الثلاثاء، 4 أكتوبر 2022

ج13.وج14.مفاتيح الغيب للفخر الرازي

 ج13.وج14.مفاتيح الغيب للفخر الرازي

 


ج13. مفاتيح الغيب للفخر الرازي

ج13.وج14. مفاتيح الغيب ـ ترقيم الشاملة موافق للمطبوع
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي الشافعي

أطنبنا الكلام في هذا الدليل في كتاب ( الجبر والقدر ) ونكتفي ههنا من تلك الكلمات بنكت قليلة قالت المعتزلة هذا اللفظ وإن كان عاماً إلا أنه حصل مع هذه الآية وجوه تدل على أن أعمال العباد خارجة عن هذا العموم فأحدهما أنه تعالى قال خَالِقُ كُلّ شَى ْء فَاعْبُدُوهُ فلو دخلت أعمال العباد تحت قوله خَالِقُ كُلّ شَى ْء لصار تقدير الآية أنا خلقت أعمالكم فافعلوها بأعيانها أنتم مرة أخرى ومعلوم أن ذلك فاسد وثانيها أنه تعالى إنما ذكر قوله خَالِقُ كُلّ شَى ْء في معرض المدح والثناء على نفسه فلو دخل تحته أعمال العباد لخرج عن كونه مدحاً وثناء لأنه لا يليق به سبحانه أن يتمدح بخلق الزنا واللواط والسرقة والكفر وثالثها أنه تعالى قال بعد هذه الآية قَدْ جَاءكُمْ بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِى َ فَعَلَيْهَا وهذا تصريح بكون العبد مستقلاً بالفعل والترك وأنه لا مانع له البتة من الفعل والترك وذلك يدل على أن فعل العبد غير مخلوق لله تعالى إذ لو كان مخلوقاً لله تعالى لما كان العبد مستقلاً به لأنه إذا أوجده الله تعالى امتنع منه الدفع وإذا لم يوجده الله تعالى امتنع منه التحصيل فلما دلت هذه الآية على كون العبد مستقلاً بالفعل والترك وثبت أن كونه كذلك يمنع أن يقال فعل العبد مخلوق لله تعالى ثبت أن ذكر قوله فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِى َ فَعَلَيْهَا يوجب تخصيص ذلك العموم ورابعها أن هذه الآية مذكورة عقيب قوله وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وقد بينا أن المراد منه رواية مذهب المجوس في إثبات إلهين للعالم أحدهما يفعل اللذات والخيرات والآخر يفعل الآلام والآفات فقوله بعد ذلك لا إله إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلّ شَى ْء يجب أن يكون محمولاً على إبطال ذلك المذهب وذلك إنما يكون إذا قلنا إنه تعالى هو الخالق لكل ما في هذا العالم من السباع والحشرات والأمراض والآلام فإذا حملنا قوله خَالِقُ كُلّ شَى ْء على هذا الوجه لم يدخل تحت أعمال العباد قالوا فثبت أن هذه الدلائل الأربعة توجب خروج أعمال العباد عن عموم قوله تعالى خَالِقُ كُلّ شَى ْء
والجواب أنا نقول الدليل العقلي القاطع قد ساعد على صحة ظاهر هذه الآية وتقريره أن الفعل موقوف على الداعي وخالق الداعي هو الله تعالى ومجموع القدرة مع الداعي يوجب الفعل وذلك يقتضي كونه تعالى خالقاً لأفعال العباد وإذا تأكد هذا الظاهر بهذا البرهان العقلي القاطع زالت الشكوك والشبهات
المسألة الرابعة قوله تعالى خَالِقُ كُلّ شَى ْء فَاعْبُدُوهُ يدل على ترتيب الأمر بالعبادة على كونه تعالى خالقاً لكل الأشياء بفاء التعقيب وترتيب الحكم على الوصف بحرف الفاء مشعر بالسببية فهذا يقتضي أن يكون كونه تعالى خالقاً للأشياء هو الموجب لكونه معبوداً على الإطلاق والإله هو المستحق للمعبودية فهذا يشعر بصحة ما يذكره بعض أصحابنا من أن الإله عبارة عن القادر على الخلق والإبداع والإيجاد والاختراع
المسألة الخامسة احتج كثير من المعتزلة بقوله خَالِقُ كُلّ شَى ْء على نفي الصفات وعلى كون القرآن مخلوقاً أما نفي الصفات فلأنهم قالوا لو كان تعالى عالماً بالعلم قادراً بالقدرة لكان ذلك العلم والقدرة إما أن يقال إنهما قديمان أو محدثان والأول باطل لأن عموم قوله خَالِقُ كُلّ شَى ْء يقتضي كونه خالقاً لكل الأشياء أدخلنا التخصيص في

هذا العموم بحسب ذاته تعالى ضرورة أنه يمتنع أن يكون خالقاً لنفسه فوجب أن يبقى على عمومه فيما سواه والقول بإثبات الصفات القديمة يقتضي مزيد التخصيص في هذا العموم وأنه لا يجوز والثاني وهو القول بحدوث علم الله وقدرته فهو باطل بالإجماع ولأنه يلزم افتقار إيجاد ذلك العلم والقدرة إلى سبق علم آخر وقدرة أخرى وأن ذلك محال وأما تمسكهم بهذه الآية على كون القرآن مخلوقاً فقالوا القرآن شيء وكل شيء فهو مخلوق لله تعالى بحكم هذا العموم فلزم كون القرآن مخلوقاً لله تعالى أقصى ما في هذا الباب أن هذا العموم دخله التخصيص في ذات الله تعالى إلا أن العام المخصوص حجة في غير محل التخصيص ولذلك فإن دخول هذا التخصيص في هذا العموم لم يمنع أهل السنة من التمسك به في إثبات أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى
وجواب أصحابنا عنه أنا نخصص هذا العموم بالدلائل الدالة على كونه تعالى عالماً بالعلم قادراً بالقدرة وبالدلائل الدالة على أن كلام الله تعالى قديم
المسألة السادسة قوله تعالى وَهُوَ عَلَى كُلّ شَى ْء وَكِيلٌ المراد منه أن يحصل للعبد كمال التوحيد وتقريره وهو أن العبد وإن كان يعتقد أنه لا إله إلا هو وأنه لا مدبر إلا الله تعالى إلا أن هذا العالم عالم الأسباب
وسمعت الشيخ الإمام الزاهد الوالد رحمه الله يقول لولا الأسباب لما ارتاب مرتاب وإذا كان الأمر كذلك فقد يعلق الرجل القلب بالأسباب الظاهرة فتارة يعتمد على الأمير وتارة يرجع في تحصيل مهماته إلى الوزير فحينئذ لا ينال إلا الحرمان ولا يجد إلا تكثير الأحزان والحق تعالى قال وَهُوَ عَلَى كُلّ شَى ْء وَكِيلٌ والمقصود أن يعلم الرجل أنه لا حافظ إلا الله ولا مصلح للمهمات إلا الله فحينئذ ينقطع طمعه عن كل ما سواه ولا يرجع في مهم من المهمات إلا إليه
المسألة الرابعة أنه قال قبل هذه الآية بقليل وَخَلَقَ كُلَّ شَى ْء وقال ههنا خَالِقُ كُلّ شَى ْء وهذا كالتكرار
والجواب من وجوه الأول أن قوله وَخَلَقَ كُلَّ شَى ْء إشارة إلى الماضي
أما قوله خَالِقُ كُلّ شَى ْء فهو اسم الفاعل وهو يتناول الأوقات كلها والثاني وهو التحقيق أنه تعالى ذكر هناك قوله وَخَلَقَ كُلَّ شَى ْء ليجعله مقدمة في بيان نفي الأولاد وههنا ذكر قوله خَالِقُ كُلّ شَى ْء ليجعله مقدمة في بيان أنه لا معبود إلا هو والحاصل أن هذه المقدمة مقدمة توجب أحكاماً كثيرة ونتائج مختلفة فهو تعالى يذكرها مرة بعد مرة ليفرع عليها في كل موضع ما يليق بها من النتيجة
المسألة الثامنة لقائل أن يقول الإله هو الذي يستحق أن يكون معبوداً فقوله لاَ إله إِلاَّ هُوَ معناه لا يستحق العبادة إلا هو فما الفائدة في قوله بعد ذلك فَاعْبُدُوهُ فإن هذا يوهم التكرير
والجواب قوله لاَ إله إِلاَّ هُوَ أي لا يستحق العبادة إلا هو وقوله فَاعْبُدُوهُ أي لا تعبدوا غيره
المسألة التاسعة القوم كانوا معترفين بوجود الله تعالى كما قال وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ( لقمان 25 ) وما أطلقوا لفظ الله على أحد سوى الله سبحانه كما قال تعالى هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً ( مريم 65 ) فقال ذالِكَ اللَّهُ رَبُّكُمُ ( إبراهيم 34 ) أي الشيء الموصوف بالصفات التي تقدم ذكرها هو الله تعالى ثم قال بعده رَبُّكُمْ يعني الذي يربيكم ويحسن إليكم بأصناف التربية ووجوه الإحسان وهي أقسام

بلغت في الكثرة إلى حيث يعجز العقل عن ضبطها كما قال وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا
ثم قال لاَ إله إِلاَّ هُوَ يعني أنكم لما عرفتم وجود الإله المحسن المتفضل المتكرم فاعلموا أنه لا إله سواه ولا معبود سواه
ثم قال خَالِقُ كُلّ شَى ْء يعني إنما صح قولنا لا إله سواه لأنه لا خالق للخلق سواه ولا مدبر للعالم إلا هو فهذا الترتيب ترتيب مناسب مفيد
لاَّ تُدْرِكُهُ الاٌّ بْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الاٌّ بْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ
في هذه الآية مسائل
المسألة الأولى احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى تجوز رؤيته والمؤمنين يرونه يوم القيامة من وجوه الأول في تقرير هذا المطلوب أن نقول هذه الآية تدل على أنه تعالى تجوز رؤيته
وإذا ثبت هذا وجب القطع بأن المؤمنين يرونه يوم القيامة
أما المقام الأول فتقريره أنه تعالى تمدح بقوله لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَارُ وذلك مما يساعد الخصم عليه وعليه بنوا استدلالهم في إثبات مذهبهم في نفي الرؤية
وإذا ثبت هذا فنقول لو لم يكن تعالى جائز الرؤية لما حصل التمدح بقوله لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَارُ ألا ترى أن المعدوم لا تصح رؤيته والعلوم والقدرة والإرادة والروائح والطعوم لا يصح رؤية شيء منها ولا مدح لشيء منها في كونها بحيث لا تصح رؤيتها فثبت أن قوله لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَارُ يفيد المدح وثبت أن ذلك إنما يفيد المدح لو كان صحيح الرؤية وهذا يدل على أن قوله تعالى لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَارُ يفيد كونه تعالى جائز الرؤية وتمام التحقيق فيه أن الشيء إذا كان في نفسه بحيث يمتنع رؤيته فحينئذ لا يلزم من عدم رؤيته مدح وتعظيم للشيء أما إذا كان في نفسه جائز الرؤية ثم إنه قدر على حجب الأبصار عن رؤيته وعن إدراكه كانت هذه القدرة الكاملة دالة على المدح والعظمة فثبت أن هذه الآية دالة على أنه تعالى جائز الرؤية بحسب ذاته
وإذا ثبت هذا وجب القطع بأن المؤمنين يرونه يوم القيامة والدليل عليه أن القائل قائلان قائل قال بجواز الرؤية مع أن المؤمنين يرونه وقائل قال لا يرونه ولا تجوز رؤيته فأما القول بأنه تعالى تجوز رؤيته مع أنه لا يراه أحد من المؤمنين فهو قول لم يقل به أحد من الأمة فكان باطلاً فثبت بما ذكرنا أن هذه الآية تدل على أنه تعالى جائز الرؤية في ذاته وثبت أنه متى كان الأمر كذلك وجب القطع بأن المؤمنين يرونه فثبت بما ذكرنا دلالة هذه الآية على حصول الرؤية وهذا استدلال لطيف من هذه الآية

الوجه الثاني أن نقول المراد بالأبصار في قوله لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَارُ ليس هو نفس الإبصار فإن البصر لا يدرك شيئاً البتة في موضع من المواضع بل المدرك هو المبصر فوجب القطع بأن المراد من قوله لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَارُ هو أنه لا يدركه المبصرون وإذا كان كذلك كان قوله وَهُوَ يُدْرِكُ الاْبْصَارَ المراد منه وهو يدرك المبصرين ومعتزلة البصرة يوافقوننا على أنه تعالى يبصر الأشياء فكان هو تعالى من جملة المبصرين فقوله وَهُوَ يُدْرِكُ الاْبْصَارَ يقتضي كونه تعالى مبصراً لنفسه وإذا كان الأمر كذلك كان تعالى جائز الرؤية في ذاته وكان تعالى يرى نفسه وكل من قال إنه تعالى جائز الرؤية في نفسه قال إن المؤمنين يرونه يوم القيامة فصارت هذه الآية دالة على أنه جائز الرؤية وعلى أن المؤمنين يرونه يوم القيامة وإن أردنا أن نزيد هذا الاستدلال اختصاراً قلنا قوله تعالى وَهُوَ يُدْرِكُ الاْبْصَارَ المراد منه إما نفس البصر أو المبصر وعلى التقديرين فيلزم كونه تعالى مبصراً لأبصار نفسه وكونه مبصراً لذات نفسه وإذا ثبت هذا وجب أن يراه المؤمنون يوم القيامة ضرورة أنه لا قائل بالفرق
الوجه الثالث في الاستدلال بالآية أن لفظ الاْبْصَارِ صيغة جمع دخل عليها الألف واللام فهي تفيد الاستغراق فقوله لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَارُ يفيد أنه لا يراه جميع الأبصار فهذا يفيد سلب العموم ولا يفيد عموم السلب
إذا عرفت هذا فنقول تخصيص هذا السلب بالمجموع يدل على ثبوت الحكم في بعض أفراد المجموع ألا ترى أن الرجل إذا قال إن زيداً ما ضربه كل الناس فإنه يفيد أنه ضربه بعضهم
فإذا قيل إن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ما آمن به كل الناس أفاد أنه آمن به بعض الناس وكذا قوله لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَارُ معناه أنه لا تدركه جميع الأبصار فوجب أن يفيد أنه تدركه بعض الأبصار أقصى ما في الباب أن يقال هذا تمسك بدليل الخطاب فنقول هب أنه كذلك إلا أنه دليل صحيح لأن بتقدير أن لا يحصل الإدراك لأحد البتة كان تخصيص هذا السلب بالمجموع من حيث هو مجموع عبثاً وصون كلام الله تعالى عن العبث واجب
الوجه الرابع في التمسك بهذه الآية ما نقل أن ضرار بن عمرو الكوفي كان يقول إن الله تعالى لا يرى بالعين وإنما يرى بحاسة سادسة يخلقها الله تعالى يوم القيامة واحتج عليه بهذه الآية فقال دلت هذه الآية على تخصيص نفي إدراك الله تعالى بالبصر وتخصيص الحكم بالشيء يدل على أن الحال في غيره بخلافه فوجب أن يكون إدراك الله بغير البصر جائزاً في الجملة ولما ثبت أن سائر الحواس الموجودة الآن لا تصلح لذلك ثبت أن يقال إنه تعالى يخلق يوم القيامة حاسة سادسة بها تحصل رؤية الله تعالى وإدراكه فهذه وجوه أربعة مستنبطة من هذه الآية يمكن العويل عليها في إثبات أن المؤمنين يرون الله في القيامة
المسألة الثانية في حكاية استدلال المعتزلة بهذه الآية في نفي الرؤية
اعلم أنهم يحتجون بهذه الآية من وجهين الأول أنهم قالوا الإدراك بالبصر عبارة عن الرؤية بدليل أن قائلاً لو قال أدركته ببصري وما رأيته أو قال رأيته وما أدركته ببصري فإنه يكون كلامه متناقضاً فثبت أن الإدراك بالبصر عبارة عن الرؤية

إذا ثبت هذا فنقول قوله تعالى لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَارُ يقتضي أنه لا يراه شيء من الأبصار في شيء من الأحوال والدليل على صحة هذا العموم وجهان الأول يصح استثناء جميع الأشخاص وجميع الأحوال عنه فيقال لا تدركه الأبصار إلا بصر فلان وإلا في الحالة الفلانية والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله فثبت أن عموم هذه الآية يفيد عموم النفي عن كل الأشخاص في جميع الأحوال وذلك يدل على أن أحداً لا يرى الله تعالى في شيء من الأحوال
الوجه الثاني في بيان أن هذه الآية تفيد العموم أن عائشة رضي الله عنها لما أنكرت قول ابن عباس في أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) رأى به ليلة المعراج تمسكت في نصرة مذهب نفسها بهذه الآية ولو لم تكن هذه الآية مفيدة للعموم بالنسبة إلى كل الأشخاص وكل الأحوال لما تم ذلك الاستدلال ولا شك أنها كانت من أشد الناس علماً بلغة العرب فثبت أن هذه الآية دالة على النفي بالنسبة إلى كل الأشخاص وذلك يفيد المطلوب
الوجه الثاني في تقرير استدلال المعتزلة بهذه الآية أنهم قالوا إن ما قبل هذه الآية إلى هذا الموضع مشتمل على المدح والثناء وقوله بعد ذلك وَهُوَ يُدْرِكُ الاْبْصَارَ أيضاً مدح وثناء فوجب أن يكون قوله لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَارُ مدحاً وثناء وإلا لزم أن يقال إن ما ليس بمدح وثناء وقع في خلال ما هو مدح وثناء وذلك يوجب الركاكة وهي غير لائقة بكلام الله
إذا ثبت هذا فنقول كل ما كان عدمه مدحاً ولم يكن ذلك من باب الفعل كان ثبوته نقصاً في حق الله تعالى والنقص على الله تعالى محال لقوله لاَ تَأْخُذُهُ سِنَة ٌ وَلاَ نَوْمٌ ( البقرة 255 ) وقوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ْء ( الشورى 11 ) وقوله لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ( الإخلاص 3 ) إلى غير ذلك فوجب أن يقال كونه تعالى مرئياً محال
واعلم أن القوم إنما قيدوا ذلك بما لا يكون من باب الفعل لأنه تعالى تمدح بنفي الظلم عن نفسه في قوله وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لّلْعَالَمِينَ ( آل عمران 108 ) وقوله وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ ( فصلت 46 ) مع أنه تعالى قادر على الظلم عندهم فذكروا هذا القيد دفعاً لهذا النقض عن كلامهم فهذا غاية تقرير كلامهم في هذا الباب
والجواب عن الوجه الأول من وجوه الأول لا نسلم أن إدراك البصر عبارة عن الرؤية والدليل عليه أن لفظ الإدراك في أصل اللغة عبارة عن اللحوق والوصول قال تعالى قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ( الشعراء 61 ) أي لملحقون وقال حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ ( يونس 90 ) أي لحقه ويقال أدرك فلان فلاناً وأدرك الغلام أي بلغ الحلم وأدركت الثمرة أي نضجت فثبت أن الإدراك هو الوصول إلى الشيء
إذا عرفت هذا فنقول المرئي إذا كان له حد ونهاية وأدركه البصر بجميع حدوده وجوانبه ونهاياته صار كأن ذلك الإبصار أحاط به فتسمى هذه الرؤية إدراكاً أما إذا لم يحط البصر بجوانب المرئي لم تسم تلك الرؤية إدراكاً فالحاصل أن الرؤية جنس تحتها نوعان رؤية مع الإحاطة ورؤية لا مع الإحاطة والرؤية مع الإحاطة هي المسماة بالإدراك فنفي الإدراك يفيد نفي نوع واحد من نوعي الرؤية ونفي النوع لا يوجب نفي الجنس فلم يلزم من نفي الإدراك عن الله تعالى نفي الرؤية عن الله تعالى فهذا وجه حسن مقبول في الاعتراض على كلام الخصم

قلنا هذا بعيد لأن الإدراك أخص من الرؤية وإثبات الأخص يوجب إثبات الأعم وأما نفي الأخص لا يوجب نفي الأعم فثبت أن البيان الذي ذكرناه يبطل كلامكم ولا يبطل كلامنا
الوجه الثاني في الاعتراض أن نقول هب أن الإدراك بالبصر عبارة عن الرؤية لكن لم قلتم أن قوله لا تدركه الأبصار يفيد عموم النفي عن كل الأشخاص وعن كل الأحوال وفي كل الأوقات وأما الاستدلال بصحة الاستثناء على عموم النفي فمعارض بصحة الاستثناء عن جمع القلة مع أنها لا تفيد عموم النفي بل نسلم أنه يفيد العموم إلا أن نفي العموم غير وعموم النفي غير وقد دللنا على أن هذا اللفظ لا يفيد إلا نفي العموم وبينا أن نفي العموم يوجب ثبوت الخصوص وهذا هو الذي قررناه في وجه الاستدلال وأما قوله إن عائشة رضي الله عنها تمسكت بهذه الآية في نفي الرؤية فنقول معرفة مفردات اللغة إنما تكتسب من علماء اللغة فأما كيفية الاستدلال بالدليل فلا يرجع فيه إلى التقليد وبالجملة فالدليل العقلي دل على أن قوله لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَارُ يفيد نفي العموم وثبت بصريح العقل أن نفي العموم مغاير لعموم النفي ومقصودهم إنما يتم لو دلت الآية على عموم النفي فسقط كلامهم
الوجه الثالث أن نقول صيغة الجمع كما تحمل على الاستغراق فقد تحمل على المعهود السابق أيضاً وإذا كان كذلك فقوله لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَارُ يفيد أن الأبصار المعهودة في الدنيا لا تدركه ونحن نقول بموجبه فإن هذه الأبصار وهذه الأحداق ما دامت تبقى على هذه الصفات التي هي موصوفة بها في الدنيا لا تدرك الله تعالى وإنما تدرك الله تعالى إذا تبدلت صفاتها وتغيرت أحوالها فلم قلتم أن عند حصول هذه التغيرات لا تدرك الله
الوجه الرابع سلمنا أن الأبصار البتة لا تدرك الله تعالى فلم لا يجوز حصول إدراك الله تعالى بحاسة سادسة مغايرة لهذه الحواس كما كان ضرار بن عمرو يقول به وعلى هذا التقدير فلا يبقى في التمسك بهذه الآية فائدة
الوجه الخامس هب أن هذه الآية عامة إلا أن الآيات الدالة على إثبات رؤية الله تعالى خاصة والخاص مقدم على العام وحينئذ ينتقل الكلام من هذا المقام إلى بيان أن تلك الآيات هل تدل على حصول رؤية الله تعالى أم لا
الوجه السادس أن نقول بموجب الآية فنقول سلمنا أن الأبصار لا تدرك الله تعالى فلم قلتم إن المبصرين لا يدركون الله تعالى فهذا مجموع الأسئلة على الوجه الأول وأما الوجه الثاني فقد بينا أنه يمتنع حصول التمدح بنفي الرؤية لو كان تعالى في ذاته بحيث تمتنع رؤيته بل إنما يحصل التمدح لو كان بحيث تصح رؤيته ثم إنه تعالى يحجب الأبصار عن رؤيته وبهذا الطريق يسقط كلامهم بالكلية ثم نقول إن النفي يمتنع أن يكون سبباً لحصول المدح والثناء وذلك لأن النفي المحض والعدم الصرف لا يكون موجباً للمدح والثناء والعلم به ضروري بل إذا كان النفي دليلاً على حصول صفة ثابتة من صفات المدح والثناء قيل بأن ذلك النفي يوجب المدح ومثاله أن قوله لاَ تَأْخُذُهُ سِنَة ٌ وَلاَ نَوْمٌ لا يفيد المدح نظراً إلى هذا النفي فإن الجماد لا تأخذه سنة ولا نوم إلا أن هذا النفي في حق الباري تعالى يدل على كونه

تعالى عالماً بجميع المعلومات أبداً من غير تبدل ولا زوال وكذلك قوله وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ ( الأنعام 14 ) يدل على كونه قائماً بنفسه غنياً في ذاته لأن الجماد أيضاً لا يأكل ولا يطعم
إذا ثبت هذا فنقول قوله لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَارُ يمتنع أن يفيد المدح والثناء إلا إذا دل على معنى موجود يفيد المدح والثناء وذلك هو الذي قلناه فإنه يفيد كونه تعالى قادراً على حجب الأبصار ومنعها عن إدراكه ورؤيته وبهذا التقرير فإن الكلام ينقلب عليهم حجة فسقط استدلال المعتزلة بهذه الآية من كل الوجوه
المسألة الثالثة اعلم أن القاضي ذكر في ( تفسيره ) وجوهاً أخرى تدل على نفي الرؤية وهي في الحقيقة خارجة عن التمسك بهذه الآية ومنفصلة عن علم التفسير وخوض في علم الأصول ولما فعل القاضي ذلك فنحن ننقلها ونجيب عنها ثم نذكر لأصحابنا وجوهاً دالة على صحة الرؤية أما القاضي فقد تمسك بوجوه عقلية أولها أن الحاسة إذا كانت سليمة وكان المرئي حاضراً وكانت الشرائط المعتبرة حاصلة وهي أن لا يحصل القرب القريب ولا البعد البعيد ولا يحصل الحجاب ويكون المرئي مقابلاً أو في حكم المقابل فإنه يجب حصول الرؤية إذ لو جاز مع حصول هذه الأمور أن لا تحصل الرؤية جاز أن يكون بحضرتنا بوقات وطبلات ولا نسمعها ولا نراها وذلك يوجب السفسطة
قالوا إذا ثبت هذا فنقول إن انتفاء القرب القريب والبعد البعيد والحجاب وحصول المقابلة في حق الله تعالى ممتنع فلو صحت رؤيته لوجب أن يكون المقتضي لحصول تلك الرؤية هو سلامة الحاسة وكون المرئي تصح رؤيته وهذان المعنيان حاصلان في هذا الوقت فلو كان بحيث تصح رؤيته لوجب أن تحصل رؤيته في هذا الوقت وحيث لم تحصل هذه الرؤية علمنا أنه ممتنع الرؤية
والحجة الثانية أن كل ما كان مرئياً كان مقابلاً أو في حكم المقابل والله تعالى ليس كذلك فوجب أن تمتنع رؤيته
والحجة الثالثة قال القاضي ويقال لهم كيف يراه أهل الجنة دون أهل النار إما أن يقرب منهم أو يقابلهم فيكون حالهم معه بخلاف أهل النار وهذا يوجب أنه جسم يجوز عليه القرب والبعد والحجاب
والحجة الرابعة قال القاضي إن قلتم إن أهل الجنة يرونه في كل حال حتى عند الجماع وغيره فهو باطل أو يرونه في حال دون حال وهذا أيضاً باطل لأن ذلك يوجب أنه تعالى مرة يقرب وأخرى يبعد وأيضاً فرؤيته أعظم اللذات وإذا كان كذلك وجب أن يكونوا مشتهين لتلك الرؤية أبداً فإذا لم يروه في بعض الأوقات وقعوا في الغم والحزن وذلك لا يليق بصفات أهل الجنة فهذا مجموع ما ذكره في ( كتاب التفسير ) واعلم أن هذه الوجوه في غاية الضعف
أما الوجه الأول فيقال له هب أن رؤية الأجسام والأعراض عند حصول سلامة الحاسة وحضور المرئي وحصول سائر الشرائط واجبة فلم قلتم إنه يلزم منه أن يكون رؤية الله تعالى عند سلامة الحاسة وعند كون المرئي بحيث يصح رؤيته واجبة ألم تعلموا أن ذاته تعالى مخالفة لسائر الذوات ولا يلزم من ثبوت حكم في شيء ثبوت مثل ذلك الحكم فيما يخالفه والعجب من هؤلاء المعتزلة أن أولهم وآخرهم

عولوا على هذا الدليل وهم يدعون الفطنة التامة والكياسة الشديدة ولم يتنبه أحد منهم لهذا السؤال ولم يخطر بباله ركاكة هذا الكلام
وأما الوجه الثاني فيقال له إن النزاع بيننا وبينك وقع في أن الموجود الذي لا يكون مختصاً بمكان وجهة هل يجوز رؤيته أم لا فإما أن تدعوا أن العلم بامتناع رؤية هذا الموجود الموصوف بهذه الصفة علم بديهي أو تقولوا أنه علم استدلالي والأول باطل لأنه لو كان العلم به بديهياً لما وقع الخلاف فيه بين العقلاء وأيضاً فبتقدير أن يكون هذا العلم بديهياً كان الاشتغال بذكر الدليل عبثاً فاتركوا الاستدلال واكتفوا بادعاء البديهة وإن كان الثاني فنقول قولكم المرئي يجب أن يكون مقابلاً أو في حكم المقابل إعادة لعين الدعوى لأن حاصل الكلام أنكم قلتم الدليل على أن ما لا يكون مقابلاً ولا في حكم المقابل لا تجوز رؤيته أن كل ما كان مرئياً فإنه يجب أن يكون مقابلاً أو في حكم المقابل ومعلوم أنه لا فائدة في هذا الكلام إلا إعادة الدعوى
وأما الوجه الثالث فيقال له لم لا يجوز أن يقال إن أهل الجنة يرونه وأهل النار لا يرونه لا لأجل القرب والبعد كما ذكرت بل لأنه تعالى يخلق الرؤية في عيون أهل الجنة ولا يخلقها في عيون أهل النار فلو رجعت في إبطال هذا الكلام إلى أن تجويزه يفضي إلى تجويز أن يكون بحضرتنا بوقات وطبلات ولا نراها ولا نسمعها كان هذا رجوعاً إلى الطريقة الأولى وقد سبق جوابها
وأما الوجه الرابع فيقال لم لا يجوز أن يقال إن المؤمنين يرون الله تعالى في حال دون حال أما قوله فهذا يقتضي أن يقال إنه تعالى مرة يقرب ومرة يبعد فيقال هذا عود إلى أن الإبصار لا يحصل إلا عند الشرائط المذكورة وهو عود إلى الطريق الأول وقد سبق جوابه وقوله ثانياً الرؤية أعظم اللذات فيقال له إنها وإن كانت كذلك إلا أنه لا يبعد أن يقال إنهم يشتهونها في حال دون حال بدليل أن سائر لذات الجنة ومنافعها طيبة ولذيذة ثم إنها تحصل في حال دون حال فكذا ههنا فهذا تمام الكلام في الجواب عن الوجوه التي ذكرها في هذا الباب
المسألة الرابعة في تقرير الوجوه الدالة على أن المؤمنين يرون الله تعالى ونحن بعدها هنا عدا ونحيل تقريرها إلى المواضع اللائقة بها فالأول أن موسى عليه السلام طلب الرؤية من الله تعالى وذلك يدل على جواز رؤية الله تعالى والثاني أنه تعالى علق الرؤية على استقرار الجبل حيث قال فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِى ( الأعراف 143 ) واستقرار الجبل جائز والمعلق على الجائز جائز وهذان الدليلان سيأتي تقريرهما إن شاء الله تعالى في سورة الأعراف
الحجة الثالثة التمسك بقوله لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَارُ من الوجوه المذكورة
الحجة الرابعة التمسك بقوله تعالى لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى ( يونس 26 ) وزيادة وتقريره قد ذكرناه في سورة يونس
الحجة الخامسة التمسك بقوله تعالى فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ ( الكهف 110 ) وكذا القول في جميع الآيات المشتملة على اللقاء وتقريره قد مر في هذا التفسير مراراً وأطواراً

الحجة السادسة التمسك بقوله تعالى وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً ( الأنسان 20 ) فإن إحدى القراآت في هذه الآية مَلَكًا بفتح الميم وكسر اللام وأجمع المسلمون على أن ذلك الملك ليس إلا الله تعالى وعندي التمسك بهذه الآية أقوى من التمسك بغيرها
الحجة السابعة التمسك بقوله تعالى كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ( المطففين 15 ) وتخصيص الكفار بالحجب يدل على أن المؤمنين لا يكونون محجوبين عن رؤية الله عز وجل
الحجة الثامنة التمسك بقوله تعالى وَلَقَدْ رَءاهُ نَزْلَة ً أُخْرَى عِندَ سِدْرَة ِ الْمُنتَهَى ( النجم 13 14 ) وتقرير هذه الحجة سيأتي في تفسير سورة النجم
الحجة التاسعة أن القلوب الصافية مجبولة على حب معرفة الله تعالى على أكمل الوجوه وأكمل طرق المعرفة هو الرؤية فوجب أن تكون رؤية الله تعالى مطلوبة لكل أحد وإذا ثبت هذا وجب القطع بحصولها لقوله تعالى وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ ( فصلت 31 )
الحجة العاشرة قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً ( الكهف 107 ) دلت هذه الآية على أنه تعالى جعل جميع جنات الفردوس نزلاً للمؤمنين والاقتصار فيها على النزل لا يجوز بل لا بد وأن يحصل عقيب النزل تشريف أعظم حالاً من ذلك النزل وما ذاك إلا الرؤية
الحجة الحادية عشرة قوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة ٌ إِلَى رَبّهَا نَاظِرَة ٌ ( القيامة 22 23 ) وتقرير كل واحد من هذه الوجوه سيأتي في الموضع اللائق به من هذا الكتاب وأما الأخبار فكثيرة منها الحديث المشهور وهو قوله عليه السلام ( سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته ) واعلم أن التشبيه وقع في تشبيه الرؤية بالرؤية في الجلاء والوضوح لا في تشبيه المرئي بالمرئي ومنها ما اتفق الجمهور عليه من أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قرأ قوله تعالى لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَة ٌ ( يونس 26 ) فقال الحسنى هي الجنة والزيادة النظر إلى وجه الله ومنها أن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) هل رأى الله ليلة المعراج ولم يكفر بعضهم بعضاً بهذا السبب وما نسبه إلى البدعة والضلالة وذا يدل على أنهم كانوا مجمعين على أنه لا امتناع عقلاً في رؤية الله تعالى فهذا جملة الكلام في سمعيات مسألة الرؤية
المسألة الخامسة دل قوله تعالى وَهُوَ يُدْرِكُ الاْبْصَارَ على أنه تعالى يرى الأشياء ويبصرها ويدركها وذلك لأنه إما أن يكون المراد من الأبصار عين الأبصار أو المراد منه المبصرين فإن كان الأول وجب الحكم بكونه تعالى رائياً لرؤية الرائين ولأبصار المبصرين وكل من قال ذلك قال إنه تعالى يرى جميع المرئيات والمبصرات وإن كان الثاني وجب الحكم بكونه تعالى رائياً للمبصرين فعلى كلا التقديرين تدل هذه الآية على كونه تعالى مبصراً للمبصرات رائياً للمرئيات
المسألة السادسة قوله تعالى وَهُوَ يُدْرِكُ الاْبْصَارَ يفيد الحصر معناه أنه تعالى هو يدرك الأبصار ولا يدركها غير الله تعالى والمعنى أن الأمر الذي به يصير الحي رائياً للمرئيات ومبصراً للمبصرات ومدركاً للمدركات أمر عجيب وماهية شريفة لا يحيط العقل بكنهها ومع ذلك فإن الله تعالى مدرك لحقيقتها

مطلع على ماهيتها فيكون المعنى من قوله لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَارُ هو أن شيئاً من القوى المدركة لا تحيط بحقيقته وأن عقلاً من العقول لا يقف على كنه صمديته فكلت الأبصار عن إدراكه وارتدعت العقول عن الوصول إلى ميادين عزته وكما أن شيئاً لا يحيط به فعلمه محيط بالكل وإدراكه متناول للكل فهذا كيفية نظم هذه الآية
المسألة السابعة قوله وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ اللطافة ضد الكثافة والمراد منه الرقة وذلك في حق الله ممتنع فوجب المصير فيه إلى التأويل وهو من وجوه
الوجه الأول المراد لطف صنعه في تركيب أبدان الحيوانات من الأجزاء الدقيقة والأغشية الرقيقة والمنافذ الضيقة التي لا يعلمها أحد إلا الله تعالى
الوجه الثاني أنه سبحانه لطيف في الإنعام والرأفة والرحمة
والوجه الثالث أنه لطيف بعباده حيث يثني عليهم عند الطاعة ويأمرهم بالتوبة عند المعصية ولا يقطع عنهم سواد رحمته سواء كانوا مطيعين أو كانوا عصاة
الوجه الرابع أنه لطيف بهم حيث لا يأمرهم فوق طاقتهم وينعم عليهم بما هو فوق استحقاقهم وأما الخبير فهو من الخبر وهو العلم والمعنى أنه لطيف بعباده مع كونه عالماً بما هم عليه من ارتكاب المعاصي والإقدام على القبائح وقال صاحب ( الكشاف ) اللَّطِيفُ معناه أنه يلطف عن أن تدركه الأبصار الْخَبِيرُ بكل لطيف فهو يدرك الأبصار ولا يلطف شيء عن إدراكه وهذا وجه حسن
قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِى َ فَعَلَيْهَا وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما قرر هذه البيانات الظاهرة والدلائل القاهرة في هذه المطالب العالية الشريفة الإلهية عاد إلى تقرير أمر الدعوى والتبليغ والرسالة فقال قَدْ جَاءكُمْ بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ والبصائر جمع البصيرة وكما أن البصر اسم للإدراك التام الكامل الحاصل بالعين التي في الرأس فالبصيرة اسم للإدراك التام الحاصل في القلب قال تعالى بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَة ٌ ( القيامة 14 ) أي له من نفسه معرفة تامة وأراد بقوله قَدْ جَاءكُمْ بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ الآيات المتقدمة وهي في أنفسها ليست بصائر إلا أنها لقوتها وجلالتها توجب البصائر لمن عرفها ووقف على حقائقها فلما كانت هذه الآيات أسباباً لحصول البصائر سميت هذه الآيات أنفسها بالبصائر والمقصود من هذه الآية بيان ما يتعلق بالرسول وما لا يتعلق به
أما القسم الأول وهو الذي يتعلق بالرسول فهو الدعوة إلى الدين الحق وتبليغ الدلالة والبينات

فيها وهو أنه عليه السلام ما قصر في تبليغها وإيضاحها وإزالة الشبهات عنها وهو المراد من قوله قَدْ جَاءكُمْ بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ
وأما القسم الثاني وهو الذي لا يتعلق بالرسول فإقدامهم على الإيمان وترك الكفر فإن هذا لا يتعلق بالرسول بل يتعلق باختيارهم ونفعه وضره عائد إليهم والمعنى من أبصر الحق وآمن فلنفسه أبصر وإياها نفع ومن عمي عنه فعلى نفسه عمي وإياها ضر بالعمى وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ احفظ أعمالكم وأجازيكم عليها إنما أنا منذر والله هو الحفيظ عليكم
المسألة الثانية في أحكام هذه الآية وهي أربعة ذكرها القاضي فالأول الغرض بهذه البصائر أن ينتفع بها اختياراً استحق بها الثواب لا أن يحمل عليها أو يلجأ إليها لأن ذلك يبطل هذا الغرض والثاني أنه تعالى إنما دلنا وبين لنا منافع وأغراض المنافع تعود إلينا لا لمنافع تعود إلى الله تعالى والثالث أن المرء بعدوله عن النظر والتدبر يضر بنفسه ولم يؤت إلا من قبله لا من قبل ربه والرابع أنه متمكن من الأمرين فلذلك قال فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِى َ فَعَلَيْهَا قال وفيه إبطال قول المجبرة في المخلوق وفي أنه تعالى يكلف بلا قدرة
واعلم أنه متى شرعت المعتزلة في الحكمة والفلسفة والأمر والنهي فلا طريق فيه إلا معارضته بسؤال الداعي فإنه يهدم كل ما يذكرونه
المسألة الثالثة المراد من الإبصار ههنا العلم ومن العمي الجهل ونظيره قوله تعال فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الاْبْصَارُ وَلَاكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ ( الحج 46 )
المسألة الرابعة قال المفسرون قوله فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِى َ فَعَلَيْهَا معناه لا آخذكم بالإيمان أخذ الحفيظ عليكم والوكيل قالوا وهذا إنما كان قبل الأمر بالقتال فلما أمر بالقتال صار حفيظاً عليهم ومنهم من يقول آية القتال ناسخة لهذه الآية وهو بعيد فكأن هؤلاء المفسرين مشغوفون بتكثير النسخ من غير حاجة إليه والحق ما تقرره أصحاب أصول الفقه إن الأصل عدم النسخ فوجب السعي في تقليله بقدر الإمكان
وَكَذالِكَ نُصَرِّفُ الاٌّ يَاتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
اعلم أنه تعالى لما تمم الكلام في الإلهيات إلى هذا الموضع شرع من هذا الموضع في إثبات النبوات فبدأ تعالى بحكاية شبهات المنكرين لنبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم )
فالشبهة الأولى قولهم يا محمد إن هذا القرآن الذي جئتنا به كلام تستفيده من مدارسة العلماء ومباحثة الفضلاء وتنظمه من عند نفسك ثم تقرأه علينا وتزعم أنه وحي نزل عليك من الله تعالى ثم إنه تعالى

أجاب عنه بالوجوه الكثيرة فهذا تقرير النظم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن المراد من قوله وَكَذالِكَ نُصَرّفُ الاْيَاتِ يعني أنه تعالى يأتي بها متواترة حالاً بعد حال ثم قال وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ وفيه مباحث
البحث الأول حكى الواحدي في قوله درس الكتاب قولين الأول قال الأصمعي أصله من قولهم درس الطعام إذا داسه يدرسه دراساً والدراس الدياس بلغة أهل الشام قال ودرس الكلام من هذا أي يدرسه فيخف على لسانه والثاني قال أبو الهيثم درست الكتاب أي ذللته بكثرة القراءة حتى خف حفظه من قولهم درست الثوب أدرسه درساً فهو مدروس ودريس أي أخلقته ومنه قيل للثوب الخلق دريس لأنه قد لان والدراسة الرياضة ومنه درست السورة حتى حفظتها ثم قال الواحدي وهذا القول قريب مما قاله الأصمعي بل هو نفسه لأن المعنى يعود فيه إلى الدليل والتليين
البحث الثاني قرأ ابن كثير وأبو عمرو دارست بالألف ونصب التاء وهو قراءة ابن عباس ومجاهد وتفسيرها قرأت على اليهود وقرؤا عليك وجرت بينك وبينهم مدارسة ومذاكرة ويقوى هذه القراءة قوله تعالى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَاذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ ( الفرقان 4 ) وقرأ ابن عامر دَرَسْتَ أي هذه الأخبار التي تلوتها علينا قديمة قد درست وانمحت ومضت من الدرس الذي هو تعفى الأثر وإمحاء الرسم قال الأزهري من قرأ دَرَسْتَ فمعناه تقادمت أي هذا الذي تتلوه علينا قد تقادم وتطاول وهو من قولهم درس الأثر يدرس دروساً
واعلم أن صاحب ( الكشاف ) روى ههنا قراآت أخرى فإحداها دَرَسْتَ بضم الراء مبالغة في دَرَسْتَ أي اشتد دروسها وثانيها دَرَسْتَ على البناء للمفعول بمعنى قدمت وعفت وثالثها دارست وفسروها بدارست اليهود محمداً ورابعها درس أي درس محمد وخامسها دارسات على معنى هي دارسات أي قديمات أو ذات درس كعيشة راضية
البحث الثالث ( الواو ) في قوله الاْيَاتِ وَلِيَقُولُواْ عطف على مضمر والتقدير وكذلك نصرف الآيات لنلزمهم الحجة وليقولوا فحذف المعطوف عليه لوضوح معناه
البحث الرابع اعلم أنه تعالى قال وَكَذالِكَ نُصَرّفُ الاْيَاتِ ثم ذكر الوجه الذي لأجله صرف هذه الآيات وهو أمران أحدهما قوله تعالى وَلِيَقُولُواْ والثاني قوله دَرَسْتَ وَلِنُبَيّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أما هذا الوجه الثاني فلا إشكال فيه لأنه تعالى بين أن الحكمة في هذا التصريف أن يظهر منه البيان والفهم والعلم وإنما الكلام في الوجه الأول وهو قوله وَلِيَقُولُواْ لأن قولهم للرسول دارست كفر منهم بالقرآن والرسول وعند هذا الكلام عاد بحث مسألة الجبر والقدر فأما أصحابنا فإنهم أجروا الكلام على ظاهره فقالوا معناه إنا ذكرنا هذه الدلائل حالاً بعد حال ليقول بعضهم دارست فيزداد كفراً على كفر وتثبيتاً لبعضهم فيزداد إيماناً على إيمان ونظيره قوله تعالى مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ( البقرة 26 ) وقوله وَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ ( التوبة 125 ) وأما المعتزلة فقد تحيروا قال الجبائي والقاضي وليس فيه إلا أحد وجهين الأول أن يحمل هذا الإثبات على النفي والتقدير وكذلك نصرف

الآيات لئلا يقولوا درست ونظيره قوله تعالى يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ ومعناه لئلا تضلوا والثاني أن تحمل هذه اللام على لام العاقبة والتقدير أن عاقبة أمرهم عند تصريفنا هذه الآيات أن يقولوا هذا القول مستندين إلى اختيارهم عادلين عما يلزم من النظر في هذه الدلائل هذا غاية كلام القوم في هذا الباب
ولقائل أن يقول أما الجواب الأول فضعيف من وجهين الأول أن حمل الإثبات على النفي تحريف لكلام الله وتغيير له وفتح هذا الباب يوجب أن لا يبقى وثوق لا بنفيه ولا بإثباته وذلك يخرجه عن كونه حجة وأنه باطل والثاني أن بتقدير أن يجوز هذا النوع من التصرف في الجملة إلا أنه غير لائق البتة بهذا الموضع وذلك لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يظهر آيات القرآن نجماً نجما والكفار كانوا يقولون إن محمداً يضم هذه الآيات بعضها إلى بعض ويتفكر فيها ويصلحها آية فآية ثم يظهرها ولو كان هذا بوحي نازل إليه من السماء فلم لايأتي بهذا القرآن دفعة واحدة كما أن موسى عليه السلام أتى بالتوراة دفعة واحدة
إذا عرفت هذا فنقول إن تصريف هذه الآيات حالاً فحالاً هي التي أوقعت الشبهة للقوم في أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) إنما يأتي بهذا القرآن على سبيل المدارسة مع التفكر والمذاكرة مع أقوام آخرين وعلى ما يقول الجبائي والقاضي فإنه يقتضي أن يكون تصريف هذه الآيات حالاً بعد حال يوجب أن يمتنعوا من القول بأن محمداً عليه الصلاة والسلام إنما أتى بهذا القرآن على سبيل المدارسة والمذاكرة فثبت أن الجواب الذي ذكره إنما يصح لو جعلنا تصريف الآيات علة لأن يمتنعوا من ذلك القول مع أنا بينا أن تصريف الآيات هو الموجب لذلك القول فسقط هذا الكلام
وأما الجواب الثاني وهو حمل اللام على لام العاقبة فهو أيضاً بعيد لأن حمل هذه اللام على لام العاقبة مجاز وحمله على لام الغرض حقيقة والحقيقة أقوى من المجاز فلو قلنا ( اللام ) في قوله وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ لام العاقبة في قوله وَلِنُبَيّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ للحقيقة فقد حصل تقديم المجاز على الحقيقة في الذكر وأنه لا يجوز فثبت بما ذكرنا ضعف هذين الجوابين وأن الحق ما ذكرنا أن المراد منه عين المذكور في قوله تعالى يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ومما يؤكد هذا التأويل قوله وَلِنُبَيّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ يعني أنا ما بيناه إلا لهؤلاء فأما الذين لا يعلمون فما بينا هذه الآيات لهم ولما دل هذا على أنه تعالى ما جعله بياناً إلا للمؤمنين ثبت أنه جعله ضلالاً للكافرين وذلك ما قلنا والله أعلم
اتَّبِعْ مَآ أُوحِى َ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إله إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ
قوله تعالى اتَّبِعْ مَا أُوحِى َ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ لا إله إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ
اعلم أنه تعالى لما حكى عن الكفار أنهم ينسبونه في إظهار هذا القرآن إلى الافتراء أو إلى أنه يدارس أقواماً ويستفيد هذه العلوم منهم ثم ينظمها قرآناً ويدعي أنه نزل عليه من الله تعالى أتبعه بقوله اتَّبِعْ مَا أُوحِى َ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ

لئلا يصير ذلك القول سبباً لفتوره في تبليغ الدعوة والرسالة والمقصود تقوية قلبه وإزالة الحزن الذي حصل بسبب سماع تلك الشبهة ونبه بقوله لاَ إله إِلاَّ هُوَ على أنه تعالى لما كان واحداً في الإلهية فإنه يجب طاعته ولا يجوز الإعراض عن تكاليفه بسبب جهل الجاهلين وزيغ الزائغين
وأما قوله وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ فقيل المراد ترك المقابلة فلذلك قالوا إنه منسوخ وهذا ضعيف لأن الأمر بترك المقابلة في الحال لا يفيد الأمر بتركها دائماً وإذا كان الأمر كذلك لم يجب التزام النسخ وقيل المراد ترك مقابلتهم فيما يأتونه من سفه وأن يعدل صلوات الله عليه إلى الطريق الذي يكون أقرب إلى القبول وأبعد عن التنفير والتغليظ
قوله تعالى وَلَوْ شَاء اللَّهُ مَا أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ
اعلم أن هذا الكلام أيضاً متعلق بقولهم للرسول عليه السلام إنما جمعت هذا القرآن من مدارسة الناس ومذاكرتهم فكأنه تعالى يقول له لا تلتفت إلى سفاهات هألاء الكفار ولا يثقلن عليك كفرهم فإني لو أردت إزالة الكفر عنهم لقدرت ولكني تركتهم مع كفرهم فلا ينبغي أن تشغل قلبك بكلماتهم
واعلم أن أصحابنا تمسكوا بقوله تعالى وَلَوْ شَاء اللَّهُ مَا أَشْرَكُواْ والمعنى ولو شاء الله أن لا يشركوا ما أشركوا وحيث لم يحصل الجزاء علمنا أنه لم يحصل الشرط فعلمنا أن مشيئة الله تعالى بعدم إشراكهم غير حاصلة قالت المعتزلة ثبت بالدليل أنه تعالى أراد من الكل الإيمان وما شاء من أحد الكفر والشرك وهذه الآية تقتضي أنه تعالى ما شاء من الكل الإيمان فوجب التوفيق بين الدليلين فيحمل مشيئة الله تعالى لإيمانهم على مشيئة الإيمان الاختياري الموجب للثواب والثناء ويحمل عدم مشيئته لإيمانهم على الإيمان الحاصل بالقهر والجبر وللإلجاء يعني أنه تعالى ما شاء منهم أن يحملهم على الإيمان على سبيل القهر والإلجاء لأن ذلك يبطل التكليف ويخرج الإنسان عن استحقاق الثواب هذا ما عول القوم عليه في هذا الباب وهو في غاية الضعف ويدل عليه وجوه الأول لا شك أنه تعالى هو الذي أقدر الكافر على الكفر فقدرة الكفر إن لم تصلح للإيمان فخالق تلك القدرة لا شك أنه كان مريداً للكفر وإن كانت صالحة للإيمان لم يترجح جانب الكفر على جانب الإيمان إلا عند حصول داع يدعوه إلى الإيمان وإلا لزم رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح وهو محال ومجموع القدرة مع الداعي إلى الكفر يوجب الكفر وإذا كان خالق القدرة والداعي هو الله تعالى وثبت أن مجموعهما يوجب الكفر ثبت أنه تعالى قد أراد الكفر من الكافر الثاني في تقرير هذا الكلام أن نقول إنه تعالى كان عالماً بعدم الإيمان من الكافر ووجود الإيمان مع العلم بعدم الإيمان متضادان ومع وجود أحد الضدين كان حصول الضد الثاني محالاً والمحال مع العلم بكونه محالاً غير مراد فامتنع أن يقال إنه تعالى يريد الإيمان من الكافر الثالث هب أن الإيمان الاختياري أفضل وأنفع من الإيمان الحاصل بالجبر والقهر إلا أنه تعالى لما علم أن ذلك الأنفع لا يحصل البتة فقد كان يجب في حكمته ورحمته أن يحلق فيه الإيمان على سبيل الإلجاء لأن هذا الإيمان وإن كان لا يوجب الثواب العظيم فأقل ما فيه أن يخلصه من العقاب العظيم فترك إيجاد هذا الإيمان فيه على سبيل الإلجاء يوجب وقوعه في أشد العذاب وذلك لا يليق بالرحمة والإحسان ومثاله أن من كان له ولد عزيز وكان هذا الأب في غاية الشفقة وكان هذا الولد واقفاً على طرف البحر فيقول الوالد له غص في قعر هذا البحر

لتستخرج اللآلي العظيمة الرفيعة العالية منه وعلم الوالد قطعاً أنه إذا غاص في البحر هلك وغرق فهذا الأب إن كان ناظراً في حقه مشفقاً عليه وجب عليه أن يمنعه من الغوص في قعر البحر ويقول له اترك طلب تلك اللآلي فإنك لا تحدها وتهلك ولكن الأولى لك أن تكتفي بالرزق القليل مع السلامة فأما أن يأمره بالغوص في قعر البحر مع اليقين التام بأنه لا يستفيد منه إلا الهلاك فهذا يدل على عدم الرحمة وعلى السعي في الإهلاك فكذا ههنا والله أعلم
واعلم أنه تعالى لما بين أنه لا قدرة لأحد على إزالة الكفر عنهم ختم الكلام بما يكمل معه تبصير الرسول عليه السلام وذلك أنه تعالى بين له قدر ما جعل إليه فذكر أنه تعالى ما جعله عليهم حفيظاً ولا وكيلاً على سبيل المنع لهم وإنما فوض إليه البلاغ بالأمر والنهي في العمل والعلم وفي البيان بذكر الدلائل والتنبيه عليها فإن انقادوا للقبول فنفعه عائد إليه وإلا فضرره عائد عليهم وعلى التقديرين فلا يخرج ( صلى الله عليه وسلم ) من الرسالة والنبوة والتبليغ
وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّة ٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
اعلم أن هذا الكلام أيضاً متعلق بقولهم للرسول عليه السلام إنما جمعت هذا القرآن من مدارسة الناس ومذاكرتهم فإنه لا يبعد أن بعض المسلمين إذا سمعوا ذلك الكلام من الكفار غضبوا وشتموا آلهتهم على سبيل المعارضة فنهى الله تعالى عن هذا العمل لأنك متى شتمت آلهتهم غضبوا فربما ذكروا الله تعالى بما لا ينبغي من القول فلأجل الاحتراز عن هذا المحذور وجب الاحتراز عن ذلك المقال وبالجملة فهو تنبيه على أن خصمك إذا شافهك بجهل وسفاهة لم يجز لك أن تقدم على مشافهته بما يجري مجرى كلامه فإن ذلك يوجب فتح باب المشاتمة والسفاهة وذلك لا يليق بالعقلاء وفي الآية مسائل
المسألة الأولى ذكروا في سبب نزول الآية وجوهاً الأول قال ابن عباس لما نزل إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ( الأنبياء 98 ) قال المشركون لئن لم تنته عن سب آلهتنا وشتمها لنهجون إلهك فنزلت هذه الآية أقول لي ههنا إشكالان الأول أن الناس اتفقوا على أن هذه السورة نزلت دفعة واحدة فكيف يمكن أن يقال إن سبب نزول هذه الآية كذا وكذا الثاني أن الكفار كانوا مقرين بالإله تعالى وكانوا يقولون إنما حسنت عبادة الأصنام لتصير شفعاء لهم عند الله تعالى وإذا كان كذلك فكيف يعقل إقدامهم على شتم الله تعالى وسبه

والقول الثاني في سبب نزول هذه الآية قال السدي لما قربت وفاة أبي طالب قالت قريش ندخل عليه ونطلب منه أن ينهى ابن أخيه عنا فإنا نستحي أن نقتله بعد موته فتقول العرب كان يمنعه فلما مات قتلوه فانطلق أبو سفيان وأبو جهل والنضر الحرث مع جماعة إليه وقالوا له أنت كبيرنا وخاطبوه بما أرادوا فدعا محمداً عليه الصلاة والسلام وقال هؤلاء قومك وبنو عمك يطلبون منك أن تتركهم على دينهم وأن يتركوك على دينك فقال عليه الصلاة والسلام ( قولوا لا إله إلا الله ) فأبوا فقال أبو طالب قل غير هذه الكلمة فإن قومك يكرهونها فقال عليه الصلاة والسلام ( ما أنا بالذي أقول غيرها حتى تأتوني بالشمس فتضعوها في يدي فقالوا له اترك شتم آلهتنا وإلا شتمناك ومن يأمرك بذلك فذلك قوله تعالى فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ
واعلم أنا قد دللنا على أن القوم كانوا مقرين بوجود الإله تعالى فاستحال إقدامهم على شتم الإله بل ههنا احتمالات أحدها أنه ربما كان بعضهم قائلاً بالدهر ونفي الصانع فما كان يبالي بهذا النوع من السفاهة وثانيها أن الصحابة متى شتموا الأصنام فهم كانوا يشتمون الرسول عليه الصلاة والسلام فالله تعالى أجرى شتم الرسول مجرى شتم الله تعالى كما في قوله إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ ( الفتح 10 ) وكقوله إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ ( الأحزاب 57 ) وثالثها أنه ربما كان في جهالهم من كان يعتقد أن شيطاناً يحمله على ادعاء النبوة والرسالة ثم إنه لجهله كان يسمي ذلك الشيطان بأنه إله محمد عليه الصلاة والسلام فكان يشتم إله محمد بناء على هذا التأويل
المسألة الثانية لقائل أن يقول إن شتم الأصنام من أصول الطاعات فكيف يحسن من الله تعالى أن ينهى عنها
والجواب أن هذا الشتم وإن كان طاعة إلا أنه إذا وقع على وجه يستلزم وجود منكر عظيم وجب الاحتراز منه والأمر ههنا كذلك لأن هذا الشتم كان يستلزم إقدامهم على شتم الله وشتم رسوله وعلى فتح باب السفاهة وعلى تنفيرهم عن قبول الدين وإدخال الغيظ والغضب في قلوبهم فلكونه مستلزماً لهذه المنكرات وقع النهي عنه
المسألة الثالثة قرأ الحسن فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْواً بضم العين وتشديد الواو ويقال عدا فلان عدواً وعدواً وعدواناً وعداً أي ظلم ظلماً جاوز القدر قال الزجاج وعدواً منصوب على المصدر لأن المعنى فيعدوا عدواً قال ويجوز أن يكون بإرادة اللام والمعنى فينسبوا الله للظلم
المسألة الرابعة قال الجبائي دلت هذه الآية على أنه لا يجوز أن يفعل بالكفار ما يزدادون به بعداً عن الحق ونفوراً إذ لو جاز أن يفعله لجاز أن يأمر به وكان لا ينهى عما ذكرنا وكان لا يأمر بالرفق بهم عند الدعاء كقوله لموسى وهرون فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ( طه 44 ) وذلك يبين بطلان مذهب المجبرة
المسألة الخامسة قالوا هذه الآية تدل على أن الأمر بالمعروف قد يقبح إذا أدى إلى ارتكاب منكر والنهي عن المنكر يقبح إذا أدى إلى زيادة منكر وغلبة الظن قائمة مقام العلم في هذا الباب وفيه تأديب لمن

يدعو إلى الدين لئلا يتشاغل بما لا فائدة له في المطلوب لأن وصف الأوثان بأنها جمادات لا تنفع ولا تضر يكفي في القدح في إلهيتها فلا حاجة مع ذلك إلى شتمها
وأما قوله تعالى كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلّ أُمَّة ٍ عَمَلَهُمْ فاحتج أصحابنا بهذا على أنه تعالى هو الذي زين للكافر الكفر وللمؤمن الإيمان وللعاصي المعصية وللمطيع الطاعة قا الكعبي حمل الآية على هذا المعنى محال لأنه تعالى هو الذي يقول الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ ( محمد 25 ) ويقول وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ( البقرة 257 ) ثم إن القوم ذكروا في الجواب وجوهاً الأول قال الجبائي المراد زينا لكل أمة تقدمت ما أمرناهم به من قبول الحق والكعبي أيضاً ذكر عين هذا الجواب فقال المراد أنه تعالى زين لهم ما ينبغي أن يعملوا وهم لا ينتهون الثاني قال آخرون المراد زينا لكل أمة من أمم الكفار سوء عملهم أي خليناهم وشأنهم وأمهلناهم حتى حسن عندهم سوء عملهم والثالث أمهلنا الشيطان حتى زين لهم والرابع زيناه في زعمهم وقولهم إن الله أمرنا بهذا وزينه لنا هذا مجموع التأويلات المذكورة في هذه الآية والكل ضعيف وذلك لأن الدليل العقلي القاطع دل على صحة ما أشعر به ظاهر هذا النص وذلك لأنا بينا غير مرة أن صدور الفعل عن العبد يتوقف على حصول الداعي وبينا أن تلك الداعية لا بد وأن تكون بخلق الله تعالى ولا معنى لتلك الداعية إلا علمه واعتقاده أو ظنه باشتمال ذلك الفعل على نفع زائد ومصلحة راجحة وإذا كانت تلك الداعية حصلت بفعل الله تعالى وتلك الداعية لا معنى لها إلا كونه معتقداً لاشتمال ذلك الفعل على النفع الزائد والمصلحة الراجحة
ثبت أنه يمتنع أن يصدر عن العبد فعل ولا قول ولا حركة ولا سكون إلا إذا زين الله تعالى ذلك الفعل في قلبه وضميره واعتقاده وأيضا الإنسان لا يختار الكفر والجهل ابتداء مع العلم بكونه كفراً وجهلاً والعلم بذلك ضروري بل إنما يختاره لاعتقاده كونه إيماناً وعلماً وصدقاً وحقاً فلولا سابقة الجهل الأول لما اختار هذا الجهل الثاني ثم إنا ننقل الكلام إلى أنه لم اختار ذلك الجهل السابق فإن كان ذلك لسابقة جهل آخر فقد لزم أن يستمر ذلك إلى ما لا نهاية له من الجهالات وذلك محال ولما كان ذلك باطلاً وجب انتهاء تلك الجهالات إلى جهل أول يخلقه الله تعالى فيه ابتداء وهو بسبب ذلك الجهل ظن في الكفر كونه إيماناً وحقاً وعلماً وصدقاً فثبت أنه يستحيل من الكافر اختيار الجهل والكفر إلا إذا زين الله تعالى ذلك الجهل في قلبه فثبت بهذين البرهانين القاطعين القطعيين أن الذي يدل عليه ظاهر هذه الآية هو الحق الذي لا محيد عنه وإذا كان الأمر كذلك فقد بطلت التأويلات المذكورة بأسرها لأن المصير إلى التأويل إنما يكون عند تعذر حمل الكلام على ظاهره أما لما قام الدليل على أنه لا يمكن العدول عن الظاهر فقد سقطت هذه التكليفات بأسرها والله أعلم وأيضاً فقوله تعالى كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلّ أُمَّة ٍ عَمَلَهُمْ بعد قوله فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ مشعر بأن إقدامهم على ذلك المنكر إنما كان بتزيين الله تعالى فأما أن يحمل ذلك على أنه تعالى زين الأعمال الصالحة في قلوب الأمم فهذا كلام منقطع عما قبله وأيضاً فقوله كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلّ أُمَّة ٍ عَمَلَهُمْ يتناول الأمم الكافرة والمؤمنة فتخصيص هذا الكلام بالأمة المؤمنة ترك لظاهر العموم وأما سائر التأويلات فقد ذكرها صاحب ( الكشاف ) وسقوطها لا يخفى والله أعلم
أما قوله تعالى ثُمَّ إِلَى رَبّهِمْ مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ فالمقصود منه أن أمرهم مفوض إلى

الله تعالى وإن الله تعالى عالم بأحوالهم مطلع على ضمائرهم ورجوعهم يوم القيامة إلى الله فيجازي كل أحد بمقتضى عمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر
وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ ءَايَة ٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الاٌّ يَاتُ عِندَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ
اعلم أنه تعالى حكى عن الكفار شبهة توجب الطعن في نبوته وهي قولهم إن هذا القرآن إنما جئتنا به لأنك تدارس العلماء وتباحث الأقوام الذين عرفوا التوارة والإنجيل ثم تجمع هذه السور وهذه الآيات بهذا الطريق ثم إنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة بما سبق وهذه الآية مشتملة على شبهة أخرى وهي قولهم له إن هذا القرآن كيفما كان أمره فليس من جنس المعجزات البتة ولو أنك يا محمد جئتنا بمعجزة قاهرة وبينة ظاهرة لآمنا بك وحلفوا على ذلك وبالغوا في تأكيد ذلك الحلف فالمقصود من هذه الآية تقرير هذه الشبهة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي إنما سمى اليمين بالقسم لأن اليمين موضوعة لتوكيد الخبر الذي يخبر به الإنسان إما مثبتاً للشيء وإما نافياً ولما كان الخبر يدخله الصدق والكذب احتاج المخبر إلى طريق به يتوسل إلى ترجيح جانب الصدق على جانب الكذب وذلك هو الحلف ولما كانت الحاجة إلى ذكر الحلف إنما تحصل عند انقسام الناس عند سماع ذلك الخبر إلى مصدق به ومكذب به سموا الحلف بالقسم وبنوا تلك الصيغة على أفعل فقالوا أقسم فلان يقسم إقساماً وأرادوا أنه أكد القسم الذي اختاره وأحال الصدق إلى القسم الذي اختاره بواسطة الحلف واليمين
المسألة الثانية ذكروا في سبب النزول وجوهاً الأول قالوا لما نزل قوله تعالى إِن نَّشَأْ نُنَزّلْ عَلَيْهِمْ مّنَ السَّمَاء ءايَة ً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ( الشعراء 4 ) أقسم المشركون بالله لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها فنزلت هذه الآية الثاني قال محمد بن كعب القرظي إن المشركين قالوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) تخبرنا أن موسى ضرب الحجر بالعصا فانفجر الماء وأن عيسى أحيا الميت وأن صالحاً أخرج الناقة من الجبل فأتنا أيضاً أنت بآية لنصدقك فقال عليه الصلاة والسلام ( ما الذي تحبون ) فقالوا أن تجعل لنا الصفا ذهباً وحلفوا لئن فعل ليتبعونه أجمعون فقام عليه الصلاة والسلام يدعو فجاءه جبريل عليه السلام فقال إن شئت كان ذلك ولئن كان فلم يصدقوا عنده ليعذبنهم وإن تركوا تاب على بعضهم فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( بل يتوب على بعضهم ) فأنزل الله تعالى هذه الآية
المسألة الثالثة ذكروا في تفسير قوله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ وجوهاً قال الكلبي ومقاتل إذا حلف الرجل

بالله فهو جهد يمينه وقال الزجاج بالغوا في الأيمان وقوله لَئِن جَاءتْهُمْ ءايَة ٌ اختلفوا في المراد بهذه الآية فقيل ما روينا من جعل الصفا ذهباً وقيل هي الأشياء المذكورة في قوله تعالى وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الاْرْضِ يَنْبُوعًا ( الإسراء 90 ) وقيل إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يخبرهم بأن عذاب الاستئصال كان ينزل بالأمم المتقدمين الذين كذبوا أنبياءهم فالمشركون طلبوا مثلها
وقوله قُلْ إِنَّمَا الاْيَاتُ عِندَ اللَّهِ ذكروا في تفسير لفظة عِندَ وجوهاً فيحتمل أن يكون المعنى أنه تعالى هو المختص بالقدرة على أمثال هذه الآيات دون غيره لأن المعجزات الدالة على النبوات شرطها أن لا يقدر على تحصيلها أحد إلا الله سبحانه وتعالى ويحتمل أن يكون المراد بالعندية أن العلم بأن إحداث هذه المعجزات هل يقتضي إقدام هؤلاء الكفار على الإيمان أم لا ليس إلا عند الله ولفظ العندية بهذا المعنى كما في قوله وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ ويحتمل أن يكون المراد أنها وإن كانت في الحال معدومة إلا أنه تعالى متى شاء إحداثها أحدثها فهي جارية مجرى الأشياء الموضوعة عند الله يظهرها متى شاء وليس لكم أن تتحكموا في طلبها ولفظ عِندَ بهذا المعنى هنا كما في قوله وَإِن مّن شَى ْء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ ( الحجر 21 )
ثم قال تعالى وَمَا يُشْعِرُكُمْ قال أبو علي ( ما ) استفهام وفاعل يشعركم ضمير ( ما ) والمعنى وما يدريكم إيمانهم فحذف المفعول وحذف المفعول كثير والتقدير وما يدريكم إيمانهم أي بتقدير أن تجيئهم هذه الآيات فهم لا يؤمنون وقوله أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ قرأ ابن كثير وأبو عمرو أَنَّهَا بكسر الهمزة على الاستئناف وهي القراءة الجيدة والتقدير أن الكلام تم عند قوله وَمَا يُشْعِرُكُمْ أي وما يشعركم ما يكون منهم ثم ابتدأ فقال أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ قال سيبويه سألت الخليل عن القراءة بفتح الهمزة في أن وقلت لم لا يجوز أن يكون التقدير ما يدريك أنه لا يفعل فقال الخليل إنه لا يحسن ذلك ههنا لأنه لو قال وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا بالفتح لصار ذلك عذراً لهم هذا كلام الخليل وتفسيره إنما يظهر بالمثال فإذا اتخذت ضيافة وطلبت من رئيس البلد أن يحضر فلم يحضر فقيل لك لو ذهبت أنت بنفسك إليه لحضر فإذا قلت وما يشعركم أني لو ذهبت إليه لحضر كان المعنى أني لو ذهبت إليه بنفسي فإنه لا يحضر أيضاً فكذا ههنا قوله وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ معناه أنها إذا جاءت آمنوا وذلك يوجب مجيء هذه الآيات ويصير هذا الكلام عذراً للكفار في طلب الآيات والمقصود من الآية دفع حجتهم في طلب الآيات فهذا تقرير كلام الخليل وقرأ الباقون من القراء أَنَّهَا بالفتح وفي تفسيره وجوه الأول قال الخليل ءانٍ بمعنى لعل تقول العرب ائت السوق أنك تشتري لنا شيئاً أي لعلك فكأنه تعالى قال لعلها إذا جاءت لا يؤمنون قال الواحدي ءانٍ بمعنى لعل كثير في كلامهم قال الشاعر أريني جواداً مات هولاً لأنني
أرى ما تريني أو بخيلاً مخلداً
وقال آخر هل أنتم عاجلون بنا لأنا
نرى العرصات أو أثر الخيام
وقال عدي بن حاتم

أعاذل ما يدريك أن منيتي
إلى ساعة في اليوم أوفي ضحى الغد
وقال الواحدي وفسر علي لعل منيتي روى صاحب ( الكشاف ) أيضاً في هذا المعنى قول امرىء القيس عوجاً على الطلل المحيل لأننا
نبكي الديار كما بكى ابن خذام
قال صاحب ( الكشاف ) ويقوي هذا الوجه قراءة أبي أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
الوجه الثاني في هذه القراءة أن تجعل لا صلة ومثله مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ ( الأعراف 12 ) معناه أن تسجد وكذلك قوله وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَة ٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ ( الأنبياء 95 ) أي يرجعون فكذا ههنا التقدير وما يشعركم أنها إذا جاءت يؤمنون والمعنى أنها لو جاءت لم يؤمنوا قال الزجاج وهذا الوجه ضعيف لأن ما كان لغواً يكون لغواً على جميع التقديرات ومن قرأ أَنَّهَا بالكسر فكلمة لا في هذه القراءة ليست بلغو فثبت أنه لا يجوز جعل هذا اللفظ لغواً قال أبو علي الفارسي لم لا يجوز أن يكون لغواً على أحد التقديرين ويكون مفيداً على التقدير الثاني واختلف القراء أيضاً في قوله لاَ يُؤْمِنُونَ فقرأ بعضهم بالياء وهو الوجه لأن قوله وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ إنما يراد به قوم مخصوصون والدليل عليه قوله تعالى بعد هذه الآية وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَئِكَة َ وليس كل الناس بهذا الوصف والمعنى وما يشعركم أيها المؤمنون لعلهم إذا جاءتهم الآية التي اقترحوها لم يؤمنوا فالوجه الياء وقرأ حمزة وابن عامر بالتاء وهو على الانصراف من الغيبة إلى الخطاب والمراد بالمخاطبين في تُؤْمِنُونَ هم الغائبون المقسمون الذين أخبر الله عنهم أنهم لا يؤمنون وذهب مجاهد وابن زيد إلى أن الخطاب في قوله وَمَا يُشْعِرُكُمْ للكفار الذين أقسموا قال مجاهد وما يدريكم أنكم تؤمنون إذا جاءت وهذا يقوي قراءة من قرأ تُؤْمِنُونَ بالتاء على ما ذكرناأولاً الخطاب في قوله وَمَا يُشْعِرُكُمْ للكفار الذين أقسموا وعلى ما ذكرنا ثانياً الخطاب في قوله وَمَا يُشْعِرُكُمْ للمؤمنين وذلك لأنهم تمنوا نزول الآية ليؤمن المشركون وهو الوجه كأنه قيل للمؤمنين تتمنون ذلك وما يدريكم أنهم يؤمنون
المسألة الرابعة حاصل الكلام أن القوم طلبوا من الرسول معجزات قوية وحلفوا أنها لو ظهرت لآمنوا فبين الله تعالى أنهم وإن حلفوا على ذلك إلا أنه تعالى عالم بأنها لو ظهرت لم يؤمنوا وإذا كان الأمر كذلك لم يجب في الحكمة إجابتهم إلى هذا المطلوب قال الجبائي والقاضي هذه الآية تدل على أحكام كثيرة متعلقة بنصرة الاعتزال
الحكم الأول
أنها تدل على أنه لو كان في المعلوم لطف يؤمنون عنده لفعله لا محالة إذ لو جاز أن لا يفعله لم يكن لهذا الجواب فائدة لأنه إذا كان تعالى لا يجيبهم إلى مطلوبهم سواء آمنوا أو لم يؤمنوا لم يكن تعليق ترك الإجابة بأنهم لا يؤمنون عنده منتظماً مستقيماً فهذه الآية تدل على أنه تعالى يجب عليه أن يفعل كل ما هو في مقدوره من الألطاف والحكمة

الحكم الثاني
أن هذا الكلام إنما يستقيم لو كان لإظهار هذه المعجزات أثر في حملهم على الإيمان وعلى قول المجبرة ذلك باطل لأن عندهم الإيمان إنما يحصل بخلق الله تعالى فإذا خلقه حصل وإذا لم يخلقه لم يحصل فلم يكن لفعل الإلطاف أثر في حمل المكلف على الطاعات
وأقول هذا الذي قاله القاضي غير لازم أما الأول فلأن القوم قالوا لو جئتنا يا محمد بآية لآمنا بك فهذا الكلام في الحقيقة مشتمل على مقدمتين إحداهما أنك لو جئتنا بهذه المعجزات لآمنا بك والثانية أنه متى كان الأمر كذلك وجب عليك أن تأتينا بها والله تعالى كذبهم في المقام الأول وبين أنه تعالى وإن أظهرها لهم فهم لا يؤمنون ولم يتعرض البتة للمقام الثاني ولكنه في الحقيقة باق
فإن لقائل أن يقول هب أنهم لا يؤمنون عند إظهار تلك المعجزات فلم لم يجب على الله تعالى إظهارها اللهم إلا إذا ثبت قبل هذا البحث أن اللطف واجب على الله تعالى فحينئذ يحصل هذا المطلوب من هذه الآية إلا أن القاضي جعل هذه الآية دليلاً على وجوب اللطف فثبت أن كلامه ضعيف
وأما البحث الثاني وهو قوله إذا كان الكل بخلق الله تعالى لم يكن لهذه الألطاف أثر فيه فنقول الذي نقول به أن المؤثر في الفعل هو مجموع القدرة مع الداعي والعلم بحصول هذا اللطف أحد أجزاء الداعي وعلى هذا التقدير فيكون لهذا اللطف أثر في حصول الفعل
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّة ٍ وَنَذَرُهُمْ فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
هذا أيضاً من الآيات الدالة على قولنا إن الكفر والإيمان بقضاء الله وقدره والتقلب والقلب واحد وهو تحويل الشيء عن وجهه ومعنى تقليب الأفئدة والأبصار هو أنه إذا جاءتهم الآيات القاهرة التي اقترحوها وعرفوا كيفية دلالتها على صدق الرسول إلا أنه تعالى إذا قلب قلوبهم وأبصارهم عن ذلك الوجه الصحيح بقوا على الكفر ولم ينتفعوا بتلك الآيات والمقصود من هذه الآية تقرير ما ذكرناه في الآية الأولى من أن تلك الآيات القاهرة لو جاءتهم لما آمنوا بها ولما انتفعوا بظهورها البتة
أجاب الجبائي عنه بأن قال المراد ونقلب أفئدتهم وأبصارهم في جهنم على لهب النار وجمرها لنعذبهم كما لم يأمنوا به أول مرة في دار الدنيا
وأجاب الكعبي عنه بأن المراد من قوله وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ بأنا لا نفعل بهم ما نفعله بالمؤمنين من الفوائد والألطاف من حيث أخرجوا أنفسهم عن هذا الحد بسبب كفرهم
وأجاب القاضي بأن المراد ونقلب أفئدتهم وأبصارهم في الآيات التي قد ظهرت فلا تجدهم يؤمنون بها آخراً كما لم يؤمنوا بها أولاً
واعلم أن كل هذه الوجوه في غاية الضعف وليس لأحد أن يعيبنا فيقول إنكم تكررون هذه الوجوه في كل موضع فإنا نقول إن هؤلاء المعتزلة لهم وجوه معدودة في تأويلات آيات الجزاء فهم يكررونها في كل آية فنحن أيضاً نكرر الجواب عنها في كل آية فنقول قد بينا أن القدرة الأصلية صالحة للضدين وللطرفين على السوية فإذا لم ينضم على تلك القدرة داعية مرجحة امتنع حصول الرجحان فإذا انضمت

الداعية المرجحة إما إلى جانب الفعل أو إلى جانب الترك ظهر الرجحان وتلك الداعية ليست إلا من الله تعالى قطعاً للتسلسل وقد ظهر صحة هذه المقدمات بالدلائل القاطعة اليقينية التي لا يشك فيها العاقل وهذا هو المراد من قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء ) فالقلب كالموقوف بين داعية الفعل وبين داعية الترك فإن حصل في القلب داعي الفعل ترجح جانب الفعل وإن حصل فيه داعي الترك ترجح جانب الترك وهاتان الداعيتان لما كانتا لا تحصلان إلا بإيجاد الله وتخليقه وتكوينه عبر عنهما بأصبعي الرحمن والسبب في حسن هذه الاستعارة أن الشيء الذي يحصل بين أصبعي الإنسان يكون كامل القدرة عليه فإن شاء أمسكه وإن شاء أسقطه فههنا أيضاً كذلك القلب واقف بين هاتين الداعيتين وهاتان الداعيتان حاصلتان بخلق الله تعالى والقلب مسخر لهاتين الداعيتين فلهذا السبب حسنت هذه الاستعارة وكان عليه الصلاة والسلام يقول ( يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك ) والمراد من قوله مقلب القلوب أن الله تعالى يقلبه تارة من داعي الخير إلى داعي الشر وبالعكس
إذا عرفت هذه القاعدة فقوله تعالى وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ محمول على هذا المعنى الظاهر الجلي الذي يشهد بصحته كل طبع سليم وعقل مستقيم فلا حاجة البتة إلى ما ذكروه من التأويلات المستكرهة وإنما قدم الله تعالى ذكر تقليب الأفئدة على تقليب الأبصار لأن موضع الدواعي والصوارف هو القلب فإذا حصلت الداعية في القلب انصرف البصر إليه شاء أم أبى وإذا حصلت الصوارف في القلب انصرف البصر عنه فهو وإن كان يبصره في الظاهر إلا أنه لا يصير ذلك الإبصار سبباً للوقوف على الفوائد المطلوبة وهذا هو المراد من قوله تعالى وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّة ً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءاذَانِهِمْ وَقْراً فلما كان المعدن هو القلب وأما السمع والبصر فهما آلتان للقلب كانا لا محالة تابعين لأحوال القلب فلهذا السبب وقع الابتداء بذكر تقليب القلوب في هذه الآية ثم أتبعه بذكر تقليب البصر وفي الآية الأخرى وقع الابتداء بذكر تحصيل الكنان في القلب ثم أتبعه بذكر السمع فهذا هو الكلام القوي العقلي البرهاني الذي ينطبق عليه لفظ القرآن فكيف يحسن مع ذلك حمل هذا اللفظ على التكلفات التي ذكروها ولنرجع إلى ما يليق بتلك الكلمات الضعيفة فنقول أما الوجه الذي ذكره الجبائي فمدفوع لأن الله تعالى قال وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ ثم عطف عليه فقال وَنَذَرُهُمْ فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ولا شك أن قوله وَنَذَرُهُمْ إنما يحصل في الدنيا فلو قلنا المراد من قوله وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ إنما يحصل في الآخرة كان هذا سوأ للنظم في كلام الله تعالى حيث قدم المؤخر وأخر المقدم من غير فائدة وأما الوجه الذي ذكره الكعبي فضعيف أيضاً لأنه إنما استحق الحرمان من تلك الألطاف والفوائد بسبب إقدامه على الكفر فهو الذي أوقع نفسه ذلك ذلك الحرمان والخدلان فكيف تحسن إضافته إلى الله تعالى في قوله تعالى وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ
وأما الوجه الثاني الذي ذكره القاضي فبعيد أيضاً لأن المراد من قوله وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ تقليب القلب من حالة إلى حالة ونقله من صفة إلى صفة وعلى ما يقوله القاضي فليس الأمر كذلك بل القلب باق على حالة واحدة إلا أنه تعالى أدخل التقليب والتبديل في الدلائل فثبت أن الوجوه التي ذكروها فاسدة باطلة بالكلية

أما قوله تعالى كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّة ٍ فقال الواحدي فيه وجهان
الوجه الأول دخلت الكاف على محذوف تقديره فلا يؤمنون بهذه الآيات كما لم يؤمنوا بظهور الآيات أول مرة أتتهم الآيات مثل انشقاق القمر وغيره من الآيات والتقدير فلا يؤمنون في المرة الثانية من ظهور الآيات كما لم يؤمنوا به في المرة الأولى وأما الكناية في بِهِ فيجوز أن تكون عائدة إلى القرآن أو إلى محمد عليه الصلاة والسلام أو إلى ما طلبوا من الآيات
الوجه الثاني قال بعضهم الكاف في قوله كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ بمعنى الجزاء ومعنى الآية ونقلب أفئدتهم وأبصارهم عقوبة لهم على تركهم الإيمان في المرة الأولى يعني كما لم يؤمنوا به أول مرة فكذلك نقلب أفئدتهم وأبصارهم في المرة الثانية وعلى هذا الوجه فليس في الآية محذوف ولا حاجة فيها إلى الإضمار
وأما قوله تعالى وَنَذَرُهُمْ فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ فالجبائي قال وَنَذَرُهُمْ أي لا نحول بينهم وبين اختيارهم ولا نمنعهم من ذلك بمعاجلة الهلاك وغيره لكنا نمهلهم فإن أقاموا على طغيانهم فذلك من قبلهم وهو يوجب تأكيد الحجة عليهم وقال أصحابنا معناه إنا نقلب أفئدتهم من الحق إلى الباطل ونتركهم في ذلك الطغيان وفي ذلك الضلال والعمه
ولقائل أن يقول للجبائي إنك تقول إن إله العالم ما أراد بعبيده إلا الخير والرحمة فلم ترك هذا المسكين حتى عمه في طغيانه ولم لا يخلصه عنه على سبيل الإلجاء والقهر أقصى ما في الباب أنه إن فعل به ذلك لم يكن مستحقاً للثواب فيفوته الاستحقاق فقط ولكن يسلم من العقاب أما إذا تركه في ذلك العمه مع علمه بأنه يموت عليه فإنه لا يحصل استحقاق الثواب ويحصل له العقاب العظيم الدائم فالمفسدة الحاصلة عند خلق الإيمان فيه على سبيل الإلجاء مفسدة واحدة وهي فوت استحقاق الثواب أما المفسدة الحاصلة عند إبقائه على ذلك العمه والطغيان حتى يموت عليه فهي فوت استحقاق الثواب مع استحقاق العقاب الشديد والرحيم المحسن الناظر لعباده لا بد وأن يرجح الجانب الذي هو أكثر صلاحاً وأقل فساداً فعلمنا أن إبقاء ذلك الكافر في ذلك العمه والطغيان يقدح في أنه لا يريد به إلا الخير والإحسان
وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَة َ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَى ْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ
اعلم أنه تعالى بين في هذه الآية تفصيل ما ذكره على سبيل الإجمال بقوله وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ فبين أنه تعالى لو أعطاهم ما طلبوه من إنزال الملائكة وإحياء الموتى حتى كلموهم بل لو زاد في

ذلك ما لا يبلغه اقتراحهم بأن يحشر عليهم كل شيء قبلاً ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس المستهزئون بالقرآن كانوا خمسة الوليد بن المغيرة المخزومي والعاصي بن وائل السهمي والأسود بن عبد يغوث الزهري والأسود بن المطلب والحرث بن حنظلة ثم إنهم أتوا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في رهط من أهل مكة وقالوا له أرنا الملائكة يشهدوا بأنك رسول الله أو ابعث لنا بعض موتانا حتى نسألهم أحق ما تقوله أم باطل أو ائتنا بالله والملائكة قبيلاً أي كفيلاً على ما تدعيه فنزلت هذه الآية وقد ذكرنا مراراً أنهم لما اتفقوا على أن هذه السورة نزلت دفعة واحدة كان القول بأن هذه الآية نزلت في الواقعة الفلانية مشكلاً صعباً فأما على الوجه الذي قررناه وهو أن المقصود منه جواب ما ذكره بعضهم وهو أنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم لو جاءتهم آية لآمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام فذكر الله تعالى هذا الكلام بياناً لكذبهم وأنه لا فائدة في إنزال الآيات بعد الآيات وإظهار المعجزات بعد المعجزات بل المعجزة الواحدة لا بد منها ليتميز الصادق عن الكاذب فأما الزيادة عليها فتحكم محض ولا حاجة إليه وإلا فلهم أن يطلبوا بعد ظهور المعجزة الثانية ثالثة وبعد الثالثة رابعة ويلزم أن لا تستقر الحجة وأن لا ينتهي الأمر إلى مقطع ومفصل وذلك يوجب سد باب النبوات
المسألة الثانية قرأ نافع وابن عامر قُبُلاً ههنا وفي الكهف بكسر القاف وفتح الباء وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بالضم فيهما في السورتين وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ههنا وفي الكهف بالكسر قال الواحدي قال أبو زيد يقال لقيت فلاناً قبلاً ومقابلة وقبلاً وقبلاً وقبيلاً كله واحد وهو المواجهة قال الواحدي فعلى قول أبي زيد المعنى في القراءتين واحد وإن اختلف اللفظان ومن الناس من أثبت بين اللفظين تفاوتاً في المعنى فقال أما من قرأ قُبُلاً بكسر القاف وفتح الباء فقال أبو عبيدة والفراء والزجاج معناه عيانا يقال لقيته قبلاً أي معاينة وروي عن أبي ذر قال قلت للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) أكان آدم نبياً قال ( نعم كان نبياً كلمه الله تعالى قبلاً ) وأما من قرأ قُبُلاً فله ثلاثة أوجه أحدها أن يكون جمع قبيل الذي يراد به الكفيل يقال قبلت بالرجل أقبل قبالة أي كلفت به ويكون المعنى لو حشر عليهم كل شيء وكفلوا بصحة ما يقول لما آمنوا وموضع الإعجاز فيه أن الأشياء المحشورة منها ما ينطق ومنها ما لا ينطق فإذا أنطق الله الكل وأطبقوا على قبول هذه الكفالة كان ذلك من أعظم المعجزات وثانيها أن يكون قُبُلاً جمع قبيل بمعنى الصنف والمعنى وحشرنا عليهم كل شيء قبيلاً قبيلاً وموضع الإعجاز فيه هو حشرها بعد موتها ثم إنها على اختلاف طبائعها تكون مجتمعة في موقف واحد وثالثها أن يكون قُبُلاً بمعنى قبلا أي مواجهة ومعاينة كما فسره أبو زيد
أما قوله تعالى مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ ففيه مسألتان
المسألة الأولى المراد من الآية أنه تعالى لو أظهر جميع تلك الأشياء العجيبة الغريبة لهؤلاء الكفار فإنهم لا يؤمنون إلا أن يشاء الله إيمانهم قال أصحابنا فلما لم يؤمنوا دل ذلك الدليل على أنه تعالى ما شاء منهم الإيمان وهذا نص في المسألة قالت المعتزلة دل الدليل على أنه تعالى أراد الإيمان من جميع الكفار والجبائي ذكر الوجوه المشهورة التي لهم في هذه المسألة أولها أنه تعالى لو لم يرد منهم الإيمان لما وجب عليهم الإيمان كما لو لم يأمرهم لم يجب عليهم وثانيها لو أراد الكفر من الكافر لكان الكافر

مطيعاً لله بفعل الكفر لأنه لا معنى للطاعة إلا بفعل المراد وثالثها لو جاز من الله أن يريد الكفر لجاز أن يأمر به ورابعها لو جاز أن يريد منهم الكفر لجاز أنه يأمرنا بأن نريد منهم الكفر قالوا فثبت بهذه الدلائل أنه تعالى ما شاء إلا الإيمان منهم وظاهره هذه الآية يقتضي أنه تعالى ما شاء الإيمان منهم والتناقض بين الدلائل ممتنع فوجب التوفيق وطريقه أن نقول إنه تعالى شاء من الكل الإيمان الذي يفعلونه على سبيل الاختيار وأنه تعالى ما شاء منهم الإيمان الحاصل على سبيل الإلجاء والقهر وبهذا الطريق زال الإشكال
واعلم أن هذا الكلام أيضاً ضعيف من وجوه الأول أن الإيمان الذي سموه بالإيمان الاختياري إن عنوا به أن قدرته صالحة للإيمان والكفر على السوية ثم إنه يصدر عنها الإيمان دون الكفر لا لداعية مرجحة ولا لإرادة مميزة فهذا قول برجحان أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح وهو محال وأيضاً فبتقدير أن يكون ذلك معقولاً في الجملة إلا أن حصول ذلك الإيمان لا يكون منه بل يكون حادثاً لا لسبب ولا مؤثر أصلاً لأن الحاصل هناك ليس إلا القدرة وهي بالنسبة إلى الضدين على السوية ولم يصدر من هذا القدر تخصيص لأحد الطرفين على الآخر بالوقوع والرجحان ثم إن أحد الطرفين قد حصل بنفسه فهذا لا يكون صادراً منه بل يكون صادراً لا عن سبب البتة وذلك يبطل القول بالفعل والفاعل والتأثير والمؤثر أصلاً ولا يقوله عاقل وإما أن يكون هذا الذي سموه بالإيمان الاختياري هو أن قدرته وإن كانت صالحة للضدين إلا أنها لا تصير مصدراً للإيمان إلا إذا انضم إلى تلك القدرة حصول داعية الإيمان كان هذا قولاً بأن مصدر الإيمان هو مجموع القدرة مع الداعي وذلك المجموع موجب للإيمان فذلك هو عين ما يسمونه بالجبر وأنتم تنكرونه فثبت أن هذا الذي سموه بالإيمان الاختياري لم يحصل منه معنى معقول مفهوم وقد عرفت أن هذا الكلام في غاية القوة
والوجه الثاني سلمنا أن الإيمان الاختياري مميز عن الإيمان الحاصل بتكوين الله تعالى إلا أنا نقول قوله تعالى وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَئِكَة َ وكذا وكذا ما كانوا ليؤمنوا معناه ما كانوا ليؤمنوا إيماناً اختيارياً بدليل أن عند ظهور هذه الأشياء لا يبعد أن يؤمنوا إيماناً على سبيل الإلجاء والقهر فثبت أن قوله مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ المراد ما كانوا ليؤمنوا على سبيل الاختيار ثم استثنى عنه فقال إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ والمستثنى يجب أن يكون من جنس المستثنى عنه والإيمان الحاصل بالإلجاء والقهر ليس من جنس الإيمان الاختياري فثبت أنه لا يجوز أن يقال المراد بقولنا إلا أن يشاء الله الإيمان الاضطراري بل يجب أن يكون المراد منه الإيمان الاختياري وحينئذ يتوجه دليل أصحابنا ويسقط عنه سؤال المعتزلة بالكلية
المسألة الثانية قال الجبائي قوله تعالى إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ يدل على حدوث مشيئة الله تعالى لأنها لو كانت قديمة لم يجز أن يقال ذلك كما لا يقال لا يذهب زيد إلى البصرة إلا أن يوحد الله تعالى وتقريره أنا إذا قلنا لا يكون كذلك إلا أن يشاء الله فهذا يقتضي تعليق حدوث هذا الجزاء على حصول المشيئة فلو كانت المشيئة قديمة لكان الشرط قديماً ويلزم من حصول الشرط حصول المشروط فيلزم كون الجزاء قديماً والحس دل على أنه محدث فوجب كون الشرط حادثاً وإذا كان الشرط هو المشيئة لزم القول بكون المشيئة حادثة هذا تقرير هذا الكلام
والجواب أن المشيئة وإن كانت قديمة إلا أن تعلقها بإحداث ذلك المحدث في الحال إضافة حادثة

وهذا القدر يكفي لصحة هذ الكلام ثم أنه تعالى ختم هذه الآية بقوله وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ قال أصحابنا المراد يجهلون بأن الكل من الله وبقضائه وقدره وقال المعتزلة المراد أنهم جهلوا أنهم يبقون كفاراً عند ظهور الآيات التي طلبوها والمعجزات التي اقترحوها وكان أكثرهم يظنون ذلك
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِى ٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قوله وَكَذالِكَ منسوق على شيء وفي تعيين ذلك الشيء قولان الأول أنه منسوق على قوله وَكَذالِكَ زَيَّنَّا لِكُلّ أُمَّة ٍ عَمَلَهُمْ أي كما فعلنا ذلك كَذالِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِى ّ عَدُوّاً الثاني معناه جعلنا لك عدواً كما جعلنا لمن قبلك من الأنبياء فيكون قوله كَذالِكَ عطفاً على معنى ما تقدم من الكلام لأن ما تقدم يدل على أنه تعالى جعل له أعداء
المسألة الثانية ظاهر قوله تعالى وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِى ّ عَدُوّاً أنه تعالى هو الذي جعل أولئك الأعداء أعداء للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولا شك أن تلك العداوة معصية وكفر فهذا يقتضي أن خالق الخير والشر والطاعة والمعصية والإيمان والكفر هو الله تعالى أجاب الجبائي عنه بأن المراد بهذا الجعل الحكم والبيان فإن الرجل إذا حكم بكفر إنسان قيل أنه كفره وإذا أخبر عن عدالته قيل أنه عدله فكذا ههنا أنه تعالى لما بين للرسول عليه الصلاة والسلام كونهم أعداء له لا جرم قال إنه جعلهم أعداء له وأجاب أبو بكر الأصم عنه بأنه تعالى لما أرسل محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) إلى العالمين وخصه بتلك المعجزة حسدوه وصار ذلك الحسد سبباً للعداوة القوية فلهذا التأويل قال إنه تعالى جعلهم أعداء له ونظيره قول المتنبي فأنت الذي صيرتهم لي حسداً
وأجاب الكعبي عنه بأنه تعالى أمر الأنبياء بعدواتهم وأعلمهم كونهم أعداء لهم وذلك يقتضي صيرورتهم أعداء للأنبياء لأن العداوة لا تحصل إلا من الجانبين فلهذا الوجه جاز أن يقال إنه تعالى جهلهم أعداء للأنبياء عليهم السلام واعلم أن هذه الأجوبة ضعيفة جداً لما بينا أن الأفعال مستندة إلى الدواعي وهي حادثة من قبل الله تعالى ومتى كان الأمر كذلك فقد صح مذهبنا ثم ههنا بحث آخر وهو أن العداوة والصداقة يمتنع أن تحصل باختيار الإنسان فإن الرجل قد يبلغ

في عداوة غيره إلى حيث لا يقدر البتة على إزالة تلك الحالة عن قلبه بل قد لا يقدر على إخفاء آثار تلك العداوة ولو أتى بكل تكلف وحيلة لعجز عنه ولو كان حصول العداوة والصداقة في القلب باختيار الإنسان لوجب أن يكون الإنسان متمكناً من قلب العداوة بالصداقة وبالضد وكيف لا نقول ذلك والشعراء عرفوا أن ذلك خارج عن الوسع قال المتنبي يراد من القلب نسيانكم
وتأبى الطباع على الناقل
والعاشق الذي يشتد عشقه قد يحتال بجميع الحيل في إزالة عشقه ولا يقدر عليه ولو كان حصول ذلك الحب والبغض باختياره لما عجز عن إزالته
المسألة الثالثة النصب في قوله شَيَاطِينَ فيه وجهان الأول أنه منصوب على البدل من قوله عَدُوّا والثاني أن يكون قوله عَدُوّا منصوباً على أنه مفعول ثان والتقدير وكذلك جعلنا شياطين الإنس والجن أعداء الأنبياء
المسألة الرابعة اختلفوا في معنى شياطين الإنس والجن على قولين الأول أن المعنى مردة الإنس والجن والشيطان كل عات متمرد من الإنس والجن وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء ومجاهد والحسن وقتادة وهؤلاء قالوا إن من الجن شياطين ومن الإنس شياطين وإن الشيطان من الجن إذا أعياه المؤمن ذهب إلى متمرد من الإنس وهو شيطان الإنس فأغراه بالمؤمن ليفتنه والدليل عليه ما روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال لأبي ذر ( هل تعوذت بالله من شر شياطين الجن والإنس ) قال قلت وهل للإنس من شياطين قال ( نعم هم شر من شياطين الجن )
والقول الثاني أن الجميع من ولد إبليس إلا أنه جعل ولده قسمين فأرسل أحد القسمين إلى وسوسة الإنس والقسم الثاني إلى وسوسة الجن فالفريقان شياطين الإنس والجن ومن الناس من قال القول الأول أولى لأن المقصود من الآية الشكاية من سفاهة الكفار الذين هم الأعداء وهم الشياطين ومنهم من يقول القول الثاني أولى لأن لفظ الآية يقتضي إضافة الشياطين إلى الإنس والجن والإضافة تقتضي المغايرة وعلى هذا التقدير فالشياطين نوع مغاير للجن وهم أولاد إبليس
المسألة الخامسة قال الزجاج وابن الأنباري قوله عَدُوّا بمعنى أعداء وأنشد ابن الأنباري إذا أنا لم أنفع صديقي بوده
فإن عدوي لن يضرهمو بغضي
أراد أعدائي فأدى الواحد عن الجمع وله نظائر في القرآن ومنها قوله ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ ( الذاريات 24 ) جعل المكرمين وهو جمع نعتاً للضيف وهو واحد وثانيها قوله وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ ( ق 10 ) وثالثها قوله أَوِ الطّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْراتِ النّسَاء ( النور 31 ) ورابعها قوله إِنَّ الإنسَانَ لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( العصر 2 ) وخامسها قوله كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لّبَنِى إِسْراءيلَ ( آل عمران 93 ) أكد المفرد بما يؤكد الجمع به ولقائل أن يقول لا حاجة إلى هذا التكلف فإن التقدير وكذلك جعلنا لكل واحد من الأنبياء عدواً واحداً إذ لا يجب لكل واحد من الأنبياء أكثر من عدو واحد

أما قوله تعالى يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً فالمراد أن أولئك الشياطين يوسوس بعضهم بعضاً
واعلم أنه لا يجب أن تكون كل معصية تصدر عن إنسان فإنها تكون بسبب وسوسة شيطان وإلا لزم دخول التسلسل أو الدور في هؤلاء الشياطين فوجب الاعتراف بانتهاء هذه القبائح والمعاصي إلى قبيح أول ومعصية سابقة حصلت لا بوسوسة شيطان آخر
إذا ثبت هذا الأصل فنقول إن أولئك الشياطين كما أنهم يلقون الوساوس إلى الإنس والجن فقد يوسوس بعضهم بعضاً وللناس فيه مذاهب منهم من قال الأرواح إما فلكية وإما أرضية والأرواح الأرضية منها طيبة طاهرة خيرة آمرة بالطاعة والأفعال الحسنة وهم الملائكة الأرضية ومنها خبيثة قذرة شريرة آمرة بالقبائح والمعاصي وهم الشياطين ثم إن تلك الأرواح الطيبة كما أنها تأمر الناس بالطاعات والخيرات فكذلك قد يأمر بعضهم بعضاً بالطاعات والأرواح الخبيثة كما أنها تأمر الناس بالقبائح والمنكرات فكذلك قد يأمر بعضهم بعضاً بتلك القبائح والزيادة فيها وما لم يحصل نوع من أنواع المناسبة بين النفوس البشرية وبين تلك الأرواح لم يحصل ذلك الانضمام فالنفوس البشرية إذا كانت طاهرة نقية عن الصفات الذميمة كانت من جنس الأرواح الطاهرة فتنضم إليها وإذا كانت خبيثة موصوفة بالصفات الذميمة كانت من جنس الأرواح الخبيثة فتنضم إليها ثم إن صفات الطهارة كثيرة وصفات الخبث والنقصان كثيرة وبحسب كل نوع منها طوائف من البشر وطوائف من الأرواح الأرضية بحسب تلك المجانسة والمشابهة والمشاكلة ينضم الجنس إلى جنسه فإن كان ذلك في أفعال الخير كان الحامل عليها ملكاً وكان تقوية ذلك الخاطر إلهاماً وإن كان في باب الشر كان الحامل عليها شيطاناً وكان تقوية ذلك الخاطر وسوسة
إذا عرفت هذا الأصل فنقول إنه تعالى عبر عن هذه الحالة المذكورة بقوله يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً فيجب علينا تفسير ألفاظ ثلاثة الأول الوحي وهو عبارة عن الإيماء والقول السريع والثاني الزخرف وهو الذي يكون باطنه باطلاً وظاهره مزيناً ظاهراً يقال فلان يزخرف كلامه إذا زينه بالباطل والكذب وكل شيء حسن مموه فهو مزخرف
واعلم أن تحقيق الكلام فيه إن الإنسان ما لم يعتقد في أمر من الأمور كونه مشتملاً على خير راجح ونفع زائد فإنه لا يرغب فيه ولذلك سمي الفاعل المختار مختاراً لكونه طالباً للخير والنفع ثم إن كان هذا الاعتقاد مطابقاً للمعتقد فهو الحق والصدق والإلهام وإن كان صادراً من الملك وإن لم يكن معتقداً مطابقاً للمعتقد فحينئذ يكون ظاهره مزيناً لأنه في اعتقاده سبب للنفع الزائد والصلاح الراجح ويكون باطنه فاسداً باطلاً لأن هذا الاعتقاد غير مطابق للمعتقد فكان مزخرفاً فهذا تحقيق هذا الكلام والثالث قوله غُرُوراً قال الواحدي غُرُوراً منصوب على المصدر وهذا المصدر محمول على المعنى لأن معنى إيحاء الزخرف من القول معنى الغرور فكأنه قال يغرون غروراً وتحقيق القول فيه أن المغرور هو الذي يعتقد في الشيء كونه مطابقاً للمنفعة والمصلحة مع أنه في نفسه ليس كذلك فالغرور إما أن يكون عبارة عن عين هذا الجهل أو عن حالة متولدة عن هذا الجهل فظهر بما ذكرنا أن تأثير هذه الأرواح الخبيثة بعضها في

بعض لا يمكن أن يعبر عنه بعبارة أكمل ولا أقوى دلالة على تمام المقصود من قوله يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً
ثم قال تعالى وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ وأصحابنا يحتجون به على أن الكفر والإيمان بإرادة الله تعالى والمعتزلة يحملونه على مشيئة الإلجاء وقد سبق تقرير هذه المسألة على الاستقصاء فلا فائدة في الإعادة
ثم قال تعالى فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ قال ابن عباس معناه يريد ما زين لهم إبليس وغرهم به قال القاضي هذا القول يتضمن التحذير الشديد من الكفر والترغيب الكامل في الإيمان ويقتضي زوال الغم عن قلب الرسول من حيث يتصور ما أعد الله للقوم على كفرهم من أنواع العذاب وما أعد له من منازل الثواب بسبب صبره على سفاهتهم ولطفه بهم
وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَة ُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاٌّ خِرَة ِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن الصغو في اللغة معناه الميل يقال في المستمع إذا مال بحاسته إلى ناحية الصوت أنه يصغي ويقال أصغى الإناء إذا أماله حتى انصب بعضه في البعض ويقال للقمر إذا مال إلى الغروب صغا وأصغى فقوله وَلِتَصْغَى أي ولتميل
المسألة الثانية ( اللام ) وَلِتَصْغَى لا بد له من متعلق فقال أصحابنا التقدير وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من شياطين الجن والإنس ومن صفته أنه يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً وإنما فعلنا ذلك لتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون أي وإنما أوجدنا العداوة في قلب الشياطين الذين من صفتهم ما ذكرناه ليكون كلامهم المزخرف مقبولاً عند هؤلاء الكفار قالوا وإذا حملنا الآية على هذا الوجه يظهر أنه تعالى يريد الكفر من الكافر أما المعتزلة فقد أجابوا عنه من ثلاثة أوجه
الوجه الأول وهو الذي ذكره الجبائي قال إن هذا الكلام خرج مخرج الأمر ومعناه الزجر كقوله تعالى وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ وكذلك قوله وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ ( الأنعام 113 ) وتقدير الكلام كأنه قال للرسول فذرهم وما يفترون ثم قال لهم على سبيل التهديد ولتصغى إليه أفئدتهم وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون
والوجه الثاني وهو الذي اختاره الكعبي أن هذه اللام لام العاقبة أي ستؤل عاقبة أمرهم إلى هذه الأحوال قال القاضي ويبعد أن يقال هذه العاقبة تحصل في الآخرة لأن الإلجاء حاصل في الآخرة فلا يجوز أن تميل قلوب الكفار إلى قبول المذهب الباطل ولا أن يرضوه ولا أن يقترفوا الذنب بل يجب أن تحمل على أن عاقبة أمرهم تؤل إلى أن يقبلوا الأباطيل ويرضوا بها ويعملوا بها

والوجه الثالث وهو الذي اختاره أبو مسلم قال ( اللام ) في قوله وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَة ُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَة ِ متعلق بقوله يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً والتقدير أن بعضهم يوحي إلى بعض زخرف القول ليغروا بذلك وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَة ُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَة ِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ الذنوب ويكون المراد أن مقصود الشياطين من ذلك الإيحاء هو مجموع هذه المعاني فهذا جملة ما ذكروه في هذا الباب
أما الوجه الأول وهو الذي عول عليه الحبائي فضعيف من وجوه ذكرها القاضي فأحدها أن ( الواو ) في قوله وَلِتَصْغَى تقتضي تعلقه بما قبله فحمله على الابتداء بعيد وثانيها أن ( اللام ) في قوله وَلِتَصْغَى لام كي فيبعد أن يقال إنها لام الأمر ويقرب ذلك من أن يكون تحريفاً لكلام الله تعالى وأن لا يجوز
وأما الوجه الثاني وهو أن يقال هذه اللام لام العاقبة فهو ضعيف لأنهم أجمعوا على أن هذا مجاز وحمله على ( كي ) حقيقة فكان قولنا أولى
وأما الوجه الثالث وهو الذي ذكره أبو مسلم فهو أحسن الوجوه المذكورة في هذا الباب لأنا نقول إن قوله يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً يقتضي أن يكون الغرض من ذلك الإيحاء هو التغرير وإذا عطفنا عليه قوله وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَة ُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فهذا أيضاً عين التغرير لا معنى التغرير إلا أنه يستميله إلى ما يكون باطنه قبيحاً وظاهره حسناً وقوله وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَة ُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ عين هذه الاستمالة فلو عطفنا لزم أن يكون المعطوف عين المعطوف عليه وأنه لا يجوز أما إذا قلنا تقدير الكلام وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من شأنه أن يوحي زخرف القول لأجل التغرير وإنما جعلنا مثل هذا الشخص عدواً للنبي لتصغى إليه أفئدة الكفار فيبعدوا بذلك السبب عن قبول دعوة ذلك النبي وحينئذ لا يلزم على هذا التقدير عطف الشيء على نفسه فثبت أن ما ذكرناه أولى
المسألة الثالثة زعم أصحابنا أن البنية ليست مشروطاً للحياة فالحي هو الجزء الذي قامت به الحياة والعالم هو الجزء الذي قام به العلم وقالت المعتزلة الحي والعالم هو الجملة ( لا ) ذلك الجزء
إذا عرفت هذا فنقول احتج أصحابنا بهذه الآية على صحة قولهم لأنه قال تعالى وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَة ُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فجعل الموصوف بالميل والرغبة هو القلب لا جملة الحي وذلك يدل على قولنا
المسألة الرابعة الذين قالوا الإنسان شيء مغاير للبدن اختلفوا منهم من قال المتعلق الأول هو القلب وبواسطته تتعلق النفس بسائر الأعضاء كالدماغ والكبد ومنهم من قال القلب متعلق النفس الحيوانية والدماغ متعلق النفس الناطقة والكبد متعلق النفس الطبيعية والأولون تعلقوا بهذه الآية فإنه تعالى جعل محل الصغو الذي هو عبارة عن الميل والإرادة القلب وذلك يدل على أن المتعلق بالنفس القلب
المسألة الخامسة الكناية في قوله وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَة ُ عائدة إلى زخرف القول وكذلك في قوله وَلِيَرْضَوْهُ
وأما قوله وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ فاعلم أن الاقتراف هو الاكتساب يقال في المثل الاعتراف

يزيل الاقتراف كما يقال التوبة تمحو الحوبة وقال الزجاج ليقترفوا أي ليختلفوا وليكذبوا والأول أصح
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِى حَكَماً وَهُوَ الَّذِى أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ
فيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما حكى عن الكفار أنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها أجاب عنه بأنه لا فائدة في إظهار تلك الآيات لأنه تعالى لو أظهرها لبقوا مصرين على كفرهم ثم إنه تعالى بين في هذه الآية أن الدليل الدال على نبوته قد حصل وكمل فكان ما يطلبونه طلباً للزيادة وذلك مما لا يجب الالتفات إليه وإنما قلنا إن الدليل الدال على نبوته قد حصل لوجهين
الوجه الأول أن الله قد حكم بنبوته من حيث إنه أنزل إليه الكتاب المفصل المبين المشتمل على العلوم الكثيرة والفصاحة الكاملة وقد عجز الخلق عن معارضته فظهور مثل هذا المعجز عليه يدل عى أنه تعالى قد حكم بنبوته فقوله مُّقْتَرِفُونَ أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِى حَكَماً يعني قل يا محمد إنكم تتحكمون في طلب سائر المعجزات فهل يجوز في العقل أن يطلب غير الله حكماً فإن كل أحد يقول إن ذلك غير جائز ثم قل إنه تعالى حكم بصحة نبوتي حيث خصني بمثل هذا الكتاب المفصل الكامل البالغ إلى حد الإعجاز
والوجه الثاني من الأمور الدالة على نبوته اشتمال التوراة والإنجيل على الآيات الدالة على أن محمداً عليه الصلاة والسلام رسول حق وعلى أن القرآن كتاب حق من عند الله تعالى وهو المراد من قوله وَالَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مّن رَّبّكَ بِالْحَقّ ( الأنعام 114 ) وبالجملة فالوجهان مذكوران في قوله تعالى قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ( الرعد 43 )
أما قوله تعالى في آخر الآية فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ففيه وجوه الأول أن هذا من باب التهييج والإلهاب كقوله وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ والثاني التقدير فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ في أن أهل الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق والثالث يجوز أن يكون قوله فَلاَ تَكُونَنَّ خطاباً لكل واحد والمعنى أنه لما ظهرت الدلائل فلا ينبغي أن يمتري فيها أحد الرابع قيل هذا الخطاب وإن كان في الظاهر للرسول إلا أن المراد منه أمته
المسألة الثانية قوله وَالَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مّن رَّبّكَ بِالْحَقّ قرأ ابن عامر وحفص مُنَزَّلٌ بالتشديد والباقون بالتخفيف والفرق بين التنزيل والإنزال قد ذكرناه مراراً

المسألة الثالثة قال الواحدي أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِى حَكَماً الحكم والحاكم واحد عند أهل اللغة غير أن بعض أهل التأويل قال الحكم أكمل من الحاكم لأن الحاكم كل من يحكم وأما الحكم فهو الذي لا يحكم إلا بالحق والمعنى أنه تعالى حكم حق لا يحكم إلا بالحق فلما أظهر المعجز الواحد وهو القرآن فقد حكم بصحة هذه النبوة ولا مرتبة فوق حكمه فوجب القطع بصحة هذه النبوة فأما أنه هل يظهر سائر المعجزات أم لا فلا تأثير له في هذا الباب بعد أن ثبت أنه تعالى حكم بصحة هذه النبوة بواسطة إظهار المعجز الواحد
وَتَمَّتْ كَلِمَة ُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ عاصم وحمزة والكسائي وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ بغير ألف على الواحد والباقون كَلِمَاتُ على الجمع قال أهل المعاني الكلمة والكمات معناهما ما جاء من وعد ووعيد وثواب وعقاب فلا تبديل فيه ولا تغيير له كما قال مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَى َّ ( ق 29 ) فمن قرأ كَلِمَاتُ بالجمع قال لأن معناها الجمع فوجب أن يجمع في اللفظ ومن قرأ على الوحدة فلأنهم قالوا الكلمة قد يراد بها الكلمات الكثيرة إذا كانت مضبوطة بضابط واحد كقولهم قال زهير في كلمته يعني قصيدته وقال قس في كلمته أي خطبته فكذلك مجموع القرآن كلمة واحدة في كونه حقاً وصدقاً ومعجزاً
المسألة الثانية أن تعلق هذه الآية بما قبلها أنه تعالى بين في الآية السابقة أن القرآن معجز فذكر في هذه الآية أنه تمت كلمة ربك والمراد بالكلمة القرآن أي تم القرآن في كونه معجزاً دالاً على صدق محمد عليه السلام وقوله صِدْقاً وَعَدْلاً أي تمت تماماً صدقاً وعدلاً وقال أبو علي الفارسي صِدْقاً وَعَدْلاً مصدران ينصبان على الحال من الكلمة تقديره صادقة عادلة فهذا وجه تعلق هذه الآية بما قبلها
المسألة الثالثة اعلم أن هذه الآية تدل على أن كلمة ا لله تعالى موصوفة بصفات كثيرة
فالصفة الأولى كونها تامة وإليه الإشارة بقوله وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ وفي تفسير هذا التمام وجوه الأول ما ذكرنا أنها كافية وافية بكونها معجزة دالة على صدق محمد عليه الصلاة والسلام والثاني أنها كافية في بيان ما يحتاج المكلفون إليه إلى قيام القيامة عملاً وعلماً والثالث أن حكم الله تعالى هو الذي حصل في الأزل ولا يحدث بعد ذلك شيء فذلك الذي حصل في الأزل هو التمام والزيادة عليه ممتنعة وهذا الوجه هو المراد من قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة )
الصفة الثانية من صفات كلمة الله كونها صدقاً والدليل عليه أن الكذب نقص والنقص على الله محال ولا يجوز إثبات أن الكذب على الله محال بالدلائل السمعية لأن صحة الدلائل السمعية موقوفة على أن الكذب على الله محال فلو أثبتنا امتناع الكذب على الله بالدلائل السمعية لزم الدور وهو باطل واعلم

أن هذا الكلام كما يدل على أن الخلف في وعد الله تعالى محال فهو أيضاً يدل على أن الخلف في وعيده محال بخلاف ما قاله الواحدي في تفسير قوله تعالى وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا إن الخلق في وعيد الله جائز وذلك لأن وعد الله ووعيده كلمة الله فلما دلت هذه الآية على أن كلمة الله يجب كونها موصوفة بالصدق على أن الخلف كما أنه ممتنع في الوعد فكذلك ممتنع في الوعيد
الصفة الثالثة من صفات كلمات الله كونها عدلاً وفيه وجهان الأول أن كل ما حصل في القرآن نوعان الخبر والتكليف أما الخبر فالمراد كل ما أخبر الله عن وجوده أو عن عدمه ويدخل فيه الخبر عن وجود ذات الله تعالى وعن حصول صفاته أعني كونه تعالى عالماً قادراً سميعاً بصيراً ويدخل فيه الأخبار عن صفات التقديس والتنزيه كقوله لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ( الإخلاص 3 ) وكقوله لاَ تَأْخُذْ سِنَة ٌ وَلاَ نَوْمٌ ( البقرة 255 ) ويدخل فيه الخبر عن أقسام أفعال الله وكيفية تدبيره لملكوت السموات والأرض وعالمي الأرواح والأجسام ويدخل فيه كل أمر عن أحكام الله تعالى في الوعد والوعيد والثواب والعقاب ويدخل فيه الخبر عن أحوال المتقدمين والخبر عن الغيوب المستقبلة فكل هذه الأقسام داخلة تحت الخبر وأما التكليف فيدخل فيه كل أمر ونهي توجه منه سبحانه على عبده سواء كان ذلك العبد ملكاً أو بشر أو جنياً أو شيطاناً وسواء كان ذلك في شرعنا أو في شرائع الأنبياء عليهم السلام المتقدمين أو في شرائع الملائكة المقربين الذين هم سكان السموات والجنة والنار والعرش وما وراءه مما لا يعلم أحوالهم إلا الله تعالى
وإذا عرفت انحصار مباحث القرآن في هذين القسمين فنقول قال تعالى وَتَمَّتْ كَلِمَة ُ رَبّكَ صِدْقاً إن كان من باب الخبر وَعَدْلاً إن كان من باب التكاليف وهذا ضبط في غاية الحسن
والقول الثاني في تفسير قوله وَعَدْلاً أن كل ما أخبر الله تعالى عنه من وعد ووعيد وثواب وعقاب فهو صدق لأنه لا بد وأن يكون واقعاً وهو بعد وقوعه عدل لأن أفعاله منزهة عن أن تكون موصوفة بصفة الظلمية
الصفة الرابعة من صفات كلمة الله قوله لاَ مُبَدّلَ لِكَلِمَاتِهِ وفيه وجوه الأول أنا بينا أن المراد من قوله وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ أنها تامة في كونها معجزة دالة على صدق محمد ( صلى الله عليه وسلم )
ثم قال لاَ مُبَدّلَ لِكَلِمَاتِهِ والمعنى أن هؤلاء الكفار يلقون الشبهات في كونها دالة على صدق محمد عليه الصلاة والسلام إلا أن تلك الشبهات لا تأثير لها في هذه الدلائل التي لا تقبل التبديل البتة لأن تلك الدلالة ظاهرة باقية جلية قوية لا تزول بسبب ترهات الكفار وشبهات أولئك الجهال
والوجه الثاني أن يكون المراد أنها تبقى مصونة عن التحريف والتغيير كما قال تعالى إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ( الحجر 9 )
والوجه الثالث أن يكون المراد أنها مصونة عن التناقض كما قال وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً ( النساء 82 )
والوجه الرابع أن يكون المراد أن أحكام الله تعالى لا تقبل التبديل والزوال لأنها أزلية والأزلي لا يزول
واعلم أن هذا الوجه أحد الأصول القوية في إثبات الجبر لأنه تعالى لما حكم على زيد بالسعادة وعلى

عمرو بالشقاوة ثم قال لاَ مُبَدّلَ لِكَلِمَاتِهِ اللَّهِ يلزم امتناع أن ينقلب السعيد شقياً وأن ينقلب الشقي سعيداً فالسعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه
وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى الأرض يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ
اعلم أنه تعالى لما أجاب عن شبهات الكفار ثم بين بالدليل صحة نبوة محمد عليه الصلاة والسلام بين أن بعد زوال الشبهة وظهور الحجة لا ينبغي أن يلتفت العاقل إلى كلمات الجهال ولا ينبغي أن يتشوش بسبب كلماتهم الفاسدة فقال وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى الاْرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وهذا يدل على أن أكثر أهل الأرض كانوا ضلالاً لأن الإضلال لا بد وأن يكون مسبوقاً بالضلال واعلم أن حصول هذا الضلال والإضلال لا يخرج عن أحد أمور ثلاثة أولها المباحث المتعلقة بالإلهيات فإن الحق فيها واحد وأما الباطل ففيه كثرة ومنها القول بالشرك أما كما تقوله الزنادقة وهو الذى أخبر الله عنه في قوله وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وإما كما يقوله عبدة الكواكب وإما كما يقوله عبدة الأصنام وثانيها المباحث المتعلقة بالنبوات إما كما يقوله من ينكر النبوة مطلقاً أو كما يقوله من ينكر النشر أو كما يقوله من ينكر نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ويدخل في هذا الباب المباحث المتعلقة بالمعاد وثالثها المباحث المتعلقة بالأحكام وهي كثيرة فإن الكفار كانوا يحرمون البحائر والسوائب والوصائل ويحللون الميتة فقال تعالى وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى الاْرْضِ فيما يعتقدونه من الحكم على الباطل بأنه حق وعلى الحق بأنه باطل يضلوك عن سبيل الله أي عن الطريق والمنهج الصدق
ثم قال إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى المراد أن هؤلاء الكفار الذين ينازعونك في دينك ومذهبك غير قاطعين بصحة مذاهبهم بل لا يتبعون إلا الظن وهم خراصون كذابون في ادعاء القطع وكثير من المفسرين يقولون المراد من ذلك الظن رجوعهم في إثبات مذاهبهم إلى تقليد أسلافهم لا إلى تعليل أصلاً
المسألة الثانية تمسك نفاة القياس بهذه الآية فقالوا رأينا أن الله تعالى بالغ في ذم الكفار في كثير من آيات القرآن بسبب كونهم متبعين للظن والشيء الذي يجعله الله تعالى موجباً لذم الكفار لا بد وأن يكون في أقصى مراتب الذم والعمل بالقياس يوجب اتباع الظن فوجب كونه مذموماً محرماً لا يقال لما ورد الدليل القاطع بكونه حجة كان العمل به عملاً بدليل مقطوع لا بدليل مظنون لأنا نقول هذا مدفوع من وجوه الأول أن ذلك الدليل القاطع إما أن يكون عقلياً وإما أن يكون سمعياً والأول باطل لأن العقل لا مجال له

في أن العمل بالقياس جائز أو غير جائز لا سيما عند من ينكر تحسين العقل وتقبيحه والثاني أيضاً باطل لأن الدليل السمعي إنما يكون قاطعاً لو كان متواتراً وكانت ألفاظه غير محتملة لوجه آخر سوى هذا المعنى الواحد ولو حصل مثل هذا الدليل لعلم الناس بالضرورة كون القياس حجة ولارتفع الخلاف فيه بين الأمة فحيث لم يوجد ذلك علمنا أن الدليل القاطع على صحة القياس مفقود الثاني هب أنه وجد الدليل القاطع على أن القياس حجة إلا أن مع ذلك لا يتم العمل بالقياس إلا مع اتباع الظن وبيانه أن التمسك بالقياس مبني على مقامين الأول أن الحكم في محل الوفاق معلل بكذا والثاني أن ذلك المعنى حاصل في محل الخلاف فهذان المقامان إن كانا معلومين على سبيل القطع واليقين فهذا ما لا خلاف فيه بين العقلاء في صحته وإن كان مجموعهما أو كان أحدهما ظنياً فحينئذ لا يتم العمل بهذا القياس إلا بمتابعة الظن وحينئذ يندرج تحت النص الدال على أن متابعة الظنم مذمومة
والجواب لم لا يجوز أن يقال الظن عبارة عن الاعتقاد الراجح إذا لم يستند إلى أمارة وهو مثل اعتقاد الكفار أما إذا كان الاعتقاد الراجح مستنداً إلى أمارة فهذا الاعتقاد لا يسمى ظناً وبهذا الطريق سقط هذا الاستدلال
ثم قال تعالى إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى في تفسيره قولان الأول أن يكون المراد أنك بعد ما عرفت أن الحق ما هو وأن الباطل ما هو فلا تكن في قيدهم بل فوض أمرهم إلى خالقهم لأنه تعالى عالم بأن المهتدي من هو والضال من هو فيجازي كل واحد بما يليق بعمله والثاني أن يكون المراد أن هؤلاء الكفار وإن أظهروا من أنفسهم ادعاء الجزم واليقين فهم كاذبون والله تعالى عالم بأحوال قلوبهم وبواطنهم ومطلع على كونهم متحيرين في سبيل الضلال تائهين في أودية الجهل
المسألة الثانية قوله إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ فيه قولان الأول قال بعضهم أَعْلَمُ ههنا بمعنى يعلم والتقدير إن ربك يعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين
فإن قيل فهذا يوجب وقوع التفاوت في علم الله تعالى وهو محال
قلنا لا شك أن حصول التفاوت في علم الله تعالى محال إلا أن المقصود من هذا اللفظ أن العناية بإظهار هداية المهتدين فوق العناية بإظهار ضلال الضالين ونظيره قوله تعالى إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لاِنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فذكر الإحسان مرتين والإسارة مرة واحدة والثاني أن موضع مِنْ رفع بالابتداء ولفظها لفظ الاستفهام والمعنى إن ربك هو أعلم أي الناس يضل عن سبيله قَالَ وهذا مثل قوله تعالى لنعلم أي الحزبين أحصى وهذا قول المبرد والزجاج والكسائي والفراء
فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُم بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ
في الآية مباحث نذكرها في معرض السؤال والجواب

السؤال الأول ( الفاء ) في قوله فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ يقتضي تعلقاً بما تقدم فما ذلك الشيء
والجواب قوله فَكُلُواْ مسبب عن إنكار اتباع المضلين الذين يحللون الحرام ويحرمون الحلال وذلك أنهم كانوا يقولون للمسلمين إنكم تزعمون أنكم تعبدون الله فما قتله الله أحق أن تأكلوه مما قتلتموه أنتم فقال الله للمسلمين إن كنتم متحققين بالإيمان فكلوا مما ذكر اسم الله عليه وهو المذكى ببسم الله
السؤال الثاني القوم كانوا يبيحون أكل ما ذبح على اسم الله ولا ينازعون فيه وإنما النزاع في أنهم أيضاً كانوا يبيحون أكل الميتة والمسلمون كانوا يحرمونها وإذا كان كذلك كان ورود الأمر بإباحة ما ذكر اسم الله عليه عبثاً لأنه يقتضي إثبات الحكم في المتفق عليه وترك الحكم في المختلف فيه
والجواب فيه وجهان الأول لعل القوم كانوا يحرمون أكل المذكاة ويبيحون أكل الميتة فالله تعالى رد عليهم في الأمرين فحكم بحل المذكاة بقوله فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وبتحريم الميتة بقوله وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ الثاني أن نحمل قوله فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ على أن المراد اجعلوا أكلكم مقصوراً على ما ذكر اسم الله عليه فيكون المعنى على هذا الوجه تحريم أكل الميتة فقط
السؤال الثالث قوله فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ صيغة الأمر وهي للإباحة وهذه الإباحة حاصلة في حق المؤمن وغير المؤمن وكلمة ءانٍ في قوله إِن كُنتُم بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ تفيد الاشتراط
والجواب التقدير ليكن أكلكم مقصوراً على ما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين والمراد أنه لو حكم بإباحة أكل الميتة لقدح ذلك في كونه مؤمناً
وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَّبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وحفص عن عاصم وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ بالفتح في الحرفين وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو بالضم في الحرفين وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم فَصْلٌ بالفتح وَحَرَّمَ بالضم فمن قرأ بالفتح في الحرفين فقد احتج بوجهين الأول أنه تمسك في فتح قوله فَصْلٌ بقوله قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ وفي فتح قوله حَرَّمَ بقوله أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ
والوجه الثاني التمسك بقوله مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ فيجب أن يكون

الفعل مسنداً إلى الفاعل لتقدم ذكر اسم الله تعالى وأما الذين قرؤا بالضم في الحرفين فحجتهم قوله حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة ُ وَالْدَّمُ وقوله حُرُمَاتِ تفصيل لما أجمل في هذه الآية فلما وجب في التفصيل أن يقال حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة ُ بفعل ما لم يسم فاعله وجب في الإجمال كذلك وهو قوله مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ ولما ثبت وجوب حَرَّمَ بضم الحاء فكذلك يجب فَصْلٌ بضم الفاء لأن هذا المفصل هو ذلك المحرم المجمل بعينه وأيضاً فإنه تعالى قال وَهُوَ الَّذِى أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وقوله مُفَصَّلاً يدل على فصل وأما من قرأ فَصْلٌ بالفتح وحرم بالضم فحجته في قوله فَصْلٌ قوله قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ وفي قوله حَرَّمَ قوله حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة ُ
المسألة الثانية قوله وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ أكثر المفسرين قالوا المراد منه قوله تعالى في أول سورة المائدة حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة ُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وفيه إشكال وهو أن سورة الأنعام مكية وسورة المائدة مدنية وهي آخر ما أنزل الله بالمدينة وقوله وَقَدْ فَصَّلَ يقتضي أن يكون ذلك المفصل مقدماً على هذا المجمل والمدني متأخر عن المكي والمتأخر يمتنع كونه متقدماً بل الأولى أن يقال المراد قوله بعد هذه الآية قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوحِى َ إِلَيْكَ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يطعمه وهذه الآية وإن كانت مذكورة بعد هذه الآية بقليل إلا أن هذا القدر من التأخير لا يمنع أن يكون هو المراد والله أعلم وقوله إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ أي دعتكم الضرورة إلى أكله بسبب شدة المجاعة
ثم قال وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير وأبو عمرو لَّيُضِلُّونَ بفتح الياء وكذلك في يونس رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ وفي إبراهيم لِيُضِلُّواْ وفي الحج ثَانِى َ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ وفي لقمان لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ وفي الزمر أَندَاداً لّيُضِلَّ وقرأ عاصم وحمزة والكسائي جميع ذلك بضم الياء وقرأ نافع وابن عامر ههنا وفي يونس بفتح الياء وفي سائر المواضع بالضم فمن قرأ بالفتح أشار إلى كونه ضالاً ومن قرأ بالضم أشار إلى كونه مضلاً قال وهذا أقوى في الذم لأن كل مضل فإنه يجب كونه ضالاً وقد يكون ضالاً ولا يكون مضلاً فالمضل أكثر استحقاقاً للذم من الضال
المسألة الثانية المراد من قوله لَّيُضِلُّونَ قيل إنه عمرو بن لحي فمن دونه من المشركين لأنه أول من غير دين إسمعيل واتخذ البحائر والسوائب وأكل الميتة وقوله بِغَيْرِ عِلْمٍ يريد أن عمرو بن لحي أقدم على هذه المذاهب عن الجهالة الصرفة والضلالة المحضة وقال الزجاج المراد منه الذين يحللون الميتة ويناظرونكم في إحلالها ويحتجون عليها بقولهم لما حل ما تذبحونه أنتم فبأن يحل ما يذبحه الله أولى وكذلك كل ما يضلون فيه من عبادة الأوثان والطعن في نبوة محمد عليه الصلاة والسلام فإنما يتبعون فيه الهوى والشهوة ولا بصيرة عندهم ولا علم
المسألة الثالثة دلت هذه الآية على أن القول في الدين بمجرد التقليد حرام لأن القول بالتقليد قول بمحض الهوى والشهوة والآية دلت على أن ذلك حرام
ثم قال تعالى إِنَّ رَّبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ والمراد منه أنه هو العالم بما في قلوبهم وضمائرهم من

التعدي وطلب نصرة الباطل والسعي في إخفاء الحق وإذا كان عالماً بأحوالهم وكان قادراً على مجازاتهم فهو تعالى يجازيهم عليها والمقصود من هذه الكلمة التهديد والتخويف والله أعلم
وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين أنه فصل المحرمات أتبعه بما يوجب تركها بالكلية بقوله وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ والمراد من الإثم ما يوجب الإثم وذكروا في ظاهر الإثم وباطنه وجهين الأول أن ظَاهِرَ الإِثْمِ الإعلان بالزنا وَبَاطِنَهُ الاستسرار به قال الضحاك كان أهل الجاهلية يرون الزنا حلالاً ما كان سراً فحرم الله تعالى بهذه الآية السر منه والعلانية الثاني أن هذا النهي عام في جميع المحرمات وهو الأصح لأن تخصيص اللفظ العام بصورة معينة من غير دليل غير جائز ثم قيل المراد ما أعلنتم وما أسررتم وقيل ما عملتم وما نويتم وقال ابن الأنباري يريد وذروا الإثم من جميع جهاته كما تقول ما أخذت من هذا المال قليلاً ولا كثيراً تريد ما أخذت منه بوجه من الوجوه وقال آخرون معنى الآية النهي عن الإثم مع بيان أنه لا يخرج من كونه إثماً بسبب إخفائه وكتمانه ويمكن أن يقال المراد من قوله وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ النهي عن الإقدام على الإثم ثم قال وَبَاطِنَهُ ليظهر بذلك أن الداعي له إلى ترك ذلك الإثم خوف الله لا خوف الناس وقال آخرون ظَاهِرَ الإِثْمِ أفعال الجوارح وَبَاطِنَهُ أفعال القلوب من الكبر والحسد والعجب وإرادة السوء للمسلمين ويدخل فيه الاعتقاد والعزم والنظر والظن والتمني واللوم على الخيرات وبهذا يظهر فساد قول من يقول إن ما يوجد في القلب لا يؤاخذ به إذا لم يقترن به عمل فإنه تعالى نهى عن كل هذه الأقسام بهذه الآية
ثم قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ ومعنى الاقتراف قد تقدم ذكره وظاهر النص يدل على أنه لا بد وأن يعاقب المذنب إلا أن المسلمين أجمعوا على أنه إذا تاب لم يعاقب وأصحابنا زادوا شرطاً ثانياً وهو أنه تعالى قد يعفو عن المذنب فيترك عقابه كما قال الله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ( النساء 48 )
وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ

اعلم أنه تعالى لما بين أنه يحل أكل ما ذبح على اسم الله ذكر بعده تحريم ما لم يذكر عليه اسم الله ويدخل فيه الميتة ويدخل فيه ما ذبح على ذكر الأصنام والمقصود منه إبطال ما ذكره المشركون وفي الآية مسائل
المسألة الأولى نقل عن عطاء أنه قال كل ما لم يذكر عليه اسم الله من طعام أو شراب فهو حرام تمسكاً بعموم هذه الآية وأما سائر الفقهاء فإنهم أجمعوا على تخصيص هذا العموم بالذبح ثم اختلفوا فقال مالك كل ذبح لم يذكر عليه اسم الله فهو حرام سواء ترك ذلك الذكر عمداً أو نسياناً وهو قول ابن سيرين وطائفة من المتكلمين وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى إن ترك الذكر عمداً حرم وإن ترك نسياناً حل وقال الشافعي رحمه الله تعالى يحل متروك التسمية سواء ترك عمداً أو خطأ إذا كان الذابح أهلاً للذبح وقد ذكرنا هذه المسألة على الاستقصاء في تفسير قوله إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ ( المائدة 3 ) فلا فائدة في الإعادة قال الشافعي رحمه الله تعالى هذا النهي مخصوص بما إذا ذبح على اسم النصب ويدل عليه وجوه أحدها قوله تعالى وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وأجمع المسلمون على أنه لا يفسق أكل ذبيحة المسلم الذي ترك التسمية وثانيها قوله تعالى وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ( الأنعام 121 ) وهذه المناظرة إنما كانت في مسألة الميتة روي أن ناساً من المشركين قالوا للمسلمين ما يقتله الصقر والكلب تأكلونه وما يقتله الله فلا تأكلونه وعن ابن عباس أنهم قالوا تأكلون ما تقتلونه ولا تأكلون ما يقتله الله فهذه المناظرة مخصوصة بأكل الميتة وثالثها قوله تعالى وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ وهذا مخصوص بما ذبح على اسم النصب يعني لو رضيتم بهذه الذبيحة التي ذبحت على اسم إلهية الأوثان فقد رضيتم بإلهيتها وذلك يوجب الشرك قال الشافعي رحمه الله تعالى فأول الآية وإن كان عاماً بحسب الصيغة إلا أن آخرها لما حصلت فيه هذه القيود الثلاثة علمنا أن المراد من ذلك العموم هو هذا الخصوص ومما يؤكد هذا المعنى هو أنه تعالى قال وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ فقد صار هذا النهي مخصوصاً بما إذا كان هذا الأمر فسقاً ثم طلبنا في كتاب الله تعالى أنه متى يصير فسقاً فرأينا هذا الفسق مفسراً في آية أخرى وهو قوله قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوحِى َ إِلَيْكَ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَة ً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ ( الأنعام 145 ) فصار الفسق في هذه الآية مفسراً بما أهل به لغير الله وإذا كان كذلك كان قوله وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ مخصوصاً بما أهل به لغير الله
والمقام الثاني أن نترك التمسك بهذه المخصصات لكن نقول لم قلتم إنه لم يوجد ذكر الله ههنا والدليل عليه ما روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( ذكر الله مع المسلم سواء قال أو لم يقل ) ويحمل هذا الذكر على ذكر القلب
والمقام الثالث وهو أن نقول هب أن هذا الدليل يوجب الحرمة إلا أن سائر الدلائل المذكورة في هذه المسألة توجب الحل ومتى تعارضت وجب أن يكون الراجح هو الحل لأن الأصل في المأكولات الحل وأيضاً يدل عليه جميع العمومات المقتضية لحل الأكل والانتفاع كقوله تعالى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً ( البقرة 29 ) وقوله كُلُواْ وَاشْرَبُواْ ( البقرة 60 ) لأنه مستطاب بحسب الحس فوجب أن يحل لقوله تعالى أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيّبَاتُ ( المائدة 4 ) ولأنه مال لأن الطبع يميل إليه فوجب أن لا يحرم لما روي عن

النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه نهى عن إضاعة المال فهذا تقرير الكلام في هذه المسألة ومع ذلك فنقول الأولى بالمسلم أن يحترز عنه لأن ظاهر هذا النص قوي
المسألة الثانية الضمير في قوله وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ إلى ماذا يعود فيه قولان الأول أن قوله لاَ تَأْكُلُواْ يدل على الأكل لأن الفعل يدل على المصدر فهذا الضمير عائد إلى هذا المصدر والثاني كأنه جعل ما لم يذكر اسم الله عليه في نفسه فسقاً على سبيل المبالغة
وأما قوله وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ففيه قولان الأول أن المراد من الشياطين ههنا إبليس وجنوده وسوسوا إلى أوليائهم من المشركين ليجادلوا محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه في أكل الميتة والثاني قال عكرمة وإن الشياطين يعني مردة المجوس ليوحون إلى أوليائهم من مشركي قريش وذلك لأنه لما نزل تحريم الميتة سمعه المجوس من أهل فارس فكتبوا إلى قريش وكانت بينهم مكاتبة أن محمداً وأصحابه يزعمون أنهم يتبعون أمر الله ثم يزعمون أن ما يذبحونه حلال وما يذبحه الله حرام فوقع في أنفس ناس من المسلمين من ذلك شيء فأنزل الله تعالى هذه الآية
ثم قال وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ يعني في استحلال الميتة إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ قال الزجاج وفيه دليل على أن كل من أهل شيئاً مما حرم الله تعالى أو حرم شيئاً مما أحل الله تعالى فهو مشرك وإنما سمي مشركاً لأنه أثبت حاكماً سوى الله تعالى وهذا هو الشرك
المسألة الثالثة قال الكعبي الآية حجة على أن الإيمان اسم لجميع الطاعات وإن كان معناه في اللغة التصديق كما جعل تعالى الشرك اسماً لكل ما كان مخالفاً لله تعالى وإن كان في اللغة مختصاً بمن يعتقد أن لله شريكاً بدليل أنه تعالى سمى طاعة المؤمنين للمشركين في إباحة الميتة شركاً
ولقائل أن يقول لم لا يجوز أن يكون المراد من الشرك ههنا اعتقاد أن الله تعالى شريكاً في الحكم والتكليف وبهذا التقدير يرجع معنى هذا الشرك إلى الاعتقاد فقط
أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِى النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية الأولى أن المشركين يجادلون المؤمنين في دين الله ذكر مثلاً يدل على حال المؤمن المهتدي وعلى حال الكافر الضال فبين أن المؤمن المهتدي بمنزلة من كان ميتاً فجعل حياً بعد ذلك وأعطى نوراً يهتدى به في مصالحه وأن الكافر بمنزلة من هو في ظلمات منغمس فيها لا خلاص له منها فيكون متحيراً على الدوام

ثم قال تعالى كَذَلِكَ زُيّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وعند هذا عادت مسألة الجبر والقدر فقال أصحابنا ذلك المزين هو الله تعالى ودليله ما سبق ذكره من أن الفعل يتوقف على حصول الداعي وحصوله لا بد وأن يكون بخلق الله تعالى والداعي عبارة عن علم أو اعتقاد أو ظن باشتمال ذلك الفعل على نفع زائد وصلاح راجح فهذا الداعي لا معنى له إلا هذا التزيين فإذا كان موجد هذا الداعي هو الله تعالى كان المزين لا محالة هو الله تعالى وقالت المعتزلة ذلك المزين هو الشيطان وحكوا عن الحسن أنه قال زينه لهم والله الشيطان واعلم أن هذا في غاية الضعف لوجوه الأول الدليل القاطع الذي ذكرناه والثاني أن هذا المثل مذكور ليميز الله حال المسلم من الكافر فيدخل فيه الشيطان فإن كان إقدام ذلك الشيطان على ذلك الكفر لشيطان آخر لزم الذهاب إلى مزين آخر غير النهاية وإلا فلا بد من مزين آخر سوى الشيطان الثالث أنه تعالى صرح بأن ذلك المزين ليس إلا هو فيما قبل هذه الآية وما بعدها أما قبلها فقوله وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلّ أُمَّة ٍ عَمَلَهُمْ وأما بعد هذه الآية فقوله وَكَذالِكَ جَعَلْنَا فِي كُلّ قَرْيَة ٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا
المسألة الثانية قوله أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ قرأ نافع مَيْتًا مشدداً والباقون مخففاً قال أهل اللغة الميت مخففاً تخفيف ميت ومعناهما واحد ثقل أو خفف
المسألة الثالثة قال أهل المعاني قد وصف الكفار بأنهم أموات في قوله أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ( النحل 21 ) وأيضاً في قوله لّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً ( ي س 70 ) وفي قوله إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى ( النمل 80 ) وفي قوله وَمَا يَسْتَوِى الاْعْمَى وَالْبَصِيرُ وَمَا يَسْتَوِى الاْحْيَاء وَلاَ الاْمْوَاتُ ( فاطر 19 و 22 ) فلما جعل الكفر موتاً والكافر ميتاً جعل الهدى حياة والمهتدي حياً وإنما جعل الكفر موتاً لأنه جهل والجهل يوجب الحيرة والوقفة فهو كالموت الذي يوجب السكون وأيضاً الميت لا يهتدي إلى شيء والجاهل كذلك والهدى علم وبصر والعلم والبصر سبب لحصول الرشد والفوز بالنجاة وقوله وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِى النَّاسِ عطف على قوله فَأَحْيَيْنَاهُ فوجب أن يكون هذا النور مغايراً لتلك الحياة والذي يخطر بالبال والعلم عند الله تعالى أن الأرواح البشرية لها أربع مراتب في المعرفة فأولها كونها مستعدة لقبول هذه المعارف وذلك الاستعداد الأصلي يختلف في الأرواح فربما كانت الروح موصوفة باستعداد كامل قوي شريف وربما كان ذلك الاستعداد قليلاً ضعيفاً ويكون صاحبه بليداً ناقصاً
والمرتبة الثانية أن يحصل لها العلوم الكلية الأولية وهي المسماة بالعقل
والمرتبة الثالثة أن يحاول ذلك الإنسان تركيب تلك البديهيات ويتوصل بتركيبها إلى تعرف المجهولات الكسبية إلا أن تلك المعارف ربما لا تكون حاضرة بالفعل ولكنها تكون بحيث متى شاء صاحبها استرجاعها واستحضارها يقدر عليه
والمرتبة الرابعة أن تكون تلك المعارف القدسية والجلايا الروحانية حاضرة بالفعل ويكون جوهر ذلك الروح مشرقاً بتلك المعارف مستضيئاً بها مستكملاً بظهورها فيه
إذا عرفت هذا فنقول

المرتبة الأولى وهي حصول الاستعداد فقط هي المسماة بالموت
والمرتبة الثانية وهي أن تحصل العلوم البديهية الكلية فيه فهي المشار إليها بقوله فَأَحْيَيْنَاهُ
والمرتبة الثالثة وهي تركيب البديهيات حتى يتوصل بتركيباتها إلى تعرف المجهولات النظرية فهي المراد من قوله تعالى وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا
والمرتبة الرابعة وهي قوله يَمْشِي بِهِ فِى النَّاسِ إشارة إلى كونه مستحضراً لتلك الجلايا القدسية ناظراً إليها وعند هذا تتم درجات سعادات النفس الإنسانية ويمكن أن يقال أيضاً الحياة عبارة عن الاستعداد القائم بجوهر الروح والنور عبارة عن إيصال نور الوحي والتنزيل به فإنه لا بد في الإبصار من أمرين من سلامة الحاسة ومن طلوع الشمس فكذلك البصيرة لا بد فيها من أمرين من سلامة حاسة العقل ومن طلوع نور الوحي والتنزيل فلهذا السبب قال المفسرون المراد بهذا النور القرآن ومنهم من قال هو نور الدين ومنهم من قال هو نور الحكمة والأقوال بأسرها متقاربة والتحقيق ما ذكرناه وأما مثل الكافر فَهُوَ كَمَنْ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا وفي قوله لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا دقيقة عقلية وهي أن الشيء إذا دام حصوله مع الشيء صار كالأمر الذاتي والصفة اللازمة له فإذا دام كون الكافر في ظلمات الجهل والأخلاق الذميمة صارت تلك الظلمات كالصفة الذاتية اللازمة له يعسر إزالتها عنه نعوذ بالله من هذه الحالة وأيضاً الواقف في الظلمات يبقى متحيراً لا يهتدي إلى وجه صلاحه فيستولي عليه الخوف والفزع والعجز والوقوف
المسألة الرابعة اختلفوا في أن هذين المثلين المذكورين هل هما مخصوصان بإنسانين معينين أو عامان في كل مؤمن وكافر فيه قولان الأول أنه خاص بإنسانين على التعيين ثم فيه وجوه الأول قال ابن عباس إن أبا جهل رمى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بفرث وحمزة يومئذ لم يؤمن فأخبر حمزة بذلك عند قدومه من صيد له والقوس بيده فعمد إلى أبي جهل وتوخاه بالقوس وجعل يضرب رأسه فقال له أبو جهل أما ترى ما جاء به سفه عقولنا وسب آلهتنا فقال حمزة أنتم أسفه الناس تعبدون الحجارة من دون الله أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله فنزلت هذه الآية
والرواية الثانية قال مقاتل نزلت هذه الآية في النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأبي جهل وذلك أنه قال زاحمنا بنو عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرسى رهان قالوا منا نبي يوحى إليه والله لا نؤمن به إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه فنزلت هذه الآية
والرواية الثالثة قال عكرمة والكلبي نزلت في عمار بن ياسر وأبي جهل
والرواية الرابعة قال الضحاك نزلت في عمر بن الخطاب وأبي جهل
والقول الثاني إن هذه الآية عامة في حق جميع المؤمنين والكافرين وهذا هو الحق لأن المعنى إذا كان حاصلاً في الكل كان التخصيص محض التحكم وأيضاً قد ذكرنا أن هذه السورة نزلت دفعة واحدة فالقول بأن سبب نزول هذه الآية المعينة كذا وكذا مشكل إلا إذا قيل إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال إن مراد الله تعالى من هذه الآية العامة فلان بعينه

المسألة الخامسة هذه الآية من أقوى الدلائل أيضاً على أن الكفر والإيمان من الله تعالى لأن قوله فَأَحْيَيْنَاهُ وقوله وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِى النَّاسِ قد بينا أنه كناية عن المعرفة والهدى وذلك يدل على أن كل هذه الأمور إنما تحصل من الله تعالى وبإذنه والدلائل العقلية ساعدت على صحته وهو دليل الداعي على ما لخصناه وأيضاً أن عاقلاً لا يختار الجهل والكفر لنفسه فمن المحال أن يختار الإنسان جعل نفسه جاهلاً كافراً فلما قصد تحصيل الإيمان والمعرفة ولم يحصل ذلك وإنما حصل ضده وهو الكفر والجهل علمنا أن ذلك حصل بإيجاد غيره
فإن قالوا إنما اختاره لاعتقاده في ذلك الجهل أنه علم
قلنا فحاصل هذا الكلام أنه إنما اختار هذا الجهل لسابقة جهل آخر فإن كان الكلام في ذلك الجهل السابق كما في المسبوق لزم الذهاب إلى غير النهاية وإلا فوجب الانتهاء إلى جهل يحصل فيه لإيجاده وتكوينه وهو المطلوب
وَكَذالِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَة ٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ
المسألة الأولى ( الكاف ) في قوله وَكَذالِكَ يوجب التشبيه وفيه قولان الأول وكما جعلنا في مكة صناديدها ليمكروا فيها كذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها الثاني أنه معطوف على ماقبله أي كما زينا للكافرين أعمالهم كذلك جعلنا
المسألة الثانية الأكابر جمع الأكبر الذي هو اسم والآية على التقديم والتأخير تقديره جعلنا مجرميها أكابر ولا يجوز أن يكون الأكابر مضافة فإنه لا يتم المعنى ويحتاج إلى إضمار المفعول الثاني للجعل لأنك إذا قلت جعلت زيداً وسكت لم يفد الكلام حتى تقول رئيساً أو ذليلاً أو ما أشبه ذلك لاقتضاء الجعل مفعولين ولأنك إذا أضفت الأكابر فقد أضفت الصفة إلى الموصوف وذلك لا يجوز عند البصريين
المسألة الثالثة صار تقدير الآية جعلنا في كل قرية مجرميها أكابر ليمكروا فيها وذلك يقتضي أنه تعالى إنما جعلهم بهذه الصفة لأنه أراد منهم أن يمكروا بالناس فهذا أيضاً يدل على أن الخير والشر بإرادة الله تعالى
أجاب الجبائي عنه بأن حمل هذه اللام على لام العاقبة وذكر غيره أنه تعالى لما لم يمنعهم عن المكر صار شبيهاً بما إذا أراد ذلك فجاء الكلام على سبيل التشبيه وهذا السؤال مع جوابه قد تكرر مراراً خارجة عن الحد والحصر

المسألة الرابعة قال الزجاج إنما جعل المجرمين أكابر لأنهم لأجل رياستهم أقدر على الغدر والمكر وترويج الأباطيل على الناس من غيرهم ولأن كثرة المال وقوة الجاه تحمل الإنسان على المبالغة في حفظهما وذلك الحفظ لا يتم إلا بجميع الأخلاق الذميمة من الغدر والمكر والكذب والغيبة والنميمة والإيمان الكاذبة ولو لم يكن للمال والجاه عيب سوى أن الله تعالى حكم بأنه إنما وصف بهذه الصفات الذميمة من كان له مال وجاه لكفى ذلك دليلاً على خساسة المال والجاه
ثم قال تعالى وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ والمراد منه ما ذكره الله تعالى في آية أخرى وهي قوله وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيّىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ وقد ذكرنا حقيقة ذلك في أول سورة البقرة في تفسير قوله تعالى اللَّهُ يَسْتَهْزِىء بِهِمْ قالت المعتزلة لا شك أن قوله وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ مذكور في معرض التهديد والزجر فلو كان ما قبل هذه الآية يدل على أنه تعالى أراد منهم أن يمكروا بالناس فكيف يليق بالرحيم الكريم الحكيم الحليم أن يريد منهم المكر ويخلق فيهم المكر ثم يهددهم عليه ويعاقبهم أشد العقاب عليه واعلم أن معارضة هذا الكلام بالوجوه المشهورة قد ذكرناها مراراً
وَإِذَا جَآءَتْهُمْ ءَايَة ٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَآ أُوتِى َ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ
اعلم أنه تعالى حكى عن مكر هؤلاء الكفار وحسدهم أنهم متى ظهرت لهم معجزة قاهرة تدل على نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) قالوا لن نؤمن حتى يحصل لنا مثل هذا المنصب من عند الله وهذا يدل على نهاية حسدهم وأنهم إنما بقوا مصرين على الكفر لا لطلب الحجة والدلائل بل لنهاية الحسد قال المفسرون قال الوليد بن المغيرة والله لو كانت النبوة حقاً لكنت أنا أحق بها من محمد فإني أكثر منه مالاً وولداً فنزلت هذه الآية وقال الضحاك أراد كل واحد منهم أن يخص بالوحي والرسالة كما أخبر الله تعالى عنهم في قوله بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِىء مّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفاً مُّنَشَّرَة ً فظاهر الآية التي نحن في تفسيرها يدل على ذلك أيضاً لأنه تعالى قال وَإِذَا جَاءتْهُمْ ءايَة ٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِى َ رُسُلُ اللَّهِ وهذا يدل على أن جماعة منهم كانوا يقولون هذا الكلام وأيضاً فما قبل هذه الآية يدل على ذلك أيضاً وهو قوله وَكَذالِكَ جَعَلْنَا فِي كُلّ قَرْيَة ٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا ثم ذكر عقيب تلك الآية أنهم قالوا لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِى َ رُسُلُ اللَّهِ وظاهره يدل على أن المكر المذكور في الآية الأولى هو هذا الكلام الخبيث

وأما قوله تعالى لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِى َ رُسُلُ اللَّهِ ففيه قولان
القول الأول وهو المشهور أراد القوم أن تحصل لهم النبوة والرسالة كما حصلت لمحمد عليه الصلاة والسلام وأن يكونوا متبوعين لا تابعين ومخدومين لا خادمين
والقول الثاني وهو قول الحسن ومنقول عن ابن عباس أن المعنى وإذا جاءتهم آية من القرآن تأمرهم باتباع النبي قالوا لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى تُؤْتِى مِثْلَ مَا أُوتِى َ رُسُلُ اللَّهِ وهو قول مشركي العرب لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الاْرْضِ يَنْبُوعًا إلى قوله حَتَّى تُنَزّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَءهُ من الله إلى أبي جهل وإلى فلان وفلان كتاباً على حدة وعلى هذا التقدير فالقوم ما طلبوا النبوة وإنما طلبوا أن تأتيهم آيات قاهرة ومعجزات ظاهرة مثل معجزات الأنبياء المتقدمين كي تدل على صحة نبوة محمد عليه الصلاة والسلام قال المحققون والقول الأول أقوى وأولى لأن قوله اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ لا يليق إلا بالقول الأول ولمن ينصر القول الثاني أن يقول إنهم لما اقترحوا تلك الآيات القاهرة فلو أجابهم الله إليها وأظهر تلك المعجزات على وفق التماسهم لكانوا قد قربوا من منصب الرسالة وحينئذ يصلح أن يكون قوله اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ جواباً على هذا الكلام
وأما قوله اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ فالمعنى أن للرسالة موضعاً مخصوصاً لا يصلح وضعها إلا فيه فمن كان مخصوصاً موصوفاً بتلك الصفات التي لأجلها يصلح وضع الرسالة فيه كان رسولاً وإلا فلا والعالم بتلك الصفات ليس إلا الله تعالى
واعلم أن الناس اختلفوا في هذه المسألة فقال بعضهم النفوس والأرواح متساوية في تمام الماهية فحصول النبوة والرسالة لبعضها دون البعض تشريف من الله وإحسان وتفضل وقال آخرون بل النفوس البشرية مختلفة بجواهرها وماهياتها فبعضها خيرة طاهرة من علائق الجسمانيات مشرقة بالأنوار الإلهية مستعلية منورة وبعضها خسيسة كدرة محبة للجسمانيات فالنفس ما لم تكن من القسم الأول لم تصلح لقبول الوحي والرسالة ثم إن القسم الأول يقع الاختلاف فيه بالزيادة والنقصان والقوة والضعف إلى مراتب لا نهاية لها فلا جرم كانت مراتب الرسل مختلفة فمنهم من حصلت له المعجزات القوية والتبع القليل ومنهم من حصلت له معجزة واحدة أو اثنتان وحصل له تبع عظيم ومنهم من كان الرفق غالباً عليه ومنهم من كان التشديد غالباً عليه وهذا النوع من البحث فيه استقصاء ولا يليق ذكره بهذا الموضع وقوله تعالى اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ فيه تنبيه على دقيقة أخرى وهي أن أقل ما لا بد منه في حصول النبوة والرسالة البراءة عن المكر والغدر والغل والحسد وقوله لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِى َ رُسُلُ اللَّهِ عين المكر والغدر والحسد فكيف يعقل حصول النبوة والرسالة مع هذه الصفات ثم بين تعالى أنهم لكونهم موصوفين بهذه الصفات الذميمة سيبصيبهم صَغار عند الله وعذاب شديد وتقريره أن الثواب لا يتم إلا بأمرين التعظيم والمنفعة والعقاب أيضاً إنما يتم بأمرين الإهانة والضرر والله تعالى توعدهم بمجموع هذين الأمرين في هذه الآية أما الإهابة فقوله سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ ( الأنعام 124 ) وإنما قدم ذكر الصغار على ذكر الضرر لأن القوم إنما تمردوا عن طاعة محمد عليه الصلاة والسلام طلباً للعز والكرامة فالله تعالى بين أنه يقابلهم بضد مطلوبهم فأول ما يوصل إليهم إنما يوصل الصغار والذل والهوان وفي قوله صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ

وجوه الأول أن يكون المراد أن هذا الصغار إنما يحصل في الآخرة حيث لا حاكم ينفذ حكمه سواه والثاني أنهم يصيبهم صغار بحكم الله وإيجابه في در الدنيا فلما كان ذلك الصغار هذا حاله جاز أن يضاف إلى عند الله الثالث أن يكون المراد سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ ثم استأنف وقال عَندَ اللَّهِ أي معدلهم ذلك والمقصود منه التأكيد الرابع أن يكون المراد صغار من عند الله وعلى هذا التقدير فلا بد من إضمار كلمة ( من ) وأما بيان الضرر والعذاب فهو قوله وَعَذَابٌ شَدِيدٌ فحصل بهذا الكلام أنه تعالى أعد لهم الخزي العظيم والعذاب الشديد ثم بين أن ذلك إنما يصيبهم لأجل مكرهم وكذبهم وحسدهم
فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى السَّمَآءِ كَذالِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى تمسك أصحابنا بهذه الآية في بيان أن الضلال والهداية من الله تعالى
واعلم أن هذه الآية كما أن لفظها يدل على قولنا فلفظها أيضاً يدل على الدليل القاطع العقلي الذي في هذه المسألة وبيانه أن العبد قادر على الإيمان وقادر على الفكر فقدرته بالنسبة إلى هذين الأمرين حاصلة على السوية فيمتنع صدور الإيمان عنه بدلاً من الكفر أو الكفر بدلاً من الإيمان إلا إذا حصل في القلب داعية إليه وقد بينا ذلك مراراً كثيرة في هذا الكتاب وتلك الداعية لا معنى لها إلا علمه أو اعتقاده أو ظنه بكون ذلك الفعل مشتملاً على مصلحة زائدة ومنفعة راجحة فإنه إذا حصل هذا المعنى في القلب دعاه ذلك إلى فعل ذلك الشيء وإن حصل في القلب علم أو اعتقاد أن ظن بكون ذلك الفعل مشتملاً على ضرر زائد ومفسدة راجحة دعاه ذلك إلى تركه وبينا بالدليل أن حصول هذه الدواعي لا بد وأن يكون من الله تعالى وأن مجموع القدرة مع الداعي يوجب الفعل
إذا ثبت هذا فنقول يستحيل أن يصدر الإيمان عن العبد إلاإذا خلق الله في قلبه اعتقاد أن الإيمان راجح المنفعة زائد المصلحة وإذا حصل في القلب هذا الاعتقاد مال القلب وحصل في النفس رغبة شديدة في تحصيله وهذا هو انشراح الصدر للإيمان فأما إذا حصل في القلب اعتقاد أن الإيمان بمحمد مثلاً سبب مفسدة عظيمة في الدين والدنيا ويوجب المضار الكثيرة فعند هذا يترتب على حصول هذا الاعتقاد نفرة شديدة عن الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام وهذا هو المراد من أنه تعالى يجعل صدره ضيقاً حرجاً فصار تقدير الآية أن من أراد الله تعالى منه الإيمان قوى دواعيه إلى الإيمان ومن أراد الله منه الكفر

قوى صوارفه عن الإيمان وقوى دواعيه إلى الكفر ولما ثبت بالدليل العقلي أن الأمر كذلك ثبت أن لفظ القرآن مشتمل على هذه الدلائل العقلية وإذا انطبق قاطع البرهان على صريح لفظ القرآن فليس وراءه بيان ولا برهان قالت المعتزلة لنا في هذه الآية مقامان
المقام الأول بيان أنه لا دلالة في هذه الآية على قولكم
المقام الثاني مقام التأويل المطابق لمذهبنا وقولنا
أما المقام الأول فتقريره من وجوه
الوجه الأول أن هذه الآية ليس فيها أنه تعالى أضل قوماً أو يضلهم لأنه ليس فيها أكثر من أنه متى أراد أن يهدي إنساناً فعل به كيت وكيت وإذا أراد إضلاله فعل به كيت وكيت وليس في الآية أنه تعالى يريد ذلك أو لا يريده والدليل عليه أنه تعالى قال لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ ( الأنبياء 17 ) فبين تعالى أنه يفعل اللهو لو أراده ولا خلاف أنه تعالى لا يريد ذلك ولا يفعله
الوجه الثاني أنه تعالى لم يقل ومن يرد أن يضله عن الإسلام بل قال وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ فلم قلتم أن المراد ومن يرد أن يضله عن الإيمان
والوجه الثالث أنه تعالى بين في آخر الآية أنه إنما يفعل هذا الفعل بهذا الكافر جزاء على كفره وأنه ليس ذلك على سبيل الابتداء فقال كَذالِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ( الأنعام 125 )
الوجه الرابع أن قوله وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً فهذا يشعر بأن جعل الصدر ضيقاً حرجاً يتقدم حصوله على حصول الضلالة وأن لحصول ذلك المتقدم أثراً في حصول الضلال وذلك باطل بالإجماع أما عندنا فلا نقول به وأما عندكم فلأن المقتضى لحصول الجهل والضلال هو أن الله تعالى يخلقه فيه لقدرته فثبت بهذه الوجوه الأربعة أن هذه الآية لا تدل على قولكم
أما المقام الثاني وهو أن تفسير هذه الآية على وجه يليق بقولنا فتقريره من وجوه الأول وهو الذي اختاره الجبائي ونصره القاضي فنقول تقدير الآية ومن يرد الله أن يهديه يوم القيامة إلى طريق الجنة يشرح صدره للإسلام حتى يثبت عليه ولا يزول عنه وتفسير هذا الشرح هو أنه تعالى يفعل به ألطافاً تدعوه إلى البقاء على الإيمان والثبات عليه وفي هذا النوع ألطاف لا يمكن فعلها بالمؤمن إلا بعد أن يصير مؤمناً وهي بعد أن يصير الرجل مؤمناً يدعوه إلى البقاء على الإيمان والثبات عليه وإليه الإشارة بقوله تعالى وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ( التغابن 11 ) وبقوله وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ( العنكبوت 69 ) فإذا آمن عبد وأراد الله ثباته فحينئذ يشرح صدره أي يفعل به الألطاف التي تقتضي ثباته على الإيمان ودوامه عليه فأما إذا كفر وعاند وأراد الله تعالى أن يضله عن طريق الجنة فعند ذلك يلقي في صدره الضيق والحرج ثم سأل الجبائي نفسه وقال كيف يصح ذلك ونجد الكفار طيبي النفوس لا غم لهم البتة ولا حزن
وأجاب عنه بأنه تعالى لم يخبر بأنه يفعل بهم ذلك في كل وقت فلا يمتنع كونهم في بعض الأوقات طيبي القلوب وسأل القاضي نفسه على هذا الجواب سؤالاً آخر فقال فيجب أن تقطعوا في كل كافر بأنه

يجد من نفسه ذلك الضيق والحرج في بعض الأوقات
وأجاب عنه بأن قال وكذلك نقول ودفع ذلك لا يمكن خصوصاً عند ورود أدلة الله تعالى وعند ظهور نصرة الله للمؤمنين وعند ظهور الذلة والصغار فيهم هذا غاية تقرير هذا الجواب
والوجه الثاني في التأويل قالوا لم لا يجوز أن يقال المراد فمن يرد الله أن يهديه إلى الجنة يشرح صدره للإسلام أي يشرح صدره للإسلام في ذلك الوقت الذي يهديه فيه إلى الجنة لأنه لما رأى أن بسبب الإيمان وجد هذه الدرجة العالية والمرتبة الشريفة يزداد رغبة في الإيمان ويحصل في قلبه مزيد انشراح وميل إليه ومن يرد أن يضله يوم القيامة عن طريق الجنة ففي ذلك الوقت يضيق صدره ويحرج صدره بسبب الحزن الشديد الذي ناله عند الحرمان من الجنة والدخول في النار قالوا فهذا وجه قريب واللفظ محتمل له فوجب حمل اللفظ عليه
والوجه الثالث في التأويل أن يقال حصل في الكلام تقديم وتأخير فيكون المعنى من شرح صدر نفسه بالإيمان فقد أراد الله أن يهديه أي يخصه بالألطاف الداعية إلى الثبات على الإيمان أو يهديه بمعنى أنه يهديه إلى طريق الجنة ومن جعل صدره ضيقاً حرجاً عن الإيمان فقد أراد الله أن يضله عن طريق الجنة أو يضله بمعنى أنه يحرمه عن الألطاف الداعية إلى الثبات على الإيمان فهذا هو مجموع كلامهم في هذا الباب
والجواب عما قالوه أولاً من أن الله تعالى لم يقل في هذه الآية أنه يضله بل المذكور فيه أنه لو أراد أن يضله لفعل كذا وكذا
فنقول قوله تعالى في آخر الآية كَذالِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ تصريح بأنه يفعل بهم ذلك الإضلال لأن حرف ( الكاف ) في قوله كَذالِكَ يفيد التشبيه والتقدير وكما جعلنا ذلك الضيق والحرج في صدره فكذلك نجعل الرجس على قلوب الذين لا يؤمنون
والجواب عما قالوه ثانياً وهو قوله ومن يرد الله أن يضله عن الدين
فنقول إن قوله في آخر الآية كَذالِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ تصريح بأن المراد من قوله وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ هو أنه يضله عن الدين
والجواب عما قالوه ثالثاً من أن قوله كَذالِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ يدل على أنه تعالى إنما يلقي ذلك الضيق والحرج في صدورهم جزاء على كفرهم
فنقول لا نسلم أن المراد ذلك بل المراد كذلك يجعل الله الرجس على قلوب الذين قضي عليهم بأنهم لا يؤمنون وإذا حملنا هذه الآية على هذا الوجه سقط ما ذكروه
والجواب عما قالوه رابعاً من أن ظاهر الآية يقتضي أن يكون ضيق الصدر وحرجه شيئاً متقدماً على الضلال وموجباً له
فنقول الأمر كذلك لأنه تعالى إذا خلق في قلبه اعتقاداً بأن الإيمان بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) يوجب الذم في الدنيا والعقوبة في الآخرة فهذا الاعتقاد يوجب إعراض النفس ونفور القلب عن قبول ذلك الإيمان ويحصل في ذلك القلب نفرة ونبوة عن قبول ذلك الإيمان وهذه الحالة شبيهة بالضيق الشديد لأن الطريق إذا كان ضيقاً

لم يقدر الداخل على أن يدخل فيه فكذلك القلب إذا حصل فيه هذا الاعتقاد امتنع دخول الإيمان فيه فلأجل حصول هذه المشابهة من هذا الوجه أطلق لفظ الضيق والحرج عليه فقد سقط هذا الكلام
وأما الوجه الأول من التأويلات الثلاثة التي ذكروها
فالجواب عنه أن حاصل ذلك الكلام يرجع إلى تفصيل الضيق والحرج باستيلاء الغم والحزن على قلب الكافر وهذا بعيد لأنه تعالى ميز الكافر عن المؤمن بهذا الضيق والحرج فلو كان المراد منه حصول الغم والحزن في قلب الكافر لوجب أن يكون ما يحصل في قلب الكافر من الغموم والهموم والأحزان أزيد مما يحصل في قلب المؤمن زيادة يعرفها كل أحد ومعلوم أنه ليس الأمر كذلك بل الأمر في حزن الكافر والمؤمن على السوية بل الحزم والبلاء في حق المؤمن أكثر قال تعالى وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّة ً واحِدَة ً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَانِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مّن فِضَّة ٍ وقال عليه السلام ( خص البلاء بالأنبياء ثم بالأولياء ثم الأمثل فالأمثل )
وأما الوجه الثاني من التأويلات الثلاثة فهو أيضاً مدفوع لأنه يرجع حاصله إلى إيضاح الواضحات لأن كل أحد يعلم بالضرورة أن كل من هداه الله تعالى إلى الجنة بسبب الإيمان فإنه يفرح بسبب تلك الهداية وينشرح صدره للإيمان مزيد انشراح في ذلك الوقت وكذلك القول في قوله وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ ( الزخرف 33 ) المراد من يضله عن طريق الجنة فإنه يضيق قلبه في ذلك الوقت فإن حصول هذا المعنى معلوم بالضرورة فحمل الآية عليه إخراج لهذه الآية من الفائدة
وأما الوجه الثالث من الوجوه الثلاثة فهو يقتضي تفكيك نظم الآية وذلك لأن الآية تقتضي أن يحصل انشراح الصدر من قبل الله أولاً ثم يترتب عليه حصول الهداية والإيمان وأنتم عكستم القضية فقلتم العبد يجعل نفسه أولاً منشرح الصدر ثم إن الله تعالى بعد ذلك يهديه بمعنى أنه يخصه بمزيد الألطاف الداعية له إلى الثبات على الإيمان والدلائل اللفظية إنما يمكن التمسك بها إذا أبقينا ما فيها من التركيبات والترتيبات فأما إذا أبطلناها وأزلناها لم يمكن التمسك بشيء منها أصلاً وفتح هذا الباب يوجب أن لا يمكن التمسك بشيء من الآيات وإنه طعن في القرآن وإخراج له عن كونه حجة فهذا هو الكلام الفصل في هذه السؤالات ثم إنا نختم الكلام في هذه المسألة بهذه الخاتمة القاهرة وهي أنا بينا أن فعل الإيمان يتوقف على أن يحصل في القلب داعية جازمة إلى فعل الإيمان وفاعل تلك الداعية هو الله تعالى وكذلك القول في جانب الكفر ولفظ الآية منطبق على هذا المعنى لأن تقدير الآية فمن يرد الله أن يهديه قوى في قلبه ما يدعوه إلى الإيمان ومن يرد أن يضله ألقى في قلبه ما يصرفه عن الإيمان ويدعوه إلى الكفر وقد ثبت بالبرهان العقلي أن الأمر يجب أن يكون كذلك وعلى هذا التقدير فجميع ما ذكرتموه من السؤالات ساقط والله تعالى أعلم بالصواب
المسألة الثالثة في تفسير ألفاظ الآية أما شرح الصدر ففي تفسير وجهان
الوجه الأول قال الليث يقال شرح الله صدره فانشرح أي وسع صدره لقبول ذلك الأمر فتوسع وأقول إن الليث فسر شرح الصدر بتوسيع الصدر ولا شك أنه ليس المراد منه أن يوسع صدره على سبيل

الحقيقة لأنه لا شبهة أن ذلك محال بل لا بد من تفسير توسيع الصدر فنقول تحقيقه ما ذكرناه فيما تقدم ولا بأس بإعادته فنقول إذا اعتقد الإنسان في عمل من الأعمال أن نفعه زائد وخيره راجح مال طبعه إليه وقويت رغبته في حصوله وحصل في القلب استعداد شديد لتحصيله فتسمى هذه الحالة بسعة النفس وإذا اعتقد في عمل من الأعمال أن شره زائد وضرره راجح عظمت النفرة عنه وحصل في الطبع نفرة ونبوة عن قبوله ومعلوم أن الطريق إذا كان ضيقاً لم يتمكن الداخل من الدخول فيه وإذا كان واسعاً قدر الداخل على الدخول فيه فإذا حصل اعتقاد أن الأمر الفلاني زائد النفع والخير وحصل الميل إليه فقد حصل ذلك الميل في ذلك القلب فقيل اتسع الصدر له وإذا حصل اعتقاد أنه زائد الضرر والمفسدة لم يحصل في القلب ميل إليه فقيل إنه ضيق فقد صار الصدر شبيهاً بالطريق الضيق الذي لا يمكن الدخول فيه فهذا تحقيق الكلام في سعة الصدر وضيقه
والوجه الثاني في تفسير الشرح يقال شرح فلان أمره إذا أظهره وأوضحه وشرح المسألة إذا كانت مشكلة فبينها
واعلم أن لفظ الشرح غير مختص بالجانب الحق لأنه وارد في الإسلام في قوله أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ ( الزمر 22 ) وفي الكفر في قوله وَلَاكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا ( النحل 106 ) قال المفسرون لما نزلت هذه الآية سئل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقيل له كيف يشرح الله صدره فقال عليه السلام ( يقذف فيه نوراً حتى ينفسح وينشرح ) فقيل له وهل لذلك من أمارة يعرف بها فقال عليه السلام ( الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزول الموت ) وأقول هذا الحديث من أدل الدلائل على صحة ما ذكرناه في تفسير شرح الله الصدر وتقريره أن الإنسان إذا تصور أن الاشتغال بعمل الآخرة زائد النفع والخير وأن الاشتغال بعمل الدنيا زائد الضرر والشر فإذا حصل الجزم بذلك إما بالبرهان أو بالتجربة أو التقليد لا بد وأن يترتب على حصول هذا الاعتقاد حصول الرغبة في الآخرة وهو المراد من الإنابة إلى دار الخلود والنفرة عن دار الدنيا وهو المراد من التجافي عن دار الغرور وأما الاستعداد للموت قبل نزول الموت فهو مشتمل على الأمرين أعني النفرة عن الدنيا والرغبة في الآخرة
إذا عرفت هذا فنقول الداعي إلى الفعل لا بد وأن يحصل قبل حصول الفعل وشرح الصدر للإيمان عبارة عن حصول الداعي إلى الإيمان فلهذا المعنى أشعر ظاهر هذه الآية بأن شرح الصدر متقدم على حصول الإسلام وكذا القول في جانب الكفر
أما قوله وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً ففيه مباحث
البحث الأول قرأ ابن كثير ضَيّقاً ساكنة الياء وكذا في كل القرآن والباقون مشددة الياء مكسورة فيحتمل أن يكون المشدد والمخفف بمعنى واحد كسيد وسيد وهين وهين ولين ولين وميت وميت وقرأ نافع وأبو بكر عن عاصم حَرَجاً بكسر الراء والباقون بفتحها قال الفراء وهو في كسره ونصبه بمنزلة الوجل والوجل والقرد والقرد والدنف والدنف قال الزجاج الحرج في اللغة أضيق الضيق ومعناه أنه ضيق جداً فمن قال أنه رجل حرج الصدر بفتح الراء فمعناه ذو حرج في صدره ومن قال حرج جعله فاعلاً وكذلك رجل دنف ذو دنف ودنف نعت

البحث الثاني قال بعضهم الحرج بكسر الراء الضيق والحرج بالفتح جمع حرجة وهو الموضع الكثير الأشجار الذي لا تناله الراعية وحكى الواحدي في هذا الباب حكايتين إحداهما روى عن عبيد بن عمير عن ابن عباس أنه قرأ هذه الآية وقال هل ههنا أحد من بني بكر قال رجل نعم قال ما الحرجة فيكم قال الوادي الكثير الشجر المشتبك الذي لا طريق فيه فقال ابن عباس كذلك قلب الكافر والثانية روى الواحدي عن أبي الصلت الثقفي قال قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذه الآية ثم قال ائتوني برجل من كنانة جعلوه راعياً فأتوا به فقال له عمر يا فتى ما الحرجة فيكم قال الحرجة فينا الشجرة تحدق بها الأشجار فلا يصل إليها راعية ولا وحشية فقال عمر كذلك قلب الكافر لا يصل إليه شيء من الخير
أما قوله تعالى كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى السَّمَاء ففيه بحثان
البحث الأول قرأ ابن كثير يَصْعَدُ ساكنة الصاد وقرأ أبو بكر عن عاصم يصاعد بالألف وتشديد الصاد بمعنى يتصاعد والباقون إِلَيْهِ يَصْعَدُ بتشديد الصاد والعين بغير ألف أما قراءة ابن كثير يَصْعَدُ فهي من الصعود والمعنى أنه في نفوره عن الإسلام وثقله عليه بمنزلة من تكلف الصعود إلى السماء فكما أن ذلك التكليف ثقيل على القلب فكذلك الإيمان ثقيل على قلب الكافر وأما قراءة أبي بكر يصاعد فهو مثل يتصاعد وأما قراءة الباقين إِلَيْهِ يَصْعَدُ فهي بمعنى يتصعد فأدغمت التاء في الصاد ومعنى يتصعد يتكلف ما يثقل عليه
البحث الثاني في كيفية هذا التشبيه وجهان الأول كما أن الإنسان إذا كلف الصعود إلى السماء ثقل ذلك التكليف عليه وعظم وصعب عليه وقويت نفرته عنه فكذلك الكافر يثقل عليه الإيمان وتعظم نفرته عنه والثاني أن يكون التقدير أن قلبه ينبو عن الإسلام ويتباعد عن قبول الإيمان فشبه ذلك البعد ببعد من يصعد من الأرض إلى السماء
أما قوله كَذالِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ففيه بحثان
البحث الأول الكاف في قوله كَذالِكَ يفيد التشبيه بشيء وفيه وجهان الأول التقدير أن يجعل الله الرجس عليهم كجعله ضيق الصدر في قلوبهم والثاني قال الزجاج التقدير مثل ما قصصنا عليك يجعل الله الرجس
البحث الثاني اختلفوا في تفسير الرّجْسَ فقال ابن عباس هو الشيطان يسلطه الله عليهم وقال مجاهد الرّجْسَ مالا خير فيه وقال عطاء الرّجْسَ العذاب وقال الزجاج الرّجْسَ اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة
ولنختم تفسير هذه الآية بما روي عن محمد بن كعب القرظي أنه قال تذاكرنا في أمر القدرية عند ابن عمر فقال لعنت القدرية على لسان سبعين نبياً منهم نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) فإذا كان يوم القيامة نادى مناد وقد جمع الناس بحيث يسمع الكل أين خصماء الله فتقوم القدرية وقد أورد القاضي هذا الحديث في تفسيره وقال هذا الحديث من أقوى ما يدل على أن القدرية هم الذين ينسبون أفعال العباد إلى الله تعالى قضاء وقدراً

وخلقاً لأن الذين يقولون هذا القول هم خصماء الله لأنهم يقولون لله أي ذنب لنا حتى تعاقبنا وأنت الذي خلقته فينا وإرادته منا وقضيته علينا ولم تخلقنا إلا له وما يسرت لنا غيره فهؤلاء لا بد وأن يكونوا خصماء الله بسبب هذه الحجة أما الذين قالوا إن الله مكن وأزاح العلة وإنما أتى العبد من قبل نفسه فكلامه موافق لما يعامل به من إنزال العقوبة فلا يكونون خصماء الله بل يكونون منقادين لله هذا كلام القاضي وهو عجيب جداً وذلك لأنه يقال له يبعد منك أنك ما عرفت من مذاهب خصومك أنه ليس للعبد على الله حجة ولا استحقاق بوجه من الوجوه وأن كل ما يفعله الرب في العبد فهو حكمة وصواب وليس للعبد على الرب اعتراض ولا مناظرة فكيف يصير الإنسان الذي هذا دينه واعتقاده خصماً لله تعالى أما الذين يكونون خصماء لله فهم المعتزلة وتقريره من وجوه الأول أنه يدعي عليه وجوب الثواب والعوض ويقول لو لم تعطني ذلك لخرجت عن الإلهية وصرت معزولاً عن الربوبية وصرت من جملة السفهاء فهذا الذي مذهبه واعتقاده ذلك هو الخصم لله تعالى والثاني أن من واظب على الكفر سبعين سنة ثم إنه في آخر زمن حياته قال لا إله إلا الله محمد رسول الله عن القلب ثم مات ثم إن رب العالمين أعطاه النعم الفائقة والدرجات الزائدة ألف ألف سنة ثم أراد أن يقطع تلك النعم عنه لحظة واحدة فذلك العبد يقول أيها الإله إياك ثم إياك أن تترك ذلك لحظة واحدة فإنك إن تركته لحظة واحدة صرت معزولاً عن الإلهية والحاصل أن إقدام ذلك العبد على ذلك الإيمان لحظة واحدة أوجب على الإله إيصال تلك النعم مدة لا آخر لها ولا طريق له البتة إلى الخلاص عن هذه العهدة فهذا هو الخصومة أما من يقول إنه لا حق لأحد من الملائكة والأنبياء على الله تعالى وكل ما يوصل إليهم من الثواب فهو تفضل وإحسان من الله تعالى فهذا لا يكون خصماً
والوجه الثالث في تقرير هذه الخصومة ما حكى أن الشيخ أبا الحسن الأشعري لما فارق مجلس أستاذه أبي علي الجبائي وترك مذهبه وكثر اعتراضه على أقاويله عظمت الوحشة بينهما فاتفق أن يوماً من الأيام عقد الجبائي مجلس التذكير وحضر عنده عالم من الناس وذهب الشيخ أبو الحسن إلى ذلك المجلس وجلس في بعض الجوانب مختفياً عن الجبائي وقال لبعض من حضر هناك من العجائز إني أعلمك مسألة فاذكريها لهذا الشيخ قولي له كان لي ثلاثة من البنين واحد كان في غاية الدين والزهد والثاني كان في غاية الكفر والفسق والثالث كان صبياً لم يبلغ فماتوا على هذه الصفات فأخبرني أيها الشيخ عن أحوالهم فقال الجبائي أما الزاهد ففي درجات الجنة وأما الكافر ففي دركات النار وأما الصبي فمن أهل السلامة قال قولي له لو أن الصبي أراد أن يذهب إلى تلك الدرجات العالية التي حصل فيها أخوه الزاهد هل يمكن منه فقال الجبائي لا لأن الله يقول له إنما وصل إلى تلك الدرجات العالية بسبب أنه أتعب نفسه في العلم والعمل وأنت فليس معك ذاك فقال أبو الحسن قولي له لو أن الصبي حينئذ يقول يا رب العالمين ليس الذنب لي لأنك أمتني قبل البلوغ ولو أمهلتني فربما زدت على أخي الزاهد في الزهد والدين فقال الجبائي يقول الله له علمت أنك لو عشت لطغيت وكفرت وكنت تستوحب النار فقبل أن تصل إلى تلك الحالة راعيت مصلحتك وأمتك حتى تنجو من العقاب فقال أبو الحسن قولي له لو أن الأخ الكافر الفاسق رفع رأسه من الدرك الأسفل من النار فقال يا رب العالمين ويا أحكم الحاكمين ويا أرحم

