُّرِ والرَّواحِ
كأنَّ حمولَها لمَّا استقلَّت ... بذي الأحزابِ أسفلَ منْ نساحِ
خلايا زنبريٍّ عابراتٍ ... عَدَوْلى عامداتٍ للقراحِ
كأنَّ منازلاً بالفأوِ منها ... مدادُ معلّمٍ يتلوهُ واحي
وما يومٌ تحيِّيهِ سليمى ... بخبراءِ البجادةِ أوْ صباحِ
بمسؤومٍ زيارتهُ طويلٍ ... ولا نحسٍ منَ الأيَّامِ ضاحي
وما أدماءُ مولفةٌ سلاماً ... وسدراً بينَ تنهيةٍ وراحِ
تضمَّنها مساربُ ذي قساءٍ ... مكانَ النَّصلِ منْ بدنِ السِّلاحِ
بأحسنَ من تماضرَ يومَ قامتْ ... تودِّعنا لبينٍ فانسراحِ
ألا أبلغْ بني قطنٍ رسولاً ... كلامَ أخٍ يعاتبُ غير لاحِ
فما فارقتهمْ حتَّى أظنُّوا ... وبيَّنَ منْ شواكلهمْ نواحي

وما تُخلى لكمْ إبلي إذا ما ... رعتْ قطمانَ أو كنفيْ ركاحِ
ولمْ تحمُوا على نعمِ ابنِ سؤرٍ ... صوامَ إلى أذيرعَ فاللِّياحِ
فما لهمُ بمرتعهِ مندًّى ... ولا بحياضهِ أدنى نضاحِ
تشمَّسَ دونها عوفُ بن كعبٍ ... ببيضِ المشرفيَّةِ والرِّماحِ
وآل مقاعسٍ لمْ يخذلُوها ... على حربٍ أُريدَ ولا صلاحِ
وينصرُها منَ الأبناءِ جمعٌ ... حماةُ الحربِ مكروهُو النّطاحِ
وبانِي المجد حمّانُ بنُ كعبٍ ... وباني المجد وكِّلَ بالنَّجاحِ
وإنْ أدعُ الأجاربَ ينجدُوني ... بجمعٍ لا يهدُّ منَ الصِّياحِ
أولئكَ والدي وعرفتُ منهمْ ... مكاني غيرَ مؤتشبِ المراحِ
تقادُ وراءها بينَ الشَّماني ... وبصوةَ كلُّ سلهبةٍ وقاحِ
وكلُّ طمرَّةٍ شنجٍ نساها ... وعجلَى الشَّدِّ صادقة المراحِ
إذا اضطربَ الحزامُ على حشاها ... منَ الأعمالِ مضطربَ الوشاحِ
وخِنذيذٍ تصيدُ الرُّبدَ عفواً ... وقبَّ الأخدَريَّةِ في الصَّباحِ
كأنَّ مجالهنَّ ببطنِ رهبَى ... إلى قطمانَ آثارُ السِّلاحِ
كأنَّ ورائدُ المهراتِ فيهمْ ... جواري السِّندِ مرسلةَ السِّباحِ
كأنَّ الشَّاحجاتِ ببطنِ رهبَى ... لدى قنَّاصها بدنُ الأضاحي
فمنْ يعملْ إلينا قرضَ صدقٍ ... على حينِ التَّكشُّفِ والشِّياحِ
يجدهُ حينَ يكشفُ عنْ ثراهُ ... كذخرِ السَّمنِ في الأدمِ الصّحاحِ
ومنْ يعملْ بغشٍّ لا يضرنا ... وتأخذهُ الدَّوائرُ بالجناحِ
وقال نهشل أيضاً:
رأتْني ابنةُ الكلبيِّ أقصرَ باطلِي ... وكادتْ ندامَى رائدِ الخيلِ تنزفُ
وأصبحَ أخدانِي كأنَّ رؤوسهمْ ... حماطُ شتاءٍ بعدَ نبتٍ منصَّفُ
وقدْ كنتُ بالبيدِ القليلِ أنيسُها ... أقوفُ وأمضي قبلَ منْ يتقوَّفُ
فأصبحتُ ممَّا يحدثُ الدَّهرُ للفتى ... أقصُّ العلاماتِ التي كنتُ أعرفُ
إذا ما رأتْ يوماً مطيَّةَ راكبٍ ... تبصِّرُ من جيرانِها أو تكوِّفُ
تقولُ ارتحلْ إنَّ المكاسبَ جمَّةٌ ... فقلتُ لها إنِّي امرؤٌ أتعفَّفُ
وأرجو عطاءَ اللهِ من كلِّ جانبٍ ... وينفعُني المالُ الذي أتسخَّفُ
وأبغضُ إرقاصاً إلى ربِّ دارهِ ... لئيمٌ له كتَّانتانِ ومطرفُ
تجبَّرَ مالاً بعدَ لؤمٍ ودقَّةٍ ... كما شدَّ بالشَّعبِ الإناءُ المكتَّفُ
كمستمسكٍ بالحبلِ لولا اعتصامهُ ... إذنْ لتراماهُ من الجولِ نفنفُ
ينامُ الضُّحى حتَّى يطولَ رقادهُ ... ويقصرُ ستراً دونَ منْ يتضيَّفُ
يكونُ على الدِّيوانِ عبئاً وباعهُ ... قصيرٌ كإبهامِ النُّغاشيِّ أجدفُ
وإنْ أُنزلَ الخدَّامُ يوماً لضيعةٍ ... يقالُ لهُ انزلْ عنْ حماركَ أقلفُ
وإنْ أيَّهُ القومُ الكرامُ أجابهُ ... بجرجَيْهِ موشيُّ الأكارعِ موكفُ
على تكآتٍ من وسائدَ تحتَها ... سريرٌ كأنقاءِ النَّعامةِ يرجفُ
فلأياً بلأيٍ ما يكلِّمُ ضيفهُ ... لحينٍ ولا تلكَ المطيَّةِ تعلفُ
فيعطي قليلاً أو يكونُ عطاءهُ ... مواعدَ بخلٍ دونَها البابُ يصرفُ
رصادَ سحوقِ النَّخلِ يرصدُ حجَّةً ... ودونَ ثراها ليفُها المتليِّفُ
وإنَّ لنا من نعمةِ اللهِ هجمةً ... يهدهدُ فيها ذو مناكبَ أكلفُ
طويلُ القرا خاظي البضيعِ كأنَّما ... غذتهُ ديافٌ والقصيلُ المقطَّفُ
إذا بيَّتتهُ الرِّيحُ يُنبي سقيطَها ... خبائرهُ كأنَّما هي قرطفُ
يمشِّي عليها يرفئيٌّ كأنَّهُ ... ظليمٌ بصحراءِ الأباتمِ أصدفُ
ونجديَّةٌ حوٌّ كأنَّ ضروعَها ... أداوى سقاها منْ جلاميدَ مخلفُ
وجرداءُ من آلِ الصِّريح كأنَّها ... قناةٌ براها مستجيدٌ مثقِّفُ
وفتيانُ صدقٍ من عطيَّةِ ربِّنا ... بمثلهمْ نأبى الظَّلامَ ونأنفُ
وجرثومةٌ من عزِّ غرفٍ ومالكٍ ... يفاعُ إليها نستفيدُ ونسلفُ
ولكنْ ليالينا ببرقةِ بَرملٍ ... وهضبِ شروْرى دونَنا لا تصدَّفُ
ليالِي ما لي غامرٌ لعيالها ... وإذا أنا برَّاقُ العشيَّاتِ أهيفُ

إليها ولكنْ لا تدومُ خليقةٌ ... لمنْ في ذراعيهِ وشومٌ وأوقفُ
وداويَّةٍ بينَ المياهِ وبينَها ... مجالٌ عريضٌ للرِّياحِ وموقفُ
قطعتُ إلى معروفِها منكراتِها ... بعيرانةٍ فيها هبابٌ وعجرفُ
هجانٌ تبزُّ العفرَ فيءَ ظلالِها ... وتذعرُ أسرابَ القطا يتصيَّفُ
كأنِّي على طاوي الحشا باتَ بينهُ ... وبينَ الصَّبا من رملِ خيفقَ أحقفُ
يشيمُ البروقَ اللاَّمعاتِ وفوقهُ ... منَ الحاذِ والأرطى كناسٌ مجوَّفُ
ومرَّتْ عليهِ ليلةٌ رجبيَّةٌ ... إذا مرَّ صوتٌ مرَّ آخرُ مردفُ
يكفُّ برَوقيهِ الغصونَ وينتحي ... بظلفيهِ في هارِ النَّقا يتقصَّفُ
كما بحثَ الحسيَ الكلابيَّ منهلٌ ... يثيرُ الحصى دونَ العيونِ ويغرفُ
كأنَّ جماناً ضيَّعتهُ سلوكهُ ... رضابُ النَّدى في روقهِ يتزلَّفُ
إذا ناطفُ الأرطاةِ فوقَ جبينهِ ... تحدَّرَ جلَّى أنجلُ العينِ أذلفُ
وأصبح موْليُّ النَّدى في مرادهِ ... على ثمرِ البركانِ والحاذِ ينطفُ
فلمَّا بدتْ في متنهِ الشَّمسُ غدوةً ... وأقلعَ دجنٌ ذو همائمَ أوطفُ
أظلَّتْ لهُ مسعورةً يبتغي بها ... لحومَ الهوادي ابْنا بريدٍ وأعرفُ
سلوقيَّةٌ حصٌّ كأنَّ عيونَها ... إذا حرِّبتْ جمرٌ بظلماءَ مسدفُ
تضرَّى بآذانِ الوحوشِ فكلُّها ... حفيفٌ كمرِّيخِ المناضلِ أعجفُ
فكرَّ برَوقيهِ كميٌّ مناجدُ ... يخلُّ صدورَ الهادياتِ ويخصفُ
فلمَّا رأى أربابَها قد دنَوا لهُ ... وأزهفَها بعضُ الذي كانَ يزهفُ
أجدَّ ولم يعقبْ كما انقضَّ كوكبٌ ... وذو الكربِ ينجو بعدَما يتكنفُ
وأصبح كالبرق اليماني ودونه ... حقوف وأنقاء من الرمل تعزفُ
وليلة نجوَى مرجحنٍّ ظلامُها ... حواملُها من خشيةِ الشَّرِّ دلَّفُ
مخوفٍ دواهيها يبيتُ نجيُّها ... كأنَّ عميداً بينَ ظهريهِ مدنفُ
إذا القومُ قالُوا مَن سعيدٌ بهذهِ ... غداةَ غدٍ أو مَن يلامُ ويصلفُ
هديتُ لمنجَى القومِ مِن غمزاتِها ... نجاءَ المعلَّى يستبينُ ويعطفُ
وقومٍ تمنَّوا باطلاً فرددتُهمْ ... وإنْ حرَّفوا أنيابهمْ وتلهَّفوا
إذا ما تمنَّوا منيةً كنتُ بينَهم ... وبينَ المُنى مثلَ الشَّجا يتحرَّفُ
وقال نهشل:
أرقتُ لبرقٍ بالعراقِ وصُحبتي ... بحجرٍ وما طيَّاتُ قومي مِن حجْرِ
وميضٍ كأنَّ الرَّيطَ في حجراتهِ ... إذا انشقَّ في غرٍّ غواربهُ زهْرِ
كما رمحتْ بلْقاءُ تحمي فلوَّها ... دجوجيَّةُ المتنينِ واضحةُ الخصْرِ
شموسٌ أتتْها الخيلُ من كلِّ جانبٍ ... بمرجٍ فراتيٍّ تحومُ على مهْرِ
فإنِّي وقومي إن رجعتُ إليهم ... كذي العلقِ آلى لا ينولُ ولا يشري
لويتُ لهمْ في الصّدرِ منِّي نصيحةً ... وودّاً كما تُلوى اليدانِ إلى النحْرِ
ألا أيُّهذا المؤتَلي إنَّ نهشلاً ... عصَوا قبلَ ما آليتُ ملكَ بني نصْرِ
فلمَّا غلبْنا الملكَ لا يقسِروننا ... قسطْنا فأقبلنا منَ الهيلِ والبشْرِ
وصدَّ ابنُ ذي القرنينِ عنَّا ورهطهُ ... نسيرُ بما بينَ المشارقِ والقهْرِ
وقدْ علمتْ أعداؤنا أنَّ نهشلاً ... مصاليتُ حلالُو البيوتِ على الثَّغْرِ
نقيمُ على دارِ الحفاظِ بيوتَنا ... وإنْ قيلَ مرحاها نصبِّحُ أو تسري
لنا هضبةٌ صمَّاءُ من ركنِ مالكٍ ... وأسدُ كراءٍ لا توزّعُ بالزَّجْرِ
مداريهِ ما يُلقى بهِ أو مضيعةٍ ... أخوهمْ ولا يغضونَ عيناً على وتْرِ
همُ القومُ يبنونَ الفعالَ وينتمي ... إليهم مصابُ المالِ من عنتِ الدّهْرِ
ومنْ عدَّ مسعاةً فلا يكذبنَّها ... ولا يكُ كالأعمى يقولُ ولا يدري
ومستلحمٍ قد أنقذتهُ رماحُنا ... وقدْ كانَ منهُ الموتُ أقربَ من شبْرِ
دعانا فنجَّيناهُ في مشمخرَّةٍ ... معادةِ جيرانٍ تقلَّصُ بالغفْرِ
وجارٍ منعناهُ من الضَّيمِ والخنا ... وجيرانُ أقوامٍ بمدرجةِ الدَّهْرِ
إذا كنتَ جاراً لامرئٍ فارهبِ الخنا ... على عرضهِ إنَّ الخنا طرفُ الغدْرِ

وذدْ عنْ حماهُ ما عقدتَ حبالهُ ... بحبلكَ واسترهُ بما لكَ من ستْرِ
وخالي ابنُ جوَّاسٍ سعى سعيَ ماجدٍ ... فأدَّى إلى حيَّيْ قضاعة من بكْرِ
لعمري لقدْ أعطى ابنُ ضمرةَ مالهُ ... رفاقاً منَ الآفاقِ مختلفي النَّجْرِ
قرى مائةً أحمى لها ونفوسَها ... على حين لا يعطي الكريمُ ولا يقري
ألا إنَّ قومي راكزونَ رماحهمْ ... بما بينَ فلجٍ والمدينةِ من ثغْرِ
يذودونَ كلباً بالرِّماحِ وطيِّئاً ... وتغلبَ والصِّيدَ النَّواظرَ من بكْرِ
ألا إنَّ قومي لا يجنُّ بيوتهمْ ... مضيقٌ منَ الوادي إلى جبلٍ وعْرِ
ونحنُ منعْنا بالتَّناضبِ قومَنا ... وبتْنا على نارٍ تحرَّقُ كالفجْرِ
تضيءُ على القومِ الكرامِ وجوههمْ ... طوالُ الهوادي من واردٍ ومِن شقْرِ
نقائذَ أمثالَ القنا أعوجيَّةً ... وجرداً تُداوى بالغريضِ وبالنَّقْرِ
نعوِّدها الأقدامَ في كلِّ غمرةٍ ... وكرّاً بأيدٍ لا قصارٍ ولا عسْرِ
ويومٍ كأنَّ المصطلينَ بحرِّهِ ... وإنْ لم تكنْ نارٌ قيامٌ على الجمْرِ
صبرْنا لهُ حتَّى يريحَ وإنَّما ... تفرَّجُ أيامُ الكريهةِ بالصَّبْرِ
كأن رماح القوم في غمراته ... نواشط فراط نواضح في بئرِ
ونحنُ فليْنا لابنِ طيبةَ رأسهُ ... على مفرقِ الغالي بأبيضَ ذي أثْرِ
ونحنُ خضبْنا للخطيمِ قميصهُ ... بداميةٍ نجلاءَ من واضحِ النَّحْرِ
وحيَّ سليطٍ قد صبحْنا ووائلاً ... صبوحُ منايا غيرَ ماءٍ ولا خمْرِ
وليلةَ زيدِ الخيلِ نالتْ جيادُنا ... مُناها وحظّاً مِن أُسارى ومن ثأرِ
ونحنُ ثأرْنا من سميٍّ ورهطهِ ... وظبيانَ ما في حيِّ ظبيانَ من وتْرِ
وقاظَ ابنُ ذي الجدَّينِ وسط بيوتِنا ... وكرشاءَ في الأغلالِ والحلقِ السُّمْرِ
ونحنُ حبسْنا الخيلَ أن يتأوَّبوا ... على شجعاتٍ والجيادُ بنا تجري
حبسناهمْ حتَّى أقرُّوا بحكمِنا ... وأُدِّي أثقالُ الخميسِ إلى صخْرِ
أبي فارسُ الجونينِ قدْ تعلمونهُ ... ويومَ خفافٍ سارَ في لجبٍ مجْرِ
ونحنُ رأيْنا بينَ عمرٍو ومالكٍ ... كما شدَّ أعضادُ المهيضةِ بالجبْرِ
مئينَ ثلاثاً بعدما انشقت العصا ... وقد أُسلم الجاني وأتعبَ ذو الوفر
ولما رأى السَّاعونَ زلخاً مزلَّةٍ ... وسدَّ الثَّنايا غير مطَّلعٍ وعْرِ
نهضْنا بأثقالِ المئينَ فأصبحتْ ... عشيرتُنا ما مِن خبالٍ ولا كسْرِ
بعرجٍ يصمُّ الرَّاعيينَ حنينهُ ... ويجهدُ يومَ الوردِ ثائبةَ الجفْرِ
ومنَّا الذي أدَّى منَ الملكِ مازناً ... جميعاً فنجَّاها من القتلِ والأسْرِ
ونحنُ حويْنا بالقنا يومَ عانطٍ ... طريفاً ومولاها طريفَ بني عمرِو
ومولًى تداركناهُ من سوءِ صرعةٍ ... وقد قذفتْهُ الحربُ في لججٍ خضْرِ
كما انتاشَ مغموراً من الموتِ سابحٌ ... بأسبابِ صدقٍ لا ضعافٍ ولا بتْرِ
لنا هضبةٌ صمَّاءُ من صلبِ مالكٍ ... وأُسدُ فراءٍ لا توزَّعُ بالزَّجْرِ
إذا نهشلٌ ثابتْ إليَّ فما بنا ... إلى أحدٍ إلاَّ إلى الله من فقْرِ
يعارضُ أرواحَ الشِّتآنِ جابرٌ ... إذا أقبلتْ مِن نحوِ حورانَ أو مصْرِ
وقد علمتْ جمخُ القبائلِ أنَّني ... إذا ما رميتُ القومَ أُسمعُ ذا الوقْرِ
برجمِ قوافٍ تخرجُ الخبءَ في الصَّفا ... وتنزلُ بيضاتِ الأُنوقِ منَ الوكْرِ
وقال نهشل يرثي كثير بن الصَّلت الكندي، وكتبتها لجودتها، وهي قطعة ولم أدخلها في القصائد لأن شرطي القصائد:
حلفتُ فلمْ افجرْ بحيثُ ترقرقتْ ... دماءُ الهدايا من منًى وثبيرِ
لنعمَ الفتى عالَى بنو الصَّلتِ نعشهُ ... وأكفانهُ يخفقنَ فوقَ سريرِ
كأنَّكَ يا بنَ الصَّلتِ لم تحمِ مجحراً ... مضافاً ولمْ تجبرْ فناءَ فقيرِ
ولمْ تقضِ حاجاتِ الوفودِ ولم تقلْ ... لبيضٍ مصاليتَ ارحلُوا بهجيرِ
رأى في المطايا ذاتَ أشعبَ تامكٍ ... فكاستْ برجلٍ في المناخِ عقيرِ
فظلَّتْ عتاقُ الطَّيرِ تعفو مناخةً ... على سقطٍ من لحمِها وبقيرِ

فليتَ المطايا كنَّ عرِّينَ بعدهُ ... ولمْ تُطلب الحاجاتُ بعدَ كثيرِ
عمرو بن شأس
وقال عمرو بن شأس بن عبيد بن ثعلبة بن ذويبة بن مالك بن الحارث بن سعد ابن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار:
لا همَّ ربَّ النَّاسِ إنْ كذبتْ ... ليلى فعرَّ بثدْيها ثكْلُ
إنِّي صرمتهمْ وما صرَموا ... لا بلْ لكلِّ إخائهم دخْلُ
ليسَ الإخاءُ إذا اتَّبعتَ بأنْ ... يُقصى الخليلُ ويحرمُ السُّؤْلُ
فاقطعْ بلادهمْ بناجيةٍ ... كالسَّيفِ زايلَ غمدهُ النَّصْلُ
تعدو إذا تلعَ النَّهارُ كما ... قطعَ الجفاجفَ خاضبٌ هقْلُ
حمشُ المشاشِ عفارهُ لمعٌ ... قردٌ كأنَّ جرانهُ حبْلُ
وكأنَّما بمخطِّ منسمهِ ... من خلفهِ مِن خفِّهِ نعْلُ
تهدي الرِّكابَ إذا الرِّكابُ علتْ ... موراً كأنَّ جديدهُ سحْلُ
فانظرْ خليلي هلْ ترى ظعناً ... كالدَّومِ أو أشباهِها الأثْلُ
ينظرنَ من خللِ الخدورِ كما ... نظرتْ دوامجُ أيكةٍ كحْلُ
فيهنَّ جازيةٌ إذا بغمتْ ... تخشى السِّباعَ غذا لها طفْلُ
نحنُ الذينَ لحلْمنا فضلٌ ... قدماً وعندَ خطيبنا فصْلُ
وإذا نطاوعُ أمرَ سادَتنا ... لمْ يردِنا عجزٌ ولا بخْلُ
ولنا منَ الأرضينِ رابيةٌ ... تعلو الإكامَ وقودُها جزْلُ
ولنا إذا ارتحلتْ عشيرتُنا ... رحلٌ ونحنُ لرحلِنا أهْلُ
نعلو بهِ صدرَ البعيرِ ولمْ ... يوجدْ لنا في قومِنا كفْلُ
ولنا روايا يحملونَ لنا ... أثقالَنا إذْ يكرهُ الحمْلُ
ولنا فوارسُ يركبونَ لنا ... في الرَّوعِ لا ميلٌ ولا عزْلُ
متقاربٌ أطنابُ دورِهم ... زهرٌ إذا ما صرَّحتْ كحْلُ
المطعمونَ إذا النُّجومُ خوتْ ... وأحاطَ بالمتوحِّدِ المحْلُ
ندعو الدَّنيَّةَ أنْ تحلَّ بنا ... ونشدُّ حينَ تعاورَ النَّبْلُ
أمثالهمْ من خيرِ قومهمِ ... حسباً وكلُّ أرُومهمْ مثْلُ
لسنا نموتُ على مضاجعِنا ... باللَّيلِ بلْ أدواؤنا القتْلُ
وقال عمرو بن شأس:
متى تعرفِ العينانِ أطلالَ دمنةٍ ... لليلى بأعلى ذي معاركَ تدمَعا
على النَّحرِ والسِّربالِ حتَّى تبلَّهُ ... سجومٌ ولمْ تجزعْ إلى الدَّارِ مجزَعا
خليلي عوجا اليوم نقض لبانة ... وإلا تعوجا اليوم لا ننطلق معا
وإن تنظراني اليوم أتبعكما غداً ... قياد الجنيب أو أذل وأطوعا
وقد زعما أن قد أملَّ عليهما ... ثوائي وقيلي كلما ارتحلا أربعا
وما لبثةٌ في الحيِّ يوماً وليلةً ... بكافيكَ عمَّا قلتَ صيفاً ومربَعا
فجودا لليلى بالكرامةِ منكُما ... وما شئتُما أنْ تمنعا بعدُ فامنَعا
وما زالَ يُزجي حبُّ ليلى أمامهُ ... وليدينِ حتَّى عمرُنا قدْ تسعسَعا
تذكَّرتُ ليلى والمطيُّ كأنَّها ... قطا منهلٍ أمَّ القطاطَ فلعلَعا
تراهنَّ بالرُّكبانِ عن ليلةِ السُّرى ... عواسرَ يذعرنَ الشَّبوبَ المولَّعا
إذا هبطتْ خرقاً عليهِ غباوةٌ ... ركضنَ دقاقاً لبطُها قدْ تسلَّعا
وما جابةُ القرنينِ أدماءُ مُخرفٌ ... ترعَّى بذي نخلٍ شعاباً وأفرعا
بأبعدَ من ليلى نوالاً فلا تكنْ ... بذكراك شيئاً لا يواتيك مولعا
بني أسدٍ هلْ تعلمونَ بلاءنا ... إذا كانَ يومٌ ذا كواكبَ أشنعا
إذا كانتِ الحوُّ الطِّوالُ كأنَّما ... كساها السِّلاحُ الأرجوانُ المضلَّعا
نذودُ الملوكَ عنكمُ وتذودُنا ... إلى الموتِ حتَّى يضبعوا ثمَّ نضبعا
وغسّانَ حتَّى أسلمتْ سرواتنا ... عديّاً وكانَ الموتُ في حيثُ أوقعا
ومن حجرٍ قد أمكنتكمْ رماحنا ... وقد سارَ حولاً في معدٍّ وأوضعا
وكائنْ رددنا عنكمُ من متوَّجٍ ... يجيءُ أمامَ الألفِ يردي مقنَّعا
ضربنا يديهِ بالسُّيوفِ ورأسهُ ... غداةَ الوغى في النَّقعِ حتَّى تكنَّعا
بكلِّ رفيقِ الشَّفرتينِ مهنَّدٍ ... حميدٍ إذا ما ماطرُ الموتِ أقلعا
وقال عمرو بن شأسٍ:

أتصرمُ لهواً أمْ تُجدُّ لها وصلا ... وما صرمتْ لهوٌ لذي خلَّةٍ حبْلا
وما الوصلُ من لهوٍ بباقٍ جديدهُ ... ولا صائرٍ إلاَّ المواعيدَ والمطْلا
أباحتْ فلاةً من حمى القلبِ لم تكنْ ... أُبيحتْ على عهدِ الشَّبابِ ولا كهْلا
فإنْ تكُ لهوٌ أقصدتكَ فإنَّها ... تريشُ وتبري لي إذا جئتها نبْلا
على أنَّني لم أبلُ قولاً علمتهُ ... لغانيةٍ إلاَّ وجدتُ له دخلا
وردَّ جواري الحيّ لما تحمَّلوا ... لبيْنهمِ منا مخيَّسةً بزْلا
فتبَّعْتُ عينيَّ الحمولَ صبابةً ... وشوقاً وقد جاوزنَ من عالجٍ رمْلا
رفعنَ غداةَ البينِ خزّاً ويُمنةً ... وأكسيةَ الدِّيباجِ مبطنةً خملا
على كلِّ فتْلاءِ الذِّراعينِ جسرةٍ ... تمرُّ على الحاذينِ ذا خصلٍ جثْلا
وأعْيسَ نضّاخِ المقذِّ مفرَّجٍ ... يخبُّ على الحزّانِ يضْطلعُ الحملا
تناضلُ أيديهما بمستدرج الحصى ... وإنْ عيجَ من أعناقها وبلتْ وبلا
ظعائنَ من ليثِ بن بكرٍ كأنَّها ... دُمى العينِ لم يخزينَ عمّاً ولا بعلا
هجانٌ إذا استيقظنَ من نومةِ الضُّحى ... قعدنَ فباشرنَ المساويكَ والكحلا
رعابيبُ يركضنَ المُروطَ كأنَّما ... يطأنَ إذا أعنقنَ في جددٍ وحلا
ألا أيُّها المرءُ الذي ليسَ منصتاً ... ولا قائلاً إن قال حقًّا ولا عدلا
إذا قلتَ فاعلمْ ما تقولُ ولا تكنْ ... كحاطبِ ليلٍ يجمعُ الدِّقَّ والجزلا
فلو طُفتَ بينَ الشَّرقِ والغربِ لم تجدْ ... لقومٍ على قومي ولو كرموا فضلا
أعزَّ وأمضى في الصَّباحِ فوارساً ... إذا الخيلُ جالتْ في أعنَّتها قبلا
إذا الشَّولُ راحتْ وهي حدبٌ حدابرٌ ... وهبَّتْ شمالاً حرجفاً تُحفرُ الفحلا
رأيتَ ذوي الحاجاتِ يتَّبعوننا ... نهينُ لهمْ في الحجرةِ المالِ والرِّسلا
نقيمُ بدارِ الحزمِ ليسَ مزيلُنا ... مقاساتنا فيها الشَّصائصَ والأزلا
لنا السُّورةُ العليا وأوَّلُ شدَّةٍ ... إذا نحنُ لاقينا الفوارسَ والرَّجلا
نفينا سُليماً عن تهامةَ بالقنا ... وبالجردِ يمعلنَ السَّخاخَ بنا معلا
مضبَّرةً قبَّ البطونِ ترى لها ... متوناً طوالاً أُدمجتْ وشوًى عبلا
إذا امتُحنتْ بالقدِّ جاشتْ وأزبدتْ ... وإن راجعتْ تقريبها نقلتْ نقلا
بكلِّ فتًى رخو النِّجادِ سميدعٍ ... وأشيبَ لم يخلقْ جباناً ولا وغْلا
بأيديهمِ سمرٌ شدادٌ متونها ... من الخطِّ أو هنديَّةٌ أُحدثتْ صقلا
إذا ما فرغنا من قراعِ كتيبةٍ ... صرفنا إلى أخرى يكونُ لهمْ شغلا
وإن يأتنا ذو حاجةٍ يلفِ وسطنا ... مجالسَ ينفي فضلُ أحلامها الجهلا
تقولُ فنرضى قولها ونُعينها ... بقولٍ إذا ما أخطأ القائلُ الفصلا
مصاليتُ أيسارٌ إذا هبَّتِ الصَّبا ... نعفُّ ونغني عن عشيرتنا الثِّقلا
وعاذلةٍ هبَّتْ بليلٍ تلومني ... فلمّا غلتْ في اللَّومِ قلتُ لها مهلا
ذريني فإنَّني لا أرى الموتَ تاركاً ... بخيلاً ولا ذا جودةٍ ميِّتاً هزلا
متى ما أُصبْ دنيا فلستُ بكائنٍ ... عليها ولو أكثرتِ عاذلتي قُفلا
وماءٍ بموماةٍ قليلٍ أنيسهُ ... كأنَّ بهٍ من لونِ عرمضهِ غسلا
حبستُ بهِ خوصاً أضرَّ بنيِّها ... سرى اللَّيلِ واستفنى لها البلدَ المحلا
وقال عمرو بن شأسٍ وكانت له امرأة من رهطه يقال لها أم حسان بنت الحارث، وكان له ابن من أمةٍ سوداء اسمه عرار، وكانت تعيره به، وتؤذي عراراً ويؤذيها ويشتمها. فقال فيها عمرو بن شأس، وقال ابن الأعرابي: قال هذه القصيدة في الإسلام وأدرك الإسلام، وهو شيخ كبير:
ديارَ ابنةِ السَّعديِّ هندٍ تكلَّمي ... بدافعةِ الحومانِ والسَّلحِ من رممْ
لعمرُ ابنةِ السَّعديِّ إنِّي لأتَّقي ... خلائقَ تؤتى في الثّراءِ وفي العدمْ
وقفتُ بها ولم أكنْ قبلُ أرتجي ... إذا الحبلُ من إحدى حبائبيَ انصرمْ
وإنِّي لمزرٍ بالمطيّ تنقُّلي ... عليهِ وإيقاعُ المهنَّدِ بالعصَمْ

وإنِّي لأعطي غثَّها وسمينها ... وأسري إذا ما الليلُ ذو الظُّلمةِ ادلهمْ
إذا الثَّلجُ أضحى في الدِّيارِ كأنَّهُ ... مناثرُ ملحٍ في السُّهولِ وفي الأكمْ
حذاراً على ما كانَ قدَّمَ والدي ... إذا روّحتهمْ حرجفٌ تطردُ الصِّرمْ
وأتركُ ندماني يجرُّ ثيابهُ ... وأوصالهُ من غيرِ جرحٍ ولا سقمْ
ولكنَّها من ريَّةٍ بعدَ ريَّةٍ ... معتَّقةٍ صهباءَ راووقُها رذمْ
من الغالياتِ من مدامٍ كأنَّها ... مذابحُ غزلانٍ يطيبُ بها النَّسمْ
وإذ إخوتي حولي وإذ أنا شامخٌ ... وإذ لا أطيعُ العاذلاتِ من الصَّممْ
ألمْ يأتها أنِّي صحوتُ وأنَّني ... تحلَّمتُ حتَّى ما أعارمُ من عرمْ
وأطرقتُ إطراقَ الشُّجاعِ ولو يرى ... مساغاً لنابيْه الشُّجاعُ لقدْ أزمْ
أرادت عراراً بالهوانِ ومن يردْ ... عراراً لعمري بالهوانِ فقدْ ظلمْ
فإن عراراً إن يكن غير واضح ... فإني أحبُّ الجون ذا المنكب العمم
فإنَّ عراراً إن يكن ذا شكيمةٍ ... تقاسينها منه فما أملكُ الشِّيمْ
فإنْ كنتِ منِّي أو تريدينَ صحبتي ... فكوني له كالسَّمنِ ربَّتْ له الأدمْ
وإلا فسيري مثلَ ما سارَ راكبٌ ... تيمَّمَ خمساً ليسَ في سيرهِ يتمْ
وقد علمتْ سعدٌ بأنِّي عميدها ... قديماً وإنِّي لستُ أهضمُ من هضمْ
خزيمةُ ردَّاني الفعالَ ومعشرٌ ... قديماً بنوا لي سورةَ المجدِ والكرمْ
وقال عمرو بن شأسٍ:
قفا تعرفا بينَ الرَّحى فقراقرٍ ... منازلَ قد أقوينَ من أمِّ نوفلِ
تهادتْ بها هوجُ الرِّياحِ كأنَّما ... أجلنَ الذي استودعنَ منها بمنخلِ
منازلُ يبكينَ الفتى فكأنَّما ... تسحُّ بغربيْ ناضحٍ فوق جدولِ
يسحّانِ ماءَ البئرِ عن ظهرِ شارفٍ ... بأمراسِ كتّانٍ وقدٍّ موصَّلِ
كما سال صفوانٌ بماءِ سحابةٍ ... علتْ رصفاً واستكرهتْ كلَّ محفلِ
تراءتْ لنا جنِّيَّةٌ في مجاسدٍ ... وثوبيْ حريرٍ فوقَ مرطٍ مرحَّلِ
وأهللتُ لما إنْ عرفتُ بأنَّهُ ... على الشَّحطِ طيفٌ من حبيبٍ مؤمّلِ
وحلَّتْ بأرضِ المنحنى ثمَّ أصعدتْ ... بعقدةَ أو حلَّتْ بأرضِ المكلَّلِ
يحلُّ بعرقٍ أو يحلُّ بعرعرٍ ... ففاءتْ مزارَ الزّائرِ المتدلِّلِ
وخرقٍ كأهدامِ العباءِ قطعتهُ ... بعيدَ النِّياطِ بينَ قُفٍّ وأرملِ
بناجيةٍ وجناءَ تستلبُ القطا ... أفاحيصهُ زجري إذا التفتتْ حلي
ونحنُ قعودٌ في الجلاميدِ بعدما ... مضى نصفُ ليلٍ بعدَ ليلٍ مليَّلِ
لقطنَ من الصَّحراءِ والقاعِ قُرزحاً ... له قبصٌ كأنها حبُّ فلفلِ
إذا صدرتْ عن منهلٍ بعدَ منهلٍ ... إلى منهلٍ تردي بأسمرَ معملِ
لها مقلتا وحشيَّةٍ أمِّ جؤذرٍ ... وأتلعُ نهّاضٌ مقلَّدُ جلجُلِ
إلى حاركٍ مثلِ الغبيطِ وتامكٍ ... على صلبها كأنَّهُ نصبُ مِجدلِ
وإنِّي لأشوي للصِّحابِ مطيَّتي ... إذا نزلوا وحشاً إلى غيرِ منزلِ
فباتوا شباعاً يدهنونَ قسيَّهمْ ... لهمْ مجلدٌ منها وعلَّقتُ أحبلي
وأضْحتْ على أعجازِ عوجٍ كأنَّها ... قسيُّ سراءٍ قُرِّمتْ لم تعطَّلِ
وعرجلةٍ مثلِ السُّيوفِ رددتها ... غداةَ الصَّباحِ بالكميّ المجدَّلِ
وأيسارِ صدقٍ قد أفدتُ جزورهمْ ... بذي أودٍ خبشِ المذاقةِ مسبلِ
حسّانُ الوجوهِ ما تذمُّ لحامهمْ ... إذا النّاسُ حلُّوا جزعَ حمضٍ مجذَّلِ
وألوتْ بريعانِ الكنيفِ وزعزعتْ ... رؤوسَ العضاه من نوافح شمألِ
ترى أثرَ العافينَ حولَ جفانهمْ ... كما اختلفتْ وِرداً مناسمُ همَّلِ
على حوضها بالجوِّ جوّ قُراقرٍ ... إذا رويتْ من منهلٍ لم تحوَّلِ
ألا تلكَ أخلاقُ الفتى قد أتيتها ... فلا تسألوني واسألوا كلَّ مُبتلي
غداةَ بني عبسٍ بنا إذ تنازلوا ... بكلِّ رقيق الحدِّ لم يتفلَّلِ
من الحيّ إذ هرَّتْ معدٌّ كتيبةً ... مُظاهرةً نسجَ الحديدِ المُسربلِ
إذا نزلتْ في دارِ حيٍّ برتهمُ ... وأحمتْ عليهمْ كلَّ مبدًى ومنهلِ