الراحمين كما علمت من ذلك الأخ الصغير أنه لو بلغ كفر علمت مني ذلك فلم راعيت مصلحته وما راعيت مصلحتي قال الراوي فلما وصل الكلام إلى هذا الموضع انقطع الجبائي فلما نظر رأى أبا الحسن فعلم أن هذه المسألة منه لا من العجوز ثم إن أبا الحسين البصري جاء بعد أربعة أدوار أو أكثر من بعد الجبائي فأراد أن يجيب عن هذا السؤال فقال نحن لا نرضى في حق هؤلاء الأخوة الثلاثة بهذا الجواب الذي ذكرتم بل لنا ههنا جوابان آخران سوى ما ذكرتم ثم قال وهو مبني على مسألة اختلف شيوخنا فيها وهي أنه هل يجب على الله أن يكلف العبد أم لا فقال البصريون التكليف محض التفضل والإحسان وهو غير واجب على الله تعالى وقال البغداديون إنه واجب على الله تعالى قال فإن فرعنا على قول البصريين فلله تعالى أن يقول لذلك الصبي إني طولت عمر الأخ الزاهد وكلفته على سبيل التفضل ولم يلزم من كوني متفضلاً على أخيك الزاهد بهذا الفضل أن أكون متفضلاً عليك بمثله وأما إن فرعنا على قول البغداديين فالجواب أن يقال إن إطالة عمر أخيك وتوجيه التكليف عليه كان إحساناً في حقه ولم يلزم منه عود مفسدة إلى الغير فلا جرم فعلته وأما إطالة عمرك وتوجيه التكليف عليك كان يلزم منه عود مفسدة إلى غيرك فلهذا السبب ما فعلت ذلك في حقك فظهر الفرق هذا تلخيص كلام أبي الحسين البصري سعياً منه في تخليص شيخه المتقدم عن سؤال الأشعري بل سعياً منه في تخليص إلهه عن سؤال العبد وأقول قبل الخوض في الجواب عن كلام أبي الحسين صحة هذه المناظرة الدقيقة بين العبد وبين الله إنما لزمت على قول المعتزلة وأما على قول أصحابنا رحمهم الله فلا مناظرة البتة بين العبد وبين الرب وليس للعبد أن يقول لربه لم فعلت كذا أو ما فعلت كذا فثبت أن خصماء الله هم المعتزلة لا أهل السنة وذلك يقوي غرضنا ويحصل مقصودنا ثم نقول
أما الجواب الأول وهو أن إطالة العمر وتوجيه التكليف تفضل فيجوز أن يخص به بعضاً دون بعض فنقول هذا الكلام مدفوع لأنه تعالى لما أوصل التفضل إلى أحدهما فالامتناع من إيصاله إلى الثاني قبيح من الله تعالى لأن الإيصال إلى هذا الثاني ليس فعلاً شاقاً على الله تعالى ولا يوجب دخول نقصان في ملكه بوجه من الوجوه وهذا الثاني يحتاج إلى ذلك التفضل ومثل هذا الامتناع قبيح في الشاهد ألا ترى أن من منع غيره من النظر في مرآته المنصوبة على الجدار لعامة الناس قبح ذلك منه لأنه منع من النفع من غير اندفاع ضرر إليه ولا وصول نفع إليه فإن كان حكم العقل بالتحسين والتقبيح مقبولاً فليكن مقبولاً ههنا وإن لم يكن مقبولاً لم يكن مقبولاً البتة في شيء من المواضع وتبطل كلية مذهبكم فثبت أن هذا الجواب فاسد
وأما الجواب الثاني فهو أيضاً فاسد وذلك لأن قولنا تكليفه يتضمن مفسدة ليس معناه أن هذا التكليف يوجب لذاته حصول تلك المفسدة وإلا لزم أن تحصل هذه المفسدة أبداً في حق الكل وأنه باطل بل معناه أن الله تعالى علم أنه إذا كلف هذا الشخص فإن إنساناً آخر يختار من قبل نفسه فعلاً قبيحاً فإن اقتضى هذا القدر أن يترك الله تكليفه فكذلك قد علم من ذلك الكافر أنه إذا كلفه فإنه يختار الكفر عند ذلك التكليف فوجب أن يترك تكليفه وذلك يوجب قبح تكليف من علم الله من حاله أنه يكفر وإن لم يجب ههنا لم يجب هنالك وأما القول بأنه يجب عليه تعالى ترك التكليف إذا علم أن غيره يختار فعلاً قبيحاً عند

ذلك التكليف ولا يجب عليه تركه إذا علم تعالى أن ذلك الشخص يختار القبيح عند ذلك التكليف فهذا محض التحكم فثبت أن الجواب الذي استخرجه أبو الحسين بلطيف فكره ودقيق نظره بعد أربعة أدوار ضعيف وظهر أن خصماء الله هم المعتزلة لا أصحابنا والله أعلم
وَهَاذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قوله وَهَاذَا إشارة إلى مذكور تقدم ذكره وفيه قولان الأول وهو الأقوى عندي أنه إشارة إلى ما ذكره وقرره في الآية المتقدمة وهو أن الفعل يتوقف على الداعي وحصول تلك الداعية من الله تعالى فوجب كون الفعل من الله تعالى وذلك يوجب التوحيد المحض وهو كونه تعالى مبدئاً لجميع الكائنات والممكنات وإنما سماه صراطاً لأن العلم به يؤدي إلى العلم بالتوحيد الحق وإنما وصفه بكونه مستقيماً لأن قول المعتزلة غير مستقيم وذلك لأن رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر إما أن يتوقف على المرجح أو لا يتوقف فإن توقف على المرجح لزم أن يقال الفعل لا يصدر عن القادر إلا عند انضمام الداعي إليه وحينئذ يتم قولنا ويكون الكل بقضاء الله وقدره ويبطل قول المعتزلة وإما أن لا يتوقف رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر على مرجح وجب أن يحصل هذا الاستغناء في كل الممكنات والمحدثات وحينئذ يلزم نفي الصنع والصانع وإبطال القول بالفعل والفاعل والتأثير والمؤثر فأما القول بأن هذا الرجحان يحتاج إلى المؤثر في بعض الصور دون البعض كما يقوله هؤلاء المعتزلة فهو معوج غير مستقيم إنما المستقيم هو الحكم بثبوت الحاجة على الإطلاق وذلك يوجب عين مذهبنا فهذا القول هو المختار عندي في تفسير هذه الآية
القول الثاني أن قوله وَهَاذَا صِراطُ رَبّكَ مُسْتَقِيماً إشارة إلى كل ما سبق ذكره في كل القرآن قال ابن عباس يريد هذا الذي أنت عليه يا محمد دين ربك مستقيماً وقال ابن مسعود يعني القرآن والقول الأول أولى لأن عود الإشارة إلى أقرب المذكورات أولى
وإذا ثبت هذا فنقول لما أمر الله تعالى بمتابعة ما في الآية المتقدمة وجب أن تكون من المحكمات لا من المتشابهات لأنه تعالى إذا ذكر شيئاً وبالغ في الأمر بالتمسك به والرجوع إليه والتعويل عليه وجب أن يكون من المحكمات فثبت أن الآية المتقدمة من المحكمات وأنه يجب إجراؤها على ظاهرها ويحرم التصرف فيها بالتأويل
المسألة الثانية قال الواحدي انتصب مستقيماً على الحال والعامل فيه معنى ( هذا ) وذلك لأن ( ذا ) يتضمن معنى الإشارة كقولك هذا زيد قائماً معناه أشير إليه في حال قيامه وإذا كان العامل في الحال

معنى الفعل لا الفعل لم يجز تقديم الحال عليه لا يجوز قائماً هذا زيد ويجوز ضاحكاً جاء زيد
أما قوله قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ
فنقول أما تفصيل الآيات فمعناه ذكرها فصلاً فصلاً بحيث لا يختلط واحد منها بالآخر والله تعالى قد بين صحة القول بالقضاء والقدر في آيات كثيرة من هذه السورة متوالية متعاقبة بطرق كثيرة ووجوه مختلفة وأما قوله لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ فالذي أظنه والعلم عند الله أنه تعالى إنما جعل مقطع هذه الآية هذه اللفظة لأنه تقرر في عقل كل واحد أن أحد طرفي الممكن لا يترجح على الآخر إلا لمرجح فكأنه تعالى يقول للمعتزلي أيها المعتزلي تذكر ما تقرر في عقلك أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا لمرجح حتى تزول الشبهة عن قلبك بالكلية في مسألة القضاء والقدر
لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين عظيم نعمه في الصراط المستقيم وبين أنه تعالى معد مهيىء لمن يكون من المذكورين بين الفائدة الشريفة التي تحصل من التمسك بذلك الصراط المستقيم فقال لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِندَ رَبّهِمْ وفي هذه الآية تشريفات
النوع الأول قوله لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ وهذا يوجب الحصر فمعناه لهم دار السلام لا لغيرهم وفي قوله دَارُ السَّلَامِ قولان
القول الأول أن السلام من أسماء الله تعالى فدار السلام هي الدار المضافة إلى الله تعالى كما قيل للكعبة بيت الله تعالى وللخليفة عبد الله
والقول الثاني أن السلام صفة الدار ثم فيه وجهان الأول المعنى دار السلامة والعرب تلحق هذه الهاء في كثير من المصادر وتحذفها يقولون ضلال وضلالة وسفاه وسفاهة ولذاذ ولذاذة ورضاع ورضاعة الثاني أن السلام جمع السلامة وإنما سميت الجنة بهذا الاسم لأن أنواع السلامة حاصلة فيها بأسرها
إذا عرفت هذين القولين فالقائلون بالقول الأول قالوا به لأنه أولى لأن إضافة الدار إلى الله تعالى نهاية في تشريفها وتعظيمها وإكبار قدرها فكان ذكر هذه الإضافة مبالغة في تعظيم الأمر والقائلون بالقول الثاني رجحوا قولهم من وجهين الأول أن وصف الدار بكونها دار السلامة أدخل في الترغيب من إضافة الدار إلى الله تعالى والثاني أن وصف الله تعالى بأنه السلام في الأصل مجاز وإنما وصف بذلك لأنه

تعالى ذو السلام فإذا أمكن حمل الكلام على حقيقته كان أولى
النوع الثاني من الفوائد المذكورة في هذه الآية قوله عِندَ رَبّهِمْ وفي تفسيره وجوه
الوجه الأول المراد أنه معد عنده تعالى كما تكون الحقوق معدة مهيأة حاضرة ونظيره قوله تعالى جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ وذلك نهاية في بيان وصولهم إليها وكونهم على ثقة من ذلك
الوجه الثاني وهو الأقرب إلى التحقيق أن قوله عِندَ رَبّهِمْ يشعر بأن ذلك الأمر المدخر موصوف بالقرب من الله تعالى وهذا القرب لا يكون بالمكان والجهة فوجب كونه بالشرف والعلو والرتبة وذلك يدل على أن ذلك الشيء بلغ في الكمال والرفعة إلى حيث لا يعرف كنهه إلا الله تعالى ونظيره قوله تعالى فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِى َ لَهُم مّن قُرَّة ِ أَعْيُنٍ ( السجدة 17 )
الوجه الثالث أنه قال في صفة الملائكة وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ وقال في صفة المؤمنين في الدنيا أنا عند المنكسرة قلوبهم لأجلي وقال أيضاً أنا عند ظن عبدي بي وقال في صفتهم يوم القيامة فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ ( القمر 55 ) وقال في دارهم لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِندَ رَبّهِمْ وقال في ثوابهم جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ ( البينة 8 ) وذلك يدل على أن حصول كمال صفة العبودية بواسطة صفة العندية
النوع الثالث من التشريفات المذكورة في هذه الآية قوله وَهُوَ وَلِيُّهُم والولي معناه القريب فقوله عِندَ رَبّهِمْ يدل على قربهم من الله تعالى وقوله وَهُوَ وَلِيُّهُم يدل على قرب الله منهم ولا نرى في العقل درجة للعبد أعلى من هذه الدرجة وأيضاً فقوله وَهُوَ وَلِيُّهُم يفيد الحصر أي لا ولي لهم إلا هو وكيف وهذا التشريف إنما حصل على التوحيد المذكور في قوله فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً فهؤلاء الأقوام قد عرفوا من هذه الآية أن المدبر والمقدر ليس إلا هو وأن النافع والضار ليس إلا هو وأن المسعد والمشقي ليس إلا هو وأنه لا مبدىء للكائنات والممكنات إلا هو فلما عرفوا هذا انقطعوا عن كل ما سواه فما كان رجوعهم إلا إليه وما كان توكلهم إلا عليه وما كان أنسهم إلا به وما كان خضوعهم إلا له فلما صاروا بالكلية لا جرم قال تعالى وَهُوَ وَلِيُّهُم وهذا إخبار بأنه تعالى متكفل بجميع مصالحهم في الدين والدنيا ويدخل فيها الحفظ والحراسة والمعونة والنصرة وإيصال الخيرات ودفع الآفات والبليات
ثم قال تعالى بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وإنما ذكر ذلك لئلا ينقطع المرء عن العمل فإن العمل لا بد منه وتحقيق القول فيه أن بين النفس والبدن تعلقاً شديداً فكما أن الهيآت النفسانية قد تنزل من النفس إلى البدن مثل ما إذا تصور أمراً مغضباً ظهر الأثر عليه في البدن فيسخن البدن ويحمى فكذلك الهيآت البدنية قد تصعد من البدن إلى النفس فإذا واظب الإنسان على أعمال البر والخير ظهرت الآثار المناسبة لها في جوهر النفس وذلك يدل على أن السالك لا بد له من العمل وأنه لا سبيل له إلى تركه البتة

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا الَّذِى أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ
اعلم أنه تعالى لما بين حال من يتمسك بالصراط المستقيم بين بعده حال من يكون بالضد من ذلك لتكون قصة أهل الجنة مردفة بقصة أهل النار وليكون الوعيد مذكوراً بعد الوعد وفيه مسائل
المسألة الأولى وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ منصوب بمحذوف أي واذكر يوم نحشرهم أو يوم نحشرهم قلنا يا معشر الجن أو يوم نحشرهم وقلنا يا معشر الجن كان ما لا يوصف لفظاعته
المسألة الثانية الضمير في قوله وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ إلى ماذا يعود فيه قولان الأول يعودإلى المعلوم لا إلى المذكور وهو الثقلان وجميع المكلفين الذين علم أن الله يبعثهم والثاني أنه عائد إلى الشياطين الذين تقدم ذكرهم في قوله وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِى ّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنّ يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً ( الأنعام 112 )
المسألة الثالثة في الآية محذوف والتقدير يوم نحشرهم جميعاً فنقول يا معشر الجن فيكون هذا القائل هو الله تعالى كما أنه الحاشر لجميعهم وهذا القول منه تعالى بعد الحشر لا يكون إلا تبكيتاً وبياناً لجهة أنهم وإن تمردوا في الدنيا فينتهي حالهم في الآخرة إلى الاستسلام والانقياد والاعتراف بالجرم وقال الزجاج التقدير فيقال لهم يا معشر الجن لأنه يبعد أن يتكلم الله تعالى بنفسه مع الكفار بدليل قوله تعالى في صفة الكفار وَلاَ يُكَلّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ ( البقرة 174 )
أما قوله تعالى قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مّنَ الإنْسِ فنقول هذا لا بد فيه من التأويل لأن الجن لا يقدرون على الاستكثار من نفس الإنس لأن القادر على الجسم وعلى الأحياء والفعل ليس إلا الله تعالى فوجب أن يكون المراد قد استكثرتم من الدعاء إلى الضلال مع مصادفة القبول
أما قوله وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مّنَ الإِنْسِ فالأقرب أن فيه حذفاً فكما قال للجن تبكيتاً فكذلك قال للإنس توبيخاً لأنه حصل من الجن الدعاء ومن الإنس القبول والمشاركة حاصلة بين الفريقين فلما بكت تعالى كلا الفريقين حكى ههنا جواب الإنس وهو قولهم ربنا استمتع بعضنا ببعض فوصفوا أنفسهم بالتوفر على منافع الدنيا والاستمتاع بلذاتها إلى أن بلغوا هذا المبلغ الذي عنده أيقنوا بسوء عاقبتهم ثم

ههنا قولان الأول أن قولهم استمتع بعضنا ببعض المراد منه أنه استمتع الجن بالإنس والإنس بالجن وعلى هذا القول ففي المراد بذلك الاستمتاع قولان
القول الأول أن معنى هذا الاستمتاع هو أن الرجل كان إذا سافر فأمسى بأرض قفر وخاف على نفسه قال أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه فيبيت آمناً في نفسه فهذا استمتاع الإنس بالجن وأما استمتاع الجن بالإنس فهو أن الإنسي إذا عاذ بالجني كان ذلك تعظيماً منهم للجن وذلك الجني يقول قد سدت الجن والإنس لأن الإنسي قد اعترف له بأنه يقدر أن يدفع عنه وهذا قول الحسن وعكرمة والكلبي وابن جريج واحتجوا على صحته بقوله تعالى وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مّنَ الْجِنّ ( الجن 6 )
والوجه الثاني في تفسير هذا الاستمتاع أن الإنس كانوا يطيعون الجن وينقادون لحكمهم فصار الجن كالرؤساء والإنس كالأتباع والخادمين المطيعين المنقادين الذين لا يخالفون رئيسهم ومخدومهم في قليل ولا كثير ولا شك أن هذا الرئيس قد انتفع بهذا الخادم فهذا استمتاع الجن بالإنس وأما استمتاع الإنس بالجن فهو أن الجن كانوا يدلونهم على أنواع الشهوات واللذات والطيبات ويسهلون تلك الأمور عليهم وهذا القول اختيار الزجاج قال وهذا أولى من الوجه المتقدم والدليل عليه قوله تعالى قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مّنَ الإنْسِ ومن كان يقول من الإنس أعوذ بسيد هذا الوادي قليل
والقول الثاني أن قوله تعالى رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ هو كلام الإنس خاصة لأن استمتاع الجن بالإنس وبالعكس أمر قليل نادر لا يكاد يظهر أما استمتاع بعض الإنس ببعض فهو أمر ظاهر فوجب حمل الكلام عليه وأيضاً قوله تعالى وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مّنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ كلام الإنس الذين هم أولياء الجن فوجب أن يكون المراد من استمتاع بعضهم ببعض استمتاع بعض أولئك القوم ببعض
ثم قال تعالى حكاية عنهم وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِى أَجَّلْتَ لَنَا فالمعنى أن ذلك الاستمتاع كان حاصلاً إلى أجل معين ووقت محدود ثم جاءت الخيبة والحسرة والندامة من حيث لا تنفع واختلفوا في أن ذلك الأجل أي الأوقات فقال بعضهم هو وقت الموت وقال آخرون هو وقت التخلية والتمكين وقال قوم المراد وقت المحاسبة في القيامة والذين قالوا بالقول الأول قالوا إنه يدل على أن كل من مات من مقتول وغيره فإنه يموت بأجله لأنهم أقروا أنا بلغنا أجلنا الذي أجلت لنا وفيهم المقتول وغير المقتول
ثم قال تعالى قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ المثوى المقام والمقر والمصير ثم لا يبعد أن يكون للإنسان مقام ومقر ثم يموت ويتخلص بالموت عن ذلك المثوى فبين تعالى أن ذلك المقام والمثوى مخلد مؤبد وهو قوله خَالِدِينَ فِيهَا
ثم قال تعالى إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ وفيه وجوه الأول أن المراد منه استثناء أوقات المحاسبة لأن في تلك الأحوال ليسوا بخالدين في النار الثاني المراد الأوقات التي ينقلون فيها من عذاب النار إلى عذاب الزمهرير وروي أنهم يدخلون وادياً فيه برد شديد فهم يطلبون الرد من ذلك البرد إلى حر الجحيم الثالث

قال ابن عباس استثنى الله تعالى قوماً سبق في علمه أنهم يسلمون ويصدقون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وعلى هذا القول يجب أن تكون ( ما ) بمعنى ( من ) قال الزجاج والقول الأول أولى لأن معنى الاستثناء إنما هو من يوم القيامة لأن قوله وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً هو يوم القيامة
ثم قال تعالى خَالِدِينَ فِيهَا منذ يبعثون إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ من مقدار حشرهم من قبورهم ومقدار مدتهم في محاسبتهم الرابع قال أبو مسلم هذا الاستثناء غير راجع إلى الخلود وإنما هو راجع إلى الأجل المؤجل لهم فكأنهم قالوا وبلغنا الأجل الذي أجلت لنا أي الذي سميته لنا إلا من أهلكته قبل الأجل المسمى كقوله تعالى أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ ( الأنعام 6 ) وكما فعل في قوم نوح وعاد وثمود ممن أهلكه الله تعالى قبل الأجل الذي لو آمنوا لبقوا إلى الوصول إليه فتلخيص الكلام أن يقولوا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا ما سميت لنا من الأجل إلا من شئت أن تخترمه فاخترمته قبل ذلك بكفره وضلاله
واعلم أن هذا الوجه وإن كان محتملاً إلا أنه ترك لظاهر ترتيب ألفاظ هذه الآية ولما أمكن إجراء الآية على ظاهرها فلا حاجة إلى هذا التكلف
ثم قال إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ أي فيما يفعله من ثواب وعقاب وسائر وجوه المجازاة وكأنه تعالى يقول إنما حكمت لهؤلاء الكفار بعذاب الأبد لعلمي أنهم يستحقون ذلك والله أعلم
المسألة الرابعة قال أبو علي الفارسي قوله النَّارُ مَثْوَاكُمْ المثوى اسم للمصدر دون المكان لأن قوله خَالِدِينَ فِيهَا حال واسم الموضع لا يعمل عمل الفعل فقوله النَّارُ مَثْوَاكُمْ معناه النار أهل أن تقيموا فيها خالدين
وَكَذالِكَ نُوَلِّى بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ
المسألة الأولى في الآية فوائد
الفائدة الأولى اعلم أنه تعالى لما حكى عن الجن والإنس أن بعضهم يتولى بعضاً بين أن ذلك إنما يحصل بتقديره وقضائه فقال وَكَذالِكَ نُوَلّى بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً والدليل على أن الأمر كذلك أن القدرة صالحة للطرفين أعني العداوة والصداقة فلولا حصول الداعية إلى الصداقة لما حصلت الصداقة وتلك الداعية لا تحصل إلا بخلق الله تعالى قطعاً للتسلسل فثبت بهذا البرهان أنه تعالى هو الذي يولي بعض الظالمين بعضاً وبهذا التقرير تصير هذه الآية دليلاً لنا في مسألة الجبر والقدر
الفائدة الثانية أنه تعالى لما بين في أهل الجنة أن لهم دار السلام بين أنه تعالى وليهم بمعنى الحفظ والحراسة والمعونة والنصرة فكذلك لما بين حال أهل النار ذكر أن مقرهم ومثواهم النار ثم بين أن أولياءهم من يشبههم في الظلم والخزي والنكال وهذه مناسبة حسنة لطيفة

الفائدة الثالثة كاف التشبيه في قوله وَكَذالِكَ نُوَلّى تقتضي شيئا تقدم ذكره والتقدير كأنه قال كما أنزلت بالجن والإنس الذين تقدم ذكرهم العذاب الأليم الدائم الذي لا مخلص منه كَذالِكَ نُوَلّى بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً
الفائدة الرابعة وَكَذالِكَ نُوَلّى بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً لأن الجنسية علة الضم فالأرواح الخبيثة تنضم إلى ما يشاكلها في الخبث وكذا القول في الأرواح الطاهرة فكل أحد يهتم بشأن من يشاكله في النصرة والمعونة والتقوية والله أعلم
المسألة الثانية الآية تدل على أن الرعية متى كانوا ظالمين فالله تعالى يسلط عليهم ظالماً مثلهم فإن أرادوا أن يتخلصوا من ذلك الأمير الظالم فليتركوا الظلم وأيضاً الآية تدل على أنه لا بد في الخلق من أمير وحاكم لأنه تعالى إذا كان لا يخلي أهل الظلم من أمير ظالم فبأن لا يخلي أهل الصلاح من أمير يحملهم على زيادة الصلاح كان أولى قال علي رضي الله عنه لا يصلح للناس إلا أمير عادل أو جائر فأنكروا قوله أو جائر فقال نعم يؤمن السبيل ويمكن من إقامة الصلوات وحج البيت وروي أن أبا ذر سأل الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) الإمارة فقال له ( إنك ضعيف وإنها أمانة وهي في القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها ) وعن مالك بن دينار جاء في بعض كتب الله تعالى أنا الله مالك الملوك قلوب الملوك ونواصيها بيدي فمن أطاعني جعلتهم عليه رحمة ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة لا تشغلوا أنفسكم بسب الملوك لكن توبوا إلى أعطفهم عليكم
أما قوله بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ فالمعنى نولي بعض الظالمين بعضاً بسبب كون ذلك البعض مكتسباً للظلم والمراد منه ما بينا أن الجنسية علة للضم
يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَاذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَواة ُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ
اعلم أن هذه الآية من بقية ما يذكره الله تعالى في توبيخ الكفار يوم القيامة وبين تعالى أنه لا يكون لهم إلى الجحود سبيل فيشهدون على أنفسهم بأنهم كانوا كافرين وإنهم لم يعذبوا إلا بالحجة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال أهل اللغة المعشر كل جماعة أمرهم واحد ويحصل بينهم معاشرة ومخالطة والجمع المعاشر وقوله رُسُلٌ مّنكُمْ اختلفوا هل كان من الجن رسول أم لا فقال الضحاك

أرسل من الجن رسل كالإنس وتلا هذه الآية وتلا قوله وَإِن مّنْ أُمَّة ٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ ( فاطر 24 ) ويمكن أن يحتج الضحاك بوجه آخر وهو قوله تعالى وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً ( الأنعام 9 ) قال المفسرون السبب فيه أن استئناس الإنسان بالإنسان أكمل من استئناسه بالملك فوجب في حكمة الله تعالى أن يجعل رسول الإنس من الإنس ليكمل هذا الاستئناس
إذا ثبت هذا المعنى فهذا السبب حاصل في الجن فوجب أن يكون رسول الجن من الجن
والقول الثاني وهو قول الأكثرين أنه ما كان من الجن رسول البتة وإنما كان الرسل من الأنس وما رأيت في تقرير هذا القول حجة إلا ادعاء الإجماع وهو بعيد لأنه كيف ينعقد الإجماع مع حصول الاختلاف ويمكن أن يستدل فيه بقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَءالَ إِبْراهِيمَ وَءالَ عِمْرانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ( آل عمران 33 ) وأجمعوا على أن المراد بهذا الاصطفاء إنما هو النبوة فوجب كون النبوة مخصوصة بهؤلاء القوم فقط فأما تمسك الضحاك بظاهر هذه الآية فالكلام عليه من وجوه الأول أنه تعالى قال يَكْسِبُونَ يَامَعْشَرَ الْجِنّ وَالإنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنْكُمْ فهذا يقتضي أن رسل الجن والإنس تكون بعضاً من أبعاض هذا المجموع وإذا كان الرسل من الإنس كان الرسل بعضاً من أبعاض ذلك المجموع فكان هذا القدر كافياً في حمل اللفظ على ظاهره فلم يلزم من ظاهر هذه الآية إثبات رسول من الجن الثاني لا يبعد أن يقال إن الرسل كانوا من الأنس إلا أنه تعالى كان يلقي الداعية في قلوب قوم من الجن حتى يسمعوا كلام الرسل ويأتوا قومهم من الجن ويخبرونهم بما سمعوه من الرسل وينذرونهم به كما قال تعالى وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ الْجِنّ ( الأحفاق 29 ) فأولئك الجن كانوا رسل الرسل فكانوا رسلاً لله تعالى والدليل عليه أنه تعالى سمى رسل عيسى رسل نفسه فقال إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ ( ي س 14 ) وتحقيق القول فيه أنه تعالى إنما بكت الكفار بهذه الآية لأنه تعالى أزال العذر وأزاح العلة بسبب أنه أرسل الرسل إلى الكل مبشرين ومنذرين فإذا وصلت البشارة والنذارة إلى الكل بهذا الطريق فقد حصل ماهو المقصود من إزاحة العذر وإزالة العلة فكان المقصود حاصلاً
الوجه الثالث في الجواب قال الواحدي قوله تعالى رُسُلٌ مّنكُمْ أراد من أحدكم وهو الأنس وهو كقوله يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ ( الرحمن 22 ) أي من أحدهما وهو الملح الذي ليس بعذب
واعلم أن الوجهين الأولين لا حاجة معهما إلى ترك الظاهر أما هذا الثالث فإنه يوجب ترك الظاهر ولا يجوز المصير إليه إلا بالدليل المنفصل
أما قوله يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ ءايَاتِى فالمراد منه التنبيه على الأدلة بالتلاوة وبالتأويل وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَاذَا أي يخوفونكم عذاب هذا اليوم فلم يجدوا عند ذلك إلا الاعتراف فلذلك قالوا شهدنا على أنفسنا
فإن قالوا ما السبب في أنهم أقروا في هذه الآية بالكفر وجحدوه في قوله وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ
قلنا يوم القيامة يوم طويل والأحوال فيه مختلفة فتارة يقرون وأخرى يجحدون وذلك يدل على شدة

خوفهم واضطراب أحوالهم فإن من عظم خوفه كثر الاضطراب في كلامه
ثم قال تعالى وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَواة ُ الدُّنْيَا والمعنى أنهم لما أقروا على أنفسهم بالكفر فكأنه تعالى يقول وإنما وقعوا في ذلك الكفر بسبب أنهم غرتهم الحياة الدنيا
ثم قال تعالى وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ والمراد أنهم وإن بالغوا في عداوة الأنبياء والطعن في شرائعهم ومعجزاتهم إلا أن عاقبة أمرهم أنهم أقروا على أنفسهم بالكفر ومن الناس من حمل قوله وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ بأن تشهد عليهم الجوارح بالشرك والكفر ومقصودهم دفع التكرار عن الآية وكيفما كان فالمقصود من شرح أحوالهم في القيامة زجرهم في الدنيا عن الكفر والمعصية
واعلم أن أصحابنا يتمسكون بقوله تعالى أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَاذَا على أنه لا يحصل الوجوب البتة قبل ورود الشرع فإنه لو حصل الوجوب واستحقاق العقاب قبل ورود الشرع لم يكن لهذا التعليل والذكر فائدة
ذالِكَ أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين أنه ما عذب الكفار إلا بعد أن بعث إليهم الأنبياء والرسل بين بهذه الآية أن هذا هو العدل والحق والواجب وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) قوله ذالِكَ إشارة إلى ما تقدم من بعثة الرسل إليهم وإنذارهم سوء العاقبة وهو خبر مبتدأ محذوف والتقدير الأمر ذلك
وأما قوله أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ ففيه وجوه أحدها أنه تعليل والمعنى الأمر ما قصصنا عليك لانتفاء كون ربك مهلك القرى بظلم وكلمة ( أن ) ههنا هي التي تنصب الأفعال وثانيها يجوز أن تكون مخففة من الثقيلة والمعنى لأنه لم يكن ربك مهلك القرى بظلم والضمير في قوله لأنه ضمير الشأن والحديث والتقدير لأن الشأن والحديث لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وثالثها أن يجعل قوله أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ بدلاً من قوله ذالِكَ كقوله وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الاْمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآْء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ ( الحجر 66 )
وأما قوله بِظُلْمٍ ففيه وجهان الأول أن يكون المعنى وما كان ربك مهلك القرى بسبب ظلم أقدموا عليه والثاني أن يكون المراد وما كان ربك مهلك القرى ظلماً عليهم وهو كقوله وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ( هود 117 ) في سورة هود فعلى الوجه الأول يكون الظلم فعلاً للكفار وعلى الثاني يكون عائداً إلى فعل الله تعالى والوجه الأول أليق بقولنا لأن القول الثاني يوهم أنه

تعالى لو أهلكهم قبل بعثة الرسل كان ظالماً وليس الأمر عندنا كذلك لأنه تعالى يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد ولا اعتراض عليه لأحد في شيء من أفعاله وأما المعتزلة فهذا القول الثاني مطابق لمذهبهم موافق لمعتقدهم وأما أصحابنا فمن فسر الآية بهذا الوجه الثاني قال إنه تعالى لو فعل ذلك لم يكن ظالماً لكنه يكون في صورة الظالم فيما بينا فوصف بكونه ظالماً مجازاً وتمام الكلام في هذين القولين مذكور في سورة هود عند قوله بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ
وأما قوله وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ فليس المراد من هذه الغفلة أن يتغافل المرء عما يوعظ به بل معناها أن لا يبين الله لهم كيفية الحال ولا أن يزيل عذرهم وعلتهم
واعلم أن أصحابنا يتمسكون بهذه الآية في إثبات أنه لا يحصل الوجوب قبل الشرع وأن العقل المحض لا يدل على الوجوب البتة قالوا لأنها تدل على أنه تعالى لا يعذب أحداً على أمر من الأمور إلا بعد البعثة للرسول والمعتزلة قالوا إنها تدل من وجه آخر على أن الوجوب قد يتقرر قبل مجيء الشرع لأنه تعالى قال أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ فهذا الظلم إما أن يكون عائداً إلى العبد أو إلى الله تعالى فإن كان الأول فهذا يدل على إمكان أن يصدر منه الظلم قبل البعثة وإنما يكون الفعل ظلماً قبل البعثة لو كان قبيحاً وذنباً قبل بعثة الرسل وذلك هو المطلوب وإن كان الثاني فذلك يقتضي أن يكون هذا الفعل قبيحاً من الله تعالى وذلك لا يتم إلا مع الاعتراف بتحسين العقل وتقبيحه
وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن عامر وحده تَعْمَلُونَ بالتاء على الخطاب والباقون بالياء على الغيبة
المسألة الثانية اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال أهل الثواب والدرجات وأحوال أهل العقاب والدركات ذكر كلاماً كلياً فقال وَلِكُلّ دَرَجَاتٌ مّمَّا عَمِلُواْ وفي الآية قولان
القول الأول أن قوله وَلِكُلّ دَرَجَاتٌ مّمَّا عَمِلُواْ عام في المطيع والعاصي والتقدير
ولكل عامل عمل فله في عمله درجات فتارة يكون في درجة ناقصة وتارة يترقى منها إلى درجة كاملة وأنه تعالى عالم بها على التفصيل التام فرتب على كل درجة من تلك الدرجات ما يليق به من الجزاء إن خيراً فخير وإن شراً فشر
والقول الثاني أن قوله وَلِكُلّ دَرَجَاتٌ مّمَّا عَمِلُواْ مختص بأهل الطاعة لأن لفظ الدرجة لا يليق إلا بهم وقوله وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ مختص بأهل الكفر والمعصية والصواب هو الأول
المسألة الثالثة اعلم أن هذه الآية تدل أيضاً على صحة قولنا في مسألة الجبر والقدر وذلك لأنه

تعالى حكم لكل واحد في وقت معين بحسب فعل معين بدرجة معينة وعلم تلك الدرجة بعينها وأثبت تلك الدرجة المعينة في اللوح المحفوظ وأشهد عليه زمر الملائكة المقربين فلو لم تحصل تلك الدرجة لذلك الإنسان لبطل ذلك الحكم ولصار ذلك العلم جهلاً ولصار ذلك الإشهاد كذباً وكل ذلك محال فثبت أن لكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما تعملون وإذا كان الأمر كذلك فقد جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة والسعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه
وَرَبُّكَ الْغَنِى ُّ ذُو الرَّحْمَة ِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَآءُ كَمَآ أَنشَأَكُمْ مِّن ذُرِّيَّة ِ قَوْمٍ ءَاخَرِينَ إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لأَتٍ وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما بين ثواب أصحاب الطاعات وعقاب أصحاب المعاصي والمحرمات وذكر أن لكل قوم درجة مخصوصة ومرتبة معينة بين أن تخصيص المطيعين بالثواب والمذنبين بالعذاب ليس لأجل أنه محتاج إلى طاعة المطيعين أو ينتقص بمعصية المذنبين فإنه تعالى غني لذاته عن جميع العالمين ومع كونه غنياً فإن رحمته عامة كاملة ولا سبيل إلى ترتيب هذه الأرواح البشرية والنفوس الإنسانية وإيصالها إلى درجات السعداء الأبرار إلا بترتيب الترغيب في الطاعات والترهيب عن المحظورات فقال وَرَبُّكَ الْغَنِى ُّ ذُو الرَّحْمَة ِ ومن رحمته على الخلق ترتيب الثواب والعقاب على الطاعة والمعصية فنفتقر ههنا إلى بيان أمرين الأول إلى بيان كونه تعالى غنياً فنقول إنه تعالى غني في ذاته وصفاته وأفعاله وأحكامه عن كل ما سواه لأنه لو كان محتاجاً لكان مستكملاً بذلك الفعل والمستكمل بغيره ناقص بذاته وهو على الله محال وأيضاً فكل إيجاب أو سلب يفرض فإن كان ذاته كافية في تحققه وجب دوام ذلك الإيجاب أو ذلك السلب بدوام ذاته وإن لم تكن كافية فحينئذ يتوقف حصول تلك الحالة وعدمها على وجود سبب منفصل أو عدمه فذاته لا تنفك عن ذلك الثبوت والعدم وهما موقوفان على وجود ذلك السبب المنفصل وعدمه والموقوف على الموقوف على الشيء موقوف على ذلك الشيء فيلزم كون ذاته موقوفة على الغير والموقوف على الغير ممكن لذاته فالواجب لذاته ممكن لذاته وهو محال فثبت أنه تعالى غني على الإطلاق
واعلم أن قوله وَرَبُّكَ الْغَنِى ُّ يفيد الحصر معناه أنه لا غني إلا هو والأمر كذلك لأن واجب الوجود لذاته واحد وما سواه ممكن لذاته والممكن لذاته محتاج فثبت أنه لا غني إلا هو فثبت بهذا

البرهان القاطع صحة قوله سبحانه وَرَبُّكَ الْغَنِى ُّ وأما إثبات أنه ذُو الرَّحْمَة ِ فالدليل عليه أنه لا شك في وجود خيرات وسعادات ولذات وراحات إما بحسب الأحوال الجسمانية وإما بحسب الأحوال الروحانية فثبت بالبرهان الذي ذكرناه أن كل ما سواه فهو ممكن لذاته وإنما يدخل في الوجود بإيجاده وتكوينه وتخليقه فثبت أن كل ما دخل في الوجود من الخيرات والراحات والكرامات والسعادات فهو من الحق سبحانه وبإيجاده وتكوينه ثم إن الاستقراء دل على أن الخير غالب على الشر فإن المريض وإن كان كثيراً فالصحيح أكثر منه والجائع وإن كان كثيراً فالشبعان أكثر منه والأعمى وإن كان كثيراً إلا أن البصير أكثر منه فثبت أنه لا بد من الاعتراف بحصول الرحمة والراحة وثبت أن الخير أغلب من الشر والألم والآفة وثبت أن مبدأ تلك الراحات والخيرات بأسرها هو الله تعالى فثبت بهذا البرهان أنه تعالى هو ذُو الرَّحْمَة ِ
واعلم أن قوله وَرَبُّكَ الْغَنِى ُّ ذُو الرَّحْمَة ِ يفيد الحصر فإن معناه أنه لا رحمة إلا منه والأمر كذلك لأن الموجود إما واجب لذاته أو ممكن لذاته والواجب لذاته واحد فكل ما سواه فهو منه والرحمة داخلة فيما سواه فثبت أنه لا رحمة إلا من الحق فثبت بهذا البرهان صحة هذا الحصر فثبت أنه لا غني إلا هو فثبت أنه لا رحيم إلا هو
فإن قال قائل فكيف يمكننا إنكار رحمة الوالدين على الولد والمولى على عبده وكذلك سائر أنواع الرحمة
فالجواب أن كلها عند التحقيق من الله ويدل عليه وجوه الأول لولا أنه تعالى ألقى في قلب هذا الرحيم داعية الرحمة لما أقدم على الرحمة فلما كان موجد تلك الداعية هو الله كان الرحيم هو الله ألا ترى أن الإنسان قد يكون شديد الغضب على إنسان قاسي القلب عليه ثم ينقلب رؤوفاً رحيماً عطوفاً فانقلابه من الحالة الأولى إلى الثانية ليس إلا بانقلاب تلك الدواعي فثبت أن مقلب القلوب هو الله تعالى بالبرهان قطعاً للتسلسل وبالقرآن وهو قوله وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ ( الأنعام 110 ) فثبت أنه لا رحمة إلا من الله والثاني هب أن ذلك الرحيم أعطى الطعام والثوب والذهب ولكن لا صحة للمزاج والتمكن من الانتفاع بتلك الأشياء وإلا فكيف الانتفاع فالذي أعطى صحة المزاج والقدرة والمكنة هو الرحيم في الحقيقة والثالث أن كل من أعطى غيره شيئاً فهو إنما يعطي لطلب عوض وهو إما الثناء في الدنيا أو الثواب في الآخرة أو دفع الرقة الجنسية عن القلب وهو تعالى يعطي لا لغرض أصلاً فكان تعالى هو الرحيم الكريم فثبت بهذه البراهين اليقينية القطعية صحة قوله سبحانه وتعالى وَرَبُّكَ الْغَنِى ُّ ذُو الرَّحْمَة ِ بمعنى أنه لا غني ولا رحيم إلا هو فإذا ثبت أنه غني عن الكل ثبت أنه لا يستكمل بطاعات المطيعين ولا ينتقص بمعاصي المذنبين وإذا ثبت أنه ذو الرحمة ثبت أنه ما رتب العذاب على الذنوب ولا الثواب على الطاعات إلا لأجل الرحمة والفضل والكرم والجود والإحسان كما قال في آية أخرى إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لاِنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ( الإسراء 7 ) فهذا البيان الإجمالي كاف في هذا الباب وأما تفصيل تلك الحالة وشرحها على البيان التام فمما لا يليق بهذا الموضع
المسألة الثانية أما المعتزلة فقالوا هذه الآية إشارة إلى الدليل الدال على كونه عادلاً منزهاً عن فعل القبيح وعلى كونه رحيماً محسناً بعباده أما المطلوب الأول فقال تقريره أنه تعالى عالم بقبح القبائح وعالم

بكونه غنياً عنه وكل من كان كذلك فإنه يتعالى عن فعل القبيح
أما المقدمة الأولى فتقريرها إنما يتم بمجموع مقدمات ثلاثة أولها أن في الحوادث ما يكون قبيحاً نحو الظلم والسفه والكذب والغيبة وهذه المقدمة غير مذكورة في الآية لغاية ظهورها وثانيها كونه تعالى عالماً بالمعلومات وإليه الإشارة بقوله قبل هذه الآية وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ وثالثها كونه تعالى غنياً عن الحاجات وإليه الإشارة بقوله وَرَبُّكَ الْغَنِى ُّ وإذا ثبت مجموع هذه المقدمات الثلاثة ثبت أنه تعالى عالم بقبح القبائح وعالم بكونه غنياً عنها فإذا ثبت هذا امتنع كونه فاعلاً لها لأن المقدم على فعل القبيح إنما يقدم عليه إما لجهله بكونه قبيحاً وإما لاحتياجه فإذا كان عالماً بالكل امتنع كونه جاهلاً بقبح القبائح وإذا كان غنياً عن الكل امتنع كونه محتاجاً إلى فعل القبائح وذلك يدل على أنه تعالى منزه عن فعل القبائح متعال عنها فحينئذ يقطع بأنه لا يظلم أحداً فلما كلف عبيده الأفعال الشاقة وجب أن يثيبهم عليها ولما رتب العقاب والعذاب على فعل المعاصي وجب أن يكون عادلاً فيها فبهذا الطريق ثبت كونه تعالى عادلاً في الكل
فإن قال قائل هب أن بهذا الطريق انتفى الظلم عنه تعالى فما الفائدة في التكليف
فالجواب أن التكليف إحسان ورحمة على ما هو مقرر في ( كتب الكلام ) فقوله وَرَبُّكَ الْغَنِى ُّ إشارة إلى المقام الأول وقوله ذُو الرَّحْمَة ِ إشارة إلى المقام الثاني فهذا تقرير الدلائل التي استنبطها طوائف العقلاء من هذه الآية على صحة قولهم
واعلم يا أخي أن الكل لا يحاولون إلا التقديس والتعظيم وسمعت الشيخ الإمام الوالد ضياء الدين عمر بن الحسين رحمه الله قال سمعت الشيخ أبا القاسم سليمان بن ناصر الأنصاري يقول نظر أهل السنة على تعظيم الله في جانب القدرة ونفاذ المشيئة ونظر المعتزلة على تعظيم الله في جانب العدل والبراءة عن فعل ما لا ينبغي فإذا تأملت علمت أن أحداً لم يصف الله إلا بالتعظيم والإجلال والتقديس والتنزيه ولكن منهم من أخطأ ومنهم من أصاب ورجاء الكل متعلق بهذه الكلمة وهي قوله وَرَبُّكَ الْغَنِى ُّ ذُو الرَّحْمَة ِ
ثم قال تعالى إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاء والمعنى أنه تعالى لما وصف نفسه بأنه ذو الرحمة فقد كان يجوز أن يظن ظان أنه وإن كان ذا الرحمة إلا أن لرحمته معدناً مخصوصاً وموضعاً معيناً فبين تعالى أنه قادر على وضع الرحمة في هذا الخلق وقادر على أن يخلق قوماً آخرين ويضع رحمته فيهم وعلى هذا الوجه يكون الاستغناء عن العالمين أكمل وأتم والمقصود التنبيه على أن تخصيص الرحمة بهؤلاء ليس لأجل أنه لا يمكنه إظهار رحمته إلا بخلق هؤلاء أما قوله إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ فالأقرب أن المراد به الإهلاك ويحتمل الإماتة أيضاً ويحتمل أن لا يبلغهم مبلغ التكليف وأما قوله وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم يعني من بعد إذهابكم لأن الاستخلاف لا يكون إلا على طريق البدل من فائت وأما قوله مَا يَشَاء فالمراد منه خلق ثالث ورابع واختلفوا فقال بعضهم خلقاً آخر من أمثال الجن والإنس يكونون أطوع وقال أبو مسلم بل المراد أنه قادر على أن يخلق خلقاً ثالثاً مخالفاً للجن والإنس قال القاضي وهذا الوجه أقرب لأن القوم

يعلمون بالعادة أنه تعالى قادر على إنشاء أمثال هذا الخلق فمتى حمل على خلق ثالث ورابع يكون أقوى في دلالة القدرة فكأنه تعالى نبه على أن قدرته ليست مقصورة على جنس دون جنس من الخلق الذين يصلحون لرحمته العظيمة التي هي النواب فبين بهذا الطريق أنه تعالى لرحمته لهؤلاء القوم الحاضرين أبقاهم وأمهلهم ولو شاء لأماتهم وأفناهم وأبدل بهم سواهم ثم بين تعالى علة قدرته على ذلك فقال كَمَا أَنشَأَكُمْ مّن ذُرّيَّة ِ قَوْمٍ ءاخَرِينَ لأن المرء العاقل إذا تفكر علم أنه تعالى خلق الإنسان من نطفة ليس فيها من صورته قليل ولا كثير فوجب أن يكون ذلك بمحض القدرة والحكمة وإذا كان الأمر كذلك فكما قدر تعالى على تصوير هذه الأجسام بهذه الصورة الخاصة فكذلك يقدر على تصويرهم بصورة مخالفة لها وقرأ القراء كلهم ذُرّيَّة ِ بضم الذال وقرأ زيد بن ثابت بكسر الذال قال الكسائي هما لغتان
ثم قال تعالى إِنَّمَا تُوعَدُونَ لأَتٍ قال الحسن أي من مجيء الساعة لأنهم كانوا ينكرون القيامة وأقول فيه احتمال آخر وهو أن الوعد مخصوص بالأخبار عن الثواب وأما الوعيد فهو مخصوص بالأخبار عن العقاب فقوله إِنَّمَا تُوعَدُونَ لأَتٍ يعني كل ما تعلق بالوعد بالثواب فهو آت لا محالة فتخصيص الوعد بهذا الجزم يدل على أن جانب الوعيد ليس كذلك ويقوي هذا الوجه آخر الآية وهو أنه قال وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ يعني لا تخرجون عن قدرتنا وحكمنا فالحاصل أنه لما ذكر الوعد جزم بكونه آتياً ولما ذكر الوعيد ما زاد على قوله وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ وذلك يدل على أن جانب الرحمة والإحسان غالب
قُلْ يَاقَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّى عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَة ُ الدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ
اعلم أنه لما بين بقوله إِنَّمَا تُوعَدُونَ لأَتٍ أمر رسوله من بعده أن يهدد من ينكر البعث عن الكفار فقال قُلْ ياأَهْلَ قَوْمٌ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ وفيه مباحث
البحث الأول قرأ أبو بكر عن عاصم مكاناتكم بالألف على الجمع في كل القرآن والباقون عَلَى مَكَانَتِكُمْ قال الواحدي والوجه الإفراد لأنه مصدر والمصادر في أكثر الأمر مفردة وقد تجمع أيضاً في بعض الأحوال إلا أن الغالب هو الأول
البحث الثاني قال صاحب ( الكشاف ) المكانة تكون مصدراً يقال مكن مكانة إذا تمكن أبلغ التمكن وبمعنى المكان يقال مكان ومكانة ومقام ومقامة فقوله اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ يحتمل اعملوا على تمكنكم من أمركم وأقصى استطاعتكم وإمكانكم ويحتمل أيضاً أن يراد اعملوا على حالتكم التي أنتم عليها يقال للرجل إذا أمر أن يثبت على حالة على مكانتك يا فلان أي اثبت على ما أنت عليه لا

تنحرف عنه إِنّى عَامِلٌ أي أنا عامل على مكانتي التي عليها والمعنى اثبتوا على كفركم وعداوتكم فأني ثابت على الإسلام وعلى مضارتكم فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ أيناله العاقبة المحمودة وطريقة هذا الأمر طريقة قوله اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ وهي تفويض الأمر إليهم على سبيل التهديد
البحث الثالث من في قوله فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَة ُ الدَّارِ ذكر الفراء في موضعه من الإعراب وجهين الأول أنه نصب لوقوع العلم عليه الثاني أن يكون رفعاً على معنى تعلمون أينا تكون له عاقبة الدار كقوله تعالى لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ ( الكهف 12 )
البحث الرابع قوله فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَة ُ الدَّارِ يوهم أن الكافر ليست له عاقبة الدار وذلك مشكل
قلنا العاقبة تكون على الكافر ولا تكون له كما يقال له الكثرة ولهم الظفر وفي ضده يقال عليكم الكثرة والظفر
البحث الخامس قرأ حمزة والكسائي مَّن يَكُونُ بالياء وفي القصص أيضاً والباقون بالتاء في السورتين قال الواحدي العاقبة مصدر كالعافية وتأنيثه غير حقيقي فمن أنث فكقوله فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَة ُ ( المؤمنون 41 ) ومن ذكر فكقوله وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَة ُ ( هود 67 ) وقال قَدْ جَاءتْكُمْ مَّوْعِظَة ٌ مّن رَّبّكُمْ ( يونس 57 ) وفي آية أخرى فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَة ٌ مّنْ رَّبّهِ ( البقرة 275 )
ثم قال تعالى إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ والغرض منه بيان أن قوله اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ تهديد وتخويف لا أنه أمر وطلب ومعناه أن هؤلاء الكفار لا يفلحون ولا يفوزون بمطالبهم البتة
وَجَعَلُواْ لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالاٌّ نْعَامِ نَصِيباً فَقَالُواْ هَاذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَاذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين قبح طريقتهم في إنكارهم البعث والقيامة ذكر عقيبه أنواعاً من جهالاتهم وركاكات أقوالهم تنبيهاً على ضعف عقولهم وقلة محصولهم وتنفيراً للعقلاء عن الالتفات إلى كلماتهم فمن جملتها أنهم يجعلون لله من حروثهم كالتمر والقمح ومن أنعامهم كالضأن والمعز والإبل والبقر نصيباً فقالوا هَاذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ يريد بكذبهم
فإن قيل أليس أن جميع الأشياء لله فكيف نسبوا إلى الكذب في قولهم هذا لله

قلنا إفرازهم النصيبين نصيباً لله ونصيباً للشيطان هو الكذب قال الزجاج وتقدير الكلام جعلوا لله نصيباً ولشركائهم نصيباً ودل على هذا المحذوف تفصيله القسمين فيما بعد وهو قوله هَاذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَاذَا لِشُرَكَائِنَا وجعل الأوثان شركاءهم لأنهم جعلوا لها نصيباً من أموالهم ينفقونها عليها
ثم قال تعالى فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ وفي تفسيره وجوه الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما كان المشركون يجعلون لله من حروثهم وأنعامهم نصيباً وللأوثان نصيباً فما كان للصنم أنفقوه عليه وما كان لله أطعموه الصبيان والمساكين ولا يأكلون منه البتة ثم إن سقط مما جعلوه لله في نصيب الأوثان تركوه وقالوا إن الله غني عن هذا وإن سقط مما جعلوه للأوثان في نصيب الله أخذوه وردوه إلى نصيب الصنم وقالوا إنه فقير الثاني قال الحسن والسدي كان إذا هلك ما لأوثانهم أخذوا بدله مما لله ولا يفعلون مثل ذلك فيما لله عز وجل الثالث قال مجاهد المعنى أنه إذا انفجر من سقي ما جعلوه للشيطان في نصيب الله سدوه وإن كان على ضد ذلك تركوه الرابع قال قتادة إذا أصابهم القحط استعانوا بما لله ووفروا ما جعلوه لشركائهم الخامس قال مقاتل إن زكا ونما نصيب الآلهة ولم يزك نصيب الله تركوا نصيب الآلهة لها وقالوا لو شاء زكى نصيب نفسه وإن زكا نصيب الله ولم يزك نصيب الآلهة قالوا لا بد لآلهتنا من نفقة فأخذوا نصيب الله فأعطوه السدنة فذلك قوله فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ يعني من نماء الحرث والأنعام فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللَّهِ يعني المساكين وإنما قال إِلَى اللَّهِ لأنهم كانوا يفرزونه لله ويسمونه نصيب الله وما كان لله فهو يصل إليهم ثم إنه تعالى ذم هذا الفعل فَقَالَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ وذكر العلماء في كيفية هذه الإساءة وجوهاً كثيرة الأول أنهم رجحوا جانب الأصنام في الرعاية والحفظ على جانب الله تعالى وهو سفه الثاني أنهم جعلوا بعض النصيب لله وجعلوا بعضه لغيره مع أنه تعالى الخالق للجميع وهذا أيضاً سفه الثالث أن ذلك الحكم حكم أحدثوه من قبل أنفسهم ولم يشهد بصحته عقل ولا شرع فكان أيضاً سفهاً الرابع أنه لو حسن إفراز نصيب الأصنام لحسن إفراز النصيب لكل حجر ومدر الخامس أنه لا تأثير للأصنام في حصول الحرث والأنعام ولا قدرة لها أيضاً على الانتفاع بذلك النصيب فكان إفراز النصيب لها عبثاً فثبت بهذا الوجوه أنه سَاء مَا يَحْكُمُونَ والمقصود من حكاية أمثال هذه المذاهب الفاسدة أن يعرف الناس قلة عقول القائلين بهذه المذاهب وأن يصير ذلك سبباً لتحقيرهم في أعين العقلاء وأن لا يلتفت إلى كلامهم أحد البتة
وَكَذالِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ

في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن هذا هو النوع الثاني من أحكامهم الفاسدة ومذاهبهم الباطلة وقوله وَكَذالِكَ عطف على قوله وَجَعَلُواْ لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالاْنْعَامِ أي كما فعلوا ذلك فكذلك زين لكثير منهم شركاؤهم قتل الأولاد والمعنى أن جعلهم لله نصيباً وللشركاء نصيباً نهاية في الجهل بمعرفة الخالق المنعم وإقدامهم على قتل أولاد أنفسهم نهاية في الجهالة والضلالة وذلك يفيد التنبيه على أن أحكام هؤلاء وأحوالهم يشاكل بعضها بعضاً في الركاكة والخساسة
المسألة الثانية كان أهل الجاهلية يدفنون بناتهم أحياء خوفاً من الفقر أو من التزويج وهو المراد من هذه الآية واختلفوا في المراد بالشركاء فقال مجاهد شركاؤهم شياطينهم أمروهم بأن يئدوا أولادهم خشية العيلة وسميت الشياطين شركاء لأنهم أطاعوهم في معصية الله تعالى وأضيفت الشركاء إليهم لأنهم اتخذوها كقوله تعالى أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ وقال الكلبي كان لآلهتهم سدنة وخدام وهم الذين كانوا يزينون للكفار قتل أولادهم وكان الرجل يقوم في الجاهلية فيحلف بالله لئن ولد له كذا وكذا غلاماً لينحرن أحدهم كما حلف عبد المطلب على ابنه عبد الله وعلى هذا القول الشركاء هم السدنة سموا شركاء كما سميت الشياطين شركاء في قول مجاهد
المسألة الثالثة قرأ ابن عامر وحده زُيّنَ بضم الزاء وكسر الياء وبضم اللام من قَتْلَ و أَوْلَادُهُمْ بنصب الدال شُرَكَائِهِمْ بالخفض والباقون زُيّنَ بفتح الزاي والياء قَتْلَ بفتح اللام أَوْلَادُهُمْ بالجر شُرَكَاؤُهُمْ بالرفع أما وجه قراءة ابن عامر فالتقدير زين لكثير من المشركين قتل شركائهم أولادهم إلا أنه فصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول به وهو الأولاد وهو مكروه في الشعر كما في قوله فزججتها بمزجة
زج القلوص أبي مزاده
وإذا كان مستكرهاً في الشعر فكيف في القرآن الذي هو معجز في الفصاحة قالوا والذي حمل ابن عامر على هذه القراءة أنه رأى في بعض المصاحف شُرَكَائِهِمْ مكتوباً بالياء ولو قرأ بجر الأولاد والشركاء لأجل أن الأولاد شركاؤهم في أموالهم لوجد في ذلك مندوحة عن هذا الارتكاب وأما القراءة المشهورة فليس فيها إلا تقديم المفعول على الفاعل ونظيره قوله لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا ( الأنعام 158 ) وقوله وَإِذِ ابْتَلَى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ ( البقرة 124 ) والسبب في تقديم المفعول هو أنهم يقدمون الأهم والذي هم بشأنه أعنى وموضع التعجب ههنا إقدامهم على قتل أولادهم فلهذا السبب حصل هذا التقدير
ثم قال تعالى لِيُرْدُوهُمْ والإرداء في اللغة الإهلاك وفي القرآن إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ ( الصافات 56 ) قال ابن عباس ليردوهم في النار واللام ههنا محمولة على لام العاقبة كما في قوله فَالْتَقَطَهُ ءالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً ( القصص 8 ) وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ( الأنعام 137 ) أي ليخلطوا لأنهم كانوا على دين إسمعيل فهذا الذي أتاهم بهذه الأوضاع الفاسدة أراد أن يزيلهم عن ذلك الدين الحق
ثم قال تعالى وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ قال أصحابنا إنه يدل على أن كل ما فعله المشركون فهو بمشيئة الله تعالى قالت المعتزلة إنه محمول على مشيئة الإلجاء وقد سبق ذكره مراراً فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ( الأنعام 112 )

وهذا على قانون قوله تعالى اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ وقوله وَمَا يَفْتَرُونَ يدل على أنهم كانوا يقولون إن الله أمرهم بقتل أولادهم فكانوا كاذبين في ذلك القول
وَقَالُواْ هَاذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَآ إِلاَّ مَن نَّشَآءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَآءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ
اعلم أن هذا نوع ثالث من أحكامهم الفاسدة وهي أنهم قسموا أنعامهم أقساماً فأولها إن قالوا هَاذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ فقوله حِجْرٍ فعل بمعنى مفعول كالذبح والطحن ويستوي في الوصف به المذكر والمؤنث والواحد والجمع لأن حكمه حكم الأسماء غير الصفات وأصل الحجر المنع وسمى العقل حجراً لمنعه عن القبائح وفلان في حجر القاضي أي في منعه وقرأ الحسن وقتادة حِجْرٍ بضم الحاء وعن ابن عباس حَرَجٌ وهو من الضيق وكانوا إذا عينوا شيئاً من حرثهم وأنعامهم لآلهتهم قالوا لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نَّشَاء يعنون خدم الأوثان والرجال دون النساء
والقسم الثاني من أنعامهم الذي قالوا فيه وَأَنْعَامٌ حُرّمَتْ ظُهُورُهَا وهي البحائر والسوائب والحوامي وقد مر تفسيره في سورة المائدة
والقسم الثالث أَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا في الذبح وإنما يذكرون عليها أسماء الأصنام وقيل لا يحجوم عليها ولا يلبون على ظهورها
ثم قال افْتِرَاء عَلَيْهِ فانتصابه على أنه مفعول له أو حال أو مصدر مؤكد لأن قولهم ذلك في معنى الافتراء
ثم قال تعالى سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ والمقصود منه الوعيد
وَقَالُواْ مَا فِى بُطُونِ هَاذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَة ٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَة ً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَآءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ

وفي الآية مسائل
المسألة الأولى هذا نوع رابع من أنواع قضاياهم الفاسدة كانوا يقولون في أجنة البحائر والسوائب ما ولد منها حياً فهو خالص لذكور لا تأكل منها الأناث وما ولد ميتاً اشترك فيه الذكور والإناث سيجزيهم وصفهم والمراد منه الوعيد إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ليكون الزجر واقعاً على حد الحكمة وبحسب الاستحقاق
المسألة الثانية ذكر ابن الأنباري في تأنيث خَالِصَة ٌ ثلاثة أقوال قولين للفراء وقولاً للكسائي أحدها أن الهاء ليست للتأنيث وإنما هي للمبالغة في الوصف كما قالوا راوية وعلامة ونسابة والداهية والطاغية كذلك يقول هو خالصة لي وخالص لي هذا قول الكسائي
والقول الثاني أن مَا في قوله مَا فِى بُطُونِ هَاذِهِ الانْعَامِ عبارة عن الأجنة وإذا كان عبارة عن مؤنث جاز تأنيثه على المعنى وتذكيره على اللفظ كما في هذه الآية فإنه أنث خبره الذي هو خَالِصَة ٌ لمعناه وذكر في قوله وَمُحَرَّمٌ على اللفظ والثالث أن يكون مصدراً والتقدير ذو خالصة كقولهم عطاؤك عافية والمطر رحمة والرخص نعمة
المسألة الثالثة قرأ ابن عامر وَأَنْ تَكُنْ بالتاء و مَيْتَة ً بالنصب وقرأ ابن كثير يَكُنِ بالياء مَيْتَة ً بالرفع وقرأ أبو بكر عن عاصم تَكُنْ بالتاء مَيْتَة ً بالنصب والباقون يَكُنِ بالياء مَيْتَة ً بالنصب أما قراءة ابن عامر فوجهها أنه ألحق الفعل علامة التأنيث لما كان الفاعل مؤنثاً في اللفظ وأما قراءة ابن كثير فوجهها أن قوله مَيْتَة ً اسم يَكُنِ وخبره مضمر والتقدير وإن يكن لهم ميتة أو وإن يكن هناك ميتة وذكر لأن الميتة في معنى الميت قال أبو علي لم يلحق الفعل علامة التأنيث لما كان الفاعل المسند إليه تأنيثه غير حقيقي ولا يحتاج الكون إلى خبر لأنه بمعنى حدث ووقع وأما قراءة عاصم تَكُنْ بالتاء مَيْتَة ً بالنصب فالتقدير وإن تكن المذكور ميته فأنث الفعل لهذا السبب وأما قراءة الباقين وَإِن يَكُنْ بالياء مَيْتَة ً بالنصب فتأويلها وإن يكن المذكور ميتة ذكروا الفعل لأنه مسند إلى ضمير ما تقدم في قوله مَا فِى بُطُونِ هَاذِهِ الانْعَامِ وهو مذكر وانتصب قوله مَيْتَة ً لما كان الفعل مسنداً إلى الضمير
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَآءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى ذكر فيما تقدم قتلهم أولادهم وتحريمهم ما رزقهم الله ثم إنه تعالى جمع هذين الأمرين في هذه الآية وبين ما لزمهم على هذا الحكم وهو الخسران والسفاهة وعدم العلم وتحريم

ما رزقهم الله والافتراء على الله والضلال وعدم الاهتداء فهذه أمور سبعة وكل واحد منها سبب تام في حصول الذم
أما الأول وهو الخسران وذلك لأن الولد نعمة عظيمة من الله على العبد فإذا سعى في إبطاله فقد خسر خسراناً عظيماً لا سيما ويستحق على ذلك الإبطال الذم العظيم في الدنيا والعقاب العظيم في الآخرة أما الذم في الدنيا فلأن الناس يقولون قتل ولده خوفاً من أن يأكل طعامه وليس في الدنيا ذم أشد منه وأما العقاب في الآخرة فلأن قرابة الولادة أعظم موجبات المحبة فمع حصولها إذا أقدم على إلحاق أعظم المضار به كان ذلك أعظم أنواع الذنوب فكان موجباً لأعظم أنواع العقاب
والنوع الثاني السفاهة وهي عبارة عن الخفة المذمومة وذلك لأن قتل الولد إنما يكون للخوف من الفقر والفقر وإن كان ضرراً إلا أن القتل أعظم منه ضرراً وأيضاً فهذا القتل ناجز وذلك الفقر موهوم فالتزام أعظم المضار على سبيل القطع حذراً من ضرر قليل موهوم لا شك أنه سفاهة
والنوع الثالث قوله بِغَيْرِ عِلْمٍ فالمقصود أن هذه السفاهة إنما تولدت من عدم العلم ولا شك أن الجهل أعظم المنكرات والقبائح
والنوع الرابع تحريم ما أحل الله لهم وهو أيضاً من أعظم أنواع الحماقة لأنه يمنع نفسه تلك المنافع والطيبات ويستوجب بسبب ذلك المنع أعظم أنواع العذاب والعقاب
والنوع الخامس الافتراء على الله ومعلوم أن الجراءة على الله والافتراء عليه أعظم الذنوب وأكبر الكبائر
والنوع السادس الضلال عن الرشد في مصالح الدين ومنافع الدنيا
والنوع السابع أنهم ما كانوا مهتدين والفائدة فيه أنه قد يضل الإنسان عن الحق إلا أن يعود إلى الاهتداء فبين تعالى أنهم قد ضلوا ولم يحصل لهم الاهتداء قط فثبت أنه تعالى ذم الموصوفين بقتل الأولاد وتحريم ما أحله الله تعالى لهم بهذه الصفات السبعة الموجبة لأعظم أنواع الذم وذلك نهاية المبالغة
وَهُوَ الَّذِى أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَءَاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ

في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى جعل مدار هذا الكتاب الشريف على تقرير التوحيد والنبوة والمعاد وإثبات القضاء والقدر وأنه تعالى بالغ في تقرير هذه الأصول وانتهى الكلام إلى شرح أحوال السعداء والأشقياء ثم انتقل منه إلى تهجين طريقة من أنكر البعث والقيامة ثم أتبعه بحكاية أقوالهم الركيكة وكلماتهم الفاسدة في مسائل أربعة والمقصود التنبيه على ضعف عقولهم وقلة محصولهم وتنفير الناس عن الالتفات إلى قولهم والاغترار بشبهاتهم فلما تمم هذه الأشياء عاد بعدها إلى ما هو المقصود الأصلي وهو إقامة الدلائل على تقرير التوحيد فقال وَهُوَ الَّذِى أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ
واعلم أنه قد سبق ذكر هذا الدليل في هذه السورة وهو قوله وَهُوَ الَّذِى أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلّ شَى ْء فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً وَمِنَ ( الأنعام 99 ) فالآية المتقدمة ذكر تعالى فيها خمسة أنواع وهي الزرع والنخل وجنات من أعناب والزيتون والرمان وفي هذه الآية التي نحن في تفسيرها ذكر هذه الخمسة بأعيانها لكن على خلاف ذلك الترتيب لأنه ذكر العنب ثم النخل ثم الزرع ثم الزيتون ثم الرمان وذكر في الآية المتقدمة مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ وفي هذه الآية مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ثم ذكر في الآية المتقدمة انْظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ فأمر تعالى هناك بالنظر في أحوالها والاستدلال بها على وجود الصانع الحكيم وذكر في هذه الآية كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَءاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ فأذن في الانتفاع بها وأمر بصرف جزء منها إلى الفقراء فالذي حصل به الامتياز بين الآيتين أن هناك أمر بالاستدلال بها على الصانع الحكيم وههنا أذن في الانتفاع بها وذلك تنبيه على أن الأمر بالاستدلال بها على الصانع الحكيم مقدم على الإذن في الانتفاع بها لأن الحاصل من الاستدلال بها سعادة روحانية أبدية والحاصل من الانتفاع بهذه سعادة جسمانية سريعة الانقضاء والأول أولى بالتقديم فلهذا السبب قدم الله تعالى الأمر بالاستدلال بها على الإذن بالانتفاع بها
المسألة الثانية قوله وَهُوَ الَّذِى أَنشَأَ أي خلق يقال نشأ الشيء ينشأ نشأة ونشاءة إذا ظهر وارتفع والله ينشئه إنشاء أي يظهره ويرفعه وقوله جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ يقال عرشت الكرم أعرشه عرشاً وعرشته تعريشاً إذا عطفت العيدان التي يرسل عليها قضبان الكرم والواحد عرش والجمع عروش ويقال عريش وجمعه عرش واعترش العنب العريش اعتراشاً إذا علاه
إذا عرفت هذا فنقول في قوله مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ أقوال الأول أن المعروشات وغير المعروشات كلاهما الكرم فإن بعض الأعناب يعرش وبعضها لا يعرش بل يبقى على وجه الأرض منبسطاً والثاني المعروشات العنب الذي يجعل لها عروش وغير المعروشات كل ما ينبت منبسطاً على وجه الأرض مثل القرع والبطيخ والثالث المعروشات ما يحتاج إلى أن يتخذ له عريش يحمل عليه فيمسكه وهو الكرم وما يجري مجراه وغير المعروش هو القائم من الشجر المستغني باستوائه وذهابه علواً لقوة ساقه عن التعريش والرابع المعروشات ما يحصل في البساتين والعمرانات مما يغرسه الناس واهتموا به فعرشوه وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ مما أنبته الله تعالى وحشياً في البراري والجبال فهو غير معروش وقوله

وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ فسر ابن عباس الزَّرْعَ ههنا بجميع الحبوب التي يقتات بها مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ أي لكل شيء منها طعم غير طعم الآخر والأكل كل ما أكل وههنا المراد ثمر النخل والزرع ومضى القول في فِى الاْكُلِ عند قوله فَأَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ ( البقرة 265 ) وقوله مُخْتَلِفًا نصب على الحال أي أنشأه في حال اختلاف أكله وهو قد أنشأه من قبل ظهور أكله وأكل ثمره
الجواب أنه تعالى أنشأها حال اختلاف ثمرها وصدق هذا لا ينافي صدق أنه تعالى أنشأها قبل ذلك أيضاً وأيضاً نصب على الحال مع أنه يؤكل بعد ذلك بزمان لأن اختلاف أكله مقدر كما تقول مررت برجل معه صقر صائداً به غداً أي مقدراً للصيد به غداً وقرأ ابن كثير ونافع أَكَلَهُ بتخفيف الكاف والباقون أَكَلَهُ في كل القرآن وأما توحيد الضمير في قوله مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ فالسبب فيه أنه اكتفى بإعادة الذكر على أحدهما من إعادته عليهما جميعاً كقوله تعالى وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَة ً أَوْ لَهْواً انفَضُّواْ إِلَيْهَا ( الجمعة 11 ) والمعنى إليهما وقوله وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ ( التوبة 62 )
وأما قوله مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ فقد سبق تفسيره في الآية المتقدمة
ثم قال تعالى كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وفيه مباحث
البحث الأول أنه تعالى لما ذكر كيفية خلقه لهذه الأشياء ذكر ما هو المقصود الأصلي من خلقها وهو انتفاع المكلفين بها فقال كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ واختلفوا ما الفائدة منه فقال بعضهم الإباحة وقال آخرون بل المقصود منه إباحة الأكل قبل إخراج الحق لأنه تعالى لما أوجب الحق فيه كان يجوز أن يحرم على المالك تناوله لمكان شركة المساكين فيه بل هذا هو الظاهر فأباح تعالى هذا الأكل وأخرج وجوب الحق فيه من أن يكون مانعاً من هذا التصرف وقال بعضهم بل أباح تعالى ذلك ليبين أن المقصد بخلق هذه النعم إما الأكل وإما التصدق وإنما قدم ذكر الأكل على التصدق لأن رعاية النفس مقدمة على رعاية الغير قال تعالى وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ( القصص 77 )
البحث الثاني تمسك بعضهم بقوله كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ بأن الأصل في المنافع الإباحة والإطلاق لأن قوله كُلُواْ خطاب عام يتناول الكل فصار هذا جارياً مجرى قوله تعالى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً وأيضاً يمكن التمسك به على أن الأصل عدم وجوب الصدقة وأن من ادعى إيجابه كان هو المحتاج إلى الدليل فيتمسك به في أن المجنون إذا أفاق في أثناء الشهر لا يلزمه قضاء ما مضى وفي أن الشارع في صوم النفل لا يجب عليه الإتمام
البحث الثالث قوله كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ يدل على أن صيغة الأمر قد ترد في غير موضع الوجوب وفي غير موضع الندب وعند هذا قال بعضهم الأصل في الاستعمال الحقيقة فوجب جعل هذه الصيغة مفيدة لرفع الحجر فلهذا قالوا الأمر مقتضاه الإباحة إلا أنا نقول نعلم بالضرورة من لغة العرب أن هذه الصيغة تفيد ترجيح جانب الفعل وأن حملها على الإباحة لا يصار إليه إلا بدليل منفصل
أما قوله تعالى وَهُوَ الَّذِى أَنشَأَ جَنَّاتٍ ففيه أبحاث
البحث الأول قرأ ابن عامر وأبو عمرو وعاصم حَصَادِهِ بفتح الحاء والباقون بكسر الحاء قال

الواحدي قال جميع أهل اللغة يقال حصاد وحصاد وجداد وجداد وقطاف وقطاف وجذاذ وجذاذ وقال سيبويه جاؤا بالمصادر حين أرادوا انتهاء الزمان على مثال فعال وربما قالوا فيه فعال
البحث الثاني في تفسير قوله وَهُوَ الَّذِى ثلاثة أقوال
القول الأول قال ابن عباس في رواية عطاء يريد به العشر فيما سقت السماء ونصف العشر فيما سقي بالدواليب وهو قول سعيد بن المسيب والحسن وطاوس والضحاك
فإن قالوا كيف يؤدي الزكاة يوم الحصاد والحب في السنبل وأيضاً هذه السورة مكية وإيجاب الزكاة مدني
قلنا لما تعذر إجراء قوله وَهُوَ الَّذِى على ظاهره بالدليل الذي ذكرتم لا جرم حلمناه على تعلق حق الزكاة به في ذلك الوقت والمعنى اعزموا على إيتاء الحق يوم الحصاد ولا تؤخروه عن أول وقت يمكن فيه الإيتاء
والجواب عن السؤال الثاني لا نسلم أن الزكاة ما كانت واجبة في مكة بل لا نزاع أن الآية المدنية وردت بإيجابها إلا أن ذلك لا يمنع أنها كانت واجبة بمكة وقيل أيضاً هذه الآية مدنية
والقول الثاني أن هذا حق في المال سوى الزكاة وقال مجاهد إذا حصدت فحضرت المساكين فاطرح لهم منه وإذا درسته وذريته فاطرح لهم منه وإذا كربلته فاطرح لهم منه وإذا عرفت كيله فاعزل زكاته
والقول الثالث أن هذا كان قبل وجوب الزكاة فلما فرضت الزكاة نسخ هذا وهذا قول سعيد بن جبير والأصح هو القول الأول والدليل عليه أن قوله تعالى وَهُوَ الَّذِى إنما يحسن ذكره لو كان ذلك الحق معلوماً قبل ورود هذه الآية لئلا تبقى هذه الآية مجملة وقد قال عليه الصلاة والسلام ( ليس في المال حق سوى الزكاة ) فوجب أن يكون المراد بهذا الحق حق الزكاة
البحث الثالث قوله تعالى وَهُوَ الَّذِى أَنشَأَ جَنَّاتٍ بعد ذكر الأنواع الخمسة وهو العنب والنخل والزيتون والرمان يدل عى وجوب الزكاة في الكل وهذا يقتضي وجوب الزكاة في الثمار كما كان يقوله أبو حنيفة رحمه الله
فإن قالوا لفظ الحصاد مخصوص بالزرع فنقول لفظ الحصد في أصل اللغة غير مخصوص بالزرع والدليل عليه أن الحصد في اللغة عبارة عن القطع وذلك يتناول الكل وأيضاً الضمير في قوله حصاده يجب عوده إلى أقرب المذكورات وذلك هو الزيتون والرمان فوجب أن يكون الضمير عائداً إليه
البحث الرابع قال أبو حنيفة رحمه الله العشر واجب في القليل والكثير وقال الأكثرون إنه لا يجب إلا إذا بلغ خمسة أوسق واحتج أبو حنيفة رحمه الله بهذه الآية فقال قوله وَهُوَ الَّذِى أَنشَأَ جَنَّاتٍ يقتضي ثبوت حق في القليل والكثير فإذا كان ذلك الحق هو الزكاة وجب القول بوجوب الزكاة في القليل والكثير
أما قوله تعالى وَلاَ تُسْرِفُواْ فاعلم أن لأهل اللغة في تفسير الإسراف قولين الأول قال ابن الأعرابي السرف تجاوز ما حد لك الثاني قال شمر سرف المال ما ذهب منه من غير منفعة

إذا عرفت هذا فنقول للمفسرين فيه أقوال الأول أن الإنسان إذا أعطى كل ماله ولم يوصل إلى عياله شيئاً فقد أسرف لأنه جاء في الخبر ( ابدأ بنفسك ثم بمن تعول ) وروي أن ثابت بن قيس بن شماس عمد إلى خمسمائة نخلة فجذها ثم قسمها في يوم واحد ولم يدخل منها إلى منزله شيئاً فأنزل الله تعالى قوله وَهُوَ الَّذِى أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ أي ولا تعطوا كله والثاني قال سعيد بن المسيب لا تُسْرِفُواْ أي لا تمنعوا الصدقة وهذان القولان يشتركان في أن المراد من الإسراف مجاوزة الحد إلا أن الأول مجاوزة في الإعطاء والثاني مجاوزة في المنع الثالث قال مقاتل معناه لا تشركوا الأصنام في الحرث والأنعام وهذا أيضاً من باب المجاوزة لأن من أشرك الأصنام في الحرث والأنعام فقد جاوز ما حد له الرابع قال الزهري معناه لا تنفقوا في معصية الله تعالى قال مجاهد لو كان أبو قبيس ذهباً فأنفقه رجل في طاعة الله تعالى لم يكن مسرفاً ولو أنفق درهماً في معصية الله كان مسرفاً وهذا المعنى أراده حاتم الطائي حين قيل له لا خير في السرف فقال لا سرف في الخير وهذا على القول الثاني في معنى السرف فإن من أنفق في معصية الله فقد أنفق فيما لا نفع فيه
ثم قال تعالى إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ والمقصود منه الزجر لأن كل مكلف لا يحبه الله تعالى فهو من أهل النار والدليل عليه قوله تعالى وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذّبُكُم بِذُنُوبِكُم ( المائدة 18 ) فدل هذا على أن كل من أحبه الله فليس هو من أهل النار وذلك يفيد من بعض الوجوه أن من لم يحبه الله فهو من أهل النار
وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَة ً وَفَرْشًا كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ثَمَانِيَة َ أَزْوَاجٍ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَاذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ

اعلم أنه تعالى لما ذكر كيفية إنعامه على عباده بالمنافع النباتية أتبعها بذكر إنعامه عليهم بالمنافع الحيوانية فقال وَمِنَ الانْعَامِ حَمُولَة ً وَفَرْشًا وفي الآية مسائل
المسألة الأولى ( الواو ) في قوله وَمِنَ الانْعَامِ حَمُولَة ً وَفَرْشًا توجب العطف على ما تقدم من قوله وَهُوَ الَّذِى أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ والتقدير وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات وأنشأ من الأنعام حمولة وفرشاً وكثر أقوالهم في تفسير الحمولة والفرش وأقربها إلى التحصيل وجهان الأول أن الحمولة ما تحمل الأثقال والفرش ما يفرش للذبح أو ينسج من وبره وصوفه وشعره للفرش والثاني الحمولة الكبار التي تصلح للحمل والفرش الصغار كالفصلان والعجاجيل والغنم لأنها دانية من الأرض بسبب صغر أجرامها مثل الفرش المفروش عليها
ثم قال تعالى كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ يريد ما أحلها لكم قالت المعتزلة إنه تعالى أمر بأكل الرزق ومنع من أكل الحرام ينتج أن الرزق ليس بحرام
ثم قال وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُواتِ الشَّيْطَانِ أي في التحليل والتحريم من عند أنفسكم كما فعله أهل الجاهلية خُطُواتِ جمع خطوة وهي ما بين القدمين قال الزجاج وفي خُطُواتِ الشَّيْطَانِ ثلاثة أوجه بضم الطاء وفتحها وبإسكانها ومعناه طرق الشيطان أي لا تسلكوا الطريق الذي يسوله لكم الشيطان
ثم قال تعالى إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ أي بين العداوة أخرج آدم من الجنة وهو القائل لاحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً ( الإسراء 62 )
ثم قال تعالى ثَمَانِيَة َ أَزْواجٍ وفيه بحثان
البحث الأول في انتصاب قوله ثَمَانِيَة ٌ وجهان الأول قال الفراء انتصب ثمانية بالبدل من قوله حَمُولَة ً وَفَرْشًا والثاني أن يكون التقدير كلوا مما رزقكم الله ثمانية أزواج
البحث الثاني الواحد إذا كان وحده فهو فرد فإذا كان معه غيره من جنسه سمي زوجاً وهما زوجان بدليل قوله خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالاْنثَى ( النجم 45 ) وبدليل قوله ثَمَانِيَة َ أَزْواجٍ ثم فسرها بقوله مّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ
ثم قال وَمِنْ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ يعني الذكر والأنثى والضأن ذوات الصوف من الغنم قال الزجاج وهي جمع ضائن وضائنة مثل تاجر وتاجرة ويجمع الضأن أيضاً على الضئين بكسر الضاد وفتحها وقوله وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قرىء وَمِنَ الْمَعْزِ بفتح العين والمعز ذوات الشعر من الغنم ويقال للواحد ماعز وللجمع معزى فمن قرأ الْمَعْزِ بفتح العين فهو جمع ماعز مثل خادم وخدم وطالب وطلب وحارس وحرس ومن قرأ بسكون العين فهو أيضاً جمع ماعز كصاحب وصحب وتاجر وتجر وراكب وركب وأما انتصاب اثنين فلأن تقدير الآية أنشأ ثمانية أزواج أنشأ من الضأن اثنين ومن المعز اثنين وقوله قُلْ ءآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الانثَيَيْنِ نصب الذكرين بقوله حَرَّمَ والاستفهام يعمل فيه ما بعده ولا يعمل فيه ما قبله قال المفسرون إن المشركين من أهل الجاهلية كانوا يحرمون بعض الأنعام فاحتج الله تعالى على إبطال قولهم بأن ذكر الضأن والمعز والإبل والبقر وذكر من كل واحد من هذه الأربعة زوجين ذكراً وأنثى

ثم قال إن كان حرم منها الذكر وجب أن يكون كل ذكورها حراماً وإن كان حرم الأنثى وجب أن يكون كل إناثها حراماً وقوله أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الانثَيَيْنِ تقديره إن كان حرم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين وجب تحريم الأولاد كلها لأن الأرحام تشتمل على الذكور والإناث هذا ما أطبق عليه المفسرون في تفسير هذه الآية وهو عندي بعيد جداً لأن لقائل أن يقول هب أن هذه الأنواع الأربعة أعني الضأن والمعز والإبل والبقر محصورة في الذكور والإناث إلا أنه لا يجب أن تكون علة تحريم ما حكموا بتحريمه محصورة في الذكورة والأنوثة بل علة تحريمها كونها بحيرة أو سائبة أو وصيلة أو حاماً أو سائر الاعتبارات كما أنا إذا قلنا أنه تعالى حرم ذبح بعض الحيوانات لأجل الأكل فإذا قيل إن ذلك الحيوان إن كان قد حرم لكونه ذكراً وجب أن يحرم كل حيوان ذكر وإن كان قد حرم لكونه أنثى وجب أن يحرم كل حيوان أنثى ولما لم يكن هذا الكلام لازماً علينا فكذا هذا الوجه الذي ذكره المفسرون في تفسير هذه الآية ويجب على العاقل أن يذكر في تفسير كلام الله تعالى وجهاً صحيحاً فأما تفسيره بالوجوه الفاسدة فلا يجوز والأقرب عندي فيه وجهان أحدهما أن يقال إن هذا الكلام ما ورد على سبيل الاستدلال على بطلان قولهم بل هو استفهام على سبيل الإنكار يعني أنكم لا تقرون بنبوة نبي ولا تعرفون شريعة شارع فكيف تحكمون بأن هذا يحل وأن ذلك يحرم وثانيهما أن حكمهم بالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام مخصوص بالإبل فالله تعالى بين أن النعم عبارة عن هذه الأنواع الأربعة فلما لم تحكموا بهذه الأحكام في الأقسام الثلاثة وهي الضأن والمعز والبقر فكيف خصصتم الإبل بهذا الحكم على التعيين فهذا ما عندي في هذه الآية والله أعلم بمراده
ثم قال تعالى أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَاذَا والمراد هل شاهدتم الله حرم هذا إن كنتم لا تؤمنون برسول وحاصل الكلام من هذه الآية أنكم لا تعترفون بنبوة أحد من الأنبياء فكيف تثبتون هذه الأحكام المختلفة ولما بين ذلك قال فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ قال ابن عباس يريد عمرو بن لحي لأنه هو الذي غير شريعة إسمعيل والأقرب أن يكون هذا محمولاً على كل من فعل ذلك لأن اللفظ عام والعلة الموجبة لهذا الحكم عامة فالتخصيص تحكم محض قال المحققون إذا ثبت أن من افترى على الله الكذب في تحريم مباح استحق هذا الوعيد الشديد فمن افترى على الله الكذب في مسائل التوحيد ومعرفة الذات والصفات والنبوات والملائكة ومباحث المعاد كان وعيده أشد وأشق قال القاضي ودل ذلك على أن الإضلال عن الدين مذموم لا يليق بالله لأنه تعالى إذا ذم الإضلال الذي ليس فيه إلا تحريم المباح فالذي هو أعظم منه أولى بالذم
وجوابه أنه ليس كل ما كان مذموماً منا كان مذموماً من الله تعالى ألا ترى أن الجمع بين العبيد والإماء وتسليط الشهوة عليهم وتمكينهم من أسباب الفجور مذموم منا وغير مذموم من الله تعالى فكذا ههنا
ثم قال إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قال القاضي لا يهديهم إلا ثوابه وإلى زيادات الهدى التي يختص المهتدي بها وقال أصحابنا المراد منه الإخبار بأنه تعالى لا يهدي أولئك المشركين أي لا ينقلهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان والكلام في ترجيح أحذ القولين على الآخر معلوم

قُل لاَ أَجِدُ فِى مَآ أُوْحِى َ إِلَى َّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَ أَن يَكُونَ مَيْتَة ً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَآ أَوِ الْحَوَايَآ أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذالِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَة ٍ وَاسِعَة ٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ
اعلم أنه تعالى لما بين فساد طريقة أهل الجاهلية فيما يحل ويحرم من المطعومات أتبعه بالبيان الصحيح في هذا الباب فقال قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوحِى َ إِلَى َّ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير وحمزة إِلا أَن تَكُونَ بالتار مَيْتَة ً بالنصب على تقدير إلا أن تكون العين أو النفس أو الجثة ميتة وقرأ ابن عامر إلا أن تكون بالتاء مَيْتَة ً بالرفع على معنى إلا أن تقع ميتة أو تحدث ميتة والباقون إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَة ً أي إلا أن يكون المأكول ميتة أو إلا أن يكون الموجود ميتة
المسألة الثانية لما بين الله تعالى أن التحريم والتحليل لا يثبت إلا بالوحي قال قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوحِى َ إِلا مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ أي على آكل يأكله وذكر هذا ليظهر أن المراد منه هو بيان ما يحل ويحرم من المأكولات ثم ذكر أموراً أربعة أولها الميتة وثانيها الدم المسفوح وثالثها لحم الخنزير فإنه رجس ورابعها الفسق وهو الذي أهل به لغير الله فقوله تعالى قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوحِى َ إِلَيْكَ مُحَرَّمًا إلا هذه الأربعة مبالغة في بيان أنه لا يحرم إلا هذه الأربعة وذلك لأنه لما ثبت أنه لا طريق إلى معرفة المحرمات والمحللات إلا بالوحي وثبت أنه لا وحي من الله تعالى إلا إلى محمد عليه الصلاة والسلام وثبت أنه تعالى يأمره أن يقول إني لا أجد فيما أوحي إلي محرماً من المحرمات إلا هذه الأربعة كان هذا مبالغة في بيان أنه لا يحرم إلا هذه الأربعة
واعلم أن هذه السورة مكية فبين تعالى في هذه السورة المكية أنه لا محرم إلا هذه الأربعة ثم أكد ذلك بأن قال في سورة النحل إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة َ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ الله غفور رحيم ( النحل 115 )

وكلمة إِنَّمَا تفيد الحصر فقد حصلت لنا آيتان مكيتان يدلان على حصر المحرمات في هذه الأربعة فبين في سورة البقرة وهي مدنية أيضاً أنه لا محرم إلا هذه الأربعة فقال إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة َ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ وكلمة إِنَّمَا تفيد الحصر فصارت هذه الآية المدنية مطابقة لتلك الآية المكية لأن كلمة إِنَّمَا تفيد الحصر فكلمة إِنَّمَا في الآية المدنية مطابقة لقوله قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوْحِى َ إِلَى َّ مُحَرَّمًا إلا كذا وكذا في الآية المكية ثم ذكر تعالى في سورة المائدة قوله تعالى أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَة ُ الاْنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ( المائدة 1 ) وأجمع المفسرون على أن المراد بقوله إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ هو ما ذكره بعد هذه الآية بقليل وهو قوله حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة ُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَة ُ وَالْمَوْقُوذَة ُ وَالْمُتَرَدّيَة ُ وَالنَّطِيحَة ُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وكل هذه الأشياء أقسام الميتة وأنه تعالى إنما أعادها بالذكر لأنهم كانوا يحكمون عليها بالتحليل فثبت أن الشريعة من أولها إلى آخرها كانت مستقرة على هذا الحكم وعلى هذا الحصر
فإن قال قائل فيلزمكم في التزام هذا الحصر تحليل النجاسات والمستقذرات ويلزم عليه أيضاً تحليل الخمر وأيضا فيلزمكم تحليل المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة مع أن الله تعالى حكم بتحريمها
قلنا هذا لا يلزمنا من وجوه الأول أنه تعالى قال في هذه الآية أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ ومعناه أنه تعالى إنما حرم لحم الخنزير لكونه نجساً فهذا يقتضي أن النجاسة علة لتحريم الأكل فوجب أن يكون كل نجس يحرم أكله وإذا كان هذا مذكوراً في الآية كان السؤال ساقطاً والثاني أنه تعالى قال في آية أخرى وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَئِثَ وذلك يقتضي تحريم كل الخبائث والنجاسات خبائث فوجب القول بتحريمها الثالث أن الأمة مجمعة على حرمة تناول النجاسات فهب أنا التزمنا تخصيص هذه السورة بدلالة النقل المتواتر من دين محمد في باب النجاسات فوجب أن يبقى ما سواها على وفق الأصل تمسكاً بعموم كتاب الله في الآية المكية والآية المدنية فهذا أصل مقرر كامل في باب ما يحل وما يحرم من المطعومات وأما الخمر فالجواب عنه أنها نجسة فيكون من الرجس فيدخل تحت قوله رِجْسٌ وتحت قوله وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَئِثَ وأيضاً ثبت تخصيصه بالنقل المتواتر من دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في تحريمه وبقوله تعالى فَاجْتَنِبُوهُ وبقوله وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا والعام المخصوص حجة في غير محل التخصيص فتبقى هذه الآية فيما عداها حجة وأما قوله ويلزم تحليل الموقوذة والمتردية والنطحية
فالجواب عنه من وجوه أولها أنها ميتات فكانت داخلة تحت هذه الآية وثانيها أنا نخص عموم هذه الآية بتلك الآية وثالثها أن نقول إنها إن كانت ميتة دخلت تحت هذه الآية وإن لم تكن ميتة فنخصصها بتلك الآية
فإن قال قائل المحرمات من المطعومات أكثر مما ذكر في هذه الآية فما وجهها
أجابوا عنه من وجوه أحدها أن المعنى لا أجد محرماً مما كان أهل الجاهلية يحرمه من البحائر والسوائب وغيرها إلا ما ذكر في هذه الآية وثانيها أن المراد أن وقت نزول هذه الآية لم يكن تحريم غير ما نص

عليه في هذه الآية ثم وجدت محرمات أخرى بعد ذلك وثالثها هب أن اللفظ عام إلا أن تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد جائز فنحن نخصص هذا العموم بأخبار الآحاد ورابعها أن مقتضى هذه الآية أن نقول إنه لا يجد في القرآن ويجوز أن يحرم الله تعالى ما سوى هذه الأربعة على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام ولقائل أن يقول هذه الأجوبة ضعيفة
أما الجواب الأول فضعيف لوجوه أحدها لا يجوز أن يكون المراد من قوله قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوْحِى َ إِلَى َّ مُحَرَّمًا ما كان يحرمه أهل الجاهلية من السوائب والبحائر وغيرها إذ لو كان المراد ذلك لما كانت الميتة والدم ولحم الخنزير وما ذبح على النصب داخلة تحته ولو لم تكن هذه الأشياء داخلة تحت قوله قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوْحِى َ إِلَى َّ مُحَرَّمًا لما حسن استثناؤها ولما رأينا أن هذه الأشياء مستثناة عن تلك الكلمة علمنا أنه ليس المراد من تلك الكلمة ما ذكروه وثانيها أنه تعالى حكم بفساد قولهم في تحريم تلك الأشياء ثم إنه تعالى في هذه الآية خصص المحرمات في هذه الأربعة وتحليل تلك الأشياء التي حرمها أهل الجاهلية لا يمنع من تحليل غيرها فوجب إبقاء هذه الآية على عمومها لأن تخصيصها يوجب ترك العمل بعمومها من غير دليل وثالثها أنه تعالى قال في سورة البقرة إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ وذكر هذه الأشياء الأربعة وكلمة إِنَّمَا تفيد الحصر وهذه الآية في سورة البقرة غير مسبوقة بحكاية أقوال أهل الجاهلية في تحريم البحائر والسوائب فسقط هذا العذر
وأما جوابهم الثاني وهو أن المراد أن وقت نزول هذه الآية لم يكن محرماً إلا هذه الأربعة
فجوابه من وجوه أولها أن قوله تعالى في سورة البقرة إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة َ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ ( البقرة 173 ) آية مدنية نزلت بعد استقرار الشريعة وكلمة إِنَّمَا تفيد الحصر فدل هاتان الآيتان على أن الحكم الثابت في شريعة محمد عليه الصلاة والسلام من أولها إلى آخرها ليس إلا حصر المحرمات في هذه الأشياء وثانيها أنه لما ثبت بمقضتى هاتين الآيتين حصر المحرمات في هذه الاْربعة كان هذا اعترافاً بحل ما سواها فالقول بتحريم شيء خامس يكون نسخاً ولا شك أن مدار الشريعة على أن الأصل عدم النسخ لأنه لو كان احتمال طريان الناسخ معادلاً لاحتمال بقاء الحكم على ما كان فحينئذ لا يمكن التمسك بشيء من النصوص في إثبات شيء من الأحكام لاحتمال أن يقال إنه وإن كان ثابتاً إلا أنه زال ولما اتفق الكل على أن الأصل عدم النسخ وأن القائل به والذاهب إليه هو المحتاج إلى الدليل علمنا فساد هذا السؤال
وأما جوابهم الثالث وهو أنا نخصص عموم القرآن بخبر الواحد فنقول ليس هذا من باب التخصيص بل هو صريح النسخ لأن قوله تعالى قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوحِى َ إِلَى َّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ مبالغة في أنه لا يحرم سوى هذه الأربعة وقوله في سورة البقرة إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة َ وكذا وكذا تصريح بحصر المحرمات في هذه الأربعة لأن كلمة إِنَّمَا تفيد الحصر فالقول بأنه ليس الأمر كذلك يكون دفعاً لهذا الذي ثبت بمقتضى هاتين الآيتين أنه كان ثابتاً في أول الشريعة بمكة وفي آخرها بالمدينة ونسخ القرآن بخبر الواحد لا يجوز

وأما جوابهم الرابع فضعيف أيضاً لأن قوله تعالى قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوحِى َ إِلَيْكَ يتناول كل ما كان وحياً سواء كان ذلك الوحي قرآناً أو غيره وأيضاً فقوله في سورة البقرة إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة َ يزيل هذا الاحتمال فثبت بالتقرير الذي ذكرنا قوة هذا الكلام وصحة هذا المذهب وهو الذي كان يقول به مالك بن أنس رحمه الله ومن السؤالات الضعيفة أن كثيراً من الفقهاء خصصوا عموم هذه الآية بما نقل أنه عليه الصلاة والسلام قال ( ما استخبثه العرب فهو حرام ) وقد علم أن الذي يستخبثه العرب فهو غير مضبوط فسيد العرب بل سيد العالمين محمد صلوات الله عليه لما رآهم يأكلون الضب قال ( يعافه طبعي ) ثم إن هذا الاستقذار ما صار سبباً لتحريم الضب وأما سائر العرب فمنهم من لا يستقذر شيئاً وقد يختلفون في بعض الأشياء فيستقذرها قوم ويستطيبها آخرون فعلمنا أن أمر الاستقذار غير مضبوط بل هو مختلف باختلاف الأشخاص والأحوال فكيف يجوز نسخ هذا النص القاطع بذلك الأمر الذي ليس له ضابط معين ولا قانون معلوم
المسألة الثالثة اعلم أنا قد ذكرنا المسائل المتعلقة بهذه الأشياء الأربعة في سورة البقرة على سبيل الاستقصاء فلا فائدة في الإعادة فأولها الميتة ودخلها التخصيص في قوله عليه الصلاة والسلام ( أحلت لنا ميتتان السمك والجراد ) وثانيها الدم المسفوح والسفح الصب يقال سفح الدم سفحاً وسفح هو سفوحاً إذا سال وأنشد أبو عبيدة لكثير أقول ودمعي واكف عند رسمها
عليك سلام الله والدمع يسفح
قالن ابن عباس يريد ما خرج من الأنعام وهي أحياء وما يخرج من الأوداج عند الذبح وعلى هذا التقدير فلا يدخل فيه الكبد والطحال لجمودهما ولا ما يختلط باللحم من الدم فإنه غير سائل وسئل أو مجلز عما يتلطخ من اللحم بالدم وعن القدري يرى فيها حمرة الدم فقال لا بأس به إنما نهى عن الدم المسفوح وثالثها لحم الخنزير فإنه رجس ورابعها قوله أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وهو منسوق على قوله إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَة ً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا فسمى ما أهل لغير الله به فسقاً لتوغله في باب الفسق كما يقال فلان كرم وجود إذا كان كاملاً فيهما ومنه قوله تعالى وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ( الأنعام 121 )
وأما قوله تعالى فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ فالمعنى أنه لما بين في هذه الأربعة أنها محرمة بين أن عند الاضطرار يزول ذلك التحريم وهذه الآية قد استقصينا تفسيرها في سورة البقرة وقوله عقيب ذلك فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ يدل على حصول الرخصة ثم بين تعالى أنه حرم على اليهود أشياء أخرى سوى هذه الأربعة وهي نوعان الأول أنه تعالى حرم عليهم كل ذي ظفر وفيه مباحث
البحث الأول قال الواحدي في الظفر لغات ظفر بضم الفاء وهو أعلاها وظفر بسكون الفاء وظفر بكسر الظاء وسكون الفاء وهي قراءة الحسن وظفر بكسرهما وهي قراءة أبي السمال
البحث الثاني قال الواحدي اختلفوا في كل ذي ظفر الذي حرمه الله تعالى على اليهود روي عن ابن عباس أنه الإبل فقط وفي رواية أخرى عن ابن عباس أنه الإبل والنعامة وهو قول مجاهد وقال

عبد الله بن مسلم إنه كل ذي مخلب من الطير وكل ذي حافر من الدواب ثم قال كَذالِكَ قال المفسرون وقال وسمى الحافر ظفراً على الاستعارة وأقول أماحمل الظفر على الحافر فبعيد من وجهين الأول أن الحافر لا يكاد يسمى ظفراً والثاني أنه لو كان الأمر كذلك لوجب أن يقال إنه تعالى حرم عليهم كل حيوان له حافر وذلك باطل لأن الآية تدل على أن الغنم والبقر مباحان لهم من حصول الحافر لهما
وإذا ثبت هذا فنقول وجب حمل الظفر على المخالب والبراثن لأن المخالب آلات الجوارح في الاصطياد والبراثن آلات السباع في الاصطياد وعلى هذا التقدير يدخل فيه أنواع السباع والكلاب والسنانير ويدخل فيه الطيور التي تصطاد لأن هذه الصفة تعم هذه الأجناس
إذا ثبت هذا فنقول قوله تعالى وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ يفيد تخصيص هذه الحرمة بهم من وجهين الأول أن قوله وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كذا وكذا يفيد الحصر في اللغة والثاني أنه لو كانت هذه الحرمة ثابتة في حق الكل لم يبق لقوله وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا فائدة فثبت أن تحريم السباع وذوي المخالب من الطير مختص باليهود فوجب أن لا تكون محرمة على المسلمين فصارت هذه الآية دالة على هذه الحيوانات على المسلمين وعند هذا نقول ما روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) حرم كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطيور ضعيف لأنه خبر واحد على خلاف كتاب الله تعالى فوجب أن لا يكون مقبولاً وعلى هذا التقدير يقوى قول مالك في هذه المسألة
النوع الثاني من الأشياء التي حرمها الله تعالى على اليهود خاصة قوله تعالى وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا فبين تعالى أنه حرم على اليهود شحوم البقر والغنم ثم في الآية قولان الأول إنه تعالى استثنى عن هذا التحريم ثلاثة أنواع أولها قوله إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا قال ابن عباس إلا ما علق بالظهر من الشحم فإني لم أحرمه وقال قتادة إلا ما علق بالظهر والجنب من داخل بطونها وأقول ليس على الظهر والجنب شحم إلا اللحم الأبيض السمين الملتصق باللحم الأحمر على هذا التقدير فذلك اللحم السمين الملتصق مسمم بالشحم وبهذا التقدير لو حلف لا يأكل الشحم وجب أن يحنث بأكل ذلك اللحم السمين
والاستثناء الثاني قوله تعالى أَوِ الْحَوَايَا قال الواحدي وهي المباعر والمصارين واحدتها حاوية وحوية قال ابن الأعرابي هي الحوية أو الحاوية وهي الدوارة التي في بطن الشاة وقال ابن السكيت يقال حاوية وحوايا مثل رواية وروايا
إذا عرفت هذا فالمراد أن الشحوم الملتصقة بالمباعر والمصارين غير محرمة
والاستثناء الثالث قوله وَمَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ قالوا إنه شحم الإلية في قول جميع المفسرين وقال ابن جريج كل شحم في القائم والجنب والرأس وفي العينين والأذنيين يقول إنه اختلط بعظم فهو حلال لهم وعلى هذا التقدير فالشحم الذي حرمه الله عليهم هو الثرب وشحم الكلية
القول الثاني في الآية أن قوله أَوِ الْحَوَايَا غير معطوف على المستثنى بل على المستثنى منه والتقدير حرمت عليهم شحومهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم إلا ما حملت ظهورهما فإنه غير محرم قالوا

ودخلت كلمة ( أو ) كدخولها في قوله تعالى وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءاثِماً أَوْ كَفُوراً ( الإنسان 24 ) والمعنى كل هؤلاء أهل أن يعصى فاعص هذا واعص هذا فكذا ههنا المعنى حرمنا عليهم هذا وهذا
ثم قال تعالى ذالِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ والمعنى أنا إنما خصصناهم بهذا التحريم جزاء على بغيهم وهو قتلهم الأنبياء وأخذهم الربا وأكلهم أموال الناس بالباطل ونظيره قوله تعالى فَبِظُلْمٍ مّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ( النساء 160 )
ثم قال تعالى وِإِنَّا لَصَادِقُونَ أي في الأخبار عن بغيهم وفي الأخبار عن تخصيصهم بهذا التحريم بسبب بغيهم قال القاضي نفس التحريم لا يجوز أن يكون عقوبة على جرم صدر عنهم لأن التكليف تعريض للثواب والتعريض للثواب إحسان فلم يجز أن يكون التكليف جزاء على الجرم المتقدم
فالجواب أن المنع من الانتفاع يمكن أن يكون لمزيد استحقاق الثواب ويمكن أيضاً أن يكون للجرم المتقدم وكل واحد منهما غير مستبعد
ثم قال تعالى فَإِن كَذَّبُوكَ يعني إن كذبوك في ادعاء النبوة والرسالة وكذبوك في تبليغ هذه الأحكام فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَة ٍ واسِعَة ٍ فلذلك لا يعجل عليكم بالعقوبة وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ أي عذابه إذا جاء الوقت عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ يعني الذين كذبوك فيما تقول والله أعلم
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ ى َابَآؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَى ْءٍ كَذالِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّة ُ الْبَالِغَة ُ فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ
اعلم أنه تعالى لما حكى عن أهل الجاهلية إقدامهم على الحكم في دين الله بغير حجة ولا دليل حكى عنهم عذرهم في كل ما يقدمون عليه من الكفريات فيقولون لو شاء الله منا أن لا نكفر لمنعنا عن هذا الكفر وحيث لم يمنعنا عنه ثبت أنه مريد لذلك فإذا أراد الله ذلك منا امتنع منا تركه فكنا معذورين فيه وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن المعتزلة زعموا أن هذه الآية تدل على قولهم في مسألة إرادة الكائنات من سبعة أوجه

فالوجه الأول أنه تعالى حكى عن الكفار صريح قول المجبرة وهو قولهم لو شاء الله منا أن لا نشرك لم نشرك وإنما حكى عنهم هذا القول في معرض الذم والتقبيح فوجب كون هذا المذهب مذموماً باطلاً
والوجه الثاني أنه تعالى قال كَذَّبَ وفيه قراءتان بالتخفيف وبالتثقيل أما القراءة بالتخفيف فهي تصريح بأنهم قد كذبوا في ذلك القول وذلك يدل على أن الذي تقوله المجبرة في هذه المسألة كذب وأما القراءة بالتشديد فلا يمكن حملها على أن القول استوجبوا الذم بسبب أنهم كذبوا أهل المذاهب لأنا لو حملنا الآية عليه لكان هذا المعنى ضداً لمعنى الذي يدل عليه قراءة كَذَّبَ بالتخفيف وحينئذ تصير إحدى القراءتين ضداً للقراءة الأخرى وذلك يوجب دخول التناقض في كلام الله تعالى وإذا بطل ذلك وجب حمله على أن المراد منه أن كل من كذب نبياً من الأنبياء في الزمان المتقدم فإنه كذبه بهذا الطريق لأنه يقول الكل بمشيئة الله تعالى فهذا الذي أنا عليه من الكفر إنما حصل بمشيئة الله تعالى فلم يمنعني منه فهذا طريق متعين لكل الكفار المتقدمين والمتأخرين في تكذيب الأنبياء وفي دفع دعوتهم عن أنفسهم فإذا حملنا الآية على هذا الوجه صارت القراءة بالتشديد مؤكدة للقراءة بالتخفيف ويصير مجموع القراءتين دالاً على إبطال قول المجبرة
الوجه الثالث في دلالة الآية على قولنا قوله تعالى حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا وذلك يدل على أنهم استوجبوا الوعيد من الله تعالى في ذهابهم إلى هذا المذهب
المذهب الرابع قوله تعالى قُلْ هَلْ عِندَكُم مّنْ عِلْمٍ وَقَالُواْ لَنَا ولا شك أنه استفهام على سبيل الأنكار وذلك يدل على أن القائلين بهذا القول ليس لهم به علم ولا حجة وهذا يدل على فساد هذا المذهب لأن كل ما كان حقاً كان القول به علماً
الوجه الخامس قوله تعالى إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ مع أنه تعالى قال في سائر الآيات إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ الْحَقّ شَيْئًا
والوجه السادس قوله تعالى وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ والخرص أقبح أنواع الكذب وأيضاً قال تعالى قُتِلَ الْخَرصُونَ
والوجه السابع قوله تعالى قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّة ُ الْبَالِغَة ُ وتقريره أنهم احتجوا في دفع دعوة الأنبياء والرسل على أنفسهم بأن قالوا كل ما حصل فهو بمشيئة الله تعالى وإذا شاء الله منا ذلك فكيف يمكننا تركه وإذا كنا عاجزين عن تركه فكيف يأمرنا بتركه وهل في وسعنا وطاقتنا أن نأتي بفعل على خلاف مشيئة الله تعالى فهذا هو حجة الكفار على الأنبياء فقال تعالى قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّة ُ الْبَالِغَة ُ وذلك من وجهين
الوجه الأول أنه تعالى أعطاكم عقولاً كاملة وأفهاماً وافية وآذاناً سامعة وعيوناً باصرة وأقدركم على الخير والشر وأزال الأعذار والموانع بالكلية عنكم فإن شئتم ذهبتم إلى عمل الخيرات وإن شئتم إلى عمل المعاصي والمنكرات وهذه القدرة والمكنة معلومة الثبوت بالضرورة وزوال الموانع والعوائق معلوم الثبوت أيضاً بالضرورة وإذا كان الأمر كذلك كان ادعاؤكم أنكم عاجزون عن الإيمان والطاعة دعوى باطلة فثبت بما ذكرنا أنه ليس لكم على الله حجة بالغة ا بل لله الحجة البالغة عليكم

والوجه الثاني أنكم تقولون لو كانت أفعالنا واقعة على خلاف مشيئة الله تعالى لكنه قد غلبنا الله وقهرناه وأتينا بالفعل على مضادته ومخالفته وذلك يوجب كونه عاجزاً ضعيفاً وذلك يقدح في كونه إلهاً
فأجاب تعالى عنه بأن العجز والضعف إنما يلزم إذا لم أكن قادراً على حملهم على الإيمان والطاعة على سبيل القهر والإلجاء وأنا قادر على ذلك وهو المراد من قوله وَلَوْ شَآء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ إلا أني لا أحملكم على الإيمان والطاعة على سبيل القهر والإلجاء لأن ذلك يبطل الحكمة المطلوبة من التكليف فثبت بهذا البيان أن الذي يقولونه من أنا لو أتينا بعمل على خلاف مشيئة الله فإنه يلزم منه كونه تعالى عاجزاً ضعيفاً كلام باطل فهذا أقصى ما يمكن أن يذكر في تمسك المعتزلة بهذه الآية
والجواب المعتمد في هذا الباب أن نقول إنا بينا أن هذه السورة من أولها إلى آخرها تدل على صحة قولنا ومذهبنا ونقلنا في كل آية ما يذكرونه من التأويلات وأجبنا عنها بأجوبه واضحة قوية مؤكدة بالدلائل العقلية القاطعة
وإذا ثبت هذا فلو كان المراد من هذه الآية ما ذكرتم لوقع التناقض الصريح في كتاب الله تعالى فإنه يوجب أعظم أنواع الطعن فيه
إذا ثبت هذا فنقول إنه تعالى حكى عن القوم أنهم قالوا لَوْ شَاء اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا ثم ذكر عقيبه كَذالِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فهذا يدل على أن القوم قالوا لما كان الكل بمشيئة الله تعالى وتقديره كان التكليف عبثاً فكانت دعوى الأنبياء باطلة ونبوتهم ورسالتهم باطلة ثم إنه تعالى بين أن التمسك بهذا الطريق في إبطال النبوة باطل وذلك لأنه إله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ولا اعتراض عليه لأحد في فعله فهو تعالى يشاء الكفر من الكافر ومع هذا فيبعث إليه الأنبياء ويأمره بالإيمان وورود الأمر على خلاف الإرادة غير ممتنع
فالحاصل أنه تعالى حكى عن الكفار أنهم يتمسكون بمشيئة الله تعالى في إبطال نبوة الأنبياء ثم إنه تعالى بين أن هذا الاستدلال فاسد باطل فإنه لا يلزم من ثبوت المشيئة لله في كل الأمور دفع دعوة الأنبياء وعلى هذا الطريق فقط سقط هذا الاستدلال بالكلية وجميع الوجوه التي ذكرتموها في التقبيح والتهجين عائد إلى تمسككم بثبوت المشيئة لله على دفع دعوة الأنبياء فيكون الحاصل أن هذا الاستدلال باطل وليس فيه البتة ما يدل على أن القول بالمشية باطل
فإن قالوا هذا العذر إنما يستقيم إذ قرأنا قوله تعالى كَذالِكَ كَذَّبَ بالتسديد وأما إذا قرأناه بالتخفيف فإنه يسقط هذا العذر بالكلية فنقول فيه وجهان الأول أنا نمنع صحة هذه القراءة والدليل عليه أنا بينا أن هذه السورة من أولها إلى آخرها تدل على قولنا فلو كانت هذه الآية دالة على قولهم لوقع التناقض ولخرج القرآن عن كونه كلاماً لله تعالى ويندفع هذا التناقض بأن لا تقبل هذه القراءة فوجب المصير إليه الثاني سلمنا صحة هذه القراءة لكنا نحملها على أن القوم كذبوا في أنه يلزم من ثبوت مشيئة الله تعالى في كل أفعال العباد سقوط نبوة الأنبياء وبطلان دعوتهم وإذا حملناه على هذا الوجه لم يبق للمعتزلة بهذه الآية تمسك البتة والحمد لله الذي أعاننا على الخروج من هذه العهدة القوية ومما يقوي ما ذكرناه

ما روي أن ابن عباس قيل له بعد ذهاب بصره ما تقول فيمن يقول لا قدر فقال إن كان في البيت أحد منهم أتيت عليه ويله أما يقرأ إِنَّا كُلَّ شَى ْء خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ( القمر 49 ) إِنَّا نَحْنُ نُحْى ِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَءاثَارَهُمْ ( ي س 12 ) وقال ابن عباس أول ما خلق الله القلم قال له اكتب القدر فجرى بما يكون إلى قيام الساعة وقال صلوات الله عليه ( المكذبون بالقدر مجوس هذه الأمة )
المسألة الثانية زعم سيبويه أن عطف الظاهر على المضمر المرفوع في الفعل قبيح فلا يجوز أن يقال قمت وزيد وذلك لأن المعطوف عليه أصل والمعطوف فرع والمضمر ضعيف والمظهر قوي وجعل القوي فرعاً للضعيف لا يجوز
إذا عرفت هذا الأصل فنقول إن جاء الكلام في جانب الأثبات وجب تأكيد الضمير فنقول قمت أنا وزيد وإن جاء في جانب النفي قلت ما قمت ولا زيد
إذا ثبت هذا فنقول قوله لَوْ شَاء اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ ى َابَاؤُنَا فعطف قوله وَلاَ ى َابَاؤُنَا على الضمير في قوله مَا أَشْرَكْنَا إلا أنه تخلل بينهما كلمة لا فلا جرم حسن هذا العطف قال في جامع الأصفهاني إن حرف العطف يجب أن يكون متأخراً عن اللفظة المؤكدة للضمير حتى يحسن العطف ويندفع المحذور المذكور من عطف القوي على الضعيف وهذا المقصود إنما يحصل إذا قلنا مَا أَشْرَكْنَا نَّحْنُ وَلا ءابَاؤُنَا حتى تكون كلمة لا مقدمة على حرف العطف أما ههنا حرف العطف مقدم على كلمة لا وحينئذ يعود المحذور المذكور
فالجواب أن كلمة لا لما أدخلت على قوله ءابَاؤُنَا كان ذلك موجباً إضمار فعل هناك لأن صرف النفي إلى ذوات الآباء محال بل يجب صرف هذا النفي إلى فعل يصدر منهم وذلك هو الإشراك فكان التقدير ما أشركنا ولا أشرك آباؤنا وعلى هذا التقدير فالإشكال زائل
المسألة الثالثة احتج أصحابنا على قولهم الكل بمشيئة الله تعالى بقوله فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ فكلمة ( لو ) في اللغة تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره فدل هذا على أنه تعالى ما شاء أن يهديهم وما هداهم أيضاً وتقريره بحسب الدليل العقلي أن قدرة الكافر على الكفر إن لم تكن قدرة على الإيمان الله تعالى على هذا التقدير ما أقدره على الإيمان فلو شاء الأيمان منه فقد شاء الفعل من غير قدرة على الفعل وذلك محال ومشيئة المحال محال وإن كانت القدرة على الكفر قدرة على الإيمان توقف رجحان أحد الطرفين على حصول الداعية المرجحة
فإن قلنا أنه تعالى خلق تلك الداعية فقد حصلت الداعية المرجحة مع القدرة ومجموعهما موجب للفعل فحيث لم يحصل الفعل علمنا أن تلك الداعية لم تحصل وإذا لم تحصل امتنع منه فعل الإيمان وإذا امتنع ذلك منه امتنع أن يريده الله منه لأن إرادة المحال محال ممتنع فثبت أن ظاهر القرآن دل على أنه تعالى ما أراد الإيمان من الكافر والبرهان العقلي الذي قررناه يدل عليه أيضاً فبطل قولهم من كل الوجوه أوما قوله تحمل هذه الآية على مشيئة الإلجاء فنقول هذا التأويل إنما يحسن المصير إليه لو ثبت بالبرهان العقلي امتناع الحمل على ظاهر هذا الكلام أما لو قام البرهان العقلي على أن الحق ليس إلا ما دل

عليه هذا الظاهر فكيف يصار إليه ثم نقول هذا الدليل باطل من وجوه الأول أن هذا الكلام لا بد فيه من إضمار فنحن نقول التقدير لو شاء الهداية لهداكم وأنتم تقولون التقدير لو شاء الهداية على سبيل الإلجار لهداكم فإضماركم أكثر فكان قولكم مرجوحاً الثاني أنه تعالى يريد من الكافر الإيمان الاختياري والإيمان الحاصل بالإلجاء غير الإيمان الحاصل بالاختيار وعلى هذا التقدير يلزم كونه تعالى عاجزاً عن تحصيل مراده لأن مراده هو الإيمان الاختياري وأنه لا يقدر البتة على تحصيله فكان القول بالعجز لازماً الثالث أن هذا الكلام موقوف على الفرق بين الإيمان الحاصل بالاختيار وبين الإيمان الحاصل بالإلجاء أما الإيمان الحاصل بالاختيار فإنه يمتنع حصوله إلا عند حصول داعية جازمة وإرادة لازمة فإن الداعية التي يترتب عليها حصول الفعل إما أن تكون بحيث يجب ترتب الفعل عليها أو لا يجب فإن وجب فهي الداعية الضرورية وحينئذ لا يبقى بينها وبين الداعية الحاصلة بالإلجاء فرق وإن لم تجب ترتب الفعل عليها فحينئذ يمكن تخلف الفعل عنها فلنفرض تارة ذلك الفعل متخلفاً عنها وتارة غير متخلف فامتياز أحد الوقتين عن الآخر لا بد وأن يكون لمرجح زائد فالحاصل قبل ذلك ما كان تمام الداعية وقد فرضناه كذلك وهذا خلف ثم عند انضمام هذا القيد الزائد إن وجب الفعل لم يبق بينه وبين الضرورية فرق وإن لم يجب افتقر إلى قيد زائد ولزم التسلسل وهو محال فثبت أن الفرق الذي ذكروه بين الداعية الاختيارية وبين الداعية الضرورية وإن كان في الظاهر معتبراً إلا أنه عند التحقيق والبحث لا يبقى له محصول
قُلْ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَاذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاٌّ خِرَة ِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ
اعلم أنه تعالى لما أبطل على الكفار جميع أنواع حجهم بين أنه ليس لهم على قولهم شهود البتة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى هَلُمَّ كلمة دعوة إلى الشيء والمعنى هاتوا شهداءكم وفيه قولان الأول أنه يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع والذكر والأنثى قال تعالى قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ وقال وَالْقَائِلِينَ لإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا واللغة الثانية يقال للاثنين هلما وللجمع هلموا وللمرأة هلمي وللاثنين هلما وللجمع هلمن والأول أفصح
المسألة الثانية في أصل هذه الكلمة قولان قال الخليل وسيبويه أنها ( ها ) ضمت إليها ( لم ) أي جمع وتكون بمعنى أدن يقال لفلان لمة أي دنو ثم جعلتا كالكلمة الواحدة والفائدة في قولنا ( ها ) استعطاف المأمور واستدعاء إقباله على الأمر إلا أنه لما كثر استعماله حذف عنه الألف على سبيل التخفيف كقولك لم أبل ولم أر ولم تك وقال الفراء أصلها ( هل ) أم أرادوا ( بهل ) حرف الاستفهام

وبقولنا ( أم ) أي أقصد والتقدير هل قصد والمقصودمن هذا الاستفهام الأمر بالقصد كأنك تقول أقصد وفيه وجه آخر وهو أن يقال كان الأصل أن قالوا هل لك في الطعام أم أي قصد ثم شاع في الكل كما أن كلمة ( تعالى ) كانت مخصوصة بصورة معينة ثم عمت
المسألة الثالثة أنه تعالى نبه باستدعاء إقامة الشهداء من الكافرين ليظهر أن لا شاهد لهم على تحريم ما حرموه ومعنى هَلُمَّ أحضروا شهداءكم
ثم قال فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ تنبيهاً على كونهم كاذبين ثم بين تعالى أنه إن وقعت منهم تلك الشهادة فعن اتباع الهوى فأمر نبيه أن لا يتبع أهواءهم ثم زاد في تقبيح ذلك بأنهم لا يؤمنون بالآخرة وكانوا ممن ينكرون البعث والنشور وزاد في تقبيحهم بأنهم يعدلون بربهم فيجعلون له شركاء والله أعلم
قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِّنْ إمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين فساد ما يقول الكفار أن الله حرم علينا كذا وكذا أردفه تعالى ببيان الأشياء التي حرمها عليهم وهي الاْشياء المذكورة في هذه الآية وفيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) ( تعال ) من الخاص الذي صار عاماً وأصله أن يقوله من كان في مكان لمن هو أسفل منه ثم كثر وعم وما في قوله مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ منصوب وفي ناصبه وجهان الأول أنه منصوب بقوله اتْلُ والتقدير أتل الذي حرمه عليكم والثاني أنه منصوب بحرم والتقدير أتل الأشياء التي حرم عليكم
فإن قيل قوله ءانٍ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً كالتفصيل لما أجمله في قوله مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ وهذا باطل لأن ترك الشرك والإحسان بالوالدين واجب لا محرم
والجواب من وجوه الأول أن المراد من التحريم أن يجعل له حريماً

معيناً وذلك بأن بينه بياناً مضبوطاً معيناً فقوله أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ معناه أتل عليكم ما بينه بياناً شافياً بحيث يجعل له حريماً معيناً وعلى هذا التقرير فالسؤال زائل والثاني أن الكلام تم وانقطع عند قوله أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ ثم ابتدأ فقال عَلَيْكُمْ أَن لا تُشْرِكُواْ كما يقال عليكم السلام أو أن الكلام تم وانقطع عند قوله أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ثم ابتدأ فقال أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً بمعنى لئلا تشركوا والتقدير أتل ما حرم ربكم عليكم لئلا تشركوا به شيئاً الثالث أن تكون ( أن ) في قوله أَن لا تُشْرِكُواْ مفسرة بمعنى أي وتقدير الآية أتل ما حرم ربكم عليكم أي لا تشركوا أي ذلك التحريم هو قوله لا تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً
فإن قيل فقوله وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً معطوف على قوله أَن لا تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً فوجب أن يكون قوله وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً مفسراً لقوله أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ فيلزم أن يكون الإحسان بالوالدين حراماً وهو باطل
قلنا لما أوجب الإحسان إليهما فقد حرم الإساءة إليهما
المسألة الثانية أنه تعالى أوجب في هذه الآية أمور خمسة أولها قوله أَن لا تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً
واعلم أنه تعالى قد شرح فرق المشركين في هذه السورة على أحسن الوجوه وذلك لأن طائفة من المشركين يجعلون الأصنام شركاء لله تعالى وإليهم الإشارة بقوله حكاية عن إبراهيم وَإِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ لاِبِيهِ ءازَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً ءالِهَة ً إِنّى أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ ( الأنعام 74 )
والطائفة الثانية من المشركين عبدة الكواكب وهم الذين حكى الله عنهم أن إبراهيم عليه السلام أبطل قولهم بقوله لا أُحِبُّ الاْفِلِينَ ( الأنعام 76 )
والطائفة الثالثة الذين حكى الله تعالى عنهم أَنَّهُمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وهم القائلون بيزدان وأهرمن
والطائفة الرابعة الذين جعلوا لله بنين وبنات وأقام الدلائل على فساد أقوال هؤلاء الطوائف والفرق فلما بين بالدليل فساد قول هؤلاء الطوائف قال ههنا أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً
النوع الثاني من الأشياء التي أوجبها ههنا قوله وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً وإنما ثنى بهذا التكليف لأن أعظم أنواع النعم على الإنسان نعمة الله تعالى ويتلوها نعمة الوالدين لأن المؤثر الحقيقي في وجود الإنسان هو الله سبحانه وفي الظاهر هو الأبوان ثم نعمهما على الإنسان عظيمة وهي نعمة التربية والشفقة والحفظ عن الضياع والهلاك في وقت الصغر
النوع الثالث قوله وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلَادَكُمْ مّنْ إمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ فأوجب بعد رعاية حقوق الأبوين رعاية حقوق الأولاد وقوله وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلَادَكُمْ مّنْ إمْلَاقٍ أي من خوف الفقر وقد صرح بذكر الخوف في قوله وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَة َ إِمْلَاقٍ والمراد منه النهي عن الوأد إذ كانوا يدفنون البنات أحياء بعضهم للغيرة وبعضهم خوف الفقر وهو السبب الغالب فبين تعالى فساد هذه العلة بقوله نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ لأنه تعالى إذا كان متكفلاً برزق الوالد والولد فكما وجب على الوالدين تبقية النفس والاتكال في رزقها على الله فكذلك القول في حال الولد قال شمر أملق لازم ومتعد يقال أملق الرجل فهو مملق إذا افتقر فهذا لازم وأملق الدهر ما عنده إذا أفسده والإملاق الفساد

والنوع الرابع قوله وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ قال ابن عباس كانوا يكرهون الزنا علانية ويفعلون ذلك سراً فنهاهم الله عن الزنا علانية وسراً والأولى أن لا يخصص هذا النهي بنوع معين بل يجري على عمومه في جميع الفواحش ظاهرها وباطنها لأن اللفظ عام والمعنى الموجب لهذا النهي وهو كونه فاحشة عام أيضاً ومع عموم اللفظ والمعنى يكون التخصيص على خلاف الدليل وفي قوله مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ دقيقة وهي أن الإنسان إذا احترز عن المعصية في الظاهر ولم يحترز عنها في الباطن دل ذلك على أن احترازه عنها ليس لأجل عبودية الله وطاعته ولكن لأجل الخوف من مذمة الناس وذلك باطل لأن من كان مذمة الناس عنده أعظم وقعاً من عقاب الله ونحوه فإنه يخشى عليه من الكفر ومن ترك المعصية ظاهراً وباطناً دل ذلك على أنه إنما تركها تعظيماً لأمر الله تعالى وخوفاً من عذابه ورغبة في عبوديته
والنوع الخامس قوله وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ
واعلم أن هذا داخل في جملة الفواحش إلا أنه تعالى أفرده بالذكر لفائدتين إحداهما أن الإفراد بالذكر يدل على التعظيم والتفخيم كقوله وَمَلَئِكَتُهُ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ والثانية أنه تعالى أراد أن يستثني منه ولا يتأتى هذا الاستثناء في جملة الفواحش
إذا عرفت هدا فنقول قوله إِلاَّ بِالْحَقّ أي قتل النفس المحرمة قد يكون حقاً لجرم يصدر منها والحديث أيضاً موافق له وهو قوله عليه السلام ( لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان وزنا بعد إحصان وقتل نفس بغير حق ) والقرآن دل على سبب رابع وهو قوله تعالى إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الاْرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ ( المائدة 33 )
والحاصل أن الأصل في قتل النفس هو الحرمة وحله لا يثبت إلا بدليل منفصل ثم إنه تعالى لما بين أحوال هذه الأقسام الخمسة أتبعه باللفظ الذي يقرب إلى القلب القبول فقال ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لما في هذه اللفظة من اللطف والرأفة وكل ذلك ليكون المكلف أقرب إلى القبول ثم أتبعه بقوله لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي لكي تعقلوا فوائد هذه التكاليف ومنافعها في الدين والدنيا
وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ

اعلم أنه تعالى ذكر في الآية الأولى خمسة أنواع من التكاليف وهي أمور ظاهرة جلية لا حاجة فيها إلى الفكر والاجتهاد ثم ذكر تعالى في هذه الآية أربعة أنواع من التكاليف وهي أمور خفية يحتاج المرء العاقل في معرفته بمقدارها إلى التفكر والتأمل والاجتهاد
فالنوع الأولى من التكاليف المذكورة في هذه الآية قوله وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ
واعلم أنه تعالى قال في سورة البقرة فِى الدُّنْيَا وَالاْخِرَة ِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ ( البقرة 220 ) والمعنى ولا تقربوا مال اليتيم إلا بأن يسعى في تنميته وتحصيل الربح به ورعاية وجوه الغبطة له ثم إن كان القيم فقيراً محتاجاً أخذ بالمعروف وإن كان غنياً فاحترز عنه كان أولى فقوله إِلاَّ بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ معناه كمعنى قوله وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ( النساء 6 )
وأما قوله حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ فالمعنى احفظوا ماله حتى يبلغ أشده فإذا بلغ أشده فادفعوا إليه ماله وأما معنى الأشد وتفسيره قال الليث الأشد مبلغ الرجل الحكمة والمعرفة قال الفراء الأشد وأحدها شد في القياس ولم أسمع لها بواحد وقال أبو الهيثم واحدة الأشد شدة كما أن واحدة الأنعم نعمة والشدة القوة والجلادة والشديد الرجل القوي وفسروا بلوغ الأشد في هذه الآية بالاحتلام بشرط أن يؤنس منه الرشد وقد استقصينا في هذا الفصل في أول سورة النساء
والنوع الثاني قوله تعالى وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ
اعلم أن كل شيء بلغ تمام الكمال فقد وفى وتم يقال درهم واف وكيل واف وأوفيته حقه ووفيته إذا أتممته وأوفى الكيل إذا أتمه ولم ينقص منه شيئاً وقوله وَالْمِيزَانَ أي الوزن بالميزان وقوله بِالْقِسْطِ أي بالعدل لا بخس ولا نقصان
فإن قيل إيفاء الكيل والميزان هو عين القسط فما الفائدة في هذا التكرير
قلنا أمر الله المعطي بإيفاء ذي الحق حقه من غير نقصاه وأمر صاحب الحق بأخذ حقه من غير طلب الزيادة
واعلم أنه لما كان يجوز أن يتوهم الإنسان أنه يجب على التحقيق وذلك صعب شديد في العدل أتبعه الله تعالى بما يزيل هذا التشديد فقال لاَ نُكَلّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا أي الواجب في إيفاء الكيل والوزن هذا القدر الممكن في إيفاء الكيل والوزن أما التحقيق فغير واجب قال القاضي إذا كان تعالى قد خفف على المكلف هذا التخفيف مع أن ما هو التضييق مقدور له فكيف يتوهم أنه تعالى يكلف الكافر الإيمان مع أنه لا قدرة له عليه بل قالوا يخلق الكفر فيه ويريده منه ويحكم به عليه ويخلق فيه القدرة الموجبة لذلك الكفر والداعية الموجبة له ثم ينهاه عنه فهو تعالى لما لم يجوز ذلك القدر من التشديد والتضييق على العبد وهو إيفاء الكيل والوزن على سبيل التحقيق فكيف يجوز أن يضيف على العبد مثل هذا التضييق والتشديد
واعلم أنا نعارض القاضي وشيوخه في هذا الموضع بمسألة العلم ومسألة الداعي وحينئذ ينقطع ولا يبقى لهذا الكلام رواء ولا رونق

النوع الثالث من التكاليف المذكورة في هذه الآية قوله تعالى وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى واعلم أن هذا أيضاً من الأمور الخفية التي أوجب الله تعالى فيها أداء الأمانة والمفسرون حملوه على أداء الشهادة فقط والأمر والنهي فقط قال القاضي وليس الأمر كذلك بل يدخل فيه كل ما يتصل بالقول فيدخل فيه ما يقول المرء في الدعوة إلى الدين وتقرير الدلائل عليه بأن يذكر الدليل ملخصاً عن الحشو والزيادة بألفاظ مفهومة معتادة قريبة من الأفهام ويدخل فيه أن يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واقعاً على وجه العدل من غير زيادة في الإيذاء والإيحاش ونقصان عن القدر الواجب ويدخل فيه الحكايات التي يذكرها الرجل حتى لا يزيد فيها ولا ينقص عنها ومن جملتها تبليغ الرسالات عن الناس فإنه يجب أن يؤديها من غير زيادة ولا نقصان ويدخل فيه حكم الحاكم بالقول ثم إنه تعالى بين أنه يجب أن يسوي فيه بين القريب والبعيد لأنه لما كان المقصود منه طلب رضوان الله تعالى لم يختلف ذلك بالقريب والبعيد
والنوع الرابع من هذه التكاليف قوله تعالى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ وهذا من خفيات الأمور لأن الرجل قد يحلف مع نفسه فيكون ذلك الحلف خفياً ويكون بره وحنثه أيضاً خفياً ولما ذكر تعالى هذه الأقسام قال ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
فإن قيل فما السبب في أن جعل خاتمة الآية الأولى بقوله لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وخاتمة هذه الآية بقوله لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
قلنا لأن التكاليف الخمسة المذكورة في الأولى أمور ظاهرة جلية فوجب تعقلها وتفهمها وأما التكاليف الأربعة المذكورة في هذه الآية فأمور خفية غامضة لا بد فيها من الاجتهاد والفكر حتى يقف على موضع الاعتدال فلهذا السبب قال لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم تَذَكَّرُونَ بالتخفيف والباقون تذكرن بتشديد الذال في كل القرآن وهما بمعنى واحد

بداية الجزء الرابع عشر من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32

وَأَنَّ هَاذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن عامر تَذَكَّرُونَ وَأَنَّ هَاذَا بفتح الألف وسكون النون وقرأ حمزة والكسائي وَأَنْ بكسر الألف وتشديد النون أما قراءة ابن عامر فأصلها وَأَنَّهُ هَاذَا صِراطِي والهاء ضمير الشأن والحديث وعلى هذا الشرط تخفف قال الأعشى في فتية كسيوف الهند قد علموا
أن هالك كل من يحفى وينتعل
أي قد علموا أنه هالك وأما كسر ءانٍ فالتقدير أَتْلُ مَا حَرَّمَ ( الأنعام 151 ) وأتل إِنَّ هَذَا صِراطِي بمعنى أقول وقيل على الاستئناف وأما فتح أن فقال الفراء فتح ءانٍ من وقوع أتل عليها يعني وأتل عليكم إِنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيمًا قال وإن شئت جعلتها خفضاً والتقدير ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ وبأن هذا صراطي قال أبو علي من فتح ءانٍ فقياس قول سيبويه أنه حملها على قوله فَاتَّبَعُوهُ والتقدير لأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه كقوله وَإِنَّ هَاذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّة ً واحِدَة ً ( المؤمنون 52 ) وقال سيبويه لأن هذه أمتكم وقال في قوله وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أَحَداً ( الجن 18 ) والمعنى ولأن المساجد لله
المسألة الثانية القراء أجمعوا على سكون الياء من صِراطِي غير ابن عامر فإنه فتحها وقرأ ابن كثير وابن عامر سراطي بالسين وحمزة بين الصاد والزاي والباقون بالصاد صافية وكلها لغات قال صاحب ( الكشاف ) قرأ الأعمش وَهَاذَا صِراطِي وفي مصحف عبد الله وَهَاذَا صِراطُ رَبُّكُمْ وفي مصحف أبي وَهَاذَا صِراطُ رَبّكَ

المسألة الثالثة أنه تعالى لما بين في الآيتين المتقدمين ما وصى به أجمل في آخره إجمالاً يقتضي دخول ما تقدم فيه ودخول سائر الشريعة فيه فقال وَأَنَّ هَاذَا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فدخل فيه كل ما بينه الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) من دين الإسلام وهو المنهج القويم والصراط المستقيم فاتبعوا جملته وتفصيله ولا تعدلوا عنه فتقعوا في الضلالات وعن ابن مسعود عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه خط خطاً ثم قال هذا سبيل الرشد ثم خط عن يمينه وعن شماله خطوطاً ثم قال هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ثم تلا هذه الآية وَأَنَّ هَاذَا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وعن ابن عباس هذه الآيات محكمات لم ينسخهن شيء من جميع الكتب من عمل بهن دخل الجنة ومن تركهن دخل النار
ثم قال ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ أي بالكتاب لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ المعاصي والضلالات
المسألة الرابعة هذه الآية تدل على أن كل ما كان حقاً فهو واحد ولا يلزم منه أن يقال إن كل ما كان واحداً فهو حق فإذا كان الحق واحداً كان كل ما سواه باطلاً وما سوى الحق أشياء كثيرة فيجب الحكم بأن كل كثير باطل ولكن لا يلزم أن يكون كل باطل كثيراً بعين ما قررناه في القضية الأولى
ثُمَّ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِى أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَى ْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَة ً لَّعَلَّهُم بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ
اعلم أن قوله ثُمَّ ءاتَيْنَا فيه وجوه الأول التقدير ثم إني أخبركم بعد تعديد المحرمات وغيرها من الأحكام إن آتينا موسى الكتاب فذكرت كلمة ( ثم ) لتأخير الخبر عن الخبر لا لتأخير الواقعة ونظيره قوله تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَة ِ اسْجُدُواْ لأَدَمَ ( الأعراف 11 ) والثاني أن التكاليف التسعة المذكورة في الآية المتقدمة التكليف لا يجوز اختلافها بحسب اختلاف الشرائع بل هي أحكام واجبة الثبوت من أول زمان التكليف إلى قيام القيامة وأما الشرائع التي كانت التوبة مختصة بها فهي إنما حدثت بعد تلك التكاليف التسعة فتقدير الآية أنه تعالى لما ذكرها قال ذلكم وصاكم به يا بني آدم قديماً وحديثاً ثم بعد ذلك آتينا موسى الكتاب الثالث أن فيه حذفاً تقديره ثم قل يا محمد إنا آتينا موسى فتقديره اتل ما أوحى إليك ثم اتل عليهم خبر ما آتينا موسى
أما قوله تَمَامًا عَلَى الَّذِى أَحْسَنَ ففيه وجوه الأول معناه تماماً للكرامة والنعمة على الذي أحسن أي على كل من كان محسناً صالحاً ويدل عليه قراءة عبد الله عَلَى الَّذِينَ أَحْسَنُواْ والثاني المراد تماماً للنعمة والكرامة على العبد الذي أحسن الطاعة بالتبليغ وفي كل ما أمر به والثالث تماماً على الذي أحسن موسى من العلم والشرائع من أحسن الشيء إذا أجاد معرفته أي زيادة على علمه على وجه التتميم وقرأ يحيى بن يعمر عَلَى الَّذِى أَحْسَنَ أي على الذي هو أحسن بحذف المبتدأ كقراءة من قرأ مَثَلاً مَّا بَعُوضَة ً ( البقرة 26 )

بالرفع وتقدير الآية على الذي هو أحسن ديناً وأرضاه أو يقال المراد آتينا موسى الكتاب تماماً أي تاماً كاملاً على أحسن ما تكون عليه الكتب أي على الوجه الذي هو أحسن وهو معنى قول الكلبي أتم له الكتاب على أحسنه ثم بين تعالى ما في التوراة من النعم في الدين وهو تفصيل كل شيء والمراد به ما يختص بالدين فدخل في ذلك بيان نبوة رسولنا ( صلى الله عليه وسلم ) دينه وشرعه وسائر الأدلة والأحكام إلا ما نسخ منها ولذلك قال وَهُدًى وَرَحْمَة ٌ والهدى معروف وهو الدلالة والرحمة هي النعمة لَّعَلَّهُم بِلِقَاء رَبّهِمْ يُؤْمِنُونَ أي لكي يؤمنوا بلقاء ربهم والمراد به لقاء ما وعدهم الله به من ثواب وعقاب
وَهَاذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَن تَقُولُوا إِنَّمَآ أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّآ أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَآءَكُمْ بَيِّنَة ٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَة ٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِى الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُو ءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ
اعلم أن قوله وَهَاذَا كِتَابٌ لا شك أن المراد هو القرآن وفائدة وصفه بأنه مبارك أنه ثابت لا يتطرق إليه النسخ كما في الكتابين أو المراد أنه كثير الخير والنفع
ثم قال فَاتَّبَعُوهُ والمراد ظاهر
ثم قال وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي لكي ترحموا وفيه ثلاثة أقوال قيل اتقوا مخالفته على رجاء الرحمة وقيل اتقوا لترحموا أي ليكون الغرض بالتقوى رحمة الله وقيل اتقوا لترحموا جزاء على التقوى
ثم قال تعالى أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وفيه وجوه
الوجه الأول قال الكسائي والفراء والتقدير أنزلناه لئلا تقولوا ثم حذف الجار وحرف النفي كقوله يُبَيّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ ( النساء 176 ) وقوله رَوَاسِى َ أَن تَمِيدَ بِكُمْ ( النحل 15 ) أي لئلا
والوجه الثاني وهو قول البصريين معناه أنزلناه كراهة أن تقولوا ولا يجيزون إضمار ( لا ) فإنه لا يجوز أن يقال جئت أن أكرمك بمعنى أن لا أكرمك وقد ذكرنا تحقيق هذه المسألة في آخر سورة النساء

والوجه الثالث قال الفراء يجوز أن يكون ( إن ) متعلقة باتقوا والتأويل واتقوا أن تقولوا إنما أنزل الكتاب
البحث الثاني قوله أَن تَقُولُواْ خطاب لأهل مكة والمعنى كراهة أن يقول أهل مكة أنزل الكتاب وهو التوراة والإنجيل على طائفتين من قبلنا وهم اليهود والنصارى وإن كنا ( إن ) هي المحففة من الثقيلة واللام هي الفارقة بينها وبين النافية والأصل وأنه كنا عن دراستهم لغافلين والمراد بهذه الآيات إثبات الحجة عليهم بإنزال القرآن على محمد كي لا يقولوا يوم القيامة إن التوراة والإنجيل أنزلا على طائفتين من قبلنا وكنا غافلين عما فيهما فقطع الله عذرهم بإنزال القرآن عليهم وقوله وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أي لا نعلم ما هي لأن كتابهم ما كان بلغتنا ومعنى أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم مفسر للأول في أن معناه لئلا يقولوا ويحتجوا بذلك ثم بين تعالى قطع احتجاجهم بهذا وقال فَقَدْ جَاءكُمْ بَيّنَة ٌ مّن رَّبّكُمْ وهو القرآن وما جاء به الرسول وَهُدًى وَرَحْمَة ٌ
فإن قيل البينة والهدى واحد فما الفائدة في التكرير
قلنا القرآن بينة فيما يعلم سمعاً وهو هدى فيما يعلم سمعاً وعقلاً فلما اختلفت الفائدة صح هذا العطف وقد بينا أن معنى رَحْمَة ً أي أنه نعمة في الدين
ثم قال تعالى فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ والمراد تعظيم كفر من كذب بآيات الله وصدف عنها أي منع عنها لأن الأول ضلال والثاني منع عن الحق وإضلال
ثم قال تعالى سَنَجْزِى الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوء الْعَذَابِ وهو كقوله الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ
هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلَائِكَة ُ أَوْ يَأْتِى َ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِى َ بَعْضُ ءَايَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِى بَعْضُ ءَايَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ ءَامَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِى إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ
قرأ حمزة والكسائي يَأْتِيهِمُ بالياء وفي النحل مثله والباقون تَأْتِيَهُمُ بالتاء
واعلم أنه تعالى لما بين أنه إنما أنزل الكتاب إزالة للعذر وإزاحة للعلة وبين أنهم لا يؤمنون ألبتة وشرح أحوالاً توجب اليأس عن دخولهم في الإيمان فقال هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلَائِكَة ُ ونظير هذه الآية قوله في سورة البقرة هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مّنَ الْغَمَامِ ( الأنعام 158 ) ومعنى ينظرون ينتظرون وهل استفهام معناه النفي وتقدير الآية أنهم لا يؤمنون بك إلا إذا جاءهم أحد هذه الأمور الثلاثة

وهي مجيء الملائكة أو مجيء الرب أو مجيء الآيات القاهرة من الرب
فإن قيل قوله أَوْ يَأْتِى َ رَبُّكَ هل يدل على جواز المجيء والغيبة على الله
قلنا الجواب عنه من وجوه الأول أن هذا حكاية عنهم وهم كانوا كفاراً واعتقاد الكافر ليس بحجة والثاني أن هذا مجاز ونظيره قوله تعالى فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ ( النحل 26 ) وقوله إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ ( الأحزاب 57 ) والثالث قيام الدلائل القاطعة على أن المجيء والغيبة على الله تعالى محال وأقربها قول الخليل صوات الله عليه في الرد على عبدة الكواكب لا أُحِبُّ الاْفِلِينَ ( الأنعام 76 )
فإن قيل قوله أَوْ يَأْتِى َ رَبُّكَ لا يمكن حمله على إثبات أثر من آثار قدرته لأن على هذا التقدير يصير هذا عين قوله هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن تَأْتِيهُمُ فوجب حمله على أن المراد منه إتيان الرب
قلنا الجواب المعتمد أن هذا حكاية مذهب الكفار فلا يكون حجة وقيل يأتي ربك بالعذاب أو يأتي بعض آيات ربك وهو المعجزات القاهرة
ثم قال تعالى يَوْمَ يَأْتِى بَعْضُ ءايَاتِ رَبّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ ءامَنَتْ مِن قَبْلُ وأجمعوا على أن المراد بهذه الآيات علامات القيامة عن البراء بن عازب قال كنا نتذاكر أمر الساعة إذ أشرف علينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال ما تتذاكرون قلنا نتذاكر الساعة قال ( إنها لا تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات الدخان ودابة الأرض وخسفاً بالمشرق وخسفاً بالمغرب وخسفاً بجزيرة العرب والدجال وطلوع الشمس من مغربها ويأجوج ومأجوج ونزول عيسى ونار تخرج من عدن ) وقوله لَمْ تَكُنْ ءامَنَتْ مِن قَبْلُ صفة لقوله نَفْساً وقوله أَوْ كَسَبَتْ فِى إِيمَانِهَا خَيْرًا صفة ثانية معطوفة على الصفة الأولى والمعنى أن أشراط الساعة إذا ظهرت ذهب أوان التكليف عندها فلم ينفع الإيمان نفساً ما آمنت قبل ذلك وما كسبت في إيمانها خيراً قبل ذلك
ثم قال تعالى قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ وعيد وتهديد
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِى شَى ْءٍ إِنَّمَآ أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ
قرأ حمزة والكسائي فارقوا بالألف والباقون الَّذِينَ فَرَّقُواْ ومعنى القراءتين عند التحقيق واحد لأن الذي فرق دينه بمعنى أنه أقر ببعض وأنكر بعضاً فقد فارقه في الحقيقة وفي الآية أقوال
القول الأول المراد سائر الملل قال ابن عباس يريد المشركين بعضهم يعبدون الملائكة ويزعمون

أنهم بنات الله وبعضهم يعبدون الأصنام ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله فهذا معنى فرقوا دينهم وكانوا شيعاً أي فرقاً وأحزاباً في الضلالة وقال مجاهد وقتادة هم اليهود والنصارى وذلك لأن النصارى تفرقوا فرقاً وكفر بعضهم بعضاً وكذلك اليهود وهم أهل كتاب واحد واليهود تكفر النصارى
والقول الثاني أن المراد من الآية أخذوا ببعض وتركوا بعضاً كما قال تعالى أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ( البلقرة 85 ) وقال أيضاً إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرّقُواْ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ
والقول الثالث قال مجاهد إن الذين فرقوا دينهم من هذه الأمة هم أهل البدع والشبهات واعلم أن المراد من الآية الحث على أن تكون كلمة المسلمين واحدة وأن لا يتفرقوا في الدين ولا يبتدعوا البدع وقوله لَّسْتَ مِنْهُمْ فِى شَى ْء فيه قولان الأول أنت منهم بريء وهم منك برآء وتأويله إنك بعيد عن أقوالهم ومذاهبهم والعقاب اللازم على تلك الإباطيل مقصور عليهم ولا يتعداهم والثاني لست من قتالهم في شيء قال السدي يقولون لم يؤمر بقتالهم فلما أمر بقتالهم نسخ وهذا بعيد لأن المعنى لست من قتالهم في هذا الوقت في شيء فورد الأمر بالقتال في وقت آخر لا يوجب النسخ
ثم قال إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ أي فيما يتصل بالأمهال والأنظار والاستئصال والإهلاك ثُمَّ يُنَبّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ والمراد الوعيد
مَن جَآءَ بِالْحَسَنَة ِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَة ِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قال بعضهم الحسنة قول لا إله إلا الله والسيئة هي الشرك وهذا بعيد بل يجب أن يكون محمولاً على العموم إما تمسكاً باللفظ وإما لأجل أنه حكم مرتب على صف مناسب له فيقتضي كون الحكم معللاً بذلك الوصف فوجب أن يعم لعموم العلة
المسألة الثانية قال الواحدي رحمه الله حذفت الهاء من عشر والأمثال جمع مثل والمثل مذكر لأنه أريد عشر حسنات أمثالها ثم حذفت الحسنات وأقيمت الأمثال التي هي صفتها مقامها وحذف الموصوف كثير في الكلام ويقوي هذا قراءة من قرأ عشر أمثالها بالرفع والتنوين
المسألة الثالثة مذهبنا أن الثواب تفضل من الله تعالى في الحقيقة وعلى هذا التقدير فلا إشكال في الآية أما المعتزلة فهم فرقوا بين الثواب والتفضل بأن الثواب هو المنفعة المستحقة والتفضل هو المنفعة التي لا تكون مستحقة ثم إنهم على تقريع مذاهبهم اختلفوا فقال بعضهم هذه العشرة تفضل والثواب غيرها وهو قول الجبائي قال لأنه لو كان الواحد ثواباً وكانت التسعة تفضلاً لزم أن يكون الثواب دون التفضل وذلك لا

يجوز لأنه لو جاز أن يكون التفضل مساوياً للثواب في الكثرة والشرف لم يبق في التكليف فائدة أصلاً فيصير عبثاً وقبيحاً ولما بطل ذلك علمنا أن الثواب يجب أن يكون أعظم في القدر وفي التعظيم من التفضل وقال آخرون لا يبعد أن يكون الواحد من هذه التسعة ثواباً وتكون التسعة الباقية تفضلاً إلا أن ذلك الواحد يكون أوفر وأعظم وأعلى شأناً من التسعة الباقية
المسألة الرابعة قال بعضهم التقدير بالعشرة ليس المراد منه التحديد بل أراد الإضعاف مطلقاً كقول القائل لئن أسديت إلي معروفاً لإكافئنك بعشر أمثاله وفي الوعيد يقال لئن كلمتني واحدة لأكلمنك عشراً ولا يريد التحديد فكذا ههنا والدليل على أنه لا يمكن حمله على التحديد قوله تعالى مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّة ٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلّ سُنبُلَة ٍ مّاْئَة ُ حَبَّة ٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ ( البقرة 261 )
ثم قال تعالى وَمَن جَاء بِالسَّيّئَة ِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا أي الأجزاء يساويها ويوازيها روى أبو ذر أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( إن الله تعالى قال الحسنة عشر أو أزيد والسيئة واحدة أو عفو فالويل لمن غلب آحاده أعشاره ) وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( يقول الله إذا هم عبدي بحسنة فاكتبوها له حسنة وإن لم يعملها فإن عملها فعشر أمثالها وإن هم بسيئة فلا تكتبوها وإن عملها فسيئة واحدة ) وقوله وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ أي لا ينقص من ثواب طاعتهم ولا يزاد على عقاب سيئاتهم في الآية سؤالان
السؤال الأول كفر ساعة كيف يوجب عقاب الأبد على نهاية التغليظ
جوابه أنه كان الكافر على عزم أنه لو عاش أبداً لبقي على ذلك الاعتقاد أبداً فلما كان ذلك العزم مؤبداً عوقب بعقاب الأبد خلاف المسلم المذنب فإنه يكون على عزم الإقلاع عن ذلك الذنب فلا جرم كانت عقوبته منقطعة
السؤال الثاني إعتاق الرقبة الواحدة تارة جعل بدلاً عن صيام ستين يوماً وهو في كفارة الظهار وتارة جعل بدلاً عن صيام أيام قلائل وذلك يدل على أن المساواة غير معتبرة
جوابه إن المساواة إنما تحصل بوضع الشرع وحكمه
السؤال الثالث إذا أحدث في رأس إنسان موضحتين وجب فيه إرشان فإن رفع الحاجز بينهما صار الواجب أرش موضحة واحدة فههنا ازدادت الجناية وقل العقاب فالمساواة غير معتبرة
وجوابه إن ذلك من تعبدات الشرع وتحكماته
السؤال الرابع أنه يجب في مقابلة تفويت أكثر كل واحد من الأعضاء دية كاملة ثم إذا قتله وفوت كل الأعضاء وجبت دية واحدة وذلك يمتنع القول من رعاية المماثلة
جوابه أنه من باب تحكمات الشريعة والله أعلم

قُلْ إِنَّنِى هَدَانِى رَبِّى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّة َ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
اعلم أنه تعالى لما علم رسوله أنواع دلائل التوحيد والرد على القائلين بالشركاء والأنداد والأضداد وبالغ في تقرير إثبات التوحيد والرد على القائلين بالشركاء والأنداد والأضداد وبالغ في تقرير إثبات التوحيد والنافين للقضاء والقدر ورد على أهل الجاهلية في أباطيلهم أمره أن يختم الكلام بقوله إِنَّنِى هَدَانِى رَبّى إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ وذلك يدل على أن الهداية لا تحصل إلا بالله وانتصب ديناً لوجهين أحدهما على البدل من محل صراط لأن معناه هداني ربي صراطاً مستقيماً كما قال وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُّسْتَقِيماً ( الفتح 2 ) والثاني أن يكون التقدير الزموا ديناً وقوله فيما قال صاحب ( الكشاف ) القيم فيعل من قام كسيد من ساد وهو أبلغ من القائم وقرأ أهل الكوفة قيماً مكسورة القاف خفيفة الياء قال الزجاج هو مصدر بمعنى القيام كالصغر والكبر والحول والشبع والتأويل ديناً ذا قيم ووصف الدين بهذا الوصف على سبيل المبالغة وقوله مِلَّة َ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً فقوله مِلَّة َ بدل من قوله دِينًا قِيَمًا وحينفاً منصوب على الحال من إبراهيم والمعنى هداني ربي وعرفني ملة إبراهيم حال كونها موصوفة بالحنيفية ثم قال في صفة إبراهيم وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ والمقصود منه الرد على المشركين
قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاى َ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذالِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ
اعلم أنه تعالى كما عرفه الدين المستقيم عرفه كيف يقوم به ويؤديه فقوله قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاى َ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ يدل على أنه يؤديه مع الأخلاص وأكده بقوله لاَ شَرِيكَ لَهُ وهذا يدل على أنه لا يكفي في العبادات أن يؤتى بها كيف كانت بل يجب أن يؤتى بها مع تمام الإخلاص وهذا من أقوى الدلائل على أن شرط صحة الصلاة أن يؤتى بها مقرونة بالأخلاص
أما قوله وَنُسُكِى فقيل المراد بالنسك الذبيحة بعينها يقول من فعل كذا فعليه نسك أي دم يهريقه وجمع بين الصلاة والذبح كما في قوله فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ ( الكوثر 2 ) وروى ثعلب عن ابن الأعرابي أنه قال النسك سبائك الفضة كل سبيكة منها نسيكة وقيل للمتعبد ناسك لأنه خلص نفسه من دنس الآثام وصفاها كالسبيكة المخلصة من الخبث وعلى هذا التأويل فالنسك كل ما تقربت به إلى الله تعالى إلا أن الغالب عليه في العرف الذبح وقوله وَمَحْيَاى َ وَمَمَاتِى أي حياتي وموتي لله

واعلم أنه تعالى قال إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاى َ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ فأثبت كون الكل لله والمحيا والممات ليسا لله بمعنى أنه يؤتى بهما لطاعة الله تعالى فإن ذلك محال بل معنى كونهما لله أنهما حاصلان بخلق الله تعالى فكذلك أن يكون كون الصلاة والنسك لله مفسراً بكونهما واقعين بخلق الله وذلك من أدل الدلائل على أن طاعات العبد مخلوقة لله تعالى وقرأ نافع محياي ساكنة الياء ونصبها في مماتي وإسكان الياء في محياي شاذ غير مستعمل لأن فيه جمعاً بين ساكنين لا يلتقيان على هذا الحد في نثر ولا نظم ومنهم من قال إنه لغة لبعضهم وحاصل الكلام أنه تعالى أمر رسوله أن يبين أن صلاته وسائر عباداته وحياته ومماته كلها واقعة بخلق الله تعالى وتقديره وقضاءه وحكمه ثم نص على أنه لا شريك له في الخلق والتقدير ثم يقول وبذلك أمرت أي وبهذا التوحيد أمرت
ثم يقول أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ أي المستسلمين لقضاء الله وقدره ومعلوم أنه ليس أولاً لكل مسلم فيجب أن يكون المراد كونه أولاً لمسلمي زمانه
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِى رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَى ْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ
اعلم أنه تعالى لما أمر محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بالتوحيد المحض وهو أن يقول إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى إلى قوله لاَ شَرِيكَ لَهُ أمره بأن يذكر ما يجري مجرى الدليل على صحة هذا التوحيد وتقريره من وجهين الأول أن أصناف المشركين أربعة لأن عبدة الأصنام أشركوا بالله وعبدة الكواكب أشركوا بالله والقائلون بيزدان وأهرمن وهم الذين قال الله في حقهم وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ أشركوا بالله والقائلون بأن المسيح ابن الله والملائكة بناته أشركوا أيضاً بالله فهؤلاء هم فرق المشركين وكلهم معترفون أن الله خالق الكل وذلك لأن عبدة الأصنام معترفون بأن الله سبحانه هو الخالق للسموات والأرض ولكل ما في العالم من الموجودات وهو الخالق للأصنام والأوثان بأسرها وأما عبدة الكواكب فهم معترفون بأن الله خالقها وموجدها وأما القائلون بيزدان وهرمن فهم أيضاً معترفون بأن الشيطان محدث وأن محدثه هو الله سبحانه وأما القائلون بالمسيح والملائكة فهم معترفون بأن الله خالق الكل فثبت بما ذكرنا أن طوائف المشركين أطبقوا واتفقوا على أن الله خالق هؤلاء الشركاء
إذا عرفت هذا فالله سبحانه قال له يا محمد قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِى رَبّا مع أن هؤلاء الذين اتخذوا رباً غير الله تعالى أقروا بأن الله خالق تلك الأشياء وهل يدخل في العقل جعل المربوب شريكاً للرب وجعل العبد شريكاً للمولى وجعل المخلوق شريكاً للخالق ولما كان الأمر كذلك ثبت بهذا الدليل أن اتخاذ رب غير الله تعالى قول فاسد ودين باطل

الوجه الثاني في تقرير هذا الكلام أن الموجود إما واجب لذاته وإما ممكن لذاته وثبت أن الواجب لذاته واحد فثبت أن ما سواه ممكن لذاته وثبت أن الممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد الواجب لذاته وإذا كان الأمر كذلك كان تعالى رباً لكل شيء
وإذا ثبت هذا فنقول صريح العقل يشهد بأنه لا يجوز جعل المربوب شريكاً للرب وجعل المخلوق شريكاً للخالق فهذا هو المراد من قوله قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِى رَبّا وَهُوَ رَبُّ كُلّ شَى ْء ( الأنعام 164 ) ثم إنه تعالى لما بين بهذا الدليل القاهر القاطع هذا التوحيد بين أنه لا يرجع إليه من كفرهم وشركهم ذم ولا عقاب فقال وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا ( الأنعام 164 ) ومعناه أن إثم الجاني عليه لا على غيره وَلاَ تَزِرُ وَازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى ( الإسراء 15 ) أي لا تؤخذ نفس آثمة بإثم أخرى ثم بين تعالى أن رجوع هؤلاء المشركين إلى موضع لا حاكم فيه ولا آمر إلا الله تعالى فهو قوله ثُمَّ إِلَى رَبّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ( الأنعام 164 )
وَهُوَ الَّذِى جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الأرض وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِى مَآ آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ
اعلم أن في قوله جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الاْرْضِ وجوهاً أحدها جعلهم خلائف الأرض لأن محمداً عليه الصلاة والسلام خاتم النبيين فخلفت أمته سائر الأمم وثانيها جعلهم يخلف بعضهم بعضاً وثالثها أنهم خلفاء الله في أرضه يملكونها ويتصرفون فيها
ثم قال وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ في الشرف والعقل والمال والجاه والرزق وإظهار هذا التفاوت ليس لأجل العجز والجهل والبخل فإنه تعالى متعال عن هذه الصفات وإنما هو لأجل الابتلاء والامتحان وهو المراد من قوله لِيَبْلُوَكُمْ فِيمَا ءاتَاكُمُ ( المائدة 48 ) وقد ذكرنا أن حقيقة الابتلاء والامتحان على الله محال إلا أن المراد هو التكليف وهو عمل لو صدر من الواحد منا لكان ذلك شبيهاً بالابتلاء والامتحان فسمى لهذا الاسم لأجل هذه المشابهة ثم إن هذا المكلف إما أن يكون مقصراً فيما كلف به وإما أن يكون موفراً فيه فإن كان الأول كان نصيبه من التخويف والترهيب وهو قوله إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ ( الأنعام 165 ) ووصف العقاب بالسرعة لأن ما هو آت قريب وإن كان الثاني وهو أن يكون موفراً في تلك الطاعات كان نصيبه من التشريف والترغيب هو قوله وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ أي يغفر الذنوب ويستر العيوب في الدنيا بستر فضله وكرمه ورحمته وفي الآخرة بأن يفيض عليه أنواع نعمه وهذا الكلام بلغ في شرح الأعذار والإنذار والترغيب والترهيب إلى حيث لا يمكن الزيادة عليه وهذا آخر الكلام في تفسير سورة الأنعام والحمد لله الملك العلام

سورة الأعراف
مكية إلا من آية 163 إلى غاية آية 170 فمدنية
وآياتها 206 نزلت بعد ص
ال م ص كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِى صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ
في الأية مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس المص أنا الله أفصل وعنه أيضاً أنا الله أعلم وأفصل قال الواحدي وعلى هذا التفسير فهذه الحروف واقعة في موضع جمل والجمل إذا كانت ابتداء وخبراً فقط لا موضع لها من الإعراب فقوله أنا الله أعلم لا موضع لها من الأعراب فقوله ( أنا ) مبتدأ وخبره قوله ( الله ) وقوله ( أعلم ) خبر بعد خبر وإذا كان المعنى المص أنا الله أعلم كان أعرابها كإعراب الشيء الذي هو تأويل لها وقال السدي المص على هجاء قولنا في أسماء الله تعالى أنه المصور قال القاضي ليس هذا اللفظ على قولنا أنا الله أفصل أولى من حمله على قوله أنا الله أصلح أنا الله أمتحن أنا الله الملك لأنه إن كانت العبرة بحرف الصاد فهو موجود في قولنا أنا الله أصلح وإن كانت العبرة بحرف الميم فكما أنه موجود في العلم فهو أيضاً موجود في الملك والامتحان فكان حمل قولنا المص على ذلك المعنى بعينه محض التحكم وأيضاً فإن جاء تفسير الألفاظ بناء على ما فيها من الحروف من غير أن تكون تلك اللفظة موضوعة في اللغة لذلك المعنى انفتحت طريقة الباطنية في تفسير سائر ألفاظ القرآن بما يشاكل هذا الطريق وأما قول بعضهم إنه من أسماء الله تعالى فأبعد لأنه ليس جعله إسماً لله تعالى أولى من جعله اسماً لبعض رسله من الملائكة أو الأنبياء لأن الاسم إنما يصير اسماً للمسمى بواسطة الوضع والاصطلاح وذلك مفقود ههنا بل الحق أن قوله المص اسم لقب لهذه السورة وأسماء الألقاب لا تفيد فائدة في

المسميات بل هي قائمة مقام الإشارات ولله تعالى أن يسمي هذه السورة بقوله المص كما أن الواحد منا إذا حدث له ولد فإنه يسميه بمحمد
إذا عرفت هذا فنقول قوله المص مبتدأ وقوله كِتَابٌ خبره وقوله أَنزَلَ إِلَيْكَ صفة لذلك الخبر أي السورة المسما بقولنا المص كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ
فإن قيل الدليل الذي دل على صحة نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) هوأن الله تعالى خصه بإنزال هذا القرآن عليه فما لم نعرف هذا المعنى لا يمكننا أن نعرف نبوته وما لم نعرف نبوته لا يمكننا أن نحتج بقوله فلو أثبتنا كون هذه السورة نازلة عليه من عند الله بقوله لزم الدور
قلنا نحن بمحض العقل نعلم أن هذه السورة كتاب أنزل إليه من عند الله والدليل عليه أنه عليه الصلاة والسلام ما تلمذ لأستاذ ولا تعلم من معلم ولا طالع كتاباً ولم يخالط العلماء والشعراء وأهل الأخبار وانقضى من عمره أربعون سنة ولم يتفق له شيء من هذه الأحوال ثم بعد انقضاء الأربعين ظهر عليه هذا الكتاب العزيز المشتمل على علوم الأولين والآخرين وصريح العقل يشهد بأن هذا لا يكون إلا بطريق الوحي من عند الله تعالى فثبت بهذا الدليل العقلي أن المص كتاب أنزل على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من عند ربه وإلهه
المسألة الثانية احتج القائلون بخلق القرآن بقوله كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ قالوا إنه تعالى وصفه بكونه منزلاً والإنزال يقتضي الانتقال من حال إلى حال وذلك لا يليق بالقديم فدل على أنه محدث
وجوابه أن الموصوف بالإنزال والتنزيل على سبيل المجاز هو هذه الحروف ولا نزاع في كونها محدثة مخلوقة والله أعلم
فإن قيل فهب أن المراد منه الحروف إلا أن الحروف أعراض غير باقية بدليل أنها متوالية وكونها متوالية يشعر بعدم بقائها وإذا كان كذلك فالعرض الذي لا يبقى زمانين كيف يعقل وصفه بالنزول
والجواب أنه تعالى أحدث هذه الرقوم والنقوش في اللوح المحفوظ ثم إن الملك يطالع تلك النقوش وينزل من السماء إلى الأرض ويعلم محمداً تلك الحروف والكلمات فكان المراد بكون تلك الحروف نازلة هو أن مبلغها نزل من السماء إلى الأرض بها
المسألة الثالثة الذين أثبتوا لله مكاناً تمسكوا بهذه الآية فقالوا إن كلمة ( من ) لابتداء الغاية وكلمة ( إلى ) لانتهاء الغاية فقوله أَنزَلَ إِلَيْكَ يقتضي حصول مسافة مبدؤها هو الله تعالى وغايتها محمد وذلك يدل على أنه تعالى مختص بجهة فوق لأن النزول هو الانتقال من فوق إلى أسفل
وجوابه لما ثبت بالدلائل القاهرة أن المكان والجهة على الله تعالى محال وجب حمله على التأويل الذي ذكرناه وهو أن الملك انتقل به من العلو إلى أسفل
ثم قال تعالى فَلاَ يَكُن فِى صَدْرِكَ حَرَجٌ مّنْهُ وفي تفسير الحرج قولان الأول الحرج الضيق والمعنى لا يضيق صدرك بسبب أن يكذبوك في التبليغ والثاني فَلاَ يَكُن فِى صَدْرِكَ حَرَجٌ مّنْهُ أي شك

منه كقوله تعالى فَإِن كُنتَ فِي شَكّ مّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ( يونس 94 ) وسمي الشك حرجاً لأن الشاك ضيق الصدر حرج الصدر كما أن المتيقن منشرح الصدر منفسح القلب
ثم قال تعالى لِتُنذِرَ بِهِ هذه ( اللام ) بماذا تتعلق فيه أقوال الأول قال الفراء إنه متعلق بقوله أَنزَلَ إِلَيْكَ على التقديم والتأخير والتقدير كتاب أنزل إليك لتنذر به فلا يكن في صدرك حرج منه
فإن قيل فما فائدة هذا التقديم والتأخير
قلنا لأن الإقدام على الإنذار والتبليغ لا يتم ولا يكمل إلا عند زوال الحرج عن الصدر فلهذا السبب أمره الله تعالى بإزالة الحرج عن الصدر ثم أمره بعد ذلك بالإنذار والتبليغ الثاني قال ابن الأنباري اللام ههنا بمعنى كي والتقدير فلا يكن في صدرك شك كي تنذر غيرك الثالث قال صاحب ( النظم ) اللام ههنا بمعنى أن والتقدير لا يضق صدرك ولا يضعف عن أن تنذر به والعرب تضع هذه اللام في موضع ( أن ) قال تعالى يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ ( التوبة 32 ) وفي موضع أخر يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ ( الصف 8 ) وهما بمعنى واحد والرابع تقدير الكلام أن هذا الكتاب أنزله الله عليك وإذا علمت أنه تنزيل الله تعالى فاعلم أن عناية الله معك وإذا علمت هذا فلا يكن في صدرك حرج لأن من كان الله حافظاً له وناصراً لم يخف أحداً وإذا زال الخوف والضيق عن القلب فاشتغل بالإنذار والتبليغ والتذكير اشتغال الرجال الأبطال ولا تبال بأحد من أهل الزيغ والضلال والإبطال
ثم قال وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ قال ابن عباس يريد مواعظ للمصدقين قال الزجاج وهو اسم في موضع المصدر قال الليث الذّكْرَى اسم للتذكرة وفي محل ذكرى من الإعراب وجوه قال الفراء يجوز أن يكون في موضع نصب على معنى لتنذر به ولتذكر ويجوز أن يكون رفعاً بالرد على قوله كِتَابٌ والتقدير كتاب حق وذكرى ويجوز أيضاً أن يكون التقدير وهو ذكرى ويجوز أن يكون خفضاً لأن معنى لتنذر به لأن تنذر به فهو في موضع خفض لأن المعنى للإنذار والذكرى
فإن قيل لم قيد هذه الذكرى بالمؤمنين
قلنا هو نظير قوله تعالى هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2 ) والبحث العقلي فيه أن النفوس البشرية على قسمين نفوس بليدة جاهلة بعيدة عن عالم الغيب غريقة في طلب اللذات الجسمانية والشهوات الجسدانية ونفوس شريفة مشرقة بالأنوار الإلهية مستعدة بالحوادث الروحانية فبعثة الأنبياء والرسل في حق القسم الأول إنذار وتخويف فإنهم لما غرقوا في نوم الغفلة ورقدة الجهالة احتاجوا إلى موقظ يوقظهم وإلى منبه ينبههم وأما في حق القسم الثاني فتذكير وتنبيه وذلك لأن هذه النفوس بمقتضى جواهرها الأصلية مستعدة للانجذاب إلى عالم القدس والاتصال بالحضرة الصمدية إلا أنه ربما غشيها غواش من عالم الجسم فيعرض لها نوع ذهول وغفلة فإذا سمعت دعوة الأنبياء واتصل بها أنوار أرواح رسل الله تعالى تذكرت مركزها وأبصرت منشأها واشتاقت إلى ما حصل هنالك من الروح والراحة والريحان فثبت أنه تعالى إنما أنزل هذا الكتاب على رسوله ليكون إنذاراً في حق طائفة وذكرى في حق طائفة أخرى والله أعلم

اتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ
اعلم أن أمر الرسالة إنما يتم بالمرسل وهو الله سبحانه وتعالى والمرسل وهو الرسول والمرسل إليه وهو الأمة فلما أمر في الآية الأولى الرسول بالتبليغ والإنذار مع قلب قوي وعزم صحيح أمر المرسل إليه وهم الأمة بمتابعة الرسول فقال اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال الحسن يا ابن آدم أمرت باتباع كتاب الله وسنة رسوله
واعلم أن قوله اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ يتناول القرآن والسنة
فإن قيل لماذا قال أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ وإنما أنزل على الرسول
قلنا إنه منزل على الكل بمعنى أنه خطاب للكل
إذا عرفت هذا فنقول هذه الآية تدل على أن تخصيص عموم القرآن بالقياس لا يجوز لأن عموم القرآن منزل من عند الله تعالى والله تعالى أوجب متابعته فوجب العمل بعموم القرآن ولما وجب العمل به امتنع العمل بالقياس وإلا لزم التناقض
فإن قالوا لما ورد الأمر بالقياس في القرآن وهو قوله فَاعْتَبِرُواْ ( الحشر 2 ) كان العمل بالقياس عملاً بما أنزل الله
قلنا هب أنه كذلك إلا أنا نقول الآية الدالة على وجوب العمل بالقياس إنما تدل على الحكم المثبت بالقياس لا ابتداء بل بواسطة ذلك القياس وأما عموم القرآن فإنه يدل على ثبوت ذلك الحكم ابتداء لا بواسطة ولما وقع التعارض كان الذي دل عليه ما أنزله الله ابتداء أولى بالرعاية من الحكم الذي دل عليه ما أنزله الله بواسطة شيء آخر فكان الترجيح من جانبنا والله أعلم
المسألة الثانية قوله تعالى وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قالوا معناه ولا تتولوا من دونه أولياء من شياطين الجن والإنس فيحملوكم على عبادة الأوثان والأهواء والبدع ولقائل أن يقول الآية تدل على أن المتبوع إما أن يكون هو الشيء الذي أنزله الله تعالى أو غيره
أما الأول فهو الذي أمر الله باتباعه
وأما الثاني فهو الذي نهى الله عن اتباعه فكان المعنى أن كل ما يغاير الحكم الذي أنزله الله تعالى فإنه لا يجوز إتباعه
إذا ثبت هذا فنقول إن نفاة القياس تمسكوا به في نفي القياس فقالوا الآية تدل على أنه لا يجوز متابعة غير ما أنزل الله تعالى والعمل بالقياس متابعة لغير ما أنزله الله تعالى فوجب أن لا يجوز
فإن قالوا لما دل قوله فاعتبروا على العمل بالقياس كان العمل بالقياس عملاً بما أنزله الله تعالى

أجيب عنه بأن العمل بالقياس لو كان عملاً بما أنزله الله تعالى لكان تارك العمل بمقتضى القياس كافراً لقوله تعالى وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ( المائدة 44 ) وحيث أجمعت الأمة على عدم التكفير علمنا أن العمل بحكم القياس ليس عملاً بما أنزله الله تعالى وحينئذ يتم الدليل
وأجاب عنه مثبتو القياس بأن كون القياس حجة ثبت بإجماع الصحابة والإجماع دليل قاطع وما ذكرتموه تمسك بظاهر العموم وهو دليل مظنون والقاطع أولى من المظنون
وأجاب الأولون بأنكم أثبتم أن الإجماع حجة بعموم قوله وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ( النساء 115 ) وعموم قوله وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا ( البقرة 143 ) وعموم قوله كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة ٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ( آل عمران 110 ) وبعموم قوله عليه الصلاة والسلام ( لا تجتمع أمتي على الضلالة ) وعلى هذا فإثبات كون الإجماع حجة فرع عن التمسك بالعمومات والفرع لا يكون أقوى من الأصل
فأجاب مثبتو القياس بأن الآيات والأحاديث والإجماع لما تعاضدت في أثبات القياس قويت القوة وحصل الترجيح والله أعلم
المسألة الثالثة الحشوية الذين ينكرون النظر العقلي والبراهين العقلية تمسكوا بهذه الآية وهو بعيد لأن العلم بكون القرآن حجة موقوف على صحة التمسك بالدلائل العقلية فلو جعلنا القرآن طاعناً في صحة الدلائل العقلية لزم التناقض وهو باطل
المسألة الرابعة قرأ ابن عامر قَلِيلاً مَّا يَتَذَكَّرُونَ ( النمل 62 ) بالياء تارة والتاء أخرى وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بالتاء وتخفيف الذال والباقون بالتاء وتشديد الذال قال الواحدي رحمه الله تذكرون أصله تتذكرون فأدغم تاء تفعل في الذال لأن التاء مهموسة والذال مجهورة والمجهور أزيد صوتاً من المهموس فحسن إدغام الأنقص في الأزيد وما موصولة بالفعل وهي معه بمنزلة المصدر فالمعنى قليلاً تذكركم وأما قراءة ابن عامر يَتَذَكَّرُونَ بياء وتاء فوجهها أن هذا خطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) أي قليلاً ما يتذكر هؤلاء الذين ذكروا بهذا الخطاب وأما قراءة حمزة والكسائي وحفص خفيفة الذال شديدة الكاف فقد حذفوا التاء التي أدغمها الأولون وذلك حسن لاجتماع ثلاثة أحرف متقاربة والله أعلم قال صاحب ( الكشاف ) وقرأ مالك بن دينار ولا تبتغوا من الابتغاء من قوله تعالى وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَامِ دِينًا ( آل عمران 85 )
وَكَم مِّن قَرْيَة ٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَآءَهُم بَأْسُنَآ إِلاَ أَن قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ

اعلم أنه تعالى لما أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بالإنذار والتبليغ وأمر القوم بالقبول والمتابعة ذكر في هذه الآية ما في ترك المتابعة والإعراض عنها من الوعيد وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال الزجاج موضع كم رفع بالابتداء وخبره أهلكناها قال وهو أحسن من أن يكون في موضع نصب لأن قولك زيد ضربته أجود من قولك زيداً ضربته والنصب جيد عربي أيضاً كقوله تعالى إِنَّا كُلَّ شَى ْء خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ
المسألة الثانية قيل في الآية محذوف والتقدير وكم من أهل قرية ويدل عليه وجوه أحدها قوله فَجَاءهَا بَأْسُنَا والبأس لا يليق إلا بالأهل وثانيها قوله أَوْ هُمْ قَائِلُونَ فعاد الضمير إلى أهل القرية وثالثها أن الزجر والتحذير لا يقع للمكلفين إلا بإهلاكهم ورابعها أن معنى البيات والقائلة لا يصح إلا فيهم
فإن قيل فلماذا قال أهلكناها أجابوا بأنه تعالى رد الكلام على اللفظ دون المعنى كقوله تعالى وَكَأِيّن مّن قَرْيَة ٍ عَتَتْ ( الطلاق 8 ) فرده على اللفظ ثم قال أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ ( الأحزاب 25 ) فرده على المعنى دون اللفظ ولهذا السبب قال الزجاج ولو قال فجاءهم بأسنا لكان صواباً وقال بعضهم لا محذوف في الآية والمراد إهلاك نفس القرية لأن في إهلاكها بهدم أو خسف أو غيرهما إهلاك من فيها ولأن على هذا التقدير يكون قوله فَجَاءهَا بَأْسُنَا محمولاً على ظاهره ولا حاجة فيه إلى التأويل
المسألة الثالثة لقائل أن يقول قوله وَكَم مّن قَرْيَة ٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا يقتضي أن يكون الإهلاك متقدماً على مجيء البأس وليس الأمر كذلك فإنّ مجيء البأس مقدم على الإهلاك والعلماء أجابوا عن هذا السؤال من وجوه الأول المراد بقوله أَهْلَكْنَاهَا أي حكمنا بهلاكها فجاءها بأسنا وثانيها كم من قرية أردنا إهلاكها فجاءها بأسنا كقوله تعالى يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ( المائدة 6 ) وثالثها أنه لو قال وكم من قرية أهلكناها فجاءهم إهلاكنا لم يكن السؤال وارداً فكذا ههنا لأنه تعالى عبر عن ذلك الإهلاك بلفظ البأس فإن قالوا السؤال باق لأن الفاء في قوله فَجَاءهَا بَأْسُنَا فاء التعقيب وهو يوجب المغايرة فنقول الفاء قد تجيء بمعنى التفسير كقوله عليه الصلاة والسلام ( لا يقبل الله صلاة أحدكم حتى يضع الطهور مواضعه فيغسل وجهه ويديه ) فالفاء في قوله فيغسل للتفسير لأن غسل الوجه واليدين كالتفسير لوضع الطهور مواضعه فكذلك ههنا البأس جار مجرى التفسير لذلك الإهلاك لأن الإهلاك قد يكون بالموت المعتاد وقد يكون بتسليط البأس والبلاء عليهم فكان ذكر البأس تفسيراً لذلك الإهلاك الرابع قال الفراء لا يبعد أن يقال البأس والهلاك يقعان معاً كما يقال أعطيتني فأحسنت وما كان الإحسان بعد الإعطاء ولا قبله وإنما وقعا معاً فكذا ههنا وقوله بَيَاتًا قال الفراء يقال بات الرجل يبيت بيتاً وربما قالوا بياتاً قالوا وسمي البيت لأنه يبات فيه قال صاحب ( الكشاف ) قوله بَيَاتًا مصدر واقع موقع الحال بمعنى بائتين وقوله أَوْ هُمْ قَائِلُونَ فيه بحثان
البحث الأول أنه حال معطوفة على قوله بَيَاتًا كأنه قيل فجاءها بأسنا بائتين أو قائلين قال الفراء وفيه واو مضمرة والمعنى أهلكناها فجاءها بأسنا بياتاً أو وهم قائلون إلا أنهم استثقلوا الجمع بين حرفي العطف ولو قيل كان صواباً وقال الزجاج أنه ليس بصواب لأن واو الحال قريبة من واو العطف

فالجمع بينهما يوجب الجمع بين المثلين وأنه لا يجوز ولو قلت جاءني زيد راجلاً وهو فارس لم يحتج فيه إلى واو العطف
البحث الثاني كلمة ( أو ) دخلت ههنا بمعنى أنهم جاءهم بأسنا مرة ليلاً ومرة نهاراً وفي القيلولة قولان قال الليث القيلولة نومة نصف النهار وقال الأزهري القيلولة عند العرب الاستراحة نصف النهار إذا اشتد الحر وإن لم يكن مع ذلك نوم والدليل عليه إن الجنة لا نوم فيها والله تعالى يقول أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً ( الفرقان 24 ) ومعنى الآية أنهم جاءهم بأسنا وهم غير متوقعين له أما ليلاً وهم نائمون أو نهاراً وهم قائلون والمقصود أنهم جاءهم العذاب على حين غفلة منهم من غير تقدم إمارة تدلهم على نزول ذلك العذاب فكأنه قيل للكفار لا تغتروا بأسباب الأمن والراحة والفراغ فإن عذاب الله إذا وقع وقع دفعة من غير سبق إمارة فلا تغتروا بأحوالكم
ثم قال تعالى فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ قال أهل اللغة الدعوى اسم يقوم مقام الادعاء ومقام الدعاء حكى سيبويه اللهم أشركنا في صالح دعاء المسلمين ودعوى المسلمين قال ابن عباس فما كان تضرعهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا أنا كنا ظالمين فأقروا على أنفسهم بالشرك قال ابن الأنباري فما كان قولهم إذ جاءهم بأسنا إلا الاعتراف بالظلم والإقرار بالإسارة وقوله إِلاَّ أَن قَالُواْ الاختيار عند النحويين أن يكون موضع أن رفعاً بكان ويكون قوله دَعْوَاهُمْ نصباً كقوله فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ ( النمل 56 ) وقوله فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِى النَّارِ ( الحشر 17 ) وقوله مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن ( الجاثية 25 ) قال ويجوز أن يكون أيضاً على الضد من هذا بأن يكون الدعوى رفعاً وإن قالوا نصباً كقوله تعالى لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ ( البقرة 177 ) على قراءة من رفع البر والأصل في هذا الباب أنه إذا حصل بعد كلمة كان معرفتان فأنت بالخيار في رفع أيهما شئت وفي نصب الآخر كقولك كان زيد أخاك وإن شئت كان زيداً أخوك قال الزجاج إلا أن الاختيار إذا جعلنا قوله دَعْوَاهُمْ في موضع رفع أن يقول فَمَا كَانَتْ دَعْوَاهُمْ فلما قال كان دل على أن الدعوى في موضع نصب ويمكن أن يجاب عنه بأنه يجوز تذكير الدعوى وإن كانت رفعاً فتقول كان دعواه باطلاً وباطلة والله أعلم
فَلَنَسْألَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْألَنَّ الْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى في تقرير وجه النظم وجهان
الوجه الأول أنه تعالى لما أمر الرسل في الآية المتقدمة بالتبليغ وأمر الأمة بالقبول والمتابعة وذكر التهديد على ترك القبول والمتابعة بذكر نزول العذاب في الدنيا أتبعه بنوع آخر من التهديد وهو أنه تعالى

يسأل الكل عن كيفية أعمالهم يوم القيامة
الوجه الثاني أنه تعالى لما قال فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءهُم بَأْسُنَا إِلا أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ( الأعراف 5 ) أتبعه بأنه لا يقع يوم القيامة الاقتصار على ما يكون منهم من الاعتراف بل ينضاف إليه أنه تعالى يسأل الكل عن كيفية أعمالهم وبين أن هذا السؤل لا يختص بأهل العقاب بل هو عام في أهل العقاب وأهل الثواب
المسألة الثانية الذين أرسل إليهم هم الأمة والمرسلون هم الرسل فبين تعالى أنه يسأل هذين الفريقين ونظير هذه الآية قوله فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( الحجر 92 )
ولقائل أن يقول المقصود من السؤال أن يخبر المسؤول عن كيفية أعماله فلما أخبر الله عنهم في الآية المتقدمة أنهم يقرون بأنهم كانوا ظالمين فما الفائدة في ذكر هذا السؤال بعده وأيضاً قال تعالى بعد هذه الآية فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ فإذا كان يقصه عليهم بعلم فما معنى هذا السؤال
والجواب أنهم لما أقروا بأنهم كانوا ظالمين مقصرين سئلوا بعد ذلك عن سبب ذلك الظلم والتقصير والمقصود منه التقريع والتوبيخ
فإن قيل فما الفائدة في سؤال الرسل مع العلم بأنه لم يصدر عنهم تقصير ألبتة
قلنا لأنهم إذا أثبتوا أنه لم يصدر عنهم تقصير ألبتة التحق التقصير بكليته بالأمة فيتضاعف إكرام الله في حق الرسل لظهور براءتهم عن جميع موجبات التقصير ويتضاعف أسباب الخزي والإهانة في حق الكفار لما ثبت أن كل التقصير كان منهم
ثم قال تعالى فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ والمراد أنه تعالى يكرر ويبين للقوم ما أعلنوه وأسروه من أعمالهم وأن يقص الوجوه التي لأجلها أقدموا على تلك الأعمال ثم بين تعالى أنه إنما يصح منه أن يقص تلك الأحوال عليهم لأنه ما كان غائباً عن أحوالهم بل كان عالماً بها وما خرج عن علمه شيء منها وذلك يدل على أن الإلهية لا تكمل إلا إذا كان عالماً بجميع الجزئيات حتى يمكنه أن يميز المطيع عن العاصي والمحسن عن المسيء فظهر أن كل من أنكر كونه تعالى عالماً بالجزئيات امتنع منه الاعتراف بكونه تعالى آمراً ناهياً مثيباً معاقباً ولهذا السبب فإنه تعالى أينما ذكر أحوال البعث والقيامة بين كونه عالماً بجميع المعلومات
المسألة الثالثة قوله تعالى فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ يدل على أنه تعالى عالم بالعلم وأن قول من يقول إنه لا علم لله قول باطل
فإن قيل كيف الجمع بين قوله فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ وبين قوله فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْئَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ ( الرحمن 39 ) وقوله وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ( القصص 78 )
قلنا فيه وجوه أحدها أن القوم لا يسألون عن الأعمال لأن الكتب مشتملة عليها ولكنهم يسألون عن الدواعي التي دعتهم إلى الأعمال وعن الصوارف التي صرفتم عنها وثانيها أن السؤال قد يكون لأجل الاسترشاد والاستفادة وقد يكون لأجل التوبيخ والإهانة كقول القائل ألم أعطك وقوله تعالى أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يبَنِى وَإِذْ أَخَذَ ( ي س 60 ) قال الشاعر

ألستم خير من ركب المطايا
إذا عرفت هذا فنقول إنه تعالى لا يسأل أحداً لأجل الاستفادة والاسترشاد ويسألهم لأجل توبيخ الكفار وإهانتهم ونظيره قوله تعالى وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ ( الصافات 27 ) ثم قال فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءلُونَ ( المؤمنون 101 ) فإن الآية الأولى تدل على أن المسألة الحاصلة بينهم إنما كانت على سبيل أن بعضهم يلوم بعضاً والدليل عليه قول فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ ( القلم 30 ) وقوله فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءلُونَ ( القلم 30 ) معناه أنه لا يسأل بعضهم بعضاً على سبيل الشفقة واللطف لأن النسب يوجب الميل والرحمة والإكرام
والوجه الثالث في الجواب أن يوم القيامة يوم طويل ومواقفها كثيرة فأخبر عن بعض الأوقات بحصول السؤال وعن بعضها بعدم السؤال
المسألة الرابعة الآية تدل على أنه تعالى يحاسب كل عباده لأنهم لا يخرجون عن أن يكونوا رسلاً أو مرسلاً إليهم ويبطل قول من يزعم أنه لا حساب على الأنبياء والكفار
المسألة الخامسة الآية تدل على كونه تعالى متعالياً عن المكان والجهة لأنه تعالى قال وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ ولو كان تعالى على العرش لكان غائباً عنا
فإن قالوا نحمله على أنه تعالى ما كان غائباً عنهم بالعلم والإحاطة
قلنا هذا تأويل والأصل في الكلام حمله على الحقيقة
فإن قالوا فأنتم لما قلتم أنه تعالى غير مختص بشيء من الأحياز والجهات فقد قلتم أيضاً بكونه غائباً
قلنا هذا باطل لأن الغائب هو الذي يعقل أن يحضر بعد غيبة وذلك مشروط بكونه مختصاً بمكان وجهة فأما الذي لا يكون مختصاً بمكان وجهة وكان ذلك محالاً في حقه امتنع وصفه بالغيبة والحضور فظهر الفرق والله أعلم
وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أن من جملة أحوال القيامة السؤال والحساب بين في هذه الآية أن من جملة أحوال القيامة أيضاً وزن الأعمال وفي الآية مسائل

المسألة الأولى الْوَزْنَ مبتدأ و يَوْمَئِذٍ ظرف له و الْحَقّ خبر المبتدأ ويجوز أن يكون يَوْمَئِذٍ الخبر و الْحَقّ صفة للوزن أي والوزن الحق أي العدل يوم يسأل الله الأمم والرسل
المسألة الثانية في تفسير وزن الأعمال قولان الأول في الخبر أنه تعالى ينصب ميزاناً له لسان وكفتان يوم القيامة يوزن به أعمال العباد خيرها وشرها ثم قال ابن عباس أما المؤمن فيؤتى بعمله في أحسن صورة فتوضع في كفة الميزان فتثقل حسناته على سيئاته فذلك قوله فَمَن ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الناجون قال وهذا كما قال في سورة الأنبياء وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَة ِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ( الأنبياء 47 ) وأما كيفية وزن الأعمال على هذا القول ففيه وجوه أحدهما أن أعمال المؤمن تتصور بصورة حسنة وأعمال الكافر بصورة قبيحة فتوزن تلك الصورة كما ذكره ابن عباس والثاني أن الوزن يعود إلى الصحف التي تكون فيها أعمال العباد مكتوبة وسئل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عما يوزن يوم القيامة فقال ( الصحف ) وهذا القول مذهب عامة المفسرين في هذه الآية وعن عبد لله بن سلام أن ميزان رب العالمين ينصب بين الجن والإنس يستقبل به العرش إحدى كفتي الميزان على الجنة والأخرى على جهنم ولو وضعت السموات والأرض في إحداهما لوسعتهن وجبريل آخذ بعموده ينظر إلى لسانه وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يأتى برجل يوم القيامة إلى الميزان ويؤتى له بتسعة وتسعين سجلاً كل سجل منها مد البصر فيها خطاياه وذنوبه فتوضع في كفة الميزان ثم يخرج له قرطاس كالأنملة فيه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله يوضع في الأخرى فترجح ) وعن الحسن بينما الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ذات يوم واضع رأسه في حجر عائشة رضي الله عنها قد أغفى فسالت الدموع من عينها فقال ( ما أصابك ما أبكاك ) فقالت ذكرت حشر الناس وهل يذكر أحد أحداً فقال لها ( يحشرون حفاة عراة غرلاً ) لِكُلّ امْرِىء مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ( عبس 37 ) لا يذكر أحد أحداً عند الصحف وعند وزن الحسنات والسيئات وعن عبيد بن عمير يأتى بالرجل العظيم الأكول الشروب فلا يكون له وزن بعوضة
والقول الثاني وهو قول مجاهد والضحاك والأعمش أن المراد من الميزان العدل والقضاء وكثير من المتأخرين ذهبوا إلى هذا القول وقالوا حمل لفظ الوزن على هذا المعنى سائغ في اللغة والدليل عليه فوجب المصير إليه وأما بيان أن حمل لفظ الوزن على هذا المعنى جائز في اللغة فلأن العدل في الأخذ والإعطاء لا يظهر إلا بالكيل والوزن في الدنيا فلم يبعد جعل الوزن كناية عن العدل ومما يقوي ذلك أن الرجل إذا لم يكن له قدرة ولا قيمة عند غيره يقال إن فلاناً لا يقيم لفلان وزناً قال تعالى فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ وَزْناً ( الكهف 105 ) ويقال أيضاً فلان استخف بفلان ويقال هذا الكلام في وزن هذا وفي وزانه أي يعادله ويساويه مع أنه ليس هناك وزن في الحقيقة قال الشاعر قد كنت قبل لقائكم ذا قوة
عندي لكل مخاصم ميزانه
أراد عندي لكل مخاصم كلام يعادل كلامه فجعل الوزن مثلاً للعدل
إذا ثبت هذا فنقول وجب أن يكون المراد من هذه الآية هذا المعنى فقط والدليل عليه أن الميزان إنما يراد ليتوصل به إلى معرفة مقدار الشيء ومقادير الثواب والعقاب لا يمكن إظهارها بالميزان لأن أعمال العباد أعراض وهي قد فنيت وعدمت ووزن المعدوم محال وأيضاً فبتقدير بقائها كان وزنها محالاً وأما

قولهم الموزون صحائف الأعمال أو صور مخلوقة على حسب مقادير الأعمال فنقول المكلف يوم القيامة إما أن يكون مقراً بأنه تعالى عادل حكيم أو لا يكون مقراً بذلك فإن كان مقراً بذلك فحينئذ كفاه حكم الله تعالى بمقادير الثواب والعقاب في علمه بأنه عدل وصواب وإن لم يكن مقراً بذلك لم يعرف من رجحان كفة الحسنات على كفة السيئات أو بالعكس حصول الرجحان لاحتمال أنه تعالى أظهر ذلك الرجحان لا على سبيل العدل والإنصاف فثبت أن هذا الوزن لا فائدة فيه ألبتة أجاب الأولون وقالوا إن جميع المكلفين يعلمون يوم القيامة أنه تعالى منزه عن الظلم والجور والفائدة في وضع ذلك الميزان أن يظهر ذلك الرجحان لأهل القيامة فإن كان ظهور الرجحان في طرف الحسنات ازداد فرحه وسروره بسبب ظهور فضله وكمال درجته لأهل القيامة وإن كان بالضد فيزداد غمه وحزنه وخوفه وفضيحته في موقف القيامة ثم اختلفوا في كيفية ذلك الرجحان فبعضهم قال يظهر هناك نور في رجحان الحسنات وظلمة في رجحان السيئات وآخرون قالوا بل بظهور رجحان في الكفة
المسألة الثالثة الأظهر إثبات موازين في يوم القيامة لا ميزان واحد والدليل عليه قوله وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَة ِ ( الأنبياء 47 ) وقال في هذه الآية فَمَن ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ وعلى هذا فلا يبعد أن يكون لأفعال القلوب ميزان ولأفعال الجوارح ميزان ولما يتعلق بالقول ميزان آخر قال الزجاج إنما جمع الله الموازين ههنا فقال فَمَن ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ ولم يقل ميزانه لوجهين الأول أن العرب قد توقع لفظ الجمع على الواحد فيقولون خرج فلان إلى مكة على البغال والثاني أن المراد من الموازين ههنا جمع موزون لا جمع ميزان وأراد بالموازين الأعمال الموزونة ولقائل أن يقول هذان الوجهان يوجبان العدول عن ظاهر اللفظ وذلك إنما يصار إليه عند تعذر حمل الكلام على ظاهره ولا مانع ههنا منه فوجب إجراء اللفظ على حقيقته فكما لم يمتنع إثبات ميزان له لسان وكفتان فكذلك لا يمتنع إثبات موازين بهذه الصفة فما الموجب لترك الظاهر والمصير إلى التأويل
وأما قوله تعالى وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُوْلَائِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ
اعلم أن هذه الآية فيها مسائل
المسألة الأولى أنها تدل على أن أهل القيامة فريقان منهم من يزيد حسناته على سيئاته ومنهم من يزيد سيئاته على حسناته فأما القسم الثالث وهو الذي تكون حسناته وسيئاته متعادلة متساوية فإنه غير موجود
المسألة الثانية قال أكثر المفسرين المراد من قوله وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ الكافر والدليل عليه القرآن والخبر والأثر أما القرآن فقوله تعالى فَأُوْلَائِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ولا معنى لكون الإنسان ظالماً بآيات الله إلا كونه كافراً بها منكراً لها فدل هذا على أن المراد من هذه الآية أهل الكفر وأما الخبر فما روي أنه إذا خفت حسنات المؤمن أخرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من حجرته بطاقة كالأنملة فيلقيها في كفة الميزان اليمنى التي فيها حسناته فترجح الحسنات فيقول ذلك العبد المؤمن للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) بأبي أنت وأمي ما أحسن وجهك وأحسن خلقك فمن أنت فيقول ( أنا نبيك محمد وهذه صلاتك التي كنت تصلي علي قد وفيتك أحوج ما تكون إليها ) وهذا الخبر رواه الواحدي في ( البسيط ) وأما جمهور العلماء فرووا ههنا

الخبر الذي ذكرناه من أنه تعالى يلقى في كفة الحسنات الكتاب المشتمل على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله قال القاضي يجب أن يحمل هذا على أنه أتى بالشهادتين بحقهما من العبادات لأنه لو لم يعتبر ذلك لكان من أتى بالشهادتين يعلم أن المعاصي لا تضره وذلك إغراء بمعصية الله تعالى
ولقائل أن يقول العقل يدل على صحة ما دل عليه هذا الخبر وذلك أن العمل كلما كان أشرف وأعلى درجة وجب أن يكون أكثر ثواباً ومعلوم أن معرفة الله تعالى ومحبته أعلى شأناً وأعظم درجة من سائر الأعمال فوجب أن يكون أوفى ثواباً وأعلى درجة من سائر الأعمال وأما الأثر فلأن ابن عباس وأكثر المفسرين حملوا هذه الآية على أهل الكفر
وإذا ثبت هذا الأصل فنقول إن المرجئة الذين يقولون المعصية لا تضر مع الإيمان تمسكوا بهذه الآية وقالوا إنه تعالى حصر أهل موقف القيامة في قسمين أحدهما الذين رجحت كفة حسناتهم وحكم عليهم بالفلاح والثاني الذين رجحت كفة سيئاتهم وحكم عليهم بأنهم أهل الكفر الذين كانوا يظلمون بآيات الله وذلك يدل على أن المؤمن لا يعاقب ألبتة ونحن نقول في الجواب أقصى ما في الباب أنه تعالى لم يذكر هذا القسم الثالث في هذه الآية إلا أنه تعالى ذكره في سائر الآيات فقال وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ( النساء 116 ) والمنطوق راجح على المفهوم فوجب المصير إلى إثباته وأيضاً فقال تعالى في هذا القسم فَأُوْلَائِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم ونحن نسلم أن هذا لا يليق إلا بالكافر وأما العاصي المؤمن فإنه يعذب أياماً ثم يعفى عنه ويتخلص إلى رحمة الله تعالى فهو في الحقيقة ما خسر نفسه بل فاز برحمة الله أبد الآباد من غير زوال وانقطاع والله أعلم
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِى الأرض وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما أمر الخلق بمتابعة الأنبياء عليهم السلام وبقبول دعوتهم ثم خوفهم بعذاب الدنيا وهو قوله وَكَم مّن قَرْيَة ٍ أَهْلَكْنَاهَا ( الأعراف 4 ) ثم خوفهم بعذاب الآخرة من وجهين أحدهما السؤال وهو قوله فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ ( الأعراف 6 ) والثاني بوزن الأعمال وهو قوله وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ ( الأعراف 8 ) رغبهم في قبول دعوة الأنبياء عليهم السلام في هذه الآية بطريق آخر وهو أنه كثرت نعم الله عليهم وكثرة النعم توجب الطاعة فقال وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِى الاْرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ فقوله مَكَّنَّاكُمْ فِى الاْرْضِ أي جعلنا لكم فيها مكاناً وقراراً ومكناكم فيها وأقدرناكم على التصرف فيها وجعلنا لكم فيها معايش والمراد من المعايش وجوه المنافع وهي على قسمين منها ما يحصل بخلق الله تعالى ابتداء مثل خلق الثماء وغيرها ومنها ما يحصل بالاكتساب وكلاهما في الحقيقة إنما حصل بفضل الله وإقداره وتمكينه فيكون الكل إنعاماً من الله تعالى وكثرة الانعام لا شك أنها توجب الطاعة والانقياد ثم بين تعالى أنه مع هذا

الإفضال والانعام عالم بأنهم لا يقومون بشكره كما ينبغي فقال قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ وهذا يدل على أنهم قد يشكرون والأمر كذلك وذلك لأن الإقرار بوجود الصانع كالأمر الضروري اللازم لجبلة عقل كل عاقل ونعم الله على الإنسان كثيرة فلا إنسان إلا ويشكر الله تعالى في بعض الأوقات على نعمه إنما التفاوت في أن بعضهم قد يكون كثير الشكر وبعضهم يكون قليل الشكر
المسألة الثانية روى خارجة عن نافع أنه همز معائش قال الزجاج جميع النحويين البصريين يزعمون أن همز معائش خطأ وذكروا أنه إنما يجوز جعل الياء همزة إذا كانت زائدة نحو صحيفة وصحائف فأما فِيهَا مَعَايِشَ فمن العيش والياء أصلية وقراءة نافع لا أعرف لها وجهاً إلا أن لفظة هذه الياء التي هي من نفس الكلمة أسكن في معيشة فصارت هذه الكلمة مشابهة لقولنا صحيفة فجعل قوله معائش شبيهاً لقولنا صحائف فكما أدخلوا الهمزة في قولنا صحائف فكذا في قولنا معائش على سبيل التشبيه إلا أن الفرق ما ذكرناه أن الياء في معيشة أصلية وفي صحيفة زائدة
وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَة ِ اسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى رغب الأمم في قبول دعوة الأنبياء عليهم السلام بالتخويف أولاً ثم بالترغيب ثانياً على ما بيناه والترغيب إنما كان لأجل التنبيه على كثرة نعم الله تعالى على الخلق فبدأ في شرح تلك النعم بقوله يَظْلِمُونَ وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِى الاْرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ ثم أتبعه بذكر أنه خلق أبانا آدم وجعله مسجوداً للملائكة والإنعام على الأب يجري مجرى الإنعام على الابن فهذا هو وجه النظم في هذه الآيات ونظيره أنه تعالى قال في أول سورة البقرة كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْواتًا فَأَحْيَاكُمْ ( البقرة 28 ) فمنع تعالى من المعصية بقوله كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وعلل ذلك المنع بكثرة نعمه على الخلق وهو أنهم كانوا أمواتاً فأحياهم ثم خلق لهم ما في الأرض جميعاً من المنافع ثم أتبع تلك المنفعة بأن جعل آدم خليفة في الأرض مسجوداً للملائكة والمقصود من الكل تقرير أن مع هذه النعم العظيمة لا يليق بهم التمرد والجحود فكذا في هذه السورة ذكر تعالى عين هذا المعنى بغير هذا الترتيب فهذا بيان وجه النظم على أحسن الوجوه
المسألة الثانية اعلم أنه تعالى ذكر قصة آدم عليه السلام مع قصة إبليس في القرآن في سبعة مواضع أولها في سورة البقرة وثانيها في هذه السورة وثالثها في سورة الحجر ورابعها في سورة بني إسرائيل وخامسها في سورة الكهف وسادسها في سورة طه وسابعها في سورة ص

إذا عرفت هذا فنقول في هذه الآية سؤال وهو أن قوله تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ يفيد أن المخاطب بهذا الخطاب نحن
ثم قال بعده ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَة ِ اسْجُدُواْ لأَدَمَ وكلمة ثُمَّ تفيد التراخي فظاهر الآية يقتضي أن أمر الملائكة بالسجود لآدم وقع بعد خلقنا وتصويرنا ومعلوم أنه ليس الأمر كذلك فلهذا السبب اختلف الناس في تفسير هذه الآية على أربعة أقوال الأول أن قوله وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ أي خلقنا أباكم آدم وصورناكم أي صورنا آدم ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَة ِ اسْجُدُواْ لأَدَمَ ( الأعراف 11 ) وهو قول الحسن ويوسف النخوي وهو المختار وذلك لأن أمر الملائكة بالسجود لآدم تأخر عن خلق آدم وتصويره ولم يتأخر عن خلقنا وتصويرنا أقصى ما في الباب أن يقال كيف يحسن جعل خلقنا وتصويرنا كناية عن خلق آدم وتصويره فنقول إن آدم عليه السلام أصل البشر فوجب أن تحسن هذه الكناية نظيرة قوله تعالى وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ ( البقرة 63 ) أي ميثاق أسلافكم من بني إسرائيل في زمان موسى عليه السلام ويقال قتلت بنو أسد فلاناً وإنما قتله أحدهم قال عليه السلام ثم أنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل وإنما قتله أحدهم وقال تعالى مخاطباً لليهود في زمان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وَإِذَا وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مّنْ ءالِ ( الأعراف 141 ) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا ( البقرة 72 ) والمراد من جميع هذه الخطابات أسلافهم فكذا ههنا الثاني أن يكون المراد من قوله خَلَقْنَاكُمْ آدم ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ( الأعراف 11 ) أي صورنا ذرية آدم عليه السلام في ظهره ثم بعد ذلك قلنا للملائكة اسجدوا لآدم وهذا قول مجاهد فذكر أنه تعالى خلق آدم أولاً ثم أخرج أولاده من ظهره في صورة الذر ثم بعد ذلك أمر الملائكة بالسجود لآدم
الوجه الثالث خلقناكم ثم صورناكم ثم إنا نخبركم أنا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فهذا العطف يفيد ترتيب خبر على خبر ولا يفيد ترتيب المخبر على المخبر
والوجه الرابع أن الخلق في اللغة عبارة عن التقدير كما قررناه في هذا الكتاب وتقدير الله عبارة عن علمه بالأشياء ومشيئته لتخصيص كل شيء بمقداره المعين فقوله خَلَقْنَاكُمْ إشارة إلى حكم الله وتقديره لإحداث البشر في هذا العالم وقوله صَوَّرْنَاكُمْ إشارة إلى أنه تعالى أثبت في اللوح المحفوظ صورة كل شيء كائن محدث إلى قيام الساعة على ما جاء في الخبز أنه تعالى قال اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة فخلق الله عبارة عن حكمه ومشيئته والتصوير عبارة عن إثبات صور الأشياء في اللوح المحفوظ ثم بعد هذين الأمرين أحدث الله تعالى آدم وأمر الملائكة بالسجود له وهذا التأويل عندي أقرب من سائر الوجوه
المسألة الثالثة ذكرنا في سورة البقرة أن هذه السجدة فيها ثلاثة أقوال أحدها أن المراد منها مجرد التعظيم لانفس السجدة وثانيها أن المراد هو السجدة إلا أن المسجود له هو الله تعالى فآدم كان كالقبلة وثالثها أن المسجود له هو آدم وأيضاً ذكرنا أن الناس اختلفوا في أن الملائكة الذين أمرهم الله تعالى بالسجود لآدم هل هم ملائكة السموات والعرش أو المراد ملائكة الأرض ففيه خلاف وهذه المباحث قد سبق ذكرها في سورة البقرة

المسألة الرابعة ظاهر الآية يدل على أنه تعالى استثنى إبليس من الملائكة فوجب كونه منهم وقد استقصينا أيضاً هذه المسألة في سورة البقرة وكان الحسن يقول إبليس لم يكن من الملائكة لأنه خلق من نار والملائكة من نور والملائكة لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون ولا يعصون وليس كذلك إبليس فقد عصى واستكبر والملائكة ليسوا من الجن وإبليس من الجن والملائكة رسل الله وإبليس ليس كذلك وإبليس أول خليقة الجن وأبوهم كما أن آدم ( صلى الله عليه وسلم ) أول خليقة الإنس وأبوهم قال الحسن ولما كان إبليس مأموراً مع الملائكة استثناه الله تعالى وكان اسم إبليس شيئاً آخر فلما عصى الله تعالى سماه بذلك وكان مؤمناً عابداً في السماء حتى عصى ربه فأهبط إلى الأرض
قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ
قوله سبحانه وتعالى قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن هذه الآية تدل على أنه تعالى لما أمر الملائكة بالسجود فإن ذلك الأمر قد تناول إبليس وظاهر هذا يدل على أن إبليس كان من الملائكة إلا أن الدلائل التي ذكرناها تدل على أن الأمر ليس كذلك وأما الاستثناء فقد أجبنا عنه في سورة البقرة
المسألة الثانية ظاهر الآية يقتضي أنه تعالى طلب من إبليس ما منعه من ترك السجود وليس الأمر كذلك فإن المقصود طلب ما منعه من السجود ولهذا الإشكال حصل في الآية قولان
القول الأول وهو المشهور أن كلمة لا صلة زائدة والتقدير ما منعك أن تسجد ا وله نظائر في القرآن كقوله لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَة ِ ( القيامة 1 ) معناه أقسم وقوله وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَة ٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ ( الحديد 29 ) أي يرجعون وقوله لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أي ليعلم أهل الكتاب وهذا قول الكسائي والفراء والزجاج والأكثرين
والقول الثاني أن كلمة لا ههنا مفيدة وليست لغواً وهذا هو الصحيح لأن الحكم بأن كلمة من كتاب الله لغو لا فائدة فيها مشكل صعب وعلى هذا القول ففي تأويل الآية وجهان الأول أن يكون التقدير أي شيء منعك عن ترك السجود ا ويكون هذا الاستفهام على سبيل الإنكار ومعناه أنه ما منعك عن ترك السجود ا كقول القائل لمن ضربه ظلماً ما الذي منعك من ضربي أدينك أم عقلك أم حياؤك ا والمعنى أنه لم يوجد أحد هذه الأمور وما امتنعت من ضربي الثاني قال القاضي ذكر الله المنع وأراد الداعي فكأنه قال ما دعاك إلى أن لا تسجد ا لأن مخالفة أمر الله تعالى حالة عظيمة يتعجب منها ويسأل عن الداعي إليها

المسألة الثالثة احتج العلماء بهذه الآية على أن صيغة الأمر تفيد الوجوب فقالوا إنه تعالى ذم إبليس بهذه الآية على ترك ما أمر به ولو لم يفد الأمر الوجوب لما كان مجرد ترك المأمور به موجباً للذم
فإن قالوا هب أن هذه الآية تدل على أن ذلك الأمر كان يفيد الوجوب فلعل تلك الصيغة في ذلك الأمر كانت تفيد الوجوب فلم قلتم إن جميع الصيغ يجب أن تكون كذلك
قلنا قوله تعالى مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ يفيد تعليل ذلك الذم بمجرد ترك الأمر لأن قوله إِذْ أَمَرْتُكَ مذكور في معرض التعليل والمذكور في قوله إِذْ أَمَرْتُكَ هو الأمر من حيث أنه أمر لا كونه أمراً مخصوصاً في صورة مخصوصة وإذا كان كذلك وجب أن يكون ترك الأمر من حيث أنه أمر موجباً للذم وذلك يفيد أن كل أمر فإنه يقتضي الوجوب وهو المطلوب
المسألة الرابعة احتج من زعم أن الأمر يفيد الفور بهذه الآية قال إنه تعالى ذم إبليس على ترك السجود في الحال ولو كان الأمر لا يفيد الفور لمااستوجب هذا الذم بترك السجود في الحال
المسألة الخامسة اعلم أن قوله تعالى مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ طلب الداعي الذي دعاه إلى ترك السجود فحكى تعالى عن إبليس ذكر ذلك الداعي وهو أنه قال أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ومعناه أن إبليس قال إنما لم أسجد لآدم لأني خير منه ومن كان خيراً من غيره فإنه لا يجوز أمر ذلك الأكمل بالسجود لذلك الأدونا ثم بين المقدمة الأولى وهو قوله أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ بأن قال خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ والنار أفضل من الطين والمخلوق من الأفضل أفضل فوجب كون إبليس خيراً من آدم أما بيان أن النار أفضل من الطين فلأن النار مشرق علوي لطيف خفيف حار يابس مجاور لجواهر السموات ملاصق لها والطين مظلم سفلي كثيف ثقيل بارد يابس بعيد عن مجاورة السموات وأيضاً فالنار قوية التأثير والفعل والأرض ليس لها إلا القبول والانفعال والفعل أشرف من الانفعال وأيضاً فالنار مناسبة للحرارة الغريزية وهي مادة الحياة وأما الأرضية والبرد واليبس فهما مناسبان الموت والحياة أشرف من الموت وأيضاً فنضج الثمار متعلق بالحرارة وأيضاً فسن النمو من النبات لما كان وقت كمال الحرارة كان غاية كمال الحيوان حاصلاً في هذين الوقتين وأما وقت الشيخوخة فهو وقت البرد واليبس المناسب للأرضية لا جرم كان هذا الوقت أردأ أوقات عمر الإنسان فأما بيان أن المخلوق من الأفضل أفضل فظاهر لأن شرف الأصول يوجب شرف الفروع وأما بيان أن الأشرف لا يجوز أن يؤمر بخدمة الأدون فلأنه قد تقرر في العقول أن من أمر أبا حنيفة والشافعي وسائر أكابر الفقهاء بخدمة فقيه نازل الدرجة كان ذلك قبيحاً في العقول فهذا هو تقرير لشبهة إبليس فنقول هذه الشبهة مركبة من مقدمات ثلاثة أولها أن النار أفضل من التراب فهذا قد تكلمنا فيه في سورة البقرة وأما المقدمة الثانية وهي أن من كانت مادته أفضل فصورته أفضل فهذا هو محل النزاع والبحث لأنه لما كانت الفضيلة عطية من الله ابتداء لم يلزم من فضيلة المادة فضيلة الصورة ألا ترى أنه يخرج الكافر من المؤمن والمؤمن من الكافر والنور من الظلمة والظلمة من النور وذلك يدل على أن الفضيلة لا تحصل إلا بفضل الله تعالى لا بسبب فضيلة الأصل والجوهر وأيضاً التكليف إنما يتناول الحي بعد انتهائه إلى حد كمال العقل فالمعتبر بما انتهى إليه لا بما خلق منه وأيضاً فالفضل إنما يكون بالأعمال وما يتصل بها لا بسبب المادة ألا ترى أن الحبشي المؤمن مفضل على القرشي الكافر

المسألة السادسة احتج من قال أنه لا يجوز تخصيص عموم النص بالقياس بأنه لو كان تخصيص عموم النص بالقياس جائزاً لما استوجب إبليس هذا الذم الشديد والتوبيخ العظيم ولما حصل ذلك دل على أن تخصيص عموم النص بالقياس لا يجوز وبيان الملازمة أن قوله تعالى للملائكة اسْجُدُواْ لاِدَمَ ( البقرة 34 ) خطاب عام يتناول جميع الملائكة ثم إن إبليس أخرج نفسه من هذا العموم بالقياس وهو أنه مخلوق من النار والنار أشرف من الطين ومن كان أصله أشرف فهو أشرف فيلزم كون إبليس أشرف من آدم عليه السلام ومن كان أشرف من غيره فإنه لا يجوز أن يؤمر بخدمة الأدون الأدنى والدليل عليه أن هذا الحكم ثابت في جميع النظائر ولا معنى للقياس إلا ذلك فثبت أن إبليس ما عمل في هذه الواقعة شيئاً إلا أنه خصص عموم قوله تعالى للملائكة اسْجُدُواْ لاِدَمَ بهذا القياس فلو كان تخصيص النص بالقياس جائزاً لوجب أن لا يستحق إبليس الذم على هذا العمل وحيث استحق الذم الشديد عليه علمنا أن تخصيص النص بالقياس لا يجوز وأيضاً ففي الآية دلالة على صحة هذه المسألة من وجه آخر وذلك لأن إبليس لما ذكر هذا القياس قال تعالى اهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فوصف تعالى إبليس بكونه متكبراً بعد أن حكى عنه ذلك القياس الذي يوجب تخصيص النص وهذا يقتضي أن من حاول تخصيص عموم النص بالقياس تكبر على الله ولما دلت هذه الآية على أن تخصيص عموم النص بالقياس تكبر على الله ودلت هذه الآية على أن التكبر على الله يوجب العقاب الشديد والإخراج من زمرة الأولياء والإدخال في زمرة الملعونين ثبت أن تخصيص النص بالقياس لا يجوز وهذا هو المراد مما نقله الواحدي في ( البسيط ) عن ابن عباس أنه قال كانت الطاعة أولى بإبليس من القياس فعصى ربه وقاس وأول من قاس إبليس فكفر بقياسه فمن قاس الدين بشيء من رأيه قرنه الله مع إبليس هذا جملة الألفاظ التي نقلها الواحدي في ( البسيط ) عن ابن عباس
فإن قيل القياس الذي يبطل النص بالكلية باطل
أما القياس الذي يخصص النص في بعض الصور فلم قلتم أنه باطل وتقريره أنه لو قبح أمر من كان مخلوقاً من النار بالسجود لمن كان مخلوقاً من الأرض لكان قبح أمر من كان مخلوقاً من النور المحض بالسجود لمن كان مخلوقاً من الأرض أولى وأقوى لأن النور أشرف من النار وهذا القياس يقتضي أن يقبح أمر أحد من الملائكة بالسجود لآدم فهذا القياس يقتضي رفع مدلول النص بالكلية وأنه باطل
وأما القياس الذي يقتضي تخصيص مدلول النص العام لم قلتم إنه باطل فهذا سؤال حسن أوردته على هذه الطريقة وما رأيت أحداً ذكر هذا السؤال ويمكن أن يجاب عنه فيقال إن كونه أشرف من غيره يقتضي قبح أمر من لا يرضى أن يلجأ إلى خدمة الأدنى الأدون أما لو رضي ذلك الشريف بتلك الخدمة لم يقبح لأنه لا اعتراض عليه في أنه يسقط حق نفسه أما الملائكة فقد رضوا بذلك فلا بأس به وأما إبليس فإنه لم يرض بإسقاط هذا الحق فوجب أن يقبح أمره بذلك السجود فهذا قياس مناسب وأنه يوجب تخصيص النص ولا يوجب رفعه بالكلية ولا إبطاله فلو كان تخصيص النص بالقياس جائزاً لما استوجب الذم العظيم فلما استوجب استحقاق هذا الذم العظيم في حقه علمنا أن ذلك إنما كان لأجل أن تخصيص النص بالقياس غير جائز والله أعلم

المسألة السابعة قوله تعالى مَا مَنَعَكَ أَن لاَ تَسْجُدُواْ لا شك أن قائل هذا القول هو الله لأن قوله إِذْ أَمَرْتُكَ لا يليق إلا بالله سبحانه
وأما قوله خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ فلا شك أن قائل هذا القول هو إبليس
قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ
وأما قوله قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فلا شك أن قائل هذا القول هو الله تعالى ومثل هذه المناظرة بين الله سبحانه وبين إبليس مذكور في سورة ص على سبيل الاستقصاء
إذا ثبت هذا فنقول إنه لم يتفق لأحد من أكابر الأنبياء عليهم السلام مكالمة مع الله مثل ما اتفق لإبليس وقد عظم الله تشريف موسى بأن كلمه حيث قال وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ ( الأعراف 143 ) وقال وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً ( النساء 164 ) فإن كانت هذه المكالمة تفيد الشرف العظيم فكيف حصلت على أعظم الوجوه لإبليس وإن لم توجب الشرف العظيم فكيف ذكره الله تعالى في معرض التشريف الكامل لموسى عليه السلام
والجواب أن بعض العلماء قال إنه تعالى قال لإبليس على لسان من يؤدي إليه من الملائكة ما منعك من السجود ولم يسلم أنه تعالى تكلم مع إبليس بلا واسطة قالوا لأنه ثبت أن غير الأنبياء لا يخاطبهم الله تعالى إلا بواسطة ومنهم من قال إنه تعالى تكلم مع إبليس بلا واسطة ولكن على وجه الإهانة بدليل أنه تعالى قال له فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ وتكلم مع موسى ومع سائر الأنبياء عليهم السلام على سبيل الإكرام ألا ترى أنه تعالى قال لموسى وَأَنَا اخْتَرْتُكَ ( طه 13 ) وقال له وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِى ( طه 41 ) وهذا نهاية الإكرام
المسألة الثامنة قوله تعالى فَاهْبِطْ مِنْهَا قال ابن عباس يريد من الجنة وكانوا في جنة عدن وفيها خلق آدم وقال بعض المعتزلة أنه إنما أمر بالهبوط من السماء وقد استقصينا الكلام في هذه المسألة في سورة البقرة فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا أي في السماء قال ابن عباس يريد أن أهل السموات ملائكة متواضعون خاشعون فاخرج إنك من الصاغرين والصغار الذلة قال الزجاج إن إبليس طلب التكبر فابتلاه الله تعالى بالذلة والصغار تنبيهاً على صحة ما قاله النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( من تواضع لله رفعه الله ومن تكبر وضعه الله ) وقال بعضهم لما أظهر الاستكبار ألبس الصغار والله أعلم
قَالَ أَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِى لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ
في الآية مسائل

المسألة الأولى قوله تعالى قَالَ أَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ يدل على أنه طلب الإنظار من الله تعالى إلى وقت البعث وهو وقت النفخة الثانية حين يقوم الناس لرب العالمين ومقصوده أنه لا يذوق الموت فلم يعطه الله تعالى ذلك بل قال إنك من المنظرين ثم ههنا قولان الأول أنه تعالى أنظره إلى النفخة الأولى لأنه تعالى قال في آية أخرى إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ( الحجر 37 38 ) والمراد منه اليوم الذي يموت فيه الأحياء كلهم وقال آخرون لم يوقت الله له أجلاً بل قال إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ وقوله في الأخرى إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ المراد منه الوقت المعلوم في علم الله تعالى قالوا والدليل على صحة هذا القول أن إبليس كان مكلفاً والمكلف لا يجوز أن يعلم أن الله تعالى أخر أجله إلى الوقت الفلاني لأن ذلك المكلف يعلم أنه متى تاب قبلت توبته فإذا علم أن وقت موته هو الوقت الفلاني أقدم على المعصية بقلب فارغ فإذا قرب وقت أجله تاب عن تلك المعاصي فثبت أن تعريف وقت الموت بعينه يجري مجرى الإغراء بالقبيح وذلك غير جائز على الله تعالى
وأجاب الأولون بأن تعريف الله عز وجل كونه من المنظرين إلى يوم القيامة لا يقتضي إغراءه بالقبيح لأنه تعالى كان يعلم منه أنه يموت على أقبح أنواع الكفر والفسق سواء أعلمه بوقت موته أو لم يعلمه بذلك فلم يكن ذلك الإعلام موجباً إغراءه بالقبيح ومثاله أنه تعالى عرف أنبياءه أنهم يموتون على الطهارة والعصمة ولم يكن ذلك موجباً إغراءهم بالقبيح لأجل أنه تعالى علم منهم سواء عرفهم تلك الحالة أو لم يعرفهم هذه الحالة أنهم يموتون على الطهارة والعصمة فلما كان لا يتفاوت حالهم بسبب هذا التعريف لا جرم ما كان ذلك التعريف إغراء بالقبيح فكذا ههنا والله أعلم
المسألة الثانية قول إبليس فِيمَا أَغْوَيْتَنِى يدل على أنه أضاف إغواءه إلى الله تعالى وقوله في آية أخرى فَبِعِزَّتِكَ لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ( ص 82 ) يدل على أنه أضاف إغواء العباد إلى نفسه فالأول يدل على كونه على مذهب الجبر والثاني يدل على كونه على مذهب القدر وهذا يدل على أنه كان متحيراً في هذه المسألة أو يقال أنه كان يعتقد أن الإغوار لا يحصل إلا بالمغوي فجعل نفسه مغوياً لغيره من الغاوين ثم زعم أن المغوي له هو الله تعالى قطعاً للتسلسل واختلف الناس في تفسير هذه الكلمة أما أصحابنا فقالوا الإغواء إيقاع الغي في القلب والغي هو الاعتقاد الباطل وذلك يدل على أنه كان يعتقد أن الحق والباطل إنما يقع في القلب من الله تعالى أما المعتزلة فلهم ههنا مقامان أحدهما أن يفسروا الغي بما ذكرناه والثاني أن يذكروا في تفسيره وجهاً آخر
أما الوجه الأول فلهم فيه أعذار الأول أن قالوا هذا قول إبليس فهب أن إبليس اعتقد أن خالق الغي والجهل والكفر هو الله تعالى إلا أن قوله ليس بحجة الثاني قالوا إن الله تعالى لما أمر بالسجود لآدم فعند ذلك ظهر غيه وكفره فجاز أن يضيف ذلك الغي إلى الله تعالى بهذا المعنى وقد يقول القائل لا تحملني على ضربك أي لا تفعل ما أضر بك عنده الثالث قَالَ رَبّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى لاقْعُدَنَّ لَهُمْ والمعنى إنك بما لعنتني بسبب آدم فإنا لأجل هذه العداوة ألقى الوساوس في قلوبهم الرابع رَبّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى أي خيبتني من جنتك عقوبة على عملي لأقعدن لهم

الوجه الثاني في تفسير الإغواء الإهلاك ومنه قوله تعالى فُسُوقٌ يَلْقُونَ غَيّاً ( مريم 59 ) أي هلاكاً وويلاً ومنه أيضاً قولهم غوى الفصيل يغوي غوى إذا أكثر من اللبن حتى يفسد جوفه ويشارف الهلاك والعطب وفسروا قوله إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ ( هود 34 ) إن كان الله يريد أن يهلككم بعنادكم الحق فهذه جملة الوجوه المذكورة
واعلم أنا لا نبالغ في بيان أن المراد من الإغواء في هذه الآية الإضلال لأن حاصله يرجع إلى قول إبليس وأنه ليس بحجة إلا أنا نقيم البرهان اليقيني على أن المغوي لإبليس هو الله تعالى وذلك لأن الغاوي لا بد له من مغو كما أن المتحرك لا بد له من محرك والساكن لا بد له من مسكن والمهتدي لا بد له من هاد فلما كان إبليس غاوياً فلا بد له من مغوي والمغوي له إما أن يكون نفسه أو مخلوقاً آخر أو الله تعالى والأول باطل لأن العاقل لا يختار الغواية مع العلم بكونها غواية والثاني باطل وإلا لزم إما التسلسل وإما الدور والثالث هو المقصود والله أعلم
المسألة الثالثة الباء في قوله فَبِمَا أَغْوَيْتَنِى فيه وجوه الأول إنه باء القسم أي بإغوائك إياي لأقعدن لهم صراطك المستقيم أي بقدرتك علي ونفاذ سلطانك في لأقعدن لهم على الطريق المستقيم الذي يسلكونه إلى الجنة بأن أزين لهم الباطل وما يكسبهم المآثم ولما كانت الباء باء القسم كانت اللام جواب القسم مِنكُمْ وَمَا بتأويل المصدر و أَغْوَيْتَنِى صلتها والثاني أن قوله فَبِمَا أَغْوَيْتَنِى أي فبسبب إغوائك إياي لأقعدن لهم والمراد إنك لما أغويتني فأنا أيضاً أسعى في إغوائهم الثالث قال بعضهم مَا في قوله فِيمَا أَغْوَيْتَنِى للاستفهام كأنه قيل بأي شيء أغويتني ثم ابتدأ وقال لاقْعُدَنَّ لَهُمْ وفيه إشكال وهو أن إثبات الألف إذا أدخل حرف الجر على ( ما ) الاستفهامية قليل
المسألة الرابعة قوله لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ لا خلاف بين النحويين أن ( على ) محذوف والتقدير لأقعدن لهم على صراطك المستقيم قال الزجاج مثاله قولك ضرب زيد الظهر والبطن والمعنى على الظهر والبطن وإلقاء كلمة ( على ) جائز لأن الصراط ظرف في المعنى فاحتمل ما يحتمله لليوم والليلة في قولك آتيك غداً وفي غد
إذا عرفت هذا فنقول قوله لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ فيه أبحاث
البحث الأول المراد منه أنه يواظب على الإفساد مواطبة لا يفتر عنها ولهذا المعنى ذكر القعود لأن من أراد أن يبالغ في تكميل أمر من الأمور قعد حتى يصير فارغ البال فيمكنه إتمام المقصود ومواظبته على الإفساد هي مواظبته على الوسوسة حتى لا يفتر عنها
والبحث الثاني إن هذه الآية تدل على أنه كان عالماً بالدين الحق والمنهج الصحيح لأنه قال لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ وصراط الله المستقيم هو دينه الحق
البحث الثالث الآية تدل على أن إبليس كان عالماً بأن الذي هو عليه من المذهب والاعتقاد هو محض الغواية والضلال لأنه لو لم يكن كذلك لما قال رَبّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى وأيضاً كان عالماً بالدين الحق ولولا ذلك لما قال لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ

وإذا ثبت هذا فكيف يمكن أن يرضى إبليس بذلك المذهب مع علمه بكونه ضلالاً وغواية وبكونه مضاداً للدين الحق ومنافياً للصراط المستقيم فإن المرء إنما يعتقد الفاسد إذا غلب على ظنه كونه حقاً فأما مع العلم بأنه باطل وضلال وغواية يستحيل أن يختاره ويرضى به ويعتقده
واعلم أن من الناس من قال أن كفر إبليس كفر عناد لا كفر جهل لأنه متى علم أن مذهبه ضلال وغواية فقد علم أن ضده هو الحق فكان إنكاره إنكاراً بمحض اللسان فكان ذلك كفر عناد ومنهم من قال لا بل كفره كفر جهل وقوله فَبِمَا أَغْوَيْتَنِى وقوله لاقْعُدَنَّ لَهُمْ الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ يريد به في زعم الخصم وفي اعتقاده والله أعلم
المسألة الخامسة احتج أصحابنا بهذه الآية في بيان أنه لا يجب على الله رعاية مصالح العبد في دينه ولا في دنياه وتقريره أن إبليس استمهل الزمان الطويل فأمهله الله تعالى ثم بين أنه إنما استمهله لإغواء الخلق وإضلالهم وإلقاء الوساوس في قلوبهم وكان تعالى عالماً بأن أكثر الخلق يطيعونه ويقبلون وسوسته كما قال تعالى وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مّنَ الْمُؤْمِنِينَ ( سبأ 20 ) فثبت بهذا أن إنظار إبليس وإمهاله هذه المدة الطويلة يقتضي حصول المفاسد العظيمة والكفر الكبير فلو كان تعالى مراعياً لمصالح العباد لامتنع أن يمهله وإن يمكنه من هذه المفاسد فحيث أنظره وأمهله علمنا أنه لا يجب عليه شيء من رعاية المصالح أصلاً ومما يقوي ذلك أنه تعالى بعث الأنبياء دعاة إلى الخلق وعلم من حال إبليس أنه لا يدعو إلا إلى الكفر والضلال ثم إنه تعالى أمات الأنبياء الذين هم الدعاة للخلق وأبقى إبليس وسائر الشياطين الذين هم الدعاة للخلق إلى الكفر والباطل ومن كان يريد مصالح العباد امتنع منه أن يفعل ذلك قالت المعتزلة اختلف شيوخنا في هذه المسألة فقال الجبائي إنه لا يختلف الحال بسبب وجوده وعدمه ولا يضل بقوله أحد إلا من لو فرضنا عدم إبليس لكان يضل أيضاً والدليل عليه قوله تعالى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ ( الصافات 162 163 ) ولأنه لو ضل به أحد لكان بقاؤه مفسدة وقال أبو هاشم يجوز أن يضل به قوم ويكون خلقه جارياً مجرى خلق زيادة الشهوة فإن هذه الزيادة من الشهوة لا توجب فعل القبيح إلا أن الامتناع منها يصير أشق ولأجل تلك الزيادة من المشقة تحصل الزيادة في الثواب فكذا ههنا بسبب إبقاء إبليس يصير الامتناع من القبائح أشد وأشق ولكنه لا ينتهي إلى حد الإلجاء والإكراه
والجواب أما قول أبي علي فضعيف وذلك لأن الشيطان لا بد وأن يزين القبائح في قلب الكافر ويحسنها إليه ويذكره ما في القبائح من أنواع اللذات والطيبات ومن المعلوم أن حال الإنسان مع حصول هذا التذكير والتزيين لا يكون مساوياً لحاله عند عدم هذا التذكير وهذا التزيين والدليل عليه العرف فإن الإنسان إذا حصل له جلساء يرغبونه في أمر من الأمور ويحسنونه في عينه ويسهلون طريق الوصول إليه ويواظبون على دعوته إليه فإنه لا يكون حاله في الإقدام على ذلك الفعل كحاله إذا لم يوجد هذا التذكير والتحسين والتزيين والعلم به ضروري وأما قول أبي هاشم فضعيف أيضاً لأنه إذا صار حصول هذا التذكير والتزيين حاصلاً للمرء على الإقدام على ذلك القبيح كان ذلك سعياً في إلقائه في المفسدة وما ذكره من خلق الزيادة في الشهوة فهو حجة أخرى لنا في أن الله تعالى لا يراعي المصلحة فكيف يمكنه أن يحتج

به والذي يقرره غاية التقرير أن لسبب حصول تلك الزيادة في الشهوة يقع في الكفر وعقاب الأبد ولو احترز عن تلك الشهوة فغايته أنه يزداد ثوابه من الله تعالى بسبب زيادة تلك المشقة وحصول هذه الزيادة من الثواب شيء لا حاجة إليه ألبتة إما دفع العقاب المؤبد فإليه أعظم الحاجات فلو كان إله العالم مراعياً لمصالح العباد لاستحال أن يهمل الأهم الأكمل الأعظم لطلب الزيادة التي لا حاجة إليها ولا ضرورة فثبت فساد هذه المذاهب وأنه لا يجب على الله تعالى شيء أصلاً والله أعلم بالصواب
أما قوله تعالى ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ففيه مسائل
المسألة الأولى في ذكر هذه الجهات الأربع قولان
القول الأول أن كل واحد منها مختص بنوع من الآفة في الدين والقائلون بهذا القول ذكروا وجوهاً أحدها ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ يعني أشككهم في صحة البعث والقيامة وَمِنْ خَلْفِهِمْ ألقى إليهم أن الدنيا قديمة أزلية وثانيها ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ والمعنى أفترهم عن الرغبة في سعادات الآخرة وَمِنْ خَلْفِهِمْ يعني أقوى رغبتهم في لذات الدنيا وطيباتها وأحسنها في أعينهم وعلى هذين الوجهين فالمراد من قوله بَيْنِ أَيْدِيهِمْ الآخرة لأنهم يردون عليها ويصلون إليها فهي بين أيديهم وإذا كانت الآخرة بين أيديهم كانت الدنيا خلفهم لأنهم يخلفونها وثالثها وهو قول الحاكم والسدي مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ يعني الدنيا وَمِنْ خَلْفِهِمْ الآخرة وإنما فسرنا بَيْنِ أَيْدِيهِمْ بالدنيا لأنها بين يدي الإنسان يسعى فيها ويشاهدها وأما الآخرة فهي تأتي بعد ذلك ورابعها مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ في تكذيب الأنبياء والرسل الذين يكونون حاضرين وَمِنْ خَلْفِهِمْ في تكذيب من تقدم من الأنبياء والرسل
وأما قوله وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ ففيه وجوه أحدها عَنْ أَيْمَانِهِمْ في الكفر والبدعة وَعَن شَمَائِلِهِمْ في أنواع المعاصي وثانيها عَنْ أَيْمَانِهِمْ في الصرف عن الحق وَعَن شَمَائِلِهِمْ في الترغيب في الباطل وثالثها عَنْ أَيْمَانِهِمْ يعني أفترهم عن الحسنات وَعَن شَمَائِلِهِمْ أقوى دواعيهم في السيئات قال ابن الأنباري وقول من قال الإيمان كناية عن الحسنات والشمائل عن السيئات قول حسن لأن العرب تقول اجعلني في يمينك ولا تجعلني في شمالك يريد اجعلني من المقدمين عندك ولا تجعلني من المؤخرين وروى أبو عبيد عن الأصمعي أنه يقال هو عندنا باليمين أي بمنزلة حسنة وإذا خبثت منزلته قال أنت عندي بالشمال فهذا تلخيص ما ذكره المفسرون في تفسير هذه الجهات الأربع أما حكماء الإسلام فقد ذكروا فيها وجوهاً أخرى أولها وهو الأقوى الأشرف أن في البدن قوى أربعاً هي الموجبة لقوات السعادات الروحانية فإحداها القوة الخالية التي يجتمع فيها مثل المحسوسات وصورها وهي موضوعة في البطن المقدم من الدماغ وصور المحسوسات إنما ترد عليها من مقدمها وإليه الإشارة بقوله مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ
والقوة الثانية القوة الوهمية التي تحكم في غير المحسوسات بالأحكام المناسبة للمحسوسات وهي موضوعة في البطن المؤخر من الدماغ وإليها الإشارة بقوله وَمِنْ خَلْفِهِمْ

والقوة الثالثة الشهوة وهي موضوعة في الكبد وهي من يمين البدن
والقوة الرابعة الغضب وهو موضوع في البطن الأيسر من القلب فهذه القوى الأربع هي التي تتولد عنها أحوال توجب زوال السعادات الروحانية والشياطين الخارجة ما لم تستعن بشيء من هذه القوى الأربع لم تقدر على إلقاء الوسوسة فهذا هو السبب في تعيين هذه الجهات الأربع وهو وجه حقيقي شريف وثانيها أن قوله لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ المراد منه الشبهات المبنية على التشبيه أما في الذات والصفات مثل شبه المجسمة وأما الأفعال مثل شبه المعتزلة في التعديل والتخويف والتحسين والتقبيح وَمِنْ خَلْفِهِمْ المراد منه الشبهات الناشئة عن التعطيل وإنما جعلنا قوله مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ لشبهات التشبيه لأن الإنسان يشاهد هذه الجسمانيات وأحوالها فهي حاضرة بين يديه فيعتقد أن الغائب يجب أن يكون مساوياً لهذا الشاهد وإنما جعلنا قوله وَمِنْ خَلْفِهِمْ كناية عن التعطيل لأن التشبيه عين التعطيل فلما جعلنا قوله مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ كناية عن التشبيه وجب أن نجعل قوله وَمِنْ خَلْفِهِمْ كناية عن التعطيل وأما قوله وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ فالمراد منه الترغيب في ترك المأمورات وَعَن شَمَائِلِهِمْ الترغيب في فعل المنهيات وثالثها نقل عن شقيق رحمه الله أنه قال ما من صباح إلا ويأتيني الشيطان من الجهات الأربع من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي أما من بين يدي فيقول لا تخف فإن الله غفور رحيم فاقرأ وَإِنّى لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ وَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ( طه 82 ) وأما من خلفي فيخوفني من وقوع أولادي في الفقر فاقرأ وَمَا مِن دَابَّة ٍ فِي الاْرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ( هود 6 ) وأما من قبل يميني فيأتيني من قبل الثناء فاقرأ وَالْعَاقِبَة ُ لِلْمُتَّقِينَ ( والقصص 83 ) وأما من قبل شمالي فيأتيني من قبل الشهوات فاقرأ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ ( سبأ 54 )
والقول الثاني في هذه الآية أنه تعالى حكى عن الشيطان ذكر هذه الوجوه الأربعة والغرض منه أنه يبالغ في إلقاء الوسوسة ولا يقصر في وجه من الوجوه الممكنة البتة وتقدير الآية ثم لآتينهم من جميع الجهات الممكنة بجميع الاعتبارات الممكنة وعن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( إن الشيطان قعد لابن آدم بطريق الإسلام ) فقال له تدع دين آبائك فعصاه فأسلم ثم قعد له بطريق الهجرة فقال له تدع ديارك وتتغرب فعصاه وهاجر ثم قعد له بطريق الجهاد فقال له تقاتل فتقتل ويقسم مالك وتنكح امرأتك فعصاه فقاتل وهذا الخبر يدل على أن الشيطان لا يترك جهة من جهات الوسوسة إلا ويلقيها في القلب
فإن قيل فلم لم يذكر مع الجهات الأربع من فوقهم ومن تحتهم
قلنا أما في التحقيق فقد ذكرنا أن القوى التي يتولد منها ما يوجب تفويت السعادات الروحانية فهي موضوعة في هذه الجوانب الأربعة من البدن وأما في الظاهر فيروى أن الشيطان لما قال هذا الكلام رقت قلوب الملائكة على البشر فقالوا يا إلهنا كيف يتخلص الإنسان من الشيطان مع كونه مستولياً عليه من هذه الجهات الأربع فأوحى الله تعالى إليهم أنه بقي للإنسان جهتان الفوق والتحت فإذا رفع يديه إلى فوق في الدعاء على سبيل الخضوع أو وضع جبهته على الأرض على سبيل الخشوع غفرت له ذنب سبعين سنة والله أعلم
المسألة الثانية أنه قال مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ فذكر هاتين الجهتين بكلمة مِنْ

ثم قال وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ فذكر هاتين الجهتين بكلمة عَنْ ولا بد في هذا الفرق من فائدة فنقول إذا قال القائل جلس عن يمينه معناه أنه جلس متجافياً عن صاحب اليمين غير ملتصق به قال تعالى عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشّمَالِ قَعِيدٌ ( ق 17 ) فبين أنه حضر على هاتين الجهتين ملكان ولم يحضر في القدام والخلف ملكان والشيطان يتباعد عن الملك فلهذا المعنى خص اليمين والشمال بكلمة عَنْ لأجل أنها تفيد البعد والمباينة وأيضاً فقد ذكرنا أن المراد من قوله مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ الخيال والوهم والضرر الناشىء منهما هو حصول العقائد الباطلة وذلك هو حصول الكفر وقوله وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ الشهوة والغضب والضرر الناشىء منهما هو حصول الأعمال الشهوانية والغضبية وذلك هو المعصية ولا شك أن الضرر الحاصل من الكفر لازم لأن عقابه دائم أما الضرر الحاصل من المعصية فسهل لأنه عقابه منقطع فلهذا السبب خص هذين القسمين بكلمة عَنْ تنبيهاً على أن هذين القسمين في اللزوم والاتصال دون القسم الأول والله أعلم بمراده
المسألة الثالثة قال القاضي هذا القول من إبليس كالدلالة على بطلان ما يقال إنه يدخل في بدن ابن آدم ويخالطه لأنه لو أمكنه ذلك لكان بأن يذكره في باب المبالغة أحق
ثم قال تعالى حكاية عن إبليس أنه قال وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ وفيه سؤال وهو أن هذا من باب الغيب فكيف عرف إبليس ذلك فلهذا السبب اختلف العلماء فيه فقال بعضهم كان قد رآه في اللوح المحفوظ فقال له على سبيل القطع واليقين وقال آخرون إنه قاله على سبيل الظن لأنه كان عازماً على المبالغة في تزيين الشهوات وتحسين الطيبات وعلم أنها أشياء يرغب فيها غلب على ظنه أنهم يقبلون قوله فيها على سبيل الأكثر والأغلب ويؤكد هذا القول بقوله تعالى وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً ( سبأ 20 ) والعجب أن إبليس قال للحق سبحانه وتعالى وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ فقال الحق ما يطابق ذلك وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِى َ الشَّكُورُ ( سبأ 13 ) وفيه وجه آخر وهو أنه حصل للنفس تسع عشرة قوة وكلها تدعو النفس إلى اللذات الجسمانية والطيبات الشهوانية فخمسة منها هي الحواس الظاهرة وخمسة أخرى هي الحواس الباطنة واثنان الشهوة والغضب وسبعة هي القوى الكامنة وهي الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة والغاذية والنامية والمولدة فمجموعها تسعة عشر وهي بأسرها تدعو النفس إلى عالم الجسم وترغبها في طلب اللذات البدنية وأما العقل فهو قوة واحدة وهي التي تدعو النفس إلى عبادة الله تعالى وطلب السعادات الروحانية ولا شك أن استيلاء تسع عشرة قوة أكمل من استيلاء القوة الواحدة لا سيما وتلك القوى التسعة عشر تكون في أول الخلقة قوية ويكون العقل ضعيفاً جداً وهي بعد قوتها يعسر جعلها ضعيفة مرجوحة فلما كان الأمر كذلك لزم القطع بأن أكثر الخلق يكونون طالبين لهذه اللذات الجسمانية معرضين عن معرفة الحق ومحبته فلهذا السبب قال وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ والله أعلم
قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَّدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ

اعلم أن إبليس لما وعد بالإفساد الذي ذكره خاطبه الله تعالى بما يدل على الزجر والإهانة فقال أَخْرَجَ مِنْهَا من الجنة أو من السماء مذؤوماً قال الليث ذأمت الرجل فهو مذؤم أي محقور والذام الاحتقار وقال الفراء ذأمته إذا عبته يقولون في المثل لا تعدم الحسناء ذاماً وقال ابن الأنباري المذؤم المذموم قال ابن قتيبة مذؤماً مذموماً بأبلغ الذم قال أمية وقال لإبليس رب العباد
أن اخرج دحيراً لعيناً ذؤما
وقوله مَذْمُومًا مَّدْحُورًا الدحر في اللغة الطرد والتبعيد يقال دحره دحراً ودحوراً إذا طرده وبعده ومنه قوله تعالى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلّ جَانِبٍ دُحُوراً ( الصافات 8 9 ) وقال أمية وبإذنه سجدوا لآدم كلهم
إلا لعيناً خاطئاً مدحوراً
وقوله لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ اللام فيه لام القسم وجوابه قوله لاَمْلاَنَّ قال صاحب ( الكشاف ) روى عصمة عن عاصم لَّمَن تَبِعَكَ بكسر اللام بمعنى لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ هذا الوعيد وهو قوله لامْلانَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ وقيل إن لأملأن في محل الابتداء وَلَمَنِ تَبِعَكَ خبره قال أبو بكر الأنباري الكناية في قوله لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ عائد على ولد آدم لأنه حين قال وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ( الأعراف 11 ) كان مخاطباً لولد آدم فرجعت الكناية إليهم قال القاضي دلت هذه الآية على أن التابع والمتبوع معنيان في أن جهنم تملأ منهما ثم أن الكافر تبعه فكذلك الفاسق تبعه فيجب القطع بدخول الفاسق النار وجوابه أن المذكور في الآية أنه تعالى يملأ جهنم ممن تبعه وليس في الآية أن كل من تبعه فإنه يدخل جهنم فسقط هذا الاستدلال ونقول هذه الآية تدل على أن جميع أصحاب البدع والضلالات يدخلون جهنم لأن كلهم متابعون لإبليس والله أعلم
وَيَاأادَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّة َ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَاذِهِ الشَّجَرَة َ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ
اعلم أن هذه الآية مشتملة على مسائل أحدها أن قوله اسْكُنْ أمر تعبد أو أمر إباحة وإطلاق من حيث إنه لا مشقة فيه فلا يتعلق به التكليف وثانيها أن زوج آدم هو حواء ويجب أن نذكر أنه تعالى كيف خلق حواء وثالثها أن تلك الجنة كانت جنة الخلد أو جنة من جنان السماء أو جنة من جنان الأرض ورابعها أن قوله فَكُلاًّ أمر إباحة لا أمر تكليف وخامسها أن قوله وَلاَ تَقْرَبَا نهي تنزيه أو نهي تحريم وسادسها أن قوله هَاذِهِ الشَّجَرَة ِ المراد شجرة واحدة بالشخص أو النوع وسابعها أن تلك الشجرة أي شجرة كانت وثامنها أن ذلك الذنب كان صغيراً أو كبيراً وتاسعها أنه ما المراد من قوله فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ وهل يلزم من كونه ظالماً بهذا القربان الدخول تحت قوله تعالى أَلاَ لَعْنَة ُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ( هود 18 ) وعاشرها أن هذه الواقعة وقعت قبل نبوة آدم عليه السلام أو بعدها فهذه المسائل العشرة قد سبق تفصيلها وتقريرها في سورة البقرة فلا نعيدها والذي بقي علينا من هذه الآية حرف واحد

وهو أنه تعالى قال في سورة البقرة وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا ( البقرة 35 ) بالواو وقال ههنا فَكُلاًّ بالفاء فما السبب فيه وجوابه من وجهين الأول أن الواو تفيد الجمع المطلق والفاء تفيد الجمع على سبيل التعقيب فالمفهوم من الفاء نوع داخل تحت المفهوم من الواو ولا منافاة بين النوع والجنس ففي سورة البقرة ذكر الجنس وفي سورة الأعراف ذكر النوع
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَاذِهِ الشَّجَرَة ِ إِلاَ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَة َ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّة ِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَآ أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَة ِ وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ
يقال وسوس إذا تكلم كلاماً خفياً يكرره وبه سمي صوت الحلي وسواساً وهو فعل غيرمتعد كقولنا ولولوت المرأة وقولنا وعوع الذئب ورجل موسوس بكسر الواو ولا يقال موسوس بالفتح ولكن موسوس له وموسوس إليه وهو الذي يلقي إليه الوسوسة ومعنى وسوس له فعل الوسوسة لأجله ووسوس إليه ألقاها إليه وههنا سؤالات
السؤال الأول كيف وسوس إليه وآدم كان في الجنة وإبليس أخرج منها
والجواب قال الحسن كان يوسوس من الأرض إلى السماء وإلى الجنة بالقوة الفوقية التي جعلها الله تعالى له وقال أبو مسلم الأصفهاني بل كان آدم وإبليس في الجنة لأن هذه الجنة كانت بعض جنات الأرض والذي يقوله بعض الناس من أن إبليس دخل في جوف الحية ودخلت الحية في الجنة فتلك القصة الركيكة مشهورة وقال آخرون إن آدم وحواء ربما قرباً من باب الجنة وكان إبليس واقفاً من خارج الجنة على بابها فيقرب فيقرب أحدهما من الآخر وتحصل الوسوسة هناك
السؤال الثاني أن آدم عليه السلام كان يعرف ما بينه وبين إبليس من العداوة فكيف قبل قوله
والجواب لا يبعد أن يقال إن إبليس لقي آدم مراراً كثيرة ورغبه في أكل الشجرة بطرق كثيرة فلأجل المواظبة والمداومة على هذا التمويه أثر كلامه في آدم عليه السلام

السؤال الثالث لم قال فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ
والجواب معنى وسوس له أي فعل الوسوسة لأجله والله أعلم
أما قوله تعالى لِيُبْدِيَ لَهُمَا في هذا اللام قولان أحدهما أنه لام العاقبة كما في قوله فَالْتَقَطَهُ ءالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً ( القصص 8 ) وذلك لأن الشيطان لم يقصد بالوسوسة ظهور عورتهما ولم يعلم أنهما إن أكلا من الشجرة بدت عوراتها وإنما كان قصده أن يحملهما على المعصية فقط الثاني لا يبعد أيضاً أن يقال إنه لام الغرض ثم فيه وجهان أحدهما أن يجعل بدو العورة كناية عن سقوط الحرمة وزوال الجاه والمعنى أن غرضه من إلقاء تلك الوسوسة إلى آدم زوال حرمته وذهاب منصبه والثاني لعله رأى في اللوح المحفوظ أو سمع من بعض الملائكة أنه إذا أكل من الشجرة بدت عورته وذلك يدل على نهاية الضرر وسقوط الحرمة فكان يوسوس إليه لحصول هذا الغرض وقوله مَا فيه مباحث
البحث الأول ما وري مأخوذ من المواراة يقال واريته أي سترته قال تعالى يواري سوأة أخيه وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لعلي لما أخبره بوفاة أبيه ( اذهب فواره )
البحث الثاني السوأة فرج الرجل والمرأة وذلك لأن ظهوره يسوء الإنسان قال ابن عباس رضي الله عنهما كأنهما قد ألبسا ثوباً يستر عورتهما فلما عصيا زال عنهما ذلك الثوب فذلك قوله تعالى فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَة َ بَدَتْ لَهُمَا
البحث الثالث دلت هذه الآية على أن كشف العورة من المنكرات وإنه لم يزل مستهجناً في الطباع مستقبحاً في العقول وقوله وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَاذِهِ الشَّجَرَة ِ إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ( الأعراف 20 ) يمكن أن يكون هذا الكلام ذكره إبليس بحيث خاطب به آدم وحواء ويمكن أيضاً أن يكون وسوسة أوقعها في قلوبهما والأمران مرويات إلا أن الأغلب أنه كان ذلك على سبيل المخاطبة بدليل قوله تعالى وَقَاسَمَهُمَا إِنّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ومعنى الكلام أن إبليس قال لهما في الوسوسة إلا أن تكون ملكين وأراد به أن تكونا بمنزلة الملائكة إن أكلتما منها أو تكونا من الخالدين إن أكلتما فرغبهما بأن أوهمهما أن من أكلها صار كذلك وإنه تعالى إنما نهاهما عنها لكي لا يكونا بمنزلة الملائكة ولا يخلدا وفي الآية سؤالات
السؤال الأول كيف أطمع إبليس آدم في أن يكون ملكاً عند الأكل من الشجرة مع أنه شاهد الملائكة متواضعين ساجدين له معترفين بفضله والجواب من وجوه الأول أن هذا المعنى أحد ما يدل على أن الملائكة الذين سجدوا لآدم هم ملائكة الأرض أما ملائكة السموات وسكان العرش والكرسي والملائكة المقربون فما سجدوا ألبتة لآدم ولو كانوا سجدوا له لكان هذا التطميع فاسداً مختلاً وثانيها نقل الواحدي عن بعضهم أنه قال إن آدم علم أن الملائكة لا يموتون إلى يوم القيامة ولم يعلم ذلك لنفسه فعرض عليه إبليس أن يصير مثل الملك في البقاء وأقول هذا الجواب ضعيف لأن على هذا التقدير المطلوب من الملائكة هو الخلود وحينئذ لا يبقى فرق بين قوله إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ ( الأعراف 20 ) وبين قوله أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ( الأعراف 20 )

والوجه الثاني قال الواحدي كان ابن عباس يقرأ ملكين ويقول ما طمعا في أن يكونا ملكين لكنهما استشرفا إلى أن يكونا ملكين وإنما أتاهما الملعون من جهة الملك ويدل على هذا قوله هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَة ِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى ( طه 20 ) وأقول هذا الجواب أيضاً ضعيف وبيانه من وجهين الأول هب أنه حصل الجواب على هذه القراءة فهل يقول ابن عباس إن تلك القراءة المشهورة باطلة أو لا يقول ذلك والأول باطل لأن تلك القراءة قراءة متواترة فكيف يمكن الطعن فيها وأما الثاني فعلى هذا التقدير الإشكال باق لأن على تلك القراءة يكون بالتطميع قد وقع في أن يصير بواسطة ذلك الأكل من جملة الملائكة وحينئذ يعود السؤال
والوجه الثاني أنه تعالى جعل سجود الملائكة والخلق له في أن يسكن الجنة وأن يأكل منها رغداً كيف شاء وأراد ولا مزيد في الملك على هذه الدرجة
السؤال الثاني هل تدل هذه الآية على أن درجة الملائكة أكمل وأفضل من درجة النبوة
والجواب من وجوه الأول أنا إذا قلنا إن هذه الواقعة كانت قبل النبوة لم يدل على ذلك ولأن آدم حين طلب الوصول إلى درجة الملائكة ما كان من الأنبياء وعلى هذا التقدير فزال الاستدلال والثاني إن بتقدير ( أن ) تكون هذه الواقعة وقعت في زمان النبوة فلعل آدم عليه السلام رغب في أن يصير من الملائكة في القدرة والقوة والشدة أو في خلقة الذات بأن يصير جوهراً نورانياً وفي أن يصير من سكان العرش والكرسي وعلى هذا التقدير يسقط الاستدلال
السؤال الثالث نقل أن عمرو بن عبيد قال للحسن في قوله إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وفي قوله وقاسمهما قال عمر وقلت للحسن فهل صدقاه في ذلك فقال الحسن معاذ الله لو صدقاه لكانا من الكافرين ووجه السؤال إنه كيف يلزم هذا التكفير بتقدير أن يصدقا إبليس في ذلك القول
والجواب ذكروا في تقرير ذلك التكفير أنه عليه السلام لو صدق إبليس في الخلود لكان ذلك يوجب إنكار البعث والقيامة وأنه كفر ولقائل أن يقول لا نسلم أنه يلزم من ذلك التصديق حصول الكفر وبيانه من وجهني الأول أن لفظ الخلود محمول على طول المكث لا على الدوام وعلى هذا الوجه يندفع ما ذكروه
الوجه الثاني هب أن الخلود مفسر بالدوام إلا أنا نسلم أن اعتقاد الدوام يوجب الكفر وتقريره أن العلم بأنه تعالى هل يميت هذا المكلف أو لا يميته علم لا يحصل إلا من دليل السمع فلعله تعالى ما بين في وقت آدم عليه السلام أنه يميت الخلق ولما لم يوجد ذلك الدليل السمعي كان آدم عليه السلام يجوز دوام البقاء فلهذا السبب رغب فيه وعلى هذا التقدير فالتكفير غير لازم
السؤال الرابع ثبت بما سبق أن آدم وحواء لو صدقا إبليس فيما قال لم يلزم تكفيرهما فهل يقولون إنهما صدقاه فيه قطعاً وإن لم يحصل القطع فهل يقولون إنهما ظنا أن الأمر كما قال أو ينكرون هذا الظن أيضاً

والجواب أن المحققين أنكروا حصول هذا التصديق قطعاً وظناً بل الصواب أنهما إنما أقدما على الأكل لغلبة الشهوة لا أنهما صدقاه علماً أو ظناً كما نجد أنفسنا عند الشهوة نقدم على الفعل إذا زين لنا الغير ما نشتهيه وإن لم نعتقد أن الأمر كما قال
السؤال الخامس قوله إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ هذا الترغيب والتطميع وقع في مجموع الأمرين أو في أحدهما
والجواب قال بعضهم الترغيب كان في مجموع الأمرين لأن أدخل في الترغيب وقيل بل هو على ظاهره على طريقة التخيير
ثم قال تعالى وَقَاسَمَهُمَا إِنّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ أي وأقسم لهما إني لكما لمن الناصحين
فإن قيل المقاسمة أن تقسم لصاحبك ويقسم لك تقول قاسمت فلاناً أي حالفته وتقاسما تحالفاً ومنه قوله تعالى تَقَاسَمُواْ بِاللَّهِ لَنُبَيّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ( النمل 49 )
قلنا فيه وجوه الأول التقدير أنه قال أقسم لكما إني لكما لمن الناصحين وقالا له أتقسم بالله إنك لمن الناصحين فجعل ذلك مقاسمة بينهم والثاني أقسم لهما بالنصيحة وأقسما له بقبولها الثالث أنه أخرج قسم إبليس على زنة المفاعلة لأنه اجتهد فيه اجتهاد المقاسم
إذا عرفت هذا فنقول قال قتادة حلف لهما بالله حتى خدعهما وقد يخدع المؤمن بالله وقوله إِنّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ أي قال إبليس إني خلقت قبلكما وأنا أعلم أحوالاً كثيرة من المصالح والمفاسد لا تعرفانها فامتثلا قولي أرشدكما
ثم قال تعالى فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ وذكر أبو منصور الأزهري لهذه الكلمة أصلين أحدهما أصل الرجل العطشان يدلي رجليه في البئر ليأخذ الماء فلا يجد فيها ماء فوضعت التدلية موضع الطمع فيما لا فائدة فيه فيقال دلاه إذا أطعمه الثاني فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ أي أجرأهما إبليس على أكل الشجرة بغرور والأصل فيه دللهما من الدل والدالة وهي الجرأة
إذا عرفت هذا فنقول قال ابن عباس فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ أي غرهما باليمين وكان آدم يظن أن أحداً لا يحلف بالله كاذباً وعن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان إذا رأى من عبده طاعة وحسن صلاة أعتقه فكان عبيده يفعلون ذلك طلباً للعتق فقيل له إنهم يخدعونك فقال من خدعنا بالله انخدعنا له
ثم قال تعالى فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَة َ بَدَتْ وذلك يدل على أنهما تناولا اليسير قصداً إلى معرفة طعمه ولولا أنه تعالى ذكر في آية أخرى أنهما أكلا منها لكان ما في هذه الآية لا يدل على الأكل لأن الذائق قد يكون ذائقاً من دون أكل
ثم قال تعالى بَدَتْ لَهُمَا أي ظهرت عوراتهما وزال النور عنهما سَوْءتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ قال الزجاج معنى طفق أخذ في الفعل يَخْصِفَانِ أي يجعلان ورقة على ورقة ومنه قيل للذي يرقع النعل خصاف وفيه دليل على أن كشف العورة قبيح من لدن آدم ألا ترى أنهما كيف بادرا إلى الستر لما تقرر في عقلهما من قبح كشف العورة وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا قال عطاء بلغني أن الله ناداهما أفراراً مني يا آدم قال بل

حياء منك يا رب ما ظننت أن أحداً يقسم باسمك كاذباً ثم ناداه ربه أما خلقتك بيدي أما نفخت فيك من روحي أما أسجدت لك ملائكتي أما أسكنتك في جنتي في جواريا
ثم قال وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ قال ابن عباس بين العداوة حيث أبى السجود وقال لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ( الأعراف 16 )
قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ
اعلم أن هذه الآية مفسرة في سورة البقرة وقد ذكرنا هناك أن هذه الآية تدل على صدور الذنب العظيم من آدم عليه السلام إلا أنا نقول هذا الذنب إنما صدر عنه قبل النبوة وعلى هذا التقدير فالسؤال زائل
قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِى الأرض مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ
اعلم أن هذا الذي تقدم ذكره هو آدم وحواء وإبليس وإذا كان كذلك فقوله اهْبِطُواْ يجب أن يتناول هؤلاء الثلاثة بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ يعني العداوة ثابتة بين الجن والإنس لا تزول ألبتة وقوله فِيهَا تَحْيَوْنَ الكناية عائدة إلى الأرض في قوله وَلَكُمْ فِى الارْضِ والمراد في الأرض تعيشون وفيها تموتون ومنها تخرجون إلى البعث والقيامة قرأ حمزة والكسائي تُخْرَجُونَ بفتح التاء وضم الراء وكذلك في الروم والزخرف والجاثية وقرأ ابن عامر ههنا وفي الزخرف بفتح التاء وفي الروم والجاثية بضم التاء والباقون جميع ذلك بضم التاء
يَابَنِى آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِى سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذالِكَ خَيْرٌ ذالِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ
في نظم الآية وجهان
الوجه الأول أنه تعالى لما بين أنه أمر آدم وحواء بالهبوط إلى الأرض وجعل الأرض لهما مستقراً بين بعده أنه تعالى أنزل كل ما يحتاجون إليه في الدين والدنيا ومن جملتها اللباس الذي يحتاج إليه في الدين والدنيا

الوجه الثاني أنه تعالى لما ذكر واقعة آدم في انكشاف العورة أنه كان يخصف الورق عليها أتبعه بأن بين أنه خلق اللباس للخلق ليستروا بها عورتهم ونبه به على المنة العظيمة على الخلق بسبب أنه أقدرهم على التستر
فإن قيل ما معنى إنزال اللباس
قلنا إنه تعالى أنزل المطر وبالمطر تتكون الأشياء التي منها يحصل اللباس فصار كأنه تعالى أنزل اللباس وتحقيق القول أن الأشياء التي تحدث في الأرض لما كانت معلقة بالأمور النازلة من السماء صار كأنه تعالى أنزلها من السماء ومنه قوله تعالى وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الاْنْعَامِ ثَمَانِيَة َ أَزْواجٍ ( الزمر 6 ) وقوله وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ ( الحديد 25 ) وأما قوله وَرِيشًا ففيه بحثان
البحث الأول الريش لباس الزينة استعير من ريش الطير لأنه لباسه وزينته أي أنزلنا عليكم لباسين لباساً يواري سوآتكم ولباساً يزينكم لأن الزينة غرض صحيح كما قال لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَة ً ( النحل 8 ) وقال وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ ( النحل 6 )
البحث الثاني روي عن عاصم رواية غير مشهورة ورياشاً وهو مروي أيضاً عن عثمان رضي الله عنه والباقون سَوْءتِكُمْ وَرِيشًا واختلفوا في الفرق بين الريش والرياش فقيل رياش جمع ريش وكذياب وذيب وقداح وقدح وشعاب وشعب وقيل هما واحد كلباس ولبس وجلال وجل روى ثعلب عن ابن الأعرابي قال كل شيء يعيش به الإنسان من متاع أو مال أو مأكول فهو ريش ورياش وقال ابن السكيت الرياش مختص بالثياب والأثاث والريش قد يطلق على سائر الأموال وقوله تعالى وَلِبَاسُ التَّقْوَى فيه بحثان
البحث الأول قرأ نافع وابن عامر والكسائي وَلِبَاسُ بالنصب عطفاً على قوله لِبَاساً والعامل فيه أنزلنا وعلى هذا التقدير فقوله ذالِكَ مبتدأ وقوله خَيْرٌ خبره والباقون بالرفع وعلى هذا التقدير فقوله وَلِبَاسُ التَّقْوَى مبتدأ وقوله ذالِكَ صفة أو بدل أو عطف بيان وقوله خير خبر لقوله وَلِبَاسُ التَّقْوَى ومعنى قولنا صفة أن قوله ذالِكَ أشير به إلى اللباس كأنه قيل ولباس التقوى المشار إليه خير
البحث الثاني اختلفوا في تفسير قوله وَلِبَاسُ التَّقْوَى والضابط فيه أن منهم من حمله على نفس الملبوس ومنهم من حمله على غيره
أما القول الأول ففيه وجوه أحدها أن المراد أن اللباس الذي أنزله الله تعالى ليواري سوآتكم هو لباس التقوى وعلى هذا التقدير فلباس التقوى هو اللباس الأول وإنما أعاده الله لأجل أن يخبر عنه بأنه خير لأن جماعة من أهل الجاهلية كانوا يتعبدون بالتعري وخلع الثياب في الطواف بالبيت فجرى هذا في التكرير مجرى قول القائل قد عرفتك الصدق في أبواب البر والصدق خير لك من غيره فيعيد ذكر الصدق ليخبر عنه بهذا المعنى وثانيها أن المراد من لباس التقوى ما يلبس من الدروع والجواشن والمغافر وغيرها مما يتقي به في الحروب وثالثها المراد من لباس التقوى الملبوسات المعدة لأجل إقامة الصلوات
والقول الثاني أن يحمل قوله وَلِبَاسُ التَّقْوَى على المجازات ثم اختلفوا فقال قتادة والسدي وابن جريج لباس التقوى الإيمان وقال ابن عباس لباس التقوى العمل الصالح وقيل هو السمت الحسن

وقيل هو العفاف والتوحيد لأن المؤمن لا تبدو عورته وإن كان عارياً من الثياب والفاجر لا تزال عورته مكشوفة وإن كان كاسياً وقال معبدهو الحياء وقيل هو ما يظهر على الإنسان من السكينة والإخبات والعمل الصالح وإنما حملنا لفظ اللباس على هذه المجازات لأن اللباس الذي يفيد التقوى ليس إلا هذه الأشياء أما قوله ذالِكَ خَيْرٌ قال أبو علي الفارسي معنى الآية وَلِبَاسُ التَّقْوَى خَيْرٌ ( الأعراف 26 ) لصاحبه إذا أخذ به وأقرب له إلى الله تعالى مما خلق من اللباس والرياش الذي يتجمل به قال وأضيف اللباس إلى التقوى كما أضيف إلى الجوع في قوله فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ ( النحل 112 ) وقوله ذالِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ معناه من آيات الله الدالة على فضله ورحمته على عباده يعني إنزال اللباس عليهم لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فيعرفون عظيم النعمة فيه
يَابَنِى آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّة ِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَآ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ
اعلم أن المقصود من ذكر قصص الأنبياء عليهم السلام حصول العبرة لمن يسمعها فكأنه تعالى لما ذكر قصة آدم وبين فيهاشدة عداوة الشيطان لآدم وأولاده أتبعها بأن حذر أولاد آدم من قبول وسوسة الشيطان فقال يَذَّكَّرُونَ يَابَنِى آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مّنَ الْجَنَّة ِ وذلك لأن الشيطان لما بلغ أثر كيده ولطف وسوسته وشدة اهتمامه إلى أن قدر على إلقاء آدم في الزلة الموجبة لإخراجه من الجنة فبأن يقدر على أمثال هذه المضار في حق بني آدم أولى فبهذا الطريق حذر تعالى بني آدم بالاحتراز عن وسوسة الشيطان فقال لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ فيترتب عليه أن لا تدخلوا الجنة كما فتن أبويكم فترتب عليه خروجهما منها وأصل الفتون عرض الذهب على النار وتخليصه من الغش ثم أتى في القرآن بمعنى المحنة وههنا بحثان
البحث الأول قال الكعبي هذه الآية حجة على من نسب خروج آدم وحواء وسائر وجوه المعاصي إلى الشيطان وذلك يدل على أنه تعالى بريء منها فيقال له لم قلتم أن كون هذا العمل منسوباً إلى الشيطان يمنع من كونه منسوباً إلى الله تعالى ولم لا يجوز أن يقال إنه تعالى لما خلق القدرة والداعية الموجبتين لذلك العمل كان منسوباً إلى الله تعالى ولما أجرى عادته بأنه يخلق تلك الداعية بعد تزيين الشيطان وتحسينه تلك الأعمال عند ذلك الكافر كان منسوباً إلى الشيطان
البحث الثاني ظاهر الآية يدل على أنه تعالى إنما أخرج آدم وحواء من الجنة عقوبة لهما على تلك الزلة وظاهر قوله إِنّى جَاعِلُكَ فِى الارْضِ خَلِيفَة ً ( البقرة 30 ) يدل على أنه تعالى خلقهما لخلافة الأرض وأنزلهما من الجنة إلى الأرض لهذا المقصود فكيف الجمع بين الوجهين

وجواب أنه ربما قيل حصل لمجموع الأمري والله أعلم
ثم قال يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا وفيه مباحث
البحث الأول الْجَنَّة ِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا حال أي أخرجهما نازعاً لباسهما وأضاف نزع اللباس إلى الشيطان وإن لم يتول ذلك لأن كان بسبب منه فأسند إليه كما تقول أنت فعلت هذا لمن حصل منه ذلك الفعل بسبب وإن لم يباشره وكذلك لما كان نزع لباسهما بوسوسة الشيطان وغروره أسند إليه
البحث الثاني اللام في قوله لِيُرِيَهُمَا لام العاقبة كما ذكرنا في قوله لِيُبْدِيَ لَهُمَا قال ابن عباس رضي الله عنهما يرى آدم سوأة حواء وترى حواء سوأة آدم
البحث الثالث اختلفوا في اللباس الذي نزع منهما فقال بعضهم إنه النور وبعضهم التقى وبعضهم اللباس الذي هو ثياب الجنة وهذا القول أقرب لأن إطلاق اللباس يقتضيه والمقصود من هذا الكلام تأكيد التحذير لبني آدم لأنه لما بلغ تأثير وسوسة الشيطان في حق آدم مع جلالة قدره إلى هذا الحد فكيف يكون حال آحاد الخلق ثم أكد تعالى هذا التحذير بقوله إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ وفيه مباحث
البحث الأول إِنَّهُ يَرَاكُمْ يعني إبليس هُوَ وَقَبِيلُهُ أعاد الكناية ليحسن العطف كقوله اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّة َ ( البقرة 35 )
البحث الثاني قال أبو عبيدة عن أبي زيد ( القبيل ) الجماعة يكونون من الثلاثة فصاعداً من قوم شتي وجمعه قبل والقبيلة بنو أب واحد وقال ابن قتيبة قبيله أصحابه وجنده وقال الليث هُوَ وَقَبِيلُهُ أي هو ومن كان من نسله
البحث الثالث قال أصحابنا إنهم يرون الأنس لأنه تعالى خلق في عيونهم إدراكاً والإنس لا يرونهم لأنه تعالى لم يخلق هذا الإدراك في عيون الإنس وقالت المعتزلة الوجه في أن الإنس لا يرون الجن رقة أجسام الجن ولطافتها والوجه في رؤية الجن للإنس كثافة أجسام الإنس والوجه في أن يرى بعض الجن بعضاً أن الله تعالى يقوي شعاع أبصار الجن ويزيد فيه ولو زاد الله في قوة أبصارنا لرأيناهم كما يرى بعضنا بعضاً ولو أنه تعالى كثف أجسامهم وبقيت أبصارنا على هذه الحالة لرأيناهم فعلى هذا كون الإنس مبصراً للجن موقوف عند المعتزلة إما على زيادة كثافة أجسام الجن أو على زيادة قوة أبصار الإنس
البحث الرابع قوله تعالى مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ يدل على أن الإنس لا يرون الجن لأن قوله مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ يتناول أوقات الاستقبال من غير تخصيص قال بعض العلماء ولو قدر الجن على تغيير صور أنفسهم بأي صورة شاؤا وأرادوا لوجب أن ترتفع الثقة عن معرفة الناس فلعل هذا الذي أشاهده وأحكم عليه بأنه ولدي أو زوجتي جنى صور نفسه بصورة ولدي أو زوجتي وعلى هذا التقدير فيرتفع الوثوق عن معرفة الأشخاص وأيضاً فلو كانوا قادرين على تخبيط الناس وإزالة العقل عنهم مع أنه تعالى بين العداوة الشديدة بينهم وبين الإنس فلم لا يفعلون ذلك في حق أكثر البشر وفي حق العلماء والأفاضل والزهاد لأن هذه العداوة بينهم وبين العلماء والزهاد أكثر وأقوى ولما لم يوجد شيء من ذلك ثبت أنه لا قدرة لهم على البشر بوجه من الوجوه ويتأكد هذا بقوله مَا كَانَ لِى َ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى

( إبراهيم 22 ) قال مجاهد قال إبليس اعطينا أربع خصال نرى ولا نرى ونخرج من تحت الثرى ويعود شيخنا فتى
ثم قال تعالى إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فقد احتج أصحابنا بهذا النص على أنه تعالى هو الذي سلط الشيطان الرجيم عليهم حتى أضلهم وأغواهم قال الزجاج ويتأكد هذا النص بقوله تعالى أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ ( مريم 83 ) قال القاضي معنى قوله جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ هو أنا حكمنا بأن الشيطان ولي لمن لا يؤمن قال ومعنى قوله أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ هو أنا خلينا بينهم وبينهم كما يقال فيمن يربط الكلب في داره ولا يمنعه من التوثب على الداخل إنه أرسل عليه كلبه
والجواب أن القائل إذا قال إن فلاناً جعل هذا الثوب أبيض أو أسود لم يفهم منه أنه حكم به بل يفهم منه أنه حصل السواد أو البياض فيه فكذلك ههنا وجب حمل الجعل على التأثير والتحصيل لا على مجرد الحكم وأيضاً فهب أنه تعالى حكم بذلك لكن مخالفة حكم الله تعالى توجب كونه كاذباً وهو محال فالمفضي إلى المحال محال فكون العبد قادراً على خلاف ذلك وجب أن يكون محالاً وأما قوله أن قوله تعالى أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ أي خلينا بينهم وبين الكافرين فهو ضعيف أيضاً ألا ترى أن أهل السوق يؤذي بعضهم بعضاً ويشتم بعضهم بعضاً ثم إن زيداً وعمراً إذا لم يمنع بعضهم عن البعض لا يقال أنه أرسل بعضهم على البعض بل لفظ الإرسال إنما يصدق إذا كان تسليط بعضهم على البعض بسبب من جهته فكذا ههنا والله أعلم
وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَة ً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ ءَابَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
اعلم أن في الناس من حمل الفحشاء على ما كانوا يحرمونه من البحيرة والسائبة وغيرهما وفيهم من حمله على أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة الرجال والنساء والأولى أن يحكم بالتعميم والفحشاء عبارة عن كل معصية كبيرة فيدخل فيه جميع الكبائر واعلم أنه ليس المراد منه أن القرم كانوا يسلمون كون تلك الأفعال فواحش ثم كانوا يزعمون أن الله أمرهم بها فإن ذلك لا يقوله عاقل بل المراد أن تلك الأشياء كانت في أنفسها فواحش والقوم كانوا يعتقدون أنها طاعات وإن الله أمرهم بها ثم إنه تعالى حكى عنهم أنهم كانوا يحتجون على إقدامهم على تلك الفواحش بأمرين أحدهما أنا وجدنا عليها آباءنا والثاني أن الله أمرنا بها

أما الحجة الأولى فما ذكر الله عنها جواباً لأنها إشارة إلى محض التقليد وقد تقرر في عقل كل أحد أنه طريقة فاسدة لأن التقليد حاصل في الأديان المتناقضة فلو كان التقليد طريقاً حقاً للزم الحكم بكون كل واحد من المتناقضين حقاً ومعلوم أنه باطل ولما كان فساد هذا الطريق ظاهراً جلياً لكل أحد لم يذكر الله تعالى الجواب عنه
وأما الحجة الثانية وهي قولهم وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا فقد أجاب عنه بقوله تعالى قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء والمعنى أنه ثبت على لسان الأنبياء والرسل كون هذه الأفعال منكرة قبيحة فكيف يمكن القول بأن الله تعالى أمرنا بها وأقول للمعتزلة أن يحتجوا بهذه الآية على أن الشيء إنما يقبح لوجه عائد إليه ثم إنه تعالى نهى عنه لكونه مشتملاً على ذلك الوجه لأن قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء إشارة إلى أنه لما كان ذلك موصوفاً في نفسه بكونه من الفحشاء امتنع أن يأمر الله به وهذا يقتضي أن يكون كونه في نفسه من الفحشاء مغايراً لتعلق الأمر والنهب به وذلك يفيد المطلوب
وجوابه يحتمل أنه لما ثبت بالاستقراء أنه تعالى لا يأمر إلا بما يكون مصلحة للعباد ولا ينهي إلا عما يكون مفسده لهم فقد صح هذا التعليل لهذا المعنى والله أعلم
ثم قال تعالى أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وفيه بحثان
البحث الأول المراد منه أن يقال إنكم تقولون إن الله أمركم بهذه الأفعال المخصوصة فعلمكم بأن الله أمركم بها حصل لأنكم سمعتم كلام الله تعالى ابتداء من غير واسطة أو عرفتم ذلك بطريق الوحي إلى الأنبياء
أما الأول فمعلوم الفساد بالضرورة
وأما الثاني فباطل على قولكم لأنكم تنكرون نبوة الأنبياء على الإطلاق لأن هذه المناظرة وقعت مع كفار قريش وهم كانوا ينكرون أصل النبوة وإذا كان الأمر كذلك فلا طريق لهم إلى تحصيل العلم بأحكام الله تعالى فكان قولهم أن الله أمرنا بها قولاً على الله تعالى بما لا يكون معلوماً وإنه باطل
البحث الثاني نفاة القياس قالوا الحكم المثبت بالقياس مظنون وغير معلوم وما لا يكون معلوماً لم يجز القول به لقوله تعالى في معرض الذم والسخرية أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وجواب مثبتي القياس عن أمثال هذه الدلالة قد ذكرناه مراراً والله أعلم
قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَة ُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ

اعلم أنه تعالى لما بين أمر الأمر بالفحشاء بين تعالى أنه يأمر بالقسط والعدل وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله أَمَرَ رَبّي بِالْقِسْطِ يدل على أن الشيء يكون في نفسه قسطاً لوجوه عائدة إليه في ذاته ثم أنه تعالى يأمر به لكونه كذلك في نفسه وذلك يدل أيضاً على أن الحسن إنما يحسن لوجوه عائدة إليه وجوابه ما سبق ذكره
المسألة الثانية قال عطاء والسدي بِالْقِسْطِ بالعدل وبما ظهر في المعقول كونه حسناً صواباً وقال ابن عباس هو قول لا إله إلا الله والدليل عليه قوله شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَائِكَة ُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِمَاً بِالْقِسْطِ ( آل عمران 18 ) وذلك القسط ليس إلا شهادة أن لا إله إلا الله فثبت أن القسط ليس إلا قول لا إله إلا الله
إذا عرفت هذا فنقول إنه تعالى أمر في هذه الآية بثلاثة أشياء أولها أنه أمر بالقسط وهو قول لا إله إلا الله وهو يشتمل على معرفة الله تعالى بذاته وأفعاله وأحكامه ثم على معرفة أنه واحد لا شريك له وثانيها أنه أمر بالصلاة وهو قوله وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ وفيه مباحث
البحث الأول أنه لقائل أن يقول أَمَرَ رَبّي بِالْقِسْطِ خبر وقوله وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ أمر وعطف الأمر على الخبر لا يجوز وجوابه التقدير قل أمر ربي بالقسط وقل أقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين
البحث الثاني في الآية قولان أحدهما المراد بقوله أَقِيمُواْ هو استقبال القبلة والثاني أن المراد هو الإخلاص والسبب في ذكر هذين القولين أن إقامة الوجه في العبادة قد تكون باستقبال القبلة وقد تكون بالإخلاص في تلك العبادة والأقرب هو الأول لأن الإخلاص مذكور من بعد ولو حملناه على معنى الإخلاص صار كأنه قال وأخلصوا عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين وذلك لا يستقيم
فإن قيل يستقيم ذلك إذا علقت الإخلاص بالدعاء فقط
قلنا لما أمكن رجوعه إليهما جميعاً لم يجز قصره على أحدهما خصوصاً مع قوله مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ فإنه يعم كل ما يسمى ديناً
إذا ثبت هذا فنقول قوله عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ اختلفوا في أن المراد منه زمان الصلاة أو مكانه والأقرب هو الأول لأنه الموضع الذي يمكن فيه إقامة الوجه للقبلة فكأنه تعالى بين لنا أن لا نعتبر الأماكن بل نعتبر القبلة فكان المعنى وجهوا وجوهكم حيثما كنتم في الصلاة إلى الكعبة وقال ابن عباس المراد إذا حضرت الصلاة وأنتم عند مسجد فصلوا فيه ولا يقولن أحدكم لاأصلي إلا في مسجد قومي
ولقائل أن يقول حمل لفظ الآية على هذا بعيد لأن لفظ الآية يدل على وجوب إقامة الوجه في كل مسجد ولا يدل على أنه لا يجوز له العدول من مسجد إلى مسجد
وأما قوله وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ فاعلم أنه تعالى لما أمر في الآية الأولى بالتوجه إلى القبلة أمر بعده بالدعاء والأظهر عندي أن المراد به أعمال الصلاة وسماها دعاء لأن الصلاة في أصل اللغة عبارة عن الدعاء ولأن أشرف أجزاء الصلاة هو الدعاء والذكر وبين أنه يجب أن يؤتى بذلك الدعاء مع

الإخلاص ونطيره قوله تعالى وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ ( البينة 5 ) ثم قال تعالى كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ وفيه قولان
القول الأول قال ابن عباس كَمَا بَدَأَكُمْ خلقكم مؤمناً أو كافراً تَعُودُونَ فبعث المؤمن مؤمناً والكافر كافراً فإن من خلقه الله في أول الأمر للشقاوة أعمله بعمل أهل الشقاوة وكانت عاقبته الشقاوة وان خلقه للسعادة أعمله بعمل أهل السعادة وكانت عاقبته السعادة
والقول الثاني قال الحسن ومجاهد كَمَا بَدَأَكُمْ خلقكم في الدنيا ولم تكونوا شيئاً كذلك تعودون أحياء فالقائلون بالقول الأول احتجوا على صحته بأنه تعالى ذكر عقيبه قوله فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَة ُ وهذا يجري مجرى التفسير لقوله كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ وذلك يوجب ما قلناه قال القاضي هذا القول باطل لأن أحداً لا يقول إنه تعالى بدأنا مؤمنين أو كافرين لأنه لا بد في الإيمان والكفر أن يكون طارئاً وهذا السؤال ضعيف لأن جوابه أن يقال كما بدأكم بالإيمان والكفر والسعادة والشقاوة فكذلك يكون الحال عليه يوم القيامة واعلم أنه تعالى أمر في الآية أولاً بكلمة ( القسط ) وهي كلمة لا إله إلا الله ثم أمر بالصلاة ثانياً ثم بين أن الفائدة في الإتيان بهذه الأعمال إنما تظهر في الدار الآخرة ونظيره قوله عالى في ( طه ) لموسى عليه السلام إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ لا إله إِلا أَنَاْ فَاعْبُدْنِى وَأَقِمِ الصَّلَواة َ لِذِكْرِى إِنَّ السَّاعَة َ ءاتِيَة ٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا ( طه 14 15 )
ثم قال تعالى فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَة ُ وفيه بحثان
البحث الأول احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الهدى والضلال من الله تعالى قالت المعتزلة المراد فريقاً هدى إلى الجنة والثواب وفريقاً حق عليهم الضلالة أي العذاب والصرف عن طريق الثواب قال القاضي لأن هذا هو الذي يحق عليهم دون غيرهم إذ العبد لا يستحق لأن يضل عن الدين إذ لو استحق ذلك لجاز أن يأمر أنبياءه بإضلالهم عن الدين كما أمرهم بإقامة الحدود المستحقة وفي ذلك زوال الثقة بالنبوات
واعلم أن هذا الجواب ضعيف من وجهين الأول أن قوله فَرِيقًا هَدَى إشارة إلى الماضي وعلى التأويل الذي يذكرونه يصير المعنى إلى أنه تعالى سيهديهم في المستقبل ولو كان المراد أنه تعالى حكم في الماضي بأنه سيهديهم إلى الجنة كان هذا عدولاً عن الظاهر من غير حاجة لأنا بينا بالدلائل العقلية القاطعة أن الهدى والضلال ليسا إلا من الله تعالى والثاني نقول هب أن المراد من الهداية والضلال حكم الله تعالى بذلك إلا أنه لما حصل هذا الحكم امتنع من العبد صدور غيره وإلا لزم انقلاب ذلك الحكم كذباً والكذب على الله محال والمفضي إلى المحال محال فكان صدور غير ذلك الفعل من العبد محالاً وذلك يوجب فساد مذهب المعتزلة من هذا الوجه والله أعلم
البحث الثاني انتصاب قوله وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَة ُ بفعل يفسره ما بعده كأنه قيل وخذل فريقاً حق عليهم الضلالة ثم بين تعالى أن الذي لأجله حقت على هذه الفرقة الضلالة هو أنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله فقبلوا ما دعوهم إليه ولم يتأملوا في التمييز بين الحق والباطل

فإن قيل كيف يستقيم هذا التفصيل مع قولكم بأن الهدى والضلال إنما يحصل بخلق الله تعالى ابتداء فنقول عندنا مجموع القدرة والداعي يوجب الفعل والداعية التي دعتهم إلى ذلك الفعل هي أنهم اتخذوا الشيطان أولياء من دون الله
ثم قال تعالى وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ قال ابن عباس يريد ما بين لهم عمرو بن لحي وهذا بعيد بل هو محمول على عمومه فكل من شرع في باطل فهو يستحق الذم والعذاب سواء حسب كونه حقاً أو لم يحسب ذلك وهذا الآية تدل على أن مجرد الظن والحسبان لا يكفي في صحة الدين بل لا بد فيه من الجزم والقطع واليقين لأنه تعالى عاب الكفار بأنهم يحسبون كونهم مهتدين ولولا أن هذا الحسبان مذموم وإلا لما ذمهم بذلك والله أعلم
يَابَنِى ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَة َ اللَّهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِى لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا خَالِصَة ً يَوْمَ الْقِيَامَة ِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
اعلم أن الله تعالى لما أمر بالقسط في الآية الأولى وكان من جملة القسط أمر اللباس وأمر المأكول والمشروب لا جرم أتبعه بذكرهما وأيضاً لما أمر بإقامة الصلاة في قوله وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ ( الأعراف 29 ) وكان ستر العورة شرطاً لصحة الصلاة لا جرم أتبعه بذكر اللباس وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس أن أهل الجاهلية من قبائل العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة الرجال بالنهار والنساء بالليل وكانوا إذا وصلوا إلى مسجد منى طرحوا ثيابهم وأتوا المسجد عراة وقالوا لا نطوف في ثياب أصبنا فيها الذنوب ومنهم من يقول نفعل ذلك تفاؤلاً حتى نتعرى عن الذنوب كما تعرينا عن الثياب وكانت المرأة منهم تتخذ ستراً تعلقه على حقويها لتستتر به عن الحمس وهم قريش فإنهم كانوا لا يفعلون ذلك وكانوا يصلون في ثيابهم ولا يأكلون من الطعام إلا قوتاً ولا يأكلون دسماً فقال المسلمون يا رسول الله فنحن أحق أن نفعل ذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية أي ( البسوا ثيابكم وكلوا اللحم والدسم واشربوا ولا تسرفوا )
المسألة الثانية المراد من الزينة لبس الثياب والدليل عليه قوله تعالى وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ ( النور 31 ) يعني الثياب وأيضاً فالزينة لا تحصل إلا بالستر التام للعورات ولذلك صار التزيين بأجود الثياب في الجمع والأعياد سنة وأيضاً أنه تعالى قال في الآية المتقدمة قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوارِى سَوْءتِكُمْ وَرِيشًا

فبين أن اللباس الذي يواري السوأة من قبيل الرياش والزينة ثم إنه تعالى أمر بأخذ الزينة في هذه الآية فوجب أن يكون المراد من هذه الزينة هو الذي تقدم ذكره في تلك الآية فوجب حمل هذه الزينة على ستر العورة وأيضاً فقد أجمع المفسرون على أن المراد بالزينة ههنا لبس الثوب الذي يستر العورة وأيضاً فقوله خُذُواْ زِينَتَكُمْ أمر والأمر للوجوب فثبت أن أخذ الزينة واجب وكل ما سوى اللبس فغير واجب فوجب حمل الزينة على اللبس عملاً بالنص بقدر الإمكان
إذا عرفت هذا فنقول قوله خُذُواْ زِينَتَكُمْ أمر وظاهر الأمر للوجوب فهذا يدل على وجوب ستر العورة عنه إقامة كل صلاة وههنا سؤالان
السؤال الأول إنه تعالى عطف عليه قوله وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ ولا شك أن ذلك أمر إباحة فوجب أن يكون قوله خُذُواْ زِينَتَكُمْ أمر إباحة أيضاً
وجوابه أنه لا يلزم من ترك الظاهر في المعطوف تركه في المعطوف عليه وأيضاً فالأكل والشرب قد يكونان واجبين أيضاً في الحكم
السؤال الثاني أن هذه الآية نزلت في المنع من الطواف حال العري
والجواب أنا بينا في أصول الفقه أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب
إذا عرفت هذا فنقول قوله خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ يقتضي وجوب اللبس التام عند كل صلاة لأن اللبس التام هو الزينة ترك العمل به في القدر الذي لا يجب ستره من الأعضاء إجماعاً فبقي الباقي داخلاً تحت اللفظ وإذا ثبت أن ستر العورة واجب في الصلاة وجب أن تفسد الصلاة عند تركه لأن تركه يوجب ترك المأمور به وترك المأمور به معصية والمعصية توجب العقاب على ما شرحنا هذه الطريقة في الأصول
المسألة الثالثة تمسك أصحاب أبي حنيفة بهذه الآية في مسألة إزالة النجاسة بماء الورد فقالوا أمرنا بالصلاة في قوله وَأَنْ أَقِيمُواْ ( يونس 87 ) والصلاة عبارة عن الدعاء وقد أتى بها والإتيان بالمأمور به يوجب الخروج عن العهدة فمقتضى هذا الدليل أن لا تتوقف صحة الصلاة على ستر العورة إلا أنا أوجبنا هذا المعنى عملاً بقوله تعالى خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ ولبس الثوب المغسول بماء الورد على أقصى وجوه النظافة أخذ الزينة فوجب أن يكون كافياً في صحة الصلاة
وجوابنا أن الألف واللام في قوله وَأَنْ أَقِيمُواْ ينصرفان إلى المعهود السابق وذلك هو عمل الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لم قلتم أن الرسول عليه الصلاة والسلام صلى في الثوب المغسول بماء الورد والله أعلم
أما قوله تعالى وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ فاعلم أنا ذكرنا أن أهل الجاهلية كانوا لا يأكلون من الطعام في أيام حجهم إلا القليل وكانوا لا يأكلون الدسم يعظمون بذلك حجهم فأنزل الله تعالى هذه الآية لبيان فساد تلك الطريقة
والقول الثاني أنهم كانوا يقولون أن الله تعالى حرم عليهم شيئاً مما في بطون الأنعام فحرم عليهم البحيرة والسائبة فأنزل الله تعالى هذه الآية بياناً لفساد قولهم في هذا الباب

واعلم أن قوله وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ مطلق يتناول الأوقات والأحوال ويتناول جميع المطعومات والمشروبات فوجب أن يكون الأصل فيها هو الحل في كل الأوقات وفي كل المطعومات والمشروبات إلا ما خصه الدليل المنفصل والعقل أيضاً مؤكد له لأن الأصل في المنافع الحل والإباحة
وأما قوله تعالى وَلاَ تُسْرِفُواْ ففيه قولان
القول الأول أن يأكل ويشرب بحيث لا يتعدى إلى الحرام ولا يكثر الإنفاق المستقبح ولا يتناول مقداراً كثيراً يضره ولا يحتاج إليه
والقول الثاني وهو قول أبي بكر الأصم أن المراد من الإسراف قولهم بتحريم البحيرة والسائبة فإنهم أخرجوها عن ملكهم وتركوا الانتفاع بها وأيضاً أنهم حرموا على أنفسهم في وقت الحج أيضاً أشياء أحلها الله تعالى لهم وذلك إسراف
واعلم أن حمل لفظ الإسراف على الاستكثار مما لا ينبغي أولى من حمله على المنع من لا يجوز وينبغي
ثم قال تعالى إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ وهذا نهاية التهديد لأن كل ما لا يحبه الله تعالى بقي محروماً عن الثواب لأن معنى محبة الله تعالى العبد أيصاله الثواب إليه فعدم هذه المحبة عبارة عن عدم حصول الثواب ومتى لم يحصل الثواب فقد حصل العقاب لانعقاد الإجماع على أنه ليس في الوجود مكلف لا يثاب ولا يعاقب
ثم قال تعالى قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَة َ اللَّهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرّزْقِ وفيه مسائل
المسألة الأولى أن هذه الآية ظاهرها استفهام إلا أن المراد منه تقرير الإنكار والمبالغة في تقرير ذلك الإنكار وفي الآية قولان
القول الأول أن المراد من الزينة في هذه الآية اللباس الذي تستر به العورة وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما وكثير من المفسرين
والقول الثاني أنه يتناول جميع أنواع الزينة فيدخل تحت الزينة جميع أنواع التزيين ويدخل تحتها تنظيف البدن من جميع الوجوه ويدخل تحتها المركوب ويدخل تحتها أيضاً أنواع الحلي لأن كل ذلك زينة ولولا النص الوارد في تحريم الذهب والفضة والإبريسم على الرجال لكان ذلك داخلاً تحت هذا العموم ويدخل تحت الطيبات من الرزق كل ما يستلذ ويشتهي من أنواع المأكولات والمشروبات ويدخل أيضاً تحته التمتع بالنساء وبالطيب وروي عن عثمان بن مظعون أنه أتى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وقال غلبني حديث النفس عزمت على أن أختصي فقال ( مهلاً يا عثمان إن خصاء أمتي الصيام ) قال فإن نفسي تحدثني بالترهب قال ( إن ترهب أمتي القعود في المساجد لانتظار الصلاة فقال تحدثني نفسي بالسياحة ) فقال ( سياحة أمتي الغزو والحج والعمرة ) فقال إن نفسي تحدثني أن أخرج مما أملك فقال ( الأولى أن تكفي نفسك وعيالك وأن ترحم اليتيم والمسكين فتعطيه أفضل من ذلك ) فقال إن نفسي تحدثني أن أطلق خولة فقال ( إن الهجرة في أمتي هجرة ما حرم الله ) قال فإن نفسي تحدثني أن لا أغشاها قال ( إن المسلم

إذا غشى أهله أو ما ملكت يمينه فإن لم يصب من وقعته تلك ولداً كان له وصيف في الجنة وإذا كان له ولد مات قبله أو بعده كان له قرة عين وفرح يوم القيامة وإن مات قبل أن يبلغ الحنث كان له شفيعاً ورحمة يوم القيامة ) قال فإن نفسي تحدثني أن لا آكل اللحم قال ( مهلاً إني آكل اللحم إذا وجدته ولو سألت الله أن يطعمنيه كل يوم فعله ) قال فإن نفسي تحدثني أن لا أمس الطيب قال ( مهلاً فإن جبريل أمرني بالطيب غباً وقال لا تتركه يوم الجمعة ) ثم قال ( يا عثمان لا ترغب عن سنتي فإن من رغب عن سنتي ومات قبل أن يتوب صرفت الملائكة وجهه عن حوضي )
واعلم أن هذا الحديث يدل على أن هذه الشريعة الكاملة تدل على أن جميع أنواع الزينة مباح مأذون فيه إلا ما خصه الدليل فلهذا السبب أدخلنا الكل تحت قوله قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَة َ اللَّهِ
المسألة الثانية مقتضى هذه الآية أن كل ما تزين الإنسان به وجب أن يكون حلالاً وكذلك كل ما يستطاب وجب أن يكون حلالاً فهذه الآية تقتضي حل كل المنافع وهذا أصل معتبر في كل الشريعة لأن كل واقعة تقع فإما أن يكون النفع فيها خالصاً أو راجحاً أو الضرر يكون خالصاً أو راجحاً أو يتساوى الضرر والنفع أو يرتفعا أما القسمان الأخيران وهو أن يتعادل الضرر والنفع أو لم يوجدا قط ففي هاتين الصورتين وجب الحكم ببقاء ما كان على ما كان وإن كان النفع خالصاً وجب الإطلاق بمقتضى هذه الآية وإن كان النفع راجحاً والضرر مرجوحاً يقابل المثل بالمثل ويبقى القدر الزائد نفعاً خالصاً فيلتحق بالقسم الذي يكون النفع فيه خالصاً وإن كان الضرر خالصاً كان تركه خالص النفع فيلتحق بالقسم المتقدم وإن كان الضرر راجحاً بقي القدر الزائد ضرراً خالصاً فكان تركه نفعاً خالصاً فبهذا الطريق صارت هذه الآية دالة على الأحكام التي لا نهاية لها في الحل والحرمة ثم إن وجدنا نصاً خالصاً في الواقعة قضينا في النفع بالحل وفي الضرر بالحرمة وبهذا الطريق صار جميع الأحكام التي لا نهاية لها داخلاً تحت النص ثم قال نفاة القياس فلو تعبدنا الله تعالى بالقياس لكان حكم ذلك القياس إما أن يكون موافقاً لحكم هذا النص العام وحينئذ يكون ضائعاً لأن هذا النص مستقل به وإن كان مخالفاً كان ذلك القياس مخصصاً لعموم هذا النص فيكون مردوداً لأن العمل بالنص أولى من العمل بالقياس قالوا وبهذا الطريق يكون القرآن وحده وافياً ببيان كل أحكام الشريعة ولا حاجة معه إلى طريق آخر فهذا تقرير قول من يقول القرآن واف ببيان جميع الوقائع والله أعلم
وأما قوله تعالى قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَة َ اللَّهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ ففيه مسألتان
المسألة الأولى تفسير الآية هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا غير خالصة لهم لأن المشركين شركاؤهم فيها خالصة يوم القيامة لا يشركهم فيها أحد
فإن قيل هلا قيل للذين آمنوا ولغيرهم
قلنا فهم منه التنبيه على أنها خلقت للذين آمنوا على طريق الأصالة وأن الكفرة تبع لهم كقوله تعالى وَمَن كَفَرَ فَأُمَتّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ ( البقرة 126 ) والحاصل أن ذلك تنبيه على أن هذه النعم إنما تصفوا عن شوائب الرحمة يوم القيامة أما في الدنيا فإنها تكون مكدرة مشوبة

المسألة الثانية قرأ نافع خَالِصَة ٌ بالرفع والباقون بالنصب قال الزجاج الرفع على أنه خبر بعد خبر كما تقول زيد عاقل لبيب والمعنى قل هي ثابتة للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة قال أبو علي ويجوز أن يكون قوله خَالِصَة ٌ خبر المبتدأ وقوله لِلَّذِينَ ءامَنُواْ متعلقاً بخالصة والتقدير هي خالصة للذين آمنوا في الحياة الدنيا وأما القراءة بالنصب فعلى الحال والمعنى أنها ثابتة للذين آمنوا في حال كونها خالصة لهم يوم القيامة
ثم قال تعالى كَذَلِكَ نُفَصِلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ومعنى تفصيل الآيات قد سبق وقوله لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي لقوم يمكنهم النظر به والاستدلال حتى يتوصلوا به إلى تحصيل العلوم النظرية والله أعلم
قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْى َ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
في الآية مسألتان
المسألة الأولى أسكن حمزة الياء من رَبّى والباقون فتحوها
المسألة الثانية اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أن الذي حرموه ليس بحرام بين في هذه الآية أنواع المحرمات فحرم أولاً الفواحش وثانياً الإثم واختلفوا في الفرق بينهما على وجوه الأول أن الفواحش عبارة عن الكبائر لأنه قد تفاحش قبحها أي تزايد والإثم عبارة عن الصغائر فكان معنى الآية أنه حرم الكبائر والصغائر وطعن القاضي فيه فقال هذا يقتضي أن يقال الزنا والسرقة والكفر ليس بإثم وهو بعيد
القول الثاني أن الفاحشة اسم لا يجب فيه الحد والإثم اسم لما يجب فيه الحد وهذا وإن كان مغايراً للأول إلا أنه قريب منه والسؤال فيه ما تقدم
والقول الثالث أن الفاحشة اسم للكبيرة والإثم اسم لمطلق الذنب سواء كان كبيراً أو صغيراً والفائدة فيه أنه تعالى لما حرم الكبيرة أردفها بتحريم مطلق الذنب لئلا يتوهم أن التحريم مقصود على الكبيرة وعلى هذا القول اختيار القاضي
والقول الرابع أن الفاحشة وإن كانت بحسب أصل اللغة اسماً لكل ما تفاحش وتزايد في أمر من الأمور إلا أنه في العرف مخصوص بالزيادة والدليل عليه أنه تعالى قال في الزنا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَة ً ( النساء 22 ) ولأن لفظ الفاحشة إذا أطلق لم يفهم منه إلا ذلك وإذا قيل فلان فحاش فهم أنه يشتم الناس بألفاط الوقاع فوجب حمل لفظ الفاحشة على الزنا فقط

إذا ثبت هذا فنقول في قوله مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ على هذا التفسير وجهان الأول يريد سر الزنا وهو الذي يقع على سبيل العشق والمحبة وما ظهر منها بأن يقع علانية والثاني أن يراد بما ظهر من الزنا الملامسة والمعانقة وَمَا بَطَنَ الدخول وأما الإثم فيجب تخصيصه بالخمر لأنه تعالى قال في صفة الخمر وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ( البقرة 219 ) وبهذا التقدير فإنه يظهر الفرق بين اللفظين
النوع الثالث من المحرمات قوله وَالْبَغْى َ بِغَيْرِ الْحَقّ فنقول أما الذين قالوا المراد بالفواحش جميع الكبائر وبالإثم جميع الذنوب قالوا إن البغي والشرك لا بد وأن يكونا داخلين تحت الفواحش وتحت الإثم إلا أن الله تعالى خصهما بالذكر تنبيهاً على أنهما أقبح أنواع الذنوب كما في قوله وَمَلئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ( البقرة 98 ) وفي قوله وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيّيْنَ مِيثَاقَهُمْ ( الأحزاب 7 ) ومنك ومن نوح وأما الذين قالوا الفاحشة مخصوصة بالزنا والإثم بالخمر قالوا البغي والشرك على هذا التقرير غير داخلين تحت الفواحش والإثم فنقول البغي لا يستعمل إلا في الإقدام على الغير نفساً أو مالاً أو عرضاً وأيضاً قد يراد بالبغي الخروج على سلطان الوقت
فإن قيل البغي لا يكون إلا بغير الحق فما الفائدة في ذكر هذا الشرط
قلنا أنه مثل قوله تعالى وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ ( الإسراء 33 ) والمعنى لا تقدموا على إيذاء الناس بالقتل والقهر إلا أن يكون لكم فيه حق فحينئذ يخرج من أن يكون بغياً
والنوع الرابع من المحرمات قوله تعالى وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَاناً وفيه سؤال وهو أن هذا يوهم أن في الشرك بالله ما قد أنزل به سلطاناً وجوابه المراد منه أن الإقرار بالشيء الذي ليس على ثبوته حجة ولا سلطان ممتنع فلما امتنع حصول الحجة والتنبيه على صحة القول بالشرك فوجب أن يكون القول به باطلاً على الإطلاق وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن القول بالتقليد باطل
والنوع الخامس من المحرمات المذكورة في هذه الآية قوله تعالى وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وقد سبق تفسير هذه الآية في هذه السورة عند قوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ( الأعراف 28 ) وبقي في الآية سؤالان
السؤال الأول كلمة ( إنما ) تفيد الحصر فقوله إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ كذا وكذا يفيد الحصر والمحرمات غير محصورة في هذه الأشياء
والجواب إن قلنا الفاحشة محمولة على مطلق الكبائر والإثم على مطلق الذنب دخل كل الذنوب فيه وإن حملنا الفاحشة على الزنا والإثم على الخمر
قلنا الجنايات محصورة في خمسة أنواع أحدها الجنايات على الأنساب وهي إنما تحصل بالزنا وهي المراد بقوله إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ الْفَواحِشَ وثانيها الجنايات على العقول وهي شرب الخمر وإليها الإشارة بقوله الإِثْمِ وثالثها الجنايات على الأعراض ورابعها الجنايات على النفوس وعلى الأموال وإليهما الإشارة بقوله وَالْبَغْى َ بِغَيْرِ الْحَقّ وخامسها الجنايات على الأديان وهي من وجهين أحدها الطعن في توحيد الله تعالى وإليه الإشارة بقوله وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ

وثانيها القول في دين الله من غير معرفة وإليه الإشارة بقوله وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ فلما كانت أصول الجنايات هي هذه الأشياء وكانت البواقي كالفروع والتوابع لا جرم جعل تعالى ذكرها جارياً مجرى ذكر الكل فأدخل فيها كلمة ( إنما ) المفيدة للحصر
السؤال الثاني الفاحشة والإثم هو الذي نهى الله عنه فصار تقدير الآية إنما حرم ربي المحرمات وهو كلام خال عن الفائدة والجواب كون الفعل فاحشة هو عبارة عن اشتماله في ذاته على أمور باعتبارها يجب النهي عنه وعلى هذا التقدير فيسقط السؤال والله أعلم
وَلِكُلِّ أُمَّة ٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَة ً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى لما بين الحلال والحرام وأحوال التكليف بين أن لكل أحد أجلاً معيناً لا يتقدم ولا يتأخر وإذا جاء ذلك الأجل مات لا محالة والغرض منه التخويف ليتشدد المرء في القيام بالتكاليف كما ينبغي
المسألة الثانية اعلم أن الأجل هو الوقت الموقت المضروب لانقضاء المهلة وفي هذه الآية قولان
القول الأول وهو قول ابن عباس والحسن ومقاتل أن المعنى أن الله تعالى أمهل كل أمة كذبت رسولها إلى وقت معين وهو تعالى لا يعذبهم إلى أن ينظروا ذلك الوقت الذي يصيرون فيه مستحقين لعذاب الاستئصال فإذا جاء ذلك الوقت نزل ذلك العذاب لا محالة
والقول الثاني أن المراد بهذا الأجل العمر فإذا انقطع ذلك الأجل وكمل امتنع وقوع التقديم والتأخير فيه والقول الأول أولى لأنه تعالى قال وَلِكُلّ أُمَّة ٍ ولم يقل ولكل أحد أجل وعلى القول الثاني إنما قال وَلِكُلّ أُمَّة ٍ ولم يقل لكل أحد لأن الأمة هي الجماعة في كل زمان ومعلوم من حالها التقارب في الأجل لأن ذكر الأمة فيما يجري مجرى الوعيد أفحم وأيضاً فالقول الأول يقتضي أن يكون لكل أمة من الأمم وقت معين في نزول عذاب الاستئصال عليهم وليس الأمر كذلك لأن أمتنا ليست كذلك
المسألة الثالثة إذا حملنا الآية على القول الثاني لزم أن يكون لكل أحد أجل لا يقع فيه التقديم والتأخير فيكون المقتول ميتاً بأجله وليس المراد منه أنه تعالى لا يقدر على تبقيته أزيد من ذلك ولا أنقص ولا يقدر على أن يميته في ذلك الوقت لأن هذايقتضي خروجه تعالى عن كونه قادراً مختاراً وصيرورته كالموجب لذاته وذلك في حق الله تعالى ممتنع بل المراد أنه تعالى أخبر أن الأمر يقع على هذا الوجه
المسألة الرابعة قوله تعالى لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَة ً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ المراد أنه لا يتأخر عن ذلك الأجل

المعين لا بساعة ولا بما هو أقل من ساعة إلا أنه تعالى ذكر الساعة لأن هذا اللفظ أقل أسماء الأوقات
فإن قيل ما معنى قوله وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ فإن عند حضور الأجل امتنع عقلاً وقوع ذلك الأجل في الوقت المتقدم عليه
قلنا يحمل قوله فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ على قرب حضور الأجل تقول العرب جاء الشتاء إذا قارب وقته ومع مقاربة الأجل يصح التقدم على ذلك تارة والتأخر عنه أخرى
يَابَنِى آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ ءَايَاتِى فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِأايَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَآ أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين أحوال التكليف وبين أن لكل أحد أجلاً معيناً لا يتقدم ولا يتأخر بين أنهم بعد الموت كانوا مطيعين فلا خوف عليهم ولا حزن وإن كانوا متمردين وقعوا في أشد العذاب وقوله إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ هي أن الشرطية ضمت إليها ما مؤكدة لمعنى الشرط ولذلك لزمت فعلها النون الثقيلة وجزاء هذا الشرط هو الفاء وما بعده من الشرط والجزاء وهو قوله فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ وإنما قال رسل وإن كان خطاباً للرسول عليه الصلاة والسلام وهو خاتم الأنبياء عليه وعليهم السلام لأنه تعالى أجرى الكلام على ما يقتضيه سنته في الأمم وإنما قال مّنكُمْ لأن كون الرسول منهم أقطع لعذرهم وأبين للحجة عليهم من جهات أحدها أن معرفتهم بأحواله وبطهارته تكون متقدمة وثانيها أن معرفتهم بما يليق بقدرته تكون متقدمة فلا جرم لا يقع في المعجزات التي تظهر عليه شك وشبهة في أنها حصلت بقدرة الله تعالى لا بقدرته فلهذا السبب قال تعالى وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً ( الأنعام 9 ) وثالثها ما يحصل من الألفة وسكون القلب إلى أبناء الجنس بخلاف ما لا يكون من الجنس فإنه لا يحصل معه الألفة
وأما قوله يَقُصُّونَ عَلِيمٌ ءايَاتِي فقيل تلك الآيات هي القرآن وقيل الدلائل وقيل الأحكام والشرائع والأولى دخول الكل فيه لأن جميع هذه الاْشياء آيات الله تعالى لأن الرسل إذا جاؤا فلا بد وأن يذكروا جميع هذه الأقسام ثم قسم تعالى حال الأمة فقال فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ وجمع هاتين الحالتين مما يوجب الثواب لأن الملتقي هو الذي يتقي كل ما نهى الله تعالى عنه ودخل في قوله وَأَصْلَحَ أنه أتي بكل ما أمر به
ثم قال تعالى في صفته فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ أي بسبب الأحوال المستقبلة وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ أي بسبب الأحوال الماضية لأن الإنسان إذا جوز وصول المضرة إليه في الزمان المستقبل خاف وإذا تفكر فعلم

أنه وصل إليه بعض ما لا ينبغي في الزمان الماضي حصل الحزن في قلبه لهذا السبب والأولى في نفي الحزن أن يكون المراد أن لا يحزن على ما فاته في الدنيا لأن حزنه على عقاب الآخرة يجب أن يرتفع بما حصل له من زوال الخوف فيكون كالمعاد وحمله على الفائدة الزائدة أولى فبين تعالى أن حاله في الآخرة تفارق حاله في الدنيا فإنه في الآخرة لا يحصل في قلبه خوف ولا حزن ألبتة واختلف العلماء في أن المؤمنين من أهل الطاعات هل يلحقهم خوف وحزن عند أهوال يوم القيامة فذهب بعضهم إلا أنه لا يلحقهم ذلك والدليل عليه هذه الآية وأيضاً قوله تعالى لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاْكْبَرُ ( الأنبياء 103 ) وذهب بعضهم إلى أن يلحقهم ذلك الفزع لقوله تعالى يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَة ٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى ( الحج 2 ) أي من شدة الخوف
وأجاب هؤلاء عن هذه الآية بأن معناه أن أمرهم يؤل إلى الأمن والسرور كقول الطبيب للمريض لا بأس عليك أي أمرك يؤل إلى العافية والسلامة وإن كان في الوقت في بأس من علته ثم بين تعالى أن الذين كذبوا بهذه الآيات التي يجيء بها الرسل وَاسْتَكْبَرُواْ أن أنفوا من قبولها وتمردوا عن التزامها فَأُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وقد تمسك أصحابنا بهذه الآية على أن الفاسق من أهل الصلاة لا يبقى مخلداً في النار لأنه تعالى بين أن المكذبين بآيات الله والمستكبرين عن قبولها هم الذين يبقون مخلدين في النار وكلمة هُمْ تفيد الحصر فذلك يقتضي أن من لا يكون موصوفاً بذلك التكذيب والاستكبار لا يبقى مخلداً في النار والله أعلم
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِأايَاتِهِ أُوْلَائِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ
اعلم أن قوله تعالى فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِئَايَاتِهِ يرجع إلى قوله والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها وقوله فَمَنْ أَظْلَمُ أي فمن أعظم ظلماً ممن يقول على الله مالم يقله أو كذب ما قاله والأول هو الحكم بوجود ما لم يوجد والثاني هو الحكم بإنكار ما وجد والأول دخل فيه قول من أثبت الشريك لله سواء كان ذلك الشريك عبارة عن الأصنام أو عن الكواكب أو عن مذهب القائلين بيزدان وأهرمن ويدخل فيه قول من أثبت البنات والبنين لله تعالى ويدخل فيه قول من أضاف الأحكام الباطلة إلى الله تعالى والثاني يدخل فيه قول من أنكر كون القرآن كتاباً نازلاً من عند الله تعالى وقول من أنكر نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم )

ثم قال تعالى أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مّنَ الْكِتَابِ واختلفوا في المراد بذلك النصيب على قولين أحدهما أن المراد منه العذاب والمعنى ينالهم ذلك العذاب المعين الذي جعله نصيباً لهم في الكتاب ثم اختلفوا في ذلك العذاب المعين فقال بعضهم هو سواد الوجه وزرقة العين والدليل عليه قوله تعالى وَيَوْمَ الْقِيَامَة ِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّة ٌ ( الزمر 60 ) وقال الزجاج هو المذكور في قوله تعالى فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى ( الليل 14 ) وفي قوله يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً ( الجن 17 ) وفي قوله إِذِ الاْغْلَالُ فِى أَعْنَاقِهِمْ والسَّلَاسِلُ ( غافر 71 ) فهذه الأشياء هي نصيبهم من الكتاب على قدر ذنوبهم في كفرهم
والقول الثاني أن المراد من هذا النصيب شيء سوى العذاب واختلعوا فيه فقيل هم اليهود والنصارى يجب لهم علينا إذا كانوا أهل ذمة لنا أن لا تتعدى عليهم وأن ننصفهم وأن نذب عنهم فذلك هو معنى النصيب من الكتاب وقال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب أي ما سبق لهم في حكم الله وفي مشيئته من الشقاوة والسعادة فإن قضى الله لهم بالختم على الشقاوة أبقاهم على كفرهم وإن قضى لهم بالختم على السعادة نقلهم إلى الإيمان والتوحيد وقال الربيع وابن زيد يعني ما كتب لهم من الأرزاق والأعمال والأعمار فإذا فنيت وانقرضت وفرغوا منها جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ واعلم أن هذا الاختلاف إنما حصل لأنه تعالى قال أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مّنَ الْكِتَابِ ولفظ ( النصيب ) مجمل محتمل لكل الوجوه المذكورة وقال بعض المحققين حمله على العمر والرزق أولى لأنه تعالى بين أنهم وإن بلغوا في الكفر ذلك المبلغ العظيم إلا أن ذلك ليس بمانع من أن ينالهم ما كتب لهم من رزق وعمر تفضلاً من الله تعالى لكي يصلحوا ويتوبوا وأيضاً فقوله حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ يدل على أن مجيء الرسل للتوفي كالغاية لحصول ذلك النصيب فوجب أن يكون حصول ذلك النصيب متقدماً على حصول الوفاة والمتقدم على حصول الوفاة ليس إلا العمر والرزق
أما قوله حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُواْ أَيْنَمَا كُنتُمْ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال الخليل وسيبويه لا يجوز إمالة ( حتى ) و ( ألا ) و ( أما ) وهذه ألفات ألزمت الفتح لأنها أواخر حروف جاءت لمعان يفصل بينها وبين أواخر الأسماء التي فيها الألف نحو حبلى وهدى إلا أن حَتَّى كتبت بالياء لأنها على أربعة أحرف فأشبهت سكرى وقال بعض النحويين لا يجوز إمالة حَتَّى لأنها حرف لا يتصرف والإمالة ضرب من التصرف
المسألة الثانية قوله حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ فيه قولان
القول الأول المراد هو قبض الأرواح لأن لفظ الوفاة يفيد هذا المعنى قال ابن عباس الموت قيامة الكافر فالملائكة يطالبونهم بهذه الأشياء عند الموت على سبيل الزجر والتوبيخ والتهديد وهؤلاء الرسل هم ملك الموت وأعوانه
والقول الثاني وهو قول الحسن وأحد قولي الزجاج أن هذا لا يكون في الآخرة ومعنى قوله حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا أي ملائكة العذاب يَتَوَفَّوْنَهُمْ أي يتوفون مدتهم عند حشرهم إلى النار على معنى أنهم يستكملون عدتهم حتى لا ينفلت منهم أحد

المسألة الثالثة قوله أَيْنَمَا كُنتُمْ معناه أين الشركاء الذين كنتم تدعونهم وتعبدونهم من دون الله ولفظة ( ما ) وقعت موصولة بأين في خط المصحف قال صاحب ( الكشاف ) وكان حقها أن تفصل لأنها موصولة بمعنى أين الآلهة الذين تدعون
ثم إنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا ضَلُّواْ عَنَّا أي بطلوا وذهبوا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين عند معاينة الموت
واعلم أن على جميع الوجوه فالمقصود من الآية زجر الكفار عن الكفر لأن التهويل يذكر هذه الأحوال مما يحمل العاقل على المبالغة في النظر والاستدلال والتسدد في الاحتراز عن التقليد
قَالَ ادْخُلُواْ فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنْسِ فِى النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّة ٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لاٍّ ولَاهُمْ رَبَّنَا هَاؤُلا ءِ أَضَلُّونَا فَأاتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَاكِن لاَّ تَعْلَمُونَ وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لاٌّ خْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ
اعلم أن هذه الآية من بقية شرح أحوال الكفار وهو أنه تعالى يدخلهم النار
أما قوله تعالى قَالَ ادْخُلُواْ ففيه قولان الأول إن الله تعالى يقول ذلك والثاني قال مقاتل هو من كلام خازن النار وهذا الاختلاف بناء على أنه تعالى هل يتكلم مع الكفار أم لا وقد ذكرنا هذه المسألة بالاستقصاء
أما قوله تعالى ادْخُلُواْ فِى أُمَمٍ ففيه وجهان
الوجه الأول التقدير ادخلوا في النار مع أمم وعلى هذا القول ففي الآية إضمار ومجاز أما الأضمار فلأنا أضمرنا فيها قولنا في النار وأما المجاز فلأنا حملنا كلمة ( في ) على ( مع ) لأنا قلنا معنى قوله فِى أُمَمٍ أي مع أمم
والوجه الثاني أن لا يلتزم الإضمار ولا يلتزم المجاز والتقدير ادخلوا في أمم في النار ومعنى الدخول في الأمم الدخول فيما بينهم وقوله قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مّن الْجِنّ وَالإِنْسِ أي تقدم زمانهم

زمانكم وهذا يشعر بأنه تعالى لا يدخل الكفار بأجمعهم في النار دفعة واحدة بل يدخل الفوج بعد الفوج فيكون فيهم سابق ومسبوق ليصح هذا القول ويشاهد الداخل من الأمة في النار من سبقها وقوله كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّة ٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا والمقصود أن أهل النار يلعن بعضهم بعضاً فيتبرأ بعضهم من بعض كما قال تعالى الاْخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ ( الزخرف 67 ) والمراد بقوله أُخْتَهَا أي في الدين والمعنى أن المشركين يلعنون المشركين وكذلك اليهود تلعن اليهود والنصارى النصارى وكذا القول في المجوس والصابئة وسائر أديان الضلالة وقوله حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا أي تداركوا بمعنى تلاحقوا واجتمعوا في النار وأدرك بعضهم بعضاً واستقر معه قَالَتْ أُولَاهُمْ لاِخْرَاهُمْ وفيه مسألتان
المسألة الأولى في تفسير الأولى والأخرى قولان الأول قال مقاتل أخراهم يعني آخرهم دخولاً في النار لأولاهم دخولاً فيها والثاني أخراهم منزلة وهم الأتباع والسفلة لأولاهم منزلة وهم القادة والرؤساء
المسألة الثانية ( اللام ) في قوله لاِخْرَاهُمْ لام أجل والمعنى لأجلهم ولإضلالهم إياهم قَالُواْ رَبَّنَا هَؤُلآء أَضَلُّونَا ( الأعراف 38 ) وليس المراد أنهم ذكروا هذا القول لأولاهم لأنهم ما خاطبوا أولاهم وإنما خاطبوا الله تعالى بهذا الكلام
أما قوله تعالى رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فالمعنى أن الأتباع يقولون إن المتقدمين أضلونا واعلم أن هذا الإضلال يقع من المتقدمين للمتأخرين على وجهين أحدهما بالدعوة إلى الباطل وتزيينه في أعينهم والسعي في إخفاء الدلائل المبطلة لتلك الأباطيل
والوجه الثاني بأن يكون المتأخرون معظمين لأولئك المتقدمين فيقلدونهم في تلك الأباطيل والأضاليل التي لفقوها ويتأسون بهم فيصير ذلك تشبيهاً بإقدام أولئك المتقدمين على الإضلال
ثم حكى الله تعالى عن هؤلاء المتأخرين أنهم يدعون على أولئك المتقدمين بمزيد العذاب وهو قوله قَالَ ادْخُلُواْ فِى أُمَمٍ قَدْ وفي الضعف قولان
القول الأول قال أبو عبيدة ( الضعف ) هو مثل الشيء مرة واحدة وقال الشافعي رحمه الله ما يقارب هذا فقال في رجل أوصى فقال اعطوا فلاناً ضعف نصيب ولدي قال يعطي مثله مرتين
والقول الثاني قال الأزهري ( الضعف ) في كلام العرب المثل إلى ما زاد وليس بمقصور على المثلين وجائز في كلام العرب أن تقول هذا ضعفه أي مثلاه وثلاثة أمثاله لأن الضعف في الأصل زيادة غير محصورة والدليل عليه قوله تعالى فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضّعْفِ بِمَا عَمِلُواْ ( سبأ 37 ) ولم يرد به مثلاً ولا مثلين بل أولى الأشياء به أن يجعل عشرة أمثاله لقوله تعالى مَن جَاء بِالْحَسَنَة ِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ( الأنعام 160 ) فثبت أن أقل الضعف محصور وهو المثل وأكثره غير محصور إلى ما لا نهاية له
وأما مسألة الشافعي رحمه الله فاعلم أن التركة متعلقة بحقوق الورثة إلا أنا لأجل الوصية صرفنا طائفة منها إلى الموصى له والقدر المتيقن في الوصية هو المثل والباقي مشكوك فلا جرم أخذنا المتيقن وطرحنا المشكوك فلهذا السبب حملنا الضعف في تلك المسألة على المثلين

أما قوله تعالى قَالَ لِكُلّ ضِعْفٌ وَلَاكِن لاَّ تَعْلَمُونَ فيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ أبو بكر عن عاصم يَعْلَمُونَ بالياء على الكناية عن الغائب والمعنى ولكن لا يعلم كل فريق مقدار عذاب الفريق الآخر فيحمل الكلام على كل لأنه وإن كان للمخاطبين فهو اسم ظاهر موضوع للغيبة فحمل على اللفظ دون المعنى وأما الباقون فقرؤوا بالتاء على الخطاب والمعنى ولكن لا تعلمون أيها المخاطبون ما لكل فريق منكم من العذاب ويجوز ولكن لا تعلمون يا أهل الدنيا ما مقدار ذلك
المسألة الثانية لقائل أن يقول إن كان المراد من قوله لِكُلّ ضِعْفٌ أي حصل لكل أحد من العذاب ضعف ما يستحقه فذلك غير جائز لأنه ظلم وإن لم يكن المراد ذلك فما معنى كونه ضعفاً
والجواب أن عذاب الكفار يزيد فكل ألم يحصل فإنه يعقبه حصول ألم آخر إلى غير نهاية فكانت تلك الآلام متضاعفة متزايدة لا إلى آخر ثم بين تعالى أن أخراهم كما خاطبت أولاهم فكذلك تجيب أولاهم أخراهم فقال وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لاِخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ أي في ترك الكفر والضلال وإنا متشاركون في استحقاق العذاب
ولقائل أن يقول هذا منهم كذب لأنهم لكونهم رؤساء وسادة وقادة قد دعوا إلى الكفر وبالغوا في الترغيب فيه فكانوا ضالين ومضلين وأما الأتباع والسفلة فهم وإن كانوا ضالين إلا أنهم ما كانوا مضلين فبطل قولهم أنه لا فضل للأتباع على الرؤساء في ترك الضلال والكفر
وجوابه أن أقصى ما في الباب أن الكفار كذبوا في هذا القول يوم القيامة وعندنا أن ذلك جائز وقد قررناه في سورة الأنعام في قوله ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ( الأنعام 23 )
أما قوله فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ فهذا يحتمل أن يكون من كلام القادة وإن يكون من قول الله تعالى لهم جميعاً
واعلم أن المقصود من هذا الكلام التخويف والزجر لأنه تعالى لما أخبر عن الرؤساء والأتباع أن بعضهم يتبرأ عن بعض ويلعن بعضهم بعضاً كان ذلك سبباً لوقوع الخوف الشديد في القلب
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِأايَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَآءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّة َ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِى سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذالِكَ نَجْزِى الْمُجْرِمِينَ لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذالِكَ نَجْزِى الظَّالِمِينَ

اعلم أن المقصود منه إتمام الكلام في وعيد الكفار وذلك لأنه تعالى قال في الآية المتقدمة وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( الأعراف 36 ) ثم شرح تعالى في هذه الآية كيفية ذلك الخلود في حق أولئك المكذبين المستكبرين بقوله كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا أي بالدلائل الدالة على المسائل التي هى أصول الدين فالدهرية ينكرون دلائل إثبات الذات والصفات والمشركون ينكرون دلائل التوحيد ومنكرو النبوات يكذبون الدلائل الدالة على صحة النبوات ومنكرو نبوة محمد ينكرون الدلائل الدالة على نبوته ومنكرو المعاد ينكرون الدلائل الدالة على صحة المعاد فقوله كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا يتناول الكل ومعنى الاستكبار طلب الترفع بالباطل وهذا اللفظ في حق البشر يدل على الذم قال تعالى في صفة فرعون وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِى الاْرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ
أما قوله تعالى لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّمَاء ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ أبو عمرو لاَ تُفَتَّحُ بالتاء خفيفة وقرأ حمزة والكسائي بالياء خفيفة والباقون بالتاء مشددة أما القراءة بالتشديد فوجهها قوله تعالى فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَى ْء ( الأنعام 44 ) فَفَتَحْنَا أَبْوابَ السَّمَاء ( القمر 11 ) وأما قراءة حمزة والكسائي فوجهها أن الفعل متقدم
المسألة الثانية في قوله لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّمَاء أقوال قال ابن عباس يريد لا تفتح لأعمالهم ولا لدعائهم ولا لشيء مما يريدون به طاعة الله وهذا التأويل مأخوذ من قوله تعالى إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ( فاطر 10 ) ومن قوله كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الاْبْرَارِ لَفِى عِلّيّينَ ( المطففين 18 ) وقال السدي وغيره لا تفتح لأرواحهم أبواب السماء وتفتح لأرواح المؤمنين ويدل على صحة هذا التأويل ما روي في حديث طويل أن روح المؤمن يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال مرحباً بالنفس الطيبة التي كانت في الجسد الطيب ويقال لها ذلك حتى تنتهي إلى السماء السابعة ويستفتح لروح الكافر فيقال لها ارجعي ذميمة فإنه لا تفتح لك أبواب السماء
والقول الثالث أن الجنة في السماء فالمعنى لا يؤذن لهم في الصعود إلى السماء ولا تطرق لهم إليها ليدخلوا الجنة
والقول الرابع لا تنزل عليهم البركة والخير وهو مأخوذ من قوله فَفَتَحْنَا أَبْوابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ ( القمر 11 ) وأقول هذه الآية تدل على أن الأرواح إنما تكون سعيدة أما بأن ينزل عليها من السماء أنواع الخيرات وإما بأن يصعد أعمال تلك الأرواح إلى السموات وذلك يدل على أن السموات موضع بهجة الأرواح وأماكن سعادتها ومنها تنزل الخيرات والبركات وإليها تصعد الأرواح حال فوزها بكمال السعادات ولما كان الأمر كذلك كان قوله لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّمَاء من أعظم أنواع الوعيد والتهديد
أما قوله تعالى وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّة َ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِى سَمّ الْخِيَاطِ ففيه مسائل
المسألة الأولى ( الولوج ) الدخول والجمل مشهور و ( السم ) بفتح السين وضمها ثقب الإبرة قرأ ابن سيرين سَمّ بالضم وقال صاحب ( الكشاف ) يروي سَمّ بالحركات الثلاث وكل ثقب في البدن لطيف فهو ( سم ) وجمعه سموم ومنه قيل السم القاتل لأنه ينفذ بلطفه في مسام البدن حتى يصل إلى

القلب و الْخِيَاطِ ما يخاط به قال الفراء ويقال خياط ومخيط كما يقال إزار ومئزر ولحاف وملحف وقناع ومقنع وإنما خص الجمل من بين سائر الحيوانات لأنه أكبر الحيوانات جسماً عند العرب قال الشاعر جسم الجمال وأحلام العصافير
فجسم الجمل أعظم الأجسام وثقب الإبرة أضيق المنافذ فكان ولوج الجمل في تلك الثقبة الضيقة محالاً فلما وقف الله تعالى دخولهم الجنة على حصول هذا الشرط وكان هذا شرطاً محالاً وثبت في العقول أن الموقوف على المحال محال وجب أن يكون دخولهم الجنة مأيوساً منه قطعاً
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) قرأ ابن عباس الْجَمَلُ بوزن القمل وسعيد بن جبير الْجَمَلُ بوزن النغر وقرىء الْجَمَلُ بوزن القفل و الْجَمَلُ بوزن النصب و الْجَمَلُ بوزن الحبل ومعناها القلس الغليظ لأنه حبال جمعت وجعلت جملة واحدة وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن الله تعالى أحسن تشبيهاً من أن يشبه بالجمل يعني أن الحبل مناسب للخيط الذي يسلك في سم الإبرة والبعير لا يناسبه إلا أنا ذكرنا الفائدة فيه
المسألة الثالثة القائلون بالتناسخ احتجوا بهذه الآية فقالوا إن الأرواح التي كانت في أجساد البشر لما عصت وأذنبت فإنها بعد موت الأبدان ترد من بدن إلى بدن ولا تزال تبقى في التعذيب حتى أنها تنتقل من بدن الجمل إلى بدن الدودة التي تنفذ في سم الخياط فحينئذ تصير مطهرة عن تلك الذنوب والمعاصي وحينئذ تدخل الجنة وتصل إلى السعادة واعلم أن القول بالتناسخ باطل وهذا الاستدلال ضعيف والله أعلم
ثم قال تعالى وَكَذالِكَ نَجْزِى الْمُجْرِمِينَ أي ومثل هذا الذي وصفنا نجزي المجرمين والمجرمون والله أعلم ههنا هم الكافرون لأن الذي تقدم ذكره من صفتهم هو التكذيب بآيات الله والاستكبار عنها
واعلم أنه تعالى لما بين من حالهم أنهم لا يدخلون الجنة ألبتة بين أيضاً أنهم يدخلون النار فقال لَهُم مّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وفيه مسألتان
المسألة الأولى ( المهاد ) جمع مهد وهو الفراش قال الأزهري أصل المهد في اللغة الفرش يقال للفراش مهاد لمواتاته والغواشي جمع غاشية وهي كل ما يغشاك أي يجللك وجهنم لا تنصرف لاجتماع التأنيث فيها والتعريف وقيل اشتقاقها من الجهمة وهي الغلظ يقال رجل جهم الوجه غليظه وسميت بهذا لغلظ أمرها في العذاب قال المفسرون المراد من هذه الآية الأخبار عن إحاطة النار بهم من كل جانب فلهم منها غطاء ووطاء وفراش ولحاف
المسألة الثانية لقائل أن يقول إن غواش على وزن فواعل فيكون غير منصرف فكيف دخله التنوين وجوابه على مذهب الخليل وسيبويه إن هذا جمع والجمع أثقل من الواحد وهو أيضاً الجمع الأكبر الذي تتناهى الجموع إليه فزاده ذلك ثقلاً ثم وقعت الياء في آخره وهي ثقيلة فلما اجتمعت فيه هذه الأشياء خففوها بحذف يائه فلما حذفت الياء نقص عن مثال فواعل وصار غواش بوزن جناح فدخله

التنوين لنقصانه عن هذا المثال
أما قوله وَكَذالِكَ نَجْزِى الظَّالِمِينَ قال ابن عباس يريد الذين أشركوا بالله واتخذوا من دونه إلهاً وعلى هذا التقدير فالظالمون ههنا هم الكافرون
( 42 )
وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الاٌّ نْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى هَدَانَا لِهَاذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِى َ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّة ُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
اعلم أنه تعالى لما استوفى الكلام في الوعيد أتبعه بالوعد في هذه الآية وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن أكثر أصحاب المعاني على أن قوله تعالى لاَ نُكَلّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا اعتراض وقع بين المبتدأ والخبر والتقدير وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( البقرة 82 ) وإنما حسن وقوع هذا الكلام بين المبتدأ والخبر لأنه من جنس هذا الكلام لأنه لما ذكر عملهم الصالح ذكر أن ذلك العمل في وسعهم غير خارج عن قدرتهم وفيه تنبيه للكفار على أن الجنة مع عظم محلها يوصل إليها بالعمل السهل من غير تحمل الصعب وقال قوم موضعه خبر عن ذلك المبتدأ والعائد محذوف كأنه قيل لا نكلف نفساً منهم إلا وسعها وإنما حذف العائد للعلم به
المسألة الثانية معنى الوسع ما يقدر الإنسان عليه في حال السعة والسهولة لا في حال الضيق والشدة والدليل عليه أن معاذ بن جبل قال في هذه الآية إلا يسرها لا عسرها وأما أقصى الطاقة يسمى جهداً لا وسعاً وغلط من ظن أن الوسع بذل المجهود
المسألة الثالثة قال الجبائي هذا يدل على بطلان مذهب المجبرة في أن الله تعالى كلف العبد بما لا يقدر عليه لأن الله تعالى كذبهم في ذلك وإذا ثبت هذا الأصل بطل قولهم في خلق الأعمال لأنه لو كان خالق أعمال العباد هو الله تعالى لكان ذلك تكليف ما لا يطاق لأنه تعالى أن كلفه بذلك الفعل حال ما خلقه فيه فذلك تكليفه بما لا يطاق لأنه أمر بتحصيل الحاصل وذلك غير مقدور وإن كلفه به حال ما لم يخلق من ذلك الفعل فيه كان ذلك أيضاً تكليف ما لا يطاق لأن على هذا التقدير لا قدرة للعبد على تكوين

ذلك الفعل وتحصيله قالوا وأيضاً إذا ثبت هذا الأصل ظهر أن الاستطاعة قبل الفعل إذ لو كانت حاصلة مع الفعل والكافر لا قدرة له على الإيمان مع أنه مأمور به فكان هذا تكليف ما لا يطاق ولما دلت هذه الآية على نفي التكليف بما لا يطاق ثبت فساد هذين الأصلين
والجواب أنا نقول وهذا الإشكال أيضاً وارد عليكم لأنه تعالى يكلف العبد بإيجاد الفعل حال استواء الدواعي إلى الفعل والترك أو حال رجحان أحد الداعيين على الآخر والأول باطل لأن الإيجاد ترجيح لجانب الفعل وحصول الترجيح حال حصول الاستواء محال والثاني باطل لأن حال حصول الرجحان كان الحصول واجباً فإن وقع الأمر بالطرف الراجح كان أمراً بتحصيل الحاصل وإن وقع بالطرف المرجوح كان أمراف بتحصيل المرجوح حال كونه مرجوحاً فيكون أمراً بالجمع بين النقيضين وهو محال فكل ما تجعلونه جواباً عن هذا السؤال فهو جوابنا عن كلامكم والله أعلم
وأما قوله تعالى وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ فاعلم أن نزع الشيء قلعه عن مكانه والغل العقد قال أهل اللغة وهو الذي يغل بلطفه إلى صميم القلب أي يدخل ومنه الغلول وهو الوصول بالحيلة إلى الذنوب الدقيقة ويقال انغل في الشيء وتغلغل فيه إذا دخل فيه بلطافة كالحب يدخل في صميم الفؤاد
إذا عرفت هذا فنقول لهذه الآية تأويلان
القول الأول أن يكون المراد أزلنا الأحقاد التي كانت لبعضهم على بعض في دار الدنيا ومعنى نزع الغل تصفية الطباع وإسقاط الوساوس ومنعها من أن ترد على القلوب فإن الشيطان لما كان في العذاب لم يتفرغ لإلقاء الوساوس في القلوب وإلى هذا المعنى أشار علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله تعالى فيهم وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ
والقول الثاني أن المراد منه أن درجات أهل الجنة متفاوتة بحسب الكمال والنقصان فالله تعالى أزال الحسد عن قلوبهم حتى أن صاحب الدرجة النازلة لا يحسد صاحب الدرجة الكاملة قال صاحب ( الكشاف ) هذا التأويل أولى من الوجه الأول حتى يكون هذا في مقابلة ما ذكره الله تعالى من تبري بعض أهل النار من بعض ولعن بعضهم بعضاً ليعلم أن حال أهل الجنة في هذا المعنى أيضاً مفارقة لحال أهل النار
فإن قالوا كيف يعقل أن يشاهد الإنسان النعم العظيمة والدرجات العالية ويرى نفسه محروماً عنها عاجزاً عن تحصيلها ثم أنه لا يميل طبعه إليها ولا يغتم بسبب الحرمان عنها فإن عقل ذلك فلم لا يعقل أيضاً أن يعيدهم الله تعالى ولا يخلق فيهم شهوة الأكل والشرب والوقاع ويغنيهم عنها
قلنا الكل ممكن والله تعالى قادر عليه إلا أنه تعالى وعد بإزالة الحقد والحسد عن القلوب وما وعد بإزالة شهوة الأكل والشرب عن النفوس فظهر الفرق بين البابين
ثم إنه تعالى قال تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الاْنْهَارُ والمعنى أنه تعالى كما خلصهم من ربقة الحقد والحسد والحرص على طلب الزيادة فقد أنعم عليهم بالذات العظيمة وقوله تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الاْنْهَارُ من رحمة الله وفضله وإحسانه وأنواع المكاشفات والسعادات الروحانية

ثم حكى تعالى عن أهل الجنة أنهم قالوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى هَدَانَا لِهَاذَا وقال أصحابنا معنى هَدَانَا اللَّهُ أنه أعطى القدرة وضم إليها الداعية الجازمة وصير مجموع القدرة وتلك الداعية موجباً لحصول تلك الفضيلة فإنه لو أعطى القدرة وما خلق تلك الداعية لم يحصل الأثر ولو خلق الله الداعية المعارضة أيضاً لسائر الدواعي الصارفة لم يحصل الفعل أيضاً أما لما خلق القدرة وخلق الداعية الجازمة وكان مجموع القدرة مع الداعية المعينة موجباً للفعل كانت الهداية حاصلة في الحقيقة بتقدير الله تعالى وتخليقه وتكوينه وقالت المعتزلة التحميد إنما وقع على أنه تعالى أعطى العقل ووضع الدلائل وأزال الموانع وعند هذا يرجع إلى مباحث الجبر والقدر على سبيل التمام والكمال
ثم قال تعالى وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِى َ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن عامر ( ما كنا ) بغير واو وكذلك هو في مصاحف أهل الشام والباقون بالواو والوجه في قراءة ابن عامر أن قوله مَا كُنَّا لِنَهْتَدِى َ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ جار مجرى التفسير لقوله هَدَانَا لِهَاذَا فلما كان أحدهما عين الآخر وجب حذف الحرف العاطف
المسألة الثانية قوله وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِى َ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ دليل على أن المهتدي من هداه الله وإن لم يهده الله لم يهتد بل نقول مذهب المعتزلة أن كل ما فعله الله تعالى في حق الأنبياء عليهم السلام والأولياء من أنواع الهداية والإرشاد فقد فعله في حق جميع الكفار والفساق وإنما حصل الامتياز بين المؤمن والكافر والمحق والمبطل بسعي نفسه واختيار نفسه فكان يجب عليه أن يحمد نفسه لأنه هو الذي حصل لنفسه الإيمان وهو الذي أوصل نفسه إلى درجات الجنان وخلصها من دركات النيران فلما لم يحمد نفسه البتة وإنما حمد الله فقط علمنا أن الهادي ليس إلا الله سبحانه
ثم حكى تعالى عنهم أنهم قالوا لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبّنَا بِالْحَقّ وهذا من قول أهل الجنة حين رأوا ما وعدهم الرسل عياناً وقالوا لقد جاءت رسل ربنا بالحق
ثم قال تعالى وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّة ُ وفيه مسألتان
المسألة الأولى ذلك النداء إما أن يكون من الله تعالى أو أن يكون من الملائكة والأولى أن يكون المنادي هو الله سبحانه
المسألة الثانية ذكر الزجاج في كلمة ( أن ) ههنا وجهين الأول أنها مخففة من الثقيلة والتقدير إنه والمضير للشأن والمعنى نودوا بأنه تلكم الجنة أي نودوا بهذا القول والثاني قال وهو الأجود عندي أن تكون ( أن ) في معنى تفسير النداء والمعنى ونودوا أي تلكم الجنة والمعنى قيل لهم تلكم الجنة كقوله وَانطَلَقَ الْمَلا مِنْهُمْ أَنِ امْشُواْ وَاْصْبِرُواْ ( ص 6 ) يعني أي امشوا قال إنما قال ( تلكم ) لأنهم وعدوا بها في الدنيا فكأنه قيل لهم هذه تلكم التي وعدتم بها وقوله أُورِثْتُمُوهَا فيه قولان
القول الأول وهو قول أهل المعاني أن معناه صارت إليكم كما يصير الميراث إلى أهله والإرث قد يستعمل في اللغة ولا يراد به زوال الملك عن الميت إلى الحي كما يقال هذا العمل يورثك الشرف

ويورثك العار أي يصيرك إليه ومنهم من يقول إنهم أعطوا تلك المنازل من غير تعب في الحال فصار شبيهاً بالميراث
والقول الثاني أن أهل الجنة يورثون منازل أهل النار قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( ليس من كافر ولا مؤمن إلا وله في الجنة والنار منزل فإذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار رفعت الجنة لأهل النار فنظروا إلى منازلهم فيها فقيل لهم هذه منازلكم لو عملتم بطاعة الله ثم يقال يا أهل الجنة رثوهم بما كنتم تعملون فيقسم بين أهل الجنة منازلهم ) وقوله بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فيه مسائل
المسألة الأولى تعلق من قال العمل يوجب هذا الجزاء بهذه الآية فإن الباء في قوله بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ تدل على العلية وذلك يدل على أن العمل يوجب هذا الجزاء وجوابنا أنه علة للجزاء لكن بسبب أن الشرع جعله علة له لا لأجل أنه لذاته موجب لذلك الجزاء والدليل عليه أن نعم الله على العبد لا نهاية لها فإذا أتى العبد بشيء من الطاعات وقعت هذه الطاعات في مقابلة تلك النعم السالفة فيمتنع أن تصير موجبة للثواب المتأخر
المسألة الثانية طعن بعضهم فقال هذه الآية تدل على أن العبد إنما يدخل الجنة بعمله وقوله عليه السلام ( لن يدخل أحد الجنة بعمله وإنما يدخلها برحمة الله تعالى ) وبينهما تناقض وجواب ما ذكرنا أن العمل لا يوجب دخول الجنة لذاته وإنما يوجه لأجل أن الله تعالى بفضله جعله علامة عليه ومعرفة له وأيضاً لما كان الموفى للعمل الصالح هو الله تعالى كان دخول الجنة في الحقيقة ليس إلا بفضل الله تعالى
المسألة الثالثة قال القاضي قوله تعالى وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّة ُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ خطاب عام في حق جميع المؤمنين وذلك يدل على أن كل من دخل الجنة فإنما يدخلها بعمله وإذا كان الأمر كذلك امتنع قول من يقول أن الفساق يدخلون الجنة تفضلاً من الله تعالى
إذا ثبت هذا فنقول وجب أن لا يخرج الفاسق من النار لأنه لو خرج لكان إما أن يدخل الجنة أو لا يدخلها والثاني باطل بالإجماع والأول لا يخلو إما أن يدخل الجنة على سبيل التفضل أو على سبيل الاستحقاق والأول باطل لأنا بينا أن هذه الآية تدل على أن أحداً لا يدخل الجنة بالتفضل والثاني أيضاً باطل لأنه لما دخل النار وجب أن يقال إنه كان مستحقاً للعقاب فلو أدخل الجنة على سبيل الاستحقاق لزم كونه مستحقاً للثواب وحينئذ يلزم حصول الجمع بين استحقاق الثواب واستحقاق العقاب وهو محال لأن الثواب منفعة دائمة خالصة عن شوائب الضرر والعقاب مضرة دائمة خالصة عن شوائب المنفعة والجمع بينهما محال وإذا كان كذلك كان الجمع بين حصول استحقاقهما محالاً
والجواب هذا بناء على أن استحقاق الثواب والعقاب لا يجتمعان وقد بالغنا في إبطال هذا الكلام في سورة البقرة والله أعلم

وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَة ُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالاٌّ خِرَة ِ كَافِرُونَ
أعلم أنه تعالى لما شرح وعيد الكفار وثواب أهل الإيمان والطاعات أتبعه بذكر المناظرات التي تدور بين الفريقين وهي الأحوال التي ذكرها في هذه الآية
واعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية المتقدمة قوله وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّة ُ أُورِثْتُمُوهَا دل ذلك على أنهم استقروا في الجنة في وقت هذا النداء فلما قال بعده وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ أَصْحَابَ النَّارِ دل ذلك على أن هذا النداء إنما حصل بعد الاستقرار قال ابن عباس وجدنا ما وعدنا ربنا في الدنيا من الثواب حقاً فهل وجدتم ما وعدكم ربكم من العقاب حقاً والغرض من هذا السؤال إظهار أنه وصل إلى السعادات الكاملة وإيقاع الحزن في قلب العدو وههنا سؤالات
السؤال الأول إذا كانت الجنة في أعلى السموات والنار في أسفل الأرضين فمع هذا البعد الشديد كيف يصح هذا النداء
والجواب هذا يصح على قولنا لأنا عندنا البعد الشديد والقرب الشديد ليس من موانع الإدراك والتزم القاضي ذلك وقال إن في العلماء من يقول في الصوت خاصية إن البعد فيه وحده لا يكون مانعاً من السماع
السؤال الثاني هذا النداء يقع من كل أهل الجنة لكل أهل النار أو من البعض للبعض
والجواب أن قوله وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ أَصْحَابَ النَّارِ يفيد العموم والجمع إذا قوبل بالجمع يوزع الفرد على الفرد وكل فريق من أهل الجنة ينادي من كان يعرفه من الكفار في الدنيا
السؤال الثالث ما معنى ءانٍ في قوله أَن قَدْ وَجَدْنَا
والجواب إنه يحتمل أن تكون مخففة من الثقيلة وأن تكون مفسرة كالتي سبقت في قوله أَن تِلْكُمُ الْجَنَّة ُ ( الأعراف 43 ) وكذلك في قوله أَن لَّعْنَة ُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ
السؤال الرابع هلا قيل مَا وَعَدَكُمُ رَبُّكُمْ حَقّا ( الأعراف 44 ) كما قيل مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا
والجواب قوله مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّا يدل على أنه تعالى خاطبهم بهذا الوعد وكونهم مخاطبين من قبل الله تعالى بهذا الوعد يوجب مزيد التشريف ومزيد التشريف لا ئق بحال المؤمنين أما الكافر فهو ليس

أهلاً لأن يخاطبه الله تعالى فلهذا السبب لم يذكر الله تعالى أنه خاطبهم بهذا الخطاب بل ذكر تعالى أنه بين هذا الحكم
أما قوله تعالى قَالُواْ نَعَمْ ففيه مسائل
المسألة الأولى الآية تدل على أن الكفار يعترفون يوم القيامة بأن وعد الله ووعيده حق وصدق ولا يمكن ذلك إلا إذا كانوا عارفين يوم القيامة بذات الله وصفاته
فإن قيل لما كانوا عارفين بذاته وصفاته وثبت أن من صفاته أنه يقبل التوبة عن عباده وعلموا بالضرورة أن عند قبول التوبة يتخلصون من العذاب فلم لا يتوبون ليخلصوا أنفسهم من العذاب وليس لقائل أن يقول أنه تعالى إنما يقبل التوبة في الدنيا لأن قوله تعالى وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَة َ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُواْ عَنِ السَّيّئَاتِ ( الشورى 25 ) عام في الأحوال كلها وأيضاً فالتوبة اعتراف بالذنب وإقرار بالذلة والمسكنة واللائق بالرحيم الحكيم التجاوز عن هذه الحالة سواء كان في الدنيا أو في الآخرة
أجاب المتكلمون بأن شدة اشتغالهم بتلك الآلام الشديدة يمنعهم عن الإقدام على التوبة ولقائل أن يقول إذا كانت تلك الآلام لا تمنعهم عن هذه المناظرات فكيف تمنعهم عن التوبة التي بها يتخلصون عن تلك الآلام الشديدة
واعلم أن المعتزلة الذين يقولون يجب على الله قبول التوبة لا خلاص لهم عن هذا السؤال أما أصحابنا لما قالوا أن ذلك غير واجب عقلاً قالوا لله تعالى أن يقبل التوبة في الدنيا وأن لا يقبلها في الآخرة فزال السؤال والله أعلم
المسألة الثانية قال سيبويه نِعْمَ عدة وتصديق وقال الذين شرحوا كلامه معناه إنه يستعمل تارة عدة وتارة تصديقاً وليس معناه أنه عدة وتصديق معاً ألا ترى أنه إذا قال أتعطيني وقال نعم كان عدة ولا تصديق فيه وإذا قال قد كان كذا وكذا فقلت نعم فقد صدقت ولا عدة فيه وأيضاً إذا استفهمت عن موجب كما يقال أيقوم زيد قلت نعم ولو كان مكان الإيجاب نفياً لقلت بلى ولم تقل نعم فلفظة نعم مختصة بالجواب عن الإيجاب ولفظة بلى مختصة بالنفي كما في قوله تعالى أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَى ( الأعراف 172 )
المسألة الثالثة قرأ الكسائي نِعْمَ بكسر العين في كل القرآن قال أبو الحسن هما لغتان قال أبو حاتم الكسر ليس بمعروف واحتج الكسائي بأنه روى عن عمر أنه سأل قوماً عن شيء فقالوا نعم فقال عمر أما النعم فالإبل قال أبو عبيدة هذه الرواية عن عمر غير مشهورة
أما قوله تعالى فَأَذَّنَ مُؤَذّنٌ بَيْنَهُمْ ففيه مسألتان
المسألة الأولى معنى التأذين في اللغة النداء والتصويت بالإعلام والأذان للصلاة إعلام بها وبوقتها وقالوا في أَذَّنَ مُؤَذّنٌ نادى مناد أسمع الفريقين قال ابن عباس وذلك المؤذن من الملائكة وهو صاحب الصور
المسألة الثانية قوله بَيْنَهُمْ يحتمل أن يكون ظرفاً لقوله أَذِنَ والتقدير أن المؤذن أوقع ذلك

الأذان بينهم وفي وسطهم ويحتمل أن يكون صفة لقوله مُؤَذّنٌ والتقدير أن مؤذناً من بينهم أذن بذلك الأذان والأول أولى والله أعلم
أما قوله تعالى أَن لَّعْنَة ُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ففيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ نافع وأبو عمرو وعاصم ءانٍ مخففة لَّعْنَة ُ بالرفع والباقون مشددة لَّعْنَة ُ بالنصب قال الواحدي رحمه الله من شدد فهو الأصل ومن خفف ءانٍ فهي مخففة من الشديدة على إرادة إضمار القصة والحديث تقديره أنه لعنه الله ومثله قوله تعالى دَعْواهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ ( يونس 10 ) التقدير أنه ولا تخفف أن إلا ويكون معها إضمار الحديث والشأن ويجوز أيضاً أن تكون المخففة هي التي للتفسير كأنها تفسير لما أذنوا به كما ذكرناه في قوله أَن قَدْ وَجَدْنَا وروى صاحب ( الكشاف ) أن الأعمش قرأ أَن لَّعْنَة ُ اللَّهِ بكسر ءانٍ على إرادة القول أو على إجراء أَذِنَ مجرى ( قال )
المسألة الثانية اعلم أن هذه الآية تدل على أن ذلك المؤذن أوقع لعنة الله على من كان موصوفاً بصفات أربعة
الصفة الأولى كونهم ظالمين لأنه قال أَن لَّعْنَة ُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ قال أصحابنا المراد منه المشركون وذلك لأن المناظرة المتقدمة إنما وقعت بين أهل الجنة وبين الكفار بدليل أن قول أهل الجنة هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً لا يليق ذكره إلا مع الكفار
وإذا ثبت هذا فقول المؤذن بعده أَن لَّعْنَة ُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ يجب أن يكون منصرفاً إليهم فثبت أن المراد بالظالمين ههنا المشركون وأيضاً أنه وصف هؤلاء الظالمين بصفات ثلاثة هي مختصة بالكفار وذلك يقوي ما ذكرناه وقال القاضي المراد منه كل من كان ظالماً سواء كان كافراً أو كان فاسقاً تمسكاً بعموم اللفظ
الصفة الثانية قوله الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ومعناه أنهم يمنعون الناس من قبول الدين الحق تارة بالزجر والقهر وأخرى بسائر الحيل
والصفة الثالثة قوله وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا والمراد منه إلقاء الشكوك والشبهات في دلائل الدين الحق
والصفة الرابعة قوله وَهُم بِالاْخِرَة ِ كَافِرُونَ واعلم أنه تعالى لما بين أن تلك اللعنة إنما أوقعها ذلك المؤذن على الظالمين الموصوفين بهذه الصفات الثلاثة كان ذلك تصريحاً بأن تلك اللعنة ما وقعت إلا على الكافرين وذلك يدل على فساد ما ذكره القاضي من أن ذلك اللعن يعم الفاسق والكافر والله أعلم
وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الاٌّ عْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّة ِ أَن سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَآءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ

اعلم أن قوله وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ يعني بين الجنة والنار أو بين الفريقين وهذا الحجاب هو المشهور المذكور في قوله فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ ( الحديد 13 )
فإن قيل وأي حاجة إلى ضرب هذا السور بين الجنة والنار وقد ثبت أن الجنة فوق السموات وأن الجحيم في أسفل السافلين
قلنا بعد إحداهما عن الأخرى لا يمنع أن يحصل بينهما سور وحجاب وأما الأعراف فهو جمع عرف وهو كل مكان عال مرتفع ومنه عرف الفرس وعرف الديك وكل مرتفع من الأرض عرف وذلك لأنه بسبب ارتفاعه يصير أعرف مما انخفض منه
إذا عرفت هذا فنقول في تفسير لفظ الأعراف قولان
القول الأول وهو الذي عليه الأكثرون أن المراد من الأعراف أعالي ذلك السور المضروب بين الجنة والنار وهذا قول ابن عباس وروي عنه أيضاً أنه قال الأعراف شرف الصراط
والقول الثاني وهو قول الحسن وقول الزجاج في أحد قوليه أن قوله وَعَلَى الاْعْرَافِ أي وعلى معرفة أهل الجنة والنار رجال يعرفون كل أحد من أهل الجنة والنار بسيماهم فقيل للحسن هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فضرب على فخذيه ثم قال هم قوم جعلهم الله تعالى على تعرف أهل الجنة وأهل النار يميزون البعض من البعض والله لا أدري لعل بعضهم الآن معناا أما القائلون بالقول الأول فقد اختلفوا في أن الذين هم على الأعراف من هم ولقد كثرت الأقوال فيهم وهي محصورة في قولين أحدهما أن يقال إنهم الأشراف من أهل الطاعة وأهل الثواب الثاني أن يقال أنهم أقوام يكونون في الدرجة السافلة من أهل الثواب أما على التقدير الأول ففيه وجوه أحدها قال أبو مجلز هم ملائكة يعرفون أهل الجنة وأهل النار فقيل له يقول الله تعالى وَعَلَى الاْعْرَافِ رِجَالٌ وتزعم أنهم ملائكة فقال الملائكة ذكور لا إناث
ولقائل أن يقول الوصف بالرجولية إنما يحسن في الموضع الذي يحصل في مقابلة الرجل من يكون أنثى ولما امتنع كون الملك أنثى امتنع وصفهم بالرجولية وثانيها قالوا إنهم الأنبياء عليهم السلام أجلسهم الله تعالى على أعالي ذلك السور تمييزاً لهم عن سائر أهل القيامة وإظهاراً لشرفهم وعلو مرتبتهم وأجلسهم على ذلك المكان العالي ليكونوا مشرفين على أهل الجنة وأهل النار مطلعين على أحوالهم ومقادير ثوابهم وعقابهم وثالثها قالوا إنهم هم الشهداء لأنه تعالى وصف أصحاب الأعراف بأنهم يعرفون كل واحد من أهل الجنة وأهل النار ثم قال قوم إنهم يعرفون أهل الجنة بكون وجوههم ضاحكة مستبشرة وأهل النار بسواد وجوههم وزرقة عيونهم وهذا الوجه باطل لأنه تعالى خص أهل الأعراف بأنهم يعرفون كل واحد من أهل الجنة وأهل النار بسيماهم ولو كان المراد ما ذكروه لما بقي لأهل الأعراف اختصاص بهذه المعرفة لأن كل أحد من أهل الجنة ومن أهل النار يعرفون هذه الأحوال من أهل الجنة ومن أهل النار ولما بطل هذا الوجه ثبت أن المراد بقوله يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ هو أنهم كانوا يعرفون في الدنيا أهل الخير والإيمان والصلاح وأهل الشر والكفر والفساد وهم كانوا في الدنيا شهداء الله على أهل الإيمان والطاعة وعلى أهل الكفر والمعصية فهو تعالى يجلسهم على الأعراف وهي الأمكنة العالية الرفيعة ليكونوا مطلعين على الكل

يشهدون على كل أحد بما يليق به ويعرفون أن أهل الثواب وصلوا إلى الدرجات وأهل العقاب إلى الدركات
فإن قيل هذه الوجوه الثلاثة باطلة لأنه تعالى قال في صفة أصحاب الأعراف أنهم لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ أي لم يدخلوا الجنة وهم يطمعون في دخولها وهذا الوصف لا يليق بالأنبياء والملائكة والشهداء
أجاب الذاهبون إلى هذا الوجه بأن قالوا لا يبعد أن يقال إنه تعالى بين من صفات أصحاب الأعراف أن دخولهم الجنة يتأخر والسبب فيه أنه تعالى ميزهم عن أهل الجنة وأهل النار وأجلسهم على تلك الشرفات العالية والأمكنة المرتفعة ليشاهدوا أحوال أهل الجنة وأحوال أهل النار فيلحقهم السرور العظيم بمشاهدة تلك الأحوال ثم إذا استقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار فحينئذ ينقلهم الله تعالى إلى أمكنتهم العالية في الجنة فثبت أن كونهم غير داخلين في الجنة لا يمنع من كمال شرفهم وعلو درجتهم وأما قوله وَهُمْ يَطْمَعُونَ فالمراد من هذا الطمع اليقين ألا ترى أنه تعالى قال حكاية عن إبراهيم عليه السلام وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِينِ ( الشعراء 82 ) وذلك الطمع كان طمع يقين فكذا ههنا فهذا تقرير قول من يقول أن أصحاب الأعراف هم أشراف أهل الجنة
والقول الثاني وهو قول من يقول أصحاب الأعراف أقوام يكونون في الدرجة النازلة من أهل الثواب والقائلون بهذا القول ذكروا وجوهاً أحدها أنهم قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم فلا جرم ما كانوا من أهل الجنة ولا من أهل النار فأوقفهم الله تعالى على هذه الأعراف لكونها درجة متوسطة بين الجنة وبين النار ثم يدخلهم الله تعالى الجنة بفضله ورحمته وهم آخر قوم يدخلون الجنة وهذا قول حذيفة وابن مسعود رضي الله عنهما واختيار الفراء وطعن الجبائي والقاضي في هذا القول واحتجوا على فسادّه بوجهين الأول أن قالوا أن قوله تعالى وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّة ُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( الأعراف 43 ) يدل على أن كل من دخل الجنة فإنه لا بد وأن يكون مستحقاً لدخولها وذلك يمنع من القول بوجود أقوام لا يستحقون الجنة ولا النار ثم إنهم يدخلون الجنة بمحض التفضل لا بسبب الاستحقاق وثانيهما إن كونهم من أصحاب الأعراف يدل على أنه تعالى ميزهم من جميع أهل القيامة بأن أجلسهم على الأماكن العالية المشرفة على أهل الجنة وأهل النار وذلك تشريف عظيم ومثل هذا التشريف لا يليق إلا بالإشراف ولا شك أن الذين تساوت حسناتهم وسيئاتهم فدرجتهم قاصرة فلا يليق بهم ذلك التشريف
والجواب عن الأول أنه يحتمل أن يكون قوله وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّة ُ أُورِثْتُمُوهَا خطاب مع قوم معينين فلم يلزم أن يكون لكل أهل الجنة كذلك
والجواب عن الثاني أنا لا نسلم أنه تعالى أجلسهم على تلك المواضع على سبيل التخصيص بمزيد التشريف والإكرام وإنما أجلسهم عليها لأنها كالمرتبة المتوسطة بين الجنة والنار وهل النزاع إلا في ذلك فثبت أن الحجة التي عولوا عليها في إبطال هذا الوجه ضعيفة
الوجه الثاني من الوجوه المذكورة في تفسير أصحاب الأعراف قالوا المراد من أصحاب الأعراف أقوام خرجوا إلى الغزو بغير إذن آبائهم فاستشهدوا فحبسوا بين الجنة والنار

واعلم أن هذا القول داخل في القول الأول لأن هؤلاء إنما صاروا من أصحاب الأعراف لأن معصيتهم ساوت طاعتهم بإجهاد فهذا أحد الأمور الداخلة تحت الوجه الأول وبتقدير أن يصح ذلك الوجه فلا معنى لتخصيص هذه الصورة وقصر لفظ الآية عليها
والوجه الثالث قال عبد الله بن الحرث إنهم مساكين أهل الجنة
والوجه الرابع قال قوم أنهم الفساق من أهل الصلاة يعفو الله عنهم ويسكنهم في الأعراف فهذا كله شرح قول من يقول الأعراف عبارة عن الأمكنة العالية على السور المضروب بين الجنة وبين النار وأما الذين يقولون الأعراف عبارة عن الرجال الذين يعرفون أهل الجنة وأهل النار فهذا القول أيضاً غير بعيد إلا أن هؤلاء الأقوام لا بد لهم من مكان عال يشرفون منه على أهل الجنة وأهل النار وحينئذ يعود هذا القول إلى القول الأول فهذه تفاصيل أقوال الناس في هذا الباب والله أعلم ثم إنه تعالى أخبر أن أصحاب الأعراف يعرفون كلا من أهل الجنة وأهل النار بسيماهم واختلفوا في المراد بقوله بِسِيمَاهُمْ على وجوه
فالقول الأول وهو قول ابن عباس أن سيما الرجل المسلم من أهل الجنة بياض وجهه كما قال تعالى يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ( آل عمران 106 ) وكون وجوههم مسفرة ضاحكة مستبشرة وكون كل واحد منهم أغر محجلاً من آثار الوضوء وعلامة الكفار سواد وجوههم وكون وجوههم عليها غبرة ترهقها قترة وكون عيونهم زرقاً
ولقائل أن يقول إنهم لما شاهدوا أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار فأي حاجة إلى أن يستدل على كونهم من أهل الجنة بهذه العلامات لأن هذا يجري مجرى الاستدلال على ما علم وجوده بالحس وذلك باطل وأيضاً فهذه الآية تدل على أن أصحاب الأعراف مختصون بهذه المعرفة ولو حملناه على هذا الوجه لم يبق هذا الاختصاص لأن هذه الأحوال أمور محسوسة فلا يختص بمعرفتها شخص دون شخص
والقول الثاني في تفسير هذه الآية أن أصحاب الأعراف كانوا يعرفون المؤمنين في الدنيا بظهور علامات الإيمان والطاعات عليهم ويعرفون الكافرين في الدنيا أيضاً بظهور علامات الكفر والفسق عليهم فإذا شاهدوا أولئك الأقوام في محفل القيامة ميزوا البعض عن البعض بتلك العلامات التي شاهدوها عليهم في الدنيا وهذا الوجه هو المختار
أما قوله تعالى وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّة ِ أَن سَلَامٌ عَلَيْكُمْ فالمعنى إنهم إذا نظروا إلى أهل الجنة سلموا على أهلها وعند هذا تم كلام أهل الأعراف
ثم قال لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ والمعنى أنه تعالى أخبر أن أهل الأعراف لم يدخلوا الجنة ومع ذلك فهم يطمعون في دخولها ثم إن قلنا أن أصحاب الأعراف هم الأشراف من أهل الجنة فقد ذكرنا أنه تعالى إنما أجلسهم على الأعراف وأخر إدخالهم الجنة ليطلعوا على أحوال أهل الجنة والنار ثم إنه تعالى ينقلهم إلى الدرجات العالية في الجنة كما روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( إن أهل الدرجات العلا ليراهم من تحتهم كما ترون الكوكب الدري في أفق السماء وأن أبا بكر وعمر منهم ) وتحقيق الكلام أن أصحاب الأعراف هم أشراف أهل القيامة فعند وقوف أهل القيامة في الموقف يجلس الله أهل الأعراف في

الاعراف وهي المواضع العالية الشريفة فإذا أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نقلهم إلى الدرجات العالية في الجنة فهم أبداً لا يجلسون إلا في الدرجات العالية وأما إن فسرنا أصحاب الأعراف بأنهم الذين يكونون في الدرجة النازلة من أهل النجاة قلنا أنه تعالى يجلسهم في الأعراف وهم يطعمون من فضل الله وإحسانه أن ينقلهم من تلك المواضع إلى الجنة وأما قوله تعالى وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاء أَصْحَابِ النَّارِ فقال الواحدي رحمه الله التلقاء جهة اللقاء وهي جهة المقابلة ولذلك كان ظرفاً من ظروف المكان يقال فلان تلقاءك كما يقال هو حذاءك وهو في الأصل مصدر استعمل ظرفاً ثم نقل الواحدي رحمه الله بإسناده عن ثعلب عن الكوفيين والمبرد عن البصريين أنهما قالا لم يأت من المصادر على تفعال ( إلا ) حرفان تبيان وتلقاء فإذا تركت هذين استوى ذلك القياس فقلت في كل مصدر تفعال بفتح التاء مثل تسيار وترسال وقلت في كل اسم تفعال بكسر التاء مثل تمثال وتقصار ومعنى الآية أنه كلما وقعت أبصار أصحاب الأعراف على أهل النار تضرعوا إلى الله تعالى في أن لا يجعلهم من زمرتهم والمقصود من جميع هذه الآيات التخويف حتى يقدم المرء على النظر والاستدلال ولا يرضى بالتقليد ليفوز بالدين الحق فيصل بسببه إلى الثواب المذكور في هذه الآيات ويتخلص عن العقاب المذكور فيها
وَنَادَى أَصْحَابُ الاٌّ عْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَآ أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ أَهَؤُلا ءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَة ٍ ادْخُلُواْ الْجَنَّة َ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين بقوله وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاء أَصْحَابِ النَّارِ قَالُواْ رَبَّنَا ( الأعراف 47 ) أتبعه أيضاً بأن أصحاب الأعراف ينادون رجالاً من أهل النار واستغنى عن ذكر أهل النار لأجل أن الكلام المذكور لا يليق إلا بهم وهو قولهم مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ وذلك لا يليق إلا بمن يبكت ويوبخ ولا يليق أيضاً إلا بأكابرهم والمراد بالجمع إما جمع المال وإما الاجتماع والكثرة وَمَا كُنتُمْ والمراد استكبارهم عن قبول الحق واستكبارهم على الناس المحقين وقرىء تستكثرون من الكثرة وهذا كالدلالة على شماتة أصحاب الأعراف بوقوع أولئك المخاطبين في العقاب وعلى تبكيت عظيم يحصل لأولئك المخاطبين بسبب هذا الكلام ثم زادوا على هذا التبكيت وهو قولهم تَسْتَكْبِرُونَ أَهَاؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَة ٍ فأشاروا إلى فريق من أهل الجنة كانوا يستضعفونهم ويستقلون أحوالهم وربما هزؤوا بهم وأنفوا من مشاركتهم في دينهم فإذا رأى من كان يدعي التقدم حصول المنزلة العالية لمن كان مستضعفاً عنده قلق لذلك وعظمت حسرته وندامته على ما كان منه في نفسه
وأما قوله تعالى ادْخُلُواْ الْجَنَّة َ فقد اختلفوا فيه فقيل هم أصحاب الأعراف والله تعالى يقول لهم ذلك أو بعض الملائكة الذين يأمرهم الله تعالى بهذا القول وقيل بل يقول بعضهم لبعض والمراد أنه

تعالى يحث أصحاب الأعراف بالدخول في الجنة واللحوق بالمنزلة التي أعدها الله تعالى لهم وعلى هذا التقدير فقوله أَهَاؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَة ٍ من كلام أصحاب الأعراف وقوله ادْخُلُواْ الْجَنَّة َ من كلام الله تعالى ولا بد ههنا من إضمار والتقدير فقال الله لهم هذا كما قال يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مّنْ أَرْضِكُمْ ( الأعراف 110 ) وانقطع ههنا كلام الملأ ثم قال فرعون فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ( الأعراف 110 ) فاتصل كلامه بكلامهم من غير إظهار فارق فكذا ههنا
وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّة ِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَآءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَواة ُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هَاذَا وَمَا كَانُواْ بِأايَاتِنَا يَجْحَدُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين ما يقوله أصحاب الأعراف لأهل النار أتبعه بذكر ما يقوله أهل النار لأهل الجنة قال ابن عباس رضي الله عنهما لما صار أصحاب الأعراف إلى الجنة طمع أهل النار بفرج بعد اليأس فقالوا يا رب إن لنا قرابات من أهل الجنة فأذن لنا حتى نراهم ونكلمهم فأمر الله الجنة فتزحزحت ثم نظر أهل جهنم إلى قراباتهم في الجنة وما هم فيه من النعيم فعرفوهم ونظر أهل الجنة إلى قراباتهم من أهل جهنم فلم يعرفوهم وقد اسودت وجوههم وصاروا خلقاً آخر فنادى أصحاب النار أصحاب الجنة بأسمائهم وقالوا أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء وإنما طلبوا الماء خاصة لشدة ما في بواطنهم من الاحتراق واللهيب بسبب شدة حر جهنم وقوله أَفِيضُواْ كالدلالة على أن أهل الجنة أعلى مكاناً من أهل النار
فإن قيل أسألوا مع الرجاء والجواز ومع اليأس
قلنا ما حكيناه عن ابن عباس يدل على أنهم طلبوا الماء مع جواز الحصول وقال القاضي بل مع اليأس لأنهم قد عرفوا دوام عقابهم وأنه لا يفتر عنهم ولكن الآيس من الشيء قد يطلبه كما يقال في المثل الغريق يتعلق بالزبد وإن علم أنه لا يغيثه وقوله أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قيل إنه الثمار وقيل إنه الطعام وهذا الكلام يدل على حصول العطش الشديد والجوع الشديد لهم عن أبي الدرداء أن الله تعالى يرسل على أهل النار الجوع حتى يزداد عذابهم فيستغيثون فيغاثون بالضريع لا يسمن ولا يغني من جوع ثم يستغيثون فيغاثون بطعام ذي غصة ثم يذكرون الشراب ويستغيثون فيدفع إليهم الحميم والصديد بكلاليب

الحديد فيقطع ما في بطونهم ويستغيثون إلى أهل الجنة كما في هذه الآية فيقول أهل الجنة إن الله حرمهما على الكافرين ويقولون لمالك لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ( الزخرف 77 ) فيجيبهم على ما قيل بعد ألف عام ويقولون رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا ( المؤمنون 107 ) فيجيبهم اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ ( المؤمنون 108 ) فعند ذلك ييأسون من كل خير ويأخذون في الزفير والشهيق وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه ذكر في صفة أهل الجنة أنهم يرون الله عز وجل كل جمعة ولمنزل كل واحد منهم ألف باب فإذا رأوا الله تعالى دخل من كل باب ملك معه الهدايا الشريفة وقال إن نخل الجنة خشبها الزمرد وترابها الذهب الأحمر وسعفها حلل وكسوة لأهل الجنة وثمرها أمثال القلال أو الدلاء أشد بياضاً من الفضة وألين من الزبد وأحلى من العسل لا عجم له فهذا صفة أهل الجنة وصفة أهل النار ورأيت في بعض الكتب أن قارئاً قرأ قوله تعالى حكاية عن الكفار أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ في تذكرة الأستاذ أبي علي الدقاق فقال الأستاذ هؤلاء كانت رغبتهم وشهوتهم في الدنيا في الشرب والأكل وفي الآخرة بقوا على هذه الحالة وذلك يدل على أن الرجل يموت على ما عاش عليه ويحشر على ما مات عليه ثم بين تعالى أن هؤلاء الكفار لما طلبوا الماء والطعام من أهل الجنة قال أهل الجنة إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ ولا شك أن ذلك يفيد الخيبة التامة ثم إنه تعالى وصف هؤلاء الكفار بأنهم اتخذوا دينهم لهواً ولعباً وفيه وجهان
الوجه الأول أن الذي اعتقدوا فيه أنه دينهم تلاعبوا به وما كانوا فيه مجدين
والوجه الثاني أنهم اتخذوا اللهو واللعب ديناً لأنفسهم قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد المستهزئين المقتسمين ثم قال وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَواة ُ الدُّنْيَا وهو مجاز لأن الحياة الدنيا لا تغر في الحقيقة بل المراد أنه حصل الغرور عند هذه الحياة الدنيا لأن الإنسان يطمع في طول العمر وحسن العيش وكثرة المال وقوة الجاه فلشدة رغبته في هذه الأشياء يصير محجوباً عن طلب الدين غرقاً في طلب الدنيا ثم لما وصف الله تعالى أولئك الكفار بهذه الصفات قال فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَاذَا وفي تفسير هذا النسيان قولان
القول الأول أن النسيان هو الترك والمعنى نتركهم في عذابهم كما تركوا العمل للقاء يومهم هذا وهذا قول الحسن ومجاهد والسدي والأكثرين
والقول الثاني أن معنى ننساهم كما نسوا أي نعاملهم معاملة من نسي نتركهم في النار كما فعلوا هم في الإعراض بآياتنا وبالجملة فسمى الله جزاء نسيانهم بالنسيان كما في قوله وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا ( الشورى 40 ) والمراد من هذا النسيان أنه لا يجيب دعاءهم ولا يرحمهم ثم بين تعالى أن كل هذه التشديدات إنما كان لأنهم كانوا بآياتنا يجحدون وهذه الآية لطيفة عجيبة وذلك لأنه تعالى وصفهم بكونهم كانوا كافرين ثم بين من حالهم أنهم اتخذوا دينهم لهواً أولاً ثم لعباً ثانياً ثم غرتهم الحياة الدنيا ثالثاً ثم صار عاقبة هذه الأحوال والدرجات أنهم جحدوا بآيات الله وذلك يدل على أن حب الدنيا مبدأ كل آفة كما قال عليه الصلاة والسلام ( حب الدنيا رأس كل خطيئة ) وقد يؤدي حب الدنيا إلى الكفر والضلال

وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَة ً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال أهل الجنة وأهل النار وأهل الأعراف ثم شرح الكلمات الدائرة بين هؤلاء الفرق الثلاث على وجه يصير سماع تلك المناظرات حاملاً للمكلف على الحذر والاحتراز وداعياً له إلى النظر والاستدلال بين شرف هذا الكتاب الكريم ونهاية منفعته فقال وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ وهو القرآن فَصَّلْنَاهُ أي ميزنا بعضه عن بعض تمييزاً يهدي إلى الرشد ويؤمن عن الغلط والخبط فأما قوله عَلَى عِلْمٍ فالمراد أن ذلك التفصيل والتمييز إنما حصل مع العلم التام بما في كل فصل من تلك الفصول من الفوائد المتكاثرة والمنافع المتزايدة وقوله هُدًى وَرَحْمَة ً قال الزجاج هُدًى في موضع نصب أي فصلناه هادياً وذا رحمة وقوله لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يدل على أن القرآن جعل هدى لقوم مخصوصين والمراد أنهم هم الذين اهتدوا به دون غيرهم فهو كقوله تعالى في أول سورة البقرة هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2 ) واحتج أصحابنا بقوله فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ على أنه تعالى عالم بالعلم خلافاً لما يقوله المعتزلة من أنه ليس لله علم والله أعلم
هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِى تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين إزاحة العلة بسبب إنزال هذا الكتاب المفصل الموجب للهداية والرحمة بين بعده حال من كذب فقال هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ والنظر ههنا بمعنى الانتظار والتوقع
فإن قيل كيف يتوقعون وينتظرون مع جحدهم له وإنكارهم
قلنا لعل فيهم أقواماً تشككوا وتوقفوا فلهذا السبب انتظروه وأيضاً إنهم وإن كانوا جاحدين إلا أنهم بمنزلة المنتظرين من حيث إن تلك الأحوال تأتيهم لا محالة وقوله إِلاَّ تَأْوِيلَهُ قال الفراء الضمير في قوله تَأْوِيلِهِ للكتاب يريد عاقبة ما وعدوا به على ألسنة الرسل من الثواب والعقاب والتأويل مرجع الشيء ومصيره من قولهم آل الشيء يؤل وقد احتج بهذه الآية من ذهب إلى قوله وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ ( آل عمران 7 ) أي ما يعلم عاقبة الأمر فيه إلا الله وقوله يَوْمَ يَأْتِى تَأْوِيلُهُ يريد يوم القيامة قال الزجاج قوله يَوْمٍ نصب بقوله يِقُولُ وأما قوله يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ معناه أنهم صاروا في الإعراض عنه بمنزلة من نسيه ويجوز أن يكون معنى نَسُوهُ أي تركوا العمل به والإيمان به وهذا كما ذكرنا في قوله كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَاذَا ( الأعراف 51 ) ثم بين تعالى أن هؤلاء الذين نسوا يوم القيامة يقولون قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبّنَا بِالْحَقّ

والمراد أنهم أقروا بأن الذي جاءت به الرسل من ثبوت الحشر والنشر والبعث والقيامة والثواب والعقاب كل ذلك كان حقاً وإنما أقروا بحقيقة هذه الأشياء لأنهم شاهدوها وعاينوها وبين الله تعالى أنهم لما رأوا أنفسهم في العذاب قالوا هَل لَّنَا مِنَ شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ والمعنى إنه لا طريق لنا إلى الخلاص مما نحن فيه من العذاب الشديد إلا أحد هذين الأمرين وهو أن يشفع لنا شفيع فلأجل تلك الشفاعة يزول هذا العذاب أو يردنا الله تعالى إلى الدنيا حتى نعمل غير ما كنا نعمل يعني نوحد الله تعالى بدلاً عن الكفر ونطيعه بدلاً عن المعصية
فإن قيل أقالوا هذا الكلام مع الرجاء أو مع اليأس وجوابنا عنه مثل ما ذكرناه في قوله أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء ( الأعراف 50 ) ثم بين تعالى بقوله قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ أن الذين طلبوه لا يكون لأن ذلك المطلوب لو حصل لما حكم الله عليهم بأنهم قد خسروا أنفسهم
ثم قال وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ يريد أنهم لم ينتفعوا بالأصنام التي عبدوها في الدنيا ولم ينتفعوا بنصرة الأديان الباطلة التي بالغوا في نصرتها قال الجبائي هذه الآية تدل على حكيمن
الحكم الأول
قال الآية تدل على أنهم كانوا في حال التكليف قادرين على الإيمان والتوبة فلذلك سألوا الرد ليؤمنوا ويتوبوا ولو كانوا في الدنيا غير قادرين كما يقوله المجبرة لم يكن لهم في الرد فائدة ولا جاز أن يسألوا ذلك
الحكم الثاني
أن الآية تدل على بطلان قول المجبرة والذين يزعمون أن أهل الآخرة مكلفون لأنه لو كان كذلك لما سألوا الرد إلى حال وهم في الوقت على مثلها بل كانوا يتوبون ويؤمنون في الحال فبطل ما حكي عن النجار وطبقته من أن التكليف باق على أهل الآخرة
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَمَاوَاتِ والأرض فِي سِتَّة ِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِى الَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاٌّ مْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ

اعلم أنا بينا أن مدار أمر القرآن على تقدير هذه المسائل الأربع وهي التوحيد والنبوة والمعاد والقضاء والقدر ولا شك أن مدار إثبات المعاد على إثبات التوحيد والقدرة والعلم فلما بالغ الله تعالى في تقرير أمر المعاد عاد إلى ذكر الدلائل الدالة على التوحيد وكمال القدرة والعلم لتصير تلك الدلائل مقررة لأصول التوحيد ومقررة أيضاً لإثبات المعاد وفي الآية مسائل
المسألة الأولى حكى الواحدي عن الليث أنه قال الأصل في الست والستة سدس وسدسة أبدل السين تاء ولما كان مخرج الدال والتاء قريباً أدغم أحدهما في الآخر واكتفى بالتاء عليه أنك تقول في تصغير ستة سديسة وكذلك الأسداس وجميع تصرفاته يدل عليه والله أعلم
المسألة الثانية الْخَلْقِ التقدير على ما قررناه فخلق السموات والأرض إشارة إلى تقدير حالة من أحوالهما وذلك التقدير يحتمل وجوهاً كثيرة أولها تقدير ذواتهما بمقدار معين مع أن العقل يقضي بأن الأزيد منه والأنقص منه جائز فاختصاص كل واحد منهما بمقداره المعين لا بد وأن يكون بتخصيص مخصص وذلك يدل على افتقار خلق السموات والأرض إلى الفاعل المختار وثانيها أن كون هذه الأجسام متحركة في الأزل محال لأن الحركة انتقال من حال إلى حال فالحركة يجب كونها مسبوقة بحالة أخرى والأزل ينافي المسبوقية فكان الجمع بين الحركة وبين الأزل محالاً
إذا ثبت هذا فنقول هذه الأفلاك والكواكب إما أن يقال أن ذواتها كانت معدومة في الأزل ثم وجدت أو يقال إنها وإن كانت موجودة لكنها كانت واقفة ساكنة في الأزل ثم ابتدأت بالحركة وعلى التقديرين فتلك الحركات ابتدأت بالحدوث والوجود في وقت معين مع جواز حصولها قبل ذلك الوقت وبعده وإذا كان كذلك كان اختصاص ابتداء تلك الحركات بتلك الأوقات المعينة تقديراً وخلقاً ولا يحصل ذلك الاختصاص إلا بتخصيص مخصص قادر ومختار وثالثها أن أجرام الأفلاك والكواكب والعناصر مركبة من أجزاء صغيرة ولا بد وأن يقال إن بعض تلك الأجزاء حصلت في داخل تلك الأجرام وبعضها حصلت على سطوحها فاختصاص حصول كل واحدة من تلك الأجزاء بحيزه المعين لا بد وأن يكون لتخصيص المخصص القادر المختار ورابعها أن بعض الأفلاك أعلى من بعض وبعض الكواكب حصل في المنطقة وبعضها في القطبين فاختصاص كل واحد منهما بموضعه المعين لا بد وأن يكون لتخصيص مخصص قادر مختار وخامسها أن كل واحد من الأفلاك متحرك إلى جهة مخصوصة وحركة مختصة بمقدار معين مخصوص من البطء والسرعة وذلك أيضاً خلق وتقدير ويدل على وجود المخصص القادر وسادسها أن كل واحد من الكواكب مختص بلون مخصوص مثل كمودة زحل ودرية المشتري وحمرة المريخ وضياء الشمس وإشراق الزهرة وصفرة عطارد وزهور القمر والأجسام متماثلة في تمام الماهية فكان اختصاص كل واحد منها بلونه المعين خلقاً وتقديراً ودليلاً على افتقارها إلى الفاعل المختار وسابعها أن الأفلاك والعناصر مركبة من الأجزاء الصغيرة وواجب الوجود لا يكون أكثر من واحد فهي ممكنة الوجود في ذواتها فكل ما كان ممكناً لذاته فهو محتاج إلى المؤثر والحاجة إلى المؤثر لا تكون في حال البقاء وإلا لزم تكون الكائن فتلك الحاجة لا تحصل إلا في زمان الحدوث أو في زمان العدم وعلى التقديرين فيلزم كون هذه الأجزاء محدثة ومتى كانت محدثة كان حدوثها مختصاً بوقت معين وذلك خلق

وتقدير ويدل على الحاجة إلى الصانع القادر المختار وثامنها أن هذه الأجسام لا تخلو عن الحركة والسكون وهما محدثان وما لا يخلو عن المحدث فهو محدث فهذه الأجسام محدثة وكل محدث فقد حصل حدوثه في وقت معين وذلك خلق وتقدير ولا بد له من الصانع القادر المختار وتاسعها أن الأجسام متماثلة فاختصاص بعضها بالصفات التي لأجلها كانت سموات وكواكب والبعض الآخر بالصفات التي لأجلها كانت أرضاً أو ماء أو هواء أو ناراً لا بد وأن يكون أمراً جائزاً وذلك لا يحصل إلا بتقدير مقدر وتخصيص مخصص وهو المطلوب وعاشرها أنه كما حصل الامتياز المذكور بين الأفلاك والعناصر فقد حصل أيضاً مثل هذا الامتياز بين الكواكب وبين الأفلاك وبين العناصر بل حصل مثل هذا الامتياز بين كل واحد من الكواكب وذلك يدل على الافتقار إلى الفاعل القادر المختار
واعلم أن الخلق عبارة عن التقدير فإذا دللنا على أن الأجسام متماثلة وجب القطع بأن كل صفة حصلت لجسم معين فإن حصول تلك الصفة ممكن لسائر الأجسام وإذا كان الأمر كذلك كان اختصاص ذلك الجسم المعين بتلك الصفة المعينة خلقاً وتقديراً فكان داخلاً تحت قوله سبحانه إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ والله أعلم
المسألة الثالثة لسائل أن يسأل فيقول كون هذه الأشياء مخلوقة في ستة أيام لا يمكن جعله دليلاً على إثبات الصانع وبيانه من وجوه الأول أن وجه دلالة هذه المحدثات على وجود الصانع هو حدوثها أو إمكانها أو مجموعهما فإما وقوع ذلك الحدوث في ستة أيام أو في يوم واحد فلا أثر له في ذلك ألبتة والثاني أن العقل يدل على أن الحدوث على جميع الأحوال جائز وإذا كان كذلك فحينئذ لا يمكن الجزم بأن هذا الحدوث وقع في ستة أيام إلا بأخبار مخبر صادق وذلك موقوف على العلم بوجود الإله الفاعل المختار فلو جعلنا هذه المقدمة مقدمة في إثبات الصانع لزم الدور والثالث أن حدوث السموات والأرض دفعة واحدة أدل على كمال القدرة والعلم من حدوثها في ستة أيام
إذا ثبت ما ذكرناه من الوجوه الثلاثة فنقول ما الفائدة في ذكر أنه تعالى إنما خلقها في ستة أيام في إثبات ذكر ما يدل على وجود الصانع والرابع أنه ما السبب في أنه اقتصر ههنا على ذكر السموات والأرض ولم يذكر خلق سائر الأشياء
السؤال الخامس اليوم إنما يمتاز عن الليلة بسبب طلوع الشمس وغروبها فقبل خلق الشمس والقمر كيف يعقل حصول الأيام
والسؤال السادس أنه تعالى قال وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ واحِدَة ٌ كَلَمْحٍ الْبَصَرُ ( القمر 50 ) وهذا كالمناقض لقوله خُلِقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فِي سِتَّة ِ أَيَّامٍ
والسؤال السابع أنه تعالى خلق السموات والأرض في مدة متراخية فما الحكمة في تقييدها وضبطها بالأيام الستة فنقول أما على مذهبنا فالأمر في الكل سهل واضح لأنه تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ولا اعتراض عليه في أمر من الأمور وكل شيء صنعه ولا علة لصنعه ثم نقول
أما السؤال الأول فجوابه أنه سبحانه ذكر في أول التوراة أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام

والعرب كانوا يخالطون اليهود والظاهر أنهم سمعوا ذلك منهم فكأنه سبحانه يقول لا تشتغلوا بعبادة الأوثان والأصنام فإن ربكم هو الذي سمعتم من عقلاء الناس أنه هو الذي خلق السموات والأرض على غاية عظمتها ونهاية جلالتها في ستة أيام
وأما السؤال الثالث فجوابه أن المقصود منه أنه سبحانه وتعالى وإن كان قادراً على إيجاد جميع الأشياء دفعة واحدة لكنه جعل لكل شيء حداً محدوداً ووقتاً مقدراً فلا يدخله في الوجود إلا على ذلك الوجه فهو وإن كان قادراً على إيصال الثواب إلى المطيعين في الحال وعلى إيصال العقاب إلى المذنبين في الحال إلا أنه يؤخرهما إلى أجل معلوم مقدر فهذا التأخير ليس لأجل أنه تعالى أهمل العباد بل لما ذكرنا أنه خص كل شيء بوقت معين لسابق مشيئته فلا يفتر عنه ويدل على هذا قوله تعالى في سورة ق وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّة ِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ ( ق 38 39 ) بعد أن قال قبل هذا وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً فَنَقَّبُواْ فِى الْبِلَادِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ إِنَّ فِى ذالِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ( ق 36 37 ) فأخبرهم بأنه قد أهلك من المشركين به والمكذبين لأنبيائه من كان أقوى بطشاً من مشركي العرب إلا أنه أمهل هؤلاء لما فيه من المصلحة كما خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام متصلة لا لأجل لغوب لحقه في الإمهال ولما بين بهذا الطريق أنه تعالى إنما خلق العالم لا دفعة لكن قليلاً قليلاً قال بعده فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ من الشرك والتكذيب ولا تستعجل لهم العذاب بل توكل على الله تعالى وفوض الأمر إليه وهذا معنى ما يقوله المفسرون من أنه تعالى إنما خلق العالم في ستة أيام ليعلم عباده الرفق في الأمور والصبر فيها ولأجل أن لا يحمل المكلف تأخر الثواب والعقاب على الإهمال والتعطيل ومن العلماء من ذكر فيه وجهين آخرين
الوجه الأول أن الشيء إذا أحدث دفعة واحدة ثم انقطع طريق الإحداث فلعله يخطر ببال بعضهم أن ذاك إنما وقع على سبيل الاتفاق أما إذا حدثت الأشياء على التعاقب والتواصل مع كونها مطابقة للمصلحة والحكمة كان ذلك أقوى في الدلالة على كونها واقعة بإحداث محدث قديم حكيم وقادر عليم رحيم
الوجه الثاني أنه قد ثبت بالدليل أنه تعالى يخلق العاقل أولاً ثم يخلق السموات والأرض بعده ثم إن ذلك العاقل إذا شاهد في كل ساعة وحين حدوث شيء آخر على التعاقب والتوالي كان ذلك أقوى لعلمه وبصيرته لأنه يتكرر على عقله ظهور هذا الدليل لحظة بعد لحظة فكان ذلك أقوى في إفادة اليقين
وأما السؤال الرابع فجوابه أن ذكر السموات والأرض في هذه الآية يشتمل أيضاً على ذكر ما بينهما والدليل عليه أنه تعالى ذكر سائر المخلوقات في سائر الآيات فقال اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّة ِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مّن دُونِهِ مِن وَلِيّ وَلاَ شَفِيعٍ وقال وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَى ّ الَّذِى لاَ يَمُوتُ وَسَبّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا ( الفرقان 58 59 ) وقال وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّة ِ أَيَّامٍ ( ق 38 )
وأما السؤال الخامس فجوابه أن المراد أنه تعالى خلق السموات والأرض في مقدار ستة أيام وهو كقوله لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَة ً وَعَشِيّاً والمراد على مقدار البكرة والعشي في الدنيا لأنه لا ليل ثم ولا نهار

وأما السؤال السادس فجوابه أن قوله وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ واحِدَة ٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ( القمر 50 ) محمول على إيجاد كل واحد من الذوات وعلى إعدام كل واحد منها لأن إيجاد الذات الواحدة وإعدام الموجود الواحد لا يقبل التفاوت فلا يمكن تحصيله إلا دفعة واحدة وأما الإمهال والمدة فذاك لا يحصل إلا في المدة
وأما السؤال السابع وهو تقدير هذه المدة بستة أيام فهو غير وارد لأنه تعالى لو أحدثه في مقدار آخر من الزمان لعاد ذلك السؤال وأيضاً قال بعضهم لعدد السبعة شرف عظيم وهو مذكور في تقرير أن ليلة القدر هي ليلة السابع والعشرين وإذا ثبت هذا قالوا فالأيام الستة في تخليق العالم واليوم السابع في حصول كمال الملك والملكوت وبهذا الطريق حصل الكمال في الأيام السبعة انتهى
المسألة الرابعة في هذه الآية بشارة عظيمة للعقلاء لأنه قال إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ والمعنى أن الذي يربيكم ويصلح شأنكم ويوصل إليكم الخيرات ويدفع عنكم المكروهات هو الذي بلغ كمال قدرته وعلمه وحكمته ورحمته إلى حيث خلق هذه الأشياء العظيمة وأودع فيها أصناف المنافع وأنواع الخيرات ومن كان له مرب موصوف بهذه الحكمة والقدرة والرحمة فكيف يليق أن يرجع إلى غيره في طلب الخيرات أو يعول على غيره في تحصيل السعادات ثم في الآية دقيقة أخرى فإنه لم يقل أنتم عبيده بل قال هو ربكم ودقيقة أخرى وهي أنه تعالى لما نسب نفسه إلينا سمى نفسه في هذه الحالة بالرب وهو مشعر بالتربية وكثرة الفضل والإحسان فكأنه يقول من كان له مرب مع كثرة هذه الرحمة والفضل فكيف يليق به أن يشتغل بعبادة غيره
أما قوله تعالى ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ فاعلم أنه لا يمكن أن يكون المراد منه كونه مستقراً على العرش ويدل على فساده وجوه عقلية ووجوه نقلية أما العقلية فأمور أولها أنه لو كان مستقراً على العرش لكان من الجانب الذي يلي العرش متناهياً وإلا لزم كون العرش داخلاً في ذاته وهو محال وكل ما كان متناهياً فإن العقل يقضي بأنه لا يمنع أن يصير أزيد منه أو أنقص منه بذرة والعلم بهذا الجواز ضروري فلو كان الباري تعالى متناهياً من بعض الجوانب لكانت ذاته قابلة للزيادة والنقصان وكل ما كان كذلك كان اختصاصه بذلك المقدار المعين لتخصيص مخصص وتقدير مقدر وكل ما كان كذلك فهو محدث فثبت أنه تعالى لو كان على العرش لكان من الجانب الذي يلي العرش متناهياً ولو كان كذلك لكان محدثاً وهذا محال فكونه على العرش يجب أن يكون محالاً وثانيها لو كان في مكان وجهة لكان إما أن يكون غير متناه من كل الجهات وإما أن يكون متناهياً في كل الجهات وإما أن يكون متناهياً من بعض الجهات دون البعض والكل باطل فالقول بكونه في المكان والحيز باطل قطعاً
بيان فساد القسم الأول أنه يلزم أن تكون ذاته مخالطة لجميع الأجسام السفلية والعلوية وأن تكون مخالطة للقاذورات والنجاسات وتعالى الله عنه وأيضاً فعلى هذا التقدير تكون السموات حالة في ذاته وتكون الأرض أيضاً حالة في ذاته
إذا ثبت هذا فنقول الشيء الذي هو محل السموات إما أن يكون هو عين الشيء الذي هو محل الأرضين أو غيره فإن كان الأول لزم كون السموات والأرضين حالتين في محل واحد من غير امتياز بين محليهما أصلاً وكل حالين حلا في محل واحد لم يكن أحدهما ممتازاً عن الآخر فلزم أن يقال

السموات لا تمتاز عن الأرضين في الذات وذلك باطل وإن كان الثاني لزم أن تكون ذات الله تعالى مركبة من الأجزاء والأبعاض وهو محال والثالث وهو أن ذات الله تعالى إذا كانت حاصلة في جميع الأحياز والجهات فإما أن يقال الشيء الذي حصل فوق هو عين الشيء الذي حصل تحت فحينئذ تكون الذات الواحدة قد حصلت دفعة واحدة في أحياز كثيرة وإن عقل ذلك فلم لا يعقل أيضاً حصول الجسم الواحد في أحياز كثيرة دفعة واحدة وهو محال في بديهة العقل وأما إن قيل الشيء الذي حصل فوق غير الشيء الذي حصل تحت فحينئذ يلزم حصول التركيب والتبعيض في ذات الله تعالى وهو محال
وأما القسم الثاني وهو أن يقال أنه تعالى متناه من كل الجهات فنقول كل ما كان كذلك فهو قابل للزيادة والنقصان في بديهة العقل وكل ما كان كذلك كان اختصاصه بالمقدار المعين لأجل تخصيص مخصص وكل ما كان كذلك فهو محدث وأيضاً فإن جاز أن يكون الشيء المحدود من كل الجوانب قديماً أزلياً فاعلاً للعالم فلم لا يعقل أن يقال خالق العالم هو الشمس أو القمر أو كوكب آخر وذلك باطل باتفاق
وأما القسم الثالث وهو أن يقال أنه متناه من بعض الجوانب وغير متناه من سائر الجوانب فهذا أيضاً باطل من وجوه أحدها أن الجانب الذي صدق عليه كونه متناهياً غير ما صدق عليه كونه غير متناه وإلا لصدق النقيضان معاً وهو محال وإذا حصل التغاير لزم كونه تعالى مركباً من الأجزاء والأبعاض وثانيها أن الجانب الذي صدق حكم العقل عليه بكونه متناهياً إما أن يكون مساوياً للجانب الذي صدق حكم العقل عليه بكونه غير متناه وإما أن لا يكون كذلك والأول باطل لأن الأشياء المتساوية في تمام الماهية كل ما صح على واحد منها صح على الباقي وإذا كان كذلك فالجانب للذي هو غير متناه يمكن أن يصير متناهياً والجانب الذي هو متناه يمكن أن يصير غير متناه ومتى كان الأمر كذلك كان النمو والذبول والزيادة والنقصان والتفرق والتمزق على ذاته ممكناً وكل ما كان كذلك فهو محدث وذلك على الإله القديم محال فثبت أنه تعالى لو كان حاصلاً في الحيز والجهة لكان إما أن يكون غير متناه من كل الجهات وإما أن يكون متناهياً من كل الجهات أو كان متناهياً من بعض الجهات وغير متناه من سائر الجهات فثبت أن الأقسام الثلاثة باطلة فوجب أن نقول القول بكونه تعالى حاصلاً في الحيز والجهة محال
والبرهان الثالث لو كان الباري تعالى حاصلاً في المكان والجهة لكان الأمر المسمى بالجهة إما أن يكون موجوداً مشاراً إليه وإما أن لا يكون كذلك والقسمان باطلان فكان القول بكونه تعالى حاصلاً في الحيز والجهة باطلاً
أما بيان فساد القسم الأول فلأنه لو كان المسمى بالحيز والجهة موجوداً مشاراً إليه فحينئذ يكون المسمى بالحيز والجهة بعداً وامتداد والحاصل فيه أيضاً يجب أن يكون له في نفسه بعد وامتداد وإلا لامتنع حصوله فيه وحينئذ يلزم تداخل البعدين وذلك محال للدلائل الكثيرة المشهورة في هذا الباب وأيضاً فيلزم من كون الباري تعالى قديماً أزلياً كون الحيز والجهة أزليين وحينئذ يلزم أن يكون قد حصل في الأزل موجود قائم بنفسه سوى الله تعالى وذلك بإجماع أكثر العقلاء باطل

وأما بيان فساد القسم الثاني فهو من وجهين أحدهما أن العدم نفي محض وعدم صرف وما كان كذلك امتنع كونه ظرفاً لغيره وجهة لغيره وثانيهما أن كل ما كان حاصلاً في جهة فجهته ممتازة في الحس عن جهة غيره فلو كانت تلك الجهة عدماً محضاً لزم كون العدم المحض مشاراً إليه بالحس وذلك باطل فثبت أنه تعالى لو كان حاصلاً في حيز وجهة لأفضى إلى أحد هذين القسمين الباطين فوجب أن يكون القول به باطلاً
فإن قيل فهذا أيضاً وارد عليكم في قولكم الجسم حاصل في الحيز والجهة
فنقول نحن على هذا الطريق لا نثبت للجسم حيزاً ولا جهة أصلاً ألبتة بحيث تكون ذات الجسم نافدة فيه وسارية فيه بل المكان عبارة عن السطح الباطن من الجسم الحاوي المماس للسطح الظاهر من الجسم المحوي وهذا المعنى محال بالاتفاق في حق الله تعالى فسقط هذا السؤال
البرهان الرابع لو امتنع وجود الباري تعالى إلا بحيث يكون مختصاً بالحيز والجهة لكانت ذات الباري مفتقرة في تحققها ووجودها إلى الغير وكل ما كان كذلك فهو ممكن لذاته ينتج أنه لو امتنع وجود الباري إلا في الجهة والحيز لزم كونه ممكناً لذاته ولما كان هذا محالاً كان القول بوجوب حصوله في الحيز محالاً
بيان المقام الأول هو أنه لما امتنع حصول ذات الله تعالى إلا إذا كان مختصاً بالحيز والجهة فنقول لا شك أن الحيز والجهة أمر مغاير لذات الله تعالى فحينئذ تكون ذات الله تعالى مفتقرة في تحققها إلى أمر يغايرها وكل ما افتقر تحققه إلى ما يغايره كان ممكناً لذاته والدليل عليه أن الواجب لذاته هو الذي لا يلزم من عدم غيره عدمه والمفتقر إلى الغير هو الذي يلزم من عدم غيره عدمه فلو كان الواجب لذاته مفتقراً إلى الغير لزم أن يصدق عليه النقيضان وهو محال فثبت أنه تعالى لو وجب حصوله في الحيز لكان ممكناً لذاته لا واجباً لذاته وذلك محال
والوجه الثاني في تقرير هذه الحجة هو أن الممكن محتاج إلى الحيز والجهة أما عند من يثبت الخلاء فلا شك أن الحيز والجهة تتقرر مع عدم التمكن وأما عند من ينفي الخلاء فلا لأنه وإن كان معتقداً أنه لا بد من متمكن يحصل في الجهة إلا أنه لا يقول بأنه لابد لتلك الجهة من متمكن معين بل أي شيء كان فقد كفى في كونه شاغلاً لذلك الحيز إذا ثبت هذا فلو كان ذات الله تعالى مختصة بجهة وحيز لكانت ذاته مفتقرة إلى ذلك الحيز وكان ذلك الحيز غنياً تحققه عن ذات الله تعالى وحينئذ يلزم أن يقال الحيز واجب لذاته غني عن غيره وأن يقال ذات الله تعالى مفتقرة في ذاتها واجبة بغيرها وذلك يقدح في قولنا الإله تعالى واجب الوجود لذاته
فإن قيل الحيز والجهة ليس بأمر موجود حتى يقال ذات الله تعالى مفتقرة إليه ومحتاجة إليه
فنقول هذا باطل قطعاً لأن بتقدير أن يقال إن ذات الله تعالى مختصة بجهة فوق فإنما نميز بحسب الحس بين تلك الجهة وبين سائر الجهات وما حصل فيه الامتياز بحسب الحس كيف يعقل أن يقال إنه عدم محض ونفي صرف ولو جاز ذلك لجاز مثله في كل المحسوسات وذلك يوجب حصول الشك في وجود كل

المحسوسات وذلك لا يقوله عاقل
البرهان الخامس في تقرير أنه تعالى يمتنع كونه مختصاً بالحيز والجهة نقول الحيز والجهة لا معنى له إلا الفراغ المحض والخلاء الصرف وصريح العقل يشهد أن هذا المفهوم مفهوم واحد لا اختلاف فيه ألبتة وإذا كان الأمر كذلك كانت الأحياز بأسرها متساوية في تمام الماهية
وإذا ثبت هذا فنقول لو كان الإله تعالى مختصاً بحيز لكان محدثاً وهذا محال فذاك محال وبيان الملازمة أن الأحياز لما ثبت أنها بأسرها متساوية فلو اختص ذات الله تعالى بحيز معين لكان اختصاصه به لأجل أن مخصصاً خصصه بذلك الحيز وكل ما كان فعلاً لفاعل مختار فهو محدث فوجب أن يكون اختصاص ذات الله بالحيز المعين محدثاً فإذا كانت ذاته ممتنعة الخلو عن الحصول في الحيز وثبت أن الحصول في الحيز محدث وبديهة العقل شاهدة بأن ما لا يخلو عن المحدث فهو محدث لزم القطع بأنه لو كان حاصلاً في الحيز لكان محدثاً ولما كان هذا محالاً كان ذلك أيضاً محالاً
فإن قالوا الأحياز مختلفة بحسب أن بعضها علو وبعضها سفل فلم لا يجوز أن يقال ذات الله تعالى مختصة بجهة علو فنقول هذا باطل لأن كون بعض تلك الجهات علو وبعضها سفلاً أحوال لا تحصل إلا بالنسبة إلى وجود هذا العالم فلما كان هذا العالم محدثاً كان قبل حدوثه لا علو ولا سفل ولا يمين ولا يسار بل ليس إلا الخلاء المحض وإذا كان الأمر كذلك فحينئذ يعود الإلزام المذكور بتمامه وأيضاً لو جاز القول بأن ذات الله تعالى مختصة ببعض الأحياز على سبيل الوجوب فلم لا يعقل أيضاً أن يقال إن بعض الأجسام اختص ببعض الأحياز على سبيل الوجوب وعلى ها التقدير فذلك اسم لا يكون قابلاً للحركة والسكون فلا يجري فيه دليل حدوث الأجسام والقائل بهذا القول لا يمكنه إقامة الدلالة على حدوث كل الأجسام بطريق الحركة والسكون والكرامية وافقونا على أن تجويز هذا يوجب الكفر والله أعلم
البرهان السادس لو كان الباري تعالى حاصلاً في الحيز والجهة لكان مشاراً إليه بحسب الحس وكل ما كان كذلك فإما أن لا يقبل القسمة بوجه من الوجوه وإما أن يقبل القسمة
فإن قلنا إنه تعالى يمكن أن يشار إليه بحسب الحس مع أنه لا يقبل القسمة المقدارية ألبتة كان ذلك نقطة لا تنقسم وجوهراً فرداً لا ينقسم فكان ذلك في غاية الصغر والحقارة وهذا باطل بإجماع جميع العقلاء وذلك لأن الذين ينكرون كونه تعالى في الجهة ينكرون كونه تعالى كذلك والذين يثبتون كونه تعالى في الجهة ينكرون كونه تعالى في الصغر والحقارة مثل الجزء الذي لا يتجزأ فثبت أن هذا بإجماع العقلاء باطل وأيضاً فلو جاز ذلك فلم لا يعقل أن يقال إله العالم جزء من ألف جزء من رأس إبرة أو ذرة ملتصقة بذنب قملة أو نملة ومعلوم أن كل قول يفضي إلى مثل هذه الأشياء فإن صريح العقل يوجب تنزيه الله تعالى عنه
وأما القسم الثاني وهو أنه يقبل القسمة فنقول كل ما كان كذلك فذاته مركبة وكل مركب فهو ممكن لذاته وكل ممكن لذاته فهو مفتقر إلى الموجد والمؤثر وذلك على الإله الواجب لذاته محال

البرهان السابع أن نقول كل ذات قائمة بنفسها مشاراً إليها بحسب الحس فهو منقسم وكل منقسم ممكن فكل ذات قائمة بنفسها مشار إليها بحسب الحس فهو ممكن فما لا يكون ممكناً لذاته بل كان واجباً لذاته امتنع كونه مشاراً إليه بحسب الحس
أما المقدمة الأولى فلأن كل ذات قائمة بالنفس مشار إليها بحسب الحس فلا بد وأن يكون جانب يمينه مغايراً لجانب يساره وكل ماهو كذلك فهو منقسم
وأما المقدمة الثانية وهي أن كل منقسم ممكن فإنه يفتقر إلى كل واحد من أجزائه وكل واحد من أجزائه غيره وكل منقسم فهو مفتقر إلى غيره وكل مفتقر إلى غيره فهو ممكن لذاته
واعلم أن المقدمة الأولى من مقدمات هذا الدليل إنما تتم بنفي الجوهر الفرد
البرهان الثامن لو ثبت كونه تعالى في حيز لكان إما أن يكون أعظم من العرش أو مساوياً له أو أصغر منه فإن كان الأول كان منقسماً لأن القدر الذي منه يساوي العرش يكون مغايراً للقدر الذي يفضل على العرش وإن كان الثاني كان منقسماً لأن العرش منقسم والمساوي للمنقسم منقسم وإن كان الثالث فحينئذ يلزم أن يكون العرش أعظم منه وذلك باطل بإجماع الأمة أما عندنا فظاهر وأما عند الخصوم فلأنهم ينكرون كون غير الله تعالى أعظم من الله تعالى فثبت أن هذا المذهب باطل
البرهان التاسع لو كان الإله تعالى حاصلاً في الحيز والجهة لكان إما أن يكون متناهياً من كل الجوانب وإما أن لا يكون كذلك والقسمان باطلان فالقول بكونه حاصلاً في الحيز والجهة باطل أيضاً أما بيان أنه لا يجوز أن يكون متناهياً من كل الجهات فلأن على هذا التقدير يحصل فوقه أحياز خالية وهو تعالى قادر على خلق الجسم في ذلك الحيز الخالي وعلى هذا التقدير لو خلق هناك عالماً آخر لحصل هو تعالى تحت العالم وذلك عند الخصم محال وأيضاً فقد كان يمكن أن يخلق من الجوانب الستة لتلك الذات أجساماً أخرى وعلى هذا التقدير فتحصل ذاته في وسط تلك الأجسام محصورة فيها ويحصل بينه وبين الأجسام الاجتماع تارة والافتراق أخرى وكل ذلك على الله تعالى محال
وأما القسم الثاني وهو أن يكون غير متناه من بعض الجهات فهذا أيضاً محال لأنه ثبت بالبرهان أنه يمتنع وجود بعد لا نهاية له وأيضاً فعلى هذا التقدير لا يمكن إقامة الدلالة على أن العالم متناه لأن كل دليل يذكر في تناهي الأبعاد فإن ذلك الدليل ينتقض بذات الله تعالى فإنه على مذهب الخصم بعد لا نهاية له وهو وإن كان لا يرضى بهذا اللفظ إلا أنه يساعد على المعنى والمباحث العقلية مبنية على المعاني لا على المشاحة في الألفاظ
البرهان العاشر لو كان الإله تعالى حاصلاً في الحيز والجهة لكان كونه تعالى هناك إما أن يمنع من حصول جسم آخر هناك أو لا يمنع والقسمان باطلان فبطل القول بكونه حاصلاً في الحيز
أما فساد القسم الأول فلأنه لما كان كونه هناك مانعاً من حصول جسم آخر هناك كان هو تعالى مساوياً لسائر الأجسام في كونه حجماً متحيزاً ممتداً في الحيز والجهة مانعاً من حصول غيره في الحيز الذي هو فيه وإذا ثبت حصول المساواة في ذلك المفهوم بينه وبين سائر الأجسام فإما أن يحصل بينه وبينها مخالفة

من سائر الوجوه أو لا يحصل والأول باطل لوجهين الأول أنه إذا حصلت المشاركة بين ذاته تعالى وبين ذوات الأجسام من بعض الوجوه والمخالفة من سائر الوجوه كان ما به المشاركة مغايراً لما به المخالفة وحينئذ تكون ذات الباري تعالى مركبة من هذين الاعتبارين وقد دللنا على أن كل مركب ممكن فواجب الوجود لذاته ممكن الوجود لذاته هذا خلف والثاني وهو أن ما به المشاركة وهو طبيعة البعد والامتداد إما أن يكون محلاً لما به المخالفة وإما أن يكون حالاً فيه وإما أن يقال إنه لا محل له ولا حالاً فيه أما الأول وهو أن يكون محلاً لما به المخالفة فعلى هذا التقدير طبيعة البعد والامتداد هي الجوهر القائم بنفسه والأمور التي حصلت بها المخالفة أعراض وصفات وإذا كانت الذوات متساوية في تمام الماهية فكل ما صح على بعضها وجب أن يصح على البواقي فعلى هذا التقدير كل ما صح على جميع الأجسام وجب أن يصح على الباري تعالى وبالعكس ويلزم منه صحة التفرق والتمزق والنمو والذبول والعفونة والفساد على ذات الله تعالى وكل ذلك محال
وأما القسم الثاني وهو أن يقال ما به المخالفة محل وذات وما به المشاركة حال وصفة فهذا محال لأن على هذا التقدير تكون طبيعة البعد والامتداد صفة قائمة بمحل وذلك المحل إن كان له أيضاً اختصاص بحيز وجهة وجب افتقاره إلى محل آخر لا إلى نهاية وإن لم يكن كذلك فحينئذ يكون موجوداً مجرداً لا تعلق له بالحيز والجهة والإشارة الحسية ألبتة وطبيعة البعد والامتداد واجبة الاختصاص بالحيز والجهة والإشارة الحسية وحلول ما هذا شأنه في ذلك المحل يوجب الجمع بين النقيضين وهو محال
وأما القسم الثالث وهو أن لا يكون أحدهما حالاً في الآخر ولا محلاً له فنقول فعلى هذا التقدير يكون كل واحد منهما متبايناً عن الآخر وعلى هذا التقدير فتكون ذات الله تعالى مساوية لسائر الذوات الجسمانية في تمام الماهية لأن ما به المخالفة بين ذاته وبين سائر الذوات ليست حالة في هذه الذوات ولا محالاً لها بل أمور أجنبية عنها فتكون ذات الله تعالى مساوية لذوات الأجسام في تمام الماهية وحينئذ يعود الإلزام المذكور فثبت أن القول بأن ذات الله تعالى مختصة بالحيز والجهة بحيث يمنع من حصول جسم آخر في ذلك الحيز يفضي إلى هذه الأقسام الثاثلا الباطلة فوجب كونه باطلاً
وأما القسم الثاني وهو أن يقال إن ذات الله تعالى وإن كانت مختصة بالحيز والجهة إلا أنه لا يمنع من حصول جسم آخر في ذلك الحيز والجهة فهذا أيضاً محال لأنه يوجب كون ذاته مخالطة سارية في ذات ذلك الجسم الذي يحصل في ذلك الجنب والحيز وذلك بالإجماع محال ولأنه لو عقل ذلك فلم لا يعقل حصول الأجسام الكثيرة في الحيز الواحد فثبت أنه تعالى لو كان حاصلاً في حيز لكان إما أن يمنع حصول جسم آخر في ذلك الحيز أو لا يمنع وثبت فساد القسمين فكان القول بحصوله تعالى في الحيز والجهة محالاً باطلاً
البرهان الحادي عشر على أنه يمتنع حصول ذات الله تعالى في الحيز والجهة هو أن نقول لو كان مختصاً بحيز وجهة لكان إما أن يكون بحيث يمكنه أن يتحرك عن تلك الجهة أو لا يمكنه ذلك والقسمان باطلان فبطل القول بكونه حاصلاً في الحيز
أما القسم الأول وهو أنه يمكنه أن يتحرك فنقول هذه الذات لا تخلو عن الحركة والسكون وهما

محدثان لأن على هذا التقدير السكون جائز عليه والحركة جائزة عليه ومتى كان كذلك لم يكن المؤثر في تلك الحركة ولا في ذلك السكون ذاته وإلا لامتنع طريان ضده والتقدير هو تقدير أنه يمكنه أن يتحرك وأن يسكن وإذا كان كذلك ان المؤثر في حصول تلك الحركة وذلك السكون هو الفاعل المختار وكل ما كان فعلاً لفاعل مختار فهو محدث فالحركة والسكون محدثان وما لا يخلو عن المحدث فهو محدث فيلزم أن تكون ذاته تعالى محدثة وهو محال
وأما القسم الثاني وهو أنه يكون مختصاً بحيز وجهة مع أنه لا يقدر أن يتحرك عنه فهذا أيضاً محال لوجهين الأول أن على هذا التقدير يكون كالزمن المقعد العاجز وذلك نقص وهو على الله محال والثاني أنه لو لم يمتنع فرض موجود حاصل في حيز معين بحيث يكون حصوله فيه واجب التقرر ممتنع الزوال لم يبعد أيضاً فرض أجسام أخرى مختصة بأحياز معينة بحيث يمتنع خروجها عن تلك الأحياز وعلى هذا التقدير فلا يمكن إثبات حدوثها بدليل الحركة والسكون والكرامية يساعدون على أنه كفر والثالث أنه تعالى لما كان حاصلاً في الحيز والجهة كان مساوياً للأجسام في كونه متحيزاً شاغلاً للأحياز ثم نقيم الدلالة المذكورة على أن المتحيزات لما كانت متساوية في صفة التحيز وجب كونها متساوية في تمام الماهية لأنه لو خالف بعضها بعضاً لكان ما به المخالفة إما أن يكون حالاً في المتحيز أو محلاً له أو لا حالاً ولا محلاً والأقسام الثلاثة باطلة على ما سبق وإذا كانت متساوية في تمام الماهية فكما أن الحركة صحيحة على هذه الأجسام وجب القول بصحتها على ذات الله تعالى وحينئذ يتم الدليل
الحجة الثانية عشرة لو كان تعالى مختصاً بحيز معين لكنا إذا فرضنا وصول إنسان إلى طرف ذلك الشيء وحاول الدخول فيه فإما أن يمكنه النفوذ والدخول فيه أو لا يمكنه ذلك فإن كان الأول كان كالهواء اللطيف والماء اللطيف وحينئذ يكون قابلاً للتفرق والتمزق وإن كان الثاني كان صلباً كالحجر الصلد الذي لا يمكنه النفوذ فيه فثبت أنه تعالى لو كان مختصاً بمكان وحيز وجهة لكان إما أن يكون رقيقاً سهل التفرق والتمزق كالماء والهواء وإما أن يكون صلباً جاسئاً كالحجر الصلد وقد أجمع المسلمون على أن إثبات هاتين الصفتين في حق الإله كفر وإلحاد في صفته وأيضاً فبتقدير أن يكون مختصاً بمكان وجهة لكان إما أن يكون نورانياً وظلمانياً وجمهور المشبهة يعتقدون أنه نور محض لاعتقادهم أن النور شريف والظلمة خسيسة إلا أن الاستقراء العام دل على أن الأشياء النورانية رقيقة لا تمنع النافذ من النفوذ فيها والدخول فيما بين أجزائها وعلى هذا التقدير فإن ذلك الذي ينفذ فيه يمتزج به ويفرق بين أجزائه ويكون ذلك الشيء جارياً مجرى الهواء الذي يتصل تارة وينفصل أخرى ويجتمع تارة ويتمزق أخرى وذلك مما لا يليق بالمسلم أن يصف إله العالم به ولو جاز ذلك فلم لا يجوز أن يقال أن خالق العالم هو بعض هذه الرياح التي تهب أو يقال إنه بعض هذه الأنوار والأضواء التي تشرق على الجدران والذين يقولون إنه لا يقبل التفرق والتمزق ولا يتمكن النافذ من النفوذ فإنه يرجع حاصل كلامهم إلى أنه حصل فوق العالم جبل صلب شديد وإله هذا العالم هو ذلك الجبل الصلب الواقف في الحيز العالي وأيضاً فإن كان له طرف وحد ونهاية فهل حصل لذلك الشيء عمق وثخن أو لم يحصل فإن كان الأول فحينئذ يكون ظاهره غير باطنه وباطنه غير ظاهره فكان مؤلفاً مركباً من الظاهر والباطن مع أن باطنه غير ظاهره وظاهره غير باطنه وإن كان الثاني

فحينئذ يكون ذاته سطحاً رقيقاً في غاية الرقة مثل قشرة الثوم بل أرق منه ألف ألف مرة والعاقل لا يرضى أن يجعل مثل هذا الشيء إله العالم فثبت أن كونه تعالى في الحيز والجهة يفضي إلى فتح باب هذه الأقسام الباطلة الفاسدة
الحجة الثالثة عشرة العالم كرة وإذا كان الأمر كذلك امتنع أن يكون إله العالم حاصلاً في جهة فوق
أما المقام الأول فهو مستقصي في علم الهيئة إلا أنا نقول أنا إذا اعتبرنا كسوفاً قمرياً حصل في أول الليل بالبلاد الغربية كان عين ذلك الكسوف حاصلاً في البلاد الشرقية في أول النهار فعلمنا أن أول الليل بالبلاد الغربية هو بعينه أول النهار بالبلاد الشرقية وذلك لا يمكن إلا إذا كانت الأرض مستديرة من المشرق إلى المغرب وأيضاً إذا توجهنا إلى الجانب الشمالي فكلما كان توغلنا أكثر كان ارتفاع القطب الشمالي أكثر وبمقدار ما يرتفع القطب الشمالي ينخفض القطب الجنوبي وذلك يدل على أن الأرض مستديرة من الشمال إلى الجنوب ومجموع هذين الاعتبارين يدل على أن الأرض كرة
وإذا ثبت هذا فنقول إذا فرضنا إنسانين وقف أحدهما على نقطة المشرق والأخر على نقطة المغرب صار أخمص قدميهما متقابلين والذي هو فوق بالنسبة إلى أحدهما يكون تحت بالنسبة إلى الثاني فلو فرضنا أن إله العالم حصل في الحيز الذي فوق بالنسبة إلى أحدهما فذلك الحيز بعينه هو تحت بالنسبة إلى الثاني وبالعكس فثبت أنه تعالى لو حصل في حيز معين لكان ذلك الحيز تحتاً بالنسبة إلى أقوام معينين وكونه تعالى تحت أهل الدنيا محال بالاتفاق فوجب أن لا يكون حاصلاً في حيز معين وأيضاً فعلى هذا التقدير أنه كلما كان فوق بالنسبة إلى أقوام كان تحت بالنسبة إلى أقوام آخرين وكان يميناً بالنسبة إلى ثالث وشمالاً بالنسبة إلى رابع وقدام الوجه بالنسبة إلى خامس وخلق الرأس بالنسبة إلى سادس فإن كون الأرض كرة يوجب ذلك إلا أن حصول هذه الأحوال بإجماع العقلاء محال في حق إله العالم إلا إذا قيل إنه محيط بالأرض من جميع الجوانب فيكون هذا فلكاً محيطاً بالأرض وحاصله يرجع إلى أن إله العالم هو بعض الأفلاك المحيطة بهذا العالم وذلك لا يقوله مسلم والله أعلم
الحجة الرابعة عشرة لو كان إله العالم فوق العرش لكان إما أن يكون مماساً للعرش أو مبايناً له ببعد متناه أو ببعد غير متناه والأقسام الثلاثة باطلة فالقول بكونه فرق العرش باطل
أما بيان فساد القسم الأول فهو أن بتقدير أن يصير مماساً للعرش كان الطرف الأسفل منه مماساً للعرش فهل يبقى فوق ذلك الطرف منه شيء غير مماس للعرش أو لم يبق فإن كان الأول فالشيء الذي منه صار مماساً لطرف العرش غير ما هو منه غير مماس لطرف العرش فيلزم أن يكون ذات الله تعالى مركباً من الأجزاء والأبعاض فتكون ذاته في الحقيقة مركبة من سطوح متلاقية موضوعة بعضها فوق بعض وذلك هو القول بكونه جسماً مركباً من الأجزاء والأبعاض وذلك محال وإن كان الثاني فحينئذ يكون ذات الله تعالى سطحاً رقيقاً لا ثخن له أصلاً ثم يعود التقسيم فيه وهو أنه إن حصل له تمدد في اليمين والشمال والقدام والخلف كان مركباً من الأجزاء والأبعاض وإن لم يكن له تمدد ولا ذهاب في الأحياز بحسب الجهات الستة كان ذرة من الذرات وجزءاً لا يتجزأ مخلوطاً بالهباآت وذلك لا يقوله عاقل

وأما القسم الثاني وهو أن يقال بينه وبين العالم بعد متناه فهذا أيضاً محال لأن على هذا التقدير لا يمتنع أن يرتفع العالم من حيزه إلى الجهة التي فيها حصلت ذات الله تعالى إلى أن يصير العالم مماساً له وحينئذ يعود المحال المذكور في القسم الأول
وأما القسم الثالث وهو أن يقال أنه تعالى مباين للعالم بينونة غير متناهية فهذا أظهر فساداً من كل الأقسام لأنه تعالى لما كان مبايناً للعالم كانت البينونة بينه تعالى وبين غيره محدودة بطرفين وهما ذات الله تعالى وذات العالم ومحصوراً بين هذين الحاصرين والبعد المحصور بين الحاصرين والمحدود بين الحدين والطرفين يمتنع كونه بعداً غير متناه
فإن قيل أليس أنه تعالى متقدم على العالم من الأزل إلى الأبد فتقدمه على العالم محصور بين حاصرين ومحدود بين حدين وطرفين أحدهما الأزل والثاني أول وجود العالم ولم يلزم من كون هذا التقدم محصوراً بين حاصرين أن يكون لهذا التقدم أول وبداية فكذا ههنا وهذا هو الذي عول عليه محمد بن الهيثم في دفع هذا الإشكال عن هذا القسم
والجواب أن هذا هو محض المغالطة لأنه ليس الأزل عبارة عن وقت معين وزمان معين حتى يقال إنه تعالى متقدم على العالم من ذلك الوقت إلى الوقت الذي هو أول العالم فإن كل وقت معين يفرض من ذلك الوقت إلى الوقت الآخر يكون محدوداً بين حدين ومحصوراً بين حاصرين وذلك لا يعقل فيه أن يكون غير متناه بل الأزل عبارة عن نفي الأولية من غير أن يشار به إلى وقت معين ألبتة
إذا عرفت هذا فنقول إما أن نقول أنه تعالى مختص بجهة معينة وحاصل في حيز معين وإما أن لا نقول ذلك فإن قلنا بالأول كان البعد الحاصل بين ذينك الطرفين محدوداً بين ذينك الحدين والبعد المحصور بين الحاصرين لا يعقل كونه غير متناه لأن كونه غير متناه عبارة عن عدم الحد والقطع والطرف وكونه محصوراً بين الحاصرين معناه إثبات الحد والقطع والطرف والجمع بينهما يوجب الجمع بين النقيضين وهو محال ونظيره ما ذكرناه أنا متى عينا قبل العالم وقتاً معيناً كان البعد بينه وبين الوقت الذي حصل فيه أول العالم بعداً متناهياً لا محالة وأما إن قلنا بالقسم الثاني وهو أنه تعالى غير مختص بحيز معين وغير حاصل في جهة معينة فهذا عبارة عن نفي كونه في الجهة لأن كون الذات المعينة حاصلة لا في جهة معينة في نفسها قول محال ونظير هذا قول من يقول الأزل ليس عبارة عن وقت معين بل إشارة إلى نفي الأولية والحدوث فظهر أن هذا الذي قاله ابن الهيثم تخييل خال عن التحصيل
الحجة الخامسة عشرة إنه ثبت في العلوم العقلية أن المكان إما السطح الباطن من الجسم الحاوي وإما البعد المجرد والفضاء الممتد وليس يعقل في المكان قسم ثالث
إذا عرفت هذا فنقول إن كان المكان هو الأول فنقول ثبت أن أجسام العالم متناهية فخارج العالم الجسماني لا خلاء ولا ملاء ولا مكان ولا جهة فيمتنع أن يحصل الإله في مكان خارج العالم وإن كان المكان هو الثاني فنقول طبيعة البعد طبيعة واحدة متشابهة في تمام الماهية فلو حصل الإله في حيز لكان ممكن الحصول في سائر الأحياز وحينئذ يصح عليه الحركة والسكون وكل ما كان كذلك كان محدثاً

بالدلائل المشهورة المذكورة في علم الأصول وهي مقبولة عند جمهور المتكلمين فيلزم كون الإله محدثاً وهو محال فثبت أن القول بأنه تعاى حاصل في الحيز والجهة قول باطل على كل الاعتبارات
فإن قالوا الأحياز مختلفة بحسب أن بعضها علو وبعضها سفل فلم لا يجوز أن يقال ذات الله تعالى مختصة بجهة علو فنقول هذا باطل لأن كون بعض تلك الجهات علو وبعضها سفلاً أحوال لا تحصل إلا بالنسبة إلى وجود هذا العالم فلما كان هذا العالم محدثاً كان قبل حدوثه لا علو ولا سفل ولا يمين ولا يسار بل ليس إلا الخلاء المحض وإذا كان الأمر كذلك فحينئذ يعود الإلزام المذكور بتمامه وأيضاً لو جاز القول بأن ذات الله تعالى مختصة ببعض الأحياز على سبيل الوجوب فلم لا يعقل أيضاً أن يقال إن بعض الأجسام اختص ببعض الأحياز على سبيل الوجوب وعلى ها التقدير فذلك اسم لا يكون قابلاً للحركة والسكون فلا يجري فيه دليل حدوث الأجسام والقائل بهذا القول لا يمكنه إقامة الدلالة على حدوث كل الأجسام بطريق الحركة والسكون والكرامية وافقونا على أن تجويز هذا يوجب الكفر والله أعلم
البرهان السادس لو كان الباري تعالى حاصلاً في الحيز والجهة لكان مشاراً إليه بحسب الحس وكل ما كان كذلك فإما أن لا يقبل القسمة بوجه من الوجوه وإما أن يقبل القسمة
فإن قلنا إنه تعالى يمكن أن يشار إليه بحسب الحس مع أنه لا يقبل القسمة المقدارية ألبتة كان ذلك نقطة لا تنقسم وجوهراً فرداً لا ينقسم فكان ذلك في غاية الصغر والحقارة وهذا باطل بإجماع جميع العقلاء وذلك لأن الذين ينكرون كونه تعالى في الجهة ينكرون كونه تعالى كذلك والذين يثبتون كونه تعالى في الجهة ينكرون كونه تعالى في الصغر والحقارة مثل الجزء الذي لا يتجزأ فثبت أن هذا بإجماع العقلاء باطل وأيضاً فلو جاز ذلك فلم لا يعقل أن يقال إله العالم جزء من ألف جزء من رأس إبرة أو ذرة ملتصقة بذنب قملة أو نملة ومعلوم أن كل قول يفضي إلى مثل هذه الأشياء فإن صريح العقل يوجب تنزيه الله تعالى عنه
وأما القسم الثاني وهو أنه يقبل القسمة فنقول كل ما كان كذلك فذاته مركبة وكل مركب فهو ممكن لذاته وكل ممكن لذاته فهو مفتقر إلى الموجد والمؤثر وذلك على الإله الواجب لذاته محال
البرهان السابع أن نقول كل ذات قائمة بنفسها مشاراً إليها بحسب الحس فهو منقسم وكل منقسم ممكن فكل ذات قائمة بنفسها مشار إليها بحسب الحس فهو ممكن فما لا يكون ممكناً لذاته بل كان واجباً لذاته امتنع كونه مشاراً إليه بحسب الحس
أما المقدمة الأولى فلأن كل ذات قائمة بالنفس مشار إليها بحسب الحس فلا بد وأن يكون جانب يمينه مغايراً لجانب يساره وكل ماهو كذلك فهو منقسم
وأما المقدمة الثانية وهي أن كل منقسم ممكن فإنه يفتقر إلى كل واحد من أجزائه وكل واحد من أجزائه غيره وكل منقسم فهو مفتقر إلى غيره وكل مفتقر إلى غيره فهو ممكن لذاته
واعلم أن المقدمة الأولى من مقدمات هذا الدليل إنما تتم بنفي الجوهر الفرد
البرهان الثامن لو ثبت كونه تعالى في حيز لكان إما أن يكون أعظم من العرش أو مساوياً له أو أصغر منه فإن كان الأول كان منقسماً لأن القدر الذي منه يساوي العرش يكون مغايراً للقدر الذي يفضل على العرش وإن كان الثاني كان منقسماً لأن العرش منقسم والمساوي للمنقسم منقسم وإن كان الثالث فحينئذ يلزم أن يكون العرش أعظم منه وذلك باطل بإجماع الأمة أما عندنا فظاهر وأما عند الخصوم فلأنهم ينكرون كون غير الله تعالى أعظم من الله تعالى فثبت أن هذا المذهب باطل
البرهان التاسع لو كان الإله تعالى حاصلاً في الحيز والجهة لكان إما أن يكون متناهياً من كل الجوانب وإما أن لا يكون كذلك والقسمان باطلان فالقول بكونه حاصلاً في الحيز والجهة باطل أيضاً أما بيان أنه لا يجوز أن يكون متناهياً من كل الجهات فلأن على هذا التقدير يحصل فوقه أحياز خالية وهو تعالى قادر على خلق الجسم في ذلك الحيز الخالي وعلى هذا التقدير لو خلق هناك عالماً آخر لحصل هو تعالى تحت العالم وذلك عند الخصم محال وأيضاً فقد كان يمكن أن يخلق من الجوانب الستة لتلك الذات أجساماً أخرى وعلى هذا التقدير فتحصل ذاته في وسط تلك الأجسام محصورة فيها ويحصل بينه وبين الأجسام الاجتماع تارة والافتراق أخرى وكل ذلك على الله تعالى محال
وأما القسم الثاني وهو أن يكون غير متناه من بعض الجهات فهذا أيضاً محال لأنه ثبت بالبرهان أنه يمتنع وجود بعد لا نهاية له وأيضاً فعلى هذا التقدير لا يمكن إقامة الدلالة على أن العالم متناه لأن كل دليل يذكر في تناهي الأبعاد فإن ذلك الدليل ينتقض بذات الله تعالى فإنه على مذهب الخصم بعد لا نهاية له وهو وإن كان لا يرضى بهذا اللفظ إلا أنه يساعد على المعنى والمباحث العقلية مبنية على المعاني لا على المشاحة في الألفاظ
البرهان العاشر لو كان الإله تعالى حاصلاً في الحيز والجهة لكان كونه تعالى هناك إما أن يمنع من حصول جسم آخر هناك أو لا يمنع والقسمان باطلان فبطل القول بكونه حاصلاً في الحيز
أما فساد القسم الأول فلأنه لما كان كونه هناك مانعاً من حصول جسم آخر هناك كان هو تعالى مساوياً لسائر الأجسام في كونه حجماً متحيزاً ممتداً في الحيز والجهة مانعاً من حصول غيره في الحيز الذي هو فيه وإذا ثبت حصول المساواة في ذلك المفهوم بينه وبين سائر الأجسام فإما أن يحصل بينه وبينها مخالفة من سائر الوجوه أو لا يحصل والأول باطل لوجهين الأول أنه إذا حصلت المشاركة بين ذاته تعالى وبين ذوات الأجسام من بعض الوجوه والمخالفة من سائر الوجوه كان ما به المشاركة مغايراً لما به المخالفة وحينئذ تكون ذات الباري تعالى مركبة من هذين الاعتبارين وقد دللنا على أن كل مركب ممكن فواجب الوجود لذاته ممكن الوجود لذاته هذا خلف والثاني وهو أن ما به المشاركة وهو طبيعة البعد والامتداد إما أن يكون محلاً لما به المخالفة وإما أن يكون حالاً فيه وإما أن يقال إنه لا محل له ولا حالاً فيه أما الأول وهو أن يكون محلاً لما به المخالفة فعلى هذا التقدير طبيعة البعد والامتداد هي الجوهر القائم بنفسه والأمور التي حصلت بها المخالفة أعراض وصفات وإذا كانت الذوات متساوية في تمام الماهية فكل ما صح على بعضها وجب أن يصح على البواقي فعلى هذا التقدير كل ما صح على جميع الأجسام وجب أن يصح على الباري تعالى وبالعكس ويلزم منه صحة التفرق والتمزق والنمو والذبول والعفونة والفساد على ذات الله تعالى وكل ذلك محال
وأما القسم الثاني وهو أن يقال ما به المخالفة محل وذات وما به المشاركة حال وصفة فهذا محال لأن على هذا التقدير تكون طبيعة البعد والامتداد صفة قائمة بمحل وذلك المحل إن كان له أيضاً اختصاص بحيز وجهة وجب افتقاره إلى محل آخر لا إلى نهاية وإن لم يكن كذلك فحينئذ يكون موجوداً مجرداً لا تعلق له بالحيز والجهة والإشارة الحسية ألبتة وطبيعة البعد والامتداد واجبة الاختصاص بالحيز والجهة والإشارة الحسية وحلول ما هذا شأنه في ذلك المحل يوجب الجمع بين النقيضين وهو محال
وأما القسم الثالث وهو أن لا يكون أحدهما حالاً في الآخر ولا محلاً له فنقول فعلى هذا التقدير يكون كل واحد منهما متبايناً عن الآخر وعلى هذا التقدير فتكون ذات الله تعالى مساوية لسائر الذوات الجسمانية في تمام الماهية لأن ما به المخالفة بين ذاته وبين سائر الذوات ليست حالة في هذه الذوات ولا محالاً لها بل أمور أجنبية عنها فتكون ذات الله تعالى مساوية لذوات الأجسام في تمام الماهية وحينئذ يعود الإلزام المذكور فثبت أن القول بأن ذات الله تعالى مختصة بالحيز والجهة بحيث يمنع من حصول جسم آخر في ذلك الحيز يفضي إلى هذه الأقسام الثاثلا الباطلة فوجب كونه باطلاً
وأما القسم الثاني وهو أن يقال إن ذات الله تعالى وإن كانت مختصة بالحيز والجهة إلا أنه لا يمنع من حصول جسم آخر في ذلك الحيز والجهة فهذا أيضاً محال لأنه يوجب كون ذاته مخالطة سارية في ذات ذلك الجسم الذي يحصل في ذلك الجنب والحيز وذلك بالإجماع محال ولأنه لو عقل ذلك فلم لا يعقل حصول الأجسام الكثيرة في الحيز الواحد فثبت أنه تعالى لو كان حاصلاً في حيز لكان إما أن يمنع حصول جسم آخر في ذلك الحيز أو لا يمنع وثبت فساد القسمين فكان القول بحصوله تعالى في الحيز والجهة محالاً باطلاً
البرهان الحادي عشر على أنه يمتنع حصول ذات الله تعالى في الحيز والجهة هو أن نقول لو كان مختصاً بحيز وجهة لكان إما أن يكون بحيث يمكنه أن يتحرك عن تلك الجهة أو لا يمكنه ذلك والقسمان باطلان فبطل القول بكونه حاصلاً في الحيز
أما القسم الأول وهو أنه يمكنه أن يتحرك فنقول هذه الذات لا تخلو عن الحركة والسكون وهما محدثان لأن على هذا التقدير السكون جائز عليه والحركة جائزة عليه ومتى كان كذلك لم يكن المؤثر في تلك الحركة ولا في ذلك السكون ذاته وإلا لامتنع طريان ضده والتقدير هو تقدير أنه يمكنه أن يتحرك وأن يسكن وإذا كان كذلك ان المؤثر في حصول تلك الحركة وذلك السكون هو الفاعل المختار وكل ما كان فعلاً لفاعل مختار فهو محدث فالحركة والسكون محدثان وما لا يخلو عن المحدث فهو محدث فيلزم أن تكون ذاته تعالى محدثة وهو محال
وأما القسم الثاني وهو أنه يكون مختصاً بحيز وجهة مع أنه لا يقدر أن يتحرك عنه فهذا أيضاً محال لوجهين الأول أن على هذا التقدير يكون كالزمن المقعد العاجز وذلك نقص وهو على الله محال والثاني أنه لو لم يمتنع فرض موجود حاصل في حيز معين بحيث يكون حصوله فيه واجب التقرر ممتنع الزوال لم يبعد أيضاً فرض أجسام أخرى مختصة بأحياز معينة بحيث يمتنع خروجها عن تلك الأحياز وعلى هذا التقدير فلا يمكن إثبات حدوثها بدليل الحركة والسكون والكرامية يساعدون على أنه كفر والثالث أنه تعالى لما كان حاصلاً في الحيز والجهة كان مساوياً للأجسام في كونه متحيزاً شاغلاً للأحياز ثم نقيم الدلالة المذكورة على أن المتحيزات لما كانت متساوية في صفة التحيز وجب كونها متساوية في تمام الماهية لأنه لو خالف بعضها بعضاً لكان ما به المخالفة إما أن يكون حالاً في المتحيز أو محلاً له أو لا حالاً ولا محلاً والأقسام الثلاثة باطلة على ما سبق وإذا كانت متساوية في تمام الماهية فكما أن الحركة صحيحة على هذه الأجسام وجب القول بصحتها على ذات الله تعالى وحينئذ يتم الدليل
الحجة الثانية عشرة لو كان تعالى مختصاً بحيز معين لكنا إذا فرضنا وصول إنسان إلى طرف ذلك الشيء وحاول الدخول فيه فإما أن يمكنه النفوذ والدخول فيه أو لا يمكنه ذلك فإن كان الأول كان كالهواء اللطيف والماء اللطيف وحينئذ يكون قابلاً للتفرق والتمزق وإن كان الثاني كان صلباً كالحجر الصلد الذي لا يمكنه النفوذ فيه فثبت أنه تعالى لو كان مختصاً بمكان وحيز وجهة لكان إما أن يكون رقيقاً سهل التفرق والتمزق كالماء والهواء وإما أن يكون صلباً جاسئاً كالحجر الصلد وقد أجمع المسلمون على أن إثبات هاتين الصفتين في حق الإله كفر وإلحاد في صفته وأيضاً فبتقدير أن يكون مختصاً بمكان وجهة لكان إما أن يكون نورانياً وظلمانياً وجمهور المشبهة يعتقدون أنه نور محض لاعتقادهم أن النور شريف والظلمة خسيسة إلا أن الاستقراء العام دل على أن الأشياء النورانية رقيقة لا تمنع النافذ من النفوذ فيها والدخول فيما بين أجزائها وعلى هذا التقدير فإن ذلك الذي ينفذ فيه يمتزج به ويفرق بين أجزائه ويكون ذلك الشيء جارياً مجرى الهواء الذي يتصل تارة وينفصل أخرى ويجتمع تارة ويتمزق أخرى وذلك مما لا يليق بالمسلم أن يصف إله العالم به ولو جاز ذلك فلم لا يجوز أن يقال أن خالق العالم هو بعض هذه الرياح التي تهب أو يقال إنه بعض هذه الأنوار والأضواء التي تشرق على الجدران والذين يقولون إنه لا يقبل التفرق والتمزق ولا يتمكن النافذ من النفوذ فإنه يرجع حاصل كلامهم إلى أنه حصل فوق العالم جبل صلب شديد وإله هذا العالم هو ذلك الجبل الصلب الواقف في الحيز العالي وأيضاً فإن كان له طرف وحد ونهاية فهل حصل لذلك الشيء عمق وثخن أو لم يحصل فإن كان الأول فحينئذ يكون ظاهره غير باطنه وباطنه غير ظاهره فكان مؤلفاً مركباً من الظاهر والباطن مع أن باطنه غير ظاهره وظاهره غير باطنه وإن كان الثاني فحينئذ يكون ذاته سطحاً رقيقاً في غاية الرقة مثل قشرة الثوم بل أرق منه ألف ألف مرة والعاقل لا يرضى أن يجعل مثل هذا الشيء إله العالم فثبت أن كونه تعالى في الحيز والجهة يفضي إلى فتح باب هذه الأقسام الباطلة الفاسدة
الحجة الثالثة عشرة العالم كرة وإذا كان الأمر كذلك امتنع أن يكون إله العالم حاصلاً في جهة فوق
أما المقام الأول فهو مستقصي في علم الهيئة إلا أنا نقول أنا إذا اعتبرنا كسوفاً قمرياً حصل في أول الليل بالبلاد الغربية كان عين ذلك الكسوف حاصلاً في البلاد الشرقية في أول النهار فعلمنا أن أول الليل بالبلاد الغربية هو بعينه أول النهار بالبلاد الشرقية وذلك لا يمكن إلا إذا كانت الأرض مستديرة من المشرق إلى المغرب وأيضاً إذا توجهنا إلى الجانب الشمالي فكلما كان توغلنا أكثر كان ارتفاع القطب الشمالي أكثر وبمقدار ما يرتفع القطب الشمالي ينخفض القطب الجنوبي وذلك يدل على أن الأرض مستديرة من الشمال إلى الجنوب ومجموع هذين الاعتبارين يدل على أن الأرض كرة
وإذا ثبت هذا فنقول إذا فرضنا إنسانين وقف أحدهما على نقطة المشرق والأخر على نقطة المغرب صار أخمص قدميهما متقابلين والذي هو فوق بالنسبة إلى أحدهما يكون تحت بالنسبة إلى الثاني فلو فرضنا أن إله العالم حصل في الحيز الذي فوق بالنسبة إلى أحدهما فذلك الحيز بعينه هو تحت بالنسبة إلى الثاني وبالعكس فثبت أنه تعالى لو حصل في حيز معين لكان ذلك الحيز تحتاً بالنسبة إلى أقوام معينين وكونه تعالى تحت أهل الدنيا محال بالاتفاق فوجب أن لا يكون حاصلاً في حيز معين وأيضاً فعلى هذا التقدير أنه كلما كان فوق بالنسبة إلى أقوام كان تحت بالنسبة إلى أقوام آخرين وكان يميناً بالنسبة إلى ثالث وشمالاً بالنسبة إلى رابع وقدام الوجه بالنسبة إلى خامس وخلق الرأس بالنسبة إلى سادس فإن كون الأرض كرة يوجب ذلك إلا أن حصول هذه الأحوال بإجماع العقلاء محال في حق إله العالم إلا إذا قيل إنه محيط بالأرض من جميع الجوانب فيكون هذا فلكاً محيطاً بالأرض وحاصله يرجع إلى أن إله العالم هو بعض الأفلاك المحيطة بهذا العالم وذلك لا يقوله مسلم والله أعلم
الحجة الرابعة عشرة لو كان إله العالم فوق العرش لكان إما أن يكون مماساً للعرش أو مبايناً له ببعد متناه أو ببعد غير متناه والأقسام الثلاثة باطلة فالقول بكونه فرق العرش باطل
أما بيان فساد القسم الأول فهو أن بتقدير أن يصير مماساً للعرش كان الطرف الأسفل منه مماساً للعرش فهل يبقى فوق ذلك الطرف منه شيء غير مماس للعرش أو لم يبق فإن كان الأول فالشيء الذي منه صار مماساً لطرف العرش غير ما هو منه غير مماس لطرف العرش فيلزم أن يكون ذات الله تعالى مركباً من الأجزاء والأبعاض فتكون ذاته في الحقيقة مركبة من سطوح متلاقية موضوعة بعضها فوق بعض وذلك هو القول بكونه جسماً مركباً من الأجزاء والأبعاض وذلك محال وإن كان الثاني فحينئذ يكون ذات الله تعالى سطحاً رقيقاً لا ثخن له أصلاً ثم يعود التقسيم فيه وهو أنه إن حصل له تمدد في اليمين والشمال والقدام والخلف كان مركباً من الأجزاء والأبعاض وإن لم يكن له تمدد ولا ذهاب في الأحياز بحسب الجهات الستة كان ذرة من الذرات وجزءاً لا يتجزأ مخلوطاً بالهباآت وذلك لا يقوله عاقل
وأما القسم الثاني وهو أن يقال بينه وبين العالم بعد متناه فهذا أيضاً محال لأن على هذا التقدير لا يمتنع أن يرتفع العالم من حيزه إلى الجهة التي فيها حصلت ذات الله تعالى إلى أن يصير العالم مماساً له وحينئذ يعود المحال المذكور في القسم الأول
وأما القسم الثالث وهو أن يقال أنه تعالى مباين للعالم بينونة غير متناهية فهذا أظهر فساداً من كل الأقسام لأنه تعالى لما كان مبايناً للعالم كانت البينونة بينه تعالى وبين غيره محدودة بطرفين وهما ذات الله تعالى وذات العالم ومحصوراً بين هذين الحاصرين والبعد المحصور بين الحاصرين والمحدود بين الحدين والطرفين يمتنع كونه بعداً غير متناه
فإن قيل أليس أنه تعالى متقدم على العالم من الأزل إلى الأبد فتقدمه على العالم محصور بين حاصرين ومحدود بين حدين وطرفين أحدهما الأزل والثاني أول وجود العالم ولم يلزم من كون هذا التقدم محصوراً بين حاصرين أن يكون لهذا التقدم أول وبداية فكذا ههنا وهذا هو الذي عول عليه محمد بن الهيثم في دفع هذا الإشكال عن هذا القسم
والجواب أن هذا هو محض المغالطة لأنه ليس الأزل عبارة عن وقت معين وزمان معين حتى يقال إنه تعالى متقدم على العالم من ذلك الوقت إلى الوقت الذي هو أول العالم فإن كل وقت معين يفرض من ذلك الوقت إلى الوقت الآخر يكون محدوداً بين حدين ومحصوراً بين حاصرين وذلك لا يعقل فيه أن يكون غير متناه بل الأزل عبارة عن نفي الأولية من غير أن يشار به إلى وقت معين ألبتة
إذا عرفت هذا فنقول إما أن نقول أنه تعالى مختص بجهة معينة وحاصل في حيز معين وإما أن لا نقول ذلك فإن قلنا بالأول كان البعد الحاصل بين ذينك الطرفين محدوداً بين ذينك الحدين والبعد المحصور بين الحاصرين لا يعقل كونه غير متناه لأن كونه غير متناه عبارة عن عدم الحد والقطع والطرف وكونه محصوراً بين الحاصرين معناه إثبات الحد والقطع والطرف والجمع بينهما يوجب الجمع بين النقيضين وهو محال ونظيره ما ذكرناه أنا متى عينا قبل العالم وقتاً معيناً كان البعد بينه وبين الوقت الذي حصل فيه أول العالم بعداً متناهياً لا محالة وأما إن قلنا بالقسم الثاني وهو أنه تعالى غير مختص بحيز معين وغير حاصل في جهة معينة فهذا عبارة عن نفي كونه في الجهة لأن كون الذات المعينة حاصلة لا في جهة معينة في نفسها قول محال ونظير هذا قول من يقول الأزل ليس عبارة عن وقت معين بل إشارة إلى نفي الأولية والحدوث فظهر أن هذا الذي قاله ابن الهيثم تخييل خال عن التحصيل
الحجة الخامسة عشرة إنه ثبت في العلوم العقلية أن المكان إما السطح الباطن من الجسم الحاوي وإما البعد المجرد والفضاء الممتد وليس يعقل في المكان قسم ثالث
إذا عرفت هذا فنقول إن كان المكان هو الأول فنقول ثبت أن أجسام العالم متناهية فخارج العالم الجسماني لا خلاء ولا ملاء ولا مكان ولا جهة فيمتنع أن يحصل الإله في مكان خارج العالم وإن كان المكان هو الثاني فنقول طبيعة البعد طبيعة واحدة متشابهة في تمام الماهية فلو حصل الإله في حيز لكان ممكن الحصول في سائر الأحياز وحينئذ يصح عليه الحركة والسكون وكل ما كان كذلك كان محدثاً بالدلائل المشهورة المذكورة في علم الأصول وهي مقبولة عند جمهور المتكلمين فيلزم كون الإله محدثاً وهو محال فثبت أن القول بأنه تعاى حاصل في الحيز والجهة قول باطل على كل الاعتبارات
الحجة السادسة عشرة وهي حجة استقرائية اعتبارية لطيفة جداً وهي أنا رأينا أن الشيء كلما كان حصول معنى الجسمية فيه أقوى وأثبت كانت القوة الفاعلية فيه أضعف وأنقص وكلما كان حصول معنى الجسمية فيه أقل وأضعف كان حصول القوة الفاعلية أقوى وأكمل وتقريره أن نقول وجدنا الأرض أكثف الأجسام وأقواها حجمية فلا جرم لم يحصل فيها إلا خاصة قبول الأثر فقط فأما أن يكون للأرض الخالصة تأثير في غيره فقليل جداً وأما الماء فهو أقل كثافة وحجمية من الأرض فلا جرم حصلت فيه قوة مؤثرة فإن الماء الجاري بطبعه إذا اختلط بالأرض أثر فيها أنواعاً من التأثيرات وأما الهواء فإنه أقل حجمية وكثافة من الماء فلا جرم كان أقوى على التأثير من الماء فلذلك قال بعضهم أن الحياة لا تكمل إلا بالنفس وزعموا أنه لا معنى للروح إلا الهواء المستنشق وأما النار فإنها أقل كثافة من الهواء فلا جرم كانت أقوى الأجسام العنصرية على التأثير فبقوة الحرارة يحصل الطبخ والنضج وتكون المواليد الثلاثة أعني المعادن والنبات والحيوان وأما الأفلاك فإنها ألطف من الأجرام العنصرية فلا جرم كانت هي المستولية على مزاج الأجرام العنصرية بعضها البعض وتوليد الأنواع والأصناف المختلفة من تلك التمزيجات فهذا الاستقراء المطرد يدل على أن الشيء كلما كان أكثر حجمية وجرمية وجسمية كان أقل قوة وتأثيراً وكلما كان أقوى قوة وتأثيراً كان أقل حجمية وجرمية وجسمية وإذا كان الأمر كذلك أفاد هذا الاستقراء ظناً قوياً أنه حيث حصل كمال القوة والقدرة على الإحداث والإبداع لم يحصل هناك ألبتة معنى الحجمية والجرمية والاختصاص بالحيز والجهة وهذا وإن كان بحثاً استقرائياً إلا أنه عند التأمل التام شديد المناسبة للقطع بكونه تعالى منزهاً عن الجسمية والموضع والحيز وبالله التوفيق فهذه جملة الوجوه العقلية في بيان كونه تعالى منزهاً عن الاختصاص بالحيز والجهة
أما الدلائل السمعية فكثيرة أولها قوله تعالى قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ( الإخلاص 1 ) فوصفه بكونه أحداً والأحد مبالغة في كونه واحداً والذي يمتلىء منه العرش ويفضل عن العرش يكون مركباً من أجزاء كثيرة جداً فوق أجزاء العرش وذلك ينافي كونه أحداً ورأيت جماعة من الكرامية عند هذا الإلزام يقولون أنه تعالى ذات واحدة ومع كونها واحدة حصلت في كل هذه الأحياز دفعة واحدة قالوا فلأجل أنه حصل دفعة واحدة في جميع الأحياز امتلأ العرش منه فقلت حاصل هذا الكلام يرجع إلى أنه يجوز حصول الذات الشاغلة للحيز والجهة في أحياز كثيرة دفعة واحدة والعقلاء اتفقوا على أن العلم بفساد ذلك من أجل العلوم لضرورية وأيضاً فإن جوزتم ذلك فلم لا تجوزون أن يقال إن جميع العالم من العرش إلى ما تحت الثرى جوهر واحد وموجود واحد إلا أن ذلك الجزء الذي لا يتجزأ حصل في جملة هذه الأحياز فيظن أنها أشياء كثيرة ومعلوم أن من جوزه فقد التزم منكراً من القول عظيماً
فإن قالوا إنما عرفنا ههنا حصول التغاير بين هذه الذوات لأن بعضها يفنى مع بقاء الباقي وذلك يوجب التغاير وأيضاً فنرى بعضها متحركاً وبعضها ساكناً والمتحرك غير الساكن فوجب القول بالتغاير وهذه المعاني غير حاصلة في ذات الله فظهر الفرق فنقول أما قولك بأنا نشاهد أن هذا الجزء يبقى مع أنه

يفنى ذلك الجزء الآخر وذلك يوجب التغاير فنقول لا نسلم أنه فني شيء من الأجزاء بل نقول لم لا يجوز أن يقال أن جميع أجزاء العالم جزء واحد فقط ثم إنه حصل ههنا وهناك وأيضاً حصل موصوفاً بالسواد والبياض وجميع الألوان والطعوم فالذي يفنى إنما هو حصوله هناك فأما أن يقال إنه فني في نفسه فهذا غير مسلم وأما قوله نرى بعض الأجسام متحركاً وبعضها ساكناً وذلك يوجب التغاير لأن الحركة والسكون لا يجتمعان فنقول إذا حكمنا بأن الحركة والسكون لا يجتمعان لاعتقادنا أن الجسم الواحد لا يحصل دفعة واحدة في حيزين فإذا رأينا أن الساكن بقي هنا وأن المتحرك ليس هنا قضينا أن المتحرك غير الساكن وأما بتقدير أن يجوز كون الذات الواحدة حاصلة في حيزين دفعة واحدة ل يمتنع كون الذات الواحدة متحركة ساكنة معاً لأن أقصى ما في الباب أن بسبب السكون بقي هنا وبسبب الحركة حصل في الحيز الآخر إلا أنا لما جوزنا أن تحصل الذات الواحدة دفعة واحدة في حيزين معاً لم يبعد أن تكون الذات الساكنة هي عين الذات المتحركة فثبت أنه لو جاز أن يقال إنه تعالى في ذاته واحد لا يقبل القسمة ثم مع ذلك يمتلىء العرش منه لم يبعد أيضاً أن يقال العرش في نفسه جوهر فرد وجزء لا يتجزأ ومع ذلك فقد حصل في كل تلك الأحياز وحصل منه كل العرش ومعلوم أن تجويزه يفضي إلى فتح باب الجهالات وثانيها أنه تعالى قال وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَة ٌ ( الحاقة 17 ) فلو كان إله العالم في العرش لكان حامل العرش حاملاً للإله فوجب أن يكون الإله محمولاً حاملاً ومحفوظاً حافظاً وذلك لا يقوله عاقل وثالثها أنه تعالى قال وَاللَّهُ الْغَنِى ُّ ( محمد 38 ) حكم بكونه غنياً على الإطلاق وذلك يوجب كونه تعالى غنياً عن المكان والجهة ورابعها أن فرعون لما طلب حقيقة الإله تعالى من موسى عليه السلام ولم يزد موسى عليه السلام على ذكر صفة الخلاقية ثلاث مرات فإنه لما قال وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ( الشعراء 23 ) ففي المرة الأولى قال رَبّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ ( الدخان 7 ) وفي الثانية قال رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءابَائِكُمُ الاْوَّلِينَ ( الشعراء 26 ) وفي المرة الثالثة قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ ( الشعراء 28 ) وكل ذلك إشارة إلى الخلاقية وأما فرعون لعنه الله فإنه قال فَرْعَوْنُ ياهَامَانُ ابْنِ لِى صَرْحاً لَّعَلّى أَبْلُغُ الاْسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَاهِ مُوسَى ( غافر 36 37 ) فطلب الإله في السماء فعلمنا أن وصف الإله بالخلاقية وعدم وصفه بالمكان والجهة دين موسى وسائر جميع الأنبياء وجميع وصفه تعالى بكونه في السماء دين فرعون وإخوانه من الكفرة وخامسها أنه تعالى قال في هذه الآية إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فِي سِتَّة ِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وكلمة ( ثم ) للتراخي وهذا يدل على أنه تعالى إنما استوى على العرش بعد تخليق السموات والأرض فإن كان المراد من الاستواء الاستقرار لزم أن يقال إنه ما كان مستقراً على العرش بل كان معوجاً مضطرباً ثم استوى عليه بعد ذلك وذلك يوجب وصفه بصفات سائر الأجسام من الاضطراب والحركة تارة والسكون أخرى وذلك لا يقوله عاقل وسادسها هو أنه تعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه إنما طعن في إلهية الكوكب والقمر والشمس بكونها آفلة غاربة فلو كان إله العالم جسماً لكان أبداً غارباً آفلاً وكان منتقلاً من الاضطراب والاعوجاج إلى الاستواء والسكون والاستقرار فكل ما جعله إبراهيم عليه السلام طعناً في إلهية الشمس والكوكب والقمر يكون حاصلاً في إله العالم فكيف يمكن الاعتراف بإلهيته وسابعها أنه تعالى ذكر قبل قوله ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ شيئاً وبعده شيئاً آخر أما الذي ذكره قبل هذه الكلمة فهو قوله إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ

وقد بينا أن خلق السموات والأرض يدل على وجود الصانع وقدرته وحكمته من وجوه كثيرة وأما الذي ذكره بعد هذه الكلمة فأشياء أولها قوله يَغْشَى إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى وذلك أحد الدلائل الدالة على وجود الله وعلى قدرته وحكمته وثانيها قوله وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ وهو أيضاً من الدلائل الدالة على الوجود والقدرة والعلم وثالثها قوله أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ وهو أيضاً إشارة إلى كمال قدرته وحكمته
إذا ثبت هذا فنقول أول الآية إشارة إلى ذكر ما يدل على الوجود والقدرة والعلم وآخرها يدل أيضاً على هذا المطلوب وإذ كان الأمر كذلك فقوله ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وجب أن يكون أيضاً دليلاً على كمال القدرة والعلم لأنه لو لم يدل عليه بل كان المراد كونه مستقراً على العرش كان ذلك كلاماً أجنبياً عما قبله وعما بعده فإن كونه تعالى مستقراً على العرش لا يمكن جعله دليلاً على كماله في القدرة والحكمة وليس أيضاً من صفات المدح والثناء لأنه تعالى قادر على أن يجلس جميع أعداد البق والبعوض على العرش وعلى ما فوق العرش فثبت أن كونه جالساً على العرش ليس من دلائل إثبات الصفات والذات ولا من صفات المدح والثناء فلو كان المراد من قوله ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ كونه جالساً على العرش لكان ذلك كلاماً أجنبياً عما قبله وعما بعده وهذا يوجب نهاية الركاكة فثبت أن المراد منه ليس ذلك بل المراد منه كمال قدرته في تدابير الملك والملكوت حتى تصير هذه الكلمة مناسبة لما قبلها ولما بعدها وهو المطلوب وثامنها أن السماء عبارة عن كل ما ارتفع وسما وعلا والدليل عليه أنه تعالى سمى السحاب سماء حيث قال وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن السَّمَاء مَاء لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ ( الأنفال 11 ) وإذا كان الأمر كذلك فكل ماله ارتفاع وعلو وسمو كان سماء فلو كان إله العالم موجوداً فوق العرش لكان ذات الإله تعالى سماء لساكني العرش فثبت أنه تعالى لو كان فوق العرش لكان سماء والله تعالى حكم بكونه خالقاً لكل السموات في آيات كثيرة منها هذه الآية وهو قوله إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فلو كان فوق العرش سماء لسكان أهل العرش لكان خالقاً لنفسه وذلك محال
وإذا ثبت هذا فنقول قوله الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ آية محكمة دالة على أن قوله ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ من المتشابهات التي يجب تأويلها وهذه نكتة لطيفة ونظير هذا أنه تعالى قال في أول سورة الأنعام وَهُوَ اللَّهُ فِى السَّمَاوَاتِ ( الأنعام 3 ) ثم قال بعده بقليل قُل لّمَن مَّا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ قُل لِلَّهِ ( الأنعام 12 ) فدلت هذه الآية المتأخرة على أن كل ما في السموات فهو ملك لله فلو كان الله في السموات لزم كونه ملكاً لنفسه وذلك محال فكذا ههنا فثبت بمجموع هذه الدلائل العقلية والنقلية أنه لا يمكن حمل قوله ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ على الجلوس والاستقرار وشغل المكان والحيز وعند هذا حصل للعلماء الراسخين مذهبان الأول أن نقطع بكونه تعالى متعالياً عن المكان والجهة ولا نخوض في تأويل الآية على التفصيل بل نفوض علمها إلى الله وهو الذي قررناه في تفسير قوله وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ ( آل عمران 7 ) وهذا المذهب هو الذي نختاره ونقول به ونعتمد عليه
والقول الثاني أن نخوض في تأويله على التفصيل وفيه قولان ملخصان الأول ما ذكره القفال رحمة الله عليه فقال الْعَرْشِ في كلامهم هو السرير الذي يجلس عليه الملوك ثم جعل العرش كناية عن

نفس الملك يقال ثل عرشه أي انتفض ملكه وفسد وإذا استقام له ملكه واطرد أمره وحكمه قالوا استوى على عرشه واستقر على سرير ملكه هذا ما قاله القفال وأقول إن الذي قاله حق وصدق وصواب ونظيره قولهم للرجل الطويل فلان طويل النجاد وللرجل الذي يكثر الضيافة كثير الرماد وللرجل الشيخ فلان اشتعل رأسه شيباً وليس المراد في شيء من هذه الألفاظ إجراؤها على ظواهرها إنما المراد منها تعريف المقصود على سبيل الكناية فكذا ههنا يذكر الاستواء على العرش والمراد نفاذ القدرة وجريان المشيئة ثم قال القفال رحمه الله تعالى والله تعالى لما دل على ذاته وعلى صفاته وكيفية تدبيره العالم على الوجه الذي ألفوه من ملوكهم ورؤسائهم استقر في قلوبهم عظمة الله وكمال جلاله إلا أن كل ذلك مشروط بنفي التشبيه فإذا قال إنه عالم فهموا منه أنه لا يخفى عليه تعالى شيء ثم علموا بعقولهم أنه لم يحصل ذلك العلم بفكرة ولا روية ولا باستعمال حاسة وإذا قال قادر علموا منه أنه متمكن من إيجاد الكائنات وتكوين الممكنات ثم علموا بعقولهم أنه غني في ذلك الإيجاد والتكوين عن الآلات والأدوات وسبق المادة والمدة والفكرة والروية وهكذا القول في كل صفاته وإذا أخبر أن له بيتاً يجب على عباده حجة فهموا منه أنه نصب لهم موضعاً يقصدونه لمسألة ربهم وطلب حوائجهم كما يقصدون بيوت الملوك والرؤساء لهذا المطلوب ثم علموا بعقولهم نفي التشبيه وإنه لم يجعل ذلك البيت مسكناً لنفسه ولم ينتفع به في دفع الحر والبرد بعينه عن نفسه فإذا أمرهم بتحميده وتمجيده فهموا منه أنه أمرهم بنهاية تعظيمه ثم علموا بعقولهم أنه لا يفرح بذلك التحميد والتعظيم ولا يغتم بتركه والإعراض عنه
إذا عرفت هذه المقدمة فنقول إنه تعالى أخبر أنه خلق السموات والأرض كما أراد وشاء من غير منازع ولا مدافع ثم أخبر بعده أنه استوى على العرش أي حصل له تدبير المخلوقات على ما شاء وأراد فكان قوله ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ أي بعد أن خلقها استوى على عرش الملك والجلال ثم قال القفال والدليل على أن هذا هو المراد قوله في سورة يونس إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فِى سِتَّة ِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبّرُ الاْمْرَ ( يونس 3 ) فقوله يُدَبّرُ الاْمْرَ جرى مجرى التفسير لقوله اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وقال في هذه الآية التي نحن في تفسيرها ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِى إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَمَاواتِ وَالاْرْضَ فِي سِتَّة ِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى وهذا يدل على أن قوله ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ إشارة إلى ما ذكرناه
فإن قيل فإذا حملتم قوله ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ على أن المراد استوى على الملك وجب أن يقال الله لم يكن مستوياً قبل خلق السموات والأرض
قلنا إنه تعالى إنما كان قبل خلق العوالم قادراً على تخليقها وتكوينها وما كان مكوناً ولا موجوداً لها بأعيانها بالفعل لأن إحياء زيد وإماتة عمرو وإطعام هذا وإرواء ذلك لا يحصل إلا عند هذه الأحوال فإذا فسرنا العرش بالملك والملك بهذه الأحوال صح أن يقال إنه تعالى إنما استوى على ملكه بعد خلق السموات والأرض بمعنى أنه إنما ظهر تصرفه في هذه الأشياء وتدبيره لها بعد خلق السموات والأرض وهذا جواب حق صحيح في هذا الموضع

والوجه الثاني في الجواب أن يقال استوى بمعنى استولى وهذا الوجه قد أطلنا في شرحه في سورة طه فلا نعيده هنا
والوجه الثالث أن نفسر العرش بالملك ونفسر استوى بمعنى علا واستعلى على الملك فيكون المعنى أنه تعالى استعلى على الملك بمعنى أن قدرته نفذت في ترتيب الملك والملكوت واعلم أنه تعالى ذكر قوله اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ في سور سبع إحداها ههنا وثانيها في يونس وثالثها في الرعد ورابعها في طه وخامسها في الفرقان وسادسها في السجدة وسابعها في الحديد وقد ذكرنا في كل موضع فوائد كثيرة فمن ضم تلك الفوائد بعضها إلى بعض كثرت وبلغت مبلغاً كثيراً وافياً بإزالة شبه التشبيه عن القلب والخاطر
أما قوله إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم في رواية حفص يُغْشِى بتخفيف الغين وفي الرعد هكذا وقرأ حمزة والكسائي وعاصم برواية أبي بكر بالتشديد وفي الرعد هكذا قال الواحدي رحمه الله الإغشاء والتغشية إلباس الشيء بالشيء وقد جاء التنزيل بالتشديد والتخفيف فمن التشديد قوله تعالى فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى ( النجم 54 ) ومن اللغة الثانية قوله فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ ( يس 9 ) والمفعول الثاني محذوف على معنى فأغشيناهم العمى وفقد الرؤية
المسألة الثانية قوله إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ يحتمل أن يكون المراد يلحق الليل بالنهار وأن يكون المراد النهار بالليل واللفظ يحتملهما معاً وليس فيه تغيير والدليل على الثاني قراءة حميد بن قيس وَهُوَ الَّذِى مَدَّ بفتح الياء ونصب الليل ورفع النهار أي يدرك النهار الليل ويطلبه قال القفال رحمه الله أنه سبحانه لما أخبر عباده باستوائه على العرش عن استمرار أصعب المخلوقات على وفق مشيئته أراهم ذلك عياناً فيما يشاهدونه منها ليضم العيان إلى الخبر وتزول الشبه عن كل الجهات فقال يَغْشَى وَهُوَ الَّذِى لأنه تعالى أخبر في هذا الكتاب الكريم بما في تعاقب الليل والنهار من المنافع العظيمة والفوائد الجليلة فإن بتعاقبهما يتم أمر الحياة وتكمل المنفعة والمصلحة
المسألة الثالثة قوله يَطْلُبُهُ حَثِيثًا قال الليث الحث الإعجال يقال حثثت فلاناً فأحتث فهو حثيث ومحثوث أي مجد سريع
واعلم أنه سبحانه وصف هذه الحركة بالسرعة والشدة وذلك هو الحق لأن تعاقب الليل والنهار إنما يحصل بحركة الفلك الأعظم وتلك الحركة أشد الحركات سرعة وأكملها شدة حتى أن الباحثين عن أحوال الموجودات قالوا الإنسان إذا كان في العدو الشديد الكامل فإلى أن يرفع رجله ويضعها يتحرك الفلك الأعظم ثلاثة آلاف ميل وإذا كان الأمر كذلك كانت تلك الحركة في غاية الشدة والسرعة فلهذا السبب قال تعالى يَطْلُبُهُ حَثِيثًا ونظير هذه الآية قوله سبحانه لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِى لَهَا أَن تدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ الَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ( يس 40 ) فشبه ذلك السير وتلك الحركة بالسباحة في الماء والمقصود التنبيه على سرعتها وسهولتها وكمال إيصالها

ثم قال تعالى وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن عامر وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بالرفع على معنى الابتداء والباقون بالنصب على معنى وجعل الشمس والقمر قال الواحدي والنصب هو الوجه لقوله تعالى وَاسْجُدُواْ لِلَّهِ الَّذِى خَلَقَهُنَّ ( فصلت 37 ) فكما صرح في هذه الآية أنه سخر الشمس والقمر كذلك يجب أن يحمل على أنه خلقها في قوله إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ وهذا النصف على الحال أي خلق هذه الأشياء حال كونها موصوفة بهذه الصفات والآثار والأفعال وحجة ابن عامر قوله تعالى وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ( الجاثية 13 ) ومن جملة ما في السماء الشمس والقمر فلما أخبر أنه تعالى سخرها حسن الأخبار عنها بأنها مسخرة كما أنك إذا قلت ضربت زيداً استقام أن تقول زيد مضروب
المسألة الثانية في هذه الآية لطائف فالأولى أن الشمس لها نوعان من الحركة
أحد النوعين حركتها بحسب ذاتها وهي إنما تتم في سنة كاملة وبسبب هذه الحركة تحصل السنة
والنوع الثاني حركتها بسبب حركة الفلك الأعظم وهذه الحركة تتم في اليوم بليلة
إذا عرفت هذا فنقول الليل والنهار لا يحصل بسبب حركة الشمس وإنما يحصل بسبب حركة السماء الأقصى التي يقال لها العرش فهذا السبب لما ذكر العرش بقوله ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ربط به قوله وَهُوَ الَّذِى مَدَّ تنبيهاً على أن سبب حصول الليل والنهار هو حركة الفلك الأقصى لا حركة الشمس والقمر وهذه دقيقة عجيبة والثانية أنه تعالى لما شرح كيفية تخليق السموات قال فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِى يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِى كُلّ سَمَاء أَمْرَهَا ( فصلت 12 ) فدلت تلك الآية على أنه سبحانه خص كل ذلك بلطيفة نورانية ربانية من عالم الأمر
ثم قال بعده أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ وهو إشارة إلى أن كل ما سوى الله تعالى أما من عالم الخالق أو من عالم الأمر أما الذي هو من عالم الخلق فالخلق عبارة عن التقدير وكل ما كان جسماً أو جسمانياً كان مخصوصاً بمقدار معين فكان من عالم الخلق وكل ما كان بريئاً عن الحجمية والمقدار كان من عالم الأرواح ومن عالم الأمر فدل على أنه سبحانه خص كل واحد من أجرام الأفلاك والكواكب التي هي من عالم الخلق بملك من الملائكة وهم من عالم الأمر والأحاديث الصحيحة مطابقة لذلك وهي ما روي في الأخبار أن لله ملائكة يحركون الشمس والقمر عند الطلوع وعند الغروب وكذا القول في سائر الكواكب وأيضاً قوله سبحانه وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَة ٌ ( الحاقة 17 ) إشارة إلى أن الملائكة الذين يقومون بحفظ العرش ثمانية ثم إذا دققت النظر علمت أن عالم الخلق في تسخير الله وعالم الأمر في تدبير الله واستيلاء الروحانيات على الجسمانيات بتقدير الله فلهذا المعنى قال أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ
ثم قال بعده تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ والبركة لها تفسيران أحدهما البقاء والثبات والثاني كثرة الآثار الفاضلة والنتائج الشريفة وكلا التفسيرين لا يليق إلا بالحق سبحانه فإن حملته على الثبات والدوام فالثابت والدائم هو الله تعالى لأنه الموجود الواجب لذاته العالم لذاته القائم بذاته الغني في ذاته وصفاته وأفعاله وأحكامه عن كل ما سواه فهو سبحانه مقطع الحاجات ومنهى الافتقارات وهو غني عن كل ما سواه

في جميع الأمور وأيضاً إن فسرنا البركة بكثرة الآثار الفاضلة فالكل بهذا التفسير من الله تعالى لأن الموجود إما واجب لذاته وإما ممكن لذاته والواجب لذاته ليس إلا هو وكل ما سواه ممكن وكل ممكن فلا يوجد إلا بإيجاد الواجب لذاته وكل الخيرات منه وكل الكمالات فائضة من وجوده وإحسانه فلا خير إلا منه ولا إحسان إلا من فيضه ولا رحمة إلا وهي حاصلة منه فلما كان الخلق والأمر ليس إلا منه لا جرم كان الثناء المذكور بقوله فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ( غافر 64 ) لا يليق إلا بكبريائه وكمال فضله ونهاية جوده ورحمته
المسألة الثالثة كون الشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره سبحانه يحتمل وجوهاً أحدها أنا قد دللنا في هذا الكتاب العالي الدرجة أن الأجسام متماثلة ومتى كان كذلك كان اختصاص جسم الشمس بذلك النور المخصوص والضوء الباهر والتسخير الشديد والتأثير القاهر والتدبيرات العجيبة في العالم العلوي والسفلي لا بد وأن يكون لأجل أن الفاعل الحكيم والمقدر العليم خص ذلك الجسم بهذه الصفات وهذه الأحوال فجسم كل واحد من الكواكب والنيرات كالمسخر في قبول تلك القوى والخواص عن قدرة المدبر الحكيم الرحيم العليم وثانيها أن يقال إن لكل واحد من أجرام الشمس والقمر والكواكب سيراً خاصاً بطيئاً من المغرب إلى المشرق وسيراً آخر سريعاً بسبب حركة الفلك الأعظم فالحق سبحانه خص جرم الفلك الأعظم بقوة سارية في أجرام سائر الأفلاك باعتبارها صارت مستولية عليها قادرة على تحريكها على سبيل القهر من المشرق إلى المغرب فأجرام الأفلاك والكواكب صارت كالمسخرة لهذا القهر والقسر ولفظ الآية مشعر بذلك لأنه لما ذكر العرش بقوله ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ رتب عليه حكمين أحدهما قوله وَهُوَ الَّذِى مَدَّ تنبيهاً على أن حدوث الليل والنهار إنما يحصل بحركة العرش والثاني قوله وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ تنبيهاً على أن الفلك الأعظم الذي هو العرش يحرك الأفلاك والكواكب على خلاف طبعها من المشرق إلى المغرب وأنه تعالى أودع في جرم العرش قوة قاهرة باعتبارها قوى على قهر جميع الأفلاك والكواكب وتحريكها على خلاف مقتضى طبائعها فهذه أبحاث معقولة ولفظ القرآن مشعر بها والعلم عند الله وثانيها أن أجسام العالم على ثلاثة أقسام منها ما هي متحركة إلى الوسط وهي الثقال ومنها ما هي متحركة عن الوسط وهي الخفاف ومنها ما هي متحركة عن الوسط وهي الأجرام الفلكية الكوكبية فإنها مستديرة حول الوسط فكون الأفلاك والكواكب مستديرة حول مركز الأرض لا عنه ولا إليه لا يكون إلا بتسخير الله وتدبيره حيث خص كل واحد من هذه الأجسام بخاصة معينة وصفة معينة وقوة مخصوصة فلهذا السبب قال وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ ورابعها أن الثوابت تتحرك في كل ستة وثلاثين ألف سنة دورة واحدة فهذه الحركة تكون في غاية البطء ثم ههنا دقيقة أخرى وهي أن كل كوكب من الكواكب الثابتة كان أقرب إلى المنطقة كانت حركته أسرع وكل ما كان أقرب إلى القطب كانت حركته أبطأ فالكواكب التي تكون في غاية القرب من القطب مثل كوكب الجدي وهو الذي تقول العوام إنه هو القطب يدور في دائرة في غاية الصغر وهو إنما يتمم تلك الدائرة الصغيرة جداً في مدة ستة وثلاثين ألف سنة فإذا تأملت علمت أن تلك الحركة بلغت في البطء إلى حيث لا توجد حركة في العالم تشاركها في البطء فذلك الكوكب اختص بأبطأ حركات هذا العالم وجرم الفلك الأعظم اختص بأسرع حركات العالم وفيما بين هاتين الدرجتين درجات لا نهاية لها في البطء والسرعة وكل واحد من الكواكب والدوائر والحوامل والممثلات يختص بنوع من تلك الحركات وأيضاً فلكل واحد من تلك الكواكب مدارات

مخصوصة فأسرعها هو المنطقة وكل ما كان أقرب إليه فهو أسرع حركة مما هو أبعد منه ثم إنه سبحانه رتب مجموع هذه الحركات على اختلاف درجاتها وتفاوت مراتبها سبباً لحصول المصالح في هذا العالم كما قال في أول سورة البقرة ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ( البقرة 29 ) أي سواهن على وفق مصالح هذا العالم وهو بكل شيء عليم أي هو عالم بجميع المعلومات فيعلم أنه كيف ينبغي ترتيبها وتسويتها حتى تحصل مصالح هذا العالم فهذا أيضاً نوع عجيب في تسخير الله تعالى هذه الأفلاك والكواكب فتكون داخلة تحت قوله وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ وربما جاء بعض الجهال والحمقى وقال إنك أكثرت في تفسير كتاب الله من علم الهيئة والنجوم وذلك على خلاف المعتادا فيقال لهذا المسكين إنك لو تأملت في كتاب الله حق التأمل لعرفت فساد ما ذكرته وتقريره من وجوه الأول أن الله تعالى ملأ كتابه من الاستدلال على العلم والقدرة والحكمة بأحوال السموات والأرض وتعاقب الليل والنهار وكيفية أحوال الضياء والظلام وأحوال الشمس والقمر والنجوم وذكر هذه الأمور في أكثر السور وكررها وأعادها مرة بعد أخرى فلو لم يكن البحث عنها والتأمل في أحوالها جائزاً لما ملأ الله كتابه منها والثاني أنه تعالى قال أَوَلَمْ يَنظُرُواْ إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ ( ق 6 ) فهو تعالى حث على التأمل في أنه كيف بناها ولا معنى لعلم الهيئة إلا التأمل في أنه كيف بناها وكيف خلق كل واحد منها والثالث أنه تعالى قال لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ( غافر 57 ) فبين أن عجائب الخلقة وبدائع الفطرة في أجرام السموات أكثر وأعظم وأكمل مما في أبدان الناس ثم أنه تعالى رغب في التأمل في أبدان الناس بقوله وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ ( الذاريات 21 ) فما كان أعلى شأناً وأعظم برهاناً منها أولى بأن يجب التأمل في أحوالها ومعرفة ما أودع الله فيها من العجائب والغرائب والرابع أنه تعالى مدح المتفكرين في خلق السموات والأرض فقال وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً ( آل عمران 191 ) ولو كان ذلك ممنوعاً منه لما فعل والخامس أن من صنف كتاباً شريفاً مشتملاً على دقائق العلوم العقلية والنقلية بحيث لا يساويه كتاب في تلك الدقائق فالمعتقدون في شرفه وفضيلته فريقان منهم من يعتقد كونه كذلك على سبيل الجملة من غير أن يقف على ما فيه من الدقائق واللطائف على سبيل التفصيل والتعيين ومنهم من وقف على تلك الدقائق على سبيل التفصيل والتعيين واعتقاد الطائفة الأولى وإن بلغ إلى أقصى الدرجات في القوة والكمال إلا أن اعتقاد الطائفة الثانية يكون أكمل وأقوى وأوفى وأيضاً فكل من كان وقوفه على دقائق ذلك الكتاب ولطائفه أكثر كان اعتقاده في عظمة ذلك المصنف وجلالته أكمل
إذا ثبت هذا فنقول من الناس من اعتقد أن جملة هذا العالم محدث وكل محدث فله محدث فحصل له بهذا الطريق إثبات الصانع تعالى وصار من زمرة المستدلين ومنهم من ضم إلى تلك الدرجة البحث عن أحوال العالم العلوي والعالم السفلي على سبيل التفصيل فيظهر له في كل نوع من أنواع هذا العالم حكمة بالغة وأسرار عجيبة فيصير ذلك جارياً مجرى البراهين المتواترة والدلائل المتوالية على عقله فلا يزال ينتقل كل لحظة ولمحة من برهان إلى برهان آخر ومن دليل إلى دليل آخر فلكثرة الدلائل وتواليها أثر عظيم في تقوية اليقين وإزالة الشبهات فإذا كان الأمر كذلك ظهر أنه تعالى إنما أنزل هذا الكتاب لهذه

الفوائد والأسرار لا لتكثير النحو الغريب والاشتقاقات الخالية عن الفوائد والحكايات الفاسدة ونسأل الله العون والعصمة
المسألة الرابعة الأمر المذكور في قوله مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ قد فسرناه بما سبق ذكره وأما المفسرون فلهم فيه وجوه أحدها المراد نفاذ إرادته لأن الغرض من هذه الآية تبيين عظمته وقدرته وليس المراد من هذا الأمر الكلام ونظيره في قوله تعالى فَقَالَ لَهَا وَلِلاْرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ( فصلت 11 ) وقوله إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَى ْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( النحل 40 ) ومنهم من حمل هذا الأمر على الأمر الثاني الذي هو الكلام وقال إنه تعالى أمر هذه الأجرام بالسير الدائم والحركة المستمرة
المسألة الخامسة أن الشمس والقمر من النجوم فذكرهما ثم عطف على ذكرهما ذكر النجوم والسبب في إفرادهما بالذكر أنه تعالى جعلهما سبباً لعمارة هذا العالم والاستقصاء في تقريره لا يليق بهذا الموضع فالشمس سلطان النهار والقمر سلطان الليل والشمس تأثيرها في التسخين والقمر تأثيره في الترطيب وتولد المواليد الثلاثة أعني المعادن والنبات والحيوان لا يتم ولا يكمل إلا بتأثير الحرارة في الرطوبة ثم إنه تعالى خص كل كوكب بخاصة عجيبة وتدبير غريب لا يعرفه بتمامه إلا الله تعالى وجعله معيناً لهما في تلك التأثيرات والمباحث المستقصاة في علم الهيئة تدل على أن الشمس كالسلطان والقمر كالنائب وسائر الكواكب كالخدم فلهذا السبب بدأ الله سبحانه بذكر الشمس وثنى القمر ثم أتبعه بذكر سائر النجوم
أما قوله تعالى أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ ففيه مسائل
المسألة الأولى احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه لا موجد ولا مؤثر إلا الله سبحانه والدليل عليه أن كل من أوجد شيئاً وأثر في حدوث شيء فقد قدر على تخصيص ذلك الفعل بذلك الوقت فكان خالقاً ثم الآية دلت على أنه لا خالق إلا الله لأنه قال أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ وهذا يفيد الحصر بمعنى أنه لا خالق إلا الله وذلك يدل على أن كل أمر يصدر عن فلك أو ملك أو جني أو إنسي فخالق ذلك الأمر في الحقيقة هو الله سبحانه لا غير وإذا ثبت هذا الأصل تفرعت عليه مسائل إحداها أنه لا إله إلا الله إذ لو حصل إلهان لكان الإله الثاني خالقاً ومدبراً وذلك يناقض مدلول هذه الآية في تخصص الخلق بهذا الواحد وثانيها أنه لا تأثير للكواكب في أحوال هذا العالم وإلا لحصل خالق سوى الله وذلك ضد مدلول هذه الآية وثالثها أن القول بإثبات الطبائع وإثبات العقول والنفوس على ما يقوله الفلاسفة وأصحاب الطلسمات باطل وإلا لحصل خالق غير الله ورابعها خالق أعمال العباد هو الله وإلا لحصل خالق غير الله وخامسها القول بأن العلم يوجب العالمية والقدرة توجب القادرية باطل وإلا لحصل مؤثر غير الله ومقدر غير الله وخالق غير الله وإنه باطل
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية على أن كلام الله قديم قالوا إنه تعالى ميز بين الخلق وبين الأمر ولو كان الأمر مخلوقاً لما صح هذا التمييز أجاب الجبائي عنه بأنه لا يلزم من أفراد الأمر بالذكر عقيب الخلق أن لا يكون الأمر داخلاً في الخلق فإنه تعالى قال تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْءانٍ مُّبِينٍ ( الحجر 1 ) وآيات الكتاب داخلة في القرآن وقال إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإْحْسَانِ ( النحل 90 ) مع أن الإحسان داخل في العدل وقال مَن كَانَ عَدُوّا لّلَّهِ وَمَلئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ( البقرة 98 ) وهما داخلان تحت الملائكة

وقال الكعبي إن مدار هذه الحجة على أن المعطوف يجب أن يكون مغايراً للمعطوف عليه فإن صح هذا الكلام بطل مذهبكم لأنه تعالى قال قُلْ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِى ( الأعراف 158 ) فعطف الكلمات على الله فوجب أن تكون الكلمات غير الله وكل ما كان غير الله فهو محدث مخلوق فوجب كون كلمات الله محدثة مخلوقة وقال القاضي أطبق المفسرون على أنه ليس المراد بهذا الأمر كلام التنزيل بل المراد به نفاذ إرادة الله تعالى لأن الغرض بالآية تعظيم قدرته وقال آخرون لا يبعد أن يقال الأمر وإن كان داخلاً تحت الخلق إلا أن الأمر بخصوص كونه أمراً يدل على نوع آخر من الكمال والجلال فقوله لَهُ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ معناه له الخلق والإيجاد في المرتبة الأولى ثم بعد الإيجاد والتكوين فله الأمر والتكليف في المرتبة الثانية ألا ترى أنه لو قال له الخلق وله التكليف وله الثواب والعقاب كان ذلك حسناً مفيداً مع أن الثواب والعقاب داخلان تحت الخلق فكذا ههنا وقال آخرون معنى قوله أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ هو أنه إن شاء خلق وإن شاء لم يخلق فكذا قوله وَالاْمْرُ يجب أن يكون معناه أنه إن شاء أمر وإن شاء لم يأمر وإذا كان حصول الأمر متعلقاً بمشيئته لزم أن يكون ذلك الأمر مخلوقاً كما أنه لما كان حصول المخلوق متعلقاً بمشيئته كان مخلوقاً أما لو كان أمر الله قديماً لم يكن ذلك الأمر بحسب مشيئته بل كان من لوازم ذاته فحينئذ لا يصدق عليه أنه إن شاء أمر وإن شاء لم يأمر وذلك ينفي ظاهر الآية
والجواب أنه لو كان الأمر داخلاً تحت الخلق كان إفراد الأمر بالذكر تكريراً محضاً والأصل عدمه أقصى ما في الباب أنا تحملنا ذلك في صور لأجل الضرورة إلا أن الأصل عدم التكرير والله أعلم
المسألة الثالثة هذه الآية تدل على أنه ليس لأحد أن يلزم غيره شيئاً إلا الله سبحانه
وإذا ثبت هذا فنقول فعل الطاعة لا يوجب الثواب وفعل المعصية لا يوجب العقاب وأيصال الألم لا يوجب العوض وبالجملة فلا يجب على الله لأحد من العبيد شيء ألبتة إذ لو كان فعل الطاعة يوجب الثواب لتوجه على الله من العبد مطالبة ملزمة وإلزام جازم وذلك ينافي قوله أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ
المسألة الرابعة دلت هذه الآية على أن القبيح لا يجوز أن يقبح لوجه عائد إليه وأن الحسن لا يجوز أن يحسن لوجه عائد إليه لأن قوله أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ يفيد أنه تعالى له أن يأمر بما شاء كيف شاء ولو كان القبيح يقبح لوجه عائد إليه لما صح من الله أن يأمر إلا بما حصل منه ذلك الوجه ولا أن ينهي إلا عما فيه وجه القبح فلم يكن متمكناً من الأمر والنهي كما شاء وأراد مع أن الآية تقتضي هذا المعنى
المسألة الخامسة دلت هذه الآية على أنه سبحانه قادر على خلق عوالم سوى هذا العالم كيف شاء وأراد وتقريره إنه قال إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ والخلق إذا أطلق أريد به الجسم المقدر أو ما يظهر تقديره في الجسم المقدر ثم بين في آية أخرى أنه أوحي في كل سماء أمرها وبين في هذه الآية أنه تعالى خصص كل واحد من الشمس والقمر والنجوم بأمره وذلك يدل على أن ما حدث بتأثير قدرة الله تعالى فتميز الأمر والخلق ثم قال بعد هذا التفصيل والبيان أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ يعني له القدرة على الخلق وعلى الأمر على الإطلاق فوجب أن يكون قادراً على إيجاد هذه الأشياء وعلى تكوينها كيف شاء وأراد فلو أراد خلق ألف عالم بما فيه من العرش والكرسي والشمس والقمر والنجوم

في أقل من لحظة ولمحة لقدر عليه لأن هذه الماهيات ممكنة والحق قادر على كل الممكنات ولهذا قال المعري في قصيدة طويلة له يأيها الناس كم لله من فلك
تجري النجوم به والشمس والقمر
ثم قال في أثناء هذه القصيدة هنا على الله ماضينا وغابرنا
فما لنا في نواحي غيره خطر
المسألة السادسة قال قوم الْخَلْقِ صفة من صفات الله وهو غير المخلوق واحتجوا عليه بالآية والمعقول أما الآية فقوله تعالى أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ قالوا وعند أهل السنة الاْمْرُ لله لا بمعنى كونه مخلوقاً له بل بمعنى كونه صفة له فكذلك يجب أن يكون الْخَلْقِ لله لا بمعنى كونه مخلوقاً له بل بمعنى كونه صفة له وهذا يدل على أن الخلق صفة قائمة بذات الله تعالى وأما المعقول فهو أنا إذا قلنا لم حدث هذا الشيء ولم وجد بعد أن لم يكن فنقول في جوابه لأنه تعالى خلقه وأوجده فحينئذ يكون هذا التعليل صحيحاً فلو كان كونه تعالى خالقاً له نفس حصول ذلك المخلوق لكان قوله أنه إنما حدث لأنه تعالى خلقه وأوجده جارياً مجرى قوله أنه إنما حدث لنفسه ولذاته لا لشيء آخر وذلك محال باطل لأن صدق هذا المعنى ينفي كونه مخلوقاً من قبل الله تعالى فثبت أن كونه تعالى خالقاً للمخلوق مغايراً لذات ذلك المخلوق وذلك يدل على أن الخلق غير المخلوق وجوابه لو كان الخلق غير المخلوق لكان أن كان قديماً لزم من قدمه قدم المخلوق وإن كان حادثاً افتقر إلى خلق آخر ولزم التسلسل وهو محال
المسألة السابعة ظاهر الآية يقتضي أنه كما لا خلق إلا لله فكذلك لا أمر إلا لله وهذا يتأكد بقوله تعالى إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ ( الأنعام 57 ) وقوله فَالْحُكْمُ للَّهِ الْعَلِى ّ الْكَبِيرِ ( غافر 12 ) وقوله لِلَّهِ الاْمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ( الروم 4 ) إلا أنه مشكل بالآية والخبر أما الآية فقوله تعالى فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ( النور 63 ) وأما الخبر فقوله عليه السلام ( إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم )
والجواب أن أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يدل على أن أمر الله قد حصل فيكون الموجب في الحقيقة هو أمر الله لا أمر غيره والله أعلم
المسألة الثامنة قوله أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ يدل على أن لله أمراً ونهياً على عباده وأن له تكليفاً على عباده والخلاف مع نفاة التكليف واحتجوا عليه بوجوه أولها أن المكلف به إن كان معلوم الوقوع كان واجب الوقوع فكان الأمر به أمراً بتحصيل الحاصل وأنه محال وإن كان معلوم اللاوقوع كان ممتنع الوقوع فكان الأمر به أمراً بما يمتنع وقوعه وهو محال وثانيها أنه تعالى إن خلق الداعي إلى فعله كان واجب الوقوع فلا فائدة في الأمر وإن لم يخلق الداعي إليه كان ممتنع الوقوع فلا فائدة في الأمر به وثالثها أن أمر الكافر والفاسق لا يفيد إلا الضرر المحض لأنه لما علم الله أنه لا يؤمن ولا يطيع امتنع أن يصدر عنه الإيمان والطاعة إلا إذا صار علم الله جهلاً والعبد لا قدرة له على تجهيل الله وإذا تعذر اللازم تعذر الملزوم فوجب أن يقال لا قدرة للكافر والفاسق على الإيمان والطاعة أصلاً وإذا كان كذلك لم يحصل من الأمر به إلا مجرد استحقاق العقاب فيكون هذا الأمر والتكليف إضراراً محضاً من غير فائدة

ألبتة وهو لا يليق بالرحيم الحكيم ورابعها أن الأمر والتكليف إن لم يكن لفائدة فهو عبث وإن كان لفائدة عائدة إلى المعبود فهو محتاج وليس باله وإن كان لفائدة عائدة إلى العابد فجميع الفوائد منحصرة في تحصيل النفع ودفع الضرر والله تعالى قادر على تحصيلها بالتمام والكمال من غير واسطة التكليف فكان توسيط التكليف إضراراً محضاً من غير فائدة وأنه لا يجوز
واعلم أنه تعالى بين في هذه الآية أنه يحسن منه أن يأمر عباده وأن يكلفهم بما شاء واحتج عليه بقوله أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ يعني لما كان الخلق منه ثبت أنه هو الخالق لكل العبيد وإذا كان خالقاً لهم كان مالكاً لهم وإذا كان مالكاً لهم حسن منه أن يأمرهم وينهاهم لأن ذلك تصرف من المالك في ملك نفسه وذلك مستحسن فقوله سبحانه أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ يجري مجرى الدليل القاطع على أنه يحسن من الله تعالى أن يأمر عباده بما شاء كيف شاء
المسألة التاسعة دلت الآية على أنه يحسن من الله تعالى أن يأمر عباده بما شاء بمجرد كونه خالقاً لهم لا كما يقوله المعتزلة من كون ذلك الفعل صلاحاً ولا كما يقولونه أيضاً من حيث العوض والثواب لأنه تعالى ذكر أن الخلق له أولاً ثم ذكر الأمر بعده وذلك يدل على أن حسن الأمر معلل بكونه خالقاً لهم موجداً لهم وإذا كانت العلة في حسن الأمر والتكليف هذا القدر سقط اعتبار الحسن والقبح والثواب والعقاب في اعتبار حسن الأمر والتكليف
المسألة العاشرة دلت هذه الآية على أنه تعالى متكلم آمر ناه مخبر مستخبر وكان من حق هذه المسألة تقدمها على سائر المسائل إلا أنها إنما خطرت بالبال في هذا الوقت والدليل عليه قوله تعالى أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ فدل ذلك على أن له الأمر وإذا ثبت هذا وجب أن يكون له النهي والخبر والاستخبار ضرورة أنه لا قائل بالفرق
المسألة الحادية عشرة أنه تعالى بين كونه تعالى خالقاً للسموات والأرض والشمس والقمر والنجوم
ثم قال أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ أي لا خالق إلا هو
ولقائل أن يقول لا يلزم من كونه تعالى خالقاً لهذه الأشياء أن يقال لا خالق على الإطلاق إلا هو فلم رتب على إثبات كونه خالق لتلك الأشياء إثبات أنه لا خالق إلا هو على الإطلاق فنقول الحق أنه متى ثبت كونه تعالى خالقاً لبعض الأشياء وجب كونه خالقاً لكل الممكنات وتقريره أن افتقار المخلوق إلى الخالق لإمكانه والإمكان واحد في كل الممكنات وهذا الإمكان إما أن يكون علة للحاجة إلى مؤثر متعين أو إلى مؤثر غير متعين والثاني باطل لأن كل ما كان موجوداً في الخارج فهو متعين في نفسه فيلزم منه أن ما لا يكون متعيناً في نفسه لم يكن موجوداً في الخارج وما لا وجود له في الخارج امتنع أن يكون علة لوجود غيره في الخارج فثبت أن الإمكان علة للحاجة إلى موجد ومعين فوجب أن يكون جميع الممكنات محتاجاً إلى ذلك المعين فثبت أن الذي يكون مأثراً في وجود شيء واحد هو المؤثر في وجود كل الممكنات

أما قوله تعالى تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فاعلم أنه سبحانه لما بين كونه خالقاً للسموات والأرض والعرش والليل والنهار والشمس والقمر والنجوم وبين كون الكل مسخراً في قدرته وقهره ومشيئته وبين أن له الحكم والأمر والنهي والتكليف بين أنه يستحق الثناء والتقديس والتنزيه فقال تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وقد تقدم تفسير تَبَارَكَ فلا نعيده
واعلم أنه تعالى بدأ في أول الآية رب السموات والأرضين وسائر الأشياء المذكورة ثم ختم الآية بقوله تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ والعالم كل موجود سوى الله تعالى فبين كونه رباً وإلهاً وموجوداً ومحدثاً لكل ما سواه ومع كونه كذلك فهو رب ومرب ومحسن ومتفضل وهذا آخر الكلام في شرح هذه الآية
ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَة ً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الأرض بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر الدلائل الدالة على كمال القدرة والحكمة والرحمة وعند هذا تم التكليف المتوجه إلى تحصيل المعارف النفسانية والعلوم الحقيقية أتبعه بذكر الأعمال اللائقة بتلك المعارف وهو الاشتغال بالدعاء والتضرع فإن الدعاء مخ العبادة فقال ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَة ً وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قوله ادْعُواْ رَبَّكُمْ فيه قولان قال بعضهم اعْبُدُواْ وقال آخرون هو الدعاء ومن قال بالأول عقل من الدعاء أنه طلب الخير من الله تعالى وهذه صفة العبادة لأنه يفعل تقرباً وطلباً للمجازاة لأنه تعالى عطف عليه قوله وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ( الأعراف 56 ) والمعطوف ينبغي أن يكون مغايراً للمعطوف عليه والقول الثاني هو الأظهر لأن الدعاء مغاير للعبادة في المعنى
إذا عرفت هذا فنقول اختلف الناس في الدعاء فمنهم من أنكره واحتج على صحة قوله بأشياء الأول أن المطلوب بالدعاء إن كان معلوم الوقوع كان واجب الوقوع لامتناع وقوع التغيير في علم الله تعالى وما كان واجب الوقوع لم يكن في طلبه فائدة وإن كان معلوم اللاوقوع كان ممتنع الوقوع فلا فائدة أيضاً في طلبه الثاني أنه تعالى إن كان قد أراد في الأزل إحداث ذلك المطلوب فهو حاصل سواء حصل هذا الدعاء أو لم يحصل وإن كان قد أراد في الأزل أن لا يعطيه فهو ممتنع الوقوع فلا فائدة في الطلب وإن قلنا أنه ما أراد في الأزل إحداث ذلك الشيء لا وجوده ولا عدمه ثم إنه عند ذلك الدعاء صار مريداً له لزم وقوع التغير في ذات الله وفي صفاته وهو محال لأن على هذا التقدير يصير إقدام العبد على الدعاء علة لحدوث صفة في ذات الله تعالى فيكون العبد متصرفاً في صفة الله بالتبديل والتغيير وهو محال والثالث أن المطلوب بالدعاء إن اقتضت الحكمة والمصلحة إعطاءه فهو تعالى يعطيه من غير هذا الدعاء

لأنه منزه عن أن يكون بخيلاً وأن اقتضت الحكمة منعه فهو لا يعطيه سواء أقدم العبد على الدعاء أو لم يقدم عليه والرابع أن الدعاء غير الأمر ولا تفاوت بين البابين إلا كون الداعي أقل رتبة وكون الآمر أعلى رتبة وإقدام العبد على أمر الله سوء أدب وإنه لا يجوز الخامس الدعاء يشبه ما إذا أقدم العبد على إرشاد ربه وإلهه إلى فعل الأصلح والأصوب وذلك سوء أدب أو أنه ينبه الإله على شيء ما كان منتبهاً له وذلك كفر وأنه تعالى قصر في الإحسان والفضل فأنت بهذا تحمله على الإقدام على الإحسان والفضل وذلك جهل السادس إن الإقدام على الدعاء يدل على كونه غير راض بالقضاء إذ لو رضي بما قضاه الله عليه لترك تصرف نفسه ولما طلب من الله شيئاً على التعيين وترك الرضا بالقضاء أمر من المنكرات السابع كثيراً ما يظن العبد بشيء كونه نافعاً وخيراً ثم أنه عند دخوله في الوجود يصير سبباً للآفات الكثيرة والمفاسد العظيمة وإذا كان كذلك كان طلب الشيء المعين من الله غير جائز بل الأولى طلب ما هو المصلحة والخير وذلك حاصل من الله تعالى سواء طلبه العبد بالدعاء أو لم يطلبه فلم يبق في الدعاء فائدة الثامن أن الدعاء عبارة عن توجه القلب إلى طلب شيء من الله تعالى وتوجه القلب إلى طلب ذلك الشيء المعين يمنع القلب من الاستغراق في معرفة الله تعالى وفي محبته وفي عبوديته وهذه مقامات عالية شريفة وما يمنع من حصول المقامات العالية الشريفة كان مذموماً التاسع روي أنه عليه الصلاة والسلام قال حاكياً عن الله سبحانه ( من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين ) وذلك يدل على أن الأولى ترك الدعاء العاشر إن علم الحق محيط بحاجة العبد والعبد إذا علم أن مولاه عالم باحتياجه فسكت ولم يذكر تلك الحاجة كان ذلك أدخل في الأدب وفي تعظيم المولى مما إذا أخذ يشرح كيفية تلك الحالة ويطلب ما يدفع تلك الحاجة وإذا كان الحال على هذا الوجه في الشاهد وجب اعتبار مثله في حق الله سبحانه ولذلك يقال أن الخليل عليه السلام لما وضع في المنجنيق ليرمى إلى النار قال جبريل عليه السلام ادع ربك فقال الخليل عليه السلام حسبي من سؤالي علمه بحالي فهذه الوجوه هي المذكورة في هذا الباب
واعلم أن الدعاء نوع من أنواع العبادة والأسئلة المذكورة واردة في جميع أنواع العبادات فإنه يقال أن كان هذا الإنسان سعيداً في علم الله فلا حاجة إلى الطاعات والعبادات وإن كان شقياً في علمه فلا فائدة في تلك العبادات وأيضاً يقال وجب أن لا يقدم الإنسان على أكل الخبز وشرب الماء لأنه أن كان هذا الإنسان شبعان في علم الله تعالى فلا حاجة إلى أكل الخبز وإن كان جائعاً فلا فائدة في أكل الخبز وكما أن هذا الكلام باطل ههنا فكذا فيما ذكروه بل نقول الدعاء يفيد معرفة ذلة العبودية ويفيد معرفة عزة الربوبية وهذا هو المقصود الأشرف الأعلى من جميع العبادات وبيانه أن الداعي لا يقدم على الدعاء إلا إذا عرف من نفسه كونه محتاجاً إلى ذلك المطلوب وكونه عاجزاً عن تحصيله وعرف من ربه وإلهه أنه يسمع دعاءه ويعلم حاجته وهو قادر على دفع تلك الحاجة وهو رحيم تقتضي رحمته إزالة تلك الحاجة وإذا كان كذلك فهو لا يقدم على الدعاء إلا إذا عرف كونه موصوفاً بالحاجة وبالعجز وعرف كون الإله سبحانه موصوفاً بكمال العلم والقدرة والرحمة فلا مقصود من جميع التكاليف إلا معرفة ذل العبودية وعز الربوبية فإذا كان الدعاء مستجمعاً لهذين المقامين لا جرم كان الدعاء أعظم أنواع العبادات وقوله تعالى ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَة ً إشارة إلى المعنى الذي ذكرناه لأن التضرع لا يحصل إلا من الناقص في حضرة الكامل فما لم يعتقد

العبد نقصان نفسه وكمال مولاه في العلم والقدرة والرحمة لم يقدم على التضرع فثبت أن المقصود من الدعاء ما ذكرناه فثبت أن لفظ القرآن دليل عليه والذي يقوي ما ذكرناه ما روي أنه عليه السلام قال ( ما من شيء أكرم على الله من الدعاء والدعاء هو العبادة ) ثم قرأ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ ( غافر 60 ) في حقائق الدعاء مذكور في سورة البقرة في تفسير قوله وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ ( البقرة 186 ) والله أعلم
المسألة الثانية في تقرير شرائط الدعاء
اعلم أن المقصود من الدعاء أن يصير العبد مشاهداً لحاجة نفسه ولعجز نفسه ومشاهداً لكون مولاه موصوفاً بكمال العلم والقدرة والرحمة فكل هذه المعاني دخلت تحت قوله ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا ثم إذا حصلت هذه الأحوال على سبيل الخلوص فلا بد من صونها عن الرياء المبطل لحقيقة الإخلاص وهو المراد من قوله تعالى وَخُفْيَة ً والمقصود من ذكر التضرع تحقيق الحالة الأصلية المطلوبة من الدعاء والمقصود من ذكر الإخفاء صون ذلك الأخلاص عن شوائب الرياء وإذا عرفت هذا المعنى ظهر لك أن قوله سبحانه تَضَرُّعًا وَخُفْيَة ً مشتمل على كل ما يراد تحقيقه وتحصيله في شرائط الدعاء وأنه لا يزيد عليه البتة بوجه من الوجوه وأما تفصيل الكلام في تلك الشرائط فقد بالغ في شرحها الشيخ سليمان الحليمي رحمة الله عليه في كتاب المنهاج فليطلب من هناك
المسألة الثالثة ( التضرع ) التذلل والتخشع وهو إظهار ذل النفس من قولهم ضرع فلان لفلان وتضرع له إذا أظهر الذل له في معرض السؤال ( والخفية ) ضد العلانية يقال أخفيت الشيء إذا سترته ويقال خفية أيضاً بالكسر وقرأ عاصم وحده في رواية أبي بكر عنه خفية بكسر الخاء ههنا وفي الأنعام والباقون بالضم وهما لغتان
واعلم أن الإخفاء معتبر في الدعاء ويدل على وجوه الأول هذه الآية فإنها تدل على أنه تعالى أمر بالدعاء مقروناً باللإخفاء وظاهر الأمر للوجوب فإن لم يحصل الوجوب فلا أقل من كونه ندباً
ثم قال تعالى بعده وَخُفْيَة ً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ والأظهر أن المراد أنه لا يحب المعتدين في ترك هذين الأمرين المذكورين وهما التضرع والإخفاء فإن الله لا يحبه ومحبة الله تعالى عبارة عن الثواب فكان المعنى أن من ترك في الدعاء التضرع والإخفاء فإن الله لا يثيبه ألبتة ولا يحسن إليه ومن كان كذلك كان من أهل العقاب لا محالة فظهر أن قوله تعالى إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ كالتهديد الشديد على ترك التضرع والإخفاء في الدعاء
الحجة الثانية أنه تعالى أثنى على زكريا فقال إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً ( مريم 3 ) أي أخفاه عن العباد وأخلصه لله وانقطه به إليه
الحجة الثالثة ما روى أبو موسى الأشعري أنهم كانوا في غزاة فأشرفوا على واد فجعلوا يكبرون ويهللون رافعي أصواتهم فقال عليه السلام ( ارفقوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إنكم تدعون سميعاً قريباً وإنه لمعكم )

الحجة الرابعة قوله عليه السلام ( دعوة في السر تعدل سبعين دعوة في العلانية ) وعنه عليه السلام ( خير الذكر الخفي وخير الرزق ما يكفي ) وعن الحسن أنه كان يقول إن الرجل كان يجمع القرآن وما يشعر به جاره يفقه الكثير وما يشعر به الناس ويصلي الصلاة الطويلة في ليله وعنده الزائرون وما يشعرون به ولقد أدركنا أقواماً كانوا يبالغون في إخفاء الأعمال ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع صوتهم إلا همساً لأن الله تعالى قال ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَة ً وذكر الله عبده زكريا فقال إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً
الحجة الخامسة المعقول وهو أن النفس شديدة الميل عظيمة الرغبة في الرياء والسمعة فإذا رفع صوته في الدعاء امتزج الرياء بذلك الدعاء فلا يبقى فيه فائدة ألبتة فكان الأولى إخفاء الدعاء ليبقى مصوناً عن الرياء وههنا مسائل عظم اختلاف أرباب الطريقة فيها وهي أنه هل الأولى إخفاء العبادات أم إظهارها فقال بعضهم الأولى إخفاؤها صوناً لها عن الرياء وقال أخرون الأولى إظهارها ليرغب الغير في الاقتداء به في أداء تلك العبادات وتوسط الشيخ محمد بن عيسى الحكيم الترمذي فقال إن كان خائفاً على نفسه من الرياء الأولى الإخفاء صوناً لعمله عن البطلان وإن كان قد بلغ في الصفاء وقوة اليقين إلى حيث صار آمناً عن شائبة الرياء كان الأولى في حقه الإظهار لتحصل فائدة الاقتداء
المسألة الرابعة قال أبو حنيفة رحمه الله إخفاء التأمين أفضل وقال الشافعي رحمه الله إعلانه أفضل واحتج أبو حنيفة على صحة قوله قال في قوله ( آمين ) وجهان أحدهما أنه دعاء والثاني أنه من أسماء الله فإن كان دعاء وجب إخفاؤه لقوله تعالى ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَة ً وإن كان اسماً من أسماء الله تعالى وجب إخفاؤه لقوله تعالى وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَة ً ( الأعراف 205 ) فإن لم يثبت الوجوب فلا أقل من الندبية ونحن بهذا القول نقول
أما قوله تعالى إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ففيه مسائل
المسألة الأولى أجمع المسلمون على أن المحبة صفة من صفات الله تعالى لأن القرآن نطق بإثباتها في آيات كثيرة واتفقوا على أنه ليس معناها شهوة النفس وميل الطبع وطلب التلذذ بالشيء لأن كل ذلك في حق الله تعالى محال بالاتفاق واختلفوا في تفسير المحبة في حق الله تعالى على ثلاثة أقوال
فالقول الأول أنها عبارة عن أيصال الله الثواب والخير والرحمة إلى العبد
والقول الثاني أنها عبارة عن كونه تعالى مريداً لإيصال الثواب والخير إلى العبد وهذا الاختلاف بناء على مسألة أخرى وهي أنه تعالى هل هو موصوف بصفة الإرادة أم لا قال الكعبي وأبو الحسين إنه تعالى غير موصوف بالإرادة ألبتة فكونه تعالى مريداً لأفعال نفسه أنه موجد لها وفاعل لها وكونه تعالى مريداً لأفعال غيره كونه آمراً بها ولا يجوز كونه تعالى موصوفاً بصفة الإرادة وأما أصحابنا ومعتزلة البصرة فقد أثبتوا كونه تعالى موصوفاً بصفة المريدية
إذا عرفت هذا فمن نفي الإرادة في حق الله تعالى فسر محبة الله بمجرد إيصال الثواب إلى العبد ومن أثبت الإرادة لله تعالى فسر محبة الله بإرادته لإيصال الثواب إليه

والقول الثالث أنه لا يبعد أن تكون محبة الله تعالى للعبد صفة وراء كونه تعالى مريداً لإيصال الثواب إليه وذلك لأنا نجد في الشاهد أن الأب يحب ابنه فيترتب على تلك المحبة إرادة إيصال الخير إلى ذلك الابن فكانت هذه الإرادة أثراً من آثار تلك المحبة وثمرة من ثمراتها وفائدة من فوائدها أقصى ما في الباب أن يقال إن هذه المحبة في الشاهد عبارة عن الشهوة وميل الطبع ورغبة النفس وذلك في حق الله تعالى محال إلا أنا نقول لم لا يجوز أن يقال محبة الله تعالى صفة أخرى سوى الشهوة وميل الطبع يترتب عليها إرادة إيصال الخير والثواب إلى العبد أقصى ما في الباب أنا لا نعرف أن تلك المحبة ما هي وكيف هي ا إلا أن عدم العلم بالشيء لا يوجب العلم بعدم ذلك الشيء ألا ترى أن أهل السنة يثبتون كونه تعالى مرئياً ثم يقولون إن تلك الرؤية مخالفة لرؤية الأجسام والألوان بل هي رؤية بلا كيف فلم لا يقولون ههنا أيضاً أن محبة الله للعبد محبة منزهة عن ميل الطبع وشهوة النفس بل هي محبة بلا كيف فثبت أن جزم المتكلمين بأنه لا معنى لمحبة الله إلا إرادة إيصال الثواب ليس لهم على هذا الحصر دليل قاطع بل أقصى ما في الباب أن يقال لا دليل على إثبات صفة أخرى سوى الإرادة فوجب نفيها لكنا بينا في كتاب نهاية العقول أن هذه الطريقة ضعيفة ساقطة
المسألة الثانية قوله إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ أي المجاوزين ما أمروا به قال الكلبي وابن جريج من الاعتداء رفع الصوت في الدعاء
المسألة الثالثة اعلم أن كل من خالف أمر الله تعالى ونهيه فقد اعتدى وتعدى فيدخل تحت قوله إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وقد بينا أن من لا يحبه الله فإنه يعذبه فظاهر هذه الآية يقتضي أن كل من خالف أمر الله ونهيه فإنه يكون معاقباً والمعتزلة تمسكوا بهذه الآية على القطع بوعيد الفساق وقالوا لا يجوز أن يقال المراد منه الاعتداء في رفع الصوت بالدعاء وبيانه من وجهين الأول أن لفظ الْمُعْتَدِينَ لفظ عام دخله الألف واللام فيفيد الاستغراق غايته أنه إنما ورد في هذه الصورة لكنه ثبت أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب الثاني أن رفع الصوت بالدعاء ليس من المحرمات بل غايته أن يقال الأولى تركه وإذا لم يكن من المحرمات لم يدخل تحت هذا الوعيد
والجواب المستقصى ما ذكرناه في سورة البقرة أن التمسك بهذه العمومات لا يفيد القطع بالوعيد
ثم قال تعالى وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وفيه مسألتان
المسألة الأولى قوله وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا معناه ولا تفسدوا شيئاً في الأرض فيدخل فيه المنع من إفساد النفوس بالقتل وبقطع الأعضاء وإفساد الأموال بالغصب والسرقة ووجوه الحيل وإفساد الأديان بالكفر والبدعة وإفساد الأنساب بسبب الإقدام على الزنا واللواطة وسبب القذف وإفساد العقول بسبب شرب المكسرات وذلك لأن المصالح المعتبرة في الدنيا هي هذه الخمسة النفوس والأموال والأنساب والأديان والعقول فقوله وَلاَ تُفْسِدُواْ منع عن إدخال ماهية الإفساد في الوجود والمنع من إدخال الماهية في الوجود يقتضي المنع من جميع أنواعه وأصنافه فيتناول المنع من الإفساد في هذه الأقسام الخمسة وأما قوله بَعْدَ إِصْلَاحِهَا فيحتمل أن يكون المراد بعد أن أصلح خلقتها على الوجه المطابق لمنافع الخلق والموافق لمصالح المكلفين ويحتمل أن يكون المراد بعد إصلاح الأرض بسبب إرسال

الأنبياء وإنزال الكتب كأنه تعالى قال لما أصلحت مصالح الأرض بسبب إرسال الأنبياء وإنزال الكتب وتفصيل الشرائع فكونوا منقادين لها ولا تقدموا على تكذيب الرسل وإنكار الكتب والتمرد عن قبول الشرائع فإن ذلك يقتضي وقوع الهرج والمرج في الأرض فيحصل الإفساد بعد الإصلاح وذلك مستكره في بداهة العقول
المسألة الثانية هذه الآية تدل على أن الأصل في المضار الحرمة والمنع على الإطلاق
إذا ثبت هذا فنقول إن وجدنا نصاً خاصاً دل على جواز الإقدام على بعض المضار قضينا به تقديماً للخاص على العام وإلا بقي على التحريم الذي دل عليه هذا النص
واعلم أنا كنا قد ذكرنا في تفسير قوله تعالى قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَة َ اللَّهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرّزْقِ ( الأعراف 32 ) أن هذه الآية تدل على أن الأصل في المنافع واللذات الإباحة والحل ثم بينا أنه لما كان الأمر كذلك دخل تحت تلك الآية جميع أحكام الله تعالى فكذلك في هذه الآية أنها تدل على أن الأصل في المضار والآلام الحرمة
وإذا ثبت هذا كان جميع أحكام الله تعالى داخلاً تحت عموم هذه الآية وجميع ما ذكرناه من المباحث واللطائف في تلك الآية فهي موجودة في هذه الآية فتلك الآية دالة على أن الأصل في المنافع الحل وهذه الآية دالة على أن الأصل في جميع المضار الحرمة وكل واحدة من هاتين الآيتين مطابقة للأخرى مؤكدة لمدلولها مقررة لمعناها وتدل على أن أحكام جميع الوقائع داخلة تحت هذه العمومات وأيضاً هذه الآية دالة على أن كل عقد وقع التراضي عليه بين الخصمين فإنه انعقد وصح وثبت لأن رفعه بعد ثبوته يكون إفساداً بعد الإصلاح والنص دل على أنه لا يجوز
إذا ثبت هذا فنقول أن مدلول هذه الآية من هذا الوجه متأكد بعموم قوله أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ( المائدة 1 ) وبعموم قوله تعالى لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ ( الصف 2 3 ) وتحت قوله وَالَّذِينَ هُمْ لاِمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ ( المؤمنون 8 المعارج 32 ) وتحت سائر العمومات الواردة في وجوب الوفاء بالعهود والعقود
إذا ثبت هذا فنقول إن وجدنا نصاً دالاً على أن بعض العقود التي وقع التراضي به من الجانبين غير صحيح قضينا فيه بالبطلان تقديماً للخاص على العام وإلا حكمنا فيه بالصحة رعاية لمدلول هذه العمومات وبهذا الطريق البين الواضح ثبن أن القرآن واف ببيان جميع أحكام الشريعة من أولها إلى آخرها
ثم قال تعالى وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا وفيه سؤالات
السؤال الأول قال في أول الآية أَدْعُو رَبُّكُمْ ثم قال وَلاَ تُفْسِدُواْ ثم قال وَادْعُوهُ وهذا يقتضي عطف الشيء على نفسه وهو باطل
والجواب أن الذين قالوا في تفسير قوله ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا أي اعبدوه إنما قالوا ذلك خوفاً من هذا الإشكال

فإن قلنا بهذا التفسير فقد زال السؤال وإن قلنا المراد من قوله ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا هو الدعاء كان الجواب أن قوله ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَة ً يدل على أن الدعاء لا بد وأن يكون مقروناً بالتضرع وبالإخفاء ثم بين في قوله وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا أن فائدة الدعاء هو أحد هذين الأمرين فكانت الآية الأولى في بيان شرط صحة الدعاء والآية الثانية في بيان فائدة الدعاء ومنفعته
السؤال الثاني أن المتكلمين اتفقوا على أن من عبد ودعا لأجل الخوف من العقاب والطمع في الثواب لم تصح عبادته وذلك لأن المتكلمين فريقان منهم من قال التكاليف إنما وردت بمقتضى الألهية والعبودية فكونه إلهاً لنا وكوننا عبيداً له يقتضي أن يحسن منه أن يأمر عبيده بما شاء كيف شاء فلا يعتبر منه كونه في نفسه صلاحاً وحسناً وهذا قول أهل السنة ومنهم من قال التكليف إنما وردت لكونها في أنفسها مصالح وهذا هو قول المعتزلة
إذا عرفت هذا فنقول أما على القول الأول فوجه وجوب بعض الأعمال وحرمة بعضها مجرد أمر الله بما أوجبه ونهيه عما حرمه فمن أتى بهذه العبادات صحت أما من أتى بها خوفاً من العقاب أو طمعاً في الثواب وجب أن لا يصح لأنه ما أتى بها لأجل وجه وجوبها وأما على القول الثاني فوجه وجوبها هو كونها في أنفسها مصالح فمن أتى بها للخوف من العقاب أو للطمع في الثواب فلم يأت بها لوجه وجوبها فوجب أن لا تصح فثبت أن على كلا المذهبين من أتى بالدعاء وسائر العبادات لأجل الخوف من العقاب والطمع في الثواب وجب أن لا يصح
إذا ثبت هذا فنقول ظاهر قوله وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا يقتضي أنه تعالى أمر المكلف بأن يأتي بالدعاء لهذا الغرض وقد ثبت بالدليل فساده فكيف طريق التوفيق بين ظاهر هذه الآية وبين ما ذكرناه من المعقول
والجواب ليس المراد من الآية ما ظننتم بل المراد وادعوه مع الخوف من وقوع التقصير في بعض الشرائط المعتبرة في قبول ذلك الدعاء ومع الطمع في حصول تلك الشرائط بأسرها وعلى هذا التقدير فالسؤال زائل
السؤال الثالث هل تدل هذه الآية على أن الداعي لا بد وأن تحصل في قلبه هذا الخوف والطمع
والجواب أن العبد لا يمكنه أن يقطع بكونه آتياً بجميع الشرائط المعتبرة في قبول الدعاء ولأجل هذا المعنى يحصل الخوف وأيضاً لا يقطع بأن تلك الشرائط مفقودة فوجب كونه طامعاً في قبولها فلا جرم
قلنا بأن الداعي لا يكون داعياً إلا إذا كان كذلك فقوله خَوْفًا وَطَمَعًا أي أن تكونوا جامعين في نفوسكم بين الخوف والرجاء في كل أعمالكم ولا تقطعوا أنكم وإن اجتهدتم فقد أديتم حق ربكم ويتأكد هذا بقوله يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَة ٌ ( المؤمنون 60 )
ثم قال تعالى وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وفيه مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في أن الرحمة عبارة عن إيصال الخير والنعمة أو عن إرادة إيصال الخير والنعمة فعلى التقدير الأول تكون الرحمة من صفات الأفعال وعلى هذا التقدير الثاني تكون من صفات الذات وقد استقصينا هذه المسألة في تفسير بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( الفاتحة 1 النمل 30 )

المسألة الثانية قال بعض أصحابنا ليس لله في حق الكافر رحمة ولا نعمة واحتجوا بهذه الآية وبيانه أن هذه الآية تدل على أن كل ما كان رحمة فهي قريبة من المحسنين فيلزم أن يكون كل ما لا يكون قريباً من المحسنين أن لا يكون رحمة والذي حصل في حق الكافر غير قريب من المحسنين فوجب أن لا يكون رحمة من الله ولا نعمة منه
المسألة الثالثة قالت المعتزلة الآية تدل على أن رحمة الله قريب من المحسنين فلما كان كل هذه الماهية حصل للمحسنين وجب أن لا يحصل منها نصيب لغير المحسنين فوجب أن لا يحصل شيء من رحمة الله في حق الكافرين والعفو عن العذاب رحمة والتخلص من النار بعد الدخول فيها رحمة فوجب أن لا يحصل ذلك لمن لم يكن من المحسنين والعصاة وأصحاب الكبائر ليسوا محسنين فوجب أن لا يحصل لهم العفو عن العقاب وأن لا يحصل لهم الخلاص من النار
الجواب أن من آمن بالله وأقر بالتوحيد والنبوة فقد أحسن بدليل أن الصبي إذا بلغ وقت الضحوة وآمن بالله ورسوله واليوم الآخر ومات قبل الوصول إلى الظهر فقد أجمعت الأمة على أنه دخل تحت قوله لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى ( يونس 26 ) ومعلوم أن هذا الشخص لم يأت بشيء من الطاعات سوى المعرفة والإقرار لأنه لما بلغ بعد الصبح لم تجب عليه صلاة الصبح ولما مات قبل الظهر لم تجب عليه صلاة الظهر وظاهره أن سائر العبادات لم تجب عليه فثبت أنه محسن وثبت أنه لم يصدر منه إلا المعرفة والإقرار فوجب كون هذا القدر إحساناً فيكون فاعله محسناً
إذا ثبت هذا فنقول كل من حصل له الإقرار والمعرفة كان من المحسنين ودلت هذه الآية على أن رحمة الله قريب من المحسنين فوجب بحكم هذه الآية أن تصل إلى صاحب الكبيرة من أهل الصلاة رحمة الله وحينئذ تنقلب هذه الآية حجة عليهم
فإن قالوا المحسنون هم الذين أتوا بجميع وجوه الإحسان فنقول هذا باطل لأن المحسن من صدر عنه مسمى الإحسان وليس من شرط كونه محسناً أن يكون آتياً بكل وجوه الإحسان كما أن العالم هو الذي له العلم وليس من شرطه أن يحصل جميع أنواع العلم فثبت بهذا أن السؤال الذي ذكروه ساقط وأن الحق ما ذهبنا إليه
المسألة الرابعة لقائل أن يقول مقتضى علم الأعراب أن يقال إن رحمة الله قريبة من المحسنين فما السبب في حذف علامة التأنيث وذكروا في الجواب عنه وجوهاً الأول أن الرحمة تأنيثها ليس بحقيقي وما كان كذلك فإنه يجوز فيه التذكير والتأنيث عند أهل اللغة الثاني قال الزجاج إنما قال قَرِيبٌ لأن الرحمة والغفران والعفو والإنعام بمعنى واحد فقوله وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا بمعنى إنعام الله قريب وثواب الله قريب فأجرى حكم أحد اللفظين على الآخر الثالث قال النضر بن شميل الرحمة مصدر ومن حق المصادر التذكير كقوله فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَة ٌ ( البقرة 275 ) فهذا راجع إلى قول الزجاج لأن الموعظة أريد بها الوعظ فلذلك ذكره قال الشاعر إن السماحة والمروءة ضمنا
قبرا بمرو على الطريق الواضح

قيل أراد بالسماحة السخاء وبالمروءة الكرم والرابع أن يكون التأويل إن رحمة الله ذات مكان قريب من المحسنين كما قالوا حائض ولابن تامر أي ذات حيض ولبن وتمر قال الواحدي أخبرني العروضي عن الأزهري عن المنذري عن الحراني عن ابن السكيت قال تقول العرب هو قريب مني وهما قريب مني وهم قريب مني وهي قريب مني لأنه في تأويل هو في مكان قريب مني وقد يجوز أيضاً قريبة وبعيدة تنبيهاً على معنى قربت وبعدت بنفسها
المسألة الخامسة تفسير هذا القرب هو أن الإنسان يزداد في كل لحظة قرباً من الآخرة وبعداً من الدنيا فإن الدنيا كالماضي والآخرة كالمستقبل والأنسان في كل ساعة ولحظة ولمحة يزداد بعداً عن الماضي وقرباً من المستقبل ولذلك قال الشاعر فلا زال ما تهواه أقرب من غد
ولا زال ما تخشاه أبعد من أمس
ولما ثبت أن الدنيا تزداد بعداً في كل ساعة وأن الآخرة تزداد قرباً في كل ساعة وثبت أن رحمة الله إنما تحصل بعد الموت لا جرم ذكر الله تعالى وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا بناء على هذا التأويل
وَهُوَ الَّذِى يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرى ً بَيْنَ يَدَى ْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَآءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذالِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِى خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذالِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ
اعلم أن في كيفية النظم وجهين الأول أنه تعالى لما ذكر دلائل الإلهية وكمال العلم والقدرة من العالم العلوي وهو السموات والشمس والقمر والنجوم أتبعه بذكر الدلائل من بعض أحوال العالم السفلي واعلم أن أحوال هذا العالم محصورة في أمور أربعة الآثار العلوية والمعادن والنبات والحيوان ومن جملة الآثار العلوية الرياح والسحاب والأمطار ويترتب على نزول الأمطار أحوال النبات وذلك هو المذكور في هذه الآية
الوجه الثاني في تقرير النظم أنه تعالى لما أقام الدلالة في الآية الأولى على وجود الإله القادر العالم الحكيم الرحيم أقام الدلالة في هذه الآية على صحة القول بالحشر والنشر والبعث والقيامة ليحصل بمعرفة

هاتين الآيتين كل ما يحتاج إليه في معرفة المبدأ والمعاد وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي الرّيحَ على لفظ الواحد والباقون الرّيَاحِ على لفظ الجمع فمن قرأ الرّيَاحِ بالجمع حسن وصفها بقوله بَشَرًا فإنه وصف الجمع بالجمع ومن قرأ الرّيحَ واحدة قرأ بَشَرًا جمعاً لأنه أراد بالريح الكثرة كقولهم كثير الدرهم والدينار والشاة والبعير وكقوله إِنَّ الإنسَانَ لَفِى خُسْرٍ ( العصر 2 ) ثم قال إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( العصر 3 التين 6 ) فلما كان المراد بالريح الجمع وصفها بالجمع وأما قوله نَشْراً ( المرسلات 3 ) ففيه قراآت إحداها قراءة الأكثرين نَشْراً بضم النون والشين وهو جمع نشور مثل رسل ورسول والنشور بمعنى المنشر كالركوب بمعنى المركوب فكان المعنى رياح منشرة أي مفرقة من كل جانب والنشر التفريق ومنه نشر الثوب ونشر الخشبة بالمنشار وقال الفراء النشر من الرياح الطيبة اللينة التي تنشر السحاب واحدها نشور وأصله من النشر وهو الرائحة الطيبة ومنه قول امرىء القيس ونشر العطر
والقراءة الثانية قرأ ابن عامر نَشْراً بضم النون وإسكان الشين فخف العين كما يقال كتب ورسل
والقراءة الثالثة قرأ حمزة نَشْراً بفتح النون وإسكان الشين والنشر مصدر نشرت الثوب ضد طويته ويراد بالمصدر ههنا المفعول والرياح كأنها كانت مطوية فأرسلها الله تعالى منشورة بعد انطوائها فقوله نَشْراً مصدر هو حال من الرياح والتقدير أرسل الرياح منشرات ويجوز أيضاً أن يكون النشر هنا بمعنى الحياة من قولهم أنشر الله الميت فنشر قال الأعشى
يا عجباً للميت الناشر
فإذا حملته على ذلك وهو الوجه كان المصدر مراداً به الفاعل كما تقول أتاني ركضاً أي راكضاً ويجوز أيضاً أن يقال أن أرسل ونشر متقاربان فكأنه قيل وهو الذي ينشر الرياح نشراً
والقراءة الرابعة حكى صاحب ( الكشاف ) عن مسروق نَشْراً بمعنى منشورات فعل بمعنى مفعول كنقض وحسب ومنه قولهم ضم نشره
والقراءة الخامسة قراءة عاصم بَشَرًا بالباء المنقطة بالمنطقة الواحدة من تحت جمع بشيراً على بشر من قوله تعالى يُرْسِلَ الرّيَاحَ مُبَشّراتٍ أي تبشر بالمطر والرحمة وروى صاحب ( الكشاف ) بَشَرًا بضم الشين وتخفيفه و بَشَرًا بفتح الباء وسكون الشين مصدر من بشره بمعنى بشره أي باشرات وبشرى
المسألة الثانية اعلم أن قوله وَهُوَ الَّذِى يُرْسِلُ الرّيَاحَ معطوف على قوله إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الأعراف 54 ) ثم نقول حد الريح أنه هواء متحرك فنقول كون هذا الهواء متحركاً ليس لذاته ولا للوازم ذاته وإلا لدامت الحركة بدوام ذاته فلا بد وأن يكون لتحريك الفاعل المختار وهو الله جل جلاله قالت الفلاسفة ههنا سبب آخر وهو أنه يرتفع من الأرض أجزاء أرضية لطيفة تسخنه تسخيناً قوياً شديداً فبسبب تلك السخونة الشديدة ترتفع وتتصاعد فإذا وصلت إلى القرب من الفلك كان الهواء الملتصق بمقعر الفلك متحركاً على استدارة الفلك بالحركة المستديرة التي حصلت لتلك الطبقة من الهواء فيمنع هذه الأدخنة من

الصعود بل يردها عن سمت حركتها فحينئذ ترجع تلك الأدخنة وتتفرق في الجوانب وبسبب ذلك التفرق تحصل الرياح ثم كلما كانت تلك الأدخنة أكثر وكان صعودها أقوى كان رجوعها أيضاً أشد حركة فكانت الرياح أقوى وأشد هذا حاصل ما ذكروه وهو باطل ويدل على بطلانه وجوه الأول أن صعود الأجزاء الأرضية إنما يكون لأجل شدة تسخينها ولا شك أن ذلك التسخن عرض لأن الأرض باردة يابسة بالطبع فإذا كانت تلك الأجزاء الأرضية متصعدة جداً كانت سريعة الانفعال فإذا تصاعدت ووصلت إلى الطبقة الباردة من الهواء امتنع بقاء الحرارة فيها بل تبرد جداً وإذا بردت امتنع بلوغها في الصعود إلى الطبقة الهوائية المتحركة بحركة الفلك فبطل ما ذكروه
الوجه الثاني هب أن تلك الأجزاء الدخانية صعدت إلى الطبقة الهوائية المتحركة بحركة الفلك لكنها لما رجعت وجب أن تنزل على الاستقامة لأن الأرض جسم ثقيل والثقيل إنما يتحرك بالاستقامة والرياح ليست كذلك فإنها تتحرك يمنة ويسرة
الوجه الثالث وهو أن حركة تلك الأجزاء الأرضية النازلة لا تكون حركة قاهرة فإن الرياح إذا أحضرت الغبار الكثير ثم عاد ذلك الغبار ونزل على السطوح لم يحس أحد بنزولها وترى هذه الرياح تقلع الأشجاء وتهدم الجبال وتموج البحار
والوجه الرابع أنه لو كان الأمر على ما قالوه لكانت الرياح كلما كانت أشد وجب أن يكون حصول الأجزاء الغبارية الأرضية أكثر لكنه ليس الأمر كذلك لأن الرياح قد يعظم عصوفها وهبوبها في وجه البحر مع أن الحس يشهد أنه ليس في ذلك الهواء المتحرك العاصف شيء من الغبار والكدرة فبطل ما قالوه وبطل بهذا الوجه العلة التي ذكروها في حركة الرياح قال المنجمون إن قوى الكواكب هي التي تحرك هذه الرياح وتوجب هبوبها وذلك أيضاً بعيد لأن الموجب لهبوب الرياح إن كان طبيعة الكواكب وجب دوام الرياح بدوام تلك الطبيعة وإن كان الموجب هو طبيعة الكوكب بشرط حصوله في البرج المعين والدرجة المعينة وجب أن يتحرك هواء كل العالم وليس كذلك وأيضاً قد بينا أن الأجسام متماثلة باختصاص الكوكب المعين والبرج المعين فالطبيعة التي لأجلها اقتضت ذلك الأثر الخاص لا بد وأن تكون بتخصيص الفاعل المختار فثبت بهذا البرهان الذي ذكرناه أن محرك الرياح هو الله سبحانه وتعالى وثبت بالدليل العقلي صحة قوله وهو الَّذِى يُرْسِلُ الرّيَاحَ
المسألة الثالثة قوله بُشْرًاَ بَيْنَ يَدَى ْ رَحْمَتِهِ ( النمل 63 ) فيه فائدتان إحداهما أن قوله نَشْراً أي منشرة متفرقة فجزء من أجزاء الريح يذهب يمنة وجزء آخر يذهب يسرة وكذا القول في سائر الأجزاء فإن كل واحد منها يذهب إلى جانب آخر فنقول لا شك أن طبيعة الهواء طبيعة واحدة ونسبة الأفلاك والأنجم والطبائع إلى كل واحد من الأجزاء التي لا تتجزأ من تلك الريح نسبة واحدة فاختصاص بعض أجزاء الريح بالذهاب يمنة والجزء الآخر بالذهاب يسرة وجب أن لا يكون ذلك إلا بتخصيص الفاعل المختار
والفائدة الثانية في الآية أن قوله بَيْنَ يَدَى ْ رَحْمَتِهِ أي بين يدي المطر الذي هو رحمته والسبب في حسن هذا المجاز أن اليدين يستعملهما العرب في معنى التقدمة على سبيل المجاز يقال إن الفتن تحدث