أقمنا لهمْ فيها سنابكَ خيلنا ... بضربٍ يفضُّ الدّارعينَ مُنكِّلِ
إلى اللَّيلِ حتَّى ما ترى غيرَ مسلمٍ ... قتيلٍ ومجموعِ اليدينِ مسلسلِ
ونحنُ قتلنا الأجدلينِ ومالكاً ... أبا منذرٍ والجمعُ لم يتزيَّلِ
وقُرصاً أزالتهُ الرِّماحُ كأنَّما ... ترامتْ به من حالقٍ فوقَ مهبلِ
وحُجراً قتلَنا عُنوةً فكأنَّما ... هوى من حفافيْ صعبةِ المتنزِّلِ
فما أفلحتْ في الغزوِ كندةُ بعدها ... ولا أدركوا مثقالَ حبَّةِ خردلِ
سوى كلماتٍ من أغانيِّ شاعرٍ ... وقتلى تمنَّى قتلها لم تُقتَّلِ
ونحنُ قتلنا بالفراتِ وجزعهِ ... عديّاً فلمْ يكسر به عودُ حرملِ
فلم أرَ حيّاً مثلهمْ حينَ أقبلوا ... ولمْ أرَ حيّاً مثلنا أهلَ منزلِ
فقُلنا أقيموا إنَّهُ يومَ مأقطٍ ... قسيٌّ تبذُّ المُقرفينَ معضَّلِ
بأيديهمِ هنديَّةٌ تختلي الطُّلى ... كما فضَّ جاني حنظلٍ نضرَ حنظلِ
بكلِّ فتًى يعصى بكلِّ مهنَّدٍ ... ندٍ غير مِبطان العشيّاتِ عثجلِ
كعجلِ الهجانِ الأدمِ ليسَ برمَّحٍ ... ولا شنجٍ كزِّ الأناملِ زمَّلِ
ومن لا تكنْ عاديَّةٌ يُهتدى بها ... لوالدهِ يُفخرْ عليه ويُفسلِ
عززنا فما للمجدِ من متحوِّلٍ ... سوى أهلهِ من آخرينَ وأوَّلِ
وقد علمتْ عُليا معدٍّ بأنَّنا ... على الهولِ أهلُ الرّاكبِ المتغلغلِ
وقال عمرو بن شأسٍ:
تذكَّر حبَّ ليلى لاتَ حينا ... وأمسى الشَّيبُ قد قطعَ القرينا
تذكَّر حبُّها لا الدَّهرُ فانٍ ... ولا الحاجاتُ من ليلى قُضينا
وكانتْ نفسهُ فيها نفوساً ... إذا لاقيتها لا يشتفينا
وقد أبدتْ لهُ لو كان يصحو ... عشيَّةَ عاقلٍ صرماً مُبينا
فإنْ صارمتني أو كان كونٌ ... وأجدرْ بالحوادثِ أن تكونا
فلا تُمنيْ بمطروقٍ إذا ما ... سرى في القومِ أصبحَ مُستكينا
يُطيعُ ولا يطاعُ ولا يبالي ... أغثّاً كانَ حظُّكَ أم سمينا
ويُضحي في فنائكَ مُجلخدّاً ... كما ألقيتَ بالمتنِ الوضينا
إذا اشتدَّ الشِّتاءُ على أُناسٍ ... فلا قدحاً يدرُّ ولا لبونا
أبلِّي إن بللتِ بأرْيحيٍّ ... من الشُّبّانِ لا يُضحي بطينا
يؤمُّ مخارماً بالقومِ قصداً ... وهنَّ لغيرهِ لا يبتغينا
وخلتُ ظعائناً من آل ليلى ... بجنبِ عُنيزةٍ أُصلاً سفينا
جآجئها تشقُّ اللُّجَّ عنها ... ويبدي ماؤها خشباً دهينا
يؤمُّ بها الحداةُ مياهَ نخلٍ ... ويُبدينَ المحاجرَ والعيونا
ظعائنُ لم يقمنَ إلى سبابٍ ... ولم يعلمنَ من أهلٍ مهينا
إذا وضعتْ برودَ العصبِ عنها ... حسبتَ كشوحها ريطاً مصونا
فإنّا ليلُ مذْ برئَ اللَّيالي ... بُرينا من سراةِ بني أبينا
فلا وأبيكِ ما ينفكُّ منّا ... من السّاداتِ حظٌّ ما بقينا
ونحنُ إذا يريحُ اللَّيلُ أمراً ... يهمُّ النّاسَ عصمةَ من يلينا
ونعمَ فوارسُ الهيجا إذا ما ... رأينا الخيلَ ممسكةً عزينا
ومُرقصةٍ منعناها إذا ما ... رأتْ دونَ المحافظةِ اليقينا
يذكِّرها إذا وهلتْ بنيها ... ونحميها كما نحمي بنينا
إذا افترشَ العواليَ بالعوالي ... وكان القومُ في الأبدانِ جونا
وقد علمتْ بنو أسدٍ بأنّا ... نُطاعنُ بالرِّماحِ إذا لُقينا
وقال عمرو بن شأسٍ:
أتعرفُ منزلاً من آلِ ليلى ... أبى بالثَّعلبيَّةِ أن يريما
أربَّ بها من الأرواحِ سافٍ ... فغيَّرنَ المنازلَ والرُّسوما
فردَّا فيهِ طرفكُما تُبينا ... لليلى منزلاً أقوى قديما
بواقيَ أبصرٍ ورمادَ دارٍ ... وسعفاً في مناكبها جُثوما
وقد تغنى بها ليلى زماناً ... عروباً تونقُ المرءَ الحليما
لياليَ تستبيكَ بجيدِ ريمٍ ... وعينيْ جؤذرٍ يقرُو الصَّريما
وأنفٍ مثلِ عرقِ السَّامِ حرٍّ ... وتسمعُ منطقاً منها رخيما
برَهرهةٌ يحارُ الطَّرفُ فيها ... وتُبدي واضحاً فخماً وسيما

وتبسمُ عنْ شتيتِ النَّبتِ غرٍّ ... عذابٍ تُبرئُ الدَّنفِ السَّقيما
تبذُّ الغانياتِ بكلِّ أرضٍ ... إذا أخذتْ وشاحاً أو بَريما
وتملأُ عينَ مَن يلهُو إليها ... ولستَ بواجدٍ فيها مَذيما
وإنَّا النَّازلونَ بكلِّ ثغرٍ ... ولو لمْ تلقَه إلاَّ هَسيما
ترَى فيها الجيادَ مسوَّماتٍ ... معَ الأبطالِ يعلكنَ الشَّكيما
وجمعاً مثلَ سلمى مكفهرّاً ... تشبِّههمْ إذا اجتمعوا قُروما
بمثلهمِ تُلاقي يومَ هيْجا ... إذا لاقيتَ بأساً أو خُصوما
نفيْنا وائلاً عمَّا أرادتْ ... وكانتْ لا تحاولُ أنْ تَريما
وقال عمرو بن شأس:
ألم تربعْ فتُخبركَ الرُّسومُ ... على فرتاجَ والطَّللُ القديمُ
تحمَّلَ أهلُها وجرتْ عليها ... رياحُ الصَّيفِ والسَّبطُ المديمُ
وندمانٍ يزيدُ الكأسَ طيباً ... سقيتُ إذا تغوَّرتِ النُّجومُ
رفعتُ برأسهِ فكشفتُ عنهُ ... بمعرقةٍ ملامةَ مَن يلومُ
ولمَّا إنْ تنبَّهَ قامَ خرقٌ ... منَ الفتيانِ مختلقٌ هضومُ
إلى وجناءَ ناجيةٍ فكاستْ ... وهَى العرقوبِ منها والصَّميمُ
فأشبعَ شربهُ وجرَى عليهمْ ... بإبريقينِ كأسهُما رذومُ
تراها في الإناءِ لها حميَّا ... كميتاً مثلَ ما فقعَ الأديمُ
ترنِّجُ شربَها حتَّى تراهمْ ... كأنَّ القومَ تنزِفهمْ كلومُ
فبتْنا بينَ ذاكَ وبينَ مسكٍ ... فيا عجَبي لعيشٍ لو يدومُ
نطوِّفُ ما نطوِّفُ ثمَّ يأوي ... ذوو الأموالِ منَّا والعديمُ
إلى حفرٍ أسافلُهنَّ جوفٌ ... وأعلاهنَّ صفَّاحٌ مقيمُ
وقمْنا والرِّكابُ مخيَّساتٌ ... إلى فتلٍ مرافقهنَّ كومُ
كأنَّا والرِّحالَ على صوارٍ ... برملِ جُرادَ أسلمَها الصَّريمُ
وقال عمرو بن شأس:
أتعرفُ مِن ليلى رسومَ معرَّسِ ... بلينَ وما يقدمْ بهِ العهدُ يدرسِ
وما ربُّ صرفٍ دنُّها حد خدِيَّةٌ ... تميتُ عظامَ الشَّاربِ المتكيِّسِ
يعادُ لها إبريقُها وزجاجُها ... بأنعمِ عيشٍ مِن شواءٍ وأكؤسِ
بأنعمِ منَّا ليلةً نزلتْ بنا ... تلمُّ وأُخرى ليلةً بالمغلَّسِ
تمضَّتْ إلينا لمْ يرِب عينَها القذى ... لكثرةِ نيرانٍ وظلماءِ حندسِ
وكائنْ رآها القلبُ أمَّ غزيِّلٍ ... كطوقِ الفتاةِ هالكٍ عندَ منعسِ
أطاعَ لها نبتٌ مِن المردِ يانعٌ ... ظليلُ المطافِ مِن مقيلٍ ومكنسِ
وخرقٍ يخافُ الرَّكبُ أنْ ينطقوا بهِ ... قطعتُ بفتلاءِ الذِّراعينِ عرمسِ
لها دولجٌ دوحٌ متى ما تنلْ بهِ ... مدى الغبِّ أوْ تربعْ بهِ الغدَ تخمسِ
يظلُّ يغنِّيهِ الحمامُ كأنَّهُ ... مآتمُ أنواحٍ لدى جنبِ مرمسِ
مروحٍ إذا جالتْ لصوتِ غضارةٍ ... منَ اللَّيلِ أو ريعتْ لنبأةِ هجرسِ
لها عجزٌ مثلُ الرِّتاجِ يزينُها ... إلى قردٍ ينْمي وليَّةَ محبسِ
وخطمٌ كبرطيلِ القيونِ ومشفرٌ ... خريعٌ كنعلِ السُّندسيّ ابن أقوسِ
وعينٌ كمرآةِ الصَّناعِ وهامةٌ ... كجندلةِ الضَّبِّ الأصمِّ المجرّسِ
ترَى أثرَ الأنساعِ فيها كأنَّها ... مواتحُ قاعٍ ذي يبيسٍ وعضرسِ
تدقُّ الحصى بمجمراتٍ ومنسمٍ ... أصمَّ على عظمِ السُّلامى ملدَّسِ
بني أسدٍ هلْ تعلمونَ بلاءنا ... إذا كانَ يومٌ يستعانُ بأنفُسِ
قراعَ عدوٍّ أوْ دفاعَ عظيمةٍ ... إذا احتُضرتْ يعطى لها كلُّ منفسِ
لمختبطٍ منكمْ كأنَّ ثيابهُ ... نبشنَ لحولٍ أو ثيابِ مقدِّسِ
لهُ ولدةٌ سفعُ الوجوهِ كأنَّهمْ ... إذا اقتربوا منهُ جراءَ مقرقسِ
قطيفتهُ هدمٌ ومأواهُ غبَّةٌ ... إلى ولدةٍ دبرِ الحراقفِ بؤَّسِ
هنأناهنُ حتَّى تنادَوا لحالهمْ ... بمعتلجٍ كأنَّهُ لونُ سندسِ
ترَى زهرَ الحوذانِ حولَ رياضهِ ... يضيءُ كلونِ الأتحميِّ المورَّسِ
ومعتركٍ ضنكٍ بهِ قصدُ القنا ... شهدْنا فلمْ نعجزْ ولم نتدلَّسِ
وكأنَّ مجر الخيلِ أرسانَها بهِ ... مساقطُ أرماحِ القنا في معرَّسِ

إذا ركضَ الأبطالُ مِن خشيةِ الرَّدى ... كركضِ الغطاطِ في يدِ المتنمِّسِ
الكميت
وقال الكميت بن معروف بن الكميت بن ثعلبة الفقعسي:
أرى العينَ مذْ لمْ تلقَ ديلمَ راجعتْ ... هواها القديمَ في البُكا فهوَ دابُها
وما ذكرتْ إلاَّ أكفكفُ عبرةً ... بعينيَ منها ملؤُها أو قرابُها
دنتْ دنوةً مِن دارِنا ثمَّ أصبحتْ ... بمنزلةٍ ناءٍ علينا منابُها
ولوْ كنتُ أرجو أنْ أنالَ كلامَها ... إذا جئتُ لمْ يبعدْ عليَّ طلابُها
وما عنْ قلًى هجرانُها غيرَ أنَّهُ ... عداني ارتقابي قومَها وارتقابُها
وإنِّي ليَعروني الحياءُ معَ الذي ... يُخامرني من ودِّها وأهابُها
وأعرضُ عنها والفؤادُ كأنَّما ... يصلَّى بنارٍ يعتريهِ التهابُها
فللّهِ نفسٌ كاذبتْني عنِ المُنى ... وعنْ ذكرِها والنَّفسُ جمٌّ كذابُها
ودرُّ هوًى يومَ المنيفةِ قادَني ... لجاذبةِ الأقرانِ بادٍ خلابُها
إذا هيَ حلَّتْ بالفراتِ ودجلةٍ ... وحرَّةِ ليلى دونَ أهلِي ولابُها
فليتِ حمامَ الطَّفِّ يرفعُ حاجَنا ... إليها ويأتينا بنجدٍ جوابُها
سلِ القلبَ يا بنَ القومِ ما هو صانعٌ ... إذا نيَّةٌ حانتْ وخفَّتْ عقابُها
أتجزعُ بعدَ الحلمِ والشَّيبِ أنْ ترى ... دجنَّةَ لهوٍ قدْ تجلَّى ضبابُها
ألا يا لقومٍ للخيالِ الذي سرَى ... إليَّ ودُوني صارةٌ فعنابُها
سرى بعدَما غارَ السِّماكُ ودونَنا ... مياهُ حصيدٍ عينُها فكثابُها
عسَى بعدَ هجرٍ أنْ يداني بينَنا ... تصعُّدُ أيدي العيسِ ثمَّ انصبابُها
وجوبُ الفَيافي بالقلاصِ قدِ انطوتْ ... ولا يقطعُ الموماةَ إلاَّ اجتيابُها
بكلِّ سبنْتاةٍ إذا الخمسُ ضمَّها ... تقطِّعُ أضغانَ النَّواجي هبابُها
إذا وردتْ ماءً عنِ الخمسِ لمْ يكنْ ... على الماءِ إلاَّ عرضُها وانجدابُها
وإن أوقدَ الحَرُّ الحزابيَّ فارْتقى ... إلى كلِّ نشزٍ محزئلٍّ سرابُها
حدتْها توالٍ لاحقاتٌ وقدَّمتْ ... هواديها أيدٍ سريعٌ ذهابُها
بهنَّ يُداني عرضُ كلِّ تنوفةٍ ... يموتُ صدًى دونَ المياهِ غرابُها
وإنْ حلَّتِ الظَّلماءُ بالبيدِ واسْتوى ... على مَن سرى بطنانُها وحدابُها
تخوَّضتُها حتَّى يفرِّجنَ غمَّها ... وينجابُ عنْ أعناقهنَّ ثيابُها
يصافحنَ حدَّ الشَّمسِ كلَّ ظهيرةٍ ... إذا الشَّمسُ فوقَ البيدِ ذابَ لعابُها
بجائلةٍ تحتَ الأحجَّةِ هجَّجتْ ... إلى همعاتٍ مستظلٍّ حجابُها
تخطَّى بها الأهوالَ كلُّ شملَّةٍ ... إذا عصبتْ عنِّي السَّديسينِ نابُها
تنيفُ برأسٍ في الزِّمامِ كأنَّهُ ... قدومُ فؤوسٍ ماجَ فيها نصابُها
وقال الكميت أيضاً:
حيِّيا بالفراتِ رسماً محِيلا ... أذهبتهُ الرِّياحُ إلاَّ قلِيلا
أُسُّ نؤيٍ تثلَّمتْ عضداهُ ... ورماداً أبدى خفيّاً ضئِيلا
مثلُ فرخِ الحمامِ قدْ ذهَّبتهُ ... عصفُ الرِّيح بكرةً وأصِيلا
مرَّةً تعتَفيهِ ريحٌ جنوبٌ ... ومراداً تهبُّ ريحاً شمولا
أيْ خليليَّ عرِّجا إنَّ هنداً ... أصبحتْ تبتغي علينا الذُّحولا
زعمتْ أنَّني ذهلتُ وليتي ... أستطيعُ الغداةَ عنها الذُّهولا
أكذبُ العالمينَ وأياً وعهداً ... كاعبٌ ما تنِي تلوَّنَ غولا
يقصرُ الظِّلُّ والحجابُ عليها ... لا ترومُ الخروجَ إلاَّ قلِيلا
ملأتْ كفَّها خضاباً وحلياً ... ثمَّ أبدتْ لنا بناناً طفِيلا
فترى لوْنها نقيّاً بهيّاً ... وترى طرفَها غضيضاً كحِيلا
قلْ لهندٍ ولا أظنُّ ثواباً ... عندَ هندٍ ولا عطاءً جزِيلا
لمْ يدعْ بينكمُ غداةَ احْتملتمْ ... من فراضَ الفراتِ لي معقولا
أذُرى النَّخلِ بالسَّوادِ رأينا ... أم رأينا لآلِ هندٍ حمولا
رفعتْ بزَّها على بغلاتٍ ... ينتقلنَ البلادَ ميلاً فمِيلا
فذرِ اللَّهوَ والتَّصابيَ وامدحْ ... مَن يحبُّ النَّدى ويُعطي الجزِيلا

بينَ زيدٍ وبينَ آلِ سعيدٍ ... أُعطي الحلمَ منهمُ والقبولا
يا بنَ زيدٍ وأنتَ خيرُ قريشٍ ... جمَّةً بعدَ نجدةٍ وحفِيلا
أنت أدنتيني وسهلت حاجي ... وجعلت الحزون منها السهولا
ورددتَ الغداةَ عُودي وريقاً ... بعدَما كنتُ خفتُ منهُ الذُّبولا
فإذا ما فعلتَ أحسنتَ فعلاً ... وإذا ما تقولُ أحسنتَ قِيلا
وإذا ما يقالُ أيُّ خليلٍ ... لامرئٍ بعدُ كنتَ أنتَ الخلِيلا
يكثرُ الجودُ والسَّماحُ إليهِ ... ويردُّ الظَّلومَ عنهُ الجهولا
ووجدْنا سماحَكم يا بنَ زيدٍ ... فاضلاً للسَّماحِ عرضاً وطولا
أنتَ غيثٌ يعاشُ في كنفيهِ ... حينَ تُمسي البلادُ جدباً محولا
وخليجٌ منَ الفراتِ إذا ما ... أحمدَ الرَّائدُ الثُّمامَ الحمِيلا
وجوادٍ وهبتهُ وغلامٍ ... ونجيبٍ ترَى عليهِ الشَّلِيلا
قدْ حبوتَ امرءاً أثابكَ مدحاً ... ثمَّ زوَّدتهُ علاةً ذمُولا
وقال الكميت:
ألا يا لقومٍ أرَّقتْ أمُّ نوفلِ ... وصحبي هجودٌ بينَ غيٍّ وغرَّبِ
وليلةَ فيْفا نخلتينِ طرقتِنا ... ونحنُ بوادٍ ذي أراكٍ وتنضبِ
فنبَّهتُ أصحابي فقامُوا على الكرى ... إلى ساهماتٍ في الأزمَّةِ لغَّبِ
وقمتُ إلى عيرانةٍ قدْ تخدَّدتْ ... وقاستْ يداها كلَّ خمسٍ مذبّبِ
فلمَّا استوتْ أقدامُنا وتمكَّنتْ ... إلى كلِّ غرزٍ بينَ دفٍّ ومنكبِ
قبصنَ بنا قبصَ النَّحائصِ راعَها ... توجُّسُ رامٍ خفنهُ عندَ مشربِ
فقلتُ لهمْ أمُّوا هدى القصدِ وارْفعوا ... بسيرٍ يدنِّي حاجةَ الرّكبِ مهذبِ
فأصبحنَ ينهضنَ الرِّحالَ وترْتمي ... رؤوسَ المهارَى باللُّغامِ المعصَّبِ
بصحراءَ مِن نجدٍ كأنَّ رعانَها ... رجالٌ قيامٌ في ملاءٍ مجوبِ
غداةَ يقولُ القومُ أكللتَ وانْبرى ... قوى العيسِ خمسٌ بعدَ خمسٍ عصبصبِ
إذا ما المهارَى بلَّغتنا بلادَها ... فبعدَ المهارَى مِن حسيرٍ ومتعبِ
خليليَّ من لا يعنِهِ الهمُّ لا يزلْ ... خليّاً ومَن يستحدثِ الشَّوقَ يطربِ
ومَن لا يزلْ يُرجى بغيبٍ إيابهُ ... ويرمي به الأطماعُ في الهولِ يشجبِ
وقفٍّ تظلُّ الرِّيحُ عاصفةً بهِ ... كأنَّ قراهُ في الضُّحى ظهرُ هوزبِ
شججتُ الصُّوى مِن رأسهِ أوْ خَرمتهُ ... بشعثٍ وأنقاضِ الوجيفِ المأوِّبِ
وقدْ وقفتْ شمسُ النَّهارِ وأوقدتْ ... ظهيرَتها ما بينَ شرقٍ ومغربِ
وديقةِ يومٍ ذي سمومٍ تنزَّلتْ ... بهِ الشَّمسُ في نجمٍ منَ القيظِ ملهبِ
وقدْ ظلَّ حرباءُ السَّمومِ كأنَّهُ ... ربيئةُ قومٍ ماثلٌ فوقَ مرقبِ
وفتيانِ صدقٍ قدْ بنيتُ عليهم ... خباءً كظلِّ الطَّائرِ المتقلِّبِ
قليلاً كتحليلِ القطا ثمَّ قلَّصتْ ... بنا طالباتُ الحقِّ من كلِّ مطلبِ
بدويَّةٍ لا يبلغُ القومُ منهلاً ... بها دونَ خمسٍ يتعبُ القومَ مطنبِ
قليلٍ بها الأصواتُ إلاَّ تفجُّعاً ... مِن الذِّئبِ أو صوتِ الصَّدى المتحوِّبِ
بها العينُ أرفاضاً كأنَّ سخالَها ... وقوفَ عذارَى سوقطتْ حولَ ملعبِ
وكلُّ لَياحٍ بالفلاةِ إذا غدا ... مشى فزعاً كالرَّامحِ المتنكِّبِ
قطعتُ بمقْلاقِ الوشاحِ كأنَّها ... طريدةُ وحشٍ أفلتتْ مِن مكلّبِ
وإنِّي لقوَّالٌ لكلِّ قصيدةٍ ... طلوعِ الثَّنايا لذةٍ للمشبِّبِ
إذا أُنشدتْ لذَّتْ إلى القومِ وارتمَى ... بها كلُّ ركبٍ مصعدٍ أو مصوِّبِ
وإنِّي لأسعى للتَّكرُّمِ راغباً ... ومَن يحصِ أخلاقَ التَّكرُّمِ يرغبِ
إلى شيمةٍ منِّي وتأديبِ والدي ... ولا يعرفُ الأخلاقَ مَن لم يؤدَّبِ
وقد يخذلُ المولى دعايَ ويحتَذي ... أذاتي وإن يُعزلْ بهِ الضَّيمُ أغضبِ
وأعرفُ في بعضِ الدُّنوِّ ملالةَ ال ... صَّديقِ وأستبقيهم بالتَّجنُّبِ
تعجَّبُ هندٌ أنْ رأتْ لونَ لمَّتي ... ومَن يرَ شيبي بعدَ عهدكِ يعجبِ
وكانتْ تراهُ كالجناحِ فراعَها ... تغيُّرُ لونٍ بعدَ ذلكَ معقبِ

فإمَّا ترَيني قدْ علا الشَّيبُ مفرِقي ... وفضلُ النُّهى والحلمُ عندَ التَّشبُّبِ
فإنِّي امرؤٌ ما يخبأُ النَّارَ موقدي ... بسترٍ وما تستنكرُ الضَّيفَ أكلُبي
وما أنا للمولى بذئبٍ إذا رأى ... لهُ غرَّةٌ أدْلى معَ المُتذئبِ
ولكنَّني إنْ خافَ قومي عظيمةً ... رمَوني بنحرِ المانعِ المتأرِّبِ
فصرَّفتُ صعبَ الأمرِ حتَّى أذلَّهُ ... ويركبُ مِن أظفارهِ كلَّ مركبِ
ولستُ إذا الفتيانُ هزُّوا إلى العُلى ... بذي العلَّةِ الآبي ولا المتخيِّبِ
ولا أجعلُ المعروفَ حلَّ أليَّتي ... ولا عدَةً في النَّاظرِ المتغيِّبِ
ولستُ بلاقي الحمدِ ما لمْ تجنِه ... ولا مقتدٍ باللُّبِّ ما لمْ تلبَّبِ
ولستُ بلاقي الرَّأسِ مِن آلِ فقعسٍ ... فينسبَ إلاَّ كانَ خالي أوْ أبي
وجدتُ أبي يَنمي بنيهِ وينتمِي ... إلى الفرعِ منهمْ واللُّبابِ المهذَّبِ
إلى شجرِ النَّبعِ الذي ليسَ نابتاً ... مِن الأرضِ إلاَّ في مكانٍ مطيَّبِ
أولئكَ قومي إنْ أعدُّ الذي لهمْ ... أُكرَّمْ وإنْ أفخرْ بهمْ لمْ أُكذّبِ
همُ ملجأُ الجاني إذا كانَ خائفاً ... ومأوى الضَّريكِ والفقيرِ المعصَّبِ
بطاءٌ عنِ الفحشاءِ لا يحضرونَها ... سراعٌ إلى داعي الصَّباحِ المثوِّبِ
مناعيشُ للمولى مساميحُ بالقِرى ... مصاليتُ تحتَ العارضِ المتلهِّبِ
وجدتُ أبي فيهمْ وخالي كلاهُما ... يطاعُ ويُعطى أمرهُ وهوَ محتبي
فلم أتعمَّلْ للسَّيادةِ فيهمِ ... ولكنْ أتتْني وادعاً غيرَ متعبِ
ولمْ أتَّبعْ ما يكرهونَ ولمْ يكنْ ... لأعدائهمْ مِن سائرِ النَّاسِ منكبي
وقال الكميت أيضاً:
ظلَّتْ تعجَّبُ هندٌ أنْ رأتْ شمطي ... وراقَها لممٌ أعجبْنها سُودُ
هلْ للشَّبابِ الذي قدْ فاتَ مردودُ ... أمْ هلْ لرأسكَ بعدَ الشَّيبِ تجدِيدُ
أمْ هلْ لغصنٍ ذوى عقبٌ فنعقبهُ ... أيَّامَ أُملودهُ والغصنُ أملُودُ
أمْ هلْ عتابكَ هذا الشَّيبَ حاسبهُ ... أمْ هلْ لِما يعجبُ الأقوامَ تخلِيدُ
والعيشُ كالزَّرعِ منهُ نابتٌ خضرٌ ... ويابسٌ يبتريهِ الدَّهرُ محصُودُ
كالجفنِ فيه اليمانِي بعدَ جدَّتهِ ... يبلى ويصفرُّ بعدَ الخُضرة العُودُ
سقياً لليلى وللعهدِ الذي عهدتْ ... لو دامَ منها على الهجرانِ معهُودُ
وأحدثُ العهدِ مِن ليلى مخالبةٌ ... شكٌّ أمانيُّ لا بخلٌ ولا جُودُ
إذْ عرَّضتْ ليَ أقوالاً لتقصدَني ... والقلبُ مِن حذرِ الهجرانِ مقصُودُ
وقدْ أراني أُراعي الخيلَ يُعجبني ... إذا تُؤمّلَ منها النَّحرُ والجِيدُ
تجلو بعودِ أراكٍ عن ذُرى برَدٍ ... كأنَّما شابهُ مسكٌ وناجُودُ
ومضحكٍ بذلتهُ عن ذُرى أشرٍ ... كأنَّه برَدٌ فيهِ أخادِيدُ
تُجري الرِّهانَ على وحفٍ غدائرهُ ... كأنَّه فوقَ متنيْها العناقِيدُ
خودٌ تنوءُ إذا قامتْ روادفُها ... وبطنُها مضمرُ الكشحينِ مخضُودُ
عرَّجت أسألُ أطلالاً بذي سلمٍ ... عن عهدِها وحبيبُ العهدِ منشُودُ
بلْ هاجكَ الرَّبعُ بالبيداءِ من عقبٍ ... وما بكاؤكَ مِن أنْ تدرسَ البِيدُ
وما يهيجكَ مِن أطلالِ منزلةٍ ... قفرٍ تنادَى بها الورقُ الهداهِيدُ
ذكرتَ بالغورِ مَن تحتلُّ واردةً ... فآبَ عينيكَ دونَ الرَّكبِ تسهِيدُ
حتَّى كأنِّي بأعلى الغورِ مِن مللٍ ... مكبَّلٌ شفَّهُ حبسٌ وتقيِيدُ
أقولُ والعيسُ صعرٌ في أزمَّتها ... ما حانَ منهنَّ بعدَ الغورِ تنجِيدُ
لفائدٍ وطُلى الأعناقِ مائلةٌ ... والعيسُ سيرَتها نعبٌ وتخوِيدُ
وقدْ قراهنَّ معروفاً رحلنَ لهُ ... سميدعٌ مِن بني الخطَّابِ محمُودُ
جمَّاعُ أنديةٍ رفَّاعُ ألويةٍ ... موفَّقٌ لثنايا الخيرِ محسُودُ
متى تقولانِ أهلُ الطَّفِّ تبلغهمْ ... مِن عينِ ملل العيديَّةُ القُودُ
غلبُ الغلابيِّ صدقاتٌ إذا وقفتْ ... للشَّمسِ هاجرةٌ شهباءُ صيخُودُ

ما في الحداةِ إذا شدُّوا مآزرهمْ ... عنها توانٍ ولا في السَّيرِ تهوِيدُ
يظلُّ مِن حرِّها الحرباءُ مرتبئاً ... كأنَّه مسلمٌ بالجرمِ مصفُودُ
يخلطنَ ماءً مِن الماءينِ بينَهما ... خرقٌ تكلُّ بهِ البزلُ المقاحِيدُ
مِن كلِّ حلسٍ غداةَ الخمسِ يلحقُها ... قلبٌ وطرفٌ حذارَ السَّوطِ مزؤُودُ
قوداءُ مائرةُ الضَّبعينِ نسبتُها ... في سرِّ أرحبَ أو تَنمي بها العِيدُ
ظلَّتْ تقيسُ فروجَ الأرضِ لاهيةً ... كما يقاسُ سجيلُ الغزلِ محدُودُ
كأنَّها فاقدٌ ورهاءُ مدرعُها ... مشقَّقٌ عنْ بياضِ النَّحرِ مقدُودُ
تشلُّ في الجلبِ مِن قلبِ العشيِّ كما ... تمتلُّ درِّيَّةٌ والصَّحوُ ممدُودُ
ذو أربعٍ يكلأُ الأشباحَ مقتفرٌ ... للأرضِ ينفضُها لاهٍ ومنهُودُ
حتَّى أُنيختْ بهجرٍ بعدما نجدتْ ... وقدْ تلظَّى مِن الحرِّ الجلامِيدُ
وقدْ تحسَّرَ من عضِّ القتودِ بها نيٌّ ... ونخصٌ على الأثباجِ منضُودُ
يا نضْل لا يوقعنَّ البغيُ بعضكمُ ... في محصدٍ حبلهُ للشَّرِّ ممدُودُ
فقدْ يهيجُ كبيرَ الأمرِ أصغرهُ ... حتَّى يكونَ لهُ صوتٌ وتفنِيدُ
أما يزالُ على غشٍّ يهيجكمُ ... أبناءُ شانئةٍ أكبادهمْ سُودُ
لا يفزعونَ إذا ما الأمرُ أفزعكمْ ... ولن ترَوهمْ إذا ما استُمطر الجُودُ
أمسَوا رؤوساً وما كانتْ جدودهمُ ... يُرأَّسونَ ولا يأبَونَ إنْ قيدُودُا
فقدْ بلاني منَ الأقوامِ قبلكُم ... جمعُ الرِّجالِ القُرابى والمواحِيدُ
فأقصروا وبهمْ ممَّا فعلتُ بهمْ ... وسمٌ علوبٌ وآثارٌ أخادِيدُ
قطَّعتُ أنفاسهمْ حتَّى تركتهمُ ... وكلُّهمْ من دخيلِ الغيظِ مفؤُودُ
فأصبحوا اليومَ منزوراً مودَّتهمْ ... كرهاً كما سيفَ بعدَ الرَّأمِ تجلِيدُ
لوْ قالَ ذو نصحكُم يوماً لجاهلكمْ ... عن حيَّةِ الأرضِ لا يشقوا بهِ حيدوا
ذوَّحتُ عن فقعسٍ حتَّى إذا كفحتْ ... عنها القرومُ منَ النَّاسِ الصَّنادِيدُ
وهابَ شرِّيَ مَن يُبدي عداوتهُ ... كما يحاذرُ ليثَ الغابةِ السِّيدُ
أرادَ جهَّالها أن يقرِموا حسَبي ... وفيَّ عنْ حسَبي ذبٌّ وتذوِيدُ
هلْ تعلمونَ بلائي حينَ يرهقكمْ ... يومٌ يعدُّ منَ الأيَّامِ مشهُودُ
عندَ الحفاظِ إذا ما الرِّيقُ أيبسهُ ... ضيقُ المقامِ وهيبَ العصبةُ الصِّيدُ
إنِّي امرؤٌ لمدَى جرْيي مطاولةٌ ... يقصِّرُ الوغلُ عنها وهوَ مجهُودُ
ومَن تعرَّضَ لي منكمْ فموعدهُ ... أقصى المدى فاقْصروا في الجريِ أوْ زيدوا
إنِّي لتُعرفُ دونَ الخيلِ ناصيَتي ... إذا تلعَّبتِ الخيلُ القرادِيدُ
وقال الكميت:
ماذا تذكَّرُ مِن هنيدةَ بعدَما ... قطعَ التَّجنُّب هاجَ مَن يتذكَّرُ
وسعى الوشاةُ فأنجحُوا وتغيَّرتْ ... وتعهَّدوا ودِّي فما أتغيَّرُ
ورأى الذي طلبَ الوشايةَ منهمُ ... ما كنتَ مِن بححِ الصَّبابةِ تحذَرُ
كدتَ العشيرةَ تعتريكَ صبابةٌ ... لوْ أنَّ مثلكَ في الصَّبابةِ يعذرُ
وأرتكَ مِن أهلِ الجواءِ ودونَها ... عرضُ الكُثابِ فمُسحلانُ فعرعَرُ
ومحلُّها روضُ الجواءِ فصارةٌ ... فالواديانِ لأهلِها متديّرُ
ولها إذا رمضَ الجنادبُ والحصى ... بالوابشيَّةِ أو بجرثمَ محضَرُ
ولقدْ جرى لكَ لوْ زجرتَ ممرَّهُ ... بممرِّها حرقُ القوادمِ أعوَرُ
شئمٌ أتاكَ عنِ الشَّمالِ كأنَّهُ ... حنقٌ عليكَ ببينِها مستبشرُ
قطعَ الهوى ألاّ أزالَ بقفرةٍ ... يطوي أقاصيها هبلٌّ مجفَرُ
أوْ رسلةٌ تقصُ الحزومَ كأنَّها ... طاوٍ تريَّعَ بالسَّليلةِ مقفرُ
تُضحي إذا ما القومُ كمَّشَ حادهمْ ... سيرٌ بأجوازِ الفلاةِ عذوَّرُ
صعراءُ ناجيةٌ يظلُّ جديلُها ... وهِلاً كما هربَ الشُّجاعُ المنفَرُ
وكأنَّ خلفَ حجاجِها مِن رأسِها ... وأمامَ مجمعِ أخدعَيها قهقَرُ
بل أيُّها الرَّجلُ المعرِّضُ نفسهُ ... وبِما تفاخرُني وما لكَ مفخَرُ

إنِّي نمتْني للمكارمِ نوفلٌ ... والخالدانِ ومعبدٌ والأشتَرُ
وتعطَّفتْ أسدٌ عليَّ فكلُّها ... شرعٌ إليَّ فعالهُ المتخيَّرُ
وإذا افتخرتَ بمنقذٍ أو فقعسٍ ... مدَّتْ لأبحرِهمْ بحورٌ تزخَرُ
وإذا القبائلُ جمهَروا آباءهمْ ... يومَ الفخارِ فإنَّني أتمضَّرُ
نحنُ الذينَ علمتَ مِن أيَّامهمْ ... ورأيتَ حينَ يقالُ أينَ العنصرُ
الطَّالعونَ إذا الطَّلائعُ أحصرتْ ... والعالمونَ يقينَ ما يُتخيَّرُ
المقدمونَ إذا الكتائبُ أحجمتْ ... والعاطفونَ إذا استضافَ المحجَرُ
النَّازلونَ بكلِّ دارٍ حفيظةٍ ... عرضٍ تراحُ بها العشارُ وتنحَرُ
الضَّاربونَ رئيسَ كلِّ كتيبةٍ ... قوّادَ مملكةٍ عليهِ المغفَرُ
والطَّاعنونَ زويرَ كلِّ كتيبةٍ ... حتَّى يضرِّجهُ النَّجيعُ الأحمَرُ
فاعجلْ فإنَّكَ حيثُ يلتقطُ الحصى ... فانظرْ هنالكَ مَن يجابُ وينصَرُ
فخرُ الملوكِ بجوفِ يثربَ فخرُنا ... ولنا المساجدُ كلُّها والمنبَرُ
وأغرَّ جبَّارٍ ضربْنا رأسهُ ... وكذاكَ نضربُ رأسَ مَن يتجبَّرُ
ما رامَنا متجبِّرٌ ذو ثورةٍ ... إلاَّ سيقتلُ عنوةً أو يؤسَرُ
إنَّا لنحمدُ في الصَّباحِ إذا بدا ... يومٌ أغرُّ مِن القتالِ مشهَّرُ
ونكرُّ في يومِ الوغى ورماحُنا ... حمرُ الأسنَّةِ حينَ يُغشى المنكَرُ
ونكرُّ محميَةً ويمنعُ سربَنا ... جردٌ تلوِّحها المقانبُ ضمَّرُ
ومساعرٌ حلق الحديد لبوسهم ... والمشرفية والوشيج الأسمر
وترى لعارِضنا على أعدائِنا ... رهجاً يثورُ لهُ عجاجٌ أكدَرُ
إنَّا إذا اجتمعَ النَّفيرُ بمجمعٍ ... ينفي الأذلَّ بهِ الأعزُّ الأكثَرُ
نحمي حقيقَتنا ويُدركُ حقَّنا ... إذا اجتمعَ الجماجمُ مجهَرُ
وقال الكميت لسليمان بن عبد الملك:
حيِّ المنازلَ مِن صحراءِ إمَّرةٍ ... وحيثُ كانتْ سواقي منعجٍ شعَبا
كانتْ تحلُّ بها حسناءُ فاغتربتْ ... بها الدِّيارُ ورثَّ الحبلُ فانجذَبا
للهِ عينِي مِن عينٍ لقدْ طلبتْ ... ما لمْ يكنْ دانياً منها ولا سقَبا
نظرتُ يومَ سواجٍ حينَ هيَّجني ... صحْبي فكلَّفتُ عيني نظرةً عجَبا
إلى حمول كدوح الدوم غاديةٍ ... قد نكبت رمماً واستقبلت رببا
ويبٍ بها نظرةً ليستْ براجعةٍ ... شيئاً ولكنَّها قد هيَّجتْ طرَبا
وفي الهوادجِ غزلانٌ منعَّمةٌ ... تحكي الزَّبرجدَ والياقوتَ والذَّهَبا
إمَّا تريْني أمسى الحلمُ راجعَني ... حلمُ المشيبِ وأمسى الجهلُ قدْ لغبا
فلنْ تريْني أنْمي السُّوءَ أسمعهُ ... إنْ جاهلاً قوميَ اسْتبا أو احترَبا
وأحذرُ اللُّؤمَ عندَ الأمرِ أحضرهُ ... ولا ألومُ على شيءٍ إذا وجَبا
وقدْ أُصاحبُ ضيفَ الهمِّ يطرقُني ... بالعيسِ تختبُّ كسرَيْ ليلِها خبَبا
عيديَّةٌ عوِّدتُ أنْ كلَّما قربتْ ... لاقتْ قواربَ مِن كدرِ القطا عصَبا
تخالُ هامتَها قبراً برابيةٍ ... وما أمامَ حجاجَيْ عينِها نصبا
منَ المهارَى عبنَّاةٌ مرسَّلةٌ ... فلا ترَى حذذاً فيها ولا زببا
منَ المواتحِ بالأيدي إذا جعلتْ ... لوامعُ الآلِ تغشَى القورَ والحدَبا
كأنَّها بعدَ خمسِ القومِ قاربةً ... تعلو هدوداً إذا ما أعنقتْ صبَبا
تخالُ فيها إذا اسْتدبرتَها شنجاً ... وفي يدَيها إذا استقبلتَها حدَبا
تغلي ويخْبأ منها السَّوطَ راكبُها ... كما غلا مرجلُ الطَّبَّاخِ إذْ لهَبا
حتَّى إذا ساءَ لونُ العيسِ وانتكثتْ ... شبَّهتَ في نسعتَيْها فارداً شبَبا
باتتْ لهُ ديمةٌ بالرَّملِ دائمةٌ ... في ليلةٍ من جُمادى واصلتْ رجَبا
فباتَ يحفرُ أرطاةً ويركبُها ... يُغشي جوانبَها الرَّوقينِ والرُّكَبا
حتَّى إذا ما تجلَّى طولُ ليلتهِ ... عنهُ ولاحَ سراجُ الصُّبحِ فالْتهَبا
وراعهُ صوتُ قنَّاصٍ بعقوتهِ ... مقلّدينَ الضِّراءَ القدَّ والعقَبا
فانحازَ لا آمناً من شرِّ نبأتهمْ ... يعلو العدابَ ولا مُستمعناً هرَبا

حتَّى لحقنَ وقدْ مالَ الأميلُ بهِ ... فكرَّ بالخلِّ إذْ أدركنهُ غضَبا
مجرُّ في حدِّ روقيهِ سوابقُها ... ولا يمسُّ لقرنٍ جرَّهُ سلَبا
حتَّى إذا ذادَها عنهُ وقطَّعها ... طعنٌ يصيبُ بهِ الحيَّاتِ والقصَبا
ولَّى سريعاً مدلاً غيرَ مكترثٍ ... يعلو العدابَ وروقاهُ قدِ اختضَبا
أقبلتُ ترفعُني أرضٌ وتخفضُني ... إلى الأغرِّ جبيناً والأغرِّ أبَا
إلى سليمانَ خيرِ النَّاسِ عارفةً ... وأسرعِ النَّاسِ إدراكاً لِما طلَبا
وقال الكميت أيضاً:
ألا حيِّيا بالتَّلِّ أطلالَ دمنةٍ ... وكيفَ تُحيَّا المنزلاتُ البلاقِعُ
حننتَ غداةَ البينِ مِن لوعةِ الهوى ... كما حنَّ مقصورٌ لهُ القيدُ نازِعُ
وظلَّتْ لعيني قطرةٌ مرحتْ بها ... على الجفنِ حتَّى قطرُها متتايِعُ
وليسَ بناهي الشَّوقِ عنْ ذي صبابةٍ ... تذكَّر إلفاً أنْ تفيضَ المدامِعُ
وقدْ لحَّ هذا النَّأيُ حتَّى تقطَّعتْ ... حبالُ الهوى والنَّأيُ للوصلِ قاطِعُ
وما أكثرَ التَّعويلُ إلاَّ لحاجةٌ ... وما السِّرُّ بينَ النَّاسِ إلاَّ ودائِعُ
نقولُ بمرجِ الدَّيرِ إذْ صحبَتي ... تعزَّوا وقدْ أيقنتُ أنِّي جازِعُ
وما مغزلٌ أدماءُ مرتعُ طفلِها ... أراكٌ وسدرٌ بالمِراضينِ يانِعُ
بأحسنَ منها إذْ تقولُ لتربِها ... سليهِ يخبِّرنا متى هو راجِعُ
فقلتُ لها واللهِ ما مِن مسافرٍ ... يحيطُ لهُ علمٌ بما اللهُ صانِعُ
فصدَّتْ كما صدَّتْ شموسٌ حبالُها ... مدى الفوتِ لمْ يقدرْ عليها الأصابِعُ
وقالتْ لقدْ بلاّكَ أنْ لستَ زائلاً ... يجوبُ بكَ الخرقَ القلاصُ الخواضِعُ
فقلتُ لها الحاجاتُ يطلبُها الفتى ... فعذرٌ يُلاقي بعدَها أو منافِعُ
أقولُ لندمانيَّ والحزنُ دونَنا ... وشمُّ العوالي مِن جفافٍ فوارِعُ
أنارٌ بدتْ بينَ المسنَّاةِ والحِمى ... لعينكَ أم برقٌ تلألأ لامِعُ
فإنْ تكُ ناراً فهيَ نارٌ يشبُّها ... قلوصٌ وتزهاها الرِّياحُ الزَّعازِعُ
وإنْ يكُ برقاً فهوَ برقُ سحابةٍ ... لها ريِّقٌ لنْ يخلفَ الشَّيمَ رائِعُ
ألمْ تعلَمي أنَّ الفؤادَ يصيبهُ ... لذكراكِ أحياناً على النَّأي صادِعُ
فيلْتاثُ حتَّى يحسبَ القومُ أنَّهُ ... بهِ وجعٌ أو أنَّهُ متواجِعُ
سقتكِ السَّواقي المدجناتُ على الصّبا ... أثيبي محبّاً قبلَ ما البينُ صانِعُ
فقدْ كنتِ أيَّامَ الفراتِ قريبةً ... مجاورةً لو أنَّ قربكِ نافِعُ
وقدْ زعمتْ أمُّ المهنَّدِ أنَّني ... كبرتُ وأنَّ الشَّيبَ في الرَّأسِ شائِعُ
وما تلكَ إلاَّ روعةٌ في ذؤابَتي ... وأيُّ فتاءٍ لمْ تصبهُ الرَّوائِعُ
وإنِّي وإنْ شابتْ مفارقُ لمَّتي ... لكالسَّيفِ أفنى جفنهُ وهوَ قاطِعُ
يصانُ إذا ما السِّلمُ أدجى قناعهُ ... وقد جرِّبتْ في الحربِ منهُ الوقائِعُ
ولستُ بجثَّامٍ يبيتُ وهمُّهُ ... قصيرٌ وإنْ ضاقتْ عليهِ المضاجِعُ
إذا اعْتقتْني بلدةٌ لمْ أكنْ لها ... نسيباً ولمْ تسدفْ عليَّ المطالِعُ
وظلماءَ مذكارٍ كأنَّ فروجَها ... قبائلُ مسحٍ أترَصتهُ الصَّوانِعُ
نصبتُ لها وجهي وصدرَ مطيَّتي ... إلى أنْ بدا ضوءٌ منَ الصُّبحِ ساطِعُ
لأُبلي عذراً أو لأسمعَ حجَّةً ... عنيتُ بها والمنكرُ الضَّيمَ دافِعُ
وكنتُ امرءاً من خيرِ جحوانَ عطِّفتْ ... عليَّ الرَّوابي منهمُ والفوارِعُ
نمتْني فروعٌ من دثارِ بنِ فقعسٍ ... ومِن نوفلٍ تلكَ الرّؤوسُ الجوامِعُ
فيا أيُّها القومُ الألى ينبحونَني ... كما نبحَ اللَّيثُ الكلابُ الضَّوارِعُ
فلا اللهُ يشفي غيظَ ما في صدورهمْ ... ولا أنا إنْ باعدتمُ الودَّ تابِعُ
وإنِّي على معروفِ أخلاقي التي ... أُزايلُ مِن ألقابِها وأُجامِعُ
لذو تُدرإٍ لا يغمزُ القومُ عظمهُ ... بضعفٍ ولا يرجونَ ما هوَ مانِعُ
وما قصَّرتْ بي همَّتي دونَ رغبةٍ ... ولا دنَّستني مذْ نشأتُ المطامِعُ

وإنِّي إذا ضاقتْ عليكم بيوتكمْ ... ليعلمَ قومي أنَّ بيتيَ واسِعُ
فيلجأُ جانيهمْ إلينا وتنتهي ... إلينا النُّهى مِن أمرهمْ والدَّسائِعُ
وما مِن بديعاتِ الخلائقِ مخزياً ... إذا كثرتْ في المُحدثينَ البدائِعُ
وما لامَ قومي في حفاظٍ شهدتهُ ... نِضالي إذا لمْ يأتلِ الغلوَ نازِعُ
وما زلتُ محمولاً عليَّ ضَغينة ... ومطَّلعُ الأضغانِ مذْ أنا يافِعُ
إلى أنْ مضتْ لي الأربعونَ وجرِّبتْ ... طبيعةُ صلبٍ حينَ تُبلى الطَّبائِعُ
جريتُ أفانينَ الرِّهانِ فما جرى ... معي معجبٌ إلاَّ انتهى وهو ظالِعُ
لنا معقلٌ في كلِّ يومِ حفيظةٍ ... إذا بلغتْ طولَ القُنيّ الأشاجِعُ
وقائدِ دهمٍ قدْ حوتهُ رماحُنا ... أسيراً ولو يحوينهُ وهو طائِعُ
فللسَّيْئِ في أطلالهنَّ مهابةٌ ... وللقومِ في أطرافهنَّ مصارِعُ
لقومي عليَّ الطَّولُ والفضلُ إنَّني ... إذا جمعتْني والخطوبُ المجامِعُ
وهمْ عدَّتي في كلِّ يومِ كريهةٍ ... وأقرانُ أقراني الذينَ أُصارِعُ
خُلقنا تِجاراً بالطِّعانِ ولمْ نكنْ ... تِجارَ ملاءٍ نشتري ونبايِعُ
وقال الكميت أيضاً:
أرقتُ بأرضِ الغورِ مِن ضوءِ بارقٍ ... سرى موهناً في عارضٍ متتايِعِ
يضيءُ لنا والغورُ دونَ رحالِنا ... خزازُ فأعلى منعجٍ فمتالِعِ
كأنَّ سناهُ ذبُّ أبلقَ يتَّقي ... أذى البقِّ عن أقرابهِ بالأكارِعِ
فبتُّ ولمْ يشعرْ بذاكَ صحابَتي ... مريضاً لعدَّاتِ الهمومِ النَّوازِعِ
وهلْ يُمرضُ الهمُّ الفتى عندَ رحلهِ ... أمونُ السُّرى كالمحنقِ المتدافِعِ
غُريريَّةُ الأعراقِ مفرعةُ القَرى ... جُماليَّةٌ أدماءُ مجرى المدامِعِ
نهوزٌ بلحيَيْها إذا الأرضُ رقرقتْ ... نضائضَ ضحضاحٍ منَ الأرضِ مائِعِ
لقدْ طرقتْنا أمُّ بكرٍ ودونَنا ... مراحٌ ومغدًى للقلاصِ الضَّوابِعِ
بريحِ خُزامى طلَّةٍ نفحتْ بها ... منَ اللَّيلِ هبَّاتُ الرِّياحِ الزَّعازِعِ
وكيفَ اهتدتْ تسري انقضٍ رذيَّةٍ ... وطلحٍ بأعلى ذي أطاويح هاجِعِ
سرى موهناً مِن ليلةٍ ثمَّ وقَّعتْ ... بأصحابهِ عيديَّةٌ كالشَّراجِعِ
معرَّقةُ الأوصالِ أفنى عريكها ... ركودُ رحالِ العيسِ فوقَ البراذِعِ
بيَهْماءَ ما للرَّكبِ فيها معرَّجٌ ... على ما أسافوا مِن حسيرٍ وظالِعِ
فلمَّا استهبَّ الرَّكبُ واللَّيلُ ملبسٌ ... طوالَ الرَّوابي والرِّعانِ الفوارِعِ
قبضْنى بنا قبضَ القطا نُصبتْ لهُ ... شباكٌ فنجَّى بينَ مقصٍ وقاطِعِ
ذكرتَ الهوى إذْ لا تفزِّعكَ النَّوى ... وإذْ دارُ ليلى بالأميلِ فشارِعِ
وما هاجَ دمعَ العينِ مِن رسمِ منزلٍ ... مرَتهُ رياحُ الصَّيفِ بعدَ المرابِعِ
خلاءٍ بوعساءِ الأميلِ كأنَّهُ ... سطورٌ وخيلانٌ بتلكَ الأجارِعِ
ومولًى قدِ استأنيتهُ ولبستهُ ... على الظَّلعِ حتَّى عادَ ليسَ بظالِعِ
عرضتُ أناتي دونَ فارطِ جهلهِ ... ولمْ ألتمسْ عيباً لهُ في المجامِعِ
ولوْ رابهُ ريبٌ منَ النَّاسِ لمْ أكنْ ... معَ المجلبِ المُزري بهِ والمشايِعِ
وكائنْ ترى مِن معجبٍ قدْ حملتهُ ... على جهدهِ حتَّى جرى غيرَ وادِعِ
ثنيتُ لهُ بينَ التَّأنِّي بصكَّةٍ ... تُفادي شؤونَ الرَّأسِ بينَ المسامِعِ
فلمَّا أبى إلاَّ اعتراضاً صككتهُ ... جهاراً بإحدى المُصمتاتِ القوارِعِ
فأقصرَ عنِّي اللاّحظونَ وغشُّهمْ ... مكانَ الجوى بينَ الحشا والأضالِعِ
إذا أقبلُوا أبصرتَ داءَ وجوههمْ ... وإنْ أدبرُوا ولَّوا مراضَ الأخادِعِ
عجبتُ لأقوامٍ تناسيتُ جهلهمْ ... محاولةَ البُقيا وحسنَ الصَّنائِعِ
وقلتُ لهمْ لا تسأمُوا صلحَ قومكمْ ... ولا العيشَ في ثوبٍ منَ الأمنِ واسِعِ
فما زالَ فرطُ الجهلِ عنهمْ ومشيُهمْ ... إلى البغْي في أكنافهمْ والقطائِعِ
وما زالَ فرطُ الجهلِ حتَّى رأيتهمْ ... يفرُّونَ سنَّ الأزلمِ المتجاذِعِ

وحتَّى رُموا بالمُفظعاتِ وأشمتوا ... بهمْ كلَّ راءٍ مِن معدٍّ وسامِعِ
فلمَّا استذاقوا شربةَ الحبِّ وابتلُوا ... مَرارتها كانوا لئامَ الطَّبائِعِ
عباهيلُ لا يدرونَ ما غورُ هفوةٍ ... ولا غبُّ أمرٍ يحفظُ القومَ رائِعِ
ولو صدَقتهمْ أنفسُ الغشِّ بيَّنتْ ... لهمْ أنَّني مستضلعٌ للمقارِعِ
أخو الحربِ لبَّاسٌ لها أدواتِها ... إذا الوغلُ لمْ يلبسْ أذاةَ المنازِعِ
وقورٌ على مكرُوهها متحرِّفٌ ... لأيَّامها مستأنسٌ للمطالِعِ
ولستُ بأنَّا ....مهُ ... على دبرٍ مِن آخرِ الأمرِ تابِعِ
وداعٍ إلى غيرِ السَّدادِ ورافدٍ ... على الغيِّ رفداً غيُّهُ غيرُ نافِعِ
ومحتلبٍ حربَ العشيرةِ أُنهلتْ ... لهُ بصراحيٍّ من السُّمِّ ناقِعِ
وقال الكميت أيضاً:
لقدْ كنتُ أُشكى بالعزاءِ فهاجَني ... حمائمُ أُلاّفٍ لهنَّ نحِيبُ
وما كادَ ليلي بالسَّليلةِ ينجلي ... ولا الشَّمسُ يومَ الأنعمينِ تغِيبُ
ويوماً برسِّ ابنِ الشَّمردلِ هيَّجتْ ... لكَ الشَّوقَ حمّاءُ العلاطِ دؤُوبُ
مِن المؤلِفاتِ الطَّلحِ في كلِّ صيفةٍ ... لا جوزلٌ في الجدولينِ ربِيبُ
لعمركَ إنِّي يومَ عرنةِ صارةٍ ... وإنْ قيلَ صبٌّ للهوى لغلُوبُ
أجاذبُ أقرانَ التّلادِ منَ الهوى ... لهِنّى لأقرانِ الهوى لجذُوبُ
إذا عطفاتُ الرَّملِ أعرضنَ دونَنا ... ومِن دونِ هندٍ يافعٌ فطلُوبُ
نأى الوصلُ إلاَّ أنْ يقرِّبَ بينَنا ... منَ العيسِ مقلاتُ اللِّقاحِ سلُوبُ
غُريريَّةُ الأعراقِ أو أرحبيَّةٌ ... بها مِن مرادِ النِّسعتينِ ندُوبُ
منفِّهةٌ ذلاً وتحسبُ أنَّها ... منَ البغيِ لا يخفى عليكَ قضِيبُ
إذا القومُ راحوا مِن مقيلٍ وعلِّقتْ ... ظروفُ أداوَى ما لهنَّ ضبِيبُ
ترى ظلَّها عندَ الرَّواحِ كأنَّهُ ... إلى دفِّها رألٌ يخبُّ جنِيبُ
إذا العيسُ حاذتْ جانبيْها تغيَّظتْ ... على العيسِ مضرارٌ بهنَّ غضُوبُ
تراها إذا الْتاثَ المطايا كأنَّها ... منَ الكدرِ فتخاءُ الجناحِ ضرُوبُ
تحلُّ بنِيها بالفلاةِ وتغتدي ... معاودةٌ وردَ الهجيرِ قرُوبُ
فقدْ عجبتْ منَّا معاذةُ أنْ بدا ... بنا أثرٌ مِن لوحةٍ وشحُوبُ
رأتْني وعبسيّاً نزيعَي جنازةٍ ... ترامتْ بهِ داويَّةٌ وسهُوبُ
كلانا طواهُ الهمُّ حتَّى ضجيعهُ ... حسامٌ ومذعانُ الرَّواحِ خبُوبُ
فقالتْ غريبٌ ليسَ بالشَّامِ أهلهُ ... أجلْ كلُّ علويٍّ هناكَ غرِيبُ
فهلا سألتِ الرّكبَ عنِّي إذا ارْتمى ... بهنَّ أطاويحُ الفلاةِ جنُوبُ
أُهينُ لهمْ رحلي وأعلمُ أنَّما ... يؤولُ حديثُ الرَّكبِ حينَ يؤُوبُ
وأُقفي بما شاؤوا منَ الثّقلِ ناقَتي ... وإنْ كانَ فيها فترةٌ ولغُوبُ
ألا ليتَ حظِّي مِن عثيمةَ إنَّها ... تميلُ إليها أعينٌ وقلُوبُ
يقرُّ بعيني أنْ أرى البرقَ نحوَها ... يلوحُ لنا أوْ أنْ تهبُّ جنُوبُ
تجيءُ بريَّا مِن عثيمةَ طلَّة ... يفيقُ لمسْراها الدَّوا فيثِيبُ
وإنَّ التي منَّتكَ أنْ تسعفَ النَّوى ... بها يومَ نعْفي صارةٍ لكذُوبُ
وإنَّ الذي يشفيكَ ممَّا تضمَّنتْ ... ضلوعكَ مِن وجدٍ بها لطبِيبُ
وإنِّي بعيدٌ محتدي مِن مودَّتي ... وبعدَ المدى في المحفظاتِ غضُوبُ
فما النَّأيُ سلَّى عنْ قلوصَ ولا القِلى ... ولكنْ عداكَ اليأسُ وهيَ قرِيبُ
وقال الكميت:
ألا حيِّيا ربعاً على الماءِ حاضراً ... وربعاً بجنبِ الصُّدِّ أصبحَ بادِيا
منازلَ هندٍ ليتَ أنِّي لمْ أكنْ ... عهدتُ بها هنداً ولمْ أدرِ ما هِيا
بذي الطَّلحِ مِن وادي النُّزوحِ كأنَّما ... كستْ مذهباً جوناً منَ التّربِ عافِيا
أربَّتْ عليها حرجفٌ تنخلُ الحصى ... تهادَى بجولانِ التُّرابِ تهادِيا
فلمْ يبقَ إلاَّ منزلُ الحيِّ قدْ عفا ... وآثارهمْ غبَّ الثَّرى والدَّوادِيا

ذكرتُ وقدْ لاحتْ منَ الصُّبحِ غرَّةٌ ... وولَّتْ نجومُ اللَّيلِ إلاَّ التَّواليا
عراقيَّةً لا أنتَ صارمُ حبلِها ... ولا وصلُها بالنَّجدِ أصبحَ دانِيا
سمعتُ وأصحابي تخبُّ ركابهمْ ... بصحراءِ فيدٍ من هنيدةَ داعِيا
فلمَّا سمعتُ الصَّوتَ عوَّجَ صُحبتي ... مهارَى مِن الإيجافِ صعراً صوادِيا
مسانيفُ لا يُلقينَ إلاَّ روائحاً ... إلى حاجةٍ يطلبنَها أو غوادِيا
يدعنَ الحصى رفضاً إذا القومُ رفَّعوا ... لهنَّ بأجوازِ الفلاةِ المثانِيا
إذا اختلفتْ أخفافهنَّ بقفرةٍ ... ترامى الحصى مِنْ وقعهنَّ تراقِيا
إذا قسنَ أرضاً لمْ يقلنَ بها غداً ... خبطنَ بها حلساً منَ اللَّيلِ داجِيا
تراهنَّ مثلَ الخيمِ خوَّى فروجهُ ... وأمسكَ متناهُ الثُّمامَ الأعالِيا
ومجدولةِ الأعناقِ حلِّينَ حبوةً ... يجلِّلنَ مِن دوحِ العضاهِ المدارِيا
ذعرتُ بركبٍ يطلبونكَ بعدَما ... تجلَّلَ رقراقُ السَّرابِ المقارِيا
على قلصٍ يضبعنَ بالقومِ بعدَما ... وطئنَ دماً مِن مسحهنَّ الصَّحارِيا
وظلماءَ مِن جرَّاكِ جبتُ وقفرةٍ ... وضعتُ بها شقّاً عنِ النَّومِ جافِيا
إلى دفِّ هلواعٍ كأنَّ زمامَها ... قَرى حيَّةٍ تخشى منَ السِّندِ حاوِيا
تبيتُ إذا ما الجيشُ نامتْ ركابهُ ... تثيرُ الحصى حيثُ افتحصنَ الأداحِيا
إذا ما انْجلى عنها الظَّلامُ رأيتَها ... كأنَّ عليها مطلعَ الشَّمسِ بادِيا
وشاوٍ كظاظٍ قدْ شهدتُ وموقفٍ ... تسامَى بهِ أيدي الخصومِ تسامِيا
شهدتُ فلمْ تتبعْ مقامي ملامةٌ ... ولمْ أُبلَ فيهِ عاجزاً مُتوانِيا
وإنِّي لأستحيي إذا ما تُحضِّرتْ ... عيونٌ وأستحيي إذا كنتُ خالِيا
فأعزفُ نفسي عنْ مطاعمَ جمَّةٍ ... وأربطُ للَّهوِ المخوفِ جنانِيا
إذا التفتَ ابنُ العمِّ للنَّصرِ سرَّهُ ... إذا خافَ إضرارَ الخصومِ مكانِيا
ولمْ أُلقَ يوماً عندَ أمرٍ يهمُّني ... كئيباً ولا جذلان إنْ كنتُ راضِيا
ولم تبلَ منِّي نبوةٌ ملمَّةٍ ... ولا عثرةٌ فيما مضى مِنْ زمانِيا
وعوراءَ مِن قيلِ امرئٍ قدْ رددتُها ... بمبصرةٍ للعذرِ لمْ يدرِ ما هِيا
طلبتُ بها فضلي عليهِ ولمْ يكنْ ... ليدركَ سعْيي إنْ عددنا المساعِيا
أنا ابنُ أبي صخرٍ بهِ أدركُ العُلا ... وثور النَّدى والهيثم الخيرِ خالِيا
أنا ابنُ رئيسِ القومِ يومَ يقودهمْ ... بتعشارَ إذْ هزَّ الكماةُ العوالِيا
فآبَ ببَزِّ السَّلهبينِ كلاهما ... وأبكَى على ابنِ الثَّعلبيّ البواكِيا
ولمَّا زجرنا الخيلَ خاضتْ بنا القنا ... كما خاضتِ البزلُ النّهاء الطَّوامِيا
رمَونا برشقٍ ثمَّ إنَّ سيوفَنا ... وردنَ فأبطرنَ القبيلَ التَّرامِيا
ولمْ يكُ وقعَ النّبلِ يقدعُ خيلَنا ... إذا ما عقدنا للطّعانِ النَّواصِيا
أبا جنبرٍ أبصرْ طريقكَ والتمسْ ... سوى حقِّنا معداكَ إنْ كنتَ عادِيا
فإنَّ لنا الخيلَ التي كنتَ تتَّقي ... بفرسانِها يومَ الصَّباحِ العوالِيا
منعناكمُ يومَ النِّسارِ وأنتمُ ... قعودٌ بجوٍّ يحرثونَ التَّوادِيا
وبالعرضِ نجَّينا أباكَ وقدْ رأى ... على رأسهِ طُلاً منَ السَّيفِ غاشِيا
ونحنُ رددْنا حكمَ دلجةَ بعدَما ... تتبَّعَ خرزاً منْ أديمكَ واهِيا
ألمْ ترني أوْفيتُ جحوانَ حقَّها ... وفرَّجتُ غمَّيْ مدركٍ إذْ دعانِيا
وكيفَ أُحابي النَّفسَ في حقِّ فقعسٍ ... وإيَّايَ يدعوني الكميَّ المحامِيا
فلستُ براضٍ حينَ تغضبُ فقعسٌ ... ولا محلبٌ يوماً عليها الأعادِيا
فدعْ منزلَ القومِ المحقِّينَ والتمسْ ... لضانكَ مِنْ جشرٍ بهِ التِّبنُ وادِيا
رقيع
وقال رقيع، واسمه عمارة بن حبيب أخو بني أسامة بن نمير بن والبة، وهو إسلامي في أول زمن معاوية بن أبي سفيان:
أمنْ دمنةٍ مِن آلِ ليلى غَشيتها ... على تمِّ حولٍ ماءُ عينيكَ سافِحُ

كإرشاشِ غربٍ بينَ قرنَيْ محالةٍ ... مقحَّمهُ دامي السَّلائقِ ناضِحُ
على جربةٍ تسنو فللغربِ مفرغٌ ... حثيثٌ وماءُ البئرِ في الدَّبرِ سائِحُ
لعمري وما عمري عليَّ بهيِّنٍ ... لقدْ طوَّحتْ ليلى الدِّيارُ الطَّوارِحُ
ومرَّ ببينٍ عاجلٍ مِن وصالِها ... سوانحُ طيرٍ غدوةً وبوارِحُ
فقلتُ لأصحابي أُسرُّ إليهم ... عزاءً كأنِّي بالذي قلتُ مازِحُ
صحا القلبُ عنْ ذكرِ الصِّبا غيرَ أنَّني ... تذكرني ليلى البروقُ اللَّوامِحُ
وعنَّ الهوى والشَّوقُ أمسى جميعهُ ... بليلى وممساها منَ الأرضِ نازِحُ
فيا ليتَ ليلى حينَ تنأى بها النَّوى ... يخبِّرنا عنها الرِّياحُ النَّوائِحُ
فتخبرنا ما أحدثَ الدَّهرُ بعدَنا ... وإنَّ الذي بيني وبينكِ صالِحُ
بعيدٌ عنِ الفحشاءِ عفٌّ عنِ الأذى ... ذليلُ دلالٍ عندَ ذي اللُّبِّ رابِحُ
عزيزٌ منعْنا بابهُ لا ينالهُ ... صديقٌ ولا بادي العداوةِ كاشِحُ
ودويَّةٍ من دونِ ليلى مظنَّةٍ ... بها مِن غواةِ النَّاسِ عاوٍ ونابِحُ
قطعتُ بموارِ الملاطينِ ممعجٍ ... إذا بلَّ ليتَيْهِ منَ الماءِ ناتِحُ
هبلٍّ مشلٍّ أرحبيّ كأنَّهُ ... إذا ما علا سهباً منَ الأرضِ سابِحُ
سريعُ لحاقِ الرَّحلِ غالٍ بصدرهِ ... إذا اغتالتِ السَّيرَ الصَّحاري الصَّحاصِحُ
وشعثٍ نشاوَى بالكرى قدْ أملَّهمْ ... ظهورُ المطايا والصَّحاري الصَّرادِحُ
أناخوا وما يدرونَ مِن طولِ ما سرَوا ... بحقٍّ أقفٌّ أرضمٌ أمْ أباطِحُ
فناموا قليلاً خلسةً ثمَّ راعهمْ ... ندايَ وأمرٌ يفصلُ الشَّكَّ جارِحُ
لذكرى سرتْ منْ آلِ ليلى فهيَّجتْ ... لنا حزَناً برحٌ منَ الشَّوقِ بارِحُ
وقد غابَ غوريٌّ من النَّجمِ لو جرى ... لغيبوبةٍ حتَّى دنا وهوَ جانِحُ
فقامُوا بظئرانٍ فشدُّوا نسوعَها ... على يعملاتٍ منعلاتٍ طلائِح
كماشٍ تواليها صيابٍ صدورُها ... عياهيمُ أيديها كأيدي النَّوائِح
تشكَّى الوجى من كلِّ خفٍّ ومنسمٍ ... على أنَّها تُؤتي الحصى بالسَّرائِح
وداعٍ مضافٍ قدْ أطفْنا وراءه ... وجانٍ كفيْنا البأسَ والبأسُ طالِحُ
وحيٍّ حلالٍ قد أبحْنا حماهمُ ... بوردٍ ووردٍ قدْ لقينا بناطِح
وجمعٍ فضضناهُ وخيلٍ كأنَّها ... جرادٌ تلقَّى مطلعَ الشَّمسِ سارحُ
صبرْنا لهمْ والصَّبرُ منَّا سجيَّةٌ ... بفتيانِ صدقٍ والكهولُ الجحاجِح
ففاؤوا بطعنٍ في النُّحورِ وفي الكُلى ... يجيشُ وضربٍ في الجماجمِ جارِح
ففزْتا بها مجداً وفاءَ عدوُّنا ... بحقدٍ وقتلٍ في النُّفوسِ الأوانح
فوارسُنا الحامُو الحقيقةَ في الوغى ... وأيسارُنا البيضُ الوجوهِ المسامحُ
وما سبَّ لي خالٌ ولا سبَّ لي أبٌ ... بغدرٍ وما مسَّتْ قناتي القوادحُ
وإنِّي لسبَّاقُ الرِّهانِ مجرِّبٌ ... إذا كثرتْ يومَ الحفاظِ الصَّوائحُ
أعاذلَ مهلاً إنَّما المرءُ عاملٌ ... فلا تُكثري لومَ النُّفوسِ الشَّحائح
دَعيني وهمِّي إنْ هممتُ وبُغيتي ... أعشْ في سوامٍ أوْ أطحْ في الطَّوائِح
فلَلمرءُ أمضى مِن سنانٍ إذا مضى ... وللهمُّ أكمى منْ كميّ مشايِح
فإنْ أحيَ يوماً ألقَ يوماً منيَّتي ... ولا بدَّ منْ رمسٍ عليهِ الصَّفائحُ
وقال رقيعٌ أيضاً:
عفتْ فردةٌ من أهلِها فشطيبُها ... فجزعُ محيَّاةٍ عفا فكثيبُها
عفوَّ التي أمّا بلاداً تبدَّلتْ ... وأمّا نهى شوقَ النُّفوسِ مشِيبُها
ولمْ تدرِ نفسُ المرءِ ما يجلبُ الهوى ... إليها ولا في أيِّ حيٍّ نصِيبُها
أفي الكرهِ أو فيما يحبُّ وإنَّما ... يعاقبُ أو يعفي النُّفوسَ حسِيبُها
يساقُ فيُلقى أو يُقادُ فينبَري ... إليه بمقدارٍ حمامٌ يصِيبُها
نعمْ ليسَ عندَ اللهِ ظلمٌ لتائبٍ ... يتوبُ ولا ذي قربةٍ يستثِيبُها
فقدْ طالَ ما ميَّلتُ بالغيِّ حقبةً ... وبالرُّشدِ والأخلاقُ جمٌّ ضرُوبُها

وقدتُ وقادتْني رياضٌ بهيجةٌ ... جميلٌ تناهيها طويلٌ عزُوبُها
وأبلتْ وأبقتْ مِن حياتي قصائداً ... يفدِّي ويستبكي الرُّواةُ غرِيبُها
هلِ الحلمُ ناهي الجهلِ أو رائدُ الصِّبا ... ينجِّيكَ منهُ توبةٌ أو تتُوبُها
وقدْ كانَ أيَّامُ الغواني ضمانةً ... منَ الدَّاءِ يعيا بالشِّفاءِ طبِيبُها
ولا مثلَ يومٍ من جنوبَ تضعَّفتْ ... فؤادكَ والأيَّامُ جمٌّ عجِيبُها
دعتهُ جنوبُ النَّوفليّينَ بالهوى ... فما للشَّذى المدعوِّ هلاَّ يجِيبُها
بلبَّيكَ أو يُهدي لها حسنَ مدحةٍ ... تصبِّحها في أرضِها وتؤُوبُها
هجانٌ تنمَّتْ في الرَّوابي وزُيِّنتْ ... بخلقٍ وخلقٍ كاملٍ لا يعِيبُها
كأنَّ نقاً منْ عالجٍ تلتَقي ... ملاحفُها إذْ أُزرَّتْ وسبُوبُها
وما بعدتْ منَّا وفي اليأسِ راحةٌ ... وما اقتربتْ إلاَّ بعيداً قرِيبُها
مرادُ شموسِ الخيلِ تدنو وتتَّقي ... يدَ الرَّبِّ حتَّى لا ينالَ سبِيبُها
فقدْ أُعطيتْ فوقَ الغواني محبَّةً ... جنوبُ كما خيرُ الرِّياحِ جنُوبُها
إذا هيَ هبَّتْ زادتِ الأرض بهجةً ... يمانيَّةً يستنشرُ الميتَ طِيبُها
أدلَّ دليلُ الحبِّ وهناً فزارَنا ... وأحجِ بنفسٍ أنْ يلمَّ حبِيبُها
بِغيدٍ على قودٍ سرَوا ثمَّ هوَّموا ... بدويَّةٍ يعوي منَ الفقرِ ذئبُها
بعيدة ماءِ الرّكب يغتالُ سيرهمْ ... إذا قرَّبوا غيطانَها وسهُوبُها
إذا ما تدلَّى النَّجمُ واعصوصبتْ بهمْ ... نجائبُ صهبٌ ضمَّرٌ ونجِيبُها
ترامتْ بهمْ أرضٌ وأرضٌ فأصبحوا ... بحيثُ تلاقَى قفُّها وكثِيبُها
وقالوا دلوكَ الشَّمسِ ما يوردنَّكمْ ... بجهدٍ ومنهمْ مَن يقولُ غرُوبُها
فجاؤوا ولا وردٌ على الماءِ غيرهمْ ... ولا الماءُ مأمونُ الحياضِ شرِيبُها
فأدلَوا فردُّوا سجلَ أجنٍ كأنَّما ... بهِ غسلةٌ حنَّاؤها وصبِيبُها
فعادوا فساموها لكلِّ مطيَّةٍ ... منَ الشَّربِ ما أدَّى إليها ذنُوبُها
فلمَّا سقَوها واستقَوا قلَّصتْ بهمْ ... تخطَّى أهاويّاً لأُخرى تجُوبُها
تراعى بأثلامِ الرِّعانِ كأنَّها ... على مستوًى إصعادُها وصبُوبُها
تُقاسي أولاتَ الظَّعنِ منها فترعوي ... وبالنَّقرِ والأشلاءِ يرقى أدِيبُها
متى ما تدعْنا أو ندعْها لغيرِنا ... فقدْ أُعملتْ حيناً وحلَّتْ لحوبُها
وقال رقيع أيضاً:
أجدَّكَ شاقتكَ الحمولُ البواكرُ ... نعمْ ثمَّ لمْ يعذركَ بالبينِ عاذِرُ
بلى إنَّ نفسي لمْ تلمني ولمْ أبتْ ... على غدرةٍ والخائنُ العهدِ غادِرُ
ولمْ أدرِ ما المكرُ الذي أزمعوا بنا ... فأحذرهُ حتَّى أُمرَّ المرائِرُ
وحتَّى رأيتُ الآلَ يُزهي حمولهمْ ... كما استنَّ من فوقِ الفراتِ القراقِرُ
فسبَّحتُ واسترجعتُ والبينُ روعةٌ ... لمنْ لم يكنْ ترعي عليهِ المقادِرُ
وآنستُ في الأعداءِ حولي شماتةً ... بها نظرتْ نحوي العيونُ النَّواظِرُ
وقال الخليُّونَ انتظرْ أنْ يصورهمْ ... إليكَ إذا ما الصَّيفُ صارَ المصابِرُ
فقلتُ لأصحابي ارحلوا إنَّما المُنى ... لحاقٌ بهمْ إنْ بلَّغتنا الأباعِرُ
تودِّعْ وداعَ البينِ أو ترتجعْ هوًى ... جديداً على عصيانِ مَن لا يوامِرُ
فما ألحقتنا العيسُ حتَّى تفاضلتْ ... وحتَّى على طيَّ البرينِ المكاوِرُ
وحتَّى اعتممنَ البرسَ من خلجِها البُرى ... يكونُ لثاميهِ الذي لا يطايِرُ
إذا ما تغنَّى راكبٌ أجمزتْ بهِ ... جماهرةٌ خطّارةٌ أو جماهِرُ
نسوفُ لطرفِ العينِ أمّاً ورقبةً ... شديد حزيمِ الزَّورِ بالسَّيرِ ماهِرُ
مجدٌّ كقدحِ الفرضِ بالكفِّ صكّهُ ... على عادةٍ منهُ خليعٌ مقامِرُ
بحيثُ التقتْ أحلاسهُ مِن دفوفهِ ... مواردُ مِن أنساعهِ ومصادِرُ
إذا شكَّ لحييهِ لغامٌ أزالهُ ... سديسٌ ونابٌ كالشَّعيرةِ فاطِرُ
وحبّ حبيبٍ قدْ دعاني لهُ الهوى ... وراحلةٍ قد أعملتْها تماضِرُ