بين يدي الساعة يريدون قبيلها والسبب في حسن هذا المجاز أن يدي الإنسان متقدماته فكل ما كان يتقدم شيئاً يطلق عليه لفظ اليدين على سبيل المجاز لأجل هذه المشابهة فلما كانت الرياح تتقدم المطر لا جرم عبر عنه بهذا اللفظ
فإن قيل فقد نجد المطر ولا تتقدمه الرياح فنقول ليس في الآية إن هذا التقدم حاصل في كل الأحوال فلم يتوجه السؤال وأيضاً فيجوز أن تتقدمه هذه الرياح وإن كنا لا نشعر بها
ثم قال تعالى حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً يقال أقل فلان الشيء إذا حمله قال صاحب ( الكشاف ) واشتقاق الإقلال من القلة لأن من يرفع شيئاً فإنه يرى ما يرفعه قليلاً وقوله سَحَابًا ثِقَالاً أي بالماء جمع سحابة والمعنى حتى إذا حملت هذه الرياح سحاباً ثقالاً بما فيها من الماء والمعنى أن السحاب الكثيف المستطير للمياه العظيمة إنما يبقى معلقاً في الهواء لأنه تعالى دبر بحكمته أن يحرك الرياح تحريكاً شديداً فلأجل الحركات الشديدة التي في تلك الرياح تحصل فوائد إحداها أن أجزاء السحاب ينضم بعضها إلى البعض ويتراكم وينعقد السحاب الكثيف الماطر وثانيها أن بسبب تلك الحركات الشديدة التي في تلك الرياح يمنة ويسرة يمتنع على تلك الأجزاء المائية النزول فلا جرم يبقى متعلقاً في الهواء وثالثها أن بسبب حركات تلك الرياح ينساق السحاب من موضع إلى موضع آخر وهو الموضع الذي علم الله تعالى احتياجهم إلى نزول الأمطار وانتفاعهم بها ورابعها أن حركات الرياح تارة تكون جامعة لأجزاء السحاب موجبة لانضمام بعضها إلى البعض حتى ينعقد السحاب الغليظ وتارة تكون مفرقة لأجزاء السحاب مبطلة لها وخامسها أن هذه الرياح تارة تكون مقوية للزروع والأشجار مكملة لما فيها من النشو والنماء وهي الرياح اللواقح وتارة تكون مبطلة لها كما تكون في الخريف وسادسها أن هذه الرياح تارة تكون طيبة لذيذة موافقة للأبدان وتارة تكون مهلكة إما بسبب ما فيها من الحر الشديد كما في السموم أو بسبب ما فيها من البرد الشديد كما في الرياح الباردة المهلكة جداً وسابعها أن هذه الرياح تارة تكون شرقية وتارة تكون غربية وشمالية وجنوبية وهذا ضبط ذكره بعض الناس وإلا فالرياح تهب من كل جانب من جوانب العالم ولا ضبط لها ولا اختصاص لجانب من جوانب العالم بها وثامنها أن هذه الرياح تارة تصعد من قعر الأرض فإن من ركب البحر يشاهد أن البحر يحصل غليان شديد فيه بسبب تولد الرياح في قعر البحر إلى ما فوق البحر وحينئذ يعظم هبوب الرياح في وجه البحر وتارة ينزل الريح من جهة فوق فاختلاف الرياح بسبب هذه المعاني أيضاً عجيب وعن ابن عمر رضي الله عنهما الرياح ثمان أربع منها عذاب وهو القاصف والعاصف والصرصر والعقيم وأربعة منها رحمة الناشرات والمبشرات والمرسلات والذاريات وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور ) والجنوب من ريح الجنة وعن كعب لو حبس الله الريح عن عباده ثلاثة أيام لأنتن أكثر الأرض وعن السدي أنه تعالى يرسل الرياح فيأتي بالسحاب ثم إنه تعالى يبسطه في السماء كيف يشاء ثم يفتح أبواب السماء فيسيل الماء على السحاب ثم يمطر السحاب بعد ذلك ورحمته هو المطر
إذا عرفت هذا فنقول اختلاف الرياح في الصفات المذكورة مع أن طبيعة الهواء واحدة وتأثيرات الطبائع والأنجم والأفلاك واحدة يدل على أن هذه الأحوال لم تحصل إلا بتدبير الفاعل المختار سبحانه وتعالى=

ج14. مفاتيح الغيب ـ ترقيم الشاملة موافق للمطبوع
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي الشافعي

ثم قال تعالى سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيّتٍ والمعنى أنا نسوق ذلك السحاب إلى بلد ميت لم ينزل فيه غيث ولم ينبت فيه خضرة
فإن قيل السحاب إن كان مذكراً يجب أن يقول حتى إذا أقلت سحاباً ثقيلاً وإن كان مؤنثاً يجب أن يقول سقناه فكيف التوفيق ا
والجواب أن السحاب لفظه مذكر وهو جمع سحابة فكان ورود الكناية عنه على سبيل التذكير جائزاً نظراً إلى اللفظ وعلى سبيل التأنيث أيضاً جائزاً نظراً إلى كونه جمعاً أما ( اللام ) في قوله سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ ففيه قولان قال بعضهم هذه ( اللام ) بمعنى إلى يقال هديته للدين وإلى الدين وقال آخرون هذه ( اللام ) بمعنى من أجل والتقدير سقناه لأجل بلد ميت ليس فيه حياً يسقيه وأما البلد فكل موضع من الأرض عامر أو غير عامر خال أو مسكون فهو بلد والطائفة منه بلدة والجميع البلاد والفلاة تسمى بلدة قال الأعشى وبلدة مثل ظهر الترس موحشة
للجن بالليل في حافاتها زجل
ثم قال تعالى فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء اختلفوا في أن الضمير في قوله بِهِ إلى ماذا يعود قال الزجاج وابن الأنباري جائز أن يكون فأنزلنا بالبلد الماء وجائز أن يكون فأنزلنا بالسحاب الماء لأن السحاب آلة لإنزال الماء
ثم قال فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلّ الثَّمَراتِ الكناية عائدة إلى الماء لأن إخراج الثمرات كان بالماء قال الزجاج وجائز أن يكون التقدير فأخرجنا بالبلد من كل الثمرات لأن البلد ليس يخص به هنا بلد دون بلد وعلى القول الأول فالله تعالى إنما يخلق الثمرات بواسطة الماء وقال أكثر المتكلمين إن الثمار غير متولدة من الماء بل الله تعالى أجرى عادته بخلق النبات ابتداء عقيب اختلاط الماء بالتراب وقال جمهور الحكماء لا يمتنع أن يقال إنه تعالى أودع في الماء قوة طبيعية ثم إن تلك القوة الطبيعية توجب حدوث الأحوال المخصوصة عند امتزاج الماء بالتراب وحدوث الطبائع المخصوصة والمتكلمون احتجوا على فساد هذا القول بأن طبيعة الماء والتراب واحدة ثم إنا نرى أنه يتولد في النبات الواحد أحوال مختلفة مثل العنب فإن قشره بارد يابس ولحمه وماؤه حار رطب وعجمه بارد يابس فتولد الأجسام الموصوفة بالصفات المختلفة من الماء والتراب يدل على أنها إنما حدثت بأحداث الفاعل المختار لا بالطبع والخاصة
ثم قال تعالى كَذالِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى وفيه قولان الأول أن المراد هو أنه تعالى كما يخلق النبات بواسطة إنزال الأمطار فكذلك يحيي الموتى بواسطة مطر ينزله على تلك الأجسام الرميمة وروي أنه تعالى يمطر على أجساد الموتى فيما بين النفختين مطراً كالمني أربعين يوماً وإنهم ينبتون عند ذلك ويصيرون أحياء قال مجاهد إذا أراد الله أن يبعثهم أمطر السماء عليهم حتى تنشق عنهم الأرض كما ينشق الشجر عن النور والثمر ثم يرسل الأرواح فتعود كل روح إلى جسدها
والقول الثاني أن التشبيه إنما وقع بأصل الأحياء بعد أن كان ميتاً والمعنى أنه تعالى كما أحيا هذا البلد بعد خرابه فأنبت فيه الشجر وجعل فيه الثمر فكذلك يحيي الموتى بعد أن كانوا أمواتاً لأن من يقدر على إحداث الجسم وخلق الرطوبة والطعم فيه فهو أيضاً يكون قادراً على إحداث الحياة في بدن الميت والمقصود منه إقامة الدلالة على أن البعث والقيامة حق

واعلم أن الذاهبين إلى القول الأول إن اعتقدوا أنه لا يمكن بعث الأجساد إلا بأن يمطر على تلك الأجساد البالية مطراً على صفة المني فقد أبعد ولأن الذي يقدر على أن يحدث في ماء المطر الصفات التي باعتبارها صار المني منياً ابتداء فلم لا يقدر على خلق الحياة والجسم ابتداء وأيضاً فهب أن ذلك المطر ينزل إلا أن أجزاء الأموات غير مختلطة فبعضها يكون بالمشرق وبعضها يكون بالمغرب فمن أين ينفع إنزال ذلك المطر في توليد تلك الأجساد
فإن قالوا إنه تعالى بقدرته وبحكمته يخرج تلك الأجزاء المتفرقة فلم لم يقولوا إنه بقدرته وحكمته يخلق الحياة في تلك الأجزاء ابتداء من غير واسطة ذلك المطر وإن اعتقدوا أنه تعالى قادر على إحياء الأموات ابتداء إلا أنه تعالى إنما يحييهم على هذا الوجه كما أنه قادر على خلق الأشخاص في الدنيا ابتداء إلا أنه أجرى عادته بأنه لا يخلقهم إلا من الأبوين فهذا جائز
ثم قال تعالى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ والمعنى أنكم لما شاهدتم أن هذه الأرض كانت مزينة وقت الربيع والصيف بالأزهار والثمار ثم صارت عند الشتاء ميتة عارية عن تلك الزينة ثم إنه تعالى أحياها مرة أخرى فالقادر على إحيائها بعد موتها يجب كونه أيضاً قادراً على إحياء الأجساد بعد موتها فقوله لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ المراد منه تذكر أنه لما لم يمتنع هذا المعنى في إحدى الصورتين وجب أن لا يمتنع في الصورة الأخرى
ثم قال تعالى وَالْبَلَدُ الطَّيّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبّهِ وَالَّذِى خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا
وفيه مسائل
المسألة الأولى في هذه الآية قولان
القول الأول وهو المشهور أن هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر بالأرض الخيرة والأرض السبخة وشبه نزول القرآن بنزول المطر فشبه المؤمن بالأرض الخيرة التي نزل عليها المطر فيحصل فيها أنواع الأزهار والثمار وأما الأرض السبخة فهي وإن نزل المطر عليها لم يحصل فيها من النبات إلا النزر القليل فكذلك الروح الطاهرة النقية عن شوائب الجهل والأخلاق الذميمة إذا اتصل به نور القرآن ظهرت فيه أنواع من الطاعات والمعارف والأخلاق الحميدة والروح الخبيثة الكدرة وإن اتصل به نور القرآن لم يظهر فيه من المعارف والأخلاق الحميدة إلا القليل
والقول الثاني أنه ليس المراد من الآية تمثيل المؤمن والكافر وإنما المراد أن الأرض السبخة يقل نفعها وثمرتها ومع ذلك فإن صاحبها لا يهمل أمرها بل يتعب نفسه في إصلاحها طمعاً منه في تحصيل ما يليق بها من المنفعة فمن طلب هذا النفع اليسير بالمشقة العظيمة فلأن يطلب النفع العظيم الموعود به في الدار الآخرة بالمشقة التي لا بد من تحملها في أداء الطاعات كان ذلك أولى
المسألة الثانية هذه الآية دالة على أن السعيد لا ينقلب شقياً وبالعكس وذلك لأنها دلت على أن الأرواح قسمان منها ما تكون في أصل جوهرها طاهرة نقية مستعدة لأن تعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به ومنها ما تكون في أصل جوهرها غليظة كدرة بطيئة القبول للمعارف الحقيقية والأخلاق الفاضلة كما أن الأراضي منها ما تكون سبخة فاسدة وكما أنه لا يمكن أن يتولد في الأراضي السبخة تلك الأزهار

والثمار التي تتولد في الأرض الخيرة فكذلك لا يمكن أن يظهر في النفس البليدة والكدرة الغليطة من المعارف اليقينية والأخلاق الفاضلة مثل ما يظهر في النفس الطاهرة الصافية ومما يقوي هذا الكلام أنا نرى النفوس مختلفة في هذه الصفات فبعضها مجبولة على حب عالم الصفاء والإلهيات منصرفة عن اللذات الجسمانية كما قال تعالى وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقّ ( المائدة 83 ) ومنها قاسية شديدة القسوة والنفرة عن قبول هذه المعاني كما قال فَهِى َ كَالْحِجَارَة ِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَة ً ( البقرة 74 ) ومنها ما تكون شديدة الميل إلى قضاء الشهوة متباعدة عن أحوال الغضب ومنها ما تكون شديدة الميل إلى إمضاء الغضب وتكون متباعدة عن أعمال الشهوة بل نقول من النفوس ما تكون عظيمة الرغبة في المال دون الجاه ومنهم من يكون بالعكس والراغبون في طلب المال منهم من يكون عظيم الرغبة في العقار وتفضل رغبته في النقود ومنهم من تعظم رغبته في تحصيل النقود ولا يرغب في الضياع والعقار وإذا تأملت في هذا النوع من الاعتبار تيقنت أن أحوال النفوس مختلفة في هذه الأحوال اختلافاً جوهرياً ذاتياً لا يمكن إزالته ولا تبديله وإذا كان كذلك امتنع من النفس الغليظة الجاهلة المائلة بالطبع إلى أفعال الفجور أن تصير نفساً مشرقة بالمعارف الإلهية والأخلاق الفاضلة ولما ثبت هذا كان تكليف هذه النفس بتلك المعارف اليقينية والأخلاق الفاضلة جارياً مجرى تكليف ما لا يطاق فثبت بهذا البيان أن السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه وأن النفس الطاهرة يخرج نباتها من المعارف اليقينية والأخلاق الفاضلة بإذن ربها والنفس الخبيثة لا يخرج نباتها إلا نكداً قليل الفائدة والخير كثير الفضول والشر
والوجه الثاني من الاستدلال بهذه الآية في هذه المسألة قوله تعالى بِإِذْنِ رَبّهِ وذلك يدل على أن كل ما يعمله المؤمن من خير وطاعة لا يكون إلا بتوفيق الله تعالى
المسألة الثالثة قرىء يَخْرُجُ نَبَاتُهُ أي يخرجه البلد وينبته
أما قوله تعالى وَالَّذِى خَبُثَ قال الفراء يقال خبث الشيء يخبث خبثاً وخباثة وقوله إِلاَّ نَكِدًا النكد العسر الممتنع من إعطاء الخير على جهة البخل وقال الليث النكد الشؤم واللؤم وقلة العطاء ورجل أنكد ونكد قال وأعط ما أعطيته طيبا
لا خير في المنكود والناكد
إذا عرفت هذا فنقول قوله وَالَّذِى خَبُثَ صفة للبلد ومعناه والبلد الخبيث لا يخرج نباته إلا نكداً فحذف المضاف الذي هو النبات وأقيم المضاف إليه الذي هو الراجح إلى ذلك البلد مقامه إلا أنه كان مجروراً بارزاً فانقلب مرفوعاً مستكناً لوقوعه موقع الفاعل أو يقدر ونبات الذي خبث وقرىء نَكِدًا بفتح الكاف على المصدر أي ذا نكد
ثم قال تعالى كَذالِكَ نُصَرّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ قرىء يُصْرَفْ أي يصرفها الله وإنما ختم هذه الآية بقوله لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ لأن الذي سبق ذكره هو أنه تعالى يحرك الرياح اللطيفة النافعة ويجعلها سبباً لنزول المطر الذي هو الرحمة ويجعل تلك الرياح والأمطار سبباً لحدوث أنواع النبات النافعة اللطيفة اللذيدة فهذا من أحد الوجهين ذكر الدليل الدال على وجود الصانع وعلمه وقدرته وحكمته ومن الوجه الثاني تنبيه

على إيصال هذه النعمة العظيمة إلى العباد فلا جرم كانت من حيث إنها دلائل على وجود الصانع وصفاته آيات ومن حيث أنها نعم يجب شكرها فلا جرم قال نُصَرّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ وإنما خص كونها آيات بالقوم الشاكرين لأنهم هم المنتفعون بها فهو كقوله هُدًى لّلْمُتَّقِينَ
لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قَالَ الْمَلأ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِى ضَلَالَة ٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّى وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر في تقرير المبدأ والمعاد دلائل ظاهرة وبينات قاهرة وبراهين باهرة أتبعها بذكر قصص الأنبياء عليهم السلام وفيه فوائد أحدها التنبيه على أن إعراض الناس عن قبول هذه الدلائل والبينات ليس من خواص قوم محمد عليه الصلاة والسلام بل هذه العادة المذمومة كانت حاصلة في جميع الأمم السالفة والمصيبة إذا عمت خفت فكان ذكر قصصهم وحكاية إصرارهم على الجهل والعناد يفيد تسلية الرسول عليه السلام وتخفيف ذلك على قلبه وثانيها أنه تعالى يحكي في هذه القصص أن عاقبة أمر أولئك المنكرين كان إلى الكفر واللعن في الدنيا والخسارة في الآخرة وعاقبة أمر المحقين إلى الدولة في الدنيا والسعادة في الآخرة وذلك يقوي قلوب المحقين ويكسر قلوب المبطلين وثالثها التنبيه على أنه تعالى وإن كان يمهل هؤلاء المبطلين ولكنه لا يهملهم بل ينتقم منهم على أكمل الوجوه ورابعها بيان أن هذه القصص دالة على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام لأنه عليه السلام كان أمياً وما طالع كتاباً ولا تلمذ أستاذاً فإذا ذكر هذه القصص على الوجه من غير تحريف ولا خطأ دل ذلك على أنه إنما عرفها بالوحي من الله وذلك يدل على صحة نبوته
ولقائل أن يقول الأخبار عن الغيوب الماضية لا يدل على المعجز لاحتمال أن يقال إن إبليس شاهد هذه الوقائع فألقاها إليه أما الأخبار عن الغيوب المستقبلة فإنه معجز لأن علم الغيب ليس إلا لله سبحانه وتعالى
واعلم أنه تعالى ذكر في هذه السورة قصة آدم عليه السلام وقد سبق ذكرها

والقصة الثانية قصة نوح عليه السلام وهي المذكورة في هذه الآية وهو نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ وأخنوخ اسم إدريس النبي عليه السلام وفيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) قوله لَقَدْ أَرْسَلْنَآ جواب قسم محذوف
فإن قالوا ما السبب في أنهم لا يكادون ينطقون بهذه اللام إلا مع قد وذكر هذه اللام بدون قد نادر كقوله حلفت لها بالله حلفة فاجر لناموا
قلنا إنما كان كذلك لأن الجملة القسمية لا تساق إلا تأكيداً للجملة المقسم عليها التي هي جوابها فكانت مظنة لمعنى التوقع الذي هو معنى ( قد ) عند استماع المخاطب كلمة القسم
المسألة الثانية قرأ الكسائي غَيْرُهُ بكسر الراء على أنه نعت للإله على اللفظ والباقون بالرفع على أنه صفة للإله على الموضع لأن تقدير الكلام ما لكم إله غيره وقال أبو علي وجه من قرأ بالرفع قوله وَمَا مِنْ إِلَاهٍ إِلاَّ اللَّهُ ( آل عمران 62 ) فكما أن قوله إِلاَّ اللَّهُ بدل من قوله مَّا مِن إِلَهٍ كذلك قوله غَيْرُهُ يكون بدلاً من قوله مِنْ إِلَهٍ فيكون غَيْرِ رفعاً بالاستثناء وقال صاحب الكشاف قرىء غَيْرِ الحركات الثلاث وذكر وجه الرفع والجر كما تقدم قال وأما النصب فعلى الاستثناء بمعنى ما لكم من إله إلا إياه كقولك ما في الدار من أحد إلا زيداً وغير زيد
المسألة الثالثة قال الواحدي في الكلام حذف وهو خبر مَا لأنك إذا جعلت غَيْرُهُ صفة لقوله إِلَهٍ لم يبق لهذا المنفي خبر والكلام لا يستقل بالصفة والموصوف لأنك إذا قلت زيد العاقل وسكت لم يفد ما لم تذكر خبره ويكون التقدير ما لكم من إله غيره في الوجود أقول اتفق النحويون على أن قولنا لا إله إلا الله لا بد فيه من إضمار والتقدير لا إله في الوجود أو لا إله لنا إلا الله ولم يذكروا على هذا الكلام حجة فإنا نقول لم لا يجوز أن يقال دخل حرف النفي على هذه الحقيقة وعلى هذه الماهية فيكون المعنى أنه لا تحقق لحقيقة الإلهية إلا في حق الله وإذا حملنا الكلام على هذا المعنى استغنينا عن الإضمار الذي ذكروه
فإن قالوا صرف النفي إلى الماهية لا يمكن لأن الحقائق لا يمكن نفيها فلا يمكن أن يقال لا سواد بمعنى ارتفاع هذه الماهية وإنما الممكن أن يقال إن تلك الحقائق غير موجودة ولا حاصلة وحينئذ يجب إضمار الخبر
فنقول هذا الكلام بناء على أن الماهية لا يمكن انتفاؤها وارتفاعها ولك باطل قطعاً إذ لو كان الأمر كذلك لوجب امتناع ارتفاع الوجود لأن الوجود أيضاً حقيقة من الحقائق وماهية فلم لا يمكن ارتفاع سائر الماهيات
فإن قالوا إذا قلنا لا رجل وعنينا به نفي كونه موجوداً فهذا النفي لم ينصرف إلى ماهية الوجود وإنما انصرف إلى كون ماهية الرجل موصوفة بالوجود
فنقول تلك الموصوفية يستحيل أن تكون أمراً زائداً على الماهية وعلى الوجود إذ لو كانت

الموصوفية ماهية والوجود ماهية أخرى لكانت تلك الماهية موصوفة أيضاً بالوجود والكلام فيه كما فيما قبله فيلزم التسلسل ويلزم أن لا يكون الموجود الواحد موجوداً واحداً بل موجودات غير متناهية وهو محال ثم نقول موصوفية الماهية بالوجود إما أن يكون أمراً مغايراً للماهية والوجود وإما أن لا يكون كذلك فإن لم يكن أمراً مغايراً لها فحينئذ يكون لذلك المغاير ماهية ووجود وماهيته لا تقبل الارتفاع وحينئذ يعود السؤال المذكور فثبت بما ذكرنا أن الماهية أن لم تقبل النفي والرفع امتنع صرف حرف النفي إلى شيء من المفهومات فإن كانت الماهية قابلة للنفي والرفع فحينئذ يمكن صرف كلمة ( لا ) في قولنا لا إله إلا الله إلى هذه الحقيقة وحينئذ لا يحتاج إلى التزام الحذف والإضمار الذي يذكره النحويون فهذا كلام عقلي صرف وقع في هذا البحث الذي ذكره النحويون
المسألة الرابعة قوله تعالى لَقَدْ أَرْسَلْنَآ فيه قولان قال ابن عباس بعثنا وقال آخرون معنى الإرسال أنه تعالى حمله رسالة يؤديها فالرسالة على هذا التقدير تكون متضمنة للبعث فيكون البعث كالتابع لا أنه الأصل وهذا البحث بناء على مسألة أصولية وهي أنه هل من شرط إرسال الرسول إلى قوم أن يعرفهم على لسانه أحكاماً لا سبيل لهم إلى معرفتها بعقولهم أوليس ذلك بشرط بل يكون الغرض من بعثة الرسل مجرد تأكيد ما في العقول وهذا الخلاف إنما يليق بتفاريع المعتزلة ولا يليق بتفاريع مذاهبنا وأصولنا
المسألة الخامسة في الآية فوائد
الفائدة الأولى إنه تعالى حكى عن نوح في هذه الآية ثلاثة أشياء أحدها إنه عليه السلام أمرهم بعبادة الله تعالى والثاني إنه حكم أن لا إله غير الله والمقصود من الكلام الأول إثبات التكليف والمقصود من الكلام الثاني الإقرار بالتوحيد
ثم قال عقيبه إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ولا شك أن المراد منه إما عذاب يوم القيامة وعلى هذا التقدير فهو قد خوفهم بيوم القيامة وهذا هو الدعوى الثالثة أو عذاب يوم الطوفان وعلى هذا التقدير فقد ادعى الوحي والنبوة من عند الله والحاصل أنه تعالى حكى عنه أنه ذكر هذه الدعاوى الثلاثة ولم يذكر على صحة واحد منها دليلاً ولا حجة فإن كان قد أمرهم بالإنذار بها على سبيل التقليد فهذا باطل لما أن القول بالتقليد باطل وأيضاً فالله تعالى قد ملأ القرآن من ذم التقليد فكيف يليق بالرسول المعصوم الدعوة إلى التقليد وإن كان قد أمرهم بالإقرار بها مع ذكر الدليل فهذا الدليل غير مذكور
واعلم أنه تعالى ذكر في أول سورة البقرة دلائل التوحيد والنبوة وصحة المعاد وذلك تنبيه منه تعالى على أن أحداً من الأنبياء لا يدعو أحداً إلى هذه الأصول إلا بذكر الحجة والدليل أقصى ما في الباب أنه تعالى ما حكى عن نوح تلك الدلائل في هذا المقام إلا أن تلك الدلائل لما كانت معلومة لم يكن إلى ذكرها حاجة في هذا المقام فترك الله تعالى ذكر الدلائل لهذا السبب
الفائدة الثانية أنه عليه السلام ذكر أولاً قوله اعْبُدُواْ اللَّهَ وثانياً قوله مَا لَكُم مّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ والثاني كالعلة للأول لأنه إذا لم يكن لهم إله غيره كان كل ما حصل عندهم من وجوه النفع والإحسان والبر واللطف حاصلاً من الله ونهاية الإنعام توجب نهاية التعظيم فإنما وجبت عبادة الله لأجل العلم بأنه لا إله إلا الله

ويتفرع على هذا البحث مسألة وهي أنا قبل العلم بأن لا إله واحد أو أكثر من واحد لا نعلم أن المنعم علينا بوجوه النعم الحاصلة عندنا هو هذا أم ذاك وإذا جهلنا ذلك فقد جهلنا من كان هو المنعم في حقنا وحينئذ لا يحسن عبادته فعلى هذا القول كان العلم بالتوحيد شرطاً للعلم بحسن العبادة
الفائدة الثالثة في هذه الآية أن ظاهر هذه الآية يدل على أنه الإله هو الذي يستحق العبادة لأن قوله اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ إثبات ونفي فيجب أن يتواردا على مفهوم واحد حتى يستقيم الكلام فكان المعنى أعبدوا الله ما لكم من معبود غيره حتى يتطابق النفي والإثبات ثم ثبت بالدليل أن الإله ليس هو المعبود وإلا لوجب كون الأصنام آلهة وأن لا يكون الإله إلهاً في الأزل لأجل أنه في الأزل غير معبود فوجب حمل لفظ الإله على أنه المستحق للعبادة
واعلم أنهم اختلفوا في معنى قوله إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ هل هو اليقين أو الخوف بمعنى الظن والشك قال قوم المراد منه الجزم واليقين لأنه كان جازماً بأن العذاب ينزل بهم إما في الدنيا وإما في الآخرة إن لم يقبلوا ذلك الدين وقال آخرون بل المراد منه الشك وتقريره من وجوه الأول إنه إنما قال إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ لأنه جوز أن يؤمنوا كما جوز أن يستمروا على كفرهم ومع هذا التجويز لا يكون قاطعاً بنزول العذاب فوجب أن يذكره بلفظ الخوف والثاني أن حصول العقاب على الكفر والمعصية أمر لا يعرف إلا بالسمع ولعل الله تعالى ما بين له كيفية هذه المسألة فلا جرم بقي متوقفاً مجوزاً أنه تعالى هل يعاقبهم على ذلك الكفر أم لا والثالث يحتمل أن يكون المراد من الخوف الحذر كما قال في الملائكة يَخَافُونَ رَبَّهُمْ ( النحل 50 ) أي يحذرون المعاصي خوفاً من العقاب الرابع إنه بتقدير أن يكون قاطعاً بنزول أصل العذاب لكنه ما كان عارفاً بمقدار ذلك العذاب وهو أنه عظيم جداً أو متوسط فكان هذا الشك راجعاً إلى وصف العقاب وهو كونه عظيماً أم لا لا في أصل حصوله
ثم إنه تعالى حكى ما ذكره في قومه فقال قَالَ الْمَلاَ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ وقال المفسرون الْمَلاَ الكبراء والسادات الذين جعلوا أنفسهم أضداد الأنبياء والدليل عليه أن قوله مِن قَوْمِهِ يقتضي أن ذلك الملأ بعض قومه وذلك البعض لا بد وأن يكونوا موصوفين بصفة لأجلها استحقوا هذا الوصف وذلك بأن يكونوا هم الذين يملؤن صدور المجالس وتمتلىء القلوب من هيبتهم وتمتلىء الأبصار من رؤيتهم وتتوجه العيون في المحافل إليهم وهذه الصفات لا تحصل إلا في الرؤساء وذلك يدل على أن المراد من الملأ الرؤساء والأكابر وقوله إِنَّا لَنَرَاكَ هذه الرؤية لا بد وأن تكون بمعنى الاعتقاد والظن دون المشاهدة والرؤية وقوله فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ أي في خطأ ظاهر وضلال بين ولا بد وأن يكون مرادهم نسبة نوح إلى الضلال في المسائل الأربع التي بينا أن نوحاً عليه السلام ذكرها وهي التكليف والتوحيد والنبوة والمعاد ولما ذكروا هذا الكلام أجاب نوح عليه السلام بقوله قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِى ضَلَالَة ٌ
فإن قالوا إن القوم قالوا إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ
فجوابه أن يقال ليس بي ضلال فلم ترك هذا الكلام وقال ليس بي ضلالة
قلت لأن قوله لَيْسَ بِى ضَلَالَة ٌ أي ليس بي نوع من أنواع الضلالة ألبتة فكان هذا أبلغ في عموم السلب ثم إنه عليه السلام لما نفي عن نفسه العيب الذي وصفوه به ووصف نفسه بأشرف الصفات

وأجلها وهو كونه رسولاً إلى الخلق من رب العالمين ذكر ما هو المقصود من الرسالة وهو أمران الأول تبليغ الرسالة والثاني تقرير النصيحة فقال أُبَلّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبّى وَأَنصَحُ لَكُمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ أبو عمرو أُبَلّغُكُمْ بالتخفيف من أبلغ والباقون بالتشديد قال الواحدي وكلا الوجهين جاء في التنزيل فالتخفيف قوله فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ( هود 57 ) والتشديد فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ( المائدة 67 )
المسألة الثانية الفرق بين تبليغ الرسالة وبين النصيحة هو أن تبليغ الرسالة معناه أن يعرفهم أنواع تكاليف الله وأقسام أوامره ونواهيه وأما النصيحة فهو أنه يرغبه في الطاعة ويحذره عن المعصية ويسعى في تقرير ذلك الترغيب والترهيب لأبلغ وجوه وقوله رِسَالاتِ رَبّى يدل على أنه تعالى حمله أنواعاً كثيرة من الرسالة وهي أقسام التكاليف من الأوامر والنواهي وشرح مقادير الثواب والعقاب في الآخرة ومقادير الحدود والزواجر في الدنيا وقوله وَأَنصَحُ لَكُمْ قال الفراء لا تكاد العرب تقول نصحتك إنما تقول نصحت لك ويجوز أيضاً نصحتك قال النابغة نصحت بني عوف فلم يتقبلوا
رسولي ولم تنجح لديهم رسائلي
وحقيقة النصح الإرسال إلى المصلحة مع خلوص النية من شوائب المكروه والمعنى أني أبلغ إليكم تكاليف الله ثم أرشدكم إلى الأصوب الأصلح وأدعوكم إلى ما دعاني وأحب إليكم ما أحبه لنفسي
ثم قال وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وفيه وجوه الأول واعلم أنكم إن عصيتم أمره عاقبكم بالطوفان الثاني واعلم أنه يعاقبكم في الآخرة عقاباً شديداً خارجاً عما تتصوره عقولكم الثالث يجوز أن يكون المراد واعلم من توحيد الله وصفات جلاله ما لا تعلمون ويكون المقصود من ذكر هذا الكلام حمل القوم على أن يرجعوا إليه في طلب تلك العلوم
أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِأايَاتِنَآ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ
اعلم أن قوله عَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مّن رَّبّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مّنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ يدل على أن مراد القوم من قولهم لنوح عليه السلام إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ هو أنهم نسبوه في ادعاء النبوة إلى الضلال وذلك من وجوه أحدها أنهم استبعدوا أن يكون لله رسول إلى خلقه لأجل أنهم اعتقدوا أن المقصود من

الإرسال هو التكليف والتكليف لا منفعة فيه للمعبود لكونه متعالياً عن النفع والضرر ولا منفعة فيه للعابد لأنه في الحال يوجب المضرة العظيمة وكل ما يرجى فيه من الثواب ودفع العقاب فالله قادر على تحصيله بدون واسطة التكليف فيكون التكليف عبثاً والله متعال عن العبث وإذا بطل التكليف بطل القول بالنبوة وثانيها أنهم وإن جوزوا التكليف إلا أنهم قالوا ما علم حسنه بالعقل فعلناه وما علم قبحه تركناه وما لا نعلم فيه لا حسنه ولا قبحه فإن كنا مضطرين إليه فعلناه لعلمنا أنه متعال عن أن يكلف عبده ما لا طاقة له به وإن لم نكن مضطرين إليه تركناه للحذر عن خطر العقاب ولما كان رسول العقل كافياً فلا حاجة إلى بعثة رسول آخر وثالثها أن بتقدير أنه لا بد من الرسول فإن إرسال الملائكة أولى لأن مهابتهم أشد وطهاراتهم أكمل واستغناءهم عن المأكول والمشروب أظهر وبعدهم عن الكذب والباطل أعظم ورابعها أن بتقدير أن يبعث رسولاً من البشر فلعل القوم اعتقدوا أن من كان فقيراً ولم يكن له تبع ورياسة فإنه لا يليق به منصب الرسالة ولعلهم اعتقدوا أن الذي ظن نوح عليه السلام أنه من باب الوحي فهو من جنس الجنون والعته وتخييلات الشيطان فهذا هو الإشارة إلى مجامع الوجوه التي لأجلها أنكر الكفار رسالة رجل معين فلهذه الأسباب حكموا على نوح بالضلالة ثم أن نوحاً عليه الصلام أزال تعجبهم وقال إنه تعالى خالق الخلق فله بحكم الإلهية أن يأمر عبيده ببعض الأشياء وينهاهم عن بعضها ولا يجوز أن يخاطبهم بتلك التكاليف من غير واسطة لأن ذلك ينتهي إلى حد الإلجاء وهو ينافي التكليف ولا يجوز أن يكون ذلك الرسول واحداً من الملائكة لما ذكرناه في سورة الأنعام في تفسير قوله تعالى وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً ( الأنعام 9 ) فبقي أن يكون أيصال تلك التكاليف إلى الخلق بواسطة إنسان وذلك الإنسان إنما يبلغهم تلك التكاليف لأجل أن ينذرهم ويحذرهم ومتى أنذرهم اتقوا مخالفة تكليف الله ومتى اتقوا مخالفة تكليف الله استوجبوا رحمة الله فهذا هو المراد من قوله لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( الأعراف 63 )
إذا عرفت هذا فلنرجع إلى تفسير ألفاظ الآية
أما قوله أوعجبتم فالهمزة للإنكار والواو للعطف والمعطوف عليه محذوف كأنه قيل أكذبتم وعجبتم أن جاءكم أي عجبتم أن جاءكم ذكر وذكروا في تفسير هذا الذكر وجوهاً قال الحسن إنه الوحي الذي جاءهم به وقال آخرون المراد بهذا الذكر المعجز ثم ذلك المعجز يحتمل وجهين أحدهما أنه تعالى كان قد أنزل عليه كتاباً وكان ذلك الكتاب معجزاً فسماه الله تعالى ذكراً كما سمي القرآن بهذا الاسم وجعله معجزة لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) والثاني أن ذلك المعجز كان شيئاً آخر سوى الكتاب وقوله الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ قال الفراء عَلَى َّ ههنا بمعنى مع ما تقول جاء بالخبر على وجهه ومع وجهه كلاهما جائز وقال ابن قتيبة أي على لسان رجل منكم كما قال رَبَّنَا وَءاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ ( آل عمران 194 ) أي على لسان رسلك وقال آخرون ذِكْرٌ مّن رَّبّكُمْ منزل على رجل وقوله مّنكُمْ أي تعرفون نسبه فهو منكم نسباً وذلك لأن كونه منهم يزيل التعجب لأن المرء بمن هو من جنسه أعرف وبطهارة أحواله أعلم وبما يقتضي السكون إليه أبصر ثم بين تعالى ما لأجله يبعث الرسول فقال لِيُنذِرَكُمْ وما لأجله ينذر فقال وَلِتَتَّقُواْ وما لأجله يتقون فقال وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وهذا الترتيب في غاية الحسن فإن المقصود من البعثة الإنذار والمقصود من الإنذار التقوى عن كل ما لا ينبغي والمقصود من التقوى الفوز بالرحمة في

دار الآخرة قال الجبائي والكعبي والقاضي هذه الآية دالة على أنه تعالى أراد من الذين بعث الرسل إليهم التقوى والفوز بالرحمة وذلك يبطل قول من يقول إنه تعالى أراد من بعضهم الكفر والعناد وخلقهم لأجل العذاب والنار
وجواب أصحابنا أن نقول إن لم يتوقف الفعل على الداعي لزم رجحان الممكن لا لمرجح وإن توقف لزم الجبر ومتى لزم ذلك وجب القطع فإنه تعالى أراد الكفر من الكافر وذلك يبطل مذهبكم ثم بين تعالى أنهم مع لك كذبوه في ادعاء النبوة وتبليغ التكاليف من الله وأصروا على ذلك التكذيب ثم إنه تعالى أنجاه في الفلك وأنجى من كان معه من المؤمنين وأغرق الكفار والمكذبين وبين العلة في ذلك فقال إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ قال ابن عباس عميت قلوبهم عن معرفة التوحيد والنبوة والمعاد قال أهل اللغة يقال رجل عم في البصيرة وأعمى في البصر فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الاْنبَاء يَوْمَئِذٍ ( القصص 66 ) وقال قَدْ جَاءكُمْ بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِى َ فَعَلَيْهَا ( الأنعام 104 ) قال زهير وأعلم ما في اليوم والأمس قبله
ولكنني عن علم ما في غد عمي
قال صاحب ( الكشاف ) قرىء عَامَيْنِ والفرق بين العمي والعامي أن العمي يدل على عمي ثابت والعامي على عمي حادث ولا شك أن عماهم كان ثابتاً راسخاً والدليل عليه قوله تعالى في آية أخرى وَأُوحِى َ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ ءامَنَ ( هود 36 )
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَة ٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِى سَفَاهَة ٌ وَلَكِنِّى رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّى وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِى الْخَلْقِ بَسْطَة ً فَاذْكُرُوا ءَالآءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
اعلم أن هذا هو القصة الثانية وهي قصة هود مع قومه

أما قوله وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا ففيه أبحاث
البحث الأول انتصب قوله أَخَاهُمْ بقوله أَرْسَلْنَا في أول الكلام والتقدير لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ وَأَرْسَلْنَا إِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا
البحث الثاني اتفقوا على أن هوداً ما كان أخاً لهم في الدين واختلفوا في أنه هل كان أخا قرابة قريبة أم لا قال الكلبي إنه كان واحداً من تلك القبيلة وقال آخرون إنه كان من بني آدم ومن جنسهم لا من جنس الملائكة فكفي هذا القدر في تسمية هذه الأخوة والمعنى أنا بعثنا إلى عاد واحداً من جنسهم وهو البشر ليكون ألفهم والأنس بكلامه وأفعاله أكمل وما بعثنا إليهم شخصاً من غير جنسهم مثل ملك أو جني
البحث الثالث أخاهم أي صاحبهم ورسولهم والعرب تسمي صاحب القوم أخ القوم ومنه قوله تعالى كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّة ٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا ( الأعراف 38 ) أي صاحبتها وشبيهتها وقال عليه السلام ( إن أخا صداء قد أذن وإنما يقيم من أذن ) يريد صاحبهم
البحث الرابع قالوا نسب هود هذا هود بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح وأما عاد فهم قوم كانوا باليمن بالأحقاف قال ابن إسحق والأحقاف الرمل الذي بين عمان إلى حضرموت
البحث الخامس اعلم أن ألفاظ هذه القصة موافقة للألفاظ المذكورة في قصة نوح عليه السلام إلا في أشياء الأول في قصة نوح عليه السلام فَقَالَ يَاقَوْمِ قَوْمٌ اعْبُدُواْ اللَّهَ ( الأعراف 59 ) وفي قصة هود قَالَ يَاءادَمُ قَوْمٌ اعْبُدُواْ اللَّهَ والفرق أن نوحاً عليه السلام كان مواظباً على دعواهم وما كان يؤخر الجواب عن شبهاتهم لحظة واحدة وأما هود فما كانت مبالغته إلى هذا الحد فلا جرم جاء ( فاء التعقيب ) في كلام نوح دون كلام هود والثاني أن في قصة نوح اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( الأعراف 59 ) وقال في هذه القصة اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ والفرق بين الصورتين أن قبل نوح عليه السلام لم يظهر في العالم مثل تلك الواقعة العظيمة وهي الطوفان العظيم فلا جرم أخبر نوح عن تلك الواقعة فقال إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ وأما واقعة هود عليه السلام فقد كانت مسبوقة بواقعة نوح وكان عند الناس علم بتلك الواقعة قريباً فلا جرم اكتفى هود بقوله أَفَلاَ تَتَّقُونَ والمعنى تعرفون أن قوم نوح لما لم يتقوا الله ولم يطيعوه نزل بهم ذلك العذاب الذي اشتهر خبره في الدنيا فكان قوله أَفَلاَ تَتَّقُونَ إشارة إلى التخويف بتلك الواقعة المتقدمة المشهورة في الدنيا
والفرق الثالث قال تعالى في قصة نوح قَالَ الْمَلاَ مِن قَوْمِهِ وقال في قصة هود قَالَ الْمَلا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ والفرق أنه كان في أشراف قوم هود من آمن به منهم مرثد بن سعد أسلم وكان يكتم إيمانه فأريدت التفرقة بالوصف ولم يكن في أشراف قوم نوح مؤمن
والفرق الرابع أنه تعالى حكى عن قوم نوح أنهم قالوا إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ وحكى عن قوم هود أنهم قالوا إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَة ٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ والفرق بين الصورتين أن نوحاً عليه السلام كان يخوف الكفار بالطوفان العام وكان أيضاً مشتغلاً بإعداد السفينة وكان يحتاج إلى أن يتعب نفسه في إعداد السفينة فعند هذا القوم قالوا إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ( الأعراف 60 ) ولم يظهر شيء من العلامات التي تدل على

ظهور الماء في تلك المفازة أما هود عليه السلام فما ذكر شيئاً إلا أنه زيف عبادة الأوثان ونسب من اشتغل بعبادتها إلى السفاهة وقلة العقل فلما ذكر هود هذا الكلام في أسلافهم قابلوه بمثله ونسبوه إلى السفاهة ثم قالوا وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ في ادعاء الرسالة واختلفوا في تفسير هذا الظن فقال بعضهم المراد منه القطع والجزم وورود الظن بهذا المعنى في القرآن كثير قال تعالى الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُوا رَبّهِمْ ( البقرة 46 ) وقال الحسن والزجاج كان تكذيبهم إياه على الظن لا على اليقين فكفروا به ظانين لا متيقنين وهذا يدل على أن حصول الشك والتجويز في أصول الدين يوجب الكفر
والفرق الخامس بين القصتين أن نوحاً عليه السلام قال أُبَلّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبّى وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ( الأعراف 62 ) وأما هود عليه السلام فقال أُبَلّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبّى وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ فنوح عليه السلام قال أَنصَحَ لَكُمْ وهو صيغة الفعل وهود عليه السلام قال وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ وهو صيغة اسم الفاعل ونوح عليه السلام قال وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وهود عليه السلام لم يقل ذلك ولكنه زاد فيه كونه أميناً والفرق بين الصورتين أن الشيخ عبد القاهر النحوي ذكر في كتاب دلائل الإعجاز أن صيغة الفعل تدل على التجدد ساعة فساعة وأما صيغة اسم الفاعل فإنها دالة على الثبات والاستمرار على ذلك الفعل
وإذا ثبت هذا فنقول إن القوم كانوا يبالغون في السفاحة على نوح عليه السلام ثم إنه في اليوم الثاني كان يعود إليهم ويدعوهم إلى الله وقد ذكر الله تعالى عنه ذلك فقال رَبّ إِنّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلاً وَنَهَاراً ( نوح 5 ) فلما كان من عادة نوح عليه السلام العود إلى تجديد تلك الدعوة في كل يوم وفي كل ساعة لا جرم ذكره بصيغة الفعل فقال وَأَنصَحُ لَكُمْ وأما هود عليه السلام فقوله وَأَنَّا لَمَّا نَاصِحٌ يدل على كونه مثبتاً في تلك النصيحة مستقراً فيها أما ليس فيها إعلام بأنه سيعود إلى ذكرها حالاً فحالاً ويوماً فيوماً وأما الفرق الآخر في هذه الآية وهو أن نوحاً عليه السلام قال وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وهوداً وصف نفسه بكونه أميناً فالفرق أن نوحاً عليه السلام كان أعلى شأناً وأعظم منصباً في النبوة من هود فلم يبعد أن يقال إن نوحاً كان يعلم من أسرار حكم الله وحكمته ما لم يصل إليه هود فلهذا السبب أمسك هود لسانه عن ذكر تلك الكلمة واقتصر على أن وصف نفسه بكونه أميناً ومقصود منه أمور أحدها الرد عليهم في قولهم وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وثانيها أن مدار أمر الرسالة والتبليغ عن الله على الأمانة فوصف نفسه بكونه أميناً تقريراً للرسالة والنبوة وثالثها كأنه قال لهم كنت قبل هذه الدعوى أميناً فيكم ما وجدتم مني غدراً ولا مكراً ولا كذباً واعترفتم لي بكوني أميناً فكيف نسبتموني الآن إلى الكذب
واعلم أن الأمين هو الثقة وهو فعيل من أمن يأمن أمنا فهو آمن وأمين بمعنى واحد
واعلم أن القوم لما قالوا له إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَة ٍ فهو لم يقابل سفاهتهم بالسفاهة بل قابلها بالحلم والإغضاء ولم يزد على قوله لَيْسَ بِى سَفَاهَة ٌ وذلك يدل على أن ترك الانتقام أولى كما قال وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً ( الفرقان 72 )
أما قوله وَلَكِنّي رَسُولٌ مِن رَّبّ الْعَالَمِينَ فهو مدح للنفس بأعظم صفات المدح وإنما فعل ذلك لأنه كان يجب عليه إعلام القوم بذلك وذلك يدل على أن مدح الإنسان نفسه إذا كان في موضع الضرورة جائز

والفرق السادس بين القصتين أن نوحاً عليه السلام قال عَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مّن رَّبّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مّنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( الأعراف 63 ) وفي قصة هود أعاد هذا الكلام بعينه إلا أنه حذف منه قوله وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ والسبب فيه أنه لما ظهر في القصة الأولى أن فائدة الإنذار هي حصول التقوى الموجبة للرحمة لم يكن إلى إعادته في هذه القصة حاجة وأما بعد هذه الكلمة فكله من خواص قصة هود عليه السلام وهو قوله تعالى حكاية عن هود عليه السلام وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ ( الأعراف 69 )
واعلم أن الكلام في الخلفاء والخلائف والخليفة قد مضى في مواضع والمقصود منه أن تذكر النعم العظيمة يوجب الرغبة والمحبة وزوال النفرة والعداوة وقد ذكر هود عليه السلام ههنا نوعين من الأنعام الأول أنه تعالى جعلهم خلفاء من بعد قوم نوح وذلك بأن أورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم وما يتصل بها من المنافع والمصالح والثاني قوله وَزَادَكُمْ فِى الْخَلْقِ بَسْطَة ً وفيه مباحث
البحث الأول الْخَلْقِ في اللغة عبارة عن التقدير فهذا اللفظ إنما ينطلق على الشيء الذي له مقدار وجثة وحجمية فكان المراد حصول الزيادة في أجسامهم ومنهم من حمل هذا اللفظ على الزيادة في القوة وذلك لأن القوى والقدر متفاوتة فبعضها أعظم وبعضها أضعف
إذا عرفت هذا فنقول لفظ الآية يدل على حصول الزيادة واعتداد تلك الزيادة فليس في اللفظ ألبتة ما يدل عليه إلا أن العقل يدل على أن تلك الزيادة يجب أن تكون زيادة عظيمة واقعة على خلاف المعتاد وإلا لم يكن لتخصيصها بالذكر في معرض الأنعام فائدة قال الكلبي كان أطولهم مائة ذراع وأقصرهم ستين ذراعاً وقال آخرون تلك الزيادة هي مقدار ما تبلغه يدا إنسان إذا رفعهما ففضلوا على أهل زمانهم بهذا القدر وقال قوم يحتمل أن يكون المراد من قوله وَزَادَكُمْ فِى الْخَلْقِ بَسْطَة ً كونهم من قبيلة واحدة متشاركين في القوة والشدة والجلادة وكون بعضهم محباً للباقين ناصراً لهم وزوال العداوة والخصومة من بينهم فإنه تعالى لما خصهم بهذه الأنواع من الفضائل والمناقب فقد قرر لهم حصولها فصح أن يقال وَزَادَكُمْ فِى الْخَلْقِ بَسْطَة ً ولما ذكر هود هذين النوعين من النعمة قال فَاذْكُرُواْ ءالآء اللَّهِ وفيه بحثان
البحث الأول لا بد في الآية من إضمار والتقدير واذكروا آلاء الله واعملوا عملاً يليق بتلك الإنعامان لعلكم تفلحون وإنما أضمرنا العمل لأن الصلاح الذي هو الظفر بالثواب لا يحصل بمجرد التذكر بل لا بد له من العمل واستدل الطاعنون في وجوب الأعمال الظاهرة بهذه الآية وقالوا إنه تعالى رتب حصول الصلاح على مجرد التذكر فوجب أن يكون مجرد التذكر كافياً في حصول الصلاح وجوابه ما تقدم من أن سائر الآيات ناطقة بأنه لا بد من العمل والله أعلم
البحث الثاني قال ابن عباس اللَّهِ لَعَلَّكُمْ أي نعم الله عليكم قال الواحدي واحد الآلاء إلى وألو وإلى قال الأعشى ف أبيض لا يرهب الهزال ولا
يقطع رحماً ولا يخون إلي
قال نظير الآلاء الآناء واحدها أنا وإني وإني وزاد صاحب ( الكشاف ) في الأمثلة فقال ضلع وأضلاع وعنب وأعناب

قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِى أَسْمَآءٍ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَءَابَآؤكُمُ مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانتَظِرُوا إِنِّى مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَة ٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِأايَاتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ
اعلم أن هوداً عليه السلام دعا قومه إلى التوحيد وترك عبادة الأصنام بالدليل القاطع وذلك لأنه بين أن نعم الله عليهم كثيرة عظيمة وصريح العقل يدل على أنه ليس للأصنام شيء من النعم على الخلق لأنها جمادات والجماد لا قدرة له على شيء أصلاً وظاهر أن العبادة نهاية التعظيم ونهاية التعظيم لا تليق إلا بمن يصدر عنه نهاية الإنعام وذلك يدل على أنه يجب عليهم أن يعبدوا الله وأن لا يعبدوا شيئاً من الأصنام ومقصود الله تعالى من ذكر أقسام إنعامه على العبيد هذه الحجة التي ذكرها ثم أن هوداً عليه السلام لما ذكر هذه الحجة اليقينية لم يكن من القوم جواب عن هذه الحجة التي ذكرها إلا التمسك بطريقة التقليد فقالوا قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ ثم قالوا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا وذلك لأنه عليه السلام قال اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ( المؤمنون 32 ) فقوله أَفَلاَ تَتَّقُونَ مشعر بالتهديد والتخويف بالوعيد فلهذا المعنى قالوا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا وإنما قالوا ذلك لأنهم كانوا يعتقدون كونه كاذباً بدليل أنهم قالوا له وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ( الأعراف 66 ) فلما اعتقدوا كونه كاذباً قالوا له فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا والغرض أنه إذا لم يأتهم بذلك العذاب ظهر للقوم كونه كاذباً وإنما قالوا ذلك لأنهم ظنوا أن الوعد لا يجوز أن يتأخر فلا جرم استعجلوه على هذا الحد
ثم حكى الله تعالى عن هود عليه السلام أنه قال عند هذا الكلام قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ وفيه مسائل
المسألة الأولى هذا الذي أخبر الله عنه بأنه وقع لا يجوز أن يكون هو العذاب لأن العذاب ما كان حاصلاً في ذلك الوقت وقد اختلفوا فيه قال القاضي تفسير هذه الآية على قولنا ظاهر إلا أنا نقول معناه أنه تعالى أحدث إرادة في ذلك الوقت لأن بعد كفرهم وتكذيبهم حدثت هذه الإرادة واعلم أن هذا القول عندنا باطل بل عندنا في الآية وجوه من التأويلات أحدها أنه تعالى أخبره في ذلك الوقت بنزول

العذاب عليهم فلما حدث الإعلام في ذلك الوقت لا جرم قال هود في ذلك الوقت وَقَعَ عَلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ وثانيها أنه جعل التوقع الذي لا بد من نزوله بمنزلة الواقع ونظيره قولك لمن طلب منك شيئاً قد كان ذلك بمعنى أنه سيكون ونظيره قوله تعالى أَتَى أَمْرُ اللَّهِ ( النحل 1 ) بمعنى سيأتي أمر الله وثالثها أنا نحمل قوله وَقَعَ على معنى وجد وحصل والمعنى إرادة إيقاع العذاب عليكم حصلت من الأزل إلى الأبد لأن قولنا حصل لا إشعار له بالحدوث بعد ما لم يكن
المسألة الثانية الرجس لا يمكن أن يكون المراد منه العذاب لأن المراد من الغضب العذاب فلو حملنا الرجس عليه لزم التكرير وأيضاً الرجس ضد التزكية والتطهير قال تعالى تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا ( التوبة 103 ) وقال في صفة أهل البيت وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً ( الأحزاب 33 ) والمراد التطهر من العقائد الباطلة والأفعال المذمومة وإذا كان كذلك وجب أن يكون الرجس عبارة عن العقائد الباطلة والأفعال المذمومة
إذا ثبت هذا فقوله قد وقع عليكم من ربكم رجس يدل على أنه تعالى خصهم بالعقائد المذمومة والصفات القبيحة وذلك يدل على أن الخير والشر من الله تعالى قال القفال يجوز أن يكون الرجس هو الازدياد في الكفر بالرين على القلوب كقوله تعالى فزادتهم رجساً إلى رجسهم ( التوبة 125 ) أي قد وقع عليكم من الله رين على قلوبكم عقوبة منه لكم بالخذلان لألفكم الكفر وتماديكم في الغي
واعلم أنا قد دللنا على أن هذه الآية تدل على أن كفرهم من الله فهذا الذي قاله القفال أن كان المراد منه ذلك فقد جاء بالوفاق إلا أنه شديد النفرة عن هذا المذهب وأكثر تأويل الآيات الدالة على هذا المذهب تدل على أنه لا يقول بهذا القول وإن كان المراد منه الجواب عما شرحناه فهو ضعيف لأنه ليس فيه ما يوجب رفع الدليل الذي ذكرناه والله أعلم
وحاصل الكلام في الآية أن القوم لما أصروا على التقليد وعدم الانقياد للدليل زادهم الله كفراً وهو المراد من قوله قد وقع عليكم من ربكم رجس ثم خصهم بمزيد الغضب وهو قوله وغضب
ثم قال أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان والمراد منه الاستفهام على سبيل الإنكار وذلك لأنهم كانوا يسمون الأصنام بالآلهة مع أن معنى الإلهية فيها معدوم وسموا واحداً منها بالعزى مشتقاً من العز والله ما أعطاه عزاً أصلاً وسموا آخر منها باللات وليس له من الإلهية شيء وقوله ما نزل الله بها من سلطان عبارة عن خلو مذاهبهم عن الحجة والبينة ثم إنه عليه السلام ذكر لهم وعيداً مجددا فقال فانتظروا ما يحصل لكم من عبادة هذه الأصنام إني معكم من المنتظرين
ثم إنه تعالى أخبر عن عاقبة هذه الواقعة فقال فأنجيناه والذين معه برحمة منا إذ كانوا مستحقين للرحمة بسبب إيمانهم وقطعنا دابر الذين كذبوا بالآيات التي جعلناها معجزة لهود والمراد أنه تعالى أنزل عليهم عذاب الاستئصال الذي هو الريح وقد بين الله كيفيته في غير هذا الموضع وقطع الدابر هو الاستئصال فدل بهذا اللفظ أنه تعالى ما أبقى منهم أحداً ودابر الشيء آخره

فإن قيل لما أخبر عنهم بأنهم كانوا مكذبين بآيات الله لزم القطع بأنهم ما كانوا مؤمنين فما الفائدة في قوله بعد ذلك وما كانوا مؤمنين
قلنا معناه أنهم مكذبون وعلم الله منهم أنهم لو بقوا لم يؤمنوا أيضاً ولو علم تعالى أنهم سيؤمنون لأبقاهم
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُم بَيِّنَة ٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَاذِهِ نَاقَة ُ اللَّهِ لَكُمْ ءَايَة ً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِى أَرْضِ اللَّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُو ءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِى الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا ءَالآءَ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الأرض مُفْسِدِينَ
اعلم أن هذا هو القصة الثالثة وهو قصة صالح
أما قوله وإلى ثمود فالمعنى ولقد أرسلنا نوحاً ( الأعراف 59 ) إلى عاد أخاهم هوداً ( الأعراف 65 ) إلى ثمود أخاهم صالحاً ( هود 61 ) وفيه مسائل
المسألة الأولى قال أبو عمرو بن العلاء سميت ثموداً لقلة مائها من الثمد وهو الماء القليل وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام وإلى وادي القرى وقيل سميت ثمود لأنه اسم أبيهم الأكبر وهو ثمود بن عاد بن إرم بن سام بن نوع عليه السلام
المسألة الثانية قرىء وإلى ثمود يمنع التصرف بتأويل القبيلة وإلى ثمود بالصرف بتأويل الحي أو باعتبار الأصل لأنه اسم أبيهم الأكبر وقد ورد القرآن بهما صريحاً قال تعالى ألا إن ثموداً كفروا ربهم ألا بعداً لثمود ( هود 68 )
واعلم أنه تعالى حكى عنه أنه أمرهم بعبادة الله ونهاهم عن عبادة غير الله كما ذكره من قبله من الأنبياء
ثم قال قد جاءتكم بينة من ربكم وهذه الزيادة مذكورة في هذه القصة وهي تدل على أن كل من كان قبله من الأنبياء كانوا يذكرون الدلائل على صحة التوحيد والنبوة لأن التقليد وحده لو كان كافياً لكانت

تلك البينة ههنا لغواً ثم بين أن تلك البينة هي الناقة فقال هذه ناقة الله لكم آية وفيه مسائل
المسألة الأولى ذكروا أنه تعالى لما أهلك عاداً قام ثمود مقامهم وطال عمرهم وكثر تنعمهم ثم عصوا الله وعبدوا الأصنام فبعث الله إليهم صالحاً وكان منهم فطالبوه بالمعجزة فقال ما تريدون فقالوا تخرج معنا في عيدنا ونخرج أصنامنا وتسأل إلهك ونسأل أصنامنا فإذا ظهر أثر دعائك اتبعناك وإن ظهر أثر دعائنا اتبعتنا فخرج معهم فسألون أن يخرج لهم ناقة كبيرة من صخرة معينة فأخذ مواثيقهم أنه إن فعل ذلك آمنوا فقبلوا فصلى ركعتين ودعا الله فتمخضت تلك الصخرة كما تتمخض الحامل ثم انفرجت وخرجت الناقة من وسطها وكانت في غاية الكبر وكان الماء عندهم قليلاً فجعلوا ذلك الماء بالكلية شرباً لها في يوم وفي اليوم الثاني شرباً لكل القوم قال السدي وكانت الناقة في اليوم التي تشرب فيه الماء تمر بين الجبلين فتعلوهما ثم تأتي فتشرب فتحلب ما يكفي الكل وكأنها كانت تصب اللبن صباً وفي اليوم الذي يشربون الماء فيه لا تأتيهم وكان معها فصيل لها فقال لهم صالح يولد في شهركم هذا غلام يكون هلاككم على يديه فذبح تسعة نفر منهم أبناءهم ثم ولد العاشر فأبى أن يذبحه أبوه فنبت نباتاً سريعاً ولما كبر الغلام جلس مع قوم يصيبون من الشراب فأرادوا ماء يمزجونه به وكان يوم شرب الناقة فما وجدوا الماء واشتد ذلك عليهم فقال الغلام هل لكم في أن أعقر هذه الناقة فشد عليها فلما بصرت به شدت عليه فهرب منها إلى خلف صخرة فأحاشوها عليه فلما مرت به تناولها فعثرها فسقطت فذلك قوله فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر وأظهروا حينئذ كفرهم وعتوا من أمر ربهم فقال لهم صالح إن آية العذابأن تصبحوا غداً حمراً واليوم الثاني صفراً واليوم الثالث سوداً فلما صبحهم العذاب تحنطوا واستعدوا
إذا عرفت هذا فنقول اختلف العلماء في وجه كون الناقة إية فقال بعضهم إنها كانت آية بسبب خروجها بكمالها من الصخرة قال القاضي هذا إن صح فهو معجز من جهات أحدها خروجها من الجبل والثانية كونها لا من ذكر وأنثى والثالثة كمال خلقها من غير تدريج
والقول الثاني أنها إنما كانت آية لأجل أن لها شرب يوم ولجميع ثمود شرب يوم واستيفاء ناقة شرب أمة من الأمم عجيب وكانت مع ذلك تأتي بما يليق بذلك الماء من الكلأ والحشيش
والقول الثاني أن وجه الإعجاز فيها أنهم كانوا في يوم شربها يحلبون منها القدر الذي يقوم لهم مقام الماء في يوم شربهم وقال الحسن بالعكس من ذلك فقال إنها لم تحلب قطرة لبن قط وهذا الكلام مناف لما تقدم
والقول الرابع أن وجه الإعجاز فيها أن يوم مجيئها إلى الماء كان جميع الحيوانات تمتنع من الورود على الماء وفي يوم امتناعها كانت الحيوانات تأتي
واعلم أن القرآن قد دل على أن فيها آية فأما ذكر أنها كانت آية من أي الوجوه فهو غير مذكور والعلم حاصل بأنها كانت معجزة من وجه ما لا محالة والله أعلم

المسألة الثانية قوله هذه ناقة الله لكم آية فقوله آية نصب على الحال أي أشير إليها في حال كونها آية ولفظة ( هذه ) تتضمن معنى الإشارة و آية في معنى دالة فلهذا جاز أن تكون حالاً
فإن قيل تلك الناقة كانت آية لكل أحد فلماذا خص أولئك الأقواك بها فقال هذه ناقة الله لكم آية
قلنا فيه وجوه أحدها أنهم عاينوها وغيرهم أخبروا عنها وليس الخبر كالمعاينة وثانيها لعله يثبت سائر المعجزات إلا أن القوم التمسوا منه هذه المعجزة نفسها على سبيل الاقتراح فأظهرها الله تعالى لهم فلهذا المعنى حسن هذا التخصيص
فإن قيل ما الفائدة في تخصيص تلك الناقة بأنها ناقة الله
قلنا فيه وجوه قيل أضافها إلى الله تشريفاً وتخصيصاً كقوله بيت الله وقيل لأنه خلقها بلا واسطة وقيل لأنها لا مالك لها غير الله وقيل لأنها حجة الله على القوم
ثم قال فذروها تأكل في أرض الله أي الأرض أرض الله والناقة ناقة الله فذروها تأكل في أرض ربها فليست الأرض لكم ولا ما فيها من النبات من إنباتكم ولا تمسوها بسوء ولا تضربوها ولا تطردوها ولا تقربوا منها شيئاً من أنواع الأذى عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( يا علي أشقى الأولين عاقر ناقة صالح وأشقى الآخرين قاتلك )
ثم قال تعالى واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد قيل إنه تعالى لما أهلك عاداً عمر ثمود بلادها وخلفوهم في الأرض وكثروا وعمروا أعماراً طوالاً
ثم قال وبوأكم في الأرض أنزلكم والمبوأ المنزل من الأرض أي في أرض الحجر بين الحجاز والشام
ثم قال تتخذون من سهولها قصوراً أي تبوؤن القصور من سهولة الأرض فإن القصور إنما تبنى من الطين واللبن والآجر وهذه الأشياء إنما تتخذ من سهولة الأرض وتنحتون من الجبال بيوتاً ( الشعراء 149 ) يريد تنحتون بيوتاً من الجبال تسقفونها
فإن قالوا علام انتصب بيوتاً
قلنا على الحال كما يقال خط هذا الثوب قميصاً وأبر هذه القصبة قلما وهي من الحال المقدرة لأن الجبل لا يكون بيتاً في حال النحت ولا الثوب والقصبة قميصاً وقلما في حال الخياطة والبري وقيل كانوا يسكنون السهول في الصيف والجبال في الشتاء وهذا يدل على أنهم كانوا متنعمين مترفهين
ثم قال فاذكروا آلاء الله يعني قد ذكرت لكم بعض أقسام ما آتاكم الله من النعم وذكر الكل طويل فاذكروا أنتم بعقولكم ما فيها ولا تعثوا في الأرض مفسدين قيل المراد منه النهي عن عقر الناقة والأولى أن يحمل على ظاهره وهو المنع عن كل أنواع الفساد

قَالَ الْمَلأ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ ءَامَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَآ أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِى ءَامَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ فَعَقَرُواْ النَّاقَة َ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُواْ يَاصَاحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَة ُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَة َ رَبِّى وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ
اعلم أنا ذكرنا أن الملأ عبارة عن القوم الذين تمتلىء القلوب من هيبتهم ومعنى الآية قال الملأ وهم الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا يريد المساكين الذين آمنوا به وقوله لمن آمن منهم بدل من قوله للذين استضعفوا لأنهم المؤمنون واعلم أنه وصف أولئك الكفار بكونهم مستكبرين ووصف أولئك المؤمنين بكونهم مستضعفين وكونهم مستكبرين فعل استوجبوا به الذم وكون المؤمنين مستضعفين معناه أن غيرهم يستضعفهم ويستحقرهم وهذا ليس فعلاً صادراً عنهم بل عن غيرهم فهو لا يكون صفة ذم في حقهم بل الذم عائد إلى الذين يستحقرونهم ويستضعفونهم ثم حكى تعالى أن هؤلاء المستكبرين سألوا المستضعفين عن حال صالح فقال المتضعفون نحن موقنون مصدقون بما جاء به صالح وقال المستكبرون بل نحن كافرون بما جاء به صالح وهذه الآية من أعظم ما يحتج به في بيان أن الفقر خير من الغنى وذلك لأن الاستكبار إنما يتولد من كثرة المال والجاه والاستضعاف إنما يحصل من قلتهما فبين تعالى أن كثرة المال والجاه حملهم على التمرد والإباء والإنكار والكفر وقلة المال والجاه حملهم على الإيمان والتصديق والانقياد وذلك يدل على أن الفقر خير من الغنى
ثم قال تعالى فعقروا الناقة قال الأزهري العقر عند العرب كشف عرقوب البعير ولما كان العقر سبباً للنحر أطلق العقر على النحر إطلاقاً لاسم السبب على المسبب واعلم أنه أسند العقر إلى جميعهم لأنه كان برضاهم مع أنه ما باشره إلا بعضهم وقد يقال للقبيلة العظيمة أنتم فعلتم كذا مع أنه ما فعله إلا واحد منهم
ثم قال وعتوا عن أمر ربهم يقال عتا يعتو عتواً إذا استكبر ومنه يقال جبار عات قال مجاهد

العتو الغلو في الباطل وفي قوله عن أمر ربهم وجهان الأول معناه استكبروا عن امتثال أمر ربهم وذلك الأمر هو الذي أوصله الله إليهم على لسان صالح عليه السلام وهو قوله فذروها تأكل في أرض الله ( الأعراف 83 ) الثاني أن يكون المعنى وصدر عتوهم عن أمر ربهم فكان أمر ربهم بتركها صار سبباً في إقدامهم على ذلك العتو كما يقال الممنوع متبوع وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين وإنما قالوا ذلك لأنهم كانوا مكذبين له في كل ما أخبر عنه من الوعد والوعيد
ثم قال تعالى فأخذتهم الرجفة قال الفراء والزجاج هي الزلزلة الشديدة قال تعالى يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيباً مهيلاً ( المزمل 14 ) قال الليث يقال رجف الشيء يرجف رجفاً ورجفانا كرجفان البعير تحت الرحل وكما يرجف الشجر إذا أرجفته الريح
ثم قال فأصبحوا في دارهم جاثمين يعني في بلدهم ولذلك وحد الدار كما يقال دار الحرب ومررت بدار البزازين وجمع في آية أخرى فقال في ديارهم ( هود 94 ) لأنه أراد بالدار ما لكل واحد منهم من منزله الخاص به وقوله جاثمين قال أبو عبيدة الجثوم للناس والطير بمنزلة البروك للإبل فجثوم الطير هو وقوعه لاطئاً بالأرض في حال سكونه بالليل والمعنى أنهم أصبحوا جاثمين خامدين لا يتحركون موتى يقال الناس جثم أي قعود لا حراك بهم ولا يحسون بشيء ومنه المجثمة التي جاء النهي عنها وهي البهيمة التي تربط لترمى فثبت أن الجثوم عبارة عن السكون والخمود ثم اختلفوا فمنهم من قال لما سمعوا الصيحة العظيمة تقطعت قلوبهم وماتوا جاثمين على الركب وقيل بل سقطوا على وجوههم وقيل وصلت الصاعقة إليهم فاحترقوا وصاروا كالرماد وقيل بل عند نزول العذاب عليهم سقط بعضهم على بعض والكل متقارب وههنا سؤالات
السؤال الأول أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم قالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين قال تعالى فأخذتهم الرجفة والفاء للتعقيب وهذا يدل على أن الرجفة أخذتهم عقيب ما ذكروا ذلك الكلام وليس الأمر كذلك لأنه تعالى قال في آية أخرى فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب ( هود 65 )
والجواب أن الذي يحصل عقيب الشيء بمدة قليلة قد يقال فيه أنه حصل عقيبه فزال السؤال
السؤال الثاني طعن قوم من الملحدين في هذه الآيات بأن ألفاظ القرآن قد اختلفت في حكاية هذه الواقعة وهي الرجفة والطاغية والصيحة وزعموا أن ذلك يوجب التناقض
والجواب قال أبو مسلم الطاغية اسم لكل ما تجاوز حده سواء كان حيواناً أو غير حيوان وألحق الهاء به للمبالغة فالمسلمون يسمون الملك العاتي بالطاغية والطاغوت وقال تعالى إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى ( العلق 6 7 ) ويقال طغى طغياناً وهو طاغ وطاغية وقال تعالى كذبت ثمود بطغواها ( الشمس 11 ) وقال في غير الحيوان إنا لما طغا الماء ( الحاقة 11 ) أي غلب وتجاوز عن الحد وأما الرجفة فهي الزلزلة في الأرض وهي حركة خارجة عن المعتاد فلم يبعد إطلاق اسم الطاغية عليها وأما الصيحة فالغالب أن الزلزلة لا تنفك عن الصيحة العظيمة الهائلة وأما الصاعقة فالغالب أنها الزلزلة وكذلك الزجرة قال تعالى فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة ( النازعات 13 14 ) فبطل ما قاله الطاعن

السؤال الثالث أن القوم قد شاهدوا خروج الناقة عن الصخرة وذلك معجزة قاهرة تقرب حال المكلفين عند مشاهدة هذه المعجزة من الإلجاء وأيضاً شاهدوا أن الماء الذي كان شرباً لكل أولئك الأقوام في أحد اليومين كان شرباً لتلك الناقة الواحدة في اليوم الثاني وذلك أيضاً معجزة قاهرة ثم إن القوم لما نحروها وكان صالح عليه السلام قد توعدهم بالعذاب الشديد إن نحروها فلما شاهدوا بعد إقدامهم على نحرها آثار العذاب وهو ما يروى أنهم احمروا في اليوم الأول ثم اصفروا في اليوم الثاني ثم اسودوا في اليوم الثالث فمع مشاهدة تلك المعجزات القاهرة في أول الأمر ثم شاهدوا نزول العذاب الشديد في آخر الأمر هل يحتمل أن يبقى العاقل مع هذه الأحوال مصراً على كفره غير تائب منه
والجواب الأول أن يقال إنهم قبل أن شاهدوا تلك العلامات كانوا يكذبون صالحاً في نزول العذاب فلما شاهدوا العلامات خرجوا عند ذلك عن حد التكليف وخرجوا عن أن تكون توبتهم مقبولة
ثم قال تعالى فتولى عنهم وفيه قولان الأول أنه تولى عنهم بعد أن ماتوا والدليل عليه أنه تعالى قال فأصبحوا في دارهم جاثمين فتولى عنهم والفاء تدل على التعقيب فدل على أنه حصل هذا التولي بعد جثومهم والثاني أنه عليه السلام تولى عنهم قبل موتهم بدليل أنه خاطب القوم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين وذلك يدل على كونهم أحياء من ثلاثة أوجه أحدها أنه قال لهم يا قوم والأموات لا يوصفون بالقوم لأن اشتقاق لفظ القوم من الاستقلال بالقيام وذلك في حق الميت مفقود والثاني أن هذه الكلمات خطاب مع أولئك وخطاب الميت لا يجوز والثالث أنه قال ولكن لا تحبون الناصحين فيجب أن يكونوا بحيث يصح حصول المحبة فيهم ويمكن أن يجاب عنه فنقول قد يقول الرجل لصاحبه وهو ميت وكان قد نصحه فلم يقبل تلك النصيحة حتى ألقى نفسه في الهلاك يا أخي منذ كم نصحتك فلم تقبل وكم منعتك فلم تمتنع فكذا ههنا والفائدة في ذكر هذا الكلام إما لأن يسمعه بعض الأحياء فيعتبر به وينزجر عن مثل تلك الطريقة وإما لأجل أنه احترق قلبه بسبب تلك الواقعة فإذا ذكر ذلك الكلام فرجت تلك القضية عن قلبه وقيل يخف عليه أثر تلك المصيبة وذكروا جواباً آخر وهو أن صالحاً عليه السلام خاطبهم بعد كونهم جاثمين كما أن نبينا عليه الصلاة والسلام خاطب قتلى بدر فقيل تتكلم مع هؤلاء الجيف فقال ( ما أنتم بأسمع منهم لكنهم لا يقدرون على الجواب )
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَة َ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ
اعلم أن هذا هو القصة الرابعة قال النحويون إنما صرف لوط ونوح لخفته فإنه مركب من ثلاثة أحرف وهو ساكن الوسط أتأتون الفاحشة أتفعلون السيئة المتمادية في القبح وفي قوله ما سبقكم بها من أحد من العالمين وفيه بحثان

البحث الأول قال صاحب ( الكشاف ) من الأولى زائدة لتوكيد النفي وإفادة معنى الاستغراق والثانية للتبعيض
فإن قيل كيف يجوز أن يقال ما سبقكم بها من أحد العالمين مع أن الشهوة داعية إلى ذلك العمل أبداً
والجواب أنا نرى كثيراً من الناس يستقذر ذلك العمل فإذا جاز في الكثير منهم استقذاره لم يبعد أيضاً انقضاء كثير من الإعصار بحيث لا يقدم أحد من أهل تلك الإعصاء عليه وفيه وجه آخر وهو أن يقال لعلهم بكليتهم أقبلوا على ذلك العمل والإقبال بالكلية على ذلك العمل مما لم يوجد في الإعصار السابقة قال الحسن كانوا ينكحون الرجال في أدبارهم وكانوا لا ينكحون إلا الغرباء وقال عطاء عن ابن عباس استحكم ذلك فيهم حتى فعل بعضهم ببعض
البحث الثاني قوله ما سبقكم يجوز أن يكون مستأنفاً في التوبيخ لهم ويجوز أن يكون صفة الفاحشة كقوله تعالى وآية لهم الليل نسلخ منه النهار ( ي س 37 ) وقال الشاعر ولقد أمر على اللئيم يسبني
إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَة ً مِّن دُونِ النِّسَآءِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وحفص عن عاصم إنكم بكسر الألف ومذهب نافع أن يكتفي بالاستفهام بالأولى من الثاني في كل القرآن وقرأ ابن كثير أئنكم بهمزة غير ممدودة وبين الثانية وقرأ أبو عمرو بهمزة ممدودة بالتخفيف وبين الثانية والباقون بهمزتين على الأصل قال الواحدي من استفهم كان هذا استفهاماً معناه الإنكار لقوله أتأتون الفاحشة ( الأعراف 80 ) وكل واحد من الاستفهامين جملة مستقلة لا تحتاج في تمامها إلى شيء
المسألة الثانية قوله شهوة مصدر قال أبو زيد شهي يشهي شهوة وانتصابها على المصدر لأن قوله أتأتون الرجال معناه أتشتهون شهوة وإن شئت قلت إنها مصدر وقع موقع الحال
المسألة الثالثة في بيان الوجوه الموجبة لقبح هذا العمل
اعلم أن قبح هذا العمل كالأمر المقرر في الطباع فلا حاجة فيه إلى تعديد الوجوه على التفصيل ثم نقول موجبات القبح فيه كثيرة أولها أن أكثر الناس يحترزون عن حصول الولد لأن حصوله يحمل الإنسان على طلب المال وإتعاب النفس في الكسب إلا أنه تعالى جعل الوقاع سبباً لحصول اللذة العظيمة حتى أن الإنسان بطلب تلك اللذة يقدم على الوقاع وحينئذ يحصل الولد شاء أم أبى وبهذا الطريق يبقى النسل ولا ينقطع النوع فوضع اللذة في الوقاع كشبه الإنسان الذي وضع الفخ لبعض الحيوانات فإنه لا بد وأن

يضع في ذلك الفخ شيئاً يشتهيه ذلك الحيوان حتى يصير سبباً لوقوعه في ذلك الفخ فوضع اللذة في الوقاع يشبه وضع الشيء الذي يشتهيه الحيوان في الفخ والمقصود منه إبقاء النوع الإنساني الذي هو أشرف الأنواع
إذا ثبت هذا فنقول لو تمكن الإنسان من تحصيل تلك اللذة بطريق لا تفضي إلى الولد لم تحصل الحكمة المطلوبة ولأدى ذلك إلى انقطاع النسل وذلك على خلاف حكم الله فوجب الحكم بتحريمه قطعاً حتى تحصل تلك اللذة بالطريق المفضي إلى الولد
والوجه الثاني وهو أن الذكورة مظنة الفعل والأنوثة مظنة الانفعال فإذا صار الذكر منفعلاً والأنثى فاعلاً كان ذلك على خلاف مقتضى الطبيعة وعلى عكس الحكمة الإلهية
والوجه الثالث الاشتغال بمحض الشهوة تشبه بالبهيمة وإذا كان الاشتغال بالشهوة يفيد فائدة أخرى سوى قضاء الشهوة فليكن قضاء الشهوة من المرأة يفيد فائدة أخرى سوى قضاء الشهوة وهو حصول الولد وإبقاء النوع الإنساني الذي هو أشرف الأنواع فأما قضاء الشهوة من الذكر فإنه لا يفيد إلا مجرد قضاء الشهوة فكان ذلك تشبهاً بالبهائم وخروجاً عن الغريزة الإنسانية فكان في غاية القبح
والوجه الرابع هب أن الفاعل يلتذ بذلك العمل إلا أنه يبقى في إيجاب العار العظيم والعيب الكامل بالمفعول على وجه لا يزول ذلك العيب عنه أبداً لدهر والعاقل لا يرضى لأجل لذة خسيسة منقضية في الحال إيجاب العيب الدائم الباقي بالغير
والوجه الخامس أنه عمل يوجب استحكام العداوة بين الفاعل والمفعول وربما يؤدي ذلك إلى إقدام المفعول على قتل الفاعل لأجل أنه ينفر طبعه عند رؤيته أو على إيجاب إنكائه بكل طريق يقدر عليه أما حصول هذا العمل بين الرجل والمرأة فإنه يوجب استحكام الألفة والمودة وحصول المصالح الكبيرة كما قال تعالى خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْواجاً لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّة ً وَرَحْمَة ً ( الروم 21 )
والوجه السادس أنه تعالى أودع في الرحم قوة شديدة الجذب للمني فإذا واقع الرجل المرأة قوي الجذب فلم يبق شيء من المني في المجاري إلا وينفصل أما إذا واقع الرجل فلم يحصل في ذلك العضو المعين من المفعول قوة جاذبة للمني وحينئذ لا يكمل الجذب فيبقى شيء من أجزأ المني في تلك المجاري ولا ينفصل ويعفن ويفسد ويتولد منه الأورام الشديدة والأسقام العظيمة وهذه فائدة لا يمكن معرفتها إلا بالقوانين الطبية فهذه هي الوجوه الموجبة لقبح هذا العمل ورأيت بعض من كان ضعيفاً في الدين يقول إنه تعالى قال وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ( المؤمنون 5 المعارج 29 ) وذلك يقتضي حل وطء المملوك مطلقاً سواء كان ذكراً أو أنثى قال ولا يمكن أن يقال أنا نخصص هذا العموم بقوله تعالى أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ ( الشعراء 165 ) وقوله أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَة َ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مّن الْعَالَمِينَ ( الأعراف 80 ) قال لأن هاتين الآيتين كل واحد منهما أعم من الأخرى من وجه وأخص من وجه وذلك لأن المملوك قد يكون ذكراً وقد يكون أنثى وأيضاً الذكر قد يكون مملوكاً وقد لا يكون مملوكاً وإذا كان الأمر كذلك لم يكن تخصيص إحداهما بالأخرى أولى من العكس والترجيح من هذا الجانب لأن قوله إِلاَّ عَلَى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ شرع محمد وقصة لوط شرع سائر الأنبياء

وشرع محمد عليه الصلاة والسلام أولى من شرع من تقدمه من الأنبياء وأيضاً الأصل في المنافع والملاذ الحل وأيضاً الملك مطلق للتصرف فقل له الاستدلال إنما يقبل في موضع الاحتمال وقد ثبت بالتواتر الظاهر من دين محمد حرمة هذا العمل والمبالغة في المنع منه والاستدلال إذا وقع في مقابلة النقل المتواتر كان باطلاً
ثم قال تعالى حكاية عن لوط أنه قال لهم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ والمعنى كأنه قال لهم أنتم مسرفون في كل الأعمال فلا يبعد منكم أيضاً إقدامكم على هذا الإسراف
وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَ أَن قَالُوا أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ
والمراد منه أخرجوا لوطاً وأتباعه لأنه تعالى في غير هذه السورة قال فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُواْ ( النمل 56 ) ولأن الظاهر أنهم إنما سعوا في إخراج من نهاهم عن العمل الذي يشتهونه ويريدونه وذلك الناهي ليس إلا لوطاً وقومه وفي قوله يَتَطَهَّرُونَ وجوه الأول أن ذلك العمل تصرف في موضع النجاسة فمن تركه فقد تطهر والثاني أن البعد عن الإثم يسمى طهارة فقوله يَتَطَهَّرُونَ أي يتباعدون عن المعاصي والآثام الثالث أنهم إنما قالوا أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ على سبيل السخرية بهم وتطهرهم من الفواحش كما يقول الشيطان من الفسقة لبعض الصلحاء إذا وعظهم ابعدوا عنا هذا المتقشف وأريحونا من هذا المتزهد
فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الْمُجْرِمِينَ
اعلم أن قوله فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ يحتمل أن يكون المراد من أهله أنصاره وأتباعه الذين قبلوا دينه ويحتمل أن يكون المراد المتصلين به بالنسب قال ابن عباس المراد ابنتاه وقوله إِلاَّ امْرَأَتَهُ أي زوجته يقال امرأة الرجل بمعنى زوجته ويقال رجل المرأة بمعنى زوجها لأن الزوج بمنزلة المالك لها وليست المرأة بمنزلة المالك للرجل فإذا أضيفت إلى الرجل بالاسم العام عرفت الزوجية وملك النكاح والرجل إذا أضيف إلى المرأة بالاسم العام تعرف الزوجية وقوله كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ يقال غبر الشيء

يغبر غبوراً إذا مكث وبقي قال الهذلي فغبرت بعدهم بعيش ناصب
وأخال أني لاحق مستتبع
يعني بقيت فمعنى الآية أنها كانت من الغابرين عن النجاة أي من الذين بقوا عنها ولم يدركوا النجاة يقال فلان غبر هذا الأمر أي لم يدركه ويجوز أن يكون المراد أنها لم تسر مع لوط وأهله بل تخلفت عنه وبقيت في ذلك الموضع الذي هو موضع العذاب
ثم قال وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا يقال مطرت السماء وأمطرت والأول أفصح وأمطرهم مطراً وعذاباً وكذلك أمطر عليهم والمراد أنه تعالى أمطر عليهم حجارة من السماء بدليل أنه تعالى قال في آية أخرى وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَة ً مّن سِجّيلٍ ( الحجر 74 )
ثم قال فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الْمُجْرِمِينَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى ظاهر هذا اللفظ وإن كان مخصوصاً بالرسول عليه السلام إلا أن المراد سائر المكلفين ليعتبروا بذلك فينزجروا
فإن قيل كيف يعتبرون بذلك وقد آمنوا من عذاب الاستئصال
قلنا إن عذاب الآخرة أعظم وأدون من ذلك فعند سماع هذه القصة يذكرون عذاب الآخرة مؤنبة على عذاب الاستئصال ويكون ذلك زجراً وتحذيراً
المسألة الثانية مذهب الشافعي رضي الله عنه أن اللواطة توجب الحد وقال أبو حنيفة لا توجبه وللشافعي رحمه الله أن يحتج بهذه الآية من وجوه الأول أنه ثبت في شريعة لوط عليه السلام رجم اللوطي والأصل في الثابت البقاء إلا أن يظهر طريان الناسخ ولم يظهر في شرع محمد عليه الصلاة والسلام ناسخ هذا الحكم فوجب القول ببقائه الثاني قوله تعالى أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ( الأنعام 90 ) قد بينا في تفسير هذه الآية أنها تدل على أن شرع من قبلنا حجة علينا والثالث أنه تعالى قال فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الْمُجْرِمِينَ والظاهر أن المراد من هذه العاقبة ما سبق ذكره وهو إنزال الحجر عليهم ومن المجرمين الذين يعملون عمل قوم لوط لأن ذلك هو المذكور السابق فينصرف إليه فصار تقدير الآية فانظر كيف أمطر الله الحجارة على من يعمل ذلك العمل المخصوص وذكر الحكم عقيب الوصف المناسب يدل على كون ذلك الوصف علة لذلك الحكم فهذه الآية تقتضي كون هذا الجرم المخصوص علة لحصول هذا الزاجر المخصوص وإذا ظهرت العلة وجب أن يحصل هذا الحكم أينما حصلت هذه العلة
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُم بَيِّنَة ٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الأرض بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ

اعلم أن هذا هو القصة الخامسة وقد ذكرنا أن التقدير وَأَرْسَلْنَا إِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً وذكرنا أن هذه الأخوة كانت في النسب لا في الدين وذكرنا الوجوه فيه واختلفوا في مدين فقيل أنه اسم البلد وقيل إنه اسم القبيلة بسبب أنهم أولاد مدين بن إبراهيم عليه السلام ومدين صار اسماً للقبيلة كما يقال بكر وتميم وشعيب من أولاده وهو شعيب بن نويب بن مدين بن إبراهيم خليل الرحمن
واعلم أنه تعالى حكى عن شعيب أنه أمر قومه في هذه الآية بأشياء الأول أنه أمرهم بعبادة الله ونهاهم عن عبادة غير الله وهذا أصل معتبر في شرائع جميع الأنبياء فقال اعْبُدُواْ اللَّهَ مَالَكُمْ مّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ والثاني أنه ادعى النبوة فقال قَدْ جَاءتْكُم بَيّنَة ٌ مّن رَّبّكُمْ ويجب أن يكون المراد من البينة ههنا المعجزة لأنه لا بد لمدعي النبوة منها وإلا لكان متنبئاً لا نبياً فهذه الآية دلت على أنه حصلت له معجزة دالة على صدقه فأما أن تلك المعجزة من أي الأنواع كانت فليس في القرآن دلالة عليه كما لم يحصل في القرآن الدلالة على كثير من معجزات رسولنا قال صاحب ( الكشاف ) ومن معجزات شعيب أنه دفع إلى موسى عصاه وتلك العصا حاربت التنين وأيضاً قال لموسى أن هذه الأغنام تلد أولاداً فيها سواد وبياض وقد وهبتها منك فكان الأمر كما أخبر عنه ثم قال وهذه الأحوال كانت معجزات لشعيب عليه السلام لأن موسى في ذلك الوقت ما ادعى الرسالة
واعلم أن هذا الكلام بناء على أصل مختلف بين أصحابنا وبين المعتزلة وذلك لأن عندنا أن الذي يصير نبياً ورسولاً بعد ذلك يجوز أن يظهر الله عليه أنواع المعجزات قبل إيصال الوحي ويسمى ذلك إرهاصاً للنبوة فهذا الإرهاص عندنا جائز وعند المعتزلة غير جائز فالأحوال التي حكاها صاحب ( الكشاف ) هي عندنا إرهاصات لموسى عليه السلام وعند المعتزلة معجزات لشعيب لما أن الإرهاص عندهم غير جائز والثالث أنه قال فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ
واعلم أن عادة الأنبياء عليهم السلام إذا رأوا قومهم مقبلين على نوع من أنواع المفاسد إقبالاً أكثر من إقبالهم على سائر أنواع المفاسد بدأوا يمنعهم عن ذلك النوع وكان قوم شعيب مشغوفين بالبخس والتطفيف فلهذا السبب بدأ بذكر هذه الواقعة فقال فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وههنا سؤالان
السؤال الأول الفاء في قوله فَأَوْفُواْ توجب أن تكون للأمر بإيفاء الكيل كالمعلول والنتيجة عما سبق ذكره وهو قوله قَدْ جَاءتْكُم بَيّنَة ٌ مّن رَّبّكُمْ فكيف الوجه فيه
والجواب كأنه يقول البخس والتطفيف عبارة عن الخيانة بالشيء القليل وهو أمر مستقبح في العقول ومع ذلك قد جاءت البينة والشريعة الموجبة للحرمة فلم يبق لكم فيه عذر فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ
السؤال الثاني كيف قال الكيل والميزان ولم يقل المكيال والميزان كما في سورة هود
والجواب أراد بالكيل آلة الكيل وهو المكيال أو يسمى ما يكال به بالكيل كما يقال العيش لما

يعاش به والرابع قوله وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ والمراد أنه لما منع قومه من البخس في الكيل والوزن منعهم بعد ذلك من البخس والتنقيص بجميع الوجوه ويدخل فيه المنع من الغصب والسرقة وأخذ الرشوة وقطع الطريق وانتزاع الأموال بطريق الحيل والخامس قوله وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وذلك لأنه لما كان أخذ أموال الناس بغير رضاها يوجب المنازعة والخصومة وهما يوجبان الفساد لا جرم قال بعده وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وقد سبق تفسير هذه الكلمة وذكروا فيه وجوهاً فقيل وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا بأن تقدموا على البخس في الكيل والوزن لأن ذلك يتبعه الفساد وقيل أراد به المنع من كل ما كان فساداً حملاً للفظ على عمومه وقيل قوله وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ منع من مفاسد الدنيا وقوله وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ منع من مفاسد الدين حتى تكون الآية جامعة للنهي عن مفاسد الدنيا والدين واختلفوا في معنى بَعْدَ إِصْلَاحِهَا قيل بعد أن صلحت الأرض بمجيء النبي بعد أن كانت فاسدة بخلوها منه فنهاهم عن الفساد وقد صارت صالحة وقيل المراد أن لا تفسدوا بعد أن أصلحها الله بتكثير النعم فيهم وحاصل هذه التكاليف الخمسة يرجع إلى أصلين التعظيم لأمر الله ويدخل فيه الإقرار بالتوحيد والنبوة والشفقة على خلق الله ويدخل فيه ترك البخس وترك الإفساد وحاصلها يرجع إلى ترك الإيذاء كأنه تعالى يقول إيصال النفع إلى الكل متعذر وأما كف الشر عن الكل فممكن ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الخمسة قال ذالِكُمْ وهو إشارة إلى هذه الخمسة والمعنى خير لكم في الآخرة إن كنتم مؤمنين بالآخرة والمراد أترك البخس وترك الإفساد خير لكم في طلب المال في المعنى لأن الناس إذا علموا منكم الوفاء والصدق والأمانة رغبوا في المعاملات معكم فكثرت أموالكم إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ أي إن كنتم مصدقين لي في قولي
وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الْمُفْسِدِينَ
اعلم أن شعيباً عليه السلام ضم إلى ما تقدم ذكره من التكاليف الخمسة أشياء الأول أنه منعهم من أن يقعدوا على طرق الدين ومناهج الحق لأجل أن يمنعوا الناس عن قبوله وفي قوله وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلّ صِراطٍ قولان الأول يحمل الصراط على الطريق الذي يسلكه الناس روي أنهم كانوا يجلسون على

الطرقات ويخوفون من آمن بشعيب عليه السلام والثاني أن يحمل الصراط على مناهج الدين قال صاحب ( الكشاف ) وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلّ صِراطٍ أي ولا تقتدوا بالشيطان في قوله لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ( الأعراف 16 ) قال والمراد بالصراط كل ما كان من مناهج الدين والدليل على أن المراد بالصراط ذلك قوله وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وقوله بِكُلّ صِراطٍ يقال قعد له بمكان كذا وعلى مكان كذا وفي مكان كذا وهذه الحروف تتعاقب في هذه المواضع لتقارب معانيها فإنك إذا قلت قعد بمكان كذا فالباء للإلصاق وهو قد التصق بذلك المكان
وأما قوله تُوعَدُونَ فمحله ومحل ما عطف عليه النصب على الحال والتقدير ولا تقعدوا موعدين ولا صادين عن سبيل الله ولا أن تبغوا عوجاً في سبيل الله والحاصل أنه نهاهم عن القعود على صراط الله حال الاشتغال بأحد هذه الأمور الثلاثة واعلم أنه تعالى لما عطف بعض هذه الثلاثة على البعض وجب حصول المغايرة بينها فقوله تُوعَدُونَ يحصل بذلك إنزال المضار بهم وأما الصد فقد يكون بالإيعاد بالمضار وقد يكون بالوعد بالمنافع بما لو تركه وقد يكون بأن لا يمكنه من الذهاب إلى الرسول ليسمع كلامه
أما قوله وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا فالمراد إلقاء الشكوك والشبهات والمراد من الآية أن شعيباً منع القوم من أن يمنعوا الناس من قبول الدين الحق بأحد هذه الطرق الثلاثة وإذا تأملت علمت أن أحداً لا يمكنه منع غيره من قبول مذهب أو مقالة إلا بأحد هذه الطرق الثلاثة
ثم قال وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ والمقصود منه أنهم إذا تذكروا كثرة إنعام الله عليهم فالظاهر أن ذلك يحملهم على الطاعة والبعد عن المعصية قال الزجاج وهذا الكلام يحتمل ثلاثة أوجه كثر عددكم بعد القلة وكثركم بالغني بعد الفقر وكثركم بالقدرة بعد الضعف ووجه ذلك أنهم إذا كانوا فقراء أو ضعفاء فهم بمنزلة القليل في أنه لا يحصل من وجودهم قوة وشوكة فأما تكثير عددهم بعد القلة فهو أن مدين بن إبراهيم تزوج رئيا بنت لوط فولدت حتى كثر عددهم
ثم قال بعده وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الْمُفْسِدِينَ والمعنى تذكروا عاقبة المفسدين وما لحقهم من الخزي والنكال ليصير ذلك زاجراً لكم عن العصيان والفساد فقوله وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ المقصود منه أنهم إذا تذكروا نعم الله عليهم انقادوا وأطاعوا وقوله وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الْمُفْسِدِينَ المقصود منه أنهم إذا عرفوا أن عاقبة المفسدين المتمردين ليست إلا الخزي والنكال احترزوا عن الفساد والعصيان وأطاعوا فكان المقصود من هذين الكلامين حملهم على الطاعة بطريق الترغيب أولاً والترهيب ثانياً
ثم قال وَإِن كَانَ طَائِفَة ٌ مّنكُمْ ءامَنُواْ بِالَّذِى أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَة ٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ فَاصْبِرُواْ والمقصود منه تسلية قلوب المؤمنين وزجر من لم يؤمن لأن قوله فَاصْبِرُواْ تهديد وكذلك قوله حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا والمراد إعلاء درجات المؤمنين وإظهار هوان الكافرين وهذه الحالة قد تظهر في الدنيا فإن لم تظهر في الدنيا فلا بد من ظهورها في الآخرة

ثم قال وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ يعني أنه حاكم منزه عن الجور والميل والحيف فلا بد وأن يخص المؤمن التقي بالدرجات العالية والكافر الشقي بأنواع العقوبات ونظيره قوله أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِى الاْرْضِ ( ص 28 )
قَالَ الْمَلأ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ ياشُعَيْبُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَ أَن يَشَآءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ
اعلم أن شعيباً لما قرر تلك الكلمات قال الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ وأنفوا من تصديقه وقبول قوله لا بد من أحد أمرين إما أن ونخرجك ونخرج أتباعك من هذه القرية وإما أن تعود إلى ملتنا والإشكال فيه أن يقال إن قولهم أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا يدل على أنه عليه السلام كان على ملتهم التي هي الكفر فهذا يقتضي أنه عليه السلام كان كافراً قبل ذلك وذلك في غاية الفساد وقوله قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُمْ يدل أيضاً على هذا المعنى
والجواب من وجوه الأول أن أتباع شعيب كانوا قبل دخولهم في دينه كفاراً فخاطبوا شعيباً بخطاب أتباعه وأجروا عليه أحكامهم الثاني أن رؤساءهم قالوا ذلك على وجه التلبيس على العوام يوهمون أنه كان منهم وأن شعيباً ذكر جوابه على وفق ذلك الإيهام الثالث أن شعيباً في أول أمره كان يخفي دينه ومذهبه فتوهموا أنه كان على دين قومه الرابع لا يبعد أن يقال إن شعيباً كان على شريعتهم ثم إنه تعالى نسخ تلك الشريعة بالوحي الذي أوحاه إليه الخامس المراد من قوله أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا أي لتصيرن إلى ملتنا فوقع العود بمعنى الابتداء تقول العرب قد عاد إلي من فلان مكروه يريدون قد صار إلي منه المكروه ابتداء قال الشاعر فإن تكن الأيام أحسن مدة
إلى فقد عادت لهن ذنوب
أراد فقد صارت لهن ذنوب ولم يرد أن ذنوباً كانت لهن قبل الإحسان ثم إنه تعالى بين أن القوم لما قالوا ذلك أجاب شعيب عليه السلام عن كلامهم بوجهين الأول قوله وَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ الهمزة

للاستفهام والواو واو الحال تقديره أتعيدوننا في ملتكم في حال كراهتنا ومع كوننا كارهين الثاني قوله قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا والجواب الأول يجري مجرى الرمز في أنه لا يعود إلى ملتهم وهذا الجواب الثاني تصريح بأنه لا يفعل ذلك فقال إنه إن فعلنا ذلك فقد افترينا على الله وأصل الباب في النبوة والرسالة صدق اللهجة والبراءة عن الكذب فالعود في ملتكم يبطل النبوة ويزيل الرسالة وقوله إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا فيه وجوه الأول معنى إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا علمنا قبحه وفساده ونصب الأدلة على أنه باطل الثاني أن المراد أن الله نجى قومه من تلك الملة إلا أنه نظم نفسه في جملتهم وإن كان بريئاً منه إجراء الكلام على حكم التغليب والثالث أن القوم أوهموا أنه كان على ملتهم أو اعتقدوا أنه كان كذلك فقوله بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا أي حسب معتقدكم وزعمكم
أما قوله وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلا أَن عَبْدُ اللَّهِ
فاعلم أن أصحابنا يتمسكون بهذه الآية على أنه تعالى قد يشاء الكفر والمعتزلة يتمسكون بها على أنه تعالى لا يشاء إلا الخير والصلاح أما وجه استدلال أصحابنا بهذه فمن وجهين الأول قوله إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا يدل على أن المنجي من الكفر هو الله تعالى ولو كان الإيمان يحصل بخلق العبد لكانت النجاة من الكفر تحصل للإنسان من نفسه لا من الله تعالى وذلك على خلاف مقتضى قوله بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا الثاني أن معنى الآية أنه ليس لنا أن نعود إلى ملتكم إلا أن يشاء الله أن يعيدنا إلى تلك الملة ولما كانت تلك الملة كفراً كان هذا تجويزاً من شعيب عليه السلام أن يعيدهم إلى الكفر فكاد هذا يكون تصريحاً من شعيب بأنه تعالى قد شاء رد المسلم إلى الكفر وذلك غير مذهبنا قال الواحدي ولم تزل الأنبياء والأكابر يخافون العاقبة وانقلاب الأمر ألا ترى إلى قول الخليل عليه السلام وَاجْنُبْنِى وَبَنِى َّ أَن نَّعْبُدَ الاْصْنَامَ ( إبراهيم 35 ) وكثيراً ما كان محمد عليه الصلاة والسلام يقول ( يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على دينك وطاعتك ) وقال يوسف تَوَفَّنِى مُسْلِمًا ( يوسف 101 ) أجابت المعتزلة عنه من وجوه الأول أن قوله ليس لنا أن نعود إلى تلك الملة إلا أن يشاء الله أن يعيدنا إليها قضية شرطية وليس فيها بيان أنه تعالى شاء ذلك أو ما شاء والثاني أن هذا مذكور على طريق التبعيد كما يقال لا أفعل ذلك إلا إذا ابيض القار وشاب الغراب فعلق شعيب عليه السلام عوده إلى ملتهم على مشيئته ومن المعلوم أنه لا يكون نفياً لذلك أصلاً فهو على طريق التبعيد لا على وجه الشرط الثالث أن قوله إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ ليس فيه بيان أن الذي شاءه الله ما هو فنحن نحمله على أن المراد إلا أن يشاء الله ربنا بأن يظهر هذا الكفر من أنفسنا إذا أكرهتمونا عليه بالقتل وذلك لأن عند الإكراه على إظهار الكفر بالقتل يجوز إظهاره وما كان جائزاً كان مراداً لله تعالى وكون الضمير أفضل من الإظهار لا يخرج ذلك الإظهار من أن يكون مراد الله تعالى كما أن المسح على الخفين مراد الله تعالى وإن كان غسل الرجلين أفضل الرابع أن قوله لَنُخْرِجَنَّكَ ياشُعَيْبُ شُعَيْبٌ ( الأعراف 88 ) المراد الإخراج عن القرية فيحمل قوله وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا أي القرية لأنه تعالى قد كان حرم عليه إذا أخرجوه عن القرية أن يعود فيها إلا بإذن الله ومشيئته الخامس أن نقول يجب حمل المشيئة ههنا على الأمر لأن قوله وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلا أَن يَشَاء اللَّهُ معناه أنه إذا شاء كان لنا أن نعود فيها وقوله لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا أي يكون ذلك العود جائزاً

والمشيئة عند أهل السنة لا يوجب جواز الفعل فإنه تعالى يشاء الكفر من الكافر عندهم ولا يجوز له فعله إنما الذي يوجب الجواز هو الأمر فثبت أن المراد من المشيئة ههنا الأمر فكان التقدير إلا أن يأمر الله بعودنا في ملتكم فإنا نعود إليها والشريعة التي صارت منسوخة لا يبعد أن يأمر الله بالعمل بها مرة أخرى وعلى هذا التقدير يسقط استدلالكم
والوجه السادس للقوم في الجواب ما ذكره الجبائي فقال المراد من الملة الشريعة التي يجوز اختلاف العبادة فيها بالأوقات كالصلاة والصيام وغيرهما فقال شعيب وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا مِلَّتِكُمْ ولما دخل في ذلك كل ما هم عليه وكان من الجائز أن يكون بعض تلك الأحكام والشرائع باقياً غير منسوخ لا جرم قال إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ والمعنى إلا أن يشاء الله إبقاء بعضها فيدلنا عليه فحينئذ نعود إليها فهذا الاستثناء عائد إلى الأحكام التي يجوز دخول النسخ والتغيير فيها وغير عائد إلى ما لا يقبل التغير ألبتة فهذه أسئلة القوم على هذه الطريقة وهي جيدة وفي الآيات الدالة على صحة مذهبنا كثرة ولا يلزم من ضعف استدلال أصحابنا بهذه الآية دخول الضعف في المذهب وأما المعتزل فقد تمسكوا بهذه الآية على صحة قولهم من وجهين
الوجه الأول لما قالوا ظاهر قوله وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّنَا يقتضي أنه لو شاء الله عودنا إليها لكان لنا أن نعود إليها وذلك يقتضي أن كل ما شاء الله وجوده كان فعله جائزاً مأذوناً فيه ولم يكن حراماً قالوا وهذا عين مذهبنا أن كل ما أراد الله حصوله كان حسناً مأذوناً فيه وما كان حراماً ممنوعاً منه لم يكن مراداً لله تعالى
والوجه الثاني لهم أن قالوا إن قوله لَنُخْرِجَنَّكَ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا لا وجه للفصل بين هذين القسمين على قول الخصم لأن على قولهم خروجهم من القرية بخلق الله وعودهم إلى تلك الملة أيضاً بخلق الله وإذا كان حصول القسمين بخلق الله لم يبق للفرق بين القسمين فائدة
واعلم أنه لما تعارض استدلال الفريقين بهذه الآية وجب الرجوع إلى سائر الآيات في هذا الباب
أما قوله وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْء عِلْمًا ففيه مسائل
المسألة الأولى في تعلق هذا الكلام بالكلام الأول وجوه قال القاضي قد نقلنا عن أبي علي الجبائي أن قول شعيب إِلا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّنَا معناه إلا أن يخلق المصلحة في تلك العبادات فحينئذ يكلفنا بها والعالم بالمصالح ليس إلا من وسع علمه كل شيء فلذلك أتبعه بهذا القول وقال أصحابنا وجه تعلق هذا الكلام بما قبله هو أن القوم لما قالوا لشعيب إما أن تخرج من قريتنا وإما أن تعود إلى ملتنا فقال شعيب وَسِعَ رَبّى كُلَّ شَى ْء عِلْماً فربما كان في علمه حصول قسم ثالث وهو أن نبقى في هذه القرية من غير أن نعود إلى ملتكم بل يجعلكم مقهورين تحت أمرنا ذليلين خاضعين تحت حكمنا وهذا الوجه أولى مما قاله القاضي لأن قوله عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا لائق بهذا الوجه لا بما قاله القاضي
المسألة الثانية قوله وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْء عِلْمًا يدل على أنه تعالى كان عالماً في الأزل بجميع الأشياء لأن قوله واسِعُ فعل ماض فيتناول كل ماض وإذا ثبت أنه كان في الأزل عالماً بجميع

المعلومات وثبت أن تغير معلومات الله تعالى محال لزم أنه ثبتت الأحكام وجفت الأقلام والسعيد من سعد في علم الله والشقي من شقي في علم الله
المسألة الثالثة قوله وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْء عِلْمًا يدل على أنه علم الماضي والحال والمستقبل وعلم المعدوم أنه لو كان كيف كان يكون فهذه أقسام أربعة ثم كل واحد من هذه الأقسام الأربعة يقع على أربعة أوجه أما الماضي فإنه علم أنه لما كان ماضياً فإنه كيف كان وعلم أنه لو لم يكن ماضياً بل كان حاضراً فإنه كيف يكون وعلم أنه لو كان مستقبلاً كيف يكون وعلم أنه لو كان عدماً محضاً كيف يكون فهذه أقسام أربعة بحسب الماضي واعتبر هذه الأقسام الأربعة بحسب الحال وبحسب المستقبل وبحسب المعدوم المحض فيكون المجموع ستة عشر ثم اعتبر هذه الأقسام الستة عشر بحسب كل واحد من الذوات والألوان والطعوم والروائح وكذا القول في سائر المفردات من أنواع الأعراض وأجناسها فحينئذ يلوح لعقلك من قوله وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْء عِلْمًا بحر لا ينتهي مجموع عقول العقلاء إلى أول خطوة من خطوات ساحله
المسألة الرابعة قال الواحدي قوله وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْء عِلْمًا منصوب على التمييز
واعلم أنه عليه الصلاة والسلام ختم كلامه بأمرين الأول بالتوكل على الله فقال عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا فهذا يفيد الحصر أي عليه توكلنا لا على غيره وكأنه في هذا المقام عزل الأسباب وارتقى عنها إلى مسبب الأسباب والثاني الدعاء فقال رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقّ قال ابن عباس والحسن وقتادة والسدي احكم واقض وقال الفراء أهل عمان يسمون القاضي الفاتح والفتاح لأنه يفتح مواضع الحق وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال ما كنت أدري قوله رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقّ حتى سمعت ابنة ذي يزن تقول لزوجها تعال أفاتحك أي أحاكمك قال الزجاج وجائز أن يكون قوله افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقّ أي أظهر أمرنا حتى ينفتح بيننا وبين قومنا وينكشف والمراد منه أن ينزل عليهم عذاباً يدل على كونهم مبطلين وعلى كون شعيب وقومه محقين وعلى هذا الوجه يراد به الكشف والتبيين
ثم قال وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ والمراد منه الثناء على الله واحتج أصحابنا بهذا اللفظ على أنه هو الذي يخلق الإيمان من العبد وذلك لأن الإيمان أشرف المحدثات ولو فسرنا لفتح بالكشف والتبيين فلا شك أن الإيمان كذلك
إذا ثبت هذا فنقول لو كان الموجد للإيمان هو العبد لكان خير الفاتحين هو العبد وذلك ينفي كونه تعالى خير الفاتحين
وَقَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَة ُ فَأَصْبَحُواْ فِى دَارِهِمْ جَاثِمِينَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ الْخَاسِرِينَ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ ياقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّى وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ ءَاسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ

اعلم أنه تعالى بين عظم ضلالتهم بتكذيب شعيب ثم بين أنهم لم يقتصروا على ذلك حتى أضلوا غيرهم ولاموهم على متابعته فقالوا لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ واختلفوا فقال بعضهم خاسرون في الدين وقال آخرون خاسرون في الدنيا لأنه يمنعكم من أخذ الزيادة من أموال الناس وعند هذا المقال كمل حالهم في الضلال أولاً وفي الإضلال ثانياً فاستحقوا الإهلاك فلهذا قال تعالى فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَة ُ وهي الزلزلة الشديدة المهلكة فإذا انضاف إليها الجزاء الشديد المخوف على ما ذكره الله تعالى من قصة الظلمة كان الهلاك أعظم لأنه أحاط بهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ أي في مساكنهم جَاثِمِينَ أي خامدين ساكنين بلا حياة وقد سبق الاستقصاء في تفسير هذه الألفاظ
ثم قال تعالى الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا وفيه بحثان
البحث الأول في قوله كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا قولان أحدهما يقال غني القوم في دارهم إذا طال مقامهم فيها والثاني المنازل التي كان بها أهلوها واحدها مغني قال الشاعر ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة
في ظل ملك ثابت الأوتاد
أراد أقاموا فيها وعلى هذا الوجه كان قوله كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا كأن لم يقيموا بها ولم ينزلوا فيها
والقول الثاني قال الزجاج كأن لم يغنوا فيها كأن لم يعيشوا فيها مستغنين يقال غني الرجل يغنى إذا استغنى وهو من الغني الذي هو ضد الفقر
وإذا عرفت هذا فنقول على التفسيرين شبه الله حال هؤلاء المكذبين بحال من لم يكن قط في تلك الديار قال الشاعر كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
أنيس ولم يسمر بمكة سامر
بلى نحن كنا أهلها فأبادنا
صروف الليالي والجدود العواثر
البحث الثاني قوله الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كأن لم يغنوا فيها الذين يدل على أن ذلك العذاب كان مختصاً بأولئك المكذبين وذلك يدل على أشياء أحدها أن ذلك العذاب إنما حدث بتخليق فاعل مختار وليس ذلك أثر الكواكب والطبيعة وإلا لحصل في أتباع شعيب كما حصل في حق الكفار والثاني يدل

على أن ذلك الفاعل المختار عالم بجميع الجزئيات حتى يمكنه التمييز بين المطيع والعاصي وثالثها يدل على المعجز العظيم في حق شعيب لأن العذاب النازل من السماء لما وقع على قوم دون قوم مع كونهم مجتمعين في بلدة واحدة كان ذلك من أعظم المعجزات
ثم قال تعالى الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ الْخَاسِرِينَ وإنما كرر قوله الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا لتعظيم المذلة لهم وتفظيع ما يستحقون من الجزاء على جهلهم والعرب تكرر مثل هذا في التفخيم والتعظيم فيقول الرجل لغيره أخوك الذي ظلمنا أخوك الذي أخذ أموالنا أخوك الذي هتك أعراضنا وأيضاً أن القوم لما قالوا لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ بين تعالى أن الذين لم يتبعوه وخالفوه هم الخاسرون
ثم قال تعالى فَتَوَلَّى عَنْهُمْ واختلفوا في أنه تولى بعد نزول العذاب بهم أو قبل ذلك وقد سبق ذكر هذه المسألة قال الكلبي خرج من بين أظهرهم ولم يعذب قوم نبي حتى أخرج من بينهم
ثم قال فَكَيْفَ ءاسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ الأسى شدة الحزن قال العجاج وانحلبت عيناه من فرط الأسى
إذا عرفت هذا فنقول في الآية قولان
القول الأول أنه اشتد حزنه على قومه لأنهم كانوا كثيرين وكان يتوقع منهم الاستجابة للإيمان فلما أن نزل بهم ذلك الهلاك العظيم حصل في قلبه من جهة الوصلة والقرابة والمجاورة وطول الألفة ثم عزى نفسه وقال فَكَيْفَ ءاسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ لأنهم هم الذين أهلكوا أنفسهم بسبب إصرارهم على الكفر
والقول الثاني أن المراد لقد أعذرت إليكم في الإبلاغ والنصيحة والتحذير مما حل بكم فلم تسمعوا قولي ولم تقبلوا نصيحتي فَكَيْفَ ءاسَى عَلَيْكُمْ يعني أنهم ليسوا مستحقين بأن يأسى الإنسان عليهم قال صاحب ( الكشاف ) وقرأ يحيى بن وثاب فَكَيْفَ بكسر الهمزة
وَمَآ أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَة ٍ مِّن نَّبِى ٍّ إِلاَ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَآءِ وَالضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَة ِ الْحَسَنَة َ حَتَّى عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ ءَابَاءَنَا الضَّرَّآءُ وَالسَّرَّآءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَة ً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ
اعلم أنه تعالى لما عرفنا أحوال هؤلاء الأنبياء وأحوال ما جرى على أممهم كان من الجائز أن يظن

أنه تعالى ما أنزل عذاب الاستئصال إلا في زمن هؤلاء الأنبياء فقط فبين في هذه الآية أن هذا الجنس من الهلاك قد فعله بغيرهم وبين العلة التي بها يفعل ذلك قال تعالى كَافِرِينَ وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَة ٍ مّن نَّبِى ٍّ إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وإنما ذكر القرية لأنها مجتمع القوم الذين إليهم يبعث الرسل ويدخل تحت هذا اللفظ المدينة لأنها مجتمع الأقوام وقوله مّن نَّبِى ٍّ فيه حذف وإضمار والتقدير من نبي فكذب أو كذبه أهلها إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء قال الزجاج البأساء كل ما نالهم من الشدة في أحوالهم والضراء ما نالهم من الأمراض وقيل على العكس ثم بين تعالى أنه يفعل ذلك لكي يضرعوا معناه يتضرعوا والتضرع هو الخضوع والانقياد لله تعالى ولما علمت أن قوله لَعَلَّهُمْ لا يمكن حمله على الشك في حق الله تعالى وجب حمله على أن المراد أنه تعالى فعل هذا الفعل لكي يتضرعوا قالت المعتزلة وهذا يدل على أنه تعالى أراد من كل المكلفين الإيمان والطاعة وقال أصحابنا لما ثبت بالدليل أن تعليل أفعال الله وأحكامه محال وجب حمل الآية على أنه تعالى فعل ما لو فعله غيره لكان ذلك شبيهاً بالعلة والغرض ثم بين تعالى أن تدبيره في أهل القرى لا يجري على نمط واحد وإنما يدبرهم بما يكون إلى الإيمان أقرب فقال ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيّئَة ِ الْحَسَنَة َ ( الأعراف 95 ) لأن ورود النعمة في البدن والمال بعد البأساء والضراء يدعو إلى الانقياد والاشتغال بالشكر ومعنى الحسنة والسيئة ههنا الشدة والرخاء قال أهل اللغة السَّيّئَة ُ كل ما يسوء صاحبه و الْحَسَنَة َ ما يستحسنه الطبع والعقل والمعنى أنه تعالى أخبر أنه يأخذ أهل المعاصي بالشدة تارة وبالرخاء أخرى وقوله حَتَّى عَفَواْ قال الكسائي يقال قد عفا الشعر وغيره إذا كثر يعفو فهو عاف ومنه قوله تعالى حَتَّى عَفَواْ يعني كثروا ومنه ما ورد في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام أمر أن تحف الشوارب وتعفى اللحى يعني توفر وتكثر وقوله وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ ءابَاءنَا الضَّرَّاء وَالسَّرَّاء فالمعنى أنهم متى نالهم شدة قالوا ليس هذا بسبب ما نحن عليه من الدين والعمل وتلك عادة الدهر ولم يكن ما مسنا من البأساء والضراء عقوبة من الله وهذه الحكاية تدل على أنهم لم ينتفعوا بما دبرهم الله عليه من رخاء بعد شدة وأمن بعد خوف بل عدلوا إلى أن هذه عادة الزمان في أهله فمرة يحصل فيهم الشدة والنكد ومرة يحصل لهم الرخاء والراحة فبين تعالى أنه أزال عذرهم وأزاح علتهم فلم ينقادوا ولم ينتفعوا بذلك الإمهال وقوله فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَة ً والمعنى أنهم لما تمردوا على التقديرين أخذهم الله بغتة أينما كانوا ليكون ذلك أعظم في الحسرة وقوله وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ أي يرون العذاب والحكمة في حكاية هذا المعنى أن يحصل الاعتبار لمن سمع هذه القصة وعرفها
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءَامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَآءِ والأرض وَلَاكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ

اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى إن الذين عصوا وتمردوا أخذهم الله بغتة بين في هذه الآية أنهم لو أطاعوا لفتح الله عليهم أبواب الخيرات فقال وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءامَنُواْ أي آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وَاتَّقَوْاْ ما نهى الله عنه وحرمه لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مّنَ السَّمَاء وَالاْرْضِ بركات السماء بالمطر وبركات الأرض بالنبات والثمار وكثرة المواشي والأنعام وحصول الأمن والسلامة وذلك لأن السماء تجري مجرى الأب والأرض تجري مجرى الأم ومنها يحصل جميع المنافع والخيرات بخلق الله تعالى وتدبيره وقوله وَلَاكِن كَذَّبُواْ يعني الرسل فَأَخَذْنَاهُمْ بالجدوبة والقحط بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ من الكفر والمعصية
ثم إنه تعالى أعاد التهديد بعذاب الاستئصال فقال أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى وهو استفهام بمعنى الإنكار عليهم والمقصود أنه تعالى خوفهم بنزول ذلك العذاب عليهم في الوقت الذي يكونون فيه في غاية الغفلة وهو حال النوم بالليل وحال الضحى بالنهار لأنه الوقت الذي يغلب على المرء التشاغل باللذات فيه وقوله وَهُمْ يَلْعَبُونَ يحتمل التشاغل بأمور الدنيا فهي لعب ولهو ويحتمل خوضهم في كفرهم لأن ذلك كاللعب في أنه لا يضر ولا ينفع قرأ أكثر القراء أَوَ أَمِنَ بفتح الواو وهو حرف العطف دخلت عليه همزة الاستفهام كما دخل في قوله أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ ( يونس 51 ) وقوله أَوْ كُلَّمَا عَاهَدُواْ ( البقرة 100 ) وهذه القراءة أشبه بما قبله وبعده لأن قبله أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى وما بعده أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ ( الأعراف 99 ) أَوَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الارْضَ ( الأعراف 100 ) وقرأ ابن عامر أَوَ أَمِنَ ساكنة الواو واستعمل على ضربين أحدهما أن تكون بمعنى أحد الشيئين كقوله زيد أو عمرو جاء والمعنى أحدهما جاء
والضرب الثاني أن تكون للاضراب عما قبلها كقولك أنا أخرج أو أقيم أضربت عن الخروج وأثبت الإقامة كأنك قلت لا بل أقيم فوجه هذه القراءة أنه جعل ( أو ) للاضراب لا على أنه أبطل الأول وهو الم تَنزِيلُ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ ( السجدة 1 2 ) فكان المعنى من هذه الآية استواء هذه الضروب من العذاب وإن شئت جعلت ( أو ) ههنا التي لأحد الشيئين ويكون المعنى أفأمنوا إحدى هذه العقوبات وقوله ضُحًى الضحى صدر النهار وأصله الظهور من قولهم ضحا للشمس إذا ظهر لها
ثم قال تعالى أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ وقد سبق تفسير المكر في اللغة ومعنى المكر في حق الله تعالى في سورة آل عمران عند قوله وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ ( آل عمران 54 ) ويدل قوله أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ أن المراد أن يأتيهم عذابه من حيث لا يشعرون قاله على وجه التحذير وسمي هذا العذاب مكراً توسعاً لأن الواحد منا إذا أراد المكر بصاحبه فإنه يوقعه في البلاء من حيث لا يشعر به فسمي العذاب مكراً لنزوله بهم من حيث لا يشعرون وبين أنه لا يأمن من نزول عذاب الله على هذا الوجه إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ وهم الذين لغفلتهم وجهلهم لا يعرفون ربهم فلا يخافونه ومن هذه سبيله فهو أخسر الخاسرين في الدنيا والآخرة لأنه أوقع نفسه في الدنيا في الضرر وفي الآخرة في أشد العذاب

أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَآ أَن لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين فيما تقدم من الآيات حال الكفار الذين أهلكهم الله بالاستئصال مجملاً ومفصلاً أتبعه ببيان أن الغرض من ذكر هذه القصص حصول العبرة لجميع المكلفين في مصالح أديانهم وطاعاتهم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اختلف القراء فقرأ بعضهم أَوَلَمْ يَهْدِ بالياء المعجمة من تحتها وبعضهم بالنون قال الزجاج إذا قرىء بالياء المعجمة من تحت كان قوله أَن لَّوْ نَشَاء مرفوعاً بأنه فاعله بمعنى أو لم يهد للذين يخلفون أولئك المتقدمين ويرثون أرضهم وديارهم وهذا الشأن وهو أنا لو نشاء أصبناهم بذنوبهم كما أصبنا من قبلهم وأهلكنا الوارثين كما أهلكنا المورثين إذا قرىء بالنون فهو منصوب كأنه قيل أولم نهد للوارثين هذا الشأن بمعنى أو لم نبين لهم أن قريشاً أصبناهم بذنوبهم كما أصبنا من قبلهم
المسألة الثانية المعنى أو لم نبين للذين نبعثهم في الأرض بعد إهلاكنا من كان قبلهم فيها فنهلكهم بعدهم وهو معنى لو نشاء أصبناهم بذنوبهم أي عقاب ذنوبهم وقوله وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ أي إن لم نهلكهم بالعقاب نطبع على قلوبهم فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ أي لا يقبلون ولا يتعظون ولا ينزجرون وإنما قلنا إن المراد إما الإهلاك وإما الطبع على القلب لأن الإهلاك لا يجتمع مع الطبع على القلب فإنه إذا أهلكه يستحيل أن يطبع على قلبه
المسألة الثالثة استدل أصحابنا على أنه تعالى قد يمنع العبد عن الإيمان بقوله وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ والطبع والختم والرين والكنان والغشاوة والصد والمنع واحد على ما قررناه في آيات كثيرة قال الجبائي المراد من هذا الطبع أنه تعالى يسم قلوب الكفار بسمات وعلامات تعرف الملائكة بها أن أصحابها لا يؤمنون وتلك العلامة غير مانعة من الإيمان وقال الكعبي إنما أضاف الطبع إلى نفسه لأجل أن القوم إنما صاروا إلى ذلك الكفر عند أمره وامتحانه فهو كقوله تعالى فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِى إِلاَّ فِرَاراً ( نوح 6 )
واعلم أن البحث عن حقيقة الطبع والختم قد مر مراراً كثيرة فلا فائدة في الإعادة

المسألة الرابعة قوله وَنَطْبَعُ هل هو منقطع عما قبله أو معطوف على ما قبله فيه قولان
القول الأول أنه منقطع عن الذي قبله لأن قوله أصبنا ماض وقوله بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ مستقبل وهذا العطف ليس بمستحسن بل هو منقطع عما قبله والتقدير ونحن نطبع على قلوبهم
والقول الثاني أنه معطوف على ما قبله قال صاحب ( الكشاف ) هو معطوف على ما دل عليه معنى أَوَ لَمْ يَهْدِ كأنه قيل يغفلون عن الهداية ونطبع على قلوبهم أو معطوف على قوله يَرِثُونَ الارْضَ ثم قال ولا يجوز أن يكون معطوفاً على أَصَبْنَاهُمْ لأنهم كانوا كفاراً وكل كافر فهو مطبوع على قلبه فقوله بعد ذلك وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ يجري مجرى تحصيل الحاصل وهو محال هذا تقرير قول صاحب ( الكشاف ) على أقوى الوجوه وهو ضعيف لأن كونه مطبوعاً عليه إنما يحصل حال استمراره وثباته عليه فهو يكفر أولاً ثم يصير مطبوعاً عليه في الكفر فلم يكن هذا منافياً لصحة العطف
ثم قال تعالى تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَائِهَا قوله تِلْكَ مبتدأ والقرى صفة و نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ خبر والمراد بتلك القرى قرى الأقوام الخمسة الذين وصفهم فيما سبق وهم قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب نقص عليك من أخبارها كيف أهلكت وأما أخبار غير هؤلاء الأقوام فلم نقصها عليك وإنما خص الله أنباء هذه القرى لأنهم اغتروا بطول الإمهال مع كثرة النعم فتوهموا أنهم على الحق فذكرها الله تعالى تنبيهاً لقوم محمد عليه الصلاة والسلام عن الاحتراز من مثل تلك الأعمال
ثم عزاه الله تعالى بقوله وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيّنَاتِ يريد الأنبياء الذين أرسلوا إليهم وقوله فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ فيه قولان الأول قال ابن عباس والسدي فما كان أولئك الكفار ليؤمنوا عند إرسال الرسل بما كذبوا به يوم أخذ ميثاقهم حين أخرجهم من ظهر آدم فآمنوا كرهاً وأقروا باللسان وأضمروا التكذيب الثاني قال الزجاج فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بعد رؤية المعجزات بما كذبوا به قبل رؤية تلك المعجزات الثالث ما كانوا لو أحييناهم بعد إهلاكهم ورددناهم إلى دار التكليف ليؤمنواب ما كذبوا به من قبل إهلاكهم ونظيره قوله وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ( الإنعام 28 ) الرابع قبل مجيء الرسول كانوا مصرين على الكفر فهؤلاء ما كانوا ليؤمنوا بعد مجيء الرسل أيضاً الخامس ليؤمنوا في الزمان المستقبل
ثم إنه تعالى بين السبب في عدم هذا القبول فقال كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ قال الزجاج والكاف في كَذالِكَ نصب والمعنى مثل ذلك الذي طبع الله على قلوب كفار الأمم الخالية يطبع على قلوب الكافرين الذين كتب الله عليهم أن لا يؤمنوا أبداً والله أعلم بحقائق الأمور
وَمَا وَجَدْنَا لاًّكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَآ أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ
فيه أقوال الأول قال ابن عباس يريد الوفاء بالعهد الذي عاهدهم الله وهم في صلب آدم حيث قال

أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَى ( الأعراف 172 ) فلما أخذ الله منهم هذا العهد وأقروا به ثم خالفوا ذلك صار كأنه ما كان لهم عهد فلهذا قال وَمَا وَجَدْنَا لاِكْثَرِهِم مّنْ عَهْدٍ والثاني قال ابن مسعود العهد هنا الإيمان والدليل عليه قوله تعالى إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً ( مريم 87 ) يعني آمن وقال لا إله إلا الله والثالث أن العهد عبارة عن وضع الأدلة الدالة على صحة التوحيد والنبوة وعلى هذا التقدير فالمراد ما وجدنا لأكثرهم من الوفاء بالعهد
ثم قال وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ أي وإن الشأن والحديث وجدنا أكثرهم فاسقين خارجين عن الطاعة صارفين عن الدين
ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى بِأايَاتِنَآ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيِهِ فَظَلَمُواْ بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الْمُفْسِدِينَ
اعلم أن هذا هو القصة السادسة من القصص التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة وذكر في هذه القصة من الشرح والتفصيل ما لم يذكر في سائر القصص لأجل أن معجزات موسى كانت أقوى من معجزات سائر الأنبياء وجهل قومه كان أعظم وأفحش من جهل سائر الأقوام
واعلم أن الكناية في قوله مّن بَعْدِهِمْ يجوز أن تعود إلى الأنبياء الذين جرى ذكرهم ويجوز أن تعود إلى الأمم الذين تقدم ذكرهم بإهلاكهم وقوله بِئَايَاتِنَا فيه مباحث
البحث الأول هذه الآية تدل على أن النبي لا بد له من آية ومعجزة بها يمتاز عن غيره إذ لو لم يكن مختصاً بهذه الآية لم يكن قبول قوله أولى من قبول قول غيره
والبحث الثاني هذه الآية تدل على أنه تعالى آتاه آيات كثيرة ومعجزات كثيرة
والبحث الثالث قال ابن عباس رضي الله عنهما أول آياته العصا ثم اليد ضرب بالعصا باب فرعون ففزع منها فشاب رأسه فاستحيا فخضب بالسواد فهو أول من خضب قال وآخر الآيات الطمس قال وللعصا فوائد كثيرة منها ما هو مذكور في القرآن كقوله قَالَ هِى َ عَصَاى َ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِى وَلِى َ فِيهَا مَأَرِبُ ( طه 18 ) وذكر الله من تلك المآرب في القرآن قوله اضْرِب بّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَة َ عَيْنًا ( البقرة 60 ) وذكر ابن عباس أشياء أخرى منها أنه كان يضرب الأرض بها فتنبت ومنها أنه كانت تحارب اللصوص والسباع التي كانت تقصد غنمه ومنها أنها كانت تشتعل في الليل كاشتعال الشمعة ومنها أنها كانت تصير كالحبل الطويل فينزح به الماء من البئر العميقة

واعلم أن الفوائد المذكورة في القرآن معلومة فأما الأمور التي هي غير مذكورة في القرآن فكل ما ورد به خبر صحيح فهو مقبول وما لا فلا وقوله أنه كان يضرب بها الأرض فتخرج النبات ضعيف لأن القرآن يدل على أن موسى عليه السلام كان يفزع إلى العصا في الماء الخارج من الحجر وما كان يفزع إليها في طلب الطعام
أما قوله فَظَلَمُواْ بِهَا أي فظلموا بالآيات التي جاءتهم لأن الظلم وضع الشيء في غير موضعه فلما كانت تلك الآيات قاهرة ظاهرة ثم إنهم كفروا بها فوضعوا الإنكار في موضع الإقرار والكفر في موضع الإيمان كان ذلك ظلماً منهم على تلك الآيات
ثم قال فَانظُرْ أي بعين عقلك كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الْمُفْسِدِينَ وكيف فعلنا بهم
وَقَالَ مُوسَى يافِرْعَوْنُ إِنَّى رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَ أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَة ٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِى َ بَنِى إِسْرَاءِيلَ قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِأايَة ٍ فَأْتِ بِهَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه كان يقال لملوك مصر الفراعنة كما يقال لملوك فارس الأكاسرة فكأنه قال يا ملك مصر وكان اسمه قايوس وقيل الوليد بن مصعب بن الريان
المسألة الثانية قوله إِنّى رَسُولٌ مّن رَّبّ الْعَالَمِينَ فيه إشارة إلى ما يدل على وجود الإله تعالى فإن قوله رَبّ الْعَالَمِينَ يدل على أن العالم موصوف بصفات لأجلها افتقر إلى رب يربيه وإله يوجده ويخلقه
ثم قال حَقِيقٌ عَلَى َّ أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ والمعنى أن الرسول لا يقول إلا الحق فصار نظم الكلام كأنه قال أنا رسول الله ورسول الله لا يقول إلا الحق ينتج أني لا أقول إلا الحق ولما كانت المقدمة الأولى خفية وكانت المقدمة الثانية جلية ظاهرة ذكر ما يدل على صحة المقدمة الأولى وهو قوله قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيّنَة ٍ مّن رَّبّكُمْ وهي المعجزة الظاهرة القاهرة ولما قرر رسالة نفسه فرع عليه تبليغ الحكم وهو قوله فَأَرْسِلْ مَعِى َ بَنِى إِسْراءيلَ ولما سمع فرعون هذا الكلام قال قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِئَايَة ٍ فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ واعلم أن دليل موسى عليه السلام كان مبنياً على مقدمات إحداها أن لهذا العالم إلهاً

قادراً عالماً حكيماً والثانية أنه أرسله إليهم بدليل أنه أظهر المعجز على وفق دعواه ومتى كان الأمر كذلك وجب أن يكون رسولاً حقاً والثالثة أنه متى كان الأمر كذلك كان كل ما يبلغه من الله إليهم فهو حق وصدق ثم إن فرعون ما نازعه في شيء من هذه المقدمات إلا في طلب المعجزة وهذا يوهم أنه كان مساعداً على صحة سائر المقدمات وقد ذكرنا في سورة طه أن العلماء اختلفوا في أن فرعون هل كان عارفاً بربه أم لا ولمجيب أن يجيب فيقول إن ظهور المعجزة يدل أولاً على وجود الإله القادر المختار وثانياً على أن الإله جعله قائماً مقام تصديق ذلك الرسول فلعل فرعون كان جاهلاً بوجود الإله القادر المختار وطلب منه إظهار تلك البينة حتى أنه إن أظهرها وأتى بها كان ذلك دليلاً على وجود الإله أولاً وعلى صحة نبوته ثانياً وعلى هذا التقدير لا يلزم من اقتصار فرعون على طلب البينة كونه مقراً بوجود الإله الفاعل المختار
المسألة الثالثة قرأ نافع حَقِيقٌ عَلَى َّ مشدد الياء والباقون بسكون الياء والتخفيف أما قراءة نافع فحقيق يجوز أن يكون بمعنى فاعل قال الليث حق الشيء معناه وجب ويحق عليك أن تفعل كذا وحقيق علي أن أفعله بمعنى فاعل والمعنى واجب علي ترك القول على الله إلا بالحق ويجوز أن يكون بمعنى مفعول وضع فعيل في موضع مفعول تقول العرب حق علي أن أفعل كذا وإني لمحقوق على أن أفعل خيراً أي حق علي ذلك بمعنى استحق
إذا عرفت هذا فنقول حجة نافع في تشديد الياء أن حق يتعدى بعلي قال تعالى طَاغِينَ فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبّنَا وقال فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فحقيق يجوز أن يكون موصولاً بحرف على من هذا الوجه وأيضاً فإن قوله حَقِيقٌ بمعنى واجب فكما أن وجب يتعدى بعلي كذلك حقيق إن أريد به وجب يتعدى بعلي وأما قراءة العامة حَقِيقٌ عَلَى َّ بسكون الياء ففيه وجوه الأول أن العرب تجعل الباء في موضع ( علي ) تقول رميت على القوس وبالقوس وجئت على حال حسنة وبحال حسنة قال الأخفش وهذا كما قال وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلّ صِراطٍ تُوعِدُونَ ( الأعراف 86 ) فكما وقعت الباء في قوله بِكُلّ صِراطٍ موضع ( علي ) كذلك وقعت كلمة ( علي ) موقع الباء في قوله حَقِيقٌ عَلَى َّ أَنْ لا أَقُولَ يؤكد هذا الوجه قراءة عبدالله حَقِيقٌ بِأَنَّ لا أَقُولَ وعلى هذه القراءة فالتقدير أنا حقيق بأن لا أقول وعلى قراءة نافع يرتفع بالابتداء وخبره أَن لا أَقُولَ الثاني أن الحق هو الثابت الدائم والحقيق مبالغة فيه وكان المعنى أنا ثابت مستمر على أن لا أقول إلا الحق الثالث الحقيق ههنا بمعنى المحقوق وهو من قولك حققت الرجل إذا ما تحققته وعرفته على يقين ولفظة عَلَى َّ ههنا هي التي تقرن بالأوصاف اللازمة الأصلية كقوله تعالى فِطْرَة َ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ( الروم 30 ) وتقول جاءت فلان على هيئته وعادته وعرفته وتحققته على كذا وكذا من الصفات فمعنى الآية أني لم أعرف ولم أتحقق إلا على قول الحق والله أعلم
أما قوله فَأَرْسِلْ مَعِى َ بَنِى إِسْراءيلَ أي أطلق عنهم وخلهم وكان فرعون قد استخدمهم في الأعمال الشاقة مثل ضرب اللبن ونقل التراب فعند هذا الكلام قال فرعون قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِئَايَة ٍ فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ وفيه بحثان
البحث الأول أن لقائل أن يقول كيف قال له فَأْتِ بِهَا بعد قوله قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ

وجوابه إن كنت جئت من عند من أرسلك بآية فاتني بها وأحضرها عندي ليصح دعواك ويثبت صدقك
والبحث الثاني أن قوله قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِئَايَة ٍ فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ جزاء وقع بين شرطين فكيف حكمه وجوابه أن نظيره قوله إن دخلت الدار فأنت طالق إن كلمت زيداً وههنا المؤخر في اللفظ يكون متقدماً في المعنى وقد سبق تقرير هذا المعنى فيما تقدم
فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِى َ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِى َ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ قَالَ الْمَلأ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَاذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ
اعلم أن فرعون لما طالب موسى عليه السلام بإقامة البينة على صحة نبوته بين الله تعالى أن معجزته كانت قلب العصا ثعباناً وإظهار اليد البيضاء والكلام في هذه الآية يقع على وجوه الأول أن جماعة الطبيعيين ينكرون إمكان انقلاب العصا ثعباناً وقالوا الدليل على امتناعه أن تجويز انقلاب العصا ثعباناً يوجب ارتفاع الوثوق عن العلوم الضرورية وذلك باطل وما يفضي إلى الباطل فهو باطل إنما قلنا إن تجويزه يوجب ارتفاع الوثوق على العلوم الضرورية وذلك لأنا لو جوزنا أن يتولد الثعبان العظيم من العصا الصغيرة لجوزنا أيضاً أن يتولد الإنسان الشاب القوي عن التبنة الواحدة والحية الواحدة من الشعير ولو جوز ذلك لجوزناه في هذا الإنسان الذي نشاهده الآن أنه إنما حدث الآن دفعة واحدة لا من الأبوين ولجوزنا في زيد الذي نشاهده الآن أنه ليس هو زيد الذي شاهدناه بالأمس بل هو شخص آخر حدث الآن دفعة واحدة ومعلوم أن من فتح على نفسه أبواب هذه التجويزات فإن جمهور العقلاء يحكمون عليه بالخبل والعته والجنون ولأن لو جوزنا ذلك لجوزنا أن يقال إن الجبال انقلبت ذهباً ومياه البحار انقلبت دماً ولجوزنا في التراث الذي كان في مزبلة البيت أنه انقلب دقيقاً وفي الدقيق الذي كان في البيت أنه نقلب تراباً وتجويز أمثال هذه الأشياء مما يبطل العلوم الضرورية ويوجب دخول الإنسان في السفسطة وذلك باطل قطعاً فما يفضي إليه كان أيضاً باطلاً
فإن قال قائل تجويز أمثال هذه الأشياء مختص بزمان دعوة الأنبياء وهذا لزمان ليس كذلك فقد حصل الأمان في هذا الزمان عن تجويز هذه الأحوال
فالجواب عنه من وجوه الأول أن هذا التجويز إذا كان قائماً في الجملة كان تخصيص هذا التجويز بزمان دون زمان مما لا يعرف إلا بدليل غامض فكان يلزم أن يكون الجاهل بذلك الدليل الغامض جاهلاً باختصاص ذلك التجويز بذلك الزمان المعين فكان يلزم من جمهور العقلاء الذين لا يعرفون ذلك الدليل

الغامض أن يجوزوا كل ما ذكرناه من الجهات وأن لا يكونوا قاطعين بامتناع وقوعها وحيث نراهم قاطعين بامتناع وقوعها علمنا أن ما ذكرتموه فاسد والثاني أنا لو جوزنا أمثال هذه الأحوال في زمان دعوة النبوة فإنه يبطل أيضاً به القول بصحة النبوة فإنه إذا جاز أن تنقلب العصا ثعباناً جاز في الشخص الذي شاهدناه أنه ليس هو الشخص الأول بل الله أعدم الشخص الأول دفعة واحدة وأوجد شخصاً آخر يساويه في جميع الصفات وعلى هذا التقدير فلا يمكننا أن نعلم أن هذا الذي نراه الآن هو الذي رأيناه بالأمس وحينئذ يلزم وقوع الشك في الذين رأوا موسى وعيسى ومحمداً عليهم السلام أن ذلك الشخص هل هو الذي رأوه بالأمس أم لا ومعلوم أن تجويزه يوجب القدح في النبوة والرسالة والثالث وهو أن هذا الزمان وإن لم لكن زمان جواز المعجزات إلا أنه زمان جواز الكرامات عندكم فيلزمكم تجويزه فهذا جملة الكلام في هذا المقام
واعلم أن القول بتجويز انقلاب العادات عن مجاريها صعب مشكل والعقلاء اضطربوا فيه وحصل لأهل العلم فيه ثلاثة أقوال
القول الأول قول من يجوز ذلك على الإطلاق وهو قول أصحابنا وذلك لأنهم جوزوا تولد الإنسان وسائر أنواع الحيوان والنبات دفعة واحدة من غير سابقة مادة ولا مدة ولا أصل ولا تربية وجوزوا في الجوهر الفرد أن يكون حياً عالماً قادراً عاقلاً قاهراً من غير حصول بنية ولا مزاج ولا رطوبة ولا تركيب وجوزوا في الأعمى الذي يكون بالأندلس أن يبصر في ظلمة الليل البقعة التي تكون بأقصى المشرق مع أن الإنسان الذي يكون سليم البصر لا يرى الشمس الطالعة في ضياء النهار فهذا هو قول أصحابنا
والقول الثاني قول الفلاسفة الطبيعيين وهو أن ذلك ممتنع على الإطلاق وزعموا أنه لا يجوز حدوث هذه الأشياء ودخولها في الوجود إلا على هذا الوجه المخصوص والطريق المعين وقالوا وبهذا الطريق دفعنا عن أنفسنا التزام الجهالات التي ذكرناها والمحالات التي شرحناها واعلم أنهم وإن زعموا أن ذلك غير لازم لهم إلا أنهم في الحقيقة يلزمهم ذلك لزوماً لا دافع له وتقريره أن هذه الحوادث التي تحدث في عالمنا هذا إما أن تحدث لا لمؤثر أو لمؤثر وعلى التقديرين فالقول الذي ذكرناه لازم أما على القول بأنها تحدث لا عن مؤثر فهذا القول باطل في صريح العقل إلا أن مع تجويزه فالإلزام المذكور لازم لأنا إذا جوزنا حدوث الأشياء لا عن مؤثر ولا عن موجد فكيف يكون الأمان من تجويز حدوث إنسان لا عن الأبوين ومن تجويز انقلاب الجبل ذهباً والبحر دماً فإن تجويز حدوث بعض الأشياء لا عن مؤثر ليس أبعد عند العقل من تجويز حدوث سائر الأشياء لا عن مؤثر فثبت على هذا التقدير أن الإلزام المذكور لازم أما على التقدير الثاني وهو إثبات مؤثر ومدبر لهذا العالم فذلك المؤثر إما أن يكون موجباً بالذات وأما أن يكون فاعلاً بالاختيار أما على التقدير الأول فالإلزامات المذكورة لازمة وتقريره أنه إذا كان مؤثراً ومرجحه موجباً بالذات وجب الجزم بأن اختصاص كل وقت معين بالحادث المعين الذي حدث فيه إنما كان لأجل أنه بحسب اختلاف الأشكال الفلكية تختلف حوادث هذا العالم إذ لو لم يعتبر هذا المعنى لامتنع أن تكون العلة القديمة الدائمة سبباً لحدوث المعلول الحادث المتغير
وءذا ثبت هذا فنقول كيف الأمان من أن يحدث في الفلك شكل غريب يقتضي حدوث إنسان دفعة واحدة لا عن الأبوين وانتقال مادة الجبل من الصورة الجبلية إلى الصورة الذهبية أو للصورة الحيوانية وحينئذ

تعود جميع الإلزامات المذكورة وأما على التقدير الثاني وهو أن يكون مؤثر العالم ومرجحه فاعلاً مختاراً فلا شك أن جميع الأشياء المذكورة محتملة لأنه لا يمتنع أن يقال أن ذلك الفاعل المختار يخلق بإرادته إنساناً دفعة واحدة لا عن الأبوين وانتقال مادة الجبل ذهباً والبحر دماً فثبت أن الأشياء التي ألزموها علينا واردة على جميع التقديرات وعلى جميع الفرق وأنه لا دافع لها ألبتة
والقول الثالث وهو قول المعتزلة فإنهم يجوزون انخراق العادات وانقلابها عن مجاريها في بعض الصور دون بعض فأكثر شيوخهم يجوزون حدوث الإنسان دفعة واحدة لا عن الأبوين ويجوزون انقلاب الماء ناراً وبالعكس ويجوزون حدوث الزرع لا عن سابقة بذر ثم قالوا إنه لا يجوز أن يكون الجوهر الفرد موصوفاً بالعلم والقدرة والحياة بل صحة هذه الأشياء مشروطة بحصول بنية مخصوصة ومزاج مخصوص وزعموا أن عند كون الحاسة سليمة وكون المرئي حاضراً وعدم القرب القريب والبعد البعيد يجب حصول الإدراك وعند فقدان أحد هذه الشروط يمتنع حصول الإدراك وبالجملة فالمعتزلة في بعض الصور لا يعتبرون مجاري العادات ويزعمون أن انقلابها ممكن وانخراقها جائز وفي سائر الصور يزعمون أنها واجبة ويمتنع زوالها وانقلابها وليس لهم بين الناس قانون مضبوط ولا ضابط معلوم فلا جرم كان قولهم أدخل الأقاويل في الفساد
إذا عرفت هذه التفاصيل فنقول ذوات الأجسام متماثلة في تمام الماهية وكل ما صح على الشيء صح على مثله فوجب أن يصح على كل جسم ما صح على غيره فإذا صح على بعض الأجسام صفة من الصفات وجب أن يصح على كلها مثل تلك الصفة وإذا كان كذلك كان جسم العصا قابلاً للصفات التي باعتبارها تصير ثعباناً وإذا كان كذلك كان انقلاب العصا ثعباناً أمراً ممكناً لذاته وثبت أنه تعالى قادر على جميع الممكنات فلزم القطع بكونه تعالى قادراً على قلب العصا ثعباناً وذلك هو المطلوب وهذا الدليل موقوف على إثبات مقدمات ثلاث إثبات أن الأجسام متماثلة في تمام الذات وإثبات أن حكم الشيء حكم مثله وإثبات أنه تعالى قادر على كل الممكنات ومتى قامت الدلالة على صحة هذه المقدمات الثلاثة فقد حصل المطلوب التام والله أعلم قوله فَإِذَا هِى َ أي العصا وهي مؤنثة والثعبان الحية الضخمة الذكر في قول جميع أهل اللغة فأما مقدارها فغير مذكور في القرآن ونقل عن المفسرين في صفتها أشياء فعن ابن عباس إنها ملأت ثمانين ذراعاً ثم شدت على فرعون لتبتلعه فوثب فرعون عن سريره هارباً وأحدث وانهزم الناس ومات منهم خمسة وعشرون ألفاً وقيل كان بين لحييها أربعون ذراعاً ووضع لحيها الأسفل على الأرض والأعلى على سور القصر وصاح فرعون يا موسى خذها فأنا أومن بك فلما أخذها موسى عادت عصا كما كانت وفي وصف ذلك الثعبان بكونه مبيناً وجوه الأول تمييز ذلك عما جاءت به السحرة من التمويه الذي يلتبس على من لا يعرف سببه وبذلك تتميز معجزات الأنبياء من الحيل والتمويهات والثاني في المراد أنهم شاهدوا كونه حية لم يشتبه الأمر عليهم فيه الثالث المراد أن ذلك الثعبان أبان قول موسى عليه السلام عن قول المدعي الكاذب
وأما قوله وَنَزَعَ يَدَهُ فالنزع في اللغة عبارة عن إخراج الشيء عن مكانه فقوله وَنَزَعَ يَدَهُ أي أخرجها من جيبه أو من جناحه بدليل قوله تعالى وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ وقوله وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ

وقوله فَإِذَا هِى َ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ قال ابن عباس وكان لها نور ساطع يضيء ما بين السماء والأرض
واعلم أنه لما كان البياض كالعيب بين الله تعالى في غير هذه الآية أنه كان من غير سوء
فإن قيل بم يتعلق قوله لِلنَّاظِرِينَ
قلنا يتعلق بقوله بَيْضَاء والمعنى فإذا هي بيضاء للنظارة ولا تكون بيضاء للنظارة إلا إذا كان بياضها بياضاً عجيباً خارجاً عن العادة يجتمع الناس للنظر إليه كما تجتمع النظارة للعجائب وبقي ههنا مباحث فأولها أن انقلاب العصا ثعباناً من كم وجه يدل على المعجز والثاني أن هذا المعجز كان أعظم أم اليد البيضاء وقد استقصينا الكلام في هذين المطلوبين في سورة طه والثالث أن المعجز الواحد كان كافياً فالجمع بينهما كان عبثاً
وجوابه أن كثرة الدلائل توجب القوة في اليقين وزوال الشك ومن الملحدين من قال المراد بالثعبان وباليد البيضاء شيء واحد وهو أن حجة موسى عليه السلام كانت قوية ظاهرة قاهرة فتلك الحجة من حيث إنها أبطلت أقوال المخالفين وأظهرت فسادها كانت كالثعبان العظيم الذي يتلقف حجج المبطلين ومن حيث كانت ظاهرة في نفسها وصفت باليد البيضاء كما يقال في العرف لفلان يد بيضاء في العلم الفلاني أي قوة كاملة ومرتبة ظاهرة واعلم أن حمل هذين المعجزين على هذا الوجه يجري مجرى دفع التواتر وتكذيب الله ورسوله ولما بينا أن انقلاب العصا حية أمر ممكن في نفسه فأي حامل يحملنا على المصير إلى هذا التأويل ولما ذكر الله تعالى أن موسى عليه السلام أظهر هذين النوعين من المعجزات حكى عن قوم فرعون أنهم قالوا إِنَّ هَاذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ وذلك لأن السحر كان غالباً في ذلك الزمان ولا شك أن مراتب السحرة كانت متفاضلة متفاوتة ولا شك أنه يحصل فيهم من يكون غاية في ذلك العلم ونهاية فيه فالقوم زعموا أن موسى عليه السلام لكونه في النهاية من علم السحر أتى بتلك الصفة ثم ذكروا أنه إنما أتى بذلك السحر لكونه طالباً للملك والرياسة
فإن قيل قوله إِنَّ هَاذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ حكاه الله تعالى في سورة الشعراء أنه قاله فرعون لقومه وحكى ههنا أن قوم فرعون قالوه فكيف الجمع بينهما وجوابه من وجهين الأول لا يمتنع أنه قد قاله هو وقالوه هم فحكى الله تعالى قوله ثم وقولهم ههنا والثاني لعل فرعون قاله ابتداء فتلقنه الملأ منه فقالوه لغيره أو قالوه عنه لسائر الناس على طريق التبليغ فإن الملوك إذا رأوا رأياً ذكروه للخاصة وهم يذكرونه للعامة فكذا ههنا
وأما قوله فَمَاذَا تَأْمُرُونَ فقد ذكر الزجاج فيه ثلاثة أوجه الأول أن كلام الملأ من قوم فرعون تم عند قوله يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ ثم عند هذا الكلام قال فرعون مجيباً لهم فَمَاذَا تَأْمُرُونَ واحتجوا على صحة هذا القول بوجهين أحدهما أن قوله فَمَاذَا تَأْمُرُونَ خطاب للجمع لا للواحد فيجب أن يكون هذا كلام فرعون للقوم أما لو جعلناه كلام القوم مع فرعون لكانوا قد خاطبوه بخطاب الواحد لا بخطاب الجمع وأجيب عنه بأنه يجوز أن يكونوا خاطبوه بخطاب الجمع تفخيماً لشأنه لأن العظيم إنما يكنى عنه بكناية الجمع كما في قوله تعالى إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذّكْرَ ( الحجر 9 ) إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً

( نوح 1 ) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَة ِ الْقَدْرِ ( القدر 1 )
والحجة الثانية أنه تعالى لما ذكر قوله فَمَاذَا تَأْمُرُونَ قال بعده قَالُواْ أَرْجِهْ ولا شك أن هذا كلام القوم وجعله جواباً عن قولهم فَمَاذَا تَأْمُرُونَ فوجب أن يكون القائل لقوله فَمَاذَا تَأْمُرُونَ غير الذي قالوا أرجه وذلك يدل على أن قوله فَمَاذَا تَأْمُرُونَ كلام لغير الملأ من قوم فرعون وأجيب عنه بأنه لا يبعد أن القوم قالوا إِنَّ هَاذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ثم قالوا لفرعون ولأكابر خدمه فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ثم أتبعوه بقولهم أَرْجِهْ وَأَخَاهُ فإن الخدم والأتباع يفوضون الأمر والنهي إلى المخدوم والمتبوع أولاً ثم يذكرون ما حضر في خواطرهم من المصلحة
والقول الثاني أن قوله فَمَاذَا تَأْمُرُونَ من بقية كلام القوم واحتجوا عليه بوجهين الأول أنه منسوق على كلام القوم من غير فاصل فوجب أن يكون ذلك من بقية كلامهم والثاني أن الرتبة معتبرة في الأمر فوجب أن يكون قوله فَمَاذَا تَأْمُرُونَ خطاباً من الأدنى مع الأعلى وذلك يوجب أن يكون هذا من بقية كلام فرعون معه
وأجيب عن هذا الثاني بأن الرئيس المخدوم قد يقول للجمع الحاضر عنده من رهطه ورعيته ماذا تأمرون ويكون غرضه منه تطييب قلوبهم وإدخال السرور في صدورهم وأن يظهر من نفسه كونه معظماً لهم ومعتقداً فيهم ثم إن القائلين بأن هذا من بقية كلام قوم فرعون ذكروا وجهين أحدهما أن المخاطب بهذا الخطاب هو فرعون وحده فإنه يقال للرئيس المطاع ما ترون في هذه الواقعة أي ما ترى أنت وحدك والمقصود أنك وحدك قائم مقام الجماعة والغرض منه التنبيه على كماله ورفعة شأنه وحاله والثاني أن يكون المخاطب بهذا الخطاب هو فرعون وأكابر دولته وعظماء حضرته لأنهم هم المستقلون بالأمر والنهي والله أعلم
قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِى الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ وَجَآءَ السَّحَرَة ُ فِرْعَوْنَ قَالْوا إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ
اعلم أن في الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع والكسائي أَرْجِهْ بغير همز وكسر الهاء والإشباع وقرأ عاصم وحمزة أَرْجِهْ بغير الهمز وسكون الهاء وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمر وأرجئه بالهمز وضم الهاء ثم أن ابن كثير

أشبع الهاء على أصله والباقون لا يشبعون قال الواحدي رحمه الله قَالُواْ أَرْجِهْ مهموز وغير مهموز لغتان يقال أرجأت الأمر وأرجيته إذا أخرته ومنه قوله تعالى وَءاخَرُونَ مُرْجَوْنَ ( التوبة 106 ) بِهَا مَن تَشَاء ( الأجزاب 51 ) قرىء في الآيتين باللغتين وأما قراءة عاصم وحمزة بغير الهمز وسكون الهاء فقال الفراء هي لغة العرب يقفون على الهاء المكني عنها في الوصل إذا تحرك ما قبلها وأنشد فيصلح اليوم ويفسده غداً
قال وكذلك يفعلون بهاء التأنيث فيقولون هذه طلحة قد أقبلت وأنشد لما رأى أن لا دعه ولا شبع
ثم قال الواحدي ولا وجه لهذا عند البصريين في القياس وقال الزجاج هذا شعر لا نعرف قائله ولو قاله شاعر مذكور لقيل له أخطأت
المسألة الثانية في تفسير قوله أَرْجِهْ قولان الأول الإرجاء التأخير فقوله أَرْجِهْ أي أخره ومعنى أخره أي أخر أمره ولا تعجل في أمره بحكم فتصير عجلتك حجة عليك والمقصود أنهم حاولوا معارضة معجزته بسحرهم ليكون ذلك أقوى في إبطال قول موسى عليه السلام
والقول الثاني وهو قول الكلبي وقتادة أَرْجِهْ احبسه قال المحققون هذا القول ضعيف لوجهين الأول أن الإرجاء في اللغة هو التأخير لا الحبس والثاني أن فرعون ما كان قادراً على حبس موسى بعد ما شاهد حال العصا
أما قوله وَأَرْسِلْ فِى الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ففيه مسألتان
المسألة الأولى هذه الآية تدل على أن السحرة كانوا كثيرين في ذلك الزمان وإلا لم يصح قوله وَأَرْسِلْ فِى الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ويدل على أن في طباع الخلق معرفة المعارفة وإنها إذا أمكنت فلا نبوة وإذا تعذرت فقد صحت النبوة وأما بيان أن السحر ما هو وهل له حقيقة أم لا بل هو محض التمويه فقد سبق الاستقصاء فيه في سورة البقرة
المسألة الثانية نقل الواحدي عن أبي القاسم الزجاجي أنه قال ختلف أصحابنا في المدينة على ثلاثة أقوال
القول الأول أنها فعيلة لأنها مأخوذة من قولهم مدن بالمكان يمدن مدونا إذا أقام به وهذا القائل يستدل بإطباق القراء على همز المدائن وهي فعائل كصحائف وصحيفة وسفائن وسفينة والياء إذا كانت زائدة في الواحد همزت في الجمع كقبائل وقبيلة وإذا كانت من نفس الكلمة لم تهمز في الجمع نحو معايش ومعيشة
والقول الثاني أنها مفعلة وعلى هذا الوجه فمعنى المدينة المملوكة من دانه يدينه فقولنا مدينة من دان مثل معيشة من عاش وجمعها مداين على مفاعل كمعايش غير مهموز ويكون اسماً لمكان والأرض التي دانهم السلطان فيها أي ساسهم وقهرهم

والقول الثالث قال المبرد مدينة أصلها مديونة من دانه إذا قهره وساسه فاستثقلوا حركة الضمة على الياء فسكنوها ونقلوا حركتها إلى ما قبلها واجتمع ساكنان الواو المزيدة التي هي واو المفعول والياء التي هي من نفس الكلمة فحذفت الواو لأنها زائدة وحذف الزائد أولى من حذف الحرف الأصلي ثم كسروا الدال لتسلم الياء فلا تنقلب واواً لانضمام ما قبلها فيختلط ذوات الواو بذوات الياء وهكذا القول في المبيع والمخيط والمكيل ثم قال الواحدي والصحيح أنها فعيلة لاجتماع القراء على همز المدائن
المسألة الثالثة وَأَرْسِلْ فِى الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ يريد وأرسل في مدائن صعيد مصر رجالاً يحشروا إليك ما فيها من السحرة قال ابن عباس وكان رؤساء السحرة بأقصى مدائن الصعيد ونقل القاضي عن ابن عباس أنهم كانوا سبعين ساحراً سوى رئيسهم وكان الذي يعلمهم رجلاً مجوسياً من أهل نينوى بلدة يونس عليه السلام وهي قرية بالموصل وأقول هذا النقل مشكل لأن المجوس أتباع زرادشت وزرادشت إنما جاء بعد مجيء موسى عليه السلام
أما قوله يَأْتُوكَ بِكُلّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي بكل سحار والباقون بكل ساحر فمن قرأ سحار فحجته أنه قد وصف بعليم ووصفه به يدل على تناهيه فيه وحذقه به فحسن لذلك أن يذكر بالاسم الدال على المبالغة في السحر ومن قرأ ساحر فحجته قوله وَأُلْقِى َ السَّحَرَة ُ ( الأعراف 120 ) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَة َ ( الشعراء 40 ) والسحرة جمع ساحر مثل كتبه وكاتب وفجرة وفاجر واحتجوا أيضاً بقوله سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ ( الأعراف 116 ) واسم الفاعل من سحروا ساحر
المسألة الثانية الباء في قوله بِكُلّ سَاحِرٍ يحتمل أن تكون بمعنى مع ويحتمل أن تكون باء التعدية والله أعلم
المسألة الثالثة هذه الآية تدل على أن السحرة كانوا كثيرين في ذلك الزمان وهذا يدل على صحة ما يقوله المتكلمون من أنه تعالى يجعل معجزة كل نبي من جنس ما كان غالباً على أهل ذلك الزمان فلما كان السحر غالباً على أهل زمان موسى عليه السلام كانت معجزته شبيهة بالسحر وإن كان مخالفاً للسحر في الحقيقة ولما كان الطب غالباً على أهل زمان عيسى عليه السلام كانت معجزته من جنس الطب ولما كانت الفصاحة غالبة على أهل زمان محمد عليه الصلاة والسلام لا جرم كانت معجزته من جنس الفصاحة
ثم قال تعالى وَجَاء السَّحَرَة ُ فِرْعَوْنَ قَالْواْ إِنَّ لَنَا لاجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وابن كثير وحفص عن عاصم أن لنا لأجراً بكسر الألف على الخبر والباقون على الاستفهام ثم اختلفوا فقرأ أبو عمرو بهمزة ممدودة على أصله والباقون بهمزتين قال الواحدي رحمه الله الاستفهام أحسن في هذا الموضع لأنهم أرادوا أن يعلموا هل لهم أجر أم لا ويقطعون على أن لهم الأجر ويقوي ذلك إجماعهم في سورة الشعراء على الهمز للاستفهام وحجة نافع وابن كثير على أنهما أرادا همزة الاستفهام ولكنهما حذفا ذلك من اللفظ وقد تحذف همزة الاستفهام من اللفظ وإن كانت باقية في المعنى كقوله تعالى وَتِلْكَ نِعْمَة ٌ تَمُنُّهَا عَلَى َّ ( الشعراء 22 ) فإنه يذهب كثير من الناس إلى أن معناه

أو تلك بالاستفهام وكما في قوله هَاذَا رَبّى ( الأنعام 77 78 ) والتقدير أهذا ربي وقيل أيضاً المراد أن السحرة أثبتوا لأنفسهم أجراً عظيماً لأنهم قالوا لا بد لنا من أجر والتنكير للتعظيم كقول العرب إن له لإبلاً وإن له لغنماً يقصدون الكثرة
المسألة الثانية لقائل أن يقول هلا قيل وجاء السحرة فرعون قالوا )
وجوابه هو على تقدير سائل سأل ما قالوا إذ جاؤه
فأجيب بقوله قالوا أئن لنا لأجراً أي جعلا على الغلبة
فإن قيل قوله وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ معطوف وما المعطوف عليه
وجوابه أنه معطوف على محذوف سد مسده حرف الإيجاب كأنه قال إيجاباً لقولهم إن لنا لأجراً نعم إن لكم لأجراً وإنكم لمن المقربين أراد أني لا أقتصر بكم على الثواب بل أزيدكم عليه وتلك الزيادة إني أجعلكم من المقربين عندي قال المتكلمون وهذا يدل على أن الثواب إنما يعظم موقعه إذا كان مقروناً بالتعظيم والدليل عليه أن فرعون لما وعدهم بالأجر قرن به ما يدل على التعظيم وهو حصول القربة
المسألة الثالثة الآية تدل على أن كل الخلق كانوا عالمين بأن فرعون كان عبداً ذليلاً مهيناً عاجزاً وإلا لما احتاج إلى الاستعانة بالسحرة في دفع موسى عليه السلام وتدل أيضاً على أن السحرة ما كانوا قادرين على قلب الأعيان وإلا لما احتاجوا إلى طلب الأجر والمال من فرعون لأنهم لو قدروا على قلب الأعيان فلم لم يقبلوا التراب ذهباً ولم لم ينقلوا ملك فرعون إلى أنفسهم ولم لم يجعلوا أنفسهم ملوك العالم ورؤساء الدنيا والمقصود من هذه الآيات تنبيه الإنسان لهذه الدقائق وأن لا يغتر بكلمات أهل الأباطيل والأكاذيب والله أعلم
قَالُواْ يامُوسَى إِمَّآ أَن تُلْقِى َ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ قَالَ أَلْقَوْاْ فَلَمَّآ أَلْقُوْاْ سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَآءُو بِسِحْرٍ عَظِيمٍ وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِى َ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ
في الآية مسائل

المسألة الأولى قال الفراء والكسائي في باب ( أما وإما ) إذا كنت آمراً أو ناهياً أو مخبراً فهي مفتوحة وإذا كانت مشترطاً أو شاكاً أو مخيراً فهي مكسورة تقول في المفتوحة أما الله فاعبدوه وأما الخمر فلا تشربوها وأما زيد فقد خرج
وأما النوع الثاني فتقول إذا كنت مشترطاً إما تعطين زيداً فإنه يشكرك قال الله تعالى فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِى الْحَرْبِ فَشَرّدْ ( الأنفال 57 ) وتقول في الشك لا أدري من قام إما زيد وإما عمرو وتقول في التخيير لي بالكوفة دار فإما أن أسكنها وإما أن أبيعها والفرق بين إما إذا أتت للشك وبين أو أنك إذا قلت جاءت زيد أو عمرو فقد يجوز أن تكون قد بنيت كلامك على اليقين ثم أدركك الشك فقلت أو عمرو فصار الشك فيهما جميعاً فأول الإسمين في ( أو ) يجوز أن يكون بحيث يحسن السكوت عليه ثم يعرض الشك فتستدرك بالاسم الآخر ألا ترى أنك تقول قام أخوك وتسكت ثم تشك فتقول أو أبوك وإذا ذكرت إما فإنما تبني كلامك من أول الأمر على الشك وليس يجوز أن تقول ضربت إما عبد الله وتسكت وأما دخول ءانٍ في قوله إِمَّا أَن تُلْقِى َ وسقوطها من قوله إِمَّا يُعَذّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ( التوبة 106 ) فقال الفراء أدخل ءانٍ في أَمَّا في هذه الآية لأنها في موضع أمر بالاختيار وهي في موضع نصب كقول القائل اختر ذا أو ذا كأنهم قالوا اختر أن تلقي أو نلقي وقوله إِمَّا يُعَذّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ليس فيه أمر بالتخيير ألا ترى أن الأمر لا يصلح ههنا فلذلك لم يكن فيه ( أن ) والله أعلم
المسألة الثانية قوله إِمَّا أَن تُلْقِى َ يريد عصاه وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ أي ما معنا من الحبال والعصي فمفعول الإلقاء محذوف وفي الآية دقيقة أخرى وهي أن القوم راعوا حسن الأدب حيث قدموا موسى عليه السلام في الذكر وقال أهل التصوف إنهم لما راعوا هذا الأدب لا جرم رزقهم الله تعالى الإيمان ببركة رعاية هذا الأدب ثم ذكروا ما يدل على رغبتهم في أن يكون ابتداء الإلقاء من جانبهم وهو قولهم وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ لأنهم ذكروا الضمير المتصل وأكدوه بالضمير المنفصل وجعلوا الخبر معرفة لا نكرة
واعلم أن القوم لما راعوا الأدب أولاً وأظهروا ما يدل عى رغبتهم في الابتداء بالإلقاء قال موسى عليه السلام ألقوا ما أنتم ملقون وفيه سؤال وهو أن إلقاءهم حبالهم وعصيهم معارضة للمعجزة بالسحر وذلك كفر والأمر بالكفر كفر وحيث كان كذلك فكيف يجوز لموسى عليه السلام أن يقول ألقوا
والجواب عنه من وجوه الأول أنه عليه الصلاة والسلام إنما أمرهم بشرط أن يعلموا في فعلهم أن يكون حقاً فإذا لم يكن كذلك فلا أمر هناك كقول القائل منا لغيره اسقني الماء من الجرة فهذا الكلام إنما يكون أمراً بشرط حصول الماء في الجرة فأما إذا لم يكن فيها ماء فلا أمر ألبتة كذلك ههنا الثاني أن القوم إنما جاؤوا لإلقاء تلك الحبال والعصي وعلم موسى عليه السلام أنهم لا بد وأن يفعلوا ذلك وإنما وقع التخيير في التقديم والتأخير فعند ذلك أذن لهم في التقديم ازدراء لشأنهم وقلة مبالاة بهم وثقة بما وعده الله تعالى به من التأييد والقوة وأن المعجزة لا يغلبها سحر أبداً الثالث أنه عليه الصلاة والسلام كان يريد إبطال ما أتوا به من السحر وإبطاله ما كان يمكن إلا بإقدامهم على إظهاره فأذن لهم في الإتيان بذلك السحر ليمكنه الإقدام على إبطاله ومثاله أن من يريد سماع شبهة ملحد ليجيب عنها ويكشف عن ضعفها وسقوطها يقول له هات وقل واذكرها وبالغ في تقريرها ومراده منه أنه إذا أجاب عنها بعد هذه المبالغة

فإنه يظهر لكل أحد ضعفها وسقوطها فكذا ههنا والله أعلم
ثم قال تعالى فَلَمَّا أَلْقُوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ واحتج به القائلون بأن السحر محض التمويه قال القاضي لو كان السحر حقاً لكانوا قد سحروا قلوبهم لا أعينهم فثبت أن المراد أنهم تخيلوا أحوالاً عجيبة مع أن الأمر في الحقيقة ما كان على وفق ما تخيلوه قال الواحدي بل المراد سحروا أعين الناس أي قلبوها عن صحة أدراكها بسبب تلك التمويهات وقيل إنهم أتوا بالحبال والعصي ولطخوا تلك الحبال بالزئبق وجعلوا الزئبق في دواخل تلك العصي فلما أثر تسخين الشمس فيها تحركت والتوى بعضها على بعض وكانت كثيرة جداً فالناس تخيلوا أنها تتحرك وتلتوي باختيارها وقدرتها
وأما قوله وَاسْتَرْهَبُوهُمْ فالمعنى أن العوام خافوا من حركات تلك الحبال والعصي قال المبرد استرهبوهم أرهبوهم والسين زائدة قال الزجاج استدعوا رهبة الناس حتى رهبهم الناس وذلك بأن بعثوا جماعة ينادون عند إلقاء ذلك أيها الناس احذروا فهذا هو الاسترهاب وروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه خيل إلى موسى عليه السلام أن حبالهم وعصيهم حيات مثل عصا موسى فأوحى الله عز وجل إليه مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ قال المحققون إن هذا غير جائز لأنه عليه السلام لما كان نبياً من عند الله تعالى كان على ثقة ويقين من أن القوم لم يغالبوه وهو عالم بأن ما أتوا به على وجه المعارضة فهو من باب السحر والباطل ومع هذا الجزم فإنه يمتنع حصول الخوف
فإن قيل أليس أنه تعالى قال فَأَوْجَسَ فِى نَفْسِهِ خِيفَة ً مُّوسَى ( طه 67 )
قلنا ليس في الآية أن هذه الخيفة إنما حصلت لأجل هذا السبب بل لعله عليه السلام خاف من وقوع التأخير في ظهور حجة موسى عليه السلام على سحرهم
ثم إنه تعالى قال في صفة سحرهم وَجَاءو بِسِحْرٍ عَظِيمٍ روي أن السحرة قالوا قد علمنا سحراً لا يطيقه سحرة أهل الأرض إلا أن يكون أمراً من السماء فإنه لا طاقة لنا به وروي أنهم كانوا ثمانين ألفاً وقيل سبعين ألفاً وقيل بضعة وثلاثين ألفاً واختلفت الروايات فمن مقل ومن مكثر وليس في الآية ما يدل على المقدار والكيفية والعدد
ثم قال تعالى وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ يحتمل أن يكون المراد من هذا الوحي حقيقة الوحي وروى الواحدي عن ابن عباس أنه قال يريد وألهمنا موسى أن أَلْقِ عَصَاكَ
ثم قال فَإِذَا هِى َ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ وفيه مسائل
المسألة الأولى فيه حذف وإضمار والتقدير فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِى َ تَلْقَفْ
المسألة الثانية قرأ حفص عن عاصم تَلْقَفْ ساكنة اللام خفيف القاف والباقون بتشديد القاف مفتوحة اللام وروي عن ابن كثير تَلْقَفْ بتشديد القاف وعلى هذا الخلاف في طه والشعراء أما من خفف فقال ابن السكيت اللقف مصدر لقفت الشيء ألقفه لقفاً إذا أخذته فأكلته أو ابتلعته ورجل لقف سريع الأخذ وقال اللحياني ومثله ثقف يثقف ثقاً وثقيف كلقيف بين الثقافة واللقافة وأما القراءة بالتشديد فهو من تلقف يتلقف وأما قراءة بن كثير فأصلها تتلقف أدغم إحدى التاءين في الأخرى

المسألة الثالثة قال المفسرون لما ألقى موسى العصا صارت حية عظيمة حتى سدت الأفق ثم فتحت فكها فكان ما بين فكيها ثمانين ذراعاً وابتلعت ما ألقوا من حبالهم وعصيهم فلما أخذها موسى صارت عصا كما كانت من غير تفاوت في الحجم والمقدار أصلاً واعلم أن هذا مما يدل على وجود الإله القادر المختار وعلى المعجز العظيم لموسى عليه السلام وذلك لأن ذلك الثعبان العظيم لما ابتلعت تلك الحبال والعصي مع كثرتها ثم صارت عصا كما كانت فهذا يدل على أنه تعالى أعدم أجسام تلك الحبال والعصي أو على أنه تعالى فرق بين تلك الأجزاء وجعلها ذرات غير محسوسة وأذهبها في الهواء بحيث لا يحس بذهابها وتفرقها وعلى كلا التقديرين فلا يقدر على هذه الحالة أحد إلا الله سبحانه وتعالى
المسألة الرابعة قوله مَا يَأْفِكُونَ فيه وجهان الأول معنى الإفك في اللغة قلب الشيء عن وجهه ومنه قيل للكذب إفك لأنه مقلوب عن وجهه قال ابن عباس رضي الله عنهما مَا يَأْفِكُونَ يريد يكذبون والمعنى أن العصا تلقف ما يأفكونه أي يقلبونه عن الحق إلى الباطل ويزورونه وعلى هذ التقدير فلفظة مَا موصوله والثاني أن يكون مَا مصدرية والتقدير فإذا هي تلقف إفكهم تسمية للمأفوك بالإفك
ثم قال تعالى فَوَقَعَ الْحَقُّ قال مجاهد والحسن ظهر وقال الفراء فتبين الحق من السحر قال أهل المعاني الوقوع ظهور الشيء بوجوده نازلاً إلى مستقره وسبب هذا الظهور أن السحرة قالوا لوكان ما صنع موسى سحراً لبقيت حبالنا وعصينا ولم تفقد فلما فقدت ثبت أن ذلك إنما حصل بخلق الله سبحانه وتعالى وتقديره لا لأجل السحر فهذا هو الذي لأجله تميز المعجز عن السحر قال القاضي قوله فَوَقَعَ الْحَقُّ يفيد قوة الثبوت والظهور بحيث لا يصح فيه البطلان كما لا يصح في الواقع أن يصير لا واقعاً
فإن قيل قوله فَوَقَعَ الْحَقُّ يدل على قوة هذا الظهور فكان قوله وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ تكريراً من غير فائدة ا
قلنا المراد أن مع ثبوت هذا الحق زالت الأعيان التي أفكوها وهي تلك الحبال والعصي فعند ذلك ظهرت الغلبة فلهذا قال تعالى فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ لأنه لا غلبة أظهر من ذلك وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ لأنه لا ذل ولا صغار أعظم في حق المبطل من ظهور بطلان قوله وحجته على وجه لا يمكن فيه حيلة ولا شبهة أصلاً قال الواحدي لفظة مَا في قوله وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ يجوز أن تكون بمعنى ( الذي ) فيكون المعنى بطل الحبال والعصي الذي عملوا به السحر أي زال وذهب بفقدانها ويجوز أن تكون بمعنى المصدر كأنه قيل بطل عملهم والله أعلم
وَأُلْقِى َ السَّحَرَة ُ سَاجِدِينَ قَالُوا ءَامَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ
في الآية مسائل

المسألة الأولى قال المفسرون إن تلك الحبال والعصي كانت حمل ثلثمائة بعير فلما ابتلعها ثعبان موسى عليه السلام وصارت عصا كما كانت قال بعض السحرة لبعض هذا خارج عن السحر بلهو أمر إلهي فاستدلوا به على أن موسى عليه السلام نبي صادق من عند الله تعالى قال المتكلمون وهذه الآية من أعظم الدلائل على فضيلة العلم وذلك لأن أولئك الأقوام كانوا عالمين بحقيقة السحر واقفين على منتهاه فلما كانوا كذلك ووجدوا معجزة موسى عليه السلام خارجة عن حد السحر علموا أنه من المعجزات الإلهية لا من جنس التمويهات البشرية ولو أنهم ما كانوا كاملين في علم السحر لما قدروا على ذلك الاستدلال لأنهم كانوا يقولون لعله أكمل منا في علم السحر فقدر على ما عجزنا عنه فثبت أنهم كانوا كاملين في علم السحر فلأجل كمالهم في ذلك العلم انتقلوا من الكفر إلى الإيمان فإذا كان حال علم السحر كذلك فما ظنك بكمال حال الإنسان في علم التوحيد
المسألة الثانية احتج أصحابنا بقوله تعالى وَأُلْقِى َ السَّحَرَة ُ سَاجِدِينَ قالوا دلت هذه الآية على أن غيرهم ألقاهم ساجدين وما ذاك إلا الله رب العالمين فهذا يدل على أن فعل العبد خلق الله تعالى قال مقاتل ألقاهم الله تعالى ساجدين وقال المعتزلة الجواب عنه من وجوه الأول أنهم لما شاهدوا الآيات العظيمة والمعجزات القاهرة لم يتمالكوا أن وقعوا ساجدين فصار كأن ملقياً ألقاهم الثاني قال الأخفش من سرعة ما سجدوا صاروا كأنهم ألقاهم غيرهم لأنهم لم يتمالكوا أن وقعوا ساجدين الثالث أنه ليس في الآية أنه ألقاهم ملق إلى السجود إلا أنا نقول إن ذلك الملقي هو أنفسهم
والجواب أن خالق تلك الداعية في قلوبهم هو الله تعالى وإلا لافتقروا في خلق تلك الداعية الجازمة إلى داعية أخرى ولزم التسلسل وهو محال ثم أن أصل تلك القدرة مع تلك الداعية الجازمة تصير موجبة للفعل وخالق ذلك الموجب هو الله تعالى فكان ذلك الفعل والأثر مسنداً إلى الله تعالى والله أعلم
المسألة الثالثة أنه تعالى ذكر أولاً أنهم صاروا ساجدين ثم ذكر بعده أنهم قالوا بِرَبّ الْعَالَمِينَ رَبّ فما الفائدة فيه مع أن الأيمان يجب أن يكون متقدماً على السجود وجوابه من وجوه الأول أنهم لما ظفروا بالمعرفة سجدوا لله تعالى في الحال وجعلوا ذلك السجود شكراً لله تعالى على الفوز بالمعرفة والإيمان وعلامة أيضاً على انقلابهم من الكفر إلى الإيمان وإظهار الخضوع والتذلل لله تعالى فكأنهم جعلوا ذلك السجود الواحد علامة على هذه الأمور الثلاثة على سبيل الجمع
الوجه الثاني لا يبعد أنهم عند الذهاب إلى السجود قالوا بِرَبّ الْعَالَمِينَ رَبّ وعلى هذا التقدير فالسؤال زائل والوجه الصحيح هو الأول
المسألة الرابعة احتج أهل التعليم بهذه الآية فقالوا الدليل على أن معرفة الله لا تحصل إلا بقول النبي إن أولئك السحرة لما قالوا بِرَبّ الْعَالَمِينَ رَبّ لم يتم إيمانهم فلما قالوا رَبّ مُوسَى وَهَارُونَ تم إيمانهم وذلك يدل على قولنا
وأجاب العلماء عنه بأنهم لما قالوا بِرَبّ الْعَالَمِينَ رَبّ قال لهم فرعون إياي تعنون فلما قالوا رَبّ مُوسَى قال إياي تعنون لأني أنا الذي ربيت موسى فلما قالوا وَهَارُونَ زالت الشبهة وعرف الكل أنهم كفروا بفرعون وآمنوا بإله السماء وقيل إنما خصهما بالذكر بعد دخولهما في جملة العالمين لأن التقدير آمنا