عشيَّةَ سلَّمنا عليها فسلَّمتْ ... فماذا ترى أن أيَّ شيءٌ تحاذِرُ
فقلتُ لها عنْ غيرِ سخطٍ ولا الرّضا ... أغيريَ أمْ إيَّايَ غيثكِ ماطِرُ
فقالتْ تعلَّمْ أهلنا ليسَ فيهمِ ... بكلِّ الذي تلقى منَ الوجدِ عاذِرُ
فكنْ منهمُ إنْ كنتَ ترجو هوادةً ... على حذرٍ ما دامَ للزَّيتِ عاصِرُ
وكيفَ ولا أنساكَ عنْ طولِ هجرةٍ ... فأسلو إلاَّ ريثَ ما أنا ذاكِرُ
طوالَ اللَّيالي ما تغنَّتْ حمامةٌ ... يميحُ بها غصنٌ وبالرِّيحِ ناضِرُ
تثنِّي جناحيها إذا آدَ غصنُها ... حذاراً وهولاً أنْ تزلَّ الأظافِرُ
يجاوبُها في الأيكِ منْ بطنِ بيشةٍ ... على هدبِ الأفنانِ ورقٌ نظائِرُ
صوادحُ مثلُ الشَّربِ يُبدي رنينُها ... منَ الشَّوقِ ما كانت تسرُّ السَّرائِرُ
كأنَّ الذي ننعَى لها الميتَ ملعبٌ ... لإصبهبذٍ تُجبى إليهِ الدَّساكِرُ
وقال رقيع:
غدتْ عذَّالتايَ فقلتُ مهلاً ... أفي وجدٍ بليلى تعذُلاني
أعاذلتيَّ مهلاً بعضَ لومي ... كفاني منْ عنائِكما كفانِي
أقلِّي اللَّومَ قدْ حرَّبتُ عيشي ... وقد علِّمتُ إنْ علمٌ نهاني
إذا طاوعتُ علمَكما فمنْ لي ... منَ الغيبِ الذي لا تعلَماني
خليليَّ انظُراني علَّني ... أُقضِّي حاجتي لوْ تربعانِ
ألمَّا بي على رسمٍ قديمٍ ... لليلى بينَ صارةَ والقنانِ
وقفتُ بها فظلَّ الدَّمعُ يجري ... على خدَّيَّ أمثالَ الجمانِ
نسائلُ أينَ صارت دارُ ليلى ... فضنَّ الرَّبعُ عنَّا بالبيانِ
نأتْ ليلى فلا تدنُو نواها ... ولو أُشفى بمنطقِها شفاني
وموماةٍ تملُّ العيس حتَّى ... تقطِّعها بغيطانٍ بطانِ
وهمٍّ قدْ قريتُ زماعَ أمرٍ ... إذا ما الهمُّ بالنُّصبِ اعتراني
قطعتُ بناتحِ الذِّفرى سبنتًى ... سبوحِ المشيِ عوَّامِ الحرانِ
أشجُّ بهِ رؤوسَ البيدِ شجّاً ... إذا ما الآلُ ألوى بالرِّعانِ
إذا ما القومُ منَّوا حادييهمْ ... دنوَّ الشَّيءِ ليسَ لهمْ يدانِ
هناكَ أُهينُ راحلتي ورحلي ... وما لرفيقِ رحلي منْ هوانِ
فذرْ هذا ولكنْ غيرَ هذا ... عنيتُ منَ المقالةِ أوْ عناني
فإنْ كانَ العداوةُ منكَ حقّاً ... تجدِّدُ لي إذنْ حتَّى تراني
فننظرُ ما لديكَ إذا التقيْنا ... وتنزعُ إنْ جريتَ وأنتَ وانِ
فإنْ تعجزْ فقدْ أبليتُ عجزاً ... وإنْ تصبرْ فأنتَ على مكانِ
توارثَني الغواةُ فجرَّبوني ... حفيظَ العقبِ جيَّاشَ العنانِ
ليَ السَّبقُ المبرِّزُ كلَّ يومٍ ... إذا صاحَ الجوالبُ بالرِّهانِ
أصابَ الدَّهرُ منْ جسدي وأبقى ... كما يبقى منَ السِّيفِ اليماني
وقدْ ضحكتْ زنيبةُ منْ شحوبي ... وشيبٍ في المفارقِ قدْ علاني
وماذا الشَّيبُ عنْ قدمٍ ولكنْ ... أشابَ الرَّأسَ روعاتُ الزَّمانِ
وهمٍّ داخلٍ أفنى ثناهُ ... سوادَ اللحمَ منِّي فابتراني
وما قالتْ مقالَتها بغشٍّ ... ولكنْ هوِّلتْ منْ أنْ تراني
وكانَ ليَ الشَّبابُ خليلَ صدقٍ ... فبانَ وما قليتُ ولا قلاني
كذلكَ كلُّ ندمانيْ صفاءٍ ... إلى أجلٍ هما متفرِّقانِ
مسلم بن معبد
وقال مسلم بن معبد الأسدي، وهو ابن عم رقيع، وخرج إلى الشام ليأخذ عطاءه فلما جاء المصدِّق وثب بنو رقيع على إبل مسلم فكتبوها، واعتدوا عليه فيها، وكان العريف منهم. فلما قدم مسلم أُخبر بما صنع بنو رقيع، فقال مسلم:
بكتْ إبلي وحقَّ لها البكاءُ ... وفرَّقها المظالمُ والعداءُ
إذا ذكرتْ عرافةَ آلِ بشرٍ ... وعيشاً ما لأوَّلهِ انثناءُ
ودهراً قد مضى ورجالَ صدقٍ ... سعَوا لي كانَ بعدهمُ الشَّقاءُ
إذا ذُكر العريفُ لها اقشعرَّتْ ... ومسَّ جلودَها منهُ انزواءُ
وكدنَ بذي الرُّبا يدعونَ باسمي ... ولا أرضٌ لديَّ ولا سماءُ
فظلَّتْ وهيَ ضامرةٌ تعادَى ... من الجرّاتِ جاهدَها البلاءُ
تؤمِّلُ رجعةً منِّي وفيها ... كتابٌ مثلَ ما لزقَ الغراءُ

تظلُّ وبعضُها يبكي لبعضٍ ... بكاءَ التُّركِ قسَّمها السِّباءُ
على سححِ الخدودِ شداقماتٍ ... كأنَّ لحَى جماجمِها الفراءُ
كأنَّ عيونهنَّ قلاتُ هضبٍ ... تحدَّرَ من مدامعهنَّ ماءُ
ويلهمنَ السِّجالَ بسرطماتٍ ... تهالكُ في مراشفِها الدِّلاءُ
إذا اعتكرتْ على المركوِّ دقَّتْ ... صفائحهُ وقد ثلمَ الإزاءُ
كأنَّ جذوعَ أخضرَ فارسيٍّ ... تحدَّرَ منْ كوافرهِ المطاءُ
خرجنَ منابتَ الأعناقِ منها ... يزيِّنها القلائدُ والنُّهاءُ
مبيِّنةٌ ترى البصراءَ فيها ... وأفيالَ الرِّجالِ وهمْ سواءُ
يظلُّ حديثُها في القومِ يجري ... ولمْ يكُ منهمُ فيها مراءُ
منَ اللاَّئي يردنَ العيشَ طيباً ... وترقى في معاقلِها الدِّماءُ
تنشَّرُ في الصَّبا وتذودُ عنها ... صميمَ القرِّ أثباجٌ دفاءُ
إذا عقلَ الشِّتاءُ الخورَ باتتْ ... عواشيَ ما يعقِّلها الشِّتاءُ
جلادٌ مثلَ جندلِ لبنَ فيها ... خبورٌ مثلُ ما خسفَ الحساءُ
عذرتُ النَّاسَ غيركَ في أمورٍ ... خلوتُ بها فما نفعَ الخلاءُ
فليسَ على ملامتناكَ لومٌ ... وليسَ على الذي تلقى بقاءُ
ألمَّا أنْ رأيتَ النَّاسَ ليستْ ... كلابهمُ عليَّ لها عواءُ
ثنيتَ ركابَ رحلكَ معْ عدوِّي ... بمختبلٍ وقد برحَ الخفاءُ
ولاخيتُ الرَّجالَ بذاتِ بيني ... وبينكَ حينَ أمكنكَ اللّخاءُ
فأيّ أخٍ لسلمكَ بعدَ حربي ... إذا قومُ العدوِّ دعوا فجاؤوا
فقامَ الشَّرُّ منكَ وقمتَ منهُ ... على رجلٍ وشالَ بكَ الجذاءُ
هنالكَ لا يقومُ مقامَ مثلي ... منَ القومِ الظَّنونُ ولا النّساءُ
وقد عيَّرتني وجفوتَ عنِّي ... فما أنا ويبُ غيركَ والجفاءُ
فقدْ يغنى الحبيبُ ولا يُراخي ... مودَّتهُ المغانمُ والحباءُ
ويوصلُ ذو القرابةِ وهوَ ناءٍ ... ويبقى الدِّينُ ما بقيَ الحياءُ
جزى اللهُ الصَّحابةَ عنكَ شرّاً ... وكلُّ صحابةٍ لهمُ جزاءُ
بفعلهم فإنْ خيراً فخيراً ... وإنْ شرّاً كما مثلَ الحذاءُ
وإيَّاهمْ جزى منِّي وأدَّى ... إلى كلٍّ بما بلغَ الأداءُ
فقد أنصفتهمْ والنّصفُ يرضى ... بهِ الإسلامُ والرَّحمُ البواءُ
لددتهمُ النَّصيحةَ كلَّ لدٍّ ... فمجُّوا النُّصحَ ثمَّ ثنَوا فقاؤوا
إذا مولًى رهبتُ اللهَ فيهِ ... وأرحاماً لها قبلي رعاءُ
رأى ما قدْ فعلتُ بهِ موالٍ ... فقدْ غمرتْ صدورهمُ وداؤوا
وكيفَ بهمْ وإنْ أحسنتُ قالوا ... أسأتَ وإنْ غفرتُ لهمْ أساؤوا
فلا وأبيكَ لا يُلقى لما بي ... وما بهم منَ البلوى شفاءُ
السَّموأل بن عادياء
وقال السَّموأل بن عادياء الأزدي، وهو جاهلي:
إذا المرءُ لمْ يدنسِ منَ اللُّؤمِ عرضهُ ... فكلُّ راءٍ يرتديهِ جمِيلُ
وإنْ هو لمْ يحملْ على النَّفسِ ضيمَها ... فليسَ إلى حسنِ الثَّناءِ سبِيلُ
تعيِّرنا أنَّا قليلٌ عديدُنا ... فقلتُ لها إنَّ الكرامَ قلِيلُ
وما قلَّ منْ كانتْ بقاياهُ مثلنا ... شبابٌ تسامى للعُلا وكهولُ
وما ضرَّنا أنَّا قليلٌ وجارُنا ... عزيزٌ وجارُ الأكرمينَ ذلِيلُ
لنا جبلٌ يحتلُّهُ مَن نجيرهُ ... منيعٌ يردُّ الطَّرفَ وهوَ كلِيلُ
رسا أصلهُ تحتَ الثَّرى وسما بهِ ... إلى النَّجمِ فرعٌ لا ينالُ طوِيلُ
هوَ الأبلقُ الفردُ الذي سارَ ذكرهُ ... يعزُّ على مَن رامهُ ويطُولُ
وإنَّا لقومٌ لا نرى القتلَ سبَّةً ... إذا ما رأتهُ عامرٌ وسلُولُ
يقرِّبُ حبُّ الموتِ آجالَنا لنا ... وتكرههُ آجالهمْ فتطُولُ
وما ماتَ منَّا سيِّدٌ حتفَ أنفهِ ... ولا طلَّ منَّا حيثُ كانَ قتِيلُ
تسيلُ على حدِّ السّيوفِ نفوسُنا ... وليستْ على غيرِ السّيوفِ تسِيلُ
صفوْنا فلمْ نكدرْ وأخلصَ سرَّنا ... إناثٌ أطابتْ حملَنا وفحُولُ
علوْنا إلى خيرِ الظُّهورِ وحطَّنا ... لوقتٍ إلى خيرِ البطونِ نزُولُ

فنحنُ كماءِ المزنِ ما في نصابِنا ... كهامٌ ولا فينا يعدُّ بخِيلُ
وننكرُ إنْ شئنا على النَّاسِ قولهمْ ... ولا ينكرونَ القولَ حينَ نقُولُ
إذا سيِّدٌ منَّا خلا قامَ سيِّدٌ ... قؤولٌ لما قالَ الكرامُ فعُولُ
وما أُخمدتْ نارٌ لنا دونَ طارقٌ ... ولا ذمَّنا في النَّازلينَ نزِيلُ
وأيَّامنا مشهورةٌ في عدوِّنا ... لها غررٌ معلومةٌ وحجُولُ
وأسيافنا في كلِّ شرقٍ ومغربٍ ... بها منْ قراعِ الدَّارعينَ فلُولُ
معوَّدةٌ أنْ لا تسلَّ نصالُها ... فتغمدَ حتَّى يستباحُ قبِيلُ
سَلي إنْ جهلتِ النَّاسَ عنَّا وعنكمُ ... وليسَ سواءٌ عالمٌ وجهُولُ
فإنَّ بني الدّيّانِ قطبٌ لقومهمْ ... تدورُ رحاهمْ حولهمْ وتجُولُ
أبو الأخيل العجليّ
وقال أبو الأخيل العجليّ، وكان آخر أيام بني أمية:
ألا يا اسلمي ذاتَ الدَّماليجِ والعقدِ ... وذاتَ الثَّنايا الغرِّ والفاحمِ الجعْدِ
وذاتِ اللّثاثِ الحوِّ والعارضِ الذي ... بهِ أبرقتْ عمداً بأبيضَ كالشّهْدِ
كأنَّ ثناياها اغتبقنَ مدامةً ... ثوتْ حججاً في رأسِ ذي قنَّةٍ فْردِ
وكيفَ أُرجِّيها وقدْ حالَ دونَها ... نميرٌ وأجبالٌ تعرَّضنَ منْ نجْدِ
لعمري لقدْ مرَّتْ ليَ الطَّيرُ آنفاً ... بما لمْ يكنْ إذْ مرَّتِ الطَّيرُ منْ بدِّ
ظللتُ أُساقي الموتَ إخوتيَ الأُلى ... أبوهمْ أبي عندَ المزاحِ أو الجدِّ
كِلانا يُنادي يا نزارُ وبينَنا ... قناً منْ قنا الخطِّيّ أوْ منْ قنا الهنْدِ
قرومٌ تسامَى منْ نزارٍ عليهمِ ... مضاعفةٌ منْ نسجِ داوودَ والسُّغْدِ
إذا ما حملْنا حملةً مثلوا لنا ... بمرهفةٍ تُذري السَّواعدَ منْ صعْدِ
وإنْ نحنُ نازلناهمُ بصوارمٍ ... ردوا في سرابيلِ الحديدِ كما نردي
كفى حزناً أنْ لا أزالَ أرى القنا ... يمجُّ نجيعاً منْ ذراعي ومنْ عضدي
لعمري لئنْ رمتُ الخروجَ عليهمِ ... بقيسٍ على قيسٍ وعوفٍ على سعْدِ
وضيَّعتُ عمراً والرّبابَ ودارماً ... وعمرو بنَ أُدٍّ كيفَ أصبرُ عنْ أُدِّ
لكنتُ كمهريقِ الذي في سقائهِ ... لرقراقِ آلٍ فوقَ رابيةٍ صلْدِ
كمرضعةٍ أولادَ أُخرى وضيَّعتْ ... بني بطنِها هذا الضَّلالُ عنِ القصْدِ
فأُوصيكُما يا بنيْ نزارٍ فتابعا ... وصيَّةَ مُفضي النُّصحِ والصِّدقِ والودِّ
فلا تعلمنَّ الحربَ في الهامِ هامتي ... ولا ترميا بالنَّبلِ ويْحكُما بعدي
أما ترهبانِ اللهَ في ابنِ أبيكُما ... ولا ترجوانِ اللهَ في جنَّةِ الخلْدِ
فما تربُ أثرى لوْ جمعتُ ترابها ... بأكثرَ من إبنيْ نزارٍ على العدِّ
هُما كنفا الأرضِ اللَّذا لوْ تزعزعا ... تزعزعَ ما بينَ الجنوبِ إلى السُّدِّ
وإنِّي وإنْ غادرتهمْ أو جفوتهمْ ... لتألمُ ممَّا عضَّ أكبادهمْ كبدي
فإنَّ أبي عندَ الحفاظِ أبوهمُ ... وخالهمُ خالي وجدُّهمُ جدي
رماحهمُ في الطُّولِ مثلُ رماحِنا ... وهمْ مثلُنا قدَّ السُّيورِ منَ الجلْدِ
زياد بن زيد
وقال زياد بن زيد العذري بن مالك بن عامر بن ثعلبة بن قرَّة بن خنيس بن ثعلبة بن ذبيان بن الحارث بن سعد بن زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن إلحاف بن قضاعة:
أراكَ خليلاً قدْ عزمتَ التَّجنُّبا ... وقطَّعتَ أوطارَ الفؤادِ المحجَّبا
فوصلاً ولا تقطعْ علائقَ خلَّةٍ ... أُميمة حتَّى بتَّها فتقضَّبا
ولا تكُ كالنَّاسي الخليل إذا دنتْ ... بهِ الدَّارُ والباكي إذا ما تغيَّبا
فسلِّ الهوى أو كنْ إذا ما لقيتَها ... كذي ظفرٍ يرمي إذا الصيدُ أسقَبا
فقدْ أعذرتْ صرفُ الدِّيارِ بأهلِها ... وشحطُ النَّوى بيني وبينكَ مطلَبا
فأصبحَ منْ بعدِ الفراقِ عميدُها ... خليلاً إذا ما النَّأي عنها تطرَّبا
فلا هيَ تألو ما نأتْ وتباعدتْ ... ولا هوَ يألو ما دنا وتقرَّبا
فكيفَ تلومُ النَّفسَ فيما هجرتَها ... وللقلبُ فيما لمتَها كانَ أذنَبا

أطعتُ بها قولَ الوشاةِ فما أرى ال ... وشاةَ انتهُوا عنَّا ولا الدَّهرَ أعتَبا
فهلاَّ صرمْت والجبالُ متينةٌ ... أُميمةَ إنْ واشٍ غويٌّ تكذَّبا
وشعثٍ يجدُّونَ النِّعالَ لضمَّرٍ ... سواهمَ يقطعنَ المليعَ المذبذَبا
جنوحاً كأسرابِ القطا راحَ مقصراً ... روايا فراخٍ بالفلاةِ فأطنَبا
عسفتُ بهمْ داويَّةً ما ترى بها ... هدًى راكبٌ إلاَّ صفيحاً منصَّبا
وكمْ دونها من مهمهٍ وتنوفةٍ ... ومنْ كاشحٍ قدْ جاءَ بعدي فعقَّبا
وراحلةٍ تشكو الكلالَ زجرتُها ... إذا اللَّيلُ عنْ ضوءِ الصَّباحِ تجوَّبا
جماليَّةٍ قدْ غادرتْ في مناخِها ... لدى مجهضٍ كالرَّألِ ذئباً وثعلَبا
وأذهبَ منها النَّصَّ في كلِّ مهمهٍ ... سناماً منَ العاميِّ قدْ كانَ أوصَبا
فصارتْ كجفنِ السَّيفِ حرفاً رذيَّةً ... برى النّي عنها والسَّديفَ الملحَّبا
وأسطعَ نهَّاضٍ أمينٍ فقارهُ ... يعومُ بصلبٍ كالقناطرِ أحدَبا
قذوفٍ إذا ما استأنستْ منْ مناخِها ... سما طرفُها واستوفزتْ لتقرَّبا
تواترُ بينَ الحرَّتينِ كأنَّها ... فريدٌ يراعي بالجنينةِ ربرَبا
إذا خفتَ شكَّ الأمرِ فارمِ بعزمةٍ ... غيابتهُ يركبْ بكَ العزمُ مركبا
وإنْ وجهةٌ سدَّتْ عليكَ فروجُها ... فإنَّكَ لاقٍ لا محالةَ مذهَبا
ولمْ يجعلِ اللهُ الأمورَ إذا اجتدتْ ... عليكَ رتاجاً لا يرامُ مضبَّبا
كذاكَ الفتى يوماً إذا ما تقلَّبتْ ... بهِ صيرفيَّاتُ الأمورِ تقلَّبا
يلامُ رجالٌ قبلَ تجريبِ أمورهمْ ... وكيفَ يلامُ المرءُ حتَّى يجرَّبا
وإنِّي لمعراضٌ قليلٌ تعرُّضي ... لوجهِ امرئٍ يوماً إذا ما تجنَّبا
قليلٌ عِدادي حينَ أُذعرُ ساكناً ... جناني إذا ما الحربُ هرَّتْ لتكلَبا
وحشَّ الكماةُ بالسِّيوفِ وقودَها ... حفاظاً وبالخطّيّ حتَّى تلهَّبا
فلمْ ينسِني الجهلُ الحياءَ ولمْ أكنْ ... أميناً ولمْ أُرسلْ لساني ليخدبا
على النَّاسِ إلاَّ أنْ أرى الدَّاءَ بارزاً ... فأقمعَ نجمَ الدَّاءِ عنِّي فيجلبا
حؤوطٌ لأقصى الأهلِ أُخشى وراءهُ ... مذبٌّ ومثلي عنْ حمى الأصلِ ذبَّبا
وما باتَ جهلي رائحاً مذْ تركتهُ ... وليداً ولا حلمي يبيتُ معزّبا
بحسبكَ ما يُلقيكَ فاجمعْ لنازلٍ ... قراهُ ونوِّبهُ إذا ما تنوَّبا
ولا تنتجعْ شرّاً إذا حيلَ دونهُ ... بسترٍ وهبْ أستارهُ ما تغيَّبا
أنا ابنُ رقاشٍ وابنُ ثعلبةَ الذي ... بنى هادياً يعلو الهواديَ أغلَبا
منَ الغرِّ بنياناً لقومٍ تماصَعوا ... بأسيافهمْ عنهُ فأصبحَ مصعَبا
فما إنْ ترى في النَّاسِ أُمّاً كأُمِّنا ... ولا كأبينا حينَ ننسبهُ أبا
أتمَّ وأنمى بالبنين إلى العُلا ... وأكرمَ منَّا في القبائلِ منصِبا
وأخصبَ في المقرَى وفي دعوةِ النَّدى ... إذا طائفُ الرُّكبانِ طافَ فأحدَبا
ملكْنا ولمْ نُملكْ وقُدنا ولمْ نُقدْ ... وكانَ لنا حقّاً على النَّاسِ ترتَبا
بآيةِ أنَّا لا نرى متتوِّجاً ... منَ النَّاسِ يعلونا بتاجٍ معصَّبا
ولا ملكاً إلاَّ اتَّقانا بمُلكهِ ... ولا سوقةً إلاَّ على الخرجِ أُتعبا
ولدْنا ملوكاً واستبحْنا حماهمُ ... وكنَّا لهمْ في الجاهليَّةِ موكبا
ندامَى وأردافاً فلمْ نرَ سوقةً ... توازنُنا فاسألْ إياداً وتغلبا
وقال زيادة أيضاً:
ألِمَّا بليلى يا خليليَّ واقْصرا ... فما لمْ تزوراها بنا كانَ أكثَرا
وعُوجا المطايا طالَ ما قدْ هجرتُما ... عليها وإنْ كانَ المعوِّجُ أعسَرا
كفى حزناً أن تجمعَ الدَّارُ بينَنا ... بصرمٍ لليلى بعدَ ودٍّ وتهجُرا
ولمْ أرَ ليلى بعدَ يوم لَقيتها ... تكفُّ دموعَ العينِ أنْ تتحدَّرا
منعَّمةٌ يُصبي الحليمَ كلامُها ... تمايلُ في الرُّكنينِ منها تبختُرا
متى يرَها العجلانُ لا يثنِ طرفهُ ... إلى عينهِ حتَّى يحارَ ويحسرا

ولو جُليتْ ليلى على اللَّيلِ مظلماً ... لجلَّتْ ظلامَ اللَّيلِ ليلى فأقمرا
إذا ما جعلْنا منْ سنامٍ مناكباً ... وركناً منَ البقّارِ دونكِ أعفَرا
فقدْ جدَّ جدُّ الهجرِ يا ليلَ بينَنا ... وشحْط النَّوى إلاَّ الهوى والتَّذكُّرا
وكمْ دونَ ليلى بلدةً مسبطرَّةً ... تقودُ فلاها العيسَ حتَّى تحسَّرا
تنفَّذتُ حضنَيها بأمرٍ منضَّخٍ ... وخطّارةٍ تُشري الزِّمامَ المزرَّرا
كأنَّ بذفْراها وبلدةِ زورِها ... إذا نجدتْ نضخَ الكحيلِ المقيَّرا
كأنَّ لها في السَّيرِ لهواً تلذُّهُ ... إذا افترشتْ خبتاً منَ الأرضِ أغبَرا
خبوبُ السُّرى عيرانةٌ أرحبيَّةٌ ... عسوفٌ إذا قرنُ النَّهارِ تدبَّرا
تليحُ بريَّانِ العسيبِ كأنَّهُ ... عثاكيلُ قنوٍ منْ سميحةَ أيسَرا
تسدُّ بهِ طوراً خوايةَ فرجِها ... وطوراً إذا شالتْ تراهُ مشمِّرا
فأجمعتْ جدّاً يا بنَ زيدِ بنِ مالكٍ ... بما كنتَ أحياناً إلى اللَّهوِ أصوَرا
أفاقَ وجلَّى عنْ وقارٍ مشيبهُ ... وأجلى غطاءُ الدَّهرِ عنهُ فأبصَرا
وكنتَ امرءاً منكَ الأناةُ خليقةً ... وشهماً إذا سيمَ الدَّنيَّةَ أنكَرا
أناةَ امرئٍ يأتي الأمورَ بقدرةٍ ... متى ما يردْ لا يعيَ منْ بعدُ مصدَرا
وقدْ غادرتْ منِّي الخطوبُ ابنَ حقبةٍ ... صبوراً على وقعِ الخطوب مذكّرا
إذا ما انتهى عِلمي تناهيتُ عندهُ ... أطالَ فأملَى أو تناهَى فأقصَرا
ولا أركبُ الأمرَ المدوِّيَ علمهُ ... بعميائهِ حتَّى أرونَ وأنظُرا
وما أنا كالعشواءِ تركبُ رأسَها ... وتبرزُ جنباً للمُعادينَ مصحِرا
ويخبرُني عنْ غائبِ الدَّهرِ هديهُ ... كفى الهديُ عمَّا غيَّبَ المرءُ مخبِرا
سبقتَ ابنَ زيدٍ كلَّ قومٍ بقدرةٍ ... فأنتَ الجوادُ جارياً ومغمّرا
هوَ الفيضُ وابنُ الفيضِ أبطأَ جريهُ ... إذا الخيلُ جاءتْ أنْ يجيءَ مصدّرا
وإنْ غلاماً كانَ وارثَ عامرٍ ... ووارثَ ربعيٍّ لأهلٌ ليفخَرا
بنو الصَّالحينَ الصَّالحونَ ومنْ يكنْ ... لآباءِ صدقٍ يلقَهمْ حيثُ سيَّرا
وما المرءُ إلاَّ ثابتٌ في أرومةٍ ... أبى منبتُ العيدانِ أن يتغيَّرا
وأعمامهُ يومَ الهباءةِ أطلقُوا ... أسارى ابنِ هندٍ يومَ تُهدى لقيصَرا
وهمْ رؤساءُ الجمعِ غيرَ تنحُّلٍ ... بثهمدَ إذْ هاجوا بهِ الحيَّ حضَّرا
دفعتُ وقد أعيا الرِّجالُ بدفعِها ... وأصبحَ منِّي مدرهُ القومِ أوجَرا
ومنَّا الذي للحمدِ أوقدَ نارهُ ... يرى ضوءها منْ يافعٍ مَن تنوَّرا
وآذنَ أنْ مَن جاءنا وهوَ خائفٌ ... فإنَّ لهُ مَن كانَ أنْ يتخفَّرا
إذا شاءَ أنْ يرعى معَ النَّاسِ آمناً ... لهُ السَّربُ لا يخشى من النَّاسِ معشَرا
هوَ العودُ إلاَّ ثابتٌ في أرومةٍ ... أبى صالحُ العيدانِ أنْ يتغيَّرا
أُولئكَ قومي كانَ يأمنُ جارهمْ ... ويُحرزُ مولاهمْ إذا السَّرحُ نفِّرا
إذا أبصرَ المولى بحيَّةِ مأزقٍ ... منَ الأرضِ يخشاها أهلَّ وأسفَرا
مطاعيمُ للأضيافِ في كلِّ شتوةٍ ... سِنينَ الرِّياحِ ترجعُ اللِّيطَ أغبَرا
إذا صارتِ الآفاقُ حمراً كأنَّما ... يجلِّلنَ بالنَّوءِ الملاءَ المعصفَرا
هدبة بن الخشرم
وقال هدبة بن الخشرم بن كرز بن حجير بن أسحم بن عامر يرد على زيادة:
تذكَّرتُ شجواً من شجاعةَ مُنصبا ... تليداً ومنتاباً منَ الشَّوقِ محلِبا
تذكَّرتُ حيّاً كانَ في ميعةِ الصِّبا ... ووجداً بها بعَد المشيبِ معقِّبا
إذا كانَ ينساها تردَّدَ حبُّها ... فيالكَ قدْ عنَّى الفؤادَ وعذَّبا
طنًى منْ هواها مستكنٌّ كأنَّهُ ... خليعُ قداحٍ لمْ يجدْ متنشَّبا
فأصبحَ باقي الودّ بيني وبينَها ... رجاءً على يأسٍ وظنّاً مغيّبا
ويومَ عرفتُ الدَّارَ منها ببيشةٍ ... فخلتُ طلولَ الدَّارِ في الأرضِ مذهبا
تبيَّنتُ منْ عهدِ العراصِ وأهلِها ... مرادَ جواري بالصَّفيحِ وملعبا

وأجنفَ مأطورِ القَرى كانَ جنَّةً ... منَ السَّيلِ عالتهُ الوليدةُ أحدبا
بعينيكَ زالَ الحيُّ منها لنيَّةٍ ... قذوفٍ تشوقُ الآلفَ المتطرِّبا
فزمُّوا بليلٍ كلَّ وجناءَ حرَّةٍ ... ذقونٍ إذا ما سائقُ الرَّكبِ أهذبا
وأعيسَ نضّاخِ المقذِّ تخالهُ ... إذا ما تدانى بالظَّعينةِ أنكبا
ظعائنَ مُتباعِ الهوى قذفِ النَّوى ... فرودٍ إذا خافَ الجميعُ تنكَّبا
فقدْ طالَ ما علِّقتْ ليلى مغمَّراً ... وليداً إلى أنْ صارَ رأسكَ أشيبا
فلا أنا أُرضي اليومَ منْ كانَ ساخطاً ... تجنُّبَ ليلى إنْ أرادَ تجنُّبا
رأيتكَ منْ ليلى كذي الدَّاءِ لمْ يجدْ ... طبيباً يداوي ما بهِ فتطبَّبا
فلمَّا اشتفى ممَّا بهِ علَّ طبَّهُ ... على نفسهِ ممَّا بهِ كانَ جرَّبا
فدعْ عنكَ أمراً قدْ تولَّى لشأنهِ ... وقضِّ لباناتِ الهوى إذْ تقضَّبا
بشهمٍ جديليٍّ كأنَّ صريفهُ ... إذا اصطكَّ ناباهُ تغرُّدُ أخطبا
برى أُسَّهُ عنه السِّفارَ فردَّهُ ... إلى خالصٍ منْ ناصعِ اللَّونِ أصهبا
بهِ أجتدي الهمَّ البعيدَ وأجتزي ... إذا وقدَ اليومُ المليعَ المذبذَبا
ألا أيُّهذا المحتدينا بشتمهِ ... كفى بيَ عن أعراضِ قومي مرهبا
وجاريتَ منِّي غيرَ ذي مثنويَّةٍ ... على الدّفعةِ الأولى مبرّاً مجرَّبا
لزازَ حضارٍ يسبقُ الخيلَ عفوهُ ... وساطٍ إذا ضمَّ المحاضر معقِبا
يجول أمام الخيل ثاني عطفه ... إذا صدره بعد التناظر صوبا
تعالَوا إذا ضمَّ المنازلُ منْ منًى ... ومكَّةُ من كلِّ القبائلِ منكِبا
نواضعكمْ أبناءنا عنْ بنيكمُ ... على خيرِنا في النَّاسِ فرعاً ومنصِبا
وخيرٍ لجارٍ من موالٍ وغيرهمْ ... إذا بادرَ القومُ الكنيفَ المنصَّبا
وأسرعَ في المِقرى وفي دعوةِ النَّدى ... إذا رائدٌ للقومِ رادَ فأجدبا
وأقْولَنا للضَّيفِ ينزلُ طارقاً ... إذا كرهَ الأضيافُ أهلاً ومرحبا
وأصبرَ في يومِ الطِّعانِ إذا غدتْ ... رعالاً يبارينَ الوشيجَ المذرَّبا
هنالكَ يُعطي الحقَّ منْ كانَ أهلهُ ... ويغلبُ أهلُ الصِّدقِ منْ كانَ أكذبا
وإنْ تسأموا منْ رحلةٍ أوْ تعجِّلوا ... أنَى الحجِّ أخبركمْ حديثاً مطنّبا
أنا المرءُ لا يخشاكمُ إنْ غضبتمُ ... ولا يتوقَّى سخطكمْ إنْ تغضَّبا
أنا ابنُ الذي فاداكمُ قدْ علمتمُ ... ببطنِ معانٍ والقيادَ المجنَّبا
وجدِّي الذي كنتمْ تطلُّونَ سجّداً ... لهُ رغبةً في ملكهِ وتحوُّبا
ونحنُ رددنا قيسَ عيلانَ عنكمُ ... ومنْ سارَ منْ أقطارها وتألَّبا
بشهباءَ إذْ شبَّتْ لحربٍ شبوبُها ... وغسَّانَ إذْ زافوا جميعاً وتغلبا
بنقعاءَ أظللنا لكمْ منْ ورائهمْ ... بمنخرقِ النَّقعاءِ يوماً عصبصبا
فأُبنا جدالاً سالمينَ وغودِروا ... قتيلاً ومشدود اليدينِ مكلَّبا
ألمْ تعلموا أنَّا نذبِّبُ عنكمُ ... إذا المرءُ عنْ مولاهُ في الرَّوعِ ذبَّبا
وإنَّا نزكِّيكم ونحملُ كلَّكمْ ... ونجبرُ منكمْ ذا العيالِ المعصَّبا
وإنَّا بإذنِ اللهِ دوَّخَ ضربُنا ... لكمْ مشرقاً منْ كلِّ أرضٍ ومغربا
علينا إذا جدَّتْ معدٌّ قديمها ... ليومِ النّجادِ ميعةً وتغلُّبا
وإنَّا أناسٌ لا نرى الحلمَ ذلَّةً ... ولا العجزَ حينَ الجدُّ حلماً مورَّبا
ونحنُ إذا عدَّتْ معدٌّ قديمها ... يعدُّ لنا عدّاً على النَّاسِ ترتَبا
سبقنا إذا عدَّتْ معدٌّ قديمها ... ليومِ حفاظٍ ميعةً وتقلُّبا
وإنَّا لقومٌ لا نرى الحلمَ ذلَّةً ... ولا نبسلُ المجدَ المنى والتَّجلُّبا
وإنَّا نرى منْ أُعدمَ الحلمَ معدماً ... وإنْ كانَ مدثوراً منَ المالِ متربا
وذو الوفرِ مستغنٍ وينفعُ وفرهُ ... وليسَ يبيتُ الحلمُ عنَّا معزِّبا
ولا نخذلُ المولى ولا نرفعُ العصا ... عليهِ ولا نزجي إلى الجارِ عقربا
فهذي مساعينا فجيئوا بمثلِها ... وهذا أبونا فابتغُوا مثلهُ أبا

وكانَ فلا تودُوا عنِ الحقِّ بالمنى ... أفكَّ وأولى بالعلاءِ وأوهبا
لمثنى المئين والأُسارى لأهلِها ... وحمل الضِّباعِ لا يرى ذاكَ مُتعبا
وخيراً لأدنى أصلهِ من أبيكمُ ... وللمُجتدي الأقصى إذا ما تثوَّبا
وقال هدبة يرد على زيادة، وقيل قالها في الحبس بعد قتله زيادة:
عفا ذو الغضا منْ أمِّ عمرٍو فأقفرا ... وغيَّرهُ بعدي البلى فتغيَّرا
وبدِّلَ أهلاً غيرها وتبدَّلتْ ... بهِ بدلاً مبدًى سواهُ ومحضَرا
إلى عصرٍ ثمَّ استمرَّتْ نواهمُ ... لصرفٍ مضى عنْ ذاتِ نفسكَ أعسَرا
وكانَ اجتماعُ الحيِّ حتَّى تفرَّقوا ... قليلاً وكانوا بالتَّفرُّقِ أجدرا
بلِ الزَّائرُ المنْئابُ منْ بعدِ شقَّةٍ ... وطولِ تناءٍ هاجَ شوقاً وذكَّرا
خيالٌ سرى منْ أمِّ عمرٍو ودونَها ... تنائفُ تُردي ذا الهبابِ الميسَّرا
طروقاً وأعقابُ النُّجومِ كأنَّها ... توالي هجانٍ نحوَ ماءٍ تغوَّرا
فقلتُ لها أُوبي فقدْ فاتنا الصِّبا ... وآذنَ ريعانُ الشَّبابِ فأدبَرا
وحالتْ خطوبٌ بعدَ عهدكِ دوننا ... وعدَّى عنِ اللَّهوِ العداءُ فأقصَرا
أمورٌ وأبناءٌ وحالٌ تقلَّبتْ ... بنا أبطناً يا أمَّ عمرٍو وأظهُرا
أُصبنا بما لوْ أنَّ رضوى أصابَها ... لسهَّلَ مِن أركانها ما توعَّرا
فكمْ وجدتْ منْ آمنٍ فهوَ خائفٌ ... وذي نعمةٍ معروفةٍ فتنكَّرا
بأبيضَ يستسقى الغمامُ بوجههِ ... إذا اختيرَ قالوا لمْ يقِلْ مَن تخيَّرا
ثمالِ اليتامى يبرئُ القرحَ مسُّهُ ... وشهمٍ إذا سيمَ الدَّنيَّةِ أنكَرا
صبورٍ على مكروهِ ما يجشمُ الفتى ... ومرٍّ إذا يُبغى المرارةُ ممقِرا
منَ الرَّافعينَ الهم للذّكرِ والعُلا ... إذا لم ينؤْ إلاَّ الكريمُ ليُذكَرا
وريقٍ إذا ما الخابطونَ تعالموا ... مكانَ بقايا الخيرِ أنْ يتأثَّرا
رُزينا فلمْ نعثرْ لوقعتهِ بنا ... ولو كانَ منْ حيٍّ سوانا لأعثَرا
وما دهرُنا ألاّ يكونَ أصابنا ... بثقلٍ ولكنَّا رُزينا لنصبرا
فزالَ وفينا حاضروهُ فلمْ يجدْ ... لدفعِ المنايا حاضرٌ متأخَّرا
كأنْ لمْ يكنْ منَّا ولمْ نستعنْ بهِ ... على نائباتِ الدَّهرِ إلاَّ تذكُّرا
وإنَّا على غمزِ المنونِ قناتنا ... وجدِّكَ حامُو فرعِها أنْ يهصَّرا
بجرثومةٍ في فجوةٍ حيلَ دونها ... سيولُ الأعادي خيفةً أنْ تنمَّرا
أبى ذمَّنا إنَّا إذا قالَ قومُنا ... بأحسابِنا أثنَوا ثناءً محبَّرا
وإنَّا إذا ما النَّاسُ جاءت قرومهمْ ... أتيْنا بقرمٍ يفرعُ النَّاسَ أزهَرا
ترى كلَّ قرمٍ يتَّقيهِ مخافةً ... كما تتَّقي العجمُ العزيزَ المسوَّرا
ومعضلةٍ يدعى لها منْ يزيلُها ... إذا ذكرتْ كانتْ سناءً ومفخَرا
دفعتُ وقدْ عيَّ الرِّجالُ بدفعِها ... وأصبحَ منِّي مدرهُ القومِ أوجَرا
أخذنا بأيدينا فعادَ كريهُها ... مخفّاً ومولًى قدْ أجبْنا لننصُرا
بغيرِ يدٍ منهُ ولا ظلمِ ظالمٍ ... نصرناهُ لمَّا قامَ نصراً مؤزَّرا
فإنْ ننجُ منْ أهوالِ ما خافَ قومُنا ... علينا فإنَّ اللهَ ما شاءَ يسَّرا
فإنْ غالنا دهرٌ فقد غالَ قبلَنا ... ملوكُ بني نصرٍ وكسرى وقيصَرا
وآباؤنا ما نحنُ إلاَّ بنوهمُ ... سنلقى الذي لاقَوا حماماً مقدَّرا
وعوراءَ منْ قولِ امرئٍ ذي قرابةٍ ... تصاممتُها ولوْ أساءَ وأهجَرا
كرامةَ حيٍّ غيرةً واصطناعةً ... لدابرةٍ إنْ دهرُنا عادَ أزوَرا
وذي نيربٍ قدْ عابَني لينالَني ... فأعيى مداهُ عنْ مدايَ فأقصَرا
وكذَّبَ عيبَ العائبينَ سماحَتي ... وصبري إذا ما الأمرُ عضَّ فأضجَرا
وإنِّي إذا ما الموتُ لمْ يكُ دونهُ ... مدى الشِّبرِ أحمي الأنفَ أنْ أتأخَّرا
وأمرٍ كنصلِ السَّيفِ صلتاً حذوتهُ ... إذا الأمرُ أعيى موردَ الأمرِ مصدرا
فإنْ يكُ دهرٌ نابَني فأصابَني ... بريبٍ فما تُشوي الحوادثُ معشَرا

فلا خاشعٌ للنَّكبِ منهُ كآبةً ... ولا جازعٌ إنْ صرفُ دهرٍ تغيَّرا
وقدْ أبقتِ الأيَّامُ منِّي حفيظةً ... على جلِّ ما لاقيتُ واسماً مشهَّرا
فلستُ إذا الضَّرَّاءُ نابتْ بجُبَّأ ... ولا قصفٍ إنْ كانَ دهرٌ تنكَّرا
وقال هدبة أيضاً وهو في سجن المدينة:
أبى القلبُ إلاَّ أُمَّ عمرٍو وما أرى ... نواها وإنْ طالَ التَّذكُّرُ تسعفُ
وجرَّتْ صروفُ الدَّهرِ حتَّى تقطَّعتْ ... وقد يخلقُ النَّأيُ الوصالَ فيضعفُ
وقدْ كنتُ لا حبٌّ كحبِّي مضمرٌ ... يعدُّ ولا إلفٌ كما كنتُ آلفُ
منَ البيضِ لا يسلي الهمومَ طلابُها ... فهلْ للصِّبا إذْ جاوزَ الهمَّ موقفُ
رداحٌ كأنَّ المرطَ منها برملةٍ ... هيامٍ وما ضمَّ الوشاحانِ أهيفُ
أسيلةُ مجرى الدَّمعِ يرضى بوصلِها ... مطالبُها ذو النِّيقةِ المتطرِّفُ
كأنَّ ثناياها وبردَ لثاتِها ... بُعيدَ الكرى يجري عليهنَّ قرقفُ
شمولٌ كأنَّ المسكَ خالطَ ريحها ... وضمِّنها جونُ المناكبِ أكلفُ
تشابُ بماءِ المزنِ في ظلِّ صخرةٍ ... تقيها منَ الأقذاءِ نكباءُ حرجفُ
وما مغزلٌ أدماءُ تُضحي أنيقةً ... بأسفلَ وادٍ سيلهُ متعطِّفُ
بأحسنَ منها يومَ قامتْ وعينُها ... بعبرتِها منْ لوعةِ البينِ تذرفُ
وليلٍ لألقى أمَّ عمرٍو سرَيتهُ ... يهابُ سراهُ المدلجُ المتعسِّفُ
ومنشقِّ أعطافِ القميصِ كأنَّهُ ... صقيلٌ بدا منْ خلَّةِ الجفنِ مرهفُ
نصبتُ وقدْ لذَّ الرُّقادُ بعينهِ ... لذكراك والحبُّ المتيَّمُ يشعفُ
وداويَّةٍ قفرٍ يحارُ بها القطا ... بها منْ رذايا العيسِ حسرَى وزحَّفُ
عسفتُ بُعيدَ النَّومِ حتَّى تقطَّعتْ ... تنائفُها والكورُ بالكورِ مردفُ
إذا نفنفٌ بادي المياهِ قطعنهُ ... نواشطَ بالموماةِ أعرضَ نفنفُ
بعيدٌ كأنَّ الآلَ فيهِ إذا جرى ... على مستوى الحزَّانِ ريطٌ مفوَّفُ
لعمري لئنْ أمسيتُ في السِّجنِ عانياً ... عليَّ رقيبٌ حارسٌ متقوِّفُ
إذا سبَّني أغضيتُ بعدَ حميَّةٍ ... وقدْ يصبرُ المرءُ الكريمُ فيعرفُ
لقدْ كنتُ صعباً ما ترامُ مقادَتي ... إذا معشرٌ سِيموا الهوانَ فأخنفوا
وقال هدبة أيضاً في السجن:
أتنكرُ رسمَ الدّارِ أمْ أنتَ عارفُ ... ألا لا بلِ العرفانُ فالدَّمعُ ذارفُ
رشاشاً كما انهلَّتْ شعيبٌ أسافها ... عنيفٌ بخرزِ السَّيرِ أو متعانفُ
بمنخرقِ التَّقعينِ غيَّر رسمها ... مرابعُ مرَّتْ بعدنا ومصايفُ
كلفتُ بها لا حبَّ من كان قبلها ... وكلُّ محبٍّ لا محالةَ آلفُ
إذِ النَّاسُ ناسٌ والبلادُ بغرَّةٍ ... وإذ أمُّ عمَّارٍ صديقٌ مساعفُ
وإذ نحنُ أمّا من مشى بمودَّةٍ ... فنرضى وأمّا من مشى فنخالفُ
إذا نزواتُ الحبِّ أحدثنَ بيننا ... عتاباً تراضينا وعادَ العواطفُ
وكلُّ حديثِ النَّفسِ ما لم ألاقها ... رجيعٌ ومما حدَّثتكَ طرائفُ
وإنِّي لأخلي للفتاة فراشها ... وأُكثرُ هجرَ البيتِ والقلبُ آلفُ
حذارَ الرَّدى أو خشيةً أن تجرَّني ... إلى موبقٍ أرمي به أو أقاذفُ
وإني بما بينَ الضُّلوعِ من امرئٍ ... إذا ما تنازعنا الحديثَ لعارفُ
ذكرتُ هواها ذكرةً فكأنَّما ... أصابَ بها إنسانَ عينيَّ طارفُ
ولم ترَ عيني مثلَ سربٍ رأيتهُ ... خرجنَ علينا من زقاقِ ابنِ واقفُ
خرجنَ بأعناقِ الظِّباءِ وأعينِ ال ... جآذرِ وارتجَّتْ بهنَّ الرَّوادفُ
طلعنَ علينا بينَ بكرٍ غريرةٍ ... وبينَ عوانٍ كالغمامةِ ناصفُ
خرجنَ علينا لا غُشينَ بهوبةٍ ... ولا وشوشيَّاتُ الحجالِ الزَّعانفُ
تضمَّخنَ بالجاديِّ حتَّى كأنَّما ... الأنوفُ إذا استعرضتهنَّ رواعفُ
كشفنَ شنوفاً عن شنوفٍ وأعرضتْ ... خدودٌ ومالتْ بالفروعِ السَّوالفُ
يدافعنَ أفخاذاً لهنَّ كأنَّها ... من البُدنِ أفخاذُ الهجانِ العلائفُ
عليهنَّ من صنعِ المدينةِ حليةٌ ... جمانٌ كأعناقِ الدَّبا ورفارفُ

إذا خرقتْ أقدامهنَّ بمشيةٍ ... تناهينَ وانباعتْ لهنَّ النَّواصفُ
ينؤنَ بأكفالٍ ثقالٍ وأسوقٍ ... خدالٍ وأعضادٍ كستها المطارفُ
ويكسرنُ أوساطَ الأحاديثِ بالمنى ... كما كسرَ البرديَّ في الماءِ غارفُ
وأدْنينني حتَّى إذا ما جعلنني ... لدى الخصر أو أدنى استقلَّكَ راجفُ
فإنْ شئتِ والله انصرفتِ وإنَّني ... من أن لا تريني بعد هذا لخائفُ
رأتْ ساعديْ غولٍ وتحتَ ثيابهِ ... جناجنُ يدمى حدَّها وقراقفُ
وقد شأزتْ أمُّ الصَّبيَّينِ أن رأتْ ... أسيراً بساقيهِ ندوبٌ نواسفُ
فإنْ تنكري صوتَ الحديدِ ومشيةً ... فإنِّي بما يأتي به الله عارفُ
وإن كنتِ من خوفٍ رجعتِ فإنَّني ... من الله والسُّلطانِ والإثمِ راجفُ
وقد زعمتْ أمُّ الصَّبيَّينِ أنَّني ... أقرَّ فؤادي وازدهتني المخاوفُ
وقد علمتْ أمُّ الصَّبيَّينِ أنَّني ... صبورٌ على ما جرَّفتني الجوارفُ
وإنِّي لعطَّافٌ إذا قيلَ من فتى ... ولم يكُ إلاَّ صالحُ القومِ عاطفُ
وأوشكُ لفَّ القومِ بالقومِ للتي ... يخافُ المرجَّى والحرونُ المخالفُ
وإنِّي لأرجي المرءَ أعرفُ غشَّهُ ... وأعرضُ عن أشياءَ فيها مقاذفُ
فلا تعجبي أمُّ الصَّبيَّينِ قد تُرى ... بنا غبطةٌ والدَّهرُ فيه عجارفُ
عسى آمناً في حربنا أن تصيبهُ ... عواقبُ أيامٍ ويأمنَ خائفُ
فيبكينَ من أمسى بنا اليومَ شامتاً ... ويعقبننا إنَّ الأمورَ صرائفُ
وإن يكُ أمرٌ غيرَ ذاكَ فإنَّني ... لراضٍ بقدرِ الله للحقِّ عارفُ
وإنِّي إذا أغضى الفتى عن ذمارهِ ... لذو شفقٍ على الذِّمارِ مشارفُ
وينفخُ أقوامٌ عليَّ بحورهمْ ... وعيداً كما تهوي الرِّياحُ العواصفُ
وأطرقُ إطراقَ الشُّجاعِ وإنني ... شهابٌ لدى الهيجا ونابٌ مقاصفُ
وداويَّةٍ سيرُ القطا من فلاتها ... إلى مائها خمسٌ لها متقاذفُ
بطونٌ من الموماةِ بعَّدَ بينها ... ظهورٌ بعيدٌ تيهها وأطائفُ
يحارُ بها الهادي ويغتالُ ركبها ... تنائفُ في أطرافهنَّ تنائفُ
هواجرُ لو يُشوى بها النَّيُّ أنضجتْ ... متونَ المها من طبخهنَّ شواسفُ
ترى ورقَ الفتيانِ فيها كأنَّها ... دارهم منها جائزاتٌ وزائفُ
يظلُّ بها عيرُ الفلاةِ كأنَّهُ ... من الحرِّ مرثومُ الخياشيمِ راعفُ
إذا ما أتاها القومُ هوَّلَ سيرهمْ ... تجاوبُ جنّانٍ بها وعوارفُ
ويومٍ من الجوزاءِ يلجأ وحشهُ ... إلى الظِّلِّ حتَّى اللَّيلَ هنَّ حواقفُ
يظلُّ بها الهادي يقلِّبُ طرفهُ ... من الهولِ يدعو لهفهُ وهو واقفُ
قطعتُ بأطلاحٍ تخوَّنها السُّرى ... فدقَّ الهوادي والعيونُ ذوارفُ
ملكتُ بها الإدلاجَ حتَّى تخدَّدتْ ... عرائكها ولان منها السَّوالفُ
وحتَّى التقتْ أحقابها وغروضها ... إذا لم يقدَّم للغروضِ السَّنائفُ
نفى السَّيرُ عنها كلَّ ذاتِ ذمامةٍ ... فلم يبقَ إلاَّ المشرفاتُ العلائفُ
من العيسِ أو جلسٍ وراءَ سديسهِ ... له بازلٌ مثلُ الجمانةِ رادفُ
معي صاحبٌ لا يشتكي الصّاحبُ العدى ... صحابتهم ولا الخليطُ الموالفُ
سراةٌ إذا آبوا ليوثٌ إذا دعوا ... هداةٌ إذا أعيى الظَّنونُ المصادفُ
إذا قيلَ للمعيى به وزميلهِ ... تروَّحْ فلم يسطعْ وراحَ المسالفُ
رأوا شركةً فيهنَّ حقّاً وكلَّفوا ... أولاتِ البقايا ما أكلَّ الضَّعائفُ
أولاتِ المراحِ الخانفاتِ على الوجى ... إذا قاربَ الشَّدَّ القصارُ الكواتفُ
فبلَّغنَ حاجاتٍ وقضَّينَ حاجةً ... وفي الحيِّ حاجاتٌ لنا وتكالفُ
ونعمَ الفتى ولا يودَّعُ هالكاً ... ولا كذباً أبو سليمانَ عاطفُ
لجارتهِ الدُّنيا وللجانبِ العدى ... إذا الشَّولُ راحتْ وهي حدبٌ شواسفُ
وبادرها قصرَ العشيَّةِ قرمها ... ذرى البيتِ يغشاهُ من القُرِّ آزفُ
ينفِّضُ عن أضيافهِ ما يرى بهمْ ... رحيمانِ ساعٍ بالطَّعامِ ولاحفُ

كأنَّ لم يجد بؤساً ولا جوعَ ليلةٍ ... وفي الخيرِ والمعروفِ للضُّرِّ كاشفُ
يبيتُ عن الجيرانِ معزبُ جهلهِ ... مريح حواشي الحلم للخير واصفُ
إذا القومُ هشُّوا للطِّعانِ وأشرعوا ... صدورَ القنا منها مزجٍّ وخاطفُ
مضى قدماً ينمي الحياةَ عناؤهُ ... ويدعو الوفاةَ الخلد ثبتٌ مواقفُ
هو الطاعنُ النَّجلاءَ منفذُ نصلِها ... كمبدئها منها مرشٌّ وواكفُ
وما كان مما نالَ فيها كلالةً ... ولا خارجّاً أنفذتهُ التَّكالفُ
وقال هدبة أيضاً:
ألا علِّلاني والمعلِّلُ أروحُ ... وينطقُ ما شاءَ اللِّسانُ المسرَّحُ
بأجَّانةٍ لو أنَّها خرَّ بازلٌ ... منَ البختِ فيها ظلَّ للشِّقِّ يسبحُ
وقاقزَّةٍ تجري على متنِ صفوةٍ ... تمرُّ لنا مرّاً سنيحاً وتبرحُ
رفعتُ بها كفِّي ونادَمني بها ... أغرُّ كصدرِ الهُندوانيِّ شرمحُ
متى يرَ منِّي نبوةً لا يُشدْ بها ... وما يرَ منْ أخلاقيَ الصِّدقَ يفرحُ
أغادٍ عدوّاً أنتَ أمْ متروِّحُ ... لعلَّ الأنى حتَّى غدٍ هوَ أروحُ
لعلَّ الذي حاولتَه في تئِيَّةٍ ... يواتيكَ والأمرَ الذي خفتَ ينزحُ
وللدَّهرِ في أهلِ الفتى وتلادهِ ... نصيبٌ كقسمِ اللَّحمِ أو هوَ أبرحُ
وحبَّ إلى الإنسانِ ما طالَ عمرهُ ... وإن كانَ يشقى في الحياةِ ويقبحُ
تغرُّهمُ الدُّنيا وتأميلُ عيشِها ... ألا إنَّما الدُّنيا غرورٌ مترِّحُ
وآخرُ ما شيءٍ يعولكَ والذي ... تقادمَ تنساهُ وإنْ كانَ يفرحُ
ويومٍ منَ الشِّعرى تظلُّ ظباؤهُ ... بسوقِ العضاهِ عوَّذاً ما تبرَّحُ
شديدِ اللَّظى حامي الوديقةِ ريحهُ ... أشدُّ لظًى منْ شمسهِ حينَ يصمحُ
تنصَّبَ حتَّى قلَّصَ الظِّلُّ بعدما ... تطاولَ حتَّى كادَ في الأرضِ يمصحُ
أزيزَ المطايا ثمَّ قلتُ لصُحبتي ... ولمْ ينزِلوا أبردتمُ فتروَّحوا
فراحوا سراعاً ثمَّ أمسَوا فأدلجوا ... فهيهاتَ من ممساهمُ حيثُ أصبحوا
وخرقٍ كأنَّ الرَّيطَ تخفقُ فوقهُ ... مع الشَّمسِ لا بلْ قبلَها يتضحضحُ
على حين يُثني القومُ خيراً على السُّرى ... ويظهرُ معروفٌ منَ الصُّبحِ أفصحُ
نفى الطَّيرَ عنهُ والأنيسَ فما يُرى ... به شبحٌ ولا منَ الطَّيرِ أجنحُ
قطعتُ بمرجاعٍ يكونُ جنينُها ... دماً قطعاً في بولها حينَ تلقحُ
يداها يدا نوّاحةٍ مستعانةٍ ... على بعلِها غيرَى فقامتْ تنوَّحُ
تجودُ يداها فضلَ ما ضنَّ دمعُها ... عليهِ فتاراتٍ ترنُّ وتصدحُ
لها مقلتا غيرَى أُتيحَ لبعلِها ... إلى صهرِها صهرٌ سنيٌّ ومنكحُ
فلمَّا أتاها ما تلبَّسَ بعدها ... بصاحبَها كادتْ منَ الوجدِ تنبحُ
فقامتْ قذورَ النَّفسِ ذاتَ شكيمةٍ ... لها قدمٌ في قومِها وتبحبحُ
يخفِّضها جاراتُها وهيَ طامحُ ... الفؤادِ وعيناها من الشَّرِّ أطمحُ
فدعْ ذا ولكنْ هلْ ترى ضوءَ بارقٍ ... قعدتُ لهُ من آخرِ اللَّيلِ يلمحُ
يضيءُ صبيراً منْ سحابٍ كأنَّه ... جبالٌ علاها الثَّلجُ أوْ هو أوضحُ
فلمَّا تلافتهُ الصَّبا قرقرتْ بهِ ... وألقى بأرواقٍ عزاليهِ تسفحُ
طوالٌ ذراهُ في البحورِ كأنَّه ... إذا سارَ مجذوذُ القوائمِ مكبحُ
سقى أمَّ عمرٍو والسَّلامُ تحيَّةٌ ... لها منكَ والنَّائي يودُّ وينصحُ
سجالٌ يسحُّ الماءُ حتَّى تهالكتْ ... بطونُ روابيهِ منَ الماءِ دلَّحُ
أجشُّ إذا حنَّتْ تواليهِ أرزمتْ ... مطافيلهُ تلقاءَ ما كادَ يرشحُ
فلم يبقَ ممَّا بينَنا غيرَ أنَّني ... محبٌّ وأنِّي إنْ نأتْ سوفَ أمدحُ
وإنَّ حراماً كلُّ مالٍ منعتهُ ... تريدينهُ ممَّا نريحُ ونسرحُ
وعهدي بها والحيُّ يدعونَ غرَّةً ... لها أنْ يراها النَّاظرُ المتصفحُ
منَ الخفراتِ البيضِ تحسبُ أنَّها ... إذا حاولتْ مشياً نزيفٌ مرنحُ
وفيما مضَى منْ سالفِ الدَّهرِ للفتى ... بلاءٌ وفيما بعدهُ متمنَّحُ

قليلٌ منَ الفتيانِ منْ هوَ صابرٌ ... مثيبٌ بحقِّ الدَّهرِ فيما يروِّحُ
على أنَّ عرفاناً إذا لم يكنْ لهمْ ... يدانِ بما لمْ يملِكوا أنْ يُزحزحوا
أبو وجزة السلمي
وقال أبو وجزة السلمي، واسمه يزيد بن أبي عبيد:
ألمْ تعجبا للجارياتِ البوارِحِ ... جرتْ ثمَّ قفَّتها جدودُ السَّوانِحِ
تخبِّرنا أنَّ العشيرةَ جامعٌ ... بها عقرُ دارٍ بعدَ نأيٍ مضارِحِ
فقلتُ وهشَّ القلبُ للطَّيرِ إذْ جرتْ ... عسى اللهُ إنَّ اللهَ جمُّ الفواتِحِ
وهيَّج أحزاناً عليَّ وعبرةً ... مغاني ديارٍ منْ جديدٍ وماصِحِ
لقوميَ إذْ قومي جميعٌ نواهمُ ... وإذْ أنا في حيٍّ كثيرِ الوضائِحِ
عفتْ مرُّ منْ أحياءِ سعدٍ فأصبحتْ ... بسابسَ لا نارٌ ولا نبحُ نابِحِ
فأجراعُ أوسافٍ فأعوصُ كلُّه ... فبينةُ فالرَّوضاتُ حتَّى المقازِحِ
كأنْ لمْ يكنْ بينَ الثَّنيَّةِ منهمُ ... وتقتدِ حزمٍ منْ غريبٍ ورائِحِ
فبحرةُ مسحُ مائهِ فضعاضعٌ ... فصُوَّتهُ ذاتُ الرُّبا والمنادِحِ
إذ الحيُّ والحومُ المسيَّرُ وسطَنا ... وإذْ نحنُ في حالٍ منَ العيشِ صالحِ
وذو حلقٍ تُقضى العواذيرُ بينهُ ... يلوحُ بأخطارٍ عظامِ اللَّقائِحِ
وإذْ خطْرتانا والعلاطانِ حليةٌ ... على الهجمةِ الغلبِ الطّوالِ السَّرادِحِ
أناعيمُ محمودٌ قراها وقيلُها ... وصابحُها أيامَ لا رفدُ صابِحِ
نكبُّ الأكاميَّ البوائكَ وسطَنا ... إذا كثرتْ في النَّاسِ دعوَى الوحاوِحِ
فلمْ أرَ قوماً مثلَ قوميَ إذْ همُ ... بأوطانهمْ أعطى وأغلى المرابِحِ
وأعبطَ للكوماءِ يرغُو حوارُها ... وأندًى أكفّاً بينَ معطٍ ومانِحِ
وأكثرَ منهمْ قائماً بمقالةٍ ... تفرِّجُ بينَ العسكرِ المتطاوِحِ
كأن لمْ يكنْ عوفُ بنُ سعدٍ ولم تكنْ ... بنو الحشرِ أبناءَ الطِّوالِ الشَّرامِحِ
وحيٍّ حلالٍ منْ غويثٍ كأنَّهمْ ... أُسودُ الشَّرى في غيلهِ المتناوِحِ
ولم يغنَ منْ حيَّانَ حيٌّ وجابرٌ ... بهاليل أمثال السّيوفِ الجوارِحِ
مطاعيمُ ضرّابونَ للهامِ قادةٌ ... معاطٍ بأرسانِ الجيادِ السَّوابِحِ
لهمْ حاضرٌ لا يجهلونَ وصارخٌ ... كسيلِ الغوادي يرتمي بالقوازِحِ
فإنْ كانَ قومي أصبحوا حوَّطَتهمُ ... نوًى ذاتُ أشطانٍ لبعضِ المطارِحِ
فما كانَ قومي ضارعينَ أذلَّةً ... ولا خذلاً عندَ الأمورِ الجوارِحِ
وقدْ علموا ما كنتُ أهدمُ ما بنَوا ... وما أنتحي عيدانهم بالقوادِحِ
وما كنتُ أسعى أبتغي عثراتهمْ ... وما أغتدي فيها ولستُ برائِحِ
وإنِّي لعيَّابٌ لمنْ قالَ عيبهمْ ... وإنِّي لمدَّاحٌ لهمْ قولَ مادِحِ
فبلِّغْ بني سعدِ بن بكرٍ ملظَّةً ... رسولَ امرئٍ بادي المودَّةِ ناصِحِ
بأنَّ العتيقَ البيتَ أمسى مكانهُ ... وقبرَ رسول اللهِ ليسَ ببارِحِ
مقيمينَ حتَّى ينفخَ الصُّورُ نفخةً ... وأخرى فيُجزى كدحهُ كلُّ كادِحِ
فإنِّي لعمري لا أبيعهُما غداً ... بشعبٍ ولا شيبانَ بيعَ المسامِحِ
ولا أشتري يوماً جوارَ قبيلةٍ ... بجيرانِ صدقٍ منْ قريشِ الأباطِحِ
هلمَّ إلى الأثْرينِ قيسٍ وخندفٍ ... وساحةِ نجدٍ والصُّدورِ الصَّحائِحِ
ولا تقذفوني في قضاعةَ عاجزتْ ... قضاعةُ واستولتْ حطاطَ المجامِحِ
أبَوا أنْ يكونوا من معدٍّ قريحةً ... حديثاً فإنَّا علمُ تلكَ القرائِحِ
لعمري لئنْ كانتْ قضاعةُ فارقتْ ... على غيرِ جدّادٍ منَ القولِ واضِحِ
لأغنِ بنا عنْ صاحبٍ متقلِّبٍ ... وعن كلِّ ذوَّاقٍ وملٍّ مراوِحِ
فإنَّا ومولانا ربيعة معشرٌ ... نعيشُ على الشَّحناءِ منْ كلِّ كاشِحِ
بنو علَّةٍ ما نحنُ فينا جلادةٌ ... زبنُّونَ صمَّاحونَ ركنَ المصامِحِ
المفضل النكريّ
وقال المفضل النكريّ من عبد القيس، واسمه عامر بن معشر بن أسحم:
أحقّاً أنَّ جيرتَنا استقلُّوا ... فنيَّتنا ونيَّتهم فريقُ

فدمعي لؤلؤٌ سلسٌ عراهُ ... يخرُّ على المهاوي ما يلِيقُ
على الرَّبلاتِ إذْ شحطتْ سليمى ... وأنتَ بذكرِها طربٌ تشُوقُ
فودِّعها وإنْ كانتْ أناةً ... مبَّتلةً لها خلقٌ أنِيقُ
تلهِّي المرءَ بالحدثانِ لهواً ... وتحدجهُ كما حُدجَ المطِيقُ
فإنَّكَ لو رأيتَ غادةَ جئنا ... ببطنِ أُثالَ ضاحيةً نسُوقُ
لقينا الجهمَ ثعلبةَ بن سيرٍ ... أضرَّ بمنْ يجمِّعُ أو يسُوقُ
لدى الأعلامِ منْ تلعاتِ طفلٍ ... ومنهمْ منْ أضجَّ بهِ الفرُوقُ
فحوَّطَ عن بني بكرِ بنِ عوفٍ ... وأفناءُ العمورِ بهمْ شفِيقُ
فداءٌ خالتي لبني حييٍّ ... خصوصاً يومَ كسُّ القومِ رُوقُ
همْ صبروا وصبرهمُ تليدٌ ... على العزّاءِ إذْ بلغَ المضِيقُ
وهمْ رفعوا المنيَّةَ فاستقلُّوا ... دراكاً بعدَما كادتْ تحِيقُ
وهمْ علُّوا الرِّماحَ فأنهلوها ... وقدْ خامَ المهلِّلةُ البرُوقُ
تلاقينا برغبةِ ذي طريفٍ ... وبعضهمُ على بعضٍ حنِيقُ
مشينا شطرهمْ ومشَوا إلينا ... وقلنا اليومَ ما تُقضى الحقُوقُ
فجاؤوا عارضاً برداً وجئنا ... كماءِ السَّيلِ ضاقَ بهِ الطَّريقُ
رمينا في وجوههمِ برشقٍ ... تغصُّ بهِ الحناجرُ والحلُوقُ
كأنَّ النَّبلَ بينهمُ جرادٌ ... تكفِّئهُ شآميَّةٌ خرِيقُ
وبسلٌ أنْ ترى فيهمْ كميّاً ... كَبا ليديهِ إلاَّ فيهِ فُوقُ
يهزهزُ صعدةً جرداء فيها ... سنانُ الموتِ أو قرنٌ محِيقُ
وجدْنا السِّدرَ خوّاراً ضعيفاً ... وكانَ النَّبعُ منبتهُ وثِيقُ
فألقينا الرِّماحَ وكانَ ضرباً ... مقيلَ الهامِ كلٌّ ما نذُوقُ
وجاوزتُ المنونَ بغيرِ نكسٍ ... وخاظي الجلزِ ثعلبهُ دقِيقُ
كأنَّ هزيزَنا يومَ التقينا ... هزيزَ أشاءةٍ فيها حرِيقُ
بكلِّ قرارةٍ وبكلِّ ريعٍ ... بنانُ فتًى وجمجمةٌ فلِيقُ
وكمْ منْ سيِّدٍ منَّا ومنهمْ ... بذي الطَّرفاءِ منطقهُ شهِيقُ
بكلِّ محالةٍ غادرنَ خرقاً ... منَ الفتيانِ مبسمهُ رقِيقُ
فأشبعنا السِّباعَ وأشبعوها ... فراحتْ كلّها تئقٌ يفوقُ
تركنا العرجَ عاكفةً عليهمْ ... وللغربانِ منْ شبعٍ نغِيقُ
فأبكينا نساءهمُ وأبكَوا ... نساءً ما يسوغُ لهنَّ رِيقُ
يجاوبنَ النُّباحَ بكلِّ فجرٍ ... فقدْ صلحتْ منَ النَّوحِ الحلُوقُ
فتلْنا الحارثَ الوضَّاحَ منهم ... كأنَّ سوادَ لمَّتهِ العذُوقُ
أصابتهُ رماحُ بني حييٍّ ... فخرَّ كأنَّه سيفٌ دلُوقُ
وقدْ قتلوا بهِ منَّا غلاماً ... كريماً لمْ تأشَّبهُ العرُوقُ
وسائلةٍ بثعلبةِ بنِ سيرٍ ... وقدْ أودتْ بثعلبةَ العلُوقُ
وأفلتْنا ابنَ قرّانٍ جريضاً ... تمرُّ بهِ مساعفةٌ خزُوقُ
تشقُّ الأرضَ شائلةَ الذُّنابى ... وهادِيها كأنْ جذعٌ سحِيقُ
فلمَّا أيقنُوا بالصَّبرِ منَّا ... تذُكِّرتِ العشائرُ والحدِيقُ
فأبقينا ولوْ شئنا تركْنا ... لجيماً ما تقودُ وما تسُوقُ
عمرو بن قعاس
وقال عمرو بن قعاس المرادي:
ألا يا بيتُ بالعلياءِ بيْتُ ... ولولا حبُّ أهلكَ ما أتيْتُ
ألا يا بيتُ أهلكَ أوعدُوني ... كأنِّي كلَّ ذنبهمِ جنيْتُ
إذا ما فاتَني لحمٌ غريضٌ ... ضربتُ ذراعَ بكري فاشتويْتُ
أُرجِّلُ ذمَّتي وأجرُّ ذيلي ... وتحملُ شكَّتي أفقٌ كميْتُ
وسوداءِ المحاجرِ إلفِ صخرٍ ... تلاحظُني التَّطلعَ قدْ رميْتُ
وغصنٍ لمْ تنلْهُ كفُّ جانٍ ... مددتُ إليهِ كفِّي فاجتنيْتُ
وتامورٍ هرقتُ وليسَ خمراً ... وحبَّةِ غيرِ طاحنةٍ قضيْتُ
وبركٍ قد أثرتُ بمشرفيٍّ ... إذا ما زلَّ عنْ عقرٍ رميْتُ
وعاديةٍ لها ذنبٌ طويلٌ ... رددتُ بمضغةٍ فيما اشتهيْتُ
أثيتٌ باطلي فيكونُ حقّاً ... وحقّاً غيرَ ذي شبهٍ لويْتُ
متى ما يأتِني يومي يجدْني ... شبعتُ منَ اللَّذاذةِ واشتفيْتُ
وكمْ منْ لائمٍ في الخمرِ زارٍ ... عليَّ غدا يلومُ فما ارعويْتُ

وآنسةٍ حذوتُ ولمْ أدِنها ... فأعجبني طراوةُ ما حذوْتُ
فلمَّا إنْ وهتْ قرنتْ ولانتْ ... وجاءتْ في الحذاءِ كما اشتهيْتُ
وبيتٍ ليسَ منْ شعرٍ وصوفٌ ... على ظهرِ المطيَّةِ قد بنيْتُ
وبيتٌ قد أتيتُ حوالَ بيتٍ ... وبيتٍ ما أُحاولهُ أتيْتُ
وجمّاءَ المرافقِ قدْ دعتْني ... لتُدخلني فقلتُ لها أبيْتُ
وجاريةٍ تُنازعني ردائي ... أمامَ الحيّ ليسَ عليَّ بيْتُ
تقولُ فضحتَني ورآكَ قومي ... وما عُذري ألانَ وقدْ زنيْتُ
ألا بكرَ العواذلُ فاستميتُ ... وهل أنا خالدٌ إمَّا صحوْتُ
وكنتُ إذا أرى زقّاً مريضاً ... يناحُ على جنازتهِ بكيْتُ
أُمشِّي في سراةِ بني غطيفٍ ... إذا ما ساءَني أمرٌ أبيْتُ
وغصنٍ بانَ منْ عضَهٍ رطيبٍ ... هصرتُ إليَّ منهُ فاجتنيْتُ
وماءٍ ليسَ مِن عدٍّ رواءٍ ... ولا ماءِ السَّماءِ قدِ اشتفيْتُ
ولحمٍ لمْ يذقهُ النَّاسُ قبلي ... أكلتُ على خلاءٍ وانتقيْتُ
وصادرةٍ معاً والورد شتَّى ... على أدبارِها أُصلاً حدوْتُ
ونارٍ أُوقدتْ مِن غيرِ زندٍ ... أثرتُ جحيمَها ثمَّ اصطليْتُ
ولمْ أُدبرْ عنِ الأدنين إنِّي ... نآنِي الأكرمونَ وما نأيْتُ
أبو قيس بن الأسلت
وقال أبو قيس بن الأسلت الأنصاري، واسمه صيفيّ، وهي مفضليّة قرأتها على ابن الخشاب:
قالتْ ولمْ تقصدْ لقِيل الخنا ... مهلاً فقدْ أبلغتَ أسماعِي
أنكرنهُ حينَ توسَّمنهُ ... والحربُ غولٌ ذاتُ أوجاعِ
مَن يذقِ الحربَ يجدْ طعمَها ... مرّاً وتتركهُ بجعجاعِ
قدْ حصَّتِ البيضةُ رأسي فما ... أذوقُ نوماً غيرَ تهجاعِ
أسعى على جلِّ بني مالكٍ ... كلُّ امرئٍ في شأنهِ ساعِي
أعددتُ للأعداءِ موضونةً ... فضفاضةً كالنِّهي بالقاعِ
أحفزُها عنِّي بذي رونقٍ ... أبيضَ مثلِ الملحِ قطّاعِ
صدقٍ حسامٍ وادقٍ حدُّهُ ... ومجنأٍ أسمرَ قرّاعِ
بزَّ امرئٍ مستبسلٍ حاذرٍ ... للدَّهرِ جارٌ غيرُ مرتاعِ
الحزمُ والقوَّةُ خيرٌ منَ ال ... إشفاقِ والفهَّةِ والهاعِ
ليسَ قطاً مثلُ قطيٍّ ولا ال ... مرعيُّ في الأقوامِ كالرّاعِي
لا نألمُ القتلَ ونجزي بهِ ال ... أعداءَ كيلَ الصَّاعِ بالصَّاعِ
بينَ يديْ رجراجةٍ فخمةٍ ... ذاتِ عرانينٍ ودفّاعِ
كأنَّهمْ أُسدٌ لدى أشبلٍ ... ينهتنَ في غيلٍ وأجراعِ
هلاَّ سألتِ القومَ إذْ قلَّصتْ ... ما كانَ إبطائي وإسراعِي
هلْ أبذلُ المالَ على حبِّهِ ... فيهمْ وآتي دعوةَ الدَّاعِي
وأضربُ القونسَ يومَ الوغى ... بالسَّيفِ لمْ يقصرْ بهِ باعِي
وأقطعُ الخرقَ يخافُ الرَّدى ... فيهِ على أدماءَ هلواعِ
ذاتِ أساهيجَ جماليَّةٍ ... حششتُها كوري وأنساعِي
وزيِّنَ الرِّحلُ بمعقومةٍ ... حاريَّةٍ أو ذاتِ أقطاعِ
تُعطي على الزِّجرِ وتنجو منَ ال ... سَّوطِ أمونٍ غير مظْلاعِ
أقضي بها الحاجاتِ إنَّ الفتى ... رهنٌ لذي لونينِ خدّاعِ
حتَّى تولَّتْ ولنا غايةٌ ... منْ بينِ جمعٍ غيرِ جمّاعِ
بشر بن عوانة
وقال بشر بن عوانة العذري، وكان قد خرج يطلب مهراً لابنة عم له، فلقيه الأسد فقتله:
أفاطمَ لوْ شهدتِ برملٍ خبتٍ ... وقدْ لاقى الهزبرُ أخاك بشْرا
إذن لرأيتِ ليثاً رامَ ليثاً ... هزبراً أغلباً لاقى هزبْرا
تبهنسَ إذْ تقاعسَ عنهُ مُهري ... محاذرةً فقلتُ عُقرتُ مهْرا
أنلْ قدميَّ ظهرَ الأرضِ إنِّي ... وجدتُ الأرضَ أثبتَ منكَ ظهْرا
وقلتُ لهُ وقدْ أبدى نصالاً ... محدَّدةً ووجهاً مكفهرّا
تُدلُّ بمخلبٍ وبحدِّ نابٍ ... وباللّحظاتِ تحسبهنَّ جمْرا
وفي يمنايَ ماضي الغربِ أبقى ... بمضربهِ قراعُ الموتِ أثْرا
ألمْ يبلغكَ ما فعلتْ ظباهُ ... بكاظمةٍ غداةَ لقيتُ عمْرا
وقلبي مثلُ قلبكَ لستُ أخشى ... محاذرةً ولستُ أخافُ ذعْرا

وأنتُ ترومُ للأشبالِ قوتاً ... وأطلبُ لابنةِ الأعمامِ مهْرا
ففيمَ تسومُ مثلي أنْ يولِّي ... ويجعلُ في يديكَ النَّفسَ قسْرا
نصحتكَ فالتمسْ يا ليثُ غيري ... طعاماً إنَّ لحميَ كانَ مرّا
فلمَّا ظنَّ أنَّ الغشَّ نُصحي ... وخالفني كأنِّي قلتُ هجْرا
مشى ومشيتُ منْ أسدينِ راما ... مراماً كانَ إذْ طلباهُ وعْرا
هززتُ لهُ الحسامَ فخلتُ أنِّي ... هززتُ بهِ لدى الظّلماءِ فجْرا
وجدتُ لهُ بجائشةٍ رآها ... لمن كذبتهُ عنهُ النَّفسُ قدْرا
فخرَّ مضرَّجاً بدمٍ كأنِّي ... هدمتُ بهِ بناءً مشمخرَّا
وقلتُ لهُ يعزُّ عليَّ أنِّي ... قتلتُ مُناسبي جلداً وقهْرا
ولكنْ رمتُ شيئاً لم يرمْهُ ... سواكَ فلمْ أُطقْ يا ليثُ صبْرا
تحاولُ أنْ تعلِّمني فراراً ... لعمرُ أبي لقدْ حاولتُ نكْرا
فلا تجزعْ فقدْ لاقيتَ حرّاً ... يحاذرُ أنْ يعابَ فمتَّ حرَّا
معقر بن حمار
وقال معقر بن حمار بن الحارث بن حمار بن شجنة بن مازن بن ثعلبة بن كنانة ابن سعد، وهو بارق بن عدي بن حارثة بن الغطريف بن عمرو مزيقياء بن عامر ماء السماء بن ثعلبة العنقاء بن امرئ القيس قاتل الجوع بن مازن بن الأزد. وكان قومه قد حالفوا بني نمير بن عامر في الجاهلية لدمٍ أصابوه في قومهم، وشهدوا يوم جبلة. وكان معقر كفّ بصره وكان قبل ذلك من فرسانهم وشعرائهم. ويوم جبلة قبل الإسلام بخمس وسبعين سنة قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلّم بسبع عشرة سنة:
أمنْ آلِ شعثاءَ الحمولُ البواكرُ ... معَ الصُّبحِ قدْ زالتْ بهنَّ الأباعِرُ
وحلَّتْ سليمى في هضابٍ وأيكةٍ ... فليسَ عليها يومَ ذلك قادِرُ
تهيِّبكَ الأسفارَ مِن خشيةِ الرَّدى ... وكمْ قدْ رأينا مِن رَدٍ لا يسافِرُ
وألقتْ عصاها واستقرَّتْ بها النَّوى ... كما قرَّ عيناً بالإيابِ المسافِرُ
فصبَّحها أملاكُها بكتيبةٍ ... عليها إذا أمستْ منَ اللهِ ناظِرُ
معاويةُ بنُ الجونِ ذبيانُ حولهُ ... وحسَّانُ في جمعِ الرِّبابِ مكاثِرُ
وقد جمعا جمعاً كأنَّ زهاءهُ ... جرادٌ سفى في هبوةٍ متظاهِرُ
ومرُّوا بأطرافِ البيوتِ فردَّهمْ ... رجالٌ بأطرافِ الرِّماحِ مساعِرُ
يفرِّجُ عنَّا كلّ ثغرٍ مخافةً ... جوادٌ كسرحانِ الأباءةِ ضامِرُ
وكلّ طموحٍ في الجراءِ كأنَّها ... إذا اغتمستْ في الماءِ فتخاءُ كاسِرُ
لها ناهضٌ في المهدِ قدْ مهَّدتْ لهُ ... كما مهَّدتْ للبعلِ حسناءُ عاقِرُ
هوَى زهدمٌ تحتَ الغبارِ لحاجبٍ ... كما انقضَّ أقنى ذو جناحينِ فاتِرُ
هُما بطلانِ يعثرانِ كلاهُما ... يريدُ رئاسَ السَّيفِ والسَّيفُ نادِرُ
فلا فضلَ إلاَّ أن يكونَ جَراءةٌ ... ذوي بدنينِ والرُّؤوسُ حواسِرُ
ينوءُ وكفَّا زهدمٍ من ورائهِ ... وقدْ علقتْ ما بينهنَّ الأظافِرُ
وباتُوا لنا ضيفاً وبتْنا بنعمةٍ ... لنا مسمعاتٌ بالدُّفوفِ وسامِرُ
فلمْ نقرِهمْ شيئاً ولكنَّ قصرهمْ ... صبوحٌ لدينا مطلعَ الشَّمسِ حازِرُ
فباكرهمْ قبلَ الشُّروقِ كتائبٌ ... كأركانِ سلمى سيرُها متواتِرُ
منَ الضَّاربينَ الكبشَ يبرقُ بيضهُ ... إذا غصَّ بالرِّيقِ القليلِ الحناجِرُ
وظنَّ سراةُ الحيِّ أن لنْ يقتَّلوا ... إذا دعيتْ بالسَّفحِ عبسٌ وعامِرُ
كأنَّ نعامَ الدَّوِّ باضَ عليهمِ ... وأعينهمْ تحتَ الحبيكِ جواحِرُ
ضربْنا حبيكَ البيضِ في غمرِ لجَّةٍ ... فلمْ ينجُ في النَّاجينَ منهمْ مفاخِرُ
ولمْ ينجُ إلاَّ أنْ يكونَ طمرَّةٌ ... توائلُ أو نهدٌ ملحٌّ مثابِرُ
وقال معقر في زيد:
أجدَّ الرَّكبُ بعدَ غدٍ خفُوفُ ... وأضحتْ لا تواصلكَ الألُوفُ
وكانَ القلبُ جنَّ بها جنوناً ... ولم أرَ مثلها فيمنْ يطُوفُ
تراءتْ يومَ نخلَ بمسبكرٍّ ... تربَّبهُ الذَّريرةُ والنَّصِيفُ
ومشمولٍ عليهِ الظَّلمُ غرٍّ ... عذابٍ لا أكسُّ ولا خلُوفُ
كأنَّ فضيضَ رمَّانٍ جنيٍّ ... وأُترجٍ لأيكتهِ حفِيفُ