برب العالمين وهو الذي دعا إلى الإيمان به موسى وهرون وقيل خصهما بالذكر تفضيلاً وتشريفاً كقوله وَمَلئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ( البقرة 98 )
قَالَ فِرْعَوْنُ ءَامَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَاذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِى الْمَدِينَة ِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَآ أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ قَالُوا إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ وَمَا تَنقِمُ مِنَّآ إِلاَ أَنْ ءَامَنَّا بِأايَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَآءَتْنَا رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ عاصم في رواية حفص أَمِنتُمْ بهمزة واحدة على لفظ الخبر وكذلك في طه وَالشُّعَرَاء وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي أَءمِنتُمْ بهمزتين في جميع القرآن وقرأ الباقون بهمزة واحدة ممدودة في جميع على الاستفهام قال الفراء أما قراءة حفص أَمِنتُمْ بلفظ الخبر من غير مد فالوجه فيها أنه يخبرهم بإيمانهم على وجه التقريع لهم والإنكار عليهم وأما القراءة بالهمزتين فأصله أَءمِنتُمْ على وزن أفعلتم
المسألة الثانية اعلم أن فرعون لما رأى أن أعلم الناس بالسحر أقر بنبوة موسى عليه السلام عند اجتماع الخلق العظيم خاف أن يصير ذلك حجة قوية عند قومه على صحة نبوة موسى عليه السلام فألقى في الحال نوعين من الشبهة إلى إسماع العوام لتصير تلك الشبهة مانعة للقوم من اعتقاد صحة نبوة موسى عليه السلام
فالشبهة الأولى قوله إِنَّ هَاذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِى الْمَدِينَة ِ والمعنى أن إيمان هؤلاء بموسى عليه السلام ليس لقوة الدليل بل لأجل أنهم تواطئوا مع موسى أنه إذا كان كذا وكذا فنحن نؤمن بك ونقر بنبوتك فهذا الإيمان إنما حصل بهذا الطريق
والشبهة الثانية أن غرض موسى والسحرة فيما تواطئوا عليه إخراج القوم من المدينة وإبطال ملكهم ومعلوم عند جميع العقلاء أن مفارقة الوطن والنعمة المألوفة من أصعب الأمور فجمع فرعون اللعين بين الشبهتين اللتين لا يوجد أقوى منهما في هذا الباب وروى محمد بن جرير عن السدي في حديث عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم أن موسى وأمير السحرة التقيا فقال موسى عليه

السلام أرأيتك إن غلبتك أتؤمن بي وتشهد أن ما جئت به الحق قال الساحر لآتين غداً بسحر لا يغلبه سحر فوالله لئن غلبتني لأومنن بك وفرعون ينظر إليهما ويسمع قولهما فهذا هو قول فرعون إِنَّ هَاذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ واعلم أن هذا يحتمل أنه كان قد حصل ويحتمل أيضاً أن فرعون ألقى هذا الكلام في البين ليصير صارفاً للعوام عن التصديق بنبوة موسى عليه السلام قال القاضي وقوله قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ لَكُمْ دليل على مناقضة فرعون في ادعاء الإلهية لأنه لو كان إلهاً لما جاز أن يأذن لهم في أن يؤمنوا به مع أنه يدعوهم إلى إلهية غيره ثم قال وذلك من خذلان الله تعالى الذي يظهر على المبطلين
أما قوله فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لا شبهة في أنه ابتداء وعيد ثم إنه لم يقتصر على هذا الوعيد المجمل بل فسره فقال لاقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لاَصَلّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ وقطع اليد والرجل من خلاف معروف المعنى وهو أن يقطعهما من جهتين مختلفتين أما من اليد اليمنى والرجل اليسرى أو من اليد اليسرى والرجل اليمنى وأما الصلب فمعروف فتوعدهم بهذين الأمرين العظيمين واختلفوا في أنه هل وقع ذلك منه وليس في الآية ما يدل على أحد الأمرين واحتج بعضهم على وقوعه بوجوه الأول أنه تعالى حكى عن الملأ من قوم فرعون أنهم قالوا له أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ ( الأعراف 127 ) ولو أنه ترك أولئك السحرة وقومه أحياء وما قتلهم لذكرهم أيضاً ولحذرهم عن الإفساد الحاصل من جهتهم ويمكن أن يجاب عنه بأنهم دخلوا تحت قومه فلا وجه لأفرادهم بالذكر والثاني أن قوله تعالى حكاية عنهم رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا يدل على أنه كان قد نزل بهم بلاء شديد عظيم حتى طلبوا من الله تعالى أن يصبرهم عليه ويمكن أن يجاب عنه بأنهم طلبوا من الله تعالى الصبر على الإيمان وعدم الالتفات إلى وعيده الثالث ما نقل عن ابن عباس رضي الله عنه أنه فعل ذلك وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وهذا هو الأظهر مبالغة منه في تحذير القوم عن قبول دين موسى عليه السلام وقال آخرون إنه لم يقع من فرعون ذلك بل استجاب الله تعالى لهم الدعاء في قولهم وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ لأنهم سألوه تعالى أن يكون توفيهم من جهته لا بهذا القتل والقطع وهذا الاستدلال قريب
ثم حكى تعالى عن القوم ما لا يجوز أن يقع من المؤمن عند هذا الوعيد أحسن منه وهو قولهم لفرعون وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلا أَنْ ءامَنَّا بِئَايَاتِ رَبّنَا لَمَّا جَاءتْنَا فبينوا أن الذي كان منهم لا يوجب الوعيد ولا إنزال النقمة بهم بل يقتضي خلاف ذلك وهو أن يتأسى بهم في الإقرار بالحق والاحتراز عن الباطل عند ظهور الحجة والدليل يقال نقمت أنقم إذا بالغت في كراهية الشيء وقد مر عند قوله قُلْ ياأَهْلَ أَهْلِ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا ( المائدة 59 ) قال ابن عباس يريد ما أتينا بذنب تعذبنا عليه إلا أن آمنا بآيات ربنا والمراد ما أتى به موسى عليه السلام من المعجزات القاهرة التي لا يقدر على مثلها إلا الله تعالى
ثم قالوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا معنى الإفراغ في اللغة الصب يقال درهم مفرغ إذا كان مصبوباً في قالبه وليس بمضروب وأصله من إفراغ الإناء وهو

صب ما فيه حتى يخلو الإناء وهو من الفراغ فاستعمل في الصبر على التشبيه بحال إفراغ الإلأناء قال مجاهد المعنى صب علينا الصبر عند الصلب والقطع وفي الآية فوائد
الفائدة الأولى أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا أكمل من قوله أنزل علينا صبراً لأنا ذكرنا أن إفراغ الإناء هو صب ما فيه بالكلية فكأنهم طلبوا من الله كل الصبر لا بعضه
والفائدة الثانية أن قوله صَبْراً مذكور بصيغة التنكير وذلك يدل على الكمال والتمام أي صبراً كاملاً تاماً كقوله تعالى وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَواة ٍ ( البقرة 96 ) أي على حياة كاملة تامة
والفائدة الثالثة إن ذلك الصبر من قبلهم ومن أعمالهم ثم إنهم طلبوه من الله تعالى وذلك يدل على أن فعل العبد لا يحصل إلا بتخليق الله وقضائه قال القاضي إنما سألوه تعالى الألطاف التي تدعوهم إلى الثبات والصبر وذلك معلوم في الأدعية
والجواب هذا عدول عن الظاهر ثم الدليل يأباه وذلك لأن الفعل لا يحصل إلا عند حصول الداعية الجازمة وحصولها ليس إلا من قبل الله عز وجل فيكون الكل من الله تعالى
وأما قوله وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ فمعناه توفنا على الدين الحق الذي جاء به موسى عليه السلام وفيه مسألتان
المسألة الأولى احتج أصحابنا على أن الإيمان والإسلام لا يحصل إلا بخلق الله تعالى ووجه الاستدلال به ظاهر والمعتزلة يحملونه على فعل الألطاف والكلام عليه معلوم مما سبق
المسألة الثانية احتج القاضي بهذه الآية على أن الإيمان والإسلام واحد فقال إنهم قالوا أولاً مِنَّا إِلا أَنْ ثم قالوا ثانياً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ فوجب أن يكون هذا الإسلام هو ذاك الإيمان وذلك يدل على أن أحدهما هو الآخر والله أعلم
وَقَالَ الْمَلأ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِى الأرض وَيَذَرَكَ وَءالِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَآءَهُمْ وَنَسْتَحْيِى نِسَآءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُواْ بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَة ُ لِلْمُتَّقِينَ
اعلم أن بعد وقوع هذه الواقعة لم يتعرض فرعون لموسى ولا أخذه ولا حبسه بل خلى سبيله فقال قومه له أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ
واعلم أن فرعون كان كلما رأى موسى خافه أشد الخوف فلهذا السبب لم يتعرض له إلا أن قومه لم يعرفوا ذلك فحملوه على أخذه وحبسه وقوله لِيُفْسِدُواْ فِى الاْرْضِ أي يفسدوا على الناس دينهم الذي كانوا عليه وإذا أفسدوا عليهم أديانهم توسلوا بذلك إلى أخذ الملك

أما قوله وَيَذَرَكَ فالقراءة المشهورة فيه وَيَذَرَكَ بالنصب وذكر صاحب ( الكشاف ) فيه ثلاثة أوجه أحدها أن يكون قوله وَيَذَرَكَ عطفاً على قوله لِيُفْسِدُواْ لأنه إذا تركهم ولم يمنعهم كان ذلك مؤدياً إلى تركه وترك آلهته فكأنه تركهم لذلك وثانيها أنه جواب للاستفهام بالواو وكما يجاب بالفاء مثل قول الحطيئة ألم أك جاركم ويكون بيني
وبينكم المودة والآخاء
والتقدير أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض فيذرك وآلهتك قال الزجاج والمعنى أيكون منك أن تذر موسى وأن يذرك موسى وثالثها النصب بإضمار أن تقديره أتذر موسى وقومه ليفسدوا وأن يذرك وآلهتك قال صاحب ( الكشاف ) وقرىء وَيَذَرَكَ وَءالِهَتَكَ بالرفع عطفاً على أَتَذَرُ بمعنى أتذره ويذرك أي انطلق له وذلك يكون مستأنفاً أو حالاً على معنى أتذره هو يذرك وإلهتك وقرأ الحسن وَيَذَرَكَ بالجزم وقرأ أنس ونذرك بالنون والنصب أي يصرفنا عن عبادتك فنذرها
وأما قوله وَيَذَرَكَ وَءالِهَتَكَ قال أبو بكر الأنباري كان ابن عمر ينكر قراءة العامة ويقرأ إلاهتك أي عبادتك ويقول إن فرعون كان يعبد ولا يعبد قال ابن عباس أما قراءة العامة وَءالِهَتَكَ فالمراد جمع إله وعلى هذا التقدير فقد اختلفوا فيه فقيل إن فرعون كان قد وضع لقومه أصناماً صغاراً وأمرهم بعبادتها وقال أَنَاْ رَبُّكُمُ الاْعْلَى ورب هذه الأصنام فذلك قوله أَنَاْ رَبُّكُمُ الاْعْلَى وقال الحسن كان فرعون يعبد الأصنام وأقول الذي يخطر ببالي إن فرعون إن قلنا إنه ما كان كامل العقل لم يجز في حكمة الله تعالى إرسال الرسول إليه وإن كان عاقلاً لم يجز أن يعتقد في نفسه كونه خالقاً للسموات والأرض ولم يجز في الجمع العظيم من العقلاء أن يعتقدوا فيه ذلك لأن فساده معلوم بضرورة العقل بل الأقرب أن يقال إنه كان دهرياً ينكر وجود الصانع وكان يقول مدبر هذا العالم السفلي هو الكواكب وأما المجدي في هذا العلم للخلق ولتلك الطائفة والمربي لهم فهو نفسه فقوله أَنَاْ رَبُّكُمُ الاْعْلَى أي مربيكم والمنعم عليكم والمطعم لكم وقوله مَا عَلِمْتُ بِكُمْ مّنَ إِلَاهٍ غَيْرِى ( القصص 38 ) أي لا أعلم لكم أحداً يجب عليكم عبادته إلا أنا وإذا كان مذهبه ذلك لم يبعد أن يقال إنه كان قد اتخذ أصناماً على صور الكواكب ويعبدها ويتقرب إليها على ما هو دين عبدة الكواكب وعلى هذا التقدير فلا امتناع في حمل قوله تعالى وَيَذَرَكَ وَءالِهَتَكَ على ظاهره فهذا ما عندي في هذا الباب والله أعلم
واعلم أن على جميع الوجوه والاحتمالات فالقوم أرادوا بذكر هذا الكلام حمل فرعون على أخذ موسى عليه السلام وحبسه وإنزال أنواع العذاب به فعند هذا لم يذكر فرعون ما هو حقيقة الحال وهو كونه خائفاً من موسى عليه السلام ولكنه قال سَنُقَتّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِى نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وابن كثير سَنُقَتّلُ بفتح النون والتخفيف والباقون بضم النون والتشديد على التكثير يعني أبناء بني إسرائيل ومن آمن بموسى عليه السلام
المسألة الثانية أن موسى عليه السلام إنما يمكنه الإفساد بواسطة الرهط والشيعة فنحن نسعى في تقليل

رهطه وشيعته وذلك بأن نقتل أبناء بني إسرائيل ونستحيي نساءهم ثم بين أنه قادر على ذلك بقوله وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ والمقصود منه ترك موسى وقومه لا من عجز وخوف ولو أراد به البطش لقدر عليه كأنه يوهم قومه أنه إنما لم يحبسه ولم يمنعه لعدم التفاته إليه ولعدم خوفه منه واختلف المفسرون فمنهم من قال كان يفعل ذلك كما فعله ابتداء عند ولادة موسى ومنهم من قال بل منع منه واتفق المفسرون على أن هذا التهديد وقع في غير الزمان الأول ثم حكى تعالى عن موسى عليه السلام أنه قال لقومه اسْتَعِينُواْ بِاللَّهِ وَاصْبِرُواْ وهذا يدل على أن الذي قاله الملأ لفرعون والذي قال فرعون لهم قد عرفه موسى عليه السلام ووصل إليه فعند ذل فال لقومه اسْتَعِينُواْ بِاللَّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الارْضَ للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَة ُ لِلْمُتَّقِينَ فههنا أمرهم بشيئين وبشرهم بشيئين أما الذان أمر موسى عليه السلام بهما فالأول الاستعانة بالله تعالى والثاني الصبر على بلاء الله وإنما أمرهم أولاً بالاستعانة بالله وذلك لأن من عرف أنه لا مدبر في العالم إلا الله تعالى انشرح صدره بنور معرفة الله تعالى وحينئذ يسهل عليه أنواع البلاء ولأنه يرى عند نزول البلاء أنه إنما حصل بقضاء ا تعالى وتقديره واستعداده بمشاهدة قضاء الله خفف عليه أنواع البلاء وأما الذان بشر بهما فالأول قوله إِنَّ الارْضَ للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وهذا إطماع من موسى عليه السلام قومه في أن يورثهم الله تعالى أرض فرعون بعد إهلاكه وذلك معنى الإرث وهو جعل الشيء للخلف بعد السلف والثاني قوله وَالْعَاقِبَة ُ لِلْمُتَّقِينَ فقيل المراد أمر الآخرة فقط وقيل المراد أمر الدنيا فقط وهو الفتح والظفر والنصر على الأعداء وقيل المراد مجموع الأمرين وقوله لّلْمُتَّقِينَ إشارة إلى أن كل من اتقى الله تعالى وخافه فالله يعينه في الدنيا والآخرة
قَالُوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى الأرض فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ
اعلم أن قوم موسى عليه السلام لما سمعوا ما ذكره فرعون من التهديد والوعيد خافوا وفزعوا وقالوا قد أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا وذلك لأن بني إسرائيل كانوا قبل مجيء موسى عليه السلام مستضعفين في يد فرعون اللعين فكان يأخذ منهم الجزية ويستعملهم في الأعمال الشاقة ويمنعهم من الترفه والتنعم ويقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم فلما بعث الله تعالى موسى عليه السلام قوي رجاؤهم في زوال تلك المضار والمتاعب فلما سمعوا أن فرعون أعاد التهديد مرة ثانية عظم خوفهم وحزنهم فقالوا هذا الكلام
فإن قيل أليس هذا القول يدل على أنهم كرهوا مجيء موسى عليه السلام وذلك يوجب كفرهم

والجواب أن موسى عليه السلام لما جاء وعدهم بزوال تلك المضار فظنوا أنها تزول على الفور فلما رأوا أنها ما زالت رجعوا إليه في معرفة كيفية ذلك الوعد فبين موسى عليه السلام أن الوعد بإزالتها لا يوجب الوعد بإزالتها في الحال وبين لهم أنه تعالى سينجز لهم ذلك الوعد في الوقت الذي قدره له والحاصل أن هذا ما كان بنفرة عن مجيء موسى عليه السلام بالرسالة بل استكشافاً لكيفية ذلك الوعد والله أعلم
واعلم أن القوم لما ذكروا ذلك قال موسى عليه السلام عَسَى رَبُّكُمْ قال سيبويه عَسَى طمع وإشفاق قال الزجاج وما يطمع الله تعالى فيه فهو واجب
ولقائل أن يقول هذا ضعيف لأن لفظ عَسَى ههنا ليس كلام الله تعالى بل هو حكاية عن كلام موسى عليه السلام إلا أنا نقول مثل هذا الكلام إذا صدر عن رسول ظهرت حجة نبوته عليه الصلاة والسلام بالمعجزات الباهرة أفاد قوة النفس وأزال ما خامرها من الانكسار والضعف فقوى موسى عليه السلام قلوبهم بهذا القول وحقق عندهم الوعد ليتمسكوا بالصبر ويتركوا الجزع المذموم ثم بين بقوله فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ما يجري مجرى الحث لهم على التمسك بطاعة الله تعالى
واعلم أن النظر قد يراد به النظر الذي يفيد العلم وهو على الله محال وقد يراد به تقليب الحدقة نحو المرئي التماساً لرؤيته وهو أيضاً على الله محال وقد يراد به الانتظار وهو أيضاً على الله محال وقد يراد به الرؤية ويجب حمل اللفظ ههنا عليها قال الزجاج أي يرى ذلك بوقوع ذلك منكم لأن الله تعالى لا يجازيهم على ما يعلمه منهم وإنما يجازيهم على ما يقع منهم
فإن قيل إذا حملتم هذا النظر على الرؤية لزم الإشكال لأن الفاء في قوله فَيَنظُرَ للتعقيب فيلزم أن تكون رؤية الله تعالى لتلك الأعمال متأخرة عن حصول تلك الأعمال وذلك يوجب حدوث صفة الله تعالى
قلنا تعلق رؤية الله تعالى بذلك الشيء نسبة حادثة والنسب والإضافات لا وجود لها في الأعيان فلم يلزم حدوث الصفة الحقيقية في ذات الله تعالى والله أعلم
وَلَقَدْ أَخَذْنَآ ءالَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فَإِذَا جَآءَتْهُمُ الْحَسَنَة ُ قَالُواْ لَنَا هَاذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَة ٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ

اعلم أنه تعالى لما حكى عن موسى عليه السلام أنه قال لقومه عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ ( الأعراف 129 ) لا جرم بدأ ههنا بذكر ما أنزله بفرعون وبقومه من المحن حالاً بعد حال إلى أن وصل الأمر إلى الهلاك تنبيهاً للمكلفين على الزجر عن الكفر والتمسك بتكذيب الرسل خوفاً من نزول هذه المحن بهم فقال وَلَقَدْ أَخَذْنَا ءالَ فِرْعَوْنَ بِالسّنِينَ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى السنين جميع السنة قال أبو علي الفارسي السنة على معنيين أحدهما يراد بها الحول والعام والآخر يراد بها الجدب وهو خلاف الخصب فمما أريد به الجدب هذه الآية وقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( اللهم اجعلها عليهم سنيناً كسنين يوسف ) وقول عمر رضي الله عنه إنا لا نقع في عام السنة فلما كانت السنة يعني بها الجدب اشتقوا منها كما يشتق من الجدب ويقال أسنتوا كما يقال أجدبوا قال الشاعر ورجال مكة مسنتون عجاف
قال أبو زيد بعض العرب تقول هذه سنين ورأيت سنيناً فتعرب النون ونحوه قال الفراء ومنه قول الشاعر
دعاني من نجد فإن سنينه لعبن بنا وشيبننا مردا
قال الزجاج السنين في كلام العرب الجدوب يقال مستهم السنة ومعناه جدب السنة وشدة السنة
إذا عرفت هذا فنقول قال المفسرون وَلَقَدْ أَخَذْنَا ءالَ فِرْعَوْنَ يريد الجوع والقحط عاماً بعد عام فالسنون لأهل البوادي وَنَقْصٍ مّن الثَّمَرَاتِ لأهل القرى
ثم قال تعالى لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى ظاهر الآية أنه تعالى إنما أنزل عليهم هذه المضار لأجل أن يرجعوا عن طريقة التمرد والعناد إلى الانقياد والعبودية وذلك لأن أحوال الشدة ترقق القلب وترغب فيما عند الله والدليل عليه قوله تعالى وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِى الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ ( ا ) سراء 67 ) وقوله وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ ( فصلت 51 )
المسألة الثانية قال القاضي هذه الآية تدل على أنه تعالى فعل ذلك إرادة منه أن يتذكروا لا أن يقيموا على ما هم عليه من الكفر
أجاب الواحدي عنه بأنه قد جاء لفظ الابتلاء والاختبار في القرآن لا بمعنى أنه تعالى يمتحنهم لأن ذلك على الله تعالى محال بل بمعنى أنه تعالى عاملهم معاملة تشبه الابتلاء والامتحان فكذا ههنا والله أعلم
ثم بين تعالى أنهم عند نزول تلك المحن عليهم يقدمون على ما يزيد في كفرهم ومعصيتهم فقال فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَة ُ قَالُواْ لَنَا هَاذِهِ قال ابن عباس يريد بالحسنة العشب والخصب والثمار والمواشي والسعة في الرزق والعافية والسلامة وَقَالُواْ لَنَا هَاذِهِ أي نحن مستحقون على العادة التي جرت من كثرة نعمنا وسعة أرزاقنا ولم يعلموا أنه من الله فيشكروه عليه ويقوموا بحق النعمة فيه وقوله وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَة ٌ

يريد القحط والجدب والمرض والضر والبلاء يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أي يتشاءموا به ويقولوا إنما أصابنا هذا الشر بشؤم موسى وقومه والتطير التشاؤم في قول جميع المفسرين وقوله يَطَّيَّرُواْ هو في الأصل يتطيروا أدغمت التاء في الطاء لأنهما من مكان واحد من طرف اللسان وأصول الثنايا وقوله أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهِ في الطائر قولان
القول الأول قال ابن عباس يريد شؤمهم عند الله تعالى أي من قبل الله أي إنما جاءهم الشر بقضاء الله وحكمه فالطائر ههنا الشؤم ومثله قوله تعالى في قصة ثمود قَالُواْ اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ قال الفراء وقد تشاءمت اليهود بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالمدينة فقالوا غلت أسعارنا وقلت أمطارنا مذ أتانا قال الأزهري وقيل للشؤم طائر وطير وطيرة لأن العرب كان من شأنها عيافة الطير وزجرها والتطير ببارحها ونعيق غربانها وأخذها ذات اليسار إذا أثاروها فسموا الشؤم طيراً وطائراً وطيرة لتشاؤمهم بها
ثم أعلم الله تعالى على لسان رسوله أن طيرتهم باطلة فقال لا وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يتفاءل ولا يتطير وأصل الفأل الكلمة الحسنة وكانت العرب مذهبها في الفأل والطيرة واحد فأثبت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الفأل وأبطل الطيرة قال محمد الرازي رحمه الله ولا بد من ذكر فرق بين البابين والأقرب أن يقال إن الأرواح الإنسانية أصفى وأقوى من الأرواح البهيمية والطيرية فالكلمة التي تجري على لسان الإنسان يمكن الاستدلال بها بخلاف طيران الطير وحركات البهائم فإن أرواحها ضعيفة فلا يمكن الاستدلال بها على شيء من الأحوال
القول الثاني في تفسير الطائر قال أبو عبيدة بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهِ أي حظهم وهو ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال إنما طائرهم ما قضي عليهم وقدر لهم والعرب تقول أطرت المال وطيرته بين القوم فطار لكل منهم سهمه أي حصل له ذلك السهم
واعلم أن على كلا القولين المعنى أن كل ما يصيبهم من خير أو شر فهو بقضاء الله تعالى وبتقديره وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ أن الكل من الله تعالى وذلك لأن أكثر الخلق يضيفون الحوادث إلى الأسباب المحسوسة ويقطونها عن قضاء الله تعالى وتقديره والحق أن الكل من الله لأن كل موجود فهو إما واجب الوجود لذاته أو ممكن لذاته والواجب واحد وما سواه ممكن لذاته والممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد الواجب لذته وبهذا الطريق يكون الكل من الله فإسنادها إلى غير الله يكون جهلاً بكمال الله تعالى
وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن ءَايَة ٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ ءَايَاتٍ مّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ

اعلم أنه تعالى حكى عنهم في الآية الأولى أنهم لجهلهم أسندوا حوادث هذا العالم لا إلى قضاء الله تعالى وقدره فحكى عنهم في هذه الآية نوعاً آخر من أنواع الجهالة والضلالة وهو أنهم لم يميزوا بين المعجزات وبين السحر وجعلوا جملة الآيات مثل انقلاب العصا حية من باب السحر منهم وقالوا لموسى إنا لا نقبل شيئاً منها ألبتة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في كلمة مَهْمَا قولان الأول أن أصلها ( ماما ) الأولى هي ( ما ) الجزاء والثانية هي التي تزاد توكيداً للجزاء كما تزاد في سائر حروف الجزاء كقولهم إما ومما وكيفما قال الله تعالى فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ ( الأنفال 59 ) وهو كقولك إن تثقفنهم ثم أبدلوا من ألف ( ما ) الأولى ( ها ) كراهة لتكرار اللفظ فصار ( مهما ) هذا قول الخليل والبصريين والثاني وهو قول الكسائي الأصل ( مه ) التي بمعنى الكف أي أكفف دخلت على ( ما ) التي للجزاء كأنهم قالوا أكفف ما تأتنا به من آية فهو كذا وكذا
المسألة الثانية قال ابن عباس أن القوم لما قالوا لموسى مهما أتيتنا بآية من ربك فهي عندنا من باب السحر ونحن لا نؤمن بها ألبتة وكان موسى عليه السلام رجلاً حديداً فعند ذلك دعا عليهم فاستجاب الله له فأرسل عليهم الطوفان الدائم ليلاً ونهاراً سبتاً إلى سبت حتى كان الرجل منهم لا يرى شمساً ولا قمراً ولا يستطيع الخروج من داره وجاءهم الغرق فصرخوا إلى فرعون واستغاثوا به فأرسل إلى موسى عليه السلام وقال اكشف عنا العذاب فقد صارت مصر بحراً واحداً فإن كشفت هذا العذاب آمنا بك فأزال ا لله عنهم المطر وأرسل الرياح فجففت الأرض وخرج من النبات ما لم يروا مثله قط فقالوا هذا الذي جزعنا منه خير لنا لكنا لم نشعر فلا والله لا نؤمن بك ولا نرسل معك بني إسرائيل فنكثوا العهد فأرسل الله عليهم الجراد فأكل النبات وعظم الأمر عليهم حتى صارت عند طيرانها تغطي الشمس ووقع بعضها على بعض في الأرض ذراعاً فأكلت النبات فصرخ أهل مصر فدعا موسى عليه السلام فأرسل الله تعالى ريحاً فاحتملت الجراد فألقته في البحر فنظر أهل مصر إلى أن بقية من كلئهم وزرعهم تكفيهم فقالوا هذا الذي بقي يكفينا ولا نؤمن بك فأرسل الله بعد ذلك عليهم القمل سبتاً إلى سبت فلم يبق في أرضهم عود أخضر إلا أكلته فصاحوا وسأل موسى عليه السلام ربه فأرسل الله عليها ريحاً حارة فأحرقتها واحتملتها الريح فألقتها في البحر فلم يؤمنوا فأرسل الله عليهم الضفادع بعد ذلك فخرج من البحر مثل الليل الدامس ووقع في الثياب والأطعمة فكان الرجل منهم يسقط وعلى رأسه ذراع من الضفادع فصرخوا إلى موسى عليه السلام وحلفوا بإلهه لئن رفعت عنا هذا العذاب لنؤمنن بك فدعا الله تعالى فأمات الضفادع وأرسل عليها المطر فاحتملها إلى البحر ثم أظهروا الكفر والفساد فأرسل الله عليهم الدم فجرت أنهارهم دماً فلم يقدروا على الماء العذب وبنو إسرائيل يجدون الماء العذب الطيب حتى بلغ منهم الجهد فصرخوا وركب فرعون وأشراف قومه إلى أنهار بني إسرائيل فجعل يدخل الرجل منهم النهر فإذا اغترف صار في يده دماً ومكثوا سبعة أيام في ذل لا يشربون إلا الدم فقال فرعون لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرّجْزَ ( الأعراف 134 ) إلى آخر الآية فهذا هو القول المرضي عند أكثر المفسرين وقد وقع في أكثرها اختلافات أما الطوفان فقال الزجاج الطوفان من كل شيء ما كان كثيراً محيطاً مطبقاً بالقوم كلهم كالغرق الذي يشمل المدن الكثيرة فإنه يقال له طوفان وكذلك القتل الذريع طوفان والموت الجارف طوفان وقال الأخفش هو فعلان من

الطوف لأنه يطوف بالشيء حتى يعم قال وواحده في القياس طوفانه وقال المبرد الطوفان مصدر مثل ( الرجحان والنقصان ) فلا حاجة إلى أن يطلب له واحداً
إذا عرفت هدا فنقول الأكثرون على أن هذا الطوفان هو المطر الكثير على ما رويناه عن ابن عباس وقد روى عطاء عنه أنه قال الطوفان هو الموت وروى الواحدي رحمه الله بإسناده خبراً عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( الطوفان هو الموت ) وهذا القول مشكل لأنهم لو أميتوا لم يكن لإرسال سائر أنواع العذاب عليهم فائدة بل لو صح هذا الخبر لوجب حمل لفظ الموت على حصول أسباب الموت مثل المطر الشديد والسيل العظيم وغيرهما وأما الجراد فهو معروف والواحدة جرادة ونبت مجرود قد أكل الجراد ورقه وقال اللحياني أرض جردة ومجرودة قد لحسها الجراد وإذا أصاب الجراد الزرع قيل جرد الزرع وأصل هذا كله من الجرد وهو أخذك الشيء عن الشيء على سبيل النحت والسحق ومنه يقال للثوب الذي قد ذهب وبره جرد وأرض جردة لا نبات فيها وأما القمل فقد اختلفوا فيه فقيل هو الدبى الصغار الذي لا أجنحة له وهي بنات الجراد وعن سعيد بن جبير كان إلى جنبهم كثيب أعفر فضربه موسى عليه السلام بعصاه فصار قملاً فأخذت في أبشارهم وأشعارهم وأشفار عيونهم وحواجبهم ولزم جلودهم كأنه الجدري فصاحوا وصرخوا وفزعوا إلى موسى فرفع عنهم فقالوا قد تيقنا الآن أنك ساحر عليم وعزة فرعون لا نؤمن بك أبداً وقرأ الحسن وَالْقُمَّلَ بفتح القاف وسكون الميم يريد القمل المعروف وأما الدم فما ذكرناه ونقل صاحب ( الكشاف ) أنه قيل سلط الله عليهم الرعاف وروي أن موسى عليه السلام مكث فيهم بعد ما غلب السحرة عشرين سنة يريهم هذه الآيات
وأما قوله تعالى مّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ ففيه وجوه أحدها مّفَصَّلاَتٍ أي مبينات ظاهرات لا يشكل على عاقل أنها من آيات الله التي لا يقدر عليها غيره وثانيها مّفَصَّلاَتٍ أي فصل بين بعضها وبعض بزمان يمتحن فيه أحوالهم وينظر أيقبلون الحجة والدليل أو يستمرون على الخلاف والتقليد قال المفسرون كان العذاب يبقى عليهم من السبت إلى السبت وبين العذاب إلى العذاب شهر فهذا معنى قوله مّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ قال الزجاج وقوله ءايَاتُ منصوبة على الحال وقوله فَاسْتَكْبَرُواْ يريد عن عبادة الله وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ مصرين على الجرم والذنب ونقل أيضاً أن هذه الأنواع المذكورة من العذاب كانت عند وقوعها مختصة بقوم فرعون وكان بنو إسرائيل منها في أمان وفراغ ولا شك أن كل واحد منها فهو في نفسه معجز واختصاصه بالقبطي دون الإسرائيلي معجز آخر
فإن قال قائل لما علم الله تعالى من حال أولئك الأقوام أنهم لا يؤمنون بتلك المعجزات فما الفائدة في تواليها وإظهار الكثير منها وأيضاً فقوم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) طلبوا المعجزات فما أجيبوا فما الفرق
والجواب أما على قول أصحابنا فيفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد وأما على قول المعتزلة في رعاية الصلاح فلعله علم من قوم موسى أن بعضهم كان يؤمن عند ظهور تلك المعجزات الزائدة وعلم من قوم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أن أحداً منهم لا يزداد بعد ظهور تلك المعجزات الظاهرة إلا كفراً وعناداً فظهر الفرق والله أعلم

وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُواْ يامُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِى إِسْرَاءِيلَ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ
اعلم أنا ذكرنا معنى الرجز عند قوله فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزًا مّنَ السَّمَاء ( البقرة 59 ) في سورة البقرة وهو اسم للعذاب ثم إنهم اختلفوا في المراد بهذا الرجز فقال بعضهم إنه عبارة عن الأنواع الخمسة المذكورة من العذاب الذي كان نازلاً بهم وقال سعيد بن جبير الرّجْزَ معناه الطاعون وهو العذاب الذي أصابهم فمات به من القبط سبعون ألف إنسان في يوم واحد فتركوا غير مدفونين واعلم أن القول الأول أقوى لأن لفظ الرّجْزَ لفظ مفرد محلي بالألف واللام فينصرف إلى المعهود السابق وههنا المعهود السابق هو الأنواع الخمسة التي تقدم ذكرها وأما غيرها فمشكوك فيه فحمل اللفظ على المعلوم أولى من حمله على المشكوك فيه
إذا عرفت هذا فنقول إنه تعالى بين ما كانوا عليه من المناقضة القبيحة لأنهم تارة يكذبون موسى عليه السلام وأخرى عند الشدائد يفزعون إليه نزع الأمة إلى نبيها ويسألونه أن يسأل ربه رفع ذلك العذاب عنهم وذلك يقتضي أنهم سلموا إليه كونه نبياً مجاب الدعوة ثم بعد زوال تلك الشدائد يعودون إلى تكذيبه والطعن فيه وأنه إنما يصل إلى مطالبة بسحره فمن هذا الوجه يظهر أنهم يناقضون أنفسهم في هذه الأقاويل
وأما قوله تعالى حكاية عنهم ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ فقال صاحب ( الكشاف ) ما في قوله بِمَا عَهِدَ عِندَكَ مصدرية والمعنى بعهده عندك وهو النبوة وفي هذه الباء وجهان
الوجه الأول أنها متعلقة بقوله ادْعُ لَنَا رَبَّكَ والتقدير ادْعُ لَنَا متوسلاً إليه بعهده عندك
والوجه الثاني في هذه الباء أن تكون قسماً وجوابها قوله لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ أي أقسمنا بعهد الله عندك لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وقوله وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِى إِسْراءيلَ كانوا قد أخذوا بني إسرائيل بالكد الشديد فوعدوا موسى عليه السلام على دعائه بكشف العذاب عنهم الإيمان به والنخلية عن بني إسرائيل وإرسالهم معه يذهب بهم أين شاء وقوله فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ المعنى أنا ما أزلنا عنهم العذاب مطلقاً وما كشفنا عنهم الرجز في جميع الوقائع بل إنما أزلنا عنهم العذاب إلى أجل معين وعند ذلك الأجل لا نزيل عنهم العذاب بل نهلكهم به وقوله إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ هو جواب لما يعني فلما كشفنا عنهم فاجؤا النكث وبادروه ولم يؤخروه كما كشفنا عنهم نكثوا

فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِأايَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ
واعلم أن المعنى أنه تعالى لما كشف عنهم العذاب من قبل مرات وكرات ولم يمتنعوا عن كفرهم وجهلهم ثم بلغوا الأجل المؤقت انتقم منهم بأن أهلكهم بالغرق والانتقام في اللغة سلب النعمة بالعذاب واليم البحر قال صاحب ( الكشاف ) اليم البحر الذي لا يدرك قعره وقيل هو لجة البحر ومعظم مائه واشتقاقه من التيمم لأن المستقين به يقصدونه وبين تعالى بقوله فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أن ذلك الانتقام هو لذلك التكذيب وقوله وَكَانُواْ عَنَّا غَافِلِينَ اختلفوا في الكناية في عنها فقيل أنها عائدة إلى النقمة التي دل عليها قوله انتَقَمْنَا والمعنى وكانوا عن النقمة قبل حلولها غافلين وقيل الكناية عائدة إلى الآيات وهو اختيار الزجاج قال لأنهم كانوا لا يعتبرون بالآيات التي تنزل بهم
فإن قيل الغفلة ليست من فعل الإنسان ولا تحصل باختياره فكيف جاء الوعيد على الغفلة
قلنا المراد بالغفلة هنا الإعراض عن الآيات وعدم الالتفات إليها فهم أعرضوا عنها حتى صاروا كالغافلين عنها
فإن قيل أليس قد ضموا إلى التكذيب والغفلة معاصي كثيرة فكيف يكون الانتقام لهذين دون غيرهما
قلنا ليس في الآية بيان أنه تعالى انتقم منهم لهذين معاً دلالة على نفي ما عداه والآية تدل على أن الواجب في الآيات النظر فيها ولذلك ذمهم بأن غفلوا عنها وذلك يدل على أن التقليد طريق مذموم
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا الَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِى إِسْرءِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ
اعلم أن موسى عليه السلام كان قد ذكر لبني إسرائيل قوله عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى الاْرْضِ ( الأعراف 129 ) فههنا لما بين تعالى إهلاك القوم بالغرق على وجه العقوبة بين ما فعله بالمؤمنين من الخيرات وهو أنه تعالى أورثهم أرضهم وديارهم فقال وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الاْرْضِ وَمَغَارِبَهَا

والمراد من ذلك الاستضعاف أنه كان يقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم ويأخذ منهم الجزية ويستعملهم في الأعمال الشاقة واختلفوا في معنى مشارق الأرض ومغاربها فبعضهم حمله على مشارق أرض الشام ومصر ومغاربها لأنها هي التي كانت تحت تصرف فرعون لعنه الله وأيضاً قوله الَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا المراد باركنا فيها بالخصب وسعة الأرزاق وذلك لا يليق إلا بأرض الشام
والقول الثاني المراد جملة الأرض وذلك لأنه خرج من جملة بني إسرائيل داود وسليمان قد ملك الأرض وهذا يدل على أن الأرض ههنا اسم الجنس وقوله وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِى إِسْرءيلَ قيل المراد من وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ قوله وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِى الاْرْضِ إلى قوله مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ ( القصص 6 ) والحسنى تأنيث الأحسن صفة للكلمة ومعنى تمت على بني إسرائيل مضت عليهم واستمرت من قولهم تم عليك الأمر إذا مضى عليك وقيل معنى تمام الكلمة الحسنى إنجاز الوعد الذي تقدم بإهلاك عدوهم واستخلافهم في الأرض وإنما كان الإنجاز تماماً للكلام لأن الوعد بالشيء يبقى كالشيء المعلق فإذا حصل الموعود به فقد تم لك الوعد وكمل وقوله بِمَا صَبَرُواْ أي إنما حصل ذلك التمام بسبب صبرهم وحسبك به حاثاً على الصبر ودالاً على أن من قابل البلاء بالجزع وكله الله إليه ومن قابله بالصبر وانتظار النصر ضمن الله له الفرج وقرأ عاصم في رواية وَتَمَّتْ كَلِمَاتُ رَبّكَ الْحُسْنَى ونظيره مِنْ ءايَاتِ رَبّهِ الْكُبْرَى ( النجم 18 ) وقوله وَدَمَّرْنَا قال الليث الدمار الهلاك التام يقال دمر القوم يدمرون دماراً أي هلكوا وقوله مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ قال ابن عباس يريد الصانع وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ قال الزجاج يقال عرش يعرش ويعرش إذا بني قيل وما كانوا يعرشون من الجنات ومنه قوله تعالى جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ ( الأنعام 141 ) وقيل وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ يرفعون من الأبنية المشيدة في السماء كصرح هامان وفرعون وقرىء يعرشون بالكسر والضم وذكر اليزيدي أن الكسر أفصح قال صاحب ( الكشاف ) وبلغني أنه قرأ بعض الناس يغرسون من غرس الأشجار وما أحسبه إلا تصحيفاً منه وهذا آخر ما ذكره الله تعالى من قصة فرعون وقومه وتكذيبهم بآيات الله تعالى
وَجَاوَزْنَا بِبَنِى إِسْرءِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يامُوسَى اجْعَلْ لَّنَآ إِلَهًا كَمَا لَهُمْ ءَالِهَة ٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَاؤُلا ءِ مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين أنواع نعمه على بني إسرائيل بأن أهلك عدوهم وأورثهم أرضهم وديارهم أتبع ذلك بالنعمة العظمى وهي أن جاوز بهم البحر مع السلامة ولما بين تعالى في سائر السور كيف سيرهم في البحر مع السلامة وذلك بأن فلق البحر عند ضرب موسى البحر بالعصا وجعله يبساً بين أن بني إسرائيل لما شاهدوا قوماً يعكفون على عبادة أصنامهم جهلوا وارتدوا وقالوا لموسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة ولا

شك أن القوم لما شاهدوا المعجزات الباهرة التي أظهرها الله تعالى لموسى على فرعون ثم شاهدوا أنه تعالى أهلك فرعون وجنوده وخص بني إسرائيل بأنواع السلامة والكرامة ثم إنهم بعد هذه المواقف والمقامات يذكرون هذا الكلام الفاسد الباطل كانوا في نهاية الجهل وغاية الخلاف
أما قوله تعالى يَعْلَمُونَ وَجَاوَزْنَا بِبَنِى إِسْراءيلَ الْبَحْرَ يقال جاوز الوادي إذا قطعه وخلفه وراءه وجاوز بغيره عبر به وقرىء جوزنا بمعنى أجزنا يقال أجاز المكان وجوزه بمعنى جازه الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قال الزجاج يواظبون عليها ويلازمونها يقال لكل من لزم شيئاً وواظب عليه عكف يعكف ويعكف ومن هذا قيل لملازم المسجد متعكف وقال قتادة كان أولئك القوم من لخم وكانوا نزولاً بالريف قال ابن جريج كانت تلك الأصنام تماثيل بقر وذلك أول بيان قصة العجل
ثم حكى تعالى عنهم أنهم قَالُواْ يأَبَانَا مُوسَى اجْعَلْ لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ ءالِهَة ٌ واعلم أن من المستحيل أن يقول العاقل لموسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة وخالقاً ومدبراً لأن الذي يحصل بجعل موسى وتقديره لا يمكن أن يكون خالقاً للعالم ومدبراً له ومن شك في ذلك لم يكن كامل العقل والأقرب أنهم طلبوا من موسى عليه السلام أن يعين لهم أصناماً وتماثيل يتقربون بعبادتها إلى الله تعالى وهذا القول هو الذي حكاه الله تعالى عن عبدة الأوثان حيث قالوا مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ( الزمر 3 )
إذا عرفت هذا فلقائل أن يقول لم كان هذا القول كفراً فنقول أجمع كل الأنبياء عليهم السلام على أن عبادة غير الله تعالى كفر سواء اعتقد في ذلك الغير كونه إلهاً للعالم أو اعتقدوا فيه أن عبادته تقربهم إلى الله تعالى لأن العبادة نهاية التعظيم ونهاية التعظيم لا تليق إلا بمن يصدر عنه نهاية الأنعام والأكرام
فإن قيل فهذا القول صدر من كل بني إسرائيل أو من بعضهم
قلنا بل من بعضهم لأنه كان مع موسى عليه السلام السبعون المختارون وكان فيهم من يرتفع عن مثل هذا السؤال الباطل
ثم إنه تعالى حكى عن موسى عليه السلام أنه أجابهم فقال إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ وتقرير هذا الجهل ما ذكر أن العبادة غاية التعظيم فلا تليق إلا بمن يصدر عنه غاية الإنعام وهي بخلق الجسم والحياة والشهوة والقدرة والعقل وخلق الأشياء المنتفع بها والقادر على هذه الآشياء ليس إلا الله تعالى فوجب أن لا تليق العبادة إلا به
فإن قالوا إذا كان مرادهم بعبادة تلك الأصنام التقرب بها إلى تعظيم الله تعالى فما الوجه في قبح هذه العبادة
قلنا فعلى هذا التقدير لم يتخذوها آلهة أصلاً وإنما جعلوها كالقبلة وذلك ينافي قولهم اجْعَلْ لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ ءالِهَة ٌ واعلم أن مَا في قوله كَمَا لَهُمْ ءالِهَة ٌ يجوز أن تكون مصدرية أي كما ثبت لهم آلهة ويجوز أن تكون موصولة وفي قولهم لَهُمْ ضمير يعود إليه و ءالِهَة ً بدل من ذلك الضمير تقديره كالذي هو لهم آلهة
ثم حكى تعالى عن موسى عليه السلام أنه قال إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ قال الليث التبار الهلاك يقال تبر الشيء يتبر تباراً والتتبير الإهلاك ومنه قوله تعالى تَبَّرْنَا تَتْبِيراً ويقال للذهب

المنكسر المتفتت التبر فقوله مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ أي مهلك مدمر وقوله وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ قيل البطلان عدم الشيء إما بعدم ذاته أو بعدم فائدته ومقصوده والمراد من بطلان عملهم أنه لا يعود عليهم من ذلك العمل نفع ولا دفع ضرر وتحقيق القول في هذا الباب أن المقصود من العبادة أن تصير المواظبة على تلك الأعمال سبباً لاستحكام ذكر الله تعالى في القلب حتى تصير تلك الروح سعيدة بحصول تلك المعرفة فيها فإذا اشتغل الإنسان بعبادة غير الله تعالى تعلق قلبه بغير الله ويصير ذلك التعلق سبباً لأعراض القلب عن ذكر الله تعالى وإذا ظهر هذا التحقيق ظهر أن الاشتغال بعبادة غير الله متبر وباطل وضائع وسعى في تحصيل ضد هذا الشيء ونقيضه لأنا بينا أن المقصود من العبادة رسوخ معرفة الله تعالى في القلب والاشتغال بعبادة غير الله يزيل معرفة الله عن القلب فكان هذا ضداً للغرض ونقيضاً للمطلوب والله أعلم
قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ
اعلم أنه تعالى حكى عن موسى عليه السلام أنهم لما قالوا له اجْعَلْ لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ ءالِهَة ٌ فهو عليه السلام ذكر في الجواب وجوهاً أولها أنه حكم عليهم بالجهل فقال إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ وثانيها أنه قال إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ أي سبب للخسران والهلاك وثالثها أنه قال وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ أي هذا العمل الشاق لا يفيدهم نفعاً في الدنيا والدين ورابعها ما ذكره في هذه الآية من التعجب منهم على وجه يوجب الإنكار والتوبيخ فقال أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ والمعنى أن الإله ليس شيئاً يطلب ويلتمس ويتخذ بل الإله هو الله الذي يكون قادراً على الأنعام بالإيجاد وإعطاء الحياة وجميع النعم وهو المراد من قوله وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ فهذا الموجود هو الإله الذي يجب على الخلق عبادته فكيف يجوز العدول عن عبادته إلى عبادة غيره قال الواحدي رحمه الله يقال بغيت فلاناً شيئاً وبغيت له قال تعالى يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَة َ ( التوبة 47 ) أي يبغون لكم وفي انتصاب قوله إِلَهاً وجهان أحدهما الحال كأنه قيل أطلب لكم غير الله معبوداً ونصب غَيْرِ في هذا الوجه على المفعول به الثاني أن ينصب إِلَهاً على المفعول به وَغَيْرُ على الحال المقدمة التي لو تأخرت كانت صفة كما تقول أبغيكم إلها غير الله وقوله وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ فيه قولان الأول المراد أنه تعالى فضلهم على عالمي زمانهم الثاني أنه تعالى خصهم بتلك الآيات القاهرة ولم يحصل مثلها لأحد من العالمين وإن كان غيرهم فضلهم بسائر الخصال ومثاله رجل تعلم علماً واحداً وآخر تعلم علوماً كثيرة سوى ذلك العلم فصاحب العلم الواحد مفضل على صاحب العلوم الكثيرة بذلك الواحد إلا أن صاحب العلوم الكثيرة مفضل على صاحب العلم الواحد في الحقيقة
وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِّنْ ءَالِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سُو ءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذالِكُمْ بَلا ءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ

واعلم أن هذه الآية مفسرة في سورة البقرة والفائدة في ذكرها في هذا الموضع أنه تعالى هو الذي أنعم عليكم بهذه النعمة العظيمة فكيف يليق بكم الاشتغال بعبادة غير الله تعالى والله أعلم
وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَة ً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَة ً وَقَالَ مُوسَى لاًّخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِى فِى قَوْمِى وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ أبو عمرو وَعَدَنَا بغير ألف والباقون واعَدْنَا بالألف على المفاعلة وقد مر بيان هذه القراءة في سورة البقرة
المسألة الثانية اعلم أنه روي أن موسى عليه السلام وعد بني إسرائيل وهو بمصر أن أهلك الله عدوهم أتاهم بكتاب من عند الله فيه بيان ما يأتون وما يذرون فلما هلك فرعون سأل موسى ربه الكتاب فهذه الآية في بيان كيفية نزول التوراة واعلم أنه تعالى قال في سورة البقرة وَإِذْ واعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَة ً وذكر تفصيل تلك الأربعين في هذه الآية
فإن قيل وما الحكمة ههنا في ذكر الثلاثين ثم إتمامها بعشر وأيضاً فقوله فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَة ً كلام عار عن الفائدة لأن كل أحد يعلم أن الثلاثين مع العشر يكون أربعين
قلنا أما الجواب عن السؤال الأول فهو من وجوه
الوجه الأول أنه تعالى أمر موسى عليه السلام بصوم ثلاثين يوماً وهو شهر ذي القعدة فلما أتم الثلاثين أنكر خلوف فيه فتسوك فقالت الملائكة كنا نشم من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسواك فأوحى الله تعالى إليه أما علمت أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك فأمره الله تعالى أن يزيد عليها عشرة أيام من ذي الحجة لهذا السبب
والوجه الثاني في فائدة هذا التفضيل أن الله أمره أن يصوم ثلاثين يوماً وأن يعمل فيها ما يقربه إلى الله تعالى ثم أنزلت التوراة عليه في العشر البواقي وكلمه أيضاً فيه فهذا هو الفائدة في تفصيل الأربعين إلى الثلاثين وإلى العشرة
والوجه الثالث ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني في سورة طه ما دل على أن موسى عليه السلام بادر إلى ميقات ربه قبل قومه والدليل عليه قوله تعالى وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ يامُوسَى مُوسَى قَالَ هُمْ أُوْلاء عَلَى أَثَرِى

فجائز أن يكون موسى أتى الطور عند تمام الثلاثين فلما أعلمه الله تعالى خبر قومه مع السامري رجع إلى قومه قبل تمام ما وعده الله تعالى ثم عاد إلى الميقات في عشرة أخرى فتم أربعون ليلة
والوجه الرابع قال بعضهم لا يمتنع أن يكون الوعد الأول حضره موسى عليه السلام وحده والوعد الثاني حضر المختارون معه ليسمعوا كلام الله تعالى فصار الوعد مختلفاً لاختلاف حال الحاضرين والله أعلم
والجواب عن السؤال الثاني أنه تعالى إنما قال أَرْبَعِينَ لَيْلَة ً إزالة التوهم أن ذلك العشر من الثلاثين لأنه يحتمل أتممناها بعشر من الثلاثين كأنه كان عشرين ثم أتمة بعشر فصار ثلاثين فأزال هذا الإيهام
أما قوله تعالى فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَة ً ففيه بحثان
البحث الأول الفرق بين الميقات وبين الوقت أن الميقات ما قدر فيه عمل من الأعمال والوقت وقت للشيء قدرة مقدر أولاً
والبحث الثاني قوله أَرْبَعِينَ لَيْلَة ً نصب على الحال أي تم بالغاً هذا العدد
وأما قوله وَقَالَ مُوسَى لاِخِيهِ هَارُونَ فقوله هَارُونَ عطف بيان لأخيه وقرىء بالضم على النداء اخْلُفْنِى فِى قَوْمِى كن خليفتي فيهم وَأَصْلَحَ وكن مصلحاً أو وَأَصْلَحَ ما يجب أن يصلح من أمور بني إسرائيل ومن دعاك منهم إلى الإفساد فلا تتبعه ولا تطعه
فإن قيل إن هرون كان شريك موسى عليه السلام في النبوة فكيف جعله خليفة لنفسه فإن شريك الإنسان أعلى حالاً من خليفته ورد الإنسان من المنصب الأعلى إلى الأدون يكون إهانة
قلنا الأمر وإن كان كما ذكرتم إلا أنه كان موسى عليه السلام هو الأصل في تلك النبوة
فإن قيل لما كان هرون نبياً والنبي لا يفعل إلا الأصلاح فكيف وصاه بالإصلاح
قلنا المقصود من هذا الأمر التأكيد كقوله وَلَاكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى ( البقرة 260 ) والله أعلم
وَلَمَّا جَآءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِى وَلَاكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِى فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ

اعلم أنه تعالى بين الفائدة التي لأجلها حضر موسى عليه السلام الميقات وهي أن كلمه ربه وفي الآية مسائل شريفة عالية من العلوم الإلهية
المسألة الأولى دلت الآية على أنه تعالى كلم موسى عليه السلام والناس مختلفون في كلام الله تعالى فمنهم من قال كلامه عبارة عن الحروف المؤلفة المنتظمة ومنهم من قال كلامه صفة حقيقة مغايرة للحروف والأصوات أما القائلون بالقول الأول فالعقلاء المحصلون انفقوا على أنه يجب كونه حادثاً كائناً بعد أن لم يكن وزعمت الحنابلة والحشوية أن الكلام المركب من الحروف والأصوات قديم وهذا القول أخس من أن يلتفت العاقل إليه وذلك أني قلت يوماً إنه تعالى إما أن يتكلم بهذه الحروف على الجمع أو على التعاقب والتوالي والأول باطل لأن هذه الكلمات المسموعة المفهومة إنما تكون مفهومة إذا كانت حروفها متوالية فأما إذا كان حروفها توجد دفعة واحدة فذاك لا يكون مفيداً ألبتة والثاني يوجب كونها حادثة لأن الحروف إذا كانت متوالية فعند مجيء الثاني ينقضي الأول فالأول حادث لأن كل ما ثبت عدمه امتنع قدمه والثاني حادث لأن كل ما كان وجوده متأخراً عن وجوده غيره فهو حادث فثبت أنه بتقدير أن يكون كلام الله تعالى عبارة عن مجرد الحروف والأصوات محدث
إذا ثبت هذا فنقول للناس ههنا مذهبان الأول أن محل تلك الحروف والأصوات الحادثة هو ذات الله تعالى وهو قول الكرامية الثاني أن محلها جسم مباين لذات الله تعالى كالشجرة وغير وهو قول المعتزلة
أما القول الثاني وهو أن كلام الله تعالى صفة مغايرة لهذه الحروف والأصوات فهذا قول أكثر أهل السنة والجماعة وتلك الصفة قديمة أزلية والقائلون بهذا القول اختلفوا في الشيء الذي سمعه موسى عليه السلام فقالت الأشعرية إن موسى عليه السلام سمع تلك الصفة الحقيقية الأزلية قالوا وكما لا يتعذر رؤية ذاته مع أن ذاته ليست جسماً ولا عرضاً فكذلك لا يبعد سماع كلامه مع أن كلامه لا يكون حرفاً ولا صوتاً وقال أبو منصور الماتريدي الذي سمعه موسى عليه السلام أصوات مقطعة وحروف مؤلفة قائمة بالشجرة فأما الصفة الأزلية التي ليست بحرف ولا صوت فداك ما سمعه موسى عليه السلام ألبتة فهذا تفصيل مذاهب الناس في سماع كلام الله تعالى
المسألة الثانية اختلفوا في أنه تعالى كلم موسى وحده أو كلمه مع أقوام آخرين وظاهر الآية يدل على الأول لأن قوله تعالى وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ يدل على تخصيص موسى عليه السلام بهذا التشريف والتخصيص بالذكر يداً على نفي الحكم عما عداه وقال القاضي بل السبعون المختارون للميقات سمعوا أيضاً كلام الله تعالى قال لأن الغرض بإحضارهم أن يخبروا قوم موسى عليه السلام عما يجري هناك وهذا المقصود لا يتم إلا عند سماع الكلام وأيضاً فإن تكليم الله تعالى موسى عليه السلام على هذا الوجه معجز وقد تقدمت نبوة موسى عليه السلام لا بد من ظهور هذا المعنى لغيره
المسألة الثالثة قال أصحابنا هذه الآية تدل على أنه سبحانه يجوز أن يرى وتقريره من أربعة أوجه الأول أن الآية دالة على أن موسى عليه السلام سأل الرؤية ولا شك أن موسى عليه السلام يكون عارفاً بما يجب ويجوز ويمتنع على الله تعالى فلو كانت الرؤية ممتنعة على الله تعالى لما سألها وحيث سألها

علمنا أن الرؤية جائزة على الله تعالى قال القاضي الذي قاله المحصلون من العلماء في ذلك أقوال أربعة أحدها ما قاله الحسن وغيره أن موسى عليه السلام ما عرف أن الرؤية غير جائزة على الله تعالى قال ومع الجهل بهذا المعنى قد يكون المرء عارفاً بربه وبعدله وتوحيده فلم يبعد أن يكون العلم بامتناع الرؤية وجوازها موقوفاً على السمع وثانيها أن موسى عليه السلام سأل الرؤية على لسان قومه فقد كانوا جاهلين بذلك يكررون المسألة عليه يقولون لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَة ً ( البقرة 55 ) فسأل موسى الرؤية لا لنفسه فلما ورد المنع ظهر أن ذلك لا سبيل إليه وهذه طريقة أبي علي وأبي هاشم وثالثها أن موسى عليه السلام سأل ربه من عنده معرفة باهرة باضطرار وأهل هذا التأويل مختلفون فمنهم من يقول سأل ربه المعرفة الضرورية ومنهم من يقول بل سأله إظهار الآيات الباهرة التي عندها تزول الخواطر والوساوس عن معرفته وإن كانت من فعله كما نقوله في معرفة أهل الآخرة وهو الذي اختاره أبو القاسم الكعبي ورابعها المقصود من هذا السؤال أن يذكر تعالى من الدلائل السمعية ما يدل على امتناع رؤيته حتى يتأكد الدليل العقلي بالدليل السمعي وتعاضد الدلائل أمر مطلوب للعقلاء وهو الذي ذكره أو بكر الأصم فهذا مجموع أقوال المعتزلة في تأويل هذه الآية قال أصحابنا أما الوجه الأول فضعيف ويدل عليه وجوه الأول إجماع العقلاء على أن موسى عليه السلام ما كان في العلم بالله أقل منزلة ومرتبة من أراذل المعتزلة فلما كان كلهم عالمين بامتناع الرؤية على الله تعالى وفرضنا أن موسى عليه السلام لم يعرف ذلك كانت معرفته بالله أقل درجة من معرفة كل واحد من أراذل المعتزلة وذلك باطل بإجماع المسلمين الثاني أن المعتزلة يدعون العلم الضروري بأن كل ما كان مرئياً فإنه يجب أن يكون مقابلاً أو في حكم المقابل فإما أن يقال إن موسى عليه السلام حصل له هذا العلم أو لم يحصل له هذا العلم فإن كان الأول كان تجويزه لكونه تعالى مرئياً يوجب تجويز كونه تعالى حاصلاً في الحيز والجهة وتجويز هذا المعنى على الله تعالى يوجب الكفر عند المعتزلة فيلزمهم كون موسى عليه السلام كافراً وذلك لا يقوله عاقل وإن كان الثاني فنقول لما كان العلم بأن كل مرئي يجب أن يكون مقابلاً أو في حكم المقابل علماً بديهياً ضرورياً ثم فرضنا أن هذا العلم ما كان حاصلاً لموسى عليه السلام لزم أن يقال إن موسى عليه السلام لم يحصل فيه جميع العلوم الضرورية ومن كان كذلك فهو مجنون فيلزمهم الحكم بأنه عليه السلام ما كان كامل العقل بل كان مجنوناً وذلك كفر بإجماع الأمة فثبت أن القول بأن موسى عليه السلام ما كان عالماً بامتناع الرؤية مع فرض أنه تعالى ممتنع الرؤية يوجب أحد هذين القسمين الباطلين فكان القول به باطلاً والله أعلم
وأما التأويل الثاني وهو أنه عليه السلام إنما سأل الرؤية لقومه لا لنفسه فهو أيضاً فاسد ويدل عليه وجوه الأول أنه لو كان الأمر كذلك لقال موسى أرهم ينظروا إليك ولقال الله تعالى لن يروني فلما لم يكن كذلك بطل هذا التأويل والثاني أنه لو كان هذا السؤال طلباً للمحال لمنعهم عنه كما أنهم لما قالوا اجْعَلْ لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ ءالِهَة ٌ ( الأعراف 138 ) منعهم عنه بقوله إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ( الأعراف 138 ) والثالث أنه كان يجب على موسى إقامة الدلائل القاطعة على أنه تعالى لا تجوز رؤيته وأن يمنع قومه بتلك الدلائل عن هذا السؤال فأما أن لا يذكر شيئاً من تلك الدلائل ألبتة مع أن ذكرها كان فرضاً مضيقاً كان هذا نسبة لترك الواجب إلى موسى عليه السلام وأنه لا يجوز والرابع أن أولئك الأقوام الذين طلبوا الرؤية إما أن يكونوا قد آمنوا

بنبوة موسى عليه السلام أو ما آمنوا بها فإن كان الأول كفاهم في الامتناع عن ذلك السؤال الباطل مجرد قول موسى عليه السلام فلا حاجة إلى هذا السؤال الذي ذكره موسى عليه السلام وإن كان الثاني لم ينتفعوا بهذا الجواب لأنهم يقولون له لا نسلم أن الله منع من الرؤية بل هذا قول افتريته على الله تعالى فثبت أن على كلا التقديرين لا فائدة للقوم في قول موسى عليه السلام أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ
وأما التأويل الثالث فبعيد أيضاً ويدل عليه وجوه الأول أن على هذا التقدير يكون معنى الآية أرني أمراً أنظر إلى أمرك ثم حذف المفعول والمضاف إلا أن سياق الآية يدل على بطلان هذا وهو قوله أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِى ( الأعراف 143 ) فسوف تراني فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ ولا يجوز أن يحمل جميع هذا على حذف المضاف الثاني أنه تعالى أراه من الآية ما لا غاية بعدها كالعصا واليد البيضاء والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم وإظلال الجبل فكيف يمكن بعد هذه الأحوال طلب آية ظاهرة قاهرة والثالث أنه عليه السلام كان يتكلم مع الله بلا واسطة ففي هذه الحالة كيف يليق به أن يقول أظهر لي آية قاهرة ظاهرة تدل على أنك موجود ومعلوم أن هذا الكلام في غاية الفساد الرابع أنه لو كان المطلوب آية تدل على وجوده لأعطاه تلك الآية كما أعطاه سائر الآيات ولكان لا معنى لمنعه عن ذلك فثبت أن هذا القول فاسد وأما التأويل الرابع وهو أن يقال المقصود منه إظهار آية سمعية تقوي ما دل العقل عليه فهو أيضاً بعيد لأنه لو كان المراد ذلك لكان الواجب أن يقول أريد يا إلهي أن يقوى امتناع رؤيتك بوجوه زائدة على ما ظهر في العقل وحيث لم يقل ذلك بل طلب الرؤية علمنا أن هذه التأويلات بأسرها فاسدة
الحجة الثانية من الوجوه المستنبطة من هذه الآية الدالة على أنه تعالى جائز الرؤية وذلك لأنه تعالى لو كان مستحيل الرؤية لقال لا أرى ألا ترى أنه لو كان في يد رجل حجر فقال له إنسان ناولني هذا لآكله فإنه يقول له هذا لا يؤكل ولا يقول له لا تأكل ولو كان في يده بدل الحجر تفاحة لقال له لا تأكلها أي هذا مما يؤكل ولكنك لا تأكله فلما قال تعالى لَن تَرَانِى ولم يقل لا أرى علمنا أن هذا يدل على أنه تعالى في ذاته جائز الرؤية
الحجة الثالثة من الوجوه المستنبطة من هذه الآية أنه تعالى علق رؤيته على أمر جائز والمعلق على الجائز جائز فيلزم كون الرؤية في نفسها جائزة إنما قلنا إنه تعالى علق رؤيته على أمر جائز لأنه تعالى علق رؤيته على استقرار الجبل بدليل قوله تعالى فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِى واستقرار الجبل أمر جائز الوجود في نفسه فثبت أنه تعالى علق رؤيته على أمر جائز الوجود في نفسه
إذا ثبت هذا وجب أن تكون رؤيته جائزة الوجود في نفسها لأنه لما كان ذلك الشرط أمراً جائز الوجود لم يلزم من فرض وقوعه محال فبتقدير حصول ذلك الشرط إما أن يترتب عليه الجزاء الذي هو حصول الرؤية أو لا يترتب فإن ترتب عليه حصول الرؤية لزم القطع بكون الرؤية جائزة الحصول وإن لم يترتب عليه حصول الرؤية قدح هذا في صحة قوله إنه متى حصل ذلك الشرط حصلت الرؤية وذلك باطل
فإن قيل إنه تعالى علق حصول الرؤية على استقرار الجبل حال حركته واستقرار الجبل حال حركته محال فثبت أن حصول الرؤية معلق على شرط ممتنع الحصول لا على شرط جائز الحصول فلم يلزم

صحة ما قلتموه والدليل على أن الشرط هو استقرار الجبل حال حركته أن الجبل إما أن يقال إنه حال ما جعل استقراره شرطاً لحصول الرؤية كان ساكناً أو متحركاً فإن كان الأول لزم حصول الرؤية بمقتضى الاشتراط وحيث لم تحصل علمنا أن الجبل في ذلك الوقت ما كان مستقراً ولما لم يكن مستقراً كان متحركاً فثبت أن الجبل حال ما جعل استقراره شرطاً لحصول الرؤية كان متحركاً لا ساكناً فثبت أن الشرط هو كون الجبل مستقراً حال كونه ساكناً فثبت أن الشرط الذي علق الله تعالى على حصوله حصول الرؤية هو كون الجبل مستقراً حال كونه متحركاً وأنه شرط محال
والجواب هو أن اعتبار حال الجبل من حيث هو مغاير لاعتبار حاله من حيث أنه متحرك أو ساكن وكونه ممتنع الخلو عن الحركة والسكون لا يمنع اعتبار حاله من حيث أنه متحرك أو ساكن ألا ترى أن الشيء لو أخذته بشرط كونه موجوداً كان واجب الوجود ولو أخذته بشرط كونه معدوماً كان واجب العدم فلو أخذته من حيث هو هو قطع النظر عن كونه موجوداً أو كونه معدوماً كان ممكن الوجود فكذا ههنا الذي جعل شرطاً في اللفظ هو استقرار الجبل وهذا القدر ممكن الوجود فثبت أن القدر الذي جعل شرطاً أمر ممكن الوجود جائز الحصول وهذا القدر يكفي لبناء المطلوب عليه والله أعلم
الحجة الرابعة من الوجوه المستنبطة من هذه الآية في إثبات جواز الرؤية قوله تعالى فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّا وهذا التجلي هو الرؤية ويدل عليه وجهان الأول إن العلم بالشيء يجلي لذلك الشيء وأبصار الشيء أيضاً يجلي لذلك الشيء إلا أن الأبصار في كونه مجلياً أكمل من العلم به وحمل اللفظ على المفهوم الأكمل أولى الثاني أن المقصود من ذكر هذه الآية تقرير أن الإنسان لا يطيق رؤية الله تعالى بدليل أن الجبل مع عظمته لما رأى الله تعالى اندك وتفرقت أجزاؤه ولولا أن المراد من التجلي ما ذكرناه وإلا لم يحصل هذا المقصود فثبت أن قوله تعالى فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّا هو أن الجبل لما رأى الله تعالى اندكت أجزاؤه ومتى كان الأمر كذلك ثبت أنه تعالى جائز الرؤية أقصى ما في الباب أن يقال الجبل جماد والجماد يمتنع أن يرى شيئاً إلا أنا نقول لا يمتنع أن يقال إنه تعالى خلق في ذات الجبل الحياة والعقل والفهم ثم خلق فيه رؤية متعلقة بذات الله تعالى والدليل عليه أنه تعالى قال فَضْلاً ياجِبَالُ أَوّبِى مَعَهُ وَالطَّيْرَ ( سبأ 10 ) وكونه مخاطباً بهذا الخطاب مشروط بحصول الحياة والعقل فيه فكذا ههنا فثبت بهذه الوجوه الأربعة دلالة هذه الآية على أنه تعالى جائز الرؤية أمنا المعتزلة فقالوا إنه ثبت بالدلائل العقلية والسمعية أنه تعالى تمتنع رؤيته فوجب صرف هذه الظواهر إلى التأويلات أما دلائلهم العقلية فقد بينا في الكتب العقلية ضعفها وسقوطها فلا حاجة هنا إلى ذكرها وأما دلائلهم السمعية فأقوى ما لهم في هذا الباب التمسك بقوله تعالى لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَارُ ( الأنعام 103 ) قد سبق في سورة الأنعام ما في هذه الآية من المباحث الدقيقة واللطائف العميقة واعلم أن القوم تمسكوا بهذه الآية على عدم الرؤية من وجوه الأول التمسك بقوله تعالى لَن تَرَانِى وتقرير الاستدلال أن يقال إن هذه الآية تدل على أن موسى عليه السلام لا يرى الله ألبتة لا في الدنيا ولا في القيامة ومتى ثبت هذا ثبت أن أحداً لا يراه ألبتة ومتى ثبت هذا ثبت أنه تعالى يمتنع أن يرى فهذه مقدمات ثلاثة
أما المقدمة الأولى فتقريرها من وجوه الأول ما نقل عن أهل اللغة أن كلمة ( لن ) للتأبيد قال

الواحدي رحمه الله هذه دعوى باطلة على أهل اللغة وليس يشهد بصحته كتاب معتبر ولا نقل صحيح وقال أصحابنا الدليل على فساده قوله تعالى في صفة اليهود وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا ( البقرة 95 ) مع أنهم يتمنون الموت يوم القيامة والثاني أن قوله لَن تَرَانِى يتناول الأوقات كلها بدليل صحة استثناء أي وقت أريد من هذه الكلمة ومقتضى الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل تحت اللفظ وهذا أيضاً ضعيف لأن تأثير الاستثناء في صرف الصحة لا في صرف الوجوب على ما هو مقرر في أصول الفقه الثالث أن قوله لن أفعل كذا يفيد تأكيد النفي ومعناه أن فعله ينافي حالته كقوله تعالى لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُواْ لَهُ ( الحج 73 ) وهذا يدل على أن الرؤية منافية للإلهية والجواب أن لَنْ لتأكيد نفي ما وقع السؤال عنه والسؤال إنما وقع عن تحصيل الرؤية في الحال فكان قوله لَن تَرَانِى نفياً لذلك المطلوب فأما أن يفيد النفي الدائم فلا فهذه جملة الكلام في تقرير هذه المسألة
أما المقدمة الثانية فقالوا القائل اثنان قائل يقول إن المؤمنين يرون الله وموسى أيضاً يراه وقائل ينفي الرؤية عن الكل أما القول بإثباته لغير موسى ونفيه عن موسى فهو قول خارق للإجماع وهو باطل
وأما المقدمة الثالثة فهي أن كل من نفي الوقوع نفي الصحة فالقول بثبوت الصحة مع نفي الوقوع قول على خلاف الإجماع وهو باطل واعلم أن بناء هذه الدلالة على صحة المقدمة الأولى فلما ثبت ضعفها سقط هذا الاستدلال بالكلية
الحجة الثانية للقوم أنه تعالى حكى عن موسى عليه السلام أنه خر صعقاً ولو كانت الرؤية جائزة فلم خر عند سؤالها صعقاً
والحجة الثالثة أنه عليه السلام لما أفاق قال سبحانك وهذه الكلمة للتنزيه فوجب أن يكون المراد منه تنزيه الله تعالى عما تقدم ذكره والذي تقدم ذكره هو رؤية الله تعالى فكان قوله سُبْحَانَكَ تنزيهاً له عن الرؤية فثبت بهذا أن نفي الرؤية تنزيه الله تعالى وتنزيه الله إنما يكون عن النقائص والآفات فوجب كون الرؤية من النقائص والآفات وذلك على الله محال فثبت أن الرؤية على الله ممتنعة
والحجة الرابعة قوله تعالى حكاية عن موسى لما أفاق أنه قال تُبْتُ إِلَيْكَ ولولا أن طلب الرؤية ذنب لما تاب منه ولولا أنه ذنب ينافي صحة الإسلام لما قال وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ
واعلم أن أصحابنا قالوا الرؤية كانت جائزة إلا أنه عليه السلام سألها بغير الإذن وحسنات الأبرار سيئات المقربين فكانت التوبة توبة عن هذا المعنى لا عما ذكروه فهذا جملة الكلام في هذه الآية والله أعلم بالصواب
المسألة الرابعة في البحث عن هذه الآية نقل عن ابن عباس أنه قال جاء موسى عليه السلام ومعه السبعون وصعد موسى الجبل وبقي السبعون في أسفل الجبل وكلم الله موسى وكتب له في الألواح كتاباً وقربه نجياً فلما سمع موسى صرير القلم عظم شوقه فقال رَبّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ قال صاحب ( الكشاف ) ثاني مفعولي أَرِنِى محذوف أي أَرِنِى نفسك أَنظُرْ إِلَيْكَ وفي لفظ الآية سؤالات
السؤال الأول النظر إما أن يكون عبارة عن الرؤية أو عن مقدمتها وهي تقليب الحدقة السليمة إلى

جانب المرئي التماساً لرؤيته وعلى التقدير الأول يكون المعنى أرني حتى أراك وهذا فاسد وعلى التقدير الثاني يكون المعنى أرني حتى أقلب الحدقة إلى جانبك وهذا فاسد لوجهين أحدهما أنه يقتضي إثبات الجهة لله تعالى والثاني أن تقليب الحدقة إلى جهة المرئي مقدمة للرؤية فجعله كالنتيجة عن الرؤية وذلك فاسد
والجواب أن قوله أَرِنِى معناه اجعلني متمكناً من رؤيتك حتى أنظر إليك وأراك
السؤال الثاني كيف قال لَن تَرَانِى ولم يقل لن تنظر إلي حتى يكون مطابقاً لقوله أَنظُرْ إِلَيْكَ
والجواب أن النظر لما كان مقدمة للرؤية كان المقصود هو الرؤية لا النظر الذي لا رؤية معه
والسؤال الثالث كيف اتصل الاستدراك في قوله وَلَاكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ بما قبله
والجواب المقصود منه تعظيم أمر الرؤية وأن أحداً لا يقوى على رؤية الله تعالى إلا إذا قواه الله تعالى بمعونته وتأييده ألا ترى أنه لما ظهر أثر التجلي والرؤية للجبل اندك وتفرق فهذا من هذا الوجه يدل على تعظيم أمر الرؤية
أما قوله فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ فقال الزجاج تَجَلَّى أي ظهر وبان ومنه يقال جلوت العروس إذا أبرزتها وجلوت المرآة والسيف إذا أزلت ما عليهما من الصدأ وقوله جَعَلَهُ دَكّا قال الزجاج يجوز دَكّاً بالتنوين و دَكَّاء بغير تنوين أي جعله مدقوقاً مع الأرض يقال دككت الشيء إذا دققته أدكه دكاً والدكاء والدكاوات الروابي التي تكون مع الأرض ناشزة فعلى هذا الدك مصدر والدكاء اسم ثم روى الواحدي بإسناده عن الأخفش في قوله جَعَلَهُ دَكّا أنه قال دكه دكاً مصدر مؤكد ويجوز جعله ذا دك قال ومن قرأ دَكَّاء ممدوداً أراد جعله دكاء أي أرضاً مرتفعة وهو موافق لما روي عن ابن عباس أنه قال جعله تراباً وقوله وَخَرَّ موسَى صَعِقًا قال الليث الصعق مثل الغشي يأخذ الإنسان والصعقة الغشية يقال صعق الرجل وصعق فمن قال صعق فهو صعق ومن قال صعق فهو مصعوق ويقال أيضاً صعق إذا مات ومنه قوله تعالى فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَمَن فِى الاْرْضِ ( الزمر 68 ) فسروه بالموت ومنه قوله يَوْمَهُمُ الَّذِى فِيهِ يُصْعَقُونَ أي يموتون قال صاحب ( الكشاف ) صعق أصله من الصاعقة ويقال لها الصاقعة من صقعه إذا ضربه على رأسه
إذا عرفت هذا فنقول فسر ابن عباس قوله تعالى وَخَرَّ موسَى صَعِقًا بالغشي وفسره قتادة بالموت والأول أقوى لقوله تعالى فَلَمَّا أَفَاقَ قال الزجاج ولا يكاد يقال للميت قد أفاق من موته ولكن يقال للذي يغشى عليه أنه أفاق من غشيه لأن الله تعالى قال في الذين ماتوا ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ ( البقرة 56 )
أما قوله قَالَ سُبْحَانَكَ أي تنزيهاً لك عن أن يسألك غيرك شيئاً بغير إذنك تُبْتُ إِلَيْكَ وفيه وجهان الأول تُبْتُ إِلَيْكَ من سؤال الرؤية في الدنيا الثاني تُبْتُ إِلَيْكَ من سؤال الرؤية بغير إذنك وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ بأنك لا ترى في الدنيا أو يقال وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ بأنه لا يجوز السؤال منك إلا بإذنك

قَالَ يامُوسَى إِنْى اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَآ ءاتَيْتُكَ وَكُنْ مِّنَ الشَّاكِرِينَ
اعلم أن موسى عليه السلام لما طلب الرؤية ومنعه الله منها عدد الله عليه وجوه نعمه العظيمة التي له عليه وأمره أن يشتغل بشكرها كأنه قال له إن كنت قد منعتك الرؤية فقد أعطيتك من النعم العظيمة كذا وكذا فلا يضيق صدرك بسبب منع الرؤية وانظر إلى سائر أنواع النعم التي خصصتك بها واشتغل بشكرها والمقصود تسلية موسى عليه السلام عن منع الرؤية وهذا أيضاً أحد ما يدل على أن الرؤيا جائزة على الله تعالى إذ لو كانت ممتنعة في نفسها لما كان إلى ذكر هذا القدر حاجة
واعلم أن الاصطفاء استخلاص الصفوة فقوله اصْطَفَيْتُكَ أي اتخذتك صفوة على الناس قال ابن عباس يريد فضلتك على الناس ولما ذكر أنه تعالى اصطفاه ذكر الأمر الذي به حصل هذا الاصطفاء فقال بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي قرأ ابن كثير ونافع برسالتي على الواحد والباقون النَّاسِ بِرِسَالَاتِي على الجمع وذلك أنه تعالى أوحى إليه مرة بعد أخرى ومن قرأ برسالتي فلأن الرسالة تجري مجرى المصدر فيجوز إفرادها في موضع الجمع وإنما قال إِنْى اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ ولم يقل على الخلق لأن الملائكة قد تسمع كلام الله من غير واسطة كما سمعه موسى عليه السلام
فإن قيل كيف اصطفاه على الناس برسالاته مع أن كثيراً من الناس قد ساواه في الرسالة
قلنا إنه تعالى بين أنه خصه من دون الناس بمجموع الأمرين وهو الرسالة مع الكلام بغير واسطة وهذا المجوع ما حصل لغيره فثبت أنه إنما حصل التخصيص ههنا لأنه سمع ذلك الكلام بغير واسطة وإنما كان الكلام بغير واسطة سبباً لمزيد الشرف بناء على العرف الظاهر لأن من سمع كلام الملك العظيم من فلق فيه كان أعلى حالاً وأشرف مرتبة ممن سمعه بواسطة الحجاب والنواب ولما ذكر هذين النوعين من النعمة العظيمة قال فَخُذْ مَا ءاتَيْتُكَ وَكُنْ مّنَ الشَّاكِرِينَ يعني فخذ هذه النعمة ولا يضيق قلبك بسبب منعك الرؤية واشتغل بشكر الفوز بهذه النعمة والاشتغال بشكرها إنما يكون بالقيام بلوازمها علماً وعملاً والله أعلم
وَكَتَبْنَا لَهُ فِى الاٌّ لْوَاحِ مِن كُلِّ شَى ْءٍ مَّوْعِظَة ً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَى ْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّة ٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ

اعلم أنه تعالى لما بين أنه خص موسى عليه السلام بالرسالة ذكر في هذه الآية تفصيل تلك الرسالة فقال وَكَتَبْنَا لَهُ فِى الاْلْوَاحِ نقل صاحب ( الكشاف ) عن بعضهم أن موسى خر صعقاً يوم عرفة وأعطاه الله تعالى التوراة يوم النحر وذكروا في عدد الألواح وفي جوهرها وطولها أنها كانت عشرة ألواح وقيل سبعة وقيل إنها كانت من زمردة جاء بها جبريل عليه السلام وقيل من زبرجدة خضراء وياقوتة حمراء وقال الحسن كانت من خشب نزلت من السماء وقال وهب كانت من صخرة صماء لينها الله لموسى عليه السلام وأما كيفية الكتابة فقال ابن جريج كتبها جبريل بالقلم الذي كتب به الذكر واستمد من نهر النور
واعلم أنه ليس في لفظ الآية ما يدل على كيفية تلك الألواح وعلى كيفية تلك الكتابة فإن ثبت ذلك التفصيل بدليل منفصل قوي وجب القول به وإلا وجب السكوت عنه
وأما قوله من كل شيء فلا شبهة فيه أنه ليس على العموم بل المراد من كل ما يحتاج إليه موسى وقومه في دينهم من الحلال والحرام والمحاسن والمقابح
وأما قوله فلا شبهة فيه أنه ليس على العموم بل المراد من كل ما يحتاج إليه موسى وقومه في دينهم من الحلال والحرام والمحاسن والمقابح
وأما قوله مَّوْعِظَة ً وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَى ْء فهو كالبيان للجملة التي قدمها بقوله مِن كُلّ شَى ْء وذلك لأنه تعالى قسمه إلى ضربين أحدهما مَّوْعِظَة ٌ والأخر تَفْصِيلاً لما يجب أن يعلم من الأحكام فيدخل في الموعظة كل ما ذكره الله تعالى من الأمور التي توجب الرغبة في الطاعة والنفرة عن المعصية وذلك بذكر الوعد والوعيد ولما قرر ذلك أولاً أتبعه بشرح أقسام الأحكام وتفصيل الحلال والحرام فقال وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَى ْء ولما شرح ذلك قال لموسى فَخُذْهَا بِقُوَّة ٍ أي بعزيمة قوية ونية صادقة ثم أمره الله تعالى أن يأمر قومه بأن يأخذوا بأحسنها وظاهر ذلك أن بين التكليفين فرقاً ليكون في هذا التفصيل فائدة ولذلك قال بعض المفسرين إن التكليف كان على موسى عليه السلام أشد لأنه تعالى لم يرخص له ما رخص لغيره وقال بعضهم بل خصه من حيث كلفه البلاغ والأداء وإن كان مشاركاً لقومه فيما عداه وفي قوله وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا
سؤال وهو أنه تعالى لما تعبد بكل ما في التوراة وجب كون الكل مأموراً به وظاهر قوله يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا يقتضي أن فيه ما لبس بأحسن وإنه لا يجوز لهم الأخذ به وذلك متناقض وذكر العلماء في الجواب عنه وجوهاً الأول أن تلك التكاليف منها ما هو حسن ومنها ما هو أحسن كالقصاص والعفو والانتصار والصبر أي فمرهم أن يحملوا أنفسهم على الأخذ بما هو أدخل في الحسن وأكثر للثواب كقوله وَاتَّبِعُواْ أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم ( الزمر 55 ) وقوله الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ( الزمر 18 )
فإن قالوا فلما أمر الله تعالى بالأخذ بالأحسن فقد منع من الأخذ بذلك الحسن وذلك يقدح في كونه حسناً فنقول يحمل أمر الله تعالى بالأخذ بالأحسن على الندب حتى يزول هذا التناقض
الوجه الثاني في الجواب قال قطرب يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا أي بحسنها وكلها حسن لقوله تعالى وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ( العنكبوت 45 ) وقول الفرزدق بيتا دعائمه أعز وأطول
الوجه الثالث قال بعضهم الحسن يدخل تحته الواجب والمندوب والمباح وأحسن هذه الثلاثة الواجبات والمندوبات

وأما قوله سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ ففيه وجهان الأول أن المراد التهديد والوعيد على مخالفة أمر الله تعالى وعلى هذا التقدير فيه وجهان الأول قال ابن عباس والحسن ومجاهد دار الفاسقين هي جهنم أي فليكن ذكر جهنم حاضراً في خاطركم لتحذروا أن تكونوا منهم والثاني قال قتادة سأدخلكم الشام وأريكم منازل الكافرين الذين كانوا متوطنين فيها من الجبابرة والعمالقة لتعتبروا بها وما صاروا إليه من النكال وقال الكلبي دَارَ الْفَاسِقِينَ هي المساكن التي كانوا يمرون عليها إذا سافروا من منازل عاد وثمود والقرون الذين أهلكهم الله تعالى
والقول الثاني أن المراد الوعد والبشارة بأنه تعالى سيورثهم أرض أعدائهم وديارهم والله أعلم

بداية الجزء الخامس عشر من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32

سَأَصْرِفُ عَنْ ءَايَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ ءَايَة ٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَى ِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذالِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِأايَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية المتقدمة قوله سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ ( الأعراف 145 ) ذكر في هذه الآية ما يعاملهم به فقال سَأَصْرِفُ عَنْ ءايَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الارْضِ واحتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى قد يمنع عن الإيمان ويصد عنه وذلك ظاهر وقالت المعتزلة لا يمكن حمل الآية على ما ذكرتموه ويدل عليه وجوه
الوجه الأول قال الجبائي لا يجوز أن يكون المراد منه أنه تعالى يصرفهم عن الإيمان بآياته لأن قوله سَأَصْرِفُ يتناول المستقبل وقد بين تعالى أنهم كفروا فكذبوا من قبل هذا الصرف لأنه تعالى وصفهم بكونهم متكبرين في الأرض بغير الحق وبأنهم إن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلاً فثبت أن الآية دالة على أن الكفر قد حصل لهم في الزمان الماضي فهذا يدل على أنه ليس المراد من هذا الصرف الكفر بالله
الوجه الثاني أن قوله سَأَصْرِفُ عَنْ ءايَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الارْضِ مذكور على وجه العقوبة على التكبر والكفر فلو كان المراد من هذا الصرف هو كفرهم لكان معناه أنه تعالى خلق فيهم الكفر عقوبة لهم على إقدامهم على الكفر ومعلوم أن العقوبة على الكفر بمثل ذلك الفعل المعاقب عليه لا يجوز فثبت أنه ليس المراد من هذا الصرف الكفر

الوجه الثالث أنه لو صرفهم عن الإيمان وصدهم عنه فكيف يمكن أن يقول مع ذلك فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ( الانشقاق 20 ) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَة ِ مُعْرِضِينَ ( المدثر 49 وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ ( الإسراء 94 الكهف 55 ) فثبت أن حمل الآية على هذا الوجه غير ممكن فوجب حملها على وجوه أخرى
فالوجه الأول قال الكعبي وأبو مسلم الأصفهاني إن هذا الكلام تمام لما وعد الله موسى عليه السلام به من إهلاك أعدائه ومعنى صرفهم إهلاكهم فلا يقدرون على منع موسى من تبليغها ولا على منع المؤمنين من الإيمان به وهو شبيه بقوله بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ( المائدة 67 ) فأراد تعالى أن يمنع أعداء موسى عليه السلام من إيذائه ومنعه من القيام بما يلزمه في تبليغ النبوة والرسالة
والوجه الثاني في التأويل ما ذكره الجبائي فقال سأصرف هؤلاء المتكبرين على نيل ما في آياتي من العز والكرامة المعدين للأنبياء والمؤمنين وإنما يصرفهم عن ذلك بواسطة إنزال الذل والإذلال بهم وذلك يجري مجرى العقوبة على كفرهم وتكبرهم على الله
والوجه الثالث أن من الآيات آيات لا يمكن الانتفاع بها إلا بعد سبق الإيمان فإذا كفروا فقد صيروا أنفسهم بحيث لا يمكنهم الانتفاع بتلك الآيات فحينئذ يصرفهم الله عنها
والوجه الرابع أن الله تعالى إذا علم من حال بعضهم أنه إذا شاهد تلك الآيات فإنه لا يستدل بها بل يستخف بها ولا يقوم بحقها فإذا علم الله ذلك منه صح من الله تعالى أن يصرفه عنه
والوجه الخامس نقل عن الحسن أنه قال إن من الكفار من يبالغ في كفره وينتهي إلى الحد الذي إذا وصل إليه مات قلبه فالمراد من قوله سَأَصْرِفُ عَنْ ءايَاتِي هؤلاء فهذا جملة ما قيل في هذا الباب وظهر أن هذه الآية ليس فيها دلالة قوية على صحة ما يقول به في مسألة خلق الأعمال والله أعلم
المسألة الثانية معنى يتكبرون أنهم يرون أنهم أفضل الخلق وأن لهم من الحق ما ليس لغيرهم وهذه الصفة أعني التكبر لا تكون إلا لله تعالى لأنه هو الذي له القدرة والفضل الذي ليس لأحد فلا جرم يستحق كونه متكبراً وقال بعضهم التكبر إظهار كبر النفس على غيرها وصفة التكبر صفة ذم في جميع العباد وصفة مدح في الله جل جلاله لأنه يستحق إظهار ذلك على من سواه لأن ذلك في حقه حق وفي حق غيره باطل
واعلم أنه تعالى ذكر في هذه الآية قوله بِغَيْرِ الْحَقّ لأن إظهار الكبر على الغير قد يكون بالحق فإن للمحق أن يتكبر على المبطل وفي الكلام المشهور التكبر على المتكبر صدقة
أما قوله تعالى وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ففيه مباحث
البحث الأول قرأ حمزة والكسائي الرُّشْدِ بفتح الراء والشين والباقون بضم الراء وسكون الشين وفرق أبو عمرو بينهما فقال الرُّشْدِ بضم الراء الصلاح لقوله تعالى وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا ( النساء 6 )

أي صلاحاً و الرُّشْدِ بفتحهما الاستقامة في الدين قال تعالى مِمَّا عُلّمْتَ رُشْداً ( الكهف 66 ) وقال الكسائي هما لغتان بمعنى واحد مثل الحزن والحزن والسقم والقسم وقيل الرُّشْدِ بالضم الاسم وبالفتحتين المصدر
البحث الثاني سَبِيلَ الرُّشْدِ عبارة عن سبيل الهدى والدين الحق والصواب في العلم والعمل و سَبِيلَ الْغَى ّ ما يكون مضاداً لذلك ثم بيّن تعالى أن هذا الصرف إنما كان لأمرين أحدهما كونهم مكذبين بآيات الله والثاني كونهم غافلين عنها والمراد أنهم واظبوا على الإعراض عنها حتى صاروا بمنزلة الغافل عنها والله أعلم
وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِأايَاتِنَا وَلِقَآءِ الاٌّ خِرَة ِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر ما لأجله صرف المتكبرين عن آياته بقوله ذالِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ ( الأعراف 146 ) بين حال أولئك المكذبين فقد كان يجوز أن يظن أنهم يختلفون في باب العقاب لأن فيهم من يعمل بعض أعمال البر فبين تعالى حال جميعهم سواء كان متكبراً أو متواضعاً أو كان قليل الإحسان أو كان كثير الإحسان فقال وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا وَلِقَاء الاْخِرَة ِ يعني بذلك جحدهم للميعاد وجرأتهم على المعاصي فبين تعالى أن أعمالهم محبطة والكلام في حقيقة الإحباط قد تقدم في سورة البقرة على الاستقصاء فلا فائدة في الإعادة
ثم قال تعالى هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وفيه حذف والتقدير هل يجزون إلا بما كانوا يعملون أو على ما كانوا يعملون واحتج أصحابنا بهذه الآية على فساد قول أبي هاشم في أن تارك الواجب يستحق العقاب بمجرد أن لا يفعل الواجب وإن لم يصدر منه فعل عند ذلك الواجب قالوا هذه الآية تدل على أنه لا جزاء إلا على العمل وليس ترك الواجب بعمل فوجب أن لا يجازي عليه فثبت أن الجزاء إنما حصل على فعل ضده وأجاب أبو هاشم بأني لا أسمي ذلك العقاب جزاء فسقط الاستدلال
وأجاب أصحابنا عن هذا الجواب بأن الجزاء إنما سمي جزاء لأنه يجزي ويكفي في المنع من المنهي وفي الحث على المأمور به فإن ترتب العقاب على مجرد ترك الواجب كان ذلك العقاب كافياً في الزجر عن ذلك الترك فكان جزاء فثبت أنه لا سبيل إلى الامتناع من تسميته جزاء والله أعلم
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ

اعلم أن المراد من هذه الآية قصة اتخاذ السامري العجل وفيها مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي حُلِيّهِمْ بكسر الحاء واللام وتشديد الياء للاتباع كدلي والباقون حُلِيّهِمْ بضم الحاء وكسر اللام وتشديد الياء جمع حلي كثدي وثدي وقرأ بعضهم مِنْ حُلِيّهِمْ على التوحيد والحلي اسم ما يتحسن به من الذهب والفضة
المسألة الثانية قيل إن بني إسرائيل كان لهم عيد يتزينون فيه ويستعيرون من القبط الحلي فاستعاروا حلي القبط لذلك اليوم فلما أغرق الله القبط بقيت تلك الحلي في أيدي بني إسرائيل فجمع السامري تلك الحلي وكان رجلاً مطاعاً فيهم ذا قدر وكانوا قد سألوا موسى عليه السلام أن يجعل لهم إلاهاً يعبدونه فصاغ السامري عجلاً ثم اختلف الناس فقال قوم كان قد أخذ كفاً من تراب حافر فرس جبريل عليه السلام فألقاه في جوف ذلك العجل فانقلب لحماً ودماً وظهر منه الخوار مرة واحدة فقال السامري هذا إلاهكم وإلاه موسى وقال أكثر المفسرين من المعتزلة إنه كان قد جعل ذلك العجل مجوفاً ووضع في جوفه أنابيب على شكل مخصوص وكان قد وضع ذلك التمثال على مهب الرياح فكانت الريح تدخل في جوف الأنابيب ويظهر منه صوف مخصوص يشبه خوار العجل وقال آخرون إنه جعل ذلك التمثال أجوب وجعل تحته في الموضع الذي نصب فيه العجل من ينفخ فيه من حيث لا يشعر به الناس فسمعوا الصوت من جوفه كالخوار قال صاحب هذا القول والناس قد يفعلون الآن في هذه التصاوير التي يجرون فيها الماء على سبيل الفوارات ما يشبه ذلك فبهذا الطريق وغيره أظهر الصوت من ذلك التمثال ثم ألقى إلى الناس أن هذا العجل إلاههم وإلاه موسى بقي في لفظ الآية سؤالات
السؤال الأول لم قيل وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيّهِمْ عِجْلاً جَسَداً والمتخذ هو السامري وحده
والجواب فيه وجهان الأول أن الله نسب الفعل إليهم لأن رجلاً منهم باشره كما يقال بنو تميم قالوا كذا وفعلوا كذا والقائل والفاعل واحد والثاني أنهم كانوا مريدين لاتخاذه راضين به فكأنهم اجتمعوا عليه
السؤال الثاني لم قال مِنْ حُلِيّهِمْ ولم يكن الحلي لهم وإنما حصل في أيديهم على سبيل العارية
والجواب أنه تعالى لما أهلك قوم فرعون بقيت تلك الأموال في أيديهم وصارت ملكاً لهم كسائر أملاكهم بدليل قوله تعالى كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ( الدخان 25 ) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ( الشعراء 58 ) وَنَعْمَة ٍ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً ءاخَرِينَ ( الدخان 27 28 )
السؤال الثالث هؤلاء الذين عبدوا العجل هم كل قوم موسى أو بعضهم
والجواب أن قوله تعالى وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيّهِمْ عِجْلاً يفيد العموم قال الحسن

كلهم عبدوا العجل غير هارون واحتج عليه بوجهين الأول عموم هذه الآية والثاني قول موسى عليه السلام في هذه القصة رَبّ اغْفِرْ لِى وَلاخِى قال خص نفسه وأخاه بالدعاء وذلك يدل على من كان مغايراً لهما ما كان أهلاً للدعاء ولو بقوا على الإيمان لما كان الأمر كذلك وقال آخرون بل كان قد بقي في بني إسرائيل من ثبت على إيمانه فإن ذلك الكفر إنما وقع في قوم مخصوصين والدليل عليه قوله تعالى وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّة ٌ يَهْدُونَ بِالْحَقّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ( الأعراف 181 )
السؤال الرابع هل انقلب ذلك التمثال لحماً ودماً على ما قاله بعضهم أو بقي ذهباً كما كان قبل ذلك
والجواب الذاهبون إلى الاحتمال الأول احتجوا على صحة قولهم بوجهين الأول قوله تعالى عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ والجسد اسم للجسم الذي يكون من اللحم والدم ومنهم من نازع في ذلك وقال بل الجسد اسم لكل جسم كثيف سواء كان من اللحم والدم أو لم يكن كذلك
والحجة الثانية أنه تعالى أثبت له خواراً وذلك إنما يتأتى في الحيوان وأجيب عنه بأن ذلك الصوت لما أشبه الخوار لم يبعد إطلاق لفظ الخوار عليه وقرأ علي رضي الله عنه ( جؤار ) بالجيم والهمزة من جأر إذا صاح فهذا ما قيل في هذا الباب
واعلم أنه تعالى لما حكى عنهم هذا المذهب والمقالة احتج على فساد كون ذلك العجل إلاهاً بقوله أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ وتقرير هذا الدليل أن هذا العجل لا يمكنه أن يكلمهم ولا يمكنه أن يهديهم إلى الصواب والرشد وكل من كان كذلك كان إما جماداً وإما حيواناً عاجزاً وعلى التقديرين فإنه لا يصلح للإلاهية واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن من لا يكون متكلماً ولا هادياً إلى السبيل لم يكن إلاهاً لأن الإله هو الذي له الأمر والنهي وذلك لا يحصل إلا إذا كان متكلماً فمن لا يكون متكلماً لم يصح منه الأمر والنهي والعجل عاجز عن الأمر والنهي فلم يكن إلاهاً وقالت المعتزلة هذه الآية تدل على أن شرط كونه إلاهاً أن يكون هادياً إلى الصدق والصواب فمن كان مضلاً عنه وجب أن لا يكون إلاهاً
فإن قيل فهذا يوجب أنه لو صح أن يتكلم ويهدي يجوز أن يتخذ إلاهاً وإلا فإن كان إثبات ذلك كنفيه في أنه لا يجوز أن يتخذ إلهاً فلا فائدة فيما ذكرتم
والجواب من وجهين الأول لا يبعد أن يكون ذلك شرطاً لحصول الإلهية فيلزم من عدمه عدم الإلهية وإن كان لا يلزم من حصوله حصول الإلهية الثاني أن كل من قدر على أن يكلمهم وعلى أن يهديهم إلى الخير والشر فهو إلاه والخلق لا يقدرون على الهداية إنما يقدرون على وصف الهداية فأما على وضع الدلائل ونصبها فلا قادر عليه إلا الله سبحانه وتعالى
واعلم أنه ختم الآية بقوله وَكَانُواْ ظَالِمِينَ أي كانوا ظالمين لأنفسهم حيث أعرضوا عن عبادة الله تعالى واشتغلوا بعبادة العجل والله أعلم

وَلَمَّا سُقِطَ فَى أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ
اعلم أنهم اتفقوا على أن المراد من قوله سُقِطَ فَى أَيْدِيهِمْ أنه اشتد ندمهم على عبادة العجل واختلفوا في الوجه الذي لأجله حسنت هذه الاستعارة
فالوجه الأول قال الزجاج معناه سقط الندم في أيديهم أي في قلوبهم كما يقال حصل في يديه مكروه وإن كان من المحال حصول المكروه الواقع في اليد إلا أنهم أطلقوا على المكروه الواقع في القلب والنفس كونه واقعاً في اليد فكذا ههنا
والوجه الثاني قال صاحب ( الكشاف ) إنما يقال لمن ندم سقط في يده لأن من شأن من اشتد ندمه أن يعض يده غماً فيصير ندمه مسقوطاً فيها لأن فاه قد وقع فيها
والوجه الثالث أن السقوط عبارة عن نزول الشيء من أعلى إلى أسفل ولهذا قالوا سقط المطر ويقال سقط من يدك شيء وأسقطت المرأة فمن أقدم على عمل فهو إنما يقدم عليه لاعتقاده أن ذلك العمل خير وصواب وأن ذلك العمل يورثه شرفاً ورفعة فإذا بان له أن ذلك العمل كان باطلاً فاسداً فكأنه قد انحط من الأعلى إلى الأسفل وسقط من فوق إلى تحت فلهذا السبب يقال للرجل إذا أخطأ كان ذلك منه سقطة شبهوا ذلك بالسقطة على الأرض فثبت أن إطلاق لفظ السقوط على الحالة الحاصلة عند الندم جائز مستحسن بقي أن يقال فما الفائدة في ذكر اليد فنقول اليد هي الآلة التي بها يقدر الإنسان على الأخذ والضبط والحفظ فالنادم كأنه يتدارك الحالة التي لأجلها حصل له الندم ويشتغل بتلافيها فكأنه قد سقط في يد نفسه من حيث إن بعد حصول ذلك الندم اشتغل بالتدارك والتلافي
والوجه الرابع حكى الواحدي عن بعضهم أن هذا مأخوذ من السقيط وهو ما يغشى الأرض بالغدوات شبه الثلج يقال منه سقطت الأرض كما يقال من الثلج ثلجت الأرض وثلجنا أي أصابها الثلج ومعنى سقط في يده أي وقع في يده السقيط والسقيط يذوب بأدنى حرارة ولا يبقى فمن وقع في يده السقيط لم يحصل منه على شيء قط فصار هذا مثلاً لكل من خسر في عاقبته ولم يحصل من سعيه على طائل وكانت الندامة آخر أمره
والوجه الخامس قال بعض العلماء النادم إنما يقال له سقط في يده لأنه يتحير في أمره ويعجز عن أعماله والآلة الأصلية في الأعمال في أكثر الأمر هي اليد والعاجز في حكم الساقط فلما قرن السقوط بالأيدي علم أن السقوط في اليد إنما حصل بسبب العجز التام ويقال في العرف لمن لا يهتدي لما يصنع ضلت يده ورجله

والوجه السادس إن من عادة النادم أن يطأطىء رأسه ويضعه على يده معتمداً عليه وتارة يضعها تحت ذقنه وشطر من وجهه على هيئة لو نزعت يده لسقط على وجهه فكانت اليد مسقوط فيها لتمكن السقوط فيها ويكون قوله سقط في أيديهم بمعنى سقط على أيديهم كقوله وَلاصَلّبَنَّكُمْ فِى جُذُوعِ النَّخْلِ ( 71 ) أي عليها والله أعلم
ثم قال تعالى وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ أي قد تبينوا ضلالهم تبييناً كأنهم أبصروه بعيونهم قال القاضي يجب أن يكون المؤخر مقدماً لأن الندم والتحير إنما يقطعان بعد المعرفة فكأنه تعالى قال ولما رأوا أنهم قد ضلوا سقط في أيديهم لما نالهم من عظيم الحسرة ويمكن أن يقال إنه لا حاجة إلى هذا التقديم والتأخير وذلك لأن الإنسان إذا صار شاكاً في أن العمل الذي أقدم عليه هل هو صواب أو خطأ فقد يندم عليه من حيث إن الإقدام على ما لا يعلم كونه صواباً أو خطأ فاسداً أو باطلاً غير جائز فعند ظهور هذه الحالة يحصل الندم ثم بعد ذلك يتكامل العلم ويظهر أنه كان خطأ وفاسداً وباطلاً فثبت أن على هذا التقدير لا حاجة إلى التزام التقديم والتأخير ثم بين تعالى أنهم عند ظهور هذا الندم وحصول العلم بأن الذي عملوه كان باطلاً أظهروا الانقطاع إلى الله تعالى ف قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ وهذا كلام من اعترف بعظيم ما أقدم عليه وندم على ما صدر منه ورغب إلى ربه في إقالة عثرته ثم صدقوا على أنفسهم كونهم من الخاسرين إن لم يغفر الله لهم وهذا الندم والاستغفار إنما حصل بعد رجوع موسى عليه السلام إليهم وقرىء ( لئن لم ترحمنا ربنا وتغفر لنا ) بالتاء وَرَبُّنَا بالنصب على النداء وهذا كلام التائبين كما قال آدم وحواء عليهما السلام وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِى مِن بَعْدِى أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِى وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِى فَلاَ تُشْمِتْ بِى َ الأَعْدَآءَ وَلاَ تَجْعَلْنِى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِى وَلأَخِى وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَاحِمِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن قوله وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا لا يمنع من أن يكون قد عرف

خبرهم من قبل في عبادة العجل ولا يوجب ذلك لجواز أن يكون عند الرجوع ومشاهدة أحوالهم صار كذلك فلهذا السبب اختلفوا فيه فقال قوم إنه عند هجومه عليهم عرف ذلك وقال أبو مسلم بل كان عارفاً بذلك من قبل وهذا أقرب ويدل عليه وجوه الأول أن قوله تعالى وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا يدل على أنه حال ما كان راجعاً كان غضبان أسفاً وهو إنما كان راجعاً إلى قومه قبل وصوله إليهم فدل هذا على أنه عليه السلام قبل وصوله إليهم كان عالماً بهذه الحالة الثاني أنه تعالى ذكر في سورة طه أنه أخبره بوقوع تلك الواقعة في الميقات
المسألة الثانية في الأسف قولان الأول أن الأسف الشديد الغضب وهو قول أبي الدرداء وعطاء عن ابن عباس واختيار الزجاج واحتجوا بقوله فَلَمَّا ءاسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ ( الزخرف 55 ) أي أغضبونا والثاني وهو أيضاً قول ابن عباس والحسن والسدي إن الآسف هو الحزين وفي حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت إن أبا بكر رجل أسيف أي حزين قال الواحدي والقولان متقاربان لأن الغضب من الحزن والحزن من الغضب فإذا جاءك ما تكره ممن هو دونك غضبت وإذا جاءك ممن هو فوقك حزنت فتسمى إحدى هاتين الحالتين حزناً والأخرى غضباً فعلى هذا كان موسى غضبان على قومه لأجل عبادتهم العجل أسفاً حزيناً لأن الله تعالى فتنهم وقد كان تعالى قال له إِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ ( طه 85 )
أما بقوله بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِى مِن بَعْدِى فمعناه بئسما قمتم مقامي وكنتم خلفائي من بعدي وهذا الخطاب إنما يكون لعبدة العجل من السامري وأشياعه أو لوجوه بني إسرائيل وهم هارون عليه السلام والمؤمنون معه ويدل عليه قوله اخْلُفْنِى فِى قَوْمِى ( الأعراف 142 ) وعلى التقدير الأول يكون المعنى بئسما خلفتموني حيث عبدتم العجل مكان عبادة الله وعلى هذا التقدير الثاني يكون المعنى بئسما خلفتموني حيث لم تمنعوا من عبادة غير الله تعالى وههنا سؤالات
السؤال الأول أين ما يقتضيه ( بئس ) من الفاعل والمخصوص بالذم
والجواب الفاعل مضمر يفسره قوله مَا خَلَفْتُمُونِى والمخصوص بالذم محذوف تقديره بئس خلافة خلفتمونيها من بعدي خلافتكم
السؤال الثاني أي معنى لقوله مِن بَعْدِى بعد قوله خَلَفْتُمُونِى
والجواب معناه من بعد ما رأيتم مني من توحيد الله تعالى ونفي الشركاء عنه وإخلاص العبادة له أو من بعد ما كانت أحمل بني إسرائيل على التوحيد وأمنعهم من عبادة البقر حين قالوا اجْعَلْ لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ ءالِهَة ٌ ومن حق الخلفاء أن يسيروا سيرة المستخلفين
وأما قوله أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبّكُمْ فمعنى العجلة التقدم بالشيء قبل وقته ولذلك صارت مذمومة والسرعة غير مذمومة لأن معناها عمل الشيء في أول أوقاته هكذا قاله الواحدي
ولقائل أن يقول لو كانت العجلة مذمومة فلم قال موسى عليه السلام وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبّ لِتَرْضَى ( طه 84 ) قال ابن عباس المعنى أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبّكُمْ يعني ميعاد ربكم فلم تصبروا له وقال الحسن وعد ربكم الذي وعدكم من الأربعين وذلك لأنهم قدروا أنه لما لم يأت على رأس الثلاثين ليلة فقد مات

وقال عطاء يريد أعجلتم سخط ربكم وقال الكلبي أعجلتم بعبادة العجل قبل أن يأتيكم أمر ربكم ولما ذكر تعالى أن موسى رجع غضبان ذكر بعده ما كان ذلك الغضب موجباً له وهو أمران الأول أنه قال وَأَلْقَى يريد التي فيها التوراة ولما كانت تلك الألواح أعظم معاجزه ثم أنه ألقاها دل ذلك على شدة الغضب لأن المرء لا يقدم على مثل هذا العمل إلا عند حصول الغضب المدهش روي أن التوراة كانت سبعة أسباع فلما ألقى الألواح تكسرت فرفع منها ستة أسباعها وبقي سبع واحد وكان فيما رفع تفصيل كل شيء وفيما بقي الهدى والرحمة وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( يرحم الله أخي موسى ليس الخبر كالمعاينة لقد أخبره الله تعالى بفتنة قومه فعرف أن ما أخبره به حق وأنه على ذلك متمسك بما في يده )
ولقائل أن يقول ليس في القرآن إلا أنه ألقى الألواح فأما أنه ألقاها بحيث تكسرت فهذا ليس في القرآن وأنه لجراءة عظيمة على كتاب الله ومثله لا يليق بالأنبياء عليهم السلام
والأمر الثاني من الأمور المتولدة عن ذلك الغضب
قوله تعالى رَبّكُمْ وَأَلْقَى الالْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ وفي هذا الموضع سؤال لمن يقدح في عصمة الأنبياء عليهم السلام ذكرناه في سورة طه مع الجواب الصحيح وبالجملة فالطاعنون في عصمة الأنبياء يقولون إنه أخذ برأس أخيه يجره إليه على سبيل الإهانة والاستخفاف والمثبتون لعصمة الأنبياء قالوا إنه جر رأس أخيه إلى نفسه ليساره ويستكشف منه كيفية تلك الواقعة
فإن قيل فلماذا قال ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِى
قلنا الجواب عنه أن هرون عليه السلام خاف أن يتوهم جهال بني إسرائيل أن موسى عليه السلام غضبان عليه كما أنه غضبان على عبدة العجل فقال له ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِى وما أطاعوني في ترك عبادة العجل وقد نهيتهم ولم يكن معي من الجمع ما أمنعهم بهم عن هذا العمل فلا تفعل بي ما تشمت أعدائي به فهم أعداؤك فإن القوم يحملون هذا الفعل الذي تفعله بي على الإهانة لا على الإكرام
وأما قوله تعالى ابْنَ أُمَّ فاعلم أنه قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ابْنَ أُمَّ بكسر الميم وفي طه مثله على تقدير أمي فحذف ياء الأضافة لأن مبنى النداء على الحذف وبقي الكسر على الميم ليدل على الإضافة كقوله فَبَشّرْ عِبَادِ والباقون بفتح الميم في السورتين وفيه قولان أحدهما أنهما جعلا اسماً واحداً وبنى لكثرة أصحاب هذين الحرفين فصار بمنزلة اسم واحد نحو حضرموت وخمسة عشر وثانيهما أنه على حذف الألف المبدلة من ياء الإضافة وأصله يا ابن أما كما قال الشاعر يا ابنة عما لا تلومي واهجعي
وقوله إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِى أي لم يلتفتوا إلى كلامي وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء يعني أصحاب العجل ولا تجعلني مع القوم الظالمين الذين عبدوا العجل أي لا تجعلني شريكاً لهم في عقوبتك لهم على فعلهم فعند هذا قال موسى عليه السلام رَبّ اغْفِرْ لِى أي فيما أقدمت عليه من هذا الغضب والحدة وَلاخِى في تركه التشديد العظيم على عبدة العجل وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرحِمِينَ

واعلم أن تمام هذه السؤالات والجوابات في هذه القصة مذكور في سورة طه والله أعلم
إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّة ٌ فِى الْحَيواة ِ الدُّنْيَا وَكَذَالِكَ نَجْزِى الْمُفْتَرِينَ وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَءَامَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ
اعلم أن المقصود من هذه الآية شرح حال من عبد العجل
واعلم أن المفعول الثاني من مفعولي الاتخاذ محذوف والتقدير اتخذوا العجل إلهاً ومعبوداً ويدل على هذا المحذوف قوله تعالى فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ فَقَالُواْ هَاذَا إِلَاهُكُمْ وَإِلَاهُ مُوسَى ( طه 88 ) وللمفسرين في هذه الآية طريقان الأول أن المراد بالذين اتخذوا العجل هم الذين باشروا عبادة العجل وهم الذين قال فيهم سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مّن رَّبّهِمْ وعلى هذا التقدير ففيه سؤال وهو أن أولئك الأقوام تاب الله عليهم بسبب أنهم قتلوا أنفسهم في معرض التوبة عن ذلك الذنب وإذا تاب الله عليهم فكيف يمكن أن يقال في حقهم أنه سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مّن رَّبّهِمْ وَذِلَّة ٌ فِى الْحَيواة ِ الدُّنْيَا
والجواب عنه أن ذلك الغضب إنما حصل في الدنيا لا في الآخرة وتفسير ذلك الغضب هو أن الله تعالى أمرهم بقتل أنفسهم والمراد بقوله وَذِلَّة ٌ فِى الْحَيواة ِ الدُّنْيَا هو أنهم قد ضلوا فذلوا
فإن قالوا السين في قوله سَيَنَالُهُمْ للاستقبال فكيف يحمل هذا على حكم الدنيا
قلنا هذا الكلام حكاية عما أخبر الله تعالى به موسى عليه السلام حين أخبره بافتتان قومه واتخاذهم العجل فأخبره في ذلك الوقت أنه سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا فكان هذا الكلام سابقاً على وقوعهم في القتل وفي الذلة فصح هذا التأويل من هذا الاعتبار
والطريق الثاني أن المراد بالذين اتخذوا العجل أبناؤهم الذين كانوا في زمن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وعلى هذا التقدير ففي الآية وجهان
الوجه الأول أن العرب تعير الأبناء بقبائح أفعال الآباء كما تفعل ذلك في المناقب يقولون للأبناء فعلتم كذا وكذا وإنما فعل ذلك من مضى من آبائهم فكذا ههنا وصف اليهود الذين كانوا في زمن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) باتخاذ العجل وإن كان آباؤهم فعلوا ذلك ثم حكم عليهم بأنه سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مّن رَّبّهِمْ في الآخرة وَذِلَّة ٌ فِى الْحَيواة ِ الدُّنْيَا كما قال تعالى في صفتهم ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلَّة ُ وَالْمَسْكَنَة ُ ( لبقرة 61 )
والوجه الثاني أن يكون التقدير إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ أي الذين باشروا ذلك سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ أي سينال أولادهم ثم حذف المضاف بدلالة الكلام عليه

أما قوله تعالى وَكَذالِكَ نَجْزِى الْمُفْتَرِينَ فالمعنى أن كل مفتر في دين الله فجزاؤه غضب الله والذلة في الدنيا قال مالك بن أنس ما من مبتدع إلا ويجد فوق رأسه ذلة ثم قرأ هذه الآية وذلك لأن المبتدع مفتر في دين الله
أما قوله تعالى وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَءامَنُواْ فهذا يفيد أن من عمل السيئات فلا بد وأن يتوب عنها أولاً وذلك بأن يتركها أولاً ويرجع عنها ثم يؤمن بعد ذلك وثانياً يؤمن بالله تعالى ويصدق بأنه لا إله غيره إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ وهذه الآية تدل على أن السيئات بأسرها مشتركة في أن التوبة منها توجب الغفران لأن قوله وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيّئَاتِ يتناول الكل والتقدير أن من أتى بجميع السيئات ثم تاب فإن الله يغفرها له وهذا من أعظم ما يفيد البشارة والفرح للمذنبين والله أعلم
وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الاٌّ لْوَاحَ وَفِى نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَة ٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين لنا ما كان منه مع الغضب بين في هذه الآية ما كان منه عند سكوت الغضب
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في قوله سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أقوال
القول الأول أن هذا الكلام خرج على قانون الاستعارة كأن الغضب كان يقويه على ما فعل ويقول له قل لقومك كذا وكذا وألق الألواح وخذ برأس أخيك إليك فلما زال الغضب صار كأنه سكت
والقول الثاني وهو قول عكرمة أن المعنى سكت موسى عن الغضب وقلب كما قالوا أدخلت القلنسوة في رأسي والمعنى أدخلت رأسي في القلنسوة
القول الثالث المراد بالسكوت السكون والزوال وعلى هذا جاز سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ ولا يجوز صمت لأن سَكَتَ بمعنى سكن وأما صمت فمعناه سد فاه عن الكلام وذلك لا يجوز في الغضب
المسألة الثانية ظاهر الآية يدل على أنه عليه السلام لما عرف أن أخاه هرون لم يقع منه تقصير وظهر له صحة عذره فعند ذلك سكن غضبه وهو الوقت الذي قال فيه رَبّ اغْفِرْ لِى وَلاخِى ( الأعراف 151 ) وكما دعا لأخيه منبهاً بذلك على زوال غضبه لأن ذلك أول ما تقدم من أمارات غضبه على ما فعله من الأمرين فجعل ضد ذينك الفعلين كالعلامة لسكون غضبه
المسألة الثالثة قوله أَخَذَ الاْلْوَاحَ المراد منه الألواح المذكورة في قوله تعالى وَأَلْقَى الالْوَاحَ ( الأعراف 15 ) وظاهر هذا يدل على أن شيئاً منها لم ينكسر ولم يبطل وأن الذي قيل من أن ستة أسباع التوراة رفعت إلى السماء ليس الأمر كذلك وقوله وَفِى نُسْخَتِهَا النسخ عبارة عن النقل والتحويل فإذا كتبت كتاباً عن كتاب

حرفاً بعد حرف قلت نسخت ذلك الكتاب كأنك نقلت ما في الأصل إلى الكتاب الثاني قال ابن عباس لما ألقى موسى عليه السلام الألواح تكسرت فصام أربعين يوماً فأعاد الله تعالى الألواح وفيها عين ما في الأولى فعلى هذا قوله وَفِى نُسْخَتِهَا أي وفيما نسخ منها وأما إن قلنا إن الألواح لم تتكسر وأخذها موسى بأعيانها بعد ما ألقاها ولا شك أنها كانت مكتوبة من اللوح المحفوظ فهي أيضاً تكون نسخاً على هذا التقدير وقوله هُدًى وَرَحْمَة ً أي هُدًى من الضلالة وَرَحْمَة ً من العذاب لّلَّذِينَ هُمْ لِرَبّهِمْ يَرْهَبُونَ يريد الخائفين من ربهم
فإن قيل التقدير للذين يرهبون ربهم فما الفائدة في اللام في قوله لِرَبّهِمُ
قلنا فيه وجوه الأول أن تأخير الفعل عن مفعوله يكسبه ضعفاً فدخلت اللام للتقوية ونظيره قوله لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ ( يوسف 43 ) الثاني أنها لام الأجل والمعنى للذين هم لأجل ربهم يرهبون لا رياء ولا سمعة الثالث أنه قد يزاد حرف الجر في المفعول وإن كان الفعل متعدياً كقولك قرأت في السورة وقرأت السورة وألقى يده وألقى بيده وفي القرآن أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ( العلق 14 ) وفي موضع آخر وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ فعلى هذا قوله لِرَبّهِمُ اللام صلة وتأكيد كقوله رَدِفَ لَكُم وقد ذكرنا مثل هذا في قوله وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ ( آل عمران 73 )
وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَة ُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّاى َ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَآءُ مِنَّآ إِنْ هِى َ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِى مَن تَشَآءُ أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ
في هذه الآية مسائل
المسألة الأولى الاختيار افتعال من لفظ الخير يقال اختار الشيء إذا أخذ خيره وخياره وأصل اختار اختير فلما تحركت الياء وقبلها فتحة قلبت ألفاً نحو قال وباع ولهذا السبب استوى لفظ الفاعل والمفعول فقيل فيهما مختار والأصل مختير ومختير فقلبت الياء فيهما ألفاً فاستويا في اللفظ وتحقيق الكلام فيه أن نقول إن الأعضاء السليمة بحسب سلامتها الأصلية صالحة للفعل والترك وصالحة للفعل ولضده وما دام يبقى على هذا الاستواء امتنع أن يصير مصدراً لأحد الجانبين دون الثاني وإلا لزم رجحان الممكن من غير مرجح وهو محال فإذا حكم الإنسان بأن له في الفعل نفعاً زائداً وصلاحاً راجحاً فقد حكم بأن ذلك الجانب خير له من ضده فعند حصول هذا الاعتقاد في القلب يصير الفعل راجحاً على الترك فلولا الحكم بكون ذلك الطرف خيراً من الطرف الآخر امتنع أن يصير فاعلاً فلما كان صدور الفعل

عن الحيوان موقوفاً على حكمه بكون ذلك الفعل خيراً من تركه لا جرم سمى الفعل الحيواني فعلاً اختيارياً والله أعلم
فإن قيل إن الإنسان قد يقتل نفسه وقد يرمي نفسه من شاهق جبل مع أنه يعلم أن ذلك ليس من الخيرات بل من الشرور
فنقول إن الإنسان لا يقدم على قتل نفسه إلا إذا اعتقد أنه بسبب ذلك القتل يتخلص عن ضرر أعظم من ذلك القتل والضرر الأسهل بالنسبة إلى الضرر الأعظم يكون خيراً لا شراً وعلى هذا التقدير فالسؤال زائل والله أعلم
المسألة الثانية قال جماعة النحويين معناه واختار موسى من قومه سبعين فحذفت كلمة ( من ) ووصل الفعل فنسب يقال اخترت من الرجال زيداً واخترت الرجال زيداً وأنشدوا قول الفرزدق ومنا الذي اختار الرجال سماحة
وجوداً إذا هب الرياح الزعازع
قال أبو علي والأصل في هذا الباب أن من الأفعال ما يتعدى إلى المفعول الثاني بحرف واحد ثم يتسع فيحذف حرف الجر فيتعدى الفعل إلى المفعول الثاني من ذلك قولك اخترت من الرجال زيداً ثم يتسع فيقال اخترت الرجال زيداً وقولك أستغفر الله من ذنبي وأستغفر الله ذنبي قال الشاعر أستغفر الله ذنباً لست أحصيه
ويقال أمرت زيداً بالخير وأمرت زيداً الخير قال الشاعر أمرتك الخير فافعل ما أمرت به
والله أعلم
وعندي فيه وجه آخر وهو أن يكون التقدير واختار موسى قومه لميقاتنا وأراد بقومه المعتبرين منهم إطلاقاً لاسم الجنس على ما هو المقصود منهم وقوله سَبْعِينَ رَجُلاً عطف بيان وعلى هذا الوجه فلا حاجة إلى ما ذكروه من التكلفات
المسألة الثالثة ذكروا أن موسى عليه السلام اختار من قومه اثني عشر سبطاً من كل سبط ستة فصاروا اثنين وسبعين فقال ليتخلف منكم رجلان فتشاجروا فقال إن لمن قعد منكم مثل أجر من خرج فقعد كالب ويوشع وروى أنه لم يجد إلا ستين شيخاً فأوحى الله إليه أن يختار من الشبان عشرة فاختارهم فأصبحوا شيوخاً فأمرهم أن يصوموا ويتطهروا ويطهروا ثيابهم ثم خرج بهم إلى الميقات
المسألة الرابعة هذا الاختيار هل هو للخروج إلى الميقات الذي كلم الله تعالى موسى فيه وسأل موسى من الله الرؤية أو هو للخروج إلى موضع آخر فيه أقوال للمفسرين
القول الأول إنه لميقات الكلام والرؤية قالوا إنه عليه السلام خرج بهؤلاء السبعين إلى طور سيناء فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود من الغمام حتى أحاط بالجبل كله ودنا موسى عليه السلام ودخل فيه وقال للقوم ادنوا فدنوا حتى إذا دخلوا الغمام وقعوا سجداً فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه

افعل ولا تفعل ثم انكشف الغمام فأقبلوا إليه فطلبوا الرؤية وقالوا سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذالِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللَّهِ جَهْرَة ً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَة ُ ( البقرة 55 ) وهي المراد من الرجفة المذكورة في هذه الآية فقال موسى عليه السلام رَبّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مّن قَبْلُ وَإِيَّاى َ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا فالمراد منه قولهم أَرِنَا اللَّهِ جَهْرَة ً
والقول الثاني أن المراد من هذا الميقات ميقات مغاير لميقات الكلام وطلب الرؤية وعلى هذا القول فقد اختلفوا فيه على وجوه أحدها أن هؤلاء السبعين وإن كانوا ما عبدوا العجل إلا أنهم ما فارقوا عبدة العجل عند اشتغالهم بعبادة العجل وثانيها أنهم ما بالغوا في النهي عن عبادة العجل وثالثها أنهم لما خرجوا إلى الميقات ليتوبوا دعوا ربهم وقالوا أعطنا ما لم تعطه أحداً قبلنا ولا تعطيه أحداً بعدها فأنكر الله تعالى عليهم ذلك الكلام فأخذتهم الرجفة واحتج القائلون بهذا القول على صحة مذهبهم بأمور الأول أنه تعالى ذكر قصة ميقات الكلام وطلب الرؤية ثم أتبعها بذكر قصة العجل ثم أتبعها بهذه القصة وظاهر الحال يقتضي أن تكون هذه القصة مغايرة للقصة المتقدمة التي لا ينكر أنه يمكن أن يكون هذا عوداً إلى تتمة الكلام في القصة الأولى إلا أن الأليق بالفصاحة إتمام الكلام في القصة الواحدة في وضع واحد ثم الانتقال منها بعد تمامها إلى غيرها فأما ما ذكر بعض القصة ثم الانتقال منها إلى قصة أخرى ثم الانتقال منها بعد تمامها إلى بقية الكلام في القصة الأولى فإنه يوجب نوعاً من الخبط والاضطراب والأولى صون كلام الله تعالى عنه الثاني أن في ميقات الكلام وطلب الرؤية لم يظهر هناك منكر إلا أنهم قَالُواْ أَرِنَا اللَّهِ جَهْرَة ً فلو كانت الرجفة المذكورة في هذه الآية إنما حصلت بسبب ذلك القول لوجب أن يقال أتهلكنا بما يقوله السفهاء منا فلما لم يقل موسى كذلك بل قال أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا علمنا أن هذه الرجفة إنما حصلت بسبب إقدامهم على عبادة العجل لا بسبب إقدامهم على طلب الرؤية الثالث أن الله تعالى ذكر في ميقات الكلام والرؤية أنه خر موسى صعقاً وأنه جعل الجبل دكاً وأما الميقات المذكور في هذه الآية فإن الله تعالى ذكر أن القوم أخذتهم الرجفة ولم يذكر أن موسى عليه السلام أخذته الرجفة وكيف يقال أخذته الرجفة وهو الذي قال لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي واختصاص كل واحد من هذين الميقاتين بهذه الأحكام يفيد ظن أن أحدهما غير الآخر واحتج القائلون بأن هذا الميقات هو ميقات الكلام وطلب الرؤية بأن قالوا إنه تعالى قال في الآية الأولى وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا ( الأعراف 143 ) فدلت هذه الآية على أن لفظ الميقات مخصوص بذلك الميقات فلما قال في هذه الآية وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لّمِيقَاتِنَا وجب أن يكون المراد بهذا الميقات هو عين ذلك الميقات
وجوابه أن هذا الدليل ضعيف ولا شك أن الوجوه المذكورة في تقوية القول الأول أقوى والله أعلم
والوجه الثالث في تفسير هذا الميقات ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال إن موسى وهرون عليهما السلام انطلقا إلى سفح جبل فنام هرون فتوفاه الله تعالى فلما رجع موسى عليه السلام قالوا إنه هو الذي قتل هرون فاختار موسى قومه سبعين رجلاً وذهبوا إلى هرون فأحياه الله تعالى وقال ما قتلني أحد فأخذتهم الرجفة هنالك فهذا جملة ما قيل في هذا الباب والله أعلم

المسألة الخامسة اختلفوا في تلك الرجفة فقيل إنها رجفة أوجبت الموت قال السدي قال موسى يا رب كيف أرجع إلى بني إسرائيل وقد أهلكت خيارهم ولم يبق معي منهم واحد فماذا أقول لبني إسرائيل وكيف يأمنوني على أحد منهم بعد ذلك فأحياهم الله تعالى فمعنى قوله لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مّن قَبْلُ وَإِيَّاى َ أن موسى عليه السلام خاف أن يتهمه بنو إسرائيل على السبعين إذا عاد إليهم ولم يصدقوا أنهم ماتوا فقال لربه لو شئت أهلكتنا قبل خروجنا للميقات فكان بنو إسرائيل يعاينون ذلك ولا يتهموني
والقول الثاني أن تلك الرجفة ما كانت موتاً ولكن القوم لما رأوا تلك الحالة المهيبة أخذتهم الرعدة ورجفوا حتى كادت تبين منهم مفاصلهم وتنقصم ظهورهم وخاف موسى عليه السلام الموت فعند ذلك بكى ودعا فكشف الله عنهم تلك الرجفة
أما قوله أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا فقال أهل العلم إنه لا يجوز أن يظن موسى عليه السلام أن الله تعالى يهلك قوماً بذنوب غيرهم فيجب تأويل الآية وفيه بحثان الأول أنه استفهام بمعنى الجحد وأراد أنك لا تفعل ذلك كما تقول أتهين من يخدمك أي لا تفعل ذلك الثاني قال المبرد هو استفهام استعطاف أي لا تهلكنا
وأما قوله إِنْ هِى َ إِلاَّ فِتْنَتُكَ فقال الواحدي رحمه الله الكناية في قوله هِى َ عائدة إلى الفتنة كما تقول إن هو إلا زيد وإن هي إلا هند والمعنى أن تلك الفتنة التي وقع فيها السفهاء لم تكن إلا فتنتك أضللت بها قوماً فافتتنوا وعصمت قوماً عنها فثبتوا على الحق ثم أكد بيان أن الكل من الله تعالى فقال تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِى مَن تَشَاء ثم قال الواحدي وهذه الآية من الحجج الظاهرة على القدرية التي لا يبقى لهم معها عذر قالت المعتزلة لا تعلق للجبرية بهذه الآية لأنه تعالى لم يقل تضل بها من تشاء من عبادك عن الدين ولأنه تعالى قال تُضِلُّ بِهَا أي بالرجفة ومعلوم أن الرجفة لا يضل الله بها فوجب حمل هذه الآية على التأويل فأما قوله إِنْ هِى َ إِلاَّ فِتْنَتُكَ فالمعنى امتحانك وشدة تعبدك لأنه لما أظهر الرجفة كلفهم بالصبر عليها
وأما قوله تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء ففيه وجوه الأول تهدي بهذا الامتحان إلى الجنة والثواب بشرط أن يؤمن ذلك المكلف ويبقى على الإيمان وتعاقب من تشاء بشرط أن لا يؤمن أو إن آمن لكن لا يصبر عليه والثاني أن يكون المراد بالإضلال الإهلاك والتقدير تهلك من تشاء بهذه الرجفة وتصرفها عمن تشاء والثالث أنه لما كان هذا الامتحان كالسبب في هداية من اهتدى وضلال من ضل جاز أن يضافا إليه
واعلم أن هذه التأويلات متسعة والدلائل العقلية دالة على أنه يجب أن يكون المراد ما ذكرناه وتقريرها من وجوه الأول أن القدرة الصالحة للإيمان والكفر لا يترجح تأثيرها في أحد الطرفين على تأثيرها في الطرف الآخر إلا لأجل داعية مرجحة وخالق تلك الداعية هو الله تعالى وعند حصول تلك الداعية يجب الفعل وإذا ثبتت هذه المقدمات ثبت أن الهداية من الله تعالى وأن الإضلال من الله تعالى الثاني أن أحداً من العقلاء لا يريد إلا الإيمان والحق والصدق فلو كان الأمر باختياره وقصده لوجب أن يكون كل واحد مؤمناً محقاً وحيث لم يكن الأمر كذلك ثبت أن الكل من الله تعالى الثالث أنه لو كان حصول الهداية والمعرفة بفعل العبد فما لم يتميز عنده الاعتقاد الحق عن الاعتقاد الباطل امتنع أن يخص أحد

الاعتقادين بالتحصيل والتكوين لكن علمه بأن هذا الاعتقاد هو الحق وأن الآخر هو الباطل يقتضي كونه عالماً بذلك المعتقد أولاً كما هو عليه فيلزم أن تكون القدرة على تحصيل الاعتقاد مشروطة بكون ذلك الاعتقاد الحق حاصلاً وذلك يقتضي كون الشيء مشروطاً بنفسه وأنه محال فثبت أنه يمتنع أن يكون حصول الهداية والعلم بتخليق العبد وأما الكلام في إبطال تلك التأويلات فقد سبق ذكره في هذا الكتاب غير مرة والله أعلم
ثم حكى تعالى عن موسى عليه السلام أنه قال بعد ذلك أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ واعلم أن قوله أَنتَ وَلِيُّنَا يفيد الحصر ومعناه أنه لا ولي لنا ولا ناصر ولا هادي إلا أنت وهذا من تمام ما سبق ذكره من قوله تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِى مَن تَشَاء وقوله فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا المراد منه أن إقدامه على قوله إِنْ هِى َ إِلاَّ فِتْنَتُكَ جراءة عظيمة فطلب من الله غفرانها والتجاوز عنها وقوله وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ معناه أن كل من سواك فإنما يتجاوز عن الذنب إما طلباً للثناء الجميل أو للثواب الجزيل أو دفعاً للربقة الخسيسة عن القلب وبالجملة فذلك الغفران يكون لطلب نفع أو لدفع ضرر أما أنت فتغفر ذنوب عبادك لا لطلب عوض وغرض بل لمحض الفضل والكرم فوجب القطع بكونه خَيْرُ الْغَافِرِينَ والله أعلم
وَاكْتُبْ لَنَا فِى هَاذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَة ً وَفِي الاٌّ خِرَة ِ إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِى أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَى ْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَواة َ وَالَّذِينَ هُم بِأايَاتِنَا يُؤْمِنُونَ
اعلم أن هذا من بقية دعاء موسى ( صلى الله عليه وسلم ) عند مشاهدة الرجفة فقوله وَاكْتُبْ لَنَا فِى هَاذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَة ً معناه أنه قرر أولاً أنه الأولى له إلا الله تعالى وهو قوله أَنتَ وَلِيُّنَا ثم إن المتوقع من الولي والناصر أمران أحدهما دفع الضرر والثاني تحصيل النفع ودفع الضرر مقدم على تحصيل النفع فلهذا السبب بدأ بطلب دفع الضرر وهو قوله فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ثم أتبعه بطلب تحصيل النفع وهو قوله وَاكْتُبْ لَنَا فِى هَاذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَة ً وَفِي الاْخِرَة ِ وقوله وَاكْتُبْ أي وجب لنا والكتابة تذكر بمعنى الإيجاب وسؤاله الحسنة في الدنيا والآخرة كسؤال المؤمنين من هذه الأمة حيث أخبر الله تعالى عنهم في قوله وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَة ً وَفِي الاْخِرَة ِ حَسَنَة ً
واعلم أن كونه تعالى ولياً للعبد يناسب أن يطلب العبد منه دفع المضار وتحصيل المنافع ليظهر آثار كرمه وفضله وإلهيته وأيضاً اشتغال العبد بالتوبة والخضوع والخشوع يناسب طلب هذه الأشياء فذكر السبب الأول أولاً وهو كونه تعالى ولياً له وفرع عليه طلب هذه الأشياء ثم ذكر بعده السبب الثاني وهو اشتغال العبد بالتوبة والخضوع فقال إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قال المفسرون هُدْنَا أي تبنا ورجعنا إليك قال

الليث ( الهود ) التوبة وإنما ذكر هذا السبب أيضاً لأن السبب الذي يقتضي حسن طلب هذه الأشياء ليس إلا مجموع هذين الأمرين كونه إلهاً ورباً وولياً وكوننا عبيداً له تائبين خاضعين خاشعين فالأول عهد عزة الربوبية والثاني عهد ذلة العبودية فإذا حصلا واجتمعا فلا سبب أقوى منهما ولما حكى الله تعالى دعاء موسى عليه السلام ذكر بعده ما كان جواباً لموسى عليه السلام فقال تعالى قال عَذَابِى أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء معناه إني أعذب من أشاء وليس لأحد علي اعتراض لأن الكل ملكي ومن تصرف في خالص ملكه فليس لأحد أن يعترض عليه وقرأ الحسن مِنْ أَسَاء من الإساءة واختار الشافعي هذه القراءة وقوله وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَى ْء فيه أقوال كثيرة قيل المراد من قوله وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَى ْء هو أن رحمته في الدنيا عمت الكل وأما في الآخرة فهي مختصة بالمؤمنين وإليه الإشارة بقوله فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وقيل الوجود خير من العدم وعلى هذا التقدير فلا موجود إلا وقد وصل إليه رحمته وأقل المراتب وجوده وقيل الخير مطلوب بالذات والشر مطلوب بالعرض وما بالذات راجح غالب وما بالعرض مرجوح مغلوب وقال المعتزلة الرحمة عبارة عن إرادة الخير ولا حي إلا وقد خلقه الله تعالى للرحمة واللذة والخير لأنه إن كان منتفعاً أو متمكناً من الانتفاع فهو برحمة الله من جهات كثيرة وإن حصل هناك ألم فله الأعواض الكثيرة وهي من نعمة الله تعالى ورحمته فلهذا السبب قال وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَى ْء وقال أصحابنا قوله وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَى ْء من العام الذي أريد به الخاص كقوله وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَى ْء
أما قوله وَاكْتُبْ لَنَا فِى هَاذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَة ً وَفِي الاْخِرَة ِ إِنَّا
فاعلم أن جميع تكاليف الله محصورة في نوعين الأول التروك وهي الأشياء التي يجب على الإنسان تركها والاحتراز عنها والاتقاء منها وهذا النوع إليه الإشارة بقوله لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ والثاني الأفعال وتلك التكاليف إما أن تكون متوجهة على مال الإنسان أو على نفسه
أما القسم الأول فهو الزكاة وإليه الإشارة بقوله وَيُؤْتُونَ الزَّكَواة َ
وأما القسم الثاني فيدخل فيه ما يجب على الإنسان علماً وعملاً أما العلم فالمعرفة وأما العمل فالإقرار باللسان والعمل بالأركان ويدخل فيها الصلاة وإلى هذا المجموع الإشارة بقوله وَالَّذِينَ هُم بِئَايَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ونظيره قوله تعالى في أول سورة البقرة هُدًى لّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلواة َ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ( البقرة 2 3 )
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِى َّ الأُمِّى َّ الَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى التَّوْرَاة ِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالاٌّ غْلَالَ الَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِى أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ

اعلم أنه تعالى لما بين أن من صفة من تكتب له الرحمة في الدنيا والآخرة التقوى وإيتاء الزكاة والإيمان بالآيات ضم إلى ذلك أن يكون من صفته اتباع النَّبِى َّ الامّى َّ الَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى التَّوْرَاة ِ وَالإِنجِيلِ واختلفوا في ذلك فقال بعضهم المراد بذلك أن يتبعوه باعتقاد نبوته من حيث وجدوا صفته في التوراة إذ لا يجوز أن يتبعوه في شرائعه قبل أن يبعث إلى الخلق وقال في قوله وَالإِنجِيلَ أن المراد سيجدونه مكتوباً في الإنجيل لأن من المحال أن يجدوه فيه قبل ما أنزل الله الإنجيل وقال بعضهم بل المراد من لحق من بني إسرائيل أيام الرسول فبين تعالى أن هؤلاء اللاحقين لا يكتب لهم رحمة الآخرة إلا إذا اتبعوا الرسول النبي الأمي والقول الثاني أقرب لأن اتباعه قبل أن بعث ووجد لا يمكن فكأنه تعالى بين بهذه الآية أن هذه الرحمة لا يفوز بها من بني إسرائيل إلا من اتقى وآتى الزكاة وآمن بالدلائل في زمن موسى ومن هذه صفته في أيام الرسول إذا كان مع ذلك متبعاً للنبي الأمي في شرائعه
إذا عرفت هذا فنقول إنه تعالى وصف محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) في هذه الآية بصفات تسع
الصفة الأولى كونه رسولاً وقد اختص هذا اللفظ بحسب العرف بمن أرسله الله إلى الخلق لتبليغ التكاليف
الصفة الثانية كونه نبياً وهو يدل على كونه رفيع القدر عند الله تعالى
الصفة الثالثة كونه أمياً قال الزجاج معنى الامّى ّ الذي هو على صفة أمة العرب قال عليه الصلاة والسلام ( إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ) فالعرب أكثرهم ما كانوا يكتبون ولا يقرؤون والنبي عليه الصلاة والسلام كان كذلك فلهذا السبب وصفه بكونه أمياً قال أهل التحقيق وكونه أمياً بهذا التفسير كان من جملة معجزاته وبيانه من وجوه الأول أنه عليه الصلاة والسلام كان يقرأ عليهم كتاب الله تعالى منظوماً مرة بعد أخرى من غير تبديل ألفاظه ولا تغيير كلماته والخطيب من العرب إذا ارتجل خطبة ثم أعادها فإنه لا بد وأن يزيد فيها وأن ينقص عنها بالقليل والكثير ثم إنه عليه الصلاة والسلام مع أنه ما كان يكتب وما كان يقرأ يتلو كتاب الله من غير زيادة ولا نقصان ولا تغيير فكان ذلك من المعجزات وإليه الإشارة بقوله تعالى سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى ( الأعلى 6 ) والثاني أنه لو كان يحسن الخط والقراءة لصار متهماً في أنه ربما طالع كتب الأولين فحصل هذه العلوم من تلك المطالعة فلما أتى بهذا القرآن العظيم المشتمل على العلوم الكثيرة من غير تعلم ولا مطالعة كان ذلك من المعجزات وهذا هو المراد من قوله وَمَا كُنْتَ تَتْلُواْ مِنْهُ قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ( العنكبوت 48 ) الثالث أن تعلم الخط شيء سهل فإن أقل الناس ذكاء وفطنة يتعلمون الخط بأدنى سعى فعدم تعلمه يدل على نقصان عظيم في الفهم ثم إنه تعالى آتاه علوم الأولين والآخرين وأعطاه من العلوم والحقائق ما لم يصل إليه أحد من البشر ومع تلك القوة العظيمة في العقل والفهم جعله بحيث لم يتعلم الخط الذي يسهل تعلمه على أقل الخلق عقلاً وفهماً فكان الجمع بين

هاتين الحالتين المتضادتين جارياً مجرى الجمع بين الضدين وذلك من الأمور الخارقة للعادة وجار مجرى المعجزات
الصفة الرابعة قوله تعالى الَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى التَّوْرَاة ِ وَالإِنجِيلِ وهدا يدل على أن نعته وصحة نبوته مكتوب في التوراة والإنجيل لأن ذلك لو لم يكن مكتوباً لكان ذكر هذا الكلام من أعظم المنفرات لليهود والنصارى عن قبول قوله لأن الإصرار على الكذب والبهتان من أعظم النفرات والعاقل لا يسعى فيما يوجب نقصان حاله وينفر الناس عن قبول قوله فلما قال ذلك دل هذا على أن ذلك النعت كان مذكوراً في التوراة والإنجيل وذلك من أعظم الدلائل على صحة نبوته
الصفة الخامسة قوله يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ قال الزجاج يجوز أن يكون قوله يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ استئنافاً ويجوز أن يكون المعنى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ أنه يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وأقول مجامع الأمر بالمعروف محصورة في قوله عليه الصلاة والسلام ( التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله ) وذلك لأن الموجود إما واجب الوجود لذاته وإما ممكن الوجود لذاته أما الواجب لذاته فهو الله جل جلاله ولا معروف أشرف من تعظيمه وإظهار عبوديته وإظهار الخضوع والخشوع على باب عزته والاعتراف بكونه موصوفاً بصفات الكمال مبرأ عن النقائص والآفات منزهاً عن الأضداد والأنداد وأما الممكن لذاته فإن لم يكن حيواناً فلا سبيل إلى إيصال الخير إليه لأن الانتفاع مشروط بالحياة ومع هذا فإنه يجب النظر إلى كلها بعين التعظيم من حيث إنها مخلوقة لله تعالى ومن حيث إن كل ذرة من ذرات المخلوقات لما كانت دليلاٌ قاهراً وبرهاناً باهراً على توحيده وتنزيهه فإنه يجب النظر إليه بعين الاحترام ومن حيث إن الله تعالى في كل ذرة من ذرات المخلوقات أسراراً عجيبة وحكماً خفية فيجب النظر إليها بعين الاحترام وأما إن كان ذلك المخلوق من جنس الحيوان فإنه يجب إظهار الشفقة عليه بأقصى ما يقدر الإنسان عليه ويدخل فيه بر الوالدين وصلة الأرحام وبث المعروف فثبت أن قوله عليه الصلاة والسلام ( التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله ) كلمة جامعة لجميع جهات الأمر بالمعروف
الصفة السادسة قوله وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ والمراد منه أضداد الأمور المذكورة وهي عبادة الأوثان والقول في صفات الله بغير علم والكفر بما أنزل الله على النبيين وقطع الرحم وعقوق الوالدين
الصفة السابعة قوله تعالى وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ من الناس من قال المراد بالطيبات الأشياء التي حكم الله بحلها وهذا بعيد لوجهين الأول أن على هذا التقدير تصير الآية ويحل لهم المحللات وهذ محض التكرير الثاني أن على هذا التقدير تخرج الآية عن الفائدة لأنا لا ندري أن الأشياء التي أحلها الله ما هي وكم هي بل الواجب أن يكون المراد من الطيبات الأشياء المستطابة بحسب الطبع وذلك لأن تناولها يفيد اللذة والأصل في المنافع الحل فكانت هذه الآية دالة على أن الأصل في كل ما تستطيبه النفس ويستلذه الطبع الحل إلا لدليل منفصل
الصفة الثامنة قوله تعالى وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَئِثَ قال عطاء عن ابن عباس يريد الميتة والدم وما ذكر في سورة المائدة إلى قوله ذالِكُمْ فِسْقٌ وأقول كل ما يستخبثه الطبع وتستقذره النفس كان تناوله سبباً للألم والأصل في المضار الحرمة فكان مقتضاه أن كل ما يستخبثه الطبع فالأصل فيه الحرمة إلا

لدليل منفصل وعلى هذا الأصل فرع الشافعي رحمه الله تحريم بيع الكلب لأنه روى عن ابن عباس عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في كتاب الصحيحين أنه قال ( الكلب خبيث وخبيث ثمنه ) وإذا ثبت أن ثمنه خبيث وجب أن يكون حراماً لقوله تعالى وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَئِثَ وأيضاً الخمر محرمة لأنها رجس بدليل قوله إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ( المائدة 90 ) إلى قوله رِجْسٌ والرجس خبيث بدليل إطباق أهل اللغة عليه والخبيث حرام لقوله تعالى وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَئِثَ
الصفة التاسعة قوله تعالى وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالاْغْلَالَ الَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ ابن عامر وحده آصارهم على الجمع والباقون عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ على الواحد قال أبو علي الفارسي الإصر مصدر يقع على الكثرة مع إفراد لفظه يدل على ذلك إضافته وهو مفرد إلى الكثرة كما قال وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ ( البقرة 20 ) ومن جمع أراد ضروباً من العهود مختلفة والمصادر قد تجمع إذا اختلفت ضروبها كما في قوله وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَاْ ( الأحزاب 10 )
المسألة الثانية الأصر الثقل الذي يأصر صاحبه أي يحبسه من الحراك لثقله والمراد منه أن شريعة موسى عليه السلام كانت شديدة وقوله وَالاْغْلَالَ الَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ المراد منه الشدائد التي كانت في عباداتهم كقطع أثر البول وقتل النفس في التوبة وقطع الأعضار الخاطئة وتتبع العروف من اللحم وجعلها الله أغلالاً لأن التحريم يمنع من الفعل كما أن الغل يمنع عن الفعل وقيل كانت بنو إسرائيل إذا قامت إلى الصلاة لبسوا المسوح وغلوا أيديهم إلى أعناقهم تواضعاً لله تعالى فعلى هذا القول الأغلال غير مستعارة
واعلم أن هذه الآية تدل على أن الأصل في المضار أن لا تكون مشروعة لأن كل ما كان ضرراً كان إصراً وغلاً وظاهر هذا النص يقتضي عدم المشروعية وهذا نظير لقوله عليه الصلاة والسلام ( لا ضرر ولا ضرار ) في الإسلام ولقوله عليه الصلاة والسلام ( بعثت بالحنيفية السهلة السمحة ) وهو أصل كبير في الشريعة
واعلم أنه لما وصف محمداً عليه الصلاة والسلام بهذه الصفات التسع قال بعده فَالَّذِينَ ءامَنُواْ بِهِ قال ابن عباس يعني من اليهود وَعَزَّرُوهُ يعني وقروه قال صاحب ( الكشاف ) أصل التعزير المنع ومنه التعزير وهو الضرب دون الحد لأنه منع من معاودة القبيح
ثم قال تعالى وَنَصَرُوهُ أي على عدوه وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِى أُنزِلَ مَعَهُ وهو القرآن وقيل الهدى والبيان والرسالة وقيل الحق الذي بيانه في القلوب كبيان النور
فإن قيل كيف يمكن حمل النور ههنا على القرآن والقرآن ما أنزل مع محمد وإنما أنزل مع جبريل
قلنا معناه إنه أنزل مع نبوته لأن نبوته ظهرت مع ظهور القرآن
ثم أنه تعالى لما ذكر هذه الصفات قَالَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي هم الفائزون بالمطلوب في الدنيا والآخرة

قُلْ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ والأرض لا إله إِلاَّ هُوَ يُحْى ِ وَيُمِيتُ فَأامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِى ِّ الأُمِّى ِّ الَّذِى يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
اعلم أنه تعالى لما قال فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ثم بين تعالى أن من شرط حصول الرحمة لأولئك المتقين كونهم متبعين للرسول النبي الأمي حقق في هذه الآية رسالته إلى الخلق بالكلية فقال قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا النَّاسُ إِنّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا وفي هذه الكلمة مسألتان
المسألة الأولى هذه الآية تدل على أن محمداً عليه الصلاة والسلام مبعوث إلى جميع الخلق وقال طائفة من اليهود يقال لهم العيسوية وهم أتباع عيسى الأصفهاني أن محمداً رسول صادق مبعوث إلى العرب وغير مبعوث إلى بني إسرائيل ودليلنا على إبطال قولهم هذه الآية لأن قوله يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ خطاب يتناول كل الناس
ثم قال إِنّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا وهذا يقتضي كونه مبعوثاً إلى جميع الناس وأيضاً فما يعلم بالتواتر من دينه أنه كان يدعى أنه مبعوث إلى كل العالمين فأما أن يقال إنه كان رسولاً حقاً أو ما كان كذلك فإن كان رسولاً حقاً امتنع الكذب عليه ووجب الجزم بكونه صادقاً في كل ما يدعيه فلما ثبت بالتواتر وبظاهر هذه الآية أنه كان يدعي كونه مبعوثاً إلى جميع الخلق وجب كونه صادقاً في هذا القول وذلك يبطل قول من يقول إنه كان مبعوثاً إلى العرب فقط لا إلى بني إسرائيل
وأما قول القائل إنه ما كان رسولاً حقاً فهذا يقتضي القدح في كونه رسولاً إلى العرب وإلى غيرهم فثبت أن القول بأنه رسول إلى بعض الخلق دون بعض كلام باطل متناقض
إذا ثبت هذا فنقول قوله قُلْ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا من الناس من قال إنه عام دخله التخصيص ومنهم من أنكر ذلك أما الأولون فقالوا إنه دخله التخصيص من وجهين الأول أنه رسول إلى الناس إذاكانوا من جملة المكلفين فأما إذا لم يكونوا من جملة المكلفين لم يكن رسولاً إليهم وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام قال ( رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق ) والثاني أنه رسول الله إلى كل من وصل إليه خبر وجوده وخبر معجزاته وشرائعه حتى يمكنه عند ذلك متابعته أما لو قدرنا حصول قوم في طرف من أطراف العالم لم يبلغهم خبر وجوده ولا خبر معجزاته فهم لا يكونون مكلفين بالإقرار بنبوته ومن الناس من أنكر القول بدخول التخصيص في الآية من هذين الوجهين
أما الأول فتقريره أن قوله يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ خطاب وهذا الخطاب لا يتناول إلا المكلفين وإذا كان كذلك فالناس الذين دخلوا تحت قوله يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ ليسوا إلا المكلفين من الناس وعلى هذا التقدير فلم

يلزم أن يقال إن قوله يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ عام دخله التخصيص
وأما الثاني فلأنه يبعد جداً أن يقال حصل في طرف من أطراف الأرض قوم لم يبلغهم خبر ظهور محمد عليه الصلاة والسلام وخبر معجزاته وشرائعه وإذا كان ذلك كالمستبعد لم يكن بنا حاجة إلى التزام هذا التخصيص
المسألة الثانية هذه الآية وإن دلت على أن محمداً عليه الصلاة والسلام مبعوث إلى كل الخلق فليس فيها دلالة على أن غيره من الأنبياء عليهم السلام ما كان مبعوثاً إلى كل الخلق بل يجب الرجوع في أنه هل كان في غيره من الأنبياء من كان مبعوثاً إلى كل الخلق أم لا إلى سائر الدلائل فنقول تمسك جمع من العلماء في أن أحداً غيره ما كان مبعوثاً إلى كل الخلق لقوله عليه الصلاة والسلام ( أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي أرسلت إلى الأحمر والأسود وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ونصرت على عدوي بالرعب يرعب مني مسيرة شهر وأطعمت الغنيمة دون من قبلي وقيل لي سل تعطه فاختبأتها شفاعة لأمتي )
ولقائل أن يقول هذا الخبر لا يتناول دلالته على إثبات هذا المطلوب لأنه لا يبعد أن يكون المراد مجموع هذه الخمسة من خواص رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولم يحصل لأحد سواه ولم يلزم من كون هذا المجموع من خواصه كون واحد من آحاد هذا المجموع من خواصه وأيضاً قيل إن آدم عليه السلام كان مبعوثاً إلى جميع أولاده وعلى هذا التقدير فقد كان مبعوثاً إلى جميع الناس وأن نوحاً عليه السلام لما خرج من السفينة كان مبعوثاً إلى الذين كانوا معه مع أن جميع الناس في ذلك الزمان ما كان إلا ذلك القوم
أما قوله تعالى الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فاعلم أنه تعالى لما أمر رسوله بأن يقول للناس كلهم إني رسول الله إليكم أردفه بذكر ما يدل على صحة هذه الدعوى
واعلم أن هذه الدعوى لا تتم ولا تظهر فائدتها إلا بتقرير أصول أربعة
الأصل الأول إثبات أن للعالم إلهاً حياً عالماً قادراً والذي يدل عليه ما ذكره في قوله تعالى الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وذلك لأن أجسام السموات والأرض تدل على افتقارها إلى الصانع الحي العالم القادر من جهات كثيرة مذكورة في القرآن العظيم وشرحها وتقريرها مذكور في هذا التفسير وإنما افتقرنا في حسن التكليف وبعثة الرسل إلى إثبات هذا الأصل لأن بتقدير أن لا يحصل للعالم مؤثر يؤثر في وجوده أو إن حصل له مؤثر لكن كان ذلك المؤثر موجباً بالذات لا فاعلاً بالاختيار لم يكن القول ببعثة الأنبياء والرسل عليهم السلام ممكناً
والأصل الثاني إثبات أن إله العالم واحد منزه عن الشريك والضد والند وإليه الإشارة بقوله لاَ إله إِلاَّ هُوَ وإنما افتقرنا في حسن التكليف وجواز بعثة الرسل إلى تقرير هذا الأصل لأن بتقدير أن يكون للعالم إلهان وأرسل أحد الإلهين نبياً إلى الخلق فلعل هذا الإنسان الذي يدعوه الرسول إلى عبادة هذا الإله ما كان مخلوقاً له بل كان مخلوقاً للإله الثاني وعلى هذا التقدير فإنه يجب على هذا الإنسان عبادة هذا الإله وطاعته فكان بعثة الرسول إليه وإيجاب الطاعة عليه ظلماً وباطلاً أما إذا ثبت أن الإله واحد فحينئذ يكون جميع الخلق عبيداً له ويكون تكليفه في الكل نافذاً وانقياد الكل لأوامره ونواهيه لازماً فثبت أن ما لم

يثبت كون الإله تعالى واحداً لم يكن إرسال الرسل وإنزال الكتب المشتملة على التكليف جائزاً
والأصل الثالث إثبات أنه تعالى قادر على الحشر والنشر والبعث والقيامة لأن بتقدير أن لا يثبت ذلك كان الاشتغال بالطاعة والاحتراز عن المعصية عبثاً ولغواً وإلى تقدير هذا الأصل الإشارة بقوله يُحْى ِ وَيُمِيتُ لأنه لما أحيا أولاً ثبت كونه قادراً على الإحياء ثانياً فيكون قادراً على الإعادة والحشر والنشر وعلى هذا التقدير يكون الإحياء الأول إنعاماً عظيماً فلا يبعد منه تعالى أن يطالبه بالعبودية ليكون قيامه بتلك الطاعة قائماً مقام الشكر عن الإحياء الأول وأيضاً لما دل الإحياء الأول على قدرته على الإحياء الثاني فحينئذ يكون قادراً على إيصال الجزاء إليه
واعلم أنه لما ثبت القول بصحة هذه الأصول الثلاثة ثبت أنه يصح من الله تعالى إرسال الرسل ومطالبة الخلق بالتكاليف لأن على هذا التقدير الخلق كلهم عبيده ولا مولى لهم سواه وأيضاً إنه منعم على الكل بأعظم النعم وأيضاً إنه قادر على إيصال الجزاء إليهم بعد موتهم وكل واحد من هذه الأسباب الثلاثة سبب تام في أنه يحسن منه تكليف الخلق أما بحسب السبب الأول فإنه يحسن من المولى مطالبة عبده بطاعته وخدمته وأما بحسب السبب الثاني فلأنه يحسن من المنعم مطالبة المنعم عليه بالشكر والطاعة وأما بحسب السبب الثالث فلأنه يحسن من القادر على إيصال الجزاء التام إلى المكلف أن يكلفه بنوع من أنواع الطاعة فظهر أنه لما ثبتت الأصول الثلاثة بالدلائل التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية فإنه يلزم الجزم بأنه يحسن من الله إرسال الرسل ويجوز منه تعالى أن يخصهم بأنواع التكاليف فثبت أن الآيات المذكورة دالة على أن للعالم إلهاً حياً عالماً قادراً وعلى أن هذا الإله واحد وعلى أنه يحسن منه إرسال الرسل وإنزال الكتب
واعلم أنه تعالى لما أثبت هذه الأصول المذكورة بهذه الدلائل المذكورة في هذه الآية ذكر بعده قوله قُلْ ياأَيُّهَا النَّاسُ وهذا الترتيب في غاية الحسن وذلك لأنه لما بين أولاً أن القول ببعثة الأنبياء والرسل عليهم السلام أمر جائز ممكن أردفه بذكر أن محمداً رسول حق من عند الله لأن من حاول إثبات مطلوب وجب عليه أن يبين جوازه أولاً ثم حصوله ثانياً ثم إنه بدأ بقوله مَّا كَانَ لأنا بينا أن الإيمان بالله أصل والإيمان بالنبوة والرسالة فرع عليه والأصل يجب تقديمه فلهذا السبب بدأ بقوله مَّا كَانَ ثم أتبعه بقوله وَرَسُولِهِ النَّبِى ّ الامّى ّ الَّذِى يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ
واعلم أن هذا إشارة إلى ذكر المعجزات الدالة على كونه نبياً حقاً وتقريره أن معجزات رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كانت على نوعين
النوع الأول المعجزات التي ظهرت في ذاته المباركة وأجلها وأشرفها أنه كان رجلاً أمياً لم يتعلم من أستاذ ولم يطالع كتاباً ولم يتفق له مجالسة أحد من العلماء لأنه ما كانت مكة بلدة العلماء وما غاب رسول الله عن مكة غيبة طويلة يمكن أن يقال إن في مدة تلك الغيبة تعلم العلوم الكثيرة ثم إنه مع ذلك فتح الله عليه باب العلم والتحقيق وأظهر عليه هذا القرآن المشتمل على علوم الأولين والآخرين فكان ظهور هذه العلوم العظيمة عليه مع أنه كان رجلاً أمياً لم يلق أستاذاً ولم يطالع كتاباً من أعظم المعجزات وإليه الإشارة بقوله النَّبِى ّ الامّى ّ

والنوع الثاني من معجزاته الأمور التي ظهرت من مخارج ذاته مثل انشقاق القمر ونبوع الماء من بين أصابعه وهي تسمى بكلمات الله تعالى ألا ترى أن عيسى عليه السلام لما كان حدوثه أمراً غريباً مخالفاً للمعتاد لا جرم سماه الله تعالى كلمة فكذلك المعجزات لما كانت أموراً غريبة خارقة للعادة لم يبعد تسميتها بكلمات الله تعالى وهذا النوع هو المراد بقوله يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ أي يؤمن بالله وبجميع المعجزات التي أظهرها الله عليه فبهذا الطريق أقام الدليل على كونه نبياً صادقاً من عند الله
واعلم أنه لما ثبت بالدلائل القاهرة التي قررناها بنبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وجب أن يذكر عقيبه الطريق الذي به يمكن معرفة شرعه على التفصيل وما ذاك إلا بالرجوع إلى أقواله وأفعاله وإليه الإشارة بقوله تعالى وَاتَّبِعُوهُ
واعلم أن المتابعة تتناول المتابعة في القول وفي الفعل أما المتابعة في القول فهو أن يمتثل المكلف كل ما يقوله في طرق الأمر والنهي والترغيب والترهيب وأما المتابعة في الفعل فهي عبارة عن الإتيان بمثل ما أتى المتبوع به سواء كان في طرف الفعل أو في طرف الترك فثبت أن لفظ وَاتَّبِعُوهُ يتناول القسمين وثبت أن ظاهر الأمر للوجوب فكان قوله تعالى وَاتَّبِعُوهُ دليلاً على أنه يجب الانقياد له في كل أمر ونهي ويجب الاقتداء به في كل ما فعله إلا ما خصه الدليل وهو الأشياء التي ثبت بالدليل المنفصل أنها من خواص الرسول ( صلى الله عليه وسلم )
فإن قيل الشيء الذي أتي به الرسول يحتمل أنه أتى به على سبيل أن ذلك كان واجباً عليه ويحتمل أيضاً أنه أتى به على سبيل أن ذلك كان مندوباً فبتقدير أنه أتى به على سبيل أن ذلك كان مندوباً فلو أتينا به على سبيل أنه واجب علينا كان ذلك تركاً لمتابعته ونقضاً لمبايعته والآية تدل على وجوب متابعته فثبت أن إقدام الرسول على ذلك الفعل لا يدل على وجوبه علينا
قلنا المتابعة في الفعل عبارة عن الإتيان بمثل الفعل الذي أتى به المتبوع بدليل أن من أتى بفعل ثم إن غيره وافقه في ذلك الفعل قيل إنه تابعه عليه ولو لم يأت به قيل إنه خالفه فيه فلما كان الإتيان بمثل فعل المتبوع متابعة ودلت الآية على وجوب المتابعة لزم أن يجب على الأمة مثل فعل الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بقي ههنا أنا لا نعرف أنه عليه السلام أتى بذلك على قصد الوجوب أو على قصد الندب فنقول حال الدواعي والعزائم غير معلوم وحال الإتيان بالفعل الظاهر والعمل المحسوس معلوم فوجب أن لا يلتفت إلى البحث عن حال العزائم والدواعي لكونها أموراً مخفية عنا وأن نحكم بوجوب المتابعة في العمل الظاهر لكونها من الأمور التي يمكن رعايتها فزالت هذه الشبهة وتقريره أن هذه الآية دالة على أن الأصل في كل فعل فعله الرسول أن يجب علينا لإتيان بمثله إلا إذا خصه الدليل
إذا عرفت هذا فنقول إنا إذا أردنا أن نحكم بوجوب عمل من الأعمال
قلنا إن هذا العمل فعله أفضل من تركه وإذا كان الأمر كذلك فحينئذ نعمل أن الرسول قد أتى به في الجملة لأن العلم الضروري حاصل بأن الرسول لا يجوز أن يواظب طول عمره على ترك الأفضل فعلمنا أنه عليه السلام قد أتى بهذا الطريق الأفضل وأما أنه هل أتى بالطرف الأحسن فهو مشكوك والمشكوك لا يعارض المعلوم فثبت أنه

عليه السلام أتى بالجانب الأفضل ومتى ثبت ذلك وجب أن يجب علينا ذلك لقوله تعالى في هذه الآية وَاتَّبِعُوهُ فهذا أصل شريف وقانون كلي في معرفة الأحكام دال على النصوص لقوله تعالى وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْى ٌ يُوحَى ( النجم 3 4 ) فوجب علينا مثله لقوله تعالى وَاتَّبِعُوهُ
وأما قوله لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ففيه بحثان أحدهما أن كلمة ( لعل ) للترجي وذلك لا يليق بالله فلا بد من تأويله والثاني أن ظاهره يقتضي أنه تعالى أراد من كل المكلفين الهداية والإيمان على قول المعتزلة والكلام في تقرير هذين المقامين قد سبق في هذا الكتاب مراراً كثيرة فلا فائدة في الإعادة
وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّة ٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ
واعلم أنه تعالى لما وصف الرسول وذكر أنه يجب على الخلق متابعته ذكر أن من قوم موسى عليه السلام من اتبع الحق وهدى إليه وبين أنهم جماعة لأن لفظ الأمة ينبىء عن الكثرة واختلفوا في أن هذه الأمة متى حصلت وفي أي زمان كانت فقيل هم اليهود الذين كانوا في زمان الرسول عليه الصلاة والسلام وأسلموا مثل عبد الله بن سلام وابن صوريا والاعتراض عليه بأنهم كانوا قليلين في العدد ولفظ الأمة يقتضي الكثرة يمكن الجواب عنه بأنه لما كانوا مختلفين في الدين جاز إطلاق لفظ الأمة عليهم كما في قوله تعالى إِنَّ إِبْراهِيمَ كَانَ أُمَّة ً ( النحل 120 ) وقيل إنهم قوم مشوا على الدين الحق الذي جاء به موسى ودعوا الناس إليه وصانوه عن التحريف والتبديل في زمن تفرق بني إسرائيل وإحداثهم البدع ويجوز أن يكونوا أقاموا على ذلك إلى أن جاء المسيح فدخلوا في دينه ويجوز أن يكونوا هلكوا قبل ذلك وقال السدي وجماعة من المفسرين إن بني إسرائيل لما كفروا وقتلوا الأنبياء بقي سبط في جملة الإثني عشر فما صنعوا وسألوا الله أن ينقذهم منهم ففتح الله لهم نفقاً في الأرض فساروا فيه حتى خرجوا من وراء الصين ثم هؤلاء اختلفوا منهم من قال إنهم بقوا متمسكين بدين اليهودية إلى الآن ومنهم من قال إنهم الآن على دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) يستقبلون الكعبة وتركوا السبت وتمسكوا بالجمعة لا يتظالمون ولا يتحاسدون ولا يصل إليهم منا أحد ولا إلينا منهم أحد وقال بعض المحققين هذا القول ضعيف لأنه إما أن يقال وصل إليهم خبر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أو ما وصل إليهم هذا الخبر
فإن قلنا وصل خبره إليهم ثم إنهم أصروا على اليهودية فهم كفار فكيف يجوز وصفهم بكونهم أمة يهدون بالحق وبه يعدلون وإن قلنا بأنهم لم يصل إليهم خبر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فهذا بعيد لأنه لما وصل خبرهم إلينا مع أن الدواعي لا تتوفر على نقل أخبارهم فكيف يعقل أن لا يصل إليهم خبر محمد عليه الصلاة والسلام مع أن الدنيا قد امتلأت من خبره وذكره
فإن قالوا أليس إن يأجوج ومأجوج قد وصل خبرهم إلينا ولم يصل خبرنا إليهم
قلنا هذا ممنوع فمن أين عرف أنه لم يصل خبرنا إليهم فهذا جملة ما قيل في هذا الباب
إذا عرفت هذا فنقول قوله يَهْدُونَ بِالْحَقّ أي يدعون الناس إلى الهداية بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ قال

الزجاج العدل الحكم بالحق يقال هو يقضي بالحق ويعدل وهو حكم عادل ومن ذلك قوله وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النّسَاء ( النساء 129 ) وقوله وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ ( الأنعام 152 )
وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَى ْ عَشْرَة َ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَة َ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَاكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
اعلم أن المقصود من هذه الآية شرح نوعين من أحوال بني إسرائيل أحدهما أنه تعالى جعلهم اثني عشر سبطاً وقد تقدم هذا في سورة البقرة أو المراد أنه تعالى فرق بني إسرائيل اثنتي عشرة فرقة لأنهم كانوا من اثني عشر رجلاً من أولاد يعقوب فميزهم وفعل بهم ذلك لئلا يتحاسدوا فيقع فيهم الهرج والمرج وقوله وَقَطَّعْنَاهُمُ أي صيرناهم قطعاً أي فرقاً وميزنا بعضهم من بعض وقرىء وَقَطَّعْنَاهُمُ بالتخفيف وههنا سؤالان
السؤال الأول مميز ما عدا العشرة مفرد فما وجه مجيئه مجموعاً وهلا قيل اثني عشر سبطاً
والجواب المراد وقطعناهم اثنتي عشرة قبيلة وكل قبيلة أسباط فوضع أسباطاً موضع قبيلة
السؤال الثاني قال اثْنَتَى ْ عَشْرَة َ أَسْبَاطًا مع أن السبط مذكر لا مؤنث
الجواب قال الفراء إنما قال ذلك لأنه تعالى ذكر بعده أُمَمًا فذهب التأنيث إلى الأمم
ثم قال ولو قال اثني عشر لأجل أن السبط مذكر كان جائزاً وقال الزجاج المعنى وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَى ْ عَشْرَة َ فرقة أَسْبَاطًا فقوله أَسْبَاطًا نعت لموصوف محذوف وهو الفرقة وقال أبو علي الفارسي ليس قوله أَسْبَاطًا تمييزاً ولكنه بدل من قوله اثْنَتَى ْ عَشْرَة َ
وأما قوله أُمَمًا قال صاحب ( الكشاف ) هو بدل من اثْنَتَى ْ عَشْرَة َ بمعنى وقطعناهم أمما لأن كل سبط كانت أمة عظيمة وجماعة كثيفة العدد وكل واحدة كانت تؤم خلاف ما تؤمه الأخرى ولا تكاد تأتلف وقرىء اثْنَتَى ْ عَشْرَة َ بكسر الشين
النوع الثاني من شرح أحوال بني إسرائيل قوله تعالى وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بّعَصَاكَ الْحَجَرَ وهذه القصة أيضاً قد تقدم ذكرها في سورة البقرة قال الحسن ما كان إلا حجراً اعترضه وإلا عصاً أخذها
واعلم أنهم كانوا ربما احتاجوا في التيه إلى ماء يشربونه فأمر الله تعالى موسى عليه السلام أن يضرب

بعصاه الحجر وكانوا يريدونه مع أنفسهم فيأخذوا منه قدر الحاجة وقوله فَانبَجَسَتْ قال الواحدي فانبجس الماء وانبجاسه انفجاره يقال بجس الماء يبجس وانبجس وتبجس إذا تفجر هذا قول أهل اللغة ثم قال والانبجاس والانفجار سواء وعلى هذا التقدير فلا تناقض بين الانبجاس المذكور ههنا وبين الانفجار المذكور في سورة البقرة وقال آخرون الانبجاس خروج الماء بقلة والانفجار خروجه بكثرة وطريق الجمع أن الماء ابتدأ بالخروج قليلاً ثم صار كثيراً وهذا الفرق مروي عن أبي عمرو بن العلاء ولما ذكر تعالى أنه كيف كان يسقيهم ذكر ثانياً أنه ظلل الغمام عليهم وثالثا أنه أنزل عليهم المن والسلوى ولا شك أن مجموع هذه الأحوال نعمة عظيمة من الله تعالى لأنه تعالى سهل عليهم الطعام والشراب على أحسن الوجوه ودفع عنهم مضار الشمس
ثم قال كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ والمراد أقصر أنفسهم على ذلك المطعوم وترك غيره
ثم قال تعالى وَمَا ظَلَمُونَا وفيه حذف وذلك لأن هذا الكلام إنما يحسن ذكره لو أنهم تعدوا ما أمرهم الله به وذلك إما بأن تقول إنهم ادخروا مع أن الله منعهم منه أو أقدموا على الأكل في وقت منعهم الله عنه أو لأنهم سألوا غير ذلك مع أن الله منعهم منه ومعلوم أن المكلف إذا ارتكب المحظور فهو ظالم لنفسه فلذلك وصفهم الله تعالى به ونبه بقوله وَمَا ظَلَمُونَا وَلَاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ وذلك أن المكلف إذا أقدم على المعصية فهو ما أضر إلا نفسه حيث سعى في صيرورة نفسه مستحقة للعقاب العظيم
وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَاذِهِ الْقَرْيَة َ وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُواْ حِطَّة ٌ وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِي ئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِى قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِّنَ السَّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ
اعلم أن هذه لقصة أيضاً مذكورة مع الشرح والبيان في سورة البقرة
بقي أن يقال إن ألفاظ هذه الآية تخالف ألفاظ الآية التي في سورة البقرة من وجوه الأول في سورة البقرة وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَاذِهِ الْقَرْيَة َ ( البقرة 58 ) وههنا قال وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَاذِهِ الْقَرْيَة َ والثاني أنه قال في سورة البقرة فَكُلُواْ بالفاء وههنا وَكُلُواْ بالواو والثالث أنه قال في سورة البقرة رَغَدًا وهذه الكلمة غير مذكورة في هذه السورة والرابع أنه قال في سورة البقرة وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُواْ حِطَّة ٌ وقال ههنا على التقديم والتأخير والخامس أنه قال في البقرة نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وقال ههنا نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ والسادس أنه قال في سورة البقرة وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ وههنا حذف

حرف الواو والسابع أنه قال في سورة البقرة فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ وقال ههنا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ والثامن أنه قال في سورة البقرة بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ وقال ههنا بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ واعلم أن هذه الألفاظ متقاربة ولا منافاة بينها البتة ويمكن ذكر فوائد هذه الألفاظ المختلفة
أما الأول وهو أنه قال في سورة البقرة ادْخُلُواْ هَاذِهِ الْقَرْيَة َ وقال ههنا اسْكُنُواْ فالفرق أنه لا بد من دخول القرية أولاً ثم سكونها ثانياً
وأما الثاني فهو أنه تعالى قال في البقرة ادْخُلُواْ هَاذِهِ الْقَرْيَة َ فَكُلُواْ بالفاء وقال ههنا اسْكُنُواْ هَاذِهِ الْقَرْيَة َ وَكُلُواْ بالواو والفرق أن الدخول حالة مخصوصة كما يوجد بعضها ينعدم فإنه إنما يكون داخلاً في أول دخوله وأما ما بعد ذلك فيكون سكوناً لا دخولاً
إذا ثبت هذا فنقول الدخول حالة منقضية زائلة وليس لها استمرار فلا جرم يحسن ذكر فاء التعقيب بعده فلهذا قال ادْخُلُواْ هَاذِهِ الْقَرْيَة َ وأما السكون فحالة مستمرة باقية فيكون الأكل حاصلاً معه لا عقيبه فظهر الفرق
وأما الثالث وهو أنه ذكر في سورة البقرة رَغَدًا وما ذكره هنا فالفرق الأكل عقيب دخول القرية يكون ألذ لأن الحاجة إلى ذلك الأكل كانت أكمل وأتم ولما كان ذلك الأكل ألذ لا جرم ذكر فيه قوله رَغَدًا وأما الأكل حال سكون القرية فالظاهر أنه لا يكون في محل الحاجة الشديدة ما لم تكن اللذة فيه متكاملة فلا جرم ترك قوله رَغَدًا فيه
وأما الرابع وهو قوله في سورة البقرة وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُواْ حِطَّة ٌ وفي سورة الأعراف على العكس منه فالمراد التنبيه على أنه يحسن تقديم كل واحد من هذين الذكرين على الآخر إلا أنه لما كان المقصود منهما تعظيم الله تعالى وإظهار الخضوع والخشوع لم يتفاوت الحال بحسب التقديم والتأخير
وأما الخامس وهو أنه قال في سورة البقرة خَطَايَاكُمْ وقال ههنا خَطِيئَاتِكُمْ فهو إشارة إلى أن هذه الذنوب سواء كانت قليلة أو كثيرة فهي مغفورة عند الإتيان بهذا الدعاء والتضرع
وأما السادس وهو أنه تعالى قال في سورة البقرة وَسَنَزِيدُ بالواو وههنا حذف الواو فالفائدة في حذف الواو أنه استئناف والتقدير كان قائلاً قال وماذا حصل بعد الغفران فقيل له سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ
وأما السابع وهو الفرق بين قوله أَنزَلْنَا وبين قوله أَرْسَلْنَا فلأن الإنزال لا يشعر بالكثرة والإرسال يشعر بها فكأنه تعالى بدأ بإنزال العذاب القليل ثم جعله كثيراً وهو نظير ما ذكرناه في الفرق بين قوله فَانبَجَسَتْ وبين قوله فَانفَجَرَتْ
وأما الثامن وهو الفرق بين قوله يَظْلِمُونَ وبين قوله يَفْسُقُونَ فذلك لأنهم موصوفون بكونهم ظالمين لأجل أنهم ظلموا أنفسهم وبكونهم فاسقين لأجل أنهم خرجوا عن طاعة الله تعالى فالفائدة في ذكر هذين الوصفين التنبيه على حصول هذين الأمرين فهذا ما خطر بالبال في ذكر فوائد هذه الألفاظ المختلفة وتمام العلم بها عند الله تعالى

وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَة ِ الَّتِى كَانَتْ حَاضِرَة َ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِى السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَالِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ
اعلم أن هذه القصة أيضاً مذكورة في سورة البقرة وفيها مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى واسألهم المقصود تعرف هذه القصة من قبلهم لأن هذه القصة قد صارت معلومة للرسول من قبل الله تعالى وإنما المقصود من ذكر هذا السؤال أحد أشياء الأول أن المقصود من ذكر هذا السؤال تقرير أنهم كانوا قد أقدموا على هذا الذنب القبيح والمعصية الفاحشة تنبيهاً لهم على أن إصرارهم على الكفر بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وبمعجزاته ليس شيئاً حدث في هذا الزمان بل هذا الكفر والإصرار كان حاصلاً في أسلافهم من الزمان القديم
والفائدة الثانية أن الإنسان قد يقول لغيره هل هذا الأمر كذا وكذا ليعرف بذلك أنه محيط بتلك الواقعة وغير ذاهل عن دقائقها ولما كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) رجلاً أمياً لم يتعلم علماً ولم يطالع كتاباً ثم أنه يذكر هذه القصص على وجهها من غير تفاوت ولا زيادة ولا نقصان كان ذلك جارياً مجرى المعجز
المسألة الثانية الأكثرون على أن تلك القرية أيلة وقيل مدين وقيل طبرية والعرب تسمى المدينة قرية وعن أبي عمرو بن العلاء ما رأيت قرويين أفصح من الحسن والحجاج يعني رجلين من أهل المدن وقوله الَّتِى كَانَتْ حَاضِرَة َ الْبَحْرِ يعني قريبة من البحر وبقربه وعلى شاطئه والحضور نقيض الغيبة كقوله تعالى ذالِكَ لِمَنْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ( البقرة 196 ) وقوله إِذْ يَعْدُونَ فِى السَّبْتِ يعني يجاوزون حد الله فيه وهو اصطيادهم يوم السبت وقد نهوا عنه وقرىء يَعْدُونَ بمعنى يعتدون أدغمت التاء في الدال ونقلت حركتها إلى العين و يَعْدُونَ من الأعداد وكانوا يعدون آلات الصيد يوم السبت وهم مأمورون بأن لا يشتغلوا فيه بغير العبادة و السَّبْتِ مصدر سبتت اليهود إذا عظمت سبتها فقوله إِذْ يَعْدُونَ فِى السَّبْتِ معناه يعدون في تعظيم هذا اليوم وكذلك قوله يَوْمَ سَبْتِهِمْ معناه يوم تعظيمهم أمر السبت ويدل عليه قوله وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ ويؤكده أيضاً قراءة عمر بن عبد العزيز يَوْمٍ وقرىء وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ بضم الباء وقرأ على رضى الله عنه لاَ يَسْبِتُونَ بضم الياء من أسبتوا وعن الحسن لاَ يَسْبِتُونَ على البناء للمفعول وقوله إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ نصب بقوله يَعْدُونَ والمعنى سلهم إذ عدوا في وقت الإتيان وقوله يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا أي ظاهرة على الماء وشرع جمع شارع وشارعة وكل شيء دان من شيء فهو شارع ودار شارعة أي دنت من الطريق ونجوم شارعة أي دنت من المغيب وعلى هذا فالحيتان كانت تدنو من القرية بحيث يمكنهم صيدها قال ابن عباس ومجاهد إن اليهود أمروا باليوم الذي أمرتم به يوم الجمعة فتركوه واختاروا السبت فابتلاهم الله به وحرم عليهم الصيد