على فِيها إذا دنتِ الثُّريَّا ... دنوَّ الدَّلو أسلمَها الضَّعِيفُ
أجادتْ أمُّ عبدةَ يومَ لاقَوا ... وثارَ النَّقعُ واختلفَ الألُوفُ
يقدِّمُ حبْتراً بأفلَّ عضبٍ ... لهُ ظبَةٌ لما نالتْ قطُوفُ
فغادرَ خلفهُ يكبو لقيطاً ... لهُ منْ حدِّ واكفةٍ نصِيفُ
كأنَّ جماجمَ الأبطالِ لمَّا ... تلاقينا ضحًى حدجٌ نقِيفُ
وحامَى كلُّ قومٍ عنْ أبيهمْ ... وصارتْ كالمخاريق السّيُوفُ
ترى يُمنى الكتيبةِ منْ يليها ... يخرُّ على مرافِقها الكثُوفُ
لنا شهباءُ تنفي مَن يلينا ... مضرَّجةٌ لها لونٌ خصِيفُ
وذبيانيَّةٍ أوصتْ بنيها ... بأنْ كذَبَ القراطفُ والقرُوفُ
تجهِّزهمْ بما وجدتْ وقالتْ ... بنِيَّ فكلُّكمْ بطلٌ مسِيفُ
فأخلفنا مودَّتها فقاظتْ ... ومأقِي عينِها حذلٌ نطُوفُ
إذا ما أبصرتْ نوحاً أتتهُ ... ترنُّ ورجعُ كفَّيها خنُوفُ
ليبكِ أبا رواحةَ جملُ خيلٍ ... وقومٌ قد أعزَّهمُ المضِيفُ
يُنادي الجانبانِ بأنْ أنيخوا ... وقد عرَسَ الإناخةُ والوقُوفُ
وكانَ الأيمنونَ بني نميرٍ ... يسيرُ بنا أمامهمُ الخلِيفُ
فلا جبنٌ فينكلُ إنْ لقينا ... ولا هزمُ الجيوشِ لنا طرِيفُ
تركنا الشِّعبَ لمْ نعقلْ إليهِ ... وأسهلْنا كما علمَ الحلِيفُ
نسوقُ بهِ النِّساءَ مشمِّراتٍ ... يخالطُها معَ العرقِ الخشِيفُ
إذا استرختْ حبالُ القومِ شدَّتْ ... ولا يثنى لقائمةٍ وظِيفُ
تركنَ بطونَ صاراتٍ بليلٍ ... مطافيلَ الرّباعِ بها خلُوفُ
فظلَّ بذي معاركَ كلُّ مرْباً ... ونجَّى ربَّهُ الهزمُ الخفِيفُ
منَ اللائي سنابكهنَّ شمٌّ ... أخفَّ مشاشهُ لبنٌ ورِيفُ
يُؤيَّهُ واللَّهيفَ بوارداتٍ ... كما يتغاوثُ الحسيَ النَّزِيفُ
فلمَّا أنْ هزمنا النَّاسَ جاءتْ ... ... مِن ربيعَتنا تزِيفُ
وشقٌّ ساقطٌ بضلوعِ جنبٍ ... رجوفُ الرِّجلِ منطقهُ نسِيفُ
أغرَّ كأنَّ جبهتهُ هلالٌ ... لظلمِ الجارِ والمولى عيُوفُ
سحيم بن وثيل
وقال سحيم بن وثيل الرياحيّ:
أنا ابنُ جَلا وطلاّعِ الثَّنايا ... متى أضعِ العمامةَ تعرفوني
وإنَّ مكاننا منْ حميريٍّ ... مكانَ اللَّيثِ منْ وسطِ العرينِ
وإنِّي لنْ يعودَ إليَّ قرني ... غداةَ الغبِّ إلاَّ في قرينِ
كذِي لبدٍ يصدُّ الرَّكبَ عنهُ ... ولا تُؤتى قرينتهُ لحِينِ
عذرتُ البزلَ إن هيَ خاطرتْني ... فما بالي وبالُ ابنيْ لبوني
وماذا يدَّري الشُّعراءُ منِّي ... وقدْ جاوزتُ حدَّ الأربعينِ
أخو الخمسينَ مجتمعٌ أشدِّي ... ونجَّذني مداورةُ الشُّؤونِ
فإنَّ علالَتي وجراءَ حولٍ ... لذو شقٍّ على الضَّرعِ الظَّنونِ
كريمُ الخالِ منْ سلفيْ رياحٍ ... كنصلِ السَّيفِ وضّاحُ الجبينِ
متى أحللْ إلى قطنٍ وزيدٍ ... وسلمى تكثرُ الأصواتُ دُوني
وهمّامٌ متى أحللْ إليهِ ... يحلُّ اللَّيثُ في عيصٍ أمينِ
ألفَّ الجانبينِ بهِ أُسودٌ ... منطَّقةٌ بأصلابِ الجفونِ
وإنَّ قناتَنا مشظٌ شظاها ... شديدٌ مدُّها عنقَ القرينِ
عبيد بن عبد العزَّى السلاميّ
وقال عبيد بن عبد العزَّى السلاميّ، أحد بني سلامان بن مفرج، وهو ابن عم الشَّنفرى:
ألا هلْ فؤادي إذْ صبا اليومَ نازِعُ ... وهل عيشُنا الماضي الذي زالَ رائِعُ
وهلْ مثلُ أيامٍ تسلَّفنَ بالحِمى ... عوائدُ أو عيشُ السِّتارينِ راجِعُ
كأنْ لمْ تجاورْنا رميمُ ولمْ نقمْ ... بفيضِ الحِمى إذْ أنتَ بالعيشِ قانِعُ
وبدِّلتْ بعدَ القربِ سخطاً وأصبحتْ ... مضابعةً واستشرفتكَ الأضابِعُ
وكلُّ قرينٍ ذي قرينٍ يودُّهُ ... سيفجعهُ يوماً منَ البينِ فاجِعُ
لعمري لقدْ هاجتْ لكَ الشَّوقَ عرصةٌ ... بمرّانَ تعفوها الرِّياحُ الزَّعازِعُ
بها رسمَ أطلالٍ وخيمٌ خواشعٌ ... على آلهنَّ الهاتفاتُ السَّواجِعُ

فظلتُ ولمْ تعلمْ رميمُ كأنَّني ... مهمٌّ ألَّثتهُ الدُّيونُ الخوالِعُ
تذكَّرَ أيَّامَ الشَّبابِ الذي مضى ... ولمَّا ترعْنا بالفراقِ الرَّوائِعُ
بأهلي خليلٌ إنْ تحمَّلتُ نحوهُ ... عصاني وإنْ هاجرتهُ فهو جازِعُ
وكيفَ التَّعزِّي عنْ رميمَ وحبّها ... على النَّأي والهجران في القلبِ ناقِعُ
طويتُ عليهِ فهوَ في القلبِ شامةٌ ... شريكُ المنايا ضمِّنتهُ الأضالِعُ
وبيضٍ تهادَى في الرِّياطِ كأنَّها ... نِهَيْ لسلسٍ طابتْ لهنَّ المراتِعُ
تخيَّرنَ منَّا موعداً بعدَ رقبةٍ ... بأعفرَ تعلوهُ السُّروجُ الدَّوافِعُ
فجئنَ هدوّاً والثِّيابُ كأنَّها ... منَ الطَّلِّ بلَّتها الرِّهامُ النَّواشِعُ
جرى بينَنا منهمْ رسيسٌ يزيدُنا ... سقاماً إذا ما استيقنتهُ المسامِعُ
قليلاً وكانَ اللَّيلُ في ذاكَ ساعةً ... فقمنَ ومعروفٌ منَ الصُّبحِ صادِعُ
وأدبرنَ من وجهٍ بمثلِ الذي بنا ... فسالتْ على آثارهنَّ المدامِعُ
يزجِّينَ بكراً ينهزُ الرَّيطُ مشيَها ... كما مارَ ثعبانُ الفضا المتدافِعُ
تبادرُ عينيْها بحكلٍ كأنَّهُ ... جمانٌ هوَى مِن سلكهِ متتايِعُ
وقمنا إلى خوصٍ كأنَّ عيونَها ... قلاتٌ تراخَى ماؤها فهوَ واضِعُ
فولَّتْ بنا تغشى الخبارَ ملحَّةً ... معاً حُولها واللاقحاتُ الملامِعُ
وإنِّي لصرَّامٌ ولمْ يخلقِ الهوى ... جميلٌ فِراقي حينَ تبدو الشَّرائِعُ
وإنِّي لأسْتبقي إذا العسرُ مسَّني ... بشاشةَ نفسي حينَ تُبلى المنافِعُ
وأعفي عنْ قومي ولو شئتُ نوَّلوا ... إذا ما تشكَّى الملحفُ المتضارِعُ
مخافةَ أنْ أُقلى إذا شئتُ سائلاً ... وترجِعني نحوَ الرِّجالِ المطامِعُ
فأسمعَ منَّا أوْ أُشرِّفُ منعماً ... وكلُّ مُصادي نعمةٍ متواضِعُ
وأُعرضُ عنْ أشياءَ لوْ شئتُ نلتُها ... حياءً إذا ما كانَ فيها مقاذِعُ
ولا أدفعُ ابنَ العمِّ يمشي على شفاً ... ولوْ بلغتْني من أذاهُ الجنادِعُ
ولكنْ أُواسيهِ وأنسى ذنوبهُ ... لترجعهُ يوماً إليَّ الرَّواجِعُ
وأُفرشهُ مالي وأحفظُ غيبهُ ... ليسمعَ إنِّي لا أُجازيهِ سامِعُ
وحسبكَ منْ جهلٍ وسوءِ صنيعةٍ ... معاداةُ ذي القربى وإنْ قيلَ قاطِعُ
فأسلمْ عِناك الأهلَ تسلمْ صدورهمْ ... ولا بدَّ يوماً أنْ يروعكَ رائِعُ
فتبلوهُ ما سلَّفتَ حتَّى يردُّهُ ... إليكَ الجوازي وافراً والصَّنائِعُ
فإنْ تبلِ عفواً يعفُ عنكَ وإنْ تكنْ ... تقارعُ بالأُخرى تُصبكَ القوارِعُ
ولا تبتدعْ حرباً تطيقُ اجتنابها ... فيلحمكَ النَّاسَ الحروبَ البدائِعُ
لعمري لنعمَ الحيُّ إنْ كنتَ مادحاً ... همُ الأزدُ إنَّ القولَ بالصِّدقِ شائِعُ
كرامٌ مساعيهمْ جسامٌ سماعهمْ ... إذا ألغتِ النَّاسَ الأمورُ الشَّرائِعُ
لنا الغرفُ العليا منَ المجدِ والعُلى ... ظفرنا بها والنَّاسُ بعدُ توابِعُ
لنا جبَلا عزٍّ قديمٌ بناهُما ... تليعانِ لا يألوهما منْ يتالِعُ
فكمْ وافدٍ منَّا شريفٌ مقامهُ ... وكمْ حافظٍ للقرنِ والقرنُ وادِعُ
ومِن مطعمٍ يومَ الصَّبا غيرَ حامدٍ ... إذا شصَّ عنْ أبنائهنَّ المراضِعُ
يشرِّفُ أقواماً سِوانا ثيابُنا ... وتبقى لهمْ أنْ يلبسوها سمائِعُ
إذا نحنُ ذارعْنا إلى المجدِ والعُلى ... قبيلاً فما يستطيعُنا مَن يذارِعُ
ومنَّا بنو ماءِ السَّماءِ ومنذرٌ ... وجفنةُ منَّا والقرومُ النَّزائِعُ
قبائلُ منْ غسَّانَ تسمو بعامرٍ ... إذا انتسبتْ والأزدُ بعدُ الجوامِعُ
أدانَ لنا النُّعمانُ قيساً وخندفاً ... أدانَ ولمْ يمنعْ ربيعةَ مانِعُ
وقال عبيد أيضاً:
أرسمَ ديارٍ بالسِّتارينِ تعرفُ ... عفتْها شمالٌ ذاتُ نيرينِ حرجفُ
مبكِّرةٌ للدَّارِ أيما ثمامُها ... فينقى وأيما عنْ حصاها فتقرفُ
حرونٌ على الأطلالِ من كلِّ صيفةٍ ... وفقّا عليها ذو عثانينَ أكلفُ

إذا حنَّ سلاّفُ الرَّبيعِ أمامَها ... وراحتْ رواياهُ على الأرضِ ترجفُ
فلمْ تدعِ الأرواحُ والماءُ والبِلى ... منَ الدَّارِ إلاَّ ما يشوقُ ويشعفُ
رسوماً كآياتِ الكتابِ مبينةً بها ... للحزينِ الصَّبِّ مبكًى وموقفُ
وقفتُ بها والدَّمعُ يجري حبابهُ ... على النَّحرِ حتَّى كادتِ الشَّمسُ تكسفُ
تذكَّرتُ أيَّاماً تسلَّفتُ لينَها ... على لذَّةٍ لو يُرجعُ المتسلَّفُ
كأنَّكَ لمْ تعهدْ بها الحيَّ جيرةً ... جميع الهوى في عيشهِ ما تصرَّفُ
إذِ النَّاسُ ناسٌ والبلادُ بغرةٍ ... وأنتَ بها صبُّ القرينةِ مولفُ
وقدْ كانَ في الهجرانِ لو كنتَ ناسياً ... رميمَ وهلْ يَنسى ربيعٌ وصيِّفُ
ولمْ تُنسني الأيَّامُ والبغي بينَنا ... رميمُ ولا قذفُ النَّوى حينَ تقذفُ
ولمْ يحلُ في عيني بديلٌ مكانَها ... ولمْ لتبسْ بي حبلُ من يتعطَّفُ
وقدْ حلفتْ والسِّترُ بيني وبينها ... بربِّ حجيجٍ قد أهلُّوا وعرَّفوا
على ضمَّرٍ في الميسِ ينفخنَ في البُرى ... إذا شابكتْ أنيابُها اللَّجنَ تصرفُ
لقدْ مسَّني منكِ الجوى غيرَ أنَّني ... أخافُ كما يخشى على ذاكَ أحلفُ
وكانَ صدودٌ بعدَما أبطنَ الهوى ... قلوباً فكادتْ للذي كانَ تجنفُ
كتركِ الأميمِ الهائم الماءَ بعدَما ... تنحَّى بكفَّيهِ يسوفُ ويغرفُ
وداويَّةٍ لا يأمنُ الرَّكبُ جوزَها ... بها صارخاتُ الهامِ والبومِ يهتفُ
دعاني بها داعِي رميمٍ وبينَنا ... بهيمُ الحواشي ذو أهاويلَ أغضفُ
تقحَّمتُ ليلَ العيسِ وهيَ رذيَّةٌ ... وكلَّفتُ أصحابي الوجيفَ فأوجفُوا
لنخبرَ عنها أو نرى سروَ أرضِها ... وقدْ يُتعبُ الرَّكبَ المحبُّ المكلَّفُ
ولوْ لمْ تملْ بالعيسِ معويَّةُ العُرى ... لمالَ بها أيكٌ أثيثٌ وغرْيفُ
ومكنونةٌ سودُ المجاثمِ لمْ يزلْ ... يهوِّئُها للعيكتَينِ التَّلهُّفُ
وما العيشُ إلاَّ في ثلاثٍ هيَ المُنى ... فمنْ نالَها من بعدُ لا يتخوَّفُ
صحابةُ فتيانٍ على ناعجيَّةٍ ... مناسمُها بالأمعزِ المحلِ ترعفُ
وكأسٌ بأيدي السَّاقيَيْنِ رويَّةٌ ... يمدَّانِ راووقيهِما حينَ تنزفُ
وربَّةُ خدرٍ ينفحُ المسكَ جيبُها ... تضوَّعَ ريَّاها بهِ حينَ تصدفُ
إذا سُلبتْ فوقَ الحشيَّاتِ أشرقتْ ... كما أشرقَ الدِّعصَ الهجانُ المصيَّفُ
وقال عبيد أيضاً:
أتعرفُ رسماً كالرِّداءِ المحبَّرِ ... برامةَ بينَ الهضبِ والمتغمَّرِ
جرتْ فيهِ بعدَ الحيِّ نكباءُ زعزعٌ ... بهبوةِ جيلانٍ منَ التُّربِ أكدَرِ
ومرتجزٌ جونٌ كأنَّ ربابهُ ... إذا الرِّيحُ زجَّتهُ هضابُ المشقَّرِ
يحطُّ الوعولَ العصمَ منْ كلِّ شاهقٍ ... ويقذفُ بالثِّيرانِ في المتحيَّرِ
فلمْ يترُكا إلاَّ رسوماً كأنَّها ... أساطير وحيٍ في قراطيسِ مقتري
منازلُ قومٍ دمّنوا تلعاتهِ ... وسنُّوا السَّوامَ في الأنيقِ المنوَّرِ
ربيعهمُ والصَّيفُ ثمَّ تحمَّلوا ... على جلَّةٍ مثلِ الحنيَّاتِ ضمَّرِ
شواكلَ عجعاجٍ كأنَّ زمامهُ ... بذكّارةٍ عيطاءَ من نخلِ خيبَرِ
بهِ منْ نضاخِ الشَّولِ ردعٌ كأنَّهُ ... نقاعةُ حنَّاءٍ بماءِ الصّنوبَرِ
كسوها سخامَ الرَّيطِ حتَّى كأنَّها ... حدائقُ نخلٍ بالبرودَينِ موقَرِ
وقامَ إلى الأحداجِ بيضٌ خرائدٌ ... نواعمُ لمْ يلقينَ بُوسَى لمقفَرِ
ربائبُ أموالٍ تلادٍ ومنصبٌ ... منَ الحسبِ المرفوعِ غيرِ المقصِّرِ
هدينَ غضيضَ الطَّرفِ خمصانةَ الحشا ... قطيعَ التَّهادي كاعباً غير معصرِ
مبتَّلةً غرّاً كأنَّ ثيابَها ... على الشَّمسِ غبَّ الأبردِ المتحسِّرِ
قضوا ما قضَوا منْ رحلةٍ ثمَّ وجَّهوا ... يمامةَ طودٍ ذي حماطٍ وعرعَرِ
وعاذلةٍ ناديتُها أنْ تلومني ... وقدْ علمتْ أنِّي لها غيرُ موثرِ
على الجارِ والأضيافِ والسَّائلِ الذي ... شكا مغرماً أو مسَّهُ ضرُّ معسرِ

أعاذلَ إنَّ الجودَ لا ينقصُ الغنى ... ولا يدفعُ الإمساكُ عن مالِ مكثرِ
ألمْ تسألي والعلمُ يشفي منَ العمى ... ذوي العلم عنْ أبناءِ قومي فتخبَري
سلامانَ إنَّ المجدَ فينا عمارةٌ ... على الخلقِ الذَّاكي الذي لم يكدَّرِ
بقيَّةُ مجدِ الأوَّلِ الأوَّلِ الذي ... بنى ميدعانُ ثمَّ لمْ يتغيَّرِ
أُولئكَ قومٌ يأمنُ الجارُ بينهمْ ... ويشفقُ مِن صولاتهمْ كلُّ مخفرِ
مرافيدُ للمولى محاشيدُ للقِرى ... على الجارِ والمستأنسِ المتنوِّرِ
إذا ظلُّ قومٍ كانَ ظلَّ غيابةٍ ... تذعذعهُ الأرواحُ من كلِّ مفجَرِ
فإنَّ لنا ظلاًّ تكاثفتْ وانطوتْ ... عليهِ أراعيلُ العديدِ المجمهَرِ
لنا سادةٌ لا ينقضُ النَّاسُ قولهمْ ... ورجراجةٌ ذيّالةٌ في السّنورِ
تُجنُّهمُ منْ نسجِ داوودَ في الوغى ... سرابيلُ حيصتْ بالقتيرِ المسمَّرِ
وطئنا هلالاً يومَ ذاجِ بقوَّةٍ ... وصفناهمُ كرهاً بأيدٍ مؤزَّرِ
ويوماً بتبلالٍ طممْنا عليهمِ ... بظلماءِ بأسٍ ليلُها غيرُ مسفرِ
وأفناءُ قيسٍ قد أبدْنا سراتهمْ ... وعبساً سقيْنا بالأُجاجِ المعوَّرِ
وأصرامُ فهمٍ قد قتلْنا فلمْ ندعْ ... سوى نسوةٍ مثلِ البليَّاتِ حسَّرِ
ونحنُ قتلْنا في ثقيفٍ وجوَّستْ ... فوارسُنا نصراً على كلِّ محضَرِ
ونحنُ صبرْنا غارةً مفرجيَّةً ... فُقيماً فما أبقتْ لهمْ مِن مخبِّرِ
ودسناهمُ بالخيلِ والبيضِ والقنا ... وضربٍ يفضُّ الهامَ في كلِّ مغفَرِ
ورُجنا بيضٍ كالظِّباءِ وجاملٍ ... طولِ الهوادي كالسَّفينِ المقيَّرِ
ونحنُ صبحْنا غيرَ غدرٍ بذمَّةٍ ... سليمَ بنَ منصورٍ بصلعاءَ مذكرِ
قتلناهمُ ثمَّ اصطبحْنا ديارهمْ ... بخُمرةَ في جمعٍ كثيفٍ مخمَّرِ
تركنا عوافي الرُّخمِ تنشرُ منهمُ ... عفاريَ صرعَى في الوشيجِ المكسَّرِ
وبالغورِ نُطنا مِن عليٍّ عصابةً ... ورُحنا بذاكَ القيروانِ المقطَّرِ
وخثعمَ في أيَّامِ ناسٍ كثيرةٍ ... همطناهمُ همطَ العزيزِ المؤمَّرِ
سبينا نساءً مِن جليحةَ أُسلمتْ ... ومنْ راهبٍ فوضى لدى كلِّ عسكَرِ
ونحنُ قتلنا بالنَّواصفِ شنفرى ... حديدَ السِّلاحِ مقبلاً غيرَ مدبرِ
ومنْ سائرِ الحيَّينِ سعدٍ وعامرٍ ... أبحْنا حِمى جبّارها المتكبِّرِ
منعنا سراةَ الأرضِ بالخيلِ والقنا ... وأيأس منَّا بأسُنا كلَّ معشَرِ
إذا ما نزلنا بلدةً دوِّختْ لنا ... فكُنَّا على أربابها بالمخيَّرِ
بنو مفرجٍ أهلُ المكارمِ والعُلى ... وأهلُ القبابِ والسَّوامِ المعكَّرِ
فمنْ للمعالي بعدَ عثمانَ والنَّدى ... وفصلِ الخطابِ والجوابِ الميسَّرِ
وحملِ الملمَّاتِ العظامِ ونقضِها ... وإمرارها والرَّأيِ فيها المصدَّرِ
كأنَّ الوفودَ المبتغينَ حباءهمْ ... على فيضِ مدّادٍ منَ البحرِ أخضَرِ
فكمْ فيهمِ منْ مستبيحٍ حِمى العدى ... سبوقٍ إلى الغاياتِ غيرِ عذوَّرِ
وهوبٍ لطوعاتِ الأزمَّةِ في البُرى ... وللأُفقِ النَّهدِ الأسيلِ المعذِّرِ
نمتهُ بنو الأربابِ في الفرعِ والذُّرى ... ومنْ ميدعانَ في ذبابٍ وجوهَرِ
لبابُ لبابٍ في أرومٍ تمكَّنتْ ... كريمَ غداةِ الميسرِ المتحضَّرِ
فأكرمْ بمولودٍ وأكرمْ بوالدٍ ... وبالعمِّ والأخوالِ والمتهصَّرِ
ملوكٌ وأربابٌ وفرسانُ غارةٍ ... يحوزونها بالطَّعنِ في كلِّ محجَرِ
إذا نالهمْ حمشٌ فإنَّ دواءهُ ... دمٌ زلَّ عنْ فودَي كميٍّ معقَّرِ
مُدانيهمِ يُعطي الدَّنيَّةَ راغماً ... وإنْ داينوا باؤوا برَيمٍ موفَّرِ
حاجز بن عوف
وقال حاجز بن عوف بن الحارث بن الأخثم بن عبد الله بن ذهل بن مالك بن سلامان بن مفرج:
سألتُ فلمْ تكلِّمني الرُّسومُ ... فظلتُ كأنَّني فيها سقيمُ
بقارعةِ الغريفِ فذاتِ مشيٍ ... إلى العصداءِ ليسَ بها مقيمُ
منازلُ عذبةِ الأنيابِ خودٍ ... فما إنْ مثلُها في النَّاسِ نيمُ

فأمَّا إنْ صرفتُ فغيرُ بغضٍ ... ولكنْ قد تعدِّيني الهمومُ
عَداني أنْ أزوركِ حربُ قومٍ ... كجمرِ النَّارِ ثاقبةٌ عذومُ
عذومٌ ينكلُ الأعداءُ عنها ... كأنَّ صلاتها الأبطالَ هيمُ
فلستُ بآمرٍ فيها بسلمٍ ... ولكنِّي على نفسي زعيمُ
قتلنا ناجياً بقتيلِ فهمٍ ... وخير الطَّالبِ التِّرةَ الغشومُ
بغزوٍ مثلِ ولغِ الذِّئبِ حتَّى ... ينوءَ بصاحبي ثارٌ منيمُ
ولمَّا أنْ بدتْ أعلامُ ترجٍ ... وقالَ الرَّابئانِ بدتْ رتومُ
وأعرضتِ الجبالُ السُّودُ خلفي ... وخينفُ عنْ شمالي والبهيمُ
أممتُ بها الطَّريقَ فويقَ نعلٍ ... ولمْ أُقسمْ فتربثَني القسومُ
ومرقبةٍ نميتُ إلى ذُراها ... يقصِّرُ دونَها السَّبطُ الوسيمُ
علوتُ قذالَها وهبطتُ منها ... إلى أُخرى لقلّتها طميمُ
فلمْ يقصرْ بها باعي ولكنْ ... كما تنقضُّ ضاريةٌ لحومُ
منُ النّمرِ الظُّهورِ كأنَّ فاها ... إذا أنحتْ على شيءٍ قدومُ
وليلةِ قرَّةٍ أدلجتُ فيها ... يحرِّقُ جلدَ ساقيَّ الهشيمُ
فأصبحتِ الأناملُ قدْ أُبينتْ ... كأنَّ بنانَها أنفٌ رثيمُ
تراها منْ وثامِ الأرضِ سوداً ... كأنَّ أصابعَ القدمينِ شيمُ
ورجْلٍ قدْ لففتهمُ برجْلٍ ... عليهمِ مثلُ ما نُثر الجريمُ
يصيبُ مقاتلَ الأبطالِ منهمْ ... قحيطُ الطَّعنِ والضَّربُ الخذيمُ
كمعمعةِ الحريقةِ في أباءٍ ... تشبُّ ضرامَها ريحٌ سمومُ
وردتُ الموتَ بالأبطالِ فيهمْ ... إذا خامَ الجبانُ فلا أُخيمُ
ومعتركٍ كأنَّ القومَ فيهمْ ... تملُّ جلودَ أوجههمْ جحيمُ
صليتُ بحرَّهِ وتجنَّبتهُ ... رجالٌ لا يناطُ بها التَّميمُ
إذا أنسى الحياءَ الرَّوعُ نادَوا ... ألا يا حبَّذا الأنسُ المقيمُ
وقال حاجز أيضاً:
لمن طللٌ بعتمةَ أو حفارِ ... عفتهُ الرِّيحُ بعدكَ والسَّواري
عفتهُ الرِّيحُ واعتلجتْ عليهِ ... بأكدرَ منْ ترابِ القاعِ جارِ
فلأياً ما يبينُ رثيدُ نؤيٍ ... ومرسَى السُّفلَيينِ من الشِّجارِ
ومبركِ هجمةٍ ومصامِ خيلٍ ... صوافِنَ في الأعنَّةِ والأواري
ألا هل أتاكَ والأنباءُ تنْمي ... طوالعَ بينَ مبتكرٍ وسارِ
بمحبسنا الكتائبِ إنَّ قومي ... لهمْ زندٌ غداةَ النَّاسِ وارِي
إذا نادَوا عوادِ تعودُ منَّا ... عباهلةٌ سيوفهمُ عوارٌ
فأبلغْ قسعةَ الجُشميَّ عنِّي ... كفيلَ الحيِّ أيّامَ النِّفارِ
بآيةَ ما أجزتهمُ ثلاثاً ... بقينَ وأربعاً بعدَ السِّرارِ
فجاءتْ خثعمٌ وبنو زبيدٍ ... ومذحجُ كلُّها وابنا صحارِ
وجمعٌ من صداءٍ قد أتانا ... ودُعميٌّ وجمعُ بني شعارِ
فلمْ نشعرْ بهمْ حتَّى أتونا ... كحِميرَ إذ أناختْ بالجمارِ
فقامَ مؤذِّنٌ منّا ومنهمْ ... لدى أبياتنا سوري سوارِ
كأنَّا بالمضيقِ وقد ثرونا ... لدى طرفِ الأُصيحرِ ضوءُ نارِ
فقالوا يالَ عبسٍ نازعوهمْ ... سجالَ الموتِ بالأسلِ الحرارِ
فقلنا يالَ يرفى ماصعوهمْ ... فرارَ اليومِ فاضحةَ الذِّمارِ
فأمّا تعقروا فرسي فإنِّي ... أقدِّمها إذا كثرَ التَّغاري
وأحملها على الأبطالِ إنِّي ... على يومِ الكريهةِ ذو اصطبارِ
صليتُ بغمرةٍ فخرجتُ منها ... كنصلِ السَّيفِ مختضبَ الغرارِ
كأنَّ الخيل إذ عرفت مقامي ... تفادى عن شتيمِ الوجهِ ضارِ
أكفِّئهمْ وأضربهمْ ومنِّي ... مشلشلةٌ كحاشيةِ الإزارِ
وأعرضَ جاملٌ عكرٌ وسبيٌ ... كغزلانِ الصَّرائمِ من نجارِ
فلم أبخلْ غداتئذٍ بنفسي ... ولا فرسي على طرفِ العيارِ
نضاربُ بالصَّفائحِ من أتانا ... وأُخراهمْ تملأُ بالفرارِ
ألا أبلغْ غزيِّلَ حيثُ أضحى ... أحقّاً ما أُنبَّأُ بالفخارِ
فإنَّكَ والفخار بآلِ كعبٍ ... كمن باهى بثوبٍ مستعارِ
وذاتِ الحجلِ تبهجُ أن تراهُ ... وتمشي والمسيرُ على حمارِ

أرينا يومَ ذلك من أتانا ... بذي الظُّبةِ الكواكبَ بالنَّهارِ
فلو كنَّا المغيرةَ قد أفأنا ... المؤبَّلَ والعقائلَ كالعرارِ
أبا ثورٍ سجاحِ فإنَّ دعوى ... تخالفُ ما أبيتَ عصيمُ عارِ
فلولا أن تداركَ جريُ صهوي ... كلومٌ مثلُ غائلةِ النِّفارِ
لردَّ إليكَ شاكلةً بتيراً ... حسامٌ غيرُ مستلمٍ قُطارِ
عديّ بن وداع
وقال عديّ بن وداع أحد بني عقْيٍ، وهو أسد بن الحارث بن مالك بن فهم أحد الأزد، وكان يلقب الأعمى ولم يكن أعمى:
كلَّفني القلبُ فلمْ أجهلِ ... عهدَ الصِّبا في السَّالفِ الأوَّلِ
أزمانَ إذ أملكُ عقلي وإذ ... طرفيَ لم يخسأ ولم يكللِ
أرى ابنةَ الأزْدي قد أقبلتْ ... بينَ سموطِ الدُّرِّ في المجولِ
كالظَّبيةِ الفاردةِ الخاذلِ ... المخروفةِ المقفرةِ المُطفلِ
ظلَّتْ تعاطى بخلاءٍ من ال ... أرضِ شجونَ السَّلمِ المهدلِ
يابنةَ كعبِ بن صليعٍ ألا ... تستيقني إن كنتِ لم تذهلي
قالتْ ألا لا يُشترى ذاكمُ ... إلاَّ برعبِ الثَّمنِ الأجزلِ
إن تعطنا سطرَ الحفافينِ مقْ ... طوعاً لنا بتلاً إذنْ نفعلِ
إنَّ الحفافينَ عقارُ امرئٍ ... يمنعهُ الضَّيمُ فلا تجهلي
مالُ امرئٍ يخبطُ في الغمرةِ ال ... قرنَ غداةَ البأسِ بالمنصلِ
إن كنتِ تستأسينَ لا بدَّ فال ... معروفُ منّا أُختنا فاسألي
العبدَ أو بكرتنا الحرَّةَ ال ... زَّهراءَ أو منصفةَ النُّزَّلِ
طبنا بهذا لك نفساً فإنْ ... ترضي به عنّا إذن فافعلي
بعضكِ يا وجدَ امرئٍ شفَّهُ ال ... حبُّ فلمْ يفرغْ ولم يُشغلِ
أعمى على حالٍ من الحالِ لا ... يشعرُ ما النّائي من المقبلِ
لو كنتِ قد أدنيتني الودَّ ما ... ألفيتُ مثلَ الضَّمنِ الزُّمَّلِ
أوديتُ في المودينَ إن كنتُ في ال ... أحياءِ كالمنسيَّ لم يحفلِ
وسائلي القومَ إذا أرملوا ... والمعتفي والصَّحبَ بي فاسألي
أيُّ فتًى أعمى عديٌّ إذا ... ما باشرَ الكيدَ على التَّلتلِ
قد أشخذُ الصَّحبَ إلى موطنٍ ... يكلحُ منه ناجذُ المصطلي
ضربَ سيوفِ الهندِ صقعاً كما ... يُشعلُ غابُ الحرقِ المشعلِ
أو كقصيفِ البردِ الصَّيِّفِ ال ... مبعقِ في الظَّاهرِ ذي الجرولِ
جرتْ به دلوٌ قريٌّ على ... أدراجها من باكرٍ مسبلِ
من عارضٍ جونٍ ركامٍ وهتْ ... عزلاؤهُ منهزمِ الأسفلِ
يحفزهُ رعدٌ وبرقٌ على ... أرجائهِ مرتجزُ الأزملِ
حينَ ترى القتلى لدى مُزحفٍ ... كالقربِ الوفرِ لدى المنهلِ
حينَ يقولُ النَّجدُ مِن رهبةِ ال ... موتِ أرى الغمرةَ لا تنجلي
سيفُ ابنِ نشوانَ بكفِّي وقدْ ... سقاهُ شهراً مدوسُ الصَّقيلِ
أخضرُ ذو زرَّينِ يُسقى سِما ... ماً فإذا أُرهفَ لم ينحلِ
أحمي بهِ فرجَ سلوقيَّةٍ ... كالشَّمسِ تغشى طرفَ الأنملِ
إنْ كنتُ أعمى فاسألي القومَ هلْ ... أُسكتُ روَع المرءِ ذي الأفكلِ
أضربُ في العورةِ ما فيَّ إنْ ... أُخضمتُ أو أُقضمتُ لم أئتلِ
أعلمُ أنْ كلُّ فتًى مرَّةً ... للقتلِ أو بيتٍ منَ الجندلِ
ذلكَ مكروهي وروغي فإنْ ... أُحملْ على الثِّقلةِ لا أثقلِ
ممَّا ينوبُ الحيُّ فيهمْ وقدْ ... أجتازُ بالمبتقلِ المعملِ
السَّابقُ المختالَ بالكورِ وال ... أعلامِ نوحَ الفاقدِ المعولِ
ينجو منَ السَّوطِ كما تجدمُ ال ... قيدودُ منْ وهوهةِ المسحلِ
شرَّدها زرٌّ بلحييهِ منْ ... أعرافِها والشَّعرِ المنسلِ
صائفةٍ وَحمى تصدَّى لهُ ... كالقوسِ منْ فارعةِ الأشكلِ
ترهقهُ ضرباً وتنجُو على ... وحشيِّها قاربةَ المنهلِ
قذفكَ بالقدحِ منَ السَّاسمِ ال ... أجردِ قدحَ الصَّنعِ المغتلي
حتَّى يحورَ النَّيُّ منهُ إلى ... عظمِ سُلامى سلسِ المفصلِ
بينَ رذيِّ الرَّهبِ المقصدِ ال ... مخِّ المُباري خدمَ المنعلِ

يعلُو لنابيهِ صريفٌ كما ... غرَّدَ صوتُ الصُّردِ الصُّلصلِ
واللهِ واللهِ لهذا الفتى ... كانَ لزازَ الزَّمنِ الممحلِ
للجارِ والضَّيفِ وباغي النَّدى ... حينَ يُباري خلُقي أخيلي
أروعُ وشواشٌ قليلُ الخنا ... صلبٌ مُشاشي صنعٌ مقوَلي
يؤنسُ معروفي نَزيلي وقدْ ... أُخرجُ ضبَّ الخصمِ الأجدلِ
في الجدِّ إذا جدَّ شِياحي وإذْ ... أصواتُ يومِ الجمعِ لمْ تصحلِ
إن يصدفِ الأترابُ عنِّي فقدْ ... أخدعُ مثلَ الرَّشأِ الأكحلِ
كدرَّةِ الغائصِ تُهدى إلى ... ذي نطفٍ في غرفةِ المجدلِ
جاءَ بها آدمٌ صلبٌ أحص ... صُ الرَّأسِ فيهِ الشَّيبُ لمْ يشملِ
لمَّا انتضاها موقنٌ أنَّهُ ... إنْ يبلغِ السُّوقَ بها يجذلِ
شيَّعَ في قرواءَ مدهونةٍ ... ذاتِ قلاعٍ صعداً تغتلي
تختصمُ اللُّجِّةُ في العوطبِ ... ذي التَّيَّارِ والجلجلِ
بشَّرَ أصحاباً لهُ إنَّها ... تجبرُ فقرَ البائسِ الأرملِ
قالتْ وقدْ كنَّا على موعدٍ ... ويلكَ إنْ يُدرَ بنا نقتلِ
أخشى عليكَ اليومَ منْ مصعةٍ ... خدباءَ منْ ذي هبَّةٍ مقصلِ
بكفِّ غيرانَ نهيكٍ منَ ال ... قومِ كصدرِ السَّيفِ لم ينكلِ
عندكِ شعبٌ منْ فؤادِ امرئٍ ... ما بهِ عنكِ اليومَ من مزحلِ
إنْ تبذُلي الودَّ فتشفي بهِ ال ... قلبَ وإنْ خفتِ فلا تفعلي
لشائنيكِ الويلَ إنْ تبذُلي ... أُغتلْ وشرٌّ لكِ أنْ تبذُلي
يصبحُ جذماناً على آلةٍ ... يعرفُها الآخرُ للأوَّلِ
تعاقبُ الأسرَى ودورُ الرَّحى ... وتالفٌ إنْ هوَ لمْ يغفلِ
أوْ لمْ يُفدْ أعقابكمْ قُضأةً ... مثلَ وُحيِّ الصَّخرِ لمْ تخملِ
وقال عدي أيضاً:
أرى لهواً تعرَّضَ للفراقِ ... وبيناً بعدَ بينٍ واتّفاقِ
لعلَّكِ إنَّما تدرينَ لومِي ... وعذْلي إنْ قدرتِ على النّفاقِ
فقدْ يأتي عليَّ أوانُ حينٍ ... وعِرسي ما تعرَّضَ للطَّلاقِ
ولكنْ قدْ يسرُّ ويتَّقيني ... بجهدِ الودِّ مغضبةَ الرِّواقِ
فتَى الفتيانِ لا يعتَقيني ... عنِ الأهواءِ جدِّي بالعواقي
فإمَّا أُمسِ مرتهناً أسيراً ... على العينينِ مشدودَ الوثاقِ
أسير الجنِّ لا أرجُو فكاكاً ... طوالَ الدَّهرِ محفوظَ الأباقِ
ولو أنِّي أرادَ لقلتُ قرنٌ ... أرادَ عدواتي حرجٌ مُلاقِ
وأحضرهُ العداوةَ منْ قريبٍ ... بضربٍ بينهُ وقْدُ احتراقِ
وكنتُ فتًى أخا العزَّاءِ فيهمْ ... لرَهطي لو وقَى العينينِ واقِ
تعظَّمُ ندوَتي فيهمْ وأثني ... مودَّتهمْ بأخلاقٍ رماقِ
إذا ما ألزَنُوا ولقدْ أُنادي ... لعانيهمْ بناجزةِ الحقاقِ
وصادرةٍ معاً وتُشتُّ ورداً ... لها منحٌ تواشكُ باتّفاقِ
نزعتُ لها رهابةَ مقدماتٍ ... يُلحنَ بوفرِ منتهكِ الغلاقِ
وقومي يعلمونَ لربَّ يومٍ ... شددتُ بما ألمَّ بهِ نطاقي
وأدفعُ عنهمُ والجرمُ فيهمْ ... دخيسَ الجمعِ بالكلمِ السّلاقِ
وخصمٍ قد لويتُ الحقَّ فيهِ ... قرائنهُ تنازعُ للشِّقاقِ
وجارٍ قد أواسيهِ بنفسي ... ووُسعي أن يبينَ عن اللِّزاقِ
وحورٍ قد خززتُ لهنَّ طرفي ... لذيذاتِ المودَّةِ والعناقِ
يدفنَ الزَّعفرانَ على خدودٍ ... نواعمَ لا كلفنَ ولا بهاقِ
كأنَّ وجوههنَّ متونُ بيضٍ ... جلتها الشَّمسُ في ذرِّ الشِّراقِ
لذيذاتِ الشَّبابِ مخصَّراتٍ ... مخاصرهنَّ في نشرٍ رقاقِ
وقد أغدو بمنشقٍّ نساهُ ... جوادٍ في المحثَّةِ والنِّزاقِ
لغيثٍ يجنبُ الرُّوّادُ عنهُ ... يباري الرِّيحَ بالعشبِ السِّماقِ
وبثَّ به من الوسميِّ غيثٌ ... مرادَ العينِ منفرقَ البساقِ
تقدَّمَ رابئٌ فإذا شياهٌ ... يدسنَ حديقَ سلاَّنِ البراقِ
فأرسلهُ وقد غرَّبنَ شأواً ... بهنَّ تواشكَ الشَّدِّ المزاقِ
كأنَّ مجامعَ الهُلباتِ منهُ ... وهاديها لميعادٍ وفاقِ

فأرخيتُ القناةَ ويزأنيّاً ... على الأكفالِ بالطَّعنِ المعاقِ
فعادى بينهنَّ وهنَّ رهوٌ ... يملنَ على مسمَّحةٍ ذلاقِ
فأدّاها إليَّ ولم يرثها ... فواقاً أو أقلَّ من الفُواقِ
وأدَّانا المقيلُ إلى شواءٍ ... يطاطئُ أنفسَ القومِ الدِّهاقِ
بفتيانٍ ذوي كرمٍ أعاذوا ... وقيذهمُ بشبعٍ واعتناقِ
وندمانٍ رهنتُ له بريٍّ ... وراووقٍ ومُسمعةٍ وساقي
كريم لا يُشعِّثني إذا ما ... نفتهُ الكأسُ بالسُّكرِ المساقي
أقامَ لدى ابنِ محصنَ عاملاتٍ ... من الأمثالِ والكلمِ البواقي
أرى الأيّامَ لا يبقى عليها ... سوى الأجبالِ والرَّملِ الرِّقاقِ
أبو بردة عديّ بن عمرو
وقال أبو بردة عديّ بن عمرو بن سويد بن زبّان الطائي المعنيّ:
أسماءُ حلَّتْ بوادي الكومِ من ريبٍ ... إلى المواثلِ تدنو ثمَّ تنصفقُ
وقد تولَّى بها صرفُ النَّوى حقباً ... وشطَّ أرضكَ من تهوى ومن تثقُ
وما تذكُّرهُ إحدى بني أسدٍ ... إلاَّ السَّفاهَ وإلا أنهُ علقُ
وقد ظللنا سراةَ اليومِ حابسنا ... شبكُ الدُّيونِ وأمرٌ بينهمْ غرقُ
ثمَّ أجدُّوا وعن أيمانهمْ ديرٌ ... وعن شمائلهمْ من فردةٍ برقُ
كأنَّهمْ وزهاءُ الآلِ يرفعهمْ ... وقد تألَّقَ ظهرُ المهمهِ البلقُ
نخلُ الجماحِ أعاليهِ مكمَّمةٌ ... لمّا تفتَّقْ ولم يدخلْ بهِ الحرقُ
وقد أكونُ أمام الحيّ يحملني ... قدَّامَ سرحهمِ ذو ميعةٍ تئقُ
نهدُ الثَّميلةِ إلاَّ أن يُكمِّشهُ ... الأجراءُ لا شبهةٌ فيهِ ولا بلقُ
رحبُ اللَّبانِ رجيلٌ منهبٌ تئقٌ ... للشَّدِّ لا سغلٌ فيه ولا ملقُ
كأنَّ ثائبهُ غيثُ تُقحِّمهُ ... ريحٌ فيسفحُ تاراتٍ ويندفقُ
كأنه أكلف الخدين منتصب ... منه المخالب أعلى ريشة لثق
بازٍ جريءٌ على الحزَّانِ مقتدرٌ ... ومن حبابيرَ ذي ماوانَ يرتزقُ
وقد طلبتُ حمولَ الحيّ تحملني ... عنسٌ مواشكةٌ في سيرها قلقُ
بقَّى السِّفارُ وحرُّ القيظِ جبلتها ... فهيَ رذيٌّ وفي أخفافها رققُ
كأنَّها بعدما خفَّتْ ثميلتها ... من وحشِ جبَّةَ موشيُّ الشَّوى لهقُ
أحسَّ غُنماً ولا يوري بطلعتهِ ... على مذارعهِ من شملةٍ خرقُ
يقودُ غُضفاً دقاقاً قد أحالَ بها ... أكلُ الفقارِ ومن أقواتها السَّرقُ
مقلَّداتٍ بأوتارٍ ومن قِددٍ ... كأنَّهنَّ على أعناقها ربقُ
فبثَّهنَّ بطاوي الكشحِ منجردٍ ... كأنَّ أظلافهُ يهوي بها زهقُ
على قرا صحصحانٍ يعتلينَ بهِ ... حتَّى تداركنهُ لما استوى الفلقُ
كأنَّهنَّ إذا أُغرينَ عاصيةً ... خضعُ الرِّقابِ وفي أحداقها زرقُ
فكرَّ ثبتاً معيدَ الطَّعنِ ذا نزلٍ ... طعنَ المبيطرِ إذ ناهى به يشقُ
حتَّى تحاجزنَ عنهُ بعدما كثرتْ ... منها الدُّميُّ على آثارهِ دفقُ
فظلَّ غنمٌ كئيباً عندَ أكلبهِ ... ولم يصدْهُ فتيلاً ذلك الطَّلقُ
ثمَّتَ ولَّى على رحٍّ مسلَّمةٍ ... يعلو الأواعسَ كالعيُّوقِ يأتلقُ
أذاكَ أمْ خاضبٌ حصٌّ قوادمهُ ... جادتْ لهُ العينُ حتَّى احْلولكَ البرقُ
تبري لهُ صلعةٌ ربداءُ خاضعةٌ ... خدبَّةُ الجرمِ لا يزري بها السِّوقُ
يقْرو النِّقاعَ وتتلوهُ مواشكةٌ ... كأنَّما زفُّها في دفِّها خرقُ
قد أودعتْ من قُفيٍّ ناعجٍ ثقلاً ... يحبو عليه حصى الأُدحيّ يطَّرقُ
فآنسا همَّةً من فيخِ نافجةٍ ... كما يحفُّ أباءٌ غالهُ الحرقُ
فاستدبرتهُ وصدرُ الرِّيح يكثحها ... يرقدُّ وهي تواريهِ وتفتلقُ
وقد تألَّقَ في حمَّاءَ راجسةٍ ... برقٌ تطايرَ في أرجائها شققُ
واللَّيلُ قد جلَّلَ الآفاقَ شملتهُ ... وقد تمدَّدَ فوقَ الطَّخيةِ الغسقُ
لولا توقُّدُ ما ينفيهِ خطوهما ... على البسيطةِ لم تدركهما الحدقُ
أبلغْ بني أسدٍ عنِّي مُغلغلةً ... تهوي بها العيسُ لا ودٌّ ولا ملقُ
لكنَّها مثلٌ يبقى لها علبٌ ... على المخاطمِ ما جلَّى الدُّجى الفلقُ

إنّا تركنا لدى الهلْتى أبا جعلٍ ... ينوءُ في الرُّمحِ والأقتابُ تندلقُ
أجرَّهُ خيبريٌّ صدرَ مطَّردٍ ... فيه سنانٌ كنجمِ الرَّجمِ يأتلقُ
إنَّ الفوارسَ من جرمٍ ومن ثعلٍ ... آلَوا بآبائهم أن تُمنعَ الطُّرقُ
أضحتْ سميراءُ تردي في جوانبها ... خيلٌ عليها فتوٌّ في الوغى صدقُ
الأجدع بن مالك
وقال الأجدع بن مالك الهمدانيّ:
أسألتني بركائبٍ ورحالها ... ونسيتِ قتلَ فوارسِ الأرباعِ
الحارثِ بن يزيدَ ويبكِ أعولي ... حلواً شمائلهُ رحيبَ الباعِ
فلو أنَّني فوديتهُ لفديتهُ ... بأناملي وأجنَّهُ أضلاعي
ونفعتُ غيرهُ في اللِّقاءِ وفاتهُ ... نفعي وكلُّ منيَّةٍ بجماعِ
تلكَ الرَّزيَّةُ لا قلائصَ أُسلمتْ ... برحالها مشدودةَ الأنساعِ
أبلغْ لديكَ أبا عميرٍ مألكاً ... فلقدْ أنختَ بمبركٍ جعجاعِ
ولقدْ قتلنا من بنيكَ ثلاثةً ... فلتنزعنَّ وأنتَ غيرُ مطاعِ
والخيلُ تعلمُ أنَّني جاريتها ... بأجشَّ لا ثلبٍ ولا مظلاعِ
يصطادكَ الوحدَ المدلَّ بحضرهِ ... بشريحِ بينَ الشَّدِّ والإيضاعِ
يهدي الجيادَ وقد تزايلَ لحمهُ ... بيديْ فتًى سمحِ اليدينِ شجاعِ
فرضيتُ آلاءَ الكميتِ فمن يبعْ ... فرساً فليسَ جوادنا بمباعِ
إنَّ الفوارسَ قد عرفتَ مكانها ... فانعقْ بشائكَ نحو آلِ رداعِ
خيلانِ من قومي ومن أعدائهمْ ... خفضوا أسنَّتهمْ وكلٌّ ناعي
خفضوا الأسنَّةِ بينهمْ فتواسقوا ... يٌسقونَ في حللٍ من الأدراعِ
والخيلُ تنزو في الأعنَّةِ بيننا ... نزوَ الظِّباءِ تحوِّشتْ بالقاعِ
فكأنَّ قتلاها كعابُ مقامرٍ ... ضربتْ على شزنٍ فهنَّ شواعي
وهلتْ فهنَّ يسرنَ في أرماحنا ... ورفعنَ وهْوهةً صهيلَ وقاعِ
ولَحقنهُ بالجزعِ جزعِ حَبوْننٍ ... يطلبنَ أذواداً لأهلِ ملاعِ
ففدًى لهمْ أمِّي وأمُّهمُ لهمْ ... فبمثلهمْ في الوترِ يسعى السَّاعي
ولقد شددتمْ شدَّةً مذكورةً ... ولقد رفعتمْ ذكركمْ بيفاعِ
فَلتبلغنْ أهلَ العراقِ ومذحجاً ... وعكاظَ شدَّتنا لدى الإقلاعِ
أبني الحُصينَ ألم يحنكمْ بغيكمْ ... أهلَ اللِّواءِ وسادةَ المرباعِ
شهدوا المواسمَ فانتزعنا ذكرهمْ ... منهمْ بأمرِ صريمةٍ وزماعِ
أبلغْ قبائلَ مذحجٍ ولفيفها ... أنِّي حميتُ محاميَ الأجراعِ
وتركتُ أكتلَ والمخزَّمَ وابنهُ ... رهناً لوردِ لعاوسٍ وضباعِ
فلكمْ يدايَ بيومِ سوءٍ بعدها ... متكفِّلٍ بتفرُّقٍ وضياعِ
وتظلُّ جالعةُ القناعِ خريدةٌ ... لم تبدُ يوماً غيرَ ذاتِ قناعِ
أبَني منسِّفةِ استِها لا تأمنوا ... حرباً تقضُّ مضاجعَ الهجّاعِ
حتَّى تلفَّ أصارمٌ بأصارمٍ ... ويلمَّ شتُّ تفرُّقِ الأوزاعِ
وترى أبا الأبداءِ يسحبُ هدمهُ ... حيرانَ ملتجئاً إلى الأكماعِ
ولقد بلا جعلُ المخازي بأسنا ... ومحالنا في كبَّةِ الوعواعِ
فنجا ومقلتهُ يقسِّمُ لحظها ... فنَّينِ بينَ أخادعٍ ونخاعِ
يزيد بن المخرّم
وقال يزيد بن المخرّم بن حزن بن زياد، أخو بني الحارث بن كعب:
تعجَّبُ جارتي لمّا رأتني ... كذاتِ النَّوطِ مخدرتي جراحي
كأنَّكِ لم تريْ قبلي أسيراً ... يقادُ به على جملٍ رداحِ
على آثارِ أحمرةٍ وفرقٍ ... تقسَّمُ بينَ أغولةٍ شحاحِ
فلمّا أنزلوني كنتُ حرّاً ... أجالدهمْ لدى كفلِ الجناحِ
تعاورهُ الرِّجالُ فأنزلوني ... عن الفرسِ المطهَّمةِ الوقاحِ
فلمّا إن كثرتُ وغابَ قومي ... أسرتُ إسارَ محتبلِ البراحِ
رأوني مفرداً فتناذروني ... وما صدعتْ كماتهمُ جماحي
وقد روَّعتهمْ قِدماً بخيلٍ ... جوانفَ في الأعنَّةِ كالسِّراحِ
إذا بلَّتْ أعنَّتها بناني ... خرجنَ بنا نواشطَ كالقداحِ
ولو أنِّي جمعتُ لهمْ شواري ... على نهدٍ مراكلهُ شناحِ
لأنكرني الذينَ تبادروني ... عليَّ مفاضتي ومعي سلاحِ

كأنَّ عديَّهمْ حولي عبابٌ ... تغطمطَ في قموسِ البحرِ ضاحي
وغابَ حلائبي وبقيتُ فرداً ... أُماصعهمْ ونهضكَ بالجناحِ
فما أدري وظنِّي كلُّ ظنٍّ ... أيُسلمني بنو البدءِ اللِّقاحِ
فتقتلني بنو خبرٍ بذهلٍ ... وكدتُ أكونُ من قتلى الرِّياحِ
وظنِّي أن ستشغلكَ النَّدامى ... غدوُّهمُ إليكَ معَ الرَّواحِ
تغنِّيكَ الحمامةُ كلَّ فجرٍ ... على التُّكآتِ في النُّجبِ الصَّباحِ
إذا فارقتَ ندماناً بليلٍ ... تواعدهُ لقاءكَ ذا صباحِ
وإنَّ أخاكَ إن غُيِّبتَ عنهُ ... يغصُّ بنغبةِ الماءِ القراحِ
فلوْ كنتَ الأسيرَ ولا تكنهُ ... لزرتهمُ بمرتجفِ النَّواحِ
فإن لم يطلقوا منكم أسيراً ... فقودوا الخيلَ أسفلَ من رُباحِ
ولا يردعكمُ شفقٌ علينا ... فبعضُ القودِ أدنى للنَّجاحِ
وإنَّ القودَ بعد القودِ يشفي ... ذوي الأضغانِ من لهبِ الأُحاحِ
جبر بن الأسود
وقال جبر بن الأسود المعاويّ، من بني الحارث بن كعب:
أجدَّكَ لم تعرفْ أثافيَّ دمنةٍ ... مررتَ على أطلالها لا تعرِّجُ
بلى فتداعى الدَّمعُ حتَّى كأنَّما ... جفونكَ سمطٌ خانهُ السِّلكُ ممرجُ
لياليَ ليلى لا تزالُ كأنَّها ... هميجٌ بذي الدَّثَّينِ غرّاءُ عوهجُ
ربيبةُ خدرٍ لم تكشَّفْ سجوفهُ ... وفارةُ مسكٍ آخرَ اللَّيلِ تارجُ
كأنَّ ثناياها وبردَ رضابها ... هدوّاً نطافٌ بالمسيلةِ حشرجُ
تشجُّ به رقراقةٌ صرخديَّةٌ ... عقيلةُ محذوفٍ يغصُّ وينشجُ
تذكَّرتها من بعدِ ما حالَ دونها ... من النّأي طلحٌ بالحجازِ وعوسجُ
فإنّي بليلى جيرِ أن تُسعفَ النَّوى ... ومن دونها غولُ البطاحِ فمنعجُ
فدعْ ذا ولكنْ هل ترى رأيَ كاشحٍ ... يخبُّ إلينا بالوعيدِ ويهدجُ
كذبتمْ وبيت الله لا تأخذونها ... بني عانسٍ حتَّى تروحوا وتدلجوا
وحتَّى ترى الحوَّ الطِّوالَ متونها ... على ضوءِ نارٍ أو معَ الصُّبحِ تسرجُ
وحتَّى ترى النَّجدَ البسيلَ كأنَّما ... يضرِّجهُ بالزَّعفرانِ مضرِّجُ
وحتَّى ترى اللّيسَ الكُماةَ كأنَّما ... تصلَّوا ذكاً يلوي القلوبَ فيهرجُ
كبتْ كرَّةُ الأبدانِ فوقَ جلودهمْ ... إذا لبسوا ما كان داوودُ ينسجُ
هنالكَ إنْ تغلبْ تكنْ أنتَ ربَّها ... وإنْ تنهكمْ عنها الحواجزُ تعنجوا
حواجزُ رحمٍ أو قتالُ عشيرةٍ ... وعادةُ بعضِ الظُّلمِ بالظُّلمِ تلهجُ
وما خلتُ أنِّي نلتُ مالَ عشيرةٍ ... ولا حيبةً إنَّ الأمورَ تفرَّجُ
فلستُ بمولى باطلٍ إن طلبتهُ ... وما لكَ عندي بالظُّلامةِ مدلجُ
متى تلقني لا تلقَ شكَّةَ واحدٍ ... إذا افترَّ يوماً عن لظًى يتأجَّجُ
معي مشرفيٌّ كالعقيقةِ صارمٌ ... به أثرٌ بالمتنتينِ مدرَّجُ
وأسمرُ خطِّيٌّ كأنَّ اهتزازهُ ... مقاطُ قليبٍ مسَّهُ الماءُ مدمجُ
وأبيضُ فضفاضٌ كنهيٍ تبسَّمتْ ... له تحتَ ذيلِ الصُّبحِ في القاعِ نيرجُ
فيالكَ من بزِّ امرئٍ ذي حفيظةٍ ... يخبُّ به عبلُ المعاقمِ مهرجُ
وقد علمتْ إنِّي وإنَّكَ في الوغى ... إذا اعتكرتْ أصغى إلى السِّلمِ مذحجُ
وقد لفَّ شخصينا سرادقُ هبوةٍ ... فخانكَ صبرٌ يومَ ذلك مخدجُ
فحاذر هديّاها فإنِّي زعيمها ... وأشنعُ ما يُنثى الكلامُ الملجلجُ
الحارث بن جحدر
وقال الحارث بن جحدرٍ الحضرميّ ثمَّ الصدفيّ:
أتهجرُ أمْ لا اليومَ من أنتَ عاشقهْ ... ومن أنتَ مشتاقٌ إليهِ وشائقُهْ
ومن أنتَ طولَ الدَّهرِ ذكرُ فؤادهِ ... ومن أنتَ في صرمِ الخلائقِ وامقهْ
ورئمٍ أحمِّ المقلتينِ موشَّحٍ ... زرابيُّهُ مبثوثةٌ ونمارقهْ
أغنَّ غضيضِ الطَّرفِ عذبٍ رضابهُ ... تُعلَّلُ بالمسكِ الذَّكيِّ مفارقهْ
بذلتُ لشيخيهِ التِّلادَ فنلتهُ ... وما كدتُ حتَّى سافَ مالي أوافقهْ
وغيثٍ من الوسميِّ أسحجَ فارتوى ... من الماءِ حتَّى ضاقَ بالماءِ طالقهْ

أجشَّ دجوجيٍّ إذا جادَ جودةً ... على البيدِ أوفى واتلأبَّتْ دوافقهْ
ملثٍّ فُويقَ الأرضِ دانٍ كأنَّهُ ... دجى اللَّيلِ أرسى يفحصُ الأرضَ وادقهْ
هزيمٍ يسحُّ الماءَ عن كلِّ فيقةٍ ... مرنٍّ كثيرٍ رعدهُ وبوارقهْ
إذا جلَّلتْ أعجازهُ الرِّيحُ جلجلتْ ... تواليهِ رعداً فاستهلَّتْ رواتقهْ
إذا ما بكى شجواً تحيَّرَ مسمحٍ ... على الجوفِ حتَّى تتلئبَّ سوابقهْ
فأقلعَ عن مثلِ الرِّحالِ ترى به ... خناظيلَ أهمالٍ تجولُ حزائقهْ
إذا أنفدتْ بقلَ الرَّبيعِ وماءهُ ... تذكَّر سلسالَ الفراتِ نواهقهْ
وسربِ ظباءٍ ترتعي ظاهرَ الحمى ... إلى الجوِّ فالخَبتينِ بيضٍ عقايقهْ
مجلجلةِ الأصواتِ أُدمٍ كأنَّها ... مكاكيكُ كسرى شوِّفتْ وأبارقهْ
حماشِ الشَّوى نُجلِ العيونِ سوانقٍ ... من البقلِ حورٍ أحسنَ الخلقَ خالقهْ
ذعرتُ بمقوَرِّ اللِّياطِ مصنَّعٍ ... ممرٍّ كصدرِ الرُّمحِ عادٍ نواهقهْ
أقولُ لفتلاءِ المرافقِ سمحةٍ ... وللَّيلِ كسرٌ يضبعُ البيدَ غاسقهْ
تضمَّنتِ همِّي فاستقيمي وشمِّري ... على لاحبٍ تُنضي المطيَّ أسالقهْ
وسيري إلى خيرِ الأنامِ وروِّعي ... بلادكِ أنَّ الدَّهرَ جمٌّ بوائقهْ
إلى الأكرمينَ الأمجدينَ أولي النُّهى ... بني مالكٍ ضخمٍ عظيمٍ سرادقهْ
بني الحارث الخير بن عمرو بن آكل ال ... مُرارِ الذي لا يرهبُ البخلَ طارقهْ
لهمْ جبلٌ يعلو الجبالَ مشيَّدٌ ... أشمٌّ رفيعٌ يحسرُ الطَّرفَ شاهقهْ
وما علمتْ في النَّاسِ طرّاً قبيلةٌ ... لها المجدُ إلاَّ مجدُ كندةَ فائقهْ
وما من حمًى في النّاسِ إلاَّ حمًى لنا ... وإلا لنا غربيُّهُ ومشارقهْ
أتعلمُ أنَّ الصِّدقَ في القولِ واضحٌ ... أما إنَّ خيرَ القولَ في النَّاسِ صادقهْ
وما من فتًى في النّاسِ إلاَّ يسوقهُ ... إلى الموتِ يومٌ لا محالةَ سائقهْ
لهُ أجلٌ ساعٍ لهُ لا مؤخِّراً ... إذا جاءَ محتوماً ولا هو سابقهْ
وكلُّ فتًى يوماً وإن ضنَّ رغبةً ... بصاحبهِ لا بدَّ يوماً مفارقهْ
امرؤ القيس بن جبلة
وقال امرؤ القيس بن جبلة السَّكونيّ:
إنِّي على رغمِ الوشاةِ لقائلٌ ... سقى الجارتينِ العارضُ المتهلِّلُ
من الهيفِ صفراوانِ أنَّى أُتيحتا ... لعينيَّ إنِّي مهتدٍ أو مضلَّلُ
فما زلتُ أدعو اللهَ حتَّى استماهما ... من العينِ جونٌ ذو عثانينَ مسبلُ
به بردٌ صافي الجنوبِ تمدُّهُ ... بناتُ مخاضِ المزنِ أبيضُ مُنزلُ
ودونهما من تلعِ بسيانَ فاللِّوى ... أخاقيقُ فيها صلِّيانٌ وحنظلُ
نباتانِ أمّا الصِّلِّيانُ فظاهرٌ ... وحنظلهُ في باطنِ التَّلعِ مسهلُ
وقد أذعرُ الوحشَ الرُّبوضَ بعرمسٍ ... مضبَّرةٍ حرفٍ تخبُّ وترقلُ
كأني على حقباءَ خدَّدَ لحمها ... إرانٌ وشحّاجٌ من الجونِ معجلُ
صهابيَّةُ العُثنونِ مخطوفةُ الحشا ... تخيَّلُ للأشباحِ غرباً فتجفلُ
تضمَّنها حتَّى تكاملَ نسئُها ... إرانٌ فمرفضُّ الرِّداهِ فأيَّلُ
يجدُّ بها في خفضهِ وهبابه ... أحذُّ جماديٌّ من الحقبِ صلصلُ
يصرِّفها طوعاً وكرهاً إذ أبتْ ... مصكٌّ جلتْ عنهُ العقايقُ صندلُ
ألدُّ شديدُ الأخدعينِ بليتهِ ... من الزَّرِّ أبلادٌ جليبٌ ومُخضلُ
يعارضُ تسعاً قد نحاها لموردٍ ... يجورُ بذاتِ الضِّغْنِ منها ويعدلُ
فلاقى أبا بشرٍ على الماءِ راصداً ... به من زماعِ الصَّيدِ وردٌ وأفكلُ
يقلِّبُ أشباهاً كأنَّ نصالها ... بعيجةُ جمرٍ أو ذبالٌ مفتَّلُ
فلمّا رضى إعراضها واغترارها ... وواجههُ من منبضِ القلبِ مقتلُ
رماها بمذروبِ المكفِّ كأنَّهُ ... سوى عودهِ المخشوشِ في الرأسِ مغولُ
فأنفذَ حضنيها وطرَّ وراءها ... بمعتقبِ الوادي نضيٌّ مرمَّلُ
وغادرها تكبو لحرِّ جبينها ... يناطحُ منها الأرضَ خدٌّ وكلكلُ
ومارَ عبيطٌ من نجيعٍ كأنَّهُ ... على مستوى الإطلينِ نيرٌ مرحَّلُ

وأجفلنَ من غيرِ ائتمارٍ وكلُّها ... له من عبابِ الشَّدِّ حرزٌ ومعقلُ
يؤمِّلُ شرباً من ثميلٍ وماسلٍ ... وما الموتُ إلاَّ حيثُ أرَّكَ ماسلُ
عليهِ أُبيرٌ راصداً ما يروقهُ ... من الرَّميِ إلاَّ الجيِّدُ المتنخَّلُ
ولاقينَ جبّارَ بن حمزةَ بعدما ... أطابَ بشكٍّ أيَّ أمريهِ أفعلُ
يقلِّبُ أشباهاً كأنَّ نصالها ... خوافي حمامٍ ضمَّها الصَّيفَ منزلُ
وصفراءَ من نبعٍ رنينٌ خُواتها ... تجودُ بأيدي النّازعينَ وتبخلُ
وباتَ يرى الأرضَ الفضاءَ كأنَّها ... مراقبُ يخشى هولها المتنزِّلُ
يؤامرُ نفسيهِ أعين غُمازةٍ ... يغلِّسُ أم حيثُ النِّباجُ وثيتلُ
فلمّا ارجحنَّ اللَّيلُ عنهُ رمى بها ... نجادَ الفلا يعلو مراراً ويسفلُ
فغامرَ طحلاءَ الشَّرائعِ حولهُ ... بأرجائها غابٌ ألفُّ وثيِّلُ
فغمَّرها مستوفزاً ثمَّ حاذها ... يشجُّ الصُّوى من قربها الشَّدُّ من علُ
وأضحتْ بأجوازِ الفلاةِ كأنَّها ... وقد راخت الشَّدَّ الحنيُّ المعطَّلُ
ألا هذه أمُّ الصَّبيَّينِ إذ رأتْ ... شحوباً بضاحي الجسمِ منِّي تهزَّلُ
تقولُ بما قد كانَ أفرعَ ناعماً ... تغيَّرَ واستولى عليهِ التَّبدُّلُ
فإنْ تسألي عنِّي صحابي تُنبَّئي ... إذا ما انفرى سرباليَ المترعبلِ
تنبَّيْ بأنّي ماجدٌ ذو حفيظةٍ ... أخو القومِ جوّابُ الفلاةِ شمردلُ
تريني غداةَ البذلِ أهتزُّ للنَّدى ... كما جرَّدَ السَّيفَ اليمانيَّ صيقلُ
فلا يهنئنَّ الشّامتينَ اغتباطهمْ ... إذا غالَ أجلادي ترابٌ وجندلُ
وإضتُ هميداً تحتَ رمسٍ بربوةٍ ... تعاورني ريحٌ جنوبٌ وشمألُ
تمنَّى ليَ الموتَ الذي لستُ سابقاً ... معاشرُ من ريبِ الحوادثِ جهَّلُ
معاشرُ أضحى ودُّهمْ متبايناً ... وشرُّهمُ بادٍ يدَ الدَّهرِ مقبلُ
أقرَّ وقاعي أنفساً ليسَ بينها ... وبينَ حياضِ الموتِ للشّربِ منهلُ
كما راعَ ممسى اللَّيلِ أو مستوى الضُّحى ... عصافيرُ حجرانِ الجُنينةِ أجدلُ
خداشُ بن زهير
وقال خداشُ بن زهير بن ربيعة بن عامر فارس الضّحياء بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، وخداش هو ذو الشّامة:
عفا واسطٌ أكلاؤهُ فمحاضرهُ ... إلى جنبِ نهيَ سيلهُ فصدائرهْ
فشركٌ فأمواهُ اللَّديدِ فمنعجٌ ... فوادي البديِّ غمرهُ فظواهرهْ
منازلُ من هندٍ وكان أميرها ... إذا ما أحسَّ القيظَ تلكَ مصايرهْ
صلي مثلَ وصلي أمَّ عمرٍو فإنَّني ... إذا خفتُ أخلاقَ النَّزيعِ أُدابرهْ
وأبيضَ خيرٍ منكِ وصلاً كسوتهُ ... ردائي فيما نلتقي وأسايرهْ
وإنّي لتغشى حجرةَ الدّارِ ذمَّتي ... ويدركُ نصري المرءَ أبطأ ناصرهْ
وإنّي إذا ابنُ العمِّ أصبحَ غارماً ... ولو نالَ منِّي ظنَّةً لا أهاجرهْ
يكونُ مكانَ البرِّ منِّي ودونه ... وأجعلُ مالي ماله وأُؤامرهْ
فإنَّ ألوكَ اللَّيلِ معطًى نصيبهُ ... لديَّ إذا لاقى البخيلَ معاذرهْ
وإنِّي لينهاني الأميرُ عن الهوى ... وأصرمُ أمري واحداً فأهاجرهْ
بأدماءَ من سرِّ المهارى كأنَّها ... أقبُّ شنونٌ لم تخنهُ دوابرهْ
تصيَّفَ أطرافَ الصُّوى كلَّ صيفةٍ ... وواردَ حتَّى ما يلثّمُ حافرهْ
ولاحتهُ هيفُ الصَّيفِ حتَّى كأنهُ ... صليفُ غبيطٍ لاءمتهُ أواسرهْ
تلا سقبةً قوداءَ أفردَ جحشها ... فقد جعلتْ تاذي به وتناكرُهْ
رباعيَّةً أو قارحَ العامِ ضامراً ... يمائرها في جريهِ وتُمائرُهْ
إذا هبطا أرضاً حزوناً رأيتها ... بجانبهِ إلاَّ قليلاً تواترهْ
فحلأها حتَّى إذا ما توقَّدتْ ... عليهِ من الصَّمّانتينِ ظواهرهْ
وخالطَ بالأرساغِ من ناصلِ السَّفى ... أنابيشَ مرميّاً بهنَّ أشاعره
أرنَّ عليها قارباً وانتحتْ لهُ ... خنوفٌ إذا تلقى مصيفاً تبادرُهْ
فأوردها والنَّجمُ قد شالَ طالعاً ... رجا منهلٍ لا يخلفُ الماءَ حائرهْ

فجاءتْ ولم تملكْ من الماءِ نفسها ... وسافَ الشَّريعَ أنفهُ ومشافرهْ
فرادَ قليلاً ثمَّ خفَّضَ جأشهُ ... على وجلٍ من جانبٍ وهو حاذرهْ
فدلَّى يديهِ بينَ ضحلٍ وغمرةٍ ... تخالجُ من هولِ الجنانِ بوادرهْ
وأوسٌ لدى ركنِ الشَّمالِ بأسهمٍ ... خفافٍ وناموسٍ شديدٍ حمائرهْ
إذا رابهُ من سهمهِ زيغُ قذَّةٍ ... يعوذُ بمبراةٍ له فهو حاشرهْ
فأوردهُ حتَّى إذا مدَّ صلبهُ ... وباشرَ بردَ الماءِ منه مناخرهْ
تنحَّى بمذروبٍ فأخلفَ ظنَّهُ ... وويَّلَ ملهوفاً وخيِّبَ طائرهْ
فأصدرها تعلو النِّجادَ وينتحي ... بها كلَّ ريعٍ متلئبٍّ مصادرهْ
يجنِّبُ رجليها يديهِ ورأسهُ ... شديدٌ عليها وقعهُ وغشامرُهْ
فأصبحَ ذو حسمٍ ودورانُ دونهُ ... وحسيُ القرانِ دونهُ وحزاورهْ
بعيدُ مدى صوتِ النُّهاقِ يردُّهُ ... إلى جوفهِ منهُ صحيحاً نواظرهْ
أقبٌّ قليلُ العتبِ توبعَ خلقهُ ... فأُفرغَ هاديهِ وأُرمحَ سائرهْ
كأنَّ ضئيَّيْ رأسهِ شجرُ واسطٍ ... تفاقمَ حتَّى لا حكتهُ مسامرهْ
فتلكَ بها أقضي همومي وحاجتي ... إذا ما التوتْ والهمُّ جمٌّ خواطرهْ
وقال خداشٌ أيضاً:
صبا قلبي وكلَّفني كنودا ... وعاودَ داءهُ منها التَّليدا
ولم يكُ حبُّها عرضاً ولكنْ ... تعلَّقَ داءهُ منها وليدا
ليالي إذ تربَّعُ بطنَ ضيم ... فأكنافَ الوضيحةِ فالبرودا
وإذ هيَ عذبةُ الأنيابِ خودٌ ... تُعيشُ بريقها العطشَ المجودا
ذريني أصطبحْ كأساً وأودي ... مع الفتيانِ إذ صحبوا ثمودا
فإنِّي قد بقيتُ بقاءَ حيٍّ ... ولكن لا بقاءَ ولا خلودا
وإنَّ المرءَ لم يخلقْ سلاماً ... ولا حجراً ولم يخلقْ حديدا
ولكن عائشٌ ما عاشَ حتَّى ... إذا ما كادهُ الأيّامُ كيدا
لحتْ عذَّالتايَ فقلتُ مهلاً ... ألمّا تبصرا الرّأيَ الرَّشيدا
فما إن أمرتما إلاَّ بنحلٍ ... فهلاَّ أن أُثمِّرَ أو أفيدا
سأحضرها التِّجارَ إذا أتوني ... بخمرهمِ وأمنحها المُريدا
وأروي الفتيةَ النُّدماءَ منها ... ذوي شركٍ يعدُّونَ الفقودا
رأيتُ الله أكثر كلِّ شيءٍ ... محاولةً وأكثرهُ جنودا
تقوهُ أيُّها الفتيانُ إنِّي ... رأيتُ اللهَ قد غلبَ الجدودا
رأيتُ الخادرَ المحجوبَ منّا ... يلقَّى حتفهُ والمستريدا
ولمّا يُبقِ من سرواتِ فهرٍ ... وخندفِ هذه إلاَّ شريدا
تولَّوا نضربُ الأقفاءَ منهمْ ... بما انتهكوا المحارمَ والحدودا
وأبرحُ ما أدامَ اللهُ رهطي ... رخيَّ البالِ منتطقاً مجيدا
بساهمةٍ أهنتُ لها عيالي ... وأمنحها الخليَّةَ والصَّعودا
وأُلحفها إذا ما الكلبُ ولَّى ... براثنهُ وجبهتهُ الجليدا
ردائيَ فهيَ صافنةٌ إلينا ... تشيمُ بطرفها البلد البعيدا
منَ المتلفِّتاتِ لجانبيها ... إذا أخضلنَ بالعرقِ اللَّبُّودا
أقدتُ بثابتٍ وإلى زيادٍ ... رضختُ بنعمةٍ وإلى يزيدا
وفي النَّجارِ قد أسديتُ نعمى ... وأجدرْ في النَّوائبِ أن أعودا
إذِ الأشهادُ من عمرو بن عوفٍ ... قعودٌ في الرِّفاقِ وفي يهودا
أثيبوني القيانَ إذا انتديتمْ ... وبزلَ الشَّولِ تحدى والبرودا
وجرداً في الأعنَّةِ مصغياتٍ ... حدادَ الطَّرفِ يعلكنَ الحديدا
فأبلغْ إن عرضتَ بنا هشاماً ... وعبد الله أبلغْ والوليدا
أولئكَ إن يكنْ في القومِ خيرٌ ... فإنَّ لديهمِ حسباً وجودا
همُ خيرُ المعاشرِ من قريشٍ ... وأوراها إذا قدحتْ زنودا
بأنّا يومَ شمظةَ قد أقمنا ... عمودَ المجدِ إنَّ له عمودا
جلبنا الخيلَ ساهمةً إليهمْ ... عوابسَ يدَّرعنَ النَّقعَ قودا
وبتنا نعقدُ السِّيما وباتوا ... وقالوا صبِّحوا الأنسَ الحريدا
وقد حتموا القضاءَ ليجعلنّا ... مع الإصباحِ جاريةً وئيدا
فجاؤوا عارضاً برداً وجئنا ... كما أضرمتَ في الغابِ الوقودا