فيه وأمروا بتعظيمه فإذا كان يوم السبت شرعت لهم الحيتان ينظرون إليها في البحر فإذا انقضى السبت ذهبت وما تعود إلا في السبت المقبل وذلك بلاء ابتلاهم الله به فذلك معنى قوله وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ وقوله كَذالِكَ نَبْلُوهُم أي مثل ذلك البلاء الشديد نبلوهم بسبب فسقهم وذلك يدل على أن من أطاع الله تعالى خفف الله عنه أحوال الدنيا والآخرة ومن عصاه ابتلاه بأنواع البلاء والمحن واحتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى لا يجب عليه رعاية الصلاح والأصلح لا في الدين ولا في الدنيا وذلك لأنه تعالى علم أن تكثير الحيتان يوم السبت ربما يحملهم على المعصية والكفر فلو وجب عليه رعاية الصلاح والأصلح لوجب أن لا يكثر هذه الحيتان في ذلك اليوم صوناً لهم عن ذل الكفر والمعصية فلما فعل ذلك ولم يبال بكفرهم ومعصيتهم علمنا أن رعاية الصلاح والأصلح غير واجبة على الله تعالى
وَإِذْ قَالَتْ أُمَّة ٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَة ً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّو ءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ
اعلم أن قوله وَإِذْ قَالَتِ معطوف على قوله إِذْ يَعْدُونَ وحكمه حكمه في الأعراب وقوله أُمَّة ٌ مّنْهُمْ أي جماعة من أهل القرية من صلحائهم الذين ركبوا الصعب والذلول في موعظة أولئك الصيادين حتى أيسوا من قبولهم لأقوام آخرين ما كانوا يقلعون عن وعظهم وقوله لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أي مخترمهم ومطهر الأرض منهم أَوْ مُعَذّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيدًا لتماديهم في الشر وإنما قالوا ذلك لعلمهم أن الوعظ لا ينفعهم وقوله قَالُواْ مَعْذِرَة ً إِلَى رَبّكُمْ فيه بحثان
البحث الأول قرأ حفص عن عاصم مَعْذِرَة ً بالنصب والباقون بالرفع أما من نصب مَعْذِرَة ً فقال الزجاج معناه نعتذر معذرة وأما من رفع فالتقدير هذه معذرة أو قولنا معذرة وهي خبر لهذا المحذوف
البحث الثاني المعذرة مصدر كالعذر وقال أبو زيد عذرته أعذره عذراً ومعذرة ومعنى عذره في اللغة أي قام بعذره وقيل عذره يقال من يعذرني أي يقوم بعذري وعذرت فلاناً فيما صنع أي قمت بعذره فعلى هذا معنى قوله مَعْذِرَة ً إِلَى رَبّكُمْ أي قيام منا بعذر أنفسنا إلى الله تعالى فإنا إذا طولنا بإقامة النهي عن المنكر
قلنا قد فعلنا فنكون بذلك معذورين وقال الأزهري المعذرة اسم على مفعلة من عذر يعذر وأقيم مقام الاعتذار كأنهم قالوا موعظتنا اعتذار إلى ربنا فأقيم الاسم مقام الاعتذار ويقال اعتذر فلان اعتذاراً وعذراً ومعذرة من ذنبه فعذرته وقوله وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أي وجائز عندنا أن ينتفعوا بهذا الوعظ فيتقوا الله ويتركوا هذا الذنب

إذا عرفت هذا فنقول في هذه الآية قولان
القول الأول أن أهل القرية منهم من صاد السمك وأقدم على ذلك الذنب ومنهم من لم يفعل ذلك وهذا القسم الثاني صاروا قسمين منهم من وعظ الفرقة المذنبة وزجرهم عن ذلك الفعل ومنهم من سكت عن ذلك الوعظ وأنكروا على الواعظين وقالوا لهم لم تعظوهم مع العلم بأن الله مهلكهم أو معذبهم يعني أنهم قد بلغوا في الإصرار على هذا الذنب إلى حد لا يكادون يمنعون عنه فصار هذا الوعظ عديم الفائدة عديم الأثر فوجب تركه
والقول الثاني أن أهل القرية كانوا فرقتين فرقة أقدمت على الذنب وفرقة أحجموا عنه ووعظوا الأولين فلما اشتغلت هذه الفرقة بوعظ الفرقة المذنبة المتعدية المقدمة على القبيح فعند ذلك قالت الفرقة المذنبة للفرقة الواعظة لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذّبُهُمْ بزعمكم قال الواحدي والقول الأول أصح لأنهم لو كانوا فرقتين وكان قوله مَعْذِرَة ً إِلَى رَبّكُمْ خطاباً من الفرقة الناهية للفرقة المعتدية لقالوا وَلَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
أما قوله فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ يعني أنهم لما تركوا ما ذكرهم به الصالحون ترك الناسي لما ينساه أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الظالمين المقدمين على فعل المعصية
واعلم أن لفظ الآية يدل على أن الفرقة المتعدية هلكت والفرقة الناهية عن المنكر نجت أما الذين قالوا لِمَ تَعِظُونَ فقد اختلف المفسرون في أنهم من أي الفريقين كانوا فنقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه توقف فيه ونقل عنه أيضاً هلكت الفرقتان ونجت الناهية وكان ابن عباس إذا قرأ هذه الآية بكى وقال إن هؤلاء الذين سكتوا عن النهي عن المنكر هلكوا ونحن نرى أشياء ننكرها ثم نسكت ولا نقول شيئاً قال الحسن الفرقة الساكتة ناجية فعلى هذا نجت فرقتان وهلكت الثالثة واحتجوا عليه بأنهم لما قالوا لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذّبُهُمْ دل ذلك على أنهم كانوا منكرين عليهم أشد الإنكار وأنهم إنما تركوا وعظهم لأنه غلب على ظنهم أنهم لا يلتفتون إلى ذلك الوعظ ولا ينتفعون به
فإن قيل إن ترك الوعظ معصية والنهي عنه أيضاً معصية فوجب دخول هؤلاء التاركين للوعظ الناهين عنه تحت قوله وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ
قلنا هذا غير لازم لأن النهي عن المنكر إنما يجب على الكفاية فإذا قام به البعض سقط عن الباقين ثم ذكر أنه تعالى أخذهم بعذاب بئيس والظاهر أن هذا العذاب غير المسخ المتأخر ذكره وقوله بِعَذَابٍ بَئِيسٍ أي شديد وفي هذه اللفظة قراآت أحدها بَئِيسٍ بوزن فعيل قال أبو علي وفيه وجهان الأول أن يكون فعيلاً من بؤس يبؤس بأساً إذا اشتد والآخر ما قاله أبو زيد وهو أنه من البؤس وهو الفقر يقال بئس الرجل يبأس بؤساً وبأساً وبئيساً إذا افتقر فهو بائس أي فقير فقوله بِعَذَابٍ بَئِيسٍ أي ذي بؤس والقراءة الثانية بِئْسَ بوزن حذر والثالثة بيس على قلب الهمزة ياء كالذيب في ذئب والرابعة بيئس على فيعل والخامسة بيس كوزن ريس على قلب همزة بئيس ياء وإدغام الياء فيها والسادسة بيس على تخفيف بيس كهين في هين وهذه القراآت نقلها صاحب ( الكشاف ) ثم بين تعالى أنهم مع نزول هذا العذاب بهم تمردوا

فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَة ً خَاسِئِينَ
وفيه مباحث
البحث الأول العتو عبارة عن الإباء والعصيان وإذا عتوا عما نهوا عنه فقد أطاعوا لأنهم أبوا عما نهوا عنه ومعلوم أنه ليس المراد ذلك فلا بد من إضمار والتقدير فلما عتوا عن ترك ما نهوا عنه ثم حذف المضاف وإذا أبوا ترك المنهي كان ذلك ارتكاباً للمنهى
البحث الثاني من الناس من قال إن قوله عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَة ً ليس من المقال بل المراد منه أنه تعالى فعل ذلك قال وفيه دلالة على أن قوله إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَى ْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( النحل 40 ) هو بمعنى الفعل لا الكلام وقال الزجاج أمروا بأن يكونوا كذلك بقول سمع فيكون أبلغ
واعلم أن حمل هذا الكلام على هذا بعيد لأن المأمور بالفعل يجب أن يكون قادراً عليه والقوم ما كانوا قادرين على أن يقلبوا أنفسهم قردة
البحث الثالث قال ابن عباس أصبح القوم وهم قردة صاغرون فمكثوا كذلك ثلاثاً فرآهم الناس ثم هلكوا ونقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أن شباب القوم صاروا قردة والشيوخ خنازير وهذا القول على خلاف الظاهر واختلفوا في أن الذين مسخوا هل بقوا قردة وهل هذه القردة من نسلهم أو هلكوا وانقطع نسلهم ولا دلالة في الآية عليه والكلام في المسخ وما فيه من المباحثات قد سبق بالاستقصاء في سورة البقرة والله أعلم
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ مَن يَسُومُهُمْ سُو ءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ
اعلم أنه تعالى لما شرح ههنا بعض مصالح أعمال اليهود وقبائح أفعالهم ذكر في هذه الآية أنه تعالى حكم عليهم بالذل والصغار إلى يوم القيامة قال سيبويه أذن أعلم وأذن نادى وصاح للإعلام ومنه قوله تعالى فَأَذَّنَ مُؤَذّنٌ بَيْنَهُمْ ( الأعراف 44 ) وقوله تَأَذَّنَ بمعنى أذن أي أعلم ولفظة تفعل ههنا ليس معناه أنه أظهر شيئاً ليس فيه بل معناه فعل فقوله تَأَذَّنَ بمعنى أذن كما في قوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ( يونس 18 ) معناه علا وارتفع لا بمعنى أنه أظهر من نفسه العلو وإن لم يحصل ذلك فيه وأما قوله لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ ففيه بحثان
البحث الأول أن اللام في قوله لَيَبْعَثَنَّ جواب القسم لأن قوله وَإِذْ تَأَذَّنَ جار مجرى القسم في كونه جازماً بذلك الخبر
البحث الثاني الضمير في قوله عَلَيْهِمْ يقتضي أن يكون راجعاً إلى قوله فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَة ً خَاسِئِينَ ( الأعراف 166 )

لكنه قد علم أن الذين مسخوا لم يستمر عليهم التكليف ثم اختلفوا فقال بعضهم المراد نسلهم والذين بقوا منهم وقال آخرون بل المراد سائر اليهود فإن أهل القرية كانوا بين صالح وبين متعد فمسخ المتعدي وألحق الذل بالبقية وقال الأكثرون هذه الآية في اليهود الذين أدركهم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ودعاهم إلى شريعته وهذا أقرب لأن المقصود من هذه الآية تخويف اليهود الذين كانوا في زمان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وزجرهم عن البقاء على اليهودية لأنهم إذا علموا بقاء الذل عليهم إلى يوم القيامة انزجروا
البحث الثالث لا شبهة في أن المراد اليهود الذين ثبتوا على الكفر واليهودية فأما الذين آمنوا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فخارجون عن هذا الحكم
أما قوله إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ فهذا تنصيص على أن ذلك العذاب ممدود إلى يوم القيامة وذلك يقتضي أن ذلك العذاب إنما يحصل في الدنيا وعند ذلك اختلفوا فيه فقال بعضهم هو أخذ الجزية وقيل الاستخفاف والإهانة والإذلال لقوله تعالى ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلَّة ُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ وقيل القتل والقتال وقيل الإخراج والإبعاد من الوطن وهذا القائل جعل هذه الآية في أهل خيبر وبني قريظة والنضير وهذه الآية نزلت في اليهود على أنه لا دولة ولا عز وأن الذل يلزمهم والصغار لا يفارقهم ولما أخبر الله تعالى في زمان محمد عن هذه الواقعة ثم شاهدنا بأن الأمر كذلك كان هذا أخباراً صدقاً عن الغيب فكان معجزاً والخبر المروي في أن أتباع الرجال هم اليهود إن صح فمعناه أنهم كانوا قبل خروجه يهوداً ثم دانوا بإلهيته فذكروا بالاسم الأول ولولا ذلك لكان في وقت اتباعهم الدجال قد خرجوا عن الذلة والقهر وذلك خلاف هذه الآية واحتج بعض العلماء على لزوم الذل والصغار لليهود بقوله تعالى ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلَّة ُ أَيْنَمَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مّنْ اللَّهِ ( آل عمران 112 ) إلا أن دلالتها ليست قوية لأن الاستثناء المذكور في هذه الآية يمنع من القطع على لزوم الذل لهم في كل الأحوال أما الآية التي نحن في تفسيرها لم يحصل فيها تقييد ولا استثناء فكانت دلالتها على هذا المعنى قوية جداً واختلفوا في أن الذين يلحقون هذا الذل بهؤلاء اليهود من هم فقال بعضهم الرسول وأمته وقيل يحتمل دخول الولاة الظلمة منهم وإن لم يؤمروا بالقيام بذلك إذا أذلوهم وهذا القائل حمل قوله لَيَبْعَثَنَّ على نحو قوله أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ ( مريم 83 ) فإذا جاز أن يكون المراد بالإرسال التخلية وترك المنع فكذلك البعثة وهذا القائل قال المراد بختنصر وغيره إلى هذا اليوم ثم أنه تعالى ختم الآية بقوله إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ والمراد التحذير من عقابه في الآخرة مع الذلة في الدنيا وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ لمن تاب من الكفر واليهودية ودخل في الإيمان بالله وبمحمد ( صلى الله عليه وسلم )
وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرض أُمَمًا مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذالِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ

واعلم أن قوله وَقَطَّعْنَاهُمُ أحد ما يدل على أن الذي تقدم من قوله لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ ( الأعراف 167 ) المراد جملة اليهود ومعنى قطعناهم أي فرقناهم تفريقاً شديداً فلذلك قال بعده وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الاْرْضِ أُمَمًا وظاهر ذلك أنه لا أرض مسكونة إلا ومنهم فيها أمة وهذا هو الغالب من حال اليهود ومعنى قطعناهم فإنه قلما يوجد بلد إلا وفيه طائفة منهم
ثم قال مّنْهُمُ الصَّالِحُونَ قيل المراد القوم الذين كانوا في زمن موسى عليه السلام لأنه كان فيهم أمة يهدون بالحق وقال ابن عباس ومجاهد يريد الذين أدركوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وآمنوا به وقوله وَمِنْهُمْ دُونَ ذالِكَ أي ومنهم قوم دون ذلك والمراد من أقام على اليهودية
فإن قيل لم لا يجوز أن يكون قوله وَمِنْهُمْ دُونَ ذالِكَ من يكون صالحاً إلا أن صلاحه كان دون صلاح الأولين لأن ذلك إلى الظاهر أقرب
قلنا أن قوله بعد ذلك لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ يدل على أن المراد بذلك من ثبت على اليهودية وخرج من الصلاح
أما قوله وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيّئَاتِ أي عاملناهم معاملة المبتلى المختبر بالحسنات وهي النعم والخصب والعافية والسيئات هي الجدب والشدائد قال أهل المعاني وكل واحد من الحسنات والسيئات يدعو إلى الطاعة أما النعم فلأجل الترغيب وأما النقم فلأجل الترهيب وقوله يَرْجِعُونَ يريد كي يتوبوا
فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَاذَا الاٌّ دْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَالدَّارُ الاٌّ خِرَة ُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلَواة َ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ
اعلم أن قوله فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ ظاهره أن الأول ممدوح والثاني مذموم وإذا كان كذلك فيجب أن يكون المراد فخلف من بعد الصالحين منهم الذين تقدم ذكرهم خلف قال الزجاج الخلف ما أخلف عليك مما أخذ منك فلهذا السبب يقال للقرن الذي يجيء في إثر قرن خلف ويقال فيه أيضاً خلف وقال أحمد بن يحيى الناس كلهم يقولون خلف صدق وخلف سوء وخلف للسوء لا غير وحاصل

الكلام أن من أهل العربية من قال الخلف والخلف قد يذكر في الصالح وفي الرديء ومنهم من يقول الخلف مخصوص بالذم قال لبيد وبقيت في خلف كجلد الأجرب
ومنهم من يقول الخلف المستعمل في الذم مأخوذ من الخلف وهو الفساد يقال للردىء من القول خلف ومنه المثل المشهور سكت ألفاً ونطق خلفاً وخلف الشيء يخلف خلوفاً وخلفاً إذا فسد وكذلك الفم إذا تغيرت رائحته وقوله يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَاذَا الاْدْنَى قال أبو عبيدة جميع متاع الدنيا عرض بفتح الراء يقال الدنيا عرض حاضر يأكل منها البر والفاجر وأما العرض بسكون الراء فما خالف العين أعني الدراهم والدنانير وجمعه عروض فكان كل عرض عرضاً وليس كل عرض عرضاً والمراد بقوله عَرَضَ هَاذَا الاْدْنَى أي حطام هذا الشيء الأدنى يريد الدنيا وما يتمتع به منها وفي قوله هَاذَا الاْدْنَى تخسيس وتحقير و الاْدْنَى إما من الدنو بمعنى القرب لأنه عاجل قريب وإما من دنو الحال وسقوطها وقلتها والمراد ما كانوا يأخذونه من الرشا في الأحكام على تحريف الكلام ثم حكى تعالى عنهم أنهم يستحقرون ذلك الذنب ويقولون سيغفر لنا
ثم قال وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ والمراد الأخبار عن إصرارهم على الذنوب وقال الحسن هذا إخبار عن حرصهم على الدنيا وأنهم لا يستمتعون منها ثم بين تعالى قبح فعلهم فقال أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مّيثَاقُ الْكِتَابِ أي التوراة أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قيل المراد منعهم عن تحريف الكتاب وتغيير الشرائع لأجل أخذ الرشوة وقيل المراد أنهم قالوا سيغفر لنا هذا الذنب مع الإصرار وذلك قول باطل
فإن قيل فهذا القول يدل على أن حكم التوراة هو أن صاحب الكبيرة لا يغفر له
قلنا أنهم كانوا يقطعون بأن هذه الكبيرة مغفورة ونحن لا نقطع بالغفران بل نرجو الغفران ونقول إن بتقدير أن يعذب الله عليها فذلك العذاب منقطع غير دائم
ثم قال تعالى وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ أي فهم ذاكرون لما أخذ عليهم لأنهم قد قرؤه ودرسوه
ثم قال وَالدَّارُ الاْخِرَة ُ خَيْرٌ لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ من تلك الرشوة الخبيثة المحقرة أَفَلاَ يَعْقِلُونَ
أما قوله تعالى وَالَّذِينَ يُمَسّكُونَ بِالْكِتَابِ يقال مسكت بالشيء وتمسكت به واستمسكت به وامتسكت به وقرأ أبو بكر عن عاصم يُمَسّكُونَ مخففة والباقون بالتشديد أما حجة عاصم فقوله تعالى فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ ( البقرة 229 ) وقوله أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ ( الأحزاب 37 ) وقوله فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ( المائدة 4 ) قال الواحدي والتشديد أقوى لأن التشديد للكثرة وههنا أريد به الكثرة ولأنه يقال أمسكته وقلما يقال أمسكت به
إذا عرفت هذا فنقول في قوله وَالَّذِينَ يُمَسّكُونَ بِالْكِتَابِ قولان
القول الأول أن يكون مرفوعاً بالابتداء وخبره إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ والمعنى إنا لا نضيع أجرهم وهو كقوله إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً ( الكهف 30 ) وهذا الوجه حسن لأنه لما ذكر وعيد من ترك التمسك بالكتاب أردفه بوعد من تمسك به

والقول الثاني أن يكون مجروراً عطفاً على قوله الَّذِينَ يَتَّقُونَ ويكون قوله إِنَّا لاَ نُضِيعُ زيادة مذكورة لتأكيد ما قبله
فإن قيل التمسك بالكتاب يشتمل على كل عبادة ومنها إقامة الصلاة فكيف أفردت بالذكر
قلنا إظهاراً لعلو مرتبة الصلاة وأنها أعظم العبادات بعد الإيمان
وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّة ٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَاكُم بِقُوَّة ٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
قال أبو عبيدة أصل النتق قلع الشيء من موضعه والرمي به يقال نتق ما في الجراب إذا رمى به وصبه وامرأة ناتق ومنتاق إذا كثر ولدها لأنها ترمي بأولادها رمياً فمعنى نَتَقْنَا الْجَبَلَ أي قلعناه من أصله وجعلناه فوقهم وقوله كَأَنَّهُ ظُلَّة ٌ قال ابن عباس كأنه سقيفة والظلة كل ما أظلك من سقف بيت أو سحابة أو جناح حائط والجمع ظلل وظلال وهذه القصة مذكورة في سورة البقرة وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ ( الأعراف 171 ) قال المفسرون علموا وأيقنوا وقال أهل المعاني قوي في نفوسهم أنه واقع بهم إن خالفوه وهذا هو الأظهر في معنى الظن ومضى الكلام فيه عند قوله الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُوا رَبّهِمْ ( البقرة 46 ) روى أنهم أبوا أن يقبلوا أحكام التوراة لغلظها وثقلها فرفع الله الطور على رؤوسهم مقدار عسكرهم وكان فرسخاً في فرسخ وقيل لهم إن قبلتموها بما فيها وإلا ليقعن عليكم فلما نظروا إلى الجبل خر كل واحد منهم ساجداً على حاجبه الأيسر وهو ينظر بعينه اليمنى خوفاً من سقوطه فلذلك لا ترى يهودياً يسجد إلا على حاجبه الأيسر وهو ينظر بعينه اليمنى ويقولون هي السجدة التي رفعت عنا بها العقوبة
ثم قال تعالى خُذُواْ مَا ءاتَيْنَاكُم بِقُوَّة ٍ أي وقلنا خذوا ما آتيناكم أو قائلين خذوا ما آتيناكم من الكتاب بقوة وعزم على احتمال مشاقه وتكاليفه وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ من الأوامر والنواهي أي واذكروا ما فيه من الثواب والعقاب ويجوز أن يراد خذوا ما آتيناكم من الآية العظيمة بقوة إن كنتم تطيقونه كقوله إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فَانفُذُواْ ( الرحمن 33 ) واذكروا ما فيه من الدلالة على القدرة الباهرة لعلكم تتقون ما أنتم عليه
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَاذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَآ أَشْرَكَ ءَابَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّة ً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ وَكَذالِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ

في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما شرح قصة موسى عليه السلام مع توابعها على أقصى الوجوه ذكر في هذه الآية ما يجري مجرى تقرير الحجة على جميع المكلفين وفي تفسير هذه الآية قولان الأول وهو مذهب المفسرين وأهل الأثر ما روى مسلم بن يسار الجهني أن عمر رضي الله عنه سئل عن هذه الآية فقال سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سئل عنها فقال ( إن الله سبحانه وتعالى خلق آدم ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون ) فقال رجل يا رسول الله ففيم العمل فقال عليه الصلاة والسلام ( إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخل الجنة وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله الله النار ) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة من ذريته إلى يوم القيامة ) وقال مقاتل ( إن الله مسح صفحة ظهر آدم سوداء كهيئة الذر فقال يآدم هؤلاء ذريتك
ثم قال لهم أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَى فقال للبيض هؤلاء في الجنة برحمتي وهم أصحاب اليمين وقال للسود هؤلاء في النار ولا أبالي وهم أصحاب الشمال وأصحاب المشأمة ثم أعادهم جميعاً في صلب آدم فأهل القبول محبوسون حتى يخرج أهل الميثاق كلهم من أصلاب الرجال وأرحام النساء وقال تعالى فيمن نقض العهد الأول وَمَا وَجَدْنَا لاِكْثَرِهِم مّنْ عَهْدٍ ( الأعراف 102 ) وهذا القول قد ذهب إليه كثير من قدماء المفسرين كسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والضحاك وعكرة والكلبي وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه أبصر آدم في ذريته قوماً لهم نور فقال يا رب من هم فقال الأنبياء ورأى واحداً هو أشدهم نوراً فقال من هو قال داود قال فكم عمره قال سبعون سنة قال آدم هو قليل قد وهبته من عمري أربعين سنة وكان عمر آدم ألف سنة فلما تم عمر آدم تسعمائه وستين سنة أتاه ملك الموت ليقبض روحه فقال بقي من أجلي أربعون سنة فقال ألست قد وهبته من ابنك داود فقال ما كنت لأجعل لأحد من أجلي شيئاً فعند ذلك كتب لكل نفس أجلها أما المعتزلة فقد أطبقوا على أنه لا يجوز تفسير هذه الآية بهذا الوجه واحتجوا على فساد هذا القول بوجوه
الحجة الأولى لهم قالوا قوله مِن بَنِى ءادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ لا شك أن قوله مِن ظُهُورِهِمْ يدل من قوله وَإِذْ أَخَذَ فيكون المعنى وإذ أخذ ربك من ظهور بني آدم وعلى هذا التقدير فلم يذكر الله تعالى أنه أخذ من ظهر آدم شيئاً
الحجة الثانية أنه لو كان المرا أنه تعالى أخرج من ظهر آدم شيئاً من الذرية لما قال مِن ظُهُورِهِمْ بل كان يجب أن يقول من ظهره لأن آدم ليس له إلا ظهر واحد وكذلك قوله ذُرّيَّتُهُم لو كان آدم لقال ذريته

الحجة الثالثة أنه تعالى حكى عن أولئك الذرية أنهم قالوا أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ ءابَاؤُنَا وهذا الكلام يليق بأولا آدم لأنه عليه السلام ما كان مشركاً
الحجة الرابعة أن أخذ الميثاق لا يمكن إلا من العاقل فلو أخذ الله الميثاق من أولئك الذر لكانوا عقلاء ولو كانوا عقلاء وأعطوا ذلك الميثاق حال عقلهم لوجب أن يتذكروا في هذا الوقت أنهم أعطوا الميثاق قبل دخولهم في هذا العالم لأن الإنسان إذا وقعت له واقعة عظيمة مهيبة فإنه لا يجوز مع كونه عاقلاً أن ينساها نسياناً كلياً لا يتذكر منها شيئاً لا بالقليل ولا بالكثير وبهذا الدليل يبطل القول بالتناسخ فإنا نقول لو كانت أرواحنا قد حصلت قبل هذه الأجساد في أجساد أخرى لوجب أن نتذكر الآن أنا كنا قبل هذا الجسد في جسد آخر وحيث لم نتذكر ذلك كان القول بالتناسخ باطلاً فإذا كان اعتمادنا في إبطال التناسخ ليس إلا على هذا الدليل وهذا الدليل بعينه قائم في هذه المسألة وجب القول بمقتضاه فلو جاز أن يقال إنا في وقت الميثاق أعطينا العهد والميثاق مع أنا في هذا الوقت لا نتذكر شيئاً منه فلم لا يجوز أيضاً أن يقال إنا كنا قبل هذا البدن في بدن آخر مع أنا في هذا البدن لا نتذكر شيئاً من تلك الأحوال وبالجملة فلا فرق بين هذا القول وبين مذهب أهل التناسخ فإن لم يبعد التزام هذا القول لم يبعد أيضاً التزام مذهب التناسخ
الحجة الخامسة أن جميع الخلق الذين خلقهم الله من أولاد آدم عدد عظيم وكثرة كثيرة فالمجموع الحاصل من تلك الذرات يبلغ مبلغاً عظيماً في الحجمية والمقدار وصلب آدم على صغره يبعد أن يتسع لذلك المجموع
الحجة السادسة أن البنية شرط لحصول الحياة والعقل والفهم إذ لو لم يكن كذلك لم يبعد في كل ذرة من ذرات الهباء أن يكون عاقلاً فاهماً مصنفاً للتصانيف الكثيرة في العلوم الدقيقة وفتح هذا الباب يفضي إلى التزام الجهالات وإذا ثبت أن البنية شرط لحصول الحياة فكل واحد من تلك الذرات لا يمكن أن يكون عالماً فاهماً عاقلاً إلا إذا حصلت له قدرة من البنية واللحمية والدمية وإذا كان كذلك فمجموع تلك الأشخاص الذين خرجوا إلى الوجود من أول تخليق آدم إلى آخر قيام القيامة لا تحويهم عرصة الدنيا فكيف يمكن أن يقال إنهم بأسرهم حصلوا دفعة واحدة في صلب آدم عليه السلام
الحجة السابعة قالوا هذا الميثاق إما أن يكون قد أخذه الله منهم في ذلك الوقت ليصير حجة عليهم في ذلك الوقت أو ليصير حجة عليهم عند دخولهم في دار الدنيا والأول باطل لانعقاد الإجماع على أن بسبب ذلك القدر من الميثاق لا يصيرون مستحقين للثواب والعقاب والمدح والذم ولا يجوز أن يكون المطلوب منه أن يصير ذلك حجة عليهم عند دخولهم في دار الدنيا لأنهم لما لم يذكروا ذلك الميثاق في الدنيا فكيف يصير ذلك حجة عليهم في التمسك بالإيمان
الحجة الثامنة قال الكعبي إن حال أولئك الذرية لا يكون أعلى في الفهم والعلم من حال الأطفال ولما لم يكن توجيه التكليف على الطفل فكيف يمكن توجيهه على أولئك الذوات
وأجاب الزجاج عنه فقال لما لم يبعد أن يؤتى الله النمل العقل كما قال قَالَتْ نَمْلَة ٌ يأَيُّهَا النَّمْلُ ( النمل 18 ) وأن يعطي الجبل الفهم حتى يسبح كما قال وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودُ الْجِبَالَ يُسَبّحْنَ ( الأنبياء 79 ) وكما أعطى الله العقل للبعير حتى سجد للرسول وللنخلة حتى سمعت وانقادت حين دعيت فكذا ههنا

الحجة التاسعة أن أولئك الذر في ذلك الوقت إما أن يكونوا كاملي العقول والقدر أو ما كانوا كذلك فإن كان الأول كانوا مكلفين لا محالة وإنما يبقون مكلفين إذا عرفوا الله بالاستدلال ولو كانوا كذلك لما امتازت أحوالهم في ذلك الوقت عن أحوالهم في هذه الحياة الدنيا فلو افتقر التكليف في الدنيا إلى سبق ذلك الميثاق لافتقر التكليف في وقت ذلك الميثاق إلى سبق ميثاق آخر ولزم التسلسل وهو محال وأما الثاني وهو أن يقال إنهم في وقت ذلك الميثاق ما كانوا كاملي العقول ولا كاملي القدر فحينئذ يمتنع توجيه الخطاب والتكليف عليهم
الحجة العاشرة قوله تعالى فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ ( الطارق 5 6 ) ولو كانت تلك الذرات عقلاء فاهمين كاملين لكانوا موجودين قبل هذا الماء الدافق ولا معنى للإنسان إلا ذلك الشيء فحينئذ لا يكون الإنسان مخلوقاً من الماء الدافق وذلك رد لنص القرآن
فإن قالوا لم لا يجوز أن يقال إنه تعالى خلقه كامل العقل والفهم والقدرة عند الميثاق ثم أزال عقله وفهمه وقدرته ثم إنه خلقه مرة أخرى في رحم الأم وأخرجه إلى هذه الحياة
قلنا هذا باطل لأنه لو كان الأمر كذلك لما كان خلقه من النطفة خلقاً على سبيل الابتداء بل يجب أن يكون خلقاً على سبيل الإعادة وأجمع المسلمون على أن خلقه من النطفة هو الخلق المبتدأ فدل هذا على أن ما ذكرتموه باطل
الحجة الحادية عشرة هي أن تلك الذرات إما أن يقال هي عين هؤلاء الناس أو غيرهم والقول الثاني باطل بالإجماع بقي القول الأول فنقول إما أن يقال إنهم بقوا فهماء عقلاء قادرين حال ما كانوا نطفة وعلقة ومضغة أو ما بقوا كذلك والأول باطل ببديهة العقل والثاني يقتضي أن يقال الإنسان حصل له الحياة أربع مرات أولها وقت الميثاق وثانيها في الدنيا وثالثها في القبر ورابعها في القيامة وأنه حصل له الموت ثلاث مرات موت بعد الحياة الحاصلة في الميثاق الأول وموت في الدنيا وموت في القبر وهذا العدد مخالف للعدد المذكور في قوله تعالى رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ( غافر 11 )
الحجة الثانية عشرة قوله تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلَالَة ٍ مّن طِينٍ ( المؤمنين 12 ) فلو كان القول بهذا الذر صحيحاً لكان ذلك الذر هو الإنسان لأنه هو المكلف المخاطب المثاب المعاقب وذلك باطل لأن ذلك الذر غير مخلوق من النطفة والعلقة والمضغة ونص الكتاب دليل على أن الإنسان مخلوق من النطفة والعلقة وهو قوله تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلَالَة ٍ مّن طِينٍ وقوله قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ مِنْ أَى ّ شَى ْء خَلَقَهُ مِن نُّطْفَة ٍ خَلَقَهُ ( عبس 17 18 ) فهذه جملة الوجوه المذكورة في بيان أن هذا القول ضعيف
والقول الثاني في تفسير هذه الآية قول أصحاب النظر وأرباب المعقولات أنه تعالى أخرج الذرية وهم الأولاد من أصلاب آبائهم وذلك الإخراج أنهم كانوا نطفة فأخرجها الله تعالى في أرحام الأمهات وجعلها علقة ثم مضغة ثم جعلهم بشراً سوياً وخلقاً كاملاً ثم أشهدهم على أنفسهم بما ركب فيهم من دلائل وحدانيته وعجائب خلقه وغرائب صنعه فبالإشهاد صاروا كأنهم قالوا بلى وإن لم يكن هناك قول باللسان ولذلك نظائر منها قوله تعالى فَقَالَ لَهَا وَلِلاْرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ( فصلت 11 )

ومنها قوله تعالى إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَى ْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( النحل 40 ) وقول العرب قال الجدار للوتد لم تشقني
قال سل من يدقني
فإن الذي ورايي
ما خلاني ورايي
وقال الشاعر امتلأ الحوض وقال قطنى
فهذا النوع من المجاز والاستعارة مشهور في الكلام فوجب حمل الكلام عليه فهذا هو الكلام في تقرير هذين القولين وهذا القول الثاني لاطعن فيه البتة وبتقدير أن يصح هذا القول لم يكن ذلك منافياً لصحة القول الأول إنما الكلام في أن القول الأول هل يصح أم لا
فإن قال قائل فما المختار عندكم فيه
قلنا ههنا مقامان أحدهما أنه هل يصح القول بأخذ الميثاق عن الذر والثاني أن بتقدير أن يصح القول به فهل يمكن جعله تفسير الألفاظ هذه الآية
أما المقام الأول فالمنكرون له قد تمسكوا بالدلائل العقلية التي ذكرناها وقررناها ويمكن الجواب عن كل واحد منها بوجه مقنع
أما الوجه الأول من الوجوه العقلية المذكورة وهو أنه لو صح القول بأخذ هذا الميثاق لوجب أن نتذكره الآن
قلنا خالق العلم بحصول الأحوال الماضية هو الله تعالى لأن هذه العلوم عقلية ضرورية والعلوم الضرورية خالقها هو الله تعالى وإذا كان كذلك صح منه تعالى أن يخلقها
فإن قالوا فإذا جوزتم هذا فجوزوا أن يقال إن قبل هذا البدن كنا في أبدان أخرى على سبيل التناسخ وإن كنا لا نتذكر الآن أحوال تلك الأبدانا
قلنا الفرق بين الأمرين ظاهر وذلك لأنا إذا كنا في أبدان أخرى وبقينا فيها سنين ودهوراً امتنع في مجرى العادة نسيانها أما أخذ هذا الميثاق إنما حصل في أسرع زمان وأقل وقت فلم يبعد حصول النسيان فيه والفرق الظاهر حاكم بصحة هذا الفرق لأن الإنسان إذا بقي على العمل الواحد سنين كثيرة يمتنع أن ينساه أما إذا مارس العمل الواحد لحظة واحدة فقد ينساه فقد ظهر الفرق
وأما الوجه الثاني وهو أن يقال مجموع تلك الذرات يمتنع حصولها بأسرها في ظهر آدم عليه السلام قلنا عندنا البنية ليست شرطاً لحصول الحياة والجوهر الفرد الذي لا يتجزأ قابل للحياة والعقل فإذا جعلنا كل واحد من تلك الذرات جوهراً فرداً فلم قلتم إن ظهر آدم عليه السلام لا يتسع لمجموعها إلا أن هذا الجواب لا يتم إلا إذا قلنا الإنسان جوهر فرد وجزء لا يتجزأ في البدن على ما هو مذهب بعض القدماء وأما إذا قلنا الإنسان هو النفس الناطقة وإنه جوهر غير متحيز ولا حال في المتحيز فالسؤال زائل

وأما الوجه الثالث وهو قوله فائدة أخذ الميثاق هي أن تكون حجة في ذلك الوقت أو في الحياة الدنيا
فجوابنا أن نقول يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد وأيضاً أليس أن من المعتزلة إذا أرادوا تصحيح القول بوزن الأعمال وإنطاق الجوارح قالوا لا يبعد أن يكون لبعض المكلفين في إسماع هذه الأشياء لطف فكذا ههنا لا يبعد أن يكون لبعض الملائكة في تمييز السعداء من الأشقياء في وقت أخذ الميثاق لطف وقيل أيضاً إن الله تعالى يذكرهم ذلك الميثاق يوم القيامة وبقية الوجوه ضعيفة والكلام عليها سهل هين
وأما المقام الثاني وهو أن بتقدير أن يصح القول بأخد الميثاق من الذر فهل يمكن جعله تفسيراً لألفاظ هذه الآية فنقول الوجوه الثلاثة المذكورة أولاً دافعة لذلك لأن قوله وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ فقد بينا أن المراد منه وإذا أخذ ربك من ظهور بني آدم وأيضاً لو كانت هذه الذرية مأخوذة من ظهر آدم لقال من ظهره ذريته ولم يقل من ظهورهم ذريتهم أجاب الناصرون لذلك القول بأنه صحت الرواية عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه فسر هذه الآية بهذا الوجه والطعن في تفسير رسول الله غير ممكن فنقول ظاهر الآية يدل على أنه تعالى أخرج الذر من ظهور بني آدم فيحمل ذلك على أنه تعالى يعلم أن الشخص الفلاني يتولد منه فلان وذلك الفلان فلان آخر فعلى الترتيب الذي علم دخولهم في الوجود يخرجهم ويميز بعضهم من بعض وأما أنه تعالى يخرج كل تلك الذرية من صلب آدم فليس في لفظ الآية ما يدل على ثبوته وليس في الآية أيضاً ما يدل على بطلانه إلا أن الخبر قد دل عليه فثبت إخراج الذرية من ظهور بني آدم بالقرآن وثبت إخراج الذرية من ظهر آدم بالخبر وعلى هذا التقدير فلا منافاه بين الأمرين ولا مدافعة فوجب المصير إليهما معاً صوناً للآية والخبر عن الطعن بقدر الإمكان فهذا منتهى الكلام في تقرير هذا المقام
المسألة الثانية قرأ نافع وابن عامر وأبو عمر و ذرياتهم بالألف على الجمع والباقون وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرّيَّتُهُم على الواحد قال الواحدي الذرية تقع على الواحد والجمع فمن أفرد فإنه قد استغنى عن جمعه وبوقوعه على الجمع فصار كالبشر فإنه يقع على الواحد كقوله مَا هَاذَا بَشَرًا وعلى الجمع كقوله أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا ( التغابن 6 ) وقوله إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا وكما لم يجمع بشر بتصحيح ولا تكسير كذلك لا يجمع الذرية ومن جمع قال إن الذرية وإن كان واحداً فلا إشكال في جواز الجمع فيه وإن كان جميعاً فجمعه أيضاً حسن لأنك قد رأيت الجموع المكسرة قد جمعت نحو الطرقات والجدرات وهو اختيار يونس أما قوله تعالى وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَى فنقول أما على قول من أثبت الميثاق الأول فكل هذه الأشياء محمولة على ظواهرها وأما على قول من أنكره قال إنها محمولة على التمثيل والمعنى أنه تعالى نصب لهم الأدلة على ربوبيته وشهدت بها عقولهم فصار ذلك جارياً مجرى ما إذا أشهدهم على أنفسنا وإقرارنا بوحدانيته أما قوله شَهِدْنَا ففيه قولان
القول الأول أنه من كلام الملائكة وذلك لأنهم لما قالوا بَلَى قال الله للملائكة اشهدوا فقالوا شهدنا وعلى هذا القول يحسن الوقف على قوله قَالُواْ بَلَى لأن كلام الذرية قد انقطع ههنا وقوله أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَاذَا غَافِلِينَ تقريره أن الملائكة قالوا شهدنا عليهم بالإقرار لئلا يقولوا ما

أقررنا فأسقط كلمة ( لا ) كما قال وَأَلْقَى فِى الاْرْضِ رَوَاسِى َ أَن تَمِيدَ بِكُمْ ( النحل 15 ) يريد لئلا تميد بكم هذا قول الكوفيين وعند البصريين تقريره شهدنا كراهة أن يقولوا
والقول الثاني أن قوله شَهِدْنَا من بقية كلام الذرية وعلى هذا التقرير فقوله أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَاذَا غَافِلِينَ متعلق بقوله وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ والتقدير وأشهدهم على أنفسهم بكذا وكذا لئلا يقولوا يوم القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هَاذَا غَافِلِينَ أو كراهية أن يقولوا ذلك وعلى هذا التقدير فلا يجوز الوقف عند قوله شَهِدْنَا لأن قوله أَن يَقُولُواْ متعلق بما قبله وهو قوله وَأَشْهَدَهُمْ فلم يجز قطعه منه واختلف القراء في قوله أَن يَقُولُواْ أو تقولوا فقرأ أبو عمرو بالياء جميعاً لأن الذي تقدم من الكلام على الغيبة وهو قوله مِن بَنِى ءادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لّئَلاَّ يَقُولُواْ وِقْراً رَبُّكَ مِن بَنِى ءادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا وكلا الوجهين حسن لأن الغائبين هم المخاطبون في المعنى
أما قوله أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ ءابَاؤُنَا مِن قَبْلُ قال المفسرون المعنى أن المقصود من هذا الإشهاد أن لا يقول الكفار إنما أشركنا لأن آباءنا أشركوا فقلدناهم في ذلك الشرك وهو المراد من قوله أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ والحاصل أنه تعالى لما أخذ عليهم الميثاق امتنع عليهم التمسك بهذا القدر وأما الذين حملوا الآية على أن المراد منه مجرد نصب الدلائل قالوا معنى الآية إنا نصبنا هذه الدلائل وأظهرناها للعقول كراهة أن يقولوا يوم القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هَاذَا غَافِلِينَ فما نبهنا عليه منبه أو كراهة أن يقولوا إنما أشركنا على سبيل التقليد لأسلافنا لأن نصب الأدلة على التوحيد قائم معهم فلا عذر لهم في الإعراض عنه والإقبال على التقليد والاقتداء بالآباء
ثم قال وَكَذَلِكَ نفَصّلُ الاْيَاتِ والمعنى أن مثل ما فصلنا وبينا في هذه الآية بينا سائر الآيات ليتدبروها فيرجعوا إلى الحق ويعرضوا عن الباطل وهو المراد من قوله وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وقيل أي ما أخذ عليهم من الميثاق في التوحيد وفي الآية قول ثالث وهو أن الأرواح البشرية موجودة قبل الأبدان والإقرار بوجود الإله من لوازم ذواتها وحقائقها وهذا العلم ليس يحتاج في تحصيله إلى كسب وطلب وهذا البحث إنما ينكشف تمام الانكشاف بأبحاث عقلية غامضة لا يمكن ذكرها في هذا الكتاب والله أعلم
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِى ءاتَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَاكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرض وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذالِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِثَايَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ

في الآية مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس وابن مسعود ومجاهد رحمهم الله نزلت هذه الآية في بلعم بن باعوراء وذلك لأن موسى عليه السلام قصد بلده الذي هو فيه وغزا أهله وكانوا كفاراً فطلبوا منه أن يدعو على موسى عليه السلام وقومه وكان مجاب الدعوة وعنده اسم الله الأعظم فامتنع منه فما زالوا يطلبونه منه حتى دعا عليه فاستجيب له ووقع موسى وبنو إسرائيل في التيه بدعائه فقال موسى يا رب بأي ذنب وقعنا في التيه فقال بدعاء بلعم فقال كما سمعت دعاءه علي فاسمع دعائي عليه ثم دعا موسى عليه أن ينزع منه اسم الله الأعظم والإيمان فسلخه الله مما كان عليه ونزع منه المعرفة فخرجت من صدره كحمامة بيضاء فهذه قصته ويقال أيضاً إنه كان نبياً من أنبياء الله فلما دعا عليه موسى انتزع الله منه الإيمان وصار كافراً وقال عبد الله بن عمر وسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم وأبو روق نزلت هذه الآية في أمية بن أبي الصلت وكان قد قرأ الكتب وعلم أن الله مرسل رسولاً في ذلك الوقت ورجا أن يكون هو فلما أرسل الله محمداً عليه الصلاة والسلام حسده ثم مات كافراً ولم يؤمن بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهو الذي قال فيه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( آمن شعره وكفر قلبه ) يريد أن شعره كشعر المؤمنين وذلك أنه يوحد الله في شعره ويذكر دلائل توحيده من خلق السموات والأرض وأحوال الآخرة والجنة والنار وقيل نزلت في أبي عامر الراهب الذي سماه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الفاسق كان يترهب في الجاهلية فلما جاء الإسلام خرج إلى الشام وأمر المنافقين باتخاذ مسجد ضرار وأتى قيصر واستنجده على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فمات هناك طريداً وحيداً وهو قول سعيد بن المسيب وقيل نزلت في منافقي أهل الكتاب كانوا يعرفون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن الحسن والأصم وقيل هو عام فيمن عرض عليه الهدى فأعرض عنه وهو قول قتادة وعكرمة وأبي مسلم
فإن قال قائل فهل يصح أن يقال إن المذكور في هذه الآية كان نبياً ثم صار كافراً
قلنا هذا بعيد لأنه تعالى قال اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ( الأنعام 124 ) وذلك يدل على أنه تعالى لا يشرف عبداً من عبيده بالرسالة إلا إذا علم امتيازه عن سائر العبيد بمزيد الشرف والدرجات العالية والمناقب العظيمة فمن كان هذا حاله فكيف يليق به الكفر
أما قوله تعالى وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِى ففيه قولان
القول الأول ( آتيناه آياتنا ) يعني علمناه حجج التوحيد وفهمناه أدلته حتى صار عالماً بها فَانْسَلَخَ مِنْهَا أي خرج من محبة الله إلى معصيته ومن رحمة الله إلى سخطه ومعنى انسلخ خرج منها يقال لكل من فارق شيئاً بالكلية انسلخ منه
والقول الثاني ما ذكره أبو مسلم رحمه الله فقال قوله وَاتْلُ عَلَيْهِمْ أي بيناها فلم يقبل وعرى منها وسواء قولك انسلخ وعرى وتباعد وهذا يقع على كل كافر لم يؤمن بالأدلة وأقام على الكفر ونظيره قوله تعالى يَأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدّقاً لّمَا مَعَكُمْ مّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا ( النساء 47 ) وقال في حق فرعون وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ ءايَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى ( طه 56 ) وجائز أن يكون هذا الموصوف فرعون فإنه تعالى أرسل إليه موسى وهارون فأعرض وأبى وكان عادياً ضالاً متبعاً للشيطان

واعلم أن حاصل الفرق بين القولين هو أن هذا الرجل في القول الأول كان عالماً بدين الله وتوحيده ثم خرج منه وعلى القول الثاني لما آتاه الله الدلائل والبينات امتنع من قبولها والقول الأول أولى لأن قوله انسلخ منها يدل على أنه كان فيها ثم خرج منها وأيضاً فقد ثبت بالأخبار أن هذه الآية إنما نزلت في إنسان كان عالماً بدين الله تعالى ثم خرج منه إلى الكفر والضلال
أما قوله فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ ففيه وجوه الأول أتبعه الشيطان كفار الإنس وغواتهم أي الشيطان جعل كفار الإنس أتباعاً له والثاني قال عبد الله بن مسلم فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ أي أدركه يقال أتبعت القوم أي لحقتهم قال أبو عبيدة ويقال أتبعت القوم مثال أفعلت إذا كانوا قد سبقوك فلحقتهم ويقال ما زلت أتبعهم حتى أتبعتهم أي حتى أدركتهم وقوله فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ أي أطاع الشيطان فكان من الظالمين قال أهل المعاني المقصود منه بيان أن من أوتي الهدى فانسلخ منه إلى الضلال والهوى والعمى ومال إلى الدنيا حتى تلاعب به الشيطان كان منتهاه إلى البوار والردى وخاب في الآخرة والأولى فذكر الله قصته ليحذر الناس عن مثل حالته وقوله وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا قال أصحابنا معناه ولو شئنا رفعناه للعمل بها فكان يرفع بواسطة تلك الأعمال الصالحة منزلته ولفظة لَوْ تدل على انتفاء الشيء لانتفاء غيره فهذا يدل على أنه تعالى قد لا يريد الإيمان وقد يريد الكفر وقال المعتزلة لفظ الآية يحتمل وجوهاً أخرى سوى هذا الوجه فالأول قال الجبائي معناه ولو شئنا لرفعناه بأعماله بأن نكرمه ونزيل التكليف عنه قبل ذلك الكفر حتى نسلم له الرفعة لكنا رفعناه بزيادة التكليف بمنزلة زائدة فأبى أن يستمر على الإيمان الثاني لو شئنا لرفعناه بأن نحول بينه وبين الكفر قهراً وجبراً إلا أن ذلك ينافي التكليف فلا جرم تركناه مع اختياره
والجواب عن الأول أن حمل الرفعة على الأماتة بعيد وعن الثاني أنه تعالى إذا منعه منه قهراً لم يكن ذلك موجباً للثواب والرفعة
ثم قال تعالى وَلَاكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الاْرْضِ قال أصحاب العربية أصل الإخلاد اللزوم على الدوام وكأنه قيل لزم الميل إلى الأرض ومنه يقال أخلد فلان بالمكان إذا لزم الإقامة به قال مالك بن سويد بأبناء حي من قبائل مالك
وعمرو بن يربوع أقاموا فأخلدوا
قال ابن عباس وَلَاكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الاْرْضِ يريد مال إلى الدنيا وقال مقاتل بالدنيا وقال الزجاج سكن إلى الدنيا قال الواحدي فهؤلاء فسروا الأرض في هذه الآية بالدنيا وذلك لأن الدنيا هي الأرض لأن ما فيها من العقار والضياع وسائر أمتعتها من المعادن والنبات والحيوان مستخرج من الأرض وإنما يقوى ويكمل بها فالدنيا كلها هي الأرض فصح أن يعبر عن الدنيا بالأرض ونقول لو جاء الكلام على ظاهره لقيل لو شئنا لرفعناه ولكنا لم نشأ إلا أن قوله وَلَاكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الاْرْضِ لما دل على هذا المعنى لا جرم أقيم مقامه قوله وَاتَّبَعَ هَوَاهُ معناه أنه أعرض عن التمسك بما آتاه الله من الآيات واتبع الهوى فلا جرم وقع في هاوية الردى وهذه الآية من أشد الآيات على أصحاب العلم وذلك لأنه تعالى بعد أن خص هذا

الرجل بآياته وبيناته وعلمه الاسم الأعظم وخصه بالدعوات المستجابة لما اتبع الهوى انسلخ من الدين وصار في درجة الكلب وذلك يدل على أن كل من كانت نعم الله في حقه أكثر فإذا أعرض عن متابعة الهدى وأقبل على متابعة الهوى كان بعده عن الله أعظم وإليه الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام ( من ازداد علماً ولم يزدد هدى لم يزدد من الله إلا بعداً ) أو لفظ هذا معناه
ثم قال تعالى فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث قال الليث اللهث هو أن الكلب إذا ناله الإعياء عند شدة العدو وعند شدة الحر فإنه يدلع لسانه من العطش
واعلم أن هذا التمثيل ما وقع بجميع الكلاب وإنما وقع بالكلب اللاهث وأخس الحيوانات هو الكلب وأخس الكلاب هو الكلب اللاهث فمن آتاه الله العلم والدين فمال إلى الدنيا وأخلد إلى الأرض كان مشبهاً بأخس الحيوانات وهو الكلب اللاهث وفي تقرير هذا التمثيل وجوه الأول أن كل شيء يلهث فإنما يلهث من إعياء أو عطش إلا الكلب اللاهث فإنه يلهث في حال الإعياء وفي حال الراحة وفي حال العطش وفي حال الري فكان ذلك عادة منه وطبيعة وهو مواظب عليه كعادته الأصلية وطبيعته الخسيسة لا لأجل حاجة وضرورة فكذلك من آتاه الله العلم والدين أغناه عن التعرض لأوساخ أموال الناس ثم إنه يميل إلى طلب الدنيا ويلقى نفسه فيها كانت حاله كحال ذلك اللاهث حيث واظب على العمل الخسيس والفعل القبيح لمجرد نفسه الخبيثة وطبيعته الخسيسة لا لأجل الحاجة والضرورة والثاني أن الرجل العالم إذا توسل بعلمه إلى طلب الدنيا فذاك إنما يكون لأجل أنه يورد عليهم أنواع علومه ويظهر عندهم فضائل نفسه ومناقبها ولا شك أنه عند ذكر تلك الكلمات وتقرير تلك العبارات يدلع لسانه ويخرجه لأجل ما تمكن في قلبه من حرارة الحرص وشدة العطش إلى الفوز بالدنيا فكانت حالته شبيهة بحالة ذلك الكلب الذي أخرج لسانه أبداً من غير حاجة ولا ضرورة بل بمجرد الطبيعة الخسيسة والثالث أن الكلب اللاهث لا يزال لهثة البتة فكذلك الأنسان الحريص لا يزال حرصه البتة
أما قوله تعالى إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ فالمعنى أن هذا الكلب إن شد عليه وهيج لهث وإن ترك أيضاً لهث لأجل أن ذلك الفعل القبيح طبيعة أصلية له فكذلك هذا الحريص الضال إن وعظته فهو ضال وإن لم تعظه فهو ضال لأجل أن ذلك الضلال والخسارة عادة أصلية وطبيعية ذاتية له
فإن قيل ما محل قوله إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث
قلنا النصب على الحال كأنه قيل كمثل الكلب ذليلاً لاهثاً في الأحوال كلها
ثم قال تعالى ذالِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِثَايَاتِنَا فعم بهذا التمثيل جميع المكذبين بآيات الله قال ابن عباس يريد أهل مكة كانوا يتمنون هادياً يهديهم وداعياً يدعوهم إلى طاعة الله ثم جاءهم من لا يشكون في صدقه وديانته فكذبوه فحصل التمثيل بينهم وبين الكلب الذي إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث لأنهم لم يهتدوا لما تركوا ولم يهتدوا لما جاءهم الرسول فبقوا على الضلال في كل الأحوال مثل هذا الكلب الذي بقي على اللهث في كل الأحوال

ثم قال فَاقْصُصِ الْقَصَصَ يريد قصص الذين كفروا وكذبوا أنبياءهم لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ يريد يتعظون
سَآءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِأايَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ
اعلم أنه تعالى لما قال بعد تمثيلهم بالكلب ذالِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِثَايَاتِنَا وزجر بذلك عن الكفر والتكذيب أكده في باب الزجر بقوله تعالى سَاء مَثَلاً وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الليث ساء يسوء فعل لازم ومتعد يقال ساءت الشيء يسوء فهو سيء إذا قبح وساءه يسوءه مساءة قال النحويون تقديره ساء مثلاً مثل القوم انتصب مثلاً على التمييز لأنك إذا قلت ساء جاز أن تذكر شيئاً آخر سوى مثلاً فلما ذكرت نوعاً فقد ميزته من سائر الأنواع وقولك القوم ارتفاعه من وجهين أحدهما أن يكون مبتدأ ويكون قولك ساء مثلاً خبره والثاني أنك لما قلت ساء مثلاً قيل لك من هو قلت القوم فيكون رفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف وقرأ الجحدري ساء مثل القوم
البحث الثاني ظاهر قوله سَاء مَثَلاً يقتضي كون ذلك المثل موصوفاً بالسوء وذلك غير جائز لأن هذا المثل ذكره الله تعالى فكيف يكون موصوفاً بالسوء وأيضاً فهو يفيد الزجر عن الكفر والدعوة إلى الإيمان فكيف يكون موصوفاً بالسوء فوجب أن يكون الموصوف بالسوء ما أفاده المثل من تكذيبهم بآيات الله تعالى وإعراضهم عنها حتى صاروا في التمثيل بذلك بمنزلة الكلب اللاهث
أما قوله تعالى وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ فإما أن يكون معطوفاً على قوله كَذَّبُواْ فيدخل حينئذ في حيز الصلة بمعنى الذين جمعوا بين التكذيب بآيات الله وظلم أنفسهم وإما أن يكون كلاماً منقطعاً عن الصلة بمعنى وما ظلموا إلا أنفسهم بالتكذيب وإما تقديم المفعول فهو للاختصاص كأنه قيل وخصوا أنفسهم بالظلم وما تعدى أثر ذلك الظلم عنهم إلى غيرهم
مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِى وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ
في الآية مسألتان
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما وصف الضالين بالوصف المذكور وعرف حالهم بالمثل المذكور بين في هذه الآية أن الهداية من الله وأن الضلال من الله تعالى وعند هذه اضطربت المعتزلة وذكروا في التأويل وجوهاً كثيرة الأول وهو الذي ذكره الجبائي وارتضاه القاضي أن المراد من يهده الله إلى الجنة والثواب في الآخرة فهو المهتدي في الدنيا السالك طريقة الرشد فيما كلف فبين الله تعالى أنه لا يهدي إلى الثواب في الآخرة إلا من هذا وصفه ومن يضلله عن طريق الجنة فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ والثاني

قال بعضهم إن في الآية حذفاً والتقدير من يهده الله فقبل وتمسك بهداه فهو المهتدي ومن يضلل بأن لم يقبل فهو الخاسر الثالث أن يكون المراد من يهده الله بمعنى أن من وصفه الله بكونه مهتدياً فهو المهتدي لأن ذلك كالمدح ومدح الله لا يحصل إلا في حق من كان موصوفاً بذلك الوصف الممدوح ومن يضلل أي ومن وصفه الله بكونه ضالاً فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ والرابع أن يكون المراد من يهده الله بالألطاف وزيادة الهدى فهو المهتدي ومن يضلل عن ذلك لما تقدم منه من سوء اختياره فأخرج لهذا السبب بتلك الألطاف من أن يؤثر فيه فهو من الخاسرين
واعلم أنا بينا أن الدلائل العقلية القاطعة قد دلت على أن الهداية والإضلال لا يكونان إلا من الله من وجوه الأول أن الفعل يتوقف على حصول الداعي وحصول الداعي ليس إلا من الله فالفعل ليس إلا من الله الثاني أن خلاف معلوم الله ممتنع الوقوع فمن علم الله منه الإيمان لم يقدر على الكفر وبالضد الثالث أن كل أحد يقصد حصول الإيمان والمعرفة فإذا حصل الكفر عقيبه علمنا أنه ليس منه بل من غيره ثم نقول
أما التأويل الأول فضعيف لأنه حمل قوله مَن يَهْدِ اللَّهُ على الهداية في الآخرة إلى الجنة وقوله فَهُوَ الْمُهْتَدِى على الاهتداء إلى الحق في الدنيا وذلك يوجب ركاكة في النظم بل يجب أن تكون الهداية والاهتداء راجعين إلى شيء واحد حتى يكون الكلام حسن النظم
وأما الثاني فإنه التزام لإضمار زائد وهو خلاف اللفظ ولو جاز فتح باب أمثال هذه الإضمارات لانقلب النفي إثباتاً والإثبات نفياً ويخرج كلام الله عز وجل من أن يكون حجة فإن لكل أحد أن يضمر في الآية ما يشاء وحينئذ يخرج الكل عن الإفادة
وأما الثالث فضعيف لأن قول القائل فلان هدى فلاناً لا يفيد في اللغة البتة أنه وصفه بكونه مهتدياً وقياس هذا على قوله فلان ضلل فلاناً وكفره قياس في اللغة وأنه في نهاية الفساد والرابع أيضاً باطل لأن كل ما في مقدور الله تعالى من الألطاف فقد فعله عند المعتزلة في حق جميع الكفار فحمل الآية على هذا التأويل بعيد والله أعلم
المسألة الثانية قوله فَهُوَ الْمُهْتَدِى ( الأعراف 178 ) يجوز إثبات الياء فيه على الأصل ويجوز حذفها طلباً للتخفيف كما قيل في بيت الكتاب فطرت بمنصلي في يعملات
دوامي الأيد يخبطن السريحا
ومن أبياته أيضاً كخوف ريش حمامة نجدية
مسحت بماء البين عطف الأثمد
قال أبو الفتح الموصلي يريد كخواف محذوف الياء
وأما قوله وَمَن يُضْلِلِ يريد ومن يضلله الله ويخذله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ أي خسروا الدنيا والآخرة

وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءَاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ أُوْلَائِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَائِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ
هذه الآية هي الحجة الثانية في هذا الموضع على صحة مذهبنا في مسألة خلق الأفعال وإرادة الكائنات وتقريره من وجوه الأول أنه تعالى بين باللفظ الصريح أنه خلق كثيراً من الجن والإنس لجهنم ولا مزيد على بيان الله الثاني أنه تعالى لما أخبر عنهم بأنهم من أهل النار فلو لم يكونوا من أهل النار انقلب علم الله جهلاً وخبره الصدق كذباً وكل ذلك محال والمفضي إلى المحال محال فعدم دخولهم في النار محال ومن علم كون الشيء محالاً امتنع أن يريده فثبت أنه تعالى يمتنع أن يريد أن لا يدخلهم في النار بل يجب أن يريد أن يدخلهم في النار وذلك هو الذي دل عليه لفظ الآية الثالث أن القار على الكفر إن لم يقدر على الإيمان فالذي خلق فيه القدرة على الكفر فقد أراد أن يدخله في النار وإن كان قادراً على الكفر وعلى الإيمان معاً امتنع رجحان أحد الطرفين على الآخر لا لمرجح وذلك المرجح إن حصل من قبله لزم التسلسل وإن حصل من قبله تعالى فلما كان هو الخالق للداعية الموجبة للظفر فقد خلقه للنار قطعاً الرابع أنه تعالى لو خلقه للجنة وأعانه على اكتساب تحصيل ما يوجب دخول الجنة ثم قدرنا أن العبد سعى في تحصيل الكفر الموجب للدخول في النار فحينئذ حصل مراد العبد ولم يحصل مراد الله تعالى فيلزم كون العبد أقدر وأقوى من الله تعالى وذلك لا يقوله عاقل والخامس أن العاقل لا يريد الكفر والجهل الموجب لاستحقاق النار وإنما يريد الإيمان والمعرفة الموجبة لاستحقاق الثواب والدخول في الجنة فلما حصل الكفر والجهل على خلاف قصد العبد وضد جهده واجتهاده وجب أن لا يكون حصوله من قبل العبد بل يجب أن يكون حصوله من قبل الله تعالى
فإن قالوا العبد إنما سعى في تحصيل ذلك الاعتقاد الفاسد الباطل لأنه اشتبه الأمر عليه وظن أنه هو الاعتقاد الحق الصحيح
فنقول فعلى هذا التقدير إنما وقع في هذا الجهل لأجل ذلك الجهل المتقدم فإن كان إقدامه على ذلك الجهل السابق لجهل آخر لزم التسلسل وهو محال وإن انتهى إلى جهل حصل ابتداء لا لسابقة جهل آخر فقد توجه الإلزام وتأكد الدليل والبرهان فثبت أن هذه البراهين العقلية ناطقة بصحة ما دل عليه صريح قوله سبحانه وتعالى وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ الْجِنّ وَالإِنْسِ قالت المعتزلة لا يمكن أن يكون المراد من هذه الآية ما ذكرتم لأن كثيراً من الآيات دالة على أنه أراد من الكل الطاعة والعبادة والخير والصلاح قال تعالى إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشّراً وَنَذِيراً لّتُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ( الفتح 8 9 ) وقال وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ( النساء 64 ) وقال وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ ( الفرقان 50 ) وقال هُوَ الَّذِى يُنَزّلُ عَلَى عَبْدِهِ ءايَاتٍ بَيّنَاتٍ لّيُخْرِجَكُمْ مّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ( الحديد 9 ) وقال وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ( الحديد 25 )

وقال يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ ( إبراهيم 10 ) وقال وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( الذاريات 56 ) وأمثال هذه الآيات كثيرة ونحن نعلم بالضرورة أنه لا يجوز وقوع التناقض في القرآن فعلمنا أنه لا يمكن حمل قوله تعالى وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ الْجِنّ وَالإِنْسِ على ظاهره
الوجه الثاني أنه تعالى قال بعد هذه الآية لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وهو تعالى إنما ذكر ذلك في معرض الذم لهم ولو كانوا مخلوقين للنار ولما كانوا قادرين على الإيمان البتة وعلى هذا التقدير فيقبح ذمهم على ترك الإيمان
الوجه الثالث وهو أنه تعالى لو خلقهم للنار لما كان له على أحد من الكفار نعمة أصلاً لأن منافع الدنيا بالقياس إلى العذاب الدائم كالقطرة في البحر وكان كمن دفع إلى إنسان حلواً مسموماً فإنه لا يكون منعماً عليه فكذا ههنا ولما كان القرآن مملوأ من كثرة نعمة الله على كل الخلق علمنا أن الأمر ليس كما ذكرتم
الوجه الرابع أن المدح والذم والثواب والعقاب والترغيب والترهيب يبطل هذا المذهب الذي ينصرونه
الوجه الخامس لو أنه تعالى خلقهم للنار لوجب أن يخلقهم ابتداء في النار لأنه لا فائدة في أن يستدرجهم إلى النار بخلق الكفر فيهم
الوجه السادس أن قوله وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ متروك الظاهر لأن جهنم اسم لذلك الموضع المعين ولا يجوز أن يكون الموضع المعين مراداً منه فثبت أنه لا بد وأن يقال إن ما أراد الله تعالى بخلقهم منهم محذوف فكأنه قال ولقد ذرأنا لكي يكفروا فيدخلوا جهنم فصارت الآية على قولهم متروكة الظاهر فيجب بناؤها على قوله وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ لأن ظاهرها يصح دون حذف
الوجه السابع أنه إذا كان المراد أنه إذا ذرأهم لكي يكفروا فيصيروا إلى جهنم عاد الأمر في تأويلهم إلى أن هذه اللام للعاقبة لكنهم يجعلونها للعاقبة مع أنه لا استحقاق للنار ونحن قد قلناها على عاقبة حاصلة مع استحقاق النار فكان قولنا أولى فثبت بهذه الوجوه أنه لا يمكن حمل هذه الآية على ظاهرها فوجب المصير فيه إلى التأويل وتقريره أنه لما كانت عاقبة كثير من الجن والأنس هي الدخول في نار جهنم جائز ذكر هذه اللام بمعنى العاقبة ولهذا نظائر كثيرة في القرآن والشعر أما القرآن فقوله تعالى وَكَذالِكَ نُصَرّفُ الاْيَاتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ ( الأنعام 105 ) ومعلوم أنه تعالى ما صرفها ليقولوا ذلك لكنهم لما قالوا ذلك حسن ورود هذا اللفظ وأيضاً قال تعالى رَبَّنَا إِنَّكَ ءاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلاَهُ زِينَة ً وَأَمْوَالاً فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ ( يونس 88 ) وأيضاً قال تعالى فَالْتَقَطَهُ ءالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً ( القصص 8 ) وهم ما التقطوه لهذا الغرض إلا أنه لما كانت عاقبة أمرهم ذلك حسن هذا اللفظ وأما الشعر فأبيات قال

وللموت تغدوا الوالدات سخالها
كما لخراب الدهر تبنى المساكن
وقال أموالنا لذوي الميراث نجمعها
ودورنا لخراب الدهر نبنيها
وقال له ملك ينادي كل يوم
لدوا للموت وابنو للخراب
وقال وأم سماك فلا تجزعي
فللموت ما تلد الوالدة
هذا منتهى كلام القوم في الجواب
واعلم أن المصير في التأويل إنما يحسن إذا ثبت بالدليل امتناع العقل حمل هذا اللفظ على ظاهره وأما لما ثبت بالدليل أنه لا حق إلا ما دل عليه ظاهر اللفظ كان المصير إلى التأويل في مثل هذا المقام عبثاً وأما الآيات التي تمسكوا بها في إثبات مذهب المعتزلة فهي معارضة بالبحار الزاخرة المملوءة من الآيات الدالة على مذهب أهل السنة ومن جملتها ما قبل هذه الآية وهو قوله مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِى وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( الأعراف 178 ) وهو صريح مذهبنا وما بعد هذه الآية وهو قوله وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ ( الأعراف 182 183 ) ولما كان ما قبل هذه الآية وما بعدها ليس إلا ما يقوي قولنا ويشيد مذهبنا كان كلام المعتزلة في وجوب تأويل هذه الآية ضعيفاً جداً
أما قوله تعالى لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا ففيه مسألتان
المسألة الأولى احتج أصحابنا بهذه الآية على صحة قولهم في خلق الأعمال فقالوا لا شك أن أولئك الكفار كانت لهم قلوب يفقهون بها مصالحهم المتعلقة بالدنيا ولا شك أنه كانت لهم أعين يبصرون بها المرئيات وآذان يسمعون بها الكلمات فوجب أن يكون المراد من هذه الآية تقييدها بما يرجع إلى الدين وهو أنهم ما كانوا يفقهون بقلوبهم ما يرجع إلى مصالح الدين وما كانوا يبصرون ويسمعون ما يرجع إلى مصالح الدين
وإذا ثبت هذا فنقول ثبت أنه تعالى كلفهم بتحصيل الدين مع أن قلوبهم وأبصارهم وأسماعهم ما كانت صالحة لذلك وهو يجري مجرى المنع عن الشيء والصد عنه مع الأمر به وذلك هو المطلوب قالت المعتزلة لو كانوا كذلك لقبح من الله تكليفهم لأن تكليف من لا قدرة له على العمل قبيح غير لائق بالحكيم فوجب حمل الآية على أن المراد منه أنهم بكثرة الإعراض عن الدلائل وعدم الالتفات إليها صاروا مشبهين بمن لا يكون له قلب فاهم ولا عين باصرة ولا أذن سامعة
والجواب أن الإنسان إذا تأكدت نفرته عن شيء صارت تلك النفرة المتأكدة الراسخة مانعة له عن فهم الكلام الدال على صحة الشيء ومانعة عن إبصار محاسنه وفضائله وهذه حالة وجدانية ضرورية يجدها كل عافل من نفسه ولهذا السبب قالوا في المثل المشهور حبك الشيء يعمي ويصم

إذا ثبت هذا فنقول إن أقواماً من الكفار بلغوا في عداوة الرسول عليه الصلاة والسلام وفي بغضه وفي شدة النفرة عن قبول دينه والاعتراف برسالته هذا المبلغ وأقوى منه والعلم الضروري حاصل بأن حصول البغض والحب في القلب ليس باختيار الإنسان بل هو حاصل في القلب شاء الإنسان أم كره
إذا ثبت هذا فنقول ظهر أن حصول هذه النفرة والعداوة في القلب ليس باختيار العبد وثبت أنه متى حصلت هذه النفرة والعداوة في القلب فإن الإنسان لا يمكنه مع تلك النفرة الراسخة والعداوة الشديدة تحصيل الفهم والعلم وإذا ثبت هذا ثبت القول بالجبر لزوماً لا محيص عنه ونقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب خطبة في تقرير هذا المعنى وهو في غاية الحسن روى الشيخ أحمد البيهقي في كتاب ( مناقب الشافعي ) رضي الله تعالى عنه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه خطب الناس فقال وأعجب ما في الإنسان قلبه فيه مواد من الحكمة وأضدادها فإن سنح له الرجاء أولهه الطمع وإن هاج له الطمع أهلكه الحرص وإن أهلكه اليأس قتله الأسف وإن عرض له الغضب اشتد به الغيظ وإن سعد بالرضا شقي بالسخط وإن ناله الخوف شغله الحزن وإن أصابته المصيبة قتله الجزع وإن وجد مالاً أطغاه الغنى وإن عضته فاقة شغله البلاء وإن أجهده الجوع قعد به الضعف فكل تقصير به مضر وكل إفراط له مفسد وأقول هذا الفصل في غاية الجلالة والشرف وهو كالمطلع على سر مسألة القضاء والقدر لأن أعمال الجوارح مربوطة بأحوال القلوب وكل حالة من أحوال القلب فإنها مستندة إلى حالة أخرى حصلت قبلها وإذا وقف الإنسان على هذه الحالة علم أنه لا خلاص من الاعتراف بالجبر وذكر الشيخ الغزالي رحمه الله في كتاب ( الأحياء ) فصلاً في تقرير مذهب الجبر
ثم قال فإن قيل إني أجد من نفسي أني إن شئت الفعل فعلت وإن شئت الترك تركت فيكون فعلي حاصلاً بي لا بغيري ثم قال وهب أنك وجدت من نفسك ذلك إلا أنا نقول وهل تجد من نفسك أنك إن شئت أن تشاء شيئاً شئته وإن شئت أن لا تشاء لم تشأه ما أظنك أن تقول ذلك وإلا لذهب الأمر فيه إلى ما لا نهاية له بل شئت أو لم تشأ فإنك تشاء ذلك الشيء وإذا شئته فشئت أو لم تشأ فعلته فلا مشيئتك به ولا حصول فعلك بعد حصول مشيئتك بك فالإنسان مضطر في صورة مختار
المسألة الثانية احتج العلماء بقوله تعالى لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا على أن محل العلم هو القلب لأنه تعالى نفى الفقه والفهم عن قلوبهم في معرض الذم وهذا إنما يصح لو كان محل الفهم والفقه هو القلب والله أعلم
أما قوله أُوْلَئِكَ كَالانْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ فتقريره أن الإنسان وسائر الحيوانات متشاركة في قوى الطبيعة الغاذية والنامية والمولدة ومتشاركة أيضاً في منافع الحواس الخمس الباطنة والظاهرة وفي أحوال التخيل والتفكر والتذكر وإنما حصل الامتياز بين الإنسان وبين سائر الحيوانات في القوة العقلية والفكرية التي تهديه إلى معرفة الحق لذاته والخير لأجل العمل به فلما أعرض الكفار عن اعتبار أحوال العقل والفكر ومعرفة الحق والعمل بالخير كانوا كالأنعام
ثم قال بَلْ هُمْ أَضَلُّ لأن الحيوانات لا قدرة لها على تحصيل هذه الفضائل والإنسان أعطي القدرة

على تحصيلها ومن أعرض عن اكتساب الفضائل العظيمة مع القدرة على تحصيلها كان أخص حالاً ممن لم يكتسبها مع العجز عنها فلهذا السبب قال تعالى بَلْ هُمْ أَضَلُّ وقال حكيم الشعراء الروح عند إله العرش مبدؤه
وتربة الأرض أصل الجسم والبدن
قد ألف الملك الحنان بينهما
ليصلحا لقبول الأمر والمحن
فالروح في غربة والجسم في وطن
فاعرف ذمام الغريب النازح الوطن
وقيل في تفسير قوله بَلْ هُمْ أَضَلُّ وجوه أخرى فقيل لأن الأنعام مطيعة لله تعالى والكافر غير مطيع وقال مقاتل هم أخطأ طريقاً من الأنعام لأن الأنعام تعرف ربها وتذكره وهم لا يعرفون ربهم ولا يذكرونه وقال الزجاج بَلْ هُمْ أَضَلُّ لأن الأنعام تبصر منافعها ومضارها فتسعى في تحصيل منافعها وتحترز عن مضارها وهؤلاء الكفار وأهل العناد أكثرهم يعلمون أنهم معاندون ومع ذلك فيصرون عليه ويلقون أنفسهم في النار وفي العذاب وقيل إنها تفر أبداً إلى أربابها ومن يقوم بمصالحها والكافر يهرب عن ربه وإلهه الذي أنعم عليه بنعم لا حد لها وقيل لأنها تضل إذا لم يكن معها مرشد فأما إذا كان معها مرشد قلماتضل وهؤلاء الكفاء قد جاءهم الأنبياء وأنزل عليهم الكتب وهم يزدادون في الضلال ثم إنه تعالى ختم الآية فقال أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ قال عطاء عما أعد الله لأوليائه من الثواب ولأعدائه من العقاب
وَللَّهِ الأَسْمَآءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
اعلم أنه تعالى لما وصف المخلوقين لجهنم بقوله أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ أمر بعده بذكر الله تعالى فقال وَللَّهِ الاسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وهذا كالتنبيه على أن الموجب لدخول جهنم هو الغفلة عن ذكر الله والمخلص عن عذاب جهنم هو ذكر الله تعالى وأصحاب الذوق والمشاهدة يجدون من أرواحهم أن الأمر كذلك فإن القلب إذا غفل عن ذكر الله وأقبل على الدنيا وشهواتها وقع في باب الحرص وزمهرير الحرمان ولا يزال ينتقل من رغبة إلى رغبة ومن طلب إلى طلب ومن ظلمة إلى ظلمة فإذا انفتح على قلبه باب ذكر الله ومعرفة الله تخلص عن نيران الآفات وعن حسرات الخسارات واستشعر بمعرفة رب الأرض والسموات وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى وَللَّهِ الاسْمَاء الْحُسْنَى مذكور في سور أربعة أولها هذه السورة وثانيها في آخر سورة بني إسرائيل في قوله قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيَّامًا تَدْعُواْ فَلَهُ الاْسْمَاء الْحُسْنَى ( الإسراء 11 ) وثالثها في أول طه وهو قوله اللَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ لَهُ الاْسْمَاء الْحُسْنَى ( طه 8 ) ورابعها في آخر الحشر وهو قوله هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِىء الْمُصَوّرُ لَهُ الاْسْمَاء الْحُسْنَى ( الحشر 24 )
إذا عرفت هذا فنقول الاْسْمَاء ألفاظ دالة على المعاني فهي إنما تحسن بحسن معانيها ومفهوماتها ولا معنى للحسن في حق الله تعالى إلا ذكر صفات الكمال ونعوت الجلال وهي محصورة في نوعين عدم

افتقاره إلى غيره وثبوت افتقار غيره إليه
واعلم أن لنا في تفسير أسماء الله كتاباً كبيراً كثير الدقائق شريف الحقائق سميناه ( بلوامع البينات في تفسير الأسماء والصفات ) من أراد الاستقصاء فيه فليرجع إليه ونحن نذكر ههنا لمعاً ونكتاً منها فنقول إن أسماء الله يمكن تقسيمها من وجوه كثيرة
الوجه الأول أن نقول الاسم إما أن يكون اسماً للذات أو لجزء من أجزاء الذات أو لصفة خارجة عن الذات قائمة بها أما اسم الذات فهو المسمى بالاسم الأعظم وفي كشف الغطاء عما فيه من المباحثات أسرار وأما اسم جزء الذات فهو في حق الله تعالى محال لأن هذا إنما يفعل في الذات المركبة من الأجزاء وكل ما كان كذلك فهو ممكن فواجب الوجود يمتنع أن يكون له جزء
وأما اسم الصفة فنقول الصفة إما أن تكون حقيقية أو إضافية أو سلبية أو ما يتركب عن هذه الثلاثة وهي أربعة لأنه إما أن يكون صفة حقيقية مع إضافة أو مع سلب أو صفة سلبية مع إضافة أو مجموع صفة حقيقية وإضافة وسلبية أما الصفة الحقيقية العارية عن الإضافة فكقولنا موجود عند من يقول الوجود صفة أو قولنا واحد عند من يقول الوحدة صفة ثانية وكقولنا حي فإن الحياة صفة حقيقية عارية عن النسب والإضافات وأما الصفة الإضافية المحضة فكقولنا مذكور ومعلوم وأما الصفة السلبية فكقولنا القدوس السلام وأما الصفة الحقيقية مع الإضافة فكقولنا عالم وقادر فإن العلم صفة حقيقية وله تعلق بالمعلوم والقادر فإن القدرة صفة حقيقية ولها تعلق بالمقدور وأما الصفة الحقيقية مع السلبية فكقولنا قديم أزلي لأنه عبارة عن موجود لا أول له وأما الصفة الإضافية مع السلبية فكقولنا أول فإنه هو الذي سبق غيره وما سبقه غيره وأما الصفة الحقيقية مع الإضافة والسلب فكقولنا حكيم فإنه هو الذي يعلم حقائق الأشياء ولا يفعل ما لا يجوز فعله فصفة العلم صفة حقيقية وكون هذه الصفة متعلقة بالمعلومات نسب وإضافات وكونه غير فاعل لما لا ينبغي سلب
إذا عرفت هذا فنقول السلوب غير متناهية والإضافات أيضاً غير متناهية فكونه خالقاً للمخلوقات صفة إضافية وكونه محيياً ومميتاً إضافات مخصوصة وكونه رازقاً أيضاً إضافة أخرى مخصوصة فيحصل بسبب هذين النوعين من الاعتبارات أسماء لا نهاية لها لله تعالى لأن مقدوراته غير متناهية ولما كان لا سبيل إلى معرفة كنه ذاته وإنما السبيل إلى معرفته بمعرفة أفعاله فكل من كان وقوفه على أسرار حكمته في مخلوقاته أكثر كان علمه بأسماء الله أكثر ولما كان هذا بحراً لا ساحل له ولا نهاية له فكذلك لا نهاية لمعرفة أسماء الله الحسنى
النوع الثاني في تقسيم أسماء الله ما قاله المتكلمون وهو أن صفات الله تعالى ثلاثة أنواع ما يجب ويجوز ويستحيل على الله تعالى ولله تعالى بحسب كل واحد من هذه الأقسام الثلاثة أسماء مخصوصة
والنوع الثالث في تقسيم أسماء الله أن صفات الله تعالى إما أن تكون ذاتية أو معنوية أو كانت من صفات الأفعال

والنوع الرابع في تقسيم أسماء الله تعالى إما أن يجوز إطلاقها على غير الله تعالى أو لا يجوز أما القسم الأول فهو كقولنا الكريم الرحيم العزيز اللطيف الكبير الخالق فإن هذه الألفاظ يجوز إطلاقها على العباد وإن كان معناها في حق الله تعالى مغايراً لمعناها في حق العباد وأما القسم الثاني فهو كقولنا الله الرحمن أما القسم الأول فإنها إذا قيدت بقيود مخصوصة صارت بحيث لا يمكن إطلاقها إلا في حق الله تعالى كقولنا يا أرحم الراحمين ويا أكرم الأكرمين ويا خالق السموات والأرضين
النوع الخامس في تقسيم أسماء الله أن يقال من أسماء الله ما يمكن ذكره وحده كقولنا يا الله يا رحمن يا حي يا حكيم ومنها ما لا يكون كذلك كقولنا مميت وضار فإنه لا يجوز إفراده بالذكر بل يجب أن يقال يا محيي يا مميت يا ضار يا نافع
النوع السادس في تقسيم أسماء الله تعالى أن يقال أول ما يعلم من صفات الله تعالى كونه محدثاً للأشياء مرجحاً لوجودها على عدمها وذلك لأنا إنما نعلم وجوده سبحانه بواسطة الاستدلال بوجود الممكنات عليه فإذا دل الدليل على أن هذا العالم المحسوس ممكن الوجود والعدم لذاته قضى العقل بافتقاره إلى مرجح يرجح وجوده على عدمه وذلك المرجح ليس إلا الله سبحانه فثبت أن أول ما يعلم منه تعالى هو كونه مرجحاً ومؤثراً ثم نقول ذلك المرجح إما أن يرجح على سبيل الوجوب أو على سبيل الصحة والأول باطل وإلا لدام العالم بدوامه وذلك باطل فبقي أنه إنما رجح على سبيل الصحة وكونه مرجحاً على سبيل الصحة ليس إلا كونه تعالى قادراً فثبت أن المعلوم منه بعد العلم بكونه مرجحاً هو كونه قادراً ثم إنا بعد هذا نستدل بكون أفعاله محكمة متقنة على كونه عالماً ثم إنا إذا علمنا كونه تعالى قادراً عالماً وعلمنا أن العالم القادر يمتنع أن يكون إلا حياً علمنا من كونه قادراً عالماً كونه حياً فظهر بهذا أنه ليس العلم بصفاته تعالى وبأسمائه واقعاً في درجة واحدة بل العلم بها علوم مترتبة يستفاد بعضها من بعض
المسألة الثانية قوله تعالى وَللَّهِ الاسْمَاء الْحُسْنَى يفيد الحصر ومعناه أن الأسماء الحسنى ليست إلا لله تعالى والبرهان العقلي قد يدل على صحة هذا المعنى وذلك لأن الموجود إما واجب الوجود لذاته وإما ممكن لذاته والواجب لذاته ليس إلا الواحد وهو الله سبحانه وأما ما سوى ذلك الواحد فهو ممكن لذاته وكل ممكن لذاته فهو محتاج في ماهيته وفي وجوده وفي جميع صفاته الحقيقية والإضافية والسلبية إلى تكوين الواجب لذاته ولولاه لبقي على العدم المحض والسلب الصرف فالله سبحانه كامل لذاته وكمال كل ما سواه فهو حاصل بجوده وإحسانه فكل كمال وجلال وشرف فهو له سبحانه بذاته ولذاته وفي ذاته ولغيره على سبيل العارية والذي لغيره من ذاته فهو الفقر والحاجة والنقصان والعدم فثبت بهذا البرهان البين أن الأسماء الحسنى ليست إلا لله والصفات الحسنى ليست إلا لله وأن كل ما سواه فهو غرق في بحر الفناء والنقصان
المسألة الثالثة دلت هذه الآية على أن أسماء الله ليست إلا لله والصفات الحسنى ليست إلا لله فيجب كونها موصوفة بالحسن والكمال فهذا يفيد أن كل اسم لا يفيد في المسمى صفة كمال وجلال فإنه لا يجوز إطلاقه على الله سبحانه وعند هذا نقل عن جهم بن صفوان أنه قال لا أطلق على ذات الله تعالى

اسم الشيء قال لأن اسم الشيء يقع على أخس الأشياء وأكثرها حقارة وأبعدها عن درجات الشرف وإذا كان كذلك وجب القطع بأنه لا يفيد في المسمى شرفاً ورتبة وجلالة
وإذا ثبت هذا فنقول ثبت بمقتضى هذه الآية أن أسماء الله يجب أن تكون دالة على الشرف والكمال وثبت أن اسم الشيء ليس كذلك فامتنع تسمية الله بكونه شيئاً قال ومعاذ الله أن يكون هذا نزاعاً في كونه في نفسه حقيقة وذاتاً وموجوداً إنما النزاع وقع في محض اللفظ وهو أنه هل يصح تسميته بهذا اللفظ أم لا فأما قولنا إنه منشىء الأشياء فهو اسم يفيد المدح والجلال والشرف فكان إطلاق هذا الاسم على الله حقاً ثم أكد هذه الحجة بأنواع أخر من الدلائل فالأول قوله تعلى لَّيْسَ مِن شَى ْء ( الشورى 11 ) معناه ليس مثل مثله شيء ولا شك أن عين الشيء مثل لمثل نفسه فلما ثبت بالعقل أن كل شيء فهو مثل مثل نفسه ودل الدليل القرآني على أن مثل مثل الله ليس بشيء كان هذا تصريحاً بأنه تعالى غير مسمى باسم الشيء وليس لقائل أن يقول ( الكاف ) في قوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ حرف زائد لا فائدة فيه لأن حمل كلام الله على اللغو والعبث وعدم الفائدة بعيد
الحجة الثانية قوله تعالى خَالِقُ كُلّ شَى ْء ( الأنعام 102 الرعد 16 غافر 62 ) ولو كان تعالى داخلاً تحت اسم الشيء لزم كونه تعالى خالقاً لنفسه وهو محال لا يقال هذا عام دخله التخصيص لأنا نقول هذا كلام لا بد من البحث عنه فنقول ثبت بحسب العرف المشهور أنهم يقيمون الأكثر مقام الكل ويقيمون الشاذ النادر مقام العدم
إذا ثبت هذا فنقول إنه إذا حصل الأكثر الأغلب وكان الغالب الشاذ الخارج نادراً ألحقوا ذلك الأكثر بالكل وألحقوا ذلك النادر بالمعدوم وأطلقوا لفظ الكل عليه وجعلوا ذلك الشاذ النادر من باب تخصيص العموم
وإذا عرفت هذا فنقول إن بتقدير أن يصدق على الله تعالى اسم الشيء كان أعظم الأشياء هو الله تعالى وإدخال التخصيص في مثل هذا المسمى يكون من باب الكذب فوجب أن يعتقد أنه تعالى ليس مسمى باسم الشيء حتى لا يلزمنا هذا المحذور
الحجة الثالثة هذا الاسم ما ورد في كتاب الله ولا سنة رسوله وما رأينا أحداً من السلف قال في دعائه ياشيء فوجب الامتناع منه والدليل على أنه غير وارد في كتاب الله أن الآية التي يتوهم اشتمالها على هذا الاسم قوله تعالى قُلْ أَى ُّ شَى ْء أَكْبَرُ شَهَادة ً قُلِ اللَّهِ شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ ( الأنعام 19 ) وقد بينا في سورة الأنعام أن هذه الآية لا تدل على المقصود فسقط الكلام فيه
فإن قال قائل فقولنا موجود ومذكور وذات ومعلوم ألفاظ لا تدل على الشرف والجلال فوجب أن تقولوا إنه لا يجوز إطلاقها على الله تعالى فنقول الحق في هذا الباب التفصيل وهو أنا نقول ما المراد من قولك إنه تعالى شيء وذات وحقيقة إن عنيت أنه تعالى في نفسه ذات وحقيقة وثابت وموجود وشيء فهو كذلك من غير شك ولا شبهة وإن عنيت به أنه هل يجوز أن ينادى بهذه الألفاظ أم لا فنقول لا يجوز لأنا رأينا السلف يقولون يا الله يا رحمن يا رحيم إلى سائر الأسماء الشريفة وما رأينا ولا سمعنا أن أحداً يقول يا ذات يا حقيقة يا مفهوم ويا معلوم فكان الامتناع عن مثل هذه الألفاظ في معرض النداء

والدعاء واجباً لله تعالى والله أعلم
المسألة الرابعة قوله تعالى وَللَّهِ الاسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا يدل على أنه تعالى حصلت له أسماء حسنة وأنه يجب على الإنسان أن يدعو الله بها وهذا يدل على أن أسماء الله توقيفية لا اصطلاحية ومما يؤكد هذا أنه يجوز أن يقال يا جواد ولا يجوز أن يقال يا سخي ولا أن يقال يا عاقل يا طبيب يا فقيه وذلك يدل على أن أسماء الله تعالى توقيفية لا اصطلاحية
المسألة الخامسة دلت الآية على أن الاسم غير المسمى لأنها تدل على أن أسماء الله كثيرة لأن لفظ الأسماء لفظ الجمع وهي تفيد الثلاثة فما فوقها فثبت أن أسماء الله كثيرة ولا شك أن الله واحد فلزم القطع بأن الاسم غير المسمى وأيضاً قوله وَللَّهِ الاسْمَاء الْحُسْنَى يقتضي إضافة الأسماء إلى الله وإضافة الشيء إلى نفسه محال وأيضاً فلو قيل ولله الذوات لكان باطلاً ولما قال وَللَّهِ الاسْمَاء كان حقاً وذلك يدل على أن الاسم غير المسمى
المسألة السادسة قوله وَللَّهِ الاسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا يدل على أن الإنسان لا يدعو ربه إلا بتلك الأسماء الحسنى وهذه الدعوة لا تتأتى إلا إذا عرف معاني تلك الأسماء وعرف بالدليل أن له إلهاً ورباً خالقاً موصوفاً بتك الصفات الشريفة المقدسة فإذا عرف بالدليل ذلك فحينئذ يحسن أن يدعو ربه بتلك الأسماء والصفات ثم إن لتلك الدعوة شرائط كثيرة مذكورة بالاستقصاء في كتاب ( المنهاج ) لأبي عبد الله الحليمي وأحسن ما فيه أن يكون مستحضراً لأمرين أحدهما عزة الربوبية والثانية ذلة العبودية فهناك يحسن ذلك الدعاء ويعظم موقع ذلك الذكر فأما إذا لم يكن كذلك كان قليل الفائدة وأنا أذكر لهذا المعنى مثالاً وهو أن من أراد أن يقول في تحريمة صلاته الله أكبر فإنه يجب أن يستحضر في النية جميع ما أمكنه من معرفة آثار حكمة الله تعالى في تخليق نفسه وبدنه وقواه العقلية والحسية أو الحركية ثم يتعدى من نفسه إلى استحضار آثار حكمة الله في تخليق جميع الناس وجميع الحيوانات وجميع أصناف النبات والمعادن والآثار العلوية من الرعد والبرق والصواعق التي توجد في كل أطراف العالم ثم يستحضر آثار قدرة الله تعالى في تخليق الأرضين والجبال والبحار والمفاوز ثم يستحضر آثار قدرة الله تعالى في تخليق طبقات العناصر السفلية والعلوية ثم يستحضر آثار قدرة الله تعالى في تخليق أطباق السموات على سعتها وعظمها وفي تخليق أجرام النيرات من الثوابت والسيارات ثم يستحضر آثار قدرة الله تعالى في تخليق الكرسي وسدرة المنتهى ثم يستحضر آثار قدرته في تخليق العرش العظيم المحيط بكل هذه الموجودات ثم يستحضر آثار قدرته في تخليق الملائكة من حملة العرش والكرسي وجنود عالم الروحانيات فلا يزال يستحضر من هذه الدرجات والمراتب أقصى ما يصل إليه فهمه وعقله وذكره وخاطره وخياله ثم عند استحضار جميع هذه الروحانيات والجسمانيات على تفاوت درجاتها وتباين منازلها ومراتبها ويقول الله أكبر ويشير بقوله الله إلى الموجود الذي خلق هذه الأشياء وأخرجها من العدم إلى الوجود ورتبها بما لها من الصفات والنعوت وبقوله أكبر أي أنه لا يشبه لكبريائه وجبروته وعزه وعلوه وصمديته هذه الأشياء بل هو أكبر من أن يقال إنه أكبر من هذه الأشياء فإذا عرفت هذا المثال الواحد فقس الذكر الحاصل مع العرفان والشعور وعند هذا ينفتح على عقلك نسمة من الأسرار المودعة تحت قوله وَاللَّهُ الاسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا

أما قوله تعالى وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى أَسْمَئِهِ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة يُلْحِدُونَ ووافقه عاصم والكسائي في النحل قال الفراء يُلْحِدُونَ و يُلْحِدُونَ لغتان يقال لحدت لحداً وألحدت قال أهل اللغة معنى الإلحاد في اللغة الميل عن القصد قال ابن السكيت الملحد العادل عن الحق المدخل فيه ما ليس منه يقال قد ألحد في الدين ولحد وقال أبو عمرو من أهل اللغة الإلحاد العدل عن الاستقامة والانحراف عنها ومنه اللحد الذي يحفر في جانب القبر قال الواحدي رحمه الله والأجود قراءة العامة لقوله تعالى وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ ( الحج 25 ) والإلحاد أكثر في كلامهم لقولهم ملحد ولا تكاد تسمع العرب يقولون لاحد
المسألة الثانية قال المحققون الإلحاد في أسماء الله يقع على ثلاثة أوجه الأول إطلاق أسماء الله المقدسة الطاهرة على غير الله مثل أن الكفار كانوا يسمون الأوثان بآلهة ومن ذلك أنهم سموا أصناماً لهم باللات والعزى والمناة واشتقاق اللات من الإله والعزى من العزيز واشتقاق مناة من المنان وكان مسيلمة الكذاب لقب نفسه بالرحمن والثاني أن يسموا الله بما لا يجوز تسميته به مثل تسمية من سماه أباً للمسيح وقول جمهور النصارى أب وابن وروح القدس ومثل أن الكرامية يطلقون لفظ الجسم على الله سبحانه ويسمونه به ومثل أن المعتزلة قد يقولون في أثناء كلامهم لو فعل تعالى كذا وكذا لكان سفيهاً مستحقاً للذم وهذه الألفاظ مشعرة بسوء الأدب قال أصحابنا وليس كل ما صح معناه جاز إطلاقه باللفظ في حق الله فإنه ثبت بالدليل أنه سبحانه هو الخالق لجميع الأجسام ثم لا يجوز أن يقال يا خالق الديدان والقرود والقردان بل الواجب تنزيه الله عن مثل هذه الأذكار وأن يقال يا خالق الأرض والسموات يا مقيل العثرات يا راحم العبرات إلى غيرها من الأذكار الجميلة الشريفة والثالث أن يذكر العبد ربه بلفظ لا يعرف معناه ولا يتصور مسماه فإنه ربما كان مسماه أمراً غير لائق بجلال الله فهذه الأقسام الثلاثة هي الإلحاد في الأسماء
فإن قال قائل هل يلزم من ورود الأول في إطلاق لفظه على الله تعالى أن يطلق عليه سائر الألفاظ المشتقة منه على الإطلاق
قلنا الحق عندي أن ذلك غير لازم لا في حق الله تعالى ولا في حق الملائكة والأنبياء وتقريره أن لفظ ( علم ) ورد في حق الله تعالى في آيات منها قوله وَعَلَّمَ ءادَمَ الاسْمَاء كُلَّهَا ( البقرة 31 ) وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ( النساء 113 ) عَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا ( الكهف 65 ) الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْءانَ ( الرحمن 1 2 ) ثم لا يجوز أن يقال في حق الله تعالى يا معلم وأيضاً ورد قوله يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ( المائدة 54 ) ثم لا يجوز عندي أن يقال يا محب وأما في حق الأنبياء فقد ورد في حق آدم عليه السلام وَعَصَى ءادَمَ رَبَّهُ فَغَوَى ( طه 121 ) ثم لا يجوز أن يقال إن آدم كان عاصياً غاوياً وورد في حق موسى عليه السلام إِحْدَاهُمَا ياأَبَتِ اسْتَجِرْهُ ( القصص 26 ) ثم لا يجوز أن يقال إنه عليه السلام كان أجيراً والضابط أن هذه الألفاظ الموهمة يجب الاقتصار فيها على الوارد فأما التوسع بإطلاق الألفاظ المشتقة منها فهي عندي ممنوعة غير جائزة
ثم قال تعالى سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ فهو تهديد ووعيد لمن ألحد في أسماء الله قالت المعتزلة الآية قد دلت على إثبات العمل للعبد وعلى أن الجزاء مفرع على عمله وفعله

وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّة ٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ
اعلم أنه تعالى لما قال وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ الْجِنّ وَالإِنْسِ فأخبر أن كثيراً من الثقلين مخلوقون للنار أتبعه بقوله وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّة ٌ يَهْدُونَ بِالْحَقّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ليبين أيضاً أن كثيراً منهم مخلوقان للجنة واعلم أنه تعالى ذكر في قصة موسى قوله وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّة ٌ يَهْدُونَ بِالْحَقّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ فلما أعاد الله تعالى هذا الكلام ههنا حمله أكثر المفسرين على أن المراد منه قوم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) روى قتادة وابن جريج عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنها هذه الأمة وروى أيضاً أنه عليه الصلاة والسلام قال ( هذه فيهم وقد أعطى الله قوم موسى مثلها ) وعن الربيع بن أنس أنه قال قرأ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) هذه الآية فقال ( إن من أمتي قوماً على الحق حتى ينزل عيسى بن مريم ) وقال ابن عباس يريد أمة محمد عليه الصلاة والسلام المهاجرين والأنصار قال الجبائي هذه الآية تدل على أنه لا يخلو زمان البتة عمن يقوم بالحق ويعمل به ويهدي إليه وأنهم لا يجتمعون في شيء من الأزمنة على الباطل لأنه لا يخلو إما أن يكون المراد زمان وجود محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهو الزمان الذي نزلت فيه هذه الآية أو المراد أنه قد حصل زمان من الأزمنة حصل فيه قوم بالصفة المذكورة أو المراد ما ذكرنا أنه لا يخلو زمان من الأزمنة عن قوم موصوفين بهذه الصفة والأول باطل لأنه قد كان ظاهراً لكل الناس أن محمداً وأصحابه على الحق فحمل الآية على هذا المعنى يخرجه عن الفائدة والثاني باطل أيضاً لأن كل أحد يعلم بالضرورة أنه قد حصل زمان ما في الأزمنة الماضية حصل فيه جميع من المحقين فلم يبق إلا القسم الثالث وهو أدل على أنه ما خلا زمان عن قوم من المحقين وأن إجماعهم حجة وعلى هذا التقدير فهذا يدل على أن إجماع سائر الأمم حجة
وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِأايَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ
قوله تعالى وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ
اعلم أنه تعالى لما ذكر حال الأمة الهادية العادلة أعاد ذكر المكذبين بآيات الله تعالى وما عليهم من الوعيد فقال وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا وهذا يتناول جميع المكذبين وعن ابن عباس رضي الله عنهما المراد أهل مكة وهو بعيد لأن صفة العموم يتناول الكل إلا ما دل الدليل على خروجه منه
وأما قوله سَنَسْتَدْرِجُهُم فالاستدراج الاستفعال من الدرجة بمعنى الاستصعاد أو الاستنزال درجة بعد درجة ومنه درج الصبي إذا قارب بين خطاه وأدرج الكتاب طواه شيئاً بعد شيء ودرج القوم مات بعضهم عقيب بعضهم ويحتمل أن يكون هذا اللفظ مأخوذ من الدرج وهو لف الشيء وطيه جزأ فجزأ
إذا عرفت هذا فالمعنى سنقربهم إلى ما يهلكهم ونضاعف عقابهم من حيث لا يعلمون ما يراد بهم وذلك لأنهم كلما أتوا بجرم أو أقدموا على ذنب فتح الله عليهم باباً من أبواب النعمة والخير في الدنيا فيزدادون بطراً وانهماكاً في الفساد وتمادياً في الغي ويتدرجون في المعاصي بسبب ترادف تلك النعم ثم

يأخذهم الله دفعة واحدة على غرتهم أغفل ما يكون ولهذا قال عمر رضي الله عنه لما حمل إليه كنوز كسرى ( اللهم إني أعوذ بك أن أكون مستدرجاً فإني سمعتك تقول سَنَسْتَدْرِجُهُم مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ
ثم قال تعالى وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ الإملاء في اللغة الإمهال وإطالة المدة ونقيضه الإعجال والملى زمان طويل من الدهر ومنه قوله وَاهْجُرْنِى مَلِيّاً ( مريم 46 ) أي طويلاً ويقال ملوة وملوة وملاوة من الدهر أي زمان طويل فمعنى وَأُمْلِى لَهُمْ أي أمهلهم وأطيل لهم مدة عمرهم ليتمادوا في المعاصي ولا أعاجلهم بالعقوبة على المعصية ليقلعوا عنها بالتوبة والإنابة وقوله إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ قال ابن عباس يريد إن مكري شديد والمتين من كل شيء هو القوي يقال متن متانة
واعلم أن أصحابنا احتجوا في مسألة القضاء والقدر بهذه الألفاظ الثلاثة وهي الاستدراج والإملاء والكيد المتين وكلها تدل على أنه تعالى أراد بالعبد ما يسوقه إلى الكفر والبعد عن الله تعالى وذلك ضد ما يقوله المعتزلة
أجاب أبو علي الجبائي بأن المراد من الاستدراج أنه تعالى استدرجهم إلى العقوبات حتى يقعوا فيها من حيث لا يعلون استدراجاً لهم إلى ذلك حتى يقعوا فيه بغتة وقد يجوز أن يكون هذا العذاب في الدنيا كالقتل والاستئصال ويجوز أن يكون عذاب الآخرة قال وقد قال بعض المجبرة المراد سنستدرجهم إلى الكفر من حيث لا يعلمون قال وذلك فاسد لأن الله تعالى أخبر بتقدم كفرهم فالذي يستدرجهم إليه فعل مستقبل لأن السين في قوله سَنَسْتَدْرِجُهُم يفيد الاستقبال ولا يجب أن يكون المراد أن يستدرجهم إلى كفر آخر لجواز أن يميتهم قبل أن يوقعهم في كفر آخر فالمراد إذن ما قلناه ولأنه تعالى لا يعاقب الكافر بأن يخلق فيه كفراً آخر والكفر هو فعله وإنما يعاقبه بفعل نفسه
وأما قوله وَأَمْلَى لَهُمْ فمعناه أني أبقيهم في الدنيا مع إصرارهم على الكفر ولا أعاجلهم بالعقوبة لأنهم لا يفوتونني ولا يعجزونني وهذا معنى قوله إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ لأن كيده هو عذابه وسماه كيداً لنزوله بالعباد من حيث لا يشعرون
والجواب عنه من وجهين الأول أن قوله وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم معناه ما ذكرنا أنهم كلما زادوا تمادياً في الذنب والكفر زادهم الله نعمة وخيراً في الدنيا فيصير فوزهم بلذات الدنيا سبباً لتماديهم في الإعراض عن ذكر الله وبعداً عن الرجوع إلى طاعة الله هذه حالة نشاهدها في بعض الناس وإذا كان هذا أمراً محسوساً مشاهداً فكيف يمكن إنكاره الثاني هب أن المراد منه الاستدراج إلى العقاب إلا أن هذا أيضاً يبطل القول بأنه تعالى ما أراد بعبده إلا الخير والصلاح لأنه تعالى لما علم أن هذا الاستدراج وهذا الإمهال مما قد يزيد به عتواً وكفراً وفساداً واستحقاق العقاب الشديد فلو أراد به الخير لأماته قبل أن يصير مستوجباً لتلك الزيادات من العقوبة بل لكان يجب في حكمته ورعايته للمصالح أن لا يخلقه ابتداء صوناً له عن هذا العقاب أو أن يخلقه لكنه يميته قبل أن يصير في حد التكليف أو أن لا يخلقه إلا في الجنة صوناً له عن الوقوع في آفات الدنيا وفي عقاب الآخرة فلما خلقه في الدنيا وألقاه في ورطة التكليف وأطال عمره ومكنه من المعاصي مع علمه بأن ذلك لا يفيد إلا مزيد الكفر والفسق واستحقاق العقاب علمنا أنه ما خلقه إلا للعذاب وإلا للنار كما شرحه في الآية المتقدمة وهي قوله وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ الْجِنّ وَالإِنْسِ ( الأعراف 179 )

وأنا شديد التعجب من هؤلاء المعتزلة فإنهم يرون القرآن كالبحر الذي لا ساحل له مملوأ من هذه الآيات والدلائل العقلية القاهرة القاطعة مطابقة لها ثم إنهم يكتفون في تأويلات هذه الآيات بهذه الوجوه الضعيفة والكلمات الواهية إلا أن علمي بأن ما أراده الله كائن يزيل هذا التعجب والله أعلم
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّة ٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ
واعلم أنه تعالى لما بالغ في تهديد المعرضين عن آياته الغافلين عن التأمل في دلائله وبيناته عاد إلى الجواب عن شبهاتهم فقال أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مّن جِنَّة ٍ والتفكر طلب المعنى بالقلب وذلك لأن فكرة القلب هو المسمى بالنظر والتعقل في الشيء والتأمل فيه والتدبر له وكما أن الرؤية بالبصر حالة مخصوصة من الانكشاف والجلاء ولها مقدمة وهي تقليب الحدقة إلى جهة المرئي طلباً لتحصيل تلك الرؤية بالبصر فكذلك الرؤية بالبصيرة وهي المسماة بالعلم واليقين حالة مخصوصة في الانكشاف والجلاء ولها مقدمة وهي تقليب حدقة العقل إلى الجوانب طلباً لذلك الانكشاف والتجلي وذلك هو المسمى بنظر العقل وفكرته فقوله تعالى أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ أمر بالفكر والتأمل والتدبر والتروي لطلب معرفة الأشياء كما هي عرفاناً حقيقياً تاماً وفي اللفظ محذوف والتقدير أولم يتفكروا فيعلموا ما بصاحبهم من جنة والجنة حالة من الجنون كالجلسة والركبة ودخول ( من ) في قوله مّن جِنَّة ٍ يوجب أن لا يكون به نوع من أنواع الجنون
واعلم أن بعض الجهال من أهل مكة كانوا ينسبونه إلى الجنون لوجهين الأول أن فعله عليه السلام كان مخالفاً لفعلهم وذلك لأنه عليه السلام كان معرضاً عن الدنيا مقبلاً على الآخرة مشتغلاً بالدعوة إلى الله فكان العمل مخالفاً لطريقتهم فاعتقدوا فيه أنه مجنون قال الحسن وقتادة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قام ليلاً على الصفا يدعو فخذاً فخذا من قريش فقال يا بني فلان يا بني فلان وكان يحذرهم بأس الله وعقابه فقال قائلهم إن صاحبكم هذا لمجنون واظب على الصياح طول هذه الليلة فأنزل الله تعالى هذه الآية وحثهم على التفكر في أمر الرسول عليه السلام ليعلموا أنه إنما دعا للإنذار لا لما نسبه إليه الجهال الثاني أنه عليه السلام كان يغشاه حالة عجيبة عند نزول الوحي فيتغير وجهه ويصفر لونه وتعرض له حالة شبيهة بالغشي فالجهال كانوا يقولون إنه جنون فالله تعالى بين في هذه الآية أنه ليس به نوع من أنواع الجنون وذلك لأنه عليه السلام كان يدعوهم إلى الله ويقيم الدلائل القاطعة والبينات الباهرة بألفاظ فصيحة بلغت في الفصاحة إلى حيث عجز الأولون والآخرون عن معارضتها وكان حسن الخلق طيب العشرة مرضي الطريقة نقي السيرة مواطباً على أعمال حسنة صار بسببها قدوة للعقلاء العالمين ومن المعلوم بالضرورة أن مثل هذا الإنسان لا يمكن وصفه بالجنون وإذا ثبت هذا ظهر أن اجتهاده على الدعوة إلى الدين إنما كان لأنه نذير مبين أرسله رب العالمين لترهيب الكافرين وترغيب المؤمنين ولما كان النظر في أمر النبوة مفرعاً على تقرير دلائل التوحيد لا جرم ذكر عقيبه ما يدل على التوحيد

أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِى مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَى ْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ
فقال أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِى مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ واعلم أن دلائل ملكوت السموات والأرض على وجود الصانع الحكيم القديم كثيرة وقد فصلناها في هذا الكتاب مراراً وأطواراً فلا فائدة في الإعادة
ثم قال وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَى ْء والمقصود التنبيه على أن الدلائل على التوحيد غير مقصورة على السموات والأرض بل كل ذرة من ذرات عالم الأجسام والأرواح فهي برهان باهر ودليل قاهر على التوحيد ولنقرر هذا المعنى بمثال فنقول إن الضوء إذا وقع على كوة البيت ظهر الذرات والهباآت فلنفرض الكلام في ذرة واحدة من تلك الذرات فنقول إنها تدل على الصانع الحكيم من جهات غير متناهية وذلك لأنها مختصة بحيز معين من جملة الأحياز التي لا نهاية لها في الخلاء الذي لا نهاية له وكل حيز من تلك الأحياز الغير المتناهية فرضنا وقوع تلك الذرة فيه كان اختصاصها بذلك الحيز المعين من الممكنات والجائزات والممكن لا بد له من مخصص ومرجح وذلك المخصص إن كان جسماً عاد السؤال فيه وإن لم يكن جسماً فهو الله سبحانه وأيضاً فتلك الذرة لا تخلو عن الحركة والسكون وكل ما كان كذلك فهو محدث وكل محدث فإن حدوثه لا بد وأن يكون مختصاً بوقت معين مع جواز حصوله قبل ذلك وبعده فاختصاصه بذلك الوقت المعين الذي حدث فيه لا بد وأن يكون بتخصيص مخصص قديم فإن كان ذلك المخصص جسماً عاد السؤال فيه وإن لم يكن جسماً فهو الله سبحانه وتعالى وأيضاً أن تلك الذرة مساوية لسائر الأجسام في التحيز والحجمية ومخالفة لها في اللون والشكل والطبع والطعم وسائر الصفات واختصاصها بكل تلك الصفات التي باعتبارها خالفت سائر الأجسام لا بد وأن يكون من الجائزات والجائز لا بد له من مرجح وذلك المرجح إن كان جسماً عاد البحث الأول فيه وإن لم يكن جسماً فهو الله سبحانه فثبت أن تلك الذرة دالة على وجود الصانع من جهات غير متناهية واعتبارات غير متناهية وكذا القول في جميع أجزاء العالم الجسماني والروحاني مفرداته ومركباته وسفلياته وعلوياته وعند هذا يظهر لك صدق ما قال الشاعر وفي كل شيء له آية
تدل على أنه واحد
وإذا عرفت هذا فحينئذ ظهرت الفائدة لك من قوله تعالى وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَى ْء ولما نبه الله تعالى على هذه الأسرار العجيبة والدقائق اللطيفة أردفه بما يوجب الترغيب الشديد في الإتيان بهذا النظر والتفكر فقال وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ ( الأعراف 185 ) ولفظة ءانٍ في قوله وَأَنْ عَسَى هي المخففة من الثقيلة تقديره وأنه عسى والضمير ضمير الشأن والمعنى لعل آجالهم قربت فهلكوا على الكفر ويصيروا إلى النار وإذا كان هذا الاحتمال قائماً وجب على العاقل المسارعة إلى هذه الفكرة والمبادرة إلى هذه الرؤية سعياً في تخليص النفس من هذا الخوف الشديد والخطر العظيم ولما ذكر تعالى هذه البيانات الجلية والدلائل العقلية قال فَبِأَيّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ( الأعراف 185 ) وذلك لأنهم إذا لم يؤمنوا بهذا القرآن مع ما فيه من هذه

التنبيهات الظاهرة والبينات الباهرة فكيف يرضى منهم الإيمان بغيره واعلم أن هذه الآية دالة على مطالب كثيرة
المطلب الأول أن التقليد غير جائز ولا بد من النظر والاستدلال والدليل على أن الأمر كذلك قوله أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ
والمطلب الثاني أن أمر النبوة متفرع على التوحيد والدليل عليه أنه لما قال إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أتبعه بذكر ما يدل على التوحيد ولولا أن الأمر كذلك لما كان إلى هذا الكلام حاجة
والمطلب الثالث تمسك الجبائي والقاضي بقوله تعالى فَبِأَيّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ على أن القرآن ليس قديماً قالوا لأن الحديث ضد القديم وأيضاً فلفظ الحديث يفيد من جهة العادة حدوثه عن قرب ولذلك يقال إن هذا الشيء حديث وليس بعتيق فيجعلون الحديث ضد العتيق الذي طال زمان وجوده ويقال في الكلام إنه حديث لأنه يحدث حالاً بعد حال على الأسماع
وجوابنا عنه أنه محمول على الألفاظ من الكلمات ولا نزاع في حدوثها
المطلب الرابع أن النظر في ملكوت السموات والأرض لا يكون إلا بعد معرفة أقسامها وتفصيل الكلام في شرح أقسامها أن يقال كل ما سوى الله تعالى فهو إما أن يكون متحيزاً أو حالاً في المتحيز أو لا متحيزاً ولا حالاً في المتحيز أما المتحيز فإما أن يكون بسيطاً وإما أن يكون مركباً أما البسائط فهي إما علوية وإما سفلية أما العلوية فهي الأفلاك والكواكب ويندرج فيما ذكرناه العرش والكرسي ويدخل فيه أيضاً الجنة والنار والبيت المعمور والسقف المرفوع واستقص في تفصيل هذه الأقسام وأما السفلية فهي طبقات العناصر الأربعة ويدخل فيها البحار والجبال والمفاوز وأما المركبات فهي أربعة الآثار العلوية والمعادن والنبات والحيوان واستقص في تفصيل أنواع هذه الأجناس الأربعة وأما الحال في المتحيز وهي الأعراض فيقرب أجناسها من أربعين جنساً ويدخل تحت كل جنس أنواع كثيرة ثم إذا تأمل العاقل في عجائب أحكامها ولوازمها وآثارها ومؤثراتها فكأنه خاض في بحر لا ساحل له
وأما القسم الثالث وهو أن الموجود لا يكون متحيزاً ولا حالاً في المتحيز فهو قسمان لأنه إما أن يكون متعلقاً بأجسام بالتدبير والتحريك وهو المسمى بالأرواح وإما أن لا يكون كذلك وهي الجواهر القدسية المبرأة عن علائق الأجسام أما القسم الأول فأعلاها وأشرفها الأرواح الثمانية المقدسة الحاملة للعرش كما قال تعالى وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَة ٌ ( الحاقة 17 ) ويتلوها الأرواح المقدسة المشارة إليها بقوله سبحانه وَتَرَى الْمَلَائِكَة َ حَافّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ ويتلوها سكان الكرسي وإليهم الإشارة بقوله مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْء مّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ ( البقرة 255 ) ويتلوها الأرواح المقدسة في طبقات السموات السبع وإليهم الأشارة بقوله وَالصَّافَّاتِ صَفَّا فَالزجِراتِ زَجْراً فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً ( الصافات 1 3 ) ومن صفاتهم أنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويسبحون الليل والنهار لا يفترون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون
واعلم أن هذا الذي ذكرناه وفصلناه من ملك الله وملكوته كالقطرة في البحر فلعل الله سبحانه له ألف

ألف عالم وراء هذا العالم وله في كل واحد منها عرش أعظم من هذا العرش وكرسي أعلى من هذا الكرسي وسموات أوسع من هذه السموات وكيف يمكن إحاطة عقل البشر بكمال ملك الله وملكوته بعد أن سمع قوله وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ ( المدثر 31 ) فإذا استحضر الإنسان هذه الأقسام في عقله وأراد الخوض في معرفة أسرار حكمته وإلهيته فهم قولهم سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا ( البقرة 32 ) ونعم ما قال أبو العلاء المعري يا أيها الناس كم لله من فلك
تجري النجوم به والشمس والقمر
هنا على الله ماضينا وغابرنا
فما لنا في نواحي غيره خطر
مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
اعلم أنه تعالى عاد في هذه الآية مرة أخرى إلى نعت أحوال الضالين المكذبين فقال مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ واعلم أن استدلال أصحابنا بهذه الآية على أن الهدى والضلال من الله مثل ما سبق في الآية السالفة وتأويلات المعتزلة وجوابنا عنها مثل ما تقدم فلا فائدة في الإعادة وقوله وَيَذَرُهُمْ فِى طُغْيَانِهِمْ رفع بالاستئناف وهو مقطوع عما قبله وقرأ أبو عمرو ( ويذرهم ) بالياء ورفع الراء لتقدم اسم الله سبحانه وقرأ حمزة والكسائي بالياء والحزم ووجه ذلك فيما يقول سيبويه إنه عطف على موضع الفاء وما بعدها من قوله فَلاَ هَادِيَ لَهُ لأن موضع الفاء وما بعدها جزم لجواب الشرط فحمل ( ويذرهم ) على موضع الذي هو جزم
يَسْألُونَكَ عَنِ السَّاعَة ِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِى السَّمَاوَاتِ والأرض لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَة ً يَسْألُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِى ٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ
اعلم أن في نظم الآية وجهين الأول أنه تعالى لما تكلم في التوحيد والنبوة والقضاء والقدر أتبعه بالكلام في المعاد لما بينا أن المطالب الكلية في القرآن ليست إلا هذه الأربعة الثاني أنه تعالى لما قال في الآية المتقدمة وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ ( الأعراف 185 ) باعثاً بذلك عن المثابرة إلى التوبة والإصلاح قال بعده يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَة ِ ليتحقق في القلوب أن وقت الساعة مكتوم عن الخلق فيصير ذلك حاملاً للمكلفين على المسارعة إلى التوبة وأداء الواجبات وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في أن ذلك السائل من هو قال ابن عباس إن قوماً من اليهود قالوا يا محمد أخبرنا متى تقوم الساعة فنزلت هذه الآية وقال الحسن وقتادة إن قريشاً قالوا يا محمد بيننا وبينك قرابة

فاذكر لنا متى الساعة
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) الساعة من الأسماء الغالبة كالنجم للثريا وسميت القيامة بالساعة لوقوعها بغتة أو لأن حساب الخلق يقضي فيها في ساعة واحدة فسمي بالساعة لهذا السبب أو لأنها على طولها كساعة واحدة عند الخلق
المسألة الثالثة أيان معناه الاستفهام عن الوقت الذي يجيء وهو سؤال عن الزمان وحاصل الكلام أن أيان بمعنى متى وفي اشتقاقه قولان المشهور أنه مأخوذ من الأين وأنكره ابن جني وقال أَيَّانَ سؤال عن الزمان وأين سؤال عن المكان فكيف يكون أحدهما مأخوذاً من الآخر والثاني وهو الذي اختاره ابن جني أن اشتقاقه من أي فعلان منه لأن معناه أي وقت ولفظة أي فعل من أويت إليه لأن البعض آو إلى مكان الكل متسانداً إليه هكذا قال ابن جني وقرأ السلمي إيان بكسر الهمز
المسألة الرابعة مرساها ( المرسي ) ههنا مصدر بمعنى الإرساء لقوله تعالى بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا ( هود 41 ) أي إجراؤها وإرساؤها والإرساء الإثبات يقال رسى يرسوا إذا ثبت قال تعالى وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ( النازعات 32 ) فكان الرسو ليس اسماً لمطلق الثبات بل هو اسم لثبات الشيء إذا كان ثقيلاً ومنه إرساء الجبل وإرساء السفينة ولما كان أثقل الأشياء على الخلق هو الساعة بدليل قوله ثَقُلَتْ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الأعراف 187 ) لا جرم سمى الله تعالى وقوعها وثبوتها بالإرساء
ثم قال تعالى قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبّي أي لا يعلم الوقت الذي فيه يحصل قيام القيامة إلا الله سبحانه ونظيره قوله سبحانه إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَة ِ ( لقمان 34 ) وقوله إِنَّ السَّاعَة َ ءاتِيَة ٌ لاَ رَيْبَ فِيهَا ( الحج 7 ) وقوله إِنَّ السَّاعَة َ ءاتِيَة ٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا ( طه 15 ) ولما سأل جبريل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال متى الساعة فقال عليه السلام ( ليس المسؤول عنها بأعلم من السائل ) قال المحققون والسبب في إخفاء الساعة عن العباد أنهم إذا لم يعلموا متى تكون كانوا على حذر منها فيكون ذلك أدعى إلى الطاعة وأزجر عن المعصية ثم إنه تعالى أكد هذا المعنى فقال لاَ يُجَلّيهَا لِوَقْتِهَا التجلية إظهار الشيء والتجلي ظهوره والمعنى لا يظهرها في وقتها المعين إِلاَّ هُوَ أي لا يقدر على إظهار وقتها المعين بالإعلام والإخبار إلا هو
ثم قال تعالى ثَقُلَتْ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ والمراد وصف الساعة بالثقل ونظيره قوله تعالى وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً ( الإنسان 27 ) وأيضاً وصف الله تعالى زلزلة الساعة بالعظم فقال إِنَّ زَلْزَلَة َ السَّاعَة ِ شَى ْء عَظِيمٌ ( الحج 1 ) ووصف عذابها بالشدة فقال وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَاكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ( الحج 2 )
إذا عرفت هذا فنقول للمفسرين في تفسير قوله ثَقُلَتْ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وجوه قال الحسن ثقل مجيئها على السموات والأرض لأجل أن عند مجيئها شققت السموات وتكورت الشمس والقمر وانتثرت النجوم وثقلت على الأرض لأجل أن في ذلك اليوم تبدل الأرض غير الأرض وتبطل الجبال والبحار وقال أبو بكر الأصم إن هذا اليوم ثقيل جداً على أهل السماء والأرض لأن فيه فناءهم وهلاكهم وذلك ثقيل على القلوب وقال قوم إن هذا اليوم عظيم الثقل على القلوب بسبب أن الخلق يعلمون أنهم يصيرون بعدها إلى البعث والحساب والسؤال والخوف من الله في مثل هذا اليوم شديد وقال السدي

ثَقُلَتْ أي خفيت في السموات والأرض ولم يعلم أحد من الملائكة المقربين والأنبياء المرسلين متى يكون حدوثها ووقوعها وقال قوم ثَقُلَتْ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أي ثقل تحصيل العلم بوقتها المعين على أهل السموات والأرض وكما يقال في المحمول الذي يتعذر حمله أنه قد ثقل على حامله فكذلك يقال في العلم الذي استأثر الله تعالى به أنه يثقل عليهم
ثم قال لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَة ً وهذا أيضاً تأكيد لما تقدم وتقرير لكونها بحيث لا تجيء إلا بغتة فجأة على حين غفلة من الخلق وعن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( إن الساعة تفجأ الناس فالرجل يصلح موضعه والرجل يسقي ماشيته والرجل يقوم بسلعته في سوقه والرجل يخفض ميزانه ويرفعه ( وروى الحسن عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( والذي نفس محمد بيده لتقومن الساعة وإن الرجل ليرفع اللقمة إلى فيه حتى تحول الساعة بينه وبين ذلك )
ثم قال تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَة ِ أَيَّانَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى في الحفي وجوه الأول الحفي البار اللطيف قال ابن الأعرابي يقال حفى بي حفاوة وتحفى بي تحفياً والحفي الكلام واللقاء الحسن ومنه قوله تعالى إِنَّهُ كَانَ بِى حَفِيّاً أي باراً لطيفاً يجيب دعائي إذا دعوته فعلى هذا التقدير يسألونك كأنك بار بهم لطيف العشرة معهم وعلى هذا قول الحسن وقتادة والسدي ويؤيد هذا القول ما روي في تفسيره إن قريشاً قالت لمحمد عليه السلام إن بيننا وبينك قرابة فاذكر لنا متى الساعة فقال تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَة ِ أَيَّانَ أي كأنك صديق لهم بار بمعنى أنك لا تكون حفياً بهم ما داموا على كفرهم
والقول الثاني حَفِى ٌّ عَنْهَا أي كثير السؤال عنها شديد الطلب لمعرفتها وعلى هذا القول حَفِى ٌّ فعيل من الإحفاء وهو الإلحاح والإلحاف في السؤال ومن أكثر السؤال والبحث عن الشيء علمه قال أبو عبيدة هو من قولهم تحفى في المسألة أي استقصى فقوله كَأَنَّكَ حَفِى ٌّ عَنْهَا أي كأنك أكثرت السؤال عنها وبالغت في طلب علمها قال صاحب ( الكشاف ) هذا الترتيب يفيد المبالغة ومنه إحفاء الشارب وإحفاء البقل استئصاله وأحفى في المسألة إذا ألحف وحفى بفلان وتحفى به بالغ في البر به وعلى هذا التقدير فالقولان الأولان متقاربان
المسألة الثانية في قوله عَنْهَا وجهان الأول أن يكون فيه تقديم وتأخير والتقدير يسألونك عنها كأنك حفي بها ثم حذف قوله ( بها ) لطول الكلام ولأنه معلوم لا يحصل الالتباس بسبب حذفه والثاني أن يكون التقدير يسألونك كأنك حفي بهم لأن لفظ الحفي يجوز أن يعدى تارة بالباء وأخرى بكلمة عن ويؤكد هذا الوجه بقراءة ابن مسعود كَأَنَّكَ حَفِى ٌّ بِهَا
المسألة الثالثة قوله يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَة ِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا سؤال عن وقت قيام الساعة وقوله ثانياً يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَة ِ أَيَّانَ سؤال عن كنه ثقل الساعة وشدتها ومهابتها فلم يلزم التكرار
أجاب عن الأول بقوله إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبّي

وأجاب عن الثاني بقوله إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ والفرق بين الصورتين أن السؤال الأول كان واقعاً عن وقت قيام الساعة والسؤال الثاني كان واقعاً عن مقدار شدتها ومهابتها وأعظم أسماء الله مهابة وعظمة هو قوله عند السؤال عن مقدار شدة القيامة الاسم الدال على غاية المهابة وهو قولنا الله ثم إنه تعالى ختم هذه الآية بقوله وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ وفيه وجوه أحدها ولكن أكثر الناس لا يعلمون السبب الذي لأجله أخفيت معرفة وقته المعين عن الخلق
قُل لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِى َ السُّو ءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوه الأول أن قوله لا أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلاَ ضَرّا أي أنا لا أدعي علم الغيب إن أنا إلا نذير وبشير ونظيره قوله تعالى في سورة يونس وَيَقُولُونَ مَتَى هَاذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِى ضَرّا وَلاَ نَفْعًا إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ لِكُلّ أُمَّة ٍ أَجَلٌ ( يونس 48 49 ) الثاني روي أن أهل مكة قالوا يا محمد ألا يخبرك ربك بالرخص والغلاء حتى نشتري فنربح وبالأرض التي تجدب لنرتحل إلى الأرض الخصبة فأنزل الله تعالى هذه الآية الثالث قال بعضهم لما رجع عليه الصلاة والسلام من غزوة بني المصطلق جاءت ريح في الطريق ففرت الدواب منها فأخبر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بموت رفاعة بالمدينة وكان فيه غيظ للمنافقين وقال انظروا أي ناقتي فقال عبدالله بن أبي مع قومه ألا تعجبون من هذا الرجل يخبر عن موت رجل بالمدينة ولا يعرف أين ناقته فقال عليه السلاة والسلام ( إن ناساً من المنافقين قالوا كيت وكيت وناقتي في هذا الشعب قد تعلق زمامها بشجرة ) فوجدها على ما قال فأنزل الله تعالى قُل لا أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلاَ خَيْرًا إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ
المسألة الثانية اعلم أن القوم لما طالبوه بالإخبار عن الغيوب وطالبوه بإعطاء الأموال الكثيرة والدولة العظيمة ذكر أن قدرته قاصرة وعلمه قليل وبين أن كل من كان عبداً كان كذلك والقدرة الكاملة والعلم المحيط ليسا إلا لله تعالى فالعبد كيف يحصل له هذه القدرة وهذا العلم واحتج أصحابنا في مسألة خلق الأعمال بقوله تعالى قُل لا أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلاَ ضَرّا إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ والإيمان نفع والكفر ضر فوجب أن لا يحصلا إلا بمشيئة الله تعالى وذلك يدل على أن الإيمان والكفر لا يحصلان إلا بمشيئة الله سبحانه وتقريره ما ذكرناه مراراً أن القدرة على الكفر إن لم تكن صالحة للإيمان فخالق تلك القدرة يكون مريداً

للكفر وإن كانت صالحة للإيمان فخالق تلك القدرة يكون مريداً للكفر وإن كانت صالحة للإيمان امتنع صدور الكفر عنها بدلاً عن الإيمان إلا عند حدوث داعية جازمة فخالق تلك الداعية الجازمة يكون مريداً للكفر فثبت أن على جميع التقادير لا يملك العبد لنفسه نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله
أجاب القاضي عنه بوجوه الأول أن ظاهر قوله قُل لا أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلاَ ضَرّا إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ وإن كان عاماً بحسب اللفظ إلا أنا ذكرنا أن سبب نزوله هو أن الكفار قالوا يا محمد ألايخبرك ربك بوقت السعر الرخيص قبل أن يغلو حتى نشتري الرخيص فنربح عليه عند الغلاء فيحمل اللفظ العام على سبب نزوله والمراد بالنفع تملك الأموال وغيرها والمراد بالضر وقت القحط والأمراض وغيرها الثاني المراد لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً فيما يتصل بعلم الغيب والدليل على أن المراد ذلك قوله وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ الثالث المراد لا أملك لنفسي من الضر والنفع إلا قدر ما شاء الله أن يقدرني عليه ويمكنني منه والمقصود من هذا الكلام بيان أنه لا يقدر على شيء إلا إذا أقدره الله عليه
واعلم أن هذه الوجوه بأسرها عدول عن ظاهر اللفظ وكيف يجوز المصير إليه مع أنا أقمنا البرهان القاطع العقلي على أن الحق ليس إلا ما دل عليه ظاهر لفظ هذه الآية والله أعلم
المسألة الثالثة احتج الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) على عدم علمه بالغيب بقوله وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ واختلفوا في المراد من هذا الخير فقيل المراد منه جلب منافع الدنيا وخيراتها ودفع آفاتها ومضراتها ويدخل فيه ما يتصل بالخصب والجدب والأرباح والأكساب وقيل المراد منه ما يتصل بأمر الدين يعني لو كنت أعلم الغيب كنت أعلم أن الدعوى إلى الدين الحق تؤثر في هذا ولا تؤثر في ذاك فكيف اشتغل بدعوة هذا دون ذاك وقيل المراد منه ما يتصل بالجواب عن السؤالات والتقدير لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير
والجواب عن هذه المسائل التي سألوه عنها مثل السؤال عن وقت قيام الساعة وغيره
أما قوله وَمَا مَسَّنِى َ السُّوء ففيه قولان
القول الأول قال الواحدي رحمه الله تم الكلام عند قوله وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ ثم قال وَمَا مَسَّنِى َ السُّوء أي ليس بي جنون وذلك لأنهم نسبوه إلى الجنون كما ذكرنا في قوله مَا بِصَاحِبِهِم مّن جِنَّة ٍ وهذا القول عندي بعيد جداً ويوجب تفكك نظم الآية
والقول الثاني إنه تمام الكلام الأول والتقدير ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من تحصيل الخير ولاحترزت عن الشر حتى صرت بحيث لا يمسني سوء ولما لم يكن الأمر كذلك ظهر أن علم الغيب غير حاصل عندي ولما بين بما سبق أنه لا يقدر إلا على ما أقدر الله عليه ولا يعلم إلا ما أعطاه الله العلم به قال إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ والنذير مبالغة في الإنذار بالعقاب على فعل المعاصي وترك الواجبات والبشير مبالغة في البشارة بالثواب على فعل الواجبات وترك المعاصي وقوله لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فيه قولان أحدهما أنه نذير وبشير للمؤمنين والكافرين إلاأنه ذكر إحدى الطائفتين وترك ذكر الثانية لأن ذكر إحداهما يفيد ذكر الأخرى كقوله سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ ( النحل 81 ) والثاني أنه عليه الصلاة والسلام وإن كان نذيراً وبشيراً للكل إلا أن المنتفع بتلك النذارة والبشارة هم المؤمنون فلهذا السبب خصهم الله بالذكر وقد بالغنا في تقرير هذا المعنى في تفسير قوله تعالى هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2 )

هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَة ٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّآ أَثْقَلَت دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ ءَاتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّآ ءَاتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ فِيمَآ ءَاتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ
اعلم أنه تعالى رجع في هذه الآية إلى تقرير أمر التوحيد وإبطال الشرك وفيه مسائل
المسألة الأولى المروي عن ابن عباس هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَة ٍ وهي نفس آدم وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا أي حواء خلقها الله من ضلع آدم عليه السلام من غير أذى فَلَمَّا تَغَشَّاهَا آدم حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَلَمَّا أَثْقَلَت أي ثقل الولد في بطنها أتاها إبليس في صورة رجل وقال ما هذا يا حواء إني أخاف أن يكون كلباً أو بهيمة وما يدريك من أين يخرج أمن دبرك فيقتلك أو ينشق بطنك فخافت حواء وذكرت ذلك لآدم عليه السلام فلم يزالا في هم من ذلك ثم أتاها وقال إن سألت الله أن يجعله صالحاً سوياً مثلك ويسهل خروجه من بطنك تسميه عبد الحرث وكان اسم إبليس في الملائكة الحرث فذلك قوله فَلَمَّا ءاتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا ءاتَاهُمَا أي لما آتاهما الله ولداً سوياً صالحاً جعلا له شريكاً أي جعل آدم وحواء له شريكاً والمراد به الحرث هذا تمام القصة
واعلم أن هذا التأويل فاسد ويدل عليه وجوه الأول أنه تعالى قال فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ وذلك يدل على أن الذين أتوا بهذا الشرك جماعة الثاني أنه تعالى قال بعده أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ ( الأعراف 191 ) وهذا يدل على أن المقصود من هذه الآية الرد على من جعل الأصنام شركاء لله تعالى وما جرى لإبليس اللعين في هذه الآية ذكر الثالث لو كان المراد إبليس لقال أيشركون من لا يخلق شيئاً ولم يقل ما لا يخلق شيئاً لأن العاقل إنما يذكر بصيغة ( من ) لا بصيغة ( ما ) الرابع أن آدم عليه السلام كان أشد الناس معرفة بإبليس وكان عالماً بجميع الأسماء كما قال تعالى وَعَلَّمَ ءادَمَ الاسْمَاء كُلَّهَا فكان لا بد وأن يكون قد علم أن اسم إبليس هو الحرث فمع العداوة الشديدة التي بينه وبين آدم ومع علمه بأن اسمه هو الحرث كيف سمى ولد نفسه بعبد الحرث وكيف ضاقت عليه الأسماء حتى أنه لم يجد سوى هذا الاسم الخامس أن الواحد منا لو حصل له ولد يرجو منه الخير والصلاح فجاءه إنسان ودعاه إلى أن يسميه بمثل هذه الأسماء لزجره وأنكر عليه أشد الإنكار فآدم عليه السلام مع نبوته وعلمه الكثير الذي حصل من قوله وَعَلَّمَ ءادَمَ الاسْمَاء كُلَّهَا ( البقرة 31 ) وتجاربه الكثيرة التي حصلت له بسبب الزلة التي وقع فيها لأجل وسوسة إبليس كيف لم يتنبه لهذا القدر وكيف لم يعرف أن ذلك من الأفعال المنكرة التي يجب على العاقل الاحتراز منها السادس أن بتقدير أن آدم عليه السلام سماه بعبد الحرث فلا يخلو إما أن يقال إنه جعل هذا اللفظ اسم علم له أو جعله صفة له بمعنى أنه أخبر بهذا اللفظ أنه عبد الحرث ومخلوق من

قبله فإن كان الأول لم يكن هذا شركاً بالله لأن أسماء الأعلام والألقاب لا تفيد في المسميات فائدة فلم يلزم من التسمية بهذا اللفظ حصول الإشراك وإن كان الثاني كان هذا قولاً بأن آدم عليه السلام اعتقد أن لله شريكاً في الخلق والإيجاد والتكوين وذلك يوجب الجزم بتكفير آدم وذلك لا يقوله عاقل فثبت بهذه الوجوه أن هذا القول فاسد ويجب على العاقل المسلم أن لا يلتفت إليه
إذا عرفت هذا فنقول في تأويل الآية وجوه صحيحة سليمة خالية عن هذه المفاسد
التأويل الأول ما ذكره القفال فقال إنه تعالى ذكر هذه القصة على تمثيل ضرب المثل وبيان أن هذه الحالة صورة حالة هؤلاء المشركين في جهلهم وقولهم بالشرك وتقرير هذا الكلام كأنه تعالى يقول هو الذي خلق كل واحد منكم من نفس واحدة وجعل من جنسها زوجها إنساناً يساويه في الإنسانية فلما تغشى الزوج زوجته وظهر الحمل دعا الزوج والزوجة ربهما لئن آتيتنا ولداً صالحاً سوياً لنكونن من الشاكرين لالائك ونعمائك فلما آتاهما الله ولداً صالحاً سوياً جعل الزوج والزوجة لله شركاء فيما آتاهما لأنهم تارة ينسبون ذلك الولد إلى الطبائع كما هو قول الطبائعيين وتارة إلى الكواكب كما هو قول المنجمين وتارة إلى الأصنام والأوثان كما هو قول عبدة الأصنام
ثم قال تعالى فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أي تنزه الله عن ذلك الشرك وهذا جواب في غاية الصحة والسداد
التأويل الثاني بأن يكون الخطاب لقريش الذين كانوا في عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهم آل قصي والمراد من قوله هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ قصي وَجَعَلَ مِنْهَا جنس مِنْهَا زَوْجَهَا عربية قرشية ليسكن إليها فلما آتاهما ما طلبا من الولد الصالح السوي جعلا له شركاء فيما آتاهما حيث سميا أولادهما الأربعة بعبد مناف وعبد العزى وعبد قصي وعبد اللات وجعل الضمير في يُشْرِكُونَ لهما ولأعقابهما الذين اقتدوا بهما في الشرك
التأويل الثالث أن نسلم أن هذه الآية وردت في شرح قصة آدم عليه السلام وعلى هذا التقدير ففي دفع هذا الإشكال وجوه الأول أن المشركين كانوا يقولون إن آدم عليه السلام كان يعبد الأصنام ويرجع في طلب الخير ودفع الشر إليها فذكر تعالى قصة آدم وحواء عليهما السلام وحكى عنهما أنهما قالا لَئِنْ ءاتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ أي ذكرا أنه تعالى لو آتاهما ولداً سوياً صالحاً لاشتغلوا بشكر تلك النعمة ثم قال فَلَمَّا ءاتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فقوله جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء ورد بمعنى الاستفهام على سبيل الإنكار والتبعيد والتقرير فلما آتاهما صالحاً أجعلا له شركاء فيما آتاهما ثم قال فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أي تعالى الله عن شرك هؤلاء المشركين الذين يقولون بالشرك وينسبونه إلى آدم عليه السلام ونظيره أن ينعم رجل على رجل بوجوه كثيرة من الأنعام ثم يقال لذلك المنعم أن ذلك المنعم عليه يقصد ذمك وإيصال الشر إليك فيقول ذلك المنعم فعلت في حق فلان كذا وأحسنت إليه بكذا وكذا وأحسنت إليه بكذا وكذا ثم إنه يقابلني بالشر والإساءة والبغي على التبعيد فكذا ههنا
الوجه الثاني في الجواب أن نقول أن هذه القصة من أولها إلى آخرها في حق آدم وحواء ولا إشكال في شيء من ألفاظها إلا قوله فَلَمَّا ءاتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا ءاتَاهُمَا فنقول التقدير فلما آتاهما

ولداً صالحاً سوياً جعلا له شركاء أي جعل أولادهما له شركاء على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه وكذا فيما آتاهما أي فيما آتى أولادهماونظيره قوله وَاسْئَلِ الْقَرْيَة َ ( يوسف 82 ) أي واسأل أهل القرية
فإن قيل فعلى هذا التأويل ما الفائدة في التثنية في قوله جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء
قلنا لأن ولده قسمان ذكر وأنثى فقوله جَعَلاَ المراد منه الذكر والأنثى مرة عبر عنهما بلفظ التثنية لكونهما صنفين ونوعين ومرة عبر عنهما بلفظ الجمع وهو قوله تعالى فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ
الوجه الثالث في الجواب سلمنا أن الضمير في قوله جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا ءاتَاهُمَا عائد إلى آدم وحواء عليهما السلام إلا أنه قيل إنه تعالى لما آتاهما الولد الصالح عزما على أن يجعلاه وقفاً على خدمة الله وطاعته وعبوديته على الإطلاق ثم بدا لهم في ذلك فتارة كانوا ينتفعون به في مصالح الدنيا ومنافعها وتارة كانوا يأمرونه بخدمة الله وطاعته وهذا العمل وإن كان منا قربة وطاعة إلا أن حسنات الأبرار سيئات المقربين فلهذا قال تعالى فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ والمراد من هذه الآية ما نقل عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال حاكياً عن الله سبحانه ( أنا أغنى الأغنياء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه غيري تركته وشركه ) وعلى هذا التقدير فالإشكال زائل
الوجه الرابع في التأويل أن نقول سلمنا صحة تلك القصة المذكورة إلا أنا نقول إنهم سموا بعبد الحرث لأجل أنهم اعتقدوا أنه إنما سلم من الآفة والمرض بسبب دعاء ذلك الشخص المسمى بالحرث وقد يسمى المنعم عليه عبداً للمنعم يقال في المثل أنا عبد من تعلمت منه حرفاً ورأيت بعض الأفاضل كتب على عنوان كتابة عبد وده فلان قال الشاعر وإني لعبد الضيف ما دام ثاويا
ولا شيمة لي بعدها تشبه العبدا
فآدم وحواء عليهما السلام سميا ذلك الولد بعبد الحرث تنبيهاً على أنه إنما سلم من الآفات ببركة دعائه وهذا لا يقدح في كونه عبد الله من جهة أنه مملوكه ومخلوقه إلا أنا قد ذكرنا أن حسنات الأبرار سيئات المقربين فلما حصل الاشتراك في لفظ العبد لا جرم صار آدم عليه السلام معاتباً في هذا العمل بسبب الاشتراك الحاصل في مجرد لفظ العبد فهذا جملة ما نقوله في تأويل هذه الآية
المسألة الثانية في تفسير ألفاظ الآية وفيها مباحث
البحث الأول قوله هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَة ٍ المشهور أنها نفس آدم وقوله خُلِقَ مِنْهَا زَوْجَهَا المراد حواء قالوا ومعنى كونها مخلوقة من نفس آدم أنه تعالى خلقها من ضلع من أضلاع آدم قالوا والحكمة فيه أن الجنس إلى الجنس أميل والجنسية علة الضم وأقول هذا الكلام مشكل لأنه تعالى لما كان قادراً على أن يخلق آدم ابتداء فما الذي حملنا على أن نقول أنه تعالى خلق حواء من جزء أجزاء آدم ولم لا نقول إنه تعالى خلق حواء أيضاً ابتداء وأيضاً الذي يقدر على خلق إنسان من عظم واحد فلم لا يقدر على خلقه ابتداء وأيضاً الذي يقال إن عدد أضلاع الجانب الأيسر أنقص من عدد أضلاع الجانب الأيمن فيه مؤاخذة تنبي عن خلاف الحس والتشريح بقي أن يقال إذا لم نقل بذلك فما المراد من كلمة

مِنْ في قوله وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا فنقول قد ذكرنا أن الإشارة إلى الشيء تارة تكون بحسب شخصه وأخرى بحسب نوعه قال عليه الصلاة والسلام ( هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به ) وليس المراد ذلك الفرد المعين بل المراد ذلك النوع وقال عليه الصلاة والسلام ( في يوم عاشوراء هذا هو اليوم الذي أظهر الله فيه موسى على فرعون ) والمراد خلق من النوع الإنساني زوجة آدم والمقصود التنبيه على أنه تعالى جعل زوج آدم إنساناً مثله قوله فَلَمَّا تَغَشَّاهَا أي جامعها والغشيان إتيان الرجل المرأة وقد غشاها وتغشاها إذا علاها وذلك لأنه إذا علاها فقد صار كالغاشية لها ومثله يجللها وهو يشبه التغطي واللبس قال تعالى هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ وقوله حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا قالوا يريد النطفة والمني والحمل بالفتح ما كان في البطن أو على رأس الشجر والحمل بكسر الحاء ما حمل على ظهر أو على الدابة وقوله فَمَرَّتْ بِهِ أي استمرت بالماء والحمل على سبيل الخفة والمراد أنها كانت تقوم وتقعد وتمشي من غير ثقل قال صاحب ( الكشاف ) وقرأ يحيى بن يعمر فَمَرَّتْ بِهِ بالتخفيف وقرأ غيره تُحَرّكْ بِهِ من المرية كقوله أَفَتُمَارُونَهُ وفي قراءة أخرى أَفَتُمَارُونَهُ معناه وقع في نفسها ظن الحمل وارتابت فيه فَلَمَّا أَثْقَلَت أي صارت إلى حال الثقل ودنت ولادتها دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا يعني آدم وحواء لَئِنْ ءاتَيْتَنَا صَالِحاً أي ولداً سوياً مثلنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ لآلائك ونعمائك فَلَمَّا ءاتَاهُمَا الله صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا ءاتَاهُمَا والكلام في تفسيره قد مر بالاستقصاء قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وحمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص عَنْهُ شُرَكَاء بصيغة الجمع وقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر عَنْهُ بكسر الشين وتنوين الكاف ومعناه جعلا له نظراء ذوي شرك وهم الشركاء أو يقال معناه أحدثا لله إشراكاً في الولد ومن قرأ للَّهِ شُرَكَاء فحجته قوله أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ وأراد بالشركاء في هذه الآية إبليس لأن من أطاع إبليس فقد أطاع جميع الشياطين هذا إذا حملنا هذه الآية على القصة المشهورة أما إذا لم نقل به فلا حاجة إلى التأويل والله أعلم
أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
اعلم أن هذه الآية من أقوى الدلائل على أنه ليس المراد بقوله فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ما ذكره من قصة إبليس إذ لو كان المراد ذلك لكانت هذه الآية أجنبية عنها بالكلية وكان ذلك غاية الفساد في النظم والترتيب بل المراد ما ذكرناه في سائر الأجوبة من أن المقصود من الآية السابقة الرد على عبدة الأوثان وفي الآية مسائل

المسألة الأولى المقصود من هذه الآية إقامة الحجة على أن الأوثان لا تصلح للإلهية فقوله أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ معناه أيعبدون ما لا يقدر على أن يخلق شيئاً وهم يخلقون أي وهم مخلوقون يعني الأصنام
فإن قيل كيف وحد يَخْلُقُ ثم جمع فقال وَهُمْ يُخْلَقُونَ وأيضاً فكيف ذكر الواو والنون في جمع غير الناس
والجواب عن الأول أن لفظ مَا تقع على الواحد والاثنين والجمع فهذه من صيغ الوحدان يحسب ظاهر لفظها ومحتملة للجمع فالله تعالى اعتبر الجهتين فوحد قوله يَخْلُقُ رعاية لحكم ظاهر اللفظ وجمع قوله وَهُمْ يُخْلَقُونَ رعابة لجانب المعنى
والجواب عن الثاني وهو أن الجمع بالواو والنون في غير من يعقل كيف يجوز فنقول لما اعتقد عابدوها أنها تعقل وتميز فورد هذا اللفظ بناء على ما يعتقدونه ويتصورونه ونظيره قوله تعالى وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ( الأنبياء 33 ) وقوله وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ ( يوسف 4 ) وقوله نَمْلَة ٌ يأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ ( النمل 18 )
المسألة الثانية قوله أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ احتج أصحابنا بهذه الآية على أن العبد غير موجد ولا خالق لأفعاله قالوا لأنه تعالى طعن في إلهية الأجسام بسبب أنها لا تخلق شيئاً وهذا الطعن إنما يتم لو قلنا إن بتقدير أنها كانت خالقة لشيء لم يتوجه الطعن في إلهيتها وهذا يقتضي أن كل من كان خالقاً كان إلهاً فلو كان العبد خالقاً لأفعال نفسه كان إلهاً ولما كان ذلك باطلاً علمنا أن العبد غير خالق لأفعال نفسه
أما قوله تعالى وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا يريد أن الأصنام لا تنصر من أطاعها ولا تنتصر ممن عصاها والنصر المعونة على العدو والمعنى أن المعبود يجب أن يكون قادراً على إيصال النفع ودفع الضرر وهذه الأصنام ليست كذلك فكيف يليق بالعاقل عبادتها
ثم قال وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ أي ولا يدفعون عن أنفسهم مكروهاً فإن من أراد كسرهم لم يقدروا على دفعه
ثم قال وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ واعلم أنه تعالى لما أثبت بالآية المتقدمة أنه لا قدرة لهذه الأصنام على أمر من الأمور بين بهذه الآية أنه لا علم لها بشيء من الأشياء والمعنى أن هذا المعبود الذي يعبده المشركون معلوم من حاله أنه كما لا ينفع ولا يضر فكذا لا يصح فيه إذا دعى إلى الخير الأتباع ولا يفصل حال من يخاطبه ممن يسكت عنه ثم قوى هذا الكلام بقوله سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ وهذا مثل قوله سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ ( البقرة 6 ) وذكرنا ما فيه من المباحث في تلك الآية إلا أن الفرق في تلك الآية عطف الفعل على الفعل وههنا عطف الاسم على الفعل لأن قوله أَدَعَوْتُمُوهُمْ جملة فعلية وقوله أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ جملة إسمية
واعلم أنه ثبت أن عطف الجملة الإسمية على الفعلية لا يجوز إلا لفائدة وحكمة وتلك الفائدة هي أن

صيغة الفعل مشعرة بالتجدد والحدوث حالاً بعد حال وصيغة الاسم مشعرة بالدوام والثبات والاستمرار
إذا عرفت هذا فنقول إن هؤلاء المشركين كانوا إذا وقعوا في مهم وفي معضلة تضرعوا إلى تلك الأصنام وإذا لم تحدث تلك الواقعة بقوا ساكتين صامتين فقيل لهم لا فرق بين إحداثكم دعاءهم وبين أن تستمروا على صمتكم وسكوتكم فهذا هو الفائدة في هذه اللفظة ثم أكد الله بيان أنها لا تصلح للإلهية فقال إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ وفيه سؤال وهو أنه كيف يحسن وصفها بأنها عباد مع أنها جمادات وجوابه من وجوه الأول أن المشركين لما ادعوا أنها تضر وتنفع وجب أن يعتقدوا فيها كونها عاقلة فاهمة فلا جرم وردت هذه الألفاظ على وفق معتقداتهم ولذلك قال فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ ولم يقل فادعوهم فليستجبن لكم وقال إِنَّ الَّذِينَ ولم يقل التي
والجواب الثاني أن هذا اللغو أورد في معرض الاستهزاء بهم أي قصارى أمرهم أن يكونوا أحياء عقلاء فإن ثبت ذلك فهم عباد أمثالكم ولا فضل لهم عليكم فلم جعلتم أنفسكم عبيداً وجعلتموها آلهة وأرباباً ثم أبطل أن يكونوا عباداً أمثالكم فقال أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا ( الأعراف 195 ) ثم أكد هذا البيان بقوله فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ ومعنى هذا الدعاء طلب المنافع وكشف المضار من جهتهم واللام في قوله فَلْيَسْتَجِيبُواْ لام الأمر على معنى التعجيز والمعنى أنه لما ظهر لكل عاقل أنها لا تقدر على الإجابة ظهر أنها لا تصلح للمعبودية ونظيره قول إبراهيم عليه السلام لأبيه لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً ( مريم 42 ) وقوله إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ أي في ادعاء أنها آلهة ومستحقة للعبادة ولما ثبت بهذه الدلائل الثلاثة اليقينية أنها لا تصلح للمعبودية وجب على العاقل أن لا يلتفت إليها وأن لا يشتغل إلا بعباده الإله القادر العالم الحي الحكيم الضار النافع
أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ
اعلم أن هذا نوع آخر من الدليل في بيان أنه يقبح من الإنسان العاقل أن يشتغل بعبادة هذه الأصنام وتقريره أنه تعالى ذكر في هذه الآية أعضاء أربعة وهي الأرجل والأيدي والأعين والآذان ولا شك أن هذه الأعضاء إذا حصل في كل واحدة منها ما يليق بها من القوى المحركة والمدركة تكون أفضل منها إذا كانت خالية عن هذه القوى فالرجل القادرة على المشي واليد القادرة على البطش أفضل من اليد والرجل الخاليتين عن قوة الحركة والحياة والعين الباصرة والأذن السامعة أفضل من العين والأذن الخاليتين عن القوة الباصرة والسامعة وعن قوة الحياة وإذا ثبت هذا ظهر أن الإنسان أفضل بكثير من هذه الأصنام بل لا نسبة لفضيلة الإنسان إلى فضل هذه الأصنام البتة وإذا كان كذلك فكيف يليق بالأفضل الأكمل الأشرف أن يشتغل بعبادة الأخس الأدون الذي لا يحس منه فائدة البتة لا في جلب المنفعة ولا في دفع المضرة هذا هو الوجه في

تقرير هذا الدليل الذي ذكره الله تعالى في هذه الآية وقد تعلق بعض أغمار المشبهة وجهاً لهم بهذه الآية في إثبات هذه الأعضاء لله تعالى فقالوا إنه تعالى جعل عدم هذه الأعضاء لهذه الأصنام دليلاً على عدم إلهيتها فلو لم تكن هذه الأعضاء موجودة لله تعالى لكان عدمها دليلاً على عدم الإلهية وذلك باطل فوجب القول بإثبات هذه الأعضاء لله تعالى والجواب عنه من وجهين
الوجه الأول أن المقصود من هذه الآية بيان أن الإنسان أفضل وأكمل حالاً من الصنم لأن الإنسان له رجل ماشية ويد باطشة وعين باصرة وأذن سامعة والصنم رجله غير ماشية ويده غير باطشة وعينه غير مبصرة وأذنه غير سامعة وإذا كان كذلك كان الإنسان أفضل وأكمل حالاً من الصنم واشتغال الأفضل الأكمل بعبادة الأخس الأدون جهل فهذا هو المقصود من ذكر هذا الكلام لا ما ذهب إليه وهم هؤلاء الجهال
الوجه الثاني في الجواب أن المقصود من ذكر هذا الكلام تقرير الحجة التي ذكرها قبل هذه الآية وهي قوله وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ ( الأعراف 192 ) يعني كيف تحسن عبادة من لا يقدر على النفع والضرر ثم قرر تعالى ذلك بأن هذه الأصنام لم يحصل لها أرجل ماشية وأيد باطشة وأعين باصرة وآذان سامعة ومتى كان الأمر كذلك لم تكن قادرة على الإنفاع والإضرار فامتنع كونها آلهة أما إله العالم تعالى وتقدس فهو وإن كان متعالياً عن هذه الجوارح والأعضاء إلا أنه موصوف بكمال القدرة على النفع والضرر وهو موصوف بكمال السمع والبصر فظهر الفرق بين البابين
أما قوله تعالى قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ قال الحسن إنهم كانوا يخوفون الرسول عليه السلام بآلهتهم فقال تعالى قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ ليظهر لكم أنه لا قدرة لها على إيصال المضار إلي بوجه من الوجوه وأثبت نافع وأبو عمرو الياء في كيدوني والباقون حذفوها ومثله في قوله كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ قال الواحدي والقول فيه أن الفواصل تشبه القوافي وقد حذفوا هذه الياآت إذا كانت في القوافي كقوله يلمس الإحلاس في منزله
بيديه كاليهودي الممل
والذين أثبتوها فلأن الأصل هو الإثبات ومعنى قوله فَلاَ تُنظِرُونِ أي لا تمهلوني واعجلوا في كيدي أنتم وشركائكم
إِنَّ وَلِيِّى َ اللَّهُ الَّذِى نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ

اعلم أنه لما بين في الآيات المتقدمة أن هذه الأصنام لا قدرة لها على النفع والضر بين بهذه الآية أن الواجب على كل عاقل عبادة الله تعالى لأنه هو الذي يتولى تحصيل منافع الدين ومنافع الدنيا أما تحصيل منافع الدين فبسبب إنزال الكتاب وأما تحصيل منافع الدنيا فهو المراد بقوله وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الواحدي رحمه الله قرأ القراء وليي بثلاث ياآت الأولى ياء فعيل وهي ساكنة والثانية لام الفعل وهي كسورة قد أدغمت الأولى فيها فصار ياء مشددة والثالثة ياء الإضافة وروي عن أبي عمرو ولي الله بياء مشددة ووجه ذلك أنه حذف الياء التي هي لام فعيل كما حذف اللام من قولهم فاماليت به فاله ثم أدغمت ياى فعيل في ياء الإضافة فقيل ولي الله وهذه الفتحة فتحة ياء الإضافة وأما الباقون فأجازوا اجتماع ثلاث ياءات والله أعلم
المسألة الثانية أن وليي الله أي الذي يتولى حفظي ونصرتي هو الله الذي أنزل الكتاب المشتمل على هذه العلوم العظيمة النافعة في الدين ويتولى الصالحين ينصرهم فلا تضرهم عداوة من عاداهم وفي ذلك يأمن المشركين من أن يضره كيدهم وسمعت أن عمر بن عبد العزيز ما كان يدخر لأولاده شيئاً فقيل له فيه فقال ولدي إما أن يكون من الصالحين أو من المجرمين فإن كان من الصالحين فوليه الله ومن كان الله له ولياً فلا حاجة له إلى مالي وإن كان من المجرمين فقد قال تعالى فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لّلْمُجْرِمِينَ ( القصص 17 ) ومن رده الله لم أشتغل بإصلاح مهماته
أما قوله وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ ففيه قولان
القول الأول أن المراد منه وصف الأصنام بهذه الصفات
فإن قالوا فهذه الأشياء قد صارت مذكورة في الآيات المتقدمة فما الفائدة في تكريرها فنقول قال الواحدي إنما أعيد هذا المعنى لأن الأول مذكور على جهة التقريع وهذا مذكور على جهة الفرق بين من تجوز له العبادة وبين من لا تجوز كأنه قيل الإله المعبود يجب أن يكون بحيث يتولى الصالحين وهذه الأصنام ليست كذلك فلا تكن صالحة للإلهية
والقول الثاني أن هذه الأحوال المذكورة صفات لهؤلاء المشركين الذين يدعون غير الله يعني أن الكفار كانوا يخوفون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه فقال تعالى إنهم لا يقدرون على شيء بل إنهم قد بلغوا في الجهل والحماقة إلى أنك لو دعوتهم وأظهرت أعظم أنواع الحجة والبرهان لم يسمعوا بعقولهم ذلك البتة
فإن قيل لم يتقدم ذكر المشركين وإنما تقدم ذكر الأصنام فكيف يصح ما ذكر
قلنا قد تقدم ذكرهم في قوله تعالى قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ ( الأعراف 195 ) أما قوله تعالى وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ فإن حملنا هذه الصفات على الأصنام قلنا المراد من كونها ناظرة كونها مقابلة بوجهها وجوه القوم من قولهم جبلان متناظران أي متقابلان فإن حملناها على المشركين فالمعنى أنهم وإن كانوا ينظرون إلى الناس إلا أنهم لشدة إعراضهم عن الحق لم ينتفعوا

بذلك النظر والرؤية فصاروا كأنهم عمي وهذه الآية تدل على أن النظر غير الرؤية لأنه تعالى أثبت النظر ونفي الرؤية وذلك يدل على التغاير وأجيب عن هذا الاستدلال فقيل معناه تحسبهم أنهم ينظرون إليك مع أنهم في الحقيقة لا ينظرون أي تظن أنهم ينظرونك مع أنهم لا يبصرونك والرؤية بمعنى الحسبان واردة قال تعالى وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى ( الحج 2 )
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِض عَنِ الْجَاهِلِينَ
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أن الله هو الذي يتولاه وأن الأصنام وعابديها لا يقدرون على الإيذاء والإضرار بين في هذه الآية ما هو المنهج القويم والصراط المستقيم في معاملة الناس فقال خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ قال أهل اللغة العفو الفضل وما أتي من غير كلفة
إذا عرفت هذا فنقول الحقوق التي تستوفى من الناس وتؤخذ منهم إما أن يجوز إدخال المساهلة والمسامحة فيها وإما أن لا يجوز
أما القسم الأول فهو المراد بقوله خُذِ الْعَفْوَ ويدخل فيه ترك التشدد في كل ما يتعلق بالحقوق المالية ويدخل فيه أيضاً التخلق مع الناس بالخلق الطيب وترك الغلظة والفظاظة كما قال تعالى وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ( آل عمران 159 ) ومن هذا الباب أن يدعو الخلق إلى الدين الحق بالرفق واللطف كما قال تعالى وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ ( النحل 125 )
وأما القسم الثاني وهو الذي لا يجوز دخول المساهلة والمسامحة فيه فالحكم فيه أن يأمر بالمعروف والعروف والعارفة والمعروف هو كل أمر عرف أنه لا بد من الإتيان به وأن وجوده خير من عدمه وذلك لأن في هذا القسم لو اقتصر على الأخذ بالعفو ولم يأمر بالعرف ولم يكشف عن حقيقة الحال لكان ذلك سعياً في تغيير الدين وإبطال الحق وأنه لا يجوز ثم إنه إذا أمر بالعرف ورغب فيه ونهى عن المنكر ونفر عنه فربما أقدم بعض الجاهلين على السفاهة والإيذاء فلهذا السبب قال تعالى في آخر الآية وَأَعْرِض عَنِ الْجَاهِلِينَ وقال في آية أخرى وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً ( الفرقان 72 ) وقال وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُّعْرِضُونَ ( المؤمنون 3 ) وقال في صفة أهل الجنة لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً ( الواقعة 25 ) وإذا أحاط عقلك بهذا التقسيم علمت أن هذه الآية مشتملة على مكارم الأخلاق فيما يتعلق بمعاملة الإنسان مع الغير قال عكرمة لما نزلت هذه الآية قال عليه السلام ( يا جبريل ما هذا قال يا محمد إن ربك يقول هو أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك ) قال أهل العلم تفسير جبريل مطابق للفظ الآية لأنك لو وصلت من قطعك فقد عفوت عنه وإذا آتيت من حرمك فقد آتيت بالمعروف وإذا عفوت عمن ظلمك فقد أعرضت عن الجاهلين وقال جعفر الصادق رضي الله عنه وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية وللمفسرين في تفسير هذه الآية طريق آخر فقالوا خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ أي ما عفا لك من أموالهم أي ما أتوك به عفواً فخذه ولا تسأل عما وراء ذلك قالوا كان هذا قبل فريضة الصدقة فلما نزلت

آية وجوب الزكاة صارت هذه الآية منسوخة إلا قوله وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ أي بإظهار الدين الحق وتقرير دلائله وَأَعْرِض عَنِ الْجَاهِلِينَ أي المشركين قالوا وهذا منسوخ بآية السيف فعلى هذه الطريقة جميع الآية منسوخة إلا قوله وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ
واعلم أن تخصيص قوله خُذِ الْعَفْوَ بما ذكره تقييد للمطلق من غير دليل وأيضاً فهذا الكلام إذا حملناه على أداء الزكاة لم يكن إيجاب الزكاة بالمقادير المخصوصة منافياً لذلك لأن آخذ الزكاة مأمور بأن لا يأخذ كرائم أموال الناس ولا يشدد الأمر على المزكى فلم يكن إيجاب الزكاة سبباً لصيرورة هذه الآية منسوخة
وأما قوله وَأَعْرِض عَنِ الْجَاهِلِينَ فالمقصود منه أمر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بأن يصبر على سوء أخلاقهم وأن لا يقابل أقوالهم الركيكة ولا أفعالهم الخسيسة بأمثالها وليس فيه دلالة على امتناعه من القتال لأنه لا يمتنع أن يؤمر عليه السلام بالإعراض عن الجاهلين مع الأمر بقتال المشركين فإنه ليس من المتناقض أن يقال الشارع لا يقابل سفاهتهم بمثلها ولكن قاتلهم وإذا كان الجمع بين الأمرين ممكناً فحينئذ لا حاجة إلى التزام النسخ إلا أن الظاهرية من المفسرين مشغوفون بتكثير الناسخ والمنسوخ من غير ضرورة ولا حاجة
وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
وفيه مسائل
المسألة الأولى قال أبو زيد لما نزل قوله تعالى وَأَعْرِض عَنِ الْجَاهِلِينَ ( الأعراف 199 ) قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كيف يا رب والغضب فنزل قوله وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ
المسألة الثانية اعلم أن نزغ الشيطان عبارة عن وساوسه ونخسه في القلب بما يسول للإنسان من المعاصي عن أبي زيد نزغت بين القوم إذا أفسدت ما بينهم وقيل النزغ الازعاج وأكثر ما يكون عند الغضب وأصله الازعاج بالحركة إلى الشر وتقرير الكلام أنه تعالى لما أمره بالعرف فعند ذلك ربما يهيج سفيه ويظهر السفاهة فعند ذلك أمره تعالى بالسكوت عن مقابلته فقال وَأَعْرِض عَنِ الْجَاهِلِينَ ولما كان من المعلوم أن عند إقدام السفيه على السفاهة يهيج الغضب والغيظ ولا يبقى الإنسان على حالة السلامة وعند تلك الحالة يجد الشيطان مجالاً في حمل ذلك الإنسان على ما لا ينبغي لا جرم بين تعالى ما يجري مجرى العلاج لهذا الغرض فقال فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ والكلام في تفسير الاستعاذة قد سبق في أول الكتاب على الاستقصاء
المسألة الثالثة احتج الطاعنون في عصمة الأنبياء بهذه الآية وقالوا لولا أنه يجوز من الرسول الإقدام على المعصية أو الذنب وإلا لم يقل له وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ والجواب عنه من وجوه الأول أن حاصل هذا الكلام أنه تعالى قال له إن حصل في قلبك من الشيطان نزغ كما أنه تعالى قال لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ( الزمر 65 ) ولم يدل ذلك على أنه أشرك

وقال لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَة ٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ( الأنبياء 22 ) ولم يدل ذلك على أنه حصل فيهما آلهة الثاني هب أنا سلمنا أن الشيطان يوسوس للرسول عليه السلام إلا أن هذا لا يقدح في عصمته إنما القادح في عصمته لو قبل الرسول وسوسته والآية لا تدل على ذلك عن الشعبي قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما من إنسان إلا ومعه شيطان ) قالوا وأنت يا رسول الله قال وأنا ولكنه أسلم بعون الله فلقد أتاني فأخذت بحلقه ولولا دعوة سليمان لأصبح في المسجد طريحاً وهذا كالدلالة على أن الشيطان يوسوس إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وقال تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِى ّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِى أُمْنِيَّتِهِ ( الحج 52 ) الثالث هب أنا سلمنا أن الشيطان يوسوس وأنه عليه الصلاة والسلام يقبل أثر وسوسته إلا أنا نخص هذه الحالة بترك الأفضل والأولى قال عليه الصلاة والسلام ( وإنه ليغان على قلبي وإني لا أستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة )
المسألة الرابعة الاستعاذة بالله عند هذه الحالة أن يتذكر المرء عظيم نعم الله عليه وشديد عقابه فيدعوه كل واحد من هذين الأمرين إلى الإعراض عن مقتضى الطبع والإقبال على أمر الشرع
المسألة الخامسة هذا الخطاب وإن خص الله به الرسول إلا أنه تأديب عام لجميع المكلفين لأن الاستعاذة بالله على السبيل الذي ذكرناه لطف مانع من تأثير وساوس الشيطان ولذلك قال تعالى فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءانَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ( النحل 97 98 ) إذا ثبت بالنص أن لهذه الاستعاذة أثراً في دفع نزع الشيطان وجبت المواظبة عليه في أكثر الأحوال
المسألة السادسة قوله إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يدل على أن الاستعاذة باللسان لا تفيد إلا إذا حضر في القلب العلم بمعنى الاستعاذة فكأنه تعالى قال اذكر لفظ الاستعاذة بلسانك فإني سميع واستحضر معاني الاستعاذة بعقلك وقلبك فإني عليم بما في ضميرك وفي الحقيقة القول اللساني بدون المعارف القلبية عديم الفائدة والأثر
إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِى الْغَى ِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى بين في الآية الأولى أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قد ينزغه الشيطان وبين أن علاج هذه الحالة الاستعاذة بالله ثم بين في هذه الآية أن حال المتقين يزيد على حال الرسول في هذا الباب لأن الرسول لا يحصل له من الشيطان إلا النزغ الذي هو كالابتداء في الوسوسة وجوز في المتقين ما يزيد عليه وهو أن يمسهم طائف من الشيطان وهذا المس يكون لامحالة أبلغ من النزغ
المسألة الثانية قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي طيف بغير ألف والباقون مَسَّهُمْ طَئِفٌ بالألف قال

الواحدي رحمه الله اختلفوا في الطيف فقيل إنه مصد وقال أبو زيد يقال طاف يطوف طوفاً وطوافاً إذا أقبل وأدبر وأطاف يطيف إطافة إذا جعل يستدير بالقوم ويأتيهم من نواحيهم وطاف الخيال يطيف طيفاً إذا ألم في المنام قال ابن الأنباري وجائز أن يكون طيف أصله طيف إلا أنهم استثقلوا التشديد فحذفوا إحدى الياءين وأبقوا ياء ساكنة فعلى القول الأول هو مصدر وعلى ما قاله ابن الأنباري هو من باب هين وهين وميت وميت ويشهد لصحة قول ابن الأنباري قراءة سعيد بن جبير إِذَا مَسَّهُمْ بالتشديد هذا هو الأصل في الطيف ثم سمى الجنون والغضب والوسوسة طيفاً لأنه لمة من لمة الشيطان تشبه لمة الخيال قال الأزهري الطيف في كلام العرب الجنون ثم قيل للغضب طيف لأن الغضبان يشبه المجنون وأما الطائف فيجوز أن يكون بمعنى الطيف مثل العافية والعاقبة ونحو ذلك مما جاء المصدر فيه على فاعل وفاعلة قال الفراء في هذه الآية الطائف والطيف سواء وهو ما كان كالخيال الذي يلم بالإنسان ومنهم من قال الطيف كالخطرة والطائف كالخاطر
المسألة الثالثة اعلم أن الغضب إنما يهيج بالإنسان إذا استقبح من المغضوب عليه عملاً من الأعمال ثم اعتقد في نفسه كونه قادراً واعتقد في المغضوب عليه كونه عاجزاً عن الدفع فعند حصول هذه الاعتقادات الثلاثة إذا كان واقعاً في ظلمات عالم الأجسام فيغتروا بظواهر الأمور فأما إذا انكشف له نور من عالم الغيب زالت هذه الاعتقادات الثلاثة من جهات كثيرة أما الاعتقاد الأول وهو استقباح ذلك الفعل من المغضوب عليه فإذا انكشف له أنه إنما أقدم على ذلك العمل لأنه تعالى خلق فيه داعية جازمة راسخة ومتى خلق الله فيه تلك الداعية امتنع منه أن لا يقدم على ذلك العمل فإذا تجلى هذا المعنى زال الغضب وأيضاً فقد يخطر ببال الإنسان أن الله تعالى علم منه هذه الحالة ومتى كان كذلك فلا سبيل له إلى تركها فعند ذلك يفر غضبه وإليه الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام ( من عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب ) وأما الاعتقاد الثاني والثالث وهو اعتقاده في نفسه كونه قادراً وكون المغضوب عليه عاجزاً فهذان الاعتقادان أيضاً فاسدان من وجوه أحدها أنه يعتقد أنه كم أساء في العمل والله كان قادراً عليه وهو كان أسيراً في قبضة قدرة الله تعالى ثم إنه تجاوز عنه وثانيها أن المغضوب عليه كما أنه عاجز في يد الغضبان فكذلك الغضبان عاجز بالنسبة إلى قدرة الله وثالثها أن يتذكر الغضبان ما أمره الله به من ترك إمضاء الغضب والرجوع إلى ترك الإيذاء والإيحاش ورابعها أن يتذكر أنه إذا أمضى الغضب وانتقم كان شريكاً للسباع المؤذية والحياة القاتلة وإن ترك الانتقام واختار العفو كان شريكاً لأكابر الأنبياء والأولياء وخامسها أن يتذكر أنه ربما انقلب ذلك الضعيف قوياً قادراً عليه فحينئذ ينتقم منه على أسوأ الوجوه أما إذا عفا كان ذلك إحساناً منه إليه وبالجملة فالمراد من قوله تعالى اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَئِفٌ مّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ ما ذكرناه من الاعتقادات الثلاثة والمراد من قوله تَذَكَّرُواْ ما ذكرناه من الوجوه التي تفيد ضعف تلك الاعتقادات وقوله فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ معناه أنه إذا حضرت هذه التذكرات في عقولهم ففي الحال يزول مس طائف الشيطان ويحصل الاستبصار والانكشاف والتجلي ويحصل الخلاص من وسوسة الشيطان
المسألة الرابعة قوله فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ معنى إِذَا ههنا للمفاجأة كقولك خرجت فإذا زيد وإذا في قوله إِذَا مَسَّهُمْ يستدعي جزاء كقولك آتيك إذا احمر البسر

أما قوله تعالى وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِى الْغَى ِّ ففيه مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في أن الكناية في قوله وَإِخْوانِهِمْ إلى ماذا تعود على قولين
القول الأول وهو الأظهر أن المعنى وإخوان الشياطين يمدون الشياطين في الغي وذلك لأن شياطين الأنس إخوان لشياطين الجن فشياطين الإنس يغوون الناس فيكون ذلك إمداداً منهم لشياطين الجن على الإغواء والأضلال
والقول الثاني أن إخوان الشياطين هم الناس الذين ليسوا بمتقين فإن الشياطين يكونون مدداً لهم فيه والقولان مبنيان على أن لكل كافر أخاً من الشياطين
المسألة الثانية تفسير الإمداد تقوية تلك الوسوسة والإقامة عليها وشغل النفس عن الوقوف على قبائحها ومعايبها
المسألة الثالثة قرأ نافع يَمُدُّونَهُمْ ( بضم الياء وكسر الميم من الإمداد والباقون يَمُدُّونَهُمْ بفتح الياء وضم الميم وهما لغتان مد يمد وأمد يمد وقيل مد معناه جذب وأمد معناه من الإمداد قال الواحدي عامة ما جاء في التنزيل مما يحمد ويستحب أمددت على أفعلت كقوله أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ ( المؤمنون 55 ) وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَة ٍ ( الطور 22 ) وقوله أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ ( النمل 36 ) وما كان بخلافه فإنه يجيء على مددت قال وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ( البقرة 15 ) قراءة العامة وهي فتح الياء ومن ضم الياء استعمل ما هو الخير لضده كقوله فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( الإنشقاق 24 ) وقوله ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ ( الأعراف 202 ) قال الليث الإقصار الكف عن الشيء قال أبو زيد أقصر فلان عن الشر يقصر إقصاراً إذا كف عنه وانتهى قال ابن عباس ثم لا يقصرون عن الضلال والإضلال أما الغاوي ففي الضلال وأما المغوي ففي الإضلال
وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِأايَة ٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَى َّ مِن رَّبِّى هَاذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَة ً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أن شياطين الجن والأنس لا يقصرون في الإغواء والإضلال بين في هذه الآية نوعاً من أنواع الإغواء والإضلال وهو أنهم كانوا يطلبون آيات معينة ومعجزات مخصوصة على سبيل التعنت كقوله وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الاْرْضِ يَنْبُوعًا ( الإسراء 90 ) ثم أعاد أنه عليه الصلاة والسلام ما كان يأتيهم فعند ذلك قالوا لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا قال الفراء تقول العرب اجتبيت الكلام واختلقته وارتجلته إذا افتعلته من قبل نفسك والمعنى لولا تقولتها وافتعلتها وجئت بها من عند نفسك لأنهم كانوا يقولون إِنْ هَاذَا إِلاَّ إِفْكٌ ( سبأ 43 ) أو يقال هلا اقترحتها على إلهك ومعبودك إن كنت صادقاً في أن الله

يقبل دعاءك ويجيب التماسك وعند هذا أمر رسوله أن يذكر الجواب الشافي وهو قوله اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَى َّ مِن رَّبّى ومعناه ليس لي أن أقترح على ربي في أمر من الأمور وإنما أنتظر الوحي فكل شيء أكرمني به قلته وإلا فالواجب السكوت وترك الاقتراح ثم بين أن عدم الإتيان بتلك المعجزات التي اقترحها لا يقدح في الغرض لأن ظهور القرآن على وفق دعواه معجزة بالغة باهرة فإذا ظهرت هذه المعجزة الواحدة كانت كافية في تصحيح النبوة فكان طلب الزيادة من باب التعنت فذكر في وصف القرآن ألفاظاً ثلاثة أولها قوله هَاذَا بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ أصل البصيرة الأبصار ولما كان القرآن سبباً لبصائر العقول في دلائل التوحيد والنبوة والمعاد أطلق عليه لفظ البصيرة تسمية للسبب باسم المسبب وثانيها قوله وَهَدَى والفرق بين هذه المرتبة وما قبلها أن الناس في معارف التوحيد والنبوة والمعاد قسمان أحدهما الذين بلغوا في هذه المعارف إلى حيث صاروا كالمشاهدين لها وهم أصحاب عين اليقين والثاني الذين ما بلغوا إلى ذلك الحد إلا أنهم وصلوا إلى درجات المستدلين وهم أصحاب علم اليقين فالقرآن في حق الأولين وهم السابقون بصائر وفي حق القسم الثاني وهم المقتصدون هدى وفي حق عامة المؤمنين رحمة ولما كانت الفرق الثلاث من المؤمنين لا جرم قال لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
وَإِذَا قُرِى ءَ الْقُرْءَانُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ
اعلم أنه تعالى لما عظم شأن القرآن بقوله هَاذَا بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ ( الأعراف 203 ) أردفه بقوله وَإِذَا قُرِىء الْقُرْءانُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى الإنصات السكوت والاستماع يقال نصت وأنصت وانتصت بمعنى واحد
المسألة الثانية لا شك أن قوله فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ أمره وظاهر الأمر للوجوب فمقتضاه أن يكون الاستماع والسكوت واجباً وللناس فيه أقوال
القول الأول وهو قول الحسن وقول أهل الظاهر أنا نجري هذه الآية على عمومها ففي أي موضع قرأ الإنسان القرآن وجب على كل أحد استماعه والسكوت فعلى هذا القول يجب الإنصات لعابري الطريق ومعلمي الصبيان
والقول الثاني أنها نزلت في تحريم الكلام في الصلاة قال أبو هريرة رضي الله عنه كانوا يتكلمون في الصلاة فنزلت هذه الآية وأمروا بالإنصات وقال قتادة كان الرجل يأتي وهم في الصلاة فيسألهم كم صليتم وكم بقي وكانوا يتكلمون في الصلاة بحوائجهم فأنزل الله تعالى هذه الآية
والقول الثالث أن الآية نزلت في ترك الجهر بالقراءة وراء الإمام قال ابن عباس قرأ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في الصلاة المكتوبة وقرأ أصحابه وراءه رافعين أصواتهم فخلطوا عليه فنزلت هذه الآية وهو قول أبي حنيفة وأصحابه