فقالوا يالَ عمرٍو لا تفرُّوا ... فقلنا لا فرارَ ولا صدودا
فعاركنا الكماةَ وعاركونا ... عراكَ النُّمرِ واجهتِ الأسودا
علوناهمْ بكلِّ أفلَّ عضبٍ ... تخالُ جماءَ وقعتهِ خدودا
فلمْ أرَ مثلهمْ هزموا وفُلُّوا ... ولا كذيادنا غبقاً مذودا
عددتمْ عطفتينِ ولم تعدُّوا ... وقائعَ قد تركنكمُ حصيدا
تركنا البيدَ والمعزاءَ منهمْ ... تخالُ خلالها معزًى صريدا
تركنا عامريهمْ مثلَ عادٍ ... ومرَّةَ أُهلكوا إلاَّ الشَّريدا
وعبدَ الله قد قتلوا فصاروا ... همُ الأنكاسَ يرعونَ النَّقيدا
أنا الحامي الذِّمارَ وليثُ غابٍ ... أشبُّ الحربَ أشعلها وقودا
أهمُّ فلا أقصِّرُ دونَ همِّي ... أنالُ الغنمَ والبلد البعيدا
بتجهيزي المقانبَ كلَّ عامٍ ... وغاراتي على جبليْ زرودا
على الأحلافِ من أسدٍ وطيْئٍ ... وفي غطفانَ أجدرُ أن أعودا
وقال خداشٌ أيضاً:
إذا ما الثُّريا أشرفتْ في قتامها ... فُويقَ رؤوسِ النّاسِ كالرُّفقةِ السَّفْرِ
وأردفتِ الجوزاءُ يبرقُ نظمها ... كلونِ الصِّوارِ في مراتعهِ الزُّهرِ
إذا أمستِ الشِّعرى استقلَّ شعاعها ... على طلسةٍ من قرِّ أيّامها الغُبْرِ
وبادرتِ الشَّولُ الكنيفَ وفحلها ... قليلُ الضِّرابِ حينَ يرسلُ والهدرِ
ألم تعلمي والعلمُ ينفعُ أهلهُ ... وليسَ الذي يدري كآخرَ لا يدري
بأنّا على سرّائنا غيرُ جهَّلٍ ... وأنّا على ضرّائنا من ذوي الصَّبرِ
وأنَّ سراةَ الحيِّ عمرو بن عامرٍ ... مقارٍ مطاعيمٌ إذا ضنَّ بالقطرِ
وكم فيهمِ من سيِّدٍ ذي مهابةٍ ... وحمّالِ أثقالٍ وذي نائلٍ غمرِ
ومن قائلٍ لا يفضلُ النّاسُ حلمهُ ... إذا اجتمعَ الأقوامُ كالقمرِ البدرِ
ونلبسُ يومَ الرَّوعِ زغفاً مُفاضةً ... مضاعفةً بيضاً لها حببٌ يجري
ونفري سرابيلَ الكُماةِ عليهمِ ... إذا ما التقينا بالمهنَّدةِ البترِ
ونصبرُ للمكروهِ عندَ لقائنا ... ونرجعُ منهُ بالغنيمةِ والذِّكرِ
وقد علمتْ قيسُ بن عيلانَ أنَّنا ... نحلُّ إذا خافَ القبائلُ بالثَّغرِ
بحيٍّ يراهُ النّاسُ غير أُشابةٍ ... لهمْ عرضُ ما بينَ اليمامةِ والقهرِ
ترى حينَ تأتيهمْ قباباً وميسراً ... وأخبيةً من مستجيرٍ ومن تجرِ
ولا يمنعُ الحانوتَ منّا زعانفٌ ... من النَّاسِ حتَّى نستفيقَ من الخمرِ
أنا ابن الذي لاقى الهمامَ فردَّهُ ... على رغمهِ بينَ المثامنِ والصَّخرِ
أقمنا بقاعِ النَّخلِ حينَ تجمَّعتْ ... حلائبُ جعفيٍّ على محبسِ النَّفرِ
ضربناهمُ حتَّى شفينا نفوسنا ... من السَّيِّدِ العاتي الرَّئيسِ ومن دهرِ
وفي شعبى يومٌ لنا غيرُ وابطٍ ... ويومُ بني وهيٍ ويومُ بني زحرِ
نعاورهمْ ضرباً بكل مهنَّدٍ ... ونجزيهمِ بالوترِ وتراً على وترِ
دروعٌ وغابٌ لا يرى من ورائهِ ... سنا أفقٍ بادٍ ولا جبلٍ وعرِ
امرؤ القيس بن عمرو السَّكونيّ
وقال امرؤ القيس بن عمرو بن الحارث السَّكونيّ:
طربتَ وعنّاك الهوى والتَّطرُّبُ ... وعادتكُ أحزانٌ تشوقُ وتنصبُ
وأصبحتَ من ليلى هلوعاً كأنَّما ... أصابكَ مومٌ من تهامةَ موربُ
ألا لا بلِ الأشواقُ هاجتْ همومهُ ... وأشجانهُ فالدَّمعُ للوجدِ يسكبُ
وليلى أناةٌ كالمهاةِ غريرةٌ ... منعَّمةٌ تصبي الحليمَ وتخلبُ
كأنَّ ثناياها تعلَّلنَ موهناً ... غبيقاً من الصَّهباءِ بل هيَ أعذبُ
وما أمُّ خشفٍ شادنٍ بخميلةٍ ... من الدَّهسِ منهُ هائلٌ ومكبَّبُ
يعنُّ لها طوراً وطوراً يروقها ... على الأنسِ منهُ جرأةٌ وتوثُّبُ
بأحسنَ منها مقلةً ومقلَّداً ... وإن هيَ لم تسعفْ وطالَ التَّجنُّبُ
وما روضةٌ وسْميَّةٌ حمويَّةٌ ... بها مونقاتٌ من خزامى وحلَّبُ
تعاورها ودقُ السَّماءِ وديمةٌ ... يظلُّ عليها وبلها يتحلَّبُ
بأطيبَ منها نكهةً بعدَ هجعةٍ ... إذا ما تدلَّى الكوكبُ المتصوِّبُ

فدعْ ذكرَ ليلى إذ نأتكَ بودِّها ... وإذ هيَ لا تدنو إليكَ فتسقبُ
أتتنا تميمٌ قضُّها بقضيضها ... ومن سارَ من ألفافهمْ وتأشَّبوا
برجراجةٍ لا ينفدُ الطَّرفُ عرضها ... لها زجلٌ قدِ احزألَّ وملجبُ
فلمّا رأيناهم كأنَّ زهاءهمْ ... على الأرضِ إصباحاً سوادٌ وغرَّبُ
سمونا لهمْ بالخيلِ تردي كأنَّها ... سعالٍ وعقبانُ اللِّوى حينَ تركبُ
ضوامرُ أمثالُ القداحِ يكرُّها ... على الموتِ أبناءُ الحروبِ فتحربُ
فقالوا الصَّبوحَ عندَ أوَّلِ وهلةٍ ... فقلنا لهمْ أهلٌ تميمٌ ومرحبُ
ألم تعلموا أنَّا نفلُّ عدوَّنا ... إذا احْشوشدوا في جمعهمْ وتألَّبوا
بضربٍ يفضُّ الهامَ شدَّةُ وقعهِ ... ووخزٍ ترى منهُ التَّرائبَ تشخبُ
فلاقَوا مصاعاً منْ أُناسٍ كأنَّهمْ ... أُسودُ العرينِ صادقاً لا يكذِّبُ
فلمْ ترَ منهمْ غيرَ كابٍ لوجههِ ... وآخرَ مفلولٍ وآخرَ يهربُ
ولمْ يبقَ إلاَّ خيفقٌ أعوجيَّةٌ ... وإلاّ طمِرٌّ كالهراوةِ منهبُ
وفاءَ لنا منهمْ نساءٌ كأنَّها ... بوجرةَ والسُّلاَّنِ عينٌ وربربُ
ونحنُ قتلْنا عامراً وابنَ أُمِّه ... ووافاهُما يومٌ شتيمٌ عصبصبُ
وغودرَ فيها ابْنا رياحٍ وحبترٌ ... تنوشهمُ طيرٌ عتاقٌ وأذؤبُ
ويعدو ببزِّي هيكلُ الخلقِ سابحٌ ... ممرٌّ أسيلُ الخدِّ أجردُ شرجبُ
كأنِّي غداةَ الرَّوعِ منْ أسدِ زارةٍ ... أبو أشبُلٍ عبلُ الذِّراعِ محرَّبُ
ولمَّا رأيتُ الخيلَ تدمَى نحورُها ... كررتُ فلمْ أنكلْ إذا القومُ هيَّبوا
حبوتُ أبا الرَّحَّالِ منِّي بطعنةٍ ... يمدُّ بها آتٍ منَ الجوفِ يزعبُ
فلمْ أرقِهِ إنْ ينجُ منها وإنْ يمتْ ... فجيَّاشةٌ فيها عواندُ تتعبُ
وقدْ علمتْ أولَى المغيرةِ أنَّني ... كررتُ وقدْ شلَّ السَّوامُ المعزِّبُ
ونهنهتُ ريعانَ العديِّ كأنَّهُ ... غواربُ تيَّارٍ منَ اليمِّ يُجنبُ
فسائلْ بني الجعراءِ كيفَ مِصاعنا ... إذا كرَّرَ الدَّعوى المُشيحُ المثوِّبُ
عبد الله بن ثور
وقال عبد الله بن ثور، أحد بني البكّاء من بني عامر بن صعصعة:
أرسمَ ديارٍ لابنةِ القينِ تعرفُ ... عفا شدخُ اللَّعباءِ منها فأسقفُ
وقدْ حضرتْ عاماً بوادرَ كلّها ... فذروةُ منها فالمراضانِ مألفُ
وقدْ أنبأتني الطَّيرُ لوْ كنتُ عائفاً ... ولكنَّني بالطَّيرِ لا أتعيَّفُ
برمَّانَ والعرجينِ إنَّ لقاءها ... بعيدٌ وإنَّ الوعدَ منها سيخلفُ
نهيمُ بهندٍ منْ وراءِ تهامةٍ ... ووادي القُرى بيني وبينكَ منصفُ
ولا هندَ إلاَّ أنْ تذكَّرَ ما مضى ... تقادمَ عهدٍ والتَّذكُّرُ يشعفُ
كنانيَّةٌ ترعى الرَّبيعَ بعالجٍ ... فخيبرَ فالوادي لها متصيَّفُ
تحلُّ معَ ابنِ الجونِ حرَّ بلادهِ ... فأنتَ الهوى لو أنَّ ولْيَكَ يسعفُ
فحادثُ ديارَ المُدلجيَّةِ إذْ نأتْ ... بوجناءَ فيها للرَّادفِ تعجرفُ
منفَّجةِ الدّأيَّاتِ ذاتِ مخيلةٍ ... لها قردٌ تحتَ الوليَّةِ مشرِّفُ
كحقباءَ منْ عونِ السَّراةِ رجيلةٍ ... مراتعُها جنبا قنانٍ فمنكفُ
تخافُ عُبيداً لا يزالُ ملبَّداً ... رصيداً بذاتِ الحرفِ والعين تطرفُ
وجاءتْ لخمسٍ بعدَما تمَّ ظمؤُها ... وجانبُها ممَّا يلي الماءَ أجنفُ
فمدَّ يديهِ منْ قريبٍ وصدرهُ ... بمعبلةٍ ممَّا يريشُ ويرصفُ
فأعجلهُ رجعُ اليمينِ انصِرافها ... وأخطأها حتفٌ هنالكَ مزعفُ
فباتتْ بملتدٍّ تعشَّى خليسةً ... وباتَ قليلاً نومهُ يتلهَّفُ
على مثلهِ أقضي الهمومَ إذا اعترتْ ... وأُعقبُ إخوانَ الصَّفاءِ وأُردفُ
وندمانِ صدقٍ قدْ رفعتُ برأسهِ ... إليَّ وأوتارُ الوليدةِ تعزفُ
وذي إبلٍ لا يقربُ الحقُّ رفدَها ... تركتُ قليلاً مالهُ يتنصَّفُ
وأحسبُ أنِّي بعدَ ذلكَ أقتدي ... بأخلاقِ منِ يقري ومنْ يتعفَّفُ
ألا تلكمُ ليثٌ وعمرو بنُ عامرٍ ... حليفانِ راضُوا أمرهمْ فتحلَّفوا

فما كانَ منَّا منْ يحالفُ دونكمْ ... ولو أصفقتْ قيسٌ علينا وخندفُ
ولمَّا رأينا الحيَّ عمرَو بنَ عامرٍ ... عيونهمُ يابْنَيْ أُمامةَ تذرفُ
وقفْنا فأصلحْنا علينا أداتَنا ... وقُلنا ألا اجْزُوا مُدلجاً ما تسلَّفوا
فظلْنا نهزُّ السَّمهريّ عليهمِ ... وبئسَ الصَّبوحُ السَّمهريُّ المثقَّفُ
فكنَّا كمنْ آسَى أخاهُ بنفسهِ ... نعيشُ معاً أو يتلَفونَ ونتلفُ
وجئْنا بقومٍ لا يُمنُّ عليهمِ ... وجمعٍ إذا لاقى الأعاديَّ يزحفُ
وقومٍ إذا شلُّوا كأنَّ سوامَهمْ ... على ربعٍ وسطَ الدِّيارِ تعطَّفُ
وقالتْ ربايانا ألا يالَ عامرٍ ... على الماءِ راسٌ منْ عليٍّ ملفَّفُ
نُطاعنُ أحياءَ الدُّرَيْدينِ بالضُّحى ... أُسودُ فروعُ الغيلِ عنها تكشَّفُ
علَوْنا قنوْنَى بالخميسِ كأنَّنا ... أتِيٌّ سرَى منْ آخرِ اللَّيلِ يقصفُ
فلمْ تتهيَّبْنا تهامةُ إذْ بدا ... لنا دوْمُها والظَّنُّ بالقومِ يخلفُ
ظللنا نفرِّي بالسُّيوفِ رؤوسهمْ ... جهاراً وأطرافُ الأسنَّةِ ترعفُ
أبو داود الرّؤاسيّ
وقال أبو داود الرّؤاسيّ، أحد بني كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، واسمه يزيد بن عمرو:
يا دارَ عبلةَ بالعلياءِ منْ ظلمِ ... ما إنْ تَبينُ مغانيها منَ القِدمِ
هاجتْ عليكَ شؤوناً غيرَ واحدةٍ ... وذكَّرتكَ بذحلٍ غيرِ منتقمِ
أمستْ رهينةَ دهرٍ لا فكاكَ لها ... بينَ الرِّياحِ وبينَ الوبلِ والدِّيمِ
نحنُ الذينَ تحمَّلنا على ملأٍ ... سيرَ المخبَّبِ منْ إيرٍ إلى الرَّقمِ
لا غروَ إلاَّ لواءٌ تحتهُ ظعُنٌ ... ولا مسارحُ إلاَّ عازبَ النَّعمِ
إذا مياهٌ جهرْناها وأجدَبَنا ... رعيٌ سقيْنَا بأُخرى غيرَها سدمِ
إذا اتَّقتْنا معمَّاةٌ بمهلكةٍ ... نبزُّها بجميعِ الأمرِ مظّلمِ
وكانَ مفزَعُنا جرداً مسوَّمةً ... كأنَّهنَّ عجيمٌ بزَّ عنْ جرمِ
يخرجنَ منْ كلِّ أوبٍ تحتَ ألويةٍ ... يُكبحنَ منْ حذرِ الأضغانِ باللُّجمِ
يحملنَ فتيانَ صدقٍ كانَ عادتهمْ ... ضربَ الحبيكِ وإقداماً على البهمِ
يطرِّفونَ بضربٍ لا كفاءَ لهُ ... يومَ الصَّباحِ وطعنٍ صائبٍ خذمِ
ونحنُ أهلُ بُضيعٍ يومَ طالَعنا ... جيشُ الحُصينِ طِلاعُ الخائفِ الكزمِ
ساقُوا شعوباً وعنزاً منْ ديارهمِ ... ورَجلَ خثعمَ من سهلٍ ومنْ علمِ
منَّاهمُ منيةً كانتْ لهمْ كذباً ... إنَّ المُنى إنَّما يوجَدنَ كالحلمِ
ولَّتْ رجالُ بني شهرانَ تتبعُها ... خضراءُ يرمُونَها بالنَّبلِ عنْ شممِ
والزَّاعبيَّةُ تُحفيهمْ وقدْ جعلتْ ... فيهمْ نوافذَ لا يُرقعنَ بالرُّسُمِ
ظلَّتْ يَحابرُ تُدعى وسطَ أرحُلِنا ... والمستَميتُونَ منْ حاءٍ ومن حكمِ
حتَّى تولَّوا وقدْ كانتْ غنيمتهمْ ... طعناً وضرباً غيرَ مقتسمِ
إذا نجاوزُ ضرباً عن محجَّمةٍ ... تُذري سنابكُها الدَّقعاءَ في اللِّممِ
ونحنُ إذا سارَ وثَّابٌ بأُسرتهِ ... للحيِّ حيِّ بني البكَّاءِ ذي الصَّممِ
كنَّا لططْنا ملطَّ السِّترِ فانحدرتْ ... أهلُ الحجازينِ منْ نصرٍ ومنْ جشمِ
حتَّى تداركنَ بالفقعاءِ شأوهمُ ... عندَ البنيَّةِ من زيٍّ ومنْ زرمِ
واسألْ سلولاً بنا إذْ ضاقَ مبركُها ... إذْ لا تفيءُ إلى حلٍّ ولا حرمِ
سهم بن حنظلة الغنويّ
وقال سهم بن حنظلة الغنويّ، أحد بني جابر بن ضبيبة:
هاجَ لكَ الشَّوقُ من ريحانَة الطَّربا ... إذْ فارقتكَ وأمستْ دارُها غرَبا
ما زلتُ أحبسُ يومَ البينِ راحلَتي ... حتَّى استمرُّوا وأذرتْ دمعَها سرَبا
حتَّى ترفَّعَ بالحِزَّانِ يركضُها ... مثلُ النَّهاءِ مرتْهُ الرِّيحُ فاضطرَبا
والغانياتُ يقتِّلنَ الرِّجالَ إذا ... ضرَّجنَ بالزَّعفرانِ الرَّيطَ والنُّقَبا
منْ كلِّ آنسةٍ لمْ يغذُها عدمٌ ... ولا تشدُّ لشيءٍ صوتَها صخَبا
إنَّ العواذلَ قدْ أهلكْنني نصباً ... وخلتُهنَّ ضعيفاتِ القُوى كذبا

معاوداتٍ على لومِ الفتى سفهاً ... فيما استفادَ ولا يرجعنَ ما ذهَبا
إنَّ احتضاركَ مولى السَّوءِ تسألهُ ... مثلَ القعودِ ولمَّا تتَّخذْ نشَبا
إذا افتقرتَ نأى واشتدَّ جانبهُ ... وإنْ رآكَ غنيّاً لانَ واقترَبا
وإنْ أتاكَ لمالٍ أو لتنصرهُ ... أثنى عليكَ الذي تهوى وإنْ كذَبا
نائي القرابةِ عندَ النَّيلِ تطلبهُ ... وهوَ البعيدُ إذا نالَ الذي طلَبا
وماكثٌ عقبَ الأيَّامِ يرقبُها ... وما تردُّ لهُ الأيَّامُ والعُقَبا
حلوُ اللِّسانِ ممرُّ القلبِ مشتملٌ ... على العداوةِ لابنِ العمِّ ما اصطحَبا
لا تكُ ضبّاً إذا استغنى أضرَّ فلمْ ... يحفلْ قرابةَ ذي قُربى ولا نسَبا
اللهُ يخلفُ ما أنفقتَ محتسباً ... إذا شكرتَ ويُؤتيكُ الذي كتَبا
لا بلْ سلِ اللهَ ما ضنُّوا عليكَ بهِ ... ولا يمنُّ عليكَ المرءُ ما وهَبا
لا يحملنَّكَ أقتارٌ على زهدٍ ... ولا تزلْ في عطاءِ الله مرتغِبا
بينا الفتى في نعيمٍ يطمئنُّ بهِ ... أخنى ببؤسٍ عليهِ الدَّهرُ فانقلَبا
أو في ابتئاسٍ يُقاسيهِ وفي نصبٍ ... أمسى وقدْ زايلَ التَّبئاسَ والنَّصَبا
فاعصِ العواذلَ وارمِ اللَّيلَ معترضاً ... بساهمِ الخدِّ يغتالُ الفلا خبَبا
في بُدنهِ خَظَوانٌ لحمهُ زيمٌ ... وذي بقيَّةِ ألواحٍ إذا شسَبا
شهمُ الفؤادِ قبيض الشَّدِّ منجردٍ ... فوتَ النَّواظرِ مطلوباً وإنْ طلَبا
يكادُ يخلجُ طرفُ العينِ حاجبهُ ... عن الحجاجِ إذا ما انتصَّ واقترَبا
كالسَّمعِ لمْ ينقبِ البيطارُ سرَّتهُ ... ولمْ يدجهُ ولم يغمزْ لهُ عصَبا
عاري النَّواهقِ لا ينفكُّ مقتعداً ... في المُسنفاتِ كأسرابِ القطا عُصَبا
إذا ألحَّ حسبتَ الفاسَ شاجيةً ... فاهُ وشجرَ صبيَّيْ لحيهِ قتَبا
ترى العناجيجَ تُمرى كلَّما لغبتْ ... بالقدِّ في باطلٍ منهُ وما لغِبا
يُدني الفتى للغِنى في الرَّاغبينَ ... إذا ليلُ التَّمامِ أفزَّ المقترَ العزَبا
حتَّى تصادفَ مالاً أوْ يقالُ فتًى ... لاقَى التي يشعبُ الفتيانَ فانشعَبا
يا للرِّجالِ لأقوامٍ أُجاورهمْ ... مُستقبسينَ ولمَّا يُقبسوا لهَبا
يصلَونَ ناري وأحْميها لغيرهمِ ... ولو أشاءُ لقدْ كانُوا لها حطَبا
إنْ لا يفيقُوا وليسًوا فاعلينَ أُذقْ ... منهمْ سِناني بما لمْ يُحرِموا رجَبا
عرضَ ابنِ عمِّهمِ الأدنى وجارهمُ ... إذْ همْ شهودٌ وأمسى رهطهُ غيَبا
منَ الرِّجالِ رجالٌ لا أُعاتبهمْ ... وما تفزَّعُ منهمْ هامَتي رعُبا
من لا يزلْ غرضاً أرمي مَقاتلهُ ... لا يتَّقي وهوَ منِّي واقفٌ كثَبا
تُبدي المحارفُ منهُ عظمَ موضحةٍ ... إذا أساها طبيبٌ زادِها ذرَبا
ويحتلبْ بيديهِ ما يسلِّفُنا ... منَ النَّدامةِ أو ينهشْهُما كلَبا
إنِّي امرؤٌ مَن يكلَّفْ أو يجاريني ... منَ المئِينَ يجشِّمْ نفسهُ تعَبا
نُبِّئتُ أنَّ شبيهَ الوبرِ أوعَدَني ... فما قضيتُ لهذا المُوعدي عجَبا
يا أيُّها المُوعدي إنِّي بمنزلةٍ ... تعيِي عليكَ وتلقَى دونَها رُتَبا
مثلي يردُّ على العادِي عداوتهُ ... ويعتبُ المرءَ ذا القُربى إذا عتَبا
ولا أكونُ كوبرٍ بينَ أخبيةٍ ... إذا رأى غفلةً مِن جارهِ وثَبا
وثبَ القعودِ تَنادى الحاديانِ بهِ ... ليُنفراهُ وشدَّا ثيلَهُ حقَبا
أقسمتُ أطلبُ ذحلاً كنتُ أطلبهُ ... ما مسحَ الزَّائرونَ الكعبةَ الحجَبا
حتَّى أحلَّ بوادي مَن يُحاذرُني ... فيستفيدُوا ولوْ أتعبتهمْ خبَبا
ولا أسبُّ امرءاً إلاَّ رفعتُ لهُ ... عاراً يُسبُّ بهِ الأقوامُ أوْ لقَبا
ولا يُبرئُ القطرانُ البحتُ نقبتهُ ... وما تُبينُ بضاحي جلدهِ جرَبا
تَحمي غنيٌّ أُنوفاً أنْ تضامَ وما ... يَحمي عدوُّهمُ أنفاً ولا ذنَبا
إذا قُتيبةُ مدَّتني حلائبُها ... بالدُّهمِ تسمعُ في حافاتِها لجَبا
مدَّ الأتِيِّ ترى في أوبهِ تأقاً ... وفي القواربِ منْ تيَّارهِ حدَبا

وحالَ دُوني منَ الأنباءِ صمصمةٌ ... كانُوا الأُنوفَ وكانُوا الأكرمينَ أَبا
وشمَّرَ الخوفُ يومَ الرَّوعِ مسبغةً ... منَ المآزرِ حتَّى تبلغَ الرُّكَبا
شدَّ النِّساءُ سماواتِ البيوتِ فما ... ينقضنَ للخوفِ مِن أطنابِها طنُبا
حتَّى يشدُّوا الأُسارى بعدَما فرغُوا ... مِن بينِ متَّكئٍ قد فاظَ أو كرَبا
وحيَّ وردٍ ألمْ ينزلْ بعقوَتِهمْ ... حتَّى تضايقَ واديهمْ بما رحُبا
ملمومةً لمْ تداركْ في سوامهمِ ... حتَّى أُبيحوا بها والسَّبيَ فانتُهِبا
واسألْ بنا رهطَ عِلباءَ فقدْ شربوا ... منَّا بكأسٍ فلمْ يستمرئوا الشُّربا
إنَّا نذودهمُ يومَ الرُّحابِ وهمْ ... كالهِيمِ تَغشى بأيدي الذَّادةِ الخشَبا
بكلِّ عضبٍ رقيقِ الحدِّ ذي شطبٍ ... إذا توارى بقحفَيْ هامةٍ رسَبا
نذري بهنَّ أكفَّ الدَّارعينَ كما ... تذري المناجلُ مِنْ أوساطهِ القصَبا
لا ترفعُ الحربُ أيدينا إذا خُفضتْ ... ولا تبوخُ إذا كنَّا لها شُهُبا
حتَّى تُبيحَ العناجيجُ الجيادُ بنا ... أحماءَ مَنْ يعبدُ الأصنامَ والصُّلُبا
قدْ يعلمُ النَّاسُ أنَّا منْ خيارهم ... في الدِّينِ ديناً وفي أحسابهمْ حسَبا
لمْ يعلمُوا خلَّتَيْ صدقٍ فيستَبِقا ... إلاَّ انتمينا إلى عُلياهُما سبَبا
لا يمنعُ النَّاسُ منِّي ما أردتُ ولا أُعطيهمِ ما أرادُوا حسنَ ذا أدَبا
ومَنْ يسوِّي قصيراً باعهُ حصِراً ... ضيقَ الخليقةِ عُوَّاراً إذا ركِبا
بذي مخارجَ وضَّاحٍ إذا نُدِبوا ... في النَّاسِ يوماً إلى المخشيَّةِ انْتَدَبا
مالك بن زغبة
وقال مالك بن زغبة الباهليّ، ثم القتبيّ بن كعب ونهد وجرم في يومٍ كان بينهم:
نأتكَ سليمى دارَها لا تزورُها ... وشطَّ بها عنكَ النَّوى وأميرُها
وما خفتُ منها البينَ حتَّى رأيتُها ... ميمِّمةً نحوَ القرِيَّةِ عيرُها
عليهنَّ أُدمٌ مِن ظباءِ تبالةٍ ... خوارجُ مِنْ تحتِ الخدورِ نحورُها
وفيهنَّ بيضاءُ العوارضِ طفلةٌ ... كهمِّكَ لوْ جادتْ بما يضيرُها
وما كانَ طِبِّي حبُّها غيرَ أنَّهُ ... يقومُ لسلمى في القوافي صدورُها
فدعْ ذا ولكنْ هلْ أتاها مُغارُنا ... بذاتِ العراقِي إذْ أتاها نذيرُها
بملمومةٍ شهباءَ لوْ نطحُوا بها ... عمايةَ أوْ دمخاً لزالتْ صخورُها
يخُضْنَ بني كعبٍ ويدعُونَ مذحجاً ... لتنصُرَنا كعبٌ وكعبٌ شطورُها
ولمَّا رأينا أنَّ كعباً عدوُّنا ... وأبدى دفينَ الدَّاءِ منها ضميرُها
دعونا أبانا حيَّ كعبٍ بن مالكٍ ... وقدْ آلتِ الدَّعوى إليها كبيرُها
فثارتْ إليهمْ مِنْ قُتيبةَ عصبةٌ ... ومِن وائلٍ في الحربِ يَحمي نفيرُها
فدارتْ رَحانا ساعةً ورحاهمُ ... نثلِّمُ مِنْ أركانِها ونُديرُها
بكلِّ رُدينيٍّ أصمَّ مذرَّبٍ ... وبالمشرفيَّاتِ البطيءِ حسورُها
بضربٍ يزيلُ الهامَ عنْ مستقرِّهِ ... وطعنٍ كإيزاغِ المخاضِ تبورُها
وشعثٍ نواصيهنَّ يزجرنَ مُقْدماً ... يُحمحمُ في صمِّ العوالي ذكورُها
إذا انتسؤُوا فوتَ العوالي أتتهمُ ... عوائرُ نبلٍ كالجرادِ تطيرُها
فما إنْ تركْنا بينَ قَوٍّ وضارجٍ ... ولا صاحةٍ إلاَّ شِباعاً نسورُها
وجئْنا بأمثالِ المَها مِنْ نسائهمْ ... صدورُ القنا والمشرفيِّ مهورُها
ونهديَّةٍ شمطاءَ أوْ حارثيَّةٍ ... تؤمِّلُ سيباً مِنْ بَنِيها يُغيرُها
فتنظرُ أبناءَ الخميسِ أراعَها ... أوائلُ خيلٍ لمْ يُدرَّعْ بشيرُها
فآبتْ إلى تثليثَ تذرفُ عينُها ... وعادَ إليها صمغُها وبَريرُها
علي بن الغدير
وقال علي بن الغدير السهميّ:
ألمْ تعرفِ الأطلالَ مِنْ آلِ زينَبا ... بلى لوْ ترَى لطالبِ الشَّوقِ مطلَبا
وماذا على ربعٍ وُقوفكَ ضحوةً ... يذكِّرُ عينيكَ الشُّجونُ لتسكُبا
ألا يا لقلبٍ قدْ أشتَّ بهِ الهوى ... ذرِ الشَّوقَ لا يذهبْ بكَ الشَّوقُ مذهَبا

فيا ربَّ باكٍ قدْ بكى شجوَ غيرهِ ... وذي طربٍ لمْ يطربِ النَّفسَ مطرَبا
بلى قدْ تراها ناهِدَ الثَّديِ قدّها ... يجاوزُ مَخْطاها الطِّرافَ المحجَّبا
لياليَ تُبدي للمفنِّن منظراً ... إذا هيَ أبدتْ طرفَها العينُ أصْحبا
جبيناً وخدّاً واضحاً وكأنَّما ... شرتْ مُقلتيها شادناً متربِّبا
ألا أبلِغا عنِّي الهُمامَ محمَّداً ... فهلْ مُبتغي عُتباكَ راحَ ليُعتبا
لعلَّكَ تنسى مِنْ عياضٍ بلاءهُ ... زمانَ تُسامي بابنِ مروانَ مُصعبا
وكنتُ إذا لاقيتهمْ عندَ كُربةٍ ... جمعتَ لها الأمَّ الكريمةَ والأبا
لياليَ لا ترضى نضالَ كتيبةٍ ... ولا طعنُها حتَّى يشُدُّ فيضرِبا
إذا ما رأى الخرساءَ يبرقُ بيضُها ... بَلا السَّيفَ فيها والسِّنانَ المذرَّبا
فلمَّا أصابَ اللهُ بالملكِ أهلهُ ... وأُعطِيتَ سُلطاناً منَ الملكِ أغلبا
ودرَّتْ لكَ الدُّنيا جعلتَ عطاءهُ ... أداهمَ في سجنٍ وباباً مضبَّبا
فهمْ بعدَها مَنْ يولِكَ الخيرَ يزدجرْ ... سنيحاً منَ العفرِ البوارحِ أعضبا
فلوْ شاءَ لمْ يُنقضْ لهُ طيُّ حبوةٍ ... عياضٌ ولمْ يُرزأ نضيّاً مركَّبا
أتانيَ عنْ مولاكَ ذاكَ ابنِ محرزٍ ... على حين قالُوا سادَ ذاكَ وأترَبا
وعنْ قومهِ الأدنينِ دُخلانُ قومهمْ ... بأمرٍ جليٍّ قدْ أهمَّ وأنصبا
فلوْ كانَ مولَى مثلِها يابنَ مُحرزٍ ... لألفيتهُ رِدْءاً وراءكَ مِشغبا
قليلَ هجودِ اللَّيلِ ما دمتَ مُوثقاً ... مُشيحاً إليها ذا مخارجَ قلَّبا
لهُ أُسرةٌ إنْ خفتَ ضيماً رأيتهُ ... رأى الحقَّ أنْ يحمي حِماكَ ويحْدَبا
وذلكَ منْ عوفِ بنِ كعبٍ سجيَّةٌ ... على ما مضَى من درِّهمْ وتقلَّبا
فذو الرَّأيِ منَّا مستفادٌ لرأيهِ ... وشاهدُنا يَقضي على مَنْ تغيَّبا
إذا غضبَ المولَى لهمْ غضبَ الحصَى ... فلمْ ترَ أثْرى منْ حصاهمْ وأصلَبا
ومنْ يتفقَّدْ منِّيَ الظَّلعُ يلقَني ... إذا ما التقيْنَا ظالعَ الرِّجلِ أشْيَبا
وما الظَّلعُ إنْ شاءَ المليكُ بمُقعِدي ... ولا رائضٌ منِّي لذي الضِّغنِ مركَبَا
أبى ليَ أنِّي لا أُعيِّرُ والداً ... لئيماً ولمْ يُذممْ فَعالي فأقْصَبا
ولمْ تُضربِ الأرضُ العريضُ فرُوجُها ... عليَّ بأسدادٍ إذا رمتُ مذْهَبا
وهُلكُ الفتى أنْ لا يراحَ إلى النَّدى ... وأنْ لا يرَى شيئاً عجيباً فيعْجَبا
أبو قردودة الطائيّ
وقال أبو قردودة الطائيّ يمدح المنذر جدّ النّعمان بن المنذر:
كَبيشةُ عِرسي تمنَّى الطَّلاقا ... وتسألُني بعدَ هدءٍ فِراقا
وقامتْ تُريكَ غداةَ الرَّحي ... لِ كشحاً لطيفاً وفخذاً وساقا
ومُنسدلاً كمثانِي الحِبا ... لِ توسِعُهُ زنبقاً أوْ خِلاقا
وعذْب المذاقةِ كالأُقحوا ... نِ جادَ عليهِ الرَّبيعُ البِراقا
تُسائلُني طَلَّتي هلْ لَقي ... تَ قابوسَ فيما أتيتَ العِراقا
فقلتُ لها قدْ لَقيتُ الهُما ... مَ منطلقاً بالخميسِ انْطِلاقا
يقودُ الجيادَ لأرضِ العدوِّ ... فقدْ آضتِ الخيلُ شعثاً دِقاقا
سراعيفُ قدْ عُطِّلتْ هدَّجاً ... أمامَ الرِّفاقِ يَقدنَ الرِّفاقا
شماطيطَ يمزعنَ مزعَ الظِّبا ... ءِ لمْ يتركنَ ببطنٍ عَقاقا
فحيَّيتُهُ إذْ رأيتُ الجمُوعَ ... تُعارضهُ باليمينِ الوَراقا
عظامِ المناكبِ والسَّاعدَيْ ... نِ تنفرقُ الخيلُ عنهُ انْفِراقا
وقالَ لهُ اللهُ أعطِ وهبْ ... وباعَ لهُ المجدُ بيعاً صِفاقا
وما أسدٌ مِنْ أُسودِ العَري ... نِ يعتنقُ السَّائلينَ اعْتِناقا
بأجرَأَ منهُ على بهمةٍ ... وأقدمَ منهُ صِراحاً صِداقا
وما البحرُ تطمُو قواميسُهُ ... بأنفقَ منهُ لمالٍ نِفاقا
أصاحِ ترَى البرقَ لمْ تغتمضْ ... طوارقُهُ يأتلقنَ ائْتِلاقا
يُضيءُ حبيّاً دَنا بركُهُ ... يُقيمُ فُواقاً ويَسري فُواقا
سقَى وارداتٍ فهضبَ الرِّدا ... هِ فانعقَّ فوقَ الغَبيطِ انْعِقاقا

فلمَّا تنزَّلَ عنْ صلبِهِ ... ومسَّ منَ الأرضِ ترباً دُقاقا
مرتْهُ الصَّبا وانتحتْهُ الجَنو ... بُ تطحرُ عنهُ جَهاماً رِقاقا
فألقَى على أجإٍ بركَهُ ... كأنَّ على عَضُديهِ رِفاقا
يكبُّ العِضاه لأذقانهِ ... ككبِّ الفنيقِ اللّقاح البُصاقا
ثلاثُ ليالٍ وأيَّامهنَّ ... يندفقُ الماءُ منهُ انْدِفاقا
وألقى البَعاعَ بقيعانِهِ ... فرفَّعَ ماطُورَهُ واسْتَفاقا
سقيتُ بهِ جبلَيْ طيِّئٍ ... ولمْ أسقِ شاماً بهِ أوْ عِراقا
ولكنْ سقيتُ بهِ بلدةً ... تُباسقُ عنَّا معَدّاً بِساقا
فلمْ يأتِها أنَّنا معشرٌ ... حَوَيْنا المدى وملَكْنا السِّباقا
وإنَّا نُجدِّعُ أنفَ الفَخارِ ... إذا ما القسيُّ غممنَ الرِّواقا
وإنَّا ادَّعقْنا برغمِ الأُنوفِ ... حِمى أسَدٍ بالخُوَيّ ادِّعاقا
صلقْناهُمُ باللِّوى صلقةً ... سقتهُمْ منَ الموتِ كأساً دِهاقا
فأضحتْ بنُو أسَدٍ بعدَها ... تَشيمُ بشعفَيْنِ برقاً ألاقا

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب الإبانة عن أصول الديانة علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري أبو الحسن

  كتاب الإبانة عن أصول الديانة علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري أبو الحسن بسم الله الرحمن الرحيم وهو حسبي ونعم الوكيل وصلى الله على...