والقول الرابع أنها نزلت في السكوت عند الخطبة وهذا قول سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وهذا القول منقول عن الشافعي رحمه الله وكثير من الناس قد استبعد هذا القول وقال اللفظ عام وكيف يجوز قصره على هذه الصورة الواحدة وأقول هذا القول في غاية البعد لأن لفظة إذا تفيد الارتباط ولا تفيد التكرار والدليل عليه أن الرجل إذا قال لامرأته إذا دخلت الدار فأنت طالق فدخلت الدار مرة واحدة طلقت طلقة واحدة فإذا دخلت الدار ثانياً لم تطلق بالاتفاق لأن كلمة إِذَا لا تفيد التكرار
إذا ثبت هذا فنقول قوله وَإِذَا قُرِىء الْقُرْءانُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لا يفيد إلا وجوب الإنصات مرة واحدة فلما أوجبنا الاستماع عند قراءة القرآن في الخطبة فقد وفينا بموجب اللفظ ولم يبق في اللفظ دلالة على ما وراء هذه الصورة سلمنا أن اللفظ يفيد العموم إلا أنا نقول بموجب الآية وذلك لأن عند الشافعي رحمه الله يسكت الإمام وحينئذ يقرأ المأموم الفاتحة في حال سكتة الإمام كما قال أبو سلمة للإمام سكتتان فاغتنم القراءة في أيهما شئت وهذا السؤال أورده الواحدي في ( البسيط )
ولقائل أن يقول سكوت الإمام إما أن نقول إنه من الواجبات أو ليس من الواجبات والأول باطل بالإجماع والثاني يقتضي أن يجوز له أن لا يسكت فبتقدير أن لا يسكت يلزم أن تحصل قراءة المأموم مع قراءة الإمام وذلك يفضي إلى ترك الاستماع وإلى ترك السكوت عند قراءة الإمام وذلك على خلاف النص وأيضاً فهذا السكوت ليس له حد محدود ومقدار مخصوص والسكتة للمأمومين مختلفة بالثقل والخفة فربما لا يتمكن المأموم من إتمام قراءة الفاتحة في مقدار سكوت الإمام وحينئذ يلزم المحذور المذكور وأيضاً فالإمام إنما يبقى ساكتاً ليتمكن المأموم من إتمام القراءة وحينئذ ينقلب الإمام مأموماً والمأموم إماماً لأن الإمام في هذا السكوت يصير كالتابع للمأموم وذلك غير جائز فثبت أن هذا السؤال الذي أورده الواحدي غير جائز وذكر الواحدي سؤالاً ثانياً على التمسك بالآية فقال إن الإنصات هو ترك الجهر والعرب تسمي تارك الجهر منصتاً وإن كان يقرأ في نفسه إذا لم يسمع أحداً
ولقائل أن يقول إنه تعالى أمره أولاً بالاستماع واشتغاله بالقراءة يمنعه من الاستماع لأن السماع غير والاستماع غير فالاستماع عبارة عن كونه بحيث يحيط بذلك الكلام المسموع على الوجه الكامل قال تعالى لموسى عليه السلام وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى طه 13 ) والمراد ما ذكرناه وإذا ثبت هذا وظهر أن الاشتغال بالقراءة مما يمنع من الاستماع علمنا أن الأمر بالاستماع يفيد النهي عن القراءة
السؤال الثالث وهو المعتمد أن نقول الفقهاء أجمعوا على أنه يجوز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد فهب أن عموم قوله تعالى وَإِذَا قُرِىء الْقُرْءانُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ يوجب سكوت المأموم عند قراءة الإمام إلا أن قوله عليه الصلاة والسلام ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ) وقوله ( لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ) أخص من ذلك العموم وثبت أن تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد لازم فوجب المصير إلى تخصيص عموم هذه الآية بهذا الخبر وهذا السؤال حسن
والسؤال الرابع أن نقول مذهب مالك وهو القول القديم للشافعي أنه لا يجوز للمأموم أن يقرأ الفاتحة في الصلوات الجهرية عملاً بمقتضى هذا النص ويجب عليه القراءة في الصلوات السرية لأن هذه الآية لا دلالة فيها على هذه الحالة وهذا أيضاً سؤال حسن وفي الآية قول خامس وهو أن قوله تعالى

وَإِذَا قُرِىء الْقُرْءانُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ خطاب مع الكفار في ابتداء التبليغ وليس خطاباً مع المسلمين وهذا قول حسن مناسب وتقريره أن الله تعالى حكى قبل هذه الآية أن أقواماً من الكفار يطلبون آيات مخصوصة ومعجزات مخصوصة فإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام لا يأتيهم بها قالوا لولا اجتبيتها فأمر الله رسوله أن يقول جواباً عن كلامهم إنه ليس لي أن أقترح على ربي وليس لي إلا أن أنتظر الوحي ثم بين تعالى أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إنما ترك الإتيان بتلك المعجزات التي اقترحوها في صحة النبوة لأن القرآن معجزة تامة كافية في إثبات النبوة وعبر الله تعالى عن هذا المعنى بقوله هَاذَا بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَة ً لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( الأعراف 203 ) فلو قلنا إن قوله تعالى وَإِذَا قُرِىء الْقُرْءانُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ المراد منه قراءة المأموم خلف الإمام لم يحصل بين هذه الآية وبين ما قبلها تعلق بوجه من الوجوه وانقطع النظم وحصل فساد الترتيب وذلك لا يليق بكلام الله تعالى فوجب أن يكون المراد منه شيئاً آخر سوى هذا الوجه وتقريره أنه لما ادعى كون القرآن بصائر وهدى ورحمة من حيث إنه معجزة دالة على صدق محمد عليه الصلاة والسلام وكونه كذلك لا يظهر إلا بشرط مخصوص وهو أن النبي عليه الصلاة والسلام إذا قرأ القرآن على أولئك الكفار استمعوا له وأنصتوا حتى يقفوا على فصاحته ويحيطوا بما فيه من العلوم الكثيرة فحينئذ يظهر لهم كونه معجزاً دالاً على صدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فيستعينوا بهذا القرآن على طلب سائر المعجزات ويظهر لهم صدق قوله في صفة القرآن إنه بصائر وهدى ورحمة فثبت أنا إذا حملنا الآية على هذا الوجه استقام النظم وحصل الترتيب الحسن المفيد ولو حملنا الآية على منع المأموم من القراءة خلف الإمام فسد النظم واختل الترتيب فثبت أن حمله على ما ذكرناه أولى وإذا ثبت هذا ظهر أن قوله وَإِذَا قُرِىء الْقُرْءانُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ خطاب مع الكفار عند قراءة الرسول عليهم القرآن في معرض الاحتجاج بكونه معجزاً على صدق نبوته وعند هذا يسقط استدلال الخصوم بهذه الآية من كل الوجوه ومما يقوى أن حمل الآية على ما ذكرناه أولى وجوه
الوجه الأول أنه تعالى حكى عن الكفار أنهم قالوا لاَ تَسْمَعُواْ لِهَاذَا الْقُرْءانِ وَالْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ( فصلت 26 ) فلما حكى عنهم ذلك ناسب أن يأمرهم بالاستماع والسكوت حتى يمكنهم الوقوف على ما في القرآن من الوجوه الكثيرة البالغة إلى حد الإعجاز
والوجه الثاني أنه تعالى قال قبل هذه الآية هَاذَا بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَة ً لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فحكم تعالى بكون هذا القرآن رحمة للمؤمنين على سبيل القطع والجزم
ثم قال وَإِذَا قُرِىء الْقُرْءانُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ولو كان المخاطبون بقوله فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ هم المؤمنون لما قال لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ لأنه جزم تعالى قبل هذه الآية بكون القرآن رحمة للمؤمنين قطعاً فكيف يقول بعده من غير فصل لعل استماع القرآن يكون رحمة للمؤمنين أما إذا قلنا إن المخاطبين بقوله فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ هم الكافرون صح حينئذ قوله لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ لأن المعنى فاستمعوا له وأنصتوا فلعلكم تطلعون على ما فيه من دلائل الإعجاز فتؤمنوا بالرسول فتصيروا مرحومين فثبت أنا لو حملناه على ما قلناه حسن قوله لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ولو قلنا إن الخطاب خطاب مع المؤمنين لم يحسن ذكر لفظ ( لعل ) فيه فثبت أن حمل الآية على التأويل الذي ذكرناه أولى وحينئذ يسقط

استدلال الخصم به من كل الوجوه لأنا بينا بالدليل أن هذا الخطاب ما يتناول المؤمنين وإنما تناول الكفار في أول زمان تبليغ الوحي والدعوة
وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَة ً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالاٌّ صَالِ وَلاَ تَكُنْ مِّنَ الْغَافِلِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما قال وَإِذَا قُرِىء الْقُرْءانُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ ( الأعراف 204 ) اعلم أن قارئاً يقرأ القرآن بصوت عال حتى يمكنهم استماع القرآن ومعلوم أن ذلك القارىء ليس إلا الرسول عليه السلام فكانت هذه الآية جارية مجرى أمر الله محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بأن يقرأ القرآن على القوم بصوت عال رفيع وإنما أمره بذلك ليحصل المقصود من تبليغ الوحي والرسالة ثم إنه تعالى أردف ذلك الأمر بأن أمره في هذه الآية بأن يذكر ربه في نفسه والفائدة فيه أن انتفاع الإنسان بالذكر إنما يكمل إذا وقع الذكر بهذه الصفة لأنه بهذا الشرط أقرب إلى الأخلاص والتضرع
المسألة الثانية أنه تعالى أمر رسوله بالذكر مقيداً بقيود
القيد الأول وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ والمراد بذكر الله في نفسه كونه عارفاً بمعاني الأذكار التي يقولها بلسانه مستحضراً لصفات الكمال والعز والعلو والجلال والعظمة وذلك لأن الذكر باللسان إذا كان عارياً عن الذكر بالقلب كان عديم الفائدة ألا ترى أن الفقهاء أجمعوا على أن الرجل إذا قال بعت واشتريت مع أنه لا يعرف معاني هذه الألفاظ ولا يفهم منها شيئاً فإنه لا ينعقد البيع والشراء فكذا ههنا ويتفرع على ما ذكرنا أحكام
الحكم الأول
سمعت أن بعض الأكابر من أصحاب القلوب كان إذا أراد أن يأمر واحداً من المريدين بالخلوة والذكر أمره بالخلوة والتصفية أربعين يوماً ثم عند استكمال هذه المدة وحصول التصفية التامة يقرأ عليه الأسماء التسعة والتسعين ويقول لذلك المريد اعتبر حال قلبك عند سماع هذه الأسماء فكل اسم وجدت قلبه عند سماعه قوي تأثره وعظم شوقه فاعرف أن الله إنما يفتح أبواب المكاشفات عليك بواسطة المواظبة على ذكر ذلك الاسم بعينه وهذا طريق حسن لطيف في هذا الباب
الحكم الثاني
قال المتكلمون هذه الآية تدل على إثبات كلام النفس لأنه تعالى لما أمر رسوله بأن يذكر ربه في نفسه وجب الاعتراف بحصول الذكر النفساني ولا معنى لكلام النفس إلا ذلك

فإن قالوا لم لا يجوز أن يكون المراد من الذكر النفساني العلم والمعرفة
قلنا هذا باطل لأن الإنسان لا قدرة له على تحصيل العلم بالشيء ابتداء لأنه إما أن يطلبه حال حصوله أو حال عدم حصوله والأول باطل لأنه يقتضي تحصيل الحاصل وهو محال والثاني باطل لأن ما لا يكون متصوراً كان الذهن غافلاً عنه والغافل عن الشيء يمتنع كونه طالباً له فثبت أنه لا قدرة للإنسان على تحصيل التصورات فامتنع ورود الأمر به والآية دالة على ورود الأمر بالذكر النفساني فوجب أن يكون الذكر النفساني معنى مغايراً للمعرفة والعلم والتصور وذلك هو المطلوب
الحكم الثالث
أنه تعالى قال وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ ولم يقل واذكر إلهك ولا سائر الأسماء وإنما سماه في هذا المقام باسم كونه ربا وأضاف نفسه إليه وكل ذلك يدل على نهاية الرحمة والتقريب والفضل والإحسان والمقصود منه أن يصير العبد فرحاً مبتهجاً عند سماع هذا الاسم لأن لفظ الرب مشعر بالتربية والفضل وعند سماع هذا الاسم يتذكر العبد أقسام نعم الله عليه وبالحقيقة لا يصل عقله إلى أقل أقسامها كما قال تعالى وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا ( إبراهيم 34 ) فعند انكشاف هذا المقام في القلب يقوى الرجاء فإذا سمع بعد ذلك قوله تَضَرُّعًا وَخِيفَة ً عظم الخوف وحينئذ تحصل في القلب موجبات الرجاء وموجبات الخوف وعنده يكمل الإيمان على ما قال عليه السلام ( لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا ) إلا أن هنا دقيقة وهي أن سماع لفظ الرب يوجب الرجاء وسماع لفظ التضرع والخيفة يوجب الخوف فلما وقع الابتداء بما يوجب الرجاء علمنا أن جانب الرجاء أقوى
القيد الثاني من القيود المعتبرة في الذكر حصول التضرع وإليه الإشارة بقوله تعالى تَضَرُّعًا وهذا القيد معتبر ويدل عليه القرآن والمعقول أما القرآن فقوله في سورة الأنعام قُلْ مَن يُنَجّيكُمْ مّن ظُلُمَاتِ الْبَرّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَة ً ( الأنعام 63 ) وأما المعقول فلأن كمال حال الإنسان إنما يحصل بانكشاف أمرين أحدهما عزة الربوبية وهذا المقصود إنما يتم بقوله وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ الثاني بمشاهدة ذلة العبودية وذلك إنما يكمل بقوله تَضَرُّعًا فالانتقال من الذكر إلى التضرع يشبه النزول من المعراج والانتقال من التضرع إلى الذكر يشبه الصعود وبهما يتم معراج الأرواح القدسية وههنا بحث وهو أن معرفة الله من لوازمها التضرع والخوف والذكر القلبي يمتنع انفكاكه عن التضرع والخوف فما الفائدة في اعتبار هذا التضرع والخوف وأجيب عنه بأن المعرفة لا يلزمها التضرع والخوف على الإطلاق لأنه ربما استحكم في عقل الإنسان أنه تعالى لا يعاقب أحداً لأن ذلك العقاب إيذاء للغير ولا فائدة للحق فيه وإذا كان كذلك لا يعذب فإذا اعتقد هذا لم يكمل التضرع والخوف فلهذا السبب نص الله تعالى على أنه لا بد منه وأجيب عنه بأن الخوف على قسمين الأول خوف العقاب وهو مقام المبتدين والثاني خوف الجلال وهو مقام المحققين وهذا الخوف ممتنع الزوال وكل من كان أعرف بجلال الله كان هذا الخوف في قلبه أكمل وأجيب عن هذا الجواب بأن لأصحاب المكاشفات مقامين مكاشفة الجمال ومكاشفة الجلال فإذا كشفوا بالجمال عاشوا وإذا كوشفوا بالجلال طاشوا ولا بد في مقام الذكر من رعاية الجانبين

القيد الثالث قوله وَخِيفَة ً وفي قراءة أخرى وَخُفْيَة ً وقال الزجاج أصلها ( خوفة ) فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها أقول هذا الخوف يقع على وجوه أحدها خوف التقصير في الأعمال وثانيها خوف الخاتمة والمحققون خوفهم من السابقة لأنه إنما يظهر في الخاتمة ما سبق الحكم به في الفاتحة ولذلك كان عليه السلام يقول ( جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة ) وثالثها خوف أني كيف أقابل نعمة الله التي لا حصر لها ولا حد بطاعاتي الناقصة وأذكاري القاصرة وكان الشيخ أبو بكر الواسطي يقول الشكر شرك فسألوني عن هذه الكلمة فقلت لعل المراد والله أعلم أن من حاول مقابلة وجوه إحسان الله بشكره فقد أشرك لأن على هذا التقدير يصير كأن العبد يقول منك النعمة ومني الشكر ولا شك أن هذا شرك فأما إذا أتى بالشكر مع خوف التقصير ومع الاعتراف بالذل والخضوع فهناك يشم فيه رائحة العبودية
وأما القراءة الثانية وهو قوله وَخُفْيَة ً فالإخفاء في حق المبتدين يراد لصون الطاعات عن شوائب الرياء والسمعة وفي حق المنتهين المقربين منشؤه الغيرة وذلك لأن المحبة إذا استكملت أوجبت الغيرة فإذا كمل هذا التوغل وحصل الفناء وقع الذكر في حين الإخفاء بناء على قوله عليه السلام ( من عرف الله كل لسانه )
القيد الرابع قوله وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ والمراد منه أن يقع ذلك الذكر بحيث يكون متوسطاً بين الجهر والمخافتة كما قال تعالى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذالِكَ سَبِيلاً ( الإسراء 110 ) وقال عن زكريا عليه السلام إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً ( مريم 3 ) قال ابن عباس وتفسير قوله وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ المعنى أن يذكر ربه على وجه يسمع نفسه فإن المراد حصول الذكر اللساني والذكر اللساني إذا كان بحيث يسمع نفسه فإنه يتأثر الخيال من ذلك الذكر وتأثر الخيال يوجب قوة في الذكر القلبي الروحاني ولا يزال يتقوى كل واحد من هذه الأركان الثلاثة وتنعكس أنوار هذه الأذكار من بعضها إلى بعض وتصير هذه الانعكاسات سبباً لمزيد القوة والجلاء والانكشاف والترقي من حضيض ظلمات عالم الأجسام إلى أنوار مدبر النور والظلام
والقيد الخامس قوله بِالْغُدُوّ وَالاْصَالِ وههنا مسائل
المسألة الأولى في لفظ ( الغدو ) قولان
القول الأول أنه مصدر يقال غدوت أغدو غدواً غدوا ومنه قوله تعالى غُدُوُّهَا شَهْرٌ ( سبأ 12 ) أي غدوها للسير ثم سمى وقت الغدو غدواً كما يقال دنا الصباح أي وقته ودنا المساء أي وقته
القول الثاني أن يكون الغدو جمع غدوة قال الليث الغدو جمع مثل الغدوات وواحد الغدوات غدوة وأما الآصال فقال الفراء واحدها أصل وواحد الأصل الأصيل قال يقال جئناهم مؤصلين أي عند الآصال ويقال الأصيل مأخوذ من الأصل واليوم بليلته إنما يبتدأ بالشروع من أول الليل وآخر نهار كل يوم متصل بأول ليل اليوم الثاني فسمى آخر النهار أصيلاً لكونه ملاصقاً لما هو الأصل لليوم الثاني
المسألة الثانية خص الغدو والآصال بهذا الذكر والحكمة فيه أن عند الغدوة انقلب الإنسان من النوم الذي هو كالموت إلى اليقظة التي هي كالحياة والعالم انقلب من الظلمة التي هي طبيعة عدمية إلى النور

الذي هو طبيعة وجودية وأما عند الآصال فالأمر بالضد لأن الإنسان ينقلب فيه من الحياة إلى الموت والعالم ينقلب فيه من النور الخالص إلى الظلمة الخالصة وفي هذين الوقتين يحصل هذان النوعان من التغيير العجيب القوي القاهر ولا يقدر على مثل هذا التغيير إلا الإله الموصوف بالحكمة الباهرة والقدرة الغير المتناهية فلهذه الحكمة العجيبة خص الله تعالى هذين الوقتين بالأمر بالذكر ومن الناس من قال ذكر هذين الوقتين والمراد مداومة الذكر والمواظبة عليه بقدر الإمكان عن ابن عباس أنه قال في قوله الاْلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ ( الأعراف 191 ) لو حصل لابن آدم حالة رابعة سوى هذه الأحوال لأمر الله بالذكر عندها والمراد منه أنه تعالى أمر بالذكر على الدوام
والقيد السادس قوله تعالى وَلاَ تَكُنْ مّنَ الْغَافِلِينَ والمعنى أن قوله بِالْغُدُوّ وَالاْصَالِ دل على أنه يجب أن يكون الذكر حاصلاً في كل الأوقات وقوله وَلاَ تَكُنْ مّنَ الْغَافِلِينَ يدل على أن الذكر القلبي يجب أن يكون دائماً وأن لا يغفل الإنسان لحظة واحدة عن استحضار جلال الله وكبريائه بقدر الطاقة البشرية والقوة الإنسانية وتحقيق القول أن بين الروح وبين البدن علاقة عجيبة لأن كل أثر حصل في جوهر الروح نزل منه أثر إلى البدن وكل حالة حصلت في البدن صعدت منها نتائج إلى الروح ألا ترى أن الإنسان إذا تخيل الشيء الحامض ضرس سنه وإذا تخيل حالة مكروهة وغضب سخن بدنه فهذه آثار تنزل من الروح إلى البدن وأيضاً إذا واظب الإنسان على عمل من الأعمال وكرر مرات وكرات حصلت ملكة قوية راسخة في جوهر النفس فهذه آثار صعدت من البدن إلى النفس
إذا عرفت هذا فنقول إذا حضر الذكر اللساني بحيث يسمع نفسه حصل أثر من ذلك الذكر اللساني في الخيال ثم يصعد من ذلك الأثر الخيالي مزيد أنوار وجلايا إلى جوهر الروح ثم تنعكس من تلك الإشراقات الروحانية آثار زائدة إلى اللسان ومنه إلى الخيال ثم مرة أخرى إلى العقل ولا يزال تنعكس هذه الأنوار من هذه المرايا بعضها إلى بعض ويتقوى بعضها بعض ويستكمل بعضها ببعض ولما كان لا نهاية لتزايد أنوار المراتب لا جرم لا نهاية لسفر العارفين في هذه المقامات العالية القدسية وذلك بحر لا ساحل له ومطلوب لا نهاية له
واعلم أن قوله تعالى وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ وإن كان ظاهره خطاباً مع النبي عليه السلام إلا أنه عام في حق كل المكلفين ولكل أحد درجة مخصوصة ومرتبة معينة بحسب استعداد جوهر نفسه الناطقة كما قال في صفة الملائكة وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ ( الصافات 164 )
إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى لما رغب الله رسوله في الذكر وفي المواظبة عليه ذكر عقيبه ما يقوي دواعيه في ذلك فقال إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ والمعنى أن الملائكة مع نهاية شرفهم وغاية طهارتهم

وعصمتهم وبراءتهم عن بواعث الشهوة والغضب وحوادث الحقد والحسد لما كانوا مواظبين على العبودية والسجود والخضوع والخشوع فالإنسان مع كونه مبتلى بظلمات عالم الجسمانيات ومستعداً للذات البشرية والبواعث الإنسانية أولى بالمواظبة على الطاعة ولهذا السبب قال عيسى عليه السلام وَجَعَلَنِى مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِى ( مرين 31 ) وقال لمحمد عليه السلام وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ( الحجر 99 )
المسألة الثانية المشبهة تمسكوا بقوله إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبّكَ وقالوا لفظ عِندَ مشعر بالمكان والجهة
وجوابه أنا ذكرنا البراهين الكثيرة العقلية والنقلية في هذه السورة عند تفسير قوله ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ( الأعراف 54 يونس 3 ) على أنه يمتنع كونه تعالى حاصلاً في المكان والجهة
وإذا ثبت هذا فنقول وجب المصير إلى التأويل في هذه الآية وبيانه من وجوه
الوجه الأول أنه تعالى قال وَهُوَ مَعَكُمْ ولا شك أن هذه المعية بالفضل والرحمة لا بالجهة فكذا ههنا وأيضاً جاء في الأخبار الربانية أنه تعالى قال ( أنا عند المنكسرة قلوبهم لأجلي ) ولا خلاف أن هذه العندية ليست لأجل المكان والجهة فكذا ههنا
والوجه الثاني إن المراد القرب بالشرف يقال للوزير قربة عظيمة من الأمير وليس المراد منه القرب بالجهة لأن البواب والفراش يكون أقرب إلى الملك في الجهة والحيز والمكان من الوزير فعلمنا أن القرب المعتبر هو القرب بالشرف لا القرب بالجهة
والوجه الثالث أن هذا تشريف للملائكة بإضافتهم إلى الله من حيث إنه أسكنهم في المكان الذي كرمه وشرفه وجعله منزل الأنوار ومصعد الأرواح والطاعات والكرامات
والوجه الرابع إنما قال تعالى في صفة الملائكة الَّذِينَ عِندَ رَبّكَ لأنهم رسل الله إلى الخلق كما يقال إن عند الخليفة جيشاً عظيماً وإن كانوا متفرقين في البلد فكذا ههنا والله أعلم
المسألة الثانية تمسك أبو بكر الأصم رحمه الله بهذه الآية في إثبات أن الملائكة أفضل من البشر لأنه تعالى لما أمر رسوله بالعبادة والذكر قال إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ والمعنى فأنت أولى وأحق بالعبادة وهذا الكلام إنما يصح لو كانت الملائكة أفضل منه
المسألة الرابعة ذكر من طاعاتهم أولاً كونهم يسبحون وقد عرفت أن التسبيح عبارة عن تنزيه الله تعالى من كل سوء وذلك يرجع إلى المعارف والعلوم ثم لما ذكر التسبيح أردفه بذكر السجود وذلك يرجع إلى أعمال الجوارح وهذا الترتيب يدل على أن الأصل في الطاعة والعبودية أعمال القلوب ويتفرع عليها أعمال الجوارح وأيضاً قوله وَلَهُ يَسْجُدُونَ يفيد الحصر ومعناه أنهم لا يسجدون لغير الله
فإن قيل فكيف الجمع بينه وبين قوله تعالى فَسَجَدَ الْمَلَائِكَة ُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ( الحجر 30 ص 73 ) والمراد أنهم سجدوا لآدم
والجواب قال الشيخ الغزالي الذين سجدوا لآدم ملائكة الأرض فأما عظماء ملائكة السموات فلا

وقيل أيضاً إن قوله وَلَهُ يَسْجُدُونَ يفيدون أنهم ما سجدوا لغير الله فهذا يفيد العموم وقوله فسجدوا لآدم خاص والخاص مقدم على العام
واعلم أن الآيات الدالة على كون الملائكة مستغرقين في العبودية كثيرة كقوله تعالى حكاية عنهم وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبّحُونَ ( الصافات 165 166 ) وقوله وَتَرَى الْمَلَائِكَة َ حَافّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ ( الزمر 75 ) والله أعلم

سورة الأنفال
مدنية إلا من آية 30 إلى غاية 36 فمكية
وآياتها 75 نزلت بعد البقرة
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ
اعلم أن قوله وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الانفَالِ يقتضي البحث عن خمسة أشياء السائل والمسؤول وحقيقة النفل وكون ذلك السؤال عن أي الأحكام كان وإن المفسرين بأي شيء فسروا الأنفال
أما البحث الأول فهو أن السائلين من كانوا فنقول إن قوله يَسْأَلُونَكَ عَنِ الانفَالِ إخبار عمن لم يسبق ذكرهم وحسن ذلك ههنا لأن حالة النزول كان السائل عن هذا السؤال معلوماً معيناً فانصرف هذا اللفظ إليهم ولا شك أنهم كانوا أقواماً لهم تعلق بالغنائم والأنفال وهم أقوام من الصحابة
وأما البحث الثاني وهو أن المسؤول من كان فلا شك أنه هو النبي ( صلى الله عليه وسلم )
وأما البحث الثالث وهو أن الأنفال ما هي فنقول قال الزهري النفل والنافلة ما كان زيادة على الأصل وسميت الغنائم أنفالاً لأن المسلمين فضلوا بها على سائر الأمم الذين لم تحل لهم الغنائم وصلاة التطوع نافلة لأنها زيادة على الفرض الذي هو الأصل وقال تعالى وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَة ً ( الأنبياء 72 ) أي زيادة على ما سأل
وأما البحث الرابع وهو أن السؤال عن أي أحكام الأنفال كان فنقول فيه وجهان الأول لفظ السؤال وإن كان مبهماً إلا أن تعيين الجواب يدل على أن السؤال كان واقعاً عن ذلك المعين ونظيره

قوله تعالى وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ( البقرة 222 ) فِى الدُّنْيَا وَالاْخِرَة ِ ( البقرة 220 ) فعلم منه أنه سؤال عن حكم من أحكام المحيض واليتامى وذلك الحكم غير معين إلا أن الجواب كان معيناً لأنه تعالى قال في المحيض قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النّسَاء فِي الْمَحِيضِ ( البقرة 222 ) فدل هذا الجواب على أن ذلك السؤال كان سؤالاً عن مخالطة النساء في المحيض وقال في اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ ( البقرة 220 ) فدل هذا الجواب المعين على أن ذلك السؤال المعين كان واقعاً عن التصرف في مالهم ومخالطتهم في المواكلة وأيضاً قال تعالى وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ( الإسراء 85 ) وليس فيه ما يدل على أن ذلك السؤال عن أي الأحكام إلا أنه تعالى قال في الجواب قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى فدل هذا الجواب على أن ذلك السؤال كان عن كون الروح محدثاً أو قديماً فكذا ههنا لما قال في جواب السؤال عن الأنفال قُلِ الانفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ دل هذا على أنهم سألوه عن الأنفال كيف مصرفها ومن المستحق لها
والقول الثاني أن قوله يَسْأَلُونَكَ عَنِ الانفَالِ أي من الأنفال والمراد من هذا السؤال الاستعطاء على ما روي في الخبر أنهم كانوا يقولون يا رسول الله أعطني كذا أعطني كذا ولا يبعد إقامة عن مقام من هذا قول عكرمة وقرأ عبد الله يَسْأَلُونَكَ الانفَالِ
والبحث الخامس وهو شرح أقوال المفسرين في المراد بالأنفال فنقول إن الأنفال التي سألوا عنها يقتضي أن يكون قد وقع بينهم التنازع والتنافس فيها ويدل عليه وجوه الأول أن قوله قُلِ الانفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ يدل على أن المقصود من ذكر منع القوم عن المخاصمة والمنازعة وثانيها قوله فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ يدل على أنهم إنما سألوا عن ذلك بعد أن وقعت الخصومة بينهم وثالثها أن قوله وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ يدل على ذلك
إذا عرفت هذا فنقول يحتمل أن يكون المراد من هذه الأنفال الغنائم وهي الأموال المأخوذة من الكفار قهراً ويحتمل أن يكون المراد غيرها
أما الأول ففيه وجوه أحدها أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قسم ما غنموه يوم بدر على من حضر وعلى أقوام لم يحضروا أيضاً وهم ثلاثة من المهاجرين وخمسة من الأنصار فأما المهاجرون فأحدهم عثمان فإنه عليه السلام تركه على ابنته لأنها كانت مريضة وطلحة وسعيد بن زيد فإنه عليه السلام كان قد بعثهما للتجسس عن خبر العير وخرجا في طريق الشام وأما الخمسة من الأنصار فأحدهم أبو لبابة مروان بن عبد المنذر خلفه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على المدينة وعاصم خلفه على العالية والحرث بن حاطب رده من الروحاء إلى عمرو بن عوف لشيء بلغه عنه والحرث بن الصمة أصابته علة بالروحاء وخوات بن جبير فهؤلاء لم يحضروا وضرب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لهم في تلك الغنائم بسهم فوقه من غيرهم فيه منازعة فنزلت هذه الآية بسببها وثانيها روى أن يوم بدر الشبان قتلوا وأسروا والأشياخ وقفوا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في المصاف فقال الشبان الغنائم لنا لأنا قتلنا وهزمنا وقال الأشياخ كنا ردأ لكم ولو انهزمتهم لانحزتم إلينا فلا تذهبوا بالغنائم دوننا فوقعت المخاصمة بهذا السبب فنزلت الآية وثالثها قال الزجاج الأنفال الغنائم وإنما سألوا عنها لأنها كانت حراماً على من كان قبلهم وهذا الوجه ضعيف لأن على هذا التقدير يكون المقصود من هذا السؤال طلب حكم الله تعالى فقط وقد بينا بالدليل أن هذا السؤال كان مسبوقاً بالمنازعة والمخاصمة

وأما الاحتمال الثاني وهو أن يكون المراد من الأنفال شيئاً سوى الغنائم فعلى هذا التقدير في تفسير الأنفال أيضاً وجوه أحدها قال ابن عباس في بعض الروايات المراد من الأنفال ما شذ عن المشركين إلى المسلمين من غير قتال من دابة أو عبد أو متاع فهو إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يضعه حيث يشاء وثانيها الأنفال الخمس الذي يجعله الله لأهل الخمس وهو قول مجاهد قال فالقوم إنما سألوا عن الخمس فنزلت الآية وثالثها أن الأنفال هي السلب وهو الذي يدفع إلى الغازي زائداً على سهمه من الغنم ترغيباً له في القتال كما إذا قال الإمام ( من قتل قتيلاً فله سلبه ) أو قال لسرية ما أصبتم فهو لكم أو يقول فلكم نصفه أو ثلثه أو ربعه ولا يخمس النفل وعن سعد بن أبي وقاص أنه قال قتل أخي عمير يوم بدر فقتلت به سعد بن العاصي وأخذت سيفه فأعجبني فجئت به إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقلت إن الله تعالى قد شفى صدري من المشركين فهب لي هذا السيف فقال ( ليس هذا لي ولا لك أطرحه في الموضع الذي وضعت فيه الغنائم ) فطرحته وبي ما يعلمه الله من قتل أخي وأخذ سلبي فما جاوزت إلا قليلاً حتى جاءني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقد أنزلت سورة الأنفال فقال يا سعد ( إنك سألتني السيف وليس لي وإنه قد صار لي فخذه ) قال القاضي وكل هذه الوجوه تحتمله الآية وليس فيها دليل على ترجيح بعضها على بعض وإن صح في الأخبار ما يدل على التعين قضى به وإلا فالكل محتمل وكما أن كل واحد منها جائز فكذلك إرادة الجميع جائزة فإنه لا تناقض بينها والأقرب أن يكون المراد بذلك ماله عليه السلام أن ينفل غيره من جملة الغنيمة قبل حصولها وبعد حصولها لأنه يسوغ له تحريضاً على الجهاد وتقوية للنفوس كنحو ما كان ينفل واحداً في ابتداء المحاربة ليبالغ في الحرب أو عند الرجعة أو يعطيه سلب القاتل أو يرضخ لبعض الحاضرين وينفله من الخمس الذي كان عليه السلام يختص به وعلى هذا التقدير فيكون قوله قُلِ الانفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ المراد الأمر الزائد على ما كان مستحقاً للمجاهدين
أما قوله تعالى قُلِ الانفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ففيه بحثان
البحث الأول المراد منه أن حكمها مختص بالله والرسول يأمره الله بقسمتها على ما تقتضيه حكمته وليس الأمر في قسمتها مفوضاً إلى رأي أحد
البحث الثاني قال مجاهد وعكرمة والسدي إنها منسوخة بقوله فإن لله خمسه وللرسول وذلك لأن قوله قُلِ الانفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ يقتضي أن تكون الغنائم كلها للرسول فنسخها الله بآيات الخمس وهو قول ابن عباس في بعض الروايات وأجيب عنه من وجوه الأول أن قوله قُلِ الانفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ معناه أن الحكم فيها لله وللرسول وهذا المعنى باق فلا يمكن أن يصير منسوخاً ثم إنه تعالى حكم بأن يكون أربعة أخماسها ملكاً للغانمين الثاني أن آية الخمس تدل على كون الغنيمة ملكاً للغانمين والأنفال ههنا مفسرة لا بالغنائم بل بالسلب وإنما ينفله الرسول عليه السلام لبعض الناس لمصلحة من المصالح
ثم قال تعالى فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وفيه بحثان
البحث الأول معناه فاتقوا عقاب الله ولا تقدموا على معصية الله واتركوا المنازعة والمخاصمة بسبب هذه الأحوال وارضوا بما حكم به رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
البحث الثاني في قوله وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ أي وأصلحوا ذات بينكم من الأقوال ولما كانت

الأقوال واقعة في البين قيل لها ذات البين كما أن الأسرار لما كانت مضمرة في الصدور قيل لها ذات الصدور
ثم قال وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ والمعنى أنه تعالى نهاهم عن مخالفة حكم الرسول بقوله فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ ثم أكد ذلك بأن أمرهم بطاعة الرسول بقوله وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ثم بالغ في هذا التأكيد فقال إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ والمراد أن الإيمان الذي دعاكم الرسول إليه ورغبتم فيه لا يتم حصوله إلا بالتزام هذه الطاعة فاحذروا الخروج عنها واحتج من قال ترك الطاعة يوجب زوال الإيمان بهذه الآية وتقريره أن المعلق بكلمة إن على الشيء عدم عند عدم ذلك الشيء وههنا الإيمان معلق على الطاعة بكلمة ءانٍ فيلزم عدم الإيمان عند عدم الطاعة وتمام هذه المسألة مذكور في قوله تعالى إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ ( النساء 31 ) والله أعلم
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَواة َ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلائِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَة ٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ
اعلم أنه تعالى لما قال وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ واقتضى ذلك كون الإيمان مستلزماً للطاعة شرح ذلك في هذه الآية مزيد شرح وتفصيل وبين أن الإيمان لا يحصل إلا عند حصول هذه الطاعات فقال إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الآية واعلم أن هذه الآية تدل على أن الإيمان لا يحصل إلا عند حصول أمور خمسة الأول قوله الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ قال الواحدي يقال وجل يوجل وجلاً فهو وجل وأوجل إذا خاف قال الشاعر لعمرك ما أدري وإني لأوجل
على أينا تعدو المنية أول
والمراد أن المؤمن إنما يكون مؤمناً إذا كان خائفاً من الله ونظيره قوله تعالى تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ( الزمر 23 ) وقوله الَّذِينَ هُم مّنْ خَشْية ِ رَبّهِمْ مُّشْفِقُونَ ( المؤمنون 57 ) وقوله الَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ ( المؤمنون 2 ) وقال أصحاب الحقائق الخوف على قسمين خوف العقاب وخوف العظمة والجلال أما خوف العقاب فهو للعصاة وأما خوف الجلال والعظمة فهو لا يزول عن قلب أحد من المخلوقين سواء كان ملكاً مقرباً أو نبياً مرسلاً وذلك لأنه تعالى غني لذاته عن كل الموجودات وما سواه من الموجودات فمحتاجون إليه والمحتاج إذا حضر عند الملك الغني يهابه ويخافه وليست تلك الهيبة من العقاب بل مجرد علمه بكونه غنياً عنه وكونه محتاجاً إليه يوجب تلك المهابة وذلك الخوف

إذا عرفت هذا فنقول إن كان المراد من الوجل القسم الأول فذلك لا يحصل من مجرد ذكر الله وإنما يحصل من ذكر عقاب الله وهذا هو اللائق بهذا الموضع لأن المقصود من هذه الآية إلزام أصحاب بدر طاعة الله وطاعة الرسول في قسمة الأنفال وأما إن كان المراد من الوجل القسم الثاني فذلك لازم من مجرد ذكر الله ولا حاجة في الآية إلى الإضمار
فإن قيل إنه تعالى قال ههنا وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وقال في آية أخرى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ ( الرعد 28 ) فكيف الجمع بينهما وأيضاً قال في آية أخرى ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ( الزمر 23 ) قلنا الاطمئنان إنما يكون عن ثلج اليقين وشرح الصدر بمعرفة التوحيد والوجل إنما يكون من خوف العقوبة ولا منافاة بين هاتين الحالتين بل نقول هذان الوصفان اجتمعا في آية واحدة وهي قوله تعالى تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ( الزمر 23 ) والمعنى تقشعر الجلود من خوف عذاب الله ثم تلين جلودهم وقلوبهم عند رجاء ثواب الله
الصفة الثانية قوله تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وهو قكلوه وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَة ٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَاذِهِ إِيمَاناً ( التوبة 124 ) ثم فيه مسائل
المسألة الأولى زيادة الإيمان الذي هو التصديق على وجهين
الوجه الأول وهو الذي عليه عامة أهل العلم على ما حكاه الواحدي رحمه الله أن كل من كانت الدلائل عنده أكثر وأقوى كان أزيد إيماناً لأن عند حصول كثرة الدلائل وقوتها يزول الشك ويقوى اليقين وإليه الإشارة بقوله عليه السلام ( لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح ) يريد أن معرفته بالله أقوى
ولقائل أن يقول المراد من هذه الزيادة إما قوة الدليل أو كثرة الدلائل أما قوة الدليل فباطل وذلك لأن كل دليل فهو مركب لا محالة من مقدمات وتلك المقدمات إما أن يكون مجزوماً بها جزماً مانعاً من النقيض أو لا يكون فإن كان الجزم المانع من النقيض حاصلاً في كل المقدمات امتنع كون بعض الدلائل أقوى من بعض على هذا التفسير لأن الجزم المانع من النقيض لا يقبل التفاوت وأما إن كان الجزم المانع من النقيض غير حاصل إما في الكل أو في البعض فذلك لا يكون دليلاً بل أمارة والنتيجة الحاصلة منها لا تكون علماً بل ظناً فثبت بما ذكرنا أن حصول التفاوت في الدلائل بسبب القوة محال وأما حصول التفاوت بسبب كثرة الدلائل فالأمر كذلك لأن الجزم الحاصل بسبب الدليل الواحد إن كان مانعاً من النقيض فيمتنع أن يصير أقوى عند اجتماع الدلائل الكثيرة وإن كان غير مانع من النقيض لم يكن دليلاً بل كان أمارة ولم تكن النتيجة معلومة بل مظنونة فثبت أن هذا التأويل ضعيف
واعلم أنه يمكن أن يقال المراد من هذه الزيادة الدوام وعدم الدوام وذلك لأن بعض المستدلين لا يكون مستحضراً للدليل والمدلول إلا لحظة واحدة ومنهم من يكون مداوماً لتلك الحالة وبين هذين الطرفين أوساط مختلفة ومراتب متفاوتة وهو المراد من الزيادة
والوجه الثاني من زيادة التصديق أنهم يصدقون بكل ما يتلى عليهم من عند الله ولما كانت التكاليف متوالية في زمن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) متعاقبة فعند حدوث كل تكليف كانوا يزيدون تصديقاً وإقراراً ومن المعلوم أن من صدق إنساناً في شيئين كان تصديقه له أكثر من تصديق من صدقه في شيء واحد وقوله وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا

معناه أنهم كلما سمعوا آية جديدة أتوا بإقرار جديد فكان ذلك زيادة في الإيمان والتصديق وفي الآية وجه ثالث وهو أن كمال قدرة الله وحكمته إنما تعرف بواسطة آثار حكمة الله في مخلوقاته وهذا بحر لا ساحل له وكلما وقف عقل الإنسان على آثار حكمة الله في تخليق شيء آخر انتقل منه إلى طلب حكمة في تخليق شيء آخر فقد انتقل من مرتبة إلى مرتبة أخرى أعلى منها وأشرف وأكمل ولما كانت هذه المراتب لا نهاية لها لا جرم لا نهاية لمراتب التجلي والكشف والمعرفة
المسألة الثانية اختلفوا في أن الإيمان هل يقبل الزيادة والنقصان أم لا أما الذين قالوا الإيمان عبارة عن مجموع الاعتقاد والإقرار والعمل فقد احتجوا بهذه الآية من وجهين الأول أن قوله زَادَتْهُمْ إِيمَاناً يدل على أن الإيمان يقبل الزيادة ولو كان الإيمان عبارة عن المعرفة والإقرار لما قبل الزيادة والثاني أنه تعالى لما ذكر هذه الأمور الخمسة قال في الموصوفين بها أُوْلئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً وذلك يدل على أن كل تلك الخصال داخل في مسمى الإيمان وروي عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان ) واحتجوا بهذه الآية على أن الإيمان عبارة عن مجموع الأركان الثلاثة قالوا لأن الآية صريحة في أن الإيمان يقبل الزيادة والمعرفة والإقرار لا يقبلان التفاوت فوجب أن يكون الإيمان عبارة عن مجموع الإقرار والاعتقاد والعمل حتى أن بسبب دخول التفاوت في العمل يظهر التفاوت في الإيمان وهذا الاستدلال ضعيف لما بينا أن التفاوت بالدوام وعدم الدوام حاصل في الاعتقاد والإقرار وهذا القدر يكفي في حصول التفاوت في الإيمان والله أعلم
المسألة الثالثة قوله إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ ظاهره مشعر بأن تلك الآيات هي المؤثرة في حصول الزيادة في الإيمان وليس الأمر كذلك لأن نفس تلك الآيات لا توجب الزيادة بل إن كان ولا بد فالموجب هو سماع تلك الآيات أو معرفة تلك الآيات توجب زيادة في المعرفة والتصديق والله أعلم
الصفة الثالثة للمؤمنين قوله تعالى وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ واعلم أن صفة المؤمنين أن يكونوا واثقين بالصدق في وعده ووعيده وأن يقولوا صدق الله ورسوله وأن لا يكون قولهم كقول المنافقين مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً ( الأحزاب 12 ) ثم نقول هذا الكلام يفيد الحصر ومعناه أنهم لا يتوكلون إلا على ربهم وهذه الحالة مرتبة عالية ودرجة شريفة وهي أن الإنسان بحيث يصير لا يبقي له اعتماد في أمر من الأمور إلا على الله
واعلم أن هذه الصفات الثلاثة مرتبة على أحسن جهات الترتيب فإن المرتبة الأولى هي الوجل من عقاب الله
والمرتبة الثانية هي الانقياد لمقامات التكاليف لله
والمرتبة الثالثة هي الانقطاع بالكلية عما سوى الله والاعتماد بالكلية على فضل الله بل الغنى بالكلية عما سوى الله تعالى
والصفة الرابعة والخامسة قوله الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَواة َ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ واعلم أن المراتب

الثلاثة المتقدمة أحوال معتبرة في القلوب والبواطن ثم انتقل منها إلى رعاية أحوال الظاهر ورأس الطاعات المعتبرة في الظاهر ورئيسها بذل النفس في الصلاة وبذل المال في مرضاة الله ويدخل فيه الزكوات والصدقات والصلاة والإنفاق في الجهاد والإنفاق على المساجد والقناطر قالت المعتزلة إنه تعالى مدح من ينفق ما رزقه الله وأجمعت الأمة على أنه لا يجوز الإنفاق من الحرام وذلك يدل على أن الحرام لا يكون رزقاً وقد سبق ذكر هذا الكلام مراراً
واعلم أن الله تعالى لما ذكر هذه الصفات الخمس أثبت للموصوفين بها أموراً ثلاثة الأول قوله أُوْلئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله حَقّاً بماذا يتصل فيه قولان أحدهما بقوله هُمُ الْمُؤْمِنُونَ أي هم المؤمنون بالحقيقة والثاني أنه تم الكلام عند قوله أُوْلئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ ثم ابتدأ وقال حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ
المسألة الثانية ذكروا في انتصاب حَقّاً وجوهاً الأول قال الفراء التقدير أخبركم بذلك حقاً أي أخباراً حقاً ونظيره قوله أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً ( النساء 151 ) والثاني قال سيبويه إنه مصدر مؤكد لفعل محذوف يدل عليه الكلام والتقدير وإن الذي فعلوه كان حقاً صدقاً الثالث قال الزجاج التقدير أولئك هم المؤمنون أحق ذلك حقاً
المسألة الثالثة اتفقوا على أنه يجوز للمؤمن أن يقول أنا مؤمن واختلفوا في أنه هل يجوز للرجل أن يقول أنا مؤمن حقاً أم لا فقال أصحاب الشافعي الأولى أن يقول الرجل أنا مؤمن إن شاء الله ولا يقول أنا مؤمن حقاً وقال أصحاب أبي حنيفة رحمه الله الأولى أن يقول أنا مؤمن حقاً ولا يجوز أن يقول أنا مؤمن إن شاء الله أما الذين قالوا إنه يقول أنا مؤمن إن شاء الله فلهم فيه مقامان
المقام الأول أن يكون ذلك لأجل حصول الشك في حصول الإيمان
المقام الثاني أن لا يكون الأمر كذلك أما المقام الأول فتقريره أن الإيمان عند الشافعي رضي الله عنه عبارة عن مجموع الاعتقاد والإقرار والعمل ولا شك أن كون الإنسان آتياً بالأعمال الصالحة أمر مشكوك فيه والشك في أحد أجزاء الماهية يوجب الشك في حصول تلك الماهية فالإنسان وإن كان جازماً بحصول الاعتقاد والإقرار إلا أنه لما كان شاكاً في حصول العمل كان هذا القدر يوجب كونه شاكاً في حصول الإيمان وأما عند أبي حنيفة رحمه الله فلما كان الإيمان اسماً للاعتقاد والقول وكان العمل خارجاً عن مسمى الإيمان لم يلزم من الشك في حصول الأعمال الشك في الإيمان فثبت أن من قال إن الإيمان عبارة عن مجموع الأمور الثلاثة يلزمه وقوع الشك في الإيمان ومن قال العمل خارج عن مسمى الإيمان يلزمه نفي الشك عن الإيمان وعند هذا ظهر أن الخلاف ليس إلا في اللفظ فقط وأما المقام الثاني وهو أن نقول إن قوله أنا مؤمن إن شاء الله ليس لأجل الشك فيه وجوه الأول أن كون الرجل مؤمناً أشرف صفاته وأعرف نعوته وأحواله فإذا قال أنا مؤمن فكأنه مدح نفسه بأعظم المدائح فوجب أن يقول إن شاء الله ليصير هذا سبباً لحصول الانكسار في القلب وزوال العجب روي أن أبا حنيفة رحمه الله قال لقتادة لم تستثني في إيمانك قال اتباعاً لإبراهيم عليه السلام في قوله وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِينِ ( الشعراء 82 )

فقال أبو حنيفة رحمه الله هلا اقتديت به في قوله أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى ( البقرة 260 ) وأقول كان لقتادة أن يجيب ويقول إنه بعد أن قال بَلَى قال وَلَاكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى فطلب مزيد الطمأنينة وهذا يدل على أنه لا بد من قول إن شاء الله الثاني أنه تعالى ذكر في هذه الآية أن الرجل لا يكون مؤمناً إلا إذا كان موصوفاً بالصفات الخمسة وهي الخوف من الله والإخلاص في دين الله والتوكل على الله والإتيان بالصلاة والزكاة لوجه الله تعالى وذكر في أول الآية ما يدل على الحصر وهو قوله إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هم كذا وكذا وذكر في آخر الآية قوله أُوْلئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً وهذا أيضاً يفيد الحصر فلما دلت هذه الآية على هذا المعنى ثم إن الإنسان لا يمكنه القطع على نفسه بحصول هذه الصفات الخمس لا جرم كان الأولى أن يقول إن شاء الله روى أن الحسن سأله رجل وقال أمؤمن أنت فقال الإيمان إيمانان فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فأنا مؤمن وإن كنت تسألني عن قوله إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ فوالله لا أدري أمنهم أنا أم لا الثالث أن القرآن العظيم دل على أن كل من كان مؤمناً كان من أهل الجنة فالقطع بكونه مؤمناً يوجب القطع بكونه من أهل الجنة وذلك لا سبيل إليه فكذا هذا ونقل عن الثوري أنه قال من زعم أنه مؤمن بالله حقاً ثم لم يشهد بأنه من أهل الجنة فقد آمن بنصف الآية والمقصود أنه كما لا سبيل إلى القطع بأنه من أهل الجنة فكذلك لا سبيل إلى القطع بأنه مؤمن الرابع أن الإيمان عبارة عن التصديق بالقلب وعن المعرفة وعلى هذا فالرجل إنما يكون مؤمناً في الحقيقة عند ما يكون هذا التصديق وهذه المعرفة حاصلة في القلب حاضرة في الخاطر فأما عند زوال هذا المعنى فهو إنما يكون مؤمناً بحسب حكم الله أما في نفس الأمر فلا
إذا عرفت هذا لم يبعد أن يكون المراد بقوله إن شاء الله عائداً إلى استدامة مسمى الإيمان واستحضار معناه أبداً دائماً من غير حصول ذهول وغفلة عنه وهذا المعنى محتمل الخامس أن أصحاب الموافاة يقولون شرط كونه مؤمناً في الحال حصول الموافاة على الإيمان وهذا الشرط لا يحصل إلا عند الموت ويكون مجهولاً والموقوف على المجهول مجهول فلهذا السبب حسن أن يقال أنا مؤمن إن شاء الله السادس أن يقول أنا مؤمن إن شاء الله عند الموت والمراد صرف هذا الاستثناء إلى الخاتمة والعاقبة فإن الرجل وإن كان مؤمناً في الحال إلا أن بتقدير أن لا يبقى ذلك الإيمان في العاقبة كان وجوده كعدمه ولم تحصل فائدة أصلاً فكان المقصود من ذكر هذا الاستثناء هذا المعنى السابع أن ذكر هذه الكلمة لا ينافي حصول الجزم والقطع ألا ترى أنه تعالى قال لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ ءامِنِينَ ( الفتح 27 ) وهو تعالى منزه عن الشك والريب فثبت أنه تعالى إنما ذكر ذلك تعليماً منه لعباده هذا المعنى فكذا ههنا الأولى ذكر هذه الكلمة الدالة على تفويض الأمور إلى الله حتى يحصل ببركة هذه الكلمة دوام الإيمان الثامن أن جماعة من السلف ذكروا هذه الكلمة ورأينا لهم ما يقويه في كتاب الله وهو قوله تعالى أُوْلئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً وهم المؤمنون في علم الله وفي حكمه وذلك يدل على وجود جمع يكونون مؤمنين وعلى وجود جمع لا يكونون كذلك فالمؤمن يقول إن شاء الله حتى يجعله الله ببركة هذه الكلمة من القسم الأول لا من القسم الثاني أما القائلون أنه لا يجوز ذكر هذه الكلمة فقد احتجوا على صحة قولهم بوجوه الأول أن المتحرك يجوز أن يقول أنا متحرك ولا يجوز أن يقول أنا

متحرك إن شاء الله وكذا القول في القائم والقاعد فكذا ههنا وجب أن يكون المؤمن مؤمناً ولا يجوز أن يقول أنا مؤمن إن شاء الله وكما أن خروج الجسم عن كونه متحركاً في المستقبل لا يمنع من الحكم عليه بكونه متحركاً حال قيام الحركة به فكذلك احتمال زوال الإيمان في المستقبل لا يقدح في كونه مؤمناً في الحال الثاني أنه تعالى قال أُوْلئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً فقد حكم تعالى عليهم بكونهم مؤمنين حقاً فكان قوله إن شاء الله يوجب الشك فيما قطع الله عليه بالحصول وذلك لا يجوز
والجواب عن الأول أن الفرق بين وصف الإنسان بكونه مؤمناً وبين وصفه بكونه متحركاً حاصل من الوجوه الكثيرة التي ذكرناها وعند حصول الفرق يتعذر الجمع وعن الثاني أنه تعالى حكم على الموصوفين بالصفات المذكورة بكونهم مؤمنين حقاً وذلك الشرط مشكوك فيه والشك في الشرط يوجب الشك في المشروط فهذا يقوي عين مذهبنا والله أعلم
الحكم الثاني
من الأحكام التي أثبتها الله تعالى للموصوفين بالصفات الخمسة قوله تعالى لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبّهِمْ والمعنى لهم مراتب بعضها أعلى من بعض
واعلم أن الصفات المذكورة قسمان الثلاثة الأول هي الصفات القلبية والأحوال الروحانية وهي الخوف والإخلاص والتوكل والاثنتان الأخيرتان هما الأعمال الظاهرة والأخلاق ولا شك أن لهذه الأعمال والأخلاق تأثيرات في تصفية القلب وفي تنويره بالمعارف الإلهية ولا شك أن المؤثر كلما كان أقوى كانت الآثار أقوى وبالضد فلما كانت هذه الأخلاق والأعمال لها درجات ومراتب كانت المعارف أيضاً لها درجات ومراتب وذلك هو المراد من قوله لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبّهِمْ والثواب الحاصل في الجنة أيضاً مقدر بمقدار هذه الأحوال فثبت أن مراتب السعادات الروحانية قبل الموت وبعد الموت ومراتب السعادات الحاصلة في الجنة كثيرة ومختلفة فلهذا المعنى قال لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبّهِمْ
فإن قيل أليس أن المفضول إذا علم حصول الدرجات العالية للفاضل وحرمانه عنها فإنه يتألم قلبه ويتنغص عيشه وذلك مخل بكون الثواب رزقاً كريماً
والجواب أن استغراق كل واحد في سعادته الخاصة به تمنعه من حصول الحقد والحسد وبالجملة فأحوال الآخرة لا تناسب أحوال الدنيا إلا بالاسم
الحكم الثالث والرابع
أن قوله وَمَغْفِرَة ٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ المراد من المغفرة أن يتجاوز الله عن سيئاتهم ومن الرزق الكريم نعيم الجنة قال المتكلمون أما كونه رزقاً كريماً فهو إشارة إلى كون تلك المنافع خالصة دائمة مقرونة بالأكرام والتعظيم ومجموع ذلك هو حد الثواب وقال العارفون المراد من المغفرة إزالة الظلمات الحاصلة بسبب الاشتغال بغير الله ومن الرزق الكريم الأنوار الحاصلة بسبب الاستغراق في معرفة الله ومحبته قال الواحدي قال أهل اللغة الكريم اسم جامع لكل ما يحمد ويستحسن والكريم المحمود فيما يحتاج إليه والله تعالى موصوف بأنه كريم والقرآن موصوف بأنه كريم قال تعالى إِنّى أُلْقِى َ إِلَى َّ كِتَابٌ كَرِيمٌ ( النمل 29 ) وقال مِن كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ( الشعراء 7 لقمان 10 ) وقال وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً ( النساء 31 ) وقال وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا ( الإسراء 23 )

فالرزق الكريم هو الشريف الفاضل الحسن وقال هشام بن عروة يعني ما أعد الله لهم في الجنة من لذيذ المآكل والمشارب وهناء العيش وأقول يجب ههنا أن نبين أن اللذات الروحانية أكمل من اللذات الجسمانية وقد ذكرنا هذا المعنى في هذا الكتاب في مواضع كثيرة وعند هذا يظهر أن الرزق الكريم هو اللذات الروحانية وهي معرفة الله ومحبته والاستغراق في عبوديته
فإن قال قائل ظاهر الآية يدل على أن الموصوف بالأمور الخمسة محكوم عليه بالنجاة من العقاب وبالفوز بالثواب وذلك يقتضي أن لا تكليف على العبد فيما سوى هذه الخمسة وذلك باطل بإجماع المسلمين لأنه لا بد من الصوم والحج وأداء سائر الواجبات
قلنا إنه تعالى بدأ بقوله الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءايَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وجميع التكاليف داخل تحت هذين الكلامين إلا أنه تعالى خص من الصفات الباطنة التوكل بالذكر على التعيين ومن الأعمال الظاهرة الصلاة والزكاة على التعيين تنبيهاً على أن أشرف الأحوال الباطنة التوكل وأشرف الأعمال الظاهرة الصلاة والزكاة
كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَِّرِهُونَ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن قوله كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ يقتضي تشبيه شيء بهذا الإخراج وذكروا فيه وجوهاً الأول أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما رأى كثرة المشركين يوم بدر وقلة المسلمين قال ( من قتل قتيلاً فله سلبه ومن أسر أسيراً فله كذا وكذا ) ليرغبهم في القتال فلما انهزم المشركون قال سعد بن عبادة يا رسول الله إن جماعة من أصحابك وقومك فدوك بأنفسهم ولم يتأخروا عن القتال جبناً ولا بخلاً ببذل مهجهم ولكنهم أشفقوا عليك من أن تغتال فمتى أعطيت هؤلاء ما سميته لهم بقي خلق من المسلمين بغير شيء فأنزل الله تعالى يَسْأَلُونَكَ عَنِ الانفَالِ قُلِ الانفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ يصنع فيها ما يشاء فأمسك المسلمون عن الطلب وفي أنفس بعضهم شيء من الكراهية وأيضاً حين خرج الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إلى القتال يوم بدر كانوا كارهين لتلك المقاتلة على ما سنشرح حالة تلك الكراهية فلما قال تعالى قُلِ الانفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ كان التقدير أنهم رضوا بهذا الحكم في الأنفال وإن كانوا كارهين له كما أخرجك ربك من بيتك بالحق إلى القتال وإن كانوا كارهين له وهذا الوجه أحسن الوجوه المذكورة هنا الثاني أن يكون التقدير ثبت الحكم بأن الأنفال لله وإن كرهوه كما ثبت حكم الله بإخراجك إلى القتال وإن كرهوه الثالث لما قال أُوْلئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً كان التقدير أن الحكم بكونهم مؤمنين حق كما أن حكم الله بإخراجك من بيتك للقتال حق الرابع قال الكسائي ( الكاف ) متعلق بما بعده وهو قوله يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقّ والتقدير كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقّ

على كره فريق من المؤمنين كذلك هم يكرهون القتال ويجادلونك فيه والله أعلم
المسألة الثانية قوله مِن بَيْتِكَ يريد بيته بالمدينة أو المدينة نفسها لأنها موضع هجرته وسكناه بالحق أي إخراجاً متلبساً بالحكمة والصواب وَإِنَّ فَرِيقاً مّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَِّرِهُونَ في محل الحال أي أخرجك في حال كراهيتهم روي أن عير قريش أقبلت من الشام وفيها أموال كثيرة ومعها أربعون راكباً منهم أبو سفيان وعمرو بن العاص وأقوام آخرون فأخبر جبريل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأخبر المسلمين فأعجبهم تلقي العير لكثرة الخير وقلة القوم فلما أزمعوا وخرجوا بلغ أهل مكة خبر خروجهم فنادى أبو جهل فوق الكعبة يا أهل مكة النجاء النجاء على كل صعب وذلولا إن أخذ محمد عيركم لن تفلحوا أبداً وقد رأت أخت العباس بن عبد المطلب رؤيا فقالت لأخيها إني رأيت عجباً رأيت كأن ملكاً نزل من السماء فأخذ صخرة من الجبل ثم حلق بها فلم يبق بيت من بيوت مكة إلا أصابه حجر من تلك الصخرة فحدث بها العباس فقال أبو جهل ما ترضى رجالهم بالنبوة حتى ادعى نساؤهم النبوة ا فخرج أبو جهل بجميع أهل مكة وهم النفير وفي المثل السائر لا في العير ولا في النفير فقيل له العير أخذت طريق الساحل ونجت فارجع إلى مكة بالناس فقال لا والله لا يكون ذلك أبداً حتى ننحر الجزور ونشرب الخمور وتغني القينات والمعازف ببدر فتتسامع جميع العرب بخروجنا وإن محمداً لم يصب العير فمضى إلى بدر بالقوم وبدر كانت العرب تجتمع فيه لسوقهم يوماً في السنة فنزل جبريل وقال يا محمد إن الله وعدكم إحدى الطائفتين إما العير وإما النفير من قريش واستشار النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أصحابه فقال ( ما تقولون إن القوم خرجوا من مكة على كل صعب وذلول فالعير أحب إليكم أم النفير قالوا بل العير أحب إلينا من لقاء العدو فتغير وجه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال إن العير قد مضت على ساحل البحر وهذا أبو جهل قد أقبل فقالوا يا رسول الله عليك بالعير ودع العدو فقام عند غضب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أبو بكر وعمر فأحسنا ثم قام سعد بن عبادة فقال امض إلى ما أمرك الله به فإنا معك حيثما أردت فوالله لو سرت إلى عدن لما تخلف عنك رجل من الأنصار ثم قال المقداد بن عمرو يا رسول الله امض إلى ما أمرك الله به فإنا معك حيثما أردت لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى اذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ( المائدة 24 ) ولكنا نقول اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ما دامت منا عين تطرف فضحك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثم قال ( سيروا على بركة الله والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم ) ولما فرغ رسول الله من بدر قال بعضهم عليك بالعير فناداه العباس وهو في وثاقه لا يصلح فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لم قال لأن الله وعدك إحدى الطائفتين وقد أعطاك ما وعدك
إذا عرفت هذه القصة فنقول كانت كراهية القتال حاصلة لبعضهم لا لكلهم بدليل قوله تعالى وَإِنَّ فَرِيقاً مّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَِّرِهُونَ والحق الذي جادلوا فيه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تلقى النفير لإيثارهم العير وقوله بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ المراد منه إعلام رسول الله بأنهم ينصرون وجدالهم قولهم ما كان خروجنا إلا للعير وهلا قلت لنا لنستعد ونتأهب للقتال وذلك لأنهم كانوا يكرهون القتال ثم إنه تعالى شبه حالهم في فرط فزعهم ورعبهم بحال من يجر إلى القتل ويساق إلى الموت وهو شاهد لأسبابه ناظر إلى موجباته وبالجملة فقوله وَهُمْ يَنظُرُونَ كناية عن الجزم والقطع ومنه قوله عليه السلام ( من نفى ابنه وهو ينطر إليه ) أي يعلم أنه ابنه وقوله تعالى يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ( النبأ 40 ) أي يعلم

واعلم أنه كان خوفهم لأمور أحدها قلة العدد وثانيها أنهم كانوا رجالة روي أنه ما كان فيهم إلا فارسان وثالثها قلة السلاح
المسألة الثالثة روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) إنما خرج من بيته باختيار نفسه ثم إنه تعالى أضاف ذلك الخروج إلى نفسه فقال كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقّ وهذا يدل على أن فعل العبد بخلق الله تعالى إما ابتداء أو بواسطة القدرة والداعية اللذين مجموعهما يوجب الفعل كما هو قولنا قال القاضي معناه أنه حصل ذلك الخروج بأمر الله تعالى وإلزامه فأضيف إليه
قلنا لا شك أن ما ذكرتموه مجاز والأصل حمل الكلام على حقيقته
وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَة ِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ
اعلم أن قوله إِذْ منصوب بإضمار اذكر أنها لكم بدل من إحدى الطائفتين قال الفراء والزجاج ومثله قوله تعالى هَلُ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَة َ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَة ً ( الزخرف 66 ) وَأَنْ في موضع نصب كما نصب الساعة وقوله أيضاً وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن ( الفتح 25 ) حَمِيمٍ ءانٍ في موضع رفع بلولاً والطائفتان العير والنفير وغير ذات الشوكة العير لأنه لم يكن فيها إلا أربعون فارساً والشوكة كانت في النفير لعددهم وعدتهم والشوكة الحدة مستعارة من واحدة الشوك ويقال شوك القنا لسنانها ومنه قولهم شاكي السلاح أي تتمنون أن يكون لكم العير لأنها الطائفة التي لا حدة لها ولا شدة ولا تريدون الطائفة الأخرى ولكن الله أراد التوجه إلى الطائفة الأخرى ليحق الحق بكلماته وفيه سؤالات
السؤال الأول أليس أن قوله يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ ثم قوله بعد ذلك لِيُحِقَّ الْحَقَّ تكرير محض
والجواب ليس ههنا تكرير لأن المراد بالأول سبب ما وعد به في هذه الواقعة من النصر والظفر بالأعداء والمراد بالثاني تقوية القرآن والدين ونصرة هذه الشريعة لأن الذي وقع من المؤمنين يوم بدر بالكافرين كان سبباً لعزة الدين وقوته ولهذا السبب قرنه بقوله وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ الذي هو الشرك ولك في مقابلة الْحَقّ الذي هو الدين والإيمان
السؤال الثاني الحق حق لذاته والباطل باطل لذاته وما ثبت للشيء لذاته فإنه يمتنع تحصيله بجعل جاعل وفعل فاعل فما المراد من تحقيق الحق وإبطال الباطل

والجواب المراد من تحقيق الحق وإبطال الباطل بإظهار كون ذلك الحق حقاً وإظهار كون ذلك الباطل باطلاً وذلك تارة يكون بإظهار الدلائل والبينات وتارة بتقوية رؤساء الحق وقهر رؤوساء الباطل
واعلم أن أصحابنا تمسكوا في مسألة خلق الأفعال بقوله تعالى لِيُحِقَّ الْحَقَّ قالوا وجب حمله على أنه يوجد الحق ويكونه والحق ليس إلا الدين والاعتقاد فدل هذا على أن الاعتقاد الحق لا يحصل إلا بتكوين الله تعالى قالوا ولا يمكن حمل تحقيق الحق على إظهار آثاره لأن ذلك الظهور حصل بفعل العباد فامتنع أيضاً إضافة ذلك الإظهار إلى الله تعالى ولا يمكن أن يقال المراد من إظهاره وضع الدلائل عليها لأن هذا المعنى حاصل بالنسبة إلى الكافر وإلى المسلم وقبل هذه الواقعة وبعدها فلا يحصل لتخصيص هذه الواقعة بهذا المعنى فائدة أصلاً
واعلم أن المعتزلة أيضاً تمسكوا بعين هذه الآية على صحة مذهبهم فقالوا هذه الآية تدل على أنه لا يريد تحقيق الباطل وإبطال الحق البتة بل إنه تعالى أبداً يريد تحقيق الحق وإبطال الباطل وذلك يبطل قول من يقول إنه لا باطل ولا كفر إلا والله تعالى مريد له
وأجاب أصحابنا بأنه ثبت في أصول الفقه أن المفرد المحلى بالألف واللام ينصرف إلى المعهود السابق فهذه الآية دلت على أنه تعالى أراد تحقيق الحق وإبطال الباطل في هذه الصورة فلم قلتم إن الأمر كذلك في جميع الصور بل قد بينا بالدليل أن هذه الآية تدل على صحة قولنا
أما قوله وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ فالدابر الآخر فاعل من دبر إذا أدبر ومنه دابرة الطائر وقطع الدابر عبارة عن الاستئصال والمراد أنكم تريدون العير للفوز بالمال والله تعالى يريد أن تتوجهوا إلى النفير لما فيه من إعلاء الدين الحق واستئصال الكافرين
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَة ِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أنه يحق الحق ويبطل الباطل بين أنه تعالى نصرهم عند الاستغاثة وفيه مسائل
المسألة الأولى يجوز أن يكون العامل في إِذْ هو قوله وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ فتكون الآية متصلة بما قبلها ويجوز أن تكون الآية مستأنفة على تقدير واذكروا إذ تستغيثون
المسألة الثانية في قوله إِذْ تَسْتَغِيثُونَ قولان
القول الأول أن هذه الاستغاثة كانت من الرسول عليه السلام قال ابن عباس حدثني عمر بن الخطاب قال لما كان يوم بدر ونظر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى المشركين وهم ألف وإلى أصحابه وهم ثلثمائة

ونيف استقبل القبلة ومد يده وهو يقول ( اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض ) ولم يزل كذلك حتى سقط رداؤه ورده أبو بكر ثم التزمه ثم قال كفاك يا نبي الله مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك فنزلت هذه الآية ولما اصطفت القوم قال أبو جهل اللهم أولانا بالحق فانصره ورفع رسول الله يده بالدعاء المذكور
القول الثاني أن هذه الاستغاثة كانت من جماعة المؤمنين لأن الوجه الذي لأجله أقدم الرسول على الاستغاثة كان حاصلاً فيهم بل خوفهم كان أشد من خوف الرسول فالأقرب أنه دعا عليه السلام وتضرع على ما روي والقوم كانوا يؤمنون على دعائه تابعين له في الدعاء في أنفسهم فنقل دعاء رسول الله لأنه رفع بذلك الدعاء صوته ولم ينقل دعاء القوم فهذا هو طريق الجمع بين الروايات المختلفة في هذا الباب
المسألة الثالثة قوله إِذْ تَسْتَغِيثُونَ أي تطلبون الإغاثة يقول الواقع في بلية أغثني أي فرج عني
واعلم أنه تعالى لما حكى عنهم الاستغاثة بين أنه تعالى إجابهم وقال أَنّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مّنَ الْمَلَئِكَة ِ مُرْدِفِينَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله أَنّي مُمِدُّكُمْ أصله بأني ممدكم فحذف الجار وسلط عليه استجاب فنصب محله وعن أبي عمرو أنه قرأ أَنّي مُمِدُّكُمْ بالكسر على إرادة القول أو على إجراء استجاب مجرى قال لأن الاستجابة من القول
المسألة الثانية قرأ نافع وأبو بكر عن عاصم مُرْدِفِينَ بفتح الدال والباقون بكسرها قال الفراء مُرْدِفِينَ أي متتابعين يأتي بعضهم في أثر بعض كالقوم الذين أردفوا على الدواب و مُرْدِفِينَ أي فعل بهم ذلك ومعناه أنه تعالى أردف المسلمين وأيدهم بهم
المسألة الثالثة اختلفوا في أن الملائكة هل قاتلوا يوم بدر فقال قوم نزل جبريل عليه السلام في خمسمائة ملك على الميمنة وفيها أبو بكر وميكائيل في خمسمائة على الميسرة وفيها علي بن أبي طالب في صورة الرجال عليهم ثيابهم بيض وقاتلوا وقيل قاتلوا يوم بدر ولم يقاتلوا يوم الأحزاب ويوم حنين وعن أبي جهل أنه قال لابن مسعود من أين كان الصوت الذي كنا نسمع ولا نرى شخصاً قال هو من الملائكة فقال أبو جهل هم غلبونا لا أنتم وروى أن رجلاً من المسلمين بينما هو يشتد في أثر رجل من المشركين إذ سمع صوت ضربة بالصوت فوقه فنظر إلى المشرك وقد خر مستلقياً وقد شق وجهه فحدث الأنصاري رسول الله فقال صدقت ذاك من مدد السماء وقال آخرون لم يقاتلوا وإنما كانوا يكثرون السواد ويثبتون المؤمنين وإلا فملك واحد كاف في إهلاك الدنيا كلها فإن جبريل أهلك بريشة من جناحه مدائن قوم لوط وأهلك بلاد ثمود وقوم صالح بصيحة واحدة والكلام في كيفية هذا الإمداد مذكور في سورة آل عمران بالاستقصاء والذي يدل على صحة أن الملائكة ما نزلوا للقتال قوله تعالى وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى قال الفراء الضمير عائد إلى الأرداف والتقدير ما جعل الله الأرداف إلا بشرى وقال الزجاج ما جعل الله المردفين إلا بشرى وهذا أولى لأن الأمداد بالملائكة حصل بالبشرى قال ابن عباس كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوم بدر في العريش قاعداً يدعو وكان أبو بكر قاعداً عن يمينه ليس معه غيره فخفق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من نفسه نعساً ثم ضرب

بيمينه على فخذ أبي بكر وقال ( أبشر بنصر الله ولقد رأيت في منامي جبريل يقدم الخيل ) وهذا يدل على أنه لا غرض من إنزالهم إلا حصول هذه البشرى وذلك ينفي إقدامهم على القتال
ثم قال تعالى وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ والمقصود التنبيه على أن الملائكة وإن كانوا قد نزلوا في موافقة المؤمنين إلا أن الواجب على المؤمن أن لا يعتمد على ذلك بل يجب أن يكون اعتماده على إغاثة الله ونصره وهدايته وكفايته لأجل أن الله هو العزيز الغالب الذي لا يغلب والقاهر الذي لا يقهر والحكيم فيما ينزل من النصرة فيضعها في موضعها
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَة ً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَآءِ مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الاٌّ قْدَامَ إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَة ِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ ءَامَنُواْ سَأُلْقِى فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ذالِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ
وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الزجاج إِذْ موضعها نصب على معنى وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى ( آل عمران 126 ) في ذلك الوقت ويجوز أيضاً أن يكون التقدير اذكروا إذ يغشيكم النعاس أمنة
المسألة الثانية في يغشاكم ثلاث قراآت الأولى قرأ نافع بضم الياء وسكون الغين وتخفيف الشين يُغَشّيكُمُ النُّعَاسَ بالنصب الثانية يغشاكم بالألف وفتح الياء وسكون العين يُغَشّيكُمُ النُّعَاسَ بالرفع وهي قراءة أبي عمرو وابن كثير الثالثة قرأ الباقون يُغَشّيكُمُ بتشديد الشين وضم الياء من التغشية النُّعَاسَ بالنصب أي يلبسكم النوم قال الواحدي القراءة الأولى من أغشى والثانية من غشي والثالثة من غشي فمن قرأ يغشاكم فحجته قوله الْغَمّ أَمَنَة ً نُّعَاساً يعني فكما أسند الفعل هناك إلى النعاس والأمنة التي هي سبب النعاس كذلك في هذه الآية ومن قرأ يُغَشّيكُمُ أو يُغَشّيكُمُ فالمعنى واحد وقد جاء التنزيل بهما في قوله تعالى فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ ( ي س 9 ) وقال فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى ( النجم 54 ) وقال كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ وعلى هذا فالفعل مسند إلى الله
المسألة الثالثة أنه تعالى لما ذكر أنه استجاب دعاءهم ووعدهم بالنصر فقال وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ ذكر عقيبه وجوه النصر وهي ستة أنواع الأول قوله إِذْ يُغَشّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَة ً مّنْهُ أي من قبل الله

واعلم أن كل نوم ونعاس فإنه لا يحصل إلا من قبل الله تعالى فتخصيص هذا النعاس بأنه من الله تعالى لا بد فيه من مزيد فائدة وذكروا فيه وجوهاً أحدها أن الخائف إذا خاف من عدوه الخوف الشديد على نفسه وأهله فإنه لا يؤخذه النوم وإذا نام الخائفون أمنوا فصار حصول النوم لهم في وقت الخوف الشديد يدل على إزالة الخوف وحصول الأمن وثانيها أنهم خافوا من جهات كثيرة أحدها قلة المسلمين وكثرة الكفار وثانيها الأهبة والآلة والعدة للكافرين وقلتها للمؤمنين وثالثها العطش الشديد فلولا حصول هذا النعاس وحصول الاستراحة حتى تمكنوا في اليوم الثاني من القتال لما تم الظفر
والوجه الثالث في بيان كون ذلك النعاس نعمة في حقهم أنهم ما ناموا نوماً غرقاً يتمكن العدو من معاقصتهم بل كان ذلك نعاساً يحصل لهم زوال الأعياء والكلال مع أنهم كانوا بحيث لو قصدهم العدو لعرفوا وصوله ولقدروا على دفعه
والوجه الرابع أنه غشيهم هذا النعاس دفعة واحدة مع كثرتهم وحصول النعاس للجمع العظيم في الخوف الشديد أمر خارق للعادة فلهذا السبب قيل إن ذلك النعاس كان في حكم المعجز
فإن قيل فإن كان الأمر كما ذكرتم فلو خافوا بعد ذلك النعاس
قلنا لأن المعلوم أن الله تعالى يجعل جند الإسلام مظفراً منصوراً وذلك لا يمنع من صيرورة قوم منهم مقتولين
فإن قيل إذا قرىء يُغَشّيكُمُ بالتخفيف والتشديد ونصب النُّعَاسَ فالمضير لله عز وجل وأمنة مفعول له أما إذا قرىء يُغَشّيكُمُ النُّعَاسَ فكيف يمكن جعل قوله ءامِنَة ً مفعولاً له مع أن المفعول له يجب أن يكون فعلاً لفاعل الفعل المعلل
قلنا قوله يغشاكم وإن كان في الظاهر مسنداً إلى النعاس إلا أنه في الحقيقة مسند إلى الله تعالى فصح هذا التعليل نظراً إلى المعنى قال صاحب ( الكشاف ) وقرىء كَانَتْ ءامِنَة ً بسكون الميم ونظير أمن أمنة حي حياة ونظير أمن أمنة رحم رحمة قال ابن عباس النعاس في القتال أمنة من الله وفي الصلاة وسوسة من الشيطان
النوع الثاني من أنواع نعم الله تعالى المذكورة في هذا الموضع قوله تعالى وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن السَّمَاء مَاء لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ ولا شبهة أن المراد منه المطر وفي الخبر أن القوم سبقوا إلى موضع الماء واستولوا عليه وطمعوا لهذا السبب أن تكون لهم الغلبة وعطش المؤمنون وخافوا وأعوزهم الماء للشرب والطهارة وأكثرهم احتلموا وأجنبوا وانضاف إلى ذلك أن ذلك الموضع كان رملاً تغوص فيه الأرجل ويرتفع منه الغبار الكثير وكان الخوف حاصلاً في قلوبهم بسبب كثرة العدو وسبب كثرة آلاتهم وأدواتهم فلما أنزل الله تعالى ذلك المطر صار ذلك دليلاً على حصول النصرة والظفر وعظمت النعمة به من جهات أحدها زوال العطش فقد روي أنهم حفروا موضعاً في الرمل فصار كالحوض الكبير واجتمع فيه الماء حتى شربوا منه وتطهروا وتزودوا وثانيها أنهم اغتسلوا من ذلك الماء وزالت الجنابة عنهم وقد علم بالعادة أن المؤمن يكاد يستقذر نفسه إذا كان جنباً ويغتم إذا لم يتمكن من الاغتسال ويضطرب قلبه لأجل هذا السبب فلا جرم عد تعالى وتقدس تمكينهم من الطهارة من جملة نعمه

وثالثها أنهم لما عطشوا ولم يجدوا الماء ثم ناموا واحتلموا تضاعفت حاجتهم إلى الماء ثم إن المطر نزل فزالت عنهم تلك البلية والمحنة وحصل المقصود وفي هذه الحالة ما قد يستدل به على زوال العسر وحصول اليسر والمسرة
أما قوله وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ ففيه وجوه الأول أن المراد منه الاحتلام لأن ذلك من وساوس الشيطان الثاني أن الكفار لما نزلوا على الماء وسوس الشيطان إليهم وخوفهم من الهلاك فلما نزل المطر زالت تلك الوسوسة روى أنهم لما ناموا واحتلم أكثرهم تمثل لهم إبليس وقال أنتم تزعمون أنكم على الحق وأنتم تصلون على الجنابة وقد عطشتم ولو كنتم على الحق لما غلبوكم على الماء فأنزل الله تعالى المطر حتى جرى الوادي واتخذ المسلمون حياضاً واغتسلوا وتلبد الرمل حتى ثبتت عليه الأقدام الثالث أن المراد من رجز الشيطان سائر ما يدعو الشيطان إليه من معصية وفساد
فإن قيل فأي هذه الوجوه الثلاثة أولى
قلنا قوله لّيُطَهّرَكُمْ معناه ليزيل الجنابة عنكم فلو حملنا قوله وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ على الجنابة لزم منه التكرير وأنه خلاف الأصل ويمكن أن يجاب عنه فيقال المراد من قوله لّيُطَهّرَكُمْ حصول الطهارة الشرعية والمراد من قوله وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ إزالة جوهر المني عن أعضائهم فإنه شيء مستخبث ثم تقول حمله على إزالة أثر الاحتلام أولى من حمله على إزالة الوسوسة وذلك لأن تأثير الماء في إزالة العين عن العضو تأثير حقيقي أما تأثيره في إزالة الوسوسة عن القلب فتأثير مجازي وحمل اللفظ على الحقيقة أولى من حمله على المجاز واعلم أنا إذا حملنا الآية على هذا الوجه لزم القطع بأن المني رجز الشيطان وذلك يوجب الحكم بكونه نجساً مطلقاً لقوله تعالى وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ( المدثر 5 )
النوع الثالث من النعم المذكورة في هذه الآية قوله تعالى وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ والمراد أن بسبب نزول هذا المطر قويت قلوبهم وزال الخوف والفزع عنهم ومعنى الربط في اللغة الشد وقد ذكرنا ذلك في قوله تعالى وَرَابِطُواْ ( آل عمران 200 ) ويقال لكل من صبر على أمر ربط قلبه عليه كأنه حبس قلبه عن أن يضطرب يقال رجل رابط أي حابس قال الواحدي ويشبه أن يكون عَلَى ههنا صلة والمعنى وليربط قلوبكم بالنصر وما وقع من تفسيره يشبه أن لا يكون صلة لأن كلمة عَلَى تفيد الاستعلاء فالمعنى أن القلوب امتلأت من ذلك الربط حتى كأنه علا عليها وارتفع فوقها
والنوع الرابع من النعم المذكورة ههنا قوله تعالى وَيُثَبّتَ بِهِ الاْقْدَامَ وذكروا فيه وجوهاً أحدها أن ذلك المطر لبد ذلك الرمل وصيره بحيث لا تغوص أرجلهم فيه فقدروا على المشي عليه كيف أرادوا ولولا هذا المطر لما قدروا عليه وعلى هذا التقدير فالضمير في قوله بِهِ عائد إلى المطر وثانيها أن المراد أن ربط قلوبهم أوجب ثبات أقدامهم لأن من كان قلبه ضعيفاً فر ولم يقف فلما قوى الله تعالى قلوبهم لا جرم ثبت أقدامهم وعلى هذا التقدير فالضمير في قوله بِهِ عائد إلى الربط وثالثها روى أنه لما نزل المطر حصل للكافرين ضد ما حصل للمؤمنين وذلك لأن الموضع الذي نزل الكفار فيه كان موضع التراب والوحل فلما نزل المطر عظم الوحل فصار ذلك مانعاً لهم من المشي كيفما أرادوا فقوله وَيُثَبّتَ بِهِ الاْقْدَامَ يدل دلالة المفهوم على أن حال الأعداء كانت بخلاف ذلك

النوع الخامس من النعم المذكورة ههنا قوله إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى الْمَلَئِكَة ِ أَنّي مَعَكُمْ وفيه بحثان الأول قال الزجاج إِذْ في موضع نصب والتقدير وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام حال ما يوحي إلى الملائكة بكذا وكذا ويجوز أيضاً أن يكون على تقدير اذكروا الثاني قوله إِنّى مَعَكُمْ فيه وجهان الأول أن يكون المراد أنه تعالى أوحى إلى الملائكة بأنه تعالى معهم أي مع الملائكة حال ما أرسلهم ردأً للمسلمين والثاني أن يكون المراد أنه تعالى أوحى إلى الملائكة أني مع المؤمنين فانصروهم وثبتوهم وهذا الثاني أولى لأن المقصود من هذا الكلام إزالة التخويف والملائكة ما كانوا يخافون الكفار وإنما الخائف هم المسلمون
ثم قال فَثَبّتُواْ الَّذِينَ ءامَنُواْ واختلفوا في كيفية هذا التثبيت على وجوه الأول أنهم عرفوا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أن الله ناصر المؤمنين والرسول عرف المؤمنين ذلك فهذا هو التثبيت والثاني أن الشيطان كما يمكنه إلقاء الوسوسة إلى الإنسان فكذلك الملك يمكنه إلقاء الإلهام إليه فهذا هو التثبيت في هذا الباب والثالث أن الملائكة كانوا يتشبهون بصور رجال من معارفهم وكانوا يمدونهم بالنصر والفتح والظفر
والنوع السادس من النعم المذكورة في هذه الآية قوله سَأُلْقِى فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ وهذا من النعم الجليلة وذلك لأن أمر النفس هو القلب فلما بين الله تعالى أنه ربط قلوب المؤمنين بمعنى أنه قواها وأزال الخوف عنها ذكر أنه ألقى الرعب والخوف في قلوب الكافرين فكان ذلك من أعظم نعم الله تعالى على المؤمنين
أما قوله تعالى فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الاعْنَاقِ ففيه وجهان الأول أنه أمر للملائكة متصل بقوله تعالى فَثَبّتُواْ وقيل بل أمر للمؤمنين وهذا هو الأصح لما بينا أنه تعالى ما أنزل الملائكة لأجل المقاتلة والمحاربة واعلم أنه تعالى لما بين أنه حصل في حق المسلمين جميع موجبات النصر والظفر فعند هذا أمرهم بمحاربتهم وفي قوله فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الاعْنَاقِ قولان الأول أن ما فوق العنق هو الرأس فكان هذا أمراً بإزالة الرأس عن الجسد والثاني أن قوله فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الاعْنَاقِ أي فاضربوا الأعناق
ثم قال وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ يعني الأطراف من اليدين والرجلين ثم اختلفوا فمنهم من قال المراد أن يضربوهم كما شاؤوا لأن ما فوق العنق هو الرأس وهو أشرف الأعضاء والبنان عبارة عن أضعف الأعضاء فذكر الأشرف والأخس تنبيهاً على كل الأعضاء ومنهم من قال بل المراد إما القتل وهو ضرب ما فوق الأعناق أو قطع البنان لأن الأصابع هي الآلات في أخذ السيوف والرماح وسائر الأسلحة فإذا قطع بنانهم عجزوا عن المحاربة
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه الوجوه الكثيرة من النعم على المسلمين قال ذالِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ والمعنى أنه تعالى ألقاهم في الخزي والنكال من هذه الوجوه الكثيرة بسبب أنهم شاقوا الله ورسوله قال الزجاج شَاقُّواْ جانبوا وصاروا في شق غير شق المؤمنين والشق الجانب وَشَاقُّواْ اللَّهِ مجاز والمعنى شاقوا أولياء الله ودين الله
ثم قال وَمَن يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ يعني أن هذا الذي نزل بهم في ذلك اليوم شيء قليل مما أعده الله لهم من العقاب في القيامة والمقصود منه الزجر عن الكفر والتهديد عليه

ذالِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى قال الزجاج ذالِكُمْ رفع لكونه خبر لمبتدأ محذوف والتقدير الأمر ذلكم فذوقوه ولا يجوز أن يكون ذالِكُمْ ابتداء وقوله فَذُوقُوهُ خبر لأن ما بعد الفاء لا يكون خبراً للمبتدأ إلا أن يكون المبتدأ اسماً موصولاً أو نكرة موصوفة نحو الذي يأتيني فله درهم وكل رجل في الدار فمكرم أما أن يقال زيد فمنطلق فلا يجوز إلا أن نجعل زيداً خبراً لمبتدأ محذوف والتقدير هذا زيد فمنطلق أي فهو منطلق
المسألة الثانية أنه تعالى لما بين أن من يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب بين من بعد ذلك صفة عقابه وأنه قد يكون معجلاً في الدنيا وقد يكون مؤجلاً في الآخرة ونبه بقوله ذالِكُمْ فَذُوقُوهُ وهو المعجل من القتل والأسر على أن ذلك يسير بالإضافة إلى المؤجل لهم في الآخرة فلذلك سماه ذوقاً لأن الذوق لا يكون إلا تعرف طعم اليسير ليعرف به حال الكثير فعاجل ما حصل لهم من الآلام في الدنيا كالذوق القليل بالنسبة إلى الأمر العظيم المعد لهم في الآخرة وقوله فَذُوقُوهُ يدل على أن الذوق يحصل بطريق آخر سوى إدراك الطعوم المخصوصة وهي كقوله تعالى ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ( الدخان 49 ) وكان عليه السلام يقول ( أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني ) فهذا يدل على إثبات الذوق والأكل والشرب بطريق روحاني مغاير للطريق الجسماني
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَة ٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قال الأزهري أصل الزحف للصبي وهو أن يزحف على أسته قبل أن يقوم وشبه بزحف الصبي مشي الطائفتين اللتين تذهب كل واحدة منهما إلى صاحبتها للقتال فيمشي كل فئة مشياً رويداً إلى الفئة الأخرى قبل التداني للضراب قال ثعلب الزحف المشي قليلاً قليلاً إلى الشيء ومنه الزحاف في الشعر يسقط مما بين حرفين حرف فيزحف أحدهما إلى الآخر

إذا عرفت هذا فنقول قوله إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً أي متزاحفين نصب على الحال ويجوز أن يكون حالاً للكفار ويجوز أن يكون حالاً للمخاطبين وهم المؤمنون والزحف مصدر موصوف به كالعدل والرضا ولذلك لم يجمع والمعنى إذا ذهبتم إليهم للقتال فلا تنهزموا ومعنى فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الادْبَارَ أي لا تجعلوا ظهوركم مما يليهم ثم إنه تعالى لما نهى عن هذا الانهزام بين أن هذا الانهزام محرم إلا في حالتين إحداهما أن يكون متحرفاً للقتال والمراد منه أن يخيل إلى عدوه أنه منهزم ثم ينعطف عليه وهو أحد أبواب خدع الحرب ومكايدها يقال تحرف وانحرف إذا زال عن جهة الاستواء والثانية قوله أَوْ مُتَحَيّزاً إِلَى فِئَة ٍ قال أبو عبيدة التحيز التنحي وفيه لغتان التحيز والتحوز قال الواحدي وأصل هذا الحوز وهو الجمع يقال حزته فانحاز وتحوز وتحيز إذا انضم واجتمع ثم سمى التنحي تحيزاً لأن المتنحى عن جانب ينفصل عنه ويميل إلى غيره
إذا عرفت هذا فنقول الفئة الجماعة فإذا كان هذا المتحيز كالمنفرد وفي الكفار كثرة وغلب على ظن ذلك المنفرد أنه إن ثبت قتل من غير فائدة وإن تحيز إلى جمع كان راجياً للخلاص وطامعاً في العدو بالكثرة فربما وجب عليه التحيز إلى هذه الفئة فضلاً عن أن يكون ذلك جائزاً والحاصل أن الانهزام من العدو حرام إلا في هاتين الحالتين
ثم إنه تعالى قال وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلا في هاتين الحالتين فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير
المسألة الثانية احتج القاضي بهذه الآية على القطع بوعيد الفساق من أهل الصلاة وذلك لأن الآية دلت على أن من انهزم إلا في هاتين الحالتين استوجب غضب الله ونار جهنم قال وليس للمرجئة أن يحملوا هذه الآية على الكفار دون أهل الصلاة كصنعهم في سائر آيات الوعيد لأن هذا الوعيد مختص بأهل الصلاة
واعلم أن هذه المسألة قد ذكرناها على الاستقصاء في سورة البقرة وذكرنا أن الاستدلال بهذه الظواهر لا يفيد إلا الظن وقد ذكرنا أيضاً أنها معارضة بعمومات الوعد وذكرنا أن الترجيح بجانب عمومات الوعد من الوجوه الكثيرة فلا فائدة في الإعادة
المسألة الثالثة اختلف المفسرون في أن هذا الحكم هل هو مختص بيوم بدر أو هو حاصل على الإطلاق فنقل عن أبي سعيد الخدري والحسن وقتادة والضحاك أن هذا الحكم مختص بمن كان انهزم يوم بدر قالوا والسبب في اختصاص يوم بدر بهذا الحكم أمور أحدها أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان حاضراً يوم بدر ومع حضوره لا يعد غيره فيه أما لأجل أنه لا يساوي به سائر الفئات بل هو أشرف وأعلى من الكل وأما لأجل أن الله تعالى وعده بالنصر والظفر فلم يكن لهم التحيز إلى فئة أخرى وثانيها أنه تعالى شدد الأمر على أهل بدر لأنه كان أول الجهاد ولو اتفق للمسلمين انهزام فيه لزم منه الخلل العظيم فلهذا وجب عليهم التشدد والمبالغة ولهذا السبب منع الله في ذلك اليوم من أخذ الفداء من الأسرى
والقول الثاني أن الحكم المذكور في هذه الآية كان عاماً في جميع الحروب بدليل أن قوله تعالى

النَّارِ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ عام فيتناول جميع السور أقصى ما في الباب أنه نزل في واقعة بدر لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب
المسألة الرابعة اختلفوا في أن جواز التحيز إلى فئة هل يحظر إذا كان العسكر عظيماً أو إنما يثبت إذا كان في العسكر خفة قال بعضهم إذا عظم العسكر فليس لهم هذا التحيز وقال بعضهم بل الكل سواء وهذا أليق بالظاهر لأنه لم يفصل
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَاكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَاكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِى َ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلا ءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
فيه مسائل
المسألة الأولى قال مجاهد اختلفوا يوم بدر فقال هذا أنا قتلت وقال الآخر أنا قتلت فأنزل الله تعالى هذه الآية يعني أن هذه الكسرة الكبيرة لم تحصل منكم وإنما حصلت بمعونة الله روي أنه لما طلعت قريش قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هذه قريش قد جاءت بخيلائها وفخرها يكذبون رسولك ( اللهم إني أسألك ما وعدتني ) فنزل جبريل وقال خذ قبضة من تراب فارمهم بها فلما التقى الجمعان قال لعلي أعطني قبضة من التراب من حصباء الوادي فرمى بها في وجوههم وقال شاهت الوجوه فلم يبق مشرك إلا شغل بعينه فانهزموا قال صاحب ( الكشاف ) والفاء في قوله فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ جواب شرط محذوف تقديره إن افتخرتم بقتلهم فأنتم لم تقتلوهم ولكن الله قتلهم
ثم قال وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَاكِنَّ اللَّهَ رَمَى يعني أن القبضة من الحصباء التي رميتها فأنت ما رميتها في الحقيقة لأن رميك لا يبلغ أثره إلا ما يبلغه رمي سائر البشر ولكن الله رماها حيث نفذ أجزاء ذلك التراب وأوصلها إلى عيونهم فصورة الرمية صدرت من الرسول عليه الصلاة والسلام وأثرها إنما صدر من الله فلهذا المعنى صح فيه النفي والإثبات
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية على أن أفعال العباد مخلوقة لله عالى وجه الاستدلال أنه تعالى قال فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَاكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ ومن المعلوم أنهم جرحوا فدل هذا على أن حدوث تلك الأفعال إنما حصل من الله وأيضاً قوله وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ أثبت كونه عليه السلام رامياً ونفى عنه كونه رامياً فوجب حمله على أنه رماه كسباً وما رماه خلقاً
فأن قيل أما قوله فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَاكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ فيه وجوه الأول أن قتل الكفار إنما تيسر بمعونة الله ونصره وتأييده فصحت هذه الإضافة الثاني أن الجرح كان إليهم وإخراج الروح كان إلى الله تعالى والتقدير فلم تميتوهم ولكن الله أماتهم

وأما قوله وَمَا رَمَيْتَ إِذَا رَمَيْتَ وَلَاكِنَّ اللَّهَ رَمَى قال القاضي فيه أشياء منها أن الرمية الواحدة لا توجب وصول التراب إلى عيونهم وكان إيصال أجزاء التراب إلى عيونهم ليس إلا بإيصال الله تعالى ومنها أن التراب الذي رماه كان قليلاً فيمتنع وصول ذلك القدر إلى عيون الكل فدل هذا على أنه تعالى ضم إليها أشياء أخر من أجزاء التراب وأوصلها إلى عيونهم ومنها أن عند رميته ألقى الله تعالى الرعب في قلوبهم فكان المراد من قوله وَلَاكِنَّ اللَّهَ رَمَى هو أنه تعالى رمى قلوبهم بذلك الرعب
والجواب أن كل ما ذكرتموه عدول عن الظاهر والأصل في الكلام الحقيقة
فإن قالوا الدلائل العقلية تمنع من القول بأن فعل العبد مخلوق لله تعالى فنقول هيهات فإن الدلائل العقلية في جانبنا والبراهين النقلية قائمة على صحة قولنا فلا يمكنكم أن تعدلوا عن الظاهر إلى المجاز والله أعلم
المسألة الثالثة قرىء وَلَاكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَلَاكِنَّ اللَّهَ رَمَى بتخفيف ولكن ورفع ما بعده
المسألة الرابعة في سبب نزول هذه الآية ثلاثة أقوال الأول وهو قول أكثر المفسرين أنها نزلت في يوم بدر والمراد أنه عليه السلام أخذ قبضة من الحصباء ورمى بها وجوه القوم وقال شاهت الوجوه فلم يبق مشرك إلا ودخل في عينيه ومنخريه منها شيء فكانت تلك الرمية سبباً للهزيمة وفيه نزلت هذه الآية والثاني أنها نزلت يوم خيبر روي أنه عليه السلام أخذ قوساً وهو على باب خيبر فرمى سهماً فأقبل السهم حتى قتل ابن أبي الحقيق وهو على فرسه فنزلت وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَاكِنَّ اللَّهَ رَمَى والثالث أنها نزلت في يوم أحد في قتل أبي بن خلف وذلك أنه أتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعظم رميم وقال يا محمد من يحيى هذا وهو رميم فقال عليه السلام يحييه الله ثم يميتك ثم يحييك ثم يدخلك النار فأسر يوم بدر فلما افتدى قال لرسول الله إن عندي فرساً أعتلفها كل يوم فرقاً من ذرة كي أقتلك عليها فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( بل أنا أقتلك إن شاء الله ) فلما كان يوم أحد أقبل أبي يركض على ذلك الفرس حتى دنا من الرسول عليه الصلاة والسلام فاعترض له رجال من المسلمين ليقتلوه فقال عليه السلام ( استأخروا ) ورماه بحربة فكسر ضلعاً من أضلاعه فحمل فمات ببعض الطريق ففي ذلك نزلت الآية والأصح أن هذه الآية نزلت في يوم بدر وإلا لدخل في أثناء القصة كلام أجنبي عنها وذلك لا يليق بل لا يبعد أن يدخل تحته سائر الوقائع لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب
أما قوله تعالى وَلِيُبْلِى َ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَنًا فهذا معطوف على قوله وَلَاكِنَّ اللَّهَ رَمَى والمراد من هذا البلاء الأنعام أي ينعم عليهم نعمة عظيمة بالنصرة والغنيمة والأجر والثواب قال القاضي ولولا أن المفسرين اتفقوا على حمل الابتلاء ههنا على النعمة وإلا لكان يحتمل المحنة بالتكليف فيما بعده من الجهاد حتى يقال إن الذي فعله تعالى يوم بدر كان السبب في حصول تكليف شاق عليهم فيما بعد ذلك من الغزوات
ثم إنه تعالى ختم هذا بقوله إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أي سميع لكلامكم عليم بأحوال قلوبكم وهذا يجري مجرى التحذير والترهيب لئلا يغتر العبد بظواهر الأمور ويعلم أن الخالق تعالى مطلع على كل ما في الضمائر والقلوب

ذالِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِى َ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو مُوهِنُ بتشديد الهاء من التوهين كَيْدَ بالنصب وقرأ حفص عن عاصم مُوهِنُ كَيْدِ بالإضافة والباقون مُوهِنُ بالتخفيف كَيْدَ بالنصب ومثله قوله كَاشِفَاتُ ضُرّهِ ( الزمر 38 ) بالتنوين وبالإضافة
المسألة الثانية الكلام في ذلك ومحله من الإعراب كما في قوله ذالِكُمْ فَذُوقُوهُ ( الأنفال 14 )
المسألة الثالثة توهين الله تعالى كيدهم يكون بأشياء بإطلاع المؤمنين على عوراتهم وإلقاء الرعب في قلوبهم وتفريق كلمتهم ونقض ما أبرموا بسبب اختلاف عزائمهم قال ابن عباس ينبىء رسول الله ويقول إني قد أوهنت كيد عدومك حتى قتلت خيارهم وأسرت أشرافهم
أما قوله تعالى إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ فيه قولان
القول الأول وهو قول الحسن ومجاهد والسدي أنه خطاب للكفار روي أن أبا جهل قال يوم بدر اللهم انصر أفضل الدينين وأحقه بالنصر وروي أنه قال اللهم أينا كان أقطع للرحم وأفجر فأهلكه الغداة وقال السدي إن المشركين لما أرادوا الخروج إلى بدر أخذوا أستار الكعبة وقالوا اللهم انصر أعلى الجندين وأهدى الفئتين وأكرم الحزبين وأفضل الدينين فأنزل الله هذه الآية والمعنى إن تستفتحوا أي تستنصروا لأهدى الفئتين وأكرم الحزبين فقد جاءكم النصر وقال آخرون أن تستقضوا فقد جاءكم القضاء
والقول الثاني أنه خطاب للمؤمنين روي أنه عليه السلام لما رأى المشركين وكثرة عددهم استغاث بالله وكذلك الصحابة وطلب ما وعده الله به من إحدى الطائفتين وتضرع إلى الله فقال إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ والمراد أنه طلب النصرة التي تقدم بها الوعد فقد جاءكم الفتح أي حصل ما وعدتم به فاشكروا الله والزموا طاعته قال القاضي وهذا القول أولى لأن قوله فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ لا يليق إلا بالمؤمنين أما لو حملنا الفتح على البيات والحكم والقضاء لم يمتنع أن يراد به الكفار
أما قوله وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ فتفسير هذه الآية يتفرع على ما ذكرنا من أن قوله إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ خطاب للكفار أو للمؤمنين
فإن قلنا إن ذلك خطاب للكفار كان تأويل هذه الآية إن تنتهوا عن قتال الرسول وعداوته وتكذيبه فهو خير لكم أما في الدين فبالخلاص من العقاب والفوز بالثواب وأما في الدنيا فبالخلاص من القتل والأسر والنهب

ثم قال وَإِن تَعُودُواْ أي إلى القتال نَعُدُّ أي نسلطهم عليكم فقد شاهدتم ذلك يوم بدر وعرفتم تأثير نصرة الله للمؤمنين عليكم وَلَن تُغْنِى َ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ أي كثرة الجموع كما لم يغن ذلك يوم بدر وأما إن قلنا إن ذلك خطاب للمؤمنين كان تأويل هذه الآية وإن تنتهوا عن المنازعة في أمر الأنفال وتنتهوا عن طلب الفداء على الأسرى فقد كان وقع منهم نزاع يوم بدر في هذه الآشياء حتى عاتبهم الله بقوله لَّوْلاَ كِتَابٌ مّنَ اللَّهِ سَبَقَ ( الأنفال 68 ) فقال تعالى ءانٍ تَنتَهُواْ عن مثله فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ إلى تلك المنازعات نَعُدُّ إلى ترك نصرتكم لأن الوعد بنصرتكم مشروط بشرط استمراركم على الطاعة وترك المخالفة ثم لا تنفعكم الفئة والكثرة فإن الله لا يكون إلا مع المؤمنين الذين لا يرتكبون الذنوب
واعلم أن أكثر المفسرين حملوا قوله إِن تَسْتَفْتِحُواْ على أنه خطاب للكفار واحتجوا بقوله تعالى وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ فظنوا أن ذلك لا يليق إلا بالقتال وقد بينا أن ذلك يحتمل الحمل على ما ذكرناه من أحوال المؤمنين فسقط هذا الترجيح
وأما قوله وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ فقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم الاْرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بفتح الألف في أن والباقون بكسرها أما الفتح فقيل على تقدير ولأن الله مع المؤمنين وقيل هو معطوف على قوله إِنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ وأما الكسر فعلى الابتداء والله أعلم
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُواْ سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ
اعلم أنه تعالى لما خاطب المؤمنين بقوله ءانٍ تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِى َ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً ( الأنفال 19 ) أتبعه بتأديبهم فقال الْمُؤْمِنِينَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ ولم يبين أنهم ماذا يسمعون إلا أن الكلام من أول السورة إلى هنا لما كان واقعاً في الجهاد علم أن المراد وأنتم تسمعون دعاءه إلى الجهاد ثم إن الجهاد اشتمل على أمرين أحدهما المخاطرة بالنفس والثاني الفوز بالأموال ولما كانت المخاطرة بالنفس شاقة شديدة على كل أحد وكان ترك المال بعد القدرة على أخذه شاقاً شديداً لا جرم بالغ الله تعالى في التأديب في هذا الباب فقال أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في الإجابة إلى الجهاد وفي الإجابة إلى تركه المال إذا أمره الله بتركه والمقصود تقرير ما ذكرناه في تفسير قوله تعالى قُلِ الانفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ( الأنفال 1 )
فإن قيل فلم قال ولا تولوا عنه فجعل الكناية واحدة مع أنه تقدم ذكر الله ورسوله

قلنا إنه تعالى أمر بطاعة الله وبطاعة رسوله ثم قال وَلاَ تَوَلَّوْاْ لأن التولي إنما يصح في حق الرسول بأن يعرضوا عنه وعن قبول قوله وعن معونته في الجهاد
ثم قال مؤكداً لذلك وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُواْ سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ والمعنى أن الإنسان لا يمكنه أن يقبل التكليف وأن يلتزمه إلا بعد أن يسمعه فجعل السماع كناية عن القبول ومنه قولهم سمع الله لمن حمده والمعنى ولا تكونوا كالذين يقولون بألسنتهم أنا قبلنا تكاليف الله تعالى ثم إنهم بقلوبهم لا يقبلونها وهو صفة للمنافقين كما أخبر الله عنهم بقوله وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ ( البقرة 14 )
ثم قال تعالى إِنَّ شَرَّ الدَّوَابّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ واختلفوا في الدواب فقيل شبههم بالدواب لجهلهم وعدولهم عن الانتفاع بما يقولون ويقال لهم ولذلك وصفهم بالصم والبكم وبأنهم لا يعقلون وقيل بل هم من الدواب لأنه اسم لما دب على الأرض ولم يذكره في معرض التشبيه بل وصفهم بصفة تليق بهم على طريقة الذم كما يقال لمن لا يفهم الكلام هو شبح وجسد وطلل على جهة الذم
ثم قال وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لاسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ والمعنى أن كل ما كان حاصلاً فإنه يجب أن يعلمه الله فعدم علم الله بوجوده من لوازم عدمه فلا جرم حسن التعبير عن عدمه في نفسه بعدم علم الله بوجوده وتقرير الكلام لو حصل فيهم خير لأسمعهم الله الحجج والمواعظ سماع تعليم وتفهيم ولو أسمعهم بعد أن علم أنه لا خير فيهم لم ينتفعوا بها ولتولوا وهم معرضون قيل إن الكفار سألوا الرسول عليه السلام أن يحيي لهم قصي بن كلاب وغيره من أمواتهم ليخبروهم بصحة نبوته فبين تعالى أنه لو علم فيهم خيراً وهو انتفاعهم بقول هؤلاء الأموات لأحياهم حتى يسمعوا كلامهم ولكنه تعالى علم منهم أنهم لا يقولون هذا الكلام إلا على سبيل العناد والتعنت وأنه لم أسمعهم الله كلامهم لتولوا عن قبول الحق ولأعرضوا عنه وفي هذه الآية مسائل
المسألة الأولى أنه تعالى حكم عليهم بالتولي عن الدلائل وبالإعراض عن الحق وأنهم لا يقبلونه البتة ولا ينتفعون به البتة فنقول وجب أن يكون صدور الإيمان منهم محالاً لأنه لو صدر الإيمان لكان إما أن يوجد ذلك الإيمان مع بقاء هذا الخبر صدقاً أو مع انقلابه كذباً والأول محال لأن وجود الإيمان مع الأخبار بعدم الإيمان جمع بين النقيضين وهو محال والثاني محال لأن انقلاب خبر الله الصدق كذباً محال لا سيما في الزمان الماضي المنقضي وهكذا القول في انقلاب علم الله جهلاً وتقريره سبق مراراً
المسألة الثانية النحويون يقولون كلمة لَوْ وضعت للدلالة على انتفاء الشيء لأجل انتفاء غيره فإذا قلت لو جئتني لأكرمتك أفاد أنه ما حصل المجيء وما حصل الإكرام ومن الفقهاء من قال إنه لا يفيد إلا الاستلزام فأما الانتفاء لأجل انتفاء الغير فلا يفيده هذا اللفظ والدليل عليه الآية والخبر أما الآية فهي هذه الآية وتقريره أن كلمة لَوْ لو أفادت ما ذكروه لكان قوله وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لاسْمَعَهُمْ يقتضي أنه تعالى ما علم فيهم خيراً وما أسمعهم ثم قال وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ فيكون معناه أنه ما أسمعهم وأنهم ما تولوا لكن عدم التولي خير من الخيرات فأول الكلام يقتضي نفي الخير وآخره يقتضي حصول الخير وذلك متناقض فثبت أن القول بأن كلمة لَوْ تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره يوجب هذا التناقض فوجب أن

لا يصار إليه وأما الخبر فقوله عليه السلام ( نعم الرجل صهيب لو لم يخف الله لم يعصه ) فلو كانت لفظة ( لو ) تفيد ما ذكروه لصار المعنى أنه خاف الله وعصاه وذلك متناقض فثبت أن كلمة لَوْ لا تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره وإنما تفيد مجرد الاستلزام
واعلم أن هذا الدليل أحسن إلا أنه على خلاف قول جمهور الأدباء
المسألة الثالثة أن معلومات الله تعالى على أربعة أقسام أحدها جملة الموجودات والثاني جملة المعدومات والثالث أن كل واحد من الموجودات لو كان معدوماً فكيف يكون حاله الرابع أن كل واحد من المعدومات لو كان موجوداً كيف يكون حاله والقسمان الأولان علم بالواقع والقسمان الثانيان عم بالمقدر الذي هو غير واقع فقوله وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لاسْمَعَهُمْ من القسم الثاني وهو العلم بالمقدرات وليس من أقسام العلم بالواقعات ونظيره قوله تعالى حكاية عن المنافقين لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وقال تعالى لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الاْدْبَارَ ( الحشر 11 12 ) فعلم تعالى في المعدوم أنه لو كان موجوداً كيف يكون حاله وأيضاً قوله وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ( الأنعام 28 ) فأخبر عن المعدوم أنه لو كان موجوداً كيف يكون حاله
يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى قال أبو عبيد والزجاج اسْتَجِيبُواْ معناه أجيبوا وأنشد قول الشاعر
فلم يستجبه عند ذاك مجيب
المسألة الثانية أكثر الفقهاء على أن ظاهر الأمر للوجوب وتمسكوا بهذه الآية على صحة قولهم من وجهين
الوجه الأول أن كل من أمره الله بفعل فقد دعاه إلى ذلك الفعل وهذه الآية تدل على أنه لا بد من الإجابة في كل ما دعاه الله إليه
فإن قيل قوله اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ أمر فلم قلتم إنه يدل على الوجوب وهل النزاع إلا فيه فيرجع حاصل هذا الكلام إلى إثبات أن الأمر للوجوب بناء على أن هذا الأمر يفيد الوجوب وهو يقتضي إثبات الشيء بنفسه وهو محال
والجواب أن من المعلوم بالضرورة أن كل ما أمر الله به فهو مرغب فيه مندوب إليه فلو حملنا قوله اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ على هذا المعنى كان هذا جارياً مجرى إيضاح الواضحات وأنه عبث

فوجب حمله على فائدة زائدة وهي الوجوب صوناً لهذا النص عن التعطيل ويتأكد هذا بأن قوله تعالى بعد ذلك وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْء وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ جار مجرى التهديد والوعيد وذلك لا يليق إلا بالإيجاب
الوجه الثاني في الاستدلال بهذه الآية على ثبوت هذا المطلوب ما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مر على باب أبي بن كعب فناداه وهو في الصلاة فعجل في صلاته ثم جاء فقال ( ما منعك عن إجابتي ) قال كنت أصلي قال ( ألم تخبر فيما أوحى إلي استجيبوا لله وللرسول ) فقال لا جرم لا تدعوني إلا أجيبك والاستدلال به أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما دعاه فلم يجبه لامه على ترك الإجابة وتمسك في تقرير ذلك اللوم بهذه الآية فلولا دلالة هذه الآية على الوجوب وإلا لما صح ذلك الاستدلال وقول من يقول مسألة أن الأمر يفيد الوجوب مسألة قطعية فلا يجوز التمسك فيها بخبر الواحد ضعيف لأنا لا نسلم أن مسألة الأمر يفيد الوجوب مسألة قطعية بل هي عندنا مسألة ظنية لأن المقصود منها العمل والدلائل الظنية كافية في المطالب العملية
فإن قالوا إنه تعالى ما أمر بالإجابة على الإطلاق بل بشرط خاص وهو قوله إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ فلم قلتم إن هذا الشرط حاصل في جميع الأوامر
قلنا قصة أبي بن كعب تدل على أن هذا الحكم عام وغير مخصوص بشرط معين وأيضاً فلا يمكن حمل الحياة ههنا على نفس الحياة لأن إحياء الحي محال فوجب حمله على شيء آخر وهو الفوز بالثواب وكل ما دعا الله إليه ورغب فيه فهو مشتمل على ثواب فكان هذا الحكم عاماً في جميع الأوامر وذلك يفيد المطلوب
المسألة الثالثة ذكروا في قوله إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وجوهاً الأول قال السدي هو الإيمان والإسلام وفيه الحياة لأن الإيمان حياة القلب والكفر موته يدل عليه قوله تعالى يُخْرِجُ الْحَى َّ مِنَ الْمَيّتِ ( الروم 19 ) قيل المؤمن من الكافر الثاني قال قتادة يعني القرآن أي أجيبوه إلى ما في القرآن ففيه الحياة والنجاة والعصمة وإنما سمي القرآن بالحياة لأن القرآن سبب العلم والعلم حياة فجاز أن يسمى سبب الحياة بالحياة الثالث قال الأكثرون لِمَا يُحْيِيكُمْ هو الجهاد ثم في سبب تسمية الجهاد بالحياة وجوه أحدها هو أن وهن أحد العدوين حياة للعدو الثاني فأمر المسلمين إنما يقوى ويعظم بسبب الجهاد مع الكفار وثانيها أن الجهاد سبب لحصول الشهادة وهي توجب الحياة الدائمة قال تعالى وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ ( آل عمران 169 ) وثالثها أن الجهاد قد يفضي إلى القتل والقتل يوصل إلى الدار الآخرة والدار الآخرة معدن الحياة قال تعالى وَإِنَّ الدَّارَ الاْخِرَة َ لَهِى َ الْحَيَوَانُ ( العنكبوت 64 ) أي الحياة الدائمة
والقول الرابع لِمَا يُحْيِيكُمْ أي لكل حق وصواب وعلى هذا التقدير فيدخل فيه القرآن والإيمان والجهاد وكل أعمال البر والطاعة والمراد من قوله لِمَا يُحْيِيكُمْ الحياة الطيبة الدائمة قال تعالى يَعْمَلُونَ مَنْ عَمِلَ ( النحل 97 )
المسألة الرابعة قوله تعالى وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْء وَقَلْبِهِ يختلف تفسيره بحسب اختلاف

الناس في الجبر والقدر أما القائلون بالجبر فقال الواحدي حكاية عن ابن عباس والضحاك يحول بين المرء الكافر وطاعته ويحول بين المرء المطيع ومعصيته فالسعيد من أسعده الله والشقي من أضله الله والقلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء فإذا أراد الكافر أن يؤمن والله تعالى لا يريد إيمانه يحول بينه وبين قلبه وإذا أراد المؤمن أن يكفر والله لا يريد كفره حال بينه وبين قلبه قلت وقد دللنا بالبراهين العقلية على صحة أن الأمر كذلك وذلك لأن الأحوال القلبية إما العقائد وإما الإرادات والدواعي أما العقائد فهي إما العلم وإما الجهل أما العلم فيمتنع أن يقصد الفاعل إلى تحصيله إلا إذا علم كونه علماً ولا يعلم ذلك إلا إذا علم كون ذلك الاعتقاد مطابقاً للمعلوم ولا يعلم ذلك إلا إذا سبق علمه بالمعلوم وذلك يوجب توقف الشيء على نفسه وأما الجهل فالإنسان البتة لا يختاره ولا يريده إلا إذا ظن أن ذلك الاعتقاد علم ولا يحصل له هذا الظن إلا بسبق جهل آخر وذلك أيضاً يوجب توقف الشيء على نفسه وأما الدواعي والإرادات فحصولها إن لم يكن بفاعل يلزم الحدوث لا عن محدث وإن كان بفاعل فذلك الفاعل إما العبد وإما الله تعالى والأول باطل وإلا لزم توقف ذلك القصد على قصد آخر وهو محال فتعين أن يكون فاعل الاعتقادات والإرادات والدواعي هو الله تعالى فنص القرآن دل على أن أحوال القلوب من الله والدلائل العقلية دلت على ذلك فثبت أن الحق ما ذكرناه أما القائلون بالقدر فقالوا لا يجوز أن يكون المراد من هذه الآية ما ذكرتم وبيانه من وجوه
الوجه الأول قال الجبائي إن من حال الله بينه وبين الإيمان فهو عاجز وأمر العاجز سفه ولو جاز ذلك لجاز أن يأمرنا الله بصعود السماء وقد أجمعوا على أن الزمن لا يؤمر بالصلاة قائماً فكيف يجوز ذلك على الله تعالى وقد قال تعالى لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ( البقرة 286 ) وقال في المظاهر فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتّينَ مِسْكِيناً ( المجادلة 4 ) فأسقط فرض الصوم عمن لا يستطيعه
الوجه الثاني أن الله تعالى أمر بالاستجابة لله وللرسول وذكر هذا الكلام في معرض الذكر والتحذير عن ترك الإجابة ولو كان المراد ما ذكرتم لكان ذلك عذراً قوياً في ترك الإجابة ولا يكون زجراً عن ترك الإجابة
الوجه الثالث أنه تعالى أنزل القرآن ليكون حجة للرسول على الكفار لا ليكون حجة للكفار على الرسول ولو كان المعنى ما ذكرتم لصارت هذه الآية من أقوى الدلائل للكفار على الرسول ولقالوا إنه تعالى لما منعنا من الإيمان فكيف يأمرنا به فثبت بهذه الوجوه أنه لا يمكن حمل الآية على ما قاله أهل الجبر قالوا ونحن نذكر في الآية وجوهاً الأول أن الله تعالى يحول بين المرء وبين الانتفاع بقلبه بسبب الموت يعني بذلك أن تبادروا في الاستجابة فيما ألزمتكم من الجهاد وغيره قبل أن يأتيكم الموت الذي لا بد منه ويحول بينكم وبين الطاعة والتوبة قال القاضي ولذلك قال تعالى عقيبه ما يدل عليه وهو قوله وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ والمقصود من هذه الآية الحث على الطاعة قبل نزول الموت الذي يمنع منها الثاني أن المراد أنه تعالى يحول بين المرء وبين ما يتمناه ويريده بقلبه فإن الأجل يحول دون الأمل فكأنه قال بادروا إلى الأعمال الصالحة ولا تعتمدوا على ما يقع في قلوبكم من توقع طول البقاء فإن ذلك غير موثوق به وإنما حسن إطلاق لفظ القلب على الأماني الحاصلة في القلب لأن تسمية الشيء باسم ظرفه جائزة كقولهم سال

الوادي الثالث أن المؤمنين كانوا خائفين من القتال يوم بدر فكأنه قيل لهم سارعوا إلى الطاعة ولا تتمنعوا عنها بسبب ما تجدون في قلوبكم من الضعف والجبن فإن الله تعالى يغير تلك الأحوال فيبدل الضعف بالقوة والجبن بالشجاعة لأنه تعالى مقلب القلوب الرابع قال مجاهد المراد من القلب ههنا العقل فكان المعنى أنه يحول بين المرء وقلبه والمعنى فبادروا إلى الأعمال وأنتم تعقلون فإنكم لا تؤمنون زوال العقول التي عند ارتفاعها يبطل التكليف وجعل القلب كناية عن العقل جائز كما قال تعالى إِنَّ فِى ذالِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ ( ق 37 ) أي لمن كان له عقل الخامس قال الحسن معناه أن الله حائل بين المرء وقلبه والمعنى أن قربه تعالى من عبده أشد من قرب قلب العبد منه والمقصود منه التنبيه على أنه تعالى لا يخفى عليه شيء مما في باطن العبد ومما في ضميره ونظيره قوله تعالى وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ( ق 16 ) فهذه جملة الوجوه المذكورة في هذا الباب لأصحاب الجبر والقدر
ثم قال تعالى وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أي واعلموا أنكم إليه تحشرون أي إلى الله ولا تتركون مهملين معطلين وفيه ترغيب شديد في العمل وتحذير عن الكسل والغفلة
وَاتَّقُواْ فِتْنَة ً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّة ً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ
اعلم أنه تعالى كما حذر الإنسان أن يحال بينه وبين قلبه فكذلك حذره من الفتن والمعنى واحذروا فتنة إن نزلت بكم لم تقتصر على الظالمين خاصة بل تتعدى إليكم جميعاً وتصل إلى الصالح والطالح عن الحسن نزلت في علي وعمار وطلحة والزبير وهو يوم الجمل خاصة قال الزبير نزلت فينا وقرأناها زماناً وما ظننا أنا أهلها فإذا نحن المعنيون بها وعن السدي نزلت في أهل بدر اقتتلوا يوم الجمل وروي أن الزبير كان يسامر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يوماً إذ أقبل علي رضي الله عنه فضحك إليه الزبير فقال رسول الله ( كيف حبك لعلي فقال يارسول الله أحبه كحبي لولدي أو أشد فقال ( كيف أنت إذا سرت إليه تقاتله )
فإن قيل كيف جاز دخول النون المؤكدة في جواب الأمر
قلنا فيه وجهان الأول أن جواب الأمر جاء بلفظ النهي ومتى كان كذلك حسن إدخال النون المؤكدة في ذلك النهي كقولك انزل عن الدابة لا تطرحك أو لا تطرحنك وكقوله تعالى نَمْلَة ٌ يأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ ( النمل 18 ) الثاني أن التقدير واتقوا فتنة تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة إلا أنه جيء بصيغة النهي مبالغة في نفي اختصاص الفتنة بالظالمين كأن الفتنة نهيت عن ذلك الاختصاص وقيل لها لا تصيبي الذين ظلموا خاصة والمراد منه المبالغة في عدم الاختصاص على سبيل الاستعارة
ثم قال تعالى وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ والمراد منه الحث على لزوم الاستقامة خوفاً من عقاب الله
فإن قيل حاصل الكلام في الآية أنه تعالى يخوفهم من عذاب لو نزل لعم المذنب وغيره وكيف يليق

برحمة الرحيم الحكيم أن يوصل الفتنة والعذاب إلى من لم يذنب
قلنا إنه تعالى قد ينزل الموت والفقر والعمى والزمانة بعبده ابتداء إما لأنه يحسن منه تعالى ذلك بحكم المالكية أو لأنه تعالى علم اشتمال ذلك على نوع من أنواع الصلاح على اختلاف المذهبين وإذا جاز ذلك لأحد هذين الوجهين فكذا ههنا والله أعلم
وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِى الأرض تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
اعلم أنه تعالى لما أمرهم بطاعة الله وطاعة الرسول ثم أمرهم باتقاء المعصية أكد ذلك التكليف بهذه الآية وذلك لأنه تعالى بين أنهم كانوا قبل ظهور الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في غاية القلة والذلة وبعد ظهوره صاروا في غاية العزة والرفعة وذلك يوجب عليهم الطاعة وترك المخالفة أما بيان الأحوال التي كانوا عليها قبل ظهور محمد فمن وجوه أولها أنهم كانوا قليلين في العدد وثانيها أنهم كانوا مستضعفين والمراد أن غيرهم يستضعفهم والمراد من هذا الاستضعاف أنهم كانوا يخافون أن يتخطفهم الناس والمعنى أنهم كانوا إذا خرجوا من بلدهم خافوا أن يتخطفهم العرب لأنهم كانوا يخافون من مشركي العرب لقربهم منهم وشدة عداوتهم لهم ثم بين تعالى أنهم بعد أن كانوا كذلك قلبت تلك الأحوال بالسعادات والخيرات فأولها أنه آواهم والمراد منه أنه تعالى نقلهم إلى المدينة فصاروا آمنين من شر الكفار وثانيها قوله وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ والمراد منه وجوه النصر في يوم بدر وثالثها قوله وَرَزَقَكُم مّنَ الطَّيّبَاتِ وهو أنه تعالى أحل لهم الغنائم بعد أن كانت محرمة على من كان قبل هذه الأمة
ثم قال لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي نقلناكم من الشدة إلى الرخاء ومن البلاء إلى النعماء والآلاء حتى تشتغلوا بالشكر والطاعة فكيف يليق بكم أن تشتغلوا بالمنازعة والمخاصمة بسبب الأنفال
يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ وَاعْلَمُوا أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَة ٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
اعلم أنه تعالى لما ذكر أنه رزقهم من الطيبات فههنا منعهم من الخيانة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في المراد بتلك الخيانة على أقوال الأول قال ابن عباس نزلت هذه الآية في أبي لبابة حين بعثه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى قريظة لما حاصرهم وكان أهله وولد فيهم فقالوا يا أبا لبابة ما

ترى لنا أننزل على حكم سعد بن معاد فينا فأشار أبو لبابة إلى حلقه أي أنه الذبح فلا تفعلوا فكان ذلك منه خيانة لله ورسوله الثاني قال السدي كانوا يسمعون الشيء من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيشقونه ويلقونه إلى المشركين فنهاهم الله عن ذلك الثالث قال ابن زيد نهاهم الله أن يخونوا كما صنع المنافقون يظهرون الإيمان ويسرون الكفر الرابع عن جابر بن عبد الله أن أبا سفيان خرج من مكة فعلم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) خروجه وعزم على الذهاب إليه فكتب إليه رجل من المنافقين أن محمداً يريدكم فخذوا حذركم فأنزل الله هذه الآية الخامس قال الزهري والكلبي نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى أهل مكة لما هم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالخروج إليها حكاه الأصم والسادس قال القاضي الأقرب أن خيانة الله غير خيانة رسوله وخيانة الرسول غير خيانة الأمانة لأن العطف يقتضي المغايرة
إذا عرفت هذا فنقول إنه تعالى أمرهم أن لا يخونوا الغنائم وجعل ذلك خيانة له لأنه خيانة لعطيته وخيانة لرسوله لأنه القيم بقسمها فمن خانها فقد خان الرسول وهذه الغنيمة قد جعلها الرسول أمانة في أيدي الغانمين وألزمهم أن لا يتناولوا لأنفسهم منها شيئاً فصارت وديعة والوديعة أمانة في يد المودع فمن خان منهم فيها فقد خان أمانة الناس إذ الخيانة ضد الأمانة قال ويحتمل أن يريد بالأمانة كل ما تعبد به وعلى هذا التقدير فيدخل فيه الغنيمة وغيرها فكان معنى الآية إيجاب أداء التكاليف بأسرها على سبيل التمام والكمال من غير نقص ولا إخلال وأما الوجوه المذكورة في سبب نزول الآية فهي داخلة فيها لكن لا يجب قصر الآية عليها لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) معنى الخون النقص كما أن معنى الوفاء التمام ومنه تخونه إذا انتقصه ثم استعمل في ضد الأمانة والوفاء لأنك إذا خنت الرجل في شيء فقد أدخلت عليه النقصان فيه
المسألة الثالثة في قوله وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وجوه الأول التقدير وَلاَ تَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ والدليل عليه ما روي في حرف عبد الله وَلاَ تَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ الثاني التقدير لا تخونوا الله والرسول فإنكم إن فعلتم ذلك فقد خنتم أماناتكم والعرب قد تذكر الجواب تارة بالفاء وأخرى بالواو ومنهم من أنكر ذلك
وأما قوله تعالى وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ فيه وجوه الأول وأنتم تعلمون أنكم تخونون يعني أن الخيانة توجد منكم عن تعمد لا عن سهو الثاني وأنتم علماء تعلمون قبح القبيح وحسن الحسن ثم إنه لما كان الداعي إلى الإقدام على الخيانة هو حب الأموال والأولاد نبه تعالى على أنه يجب على العاقل أن يحترز عن المضار المتولدة من ذلك الحب فقال إِنَّمَا أَمْوالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَة ٌ لأنها تشغل القلب بالدنيا وتصير حجاباً عن خدمة المولى
ثم قال وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ تنبيهاً على أن سعادات الآخرة خير من سعادات الدنيا لأنها أعظم في الشرف وأعظم في الفوز وأعظم في المدة لأنها تبقى بقاء لا نهاية له فهذا هو المراد من وصف الله الأجر الذي عنده بالعظم ويمكن أن يتمسك بهذه الآية في بيان أن الاشتغال بالنوافل أفضل من الاشتغال بالنكاح لأن الاشتغال بالنوافل يفيد الأجر العظيم عند الله والاشتغال بالنكاح يفيد الولد ويوجب الحاجة إلى

المال وذلك فتنة ومعلوم أن ما أفضى إلى الأجر العظيم عند الله فالاشتغال به خير مما أفضى إلى الفتنة
يِاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إَن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
واعلم أنه تعالى لما حذر عن الفتنة بالأموال والأولاد رغب في التقوى التي توجب ترك الميل والهوى في محبة الأموال والأولاد وفي الآية مسائل
المسألة الأولى لقائل أن يقول إدخال الشرط في الحكم إنما يحسن في حق من كان جاهلاً بعواقب الأمور وذلك لا يليق بالله تعالى
والجواب أن قولنا إن كان كذا كان كذا لا يفيد إلا كون الشرط مستلزماً للجزاء فأما أن وقوع الشرط مشكوك فيه أو معلوم فذلك غير مستفاد من هذا اللفظ سلمنا أنه يفيد هذا الشك إلا أنه تعالى يعامل العباد في الجزاء معاملة الشاك وعليه يخرج قوله تعالى وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ ( محمد 31 )
المسألة الثانية هذه القضية الشرطية شرطها شيء واحد وهو تقوى الله تعالى وذلك يتناول اتقاء الله في جميع الكبائر وإنما خصصنا هذا بالكبائر لأنه تعالى ذكر في الجزاء تكفير السيئات والجزاء يجب أن يكون مغايراً للشرط فحملنا التقوى على تقوى الكبائر وحملنا السيئات على الصغائر ليظهر الفرق بين الشرط والجزاء وأما الجزاء المرتب على هذا الشرط فأمور ثلاثة الأول قوله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا والمعنى أنه تعالى يفرق بينكم وبين الكفار ولما كان اللفظ مطلقاً وجب حمله على جميع الفروق الحاصلة بين المؤمنين وبين الكفار فنقول هذا الفرقان إما أن يعتبر في أحوال الدنيا أو في أحوال الآخرة أما في أحوال الدنيا فإما أن يعتبر في أحوال القلوب وهي الأحوال الباطنة أو في الأحوال الظاهرة أما في أحوال القلوب فأمور أحدها أنه تعالى يخص المؤمنين بالهداية والمعرفة وثانيها أنه يخص قلوبهم وصدورهم بالانشراح كما قال أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مّن رَّبّهِ ( الزمر 22 ) وثالثها أنه يزيل الغل والحقد والحسد عن قلوبهم ويزيل المكر والخداع عن صدورهم مع أن المنافق والكافر يكون قلبه مملوءاً من هذه الأحوال الخسيسة والأخلاق الذميمة والسبب في حصول هذه الأمور أن القلب إذا صار مشرقاً بطاعة الله تعالى زالت عنه كل هذه الظلمات لأن معرفة الله نور وهذه الأخلاق ظلمات وإذا ظهر النور فلا بد من زوال الظلمة وأما في الأحوال الظاهرة فإن الله تعالى يخص المسلمين بالعلو والفتح والنصر والظفر كما قال وَلِلَّهِ الْعِزَّة ُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ( المنافقين 8 ) وكما قال لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ ( التوبة 33 ) وأمر الفاسق والكافر بالعكس من ذلك وأما في أحوال الآخرة فالثواب والمنافع الدائمة والتعظيم من الله والملائكة وكل هذه الأحوال داخلة في الفرقان

والنوع الثاني من الأجزية المرتبة على التقوى قوله وَيُكَفّرْ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ فنقول إن حملنا قوله إَن تَتَّقُواْ اللَّهَ على الاتقاء من الكفر كان المراد بقوله وَيُكَفّرْ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ جميع السيئات التي وجدت قبل الكفر وإن حملناه على الاتقاء عن الكبائر كان المراد من هذا تكفير الصغائر
والنوع الثالث قوله وَيَغْفِرْ لَكُمْ واعلم أن المراد من تكفير السيئات سترها في الدنيا ومن المغفرة إزالتها في القيامة لئلا يلزم التكرار ثم قال وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ومن كان كذلك فإنه إذا وعد بشيء وفى به وإنما قلنا إن أفضال الله أعظم من أفضال غيره لوجوه الأول أن كل ما سوى الحق سبحانه فإنه لا يتفضل ولا يحسن إلا إذا حصلت في قلبه داعية الإفضال والإحسان وتلك الداعية حادثة فلا تحصل إلا بتخليق الله تعالى وعند هذا ينكشف أن المتفضل ليس إلا الله الذي خلق تلك الداعية الموجبة لذلك الفعل الثاني أن كل من تفضل يستفيد به نوعاً من أنواع الكمال إما عوضاً من المال أو عوضاً من المدح والثناء وإما عوضاً من نوع آخر وهو دفع الألم الحاصل في القلب بسبب الرقة الجنسية والله تعالى يعطي ويتفضل ولا يطلب به شيئاً من الأعواض لأنه كامل لذاته وما كان حاصلاً للشيء لذاته امتنع أن يستفيده من غيره الثالث أن كل من تفضل على الغير فإن المتفضل عليه يصير ممنوناً عليه من ذلك المتفضل وذلك منفر أما الحق سبحانه وتعالى فهو الموجد لذات كل أحد بجميع صفاته فلا يحصل الاستنكاف من قبول إحسانه الرابع أن كل من تفضل على غيره فإنه لا ينتفع المتفضل عليه بذلك التفضل إلا إذا حصلت له عين باصرة وأذن سامعة ومعدة هاضمة حتى ينتفع بذلك الإحسان وعند هذا ينكشف أن المتفضل هو الله في الحقيقة فثبت بهذه البراهين صحة قوله وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر المؤمنين نعمه عليهم بقوله وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ ( الأنفال 26 ) فكذلك ذكر رسوله نعمه عليه وهو دفع كيد المشركين ومكر الماكرين عنه وهذه السورة مدنية قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم من المفسرين إن مشركي قريش تآمروا في دار الندوة ودخل عليهم إبليس في صورة شيخ وذكر أنه من أهل نجد فقال بعضهم قيدوه نتربص به ريب المنون فقال إبليس لا مصلحة فيه لأنه يغضب له قومه فتسفك له الدماء وقال بعضهم أخرجوه عنكم تستريحوا من أذاه لكم فقال إبليس لا مصلحة فيه لأنه يجمع طائفة على نفسه ويقاتلكم بهم وقال أبو جهل الرأي أن نجمع من كل قبيلة رجلاً فيضربوه بأسيافهم ضربة واحدة فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل فلا يقوى بنو هاشم على محاربة قريش كلها فيرضون بأخذ الدية فقال إبليس هذا هو الرأي الصواب فأوحى الله تعالى إلى نبيه بذلك وأذن له في الخروج إلى المدينة وأمره أن لا يبيت في مضجعه وأذن الله له في الهجرة وأمر علياً أن يبيت في مضجعه وقال له تسج

ببردتي فإنه لن يخلص إليك أمر تكرهه وباتوا مترصدين فلما أصبحوا ثاروا إلى مضجعه فأبصروا علياً فبهتوا وخيب الله سعيهم وقوله لِيُثْبِتُوكَ قال ابن عباس ليوثقوك ويشدوك وكل من شد فقد أثبت لأنه لا يقدر على الحركة ولهذا يقال لمن اشتدت به علة أو جراحه تمنعه من الحركة فقد أثبت فلان فهو مثبت وقيل ليسجنوك وقيل ليحبسوك وقيل ليثبتوك في بيت فحذف المحل لوضوح معناه وقرأ بعضهم لِيُثْبِتُوكَ بالتشديد وقرأ النخعى لِيُثْبِتُوكَ من البيات وقوله أَوْ يَقْتُلُوكَ وهو الذي حكيناه عن أبي جهل لعنه الله أَوْ يُخْرِجُوكَ أي من مكة ولما ذكر تعالى هذه الأقسام الثلاثة قال وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ وقد ذكرنا في سورة آل عمران في تفسير قوله وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ( آل عمران 54 ) تفسير المكر في حق الله تعالى والحاصل أنهم احتالوا على إبطال أمر محمد والله تعالى نصره وقواه فضاع فعلهم وظهر صنع الله تعالى قال القاضي القصة التي ذكرها ابن عباس موافقة للقرآن إلا ما فيها من حديث إبليس فإنه زعم أنه كانت صورته موافقة لصورة الإنس وذلك باطل لأن ذلك التصوير إما أن يكون من فعل الله أو من فعل إبليس والأول باطل لأنه لا يجوز من الله تعالى أن يفعل ذلك ليفتن الكفار في المكر والثاني أيضاً باطل لأنه لا يليق بحكمة الله تعالى أن يقدر إبليس على تغيير صورة نفسه
واعلم أن هذا النزاع عجيب فإنه لما لم يبعد من الله تعالى أن يقدر إبليس على أنواع الوساوس فكيف يبعد منه أن يقدره على تغيير صورة نفسه
فإن قيل كيف قال وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ولا خير في مكرهم
قلنا فيه وجوه أحدها أن يكون المراد أقوى الماكرين فوضع خَيْرٌ موضع أقوى وأشد لينبه بذلك على أن كل مكر فهو يبطل في مقابلة فعل الله تعالى وثانيها أن يكون المراد خير الماكرين لو قدر في مكرهم ما يكون خيراً وحسناً وثالثها أن يكون المراد من قوله خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ليس هو التفضيل بل المراد أنه في نفسه خير كما يقال الثريد خير من الله تعالى
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَاذَآ إِنْ هَاذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَة ً مِّنَ السَّمَآءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَآءَهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ

اعلم أنه تعالى لما حكى مكرهم في ذات محمد حكى مكرهم في دين محمد روى أن النضر بن الحرث خرج إلى الحيرة تاجراً واشترى أحاديث كليلة ودمنة وكان يقعد مع المستهزئين والمقتسمين وهو منهم فيقرأ عليهم أساطير الأولين وكان يزعم أنها مثل ما يذكره محمد من قصص الأولين فهذا هو المراد من قوله قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَاذَا إِنْ هَاذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الاوَّلِينَ وههنا موضع بحث وذلك لأن الاعتماد في كون القرآن معجزاً عن أنه ( صلى الله عليه وسلم ) تحدى العرب بالمعارضة فلم يأتوا بها وهذا إشارة إلى أنهم أتوا بتلك المعارضة وذلك يوجب سقوط الدليل المعول عليه
والجواب أن كلمة لَوْ تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره فقوله لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَاذَا يدل على أنه ما شاء ذلك القول وما قال فثبت أن النضر بن الحرث أقر أنه ما أتى بالمعارضة وإنما أخبر أنه لو شاءها لأتى بها وهذا ضعيف لأن المقصود إنما يحصل لو أتى بالمعارضة أما مجرد هذا القول فلا فائدة فيه
والشبهة الثانية لهم قولهم اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَة ً مّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ أي بنوع آخر من العذاب أشد من ذلك وأشق منه علينا
فإن قيل هذا الكلام يوجب الإشكال من وجهين الأول أن قوله اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَة ً مّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ حكاه الله عن الكفار وكان هذا كلام الكفار وهو من جنس نظم القرآن فقد حصلت المعارضة في هذا القدر وأيضاً حكى عنهم أنهم قالوا في سورة بني إسرائيل وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الاْرْضِ يَنْبُوعًا ( الإسراء 90 ) وذلك أيضاً كلام الكفار فقد حصل من كلامهم ما يشبه نظم القرآن ومعارضته وذلك يدل على حصول المعارضة الثاني أن كفار قريش كانوا معترفين بوجود الإله وقدرته وحكمته وكانوا قد سمعوا التهديد الكثير من محمد عليه الصلاة والسلام في نزول العذاب فلو كان نزول القرآن معجزاً لعرفوا كونه معجزاً لأنهم أرباب الفصاحة والبلاغة ولو عرفوا ذلك لكان أقل الأحوال أن يصيروا شاكين في نبوة محمد عليه الصلاة والسلام ولو كانوا كذلك لما أقدموا عى قولهم اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَة ً مّنَ السَّمَاء لأن المتوقف الشاك لا يتجاسر على مثل هذه المبالغة وحيث أتوا بهذه المبالغة علمنا أنه ما لاح لهم في القرآن وجه من الوجوه المعجزة
والجواب عن الأول أن الإتيان بهذا القدر من الكلام لا يكفي في حصول المعارضة لأن هذا المقدار كلام قليل لا يظهر فيه وجوه الفصاحة والبلاغة وهذا الجواب لا يتمشى إلا إذا قلنا التحدي ما وقع بجميع السور وإنما وقع بالسورة الطويلة التي يظهر فيها قوة الكلام
والجواب عن الثاني هب أنه لم يظهر لهم الوجه في كون القرآن معجز إلا أنه لما كان معجزاً في نفسه فسواء عرفوا ذلك الوجه أو لم يعرفوا فإنه لا يتفاوت الحال فيه
المسألة الثانية قوله اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ قال الزجاج القراءة بنصب الْحَقّ على خبر كَانَ ودخلت هُوَ للفصل ولا موضع لها وهي بمنزلة ( ما ) المؤكدة ودخلت ليعلم أن قوله الْحَقّ ليس بصفة لهذا وأنه خبر قال ويجوز هو الحق رفعاً ولا أعلم أحداً قرأ بها ولا خلاف بين النحويين في إجازتها ولكن القراءة سنة وروى صاحب ( الكشاف ) عن الأعمش أنه قرأ بها

واعلم أنه تعالى لما حكى هاتين الشبهتين لم يذكر الجواب عن الشبهة الأولى وهو قوله لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَاذَا ولكنه ذكر الجواب عن الشبهة الثانية وهو قوله وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن تقرير وجه الجواب أن الكفار لما بالغوا وقالوا اللهم إن كان محمد محقاً فأمطر علينا حجارة من السماء ذكر تعالى أن محمداً وإن كان محقاً في قوله إلا أنه مع ذلك لا يمطر الحجارة على أعدائه وعلى منكري نبوته لسببين الأول أن محمداً عليه الصلاة والسلام ما دام يكون حاضراً معهم فإنه تعالى لا يفعل بهم ذلك تعظيماً له وهذا أيضاً عادة الله مع جميع الأنبياء المتقدمين فإنه لم يعذب أهل قرية إلا بعد أن يخرج رسولهم منها كما كان في حق هود وصالح ولوط
فإن قيل لما كان حضوره فيهم مانعاً من نزول العذاب عليهم فكيف قال قَاتِلُوهُمْ يُعَذّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ ( التوبة 14 )
قلنا المراد من الأول عذاب الاستئصال ومن الثاني العذاب الحاصل بالمحاربة والمقاتلة
والسبب الثاني قوله وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وفي تفسيره وجوه الأول وما كان الله معذب هؤلاء الكفار وفيهم مؤمنون يستغفرون فاللفظ وإن كان عاماً إلا أن المراد بعضهم كما يقال قتل أهل المحلة رجلاً وأقدم أهل البلدة الفلانية على الفساد والمراد بعضهم الثاني وما كان الله معذب هؤلاء الكفار وفي علم الله أنه يكون لهم أولاد يؤمنون بالله ويستغفرونه فوصفوا بصفة أولادهم وذراريهم الثالث قال قتادة والسدي وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ أي لو استغفروا لم يعذبوا فكان المطلوب من ذكر هذا الكلام استدعاء الاستغفار منهم أي لو اشتغلوا بالاستغفار لما عذبهم الله ولهذا ذهب بعضهم إلى أن الاستغفار ههنا بمعنى الإسلام والمعنى أنه كان معهم قوم كان في علم الله أن يسلموا منهم أبو سفيان بن حرب وأبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب والحرث بن هشام وحكيم بن حزام وعدد كثير والمعنى وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ مع أن في علم الله أن فيهم من يؤل أمره إلى الإيمان قال أهل المعاني دلت هذه الآية على أن الاستغفار أمان وسلامة من العذاب قال ابن عباس كان فيهم أمانان نبي الله والاستغفار أما النبي فقد مضى وأما الاستغفار فهو باق إلى يوم القيامة ثم قال وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذّبَهُمُ اللَّهُ واعلم أنه تعالى بين في الآية الأولى أنه لا يعذبهم ما دام رسول الله فيهم وذكر في هذه الآية أنه يعذبهم فكان المعنى أنه يعذبهم إذا خرج الرسول من بينهم ثم اختلفوا في هذا العذاب فقال بعضهم لحقهم هذا العذاب المتوعد به يوم بدر وقيل بل يوم فتح مكة وقال ابن عباس هذا العذاب هو عذاب الآخرة والعذاب الذي نفاه عنهم هو عذاب الدنيا ثم بين تعالى ما لأجله يعذبهم فقال وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وقد ظهرت الأخبار أنهم كيف صدوا عنه عام الحديبية ونبه على أنهم يصدون لادعائهم أنهم أولياؤه ثم بين بطلان هذه الدعوى بقوله وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاؤُهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ الذين يتحرزون عن المنكرات كالذي كانوا يفعلونه عند البيت من المكاء والتصدية والمقصود بيان أن من كانت هذه حاله لم يكن ولياً للمسجد الحرام فهم إذن أهل لأن يقتلوا بالسيف ويحاربوا فقتلهم الله يوم بدر وأعز الإسلام بذلك على ما تقدم شرحه

وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَة ً فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ
اعلم أنه تعالى لما قال في حق الكفار أنهم ما كانوا أولياء البيت الحرام وقال إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ ( الأنفال 34 ) بين بعده ما به خرجوا من أن يكونوا أولياء البيت وهو أن صلاتهم عند البيت وتقربهم وعبادتهم إنما كان بالمكاء والتصدية قال صاحب ( الكشاف ) المكاء فعال بوزن النغاء والرغاء من مكا يمكو إذا صفر والمكاء الصفير ومنه المكاء وهو طائر يألف الريف وجمعه المكاكي سمى بذلك لكثرة مكانه وأما التصدية فهي التصفيق يقال صدى يصدي تصدية إذا صفق بيديه وفي أصلها قولان الأول أنها من الصدى وهو الصوت الذي يرجع من جبل الثاني قال أبو عبيدة أصلها تصددة فأبدلت الياء من الدال ومنه قوله تعالى إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ( الزخرف 57 ) أي يعجزون وأنكر بعضهم هذا الكلام والأزهري صحح قول أبي عبيدة وقال صدى أصله صدى فكثرت الدالات الدالة فقلبت إحداهن ياء
إذا عرفت هذا فنقول قال ابن عباس كانت قريش يطوفون بالبيت عراة يصفرون ويصفقون وقال مجاهد كانوا يعارضون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في الطواف ويستهزؤون به ويصفرون ويخلطون عليه طوافه وصلاته وقال مقاتل كان إذا صلى الرسول في المسجد يقومون عن يمينه ويساره بالتصفير والتصفيق ليخلطوا عليه صلاته فعلى قول ابن عباس كان المكاء والتصدية نوع عبادة لهم وعلى قول مجاهد ومقاتل كان إيذاء للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) والأول أقرب لقوله تعالى وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَة ً
فإن قيل المكاء والتصدية ما كانا من جنس الصلاة فكيف يجوز استثناؤهما عن الصلاة
قلنا فيه وجوه الأول أنهم كانوا يعتقدون أن المكاء والتصدية من جنس الصلاة فخرج هذا الاستثناء على حسب معتقدهم الثاني أن هذا كقولك وددت الأمير فجعل جفائي صلتي أي أقام الجفاء مقام الصلة فكذا ههنا الثالث الغرض منه أن من كان المكاء والتصدية صلاته فلا صلاة له كما تقول العرب ما لفلان عيب إلا السخاء يريد من كان السخاء عيبه فلا عيب له
ثم قال تعالى فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ أي عذاب السيف يوم بدر وقيل يقال لهم في الآخرة فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَة ً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِى جَهَنَّمَ أُوْلَائِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ

اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال هؤلاء الكفار في الطاعات البدنية أتبعها بشرح أحوالهم في الطاعات المالية قال مقاتل والكلبي نزلت في المطعمين يوم بدر وكانوا اثني عشر رجلاً من كبار قريش وقال سعيد بن جبير ومجاهد نزلت في أبي سفيان وإنفاقه المال على حرب محمد يوم أحد وكان قد استأجر ألفين من الأحابيش سوى من استجاش من العرب وأنفق عليهم أربعين أوقية والأوقية اثنان وأربعون مثقالاً هكذا قاله صاحب ( الكشاف ) ثم بين تعالى أنهم إنما ينفقون هذا المال ليصدوا عن سبيل الله أي كان غرضهم في الإنفاق الصد عن اتباع محمد وهو سبيل الله وإن لم يكن عندهم كذلك
ثم قال فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَة ً يعني أنه سيقع هذا الإنفاق ويكون عاقبته الحسرة لأنه يذهب المال ولا يحصل المقصود بل يصيرون مغلوبين في آخر الأمر كما قال تعالى كَتَبَ اللَّهُ لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى ( المجادلة 21 ) وقوله وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ففيه بحثان
البحث الأول أنه لم يقل وإلى جهنم يحشرون لأنه كان فيهم من أسلم بل ذكر أن الذين بقوا على الكفر يكونون كذلك
البحث الثاني أن ظاهر قوله إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ يفيد أنه لا يكون حشرهم إلا إلى جهنم لأن تقديم الخبر يفيد الحصر
واعلم أن المقصود من هذا الكلام أنهم لا يستفيدون من بذلهم أموالهم في تلك الانفاقات إلا الحسرة والخيبة في الدنيا والعذاب الشديد في الآخرة وذلك يوجب الزجر العظيم عن ذلك الإنفاق ثم قال لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيّبِ وفيه قولان
القول الأول ليميز الله الفريق الخبيث من الكفار من الفريق الطيب من المؤمنين فيجعل الفريق الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعاً وهو عبارة عن الجمع والضم حتى يتراكموا كقوله تعالى كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ( الجن 19 ) يعني لفرط ازدحامهم فقوله أُوْلَائِكَ إشارة إلى الفريق الخبيث
والقول الثاني المراد بالخبيث نفقة الكافر على عداوة محمد وبالطيب نفقة المؤمن في جهاد الكفار كإنفاق أبي بكر وعثمان في نصرة الرسول عليه الصلاة والسلام فيضم تعالى تلك الأمور الخبيثة بعضها إلى بعض فيلقيها في جهنم ويعذبهم بها كقوله تعالى فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ( التوبة 35 ) واللام في قوله لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ على القول الأول متعلق بقوله يُحْشَرُونَ والمعنى أنهم يحشرون ليميز الله الفريق الخبيث من الفريق الطيب وعلى القول الثاني متعلق بقوله ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَة ً ثم قال أُولَائِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ وهو إشارة إلى الذين كفروا
قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الاٌّ وَّلِينِ

اعلم أنه تعالى لما بين صلاتهم في عباداتهم البدنية وعباداتهم المالية أرشدهم إلى طريق الصواب وقال قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ أي قل لأجلهم هذا القول وهو إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ ولو كان بمعنى خاطبهم به لقيل إن تنتهوا يغفر وقال ابن مسعود هكذا
المسألة الثانية المعنى أن هؤلاء الكفاء إن انتهوا عن الكفر وعداوة الرسول ودخلوا الإسلام والتزموا شرائعه غفر الله لهم ما قد سلف من كفرهم وعداوتهم للرسول وإن عادوا إليه وإصروا عليه فقد مضت سنة الأولين وفيه وجوه الأول المراد فقد مضت سنة الأولين منهم الذين حاق بهم مكرهم يوم بدر الثاني فقد مضت سنة الأولين الذين تحزبوا على أنبيائهم من الأمم الذين قد مروا فليتوقعوا مثل ذلك إن لم ينتهوا الثالث أن معناه أن الكفار إذا انتهوا عن الكفر وأسلموا غفر لهم ما قد سلف من الكفر والمعاصي وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين وهي قوله كَتَبَ اللَّهُ لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى ( المجادلة 21 ) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا ( الصافات 171 ) ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أَنَّ الاْرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِى َ الصَّالِحُونَ ( الأنبياء 105 )
المسألة الثالثة اختلف الفقهاء في أن توبة الزنديق هل تقبل أم لا والصحيح أنها مقبولة لوجوه الأول هذه الآية فإن قوله قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ يتناول جميع أنواع الكفر
فإن قيل الزنديق لا يعلم من حاله أنه هل انتهى من زنذقته أم لا
قلنا أحكام الشرع مبنية على الظواهر كما قال عليه السلام ( نحن نحكم بالظاهر ) فلما رجع وجب قبول قوله فيه الثاني لا شك أنه مكلف بالرجوع ولا طريق له إليه إلا بهذه التوبة فلو لم تقبل لزم تكليف ما لا يطاق الثالث قوله تعالى وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَة َ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُواْ عَنِ السَّيّئَاتِ ( الشورى 25 )
المسألة الرابعة احتج أصحاب أبي حنيفة بهذه الآية على أن الكفار ليسوا مخاطبين بفروع الشرائع قالوا لأنهم لو كانوا مخاطبين بها لكان إما أن يكونوا مخاطبين بها مع الكفر أو بعد زوال الكفر والأول باطل بالإجماع والثاني باطل لأن هذه الآية تدل على أن الكافر بعد الإسلام لا يؤاخذ بشيء مما مر عليه في زمان الكفر وإيجاب قضاء تلك العبادات ينافي ظاهره هذه الآية
المسألة الخامسة احتج أبو حنيفة رحمه الله بهذه الآية على أن المرتد إذا أسلم لم يلزمه قضاء العبادات التي تركها في حالة الردة وقبلها ووجه الدلالة ظاهر
المسألة السادسة قال عليه السلام ( الإسلام يجب ما قبله ) فإذا أسلم الكافر لم يلزمه قضاء شيء من العبادات البدنية والمالية وما كان له من جناية على نفس أو مال فهو معفو عنه وهو ساعة إسلامه كيوم ولدته أمه وقال يحيى بن معاذ الرازي في هذه الآية أن توحيد ساعة يهدم كفر سبعين سنة وتوحيد سبعين سنة كيف لا يقوى على هدم ذنب ساعة ا

وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَة ٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلهِ فَإِنِ انْتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ
اعلم أنه تعالى لما بين أن هؤلاء الكفار إن انتهوا عن كفرهم حصل لهم الغفران وإن عادوا فهم متوعدون بسنة الأولين أتبعه بأن أمر بقتالهم إذا أصروا فقال وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَة ٌ قال عروة بن الزبير كان المؤمنون في مبدأ الدعوة يفتنون عن دين الله فافتتن من المسلمين بعضهم وأمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) المسلمين أن يخرجوا إلى الحبشة وفتنة ثانية وهو أنه لما بايعت الأنصار رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بيعة العقبة توامرت قريش أن يفتنوا المؤمنين بمكة عن دينهم فأصاب المؤمنين جهد شديد فهذا هو المراد من الفتنة فأمر الله تعالى بقتالهم حتى تزول هذه الفتنة وفيه وجه آخر وهو أن مبالغة الناس في حبهم أديانهم أشد من مبالغتهم في حبهم أرواحهم فالكافر أبداً يسعى بأعظم وجوه السعي في إيذاء المؤمنين وفي إلقاء الشبهات في قلوبهم وفي إلقائهم في وجوه المحنة والمشقة وإذا وقعت المقاتلة زال الكفر والمشقة وخلص الإسلام وزالت تلك الفتن بالكلية قال القاضي إنه تعالى أمر بقتالهم ثم بين العلة التي بها أوجب قتالهم فقال حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَة ٌ ويخلص الدين الذي هو دين الله من سائر الأديان وإنما يحصل هذا المقصود إذا زال الكفر بالكلية إذا عرفت هذا فنقول إما أن يكون المراد من الآية وَقَاتِلُوهُمْ لأجل أن يحصل هذا المعنى أو يكون المراد وَقَاتِلُوهُمْ لغرض أن يحصل هذا المعنى فإن كان المراد من الآية هو الأول وجب أن يحصل هذا المعنى من القتال فوجب أن يكون المراد وَيَكُونَ الدّينُ كُلُّهُ لِلهِ في أرض مكة وما حواليها لأن المقصود حصل هنا قال عليه السلام ( لا يجتمع دينان في جزيرة العرب ) ولا يمكن حمله على جميع البلاد إذ لوكان ذلك مراداً لما بقي الكفر فيها مع حصول القتال الذي أمر الله به وأما إذا كان المراد من الآية هو الثاني وهو قوله قاتلوهم لغرض أن يكون الدين كله لله فعلى هذا التقدير لم يمتنع حمله على إزالة الكفر عن جميع العالم لأنه ليس كل ما كان غرضاً للإنسان فإنه يحصل فكان المراد الأمر بالقتال لحصول هذا الغرض سواء حصل في نفس الأمر أو لم يحصل
ثم قال فَإِنِ انْتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ والمعنى فَإِنِ انْتَهَوْاْ عن الكفر وسائر المعاصي بالتوبة والإيمان فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ عالم لا يخفى عليه شيء يوصل إليهم ثوابهم وَإِن تَوَلَّوْاْ يعني عن التوبة والإيمان فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَوْلاَكُمْ أي وليكم الذي يحفظكم ويرفع البلاء عنكم ثم بين أنه تعالى نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ وكل ما كان في حماية هذا المولى وفي حفظه وكفايته كان آمناً من الآفات مصوناً عن المخوفات
وَاعْلَمُو ا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَى ْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ ءَامَنْتُم بِاللَّهِ وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَى ْءٍ قَدِيرٌ

اعلم أنه تعالى لما أمر بالمقاتلة في قوله وَقَاتِلُوهُمْ وكان من المعلوم أن عند المقاتلة قد تحصل الغنيمة لا جرم ذكر الله تعالى حكم الغنيمة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى الغنم الفوز بالشيء يقال غنم يغنم غنماً فهو غانم والغنيمة في الشريعة ما دخلت في أيدي المسلمين من أموال المشركين على سبيل القهر بالخيل والركاب
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) مَا في قوله مَا غَنِمْتُم مّن شَى ْء موصولة وقوله مِن شَى ْء يعني أي شيء كان حتى الخيط والمخيط فَأَنَّ للَّهِ خبر مبتدأ محذوف تقديره فحق أو فواجب أن لله خمسه وروى النخعي عن ابن عمر فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ بالكسر وتقديره على قراءة النخعي فلله خمسه والمشهور آكد وأثبت للإيجاب كأنه قيل فلا بد من إثبات الخمس فيه ولا سبيل إلى الإخلال به وذلك لأنه إذا حذف الخبر واحتمل وجوهاً كثيرة من المقدرات كقولك ثابت واجب حق لازم كان أقوى لإيجابه من النص على واحد وقرىء خُمُسَهُ بالسكون
المسألة الثالثة في كيفية قسمة الغنائم
اعلم أن هذه الآية تقتضي أن يؤخذ خمسها وفي كيفية قسمة ذلك الخمس قولان
القول الأول وهو المشهور أن ذلك الخمس يخمس فسهم لرسول الله وسهم لذوي قرباه من بني هاشم وبني المطلب دون بني عبد شمس وبني نوفل لما روي عن عثمان وجبير بن مطعم أنهما قالا لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هؤلاء إخوتك بنو هاشم لا ينكر فضلهم لكونك منهم أرأيت إخواننا بني المطلب أعطيتهم وحرمتنا وإنما نحن وهم بمنزلة واحدة فقال عليه السلام ( إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد وشبك بين أصابعه ) وثلاثة أسهم لليتامى والمساكين وابن السبيل وأما بعد وفاة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فعند الشافعي رحمه الله أنه يقسم على خمسة أسهم سهم لرسول الله يصرف إلى ما كان يصرفه إليه من مصالح المسلمين كعدة الغزاة من الكراع والسلاح وسهم لذوي القربى من أغنيائهم وفقرائهم يقسم بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين والباقي للفرق الثلاثة وهم اليتامى والمساكين وابن السبيل وقال أبو حنيفة رحمه الله إن بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام سهمه ساقط بسبب موته وكذلك سهم ذوي القربى وإنما يعطون لفقرهم فهو أسوة سائر الفقراء ولا يعطى أغنياؤهم فيقسم على اليتامى والمساكين وابن السبيل وقال مالك الأمر في الخمس مفوض إلى رأي الإمام إن رأى قسمته على هؤلاء فعل وإن رأى إعطاء بعضهم دون بعض فله ذلك

واعلم أن ظاهر الآية مطابق لقول الشافعي رحمه الله وصريح فيه فلا يجوز العدول عنه إلا لدليل منفصل أقوى منها وكيف وقد قال في آخر الآية وَقَالَ مُوسَى ياقَوْمِ إِن يعني إن كنتم آمنتم بالله فاحكموا بهذه القسمة وهو يدل على أنه متى لم يحصل الحكم بهذه القسمة لم يحصل الإيمان بالله
والقول الثاني وهو قول أبي العالية إن خمس الغنيمة يقسم على ستة أقسام فواحد منها لله وواحد لرسول الله والثالث لذوي القربى والثلاثة الباقية لليتامى والمساكين وابن السبيل قالوا والدليل عليه أنه تعالى جعل خمس الغنيمة لله ثم للطوائف الخمسة ثم القائلون بهذا القول منهم من قال يصرف سهم الله إلى الرسول ومنهم من قال يصرف إلى عمارة الكعبة وقال بعضهم إنه عليه السلام كان يضرب يده في هذا الخمس فما قبض عليه من شيء جعله للكعبة وهو الذي سمى لله تعالى
والقائلون بالقول الأول أجابوا عنه بأن قوله لِلَّهِ ليس المقصود منه أثبات نصيب لله فإن الأشياء كلها ملك لله وملكه وإنما المقصود منه افتتاح الكلام بذكر الله على سبيل التعظيم كما في قوله قُلِ الانفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ واحتج القفال على صحة هذا القول بما روي عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال لهم في غنائم خيبر ( مالي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود فيكم ) فقوله مالي إلا الخمس يدل على أن سهم الله وسهم الرسول واحد وعلى الإضمام سهمه السدس لا الخمس وإن قلنا إن السهمين يكونان للرسول صار سهمه أزيد من الخمس وكلا القولين ينافي ظاهر قوله ( مالي إلا الخمس ) هذا هو الكلام في قسمة خمس الغنيمة وأما الباقي وهو أربعة أخماس الغنيمة فهي للغانمين لأنهم الذين حازوه واكتسبوه كما يكتسب الكلأ بالاحتشاش والطير بالاصطياد والفقهاء استنبطوا من هذه الآية مسائل كثيرة مذكورة في كتب الفقه
المسألة الرابعة دلت الآية على أنه يجوز قسمة الغنائم في دار الحرب كما هو قول الشافعي رحمه الله والدليل عليه أن قوله فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ يقتضي ثبوت الملك لهؤلاء في الغنيمة وإذا حصل الملك لهم فيه وجب جواز القسمة لأنه لا معنى للقسمة على هذا التقدير إلا صرف الملك إلى المالك وذلك جائز بالاتفاق
المسألة الخامسة اختلفوا في ذوي القربى قيل هم بنو هاشم وقال الشافعي رحمه الله هم بنو هاشم وبنو المطلب واحتج بالخبر الذي رويناه وقيل آل علي وجعفر وعقيل وآل عباس وولد الحرث بن عبد المطلب وهو قول أبي حنيفة
المسألة السادسة حكى صاحب ( الكشاف ) عن الكلبي أن هذه الآية نزلت ببدر وقال الواقدي رحمه الله كان الخمس في غزوة بني قينقاع بعد بدر بشهر وثلاثة أيام للنصف من شوال على رأس عشرين شهراً من الهجرة
ثم قال تعالى وَقَالَ مُوسَى ياقَوْمِ إِن والمعنى اعلموا أن خمس الغنيمة مصروف إلى هذه الوجوه الخمسة فاقطعوا عنه أطماعكم واقنعوا بالأخماس الأربعة وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَى ْء فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ يعني إن كنتم آمنتم بالله وبالمنزل على عبدنا يوم الفرقان يوم بدر والجمعان الفريقان من المسلمين والكافرين والمراد منه ما أنزل عليه من الآيات والملائكة والفتح في ذلك اليوم وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ أي يقدر على نصركم وأنتم قليلون ذليلون والله أعلم

إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَة ِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَة ِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَاكِن لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَة ٍ وَيَحْيَى مَنْ حَى َّ عَن بَيِّنَة ٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في قوله إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَة ِ الدُّنْيَا قولان أحدهما أنه متعلق بمضمر معناه واذكروا إذ أنتم كذا وكذا كما قال تعالى وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ ( الأنفال 26 ) والثاني أن يكون قوله إِذْ بدلاً عن يوم الفرقان
المسألة الثانية قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو بِالْعُدْوَة ِ بكسر العين في الحرفين والباقون بالضم وهما لغتان قال ابن السكيت عدوة الوادي وعدوته جانبه والجمع عدى وعدي قال الأخفش الكسر كلام العرب لم يسمع عنهم غير ذلك وقال أحمد بن يحيى الضم في العدوة أكثر اللغتين وحكى صاحب ( الكشاف ) الضم والفتح والكسر قال وقرىء بهن و بالعدية على قلب الواو ياء لأن بينها وبين الكسر حاجزاً غير حصين كما في الفتية وأما الْحَيَواة َ الدُّنْيَا فتأنيث الأدنى وضده الْقُصْوَى وهو تأنيث الأقصى وكل شيء تنحى عن شيء فقد قصا والأقصى والقصوى كالأكبر والكبرى
فإن قيل كلتاهما فعلى من باب الواو فلم جاءت إحداهما بالياء والثانية بالواو
قلنا القياس قلب الواو ياء كالعليا وأما القصوى فقد جاء شاذاً وأكثر استعماله على أصله
المسألة الثالثة المراد بالعدوة الدنيا ما يلي جانب المدينة وبالقصوى ما يلي جانب مكة وكان الماء في العدوة التي نزل بها المشركون وكان استظهارهم من هذا الوجه أشد وَالرَّكْبُ العير التي خرجوا لها كانت في موضع أَسْفَلَ مِنكُمْ إلى ساحر البحر وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ أنتم وأهل مكة على القتال لخالف بعضكم بعضاً لقلتكم وكثرتهم وَلَاكِن لّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً أي أنه يثبتكم الله وينصركم ليقضي أمراً كان مفعولاً واجباً أن يخرج إلى الفعل وقوله لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ بدل من قوله لّيَقْضِيَ وفيه مسائل
المسألة الأولى لا شك أن عسكر الرسول عليه السلام في أول الأمر كانوا في غاية الخوف والضعف بسبب القلة وعدم الأهبة ونزلوا بعيدين عن الماء وكانت الأرض التي نزلوا فيها أرضاً رملية تغوص فيها أرجلهم وأما الكفار فكانوا في غاية القوة بسبب الكثرة في العدد وبسبب حصول الآلات والأدوات لأنهم كانوا قريبين من الماء ولأن الأرض التي نزلوا فيها كانت صالحة للمشي ولأن العير كانوا خلف ظهورهم وكانوا يتوقعون مجيء المدد من العير إليهم ساعة فساعة ثم إنه تعالى قلب القصة وعكس القضية وجعل الغلبة للمسلمين والدمار على الكافرين فصار ذلك من أعظم المعجزات وأقوى البينات

على صدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فيما أخبر عن ربه من وعد النصر والفتح والظفر فقوله لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَة ٍ إشارة إلى هذا المعنى وهو أن الذين هلكوا إنما هلكوا بعد مشاهدة هذه المعجزة والمؤمنون الذين بقوا في الحياة شاهدوا هذه المعجزة القاهرة والمراد من البينة هذه المعجزة
المسألة الثانية اللام في قوله لّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وفي قوله لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَة ٍ لام الغرض وظاهره يقتضي تعليل أفعال الله وأحكامه بالأغراض والمصالح إلا أنا نصرف هذا الكلام عن ظاهره بالدلائل العقلية المشهورة
المسألة الثالثة قوله لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَة ٍ ظاهره يقتضي أنه تعالى أراد من الكل العلم والمعرفة والخير والصلاح وذلك يقدح في قول أصحابنا أنه تعالى أراد الكفر من الكافر لكنا نترك هذا الظاهر بالدلائل المعلومة
المسألة الرابعة قوله وَيَحْيَى مَنْ حَى َّ عَن بَيّنَة ٍ قرأ نافع وأبو بكر عن عاصم والبزي عن ابن كثير ونصير عن الكسائي مِنْ بإظهار الياءين وأبو عمرو وابن كثير برواية القواس وابن عامر وحفص عن عاصم والكسائي بياء مشددة على الإدغام فأما الإدغام فللزوم الحركة في الثاني فجرى مجرى رد لأنه في المصحف مكتوب بياء واحدة وأما الإظهار فلامتناع الإدغام في مضارعه من ( يحيى ) فجرى على مشاكلته وأجاز بعض الكوفيين الإدغام في وَلاَ يَحْيَى
ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ أي يسمع دعاءكم ويعلم حاجتكم وضعفكم فأصلح مهمكم
إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِى مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِى الاٌّ مْرِ وَلَاكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ
اعلم أن هذا هو النوع الثاني من التي أنعم الله بها على أهل بدر وفيه مسألتان
المسألة الأولى إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ منصوب بإضمار اذكر أو هو بدل ثان من يوم الفرقان أو متعلق بقوله لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ أي يعلم المصالح إذ يقللهم في أعينكم
المسألة الثانية قال مجاهد أرى الله النبي عليه السلام كفار قريش في منامه قليلاً فأخبر بذلك أصحابه فقالوا رؤيا النبي حق القوم قليل فصار ذلك سبباً لجراءتهم وقوة قلوبهم
فإن قيل رؤية الكثير قليلاً غلط فكيف يجوز من الله تعالى أن يفعل ذلك

قلنا مذهبنا أنه تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وأيضاً لعله تعالى أراه البعض دون البعض فحكم الرسول على أولئك الذين رآهم بأنهم قليلون وعن الحسن هذه الأراءة كانت في اليقظة قال والمراد من المنام العين التي هو موضع النوم
ثم قال تعالى وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لذكرته للقوم ولو سمعوا ذلك لفشلوا ولتنازعوا ومعنى التنازع في الأمر الاختلاف الذي يحاول به كل واحد نزع صاحبه عما هو عليه والمعنى لاضطرب أمركم واختلفت كلمتكم وَلَاكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ أي سلمكم من المخالفة فيما بينكم وقيل سلم الله لهم أمرهم حتى أظهرهم على عدوهم وقيل سلمهم من الهزيمة يوم بدر والأظهر أن المراد ولكن الله سلمكم من التنازع إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ يعلم ما يحصل فيها من الجراءة والجبن والصبر والجزع
وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِى أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِى أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِى َ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ
اعلم أن هذا هو النوع الثالث من النعم التي أظهرها الله للمسلمين يوم بدر والمراد أن القليل الذي حصل في النوم تأكد ذلك بحصوله في اليقظة قال صاحب ( الكشاف ) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ الضميران مفعولان يعني إذ يبصركم أياهم و قَلِيلاً نصب على الحال
واعلم أنه تعالى قلل عدد المشركين في أعين المؤمنين وقلل أيضاً عدد المؤمنين في أعين المشركين والحكمة في التقليل الأول تصديق رؤيا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وأيضاً لتقوى قلوبهم وتزداد جراءتهم عليهم والحكمة في التقليل الثاني أن المشركين لما استقلوا عدد المسلمين لم يبالغوا في الاستعداد والتأهب والحذر فصار ذلك سبباً لاستيلاء المؤمنين عليهم
فإن قيل كيف يجوز أن يريهم الكثير قليلاً
قلنا أما على ما قلنا فذاك جائز لأن الله تعالى خلق الإدراك في حق البعض دون البعض وأما المعتزلة فقالوا لعل العين منعت من إدراك الكل أو لعل الكثير منهم كانوا في غاية البعد فما حصلت رؤيتهم
ثم قال لّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً
فإن قيل ذكر هذا الكلام في الآية المتقدمة فكان ذكره ههنا محض التكرار
قلنا المقصود من ذكره في الآية المتقدمة هو أنه تعالى فعل تلك الأفعال ليحصل استيلاء المؤمنين على المشركين على وجه يكون معجزة دالة على صدق الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) والمقصود من ذكره ههنا ليس هو ذلك المعنى بل المقصود أنه تعالى ذكر ههنا أنه قلل عدد المؤمنين في أعين المشركين فبين ههنا أنه إنما فعل ذلك ليصير ذلك سبباً لئلا يبالغ الكفار في تحصيل الاستعداد والحذر فيصير ذلك سبباً لانكسارهم
ثم قال وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الامُورُ والغرض منه التنبيه على أن أحوال الدنيا غير مقصودة لذواتها وإنما المراد منها ما يصلح أن يكون زاداً ليوم المعاد

يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَة ً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَآءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ
اعلم أنه تعالى لما ذكر أنواع نعمه على الرسول وعلى المؤمنين يوم بدر علمهم إذا التقوا بالفئة وهي الجماعة من المحاربين نوعين من الأدب الأول الثبات وهو أن يوطنوا أنفسهم على اللقاء ولا يحدثوها بالتولي والثاني أن يذكروا الله كثيراً وفي تفسير هذا الذكر قولان
القول الأول أن يكونوا بقلوبهم ذاكرين الله وبألسنتهم ذاكرين الله قال ابن عباس أمر الله أولياءه بذكره في أشد أحوالهم تنبيهاً على أن الإنسان لا يجوز أن يخلى قلبه ولسانه عن ذكر الله ولو أن رجلاً أقبل من المغرب إلى المشرق ينفق الأموال سخاء والآخر من المشرق إلى المغرب يضرب بسيفه في سبيل الله كان الذاكر لله أعظم أجراً
والقول الثاني أن المراد من هذا الذكر الدعاء بالنصر والظفر لأن ذلك لا يحصل إلا بمعونة الله تعالى
ثم قال لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وذلك لأن مقاتلة الكافر إن كانت لأجل طاعة الله تعالى كان ذلك جارياً مجرى بذل الروح في طلب مرضاة الله تعالى وهذا هو أعظم مقامات العبودية فإن غلب الخصم فاز بالثواب والغنيمة وإن صار مغلوباً فاز بالشهادة والدرجات العالية أما إن كانت المقاتلة لا لله بل لأجل الثناء في الدنيا وطلب المال لم يكن ذلك وسيلة إلى الفلاح والنجاح
فإن قيل فهذه الآية توجب الثبات على كل حال وهذا يوهم أنها ناسخة لآية التحرف والتحيز
قلنا هذه الآية توجب الثبات في الجملة والمراد من الثبات الجد في المحاربة وآية التحرف والتحيز لا تقدح في حصول الثبات في المحاربة بل كان الثبات في هذا المقصود لا يحصل إلا بذلك التحرف والتحيز
ثم قال تعالى مؤكداً لذلك وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في سائر ما يأمر به لأن الجهاد لا ينفع إلا مع التمسك بسائر الطاعات
ثم قال وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وفيه مسائل

المسألة الأولى بين تعالى أن النزاع يوجب أمرين أحدهما أنه يوجب حصول الفشل والضعف والثاني قوله وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وفيه قولان الأول المراد بالريح الدولة شبهت الدولة وقت نفاذها وتمشية أمرها بالريح وهبوبها يقال هبت رياح فلان إذا دانت له الدولة ونفد أمره الثاني أنه لم يكن قط نصر إلا بريح يبعثها الله وفي الحديث ( نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور ) والقول الأول أقوى لأنه تعالى جعل تنازعهم مؤثراً في ذهاب الريح ومعلوم أن اختلافهم لا يؤثر في هبوب الصبا قال مجاهد وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ أي نصرتكم وذهبت ريح أصحاب محمد حين تنازعوا يوم أحد
المسألة الثانية احتج نفاة القياس بهذه الآية فقالوا القول بالقياس يفضي إلى المنازعة والمنازعة محرمة فهذه الآية توجب أن يكون العمل بالقياس حراماً بيان الملازمة المشاهدة فإنا نرى أن الدنيا صارت مملوءة من الاختلافات بسبب القياسات وبيان أن المنازعة محرمة قوله وَلاَ تَنَازَعُواْ وأيضاً القائلون بأن النص لا يجوز تخصيصه بالقياس تمسكوا بهذه الآية وقالوا قوله تعالى وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ صريح في وجوب طاعة الله ورسوله في كل ما نص عليه ثم أتبعه بأن قال وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ ومعلوم أن من تمسك بالقياس المخصص بالنص فقد ترك طاعة الله وطاعة رسوله وتمسك بالقياس الذي يوجب التنازع والفشل وكل ذلك حرام ومثبتو القياس أجابوا عن الأول بأنه ليس كل قياس يوجب المنازعة
ثم قال تعالى وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ والمقصود أن كمال أمر الجهاد مبني على الصبر فأمرهم بالصبر كما قال في آية أخرى اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ ( آل عمران 200 ) وبين أنه تعالى مع الصابرين ولا شبهة أن المراد بهذه المعية النصرة والمعونة
ثم قال وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ قال المفسرون المراد قريش حين خرجوا من مكة لحفظ العير فلما وردوا الجحفة بعث الحقاف الكناني كان صديقاً لأبي جهل إليه بهدايا مع ابن له فلما أتاه قال إن أبي ينعمك صباحاً ويقول لك إن شئت أن أمدك بالرجال أمددتك وإن شئت أن أزحف إليك بمن معي من قرابتي فعلت فقال أبو جهل قل لأبيك جزاك الله والرحم خيراً إن كنا نقاتل الله كما يزعم محمد فوالله ما لنا بالله من طاقة وإن كنا نقاتل الناس فوالله إن بنا على الناس لقوة والله ما نرجع عن قتال محمد حتى نرد بدراً فنشرب فيها الخمور وتعزف علينا فيها القيان فإن بدراً موسم من مواسم العرب وسوق من أسواقهم حتى تسمع العرب بهذه الواقعة قال المفسرون فوردوا بدراً وشربوا كؤوس المنايا مكان الخمر وناحت عليهم النوائح مكان القيان
واعلم أنه تعالى وصفهم بثلاثة أشياء الأول البطر قال الزجاج البطر الطغيان في النعمة والتحقيق أن النعم إذا كثرت من الله على العبد فإن صرفها إلى مرضاته وعرف أنها من الله تعالى فذاك هو الشكر وأما إن توسل بها إلى المفاخرة على الأقران والمكاثرة على أهل الزمان فذاك هو البطر والثاني قوله وَرِئَاء النَّاسِ والرئاء عبارة عن القصد إلى إظهار الجميل مع أن باطنه يكون قبيحاً والفرق بينه وبين النفاق أن النفاق إظهار الإيمان مع إبطان الكفر والرئاء إظهار الطاعة مع إبطان المعصية روي أنه ( صلى الله عليه وسلم ) لما رآهم في موقف بدر قال ( اللهم أن قريشاً أقبلت بفخرها وخيلائها لمعارضة دينك ومحاربة رسولك ) والثالث قوله وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ

التالي هو ج15.و16.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب الإبانة عن أصول الديانة علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري أبو الحسن

  كتاب الإبانة عن أصول الديانة علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري أبو الحسن بسم الله الرحمن الرحيم وهو حسبي ونعم الوكيل وصلى الله على...